الفوائد السنية في شرح الألفية

شمس الدين البِرْماوي

من نوادر مخطوطات علم أصول الفقه (5) الفوائد السنية في شرح الألفية تأليف الحافظ البرماوي شمس الدين محمد بن عبد الدائم (763 - 831 هـ) وهو شرح لألفيته (1032 بيتا) في علم أصول الفقه قال عنه: «هذا الكتاب هو جملة ما حصلت في طول عمري». يطبع لأول مرة محققا على ثماني مخطوطات تحقيق الشيخ عبد الله رمضان موسى كلية الشريعة [الجزء الأول]

الطبعة الأولى للكتاب 1436 هـ - 2015 م حقوق الطبع والنشر محفوظة كافة على مكتبة التوعية الإسلامية رقم الإيداع بدار الكتب المصرية 2349/ 2014 طبعة خاصة لمكتبة النصيحة بإذن الناشر مَكتبة دار النصيحة المملكة العربية السعودية - المدينة النبوية - حي الفيصلية - أمام الباب الجنوبي للجامعة الإسلامية جوال: 00966595982046 - ت وفاكس: 0096648470708 البريد الإلكتروني: [email protected] الناشر: مكتبة التوعية الإسلامية للتحقيق والنشر والبحث العلمي هاتف محمول: 01118737605 - 01005255140 البريد الإلكتروني: [email protected] (أو) Emad_altaw 3 [email protected] للمراسلات: عماد صابر المرسي ص. ب: 174 الرقم البريدي: 12556 بريد الهرم - الجيزة

مقدمة المحقق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُقَدمة المُحَقِّق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين، أَمَّا بَعْد: على الرغم مِن طُول ممارستي لِعِلْم أصول الفقه - دراسةً وتدريسًا - منذ عام 1989 م تقريبًا وحتى الآن واطِّلاعي على أكثر مِن مائتي كتاب في هذا العِلم (من المطبوع والمخطوط) إلَّا أنني - لسنوات عديدة - كنتُ أتمنى اقتناء ألفية الإمام شمس الدين البرماوي في أصول الفقه وشَرْحِه لها، ذلك الإمام الأُصولي المُحَقِّق المُدَقِّق الذي وجدتُ كثيرًا مِن علماء أصول الفقه المشهورين يحرصون حرصًا شديدًا على نَقْل أقواله وترجيحاته وتقريراته وتحريراته وتنبيهاته. كَمْ تمنيتُ الحصول على هذا الشرح، هذا الكنز الثمين الذي اغترف منه العديد من أئمة أصول الفقه مِن بَعْده، فَطَال بحثي وسؤالي عنه، ولم يَكُن إلَّا جواب واحد: الكتاب لَمْ يُطْبَع بَعْد! ثُم كان مِن فَضل الله تعالى عَلَيَّ - بعد البحث الشديد في دور المخطوطات وفهارسها في عِدَّة دول ومساعدة الفضلاء - أنْ تمكنتُ مِن الحصول عَلَى: (8) ثماني مخطوطات للألفية مع شرحها. (5) خمس مخطوطات لِنَظْم الألفية.

وكان بعضها مِن النُّسَخ النفيسة جدًّا، فمنها ما قُرِئَ على البرماوي وكتب عليها البرماوي بِخَطِّه في مواضع عديدة، ومنها ما كُتب في حياة البرماوي (سنة 830 هـ)، وتمت مقابلته على نُسخة المؤلِّف في حياته. وتَعَجَّبْتُ كثيرًا من أنَّ هذه اللؤلؤة المكنونة لم تَظْهَر وتَخْرُج إلى النور حتى الآن، فلم تُطْبَع! فقررتُ الاعتكاف (¬1)؛ لتحقيقها، والعناية بها، ودراستها، وضَبْط نَصِّها؛ لإخراجها إلى النور بطباعتها، فتتوفر بين أيدي أَهْل العِلم وطَلَبة العِلم الشرعي، خاصةً هؤلاء الذين يَعْلمون عُلُو مكانة الحافظ البرماوي ومكانة ألفِيَّته المشهورة في عِلْم أصول الفقه، فإنهم يَسْعون مُسارعين ويبذلون وُسْعَهم؛ لاقتنائها والفوز بفوائدها. وبمجموع هذه النُّسَخ أَرَى أنني - بفضل الله تعالى - قد قَدَّمْتُ نَصًّا كاملًا على درجة عالية مِن الإتقان مِن ألفية شمس الدين البرماوي في عِلْم أصول الفقه مع شرحه (¬2). ¬

_ (¬1) وإنما قَرَّرْتُ ذلك مع انتهائي مِن تحقيق ألفية الحافظ العراقي في أُصُول الفقه "النجم الوهاج" وشَرْحها لابنه وَلي الدَّين أبي زرعة، وتحقيق "التحرير لِمَا في منهاج الأصول من المنقول والمعقول" لأبي زرعة ابن العراقي، فخرجَا إلى النور مطبوعَين لأول مرة حيث نَشَرتهما مكتبة التوعية الإسلامية. وأيضًا مع انتهائي مِن تحقيق "منهاج الوصول" للقاضي البيضاوي الذي طبعته مكتبة التوعية الإسلامية مع ألفية الحافظ العراقي في أصول الفقه في مجلد واحد ظهر لأول مرة في معرض القاهرة الدولي للكتاب. (¬2) ولا أَدَّعِي العصمة لنفسي، فَمَن وَقَفَ على خطأ فليراسلني، وجزاه الله خير الجزاء.

ما الذي يتضمنه كتابُنا هذا الذي بين يديك؟ أَلَّف البرماويُّ أوَّلًا "النبذة الزكية في القواعد الأصلية"، ثُم نَظَمها في ألفِيَّته المشهورة "النبذة الألفية في الأصول الفقهية" سَنة 818 هـ، ثُم شرح الألفية سَنة 828 هـ، واسْم الشرح "الفوائد السنية في شرح الألفية"، وقد صَرَّح البرماوي بذلك في آخِر ألفيته وشرحِها. قال حاجي خليفة (1004 - 1067 هـ) في كتابه "كشف الظنون": ("النبذة الزكية في القواعد الأصلية" .. لشمس الدين محمد بن عبد الدائم البرماوي الشافعي .. ، جمعها خالية عن الخلاف والدليل، ثُم نَظَمَها "أَلْفِيَّة"، وشَرَحَها أيضًا) (¬1). انتهى وقال كمال الدين ابن أبي شريف (822 - 906 هـ) في كتابه "الدرر اللوامع في تحرير شرح جمع الجوامع": (المُخَصَّص بِمُعَيَّن حُجة، والمُخَصَّص بِمُبْهَم ليس حُجة .. ، وَعَلَى هَذَا مَشَى الْبِرْمَاوِيُّ فِي "النُّبْذَةِ" وَ"الْأَلْفِيَّةِ" وَشَرْحِهَا) (¬2). وقد حَقَّقتُ أوَّلًا نَظْمَ أَلْفِيَّة البرماوي "النبذة الألفية في الأصول الفقهية" وأَصْلَها "النُّبْذة الزكية في القواعد الأصلية" له أيضًا، وطُبِعَا - بفضل الله تعالى - في مجلد واحد، نَشَرتهما مكتبة التوعية الإسلامية لأول مرة في معرض القاهرة الدولي للكتاب في يناير 2014 م. وكتابنا هذا - الذي بين يديك - هو الشرح الوافي للبرماوي "الفوائد السنية في شرح الألفية"، يخرج إلى النور مطبوعًا لأول مرة بفضل الله تعالى. ¬

_ (¬1) كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون (2/ 1923). (¬2) الدرر اللوامع - مخطوط (ورقة: 88)، محفوظ بجامعة الملك سعود (رقم: 1281).

والكلام في هذه المقدمة في مباحث: المبحث الأول: بيان حِرص كثير مِن علماء الأصول على نَقْل أقوال البرماوي وتقريراته. المبحث الثاني: ترجمة الإمام شمس الدين البرماوي، وتوثيق نِسبة الكتاب له. المبحث الثالث: بيان منهج الإمام البرماوي في نَظْمِ الألفية وأَصْلِها وشَرْحِها. المبحث الرابع: تَقَدُّم البرماوي في عِلْم الحديث وأَثَره في شَرْحه لِلْأَلْفِيَّة. المبحث الخامس: تَقَدُّم البرماوي في الفقه وأَثَره في شَرْحه لِلْأَلْفِيَّة. المبحث السادس: مَذْهَب الإمام البرماوي وأَثَره في شَرْحه لِلْأَلْفِيَّة. المبحث السابع: عقيدة البرماوي وأَثَرها في شَرْحه لِلْأَلْفِيَّة. المبحث الثامن: اشتمال شرح البرماوي على فوائد لم يذكرها الزركشي في "البحر". المبحث التاسع: بيان دَرَجة دِقَّة البرماوي في نَقْل كلام غَيْره. المبحث العاشر: بيان حرص البرماوي على أنْ يَقرأ على شيوخه ما كَتَبه أو نَسَخه مِن كُتُبهم ومقابلة نُسخته على أَصلهم، وكذلك كان يُقرأ عليه ما كُتِبَ أو نُسِخ مِن كُتُبه. المبحث الحادي عشر: وصف نُسَخ مخطوطات أَلْفِيَّة البرماوي وأَصْلها وشَرْحِها. المبحث الثاني عشر: ملاحظاتي حول نُسَخ المخطوطات. المبحث الثالث عشر: الجهود السابقة لتحقيق هذه الألفية وشَرْحها. المبحث الرابع عشر: عَمَلِي في الكتاب. المبحث الخامس عشر: تنبيهات مهمة. وفيما يأتي تفصيل ذلك.

المبحث الأول: بيان حرص كثير من علماء الأصول على نقل أقوال البرماوي وتقريراته

المبحث الأول: بيان حِرص كثير مِن علماء الأصول على نَقْل أقوال البرماوي وتقريراته كان يصيبني الملل أحيانًا مِن بعض الكُتُب الأصولية التي لا تكاد تجد فيها تحريرًا لمسألة، وإنما كان مؤلِّفُها مُجَرَّد ناقل عَمَّن سبقوه، فما هي إلَّا تكرار لِمَا في غَيْرها من الكُتُب. وقد استقر في ذهني جَمْعٌ مِن أئمة أصول الفقه - أصحاب التقريرات والتحريرات المفيدة - الذين تمنيتُ كثيرًا اقتناء مؤلَّفاتهم الأصولية. ومِن هؤلاء: شمس الدين البِرْمَاوي؛ فلقد رأيتُ العديد مِن أئمة أصول الفقه يحرصون في مؤلفاتهم على نَقْل أقوال البرماوي وتقريراته وتحريراته مِن أَلْفِيَّته "النبذة الألفية في الأُصول الفقهية" وشَرْحِه لها "الفوائد السنية في شرح الألفية". ومن هؤلاء (على سبيل المثال، لا الحصر): 1 - الإمام علاء الدين المرداوي (817 - 885 هـ): ذكر في مقدمة كتابه "التحبير شرح التحرير" الكُتُب الأصولية التي اعتمد عليها، فذكر منها: "منظومة البرماوي، وشَرْحها". فكان المرداوي - في أكثر من (400) أربعمائة موضع - ينقل أقوال البرماوي وتقريراته واختياراته الأصولية، وإليكم بعض عباراته: (صرح بِهَذَا الْبرمَاوِيُّ فِي شرح منظومته، اخْتَارَ الْبرمَاوِيُّ فِي شرح منظومته، قال البرماوي في شرح منظومته، الْبرمَاوِيُّ وَغَيره استدلوا لذَلِك، ذَكَرَه الْبرمَاوِيُّ، حكاه

البرماوي، نقل الْبرمَاوِيُّ عَنهُ، اخْتَارَ هَذَا الْبرمَاوِيُّ، فَجعل الْبرمَاوِيُّ الْمَسْأَلتَيْنِ وَاحِدَة، كَلَام الْبرمَاوِيّ وَغَيره يَقْتَضِي أَنه محَل وفَاق، بَنَى الْبرمَاوِيُّ وَغَيره الْمَسْألَة على .. ، قَطَع بذلك الْبرمَاوِيُّ، حَكَاهُ الْبرمَاوِيُّ عَن أَكثر الحنَفِيَّة، ترْجم الْبرمَاوِيُّ الْمَسْأَلَة بِأَن .. ، تكلم على ذَلِك الْبرمَاوِيُّ وَأطَال، الْبرمَاوِيُّ صحَّح مَا قَالَه ابْن الْعِرَاقِيّ وَغَيره، ذكر هَذِه الْأَقْوَال الْبرمَاوِيُّ، عَلَّلَ ذَلِك الْبرمَاوِيُّ، رَدَّه الْبرمَاوِيُّ فقال .. ، ذكر الْبرمَاوِيّ أَحْكَام النِّيَّة واستقصاها فأجاد وَأفَاد). 2 - شهاب الدين القسطلاني (851 - 923 هـ): اهتم في كتابه "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" بنقل أقوال شمس الدين البرماوي وتقريراته وتَعَقُّباته، فجاء ذِكْره في ثلاثمائة موضع تقريبًا، وإليكم بعض عباراته: (قال البرماوي في شرح ألفيته، حكاه البرماوي، نقله عنه البرماوي، لكن تَعَقَّبَه البرماوي، قال البرماوي في شرح العمدة، كذا قرره الحافظ ابن حجر والبرماوي، قَرَّرَه البرماوي، كذا ضبطها البرماوي، نَبَّه عليه البرماوي، كذا قدَّره البرماوي، جَوَّز البرماوي، قَوَّى البرماوي، أجاب البرماوي بأن .. ، وَجَّهَه البرماوي، أشار البرماوي، صرّح به البرماوي، قال البرماوي: فيه نظر، صَوَّب البرماوي الأُولى، زاد البرماوي). 3 - زين الدين زكريا الأنصاري (824 - 926 هـ): على الرغم مِن صِغَر كتابه "غاية الوصول في شرح لب الأصول" إلَّا أنه ذكر البرماوي في أكثر مِن (20) عشرين موضعًا، وإليكم بعض عباراته: (قرره شيخُنا العلَّامة الجلال المحلي بما لا مزيد عليه واستبعده أيضًا شيخُه العلَّامة الشمس البرماوي، أفردتهما تبعًا للعلَّامة البرماوي، قال البرماوي، استظهره

البرماوي، نَبَّه على ذلك العلامة البرماوي، به صرح الشمس البرماوي، اعتمده السبكي والبرماوي، "هذا تركه البرماوي من ألفيته وذكره في شرحها مع زيادة، ومثَّل له بالآية، ثُم قال .. "، فَرَّق البرماوي بأنَّ .. ، أجاب عنه البرماوي بأنَّ .. ، صَوَّبه البرماويُّ). 4 - تقي الدين ابن النجار (898 - 972 هـ): اهتم بِنقل أقوال البرماوي وتحريراته واختياراته وذلك فيما يقارب (100) مائة موضع من كتابه "شرح الكوكب المنير" في أصول الفقه. 5 - شهاب الدين الرملي (المتوفى: 957 هـ): ذكر البرماوي في فتاويه، فقد جاء في "فتاوى الرملي، ص 195": (قَالَ الْبِرْمَاوِيُّ فِي شَرْحِ أَلْفِيَّتِهِ ... ). 6 - شهاب الدين ابن قاسم العبَّادي (المتوفى: 992 هـ): ذكر شمس الدين البرماوي في عِدة مواضع مِن كتابه "الآيات البينات على شرح جمع الجوامع": فقال في كتابه هذا (2/ 326): (اقتضاه كلام البرماوي ... ، وحينئذ يندفع عنه اعتراض البرماوي). وقال في (2/ 344): (وبه صرح البرماوي). وقال في (2/ 373): (تبع فيه الشارح شيخه البرماوي في شرح ألفيته). 7 - زين الدين عبد الرؤف المناوي (952 - 1031 هـ): نقل عن الشمس البرماوي في عِدة مواضع مِن كُتُبه، منها قوله في كتابه "فيض القدير شرح الجامع الصغير": (وهو ما جرى عليه جَمْعٌ منهم البرماوي، قال الكرماني والبرماوي وأبو زرعة، لكن قال البرماوي، تَعَقَّبه البرماوي بأنَّ .. ).

وكذلك قوله في كتابه "اليواقيت والدرر في شرح نخبة ابن حجر، 2/ 358": (وَعَلَيْه جرى الْبرمَاوِيُّ في "نبذته" و"ألفيته"). 8 - محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني (1099 - 1182 هـ): ذكر البرماوي في (10) عشرة مواضع من كتابه "إجابة السائل" في أصول الفقه، وإليكم بعض عباراته: ("بلغ بهَا الْفَاضِل الْبرمَاوِيُّ فِي منظومته وَشَرْحهَا إِلَى أَكثر من ثَلَاثِينَ نوعًا وعَدَّ أمثلتها"، "ذهب جمَاعَة من محققي الشَّافِعِيَّة - كالرازي وَأَتْبَاعه والسبكي والبرماوي وَغَيرهم - إِلَى أَنه .. "، "قَالَ الْبرمَاوِيّ: إِنَّ أَرْجَح المْذَاهب هَذَا"، "سَبقه إِلَى هَذَا الْبرمَاوِيُّ فِي شرح منظومته قَائِلًا .. "). وكذلك ذكره في عدة مواضع من كتابه "توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار"، وإليكم بعض عباراته: (ذكر هذا البرماوي في شرح ألفيته في أصول الفقه، ذكره البرماوي في شرح ألفيته في الأصول، قال البرماوي، استدل به البرماوي، حكاه البرماوي). وذكره أيضًا في كتابه "سبل السلام، 2/ 11" حيث قال: (وَقَدْ حَقَّقَ الْبِرْمَاوِيُّ الْكَلَامَ فِي شَرْحِ أَلْفِيَّتِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ).

المبحث الثاني: ترجمة شمس الدين البرماوي، وتوثيق نسبة الكتاب له

المبحث الثاني: ترجمة شمس الدين البرماوي، وتوثيق نسبة الكتاب له قال الحافظ تاج الدين ابن الغرابيلي (¬1) (796 - 835 هـ) في ترجمة البرماوي: (هو أحد الأئمة الأجلاء .. ، فريد دهره، ووحيد عصره، ما رأيت أَقْعَد منه بفنون العلوم .. ، وصَنَّف التصانيف المفيدة، منها: "شرح البخاري" شرح حسن، ولَخَّص "المهمات" و"التوشيح"، ونَظَم "ألفية" في أصول الفقه لم يُسبق إلى مِثل وَضْعها، وشَرَحها شرحًا حافلًا نحو مجلدين، وكان يقول: "أكثر هذا الكتاب هو جُملة ما حَصَّلْتُ في طول عُمري". وشرح "لامية ابن مالك" شرحًا في غاية الجودة، .. وَحَشى الحواشي المفيدة، ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن حجر في "إنباء الغمر بأبناء العمر، 3/ 488": (الحافظ تاج الدين الكركي ابن الغرابيلي .. أَقْبَل على الحديث بكُليته، فسمع الكثير وعرف العالي والنازل، وقيد الوفيات وغيرها من الفنون .. ، فأقبل على النظر في التواريخ والعِلَل، وسمع الكثير ببلده، ورحل إلى دمشق، ورحل إلى القاهرة فلازمني إلى أنْ حرر نسخته مِن "المشتبه" غاية التحرير .. ، وكان الأكابر يتمنون رؤيته والاجتماع به؛ لِمَا يبلغهم مِن جميل أوصافه، فيمتنع، إلَّا أنْ يَكون الكبير مِن أهل العلم). وقال الحافظ شمس الدين السخاوي في "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، 9/ 306": (مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد .. ابن الأمير ناصر الدين السالمي .. ، يُعرف بِـ "ابْن الغرابيلي"، وُلد سنة سِتّ وَتِسْعين وَسَبْعمائة بِالْقَاهِرَةِ حَيْثُ كَانَ جده الْعِمَاد حَاكمًا فِيهَا، وَنَقله أَبوهُ إِلَى الكرك حِين ولي إمرتها؛ فَنَشَأَ بِهِ .. ، قيد الوفيات، وَنظر فِي التواريخ والعلل، وَعرف العالي والنازل والأسماء والإسناد، وبرع فِي ذَلِك جدا. وصَنَّف التصانيف الْحَسَنَة .. ، ورحل إِلَى دمشق ثمَّ إِلَى الْقَاهِرَة، .. مَاتَ .. سَنة خمس وَثَلَاثِينَ، وَصلَّى عَلَيْهِ شَيخُنَا .. وَكَانَت جنَازَته مَشْهُودَة).

وعلَّق التعاليق النّفيسة والفتاوي العجيبة، وكان من عجائب دهره) (¬1). وقال تقي الدين ابن قاضي شهبة (779 - 851 هـ) في كتابه "طبقات الشافعية": (مُحَمَّد بن عبد الدَّائِم بن مُوسَى: الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم المفنن شمس الدِّين أَبُو عبد الله، الْعَسْقَلَانِي الأَصْل، الْبرمَاوِيّ، الْمصْرِيّ، مولده فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَسِتِّين وَسَبْعمائة. وَأَخَذَ عَن: الشَّيْخ سراج الدِّين البُلْقِينِي، وَالشَّيْخ سراج الدِّين ابْن الملقن، وَالشَّيْخ زين الدِّين الْعِرَاقِيّ، وَالشَّيْخ عز الدِّين ابْن جمَاعَة، ومجد الدِّين الْبرمَاوِيّ، وَالْقَاضِي بدر الدِّين ابْن أبي الْبقاء .. تميز فِي الْفِقْه والنحو والْحَدِيث وَالْأُصُول .. ، وَأقَام بِمصْر يشغل ويفتي .. ، ثمَّ قدم دمشق .. سنة إِحْدَى وَعشْرين .. وَجلسَ فِي الجْامِع يُقْرِئ، وَاجْتمعَ عَلَيْهِ الطَّلبَة، وَظهر فَضلُه، وَقُصِد بالفتاوى، ثمَّ عَاد إِلَى مصر، ثمَّ قدم دمشق ثَانِيًا فِي سنة ثَلَاث وَعشْرين بِطَلَب من قَاضِي الْقُضَاة، وناب فِي الْقَضَاء .. وَولي إِفْتَاء دَار الْعدْل .. ، وأقرأ .. "الْمِنْهَاج" فِي سَنة و"التنبيه" فِي سَنة أُخْرَى وَ"الْحَاوِي" فِي أُخْرَى، ثمَّ عَاد إِلَى مصر .. سَنة سِتّ وَعشْرين، وَحج من مصر سَنة ثَمَان وَعشْرين، وجاور بِمَكَّة، وَرجع إِلَى مصر فِي سنة ثَلَاثِين .. ، وَمَات فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة إِحْدَى وَثَلَاثِين وَثَمَانِمائَة .. ، وَله "الألفية" فِي الْأُصُول وَشَرحهَا، .. ، وَغير ذَلِك) (¬2). وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني (773 هـ - 852 هـ) في كتابه "إنباء الغمر بأبناء العمر": (البرماوي الشيخ شمس الدين .. تفقه وهو شاب .. وسمع معنا من جماعة من المشايخ، ولازم الشيخ بدر الدين الزركشي وتمهر به، وحضر دروس الشيخ سراج ¬

_ (¬1) نقله عنه ابن العماد الحنبلي في كتابه "شذرات الذهب في أخبار من ذهب، 7/ 197". (¬2) طبقات الشافعية (4/ 101) لابن قاضي شهبة.

الدين البلقيني وقرأ عليه بعضها، وقد سمعتُ بقراءته على الشيخ "مختصر المزني" .. وكان حسن الخط، كثير المحفوظ، قوي الهمة .. وله منظومات وتصانيف، منها: "شرح العمدة"، ومنظومة في أسماء رجالها وشرحها، وشرح "البخارى" في أربع مجلدات .. ، ثُم ولي نيابة الحكم عن ابن أبي البقاء .. ثُم ناب عن الجلال البلقيني، ثُم عن الإخنائي .. ، وكان للطلبة به نفع، وفي كل سَنة يتم كتابًا من المختصرات، فيأتي على آخِره ويعمل له وليمة .. ، حج في سنة ثمان وعشرين، جاور بمكة سنة تسع وعشرين) (¬1). انتهى وقال الحافظ شمس الدين السخاوي (831 - 902 هـ) في "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع": (مُحَمَّد بن عبد الدَّائِم .. الْبرمَاوِيّ، ثمَّ القاهري، الشَّافِعِي. وُلد .. سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة .. ، ولازم الْبَدْر الزَّرْكَشِي وتمهر بِهِ وحرر بعض تصانيفه، وَحضر دروس البُلْقِينِي وَقَرَأَ عَلَيْهِ، وَأخذ أَيْضًا عَن الأبناسي وَابْن الملقن والعراقي وَغَيرهم .. وَصَحب الْجلَال ابن أبي الْبقاء .. ، وَعَكَفَ عَلَيْهِ الطَّلبَة، وأقرأ "التَّنْبِيه" وَ"الْحَاوِي" و"المنهاج" كل ذَلِك فِي سَنة، وَغير ذَلِك؛ فاشتهرت فضيلته .. ، وتصدى للإفتاء والتدريس والتصنيف، وانتفع بِهِ خَلْقٌ بِحَيْثُ صَار طلبته رؤوسًا فِي حَيَاته، وباشر وظائف الْوَلِي الْعِرَاقِي نِيَابَة عَن حفيده .. ، وَحج فِي سنة ثَمَان وَعشْرين، وجاور الَّتِي بعْدهَا، وَنشر الْعلم أَيْضًا هُنَاكَ، ثمَّ عَاد فِي سنة ثَلَاثِينَ .. وَكَانَ إِمَامًا عَلَّامَة فِي الْفِقْه وأصوله والعربية وَغَيرهَا، مَعَ حسن الْخط وَالنَّظم .. وَمن تصانيفه: "شرح البُخَارِيّ" فِي أَربع مجلدات .. ، وَ"شرح الْعُمْدَة" .. ، وَله أَيْضًا منظومة فِي أَسمَاء رجالها وَشَرحهَا، و"ألفية" فِي أصُول الْفِقْه وَشَرحهَا .. ، ومنظومة ¬

_ (¬1) إنباء الغمر بأبناء العمر (3/ 414).

فِي الْفَرَائِض، وَشرح "لامية الْأَفْعَال" لِابْنِ مالك، و"البهجة الوردية"، و"زوائد الشذور"، وَعمل مُخْتَصرًا فِي السِّيرَة النَّبَوِيَّة وَكتب عَلَيْهَا حَاشِيَة، ولَخَّص "الْمُهِمَّات" للأسنوي. وَلم يزل قَائِما بنشر الْعلم تصنيفًا وإقراءً حَتَّى مَاتَ فِي يَوْم الْخَمِيس .. جُمَادَى الثَّانِيَة سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ بِبَيْت المقدس .. ، وَقد انتشرت تلامذته فِي الْآفَاق، وَمِنْهُم: الْمحلي، والمناوي، والعبادي، وطبقة قبلهم، ثمَّ طبقَة تليهم. وَحدث بِالْقَاهِرَة وَمَكَّة ودمشق وَبَيت المقدس. سمع مِنْهُ الْأَئِمَّة: كالزين رضوَان بِالْقَاهِرَةِ، والتقي ابْن فَهد بِمَكَّة، وَابْن نَاصِر الدِّين بِدِمشْق. وروى لنا عَنهُ خَلْقٌ) (¬1). وقال السخاوي في ترجمة شيخه الحافظ ابن حجر العسقلاني: (تَفَقَّهَ بالأبناسي .. وبالبلقيني .. وَسمع عَلَيْهِ بِقِرَاءَة الشَّمْس الْبرمَاوِيّ فِي "مُخْتَصر الْمُزنِيَ") (¬2). وقال في ترجمة جلال الدين المحلي: (فَأخذ الْفِقْه وأصوله والعربية عَن الشَّمْس الْبرمَاوِيّ، وَكَانَ مُقيمًا مَعَه بالبيبرسية؛ فَكثر انتفاعه بِهِ لذَلِك) (¬3). انتهى وقال الإمام الشوكاني (1173 - 1250 هـ) في كتابه "البدر الطالع بمحاسن مَن بَعْد القرن السابع": ((مُحَمَّد بن عبد الدائم .. الْبرمَاوِيّ .. تصدَّى للإفتاء والتدريس والتصنيف، وانتفع بِهِ النَّاس، وطار صيته، وَصَارَ طَلبتُه رُؤَسَاء فِي حَيَاته .. وَكَانَ إِمَامًا فِي الْفِقْه وأصوله والعربية وَغير ذَلِك .. ، وَله ألفية فِي أصُول الْفِقْه، وَشرحهَا) (¬4). قلتُ: وقد سبق (ص: 5 - 6) نَقْل كلام ابن حاجي خليفة وابن أبي شريف. ¬

_ (¬1) الضوء اللامع (7/ 280). (¬2) الضوء اللامع (2/ 37). (¬3) الضوء اللامع (7/ 39). (¬4) البدر الطالع بمحاسن مَن بَعْد القرن السابع (2/ 181).

تنبيه: هناك مؤلفات للبرماوي ذكرها في شرح الألفية وقد ذكرتها كُتُب التراجم، وهناك مؤلفات له لم أقف عليها في كُتب التراجم. فمن مؤلفاته التي لم أقف عليها: 1 - "تحقيق القول بالصمات عن مشكلات الصفات"، "إيضاح الفصول مِن منهاج الأصول". ذكرهما البرماوي في شرح الألفية. قال الإمام البرماوي في شرح ألفيته (1/ 179): (وقد اجتمعت هذه النقول المتفرقة والأقوال المنتشرة بما قررناه، وقد بسطتها في "إيضاح الفصول مِن منهاج الأصول" بما يَتَعَيَّن على مُرِيده الوقوفُ عليه). وقال أيضًا (2/ 859): (وقد بينتُ في مقدمة كتابي المُسمى بـ "تحقيق القول بالصمات عن مشكلات الصفات" وجوهًا مِن الترجيح). 2 - ما كَتبه ناسخ مخطوط "النبذة الزكية" على الورقة الأولى: (له تعليقة على "علوم الحديث" لابن الصلاح كما قاله في شرحه "النهر على الزهر" (¬1) .. ، وله "تكحيل العيون بما في السِّيَر مِن الفنون" قاله في شرحه "النهر على الزهر"، وله شرح خطبة "الحاوي الصغير" وعندي منه نسختان .. ، وله إملاء على "التنقيح" أصل "التحرير" لابن شيخه الولي العراقي، وهو عند بعض أصحابنا). ومن مؤلفاته التى ذكرها في شرحه وذكرتها كتب التراجم: 1 - "جمع العُدة لفهم العمدة": قال الإمام البرماوي في شرح ألفيته (2/ 692): (وفى الحديث مباحث أخرى ذكرتها في "جمع العُدة لفهم العمدة"، فراجعها). ¬

_ (¬1) شَرَح فيه البرماوي نَظْمه "الزهر البسام فِيمَا حوته عُمْدَة الْأَحْكَام من الْأَنَام". انظر: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع (9/ 253).

المبحث الثالث: بيان منهج الإمام البرماوي في نظم الألفية وأصلها وشرحها

وقال أيضًا في شرح ألفيته (1/ 257): (وقد بسطت ذلك في "شرح العمدة" في باب "شروط البيع"، فَراجِعْه؛ فإنه نفيس). 2 - "شرح الصدور بشرح زوائد الشذور": قال الإمام البرماوي في شرح ألفيته (2/ 916): (وقد بسطتُ المسألة بسطًا شافيًا في "شرح الصدور بشرح زوائد الشذور" لابن هشام في النحو، فليطلَب منه؛ فإنه مهم). 3 - "شرح لاميّة الأفعال": قال الإمام البرماوي في شرح ألفيته (2/ 939): (وقد أوضحتُ في "شرح لاميّة الأفعال" لابن مالك هذا المعنى، وذكرتُ الفرقَ بين الاشتقاق والتصريف بما يتعين الوقوف عليه). المبحث الثالث: بيان منهج الإمام البرماوي في نَظْم الألفية وأَصْلِها وشَرْحِها قد يَرِد السؤال التالي في ذهن القارئ: ما الفَرْق بين: "النبذة الزكية في القواعد الأصلية"، والأَلْفيَّة، والشرح الوافي "الفوائد السنية"؟ ويتضح الجواب ببيان منهج الإمام البرماوي في كُتُبه: اقتصر البرماوي في "النبذة الزكية" على بيان القول الراجح، ولم يتعرض لِذِكْر الخلاف بين الأصوليين، وكذلك لم يتعرض لِذِكْر الأدلة والاعتراضات عليها والأجوبة عنها. ومَشَى على ذلك أيضًا في نَظْم الألفية. أمَّا في الشرح الوافي "الفوائد السنية في شرح الألفية" فنجده يَذكر مواضع الإجماع والخلاف وأدلة كل قول، ثم يذكر القول الراجح وأدلته، ويجيب عن أدلة المخالفين،

المبحث الرابع: تقدم البرماوي في علم الحديث وأثره في شرحه للألفية

حتى أطال في مسائل عديدة. ومِن ذلك قوله في مسألة "الإجماع السكوتي": (وإنما أَطَلْتُ في هذه المسألة .. لأنها مِن أُمهات الأُصُول ومِن المحتاج لإيضاحه). وقال في موضع آخَر: (وإنما أطلتُ في هذا لاحتياج الشافعية لمثله). وقال في موضع ثالث: (إنما أطلتُ الكلام على "الواو"؛ لأنها من المهمات). وقال في موضع رابع: (فقد اتضحت المسألة والحقُّ فيها ولله الحمد، وإنما أطلتُ فيها بالنسبة لهذا المختصر لأنَّ أمر التكفير معضل وخطر عظيم). وقال أيضًا: (وسأذكر في هذا الشرح ما يظهرُ مِن تفريعات في الفقه في بعض المسائل على ذلك إنْ شاء الله تعالى). فصار كتابه موسوعة ضخمة في عِلْم أصول الفقه وتطبيقاته الفقهية، ومَرْجِعًا لا يَستغني عنه الباحثون في هذا العِلْم. المبحث الرابع: تَقَدُّم البرماوي في عِلْم الحديث وأَثَره في شَرْحه لِلأَلْفِيَّة قال تقي الدين ابن قاضي شهبة (779 - 851 هـ) في كتابه "طبقات الشافعية": (مُحَمَّد بن عبد الدَّائِم بن مُوسَى: الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم .. الْبرمَاوِيّ .. تميز فِي الْفِقْه والنحو والْحَدِيث وَالْأُصُول). قلتُ: فالإمام البرماوي أُصولي عالِم بالحديث، وقد سبق ذِكْر شَرْحه "صحيح

البخاري" (¬1) وتعليقته على مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، مما يجعل لكتابه هذا ميزة كبرى لا توجد في كثير من كُتُب أصول الفقه الأخرى، ولبيان ذلك أذكر خمسة أمثلة مما جاء في كتابه "الفوائد السنية": المثال الأول: قال الإمام البرماوي (3/ 1017): (وأما جواب القاضي أبي بكر والإمام والغزالي ومَن تبعهم بالطعن في الحديث فعجيب؛ فإنه في "الصحيحين"). المثال الثاني: قال الإمام البرماوي (1/ 186): (ودليله أيضًا حديثُ: "رُفِعَ القَلَم عن ثلاث: عن الصبي حتى يَبْلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق". رواه الأربعة مِن حديث علي، وقال الترمذي: "حسن"، وأخرجه ابن حبان والحاكمُ وقال: "صحيح على شرط الشيخين". وأخرجه البخاري موقوفًا مُعَلَّقًا بِالجَزْم، ورواه أبو داود والنسائي وابنُ ماجه وابنُ حبان مِن رواية عائشة، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم". وقال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في "الإمام": إنه أَقْوَى إسنادًا مِن رواية عَلِي). انتهى كلام البرماوي. المثال الثالث: قال الإمام البرماوي (1/ 213): (وقد يُرَجَّح هذا بحديث أبي هريرة: "نَهَى - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم عرفة". أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وفيه ضَعْفٌ وإنْ كان الحاكم صححه وقال: "على شرط البخاري"). انتهى كلام البرماوي. قلتُ: لم يَغْتَر البرماوي بتصحيح الحاكم للحديث، وقد قال البرماوي في موضع آخَر: (ثم بعد ذلك يرجح ما كان على شرطهما، ثم ما كان على شرط البخاري، ثم ما هو على شرط مسلم، كما يفعل ذلك الحاكم في "مستدركه" وإنْ كان فيه تساهل وعليه انتقادات). ¬

_ (¬1) وقد طُبع قريبًا، واسمه: (اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح).

قلتُ: وقد أصاب البرماوي في تصريحه بضعف الحديث؛ فالإسناد مداره على مهدي بن حرب العبدي الهجري، وهو سبب الحكم بضعف الحديث (¬1). وقال الإمام أبو جعفر العقيلي في كتابه "الضعفاء الكبير" (¬2): (رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ بِأَسَانِيدَ جِيَادٍ أَنَّهُ لَمْ يَصُمْ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَلا يَصِحُّ عَنْهُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ صَوْمِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَة كَفَّارَةُ سَنَتَيْنِ، سَنَةٍ مَاضِيَة، وَسَنَةٍ مُسْتَقْبلَة"). قلتُ: فَقَوْل البرماوي وافَقَ قول أئمة الحديث المتقدمين. المثال الرابع: قال الإمام البرماوي (5/ 2098): (وفي الحديث: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن" .. رواه أحمد والدارمي عن ابن مسعود موقوفًا عليه، ومَن رَفَعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أخطأ، ورَفْعُه مِن حديث أَنَس إسناده ساقط لا يُحتج به). انتهى قلتُ: كلام الإمام البرماوي هنا دقيق ومتين، ويتضح ذلك مما يلي: قال الحافظ ابن حجر في "الأمالي المطلقة" (¬3): (لَمْ أَرَ في شَيْءٍ مِنْ طُرُقِه التَّصْرِيحَ بِرَفْعِهِ). وقال أيضًا في "الدراية في تخريج أحاديث الهداية" (¬4): (لم أجده مرفوعًا). قلتُ: بل ذكره الخطيب البغدادي بإسناده في "تاريخ بغداد" (¬5): (عَنْ أَنَسِ بْنِ ¬

_ (¬1) انظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي (8/ 337)، ميزان الاعتدال (6/ 530)، تقريب التهذيب (ص 548). (¬2) الضعفاء الكبير (1/ 298) للإمام العقيلي. (¬3) الأمالي المطلقة (ص 65). (¬4) الدراية في تخريج أحاديث الهداية (2/ 187). (¬5) تاريخ بغداد (4/ 165).

مَالِك، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَلَمْ يَجِدْ قَلْبًا أَتْقَى مِنْ أَصْحَابِي؛ وَلِذَلِكَ اخْتَارَهُمْ، فَجَعَلَهُمْ أَصْحَابًا، فَمَا اسْتَحْسَنُوا فَهُوَ عِنْدَ الله حَسَنٌ، وَمَا اسْتَقْبَحُوا فَهُوَ عِنْدَ الله قَبِيحٌ"). انتهى قلتُ: وفي إسناده سليمان بن عمرو النخعي، قال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" (¬1): (كَذَّبه ونَسَبَه إلى الوَضْع مِن المتقدمين والمتأخرين ممن نُقِل كلامهم في الجرح أو ألَّفوا فيه فوق الثلاثين نَفْسًا). انتهى قلتُ: فكلام البرماوي فيه أمران: أولهما: عِلمه برواية الرفع. ثانيهما: عِلمه بأنَّ رواية الرفع إسنادها ساقط لا يُحتج به. فَقَوْل البرماوي يدل على أنه عالِمٌ بالحديث. المثال الخامس: قال الإمام البرماوي (4/ 1671): (الثاني: أن يكون العموم في ذلك الحكم المسئول عنه، كقوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سُئل عن بئر بُضاعة وهي بئر يُلقى فيها الحيض والنتن ولحوم الكلاب: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء". رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، وقال أحمد: "صحيح". وقال الترمذي: "حسن". وفي بعض نُسَخه: "حسن صحيح". وصححه أيضًا ابن معين وغيره. وهو يَرُد قول الدارقطني: إنه غير ثابت (¬2). ويقع في كُتب كثير من أصحابنا - وكذا ¬

_ (¬1) لسان الميزان (3/ 98). (¬2) قال شمس الدين ابن عبد الهادي الحنبلي (المتوفى: 744 هـ) في كتابه (تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق، 1/ 31): (انتهى كلام الدَّارَقُطْني ... قوله: "الحديث غير ثابت" يريد به حديث أبي هريرة، لا حديث أبي سعيد كما صرَّح به في "العلل"). دار النشر: أضواء السلف - الرياض. =

وقع في "مختصر ابن الحاجب" في الأصول - زيادة في هذا الحديث: "إلا ما غَيَّر لونه أو طعمه أو ريحه". وهو تخليط؛ فإنَّ هذا حديث آخَر ليس فيه ذِكر بئر بُضاعة، رواه ابن ماجه: "إنَّ الماء لا ينجسه إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه". ورواه الدارقطني بلفظ: "لا ينجسه إلا ما غيَّر ريحه أو طعمه". ولم يذكر اللون، بل لا يُعرف لِلَّون ذِكر في غير ابن ماجه (¬1). وقال الشافعي: "هذا الحديث لا يُثْبِت أهل الحديث مِثله". وقال أبو حاتم الرازي: "الصحيح أنه مُرْسل"). انتهى كلام البرماوي. قلتُ: مَن يراجع المصادر يجد صحة ما ذكره الإمام البرماوي (سوى ما ذكرتُه في هامش هذه الصفحة). والتخليط الذي ذكره الإمام البرماوي قد وقع فيه مِن كبار علماء أصول الفقه: الجويني (478 هـ) في "التلخيص، ص 176"، الغزالي (505 هـ) في "المستصفى، ص 235"، ابن عقيل (513 هـ) في "الوَاضِح في أصُولِ الفِقه، 2/ 17"، الآمدي (631 هـ) ¬

_ = قلتُ: العبارة في علل الدارقطني (8/ 156) هكذا: (سُئل عن حديث سعيد المقبري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .. "الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ". فَقَالَ: يَرْوِيهِ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ ... وَالْحَدِيثُ غير ثابت). وفي علل الدارقطني (11/ 285): (وَسُئِلَ عَنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ الله بْنِ عَبْدِ الله بْنِ رَافِعِ بْنِ خديج، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ في بِئْرِ بُضَاعَةَ ... ). ولم يَقُل الدارقطني بعدم ثبوته. (¬1) الظاهر أن البرماوي تبع في ذلك تاج الدين السبكي، حيث قال في (رفع الحاجب شرح مختصر ابن الحاجب، 3/ 119): (ولا يُعرف لِلَّون ذِكر في غير ابن ماجه). قلتُ: بل رواه الإمام البيهقي في "السنن الكبرى، 1/ 259، رقم: 1159": (عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ إِلا أَنْ تغيرَ رِيحُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ بِنَجَاسَةٍ تَحْدُثُ فِيهَا"). وكذلك الطحاوي في "شرح معاني الآثار، 1/ 16": (عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْمَاءُ لا يُنَجَّسُهُ شَيْءٌ إِلا مَا غَلَبَ عَلَى لَونهِ أَوْ طَعْمِهِ أَوْ رِيحِهِ").

في "الإحكام في أصول الأحكام، 2/ 257"، ابن الحاجب في مختصره الأصولي، السعد التفتازاني (793 هـ) في "شرح التلويح على التوضيح، 1/ 114"، شمس الدين الأصفهاني (749 هـ) في "بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب، 2/ 151". المثال السادس: قال البرماوي (2/ 588): (أما الرواية فلهُم ألفاظ غير ذلك تَوَسُّعًا، وجعلوها مراتب، أعلاها: أن يجمع بين لفظين متحدي المعني؛ تأكيدًا، كأن يقول: "ثبتٌ حُجةٌ" أو "ثبتٌ حافظٌ" .. قاله الذهبي في مقدمة "الميزان". الثانية: وهي ما بدأ بها ابن أبي حاتم وابن الصلاح، أنْ يقول: ثقةٌ، أو: متقنٌ، أو: ثبتٌ، أو: حجةٌ .. قال الخطيب: "أرفع العبارات أن يقول: حجةٌ، أو: ثقةٌ" .. الرابعة: أن يقول: "محلُّه الصدق" أو "رَووا عنه" أو "شيخ" أو "وسط" أو "صالح الحديث" أو "مُقارب" بفتح الراء وكسرها كما حكاه صاحب "الأحوذي". على أن ابن أبي حاتم وابن الصلاح جعلَا "محله الصدق" من الرتبة التي قبل هذه، لكن صاحب "الميزان" جعلها من الرابعة). المثال السابع: قال البرماوي (ص 550 - 551): (واعْلم أن شرط تَحمُّل الصغير التمييز، ونُقل عن المحدثين اعتبار خَمس سنين .. وذلك لِمَا رواه البخاري .. عن محمود بن الربيع، قال: "عقلتُ من النبي - صلى الله عليه وسلم - مَجَّة مَجَّها في وجهي مِن دلوٍ وأنا ابن خمس سنين". وبوَّب عليه البخاري: "متى يصح سماع الصغير؟ ". .. ولكن الراجح عند محققي المحدثين اعتبار التمييز وأن تمييز محمود كان في هذا السن، فلا يقاس به إلا مَن مَيَّز مثله، وإن كان القول باعتبار الخمس هو قول الجمهور الذي نقله القاضي عياض في "الإلماع" عن أهل الصنعة. وقال ابن الصلاح: "إنه الذي استقر عليه عمل أهل الحديث". ومما يدل على اعتبار التمييز قول أحمد وقد سُئل: متى

يجوز سماع الصبي للحديث؟ فقال: إذا عقل وضبط). انتهى كلام البرماوي. المثال الثامن: قال البرماوي (2/ 643): (والحاصل أنَّ المجهول ظاهرًا وباطنًا - أي: وهو معروف العَيْن برواية عَدْلين عنه - لا تُقبل روايته. قال بعضهم: بالإجماع. وجرى عليه في "جمع الجوامع". وهو مردود بحكاية ابن الصلاح فيه عن الجماهير أنه لا يُقبَل). المثال التاسع: قال شمس الدين البرماوي (1/ 711) في "الإجازة": (اختلفوا في الرواية بها، والراجح الجواز، بل حكى القاضي أبو بكر والباجي وغيرهما من الأصوليين الاتفاق عليه. وهو عجيب؛ فقد قال بالمنع شعبة، قال: "ولو صحت الإجازة لبطلت الرحلة". وقال به أيضًا أبو زرعة الرازي، وقال: "لو صحت لذهب العلم"، وإبراهيم الحربي كما نقله عنه الخطيب ثم ابن الصلاح وإنِ اضطرب في النقل عنه). انتهى كلام البرماوي. المثال العاشر: قال البرماوي (2/ 645): (فائدة: عند المحدِّثين مِن أقسام "المستور" أيضًا مَن عُرف - بِذِكره في الجملة - عَيْنُه وعدالته ولكن جُهل تعيينه، كإيهام الصحابي، وكقول الراوي: "أخبرني فلان أو فلان" والفَرْض أنهما عَدْلان، فهذا لا يضر. أمَّا لو جُهِلت عدالة أحدهما أو قال: "أخبرني فلان أو غيرُه"، فلا يُحتج به حينئذ). قلتُ: وقد أطال شمس الدين البرماوي في شرح الأبيات المتعلقة بمصطلح الحديث (وهي الأبيات رقم: 257 إلى 368) في كتابه هذا (2/ 490 - 760). الخلاصة: يتضح مِن هذه الأمثلة أننا في هذا الكتاب أمام عالم بالحديث، فشمس الدين البرماوي أُصولي عالِم بالحديث، مما يجعل لكتابه هذا ميزة كبرى لا توجد في كثير من كُتُب أصول الفقه الأخرى.

المبحث الخامس: تقدم البرماوي في الفقه وأثره في شرحه للألفية

المبحث الخامس: تَقَدُّم البرماوي في الفقه وأَثَره في شَرْحه لِلأَلْفِيَّة أُلَخِّص - فيما يلي - ما تَقَدَّم نَقْلُه فيما يتعلق بمكانته الفقهية، ثم أذكر أثَر ذلك في كتابه "الفوائد السنية": قال ابن قاضي شهبة في "طبقات الشافعية": (الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم .. الْبرمَاوِيّ .. تميز فِي الْفِقْه والنحو والْحَدِيث وَالْأُصُول .. ، وَأقَام بِمصْر يشغل ويفتي .. ، ثمَّ قدم دمشق .. وَقُصِد بالفتاوى .. ، وَولي إِفْتَاء دَار الْعدْل). وقال الحافظ ابن حجر: (البرماوي .. سمعتُ بقراءته على الشيخ "مختصر المزني"). وقال الحافظ السخاوي: (الْبرمَاوِيّ .. كَانَ إِمَامًا عَلَّامَة فِي الْفِقْه وأصوله .. ). وقال الإمام الشوكاني: (البرماوي .. كان إمامًا في الفقه وأصوله .. ). قلتُ: فالبرماوي الأُصولي كان إمامًا في الفقه؛ ونرى أَثَر ذلك واضحًا من جهتين: الجهة الأُولى: اجتهاده في الابتعاد عن تَناوُل ما لا يفيد من المباحث والمسائل. الجهة الثانية: اجتهاده في ذِكر الكثير مِن الفروع والتطبيقات الفقهية. وإليكم تفصيل ذلك: الجهة الأُولى: اجتهاده في الابتعاد عن تَناوُل ما لا يفيد من المباحث والمسائل: وذلك بخلاف المتكلمين - أصحاب عِلم الكلام - الذين امتلأت مؤلفاتهم في أصول الفقه بمسائل ومباحث جَدَلية عقيمة لا فائدة لها.

الجهة الثانية: اجتهاده في ذكر الكثير من الفروع والتطبيقات الفقهية

وإليكم بعض تصريحاته بذلك في كتابه هذا: قال الإمام البرماوي (3/ 1067): (عادة الأصوليين يختمون مباحث اللغة بذكر بعض معاني حروف تتداول في القرآن والسُّنة يحتاج إليها غالبًا في مواضع الاستدلال .. ، ولم أقتصر على حرفين أو ثلاثة كما فعل ابن الحاجب، ولا أوسع كما فعل صاحب "جمع الجوامع" وكثير من الحنفية في مختصراتهم. وربما ذكروا أحكامًا نحوية متعلقة ببعضها قليلة الجدوى في الاستدلال، بل سلكتُ طريقًا وسطًا). وقال في إحدى المسائل (4/ 1857): (ولم أذكر هذه المسألة في النَّظم؛ لِمَا فيها من خشونة العبارة وعدم جدواها في الفقه). وقال (1/ 130): (وليس تحت هذا الخلاف كبيرُ فائدة؛ فلا حاجة للتطويل فيه). وقال (1/ 430): (وفي كيفية الخلاف طُرق كثيرة في بيان محله ومحل القطع يَطُول ذِكرها، ولا فائدة فيه). وقال (1/ 134): (وفي الموضع مباحثُ أخرى ليس في التطويل بها كبيرُ فائدة). وقال (1/ 163): (وهنا أسئلة وشكوك جدواها قليل، فلا حاجة للتطويل بها). وقال (2/ 777): (وإنما أَسْقَطتُ هذه المسألة من النَّظم وهي في "جمع الجوامع"؛ لقِلة جدواها). وقال (2/ 777): (وكذلك أسقطتُ مسألة "إنه ليس لكل معنى لفظ .. "؛ لوضوح المراد بها، وقِلَّة نفعها في الاستدلال). وقال (3/ 1172): (ونُقِلت فيه مذاهب أخرى إما ضعيفة أو داخلة فيما سبق، أَعْرَضْنَا عن حكايتها؛ لعدم جدواها). الجهة الثانية: اجتهاده في ذِكر الكثير مِن الفروع والتطبيقات الفقهية: كان البرماوي إمامًا في الفقه، لذلك نجده - في شرح ألفية الأصول - يذكر كثيرًا

من التطبيقات والفروع الفقهية المَبْنِيَّة على هذه الأصول والقواعد، ولا شك أنَّ هذا يساهم في فَهْم واستيعاب الأصول. بل إنه قد أطال في ذِكر هذه التطبيقات في مواضع عديدة، حتى يمكننا القول بأنَّ كتابه "الفوائد السنية" يكاد يكون موسوعة في التطبيقات الفقهية للقواعد الأصولية. ويوضح هذا قوله في كتابه هذا (2/ 624) بعد أن ذكر كثيرًا من الفروع الفقهية: (والفروع في ذلك كثيرة، وإنمَّا هذا أنموذج تُستحضَر به القواعد، وتتمهَّد به). قلتُ: وهذه ميزة عظيمة الفائدة لا توجد في كثير من الكُتب الأصولية المشهورة. ولَعَلَّ ذلك مِن أسباب قَوْل البرماوي عن كتابه هذا: (أكثر هذا الكتاب هو جُملة ما حَصَّلْتُ في طول عُمري) (¬1). وقد قال في مقدمة كتابه هذا: (وسأذكر في هذا الشرح ما يظهرُ مِن تفريعات في الفقه في بعض المسائل على ذلك إنْ شاء الله تعالى). وإليكم بعض عباراته في كتابه هذا: قال: (تنبيه: مما يناسِبُ هذه القاعدة مِن الفروع: ... ). فذكر هذه الفروع، ثم قال: (وأنت إذَا تتبعت الفروع، لم تجدها تخرج عن ذلك). وقال: (اختلاف الأصوليين في هذه المسألة يناظره اختلاف الفقهاء في أنه إذا بطل الخصوص، هل يبقى العموم؟ وفيه فروع كثيرة، منها: .. ، ومنها: .. ، ومنها: .. ، ومنها: .. ، ومنها: .. ، ومنها: .. ، ومنها: .. ، ومنها: .. ، ومنها: .. ). ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن الغرابيلي (796 - 835 هـ) في ترجمة البرماوي: (كان يقول: أكثر هذا الكتاب هو جُملة ما حَصَّلْتُ في طول عُمري). انظر: "شذرات الذهب في أخبار من ذهب، 7/ 197".

وقال: (استثنى ابن القاص في "التلخيص" من قاعدة "إنَّ اليقين لا يُرفَع بالشك" إحدى عشرة مسألة، وَرَدَّ عليه القفال الكل، ولكن الأرجح مع ابن القاص في كثير: أحدها ... ، ثانيها ... ، ثالثها ... ، رابعها ... ، خامسها ... ، حادي عشرها ... ). وقال: (وسِوَى ما سبق من الفروع الفقهية: لو قال ... ، ولو أوصى لأقاربه ... ، ولو قال ... ، وفروع الفقه على هذه المسألة لا تنحصر، وفي هذه الإشارة كفاية). وقال: (وقع في كلام أصحابنا في الفقه مسألتان قد يتفرعان على هذه القاعدة، ووقع فيهما اضطراب شديد، نذكرهما باختصار ... ). وقال: (ومما يتفرع على القاعدة ما نُقل عن الشافعي ... ). وقال: (ويتفرع على هذه القاعدة مسائل، منها: عقود البياعات ... ). وقال: (من فروع هذه القاعدة: ... ). وقال: (ويتفرع على الأول من الفقه ... ). وقال: (مما يتفرع من الفقه على الخلاف المذكور: .. ). وقال: (مما فَرَّعه بعض المتأخرين على الخلاف في هذه المسألة: ... ). وقال: (الخلاف في هذه المسألة مذكور في الفقه مُفَرَّع عليه مسائل، سيأتي ذِكر شيءٍ منها). وقال: (ونشأ عن ذلك فرع ذكره الهروي في "الإشراف" والماوردي في "الحاوي" والروياني في "البحر"، وهو ... ). وقال: (وفي الفروع الفقهية مما يشهد لإفادة المضاف المفرد العموم: ... ).

المبحث السادس: مذهب الإمام البرماوي وأثره في شرحه للألفية

المبحث السادس: مَذْهَب الإمام البرماوي وأَثَره في شَرْحه لِلأَلْفِيَّة صرح شمس الدين البرماوي في مُقدمة أَلْفِيَّته بأنه شافعي، فقال: بِاسْمِ الحمِيدِ قال عَبْدٌ يَحْمَدُ ... ذَا البِرْمَوِيُّ الشافِعِيْ مُحَمَّدُ وقد ظهر أَثَر ذلك في كتابه هذا، فكان يهتم كثيرًا بتحرير مذهب الإمام الشافعي في مسائل أصول الفقه، ويرجع في ذلك إلى كُتُب الإمام الشافعي القديمة والجديدة، الفقهية والأصولية، وينقل نصوصه، ويُعَلِّق عليها، ويُحَرِّر مَذهبه. وقال في مقدمة كتابه هذا: (وأشرتُ بقولي: "أصولنا" .. إلى مراعاة أصول الشافعية في هذه الألفية حَسْب القدرة، وسأذكر في هذا الشرح ما يظهرُ مِن تفريعات في الفقه في بعض المسائل على ذلك إنْ شاء الله تعالى). انتهى قلتُ: ولا يُتَوَهَّم مِن ذلك اقتصاره على ذِكر أصول الشافعية، بل سيراعي أصول الشافعية، فإنه في كل مسألة يتناول المذاهب الأخرى، ويَعْرِض أدلة المذاهب كلها ويناقشها ويذكر ما عليها من اعتراضات، ويُرَجِّح مع ذِكر أسباب الترجيح. ومِن أمثلة مراعاته أصول الشافعي قوله في الألفية: 98 - فَإنَّهُ مُكَلَّفٌ بِالْحُكْمِ ... نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيْ في "الْأُمِّ" وقوله: 303 - وَعَنْ عُمُومٍ مُطْلَقًا هُوَ الْخَبَرْ ... أَوْ مَا إلى ذَا الشَّافِعِيْ في الْمُخْتَصَرْ وقوله:

المبحث السابع: عقيدة البرماوي وأثرها في شرحه للألفية

691 - بِمُطْلَقٍ، قُلْتُ: وَنَصُّ الشَّافِعِيْ ... في "الْأُمِّ" ثُمَّ في "الْبُوَيْطِيْ" التَّابِعِ المبحث السابع: عقيدة البرماوي وأَثَرها في شَرْحه لِلأَلْفِيَّة صَرح البرماوي بأنه أَشْعَرِي، فقال في "الفوائد السنية، 2/ 913": (قولي: "عَنِ الْإمَامِ الْأَشْعَرِيْ" إشارة إلى أنه إمامنا وقدوتنا، نلقَى الله عز وجل باتِّباعه في معتقداته). قلتُ: وقد ظهر أثر ذلك في تناوُله لبعض المسائل، أذكر منها ثلاثة أمثلة: المثال الأول: قال شمس الدين البرماوي (1/ 196): (الإيمان هو التصديق). قلتُ (عبد الله رمضان): هذا يوافق قولًا مِن أقوال فرقة المرجئة. وفي ذلك يقول الإمام ابن تيمية: (أكثر الأشعرية مرجئة، وأَقربهم الكلابية، يقولون: "الإيمان" هو التصديق بالقلب والقول باللسان، والأعمال ليست منه) (¬1). قلتُ: فقول الأشعرية يخالف إجماع أهل السُّنة مِن السلف الصالح ومَن بَعْدهم. وفي ذلك قال الإمام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": (وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ) (¬2). قلتُ: وأكتفي بنقل ثلاثة تصريحات لكبار أئمة المسلمين المتقدمين: ¬

_ (¬1) النبوات (ص 143). (¬2) مجموع الفتاوى (7/ 330).

التصريح الأول: قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام (157 - 224 هـ) في كتابه "الإيمان": (فَالْأَمْرُ الَّذِي عَلَيْهِ السُّنَّةُ عِنْدَنَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا مِمَّا اقْتَصَصْنَا فِي كِتَابِنَا هَذَا: أَنَّ الْإِيمَانَ بِالنِّيَّةِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا) (¬1). وقال أيضًا: (على مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ كَانَ سُفْيَانُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَرْبَابِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِينَ كَانُوا مَصَابِيحَ الْأَرْضِ وَأَئِمَّةَ الْعِلْمِ فِي دَهْرِهِمْ، مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَغَيْرِهَا .. يَرون الإيمان قولًا وعملًا) (¬2). التصريح الثاني: قال الإمام أبو بكر الآجُرِّي (¬3) (المتوفى: 360 هـ) في كتابه "الشريعة": (اعْلموا رَحِمَنَا الله وَإِيَّاكُمْ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْإِيمَانَ وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَهُوَ تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ، وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، ثُمَّ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَا تُجْزِئُ الْمَعْرِفَةُ بِالْقَلْبِ وَالتَّصْدِيقُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ الْإِيمَانُ بِاللِّسَانِ نُطْقًا، وَلَا تُجْزِئ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَنُطْقٌ بِاللَّسَانِ حَتَّى يَكُونَ عَمَلٌ بالْجَوَارِحِ، فَإِذَا كَمُلَتْ فِيهِ هَذِهِ الثَّلَاثُ الْخِصَالِ، كَانَ مُؤْمِنًا، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَقَوْلُ عُلَمَاء الْمُسْلِمِينَ) (¬4). وقال أيضًا: (قَدْ قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَبَيَّن فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَمَلٍ، وَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، خِلَاف مَا قَالَتِ الْمُرْجِئَةُ الَّذِينَ لَعِبَ بِهِمُ الشَّيْطَانُ) (¬5). ¬

_ (¬1) الإيمان (ص 34). (¬2) الإيمان (ص 66)، تحقيق: الألباني، نشر: مكتبة المعارف بالرياض، ط: الأولى - 1421 هـ. (¬3) ذكره السبكي في كتابه "طبقات الشافعية الكبرى، 3/ 149"، قال: (أَبُو بكر الأجري الْفَقِيه المُحدث صَاحب المصنفات). (¬4) الشريعة (2/ 611). (¬5) الشريعة (2/ 614).

وقال أيضًا: (نَقُوُل وَالْحَمْدُ للهِ قَوْلًا يُوَافِقُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَعُلَمَاء الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَا يُسْتَوْحَشُ مِنْ ذِكْرِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُمْ: إِنَّ الْإِيمَانَ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ تَصْدِيقًا يَقِينًا، وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالجْوَارِحِ، وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إِلَّا بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ، لَا يُجْزِئُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ) (¬1). انتهى التصريح الثالث: قال الإمام ابن عبد البر (368 - 463 هـ) في كتابه "التمهيد": (أَجْمَعَ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، وَلَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَالطَّاعَاتُ كُلُّهَا عِنْدَهُمْ إِيمَانٌ، إِلَّا مَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الطَّاعَاتِ لَا تُسَمَّى إِيمَانًا، قَالُوا: إِنَّمَا الْإِيمَانُ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ: وَالْمَعْرِفَةُ) (¬2). إلى أنْ قال: (وَأَمَّا سَائِرُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْآثَارِ بِالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ - مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَبُو عُبَيْدِ الْقَاسِمُ بْنُ سَلامٍ وَدَاوُدُ بْنُ عِليٍّ وَأَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ - فَقَالُوا: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ .. وَالْإِيَمانُ يَزِيدُ بِالطَّاعَاتِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعَاصِي) (¬3). انتهى المثال الثاني: قال شمس الدين البرماوي (1/ 174): (خِطابَه تعالى كلامُه، وهو قديم على مذهب أهل السُّنة في أنه صفة قديمة قائمة به وهي الكلامُ النفساني، خِلَافًا لِمَن زعم أنَّ كلامه حَرْفٌ وصوتٌ قائمان به). انتهى ¬

_ (¬1) الشريعة (2/ 686). (¬2) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (9/ 238). (¬3) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (9/ 243).

وقال أيضًا (2/ 858): (ومن هنا نشأ كلام العلماء في الآيات والأحاديث الواردة في الصفات المشكلة، فإنَّ الحقيقة فيها متعذرة بالأدلة القطعية عقلًا ونقلًا على طريق أهل السُّنة، فهل يُقال حينئذٍ: يجب الحمل على المجاز بمجرد التعذر؟ أوْ لا؛ لاحتمال إرادة ما يليق مما لا نعرفه مُعَيَّنًا؟ طريقتان: طريقة السلف الثانية مع اعتقاد التنزيه، خِلافًا لِما ينسبه المبتدعة لهم مِن الإجراء على الظاهر. وطريقة مَن بَعْدهم هي الأَوْلى الآن؛ محافظةً على التنزيه ونَفْي التوهُّم. فالفريقان متفقان على التنزيه. بل أقول: الواجب في هذا الزمان العمل بطريق التأويل؛ لِمَا سلكه المبتدعة مِن الحلول والاتحاد ومِن الجهة والتجسيم). انتهى كلام البرماوي. قلتُ (عبد الله رمضان): وهل انحراف بعض الناس عن طريق الحق يُبِيح لنا نَفْي ما أَثْبَته الله تعالى لنفسه من صفات وأفعال؟ ! ! والأشاعرة يزعمون أنهم على مذهب أهل السُّنة، لكنهم في الحقيقة يخالفون أهل السُّنة، وقد ذكرتُ ذلك تفصيلًا في كتابي (الرد على القرضاوي والجديع والعلواني، 1/ 148). فأهل السُّنة بريئون مِن عقيدة الأشاعرة التي تخالف ما كان عليه السلف الصالح. فمذهب أهل السُّنة هو إثبات ما أَثْبَتَه الله تعالى لنفسه بما يليق بذاته سبحانه وتعالى، وليس هذا موضع بَسْط هذه المسألة. وأمَّا نَفْي البرماوي أنَّ كلام الله تعالى حَرْفٌ وصَوْتٌ ففساده يظهر بقول الإمام ابن تيمية في "درء تعارُض العقل": (السلف وجمهور الخلف .. نزهوه عن كَوْنه كان عاجزًا عن الكلام كالأخرس الذي لا يمكنه الكلام) (¬1). انتهى ¬

_ (¬1) درء تعارُض العقل (2/ 278).

وقال الإمام عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل في كتاب "السُّنة": (سألت أبي - رحمه الله - عن قوم يقولون: "لَمَّا كلَّم اللهُ - عز وجل - موسى لم يتكلم بِصَوت". فقال أبي: بلى، إنَّ ربك عز وجل تكلم بصوت، هذه الأحاديث نَرْويها كما جاءت) (¬1). وقد ذكر الإمام البخاري حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله يَحْشُرُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ .. " ثم قال في كتابه "خلق أفعال العباد": (وَفي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ صَوْتَ الله لَا يُشْبِهُ أَصْوَاتَ الْخَلْقِ، لِأَنَّ صَوْتَ الله - جَلَّ ذِكْرُهُ - يُسْمَعُ مِنْ بُعْدٍ كَمَا يُسْمَعُ مِنْ قُرْبِ) (¬2). وقال الإمام ابن تيمية: (الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ - كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ "الصَّحِيحِ" فِي كِتَابِ "خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ" وَغَيْرِهِ وَسَائِر الْأَئِمَّةِ قَبْلَهُمْ وَبَعْدَهُمْ - أَتْبَاعُ النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ .. أَنَّ الله تَعَالَى يَتكَلَّمُ بِصَوْت كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَأَصْوَاتِ الْعِبَادِ) (¬3). قلتُ: وأكتفي بنَقْل تصريح إمامين من كبار أئمة المسلمين بإجماع السلف الصالح على أن الحقَّ حَمْل آيات وأحاديث الصفات على حقيقتها وظاهرها مِن غَيْر تشبيه أو تمثيل أو تكييف أو تأويل. التصريح الأول: قال الإمام ابن عبد البر (368 - 463 هـ) في كتابه "التمهيد": (أهل السُّنة مُجْمِعون عَلَى الْإِقْرَارِ بِالصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ كُلِّهَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِيمَانِ بِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَا يُكَيِّفُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَحُدُّونَ فِيهِ صِفَةً ¬

_ (¬1) السنة (1/ 280). (¬2) خلق أفعال العباد (ص 98). (¬3) مجموع الفتاوى (12/ 243).

مَحْصُورَةً. وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ وَالْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ كُلُّهَا وَالْخَوَارِجُ فَكُلُّهُمْ يُنْكِرُهَا، وَلَا يَحْمِلُ شَيْئًا مِنْهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِهَا مُشَبِّهٌ) (¬1). انتهى التصريح الثاني: قال الإمام أبو بكر الخطيب البغدادي (392 - 463 هـ) في رسالته في "الكلام في الصفات": (أما الْكَلَام فِي الصِّفَات فَإِن مَا رُوِيَ مِنْهَا فِي السُّنَن الصِّحَاح مَذْهَب السّلف - رضي الله عنهم - إِثْبَاتهَا وإجراؤها على ظَواهرهَا وَنفي الْكَيْفِيَّة والتشبيه عَنْهَا، وقد نفاها قوم؛ فَأَبْطَلوا ما أَثْبَتَه الله سبحانه) (¬2). المثال الثالث: قال شمس الدين البرماوي (1/ 110): (و"التوفيق" خَلْق قُدْرة الطاعة وداعِية (¬3) فِعْلها .. هذا قَوْل الأشعري والمحققين، وضِدُّه "الخذلان"). انتهى قلتُ (عبد الله رمضان): وهذه عقيدة الجَبْر التي يَؤُول إليها مذهب الأشعرية، وهي زعمهم أنَّ العاصي - حين عَصَى - لَمْ تَكُن عنده القدرة على الطاعة، وإنما يخلقها الله فيمن يُنْعِم عليه بالتوفيق، فهو - في الحقيقة - كان مَجْبُورًا على المعصية! ! وإليكم تصريحات أئمة فِرْقَة الأشاعرة بذلك: 1 - قال أبو الحسن الأشعري في كتابه (اللمع، ص 95): (استحال أنْ يَقْدر ¬

_ (¬1) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (7/ 145). (¬2) الرسالة نُشِرَت مرارًا، منها نشرة بمجلة الحكمة (العدد الأول، ص 281) مُحَقَّقة على نُسخة مخطوطة وحيدة في دار الكتب الظاهرية بدمشق ضمن مجموع رقم: (16)، وكلام الخطيب نقله الإمام ابن قدامة بإسناده في كتابه (ذم التأويل، ص 15)، وكذلك نقله الإمام الذهبي في كتابه (العُلو لِلْعَلِي الغفار، ص 253). (¬3) وقال أيضًا (1/ 343): (كالداعية التي يخلقها الله تعالى للعبد على الفعل، وهي العزم المصمم).

الإنسان على الشيء وضده). وقال (ص 97): (الاكتساب إنما لم يقع لِعَدَم الاستطاعة). وقال (ص 99): (فإنْ قال قائل: أليس قد كَلَّف الله تعالى الكافرَ الإيمان؟ قُلنا له: نعم. فإنْ قال: أفيستطيع الإيمان؟ قِيل له: لو استَطاعَه لَآمَن). وقال (ص 76): (حقيقة الكسب أنَّ الشيء وقع مِن المكتَسِب له بقوة مُحْدَثة) (¬1). انتهى كلام الأشعري. وقوله: (مُحْدَثة) يعني: مخلوقة، يخلقها الله تعالى فيه. 2 - قال السعد التفتازاني (712 - 793 هـ) في كتابه "شرح المقاصد في علم الكلام" في فِعل العبد: (ذلك لا يُتصور إلَّا بِدَاعِيَة لا تَكُون بمشيئة العبد، بل بمحض خَلْق الله تعالى، وحينئذ يجب الفعل، ولا يتمكن العبد مِن تَرْكه، ولا نعني بالانتهاء إلى الجبر والاضطرار سوى هذا) (¬2). انتهى وقال أيضًا (ص 231): (كلامنا في حصول المشيئة والداعية التي يجب معه الفعل أو الترك، ولا خفاء في أنه ليس بمشيئتنا واختيارنا .. ؛ ولهذا ذهب المحققون إلى أن المآل هو الجبر .. وأن الإنسان مضطر في صورة مختار). انتهى قلتُ: ويسميها عضد الدين الإيجي (المتوفى: 756 هـ): "جَبْرِيَّة متوسطة" (¬3)! ! ¬

_ (¬1) اللمع، الناشر: مطبعة مصر - 1955 م، تحقيق: د: حمودة غرابة. (¬2) شرح المقاصد في علم الكلام (4/ 231)، الناشر: عالم الكتب، 1419 هـ. (¬3) وأنقل لكم هنا تصريحات جماعة من الأشاعرة توضح ذلك: قال عضد الدين الإيجي في كتابه (المواقف، 8/ 429): (الفرقة السادسة: الجبرية، والجبر: إسناد فِعل العبد إلى الله، والجبرية: متوسطة تُثبت للعبد كسبًا كالأشعرية، وخالصة لا تثبته كالجهمية، قالوا: لا قدرة للعبد أصلًا، لا مؤثرة ولا كاسبة). انتهى =

فالأشعرية يرون أنَّ فِرقة الجبرية الضالة تقول بأنَّ الإنسان مُجْبَر على الطاعة أو المعصية اضطرارًا، كالمرتعد من الحمى، والريشة التي تُحركها الرياح. فهربوا مِن ذلك - بِزَعْمهم - بأنِ اخترعوا نظرية الكَسْب، وهي أنَّ الله تعالى خلق في العاصي قدرة على المعصية، وبذلك يفعل المعصية، ويستحيل أنْ يَقْدِر على فِعل الطاعة، لأنَّ الله تعالى لم يخلق فيه إلا القدرة على المعصية! ! وأقول: وبذلك يتضح اتفاق الأشعرية والجبرية على أنَّ العاصي لا يستطيع الطاعة، لأنَّه ليس عنده القدرة عليها. ولذلك قال عبد السلام بن إبراهيم اللقاني (977 - 1078 هـ) في (إتحاف المريد بجوهرة التوحيد) وهو أشعري: (فالمُوَفَّق لا يَعْصِي؛ إذْ لا قُدرة له على المعصية، كما أنَّ المخذول لا يطيع؛ إذ لا قدرة له على الطاعة) (¬1). انتهى ¬

_ = وشرحه الشريف الجرجاني (740 - 816 هـ) قائلًا: ("تثبت للعبد كسبًا" في الفعل بلا تأثير فيه "كالأشعرية"). شرح المواقف (8/ 429)، طبعة: دار الكتب العلمية - بيروت، 1419 هـ. وقال البيجوري في كتابه "تحفة المريد على جوهرة التوحيد، ص 65": (مذهب الجبرية: وهو أنَّ العبد ليس له كسب، بل هو مجبور، أيْ: مقهور كالريشة المعلقة في الهواء تقلبها الرياح كيف شاءت). انتهى وقال (ص 176): (فليس للعبد تأثير ما، فهو مجبور باطنًا في صورة مختار ظاهرًا. فإنْ قيل: إذا كان مجبورًا باطنًا، فلا معنى للاختيار الظاهري .. ، وأُجيب بأنه تعالى لا يُسأل عما يفعل). وقال (ص 168): (ربما هجس لبعض القاصرين على أنَّ مِن حُجة العبد أن يقول لله: "لِمَ تعذبني والكُل فِعلك؟ " وهذه مردودة بأنه لا يتوجه عليه تعالى مِن غيره سؤال، قال تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23] .. فلا يسعنا إلَّا التسليم المحض). انتهى كلام البيجوري. (¬1) إتحاف المريد بجوهرة التوحيد، مخطوط (رقم: 3613، الورقة 22 ب) بجامعة الملك سعود.

وقد ذكر الإمام ابن تيمية نظرية الكَسب عند الأشعري ثم عَلَّق عليها في "مجموع الفتاوى" قائلًا: (صَارَ النَّاسُ يَسْخَرُونَ بِمَنْ قَالَ هَذَا، وَيَقُولُونَ: ثَلَاثَةُ أَشْيَاء لَا حَقِيقَةَ لَهَا: طَفْرَةُ النَّظَّام، وَأَحْوَالُ أَبِي هَاشِمٍ، وَكَسْبُ الْأَشْعَرِيِّ) (¬1). وقال الإمام ابن تيمية أيضًا في "الصفدية": (والأشعري ومَن وافقه اتبعوا جَهْمًا على قوله في القدر وإنْ كانوا يثبتون قدرة وكسبًا، لكن ما أثبتوه لا حقيقة له في المعنى، بل قولهم هو قول جهم وإنْ نازعوه في إثبات القدرة والكسب) (¬2). انتهى إلى أنْ قال بعد أنْ ذكر بعض أقوالهم: (وهذا القول لم يَقُلْه قَط أحد مِن سلف الأئمة ولا أئمة المسلمين، لا الأربعة ولا غيرهم، بل المنصوص عنهم وعن غيرهم خلاف هذا القول). انتهى وقال الإمام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": (مشِيئَةُ الْعَبْدِ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ مَوْجُودَةٌ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَهُ مَشِيئَةٌ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَهُ قُدْرَةٌ عَلَى هَذَا وَهَذَا. وَهُوَ الْعَامِلُ لِهَذَا وَهَذَا) (¬3). وقال أيضًا: (وَمَنْ قَالَ: "لَا مَشِيئَةَ لَهُ فِي الْخَيْر وَلَا فِي الشَّرِّ" فَقَدْ كَذَبَ .. بَلْ لَهُ مَشِيئَةٌ لِكُلِّ مَا يَفْعَلُهُ بِاخْتِيَارِه مِنْ خَيْرِ وَشَرٍّ) (¬4). الخلاصة: كان قول المؤلِّف في بعض المسائل مَبْنِيًّا على عقيدته الأشعرية، ولم أُعَلِّق عليها - في هذه الطبعة - في مواضعها؛ تاركًا ذلك لفطنة القارئ الذي لا يَخْفَى عليه مخالفة ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (8/ 128). (¬2) الصفدية (2/ 331). (¬3) مجموع الفتاوى (8/ 238). (¬4) مجموع الفتاوى (8/ 240).

المبحث الثامن: اشتمال شرح البرماوي على فوائد لم يذكرها الزركشي في "البحر المحيط"

الأشاعرة مَنْهَج السَّلَف الصالح في العديد من الأُصُول والمسائل الكِبار. فاكتفيتُ بما ذكرتُه في هذا المبحث؛ لكي لا يخرج كتاب أصول الفقه عن مقصوده. ومَن أراد تفصيل ذلك فَلْيرجِع إلى الكُتب التي تناولت هذا الموضوع، منها: 1 - كتابِي "الرد على القرضاوي والجديع والعلواني، ج 1/ 148 - 176". 2 - "منهج الأشاعرة في العقيدة" للدكتور سفر الحوالي. 3 - "التمييز في بيان أن مذهب الأشاعرة ليس على مذهب السلف العزيز" لأبي عمر حاي بن سالم. 4 - "نقض عقائد الأشاعرة والماتريدية" لخالد علي. 5 - "الأشاعرة في ميزان أهل السُّنة" لفيصل الجاسم. 6 - "مسائل أصول الدين المبحوثة في علم أصول الفقه" د. خالد عبد اللطيف. 7 - "المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدَّين" للدكتور محمد العروسي. 8 - مقدمة تحقيق "الأسماء والصفات" للإمام البيهقي، تحقيق: محمد محب الدين أبو زيد، الناشر: مكتبة التوعية الإسلامية - الهرم. المبحث الثامن: اشتمال شرح البرماوي على فوائد لم يذكرها الزركشي في "البحر المحيط" اشتمل شرح البرماوي على أشياء كثيرة غير موجودة في "البحر المحيط" و"تشنيف المسامع" لشيخه الزركشي، ففي شرح البرماوي "فوائد، وتنبيهات، وتحقيقات،

وتحريرات، وتقريرات، ونقولات، ومناقشات، وتطبيقات فقهية" لَمْ يتعرض لها الإمام الزركشي في كِتابَيْه المذكورَين. وأكتفي بِذِكْر خمسة أمثلة توضح ذلك: المثال الأول: إذَا قرأ القارئ مبحث "الاستقراء" مِن باب "الأدلة المختَلَف فيها" في "البحر المحيط" للزركشي ثم قرأه في شرح الألفية للبرماوي، فسيجد في شرح البرماوي (مِن الأدلة والمناقشات والتطبيقات والفوائد والتنبيهات) ما لن يجده في "البحر المحيط" أو في "تشنيف المسامع بجمع الجوامع". المثال الثاني: ذكر البرماوي كلامًا للسبكي مِن "جمع الجوامع"، ثم قال (2/ 851): (وتَوقَّف كثير مِن العَصريين في مراد المصنِّف بذلك، حتى إنَّ شيخنا بدر الدين الزركشي - رحمه الله تعالى - لم يتعرض لشرح ذلك، بل بَيَّضَ له. وقد ألهمني الله - سبحانه وتعالى - مقصوده بذلك مِن كلامه في "شرح المختصر"، فإنه ... ). انتهى ثم نقل كلام السبكي من كتابه (رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب)، ثم قال البرماوي: (وفيما قاله نَظَر مِن وجوه: الأول ... ثانيها ... ثالثها ... سادسها ... ). قلتُ: فاشتمل شرح البرماوي على مناقشات وتعقبات وتحريرات وغير ذلك مما لا تَخفَى فوائده. المثال الثالث: قال البرماوي في شرح الألفية (3/ 1231): (وتَرِد صيغة النهي مجازًا لهذه المعاني: أحدها ... ، الثامن: التسوية، ولم أر مَن ذكره، وهو أَوْلى بالذكر من كثير مما ذكروه، ويمثَّل له بقوله تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور: 16]؛ لأن المراد التسوية في الأمرين). المثال الرابع: قال البرماوي في شرح الألفية (4/ 1600): (لكن فيما قالوه نظر من

وجهين، أحدهما: أن الشيخ أبا حيان نقل التخصيص بالبدل عن الشافعي، إذ قال في قصيدته التي رويناها عن شيخنا شيخ الإسلام البلقيني قراءة عليه عن أبي حيان متضمنة لمدح الشافعي رحمه الله: "إنه هو الذي استنبط الفن الأصولي، وإنه الذي يقول بتخصيص العموم بالبدلين". ومراده: بدل البعض، وبدل الاشتمال. فاستفدنا منه أن بدل الاشتمال في معنى بدل البعض في التخصيص عند مَن يقول به). المثال الخامس: قال البرماوي في شرح الألفية (1/ 273): (وأما العارِيَّة: فقال الغزالي في "الوسيط" بَعْد حكاية الخلاف في إعارة الدراهم والدنانير: "فإنْ أَبْطَلناها، ففي طريقة العراق أنها مضمونة؛ لأنها إعارة فاسدة. وفي طريقة المراوزة أنها غير مضمونة؛ لأنها غير قابلة للإعارة؛ فهي باطلة". انتهى. نَعَم، كان ينبغي أنْ يقول: "فإنْ لَمْ نُصححها، ففي طريقة العراق" إلى آخِره؛ لأنَّ عدم الصحة هو المنقسم إلى فساد وبطلان، لا أنَّ البطلان هو المنقسم؛ لأنَّ الشيء لا ينقسم إلى نَفْسه وغيْره). انتهى قلتُ: وهذا يدل على قوة نَظر البرماوي وتَأَمُّله وَدِقَّة فَهْمه؛ فالباطل لا ينقسم إلى فاسد وباطل. فعبارة الغزالي المنقولة هكذا: (فإنْ أَبْطَلناها ففي طريقة العراق أنها .. فاسدة، وفي طريقة المراوزة أنها .. باطلة). فيكون البطلان قد انقسم إلى فاسد وباطل، يعني انقسم إلى نَفْسه وغَيْره! ويرى البرماوي أنَّ الصواب أن تكون العبارة هكذا: (فإنْ لَمْ نُصححها ففي طريقة العراق أنها .. فاسدة، وفي طريقة المراوزة أنها .. باطلة). وبذلك يكون عدم الصحة قد انقسم إلى فاسد وباطل. وعبارة الغزالي المذكورة: (فإنْ أبطلناها ... ) قد ذكرها جَمْعٌ من كبار علماء أصول

الفقه مِن غَيْر أنْ يُنَبِّهوا على ما نَبَّه عليه البرماوي، فذكرها: الزركشي في "البحر المحيط"، وتاج الدين السبكي في "رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، 2/ 23"، والإسنوي في "التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، ص 60". وكُلهم لم ينبهوا على ما ذكره البرماوي. ثم: نظرتُ في "الوسيط" للغزالي، فوجدتُ عبارته جاءت كما أرادها البرماوي! ! قال الغزالي في "الوسيط": (وَإِن قُلْنَا: لَا يَصح، فَهِيَ عَارِية فَاسِدَة مضمونة، وَفي طَريقَة المراوزة أَن عَارِية الدَّرَاهِم إِذا لم تصح فَهِيَ بَاطِلَة) (¬1). قلتُ: فَثَبَتَتْ صحةُ نَظَر البرماوي، وأنَّ عبارة الغزالي - التي نقلها الأئمة الزركشي والسبكي والإسنوي - فيها خَلَل، وأنَّ البرماوي قد اعتمد عليهم في النقل عن الغزالي، ثم صَحَّح الخَلَل بِنَظَره، فأصاب. وأيضًا: وجدتُ الإمام البرماوي في مواضع كثيرة ينقل كلام الإمام الزركشي في "تشنيف المسامع شرح جمع الجوامع" ثم يتعقبه ويَرُد عليه. وإليكم بعض عباراته: قال البرماوي (1/ 327): (فَقَوْل شيخنا بدر الدين الزركشي في شرح "جمع الجوامع": "التحقيق أنه لا أداء ولا قضاء، بل إعادة" ليس بجيد؛ لأنَّ "الإعادة" لا تُنافي "الأداء" كما قررناه، وقد قرره هو في موضعه على الصواب). وقال أيضًا (1/ 356): (وأمَّا قول شيخنا الزركشي في "شرح جمع الجوامع": "إنهم ... " فَفِيه نَظَر؛ لأنَّ ... ). وقال أيضًا (3/ 1210): (قال شارحه شيخنا بدر الدين الزركشي: "إنه ... ". قلتُ: وفي ذلك نظر؛ لأن ... ). ¬

_ (¬1) الوسيط (3/ 351)، الناشر: دار السلام، تحقيق: د. محمد تامر، د. أحمد محمود.

المبحث التاسع: بيان درجة دقة الشمس البرماوي في نقل كلام غيره

المبحث التاسع: بيان دَرَجة دِقَّة الشمس البرماوي في نَقْل كلام غَيْره مَن يَتَتبَّع نقولات الإمام البرماوي عن غَيْره، لا يجدها على نمط واحد، ولبيان ذلك أذكر أربعة أقسام (¬1): القسم الأول: نَقْل يطابِق النص الأصلي في اللفظ. القسم الثاني: نقل يكاد يطابق النص الأصلي في اللفظ والمعنى على الرغم مِن طُوله. القسم الثالث: نقل يقارب النص الأصلي في اللفظ (مع تَصَرُّف يسير واختصار) ويطابقه في المعنى. القسم الرابع: نَقْل نَسَبَ البرماويُّ فيه كلامًا إلى غَيْر قائله. وإليكم تفصيل ذلك: القسم الأول: نقل يطابِق النص الأصلي في اللفظ: المثال الأول: قال الإمام البرماوي: (هو ظاهر كلام ابن الحاجب، حيث قال: "الجمهور: إنَّ مذهب الصحابي ليس بمخصَّص ولو كان الراوي" إلي آخِره). ¬

_ (¬1) كلامنا هنا مَبْنِي على افتراض أنَّ نُسَخ الكتب التي بين أيدينا الآن مطابقة للنُّسَخ التي كان ينقل منها الإمام البرماوي وذلك في النصوص التي هي موضع المقارنة، وقد يكون البرماوي اعتمد في النقل على ناقِلٍ آخَر.

القسم الثاني: نقل يكاد يطابق النص الأصلي في اللفظ والمعنى على الرغم من طوله

ولفظ ابن الحاجب في كتابه (¬1) "مختصر المنتهى": (الْجُمْهُورُ: إنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِمُخَصِّصٍ وَلَوْ كَانَ الرَّاوِي). المثال الثاني: قال الإمام البرماوي: (قال شيخنا بدر الدين في "شرح جمع الجوامع": ولم أجده قي كتبه، وإنما يوجد في كلام الأصوليين اضطراب فيه يمكن أن يؤخذ منه الخلاف، وكذا في كلام الفقهاء؛ ولهذا اختلفوا في المسابقة على الفيل على وجهين، أصحهما: نعم. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا سبق إلا في خف أو حافر". والثاني: لا؛ لأنه نادر عند المخاطَبين بالحديث، ولم يُرَد باللفظ). ولفظ شيخه الإمام الزركشي في كتابه "تشنيف المسامع": (ولم أجده في كتبه، وإنما يوجد في كلام الأصوليين اضطراب فيه يمكن أن يؤخذ منه الخلاف، وكذا في كلام الفقهاء؛ ولهذا اختلفوا في المسابقة على الفيل على وجهين، أصحهما: نعم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا سبق إلا في خف أو حافر". والثاني: لا؛ لأنه نادر عند المخاطَبين بالحديث، ولم يُرد باللفظ) (¬2). القسم الثاني: نقل يكاد يطابق النص الأصلي في اللفظ والمعنى على الرغم مِن طُوله: قال الإمام البرماوي: (وممن حكاها أبو الحسين في "المعتمد"، فقال: وأمَّا كَوْن القياس دِينَ الله فلا ريب فيه إذَا عُني أنه ليس ببدعةٍ، وإنْ أُريد غير ذلك، فعند الشيخ ¬

_ (¬1) مختصر منتهى السؤل والأمل في عِلْمَي الأصول والجدل (2/ 845)، الناشر: دار ابن حزم - بيروت، تحقيق: د. نذير حمادو، ط: الأولى - 1427 هـ. (¬2) تشنيف المسامع بجمع الجوامع (1/ 324)، طبعة: دار الكتب العلمية - بيروت، تحقيق: الحسيني عمر، ط: الأولى - 1420 هـ.

القسم الثالث: نقل يقارب النص الأصلي في اللفظ (مع تصرف يسير واختصار) ويطابقه في المعنى

أبي الهذيل لا يُطلق عليه ذلك؛ لأنَّ اسم الدين يقع على ما هو ثابت مستمر، وأبو علي الجبائي يَصِف ما كان واجبًا منه بذلك وبأنه إيمان، دُون ما كان منه نَدْبًا، والقاضي عبد الجبار يصف بذلك واجبَهُ ومندوبَهُ). ولفظ أبي الحسين في كتابه "المعتمد": (وَأما وَصفه بأنه دِين الله - عز وَجل - فَلَا شُبْهَة فِيهِ إِذا عَنَى بذلك أَنه لَيْسَ ببدعة. وَإِن عنَى غير ذَلِك فَعِنْدَ الشَّيْخ أبي الهُذيْل - رَحمَه الله - أنه لَا يُطلق عَلَيْهِ ذَلِك؛ لِأَن اسْم الدِّين يَقع على مَا هُوَ ثَابت مُسْتَمر، وَأَبُو عَليّ - رَحمَه الله - يصف مَا كَانَ مِنْهُ وَاجِبًا بذلك وَبِأَنَّهُ إِيمَان دون مَا كَانَ مِنْهُ ندبًا، وقاضي الْقُضَاة - رَحمَه الله - يصف بذلك واجبه وندبه) (¬1). القسم الثالث: نقل يقارب النص الأصلي في اللفظ (مع تَصَرُّف يسير واختصار) ويطابقه في المعنى: قال الإمام البرماوي: (ومنها ما قاله ابن السمعاني عقب كلامه السابق، حيث قال: والخلاف تظهر فائدته في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}، فعندنا لا يتناول الطواف بغير طهارة ولا منكوسًا، وعندهم يتناوله، فإنهم - وإنِ اعتقدوا كراهته - قالوا فيه: يُجْزِئ؛ لدخوله تحت الأمر. وعندنا لا يدخل؛ لأنه لا يجوز أصلًا، فلا طواف بدون شَرْطه - وهو الطهارة - ووقوعه على الهيئة المخصوصة). ولفظ الإمام السمعاني في كتابه "قواطع الأدلة": (والخلاف تظهر فائدته في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}، فعندنا هذا لا يتناول الطواف بغير طهارة ولا الطواف منكوسًا، وعلى مذهبهم يتناوله، فإنهم وإنِ اعتقدوا كراهية هذا الطواف ذهبوا ¬

_ (¬1) المعتمد (2/ 766)، الناشر: المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية بدمشق، تحقيق: محمد حميد، 1385 هـ.

القسم الرابع: نقل نسب البرماوي فيه كلاما إلى غير قائله

إلى أنه دخل في الأمر حتى يتصل به الإجزاء الشرعي، وعندنا لا يدخل ولا جواز لمثل ذلك الطواف. واعلم أن هذا المثال على أصلهم يتصور، فأما عندنا فلا نقول: إن ذلك طواف مكروه، بل لا طواف أصلًا؛ لأنه قام الدليل عندنا أن الطهارة شرط في الطواف مثل كونها شرطًا في الصلاة، وكذلك قام الدليل أن الطواف الشرعي هو الطواف على هيئة مخصوصة) (¬1). القسم الرابع: نَقْل نَسَبَ البرماويُّ فيه كلامًا إلى غَيْر قائله: المثال الأول: قال الإمام البرماوي: (ومنهم مَن فَرَّق بينهما بأنَّ "النسيانَ" عَدَمُ ذِكْر ما كان مذكورًا، و"السهو" غَفْلةٌ عَمَّا كان مذكورًا وعَمَّا لَمْ يَكُنْ مذكورًا .. ، وذهب كثير إلى أنَّ معناهما واحد. قال القاضي عياض في "المشارق": السهوُ في الصلاة: النسيانُ فيها). قلتُ (عبد الله رمضان): إنما قال القاضي عياض في كتابه "مشارق الأنوار": ("السهو فِي الصَّلَاة" قيل: هُوَ بِمَعْنى النسْيَان، وَقيل: بِمَعْنى الْغَفْلَة) (¬2). قلتُ: فالقاضي عياض إنما نَقَل قولين ولم يُقرر أن معناهما واحد، فالنقل عن القاضي عياض ليس دقيقًا. المثال الثاني: قال الإمام البرماوي: (وربما أُطْلق "المكروه" أيضًا على "خِلَاف الأَوْلى" إنْ جُعِل غيره، كقول إمام الحرمين في "النهاية" في باب الجمعة: "إنَّ تَرْك غسل الجمعة مكروه"، مع أنه لا نهي فيه. قال: "وهذا عندي جارٍ في كل مَسْنونٍ صَحَّ الأمر به ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة (1/ 238 - 239)، الناشر: مكتبة التوبة، 1419 هـ، تحقيق: د. عبد الله الحكمي. (¬2) مشارق الأنوار على صحاح الآثار (2/ 229)، طبعة: المكتبة العتيقة بتونس - دار التراث بالقاهرة.

مقصودًا"). انتهى قلتُ (عبد الله رمضان): عبارة "تَرْك غسل الجمعة مكروه" ليست من كلام إمام الحرمين، وإنما نقلها إمام الحرمين عن أبي بكر. فعبارة إمام الحرمين في كتابه "نهاية المطلب": (غسل الجمعة مندوب إليه مؤكد، قال الشيخ أبو بكر: تركه مكروه. وهذا عندي جارٍ في كل مسنونٍ صح الأمر به مقصودًا) (¬1). قلتُ: وبذلك يتضح لنا أنَّ الصواب قول الإمام الزركشي في "البحر المحيط": (حَكَى الْإِمَامُ فِي "النَّهَايَةِ" أَنَّ تَرْكَ غُسْلِ الْجُمُعَةِ مَكْرُوهٌ مَعَ أَنَّهُ لَا نَهْيَ فِيهِ. قَالَ: وَهَذَا عِنْدِي جَارٍ فِي كُلِّ مَسْنُونٍ صَحَّ الْأَمْرُ بِهِ مَقْصُودًا) (¬2). قلتُ: فعبارة الزركشي: (حكى الإمام)، وهو الصواب. لكن عبارة البرماوي: (كقول الإمام)، وهو خطأ؛ لأنه ليس قول الإمام، وإنما حكاه الإمام عن أبي بكر. المثال الثالث: قال البرماوي: (قال الإمام (¬3): فإنْ أراد الأستاذ أن أهل اللغة لم يسموه "مجازًا" بل حقيقة عند القرينة، فممنوع؛ فإنَّ كُتبهم مشحونة بتلقيبه "مجازًا"). قلتُ (عبد الله رمضان): هذا ليس كلام إمام الحرمين، بل هو كلام الإمام الزركشي في "البحر المحيط"، وبيان ذلك كما يلي: ¬

_ (¬1) نهاية المطلب (2/ 528). (¬2) البحر المحيط (1/ 536). (¬3) يقصد: إمام الحرمين.

المبحث العاشر: بيان حرص البرماوي على أن يقرأ على شيوخه ما كتبه أو نسخه من كتبهم ومقابلته على أصلهم، وكذلك كان يقرأ عليه ما كتب أو نسخ من كتبه

قال إمام الحرمين في "التلخيص": (وَقد حُكيَ عَن الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق، وَالظَّن بِهِ أَنَّ ذَلِك لَا يَصح عَنهُ) (¬1). وهنا انتهى كلامه بخصوص ذلك. فقال الزركشي في "البحر المحيط": (قَالَ إمَامُ الحْرَمَيْنِ فِي "التَّلْخِيصِ": "وَالظَّنُّ بِالْأُسْتَاذِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُ". وَإِنْ أَرَادَ (¬2) أَهْل اللُّغَةِ لَمْ يُسَمُّوهُ بِذَلِكَ بَلْ اسْمُهُ مَعَ قَرِينَةٍ حَقِيقَة، فَمَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّ كُتُبَهُمْ مَشْحُونَةٌ بِتَلْقِيبِهِ "مَجَازًا") (¬3). انتهى قلتُ: فالذي يَظهر أنَّ البرماوي لم يُراجع "التلخيص"، وإنما اعتمد على نَقْل الزركشي، فَتَوَهَّم البرماوي أنَّ الكلام كُله لإمام الحرمين، لكن الصواب أن كلام الزركشي يبدأ بقوله: (وإنْ أراد ... ). المبحث العاشر: بيان حرص البرماوي على أنْ يَقرأ على شيوخه ما كَتَبه أو نَسَخه مِن كُتُبهم ومقابلته على أَصْلهم، وكذلك كان يُقرأ عليه ما كُتِبَ أو نُسِخ مِن كُتُبه يتضح لنا مِن الأمثلة الآتية أنَّ هذا كان دَأْبهم وعادتهم، وبذلك حُفِظت الكُتُب مِن التصحيف والتحريف والتبديل (¬4)، وحُفِظ العِلم مِن الضياع، وهذا أحد عوامل حِفظ ¬

_ (¬1) التلخيص (1/ 193). (¬2) لعلها: أراد أن. (¬3) البحر المحيط (1/ 536). (¬4) إلَّا ما شاء الله تعالى، ولكن يحفظه الله تعالى مِن جِهات أخرى إنْ كان به حِفظ الدِّين.

الشريعة. فالإمام الزركشي أحد شيوخ شمس الدين البرماوي، وتوجد بالمكتبة الظاهرية نُسخة مخطوطة من كتاب "المُعْتَبَر في تَخريج أَحَاديث المنهَاج وَالمختَصَر" للإمام الزركشي، نُسخت عام 822 هـ، وعليها خط الإمام البرماوي، فقد كتب البرماوي بِخَطِّه في هامش الورقة (28): (بلغ مقابَلة وتصحيحًا على الأصل المقروء على مؤلِّفه رحمه الله، قاله محمد البرماوي). ثم كَتب البرماويُّ بِخَطِّه على الورقة الأخيرة مِن هذا المخطوط: (الحمد لله وحده، قُوبلت هذه النسخة المباركة على نُسخة كُتبت من أصل المصنِّف، وقرأها كاتبها محمد بن عبد الدائم البرماوي على مصنِّفها، وقابلها معه والأصل بيده، تغمده الله برحمته، وذلك في مجالس آخِرها رابع شعبان المكرم، سنة ست وثمانين وسبعمائة، وكتب المؤلف الإمام العلامة بدر الدين محمد بن الزركشي خَطه الكريم على النسخة المذكورة بذلك في كل مجلس وآخِر الكتاب، وفرغ كاتبه الفقير إلى رحمة ربه محمد البرماوي من مقابلة هذه النسخة في شهر رجب الفرد، سنة اثنين وعشرين وثمانمائة حسب الطاقة). قلتُ: فالإمام البرماوي يمتلك نُسخة قرأها على مُصَنَّفها بدر الدين الزركشي، وقابلها معه والأصل بِيَد الزركشي، وذلك في مجالس كان آخِرها عام 786 هـ. ثم نُسِخت بعد ذلك نُسخة الظاهرية في جمادى الأولى عام 822 هـ، وصُحِّحَت وقُوبِلَت على نُسخة البرماوي، وفرغ البرماوي من مقابلتها على نُسخته في رجب عام 822 هـ. وفي الصفحة التالية ثلاث صُوَر من هذا المخطوط توضح ذلك.

الورقة الأولى من مخطوط (المعتبر) للزركشي الورقة 28 عليها خط البرماوي الورقة الأخيرة عليها خط البرماوي

المبحث الحادي عشر: وصف نسخ مخطوطات ألفية البرماوي وأصلها وشرحها

أَضف إلى ذلك مما ذكرتُه عند الكلام على النُّسَخ (ز، ص، ق) من شرح البرماوي "الفوائد السنية" (انظر ص: 50 - 52 من هذه المقدمة)، وانظر لقطات مُصَوَّرة من هذه المخطوطات (ص: 93 - 95 من هذه المقدمة). المبحث الحادي عشر: وصف نُسَخ مخطوطات أَلْفِيَّة البرماوي وأَصْلها وشَرْحِها اجتمع عندي بفضل الله تعالى: - (8) ثماني مخطوطات للألفية مع شرحها، - (5) خمس مخطوطات لِنَظْم الألفية. وإليكم بيانات هذه النُّسَخ، ثُم أخْتِمُ ذلك ببيان ملاحظاتي حول هذه النُّسَخ: النسخة الأُولى (ز): وهي نسخة نفيسة محفوظة بالمكتبة الأزهرية (برقم: 91170 أصول)، وكتب ناسخُها على الورقة الأولى: (عَلَّقه لنفسه وبحثه على مؤلِّفه كاتبُه فقير عفو الله تعالى أبو بكر الأذرعي الشافعي). فالناسخ من تلاميذ شمس الدين البرماوي، وقد قرأ هذه النسخة على شيخه البرماوي، وعلى هذه النسخة خط البرماوي في مواضع عديدة. فقد كُتب في هامش الورقة (2 أ): (بلغ الشيخ تقي الدين الأذرعي - نفع الله به - سماع بحث. قاله مؤلِّفُه محمد البرماوي عفا الله عنه).

وكتب في هامش الورقة (45 ب): (بَلغ مقابَلة على نُسخة المُصَنِّف بسماعه). ويظهر من ذلك أنها كُتبت سنة 828 - 829 هـ؛ حيث جاء في آخِر النُّسَخ (ض، ش، ت، س): (قال مؤلفه رحمه الله: فرغ من تسويد هذا الشرح مؤلِّفُه - فقير رحمة ربه - محمد بن عبد الدائم البرماوي - عفا الله عنه - ثالث عشر شعبان سَنة ثمان وعشرين وثمانمائة. قال: ثم فرغ من تحريره وقراءته بمكة المشرفة في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة تسع وعشرين وثمانمائة). وهذه النُّسخة مَلَكها العلَّامة علاء الدين المرداوي؛ فلقد كُتب على غلافها: (مَلَكه - من فضل ربه العلي - علي بن سليمان بن أحمد بن محمد المرداوي .. بالبيع الشرعي .. سنة ثلاث وثمانين وثمانمائة). وهذه النسخة 175 ورقة، تنتهي عند شرح البيت رقم (477). النسخة الثانية (ص): هي نُسخة كاملة محفوظة بدار الكتب المصرية في مجلدين على 4 ميكروفيلم (رقم: 49190، 49191، 49500، 49501). المجلد الأول (259) ورقة، والمجلد الثاني (236) ورقة. وهذه نُسخة نفيسة؛ كُتبت في حياة البرماوي (سنة 829 هـ) وقُرِأت عليه، وكَتب عليها بخطه، ومن ذلك ما كُتب في هامش الورقة (رقم 12): (بلغ مقابلة وبحثًا .. قاله مؤلِّفُه عفا الله عنه). وكذلك في هامش الورقة (رقم 172). وكتب البرماوي بخطه في هامش الورقة (164): (ثم بلغ الشيخ العلَّامة قاضي القضاة الحنفي بمكة المشرفة - نفع الله تعالى به - قراءة ومقابلة بالأصل. قاله مؤلفه عفا الله عنه).

وكتب البرماوي بخطه في هامش الورقة (176): (بلغ، نفع الله تعالى بعلومه، قاله محمد البرماوي). وكتب في هامش الورقة (224): (بلغ، نفع الله تعالى بعلومه، قاله محمد البرماوي المؤلِّف عفا الله عنه). وكُتب في آخِر الجزء الأول منها: (تم الجزء الأول بعون الله وتوفيقه في ليلة سفر صباحها عن سابع عشر شهر المحرم الحرام من شهور سنة ست وعشرين وثمانمائة بمنزلي بالصالحية من الشام المحروسة أحسن الله عاقبتها، ويتلوه الجزء الثاني: الفصل الثاني في "العام" و"الخاص"). ثم كُتب بعد ذلك: (انتهى ... يوم الخميس ... من جمادى الأولى من شهور سنة تسع وعشرين وثمانمائة ... بمكة المشرفة). وقد تَغَيَّر خط الناسخ في الجزء الأول من أول الورقة (59) إلى آخِر الورقة (156). وكذلك في الجزء الثاني مِن أول الورقة (169) إلى آخِر الجزء. النسخة الثالثة (ق): هي نُسخة كاملة محفوظة بدار الكتب المصرية في مجلدين، المجلد الأول تحت رقم (39467 ب) في (331) ورقة، والمجلد الثاني تحت رقم (29205 ب) في 170 ورقة. وهي نُسخة نفيسة؛ كُتبت (¬1) في حياة البرماوي (سنة 830 هـ)، وتمت مقابلتها على نُسخة المؤلِّف في حياته؛ حيث كُتب في هامش الورقة الأخيرة منها: (بلغ مقابَلة ¬

_ (¬1) كلها أو الجزء الثاني منها، فقد قال ناسخ الجزء الثاني في آخِره: (نجِز تمام هذا الجزء .. على يد الفقير إلى الله .. محمد بن أيبك بن عبد الله .. ووافق الفراغ من كتابته .. سنة ثلاثين وثمانمائة).

على نُسخة المُصَنِّف أبقاه الله تعالى وحرسه). وفيما يخص الجزء الأول: تَغَيَّر خط الناسخ (إلى الأفضل) من آخِر الورقة (72) إلى آخِر الورقة (132)، ثم عاد الخط الأول حتى آخِر الورقة (272)، ثم عاد الخط الأفضل حتى آخِر الجزء الأول. أما الجزء الثاني فَكُتِب بخط ثالث ثابت مِن أوله إلى آخِره. النسخة الرابعة (ش): هي نُسخة كاملة في (389) ورقة، نُقِلَت مِن مسودة المؤلِّف وقُوبِلَت عليها، وهي مُصَوَّرة عن مكتبة تشستر بيتي (رقم: 3359)، تتكون من جزأين في مجلد واحد، الجزء الأول، نُسخ سنة 904 هـ في (209) ورقة (¬1)، والجزء الثاني نُسخ سنة 905 هـ في (180) ورقة (¬2). النسخة الخامسة (ت): مُصوَّرة عن مكتبة تشستر بيتي (رقم: 3147، 3154)، وتتكون من جزأين: الجزء الأول في (235) ورقة، والجزء الثاني في (250) ورقة، نَسَخ الثاني أحمد بن محمد بن حسين في عام 869 هـ كما ذُكِر في الورقة الأخيرة. وهي نُسخة كاملة (485) ورقة، لكن يوجد سقط بين الورقتين (56، 57)، وكذلك بين الورقتين (38، 39)، فالترقيم متصل لكن الكلام ليس متصلًا. وكذلك ¬

_ (¬1) كتب ناسخُه في آخِره: (نجِز تعليق الجزء الأول من شرح ألفية البرماوي .. على يد .. عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن قاسم، السبتي شهرة، الصفدي مولدًا .. عام أربع وتسعمائة هجرية). (¬2) وكتب ناسخُه في آخِره: (نجِز كتابته ونقله .. عام خمس وتسعمائة هجرية .. ، قُوبِل على أصله المنقول منه مسودة المُصَنِّف على قَدْر الطاقة - على يد كاتب هذه الأحرف ابن محمد السبتي).

سقَط من الجزء الأول الورقتان (203، 204). النسخة السادسة (ض): نُسخة كاملة (352) ورقة، محفوظة بمكتبة الملك فهد الوطنية (82/ 86) وبالمكتبة العامة بالرياض. وكُتب في آخِرها: (فرغ من كتابة هذا الجزء المبارك كاتبه يوسف بن حصر (¬1) البحيري .. سنة ست وثمانين وثمانمائة). النسخة السابعة (س): مُصَوَّرة عن مكتبة تشستر بيتي (رقم: 4439)، وهي الجزء الثاني في (239) ورقة (¬2)، تبدأ بالبيت رقم (568، الفصل الثاني: في العام والخاص). وكُتب على غلافها: (هذا الجزء وَقفه سيدنا ومولانا شيخ الإسلام كمال الدين ابن أبي شريف على نفسه ثم على مَن يصلح من ذريته ثم على طلبة العلم الشافعية .. وذلك بتاريخ تاسع عشر من جمادى الأُولى [ .. ]). وكمال الدين ابن أبي شريف وُلد 822 هـ وتُوفي 906 هـ، فالذي يظهر أن هذه النسخة كُتبت في القرن التاسع الهجري. النسخة الثامنة (ظ): محفوظة في دار الكتب الظاهرية بدمشق، فيلم رقم (856) في 137 ورقة. وآخِرها عند شرح البيت رقم (540). النسخة التاسعة (ن 1): محفوظة بدار الكتب المصرية (64 صفحة) برقم (106 أصول تيمور) بعنوان: "النبذة الألفية في الأصول الفقهية". النسخة العاشرة (ن 2): محفوظة بدار الكتب المصرية (27 ورقة) برقم (37831 ب) ¬

_ (¬1) هكذا في المخطوط، وقد يكون المراد: خضر. (¬2) ويُلاحَظ أنَّ خط الناسخ قد تَغَيَّر مِن الورقة (85) إلى آخِر المخطوط، فالظاهر أنه قد اشترك ناسخان في كتابته.

المبحث الثاني عشر: ملاحظاتي حول نسخ المخطوطات

بعنوان: "متن الألفية في علم الأصول"، كُتبت سنة 1078 هـ، الناسخ: إبراهيم بن سليمان البلبيسي الشافعي. النسخة الحادية عشرة (ق 3): محفوظة بدار الكتب المصرية برقم (18 أصول الفقه) في (37) ورقة، بعنوان: "الألفية في الأصول". النسخة الثانية عشرة (ن 4): محفوظة بدار الكتب المصرية برقم (591 أصول فقه) في (35) ورقة، كُتبت سنة 1300 هـ، الناسخ: محمد بن أحمد الحكيم. النسخة الثالثة عشرة (ن 5): محفوظة بدار الكتب المصرية برقم (509 أصول فقه) في (30) ورقة، بعنوان: "النبذة الألفية في الأصول الفقهية"، وكُتب على غلافها: (دخل في مِلْك الفقير إلى الله تعالى الشيخ مصطفى الحافظ المقرئ سَنة ألف ومائة وأحد عشر). مخطوط "النبذة الزكية": محفوظ بدار الكتب المصرية برقم (113 أصول تيمور) في (40) صفحة. المبحث الثاني عشر: ملاحظاتي حول نُسَخ المخطوطات أولًا: فيما يختص بالنصف الأول من الكتاب: حصلتُ - بفضل الله تعالى - على سَبع نُسَخ، ليس فيها نُسختان متطابقتان، ويمكن للناظر فيها تقسيمها إلى ثلاث مجموعات باعتبار تَقارُب نُسَخ المجموعة الواحدة مِن بعضها، وبُعْدها عن نُسَخ المجموعة الأخرى.

ثانيا: فيما يختص بالنصف الثاني من الكتاب

المجموعة الأُولى: (ص، ش، ض). أتقنها: (ص)؛ فجعلتها الأصل الذي اعتمدت عليه في النَّسخ، وأكثرها سَقْطًا: (ض). المجموعة الثانية: (ز، ظ، ق). أتقنها: ز ثم ظ. وهناك تَبَايُن ظاهر بين النسختين (ص، ز) في كثير من الكلمات، فيبدو أن الإمام البرماوي قد غَيَّر في إحداهما بعض الكلمات أو العبارات. المجموعة الثالثة: نُسخة (ت)، وهي تُشْعِرُك بِدِقَّة فَهْم ناسخها، مما جعلني أَلْجَأ إليها أحيانًا؛ للترجيح حين أجد اختلافًا بين المجموعتين الأُولى والثانية. ثانيًا: فيما يختص بالنصف الثاني من الكتاب: حصلتُ - بفضل الله تعالى - على ست نُسَخ، ليس فيها نُسختان متطابقتان، ويمكن للناظر فيها تقسيمها إلى ثلاث مجموعات باعتبار تقارب نُسَخ المجموعة الواحدة مِن بعضها وبُعْدها عن نُسَخ المجموعة الأخرى. المجموعة الأُولى: (ص، ق). أتقنها: ص؛ فجعلتُها الأصل الذي اعتمدتُ عليه في النَّسخ، إلَّا في المواضع التي تَغَيَّر فيها خط الناسخ، فَكَثُر الخطأ فيها، وبدأ ذلك مِن أول الورقة (169)، فجعلتُ (ق) هي الأصل الذي اعتمدت عليه. المجموعة الثانية: (ت، ش، ض). المجموعة الثالثة: نُسخة (س). وهي أَقْرَب إلى المجموعة الثانية. وهناك تَبَايُن ظاهر بين النسختين (ص، ت) في كثير من الكلمات، أحسبه نتج عن خطأ الناسخ في قراءة هذه الكلمات.

المبحث الثالث عشر: الجهود السابقة لتحقيق هذه الألفية وشرحها

المبحث الثالث عشر: الجهود السابقة لتحقيق هذه الألفية وشَرْحها ذكرتُ - فيما سبق - أنه قد طَال بحثي وسؤالي عن هذا الكنز الثمين (الألفية وشَرْحها)، ولم يَكُن إلَّا جواب واحد: الكتاب لَمْ يُطْبَع بَعْد! ثم نَمَا إلى عِلْمي أن الشرح قد حُقِّق مَرَّتين: المرة الأُولَى: في رسالتين جامعيتين بالسعودية، ولم يُطْبَع. والمرة الثانية: في تِسْع رسائل ماجستير بجامعة الأزهر، مُقَسَّمة على تِسع طالبات بالدراسات العليا، (ولا أدري السرَّ وراء هذا العدد الضخم من الرسائل لهذا الكتاب! ! ) (¬1)، ولم يُطْبَع. فحرصتُ على الاطِّلاع عليها؛ لَعَلِّي أجد فيها ما قد طال بحثي عنه. فظهرت لي شدة الحاجة إلى تحقيق جديد للألفية وشَرْحها، وذلك لسببين: السبب الأول: أنَّه قد توفَّر لَدَيَّ نُسَخ من المخطوطات أكثر دقة وأكثر عَددًا ولم تتوفر لكل أصحاب هذه الرسائل كما سيتضح مما يأتي، والفضل لله وحده. السبب الثاني: أنَّه قد كَثُرَت الأخطاء كثرة فاحشة في بعض هذه الرسائل، فالألفية تتكون من (1032) بَيْتًا مع شرح البرماوي، وإحدى هذه الرسائل حَقَّقَت واحدًا وتسعين (91) بَيْتًا فقط مع شرح البرماوي، ووَجَدْتُ في هذه الرسالة (في 91 بَيْتًا فقط ¬

_ (¬1) هذا التساؤل أضافه الناشر، ولقد دار في ذهني السؤال نَفْسه! !

غَيْر الشرح) أكثر مِن مائة (100) خطأ! ! ورسالة أخرى حَقَّقَت (126) بَيْتًا مع الشرح، ووَجَدْتُ فيها (في 126 بَيْتًا فقط غَيْر الشرح) أكثر مِن مائة (100) خطأ! ! فماذا إذَا جَمَعْنَا إلى ذلك الأخطاء التي في تحقيق شَرْح هذه الأبيات؟ ! ! وسيأتي تفصيل ذلك مع ذِكْر أمثلة أَعْرِضُ فيها لقطات مُصَوَّرة من صفحات هذه الرسائل ومن المخطوطات. (ومِن أَهَم المقاصد مِن ذِكر هذه الأمثلة أنْ ينتبه أصحاب هذه الرسائل إلى هذه الأخطاء عند إرادة النشر، فيصوبونها مِن خلال نشرتنا هذه، أو بالتواصل معنا عن طريق الناشر عند أي استشكال، وسيكون التعاون بيننا على البِر والتقوى إنْ شاء الله تعالى) (¬1). (ومقصد آخَر لا يقل أهمية عن سابقه، وهو تنبيه مَن يهمه الأمر إلى شحذ الهمم والانتباه إلى ضرورة وأهمية الرعاية المثلَى لعلومنا الشرعية - المخطوط منها والمطبوع - التي كد فيها وتعب علماؤنا السابقون؛ لتحرير الأحكام وتذليلها للأفهام؛ لتنفع الأنام؛ فلا أَقَل مِن أنْ تصل النصوص إلى الأُمة كما أرادوها إنْ لم نزدها تحريرًا وتذليلًا، لا كما نرى تحريفًا وتشويهًا. فرغم أنَّ المقدار المكلَّف به بعضُ الباحثين قريبٌ مِن عُشْر الكتاب إلا أنَّ حجم التشويه والتحريف فاقَ المعقول كما سنرى بعد قليل، فكيف فات ذلك على المسئولين. إنها ذِكرى، والذكرى تنفع المؤمنين) (¬2). وفيما يلي تفصيل ذلك. ¬

_ (¬1) هذه الفقرة من إضافات الناشر، جزاه الله خيرًا. (¬2) هذه الفقرة من إضافات الناشر، جزاه الله خيرًا.

ملاحظاتي على التحقيق الأول

ملاحظاتي على التحقيق الأول حُقِّق شرح البرماوي في رسالتين جامعيتين بالسعودية، ولم يُطْبَع: الرسالة الأولى: تناولت تحقيق القسم الأول من الشرح بجامعة أُم القرى (كلية الشريعة) في 2411 صفحة في ستة أجزاء، عام 1417 هـ - 1996 م، واعتمد الباحث في تحقيقه على أربع مخطوطات فقط، وقد رمزتُ لها بِـ: (ض، ش، ت، ص). فالمُحَقِّق فاتَتْه النُّسَخ: (ظ، ق، ز، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5)، فَلَم يَطَّلِع عليها. ولمعرفة أهمية نُسخة (ز) التي فاتَتْه انظر ما يتعلق بها في هذه المقدمة (ص 50). الرسالة الثانية: تناولت تحقيق القسم الثاني من الشرح بجامعة محمد بن سعود (كلية الشريعة) في 1520 صفحة في ثلاثة أجزاء، عام 1415 هـ، واعتمد الباحث في تحقيقه على ثلاث مخطوطات فقط، وقد رمزتُ لها بِـ: (ض، ش (¬1)، ت). فالمُحَقِّق فَاتَتْه النُّسَخ: (ص، ق، س، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5)، - فَلَمْ يَسْتَفِد منها فيما أرى. ولمعرفة أهمية النسختين (ص، ق) انظر ما يتعلق بهما في هذه المقدمة (ص 51 - 53). الخلاصة: قد ظهر بذلك أننا اعتمدنا على نُسَخ أكثر دقة وأكثر عددًا ولم تتوفر للمحَقِّقَيْن ¬

_ (¬1) وقد استفدتُ منه في الحصول على الصفحة الأخيرة من نُسخة (ش)؛ حيث إنَّ نُسْخَتي المُصَوَّرة تنقصها الصفحة الأخيرة، وقد أَلْحَقَ الباحث - بمقدمة رسالته - صورة هذه الصفحة؛ فاستفدتها منه، جزاه الله خيرًا.

الفاضلَين، والفضل لله وحده. وقد بُذِل جُهد واضح في إعداد الرسالتين، فجزاهما الله خيرًا، لكن لي عليهما ملاحظات توضح - بمجموعها - شدة الحاجة إلى تحقيق جديد للألفية وشَرْحها. وتتلخص ملاحظاتي فيما يلي: 1 - وجود تحريفات وتصحيفات في مئات الكلمات. 2 - نقصان كلمات أو جُمَل على الرغم مِن وجودها في جميع المخطوطات. 3 - زيادة كلمات (أو أَحْرُف) ليست في جميع المخطوطات. 4 - وجود أخطاء في كتابة وضبط كلمات النَّظم؛ أَدَّت إلى كَسْر الوزن في أبيات عديدة. 5 - وجود أخطاء في وضع علامات الترقيم؛ جَعَلَتْ النَّص مُشَوَّهًا، مما أَدَّى إلى: خَلَل في الفَهْم، والخلط بين كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلام الشُراح، والخلط بين كلام البرماوي وكلام غَيْره، وذلك بإدخال كلام البرماوي في كلام غَيْره، والعكس. وكذلك لِي ملاحظات تتعلق بمنهج كُلٍّ مِن المُحَقِّقَيْن الفاضلَين في تحديد ما يُثْبَت وما لا يُثْبَت في نَصِّ الكتاب في المتن، وكيفية الترجيح عند اختلاف نُسَخ المخطوطات، لكن لا يتسع المقام هنا لِذِكْرها؛ فلقد أَطَلْتُ الكلام فيما يتعلق بالأقسام الخمسة المذكورة. وفيما يلي تفصيل ذلك مع أمثلة على كل قِسم من هذه الأقسام، وسأعرض فيها لقطات مُصَوَّرة من صفحات الرسالتين ومن المخطوطات.

القسم الأول: تحريفات وتصحيفات في مئات الكلمات

القسم الأول: تحريفات وتصحيفات في مئات الكلمات: ذكرتُ أنَّ الناظر في الرسالتين يلاحظ الجهد الذي بذله المحققان الفاضلان، فجزاهما الله خير الجزاء، إلَّا أنَّني - مع ذلك - وجدتُ فيهما مئات الأخطاء في النَّظم والشرح، سجلتُ منها ثلاثمائة خطأ تقريبًا حتى وجدتُ ذلك يُضَيِّع وَقْتِي؛ لكثرة الأخطاء، فَمَرَرْتُ على العديد منها دُون أنْ أُسجلها. وهذا الكَم من الأخطاء أراه قليلًا مِن جهة وكثيرًا مِن جهة أخرى: فهو قليل بالنظر إلى كبر حجم الكتاب الذي زاد عدد صفحاته عن (2000) أَلْفَي صفحة. لكنه كثير بالنظر إلى أنَّ المحققَين الفاضلَين لَمْ يَضْبطا كلمات نَظْم الألفية بعلامات التشكيل (¬1)، فلقد رأَى بعضكم ما حدث حين حاول مُحَقِّقٌ آخَرَ تشكيل كلمات ألفية الحافظ العراقي في أصول الفقه، فلقد رَصَدتُ مِن أخطائه ما يَقْرب من (2000) أَلْفَي خطأ على الرغم من أن كتاب العراقي مع شَرْحه أصغر مِن نصف كتاب البرماوي! ! وقد نشرتُ أمثلة من هذه الأخطاء مُوَثَّقَة بالصُّوَر في رسالتِي "الجناية على التراث وأَهْله". وفيما يلي أمثلة مما وجدته في تحقيق الدكتورين الفاضلَين لشرح البرماوي، أذكرها مدعومة بِصُوَر مُوَثّقَة من رسالتيهما ومن المخطوطات: المثال الأول: جاء في رسالة الباحث الأول (ص 281): (نقل قطع بعضهم بأنهم مكلفون ¬

_ (¬1) كان الباحث الثاني قليلًا ما يضبط كلمة أو أكثر في البيت، لكن أكثر الأبيات لم يضبط منها شيئًا.

بالمناهي). وهذه صورة من رسالته: نقل قطع بعضهم بأنهم مكلفون بالمناهي والصواب كما في جميع النُّسَخ (¬1): (نَعَم، قطع بعضهم بأنهم مُكَلَّفون بِالمناهِي). وهذه صُوَر من المخطوطات: نُسخة (ص): نُسخة (ش): نُسخة (ت): نُسخة (ض): المثال الثاني: جاء في رسالة الباحث الأول (ص 918): (يقول باستثناء العلم للقرينة لا لمجرد الإخبار). وهذه صورة من رسالته: يقول باستثناء العلم للقرينة لا لمجرد الإخبار والصواب كما في جميع النُّسَخ: (يقول باستناد العِلم للقرينة، لا لمجرد الإخبار). وهذه صُوَر من المخطوطات: نُسخة (ص): نُسخة (ش): نُسخة (ت): ¬

_ (¬1) أقصد جميع النُّسخ التي اعتمد عليها الدكتور الفاضل في تحقيقه، وهي: ص، ض، ت، ش.

نُسخة (ض): المثال الثالث: جاء في رسالة الباحث الأول (ص 1947): (إن تساويا لزم حسن انتفاء الشرط انتفاء الجواب). وهذه صورة منها: إن تساويا لزم حسن انتفاء الشرط انتفاء الجواب والصواب كما في جميع النُّسَخ: (إنْ تَساويا، لَزِمَ مِن انتفاءِ الشرطِ انتفاءُ الجواب). وهذه صُوَر من المخطوطات: نُسخة (ص): نُسخة (ش): نُسخة (ت): نُسخة (ض): المثال الرابع: في رسالة الباحث الثاني (ص 922): (ويبقى عدم الرؤية فينتقض بخلاف مَن لم يرها). وهذه صورة من رسالته: ويبقى عدم الرؤية فينتقض بخلاف من لم يرها والصواب كما في جميع النُّسَخ: (ويبقى عدم الرؤية، فينتقض بنكاح مَن لم يرها). وهذه صُوَر من المخطوطات: نُسخة (ش): نُسخة (ت): نُسخة (ص):

نُسخة (ض): المثال الخامس: جاء في رسالة الباحث الثاني (ص 996): (كاحتمال الحدث كمن تيقن الطير). وهذه صورة من رسالته: كاحتمال الحدث كمن تيقن الطير والصواب كما في جميع النُّسَخ: (كاحتمال الحدث لمن تَيَقَّن الطهر). وهذه صُوَر من المخطوطات: نُسخة (ص): نُسخة (ش): نُسخة (ت): نُسخة (ض): المثال السادس: في رسالة الباحث الثاني (ص 941): (فإنها ثابتة لغيره، باقية على انتفائها للحُكم). وهذه صورة من رسالته: فإنها ثابتة لغيره، باقية على انتفائها للحكم والصواب كما في جميع النُّسَخ: (فإنها ثابتة لغيره، باقية على اقتضائها للحُكم). وهذه صُوَر من المخطوطات: نُسخة (ص): نُسخة (ش): نُسخة (ت): نُسخة (ض):

القسم الثاني: نقصان كلمات أو جمل على الرغم من وجودها في جميع المخطوطات

القسم الثاني: نقصان كلمات أو جُمَل على الرغم مِنْ وجودها في جميع المخطوطات: المثال الأول: جاء في رسالة الباحث الثاني (ص 1111): (يجري ذلك في البليغ. والبلاغة: - كما قال البيانيون). وهذه صورة من رسالته: الفصيح والأفصح. ولكن الأفصح فيها أكثر. وينبغي أن يجري ذلك في البليغ. والبلاغة: - كما قال البيانيون -: مطابقة الكلام لمقتضى الحال وهو مشروح في والصواب كما في جميع النُّسَخ: (يجري ذلك في البليغ، فلا يرجح على الفصيح. و"البلاغة" كما قال البيانيون). فسقط من رسالة الدكتور عبارة: (فلا يرجح على الفصيح). وهذه صُوَر من المخطوطات: ش: ت: ص: ض: المثال الثاني: جاء في رسالة الباحث الثاني (ص 1140 - 1141): (لأنه مِن باب اجتماع نعم: لو كانت قليلة الفروع).

وهذه صورة من رسالته (¬1): وحكى إمام الحرمين الأقوال الثلاثة (6). وهي عندنا لا تقع؛ لأنه من باب اجتماع (1) في (س، م): الوجودي (2) ينظر: المحصول (2/ 2/ 597 - 598). - 1141 - نعم: لو كانت قليلة الفروع لها نظائر فهل يرجح بذلك؟ فيه نظر. وقد عقد الإمام والصواب كما في جميع النُّسَخ: (لأنه مِن باب اجتماع علتين لِحُكم، ومَن قال: "يجوز تَعَدُّد العِلَل"، فلا معارضة؛ فلا ترجيح، ومَن منع هُم الذين اختلفوا. وكذا يُقدَّم مِن العلل ما كان أكثر فروعًا، ومَن رجح المتعدية يرجح بذلك، ومَن لا فلا. نعم، لو كانت قليلة الفروع). قلتُ (عبد الله رمضان): فظهر بذلك أنه قد سقط من رسالة الدكتور كل ما تحته خط. وهذه صُوَر من المخطوطات: نُسخة (ش): نُسخة (ت): ¬

_ (¬1) عبارة "لأنه مِن باب اجتماع" في آخِر سطر من صفحة (1140)، وعبارة "نعم: لو كانت قليلة الفروع" في أول سطر من صفحة (1141).

ض: المثال الثالث: جاء في رسالة الباحث الثاني (ص 1176): (صحت مقالته هذه لمطابقة خبره مخبره. فقد اختلت كلية دعواه به). وهذه صورة: مصيبًا فقد صحت مقالته هذه لمطابقة خبره مخبره. فقد اختلت كلية دعواه به. والصواب كما في جميع النُّسَخ: (صحت مقالته هذه؛ لمطابقة خبره مُخْبره. وإنْ كان مخطئًا فقد اختلت كلية دعواه به). فسقط من رسالة الدكتور عبارة: (وإنْ كان مخطئًا). وهذه صُوَر من المخطوطات: (ش): (ت): (ض): (ص): المثال الرابع: جاء في رسالة الباحث الثاني (ص 344): (مِن نحو: رجال إلا زيدًا). وهذه صورة من رسالته: احتراز من نحو: رجالٌ إلا زيدًا لاحتمال أن لا يريد والصواب كما في جميع النُّسَخ: (مِن نحو: جاء رجال إلا زيدًا).

وهذه صُوَر من المخطوطات (¬1): نُسخة (ص): نُسخة (ش): نُسخة (ت): نُسخة (ض): المثال الخامس: جاء في الرسالة الثانية (ص 926): (فإن ذلك يعلمه إذا كان عاجزًا عن الاجتهاد). وهذه صورة من رسالته: فإن ذلك يعلمه إذا كان عاجزًا عن الاجتهاد. والصواب كما في جميع النُّسَخ: (فإن ذلك مِن أين يَعْلَمه إذا كان عاجزًا عن الاجتهاد؟ ! ). وهذه صُوَر من المخطوطات: نُسخة (ص): نُسخة (ش): نُسخة (ت): نُسخة (ض): المثال السادس: جاء في رسالة الباحث الأول (ص 642): (كما سُمي المكتوب، قال أبو عبيد). وهذه صورة من رسالته: والقرآن: مأخوذ من قرأ إذا جمع، سمى به المقروء كما سمى المكتوب، قيل أبو عبيد: سمي بذلك لأنه يجمع السور ويضمها ¬

_ (¬1) مع ملاحظة أن الهمزة من (جاء) قد لا تُكتب في المخطوطات، فيكتبونها هكذا: (جا).

والصواب كما في جميع النُّسَخ: (كما سُمي المكتوب كتابًا. قال أبو عبيد). وهذه صُوَر من المخطوطات: نُسخة (ص): نُسخة (ش): نُسخة (ت): نُسخة (ض): المثال السابع: جاء في رسالة الباحث الأول (ص 761): (وتوقف القاضي في موضع آخر). وهذه صورة من رسالته: وتوقف القاضي في موضع آخر والصواب كما في جميع النُّسَخ: (وتوقف القاضي والآمدي في موضع آخر). وهذه صُوَر من المخطوطات: نُسخة (ص): نُسخة (ش): نُسخة (ت): نُسخة (ض):

القسم الثالث: زيادة كلمات (أو أحرف) ليست في جميع المخطوطات

القسم الثالث: زيادة كلمات (أو أَحْرُف) ليست في جميع المخطوطات: المثال الأول: جاء في رسالة الباحث الأول (ص 854): (لا يرد على هذه القاعدة في الجمعة). وهذه صورة من رسالته: لا يرد على هذه القاعدة في الجمعة حيث والصواب كما في جميع النُّسَخ: (لا يَرِد على هذه القاعدة الجمعة). وهذه صُوَر من المخطوطات: نُسخة (ص): نُسخة (ش): نُسخة (ت): ض: المثال الثاني: جاء في رسالة الباحث الأول (ص 940): (الأنفال نزلت بالمدينة وبراءة نزلت من أواخر ما نزل). وهذه صورة من رسالته: نزلت بالمدينة وبراءة نزلت من أواخر ما نزل. والصواب كما في جميع النُّسَخ: (الأنفال نزلت بالمدينة، وبراءة من أواخر ما نزل). وهذه صُوَر من المخطوطات: نُسخة (ص): نُسخة (ش): نُسخة (ض):

نُسخة (ت): المثال الثالث: جاء في رسالة الباحث الأول (ص 1790): (مفهوم اللقب لأنه فيه اسم جامد). وهذه صورة من رسالته: مفهوم اللقب لأنه فيه اسم جامد فلا فرق حينئذ والصواب كما في جميع النُّسَخ: (مفهوم اللقب؛ لأنه اسم جامد). وهذه صُوَر من المخطوطات: نُسخة (ص): نُسخة (ش): نُسخة (ت): نُسخة (ض): المثال الرابع: جاء في رسالة الباحث الثاني (ص 617): (القائل بأنه مجمل: محمد أبو الحسين وأبو عبد الله). صورة من رسالته: والقائل بأنه مجمل: محمد أبو الحسين وأبو عبد الله البصريان والصواب كما في جميع النُّسَخ: (القائل بأنه مُجمل: أبو الحسين وأبو عبد الله). وهذه صُوَر من المخطوطات: نُسخة (ش): نُسخة (ت): نُسخة (ض):

القسم الرابع: الأخطاء في كتابة وضبط كلمات النظم، مما أدى إلى كسر الوزن

المثال الخامس: جاء في رسالة الباحث الثاني (ص 1075): (الوضوء في أثناء المكاره. نعم: فيما بعد). وهذه صورة من رسالته: أن يخرج منه. أما الحج والعمرة فلا يبطلان بذلك قطعًا. وكذا الوضوء في أثناء المكاره. نعم: فيما بعد الفراغ منه وجه أنه يبطل بقصد ابطاله. وأما الاعتكاف والصوم. والصواب كما في جميع النُّسَخ: (الوضوء في أثنائه. نعم، فيما بعد). وهذه صُوَر من المخطوطات: نُسخة (ش): نُسخة (ت): نُسخة (ض): القسم الرابع: الأخطاء في كتابة وضبط كلمات النَّظْم، مما أدَّى إلى كسر الوزن: قد تكرر هذا كثيرًا في أبيات الألفية في رسالَة الباحث الأول، وكذلك في رسالة الباحث الثاني، مما أدَّى إلى كسر الوزن في كثير من الأبيات، فيظهر من ذلك أن المحقِّقَيْن الفاضلين - عند تحقيقهما لِنَظْم الألفية - لم يأخذَا في اعتبارهما عِلْم العَروض؛ وكان عليهما مراعاة ذلك؛ لمعرفة مواضع الضرورة الشعرية من قصر الممدود وتسهيل الهمزة والترجيح عند اختلاف النُّسَخ، وغير ذلك مما يَلْزَم لصحة وزن أبيات الألفية كما أرادها الإمام البرماوي. وفيما يلي أمثلة على ذلك.

المثال الأول: ظهر الخطأ في كلمات الألفية في رسالة الباحث الأول من البيت الأول! وفيما يلي صورة من رسالته (ص 47): باسم الحميد قال يحمد ... ذا بالرموى الشافعى محمد والصواب (كما في جميع المخطوطات) هكذا: 1 - بِاسْمِ الحمِيدِ قال عَبْدٌ يَحْمَدُ ... ذَا البِرْمَوِيُّ الشافِعِيْ مُحَمَّدُ وهذه صُوَر من المخطوطات: نُسخة (ص): نُسخة (ض): نُسخة (ش): نُسخة (ت): المثال الثاني: جاء في رسالة الباحث الأول (ص 851): من الخلاف بانتفاء الدليل ... تمسك (1) بمجمع مقول قلتُ (عبد الله رمضان): لا يصح كتابة الهمزة من كلمة "بانتفاء"، فهذا أَدَّى إلى كَسْر الوزن، فالصواب (كما في جميع المخطوطات) كتابة البيت هكذا: 246 - مِنَ الْخِلَافِ بِانْتِفَا الدَّلِيلِ ... تَمَسُّكٌ بِمُجْمَعٍ مَقُولِ المثال الثالث: جاء في رسالة الباحث الأول (ص 113): يسمى إعتقادا فاسدا وجهلا ... مركبا أما البسيط نقلا قلتُ (عبد الله): لا يصح جَعْل الهمزة من كلمة "اعتقادا" همزة قطع، فهذا أَدَّى إلى

كَسْر الوزن، فالصواب (كما في جميع المخطوطات) أنها همزة وصل، فيُكتب البيت هكذا: 37 - يُسْمَى "اعْتِقَادًا فَاسِدًا" وَ"جَهْلَا ... مُرَكَّبًا"، أمَّا "الْبَسِيطُ" نَقْلَا المثال الرابع: جاء في رسالة الباحث الأول (ص 1027): ومن وعى في نقص فأدى ... بعد الكمال فاقبل المؤدى قلتُ (عبد الله): وقع خطأ في كلمة "نقص"، مما أَدَّى إلى كَسْر الوزن، فالصواب (كما في جميع المخطوطات) هكذا: 286 - وَمَنْ وَعَى في نَقْصِهِ فَأَدَّى ... بَعْدَ الْكَمَالِ فَاقْبَلِ الْمُؤَدَّى وهذه صُوَر من المخطوطات: نُسخة (ص): نُسخة (ض): نُسخة (ش): نُسخة (ت): المثال الخامس: جاء في رسالة الباحث الأولى (ص 1105): لأجل ذلك خصت الشهادة ... شرطها المشهور بالزيادة قلتُ (عبد الله): وقع خطأ في كلمة "شرطها"، مما أَدَّى إلى كَسْر الوزن، فالصواب (كما في جميع المخطوطات) هكذا: 304 - لِأَجْلِ ذَاكَ خُصَّتِ الشَّهَادَهْ ... بِشرْطِهَا الْمَشْهُورِ بِالزِّيَادَهْ

وهذه صُوَر من المخطوطات: نُسخة (ص): نُسخة (ض): نُسخة (ش): نُسخة (ت): المثال السادس: جاء في رسالة الباحث الثاني (ص 445): كأوتِيت من كل شيء واللهُ ... خالق كل شيء أي: سواه قلتُ (عبد الله): وقع خطأ في: "شيء"، "أي"، مما أَدَّى إلى كَسْر الوزن، فالصواب: 647 - كَـ "أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ"، وَ"اللهُ ... خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ"، ايْ: سِوَاهُ وهذا هو الذي صرح به الإمام البرماوي، إذْ قال في شرحه (4/ 1608): (قولي في النَّظم: كَـ "أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ" هو بتسكين الياء بلا همز تخفيفًا؛ لإقامة الوزن .. ، وقولي: "ايْ: سِوَاهُ" هو بحذف همزة "أي"؛ لضرورة النَّظم أيضًا). المثال السابع: جاء في رسالة الباحث الثاني (ص 614): كذلك لا نكاح إلا بوليّ ... ونحوه فواضح ذا منجلى قلتُ (عبد الله): وقع خطأ في كلمة "كذلك"، مما أَدَّى إلى كَسْر الوزن، فالصواب (كما في جميع المخطوطات) هكذا: 702 - كَذَاكَ: "لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَليْ" ... وَنَحْوُهُ، فَوَاضِحٌ ذَا مُنْجَلِيْ وهذه صُوَر من المخطوطات: نُسخة (ض): نُسخة (ش):

نُسخة (ت): نُسخة (ص): المثال الثامن: جاء في رسالة الباحث الثاني (ص 969): جواب كلها ببيان ضده * بحجة قامت له بقصده قلتُ (عبد الله): وقع خطأ في كلمة "ببيان"، مما أَدَّى إلى كَسْر الوزن، فالصواب (كما في جميع المخطوطات) هكذا: 879 - جَوَابُ كُلِّهَا بَيَانُ ضِدِّهِ ... حُجَّةٍ قَامَتْ لَهُ بِقَصْدِهِ وهذه صُوَر من المخطوطات: نُسخة (ض): نُسخة (ش): نُسخة (ت): (ص): المثال التاسع: جاء في رسالة الباحث الثاني (ص 1000): وعنه الاستحسان عند قائله ... أبي حنيفة أنِمْ من دلائله قلتُ (عبد الله): وقع خطأ في كلمة "أنِمْ"، مما أَدَّى إلى كَسْر الوزن، فالصواب (كما في جميع المخطوطات) هكذا: 900 - وَمِنْهُ "الِاسْتِحْسَانُ" عِنْدَ قَائِلِهْ ... أَبِي حَنِيفَةَ، انْمِ (¬1) مِنْ دَلَائِلِهْ ¬

_ (¬1) يعني: انقل ذلك عنه.

القسم الخامس: أخطاء في وضع علامات الترقيم؛ جعلت النص مشوها

المثال العاشر: جاء في رسالة الباحث الثاني (ص 1161): وغيرهم في بُعد أو في قُرب ... وروى الكثير من ذا الضرب قلتُ (عبد الله): وقع خطأ في كلمة "رَوَى"، مما أَدَّى إلى كَسْر الوزن، فالصواب: 1003 - وَغَيْرِهِمْ في بُعْدٍ اوْ في قُرْبِ ... وَرُوِيَ الْكَثِيرُ مِنْ ذَا الضَّرْبِ القسم الخامس: أخطاء في وضع علامات الترقيم؛ جَعَلَتْ النَّص مُشَوَّهًا: وذلك أَدَّى إلى: خَلَل في الفَهْم، والخلط بين كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلام الشُراح، والخلط بين كلام البرماوي وكلام غَيْره، وذلك بإدخال كلام البرماوي في كلام غَيْره، والعكس. ويتضح ذلك بالأمثلة التالية: المثال الأول: جاء في رسالة الباحث الأول (ص 725): قال ابن السمعاني: وهو الأشبه بمذهب الشافعي رحمه الله، قال: وهو الصحيح إلا أنه لم يتكلم إلا فيما ظهر فيه قصد القربة ولو مجردا عن إمارة الوجوب (3). قلتُ (عبد الله): الذي يظهر من صنيع الدكتور أن كل ما بعد "قال: " هو كلام ابن السمعاني، لكن الصحيح أن كلام البرماوي يبدأ من: (إلا أنه). وفيما يلي صورة من تحقيقي (ص 1/ 393) توضح الصواب في وضع علامات الترقيم: قال ابن السمعاني: (وهو الأشبه بمذهب الشافعي) (1)، قال: (وهو الصحيح). إلَّا أنه لم يتكلم إلَّا فيما ظهر فيه قَصْد القُربة ولو مجردًا عن إمارة الوجوب.

المثال الثاني: جاء في رسالة الباحث الأول (ص 716): الأمرين، فلذلك لم أفرده فى النظم قسما، بل حذفته من قول صاحب "جمع الجوامع". وفيما تردد بين الجبلى والشرعي، كالحج راكبا، تردد (1). قلتُ (عبد الله): الذي يظهر من علامات الترقيم التي وضعها الدكتور (¬1) أن عبارة: (وفيما تردد ... ) من كلام البرماوي، لكن الصحيح أنها من كلام السبكي. وفيما يلي صورة من تحقيقي (ص 389) توضح الصواب في وضع علامات الترقيم: الطريقين ليس قِسمًا خارجًا عن الأمرين؛ فلذلك لم أفّرده فى النَّظْم قِسمًا، بل حذفتُه مِن قول صاحب "جمع الجوامع": (وفيما تَرَدَّد بين الجِبِلِّى والشرعي - كالحج راكبًا - تَرَدُّد) (4). المثال الثالث: جاء في رسالة الباحث الثاني (ص 896): ومه: الجنين شبه الجزء والمنفرد. فإذا قال بعتكها إلا حملها فعلى الأول باطل. كما لو استثنى جزءٌ. وعلى الثانى: صحيح. كما لو قال: بعتك الاثنين إلا هذا الثانى: بنى القاضي قياس الشبه. على أن المصيب من المجتهدين واحد أو الكل؟ وفيما يلي صورة من تحقيقي (ص 1998) توضح الصواب في علامات الترقيم: ومنه: الجنين يُشبه الجزء والمنفرد. فإذا قال (بعْتُكها إلا حملها)، فعَلَى الأول باطل. كما لو استثنى جزءًا, وعلى الثانى: صحيح كما لو قال: (بِعْتُك الاثنين إلا هذا). الثاني: بَنَى القاضي قياس الشَّبه على أنَّ المصيب مِن المجتهدين واحد؟ أو الكل؟ فعَلَى ¬

_ (¬1) لكن القارئ إذا نظر إلى الهامش الذي وضعه الدكتور، يمكنه أن يدرك الصواب.

ملاحظاتي على التحقيق الثاني

فظهر بذلك أنَّ صنيع الدكتور قد اشتمل على خَلَل في عدة مواضع، منها أنه أدخل كلمة "الثاني" في قول البائع، بينما هي بداية فقرة جديدة خاصة بِـ: التنبيه الثاني. ملاحظاتي على التحقيق الثاني ذكرتُ فيما سبق أن كتاب "الفوائد السنية" حُقِّق في تِسْع رسائل ماجستير بجامعة الأزهر، مُقَسَّمة على تِسع طالبات بالدراسات العليا بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات، ولم يُطْبَع. وهي مُقَسَّمة كما يلي: الرسالة الأُولى: عام 2004 م، وقد تناولت مقدمة الكتاب، وهي من البيت رقم (1) إلى البيت رقم (199). الرسالة الثانية: عام 2002 م، وقد تناولت الباب الأول، وهو من البيت (200) إلى البيت (256). الرسالة الثالثة: عام 2002 م، وقد تناولت النوع الأول من الباب الثاني، من البيت (257) إلى (368). الرسالة الرابعة: عام 2000 م، وقد تناولت النوع الثاني من الباب الثاني، من البيت (369) إلى (521). الرسالة الخامسة: عام 2003 م، وقد تناولت الأبيات من رقم (522) إلى (612). الرسالة السادسة: عام 2002 م، وقد تناولت الأبيات من رقم (613) إلى (675). الرسالة السابعة: عام 2003 م، وقد تناولت الأبيات من رقم (676) إلى (762).

الرسالة الثامنة: عام 2002 م، وقد تناولت الأبيات من رقم (763) إلى (890). الرسالة التاسعة: عام 2003 م، تناولت الأبيات من رقم (891) إلى (1032). وإليكم ملاحظاتي على بعض هذه الرسائل: ملاحظاتي على الرسالة الثالثة اعتمدت الباحثة في تحقيقها على نُسختَيْن فقط: (ص، ت). ولم تتوفر لديها النُّسَخ: (ز، ش، ض، ق، ظ، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5). وقد تناولت هذه الرسالة (112) بَيْتًا فقط مع شرح البرماوي، وهي الأبيات من رقم (257) إلى (368). ولقد كَثرت الأخطاء في هذه الرسالة في أبيات الألفية، ولم أَقُم بِحَصْر عَدَدها؛ لِضِيق الوقت. لكن يكفي أنْ يَعْلم القارئ أن الباحثة بدأت رسالتها من البيت رقم (257)، ثم فوجئتُ بثلاثة أخطاء في البيتين (259، 260)! ! وأكتفي هنا الآن بذكر ثلاثة أمثلة: المثال الأول: جاء في رسالة الباحثة (الشطر الأول من البيت: 278): إن شاع عن كذا المشهور. وهذه صورة من رسالتها: والصواب كما في تحقيقي: إنْ شَاعَ عَنْ أَصْلٍ [فَذَا] (¬1) الْمَشْهُورُ. ¬

_ (¬1) في (ق، ت، ن 1، ن 3، ن 4، ن 5): فذا. وفي (ض، ص، ش): كذا. وفي (ز، ن 2): هو.

وهذه صُوَر من المخطوطات: نُسخة (ص): نُسخة (ت): المثال الثاني: جاء في رسالة الباحثة (الشطر الأول من البيت: 280): (وهكذا [زاد] ولو في ديني). وهذه صورة من رسالتها: والصواب كما في تحقيقي: (وَهَكَذَا رَاوٍ وَلَوْ في دِينِي). وهذه صُوَر من المخطوطات: نسخة (ص): نسخة (ت): المثال الثالث: جاء في رسالة الباحثة (البيت: 273): واختار جمع ما رآه البغوي ... من أنه [وقرأ] عشر منحوى وهذه صورة من رسالتها: والصواب كما في تحقيقي: وَاخْتَارَ جَمْعٌ مَا رَآهُ الْبَغَوِي ... مِنْ أَنَّهُ وَرَاءَ عَشْرٍ مُنْحَوِى وهذه صُوَر من المخطوطتين اللتين اعتمدت عليهما الباحثة: نسخة (ت):

نسخة (ص): وكلمة "وراء" وإنْ لم تكن واضحة في البيت في نسخة (ص) إلَّا أنها واضحة في شرح البرماوي في نفس النسخة، حيث قال البرماوي: (ونقل عن البغوي أنه ما وراء العشرة). وإليكم صورة من الشرح من نسخة (ص): وهذه صُوَر من بعض المخطوطات التى لم تتوفر لَدَى الباحثة: نسخة (ض): نسخة (ق): نسخة (ظ): نسخة (ش):

ملاحظاتي على الرسالة الخامسة اعتمدت الباحثة في تحقيقها على خَمس نُسخ، هي: (ص، ض، ش، ت، ق). ولم تتوفر لديها النُّسَخ: (س، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5). وإذا نظرنا في هذه الرسالة مَثَلًا، نجدها قد تناولت واحدًا وتسعين (91) بَيْتًا فقط مع شرح البرماوي، وهي الأبيات من رقم (522) إلى (612). ولقد وَجَدْتُ في هذه الرسالة (في 91 بَيْتًا فقط غَيْر الشرح) أكثر مِن مائة (100) خطأ! فماذا إذَا جَمَعْنَا إلى ذلك الأخطاء التي في تحقيق شَرْح هذه الأبيات؟ ! ! ولبيان ذلك يكفي ذِكر مثالين يتضمنان الأبيات الثلاثة الأُولى والبَيْتَيْن الأخيرين من الرسالة: المثال الأول: جاء في أول رسالة الباحثة الخامسة (ص 81، 94، 97): الأمر الاقتضا لفعل غير [كفٍ] ... ما لم يفد بنحو كف مصدر [كفَّ] كلتصم و [صلِ] و [النْهُي] طلب ... كف [بغير كف] يجتنب كلا تبع وليس الاستعلاء ... شرطا ولا [يشترطْ] [العُلا] قلتُ (عبد الله): فهذه الأبيات الثلاثة الأُولى في الرسالة وقد اشتملت على سبعة أخطاء أو أكثر! ! وقد وضعتُ مواضع الخطأ بين معكوفين هكذا []، فالصواب كما في تحقيقي:

522 - "الْأَمْرُ": الِاقْتِضَا لِفِعْلٍ غَيْرِ [كَفْ] ... مَا لَمْ يُفَدْ بِنَحْوِ "كُفَّ" أَمْرُ [كَفْ] 523 - كَـ "لِتَصُمْ" وَ [صَلِّ]، وَ [النَّهْيُ]: طَلَبْ ... كَفٍّ بِغَيْرِ [نَحْوِ] "كُفَّ" يُجْتَنَبْ 524 - كَـ "لَا تَبِعْ"، وَلَيْسَ الِاسْتِعْلَاءُ ... شَرْطًا، وَلَا [يُشْتَرَطُ] [الْعَلَاءُ] المثال الثاني: جاء في آخِر رسالة الباحثة الخامسة (ص 531): فيها اكتست ثوبا [مَنْ] [الَاجمال] ... وسقط الأخذ [بالاستَدِلال] والجمع قال شيخنا فِي الأولى ... لفظ [ولا لفظ بِذِي في لا فِعْلِ] فهذا الأولى وهذه صورة من الرسالة: قلتُ (عبد الله): فَقَدِ اشتمل آخِر بَيْتَيْن في رسالة الباحثة على (10) عَشرة أخطاء! ! والصواب كما في تحقيقي: 611 - فِيهَا، اكْتَسَتْ ثَوْبًا [مِنَ] [الْإجْمَالِ] ... وَسَقَطَ الْأَخْذُ [بِالِاسْتِدْلَالِ] 612 - وَالْجَمْعُ قَالَ شَيْخُنَا: في الْأُولَى ... لَفْظٌ وَذِي فِعْلٌ، فَهَذَا الْأَوْلَى وهذه صُوَر من المخطوطات: نسخة (ص): نسخة (ش): نسخة (ض): نسخة (ت): نسخة (س):

نسخة (ق): فظهر بذلك أنَّ رسالة الباحثة الخامسة امتلأت بالأخطاء مِن أَوَّلها إلى آخِرها! ! ملاحظاتي على الرسالة الثامنة اعتمدت الباحثة في تحقيقها على خَمس نُسخ، هي: (ص، ض، ش، ت، ق). ولم تتوفر لديها النُّسَخ: (س، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5). وتناولت هذه الرسالة (127) بَيْتًا فقط مع شرح البرماوي، وهي الأبيات من رقم (763) إلى (890). ولقد وَجَدْتُ في هذه الرسالة (في 127 بَيْتًا فقط غَيْر الشرح) أكثر مِن مائة (100) خطأ قُمْتُ بتدوينها! فماذا إذَا جَمَعْنَا إلى ذلك الأخطاء التي في تحقيق شَرْح هذه الأبيات؟ ! ! وفيما يلي أربعة أمثلة على ذلك: المثال الأول: جاء في رسالة الباحثة الثامنة (الشطر الثاني من البيت: 801، ص 212): (نص صريح كعلة فهي). وهذه صورة من الرسالة: والصواب كما في تحقيقي: (نَصٌّ صَرِيحٌ، كَـ "لِعِلَّةٍ نَهَى"). ويوافقه شرح البرماوي، حيث قال: (فأما "الصريح" الذي لا يحتمل غير العِلية فمثل أن يقال: "لِعِلة كذا" أو "لِسَبب" أو "لأَجْل" أو "مِن أَجْل").

وهذه صُوَر من المخطوطات: نسخة (ض): نسخة (ت): نسخة (ص): نسخة (ق): نسخة (س): نسخة (ش): المثال الثاني: جاء في رسالة الباحثة الثامنة (الشطر الثاني من البيت: 804، ص 219): (من الرواة ثُم غير فقيه). وهذه صورة من الرسالة: والصواب كما في تحقيقي: (مِنَ الرُّوَاةِ، ثُمَّ غَيْرٍ فِيهِ). وهذه صُوَر من المخطوطات: نسخة (ض): نسخة (ت): نسخة (ق): نسخة (ص): نسخة (س): نسخة (ش):

المثال الثالث: جاء في رسالة الباحثة الثامنة (الشطر الثاني من البيت: 812، ص 251): (وهكذا يكون للمناظرُ). وهذه صورة من الرسالة: وهذه صورة مكبرة لموضع الخطأ: فالكلمة متصلة بحرف الجر (اللام) ومع ذلك نجد الباحثة جعلت الراء مضمومة! ! والصواب كما في تحقيقي: وَكُلُّ هَذَا حُجَّةٌ لِلنَّاظِرِ ... وَهَكَذَا يَكُونُ لِلْمُنَاظِرِ المثال الرابع: جاء في رسالة الباحثة الثامنة (الشطر الأول من البيت: 807، ص 234): نَظيرهْ عَلَيْهِ لبعدَا والصواب كما في تحقيقي: نَظِيرَهُ عِلِّيَّةً لَبَعُدَا ... وَذَا كَتَفْرِيقٍ بِوَصْفٍ قُيِّدَا فكلمة "عِلِّيَّة" جعلتها الباحثة: "عَلَيْهِ"! ! وهذه صُوَر من المخطوطات: نسخة (ص):

نسخة (ت): نسخة (ش): نسخة (ق): وأخيرًا: أكرر ما قِيل سابقًا أنَّ مِن أَهَم المقاصد مِن ذِكر هذه الأمثلة أنْ ينتبه أصحاب هذه الرسائل إلى هذه الأخطاء عند إرادة النشر، فيصوبونها مِن خلال نشرتنا هذه، أو بالتواصل معنا عن طريق الناشر عند أي استشكال، وسيكون التعاون بيننا على البِر والتقوى إنْ شاء الله تعالى. ومقصد آخَر لا يقل أهمية عن سابقِه، وهو تنبيه مَن يهمه الأمر إلى شحذ الهمم والانتباه إلى ضرورة وأهمية الرعاية المثْلَى لعلومنا الشرعية - المخطوط منها والمطبوع - التي كد فيها وتعب علماؤنا السابقون؛ لتحرير الأحكام وتذليلها للأفهام؛ لتنفع الأنام؛ فلا أَقَل مِن أنْ تصل النصوص إلى الأُمة كما أرادوها إنْ لم نزدها تحريرًا وتذليلًا، لا كما نرى تحريفًا وتشويهًا. فرغم أنَّ المقدار المكلَّف به بعضُ الباحثين قريبٌ مِن عُشْر الكتاب إلا أنَّ حجم التشويه والتحريف فاقَ المعقول كما سنرى بعد قليل، فكيف فات ذلك على المسئولين. إنها ذِكرى، والذكرى تنفع المؤمنين.

المبحث الرابع عشر: عملي في الكتاب

المبحث الرابع عشر: عَمَلِي في الكتاب بَذَلْتُ جُهْدًا كبيرًا في ضَبْط كَلِمات هذه الأَلْفِيَّة بِمَا يُحَقِّق صِحَّة الوزن واستقامة المَعْنَى كما أرادَه النَّاظِم (شمس الدين البرماوي). وقد جعلتُ محور اهتمامي تقديم نَصِّ الكتاب صحيحًا مضبوطًا؛ وذلك لأسباب ذكرتُها تفصيلًا في مقدمة تحقيقي لألفية الحافظ العراقي في أصول الفقه مع شرحها لابنه ولي الدين أبي زرعة "شرح النجم الوهاج، ص 16 - 27" (¬1)، حيث قلتُ فيه: (إنَّ الخطأ في نقل المذهب قد يوجد داخل كُتُب بعض أهل المذهب أيضًا، وتصحيح هذه الأخطاء في النقل قد يحتاج إلى أبحاث مُطَوَّلة كما سَتَرون من الأمثلة التي سأذكرها، فرأيتُ أنَّ التزام تصحيح كل خطأ في نقل الأقوال أو في تحرير المذاهب سيؤدي إلى كبر حجم الكتاب، مما قد يؤخر صدوره ويضاعف تكلفته على القارئ. فلا يتسع المجال هنا لتقديم دراسة نَقْدِيَّة لبيان مَدَى صحة فَهْم المؤلف لمذاهب الآخرين في كل مسألة أُصُولية، فهذا يحتاج إلى موسوعة ضخمة، وهذه الموسوعة أَعْمَل فيها الآن، فمجرد ذِكري لأمثلة قليلة هنا في المقدمة ستجدونها أخذت صفحات كثيرة. لذلك رأيتُ أنْ أقتصر على تقديم نَصِّ الكتاب صحيحًا مضبوطًا ... لكن وجدتني مضطرًّا هُنا لِتَتَبُّع النصوص التي ينقلها ابن العراقي عن الآخرين مِن كُتُبهم، فأرْجِع بنفسي إلى هذه الكُتُب التي نَقَل منها؛ .. لِكَي أعْرف أين ينتهي النَّص المنقول وأين يبدأ ¬

_ (¬1) طُبع لأول مرة عام 2013 م، ونشرته مكتبة التوعية الإسلامية بتحقيقي.

كلام ابن العراقي) (¬1). ثم قلتُ بعد ذِكر بعض الأمثلة: (الخلاصة: إنَّ تَتَبُّع الأقوال التي ينقلها الأصوليون وتصويب ما فيها مِن خطأ في النقل - قد يحتاج إلى أبحاث مُطَوَّلة كما رأيتم، ولو فَعَلْتُ هذا هنا في هذا الكتاب فسيكبر حجم الكتاب جِدًّا، ويتضاعف سعره على القارئ؛ لذلك رأيتُ الاقتصار - هنا - على تصحيح النَّصِّ وضَبْطه، بحيث أكُون قد وَضَعْتُ بين يدَي القارئ أَلْفِيَّة الحافظ العراقي في أصول الفقه وشَرْحها لابنه أبي زرعة، دُون نَقْص أو تحريف أو تصحيف في النَّصِّ، أو خطأ في ضَبْطه، أو خَلَل في العبارة. وأمَّا تحرير الأقوال والمذاهب بصورة صحيحة مع الأبحاث المُتْقَنة المُحَررة - فيجدها القارئ - إن شاء الله تعالى - في موسوعة أصول الفقه التي أَعْمَل فيها الآن، حيث أذكر - في هذه الموسوعة - ما صح وثبت من الأقوال والمذاهب، مع التنبيه على ما يوجد في كُتب أصول الفقه من أخطاء في ذلك). أما ما سوى ذلك من أعمال (مثل: وضع علامات الترقيم، وعزو الآيات، وتخريج الأحاديث مع ذِكر حُكم الشيخ الألباني عليها إنْ وُجِد أو حُكم إمام من أئمة الحديث كالحافظ ابن حجر العسقلاني، والترجمة للأعلام الواردة بِقَدْر الإمكان، وعمل فهارس متنوعة آخِر الكتاب، وغير ذلك) فكل ذلك يراه القارئ دُون الحاجة إلى تنبيه، وإنما اُنَبِّه فقط على أنَّ تراجم الأعلام جَمَعْتُها آخِر الكتاب، وما يحتاج إلى تنبيه ذكرتُه في "المبحث الخامس عشر" في آخِر هذه المقدمة. ¬

_ (¬1) هذا بحسب ما تَوفَّر من المراجع، وبحسب عثوري على موضع النقل أو عدمه.

المبحث الخامس عشر: تنبيهات مهمة

المبحث الخامس عشر: تنبيهات مهمة التنبيه الأول: الكلمات التي قد تختلف فيها النُّسَخ اتبَعْتُ فيها الطريقة التي تُسَمَّى: "النَّص المُخْتار"، فأختار منها ما يظهر لي أنه الصواب، ثُم قد لا أُنَبِّه على ذلك إذا رأيتُ أنَّ الفروق يسيرة (¬1)، وقد أُنَبِّه بوضع الكلمة المُخْتارة بين معكوفين هكذا [ .. ] ثم أُشِير في الهامش إلى كيفية وُرُودها في النُّسَخ الأخرى. مِثَالُه: إذا كان المتن هكذا: [الْمُعْتَمَدْ] وكتبتُ في هامشه: في (ن 1، ن 3): المعد. فإذا اقتصرتُ على ذلك في الهامش، فمعناه أنَّ سائر النُّسَخ (ز، ص، ض، ت، ش، ظ، ق، س، ن 2، ن 4، ن 5): الْمُعْتَمَدْ. - وإذا اتفقت النُّسَخ (ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5)، فأقول: (ن). التنبيه الثاني: قد أَضَع الرمز - صلى الله عليه وسلم - مكان عبارة: "عليه الصلاة والسلام". وكذلك أصلحتُ ما وجدت مِن خطأ في كتابة الآية (وهو قليل) دُون أَنْ أُنَبِّه على ذلك: فَقَدْ تُكتب الآية هكذا: (ولا تَقُلْ لهما أُف). والصواب: {فلا}. وقد يحذف الإمام البرماوي حَرْفًا من أول ما يستدل به مِن الآيات. فقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} قد يذكره البرماوي بحذف ¬

_ (¬1) مثل أنْ يأتي في إحدى النُّسَخ: (قوله تعالى)، وفي نُسخة: (قول الله تعالى)، وفي نُسخة: (قوله).

"الفاء" هكذا: {مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] "، وحينئذ قد أكتب الآية كاملة دُون أنْ أُنَبِّه على ذلك. وقد صَرَّح البرماوي بجواز ذلك، فقال في كتابه هذا "الفوائد السنية، 2/ 754": (إذا استُدِل بآية وأَولها حرف عطف أو نحوه، هل يجوز إسقاط ذلك حيث استقام المعنى بدونه؟ ظاهر تَصرُّف الفقهاء جوازه؛ ففي "الوسيط" للغزالي في أول الصلاة: قال الله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]، وفي كتاب البيع: {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، وفي "صحيح البخاري": "لم ينزل علَيَّ إلا هذه الفاذة: {مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] "). انتهى التنبيه الثالث: من المعلوم أنَّ الهدف مِن علامات الترقيم هو تسهيل فَهْم النَّص فَهْمًا صحيحًا. ولَمْ أَلْتَزم ما هو معهود التزامًا حَرْفِيًّا، وإنما اجتهدتُ في وَضْع علامات الترقيم بما أراه يؤدي الهدف المذكور وبحيث يَخْدم النَّص، وقد اضطرني إلى ذلك صعوبة النَّص وتداخل عباراته أحيانًا. التنبيه الرابع: مَن أراد أنْ يَسْتَوْعِب ما جاء في هذه الألفية مِن ضرورة شعرية (كتحريك حَرْف ساكن، أو تسكين متحرِّك، أو قَصْر الممدود .. الخ) فينبغي عليه الاطِّلاع على كتاب في العَروض والضرورة الشعرية. وهذا النَّظْم على بحر الرَّجَز. وأخيرًا: فيما يلي صُوَر من المخطوطات. وكَتَبَه: عبد الله رمضان موسى كلية الشريعة - 1/ 12/ 2014 م

ورقة (2) من (ز) وعليها خط الحافظ البرماوي

الورقة الأولى من (ص) الورقة 224 وبهامشها خط البرماوي

الورقة الثانية من (ق) آخر ورقة من (ق)

الورقة الأولى من (ش) الصفحة قبل الأخيرة من (ش)

الصفحة الثانية من (ض) الصفحة الأخيرة من (ض)

الورقة الأولى من (س) وعلى الغلاف أن كمال الدين ابن أبي شريف وقفها على مَن بعده الورقة الأخيرة من (س)

الورقة الأولى من (ظ)

أول ورقة ج 1 من (ت) الصفحة الثانية ج 2 من (ت) ج 1 أول ورقة من (ت) الورقة الأخيرة من (ت)

الورقة الأولى من (ن 1) أول ورقة من (ن 2) آخر ورقة من (ن 2)

الصفحة الثانية من (ن 2) الورقة الأولى من (ن 3)

الورقة الأولى من (ن 4) الورقة الأخيرة من (ن 4)

الورقة الأولى من (ن 5)

الورقة الأولى من النبذة الزكية الورقة الأخيرة من النبذة الزكية

بداية نص كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية تأليف: الحافظ البرماوي شمس الدين محمد بن عبد الدائم (763 - 831 هـ) وهو شرح لألفيته (1032 بيتًا) في علم أصول الفقه تحقيق الشيخ عبد الله رمضان موسى كلية الشريعة الجزء الأول مكتبة دار النصيحة الناشر مكتبة التوعية الإسلامية للتحقيق والنشر والبحث العلمي جوال: 0100525514/ 01118737605

[خطبة الكتاب]

[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] (¬1) [قال الشيخ الإمام العلَّامة شمس الدين محمد بن عبد الدائم بن موسى البرماوي الشافعي تغمده الله بغفرانه، وأسكنه بحبوحة جنانه] (¬2): الحمد لله الذي شرح الصدور بكتابه المبين وشَفَاها، وبَيَّنَ ما نزَّل بِسُنة نَبِيِّه محمد المصطفى فِعْلًا وشِفاهًا، وعَصَم أُمَّته من الخطأ، فَمَن شذَّ عنهم ركب ضلالة وسِفَاها، ومَن حاد عن سَنَن قياس شَرْعه بَذَّ (¬3) السفهاء سِفَاها، فأصبحت أحكام فِقهه بوضوح أَوْضاح أدلتها تتباهى، وتراجيحُ سنَاها لا تتناهى، وانفتح للمجتهدين بذلك صَوبُ صَواب فتواها. فصلى الله على محمد المخصوص بعموم الرسالة فجَلَّاها، ومَحَى دُجَى ليل الجهل مِن الأمم إذا يغشاها، قد أفلح مَن زكاها، وقد خاب مَن دساها، وعلى آله وصحبه ما بَلغَ أُولو النُّهى [البَهِي] (¬4) مُناها. أمَّا بَعْد: فهذا تعليق مبارك على أرجوزتي المُسَمَّاة بِـ "النُّبْذة الألفيَّة في الأُصول الفقهية"، يوضحُ أسرارها، ويكشف أستارها، مع فوائد مَزِيدة، ولطائف عديدة، والتعرض للخلاف المشهور، وبعض أدلة تُرَى كالصارم المشهور، سمَّيتُه "الفوائد السَّنية في شرح الألفية"، ¬

_ (¬1) في (ت) زيادة: (وهو حسبي ونعم الوكيل). وفي (ز) زيادة: (وبه نستعين وعليه توكلت). (¬2) في (ص): (قال الفقير إلى رحمة ربه الغني محمد بن عبد الدائم بن موسى البرماوي الشافعي عفا الله عنه والمسلمين). (¬3) العرب تقول: بَذَّ فلان فلانًا يَبُذُّهُ: إذا ما علاه وَفَاقَه في حُسْنٍ أو عملٍ كائنًا ما كان، وبَذَّهُ: غَلَبَه. (تهذيب اللغة، 14/ 298). (¬4) في (ت): بالنهى.

ضارِعًا إلى الله تعالى في أنْ ينفع بذلك، ويفتح به إلى هذا الفن المسالك، عليه توكلتُ وهو رب العرش العظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم. ص: 1 - بِاسْمِ الحمِيدِ قال عَبدٌ يَحْمَدُ ... ذَا البِرْمَوِيُّ الشافِعِيْ مُحَمَّدُ 2 - الحمْدُ للهِ الذِي مَنْ وَفَّقَا ... لِلْفِقْهِ في الدِّينِ وأَصلِهِ، ارْتَقَا 3 - ثُمَّ الصَّلَاةُ والسَّلَامُ [الأَبَدِي] (¬1) ... عَلَى النَّبِيِّ الهاشِمِيْ [مُحَمَّدِ] (¬2) 4 - وآلِهِ وصحْبِهِ والتُّبَّعِ ... عَلَى الهُدَى بِهَدْيِهِ المُتَّبَعِ الشرح: القصد الابتداء بحمد الله؛ لحديث: "كل أَمْرٍ ذِي بالٍ لا يُبدَأ فيه بحمد الله فهو أجْذَمُ" (¬3). رواه أبو داود وغَيْره. وجَرَت عادة كثير أنْ يبدءوا تصنيفهم بِـ "قال فُلان"، ثُم يأتوا بالحمد، كقول ابن مالك (¬4): قال محمد هو ابن مالك ... أحمد ربي الله خير مالك ¬

_ (¬1) في (ص): أبدا. (¬2) في (ص): أحمدا. (¬3) سنن أبي داود (4840)، قال الألباني: ضعيف. (ضعيف أبي داود: 4840)، وانظر كلام الحافظ ابن الملقن عليه في (البدر المنير، 7/ 528). وهو في صحيح ابن حبان (رقم: 1) وغيره بلفظ: "فهو أقطع". قال الألباني: ضعيف. (التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان: 1). (¬4) ألفية ابن مالك (ص 67)، الناشر: دار المنهاج بالرياض، تحقيق: سليمان العُيُوني.

فيفوت غرض الابتداء بالحمد حتى يجاب عنه إمَّا بأنه كَتَب البسملة أولًا، أو بأن المقصود هو ما بعد وقد بدأه بالحمد، أو نحو ذلك؛ فحافظتُ في هذا النَّظْم على الابتداء بِاسْم الله عز وجل في أَصْل النَّظْم بقولي: (بِاسْم الحميد). ثم قلتُ: (الحمد لله)؛ على قاعدة الخُطَب؛ لِمَا في بعض الروايات بلفظ: "لا يُبدأ فيه بالحمد لله" (¬1). فالباء في قولي: (بِاسْم الحميد) متعلِّقة بحال محذوفة مِن فاعل "قال"، أيْ: مُتبَرِّكَا بِاسْم الحميد، أو نحو ذلك. و"الحميد" فَعِيل بمعنى مفعول؛ لأنه حمد نفسه، والخلق تحمده، أو بمعنى الفاعل؛ لأنه حامد لِنفسه ولمن شاء مِن خَلْقه. ومعنى "الحمد": الثناء بالوصف الجميل، فخرج نحو ما جاء في الجنازة: "فأثنوا عليها شرًّا" (¬2). ومنهم مَن يزيد على ذلك: "على جهة التفضيل"؛ ليخرج نحو: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]، فإنه على جهة التهكم، لا على جهة التفضيل، ولكن هذا مجاز، إمَّا باعتبار ما كان في الدنيا (¬3)، وإمَّا باعتبار ضدّ حالته (¬4)؛ تَهكُّمًا عليه، والمجاز لا يُحْتَرز عنه في لفظ الحَدِّ؛ لانصرافه للحقيقة. وجملة: "يحمد" صفة لِـ "عَبْد". ومفعول "وَفَّق" محذوف، هو العائد على "مَن" الشَّرطية، أيْ: وَفَّقَه. وكذلك مفعول جواب الشرط (وهو "ارتقى") حُذِفَ؛ لِيَعُم كل ما يصلح له أنْ يرْقَى إليه. و"التوفيق" خَلْق قُدْرة الطاعة وداعِية فِعْلها، مأخوذ مِن معنى الموافقة؛ لأنَّ به يوافق ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (رقم: 4840). وضعفه الألباني (ضعيف أبي داود: 4840). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 1301)، صحيح مسلم (رقم: 949) واللفظ للبخاري. (¬3) كأنه قال: ذُق يَا مَن كُنت في الدنيا عزيزًا كريمًا. (¬4) أَيْ إنه حين قال: "ذُق، إنك عزيز كريم". إنما قالها على سبيل التهكم، فهو يقصد ضد ذلك.

فِعْل العبد ما أُرِيد منه. هذا قَوْل الأشعري والمحققين (¬1)، وضِدُّه "الخذلان". و"الفقه في الدِّين" فَهْمه ودرايته؛ لأنه الفَهْم لُغَةً كما سيأتي. وجملة الشرط والجزاء صلةٌ للذي، والإشارة بذلك إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما انفرد بإخراجه الصحيحان مِن حديث معاوية: "مَن يُرِد الله به خيرًا، يُفَقِّهه في الدِّين، وإنما أنا قاسِم، واللهُ يُعطِي، ولن يزال أمرُ هذه الأُمة مستقيمًا حتى تقوم الساعة" (¬2). ففي ذلك الثناء العظيمُ على المتفقه في الدِّين، وأنَّ الله تعالى هو المُفَقِّه له بتوفيقه وإرادته، وأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو خازِنٌ لِمَا أوحاه إليه مِن الشرع وأنواع الخير، وقاسِمٌ ذلك بين الناس على حسب إرادته تعالى، ولهذا في بعض الروايات: "وإنما أنا خازِنٌ" (¬3)، [أيْ] (¬4): على ما عندي مما بعثني الله تعالى به. والله هو الموَفِّق المقدِّر. والمراد بِـ "الدِّين" الأعم مِن الإيمان والإسلام والإحسان؛ لحديث: "جاء جبريل يُعَلمكم دِينكم" (¬5)، وأشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "ولن يزال أمرُ هذه الأُمة مستقيمًا" إلى أنَّ استقامتها إنما هو بالتفقه في الدِّين؛ فإنَّ العِلم سابق على العمل كما ترجم به البخاري: "باب: العِلم قَبْل القول والعمل؛ لقول الله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، فبدأ بالعِلم". وقد سبقه إلى الاستدلال بذلك سفيان بن عيينة. والضمير في قوله: (وأَصْله) يَعُود للفقه، أو إلى الدِّين. وعلى كل حال فالبراعة حاصلة؛ لأنَّ الدِّين شاملٌ للفروع أيضًا. و"الهاشمي" نسبته - صلى الله عليه وسلم - لجده هاشم؛ لأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن ¬

_ (¬1) سبق الكلام على عقيدة الجبر عند الأشاعرة في مقدمة هذا الكتاب (ص 33). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 6882)، صحيح مسلم (رقم: 1037). (¬3) صحيح مسلم (رقم: 1037). (¬4) ليس في (ش). (¬5) صحيح البخاري (رقم: 36)، صحيح مسلم (رقم: 8).

عبد مناف. وفي حديث واثلة بن الأسقع في "مسلم": "ثم اصطفاني من بني هاشم" (¬1). فهاشم أقرب نسبه. و"التُّبَّع" جمع "تابِع". والهَدْي في قولي: (بهَدْيه) بفتح الهاء وسكون الدال: الطريق التي يُمشَى فيها، فهو استعارة ما للجسم للمعنى. والضمير [فيه] (¬2) للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أيْ: التابعين للصحابة بإحسان، وهو اتِّباعهم على ما هم عليه من الاهتداء بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، أيْ: شَرْعه الذي شرعه وبَيَّنه، وأَوْجَب على الخَلْق اتِّباعه فيه. ص: 5 - وَبَعْدُ: فَالقَصْدُ عَلَى رَوِيَّهْ ... نَظْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ في أَلْفِيَّهْ 6 - مُعْرًى مِنَ الخِلَافِ وَالدَّلِيلِ ... وَنُبْذَتِي أَصْلٌ لِذَا التَّأْصِيلِ 7 - فَسَمَّهَا بِـ "النُّبْذَةِ الألْفِيَّهْ" ... مَعْ زَيْدِ في أُصُولِنَا الفِقْهِيَّهْ 8 - وَاللهَ رَبِّي أَسْأَلُ الْإعَانَهْ ... عَلَى الَّذِي قَصَدتُ في الْإبانَهْ الشرح: "القصد" مصْدَر "قَصَد" بمعنى المقصود. "عَلَى رَوِيَّة" في موضع نَصْب على الحال، أَيْ: على تَفَكُّر، و"الرَوِيَّة": التفكر في الأمور، والمراد: على ما ظَهَر في التفكر في ذلك أنه صواب؛ لِمَا في المنظوم مِن سهولة الحفظ ومَيْل الطبْع إليه، لا سيما إذَا كان لطيفًا؛ فإنَّ الهِمَم قَلَّتْ، والهموم كَثُرَتْ وأَذلَّت، فالله تعالى يُحسن العاقبة. و"ألْفِيَّة" صفة لمحذوف، أَيْ: أرجوزة ألفية، أو قصيدة ألفية. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (رقم: 2276). (¬2) في (ز): (في بِهَدْيه).

و"مُعْرًى" حال مِن "أصول الفقه"، أَيْ: مُعرًى ذلك، أَيْ: أُعْري ما فيها مِن أصول الفقه مِن الخلَاف والأدلة؛ لِيَكُون أَسْرَع إلى ضَبْط الفن، وثبوت الراجح في الذهن، على قاعدة "الحاوي" في الفقه ونَظْمه، وألفية ابن مالك في النحو، ونَحْو ذلك، والمعْنَى: أنَّي لا ألْتَزِم ذلك، وربما أَتَعَرَّض لخلاف أو لدليل في النادر؛ فإنَّ القَصْدَ عَدَمُ التزام ذلك، لا التزام عَدَمه. ومعنى قَوْلي: (وَنُبْذَتِي أَصلٌ لِذَا التأْصِيلِ) أَيْ: المقدمة التي جمعتها قَبْل ذلك خاليةً مِن الخلاف والدليل - وسمَّيتُها: "النبذة الزكية في القواعد الأصلية" - هي الأصل لهذا النَّظْم، فالمَرَدُّ إليها، والمحافظةُ على ما فيها إلَّا اليسير وكثيرًا مِن الأمثلة. و"النُّبذة" بِضَم النون وبالذال المعجمة: الشيء اليسير، وفي حديث أُم عطية: "خذي نُبذةً مِن قسطٍ وأظفار" (¬1). وكثيرًا ما تُستعمل في الطيب ونحوه كما في الحديث؛ فلذلك قلتُ في التسْمية: (الزكية). وقولي: (مع زَيْد) هو مَصدَر بمعنى الزيادة، أَيْ: مع زيادة قولك كذا. وأشرتُ بقولي: "أصولنا" (وإن كان ليس مُلتزمًا في التسمية، بل يقال: في الأصول) إلى مراعاة أصول الشافعية في هذه الألفية حَسْب القدرة، وسأذكر في هذا الشرح ما يظهرُ مِن تفريعات في الفقه في بعض المسائل على ذلك إنْ شاء الله تعالى. وقولي: (وَاللهَ رَبِّي) قُدِّمَ فيه المنصوب؛ لإفادة الاختصاص، مِثْل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، والله أعلم. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 5028) بلفظ (ولا تمس طيبًا إلا أدنى طهرها إذا طهرت نبذة من قسط وأظفار)، صحيح مسلم (رقم: 938).

ص: 9 - أَبْوَابُها أَرْبَعَةٌ مُنَظَّمَهْ ... بَعْدَ الَّذِي جَعَلْتُهُ مُقَدِّمَهْ الشرح: أَيْ: رتَّبتها على مقدمة وأربعة أبواب. المقدمة في تعريف هذا العِلم وفائدته واستمداده، وما يتصل بذلك من مقدِّمات ولواحق. والباب الأول في بيان أدلة الفقه وتفسيرها، والباب الثاني فيما يتوقف عليه الاستدلال بها، والباب الثالث في تَعارُض الأدلة وما حُكم ذلك، والباب الرابع في بيان مَن هو أَهْل للاستدلال بالأدلة، و [مُقابِلِه] (¬1). ووَجْه ذلك أنَّ المبحوث عنه في هذا الكتاب أو في هذا العِلم إمَّا المقصود الأصلي وإمَّا المُتَوقِّف عليه المقصود. والثاني (¬2) المقدِّمة، والأول (¬3) الأبواب الأربعة التي بَيَّنَّاها؛ وذلك لأنَّ موضوع هذا العِلم الذي يُبحث فيه عن عوارضه الذاتية له هو أدلة الفقه، كَبَدن الإنسان بالنسبة إلى عِلم الطب. وأمَّا مسائل كل عِلم فهو ما يُبحث فيها عن أحكام تلك العوارض، فالبحث عن موضوعه هو الباب الأول. والاستدلال بالأدلة لَمَّا تَوَقَّف على أمور، ذَكَرتُ هذه الأمور في الباب الثاني. ثُم هذه الأدلة إذَا تَمَّت وصَحَّت، ربما تتعارَض، فَمَا يُفْعَل فيها هو الباب الثالث. ثُم ليْس كل أَحد يستطيع أنْ يستدل، ولا يُقَدِّم ما يُقَدَّم [و] (¬4) يُؤَخِّر ما يُؤَخَّر إلَّا مَن كان أَهْلًا، وهو "المجتهد"، فَبُيَّن في الباب الرابع، وذُكِر معه مُقابِلُه وهو "المقَلِّد" الذي ليس أَهْلًا للاستنباط. فالبحث عن مسائله وما يتصل بذلك هو الأبواب الثلاثة. ¬

_ (¬1) في (ش): مقابليه. (¬2) أَيْ: المتوقف عليه المقصود. (¬3) أَيْ: المقصود الأصلي. (¬4) في (ت): ولا.

المقدمة

و"المُقَدِّمة" بِكَسر الدال: كلام متقدم أمام المقصود؛ لتَوَقُّفه عليه أو انتفاعه به بِوَجْهٍ، كمقدمة الجيش طائفة تتقَدَّمه. وهو مِن "قَدَّم" بمعنى: تَقدَّم، كما في قوله تعالى: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]، أَيْ: لا تتقدَّموا. وقد تفتح الدال؛ لأنَّ صاحب الكلام أو أمير الجيش قَدَّمها، أو لأنها مُشبهة بمقدمة الرَّحْل، وهي ما أمام الراكب مقابلة لمؤخرته وهي ما وراءه. وعلى الفتح جَرَى الشيخ أبو حيان، وادَّعَى أنَّ تجويز الكسر مِن تغييرات النَّقَلة، واقتصر جَمْعٌ على الكسر، والحقُّ جواز الوجهين بالاعتبارين، والله تعالى أعلم. المقدمة 10 - أَقُولُ فِيهَا: حَقُّ كُلِّ مَنْ طَلَبْ ... عِلْمًا تَصَوُّرٌ لَهُ قَدِ انْتَسَبْ 11 - مِنْ حَيْثُ مَعْنًى جَامِعٌ لِكَثْرَتِهْ ... لَا جِهَةُ التَّفْصِيلِ في حَقِيقَتِهْ 12 - فَطَلَبُ المجْهُولِ مُسْتَحِيلُ ... وَمَنْ يُحَصِّلْ حاصِلًا، مَطْلُولُ 13 - وَالْعِلْمُ بِالْغَايَةِ [مِنْهُ] (¬1) بَعْدُ ... نَفْيًا لِمَا في عَبَثٍ يُعَدُّ 14 - وَمَا اسْتُمدَّ مِنْهُ كَيْ يَرْجِعَ لَهْ ... إنْ رَامَ تحْقِيقَ الَّذِي قَدْ حَصَّلَهْ الشرح: بدأتُ هذه المقدمة بقاعدةٍ كُلية، وهي أنَّ حق كُل مَن [حاول] (¬2) عِلْمًا مِن العلوم وطَلَب معرفته أنْ يَعْرِف أمورًا ثلاثة: ¬

_ (¬1) كذا في (ش، ق، ص). لكن في (ت، ز، ر، ن 1، ن 2، ن 3، ن 5): فيه. وفي (ن 4): فيها. (¬2) في (ز): طلب.

أولها: مَعْرفة ذلك العِلم، أَيْ: تَصَوُّره بِوَجْهٍ؛ لأنَّ طَلَب الإنسان ما لا يَعْرفه - مُحالٌ ببديهة العقل. وذلك الوجه الذي يَعرفه به هو المعنى الذي يحيط بِكَثرته. ثُم يَطْلبه مِن جهة تفصيله. فإنْ عَرفه مِن جهة التفصيل، كان طَلَبه له مُحالًا؛ لأنه تحصيل الحاصل؛ فلذلك بَرْهَنْتُ على الأمْرَيْن مَعًا. وقولي: (وَمَنْ يُحَصِّلْ حاصِلًا) أَيْ: مَن يُرِيد تحصيل الحاصل، فهو مطلول، أَيْ: مُهْدَرٌ، لا التفات له؛ لأنه طالبُ مُحال، مِن قولهم: (طُلَّ دَمُه) بالبناء للمفعول، أَيْ: هُدِرَ. ثُم الجهة التي يَعرفه بها إنْ كانت ذاتية، فالمُنْبِئُ عنها "الحدُّ"، وإلَّا فَـ "الرسمُ" كما سيأتي بيانُ ذلك. وثانيها: أنْ يَعْرف غاية ذلك العِلم؛ لئلَّا يَكون سَعيه عَبَثًا؛ لأنه تضييع للعُمر فيما لَمْ يعْلَم له فائدة، وهو معنى قولي: (نَفْيًا لِمَا في عَبَثٍ يُعَدُّ) بالنصب على المفعول لأجله. و"في عَبَثٍ" متعلِّق بِـ "يُعَد". وثالثها: أنْ يَعْرِف ما يُسْتَمَد مِنه ذلك العِلم؛ لأنه إذَا رام تحقيقه والاطِّلاع على أصله الذي نشأ منه، فلا بُدَّ له مِن معرفة ما استُمِد منه؛ ليرجع في تلك الجزئية إلى مَحَلِّها منه. واعْلَم أنَّ أصل هذه القاعدة أنَّ كُلَّ معدوم يُوجَد يتوقف وجوده على أربع عِلَل: العِلة الصُّورية: وهي التي تقُوم بها صُورتُه، وتتميز عن غيرها، فَتَصَوُّر "المُرَكَّب" مُتَوَقِّف عَلَى تَصَوُّر أركانه وانتظامها على الوجه المقصود. وتَصَوُّر "البسيط" باعتبار تميُّزه عن غيره مما شاركه - يَكون بِتَصَوُّر مُتَعَلّقِه معه؛ فيصير كالمُرَكَّب؛ ولهذا أَدْخَله بعضُهم في المُركَّب تقديرًا مِن هذه الحيثية، وجعله يُعَرَّف بالحدِّ الحقيقي الذي هو بالذاتيات. والعِلة الغائية: وهي الباعث على إيجاده، وهي الأُولَى في الفِكر مُقَدَّمة على سائر العِلَل وإنْ كانت آخِرًا في الوجود الخارجي؛ ولهذا يقال: "مَبْدَأُ العِلْمِ مُنْتَهَى العمل"، ويقال أيضًا:

هي عِلة في الذهن، معلولة في الخارج. والعِلَّة المادية: هي التي منها [تُستمد] (¬1) المُرَكَّباتُ أو ما في حُكمها كما تَقَدَّم، كالعلوم المتميزة بمتعلقاتها بِدُون ملاحظة الهيئة التي هي عليها؛ فإنَّ تلك العلة الصورية كما سبق. والعِلة الفاعلية: هي المؤثِّرة في إيجاد ذلك وإخراجه مِن العَدَم للوجود، ولكن هذه عند أهل السُّنة لا حقيقة لها في شيء مِن العالَم؛ لأنَّ الوجود كُله بإرادة الله تعالى وتأثيره فيه بالقدرة والإرادة، وليس لشيء عندهم تأثير في وجود شيء بالذات. وقولي: (جامع) مرفوع؛ لأنه صفة لِـ "مَعْنًى"، و"مَعْنًى" مبتدأ وخبره محذوف، أَيْ: موجود، والجملة في محل خفض بإضافة "حَيْثُ"؛ لأنها [لا] (¬2) تضاف لِمُفْرَد إلَّا شذوذًا، والله أعلم. ص: 15 - فَلِأُصُولِ الْفِقْهِ مَعْنَيَانِ ... إضَافَةٌ وَلَقَبٌ، فالثَّاني 16 - مَقْصُودُنَا: عِلْمٌ بِطُرْقِ الْفِقْهِ ... مِنْ حَيْثُ إجْمَالٌ لها بِوَجْهِ 17 - وَكَيْفَ يُسْتَفَادُ مِنها حُكْمُهُ ... وَحَالِ مُسْتَفِيدِها، ذَا رَسْمُهُ الشرح: لَمَّا [ثَبَتَ] (¬3) أنَّ كُلَّ طالب عِلم لا بُدَّ له مِن مَعرفة أمور ثلاثة، شرعتُ في بيانها فيما أنا بِصدده، وهو عِلم أصول الفقه، فلا بُدَّ مِن معرفته مِن حيث المعنى الجامع لجزئياته كلها، ¬

_ (¬1) في (ش): يستمد. (¬2) ليس في (ز). (¬3) كذا في (ص، ق، ش). لكن في (ز، ر، ت): بينت.

ومعرفة غايته، ومعرفة استمداده. فالأول: لَفْظ "أُصُول الفقه" مُرَكَّبٌ إضافيٌّ في الأصل، ثُم صار بكثرة الاستعمال في عُرْف أهل الأصول والفقه له معنًى آخَر غَيْر الأول، وصار عَلَمًا عليه بالغَلَبة، لَقَبًا مُشْعِرًا بِرِفعته؛ فينبغي أنْ يُعَرَّفَ مِن حيث معناه الإضافي ومِن حيث معناهُ اللَّقَبيُّ، وهو مَعْنَى قولي في النَّظْم: (إضافةٌ ولَقَبٌ)، أَيْ: ذو إضافةٍ، كَـ "رَجُل عَدْل" أَيْ: ذُو عدل، والمراد: مَعْنًى إضافة ومعنى لقبٍ، فهو على حَذْف مُضَاف دَلَّ عليه مَعْنيان، أَيْ: المعنى الذي دَلَّ عليه بالإضافة، والمعنى الذي دَلَّ عليه باللقب. فأمَّا المعنى اللقبي وبدأتُ به لأنه المقصود وإنْ كان مَعرفة المُفْرد ينبغي أنْ تَكون قَبْل المُرَكَّب، بل أقول: إنَّ ذلك فيما تركيبه ملحوظ، أمَّا ما صار كالمفرد فلَا. واعْلَم أنَّ العِلْم لَمَّا كان بسيطًا كان تَنَوُّعه وانقسامه إنما هو بِحَسب مُتَعَلَّقه، فجهة معلومات كل عِلْم (التي تجمعُ كثرتَه وتضبطها) لا تَكون ذاتية كُلها، بل مع لازِمٍ وهو متعلَّقها المُمَيِّزُ لها، إلَّا بالتأويل الذي حكيناه عن بعضهم قريبًا، فالمُعَرف له دائمًا "الرسم"، إلَّا على هذا القول؛ فلذلك قلتُ بَعْد فراغ تعريفه: (ذَا رَسْمه)، ولَمْ أَقُلْ: (ذَا حَدُّه). فَرَسْم "أُصول الفقه" مِن حيث اللقب: عِلْم طُرُق الفقه مِن حيث الإجمال، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد. فَلفْظ "عِلْم" كالجنس، يشمل سائر العلوم، والمراد به هنا ما هو أَعَم مِن اليقين والظن؛ لأنَّ بعض مسائل أصول الفقه ظنيَّة، خِلَافًا لِمَن زَعَم أنَّ الكل قَطْعِي، ولِمَن قال: إنَّ الظني فيه يَرْجع إلى القَطْع. وما بَعْده خاصَّةٌ يخرج به ما سواه، فيخرج عِلْم نَفْس الفقه، وطُرُق غَيْر الفقه. والمراد بِـ "الطُّرُق" المُوَصِّلات إليه، وهي أدلته. وإنْ خُصَّت الأدلة بالقَطْع وجُعِل ما يفيد الظنَّ

أمارة، فهو داخِل في الطُّرُق. وإنما أَتَيْتُ بالجَمْع في قولي: (طُرُق) إشارة إلى التنوع، كما أضيف العِلم إلى ثلاثة أشياء؛ لإفادة أنَّ أُصول الفقه أنواع يَصْدُق على كُل نوع منه أنه "أصول الفقه"؛ لأنَّ طُرُق الفقه إذَا كانت أنواعًا وكُل نوع منها أصول فقهٍ، كان كُل مِن الأمور الثلاثة كذلك أيضًا، فَكُل مِن عِلم الطُّرُق وعِلم الاستفادة وعِلم حال المستفيد - تحته أنواع، وانقسام أصول الفقه إلى كُل مِن أنواعه - مِن قِسمة الكُلي إلى جزئياته، لا مِن قِسمة الكُل إلى أجزائه؛ ولهذا لَمْ يَصِر عِلْمًا بالغَلبَة إلَّا جَمْعًا؛ ملاحظةً لهذا المعنى، فتأَمَّله؛ فإنه نفيس. وخرج بِكَوْنه "مِن حيث الإجمال" عِلمُ الأدلة في نَفْس الفقه؛ لأنه "مِن حيث التفصيل" كما سيأتي بيانه في تعريف "الفقه". وقولي: (وكيفية الاستفادة) أَيْ: استنتاج الحُكْم مِن الدليل بالجهات التي تُفَصَّل في أقسام الألفاظ وفي تَعَارُض الأدلة وأشباه ذلك. وقولي: (وحال المستفيد) [يشمل] (¬1) المستفيد مِن الأدلة وهو المجتهد، والمستفيد مِن المجتهد وهو المقلِّد لكن بدليل إجمالي كما سيأتي. وعُلِمَ مِن هنا وَجْه مُغايرة تفسير "أصول الفقه" باعتبار اللقب وتفسيره باعتبار الإضافة بكَوْنها أدلَّةَ الفقه، ومدلولُ اللقبي عِلْمٌ متعلِّق بثلاثة أمور، وذاك نفسُ الأدلة بلا زيادة، فحكاية خِلَافٍ في أنَّ أصول الفقه هل هو الأدلة أو العِلم بالأدلة - لا حاصلَ له؛ لِعَدَم التوارُد على محَلٍّ واحدٍ. وأَبْعَد مِنه مَن يجعلُ "أُصول الفقه" أدلَّته، ويجعل العِلمَ بها وبِطُرُق استفادتها ومستفيدها - مِن أوصاف الأُصولي، لا مِن نَفْس الأُصول (كما وقع في "جَمْع الجوامع" لابن ¬

_ (¬1) في (ش): بل.

السبكي، وقَرَّره في "مَنْع الموانع" بما لا يَشْفِي). فهل يَكون "المنسوبُ" فيه زيادة على "المنسوب إليه" قَيْدًا له مِن حيث النسبة؟ هذا لا يُعْرَف، والله أعلم. ص: 18 - وَالْأَوَّلُ: "الْأُصُولُ" جَمْعُ "أَصلِ" ... وَهْوَ الدَّلِيلُ ها هُنَا بِوَصْلِ 19 - وَ"الْفِقْهُ" عُرْفًا عِلْمُ حُكْمٍ شرْعِيْ ... مُفَصَّلِ الدَّلِيلِ مِنْهُ فَرْعِيْ الشرح: هذا تعريف "أصول الفقه" بالمعنى الأول وهو الإضافي، وكُل مُركَّبٍ فإنما يُعرف بمعرفة أجزائه. فَـ "أصول الفقه" مُرَكَّب مِن مضاف ومضاف إليه. فأمَّا المضاف فَـ "أصول": جَمْع "أَصْلٍ"، وهو لُغَةً: ما يُبْنَى عَلَيْه غَيْرُه، أو ما يُحتاج إليه، أو ما مِنْه الشيء، أو نحو ذلك مِن الأقوال التي لا طائل في اختلافها. وفي الاصطلاح يُطْلَق غالبًا على الدليل، فإذا وَصلْتَه بالفقه فَقُلْتَ: (دليل الفقه)، كان تفسيرًا لِـ "أصول الفقه" مِن حيث الإضافةُ، وهو معنى قولي: (بِوَصْلِ)؛ لأنَّ المضاف يُفَسَّر مِن حيث هو ومِن حيث اتصاله بالمضاف إليه. واحترَزْتُ بقولي: (ها هنا) عن إطلاق "الأصل" على غَيْر الدليل في مواضعَ أخرى، كما يُطْلَق: - عَلَى "الراجح مِن الأَمْرَيْن" في نحو قولك: (الأَصْلُ في الإطلاق الحقيقةُ، لا المجازُ). أَيْ: الراجح. - وعَلَى "الأَمر المستمر"، كقولك: (أَكْل الميتة على خِلَاف الأصل). أَيْ: على خِلَاف الحالة المستمرَّة في الحُكْم.

- وعَلَى ما يُقابِل "الفَرْع" في باب القياس، وسيأتي. وأَمَّا المضاف إليه (وهو "الفقه") فهوَ في اللغة: الفَهْم، قال تعالى: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، وعَبَّر عنه ابن فارس في "المجمل" بِـ "العِلْم"، وجَرَى عليه إمام الحرمين في "التلخيص"، وإلكِيَا الهْرَّاسِي وأبو نصر القُشيري والماوردي، وفَسَّره الراغبُ بِأَخَصّ مِن الفَهْم والعِلم، فقال: (التوصل إلى عِلْمٍ غائبٍ بِعِلْمٍ [شاهدٍ]) (¬1). وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وصاحب "اللُّباب" مِن الحنفية: (فَهْم الأشياء الدقيقة). ولا يَحْسُن الردُّ عليهما بِنَحْو: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]، {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91]؛ لأنَّ ذلك كُله مَظِنَّة الخفاء. وأمَّا في الاصطلاح: فهو عِلْم حُكْمٍ شرعي فَرْعي مِن دليل تفصيلي. فَـ "العِلْم" كالجنس، والمراد به هنا مُطْلَق التصديق، وهو ثاني إطلاقات "العِلْم" الآتي ذِكْرها؛ ليشمل اليقين والظن؛ لأنَّ مجرد الدليل النقلي لا يفيد إلَّا الظن، وأدلة الفقه نَقْلِيَّة. نَعَم، ما كان يقينًا لِكَوْنه مِن ضروريات الدِّين (كإيجاب الصلوات الخَمس، والزكاة، والصوم، والحج، وتحريم الزنى والسرقة، ونحو ذلك) ليس مِن الفقه؛ لأنه ليس مُسْتَخْرَجًا مِن دليل تفصيلي، وهذا أَصْوَبُ مِن ادِّعاء أنَّ الفقه قَطْعي كما زَعَمه الإمام وأتباعه كالبيضاوي، وقَرَّروه بدليل لا يُفِيدُهم المُدَّعَى؛ لفساده مِن وجوه كما بُيَّن ذلك في مَوْضعه. نَعَم، سَبَق الإمامَ إلى نحو ذلك إمامُ الحرمين حيث قال في جواب السؤال: (ليست الظنون فِقْهًا، إنما الفقه العِلْم بوجوب العمل عند قيام الظنون) (¬2). ¬

_ (¬1) في (ز): مُشاهَد. (¬2) البرهان في أصول الفقه (1/ 87).

فأخذه الإمام الرازي وبسطه (¬1). ثُم المراد بِـ "العِلم بالأحكام": التصديق بِتَعَلُّقها بأفعال المكلَّفين، لا تَصَوُّرها (لأنَّ ذلك مِن مبادئ أصول الفقه كما سيأتي)، ولا التصديق بثبوتها (لأنَّ ذلك مِن عِلم الكلام). وإنما قُلْتُ: (عِلْم) بالتنكير، ولَم أُعَرِّفه باللام؛ لأنَّ التعريف إنما هو للماهية مِن غير اعتبار كميَّة مشخَّصاتها، ودخول اللام إنما هو لكمية عموم أو خصوص يُعْهَدُ. فإنْ أُرِيدَ بها الجنس فَلَم تُفِد زيادة، فلا حاجة لها؛ لأنَّ اللفظ المُنَكَّر هنا لَمْ يقصد به فَرْد مُبْهَم شائع، بل أُرِيدَ به مُطْلَق الحقيقة، وسيأتي الفَرْق بين المُطْلَق والنَّكرة. وخرج بِقَيْد إضافة "العِلْم" لِلْـ "حُكْم" ما تَعَلَّق بالذات أو الصفة أو الفعل. وإنما لَمْ أَقُل "بالحكم" لأنَّ "عِلْم" يَتَعَدَّى بنفسه، فزيادة الباء تحتاج إلى تأويله بتضمين العلم معنى الإحاطة، أو غَيْر ذلك، وإنْ كُنتُ أتيتُ بالباء في تعريف "أصول الفقه" جَرْيًا على المشهور في العبارة؛ لِمَا حصل به مِن سهولة نَظْمه هناك. وإنما لَمْ أُعَرِّف الحكم ولا قُلتُ "الأحكام" بالجَمْع؛ لِمَا ذُكِرَ في تنكير "عِلْم". وأيضًا فلو أَتَيْتُ باللام: 1 - فإنْ كانت للاستغراق، فيخرج فِقْه الأئمة الذين أجابوا في مسائل بِـ "لا أَدْرِي"؛ فلا يَكُون التعريف جامعًا؛ فَقَدْ روى ابن عبد البر في مقدمة "التمهيد" أنَّ مالكًا سُئِل عن ثمانية وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: "لا أَدرِي". وحكى العبادي (مِن أصحابنا) في فتاويه أنَّ أبا حنيفة سُئل عن خمس مسائل، فقال فيها: "لا أدْرِي": الخنثى الذي له آلة الرجال وآلة النساء، ووقت الختان، وأطفال المشركين، ومَن حلف لا يكَلِّم فلانًا دَهْرًا، وهل يَجوز للقَيِّم نقش جدار المسجد مِن غلة الوقف؟ ¬

_ (¬1) المحصول (1/ 92).

وفي كتاب "مآل الفتاوى" للشريف أبي القاسم ابن يوسف الحَسَني الحنفي (مؤلف كتاب "النافع" وغَيْره) مسائلُ غَيْرُ [الخمسة] (¬1) قال فيها أبو حنيفة: "لا أَدْرِي"، فذكر ثمانية: ما الدهر؟ ومحل أطفال المشركين، ووقت الختان، وإذَا بال الخنثى مِن الفرجين، والملائكة أفضل؟ أَمِ الأنبياء؟ ومتى يصير الكلب معلَّمًا؟ وسؤر الحمار، ومتى يطيب لم الجلَّالة؟ فيحصل مِن مجموع النَّقْلَيْن تِسع مسائل. وفي مقدمة "شرح المهذب" للنووي: (عن الأثرم: سمعتُ أحمدَ بنَ حَنْبَل يُكْثِرُ أنْ يَقُول: "لا أَدْرِي") (¬2). وفي "تذكرة السامع والمتكلم" لقاضي القضاة بدر الدِّين ابن جماعة أنَّ الشافعي سأله محمد بن عبد الحكم عن المتعة [أَكَان] (¬3) فيها طلاقٌ أو ميراثٌ أو نفقة تجبُ أو شهادةٌ؟ فقال: (والله ما نَدْرِي) (¬4). وهذا وإنْ لَمْ يَكُن مِن النوع الماضي بل مِن قبيل التاريخ لكن فيه التنبيه على أنَّ العالِمَ إذَا سُئِلَ عَمَّا لا يَعْرِف، يقول: "لا أَدْرِي"؛ فعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: (إذَا أَخْطَأ العالِمُ "لا أَدْرِي"، أُصِيبَتْ مَقَاتِلُه) (¬5). ورواه البيهقي في "المدخل" مِن حديث أحمد، عن الشافعي، عن مالك، عن محمد بن عجلان: أنَّ محمد بن عجلان قاله أيضًا، لكن بِلَفْظ: (إذَا أَغْفَلَ ¬

_ (¬1) في (ز): ذلك. (¬2) المجموع شرح المهذب (1/ 73)، الناشر: مكتبة الإرشاد - جدة، تحقيق: محمد نجيب المطيعي. (¬3) في (ش): ان كان. (¬4) تذكرة السامع والمتكلم (ص 68)، طبعة: دار البشائر الإسلامية - بيروت. (¬5) جامع بيان العلم وفضله (2/ 54).

الحاكِمُ) (¬1). وإذَا كان كذلك، فلا يَكُون التعريف جامعًا. وقد أُجِيبَ عن ذلك بأنهم كانوا يَعرفون الكل بالقوة، بمعنى أنهم لو اجتهدوا فيه، لَعَلِمُوه، ولكن شَغَلهم (وقت الجواب بِـ "لا أَدْرِي") ما هو أَهَم، أو تَرَكوا الجواب لِمَعنى آخَر، فالله أعلم. نَعَم، إطلاق أنهم عَلِموا بِمَعْنى القوة - مَجَاز يُصان عنه الحدُّ، إلَّا أنْ يُدَّعَى قرينة أو اشتهار عُرْفِي صَيَّرَه حقيقة. 2 - وإنْ كانت اللام للعهد، فليس هناك معهود، ولو سُلِّمَ فالمراد الأَعَم. 3 - وإنْ كانت للجنس، فتقتضي أنَّ بِعِلْم المقَلِّد بعض [مسائل] (¬2) الفقه يَكون فقيهًا، ولا قائل به؛ فلا يَكون التعريف مانعًا؛ لأنَّ ما عَرَفه المقلِّد ليس فِقْهًا وقد دخل في التعريف. وقد أُجِيب عنه بأنه لَمْ يَعْرف ذلك مِن دليل تفصيلي، وإلَّا لكان فقيهًا، والمراد إنما هو أنْ يَعرفه مِن دليله التفصيلي كما سيأتي. إذَا عَلِمتَ ذلك، عَلِمْتَ أنَّ حذف لام التعريف تُغْنِي عن الأسئلة والأجوبة، ولذلك أيضًا لَمْ أَقُل: "أحكام" بالجمع كما عَبَّر به كثيرٌ؛ لأنَّ الكمية خارجة عن الحقيقة، وهو واضح، فَفِي الإفراد سلامة مِن ذلك، وفي التجريد مِن اللام نقص لفظ واستغناء عن قرينة تَصْرف عن العموم والعهد للجنس. وخرج بِقَيْد "الشرعي" نحو: عِلمُ الحساب والطب والهندسة وعلوم العربية مِن نحو وتصريف ولغة وبيان وعَرُوض، وغير ذلك. ¬

_ (¬1) المدخل إلى السنن الكبرى (ص 436). (¬2) ليس في (ز).

وخرج بِقَيْد "الفرعي" الأصليُّ، كأصول الدِّين وأصول الفقه، وهو أحسن مِن التعبير بِـ "العَمَلِي"، أَيْ: عمل الجوارح؛ ليخرج الاعتقادات؛ لأنَّ فيه مجاز تخصيص العمل ببعض أنواعه، فَمِن الفقه ما ليس بعمل جارحة، كالنيَّة وأحكامها وسائر القصُود المذكورة في الفقه، إلَّا أنْ يُجاب بأنه تابع لأفعال الجوارح، لا مُجَرَّد اعتقاد كعقائد الأَصْلَين. وخرج بِكَوْن عِلم ذلك مِن دليل تفصيلي: - ما ليس مُكْتَسَبًا أصلًا، كَعِلْم الله عز وجل. - أو كان مكتسبًا لا مِن دليل تفصيلي، كَعِلْم الملائكة، وعِلْم الرُّسُل فيما ليس مِن اجتهادهم حيث جَوَّزناه، وكذا ما عُلِمَ مِن الدِّين بالضرورة كما تَقَدَّم وإنْ كان يُسَمَّى فروعًا بالنسبة إلى أُصُول الدِّين (كما يقال في "تكليف الكافر بالفروع"، مرادهم بذلك الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك كما سيأتي)، وكذا عِلْم المقلِّد؛ فإنه مِن دليل إجمالي وهو أنَّ كل ما أفتاه به المفتي فهو حُكم الله في حقه؛ لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] وقيام الإجماع كما سيأتي بيانه في الباب الرابع. لا يُقال: إنَّ الذي يَعلمه المقلِّد هو أيضًا مِن دليل تفصيلي باعتبار أنَّ مُقَلَّدَه أَخَذه مِنه، فينبغي أنْ يُزاد "بالاستدلال"؛ ليخرج. لأنَّا نَقُول: مُسَلَّم، لكن المُقَلِّد ما أخذ مِن الدليل التفصيلي، وهو معنى قولي: (مِنْه)، وهو متعلق بِـ "عِلْم"، وفاعل "العِلم" محذوف، أَيْ: عِلْم إنسان، أو نحو ذلك، فذلك الفاعل مُقَيَّد بِكَوْنه عَلِمه مِن الدليل التفصيلي؛ فَلَم يَدخل المُقَلِّد أَصْلًا، والله أعلم. ص: 20 - وَغَايَةُ الْفَنِّ هُوَ التَّوَصُّلُ ... لِكُلِّ خَيْرٍ يَقْتَضِيهِ الْعَمَلُ الشرح: لَمَّا فرغ الكلام في الأول مِن الثلاثة (وهو تَصَوُّر العِلم) شَرعْتُ في الثاني

(وهو الغاية والفائدة منه). و"الفنُّ" قال الجوهري: (هو النوع. و"فَننَ الرَّجُل": كَثُرَ تَفَنُّنه في الأمور، أَيْ: تَنَوُّعُه. ومِنه "أَفنت الشَّجَرَة": صارت ذات أفنان، أَيْ: أغصان. وَاحِدُهُ "فَنَن") (¬1). والمراد هنا فَنُّ "أُصُول الفقه"، فاللام للعهد. فغايةُ "أصول الفقه" التوصُّل إلى استنباط الأحكام الشرعية، أو معرفة كيف استُنْبِطَت حيث تَعَذَّر إمكان الاستنباط والاجتهاد؛ لِيَسْتَنِد العِلمُ إلى أَصْله، وذلك مُوصلٌ إلى العمل، والعمل مُوصلٌ إلى كُل خير في الدنيا والآخرة، وهو معنى قولي: (يقتضيه العمل). ومعناه هنا: يُعَرِّفه ويَدُل عليه، لا التأثير؛ لحديث: "لن يَدخُل الجنةَ أَحَدٌ بِعَمله" (¬2) إلى آخِره. وإنما الكُلُّ بفضل الله ورحمته، والله أعلم. ص: 21 - وَمَا اسْتُمِدَّ مِنْهُ فَالْكَلَامُ ... وَعَرَبِيَّةٌ، كَذَا الْأَحْكَامُ الشرح: هذا هو الثالث مِن الثلاثة، وهو مادة "أصول الفقه"، فهو مستمد مِن ثلاثة أمور: مِن عِلْم الكلام، ومِن عِلْم العربية، ومن معرفة الأحكام. ووَجْهُ الحصر الاستقراءُ، وأيضًا: 1 - فالتوقُّف إمَّا أنْ يَكون مِن جهة ثبوت حُجِّيَّة الأدلة، فهو عِلم الكلام، أَيْ: أُصُول ¬

_ (¬1) الصحاح تاج اللغة (6/ 2177). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 5349)، صحيح مسلم (رقم: 2816).

الدِّين؛ فإنَّ حُجية الأدلة تستدعي مَعْرفة الصانع خالِق الخَلْق وباعث الرُّسُل إليهم بالشرائع؛ حتى يُسْتَدَل بما جاءوا به على الأحكام. وثبوت رسالتهم متوقف على المعجزة الدالة على صدقهم، حتى يُعْلَم أنَّ ما جاءوا به مِن عند الله، ويتفرع مِن ذلك ما يُسْتَدَل به في شَرعِنا مِن الكتاب والسُّنة والإجماع والقياس، وما نشأ مِن ذلك عند مُثْبِتِه، وثبوت ذلك إنما هو في أصول الدِّين؛ فحصل التوقف عَلَيه. 2 - وإمَّا أنْ يَكون التوقُّف مِن جهة دلالة الألفاظ على الأحكام؛ إذِ الأدلة هي موضوع أصول الفقه كما سبق، وعوارضُها هي مسائل أصول الفقه، والأصلُ في الأدلة الكتابُ والسُّنةُ، وهُمَا عربيَّان؛ فَتَوقَّفَ فَهْمُهما على معرفة الكلم العربية وأحكامها. فإنْ كان مِن حيث المدلول فهو عِلمُ اللغة، أو مِن أحكام تركُّبها فَعِلمُ النحو، أو مِن أحكام إفرادها فَعِلْمُ التصريف، أو مِن جهة مطابقته لِمُقْتضَى الحال وسلامته مِن التعقيد وتحسينه بشيء مِن وجوه الحُسْن فَعِلْمُ البيان بأنواعه الثلاثة. 3 - وإمَّا أنْ يتوقَّف مِن جهة تَصَوُّر ما يدل بها عليه، وهو الأحكام؛ فإنه لا بُدَّ مِن تَصَوُّر الأحكام؛ لِيُتَمَكَّن مِن إثباتها ونَفْيها؛ فالحُكْم على الشيء فَرعُ تَصَوُّرِه، والله أعلم. ص: 22 - إذَا عَرَفْتَ مَا مَضَى بِالْجُمْلَهْ ... [فَهاءَ] (¬1) شرْحَ مَا ذَكَرْتُ أَصْلَهْ 23 - العِلْمُ، والدَّلِيلُ، ثُمَّ النَّظَرُ ... والْحُكْمُ بِالتَّفْصِيلِ فِيمَا حَرَّرُوا الشرح: أَيْ: إذَا عَرَفْتَ ما قَدَّمْتُه في صَدْر هذه المقَدِّمة إلى هنا، تَبَيَّن لك أنه لا بُدَّ مِن شَرْح أمور ¬

_ (¬1) في (ن 2، ن 5): فهاك. وفي (ن 4): فهذا.

أربعة مُهِمة تضمنها ما سبق، وهي: العِلْم، والدليل، والنظر، والحُكْم. فأمَّا العِلْم فلوقوعه في التعاريف السابقة. وأمَّا الدليل فلأنه مدلول أصول الفقه الإضافي، ولوقوعه في تعريف اللقبي (حيث كان هو المراد بالطُّرُق) وتعريف الفقه. وأمَّا النظر فلأنَّ الأحكام إذا كانت مِن أدلتها التفصيلية فإنما يُتَوَصَّل إليها بالنظر. وأمَّا الحُكْم فلوقوعه في التعاريف، ولِكَوْن تَصَوُّره هو أحد الثلاثة المستمد منها. فَخُذْ شَرْحَ كُلٍّ منها بالتفصيل والإيضاح إلى آخر المقَدِّمة. و"هاءَ" اسم فِعْل بمعنى "خُذْ"، و"شَرْح" مفعول به، و"العِلْم" وما بَعْده بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أَيْ: وما ذَكرْتُ أَصْلَه هو العِلم وكذا وكذا، والله أعلم. العِلْم 24 - فَمُطْلَقُ الْعِلْمِ لَهُ مَعَانِي ... عَلَى اصْطِلَاحاتٍ لَها مُعَانِي (¬1) 25 - أَحَدُهَا: مُجَرَّدُ الْإدْرَاكِ ... وَلَوْ مَعَ احْتِمَالِ ضِدٍّ زَاكِي (¬2) 26 - أَوْ مُسْتَوٍ، وَكُلُّ هذَا مُنْقَسِمْ ... إلى تَصَوُّرٍ وَتَصْدِيقٍ فُهِمْ 27 - فَأَوَّلٌ حُصُولُ صُورَةٍ بِلَا ... حُكْمٍ، وثانٍ مَعَ حُكْمٍ حُصِّلَا 28 - إثباتًا اوْ نَفْيًا، وكُلُّ مَا دُرِيْ ... إمَّا ضَرُورِيٌّ وَإمَّا نَظَرِيْ 29 - فَمَا عَلَى مِثْلٍ لَهُ تَوَقَّفَا ... فالنَّظَرِيُّ فِيهِمَا، وَمَا انْتَفَى ¬

_ (¬1) قال البرماوي في الشرح: (اسم فاعل "عَانَا الشيءَ" أَيْ: لَزِمَه وأَلِفَه). كذا "عَانَا" في كل النُّسَخ. (¬2) أَيْ: راجِح أو مُستوٍ.

30 - عَنْ عِلْمِهِ التَّوَقُّفُ المُعَيَّنُ ... هُوَ الضَّرُورِيُّ، فَلَا يُبَرْهَنُ الشرح: هذا هو الأول مِن الأربعة التي لا بُدَّ مِن شرحها وإيضاحها، وهو العِلم، وله إطلاقات في اللغة والعُرْف، وهو معنى قولي: (عَلَى اصْطِلَاحات). فإنه يشمل اللغة والعُرْف؛ إذِ المراد هنا اصطلاح التخاطب، لا المقابِلُ لِلُّغة والشرع كما سيأتي. وقد ذَكرتُ منها ثلاثةً يحتمل أنْ يَكون حقيقةً في كُل منها، أو حقيقةً في البعضِ مَجَازًا في الباقي، أو لِقَدْر مشترك؛ مِن باب التواطؤ. وتحريرُ ذلك عَسِرٌ، ولا طائل في بَسْطه في هذا المختصر. وقولي: (لها مُعَاني) هو - بِضَم الميم - اسم فاعل "عَانَا الشيءَ" أَيْ: لَزِمَه وأَلِفَه. وقولي: (مُطْلَقُ العِلْمِ) أَيْ: لَفْظُهُ المُطْلَقُ السالم مِن قَيْدٍ ومِن قرينةٍ. أَحَدُ المعاني الثلاثة: مُجَرَّد الإدراك، وبدأتُ به لأنه الأَعَم، سواء أَكان ذلك الإدراك جازِمًا أو مع احتمال خِلَافِه، رَجحَ ذلك الاحتمال أو ضَعُفَ أو ساوَى. ولَمَّا كان الراجح والمساوي يَبْعُد معهما أنْ يُقال: (عَلِمَ الشيءَ) أتَيْتُ بهما بَعْد "لو" في قولي: (وَلَوْ مَعَ احْتِمَالِ ضِدٍّ زَاكِي)، أَيْ: راجِح أو مُستوٍ. وأمَّا عند الجَزْم أو الرجحان في الأول فواضح، ومن هذا قوله تعالى: {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} [يوسف: 51]؛ إذِ المراد نَفْيُ كل إدراكٍ ولو تَوَهُّمًا. وقولي: (وَكُلُّ هذَا مُنْقَسِمْ) إلى آخِره - بيان لأقسام "العِلْم" بهذا المعنى العام. ويَنْبَغِي أنْ نُقَدِّم على هذا التقسيم أَمْرَيْن: أحدهما: قد اختُلِف في "العِلْم" هل تَصَوُّره ضروري؟ أو نَظَرِي؟ ذهب الإمام الرازي

إلى أنه ضروري لا يحتاج [لِتَعْرِيف] (¬1)، وكأنَّ مراده "العِلْم" بهذا المعنى الأَعَم، لا بالمعنى الثالث الذي هو أخَصُّ هذه الثلاثة؛ فإنه قد عَرَّفَ ذلك في ضِمْن تقسيم كما سيأتي؛ فَنِسْبَتُه إلى المناقَضَة ليس بِجَيِّد. وقال إمامُ الحرمين: إنَّ "العِلْم" لا يُحَدُّ؛ لِعُسْره، لا لِكَوْنه ضروريًّا؛ فإنه قد اخْتُلِفَ في حقيقته: أَهُو جوهَر؟ أمْ عَرَض؟ وعَلَى أنه عَرَضٌ: أَهُوَ مِن مَقُولة الكيف ولكنه وصفٌ حقيقي تَلْزَمُه الإضافة؟ أمْ هو مِن مَقُولة الإضافة؟ أَمْ هو مِن مقولة الانفعال، لا الفعل؟ وإذَا لَمْ تتميز ذاتياته عن عَرَضياته، عَسُرَ تحديده؛ فلا طريق لتعريفه، إلَّا إنْ تَمَيَّز عن غَيْره بالقسمة بِأَنْ يُؤْخَذ المشتركُ بَيْنه وبَيْن غَيْره ثُمَّ يُؤخَذ المُمَيَّزُ؛ حتى يَخْرُج لنا "العِلْم". قلتُ: فَعَاد إلى تعريفه بالرَّسْم، وتَبَيَّن أنه إنما أراد عُسْر التعريف بالحَدِّ. نَعَم، ظاهر كلام الإمام والغزالي في "المستصفَى" وغيرهما مِن المحققين أنَّ الخلافَ المذكور إنما هو في "العِلْم" بالمعنى الذي يأتي في ثالث الإطلاقات وإنْ زَعَمَ بعضُهم أنَّ المذكور هنا هو مَحَل الخلاف، وليس تحت هذا الخلاف كبيرُ فائدة؛ فلا حاجة للتطويل فيه. الثاني: أنَّ مُجَرَّد الإدراك الذي قُلناه - يشارك "العِلْم" فيه ألفاظ تُظَنُّ مترادفة لكنها لِمعانٍ تتميَّز بقيود لا ينبغي أنْ يَخْلُوَ مُرِيدُ العِلم مِن معرفتها؛ لكثرة دَورها في الكلام، فَلنَذْكُرها مختصرة: فَمِن ذلك: الشُّعور، وهو أول مراتب وصول العِلْم إلى القوة العاقلة. مأخوذ مِن الشعار، وهو ما يَلي الجسد؛ ولهذا كان وَصْف الكفار [بأنهم لا يشعرون] (¬2) أَبْلَغ مِن نَفْي العِلم ونحوه عنهم. ¬

_ (¬1) في (ش): إلى تعريف. (¬2) ليس في (ش).

ثانيها: الإدراك الذي سبق ذِكْرُه، وهو وصول المعقول إلى العقل، مأخوذٌ مِن "أَدْرَكْتُ الشيءَ": وَصَلْتُ إليه. ثالثها: التَّصَوُّر، وهو حصول الصورة في العقل، كما سيأتي. رابعها: الحفظ، وهو تَأَكُّد المعقول في العقل، واستحكامُه. خامسها: التَّذَكُّر، وهو محاولة القوة استرجاع ما زال مِن المعلومات. سادسها: الذِّكْر، وهو فائدة التذَكُّر، وهو رجوع الصورة المطلوبة إلى الذِّهْن. ويقال بضم الذال وكسرها. قال ابن سِيدَه: (هو ضِد النسيان) (¬1). وزَعَم ابنُ جنِّي أنه بِالكَسْر: بِاللسان، وبِالضَمِّ: بالقلب. وكأنَّ هذا باعتبار الأكثر في الاستعمال. سابعها: الفَهْمُ، وهو متعلِّق بِلَفْظِ مَن يُخَاطِبُك في الغالب. ثامنها: الفقه، وقد سَبق. تاسعها: الدِّراية، وهي المعرفة الحاصلة بَعْد تَرَوٍّ ومقدماتٍ. عاشرها: اليقين، وهو أنْ يَعْلَم [الشيءَ] (¬2)، لا يَتَخَيَّلُ خِلَافَه. الحادي عشر: الذهنُ، وهو قوةُ النَّفْس واستعدادُها لِكَسْب العلوم غَيْرِ الحاصلة. الثاني عشر: الفِكْر، وهو الانتقال مِن الأمور الحاضرة إلى الأمور المُحْضَرَة، كما سيأتي بيانه [في "النَّظَر"] (¬3). الثالث عشر: الحَدْسُ، وهو الذي يتميَّزُ به عَملُ الفِكْر، وهو استعداد النفْس بوجود ¬

_ (¬1) المحكم والمحيط الأعظم (8/ 581). (¬2) في (ش): الذي. (¬3) ليس في (ش).

المتوسِّط بَيْن الطرفين. الرابع عشر: الذكاء، وهو قوة الحدس وبلوغه الغاية؛ لأنه مِن "ذكت النار". الخامس عشر: الفِطْنَةُ، وهي التَّنَبُّه للشيء الذي [يقصد] (¬1) معرفته. السادس عشر: الكَيْس، وهو استنباط الأنفَع والأَوْلَى، ومنه الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الكَيِّسُ مَن دَانَ نَفْسَه وعمل لِمَا بعد الموت" (¬2). ولذلك جُعِلَ [مُقابِلَ] (¬3) العَجْز في حديث: "كُلُّ شيء بِقضاءٍ وقَدرٍ، حتى العَجْز والكَيْس" (¬4). السابع عشر: الرأي، وهو استحضار المقدمات، وإجَالةُ الخاطِر فيها وفيما يُعارِضُها. الثامن عشر: التبَيُّن، وهو عِلْمٌ يَحْصُل بَعْد الالتباس. التاسع عشر: الاستبصارُ، وهو عِلْم بَعْد التأَمُّل. العشرون: الإحاطة، وهي العِلم بالشيء مِن جميع وُجُوهه. الحادي والعشرون: العقل، تقُول: (عَقلْتُ الشيء)، أَيْ: عَلِمْتُه. وتكَرَّر في القرآن {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} [يس: 68]، وفي الحديث في تسوية الصفوف: "حتى رَأَى أنْ قد عَقلْنَا" (¬5). فهو مَصْدَر "عَقلْتُ الشيءَ أعْقلُه". وفي الفَرْق بين العقل والعِلْم أَوْ هُمَا مترادفان - خِلَافٌ مشهورٌ. ¬

_ (¬1) كذا في (ش، ت، ص). لكن في (ز): تقصد. (¬2) سنن الترمذي (رقم: 2459)، سنن ابن ماجه (4260) وغيرهما. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف الترمذي: 2459). (¬3) في (ش): في مقابله. (¬4) صحيح مسلم (رقم: 2655). (¬5) صحيح مسلم (رقم: 436).

الثاني والعشرون: الحِسْبَان، وبابه مِن الظن والإخالة وغيرهما مما ذُكِر في العربية في باب "ظنَّ" وأخواتها، وقد نَظَمْتُ هذه الأنواع قديمًا، فَقُلْتُ: عليك بأنواع العلوم مُرَتّبًا ... شُعُورٌ وإدراكٌ تَصَوُّرُ حِفْظِهَا تَذَكُّرُ مَنْ بالذِّكْرِ يَفْقَهُ فَهْمَها ... ويَدْرِي يَقينًا ذِهْنُهُ مُتَوَجَّهَا وفي الفِكْرِ مِن حَدْسِ الذَّكِي بِفطْنَةٍ ... يرى الكَيْسَ منها قد تَبَيَّن مَا وَهَى [كذلك] (¬1) في استبصاره بإحاطةٍ ... وفي العقل مع حِسْبَانِه ما يُتِمُّها إذَا عرفت ذلك، فَلنَرْجِع للمقصود، وهو انقسام العِلْم بهذا المعنى إلى تَصَوُّر وتصديق، فالتصور حصول صورة الشيء في الذهن بِشَرْط عَدَم الحُكْم، والتصديقُ تَصَوُّرٌ مع حُكْم، فالأول ساذِجٌ، أَيْ مشروط فيه عدمُ الحكم، والثاني مشروط فيه الحكمُ، فليس فيه تقسيمُ الشيء إلى نَفْسه، ولا كَوْنُ قِسْم الشيء قسيمه؛ إذِ الفَرْق ظاهر بين الماهية "لَا بِقَيْدٍ" و"بِقَيْدِ لَا"، ومن معنى هذا الفَرْق تظهر التفرقة بين مُطْلَق الماء والماء المُطْلَق (¬2)، ومُطْلَق الجَمْع والجَمْع المُطْلَق، وما أَشبه ذلك. ومعنى "الحُكْم" في التصديق: إسنادُ أَمْرٍ إلى آخَر إثباتًا أو نَفْيًا. نحو كَوْن زَيْد قائمًا، أو ليس بقائم؛ فَخَرجَ: ما لا نِسْبَة فيه أَصْلًا، وما فيه نِسبةٌ قد تُصِوِّرت ولَم يُحْكَم فيها بإثبات أو نَفْي. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ت)، لكن في (ز): كذاك. (¬2) إذا قلت: "إيمان" فهذا مطلق الإيمان (لا بِقَيْد)، وإذا قلت: "إيمان لا معصية معه" فهذا هو الإيمان المطلق (بِقَيْد "لا"). فمطلق الماء أن تقول "ماء"، فليس مقيدًا بكونه ماء صابون أو ماء ورد، فهو أَيّ ماء كان، أما الماء المطلق فهو "ماء لا يختلط به شيء"، فهو ماء مع قيد "لا".

وكُل تصديق متضمِّنٌ مِن مُطْلَق التصوُّر [ثلاثة تَصَوُّرات] (¬1): تَصَوُّر المحكوم عليه والمحكوم به مِن حيث هُمَا، ثُمَّ تَصَوُّر نِسْبة أحدهما للآخَر، فالحُكْمُ يَكونُ تَصَوُّرًا رابعًا عَلَى ما قاله المحقِّقون؛ لأنه تَصَوُّرُ تلك النسبة مُوجبَة أو تَصَوُّرُها مَنْفِيَّة، وهذا التصور أيضًا مِن مُطْلَق التصور، لا تَصَوُّرٌ مُطْلَق؛ لأنه قسيمُه. وبهذا التقرير لا يخرج التصديق عن مَقُولة الانفعال التي منها العِلْم على قول الأكثرين، أو مِن مقولة الكَيْف وبه قال كثير، وليس المراد مِن [الحُكْم بالنفي أو الإثبات] (¬2) إلَّا هذا، لا التأثير في إيجاده أو في عَدَمه؛ لأنَّ ذلك مِن مقولة الفعل وهو خارج عن مقولة العِلْم، فَيَعُود معنى الحُكْم إلى اعتقاد [الشيء] (¬3) مُثْبَتًا أو اعتقاده منفِيًّا. وفي الموضع مباحثُ أخرى ليس في التطويل بها كبيرُ فائدة. نَعَم، ذهب الأقدمون - كابن سينا وغيْره - إلى أنَّ التصديق نفسُ الحُكْم كيف [فرضته] (¬4)، وتلك التصوراتُ الثلاثة السابقةُ عَلَيه شَرْطٌ له. وذهب الإمامُ الرازي وجَمْعٌ مِن المحققين إلى أنَّ المجموع هو التصديق، فالتصورات السابقة عَلَى الحكم شطْرٌ مِن التصديق، لا [شَرْطٌ] (¬5)، وإنما سُمِّي التصورُ تصَوُّرًا لِأَخْذِه مِن الصُّورة؛ لأنه حصول صورة الشيء في الذهن، والتصديق تصديقًا؛ [لأنَّ فيه] (¬6) حُكْمًا يُصَدَّق فيه أو يُكَذَّب؛ فَسُمِّي بِأَشْرَف لَازِمَي الحُكْم في النسبة. ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ق، ص، ت). وفي (ش): ثلاث تصويرات. وفي (ض): ثلاث تصورات. (¬2) كذا في (ز، ق، ص، ت). وفي (ش): النفي والاثبات. وفي (ض): الحكم بالنفي الاثبات. (¬3) ليس في (ش). (¬4) في (ش): فرض. (¬5) في (ز): شرط فيه. (¬6) في (ش): لأنه.

وقولي: (وكُلُّ مَا دُرِيْ) إلى آخِره - أَيْ: كُل ما عُلِم، وسَبق تفسيرُ "الدراية"، والذي دُرِي فيما ذكرناه المرادُ به التصور والتصديق السابقان، لا يخلو كل منهما إمَّا أنْ يَكون ضروريًّا، أَيْ: يَحْصُل للإنسان بالضرورة مِن غَيْر نَظَر، أو نَظَريًّا وهو بِخِلَافه فيهما، فالأقسام أربعة: أحدها: التصور النظري: وهو ما تَوَقَّف على تَصَوُّر آخَر، بِأنْ يَكون المُتَصَوَّرُ مُرَكَّبًا؛ فيتوقف تَصَوُّره على تَصَوُّر ما تَرَكَّب مِنه، فَيُطْلَب تَصَوُّرُه مِن تَصَوُّرِ مادَّته وجُزئِه الصُّوري وهو جهة التركب؛ ولذلك يُسَمَّى مطلوبًا وذلك بمعرفة جُزئه الشامل له ولِغَيْره، ثُمَّ جُزئه المُمَيِّز له عن غَيْره، وهُمَا "الجنس" و"الفصل"، وربما عرفه بِلَازِمه كما سنذكره مِن بَعْدُ مُفَصَّلًا. وفي معناه ما كان مِن البسيط في حُكم المُرَكَّب؛ فَيُمَيَّزُ باعتبار تَعَلُّقه اللازم له وإنْ كان خارجيًّا؛ ليتميز عن غَيْره، فتعريفه حينئذ بالرسم، لا بِالحَدِّ كما سيأتي، وذلك كَتَصَوُّر حقيقة الصلاة والحج ونحو ذلك. ثانيها: التصديق النظري: وهو ما يتوقف على تصديقٍ سابقٍ عليه؛ لِكَونه دالًّا عليه، فَيُطْلَب مِنه؛ فلذلك يُسَمَّى النظري مطلوبًا، وسيأتي بيان الدليل وكيفية دلالته. مثاله: الحكم بِكَوْن الصلاة واجبةً أو مندوبةً، وكَوْن الحج واجبًا على الفَوْر أو التراخي. وذلك معنى قولي في التصوُّر والتصديق النظريَّيْن: (فَمَا عَلَى مِثْلٍ لَهُ تَوَقَّفَا فالنَّظَرِيُّ فِيهِمَا). وإنما قَدَّمْتُ النظَرِيَّيْن على الضرورِيَّيْن؛ لأنَّ تقابُلَهما تَقابُل العلم والمَلَكَة، فلا تُعْرَف الأَعدام إلَّا بِمَلَكاتها. ثالثها ورابعها: التصور الضروري والتصديق الضروري، وَهُمَا ما لا يتوقفان على

مثلهما، وهو معنى قولي: (وَمَا انْتَفَى عَنْ عِلْمِهِ التَّوَقُّفُ المُعَيَّنُ)، أَيْ: توقُّف التصور على تصور، والتصديق على تصديق. مثالهما: تَصَوُّر الواحد والحُكْم عليه بأنه نِصْفُ الاثنين. تنبيه: قد عُلِم مِن تقسيم كل مِن التصور والتصديق إلى ضروري ونظري أنه ليس الكل مِن كل منهما ضروريًّا (وإلَّا لَمَا جَهلْنَا شيئًا) ولا نظريًّا (وإلَّا لَمَا تحَصَّلْنَا على شيء)، والمسألةُ فيها مذاهبُ كثيرة وأدلة منتشرة لا يليق بِذِكْرها هذا المختصر، ولا طائل تحتها، والله أعلم. ص: 31 - أمَّا الَّذِي [ثانِي] (¬1) مَعَانِي العِلْمِ ... فَمُطْلَقُ التَّصْدِيقِ عِنْدَ الفَهْمِ 32 - وَهْوَ الَّذِي قَدْ قابَلُوا بِالْمَعْرِفَهْ ... لِأنَّهَا تَصَوُّرٌ دُونَ صِفَهْ 33 - مِنْ أَجْلِ هذَا عُدِّيَتْ لِوَاحِدِ ... وَهْوَ إلَى اثْنَيْنِ؛ [لِحُكْمٍ] (¬2) زائِدِ الشرح: أَيْ: الثاني مِن معاني العِلم وإطلاقاته أنْ يُرَاد به مُطْلَق التصديق، سواء أكان قَطْعِيًّا أَم ظنَّيًّا، لا التصور. وحينئذ فيَكون مُقابِلًا للمعْرفة التي هي تَصَوُّرٌ مُجَرَّدٌ لا حُكْم فيه، وهو معنى قولي: (دُونَ صِفهْ). أَيْ: دُونَ حُكْم، وليس مُرادِي هنا بِـ "الصفة" ما هو مُقابِل للذَّات والفعل والحُكْم، ومعنى مقابلته أنك تقول: (إمَّا معْرفة وإمَّا عِلم)، كما تقول: (إمَّا تَصَوُّر ¬

_ (¬1) في (ن 2): يأتي. (¬2) كذا في (ص، ش، ن 1، ن 2، ن 4). لكن في (ز، ت، ض، ق، ن 5): بحكم.

وإمَّا تصديق)، ومن أَجْل ما قَرَّرْناه كان "عَرفَ" وما في معناه مِن مادته - مُتَعَدَّيًا إلى مفعولٍ واحدٍ، تقول: (عَرفْتُ زَيْدًا). أَيْ: تَصَوَّرْتُه، بلا زيادة على ذلك. بِخِلَاف "العِلم" وما تصرّف مِنْه؛ فإنه مُتَعدٍّ إلى مفعولين، تقول: (عَلِمْتُ زَيْدًا صائمًا). إذِ المقصود نِسْبةُ الصيام إلى زَيْد، فَتَوَقَّف عَلَى "مُسْنَدٍ" و"مُسْنَدٍ إليه". فَمِن الأول قوله تعالى: {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [يوسف: 58]، ومن الثاني قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10]، عَلَى أنه قد جاء "عَلِمَ" بمعنى "عَرفَ" فيتعدى لِوَاحدٍ، كقوله تعالى: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101]، {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} [غافر: 19]، {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} [محمد: 31]، وغير ذلك. واعْلَم أنَّ الفرق بَيْن "العِلْم" و"المعرفة" بذلك ذكره جماعةٌ كما قرره الماوردىُّ في تفسيره، وأَوْرَدَه ابن الحاجب في مختصره، ولكِن ذُكِرَ بينهما فُروقٌ أخرى، فَلْنَذكر أَحْسنها؛ تكميلًا للفائدة: فَمِن ذلك أنَّ "المعرفة" تتعلق بالجزئيات، و"العِلْم" بالكُليات. قاله السهيلي في "نتائج الفِكَر"، ونقله غيْره عن ابن سِينا. وقيل: "العِلْم" ما كان بدليل، و"المعرفة" ما كان فيه الإدراك أَوَّلِيًّا بِلَا استدلال. ذكره ابن الخشاب، لكن يَلْزَم منه أنَّ "العِلم" لا يَكون إلَّا نَظَرِيًّا، ولا يَكون ضروريًّا، وهو ضعيف كما سبق؛ ولذلك لَمْ أعُد مِن إطلاقات "العلم" ما كان لدليل فقط. وقِيل: "المعرفة" عِلم الشيء مِن حيث تفصيله، بِخِلَاف "العلم"؛ فإنه المتعلق بالشيء مُجْمَلًا ومُفَصَّلًا. ذكره العسكري في "الفروق" (¬1). ¬

_ (¬1) الفروق اللغوية للعسكري (ص 80)، الناشر: دار العلم والثقافة - القاهرة.

وقيل: "المعرفة" لا تَكون إلا بَعْد جَهْل، بِخِلَاف "العلم"؛ فَقَدْ يَكون بَعْد جهل (كقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]) وقد لا يَكون كذلك (كالعِلم القديم). نقله ابن إياز في "شرح الفصول" عن بعضهم، وكذا [النيلي] (¬1) في شرح الحاجبية. وَرُدَّ بأنَّ "المعرفة" تُطْلَق نِسْبتها إلى الله تعالى كالعِلْم. وأُجِيبَ بأنَّ اشتراط سَبْق الجهل فيها إنما هو فيمن يُتَصَوَّرُ فيه الجهلُ، لا مُطْلَقًا. وقيل: "العِلم" في الإنسان، و"المعرفة" تَكون في الناس وفي البهائم. قاله ابن القطاع. وقيل: "المعرفة" فيما يَكون مشعورًا به بالحواس، و"العِلْم" في غير ذلك. حكاه ابن جني في خاطرياته عن الفارسي، ويدل له قوله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41]، ومنه أيضًا قول الشاعر (¬2) وهو مِن أبيات سيبويه: أَوَكُلَّمَا وَرَدَتْ عُكاظَ قبيلةٌ ... بَعَثُوا إلَىَّ عَريفَهم يَتَوَسَّمُ ¬

_ (¬1) كذا في (ض، ق، ز). وفي (ش): البعلي. وفي (ت): النبلي. و"النيلي" نِسْبَة إِلَى بلد النّيل، مَدِينَة بَين وَاسِط والكوفة، مَبْنِيَّة على نهر النّيل. (توضيح المشتبه، 1/ 686). وفي (الأنساب، 5/ 551) للسمعاني: (النِّيلي .. هذه النسبة إلى النِّيل، وهي بليدة على الفرات، بين بغداد والكوفة). وهو تقي الدين النيلي، وله "التحفه الشافيه في شرح الكافيه" شَرَح "الكافية" لابن الحاجب. فلعله المقصود بقوله: (شرح "الحاجبية"). قال السيوطي في كتابه (بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، 1/ 410): (إِبْرَاهِيم بن الْحُسَيْن بن عبيد الله بن إِبْرَاهِيم بْن ثَابت الطَّائِي تَقِيّ الدّين النيلي، شَارِح "الكافية"). (¬2) طريف بن تميم العنبري.

وقيل: "المعرفة" لِمَا نُسِي ثُمَّ ذُكِر، كقوله تعالى: {فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [يوسف: 58]، {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146]، ونحو ذلك، بِخِلَاف "العلم"؛ فإنه أَعَم. وفروق أخرى أَضْرَبْتُ عنها؛ لِضعفها. قولي: (عُدِّيَتْ لِوَاحِدِ) أَيْ: المعرفة، (وَهْوَ إلَى اثْنينِ) أَيْ: العِلم. فالتمييزُ بينهما بالتذكير والتأنيث في الضمير. وقولي: (لِحُكْمٍ زائِدِ) تعليل للتعدية إلى اثنين؛ لأنَّ الحُكم يستدعي محكومًا عليه ومحكومًا به كما قررناه، والله سبحانه أعلم. ص: 34 - وَالثَّالِثُ: الْمَعْنَى الشَّهِيرُ الْفَائِقُ ... حُكْمٌ لِذِهْنٍ جازِمٌ مُطَابِقُ 35 - لِمُوجِبٍ، فَغَيْرُ جازِمٍ رَجحْ ... "ظَنٌّ"، ومَرْجُوحٌ [فَوَهْمٌ] (¬1) اتَّضَحْ 36 - وَمُسْتَوِي الطَّرْفَيْنِ "شَكٌّ" نُبِذَا ... وَإنْ يَكُنْ غَيْرَ مُطابِقٍ، فَذَا 37 - يُسْمَى "اعتِقَادًا فَاسِدًا" وَ"جَهْلَا ... مُرَكَّبًا"، أمَّا "الْبَسِيطُ" نَقْلَا 38 - فَهْوَ انْتِفَاءُ الْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ ... عَنْ قابِلٍ لِلْعِلْمِ، لَا جُلْمُودِ (¬2) الشرح: أَيْ: الثالث مِن إطلاقات "العِلم" (وهو أشهرها وأكثرها استعمالًا): أنْ يَكون بمعنى ¬

_ (¬1) كذا في (ض، ت). لكن في (ص، ز، ق، ش، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5): بِوَهْم. (¬2) الجلمود: الصخر.

التصديق اليقيني، وهو "حُكمُ الذِّهنِ الجازمُ المطابِقُ؛ لِمُوجِبٍ". كذا عَرَّفه الإمامُ فخر الدين الرازي في "المحصول" في تقسيم حَصَر به "العِلم" وأضداده، ولكن بَعْد أنْ ذَكر قَبْل ذلك أنَّ العِلم ضروري لا يحتاج إلى تعريف، وأقام على ذلك دليلين ذكرهما ابن الحاجب في مختصره، وأجاب عنهما؛ فَعُدَّ ذلك مِن تناقض كلام الإمام. والجواب عندي أنه أراد بـ "الضروري الذي لا يحتاج لِحَدٍّ" [العِلْمَ] (¬1) بالإطلاق الأول (وهو مُجَرَّد الإدراك)، وما ذَكَره في التقسيم إنما هو العِلم بالمعنى الثالث الذي نَحْن فيه وهو أَخَصُّ مِن ذلك، ولا يَلْزَم مِن كَوْن الأَعَم ضروريًّا أنْ يَكون الأَخَصُّ ضروريًّا - كما سبق الوَعْدُ به. وبالجُمْلَة فحاصل ما ذُكِر مِن قيود هذا التعريف ثلاثة: الجَزْمُ، والمطابقَةُ لِمَا في الخارج، وكَوْنُ ذلك لِمُوجِبٍ يَقْتَضِيه. وَكُل مِن الثلاثة مُحْتَرَزٌ به عن أمور هي أضداد للعِلم، فلا بُدَّ مِن شرح كل قَيْد وما احْتُرِزَ به عنه مِن قسائم العِلْم. فقولي: (فَغَيْرُ جازِمٍ) إلى آخِره - بيان للمُحْتَرَز عنه بالقيد الأول وهو "الجَزْم"، ومعناه أنْ يعتقده بحيث لا يُحتمل عنده نقيضُه؛ فخرج عنه المحتملُ، وهو قِسمان: ما فيه طرفٌ راجحٌ، وما استوى طرفاه. فالأول يُسَمَّى الراجِحُ فيه "ظَنًّا" والمرجُوحُ فيه "وَهْمًا". والثاني (وهو المستوِي) يُسَمَّى "شَكًّا"، وربما أُطْلق "العِلْم" بمعنى "الظن" مجازًا كَعَكْسه إنْ قُلْنَا العِلْم حقيقةٌ في هذا المعنى الثالث؛ فَمِن ثَمَّ لَمْ أعُدّ مِن إطلاقات "العِلم" كَوْنه بمعنى الظن مِن حيث هو ظن، فإنَّ تلك إمَّا حقائق لُغَوِية إنْ ثَبَتَ استعمالُ العرب لها كذلك، وإمَّا حقائق عُرْفِية اشتهرت لِكَثْرة الاستعمال. فَمِن إطلاق "العِلم" بمعنى الظن قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ظ)، لكن في سائر النُّسخ: هو العلم.

10] الآية، فليس المرادُ اليقينَ؛ إذْ لا اطِّلَاع لنا على الباطن، إنما حَكَمْنَا به لِمُطْلَق [التلفُّظ] (¬1) بالشهادتين، لكن لَمَّا نزل ذلك مَنْزِلة اليقين لِتَعَذُّر اليقين ولِعِظَم هاتين الكلمتين، أُطْلِقَ على ذلك عِلْمًا. ومِن عَكْسه (وهو إطلاق الظن بمعنى العِلْم) قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46]، فإنَّ المرادَ هنا اليقينُ؛ لأنه مِن عقائد الدِّين، لكن قُصد فيه التيسيرُ والبشارةُ لِمَن قد دَخَل فيه بضعف اعتقادٍ (كالمؤلَّفة قَبْل أنْ يَحْسُن إسلامُهم)، فَلَعَلَّه بذلك يَحْسُن إسلامُه ويَقْوَى حتى يَصِير يقينًا، فهو مِن ألطاف الله تعالى؛ فإنه إذَا كان بهذا الظن مُبَشَّرًا بهذه السعادة، فكَيْف إذَا حَسُن اعتقادُه وقَوِيَ؟ وكَيْف مَن كان يَقِينه ابتدائيًّا؟ تنبيه: "الشك" في اللُّغة: مُطْلَق التردد، وكَوْنه مع الاستواء إنما هو اصطلاحٌ للأصوليين، وزَعَم النووي أنه عند الفقهاء كما في اللغة، فلا يُفَرَّق في الفقه بَيْن حالَتَي التساوِي والرجحان. ورُدَّ ذلك بأنَّ هذا إنما هو في بعض الأبواب، كباب الحدث في قاعدة "مَن تَيَقَّن الطهارة وشَكَّ في الحدث، أو عَكْسه"؛ ولذلك ضُعِّف ما قاله الرافعي وتبعه في "الحاوي الصغير" فِيمَن تَيَقَّن الحدث وظنَّ الطهارة بَعْدَه: (إنه يرتفع به، لا مَن شَكَّ، أَي استوى عنده الطرفان) [بِأنه] (¬2) لا فَرْق بَيْن الشك والظن في هذا الباب ونحوه؛ لِمَعْنى يخصُّ ذلك الموضع، لا مُطْلَقًا، فَقَدْ فَرَّقُوا في أبواب بينهما كالأصوليين: ¬

_ (¬1) ليس في (ش). (¬2) كذا في (ز)، ومعنى العبارة هكذا: (ما قاله الرافعي ضُعِّفَ بأنه لا فَرْق بَيْن الشك والظن في هذا الباب). لكن في (ص): فإنه.

فقالوا في باب الإيلاء: لو قيد بِمُسْتَبْعَدِ الحصولِ في أربعةِ أشهُر (كنزول عيسى عليه السلام) فمول، وإنْ ظَنَّ حصوله قَبْلها فليس بمول قَطْعًا. وإنْ شك فوجهان، أصحهما كذلك. ولو شك في المذبوح: هل فيه حياة مستقرة؟ أو لا؟ فإنْ غَلَب على ظنه بقاؤها، حَلَّ، وإلَّا حَرُم؛ للشك في المُبِيح. وقالوا في القاضي: يَقْضي بِعِلْمه وبِغَلَبة الظن باستصحاب الحال، وعند الشك المستوِي لا يَقْضي. وفي الأكل مِن مال مَن يغلب على ظنه الرِّضَا: يَحِلُّ، دُونَ مَن يَشُك. وغَيْر ذلك مما لا ينحصر. وقولي: (وَإنْ يَكُنْ غَيْرَ مُطابِقٍ) إلى آخِره - هذا هو المحترز عنه بالقيد الثاني، وهو المطابقة لِمَا في الخارج، فَغَيْر المطابِق مع الجَزْم هو الاعتقاد الفاسد، ويُسَمَّى "الجهْل المُرَكَّب"؛ لأنه مُرَكَّب مِن عَدَم العِلم بالشيء واعتقادٍ غَيْرِ مطابِقٍ، وهذا كاعتقاد المعتَزلي أنَّ الله تعالى لا يُرَى في الدار الآخِرة. وسَواءٌ في هذا القِسم: - ما اعتقده تقليدًا، كما في اعتقاد بعض الكفار الذين حَكَى الله تعالى قولهم: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]. -[أو] (¬1) اعتقده بشيء باطلٍ ظَنَّه دليلًا، كما في رؤوس المبتدعة وكثير مِن الكفار يَحْسبون أنهم على شيء إلَّا أنهم هُم الكاذبون. ¬

_ (¬1) في (ش): وان.

وأمَّا الجهل البسيط فهو انتفاء إدراك الشيء بِالكُلِّيَّة بحيث لا يَخْطُر بالبال أصْلًا. وهو معنى قولي: (انْتِفَاءُ الْعِلْمِ بِالمَقْصُودِ). وهو أحسن مِن التعبير بِـ "انتفاء العِلْم بالشيء"؛ لأنَّ الشيء لا يُطْلَق على المعدوم، ولَفْظ "المقصود" شامل للموجود والمعدوم. نَعَم، شَرْط هذا النوع أنْ يَكون انتفاؤه عن القابِل للعِلْم، أَيْ الذي مِن شأنه الإدراك؛ فيخرج نَفْيه عن نحو "الجَلْمُود" بفتح الجيم والضم كما قاله الجوهري، أَيْ: الصَّخْر، ومِثْله الحيوان غَيْر العاقل، فلا يُوصَف شيء مِن ذلك بالجهل؛ لِعَدَم القابِلية. كذا ذَكَره الآمدي في "أبكار الأفكار". وقد عُلِمَ مِن "تَقْرِير أنهما نَوْعان للجهل" أنَّ ما في "جَمْع الجوامع" مِن حكاية العبارتين قولين - ليس بِجَيِّد، وإنما تبع في ذلك ابن مكي في قصيدته. وما أحسن قول الإمام الرافعي في باب الربا مِن "شرح الوجيز" في الكلام على قاعدة مُدّ عجوة: (إنَّ الجهل معناه المشهور: الجَزْمُ بِكَوْن الشيء على خِلَاف ما هو عليه) (¬1). قال: (ويُطْلَق ويُراد به عَدَمُ العِلم) (¬2). انتهى. فأشار إلى أنهما نوعان وإنْ كان إطلاق الجهل في أحدهما أَشْهَر. نَعَم، تعبيره بِـ "الشيء" فيه ما سَبَق. وقَوْلي: (أمَّا البَسِيطُ نَقْلَا) يجوز أنْ يَكون نَصْبُ "نَقْلَا" فيه على الحال (أَيْ: حال كَوْنه مَنْقُولًا عن العلماء)، وأنْ يَكون تمييزًا (أَيْ: معنى البسيط مِن حيث النقل عنهم)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) فتح العزيز شرح الوجيز (4/ 87)، ط: دار الكتب العلمية. (¬2) فتح العزيز شرح الوجيز (4/ 87)، ط: دار الكتب العلمية.

ص: 39 - فَإنْ يَكُنْ [ذَا] (¬1) بَعدَ عِلْمٍ وُجِدَا ... فَـ "السَّهْوَ" يُسْمَى، وبِطُولٍ في المَدَى 40 - يَكُونُ "نِسْيَانًا"، فَكُلُّ قِسْمِ ... أَخَصُّ مِمَّا قَبْلَهُ في الرَّسْمِ الشرح: هذا تقسيم للجهل البسيط إلى ثلاثة أقسام: سَهْو، ونسيان، وغيرهما. وذلك أنه إنْ سَبقه إدراك ثُمَّ زال، سُمِّيَ سَهْوًا. وإنْ لا، فَلَا. والأولُ إنْ قَصُرَ فيه زمانُ ذهابِ الإدراك، اشتهر تسميته "سَهْوًا"، وربما سُمي "غَفْلةً"؛ ولهذا قال الجوهري: (السهو: الغفلة) (¬2). وإنْ طال زمانه وامتد، سُمِّي - مع كَوْنه سَهْوًا - "نسيانًا"؛ لاستحكام الغفلة فيه بالطول، فهو أَخَص مِن مُطْلَق السهو، ومُطْلَق السهو أَخَص مِن مُطْلَق الجهل البسيط. وهو معنى قولي: (فكُلُّ قِسْم أَخَصُّ مِمَّا قَبْلَهُ في الرَّسْمِ)، أَيْ: في رَسْمه وتعريفه الذي يُعَرَّف به، وهذا أَحْسَنُ ما فُرَّق به بَيْن "السهو" و"النسيان" كما يُؤخَذ ذلك مِن استقراء استعمال اللفظين في كلام العَرَب. ومنهم مَن فَرَّق بينهما بأنَّ "النسيانَ" عَدَمُ ذِكْر ما كان مذكورًا، و"السهو" غَفْلةٌ عمَّا كان مذكورًا وعمَّا لَمْ يَكُنْ مذكورًا؛ فَعَلَى هذا "النسيان" أخَصُّ مِن "السهو" مُطْلَقًا، فهو باعتبار آخَر غير الأول. ومنهم مَن يُفَرِّق بِغَيْر ذلك، وهو كثير، فلا حاجة للتطويل به. وذهب كثير إلى أنَّ معناهما واحد. قال القاضي عياض في "المشارق": (السهوُ في ¬

_ (¬1) كذا في (ش، ض، ت، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5). وفِى (ز، ص، ق): من. (¬2) الصحاح تاج اللغة (6/ 2386).

الصلاة: النسيانُ فيها) (¬1). وقال الشيخ تقي الدين في "شرح العمدة": (إنَّ الفَرق بينهما مِن حيث اللغة بَعيدٌ) (¬2). والله أعلم. ص: 41 - وَالْمُوجِبُ الْمَذْكُورُ إمَّا فَرْدُ ... أَوْ ذُو تَرَكُّبٍ، وكُلٌّ عَدُّوا 42 - مُوجَبَهُ مِنَ الضَّرُورِيِّ سِوَى ... مُحَصَّلٍ بِنَظَرٍ لَهُ حَوَى 43 - فَالْفَردُ حِسٌّ ظَاهِرٌ مِنْ خَمْس ... وَالْعِلْمُ في هذَا يُسَمَّى "الْحِسِّي" 44 - أوْ بَاطِنٌ وَمَا بِهِ "وِجْدَانِي" ... كَالْعِلْمِ أَوْ كَالْجُوعِ، ثُمَّ ذَانِ 45 - مَا بِهِمَا "الْمُشاهدَاتِ" يُسْمَى ... وَمِنْهُ عَقْلٌ دُونَ شَيْءٍ ضُمَّا 46 - فَإنْ يَكُنْ بَدِيهةً، أَيْ تُلْفِي ... تَصَوُّرَ الطَّرْفَيْنِ فِيهِ يَكْفِي 47 - فَذَا "الْبَدِيهِيُّ" وَيُسْمَى "الْأَوَّلِيْ" ... أَوْ [إنْ] (¬3) يَكُنْ قِياسُهُ معْهُ جَلِيْ 48 - فَسَمِّهِ "الْفِطْرِيَّ"، نَحْوُ: الْأَرْبَعُ ... زَوْجٌ؛ لِكَوْنِ الْقَسْمِ فِيهَا يَقَعُ 49 - بِمُتَسَاوِيَيْنِ، أَمَّا بِالنَّظَرْ ... فَـ "النَّظَرِيُّ" اسْمٌ لِعِلْمِهِ اشْتَهَرْ 50 - وَمِنْهُ مَا رُكِّبَ مِنْ عَقْلٍ وَمِنْ ... سَمْعٍ مُكَرَّرٍ مُفِيدٍ لِلْفَطِنْ ¬

_ (¬1) مشارق الأنوار (2/ 229). (¬2) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 252)، تحقيق: محمد الفقي - أحمد شاكر، الناشر: مطبعة السنة المحمدية - 1953 م. (¬3) في (ن 1): أن.

51 - وَذَا تَوَاتُرٌ، وَعِلْمُنَا بِهِ ... تَوَاتُرِيٌّ، وَسَيَأْتِي، فَادْرِهِ 52 - وَمِنْهُ مَا ترْكِيبُهُ مِنْ عَقْلِ ... وَحِسَّ غيْرِ السَّمْعِ، بَلْ بِوَصْلِ 53 - مُشَاهَداتٍ كُرِّرَتْ بِتَجْرِبَهْ ... فَـ "التَّجْرِبِيُّ" اسمٌ لِعِلْمٍ أَكْسَبَهْ 54 - وَإِنْ تَكُنْ قَرائِنٌ قَوِيَّهْ ... في حَدْسِ نِسْبَةٍ، فَذِي "الْحَدْسِيَّهْ" 55 - بَلْ كُلُّ ظَنِّيٍّ حَوَى قَرَائِنَا ... يَصِيرُ عِلْمِيًّا بِمَا قَد قَارَنَا الشرح: أَيْ: الثالث مِن قيود "العِلْم": كَوْن الجَزْم - المُطَابِق - لِمُوجِبٍ (¬1)، وهذا الموجِبُ المذكور له أقسام كثيرة، يتنوع العِلْم بسببها إلى أنواع، ولِكُل نوع لَقَبٌ، فَذَكَرْتُ في هذه الأبيات ذلك مُرَتَّبًا على وَجْهٍ حَسَن. ثُمَّ أَذْكُر بعد ذلك ما يَخْرُج بهذا القيد. فَـ "المُوجِبُ" المراد به المُقْتَضِي لذلك والمُحَصِّلُ له، وهو بِخَلْق الله تعالى العِلْم عنده، لا على جهة تأثير ذلك المُوجِب كما هو رَأْي المعتزلة في العِلَل كما سيأتي. وهو إمَّا مُفْرَد أو مُرَكَّب، والمُفْرَد إمَّا حِسٌّ وَحْده (ظاهرٌ أو باطنٌ)، أو عَقْل وَحْده [بِضرورةٍ أو نَظَر] (¬2). والمُرَكَّبُ إمَّا مِن حِسًّ مُطْلَقًا (¬3) وعَقْل، وإمَّا مِن حِس سَمْعٍ وعَقْل. وكُلُّ ما أَوْجَبَه شيء مِن هذه الموجِبات فَمَعْدُودٌ عندهم مِن العلوم الضرورية (عَلَى خِلَاف في بَعْضه)، سِوَى ما اسْتُفِيدَ بِنَظَرِ العَقْل، فإنه عِلْمٌ نَظَرِيٌّ كما سيأتي بيانه. ¬

_ (¬1) يَعْني: الجزم المطابق يَكُون لِوجود مُوجِب. (¬2) من (ز، ظ). (¬3) يعني: سواء كان الحس بالسمع أو بِغَير السمع من الحواس الخَمْس.

فَأَوَّل أقسام المُوجِبِ المُفْرَدِ: الحِسُّ الظاهرُ، أَيْ: يَكون المُدْرِكُ لِلشيء إحدَى الحواس الخَمْس التي هي: البَصَر، والسَّمْع، والذوق، والشَم، واللمس. كإدراك كَوْن الشمس مضيئة وأنَّ صَوْتَ البلبُل حَسَنٌ دُونَ صوت الحمار، وأنَّ ريح الوَرْد طيب، وطَعْم العسل حلوٌ، وأنَّ القطنَ لَيِّنٌ. ويُسَمَّى العِلم بشيء مِن هذه الخَمْس "العِلْم الحِسِّي"، سواء قُلْنَا: إنَّ نَفْس الحواس مُدرِكة، أو المُدْرِكَ النَّفْسُ بواسطتها، على الخلاف في ذلك. ومنهم مَن أَنْكَر إفادةَ الحواسِّ اليقين، وهو مباهتة، وتَعَلَّقُوا في ذلك بِشُبَه ضعيفة. وَجَعْلُ الإدراك بِالحِس مِن قبيل العلوم هو قَوْل الأشعري، خِلَافًا لِمَن خَصَّ العِلم بالمعنوي [وهو الأمر الكُلِّي، لا الحسي] (¬1). الثاني: الحسُّ الباطن، كإحساس الإنسان بحصول عِلْم شيء، وبحصول جوع أو عطش، ويُسَمَّى هذا النوع "العِلْم الوِجْداني"؛ نِسْبَة إلى الوِجدان، أَيْ: الوجود النفساني. وكُلٌّ مِن [المحسوس] (¬2) بالظاهر والباطن يُسَمى "المشاهَدة"، ويقال لقضاياهما: المشاهَدات. الثالث: العقل الصَّرْف، وهو معنى قولي: (عَقْلٌ دُونَ شَيْءٍ ضُمَّا)، أَيْ: بدون شيء انضم إليه العِلم. وهذا ضربان: أحدهما: أنْ يَكون ببديهة العقل، وهو القضية التي يجزم العقل بها بِمُجَرَّد تَصَوُّر الطرفين الموضوع والمحمول، سواء أكان تَصَوُّر كُل مِن طَرَفَيْها بِضَرورة أو بِنَظَر، فهي أربعة أقسام. ¬

_ (¬1) في (ز، ظ): لا بالحسي. (¬2) في (ز، ظ): المحسوسين.

مثاله قَوْلنا: (الكُل أعْظَم مِن الجُزْء)، و (الواحد نِصف الإثنين). وتُسَمَّى القضايا المعلومة بذلك "الأوليات"؛ نِسْبَة إلى الأول؛ لحصولها أَوَّلًا مِن غير تَوَقُّفٍ على قضية أخرى، بخلاف النظريات كما سيأتي. ويلحق بهذا القِسْم ما هو كالبديهي، وهي القضايا التي قياساتها معها، وذلك بأنْ يَحْكُم العقل بها بواسطة لا يغفُلُ عنها الذهن عند تَصَوُّر حدود تلك القضايا المحكوم عليه وبه فيها. كقولنا: (الأربعةُ زوجٌ)؛ لانقسامها بمتساويين؛ فإنَّ الانقسام بمتساويين وسطٌ حاضرٌ في الذهن دائمًا عند تَصَوُّر الأربعة والزوجيَّة؛ فلذلك قِيل فيها: إنَّ قياساتها معها. فَمِن حيث إنَّ لها دليلًا - هي نظرية، ومِن حيث إنه معه في العِلم - بديهية، وهذا يَغْلب فيها؛ ولذلك تُسَمَّى "القضايا الفِطْرِيَّة"؛ لأنَّ عِلْمها بالفطرة. فقَوْلي: (أو إنْ يَكُنْ قِياسُهُ مَعْهُ) ينبغي أنْ يَكون عَطْفًا على تفسير البديهي بِقَوْلي: (أَيْ تُلْفِي)، أَيْ: تَجِد يَأَيُّها المخاطَبُ تَصَوُّرَ الطرفين كافِيًا في حصول العِلْم، أو إنْ كان قياسُه معه فهو أيضًا بديهي. وقَوْلي بَعْده: (أَمَّا بِالنَّظَرْ) هو بِفَتْح الهمزة، أَيْ: أمَّا إذا كان حصول العِلْم بالعقل الصِّرف إنما هو [بالنظر] (¬1) والتفكْر المؤدِّي إليه، فهذا هو الضرب الثاني مِن المستفاد بالعقل، وهو "العِلم النظري"، وذلك كل قضية يَقُوم عليها البرهان، نحو: "العَالَم حادِث؛ لأنَّ العالَم مُتَغَيَّر، وكُل مُتَغَيِّر حادث"؛ فأنتج المطلوب، والعِلْم حينئذ يحصل عند الدليل، لا بِهِ - كما تَقَدَّم تقريره، لا أنه متولِّد منه كما يقوله المعتزلة. واعْلَم أنَّ النظري لا يتقيَّد بِكَون كل مِن مُقَدِّمَتَي دليله بالعقل الصِّرف، بل قد تَكون إحداهما سمعية حيث أفاد السمعُ اليقين بأنْ يَكون مِن ضروريات الدِّين (كوجوب الصلاة ¬

_ (¬1) في (ز، ظ): بالنظر فيه.

ونحوه)، وربما كانت القضيتان سمعيتين لكن إنتاجهما المطلوب وإفادتهما العِلْم به - بالعقل الصِّرف، ولا يَضُر كَوْن عِلم النسبة في كلتيهما أو إحداهما بِغَيْر العقل. وأمَّا الموجِبُ المُرَكَّب - وإليه أَشَرْتُ بقولي: (وَمِنْهُ مَا رُكِّبَ) إلى آخِره - فأقسام: أحدها: ما تَرَكَّب مِن "عقل" و"حِس هو سَمْعٌ" بواسطة كثرة ذلك السمع وتكَرُّره، وهو "التواتُر"، وسيأتي بيانه في باب "طريق ثبوت الدليل" أَيْ: سَنَد الأخبار، وفي إفادته العِلم وَكَوْنه عِلْمًا ضروريًّا أو نَظَريًّا خِلَافٌ يأتي هناك [أيضًا] (¬1)، وذلك كَعِلْمنا بالقرون الماضية كعاد وثمود و [قَوْم] (¬2) موسى وعيسى والبلاد النائية كالرُّوم والهند، ويُسَمَّى الإدراكُ بذلك "العِلم التواتُري". الثاني: أنْ يَتَرَكَّب الموجِب مِن "عَقْل" و"حِسّ غَيْر سَمع"، وهو أنواع: أحدها: بواسطة مشاهداتٍ متكررة تُؤدِّي إلى جَزْم العقل بِتَرْتيب أَمْر على أَمْر، لا على سبيل الاتفاق، كمشاهدة تَرَتُّب الإسهال على السقمونيا؛ فَيَحْكُم بأنَّ السقمونيا مُسْهِلة. وتُسَمَّى هذه القضايا "التجربيَّات". وثانيها: أنْ يَكون بواسطة قرائن قوية يَجْزِم العقلُ - بسبب توسطها - بالحُكم المترتِّب عليها، كقولنا: (نورُ القمر مستفاد مِن الشمس). فإنه لَمَّا اختلف تشكل النور في القمر بسبب قُرْبه مِن الشمس وبُعْده منها، فكُلما قَرُب مِن الشمس وانحرف مِن مقابلتها ينقص نورُه، وكُلما بَعُد عنها ازداد نورُه؛ فيحصل حَدسٌ قوي بأنَّ نُورَه مستفاد منها. و"الحدْسُ" عبارة عن سرعة انتقال الذِّهن مِن المبادئ إلى المطالب، وليس بِفِكْر؛ إذْ لا بُدَّ في ¬

_ (¬1) ليس في (ش). (¬2) ليس في (ز). وفي (ش): قومي.

الفِكْر مِن حركة؛ لأنَّ المبادئ [تَسْبَح] (¬1) في الذهن؛ فيحصل المطلوبُ مِن غَيْر حركة. وتسمى هذه القضايا "الحَدْسيات". واعْلَم أنَّ كُلًّا مِن التجربي والحدسي مقصورٌ حصول العِلْم به على صاحبه، فليس حُجَّةً على غَيْره؛ لِجَواز أنْ لا تَحْصُل التجربةُ أو الحدسُ لِغَيْره عَلَى الوجْه الذي أفادَهُ العِلْمَ. قلتُ: ويَجْرِي مِثْل ذلك في التواتر وغَيْره؛ فإنَّ العِلْم إنما يحصل لِمَن حصَل عنده المُوجِبُ، فلا يُقْصَر ذلك على التجربي والحدسي، ولكن يَتَميزان بأنَّ أصلهما "ظَنٌّ" انضم إليه قرائن قَويَتْ حتى أفادت العِلْم، بِخِلَاف ما سبق، فإنه عِلْمٌ في أَصْله؛ وعلى هذا فلا يختص ذلك [بهما] (¬2) أيضًا، بل كُل ظني انضم إليه قرائن يَحْدُث عنها يَقينٌ - يصير ذلك عِلْمِيًّا. وإليه أَشَرْتُ بِقَوْلي: (بَلْ كُلُّ ظَنِّي حَوَى القرائن) إلى آخِره. وسيأتي بيان أنَّ الدليل السمعي لا يفيد اليقين إلَّا بواسطة قرائن تنضم إليه، ومثله ثبوت المَروِي بالآحاد لا يُقْطَع بِصحته عَمَّن نُقِلَ عنه إلَّا بقرائن، بِخِلَاف المتواتر، والله أعلم. ص: 56 - وَالْجَزْمُ لَا لِمُوجِبٍ "تَقْلِيدُ" ... صَحيحُ الِاعْتِقَادِ ذَا الْمُفِيدُ الشرح: لَمَّا بُيَّنَ القَيْدُ الثالث في حَدِّ العِلم (وهو كَوْنه لِمُوجِب) وشُرِحَ الموجِب، ذُكِرَ هنا ما يُحْتَرَز به عنه. فإذَا كان حُكْمُ الذِّهنِ الجازِمُ المطابِقُ لَا لِمُوجِب، سُمِّيَ ذلك "تقليدًا"؛ لاستناده إلى ¬

_ (¬1) في (ت): تسنح. (¬2) في (ص، ز): بها.

غَيْر دليل، بل مأخوذ بالتسليم، ويُسَمَّى اعتقادًا صحيحًا؛ لِكَوْنه مُطابِقًا للواقع، وبذلك يفارق الاعتقاد الفاسد وهو الجهل المُرَكَّب - كما سبق، والله أعلم. الدليل 57 - حَدُّ الدَّلِيلِ هُوَ مَا يُمْكِنُنَا ... بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ فِيهِ بَيِّنَا 58 - تَوَصُّلٌ لِمَطْلَبٍ تَصْدِيقِي ... المَنْطِقِيْ: مُعَدَّدُ التَّصْدِيقِ 59 - حَيْثُ يَكُونُ مُنْتِجًا لِلْحُكْمِ ... هُوَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ في الرَّسْمِ 60 - لَكِنَّهُ سَمَّى "قِيَاسًا" ذَا، وَمَا ... يُعْرَفُ بِـ "الْقِيَاسِ" "تَمْثِيلًا" سَمَا الشرح: لَمَّا انتهى الكلامُ في أول الأربعة (وهو العِلْم)، شَرَعْتُ في الثاني (وهو الدليل)، وهو فَعِيل بمعنى فاعِل، مِن دَلَّ يَدُلُّ دَلَالة - بِفَتْح الدال على الأفصح، وبكسرها، وقِيل بالفتح في الأعيان وبالكسر في المعاني. تقول: دَلَّه على الطريق دَلالة، ودَلَّ الدليلُ على الحُكْم دلالة، ومعنى "الدلالة": الإرشاد إلى الشيء. فالدليل إمَّا المُرْشِد حقيقة وإمَّا ما به الإرشاد. والمُرْشِد إمَّا الناصب لِلَّذِي به الإرشاد مِن العلامات مثلًا، وإمَّا الذاكِر لذلك. ففيما نحن فيه: الناصبُ هو البارئ سبحانه وتعالى، والذاكِرُ هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وما به الإرشاد هو كتاب الله تعالى وسُنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما نشأ عنهما مِن الإجماع والقياس وغيرهما عِند مَن يَقُول به - كما سيأتي. وأمَّا "الدليل" في الاصطلاح فَفِيه رأيان: أحدهما للفقهاء وأهل الأصول وكذا المتكلمون (إلَّا فيما سيأتي): ما يُمْكِن التوصُّل - بصحيح النَّظَر فيه - إلى مَطْلُوب خَبَرِي. وهو معنى قولي: (تَصْدِيقي). مثاله: الدليلُ على حَدَث العالَم نَفْسُ العالَم؛ لأنَّ بالنظر في أحواله مِن التغير والتجدد

والتحول - على اختلاف أنواع ذلك - يُتَوصَّل إلى المطلوب وهو الحدوث فيه، وإنما عُبِّر بِـ "ما يُمْكن" دُون "ما يتوصل"؛ للإشارة إلى أنَّ المعتبَر التوصل بالقوة، لا بالفعل؛ لأنَّ الدليل [قد] (¬1) لا يُنْظر فيه، ولا يُخْرِجه ذلك عن أنْ يَكون دليلًا. وقولي: (بَيِّنَا) نَصْب على الحال مِن "النظر"، وقد خرج بذلك ما لا يمكن التوصل به إلى المطلوب، [أو يمكن] (¬2) لَكِن لا بالنظر، كسلوك طريق يمكن أن يتوصل بها اتفاقًا، أو يمكن لا بصحيح النظر، بل بفاسده، ككاذب المادة في اعتقاد الناظر، أو يمكن التوصل بصحيح النظر لكن لمطلوب تَصَوُّري لا تصديقي، فإنَّ المفِيد لذلك إنما هو المعَرِّفُ كما سيأتي. فَكُل ذلك لا يُسَمَّى دليلًا. نَعَم، يدخل في التعريف المذكور ما يفيد القَطْع وما يفيد الظن، فَيُعْلَم أنَّ كُلًّا يُسَمَّى دليلًا، وهو طريقة الفقهاء ونحوهم؛ لأنَّ مطلوبهم عَمَلٌ، وهو لا يتوقف على اليقين. ومنهم مَن لا يُسَمِّي مُفِيدَ الظنَّ "دليلًا"، بل "أَمَارَةً"، وهو اصطلاح المتكلمين؛ لأنَّ مطلوبهم يقين، فحينئذ يُزاد فيه: "إلى العِلم بالمطلوب الخَبَرِي". وخَرَج مِن التعريف بذلك أيضًا الدليل بَعْد تمامه مُرَتَّبًا صحيح المادة والصورة؛ فإنه قد حصل به المطلوب، فلا يُسَمَّى دليلًا؛ إذْ لا يُتَوَصَّل به؛ لأنَّ المطلوب حاصل به مِن قَبْل النظر فيه في الحال، وتحصيلُ الحاصل مُحَال. ويدخل فيه أيضًا ما فَسد فيه الدليلُ لِفَسَادِ صُورته لكن مادته صحيحة؛ لأنه يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب، بِخِلَاف فاسد المادة، سواء أكانت صورته ¬

_ (¬1) ليس في (ش). (¬2) في (ز، ظ): أو يمكن التوصل به إلى المطلوب.

صحيحة أَمْ لَا. وكذلك ما [تُوُصِّل] (¬1) بِفاسد النظر فيه إلى المطلوب ومادته صحيحة؛ فإنَّ الوصول مع الفساد إنما هو اتفاق، ومِثل ذلك لا ينافي التوصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب. الثاني: وإليه أَشَرْتُ بِقَولي: (المَنْطِقِي) إلى آخِره، أَيْ: وقال المنطقي. والمراد أنَّ أهل المنطق رأوا تفسير "الدليل" بأنه تصديقان فصاعِدًا، يَكون عن ذلك تصديقٌ آخَرُ هو المطلوب، وذلك معنى قَوْلي: (مُعَدَّدُ التَّصْدِيقِ). أَيْ: عَدَدٌ مِن التصديقات (اثنان فأكثر)، فاللام في "المنطقي" للجنس. نَعَم، هذا إنما هو بناءٌ على جواز القياس المُرَكَّب، وهو ما كان فيه أكثرُ مِن مقدمتين، وعلى ذلك جَرَى ابنُ الحاجب بقوله: (قولان فصاعدًا). وأمَّا مَن يَرَى بأنَّ ذلك قياسان لا قياسٌ واحد - لا يحتاج أنْ يقول: (فصاعِدًا)، بل يقول: (تصديقان يَكُون عنهما تصديق ثالث). وقَوْلي: (حيث يَكون مُنْتِجًا لِلحُكْم) إشارة إلى أنَّ التصديقين - أو أكثر - إنما يُسَمَّى دليلًا إذَا كان على وَجْهٍ يُنْتِج الحُكمَ المطلوبَ، بأنْ يَكون على القانون [المُبَيَّن] (¬2) في المنطق المُبَرْهَن على صحته. والتعبير بقولنا: (يَكُون عنهما قول ثالث) إشارة إلى شمول ما يُنْتِج القَطْعَ والظن، أمَّا مَن يُخَصِّص الدليلَ بما يُنْتِج القطعي فيقول: "يَلْزمُ" مَوْضِع "يَكُون". نَعَم، أهل المنطق يُسَمُّون ذلك قياسًا، سواء أفاد الظن أو القَطْعَ - كما سيأتي، ويُقسِّمونه إلى اقتراني واستثنائي. فالاقتراني: ما كان مُقَدِّمتاه خَبَرِيَّتَيْن، نحو: "العالَم مُتَغَيِّر، وكُل مُتَغَيِّر حادِث" فَيُنْتِج ¬

_ (¬1) كذا في (ش). لكن في (ص): يُوصل. (¬2) في (ش): المعين.

"العالَم حادث"؛ لأنَّ المحكوم عليه في المقدِّمة الأُولَى (وهو المُسَمَّى بـ "الموضوع") قد اندَرَج في المحكوم به فيها (وهو المُسَمَّى بِـ "المحمول"). وهذا المحمولُ مندرجٌ تحت محمول الثانية؛ لأنه موضوع له؛ فَلَزِمَ اندراج موضوع الأُولى تحت محمول الثانية، وسَقَط الوسطُ المتكَرِّرُ، ويُسَمَّى موضوع الأُولى "الحد الأصغر" ومحمول الثانية "الحد الأكبر" والوسط المتكَرِّر "الحد الأوسط"، و [تُسَمَّى] (¬1) ذات الأصغر "الصُّغْرَى" وذات الأكبر "الكُبْرَى". وهذا هو الشكل الأول عندهم الذي هو ضروري الإنتاج بِشَرْطه. فأمَّا إذَا كان الحدُّ المتكرِّرُ "موضوعًا في الصغرى، محمولًا في الكُبرى" عكس ما سبق، فهو الشكل الرابع (نحو: "كُل أب" (¬2) و"كُل ج أ") (¬3)، أو كان محمولًا في المقدمتين فهو الشكل الثاني (نحو: "كُل ب أ" و"كُل ج أ")، أو كان موضوعًا في المقدمتين فهو الشكل الثالث (نحو: "كُل ب أ" و"كُل ب ج"). ولا ينتج شيء مِن هذه الثلاثة إلَّا بَعْدَ الردِّ [للأول] (¬4) غالبًا على الوجْه المُبَيَّن في الفن. وأمَّا الاستثنائي فهو ما كان بشرط أو تقسيم. فالأولُ (ويُسمَّى المتصل) نحو: إنْ كان هذا إنسانًا، فهو حيوان. ويُسَمَّى الشرطُ "مُقَدمًا" والجزاءُ "تاليًا"، ثُم يُستثنى بِـ "لَكِن"، فيقال: "لكنه ليس بحيوان؛ فليس إنسانًا"، أو: "لكنه إنسان؛ فهو حيوان"؛ فيحصل الإنتاجُ باستثناء نقيض التالي؛ فينتج نقيض المقدم، وباستثناء عَيْن المقدم؛ فينتج عَيْن التالي كما مَثَّلناه؛ لأنه يَلْزَم مِن ثبوتِ المَلْزُوم ثبوتُ ¬

_ (¬1) كذا في (ص). لكن في (ز، ت): يسمى. (¬2) هذه المقدمة الأُولى، موضوعها "أ" ومحمولها "ب". (¬3) هذه المقدمة الثانية، موضوعها "ج" ومحمولها "أ". (¬4) في (ز، ظ): للأول الملزوم.

اللازم، ومن انتفاء اللازِم انتفاءُ [الملزُوم] (¬1). أمَّا استثناء عَيْن التالي أو نقيض المقدم فلا ينتجان؛ لِجَوَاز أنْ يَكون اللازِم أَعَم مِن الملزوم. أمَّا إذَا استوى المقدم والتالي في التلازم، فينتج الأربعة، نحو: "لو كان بَشَرًا لَكَان إنسانًا". والثاني (ويُسَمَّى المنفصل) نحو: "العَدَد إمَّا زَوْجٌ أو فَرْد، لكنه زَوْج؛ فليس بِفَرْد"، أو: "فَرْد؛ فليس بِزَوْج"، أو: "لكنه ليس بِزَوْج؛ فهو فَرْد"، أو: "ليس بِفَرْدٍ؛ فهو زَوْج". وهذا مُبَيَّن في مَوْضعه بشروطه، وإنما ذَكَرْته أنموذجًا؛ لِتفسير قولي: (حَيْثُ يَكُونُ مُنْتِجًا لِلْحُكْمِ). ومَن أراد بَسْطَه، يَطْلُبه مِن موضعه. تنبيه: الحاصل مِن الفَرْق بين تعريف "الدليل" على الرأي الأول وتعريفه على الثاني أنَّ "الدليل" عند المناطقة هو المادة والصورة، وعند غَيْرهم المادة فقط، فإذا أُرِيدَ الدليل على إثبات الصانع بِحدُوث مَصْنُوعه (وهو العالَم)، كان مجموع قَوْلنا: (العالَم حادث، وكُل حادث له صانع) هو الدليل على أنَّ العالَمَ له صانعٌ عند المناطقة، والدليل عند غيرهم "العالَمُ" فقط؛ لأنَّ النظر فيه يُتَوَصَّل به إلى المطلوب، أمَّا بَعْد أنْ يَترتَّب ويَحْصُل المطلوب فكيف يَكون دليلًا؟ ! ورُجح رأي المناطقة بأنَّ النظر إلى دلالة الشيء بالفعل أقوى مِن النظر إليه باعتبار دلالته بالقوة. واعْلَم أني إنما قلتُ: (مُعَدَّدُ التصديق) ولَمْ أَقُلْ: (مُقَدِّمتان فَصَاعِدًا)؛ لأنَّ التصديق لا ¬

_ (¬1) في (ز، ظ): الملزوم غالبا.

يُسَمَّى مُقَدِّمَة حتى يَكون جُزْءًا مِن الدليل، فلو عَبَّرْتُ بذلك، لَزِمَ الدَّوْرُ. وأمَّا تعبيرُ ابن الحاجب بقوله: (قولان) فَفِيه استعمال القول مقصورًا على القضية - مع كَوْن القول (في الأصل) لِلْأَعَم. وقولي: (وَمَا يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ تَمْثِيلًا) معناه أنَّ المنطِقي لَمَّا سَمَّى هذا "قياسًا"، سَمَّى ما هو معروف بِـ "القياس" - في أُصول الفقه وغَيْره - "تمثيلًا"؛ لأنه حُكْم [بِمَا] (¬1) لِأحَد المِثْلَين في تلك [الْعِلَّة] (¬2) على المِثْل الآخَر؛ تحقيقًا للمماثلة الحاصلة بينهما. وقولي: (سَمَا) أَيْ: عَلَا وارتفع هذا التمثيل؛ لأنه أحَدُ الأدلة المتفق عليها بين الأئمة كما سيأتي؛ فَشَرُفَ بذلك. ومَوْضعُ جملة "سَمَا" حينئذ نَصْبٌ على [الحالية] (¬3) مِن المفعول (وهو "مَا" الموصولة) أو على الصفة لِـ "تمثيلًا"، والله أعلم. ص: 61 - فَإنْ يَكُنْ جَمِيعُهُ قَطْعًا، فَلَا ... يُنْتِجُ إلَّا القَطْعَ مَهْمَا حَصلَا 62 - وَذَا هُوَ الْبُرْهَانُ، أمَّا مَا قُضِي ... فِيهِ بِظَنٍّ فَلِظَنٍّ [يَقْتَضِي] (¬4) 63 - وَمِنْهُمُ مَنْ قَالَ: ذَا "أَمَارَهْ" ... وَخَصَّ بِالقَطْعِ الدَّلِيلَ اخْتَارَهْ الشرح: أَيْ: إذَا كانت مُقَدِّمَتَا الدليل أو مقدماته كُلها قَطْعِية، فلا ينتجُ إلَّا قَطعِيًّا، ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ت). لكن في (ض، ص): لما. (¬2) كذا في (ز، ض، ق، ص، ت). لكن في (ش): للعلة. (¬3) في (ت): الحال. (¬4) في (ز، ص): مقتضى.

ويُسمَّى حينئذ "برهانًا". وإنْ كان قد قُضِي في مقدماته كلها أو بعضها بِمُقْتَضَى الظن، فلا ينتجُ إلَّا ظنِّيًّا؛ لأنَّ النتيجة دائمًا تَتْبَع أَدْوَن المقدمتين. وَمَا يُفِيد الظن سَمَّاه المتكلِّمون "أَمَارة"، ولَمْ يُسموه "دَلِيلًا" كما سبق. فمثال القَطْع ما سبق، ومثال الظن قولنا: (الوضوء عبادة، وكُل عبادة بِنِيَّة)، ينتج أنَّ "الوضوء بِنِيَّة". ومثال ما إحْدَى مقدمتيه قطعية والأخرى ظنية قولنا: (صلاة الظهر فَرْض، وكُل فَرْض يُسَنُّ له الأذان؛ فصلاة الظهر يُسَنُّ لها الأذان). وقولي: (اخْتَارَهْ) جُملة حالية، أَيْ: حال كَوْن هذا القائل اختار هذا القول، والله أعلم. ص: 64 - أَمَّا الَّذِي يُكْسِبُنَا التَّصَوُّرَ ... فَهْوَ الْمُعَرِّفُ، وَ"حَدًّا" قَدْ يُرَى 65 - وَحَصْرُهُ في خَمْسَةٍ أَقْسَامِ ... "الْحَدِّ" وَ"الرَّسْمِ" ذَوَيْ تَمَامِ 66 - أَوْ دُونَهُ، وَالْخَامِسُ "اللَّفْظِيُّ" ... فَـ "الْحَدُّ": مَا كَانَ بِهِ الذَّاتِيُّ 67 - جِنْسًا قَرِيبًا، ثُمَّ فَصْلًا مُخْرِجَا ... وَ"الرَّسْمُ": مَا بِلَازِمٍ قَدْ أَخْرَجَا 68 - فَـ "الْحَدُّ" لِلْإنْسَانِ إذْ [تُطَابِقُ] (¬1) ... تَقُولُ فِيهِ: "حَيَوَانٌ نَاطِقُ" (¬2) 69 - والرَّسْمُ فِيهِ: "حَيَوَانٌ ضَاحِكُ" ... وَ ["النَّاقِصَانِ": الْجِنْسَ] (¬3) أَنْتَ تَارِكُ ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ص، ض، ش، ن 1، ن 5) ويوافِق الشرح. لكن في (ق، ن 2، ن 3، ن 4): يطابق. (¬2) كذا هذا البيت في (ض، ت، ش، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5). لكنه جاء في (ز، ق، ص) هكذا: تَقُولُ في الْإنسانِ إذْ تُطَابِقُ ... بِالحْدِّ: "هَذَا حَيَوَانٌ نَاطِقُ" (¬3) كذا في (ض، ش، ت، ن) ويوافِق الشرح. لكن في (ز، ص، ق): النقص ما للجنس.

70 - و"الْخَنْدَرِيسُ: الْخَمْرُ" في اللَّفْظِيِّ ... [فَيُبْدَلُ] (¬1) الْأَشْهَرُ بِالْخَفِيِّ 71 - وَشَرْطُ كلٍّ كَوْنُهُ "مُطَّرِدَا" ... أَيْ: يُوجَدُ الْمَحْدُودُ حَيْثُ وُجِدَا 72 - "مُنْعَكِسًا" أَيْ: يَنْتَفِي بِالِانْتِفَا ... وَالمَنْعُ فَالْجَمْعُ بِذَيْنِ عُرِّفَا الشرح: لَمَّا [ثَبتَ] (¬2) أنَّ الدليل هو ما يمكن التوصُّل به إلى المطلوب مِن التصديقات، ذَكَرْتُ بَعْده ما يُحْتَرَز عنه بهذا القَيْد وأوضَحْتُه استطرادًا، فقُلْتُ: إنَّ الذي يُكْسِبُ التصوراتِ هو المُعَرِّف، ومُعَرِّف الشيء هو ما [تَكُون] (¬3) معرفته سَبَبًا لمعرفته، أَعَم مِن أنْ [يَكون] (¬4) معرفة حقيقته وذاته، أو بِوَجْهٍ يَتَمَيَّزُ به على جميع ما عَدَاه. وهذا المُعَرِّف ينقسم إلى خمسة أقسام: الحَد التام، والحد الناقص، والرَّسْم التام، والرسم الناقص، واللفظي. وربما سُمِّي الكُل حدودًا؛ تَوَسُّعًا كما هو طريقة المتكلمين خِلَافًا للمناطقة، وجَرَى على ذلك ابنُ الحاجب حيث قال: (والحدُّ حقيقي ورسميٌّ ولفظي) إلى آخِره، وهو معنى قولي: (وَحَدًّا قَدْ يُرَى). أَيْ: قد يُقال فيه (عَلَى رَأْيٍ): إنه حَدٌّ. وبالجُملة فلا بُدَّ مِن تفسير كُلٍّ مِن الأقسام الخمسة. فَـ "الحَدُّ" لُغَةً: المنع، ومِنْه "الحديد" لِمَنْعه، وسُمِّي البوَّابُ حَدَّادًا لذلك، فَسُمِّي "التعريف" حَدًّا؛ لِمَنْعِه الداخل مِن الخروج، والخارج مِن الدخول. والتامُّ منه (ويُسَمَّى "الحقيقي"): ما أنبأَ عن جميع ذاتيات الشيء الكُلية المُرَكبة، كَـ "الحيوان الناطق" في حَدِّ "الإنسان". ¬

_ (¬1) في (ص): فأبدل. وكذلك (ق) لكن تم تصويبها في هامشها. (¬2) في (ز): بينت. (¬3) كذا في (ص، ت)، لكن في (ز، ق، ش): يكون. (¬4) كذا في (ت، ق، ش)، لكن في (ص): تكون.

فقولنا: (ما أنبأ) جنس يشمل الخمسة، وخرج: بِـ "الذاتي": الرسميُّ؛ لأنه باللازِم. وبِجَمْع "الذاتي": التعريفُ اللفظي؛ لِوحدته. وباشتراط استيعابها: الناقصُ. وبِـ "الكُلية": المشخَّصات وإنْ كانت هي ذاتيًّا للمشخَّص مِن حيث هو مشخَّصٌ؛ فإنه لا يُحَدُّ بها حَدًّا حقيقيًّا؛ لأنَّ الحدَّ للكليات؛ لأنَّ التشخيصَ خارجٌ عن الماهية. وخرج بِـ "المركبة" ما لَمْ يُفَسَّر التركيبُ معها، وهو الهيئة الصُّوريَّة التي يحصُل بها صورةٌ [وحْدانية] (¬1) مطابِقة لِصورة المَحْدُود، بل ذلك مجرَّد ذِكْر الموادِّ المفردة وإسقاط لبعض الأجزاء وهو الصُّوري، وذلك بأنْ يذكُر مثلًا الفصلَ قَبْل الجنس، بل يَكون الصوابُ ذِكر الجنس ثم الفصل بَعْده كما مَثَّلْناه. لا يقال: جميع ذاتيات الشيء هو عَيْن الشيء، والشيء لا يُفَسِّر نَفْسَه. لِأنَّا نقول: دلالة المحدودِ مِن حيث الإجمال، والحدّ مِن حيث التفصيل، فليس عَيْنَه مِن كل وَجْهٍ؛ فَصَحَّ تعريفُه به؛ ولذلك لَمْ يُجْعل اللفظان مترادفين (عَلَى المُرَجَّح) إلَّا إذَا كان الحد لفظيًّا كما سيأتي. وأمَّا "الناقص": فهو ما اقتُصِر فيه على ذِكْر الفصل وَحْده. كقولك في الإنسان: (ناطِق). أو يُؤتَى به (¬2) مع الجنس البعيد، نحو: (جِسْم [ناطِق]) (¬3). ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ش)، لكن في (ض، ق، ص، ت): وجدانية. (¬2) يعني: يؤتَى بالفصل. (¬3) في (ش): ناقص.

وأمَّا "الرسم" فمأخوذ مِن رَسْم الدار، وهو أثَرُها الباقي بَعْد زوالها، وهو ما أنبأ عن الشيء بِلَازِمٍ له مُخْتَصٍّ به، كَـ: (الإنسان حيوان ضاحك)، أَيْ: فيه قوة أنْ يضحك. فَـ "التام" مِنْهُ: أنْ يُؤتَى بذلك اللازِم مع الجنس القريب، كما مثَّلنا. و"الناقِص": أنْ يُؤتَى بتلك الخاصَّةِ وَحْدها أو مع الجنس البعيد، نحو: (الإنسان جسم ضاحك). و"اللفظي" لَفْظٌ مرادِفٌ أَشْهَرُ عند السامع مِن الذي ذَكَره في سؤاله، كَـ: (الخندريسُ: الخمر). ويُسَمى "لفظيًّا"؛ لأنه تعريف المعنَى بلفظٍ لمنْ كان عالِمًا بالمعنى مِن حيث هو مدلول اللفظ الأظهر، وجاهلًا به مِن حيث هو مدلول اللفظ الأخفى. وقد عُلِمَ بهذا التقرير الفرقُ بين هذا وبين تفسير اللفظ مِن حيث اللغة مثلًا، فإنه قد يَكون لمن لا يَعْرف مدلوله أصْلًا، لا مِن حيث ذلك ولا مِن غَيْره. نَعَم، هو راجِعٌ إلى الرسم؛ فإنَّا عَرَّفْنَا مدلول "الخندريس" (مِن حيث هو مجهول) بمدلول "الخمر" (مِن حيث هو معلوم)، ومدلول "الخمر" خاصّة لمدلول "الخندريس"؛ لأنَّ نِسْبة مدلولية هذا إلى لفظه غَيْرُ مَدلولِيَّة الآخَر إلى لَفْظه، وإنْ كان المدلولان مِن حيث هُما متحدَين؛ ولأَجْل ذلك اقتصر أكثر المناطقة على التعريفين الحَدِّي والرسْمِي، تامَّيْن وناقصين. قولي: (أَوْ دُونَهُ) أَيْ: دُون التمام فيهما، وهُمَا الناقصان. وقولي: (إذْ تُطَابِقُ) أَيْ: إذْ تُرِيدُ أنْ تُعَرِّفه بِمُطَابِقٍ لأجزائه، المادِّيِّ منها والصُّورِيِّ. وقولي: (الناقصان) أَيْ: الحَد والرسم الناقصان ما أنت تارِكٌ فيهما الجنس. فَـ "الجنس" مفعول مُقَدَّم لِـ "تارِك". واللام في "الجنس" للعَهْد، وهو الجنس القريب؛ فَدَخَل في ذلك ما ليس فيه جنس أصْلًا، وما فيه جنس بعيد. وقولي: (وَشَرْطُ كُلٍّ كَوْنُهُ مُطَّردَا) أَيْ: شَرْط المُعَرِّفات الخمسة الاطِّراد والانعكاس.

ومعنى كَوْن التعريف مُطَّرِدًا: أنْ يوجَد بوجودِه المُعَرَّف، فلا يُعَرَّفُ الإنسانُ بأنه "جِسْم نامٍ حَسَّاسٌ"؛ لوجود الحدِّ في الفرس ولا مَحْدُودَ (¬1). ومعنى كَوْنه منعكسًا: أنْ يَنتفي المُعَرَّف بانتفائه، فلا يُعَرَّف الإنسانُ بِـ "الكاتِب بالفعل"؛ لانتفاء الحَدِّ في الأُمِّي دُون المَحْدُود (¬2). وكذا في اللفظي لا يُؤتَى بِلَفْظٍ أَعَم (فيوجَد ولا محدود) ولا أخَصّ (فينتفي والمحدود موجود). ولكن هذا مفهوم مِن قولهم: (مرادِف). وربما عُبِّر عن هذا الشرط بِـ "المساواة في العموم والخصوص". وقولي: (وَالمَنْعُ فَالْجَمْعُ بِذَيْنِ عُرِّفَا) مِن باب اللف والنشر المُرَتَّب، أَيْ: ربما عُرِّفَ كَوْن التعريف مانعًا بِكَوْنه مُطَّردًا، وكَوْنه جامِعًا بِكَوْنه منعكسًا، [أيْ: عُبِّرَ عنهما بذلك] (¬3)؛ لِمَا قَرَّرْناه في تفسيرهما الملائم للتسمية بكُل مِن ذلك. وَوَهِمَ القرافي فَعَكَسَ ذلك، فجعَل الجامِع هو المُطَّرِد، والمانِع هو المنعكس، وهو بعيد المناسبة، ومخالِف للاصطلاح، والله أعلم. النَّظَر 73 - وَ"النَّظَرُ": الْفِكْرُ الَّذِي يُؤَدِّي ... لِلْعِلْمِ أَوْ لِلظَّنِّ لَا [لِلضِّدِّ] (¬4) 74 - ومِنْهُ مَا مَضَى مِنَ التَّرْتِيبِ ... فِي "الْحَدِّ" وَ"الدَّلِيلِ" بِالتَّقْرِيبِ ¬

_ (¬1) "لا محدود" يعني: لا يوجد إنسان؛ لأن "المحدود" هو الإنسان، فهو الذي يُراد تعريفه. (¬2) لأنَّ الحد (وهو: الكاتب بالفعل) مُنْتَفٍ في الإنسان الأُمِّي، لكنه إنسان، فالمحدود (وهو الإنسان) موجود. (¬3) من (ز). (¬4) كذا في (ز، ص، ق، ن 3، ن 4، ن 5). لكن في (ض، ت، ش، ن 1، ن 2): لضد.

الشرح: هذا هو الثالث مِن الأربعة الموعود ببيانها في المقدمة. و"النظر" لُغَةً: يُطْلَق على الانتظار، وعلى رؤية العَيْن، وعلى الإحسان، وعلى المقابَلَة، وعلى الاعتبار. وأمَّا في الاصطلاح: فَمَا ذَكَرْناه، وهو: فِكْرٌ يُطْلَبُ به عِلْمٌ أو ظَنٌّ. وتعبيري في النَّظْم بالمُعَرَّف باللام في الثلاثة؛ للسهولة فيه، وإلَّا فلا ينبغي أنْ يُؤْتَى بها كما قررناه في تعريف "الفقه". وهذا التعريف للقاضي أبي بكر. فَـ "الفِكْر" كالجنس، ويُطْلَق على ثلاثة معانٍ: حركة النَّفْس بالقوة التي آلتها مُقَدَّم البطن الأوسط مِن الدماغ إذَا كانت تلك الحركة في المعقولات. فإنْ كانت في المحسوسات، سُمِّيَت "تَخَيُّلًا". والثاني (وهو أَخَص مِن الأول): حركتها مِن المطالب إلى المبادئ، ورجوعها مِن المبادئ إلى المطالب. ويُرْسَم "الفِكْر" بهذا المعنى بِـ "تَرْتيب أمورٍ حاصلة في الذِّهْن؛ لِيُتَوَصَّل بها إلى تحصيل غَيْرِ الحاصل". والثالث: إطلاقه على جُزْء الثاني، وهو الحركة مِن المطالب إلى المبادئ، وإنْ كان الغرض منها الرجوع. وهذا هو الذي يُستعمل بإزائه "الحدْس" كما تَقَدَّم وهو سرعة الانتقال مِن المبادئ إلى المطالب. وقوله: (الذي يُطْلَبُ به عِلْمٌ أو ظَنٌّ) هو "الفِكر" بالمعنى الثاني، فيخرج "الفِكر" بالمعنى الأول والثالث. وعُلِم مِن قوله: (يُطْلَبُ به) أنه متضمن لمبادٍ وأنها [مَعْلُومَة] (¬1)؛ لأنَّ الطَّلَب مِن ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ت). لكن في (ض، ص): تعلق به. وفي (ش): يتعلق به. وفي (ق): معلق مة.

المجهول مُحَال، ومُتضمن لِمَا يَقَع به الطَّلَب وهو ترتيب تلك المبادئ. وهو معنى قولي: (ومِنْهُ مَا مَضَى مِنَ التَّرْتِيبِ) أَيْ: في الكلام على "الدليل" وعلى "المُعَرِّفات"، فإنَّ المطلوب أَعَم مِن أنْ يَكون تَصَوُّرًا أو تصديقًا. وقوله: (عِلْم أو ظن) يدل على عدم حصولهما، وإلَّا لكان تحصيل الحاصِل، وهو معنى قول الحكماء: (إلى تحصيل ما ليس بحاصِل). ويخرج بذلك حديث النفْس الذي لا يؤدي لِعِلْم ولا لِظَن. وهنا أسئلة وشكوك جدواها قليل، فلا حاجة للتطويل بها، والله أعلم. الحُكْم 75 - وَ"الْحُكْمُ" في الشَّرْعِ: خِطَابُ اللهِ ... عُلِّقَ بِالْفِعْلِ بِلَا اشْتِبَاهِ 76 - مِنَ الْمُكَلَّفِ اقْتَضَى أَوْ خَيَّرَا ... وَمَا أَتَى وَضْعًا يَكُونُ خَبَرَا 77 - وَلَيْسَ يَخْتَصُّ بِذِي تَكْلِيفِ ... فَافْطَنْ لِمَا ضُمِّنَ فِي التَّعْرِيفِ الشرح: هذا هو الرابع مِن الأربعة، وهو الثالث مما استُمِدَّ أصول الفقه مِنْه كما سبق. و"الحُكْم" الشرعي الإنشائي: هو خِطاب الله المُتَعَلِّق بِفِعل المُكَلَّف اقْتِضَاءًا أو تَخْيِيرًا. وإنما قلتُ: (الإنشائي) لأنَّ الوضعي سيأتي الخلاف في كَوْنه حُكْمًا أو لَا (لِكَوْنه خَبَرًا)؛ ولذلك لمْ أُقَيِّده في النَّظْم؛ لأنَّ الكلام هنا في الإنشائي، وسيأتي التنبيه على الوضعي. فَـ "خِطَاب" جِنْسٌ، وهو مَصْدَر "خاطَب"، لكن المراد به هنا الكلامُ المخاطَبُ به، لا مَعْنَى المصدر الذي هو توجيه الكلام لِمُخَاطَب.

نَعَم، في تسمية الكلام في الأزَل "خِطَابًا" خِلَافٌ لَمْ يُرَجِّح ابنُ الحاجب منه شيئًا، ورَجَّح القاضي المنع، وجَرَى عليه الآمدي؛ لِعَدَم المخاطَب حينئذ، بِخِلَاف تسميته في الأزَل "أَمْرًا" و"نَهْيًا" ونحوهما؛ لأنَّ مِثْله يَقُوم بِذَات المتكَلِّم بِدُون مَن يتعلق به، كما يُقال في المُوصِي: (أَمَر في وصيته ونَهَى)، ولا يُقال: (خاطَبَ). وعلى هذا فينبغي التعبير بِـ "الكلام " لا بِـ "الخطَاب"، إلَّا أنْ يُراد باعتبار القوة والتهيُّؤ مَجَازًا، وقرينته العِلْمُ بِكَوْن الأزَل لا مُخَاطَب فيه؛ فَتَعَذَّرَت الحقيقة. بل ولو وُجِدَ المُخَاطَب، لا يَحْصُل الخطاب إلَّا بإسماعه ما خُوطِبَ به: - إمَّا بإسماع الخطاب القديم إذَا جَوَّزْنَا ذلك - عَلَى مَعْنَى قوة سمعيَّة يُدْرِكَ بها القديم على الوجه اللائق، وهو قَوْل أهل السُّنَّة، كما في إسماع موسى عليه السلام. - وإمَّا بإسماع ما يدل على القديم مِن اللفظ، كما في قوله: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]، ونحو ذلك. نَعَم، قال ابن القشيري في "المرشد": (إنَّ الصحيح وقَوْل الأشعري: إنه يُسَمَّى خِطابًا في الأزَل). وحينئذ فيستقيم التعبير هنا بِـ "الخطاب" قَطْعًا. وخَرَج بإضافة "الخطاب" إلى الله تعالى خطابُ غَيْره، ولا يُعْتَرَض بخطاب الرسول وبخطاب الملائكة عليهم الصلاة والسلام؛ لأنَّ ذاك دالٌّ على خطاب الله عز وجل. وقولي: (عُلِّقَ بِالْفِعْلِ مِنَ الْمُكَلَّفِ) جُملة حاليَّة خَرَج بالتقييدِ بها: المُتَعَلِّقُ بِذَات الله تعالى (نحو: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18])، وبِفِعْله (نحو: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102])، وصِفَته (نحو: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255])، وبِغَيْر المكَلَّف مِن الخَلْق (نحو: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [الكهف: 47])، وبِذَوَات المكَلَّفين (نحو: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1])، ونحو ذلك. والمراد بِـ "المُتَعَلِّق" الذي مِن شأنه أنْ يتعلق، وإلَّا يَلْزَم أنه قبل التعلق لا يَكون حُكْمًا؛

إذِ التعلق حادث - على المُرَجَّح عند الإمام وأتباعه. وإذَا كان المجاز بقرينةٍ، لا يَضُرُّ وقوعُه في التعريف كما سبق. نَعَم، إذَا قُلنا: (التعلُّق قديم) كما في "المحصول" في باب القياس واختاره الشيخ تقي الدين السبكي، أو قُلنا: (له اعتباران: قَبْل وجود التكليف، وبَعْدَه) كما هو ظاهر كلام الغزالي في "المستصفى" وصَرَّح به في "الوسيط" في مسألة "أنت طالق إن شاء الله"، فلا مَجَاز في التعريف، إلَّا أنْ يُقال: [إنَّ] (¬1) الحُكْم يتعلق بالفعل قَبْل حصوله؛ لئلَّا يَلْزَم تحصيل الحاصل، وهو في حالة عَدَمه لا يُسَمَّى فِعْلًا إلَّا مَجَازًا باعتبار ما [يؤول] (¬2)، أو باعتبار القابلية. وسيأتي إن شاء الله تعالى مسألة تَعَلُّق الحُكْم قَبْل المباشرة. وقد عُلِم بما قَرَّرْناه أنَّ مِثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] لا بُدَّ فيه مِن تقدير فِعْل، والحنفية وإنْ عَلَّقوا في ذلك الحُكم بِذَوات الأمهات وذات الميتة - ونحو ذلك - فليس مرادهم إلَّا وصف العين بالتحريم مع مراعاة الفعل، لا مَعَ قَطْع النظر عنه أصلًا، وكذا سائر الأحكام. والمراد بِـ "فِعْل المكلَّف": الأَعَم مِن القول والاعتقاد؛ ليدخل عقائد الدِّين والنيَّات في العبادات و [القصود] (¬3) عند اعتبارها، ونحو ذلك. وقولي: (المُكَلَّف) بالإفراد، ولَمْ أَقُلْ كالبيضاوي وغَيْره: (المُكَلَّفِين)؛ لِيَشْمَل ما تَعَلَّق بِفِعل الواحد، كخصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكالحكم بشهادة خزيمة (¬4)، وإجزاء العناق في ¬

_ (¬1) ليس في (ش). (¬2) في (ش): يؤول إليه. وفي (ز) كتب الناسخ: "إليه"، ثم شطبها. (¬3) في (ش): المقصود. (¬4) صحيح البخاري (رقم: 2652).

الأضحية لأبي بُردة (¬1) (لكن قد ثَبَت ذلك لِغَيْره، كزيد بن خالد الجهني وعقبة بن عامر الجهني)، وشِبْه ذلك. والمراد بِـ "المُكَلَّف": البالغ العاقل الذاكِر، غَيْر المُلْجَأ (كما سيأتي إيضاحه)، لا مَن تَعَلَّق به التكليفُ، وإلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ؛ إذ لا يَكون مُكَلَّفًا حتى يتعلق به التكليف، ولا يتعلق التكليف إلا بمكلَّف. نَعَم، لنا خِلَافٌ في أنَّ الصبي المأمور بالصلاة والصوم - ونحوهما - مِن الوَلِي هل يَصِير بذلك مأمورًا مِن الشرع أيضًا؟ أو لا؟ إنْ قُلنا: (نَعَم)، فيشكل التعبير بِـ "المكلَّف"، وإنما ينبغي أنْ يُعَبَّر بما يشمل الصبي، لكن الظاهر المنع، وما يُحْكَم به مِن صحة عباداته والثواب عليها فَمِن خطاب الوضع كما سيأتي. [وقولي: (مِنَ الْمُكَلَّفِ) حالٌ مِن قولي: (بالفعل) أو صفة له؛ لأنَّ المُحَلَّى بِلام الجنس يجوز في الظرف بَعده الوجهان] (¬2). وقولي: (اقْتَضَى أَوْ خَيَّرَا) حال، والتقييد بها هو آخِر قيود التعريف لِلْحُكْم، فيخرج به ما تَعَلَّق بِفِعل المكلَّف على جهة الإخبار، نحو: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، فإنه إخبار بِخَلْق العمل، لا إنشاء مُتَعَلِّق بالعمل اقتضاءًا أو تخييرًا؛ لأنَّ "الاقتضاء" هو الطلب للفعل (جَزْمًا أو غَير جَزْم)، أو التَّرْك (جَزْمًا أو غَيْر جَزْم) بِنَهْي مقصود أو غَيْره، و"التخيير" هو الإباحة؛ فتدخل الأحكام كلها كما سيأتي إيضاح ذلك. نَعَم، في كَوْن الإباحة حُكْمًا شرعيًّا خِلَافٌ. فإنْ قُلْنَا بالمنع، فلا حاجة لقولنا: (أو تخيير). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 922)، صحيح مسلم (رقم: 1961). (¬2) من (ز).

لكن الصحيح فيها أنها حُكْم شرعي. ومنهم مَن يُعَبِّر عن هذا القيد بقوله: (على [جهة] (¬1) الإنشاء)؛ ليتخلَّص مِن وقوع "أو" في التعريف؛ لأنها لِأَحَد الشيئين، وذلك مُنَافٍ للبيان، لكن "أو" هنا إنما هي للتقسيم، فلا تَرْدِيد، بل [يرجح] (¬2) التعبير بهذا؛ لإفادته تنوع الحكم وسلامته مِن إيهام لفظ "الإنشاء"؛ لأنَّ له معاني لا يُدْرَى ما المراد منها. وهذا أحسن أيضًا مِن تعبيره في "جَمْع الجوامع" بقوله: (مِن حيث إنه مكلَّف)؛ لأنها حيثية مجهولة. نَعَم، هو أراد أنْ يُدْخِل في التعريف خطاب الوضع الآتي بيانه؛ تفريعًا على أنه حُكم شرعي، لكن أُورِدَ عليه أنه غَيْر جامع؛ لخروج الندبِ والإباحةِ وخِلَافِ الأَوْلَى؛ فإنه لا تكليف فيها، وتَعَلُّق الحُكم بصلاة الصبي وصومه وسائر عباداته حتى إنه يُثاب عليها. وأجاب في "منع الموانع" بأنه لَمْ يَقُل: (مِن حيث إنه مكلَّف به) حتى يَرِدَ، أَيْ: ومسألة الصبي مِن خطاب الوضع، وهو داخل على مختاره. قلتُ: لكن هو مُكَلَّف بالندب والإباحة ونحوهما - على معنى الاعتقاد لِنَدْبِيَّتها و [إباحتها] (¬3)؛ فَيَكون هذا جوابًا آخَر عنه، لكنه مُشْكل مِن حيث إنَّ المكلَّف إذَا كان المراد به هنا مَن تَعَلَّق به التكليف، يَلْزَم الدَّوْر كما سبق، ولا يقال: إنه أراد [ما] (¬4) سبق مِن القابِل لِتَعَلُّق التكليف؛ لأنه جعل القَيْد مِن حيثية التكليف، أَيْ مِن جهة تَعَلُّقه، فَتَأَمَّله. [والضمير في قولي: (اقْتَضَى أَوْ خَيَّرَا) إما أنْ يعود على الخطاب مجازًا شائع الاستعمال، وإلَّا فالحقيقة في الطالب والمُخَيِّر هو المخاطِب لا الخطاب، ويحتمل - وهو الأحسن - أنْ ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ت)، لكن في (ز): وجه. (¬2) كذا في (ش)، لكن في سائر النُّسَخ: يرجع. (¬3) في (ز): إباحيتها. (¬4) في (ش): بما.

يُعاد على الله تعالى في قولي: (خِطَابُ اللهِ)] (¬1). وقولي: (وَمَا أَتَى وَضْعًا) هو إشارة إلى بيان خطاب الوضع، والضمير في "أَتَى" للخطاب، أَيْ: وَمَا أَتَى مِن الخطاب لا اقتضاءًا ولا تخييرًا، وإنما وَرَدَ بِجَعْلِ شيءٍ سَبَبًا لِشَيءٍ (كدلوك الشمس لِوجوب الصلاة)، أو شَرْطًا له (كالطهارة للصلاة)، أو مانعًا له (كالنجاسة لإفساد الصلاة أو البيع)، أو لِكَوْنه صحيحًا أو فاسدًا - كما سيأتي شرحُ هذه الأقسام. فهذا في الحقيقة خَبَرٌ عن تَرَتُّب آثارها عليها، لا إنشاء، فَعَلَى هذا لا يُسَمَّى "حُكْمًا" إلَّا مَجَازًا. وَقِيل: بل هو حُكْم شرعي؛ لأنه لَمْ يُعْلَم إلَّا بِوَضْع الشرع، فكأنَّ الشارع أنشأه؛ وعَلَى هذا فلا يستقيم تعريفُ الحكم حتى يُزاد فيه فيقال: (اقتضاءًا، أو تخييرًا، أو [وَضْعًا]) (¬2). وإليه أشار ابن الحاجب بقوله: (فَزِيدَ "أو الوضع"؛ فاستقام). وقِيلَ: هو داخِل تحت الاقتضاء والتخيير؛ لأنه لا مَعْنى لِكَوْن الدلوك سَبَبًا إلَّا وجوب الصلاة، ولا لِكَوْن الطهارة شَرْطًا إلَّا إباحة الإقدام عند وجودها، ولا [لِصحة] (¬3) البيع إلَّا إباحة الانتفاع، ونحو ذلك. فهو داخل بالاستلزام باعتبار المعنى المقصود منه، لا أنه منهما حقيقةً، وليس تحت هذا [الخلاف] (¬4) كبيرُ فائدة. وعَلَى كل تقدير فَخطاب الوضع يتعلق بفعل المكلَّف وغير المكلَّف، وهو معنى قولي: (وَلَيْسَ يَخْتَصُّ بِذِي تَكْلِيفِ)؛ ولهذا تجب عندنا الزكاة في مال الصبي والمجنون، والوَلِي ¬

_ (¬1) من (ز). (¬2) في (ش): وضعيا. (¬3) في (ش، ض): بصحة. (¬4) في (ش): الاختلاف.

مُخَاطَبٌ بالإخراج خطاب تكليف، وكذلك ضمان مُتْلفهما ونحوهما كالنائم، ومنه أيضًا كما سبق صحة صلاة الصبي وصومه وحجِّه وسائر عباداته وإثابته عليها. وسيأتي لذلك مَزِيدُ بيان. فإنْ قُلْتَ: هل يقال في مِثل ذلك: (إنه وَجَب على غَيْر المكلَّف) أو: (وَجَبَ في مالِه)؟ قلتُ: حكى المتولي وغيره من أصحابنا أنه لا يقال: (وَجَب على الصبي والمجنون الزكاة) مَثَلًا، وإنما يقال: (يَجِب في مالهما). ولَمْ يَمتنع قَوْمٌ من إطلاق ذلك، لا على معنى تكليفهما، بل على معنى تكليف مَن يَقُوم مقامهما عنهما فيه، وهو ما صححه القاضي حسين والروياني حتى قال: إنَّ الأول غَلَط. ولكن الذي يظهر رجحانُ الأول؛ لأنه الحقيقة، وهذا مجاز بتأويل. وقولي: (فَافْطَنْ لِمَا ضُمِّنَ فِي التَّعْرِيفِ) أَيْ: تَفَطَّن لِكُل قَيْدٍ ذُكِرَ في تعريف "الحُكْم"، فإنه تخرج منه مسائل الفصل كلها كما ستراها، وبه ينضبط ارتباط المسائل و [مناسباتُ] (¬1) وَضْعها، [ولا] (¬2) تنتشر ولا تختلط. وهو بِكَسْر الطاء وفتحها؛ لأنَّ ماضيه "فَطنَ" بالفتح والكسر، فَعَلَى الفتح في الماضي يجيء الكسر في المضارع، وبالعكس، والله أعلم. ص: 78 - مِن ذَاكَ مَا يُعْلَمُ أنَّ العَقْلَ ... لَيْسَ بِحُكْمٍ يَسْتَقِلُّ أَصْلَا 79 - إذْ لَيْسَ مُدْرِكًا لِمَا فِي الْفِعْلِ ... مِنْ حُسْنٍ اوْ قُبْحٍ بِدُونِ نَقْلِ 80 - مِنْ حَيْثُ مَا يُمْدَحُ أَوْ يُذَمُّ ... لَكِنْ بِمَعْنَى "وَفْقِ طَبْعٍ" يَسْمُو ¬

_ (¬1) في (ز): تناسبات. (¬2) في (ز): فلا.

81 - أَوْ "صِفَةِ الْكَمَالِ" أَوْ ضِدِّهِمَا ... فَالشُّكْرُ وَاجِبٌ لِمَنْ قَدْ أَنْعَمَا 82 - بِالشَّرْعِ، ثُمَّ لَيْسَ حُكْمٌ قَبْلَهُ ... وَخَالَفَ الْمُعْتَزِلِيُّ كُلَّهُ الشرح: هذا الذي يخرج بأول قَيْد مِن تعريف الحُكم، وهو إضافة الخطاب لله تعالى؛ فَيُعْلَم مِنه أنه لا حُكْم للعقل، أَيْ: ليس له استقلال بِحُكم مِن أحكام الشرع أصْلًا، خِلَافًا للمعتزلة بَنَوْهُ على قاعدتهم الفاسدة أنَّ العقل له إدراكُ حُسْن الفعل وقُبْحه، إمَّا باعتبار ذاته أو صفةٍ فيه أو بوجوهٍ واعتبارات يظهَر للعقل بها حُسْن الفعل أو قُبْحه - على خِلَافٍ عندهم في ذلك، وقَسَّموا الحكم باعتبار إدراك العقل إلى أقسامه المشهورة. فقال بعضهم: إنَّ الفعل الاختياري إمَّا أنْ يشتمل على مَفْسَدة أو مصلحة أَوْ لَا [وَلَا] (¬1). فالأول: إنْ كانت في جانِب: - التَّرْك، فواجبٌ. - أو الفعل، فَحَرامٌ. والثاني: إمَّا في جانب: - الفعل، فمندوب. - أو التَّرْك، فمكروه. والثالث: المباحُ. وما تَحَيَّر العقل فيه فَلَمْ يُدْرِك شيئًا - فيه ثلاثة أقوال عندهم: الحَظْر احتياطًا، ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ض، ت)، وقوله: (لا ولا) معناه: لا مفسدة ولا مصلحة.

والإباحة [بالأصالة] (¬1)، والوقْف؛ للتعارُض. ولبعضهم عبارة أخرى في التقسيم، هذه أَجْوَد منها. ومَذْهَب أهْل السُّنَّة أنَّ إدراك المصلحة والمفسدة في الفعل (المُؤْذِنَة بِحُسْنه وقُبْحه) إنما تُتَلَقَّى مِن الشرع؛ لأنَّ الله تعالى هو الحاكم بما يشاء، الفعَّال لِمَا يريد. وقولي: (مِنْ حَيْثُ مَا يُمْدَحُ أَوْ يُذَمُّ) أَيْ: الحُسْن والقُبْح الذي يمتنع إدراك العقل له - على قَوْل أهل السُّنة - إنما هو مِن حيث تَرَتُّب المدح في الحال [والثواب في الآجِل، والذم في الحال] (¬2) والعقاب في الآجِل. أمَّا إذَا فُسِّر "الحُسْن" بملائمة الطَّبْع و"القُبْح" بمنافرته (كإنقاذ الغريق واتهام البريء)، أو باعتبار الكمال والنقص (كَحُسْن العِلم وقُبْح الجهل) فالعقلُ مستقِلٌّ بإدراكهما بِهَذَيْن الاعتبارَيْن اتفاقًا. ومنهم مَن يَرُدُّ هذين الاعتبارين لِمَعْنى واحدٍ وهو اللذة والألم. واعْلَم أنَّ لازِم قَوْل المعتزلة باستقلال العقل بإدراك ترَتُّب المدح والذم أنَّ العقلَ هو الحاكمُ، والشرعَ تَبَعٌ له؛ فلذلك قلتُ: إنَّ كَوْن الحاكم العقل عندهم مَبْنِيٌّ على قاعدة التحسين والتقبيح. وإنما قالوا: إنَّ الشرع تاجٌ له؛ لأنه لو لَمْ يوافقه، لَكان ظُلْمًا، وهو نَقْصٌ مُحَال على الله تعالى. ولَنَا: أنَّ المالِك يتصرف في ملكه كيف شاء، لا يُسْأَل عَمَّا يَفْعل. ومِن العلماء مَن قال: إنَّ الشرعَ هو الحاكمُ اتفاقًا مِنَّا ومنهم، وإنما الخلاف في أنَّ العقل هل يُدرِك ما حَكَم به الشرعُ؟ أَوْ لَا؟ لكن مَن يقول بأنه يُدرِك إنما هو لأجل أنَّ الشرع لا ¬

_ (¬1) في (ص): بالاضافة. (¬2) ليس في (ص).

يخرج عن حُكْم العقل، فبذلك يُعْلَم حُكمه، [فيرجع] (¬1) إلى أنَّ العقل هو الحاكم؛ لأنَّ الشرع (¬2) يوافقه ولا يخالفه؛ فَيَكُون مؤكِّدًا له ومُقَرِّرًا لِحُكْمه، فهو الأول بِعَيْنه. نَعَم، للمعتزلة مذهبٌ آخَر: أنَّ العقل يُدْرِك المدحَ والذمَّ في الحال، ولا يُدْرِك الثواب والعقاب في الآجِل، فاقتصر عليه كثيرٌ مِن النَّقَلة، وقوَّاه بَعْضُهم. وقولي: (فَالشُّكْرُ وَاجِبٌ) إلى آخِره - تَضَمَّن فَرْعَيْن على هذه القاعدة، جَرَت عادة الأصوليين بإفرادهما بِالذِّكْر ورَدِّهما؛ لِمَا يَخُصُّهما مِن وجوه الفساد زيادةً على فساد القاعدة؛ فلذلك عَقَّبتهما بالفاء؛ للترتيب، وإنما يَحْسُن إفرادهما ممن يَذكُر أدلة المسائل، أمَّا مَن يقتصر على مُجَرَّد الحُكم فلا فائدة في إفرادهما بِالذِّكْر إلَّا لِغَرضِ قَصْدِ التصريح بهما أو نحو ذلك كما فعل ذلك في "جمع الجوامع"، فاتَّبعتُه فيه: الأول: شُكْرُ المُنعِم واجب بالشرع، لا بالعقل؛ لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. ولو وَجَب عَقْلًا، لَعُذِّبَ تارِكُه وإنْ لَمْ يَرِد شَرْعٌ. الثاني: أنه لا حُكْم قَبْل الشرع، بل الأَمْر موقوف إلى وُرُودِه؛ للآية السابقة. كذا عَبَّر به القاضي في "مختصر التقريب" عن أهل الحق، أَيْ: إنَّ الحكم مَنْفِيٌّ، والتوقُّف إنما هو عن ثبوته حتى يَجِيء الشرعُ بإثباته، وليس المراد أنَّ هناك حُكْمًا ولكن لا نَعْلَمه فَيَكُون التوقُّف عن العِلْم به كما زعم ذلك الإمام في "المحصول" في تفسير الوقْف المنقول عن الأشعري، وكذا البيضاويُّ بَعْد أنْ نَسَب الذي قَبْله للإمام، ولكنه وَهْمٌ مِنه على الإمام. وبالجملة فالصواب الأول، وهو نَفْي الحكم كما قاله إمامُ الحرمين في "البرهان" ¬

_ (¬1) في (ز، ض، ت): فرجع. (¬2) ليس في (ص) عبارة: (لا يخرج عن حُكْم العقل، فبذلك يُعْلَم حُكمه، فيرجع إلى أنَّ العقل هو الحاكم؛ لأنَّ الشرع).

والغزاليُّ وابنُ السمعاني وغيرُهم. وقال النووي في "شرح المهذب": (إنه الصحيح عند أصحابنا) (¬1)؛ إذِ المراد بِنَفْي الحكم إنما هو نَفْي التعلق، والتعلق حادث كما سبق؛ فلا محذور، فاعْلَمه. وقيل: بل [المَنْفِي العِلم] (¬2)؛ لأنَّ الأشعري يقول بالتكليف بالمُحَال. وفيه نَظَر؛ لأَنَّه مِن تكليف المُحَال؛ لأنه جاهل بذلك. أمَّا بَعْد وُرُود الشرع في صورة لا يوجد فيها حُكْمٌ في الشرع أصْلًا ففيها ثلاثة أقوال: - الحظْرُ؛ لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} [المائدة: 4] الآية، [يدلُّ] (¬3) على أنَّ التحريم كان سابقًا. - والإباحة؛ لقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. - والوَقْف؛ لِتَعَارُض الدليلين. وقولي: (قَبْلَهُ) الضمير فيه عائد إلى الشرع. وقولي: (وَخَالَفَ الْمُعْتَزِلِيُّ كُلَّهُ) أَيْ: القاعدة وأصْلها وما تَفَرَّع منها مِمَّا بَيَّنَّاه، فاللام في "المعتزلي" للجنس. وذكرتُ الخلاف هنا وإنْ كان موضوعُ هذا النَّظْم تجريده مِن الخلاف والدليل؛ لِمَا ذَكرْتُ أنَّ المراد أنِّي لا أَلْتَزِمُ فيه ذلك، وليس مُرادي التزام أنْ لا أَذْكُره، فَقَدْ أذكره تبرعًا، وسيأتي في الكتاب مواضع مِن ذلك أُنَبِّه عليها إن شاء الله تعالى، والله أعلم. ¬

_ (¬1) عبارة النووي في "المجموع شرح المهذب، 1/ 264": (وَقَوْلُهُمْ: "أَصْلُ الْأَشْيَاءِ الإباحة" ليس كذلك، بل مذهب داود أَنَّهَا عَلَى الْوَقْفِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا حُكْمَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ). (¬2) من (ز، ظ). (¬3) في (ق، ش): فدل. وفي (ت): تدل.

ص: 83 - وَمِن تَعَلُّقِ الْخِطَابِ في الْأَزَلْ ... يُعْلَمُ أنَّ كُلَّ مَعْدُومٍ دَخَلْ 84 - لَكِنْ عَلَى "مَعْنَى": إذَا يُؤَهَّلُ ... يَكُونُ بِالْحُكْمِ الْقَدِيمِ يَفْعَلُ الشرح: أيْ: ومما يُعْلَم مِن هذا القَيْد أيضًا (وهو إضافة الخطاب لله تعالى المقتضية لِكَوْن الحُكم قديمًا؛ لأنَّ خِطابَه تعالى كلامُه، وهو قديم على مذهب أهل السُّنة في أنه صفة قديمة قائمة به وهي الكلامُ النفساني (¬1)، خِلَافًا لِمَن زعم أنَّ كلامه حَرْفٌ وصوتٌ قائمان به فَيَكونان قديمين كما يُنْقَل ذلك عن الحنابلة، وخِلَافًا لِمَن قال: إنَّ كلامه حَرْفٌ وصوتٌ [لا قائمان] (¬2) به، بل حادثان يخلقُهما فيما شاء مِن شجر ونحوه كما هو مذهب المعتزلة (¬3)، [قالوا: كما كلم موسى كذلك] (¬4). وفسادُ المذهبين ظاهرٌ؛ لأنَّ الحادث لا يَقُوم بالقديم، ولا يُوصَف أَحَد بما لَمْ يَقُم به) أنَّ خطاب المعدوم جائز (¬5)؛ لأنه إذَا ثَبتَ الكلام النفساني وقِدَمُه (خِلَافًا للطائفتين) وَثَبتَ أنَّه مُتَعَلِّق بأفعال المكلَّفين وهُم معدومون في الأزَل، ثَبتَ أنَّ المعدوم داخِلٌ في الحكم، وأنه محكوم عليه بالأحكام كُلها في القِدَم لا عَلَى معنى أنه مخاطَبٌ بأنْ يأتي بها في حال عَدَمه (لأنه ظاهر الفساد)، وإنما المراد أنه إذَا وُجِدَ وَوُجِدَتْ فيه أَهْلِيَّة ¬

_ (¬1) سبق تعليقي على هذه المسألة في مقدمة تحقيقي هذا الكتاب (ص 31)، ولَيس هذا موضع بسط هذه المسألة. (¬2) كذا في (ص، ت)، لكن في (ز، ظ): لكن لا قائمين. (¬3) في (ز) بعد كلمة "المعتزلة" زيادة: (قالوا: كما كَلَّم موسى كذلك). (¬4) من (ز، ظ). (¬5) كأنَّ الكلام هكذا بعد حذف العبارات الاعتراضية التي بين القوسين: ومما يُعْلَم مِن هذا القَيْد أيضًا أنَّ خطاب المعدوم جائز.

التكليف، يَكُون محكومًا عليه مَأْمُورًا بأنْ يَمْتَثِل بالحُكم القديم الذي تَعَلَّق به [قُبيل] (¬1) وجوده، لا بِأَمْرٍ آخَر مُتَجَدِّد؛ لأنَّ تَجَدُّد القديم مُحَالٌ، والمتجدد إنما هو الدال على القديم. قال الشيخ تقي الدين السبكي: (وأَقْرَبُ مثالٍ لذلك "الوكالة"، فإنَّ تعليقها باطل على المذهب. فإذَا نجّزها وعَلَّق التصرف عَلَى شَرْطٍ، جاز، وهو الآن وكيل وكالة منجّزة، ولكن لا يتصرف إلَّا على مقتضاها وهو وجدان الشرط) (¬2). ولَمَّا كانت المعتزلة تُنكِر كلام النفْس مَنَعُوا تَعَلُّق الحُكم بالمعدوم، وحينئذ فيتخَرَّج عَلَى هذا الخلاف الحكم على أطفال المؤمنين بالإيمان وعلى أطفال الكفار بالكفر حتى يجوز سَبْي هؤلاء ودخولهم في الرق. ومنهم مَن قال: إنه حُكم على موجود في العِلم، فليس معدومًا على الإطلاق، بخلاف مَن عَلِم الله أنه لا يوجد. وأمَّا قَوْل المعتزلة: (يؤدِّي ذلك إلى أمرٍ ونهيٍ ولا مأمورَ ولا مَنْهِيَّ، وهو عَبَث) فَمَبْنِي على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين وهي باطلة، عَلَى أنَّ كثيرًا مِن الطوائف وافق المعتزلة في منع تَعَلُّق الحكم بالمعدوم كما هو ظاهر كلام الإمام في "البرهان"؛ ولهذا قال الصفي الهندي: (خِلَافًا للمعتزلة وأكثر الطوائف) (¬3). نَعَم، نَصَر الإمامُ مذهبَ الأشعري في "الشامل". واعْلَم أنَّ بِناء هذه المسألة على الأصل السابق وهو أنَّ كلام الله في الأزل هل يُسَمَّى خِطابًا؟ أوْ لَا؟ وقد سبق بيانه. ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (ز): قبل. (¬2) رفع الحاجب (2/ 65). (¬3) نهاية الوصول (3/ 1128).

وذهب عبد الله بن سعيد والقلانسي (مِن أصحابنا) إلى أنه لا يُسَمَّى في الأزل أمرًا ولا نَهْيًا ولا خَبَرًا حتى يوجد المأمور والمنهي والمُخْبَرُ؛ تَعَلُّقًا بهذه الشبهة. ولكن جوابها أنه يَلْزَم مِن رفع جزئيات الكلام النفساني كلها رَفْعُه؛ إذْ لا يوجَد إلَّا في ضمنها، وَهُم لا يُثْبِتونه؛ فَوَجَب الحكم بأنه في الأزل أمرٌ ونهي وخَبَر وغيرها. تنبيه: قِيل: قد تستشكل هذه المسألة مع ما سيأتي مِن أنَّ الغافل غَيْر مكلَّف؛ لأنَّ مُقْتَضَى ما هنا أنْ يَكون الغافل داخِلًا في الخطاب لا على معنى أنْ يَفعل في حال غَفْلته، بل إذَا تَذَكَّر يَفْعَل بِالأمر السابق، بل الغافل أَوْلَى؛ لأنه موجود، فَمَا الفَرْق؟ فإنِ التُزِم أنَّ الغافل مأمور بَعْدَ تَذَكُره بالأَمْر الوارِد حال غَفْلَته فَيَكُونان سواء، فَيُقال: فَلِمَ أفردت هذه المسألة عن تلك؟ ! قلتُ: المُمْتَنِع تكليف الغافل على معنى المباشرة حال الغفلة أو ثبوته في الذمة حتى تزول الغفلة، وأمَّا تَعَلُّق الحكم بالمعدوم فَعَلَى ما سبق تقريره أنْ يُعَلَّق به في الأزَل بالقوة حتى يتأهل فَيَتَعَلَّق به حِسًّا، والغافل وغَيْره في ذلك سواء، فإنَّ التعَلُّق مُسْتَصحَب حتى تَزُول غفلته ويَصِير أهْلًا. فإنْ أُرِيدَ [في الغافل] (¬1) أنْ يتعلق به تَعَلُّقًا جديدًا بهذا الوجه، فلا فائدة فيه. وإنْ أُرِيدَ بالتعلق به أنْ يَفْعَله حال غفلته، فَمُحال؛ فافترقت المسألتان، والله أعلم. ¬

_ (¬1) ليس في (ش).

ص: 85 - نَعَمْ، لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْفِعْلِ ... بَعْدَ وُجُودِ مُقْتَضِيهِ الْأَصْلِي 86 - مِنْ قَبْلِ أَنْ يُبَاشِرَ الْفِعْلَ إلَى ... فَرَاغِهِ، وَالْفِعْلُ نَقْلًا شَمِلَا الشرح: مما يتعلق بالمسألة السابقة وهي تَعَلُّق الحُكم بالمعدوم: تَعَلُّقه بالفعل المعدوم مِن الفاعل الموجود بعد وجود سببه المُقْتَضِي له، كدخول الوقت (مَثَلًا) للصلاة. وهذه المسألة مِن أشكل مسائل أصول الفقه؛ لِمَا فيها مِن اضطراب [المنقول] (¬1) وغموض المعقول، وهي في الحقيقة دخِيلَة فيه، وإنما هي مِن عظائم مسائل الكلام، وهي قليلة الجدْوَى في الفقه، وإنما ذَكَرتُها لِمُناسبتها لِمَا قَبْلها، كالاستطراد. ومُلَخَّصُ ما فيها مذاهب لِأَهل السُّنة والمعتزلة، نذكرها مختصرة. أحدها: مما ذكرناه في النَّظْم، وهو تَعَلُّق الأمر بالفعل قَبْل المباشرة له، واستمراره إلى فراغه، وعلى ذلك قولان: أحدهما: أنَّ التعلق الذي قَبْل المباشرة على معنى الاقتضاء والترغيب، والتعلق حال حدوث الفعل على معنى الطاعة لا الاقتضاء؛ لأنَّ المقصود فيه محققٌ. نقله القاضي (كما في تلخيص الإمام) عن مُحَقِّقي أهل السُّنة، ونقله ابن الحاجب عن الأشعري، وضَعَّفه بما هو مَردود عند المحققين. والثاني (ونَقَله أيضًا القاضي عن بعض مَن ينتمي إلى أهل الحق): أنه قَبْل الفعل أَمْر ¬

_ (¬1) في (ص): النقول.

إنذار وإعلام، وعند [الحدوث] (¬1) اقتضاء و [إلزام] (¬2). وجَرَى على هذا القولِ الإمامُ وأتباعُه، ولَمْ يُعَرِّجُوا على ما قَبْله. نَعَم، ضَعَّفه إمام الحرمين في "البرهان" بَعْد أنْ نَقَله عن أصحاب الشيخ بما معناه أنه يَلْزَم مِنْه تحصيل الحاصل، وأنه لا يرتضيه لِنَفْسه عاقِل. المذهب الثاني: وحكاه القاضي عن القدرية (أَيْ المعتزلة)، أنَّ التعلق قَبْل الحدوث وينقطع عند الحدوث، ثم اختلفوا في مقدار زَمَن التقدم، فَقِيل: بِوَقتٍ واحد. والأكثرُ: بأوقات. ثم اختلف هؤلاء: هل يشترط اجتماع شرائط التكليف في كل الأوقات؟ أو عند حدوث الفعل؟ وأمَّا قَبْله فالشرط كَوْنُ المخاطَب ممن يَفهم الخطاب. ثم اختلفوا مِن وجْهٍ آخَر: هل يشترط أنْ يَكون فيما قَبْل الفعل بأوقات لطف ومصلحة [زائدٌ ذلك] (¬3) على التبليغ مِن المبلغ والقبول مِن المخاطَب؟ أوْ لَا؟ هذا معنى كلام القاضي، وهو أَثبت منقول. واختار الإمامُ في "البرهان" مذهبَ المعتزلة أنَّ الأمرَ قَبْل الحدوث، لا بَعْدَه. وقال الآمدي: (اتفق الناس على جواز التكليف بالفعل قبل حدوثه، سوى شذوذ مِن أصحابنا، وعلى امتناعه بَعْد حدوث الفعل. واختلفوا في جواز تَعَلُّقه في أول زمان حدوثه، فَأَثْبَته أصحابنا ونفاه المعتزلة) (¬4). ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ز، ض، ش)، لكن في (ت، ض): الحادث. (¬2) في (ص، ق، ش، ض): التزام. (¬3) في (ز): زائدة. (¬4) الإحكام للآمدي (1/ 195 - 196).

وتَبعه ابنُ الحاجب إلَّا أنه نَسَبَ القول بِعَدَم انقطاع التكليف حال حدوث الفعل إلى الشيخ الأشعري، والشيخُ لَمْ يَنُص عليه، إنما تُلُقِّيَ مِن قضايا مذهبه، ولا يَخْفَى ما في نَقْلَيهما مِن المخالفة لِلنقول السابقة عند التأمل. وذكر صاحب "جمع الجوامع" (¬1) أنَّ التحقيق أنَّه لَمْ يَتَعَلَّق إلَّا عند المباشَرة، وأنَّ المَلَام قَبْلها على التَّلَبُّس بالكَفِّ [المَنْهِي] (¬2). واستصوبه بَعْضهم. قلتُ: وهو عجيب، فإنَّ النهي عن الضِّد فَرْعُ تَعَلُّق الأمر، فإذَا لَمْ يَتَعَلَّق - عَلَى قَوْله - فَكيف يُلام على التلَبُّس بالكفِّ المَنْهِي؟ ! وقد اجتمعت هذه النقول المتفرقة والأقوال المنتشرة بما قررناه، وقد بسطتها في "إيضاح الفصول مِن منهاج الأصول" بما يَتَعَيَّن على مُرِيده الوقوفُ عليه. وفيما أَوْرَدته هنا كفاية في غَرض هذه المنظومة، والله تعالى أعلم. وقولي: (وَالْفِعْلُ نَقْلًا شَملَا) تَتِمَّتُه ما بَعْدَه، وهو: ص: 87 - لِلتَّرْكِ؛ فَهْوَ أَنْ يَكُفَّ نَفْسَهُ ... فَكَانَ مَطْلُوبًا بِنَهْيٍ مَسَّهُ الشرح: أَيْ: قولنا في تعريف "الحُكم": (المتعلِّق بِفِعل المكلَّف) يَدخُل في الفعلِ "التَّرْكُ"؛ لأنه كَفُّ النفْس، وحينئذ فيتعلق به النهي عَلَى مَعْنَى [أنه] (¬3) المطلوب إيجاده، وكذا الأمر بِالكَف ونحوه هو المطلوب فيه، نحو: "اتْرُك" و"امْسِك" وما أشبه ذلك كما ¬

_ (¬1) جمع الجوامع مع حاشية العطار (1/ 284). (¬2) في (ش): المنهي عنه. (¬3) في (ز، ظ): أن.

أَشَرْتُ إليه في البيت الآتي بَعْد ذلك بِقَوْلي: (أَوْ مَا بِمَعْنَاه) عَطْفًا على المجرور وهو "بِنَهْيٍ"، أَيْ: ما بِمَعْنَى النَّهي. وهذا أصح المذاهب في المسألة عند ابن الحاجب وغَيْره. وثانيها (ويُنْسَب للجمهور): أنَّ المكلَّف به في النهي ونحوه فِعْل الضِد للمنهي عنه. فإذَا قال: (لا تتحرك)، فمعناه: افْعَل ما يُضاد الحركة. وثالثها (عن أبي هاشم أيضًا): انتفاء الفعل، أَيْ: عدم الحركة في مثالنا، لكن العدَم لا يدخُل تحت القدرة. فإنْ أراد الإعدام، رجع للقول الأول. ورابعها (وهو ظاهر كلام "المستصفى"): إنْ كان مُجَرَّد التَّرْك مقصودًا من غير ملاحظة ضِدٍّ، فهو المكلَّف به، كالصوم؛ فلذلك وَجَبَت فيه النيَّة. وإنْ كان الملاحَظُ فيه إيقاع [الضِدِّ] (¬1)، فهو المكلَّف به، كالزنا والشرب. وخامسها: ما في "الدلائل والأعلام" (¬2) لأبي بكر الصيرفي: أنَّ الواجبَ في المنهياتِ (إذَا ذَكَرها) اعتقادُ تحريمها وهو على أول الحال من الاعتقاد. وسادسها: الكَفُّ بِشَرْط قَصْدِ التَّرْك، حتى يَأْثَم إذَا لَمْ يَقْصد التَّرْك. وهو غريب، نقله [ابن] (¬3) تيمية في "مسودة الأصول" (¬4). وقولي: (شَمِلَ) هو بِكَسر الميم، وفيه لُغة بالفتح، واللام في "لِلتَّرْك" زائدة؛ لأنه يتعدى ¬

_ (¬1) في (ش): الضد من غير ملاحظة ضد. (¬2) ذكر البعض أن اسمه: "دلائل الأعلام على أصول الأحكام" أو: "البيان في دلائل الأعلام على أصول الأحكام". (¬3) في (ز، ظ): بنو. (¬4) الذي في (المسودة، ص 72): (وقيل: إنْ قصَد المكلَّف الكف مع التمكن من الفعل، أُثيب وإلا فلا ثواب ولا عقاب).

بنفسه. والضمير في "فكَانَ مَطْلُوبًا" يَعُود على "التَّرْك"، والله أعلم. ص: 88 - أَوْ مَا بِمَعْنَاهُ، وَكُلُّ فِعْلِ ... قَدْ عُلِّقَ الْحُكْمُ بِهِ في الْأَصْلِ 89 - يَعُمُّ مَا كانَ مُحَالًا أَنْ يَقَعْ ... لِعِلْمِ رَبِّنا بِأَنَّهُ امْتَنَعْ 90 - كَأَمْرِهِ لِكَافِرٍ أَنْ يُؤْمِنَ ... مَعْ عِلْمِهِ بِكُفْرِهِ إلَى الْفَنَا 91 - كَذَاكَ مَا مُحَالُهُ لِلْعَادَهْ ... كَحَمْلِهِ لِجَبَلٍ مَا اعْتَادَهْ 92 - وَمَا مُحَالُهُ لِذَاتِهِ كَذَا ... كَجَمْعِهِ الضِّدَّيْنِ، لَكِنْ نُبِذَا 93 - وُقُوعُ ذَيْنِ دُونَ مَا تَقَدَّمَا ... وَالسِّرُّ الِابْتِلَاءُ حَيْثُ حُكِمَا الشرح: قولي: (أَوْ مَا بِمَعْنَاهُ) راجِعٌ إلى ما سَبَق كما بَيَّنَّاه. وقولي: (وَكُلُّ فِعْلٍ) إلى آخِره - إشارة إلى أنَّ مما يدخل أيضًا تحت الفعل (في قولي في التعريف بالفعل) ما وقوعه في الوجود مُحَال، ويُعَبَّر عن هذه المسألة بأنَّ التكليف بِالمُحَال أو بما لا يُطَاق هل يجوز؟ وتحريرُها أنَّ المُحال على ثلاثة أقسام: - المُحال لِتَعَلُّق عِلْمِ الله تعالى بأنه لا يقع؛ إذْ لو وقع خِلَاف معلومه، لَزِمَ انتفاءُ عِلْمه أو عِلْمُه بالشيء على خِلَاف ما هو عليه، وهو مُحَال. - والمُحال باعتبار العادة، كَصُعُود السماء ورَفْع الجبل أو الصخرة العظيمة التي لا يُعْتَاد رَفْعُها. - والمُحال لِذَاته، كالجَمْع بَيْن الضِّدَّيْن، وهو المستحيل العقلي. فالأول جائِزٌ وواقِعٌ قَطْعًا، وربما عُبِّر عنه بِـ "المستحيل العقلي"؛ لأنَّ جِهَة استحالته تؤول إلى أَمْرٍ عَقْلي، ولكنه خِلَاف المصطلَح.

وفي "المنخول" للغزالي أنه لا يُسَمَّى "مستحيلًا" أَصْلًا؛ لأنه في ذاته جائز الوقوع، فلا تتغَيَّر حقيقته بالعِلْم، فانظر ما بَيْن هذين القولين مِن التباعد. ودليل وقوعه أنَّ الله تعالى كَلَّف الكفار بالإيمان قَطْعًا - مع عِلْمه تعالى بأنَّ بَعْضهم لا يؤمِن، كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]. ومما هو واقِعٌ قَطْعًا: ما استحالتُه لِعَدَم القُدرة عليه حال التكليف مَعَ كَوْنه مقدورًا حالة الامتثال إذَا قُلنا بأنه مُتَعَلِّق قَبْل المباشرة - كما سبق - وقُلْنَا: (إنَّ القُدرة مع الفعل) كما يقوله الأشعري، فالتكاليف كلها - على رأيه - مِن التكليف بالمُحَال. وإنما قال: (إنَّ القُدرة مع الفعل) لأنَّ القُدرة صفة متعَلِّقة بالمقدور، ووجود المُتَعَلِّق بدُونَ المُتَعَلَّق مُحَال. وأيضًا فَقُدْرة العَبْد عَرَض، والعَرَض لا يَبْقَى زَمانَيْن، فلو تَقَدَّمت القُدْرَة لَعُدِمَتْ عند الحدوث. وضعَّفَ كثيرٌ ذلك، ورَدُّوا هذين الوَجْهَيْن: الأول: بأنَّ التعلق لا يقتضي وجودًا إذَا كان بالقوة، وإنما يقتضيه إذَا كان بالفعل. والثاني: بأنه إذَا ذَهَبَ، خَلَفَهُ مِثْلُه؛ فلا يَنْفَكُّ. فِلأَجْل ذلك لَمْ أَجْعَل هذا قِسْمًا آخَر مِن المستحيل. وأمَّا الثاني (وهو المُحَالُ العادِي وَإنْ كان مُمْكِنًا في ذاته، كَحَمْل الآدَمِي الجبَلَ وطيرانه وعَدْو المُقَيَّد ومَشْي الزَّمِن ونحوها مما فيه مانع يُمْكِن زوالُه عَقْلًا) والثالث (وهو المُحَال لِذَاته، كَجَمْع الضِّدَّيْن) فَهُمَا مَحَلُّ الخِلَاف. والأصح فيهما عند الجمهور الجوازُ مُطْلَقًا، ونُقِلَ عن الأشعري؛ لأنه قضيَّة مَذْهَبه كما سبق، ولقوله تعالى: {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286]. ولو كان مُحَالًا لَمَا استقام سؤالُ دَفْعِه.

والثاني: المنع مُطْلَقًا، وهو قول أكثر المعتزلة، واختاره ابن الحاجب والأصفهاني في شرح "المحصول"، ونقل عن صاحب "التلخيص" حكايته عن نَصِّ الشافعي، وإليه ذهب الشيخ أبو حامد وإمامُ الحرمين. والثالث: الامتناع في المُحَال لِذَاته، والجواز في المُحَال للعادة، وإليه ذهب معتزلة بغداد، واختاره الآمدي، وصَرَّح به الغزالي في "المستصفى"، واختاره أيضًا الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في "شرح العنوان". فَمَن نَقَل عنه أو عن الغزالي أنهما مَنَعَا مُطْلَقًا، ليس بِمُصِيب. نَعَم، مَن وافق المعتزلة مِن أهل السُّنة فَلَيْسَ لِمُدْركهم العقلي، بل لدليلٍ آخَر. وقولي: (كَحَمْلِهِ لِجَبَلٍ مَا اعْتَادَهْ) أَيْ: تكليف الآدمي ذلك بِخِلَاف ما لو كُلِّف الجِنِّيُّ مَثَلًا بذلك. وقولي: (لَكِنْ نُبِذَا) إلى آخِره - إشارة إلى ما سَبَق مِن الوقوع في القسم الأول وعَدَم الوقوع في القِسمين الآخَرين ولو قُلْنَا بالجواز فيهما. وقولي: (وَالسِّرُّ الِابْتِلَاءُ) أَيْ: السِرُّ في التكليف بالمُحَال مُطْلَقًا - حيث حَكَمْنَا بجوازه وبوقوعه - الابتلاء والاختبار، والله أعلم. ص: 94 - وَبِالْمُكَلَّفِ أُرِيدَ الْعَاقِلُ ... الْبَالِغُ الذَّاكِرُ، فَهْوَ [الْكَامِلُ] (¬1) الشرح: لَمَّا سَبَقَ في تَعْرِيفِ الْحُكْمِ أنه المتعلِّق بِفِعل المكَلَّف، احْتِيجَ إلى شَرْحه وما ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ز، ق، ن 2) ويوافق الشرح. وفي (ض، ت، ن 1، ن 3، ن 4، ن 5): كامل. والوزن صحيح في الحالتين.

يخرج منه، والمراد المُتهَيِّئُ للتكليف، لا مَن تَعَلَّق به التكليف، وإلَّا يَلْزَم الدَّوْرُ كما سبق. والمُتَهَيِّئُ لذلك مَن اتَّصَف بِصفاتٍ أرْبَع: - العقل. - والبلوغ. - والذِّكْر للشيء، لا مَن لَمْ يَعْلَم به أصلًا أو كان غافلًا عنه. وربما عُبِّرَ عن هذه الثلاثة بِـ "الفَهْم"، فيقال: شَرْطُ التكليفِ الفَهْمُ. - والرابعُ: عدم الإلجاء، وسيأتي - بَعْد احترازات هذه الثلاثة - بَيَانُه. والباء في قولي: (بالمكلَّف) متعلِّقة بِـ "أُرِيدَ". ومَن اتصف بالصفات الثلاث، فهو الكامل، وغَيْرُه غافِلٌ، والله أعلم. ص: 95 - لا نَائِمٌ أَوْ جَاهِلٌ أَوْ سَاهِي ... وَذُو جُنُونٍ أَوْ صِبًى وَضَاهِي 96 - أَوْ مُخْطِئٌ، وَهَؤلَاءِ "الْغَافِلُ" ... خِطَابُهُ خِطَابُ وَضْعٍ [شَامِلُ] (¬1) 97 - مِثْلُ ضَمَانِ مُتْلَفٍ في مَالِهِ ... وَلَيْسَ سَكْرَانُ عَلَى مِنْوَالِهِ 98 - فَإنَّهُ مُكَلَّفٌ بِالْحُكْمِ ... نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيْ في "الْأُمِّ " 99 - أَنْزَلَهُ لِلسَّبَبِ الْمُجْتَرَءِ ... كفَاعِلٍ بِالِاخْتِيَارِ الْمُنْشَأِ الشرح: هذا هو المحتَرز عنه بالشروط الثلاثة، لكن لا على ترتيب ذِكْرها أوَّلًا: ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5) وأراه يوافق الشرح؛ لقول المؤلف: (الغافل يتعلِّق به خطابُ الوضع مِن سببٍ وشَرْطٍ ومانعٍ وصحةٍ وفسادٍ). لكن في (ص، ض، ق، ش، ت): نازل.

فيخرج بِـ "العاقل" المجنونُ بأنواعه، وكذا شبِيهُه، كالمغمى عليه؛ فإنه يشاركه في عَدَم الفَهْم وإنْ خالفه مِن وَجْهٍ آخَر؛ فلذلك قلتُ: (وَضَاهِي) أَيْ: [و] (¬1) شابِهْ بذلك ما في معناه. وخرج بِـ "الذاكِر" النائمُ والجاهلُ الذي لَمْ يَبْلُغه الخطاب، والساهي [ومِنه الناسي كما سبق] (¬2) الذي بَلَغَه ونسي، أَيْ: نَسِي كَوْن الذي فَعَله منهيًّا، أو نحو ذلك. ويخرج أيضًا المُخْطِئُ، وهو اسم فاعِل مِن "أخطأ يُخْطِئُ أخطاءً"، خِلَاف العَمْد، فإنَّ غَيْر المُتَعَمِّد ليس ذاكِرًا. واسم المَصْدَر "الخَطَأ" بفتح الخاء والطاء، وأمَّا "خَطِئَ" بِكَسْر الطاء "يَخْطَأ" بفتحها (يوزن "عَلِمَ يَعْلَم") فمعناه: أَثِمَ، والمصدَر "الخِطْأ" بكسر الخاء وسكون الطاء، قال تعالى: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31]، [أَيْ: إثمًا] (¬3)، ومنه قوله تعالى: {قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97]. وقد يُطْلَق "الخاطِئ" بمعنى "المُخْطِئ"، وكثيرًا ما يَستعمل الغزالي ذلك في كُتُبه. وبِـ "البالغ" يخرج الصبيُّ. وهؤلاء يُعَبَّر عنهم في الأصول بِـ "الغافِل"، فيقال: هل يُكَلَّف الغافل؟ أَوْ لا؟ والتعبير بأنه: (هل يتعلق بِهِم الخطاب أو الحُكم غَيْر الوضعي؟ ) أَجْوَد؛ لأنَّ المباح لا تكليف فيه وإنْ كان حُكْمًا شرعيًّا (على الأصح فيهما)، والمندوب غَيْر مُكَلَّف به وإنْ كان مأمورًا به (على الراجِح)؛ بِناءً على أنَّ التكليف إلزامُ ما فيه كُلفة، لا طَلَب ما فيه كُلفة، خِلَافًا للقاضي. ¬

_ (¬1) ليس في (ص). (¬2) كذا في (ش، ض، ت). وليس في (ص، ز، ق). (¬3) ليس في (ش).

ودليلُ مَنْع خطاب الغافل قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (¬1) [الأحزاب: 5]، وهو معنى حديث: "إنَّ اللهَ [وَضَع] (¬2) عن أُمَّتِي الخطأَ والنسيانَ ومَا استُكرهوا عليه" (¬3)، فهو مُغْنٍ [عن الاستدلال بهذا الحديث؛ فإنَّ فيه ضعْفًا "بَيَّنَه" (¬4) بعضهم، لكنه رواه ابنُ ماجه وصححه ابنُ حبان والحاكمُ وقال: على شرط الشيخين. وصححه أيضًا عبد الحق وابنُ الصلاح. وإنما قُلنا: في الآية غِنًى] (¬5)؛ لأنه في الآية الكريمة نَفَى الجناح (وهو الإثم) عن المُخطِئ والناسي في قوله: {تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}، فَنَسَبَ التعمُّد للقلب، والناسي ليس مُتَعَمِّدًا بِقَلْبه. وأمَّا "المُكْرَه" فخارِج أيضًا بقوله: {تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}؛ لأنَّ المُكْرَه تَعَمَّد بجوارحه الظاهرة دُون قَلْبه، كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]. وسيأتي بيانُ تكليف المكرَه وانقسامه إلى مُلْجَأٍ وغَيْره وما في ذلك مِن الخلاف. ودليله أيضًا حديثُ: "رُفِعَ القَلَم عن ثلاث: عن الصبي حتى يَبْلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق" (¬6). رواه الأربعة مِن حديث علي، وقال الترمذي: (حسن)، وأخرجه ابن حبان والحاكمُ وقال: (صحيح على شرط الشيخين). وأخرجه البخاري موقوفًا مُعَلَّقًا بِالجَزْم، ورواه أبو داود والنسائي وابنُ ماجه وابنُ حبان مِن رواية عائشة ¬

_ (¬1) في جميع النُّسخ: لا جناح عليكم. (¬2) في (ز): رفع. (¬3) سنن ابن ماجه (رقم: 2045)، المعجم الأوسط للطبراني (8/ 161، رقم: 8273)، وغيرهما. وقال الألباني: صحيح. (صحيح الجامع: 1836)، (إرواء الغليل: 82). (¬4) كذا في (ض، ق، ت)، لكن في (ص، ش): عند. (¬5) في (ز): (عنه لأن الحديث فيه ضعف، وذلك). وفي (ظ): (عنه لأن الحديث فيه ضعف، ولذلك). (¬6) صحيح البخاري (5/ 2019)، سنن أبي داود (رقم: 4401)، سنن الترمذي (1423).

وقال الحاكم: (صحيح على شرط مسلم). وقال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في "الإمام": إنه أَقْوَى إسنادًا مِن رواية عَلِي. وفي التعبير بِالْـ "رَفْع" تأويلان: أحدهما: أنه على حقيقته في كَوْنه يستدعِي سَبْق وَضْعٍ، وهو في الصبي المُمَيِّز كذلك، فَقَدْ قال البيهقي: (إنَّ الأحكام إنما نِيطَت بِخَمْس عشرة سَنَة مِن عام الخندق، وإنما كانت قَبْل ذلك تتعلق بالتمييز). انتهى؛ ولذلك صَحَّ إسلام عَلِيٍّ - رضي الله عنه - في الصِّبَا؛ لأنه قَبْل رَفْع القَلَم. وغلب في الباقي مَجَازًا. الثاني: أنَّ المرادَ بالرفعِ نَفْيُ وَضْعه أصلًا، كما أطْلق الإخراج في قوله تعالى: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] على عَدَم دخولهم في الظلمات بالكُلية، ولا خِلَاف في مَنعْ تكليف الغافل إلَّا ما خرج مِن مسألة التكليف بالمُحال كما أشار إليه البيضاوي حيث قال: (بِناءً على التكليف بالمحال) (¬1). أَيْ: فإنْ منعناه فَهُنَا أَوْلَى، وإنْ جَوَّزْنَاه فللأشعري قولان هنا نقلهما ابن التلمساني وغَيْرُه. نَعَم، في "الأوسط" لابن برهان عن الفقهاء (خِلَافًا للمتكلمين) أنه يصح تكليف الغافل - عَلَى معنى ثبوت الفعل في الذمة. قلتُ: وَيشْهَدُ له قولهم في المرتد إذَا جُنَّ: يَقْضِي العبادات الفائتة في زَمَنِ الجنون الواقع [في] (¬2) الرِّدَّة. ولو قُلْنَا: القضاء بِأَمرٍ جديد، فسيأتي بيان المراد بذلك. وقولي: (خِطَابُهُ خِطَابُ وَضْعٍ) أَيْ: الغافل يتعلِّق به خطابُ الوضع مِن سببٍ وشَرْطٍ ¬

_ (¬1) عبارة البيضاوي في كتابه "منهاج الوصول، 142" بتحقيقي: (لا يُجَوِّزُ تكليفَ الغافِلِ مَن أَحَال تكليفَ المُحَال). (¬2) كذا في (ص، ض، ظ)، لكن في (ز): في زمن.

ومانعٍ وصحةٍ وفسادٍ، كضمان مُتْلَف النائم ونحوه، ووضوء الصبي وصلاته وبطلانها بالنجاسة وصحة غَيْر ذلك مِن عباداته وفساده، وجريان الشروط والموانع فيها، ونحو ذلك مما هو منتشر معروف في الفقه. وقولي: (وَلَيْسَ سَكْرَانٌ عَلَى مِنْوَالِهِ) أَيْ: ليس السكران مِن أقسام الغافل فيما تَقَدَّم مِن عَدَم تكليفه. ومعنى "على منواله" أَيْ: مِثْله، والمنوال ما [يُنسَج] (¬1) عليه، فاستُعير هنا؛ للمماثلة، وهذا على المُرَجَّح؛ فَقَدْ نَصَّ عليه الشافعي في "الأُم" كما نقله الروياني في "البحر" في كتاب الصلاة، ونقله النووي في "التهذيب" عن الجويني والقاضي والبغوي، ونَقَله غَيْرُه عن فتاوى القفال. وإنما خرج عن الغافل بتكليفه؛ لأنه قد اجترأ على سبب السُّكْر الذي هو حرام حتى نَشَأَ عنه السُّكْرُ؛ فَنزل ذلك بالنسبة إلى ما يقع مِن أفعاله مَنْزِلَة الذي فَعَلها في حالة الصحة بالاختيار؛ تغليظًا عليه؛ لأنه تَعَاطَى السبب بالاختيار. وهو معنى قولي: (أَنْزَلَهُ)، أَيْ: أَنْزَل الشافعي - رضي الله عنه - أفعال السكران مَنْزِلَة أفعال الصاحي؛ لِأَجْل تَعَاطيه السبب واجترائه على هذا المُحَرَّم الكبير الذي ينشأ عنه ما لا يتناهَى مِن المفاسد، فَصَيَّرَهُ كالمُخْتار في أفعاله كلها. وأمَّا ما وقع للنووي في "المنهاج" وغَيْره مِن استثناء السكران مِن المُكَلَّف في باب الطلاق وغَيْره (وَزَعَم في "الدقائق" أنه لا بُدَّ مِن استثنائه؛ [لأنه] (¬2) يصح بَيْعُه وتصرفاته ويقع طلاقُه مع كَوْنه غَيْر مُكَلَّف) فاعتمادٌ مِنه عَلَى شمول الغافل له، وإطلاق الأصوليين أنَّ "الغافل" غَيْر مُكَلَّف، بل وصَرَّح به القاضي في "التقريب" فيه بخصوصه، وقال الغزالي: ¬

_ (¬1) في (ز): ينسخ. وفي (ض): نسج. (¬2) في (ش): لا.

(إنه أسوأ حالًا مِن النائم؛ لأنه لا يمكن تنبيهه) (¬1). لكنه (¬2) قد حَكَى عن أئمة مذهبه في "تهذيب الأسماء واللغات" خِلَافه كما سبق، بل وصاحب المذهب قد نَصَّ عليه؛ فلا يُعْمَل بِغَيْرِه، فلا حاجة لاستثنائه مِن المكلَّف في باب مِن الأبواب. [ولا يُغتَر بمن قال: إنَّ نَصَّ الشافعي على تكليف السكران يؤخَذ منه أنه يرى بتكليف الغافلين كلهم. وفساد هذا ظاهرٌ لا يَخْفَى] (¬3). نَعَم، [احتجوا على ذلك] (¬4) بقوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، فإنَّ المراد الطافح، بدليل: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}، فَقَدْ وُجِّه إليه النهي في حال سُكْره. ونُوزِعُوا في الاستدلال المذكور: - باحتمال أنْ يَكون ذلك مِن خطاب الوضع، بمعنى أنَّ صلاته في سُكْره ممتنعة، أَيْ: باطلة. - أو أنَّ المرادَ النهيُ عن السُّكْر عند إرادة الصلاة، كما في قوله تعالى: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، وكما يقال: (لا تَمُتْ وأنت ظالم). أيْ: لا تَظْلم فيؤول بك الأمرُ إلى الموت في حال الظلم. - أو أنَّ المراد بالسُّكْر هنا أنْ يَكون ثمِلًا حاضرَ الوَعْي. وقد قال ابنُ الحاجب: إنَّ الآية ¬

_ (¬1) المستصفى (ص 68). (¬2) يقصد: النووي. (¬3) من (ز، ظ). (¬4) في (ز، ظ): احتج مَن قال بتكليف السكران.

يجب تأويلها على أَحَد هذين الأخيرين. ولكن الكل ساقط: - أمَّا الأول: فلأنه لو كان مِن خطاب الوضع، لَمْ يَأْثَم، والفَرْض أنه آثِمٌ. - وأمَّا الثاني: فمثل ذلك مجازٌ لا يُعْدَل إليه إلَّا عند تَعَذُّر الحقيقة أو قيام دليلٍ على إرادته. ولا مانع مِن الحقيقة؛ فَوَجَبَ المصيرُ للحَمْل عليها. - وأمَّا الثالث: فلأنه يَلْزَم أنَّ مَن به مبادئ [النَّشَاة] (¬1) وله تمييزٌ، تَحْرُم عليه الصلاة. وهو باطلٌ، على أنَّ لفظ "الثَّمِل" ليس هو كما فَهِمَ مَن حَمَلَه على النشوان الذي فيه أوائل الطرب، فإنه خِلَاف قول أهل اللغة: إنَّ الثَّمل هو الطافح؛ ولذلك جاء في حديث حمزة في ذبح إبل علِيٍّ - رضي الله عنهما - قال: "وهل أنتم إلَّا عبيدٌ [لي] (¬2) "، فَعَرف النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ثَمِلٌ (¬3). نَعَم، في تكليف السكران إشكال مِن حيث إنه يَلْزَم أنْ يَكون مُكَلَّفًا بالعبادات كلها ومنها الصلاة، ومكلَّفًا بأنْ لا يُصَلِّي؛ لهذه الآية، وَهُمَا متنافيان. قلتُ: ويمكن الجواب بأنه مَنْهِيٌّ عن قربان الصلاة وهو سكران، بل يزيل السُّكْر ويُصَلِّي، كما يُؤْمَر مَن هو مُحْدِث بإزالة الحَدَث ويُصَلِّي مع أنه مَنْهِيٌّ عن الصلاة حال حَدَثِه، فهو مَأْمُورٌ مَنْهِيٌّ باعتبارين. فإنْ كان إزالته ليست مقدورة له فهو معاقَب؛ تغليظًا عليه؛ لأنَّ التفريع على كَوْنه ليس غافِلًا وأنه يتعلق به الخطاب - غايتُه هنا أنْ يَكون مُكَلَّفًا بما لا يطيقه، فهو مِن جواز التكليف بالمُحَال، والله أعلم. ¬

_ (¬1) في (ص): النشأة. (¬2) في (ت): لأبي. (¬3) سنن أبي داود (2986) بلفظ: "قال حَمْزَةُ: وَهَلْ أَنْتُمْ إلا عَبِيدٌ لِأَبي؟ فَعَرَفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ ثَمِلٌ". قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 2986).

ص: 100 - وَالشَّرْطُ أَيضًا عَدَمُ الْإلْجَاءِ ... فَمُكْرَهٌ مكَلَّفٌ، "فَالْجَائِي" 101 - فِي القَتْلِ مِنْ إثْمٍ وَمنْ قِصَاصِ ... لَيْسَ لإِيثَارٍ بِلَا اخْتِصَاصِ 102 - وَمَوْضِعُ الْإكْرَاهِ غَيْرُ مَا حُكِمْ ... بِكَوْنِهِ مَحَلَّ هَذَا الْمُنْحَتِمْ 103 - [لِأنَّهُ] (¬1) قَدْ صَرَّحَ الْأَصْحَابُ ... بِأنَّهُ يَعُمُّهُ الْخِطَابُ الشرح: هذا هو الشرط الرابع مِن شروط المكلَّف، وهو أنْ لا يَكون مُكْرَهًا بِإلجاءٍ. فالمُلْجَأُ إلى فِعل وهو لا يَجِد مندوحةً عنه مع حضور عَقْله (كَمَن أُلْقِيَ مِن شاهق، فهو كالآلة، أو كحركة المرتعش) يمْتَنع تكليفُه، قِيل: باتفاق. لكن الآمدي أشار إلى أنه يطرقه الخِلَاف من التكليف بالمُحَال؛ لِتَصَوُّر الابتلاء فيه، بِخِلَاف الغافل. نَعَم، عندنا وَجْهٌ في أنَّ الصائم إذَا أُوجر مُكْرَهًا، يفطر، لكن ليس لِكَوْنه مُكَلَّفًا، بل لأنَّ المُفَطِّر عنده ما يَصِل للجوف مُطْلَقًا، فيرجع لِخِطَاب الوَضْع، فلا [يُكَلَّف] (¬2) بِفِعْلٍ المُلْجَأُ إليه (لأنه واجب الوقوع) ولا بِتَرْكه (لأنه ممتنع الوقوع). أمَّا المُكْرَه غَيْر المُلْجَأ فلا يمتنع تكليفه كما صرَّح به القاضي وإمام الحرمين والشيخ أبو إسحاق والغزالي وغيرهم، ومال إليه صاحب "المحصول" وأتباعُه. قال ابنُ التلمساني: وهو مذهب أصحابنا؛ لأنَّ الفعل مُمْكِن والفاعل متمكن. وكذلك ابنُ بَرهان. ومقابِلُهُ يُنقَل عن الحنفية، وربما نُقِل عن المعتزلة، لكن الأثبت في النقل عنهم - كما قال ¬

_ (¬1) في (ص، ق): فإنه. (¬2) كذا في (ز، ظ)، لكن في سائر النُّسخ: تكليف.

ابنُ التلمساني - أنه يمتنع التكليف بفعل المُكْرَه عليه؛ لاشتراطهم كَوْن المأمور به بحيث يُثاب عليه، وهو لا يُثاب هنا؛ لأنه يأتي به لِدَاعِي الإكراه، لا لِدَاعِي الشرع، ولا يمتنع التكليف بِتَرْكه؛ فإنه إذَا تَرَك، كان أَبْلَغ في إجابة داعِي الشرع. وَرَدَّ عليهم القاضي بالإجماع على تحريم القتل المُكْرَه عليه. قال إمامُ الحرمين: (وهذه هفوة مِنه؛ لأنَّ مَحَلَّ النزاع في التكليف بِعَيْن المُكْرَه عليه، وتحريمُ القتلِ تكليفٌ بِتَرْكه) (¬1). وفيه نَظَرٌ؛ لأنَّ القاضي إنما رَدَّ عليهم بذلك لأنَّ القدرة عندهم شَرْط في التكليف، ولا يتحقق إلَّا بِأنْ يَقْدر على الشيء وضِده عندهم أيضًا، فتحريمُ القتل الذي أُكْرِهَ عليه دليلٌ على أنه قادر؛ فلا وَجْه لِمَنْعِهم التكليف بِعَيْن المُكْرَه عليه مُطْلَقًا. هذا كله معنى كلام ابن التلمساني. ووقع في "جمع الجوامع" اختيار امتناع تكليف المُكْرَه، فاحتاج أنْ يجيب عما جاء في المُكْرَه على قَتْل مُكافِئه مِن الإثم (أَيْ: وفي معناه وجوبُ القصاص عليه) بِأنَّ ذلك لِإيثاره بقاء نَفْسه بِذهاب مهجة غَيْره، كمن يقتل غَيْرَه في المخمصة لِيأكله مع كَوْنه مُحترمًا. وقرر ذلك بأنَّ مَحَلَّ الإكراه ليس هو محل التأثيم؛ لأنَّ محل التأثيم اختيارُ بقاء نَفْسه على بقاء نَفْس غَيْره مع عدم اختصاص نَفْسه في نَظَر الشرع. ومحل الإكراه (وهو أحد الاثنين منه ومن المقتول) لا تأثيم فيه. قال: (وهو نظير ما في الكفارة المخيرة أنَّ محل التخيير لا وجوب فيه، ومحل الوجوب لا تخيير فيه. أيْ: كما سيأتي بيانه) (¬2). ¬

_ (¬1) البرهان (1/ 91). (¬2) منع الموانع (ص 100 - 101).

قال: (وهو تحقيق حَسَن) (¬1). انتهى قلتُ: ويَشهد لِحُسْنه (على تقدير صحة ما فرّع عليه) أنَّ مَن أُكْرِه على طلاق إحدى امرأتيه فَطَلَّق مُعَيَّنة، يَقَع. وإنْ طَلَّق مُبْهَمة، لا يَقَع؛ لأنَّ طلاقه المُعَيَّنة ليس محل الإكراه، فهو اختيار. ولَمَّا كان هنا يَتَعَذَّر قَتْل أحدهما لا بِعَيْنه، لَمْ يتأت فيه صورة يظهر أثَرُ منع التكليف فيها. وإلى ذلك أشَرْتُ بِقَوْلي: (فَالْجَائِي فِي القَتْلِ) إلى آخِره، فنفيتُ أنْ يَكون ما ثَبتَ مِن الإثم والقصاص لِأَجْل الإيثار مع انتفاء التكليف، وأنَّ محل الإكراه غَيْر محل الإثم والقصاص، ثُمَّ ذَكَرْتُ مُسْتَنَد رَدِّ هذا كُله بأنه قد صَرَّح الأصحاب بأنَّ المُكْرَه مُكَلَّف؛ فلا يَرِد السؤالُ مِن أَصْله؛ فإنَّ القصاص والإثم حينئذ إنما هو لِكَونه مُكَلَّفًا، فيصح عَوْدُ الضمير في قولي: (يَعُمُّهُ الْخِطَابُ) على أَصْل المُكْرَه، وقد بَيَّنْتُ مَن قال [به] (¬2). ويصح أنْ يُعَاد إلى أَقْرَب مَذْكور وهو المُكْرَه على القتل بخصوصه، فَقَدْ سَبق عن [القاضي] (¬3) أنَّ عليه إجماع العلماء - على ما سبق مِن تفسيره وكلام إمام الحرمين وما فيه مِن النظَر. وفي "تلخيص" إمام الحرمين ما نَصُّه: (أَجْمَع العلماء قاطبة على تَوَجُّه النهي على المُكْرَه على القتل). قال: (وهذا عَيْن التكليف في حالِ الإكراه، وهو مما لا منجا منه) (¬4). انتهى وقال الشيخ في "شرح اللمع": (انعقد الإجماع على أنَّ المُكْرَه على القتل مأمورٌ ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) في (ش): بهذا. (¬3) في (ت، هامش ق): القاضي عياض. (¬4) التلخيص في أصول الفقه (1/ 143).

باجتناب القتل ودَفْع المُكْرِه عن نَفْسه، وأنه آثِمٌ بِقَتْل مَن أُكْرِه على قَتْله) (¬1). وذلك يدل على أنه مُكَلَّفٌ حال الإكراه. وكذلك صَرَّح به الغزالي وغَيْرُه، واقتضى كلامهم تخصيص الخلاف بما إذَا وافق داعيةَ الشرع كالإكراه على قَتْل الكافر وإكراهه على الإسلام، أمَّا ما خالف فيه داعِيةُ الإكراه داعِيةَ الشرع (كالإكراه على القتل) فلا خِلَاف في جواز التكليف به. إذَا عَلِمْتَ ذلك، عَلِمْتَ سقوط السؤال مِن أصله والاستغناء عن الجواب. نَعَم، هذا كُله كلام الأصوليين، أمَّا الفقهاء فاضطرب جوابهم في المُكْرَه في مسائل بِحَسب الأدلة. فَمَرَّة قطعوا بما يناسب عدم تكليفه، كقَطْعهم بأنه لا يصح مِن المكرَه عَقْدٌ ولا حلٌّ في بيعٍ ولا طلاقٍ ولا عتقٍ، إلى غَيْر ذلك من المنجزات، وكذلك التلفظ بكلمة الكفر والقلب مطمئن بالإيمان، وكذلك إباحة شرب الخمر والإفطار وإتلاف المال ونحو ذلك، لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، ولِمَا سبق مِن حديث: "وما استكرهوا عليه"، [وأنه] (¬2) يُغْنِي عنه قوله تعالى: {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]. ومَرَّة قطعوا بما يوافق تكليفه، وذلك فيما إذَا كان الإكراه بِحَقٍّ، كإكراه الحَرْبي والمُرْتَد على الإسلام، وإكراه الإمامِ بَعْضَ المكلَّفين بِفَرْض الكفاية، وإكراه القاضي المَدْيون على الوفاء عند القدرة، ونحو ذلك. ومَرَّة رَجَّحوا إسقاط أَثَر الإكراه على وَفْق منع تكليفه، كما لو أُكْرِه الصائم على أنْ ¬

_ (¬1) شرح اللمع (1/ 272). (¬2) كذا في (ز)، لكن في (ص): فإنه.

يَأكُل، والصائمة على أنْ تُمَكِّن مِن الوطء، فأصَح القولين: لا يفطران بذلك. وكما لو أُكْرِه مَن حَلف على دخول دارٍ ونحوه على فِعْل المحلوف عليه، فالأصح: لا يحنث لا في يمين ولا في طلاق ولا عتاق. ومرة رجحوا عدم سقوط أثره؛ موافقة لِكَوْنه مُكَلَّفًا، كالمسألة السابقة وهي الإكراه على القتل، فيأثم ويجب القصاص - على المُرَجَّح. نَعَم، لك أنْ تَعُدَّه مِن القِسم الأول على ما سبق من حكاية الإجماع على أنه مُكَلَّف، ويَكون منشأ الخلاف في القصاص إنما هو مِن حيث إنَّ الشُّبهة تُسْقِط القصاص، فهل هذا شُبْهة فَتُسْقِطه؟ أَوْ لَا؟ ومِن القِسم الرابع أيضًا ما لو أُكْرِه على الزنا (إذَا قُلنا: يُتَصَوَّر)، فإنه لا حَد (على الأصح)، والله أعلم. ص: 104 - وَفَاقِدُ الشَّرْطِ الَّذِي قَدْ شُرِعَا ... مُخَاطَبٌ بِمَا لَهُ قَدْ وُضِعَا 105 - وَفَرْضُهَا في كَافِرٍ قَدْ خُوطِبَا ... بِمَا إلَى فُرُوعِ شَرْعٍ نُسِبَا 106 - فَجَائِزٌ وَوَاقِعٌ بِالْأَمْرِ ... وَالنَّهْيِ، بَلْ وَفي جِهَادٍ يَجْرِي 107 - وَيَسْتَوِي الْمُرْتَدُّ وَالْأَصْلِيُّ ... لَكِنَّ ذَا في فَائِتٍ مَرْعِيٌّ 108 - بِنَفْيِ أَنْ يَقْضِيَهُ إنْ أَسْلَمَا ... فَيَغْفِرُ اللهُ لَهُ مَا قَدَّمَا الشرح: لَمَّا أَنْهَيْتُ الكلام على شروط المكلَّف (على المعتمَد) بِوِفاقٍ أو خِلَافٍ، ذَكَرْتُ بَعْده ما اشتُرِطَ فيه عَلَى رأيٍ ضعيف. فَمِن ذلك: أنَّ حصول الشرط الشرعي هل يُشْتَرَط في تَعَلُّق الخطاب بالمشروط

(كالكافر يخاطَب بالصلاة حال كُفْره، والمُحْدِث حال حَدَثه)؟ أَوْ لَا؟ أمَّا الشرط العقلي فلا بُدَّ منه كما سبق في تكليف الغافل. وهذه القاعدة وإنْ كانت كُلية لكنها مفروضة في تَعلُّق الخطاب بالكافر في فروع الإيمان، أَيْ: أفعال العباد المتوقِّفة على الإيمان. أَمَّا الإيمان فمكلَّفون به اتفاقًا، والمراد به العقائد الأوائل، أَيْ: التي لا تتوقف على سَبْق شَيء. ويلْحَق بها - كما قاله القاضي - تصديقُ الرُّسُل والكَفُّ عن أذاهم بِقَتْل أو قتال أو غير ذلك وإنْ كان ذلك مِن الفروع. نَعَم، حكَى [المازري] (¬1) عن بعض المبتدعة أنَّ الكفار غَيْر مخاطَبين بهذه المعارف، فمنهم مَن قال: لأنها ضرورية. ومنهم مَن رآها كَسْبِيَّة بِطَريق العقل وَنَظَرِه (¬2). وتَرَدَّد بعضُ المتأخِّرين في كَلِمَتَي الشهادة: هل هي مِن الفروع؛ فَيَجْري فيها الخلاف الآتي؟ أَوْ لا، بل هُم مُكَلَّفون بها قَطْعًا؟ والذي ينبغي القَطْعُ بالثاني وإنْ كان الإيمان هو التصديق؛ لأنها شعاره وبها يُتَحَقَّق حصوله؛ فإذَن المراد بالفروع ما سِوَى ذلك مِن صلاة وزكاة وصوم وحج وغَيْر ذلك. وقولي: (مُخَاطَبٌ بِمَا لَهُ قَدْ وُضِعَا) أَيْ: بالشروط، والتعبير بالخطاب أَصْوب مِن التعبير بالتكليف؛ لأنَّ الخطاب الوضعي مُتَعَلِّق بهم اتفاقًا كما سيأتي، وكذا "المباح" ونحوه مما لا يُعَد مِن التكليف؛ لأنه إلزام ما فيه كلفة، لا طَلبُه، خِلَافًا للقاضي كما سبق. قال الشيخ تقي الدين السبكي: (إلَّا أنْ يُقال: إنَّ إقدامهم على المباح غَيْر مستندين فيه إلى الشرع الذي يجب عليهم اتِّبَاعه - حرامٌ؛ للإجماع على مَنعْ الإقدام على فِعْل حتى يَعْلَمُوا ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، وهو الصواب كما في (إيضاح المحصول من برهان الأصول، ص 77) للمازري. لكن في (ز، ش، ت، ض): الماوردي. (¬2) إيضاح المحصول من برهان الأصول (ص 77).

حُكْمه، فإنْ صَحَّ، فَهُم آثمون على جُملة أفعالهم، وهذا عامٌّ في الكِتَابِيِّين وغَيْرهم. وهو مما لَمْ أَرَهُ لِغَيْري، وفيه عندي تَوَقُّف) (¬1). انتهى وبالجُملة فَفِي المسألة مذاهب: أَصَحُّها أنَّ الكفار مخاطَبون بِفروع الشرع مُطْلَقًا، وهو معنى قولي: (فَجَائِزٌ وَوَاقِعٌ)؛ وذلك لِوُرُود الآيات الشاملة لهم، نحو: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21]، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا} [الحج: 1]، {يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر: 16]، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، وغير ذلك مما لا ينحصر. والكُفر غَيْر مانع؛ لإمكان إزالته، كالأمر بالكتابة والقَلَم حاضر يمكنه تناوله. وأيضًا فَقَدْ وَرَد الوعيد على ذلك أو ما يتضمنه، نحو: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] الآية، وذم قوم شعيب بِنقص المكيال، وقوم لوط بإتيان الذكور، وقوم هود بشدة البطش، مع ذَم الكل بالكُفر، وقد قال تعالى بَعْد ذِكْر قَتْل النفس والزنا: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68]. وأَوضح مِن ذلك: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل: 88]، أَيْ: فوق عذاب الكُفر، وذلك إنما هو على بقية عبادات الشرع. وهذا القول نَصَّ عليه الشافعي في مواضع مِن "الأُم"، فقال في باب "حَجِّ الصبي يَبْلُغ والمملوك يُعْتَق والذِّمِّي يُسْلِم" فيما إذَا أَهَلَّ كافرٌ بِحجٍّ (¬2)، ثُمَّ أَسْلَم قَبْل عرفة، فَجَدَّد ¬

_ (¬1) الإبهاج في شرح المنهاج (1/ 186). (¬2) في هذا الموضع في (ص) كُتِب في هامشه: (ثم جامع). ولا ذِكْر لذلك في سائر النُّسخ. وعبارة الشافعي في "الأُم, 2/ 130": (وَلَوْ أَهَلَّ ذِمِّيٌّ أَوْ كَافِرٌ مَا كَانَ هَذَا بِحَجٍّ ثُمَّ جَامَعَ ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَ عَرَفَةَ =

إحرامًا وأراق دَمًا لِتَرْك الميقات: أَجْزَأَتْه عن حجة الإسلام؛ لأنه لا يَكون مُفْسِدًا في حال الشرك، لأنه كان مُحْرِمًا. قال: (فإنْ قال قائل: فَإذَنْ [زَعَمْتَ أنه] (¬1) كان في إحرامه غَيْر مُحْرم أو كان الفَرْضُ عنه موضوعًا. قِيلَ: لا، بل كان عليه وعلى كُل واحدٍ أنْ يُؤمِن بالله عز وجل ويؤدي الفرائض التي أنزلها الله تبارك وتعالى، غَيْر أنَّ السُّنة تدلُّ - وما لَمْ أَعْلَم اختلفوا فيه - أنَّ كل كافر أَسْلَم أثبت الفرائض مِن يوم أَسْلَم، ولَمْ يُؤمَر بإعادة ما فَرَّط فيه في الشِّرك منها، وأنَّ الإسلام يَهْدم ما قَبْله إذَا أَسْلَم ثم استقام) (¬2). انتهى وَجَرَى على ذلك أكثر أصحابه كما قاله القاضي أبو الطيب والماوردي وسليم الرازي والشيخ أبو إسحاق والحليمي، وقال إمام الحرمين: إنه ظاهر مذهب الشافعي. وفي "المحصول" أنه قول أكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة. فما في "منهاج" البيضاوي من نِسْبَة مُقابِلِه للمعتزلة ليس بجيد (¬3). وقال القاضي عبد الوهاب وأبو الوليد الباجي: إنه ظاهر مذهب مالك. وهو أصح الروايتين عن أحمد، وحُكي عن الكرخي والجصاص من الحنفية. والقول الثاني: المنع مطلقًا. وهو قول جمهور الحنفية وعبد الجبار من المعتزلة، ووافقهم ¬

_ = وَبَعْدَ الْجِمَاعِ فَجَدَّدَ إحْرَامًا ... ). (¬1) ليس في (ش). (¬2) الأم (2/ 142 - 143). (¬3) عبارة البيضاوي في "منهاج الوصول إلى عِلم الأصول، ص 143": (الكافر مُكَلَّف بالفروع، خِلَافًا للمعتزلة). الناشر: مكتبة التوعية الإسلامية، الطبعة الأولى - 2013 م، بتحقيقي.

مِن أصحابنا أبو حامد الأَسفراييني، خِلافًا لما وقع في "المنتخب" أنه أبو إسحاق؛ فإنَّ الرافعي نقل عن أبي إسحاق الأَسفرايِيني أول كتاب الجراح أنهم مُكلَّفون، ثُم إنَّ الذي في "تعليقة" أبي حامد أنهم غير مكلَّفين، وحكاه قَوْلًا للشافعي. وقال ابن كجّ في كتابه في الأصول: إنه ظاهر كلام الشافعي وإنْ كان الصحيح مِن مذهبه الأول. وقال الأَبْيَاري: (إنه ظاهر مذهب مالك) (¬1). وهو خلاف ما سبق نَقْلُه عنه. نَعَم، اختاره مِن أصحابه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن خُويز منداد البصري، وقال في كتابه "الجامع": (إنه الذي يأتي عليه مسائل مالك أنه لا ينفذ طلاقُهم ولا أيمانهم، ولا يجري عليهم حُكم مِن الأحكام، وأنَّ قَطْعهم في السرقة وقَتْلهم في المحاربة مِن باب الدَّفْع، فهو تعزيرٌ لَا حَد). انتهى قال ابن القشيري: والقائلون بأنهم غير مخاطبين انقسموا، فمنهم مَن قال: مستحيل عقلًا. ومنهم مَن قال: شرعًا. ومعنى ذلك أنَّ المكلَّف بما هو مشروط بِشَرْطٍ مع نَهْيه عن إيقاعه في حالة عدم الشرط - يصير مُكَلَّفًا بأنْ يَفعل وأنْ لا يَفعل، وهو مُحَال عقلًا. والقائل بالمنع الشرعي يقول: إنهم لَمَّا لَمْ يجبروا عليها وإذَا أسلموا فلا شيء عليهم فيما مَضَى، فلا تكليف شرعًا. وجوابهما ظاهر: أما الأول: فلأنه ما كُلِّف أنْ يَفعله بلا شَرط، بل يُوقع الشرط ثُم المشروط، وسيأتي فيه تحقيق مِن كلام إمام الحرمين وغَيْره. وأما الثاني: فجوابه أنَّ عدم قضائهم تخفيف كما سيأتي. ¬

_ (¬1) التحقيق والبيان في شرح البرهان (1/ 361).

الثالث (¬1): أنهم مكلَّفون بالنواهي دُون الأوامر؛ لأن الكَف ممكِن حالة الكفر، بخلاف فِعل الطاعات. وأيضًا فإنهم معاقَبون على ترك الإيمان بالقتل والسبي وأخذ الجزية والحد في الزنا والقذف وقطع السرقة، ولا يؤمَر بقضاء شيء من العبادات. ونقل صاحب "اللباب" (مِن الحنفية) هذا القول عن أبي حنيفة وعامة أصحابه، وحكاه المرتضى في كتاب "الذريعة" عن بعض أصحاب الشافعي؛ فصارت هذه الأقوال الثلاثة وُجُوهًا في مذهب الشافعي، وكذلك حكاها النووي في "التحقيق"، وقد سبق حكاية الأستاذ وابن كج القولين الأولين عن الشافعي. نَعَم، قطع بعضهم بأنهم مُكَلَّفون بِالمناهِي، وأنَّ الخلاف إنما هو في الأوامر، وجَرَى عليه الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني في أصوله، فقال: لا خِلَاف بين المسلمين أنَّ خطاب الزواجر من الزنا والقذف [مُتَوَجه] (¬2) عليهم كالمسلمين. قال الشيخ تقي الدين: وهي طريقة جيدة. قلتُ: وهي قضية بناء المسألة على الأصل السابق؛ لأنَّ اجتناب المناهِي لا يتوقف على الإيمان، فليس شرطًا فيه. واعْلَم أنَّ ابن المرحل في كتاب "الأشباه والنظائر" قد انعكس عليه هذا المذهب؛ فَحَكَى أنهم مخاطَبون بالأوامر دون النواهي. ويَرُدُّه حكاية الأستاذ الإجماع كما سبق. الرابع: تَعَلُّق الخطاب بالمرتد دُون الأصلي. حكاه القاضي عبد الوهاب في "الملخص" ¬

_ (¬1) هذا هو القول الثالث في المسألة. (¬2) في (ز): يتوجه. وفي (ش): موجه.

و [الطرْطُوشي] (¬1) في "العُمَد"، وربما يُفْهم هذا مِن [كلام] (¬2) الفقهاء كالشيخ [في "التنبيه"] (¬3) وغَيْره في كتاب الصلاة وغيرها: أنَّ الكافر إنْ كان أصليًّا، لَمْ تجب عليه، أو مرتدًّا فَلَا، إلَّا أنْ يُؤَوَّل ذلك بالإجبار على الفعل كما سيأتي. نَعَم هو مُقْتَضَى ما في "المحصول" إلَّا أنَّه عَلَّلَه بأنَّ أحكام الإِسلام منسحبة على المرتد اتفاقًا؛ فاقتَضَى أنَّ ذلك تنقيحٌ لِمَحَل الخلاف، لا مذهبٌ مُفَصل. لكن الأوّل أَظْهَر؛ فَقَدْ نَقَل الأصحاب عن الحنفية أنَّ الرِّدَّة تُسقط الأعمال السابقة، و [تمنع] (¬4) الوجوب في الحال، حتى قالوا: إنَّ المرتد لا يقضي صلاته أيام رِدَّته، فكيف يسوغ حكاية الإجماع؟ الخامس: تكليفهم بما عدَا الجهاد، وهو ما لَوَّحْتُ به في النَّظْم قَبل التلويح بالذي قَبْله. وقال القرافي: (إنَّ هذا المذهب مَرَّ بي في بعض الكتب التي لا أستحضرها الآن) (¬5). قِيل: قد صرح به إمام الحرمين في "النهاية"، فقال: والذِّمِّي ليس مخاطَبًا بقتال الكفار. كذلك الرافعي في كتاب "السير" إذْ قال: (والذمي ليس مِن أَهْل فَرْض الجهاد؛ ولهذا إذا استأجره الإمام على الجهاد، لا يبلغ به سَهْم راجِل - على أحد الوجهين - كالصبي والمرأة) (¬6). نَعَم، يجوز للإمام استئجاره عَلَيْه - في الأصح، وهذا يدل على أنه غَيْر فَرْض عليه وإلَّا ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ش، ض)، لكن في (ص، ت، ظ): الطرطوسي. وفي (ق): الطرسوسي. (¬2) في (ز، ظ): إطلاق كثير من. (¬3) ليس في (ص). (¬4) في (ش، ق): منع. (¬5) شرح تنقيح الفصول (ص 166). (¬6) العزيز شرح الوجيز (11/ 387).

لَمَا جاز كما لا يجوز استئجار المسلم. فإنْ قِيل: يحتمل أنَّ صحة استئجار الذمي إنما هو لِكَوْنه لا يُجْبَر على العبادات في الدنيا، بل يعاقَب عليها في الآخرة. قلتُ: لكنه إذَا وقع، لا يقع إلا عن نفسه؛ لِكَوْنه واجبًا عليه وإنْ لَمْ يُجْبَر عليه، كالمستأجر للحج تلك السَّنَة وعليه فرضُه، وكَمْ ممن لا يُجْبَر على الشيء وإذَا وَقَع لا يَقَع إلا واجبًا مُسْقِطًا لِفَرْضه، كَغَيْر المستطِيع في الحج إذا تَكَلَّف وحَجَّ، والأَعْمَى إذَا لم يجد قائدًا في الجمعة وتكلَّف وحَضَر. [فإنْ قِيل: هذا في الذمي، والتعليل موافق له، والذي حكاه القرافي - مِن التفصيل - في مُطْلَق الكافر. قِيل: إذَا ثَبتَ في بَعْض الكفرة التفصيل، صَدق أنه فُصِل في كافرٍ بَيْن الجهاد وغَيْره وإنْ لَمْ يَكُن في الكل؛ فَقَدْ غَايَر بقية الأقوال على كل حال] (¬1). والسادس: الوقف؛ لِتَعَارُض الأدلة. حكاه سليم في ["التقريب"] (¬2) عن بعض الأشاعرة، وأبو حامد الأسفراييني عن الأشعري نفسه. وفي "المدارك" لإمام الحرمين: يُعْزَى للشافعي ترديدُ القول في خطاب الكفار بالفروع، ونَصُّه في "الرسالة" أنهم مخاطَبون بها. فيحتمل أنه أشار بالترديد إلى الوقف، ويحتمل أنه أشار إلى أنَّ له قولين، وقد سبق نقلهما عنه. ¬

_ (¬1) هذا ثابت في (ز) فقط. (¬2) في (ش): الغريب.

تنبيهات الأول: ما سبق مِن تصدير المسألة بأنَّ حصول الشرط الشرعي ليس شرطًا في التكليف وأنه مفروض في خطاب الكفار بالفروع - مُشْكل مِن وجوه: أحدها: إنْ كان فرضها في الكافر (حيث فُقدَ شَرْط الإيمان) لِأَمْر يخص هذا الشرط، فينبغي أنْ يُذكر وَجْه الخصوص فيه، ويُجْعَل محل النزاع، ولا يُطْلق الشرط الشرعي. وإنْ كان لِكَوْنه شرطًا شرعيًّا ليس إلَّا، فَلِمَ فُرِضَت في الكافر فقط؟ ولذلك جعل الآمدي مسألة الكافر مثالًا للقاعدة، لا فَرْضًا فيها كما فَعَل ابن الحاجب، واقتضى كلامُه أنَّ المُحْدِث متفق عليه، ولكن قد طرد أبو هاشم اعتبار حصول الشرط في المحدث، فالتزم أنَّه غير مخاطَب بالصلاة ولو في سائر دهره. ووافقه ابن خويز منداد وعزاه لمالك مِن حيث إنه قال في الحائض: إذا طهرت قَبْل الغروب، لا يَلْزَمُها صلاة العصر حتى يبقى مِن الوقت قَدْر ما تغتسل فيه، وتَفْرغ مِن الأمر اللازم، وتُدْرِك ركعتين. قال: فوقف تَعَلُّق الوجوب بها على حصول الطهارة. قلت: وقد يُمنع ذلك، [فإنه] (¬1) لم يوقفه إلا على زمن إمكان الطهارة، لا على نفس الطهارة، وهو أحد الأقوال عند الشافعي. وبالجملة فَمَن حَكَى الإجماع - كالصفي الهندي وغيره -[على تكليف المُحْدِث بالصلاة] (¬2) لم يَلْتفت إلى هذا الخلاف، أو أَوَّلَه كما أشار إليه إمام الحرمين في إزالة الإشكال ¬

_ (¬1) ثابتة في (ز) ققط. وكُتِب في هامش (ت) في هذا الموضع: (لعله مالك). (¬2) من (ز، ظ).

عن المسألة، حيث [قال] (¬1): التحقيق أنَّ الكافر يستحيل أنْ يخاطَب بإنشاء فرع على الصحة وكذا كل ما يقع آخِرًا مِن العقائد في حق مَن لا يصح عَقْده في الأوائل، وكذا المحدِث يستحيل أنْ يخاطَب بإنشاء الصلاة الصحيحة مع بَقاء الحدَث، ولكن هؤلاء مخاطَبون بالتوصل إلى ما يقع آخِرًا، ولا يتنجز الأمرُ عليهم بإيقاع المشروط قبل وجود الشرط. قال: ولكن إذا مضى من الزمان ما يَسَع الشرط والمشروط والأوائل والأواخر، فلا يمتَنَع أنْ يُعاقَب الممتَنِعُ على حُكم التكليف معاقبة مَن يخالف أَمْرًا تَوَجَّه عليه ناجِزًا. ومَن جَوَّز تنجيز الخطاب بإيقاع المشروط قبل وقوع الشرط، فَقَدْ [سَوَّغ] (¬2) تكليف ما لا يطاق. ثم قال: (فإنْ أراد أبو هاشم ذلك، فَحَقٌّ لا خفاء به. وإنْ أراد أنه لا يعاقَب على تَرْك الصلاة مَثَلًا بِتَرْكه التوصل إليها، فَخَرْقٌ للإجماع) (¬3). انتهى وجَرَى على هذا التقرير إلْكِيَا الطبريُّ وابن بَرْهان، وبه يَزُول الإشكال عن ابن خويز منداد وغيره، وغايته أنَّ الأصحاب يقولون: المعاقَبة بِتَرْك الفعل. وهو يقول: بِتَرْك التوصل إليه. وهو خُلف لفظي. فإذا مَضَى الزمانُ الأول، يَعْصِي عند الإمام بالكُفر، وعندهم به وبالفروع؛ لأنه يقول: لو أَثِمَ بالفروع - والفرضُ أنها غير مُمْكِنة - كان تكليفًا بما لا يطاق. وثانيها: أنَّ الحائض والنفساء فاقدتان للشرط الشرعي وهو الطهارة، ولا يكلَّفان بالصلاة اتفاقًا، حتى إنَّ بعضهم استثنى ذلك مِن القاعدة. قلتُ: إنْ أُريدَ بالطهارة زوالُ الحيض والنفاس، فليس مقدورًا لهما، والكلام في الشرط ¬

_ (¬1) في (ز): قال في. (¬2) كذا في (ش، ت، ز). لكن في (ص، ض، ق): شرع. (¬3) البرهان في أصول الفقه (1/ 18).

المقدور. وإنْ أريد [التطهير] (¬1) بعد الانقطاع، فهي المسألة بعينها التي فيها كلام أبي هاشم والإمام. وثالثها: مقتضَى تفريع المسألة على هذه القاعدة أنَّ خطاب الوضع لا خلاف في تَعَلُّقه بهم؛ لأنَّ الإِسلام ليس شرطًا فيه، وستأتي المسألة مبسوطة. الثاني: إذَا جَرَيْنا على ما قاله الإمام: إنَّ المكلَّف به التوصلُ، استقام ما يتكرر في الفقه كما سبق أنَّ الكافر في الصلاة والصيام والزكاة والحج إنْ كان أصليًّا، لَمْ يجب عليه، أو مرتدًّا، وَجب. قلتُ: لكن المرتد في هذا المعنى كالأصلي، فما وَجْه الفَرْق؟ نَعَم، هو ينفع في الجمع بين قولهم في الأُصُول: (إنه مكلَّف)، وفي الفقه: (إنه غير مكلَّف)، وهو أَحْسن مِن جَمْع الإمام الرازي والنووي وغيرهما بأنَّ مُرادَ الفقهاء عدمُ المطالبة بها في الدنيا، ومُرادَ الأصوليين العقابُ عليها في الآخرة، وهو يَقتضي أنْ لا فائدة على القول بتكليفهم إلا مضاعفة العذاب في الآخرة، وقد صرح بذلك الشيخ أبو حامد الأسفراييني، والشيخُ في "شرح اللمع"، وإمامُ الحرمين في كتاب السير من "النهاية"، ووالدُه في "الفروق"، والقاضي عبد الوهاب في "الملخص"، والإمامُ الرازي في "المحصول"، وغيرهم. ولكن قد ذكر له فوائد كثيرة: منها: [تيسير] (¬2) الإِسلام؛ فإنَّه إذَا عَلِم أنَّه مخاطبٌ وهو مُنشرح النفس بفعل الخيرات، كان سببًا في تيسير إسلامه. ومنها: إذَا غنم الكفار مال المسلم، لا يملكونه، خلافًا لأبي حنيفة. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ز)، لكن في (ت): التطهر. (¬2) كذا في (ص، ز)، لكن في (ت): تيسر.

ومنها: إحباط العمل بالرِّدة. ومنها: إذَا أَسْلم، هل يُصَلِّي على قبر مَن مات مِن المسلمين في كُفره (¬1) (إذَا قُلنا: لا يُصلِّي عليه إلا مَن كان مِن أَهْل الفَرْض)؟ قاله القاضي مُجَلِّي في "الذخائر"، قال: وكذا صحة نذر الكافر. لكن قضية قوله أنْ يصح نذره، ولكن الأصح المنع. ومنها: إيجاب الضمان على الحربي كما قاله الأستاذ، وسيأتي. ومنها: لو مَرَّ الكافر بالميقات وهو مريد للنسك فجاوزه ثمَّ أسلم وأَحْرم ولم يَعُد إليه، عليه دم. وقال أبو حنيفة والمزني: لا دم عليه. ومنها تحريم نظر الذِّمِّيَّة إلى المسلمة (على الأصح). وغير ذلك مما يَطُول ذِكره [وإنْ كان في بعضه نَظَر] (¬2). الثالث: هذه المسألة مِن فروع الفقه، وإنما تُذكر في الأصول لتمهيد أصل، وهو أنَّ الإمكان في الفعل هل يشترط أنْ يكون ناجزًا مع الخطاب؟ أَوْ لَا؟ واختُلف أيضًا: هل هي مِن المسائل القطعية؟ أو الظنية؟ قال الإمامُ بالأول وإنْ كان القاضي أبو بكر قائلًا بالثاني. وقولي: (لَكِنَّ ذَا في فَائِتٍ مَرْعِيُّ) الإشارة إلى الكافر الأصلي، أَيْ: إنه مخالف للمرتد برعايته إذا أسلم لا يقضي ما فات في زمن الكفر مِن صلاة وصيام وزكاة ونحوها؛ لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، وحديث: "الإِسلام يَجُبُّ ما قَبْله" (¬3). ¬

_ (¬1) يعني: إذَا مات مُسْلم ثُم أَسْلَم أحد الكفار بَعْدَ مَوْته، فهل يُصَلِّي على قبر هذا الميت؟ (¬2) من (ز، ظ). (¬3) مسند أحمد (رقم: 17812)، صحيح مسلم (121) بلفظ: يهدم.

وأيضًا فلو أُلْزِم بذلك، لَشَقَّ عليه ذلك وكان تنفيرًا له [عن] (¬1) الإسلام. والله أعلم. ص: 109 - أَمَّا تَعَلُّقُ الْخِطَابِ الْوَضْعِي ... بِكَافِرٍ فَبِاتِّفاقِ الْجَمْعِ 110 - [إلَّا] (¬2) الَّذِي لَمْ يَلْتَزِمْ أَحْكَامَنَا ... فَإنَّهُ في الشَّرْعِ لَيْسَ ضامِنَا 111 - لَكِنَّ مَا يَعُودُ لِلتَّكْلِيفِ ... فَإنَّهُ بِالْخُلْفِ وَالتَّزْيِيفِ 112 - كَحُرْمَةِ الَّتِي لَهَا قَدْ طَلَّقَا ... فَإنَّهُ بِفِعْلِهِ تَعَلَّقَا الشرح: لَمَّا أَطْلَقتُ فيما سبق أنَّ الكافر مخاطَب بالفروع وكان ذلك شاملًا لخطاب التكليف والوضع، بَيَّنْتُ هنا ما قاله الشيخ تقي الدين السبكي: (إن الوضعي باتفاق) (¬3)، [وأنَّ] (¬4) الخلاف الذي أومأنا إليه في النَّظْم وبسطناه في الشرح إنما هو في التكليفي. فَمِنَ الوضعي: كَوْنُ إتلافهم سببًا في ضمانهم، وكذا جناياتهم، بل هُم أَوْلى مِن الصبي بذلك، واشتراطُ الشروط في معاملاتهم والموانع كذلك، والحكم بصحتها وفسادها وتَرَتُّب آثار كُلٍّ عليه مِن بيع ونكاح وطلاق وغيرها. قال: والخلاف في مثل ذلك لا وَجْه له، ويَشهدُ له أنَّ أبا حنيفة قال بصحة أنكحتهم مع قوله بِعَدَم تكليفهم بالفروع. ¬

_ (¬1) في (ز، ظ): من. (¬2) كذا في (ص، ز، ق، ن 2). لكن في (ش، ض، ت، ن 1، ن 3، ن 4، ن 5): أي لا. (¬3) الإبهاج في شرح المنهاج (1/ 179 - 180). (¬4) في (ت): فإن.

قال: ولا يخرج مِن هذا إلا ما كان مِن خطاب الوضع راجعًا إلى خطاب التكليف، كَكَوْن الطلاق تحرم به الزوجة عليه، فإنَّ مِثل هذا يجري فيه الخلاف السابق، ويكون التعلق أرجح، ومُقابِلُه مُزَيَّفٌ. وهو معنى قولي: (بِالْخُلْفِ وَالتَّزْيِيفِ). والباء للمصاحبة، فإنه مُصاحب لجريان الخلاف فيه ولتزييف ما سِوى الراجح في خطاب التكليف. هذا معنى كلام الشيخ، ولكن مراده بالكافر هنا الملتزم لأحكام شَرْعنا، كالذمي ونحوه إذَا كان ذلك في ضمان ونحوه، لا في الصحة ونحوها، لا مَن لم يَلتزم، كالحربي؛ فلذلك بَيَّنْتُه في النَّظم باستثناء ذلك. نَعَم، اعتُرض على الشيخ في دعوى الإجماع في نحو الإتلاف والجنايات: 1 - بأنَّ الخلاف فيها موجود؛ فَقَدْ حكى الرافعي عن الأستاذ أبي إسحاق أنَّ الحربي إذَا قَتل مُسلمًا أو أَتْلَف عليه مالًا ثم أَسْلم، يجب الضمان إذَا قُلْنا: مخاطَبون بالفروع. وحكاه العباديُّ عنه في طبقاته فيما إذَا صار ذميًّا وإنْ كان الجمهور قائلين بعدم الضمان. و[كذا] (¬1) نقلوا وجهين فيما لو دخل الكافر الحرم وقتل صيدًا، هل يضمنه؟ أصحهما نعم. قال صاحب "الوافي": وهما شبيهان بالوجهين في تمكينه من اللبث في المسجد إذا كان جُنبًا، أَيْ نظرًا لعقيدته. بل قال إمام الحرمين في "الأساليب" في كتاب السِّيَر: إنَّ الكفار إذا استولوا على مال المسلمين، فلا حُكم لاستيلائهم، وأعيانُ الأموال لأربابها. قال: وبَنى بعضهم المسألة على الخلاف في تكليفهم بالفروع وقال: وهُم مَنْهِيُّون عن استيلائهم. 2 - وقول الشيخ: (إنَّ ثبوته في حقهم أَوْلى مِن ثبوته في حق الصبي) ممنوع؛ لانسحاب ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ز)، لكن في (ت): قد.

حُكم الإِسلام على الصبي، بِخِلَافِهم. قُلتُ: لا يَرِد شيءٌ مِن ذلك على الشيخ؛ لأنَّ سقوط الضمان عند الجمهور في الصورة المذكورة في الحربي إنما هو لِكَوْنه غير مُلْتَزِم، وقد قررنا أنَّ مُرادَه المُلْتَزِمُ؛ إذْ لا يُظَن بالشيخ القول بتضمينه في حال الحرابة، [بل] (¬1) ولا موافقة الوجه الضعيف فيما إذَا أَسْلم أو عُقدت له ذِمَّة. فما ذُكر في غير الملتزم لا يطابق ما حكاه مِن الاتفاق، فلم يبق فيه إلا قول مَن قال: (يخرج على الخلاف في تكليفهم)، وليس فيه ما يَدْفع حكاية الإجماع على التعلُّق. ومنازعته في أنهم أَوْلى مِن الصبي ممنوعة؛ لأنَّ انسحاب حُكم الإِسلام لا يقتضي الضمان مع رفع القلم إلا مِن حيث خطاب الوضع، وأيضًا فالصغير لا يختص بالمسلم، وكذا المجنون. فَمِن أَجْل ذلك جَرَيْتُ عَلَى ما قاله الشيخ في النَّظْم؛ لِحُسْنه، وزدته بيانًا باستثناء غير الملتزم؛ لأنَّ عدم تضمينه إنما هو لِمانع، وهو عدم الالتزام، لا لِكَوْنه كافرًا. وكذلك لا يَقدح في تَعلُّق الخطاب بهم تصحيحُ أنكحتهم مع عدم وقوعها على أوضاع الصحيح في الشرع؛ لأنَّ ذلك مِن باب التخفيف والعفو؛ حتى لا ينفروا من الإِسلام إذَا عَلِموا أنَّه يُفَرق بينهما بمقتضَى ذلك - كما أَوْضَحَه الماوردي وغيره، والله تعالى أعلم. ص: 113 - وَالِاقْتِضَاءُ إنْ يَكُنْ لِفِعْلِ ... جَزْمًا، فَإيجَابٌ لَهُ بِالْأَصْلِ 114 - وَدُونَ جَزْمٍ نَدْبُهُ، وَإنْ يَكُنْ ... لِلتَّرْكِ جَزْمًا، فَهْوَ تَحْرِيمٌ، فَصُنْ 115 - أَوْ دُونَهُ لَكِن بِنَهْيٍ يُقْصَدُ ... فَهْوَ كَرَاهَةٌ، وَقَدْ يُقَيَّدُ ¬

_ (¬1) ليس في (ش).

116 - بِنِسْبَةِ التَّحْرِيمِ أَوْ يُطْلَقُ لَهْ ... تَحَاشِيًا مِنْ لَفْظَةٍ مُسْتَثْقَلَهْ 117 - وَإنْ يَكُنْ في ضِمْنِ أَمْرٍ يُولَى ... فَالْمَنْعُ مِنْ شَيْءٍ خِلَافِ (¬1) الْأَوْلَى 118 - وَمَا انْتَفَى اقْتِضَاؤُهُ وَخَيَّرَا ... فَهْوَ إبَاحَةٌ لِمَنْ قَدْ خُيِّرَا الشرح: هذا راجع إلى تقسيم الخطاب (في تعريف الحكم) إلى اقتضاء وتخيير، فهو بيان لِمَا دخل تحت الاقتضاء والتخيير من الأقسام مُفَصَّلًا. والفاعل في الاقتضاء هو الحاكم، وهو الله تعالى، فهو أحسن من قول البيضاوي: (الخطاب إنِ اقتضى الفعل) (¬2) إلى آخِره؛ لأنَّ إسناد الاقتضاء إلى الخطاب مجازٌ؛ فإنَّ المُقْتَضِي للشيء (أَيْ: الطالب له حقيقة) إنما هو المُخاطِب، لا الخطاب، ولكنه مجاز شائع، وربما يقع في هذا النَّظْم استعمالُه أيضًا، كما في قولي في حد الحكم: (اقْتَضَى أَوْ خَيَّرَا)، وقولي هنا بعد ذلك: (وَمَا انْتَفَى اقْتِضَاؤُهُ وَخَيَّرَا). على أنه قد سبق احتمال أنْ يُعاد الضمير إلى الله تعالى في قولي: (خِطَابُ اللهِ) وأنه الأحسن؛ فينبغي أنْ يَكون في قَوْلي: (اقْتِضَاؤُهُ وَخَيَّرَا) كذلك. فالاقتضاء إمَّا لِفِعل أو لِتَرْك: - فإنْ كان لِفعل (والمرادُ به الوجودي، لِمقابَلَته بالترك، وإلا فَـ "التَّرْك" كَفُّ النفْس ¬

_ (¬1) كلمة "خِلَاف" جاءت مرفوعة هكذا في أكثر المخطوطات: "خلافُ"، وهذا خطأ؛ لأنها صِفَة لِـ "شَيءٍ"، فالصواب أنها في مَحَل جَر، فالمعنى: (إنه مَنْع مِن شيء، وهذا الشيء خِلَاف الأَوْلَى). وعبارته في "النبذة الزكية": (فإنْ كان بِنَهْي ضِمْني، فهو مَنْع مِن شيء خِلَاف الأَوْلَى). وسبب الخطأ هو أنَّ الذي رفعها تَوَهَّم أنها خَبَر مرفوع للمبتدأ: "المنع"، وكأنه تَوَهَّم أن معنى العبارة هكذا: (المنعُ خَلَافُ الأولى). ومَن يَتَأَمَّل كلام البرماوي في الشرح سيُدْرِك ذلك. (¬2) بل عبارة البيضاوي في (منهاج الوصول، ص 132) بتحقيقي: (الخطاب إنِ اقْتَضَى الوجودَ ومَنَعَ النَّقِيضَ، فَوُجُوب).

وهو فِعل كما سبق بيانه) فلا يَخْلُو إمَّا أنْ يَكُون مع الجَزْم (أَيْ ليس مُجَوزًا فيه مُخالِفُه (¬1)، أَيْ لَمْ تَقُم على [ذاك] (¬2) قرينةٌ) أَوْ لَا مع الجزم. فالأول: "الإيجاب"، وهو مَصْدر أَوْجَب يُوجِب. ومعنى "الوجوب" لُغَةً: السقوط، (نحو: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36])، والثبوت (ومنه: "نسألك مُوجِبات رحمتك" (¬3) أَيْ: مُثْبِتات)؛ فَعُلِمَ أنَّ "الإيجاب" هو الطَّلَب القائم بالنفْس على الوجه المذكور. و"الواجب" هو مُتَعَلَّق الإيجاب مِن الفعل كما سيأتي، فإنَّه لَمَّا أَوْجَبَه، وَجَبَ وجوبًا؛ فهو واجب، فتسمية الحكم "وجوبًا" مجاز، وإنما هو إيجاب. والثاني: "الندب" وهو لُغَةً: الطَّلَب، ومنه حديث: "انتدَب الله لمن يَخرج في سبيله" (¬4). أَيْ: أجاب له طَلب مغفرة ذنوبه. يُقال: ندبتُه فانتدب. ويُطلق أيضًا على التأثير، ومنه حديث موسى عليه السلام: "وإنَّ بالحَجَر ندَبًا ستة أو سبعة مِن ضربه إياه" (¬5). وهو بفتح الدال، وأَصْلُه أَثَرُ الجرح. - وإنْ كان لِتَرك شيء (أَيْ: لإعدام حقيقته وكَفِّ النفْس عن إيجاده) فإمَّا أنْ يكون مع الجَزْم أَوْ لَا. ¬

_ (¬1) أو: مخالَفة. (¬2) في (ش): ذلك. (¬3) سنن الترمذي (رقم: 479)، سنن ابن ماجه (رقم: 1384) كلاهما بلفظ: (أسألك موجبات رحمتك). قال الألباني: ضعيف جدًّا. (السلسلة الضعيفة: 2908)، وانظر: (السلسلة الصحيحة: 3228). (¬4) صحيح البخاري (رقم: 36). (¬5) صحيح البخاري (274)، صحيح مسلم (339).

والأول "التحريم"، أَيْ لذلك الفعل الإيجادي، أَمَّا بالنَّظَر لِتَعلُّقه بالكَف عنه فإيجابٌ له وإنْ كان في تعبيرهم بأنَّ "ما يَقْتَضي التَّرْكَ تحريمٌ" إيهامٌ أنَّه تحريمٌ له مِن حيث اللفظ وإنْ كان المراد ظاهرًا. وأَصْلُه مِن "حَرمَه" أَيْ: مَنَعَه، ومنه: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص: 12]، أَيْ: منعناه مِن رَضْعهن. وقولي (وهْوَ تَحْرِيمٌ، فَصُنْ) أَيْ: فَصُنْ نفسك عن الوقوع في مُتَعَلَّقه. والثاني (وهو غير الجازم) إمَّا أنْ يَكون: - بِنَهي مقصود (أَيْ مُستقل): فَـ "كَرَاهَة"، وأَصلُها لُغةً خِلافُ الإرادة، فمعنى كراهة الشرع [لشيء] (¬1): إمَّا عدم إرادته، أو إرادة ضِدِّه، كما في قوله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46]. - أو بنهي غير مقصود: فَـ "خِلَاف الأولَى" كما عَبَّر به كثيرٌ هنا، وذلك بأنْ يَكون النهي في ضِمْن الأمر بِضِدِّه، فسيأتي أنَّ الأمرَ بالشيءِ نَهْيٌ عن ضِدِّه أو يَستلزمُه - عَلَى الخِلَاف. وقِيل: لَا [وَلَا] (¬2). وهو اختيار إمام الحرمين والغزالي كما سيأتي، فَعَلَى هذا لا تأتي هذه التفرقة. وأَعْجَبُ مِن ذلك عَزْوُها لإمام الحرمين. بل سيأتي أنَّ الخلاف إنما هو في الأمر النفسي، وأمَّا اللفظي فليس عَيْن النَّهي قَطْعًا ولا يَتَضَمَّنه (على الأصح). ومُرادُهم هنا إنما هو اللفظي، فأين الفَرْق؟ والتعبير هنا بِـ "خِلَاف الأَوْلَى" غيرُ صَوَاب وإنْ عَبَّر به صاحبُ "جمع الجوامع" وغيْره، والصواب ما عَبَّرتُ به في النَّظْم مِن قولي: (إنه مَنْعٌ مِن خِلَافِ الأَوْلى) (¬3). ¬

_ (¬1) ليس في (ش). (¬2) ليس في (ش). (¬3) بل عبارته في النَّظْم هكذا: (فَالْمَنْعُ مِنْ شَيْءٍ خِلَافِ الْأَوْلَى). كأنه حَكى قوله بالمعنى.

ولا أريد بالمنع إلا منع التنزيه كما في "المكروه"؛ وذلك لأنَّ المنع هو الحُكْم، وأمَّا "خِلَاف الأَوْلى" فهو الفِعل الذي تَعَلَّق به المنع، وسيأتي الفَرْق بين الحكم ومُتَعَلَّقه مِن الأفعال. واعْلَم أنَّ هذا القِسم قد أَهْمله كثيرٌ مِن الأصوليين، ولكنه موجود منتشر في الفقه، مُفَرَّق بينه وبين "المكروه" بما تضمنه الفَرْقُ السابق، كما في: - صوم يوم عرفة للحاج، فالأصح أنَّه خِلاف الأَوْلى، وقِيل: مكروه، وقد يُرَجَّح هذا بحديث أبي هريرة: "نَهَى - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم عرفة" (¬1). أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وفيه ضَعْفٌ وإنْ كان الحاكم صححه وقال: (على شرط البخاري). - والحجامة للصائم خِلَافُ الأَوْلى عَلَى ما رَجَّحه النووي، وقال: لأنه لَمْ يَثْبُت فيه نَهْي مقصودٌ. وقِيل: مكروه. - وكذا النفض والتنشيف في الوضوء فيهما خلافٌ. وغَيْر ذلك، وهو كثير. قال الشيخ تقي الدين السبكي: أول مَن عَلِمْناه ذَكَر هذا القِسم إمام الحرمين. ومرادُه: أَظْهَرَه ونَشَرَهُ، وإلَّا فَقَدْ نَقَلَه هو عن غَيره، فقال في كتاب الشهادات مِن "النهاية": (التعرُّض للفَصْل بين الكراهة وخِلَاف الأَوْلى مما أَحْدَثه المتأخِّرون). ثُم فَرَّق بما سبق. لكن كلام الرافعي في باب الزكاة في كراهة الصلاة على غير الأنبياء يَقتضي أنَّ الإمام أراد بالمقصودِ الخصوصَ، وبِغَير المقصودِ العمومَ؛ فيزول الإشكال السابق. قلتُ: ويأتي في كلام الإمام ما يقتضي أنَّ "خِلَاف الأَوْلى" و"المكروه" بمعنًى واحد ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (رقم: 2440)، سنن النسائي (رقم: 2825)، سنن الترمذي (رقم: 750). قال الألباني: ضعيف. (ضعيف أبي داود: 2440).

والجوابُ عنه. وقَوَّى بعضُهم ذلك، وأنَّ المراد أنَّ الكراهة لها مَرْتَبتان، أَدْوَنهما "خِلَاف الأَوْلى". وإنْ لَمْ يَكُن في الخطاب اقتضاءٌ، بل فيه تخيير بين فِعل الشيء وتَركه فهو "الإباحة". مأخوذ مِن مادة الاتساع، ومنه: باحةُ الدار، أَيْ: ساحتها. واعْلَم أنَّ الإباحة تُطْلق أيضًا على رَفْع الحَرَج، فيدخل في المباح ما كان مِن فِعل الله وفِعل غير المكلَّف، لكن لا [يَكون] (¬1) مِن الحُكم إلا ما فيه الإذن. ولِأَجْل هذا اختُلِف في أنَّ: الإباحة حُكمٌ شرعي؟ [أَمْ] (¬2) لا؟ فقال بعض المعتزلة بالثاني؛ لتفسيره بِنَفْي الحرج، فالخلاف إذًا لفظي. واختُلف أيضًا في أنَّ الإباحة تكليف، والقول به منقول عن الأستاذ أبي إسحاق، لكن على معنى التكليف باعتقاد إباحته. ولا يَخْفَى ما فيه؛ فإنَّ الاعتقاد واجب، فهو غَيْر الإباحة. واختُلف أيضًا في "المباح": هل هو مأمورٌ به (بناء على أنَّ الأمر حقيقة في الإذْن لا في الوجوب ولا في الندب)؟ وستأتي المسألة. وقولي: (وَقَدْ يُقَيَّدُ) إلى آخِره - إشارة إلى أنَّ "الكراهة" تُطْلق على "التحريم" أيضًا إمَّا مع الإضافة إليه فَيُقال: "كراهة تحريم"، وإمَّا على الإطلاق كما في قوله تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38] ويقع هذا في كلام الشافعي ومالك والأقدمين كثيرًا، كقول الشافعي: (وأَكْره آنِيَةَ ¬

_ (¬1) في (ت، ض): يلزم. (¬2) كذا في (ز)، لكن في (ص): أو.

العاج). وقوله: (وأَكْره ممرَّ الحائض في المسجد) (¬1) إذَا حُمِل على حالة خوف التلويث. وقوله في باب السلم: (وأكره اشتراط الأعجف والمشوي والمطبوخ)؛ لأنَّ الأعجف معيبٌ، وشرط المعيب مُفْسِدٌ. إلى غير ذلك. وربما أُطْلق "المكروه" أيضًا على "خِلَاف الأَوْلى" إنْ جُعِل غيره، كقول إمام الحرمين في "النهاية" في باب الجمعة: (إنَّ تَرْك غسل الجمعة مكروه) (¬2)، مع أنه لا نهي فيه. قال: (وهذا عندي جارٍ في كل مَسْنونٍ صَحَّ الأمر به مقصودًا) (¬3). انتهى قيل: ويؤيده نَصُّ الشافعي في "الأُم" على أنَّ تَرك غسل الإحرام مكروه. وقال الإمام في موضع آخر مِن "النهاية": (إنما يُقال: "تَرْك الأَوْلى مكروه" إذَا كان منضبطًا كالضحى وقيام الليل، وما لا تحديد له ولا ضابط مِن المندوبات لا يُسَمى تَرْكُه مكروهًا، وإلَّا لكان الإنسان في كل وقت مُلابِسًا للمكروهات الكثيرة مِن حيث إنه لَمْ يَقُم يُصَلي ركعتين، أو يَعُود مريضًا، ونحوه). انتهى فإذَا حُمِل على أنه أراد أنه يُطْلَقُ عليه إطلاقًا وإنْ كانت حقيقتُهما متغايرة، استقامَ مع ما سبق نقلُه عنه، وإلَّا فظاهرُه التعارُض. وقد يُطْلَق "المكروه" أيضًا على ما وقعت الشُّبهة في تحريمه، كلحم السبع، ويَسير النبيذ، ونحو ذلك مِن المسائل المختلَف في تحريمها كما هو مُصَرَّحٌ بذلك في الفقه. وذكره الغزالي في "المستصفى"، واستشكله بأنَّ مُعْتَقِد التحريم يَحْرُم عليه، وغَيْره يَحِل له، فلا وَجْه للكراهة. وقد قال الأبياري في "شرح البرهان": ليس في الفقه مسألة ¬

_ (¬1) مختصر المزني (ص 19). (¬2) انظر: نهاية المطلب (2/ 528). وفي هذا النقل خلل. (¬3) نهاية المطلب في دراية المذهب (2/ 528).

أَصْعب مِن القول بالكراهة في ذلك؛ فإنه مخالِف للفريقين و [لدليليهما] (¬1)، فهو خَرْقٌ للإجماع. قلت: قد يُجاب بأنَّ الخلاف أَوْرَثَ في القلب ريبةً؛ فَكُرِهَ، ككراهة أَكْل مال مَن في مالِه حرامٌ، وكراهة الماء المشمَّس، وغير ذلك مما ليس فيه دليل صريح بالكراهة. واعْلَم أنَّ في إطلاق "الكراهة" على هذه الأمور الأربعة خلافًا في: أنَّه حقيقةٌ في [التنزيه] (¬2) مجازٌ في غيره؟ أو مشترك؟ وَجْهان لأصحابنا حكاهما ابن سراقة لكن في التنزيه والتحريم. وفي "المستصفى" إطلاق اشتراكه بين الأربعة ولكن نازعه العبدري في شرحه. تنبيهان أحدهما: ما سبق في أنَّ خِلَافَ الأَوْلَى بنهي غير مقصودٍ - فيه (غَيْر ما سبق) أمران آخَران: أحدهما: أنَّ في كَوْنه مَنْهِيًّا عنه [خِلَافًا] (¬3) مِثل الخلاف في أنَّ "المندوب" [مأمورٌ به] (¬4) أَوْ لَا؛ لأنه بطريق التبعية له كما سبق. ثانيهما: أنَّ أدلة الأحكام لا تتقيَّد استفادتها مِن صريح الأمر والنهي، بل يَكون بِنَصٍّ أو إجماع أو قياس. والنَّصُّ إمَّا أنْ يَكون أمرًا، أو نهيًا، أو إذنًا، أو خبرًا [بمعناها] (¬5)، أو إخبارًا ¬

_ (¬1) كذا في (ز). لكن في سائر النُّسخ: (لدليلهما). (¬2) في (ص): الندبية. (¬3) كذا في (ص، ز). لكن في (ش، ض، ت، ق): خلاف. (¬4) في (ش): ما قررته. (¬5) كذا في (ص)، لكن في (ز): بمعناهما.

بالحكم، نحو: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، "إنَّ الله ينهاكم أنْ تحلفوا بآبائكم" (¬1)، {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96]. أو بِذكْر خاصَّةٍ [لأحدها] (¬2)، كَوَعِيدٍ على فِعل شيء أو على تَركه، وَوَعْدٍ على فِعْل أو تَرْك، أو نحو ذلك. فإذَا لم تتوقف "الكراهة" و"المنع مِن خِلَاف الأَوْلى" عَلَى صيغةٍ كغيرهما، فكيف يتأتَّى هذا الفَرْق؟ إلَّا أنْ يُقَال: إذَا ثَبت بدليل معنى الأمر به، [تضمَّن] (¬3) معنى النهي عن ضده بِأي صيغةٍ دَلَّت، فاعْلَمه. الثاني: اختُلِف في أنَّه تكليفٌ أَوْ لَا - كما اختُلف في الندب، والخلاف مُفَرَّعٌ على أنَّ التكليفَ إلزامُ ما فيه كلفة أو طَلَبُه. وبالثاني قال القاضي، والله أعلم. ص: 119 - وَمَا بِهِ تُعَلَّقُ الْأَحْكامُ ... يُصَاغُ [مِنْهَا] (¬4) اسْمٌ [بِهِ الْإعْلَامُ] (¬5) 120 - فَالْفِعْلُ ذُو الْإيجابِ "وَاجِبٌ" فُرِضْ ... وَلَازِمٌ حَتْمٌ وَمَكْتُوبٌ وَمَضْ 121 - وَرَسْمُهُ: مَا ذُمَّ فِيهِ التَّارِكُ ... وَانْفِهْ بِذِي النَّدْبِ؛ فَلَا يُشَارِكُ الشرح: لَمَّا كان كثيرٌ يتسامحون بإطلاق اسم نوع الحكم على مُتَعَلَّقه مِن الفعل وعكسه، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 5757)، صحيح مسلم (رقم: 1646). (¬2) كذا في (ز)، لكن في (ص): لأحدهما. (¬3) كذا في (ز، ت، ش)، لكن في (ص): يُضمن. وفي (ظ): مضمن. (¬4) كذا في (ص، ز، ق، ن 2، ن 5) ويوافق الأصل والشرح. لكن في (ض، ت، ش، ن 1، ن 3، ن 4): منه. (¬5) كذا في (ز، ص، ق، ش، ن 2) ويوافق الشرح. لكن في (ت، ن 1، ن 3، ن 4، ن 5): له إعلام.

فيقولون مَثلًا: (الحكم إمَّا واجب أو مندوب) إلى آخِره، ويقولون في الفعل: (إنه إيجابٌ أو نَدْبٌ) إلى آخِره، تَعَرَّضتُ للفَرق بينهما بحسب الحقيقة، وأنَّ الواجب ما تَعَلَّق به الإيجابُ، والمندوبَ ما تَعَلَّق به الندبُ، إلى آخِره، فَيُصاغ لكل فِعل مِن الحكم الذي تَعَلَّق به اسمٌ يَحْصُل به الإعلام والتمييز عن بقية الأفعال، فبيَّنْتُ ذلك، وضممت لكل واحد ما يُسَمى به مِن الأسماء بِوفاقٍ وخِلاف. وتسْري هذه الأسماء إلى نفس الأحكام المتعلِّقة، فيُصاغ منها اسم لها، وذكرتُ [رَسْم] (¬1) كل نوع مِن هذه الأفعال؛ للإيضاح كما فعل البيضاوي وإنْ عُلِمَت حدودها مِن حدود الأحكام المتعلِّقة بها. فالقِسم الأول: الفعل الذي تَعَلَّق به الإيجاب: "مُوجَبٌ" بالفتح اسم مفعوله، و"واجِبٌ"؛ لأنه مطاوِع "أَوجَبَ" كما سبقت الإشارة إليه. ويُسَمَّى بأسماء أُخَر، منها: "الفَرْضُ" مِن "فَرضَ" بمعنى: قَدَّر. فإنْ أَطْلقته على "الإيجاب" كان حقيقة، أو على "الواجب" فهو مِن إطلاق المصدر على المفعول؛ لأنه مَفْرُوض. وفي تَرادُف هذين الاسمين خِلافٌ بَعْد الاتفاق على أنَّ معناهما "اللازِمُ"، فالجمهور على الترادُف، وقالت الحنفية: "الفَرْض" ما ثَبت بدليل قَطْعي كالكتاب والسُّنة المتواترة، مِثل الصلوات الخمس وصوم رمضان، و"الواجِبُ" ما ثَبت بدليلٍ ظني، كالوتر وزكاة الفطر. وزعموا أنَّ ذلك مراعاة للمعنى اللُّغوي؛ لأنَّ "الفَرْض" لُغَةً: التقدير، فلا بُدَّ مِن عِلم أنَّ الله تعالى قَدَّره، و"الوجوب": السقوط، فَيُعْلَم أنَّه ساقط علينا، ولكن لا نَعْلم أنَّ الله قَدَّرَه. ولنا: أنَّ الفَرْض المُقَدَّر أَعَم أنْ يَكون عِلْمًا أو ظنًّا، والواجب الساقط أَعَم منهما أيضًا؛ فلَم تظهر مناسبة. بل قال الشيخ أبو حامد وغيره مِن أصحابنا: لو عكسُوا الاصطلاح لكان ¬

_ (¬1) في (ت، ض): اسم.

أَوْلى؛ لأنَّ لفظ "الوجوب" لا يحتمل غيرَه، بخلاف "الفَرْض" فإنَّه يحتمل معنى التقدير. عَلَى أنهم قد خالفوا ذلك في نحو جعل القَعْدة في الصلاة فرضًا ومسح رُبع الرأس فرضًا، والوضوء مِن الفصد فرضًا، والصلاة - على مَن بَلغ في الوقت بَعْدما أدَّاها - فرضًا، والعُشر في الأقوات وفيما دون خمسة أوسق، وشِبْه ذلك، وليس في شيء منها قَطْع. وربما فَرَّقُوا بينهما - كما قاله الشيخ أبو حامد وابن بَرهان - بأنَّ "الفَرْض" ما لا خِلافَ فيه، و"الواجب" ما اختُلف فيه. وحَكَى القاضي في "التقريب" وابن القشيري تَفْرقة أخرى: أَنَّ "الفرض" بِنَصِّ القرآن، و"الواجب" ما ثَبت بِغَير وَحْيٍ مُصَرَّحٍ به. وأَلْزَمَهم القاضي بأنْ لا يَكون الثابت بالسُّنة فَرْضًا (كَنِيَّة الصلاة وَدِيَة الأصابع والعاقلة)، وأنْ يَكون الإشهاد عند التبايع ونحوه مِن المندوب الثابت [بالقرآن] (¬1) "فَرْضًا". قلتُ: إلا أنْ يُراد ما ثَبت وجوبه؛ فلا يَرِد هذا الأخير. أمَّا ما قاله أصحابنا في باب الحج: (إنَّ "الواجب" ما جُبر بِدَم، و"الركْن" ما لم يُجْبر) فتفرقة بين الركن والواجب، لا بين الفرض والواجب. وكذلك ما حَكَى الرافعي عن العبَّادي فيمن قال: (الطلاق واجِبٌ عَلَيَّ) تطلق، أو: (فَرْضٌ عَلَيَّ) لا تطلق - ليس لعدم ترادفهما، بل لاقتضاء العُرف ذلك. ونقل عن البوشنجي أنَّ الجميع كنايات إلَّا: "لَازِمٌ لِي"؛ فإنه صريح عند الأكثر، فلا إشكال فيه حينئذ. ومنها أيضًا: "اللازِم" [مِن اللزوم] (¬2)، وهو لُغَةً: عدم الانفكاك عن الشيء. فيقال ¬

_ (¬1) في جميع النُّسخ: (بالسنة). والتصويب من: التقريب والإرشاد (1/ 298) للقاضي الباقلاني. (¬2) كذا في (ص)، لكن في (ز): والملزوم.

للواجب: "لازِمٌ" و"ملزومٌ به"، ونحو ذلك، كما في حديث الصدقة: "ومَن لزمه بنت مخاض وليس عنده، أخذ منه ابن لبون" (¬1). أَيْ: وَجَبَ عليه ذلك، وهو شائع كثير. ومنها: "المحتوم"، مِن "حتمتُ الشيء أحتمه حَتْمًا" إذَا قضيته وأَحْكَمْته، وحتمته أيضًا: أَوْجَبْته. قاله الجوهري. قال تعالى: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71] أَيْ: واجب الوقوع بِوعدِه الصادق وإلا فهو تعالى لا يجب عليه شيء، فيقال في الواجب: حتم ومحتوم ومحتم، ونحو ذلك. ومنها: "المكتوب"، مِن: "كَتَب الشيء" إذَا حتمه وأَلْزَم به، وتُسَمَّى الصلوات المكتوبات لذلك، ومنه حديث: "خمس صلوات كتبهن الله" (¬2)، وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216]. أمَّا {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] الآية - فَقِيل: المراد وَجَب، وكانت الوصية فرضًا ونُسِخَت، وقِيل: يجب أنْ يُوصِي بما يحتاج للوصية مِن ذِكْر الدَّيْن والوديعة ونحو ذلك. وقِيل: المرادُ: كتب في اللوح المحفوظ، فلا يَكون مما نحن فيه. وقولي: (وَمَضْ) أَيْ: لمع وظهر، مِن قولهم: (وَمَضَ البرقُ)، أَيْ: لمع. والمراد أنَّ الواجب ظهر بهذه الأسماء. وأمَّا رَسْم الفعل "الواجب" فهو: ما يُذَمُّ تاركه. فَـ "ما" جِنس يَشمل الأفعال كلها. و"يُذَم" خاصَّةٌ خرج بها "المباح"؛ فإنه لا ذَم في فِعله ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 1380) بلفظ: "وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ". (¬2) سنن النسائي (رقم: 461)، سنن أبي داود (رقم: 1420) وغيرهما.

ولا في ترَكه. و"تاركه" خاصَّةٌ أُخرى تُخْرِج "الحرام"؛ فإنه يُذَم فاعِلُه، وتُخْرِج "المندوب" و"المكروه" و"خِلَاف الأَوْلى"؛ فإنه لا ذَم في تركها، بل يمدح في الأخيرين. [والتعبير بِـ "ما يُذَم" أَوْلَى مِن تعبير القدماء بِـ "ما يعاقَب" أو بِـ "ما يُتَوَعَّد بالعقاب"] (¬1)؛ لجواز العفو، ولأنَّ المندوب قد يعاقَب فيه، مِثل القتال لتارك الجماعة أو الأذان (على رَأْي). وقد يُجاب بأنَّ المراد: الذي مِن شأنه أنْ يُعاقَب على تركه؛ لِمَجِيء ما يَدُل على ذلك شرعًا، ولا يَلْزم في كل تاركٍ؛ لِجَوَاز العفو في البعض، فَلَمْ يَدخل فيه. وهذا أَحسَنُ مِن: - الجواب بأنَّ الخُلْف في الوعيد كَرمٌ؛ لأنَّ خُلف الوعيد مِن الله تعالى مُحَال. - ومِن جواب ابن دقيق العيد بأنَّ المراد: يُعاقَب على جنسه ولو بَعْض التاركين؛ فإنه لا بُدَّ مِن عقاب بعض العصاة؛ لأنَّا نقول: "تاركه" عامٌّ بالإضافة، فَحَمْله على البعض مجازٌ. - ومِن جواب العبدري في شرح "المستصفى" بأنه ليس في الشريعة توعُّد بالعقاب مُطْلق، بل مُقَيَّد بِشَرط أنْ لا يتوب المكلَّف وأنْ لا يُعْفَى عنه؛ لأنَّا نقول: هذا يحتاج إلى صحة استقراء وبيان في كل وعيد. وهو أيضًا أَوْلى مِن التعبير بِـ "ما يُخَاف على تاركه"؛ فَقدْ زَيَّفَه إمام الحرمين بما يُظَن وجوبُه وليس بواجب. واعْلَم أني لم أُقَيِّد ذلك كالبيضاوي (¬2) بِكَونه "شرعًا"؛ لِمَا سبق أنَّ العقل لا حُكم له، ¬

_ (¬1) في (ز): والتعبير بِـ "ما يُذَم" أو بِـ "ما يُتَوَعَّد بالعقاب" أَوْلَى مِن تعبير القدماء بِـ "ما يعاقَب". (¬2) عبارة البيضاوي في (منهاج الوصول، ص 132): (ويُرْسَمُ "الواجب" بأنّه الذي يُذَمُّ شَرْعًا تارِكُه قَصْدًا مُطْلَقًا).

بل للشرع. ولا بِكونه "قَصْدًا" لِيَخرج المتروك بلا قصد (كَتَرْك النائم والساهي والمُكْرَه)؛ لأنَّا نقول: لا نُسلِّم أنَّ هذا ترك؛ لأنَّ التارك مَن خطر بباله الشيء وكَفَّ عنه، فالموجود مِن هؤلاء انتفاء الفعل وهو أَعَم مِن التركِ، والذمُّ إنما هو للترك. فَمَن نام حتى خرج الوقت، يقال فيه: (لم يُصَلِّ)، ولا يُقال: (تَرَك)؛ ولذلك لم يتعرض القاضي ولا غيره لذلك. ولم أُقَيِّده كالبيضاوي أيضًا بِـ "مُطْلقًا" استظهارًا (¬1) على دخول فرض الكفاية والمخَيَّر والموسَّع، وَتَرْك المريض والمسافر الصوم، فإنهم تركوه مع كَوْنه واجبًا عليهم إلا أنهم لم يتركوا مطلقًا، بل الترك في فرض الكفاية لِظن أنَّ الغير فَعَل، وفي المخَيَّر لِفِعل خصلةٍ أخرى، وفي الموسَّع للفعل في ثاني الحال، وفي المريض والمسافر لِفعلهما بعد زوال العذر حتى قال الإمام الرازي: إنَّ الواجب عليهما أَحَدُ الشهرين، وأما ترك الحائض فليس مِن هذا؛ لأنه لم يجب عليها، بل يُقطع بذلك، وسيأتي بيانُ ذلك كله. لِأني أقول (¬2): إنَّ مَن فَعَل، لا يُقال: (إنه تَرَك)، فلا يُحْتاج إلى "مُطْلَقًا"، وفَرْض الكفاية وإنْ لم يفعل أَصلًا فَلِتَبَيُّن أنَّ الوجوب قد سقط عنه. وقولي: (وَانْفِهِ بِذِي النَّدْبِ فَلَا يُشَارِك) شُروعٌ في الفعل الذي تَعلَّق به الندب، وبدأتُ هنا بِرَسْمه، فذكرتُ أنَّه يُنْفَى [منه] (¬3) هذا القيد (وهو الذم لِتاركه)، ويُؤتَى معه بأنه يُمدح فاعِلُه، وذلك معنى قولي: ¬

_ (¬1) هذا تعليل لتقييد البيضاوي بِـ "مُطْلقًا". (¬2) هذا تعليل لقوله سابقًا: (ولم أُقَيِّده كالبيضاوي أيضًا بِـ "مُطْلقًا"). (¬3) كذا في (ز، ظ)، لكن في (ص، ش، ق، ض): فيه.

ص: 122 - بَلْ يُمْدَحُ الْفَاعِلُ فِيهِ، وَلْيُسَمْ ... مَنْدُوبًا اوْلَى سُنَّةً بِهَا يُتَمْ 123 - وَمُسْتَحَبًّا طَاعَةً وَقُرْبَهْ ... مُرَغَّبًا نَفْلًا لِمَنْ أَحَبَّهْ الشرح: فيقال: "المندوب": ما يُمْدَح فاعِله، ولا يُذَم تاركُه. فخرج بِقَيْد المدحِ "المباحُ"، وبإضافته للفاعلِ "الحرامُ" و"المكروه" و"خِلَافُ الأَوْلى"؛ فإنَّ المدح لتاركها. وبِنَفْي ذم تاركِه "الواجبُ"؛ فإنَّ المندوب لا يُشاركه في ذم التارك. واعْلَم أنَّ المراد بِكَونه "يُمْدَح فاعِله، ولا يُذَم تاركُه" الذي مِن شَأْنه ذلك. وكذا لو غُيِّر لَفْظُ "يُمْدح" بِـ "يُثاب" وقُصِد ذلك، سواء في "الواجب" و"المندوب"؛ لأنهما قد لا يثاب فاعلهما؛ لِعارِض، كالصلاة في الدار المغصوبة، فإنَّ [المُرَجَّح] (¬1) أنها تصح ولا يُثابُ (فَرْضًا كانت أو [نَدْبًا]) (¬2) خِلَافًا لِمَا بحثه صاحب "المَطْلَب" كما سيأتي في موضعه، وكَترْك الزنا وغيره مِن المحرَّمات مِن غَيْر استحضاره وكَفِّ النفْس عنه بالقصد؛ فإنه واجبٌ ولا ثواب فيه، وكذا ترْك المكروهات. ولهذا قال القرافي: (ليس كل واجب يُثاب على فِعله، ولا كل محرَّم يثاب على تركه). قال: (فالأول كنفقة الزوجة والقريب ورَدِّ المغصوب والوديعة، لا ثواب فيها حتى تستحضر ويقصد الامتثال، والثاني كترك الزنا وشرب الخمر) (¬3). انتهى قلتُ: وَوزانُ ذلك مِن المندوبات: إبراءُ المُعْسِر وإقراضُ المحتاج، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (ز): الراجح. (¬2) في (ش): نفلا. (¬3) شرح تنقيح الفصول (ص 71).

تنبيهان أحدهما: يُؤخذ مِن كَوْن المندوب لا ذَمَّ في تركه أنه إذَا شَرع فيه وتركه، لا يُذم؛ فلا يَكون إتمامُه واجبًا، وأنه لا فَرْق في تركه بين أنْ يَكون ابتداءً أو بَعْد الشروع. وخالف في ذلك أبو حنيفة ومالك، فأوجَبَا إتمامه بالشروع؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]. ولنا: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أحيانًا يَنْوي صوم التطوع ثم يفطر، أَخرجه [مسلم] (¬1) وغيره (¬2)؛ فيُحمل النهي في الآية على التنزيه؛ جَمعًا بين الدليلين، هذا إنْ لم يُفَسَّر {وَلَا تُبْطِلُوا} بأنكم [تحبطوها] (¬3) [بِالرِّدَّة، بدليل الآية التي قَبْلها، أو أنَّ المراد] (¬4): ولا تُبْطلوها بالرياء. نقله ابن عبد البر عن أهل السُّنة، ونقل عن المعتزلة تفسيرها بمعنى: لا تبطلوها بالكبائر. لكن الظاهر تفسيره بما تَقدم. واحتجَّ له أيضًا بحديث الأعرابي: "قال: هل عَلَيَّ غيرُها؟ قال له - صلى الله عليه وسلم -: لا، إلَّا أنْ تطوَّع" (¬5). أَيْ: فَيلْزمك التطوع وإنْ كان تَطوعًا في أصله. وعندنا: الاستثناءُ منقطع؛ بدليل أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أَبْطَل تَطوعه كما سبق. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ت). لكن في (ز، ش، ق): النسائي. (¬2) صحيح مسلم (رقم: 1154)، سنن النسائي الكبرى (رقم: 2631). (¬3) كذا في (ق، ت). لكن في (ز، ش): تخلصوها. وفي (ص): تخلصوها ولا تبطلوها. (¬4) ليس في (ز). (¬5) صحيح البخاري (رقم: 46)، صحيح مسلم (رقم: 11).

وقال ابن المنير: [وقع لي في ذلك مأخذٌ] (¬1) لطيف، وهو أنَّ الصوم والصلاة ونحوهما عبادة لا تَقبل التجزئة، فَقَطْعُها تَجْزئة، أَيْ إيقاع بَعْضِ عبادة، وذلك حرام؛ لأنه تَعَبُّد فاسد. قال: ونَظِيرُه عتق البعض يَسْري للباقي مع اليسار، ومع الإعْسار لا يَسْرِي؛ لإمكان التجزئة. قال: أما التَّنَفل على الراحلة - وإنْ كان فيه تَرْك بعض الأركان - فللضرورة. قلتُ: فقدْ اضطربت المناسبة التي أَبْداها لوجود التجزئة مرة مع الصحة ومرة مع البطلان، فلا يلتفت إليها. وأيضًا فَفَرق بين أنْ يقصد تجزئة العبادة ابتداءً وبين أنْ تبطل وتُجْعَل كأنْ لم تَكُن. ومما استشكل على أبي حنيفة في ذلك: تجويزه للمتنفل بعد أنْ [يشرع] (¬2) أنْ يصلي قاعدًا؛ فلذلك خالفه صاحباه، فمنعَا القعود؛ طَرْدًا للقياس. على أنَّ أبا نصر العراقي نقل عن أبي حنيفة في كتاب الصداق أنَّ له الخروج مِن صوم التطوع، إلَّا أنه يجب عليه القضاء. نَعَم، أبو نصر أَوَّلَه كما نقل ذلك أبو علي السنجي (مِن أصحابنا) في "شرح الفروع". فإنْ قِيل: ما وَجْه الوجوب في إتمام حج التطوع لمن شرع فيه عندكم؟ قلتُ: ذكر الماوردي جوابين: أحدهما: لأنَّ نَفْلَه في غالب الأحكام كَفَرْضه؛ فإنهما متساويان في النية، فيقول في كل منهما: لبيك بالحج، مِن غير أنْ يُعَيِّن فَرْضًا أو نَفْلًا، أو يُحْرِم مُطْلقًا ثُم يصرفه لِمَا شاء، سواء ذلك في الفرض أو في التطوع. ولو لَبَّى بلا نية، لَمْ ينعقد، بخلاف العكس. ومتساويان أيضًا في الكفارة بإفساد أحدهما بجماع، وفي لزوم الفدية في الإتلافات والاستمتاعات؛ فَوَجَبَ أنْ يتساويَا في لزوم الإتمام. ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ق). لكن في (ص، ت): وقع لي ذلك بمأخذٍ. وفي (ش): وقع في ذلك مأخذ. (¬2) كذا في (ص، ز، ش). لكن في (ق، ت): شرع.

الثاني أجْوَدهما (وبه أجاب الشافعي في "الأُم"): أنه يجب المضيُّ في فاسد التطوع كواجِبه، فإتمامُ صحيحِ التطوعِ أَوْلَى. عَلَى أنَّ هذا السؤال قد أُفْسِدَ مِن أَصْله بأنَّ الحج لا يمكن وقوعه تَطوعًا؛ فإنَّ [إقامة شعار البيت] (¬1) مِن فروض الكفايات، وهي تَلْزم بالشروع (على الأصح). نَعَم، قال الرافعي: (ينبغي أنْ تَكون العمرة كالحج، بل الاعتكاف والصلاة في المسجد الحرام كذلك، فإنَّ إحياء البقعة يحصُل به) (¬2). وإنْ كان في "الروضة" قد تَعَقَّبه بما لا يلاقيه، فليُتأمَّل. والعمرة كالحج في كل ما تَقدم كما أشار إليه الرافعي فيما ذكره مما سبق. نَعَم، قِيل: لنا مسائل يجب فيها إتمامُ التطوع عندنا غير الحج والعمرة، منها ما قال بعضهم: الأضحية سُنة وتلزم بالشروع. وذكره الساجي في نصوص الشافعي. قلتُ: إنْ أُرِيدَ بِلزوم الإتمام وجوبُ التصدق بشيء منها (وهو الظاهر)، فهذا إنما هو خارجٌ مَخْرَج الشروط، لا تتميم حقيقة. ونظيره استقبال القِبلة والستر في صلاة التطوع. ومنها في "شرح الفروع" لأبي على السنجي أنَّ أبا زيد المروزي وبعض الأصحاب أوجبوا إتمام الطواف المندوب على مَن شرع فيه، وغَلَّطهما. وحَمَله بعضُهم على الطواف الواجب في الحج والعمرة المتطوع بهما؛ فرجع ذلك إلى مسألة إتمام الحج والعمرة التطوعين. التنبيه الثاني: يُؤخَذ مِن كَوْنه "يُمدح فاعلُه" أنَّ المدح لا ينفك بخوف اعتقاد العامة وجوبه فيترك - كما قاله مالك ونقله الدارمي في "استذكاره" عن أبي إسحاق المروزي مِن أنَّ السُّنة قد يَكون تَرْكُها أَفْضَل لذلك، كقراءة الجمعة يوم الجمعة، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) كذا في (ز)، لكن في (ص، ت): إقامته شعار البيت فهو. (¬2) العزيز شرح الوجيز (11/ 353).

ولا يخالف هذا ما سبق مِن كَوْنه قد لا يُثاب عليه لِعارِض؛ لِقيام الدليل هناك دُون هذا. وقولي: (وَلْيُسَم) إلى آخِره - إشارة إلى أسماء الفعل "المندوب"، منها ذلك، مأخوذ من لفظ "الندب" المتعلق به، والأصل "مندوب إليه"، فَحُذفت الصلة؛ اختصارًا، لكن هذا إنما يحتاج إليه إذَا لم يسلط الندب (أَىْ: الطلب) على الفعل نفسه. ومنها: "السُّنة" و"الأَوْلى" و"المستحب" و"الطاعة"، ونحوه كَـ "التطوع"، وفي الحديث: "قال: هل عَلَيَّ غيرُها؟ قال: لا، إلَّا أنْ تطوَّع"، و"القربة" وإنْ كانت قد تُطْلَق على الواجب أيضًا كما في حديث: "ولن يَتقرب إلَيَّ المتقربون بِمِثْل ما افترضت عليهم" (¬1)، و"الرغبة"، و"المُرَغَّبُ فِيه"، و"النَّفْل" مأخوذ مِن معنى الزيادة؛ لأنه زائدٌ على الفَرْض، وفُسِّر به قولُه تعالى: {نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] إنْ قُلنا: نُسِخ التهجُّد في حقه كما قاله النووي في "الخصائص" في النكاح، بل يَكون هذا دليلًا له، وقِيل: المراد: زيادة في الوجوب عليك على ما هو واجبٌ على الأُمَّة. وقولي: (لِمَنْ أَحَبَّهْ) متعلق بِقَولي (يُتَم)، [أَيْ: يُتَم تعريفُه بهذه] (¬2) الأسماء ومَا بعدها لن أحب أنْ يتعرف أسماء هذا النوع. واعْلَم أنَّ ما ذكرنا إنما هو على تقدير أنَّ معنى هذه الأسماء كلها واحد، وأنها مترادفة، وهو الأصح. وذهب بعض أصحابنا إلى التغاير في بعضها، فقال القاضي حسين والبغوي: "السُّنة" ما واظب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، و"المستحب" ما فعل مرةً أو مرتين، وأَلْحَقَ بذلك ¬

_ (¬1) مسند أحمد (26236) وغيره بلفظ: "وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ"، وصحيح البخاري (6137) بنحوه. (¬2) في (ق): أي يتم هذه. وفي (ش): هذه الأربعة بهذه.

بعضُهم ما أمَر به ولَمْ يُنْقَل أنَّه فَعَلَه، و"التطوُّعُ" ما لم يَرِد فيه بخصوصه نَقْلٌ. وردَّه القاضي أبو الطيب في "منهاجه" بأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حج مرة، وفي أفعاله فيه ما هو سُنة، وكذا لم يُصَلِّ للاستسقاء ويخطب إلَّا مرةً، وهُما سُنة. وقال الحليمي: "السُّنة" ما استُحِب فِعْلُه وكُره تركه، و"المستحبُّ" ما لم يُكره تركه. وقِيل: "النفل" و"التطوع" واحد، وهو ما سِوَى "الفرض"، و"السُّنة" و"المستحب" [مِن أنواعهما] (¬1). وقِيل: "السُّنة" ما فَعَله النبي - صلى الله عليه وسلم -، و"المستحب" ما أمر به سواء فَعَله أَوْ لا، أو فَعَله ولم يُداوم عليه. نقله في "المَطْلَب" في باب الوضوء، كأنه لحظ في "السُّنة" معنى الدوام. وقِيل: "السُّنة" ما ترتبت كالراتبةِ مع الفريضةِ، و"النفلُ" و"الندبُ" ما زاد على ذلك. حكاه الشيخ أبو إسحاق في "اللمع". وللمالكية تفرقَةٌ أخرى: أنَّ ما أَمَر به الشرعُ وبالغ فيه "سُنَّةٌ"، وأولُ المراتب تطوعٌ ونافلة، وبينهما فضيلةٌ ومُرغبٌ فيه. وربما سميت "السُّنة" هيئة، كما قاله أصحابنا في الصلاة [فيما] (¬2) لا يُجْبَر بسجود السهو، وكما قاله أبو حامد فيما يتهيَّأ به للوضوء، كالتسمية وغسل الكفين، لكن في الحقيقة ليست هذه التسمية له من حيث هو، بل في هذا المَحَل الخاص؛ لمناسبة تَخُصُّه. وفي "زوائد الروضة" أول باب صلاة التطوع تسمية "السُّنة" حَسَنًا عند مَن يجعلها أسماء مترادفة، وإنما لم أذكره لما سيأتي أنَّ "الحسن" إنما سُمي به مِن حيث كونه مأذونًا شرعًا. ¬

_ (¬1) ليس في (ص). (¬2) كذا في (ت). لكن في (ز، ص، ض، ق، ش): ما.

فائدة: قال ابن العربي: أخبرنا الشيخ أبو تمام بمكة أنه سأل الشيخ أبا إسحاق ببغداد عن قول الفقهاء: "سُنة"، و: "فضيلة"، و: "نَفْل"، و: "هيئة". فقال: هذا عامته في الفقه، ولا يقال إلَّا فرض وسُنة، لا غير. [وأمَّا] (¬1) أنا فسألت أبا العباس الجرجاني بالبصرة، فقال: هذه ألقاب لا أصل لها، ولا نَعرفها في الشرع. والله أعلم. ص: 124 - وَمَا بِهِ قَدْ عُلِّقَ التَّحْريمُ ... فَهْوَ الَّذِي فَاعِلُهُ مَذْمُومُ 125 - وَهْوَ الْحَرَامُ الْحَظْرُ وَالْمَعْصِيَةُ ... وَالْإثْمُ وَالْمَزْجُورُ وَالْفَاحِشَةُ 126 - وَالذَّنْبُ وَالسَّيِّئَةُ الْقَبِيحُ ... وَحَرَجٌ عُقُوبَةٌ تَجْرِيحُ الشرح: أَيْ: ما تعلق به التحريم هو الذي يُذم فاعِلُه. فيخرج بِقَيْدِ "الذَّم": ما سوى الحرام والواجب، وبإضافة الذمِّ للفاعلِ: الواجبُ. والمراد: الذي مِن شأنه أنْ يُذم فاعله وإنْ تَخَلَّف، كَمَن وَطئ أجنبية يظنها زوجته كما سيأتي. ولم أُقيده بِكَونه "قَصْدًا" ولا بِـ "شَرْعًا"؛ لِمَا سبق في الواجب، ولا بِـ "مُطْلَقًا" وإنْ كان في التحريم ما هو مُخَيَّر كما سيأتي؛ لأن الفعل متى وُجِد في المخيَّر، كان مذمومًا حرامًا. ولم أَقُل: (ويثاب تاركه)؛ لأنَّ "المكروهَ" يشاركه في ذلك و"خِلَافَ الأَوْلى"، وقد خَرجَا بِقَيْد ذم الفاعل، وأيضًا فَقدْ لا يثاب؛ لِعَدَم استحضاره كما سبق. ويُسَمَّى: - "مُحَرَّمًا": اسم مفعول مِن حَرَّمَه تحريمًا. ¬

_ (¬1) في (ز، ظ): قال وأما.

- و"حرامًا": وصف فاعل مِن حَرُم يَحْرُم؛ لأنه مطاوع "حَرَّم" المُضعَّف كما سبق تقرير نظيره في "الواجب". - ويسمى "مَحْظُورًا": مِن الحظْر وهو المنع، فسُمِّي الفعل بالحكم المتعلق به. - ويُسمى أيضًا "معصيةً"، و"إثمًا"، و"حَرَجًا"، و"مزجورًا"، و"زَجْرًا"، و"فاحشةً"، و"ذنبًا"، و"سيئةً"، و"قبيحًا"، و"عقوبة"، و"تجريحًا"، و"جَرْحًا"؛ لأنها تترتب على فِعله، فبهذا التقدير تصح تسميته بذلك، والله أعلم. ص: 127 - وَمَا لَهُ كَرَاهَةٌ "مَكْرُوهُ" ... تَارِكُهُ يُمْدَحُ، لا يَعْرُوهُ 128 - في الْفِعْلِ ذَمٌّ، وَ"خِلافُ الْأَوْلَى" ... مِثْلٌ، وَلَكِنْ مَنْعُ كُرْه أَوْلَى الشرح: أَيْ: ما يتعلق به الكراهة يُسمَّى "مكروهًا". ورَسْمُه: ما يُمْدَحُ تارِكُه، ولا يُذَمُّ فاعِلُه. فخرج بـ "يُمْدَحُ": المباحُ، وتقييدِه بِالـ "تارك": الواجبُ والمندوبُ؛ فإنَّ المدح فيهما على الفعل. وخرج بِعَدَم ذَمِّ فاعله: الحرامُ؛ لأنه وإنْ شارك "المكروه" في مدح التارك لكن يفارقه في ذم الفاعل. وأمَّا "خِلَاف الأَوْلَى" فَسُمِّي بذلك لأنه خِلَاف المندوب الذي مِن أسمائه "الأَوْلَى" كما سبق، وهو مشارِكٌ له في رَسْمه، إلَّا أنَّ هذا مُقَيَّد بكونه بِنَهْيٍ غير مقصود؛ ليخرج "المكروه"، وحينئذ فالمنع في "المكروه" أقوَى مِن المنع في "خلاف الأَولى"، وهو معنى قولي: (وَلَكِنْ مَنْعُ كُرْهٍ أَوْلَى)، أَيْ: أَقْوَى باعتبار كَوْنه بِنَهْيٍ مقصود، فإنَّ هذا يدل على الاعتناء بالمنع فيه، وقد يُطلق "المكروه" على "خلافِ الأولى" كما سبق، والله أعلم.

ص: 129 - وَذُو الْإبَاحَةِ "مُبَاحٌ" جَائِزُ ... مُوَسَّعٌ وَمُطْلَقٌ وَحَائِزُ 130 - حِلًّا، خَلَا مِنْ مِدْحَةٍ وَذَمِّ ... وَقَدْ يَجِيءُ اسْمًا لِغَيْرِ الْحِرْمِ الشرح: المرادُ أنَّ مُتعلَّق الإباحة مِن الفعل يُسمَّى "مباحًا" اسم مفعول مِن "أباحه". ويُسمى "جائزا" و"مُوَسَّعًا" أَيْ: فِيه (¬1)، و"مُطْلَقًا" و"حَلَالًا"، وما في معناه مِن المُحَلِّ والمُحَلَّل بالفتح، وهو معنى قَولي: (وَحَائِزٌ حِلًّا). وقولي: (خَلَا مِنْ مِدْحَةٍ وَذَمٍّ) هذا رَسْم "المباح"، وهو: ما خَلَا مِن مَدْح وذمٍّ، أَيْ: لا في فِعل ولا في تَرْك. وخروجُ بَقِية الأقسام كلها مِن ذلك واضحٌ؛ لأنَّ كُلًّا منها لا يخلو مِن مدح أو ذم إمَّا في الفعل أو في التَّرك، لكن لا بُدَّ فيه مِن الإذْن؛ لأنه مُتَعَلَّقُ الإباحة، وقد سبق تفسير الإباحة بذلك؛ فَيَخْرج حُكمُ الأشياء قَبْل ورود الشرع، وفِعْلُ غَيْر المكلَّف. نَعَم، المراد بكونه لا مدح فيه ولا ذم: الذي شأنه ذلك، أو يُقال: (لِذَاتِه)؛ ليخرج ما لو تُرك به حرامٌ؛ فإنه يثاب عليه مِن تلك الجهة، ويَكون واجبًا - على رَأْي الكعبي كما سيأتي، فإنَّ ذلك لا يختص بالمباح، وما لو تُرك به واجبٌ فإنه يُذم أيضًا مِن تلك الجهة. والمراد بالمدح والذم أنْ يَرِد ما يدل على ذلك بِطَريق مِن الطُّرق، كمدح الفاعل، أو ذَمِّه، أو وَعْده، أو وَعِيده، أو غير ذلك كما سبقت الإشارة إليه، وإن ابن عبد السلام بسط ذلك في كتاب "دلائل الأحكام". وقولي: (وَقَدْ يَجِيءُ اسْمًا لِغَيْرِ الْحِرْمِ) معناه أنَّ البائع ربما أُطْلق على مُقَابِل "الحرام"، أَعَم مِن الواجب والمندوب والمكروه وخِلافِ الأولى والمُخَيَّر فيه على السواء، أَيْ بأسمائه، ¬

_ (¬1) يَعْني: مُوَسَّعًا فِيه.

فَيُقال: "الجائز" كذلك، و"الحلال" كذلك أيضًا، كما قال تعالى: {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} [يونس: 59]. و"الْحِرْم" بكسر الحاء هو الحرام، قال تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأنبياء: 95] على قراءة حمزة والكسائي، [أيْ: حرام] (¬1) وإنْ كان المراد هناك ليس الحرام الشرعي، بل المنع أو نحوه (على اختلاف المفسرين). وسَلَك بعضُ العلماء ذلك في تقسيم الحُكم، فقال: هو قِسمان: تحريم، وإباحة. ووقع في تعليقة الشيخ أبي حامد في كتاب النكاح أنها ثلاثة: إيجابٌ، وحَظْرٌ، وإباحةٌ. ولعله أراد بِـ "الإيجابِ" مُطْلَقَ الطَّلَب، وبِـ "الحظرِ" مُطْلَقَ المنع، والله أعلم. ¬

_ (¬1) من (ز، ظ).

ص: 131 - وَكُلُّ مَأْذُونٍ بِشَرْعٍ فَـ "حَسَنْ" ... فَذَاكَ "وَاجِبٌ" وَ"مَنْدُوبٌ" إِذَنْ 132 - كَذَا "مُبَاحٌ"، وَالَّذِي تَعَلَّقَا ... نَهْيٌ بِهِ "الْقَبِيحُ" فِيمَا أُطْلِقَا 133 - وَذَلِكَ "الْحَرَامُ" وَ"الْمَكْرُوهُ" ... "خِلَافُ الَاوْلَى" هُوْ بِهِ شَبِيهُ 134 - وَالْأَرْجَحُ الَّذِي الْإمَامُ قَالَهْ: ... ذُو الْكُرْهِ مِنْهُ لَا وَلَا مَحَالَهْ 135 - قِيلَ: وَيَنْبَغِي يَكُونُ مِثْلَهُ ... "خِلَافُ الَاوْلَى" هُوْ بِذَاكَ أَشْبَهُ الشرح: أَيْ: مما عُلِم مِن حد الحكم السابق (مِن حيث الإضافة إلى الله تعالى والتقسيم إلى اقتضاء وتخيير) أنَّ وصف الفعل المتعلق به الخطاب بِحُسن أو قُبْح إنما هو باعتبار إذْن الشارع وعدم إذنه، لا بالعقل كما يدَّعيه المعتزلة؛ فالحسَن: ما أَذِن فيه الشرع، والقبيح: ما نهي عنه؛ فيدخل في المأذون حينئذ "الواجب" و"المندوب"، وكذا يدخل "المباح"؛ لارتفاع شأنه بالإذن فيه وإنْ لم يُطلب. ويدخل في المنهي عنه "الحرام" و"المكروه" و"خِلَاف الأَوْلى"؛ لأنه شبيه بالمكروه في كَوْنه مَنْهِيًّا نَهْي تنزيه، وإنْ كان النهي غيرَ مقصود، وهو معنى قولي: (هُوْ بِهِ شَبِيهُ). نَعَم، كَوْن "المكروه" و"خِلَاف الأَوْلى" مِن القبيح فيه نظر، وإنْ كان في "جمع الجوامع" صرح بذلك في "المكروه"، لكن قال شيخُنا شارحُه الزركشي أنَّه لم يَرَه لِغَيْره، وكأنه أخذَه مِن إطلاق كثير أنَّ "القبيح" ما نُهِيَ عنه. قال: (ويمكن أنْ يريدوا النهي المخصوص - أَيْ: نَهْي التحريم - بل هو الأقربُ لإطلاقهم، وكأنَّ المُوقِع له في ذلك قولُ الهندي: إنَّ القبيح عندنا ما يكون منهيًّا عنه،

ونَعْني به ما يَكون تَرْكه أَوْلَى، وهو القَدْر المشترك بين المُحَرَّم والمكروه) (¬1). انتهى فقولي: (وَالْأَرْجَحُ الَّذِي الْإمَامُ قَالَهْ) إشارة إلى النظر المذكور في "المكروه" و"خِلَاف الأَوْلَى"، وأنَّ الأرجح الذي قاله إمام الحرمين: إنَّ "المكروه" لا قبيح ولا حسن؛ لأن "القبيح" ما يُذم عليه، و"الحسَن" ما يُثْنَى عليه، وهو ليس كذلك فيهما. ولذلك قال الشيخ تقي الدين السبكي: (لَمْ نَرَ أَحَدًا نعتمده خالفَ الإمام في هذا إلَّا أناسًا أدركناهم تعلقوا بإطلاق نحو البيضاوي (¬2) النَّهْيَ، وليس هذا التعلق بِأَوْلى مِن امتناع إمام الحرمين مِن ذلك) (¬3). قلتُ: بل الغالب - كما سبق - في إطلاقِ النَّهْيِ التحريمُ؛ ولذلك حمل الأصفهاني كلام "المنهاج" [عليه] (¬4). نَعَم، كلام إمام الحرمين إنما هو مُفَرَّعٌ على تفسير الحسن والقبيح بما يُمدح فاعله أو يُذم شرعًا، وغَيْره علَّق القُبح بالنهي لا بالذم. قِيل: وينبغي على قول الإمام ذلك في "المكروه" أنَّ "خِلَاف الأَوْلَى" كذلك، بل هو أَوْلى بأنْ يُنْفَى القُبح عنه مِن حيث إنَّ النهي فيه غَيْر مقصود. قلتُ: وينبغي أنْ يَكون "المباح" أَوْلى منهما بأنْ لا يَكون حَسنًا ولا قبيحًا؛ لانتفاء الاقتضاء فيه. نعم، تمسكوا في كَوْنه حسنًا بقوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]؛ لأنَّ أَفْعَل التفضيل يقتضي المشاركة. فإذَا جُوزوا على الأحسن وهو "الواجب" و"المندوب"، يبقى المباح حَسنًا، ولا جزاء فيه. ¬

_ (¬1) تشنيف المسامع (1/ 191)، الناشر: مكتبة قرطبة، الطبعة الثانية - 2006 م. (¬2) عبارة البيضاوي في "منهاج الوصول، ص 132": (ما نُهِيَ عنه شرعًا فَقَبيحٌ، وإلَّا فَحَسَنٌ). (¬3) الإبهاج في شرح المنهاج (1/ 61 - 62). (¬4) ليس في (ش).

قلتُ: وَفِيه نظر؛ فإنَّ الظاهر أنَّ المراد بِـ "أحسن": بِـ "الحسَن"، لا معنى التفضيل؛ بدليل قوله تعالى في الآية الأخرى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة: 24]، وذلك هو المطلوب، لا "المباح"؛ فإنه لا جزاء فيه، وأيضًا فيلزم أنْ يَدْخل في الحسن "الحرامُ" وغيره؛ لأنه مما قد يَعمله المكلَّف؛ فَيكون مِن المُفَضَّل عليه، وهو باطل. أو يكون التفضيل باعتبار أنَّ الجزاء أفضل مِن العمل، فكأنه قيل: يَجزيهم أجرهم بالنوع الذي هو أفضل من أعمالهم. لكن يشكل بما قاله العلماء: إنَّ كل عمل فجزاؤه خير منه، إلا التوحيد؛ فإنه أفضل مِن جزائه، ولأن "أَفْعَل" التفضيل لا يُضاف إلا إلى جنسه. تنبيهات أحدها: لأصحابنا عبارات أُخرى في الحسن والقبح - لا طائل في بَسطها، وقد أَشَرْتُ إلى شيء منها فيما سبق. وأمَّا المعتزلة فإنهم لَمَّا أناطوا الحُسن والقبح بِحُكم العقل، عَبَّروا بعبارات: منها أنَّ ما للقادرِ عليه العالِمِ بحاله أنْ يَفعله: "الحَسن". وخِلافُه: "القبيح"؛ فيدخل في "الحسنِ" الأحكامُ سوى الحرام، و"القبيح" الحرامُ فقط. ومنها أنَّ "الحسَنَ": الواقعُ على صِفَة توجب المدح. و"القبيح": الواقعُ على صفة تُوجب الذم؛ فيدخل في "الحسَنِ" الواجبُ والمندوبُ، وفي "القَبيحِ" الحرامُ فَقَط، ويبقى المباح والمكروه لا حَسنًا ولا قبيحًا. الثاني: أَطْلَق الأصوليون مقابلة الحسن بالقبيح، وفِيه نظر؛ لأنَّ مُقابِلَه إنما هو السَّيِّئ؛ قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]، وَقَالَ تَعَالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} [فصلت: 34]، وأيضًا فالقبيح أَخَص مِن السَّيِّئ، كما

أنَّ الجميل أَخَص مِن الحسن؛ بدليل قولهم: (الحسن الجميل)؛ للترقي مِن الأدنى للأعلى، فينبغي مقابَلة الجميل بالقبيح، والحسن بالسَّيئ. نَبَّه على ذلك الشيخ جمال الدين [الأغْماتي] (¬1) في كتاب "المطالع". الثالث: إناطة الحسَن بالإذن أَخَصُّ مِن إناطة البيضاوي له بعدم النهي حتى أَدْخل فيه فِعل غَيْر المكلَّف (كالصبي والساهي والبهيمة) استطرادًا؛ لأنه إنما يتكلم في الفعل المتعلِّق به الخطاب، وهو فِعل المكلَّف. وألزَمُوه أنْ يسْتَطرد إلى أنْ يُمثل أيضًا بِفِعْل الله تعالى. الرابع: فيما يظهر فيه ثمرة الخلاف في هذه المسألة، وقد أشار إلى ذلك الرافعي بَعْد أنْ اقتضى كلامُه وصرح به غيرُه أنَّ أصحاب أبي حنيفة وافقوا المعتزلة على الإناطة فيهما بالعقل، فقال في باب الزنا: (لو مَكَّنت البالغة العاقلة مجنونًا أو صبيًّا فَعَليها الحد، خِلَافًا لأبي حنيفة، قال: لأنَّ فِعله - والحالة هذه - ليس بِزِنًا. قُلنا: لا نُسَلِّم أنَّه ليس بِزِنًا، بل زِنا ولكن لا يجب الحد) (¬2). انتهى ووَجْه التخريج أنَّ الزنا إنما يكون في العقل قبيحًا إذا صدَر مِن المكلَّف. فما يفعله الصبي إذا لم يكن زنًا، لا تُحَدُّ المُمَكَّنَة منه. وعلى قول الشافعي هو قبيح في نفسه؛ لأنه مَنْهِي عنه ولو سقط الحدُّ فيه عن الصبي لِعَدم تكليفه. ولا يخفَى ما في هذا، وإنما ينبغي أنْ يَكون على العكس، أي: إنَّ مَن يقول: (إنه عقلي) يوجب الحدَّ على المُمَكِّنَة؛ لأنَّ العقل مدرك لِقُبْح هذا الفعل مِن حيث هو، ومَن يقول: (شرعي) لا يوجب الحد؛ لِعَدم تَعلُّق النهي بفعل الصبي. على أنَّ وجوب الحد بالتمكين إنما ¬

_ (¬1) كذا في (ق، ت). لكن في (ص، ش، ض): الأعماني. وفي (ز): الأغماني. وهي نِسبة إلى مدينة "أَغْمَات" بالمغرب قُرب مراكش. (الأنساب للسمعاني 1/ 194، معجم البلدان 1/ 225). (¬2) العزيز شرح الوجيز (11/ 148 - 149).

هو لوقوع الفعل بينهما، فهي زانية، وهو ليس بِزانٍ، كَمَن ظن مَن على فراشه زوجته، أو بالعكس، أحدهما زانٍ دُون الآخَر. ومما عُدَّ أيضًا مِن فوائد الخلاف: أنه إذا قطع يد الجاني قصاصًا فَمَات، فلا ضمان فيه عندنا؛ لقوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]، و"المُحْسِن" مَن أَتَى بالحسن؛ فيندرج في الآية عند مَن قال: إنه حسن. وقال أبو حنيفة: يضمن. وهذا يأتي في كل موضع كُره فيه القصاص. قلتُ: وفيه نظر أيضًا؛ فإنَّ "المحسِن" مِن "الإحسان"، لا مِن "الحسْن"، ولو دارت المادةُ على الحاء والسين والنون إلَّا أنَّ في استعمال اللغة التغايُر، لا سِيَّما وقد سمَّى الله تعالى القصاص "سيئة"؛ تنفيرًا منه، فقال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وأيضًا فيلزم مِن ذلك أنَّ فاعل المباح له الجنة وزيادة؛ لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. نَعَم، مِن أَحْسَنِ ما خُرِّج على الخلاف ما ذكره قاضي القضاة شهاب الدين محمود الزنجاني الشافعي في كتابه "تخريج الفروع على الأصول" بعدَ أنْ نَصب الخلاف بين جماهير العلماء في تعليقهم التحسين والتقبيح بالأمر والنهي وبين المنتمين إلى أبي حنيفة مِن علماء الأصول بأنَّ العقل له مَدْخل وأنَّ الشرع كاشِفٌ بِأَمْره ونَهْيه عن الحسْن والقُبح: (أنَّ إسلام الصبي المميِّز لا يصح عندنا؛ لِعَدم تعلُّق الأمر به، ويدل له أنَّ الإِسلامَ: الاستسلامُ، فيستدعي طلبًا. فإذا انتفَى، انتفَى. وهُم أناطوه بالعقل، والعقل يوجِب على الصبي ذلك كالبالغ، وهو عجيب؛ فإنهم قد ادَّعوا أنَّ الشرع لا يخالف العقل بل كاشف، فكيف خالفه هنا؟ ! - وأنَّ نَذْر صوم العيد والتشريق لا يصح عندنا؛ لعدم صحة الصوم فيهما، وعندهم يصح؛ لأنَّ الصوم عبادةٌ في نفْسه مأمورٌ بها، فكان حُسنه ثابتًا شرعًا وعقلًا، والنهي عنه في

العيد والتشريق لِأمرٍ خارج كَتَرك إجابة مَن دَعَاه لِيأكل عنده فيهما. - وأنَّ شهادة أهل الذمة بعضهم لبعض لا تُقْبَل عندنا، وعندهم تُقبل؛ لأنَّ قُبح الكذب ثابت عقلًا، وكذلك حُسن الصدق، وكُل ذِي دِين فإنه يجتنب ما هو محظور في دِينه) (¬1). انتهى والله أعلم. ص: 136 - وَالْأَمْرُ لَا يَشْمَلُ مَا قَدْ كُرِهَا ... مُحَرَّمًا يَكُونُ أَوْ مُنَزَّهَا 137 - فَوَقْتُ نَهْيٍ الصَّلَاةُ تَبْطُلُ ... بَلْ وَاحِدًا بِالشَّخْصِ إذْ يُفَصَّلُ 138 - بِجِهَتَيْنِ كَالصَّلَاةِ فَتَصِحْ ... فِي الْغَصْبِ لَكِنْ لَا ثَوَابَ يَتَّضِحْ الشرح: هذا مِن تتمة الكلام في الأفعال التي تُعلَّق بها الأحكام؛ وذلك لأنه قد سبق أنَّ الفعل إما مطلوب الإيجاد أو التَّرك، فأمَّا أنْ يَكون مطلوبهما معًا فَفِيه تفصيل: فإنْ كان مِن جهة واحدة، فممتنع؛ لأنه جمع بين الضِّدَّين؛ فلذلك صَدَّر ابنُ الحاجب كلامه في هذه المسألة بقوله: (يستحيل كَوْن الشيء واجبًا حرامًا مِن جهة واحدة إلَّا عند بعض مَن يُجَوِّز تكليفَ المُحَال) إلى آخِره. وأمَّا ابن السمعاني فعبَّر عن ذلك بقوله: (الأمر المطلَق لا يتناول المكروه). قال: (وذهب أصحاب أبي حنيفة إلى أنه يتناوله) (¬2). ¬

_ (¬1) تخريج الفروع على الأصول (1/ 246 - 248)، الناشر: مؤسسة الرسالة، تحقيق: د. محمَّد أديب صالح، الطبعة: الرابعة/ 1402 هـ - 1982 م. (¬2) قواطع الأدلة (1/ 132).

ثم ذكر ما سيأتي حكايته عنه بعد ذلك. واحترز بقوله: (المطلَق) عن المقَيَّد بما يخرج الصورة التي يكون الفعل فيها مكروهًا، فلا خلاف حينئذ في عدم تناوله. وإطلاقه "المكروه" شامل للمكروه تحريمًا والمكروه تنزيهًا؛ لأنَّ النَّهي اقتضَى ترْكه، فلو أنَّ الأمر يَشمله لَكان مُقْتَضِيًا لِفعله؛ فيكون مطلوبًا فِعله وترْكه في آنٍ واحد، وهو مُحَال. وسيأتي في الأمثلة إيضاحُ ذلك. واعْلَم أنَّ موضوع هذه القاعدة أنَّ الواحد هل يكون مأمورًا مَنْهِيًّا كما ذكرناه؟ لكن الواحد إمَّا واحد بالجنس أو النوع وإمَّا واحد بالشخص. فالأول هل يكون منهيًّا مأمورًا باعتبار أفراده بأنْ يَكون بعضها مَنهيًّا وبعضها مأمورًا؟ قال الجمهور: نعم، كَمُطْلَق السجود واجبٌ لله وحرام لِغَيره، قال تعالى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ} [فصلت: 37]. وخالف أبو هاشم فيه فيما حكاه عنه إمام الحرمين، فقال: إنَّ المحرَّم إنما هو القصد مِن السجود، لا نفس السجود (¬1)؛ بناءً على أصله أنَّ النوع لا يختلف بالحسْن والقبح. والقاعدة فاسدة، فالمحرَّم القصْد والسجود معًا. وأمَّا في فَرْدٍ مِن النوع فلا، والمخالِفُ في هذا هُم الحنفية كما سبق في كلام ابن السمعاني، وهو أَعْرَفُ؛ لأنه كان حنفيًّا، ومَثَّل لذلك بالصلاة في الأوقات المكروهة، وصوم يوم العيد والتشريق، ونحو ذلك كما سيأتي إيضاحه. والثاني (وهو الواحد بالشخص): إنْ لم يَكن له إلَّا جهة واحدة، فاجتماع الأمر والنهي فيه ممتنع إلَّا عند مَن يُجَوِّز التكليف بالمُحَال لذاته. وإنْ كان له جهتان (كالصلاة في المغصوب)، فهو مأمور به مَنْهِيٌّ عنه باعتبارين (عَلَى المُرَجَّح). فإنْ قُلتَ: ما الفَرق بين هذا وبين ما سبق في فَرْد مِن النوع حيث امتنع أنْ يَكون مأمورًا ¬

_ (¬1) البرهان في أصول الفقه (1/ 211).

مَنْهِيًّا خِلَافًا للحنفية؟ قلتُ: لأنَّ الجهتين متعذرتان في الواحد من النوع، كالصلاة في الوقت المنهي، فإنها إذَا أمر بها فإنما هو مِن حيث كَوْنها صلاةً، والنهي عنها إنما هو مِن حيث كَوْنها صلاةً في هذا الوقت، فَقَدْ تَواردَا مِن حيث نوع الصلاة، ونحو ذلك صوم يَوْمَي العيد والتشريق، بخلاف الصلاة في الدار المغصوبة مَثَلًا؛ فإنَّ النهي ليس مِن حيث كَوْنها صلاة، بل مِن حيث شغل المكان تَعَدِّيًا - أَعَم مِن أنْ يكون صلاة أو غيرها؛ فافترقَا. إذَا تَقَرَّر ذلك، فاعْلَم أنَّ لهذه القاعدة أمثلة، منها: ما سبق مِن الصلاة في الوقت [المنهي] (¬1)، فهي غير صحيحة سواء قُلنا: النهي عنها تحريم، أو: تنزيه. أمَّا التحريم فواضح، وأمَّا التنزيه فَعَلَى وَجْه قَطَع به البندنيجي وهو الراجح، فَقَدْ صرح النوويّ في "دقائق الروضة" في الكلام على الماء المشمَّس ببطلان الصلاة أيضًا فيها ولو قُلنا: كراهة تنزيه؛ وكذا قال ابن الرفعة في "المطْلَب": (الحقُّ عندي أنها لا تنعقد جَزْمًا، وإن كانت غير مُحَرمة؛ لأنَّ الكلام في نَفْل لا سبب له، فالقصدُ به إنما هو الأجْر، وتحريمُها أو كراهتها يمنع حصوله، وما لا يترتب عليه مقصودُه - باطل كما تَقَرر في قواعد الشريعة). انتهى وقد استشكل هذا الحكم مِن وجهين: أحدهما: أنَّ الكراهة تنزيهًا تتضمن الجواز، فكيف يجتمع مع الفساد الذي تَعَاطِي المتصف به حرام؛ لِكَوْنه تلاعُبًا؟ الثاني: أنه منتقض بنحو صوم يوم الجمعة، فإنه مكروه، وظاهر كلامهم أنه لو صامه صَحّ. وقد يجاب بأنَّ ما كان لِأمرٍ خارجي لا يَقدح في الانعقاد، والتلاعب إنما يتحقق فيما ¬

_ (¬1) في (ش): المنهي عنه.

يَكون النهي فيه لِذَات الشيء أو لِوَصفه اللازم كما سيأتي تقريره في باب الأوامر والنواهي. فالصلاة في الوقت المكروه لِمَعْنَى التشبُّه بمن يَسجد للشمس عند طلوعها أو غروبها أو ظهور سلطنتها بتمام ارتفاعها قَبل أنْ تنهبط، وهذا المعنى مُلازِم لنوع الصلاة التي لا سبب لها، فالفساد مِن هذه الجهة حصل، لا [في] (¬1) المكروه مِن حيث هو. ولزوم الجواز في المكروه إنما هو [حيث] (¬2) لم يَقْترن به ما يُوجِب فساده حتى يكون محرمًا مِن هذه الحيثية فقط وإنْ كان جائزا في أَصْله؛ بدليل حكاية خِلَاف في المباحات المُخِلَّة بالمروءة الرادَّة للشهادة: هل تَحْرُم؟ أوْ لا؟ وأمَّا كراهة صوم يوم الجمعة فإنما هو للضعف عن كثرة العبادة والذِّكر فيه، وليس ذلك بوصف لازِم حتى يفسد؛ فافترقا، فتأمَّله. ومنها ما قاله ابن السمعاني عقب كلامه السابق، حيث قال: (والخلاف تظهر فائدته في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، فعندنا لا يتناول الطواف بغير طهارة ولا منكوسًا، وعندهم يتناوله، فإنهم - وإنِ اعتقدوا كراهته - قالوا فيه: يُجْزِئ؛ لدخوله تحت الأمر. وعندنا لا يدخل؛ لأنه لا يجوز أصلًا، فلا طواف بدون شرطه - وهو الطهارة - ووقوعه على الهيئة المخصوصة). قال: (وحُجَّتنا أنَّ الأمر للوجوب حقيقةً، وللندب والإباحة مجازًا، وليس المكروه واحدًا مِن الثلاثة) (¬3). انتهى ومنها ما قال إمام الحرمين: (إنَّ هذه المسألة مَثَّلها الأئمة بالترتيب في الوضوء، فَمَنْ لا ¬

_ (¬1) في (ت، ض): من. (¬2) كذا في (ص، ت)، لكن في (ز، ش): من حيث. (¬3) قواطع الأدلة (1/ 132 - 133).

يراه، يقول: التنكيس مكروه، فلا يدخل تحت الأمر) (¬1). نَعَم، قال إلْكِيا الطبري: إنَّ الكراهة في هذا إنما [هو] (¬2) لِمَعْنًى خارج، وهو مخالفة [عبادة] (¬3) السَّلَف، ومحل الخلاف إنما هو حيث لا يَكون لمعنى خارج. ثُم لا يصح التمثيل به إلا إذا كان التنكيس مكروهًا وإذا فَعله كان محُرَّما. وهذا عندهم، وأمَّا عندنا فواجب، فتركه يُخِل بهيئة الوضوء؛ فلا يُجْزِئ، فهو كما سبق في الطواف. قلتُ: وليس هذا مخالِفًا لِما سبق مِن أنَّ المكروه تنزيهًا باطلٌ - على المُرَجَّح عند النووي وابن الرفعة؛ لِما بَيَّنَّا أنَّ ذلك إذا كان لِمَعْنًى مُلازِم للماهية بحيث يكون كالذاتي لها، لا لِخارج غير ملازم. ومنها: إعادة صلاة الجنازة لا يصح على احتمال لإمام الحرمين قَوَّاه النوويّ؛ لأنها لا تستحب. وقِيل: تُكْره. فَعَلَى الكراهة [تُعَدُّ] (¬4) مِن هذه القاعدة، وكذا على أنه خِلاف المستحب؛ لأنه منهي ولو كان بنهي ضِمْني لا مستقل. ومنها: لو نذر الإحرام مِن دويرة أهله وقُلنا: (إنه مِن الميقات أفضل) كما رجحه النووي، خِلافًا لترجيح الرافعي أنه مِن دويرة أهله أفضل، فإنه يصح نَذْره؛ لأنه مقصود وإنْ كان غيْره أفضل، كما في نَذْر الحج ماشيًا وإنْ قُلنا: الركوب أفضل. قلتُ: ودخوله في القاعدة مِن حيث إنه - على ترجيح النووي - خِلَافُ الأَوْلى، فهو ¬

_ (¬1) البرهان (1/ 206). (¬2) كذا في (ص، ز، ض، ق، ش). لكن في (ت): هي. (¬3) كذا في (ش، ض، ق، ت). لكن في (ز، ص): عادة. (¬4) كذا في (ز). لكن في (ض، ق): يعد.

مَنْهي عنه نهيًا ضمنيًّا، والصحة فيه إنما هي [لِكَوْنه] (¬1) لِمَعْنًى خارجي كما سبق في نظيره، وكذا إذا قُلنا بالوجه الضعيف: (إنه من دويرة أهله مكروه). فَقَوْل بعض المتأخرين: (إنه ينبغي أنْ لا ينعقد - عَلَى القول بالكراهة؛ عملًا بهذه القاعدة) مردودٌ بما قررناه. ومنها: الصوم يوم الشك [تَطَوُّعًا] (¬2) حرام وغير منعقد؛ للقاعدة. وفي انعقاد نذر صومه وجهان، الأصح المنع، كما لو نذر صوم يوم العيد. وهذه الأمثلة كلها فيما إذا اجتمع الأمر والنهي في فَرْد مِن نوع غير شخصي. أما مثال الواحد بالشخص إذا كان له جهتان فكما سبق مِن الصلاة في الدار المغصوبة مثلًا، فإنه يصح أنْ يدخل تحت الأمر مِن جهة، ويَكون مِن الجهة الأخرى مَنهيًّا عنه، وهو معنى قولي: (بَلْ وَاحِدًا بِالشَّخْصِ إذْ يُفَصَّلُ بِجِهَتَيْنِ). أَيْ: إنَّ الأمر لا يتناول المكروه (تحريمًا كان أو تنزيهًا)، لكن إذا كان واحدًا بالشخص وله جهتان، فإنه يَكون متناولًا له، فهو منصوب عطفًا على مفعول "يَشْمَلُ" (وهو "مَا" الموصولة في قولي: مَا قَدْ كُرِهَا) بِـ "بَلْ". وهذه المسألة طويلة الذيل، ويذكرها الأصوليون مستقلة، ولكنها فرعٌ عن القاعدة السابقة كما بينَّاه، فتُذْكر لتقرير القاعدة، وذِكرها في الفروع أَلْيَق. والحاصل أنَّ الجمهور جَوَّزوا كَوْن الصلاة في هذه الصورة واجبةً حرامًا باعتبارين، فتكون صحيحة؛ لأنَّ متعلَّق الطلب ومتعلَّق النهي في ذلك متغايِران؛ فكانَا كاختلاف المحلين؛ لأنَّ كل واحدة مِن الجهتين منفكة عن الأخرى، واجتماعهما إنما هو باختيار المكلَّف، فليسا متلازمين، فلا تَناقُض. وقال أبو علي وأبو هاشم الجُبَّائِيَّان وأبو شمر الحنفي والزيْديَّة والظاهرية: إنها غير ¬

_ (¬1) ليس في (ص). (¬2) ليس في (ص).

صحيحة. وحكاه المازري عن أصبغ المالكي، وبه قال أيضًا الإمامُ أحمد، واختاره القاضي أبو بكر، وابن العارض المعتزلي في "النكت"، وحكاه القاضي [حسين] (¬1) وابن الصباغ وجْهًا لأصحابنا، واختاره في "المحصول". ثُم افترقوا فِرقتين، ففِرقة قالت: لا يَسقط بها الفرض. وهو المنقول عن أحمد. وفِرقة ذهبت إلى السقوط، لكن عندها، لا بها. قال في "المحصول": (لأنَّ السلف أجمعوا على أنَّ الظلمة لا يؤمرون بقضاء الصلاة المؤدَّاة في [الدور] (¬2) المغصوبة، ولا طريق إلى التوفيق بينهما إلا بما ذكرناه). قال: (وهو مذهب القاضي أبي بكر) (¬3). انتهى لكن قال الصفي الهندي: (الصحيح أنَّ القاضي إنما يقول بذلك لو ثبت القول بصحة الإجماع على سقوط القضاء، فأمَّا إذَا لم يثبت ذلك، فلا يقول بسقوط الطلب بها ولا عندها) (¬4). انتهى وقد علِمتَ أنَّ الإجماع لا يَثبت مع مخالفة أحمد و [مَن] (¬5) سبق ذِكره. وممن منع الإجماعَ إمامُ الحرمين وابنُ السمعاني وغيرُهما. وقد حكى القاضي حسين في [تعليقته] (¬6) وَجْهين لأصحابنا أيضًا في ذلك: أحدهما: لا يصح؛ للغصب. ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (ز، ت): الحسين. (¬2) كذا في (ز، ض، ش). لكن في (ص، ق، ت): الدار. (¬3) المحصول (2/ 485). (¬4) نهاية الوصول (2/ 605). (¬5) ليس في (ش). (¬6) كذا في (ص)، لكن في (ز، ت): تعليقه.

والثاني: يصح؛ لأن المعصية ليست في عَيْن الصلاة، بل للمُقام في أرض الغير. انتهى وقولي: (لَكِنْ لَا ثَوَابَ يَتَّضِحْ) أَيْ: مع القول بأنها تصح: هل فيها ثواب؟ أو لا؟ نقل النووي في "شرح المهذب" عن القاضي أبي منصور (ابن أخي ابن الصباغ) أنَّ المحفوظ مِن كلام أصحابنا بالعراق أنها تصح ولا ثواب فيها. ونقل عن شيخه ابن الصباغ في "الكامل" أنه ينبغي حصول الثواب عند مَن صححها. قال القاضي: وهو القياس. واعْلَم أنَّ ابن الرفعة في "المطلب" قال: عندي أنَّ محل الخلاف في الفرض؛ لأن فيها مقصودَيْن: الأداء والثواب، فإذَا انتفى الثواب، صَحَّت. وقد قال الشافعي: إنَّ الرِّدة تحبط أجر الأعمال الواقعة في الإِسلام، ولا تجب إعادتها لو أَسْلم، وكذا مَن أُخِذَت منه الزكاة قهرًا، لا يُثاب، ويسقط عنه الخطاب. أمَّا صلاة النفل فالمقصود فيها واحد وهو الثواب، فإذَا لم يَحصل، لا ينعقد. قال: (وإطلاق مَن أَطْلَقَ محمولٌ على الفَرْض). انتهى تنبيه تفرع مِن هذه المسألة فرعان: أحدهما: أنَّ الخارج مِن المغصوب مثلًا بِقَصْد التوبة والإقلاع - آتٍ بواجب وإنْ كان النهي منسحبًا عليه حتى يتم خروجه؛ فلذلك قال إمام الحرمين: إنه [مُرْتَبِكٌ] (¬1) في المعصية. أَيْ: مُشْتَبِكٌ فيها. قال: لكن مع انقطاع تكليف النهي. أَيْ: لأنَّ التكليف بِتَرْك الإقامة أَمْرٌ بتحصيل الحاصل، فالمعصية فيه استصحابية. فَـ (تضعيف الغزالي ذلك بأنَّ ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ز، ض، ت). لكن في (ق، ش): مرتبط.

التكليف إذا انقطع فَلِمَاذا تستند المعصية؟ واستبعاد ابن الحاجب له لأجْل ذلك) فيه نَظَرٌ؛ فإنه لم يَقُل: (انقطع النهي)، بل: (التكليف به). أَيْ: انقطع إلزامُه بالكفِّ عن الإقامة، لا استصحاب ذلك النهي، ولذلك قال في "جمع الجوامع": إنَّ ما قاله الإمامُ دقيقٌ. قِيل: ونظيره قول الفقهاء فيمن ارتد ثُم جُن ثم أفاق وأَسْلم: إنه يجب عليه قضاء صلوات أيام الجنون؛ لانسحاب حُكم الرِّدة. قلتُ: وفيه نظر؛ لأنَّ القضاء لا يتوقف على الأمر بالأداء؛ بدليل الحائض في الصوم، ونحو ذلك. واعْلَم أنَّ الشيخ أبا محمد (¬1) نقل في "الفروق" في كتاب الصوم أنَّ الشافعي نَصَّ على تأثيم مَن دخل أرضًا غاصبًا، قال: (فإذا قصد الخروج منها، لم يكن [عاصيًا] (¬2) بخروجه؛ لأنه تارِك للغَصْب). انتهى وما نقله موجود في "الأُم" في كتاب الحج في المُحْرِم إذَا تَطَيَّب، فقال: (ولو دخل دار رجُل بغير إذْنٍ، لم يَكن جائزًا له، وكان عليه الخروج منها، ولم أَزْعُم أنَّه يُحرَّجُ بالخروج وإنْ كان يمشي ما لم يُؤْذَن له؛ لأنَّ مَشْيَه للخروج مِن الذنْب، لا لزيادة منه، فهكذا هذا الباب) (¬3). انتهى وهو مِن النفائس. ومن مادة هذه المسألة لو قال: (إنْ وطئتُك فأنت طالق). فيجوز له الوطء (على المرجَّح، ونَصَّ عليه في "الإملاء")، ويُؤمَر بالنزع؛ لأنَّ الطلاق يقع بالتغييب، وحال النزع لا يُوصَف بأنه في حرام. ¬

_ (¬1) يقصد: أبا محمد الجويني. (¬2) كذا في (ز، ق، ت، ش) وهو الصواب. لكن في (ض): غاصبا. (¬3) الأم (2/ 168).

وخالف أبو هاشم في المسألة، فزعم أنَّ فِعله متصف بكونه حرامًا كَلُبثه. قال: لأنه قبيح لِعَيْنه وإنْ كان مأمورًا به مِن حيث إنه انفصال عن المكث، لكنه أَخَلَّ بِأَصْله الآخر وهو منْع التكليف بالمُحَال، فإنه قال: لو خرج عَصى، ولو مكث عصى؛ فهو تكليف بمحال. الثاني: ما حقق به إمام الحرمين غرضه في المسألة السابقة، وهي أنَّ الساقط على جريح إنْ بقي عليه قَتَلَه، وإنْ تحوَّل عنه قتَلَ آخَر، وهُما متكافئان. وهي مسألة ألقاها أبو هاشم، فحارت فيها عقول الفقهاء. قال إمام الحرمين: (لم أقف فيها مِن قول الفقهاء على ثبتٍ، والوجه القَطْع بسقوط التكليف عنه مع استمرار حُكم سخط الله وغضبه) (¬1). وقد سأله الغزالي عن هذا، فقال: كيف تقول: "لا حُكم" وأنت ترى أنه لا تخلو واقعة مِن حُكم؟ ! فقال: حكم الله أنْ لا حُكم. قال الغزالي: فقلتُ له: لا أفهم هذا. وهذا في غاية التأدُّب مع إمامه؛ ولهذا قال في "المنخول" في مَوْضِعٍ كَقَول الإمام: (لا حُكم فيه أصلًا، فلا يؤمَر بمكث ولا انتقال) (¬2). ونقله عن الإمام آخِر الكتاب، ثم قال: (ولم أفهمه بَعْدُ) (¬3). وجَوَّز معه - في غيْر هذا الكتاب - أنْ يُقَال: يتخيَّر. قال بعض المحققين: لعلَّ الإمام أراد أنه لا حُكم متجددًا غيْر الحكم الأصلي الذي هو البراءة، فإنَّ ذلك لا تَخْلُو منه واقعة. ¬

_ (¬1) البرهان في أصول الفقه (1/ 210). (¬2) المنخول (ص 129). (¬3) المنخول (ص 488).

نَعَم، رجَّح ابن المنير أنه ينتقل عن الذي سقط عليه؛ لجواز أنْ يموت المنتقل إليه قَبْل أنْ يصير إليه؛ فَيَسْلم مِن المعصية؛ فإنَّ بقاءه على الأول معصية مُحَقَّقة، وإقلاعه عنها واجب، كالخروج مِن الدار المغصوبة. ولا يخلو ما قاله مِن نظر، وتقييد المسألة بتكافؤهما مُخْرِج لِنَحْو ما لو كان [الذي] (¬1) يسقط عليه مُسْلِمًا والمُنْتَقل إليه كافرًا لكنه معصوم بِصِغَر أو أمان، فإنَّ ابن عبد السلام قال بعد فرضها في صغيرين: الأظهر عندي لزوم الانتقال؛ لأنه أَخَفُّ مفسدة. قال: لأنَّ قتل أولاد الكفار جائز عند التترس بهم حيث لا يجوز ذلك في أطفال المسلمين، أما الكافر غير المعصوم فينتقل إليه جَزْمًا. والله أعلم. ص: 139 - وَ"الْوَضْعُ": جَعْلُ سَبَبٍ لِحُكْمِ ... أَوْ شَرْطٍ، اوْ مَانِعٍ، اوْ مَا [سُمِّي] (¬2) 140 - [لِوَفْقَهِ] (¬3) الشَّرْعَ "صَحِيحًا"، وَإذَا ... خَالَفَ "فَاسِدًا"؛ لِذَاكَ نُبِذَا الشرح: قد سبق أنَّ الحكم الشرعي ضربان: ما فيه اقتضاء أو تخيير، وما ليس فيه اقتضاء ولا تخيير ولكنه وَضْعِي، أَيْ: مِن الوضع الشرعي. وسبق أنه خبر، لا إنشاء، بخلاف الأول (وهو التكليفي)، فَلَما انتهى الكلام فيه شرعْتُ في بيان الوضعي. و"الوضع" الذي يُنْسَب إليه "الحكم الوضعي" هو: ¬

_ (¬1) ليس في (ش). (¬2) في (ن 3، ن 4): يسمي. (¬3) في (ن 3، ن 4): لوقفه.

- جَعْلُ [الشَّارع] (¬1) شيئًا سَبَبًا لِحُكْمٍ، أو شرطًا له، أو مانعًا يمنع مِن اعتباره. - أو: جَعْلُه (إذَا كان موافِقًا للشرع بوجود سببه وشَرْطه وانتفاء المانع فيه) "صحيحًا"، ويسمى بذلك تسمية شرعية. وإذَا خالف ذلك باختلال شيء مِن الثلاثة، يَكون "فاسِدا"، ويُسمى بذلك شرعًا. وقد سبق في هذا الضرب أنَّ منهم مَن يرده إلى الأول، وأنه يُدْخِله - بالتأويل - فيما فيه اقتضاء أو تخيير، وهو بعيد. وأنَّ منهم مَن لا يُسميه حُكمًا؛ لأنه ليس بإنشاء، بل خبر، وهو خِلاف لَفْظِي. وفي ذلك قول ثالث في الصحة والفساد فقط: إنهما أَمْران عقليان، لا شرعيان. وإليه جنح ابن الحاجب وقرر ذلك في "المُنْتَهَى" بأنه يَبْعُد أنْ يكون الحكم بهما شرعيًّا؛ لأنَّ كَوْن الفعل موافِقًا للشرع أو غير مُوافق - مُدْرَك بالعقل. ولكن رُدَّ بأنَّ الشرع إذا كان له في ذلك مدخل، فكيف يَكون عقليًّا؟ ! وبعض شُراحه زعم أنَّ ذلك إنما هو في العبادات فقط، وأمَّا تَرَتُّب آثار العقود عليها فَشَرْعي قَطْعًا. ولكنه مردود بِعَدم الفَرْق؛ لأنَّ [الترَتُّب] (¬2) فيهما معًا مُدْرَك بالعقل، وإنما حُكِم - على القول الراجح - بأنه شرعي لِكَوْن الشرع له فيه مدْخَل كما سبق قَبْل؛ ولذلك يحكم القاضي في العقود بالصحة والفساد، وهو لا يحكم إلا بأمر شرعي، لا عقلي. قُلتُ: لكن هذا يُقَوِّي التفرقة؛ لأنَّ ذلك إنما هو في غير العبادات، إلَّا أنْ يُقال: الحكم لأجْل التنازع، وليس مثله في العبادات. أو: يَكون في العبادات إذا علق بها طلاق أو عتق أو ¬

_ (¬1) في (ص): الشرع. (¬2) كذا في (ض، ق، ش، ت). لكن في (ز، ص): الترتيب.

نذر. قال الشيخ صلاح الدين العلائي: إنَّ أنواع خطاب الوضع المشهورة: السبب، والشرط، والمانع. وزاد بعضهم: الصحة، والفساد، والعزيمة، والرخصة. وجَرَى عليه الآمدي. وزاد القرافي نوعين آخرين: التقديرات الشرعية والحجاج. فالأول: - إعطاء الموجود حُكم المعدوم، كالماء الذي يخاف المريض مِن استعماله فواتَ عُضْوٍ ونَحْوه، فيتيمم مع وجوده حسًّا. - وإعطاء المعدوم حُكم الموجود كالمقتول تورث عنه الدية، وإنما تجب بموته ولا تورث عنه إلا إذا دَخَلتْ في مِلْكه، فَيُقَدَّر دخولها قبيل موته. والثاني (وهو الحجاج): ما يستند إليه القضاة في الأحكام مِن بَيِّنَة وإقرار ونحو ذلك مِن الحُجَج. قال: (وهي في الحقيقة راجعة إلى السبب، فليست أقسامًا أخرى). انتهى بمعناه. وقولي: (جَعْل) إشارة إلى أنَّ الحكم الوضعي هو كَوْن الشيء مجعولًا سببًا، أو شرطًا، [إلى آخِره] (¬1)، لا ذات السبب ولا ذات المُسَبَّب؛ فإنَّ الأول ليس حُكمًا قَطْعًا، والثاني حُكم قَطْعًا، وكذا تقرير الباقي. وقولي: (اوْ مَا سُمِّي) عَطْف على ما أُضيف إليه "جَعْل"، أَيْ: [أو] (¬2) جَعْلُ المُسَمَّى ¬

_ (¬1) ليس في (ص). (¬2) ليس في (ض، ت).

صحيحًا؛ لموافقة ذلك للشرع. والتقدير في الكُل: جَعْلُ سببِ الشيء سببًا، وشَرْطِه شرطًا، ومانعِه مانعًا، وجَعْلُ الصحيحِ صحيحًا، والفاسدِ فاسدًا. فمفعول "جَعْل" الثاني محذوف في الكل؛ لِلعِلم به، والله أعلم. ص: 141 - فَالسَّبَبُ الَّذِي يُضَافُ الْحُكْمُ لَهْ ... في عَدَمٍ أَوْ في وُجُودٍ حَصَّلَهْ 142 - مِثْلُ الزَّوَالِ وَالطَّلَاقِ، فَادْرِي ... وَالشَّرْطُ إنْ يُرَدْ بِهِ مَا يَجْرِي الشرح: هذا شروع في تعريف أقسام الحكم الوضعي الخمسة، وبيان معانيها. الأول: السببُ: وهو لُغَةً: ما يُتَوَصَّل به إلى الشيء، قال تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15] الآية. وفي الاصطلاح: قد اشتهر في كثير مِن كُتب الأصول وغيرها أنه: ما يَلْزَم مِن وجودِه وجودُ شيء، ومن عدمِه عدمُه لذاته. والتقييد بِكَوْن ذلك "لذاته" للاستظهار على: - ما لو تخلَّف وجود المُسَبَّب مع وجدان السبب؛ لِفَقْد شرط أو لمانع، كالنِّصَاب قَبْل الحَول، ومَن فيه سبب الإرث ولكنه قاتِل أو رقيق أو نحوهما. - وعلى ما لو وُجِد المُسَبَّب مع فقدان السبب، لكن لوجود سبب آخر، كالرِّدَّة المقتضية للقتل - إذَا فُقِدَت ووُجِد قَتْل يُوجِب القصاص، أو زِنا مُحصن. فتخَلُّف هذا الترتيب عن السبب لا لذاته، بل لمعنى خارج.

نَعَم، كَوْنه يَلْزم مِن وجودِه الوجودُ وعَدَمِه العدمُ - حُكْمٌ له، وحُكم الشيء موقوفٌ على تَصَوُّره، فلو تَوقَّف عليه تَصَوُّره، لَزِمَ الدَّوْرُ. وأيضًا فيوهم التعبير بِـ "اللزوم" أنَّ السبب مؤثِّر في وجود المُسَبَّب، وليس مذهب أهل السُّنة كما سيأتي. وحينئذ فالأحسن ما في النَّظْم - تَبَعًا لبعض المحققين - أنَّ "السبب": ما يضاف إليه الحكم، أَيْ: ما يُنْسَب إليه وجودُ الحكم إذا وُجِد، وعدمُه إذا عُدِم، أَيْ: لذاته كما سبق. وقد أخَّرْت هذا القيد في النَّظْم وجعلته قيدًا في تعريف الثلاثة (السبب والشرط والمانع)؛ اختصارًا. ومعنى إضافة الحكم إلى السبب في ذلك: - إمَّا لِكَوْنه متعلقًا به مِن حيث كَوْنه مُعَرِّفًا له وأمارة عليه كما يقوله أهل السُّنة؛ لأنَّ الدليل السمعي دَلَّ على ذلك. - وإمَّا لأنَّ السبب مؤثِّر في وجود المسبَّب - عَلَى رَأْي المعتزلة. فقيل: بذاته. وقِيل: باشتماله على صفة توجِب ذلك. وقيل: بوجوه واعتبارات مُقْتَضِية لذلك، كالوطء؛ فإنه باعتبار جهة النكاح أو المِلْك حَسَنٌ يترتب عليه ما يترتب، وباعتبار جهة الزنا قبيحٌ يترتب عليه ما يترتب. وهذه الآراء الثلاثة باطلة. لأنَّ الله تعالى هو مُوجِد [العالَم] (¬1) بإرادته، فهو المؤثِّر فيه، فلو نُسِبَ وجودُ شيء منه لتأثير سبب، لَزِمَ التشريك معه في مُوجديَّة العالم، وهو مُحَال. وأيضًا فلو كان السبب هنا مؤثِّرًا في الحكم (وهو قديم)، لَزِمَ تأثير الحادث في القديم، وهو مُحَال. ¬

_ (¬1) في (ص): افعاله.

لكن في الرد عليهم بهذا الأخير نَظَر؛ لأنهم لا يعتقدون قِدَم الحكم، ولا يُرَد على الخصم ويُلْزَم إلا بما يعتقده. وأيضًا فقدْ يقال: التأثير في تعلُّق الحكم، لا في ذات الحكم، والتعلق حادث كما سبق بيانُه والخلاف فيه. وتَوسَّط الغزالي بِقَول ثالث: وهو أنَّ السبب مؤثِّر لا بذاته، بل بِجَعْل الباري إياه مؤثِّرًا. وقد رَدَّه الإمام الرازي بأنَّ الصادِر بَعْد الجَعْل إنْ كان الحكمَ فالمؤثِّر الشارع، أو شيئًا ما يوجب الحكمَ فيكون المؤثِّر في الحكمِ وصفًا حقيقيًّا بذاته، وهذا عَيْن قول المعتزلة. وزيَّف هذا سراج الدين الأرْمَوي بما لا يُجدِي له شيئًا، وسيأتي إيضاح ذلك في العلة في القياس إنْ شاء الله تعالى. وقِيل: مؤثِّر فيه عُرْفًا، فإنْ أريد الدلالة مِن حيث العُرف، رجع للقول الحق. وإنْ أُريدَ تأثير الإيجاد، فباطل، ولا معنى لذكر العُرف فيه. واعْلَم أنَّ السبب يُعْتَبَر فيه أنْ يَكون وصفًا وجوديًّا ظاهرًا منضبطًا؛ ليخرج ما كان عدميًّا أو خَفِيًّا أو مضطربًا لا ينضبط. وإنما لم أذكره في النَّظْم هنا استغناءً بِذِكره في القياس في أوصاف العلة؛ لأنَّ العلة مِن الأسباب، وبَسْط ذلك فيها، وبيانه أَلْيَق؛ لمسيس الحاجة إلى تحقيق ما يلحق به الفرع قياسًا، فالسبب أَعَمُّ مِن العِلة؛ لأنها يعتبر فيها المناسبة أو شبههَا؛ ولذلك قَسَّم الآمدي السبب إلى: - معنوي: وهو ما اشتمل على حِكمة باعثة على شرع الحكم، كالزنا لوجوب الحد، والطلاق لتحريم الزوجة ونحو ذلك. - وغَيْره: وهو بخلافه. أيْ: إمَّا لِكَوْنه زمانًا مجرَّدًا، كَـ "الدلوك" لصلاة الظهر (إنْ قُلنا: إنه الزوال) وللمغرب (إنْ

قُلنا: الغروب، وهو ضعيف)، ووقع للآمدي أنه الطلوع، فيكون سببًا للضحى أو للعيد (أَيْ لِطَلَبها نَدْبًا)، وكاستهلال رمضان لوجوب الصوم. أو زمانًا ووصفًا معنويًّا؛ فيكون مركَّبًا، كصلاة العصر في كراهة التنفل بعدها إذا صُلِّيت في وقتها. وإمَّا لِكَونه مكانًا مع فِعْلٍ، كالمرور بالميقات مع إرادة النسُك، فإنه سبب لوجوب الإحرام. وإما بأنْ يكون وصفًا غير مناسب، كالأعضاء الأربعة في الوضوء - سببًا لرفع الحدث، ونحوه. وحينئذ فتقسيم ابن الحاجب السببية إلى وقتيَّة ومعنويَّة مدخول، ولا يَرِد مِثْله على تمثيلي في النَّظم الوقتي والمعنوي فقط؛ لأنَّ المثال لا يُخَصِّص، وسيأتي في باب القياس لذلك مزيد بيان. وقولي في تفسير كَوْنه يضاف الحكم له: (في عَدَمٍ أو في وجودٍ حَصَّلَه) المرادُ تحصيلُه عِلْمًا (كقول أهل السُّنة)، أو: إيجادًا (كقول المعتزلة). فالمسبَّب موجود - على الأول - عند السبب، لا به، وينبغي أنْ يُحْمَل النَّظْم عليه؛ لأنها على الراجح مِن الخلاف. نَعَم، هل يوجد معه؟ أو بَعْده؟ [فيه تفصيل] (¬1)، فَمِن المسبَّب: ما يُوجَد معه قَطْعًا، وما يوجَد معه (على المُرَجَّح)، وما يوجد قَبْله. فالأول: كحيازة المباح مِن المال بالاستيلاء عليه بِصَيْدٍ وإحياء موات وغنيمة، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) كذا في (ش)، لكن في (ص، ز، ت): يفصل فيه.

والثاني: كوقوع العتق أو الطلاق المعَلَّق على شرط - على الأصح في المذهب كما قاله الرافعي وغيرُه، وهو اختيار الأشعري والمحققين كالإمام والغزالي وابن عبد السلام وغيرهم. واختار الشيخ أبو حامد وأتباعه الوقوعَ عقبه مِن غير تخلُّل زمانٍ. والثالث: [كَمِلْك] (¬1) القتيل دِيَة نفسه حتى تورث عنه مع كَوْن السبب مَوْته وهو متأخِّر؛ لِأَمْرِه - صلى الله عليه وسلم - الضحاك بن قيس بأنْ يُورث امرأة أَشْيَم الضِّبابي مِن دِيَة زوجها (¬2). ومما يَقْرُب مِن ذلك في كَوْن المسَبَّب سابقًا على سببه: ركْعتا الإحرام، سبَبُها الإحرام وهو متأخِّر عنها، ولهذا لا تُصَلَّى في أوقات الكراهة؛ لأنها حينئذ لا سبب لها؛ لتأخره. نَعَم، استشكل بأنَّ السبب إنما هو إرادة الإحرام، وهي متقدِّمة؛ ولذلك قال النووي في "شرح المهذب": إنَّ عدم الكراهة قَوِي. والله أعلم. وقولي: (وَالشَّرْطُ إنْ يُرَدْ بِهِ مَا يَجْرِي) تمامُه قولي بَعْده: ص: 143 - هُنَا، فَإنَّهُ الَّذِي يُوَقَّفُ ... عَلَيْهِ تَعْرِيفُ الَّذِي يُعَرَّفُ 144 - بَعْدَ وُجُودِهِ، وَهَذَا يُعْدَمُ ... مَشْرُوطُهُ، أَيْ حَيْثُمَا يَنْعَدِمُ الشرح: أيْ: وأمَّا الثاني مِن أقسام الحكم الوضعي - وهو الشرط - فتعريفه ما ذُكِر. وقولي: (هُنا) للاحتراز عن الشرط المذكور في غير هذا المكان. وذلك أنَّ الشرط في ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ص، ق، ت). لكن في (ش): كتملك. وفي (ض): تملك. (¬2) سنن أبي داود (رقم: 2927)، سنن الترمذي (1415، 2110). قال الألباني: صحيح. (صحيح سُنن الترمذي: 1415). وانظر كلامه في (إرواء الغليل: 2649).

اللغة مُخفَّفٌ مِن "الشَّرَط" بفتح الراء وهو العلامة، وجمعُه "أشراط". وجَمع "الشرْط" بالسكون "شروط". ويُقال له: "شريطة"، وجمعُه "شرائِط". وأمَّا في العُرْف فَلَه ثلاثة إطلاقات: الأول: ما يُذكر في الأصول هنا مُقابِلًا للسبب والمانع. وفي نحو قول المتكلمين: (شرط العِلم الحياة)، وقول الفقهاء: (شرط الصلاة الطهارة، شرط البيع كذا). وهذا هو الذي يذكر هنا تعريفه. والثاني: الشرط اللغوي، والمراد به صِيَغ التعليق بـ "إنْ" ونحوها، وهو ما يُذكر في الأصول في المخَصِّصات للعموم، نحو: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6]، ومنه قولهم في الفقه: (العتق المعلَّق بِشَرط)، والطلاق كذلك، نحو: (إنْ دَخَلْت، فأنت حر)، أو: (فأنتِ طالق)، وقولهم: (لا يجوز تعليق البيع على شرط)، ونحو ذلك. وهذا - كما قال القرافي وغيرُه - يرجع إلى كَوْنه سببًا يُوضَع للمُعَلَّق حتى يَلْزَم مِن وجوده الوجودُ ومِن عدمِه العَدَمُ - لذاته. ووَهمَ مَن فسره هناك بتفسير "الشرط" المقابِل للسبب والمانع كما وقع لكثير مِن الأصوليين، وسيأتي بيانه هناك. والثالث: جَعْل شيء قَيْدًا في شيء، كَشراء الدابة بِشَرْط كَوْنها حاملًا، وبيع العبد بشرط العتق، وهو المراد بحديث: "نهى عن بيع وشرط" (¬1)، و: "ما بالُ رجالٍ يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ ! " (¬2)، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) المعجم الأوسط للطبراني (4/ 335، رقم: 4361)، معرفة علوم الحديث (ص 128). قال الألباني: ضعيف جدًّا. (السلسلة الضعيفة: 491). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 444)، صحيح مسلم (رقم: 1504).

وهذا الثالث يحتمل أنْ يُعَاد إلى الأول؛ بسبب مُواضَعَة المتعاقدين كأنهما قالَا: (جعلناه مُعْتَبَرًا في عَقْدنا، يُعْدَم بِعَدَمه). فإنْ ألغاه الشرع، لَغَا العقد. وإنِ اعْتبر، لا يلغى العقد، بل يثبت الخيار إنْ أخْلف كما فُصِّل في الفقه. ويحتمل أنْ يُعَاد إلى الثاني، كأنهما قالا: (إنْ كان كذا فالعَقْد صحيح، وإنْ لَا فَلَا). وقد بسطت ذلك في "شرح العمدة" في باب "شروط البيع"، فَراجِعْه؛ فإنه نفيس. إذَا تَقَرَّر ذلك، فالمقصود هو القِسم الأول، وقد اشتهر أيضًا تعريفه بأنه: "ما يَلْزَم مِن عَدَمِه العَدَمُ، ولا يَلْزَم مِن وجوده وجودٌ ولا عَدَمٌ - لِذَاته". وشرحُه يُعْلَم مما سبق في السبب. والاحتراز هنا بكونه "لِذَاته": - عن مقارنته للسبب، فَيَلْزَم الوجودُ بوجوده، لكن عنده، لا به. - أو مقارنته لِمانع؛ فيقارِن العَدَمَ، لكن لِأَمْرٍ خارج، لا لذاته. ولكن لَمَّا كان هذا حُكم الشرط (فلا ينبغي أنْ يُعَرَّف به؛ لِلدَّوْر كما سبق تقريره في السبب)، عَرَّفْتُه بأنه: الذي يتوقف عليه تعريف السبب الذي هو مُعَرِّف للحُكم (على قول أهل السُّنة)، لا مُؤَثِّر (كما تقول المعتزلة وغيرُهم كما سبق). ومَن قال بالتأثير يُعَبِّر بِـ "ما يتوقف عليه تأثير المؤثِّر". وهو ما عَبَّر به الإمام في "المحصول" وأتباعُه (كالبيضاوي) في المخَصِّصات المتصلة. فقولي: (يُوَقَّف) مَبنيٌّ للمفعول مشدد القاف، والمراد أنَّ حصول المسبَّب عند وجود السبب متوقِّفٌ على حصول الشرط. فإنْ وُجِد، حصل المسبَّب، وإلا فلا، كما يقال في غروب الشمس: إنه سببٌ لوجوب صدقة الفطر بِشَرْط الإسلام، فلا يوجَد الوجوبُ حتى يوجَد الإسلامُ ولو كان السبب (وهو الغروب) موجودًا.

وقولي: (وهذا يُعْدَم) إلى آخِره - هو تقرير للتوقُّف، أَيْ: إنَّ معنى تَوَقُّف إعمال السبب في مُسَبَّبه أنه إذا عُدِمَ الشرطُ، يُعْدَم المشروط. بخلاف العكس، أَيْ لا يَلْزَم مِن وجودِه وجودُ المشروط؛ لأنَّ وجوده إنما هو مرتبط بوجود السبب، فإذَا وُجِد فإنما هو لوجود سَبَبِه، لا لوجود الشرط، كالطهارة في الصلاة: إنْ عُدِمَتْ حيث تُعْتَبَر، عُدِمَت الصلاةُ، ولا يَلْزَم مِن وجودها وجودُ الصلاة ولا عَدَمُها. واعْلَم أنَّ هذا الشرط على ضربين، أحدهما: ما يُسمى "شَرْط السَّبَب"، والثاني: "شَرْط الحُكم". فالأول: ما يَكون عدمُه مُخِلَّا بِحِكْمة السبب، كالقُدرة على التسليم؛ فإنها شرط البيع الصحيح الذي هو سبب ثبوت المِلْك المشتمل على مصلحة، وهي حاجة الانتفاع بالمبيع، وهي متوَقِّفة على القُدرة على التسليم، فكان عدمُه مُخِلًّا بحكمة المصلحة التي شُرع لها البيع. والثاني: ما اشتمل عَدَمُه على [حُكم] (¬1) يقتضي نَقِيضَ حِكمة السبب، مع بقاء حِكمة السبب. كالطهارة في باب الصلاة، فإنَّ عدم الطهارة حال القُدرة عليها مع الإتيان بالصلاة يقتضي نقيضَ حِكمة الصلاة وهو العقاب؛ فإنه نقيض وصول الثواب. تنبيه: للسبب والشرط إطلاق آخَر في الفقه في باب الجنايات اصطلحوا عليه غير ما سبق، حيث قَسَّمُوا ما لَهُ مَدْخَل في الجناية إلى: مباشَرة، وسبب، وشرط. مُفَرِّقِين بِأنَّ ما أَثَّر في التلف وحَصَّله: "المباشَرةُ"، وما أثَّر ولَمْ يُحَصِّل: "السببُ"، وما لا ولَا: "الشرطُ"، مع كَوْن الكل فى الحقيقة أسبابًا، ومناسبة التسمية بذلك توضح رجوع الكل لذلك، ومحل ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ض، ت، ق). لكن في (ز، ش): حكمة.

إيضاحه الفقه، والله أعلم. ص: 145 - كَالطُّهْرِ لِلصَّلَاةِ، أَمَّا المانِعُ ... فَمَا بِتَعْرِيفِ النَّقِيضِ دَافِعُ 146 - لِلْحُكْمِ، فَهْوَ مُنْتَفٍ إنْ وُجِدَا ... مَعْ كَوْنِ مُقْتَضٍ لَهُ مَا فُقِدَا 147 - مِثْلُ أَصَالَةٍ لِمَنْ تَعَمَّدَا ... مَا يَقْتَضي الْقَصَاصَ لَوْ تَجَرَّدَا الشرح: هذا المثال راجع إلى الشرط المشروح فيما قَبْله، وسبق بيانه. وما بعده تعريف للقِسم الثالث مِن خطاب الوضع وهو "المانع"، وأصله اسم فاعل مِن المنع. ومعناه اصطلاحًا على المختار: وَصْفٌ دافِعٌ لِلحُكم مع وجود [مقتضيه] (¬1)؛ لاشتماله على التعريف بنقيضه. فَدَفْعُه للحكم بهذا المعنى، لا بمعنى التأثير كما قررنا مِثله في "السبب" و"الشرط". ولا بُدَّ أنْ يَكون وجوديًّا ظاهِرًا منضبطًا؛ ليخرج العدمي والخفي والمتفاوت المضطرب. وإنما لم أُقيِّده في النَّظم بذلك استغناءً بما سيأتي في باب القياس في مانع العلة؛ لأنَّ بَسْطه هناك أَلْيَق، كما في السبب على ما سبق تقريره. فـ "الباء" في قولي: (بتعريف) للسببية، متعلقة بِـ "دافِع". وقولي: (فهو مُنْتَفٍ) أَيْ: [فيرتَّب] (¬2) على كَوْنه دافعًا له أنه ينتفي بوجوده؛ لأنه حُكمه، وفيه إيماء إلى أنَّ تعريفه بأنه "ما يَلْزَم مِن وجودِه العَدَمُ، و [مِن] (¬3) عَدَمِه الوجودُ" مَدْخُول - على ما سبق بيانه. ¬

_ (¬1) في (ص، ق): يقتضيه. (¬2) كذا في (ز، ت). لكن في (ش): فترتب. وفي (ق): يترتب. (¬3) مِن (ت).

وعلى كل حال فالمراد بانتفائه عند وجود المانع كَوْنه لِذَاته؛ فيخرج بذلك مقارَنة (¬1) المانِع لوجود سبب آخَر، فإنَّ الحكم لم يَنْتَف مع وجود المانع، كالأب القاتل - في المثال الآتي - إذَا ارْتَدَّ زَمَن قَتْلِه وَلَده، فإنه يُقْتَل بِالرِّدَّة وإنْ لم يُقْتَل قصاصًا؛ لأنَّ المانع إنما هو لِأَحَد السببين (¬2). وقولي: (مَع كَوْنِ مُقْتَضٍ لَهُ مَا فُقِدَا) أَيْ: مع كَوْن المُقْتَضِي للحُكم - وهو سَبَبُه وتَوَفُّر شروطه - موجودٌ لم يُفْقَد. مِثالُه: إذَا قَتَل الأصلُ الفَرْعَ أو جَنَى عليه دُون النفْس عَمْدًا مُوجِبًا للقصاص لو كان أجنبيًّا، فإنَّ الحكم (وهو القصاص) مُنْتَفٍ مع وجود مُقْتَضِيه (وهو الجناية المذكورة)، لكن لمانع الأصالة؛ لأنَّ الأصالة وَصْفٌ وجوديٌّ ظاهرٌ منضبطٌ مشتمل على حِكمة تُنافي الحُكم وهو القصاص، والحكمة هي كَوْن الأصل سببًا في وجود الفرع، فلا ينبغي أنْ يَكون الفرعُ سببًا في إعدامه، وهذا نوع مِن المانع؛ لأنَّ المانع نوعان: مانع الحكم، ومانع السبب. فالأول: ما يَدْفَع الحكمَ [باشتماله] (¬3) على حِكمة تُناقِض الحُكم كما قررناه في المثال، وكثيرًا ما يُعبَّر فيه بالأُبوَّة، والمقصود بها الأصالة؛ ليدخل كل أصلٍ ذكرٍ أو أنثى بواسطة وغيرها، فهو أوْضح في العموم مِن الأُبوة. والثاني: ما كان وجوده يُخِلُّ بحكمة السبب، كالدَّيْن في الزكاة مانع مع مِلْك النصاب عند مَن يقول بأنه يمنع الزكاة. ووَجْه ذلك أنَّ حِكمة وجوب الزكاة في النصاب (الذي هو السبب) كثرتُه كثرة تحتمل المواساة منه شكرًا على نعمة ذلك، لكن لَمَّا كان المَدِينُ مطالَبًا ¬

_ (¬1) يعني: مقارنة الحكم للمانع، أي: وجودهما مقترنين. (¬2) أَيْ: مانِع لِأَحَد سَبَبَيْ قَتْل الأب، فهو ليس مانعًا للسببين مَعًا. (¬3) في (ص): لاشتماله.

بِصَرْف الذي يملِكُه في الدَّيْن، صُيِّر كالعَدَم. والنوعان داخلان في قولنا: (التعريف بالنقيض)، أَيْ إمَّا لكونه مشتملًا على حِكمة تُنافي الحكم، أو لكون وجوده منافِيًا للحِكمة التي اشتمل عليها سبب الحكم. وسُمِّي الأولُ "مانعِ الحكم"؛ لأَّن سبَبه - مع بقاء حِكمته - لم يُؤثِّر، والثاني "مانع السبب"؛ لأنَّ حِكمته فُقِدَت مع وجود صورته فقط، والله أعلم. ص: 148 - وَكُلَّ مَا قِيلَ مِنَ اللُّزُومِ في ... مَاضٍ فَذَا لِلذَّاتِ في [التَّوَقُّفِ] (¬1) الشرح: أَيْ إنَّ كل [ما] (¬2) في تعريف السبب والشرط والمانع مِن لزوم الوجود أو العدم فَكُله مَقيَّد بالذَّات، أي بِكَوْن ذلك لِذَات ذلك الوصف وإنْ تخلَّف لأمرٍ خارجي كما سبق تقريره فيها. تنبيهات أحدها: قد يلتبس السبب بالشرط مِن حيث إنَّ الحكم يتوقف وجوده على وجودهما وينتفي بانتفائهما، وإنْ كان السبب يَلْزَم مِن وجودِه وجودُه، بخلاف الشرط، فإذَا شك في وَصْف أَهُو سبب؟ أَمْ شرط؟ نَظَر: إنْ كانت كلها مناسِبة للحكم فالكل سبب، أو كُل منها مناسِب فَكُل واحد سبب. فالأول كالقتل العمد المحض العدوان، والثاني كأسباب الحدث. وإنْ ناسب البعض في ذاته والبعض في غيره، فالأول سبب والثاني شرط، كالنصاب ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ز، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5). لكن في (ض، ق، ت، ش): التولُّف. (¬2) في (ش): ما قيل.

والحول، فالنصاب مشتمِل على الغِنَى ونِعْمة الملْك في نفسه، فهو السبب، والحول مُكَمل لنعمة الملْك بالتمكن مِن التنمية في مُدَّته، فهو شرط. قُلتُ: كذا فَرَّق القرافي، ولكن هذا لا يَكون إلا في السبب المعنوي الذي يكون عِلة، لا في السبب الزماني ونحوه. فالصواب أنْ يُقال: إنْ كان الوصف هو المتوقِّف عليه الشيء في تعريفه أو تأثيره - على الخلاف - فالسبب، وإلَّا فالشرط كما فُهِم مِن حَدِّهما فيما سبق. الثاني: الشرط وعدم المانع كلاهما يُعْتبَر في تَرَتُّب الحكم، فقد يلتبسان حتى إنَّ بعض الفقهاء جعله إياه، كما عَدَّ الفوراني والغزالي مِن أصحابنا مِن شروط الصلاة تَرْك المناهِي مِن الأفعال والكلام والأكل ونحوه، وتبعهما الرافعي في [شَرْحَي] (¬1) "الوجيز" وفي "المحرر"، والنوويُّ في "الروضة"، لكن في "شرح المهذب" الصواب أنها ليست شروطًا، وإنْ سميت بذلك فَمَجَاز، وإنما هي مُبْطِلات. وقال في "التحقيق": (غَلَّطوا مَن يعدُّها شروطًا). انتهى والفَرْق بينهما - على تقدير التغاير - أنَّ الشرط لا بُدَّ أنْ يَكون وصفًا وجودِيًّا، وأمَّا عدم المانع فَعَدَمِي. ويظهر أثَر ذلك في أنَ عدم المانع [يُكْتَفَى فيه بالأصل] (¬2)، والشرط لا بُدَّ مِن تَحَقُّقه. فإذا شك في شيء، يرْجع لهذا الأصل، ولذلك عُدَّت الطهارة شَرْطًا؛ لأنَّ الشك فيها مع تَيَقُّن ضِدِّها المستصحب يمنَعُ انعقاد الصلاة. قالوا: ويلزم مَن ادَّعَى اتحادهما اجتماع النقيضين فيما لو شككنا في طريان المانع، لأنَّا حينئذ نَشُك في عدمه، والفَرْضُ أنَّ عَدَمَه شَرْطٌ. ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ص، ش). لكن في (ض، ق، ت): شرح. (¬2) في (ص) كأنها: (ينتفي فيه الأصل)، أو: (يتبقى فيه الأصل).

فَمِنْ حيث إنه شَرْطٌ: لا يوجد المشروط. ومِنْ حيث إنَّ الشك في طريان المانع لا أثَر له: فيوجد المشروط. وهو تناقض. الثالث: سَبَبُ السببِ ينزل مَنْزلة السبب؛ لأنَّ ما تَوقَّفَ عليه المتوقَّفُ عليه - مُتَوَقَّفٌ عليه، كالإعتاق في الكفارة سبب للسقوط عن الذمة، والإعتاق يتوقف على اللفظ المُحَصِّل له. وللسبب والشرط والمانع تقسيمات أخرى [باعتبارات] (¬1) لا يسع هذا المختصر ذِكْرها، والله أعلم. ص: 149 - وَالرَّسْمُ في "الصِّحَّةِ": أنْ [يُوَافِقَا] (¬2) ... لِلشَّرْعِ ذُو وَجْهَيْنِ فِيمَا وَافَقَا 150 - عِبَادَةً تَكُونُ أَوْ مُعَامَلَةْ ... فَتَعْقُبُ الْآثَارُ فِيهِ نَازِلَةْ 151 - فَفِي عِبَادَةٍ تَصِحُّ يَنْشَأُ ... إسْقَاطُهَا تَعَبُّدًا؛ فَتُجْزِئُ 152 - وَضِدُّهَا "الْفَسَادُ" لَا يُرَتَّبُ ... عَلَيْهِ مِنْ آثَارِهَا مَا يَعْقُبُ 153 - إلَّا لِأَمْرٍ خَارِجٍ، كَالْخُلْعِ ... تَبِينُ في فَاسِدِهِ في الشَّرْعِ 154 - وَهَكَذَا الْفَاسِدُ من كِتَابَةِ ... يُعْتَقُ فِيهَا بِالْأَدَاءِ الثَّابِتِ الشرح: هذان الرابع والخامس مِن أقسام الحكم الوضعي، وهُما الصحة والفساد. ¬

_ (¬1) ليس في (ش). (¬2) كذا في (ق، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5). لكن في (ض، ت): توافقا.

فَرَسْمُ "الصحة": موافقة ذي الوجهين الشرع، سواء كان ذلك الموافِق عبادةً أو معاملة. فما ليس له وجهان - لا يُوصَف بِصِحة ولا فساد، كالمعرفة بالله تعالى، وكَرَدِّ الوديعة، فإنه إمَّا أنْ يَعْرف الله عز وجل أو لا يَعْرفه، وإمَّا أن يَرُد الوديعة أو لا يردها، بخلاف نحو الصلاة والصوم والبيع والإجارة؛ فإنَّ صُورته تقع على وجهين: - ما اجتمع فيه الشروط وانتفت عنه الموانع؛ فيكُون صحيحًا. - وما اختل فيه شيء مِن ذلك؛ فيكُون فاسدًا. وإنما قلتُ: إنَّ صُورته كذلك؛ لأنَّ الإطلاق الشرعي على المختل بِرُكْن أو شرْط [مَنْفِيٌّ] (¬1) بالحقيقة؛ لأنَّ المركَّب ينتفي بانتفاء جُزئه؛ ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لِلْمُسِيء صلاته: "ارْجع فَصَلِّ؛ فإنك لم تُصَلِّ" (¬2)، وهو أحسنُ ما حُمِل عليه نحو: "الأعمال بالنية" (¬3)، و"لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" (¬4)، أَيْ: لا عمل شرعيًّا، ولا صلاة شرعية، فَنفْيُه نَفْي حقيقي حيث كان خاليًا مما ذُكِر حتى لا يحتاج لتقدير محذوف. نَعَم، حكى الأصفهاني (¬5) في "شرح المحصول" في تناول الحقيقة الشرعية الفاسد مِن صلاة وبيع ونكاح ونحو ذلك - ثلاثة مذاهب، ثالثها: يشمل ما كان مِن أسماء الأفعال والأعيان مِن غسل ووطء، ولا يشمل ما كان مِن أسماء الأحكام كتسمية الغسل طهارة. انتهى ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (ز): منتفي. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 724)، صحيح مسلم (رقم: 397). (¬3) صحيح البخاري (رقم: 6311)، صحيح مسلم (رقم: 1907). (¬4) صحيح البخاري (رقم: 723)، صحيح مسلم (رقم: 394). (¬5) الكاشف عن المحصول (2/ 219 - 220).

وقد حَكَى أصحابنا قولين في العقود، أصحهما: اختصاصه بالصحيح؛ ولهذا لو حلف لا يبيع، لا يحنث بالفاسد (على الأصح). ووقع في الرافعي في "الأَيْمان" أنه سيأتي خِلاف في العبادة: هل تُحْمل على الصحيح كما لو حلف لا يصلي أو لا يصوم؟ واستُنكر ذلك عليه [بأنه] (¬1) لا خِلاف عندنا في [اختصاصها] (¬2) بالصحيح، وأنَّ الخلاف في العقود. نَعَم، قالوا: لو حَلَفَ لا يحج، يحنث بالفاسد؛ لأنه مما يُفَرَّق فيه بين الفاسد والباطل كما سيأتي ذِكره. وقولي: (فَتَعْقُبُ الآثَارُ فِيهِ نَازِلَهْ) أيْ: إنَّ "الصحيح" (وهو الموافق بأحدِ وجهيه للشرع، عبادة كانت أو غيرها) تَعْقُبُ الآثارُ فيه صحتَه، لا أنَّ تَعقبَ الآثار نفْس الصحة كما قال البيضاوي: (إنَّ الصحةَ استتباعُ الغاية). يريد تَرتُّب الآثار، بل بصحة العبادة يَترتب أثرُها، وهو سقوط التعبد أو سقوط القضاء (على الخلاف الآتي)، وبصحة العقد يترتب أثره من مِلْكٍ وجواز تَصَرُّفٍ وغير ذلك. وقولي: (فَفِي عِبَادَةٍ تَصِحُّ يَنْشَأُ) إشارة إلى مسألتين: إحداهما: أنَّ أثَر العبادة إذَا صَحَّت، تَرَتَّب عليها سقوطُ التعبد. وهذا هو الصحيح، ويُنْقَل عن المتكلمين. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ز، ت، ض). لكن في (ق، ش): فإنه. (¬2) كذا في (ض، ق، ت، ش). لكن في (ز، ص): اختصاصهما.

والثاني: سقوط القضاء، ويُنْقَل عن الفقهاء. وَرُدَّ بأنَّ وجوب القضاء إنما يتحقق بَعْد خروج الوقت، لا سِيَّمَا إذَا قُلنا بِأَمرٍ جديد، لا بالأمر الأول. وإذَا لَمْ يجب، فكيف يسقط؟ ! ثُم إنَّ هذَا قاصِر على مُؤَقَّت يَدْخله القضاءُ، والبحث في صحة العبادة مُطْلَقًا. وبُنِيَ على الخلاف صلاةُ مَن ظن أنه مُتَطهر ثُم بَانَ حَدَثُه، فإنها صحيحة عند المتكلمين دُون الفقهاء. كأنَّ المتكلمين نظَروا لِظن المكلَّف، والفقهاء لِمَا في نفْس الأمر (¬1)، ولكن اللائق بقواعد الفريقين العكس. وقال ابن دقيق العيد: (هذا البناء فيه نظر؛ لأنَّ مَن قال: "مُوافقة الأمر" إنْ أراد الأمر الأصلي، فَلَم يَسقط، أو الأمر بالعمل بالظن، فَقَدْ تبَيَّن فساد الظن؛ فَيَلْزَم أنْ لا يَكون صحيحًا مِن حيث عدم موافقة الأمر الأصلي، ولا الأمر بالعمل بالظن). وما قاله ظاهر. وأيضًا فالنقل عن الفقهاء فيه نظر، فقد صَرَّح أصحابنا في صلاة الجماعة بأنَّ الصلاة الصحيحة إما مُغْنِية عن القضاء أَوْ لا. وحكوا وَجْهَين في وصف صلاة فاقِد الطهورين بالصحة، أصحُّهما نَعَم، مع أنه يجب القضاء على الجديد. قالوا: ويجري الخلافُ في كل صلاة يجب قضاؤها. وفائدة الخلاف في الأيمان وفي جواز الخروج منها. وأيضًا كيف يُؤمَر بعبادة وهي فاسدة؟ فإمَّا أنْ يُقال: "صحيحة" أو "شبيهة"، كالإمساك في رمضان. ¬

_ (¬1) يعني: والفقهاء نَظَروا لِمَا في نفْس الأمر.

نَعَم، زعم الغزالي في "المستصفى" ثُم القرافي أنَّ الخلافَ المذكور في الغاية للصحة لَفْظِيٌّ؛ لاتفاق الفريقين على أنه إنْ لم يتبين الحدَث فَقَدْ أدَّى ما عليه ويُثاب، وإنْ لَا فيجب القضاء. لكن دعوى الاتفاق في الحالة الثانية على القضاء مردودة؛ فقدْ حكى ابنُ الحاجب في "مختصره" في مسألة الإجزاء أنه لا قضاء، وكأنَّ المراد أنَّ المتكلمين إنما لم يُوجبُوا القضاء على تقدير استمرار الحال لو لم يَرِد نَصٌّ بِلزوم القضاء، لكنه وَرَدَ بأمر جديد كما حكاه في "المستصفى" عنهم. وعندنا قَوْل مِثله - فيمَا إذَا صَلَّى بِنَجس لم يَعْلَمه أو مكشوف العورة ساهِيًا - أنها صحيحة ولا قضاء، نظرًا لموافقة الأمر حال التلبس. وفي "التلخيص" لإمام الحرمين: (إنما صار الفقهاء إلى هذا في أَصْلٍ، وهو أنَّ الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة مع كَوْنها على خِلَاف مُقْتَضَى الشرع - يدل على أنَّ "الصحيح": ما لَمْ يَجِبْ قضاؤه ولو خالف مُقْتَضى الشرع) (¬1). المسألة الثانية: يترتب على صحة العبادة إجزاؤها، وقد اختُلِف في معناه: هل هو كَوْنها بحيث سقط فيها التعبد؟ أو كَوْنها بحيث سقط القضاء؟ على ما سبق تقريره في الغاية في الصحة؛ لأنه قريب من معنى الصحة. ولكن الفرق بينهما مِن وجهين: أحدهما: أنَّ محل الصحة أَعَم مِن محل الإجزاء؛ فإنَّ الصحةَ مَوْرِدُها العبادةُ وغَيْرُها، ¬

_ (¬1) التلخيص في أصول الفقه (1/ 482).

ومَوْرِد الإجزاءِ العبادةُ فقط. بل زعم قوم اختصاصه بالواجب وأنه لا يَجْري في كل مطلوب، حتى إنَّ مَن أَوْجَب الأضحية استدل بحديث: "أربع لا تجزئ في الأضاحي" (¬1). فلو لم تكُن واجبة لَمَا عَبَّر بالإجزاء، وكذا قوله عليه السلام لأبي بُرْدَة: "ولن تُجزئ عن أحدٍ بَعْدك" (¬2) على أحد الوجهين في ضبطه وهو ضم التاء وبالهمز، لَا عَلَى فتح التاء بلا همز بمعنى: تقضي وتُغْني. لكن يُمنع ذلك بأنَّ الدليل دَلَّ على أنها سُنة، ففي هذا الحديث دليل على استعمال الإجزاء في السُّنة، ونقله الشيخ تقي الدين السبكي عن الفقهاء. و[اعترض] (¬3) بأنَّ أصحابنا قد استدلوا على وجوب قراءة الفاتحة برواية الدارَقُطْني: "لا تجزئ صلاة لا يُقرأ فيها بِأُم القرآن" (¬4). وقالوا: إنه أَدَلُّ على الوجوب مِن رواية الصحيحين: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" (¬5). واستدلوا أيضًا على وجوب الاستنجاء بحديث: "إذَا ذهب أحدكم إلى الغائط، فليذهب معه بثلاثة أحجار، فإنها تجزئ عنه" (¬6)، و"الإجزاء" لا يقال إلَّا في الواجب. ¬

_ (¬1) سنن النسائي (4369)، سنن ابن ماجه (رقم: 3144) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 1148). (¬2) صحيح البخاري (912)، صحيح مسلم (1961). (¬3) كذا في (ز، ص، ش، ق). لكن في (ض، ت): اعترضه. (¬4) سنن الدارقطني (كتاب الصلاة، 1/ 321) بلفظ: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرجل فيها بفاتحة الكتاب". وقال الإمام الدارقطني: هذا إسناد صحيح. (¬5) سبق تخريجه. (¬6) سنن أبي داود (رقم: 40)، سنن النسائي (44) وغيرهما. قال الألباني: حسن. (صحيح سنن أبي داود: 40). وقال أيضًا: صحيح. (إرواء الغليل: 44).

قُلتُ: قد يجاب بأنهم إنما أَوْرَدُوه ردًّا على مخالفهم؛ لاعتقاده أنَّ الإجزاء لا يُقال إلا في الواجب، والرد يقع بما يعتقده الخصم وإنْ لَمْ يعتقده الرادُّ. ثانيهما: أنَّ معنى "الإجزاء" عَدَمِيٌّ، ومعنى "الصحة" وجودِيٌّ؛ وذلك لأنَّ العبادة المَأْتِي بها على الوجه المشروع لَازَمَها وَصْفان: وجُودِيٌّ: وهو موافقة الشرع، وهذا هو "الصحة". والآخَر عَدَمِيٌّ: وهو سقوط التعبد به أو سقوط القضاء (على الخلاف فيه)، وهذا هو "الإجزاء". وهذان الأمران يُفْهَمان مِن: - قولي: في النَّظْم: (فَفِي عِبَادَةٍ تَصِحُّ). أَيْ: لا في غيرها. - وقولي: (إسْقَاطُهَا تَعَبُّدًا) مع وَصْفِي للعبادة بأنها صَحَّت، وتفسيري فيما سبق "الصحة" بأنها موافقة الشرع. قلت: وفَرْق ثالث أنَّ الإجزاء مُرَتَّبٌ على الصحة، وهو معنى قولي: (فَتُجْزِئُ). أَيْ: فتكُون مُجْزِئة. فَـ "الإجزاء" حينئذ: كَوْن الفعل على وَجْهٍ يُسْقِط التعبد، لا نَفْس السقوط ولا الإسقاط كما يقع في عبارة كثير. وقولي: (وَضِدُّهَا الفَسَادُ) أَيْ: ضد الصحةِ "الفسادُ"، فَيُعَرَّف بِضِد تعريفها. فيقال: "الفساد" عَدَمُ موافقة الفعل ذِي الوجهين الشرع؛ وذلك إمَّا لانتفاء شرط أو لوجود مانع. وحُكمه أيضًا في تَرتُّب الآثار ضِدُّ "الصحة"، فلا يترتب شيء مِن آثار ذلك الفعل عليه (سواء أكان عبادة أو غيرها) إلَّا أنْ يَكون مِن أَمْرٍ يَقْتَضِيه خارِجٍ عن حقيقة ذلك الفعل شَرْعًا؛ لِكَوْن الفاسد قد تَضَمَّن وجوده.

والغرض بذلك التنبيه على الرد على مَن اعترض بأنَّ الفاسد قد يترتب عليه آثار الصحيح كما أنَّ الصحيح قد يتخلف تَرتُّب آثاره عنه، سواء فَسَّرنا الصحة والفساد بالترتُّب (كالبيضاوي) أو بالموافقة ولكن يترتب كما بَيَّنَا أنه الصواب، وذلك كَفَاسِد الخلْع والكتابة، فإنهما يترتب عليهما البينونة والعتق مع أنهما مِن آثار "الصحيح". فَيُقال: لَمْ يَحْصُلَا مِن حيث كَوْنهما خلعًا وكتابةً، بل مِن حيث تَضَمُّنهما لِتعليقٍ وُجِدَت الصِّفَة فيه مع كَوْنهما لم يُوقَعَا إلَّا بِعوَضٍ، [فَبِطَمَعِ] (¬1) الزوج والسيد في ذلك - حيث لم يجعلَا ذلك مجانًا - وَجَبَ العوَضُ وتَرَتب ما يترتب في "الصحيح" مِن البينونة والعتق؛ لانتظام المعنى الذي في "الصحيح" مِن حيث المقابَلة كما أَوْضَح الفقهاء ذلك في موضعه، وبَيَّنُوا ما بَيْنه وبَيْن "الصحيح" مِن المخالفة مِن أَجْل التعليق وغيْره؛ ولذلك لا يملك بِـ "الفاسد" منهما العوضُ المسَمَّى، بل يجب رَدُّه والرجوع للبدَل الشرعي، بخلاف "الصحيح"، ونحو ذلك [أيضًا] (¬2) مما يترتب على "الفاسد" فيما فُرِّق فيه بين الفاسد والباطل كما سيأتي. وأمَّا عَكْس ذلك وهو تَخَلُّف الآثار عن "الصحيح" (كامتناع بيع المبيع قبل القبض (¬3) وفي زمن الخيار ونحو ذلك) فَيُمْنَع بِأنَّ الآثار مُتَرتِّبة بالقوة لا بالفعل؛ لأنه تخلف لِمَانِع، بدليل تَبَيُّن صحة كثير منها عند زوال المانع، كَمِلْك الزوائد ونحوها، وبدليل أنَّ بعض الآثار يوجد وإنْ امتنع الباقي، كعتق المبيع قَبْل القبض والاستيلاد والوقف ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) كذا في (ت، ش). لكن في (ز، ق): فيطمع. (¬2) كذا في (ض، ت، ق، ش)، وليس في (ز، ص). (¬3) ما بعد ذلك إلى قوله: (كعتق المبيع قَبْل القبض) ساقط مِن (ض).

فلا يَرِدُ، [لا] (¬1) طَرْدًا ولا عَكْسًا، والله أعلم. ص: 155 - وَبَاطِلٌ كَفَاسِدٍ وَإنْ مُنِعْ ... لِوَصْفِهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَدْ شُرِعْ 156 - نَعَمْ، لَنَا التَّفْرِيقُ في أَبْوابِ ... كَالْحَجِّ وَالْخُلْعِ بِلَا ارْتيَابِ 157 - وَهَكَذَا كتَابَةٌ عَارِيَّهْ ... وَنَحْوُهَا بِأَوْجُهٍ فِقْهِيَّهْ الشرح: لَمَّا بَيَّنْتُ أنَّ الفساد يقابل الصحة، بَيَّنْتُ أنَّ البطلان يقابلها أيضًا؛ فيكون مرادفًا للفساد. بل قال أبو العباس بن تيمية: لم يقع في الكتاب والسُّنة إلَّا لفظة "الباطل" في مقابَلة الحقِّ، وأمَّا لفظ "الصحة" و"الفساد" فَمِن اصطلاح الفقهاء. واسْتُدْرِك عليه بنحو قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، أَيْ: لَاخْتَل نظامهما، ولا شك أنَّ الفاسد المذكور معناه: المختل. وأيضًا ففي السُّنة تكرر لفظ "الإجزاء" كما سبق، وهو قريب من معنى "الصحة". وخالف الحنفية، فَفرَّقوا بين "الفساد" و"البطلان"، فَسَمّوا ما لم يُشرع بأصله ولا وَصْفه "باطلًا"، كبيع الملاقيح (وهي ما في بطون الأمهات) وبيع المضامين (وهي ما في أصلاب الفحول)؛ لِمَا فيه مِن الجهل والغرر. وسَموا ما شُرع بِأَصْله دُون وَصْفه "فاسدًا"، [كبيوع] (¬2) الربا، فإنَّ كلًّا مِن العِوَضين التبايع فيه مشروع، لكن لَمَّا انضم إليه وَصْفُ الربا (وهو غير مشروع) فَسَد، فالفساد أَعَمُّ مِن البطلان مُطلقًا. ¬

_ (¬1) ليس في (ش). (¬2) كذا في (ز، ص، ق، ش). لكن في (ض، ت): كبيع.

ورَتَّبوا على هذا الفرق أنَّ "الفاسد" يملك فيه بالقبض ملكًا خبيثًا (أَيْ: ضعيفًا)، و"الباطل" لا يملك به شيء أَصْلًا. وضُعِّف ذلك بأنَّ التفرقة إنْ كانت شرعية فأين دليلها؟ وأين مستند ما خالفوا بيْنه مِن المرتب عليهما؟ بل في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ما يُبْطِل التفرقة؛ لأنَّ التمانع فيه بَيْن وجود العالم منتظمًا حيث لا شريك وبَيْن عدمه أصلًا حيث قُدِّر الشريك، لا وجوده على هذا التقدير بنوع مِن الخلل، فَسَمَّى الله ما لا تَثْبُت حقيقته أَصْلًا "فاسدًا". واعْلَم أنه قد نشأ لأصحابنا - باعتبار هذا الفَرْق بطريق التبعيَّة - تَفْرقةٌ في أحكام، كَمَن اشترى جارية بشرط فاسد أو بِعوَض فاسد مقصود ووَطِئ، يَكون وَطْؤه وَطْء شُبهةٍ يترتب عليه انتفاءُ الحدِّ والنسبُ والمهرُ ونحوُ ذلك. وإنْ كان مِن صغير أو بِعوَض فاسد غير مقصود ووطِئ، يَكون زِنًا يترتب عليه أحكامُه ولا يَثْبُت فيه شيءٌ مِن أحكام الشُّبهة؛ استنادًا في الأول إلى أنه مِن شبهة الطريق، أَيْ: طريق قال بها عالِم، بخلاف الثاني، وليس هذا مُوافَقَة في تفرقتهم، بل حُكْم مُرَتَّب على تفرقتهم. نَعَم، لأصحابنا مواضع في الفقه فَرَّقوا فيها بين "الفاسد" و"الباطل" بمعنى آخَر، اشتهر منها أربعة: الحج، والعارِيَّة، والخلْع، والكتابة. فالحج يبطل بالرِّدَّة، وقِيل: يَفْسد. حكاه أبو علي السنجي في شرح "الفروع"، ويَفْسد بالجماع. وحُكْم "الباطل" أنه لا يجب المُضِي فيه ولا قضاؤه، و"الفاسد" يجب إكمالُه وقضاؤه. واختُلف فيما إذَا أَحْرَم مجامِعًا، فقيل: ينعقد صحيحًا. وقيل: فاسدًا، ورجحه الرافعي. وقيل: لا ينعقد أصلًا، فيَكون باطلًا، وصححه النووي. ولو أفسد العمرة بالجماع ثم أَحْرَم بالحج، انعقد فاسدًا (على الأصح)، وقيل: صحيحًا. وقيل: لا ينعقد أصلًا.

وأما العارِيَّة: فقال الغزالي في "الوسيط" بَعْد حكاية الخلاف في إعارة الدراهم والدنانير: (فإنْ [أَبْطَلناهما] (¬1)، ففي طريقة العراق أنها مضمونة؛ لأنها إعارة فاسدة. وفي طريقة المراوزة أنها غير مضمونة؛ لأنها غير قابلة للإعارة؛ فهي باطلة) (¬2). انتهى نَعَم، كان ينبغي أنْ يقول: (فإنْ لَمْ نُصححها، ففي طريقة العراق) إلى آخِره؛ لأنَّ عدم الصحة هو المنقسم إلى فساد وبطلان، لا أنَّ البطلان هو المنقسم؛ لأنَّ الشيء لا ينقسم إلى نَفْسه وغيْره. وللعارِيَّة مسألة أخرى، وهي إذا قال: (أَعَرْتُك داري بِشَرْط أنْ تعيرني فرسك) ونحو ذلك، ففيها وجهان، أصحُّهما: أنها إجارة فاسدة، والثاني: عارية باطلة. ويتخرج عليهما وجوب الأجرة والضمان وعدمهما. وأمَّا الخلع والكتابة فالباطل فيهما: - ما كان على عوض غير مقصود، كالدم. ووَهِمَ مَن مَثَّله بالميتة؛ لأنها تقصد للجوارح، فهي كالخمر. - أو رجع لِخَلَلٍ في العاقِد، كَصِغَر وسَفَه. و"الفاسد" خِلَافُه، كأنْ كانا على نحو خمر وخنزير ومجهول. وحُكم "الباطل" أنْ لا يترتب عليه شيء، و"الفاسد" يترتب عليه البينونة والعتق، ويرجع الزوجُ بمهرِ المِثْلِ والسيدُ بقيمةِ العبدِ كما سبق. قُلتُ: لكن إطلاق أنَّ الخلل في العاقِد مِن "الباطل" فيه نَظَر؛ فَقَدْ صَرَّحُوا: ¬

_ (¬1) في (ص): أبطلناها. (¬2) الوسيط في المذهب (3/ 368).

- بأنَّ خلْعَ السفيهة فاسد. نَعَم، يقع به الطلاق رَجْعِيًّا، لا بائنًا؛ لِتَعَذُّر العوَض. - وبأنَّ خُلْعَ الأَمَة بعين مال سيدها بغير إذنه - يقع بائنًا بمهر المثل. واعْلَم أنَّ وراء هذه المواضع الأربعة مواضع أخرى أشرتُ إليها في النَّظْم بقولي: (ونحوها). منها: الإجارة، فَـ "الفاسد" منها ما كان لجهالة العوض ونحوه، فيجب فيه أجرة المثل. و"الباطل" ما كان لخلل في المستأجِر، كما لو استأجر صَبِيٌّ رَجُلًا يعمل عملًا، لَمْ يستحق شيئًا؛ لأنه الذي فَوَّت عَمَل نَفْسه. أو في المؤجر حيث كان صبيًّا أو سفيهًا وتَلفَت العين في يد المستأجر، فيجب الضمان. ولو كان فاسدًا، لَمْ يَجِب - كما صرحوا به، بخلاف من استأجر بشرط فاسد ونحوه فإنه لا يضمن ما تلف تحت يده؛ لأنَّ "فاسد كل عقد كصحيحه في الضمان وعدمه". ومنها: الهبة تَصْدُر مِن الصبي أو السفيه وتتلف العين في يد المُتَّهَب (¬1)، فيجب الضمان، بخلاف الهبة بشرط فاسد أو نحو ذلك؛ للقاعدة. قُلْتُ: وقد يُقال: إنَّ الضمان في الإجارة والهبة المذكورتين إنما هو مِن حيث أنه استولى على مال الغير بِغَيْر طريق شرعي؛ فكان غاصبًا؛ لأنَّ الباطل كالعَدَم، وإنما لم يضمن في صُورَتَي الفاسد منهما لِحصول الظن والأمل فيه، إلَّا أنْ يُقال: المستثنى كله إنما خرج لأمرٍ خارجي، فهذا في ذلك وغيره سواء. ومنها: في البيع، قال الرافعي في المقبوض ببيع فاسد: يجب ضمانه. وقال فيما لو باع صبيًّا: إنه لا ضمان فيما يتسلمه الصبي فيه. فهو باطل، وإلا لكان يضمن. ومنها: في البيع أيضًا إذَا فَرَّعْنا على تفرقة أبي حنيفة بين الفاسد والباطل كما سبق ¬

_ (¬1) المتهب: الموهوب له، يعني: الذي أخذ الهبة.

تقريره. فالمشتري إذَا وَطئ في "الباطل"، يُحَد؛ لأنه زِنًا لا شُبْهة فيه؛ فيترتب فيه أحكامه. وفي "الفاسد" لا يُحَد، ويترتب عليه أحكامُ وطء الشبهة؛ لأنَّ ذلك مِن شُبْهة الطريق التي قال بها عالِمٌ، بخلاف الذي قَبْله. ومنها فيه أيضًا: ما لو قال: (بِعْتُك)، ولم يَذْكر ثَمَنًا، وسَلَّم، وتلفت العين في يد المشتري، هل عليه قيمتها؟ وَجْهان، أحدهما: نَعَم؛ لأنه بَيْعٌ فاسد. والثاني: لا؛ لأنه ليس بَيْعًا أَصْلًا؛ فيكون أمانة. فتدخل هذه المسألة ونحوها في سلك: كُل عَقْد كان صحيحُه مضمونًا، فإنَّ فاسده يَكون أيضًا مضمونًا؛ للقاعدة. فما لا ضمان فيه مِن ذلك لِخَلَلٍ في العاقد (مَثَلًا) يَكون باطلًا. ومنها: ما لو قال للمديون: (اعزِل قدر حَقِّي). فعزله ثُم قال: (قارضتك عليه)، لم يصح؛ لأنه لم يملكه بالعزل. فإذَا تصرف المأمور: فإنِ اشترى بالعين فهو ملك له، وإنِ اشترى في الذمة للقراض ونقدَهُ فيه، [فَوَجْهَان] (¬1): أحدهما: الشراء للقراض، ويكون قراضًا فاسدًا يستحق فيه أجرة المثل، لكن الربح لرب المال. والثاني: يَكون قراضًا باطلًا، لا فاسدًا ولا صحيحًا. ومنها: [ما] (¬2) لو نكح بلا ولي، فهو فاسد، يُوجِب مهر المثل لا الحد. ولو نكح السفيه بلا إذْن، فباطل، لا يترتب عليه شيء، إلَّا أنْ تكون الزوجة سفيهة - على ما في فتاوى النووي، وفيه كلام محله الفقه. ¬

_ (¬1) في (ض): وجهان. (¬2) ليس في (ز، ت، ش).

ومنها: الشركة، فقالوا: شركة الأبدان وشركة الوجوه باطلة، وفي شركة العنان التي هي في الأصل صحيحة لو شرط فيها شرط فاسد كشرط التفاوت في الربح مع استواء المالين أو عكسه، [فتَفْسُد] (¬1) الشركة وينفد تصرُّفهما، ولكل منهما أجرة عمله، وهو نظير ما سبق في القراض. وكل صورة في البابين نفذنا فيها التصرُّف مع الفساد كان الحكم كذلك ويقع الفرق. قال العلائي: وقد حاول بعض شيوخنا الأئمة الفرق بين هذه الأبواب وغيرها. ثم أبدى في كثير مما سبق أمورًا لا تنافي وقوع الفرق ظاهرةً لمن تأمل. وحكي عن الشيخ زين الدين الكتَّاني أربعة أخرى: الوكالة، والإجارة، والعتق، وعقد الجزية. وصَوَّرها بعضهم بأنَّ الوكالة تفسد بالتعليق، ويستفاد بها جواز التصرف، وتبطل بخلل العاقد، كتوكيل الصبي وتوكيل المرأة في النكاح. قُلتُ: وفيه نظر؛ لأنَّ جواز التصرف إنما استفيد مِن عموم الإذن بعد أْن بطل خصوصُ الوكالة، كما لو أعتق مَعِيبًا عن كفارته، أو قال: (أَعْتِق مستولدتك عني على ألْفٍ). فيبطل الخصوص ويبقى عموم العتق. وصُوَر هذه القاعدة كثيرة، فلو صحت التفرقة بذلك، لَقِيلَ في الكُل: إنها فاسدة؛ لِتَرتُّب بعضِ أثر الصحيح عليها. وأمَّا الإجارة فسبَق تصويرها، والبحث الذي فيها وفي الهبة. وأمَّا العتق: فكما لو قال: (أَعْتِق عبدك عني على خمر أو مغصوب)، ففعل، نفذ العتق عن المشتري ولزمَه قيمة العبد، بخلاف ما لو قال: (على دمٍ)، ونحوه. ويلتحق به الصُّلحُ عن الدم. ¬

_ (¬1) كذا في (ت)، لكن في (ز): فيفسد.

قُلتُ: الحكم عليه بأنه افتداء يكفي في الرد؛ لأنَّ الكلام في العقود. وأمَّا الجزية: فأنْ تُعْقَد باختلال شرطٍ، والحُكم أنه يجبُ - بتمام سَنةٍ أو أكثر - لكل سَنة دينار، ولا يجب المسمَّى. بخلاف الباطلة (كعقدها مع بعض الآحاد)، فإنَّ أصح الوجهين أنه إذا أقام مُدَّة بذلك، لا يجب شيءٌ. وبالجملة فهذه التفرقات كلها لمدارك فقهية كما عرفته، وإليه أشرتُ في النَّظم بقولي: (بِأَوْجُهٍ فِقْهِيَّهْ). والتسمية فيها تابعة للحُكم، بخلاف تفرقة أبي حنيفة، فإنَّ الأحكام عنده تابعة للتفرقة بَيْن حقيقتيهما، والله أعلم. ص: 158 - مَسَائِلٌ لَهَا تَعَلُّقٌ بِمَا ... قَدَّمْتُهُ، أُوضِحُهَا مُقَسِّمَا 159 - أَوَّلُهَا: الْمَطْلُوبُ إنْ لَمْ يَكُنِ ... مُعَيَّنًا، فَهْوَ مُخَيَّرٌ عُنِى 160 - كَأَحَدِ الْكَفَّارَةِ الْمُخَيَّرَهْ ... يُطْلَبُ لَا بِعَيْنِهِ في الْخِيَرَهْ 161 - فَمَوْضِعُ التَّخْيِيرِ غَيْرُ الْمُطَّلَبْ ... وَعَكْسُهُ، وَفِيهِ بَحْثٌ يُطَّلَبْ الشرح: وَجْهُ التعلق في هذه المسائل مُبَيَن في كل منها: الأُولى: المطلوبُ شرعًا: إمَّا فِعل مُعَيَّن (كصلاة الظهر) أو مُبْهَم مِن أمور مُعَيَّنة (كإحدى خصال الكفارة المخيرة)، لا بِعَيْنه. والأول يُسمى "المُعَيَّن"، والثاني "المُخَيَّر"، أَعَمُّ أنْ يَكون في واجب أو مندوب؛ فلذلك عَبَّرت بِـ "المطلوب"؛ ليشمل القِسمين وإنْ كان المشهور التعبير بِـ "الواجب المُخَيَّر". وكذا فيما سيأتي مِن التعيين والإبهام في جانب الفاعل (وهو "فَرْض العَيْن" و"فرض الكفاية") وفي الوقت (وهو "المُضَيَّق" و"المُوَسَّع") ينبغي أن يُعَبَّر بِـ "المطلوب" أيضًا كما عَبَّرت في النظم؛ فإنَّ المسائل الثلاث أخوات، وكُل منها

شامل للمندوب كما سيأتي تقريرُه. وتصوير "المندوب" في المطلوب المُخَيَّر حيث تُستحب الكفارة مَثَلًا. واعْلَم أنَّ المراد بِـ "المعَيَّن" هو الفعل المتميز بنوعه، أمَّا بشخصه فَلَا يَكون إلا بَعْد وقوع الفعل في الخارج، ولا يُطْلَب حينئذ. وكذا قولنا في المخَيَّر: (إنَّ المطلوب أحد أمور مُعَيَّنة)، المراد: مُعَيَّنة بالنوع محصورة؛ لِيخرج المعَيَّنة بالشخص كما تَقَدم، ويخرج نحو الرقبة المأمور بعتقها؛ فإنَّ ما يصدق عليه اسم الرقبة هو المطلوب ولا حصر له. وما أَوْهَمه كلام البيضاوي مِن كَوْنه يَكون غير محصور بتمثيله بِـ "نَصْب أَحَد المسْتَعِدِّين للإمامة" وابنُ الحاجب بتمثيله بِـ "إعتاق واحد مِن جنس الرقبة المأمور بعتقها" - فليس بجيد، وسيأتي تحقيق هذا البحث قريبًا. وإنما يمثَّل المخيَّر بالكفارة المخَيَّرة في قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الآية، وجزاء الصيد في قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] الآية، ومثل الجبران في الزكاة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "شاتين أو عشرين درهمًا" (¬1)، ومِثل الواجب في المائتين مِن الإبل أربع حقاق أو خمس بنات لبون، والتخيير بين غسل الرجلين في الوضوء لِلَابس الخفِّ بالشروط أو المسح عليه، وأمثال ذلك. والمسألة فيها مذاهب: أَرْجَحُها: أنَّ الواجب أحَدُ المخَيَّر فيه، لا بِعَيْنه. ونقل القاضي إجماع سلف الأمة و [أئمة الفقه] (¬2) عليه، ونقله أبو حامد الأسفراييني عن مذهب الفقهاء كافَّة، وكذا قال في ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 1385). (¬2) كذا في (ت، ظ، ض)، لكن في (ص، ش): أئمة الفقهاء. وفي (ز): الفقهاء.

"المحصول": إنه قول الفقهاء. وفي "الإحكام" للآمدي أنه قولهم وقول الأشاعرة. والثاني وبه قال المعتزلة وتَبعهم قومٌ مِن الفقهاء كما نقله القاضي: الكل واجب، لا على معنى أنه يجب الإتيانُ بكلٍّ، بل على معنى أنه لا يجوز الإخلال بالجميع، فَعَلَى هذا لا خِلَاف في المعنى، بل في العبارة. إنما مَأْخذ المعتزلة أنَّ الحكْم عندهم يَتبع الحسْن والقُبح العَقْلِيَّين، فلو كان أحد الخصال واجبًا، لَزِمَ خلوُّ الباقي عن الحُسن المقْتَضِي للإيجاب؛ فيرتفع المقتضِي في كل واحدٍ واحدٍ. كذا قَرر أنَّ الخلاف لَفْظِي القاضي والشيخُ أبو إسحاق وإمامُ الحرمين وابنُ القشيري وابنُ بَرهان وابنُ السمعاني وسليمُ الرازي، وأبو الحسين البصري والإمامُ الرازي وأتباعُه. وقال القاضي أبو الطيب: بل الخلاف مَعْنوي؛ لأنا نخطئهم في إطلاق اسم الوجوب على الجميع؛ لإجماع المسلمين على أنَّ الواجب في الكفارة المخَيَّرة أحد الأمور. وقال الأصفهاني: (الذي يَظهر مِن كلام الغزالي وابن فورك أنه معنوي. واختاره الآمديُّ وابنُ التلمساني وغيرُهم) (¬1). وقيل: تظهر فائدته فيما سيأتي في الثواب والعقاب إذَا فَعَل الجميع أو أَخَلَّ بالكل. وهو ضعيف. والمذهب الثالث: أنَّ الواجب واحد مُعَيَّن عند الله، مُبْهَم عند المكَلَّف، لكن عَلِمَ اللهُ أنه لا يختار إلا فِعْلَ ما هو واجب عليه، فاختياره مُعَرِّفٌ أنه الواجب في حَقَّه، وحينئذ فيختلف الواجب بحسب الفاعلين. قال في "المحصول": (إنَّ أصحابنا يَنْسبونه للمعتزلة، والمعتزلةَ إلى أصحابنا، واتفق ¬

_ (¬1) الكاشف عن المحصول (3/ 489).

الفريقان على فساده) (¬1). ويُسَمَّى "قول التراجم" لذلك. قال الشيخ تقي الدين السبكي: (وعندي أنه لم يَقُل به أَحَد، وإنما نشأ مِن مبالغة المعتزلة في الرد علينا في إثبات تَعَلُّق الوجوب بالجميع، وأمَّا رواية أصحابنا له عن المعتزلة فلا وَجْه له؛ لمنافاته قواعدهم) (¬2). انتهى وفي ذلك كُله نَظَر؛ فإنَّ ابن القطان (مِن أصحابنا) قد حكاه عن بعض الأصوليين، فلا وَجْه لإنكاره بحثًا. والربع: أنه مُعَيَّن عند الله، فإنْ فَعَل المكلَّفُ غيْره، كان نَفْلًا يَسْقط الواجب به. وَرُدَّ بالاتفاق على أنه فَعَل الواجب لا بَدَلَه. ومنهم مَن يقول: إذا اختار المكلَّفُ واحدًا، فَقَدْ عَيَّنه الله له. فيَكون قولًا خامسًا. وَرُدَّ بأنَّ الوجوب ثابت قَبْل اختياره، وأيضًا يقتضي أنه إذا مات ولم يفعله لا هو ولا غيره أنْ لا وجوب. ثُم على القول الأول الذي هو المرَجَّح: بماذا يتعين الواجب؟ أَبِاختيار المكلف؟ أَمْ بالفعل؟ قولان، حكى الأول ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام"؛ فتصير الأقوال ستة. وحُكي قول سابع بالوقف. وقولي: (فَمَوْضِعُ التَّخْيِيِر غَيْرُ الْمُطَّلَبْ وَعَكْسُهُ) إشارة إلى ما حرره ابن الحاجب مِن أنَّ محل الوجوب لا تخيير فيه، ومحل التخيير لا وجوب فيه، أَيْ: إنَّ متعلَّق الوجوب هو أحدها (الذي هو قَدْر مشترك بين الخصال) لا تخيير فيه؛ لأنه واحد، ومحل التخيير (وهو خصوصيات الخصال التى فيها التعدد) لا وجوب فيها. ¬

_ (¬1) المحصول (2/ 160). (¬2) الإبهاج في شرح المنهاج (1/ 86).

قال الشيخ تقي الدين السبكي: (كذا حرر بعض (¬1) المتأخرين معنى الإبهام، لكن عندي زيادة أخرى في التحرير، وهي أنَّ القدْر المشترك يقال على المتواطئ "كَـ: الرجُل" ولا إبهام فيه، فإنَّ حقيقته معلومة متميزة عن غيرها مِن الحقائق، وُيقال على المبْهَم مِن شيئين أو أشياء "كَـ: أَحَد الرجُلين". والفَرْق بينهما: أنَّ الأول لم يقصد فيه إلا الحقيقة، والثاني قصد [فيه] (¬2) ذلك مع أحد الشخصين بِعَيْنه، أَيْ لا باعتبار معنى مشترك بينهما وإنْ لم يُعَين؛ ولذلك سُمِّي "مُبْهَمًا"؛ لأنه أُبهم علينا أَمْرُه. فلا يقال في الأول الذي هو نحو "أعْتِق رقبة": إنه واجبٌ مخيَّر؛ لأنه لم يَقُل أحدٌ فيه بِتَعَلُّق الحكم بخصوصياته، بخلاف الثاني فإنهم أجمعوا على تسميته "مُخَيَّرًا". ومن الأول أكثر أوامر الشريعة) (¬3). فيتعَيَّن أنَّ القَدْر المشترك في الثاني أَخَصُّ مِن القدْر المشترك في الأول، وإليه يُرْشد قولهم: "مِن أمور مُعَيَّنة". والمعنَى أنَّ النظر إليها مِن حيث تَعَيُّنها وتميُّزها مع الإبهام؛ احترازًا مِن القسم الأول. ويؤيد ذلك ما لو باعه قفيزًا مِن صبرة (أَيْ: مجهولة الصيعان)، فيصح وتغتفر جهالة العين؛ لتساوي الأجزاء، ويَكون مِن الأول كَـ "أعْتِق رقبة"، خِلَافًا لمن زعم أنه كبيع أحد الثوبين، أَيْ: فيَكون مِن القِسم الثاني، لكنه استثني للتساوي. أمَّا لو كانت معلومة الصيعان فإنها تنزل على الإشاعة. فإنْ فرقت الصيعان، صار التعيين والتشخيص مقصودًا؛ فيبطل. وهذا الذي هو كبيع أحد الثوبين، وهو مِن القِسم الثاني قَطْعًا. ¬

_ (¬1) هنا آخِر الورقة (38) مِن نُسخة (ت)، وما بعدها إلى أول الورقة (39) ساقط، وسيأتي بيانه. (¬2) في (ص): به. (¬3) الإبهاج في شرح المنهاج (1/ 84).

فقولي: (فَمَوْضِعُ التَّخْييِر غَيْرُ الْمُطَّلَبْ) هو ما حرره ابن الحاجب، إلا أنَّ التعبير بالطلب أحسن مِن الوجوب كما قررناه. وقولي: (وَفِيهِ بَحْثٌ يُطَّلَبْ) إشارة إلى هذا الذي قاله الشيخ تقي الدين، ولا يخفى ما فيه مِن التحقيق. تنبيه: محل الخلاف في صيغةٍ وَرَدَت مُرادًا بها التخيير، أو ما في معنى ورود ذلك كما سبق التمثيل به. فأمَّا نحو تخيير المستنجي بين الماء والحجر والناسك بين الإفراد والتمتع والقران ونحو ذلك - فليس مِن الواجب المخيَّر؛ لأنه لم يرد تخيير باللفظ ولا بمعناه، كالحقاق وبنات اللبون في المائتين، والغسل والمسح على الخف في الوضوء، والغالب في أكثر هذه الترجيح، وقد يستحب الجمع، كالماء والحجر. نَعَم، في "فروق" الجويني جعل التخيير بين الماء والحجر مِن مسألة المخيَّر. وفيه نَظَر؛ لِمَا ذكرناه. وقولنا: ([مُرادًا] (¬1) به التخيير) احتراز مما إذَا كان المراد أحدهما وصُوَر التخيير فيه للتهديد أو غيره، نحو: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} [الطور: 16]. كذا قِيل، وقد يُقال: لا حاجة لذلك؛ لأنَّ التهديد ليس فيه طلب، بل هو مجرد إخبار كما سيأتي في باب الأمر، والله أعلم. ¬

_ (¬1) في (ص): يراد.

ص: 162 - فإنْ يَكُنْ كُلًّا مَعًا قَدْ فَعَلَا ... يُثَبْ عَلَى الْأَعْلَى، وَعَكْسٌ [فَاقْبَلَا] (¬1) الشرح: أَيْ إذَا أَتَى بواحد مِن المخَيَّر فَفِيه ما سبق، أمَّا إذَا أتى بالكُل أو ترك الكل، فما الذي يكون ثوابه فيها ثواب الواجب إذا كان الأمر فيها للوجوب؛ لأنَّ ذلك واحِدٌ والباقي تطوُّع كما قاله الشيخ أبو إسحاق؟ وما الذي يعاقَب عليه عند تَرْك الكُل؟ فيه مذاهب: أحدها المختار: إنْ فَعل الكل مُرَتَّبًا، فلا يخفَى أنَّ الذي أسقط الوجوب ويثاب عليه ثواب الواجب هو الأولُ. وإنْ فَعل الكل مَعًا بأنْ [باشَر] (¬2) بَعْضًا ووَكَّل في بعض أو باشر الكل أو وَكَّل في الكل حيث يمكن، وهو معنى قولي: (مَعًا). أَيْ وإنْ يَكُن المكَفِّر فَعَل كُل الخصال معًا، فـ "كُلًّا" مفعول "فَعَل"، قُدِّم عليه وعلى الظرف. وقولي: (يُثَبْ عَلَى الْأَعْلَى) جواب الشرط، أَيْ: الحكم في هذا أنَّ حصول ثواب الواجب لِأعلاها. وإنما لم أقيده بثواب الواجب لِظهوره؛ لأنَّ أصل الثواب ليس الكلام فيه. وإنما قُلنا: استحق ثواب أعلاها؛ لأنه لا ينقصه ما انضم إليه. وأمَّا عكسه (وهو أنْ يترك الكُل) فالعقاب بالعكس، أَيْ يَكون على أدناها؛ لأنه يجزئه لو اقتصر عليه. وقد نقل الإمام الرازي هذا عن بعضهم كالمُضَعِّف له، لكنه أظهر مما سيأتي اختياره إياه، فقد قال ابن التلمساني: إنه الجواب الحقُّ. ونقله ابن السمعاني في "القواطع" عن أصحابنا، وجزم به ابنُ بَرْهان في "الأوسط". وأمَّا تضعيف بعضهم له بأنَّ: "اللائق باختيار الأصحاب في الأصل أنَّ الذي يثابُ عليه ثواب الواجب أو يعاقبُ إنما هو ¬

_ (¬1) في (ن 3، ن 4): اسفلا. (¬2) في (ص): فعل.

واحد لا بِعَيْنه" فغير واضح، ولا يُنافي كَوْن الواجب في الأصل [أحدها] (¬1) لا بِعَيْنه؛ لأنَّ توجيه الخطاب [بواحد] (¬2) ما بحيث يسقط به الواجب مُسَلم. وأمَّا بعد الفعل واستحقاق الثواب فالثواب على المبْهَم غير معقول، وعلى المُعَيَّن منها تَحَكُّم، وترجيح الأعلى لِكَوْن الزيادة فيه لا يليق بِكَرم الله تعالى تضييعها على الفاعل مع الإمكان وقصدها بالوجوب وإنْ اقترن به آخَر. وأمَّا في تَرْك الكُل فيعاقَب على الأدنى؛ لأنَّ الوجوب يَسقط به. وعبارة القاضي أبي الطيب: (يأثم بمقدار عقاب أدناها، لا أنه نفس عقاب أدناها). انتهى وهذا نظير الصلاة المعادة أنَّ الفَرْض [أَكْمَلُهما] (¬3)، وقيل: أحدُهما لا بِعَيْنها، ويحتسب الله ما شاء، و [قِيل] (¬4): كِلاهُما فَرْض. ولم يحكوا مثله هنا؛ لِئلَّا يوافقوا المعتزلة. الثاني: أنه يثاب في فِعل الكل على مجموع أمور لا يجوز ترك كلها، ولا يجب فِعلها، أَيْ ثواب واجبات مخيَّرة، وهو أزيد مِن ثواب بعضها. وكذا العقاب: يعاقَب على ترك مجموع أمور كان المكلَّف مخيَّرًا بين ترك أيِّ واحدٍ منها شاء بِشَرْط فِعل الآخَر. واختار هذا الإمامُ وأتباعُه، ولا يخفَى ما فيه مِن الغموض والإبهام. الثالث: قال القاضي: وهو قول [أصحابنا] (¬5): إنه يثاب على واحدٍ مِن غير تعيين ¬

_ (¬1) في (ش): أحدهما. (¬2) كذا في (ز، ظ، ض)، لكن في (ص، ش): لواحد. (¬3) كذا في (ز، ص). لكن في (ض، ق، ش): أكملها. (¬4) مِن (ز). (¬5) في (ز): أكثر أصحابنا.

للأعلى. والرابع: نقله القاضي أيضًا لكن في الكفارة: إنه يثاب ثواب الواجب على العتق؛ لأنه أنفع وأشق على النفس. قال الشيخ تقي الدين السبكي: (وهذا الخلافُ شبيه بالخلاف في مسح جميع الرأس وتطويل الركوع: هل الكُل يقع واجبًا؟ أو البعض؟ ) (¬1). تنبيهات أحدها: تظهر ثمرة هذا الخلاف في مسائل: منها: مَن مات وعليه كفارة مخيَّرة ولم يُوص بإخراجها، يجوز للوارث أنْ يعدل عن الأعلى لِغيره؛ لأنه إذا فَعل، يُجْزِئ. ومنها: لو أوصَى بخصلة معينة وكانت قيمتها تزيد على غيرها: فأصح الوجهين: أنَّ الزائد مِن الثلث؛ لأنَّ الاقتصار على غيره يجزئ. والثاني: مِن رأس المال؛ لأنه لا يقع إلا واجبًا. ولكن الأول مناسب للمعاقبة - عند ترك الكل - على الأدنى. وغير ذلك أيضًا. الثاني: وقع في "المحصول" أنه يستحب جمع خصال الكفارة المخيَّرة ونحوها. وَرُدَّ بأنه إنْ كان مِن حيث كَوْنه كفارة، فممنوع؛ لأنَّ المطلوب واحد. وإنْ كان مِن حيث كَوْن الزائد خيرًا في الجملة، فلا اختصاص لذلك. وشُبِّه بالمسألة إعادةُ الصلاة - لِمَن صلَّاها - لأنها عبادة، لكن يَكون على الخلاف في: ¬

_ (¬1) الإبهاج في شرح المنهاج (1/ 89).

أَيّها الواجب؟ كما سبق. الثالث: مِن [لطائف] (¬1) هذه المسألة التخيير بين الشيء وبعضه، خِلافًا لبعض الفقهاء المتأخرين، فَقدْ قال ابن الرفعة ردًّا عليه: إنه ممنوع؛ بدليل أنَّ المسافر مُخَيَّر بين إتمام الصلاة وقصرها، ومَن لا جُمعة عليه مخيَّر بين صلاة الجمعة ركعتين وبين الظهر أربعًا. قلتُ: لا يَخفَى ضَعْفُ هذا؛ لأنَّ المقصورة ليست بعضًا مِن التامَّة، ولا الجمعة بعضًا مِن الظهر ولو قُلْنا: ظُهْرًا مقصورًا، بل كُلٌّ صلاةٌ على حيالها. نَعَم، يَقْرُب مِن ذلك التخييرُ بين صلاة الوتر واحدة أو ثلاثًا أو خمسًا إلى آخِره - على ما فيه مِن نَظَرٍ أيضًا، والله تعالى أعلم. ص: 163 - وَرُبَّمَا التَّحْرِيمُ جَا مُخَيَّرَا ... في وَطْءِ أُخْتَيْنِ بِمِلْكٍ قَدْ يُرَى الشرح: ما سبق في المخيَّر إنما هو في المأمور به، فهل يأتي نظيره في المنهي عنه (تحريمًا كان أو كراهة)؟ وإنْ كانت المسألة إنما نصبت واشتهرت في التحريم. فقال أهل السُّنة: يجوز تحريم واحدٍ لا بِعَيْنه، ويَكون النهي عن واحدٍ على التخيير، حتى إنه يجوز له فِعل أحدهما دُون الآخَر - على معنى التخيير في تعيين المحرَّم منهما. وما دام لم يُعَيِّن [لا يجوز] (¬2) له الإقدام على شيءٍ منهما. وبماذا يَكون التعيين؟ يأتي الكلام عليه. وعلى هذا فيأتي الخلاف السابق في كَوْن المحرَّم: واحدًا لا بِعَيْنه، أو الكُل، أو مُعَيَّنًا عند ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ز، ش). لكن في (ض): نظائر. (¬2) في (ش): لم يجز.

الله، أو غير ذلك كما قاله الآمدي وابن الحاجب. وقالت المعتزلة: لا يمكن ذلك في النهي، بل يجبُ اجتناب كل واحدٍ. بَنوه على أصلهم أنَّ النهي عن قبيح، فإذَا نهي عن أحدهما لا بِعَيْنه، ثَبتَ القُبحُ لكل منهما؛ فيمتنعان جميعًا ولو وَرَدَ ذلك بصيغة التخيير، كما قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24]. وللمسألة أمثلة: منها: لو ملك أُختين ووطئَهما، تحرم إحداهما لا بِعَيْنِها حتى تخرج الأُخْرى عن مِلْكه أو عن حلِّه؛ فتحل الأُخرى عَيْنًا. ومنهم مَن يمثلها بتحريم الجمع بين الأختين أو بين الأم وبنتها في النكاح، أو نحو ذلك. وليس بجيد؛ لأنَّ التحريم منتفٍ حتى ينكح إحداهما، بخلاف المثال السابق، فإنَّ التحريم وقع، فَتَأَمَّله. نَعَم، نازع القرافي في إثبات الحرام المخيَّر، ووافق المعتزلة على المنع، لكن لا مِن حيث التقبيح العقلي، بل مِن حيث إنَّ تحريم أحدهما يَلْزَم منه تحريم الكُل، وفَرَّق بينه وبين الواجب المخيَّر بأنَّ الأمر بمفهوم أحدهما قَدْر مشترك، ومحل التخيير الخصوصيات كما سبق، فلا يَلْزَم مِن إيجابِ المشترك إيجابُ الخصوصيات، كما في إيجاب رَقبة مُطْلَقَة في العتق لا يَلْزَم منه إيجاب رقبة مُعَيَّنة. قال: أمَّا النهي فَيَلْزَم مِن تحريمِ أحدهما (الذي هو قَدْر مشترك) تحريمُ الخصوصيات. ثُم أجاب عن المثال السابق ونحوه بأنَّ التحريم إنما يتعلق بمجموع الوطئين بَعْد أنْ

وَطئهما، لا بالمشترك [بينهما] (¬1)، فالمقصود أنْ لا [يدْخل] (¬2) ماهيَّة مجموع الوطئين في الوجود، والماهية المركَّبة تنعدم بانعدام [جُزئها] (¬3). قال العلائي في قواعده: والظاهر أنَّ هذا هو مُراد أهل السُّنة بهذه المسألة، لا المعنى الذي رَدَّه القرافي، وهو الكُلي المشترك؛ لأنَّ مِن المحال عَقْلًا أنْ يوجد الجزئي ولا يوجد الكُلي فيه؛ لأنَّ الكلي يندرج في الجزئي بالضرورة. قال: لكن يشْكل على هذا إلحاقهم المسألة بالأمر المخيَّر. والله أعلم. ص: 164 - ثَانِيَةٌ: مَا فِيهِ قَصْدُ الْفَاعِلِ ... عَيْنًا "مُعَيَّنٌ"، وَلِلْمُقَابِلِ 165 - اسْمُ "الْكِفَايَةِ" الَّذِي يَعُمُّ ... فَرْضًا وَسُنَّةً، فَقُلْ: مُهِمُّ 166 - يُقْصَدُ بِالْإيجَادِ، لَيْسَ يُنْظَرُ ... لِذَاتِ فَاعِلٍ لَهُ يُخْتَبَرُ 167 - مِثْلُ الجهَادِ وَابْتِدَا التَّسْلِيمِ ... وَهْوَ عَلَى الْكُلِّ عَلَى التَّعْمِيمِ 168 - لَكِنَّهُ بِفِعْلِ بَعْضٍ يَسْقُطُ ... عَمَّنْ سِوَاهُ حَيْثُ ذَاكَ يُضْبَطُ 169 - مِن ثَمَّ كَانَ فِعْلُهُ أَهَمَّا ... مِن فِعْلِ [عَيْنٍ] (¬4) نَفْعُهُ مَا عَمَّا الشرح: القِسم الثاني: تقسيم الفعل بالنسبة إلى فاعله إلى عَيْنٍ وكفاية، ولا يتقيَّد ¬

_ (¬1) في (ص): منهما. (¬2) كذا في (ق، ش). لكن في (ز): تدخل. (¬3) في (ض): جزء منها. (¬4) في (ش): غير.

بالواجب كما سبق تقريره، بل يجري في السُّنة أيضًا. فما قُصِد فيه الفاعلُ بالذَّات: "فَرْض عَيْن"، و"سُنة عَيْن"، سواء أكان عامًّا (كالصلوات الخمس وركعتي الفجر) أو خاصًّا (كتخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - بإيجاب التخيير لنسائه [عليه]) (¬1). وما لم يُقْصَد إلا حصولُ الفعل فيه مِن غير نَظَر إلى ذات الفاعل فهو "كفاية"، فَرْضًا كان (كالجهاد) أو سُنَّةً (كابتداء السلام). فإذَا أردت تعريف المطلوب على الكفاية فرضًا كان أو سُنةً، فَقُلْ: هو مُهِمٌّ يُقْصَدُ حصولُه مِن غَيْر نَظَر بِالذَّات إلى فاعِله. فالقيد الأخير مُخرج للمطلوب على الأعيان. وأَصْل هذا التعريف للغزالي، إلَّا أنه قال: (كل مُهِم ديني يَقصد الشرع حصوله مِن غير نَظَرٍ إلى فاعله). حكاه عنه الرافعي في كتاب السير، وقال: (أشار به إلى حقيقة "فرض الكفاية"، ومعناه أنَّ فروض الكفايات أمور كُلية يتعلق بها مصالح دينية ودنيوية، لا ينتظم الأمرُ إلا بحصولها، فَيَقصد الشارع حصُولها ولا يَقْصد تكليف الواحِد وامتحانه بها، بخلاف فروض الأعيان، فإنَّ الكُل مكلَّفون بها، مُمْتَحَنون بتحصيلها) (¬2). انتهى وقد عرفت أنَّ هذا التعريف يدخل فيه "سُنة الكفاية"؛ فإنه لم يَقُل: (يقصد الشرع حصوله لزومًا). فينبغي أنْ يُجْعَل تعريفًا للكفاية مِن حيث هو كما قررناه. نَعَم، أَسْقَطتُ مِن لَفْظ الغزالي "كُل"؛ لأنها للأفراد، والتعريفُ للماهية. وأسقطتُ لفظة "ديني"؛ ليدخل نحو الحِرَف والصناعات وإنْ كان الغزالي لا يَرى أنها "فرض كفاية" كما ¬

_ (¬1) في (ز): عليه الصلاة والسلام. (¬2) العزيز شرح الوجيز (11/ 352).

قاله في "الوسيط" تبعًا لإمامه، لكن الأصح خِلَافُه. ولا بُدَّ مِن زيادة "لذاته" في قوله: (مِن غَيْر نَظَرٍ إلى فاعله)؛ لأنَّ ما مِن فِعل يتعلق به الحكْم إلَّا ويُنْظر فيه للفاعل؛ حتى (¬1) يُثاب على واجبه ومندوبه ويُعاقَب على ترك الواجب، وإنما يفترقان في كَوْن المطلوب عينًا يُخْتَبر فيه الفاعلُ ويُمْتَحَن؛ لِيُثاب أو يعاقَب كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، والمطلوب كفاية يُقْصَد حصولُه قَصْدًا ذاتيًّا، وقَصْدُ الفاعل فيه تبعٌ، لا ذاتي. وقولي: (وابْتِدَا التسْلِيم) قُصر للضرورة، وهو مثال لسُنة الكفاية. واعْلَم أنَّ فروض الكفاية كثيرة، عَدَّ منها أصحابنا أول "كتاب السير" طائفة، وأمَّا سُنن الكفاية فزعم القاضي حسين والشاشي أنه ليس منها إلا ابتداء السلام مِن الجَمْع. ورُدَّ ذلك بأنَّ منها تشميت العاطس بين جَمْع، والأضحية في حق أهل البيت، والأذان والإقامة في حق كل جماعة إذَا قلنا بالصحيح: إنهما سنتان، وتسمية الآكِلين جماعة، فإنه إذَا سمى واحدٌ منهم، أجزأ عن الباقين. نَصَّ عليه الشافعي كما نقله عنه النووي في "الطبقات" و"الأذكار". وقولي: (وَهْوَ على الكُل) أَيْ: فرض الكفاية أو سُنتها يتعلق بكل المكلَّفين حيث خوطبوا به، لا على البعض، كنظيره في المخيرة؛ لِتَعَذُّر خِطاب المجهول، بخلاف خِطاب المعيَّن بالشيء المجهول. هذا قول الأكثر، وهو منصوص الشافعي في "الأُم" حيث قال: (حق على الناس غسل الميت والصلاة عليه ودفنه، لا يسع عامَّتهم تركُه، وإذا قام به مَن فيه كفاية، أجزأ عنهم إنْ شاء الله تعالى، وهو كالجهاد، عليهم أنْ لا يَدَعُوهُ، وإذا انْتُدِبَ منهم مَن يكفي الناحية التي ¬

_ (¬1) هنا أول الورقة (38) مِن نُسخة (ت)، وما قبلها ساقط كما سبق بيانه.

يَكون فيها الجهاد، أجزأ عنهم، والفضل لأهل الولاية بذلك على أهل التخلف عنه) (¬1). وقال أيضًا في باب السلف فيمن حضر كتاب حق بين رجلين: (ولو ترك مَن حَضَر، خفتُ أنْ يأثموا، بل لا أراهم يخرجون مِن الإثم، وأَيُّهم قام به أجزأ عنهم) (¬2). وذكر نحوَهُ في الشهود إذَا دعُوا للأداء، وجرى عليه أصحابه في طرقهم ومِن الأصوليين الصيرفي والقاضي أبو بكر والشيخُ أبو إسحاق والغزاليُّ، واختاره ابنُ الحاجب، ونقله الآمدي عن أصحابنا. وذهب الإمامُ الرازي وأتباعُه إلى أنه على البعض، واختاره صاحب "جمع الجوامع" مخالفًا لِوالده ولِلجمهور كما قال. واحتج هؤلاء بظواهر، مِثل قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] الآية، {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران: 104]، الآية، {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] الآية. والأولون نظروا للمعنى، وحمل هذه الظواهر على مَن يسقط به، وهو محل وفاق أنه يسقط بفعل البعض. قالوا: فليس كالمطلوب المخيَّر (كالكفارة)، إذْ لا يعقل تأثيم طائفة غير معيَّنة ولا إثابتُهم، ولا يمكن أنْ يقال: مُعَيَّنة. فوجب المصير إلى التعلق بالكُل. فإنْ قِيل: فما الفرْق - على القول بتعلقه بِالكُل - بيْنه وبين المطلوب مُعَيَّنًا؟ قيل: ما سبق مِن ملاحظة ابتلاء الفاعل في المعيَّن، وملاحظة حصُول المطلوب في ¬

_ (¬1) الأم (1/ 313). (¬2) الأم (3/ 91 - 92).

الكفاية مِن غير نَظَر بالذات إلى فاعله، و [لذلك] (¬1) إذا فَعل البعض، سقط عَمَّن سواهم، بخلاف المعَيَّن. فهو مُبَاينٌ له تبايُن النوعين، خلافًا للمعتزلة في قولهم: (تبايُن الجنسين)؛ إذِ الواجب أو المندوب صادق على الأمرين بالتواطؤ مِن حيث إنَّ كُلًّا منهما لا بُدَّ مِن وقوعه أو وقوعه محصل لِمَا يترتب عليه مِن الثواب، فليس لفظ الفرض والسُّنة مشتركًا بينهما اشتراكًا لفظيًّا كما يزعمون. فإنْ قِيل: إذَا كان على الكل، فكيف يسقط بفعل البعض؟ قيل: لأنَّ المقصود قد حصل، فطلبه بَعد ذلك طلب لتحصيل الحاصل. ومن هنا يُعْلَم أنه إنما يسقط بإتمام مَن فَعَل قَبْلهم، لا بالشروع فقط؛ لجواز أنْ ينقطع بالخروج منه. قيل: ويحتمل أنْ يبنى على أنه يَلْزم إتمامُه بالشروع. وسيأتي الخلاف فيه. وفيه نَظَر؛ لجواز انقطاعه بغير الاختيار؛ لموت أو جنون. نَعَم إنما يسقط الفرض عمن لم يفعل إذَا عَلم أو ظَنَّ أنَّ غيره قام به، وإلَّا فيأثم ولو كان في نفس الأمر قد فعله غيره، كما أنه لا يأثم إذَا عَلِم أو ظنَّ أنَّ غيره قام به والواقع أنَّ أحدًا لم يَفْعَله. وهذا معنى قولي: (حيث ذاك يُضْبط). أَيْ: إنما يسقط حيث حصل الضبط أنَّ غيره فعل بِعِلْم أو ظَن. واعلم أنه إنما يَسقط بِفعل مَن هو مكلَّف، لا كَرَدِّ صَبِي مِن الجماعة السلام، إلَّا أنْ يحصل المقصود بتمامه بفعله، كصلاته على الجنازة، أو حمل الميت ودفنه، ونحو ذلك. قال في "شرح المهذب": (وكالصبي إذَا أَذَّن وقُلنا: الأذان فَرْض كفاية) (¬2). وهل يُعتبر فيمن سبق أنْ يَكون آدميًّا، لا مَلَكًا أو جِنيًّا؟ ¬

_ (¬1) في (ص، ض): كذلك. (¬2) المجموع شرح المهذب (3/ 109).

لم يتعرض أحد [للثانية] (¬1). قِيل: ويتخرج على أنَّ الجن هل هُم مكلَّفون بالأحكام؟ فإنْ قُلنا: (نعم) وهو الصحيح، اكتُفي بهم. ولم يتعرض للأُولى إلَّا الشيخ أبو إسحاق في "تذكرة الخلاف" في مسألة تغسيل الشهيد الْجُنب أنَّ غسل الملائكة لا يُسْقِط ما تُعبِّد به الآدمي في حق الميت. قال: (وقياسُ سائر فروض الكفايات كذلك). انتهى قلتُ: وهو يقتضي أنَّ الشهيد جُنبًا يغسل، لكن الأصح أنه لا يغسل؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يغسل حمزة، وروى الحاكم أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أخبرني جبريل أنه قُتِلَ جُنبًا، فغسلته الملائكة" (¬2). وقال: صحيح الإسناد. إلَّا أنْ يُقال: إنَّ غَسْل الملائكة للشهيد الجنب خاص بحمزة، عَلِمْناه بإخبار النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك أخبر في حنظلة لَمَّا قُتل في أُحُد. أو يُقال: إنَّ الشهادة أسقطت التغسيل، والإخبار بتغسيل الملائكة إكرامٌ وخصوصية لا يتعدى إلى غيرها. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ت)، لكن في (ز): لبيانه. (¬2) المستدرك على الصحيحين (رقم: 4885) بلفظ: "قُتِلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المطَّلِبِ عَمُّ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - جُنبًا، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: غَسَّلَتْهُ المَلائِكَةُ". قال الحافظ ابن الملقن في (تحفة المحتاج، 1/ 606): (فيه مُعَلَّى بن عبد الرحمن أحد الهلكى). وقال الحافظ ابن حجر في (إتحاف المهرة، 8/ 57): (مُعَلَّى ضعيف جدًّا). وانظر: (سلسلة الأحاديث الضعيفة: 1993).

تنبيهات أحدها: إذا قُلنا: إنه يتعلق بالجميع، فهل المعنى يتعلق بكل واحدٍ؟ أو بالجميع مِن حيث هو جميع؟ في "تلخيص" الإمام عن القاضي ما يقتضي الأول، وظاهر عبارة الأكثرين الثاني. وذكر الشيخ تقي الدين السبكي في تحقيق كَوْنه على الكل ثلاثة معانٍ: أحدها: أنْ يَكون معناه أنَّ كُل مكلَّف مخاطَبٌ به، فإذَا قام به بعضٌ، سقط عن غيرهم رخصةً وتخفيفًا؛ لحصول المقصود. والثاني: أنَّ الجميع مخاطَبون بإيقاعه منهم مِن أَيِّ فاعلٍ فَعَلَهُ، ولا يَلْزَم على هذا أنْ يَكون الشخص مخاطَبًا بفعل غيره. (قال: لأَنَّا نقول: كُلِّفُوا بما هو أَعَمُّ مِن فِعْلهم وفِعل غيرهم، وذلك مقدورٌ بتحصيله منهم؛ لأنَّ كُلًّا قادرٌ عليه ولو لم يفعله غيره. و"فرض العين" المقصود [منه] (¬1) امتحان كل واحدٍ بما خُوطِبَ به لحصول ذلك الفعل منه بنفسه، لا يقوم غيره مقامه، وقد يكون مِن فرائض الأعيان على جماعةٍ [ما يُشْتَرط] (¬2) في فِعْل كُلٍّ منهم فِعْل غيْره، كالجمعة لا تصح إلا مِن جماعة) (¬3). والثالث: أنَّ كل مكلَّف مخاطَبٌ ما لم يَقُم به غيرُه. فإنْ قام به غيرُه، تَبَيَّن أنه لم يخاطَب ¬

_ (¬1) في (ص): فيه. (¬2) في (ض): الشرط. (¬3) هذا جاء في (ز) هكذا: (لأن ذلك فيما هو أعم من فعله وفعل غيره، فهو مقدورٌ له بوجهٍ، بل بعض فروض الأعيان كذلك، فإن الجماعة شرط في الجمعة، فقد اشترط في فعل المكلف بها فِعْل غيْرِه).

به. انتهى (¬1). قلتُ: أمَّا الأول والثاني فهُما القولان السابقان في تَعَلُّقه بكل فرد أو بالجميع. وأمَّا الثالث فهو ما حكاه المتولي في مقابلة القول بتعلقه بالجميع، وحاصله قول بأنه تعلق ببعضٍ مُبْهَم يتعين بفعله. ونظيره في مسألة المخيَّر أنَّ الواجب يتعين بفعله كما سبق. وحُكى هنا أيضًا قولٌ بأنه يتعلق ببعضٍ مُعَيَّن عند الله كما قِيل بنظيره أيضًا في المخَيَّرة. وحكى ابن السمعاني قولًا يَكون خامسًا، وهو التفصيل بيْن أنْ يَغْلب على ظن المكلَّف أنَّ غيْره قام به فلا يتعلق به، أو لا يَغْلب فيتعلق بكل واحد. واستحسنه. الثاني: قال ابن السمعاني: الخلاف في المسألة لفظي. ونُوقِشَ بأنَّ فائدته تظهر فيمن فَعَله بَعْد فِعل غيره، هل يقع فَرْضًا؟ وفي أنه هل يَلْزَم بالشروع؟ وسيأتيان. الثالث: وهو مما سبق الوعدُ به: هل يَلْزَم فَرْضُ الكفاية بالشروع؟ قال ابن الرفعة في "المطلب" في كتاب الوديعة: إنه لا يَلزم. وقال في باب اللقيط: إنَّ مُقَابِلَه إنما هو بحث للإمام. ولم يرجح الرافعي والنووي شيئًا على الإطلاق، بل هو عندهما مِن القواعد التي لا يطلق فيها ترجيح؛ لاختلاف المرجح في فروعها، كما في الإبراء: هل هو إسقاط؟ أو تمليك؟ والنذر: هل يسلك به مسلك الواجب؟ أو الجائز؟ ونحو ذلك. ففي الجهاد يَلزم بحضور الصف، وفي صلاة الجنازة وما يتعلق بها يجب إتمامه. وصحَّحَا في المتعلم إذا آنَسَ مِن نفْسه النجابة أنه يجوز له التَّرْكُ بَعْد أنْ نقلَا عن القاضي ¬

_ (¬1) انتهى النقل عن السبكي، وكلامه في الإبهاج (1/ 100).

الحُسَين أنه يحرم. قالا: لأنَّ الشروع لا يغير حُكم المشروع فيه. وكذا قال القفال وغيره، قالوا: ولذلك لا يلزم التطوع بالشروع فيه. وقد سبق - في إتمام الحج والعمرة تطوَّعًا - كلامٌ في مباحث المندوب ينبغي أنْ يُراجَعَ. وجعل بعضهم ذلك قاعدة كُلِّية [مستثنى] (¬1) منها، فقال البارزي في "التمييز": (لا يَلْزَمُ فَرْضُ الكفاية بالشُّروع - في الأصح - إلَّا في الجهاد وصلاة الجنازة). انتهى وخروج هذين لِمَا في الأول مِن تخذيل المسلمين وكَسْر القلوب، ولمَا في الثاني مِن هتْك حرمة الميت. نَعَم، هذا كُله إذَا شرع مِن غير أنْ يسبق فِعْل غيره، فإنْ كان كذلك فَمَحَل نَظَر. وفي "البحر": (لو شرع في صلاة [جنازة] (¬2) بَعْد ما صُلِّي عليها، هل له الخروج؟ يحتمل وجهين ينبنيان على أصل، وهو أنَّ الصلاة الثانية تقع فرضًا؟ وفيه جوابان، القياسُ عندي لا؛ لأنَّ الفرض ما لا يجوز تركه على الإطلاق) (¬3). انتهى وينبغي جريانه في سائر فروض الكفايات. نَعَم، جزم الرافعي والنووي في هذه الصورة بوقوع الثانية فرضًا. فرع: هل يلتحق تعيين الإمام بالشروع في لزومه؟ فيه خِلَاف صَنَّف فيه ابنُ التلمساني. وقال الصيدلاني: لو أمر الإمام شخصًا بتجهيز ميت، تَعَيَّن عليه، وليس له استنابة غيره ¬

_ (¬1) في (ش): يستثنى. (¬2) في (ت): الجنازة. (¬3) بحر المذهب (3/ 356).

ولا أجرة له. قلتُ: وصرحوا أيضًا - في تعيين الإمام طائفة للجهاد - بالوجوب. وفي "الكفاية" عن ابن الصباغ والبندنيجي أنهما حكيَا وجهين فيما لو عَيَّن الإمامُ شخصًا للقضاء: هل يتعين عليه؟ ولكن هذا إنما هو لتنفيذ أقضيته وخوف وقوع الفتنة بمخالفته، بل لو أَمَر بِسُنة كان كذلك كما قاله النووي في فتاويه في أمره بالصوم في الاستسقاء: إنه يصير واجبًا. الرابع: إذَا أتى جَمْعٌ بِفَرض الكفاية دفْعَةً بحيث لو انفرد كُلٌّ لأسقطه، كان كلٌّ منهم آتِيًا بواجب وإلَّا لَزم التَّحَكُّم. حكاه إمام الحرمين في "باب الجنائز" عن الأئمة، ثُم قال: (ويحتمل أنْ يجعل كمسح الرأس في الوضوء دفعة: هل الفرض الكُل؟ أو ما يقع عليه الاسم؟ وقد يقول الفطِنُ: رُتبة الفرضيَّة فوق السُّنية، وكُل مُصَلٍّ مِن الْجَمْع ينبغي أنْ لا يُحْرَم الفرضية وقد قام بما أُمِر به، وهذا لطيفٌ لا يصح مِثْله في المسح) (¬1). انتهى ومن هنا قال الشيخ في "شرح الإلمام": إذَا باشَر "فَرْضَ الكفاية" أكثر [مِمَّن] (¬2) يَحْصُل به تَأَدِّي الفَرْض، هل يُوصَف فِعْل الجميع بالفرضية؟ [أمْ] (¬3) لَا؟ ثُم قال: ونحن إذَا قُلنا: يستحب الشروع والابتداء، لم نُرِد به أنه يقع مستحبًّا في حقه إذَا شرع فيه مع غيره. فإنْ أتوا بِـ "فرض الكفاية" على التعاقب، فالثاني فَرْضٌ كما قاله النووي في باب الأذان ¬

_ (¬1) نهاية المطلب (3/ 67). (¬2) كذا في (ق، ت). لكن في (ص، ز، ض، ش): من. (¬3) كذا في (ز)، لكن في (ص): أو.

من "تحرير التنبيه". وسبق نقل جزم الرافعي والنووي في صلاة الجنازة به، ولكن الروياني حكى فيه وجهين. وفصل ابن عبد السلام بين أنْ يَكون الأول حَصَّل تمام المصلحة فلا يَكون الثاني فَرْضًا، أوْ لا فيكون، كأنْ يخرج للعدو مَن يستقل بذبِّهم، ثم يلحق آخرون قبل [الانقضاء] (¬1)، فالكل في فرضٍ وإنْ تَفاوتَت رُتبَهم في الثواب. وكتحرُّم مُصَلٍّ على الجنازة بَعْد تحرُّم غيره قَبْل أنْ يُسَلِّم، بل وكذا إنْ سَلَّم - مِن حيث إنَّ صلاة الجنازة لا تقع نَفْلًا. قاله القاضي والإمام والغزالي، وقال النووي: لا خلاف فيه. وفيه نَظَر؛ فقد سبق أنَّ في "البحر" فيه في أصل فرض الكفاية وجهين. وكَرَدِّ السلام [بَعْدَ رَدِّ غيْره] (¬2)، ونحو ذلك. وقولي: (مِن ثَمَّ كَانَ فِعْلُهُ أَهَمَّا) أَيْ: مِن أَجْل ما سبق مِن تَعَدِّي نَفْع [القائم] (¬3) بفرض الكفاية [كان] (¬4) الاهتمام به أهم (¬5). قال النووي في "الروضة" في كتاب السير مِن زوائده: (قال إمام الحرمين في كتابه "الغياثي": الذي أراه أنَّ القيام بِـ "فَرْض الكفاية" أفضل مِن "فرض العين"؛ لأنَّ فاعله ساعٍ في صيانة الأُمة كُلها عن المأثم، ولا شك في رجحان مَن حَلَّ مَحَل المسلمين أجمعين في القيام بمهم مِن مهمَّات الدِّين) (¬6). انتهى ¬

_ (¬1) في (ز): الانقضاض. (¬2) كذا في (ز، ت). لكن في (ص، ض، ق، ش): بعذر وغيره. (¬3) كذا في (ز، ق، ت). لكن في (ش): العام. (¬4) كذا في (ق، ت). لكن في (ز، ش): لأن. (¬5) من قوله: (أي من أجل) إلى: (به أهم) ساقط من (ص، ض). (¬6) روضة الطالبين (10/ 266).

وفيه قصور عن المنقول؛ فَقَدْ قاله والدُ الإمام في كتابه "المحيط"، والأستاذُ أبو إسحاق في "شرح كتاب الترتيب"، ونقله عنهما ابنُ الصلاح في "فوائد الرحلة"، ونقله أبو علي السنجي أول "شرح التلخيص" عن أهل التحقيق، فقال ما نَصُّه: (إنَّ فرض الكفاية أهم مِن فرض الأعيان، والاشتغال به أفْضل مِن الاشتغال بأداء فرض العين). هذا صوابُ النقل، فَمَن زَعَم على هؤلاء أنهم قالوا: (إنَّ "فرض الكفاية" أفْضل "مِن فرض العين")، فَقَدْ وَهِمَ. نَعَم، قد يُقال: إنَّ في كلام الشافعي والأصحاب ما يخالف ذلك، فَفِي "الأُم": (إنَّ قَطْعَ الطواف المفروض لِصلاة الجنازة أو الراتبة مكروهٌ؛ إذْ لا يَحْسُن تَرْك "فَرْض العين" لِـ "فرض الكفاية"). وجَرَى عليه الأصحابُ كالرافعي في بابه. وقال في "الإحياء" فيمن يترك الصلاة و [يتجر] (¬1) في تحصيل الثياب ونَسْجها قَصْدًا لِستْر العورات يزعم أنَّ ذلك حَقٌّ: (إنه كذاب) (¬2). وقد يجاب بأنَّ الأهمية ليست في كل موضع، بل الحكْم يختلف باختلاف الأحوال، ففي مَن ينقذ غريقًا وهو صائم لا يتمكن منه إلا بالإفطار: يفطر؛ لِئلَّا يُفَوِّت مصلحة "فرض الكفاية"، وهو مما لا يُسْتَدْرَك. وفي مَن تَعَارَضَ معه مكتوبة وجنازة: يُقَدِّم المكتوبة؛ لأنَّ صلاة الجنازة تُسْتَدْرَك. بل قد تُقَدَّم السُّنة على الفرض حيث يخشى فواتها دُون فواته، ككسُوف مع مكتوبة مُتسعة الوقت ويخشى الانجلاء. والفقيه يتأمل المواطن، ويُنزل كلام العلماء على ما يليق به. واعْلَم أنه يأتي في سُنة الكفاية ما سبق فيمن أتى بها بَعْد أنْ فُعِلَتْ أو دفْعَة، وفي كَوْن ¬

_ (¬1) كذا في جميع النُّسَخ، والذي في إحياء علوم الدِّين (1/ 43): يتجرد. (¬2) إحياء علوم الدِّين (1/ 43).

الاشتغال بها أَهَم مِن سُنة العين، ونحو ذلك. والله أعلم. ص: 170 - ثَالِثَةٌ: خُيِّرَ في الْمُوَسَّعِ ... بِأَنْ [يَفُوقَ] (¬1) الْوَقْتُ فِعْلَ الْمُوقَعِ 171 - كَالظُّهْرِ وَالْعِيدِ، فَهَذَا يُطْلَبُ ... بِأَوَّلِ الْوَقْتِ إلى مَا يَذْهَبُ 172 - أنْ يَشرَعَ الْفَاعِلُ حَيْثُ شَاءَهْ ... مَا لَمْ يَصِرْ زَمَانُهُ زُهَاءَهْ 173 - أَوْ يَضِقِ الْوَقْتُ بِظَنِّ قَطْعِهِ ... بِمَوْتٍ اوْ بِحَيْضٍ اوْ بِمَنْعِهِ الشرح: المسألة الثالثة: في التخيير في زمان الفعل المطلوب والتعيين. فالفعلُ المطلوبُ بإيجاب أو نَدْب لا بُدَّ له مِن زمان يُوقَعُ فيه بالضرورة، فذلك الزمان إنْ كان مقصودًا بِأَنْ عَيَّن [الشارع] (¬2) ابتداءَه وانتهاءَه، فيُسمَّى "المؤقَّت"، وإلَّا فَـ "المُطْلَق". وهذا "المطْلَق" هل هو على الفور؟ أو التراخي؟ يأتي بيان الخلاف فيه في فصل "الأمر". والأول إمَّا أنْ يساوي فيه الوقتُ الفعلَ أو ينقص عنه أو يزيد عليه. فالثالث هو المقصود هنا، وهو المسمَّى بِـ "المُوَسَّع"، وهو المراد بِقولي: (بِأَنْ [يَفُوقَ] (¬3) الْوَقْتُ فِعْلَ الْمُوقَعِ). أَيْ: يَزيد عليه، ولهذا سُمِّي "مُوَسَّعًا"؛ لِكَوْن الوقت فيه أوسع مِن الفعل. وهو مجازٌ؛ لأنَّ الموسَّع في الحقيقة الوقت، لا الفعل. ومَثَّلْتُه بمثالين فَرْض وسُنة، فالفرض: كالظهر فيما بين الزوال ومصير ظل الشيء مِثله، ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ز، ض، ت، ن 1، ن 3، ن 4، ن 5). لكن في (ش، ق، ن 2): يفوت. (¬2) كذا في (ض، ق، ت، ش). لكن في (ز، ص): الشرع. (¬3) كذا في (ص، ز، ض، ت، ن 1، ن 3، ن 4، ن 5). لكن في (ش، ق، ن 2): يفوت.

والسُّنة: كصلاة العيد فيما بين طلوع الشمس والزوال. والحكْم في هذا القِسم أنَّ الطلب يتعلق بالفعل أول الوقت [ليفعله] (¬1) في أَيِّ وقتٍ شاء مِن أوله إلى آخِره. ووجْه ذلك في الظهر مَثلًا أنه تعالى قال: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]. أَيْ: في ابتداء زوالها وميلها إلى جهة الغروب، مع ما ورد في حديث إمامة جبريل: "الوقتُ ما بَيْن هذين" (¬2)؛ فاقتضَى ما ذكرناه. وهذا ما لم يَضِق الوقتُ بأنْ يَمُر حتى لا يبقى منه إلا قَدْر الفعل سواء، فإنَّ التخيير يرتفع، أو يتضيَّق على المكلَّف بِظَنه انقطاع الوقت بموتٍ، كأنْ قُدِّمَ للقتل، أو بحيضٍ كما صَوَّر به الإمامُ في "النهاية" بأنِ اعتادت مجيء الحيض ذلك الوقت، أو طرآن جنون متقطع اعْتِيدَ ذلك الوقت. وهو معنى قولي: (مَا لَمْ يَصِرْ زَمَانُهُ زُهَاءَهْ)، أَيْ: قَدْرَه، وهو بِضَم الزاي والمدِّ كما اقتضاه كلام الأخفش، وعليه اقتصر صاحب "المشارق"، لكنه في "الصحاح" أَوْرَدَه في المعتل. ويقال فيه أيضًا: (لُهَاء). باللام بَدَل الزاي. وقولي: (أَوْ يَضقِ) عطفًا على (بَصِر) المجزوم بِـ "لم"، وكُسِر لالتقاء الساكنين. وقولي: (أَوْ بِمَنْعِهِ) أَيْ: أو بحالة تمنع وقوع الفعل، كالجنون المتقطع كما سبق. وللعلماء في إثبات الموسَّع طريقان: أحدهما: الاعتراف به، وبه قال الجمهور مِن الفقهاء والمتكلمين والأشاعرة وغيرهم، ¬

_ (¬1) في (ص): ليعلفه. (¬2) سنن أبي داود (رقم: 393)، سنن الترمذي (149) وغيرهما. وانظر: صحيح مسلم (614). وقال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 249).

واختاره الإمامُ وأتباعُه، ونُقِل عن جَمعٍ مِن الحنفية، فقال الأستاذ أبو منصور بعد أنْ نقلَهُ عن أصحابنا: إنه ذهب إليه مِن أهل الرأْي محمد بن شجاع البلخي (¬1). ونقله ابن بَرهان في "الأوسط" عن أبي زيد منهم. الثاني: إنكاره؛ استنادًا إلى أنه لو وَجَبَ، لَمْ يَجُز تأخيره؛ إذِ التأخيرُ تَرْكٌ، والواجب لا يُترك كما سبق نظيرُه في خصال الكفارة. ويُجاب عن هذا كما هناك أنَ كُل فرد مِن المخيَّر وكُل جزءٍ مِن الوقت له جهة عموم وهو كَوْنه أحد أشياء، وَجِهَة خصُوص وهو الشخص الذي يتميز به عن غيره، ومتعلَّقُ الوجوبِ جهةُ العموم، ولا تخيير فيه، ولا يجوز تركه، أَيْ بأنْ يُخْلي جميع الوقت منه أو يترك جميع الخصال، ومحلُّ التخييِر جهةُ الخصوص، وبتركه لا يكون تاركًا للواجب، وقد سبق تقريره في [المخيَّر] (¬2) مبسوطًا. وفي تقرير طريق المنكِرين للموسَّع مذاهب: أحدها: أنَّ الوجوب أو الندب في المندوب يختص بأول الوقت، فإنْ أخَّره عنه فقضاء؛ لحديث: "الصلاة في أول الوقت رضوان الله، وفي آخِره عفو الله" (¬3). وليس المقتضي للعفو هنا إلَّا العصيان بخروج الصلاة عن وقتها. وهذا حكاه أبو الحسين في "المعتمد" عن بعض الناس، وحكاه صاحب "المصادر" عن بعض الشافعية، وكذا الإمامُ في "المعالم"، والبيضاوي في "المنهاج" حيث قال: (ومِنَّا مَن قال كذا)، إنْ أراد مِن الشافعية، أما إنْ أراد مِن ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، ويقال: الثلجي. (¬2) في (ش): المخيرة. (¬3) سنن الترمذي (رقم: 172)، السنن الكبرى للبيهقي (1890). قال الألباني: موضوع. (إرواء الغليل: 259). وانظر كلام الحافظ ابن الملقن في (البدر المنير، 3/ 206).

الأصوليين فقريب كما وقع في "المحصول" و"المنتخب" إذْ قال: (ومن أصحابنا)؛ لأنَّ هذا القول لا يُعْرف عن الشافعية. قال [المَسِيلي] (¬1): سألت ابن الرفعة وهو أوحد الشافعية في زمانه، فقال: لم أترك مِن الكتب المشهورة في المذهب شيئًا إلَّا وقد طلبت هذا القول منه، فلم أجده. وقال ابن التلمساني: (لا نعرفه في مذهب الشافعي، ولَعَلَّ مَن عزاه التبس عليه بوجه الإصطخري المشهور: إنَّ ما يفْعل فيما زاد على صلاة جبريل في الصبح والعصر يَكون قضاء). انتهى وهو فاسد؛ لأنَّ الوقت عنده لم يخرج بذلك عن أنْ يَكون مُوَسَّعًا. ومنهم مَن أخذه مِن تضييق وقت المغرب (على الجديد). وهو فاسد؛ لأنَّ ذاك مِن الضَيَّق كما سيأتي. ومنهم مَن [قال] (¬2): أخذه مِن قولهم: إنَّ الصلاة تجب بأول الوقت. فظنَّ أنَّ الوقت للصلاة. وليس كذلك، إنما هو للإيجاب. وقيل: أخذه مِن قول الشافعي: رضوان الله أحبُّ إلينا مِن عفوه. وقيل: مِن نَقْله في "الأُم" في كتاب الحج أنَّ قومًا مِن أهل الكلام وغيرهم ممن يفتى ممن يقول: "إنَّ وجوب الحج على الفور" يقولون: إنَّ وجوب الصلاة يختص بأول الوقت، حتى لو أخَّره عن أول وقت الإمكان عَصَى بالتأخير. انتهى وكأنه ظن أنَّ الشافعي وافقه على قوله، وهو وَهْمٌ واضح. وأيضًا فقائله لم يَقُل: "إنَّ الوقت يخرج ويصير قضاء بَعْد أوله" كما هو صريح نقل الإمام الرازي في "المعالم"، بل إنه ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ص، ت). وفي (ش): السبكي. وفي (ض، ق) كأنها: السيلي. (¬2) ليس في (ش).

يَعْصِي بالتأخير، ولا يَلْزَم مِن العصيانِ خروجُ الوقت. نَعَم، هو قادح في حكاية القاضي أبي بكر -وجَرَى عليه ابنُ الحاجب- الإجماعَ على عدم تأثيم مَن أَخَّر عن أول الوقت، حتى إنَّ بعضهم عَبَّر عن هذا القول بأنه آخِر الوقت قضاء يَسُد مَسد الأداء. وما نقله الشافعي (رحمه الله) أَثْبَت وأَوْلَى، ومَن حَفِظَ حُجَّةٌ على مَن لم يحفظ. نَعَم، في "تقريب" القاضي وكذا في "الأصول" لابن القشيري أنَّ القائلين بأنه "يجب بأول الوقت، وهو قضاء في الثاني" يُجَوِّزون التأخير. قال: (ونُقل عن مالك قريبٌ مِن ذلك في الحج وغيره مِن العبادات المتعلقة بالعُمر، ورأى [نقل] (¬1) ذلك في الصلاة). انتهى الثاني: أنَّ الوجوب يختص بآخِر الوقت، وأنَّ أوله سببٌ للجواز، فالمأْتي به في الأول تعجيل، كإخراج الزكاة قَبْل الحول. وظاهر كلام إمام الحرمين في "البرهان" اختياره، ورَدَّه ابن التلمساني بأنَّ التقديم لا يصح فيه بِنِيَّة التعجيل إجماعًا. نَعَم، هو منقول عن الحنفية أو أكثرهم كما نقله أبو بكر الرازي، وكذلك شمسُ الأئمة السرخسي نقل عن [البلخي] (¬2) وأكثر مشايخهم العراقيين ذلك، ولكن الدبوسي قال في "تقويم الأدلة" بالوجوب الموسَّع، وأَبْطَل القول [بتعليقه] (¬3) بالأخير. الثالث: مِثْلُه، إلَّا أنه يقول: إنَّ التقديم نَفْلٌ يُسْقِطُ الفرضَ. ونقله الآمدي وابن الحاجب وغيرهما عن الحنفية، ولكن بعض شارحي "الهداية" قال: (إنه قولٌ ضعيف لبعض ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ض، ق، ش). لكن في (ز): مثل. وفي متن (ت): (نقل)، وصححت في هامش (ت): (مثل). (¬2) كذا في جميع النُّسَخ. (¬3) كذا في (ص، ظ، ت)، لكن في (ص): بتعلقه.

أصحابنا، وليس منقولًا عن أبي حنيفة، والصحيح عندنا أنه يجب بأول الوقت وجوبًا مُوَسَّعًا). انتهى وضُعِّف بأنَّ النفل لا يَقُوم مقام الفرض أبدًا، حتى لو صلى ألف ركعة بَدَلًا عن ركَعَتَي الصبح ما سقطت. فإنْ أُرِيدَ أنَّ النَّفْلِية فيه باعتبار المبادرة إلى الطاعة قَبْل استحقاقها، رجع للذي قَبْله. على أنَّ لنا صُوَرًا يسقط الفَرْضُ فيها بفعل النفل، لكن لا مِن حيث كَوْنه نَفْلًا، كغسل اللمعة في الكرَّة الثانية أو الثالثة إذَا تُركت في الأُولى، أو عند نسيان أنه توضأ فيُعيد الوضوء وتنغسِلُ اللمعة المتروكة أوَّلًا، وكقيام جلسة الاستراحة مقام الجلوس بين السجدتين حيث نسي السجدة الثانية فسجدها، وكصلاة الصبي على الجنازة مع وجود البالغين، وكالصبي إذَا صَلَّى ثم بَلغَ في الوقت بَعْد الفراغ أو في أثنائها. الرابع: أنَّ الوجوب يتعلق بِآخِر الوقت إذَا بقي منه قَدْر تكبيرة. الخامس: ويُنقل عن الكرخي مِن الحنفية، أنَّ الآتي بالعبادة أول الوقت إنْ بَقِي بِصِفَة الوجوب إلى آخِر الوقت (أي: بصفة تقتضي تَعَلُّق الوجوب به، أَيْ: ويقاس عليه في الندب أنْ يبقى بِصِفَة تقتضي تعلُّق الندب به)، فيَكُون ما فَعَله حينئذٍ واجبًا في الوجوب وسُنة في الندب. وإنْ طرأ ما يمنع (كموت وجنون وحيض)، تَبَيَّن أنَّ فِعْله في الواجب نَفْل. ومنهم مَن ينقل عنه أنه قال: إنْ كان آخِر الوقت بصفة الوجوب. ومُقْتَضَى ذلك أنها إذَا زالت وعادت، يَكون كما لو بقيت إلى آخِر الوقت. قلتُ: وقد يُقال: إنَّ مُرادَه بِـ "الآخِر" ما بَعْد وقت الفعل (الذي فَعَله) إلى أنْ ينقضي الوقت، لا "الآخِر" المتَخَلِّل بَيْنه وبَيْن الأول وسط؛ لأنَّ مُدْرك الكرخي أنَّ الوقت متى زال التكليف فيه، لم يتبين تعلق الأمر فيه، وإلَّا فقد وُجِد أولُ الوقت بصفة التكليف، فزوال صفة التكليف وعودها آخِر الوقت -لا مَعْنى له. وعلى هذا التقدير يتحد النَّقْلان ويصيران قولًا واحدًا.

السادس: أنَّ الوجوب أو الندب يتعلق بالفعل أَيّ وقتٍ يشرع فيه، إلى أنْ يضيق الوقت؛ فيتعيَّن التعلُّق حينئذ وإنْ لَمْ يَفْعل. ويُنقل ذلك عن الكرخي أيضًا، وادَّعَى الصفي الهندي أنه المشهور عن الحنفية. ونُقِل عن الكرخي قولٌ آخَر: إنَّ الوجوب يتعلق بالفعل أَيّ وقتٍ كان. فيخرج مِن هذه النقول ومما سبق أقوال كثيرة عن الحنفية. تنبيهات الأول: قِيل: إنَّ هذا الخلاف لَفْظي؛ لأنَّ القائلين بالأخير يُجَوِّزون فِعْلَه أولًا، وإنما الخلاف في تسميته "واجبًا". ولكن قال القاضي أبو الطيب: إنه معنويٌ، وفائدته: هل يُشترَط في جواز تأخيره العَزْمُ؟ وسيأتي بيانه. وفي أنَّ الفعل إذَا مَضَى مِن الوقت مقدار فِعْله وطرأ حيضٌ أو جنون أو غيرُه حتى فات الوقت، يجب قضاؤه على قولنا، ولا يجب على قولهم. الثاني: مِن العلماء مَن جعل مِن "الموسَّع" ما كان وقته العُمر (كالحج)، حتى يجري فيه ما سبق، والمختار خِلَافُه كما سيأتي. الثالث: هل [يستقِر] (¬1) (على القول بِـ "الموسَّع") الوجوبُ بمجرد دخول الوقت؟ أو بإمكان الأداء؟ قال الروياني في "البحر": الأصح عند أصحابنا الثاني، ويحكى عن أبي حنيفة. وقال الشيخ أبو حامد: إنه مذهبنا. وحكى الأول عن أبي يحيى البلخي مِن أصحابنا، وهو أصح الروايتين عند الحنابلة أيضًا. ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ت، ق). لكن في (ص، ش، ض): يستفيد.

وعندنا وَجْه ثالث: أنه لا يستقر حتى يدرك مع الوقت أداء جزء، وهو قول ابن سُرَيج. قال: وإلَّا لَمَا جاز أنْ يَقْصُرها إذا سافر آخِر وقتها؛ لاستقرار فرضها. وَرُدَّ بأنَّ القَصْر مِن صفات الأداء. قالوا: وهذا مِن ابن سُرَيج رجوع إلى قول الحنفية بوجوبها آخِر الوقت. والله أعلم. ص: 174 - فَإنْ يَبِنْ خِلَافُ مَا قَدْ ظَنَّا ... فَفِعْلُهُ بَعْدُ أَدَاءٌ هَنَّا (¬1) الشرح: أَيْ: إذَا ظَن المكلَّفُ ضِيقَ الوقت بتوقع موتٍ أو حيض أو جنون وقُلنا: يتضيق عليه، فلا يجوز تأخيره. ومَتَى أَخَّر، عَصَى اتفاقًا. لكن لو زال ذلك بِأنْ عُفِي عمن قُدِّمَ للقتل، أو لم يَأْتِ مُعْتَادَ الحيضِ أو نوبةِ الجنون [ذلك] (¬2) ثُم أَتَى بتلك العبادة في الوقت حيث يقع في غير هذه الصُّوَر أداء: فهل يكون في هذه الصُّوَر أداءً؛ نَظَرًا إلى ما في نفس الأمر مِن بقاء الوقت؟ أو قضاءً؛ نَظَرًا إلى أنه بَعْد وقته بمقتضَى ظنه؟ قال القاضي أبو بكر في "التقريب" بالثاني، لأنه لَمَّا تضيق ثُم فَعَله، صار كأنه خارج الوقت، وحكى ذلك عن القاضي الحسين مِن أصحابنا. قِيل: ولا يُعْرف عنه إلا أنْ يَكون أَخَذ ذلك مِن مسألة إفساد الصلاة ثم فِعْلها في الوقت، فإنه مِن القائلين بأنها قضاء كما سيأتي. ¬

_ (¬1) المراد به الإشارة للزمان، والقصد به تقييد الفعل بأنه في الوقت قبل خروجه. (¬2) في (ش): ذلك الوقت.

وقال الجمهور - كالغزالي وغيره- بالأول؛ لبقاء الوقت، ولا عبرة بالظن الذي تَبَين خطؤه. ومحل الخلاف إذَا مَضَى مِن وقت الظن إلى حين الفعل زمنٌ يَسَعُ الفرضَ؛ حتى يتجه القول بالقضاء. أما إذَا لم يمض ذلك وبقي بقية مِن ذلك المقدار فشرع فيها، فليكن على الخلاف فيما إذَا أَوْقَع بعض الصلاة في الوقت وبعضها خارجَه. والأصح (كما سيأتي): إنْ أَوْقَع في الوقت ركعةً، فالكل أداءٌ، وإلا فقضاء. ومما رُدَّ به رأْي القاضي أنَّ ظن المكلَّف إنما يؤثِّر في "الأحكام التكليفية"، وقد أثَّر هنا في تأثيمه بالتأخير، وأمَّا في "الوضعية" كَكَوْن الوقت باقيًا فَلَا؛ لأنَّ الثواب والإثم يتبع الاعتقادات ولا يقلب حقائق المقَدَّرات. ويظهر أثَرُ الخلاف فى المسألة في: - نية الأداء والقضاء. - وفي أنه لو فُرض ذلك في الجمعة، لا تُقْضَى جمعةً، بل ظُهْرًا. - وما لو كان في السفر وقُلنا: فائت السفر لا يُقْصَر ولو صُلِّي في السفر، وإنْ كان الراجح خِلَافَه. قولي: (فَفِعْلُه) مبتدأ، خبرُه "أداءٌ"، فُصِل بينهما بالظرف المبني على الضم؛ لِقَطْعه عن الإضافة، أَيْ: بَعْد التَّبَيُّن. والجُملة جوابُ الشرط. وقولي: (هَنَّا) بفتح الهاء وتشديد النون -المراد به الإشارة للزمان وإنْ كان في الأصل للمكان، والقصد به تقييد الفعل بأنه في الوقت قبل خروجه، ومِن وروده إشارة للزمان قول الشاعر: حَنَّتْ نوارُ ولاتَ هَنَّا حنَّت. ويمكن أنْ يُجعَل إشارة للمكان على بابِه، والمرادُ: في مكان هذا التصوير يُنشأُ الحكم،

كما يقول: من هناك قيل بكذا وكذا. فالظرفيَّة فيه مجازية. تنبيه: مما يناسِبُ هذه القاعدة مِن الفروع: باعَ مال مُوَرثه يَظُنُّ حياتَه، فبانَ مَيتًا، قولان: أَرْجحهما الصحة. ويجريان أيضًا فيما لو زوج أَمة أبيه على أنه حي فبانَ ميتًا وهو وارثه، أو باع العبد على أنه آبق أو مكاتب فبانَ راجعًا أو فاسخًا للكتابة، ولو وطئ أَمَة نفسه جاهلًا ذلك فولدت، ثبت الاستيلاد على أصح الوجهين، وغير ذلك مما لا ينحصر، وكُله راجع إلى تغيير الأمر الوضعي بالظن أَوْ لا. فإنْ غلبَ فيه التعبُّد، أثَّر الظنُّ فيه، كَمَن صَلَّى خلف مَن ظنَّه امرأة أو خنثى فبانَ ذَكرًا، فإنه باطل؛ لِمَا ذكَرْناه. وأنت إذَا تتبعت الفروع، لم تجدها تخرج عن ذلك، والله أعلم. ص: 175 - وَالشَّرْطُ في تَأْخِيرِهِ لِلثَّاني ... عَزْمٌ عَلَى الْفِعْلِ لَهُ يُدَانِي الشرح: أَيْ: يتفرع على القول الراجح في الموسَّع (وهو تَعَلُّق الأمر في أول الوقت لِيُوقعه متى شاء مِن الوقت) أنَّ تَرْك الفعل أول الوقت هل يُشْتَرط فيه أنْ يعْزم على الإتيان به في الثاني وهكذا إلى أنْ يتضيق؟ أَوْ لا؟ طريقتان مرجحتان، وممن حكاهما وجهين لأصحابنا القاضيان الطبري والماوردي والشيخُ في "اللمع"، المختار منهما: الاشتراط، فقد قال الإمامُ: إنه قول أصحابنا وأكثر المعتزلة. ونصره القاضي، ونقله عن المحققين، وجزم به الغزالي في "المستصفى"، وينقل عن جمهور المتكلمين، وإليه أيضًا صار ابن فُورك، ونقله القاضي عبد الوهاب المالكي عن أكثر الشافعية. وقال النووي في "شرح المهذب ": إنه الصحيح مِن الوجهين؛ ولهذا أوجبوه على المسافر في جمع التأخير، ونظيره أنَّ مَن عليه دَيْن،

يجب عليه العَزْم على أدائه عند المطالبة. ويدُل له [أيضًا] (¬1) اتفاق أصحابنا في الأمر المطْلَق على وجوب العَزْم عند ورود الأمر. وزعم صاحب "جمع الجوامع" أنَّ وجوب العزم لا يُعْرف إلا عن القاضي ومَن تبعه كالآمدي، وبالغ في التشنيع على هذا القول، فقال: إنه مِن هفوات القاضي، ومن العظائم في الدِّين، وإنه إيجابٌ بلا دليل. قال: (وليس في نصوص الشافعي ومُتَقدِّمي أصحابه هذه المقالة). قال: (وإنما موضع النظر أنَّ مَن نَوَى الترك هل يَعْصي بالنية؟ والحكم فيه أنه إنْ لم يفعل، عَمىَ بهما جميعا؛ لحديث: "ما لم تتكلم أو تعمل " (¬2)، وإلَّا فهل عَمىَ بالنية التي كذبها الفعل؛ فيه نظر واحتمال، وحديث: "الفَرْجُ يُصدِّق ذلك أو يُكذبُه" (¬3) دليل على عدم التعصِية). انتهى ولا يخفى ما فيه، لِمَا سبق، ولمَا سنذكره. نَعَم، قد سبقه إلى هذا الإنكار إلْكِمِا الهرَّاسي، وكذا القاضي أبو الطيب إذْ قال: لم يذكره أصحابنا المتقدمون، ولا يحفظ عن الشافعي. ورجَّحَا الطريقة التي لا توجب العزم، وهي تُعْزَى لأكثر الفقهاء. وممن أنكر "العَزْمَ" على القاضي إمامُ الحرمين، قِيل: لِتَخَيُّله أنه أخذه مِن دلالة صيغة الأمر عليه، وأنه جُعل العزمُ بَدَلًا مِن نفس الفعل. ولكن القاضي إنما أخذه مِن دليل العقل الذي هو أَقْوَى مِن دليل الصيغة مِن حيث إنَّ ما لا يُتَوَصَّل إلَّا به فهو واجبٌ، والعَزْمُ عنده بَدَل مِن تقديم الفعل، لا مِن الفعل نفسه كما زعمه الجبَّائي، واقتصر عليه الشيخ في ¬

_ (¬1) من (ز، ت، ق). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 4968)، صحيح مسلم (رقم: 127). (¬3) صحيح البخاري (رقم: 5889)، صحيح مسلم (رقم: 2657).

"اللمع"؛ لأنَّ الواجب لا يجوز تركُه. وقِيل: إنما وجب ليتميز الواجب عن غيره. واختاره القاضي أبو الطيب. فهذه ثلاثة أقوال في مُدْركه. ومما ضُعِّفَ به القول بوجوب العزم أنه يَلْزَمُ تَعَدُّدُ البَدَلِ والمُبدَلُ واحد. وجوابُه: مَنع التعدُّد؛ ولذلك قال إمام الحرمين: إنَّ الذين قالوا بذلك لا أراهم يوجبون تجديد العزم في جزءٍ بَعْد جزءٍ، بل يحكمون بأنَّ العزم الأول ينسحب على جميع الأزمنة المستقبلة، كانسحاب النية على العبادة الطويلة مع عزوبها. وكذا قال أبو نصر القشيري أيضا: إنه محمول على ذلك. واختار الغزالي تفصيلًا بين الغافل عن الفعل والترك فلا يجب عليه العزم، وبين مَن خطر ذلك بباله فيجب، فإنه إذا لم يعزم على الفعل، فَقَدْ عزم على الترك ضرورةً. واستحسنه القرافي في "القواعد"، ولكنه [في الحقيقة] (¬1) راجع إلى الوجوب مطلقًا، إذْ ليس لنا قائل بوجوب العزم مع الغفلة؛ لأنه مُحَالٌ. وذكر [الماوردي] (¬2) أنه دار بينه وبين أبي الحسن [اللخْمي] (¬3) البحث في ذلك، فكان يُنكرُ العزمَ ويستبعِدُه، فَلَمْ يَكُن إلا قليل حتى قرأ القارئ في البخاري: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما" (¬4) الحديث، وفيه تعليل النبي - صلى الله عليه وسلم -[كَوْن] (¬5) المقتول في النار بِكَوْنه كان حريصًا، ¬

_ (¬1) ليس في (ص). (¬2) كذا في (ص، ز، ض، ق، ش). لكن في (ت): المازري. (¬3) في (ش): البلخي. (¬4) صححِح البخاري (رقم: 31)، صحيح مسلم (رقم: 2888). (¬5) في (ش): بكون.

فَقُلْتُ له: هذا يدل للقاضي. فلم يُحِب أنْ يبطل استبعاده. قولي: (له يُداني) جملة حاليَّة أو صفة؛ لوقوعها بَعْدَ مُعَرَّفٍ بِـ "ال" الجنسية، ومعناه أنه [يقاربه] (¬1) ويتصل به، والله أعلم. ص: 176 - وَإنْ يَكُنْ وَقْتٌ [يُسَاوِي] (¬2) الْفِعْلَا ... كَالصَّوْمِ، ذَا "مُضَيَّقٌ"، لَا يُخْلَى 177 - وَإنْ يَكُنْ أقلَّ، فَالتَّعَلُّقُ ... لِقَصْدِ تَكْمِيلٍ إذَا يُحَقَّقُ 178 - أَوِ الْقَضَا، كَزَائِلِ الْعُذْرِ إذَا ... بَقِيَ [تَكْبِيرٌ] (¬3) مِنَ الْوَقْتِ إذَا الشرح: هذا إشارة إلى القِسمين الباقيَين مِن التقسيم السابق، وهُما المقابِلان للوقت الموَسَع: أحدهما: أنْ يَكون الوقت مساويًا للفعل، لا يزيد عليه ولا ينقص منه، كالصوم، فإنه مِن الفجر إلى الغروب، وكصلاة المغرب على الجديد مِن مذهبنا، وكما لو استأجره يومًا للعمل فيه، ونحو ذلك ما سبق فيما إذا لم يَبْق من الوقت إلا قَدْر الصلاة، وإنْ كان في غالب ذلك بالتقريب، لا بالتحديد، فيُسَمَّى الوقت في ذلك كله "مُضَيَّقًا"؛ لأنه لا يخلو جزءٌ مِن الوقت مِن الفعل، وهو معنى قولي: (لا يُخْلَى) بالبناء للمفعول، أَيْ: لا يُخْلِيه الفاعل مِن الفعل لو فعل. وقَسَّم الحنفية المساوِي إلى ما يَكون الوقت سببًا لوجوبه (كصوم رمضان)، وإلى ما لا ¬

_ (¬1) في (ز): يقارنه. (¬2) في (ق): تساوي. (¬3) في (ش): تكبيرة.

يَكون كذلك (كقضائه). الثاني: أنْ يَكون الوقت أنْقَص مِن الفعل. وفيه اعتباران: أحدهما: أنْ يُقْصَد أنْ يُوقع جميع الفعل في ذلك الوقت الذي لا يَسَعُه، وهو مُحَالٌ، فيمنعه مَن يَمْنَع التكليف بالمُحَال. وثانيهما: أنْ يُقْصَدَ بِأَمْره بذلك أنْ يبتدئ الفعل في الوقت ويُتمه بَعْدَهُ، فيجوز قَطْعًا. وهذا موجود فِيمَن أَخَّر حتى ضاق الوقت عَمْدًا أو غيره، وفيمن زال عُذْرُه وهو بحيث يمكنه أنْ يَشْرع في الصلاة، كزوال الصِّبَا مع وجود الشروط. أو القَصْد أنْ يَتعلق الفعل بِذِمَّته حتى يأتي به قَضَاء خارج الوقت حيث تَعَذَّر الشروع فيه قَبْل خروج الوقت، كوجوب الصلاة على مَن زال عُذْره مِن جنون أو صِبًا ليس موجودًا فيه شرطُ الشروع، أو حيضٍ أو نفاسٍ أو كُفرٍ، وإنْ تَسامَح الفقهاء في إطلاق العُذْر على الكُفر؛ لأنه ليس بِعُذْرٍ حقيقةً. لكن شَرْط هذا القِسم كُله أنْ يَبْقَى مِن الوقت قَدْرُ تكبيرة (على المُرَجَّح)، [وفي قَوْلٍ: ركعةٍ] (¬1)، وفي قَوْلٍ بزيادة طُهْرٍ. وإنْ كانت الصلاة تُجْمع مع ما قَبْلها، [فَفِيهَا] (¬2) خِلَافٌ آخَر وتفصيلٌ مشهورٌ في الفقه. وشَرْطه أيضًا الخلوُّ مِن الموانع بَعْدَ الوقت بمقدار ما يسع العبادة واحتياجها كما هو موضح في الفقه أيضًا. وقولي: (بَقى [تَكْبِيرٌ] (¬3) مِنَ الْوَقْتِ إذَا) أصله "إذَنْ" لكنها يُوقف عليها بالألِف، والله ¬

_ (¬1) ليس في (ق). (¬2) كذا في (ز، ق، ت). لكن في (ص، ض، ش): فقبلها. (¬3) في (ش): تكبيرة.

أعلم. ص: 179 - وَلَيْسَ مِنْ مُوَسَّعٍ مَا وَقْتُهُ ... عُمْرٌ، كحَجٍّ، فَمَجَازٌ ذِكْرُهُ الشرح: هذا تنبيه على قِسْمٍ أَدْخَلُوه في "الموسَّع"، وليس عند التحقيق منه؛ لأنه ليس منصوصًا على وقته، وأيضًا "الموسع" هو الذي يَعْلَم المكَلَّف سِعَتَه بحيث يسوغ له تأخيره عن أول الوقت إلى ثانيه، وما كان آخِره آخِر العُمْر لا يتحقق فيه ذلك، كالحج إذَا قُلنا بالمرَجَّح أنه على التراخي لا الفور، وكقضاء العبادة التي فاتت بِعُذْر من صلاة أو صيام، فهذا ليس مِن "الموسَّع" وإن ذكره منه كثير مِن الأصوليين والفقهاء. ولهذا قال البيضاوي في "منهاجه": (فَرْع: الموسَّع قد يسعه العُمر) (¬1) إلى آخِره، وذكر فيه مسألة مَن أَخَّر ظانًّا بقاء الوقت ومات، أنه يَعْصِي، فاقتضَى كلامُه أنَّ كل ما كان على التراخي يُسَمَّى مُوَسَّعًا، وليس كذلك كما سبق تقريره. وممن صرح بذلك الشيخ تقي الدين السبكي، قال: لأنَّ المكلَّف إذا لم يَعْلم آخِر الوقت، كيف يحكُم بأنه مُوَسَّع أو مُضَيَّق ولا تكليف إلا بِعِلم؟ ! قال: فتسميتهم ذلك "مُوَسَّعًا" مجاز؛ لمشابهته "الموسَّع". قلتُ: ولأجْل ذلك أَثْبَتَ الحنفية ذلك قِسْمًا آخَر مُقَابِلًا للأقسام الثلاثة السابقة (التي هي "الموسع" و"المضيق" و"الناقص وقته عنه") عَبَّروا عنه بِـ "ما لا يُعْلَم زيادته ولا مُسَاواته"، كالحج، وسموه "الواجب المشكل"؛ لأنه أخذ شبَهًا مِن الصلاة باعتبار أنه لا يستغرق الوقت، ومن الصوم باعتبار أنَّ السَّنَة الواحدة لا يقع فيها إلا حجة واحدة، وأيضًا ¬

_ (¬1) منهاج الوصول (ص 137) بتحقيقي.

فإنه لا يُدْرَى: أينقضي العُمر بَعْد الفعل؟ أو فيه؟ واعْلَم أنَّ هذا يفارق "الموسَّع" أيضًا في عصيانه إذا أخَّر مع ظن السلامة كما سبق عن البيضاوي الإشارة للمسألة. والحاصل أنه هنا إذا مات قَبْل الفعل، مات عاصيًا (على المرجَّح)؛ لأنه لَمَّا لَمْ يَعْلَم الآخِر، كان جواز التأخير له مشروطًا بسلامة العاقبة، بخلاف "الموسَّع" وهو المعلوم الطرفين. وثالثها: الفرق بَيْن الشيخ فَيَعْصِي والشاب فَلَا، وهو اختيار الغزالي. وفَرَّقُوا - على الأول الراجح - بَيْنه وبَيْن "الموسَّع" أيضًا بأنَّ بِالْمَوْت في الحج خَرَج وقته، وبِالْمَوْت في أثناء وقت الصلاة لم يخرج وقتها. ونظير الحج أنْ يموت آخِر وقت الصلاة - أَيْ: أو قَبْله- بما لا يَسَعُها، فإنه يَعْمِي حينئذ، والله أعلم. ص: 180 - رَابِعَةٌ: ذَاتُ انْقِسَامٍ بَيِّنِ ... إنْ وَقَعَتْ في وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ 181 - شَرْعًا عِبَادَةٌ، فَذِي "أَدَاءُ" ... أَوْ بَعْدَهُ، فَهْيَ إذَنْ "قَضَاءُ" 182 - وَرُبَّمَا أَجْرَوا كَكُلٍّ بَعْضَا ... [كرَكْعَةٍ] (¬1) آخِرَ وَقْتٍ تُمْضَى 183 - وإنْ تَكُنْ قَدْ سُبِقَتْ بِمِثْلِ ... فَهْيَ "إعَادَةٌ" وَلَوْ بِالشَّكْلِ 184 - وَلَوْ بِوَقْتٍ، فَالَّذِي قَدْ أَفْسَدَا ... فِيهِ صَلَاةً مَا يُعِيدُهُ أَدَا الشرح: المسألة الرابعة مِن المسائل المتعلقة [بما سبق] (¬2) يذكر فيها انقسام العبادة إلى أداءٍ وقضاءٍ، وإلى ابتداءٍ وإعادةٍ. ¬

_ (¬1) في (ن): في ركعة. (¬2) ليس في (ش).

وذلك أنَّ العبادة إنْ لم تَكُن مؤقتة بوقت محدودِ الطرفين، فلا تُوصَف بأداءٍ ولا قضاء، سواء أكان لها سبب (كتحية المسجد وسجود التلاوة) أَوْ لَا (كالنوافل المطْلَقة). وقد تُوصَف بالإعادة، كَمَن أتى بذات السبب -مَثَلًا - مُخْتَلَّة، فَتَدَارَكَها حيث يمكن التدارك. وإنْ كانت مؤقتة (سواء أكانت فَرْضًا أو نَفْلًا)، وُصِفَت بالأمور الثلاثة، خِلافًا لمن زَعَم أنها لا يُوصَف بها إلا الواجب. فإنْ وقعَت في وقتها المعَيَّن لها شَرْعًا فأداءٌ (كالصلوات الخمس وتوابعها وصوم رمضان ونحو ذلك)، أو بَعْد خروج الوقت فَقَضَاء، سواء خُوطِبَ بالأداء [أَوْ] (¬1) لا، وسواء مَن لم يخاطَب به أَمْكَنه فِعْله (كصوم المسافر والمريض) أو امتنع منه عَقْلًا (كقضاء النائم الصلاة) أو شَرْعًا (كقضاء الحائض الصوم). فالمدارُ -في تسميتها "قضاء" بَعْد الوقت- على انعقاد سبب الوجوب في حَقِّه وإنْ تَخَلَّف الوجوبُ لِمَانِع، وكذا انعقاد سبب الندب وإنْ تَخَلَّف لمانع. نَعَم، في تسمية قضاء الحائض خِلافٌ في كَوْنه حقيقة أو مجازًا، وسبق عن الغزالي أنَّ ذلك مجاز في قول عائشة - رضي الله عنهما -: "كُنا نؤمر بقضاء الصوم" (¬2). قال: للإجماع على عدم الوجوب عليها، ولكن إذا كان المعتبر انعقاد السبب، فلا امتناع من إطلاق "القضاء" حقيقة. نَعَم، إذَا لم ينعقد سبب الأمر له، لم يَكن فِعلُه بعد انقضاء الوقت قضاءً إجماعًا، لا حقيقةً ولا مجازًا، كما لو صَلَّى الصبي الصلوات الفائتة في حالة الصِّبَا؛ لأنَّ المأمور بِأمْر الصبي بالصلاة هو الولي، وليس الصبي مأمورًا بذلك شرعًا حتى يَقْضِي، فثوابُ الصبي على عباداته مِن خطاب الوضع. ¬

_ (¬1) في (ش): ام. (¬2) صحيح مسلم (رقم: 335).

نَعَم، حكى الجيلي وجهين عن فتاوى الروياني في أنَّ الولي يأمره بقضاء ما فاته مِن الصلاة، وعلى القول بأمره مدْرَكُه أنه كالأداء؛ ليتمرَّن على العبادة وإن حُكِيَ خِلَافٌ في أنَّ سبيلَه سبيلُ النَّفْلِ؟ أو الفَرْضِ حتى لا يصلي قاعدًا؟ فحكى ابن الرفعة في "الكفاية" في ذلك وجهين، لكن الظاهر هو الأول، فلذلك رجح النووي في "التحقيق" و "شرح المهذب " أنَّ الصبي لا ينوي الفرضية. قُلتُ: لكنه لا يُصلي قاعدًا مع القُدرة، ولا يجمع فرضين بتيمم (على المرَجَّح)، فليس جاريًا على سَنن واحد. نَعَم، سقوط الصلاة في الحائض عزيمة؛ لِعَدم انعقاد سبب الأمر في حَقِّها، حتى لو أرادت بَعْد الطهر أنْ تقضي صلوات زمن الحيض وقالت: (أنا أتبرعُ بذلك)، كان ذلك حرامًا عليها كما نقله ابن الصلاح في "طبقاته" في ترجمة أبي بكر البيضاوي أنه ذكره في كتاب "تعليل مسائل التبصرة"؛ لأن عائشة - رضي الله عنها - نهت المرأة عن ذلك وقالت: "أحرورية أنت؟ " (¬1). نَعَم، في "شرح الوسيط" للعجلي الكراهة، وكذا في "البحر" للروياني. ولكونه عزيمة أيضًا: لو ارتدت ثم حاضت، لا تقضي صلاة زمن الرِّدَّة، بخلاف مَن جُنَّ ثُم ارْتَد، فإنه يقضي زمن الردة في الجنون. وكذا لا تثاب الحائض على الصلوات التي تركتها زمن الحيض، بخلاف المريض والمسافر، حيث يُكتب لكل منهما مِثل نوافل الصلوات التي كان يَفعلها في صحته أو حَضَرِه لِمَحَلِّ العُذْر كما قاله النووي في "شرح مسلم" في حديث ابن عمر في نَقْص عَقْلِهن ودِينهن (¬2). فإنْ قِيل: هذا التعريف لِـ "الأداء" غير مطَّرد، ولِـ "القضاء" غير منعكس، فإنَّ فِعل ما ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 315)، صحيح مسلم (رقم: 335). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 298)، صحيح مسلم (رقم: 79).

فات مِن رمضان بِعُذْر -لا يجوز تأخيره إلى ما بَعْد رمضان الثاني، فهو مؤقَّت وقد فَعَله في وقته مع كَوْنه قضاء، فينبغي أنْ يُزاد: " [المُعَيَّن] (¬1) أَوَّلًا"، لِيخرج ذلك مِن تعريف "الأداء" ويدخل في تعريف "القضاء". وكذا في رمي الجمار لمن فاته ذلك أول التشريق وتَداركَه في بقية الأيام، فإنه أداء على الأظهر مع أنه بَعْد وقته، وقيل: قضاء. أمَّا بَعْد أيام التشريق فقضاء قَطْعًا، لكن لا بنفس الرمي، بل بالدم، كما في قضاء الجمعة ظُهْرًا. فالجواب عن الأول: مَنعْ أنْ يكون هذا توقيتًا للعبادة بوقت مقصود، بل توسيع مِن الشرع في القضاء أنْ لا يكون على الفَوْر، لكن توسيع إلى غاية، بدليل أنه لو صامه بَعْد ذلك لا يُقال فيه: (إنه قضاء القضاء)، وإنما هو قضاء للأصل. وعن الثاني: بأنَّ أيام التشريق كلها وقت لكل الرمي، وإنْ شُرِط فيه أنْ يقع ابتداؤه في وقت مُعَيَّن (على الراجح)، فيكُون له وقت اختيار ووقت جواز كما في الصلاة كما [قُرِّر] (¬2) في موضعه في الفقه. قولي: (وربما أَجْروا) إلى آخِره -إشارة إلى أنه قد يُجرى في بعض العبادات (وهو الصلاة) فِعلُ البعض في الوقت بمنزلة كُله حتى يكون أداءً، وأَجْرَوا ما فُعِل بعضُه خارج الوقت بمنزلة فِعل الجميع خارجه حتى يكون قضاء. وقد مَثَّلْتُ للأول، فَيُعْلَم منه مثال الثاني، وذلك أنهم قالوا فيمن صَلَّى بعض الصلاة في الوقت وبعضها خارجه: إنْ كان الواقع في الوقت ركعة، كان الكل أداءً، وإلَّا كان الكل قضاءً - على الأصح. ¬

_ (¬1) في (ت): المغيى. (¬2) في (ص): فرق.

وقيل: الكل أداء مطلقًا. وقيل: الكل قضاء مطلقًا. وقيل: ما في الوقت أداء وخارجه قضاء. وقيل: إنْ أخّر لِغَير عُذْر، فالكل قضاء، وإلَّا فأداء. فَعَلَى الأصح يحتاج إلى دخول ما فيه ركعة في الأداء، وإخراج ما فيه دونها عنه وإدخاله في القضاء. وكذا على بعض الأقوال السابقة أيضًا، فهذا معنى قولي: (أَجْروا كَكُلٍّ بَعْضَا). لكن على المرجَّح: - إنْ كان ما في الوقت ركعة، فأَجْروا البعض كالكل في كَوْنه أداء. - أو دُونها، فأَجْروا البعض كالكل في كَوْنه قضاء. وقولي: (كركعة آخِر وقتٍ تمُضَي) أَيْ: [تُفْعل] (¬1)، فالضمير للركعة تصريح بالحالة الأُولى، وتؤخذ الحالة [السابقة] (¬2) مِن مفهوم ذلك كما سبق. ولو أَطْلَقْتُ إجراء البعض [كالكل] (¬3) لَكَان يشمل الصورتين لكن لا يُعْرَف الفَرْق بينهما، فَزِدت قولى: (كركعة) إلى آخِره؛ لبيان الفَرْق على [الرأي] (¬4) الراجح في المسألة. وهذا التعبير على ما قررته هو الصواب. وأمَّا استظهار صاحب "جمع الجوامع" على دخول الحالة الأُولى في "الأداء" بقوله: (فِعلُ ¬

_ (¬1) في (ش): يفعل. (¬2) في (ز): الثانية. (¬3) في (ص): كالكل في كونه قضاء. (¬4) ليس في (ص).

بعضٍ، وقيل: كل) (¬1) وعلى خروجها مِن تعريف "القضاء" بقوله: (والقضاء فِعلُ كلٍّ، وقيل: بعض) (¬2) - ففيه خلل مِن وجوه: منها: أنه لا يدخل في حَدِّ "الأداء"، لا أداء الصوم ولا الحج، ولا الأداء في الصلاة إذا فُعلت كلها في الوقت بالتصريح، بل بفحوى الخطاب، وإنما يتوجه التعريف لفرد واحد من أفراد الحقيقة، ولا يخفى فسادُه. ومنها: شمول الـ "بعض" ما كان دُون الركعة. ومنها: حكاية خِلاف في تعريف "الأداء"، وإنما هو خِلاف في بعض الصُّوَر. ومنها: أنَّ التعريف لا ينصب في فصوله الخلاف؛ لأنَّ الحد إنْ كان بالذاتي فَمُحَال فيه التعدد، أو بالخاصَّة فيعود إلى كَوْنه خاصَّة، أوْ لا، فليس الخلاف في كَوْنه تعريفًا أَوْ لا. ومنها: أنه يدخل فيه ما لو فُعل بعضٌ قَبْل الوقت وبعضٌ فيه، وهو فاسدٌ مع التعمد، ومع عَدَمِه ينقلبُ الفرضُ نَفْلًا. ومنها: أنَّ هذا مِن فروع الفقه، لا عُلقة له بِكُليَّات الأُصول. ومنها: أنَّ قوله في "القضاء" يأتي فيه ما قُلناه في "الأداء" مما هو بالعكس حسب ما يمكن إيراده، فَتَأَمَّله. نَعَم، هو أراد أن يحقق (بِقَوْله في تعريفهما: فِعْل) أنَّ "الأداء" أو "القضاء" إنما هو الفعل، لا المفعول كما وقع ذلك في عبارة "المختصر" و"المنهاج " وغيرهما من كتب الأصول، وأوضح ذلك بقوله مِن بَعْد: (والمؤدَّى ما فُعِل، والمَقْضِيُّ المفعول). ¬

_ (¬1) جمع الجوامع مع حاشية العطار (1/ 148). (¬2) جمع الجوامع مع حاشية العطار (1/ 150).

ولكنه تحقيق لا طائل تحته، فإنَّ "الأداء" و"القضاء" في عبارة الأصوليين والفقهاء يُراد بها المفعول، مِن إطلاق المَصدَر على المفعول، واشتهر ذلك في استعمالهم حتى صار حقيقة عُرْفية. وأيضًا فالعبادة قبل إيقاعها ليس لها وجود خارجي يقع الفعل عليه حتى يَكون مفعولًا حقيقة ويقع الفَرْق فيه بين الفعل والمفعول، فحينئذ إيقاع العبادة ووقوعها وفِعلها و [ذاتها] (¬1) كُله واحد، فَصَحَّ وَصْفُ العبادة بالأداء وبالمؤداة وبالقضاء والمقضِية، فاعْلَم ذلك. فإنْ قيل: إذا كانوا قد أَجْرَوا فِعلَ البعض في هذه الصورة بمنزلة الكُل حتى صارت أداء، فَقَدْ خرجت عن التعريف الذي [ذكرته] (¬2) للأداء، فلا يكون منعكسًا، وفي دون الركعة في الوقت خرج أيضًا مِن تعريف "القضاء"؛ فلا يكون منعكسًا. فالجواب: أنه في الأول لَمَّا جَعَله الشارعُ مُدْركًا بالركعة، صار ما بَعْد الوقت إلى آخِر الصلاة داخلًا في الوقت في حَقّه، فَلَم يفعل الكل إلا في الوقت؛ وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا قال: "مَن أَدرك ركعة مِن العصر قَبْل أنْ تغرب الشمس فقد أدرك العصر، ومَن أَدرك ركعة مِن الصبح قَبْل أنْ تطلع الشمس فقد أدرك الصبح " (¬3) وقِيسَ ما سواهما عليهما في ذلك؛ إذْ لا فارق، وَجَبَ أنْ يُقْضَى شرعًا بما ذكرناه، وفي القضاء مقابلة؛ لأنَّ بعض الركعة نزل منزلة العدم، فكأنه فعل الكل خارج الوقت. كذا قرره الشيخ تقي الدين السبكي بَعْد أنْ قال: إنَّ المتبادر مِن كلامهم تسميته "أداء" مع الحكم بخروج الوقت وأنَّ ما بقي مفعولٌ خارج ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ص، ق، ت، ش). لكن في (ض): ادائها. (¬2) في (ش): ذكره. (¬3) صحيح البخاري (رقم: 554)، صحيح مسلم (رقم: 608) بذكر الصبح أولًا.

الوقت. لكن في كلام الشافعي ما يدلُّ للأول، فإنه قال في "المختصر": (فإذَا طلعت الشمس قَبْل أنْ يُصَلِّي منها ركعة، فقدْ خرج وقتُها). فمفهومه أنه إذَا صلَّى ركعة، لا يخرج وقتُها، وأنَّ الوقت لا يخرج إلا بالنسبة إلى مَن لَمْ يُصَلِّ ركعة، ويشهد لذلك ما إذا جمع بين الصلاتين جَمع تأخير، فإنَّ المؤخَّر يَكون أداءً (على الصحيح) مع أنَّ وقتها الأصلي خرج؛ تنزيلًا لوقت الثانية منزلة وقت الأُولى، وهذا واضح. فإنْ قِيل: - مَن أفسد صلاة ثُم أعادها، تَكون قضاءً على طريقةٍ، [فَيَرِد] (¬1) على تعريف "الأداء" طردًا، وعلى تعريف "القضاء" عكسًا. - وأيضًا فلو شهد برؤية الهلال مِن شوال ولم يكمل إلا بَعْد الغروب، كأنْ وقعت التزكية بَعْده فيصلى العيد مِن الغد أداءً مع أنه خارج الوقت. - وأيضًا فصدقة الفطر إذا أُخرِجت في رمضان، كانت أداءً مع كَوْنها مؤقَّتة بما بين غروب ليلة العيد وغروب يومه. فالجواب: أمَّا الأول: فسيأتي ترجيح أنه أداء، [وبتقدير القول الآخر فَيُدَّعَى أنَّ الوقت خرج بالنسبة إلى هذا دُون غيره كما سبق نظيره] (¬2). امَّا الثاني: فإنَّ الشهادة ألغيت بالنسبة إلى الصلاة وإنْ قُبِلَت في غيرها؛ للمدرك ¬

_ (¬1) في (ز، ت): فترد. (¬2) ليس في (ص).

الموضح في الفقه، فكأنَّ الوقت لم يَدخل؛ فلَمْ يُصَلِّ خارج الوقت، بل فيه، والشهادة قد تتوزع كما في العدل في هلال رمضان، وإذَا وقع التوزيع في الأحكام بالدليل، فلا تناقض حينئذ. وأمَّا الثالث: فإنه مما سامح الشرع فيه بالتعجيل قَبْل وقته، كتعجيل الزكاة قَبْل الحول، فهو مُسْقِطٌ للواجب، لا أداء حقيقة. تنبيه: قد تَقدم أنَّ الحج ليس وقته مُوَسَّعًا، وأنه مِن باب التراخي، فعَلَى هذا إذا لم يَكُن مؤقتًا معلوم الطرفين؛ لجهالة الطرف الآخَر، فلا يُوصَفُ بأداءٍ ولا قضاء، فتسمية الفقهاء إياه بذلك على سبيل التَّجَوُّز، أو تفريعٌ على كَوْنه مِن الموَسَّع. ومَن مات وحُجَّ عنه، يُسَمى ذلك أيضا "قضاء" مع كَوْن الفاعل غير مَن خُوطِبَ به، وكُله مجازٌ، أو أنَّ المراد القضاء اللُّغَوِي، كقضاء الدَّيْن ونحوه؛ لا القضاء الاصطلاحي. وقولي: (وإنْ تَكُنْ قَدْ سُبِقَتْ بِمِثْلِ) بيان للإعادة، وهي تَكون فيما ليس مؤقتًا (كما [سبق ويأتي] (¬1) [و] (¬2) في المؤقت في أدائه وقضائه، فلذلك عممت العِبارة خِلافًا لِمَا أَوْهَمه كلامُ البيضاوي تَوَهُمًا من عبارة "المحصول" مِن قصره على الأداء. فالعبادة إنْ سُبقت بمثلها، سُميت "إعادة" مع كَوْنها تُسَمَّى في الوقت "أداء" وفيما بَعْده "قضاء"، غايته أنَّ لها في كل حالة اسْمَين. وبيْن "الإعادة" وكُل مِن "الأداء" و" القضاء" عمومًا وخصوصًا مِن وَجْهٍ. ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (ز): سيأتي. (¬2) ليس في (ش).

وممن صرح بأنه لا يعتبر الوقت في "الإعادة" سليم الرازي في "التقريب"، فقال: (الإعادة اسم للعبادة يبتدئ بها ثُم لا يتم فِعلها، إمَّا بأنْ لا [يعقدها] (¬1) صحيحة، وإمَّا بأنْ يطرأ الفسادُ عليها، وقد يعيدها في الوقت فتكون أداءً، وبعد الوقت فتكون قضاءً). انتهى ثُم السابقة إنْ كانت مختلَّة بركْنٍ أو شرط، فإعادة كما هو ظاهر كلامهم، مع كَوْن الثانية إنما هي مِثْل الأُولى في الصورة والشكل، لا مِن جميع الوجوه، وإلَّا لَكانت الأُخرى فاسدة، وأيضًا فالمختلَّة كالمعدومة، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - صلاته: "ارْجع فَصَلِّ؛ فإنك لم تُصَلِّ" (¬2). وقد تَكون الثانية مِثل الأُولى في الشكل والصورة والأُولى مختلَّة بِشَرط أو ركن لكنها صحيحة مِن حيث ترخيص الشارع فيها، كصلاة فاقِد الطهورين. وكذا كل عبادة وَجَبَت مع العُذر في فسادها وكانت إعادتها بدون الخلل واجبة، كصلاة المُتيمم في الحضَر الذي يغلب فيه الماء ولشدة البرد، وغير ذلك مما هو مبسوط في محله من الفقه. وربما وجبت الإعادة مع عدم تَحَقُّق السلامة مِن الاختلال في الأُولى [أو] (¬3) الثانية، بل مجموعهما تتحقق السلامة منه، كإعادة المتحيّرة الصلاة (على الراجح مِن القولين). وإنْ كانت غير مختلة لكن أُعِيدت لمقصد شرعي، كَكَوْن الثانية أكمل أو نحو ذلك، كإعادة مَن صلَّى منفردًا صلاته في جماعة، أو في جماعة ثُم يعيدها في جماعة أَفضل مِن الأُولى؛ لكثرة ونحوها، وكذا مع التساوي (على المرَجَّح)؛ لأنه لا يَعلم المقبول منهما، ومن ذلك صلاة الراجي للماء آخِر الوقت ثُم يعيد بَعد وجود الماء بالوضوء، ونحو ذلك، وهو كثير، فإطلاق الفقهاء يقتضي أنَّ ذلك كُله يُسَمى "إعادة" خِلافًا لِمَا يقتضيه كلام الأصوليين، بل ¬

_ (¬1) كذا في (ق، ت). لكن في (ز، ص، ض، ش): يعيدها. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) في (ش): و.

هذا أَحَق مِن الأول بِاسْم "الإعادة"؛ لأنَّ ذلك إنما هو بحسب الصورة، وهذا مثله في عدم الخلل، فالإعادة فيه حقيقة. نَعَم، لا يجري مِثل هذا في الحج بِأنْ يحج صحيحًا ثُم يحج بَعْده مِن سَنة أخرى، وكذا الصوم؛ لأنَّ الثاني غير الأول. أمَّا مَن حَجَّ فاسدًا ثُم حج صحيحًا فلا يمتنع أنْ يُسَمى "إعادة" وإن لم يُسَم "أداء" كما قررناه. فَتَلَخَّصَ أنَّ "الإعادة" لا تتوقف على كَوْن ما سبقها صحيحًا ولا فاسدًا، ولا كونه أداءً أو قضاءً، ولا مؤقتًا أو مُطْلَقًا. نَعم، مِن العبادات ما يوصَف بالأداء دُون القضاء، كالجمعة؛ لأنها لَمَّا توقفت على أمور يَعْسُر اجتماعها كل وقتٍ، امتنع فيها القضاء. ولا يُسْتشْكَلُ هذا بأنها لم توصَف بالقضاء فكيف توصف بالأداء ولا يوصف بالشيء إلا ما يوصف بضده؟ وقد يجاب بالمنع، أو بأنَّ ما أَمْكَن، يُعْمَل فيه، وما تَعَذَّر فَلَا، أو أنه لَمَّا أَمْكَن قضاؤها بالظهر إذا فاتت، نزلت منزلة قضائها جمعة. وقولي: (ولو بوقت) إلى آخِره -راجع إلى قولي: (ولو بالشكل)، أَيْ: ولو كان الذي أُعِيدَ على صورة الأول -الذي حُكِم بفساده- فُعِل في الوقت فإنه لا يخرج عن كَوْنه إعادةً وأداءً. والقصد بذلك مسألة ذكرها أصحابنا، وهي أنَّ مَن أفسد صلاةً في الوقت ثُم أعادها والوقت باقٍ، فقال القاضي حسين في "تعليقه وتبعه في "التتمة" و"البحر" كُلهم في باب صفة الصلاة: إنَّ ذلك قضاء باعتبار أنَّ الوقت تضيق بالإحرام بالصلاة؛ لامتناع الخروج منها، فلم يَبْقَ لها وقت شروع، بل وقت استدامة، فالإحرام بها بعد ذلك خارج عن وقتها

بالنسبة إلى ذلك، كالمغرب إذا قُلنا بالجديد، فإنه إذَا أخَّر الإحرام عن وقته وهو أول الوقت المفروض [إلى انتهاء قَدْر طهارة وستر عورة وخمس ركعات أو سبع- على ما فُصِّل في الفقه] (¬1)، صارت قضاء، كالذي يفسد الحج ولو كان نفلًا، يَلْزَمه القضاء؛ لامتناع الخروج منه. قال ابن الرفعة: إنَّ في نَص "الأُم" إشارة إليه حيث منع الخروج مِن الفرض بَعد التلبُّس به. ثم قال: (فإنْ خرج منها بلا عُذْر، كان مُفْسدًا آثمًا). انتهى قلتُ: وكأنَّ وَجْه الإشارة أنَّ إخراج العبادة عن وقتها حرام، فلولا أنَّ [إفسادَها] (¬2) يُصَيِّرها قضاءً لَمَا مَنَع مِن الخروج. لكن فيه نَظَر، لأنَّ ذلك إنما هو لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، فإبطالُ الفرض لا يجوز. فإنْ قُلتَ: قد نقل في "الشامل" عن نَص الشافعي رضي الله عنه أنه لو أَحْرم مسافرٌ بالصلاة وهو يجهل أنَّ له قَصْرها ثُم سَلَّم مِن ركعتين، وَجَبَ عليه قضاؤها؛ لأنه عقدها أربعًا، فإذَا سَلَّم مِن ركعتين منها فَقَدْ قَصَدَ إفسادها. فجعلها قضاء. قلتُ: مُرادُه وجوب الإعادة على كل حال، لا القضاء بالمعنى الاصطلاحي؛ لأنه مَسُوقٌ لبيان لغو الأُولى؛ ولذلك كان إطلاق أكثر الأصوليين والفقهاء وبه جزم الشيخ أبو إسحاق في "اللمع" وشَرْحِها أنها أداءٌ، وهو اللائق بالقواعد؛ لأنَّ الوقت باقٍ، وبإفساده الصلاة زال التضييق؛ لأنَّ فِعْلَه كَلَا فِعْل؛ بدليل: "ارْجع فَصَلِّ؛ فإنك لم تُصَلِّ". وإنما يظهر التضييق أنْ لو استمرت صحيحة؛ فلذلك جريتُ على هذا في النَّظْم بِقولي: ¬

_ (¬1) كذا في (ت، ش، ض)، وكلمة "عورة" ليست في (ش، ض). والعبارة كلها ليست في (ص، ز، ق). (¬2) كذا في (ز، ظ، ض)، لكن في (ص، ت): فسادها.

(ومَا [يُعِيدُهُ] (¬1) أَدَا) أَيْ: مع كَوْنه يُسمى "إعادة" لا يخرج عن كونه أداءً، فَقَوْل شيخنا بدر الدين الزركشي في شرح "جمع الجوامع": ([التحقيق] (¬2) أنه لا أداء ولا قضاء، بل إعادة) (¬3) ليس بجيد؛ لأنَّ "الإعادة" لا تُنافي "الأداء" كما قررناه، وقد قرره هو في موضعه على الصواب. وكذا قال الشيخ أبو إسحاق ما نَصُّه: (أمَّا إذَا دخل فيها فأفسدها أو نسي شرطًا مِن شروطها فأعادها والوقت باقٍ، سُمي "إعادة" و"أداء") (¬4). انتهى وظهر مِن كلام الشيخ أنَّ الصورة لا تختص بالإفساد بل على كَوْن الإحرام ليس تعديًا، بل إمَّا صحيحًا في نفس الأمر والاعتقاد، أو في الاعتقاد فقط. ويخرجُ عنه الإحرامُ المتعدي به؛ لاعتقاد خلله، سواء في نفس الأمر كذلك أَوْ لا. وأمَّا استناد القاضي ومَن تبعه لِشَبَهِه بالمغرب ففيه نَظَر، فالفَرق بينهما أنَّ التحديد هناك مِن فِعله، وفي المغرب مِن تقدير الشارع، وقد قُلنا في فِعله: إنه إذَا [أَفْسَده] (¬5)، كان كأنْ لا فِعْل، فالأمر باقٍ على الأصل في بقاء الوقت. بل ذهب الإمامُ والغزالي إلى أنه يجوز الخروج مِن الفريضة في الوقت الموسَّع إذَا أمكن تَدَارُكها في الوقت وإنْ كان المرَجَّحُ خِلافَه. لكن يؤخَذ منه ما قاله الشيخ أبو إسحاق واقتضاه كلام غيره كما بَيَّناه؛ لأنهما لا يمكن أنْ يُجوِّزا تفويت الصلاة في الوقت والإتيان بها ¬

_ (¬1) في (ش، ق): بضده. (¬2) ليس في (ص). (¬3) تشنيف المسامع بجمع الجوامع (1/ 155 - 156). (¬4) اللمع (ص 17)، شرح اللمع (1/ 253). (¬5) في (ش): افسد.

بَعْده. وأمَّا الحج فسبق أنَّ المختار أنه ليس مِن الموسَّع، ولا يُسمى "قضاء" إلا مجازًا، فتسمية ما يُفْعل عوَضًا عما أُفْسِد منه "قضاء" في بعض الصُّوَر -مجَازٌ. ومما استشكل به قول مَن قال: (قضاء الجمعة إذا أفسدت). فإنْ قال: (تُعاد جمعةً) وهو الذي يظهر، لَزِمَ منه أنَّ الجمعة تُقْضَى، ولا قائلَ به. وإنْ قال: (يعيدها ظُهرًا)، فَبَعِيدٌ؛ لبقاء وقت الجمعة؛ فَتَعَيَّن أنْ يُعِيدها جمعة حيث أَمْكَن، ويكون "أداءً"، وهو المدَّعَى. ويجرى نحوُه في الصلاة المقصورة لو أُفْسدت [وأراد] (¬1) أنْ يعيدها في الوقت في السفر مقصورة ومنعنا القصر في القضاء إنْ كانت الأُولى في الحضر، أو في السفر ولكنه ائتم في الأُولى بِمُقِيم ثُم أَفْسَدها، أو في السفر ولم يَكن ثَم ما يُوجب الإتمام فأفسدها ثُم أعادها [بالإتمام] (¬2) في هذه الصورة على رأيٍ قد يشهد للقاضي ومَن تبعه، بل هم ادعوا تفريعه على دعواهم [أنه] (¬3) قضاء. لكن الأرجح في فائتة السفر أنْ تُصَلَّى قَصرًا، فالجاري على القواعد أنَّ يقصر فيما لو أفسدت، وأمَّا ما كان في الحضر أو ائتم فيه بِمُتِمٍّ ثُم أَفسده فَقَدْ تَرَتَب في ذِمته [التام] (¬4)؛ فلا يأتي به إلا تامًّا، لا مِن حيث كونه قضاء، كما يجب عليه الإتمامُ في مسائل مِن الأداء المتفق على كونه أداءً كما هو مبسوط في الفقه. ولهذا قال الشيخ في "شرح اللمع": إنَّ الخلاف لَفْظِيٌ. وهو حق، لِمَا بَيَّنا مِن عدم فائدة تظهر له، إلَّا أنْ يُقال: إنَ نية القضاء تُفْسِد الأداء -وبالعكس- إذَا كان عَمْدًا؛ لِكَوْنه ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ز، ق، ش). لكن في (ض، ت): فأراد. (¬2) كذا في (ص، ز، ض، ش). لكن في (ق، ت): فالاتمام. (¬3) كذا في (ز، ت، ض، ظ، ق)، لكن في (ش): أنها. (¬4) في (ز): التمام.

تلاعُبًا كما ذكره النووي مِن "زوائد الروضة" وحمل كلامهم على مَن ظن ذلك وظهر الأمر بخلاف ما نَوَى. وعليه ينبغي أنْ يُحمل قولُ ابن بَرهان قي "الأوسط": إنَّ الأداء والقضاء راجع إلى التلقيب والاصطلاح. [قال] (¬1): (وإلا فعندنا لا فَرْقَ بين أنْ يُسَمى القضاء أداءً، والأداء قضاءً، ولهذا يجوز أنْ يعقد القضاء بِنِيَّة الأداء، فإذَنْ لا فَرْق بيْنهما في الحقيقة). انتهى واعْلَم أنَّ القاضي الحسين قال بَعْد ذلك بنحو ورقة: إنَّ مُقْتَضَى قول أصحابنا أنه في هذه المسألة يَنْوي القضاء إتمامًا لما التزمَهُ في الذِّمَّة بشروعِه كالمسافر ينوي التمام ثم يفسد الصلاة، يقضيها تامة، لا مقصورة؛ لالتزامه الإتمام بالإحرام. قال: وعَلَى قول [الفقهاء] (¬2) يتخيَّر بين نية الأداء والقضاء. وجَرَى على كَوْنه ينوي القضاء أيضًا صاحب "التتمة"، فيحتمل كلام القاضي أنَّ مقتضَى كلام الأصحاب ما ادَّعاه مِن كَوْنها قضاء؛ فلا يَكون هذا مِن تَفَقُّهه، بل يَكون مِن منقول الأصحاب، فلا ينبغي أنْ يُعْزَى ذلك له ولمن تَبعَه فقط. ويحتمل أنَّ مراده أنَّ الأصحاب لو قالوا بما قُلْتُه لكان مُقْتَضَى قولهم ذلك بشهادة قواعدهم. وبالجملة فقد تَبيَّن أنَّ القول بالأداء هو الأرجَح، والله أعلم. ¬

_ (¬1) ليس في (ش). (¬2) في (ز): القفال.

ص: 185 - خَامِسَةٌ: أَلْحُكْمُ إنْ تَغَيَّرَا ... لِذِي سُهُولَةٍ لِعُذْرٍ قُدِّرَا 186 - مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْأَصليِّ ... فَـ "رُخْصَةً" يُسْمَى، وَفي الْمَرْضِيِّ 187 - أَقْسَامُهَا وَاجِبَةٌ، كالْمَيْتَةِ ... عِنْدَ اضطرارٍ، أَوْ تُرَى في السُّنَّةِ 188 - كَالْقَصْرِ في الصَّلَاةِ، أَوْ مُبَاحَهْ ... مِثْلُ الْعَرَايَا الشَّرْعُ قَدْ أَبَاحَهْ 189 - وَرُبَّمَا كلانَتْ خِلَافَ الْأَوْلَى ... كَالْفِطْرِ في مُسَافِرٍ لَا يُولَى 190 - مَشَقَّةَ الصوْمِ، فَمَا فِيهِ انْتَفَى ... قَيْدٌ فَذَا "عَزِيمَةٌ" قَدْ عُرِّفَا الشرح: المسألة الخامسة في بيان الرخصة والعزيمة، وأصل "الرخصة": فُعلة، مِن رَخُصَ الشيء (كالسعر ونحوه) رُخْصًا ورُخصةً: إذَا سَهُل. والترخيص: التسهيل، فهي لِلْمَرَّة مِن الرُّخْص. وحُكي ضم الخاء فيها أيضًا باتِّباع العين للفاء (¬1)، وجَوَّز بعضهم أن تكون المضمومة الخاء (¬2) أصلًا و [الساكنها] (¬3) تخفيفًا منها، وأنْ يَكون كُلٌّ أَصْلًا برأسها. وحكى الفارابي فيها أيضًا: "خُرْصة" بتقديم الخاء، ولَعَلَّه مِن القَلْب. وأمَّا ما اشتهر على الألسنة من "رُخَصة" بفتح الخاء بمعنى المسكَّن فلا أصل له، وإنما الـ "فُعَلة" تكون مبالغةً في الفاعل كَـ "هُمَزة" و"لُمَزة" و"ضُحَكَة" للمُكْثِر مِن ذلك، فقياسه ¬

_ (¬1) يعني: العين والفاء مِن "فُعُلة". (¬2) سقط مِن (ت) ما بَعْد هذا الموضع إلى قوله: (ولا يَخْفَى ما في هذه العقود كلها مِن). (¬3) كذا في (ص، ش، ق، ظ، ض)، وفي (ز): الساكنتها.

هنا المُكثر مِن [الترخُّص] (¬1)، وإنْ كان القياس إنما هو مِن الثلاثي كما في "هُمَزة" ونحوه، و [الترخُّص] (¬2) زائدٌ على الثلاثة؛ فيحتاج لِسماعٍ. [نَعَم] (¬3)، يكون " فُعَلة" أيضًا للمفعول كَـ "لُقَطَة" بمعنى "الملقُوط"، فيكون "رخصه" بمعنى المرخَّص فيه وإنْ كان مِن غير الثلاثي أيضًا. وأما "العزيمة": فَـ "فَعِيلة" مِن العَزْم، وهو القصْد المؤكَّد، ومنه {أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]، وعزمتُ عليك ألَّا ما فعلت كذا، وعَزَمتُ على الشيء: جزمتُ به وصمَّمتُ عليه "عَزْمًا"، و"عُزْمًا" (بِضَم أوله أيضًا) وعزيما، وعزيمة، قال تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] أَيْ: جزمًا. وأمَّا معناهما في اصطلاح الشرع: - فيحتمل أنْ يكونَا وَصْفَيْن للحُكم، وهو قضية [عبارة] (¬4) الغزالي، وتَبِعَهُ جمعٌ كالبيضاوي، وعليه جريتُ في النَّظْم حيث قَسَّمتُ الحكْم إليهما. فتكون "الرخصة" بمعنى الترخيص، و"العزيمة" بمعنى التأكيد في طلب الشيء، ومنه: "فاقبلُوا رُخْصَةَ الله" (¬5)، وقول أم عطية: "نُهينا عن اتباع الجنائز ولم يُعزَم علينا" (¬6)، وعَلَى هذا فتكُون مِن الأحكام الوضعيَّة ¬

_ (¬1) في (ش): الرخص. (¬2) في (ش): الترخيص. (¬3) ليس في (ص). (¬4) في (ش): كلام. (¬5) صحيح البخاري (رقم: 4338) بلفظ: (قَبلتُ رخصة الله)، صحيح مسلم (رقم: 1115) بلفظ: (عَلَيكمْ بِرُخْصَةِ الله). (¬6) صحيح البخاري (رقم: 1219)، صحيح مسلم (رقم: 938).

(كما قاله الآمدي، وسبق في تقرير الحكم الوضعي شيء مِن ذلك) أو مِن التكليفية (لِمَا فيها مِن معنى الاقتضاء أو التخيير)، ولذلك قَسَّموها إلى واجبة ومندوبة ونحو ذلك كما سيأتي، ولكن سيأتي أنَّ ذلك أمر خارجي عن [أصل] (¬1) الترخيص. - ويحتمل أنْ يَكونَا وصفين للفعل المرَخَّص فيه أو المعزوم ولو كان تركًا، أَيْ: المطلوب بالعزم والتأكيد، وهو ما جَرَى عليه الإمام وابن الحاجب، وعليه حديث: "إن الله يحب أن تؤتى رُخَصُه كما يحب أنْ تؤتى عزائمُه" (¬2)، فإنَّ المأتي هو الفعل. وبالجملة فالاعتباران واضحان، والمقصود لا يختلف. فإذَا تَغَيَّر الحكم الشرعي بما هو أسهل، لِعُذْر مع قيام السبب المقتفِي له دالًّا في غير محل الترخيص، فذلك الحكم - المغيَّر إليه أو الفعل المتعلق به (على الرأيين) هو "الرخصة"، وما سوى ذلك هو "العزيمة" كما سيأتي. فَعُلم مِن ذلك احتياج "الرخصة" لدليل على خِلَاف الدليل السابق، فيخرج بذلك ما سقط بسقوط محله، كالعضو الساقط يَسقط غسلُه، ونحو ذلك، وخرج ما لم يَكُن مع قيام دليل سابق: - إمَّا بأنْ لا يَكون دليل أصلًا، كالأكل والشرب على خِلاف الأصل السابق على الشرع (إذا قُلنا: إنه المنع)، فإنه ليس بِرُخصة. - وما كان فيه دليل لكن رُفِع، كمصابرة العشرة للمائة رُفِع بمصابرتهم عشرين. وتقييده في "جمع الجوامع" الحكم بِـ "الشرعي" لا فائدة له، فإنَّ الكلام في الشرعي. ¬

_ (¬1) في (ص): حكم. (¬2) صحيح ابن حبان (رقم: 354)، المعجم الكبير للطبراني (11/ 323، رقم: 11880)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان، 1/ 379).

وخرج بقولنا: (إلى أَسْهَل) ما يُغَير إلى غَيْر أَسْهَل، كأنْ تغَيَّر إلى أشد، كالحدود والتعازير ونحوها مع قيام الدليل على تكريم الآدمي المقتضِي للمنع منها، وهو معنى قولي: (لِذِي سهولة). وهو أَحْسَن مِن تعبير "جمع الجوامع" بِـ "إلى سهولة"؛ لأنَّ "السهولة" مَصْدر ولا يُطْلَق على الحكم أو الفعل (على الرأيين) إلا مجازًا بتأويل. قيل: ويخرج به أيضًا ما كان على مَن قَبلنا مِن الآصار ورُفِعَت في شريعتنا تيسيرًا وتسهيلًا. لكن هذا إنما يتفرع على أنَّ شَرْع مَن قَبلنا شرعٌ لنا وإلَّا فلا تغيير للحُكم أصلًا. وخرج بقولنا: (لِعُذر) التخصيص أو التقييد المؤدِّي إلى أسهل حيث لا يَكون عُذر. نَعَم، إنْ ظَهَر عُذْر في المُخْرَج [بالتخصيص] (¬1) أو التقييد، فلا يمتنع أنْ يُسَمى "رخصة"، بل الرُّخَص كلها كذلك. ومنهم مَن يُخرج بِقَيْد "العُذْر" ما ثبت بدليل راجح على خِلاف دليلٍ آخَر مُعَارِضٍ له، وعن التكاليف، لأنَّ الأصلَ بَعْد ورود الشرع عَدَمُها، كما أطال فيه القرافي في كُتبه. ولكن كلٌّ منهما ممنوع؛ لأنَّ الدليل المرجوح ليس بدليل حتى يُقال: إنها على خِلاف الدليل. وأمَّا التكاليف فإنما يَكون "الأصلُ عَدَمها" دليلًا إذَا لم يكن لذلك الأصل مُعارِض، فأمَّا إذَا عارضته أدلة التكاليف فلا يصير دليلًا؛ ولذلك لم يُجعل رفعُه بالتكاليف مِن باب النَّسْخ كما سيأتي بيانه في موضعه. وقولي: (مع قيام السبب الأصلي) أَصْوَب مِن قول ابن الحاجب: (مع قيام المُحَرِّم)؛ لأنه لا يدخل فيه قيام طلب الندب، كترك الجماعة لمطرٍ أو وحلٍ، ونحو ذلك. فإنْ قِيل: هذا التعريف غير مطَّرد؛ لأنَّ ترك صلاة الحائض عزيمة لا رُخصة مع أنَّ ¬

_ (¬1) كذا في (ز)، لكن في (ص): في التخصيص.

الحكم قد تَغير إلى أَسْهل؛ لِعُذْر وهو الحيض -مع قيام المقتضِي للصلاة لولا الحيض. قِيل: إنْ كان المراد أنَّ تركها الصلاة زمن الحيض ليس يَصْدُق حَدُّ الرخصة عليه مِن حيث إنَّ الممنوع مِن الشيء مضيَّق عليه فيه بخلاف مَن سُومِح له في فِعله وتركه، فصحيح؛ فإنَّ التغيير ليس لِأَسهل. وإنْ كان المراد سقوط القضاء عنها فيما تتركه، فلا نُسَلم أنه لا يُسَمى "رُخصة". فإنْ قِيل: لو كان رخصة لم يسقط في مَن ارتدت ثم حاضت، فقدْ صَرَّحوا -في الفَرق بينها وبين مَن ارْتَدَّ ثُم جُنَّ حيث يجب قضاؤه زَمَن الرِّدَّة- بأنه رخصةٌ في المجنون فلا يجامِعُ المعصية التي هي الردة، وعزيمةٌ في الحائض فلا قضاء. قلتُ: إنما ذلك لِكَوْن المكلَّف الممنوع مِن الشيء وهو ممتثل له لا يجامعُه القضاء، بخلاف المجنون؛ فإنه نزل حال رِدَّته منزلة العاقل المستديم للردَّة، فَتقْضِي؛ لِكَوْنه مُكَلَّفًا. قولي: (وفي المَرْضِي) إلى آخِره -أَيْ: المرتَضَى المختار تقسيم الرخصة إلى: واجبة، ومندوبة، إلى آخِره، خِلافًا لِمَن منع مجامعَة الرخصة لذلك، فالرخصة إمَّا واجبة أو مندوبة وهو معنى قولي: (تُرَى في السُّنَّةِ)، أو مباحة، أو خلاف الأَوْلى. فالواجبة: كأكل الميتة للمضطر، فإنه واجبٌ على الأصح (وقيل: جائزٌ، لا واجب)، وإساغة اللقمة بالخمر لمن غصَّ؛ لأنَّ النَفْس أمانة عند المكلَّف؛ فيجب عليه حِفْظُها؛ ليستوفي الله حَقهُ منها بالتكاليف. والمندوبة: كالقصر للمسافر إذا بلغ ثلاث مراحل. والمباحة: كبيع العرايا كما صرح به في الحديث في قوله: "وأرخص في بيع العرايا" (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 2078) بلفظ: (رخص)، صحيح مسلم (رقم: 1541).

ولذلك اخترت ذِكره مثالًا؛ لأنه على خلاف دليل تحريم المزابنة، وهو بيع الرطب بالتمر (¬1). ومثله جواز [القراض] (¬2) والمساقاة والإجارة؛ لأنها عقود على معدوم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَبع ما ليس عندك" (¬3). وفيها غَرَر، وقد نُهي عنه، وكذا السَّلَم؛ فإنه بَيْعُ مَعْدُوم، وفي بعض الروايات: "نَهى - صلى الله عليه وسلم - عن بيع ما ليس عندك، وأَرْخَصَ في السَّلَم" (¬4). ولا يَخْفَى ما في هذه العقود كلها مِن (¬5) العُذر ومحل الاحتياج إليها. نَعَم، تَردَّد الغزالي في "المستصفى" في كَوْن السَّلَم رُخصة؛ لاحتمال أنه داخل في "لا تَبع ما ليس عندك"، واحتمال أنَّ المراد به العين، والسلَم بيع دَيْن؛ فلم يدخل. قال: (فاشتراكهما في [الشرط] (¬6) لا يوجب إلحاق أحدهما بالرخص، وعلى هذا يَكون قول الراوي: "وأَرْخص في السَّلَم" مجازًا؛ [لمشابهته] (¬7) الرخص) (¬8). ويَقْرُب مِن هذين الاحتمالين وجهان حكاهما الماوردي في باب السلَم: هل هو أصل ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 2591)، صحيح مسلم (رقم: 1536). (¬2) كذا في (ص)، لكن في (ز): القرض. (¬3) سنن أبي داود (3503)، سنن الترمذي (1232) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 1292). وانظر: البدر المنير (6/ 448). (¬4) قال الحافظ ابن حجر في كتابه (الدراية في تخريج أحاديث الهداية، 2/ 159): (لم أجده هكذا. نعم، هُما حديثان، أحدهما: "لا تَبع ما ليس عندك " .. ، ثانيهما: الرخصة في السلم. ولم أَرَه بهذا اللفظ، إلَّا أن القرطبي في "شرح مسلم" ذكره أيضًا). انتهى (¬5) هنا انتهى الجزء الساقط مِن (ت). (¬6) في (ص): اللفظ. (¬7) كذا في (ش)، لكن في (ص، ز): لمشابهة. (¬8) المستصفى (ص 79).

بنفسه؟ أو عقد غرر جُوِّز للحاجة كالإجارة؟ وقول مَن قال: (قد يندب السلَم بأنْ يحتاج إليه في مال الصبي) ضعيف؛ لِكَون ذلك لِأَمر عارضٍ؛ لِكونه مصلحة، لا لخصوص كَوْنه سلَمًا. وقد تُمَثَّل الرخصة المباحة بما ليس مِن المعاملات، كتعجيل الزكاة، ففي الحديث الترخيص للعباس - رضي الله عنه - في ذلك، رواه أبو داود (¬1)، ولم يَقُل أَحَد مِن الأصحاب باستحبابها، بل اختلفوا في الجواز، والصحيح: نعم. ومنهم مَن يُمَثله بالفطر في السَّفَر، وليس بجيد؛ لأنه يستحب لمن يشق عليه الصوم، ويُكْره لِغَيره، فأين استواء الطرفين؟ وقال بعضهم: لم أجد له مثالًا بعد البحث الكثير إلا التيمم عند وجدان الماء بأكثر مِن ثَمن المِثْل، فإنه يُباح له التيمم والوضوء مستويًا، لكن هذا تفريع على كَوْن التيمم رخصة، وفيه أَوْجُه، ثالثها: عند فَقْد الماء عزيمة، وللجراحة رُخصة. وما سبق مِن الأمثلة كافٍ، ويجري في غير المعاملات والعبادات أيضًا، ففي "البسيط": شَعْر المأكول إذا جُزَّ في حياته رُخصة؛ لمسيس الحاجة إليه في الملابس. وفي "النهاية": (لبن المأكول طاهر، وذلك عندي في حُكم الرخص؛ فإنَّ الحاجة ماسة إليه، وقد امتنَّ الله تعالى بإحلاله) (¬2). وأمَّا الرخصة التي هي خِلاف الأَوْلى (ولم يتعرض لها أكثر الأصوليين) فكالإفطار في السفر عند عدم التَّضرُّر بالصوم، وهو معنى قولي: (لا يُولَي مشقة الصوم) أَيْ: لا يلحقه ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (رقم: 1624)، سنن الترمذي (678)، وغيرهما. وقال الألباني: حسن. (إرواء الغليل: 857). (¬2) نهاية المطلب في دراية المذهب (2/ 307 - 308).

ذلك. ومِثْله الاقتصار في الاستنجاء على الحجر مع وجود الماء. تنبيهات أحدها: قد استُشْكل مجامعَةُ الرخصة الوجوب؛ لأنَّ الرخصة تقتضي التسهيل؛ ولهذا قال الإمام في "النهاية" في باب "صلاة المسافر": (يجوز أنْ يُقال: أَكْل الميتة ليس برخصة، فإنه واجب. ويجوز أنْ يجاب عنه بالتيمم، فإنه واجبٌ على فاقِد الماء، وهو معدود من الرخص) (¬1). فانظر كيف ترَدَّد في مجامعتها للوجوب. وفي "أحكام القرآن" للْكِيا الطبري: (الصحيح عندنا أنَّ أَكْل الميتة للمضطر عزيمة، لا رخصة، كالفطر للمريض في رمضان ونحوه) (¬2). وقال الشيخ تقي الدين السبكي: لا مانع مِن أنْ يُطْلَق عليه "رخصة" مِن وَجْهٍ و"عزيمة" مِن وجهٍ. فيحتمل أنَّ ما قاله رأْيٌ له ثالث، ويحتمل أنْ يَكون تنقيحًا للخلاف، وهو الأَقْرَب. وكذلك استشكل مجامعة الرخصة للإباحة، فَفِي فتاوى القاضي الحسين لَمَّا تكلم على الإكراه على النقب والإخراج مِن الحرز أنه شُبهة في سقوط القطع، قال: (قال الشيخ العبادي: لا أقول: أبيح للمُكرَه النقب والإخراج. بل أقول: رُخِّص له فيه. وفَرْق بين الإباحة والرخصة، فإنه لو حلف لا يأكل الحرام فأَكَل الميتة للضرورة، حنث في يمينه؛ لأنه ¬

_ (¬1) نهاية المطلب في دراية المذهب (2/ 461). (¬2) أحكام القرآن (1/ 42)، ط: المكتبة العلمية، الطبعة: الأولى / 1403 هـ-1983 م.

حرام، إلَّا أنه رُخِّص له فيه). انتهى وفيه نَظَر؛ لأنَّ الأعيان لا توصَف بِحِلٍّ ولا حُرْمَة عندنا، خِلافًا للحنفية، فيبقي التناوُل وهو واجب، فكيف يَكون حرامًا وهو ليس ذا وَجْهَين؟ ! وحكى الإمامُ عبد العزيز (شارِحُ البَزْدَوِي) خلافًا عن العلماء في حُكم الميتة ونحوها في حالة الضرورة: هل هي مباحةٌ؟ أو تبقى على التحريم ويرتفع الإثم كما في الإكراه على الكفر؟ وهو رواية عن أبي يوسف وأحد قولَي الشافعي. قال: وذهب أكثر أصحابنا إلى ارتفاع الحرمة، وذكر للخلاف فائدتين: إحداهما: أنه إذا جاع حتى مات، لا يَكون آثمًا على الأول، بخلافه على الآخَر. الثانية: إذا حلف لا يأكل حرامًا فتناوله في حالة الضرورة، يحنث على الأول، ولا يحنث على الثاني. الثاني: ظاهر إطلاق كثير أنَّ الرخصة لا تكون حرامًا ولا مكروهًا؛ لحديث: "إنَّ الله يحب أنْ تُؤتَى رُخَصُه كما يحب أنْ تؤتَى عزائمه" (¬1). وهذا داخل في إشارة قولي: (والمَرْضِي كذا وكذا). أَيْ: لا غَيْره. نَعَم، قد يُتوهم مِن كلام الأصحاب في مواضع خِلافُ ذلك: أمَّا التحريم: فكالاستنجاء بالذهب والفضة، فإنه حرام مع كَوْن الاستنجاء بغير الماء رخصة، وقول "الروضة" تبعًا للشرح: (ويجوز بِقِطْعَة ذهب وفضة) إنما المراد به صحة الاستنجاء بذلك والاكتفاء به كما صرح به في "التحقيق" إذْ قال: (والأصح إجزاؤه بذهب وفضة). فَاعْلَمه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

وأما الكراهة: فكالقصر في أَقَل مِن ثلاث مراحل، فإنه مكروه كما قاله الماوردي في باب الرضاع، وكذلك اتِّبَاع النساء الجنائز، فإنه مكروه -على الأصح في "الروضة" إذا لم يُؤدِّ إلى فِعل حرام، وقد قالت أم عطية - رضي الله عنهما -: "نُهينا عن اتِّباع الجنائز ولم يُعْزَم علينا" (¬1). وقيل: بل حرام. الثالث: الحاصل مِن تقرير مجامعة الرخصة الوجوب ونحوه أنَّ الرخصة في الحقيقة إحلال الشيء؛ لأنها التيسير والتسهيل، ثم قد يَعْرض له وَصْفٌ آخَر مِن الأحكام غَيْر الحل؛ لِدليلٍ، كَحِلِّ أَكْل الميتة نشأ وجوبه مِن وجوب حِفظ النفْس كما سبق؛ فلذلك انقسمت الرخصة إلى الأقسام السابقة، بل لها أقسام أخرى باعتبار ما يتولد مِن الانتقال مِن نوع مِن الأحكام إلى نوع أَسْهَل منه مِن حيث ما هو أشد منه فيه ولو كان في المُنْتَقَل إليه تشديد باعتبار آخر. بيان ذلك أنَّ المُنْتَقَل عنه ستة: الإيجاب، والندب، والإباحة، والتحريم، والكراهة، والمنع مِن شيء خِلَاف الأَوْلَى. والمُنْتَقَل إليه ستة مِثْل ذلك، فيحصل مِن ضَرْب ستة في سِتَّةٍ ستةٌ وثلاثون، يسقط منها الانتقال مِن كُلٍّ إلى نَفْسه؛ يَبْقَى ثلاثون، يَسقط منها ما فيه انتقال مِن أَخَف إلى أثقل، كالانتقال مِن المباح إلى الخمسة الأخرى؛ لأنه لا شيء أَخَف مِن المباح، تبقى خمسةٌ وعشرون، وكذا الانتقال مِن مستحبٍّ إلى واجب، ومن مكروه وخِلاف الأَوْلى إلى حرام، ومن خِلَاف الأَوْلى إلى مكروه، فهذه أربعةٌ أُخرى ساقطة، يبقى أحد وعشرون، وهي: (1) ما رُخِّصَ فيه مِن تحريم إلى واجب. (2) إلى مندوب. (3) إلى مباح. (4) إلى مكروه. (5) إلى خِلَاف الأَوْلَى. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

(6) مِن إيجاب إلى مندوب. (7) إلى مباح. (8) إلى حرام. (9) إلى مكروه. (10) إلى خِلَاف الأَوْلى. وَوَجْه الترخيص في الثلاثة الأخيرة أنه لَمَّا كان واجبَ الفعل كان الإثمُ في تركه، فصار تركه لا إثم فيه، بل قد يَكون الإثم في فِعله، أو في تركه أَجْر. والجمع بين كَوْنه رخصة وحرامًا كالجمع في الصلاة في المغصوب بين الوجوب والتحريم باعتبارين، وكذا في نهي التنزيه. (11) وما رُخِّصَ فيه مِن الندب إلى مباح. (12) إلى حرام. (13) إلى مكروه. (14) إلى خِلَاف الأَوْلى. وَوَجْه الترخيص نحو ما سبق؛ لأنه كان مطلوبًا فصار غير مطلوب، أو مطلوب الترك. (15) وما رُخِّصَ فيه مِن الكراهة إلى واجب. (16) إلى مندوب. (17) إلى مباح. (18) إلى خِلاف الأَوْلى. لأنه أيضًا رخص فيه باعتبار أنه كان منهيًّا عن تركه فَصَارَ غير مطلوب الترك، بل مطلوب الفعل حَتْمًا أو نَدْبًا أو مأذونًا فيه فقط، أو نُهي عنه لا نهيًا مؤكدًا كالنهي الأول. (19) وما رُخِّص فيه مِن مَنعْ خِلَاف الأَوْلى إلى واجب. (20) إلى مندوب. (21) إلى مباح. والقول في وَجْه الترخيص كما سبق، فما وُجِد مِن أمثلتها غَيْر ما سبق يَكُون فائدة يستخرجها الفقيه الماهر. وقولي: (فما فيه انتفى) إلى آخِره -يتضمن تعريف العزيمة بِـ "ما انتفى فيه قَيْدٌ مِن قيود

الرخصة"، كانتفاء تَغَيُّر الحكم أو كَوْن التغير إلى أسهل، أو لأسهل لكن [لا] (¬1) لِعُذْر، سواء أكان ذلك في واجب أو مندوب أو مباح أو مكروه أو حرام أو خلاف الأَوْلى على معنى الترك في الثلاثة، فيعود المعنى في ترك الحرام مثلًا إلى الوجوب، وهذا ما جرى عليه البيضاوي وغيره. وقِيل: تختص بالواجب والمندوب فقط. قاله القرافي؛ لأنها طَلَب مؤكَّد؛ فلا يجيء في المباح. وقال قوم: لا تكون العزيمة إلا في الواجب فقط. وفَسَّروها بما لزم العباد بإلزامِ الله تعالى، أَيْ: بإيجابه -على ما صرح به الغزالي وتبعه الآمدي وابن الحاجب في "مختصره" الكبير، ولم يصرح في الصغير بشيء، وكأنهم احترزوا بالقيد الأخير عن [الندب] (¬2)، والله أعلم. ص: 191 - سَادِسَةٌ: مَا لَا يَتِمُّ مَا انْوَجَبْ ... شَرْعًا بِمُطْلَقٍ بِدُونِهِ وَجَبْ 192 - إنْ يَكُ مَقْدُورًا، سَوَاءٌ وَقَفَا ... وُجُودُهُ عَلَيْهِ أَوْ أَنْ يُعْرَفَا 193 - شَرْعِيًّا اوْ عَقْلِيًّا اوْ عَادِيَّا ... شَرْطًا يُرَى، أَوْ سَبَبًا مَرْعِيَّا 194 - كصِيغَةِ الْعِتْقِ، وَللْعِلْمِ النَّظَرْ ... وَالسَّيْرِ لِلْحَجِّ، وَطُهْرٍ مُعْتَبَرْ 195 - في كصَلَاةٍ، وَكتَرْكِ الضِّدّ ... في الْأَمْرِ، وَالْغَسْلِ لِفَوْقِ الْحَدِّ ¬

_ (¬1) ليس في (ص). (¬2) كذا في (ت، ظ، ق) وهو الصواب، لكن في (ص، ز، ض): (النذر). فإنْ كان المؤلف قال ذلك فلأنَّ في النذر يُلْزِم العبد نَفْسَه، فليس بإلزام الله تعالى.

الشرح: هذه المسألة هي المعَبَّر عنها في الأصول والفقه بِـ "ما لا يتم الواجبُ إلا به فهو واجب"، وربما قِيل: ما لا يتم المأمور إلَّا به يكون مأمورًا به، وهو أَجْوَد مِن حيث إنَّ الأمر قد يَكون للندب فتكون مقدمته مندوبة، وربما كانت واجبة كالشروط في صلاة التطوع إلَّا أنه لَمَّا وَجَب الكف عن فاسِد الصلاة عند إرادة التلَبُّس بالصلاة مَثَلًا، وَجَب ما لا يتم الكَفُّ مع التلبُّس إلَّا به؛ فَلَمْ يخرج عن "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". وإذا اتضح الأمر في مُقَدِّمة الواجب [أنها واجبة] (¬1)، عُدِّي إلى المندوب بما يليق به من الأمرين كما قررناه؛ فلذلك عَبَّرت في النَّظم بِـ "الواجب". والحاصل: أنَّ ما يتوقف عليه الفعلُ الواجبُ إمَّا أنْ يَكون جُزءًا للواجب، وإمَّا خارجًا عنه كالشرط والسبب. فالأول واجبٌ اتفاقًا؛ لأنَّ الأمر بالماهيَّة المركبة أمرٌ بكل واحد مِن أجزائها ضِمنًا، فالأمر بالصلاة -مَثَلًا- أمر بما فيها مِن [ركوع وسجود] (¬2) وغير ذلك. والثاني هو محل الخلاف، وأصحُّ الأقوال فيه الوجوب مطلقًا، لكن بشرطين: أحدهما: أنْ يَكون دليل وجوبه مُطْلَقًا، لا مقيَّدًا بحالة وجود المتَوَقَّف عليه، كالحج، فإنه مشروط بالاستطاعة، وكالزكاة، فإنها مشروطة بِمِلْك النصاب وبالحول، وكالجمعة، فإنَّ صحتها مشروطة بالجماعة والوطن ونحو ذلك. قلتُ: التمثيل بالجمعة ظاهر؛ لأنَّ صحة فِعلها متوقف على ذلك، أمَّا الزكاة والحج فإنَّ المتوقِّفَ على ما ذُكِر فيهما إيجابُ الفعل، لا [صحة] (¬3) الفعل، والكلام إنما هو فيما ¬

_ (¬1) ليس في (ص). (¬2) في (ش): الركوع والسجود. (¬3) مِن (ض، ق، ت).

[تَوَقَّف] (¬1) عليه صحةُ الفعل لا إيجابه، وإلا فالإيجاب متوقف على شرطه وهو البلوغ والعقل وغيرهما مما سبق مِن شروط التكليف. نَعَم، هذا الشرط مِن أصله ينبغي اختصاصه بمقدمة الواجب إذَا كانت شرطًا لا سببًا؛ فإنَّ السبب يَلْزَم مِن وجودِه الوجودُ، فَبَعْد وجوده لو أُمر بِمُسَبَّبِه لَكَان أمرًا بتحصيل الحاصل، إلَّا أنْ يُفْرَض ذلك في سبب عادي كالسير للحج كما سيأتي، فإنه لا يَلْزَمُ مِن وجودِه وجودُ الحج، إلَّا أنْ يُقَال: إنما هو سبب لِلتمكُّن مِن الحج، لا سبب لِنَفْس الحج، لكن التمكن مِن الحج لَمَّا كان شرطًا فيه، جُعِل السيرُ سببًا للحج. الشرط الثاني: أنْ يَكون المتوقَّف عليه مقدورًا لِلمكلَّف بِالمتوقِّف؛ لأنَّ غَيْر المقدور لا يتحقق [معه] (¬2) وجوبُ الفعل، وذلك كإرادة الله تعالى وقوعه، وكالداعية التي يخلقها الله تعالى للعبد على الفعل وهي العزم المصمم، وقُدرة العبد عليه، فإنها مخلوقة لله تعالى، وإلَّا لتوقفت على مِثْلها، وذلك عَلَى آخَر، ويَلْزَم التسلسُل، ولا يجب ذلك اتفاقًا. لكن هذا الشرط إنما يعتبره مَن لَمْ يُجَوِّز تكليفَ ما لا يُطاق -كما قاله الهندى، وأمَّا مَن يُجوزه فلا. نَعَم، تقريره عند المانع مِن تكليف ما لا يُطاق مُشْكِل أيضًا؛ لأنَّ القُدرة مثلًا إذا لم تكن مقدورة فالأصل غَيْر مقدور؛ ضرورة كَوْنه مُقَدمته، والعجز عنها عَجْزٌ عنه، فالمتوقف حينئذ الوجوب لا الواجب، فهو كالبلوغ وسلامة الأعضاء التي بها الفعل، وقد تَقدم أنه ليس محل النزاع. قال الشيخ تقي الدين السبكي: (رأيت جماعة خَبَّطوا في ذلك، ولم أَرَ له مثالًا صحيحًا ¬

_ (¬1) في (ص): يتوقف. (¬2) كذا في (ص، ز، ش)، لكن في (ت، ض، ظ، ق): بعد.

يجتمع معه الوجوب إلا القدرة والداعية، وتقديره أنَّ الإيجاب لا يتوقف على القدرة والداعية ولو قيل بِمَنع تكليف ما لا يُطاق وكأنَّ ذلك لانتفاء السر في تكليف ما لا يُطاق، وهو الاختبار والامتحان فيه دُون المقدمة، فَتَنبَه لذلك؛ فإنه مِن المهِمَّات) (¬1). انتهى. وحاصله منع أنَّ "المقدمة إذا لم تكن مقدورة، لا [يُكَلَّف] (¬2) بالأصل الذي هو غَيْر مقدور"، لافتراقهما في المعنى المذكور. تنبيه: قد سبق أنَّ الأمرَ بالماهية أمرٌ بكل جزء منها بلا خلاف، وحينئذ فيشترط أنْ يكون مقدورًا له قطعًا؛ لحديث: "إذَا أمرتكم بأمر، فَأْتوا منه ما استطعتم" (¬3). نَعَم، إذا سقط وجوب البعض المعجوز، هل يبقى وجوب الباقي المقدور؟ قاعدة الشافعي في الأصل البقاء؛ للحديث الموافق لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، ويُعَبَّر عن القاعدة بأنَّ "الميسُور لا يسقط بالمعسُور"، كوجوب القيام على مَن عجز عن الركوع والسجود لِعِلَّة في ظَهْره مَثَلًا، وواجِد بعض ما يكفيه لطهارته وبعض ما يجب من الفطرة، وغير ذلك، إمَّا بالقطع أو على الراجح، وإنْ خرج عن القاعدة فروع سقط فيها وجوب الباقي إما قَطْعًا أو على الراجح فإنَّ ذلك لِمَدارك فقهية مَحَلُّها الفقه، لكن سنذكرها ونذكر طَرَفًا مِن الفروع في أواخر الكتاب في الكلام على القواعد المَبْنِي عليها فقه الشافعي - رضي الله عنه -. وقولي: (سواء وَقَفَا) إلى آخِره -بيان لجهة التوقف على المقدمة، وذلك إمَّا أنْ يتوقف ¬

_ (¬1) الإبهاج في شرح المنهاج (1/ 103). (¬2) كذا في (ص)، لكن في (ز): تكليف. (¬3) صحيح البخاري (رقم: 6858)، صحيح مسلم (رقم: 1337)، واللفظ للبخاري.

عليها وجوده شرعًا أو عَقْلًا أو عادة كما سيأتي بيانه في تقسيم المتوقَّف عليه، وإمَّا أنْ يتوقف عليها العِلم بوجود الواجب لالتباسه بِغَيْره حادثًا أو أصلًا، لا نَفْس وجوده، كَمَن نسي صلاةً مِن خَمسٍ، لا يتحقق العِلم بأنه صَلَّى ما عليه حتى يُصَلِّي الخمس، وكَستْر شيء مِن الركبة مع أنها ليست بِعَوْرة (على الأصح)؛ لأجل ستر الفخذ الذي هو عورة (على الأصح في الرجُل، وأمَّا المرأة فَقَطْعًا). ومن أمثلة ذلك: ما لو اختلطت المنكوحة بالأجنبية، فإنه يجب الكَفُّ عنهما، وكذا لو طَلَّق إحداهما لا بِعَيْنها، أو بِعَيْنها ولكن نَسى. نَعَم، وقع اضطراب في فروع لهذا المدرك كمسح الزائد -في الرأس- على ما ينطلق عليه الاسم مِن المسح على قول الشافعي: (إنَّ الواجب مسح بعض الرأس)، فهل يكون الزائد واجبًا لكونه لا يتميز؟ أو يمكن التميز فيكون الزائد سُنة؟ وكذا الزائد في البعير في الزكاة المخرج عَمَّا دُون خمس وعشرين مِن الإبل التي واجبها في كل خَمسٍ شاة حتى لو أخرجه عن خمس يكون أربعة أخماسه سُنَّة. وكذا الزائد في البدنة المذبوحة عن الشاة أو الثنتين إلى ستة إذا وجبت الشاة مثلًا في تمتُّعٍ أو أُضحيةٍ أو نَذْرٍ. وكذا الواقع في الحلق الواجب في النسك، والزائد في تطويل أركان الصلاة على القَدْر المُجْزِئ في قيام أو ركوع أو سجود أو نحو ذلك مما ليس بعضه بالوجوب أَوْلَى مِن بَعْض مما هو مبسوط في الفقه. ولَكَ أنْ تقول: هذا القِسم أيضًا يتوقف عليه [الوجود] (¬1)، فيتحد مع ما قَبْله؛ لأنَّ الماهية تنتفي بانتفاء شرطها، والعِلم بوجود المأمور به شرطٌ فيه؛ فتنتفي الماهية بانتفائه، فَقَدْ توقف الوجود على ذلك لكن بواسطة توقُّف الواجبُ على العِلم، والعِلم على فِعل يُتَيَقَّن به ¬

_ (¬1) في (ص): الوجوب.

وجودُ الواجب؛ فينبغي أنْ يُقَال في التقسيم: إمَّا أنْ يتوقف عليه وجودُ الواجبِ بواسطةٍ أو بِغَيْر واسطة. وقولي: (شَرْعِيًّا أَوْ عَقْلِيًّا أَوْ عَادِيًّا) بيانٌ لأقسام المقدمة المتوقَّف عليها، وقد سبق أنَّ محل النزاع في وجوب المقدمة محصور في السبب والشرط، وكُل منهما إمَّا شرعي أو عقلي أو عادي، فهذه ستة أقسام. مثال السبب الشرعي: صيغة العتق في الواجب مِن كفارة أو نذر، وكذا صيغة الطلاق حيث وجب، كأمر والدِ الزوج به (على المعتمد في الفتوى). ومثال السبب العقلي: النظر الموصل للعِلم. ومثال السبب العادي: السَّيْر للحج على ما سبق في تقريره. ومثال الشرط الشرعي: الطهارة للصلاة. ومثال الشرط العقلي: ترك أضداد المأمور به. ومثال الشرط العادي: غسل الزائد على حَدِّ الوجه في غسل الوجه، لِيتحقق غسْلُ جميعُه، وهو معنى قولي: (وَالْغسْلِ لِفَوْقِ الْحَدِّ). وفي البيت الذي بَعْده: (للوجه) فاللام الأُولى زائدة لتقوية العامل؛ لِكونه فرعًا في العمل " لأنَّ المصدر فرعٌ عن الفعل في ذلك، واللام الثانية للعِلة، أَيْ: لِأَجْل الوجه، أَيْ: لأجل تَحقُّق غسل الوجه. وهذا القول بوجوب هذه الأقسام الستة هو المرجَّح عند الأصوليين، وهو قول الإمامِ وأتباعِه والآمدي، وبه جزم سليم في "التقريب". لكن اختُلِف في كَوْن وجوب المقدمة مُتَلَقًّى مِن نَفْس صيغة الأمر بالأصل، أو مِن دلالة الصيغة: قولان، الثاني منهما قول الجمهور. قال ابن بَرهان: لأنَّ المتلقَّى مِن الصيغة ما

كان مسموعًا منها. وينحل ذلك إلى أنَّ الدلالة عليه بالتضمن؟ أو بالالتزام؟ وقد صرح بالأول إمامُ الحرمين في "البرهان" و"التلخيص"، وتقريره: أنه إذَا تَقَرَّر التوقفُ ثُم جاء الأمرُ، كان كأنه مُصَرحٌ بوجوب المجموع. والقول الثاني في أصل المسألة: أنه لا يجب مُطْلَقًا. وهو قول المعتزلة، وحكاه ابن الحاجب في "مختصره الكبير" وإنْ كان كلامه في "الصغير" في أئناء الاستدلال يقتضي أنَّ إيجاب السبب مجمَعٌ عليه، وحكاه ابن السمعاني في "القواطع" عن أصحابنا. والثالث: يجب في السبب بأقسامه دُون الشرط بأقسامه، ويُعْزَى للشريف المرتضى، وهو اختيار صاحب "المصادر" مِن المعتزلة. والرابع: ما ارتضاه إمامُ الحرمين واختاره ابنُ الحاجب في "مختصره الصغير": وجوبُ السبب مُطلقًا، والشرط الشرعي دُون الشرط العقلي والعادي، فإنهما لا يَجِبان، بل زعم الأبياري أنه لا خِلَاف في وجوب أالشرطِ الشرعي، وزعم تلميذه ابن الحاجب أنه لا خلاف في وجوب السبب، وُيرَدُّ عليهما] (¬1) بحكاية غيرهما الخلاف. واعْلَم أنَّ هذا الخلاف هل هو في الكلام النفسي؟ أَمْ في اللساني؟ فيه طريقان يظهران مِن الاستدلالات في المسألة. وإذا قُلنا بالإيجاب، فهل هو شرعي؟ أو عقلي؟ فيه خلافٌ، ولعل مَأْخَذه ما سبق مِن كَوْنه مأخوذًا مِن الأمر أو مِن دلالة الأمر، وهل هو بالتضمن؟ أو بالالتزام؛ وقد أوضحناه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) في (ص): السبب ويرد عليه.

ص: 196 - لِلْوَجْهِ، فَالْمُبَاحُ في التَّوَسُّل ... لِتَرْكِ حَظْرٍ وَاجِبٌ، وَذَا جَلِي 197 - في الْكُلِّ، فَالْكَعْبِيُّ إنْ أَرَادَا ... بِنَفْيِهِ الْمُبَاحَ ذَا، أَجَادَا 198 - فَالشَّيْءُ قَدْ يَكُونُ ذَا وَجْهَيْنِ ... كَشَغْلِ غَصْبٍ بِصَلَاةٍ دَيْنِ 199 - وَإنْ أَرَادَ النَّفْيَ مُطْلَقًا، فَذَا ... مِنْ أَفْسَدِ الرَّأْيِ، فَإيَّاهُ انْبِذَا الشرح: قولي: (للوجه) متعلق بما قبله، وسبق شرحه. وقولي: (فالمباح) إلى آخِره -هو تفريع مسألة أصولية على القاعدة السابقة، وهي أنَّ المباح إذَا كان وسيلة لترك حرام، كان واجبًا؛ لأنَّ ترْكَ الحرام واجبٌ، وما تَوَقَّف عليه الواجبُ واجبٌ. نَعَم، لا يَلزم مِن ذلك انتفاء المباح مِن الشرع بالكُلية وإنْ كان الكعبي قد تَعلَّق في نفي المباح بهذه القاعدة. والكعبي هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد البلخي المعتزلي، تلميذ أبي الحسين الخياط، توفي سنة تسع عشرة وثلثمائة، وأتباعه طائفة يُسمون البلخية، فوافقوه على إنكار المباح، وحكاه ابن الصباغ عن أبي بكر الدقاق وهو معتزلي أيضًا، ونقله القاضي عبد الوهاب عن معتزلة بغداد، ونقله الباجي عن أبي الفرج مِن المالكية. فإنْ كانت هذه المقالة إنكار الأصل المباح كما هو ظاهر نَقْل إمام الحرمين في "البرهان" عن الكعبي وكذا هو ظاهر نَقْل ابن برهان في "الوجيز" و"الأوسط" وإلْكِيا الهراسي والآمدي وغيرهم عنه، فهو ظاهر الفساد، مخالفٌ لإجماع عصابة المسلمين المنعقد قَبْل المخالفين أنَّ مِن أحكام الله عز وجل قِسم المباح.

وإنْ كانوا لا ينفونه أصلًا وإنما يقولون: لا يقع إلا وسيلة لترك الحرام، فيكون واجبًا، حتى إنَّ القاضي في "مختصر التقريب" نقل عن الكعبي أنَّ المباح مأمور به دُون أمر الندب، والندب دُون أمر الإيجاب، وقال: إنه وإنْ أَطْلَق الأمر على المباح فلا يسمى المباح واجبًا ولا الإباحة إيجابًا. وتبعه على ذلك الغزالي في "المستصفى" وابن القشيري في أصوله. وبالجملة فقد أقاموا على هذه الدعوى دليلا قويًّا، فقالوا: فِعل المباح يُترك به الحرام، وكُل ما تُرك به الحرام واجبٌ، فَفِعل المباح واجب. بيان الصغْرَى: أنَّ فاعل المباح لا يَكون فاعلًا للحرام في آنٍ واحد؛ لِئلَّا يجتمع الضدان، فهو تارِكٌ له. وبيان الكبرى مِن قاعدتين، إحداهما: مقدمة الواجب واجبة، والثانية: أنَّ تحريم الشيء إيجابٌ لأحد أضداده كما سيأتي بيانها. وقد أُجِيبَ عن هذا الدليل بمنع الصغرى؛ لأنَّ تَرْك الحرام لا ينحصر في كَوْنه ضمن المباح عينًا، بل بواحدٍ مِن نوعه أو بواحدٍ مِن نوع المندوب أو مِن نوع الواجب أو نوع المكروه، بل وبواحدٍ مِن نوع الحرام غيره يحصل به ترْكُه. وهو معنى قولي: (وَذَا جلي في الْكُلِّ). أَيْ: في كل الأحكام، حتى في الحرام باعتبار فِعل حرام آخَر، ولا يضر ذلك لِكَوْنه مِن جهتين كما ستعرفه. وضعَّف الآمدي وابن برهان وابن الحاجب وغيرهم هذا الجواب بأنه لم يخرج عن كَوْنه واجبًا، غايته أنه ليس واجبا عينًا، بل على التخيير؛ والواجب المخَيَّر بفعله يتعين للوجوب قطعًا كما سبق، فلا يتصور وقوع مباح إلا واجبًا، سواء قُلنا في المخير: (الكل واجب) أو (واحد لا بِعَيْنه)، ولو قُلنا: إنَّ محل الوجوب لا تخيير فيه، ومحل التخيير لا وجوب فيه؛ لأنَّه بَعْد الفعل ينطلق عليه اسم "الواجب"، فلا يُتصور حينئذ وقوع مباح إلا واجبًا، وهو مُدَّعَى الخصم.

قالوا: ولا مخلص مما قاله الكعبي إلَّا بمنع إيجاب المقدمة وهي إحدى القاعدتين السابقتين، أَيْ: أو بمنع الأخرى وإنْ لم يتعرضوا لذلك؛ إمَّا لِكَوْن منع الأُولى يَلزم منه منعُ الأخرى، أو لكونها ممنوعة في نفسها كما قال إمام الحرمين: إنَّ مَن مَنَع أنَّ النهي عن الشيء أَمرٌ بأحد أضداده يقول: لو قُلتُ بذلك، لَزِمَني القول بمسألة الكعبي. أمَّا إذا قُلنا بالقاعدتين، فلا سبيل إلى مخالفة الكعبي، غايته أنْ يَكون للشيء جهتان، ولا يمتنع ذلك، كالصلاة في المغصوب، وإنما يبقى الاعتراض عليهم في تعيين المباح، وبأنه يلزم أنْ يكون الحرامُ المفروض به ترك حرام آخر واجبًا، وهو ممتنع. ولكن لهم أنْ يجيبوا عن الأول: بأنهم لم يحصروا، بل فرضوا ذلك مثالًا؛ لِكوْنه أوضح؛ لأنه ليس داخلًا في الاقتضاء أصلًا. وعن الثاني: بأنَّ ذلك مِن جهتين، ولا يمتنع، كالصلاة في الدار المغصوبة، ونحو ذلك. وقال الآمدي بَعْد زَعْمه أنَّ كلام الكعبي صحيح على ما سبق: (عَسَى أنْ يَكون عند غَيْري حَل هذا الإشكال) (¬1). وحاول بعض المتأخرين الجواب بأمور أخرى: منها: أنَّ الذي يُفرض له جهتان إنما هو في العقل دُون الخارج؛ إذِ الفعل الواحد في الخارج لا يكون واجبًا مباحًا ولا واجبًا حرامًا؛ إذِ الماهية لا تتقوم بفصلين أو فصول [متعاندة] (¬2). ومنها: أنَّ الفعل كما يَلزم أنْ يَكون تركًا للحرام يَلزم أنْ يَكون تركًا للواجب وتركًا للمندوب، ونحو ذلك، واللوازم إذا تعارضت، تساقطت؛ فيبقى أصل المباح. ¬

_ (¬1) الإحكام للآمدي (1/ 169). (¬2) كذا في (ص، ض، ق، ت، ش). لكن في (ز): متغايرة.

ومنها: لو فرضنا جميع الأفعال دائرةً، والأفعال المباحة خُمْسُها، فإذَا حصل الفعل المتلبس به فهو [مركز] (¬1) الدائرة، وإذا كان مباحًا بالذات الذي أقر الكعبي به، حصل للفعل المذكور نسبَةٌ إلى كل خُمسٍ مِن أجزاء الدائرة، والفرضُ أنه مباحٌ؛ فتساقطت النِّسَبُ [الخمسة] (¬2)، وبقيت الإباحة الذاتية، وهو قريب مما قَبْله. قُلتُ: ويمكن التخلص بغير ذلك كُله، وهو منع مقدمته الصغرى باستناد لأمرٍ آخَر، وهو أنَّ الكَفَّ عن الحرام الذي هو مناط التكليف في النَّهي -على الأرجح كما سبق- فِعلٌ مغاير لسائر الأفعال الوجودية التي هي ضد الحرام، فهو أخص مِن عَدَم فِعل الحرام؛ لاحتياج الكف لِقَصْد، فإذا لم يوجد، فلا يكون آتيًا بواجب، ولهذا لا يُثاب؛ لانتفاء الفعل الذي هو الكف. وإذا تَقَرر ذلك، فاجتماع الترك وما يُفْرَض مِن فِعل مباح أو مندوب أو غيرهما اجتماع اتفاقي لا على وَجْه اللزوم؛ لأنَّ كُلًّا مِن فِعل المباح وغيره يفرض ولا تَرْكَ موجود على الوجه الذي قررناه أنه أخص مِن انتفاء الحرام، فالكف هو الموصوفُ بالوجوب، لا ما يقارنه مِن الفعل المباح أو غيره. فإنْ لم يستحضر الحرام ولا كف، فهذا ليس مكلفًا بشيء مِن أضداد الحرام، بل يُكْتَفَى فيه بالانتفاء الأصلي، وهذا أَحْسَن ما يُحَقَّق به هذا الموضع مِن فتح الله عَزَّ وَجَلَّ، فلله الحمد والمنة. وقولي: (كَشَغْلِ غَصْبٍ بِصَلَاةٍ دَيْنٍ) أَيْ: بالصلاة التي هي عليه دَيْن واجب [عليه] (¬3)، أَيْ: حتى يجتمع فيها الوجوب والتحريم، وحينئذ فيُقرأ بتنوين "صلاة"، ¬

_ (¬1) في (ق): من مركز. (¬2) كذا في (ص، ز، ض، ش). لكن في (ق، ت): الخمس. (¬3) ليس في (ش).

و "دَيْن" صفة له. ولو قُرئ بلا تنوين على إضافة الموصوف للصفة كَـ "صلاة الأولى" لم يمتنِع، ويأتي فيه المذهبان المشهوران للكوفيين والبصريين، والله أعلم.

الباب الأول في "أدلة الفقه"

الباب الأول في أدلة الفقه

الباب الأول في أدلة الفقه 200 - أَدِلَّةُ الْفِقْهِ عَلَى اتِّفَاقِ ... بَيْنَ الْأَئِمَّةِ: الْكِتَابُ الْبَاقِي 201 - وَالسُّنَّةُ، الْإجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ ... وَذَا مِنَ الدِّينِ؛ لِأَمْرِ قَاسُوا الشرح: أَيْ: الباب الأول مِن الأبواب الأربعة بعد الفراغ مِن المقدمة: بيان موضوع عِلم "أُصُول الفقه"، وهو أدلة الفقه، والمتفق عليه منها أربعة: الكتاب، والسُّنة، والإجماع، والقياس. والمراد اتفاق الأئمة، أَيْ: الأربعة ونحوهم، ولا اعتداد بخلاف مَن لا يُعَدُّ إمامًا، كالنَّظَّام في مخالفته في الإجماع -على اختلاف النقل عنه: هل مذهبه أنَّ الإجماع لا يُتَصور؟ أو يُتصور ولكن يتعذر نَقله على وَجْهه؟ أو لا يتعذر ولكن لا حُجَّة فيه؟ وهذا الثالث هو ما نقله عنه القاضي والشيخ أبو إسحاق وابن السمعاني والإمام الرازي وأتباعُه، والنقلان الأوَّلان نقلهما القافي عن بعض أصحابه عنه. والنَّظَّام هذا هو أبو إسحاق إبراهيم بن [سَبَا] (¬1) البصري، شيخ المعتزلة، وإليه تُنْسَب "النظامية" إحدى فِرَق المعتزلة، تُنْسَبُ إليه عَظائم، كإنكار الإجماع والقياس والخبر المتواتر ونحو ذلك مما جُعِلَ به زنديقًا. قِيلَ له "النَّظَّام" لأنه كان ينظِمُ الخرَزَ في سُوق البصرة، ويزعُمُ بعضُ المعتزلة أنَّ ذلك لِكَوْنه ينظم الكلام يُقال: سقط وهو سكران، فمات سنة بِضع وعشرين ومائتين. ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، لكن المذكور في كتب التراجم: سيار.

ونُقل أيضًا منع حُجِّية الإجماع عن بعض الخوارج، والشيعة، وإنما يستدلون به إذا كان فيهم إمام معصوم، ونحو ذلك مخالفة الرافضة في القياس، وسنذكر في آخر الباب الخلاف في ذلك مبسوطًا. وأما مخالفة الدهريَّة في الكتاب والسُّنة كما يحكيه عنهم بعض الأصوليين (كابن برهان أول "الوجيز" وغيرِه) فلا ينبغي أنْ يذكر، فإنهم كفارٌ لا يعْتَد بهم أصلًا، وكان شيخنا شيخ الأيلام البلقيني - رحمه الله - يعِيب على ابن الحاجب وغيره ذِكرَ خِلاف اليهود في النَّسْخ ونحو ذلك في أصول الفقه؛ فإنَّ موضوع أصول الفقه ما يتعلق بأحكام المسلمين، بخلاف التعرُّض لذلك في أُصول الدِّين، فإنَّ موضوعه الردُّ على المبْطلين في العقائد على أيِّ وَجْهٍ كان. واحترزنا بذلك عن أدلة الفقه المختلَف فيها، كالاستصحاب والاستحسان وقول الصحابي ونحو ذلك، وسنذكرها في فَصْلٍ آخر الباب الثاني. وقولي: (الكتاب الباقي) أبي الذي لا يرتفع ولا يُنْسَخ، بل هو مستمر {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 42] فخرجت الكتب المنسوخة والآيات المنسوخة. وقولي: (وذَا مِن الدِّين) الإشارة إلى "القياس"، أَيْ: إنَّ القياس ليس ببدعَة، بل هو مِن الدِّين على الأصح مِن الأقوال الثلاثة، وممن حكاها أبو الحسين في "المعتمد"، فقال: (وأمَّا كَوْن القياس دِينَ الله فلا ريب فيه إذَا عُني أنه ليس ببدعةٍ، وإن أريد غير ذلك، فعند الشيخ أبي الهذيل لا يُطلق عليه ذلك؛ لأنَّ اسم الدين يقع على ما هو ثابت مستمر، وأبو علي الجبائي يَصِف ما كان واجبًا منه بذلك وبأنه إيمان، دُون ما كان منه نَدْبًا، والقاضي عبد

الجبار يصف بذلك واجبَهُ ومندوبَهُ) (¬1). وكلام عبد الجبار أَرْجَح، قال الروياني في "البحر": القياس عندنا دِين الله وحُجَّته وشَرْعه. وقال ابن السمعاني: (إنه دِينُ الله ودِين رسوله، بمعنى أنه دَلَّ عليه. نَعَم، لا يجوز أنْ يُقال: إنه قولُ الله تعالى) (¬2). انتهى فلذلك جريتُ عليه في النَّظم؛ لأنَّ أدلة القياس (نحو: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَار} [الحشر: 2] , وقوله تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] , وقول معاذٍ له - صلى الله عليه وسلم -: "أجتَهدُ رَأي" (¬3)، وأَقَرَّه، وما أَشْبَه ذلك) كُلها تُشْعِر بالأمر بالقياس، وكُل ما أُمِرنا به في الشرع فهو دِين الله؛ فلذلك قُلتُ: (لِأَمرٍ قاسُوا). أيْ: لم يَقِس العلماء إلا بأمر مِن الشارع، فكيف لا يَكون مِن الدِّين؟ ! وأمَّا قول شيخنا الزركشي في "شرح جمع الجوامع": (إنهم إنْ عَنوا حُكما مقصودًا في نَفْسه فليس القياس مِن الدِّين، وإنْ عَنوا ما تُعُبِّدْنَا به فهو دِينٌ) (¬4) فَفِيه نَظَر؛ لأنَّ كُل ما [طلبه] (¬5) الشرعُ سواء أكان لذاته أو للتوصل إلى آخَر [هو] (¬6) دِين؛ فإنَّ الدِّين ينقسم إلى ¬

_ (¬1) المعتمد (2/ 244). (¬2) قواطع الأدلة (2/ 336). (¬3) سنن أبي داود (رقم: 3592)، سنن الترمذي (رقم: 1327) وغيرهما. وقد أطال الشيخ الألباني في بيان ضَعفه في (سلسلة الأحاديث الضعيفة، رقم: 881). (¬4) تشنيف المسامع (3/ 400). (¬5) كذا في (ز، ق، ت). لكن في (ص، ض، ش): طلب. (¬6) كذا في (ز)، لكن في (ص، ت): فهو.

مقاصد ووسائل. ومما يستفاد هنا: أنَّ الشافعي - رضي الله عنه - فيما اقتضاه نَقْلُ الربيع عنه في "اختلاف الحديث" ذكَر ما يقتضي أنَّ الكتاب والسُّنة مشتملان على جميع الفروع الملحقة بالقياس، أَيْ: إنَّ اشتمالهما على الأحكام إما ابتداء أو بالواسطة. فقال الشافعي: (ولَمَّا قبض الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - تناهَت فرائضُه، فلا يُزاد فيها ولا يُنقَص) (¬1). نَعَم، روى أحمد أنَّ الشافعي قال: (القياس ضرورات). نقل العبادي ذلك في طبقاته، فقد يُقال: إنه يُبايِن الأول، إلَّا أنْ يؤَوَّل بأنه مضطرٌ إليه لِكَونه بواسطة، بخلاف مَتْن الكتاب والسُّنة؛ ولهذا قال ابنُ كج: جميع الأحكام بالنصِّ، لكن بعضها يُعْلَم بِظاهر، وبعضها باستنباط وهو القياس، ولولا ذلك لَبَطل أكثر الأحكام. وعلى هذا أيضًا يحمل قول ابن حزم: (إنَّ النصوص محيطة بجميع الحوادث)؛ لأنه لا ينكر أصل القياس. ومما ينقل مِن الخلاف في القياس أنه هل يُعَد مِن "أصول الفقه"؟ أَوْ لا؟ تَعَلُّقًا بأنه لا يفيد إلا الظن. والحقُّ مِن ذلك الأول، وأمَّا الثاني [فضعيف] (¬2) جدًّا، فإنَّ القياس قد يفيد القَطْع كما سيأتي. ولو قُلنا: لا يفيد إلا الظنَّ، فخبر الواحد ونحوه لا يفيد إلَّا الظن، بل أدلة الفقه كلها ظنية كما قررناه في غير هذا الموضع. ومما يستفاد أيضًا: أنَّ القياس فرض كفاية عند تَعَدُّد المجتهدين، لكن إذا احتاج المجتهد إليه وكان واحدًا فقط مع ضيق الوقت، يَصِير فَرْض عَيْن. وأمَّا فيما يجوز حدوثُه ولم يحدُث ¬

_ (¬1) اختلاف الحديث (ص 541). (¬2) كذا في (ز، ق، ت). لكن في (ش، ض، ص): ضعيف.

القرآن

بَعْدُ فيكون مندوبًا كما في غيره مِن الأدلة الشرعية يُستدَل بها ويُستنبَط منها ما لم يحدُث ويجوزُ أنْ يحدث. وإنما قَدَّمتُ هذه المسألة هنا (وإنْ كنتُ أَخَّرت الكلام في كَوْن القياس هل هو دليل يُحتج به؟ أَوْ لا؟ وهل ذلك على العموم؟ أو في بعض الصُّوَر؟ (3)؛ لأنَّ تعدادَه مِن أدلة الفقه يدل على أنه مِن الدِّين، و [قررنا هناك] (¬1) هل هو حُجَّة مطلقًا؟ أو في بعض الأشياء؟ [فناسب] (¬2) تأخيره إلى موضع تعريفه؛ لِتَعلُّقه بالتعريف، والله أعلم. ص: 202 - أَوَّلُهَا: "الْقُرْآنُ" قَوْلٌ مُنْزَلُ ... عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الْأَفْضَلُ 203 - مِنَ الصَّلَاةِ وَالسُّلَامِ، مُعْجزُ ... بَلْ سُورَةٌ، بَلْ آيَةٌ إذْ تُعْجِزُ 204 - إنْ بِتِلَاوَةٍ لَهُ تُعُبِّدَا ... وَ "السُّنَّةُ" الَّتِي إلَيْهَا قُصِدَا الشرح: أَيْ: الأول مِن أدلة الفقه: القرآن، وهو الكتاب أيضًا؛ لقوله تعالى: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف: 30] بَعْد قوله: {يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف: 29] , وفي الآية الأخرى {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1]. وهو [أصلُ الأدلة] (¬3) كُلها، قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] , ففيه البيان لجميع الأحكام. قال الشافعي في "الرسالة": (وليس ينزل بأحَدٍ في الدنيا نازلة إلَّا وفي كتاب الله تعالى ¬

_ (¬1) كذا في (ق، ت). لكن في (ص، ز، ش): وورا هذا. (¬2) كذا في (ق، ت). لكن في (ص، ز، ض، ش): يناسب. (¬3) كذا في (ص، ز، ش). لكن في (ض، ق، ت): أصل للأدلة.

الدليل على سبيل الهدى فيها) (¬1). فأَوْرَدَ بعضهم ما ثبت ابتداءً بالسُّنة أو غَيْرها، فأجاب ابنُ السمعاني بأنه مأخوذٌ مِن كتاب الله في الحقيقة؛ لأنه أَوْجَب علينا فيه اتِّباع الرسول، وحذرنا مِن مخالفته، قال الشافعي رحمه الله: (فَمَن قَبِل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَعَنِ الله قَبِل) (¬2). انتهى والقرآن مأخوذ مِن "قرأ" إذا جمع، سُمي به المقروء كما [سُمي] (¬3) المكتوب كتابًا. قال أبو عبيد: سُمي بذلك لأنه يجمع السُّوَر ويضمُّها. قال أبو عبد الله القرطبي في كتاب "التذكار في أفضل الأذكار": (اختُلِف في القرآن هل هو مشتق؟ أوْ لا؟ فقال الشافعي: سَمى الله تعالى كتابه "قرَآنًا" بمثابة اسم عَلَم لا يسوغ إجراؤه على موجب اشتقاق. قال: ويجوز أنْ يقال: سُمي "قُرآنًا" مِن حيث إنه يُتلَى وُيقرأ بأصوات تنتظم وتتوالى وتتعاقب). ثُم قال القرطبي: (والصحيح أنه مشتق مِن "قرأتُ الشيء": جمعته) (¬4). وذكر وُجوهًا في الجمع. قلتُ: كلام الشافعي محمول على أنه صار عَلَمًا ولو كان في الأصل مشتقًّا، لَا نَفْي الاشتقاق أصلًا. واعْلَم أنَّ القرآن يُطْلَق مَرة على [المعنى] (¬5) القديم القائم بذاته سبحانه وتعالى، ومَرة ¬

_ (¬1) الرسالة (ص 19). (¬2) الرسالة (ص 22). (¬3) في (ز): سمي به. (¬4) التذكار في أفضل الأذكار (ص 24 - 25). (¬5) في (ق، ت): الكلام.

باعتبار المُنزل الدال على القديم الذي هو: مقروءٌ بالألسنة، محفوظٌ في الصدور، مسموعٌ بالآذان، مكتوبٌ في المصاحف، المَعْنِي بقوله تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [المائدة: 6] , وقوله تعالى {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)} [الواقعة: 77 - 78] , وقوله تعالى {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء: 106] , وقوله تعالى {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106] وقوله تعالى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] , إلى غير ذلك مِن الآيات، وكذا الأحاديث. فالأول هو محل نَظَر المتكلمين؛ لأنه صفة مِن صفاته عَزَّ وَجَلَّ. الثاني هو مَحَل نَظَر الفقهاء والأصوليين وسائر خدمَة الألفاظ مِن المفسرين والنُّحاة والتصريفيين واللُّغَويين والبيانيين ونحوهم، وهو المرادُ هنا بالتعريف المذكور، وهو أنه: قولٌ مُنزلٌ على سيدنا محمَّد عليه الأفضل من الصلاة والسلام، مُعْجِزٌ، مُتَعَبَّدٌ بتلاوته. فَـ "قَوْلٌ" جنس، وهو أحسن مِن التعبير بِـ "لفظ"؛ لأنَّ القول أَخَص، فهو جنس قريب، ولم أَقُل فيه: "القول"؛ لأنَّ الحقيقة لا يؤتى فيها بِدَالٍّ على كمية كما سبق تقريرُه مراتٍ. وما بَعْده فهو الفصل المخرِجُ لِغَيره، فخرج بِقَيدِ كَوْنه مُنزلًا الكلامُ النفساني، وكذلك ألفاظ الناس وغيرهم مما لم ينزل. فإنْ قِيل: ما معنى إنزال القول مع كَوْنه لا يوصَف بحركة ولا نزول لِكَوْنه عَرضًا والنزول للأجسام؛ لأنه إمَّا بمعنى التحرك مِن عُلو إلى سفل [كنزول] (¬1) المطر، وإمَّا بمعنى الحلول في الشيء [كنزول] (¬2) الجيش البلد؟ قِيل: هو مؤوَّل على أنَّ المَلَك لَمَّا تَلَقَّى مِن الله سبحانه وتعالى ما يدل على كلامه ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ش). لكن في (ص، ض، ق، ت): كنزل. (¬2) كذا في (ز، ش). لكن في (ص، ض، ق، ت): كنزل.

القديم [بأنْ] (¬1) [تَلَقَّفَه تلقُّفًا] (¬2) روحانيًّا على الوجه المعلوم عند الله تعالى، أو تَلقَّاه مِن اللوح المحفوظ على ما قاله بعضُهم، ونزل فتلقَّاه منه الأنبياء على الوجه المفصَّل في الوحي وبيان أنواعه، جُعِل كأنَّ القول أُنْزِل كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 192 - 193]. وهذا القَدْر كافٍ في تقرير هذه المسألة وإنْ كانت طويلةَ الذيلِ، مبسوطةً في محلها مِن أصول الدِّين. وخرج يكون الإنزال على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -: ما أُنزل على غيره، كتوراة موسى، وإنجيل عيسَى، وزبور داود، وصحف شيث وإبراهيم وموسى عليهم الصلاة والسلام. وفي حديث أبي ذر فيما رواه ابن حبان وغيره: "إنَّ الله تعالى أنزل مائةً وأربعةَ كتب" (¬3). وخرج بكونه أُنزل للإعجاز: السُّنةُ، فإنها وإنْ كانت مُنزلة وربما كانت معجزة أيضًا لكن لم يُقصَد بإنزالها الإعجاز. وإنما قُلنا: إنَّ السُّنة مُنزلةٌ؛ لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 2 - 3] , كما قرر ذلك الشافعي في "الرسالة" في غير ما موضع. وقال في باب "ما أبان الله مِن فرضه لخلقه" وفي باب "ما فرض اللهُ في كتابه من اتِّباع سُنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - " أنَّ المرادَ بالحكمة في قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113] وقوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231] وقوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] ونحو ذلك - السُّنةُ. ¬

_ (¬1) كذا في (ق، ت). لكن في (ص، ض، ز، ش): ان. (¬2) في (ش): تلقيه تلقيا. (¬3) صحيح ابن حبان (رقم: 361). قال الألباني: ضعيف جدًّا. (التعليقات الحسان، 1/ 387).

فقال ما نَصُّه: (فذكر اللهُ الكتابَ وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعتُ مَن أرْضَى مِن أهل العِلم بالقرآن يقول: الحكمة سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا يُشبه ما قال, لأنَّ القرآن ذُكر وأتبعه الحكمة، وذكر الله مِنَّته على خَلْقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فَلَمْ يَجُز -والله أعلم- أنَّ الحكمة ها هنا إلَّا سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله) (¬1) إلى آخِره. انتهى والحديث المروي مِن طريق ثوبان بعرض الأحاديث على القرآن - قال الشافعي: ما رواه أحدٌ يثبت حديثُه في شيء صغير ولا كبير. وقال ابن معين: إنه موضوعٌ، وضعته الزنادقة. وكذا حكى ابن عبد البر في كتاب "جامع العِلم" عن ابن مهدي أنُّ الزنادقة والخوارج وضعوا حديث: "ما أتاكم مني فاعرضوه على كتاب الله، فإنْ وافق فأنا قُلتُه، وإنْ خالف فلم أقُلْه" (¬2). قال الشيخ: (وقد عرضناه على الكتاب فلم نجد فيه ذلك؛ إذْ ليس فيه: "لا تَقبلوا مِن الحديث إلَّا ما وافق الكتاب"، بل وجدنا الأمرَ بطاعته، وتحريمَ المخالفة عن أمره) (¬3). نَعَم، نَقَل الشافعيُّ في "الرسالة" قولًا: (إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسُنّ سُنة قَط إلَّا ولها أصلٌ في الكتاب) (¬4). واعتنى ابن برجان في كتابه "الإرشاد" بتتبع ذلك، قال: وقد نبَّهنا - صلى الله عليه وسلم - على ذلك في كثير، ¬

_ (¬1) الرسالة (ص 78). (¬2) جامع بيان العلم وفضله (2/ 191). (¬3) المرجع السابق. (¬4) الرسالة (ص 92).

مثل: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت" إلى قوله: "اقرءوا إنْ شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] " (¬1). وساق مِن ذلك كثيرًا. وأمَّا كَوْنها قد تَكون معجزة فلأنَّ وجُوه إعجاز القرآن مِن البلاغة التي لا يَقدِر أحدٌ على مِثلها، والإخبار عن المغيبات وغير ذلك - يوجد في كثيرِ من السُّنة. ومما يخرج بهذا القيد: ما في السُّنة أيضًا مِن حكايته أقوال الله تعالى، فإنه ليس بِقُرآن أيضًا؛ لأنه لم ينزل للأعجاز. والمراد بالإعجاز أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يتحدَّاهم بما جاء به، فيقول: هل تَقْدرون أنْ تأتوا بمثل ما قُلتُه؟ فيعجزون عن ذلك، فقدْ أعْجَزَهُم ذلك القول؛ فهو مُعجز. فالسُّنة معجزة بالقوة؛ لكونه لم يطلب منهم أنْ يأتوا بمثلها. والقرآن مُعجز بالفعل، لكونه تحدَّاهم أنْ يأتوا بمثله بِأَمْر الله له بالتحدي به، ولم يأمره أنْ يتحدى بالسُّنة، فهذا الفَرْق بين الإعجازين. ومن هنا لم أحْتَج في النَّظم أنْ أقول: (المنزل للإعجاز) لتخرج السُّنة؛ اكتفاءً بِقَولي: (معجز)، أيْ: بالفعل؛ لأنه الحقيقة، وما بالقوة مجاز، فلم تدخل السُّنة؛ لأنُّ الحقيقة هي المرادَة عند الإطلاق. وقولي: (بَلْ سُورَةٌ، بَلْ آيَةٌ إذْ يُعْجِزُ) إشارة إلى أنَّ الإعجاز قد وقع بالتحدي بالقرآن كُله في قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [السجدة: 88]. أيْ: فأْتوا بمثله إنِ ادَّعيتم القدرة، فلَمَّا عجزوا، تحدَّاهم بعَشر سُوَر بقوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] , فلَمَّا عجزوا، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 3072)، صحيح مسلم (رقم: 2824).

تحداهم بسورةٍ بقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] أَيْ: مِن مِثل القرآن، أو مِن مِثل النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلمَّا عجزوا، تحدَّاهم بِدُون ذلك وهو قوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)} [الطور: 34]. واكتفيتُ بقولي: (بل سُورة) عن عَشر سُوَر؛ لأنَّ مَن لا يَقْدر على سُورة، أَوْلى أنْ لا يَقْدر على أكثر منها. وأَتيتُ بِقَولي: (بل آية) لإفادة أنَّ التحدي وقع بِدون السورة، خِلافًا لمن خالف في ذلك كما سأبينه، فلذلك لم أَكْتَفِ به عن السورة؛ لأنَّ ذاك مُصَرَّحٌ به في قولي: (بل سورة). وأما قوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [فيحتمل] (¬1) تنزيله على المنصوص بالتعيين وهو القرآن، أو عشر سُوَر، أو سُورة. نَعَم، اختُلف في الإعجاز بالسورة، فقال الآمدي في "الأبكار": (التزم القاضي في أحد جوابيه الإعجاز في سورة الكوثر وأمثالها؛ تَعلُّقا بقوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ}. والأصح ما ارتضاه في الجواب الآخَر، وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق وجماعة من أصحابنا أنَّ التحدي إنما وقع بسورة تبلغ في الطول مَبْلغًا تبين فيه رُتَب قوي البلاغة؛ فإنه قد يَصْدر مِن غَيْر البليغ أو ممن هو أدنى في البلاغة من الكلام البليغ ما يماثل بعض الكلام البليغ المصادر عَمَّن هو أَبْلَغ منه، وربما زاد عليه) (¬2). قال: (فيتعين تقييد الإطلاق في قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ}؛ لأنَّ تقييد المطلق بالدليل واجبٌ) (¬3). انتهى ¬

_ (¬1) في (ت، ق): فيحمل. (¬2) أبكار الأفكار (4/ 131). (¬3) أبكار الأفكار (4/ 132).

والإضراب بِـ "بل" بَعْد قولي: (معجز) إشارة إلى أنَّ مرادي معجز كُله، وإلَّا فقولي: (قول) صادقٌ على الكل وعلى عشر سُوَرٍ وعلى سورة وعلى آية، فالتفصيل للإيضاح وإنْ كان قد يُفهم مِن الإجمال في قولي: (قول معجز). فأقَل ما وقع التحدي به آية، لكنها إنما يُتَحدَّى بها حيث تكون مشتملة على ما به التعجيز، لا في نحو: {ثُمَّ نَظَرَ (21)} [المدثر: 21] فيكون المعنى في {بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} أَيْ: مِثله في الاشتمال على ما به يقع الإعجاز، لا مُطْلَق الكلام أو القول؛ فلذلك قلتُ: (إذْ يعجز). أَيْ: لا مُطْلَقًا، ويُعاد على سورة أيضًا إنْ جريْنا على ما سبق نقْله عن الآمدي. نَعَم، هو بعض المعجز قَطْعًا، فله دخول في الإعجاز منضمًّا إلى غيره، لا منفردًا، فالقرآن كُله معجزٌ لكن منه ما لو أُفْرِدَ لكان معجزًا بذاته، ومنه ما إعجازه مع الانضمام؛ ولذلك لم أَقُل في النَّظْم كما قال غيري: (للإعجاز بسورة منه). بل أَطْلقتُ الإعجاز ثم فصَّلته بالإضراب الانتقالي لا الإبطالي. وما قررتُه في الآية الواحدة هو ظاهر كلام إمام الحرمين في "الشامل"، إذْ قال في بيان أقَل ما وقع به الإعجاز: (لا ينبغي أنْ يحمل على أنَّ التحدي وقع بكل آيةٍ آيةٍ ولو قَصُرَت نحو: {ثُمَّ نَظَرَ (21)} [المدثر: 21]؛ لأنَّ مِثل هذا لا يَعجز أحدٌ عن النُّطق به؛ فيُعْلَم بالضرورة أنه ما تحداهم بمثله، كما أنَّا نَعْلم أنه لم يتحداهم بكلمة أو كلمتين منه ما لم ينته إلى آية). انتهى وقال أيضًا في "النهاية" في العاجز عن قراءة الفاتحة في الصلاة وقَدَرَ على آيات متفرقة: يلزم لكن بشرط أنْ تكون كل آية مفهمة. قال النووي في "شرح المهذب": المختار ما أَطْلَقه الأصحاب: أَيُّ آيةٍ مِن القرآن ولو كان على حدته غير مفهم. فانظر كيف أَدْخَل في المُعجز ما هو مفهم وما ليس بمفهم، وزعَم أنَّ غير المفهم لا يجزئ، فقال النووي: إنَّ إطلاق الأصحاب يقتضي إجزاءه؛ لأنه لم يخرج عن القرآن. وفي معنى ذلك قولهم في كتاب الصداق فيما لو أَصْدقها تعليم سُورة فلَقَّنها بعضَ آيةٍ ثُم

نسيته: لا يحسَبُ له شيء؛ لأنَّ ذلك البعض لا يُسمَّى قرَآنًا؛ لعدم الإعجاز. والمراد: لعدم إعجازه منفردًا، على أنَّ هذا الحكم هو قول ابن الصبَّاغ، وقضيَّتُه أنه لا يحرُمُ مِثل ذلك على الجُنُب، لكن صرَّح الفوراني وغيره بالمنع. ومما يتنبه له أنَّ قولي في النَّظْم: (معجز) أَحْسَن مِن قول غيري: (للإعجاز)؛ لأنه يقتضي انحصار عِلة الإنزال في الإعجاز، والفَرْضُ أنه نزل لبيان الأحكام والمواعظ، ولكنه مع ذلك مقصود به الإعجاز أيضًا. وخرج بقيد التعبد بتلاوته: الآيات المنسوخ لفظها، سواء بقي الحكم أَوْ لا, فإنها بَعْد النَّسخ صارت غير قرآن؛ لسقوط التعبد بتلاوتها, ولذلك لا تعطَى حُكم القرآن في مَسِّ المُحْدِث وقراءة الجنُب وقراءتها في الصلاة ونحو ذلك. فإنْ قيل: يَلزم مِن تعريف القرآن بالقول أو باللفظ أنه لا يُسمى في حال كَوْنه مكتوبًا "قرآنًا"، وكذا حال كَوْنه محفوظًا ولم يُنْطق به، ولا خِلاف أنه قرآنٌ وإن جرت له أحكام بخلاف موجَب ذلك، كإمرار الحائض والجنُب القرآن على القلب مِن غير تَلَفُّظ, فإنه ليس بحرام، وكإحراق الخشب المكتوب فيه القرآن، ونحو ذلك, فإنَّ ذلك كله خرج بدليل. فالجواب: أنه لفظٌ وقولٌ بالقوة، وذلك وإنْ كان مجازًا إلَّا أنَّ المجاز يقع في التعريف إذا دَلَّت على إرادته قرينة كما قرره الغزالى في "المستصفى"، ولا شك أنَّ القرائن هنا متوفرة على إرادة ذلك. فإنْ قيل: هذا التعريف إمَّا أنْ يَكون لمجموع القرآن أو للأعم مِن ذلك ومن بعضه, فإنْ كان الأول فيقتضي أنَّ البعض لا يُسَمَّى قرآنًا، وأنْ لا يحنث إذَا حلف لا يقرأ قرَآنًا فقرأ شيئًا منه، ولا قائل بذلك. وإنْ كان الثاني فكل كلمةِ -بل كل حرفٍ- مِن القرآن قرآنٌ، وانقسامُه حينئذ إلى هذه الأفراد انقسام الكُلي إلى جزئياته، لا الكل إلى أجزائه، فالحدُّ حينئذ للماهية مِن حيث هي، فيصير قيدُ الإعجاز لَغوًا, لأنَّ الكلمة أو الحرف ليس فيه إعجاز

قَطعًا. فالجواب: التزامُ الأول، واللام في "القرآن" حينئذ للعهد في جملته، فالبعضُ حينئذ وإنْ كان قرآنًا لكنه لم يُطلق عليه "القرآنُ" باللام العهدية كما قررناه، وكما يشهد لذلك نَصُّ الشافعي - رحمه الله - فيما حكاه عنه الرافعي في أبواب العتق أنه لو قال لعبده: "إنْ قرأتَ القرآن فأنت حرٌّ"، أنه لا يعتق إلا بقراءة الجميع. فإنَّ ظاهره يقتضي أنه لو قال: (إنْ قرأتَ قرَآنًا) يعتق بالبعض؛ لِمَا قررناه. وأمَّا قول الإمام الرازي وأتْباعه (كالبيضاوي) في أثناء الاستدلال على إثبات الحقيقة الشرعية: (لو حلف لا يقرأ القرآن، حنث ببعضه) (¬1)، فمحمولٌ على أنَّ اللام للجنس حتى يَكون بمثابة قرَآنًا بالتنكير. فإنْ قيل: فالشافعي أطْلَق في المعَرَّف بِـ "ال" ولم يُقيده بِالعَهد جملة ولا بِقَصْد جِنْس. قلتُ: لأنَّ العرف صار في مِثله يحمل اللام على عَهْد الجملة والكل المشتمل على هذه الأجزاء، ومَبْنَى الأَيْمان على العُرْف. والحاصل أنَّ النظر إلى لفظ "القرآن" باعتبارين: - باعتبار جملته وهيئاته وترتيبه، فاللام فيه حينئذ للعهد. - والثاني: اعتبار حقيقته مِن حيث هي، لا بالنظر إلى [لازم] (¬2) كمية وترتيب ونحو ذلك، فاللام فيه حينئذ للجنس. فإنْ قُصِدَ معها استغراق، كان كل حَرفِ وكلمةِ وجملةٍ وآيةٍ وسورةٍ جزئيات، لا أجزاء، بخلاف الاعتبار الأول فإنها فيه أجزاء، لا جزئيات. ¬

_ (¬1) المحصول (1/ 301). (¬2) كذا في (ز)، لكن في (ص): لوازم.

السنة

ولَعَلَّ مَن يقول في تعريفه: (الكلام المنزل على محمَّد - صلى الله عليه وسلم - للإعجاز بِسُورة منه) إنما يقصد مراعاة الاعتبار الأول، وأمَّا مَن يراعي الاعتبار الثاني فيقول: (ما أنزل للإعجاز). ولا حاجة أنْ يقول: (بسورة منه)، أو يقول ذلك ويريد أنَّ "مِنْ" فيه لابتداء الغاية، لا للتبعيض. فَحَقِّق هذا الموضع كما قررتُه لك؛ فإنه من النفائس، وقد أَطَلْتُ فيه؛ لِمَحَلِّ الحاجة، والله تعالى أعلم. وقولي: (وَ "السُّنَّةُ" الَّتِي إلَيْهَا قُصِدَا) تمامه قولي بَعْده: ص: 205 - قَوْلُ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى خَيْرِ الْوَرَى ... وَفِعْلُهُ، وِمنْهُ أَنْ يُقَرِّرَا 206 - مُكَلَّفًا وَلَوْ يَكُونُ كَافِرًا ... وَلَوْ مُنَافِقًا عَلَى فِعْلٍ يَرَى 207 - فَذَاكَ جَائِزٌ لَهُ وَغَيْرِهِ ... مَا لَمْ يَكُنْ دَاعٍ عَلَى تَقْرِيرهِ الشرح: فلمَّا فرغتُ مِن تعريف أول الأدلة (وهو القرآن) شرعتُ في تعريف الثاني (وهو السنة). فقولي: (والسُّنة) مبتدأ خبره "قول النبي المصطفى" إلى آخِره، والمراد هنا قول النبي الذي لم يأتِ به قرآنًا على ما سبق. و "الورى": الناس. وقولي: (التي إليها قُصِدَا) إشارة إلى أنَّ لفظ "السُّنة" وإنْ كان معناه في اللغة "الطريقة" ومنه حديث: "مَن سَنَّ سُنة حسنة فله أجرها وأجر مَن عمل بها" (¬1) إلى آخِره، وقال الخطابي: إذَا أُطلقت، فهي المحمودة، وإنْ أُرِيدَ غيرُها فمقيدة، كقوله: "ومَن سَن سُنة ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (رقم: 1017) بلفظ: (من سَن في الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً ... ).

سيئة". وأمَّا في الاصطلاح: - فَتَارة تُطلق على ما يقابل "القرآن" كما هنا، ومنه أحاديث كثيرة، منها في "مسلم" حديث: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإنْ كانوا في القراءة سواء فأَعْلمهم بالسُّنة" (¬1) الحديث. - وتارة على ما يقابل "الفَرْض" ونحوه مِن الأحكام كما سبق في بيان المندوب. وربما لا يُراد إلا مقابل "الفرض" فقط كفروض الوضوء وسُننه، أو الصلاة أو الصيام أو غير ذلك، فإنه لا يقابَل به الحرامُ والمكروهُ فيهما وإنْ كانت المقابلة لازمة له لكنها لم تقصد. - وتارة يطلق على ما يقابل "البدعة"، فيقال: أهل السُّنة وأهل البدعة. والمقصود بيانها بالإطلاق الأول، وهو معنى قولي: "التي إليها قُصِدَا". أَيْ: المقصودة في هذا الموضع. و "قصد" يتعدى تارة بِـ "إلى" كما استعملتُه في النَّظم، وتارة باللام، وتارة بنفسه. قال النووي في "التحرير": (وقد اجتمعت الثلاث في "صحيح مسلم" في حديث واحد في أول سطر منه في "كتاب الإيمان") (¬2). وزاد في "التهذيب": (إنَّ ذلك في باب "مَن قتل رجُلًا مِن الكفار بعد أنْ قال: لا إله إلا الله"، والحديث عن جرير بن عبد الله البجلي: "إنَّ رجُلًا مِن المشركين كان إذا [شاء أنْ] (¬3) ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (رقم: 673). (¬2) تحرير ألفاظ التنبيه (ص 32). (¬3) كذا في (ق، ت، "صحيح مسلم"). لكن في (ص، ز، ض، ش): سار.

يقصد إلى رجُلٍ مِن المسلمين قصد له [فقتله] (¬1)، [وإنَّ] (¬2) رجُلًا من المسلمين قصد غفلته") (¬3) (¬4). انتهى فَـ "السُّنة" محصورة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفِعله. والقول وإنْ كان من الفعل لأنه عملٌ بجارحة اللسان، لكن الغالب استعماله في مقابلة [الفعل] (¬5). نَعم، مِن الفعل عمل القلب والترك فإنه كَفُّ النفْس، وقد سبق أنه لا تكليف إلا بفعل، وأنَّ المكلَّف به في النهي وما في معناه هو الكف. فإذا نُقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أراد كذا، كان ذلك مِن السُّنة الفعلية، كحديث أنس - رضي الله عنه -: "أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب إلى رهطٍ أو أناسٍ مِن العَجَم، فقيل له: إنهم لا يقبلون كتابًا إلا بخاتم، فاتخذ خاتمًا مِن فضة" (¬6). رواه الشيخان في باب اللباس. ومِثله حديث جابر: "أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَنهى أنْ يُسَمُّى بِـ "يعلى" أو بِـ "بركةٍ" و "أفلح" و "يسار" و "نافع"، ونحو ذلك، ثُم رأيتُه سكت بَعْدُ عنه فلم يَقُل شيئًا، ثم قُبض ولم يَنْهَ عن ذلك" (¬7). رواه مسلم في الأدب. ومِئله حديث عائشة - رضي الله عنها -: "أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُنَحِّي مخاط أسامة، قالت عائشة: دعني ¬

_ (¬1) في (ز): يقتله. (¬2) كذا في (ق، ت، "صحيح مسلم"). لكن في (ص، ز، ض، ش): راى. (¬3) صحيح مسلم (رقم: 97). (¬4) تهذيب أسماء اللغات (4/ 93). (¬5) كذا في (ش). لكن في (ص، ز، ض، ق، ت): القول. (¬6) صحيح البخاري (رقم: 5534)، صحيح مسلم (رقم: 2592). (¬7) صحيح مسلم (رقم: 2138).

حتى أنا الذي أفعل، قال: يا عائشة [أَحِيِّيه] (¬1)؛ فإني أُحبه" (¬2). رواه الترمذي في المناقب. وحديث عبد الله بن زيد: "أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأذان أشياء لم يصنع منها شيئًا" (¬3). الحديث رواه أبو داود في الصلاة، إلى غير ذلك مِن هذا الباب. وهذا في ما سيأتي مِن هَمه - صلى الله عليه وسلم - بالشيء، ويأتي الفرق بينهما. وإذَا نُقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ترك كذا، كان أيضًا مِن السُّنة الفعلية كما سبق في حديث التسمية ونحو ذلك. قال ابن السمعاني: (إذا ترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، وَجَبَ علينا متابعته، ألَا ترى أنه - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا قُدِّم إليه الضبُّ فأمسك عنه وترك أَكْله أَمْسَك الصحابة و [تركوه] (¬4) حتى بيَّن لهم أنه حلال ولكنه يَعَافه؟ ) (¬5) (¬6). ولهذا لَمَّا صلَّى التراويح وتركها خشية أنْ تُفرض على الأُمة وزال هذا المعنى بموته، عادوا إلى الصلاة. ونازع بعض العلماء في ذلك وعمل بالترك كما هو مُبيَّن في محله، ولكن [المفيد] (¬7) لهذا ¬

_ (¬1) في (ز): أحتيه. (¬2) سنن الترمذي (رقم: 3818) , صحيح ابن حبان (7058). قال الألباني في (صحيح سنن الترمذي: 3818): صحيح .. وقال في (التعليقات الحسان، 10/ 158): حسن. (¬3) سنن أنس داود (رقم: 512). قال الألباني: ضعيف. (ضعيف سنن أنس داود: 512). (¬4) كذا في: (ز)، قواطع الأدلة (1/ 311). لكن في (ش): تركوا أكله. وفي (ص, ض, ق، ت): تركوا. (¬5) صحيح البخاري (رقم: 5085) , صحيح مسلم (1946). (¬6) قواطع الأدلة (1/ 311). (¬7) كذا في (ز, ق, ش): المفيد. لكن في (ض): المقيد.

النوع حتى يُروى عنه إمَّا قوله: (إنه ترك كذا) أو قيام القرائن عند الراوي الذي يروي عنه أنه ترك كذا. وقولي: (ومنه أنْ يُقَررَا) أَيْ: ومن الفعل تقريرُه - صلى الله عليه وسلم - مكلَّفًا على فِعل شيء - ولو كان ذلك الفعل قولًا أو نحوه - ولا ينكره عليه؛ فيدل على جواز ذلك الفعل له ولغيره، وذلك بأنْ يفعله بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو في عَصْره ويَعلم به ولا ينكره، لكن بشروط: أحدها: أنْ لا يَكون قد بَيَّن قُبحه قَبل ذلك، فإنْ بَيَّن قُبح الفعل ولكن قَرَّر فاعلَه لأمرٍ آخَر شرعي كَمُضِي مَن قَرَّره بالجزية مِن الكفار إلى الكنيسة للتعبد بها، فإنَّ ذلك لا دلالة له على جواز الفعل اتفاقًا. الثاني: أنْ يَكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قادرًا على إزالة ذلك المنكَر. كذا شَرَطه ابن الحاجب وغيره. ولكن قد يُقال: لا حاجة إليه؛ لأنَّ مِن خصائصه - صلى الله عليه وسلم - أنَّ وجوب إنكاره المنكر لا يَسقط عنه بالخوف على نفسه وإنْ كان ذلك إنما هو لعدم تحقق خوفه بَعْد إخبار الله تعالى بعصمته مِن الناس بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] , وقوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)} [الحجر: 95]. الثالث: أنْ يعْلم أنَّ الإنكار يُفِيد، فإنْ كان الإنكار لا يزيد الفاعل إلا جُرْأةً وإغراء، فلا يدل على جواز الفعل. وهذا منقول عن المعتزلة. وفي كلام إمام الحرمين ما يُفْهمه، حيث قال: (التقرير دالٌّ على رفع الحرج إلا في موضع واحد، وهو أنَّا لا نبعد أنْ يَرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَبِيًّا عليه ممتنعًا عن القبول، لا سيما وقد أخبره الله تعالى أنه لا يُؤمِن بقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]. فإذا رآه يَسجد لصنم بعد ما أنكَر عليه مرارًا وأَمْكَن حَمْل سكوته على يأسٍ مِن

القبول، فلا يدل على تقريرِ [شرعٍ]) (¬1). انتهى كذا نقله عنه تلميذه أبو نصر بن القُشَيري، لكنه في "البرهان" مَثَّل بالكافر والمنافق. فالمختار أنه لا يُشترط، فمِن أجْل ذلك اكتفيتُ عن ردِّ هذا الشرط ودَفْعه بقولي: (ولو كافرًا ومنافقًا). نَعَم، خالفه المازري في التمثيل بالمنافق، قال: (فإنَّا نقيم عليه الحد؛ لجريان الأحكام على المنافقين ظاهرًا) (¬2). وحكى الغزالي في "المنخول " في تقرير المنافقين خلافًا، ومال إلْكِيَا الهراسي إلى ما قاله إمامه، قال: (لأنه عليه الصلاة والسلام كان كثيرًا ما يسكت عن المنافقين عِلمًا منه أنَّ العظة لا تنفعُ فيهم، وأنَّ كلمة العذاب حقت عليهم). انتهى وهو مستمد مِن قوله في "النهاية" في باب التعزير فيمن علم أنَّ التأديب لا يحصُل إلا بالضرب المبرح: (إنه ليس له الضرب، لا المبرح؛ لأنه يهلك، ولا غيره؛ لعدم إفادته) (¬3). لكن قال الماوردي: إنَّ الحدود والتعازير لا ينبغي أنْ تُترك لمثل هذا. وهو واضح، وقد رد الرافعي مقالة الإِمام، وقال: يشبه أنْ يُضرب ضربًا غير مبرح؛ إقامةً لصورة الواجب. وقولي: (عَلَى فِعل يَرَى) أَيْ: يَعْلمه، لا الرؤية البصرية فقط؛ لِمَا قررناه مِن قَبْل. نَعَم، لو انتشر انتشارًا يَبْعُد أنْ لا يَبْلُغه، فقال الأستاذ أبو إسحاق في "شرح التقريب": (اختلف قول الشافعي في جَعْله سُنة، ولذلك جرى له قولان في إجزاء الأقط في الفطرة؛ لأنه ما عُلِم ¬

_ (¬1) في (ق): شرعي. (¬2) إيضاح المحصول (ص 368). (¬3) نهاية المطلب (17/ 347).

هل إخراجهم الفطرة في زمنه بَلَغَه؟ أوْ لا؟ ). انتهى نعم، قد جاء التصريح به مرفوعًا؛ فلذلك كان الراجح الأجزاء. وقولي: (فذاك جائز) أَيْ: مباح كما قرره ابن القشيري؛ لأنه أدنى درجات ما رفع فيه الحرج، وذهب القاضي إلى أنه يحتمل الإباحة والوجوب والندب؛ فيتوقف فيه. ولم يقف الشيخ تقي الدين السبكي على النقل حين مسألة عن ذلك صدر الدين ابن الوكيل، فقال: غاية دلالة السكوت أنه لا حَرَج في الفعل، فمن أين إنشاء الإباحة؟ ثُم أجاب بأنَّ الأقدام على فِعل لا يُعْرف حرامٌ، فلو لم يكن هذا الفعل مباحًا لَحُرم الإقدام عليه، بخلاف السكوت عند السؤال، فإنه يحمل على عدم نزول الحكم (¬1). انتهى نعم، يشْكل تحريم الإقدام على فِعل لا يُعلم حُكمه؛ بِقولهم بالبراءة الأصلية. ثُم إذا قُلنا في مسألتنا بالأباحة وهو المشهور على ما تَقدم، فاختلفوا في حُكم الاستباحة لما أُتِر على وجهين حكاهما إلْكِيَا والماوردي والروياني: أحدهما: أنه مباح بالأصل المتقدم وهو براءة الذمة، أيْ فهو استصحاب الحال. والثاني: مباح بالشرع حين التقرير عليه. قال الماوردي: (وهُما الوجهان في الأصل قبل الشرع: هل هو على الإباحة حتى حظرها الشرع؟ أو الحظر حتى أباحها الشرع؟ ) (¬2). وقول: (له وغيره) أيْ: ولغيره، فعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار على ¬

_ (¬1) الإبهاج (2/ 182). والذي فيه أن تقي الدين السبكي سأل صدر الدين ولم يحصل على جواب، ثم ظهر الجواب للسبكي بعد ذلك. (¬2) الحاوي الكبير (16/ 102).

حد: {تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] بالخفض. والمراد أنَّ التقرير إذا دَلَّ على الإباحة لا يَختص بمن قُرِّر، بل يعُم سائر المكلفين على الأظهر الذي اختاره إمامُ الحرمين والماوردي ونقله عن الجمهور؛ لأنَّ خطاب الواحد خطاب للجميع. وذهب القاضي إلى أنه يختص؛ لأنَّ التقرير ليس له صيغة تَعُم. وعلى القول الأول: إذَا تَقدم عمومُ تحريمٍ، كان التقريرُ ناسخًا ما لم يقم دليل على خصوصية المقَرَّر به أو [تعديه] (¬1) إلى مَن فيه ذلك المعنى، فيلحق به قياسًا، وإلَّا لم يلحق به؛ فيكون تخصيصًا للعام. وقد نَصَّ الشافعي (رحمه الله) على أنَّ تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة قِيامًا خَلْفه وهو جالسٌ - ناسخٌ لأمره السابق بالقعود كما أوضحت ذلك في "شرح العمدة" مبسوطًا. وقولي: (مَا لَمْ يَكُنْ دَاعٍ عَلَى تَقْرِيرهِ) إشارة إلى ما سبق من الشروط. ويُعْلم مِن إطلاق المسألة أنه لا فرق بين أنْ يكون تقريره مع استبشاره بذلك الفعل أوْ لا، إلا أنه مع الاستبشار أبْلغ؛ ولذلك تمسك الشافعي رحمه الله في قبول قول القائف في إلحاق النَّسَب يقول مُجَزِّز المدلجي وقد بدت له أقدام زيد وأسامة: "إنَّ هذه الأقدام بعضها مِن بعض"، فدخل على عائشة - رضي الله عنها - أسارير وَجْهه وقال: "ألَمْ تري إلى قول مجَزِّز؟ " (¬2) الحديث؛ لأنه لا يُسَر إلا بفعل حَسَن. وقد سُئل في ذلك سؤال، وهو أنه يحتمل أنهم لَمَّا كانوا [معتقدين] (¬3) القيافة عاملين ¬

_ (¬1) كذا في (ز) وبه يستقيم المعنى، لكن في (ص، ض، ق، ت، ش): بعدمه. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 6388)، صحيح مسلم (رقم: 1459). (¬3) في (ش): يعتقدون.

[به] (¬1) ووقع منهم قَدْحٌ في نَسَب أسامة [مِن] (¬2) زيد لاختلاف لونيهما فاستبشر النبي - صلى الله عليه وسلم - في ردِّ قولهم ذلك بما يعتقدونه مِن القيافة بِقَوْل مجزز القائف، ولا يَلْزم أنْ يَكون ذلك شرعًا له، كَمَن يرُد على خصمه بما لا يعتقده مما يعتقده الخصم. وجنح الغزالي في "المنخول" لتضعيف الدلالة إلى هذه الشبهة. ورَدَّ عليه الطرطوشي بأنه لو رَدَّ عليهم بما لا يعتقده، لَدحضت حُجته عندهم وقالوا: كيف تحتج علينا بما لا تقول به؟ ! وقال إلْكِيا: إنَّ هذا السؤال أُورِد على الشافعي، وأنَّ الاستبشار كان لانقطاع مظاهر الكهان عن نَسب أسامة، فقال مجيبًا: (لو لم يكن للقيافة أصلٌ شرعًا لَمْ يستبشر؛ لِمَا فيه مِن إيهام أنه حق، وقد كان شديد الإنكار على الكهان والمنجمين ومَن لا يستند قوله إلى أصلٍ شرعي؛ فَثَبتَ أنَّ استبشاره لِكَون المستَبْشَر به أمرًا شرعيًّا). انتهى بمعناه، والله أعلم. ص: 208 - وَالْهَمُّ، نَحْوُ مَا في الِاسْتِسْقَاءِ ... في الْقَلْبِ لَوْلَا ثِقَلُ الرِّدَاءِ الشرح: هو معطوف على المصدر المؤول في قولي: (أنْ يُقَرِّرَ). أَيْ: ومن الفعلِ "الهَمُّ بالشيء"، فإذَا هَمَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفعلٍ وعاقه عنه عائقٌ كان ذلك الفعل مطلوبًا شرعًا؛ لأنه لا يهمُّ إلا بحق محبوبٍ مطلوبٍ شرعًا؛ لأنه مبعوثٌ لبيان الشرعيات. وذلك كما في حديث عبد الله بن زيد بن عاصم المازني فيما رواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وقال: (صحيح على شرط مسلم). وقال صاحب "الإلمام": (رجاله رجال ¬

_ (¬1) في (ش): بها. (¬2) في (ص): بن.

الصحيح): "استسقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه خميصَةٌ سوداء، فأراد رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أنْ يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت قَلَبَها على عاتقه" (¬1). وإنما عَبَّرتُ في النَّظم بِـ "الرداء" لأنَّ أصل الحديث في الصحيحين: "أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حَوَّل رداءه" (¬2). فعُلِم مِن حديث الخميصة أنَّ ذلك الرداء كان خميصة، فالمراد: لولا ثقل الخميصة. فاستحب الشافعي (رحمه الله) - لأجْل هذا الحديث - للخطيب في الاستسقاء مع تحويل الرداء تنكيسه بجعل أعلاه أسفله. و"الهمُّ" مَصْدر هَمَّ بالأمر يَهُمُّ به (بالضم): إذا عزمَ عليه. فإنْ قُلتَ: ما الفرق بين هذا القِسم وبين ما سبق مِن إرادته - صلى الله عليه وسلم -؟ قلتُ: هذا أَخَص؛ لأنَّ "الهمُّ" عَزْمٌ على الشيء بتصميم وتأكيد (¬3)، والله أعلم. ص: 209 - وَمِنْهُ أَنْ يُشِيرَ، كَالَّذِي صَنَعْ ... في ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ أَنْ كَعْبًا يَضَعْ 210 - لِشَطْرِ دَيْنِهِ، وَهَذَا يَحْتَمِلْ ... إلْحَاقَهُ بِالْقَوْلِ، فَهْوَ قَدْ شَمِلْ الشرح: أَيْ: ومن الفعل أيضًا إشارته - صلى الله عليه وسلم - بيده لفعل شيء، فيصير كأنه أمر به، كما في حديث كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أبي حدردٍ دَيْنًا له عليه في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) مسند أحمد (16520)، سنن أبي داود (رقم: 1164)، صحيح ابن حبان (2867)، مستدرك الحاكم (1221). قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن أبي داود: 1164). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 960)، صحيح مسلم (رقم: 894). (¬3) من بعد هذا الموضع ساقط من (ت) إلى قوله فيما يأتي: (بشدة غضبه).

فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سِجْفَ حُجرته، ونادى كعب بن مالك، فقال: "يا كعب". فقال: لبيك يا رسول الله. فأشار إليه بيده أنْ ضع الشطر مِن دَيْنك. فقال كعبٌ: قد فعلتُ. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُم فاقضِه" (¬1). أخرجه البخاري ومسلم. و [اسم ابن] (¬2) أبي حدردِ عبدُ الله، واسم أبيه سلامة بن عمير. ومثل هذا إشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر - رضي الله عنه - أنْ يتقدم في الصلاة، أخرجاه (¬3). و"طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - على بَعير، كُلما أتى على الركن أشار إليه" (¬4). وفي حديث زينب بنت جحش - رضي الله عنها -[قالت] (¬5): قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فُتح مِن ردم يأجوج ومأجوج مِثل هذه، وعقد تسعين" (¬6). وأخرج البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: "في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلمٌ قائم يُصَلي يسأل الله خيرًا إلا أعطاه". وقال بيده، ووضع أُنْمُلَتَه على بطن الوسطى والخنصر، قُلنا: يُزَهِّدُها) (¬7). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 459)، صحيح مسلم (رقم: 1558). (¬2) كذا في (ق، ظ، ض). لكن في (ص): اسم. وفي (ز): ابن. (¬3) صحيح البخاري (رقم: 649)، صحيح مسلم (رقم: 418). (¬4) صحيح البخاري (رقم: 1534). (¬5) من (ش). (¬6) صحيح البخاري (رقم: 4987). (¬7) صحيح البخاري (رقم: 4988).

وفي الصحيحين: "أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده نحو اليمن، فقال: ألَا إنَّ الإيمان ها هنا" (¬1) الحديث. وفي أبي داود أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل في صلاة الفجر، فأومأ بيده أنْ مكانكم، ثُم جاء ورأسه يقطر، فصَلَّى بهم، فلمَّا قضى الصلاة قال: "إنما أنا بَشَر، وإني كنتُ جُنُبًا" (¬2). وفي أبي داود عن أبي حميد الساعدي أنه - صلى الله عليه وسلم - وضع - يعني في حال التشهد - كفه اليمنى على ركبته اليمنى وكَفَّه اليسرى على ركبته اليُسرى، وأشار بإصبعه (¬3). وفي حديث ابن عمر في "مسلم": "قبض أصابعه كُلها وأشار بالإصبع التي تلي الإبهام" (¬4). وفي رواية: "عقد ثلاثة وخمسين، وأشار بالسبّابة" (¬5). وفي أبي داود عن ابن الزبير: "كان يشير بالسبابة ولا يحركها" (¬6). وفي حديث: "الشهر كذا وكذا وكذا. وأشار بأصابعه العشرة [مرة] (¬7) ثُم مرة وقبض ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 4997)، صحيح مسلم (رقم: 51)، واللفظ لمسلم. (¬2) مسند أحمد (20436)، سنن أبي داود (رقم: 233، 234) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن أبي داود: 233). (¬3) صحيح ابن خزيمة (689)، سنن أبي داود (رقم: 734). قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن أنس داود: 734). (¬4) صحيح مسلم (رقم: 580). (¬5) صحيح مسلم (رقم: 580). (¬6) سنن أبي داود (رقم: 989)، سنن النسائي (1270) وغيرهما، بلفظ: (كان يُشِيرُ بِأصْبعِهِ إذا دَعَا, ولا يحُرِّكُهَا). قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن أبي داود: 989). (¬7) مِن (ق، ش).

في الثالثة الإبهام" (¬1). إشارة إلى أنَّ الشهر يَكون ثلاثين ويَكون تسعة وعشرين. إلى غير ذلك مِن الأحاديث الواردة في الإشارة والإيماء. وفي القرآن العظيم مِن شواهد اعتبار الإشارة قوله تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم: 29] الآية، وقوله تعالى: {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41]. وغير ذلك. وقولي: (أنْ كَعْبًا يَضَعْ) على حذف حرف الجر، أَيْ "بِأن"، وهو متعلق بِـ "صنع"؛ لأنه يعبر به عن الإشارة، سواء: - جعلت "الذي" موصولا حرفيًّا على حد: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69] على رأْي مَن يقول به، فيكون التقدير: (كَصُنْعِه - صلى الله عليه وسلم - في قضية ابن أبي حدرد). أَيْ: إشارته لِكَعبٍ بأنْ يضع شطر دَينه عليه. - أو جعلت "الذي" موصولًا اسْميًّا، أَيْ: (كالذي صنع في ابن أبي حدرد مِن الإشارة لِكَعبٍ بأن يضع). أمَّا "أنْ" فمُخففة مِن الثقيلة، و "كَعْبًا" اسمها وإنْ كان الوجه أنْ يحذف اسمها ويبقى خبرها، لكن جاء هنا لضرورة الشِّعر، كما في قوله: بِأَنك ربيعٌ وغَيْثٌ مريع ... وأنت هناك تكون الثمالا وقولي: (وَهَذَا يَحْتَمِلْ إلْحَاقَهُ بِالْقَوْلِ) أَيْ: والإشارة وإنْ كانت فِعْلًا في الحس لكن يحتمل أنْ تَكون مِن قِسم الأقوال؛ لأنه مُنَزل مَنْزلة القول؛ ولهذا في رواية "مسلم" في حديث ابن أبي حدرد السابق: "فأشار بيده، كأنه يقول النصف" (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (1080). (¬2) صحيح مسلم (رقم: 1558).

ولذلك أَجْرَى النبي - صلى الله عليه وسلم - الإشارة مِن الجارية في حديث الأوضاح مَجْرَى قولها إنَّ اليهودي قتلها (¬1). ومن ذلك قال الفقهاء: إشارة الأخرس بمنزلة قوله في البيع والطلاق ونحو ذلك، لا في الشهادة ونحوها, ولا في إبطال الصلاة كما قُرِّر ذلك في الفقه، وكذا إشارة الناطق في الإقرار أو في إنشاء الطلاق [يُعتبر] (¬2) ويُعمل به كالقول. وهو معنى قولي: (فَهْوَ قَدْ شَمل). أَيْ: شمل الإشارة حُكمًا كما بيَّناه. تنبيه: زاد الأستاذ أبو منصور البغدادي في أقسام السُّنة قِسمين آخَرين: أحدهما: الكتابة، أيْ الكُتب التي أرسلها إلى عُماله وغيرهم بما يريده، ولكن هذا قول؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يكتب بيده، إنما يقول للكاتب: "اكتُب كذا وكذا"، فإذَنْ ما في الكُتب يُعْمل به؛ لِكَوْنه قوله - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: التنبيه على العِلة. ورتب الأقسام: القول، ثُم الفعل، ثم الإشارة، ثم الكتابة، ثم التنبيه على العِلة. وزاد هذا أيضًا الحارث المحاسبي، ولكن هذا أيضًا لا ينبغي أنْ يُعَد زائدًا؛ لأنَّ الفروع التي في معنى الأصل المنصوص على علته ليست منسوبة لحكم عِلتها، وإنما هي منسوبة للقياس. نَعَم، عِلة القياس إمَّا منصوصة أو مستنبطة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 4989). (¬2) كذا في (ت، ش)، لكن في سائر النسخ: يعد.

ص: 211 - وَكُلُّ هَدَا حُجَّةٌ, لِلْعِصْمَةِ ... لَهُ كَذَاكَ الْأَنْبِيَا بِالْحُجَّةِ 212 - مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ لَهُمُ اعْتِصَامُ ... عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ 213 - بَلْ لَيْسَ في أَفْعَالِهِمْ مَكْرُوهُ ... إذ في [الْكَمَالِ] (¬1) لَهُمُ [التَّنْزِيهُ] (¬2) الشرح: أَيْ كُل ما سبق مِن أنواع السُّنة حُجة؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - العصمة ثابتة له ولسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مِن كل ذنب، صغيرة كان أو كبيرة، عمدًا أو سهوًا، في الأحكام وغير الأحكام، فهُم معصومون مُبَرُّءون مِن جميع ذلك؛ لقيام الحجة على ذلك كلا تَقرر في محله في أصول الدين؛ ولأنَّا أمِرنا باتِّباعهم في أفعالهم وآثارهم وسِيَرهم على الإطلاق مِن غير التزام قرينة. والأقوال في المسألة كثيرة منتشرة في الأصول والفقه، والتشاغل بها هنا غير لائق بكمال الأدب ووفور التعظيم، فلنقتصر على معتقدنا في المسألة وهو ما قدَّمناه وفاقًا لجمع مِن أهل السُّنة المحققين، وسواء في ذلك قَبْل النبوة وَبعْدها، فقد تعاضدت الأخبار بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ وُلِدوا ونشأتهم على كمال أوصافهم في توحيدهم وإيمانهم عقلًا أو شرعًا (على الخلاف في ذلك)، لا سيما بعد البعثة فيما ينافي المعجزة. أمًا مِن جهة الاعتقاد فإنه لا خِلاف بين الأُمة في عصمتهم منه، وهذا يستحيل الكذب عليهم في التبليغ والخطأ فيه باتفاقٍ، وهذا في الأحكام والفتوى، والإجماع أيضًا على ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ز، ن 2). لكن في (ض، ق، ش، ن 1، ن 3، ن 4، ن 5): كمال. (¬2) في (ن 2): تنزيه.

عصمتهم فيهما ولو في حال الغضب، بل يستدل (¬1) بشدة غضبه - صلى الله عليه وسلم - على تحريم ذلك الشيء، وكذا في سائر أفعالهم وسِيَرهم. فقدْ قال بِعصمتهم مِن الصغائر والكبائر مُطلقَا الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني، ووافقه إمام الحرمين في "الإرشاد" على منع تصوُّرها منهم وإنْ خالف في موضعٍ في تَصوُّر الصغائر مع أنها لم تقع. وممن نَفَى ذلك كُله عنهم أيضًا القاضي عياض، وأبو بكر بن مجاهد وابن فورك كما نقله محنهما ابن حزم في "الملل والنحل" وقال إنه الذي يدين الله به، واختاره ابنُ بَرهان في "الأوسط"، ونقله في "الوجيز" عن اتفاق المحققين، وحكاه النووي في "زوائد الروضة" عن المحققين. وقال القاضي حسين في أول الشهادات من تعليقه: إنه الصحيح مِن مذهب أصحابنا. وهو قول أبي الفتح الشهرستاني والقاضي أبي محمَّد بن عطية المفسر عند قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 128] , وعبارته: (الذي أقول: إنهم معصومون مِن الجميع، وأن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأتُوب في اليوم وأستغفر سبعين مرَّة" (¬2) إنما هو رجوعه من حالةٍ إلى أرفع منها؛ لتزيد علومُه واطلاعُه على أمر الله، فهو يتوب مِن المنزلة الأولى إلى الأخرى، والتوبة هنا لُغويَّة) (¬3). انتهى قلتُ: فذكر ذلك للتشريع للأُمة وتعليمهم هضم أنفسهم واعتقادهم التقصير، وكُل ما وَرَد مِن لفظ "العصيان" ونحوه في حق أحدٍ منهم فإنه مؤوَّل بذلك وما شابهه، ولبس لنا أنْ ¬

_ (¬1) هنا ينتهي الجزء الساقط من (ت). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 5948) بلفظ: "أكثر من سبعين مرة". (¬3) المحرر الوجيز (1/ 211).

نتكلم به إلَّا في محله مِن قرآن وسُنة. هذا هو الذي أعتقده وأتقرب إلى الله تعالى به، وممن جرى على ذلك شيخنا شيخ الإِسلام أبو حفص البُلقيني - رحمه الله تعالى - وغيرُه مِن شيوخنا، وكذلك الشيخ تقي الدين السبكي وولده في "جمع الجوامع"، والحمد لله. تنبيهات أحدها: اختُلف في معنى "العصمة"، فقيل: أنْ لا يمكنه فِعل المعصية. وقيل: يمكن ولكن تُصرف دواعيهم عنها بما يلهمهم إياه مِن ترغيب وترهيب. وقال التلمساني: "العصمة" عند الأشعرية تهيئة العبد للموافقة مُطلقًا، وذلك راجع إلى خلقه القُدرة على كل طاعة، فإذَنْ العصمة توفيقٌ عامٌّ. وقالت المعتزلة: خلْق ألطاف تقرب إلى الطاعة. ولم يَرُدُّوها للقدرة؛ لأنَّ القدرة عندهم على الشيء صالحة لِضِده. قال القاضي أبو بكر: لا تُطلق "العصمة" في غير الأنبياء والملائكة. أَيْ: إلَّا بقرينة إرادة معناها اللُّغوي وهو السلامة مِن الشيء، ولهذا قال الشافعي [- رضي الله عنه -] (¬1) في "الرسالة": (وأسأله العصمة). وجرى على ذلك كثير من العلماء. والحاصل أنَّ السلامة أَعَم مِن وجوب السلامة، فقد توجد السلامة في غير النبي والملَك اتفاقًا، لا وجوبًا. الثاني: مما يدخل في اعتقاد العصمة مطلقًا امتناع وقوع الذنب نسيانًا كما صرح به الأستاذ أبو إسحاق وكثير مِن الأئمة. وكذا حكى القاضي عياض الإجماع على امتناع السهو ¬

_ (¬1) مِن (ش).

والنسيان في الأقوال البلاغية، وخصَّ الخلاف بالأفعال وأنَّ الأكثرين على الامتناع، وتأوَّلوا الأحاديث الواردة في سهو النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يقصد به ذلك للتشريع، كما في حديث: "ولكن أُنسَّى؛ لأَسُنَّ" (¬1). ومنهم مَن يُعَبر في هذا بأنه تعمد ذلك ليقع النسيان [منه] (¬2) بالفعل، ولكنه خطأ لتصريحه عليه السلام بالنسيان في قوله: "إنما أنا بَشَرٌ أَنْسَى كما تنسون، فإذَا نسيتُ، فذكِّروني" (¬3). ولأنَّ الأفعال العمدية تُبْطل الصلاة، والبيان كافٍ بالقول، فلا ضرورة إلى الفعل. وحيث قِيل بالجواز فالشرط - بالاتفاق - أنْ لا يُقَرُّ أحدُهم عليه فيما طريقُه البلاغ. الثالث: يحوز الإغماء على الأنبياء؛ لأن مرض، ونقل القاضي الحسين في تعليقه في كتاب الصيام عن الداركي أنه يجوز ساعة وساعتين، لا شهرًا وشهرين؛ فإنه يصير كالجنون؛ فلا يجوز. وقولي: (بَلْ لَيْسَ في أَفْعَالِهِم مَكْرُوهُ)، معناه أنَّ المكروه لا يقع أيضًا مِن الأنبياء عليهم السلام؛ لأنَّ التأسِّي بهم مطلوب، فيلزم أنْ يُتَأسَّى بهم فيه؛ فيكون جائزًا. وأيضًا فإنهم أَكْمل الخلْق ولهم أعْلَى الدرجات؛ فلا يلائم أنْ يقع منهم ما نهى الله عنه ولو نهي تنزيه، فإنَّ الشيء الحقير مِن الكبير أمرٌ عظيم. ويُقَرر ذلك بأمر آخر، وهو أنه لا يُتصور أنْ يقع منهم ذلك مع كَوْنه مكروهًا، قال ابن ¬

_ (¬1) ذُكر في (موطأ مالك، رقم: 225) رواية يحيى الليثي بغير إسناد، بلفظ: "إِنَّي لأَنْسَى أو أُنسَّى؛ لأَسُنَّ". قال الألباني: باطل؛ لا أصل له. (السلسلة الضعيفة: 101). (¬2) كذا في (ش). لكن في (ص، ز، ض، ق، ت): فيه. (¬3) صحيح البخاري (رقم: 392)، صحيح مسلم (رقم: 572).

الرفعة في الكلام على الجمع بين الأذان والإقامة: الشيء قد يكون مكروهًا ويَفعله النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لبيان الجواز، ويَكون أفْضل في حقه. وخِلَاف الأَوْلى كالمكروه وإنْ لم يتعرضوا له، وقد قال النووي في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة ومرتين: قال العلماء: إنَّ ذلك كان أفضل في حقه مِن التثليث؛ لبيان التشريع. قلتُ: وما قررتُه أَوْلى مِن هذا؛ لأنه لم يتعين بيان الجواز في الفعل، ففي القول ما يُغْني عنه، وفيه التزام أنْ يَكون للفعل جهتان: مِن جهة التشريع يَكون فاضلًا، ومن جهة أنه مَنهي عنه يَكون مكروهًا. وهذا أيضًا أجْود مِن قول بعضهم: (إنَّ المكروه لا يقع منهم؛ لندرته؛ لأنَّ وقوعه مِن آحاد الناس نادر، فكيف مِن خواص الخلْق)؛ ففيه التزام أنه قد يقع. فقولي: (إذْ في الْكَمَالِ لَهُمُ التنْزِيهُ) أَيْ: في ثبوت الكمال لهم - كما قررناه - التنزيه عن أنْ يقع منهم المكروه، والله أعلم. ص: 214 - فَفِعْلُهُ إنْ كانَ بِالْجِبِلَّهْ ... أَوْ خَصَّهُ اللهُ بِهِ؛ أَجَلَّهْ 215 - أَوْ عُلِمَتْ بِنَصٍّ أَوْ قَرِينَة ... صِفَته وُجُوبًا اوْ قَرِينَهْ 216 - كَذِي امْتِثَالٍ وَبَيَانٍ، تَبِعَا ... أَصْلَهُمَا في الْحُكْمِ حَيْثُ وَقَعَا 217 - [فَوَاضِحَاتٌ] (¬1) ذِي وَإِلَّا يَجِبُ ... وَمثْلُهُ أُمَّتُهُ [تُرَتَّبُ] (¬2) ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ت، ش، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5). لكن في (ص، ظ، ق): واضحان. (¬2) كذا في (ز، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5)، وهو الموافق لِمَا سيأتي في الشرح في (ظ، ق، ت). لكن هنا في النَّظْم في (ض، ظ، ق، ت، ش): مرتب.

218 - لَا في الَّذِي خُصَّ وَلَا الْجِبِلِّي ... فَأَصْلُ شَرْعِهِ عُمُومُ الْكُلِّ الشرح: أيْ إذَا ثبت أنَّ فِعله - صلى الله عليه وسلم - غير محُرَّم (لِعِصْمته) وغير مكروه (لِمَا سبق)، فهو إمَّا واجب أو مندوب أو مباح، لكن على أيِّ شيء يُحْمَل؟ وما حُكم أُمته في التأسِّي بذلك؟ فيه التفصيل المذكور، وحاصلُه أنَّ فِعله - صلى الله عليه وسلم - أقسام: أحدها: الفعل الجبلي، أَيْ: الواقع بجهة جبلَّة البشر مِن أكلٍ وشُرب وقيام وقعود ونحو ذلك. ومنه ما كان مِن تَصَرُّف الأعضاء وحركات الجسد. قال ابن السمعاني: لا يتعلق بذلك أمرٌ ولا نهي عن مخالِفِه، بل هو مباح، فالأمر فيه واضح؛ لأنه ليس مقصودًا به تشريع ولا تُعُبِّدنَا به، فهو كالواقع منه مِن غير قَصْد، ولذلك نُسِب للجبلة وهي الخلقة. قال الجوهري: (ومنه قوله تعالى: {وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 184]. وقرأها الحسن بالضم، والجمع: جبلات) (¬1). انتهى وحينئذ فإنْ تأسَّى به مُتَأسٍّ في ذلك فلا بأس، فقد كان ابن عمر لَمَّا حج يجر خطام ناقته حتى يبركها حيث بركت ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ تبركًا بآثاره الشريفة. وإنْ ترَكه لا رغبة واستنكافًا فلا بأس. نَعَم، نقل القاضي والغزالي في "المنخول" قولًا أنه يندَبُ التأسي به فيه، ونقل الأستاذ وجهين، أحدهما: هذا، وعزاه أكثر المحدثين. والثاني: لا يتبع فيه أصلًا. فتصير الأقوال ثلاثة: مباح، مندوب، ممتنع. ويحكى قول رابع بالوجوب في الجبلي وغيره. [قيل] (¬2): وهو زلَل. فإنِ احتمل الفعل أنْ يَكون جبليًّا وغيره مِن حيث إنه واظب عليه ففيه خلاف، مَنْشَؤه ¬

_ (¬1) الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (4/ 1651). (¬2) في (ص): قبله.

تَعارُضُ الأصل والظاهر، فإنَّ الأصل عدم التشريع، والظاهر في أفعاله التشريع؛ لأنه مبعوث لبيان الشرعيات، فيكونان قولين للشافعي، وقد جاء عنه أنه قال لبعض أصحابه: اسقني قائمًا؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - شربَ قائمًا. قيل: وحكاهما الأستاذ وجهين كما في أصل الجِبلي كما سبق. وحكى إلْكِيا قولًا ثالثًا بالوقف، قال: والذي عليه الأكثر أنه مباح؛ لإجماع الصحابة عليه. وكذا جزم به ابن القطان والماوردي والروياني في كتاب القضاء. وفي "الصحيح" عن [عُبيد] (¬1) بن جريج، قلتُ لابن عمر: "رأيتك تصنع أربعًا". وفيها: "رأيتُك تلبس النعال السبتية". فقال: "رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبَسُها" (¬2). وفي "البخاري" في باب "الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - " حديث ابن عمر: "اتخذ خاتمًا مِن ذهب، فاتخذ الناسُ خواتيم، فنبَذَه وقال: لا ألبسه أبدًا. فنبذ الناس خواتيمهم" (¬3). نَعم، رجَّحوا في الفقه - في مسائل- الندبَ، منها: قال الأكثرون في مسألة ذهابه العيد في طريق ورجوعه في أخرى: إنه يستحَب التأسي به في ذلك. وفي "الحاوي" للماوردي: (هناك الخلاف على وَجْه آخَر، وهو أنَّا إذَا شكَكْنا في فِعل: هل يختص به - صلى الله عليه وسلم -؟ أو يشاركه فيه غيره؟ أنَّ المستحب أنْ يفعلوا ذلك. قال ابن أبي هريرة: لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يَفعل الشيء لمعنى يختص به - صلى الله عليه وسلم - ثُم يصير ذلك سُنة لمن بَعْده، كالاضطباع والرَّمَل. قال: إلَّا أنَّ أبا إسحاق وأبا عَلِي اتفقا على أنَّ ذلك مستحب في وقتنا، وإنما اختلفَا ¬

_ (¬1) كذا في: (ز، ش)، صحيح البخاري (رقم: 164)، صحيح مسلم (رقم: 1187). لكن في (ص، ض، ت، ق): أبي عبيد. وفي (ظ): ابن عبيد. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 164)، صحيح مسلم (رقم: 1187). (¬3) صحيح البخاري (رقم: 5529).

إذا عُلِم أنَّ ذلك لشيء يختص به: هل يكون مستحبًّا في وقتنا؟ أَوْ لَا؟ فعند أبي إسحاق لا يستحب، وعند أبي علي يستحب) (¬1). انتهى وفي "تجريد" أبي حاتم القزويني: اختلف أصحابنا في جلسة الاستراحة أنها مسنونة أَوْ لَا، والصحيحُ الأول. ومنها: ركوب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج (¬2)، وتَطَيُّبه عند إحرامه وعند تَحَلله (¬3)، وكذا دخوله مكة من ثنية كداءٍ (¬4) وغسلُه بِذِي طوى (¬5) ونحو ذلك، والصحيح سُنة في الكل. ومنها: الاضطجاع بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح، سواء أكان له تهجد أَوْ لا، والصحيح سُنة، وغير ذلك. وحاصل ما رجح في ذلك كُله أنه ليس مِن الجبلي، بل مِن الشرعي الذي يُتَأسَّى به فيه. ومَن يرى يحمل المحتمل للجبلي وغيره على أنه جِبِلي فهو داخل في هذا القِسم، فَعَلَى كُل مِن الطريقين ليس قِسمًا خارجًا عن الأمرين؛ فلذلك لم أفْرده في النَّظْم قِسمًا، بل حذفتُه مِن قول صاحب "جمع الجوامع": (وفيما تَرَدَّد بين الجِبِلِّي والشرعي - كالحج راكبًا - ترَدُّد) (¬6). أَيْ: في كَوْنه مِن هذا القِسم أو مِن الآخَر، ففي الحقيقة لم يخرج عن القِسمين، فاعْلَمه. القسم الثاني من أفعاله - صلى الله عليه وسلم -: مما خَصه الله تعالى به عن الأُمة، إجلالًا له، وهو معنى ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (2/ 496). (¬2) صحيح مسلم (رقم: 1218). (¬3) صحيح البخاري (1465)، صحيح مسلم (رقم: 1189). (¬4) صحيح البخاري (رقم: 1501). (¬5) صحيح البخاري (رقم: 1498). (¬6) جمع الجوامع (2/ 129) مع شرح المحلي وحاشية العطار.

قولي: (أَوْ خَصَّهُ اللهُ بِهِ؛ أَجَلَّهْ) فيحتمل جُملة "أَجَلَّه" أنْ يكون حالًا، أيْ: مُجِلًّا له بذلك، ويحتمل الدعاء، أيْ: أَجَلَّه الله، كما يقول: صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم. فإذَا دَلَّ دليلٌ على اختصاصه به، فلا سبيل إلى التأسِّي به فيه؛ لئلَّا يفوت معنى الخصوصية، وذلك كوجوب المشاورة في الأمر، وتخيير نسائه في مقامهن في عصمة نكاحه، وإباحة الوصال في الصوم، وصَفي المغنم، والزيادة في النكاح على أربع، ونحو ذلك مما بَسَطه الفقهاء في كتاب النكاح وغيره وقَسَّموه أقسامًا مشهورة. نَعَم، لإمام الحرمين تَوقُّفٌ في هذا أنه هل يُشرع التأسي به فيه؟ أَوْ لَا؛ لعدم ورود تأسي الصحابة؟ وتابعه على ذلك أبو نصر بن القُشَيري، وأبو عبد الله المازري. قال أبو شامة في [كتابه] (¬1) "المحقق مِن عِلم الأُصول فيما يتعلق بأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ": (ليس لأحد التشبه به في المباح مِن خصائصه، كالزيادة على أربع، ويستحب التشبه به في الواجب عليه، كالضحى، والتنزه عن المحرَّم، كأكل ما له ريح كريه، وطلاق مَن تُكره صحبته). وقال: (هذا [تفضيل] (¬2) حسن لا نزاع فيه لمن فهم الفقه وقواعده). قال: (ولعل الإِمام ومَن وافقه عَنوا بكونه "لم يُنقل عن الصحابة أنهم فعلوه" أَيْ: لمجرد الاقتداء أو التأسي، بل لأدلة منفصلة) (¬3). قلتُ: ولا ينافي هذا كوْنه خصوصية؛ لأنَّ التشبه في أصل الفعل أو في التَّرْك ليس فيه تشبُّه به في وصْف الفعل والترك، فلم يقع مساواة، إلَّا أنْ يُعْتَقَد أنه مِثله في الوجوب ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ش). لكن في (ص، ظ، ض، ق، ت): كتاب. (¬2) كذا في (ص، ق، ت، ض، ش). لكن في (ز، ظ): التفصيل. (¬3) المحقق من علم الأصول (ص 204 - 211).

والتحريم، ولا اعتقاد لذلك؛ ولهذا قَسَّم الماوردي والروياني هذا النوع إلى: - ما أُبيح له وحُظر علينا، كالمناكح. - وإلى ما أُبيح له وكُرِهَ لنا، كالوصال. - وإلى ما وجب عليه ونُدب لنا، كالسواك والوتر والضحى، أَيْ: حيث قُلنا بخصوصية ذلك، ولكنه مُتَعَقَّبٌ كما بيّن ذلك في محله مِن الفقه. الثالث: أنْ يُعْلَم صفة فِعله - صلى الله عليه وسلم - مِن وجوب أو ندب أو إباحة، وهو معنى قولي: (وجوبًا أَوْ قرينهْ). أَيْ: مقارِنه في حَقِّه، وقد سبق انحصار فِعله في الثلاثة، وأنه لا يكون محُرَّمًا (للعصمة) ولا مكروهًا (لكماله أو لندرة المكروه). وأيضًا فالمكروه إذًا فَعَله، يَكون بيانًا لجواز فِعله، فهو ليس مكروهًا في حقه وإنْ كان مكروهًا لنا (على ما سبق مِن نَظَر فيه). وعِلْمُ صفة فِعْله: إمَّا بِنَصٍّ صريح، كأنْ يقول: "هذا الفعل واجبٌ عَلَيَّ"، أو: "مندوب"، أو: "مباح"، أو معنى ذلك بذكر خاصية مِن خواصه، أو نحو ذلك، أو يُسوي بَيْنه وبين فِعل آخَر معلوم الصفة، فيقول: "إنه مِثله"، أو: "مساوٍ له"، أو نحو ذلك. وإمَّا بقرينة تُبَين صفةً مِن الثلاثة: فأمَّا الوجوب: فكالأذان في الصلاة، فقدْ تَقَرر في الشرع أنَّ الأذان والإقامة مِن أمارات الوجوب؛ ولهذا لا يُطْلبان في صلاة عيد ولا كسوف ولا استسقاء ونحوها. قِيل: أو يَكون ممنوعًا لو لم يجب، كالختان، كما نقلوه عن ابن سريج فيه، وقَطْع اليد في السرقة، وزيادة ركوعٍ وقيامٍ في كل مِن ركعتي الكسوف. ونُقِض ذلك بسجود السهو والتلاوة في الصلاة، فإنهما سُنة مع أنهما مبطلان لو لم يشرعَا، وكذا رفع اليدين على التوالي في تكبيرات العيد ونحوه، وكذا زيادة الركوع والقيام في

الخسوف على ما رجحه النووي في "شرح المهذب" مِن كَوْنها إذا صُلِّيت كسائر الصلوات، جاز. فإنْ قيل: قد يجاب بأنَّ الدليل دلَّ على سُنية هذه الأمور، والكلام حيث لا دليل. [قِيل] (¬1): المقصود إنما هو إثبات القاعدة باستقراء الشرع حتى ينزل عليها ما لم يُعْرف، فإذا انتقضت بما دلَّ عليه الدليل، ارتفع ما أُثْبِتَ بالاستقراء. ومن قرائن الوجوب أيضًا أنْ يَكون قضاء لِمَا عُلِم وجوبه، أو نحو ذلك. وأمَّا الندب: فكقصد القُربة مجردًا عن دليل وجوبٍ وقرينته، والدالُّ على ذلك كثير. وأمَّا الإباحة: فكالفعل الذي ظهر بالقرينة أنه لم يُقصد به القُربة. وقولي: (كَذِي امْتِثَالٍ وَبَيَانٍ) إلى آخِره -[أَيْ] (¬2): إنَّ مِن هذا القِسم (وهو ما عُلِمت صفته) أنْ يَكون الفعل امتثالًا لأمرٍ عُلم أنه أمْر إيجابٍ أو ندبٍ، فيكُون هذا الفعل تابعًا لأصله في حُكمه، كالصلاة بيانًا بَعْد قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 110] , وكالقطع مِن الكوع بيانًا لآية السرقة، ونحو ذلك. نَعم، في الوارد بيانًا بالفعل أمْر آخَر، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - يجب عليه بيان الشرع للأُمة بقوله أو فِعله، فإذَا أتَى بالفعل بيانًا، أَتَى بواجبٍ وإنْ كان الفعل بيانًا لأمْر ندبٍ أو إباحةٍ بالنسبة للأُمة، فللفعل حينئذ جهتان: - جهة التشريع، وَصِفَتُه الوجوب. - وجهة ما يتعلق بحكم الأُمة، تابعٌ لِأصله مِن ندبٍ أو إباحةٍ. ¬

_ (¬1) في (ش): قلت. (¬2) كذا في (ق، ت). لكن في (ز، ص، ض، ظ): إلى. وفي (ش): إشارة إلى.

وقد دخل القِسمان في قولي: (تَبِعَا أَصْلَهُمَا). أَيْ سواء [أكان] (¬1) أصلًا واحدًا أو أصلين باعتبارين، فاعْلَم ذلك. قولي: (فواضحاتٌ ذِي) أَيْ: هذه الأقسام السابقة كلها واضحات الحكم، أمَّا الجِبِلِّي فلمْ يُفْعل للتشريع، فهو على الإباحة. وأمَّا الخصائص فكذلك، وكذا ما عُلِمَت صِفتُه، وقد سبق إيضاحُها. وقولي: (وإلَّا يَجِبُ) أَيْ: وإنْ لم يكن فِعل النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا مِن هذه الأقسام المذكورة، فالصحيح مِن المذاهب أنه محمولٌ على الوجوب. وبه قال ابن سريج والإصْطَخْري، وابن خيران، وابن أبي هريرة، وبعض الحنفية، وهو الصحيح عن مالك. قال ابن السمعاني: (وهو الأَشبه بمذهب الشافعي) (¬2). قال: (وهو الصحيح). إلَّا أنه لم يتكلم إلَّا فيما ظهر فيه قَصْد القُربة ولو مجردًا عن أمارة الوجوب. وقِيل: محمول على الندب، وهو عن أكثر الحنفية والمعتزلة والصيرفي والقفال الكبير وإمام الحرمين، وعُزي أيضًا للشافعي، وبالغ أبو شامة في نُصرته. وقيل: للإباحة، ونُقل عن مالك، واختاره إمام الحرمين في "البرهان". وقِيل بالوقف، ونُقل عن جَمْع، ثُم قِيل: بَيْن الكُل. وقيل: بَيْن الوجوب والندب مطلقًا. وقِيل: بينهما إنْ [ظهر] (¬3) قَصْد القُربة. وفَصَّل الآمدي وابن الحاجب بين ما ظهر فيه قَصْد القُربة فَنَدْب، وإلَّا فإباحة، واختاره أبو شامة. ¬

_ (¬1) كذا في (ض، ش). لكن في (ص، ق، ت، ظ): كان. وفي (ز): أكان ذلك. (¬2) قواطع الأدلة (1/ 304). (¬3) في (ز): ظهر فيه.

واستُشكِل بأنه كيف يجري قولٌ بالإباحة مع قَصْد القُربة؟ ! فبَيْن الترجيح واستواء الطرفين تنافٍ. وقد يجاب بأنه بيَّن للأُمة جواز الإقدام عليه بالفعل، فقَصْده القُربة مع كَوْن الفعل مباحًا. قلتُ: وفيه نَظَر؛ لأنَّ الكلام في قَصْد القُربة بالفعل مِن حيث هو, لا مِن حيث كَوْنه بيانًا للشرع. وقولي: (ومِثْلُهُ أُمَّتُهُ [تُرَتَّبُ]) (¬1) إلى آخِره - أَيْ: ما سبق في حُكم فِعله - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة إليه، وأمَّا بالنسبة للأُمة فحُكمهم مُرَتَّبٌ على حُكمه إلَّا فيما يُستثنى. فإنْ كان الفعل واجبًا عليه، فَهُم كذلك، أو مندوبًا أو مباحًا فكذلك؛ للآيات والأحاديث الواردة بإطلاق الأمر بالاتِّباع والتأسِّي عمومًا وخصوصًا (نحو: "صَلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي" (¬2). أخرجه الشيخان، وقوله يوم النحر وهو على راحلته: "خُذوا عني مناسككم؛ فإني لا أدري لَعَلِّي لا أَحج بَعْد حجَّتي هذه" (¬3). رواه مسلم، وغير ذلك مما لا ينحصر)، ولمَا أَشَرْتُ إليه مِن المعنى (وهو عموم شَرْعِه لكل أحدٍ) بِقَولي: (فَأَصْلُ شَرْعِهِ عُمُومُ الْكُلِّ). وقولي: (لَا في الَّذِي خُصَّ وَلَا الْجِبِلِّي) استثناءٌ مِن قولي: (ومثْلُهُ أُمَّته [تُرَتَّبُ]) (¬4). أَيْ: يُستثنى مِن اتِّباع أُمته له في أفعاله أمران: ما كان جِبِلِّيًّا، وما كان مِن خصائصه. وقد سبق ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ظ، ت، ق). لكن في (ض، ش): مرتب. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 6819). (¬3) صحيح مسلم (رقم: 1297). (¬4) كذا في (ز، ص، ظ، ت، ق، ش).

بيان التأسِّي فيهما، والخلاف في ذلك واضحًا، فما سِوَى هذين أُمَّته مِثْله فيه. ومن ذلك ما كان مِن أفعاله بيانًا، فإنه وإنْ وجب عليه مِن حيث التبيان فقدْ يكون مندوبًا أو مباحًا باعتبار أَصْله الذي هو مثال له. وأُمته مِثله مِن جهة ذلك الأصل، لا مِن جهة تشريعه كما سبق تقريره. نَعَم، يجب على العلماء بيان شَرْعِه بأَيِّ طريقٍ كان، سواء بالقول أو بالفعل أو نحو ذلك، فربما كان في فِعل المُبَيِّن منهم الجهتان المذكورتان. وفيما عُلِمَت صِفتُه مذاهب: أصحُّها ما قُلناه: إنَّ أُمَّته مِثْله، إلَّا أنْ يدل دليلٌ على تخصيصه. وثانيها: قول القاضي: إنه كالذي لا تُعْلم صفته في حقهم حتى يجري فيه قولٌ بالندب وقولٌ بالإباحة وقولٌ بالوقف. وثالثها: أنهم مِثله فيه في العبادات، وهو قول أبي علي ابن خَلَّاد مِن المعتزلة. ورابعها: الوقف، قاله الرازي. قال أبو شامة: (الذي أقوله أنا: إذَا عَلِمنا أنَّ فِعله واجبٌ، فإنْ كان عليه وعلينا فلا حاجة للاستدلال بفعله على وجوبه على الأُمة؛ لوجود دليل العموم لنا. وإنْ كان خاصًّا به فهو القِسم [السابق] (¬1) في خصائصه. فإنْ شَككنا فلا دليل على الوجوب علينا إلَّا أدلة القائلين بالوجوب فيما لم تُعْلَم صفته، فلا حاجة لفرض هذا القِسم وهو ما عُلِمت صفته). قال: (وإنْ عَلِمْنا أنه أَوْقَعه ندبًا فهو على اختيارنا الندب في مجهول الصفة، أو مباحًا فهو الذي لم يظهر فيه قَصْد القُربة) (¬2). انتهى ¬

_ (¬1) في (ص): السابق وهو ما عُلمت صفته. (¬2) المحقق من علم الأصول (ص 225 - 226).

وفيما لم تُعْلم صفته المذاهب السابقة. نَعم، حيث قُلنا بالوجوب، فَقِيل: مُدْركه العقل. وقيل: السمع. وهو ما أَوْرَده ابن السمعاني وإلْكِيا الطبري، لكنه قال: إنَّ القائل بالعقل يقول: دَلَّ معه السمع أيضًا. ومِن أغرب المذاهب أنه على الحظر على معنى تحريم اتِّباع غَيْره له فيه إلَّا بدليل يدل على ذلك. ووهموا مَن حمل هذا المذهب على أنه في نفْسه حرام، وأنه بِناءٌ على جواز المعاصي على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - كما نُقِل عن الغزالي والاَمدي والهندي رَدُّ ذلك وجعلوا ذلك مِن سُوءِ فهمهم هذا المذهب، فقد صرح القاضي أبو الطيب وابن القشيري بأنَّ هذا المذهب يقول بتحريم اتِّباعه، وهو بناء على أصلهم في الأحكام قَبْل الشرع أنها على الحظر. وقد ذكرتُ هذا المذهب لئلَّا يُغْترَّ به وإنْ كان الأدبُ تركه بالكُلية، والله أعلم. ص: 219 - وَبيْنَ فِعْلَيْنِ تَعَارُضٌ مُنِعْ ... مَا لَمْ يَكُنْ دَلِيلُ [تَكْرارٍ] (¬1) وُضِعْ الشرح: إذا تَقرر انحصار السُّنة في القول والفعل، فاعْلَم أنه ربما تعارَض دليلان مِن ذلك، إما قولان أو فِعلان أو قَوْل وفعل. فأما القولان فسيأتي حُكم تعارضهما في الباب الثالث وهو التعادل والتراجيح. وأما تَعارُض الفعلين أو الفعل والقول فنذكره هنا؛ لتعلقه بأحكام الفعل المقصود بالأصل. ومعنى التعارض بين الأمرين: تَقابُلهما على وجهٍ يمنع كل واحد منهما مُقْتضَى الآخَر. فالمشهور أنَّ الفعلين لا يقع بينهما تَعارُض حتى يكون أحدهما ناسخًا للآخَر أو مخصصًا؛ ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ص، ض، ظ، ش، ت، ق). لكن في (ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5): تكرير.

لجواز أنْ يَكون حُكم أحد الفعلين في وقتٍ مغايرًا لحكمه في وقتِ الآخر؛ لأنه لا عموم في الفعل في ذاته ولا في وقته. نَعَم، إذًا كان مع الفعل الأول قول يقتضي وجوب تَكرره، جاز أنْ يعارضه الفعل الثاني. قال إلْكِيا: وعلى مثله بنَى الشافعي مذهبه في سجود السهو قَبل السلام وبعده، وقال: إنَّ آخر فِعليه قبل السلام. قلتُ: والدليل الدال على تَكرر الأول - على ما قيل - هو ما ورد مِن الأمر بسجود السهو حيث وجد مقتضيه، لكن فيه نظر؛ فإنه لا بُدَّ أنْ يَكون في النص ما يدل على أنه بعد السلام، وليس فيه تَصْرِيح بشيء، وإنما ينبغي أنْ يُمَثَّل له بما سيأتي في صلاة الخوف، على أنَّ في أصل المسألة نظرًا أيضًا؛ لأنَّ التعارض في الحقيقة إنما هو بين الثاني وبين القول المقتضي لتكرار الأول، لا بين فعلين بالذات. وهذه الطريقة هي طريقة الإِمام الرازي تبعًا للقاضي والغزالي، وعليها الجمهور. وقال إمام الحرمين: (إنَّ الفعلين قد يتعارضان، والمتأخِّر منهما ناسِخ). قال: (وفي كلام الشافعي صَغْوٌ إليه؛ فإنَّ هذا هو مُدْركه في تقديم رواية خَوَّات بن جُبير في صلاة ذات الرقاع على رواية ابن عمر - رضي الله عنهما -) (¬1). انتهى. ومراده ما بين الحديثين مِن التخالف المشهور في محله من الفقه والحديث، وقد أوضحته في "شرح العمدة". وممن وافق الإِمام على ذلك ابن القشيري، وقال: إنَّ الشافعي [قَدَّر] (¬2) ما رواه ابن عمر في غزوة سابقة. ¬

_ (¬1) البرهان في أصول الفقه (1/ 148). (¬2) كذا في (ز، ش)، لكن في سائر النسخ: قرر.

قال: (وله مَسْلك آخَر، وهو تسليم كونهما في غزوة واحدة، ولكن رواية خَوَّاتٍ أقربهما للأصول بِقِلَّة الحركة وقُربها للخشوع). انتهى والذي في "الرسالة" إنما هو تقديم رواية خوات؛ لأنه متقدم الصحبة والسن - بعد أنْ رجحها [قَبْل] (¬1)؛ لموافقة ظاهر القرآن، ولأنها أقوى في مكايدة العدو. على أنَّ الذي قاله القاضي وقال إمام الحرمين: (إنه ظاهر كلام الأصوليين)، وقال إلْكِيا: (إنه الحق الذي لا يجوز غيره)، والغزالي: (إنَّ الفقهاء اتفقوا عليه) - صحة الفعلين، وإنما اختلفوا في الأفضل. ولو سُلِّم أنَّ الخلاف في الجواز، فلقائل أنْ يقول: إنَّ الفعل الأول دل ظاهرُ القرآن على تكرره، وهو عموم قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102] الآية، فليس مِن تَعارُض مجرد الفعلين كما سبق تقريره. قلتُ: لكن هذا على تقرير أنه موافق لحديث ابن عمر، أمَّا إذا جُعل موافقًا لحديث خوّات وجعلناه متأخرًا، فلا. على أنَّ تَعارض الفعلين قد حكى فيه ابن العربي المالكي في كتابه "المحصول" ثلاثة أقوال: التخييرَ، تقديمَ المتأخر، طلبَ الترجيح. وقال القرطبي: مَن قال: "إنَّ الفعل محمول على الوجوب" قال: الناسخ متأخِّر إنْ علِم التاريخ, وإنْ جهِل فالترجيح، وإنْ قُلنا: "لا يدل على الوجوب"، فهُما متعارضان كالقولين. والقول بأن المتأخر ناسخ نقله الغزالي في "المنخول" عن مجاهد. وفصَّل ابن القشيري بين الفعل الوارد بيانًا وغيره، قال: فالتعارض في الوارد بيانًا ¬

_ (¬1) في جميع النُّسخ: (وقيل). والتصويب من "البحر المحيط, 3/ 263": (وَصَرَّحَ قَبْلَهُ بِأَنَّهُ رَجَّحَهَا، لمُوَافَقَةِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ).

كالقولين، فينسخ آخِرُهما أولَهما؛ لأنَّ فِعل البيان كالقول. والله أعلم. ص: 220 - والْفِعْلُ وَالْقَوْلُ إذَا تَعَارَضَا ... وَلتَكَرُّرٍ دَلِيلٌ اقْتَضَى 221 - فَإِنْ يَكُنْ خُصَّ بِقَوْلٍ، نَسَخَا ... ثانِيهِمَا، وَالْجَهْلُ فِيمَا أُرِّخَا 222 - وَقْفٌ، وَإِنْ خُصَّ بِنَا [فَيَسْلَمَا] ... (¬1) وَ [الثَّانِ] (¬2) نَاسِخٌ لنَا إِنْ لَزِمَا 223 - فِيهِ تَأَسٍّ، وَلجَهْلٍ يُعْمَلُ ... بِالْقَوْلِ، وَالْقَوْلُ إِذَا مَا يَشْمَلُ 224 - كَمَا مَضَى في السَّبْقِ أَوْ أَنْ يُجْهَلَا ... نَعَمْ، إذَا الظَّاهِرُ لَفْظًا شمِلَا 225 - يُخَصُّ بِالْفِعْلِ عُمُومُهُ، وَذَا ... يُغْنِي عَنِ الذّكْرِ [بِبَابِهِ] (¬3)، انْبِذَا الشرح: هذا بيان حُكم تَعارض القول والفعل، وقيدتُ الفعل بكونه دَلَّ على تَكرره دليل، وإلَّا فلا تَعارض بينه وبين متأخِّر عنه، وإنْ أمكن معارضته لقولٍ سابقٍ فليس حينئذ قيدًا، لكن لَمَّا كان الغرض هو تقسيم شامل للمتقدم والمتأخر أخذتُ ذلك في مورد التقسيم؛ للاحتياج إليه في بعض الأقسام، والذي ليس يحتاج إليه فيه واضح لا يحتاج إلى التنبيه عليه فيه. والحاصل أنَّ لذلك ثلاثة أحوال باعتبار أنَّ القول إما أنْ يكون خاصًّا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو خاصا بالأُمة، أو عامًّا له - صلى الله عليه وسلم - ولهم. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ض، ت، ش، ظ، ق). لكن في سائر النُّسَخ: فَسَلِمَا. (¬2) كذا في (ق، ش، ن). لكن في (ز، ض، ص، ظ): الثاني. (¬3) كذا في (ز، ش، ن 5) وهو الموافق للشرح. لكن في سائر النُّسَخ: بيانه.

فالأول: أنْ يَكون خاصًّا به - صلى الله عليه وسلم -: فإنْ عُلم المتأخر مِن القول أو الفعل فهو ناسخ للمتقدم، كما لو قال: "صوم عاشوراء واجب عليَّ" ونُقل أنه أفطر فيه قَبْل تاريخ القول أو بعده، ولا تَعارض بينهما في حق الأُمة؛ لعدم تناول القول إياهم. وإنْ جُهل المتأخر منهما، فأقوال: أحدها: يُعمل بالقول؛ لقوته بالصيغة، وأنه حُجة بنفسه. وهذا قول الجمهور، وظاهر كلام ابن بَرهان أنه المذهب، وجزم به إلْكِيا والأستاذ أبو منصور، وصححه الشيخُ في "اللمع" والإمامُ في "المحصول" والآمديُّ في "الإحكام". الثاق: تقديم الفعل؛ لعدم الاحتمال فيه. ونُقل عن اختيار القاضي أبي الطيب. والثالث: أنهما سيَّان، لا يرجح أحدهما إلا بدليل. ونقله ابن القشيري عن القاضي أبي بكر ونصره، واختاره ابن السمعاني، إلَّا أنَّ الشيخ في "اللمع" وابن القشيري والغزالي جعلوا محل الخلاف في القول والفعل إذا كانا بيانًا لِمُجْمَل، لا مبتدأَيْن، وعكسه القرطبي. الثاني: أن يكون القول خاصًّا بنا: فهو - صلى الله عليه وسلم - سالم مِن المعارضة في حقه؛ لعدم تناول القول له، وأمَّا في حق الأُمة فإنْ دل دليل على وجوب التأسي به في ذلك الفعل، فالمتأخر أيضًا ناسخ للمتقدم قولًا كان أو فعلًا، كما لو قال في المثال المتقدم: "صوم يوم عاشوراء واجب عليكم دُوني". أمَّا إذا لم يدل دليل على وجوب التأسي، فلا تَعارض بالنسبة إلينا. فإنْ جُهل التاريخ, جاءت الأقوال الثلاثة، لكن الأرجح ما صححه ابن الحاجب وغيره هنا: القول، وفيما إذا كان القول خاصًّا به: الوقف؛ لاحتياجنا في التعبد للقول أو الفعل، وأما في حقه فأمر انقضى، والقول أقوى كما سبق.

الثالث: أن يكون القول عامًّا لنا وله - صلى الله عليه وسلم -: كما لو قال في المثال السابق: "صوم عاشوراء علَيَّ وعليكم" أو نحو ذلك، فهذا يُعْلم حُكمه مما سبق في القسمين قبْله. فإنْ تَقدم القولُ، نَسخَه الفعلُ في حقنا وحقه؛ لأنَّ الفرض أنه دل دليل على وجوب التأسي. وإنْ تَقدم الفعلُ، نَسخَه القولُ؛ لأن الفرض أنَّ الدليل دل على تكرر مُقتضَى الفعل. وإنْ جُهل، جاءت الأقوال فيه وفينا، ورجحان القول بالوقف فيه وبالقول فينا. ومما مُثِّل به هذا القِسم قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن أبي سلمة: "كُلْ مما يليك" (¬1)، والخطاب له ولغيره، والنبي - صلى الله عليه وسلم - داخلٌ على قاعدة عموم حُكمه كما سيأتي في باب العموم. وصَحَّ أنه هو "كان يتبع الدباء في جوانب الصحفة" (¬2) ولا يُدْرَى أيهما السابق، ونحوه نهيه عن الشُّرب قائمًا وعن الاستلقاء ونحو ذلك مع ثبوت أنه فَعَله. قلتُ: لكن سيأتي أنَّ محل ذلك حيث كان دخوله - صلى الله عليه وسلم - بالنص لا بظهور العموم فيه، وإلا فَيُخَص به مطلقًا تَقدم أو تَأخر أو جُهل، فليكن هذا منه. وهو ما أشرفُ إليه في النَّظْم بقولي: (نَعَم، إذَا الظَّاهِرُ لَفْظًا شَمِلَا) إلى آخره، أي: إن ما سبق فيما إذا كان الحكم لنا وله مع كونه منصوصًا عليه فيه كما مَثَّلنا في "صوم عاشوراء علَيَّ وعليكم"، أمَّا إذا كان دخوله بطريق العموم كقوله: "صومه واجبٌ" أو قال: "على الناس" أو نحو ذلك وقُلنا: المتكلم داخل في عموم كلامه، فيكون الفعل مخصِّصًا له من العموم، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 5061)، صحيح مسلم (رقم: 2022). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 1986)، صحيح مسلم (رقم: 2041). واللفظ فيهما: (يَتَتبَعُ الدُّبَّاءَ من حَوَالي الصحْفَةِ).

ولا نَسْخ حينئذ، إلَّا أنْ يكون العام سابقًا، وقد دخل وقته ثُم جاء الفعل المخالف له كما سيأتي تقريره في باب العموم. والقول بأنه في الظهور مخصص في غير ما ذكرنا يحكَى عن الشافعي رحمه الله، وأنه جعل منه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن قرن حجًّا إلى عُمرة، فليطف لهما طوافًا واحدًا" (¬1). وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - "أنه طاف طوافين" (¬2). وجعل بعضهم منه نهيَه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة بعد العصر (¬3) ثُم صلَّى الركعتين بعدها قضاءً لسُنة الظهر (¬4) ومداومته عليهما بعد ذلك، ونهيَه عن استقبال القبلة واستدبارها عند الحاجة (¬5) ثُم فعل ذلك في بيت حفصة (¬6) - رضي الله عنها -. ¬

_ (¬1) إنما وجدته في سنن الترمذي (947) وغيره من فِعله - صلى الله عليه وسلم - بلفظ: "أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَرَنَ الحجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا". قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن الترمذي: 947). (¬2) سنن الدارقطني (رقم: 131) من طريق عيسى بن عبد الله، وقال الدارقطني فيه: وهو متروك الحديث. (¬3) صحيح البخاري (563)، صحيح مسلم (825). ولفظ البخاري: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاتين: بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس). (¬4) صحيح البخاري (1176)، صحيح مسلم (834)، ولفظ البخاري: (يا بنت أبي أمية، سألتِ عن الركعتين بعد العصر، وإنه أتاني ناس مِن عبد القيس، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهُما هاتان). (¬5) صحيح البخاري (386)، صحيح مسلم (264) بلفظ: (إذا أتيتم الغائط، فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها, ولكن شرقوا أو غربوا). (¬6) صحيح مسلم (266) عن ابن عمر قال: (رقيت على بيت أختي حفصة، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعدًا لحاجته مستقبل الشام مستدبر القِبلة).

نَعم، اختلف في مثل ذلك: هل يكون تخصيصًا بالفعل في مثل الحال التي فعل فيها فيكون عامًّا في الأُمة؛ مِن حيث إنَّ الفرض وجوب التأسي، فكل ما له سبب يُفْعل وقت الكراهة؛ لذلك، والاستقبال والاستدبار في البنيان كذلك؟ أو يكون مِن خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا تكون الأُمة مِثله؟ فيه قولان: الأول قول الجمهور، والثاني نقله صاحب "المصادر" عن عبد الجبار، وربما نقل عن الشافعي أيضًا، وفي المسألة قول ثالث بالتوقف وطلب الترجيح. واعْلَم أنَّ لتعارض القول مع الفعل أحوالًا كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية، ويؤخذ من طريقتَي الإِمام والآمدي وصولها إلى ستين قِسمًا، ففي "المحصول" أن المتأخر من القول أو الفعل إما أنْ يعقب الأول أو يتراخى عنه، فهي أربعة، كل منها إما مع كون القول خاصًّا به - صلى الله عليه وسلم - أو بنا، أو عامًّا لنا وله، صارت اثني عشر، ومع الجهل وخصوص القول أو عمومه ثلاثة، [تصير] (¬1) خمسة عشر. وفي "إحكام" الآمدي انقسام الفعل إلى أربعة؛ باعتبار أنه إما أنْ يدل دليل على تكرره وتأَسِّي الأُمة، أوْ لا، أو يدل على التكرر دُون التأسي، أو عكسه (¬2). فإذا ضربت هذه الأربعة في الخمسة عشر، بلغت ستين. وينجر إلى ذلك أنها إما في محل بيان مُجْمَل أو مبتدأ، وفيما إذا كان القول عامًّا إما بالنصوصية أو بالظهور، وأنه إما أنْ يمكن [الجمع بينهما بطريق آخَر] (¬3)، بأنْ يحمل الفعل ¬

_ (¬1) في (ز): فتصير. (¬2) الإحكام للآمدي (1/ 247). (¬3) كذا في (من). لكن في سائر النُّسخ: الجمع بطريق آخر بينهما.

على الندب والقول على الوجوب أو على الإباحة، أو نحو ذلك. فإذا ضربت هذه الأحوال فيما سبق، بلغ ذلك كثيرًا، فاعْلَمه. قولي: (وَالجهْلُ فِيمَا أُرِّخَا وَقْفٌ). أي؛ وحُكم الجهل وقف، ففيه حذف مضاف؛ لدلالة معنى الكلام عليه. وقولي: (وَذَا يُغْنِي عَنِ الذِّكْرِ). أيْ: إنَّ بيان حُكم تَعارض الفعلين أو الفعل والقول هنا يُغْني عن إعادته في بابه، وهو باب التعادل والتراجيح، والله أعلم. ص: 226 - وَلَيْسَ في الْقُرْآنِ أَوْ في السُّنَّةِ ... لَفْظٌ بِلَا مَعْنًى وَلَا ذُو خُفْيَةِ 227 - بِلَا دَلِيلٍ، وَالَّذِي أُجْمِلَ مِنْ ... مُكَلَّفٍ بِهِ بَيَانُهُ زُكِن الشرح: لَمَّا انتهى الكلام في كل مِن الدليلين الأولين (وهُما الكتاب والسُّنة) ذكرتُ مسائل ثلاثةً تتعلق بهما معًا: الأولى: لا يجوز أنْ يَرِد في القرآن العظيم ما ليس له معنى أصلًا، وكذا السُّنة كما قال في "المحصول"، إذْ عبارته: (لا يجوز أنْ يتكلم الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بشيء ولا يَعْني به شيئًا، خِلَافًا للحشوية) (¬1). قال الأصفهاني في شرحه: (ولم يتعرض لذلك فيها غيره) (¬2). قلتُ: سيأتي مِن نَص الشافعي ما يدل عليه. ¬

_ (¬1) المحصول (1/ 385). (¬2) الكاشف عن المحصول (2/ 467).

والدليل على منع ذلك كيف كان أنه مهملٌ هذيان، ومِثله يُصان عنه كلام العقلاء، فكيف لا يُصان عنه كلام المعصوم؟ ! و"الحَشْوية" بسكون الشين؛ لأنه إما مِن الحشو؛ لأنهم يقولون بوجود الحشو الذي لا مَعْنى له في [الكلام] (¬1) المعصوم، أو لقولهم بالتجسيم ونحو ذلك. ويقال أيضًا بالفتح؛ لِمَا يُروَى أنَّ الحسَن البصري لَمَّا تكلموا بالسقط عنده، قال: رُدُّوا هؤلاء إلى حَشَا الحلقة. ويقال فيهم غير ذلك. واعْلم أنَّ هنا مقاماتٍ أربعةً: - أنْ يَكون اللفظ بلا معنى. - أوله معنى لا يُفهِمه. - أو يُفْهِمه ولكن أُريدَ غيُره. - أو يذكر اللفظ ولو كان له معنى وُضع له، ولكن لم يُرد به معنى أصلًا، لا ما وُضع له، ولا غيْره. فالأول: لا يُظَن بِعاقل أنْ يقوله. أمَّا الثاني: فهو الخلاف المشهور في المتشابه في قوله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] إلى قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7]: هل الوقفُ على {إِلَّا اللَّهُ} وأنه تعالى يختص بِعلمه، وأهل العِلم مأمورون بالإيمان به ¬

_ (¬1) في (ز): كلام.

على مُراد الله تعالى؟ أو أنَّ الراسخين في العلم أيضًا يَعلمونه، بخلاف غيرهم؟ وليس مِن شرط [المفيد] (¬1) في الخطاب فَهْم كل أحدٍ، فلذلك يخاطَب العقلاء بما لا يفهم الصبيان ولا العوام بالنسبة للعارفين، وقد قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]. وسيأتي في الكلام على اللغة تفسير "المتشابه"، والفريقان متفقان على وقوعه، ومَثَّلوه بآيات الصفات، ومنهم مَن [أَوَّلها] (¬2) بالمعنى اللائق، ومنهم من لا يُؤَوِّل مع اعتقاد التنزيه عما لا يليق به. ومنه الحروف المقطعة في أوائل السور، فمِن قائل: إنها استأثر الله تعالى بعلم معناها. ومن قائل: لها معنى. وفي تعيينه أقوال كثيرة تزيد على ثلاثين قولًا، منها أنها أسماء السور، أو أن الله ذكرها لجمع دواعي العرب إلى الاستماع؛ لأنَّ بمخالفة عاداتهم تستيقظ قلوبهم من الغفلة، فيحصل الإصغاء، أو أنها كناية عن سائر حروف المعجم. أو أنَّ كل حرفٍ مِن اسْم، الكاف مِن "كافي"، والهاء من "هادي"، والعين مِن "عليم"، والصاد مِن "صادق". أو أنها إبطال لحساب اليهود، فإنهم كانوا يحسبون هذه الأحرف بحساب الجُمل، ويقولون: إنَّ منتهى دولة الإِسلام كذا. فأنزلت هذه الأحرف، لتخبيط الحساب عليهم. أو ذُكرت جريًا على عادة العرب في ذكر [النسيب] (¬3) أوائل الخطب والقصائد، أو غير ذلك. ¬

_ (¬1) في (ص): القيد. (¬2) في (ز، من): يؤولها. (¬3) في (ظ): التهشيه.

والثالث: يمكن أنه أريد به "المتشابه" (¬1)، فيأتي فيه ما سبق. الرابع: ما ظاهر كلام "المحصول" أنَّ خِلاف الحشوية فيه، إلا أنه استدل بما يقتضي أنَّ الخلاف في التكلم بما لا يفيد، وبينهما فَرْق؛ فإنه يمكن ألَّا يُعْنَى به شيء وهو مفيد في نفسه. ونازعه أيضًا بعضهم بأنَّا لا نَعلم في الأُمة مَن يقول: إنَّ الله تعالى يتكلم بكلام لا يَعني به شيئًا. وإنما النزاع في أنه هل يُنزل ما لا يُفهم معناه؟ وهو الخلاف المشهور في آيات الصفات، ولا معنى لنقله عن الحشوية. قلتُ: سبق الإمامَ إلى ذلك عبدُ الجبار وأبو الحسين في "المعتمد". ومُدْرَك المانع التحسينُ والتقبيحُ العقليان، وفي الأقوال السابقة في الحروف المقطعة ما يوافق عبارة الإِمام. وحكى ابن برهان الخلاف في الوجهين في أنَّ كلام الله تعالى هل يشتمل على ما لا يُفهم معناه؟ ثم قال: والحقُّ التفصيل بين الخطاب الذي تعلق به تكليف فلا يجوز أنْ يكون غير مفهوم المعنى، أوْ لا يتعلق به تكليف فيجوز. تنبيه: هل يجوز أنْ يقال: في القرآن أو السُّنة زائد؟ كالحروف الزائدة في نحو: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ} [آل عمران: 62] , {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} [مريم: 98] , {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123] , {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] , وأشباه ذلك، وربما عُدي للأسماء في نحو: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] , {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11] على رأيٍ. إنْ فُسِّر الزائد بأنه الذي لا معنى له أصلًا، فلا يجوز إطلاق ذلك، لِمَا سبق مِن صَوْنه ¬

_ (¬1) في (ز) وضع قبل هذه الكلمة علامة وكتب في الهامش: أحد. وكأن اللفظ هكذا: أحد المتشابه.

عن المهمل، وأيضًا فيفيد التأكيد، فلا ينبغي أنْ يُسمى زائدًا. وإنْ أريد بالزائد ما لا يختل معنى الكلام بدونه، لا الذي لا فائدة له أصلًا، فالأكثرون على جواز إطلاقه؛ لأنه على لُغة العرب، ولُغة العرب يقال فيها ذلك، فلا منع، وأيضًا فإنما هي في مقابلة المحذوفات اختصارًا، فسميت زائدةً بهذا الاعتبار. ومنع مِن ذلك ابن دَرَسْتَوَيْه وغيره، ولا شك أنَّ الأدب عدم إطلاق نحو هذا. المسألة الثانية: أنْ يُطلَق لفظٌ له معنيان: ظاهر وخفي، ويُراد الخفي مِن غير دليل يدل عليه، فلا يجوز ذلك، خِلافًا للمرجئة؛ لأنَّ اللفظ بالنسبة إلى غير الظاهر كالمهمل؛ فامتنع. وفرَّعها أبو الحسين على قاعدة التقبيح والتحسين العقليين. نعم، محل الخلاف في آيات الوعيد وأحاديثه، لا في الأوامر والنواهي. واحترز بِقَيْد "عدم الدليل" عن نحو ورود العام وتأخُّر المخَصِّص له. وعبارة الشافعي في "الرسالة": (فكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ظاهره) (¬1). و"المرجئة" بالهمز طائفة مِن القدرية؛ لأنهم يُرجئون الأعمال عن الإيمان, مِن "الإرجاء" وهو التأخير. وربما قيل: "المرجيّة" بتشديد الياء بلا همز. الثالثة: اختلف في بقاء اللفظ المجمَل في القرآن أو السُّنة بلا بيان إلى ما بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ثلاثة أقوال: المنع, لأن الله تعالى قد أكمل الدين، فلا يبقى شيء بلا بيان. ¬

_ (¬1) الرسالة (ص 341).

الإجماع

والجواز؛ لأن الإجمال قد يُقصد لحكمةٍ. وثالثها: تفصيل إمام الحرمين وابن القشيري، أنه يجوز فيما لا تكليف فيه، ويمتنع فيما فيه تكليف؛ حَذَرًا مِن تكليف ما لا يُطاق. وهذا القول هو الراجح، وهو ما اقتصرتُ عليه في النَّظْم بِقولي: (وَالَّذِي المجمل مِنْ) إلى آخِره، أَيْ: هو المجمل، فحذف صدر الصلة من "الذي"؛ لِطولها وعدم صلاحية المذكور صلة. ولو قُرئ: (وَالَّذِي أُجْمِلَ) لم يمتنع، وحينئذ فلا [يحتاج] (¬1) إلى هذا التقدير، بل تكون الصلة جملة فعلية، لكن التعبير الأول أصرح في ذِكر المسألة المقصودة. ومعنى "زكن": عُلِم، وهو بالزاي المعجمة مِن: زكنتُ الشيء أزكنه (بالضم)، أيْ: عَلِمْتُه، والمراد أنَّ المكَلَّف به لا بُدَّ أنْ يَكون بيانه قد عُلِم، بخلاف غيره، والله أعلم. ص: 228 - وَالثَّالِثُ: "الْإجْمَاعُ" الِاتِّفَاقُ ... مِنَ الَّذِينَ اجْتَهَدُوا وَفَاقُوا 229 - مِنْ أُمَّةِ النَّبِيِّ بَعْدَ مَوْتهِ ... في أَيِّ عَصْرٍ كَانَ مَعْ ثبوتهِ 230 - عَلَى الَّذِي رَأَوْا وَلَوْ في دنيَوِي ... فَلَا اعْتِبَارَ بِعَوَامٍ تَلْتَوِي الشرح: لَمَّا فرغ الكلام مِن الأصلين الأولين وهُما الكتاب والسُّنة، شرعتُ في بيان الثالث وهو"الإجماع"، ولم يخالِف في حُجِّيته وكوْنه مِن الأدلة إلا النَّظَّامُ وبعضُ الخوارج، وكذا الشيعة، فإنهم وإنْ سَلَّموا حُجيته فقدْ شرطوا فيه الإِمام المعصوم كما سيأتي، ففي الحقيقة الحجة في المعصوم، لا في الإجماع. وبالجملة فلا التفات إلى شيء مِن ذلك مع قيام ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ش). وفي (ق): محوج. وفي هامش (ت): لعله "محوج". وفي سائر النُّسَخ: يجوز.

الأدلة، وسنشير إلى شيء منها. و"الإجماع" لُغَةً: العزم، قال الله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس: 71]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا صيام لمن لم يُجْمِع الصيام مِن الليل" (¬1). ويُطلق أيضًا لُغةً على الاتفاق، خلافًا لقوم كما حكاه القاضي عبد الوهاب، وجزم به إلْكِيا. فَعَلَى الصحيح يقال: "أجمعَ القوم" صاروا ذَوِي جمع. قال الفارسي: كما يقال: "ألبن وأتمر" صار ذا لبن وتمر. وأَخْذُ الاصطلاحي مِن هذا واضحٌ، نقل مِن الأعَم للأخص، وأمَّا مِن الأول فاستُشكل بأنه [مُعَدًّى] (¬2) بِـ "عَلَى"، و"الإجماع" بمعنى العزم متعد بنفسه. وأُجيبَ: بأنه يتعدى بِـ "عَلَى" أيضًا، وإنْ كان الأفصح تعديَهُ بنفسه كما قاله صاحب "المقاييس". وأمَّا في الاصطلاح: فهو اتفاق مجتهدي أُمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته في عصرٍ مِن الأعصار على أيِّ أمرٍ كان مما اجتهدوا فيه ورأوه. فَـ "الاتفاق" جنس، والمراد به الاشتراك في قول أو فعل قال على اعتقادهم ورأيهم، إثباتًا كان أو نفيًا. وخرج بِـ "الاتفاق" قول المجتهد الواحد إذا لم يوجد سواه، فإنه لا يكون إجماعًا، [و] (¬3) سيأتي بيانه. ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (2454)، سنن النسائي (رقم: 2336) وغيرهما, ولفظ النسائي: إلا صيام لمن لم يُجمِع قبل الفجر). قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن أبي داود: 2454). (¬2) في (ص): يُعَدَّى. (¬3) في (ز): كما.

وبِقَيْد "الاجتهاد" (وربما عُبِّر عن ذويه بِأهل الحل والعقد) خرج العوام. وخرج بتعميم المجتهدين ما لو اتفق البعض دُون [الباقي] (¬1)، وسيأتي إيضاح ذلك في مسائل الاحتراز. وأمَّا اشتراط كونهم مِن أُمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فخرج به مجتهدو الأُمم السابقة، فلا يكون اتفاقهم إجماعًا ولا حُجة كما اقتضى كلام الإِمام ترجيحَه، وصرح به الآمدي هنا، ونقله الشيخ أبو إسحاق في "اللمع" عن الأكثرين، خلافًا لِمَا رجحه الأستاذ أبو إسحاق وجمعٌ أنه كان حُجة قبل النَّسخ. قلت: وهو ظاهر نَص الشافعي في "الأُم"، حيث قال في مناظرة في باب (¬2). وتوقف القاضي والآمدي في موضع آخر، وقال إمام الحرمين: إنْ كان سندهم قطعيًّا فحُجة، أو ظنيًّا فالوقف. وللمسألة التفات على أصلين: أحدهما: شَرْعُ مَن قَبْلنا هل هو شَرْع لنا؟ الثاني: أنَّ حجية الإجماع ثابتة بماذا؟ إنْ قُلنا: بالقرآن كما استدل به الشافعي رحمه الله استنباطًا مِن غير أنْ يُسْبَق إليه كما رواه البيهقي في "المدخل" في حكايته طويلة منها: أنه تلا القرآن ثلاث مرات حتى استخرجه مِن قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] الآية، فإنه تعالى تَوعَّد على المخالفة لسبيلهم. ¬

_ (¬1) في (ز): البعض. (¬2) كذا في جميع النُّسخ سوى (من)، وفي (من): وهو ظاهر نص الشافعي في الأم.

وجرى على الاستدلال بذلك القاضي أبو بكر وغيره مِن الأصوليين. ومنهم مَن يستدل له مِن القرآن بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]. أو قُلنا: بالسُّنة، وهي قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجتمع أُمَّتي على خطأ" (¬1)، وفي رواية: "على ضلالة" (¬2). كذا في كتب الأصول، والمعروف في الحديث ما في سنن أبي داود عن أبي مالك الأشعري: "إنَّ الله أجاركم مِن ثلاث خِلالٍ، أنْ لا يدعو عليكم نبيكم فتهلِكُوا جميعًا، وأنْ لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وأن لا [تجتمعو] (¬3) على ضلالة" (¬4). وسنده جيد، ورُوي مِن طُرق أخرى فيها ضعف، لكن يقوي بعضها بعضًا. فلا تدخل غير هذه الأُمة مِن الأمم في ذلك. ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن الملقن في (تذكرة المحتاج، ص 51): (هذا الحديث لم أره بهذا اللفظ). (¬2) سنن ابن ماجه (3950) بلفظ: (إن أُمتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافًا فعليكم بالسواد الأعظم). قال الألباني في (ضعيف ابن ماجه: 788): (ضعيف جدًا، دُون الجملة الأُولى، فهي صحيحة). وفي سنن الترمذي (2167) بلفظ: (إن الله لا يجمع أُمتي -أو قال: أُمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومَن شذ شذ إلى النار). قال الألباني في "صحيح الترمذي: 2167): "صحيح دُون: "ومَن شذ"). (¬3) كذا في (ظ، ص، ت)، وفي سائر النُّسخ: تجمعوا. (¬4) سنن أبي داود (4253)، المعجم الكبير للطبراني (3/ 292)، وغيرهما. قال الألباني في (صحيح سنن أبي داود: 4253): (ضعيف، لكن الجملة الثالثة صحيحة). وقال في السلسلة الصحيحة (1331): ("إن الله قد أجار أمتي من أن تجتمع على ضلالة) ... فالحديث بمجموع هذه الطرق حسن). وانظر: السلسلة الضعيفة (1510).

وإنْ قُلنا: دليله أنه يستحيل في العادة اجتماع مِثل هذا العدد الكثير مِن العلماء المحقِّقين على قَطْعٍ في حُكم شرعي مِن غير اطِّلاعٍ على دليل قاطع، فوجب في كل إجماعٍ تقديرُ نَصٍّ قاطع فيه محكوم بتخطئة مخالفِه، كما استدل به ابن الحاجب وغيرُه- على ما فيه مِن التعقبات، فلا يختص ذلك بهذه الأُمة. ثم لو سُلِّم أنه حُجة فالكلام في تعريف "الإجماع" الذي يُستدل به في شرعنا، وذاك إنْ وقع ولو قُلنا: (إنَّ شرعَهم شَرْعٌ لنا)، فمن أين يُعْرَف ويُنْقَل إلينا؟ وخرج بِقَيْد كوْنه بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما إذا كان في حياته، كما ذكره القاضي أبو بكر والأكثرون، منهم الإِمام الرازي وأتباعه وابن الحاجب في أثناء أدلة الإجماع؛ لأنَّ قولهم دُونه لا يصح، وإنْ كان [معه] (¬1) فالحجة في قوله. وقولنا: (في عصر) بيان لعدم اشتراط كل الأُمة إلى يوم القيامة، وإلا فمتى يُعْمَل به؟ وأنه لا يختص بعصر الصحابة، وأنه لا حاجة إلى انقراض المُجْمِعِين؛ لأنَّ وقت إجماعهم قد صَدُق عليه "عصر"، وكُل زمنٍ بعدَه فعصرٌ آخَر، إذِ المراد مِن "العصر" وقتٌ مِن الأوقات. وقولنا: (على أَيِّ أمر كَانَ)، أيْ سواء أكان: - شرعيًّا: كحل النكاح، وحُرمة قتل النفس بغير حق. - أو لُغَويًّا: يكون الفاء للتعقيب. ولا نزاع في هذين. - أو عقليًّا: كحدث العالم. وخالف في هذه إمام الحرمين مطلقًا، وأبو إسحاق الشيرازي ¬

_ (¬1) في (ز، من): معهم. وتقدير الكلام: وإن كان قولهم مع قوله - صلى الله عليه وسلم -، فالحجة في قوله.

في كليات أصول الدين، قال: كحدث العالم وإثبات النبوة دُون جزئياته كجواز الرؤية. - أو دنيويًّا: كالآراء والحروب وتدبير أمر الرعية، وفيه مذهبان مشهوران، الرجَّح منهما وجوب العمل فيه بالإجماع. تنبيه: دخل في قولي: (عَلَى الَّذِي رَأَوْا) القول والفعل. وفيما إذا اتفق مجتهدو الأُمة على عمل -مِن غير قولٍ- خِلَافٌ في انعقاده إجماعًا: فقيل (وهو الأرجح): ينعقد به، لعصمة الأُمة، فيكون كفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وبهذا قطع الشيخ أبو إسحاق وغيرُه، وقال في "المنخول": (إنه المختار). وصرح به أيضًا صاحب "المعتمد"، وتبعه في "المحصول". وقيل: لا، ونقله إمام الحرمين عن القاضي، بل كَوْن ذلك في وقت واحد ربما لا يتصور. نعم، الذي في "التقريب" إنما هو الجواز. ثم قال إمام الحرمين: (إنَّ فِعلهم يحمل على الإباحة ما لم تَقُم قرينة دالة على الندب أو الوجوب). واستحسنه القرافي. وفي المسألة قول رابع لابن السمعاني: (إنَّ كل فِعل خرج مخرج الحكم والبيان ينعقد به الإجماع، وما لا فلا، كما أنَّ الجبلِّي مِن أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يُثْبت تشريعًا) (¬1). وقد يتركب الإجماع (على القول الأول وهو الراجح) مِن قولٍ وفِعل، بأنْ يقول بعضهم: (هذا مباح)، ويُقْدِم الباقي على فِعله. قاله القاضي عبد الوهاب. ومما يتفرع على المسألة أنَّ أهل الإجماع إذَا فعلوا فعلًا قُربة لكن لا يُعْلَم هل فعلوه واجبًا ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة (2/ 12).

أو مندوبًا؟ فمقتضى قياس المذهب أنه كفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنا أمرنا باتباعهم كما أمرنا باتِّباعه. واعْلَم أنَّ هذا التعريف إنما هو على المرجَّح في كثير مِن المسائل كما ستأتي الإشارة إلى شيء مِن ذلك. وكذلك أشار ابن الحاجب إليه بقوله: (ومَن يرى انقراض العصر، زاد: "إلى انقراض العصر". ومَن يرى الإجماع لا ينعقد مع سَبْق خِلاف مستقر مِن حي أو ميت، يزيد: "لم يستقر خلافه") (¬1). انتهى أَيْ: وكذا مَن يرى عدم اختصاصه بهذه الأُمة، يُنقص هذا القيد. ومَن يرى دخول العوام، يُبدل "المجتهدين" بِـ "أَهْل العصر". ومَن يرى اختصاصه بالدِّينيات، يزيد "شَرْعًا"، وهو ظاهر لمن تَتَبَّعَه. وقولي: (فَلَا اعْتِبَارَ بِعَوَامٍ تَلْتَوِي) تتمته قولي بعده: ص: 231 - عَنْ فَنِّ ذَاكَ الْحُكْمِ، كالْأُصُولي ... في الْفِقْهِ، أَوْ عَكْسٍ لِذَا الْمَقُولِ الشرح: المراد بالتواء العوام: مخالفتهم في الحكم الذي قد أجمع عليه خاصةُ أهل العلم. وهو من مادة "اللَّي"، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135] وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليُّ الواجد يُحِلُّ عرضَهُ وعقوبتَه" (¬2). أَيْ: امتناعه من أداء الحق الذي عليه. ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (1/ 521). (¬2) سنن أبي داود (3628)، سنن ابن ماجه (2427)، وغيرهما. قال الألباني: حسن. (إرواء الغليل: 1434).

وحاصل المسألة أن مخالفة العوام للمجتهدين لا أثر لها. كما أنهم إذا أجمعوا على شيء، لا اعتبار بهم ولو خلا الزمان عن مجتهد حيث جَوَّزنا ذلك، وسيأتي ذلك في موضعه. وعبَّر ابن الحاجب عن هذه المسألة بأن المقلِّد لا يُعتبر وفاقه (¬1). ولا يتقيد بذلك، بل العامِّي أَعَم [أنْ] (¬2) يَكون مُقَلِّدًا أوْ لا، فالتعبير به أَوْلَى؛ لشموله. والقول باعتباره حكاه ابن الصباغ وابن برهان عن بعض المتكلمين، ونقله الإِمام وابن السمعاني والهندي عن القاضي، وكذا قال ابن الحاجب: (إنَّ ميل القاضي إلى اعتباره) (¬3). أَيْ: المقلِّد. لكن كلام إمام الحرمين في "مختصر التقريب" يقتضي أنَّ القاضي لا يَعتبِر خلافهم ولا وفاقهم. قيل: والذي في "التقريب" تحرير الخلاف على وجه آخر: - فإنَّ القائل بعدم اعتبار العامَّة قال: لقوله تعالى: {وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18] , وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "العلماء ورثة الأنبياء" (¬4)، وقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]. فَردَّ العوام إلى قول المجتهدين. - والقائل باعتبارهم قال: إنَّ قول الأُمة إنما كان حُجة لعصمتها مِن الخطأ، فلا يمتنع أنْ تكون العصمة للهيئة الاجتماعية مِن الكل، فلا يَلزم ثبوتها للبعض. ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (1/ 521). (¬2) في (ز): من أن. (¬3) مختصر المنتهى (1/ 444)، الناشر: دار ابن حزم. (¬4) سنن أبي داود (رقم: 3641)، سنن ابن ماجه (223)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن أبي داود: 3641).

فقال القاضي ما حاصله: إنَّ الخلاف يرجع إلى إطلاق الاسم، يعني أنَّ المجتهدين إذا أجمعوا، هل يَصْدُق أنَّ الأُمة أجمعت ويُحكم بدخول العوام فيهم تبعًا؟ أوْ لا؟ فعنده لا يصدق وإنْ كان ذلك لا يقدح في حُجيته، وهو خِلاف لفظي؛ لأنَّ مخالفتهم لا تقدح في الإجماع قَطعًا. وتبع القاضي كثير من المتأخرين على أنَّ الْخُلْف لَفْظي راجع إلى التسمية، لكن أبو الحسين في "المعتمد" نقل عن قوم أنَّ الإجماع لا يُحتج به إلا مع وفاق العامة. وذكر الشيخ تقي الدين السبكي في شرح "منهاج الفقه" أنَّ الأستاذ أبا إسحاق خَرَّج على هذا الخلافِ الاختلافَ في تكفير مَن أَنكر مجمَعًا عليه غير معلوم مِن الدِّين بالضرورة، وستأتي المسألة. وفي مسألة اعتبار العوام قول ثالث حكاه القاضي عبد الوهاب وابن السمعاني أنه يعتبر في الإجماع على "عامٍّ"، وهو ما ليس [بمقصورٍ] (¬1) على العلماء وأهل النظر، كالعلم بوجود التحريم بالطلاق، وأن الحدث في الجملة ينقض الطهارة، وأن الحيض يمنع أداء الصلاة ووجوبها، بخلاف "الخاص"، كدقائق الفقه. قيل: وبهذا التفصيل يزول الإشكال، وينبغي تنزيل إطلاق المطْلِقين عليه، وخَصَّ القاضي أبو بكر الخلاف بِـ "الخاص"، وقال: لا يُعتبر خلافهم في "العامِّ" اتفاقًا. وجرى عليه الروياني في "البحر". وقولي: (كَالْأُصُولِي في الْفِقْهِ) إلى آخِره -إشارة إلى أنَّ مِن أمثلة مخالفة العامِّي ووفاقه العالم المجتهد في فن بالنسبة إلى مسألة في فن آخر، كالنحوي في الفقه، وعكسُه؛ لأنَّ قوله في ذلك بلا دليل استخرجه منه؛ لأنَّ الفَرْض عدم أهليته لذلك، وكالأصولي في مسألة من ¬

_ (¬1) في (ش): مقصورا.

الفروع وعكسه، أَيْ قول الفروعي في مسألة في الأصول، فَمَن لا يَعتبر العامي -لا وفاقًا ولا خلافا- لا يَعتبره هنا كذلك. وإنما ذكرت هذا المثال في النَّظم (وهو الأصولي في الفروع وعكسه) لأنَّ فيه مذاهب: أصحها: المنع؛ لِمَا سبق. وثانيها: يُعتبر مطلقًا؛ لِمَا فيهما مِن الأهلية المناسبة للفَنَّيْن؛ لِتَلازُم الفَنَّيْن. وثالثها: يُعتبر الأصولي في الفقه؛ لأنه أقرب إلى مقصود الاجتهاد، دُون عكسه. ورابعها: العكس؛ لأنه أَعْرَف بمواضع الاتفاق والاختلاف، والله أعلم. ص: 232 - وَالْمُجْمِعُونَ شَرْطُهُمْ إسْلَامُ ... كَذَا عَدَالَة بِهَا احْتِرَامُ 233 - إنْ جُعِلَتْ رُكْنًا في الِاجْتِهَادِ ... كِنَّ ذَا رَأْيٌ بِلَا سَدَادِ الشرح: هذا عطف على المرتب على تعريف "الإجماع" من المسائل، وهو أنَّ المجمِعين شرطُهم الإِسلام، فلا اعتبار بكافرٍ ولو انتهى إلى رُتبة الاجتهاد؛ لِمَا عُلِم من اختصاص الإجماع بأُمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فيدخل في الكافر المبتدع إذا كَفَّرناه ببدعته؛ لأنه ليس مِن الأُمة المشهود لهم بالعصمة وإنْ لم يَعلم هو بكُفر نفسه، وهذا بلا خلاف. نعم، قال الهندي: (لا ينبغي أنْ يكون تكفيره إنما هو بإجماعنا وحدَه؛ لئلا يَلزم الدَّوْر) (¬1). ¬

_ (¬1) نهاية الوصول (6/ 2609).

بل إمَّا لموافقته [أو] (¬1) بقيام الأدلة على كُفره. إنما الخلاف في المبتدع الذي لم نكفره ببدعته، ويُعرف الفرق بين النوعين مِن محله من أصول الدِّين. فمَن لا نكفره ببدعته الأرجح فيه أنَّ الإجماع لا ينعقد بدونه؛ لأنه من الأُمة. وقيل: لا يُعتبر مطلقا. وقيل: يُعتبر قوله في حق نفسه فقط، بخلاف غيره، فَلَهُ مخالفة الإجماع المنعقد، وليس ذلك لِغَيْره. حكاه الآمدي وابن الحاجب، قال بعضهم: إنه لم يَرَه لغيرهما. وهو في الحقيقة تفسير للقولين المتقدمَين لمن تأمَّل ذلك، فإنَّ مَن اعتبره مطلقًا لكونه مِن الأُمة فإنما هو في حق نفسه؛ لأنه عند نفسه مِن الأُمة، ومَن 11، (¬2) يعتبره مطلقًا فإنما هو لعدم اعتبار كوْنه مِن مجتهدي الأُمة، فيعدُّه عَدَمًا. وقيل: يُفرق بين الداعية وغيرها. نقله ابن حزم عن جماهير سلفهم. قلتُ: فما يوجد في كلام بعض الأئمة في بعض المبتدعة أنه لا اعتبار بهم -يحتمل أنْ يكون لاعتقاد كُفرهم وأنْ يكون لغير ذلك مِن المقتضِي لعدم اعتبار المبتدعة غير الكفرة مطلقًا أو في بعض الفنون. فمِن ذلك قول الأستاذ أبي منصور: قال أهل السُّنة: لا يُعتبر في الإجماع وفاقُ القدرية والخوارج والرافضة، ولا اعتبار بخلاف هؤلاء المبتدعة في الفقه وإن اعتُبِرَ في الكلام. هكذا روى أشهب عن مالك، وروي أيضًا عن الأوزاعي وعن محمَّد بن الحسن، وقال أبو ثور: إنه قول أئمة الحديث. انتهى ¬

_ (¬1) في (ض): الا أي. وفي (من): أي او. (¬2) في (ز): لا.

وقال الصيرفي: هل يقدح خِلاف الخوارج في الإجماع؟ فيه قولان. ونحو ذلك، والله أعلم. وقولي: (كَذَا عَدَالَةٌ بِهَا احْتِرَامُ) إلى آخِره -أَيْ: ومن شروط المجمِعين أيضًا العدالة، حتى لو خالَف فاسقٌ، لا أثر لمخالفته على أحد وجهين حكاهما الأستاذ أبو منصور، وإليه ذهب معظم الأصوليين كما قاله إمام الحرمين وابن السمعاني. وقال الرازي من الحنفية: إنه الصحيح عندنا. قال ابن برهان: (وهو قول كافة الفقهاء والمتكلمين، ونُقل عن شرذمة مِن المتكلمين -منهم إمام الحرمين- الذهابُ إلى أنَّ خلافَه مُعْتَدٌّ به). انتهى وقد جزم بهذا الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، واختاره الغزالي في "المنخول"؛ لأن المعصية في الفعل دُون الاعتقاد لا تُزِيل اسم الإيمان. وقولي: (إنْ جُعِلَتْ رُكْنًا في الِاجْتِهَادِ) إشارة إلى أن اشتراط العدالة مُرَتب على اشتراطها في أصل الاجتهاد. فإنْ جُعلت ركنًا في الاجتهاد، كانت شرطًا في المجمِعين، وإلا فلا. لكن القول بركنيتها في الاجتهاد ضعيف غير سديد، والأكثرون على خِلافه, فيقوى ترجيح اعتباره مطلقًا بذلك. وثالثها في مسألة الإجماع: تعتبر مخالفته في حق نفسه دُون غيره، واختاره إمام الحرمين، فهو مُقَيِّد لمن نقل عنه إطلاق اعتباره كما سبق. ورابعها: إنْ بَيَّنَ مَأْخَذه، اعْتُبِر، وإلَّا فلا. قال ابن السمعاني: ولا بأس به. قال: وهذا كله في الفاسق بلا تأويل، أمَّا الفاسق بتأويل فمُعتبَر في الإجماع كالعدل. قال: (وقد نَصَّ الشافعي على قبول شهادة أهل الأهواء) (¬1). انتهى ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة (1/ 482).

على أنَّ بعضهم علَّل عدم اعتبار الفاسق في الإجماع بأنَّ إخباره عن نفسه لا يوثق به، فربما أخبر بالوفاق وهو مخالِف، وبالعكس؛ فلَمَّا تَعَذَّر الوصول إلى معرفة قوله، سقط اعتباره، وحينئذ فلا يُبنى على اعتبار العدالة في الاجتهاد، بل يمنع ولو قُلنا بأنها ليست ركنًا في الاجتهاد. لكن الذي قاله ابن برهان وغيره البناء كما سبق، وأيضًا فقدْ يُتوصل إلى معرفة اعتقاده بقرائن تنضم إلى إخباره، لا مجرد إخباره، والله أعلم. ص: 234 - وَلَيْسَ شرْطًا عَدَدُ التَّوَاتُرِ ... لَا وَاحِدٌ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَاصِرِ الشرح: أَيْ: وعُلم مما تقدم مِن كوْن الإجماع اتفاق مجتهدي الأُمة أنه لا يشترط بلوغهم عدد التواتر الآتي بيانه في موضعه. هذا قول الأكثر، ونقله ابن برهان عن معظم العلماء. ونقل مقابِله الذي قال به القاضي أبو بكر (وهو أنَّ إجماع ما دُون عدد التواتر لا ينعقد عقلاً) عن طوائف مِن المتكلمين. ومعنى قولهم: (عَقْلًا) أنهم إذا لم يبلغوا عدد التواتر، لا يمتنع عقلاً تواطؤهم على الخطأ، لكن هذا إنما هو تفريع على أنَّ حجية الإجماع عِلَّتُها ذلك، وقد سبق أنَّ المعتمد إنما هو القرآن والسُّنة. وممن اختار عدم الحجية فيما لم يَنتهِ إلى عدد التواتر أيضًا إمام الحرمين، فإنه لَمَّا نقل عن بعض الأصوليين أنه لا يجوز أنْ ينحط علماء الأُمة في عصر عن أقَل عدد التواتر وأنَّ الأستاذ أبا إسحاق قال: "يجوز، ويكون حُجة حتى في الواحد"، قال: (والذي نرتضيه -وهو الحق - أنه يجوز انحطاط العلماء عن عدد التواتر، بل يجوز شغور الزمان عن العلماء) (¬1). ¬

_ (¬1) البرهان (1/ 443).

قال: (وأما القول بأنَّ إجماع المنحطين عن مَبْلَغ التواتر حُجة فهو غير مَرْضِي؛ فإنَّ مأخذ الإجماع مستند إلى طرد العادة) (¬1). فوافق أبا إسحاق على إحدى المسألتين وهي انحطاط علماء عصر عن التواتر، وخالفه في الأخرى -وهي كَوْن إجماعهم حُجة- مِن أجل أنَّ مَنْشَأ حُجية الإجماع عنده العادة، أمَّا إذا قُلنا: "منشأه الآيات والأحاديث" -وهو الصحيح كما سبق- فالحق خِلاف ما قاله. نعم، قول أبي إسحاق: (إنَّ الواحد حُجة) المختار خلافه وإنْ عزاه الهندي للأكثرين؛ لعدم صِدق كوْنه إجماع الأُمة. وقال أبو إسحاق: قد يُطْلق على الواحد "أُمَّة" كما قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120]. وقال ابن سريج في كتاب "الودائع": (حقيقة الإجماع هو القول بالحق، فإذا حصل القول بالحق مِن واحد فهو إجماع، وقد طالب أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - بني حنيفة بالزكاة لَمَّا منعوها وَحْدَه، ثم وافقه الكل بَعد ذلك على أنه حق). انتهى ولا حُجة في الأمرين: - أمَّا تسمية إبراهيم - عليه السلام - "أُمة" فمجاز، باعتبار أنه المقصود مِن "أمَّ" إذًا قصد، وهو غيْر المعنى المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجتمع أُمتي على ضلالة". - وأمَّا الثاني: فلمَّا وافق كُل الصحابة أبا بكر في ذلك، كان إجماعًا مِن الكل، لا مِن أبي بكر وحْده. ومنهم مَن يجعله حُجة ولا يسميه إجماعًا؛ لِمَا بَيَّناه. ¬

_ (¬1) المرجع السابق.

وقال الغزالي: (إنِ اعتبرنا العوام ووافقوه فهو إجماع الأُمة؛ فيكون حُجة، وإلا فلا) (¬1). والله أعلم. ص: 235 - وَالشَّرْطُ أَيْضًا عَدَمُ الْمُخَالَفَهْ ... مِنْ بَعْضِهِمْ، كَوَاحِدٍ قَدْ خَالَفَهْ الشرح: أَيْ: وعُلِم مِن تعميم "الأُمة" أنه لو تأخر بعضهم عن قول الأكثر (أَيْ خالفهم) لا يَكون قول الأكثر إجماعًا ولا حُجة، وهو الصحيح من المذاهب، وقول الجمهور. الثاني: أنه حُجة، لا إجماع. ورجحه ابن الحاجب فقال: (لو نَدَرَ المخالِفُ مع كثرة المُجْمِعين، لم يكن إجماعًا قَطْعًا، والظاهر أنه حُجة؛ لِبُعْد أنْ يَكون الراجح مُتَمَسَّك المخالِف). انتهى وهو مبني على أن حجية الإجماع لاستحالة العادة، وقد سبق ضعفه. ونحوه قول الهندي: (الظاهر أنَّ مَن قال: "إنه إجماع" فإنما يجعله إجماعًا ظنيًّا، لا قطعيًّا) (¬2). والثالث: أنه إجماع وحُجة. نُقل عن بعض المعتزلة، ونقله الآمدي عن محمَّد بن جرير الطبري، وإليه يميل كلام الشيخ أبي محمَّد الجويني في "المحيط"، ونقله الرُّوياني في "البحر" عن أحمد. الرابع: لا إجماع ولا. حُجة، ولكن الأَوْلى اتِّباع الأكثر وإنْ كان لا يَحْرُم مخالفتهم. ولا يَخفَى ضَعف هذه الزيادة؛ لأنه إنِ انتهض قول الأكثر دليلاً، وَجَب العملُ وإلَّا ¬

_ (¬1) المستصفى (1/ 143). (¬2) نهاية الوصول (6/ 2616).

فلا اعتبار به أصلًا. والخامس: إنْ كان المخالِفُ واحدًا فهو نادرٌ لا اعتبار به، أو اثنان فصاعدًا لم ينعقد الإجماع بدونه أو دونهم. وإليه أَشَرْتُ بِقولي: في النَّظْم: (كَوَاحِدٍ قَدْ خَالَفَهْ). أَيْ: خالف الحكْم الذي قال به الكل غَيْره. والسادس: مخالفة الواحد والاثنين لا تُعتبر، وتُعتبر الثلاثة فصاعدًا. السادس: إنْ بلغ المخالفُ عددَ التواتر، قدح وإلَّا فلا. حكاه الآمدي، وفي "مختصر التقريب": إنه الذي يصح عن ابن جرير. والثامن: إنْ سَوَّغَ الأكثرُ للمخالِف أنْ يجتهد، اعْتُدَّ بخلافه، كابن عباس في العول. وإنْ أنكروا عليه، فلا، كالمتعة ورِبَا الفضل المنقولين عن ابن عباس؛ ولذلك رجع عنهما. وإلى هذا التفصيل ذهب الجرجاني من الحنفية، وحكاه السرخسي عن أبي بكر الرازي. التاسع: أنَّ مخالفة الأقل إنْ دَفَعها نَصٌّ، لم تُعتبر، كخلاف ابن مسعود بقيَّة الصحابة في إثبات الفاتحة والمعوذتين من القرآن، وإلَّا اعتُبر. وجزم بهذا التفصيل الروياني في "البحر" في كتاب القضاء، وهو قريب مما قبْله. والعاشر: أنه يقدح مخالفةُ القليل في أصول الدِّين دُون غيْره مِن العلوم. حكاه القرافي عن ابن الأخْشيد من المعتزلة. والحادي عشر: لا يعتبر خِلاف تابعي مع الصحابة، وأمَّا في غير هذه الصورة فيقدح مخالفة الأقل. والثاني عشر: التفصيل بين أنْ ينشأ المخالف معهم ويخالفهم، أو ينشأ بعدهم. ويتولد مِن المسائل الآتية مذاهب أخرى لمن تأملها، والله أعلم.

ص: 236 - نَعَمْ، سُكُوتُ الْبَعْضِ عَمَّنْ صَرَّحَا ... مِنْ غَير دَاعٍ حُجَّةٌ، وَيُنتحَى 237 - تَسْمِيَةٌ لَهُ إِذَنْ "إجماعَا" ... وَمنْ هُنَا تَعْرِفُ الِامْتِنَاعَا الشرح: هذا استدراك لِمَا تَقرر في المسألة السابقة -على المُرَجَّح- أنَّ تَخلُّف بعض مجتهدي الأُمة ينفي كَوْن قول الباقين إجماعا وحُجة، فيقال: إنَّ ذاك فيما إذا صرح مَن لَمْ يَقُل به بالمخالفة. أمَّا إذا سكتوا ولم يصرحوا بموافقة ولا مخالفة فهو المُعَبَّر عنه بِ "الإجماع السكوتي"، وفيه مذاهب: أرْجَحُها: إنه حُجة (بالشرائط الآتية) وإجماع أيضًا (على المختار)، وهو معنى قولي: (وُينتحَى تَسْمِيَةٌ لَهُ إِذَنْ إجْمَاعًا). أيْ: يُخْتار ذلك ويُعتمد. قال الجوهري بَعد أنْ قرر أنَّ أصلَ "الانتحاءِ" الاعتمادُ في السير على الجانب الأيسر: (إنه صار "الانتحاء" الاعتماد في كل وجه) (¬1). انتهى وإنما كان ذلك حُجة لأنَّ سكوت الساكت تقرير يُشعر بالموافقة، وإلَّا لَأنكر ذلك، وهو مستمَدٌ مِن مسألة سكوته - صلى الله عليه وسلم - على فِعل أحدٍ بِلا داعٍ كما تَقدم، فإنه سُنة بمنزلة قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ ذلك الفعل جائز. وأمَّا كوْنه إجماعًا فإنه لو لم يَكُن كذلك لم يكن حُجة؛ لأنَّ حُجية قول غير الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ممتنعة إلَّا أنْ يكون إجماعًا، لِمَا قام الدليل به. نعم، المرجَّح حينئذ أنه إجماع ظني، لا قطعي. وإنما لم أصرح بذلك في النَّظم لوضوحه؛ لأنَّ القطع -مع قيام الاحتمال في السكوت- لا يمكن. ¬

_ (¬1) الصحاح تاج اللغة (6/ 2503).

وقد نَصَّ الشافعي (رحمه الله) على ما قُلناه في الإجماع السكوتي -كما نقله الأستاذ أبو إسحاق- مِن أنَّ قول الواحد إذا انتشر فإجماع لا يجوز مخالفته. وقال الرافعي في كتاب "القضاء": (المشهور عند الأصحاب أنه حُجة؛ لأنهم لو لم يساعدوه لاعترضوا عليه. وهل هو إجماع؟ فيه وجهان) (¬1). انتهى وقال الشيخ أبو إسحاق في "شرح اللمع": (إنه إجماعٌ على المذهب) (¬2). وكذا قاله أبو حامد أول تعليقه، ونقله في "البحر"عن الأكثرين. وفي "شرح الوسيط" للنووي: الصواب من مذهب الشافعي أنه حجة وإجماع. قال: وهو موجود في كُتب أصحابنا العراقيين. ويشهد له أيضًا أن الشافعي احتج في كتاب "الرسالة" به [لخبر] (¬3) الواحد. وقال الباجي: (إنه قول أكثر أصحابنا المالكيين والقاضي أبي الطيب وشيخنا أبي إسحاق وأكثر أصحاب الشافعي) (¬4). انتهى وقال ابن برهان: (إليه ذهب كافة أهل العلم). والقول الثاني: إنه حجة، لكن ليس بإجماع، وهو أحد الوجهين عندنا كما سبق، ونقله في "المعتمد" عن أبي هاشم، ونقله الشيخ في "اللمع" وابن برهان عن الصيرفي، واختاره الآمدي ووافقه ابن الحاجب في "مختصره" الكبير، وتردد في الصغير. ويخرج من كونه قطعيًّا أو ظنيًّا (سواء قُلنا: إجماع، أوْ: لا): ¬

_ (¬1) العزيز شرح الوجيز (12/ 475). (¬2) اللمع (ص 90)، شرح اللمع (2/ 742). (¬3) كذا في (ض، ظ، ص، ش). لكن في (ز): بخبر. وفي (ت، ق): كخبر. (¬4) إحكام الفصول في أحكام الأصول (1/ 480).

قول ثالث ورابع: إنه إجماع قطعي، أو حُجة قطعية. والقول الخامس: إنه ليس لإجماع ولا حجة؛ لاحتمال تَوقُّف الساكت أو ذهابه إلى تصويب كل مجتهد. وحكاه القاضي أبو بكر عن الشافعي واختاره، وقال: إنه آخر أقواله. وإمامُ الحرمين، وقال: (إنه ظاهر المذهب؛ إذ قال الشافعي: لا يُنْسَب إلى ساكت قول. وهي من عباراته الرشيقة) (¬1). وقال الغزالي في "المنخول": (إنه نَص عليه في الجديد) (¬2). وذكر غيره أنَّ الشافعي نَص على ذلك في "الرسالة" في قوله: (إنَّ أبا بكر قسم فسوى بين الحر والعبد، ولم يُفضل، فقسم عُمَرُ فألقى العبيد، ثم قسم عَلي - رضي الله عنه -). إلى أنْ قال: (فلا يُقال لِشيء مِن هذا: "إجماع". ولكن يُنْسَب إلى أبي بكر فِعله، وإلى عُمَر فِعله، وإلى عَلي فِعله، ولا يُقال لغيرهم ممن أخذ منهم [موافقة ولا مخالفة] (¬3). ولا يُنْسَب إلى ساكت قول) (¬4). انتهى وقد حمل المحققون هذا المنقول عن الشافعي على نَفْي الإجماع القطعي وأنه لا ينفي أنه إجماع ظني، ويكون معنى قوله: "لا يُنسب إلى ساكتٍ قول" أَيْ: صريح، لا نَفْي الموافقة التي هي أَعَم من التصريح، كما يقول في سكوت البكر عند الاستئذان: إنه إذْن. ولا [يُسميه] (¬5) قولًا، وكذا الولي إذا سكت عند الحاكم عن التزويج، يُسمَّى "عضلًا"، ولا ¬

_ (¬1) البرهان (1/ 448). (¬2) المنخول (ص 318). (¬3) كذا في جميع النُّسَخ، ولفظ الشافعي في (اختلاف الحديث، ص 505): موافق لهم ولا مخالف. (¬4) اختلاف الحديث (ص 505). (¬5) كذا في (ص، ظ). لكن في (ز، ق، من، ت): نسميه.

يُسَمَّى "قولًا" بالامتناع. وسبق في تقريره - صلى الله عليه وسلم - أنه يُسمى سُنة تقريرية، ولا يُسمى قولًا. ولو أتلف إنسان مال غيره وهو ساكت، [يضمن] (¬1) المتلف؛ لأنه لم يأذن صريحًا. ولو سكت أحد المتناظرين عن الجواب، لا يُعَدُّ انقطاعًا إلا بإقراره أو قرينة حاليَّة ظاهرة، ونحو ذلك. وفروع الفقه في ذلك كثيرة مختلفة الحكم؛ لاختلاف المدارك كما هو مبين في موضعه. ومن هنا نشأ الخلاف في كونه [هل] (¬2) يُسمى "إجماعًا"؛ للموافقة؟ أوْ لا؛ لِعَدم التصريح؟ كما حكى ذلك الأستاذ أبو إسحاق والبندنيجي في "الذخيرة" وصرَّحَا بأنَّ الخلاف لفظي. وعبارة الروياني في "البحر": هو حجة مقطوع بها، وهل يكون إجماعا؟ فيه قولان، وقيل: وجهان. الأكثر ون أنه إجماع، والثاني: المنع. قال: (وهو خلاف راجع للاسم؛ لأنه لا خلاف أنه إجماع يجب اتِّباعه، وتحرم مخالفته قطعًا). انتهى وفيه نظر؛ لِما سبق ويأتي مِن بقية المذاهب. واعْلم أن ابن التلمساني وغيره نزَّلوا نَصَّي الشافعي على حالين باعتبار إجماع الصحابة دون غيرهم، أو باعتبار ما تعم البلوى به (كخبر الواحد والقياس) دُون غيره، أوْ لا. وكلاهما لا يساعد عليه النص الذي ذكرناه في قسم أبي بكر وعمَر وعِلي - رضي الله عنهم -، فإنه لم يجعله إجماعًا مع أنه في الصحابة وفيما تعم به البلوى. القول السادس: إنه إجماع بشرط انقراض العصر. وبه قال البندنيجي من أصحابنا، وفي "اللمع" للشيخ أبي إسحاق أنه المذهب. ¬

_ (¬1) في (ز): ضمن. (¬2) ليس في (ز، ص).

السابع: إنه إجماع إنْ كان فُتيَا لا حُكمًا. وهو قول ابن أبي هريرة كما حكاه عنه الشيخ أبو إسحاق والماوردي والرافعي وابن السمعاني والآمدي وابن الحاجب. لكن في "المحصول" عنه أنه إنْ كان مِن حاكم. وبينهما فرْق؛ لاحتمال أنْ يكون فُتيا مِن حاكم، لا حُكمًا، وهو ما نقله عنه الروياني في "البحر" وابن بَرهان في "الأوسط". الثامن: عكسه. قاله أبو إسحاق المروزي؛ لأن الأغلب [من الحاكم] (¬1) أنْ يكون عن مشاورة. ووقع في "النهاية" للهندي (¬2) نقله عن الأستاذ أبي إسحاق، وهو وَهْم؛ فإنَّ ابن القطان قد حكاه عن أبي إسحاق والصيرفي، وابن القطان أقْدَم مِن أبي إسحاق الإسفرايني. التاسع: إنْ كان في شيء يفوت تداركه (كإراقة دم أو استباحة فرج)، كان إجماعًا وإلا فلا. حكاه ابن السمعاني. العاشر: إنْ كان بها عصر الصحابة، كان إجماعًا، وإلا فلا. حكاه الماوردي والروياني في "البحر". الحادى عشر: إنْ كان الساكتون أقل، كان إجماعًا، وإلا فلا. حكاه السرخسي من الحنفية (¬3). الثاني عشر: إنْ كان ذلك مما يدوم ويتكرر وقوعه والخوض فيه، يكون السكوتي فيه إجماعًا. وهو ما اختاره إمام الحرمين في آخر المسألة. الثالث عشر: أنه يحتج به إما لكونه إجماعًا قطعيًّا أو حجة ظنية. وهو مختار ابن الحاجب ¬

_ (¬1) في (ت، ق): في الحكم. (¬2) نهاية الوصول (6/ 2568). (¬3) أصول السرخسي (1/ 303).

في "مختصره" الصغير كما سبق نقله عنه، ولكنه في الحقيقة هو القول بأنه حُجة مع التردد في تسميته إجماعًا أوْ لا. وفي كيفية الخلاف طُرق كثيرة في بيان محله ومحل القطع يَطُول ذِكرها, ولا فائدة فيه. وقولي: (مِنْ غَير دَاعٍ) إشارة إلى أنَّ حجية الإجماع السكوتي -عند مَن يراه- يشترط فيه أمور تدخل كلها تحت انتفاء الداعي عن السكوت مِن غير موافقة: منها: كوْن ذلك في المسائل التكليفية، وأنْ يكون في محل الاجتهاد، وأنْ يطَّلعوا على ذلك، وأن لا يكون هناك أمارة سخط وإنْ أيصرحوا به، وأنْ يمضي قَدْر مَهْل النظر عادة في تلك الحالة، وأنْ لا ينكر ذلك مع طول الزمان. فخرج ما ليس من مسائل التكليف، نحو قول القائل: "عمار أفضل من حذيفة" أو بالعكس، لا يدل السكوت فيه على شيء؛ إذْ لا تكليف على الناس فيه. وما إذا كان القائل مخالفًا للثابت القطعي، فالسكوت عنه ليس دليلًا على موافقته. وخرج أيضًا ما لم يطَّلع عليه الساكتون؛ فإنه لا يكون حجة قطعًا، والمراد القطع باطِّلاعهم أو غلبة الظن بذلك؛ لانتشاره وشهرته- كما صرح به الأستاذ نقلًا عن مذهب الشافعي واختيارًا له. أمَّا إنِ احتمل واحتمل، فلا- كما نقله ابن الحاجب عن الأكثر، ومقابِله قول: إنه حُجة. وقال الإِمام الرازي وأتباعه: إنَّ القول إنْ كان فيما تعم به البلوى (كنقض الوضوء بمس الذكر) فهو حجة، وإلا فلا (¬1). لكن صوّر ذلك في عصر الصحابة بناءً على أنَّ قول الصحابي حُجة كما صوَّر به الإِمام وغيره هذه المسألة، وإلا فلا، فبعض الأُمة مِن غير موافقة الباقين لا يُتصور القول بكونه حُجة. وقد علمت أن هذا التفصيل قول في أصل المسألة كما بيناه. ¬

_ (¬1) انظر: المحصول (4/ 159).

وخرج أيضًا ما إذا كان هناك أمارة سُخطٍ؛ فإنه ليس بحجة بلا خلاف، كما أنه إذا كان معه أمارة رضًى، يكون إجماعًا بلا خلاف -كما قاله الروياني والقاضي عبد الوهاب المالكي. نعم كلام الإمام الرازي كالصريح في جريان الخلاف فيما ظهر فيه أمارة السخط. وخرج ما إذا لم يمض مدة النظر، وذلك لاحتمال أنَّ الساكت كان في مهلة النظر. ومن شروط محل الخلاف أيضًا أن لا يطول الزمان مع [تكرر] (¬1) الواقعة. فإنْ كان كذلك فهو محل الخلاف السابق كما هو مقتضى كلام إمام الحرمين، وصرح به ابن التلمساني. وأنْ يكون قبل استقرار المذاهب، فأما بعد استقرارها فلا أثر للسكوتي قطعًا، كإفتاء مقلد سكت عنه المخالفون لِلْعِلم بمذهبهم ومذهبه، كشافعي يقضي بنقض الوضوء بمس الذكر، فلا يدل سكوت مَن يخالفه (كالحنفية) على موافقته. قاله إلْكِيا وغيرُه. تنبيه: ينبغي أنْ يدخل في المسألة ما إذا فَعل بعضُ أهل الإجماع فِعلًا ولم يصدر منهم قول وسكت الباقون عليه، أنْ يكون هذا إجماعًا سكوتيًّا؛ بناءً على ما سبق مِن المرجَّح في أصل الإجماع أنه لا فرْق بين القول والفعل، بل يتولد من ذلك أنَّ الفاعل لو كان غير أهل الإجماع واطَّلع عليه أهل الإجماع ولم ينكروا عليه ولا داعي لعدم إنكارهم، أنْ يكون ذلك حجة؛ لأن تقريرهم كتقرير الرسول - صلى الله عليه وسلم - شخصًا على فعلٍ، كما أوضحناه. وإنما أَطَلْتُ في هذه المسألة بالنسبة إلى هذا المختصر لأنها مِن أُمهات الأصول، ومن المحتاج لإيضاحه، والله أعلم. قولي: (وَمنْ هُنَا تَعْرِفُ لِامْتِنَاعَا) وبعده: ¬

_ (¬1) في (ز، ق): تكرار.

ص: 238 - في الِاكْتِفَا بِمُجْمَعِ الشَيْخَيْنِ ... أَوْ بِالْخَلِيفَتين مَعْ [هَذَيْنِ] (¬1) الشرح: إلى آخِر الفصل بيان لكون المسائل التي ليس فيها إجماع كل الأُمة ليست بحجة، أيْ: ومن حيث إنَّ اعتبار جميع مجتهدي الأُمة في عصر (صريحًا أو تقديرًا) هو الراجح يُعْرَف امتناع ما ادُّعِي أنه إجماع في مسائل ولم يُجْمِع فيها إلا بعض الأُمة مع مخالفة غيرهم. منها: إجماع الشيخين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -، زعم بعضهم أنه حُجة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اقتدوا باللذين مِن بعدي، أبي بكر وعمر" (¬2). رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي وقال: "حسن"، وابن حبان في صحيحه, ولكن له طُرق في بعضها ضعف، يُقَوِّي بعضُها بعضًا. فقولي: (بِمُجْمَعِ الشَّيْخَيْنِ) أيْ: باجتماعهما، فإنهما إذًا اجتمعا في حُكم قد تَوافقَا عليه دُون غيرهما أو مع موافقة بعض الأمة لهما، صدق أنه [بإجماعهما] (¬3). ومنها: إجماع الخليفتين الآخَرَيْن اللذين هما عثمان وعلي - رضي الله عنهما - مع الشيخين؛ فيصير إجماعًا من الأربعة - رضي الله عنهم -. قال أبو خازم (بالخاء المعجمة والزاي، مِن الحنفية): إنه حُجة، وحكم بذلك في زمان المعتضد في توريث ذوي الأرحام. ¬

_ (¬1) في (ض): هاتين. (¬2) سنن الترمذي (رقم: 3662)، المستدرك على الصحيحين (رقم: 4451) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن الترمذي: 3662). (¬3) كذا في (ز، من). لكن في (ص، ق، ظ): باجتماعهما.

ولَمَّا رَدَّ عليه أبو سعيد البردعي باختلاف الصحابة - رضي الله عنهم -، قال: العمل [لقول] (¬1) الخلفاء الأربعة. وحكى موفق الدين الحنبلي في "الروضة" رواية عن أحمد بمثل ذلك. نعم، لا يَلْزم منه ولا من احتجاج أبي خازم أنْ يكون إجماعًا، بل حُجة فقط؛ وحينئذ فلا معنى لتخصيص أبي خازم. وكونه إحدى رِوايتي أحمد [فإنه منقول] (¬2) قولًا للشافعي، فقد قال ابن كج في كتابه: إذا اختلفت الصحابة - رضي الله عنهم - على قولين وكانت الخلفاء الأربعة مع أحد الفريقين، قال الشافعي في موضع: "يُصار إلى قولهم"، وفي موضع: "لا، بل يطلب دلالة سواهما". ثم ظاهر كلام أبي بكر الرازي يدل على أنَّ أبا خازم إنما بناه على أنَّ خِلاف الواحد والاثنين لا يقدح في الإجماع، لكن كثير من الأصوليين يذكر أن مستنده قوله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بِسُنتي وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ" (¬3). رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وصححه الترمذي، والحاكم في "المستدرك" وقال: على شرطهما. والمراد بالخلفاء هُم الأربعة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الخلافة مِن بعدي ثلاثون سَنة، ثم تفسير ملكًا عَضُوضًا" (¬4). وهو حديث سعيد بن جُمْهَان (بضم الجيم وسكون الميم وفتح الهاء) عن ¬

_ (¬1) في (ت، ق): بقول. (¬2) في (ز): أن يكون ذلك. (¬3) مسند أحمد (17185)، سنن أبي داود (رقم: 4607)، سنن الترمذي (2676)، سنن ابن ماجه (42)، مستدرك الحاكم (332). قال الألباني: صحيح. "صحيح سنن أبي داود: 4607). (¬4) مسند الإِمام أحمد (رقم: 18430).

سفينة، رواه أبو داود بلفظ: "خلافة النبوة ثلاثون سَنة، ثم يُؤتي الله الملك مَن يشاء" (¬1). قال سعيد: (أمسك عليك أبا بكر سنتين، وعمر عشرًا، وعثمان اثنتي عشرة، وعَليّ كذا، يعني البقية). الحديث. وأخرجه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: (حسن، لا نعرفه إلا من حديث سعيد). انتهى. وسعيد وثَّقه يحيى بن معين وأبو داود وغيرهما. ثم المراد بِسَنَتي أبي بكر كونهما كاملتين، وكذا في عُمَر عَلَى الاختلاف في تحرير مدة خلافاتهم، والحسن بن علي - رضي الله عنهما - وإنْ كانت مدة خلافته ستة أشهر ليكمل الثلاثين، لكن لَمَّا لم تتسع مُدته حتى تظهر أقواله وموافقته أو مخالفته، لم يجمعه أبو خازم ومَن قال بِقوله مع الأربعة. قلتُ: وهذا لا يخلص في الجواب؛ فإن المراد اتفاقهم في أي وقت كان صدق اجتماعهم، لا قول كل واحد واحد في زمن خلافته، وسيأتي في موت الأقوال بموت أصحابها خِلاف، فتأمَّلْه. ولنا: - أنَّ ابن عباس - رضي الله عنهما - خالف جميع الصحابة في خَمس مسائل في الفرائض انفرد بها، وابن مسعود بأربع، وغيرهما بغير ذلك، ولم يحتج عليهم أحد بإجماع الأربعة. - وأنه لا حجة لأبي خازم في الحديث السابق، لمعارضته لحديث: "أصحابي كالنجوم" (¬2)، لكن هذا ضعيف، وبتقدير صحته فلا معارضة، فإنَّ المراد منه أن المقلد يتخير فيهم، لا أنَّ قول كلٍّ حُجة. ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (رقم: 4647). قال الألباني: حسن صحيح. "صحيح سنن أبي داود: 4647). (¬2) رواه ابن عبد البر في (جامع بيان العلم، 2/ 78)، وابن بطة في (الإبانة الكبرى 2/ 564)، وقال الشيخ الألباني في (سلسلة الأحاديث الضعيفة، رقم: 58): (موضوع).

وأما حديث: "عليكم بسنتي وسُنة الخلفاء" (¬1) فسياقه فيما يكون حجة من حُجَج الشرع، وإنما الجواب أنَّ المراد أنْ لا يبتدع الإنسان بما لم يكن في السُّنة، ولا فيما عليه الصحابة في زمان الخلفاء الأربعة؛ لِقُرْب عهْدهم بتلقِّي الشرع. فائدة: في "الرونق" للشيخ أبي حامد أنه إذا عقد الخلفاء الأربعة عقدًا أو حموا حمًى، يلزم ولا ينقض- على أصح قولَي الشافعي، وسبقه إليه ابن القاص في تلخيصه في باب "الإحياء"، واستغربه السنجي في شرحه، وقال: يشبه أن يكون تفريعًا على القديم في تقليد الصحابي، وأما على الجديد فلا فرق، والله أعلم. ص 239 - كذَا بِأَهْلِ الْبَيْتِ، أَعْنِي فَاطِمَهْ ... وَبَعْلَهَا وَنَجْلَهَا، كُنْ عَالِمَهْ الشرح: أي: ومن ذلك أيضًا قول الشيعة، والمراد بهم مَن يُنسب إلى حُب عَلي - رضي الله عنه - ويزعم أنه مِن شيعته، وقد كان في الأصل لقبًا للذين ألفوه في حياته كسلمان وأبي ذر والمقداد، وعمار وغيرهم، ثم صار لقبًا بعد ذلك على مَن يَرى بتفضيله وبأمور أخرى قالوا بها لا يرضاها عَلِي كرم الله وجهه أبدًا، وتفرقوا كثيرا من رافضة وزيدية وغيرهم، وهؤلاء هم المراد عند إطلاق الأصوليين وغيرهم "الشيعة". فمن أقوالهم الفاسدة هذه المسألة، وهي أن الإجماع يُكْتَفى فيه بانفراد أهل البيت، وهُم: فاطمة - رضي الله عنها -، وكذا عِلي، ونجل فاطمة مِن عَلي وهو الحسن والحسين - رضي الله عنه م- أجمعين. احتجوا بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

[الأحزاب: 33] الآية، فنفى عنهم الرجس، والخطأ من جملة الرجس. وفي الترمذي: "لَمَّا نزلتْ لَفَّ - صلى الله عليه وسلم - كساءً عليهم، وقال: هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، اللهم أذهِب عنهم الرجس وطَهِّرهم تطهيرًا" (¬1). وفي "مسلم": "إني تارِكٌ فيكم ما إنْ تمسكتم به لن تضِلوا، كتاب الله وعترتي" (¬2). وجواب ذلك ظاهر مشهور. وربما قالت الشيعة: "إنَّ أهل البيت عليٌّ وَحْدَه" كما نقله الشيخ أبو إسحاق في "شرح اللمع"؛ ولأجْل ذلك فَسَّرْتُ أهلَ البيت في النَظْم؛ لضعف هذه المقالة، والله أعلم. ص: 240 - كذَاكَ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ، وَكذَا ... بِكُوفَةٍ مَعْ بَصْرَةٍ، بَلِ انْبِذَا الشرح: أيْ: ومن ذلك أيضًا إجماع أهل الحرمين (مكة والمدينة) مع مخالفة غيرهم -ليس بحجة؛ لأنهم ليسوا كل الأُمة، خلافًا لمن زعم ذلك من الأصوليين. وكذا إجماع أهل المصرين (الكوفة والبصرة) زعم قوم أنه حُجة، والصحيح في المسألتين خلاف ذلك، وأنه لا أثر للبقاع وإنْ شَرُفَتْ، مع أنَّ مَن حَوَتْهُ ليس كل الأُمة الذي جُعِلَت الحجة في قولهم. قال القاضي أبو بكر: (وإنما صار مَن صار إلى ذلك لاعتقادهم تخصيص الإجماع ¬

_ (¬1) مسند أحمد (26639)، سنن الترمذي (رقم: 3871) وغيرهما. قال الألباني: صحيح بما تَقَدَّم. (صحيح سنن الترمذي: 3871). (¬2) صحيح مسلم (2408) بلفظ: ("فَخُذُوا بِكِتَابِ الله وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ" .. ثم قال: "وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي"). وسنن الترمذي (3786) وغيره بلفظ: "إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ الله وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتي".

بالصحابة، وكانت هذه البلاد موطن الصحابة، ما خرج منها إلا شذوذ منهم). انتهى. أيْ: فلا يُظَن أنَّ القائل بذلك يقول به في كل عصر. وقولي: (بَلِ انْبِذَا) أيْ: اطرح هذا الاعتقاد، فلا تعتقد حجية شيء مِن ذلك، فالألف في "انبِذا" بدل مِن نون التوكيد الخفيفة، وأصله "انْبِذن"، والله أعلم. ص: 241 - وَهَكَذَا إِجْمَاعُ أَهْلِ طَيْبَةِ ... إذْ لَيْسَ في كُلٍّ جَميعُ الْأُمَّةِ الشرح: أيْ: ومن ذلك أيضًا إجماع أهل المدينة، نُقل عن مالك أنه حُجة. قال الحارث المحاسبي في كتاب "فهم السُّنن": (قال مالك: وإذا كان الأمر بالمدينة ظاهرًا معمولًا به، لم أر لأحد خِلافهُ، ولا يجوز لأحد مخالفته). انتهى فمِن أصحابه مَن قال بظاهر ذلك؛ ولذلك أَطْلق النقل عنه بذلك الصيرفي في "الأعلام"، والروياني في "البحر"، والغزالي في "المستصفى". ويكفي في تضعيف هذا القول قول الشافعي في كتاب "اختلاف الحديث": (قال بعض أصحابنا: إنه حجة، وما سمعت أحدًا ذكر قوله إلَّا عابه، وإنَّ ذلك عندي معيبٌ). انتهى وقال الباجي مِن أصحاب مالك: (إنما أراد فيما طريقه النقل المستفيض، كالصاع والمد، والأذان والإقامة، وعدم الزكاة في الخضروات مما [تقضي] (¬1) العادة أنْ يكون في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذْ لو تَغَيَّر ممَّا كان عليه لَعَلِمَه. فأمَّا مسائل الاجتهاد فهُم وغيرهم سواء) (¬2). وحكاه القاضي في "التقريب" عن شيخه الأبهري، وجَرَى عليه القرافي في "شرح ¬

_ (¬1) في (ظ): يقتضي. وفي (ق): تقتضي. (¬2) انظر: إحكام الفصول في أحكام الأصول (1/ 487 - 489).

المنتخب" وإنْ خالف في موضع آخَر. وقيل: أراد أنَّ [نَقْلهم] (¬1) يَرْجُح على [نقْل] (¬2) غيرهم. وقد ذكر الشافعي نحو هذا في القديم. وقيل: أراد بذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: أراد الصحابة والتابعين وتابعيهم. حكاه القاضي وابن السمعاني، وعليه جرى ابن الحاجب، وادَّعى ابن تيمية أنه مذهب الشافعي وأحمد. وقيل: محمول على إجماع المتقدمين من أهل المدينة. ونحوه ما قال يونس بن عبد الأعلى: قال لي الشافعي: إذا وجدتَ متقدمي أهل المدينة على شيء، فلا يدخل في قلبك شكٌّ أنه الحقُّ، وما جاءك فيه غير ذلك فلا تلتفت إليه. وفي رواية: فلا تَشُكَّن أنه الحقُّ، والله إني لك لناصح. وقال مالك: (قدم علينا ابن شهاب قَدْمة، فسألته: لِمَ [ترك] (¬3) المدينة؟ فقال: كنتُ أسكنها والناس ناس، فلمَّا تغير الناس تركتُهم). رواه عنه عبد الرزاق. وقيل: إذا تعارَض دليلان كحديثين أو قياسين، يرجح أحدهما بعمل أهل المدينة؟ أوْ لا؟ فعند الشافعي ومالك: نعم، وعند أبي حنيفة: لا، وعن أحمد قولان. وقيل غير ذلك مما يَطُول ذِكره. وقد استدل مَن يرى حجية قولهم بحديث: "إنما المدينة كالكير، تنفي خبثها، وينصع ¬

_ (¬1) في (ظ، ق، ت): فعلهم. (¬2) في (ض، ظ، ت، ق): فعل. (¬3) في (ق، ت، ظ): تركت.

طيبها" (¬1). متفق عليه عن جابر - رضي الله عنه -، وخَطَأُ عُلمائها خَبَث، فإذَا كان منفيًّا، صار قولهم حُجة. وأما قوله: "وينصع طيبها" فهو بالصاد والعين المهملتين، وأول الفعل مثناة تحت، و"طيبها" بالتشديد مرفوع بالفاعلية على المشهور، ويروى بالنصب فـ "تنصع" بمثناة فوق، والفاعل ضمير المدينة، لكن قال القزاز: لم أجد لنصع في الطيب وجهًا، وإنما وجه الكلام: "يتضوعُ طيبها" أيْ: يفوح. ويُروى "ينضخ" بمعجمتين. والأحاديث في فضل المدينة كثيرة، كحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في الطبراني "الأوسط" بإسناد لا بأس به: "المدينة قُبَّة الإِسلام، ودار الإيمان، وأرض الهجرة، ومثوى الحلال والحرام" (¬2). قالوا: وأيضًا فإنَّ الصحابة كانوا مجتمعين -غالبًا- فيها. وجواب الأول: أنَّ فضل البقاع كما سبق لا أثر له في عدم خطأ ساكنيها، إلَّا مَن عَصَمه الله، وهُم جميع الأمة لا بعضهم، ولهذا قال ابن عبد البر: (إنَّ مثل ذلك إنما كان في حياته - صلى الله عليه وسلم -، فلم يخرج مِن المدينة إلَّا مَن لا خير فيه، وأمَّا بَعْد وفاته فقدْ خرج منها أخيار وسكنوا في غيرها) (¬3). وكذا قاله القاضي عياض، لكن قال النووي: إنَّ هذا ليس بظاهر؛ لما صح: "لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد" (¬4). وهذا والله أعلم في زمن الدجال. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 6783)، صحيح مسلم (رقم: 1383). (¬2) المعجم الأوسط (5/ 380، رقم: 5618) بلفظ: "ومُبَوَّأُ الحلال والحرام". قال الألباني: ضعيف. (السلسلة الضعيفة: 761). (¬3) لفظ ابن عبد البر في (التمهيد، 23/ 171): (إِنَّمَا كَانَ في حَيَاة رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَحِينَئِذٍ لم يَكُنْ يَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ رَغْبَةً عَنْ جِوَاره فِيهَا إِلَّا مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ ... ). (¬4) صحيح مسلم (رقم: 1381).

وجواب الثاني: أنَّ الصحابة لم يكونوا مجتمعين بالمدينة، بل تفرقوا في الأمصار. وأمَّا بعد الصحابة فالعلماء غالبهم في الأمصار غيرها. تنبيه: إذا قلنا: (إنَّ إجماع المدينة حُجة)، فقال الأبياري المالكي: ليس كإجماع جميع الأمة حتى يفسق مخالفه ويُنْقَض قضاؤه، وإنما هو مَأْخَذ شرعي فقط. وبالجملة فالمسألة طويلة الذيل، موصوفة بالإشكال، أُفْرِدَت بالتصنيف، صَنَّف فيها الضمير في وغيره، وفيما أشرنا إليه كفاية. وقولي: (طَيْبَة) هي من أسماء المدينة، وهو مخفف من "طيبة" بالتشديد كما في نظائره، ويقال لها أيضًا: "طابة"، ولها أسماء كثيرة. وقولي: (إذْ لَيْسَ في كُلٍّ جَميعُ الْأُمَّةِ) هو تعليل للمسائل المتقدمة من قولي: (وَمنْ هُنَا تَعْرِفُ الِامْتِنَاعَا) إلى هنا، أيْ: إنَّ كل واحدة من المسائل التي ادُّعِي حُجيتها مع كَوْنهم بعض الأمة- ممتنع؛ لأنهم ليسوا كل الأُمة، والله أعلم. ص: 242 - وَلَيْسَ شَرْطًا انْقِرَاضُ الْعَصْرِ ... وَلَا إمَامٌ عَصَّمُوا في دَهْر الشرح: أيْ: شَرَط بعضهم في الإجماع -زيادة على ما سبق- انقراضَ العصر، وشرط آخرون أنَّ الإجماع لا بُدَّ فيه من وجود إمام معصوم. والأصح عدم اشتراط شيء منهما. أما المسألة الأولى ففيها مذاهب: أحدها وهو الصحيح عند المحققين: هذا، فيكون اتفاقهم حُجة بمجرده حتى لو رجع

بعضهم لا يُعْتَد به ويكون خارقًا للإجماع، ولو نشأ مخالِفُه لا [يُعْتَبر قوله] (¬1)، بل يكون الإجماع حُجة عليه. ولو ظهر للكل ما يوجب الرجوع فرجعوا كلهم مجمعين، لم يَجُز ذلك، بل إجماعهم الأول حُجة عليهم وعلى غيرهم. حتى لو جاء غيرهم مجمعين على خِلاف ذلك لَمْ يَجُز أيضًا، وإلَّا لَتَصادم الإجماعان. وجرى على [هذا] (¬2) المذهب إمام الحرمين في "النهاية"، حيث استدل لمقابل قول ابن عباس - رضي الله عنهما -: إنَّ الأم لا تحجب إلى السدس إلا بثلاثة إخوة. وقال القاضي في "التقريب": إنه قول الجمهور. والباجي: إنه قول أكثر الفقهاء والمتكلمين. وقال ابن السمعاني: إنه أصح المذاهب لأصحاب الشافعي. وقال الرافعي في الأقضية: أصح الوجهين. وصححه الإمام في "النهاية" والدبوسي في "تقويم الأدلة"، وقال أبو سفيان: إنه قول أصحاب أبي حنيفة. وقال أبو بكر الرازي: إنه الصحيح. وحكاه عن الكرخي. والمذهب الثاني: أنه يشترط، وهو قول أحمد، ونصره محققوا أصحابه، واختاره ابن فورك وسليم، ونقله [ابن بَرهان] (¬3) عن المعتزلة، ونقله الأستاذ عن الأشعري. واختلفوا: هل فائدته إمكان رجوع المجمعين؟ أو اعتبار قول مَن ينشأ مخالفًا قبل الانقراض؟ على وجهين. واختلفوا أيضًا: هل الشرط انقراض الكل؟ أو الأكثر؟ أو الشرط موت العلماء فقط؟ أقوال مَبنية على المسائل السابقة، فالقائل بالغالب هو القائل بأنَّ ندرة المخالف لا تقدح، والقائل بانقراض علمائهم هو القائل بأنه لا عبرة بوفاق العوام، والقائل بالكل هو الذي لا ¬

_ (¬1) كذا في (ز، من). وفي (ق، ت): يعتد بقوله. (¬2) من (ظ، ق، ت). (¬3) في (ز): ابن برهان من أصحابنا.

يعتبر شيئًا من ذلك. والمذهب الثالث: أنَّ الانقراض يُعتبَر في الإجماع السكوتي؛ لضعفه، بخلاف غيره، وبه قال البندنيجي، واختاره الآمدي، ونقل عن الأستاذ أبي منصور البغدادي، وأنه قال: إنه قول الحذاق من أصحاب الشافعي. وقال القاضي أبو الطيب: إنه قول أكثر الأصحاب. ونقله إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق، لكن الذي في تعليقه عدم الاشتراط. بل جعل سليم محل الخلاف في غير السكوتي، وأنَّ الانقراض في السكوتي لا خلاف فيه. الرابع: إنِ استند الإجماع لقاطع فلا يشترط انقراضه، وإلا اشترط تمادي الزمان. وبه قال إمام الحرمين في "البرهان"، واختاره الغزالي في "المنخول"، قال: والمدار في طول الزمان على العُرف. وضعَّفه ابن السمعاني بأنه إذا عُلم استنادهم لقاطع، فذلك القاطع هو الحجة، وإذَا لم يُعلم مستندهم، فكيف التوصل إلى معرفته؟ ! والخامس: ينعقد قبل الانقراض فيما لا مهلة فيه مما لا يمكن استدراكه (مِن قتل نفس أو استباحة فرج) دُون غيره. حكاه ابن السمعاني عن بعض أصحابنا، وهو نظير ما سبق في السكوتي. وفي "الحاوي" للماوردي أنَّ ما لا يتعلق به إتلاف يُشترط فيه الانقراض قَطْعًا، وما لا يمكن استدراكه فيه وجهان (¬1). والسادس: [المشتَرط] (¬2) أنْ لا يبقى إلا دُون عَدد التواتر، فحينئذ لا يكترث بالباقي ويحكم بانعقاد الإجماع، بخلاف ما إذا بقي أكثر، حكاه القاضي في "مختصر التقريب"، وأشار إليه ابن بَرهان في "الوجيز". ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (16/ 113). (¬2) كذا في (ز، ص، من). وفي سائر النُّسَخ: الشرط.

السابع: إن كان الإجماع عن قياس، اشترط الانقراض، وإلا فلا. نقله ابن الحاجب عن إمام الحرمين، ولكن الذي نقله الهندي وغيره عنه التفصيل بين أن يعلم أن متمسكهم ظني فيعتبر طول الزمان، أو لا فلا، وقد سبق. الثامن: إنْ شَرَطوا في إجماعهم أنه غير مستقر وجوَّزوا الخلاف، اعتُبر الانقراض، وإلا فلا. حكاه القاضي وسليم، ثم قيَّده بالمسائل الاجتهادية دُون مسائل الأصول التي يُقطع فيها بعدم المخالف. التاسع: يشترط الانقراض في إجماع الصحابة دُون إجماع التابعين وغيرهم. وهو ظاهر كلام الطبري. تنبيهان أحدهما: المراد بِـ "العصر" زمان المجمعين، قَلَّ أو كَثُر، حتى لو ماتوا عقب الإجماع دفْعة يُقال: انقرض العصر. الثاني: المشترطون للانقراض لا يمنعون كوْن الإجماع حجة قبل الانقراض، بل يقولون: يحتج به، لكن لو رجع راجع، قَدَح، أو حَدَث مخالِفٌ، قدح. ونظيره أنَّ ما يقوله الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو يفعله حُجة في حياته وإنِ احتمل أن يتبدل بنسخٍ؛ عملًا بالأصل في الموضعين. فإذَا رجع بعضهم، تَبيَن أنهم كانوا على خطأ لا ويقرُّون عليه، بخلافه - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنَّ قوله وفِعله حقٌّ في الحالين. وأما المسألة الثانية فالمخالِف فيها الروافض؛ بناءً على قولهم الفاسد: إنَّ الزمان لا يخلو من إمام معصوم. فإنْ كان ذلك الإِمام في الإجماع فحُجة، وإلا فلا. فيقال لهم: فالحجة حينئذ إنما هي في قول الإِمام المعصوم، لا الباقي.

وقد أشرتُ إلى ذلك بقولي: (وَلَا إمَامٌ عَصَّمُوا في دَهْرِ). أيْ: ولا يُشترط وجود إمام اعتقدوا عصمته في ذلك الدهر، فهو فاسد مبني على فاسد، والله أعلم. فروع 243 - لَابُدَّ لِلْإجْمَاعِ مِنْ مُسْتَنَدِ ... وَلَوْ قِيَاسًا جَاءَ مِنْ مُجْتَهِدِ الشرح: هذه فروع على ما سبق في تأصيل قواعد الإجماع: أحدها: أنَّ الإجماع لا بُدَّ له من مُسْتَنَدٍ، أيْ: دليل من الشرع. قال الشافعي فيما نقله عنه الإِمام في "النهاية" في كتاب القراض: (الإجماع وإنْ كان حُجة قاطعة سمعية فلا يحكم أهل الإجماع بإجماعهم، وإنما يصدر الإجماع عن أصل) (¬1). انتهى. والدليل إما: -كتاب، كإجماعهم على حد الزنا والسرقة وغير ذلك مما لا ينحصر. - أو سُنة، كإجماعهم على توريث كل من الجدات السدس (¬2)، وتوريث المرأة من دية زوجها بخبر امرأة أشيم الضبابي (¬3)، ونحو ذلك وهو كثير. - أو قياس: كإجماعهم على أن الجواميس في الزكاة كالبقر، على ما سيأتي فيه من النظر. وإنما كان الإجماع يفتقر إلى مستند؛ لأنه من المجتهدين، والمجتهد لا يقول في الدَّين بغير ¬

_ (¬1) نهاية المطلب (7/ 437). (¬2) سنن أبي داود (رقم: 2894)، سنن الترمذي (2100)، وغيرهما. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف سنن أبي داود: 2894). (¬3) سبق تخريجه.

دليل؛ فإنَّ القول بغير دليل خطأ. وأيضًا فكان يقتضي إثبات شرْع مستأنف بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو باطل. وذهب بعضهم -كما نقله عبد الجبار عن قوْم- أنه يجوز أنْ يحصل [بالبَخْت] (¬1) والمصادفة، والمعنى أنَّ الإجماع قد يكون عن توقيف من الله عَزَّ وَجَلَّ من غير مستند. وأجابوا عمَّا سبق من الدليل بأنَّ الخطأ إنما هو في الواحد من الأُمة، أما كل الأمة فلا. وأُفْسِدَ ذلك بأنَّ الخطأ إذا اجتمع، لا ينقلب صوابًا؛ لأنَّ الصواب في قول الكل إنما هو مع مراعاة عدم الخطأ من كل فرد. وزعم الآمدي أن الخلاف إنما هو في الجواز، لا في الوقوع. ورُدَّ: بأنَّ الخصوم استدلوا بِصُوَر لا مستند فيها على زعمهم، فلولا أنه محل النزاع ما استدلوا بها. قلتُ: وفيه نَظَرٌ؛ فإنَّ مَن يدَّعي الجواز هو الذي ادَّعى الوقوع واستدل به، ومَن يمنع الجواز فلا يُسلم وقوع ذلك، مع بقاء المخالفة في الجواز من الأصل. وقولي: (وَلَوْ قِيَاسًا) إشارة إلى أنَّ المستند يجوز أنْ يكون قياسًا (على المرجَّح)، والمخالف بعض الظاهرية زعم أنه لا يجوز، وهو بناء على أصلهم في منع القياس، لكن سبق أن جمهورهم إنما يمنع غير الْحَلي. نعم، الغريب موافقة محمَّد بن جرير الطبري (مِن أئمتنا) لهم في ذلك مع أنه قائل بالقياس، ونقل عنه القاضي في "التقريب" أنه منعه عقلاً؛ لاختلاف الدواعي والأغراض، وتفاوتهم في الذكاء والفطنة. ¬

_ (¬1) في (ز): بالتبخيت. وفي (ظ، ق): بالبحث. وفي (ت، من): بالبحت. والبَخْت: الحظ.

وقيل: يجوز أن يقع عن قياس، ولكنه لم يقع. ورُدَّ: - بأنَّ إمامة الصديق - رضي الله عنه - مستند الإجماع فيها القياس، قال عمر - رضي الله عنه -: "رضيَهُ - صلى الله عليه وسلم - لِدِيننا، أفلا نرضاه لدنيانا؟ " (¬1). ولا يرد -كما قال ابن القطان- وقوع مثل ذلك لعبد الرحمن بن عوف حيث صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خلفه؛ لأنه أمر الصديق، وعبد الرحمن قد وجده يصلي فصلى خلفه، فالفرق ظاهر. - وبإجماعهم في الجاموس أنه كالبقر، وهو بالقياس. قلتُ: على ما في هذا المثال من نظرٍ؛ فإنَّ البقر جنس تحته نوع العراب ونوع الجاموس. وإذا دخلَتْ في لفظ "البقر"، كانت الزكاة فيها نَصًّا، لا قياسًا. نعم، يمثل بإراقة نحو الشيرج إذا وقعت فيه الفأرة؛ قياسًا على السمن، وتحريم شحم الخنزير؛ قياسًا على لحمه المنصوص عليه، ونحو ذلك، وهو كثير. وقيل: وقع ولكن لا تحرم مخالفته. وقيل: يجوز عن القياس الجلي دُون الخفي. وقيل: عن قياس المعنى دُون قياس الشَّبَه. واعْلم أنه يُعَبر عن هذه المسألة تارةً بذلك وتارةً بأن الإجماع عن أمارة هل يجوز؟ أو لا؟ كما قال الروياني، قال: فالجمهور يجوزونه. قال عامة أصحابنا: وهو المذهب. والتعبير بهذا يدخل فيه نحو خبر الواحد والمفاهيم ونحو ذلك. وقولي: (جَاءَ مِنْ مُجْتَهِدِ) أيْ: يجوز أن يكون المستند القياس، ولا يضر كوْن القياس ¬

_ (¬1) في الشريعة للآجري (4/ 1839) من قول علي فض بلفظ: (فرضينا لدنيانا مَن رضيَهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا).

إنما صدر منهم؛ لأنَّ القياس في الحقيقة كاشف عن الحكم، لا مُنْشِئ له؛ ولهذا كان دليلًا شرعيًّا، والله أعلم. 244 - لكِنَّ عِلْمَنَا بِهِ لَا يَجِبُ ... وَالِاتِّفَاقُ بَعْدَ خُلْفٍ أَوْجَبُوا 245 - صِحَّته مِنْهُمْ وَمنْ غَيرهِمِ ... وَالْأَخْذُ بِالْأقلِّ مِمَّا قَدْ نُمِي الشرح: أيْ: إذا تَقرر أن الإجماع لا بُدَّ له من مستند، فلا يلزم أنْ يُطلَع عليه، بل بنفس حصول الإجماع ارتفع النظر إلى المستند. وإذا وجدناه موافقًا لِنَص أو غيره، لا يَتَعَيَّن أنْ يكون هو المستند، بل يجوز أنْ يَكون غيره، لكن يقوى أن يكون هو المستند؛ لأن الأصل عدم خلافِه. قال الأستاذ أبو إسحاق: لا يجب على المجتهد طلبُ الدليل الذي وقع الإجماع به، فإنْ ظهر له دليل أو نُقل إليه كان أحد أدلة المسألة. نعم، حكى ابن السمعاني في "القواطع" خلافًا في أنَّ انعقاد الإجماع: هل هو على الحكم الثابت بالدليل؟ أو على نفس الدليل؟ قال: (وينبني عليه أن الإجماع الواقع على وَفْق خبر من الأخبار: هل يكون دليلًا على صحته؟ قولان، أَوْلَاهما: أنه لا يدل؛ لجواز الاستناد إلى غيره، أو إليه مع ضميمة أخرى) (¬1). واعلم أن ابن بَرهان نقل عن الشافعي أن خبر الواحد إذا وُجد موافقًا للإجماع وجهلنا مستنده، أنَّ ذلك الخبر هو المستند. قال: (وخالفه الأصوليون) (¬2). انتهى ¬

_ (¬1) قواطع الإدلة (1/ 479). (¬2) الوصول إلى الأصول (2/ 128). الناشر: مكتبة المعارف، تحقيق: د. عبد الحميد علي.

وحمل غيرُه كلام الشافعي على أنه أراد غَلبة الظن بأنه المستند، لا بِعَينه. واحترز بِـ "الواحد"عن "المتواتر"؛ فإنه يكون مستندهم بلا خلاف كما قاله القاضي عبد الوهاب؛ لأنه يجب عليهم العمل بموجَب النَّص. انتهى. قلتُ: وفيه نظر؛ لأنه لا يَلزم مِن القطع بالمتن القطعُ بالدلالة، فقدْ يستندون إلى غيره؛ لذلك. فإنْ قيل: ما الفرق بين هذا وبين المجتهد إذا عَلَّل حُكم الأصل بِعِلَّة مناسبة فمنع الخصم كون تلك علة؛ لجواز أنْ تكون العلة غيرها, لم يُسْمَع؛ لأن الأحكام لا بُدَّ لها من علة، وقد وُجدت وهي مناسبة؛ فَتَعَيَّنَت؛ لأنَّ الأصل عدم ما سواها. قيل: لأنَّ مسألتنا انتهض الدليل فيها بالإجماع؛ فلم يحتج إلى معرفة غيره من الأدلة، وإنْ وُجد موافقًا، فهو من باب كثرة الأدلة، وأما القياس فلا ينتهض الإلحاق ما لم تَثبت العلة؛ فَتَعَيَّن الاستناد إليها. وقولي: (وَالِاتِّفَاقُ بَعْدَ خُلْفٍ أَوْجَبُوا) إلى آخِره -إشارة إلى مسألة ما لو وقع الاتفاق بعد الاختلاف، وهي مَبنية على أن مستند الإجماع يكون أمارة [ظنًّا] (¬1)؛ فلذلك عقبتها بما سبق، ولها صُوَر: إحداها: أن يختلف أهل عصر على قولين ثم يتفق أهل عصر بعده على أحد القولين. فإنْ كان ذلك قبل استقرار خلاف الأوَّلين، أيْ قبل مُضي مدة على ذلك الخلاف يُعلَم بها أن كل قائل مُصمم على قوله لا ينثني عنه، فالجمهور على جوازه، وذلك كخلاف الصحابة لأبي بكر - رضي الله عنهم - في قتال مانعي الزكاة وإجماعهم بعد ذلك، وكذا خلافهم في دفنه - صلى الله عليه وسلم - في أي مكان ثم أجمعوا على بيت عائشة - رضي الله عنها -؛ إذِ الخلاف لم يكن استقر. ¬

_ (¬1) في (ز، من): وظنا.

ونقل الهندي عن الصيرفي أنه لا يجوز، لكن الذي في كتاب الصيرفي ظاهره يُشْعر بموافقة الجمهور؛ ولهذا قال الشيخ في "اللمع": (إنَّ المسألة تصير حينئذ إجماعية بلا خلاف) (¬1). ووقع للقرافي عكس هذا، فزعم أنَّ محل الخلاف الآتي إذا لم يستقر خلافهم. وهو عجيب؛ فإنَّ محله إذا استقر. فإذا كان الاتفاق في عصر بعد استقرار خلاف في عصر قَبْله ومضى أصحاب الخلاف عليه مدة، ففيه وجهان لأصحابنا، بل نقلهما أبو الحسن السهيلي في "أدب الجدل" قولين للشافعي وأنَّ أصحهما أنَّ الخلاف لا يرتفع وكأنَّ المخالف حاضر، [و] (¬2) ليس موته مُسْقِطًا لقوله: فيبقى الاجتهاد. قال الشيخ أبو إسحاق: هو قول عامة أصحابنا. وقال سُليم الرازي: هو قول أكثرهم وأكثر الأشعرية. وكذا قاله ابن السمعاني، ونقله ابن الحاجب عن الأشعري. قال إمام الحرمين: (وإليه مَيْل الشافعي، ومن عباراته الرشيقة: المذاهب لا تموت بموت أربابها) (¬3). ونقله أيضًا إلْكِيَا وابن برهان عن الشافعي، وقال أبو علي السنجي: إنه أصح قوليه. ونقله القاضي في "التقريب"عن جمهور المتكلمين، وبه قال أيضًا أحمد والصيرفي وابن أبي هريرة وأبو علي الطبري والقاضي أبو حامد والإمام والغزالي، وهو الذي نصره ابن القطان وأنه مذهب الشافعي؛ لأنه قال: حَدُّ الخمر أربعون؛ لأنه مذهب الصديق - رضي الله عنه -. وقد أجمعوا ¬

_ (¬1) اللمع (ع 93). (¬2) كذا في (ص، ز)، لكن في (ت، ق): إذ. (¬3) البرهان (1/ 456).

بعد هذا أنَّ حده ثمانون، إذْ قالوا: "نرى أنه إذا سكر هَذَى (¬1)، وإذَا هَذَى افترى" (¬2). فلم يَعُده إجماعًا؛ لِسَبْق خِلَاف الصديق - رضي الله عنه -. قيل: ولا يشكل على هذا قوله في الجديد: يُنْقَض قضاء مَن حَكَم ببيع أُمهات الأولاد؛ لأجل اتفاق التابعين بعد ما كان من اختلاف الصحابة؛ لأن الصحابة عادوا واتفقوا على المنع وعليٌّ - رضي الله عنه - فيهم. والقول الثاني: إنه جائز، وعليه أكثر الحنفية، وعليه من أصحابنا الحارث المحاسبي والإصْطَخْري وابن خيران والقفال الكبير، والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ والإمام الرازي وأتباعه. ونقله إلْكِيَا عن الجبَّائي وابنه وأبي عبد الله البصري، وقواه المتأخرون؛ ولذلك جريت في النَّظْم عليه؛ لقوته. وفي المسألة قول ثالث حكاه أبو بكر الرازي: إنْ كان خلافًا يؤثم فيه بعضهم بعضًا، كان إجماعا، وإلا فلا. والقائلون بالجواز قال أكثرهم: يكون حُجة، ويرتفع به الخلاف المتقدم، وتصير المسألة إجماعية. وقيل: لا يكون حجة. وقيل: يكون حجة ولكن ليس بإجماع. نقله ابن القطان عن قوم وأنهم قالوا: وجه ¬

_ (¬1) هَذَي هَذْيًا وهَذَيانًا: تكلم بِكَلَام غير مَعْقُول في مرض أَو غَيره. (المحكم والمحيط الأعظم، 4/ 378). (¬2) السنن الكبرى للنسائي (رقم: 5288)، المستدرك على الصحيحين (رقم: 8131)، وغيرهما. وقال الألباني في (إرواء الغليل: 2378): (ضعيف ... ، وقال الحافظ في "التلخيص": .. في صحته نَظَر). وانظر: التلخيص الحبير (4/ 75).

الحجية أن لهؤلاء مزية على أولئك؛ لانفراده في عصر؛ فهو المعتبر. قال: وليس بشيء إلا على قوله في القديم: إن الصحابة - رضي الله عنهم - إذا اختلفوا، يؤخذ بقول الأكثر. أما على المشهور من مذهبه فلا فرق بين القليل والكثير. قيل: والحقُّ في المسألة أنه إجماع ظني لا قطعي، وإليه يشير كلام إمام الحرمين. وفي كتاب "تقويم الأدلة" لأبي زيد الدبوسي عن الحنفية: إنه من أدنى مراتب الإجماع (¬1). فرع: هل وقع ذلك؟ الظاهر مما سبق عن الشافعي في حد الخمر وقوعه. وقال ابن الحاجب: (الحقُّ في مثل هذا الإجماع أنه يُعتبر (¬2) وقوعه، لأنه غالبًا لا يكون إلا عن جَلِي، وَيبعُد غفلة المخالف). نعم، وقع قليلًا، كاختلاف الصحابة في بيع أُم الولد، ثم زال باتفاقهم على المنع، وكاختلافهم في نكاح المتعة ثم أجمعوا على المنع. قلتُ: لكن هذان إنما يصح التمثيل بهما لما سيأتي وهو الصورة الثانية: أنْ يختلفوا على قولين ثم يرجع أحد الفريقين إلى قول الآخَر، فيتفقوا بأنفسهم على ذلك القول. فإنْ كان ذلك قبل استقرار الخلاف فإجماع وكذا حُجة، خلافًا لقوم يقولون: إنه إجماع، لا حجة. ولهذا جمع ابن الحاجب بينهما. وهل ذلك وفاق؟ أو على خلاف؟ فيه ما سبق في التي قبلها عن الصيرفي وغيره. ¬

_ (¬1) تقويم الأدلة (ص 33). (¬2) كذا في جميع النُّسَخ، والصواب: يبعد؛ فعبارة ابن الحاجب في مختصره (ص 62): (والحقُّ أنه بعيد).

وإن كان بعد استقرار الخلاف، فقيل: ممتنع؛ لتناقض الإجماعين: الاختلاف أولًا ثم الاتفاق ثانيًا، كما إذا كانوا على قول فرجعوا عنه إلى آخَر. وبه قال القاضي، وإليه ميل الغزالي وغيره، ونقله ابن برهان في "الوجيز" عن الشافعي، وجزم به الشيخ في "اللمع"، واختاره الآمدي وابن الحاجب. وقيل: يجوز، إلا أن يكون مستندهم قاطعًا. وإذا قُلنا بالجواز، فهل هو حُجة وإجماع؟ أو حجة فقط؟ فيه ما سبق، وهنا أَوْلى بكونه إجماعًا وحجة؛ لأنه قول كل الأمة؛ إذْ لم يبق قائل بخلافه، لا حي ولا ميت. وقيل: إن كان في الفروع، لا يجزم معه بتحريم الذهاب للقول الآخَر، بخلاف ما فيه تأثيم وتضليل. وقيل: إنْ قَرب عهدُ المختلفين فإجماع، أو تمادى فلا. وقيل غير ذلك. الصورة الثالثة: أن يختلفوا على قولين ثم يموت أحد الفريقين، وهو حُجة أيضًا؛ لأنهم صاروا كل الأمة. وكذا لو ارتدت - والعياذ بالله تعالى- إحدى الطائفتين، يكون قول الأخرى حجة؛ لأنهم كل الأمة. وقد حكى الأستاذ أبو إسحاق في الصورتين قولين، المرجح ما سبق، واختاره الرازي والهندي، وصحح القاضي في "التقريب" الثاني؛ لأن الميت في حُكم الباقي الموجود، وفي "المستصفى" أنه الراجح، وجزم به الأستاذ أبو منصور البغدادي. وبنى الخلاف أبو الحسن السهيلي على الخلاف في إجماع التابعين بعد اختلاف الصحابة - رضي الله عنهم -، وهو بناء ظاهر. الصورة الرابعة: أنْ يموت بعض أحد الفريقين ويرجع مَن بقي منهم إلى قول الآخَرين. قال ابن كج: وفيها وجهان، أحدهما: أنه إجماع؛ لأنهم أهل العصر. والثاني: المنع؛ لأن

الصديق - رضي الله عنه - جَلد في حد الخمر أربعين وقد أجمع الصحابة - رضي الله عنهم - على ثمانين في زمن [عمر] (¬1)، فلم يجعلوا المسألة إجماعًا؛ لأنَّ الخلاف كان قد تَقدم وقد مات مِمَّن قال بذلك بعض، ورجع بعضٌ إلى قول عمر - رضي الله عنه -. فرع: لو أجمعوا وخالف مَن كفرناه ببدعته فلَم يُعتد بخلافه، ثم رجع عن بدعته ولكن بقي خلافه في تلك المسألة التي خالفوا فيها زمن كفرهم، ينبني على انقراض العصر: إنِ اعتُبر، لم يكن إجماعًا. وإنْ لم يُعتبر وهو الأصح، وَجَب كوْنه إجماعًا. كما لو بلغ صبي أو أسلم كافر وبلغ رُتبة الاجتهاد: إذا خالف، لا يُعتد به؛ لأنَّ الإجماع قد سبق، والتفريع على عدم اعتبار الانقراض. وهذه الصُّوَر كلها يشملها قولي في النظم: (وَالِاتِّفَاقُ بَعْدَ خُلْفٍ أَوْجَبُوا صِحَّتَهُ مِنْهُمْ وَمنْ غَيْرِهِمِ). أيْ: أوجب العلماء -على القول الراجح في الكل- أنه إجماع صحيح وحُجة شرعية، والله أعلم. وقولي: (وَالْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ مِمَّا قَدْ نُمِي) أي: نُقل، وتتمته قولي: بعده: ص: 246 - مِنَ الْخِلَافِ بِانْتِفَا الدَّلِيلِ ... تَمَسُّكٌ بِمُجْمَعٍ مَقُولِ الشرح: إشارة إلى قاعدة تُنسب للشافعي رحمه الله تعالى، وهي: "الأخذ بأقلِّ ما قِيل"، وذكرتها هنا -تبعًا لكثير كابن الحاجب- وإنْ ذكَرها كثير في الأدلة المختلف فيها؛ لأنها ترجع إلى إجماع كما سيأتي تقريره. وقد وافق الشافعيَّ عليها القاضي وكثيرون، وخالفه قوم. وصورة المسألة كما قال ابن السمعاني: أنْ يختلف العلماء في مقدَّرٍ بالاجتهاد، فيؤخذ بأقَلِّها إذا لم يدل على الزائد دليل. وربما قُصِر ذلك على اختلاف الصحابة - رضي الله عنهم - كما فسر به ابن ¬

_ (¬1) من (ق، ت).

القطان. وقال القفال الشاشي: هو أنْ يَرِد فِعل مِن النبي - صلى الله عليه وسلم - مُبَيِّنًا لِمُجْمَل ويحتاج إلى تحديده، فيُصار إلى أقلِّ ما يؤخذ (¬1)، وهذا كما قال الشافعي في أقل الجزية: إنه دينار؛ لأن الدليل قام على أنه لا بُدَّ من توقيت، فصار إلى أقل ما حُكى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخذ في الجزية. قال: وهذا أصل في التوقيت قد صار إليه الشافعي في مسائل كثيرة، كتحديد مسافة القصر بمرحلتين، وما لا ينجس بملاقاة النجس حتى يتغير بِقُلَّتَين، وأن دية اليهودي ثُلث دية المسلم. وعلى التقرير الأول يُمثل بمسألة الدية أيضًا، فمِن قائل مِن الصحابة وغيرهم: إنَّ دية اليهودي أو النصراني نصف دية المسلم. ومن قائل: دية مسلم. ومن قائل: ثلث دية مسلم، فكان هذا أقلَّها. ومِثله ما ذهب إليه في الدية أنها أخماس، وقيل: أرباع، فالأخماس أقَل. فالأقل دائما مُجْمع عليه؛ لاجتماع الكل فيه، ألا ترى أنَّ كلًّا من الجميع والنصف مشتمل على الثلث في مثال قدر الدية؟ نعم، نفْي الزائد التمسك فيه بالبراءة الأصلية؛ ولذلك كان فرض المسألة فيما كان فيه الأصل براءة الذمة، فإن الأصل في مسألة الدية مثلًا براءةُ ذمة القاتل من الزائد على الأقل. وقد ظهر بذلك أنه لا يَرِد على هذه القاعدة الجمعة حيث اختُلف في عدد ما تنعقد به، فقيل: أربعون، وقيل دون ذلك كالاثنين والثلاثة ونحو ذلك، مع أن الشافعي أخذ فيها بالأربعين، وهو أكثر ما قيل. لأنَّا نقول: الجمعة ثابتة في الذمة بيقين؛ فلا يخرج عن عهدتها إلا بيقين، واليقين هنا هو الأكثر، لا الأقل، فكل مَن قال بصحتها بدون الأربعين قال به في الأربعين، فالْمُجْمَع عليه هو الصحة بالأربعين، فلَم تخرج عن القاعدة، بخلاف ما سبق في الدية ونحوها. ¬

_ (¬1) كلمة "يؤخذ" جاءت في بعض النُّسخ: يوجد.

على أنَّ ابن السمعاني حكى في ذلك وجهين في مَأْخَذ الشافعي في هذه القاعدة، أحدهما: ما ذكرناه. والثاني: أنَّ الشافعي إنما اعتبر الأربعين بدليل آخر. فَعَلى الأول يُراد بالقاعدة القسمان معًا؛ لأن المراد الأخذ بالمحقق وطرح المشكوك فيما أصله البراءة، والأخذ بما يُخرج عن العهدة بيقين فيما أصله شغل الذمة، ورجح هذا المأخذ ابن السمعاني. فإن قيل: الجمعة والدِّية كلاهما في الذمة بعد وجود سببهما، وقبل وجوده تكون الذمة خالية منهما، فهُما سواء. فالجواب: أنَّ ما تَقَيَّد وارتبط بعضُه ببعض لا يُعتد ببعضه منفردًا، فالشَّغْل باقٍ، كالجمعة، فإنَّ المجمعين فِعلهم مرتبط بعضه ببعض، وما لا يرتبط -كالدية- يُعْتَد ببعضه منفردًا؛ لأنَّ مَن وجب عليه عشرون درهمًا لزيد، مأمور بتأدية كل درهم بخصوصه، فحينئذ الزائد لا يتحقق شغل الذمة به، فَفَارَقَ الجمعة. وليكن هذا جوابًا آخر عنها. وأمَّا على تصوير القفال القاعدة فقد قال: إن الأربعين في الجمعة هو أقَل ما رُوي أنه - صلى الله عليه وسلم - جمَّع بهم. ومما نُقِض به القاعدة الغسل من ولوغ الكلب، لم يأخذ فيه بأقل ما قيل، بل بالأكثر وهو السبع. وأجاب ابن القطان بأن الكلام فيما لم يَرِد فيه نَص، بل دار بين أصول مجتهَد فيها، والسبع ورَدَ النص فيها. واعلَم أن من شروط القاعدة: أنْ لا يكون دليل يدل على الزائد، ولا أحد قال بأقل مما فرض أنه أقل، ولا دليل دل على الأقل بخصوصه، وسبق في الأمثلة ما يوضح ذلك. ومما يتفرع على القاعدة ما نُقل عن الشافعي فيمن سرق شيئًا فشهد شاهد أن قيمته ربع دينار، وآخَر: ثُمن دينار، لا يُقطع. وكذا لو شهد شاهد عليه بألْف وآخَر بألف وخمسمائة، لا

يحكم عليه إلا بما اتفقا عليه وهو الألف. تنبيهان أحدهما: إذا كان الأخذ بأقل ما قيل مركَّبًا من شيئين: إجماع، وبراءة أصلية في الزائد كما سبق، وقد قرره كذلك القاضي في "التقريب" والغزالي وغيرهما، فكيف أدخلته في مسائل الإجماع؟ وكيف ينازع المخالف للشافعي فيه بأنه لا إجماع فيه باعتبار الزائد كما قرر ذلك ابن الحاجب وغيره؟ والجواب: أنه من حيث الأقل عملٌ بمجمع عليه؛ فدخل في مسائل الإجماع وإنْ كان الشق الآخر مستنِدًا للبراءة الأصلية، وقد قرره كذلك العبدري في شرح "البرهان". الثاني: نظير هذه المسألة اختلاف العلماء فيما إذا اختلف عليه مفتيان، هل يأخذ بقول أعظمهما؛ أو يتخير؛ ذكر هذا الأصل الماوردي في "الحاوي" في باب "جزاء الصيد"، وبنى عليه إذَا حَكم عدلان بمثلٍ وآخَران بآخَر، فوجهان ينبنيان على ذلك، والله أعلم. ص: 247 - وَالْخَرْقُ لِلْإجْمَاعِ بِالْمُخَالَفَهْ ... مُحَرَّمٌ؛ فَامْنَعْ إذَا مَا خَالَفَهْ 248 - إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ وَلَوْ أَتَى ... مُفَصّلًا بِخَارِقٍ مَا ثَبَتَا الشرح: خَرْق الإجماع بمخالفة الحكم المجمع عليه حرام؛ لأن الله عز وجل تَوَعَّد عليه بقوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. فإنْ كان مستنده النص فقطْعًا، وإن كان عن قياس ونحوه فَعَلَى الأصح. ومُقابِلُه قول حكاه عبد الجبار: إنه يجوز؛ لاحتمال خلاف اجتهادهم. ورُدَّ بأنَّ بالإجماع قد انقطع النظر والاجتهاد، وصار دليلًا شرعيًّا تحرم مخالفته.

وقد سبقت مذاهب في مسائل تُشْبه هذا، وسبق ضعفها: منها: تجويز أبي عبد الله البصري انعقاد إجماع بَعْد إجماع مع كوْن الثاني خرقًا للأول. ومنها: مَن قال في الإجماع السكوتي: إنه ليس حُجة، وما لم ينقرض فيه العصر. وشبه ذلك، وهو كثير. وحيث قلنا في خرق الإجماع: (إنه حرام) فهل يكون كفرًا؟ فيه تفصيل يأتي آخِر الفصل. وقولي: (فَامْنَعْ إذَا مَا خَالَفَهْ) إلى آخِره -إشارة إلى أن هذا الأصل يتفرع عليه مسائل: إحداها: أن الأُمة إذا أجمعت على قولين، هل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث غير القولين المتقدمَين؟ وفي معناه -وإن لم يتعرض الأكثر له- أن يُحْدثوا هُم أو بعضهم القول الثالث. فيه مذاهب: أصحها عند الجمهور: المنع مطلقًا، كما لا يجوز إحداث قول ثانٍ، ونَصَّ عليه الشافعي في "الرسالة". قال أبو منصور: هو قول الجمهور. وقال إلْكِيَا: إنه الصحيح وبه الفتوى. وقال ابن بَرهان: إنه مذهبنا. وجزم به القفال الشاشي والصيرفي والقاضي أبو الطيب والروداني. الثاني: الجواز مطلقًا؛ لأنه لم يخرق إجماعًا سابقًا، فإنه قد لا يرفع شيئًا مما أجمعوا عليه. وحكاه ابن القطان عن داود، وحكاه الصيرفي والروياني عن بعض المتكلمين. وقال القاضي أبو الطيب: رأيت بعض أصحاب أبي حنيفة يختاره وينصره. وكذا نقله ابن برهان وابن السمعاني عن بعض الحنفية والظاهرية. نعم، أنكره ابن حزم على مَن نسبه لداود. والثالث وهو الحقُّ عند المتأخرين: أن القول الثالث إنْ لزم منه رفْع ما أجمعوا عليه، كان خارقًا ممتنعًا، وإلا فلا يمتنع.

وقضية كلام الهروي في "الإشراف" أنه مذهب الشافعي، فإنه قال: (ومن لَفَّق من القولين قولًا على هذا الوجه، لا يُعَد خارقًا للإجماع كما ذكرنا في وطء الثيب: هل يمنع الرد بالعيب؟ تحزبت الصحابة حزبين: ذهبت طائفة إلى أنه يردها ويرد معها عُقرها، وذهب حزب إلى أنه لا يردها. فأخذ الشافعي في إسقاط العقر بِقَوْل حزب وفي تجويز الرد بقول حزب، ولم يُعد ذلك خرقًا للإجماع). انتهى ومَن فَصَّل هذا التفصيل مَثَّل ما يَلزم منه رفْع مجمع عليه بوطء المشتري البكر ثم يطلع على عيب، فقيل: يمتنع الرد. وقيل يجوز مع الأرش. فالرد مجانًا بلا أرش خرقٌ لإجماع القولين على منع الرد قهرًا مجانًا. وإنما قلتُ: (قهرًا)؛ لأنهم إذا تراضيا على الرد مع الأرش أو على الإمساك وأخذ أرش العَيْب القديم، جاز. فإنْ تشاحَّا فالصحيح إجابة مَن يدعو إلى الإمساك. وأما تمثيل الآمدي بوطء الثيب في هذه الصورة ففيه نظر، فإنه على التقرير الذي ذكره الهروي يَكون من أمثلة ما لا يرفع وستأتي أمثلته، وعلى التقرير الذي سبق في البكر فمردود بقول أصحابنا: إنه يرد مجانًا، وهو أحد أقوال الصحابة - رضي الله عنهم -، فنقل عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -. ومن أمثلة ما يرفع أيضًا: الإرث في الجد مع الأخ، فقيل: الإرث كله للجد. وقيل: يتقاسمان. فحرمان الجد خارِق. وأمَّا مثال ما لا يرفع مجمعًا عليه فالفسخ في النكاح بالعيوب الخمسة: الجنون، والجذام، والبرص، والجب والعنه إنْ كان في الزوج، والقرن والرتق إنْ كان في الزوجة. فقيل: لكل منهما أن يفسخ بها. وهو مذهبنا. وقيل: لا. ونُقل عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، كما نُقل عن أبي حنيفة أنه يفسخ ببعض دُون

بعض. وعن الحسن البصري: إنَّ المرأة تفسخ دون الرجل؛ لتمكُّنه من الخلاص بالطلاق. قول ثالث، لكنه لم يرفع، بل وافق في كل مسألة قولًا وإنْ خالفه في أخرى. ومثله الأم مع زوج وأب، أو زوجة وأب، قيل: للأم الثلث من الأصل في المسألتين. وهو قول ابن عباس. وقيل: ثلث ما يبقى بعد نصيب الزوج أو الزوجة. فالقول بأنَّ لها الثلث في إحدى المسألتين وثلث الباقي في المسألة الأخرى -لا يرفع القولين، بل يوافق في كُلٍّ قولًا. وهذا معنى قولي: (فَامْنَعْ) إلى آخِره، فيدخل تحته القول الثالث المُبَايِن لهما، والمفصِّل إذا لزم منه مخالفة ما اجتمعا فيه؛ فإنه يكون خرقًا للإجماع. ومفهومه أنه إذا لم يكن كذلك، لا امتناع فيه، وهو ما ذكرنا أن المتأخرين رجحوه. نعم، اعترضه بعض الحنفية بأن هذا [المُفَصِّل] (¬1) لا معنى له، إذْ لا نزاع في أنَّ القول الثالث إنِ استلزم إبطال مجمع عليه، يكون مردودًا، لكن الخصم يقول: إنه يستلزم ذلك في جميع الصور، وإنْ كان في بعض لا يستلزم فالكلام في الكل. ولا يَخفَى ضعف ذلك؛ فإنَّ المحالّ المتعددة كلٌّ حُكْم النظرِ فيه لِمَحِلِّه، لا لمشاركة غَيْرِه له فيه أو عدم المشاركة. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق، ت)، لكن في (ز): التفصيل.

تنبيهان الأول: لا يخفَى أنَّ التعبير بالقولين -على وَجْه التمثيل، ولا فرْق بين قولين وأكثر كما قاله الصيرفي، ومَثَّل بأقوالهم في الجد، قال: فلا يجوز إحداث قول سوى ما تَقدم. وما قاله يقتضي أن الجد فيه أقوال: انفراده، انفراد الأخ، اشتراكهما. وممن حكى القول بحرمان الجد وانفراد الأخ ابن حزم. ثُم كلام الصيرفي أيضًا يقتضي اختصاص ذلك باختلاف الصحابة فقط، ولكن ظاهر كلام غيره عدم الاختصاص، وظاهر كلام الصيرفي أيضًا تقييد المسألة بأن يستفيض الاختلاف فيهم، فأما إذا حُكي فتوى واحد ولم يستفِض قولُه، فيجوز الخروج عنه إلى ما قام عليه دليل. الثاني: إذا تَعدَّد محل الحكم لكن أجمعوا على أنْ لا فصل بينهما، بل متى حُكم بحكم على أحد المحلَّين كان الآخر مِثْله، قال الهندي: يمتنع إحداثُ قولٍ بالفصل بينهما بلا خلاف. ولكن الخلاف مشهور، حكاه القاضي في "التقريب"، وحكاه في "اللمع" احتمالًا للقاضي أبي الطيب، فينبغي أنْ يقول: على الأصح. وإنْ لم يَنصوا على ذلك ولكن عُلِم اتحاد الجامع بينهما فهو جارٍ مَجْرَى النَّص على عدم الفَرق، كالعمة والخالة، مَن وَرَّث [إحْدَاهما] (¬1) وَرَّث الأخرى، ومَن مَنع مَنع؛ لأنَّ المأْخَذ واحد، وهو القرابة المحرمية. فإذا لم يصرح الفريقان بالتسوية ولا اتحد الجامع، فلا يكون التفصيل خارقًا، فقولنا فيما ¬

_ (¬1) في (ز، ش): احديهما.

سبق أن يكون الثالث خارقًا [مُقَيّدًا] (¬1) لِمَا قُلْناه. والله أعلم. ص: 249 - أَمَّا دَلِيلٌ حَادِثٌ أَوْ عِلَّهْ ... أَوْ ضَرْبُ تَأْوِيل فَجَوِّزْ كُلَّهْ الشرح: هذه ثلاث مسائل ربما يظن أنها من الخارق وليس كذلك. الأُولى: إذا استدل أهل عصر بدليل، جاز لمن بَعْدهم إحداث دليل آخَر إذا لم يكن فيه إبطال للأول عند الأكثر، وعليه الصيرفي وسليم وابن السمعاني وغيرهم، وحكاه ابن القطان عن أكثر أصحابنا؛ لأن الشيء قد يكون عليه أدلة، قال: وذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا يجوز؛ لأنَّ الأوَّلين إذا أجمعوا على دليل، كان الإتيانُ بدليل آخَر خلافَ ما أجمعوا عليه؛ فهو غَيْر سبيل المؤمنين التي سلكوها في الاستدلال. ولا يخفَى فساد ذلك؛ لأن المطلوب من الأدلة أحكامها، لا أعيانها، فَعَيْن الحكم باقي، وغَيْرُ الدليل الأول ما غَيَّرَهُ، وإلَّا [يَلْزَم] (¬2) المنع مِن كل قول مِن مجتهد لم يتعرض الأوَّلون له. وفصَّل ابن حزم وغيره بين أن يكون المحدَث نَصًّا آخَر لم يَطَّلِع عليه الأولون فيمتنع، أو لا فلا يمتنع. وحكى صاحب "الكبريت الأحمر" قولًا رابعًا بالوقف. وذهب ابن برهان إلى قول خامس بالتفصيل بين الدليل الظاهر فلا يجوز إحداث غيره، وبين الخفِي فيجوز؛ لجواز اشتباهه على الأولين. الثانية: إذا عللوا بِعِلَّة ثُم أَحْدَث مَن بَعْدهم عِلة أخرى، فيجوز أيضا على الصحيح؛ ¬

_ (¬1) في (ش): مفيد. وفي سائر النُّسخ: مقيدا. (¬2) في (ز، ش): للزم.

بناءً على جواز تعليل الحكم الواحد بِعِلَّتين، وهو الصحيح كما سيأتي في باب القياس. أما إذا قلنا: لا يجوز تعدُّد العِلَل، فيمتنع إحداث عِلة أخرى؛ لأن عِلتهم مقطوع بصحتها، ففيه دليل على فساد غيرها؛ ولهذا قال القاضي عبد الوهاب: إنَّ العلة إنْ كانت لحكم عقلي فلا يجوز إحداث علة أخرى له؛ لأن الحكم العقلي لا يُعلَّل بِعِلتين. الثالثة: إذا أوَّلوا تأويلًا للفظٍ، هل لمن بعدهم إحداث تأويل آخَر؛ الصحيح الجواز كما سبق. وقيل: لا يجوز؛ لأنه كالمذهب، لا كالدليل. واختاره القاضي عبد الوهاب، قال: لأنَّ الآية مثلًا إذا احتملت معاني وأجمعوا على تأويلها بأحدها، صار كالإفتاء -في حادثة تحتمل أحكامًا- بحكم؛ فلا يجوز أن يُؤَوَّل بغيره كما لا يُفتَى [بغير ما] (¬1) أفتوا به. تنبيه: قيَّدوا المسائل الثلاث بما إذا لم ينصُّوا على منع غير ما ذكروه، بأنْ يصرحوا بفساد غيره، أو يجمعوا على أنه لا دليل على كذا إلا ما استدلوا به حيث [ساغ] (¬2) ذلك. ففي "الملخص" للقاضي عبد الوهاب أن الدليل الثاني إنْ كان مما [تتغير] (¬3) دلالته، صح إجماعهم على كونه دليلًا. أو قالوا في العلة: (لا علة للحكم إلا هذه)، أو بكون العلة الثانية تخالف الأُولى في بعض الفروع، فإنَّ الثانية تكون فاسدة. ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ش)، لكن في سائر النسخ: بغيره كما. (¬2) كذا في (ص، ض). وفي سائر النُّسخ: شاع. (¬3) في (ق): لا تتغير. والعبارة نقلها الزركشي في (البحر المحيط، 3/ 565) هكذا: (فإنْ كان الدليل الثاني مما يتغير دلالته صح إجماعهم على منع كونه دليلًا).

ولم أُقَيِّده في النَّظم؛ لأنه لا يُحتاج إليه؛ فإنهم إذا أفسدوه، لم يكن دليلًا ولا تأويلًا ولا علة، بل هو لَغْو بإجماعهم، والكلام في إحداث شيء لم يسبق إبطاله منهم. وكذلك قيدوا المسائل بما إذا لم يكن في المحدَث إبطالٌ وإلغاء لِمَا قاله الأولون. ولا يُحتاج أيضًا إليه؛ لأن بإبطال الأول يصير كأنه ادُّعِيَ أنَّ هذا هو الدليل أو التأويل أو [التعليل] (¬1)، فقد خرق الإجماع بمخالفته؛ إذْ لا يُقال: "آخَر" إلا مع بقاء الأول، وهذا واضح. والله أعلم. ص: 250 - وَحَيْثُ لَا خِلَافَ في انْعِقَادِهِ ... يَكُونُ قَطْعِيًّا عَلَى انْفِرَادِهِ الشرح: أي: إذا ثبت أن الإجماع حجة وأنه لا يجوز خرْقه ولا مخالفته، هل ذلك لكونه حجة قطعية حتى يكفر مُنْكِرُ حجيته أو يُضلَّل؟ وهل إنكار ما أجمعوا عليه مُكفر؟ أوْ لا (على ما سيأتي من التفصيل)؟ أو أنه حجة ظنية لا يتعلق بها شيء من الأمرين؟ ذهب الأكثرون إلى الأول، والإمامُ والآمدي إلى الثاني. وفصَّل المحققون بين: - الإجماع الذي لا خلاف في ثبوته وانعقاده، فيكون قطعيًّا. - أو فيه خلاف، كالإجماع السكوتي، وما لم ينقرض عصره، والإجماع بعد الاختلاف، وما ندر المخالف فيه عند مَن يراه كما قاله ابن الحاجب، ونحو ذلك، فلا يكون قطعيًّا. وقولي: (على انفراده) أي: لا يحتاج إلى انضمام دليل آخر يصير به قطعيًّا، والله أعلم. ¬

_ (¬1) في (ز): العلة.

ص: 251 - فَجَاحِدٌ لِمُجْمَعٍ ضَرُورِي ... في الدِّينِ كَافِرٌ بِلَا تَقْرِيرِ 252 - وَهَكَذَا في الْمُجْمَعِ الْمَنْصُوصِ ... وَغَيْرهِ، لَا [بِخَفَا] (¬1) مَخْصُوصِ الشرح: أي: يتفرع على كوْن الإجماع قطعيًّا تكفيرُ مُنكره في بعض الحالات. واعْلَم أن الإنكار: - إما أنْ يكون واردًا على نفس الإجماع، كالإنكار لحجية الإجماع أو تَصَوُّره في الأصل أو تصور معرفته. - وإما أنْ لا يَرِد على نفس الإجماع [شيء] (¬2)، بل كَوْنه في تلك المسألة وقع؟ أم لا؟ - وإما لِمَا أجمعوا عليه من الحكم، فيجحد نفس الحكم. فالأول: هو الخلاف في عَدِّه من الأدلة، ولم أتعرض له في النَّظم؛ لأن موضوعه تَرْك الخلاف (¬3)، وقد سبق في الشرح -أوائل الباب- التعرض لشيء منه، فالمخالفون في الإجماع الذي هو قطعي مبتدِعة، والقول في تكفيرهم كالقول في تكفير سائر أهل البدع والأهواء. والمختار أنه لا يُكفَّر أحد من أهل القبلة، نُقل ذلك عن الشافعي وأبي حنيفة والأشعري. فأمَّا عن أبي حنيفة والأشعري فصحيح، وأما الشافعي فقيل: أُخِذ مِن قوله: لا أرد شهادة أهل البدع والأهواء إلا الخطابية. قيل: ولا دلالة فيه؛ إذ لا يَلزم من عدم تكفير أهل البدع والأهواء في الجملة عدم ¬

_ (¬1) في بعض النُّسخ: بخَفًا. لكن قال البرماوي: (قصر في النظم للضرورة). فأصلها: بخفاء، وقصرت. (¬2) ليس في (ز، ص، ش). (¬3) يعني: النَّظم يترك الخلاف، فلا يتعرض لِذِكره.

تكفيرهم إذا انتهوا إلى ما يكفرون به. وقد صح عن الشافعي تكفير القائل بخلْق القرآن، رواه الحاكم عن سهل بن سهل، فقال: (سألتُ الشافعي عن القرآن، فقال: كلام الله غير مخلوق. قلتُ: مَن قال: "هو مخلوق" ففي هو عندك؟ قال: كافر. قلتُ: أقول: "كافر" فإذا قيل لي غدًا: لِمَ قلتَ؟ أقول: قاله لي الشافعي؟ قال: نعم، قُل: إن الشافعي قال: هو كافر). وقال ابن خزيمة: سمعت الربيع يقول: تكلم حفص الفرد عند الشافعي بأن القرآن مخلوق، فقال له: كفرتَ بالله العظيم. وذهب جمعٌ من أصحابنا إلى تكفير المُجَسِّمَة، لأنهم جاهلون بالله؛ [يعبدون] (¬1) غير الله إلهًا. نعم، حيث يكفر المبتدع لا يصير مِن أهل القِبلة، وبه [تجتمع النقول] (¬2)، فقد قال الرافعي وتبعه في "الروضة" في باب الشهادات: جمهور الفقهاء من أصحابنا وغيرهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة، لكن اشتهر عن الشافعي تكفير الذين ينفون علم الله تعالى بالمعدوم (¬3). قالا: ونقل العراقيون عنه تكفير النافين للرؤية والقائلين بخلق القرآن، وتَأَوَّله الإمام بأنه في المناظرة ألزمهم بالكفر. زاد النووي [فقال] (¬4): أما تكفير منكر العِلم بالمعدوم أو بالجزئيات فلا شك فيه، [أما ¬

_ (¬1) في (ز): معتقدون. (¬2) كذا في (ز، ش). لكن في سائر النُّسخ: يجتمع القول. (¬3) روضة الطالبين (11/ 239). (¬4) من (ز).

مَن] (¬1) نفَى الرؤية أو قال بخلق القرآن فالمختار تأويله. وسننقل عن "الأم" ما يؤيده. وذكر ذلك بعد نحو [صفحة] (¬2)، وهو ظاهر. قال: (وقد تأَوَّلَه البيهقي وغيرُه بما لا يخرجهم عن الملة؛ ولهذا لم يلحقوهم بالكفار في الإرث والأنكحة ووجوب قتلهم وقتالهم وغير ذلك) (¬3). انتهى ملخصًا. فانظر كيف قال في نافي العِلم: (إنه لا شك في كفره)، وأَوَّل غيرَ ذلك؟ فالضابط أنه لا يكفر إلا مَن يُنكر ما يعلم مجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - به ضرورة، كالحشر والعِلم بالجزئيات، وكذا نحو [قذف] (¬4) عائشة كما صرح به النووي من [زيادة] (¬5) "الروضة"، فهذا كله إنما هو لانتهاء المبتدع إلى حد يكفر به وهو تكذيب القرآن وتكذيب ما عُلِم في الشرع صِدقه بالضرورة، ويبقى النظر: هل مِن ذلك كذا وكذا؟ أو لا؟ كالمجسمة ونحو ذلك. وعُلِم أنهم بما يكفرون به يخرجون عن أهل القبلة؛ فلا ينافي إطلاق الأئمة أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة، وأنَّ السعي في تأويل إطلاق تكفيرهم من الأئمة إنما هو لأنَّ ذلك الأمر لم يَنتهِ عند المُؤَوِّل إلى رتبة التكفير به. أما المستحِل للمحرمات فإنْ كان [بتأويل] (¬6) لغير ما عُلِم من الدِّين بالضرورة فلا ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ش). لكن في سائر النُّسخ: من اثبات. (¬2) في (ش): نصف صفحة. (¬3) روضة الطالبين (11/ 239). (¬4) في (ش): قذفه. (¬5) في (ز): زيادات. وفي (ش): زيادته في. (¬6) في (ز): لتأويل.

يكفر، وإن كان بلا تأويل أو بتأويل لِما علم بالضرورة فإنه يكفر. فإنْ كان الإنكار لإجماع ظني (كالسكوتي، وما لم ينقرض فيه المجمعون، ونحو ذلك) فلا خلاف أنه لا يكفر ولا يُبدع. الثاني: إنكار أن الإجماع وقع في تلك المسألة بعد أنْ بَلغه، فيقول: لم يقع، وإنه لو وقع لَقُلْتُ به. فإن أخبر عن وقوعه الخاصة والعامة (كالصلاة)، كفر. وإن أخبر الخاصة دُون العامة (كإرث بنت الابن السدس مع بنت الصلب)، لا يكفر -على الأظهر. فإنِ ادَّعى في القِسم الأول أنه لم يَبْلغه وأمكن (كأن يكون قريب العهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة)، صُدِّق في ذلك. الثالث: إنكار الحكم المجمَع عليه وجَحْده، فينظر فيه، فإن كان معلومًا مِن الدِّين بالضرورة، كفر قطعًا، كمن أنكر ركنًا من أركان الإسلام، لكن ليس كُفره من حيث كون ما جحده مجمعًا عليه فقط، بل مع كونه مما اشترك الخلْقُ في معرفته، فإنه يصير بذلك كأنه جاحد لصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ومعنى كوْنه معلومًا من الدين بالضرورة: أنْ يستوي خاصة أهل الدين وعامتهم في معرفته حتى يصير كالمعلوم بالعِلم الضروري في عدم تَطرُّق الشك إليه، لا أنه يستقل إدراك العقل به فيكون عِلما ضروريًّا؛ لأنَّ من قاعدة الأشاعرة أن لا يَثْبُت حُكم شرعي إلا بدليل، لا بضرورة العقل، وما كان بالدليل لا يَكون ضروريًّا، بل نظريًّا، وهو معنى قولي: (كَافِرٌ بِلَا تَقْرِيرِ). أيْ: لا يُقَر مُرتكبه، لا بجزية ولا بغيرها، بل هو مرتد يجب قتله بالرِّدة بإنكار المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة.

وإنْ لم يكن معلومًا من الدين بالضرورة ولكنه منصوص عليه مشهور عند الخاصة والعامة فيشارك القِسم الذي قَبْله في كوْنه منصوصًا ومشهورًا، ويخالفه من حيث إنه لم يَنْتَهِ إلى كوْنه ضروريًا في الدين فيكفر به جاحده أيضًا. وإنْ لم يكن منصوصًا لكن بلغ مع كونه مجمعًا عليه في الشهرة مَبْلغ المنصوص بحيث يَعْرفه الخاصة والعامة، فهذا أيضًا يكفر منكِره أيضًا على أصح الوجهين اللذين حكاهما الأستاذ أبو إسحاق وغيره؛ لأنه يتضمن تكذيبُهم تكذيبَ الصادق. وقِيل: لا يكفر؛ لعدم التصريح بالتكذيب. وإنْ لم يكن منصوصًا ولا بلغ في الشهرة مَبْلغ المنصوص بل هو خفي لا يَعرفه إلا الخواص كما مَثَّلنا من استحقاق بنت الابن في الإرث مع بنت الصلب السدس، فهذا لا يكفر جاحدُه ومنكره؛ لعذر الخفاء، خلافًا لقول بعض الفقهاء: إنه يكفر؛ لتكذيبه الأُمة. ورُدَّ بأنه لم يكذبهم صريحًا؛ إذِ الفَرْض حيث لم يكن مشهورًا، فهو مما يخفَى على مِثله. وهو معنى قولي: (وَغَيْرهِ، لَا بِخَفَا). وقُصر في النَّظم؛ للضرورة، أي: وكذا إذا أجمعوا على غير منصوص وهو غير خفي بل ظاهر للخَلْق، بخلاف الخفي، فإنه ليس كذلك في التكفير به. هذا ما تحرَّر في الجمع بين كلام أئمتنا وغيرهم، خلافًا لِما وقع في كلام الآمدي وابن الحاجب من الكلام المستغلق المحتاج للتأويل؛ لِما في ظاهره من الأمور المشكلة. فلنذكر شيئًا من كلام الأئمة، ثُم كلام الآمدي وابن الحاجب. فنقول: قال الأستاذ أبو منصور البغدادي: فأما ما أجمعت الأمة عليه أو ورد فيه خبر يوجب العِلم فأصلٌ بنفسه، يأثم المخالِف فيه، ولا يُعتبر فيه مخالفة أهل الأهواء، وربما أورثهم خلافُهم الكفرَ، كخلاف الميمونيَّة من الخوارج في سقوط الرجم، وخِلاف مِن

أسقط منهم حد الخمر. وقال البغوي أوائل "التهذيب": الإجماع نوعان: خاص، وعام. فالعام: إجماع الأُمة على ما يعرفه الخاص والعام، كإجماعهم على أعداد الصلوات والركعات ووجوب الزكوات والصوم والحج، يكفر جاحده. وإنْ كان أمرًا لا يعرفه إلا الخواص كإجماعهم على بطلان نكاح المتعة وأنَّ لِبنْت الابن السدس مع البنت الواحدة من الصلب، فلا يكفر جاحده، ويُبَيَّن له الحقُّ. وقال الرافعي فيمن ترك الصلاة جاحدًا لوجوبها: (إنه مرتد، إلا أنْ يَكون قريب عهد بالإسلام يجوز أنْ يَخفَى عليه ذلك). قال: (وهذا لا يختص بالصلاة، بل يجري في جحود كل حكم مجمع عليه) (¬1). قال النووي: (وليس هذا على إطلاقه، بل مَن جحد مجمعًا عليه فيه نَص وهو مِن أمور الإسلام الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخاص والعام كالصلاة والزكاة والحج والزنا والخمر، فهو كافر. ومَن جحد مجمعًا عليه لا يعرفه إلا الخواص فليس بكافر. ومَن جحد مجمعًا عليه ظاهرًا لا نَص فيه فَفِي الحكم بتكفيره خلاف) (¬2). ثُم صحح في "باب الردة" من الخلاف القولَ بالتكفير. وكذا ذكر القولين ابن السمعاني، ومَثَّل ما يشترك فيه الخاصة والعامة بأعداد الصلوات وركعاتها والحج والصيام وزمانهما وتحريم الزنا والخمر والسرقة. قال: فالجاحد لذلك كالجاحد لصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ومَثَّل الإجماع الذي لا يَعْرفه إلا العلماء بتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وإفساد الحج بالوطء قبل الوقوف بعرفة، وتوريث الجدة السدس، ¬

_ (¬1) العزيز شرح الوجيز (2/ 461). (¬2) روضة الطالبين (2/ 146).

وحجب بني الأم بالجد، ومنع توريث القاتل، ومنع الوصية للوارث. قال: (فجاحد ذلك لا يكفر، بل يحكم بخطئه وضلالته) (¬1). وجَرَى على مِثل ذلك المعنى إمام الحرمين في "البرهان" والهندي في "النهاية". أما الآمدي فقد قال: (اختلفوا في تكفير جاحد المجمَع عليه، فأثبته بعض الفقهاء وأنكره الباقون مع اتفاقهم على أنَّ إنكار حُكم الإجماع الظني غيْر مُوجِب هذا. والمختار إنما هو التفصيل، وهو: أن اعتقاد الإجماع إما أن يكون داخلًا في مفهوم اسم الإسلام، كالعبادات الخمس ووجوب اعتقاد التوحيد والرسالة، أوْ لا يكون كذلك، كالحكم بحل البيع وصحة الإجارة ونحوه. فإنْ كان الأول فجاحده كافر؛ لِمزايلة حقيقة الإسلام له، وإنْ كان الثاني فلا) (¬2). انتهى وقال ابن الحاجب في "مختصره": (إنكار حُكم الإجماع القطعي ثالثها المختار: أنَّ نحو العبادات الخمس يكفر) (¬3). وقد اختُلف في مرادهما بالعبادات الخمس: أركان الدين الخمس؟ أو الصلوات الخمس؟ وإلًا ما كان فيلزم حكاية قولٍ: "إنَّ منكرها لا يكفر"، ولا يُعرف هذا، وأنَّ مُنكر الخفي فيه قول: "إنه يكفر"، وقد أنكره كثيرون، لكن سبق أن بعض الفقهاء قاله، بل هو ظاهر كلام الرافعي حتى إن النووي تعقبه عليه كما ذكرناه. ومَن يُؤَوِّل كلام ابن الحاجب مُرادُه أن القائل بأنه لا يكفر يقول: لا يكفر بمخالفة مجرد الإجماع وإنْ كان يكفر من حيث إنه ضروري في الدِّين؛ فيكون مكذبًا لصاحب الشرع. ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة (1/ 472). (¬2) الإحكام (1/ 344). ولفظ "لمزايلة" جاء في بعض النسخ هكذا: كمن أنكر. (¬3) مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (1/ 505)، الناشر: دار ابن حزم.

القياس

ويزداد الآمدي إشكالًا في قوله: (إنه لا يكفر إلا بما يكون داخلًا تحت حقيقة الإسلام)؛ فيخرج إنكار حل البيع مع أنه يكفر؛ لأنه منصوصٌ مجمَعٌ عليه. نعم، ليس في كلام الآمدي التصريح بأنَّ المذاهب ثلاثة كابن الحاجب. وبالجملة فقد اتضحت المسألة والحقُّ فيها، ولله الحمد، وإنما أطلتُ فيها بالنسبة لهذا المختصر لأنَّ أمر التكفير معضل وخطر عظيم. عصمنا الله من الزلل، وأعاذنا من الخطأ والخطل، والله أعلم. ص: 253 - وَالرَّابِعُ: "الْقِيَاسُ": حَمْلُ مَا عُلِمْ ... عَلَى نَظِيرٍ في الَّذِي بِهِ حُكِمْ 254 - لِكَوْبهِ شَارَكَهُ في مَعْنَى ... لَهُ اقْتِضَاءُ الْحُكْمِ حَيْثُ عَنَّا الشرح: هذا بيان الرابع من أدلة الفقه السابق ذكرها، وهو "القياس". والكلام فيه في أمرين، أحدهما: في حقيقته، والثاني: في موضع حُجيته. الأول: "القياس" مصدر قاس يقيس، ويقال في المصدر أيضًا: قيس، بوزن ضرب. ومعناه في اللغة: - التقدير، تقول: قستُ هذا بهذا. أيْ: قدرته به. - والتسوية، ومِنه: قاس النعل بالنعل. أيْ: حاذاه. قيل: ولم يذكر أهل اللغة إلا الأول، ففي "المحكم": (قستُ الشيء قيسًا وقياسًا: قدرته). وكذا الجوهري قال: (وفيه لغة أخرى: قسته أقوسه). قال: (ولا يقال: أقسته) (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: المحكم والمحيط الأعظم (6/ 486)، الصحاح تاج اللغة (3/ 967).

انتهى وكأن مَن أثبت ذلك أخذه من مادة التقدير؛ فإنَّ المعنى فيهما متقارب، ويمكن أن يحمل ما استشهد به على المساواة على معنى التقدير؛ لِما قلناه، وهو كما قال الشاعر: خَفْ يا كريم على عرضٍ يُدنسه ... مقالُ كل سفيهٍ لا يقاس بكا أي: لا يساويك، أو لا يُقَدر بك. وتعديهما بالباء كما مثَّلنا، ولَمَّا نقل إلى المعنى الاصطلاحي عدي بالباء أو بِـ "على". وعُرِّف بتعريفات كثيرة، أجودها: إنه حَمْل معلومٍ على معلوم في حُكمه؛ لمشاركته له في المعنى المقتضي للحكم. والمراد بِـ "الحمل": إثبات مِثْل حُكمه، كما عبَّر به الإمام في "المعالم"، وتبعه البيضاوي وغيره. قال الإمام: (ونعني بِـ "الإثبات" القَدْر المشترك بين العلم والاعتقاد والظن، سواء تعلقت بثبوت حُكم أو بعدمه) (¬1). وخرج بِـ "المِثْل" إثباتُ خِلاف الحكم. وأشير به أيضًا إلى أن الحكم الثابت في الفرع ليس هو عين الثابت في الأصل؛ فإنَّ ذلك مستحيل. قلتُ: ولأجْل استحالته حذفته في النَّظم، وقلت: (في الَّذِي بِهِ حُكِمْ). أي: في الحكم، ولم أقُل: (مِثْل الذي به حُكم). وهذا كما قال أصحابنا فيما لو أوصى له بنصيب ابنه: إنَّ المراد "مِثْل" نصيب ابنه، فيصح على المرجح. وكذا لو باع بما باع به فلان فرسه وهما يعلمانه، فإنَّ المراد مِثله، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) المحصول (5/ 11).

على أنَّ المقترح (¬1) قد حكى خلافًا في أن الحكم الذي ثبت بالقياس في الفرع هل هو عَيْن الحكم الذي في الأصل؛ نظرًا إلى القدر المشترك، لا لتعدد المحل؟ أو مماثل له؛ لأمرين، أحدهما: جواز نسخ الأصل مع بقاء الفرع، والثاني: أن الحكم يختلف باختلاف متعلَّقه؟ وشمل قولي: (مَا عُلِمْ عَلَى نَظِيرٍ) أيْ: على ما عُلِم، [الموجودَ كان المعلومُ أو المعدومَ] (¬2). ولو عبَّرتُ بِـ "حمل شيء أو موجود على مِثله" لخرَجَ قياس المعدوم على مثله؛ إذِ المعدوم عند الأشاعرة لا يُسمَّى "شيئا"، كما لا يُسمى "موجودًا". نعم، المراد بِـ "المعلوم" ما تعلق به العِلم أو الظن أو الاعتقاد، فالفقهاء يطلقون "العِلم" على مثل ذلك. وكذا لم أُعَبر عن المعلومين بِـ "الأصل" و"الفرع" كما عبَّر ابن الحاجب تبعًا للآمدي بأنه: (مساواة فرع لأصلٍ في علة حُكمه) (¬3)؛ لأن كوْنه أصلًا أو فرعًا مُرَتب على وجود القياس، فلو عُرِّف به لَزِم الدَّور، وأيضًا فيُوهِم تخصيصه بالموجود؛ لأنَّ "الأصلَ" ما تَوَلَّد منه شيء، و"الفرعَ" ما تَوَلد عن شيء. وإنما قلتُ: (لكونه شاركه في المعنى المقتضِى للحكم) لأنَّ القياس لا يتحقق بدون العلة. ¬

_ (¬1) هو تقي الدين مظفر بن عبد الله (560 - 612 هـ)، من علماء الشافعية، لُقِّب بذلك لِشَرْحه كتاب "المقترح" في الجدل وعنايته به. (¬2) كذا في (ص، ق، ظ، ض، ت). لكن في (ش): (أموجودا كان المعلوم أو معدوما). وفي (ز): (المعلوم موجودا كان أو معدوما). (¬3) مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي لأصول والجدل (2/ 1025)، الناشر: دار ابن حزم.

ولم أقُل في آخِر التعريف: (عند الحامل) ليدخل فيه الصحيح والفاسد كما عبر بذلك الإمام الرازي والبيضاوي؛ لأنَّ الفاسد إنما هو باعتبار اعتقاد القايس، بل أطلقتُ؛ ليختص التعريف بالصحيح؛ لأنه المقصود، إذِ المراد القياس الشرعي الذي هو أصل في الدِّين، لا مُطْلَق القياس. تنبيه: أُورِد على التعريف للقياس بما يقتضي مساواة الفرع للأصل "قياسُ العكس"، وهوة "تحصيل نقيض حُكم معلوم في غيره؛ لافتراقهما في علة الحكم"؛ فيكون غير جامع. مِثالُه أن يقول الحنفي: لو لم يكن الصوم شرطًا لصحة الاعتكاف في الأصل لم يكن شرطًا لها بالنذر؛ إذْ لو نذر أنْ يعتكف مصليًّا لَمْ يَلْزَمه الجمْعُ، بخلاف ما لو نذر أنْ يعتكف صائمًا. والثابتُ في "الأصل " نَفْيُ كَوْن الصلاة شرطًا لها، وفي "الفرع" إثباتُ كوْن الصوم شرطًا لها، فحُكْم الفرع ليس مِثل حُكم الأصل، بل نقيضه. وأُجِيب بأنَّ هذا في الحقيقة تمسُّك بنظم التلازُم، إلا أنَّ إحدى مُقَدمَتَي التلازُم أُثبتت بالقياس؛ لأنك تقول: لو لم يكن الصوم شرطًا في الاعتكاف بالأصالة، لم يكن شرطًا له بالنذر، فهو شرط له مطلقًا. فإنك تقول: لكنه شرط له بالنذر؛ فيكون شرطًا له بالأصالة. فتستثني نقيض التالي؛ فينتج نقيض المقدم. ثُم تُبَين وجْه الملازمة بين شرطيته بالأصالة وشرطيته بالنذر بالقياس على الصلاة، فتقول: عدم كوْنه بالأصالة شرطًا مِن لازِم عدم وجوبه بالنذر، كما أنَّ عدم وجوب الصلاة في الاعتكاف لازِمٌ لعدم وجوبها فيه بالنذر لو نذر أنْ يعتكف مُصَلِيًّا. فهذا داخل في القياس، ونَظْم التلازُم خارج منه على اصطلاح الأصوليين كما سيأتي، فالحَدُّ مطردٌ منعكسٌ. نعم، في حُجية "قياس العكس" خِلاف، فكلام الشيخ أبي حامد يقتضي المنع، لكن الجمهور على خلافه، وممن حكى الخلاف في ذلك الشيخ أبو إسحاق في "الملخص"، فقال

بعد أن حكى عن الشافعي أنه استدل به على أبي حنيفة في إبطال عِلته في الربا في الأثمان، فقال: لو كانت الفضة والحديد تجمعهما عِلة واحدة في الربا لم يَجُز إسلام أحدهما في الآخَر، وكذلك الحنطة والشعير لَمَّا جمعتهما عِلة واحدة لم يَجُز إسلام أحدهما في الآخَر. فلمَّا جاز بالإجماع إسلام الفضة في الحديد، دَلَّ على أنه لم يجمعهما عِلة واحدة. قال: فاختلف أصحابنا في الاستدلال به على وجهين، أصحهما وهو المذهب: أنه يصح. وقد استدل به الشافعي في عدة مواضع. والدليل عليه أن الاستدلال بالعكس استدلال بقياسٍ مدلول على صحته بالعكس، وإذا صح القياس في الطرد وهو غير مدلولٍ على صحته، فَلأنْ يصح الاستدلال بالعكس -وهو قياس مدلول على صحته- أَوْلى. ويدل عليه أن الاستدلال به وقع في القرآن والسُّنة وفِعل الصحابة. فأما القرآن: فنحو قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، فدل على أنه ليس إله إلا الله؛ لِعَدم فساد السموات والأرض، وكذلك: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، ولا اختلاف فيه؛ فَدَلَّ على أن القرآن من عند الله بمقتضَى قياس العكس. وأما السُّنة: فكحديث: "يأتي أحدُنا شهوته ويُؤجَر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام؟ ". يعني: أكان يعاقَب؟ "قالوا: نعم. قال: فَمَهْ" (¬1). فقاس "وَضْعُها في حلالٍ فيؤجَر" عَلَى "وَضْعها في حرام فيؤزر" بنقيض العلة. وأما الصحابة - رضي الله عنهم -: ففي الصحيحين عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن: (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن مات يشرك بالله شيئًا، دخل النار"، قلتُ أنا: "ومَن مات لا يشرك بالله شيئًا، دخل ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (رقم: 1006) بلفظ: "أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ له فيها أَجْرٌ؟ قال أَرَأَيْتُمْ لو وَضَعَهَا في حَرَامٍ أَكَانَ عليه فيها وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إذا وَضَعَهَا في الحْلَالِ، كان له أَجْرًا".

الجنة") (¬1). وفي بعض أصول "مسلم" أنه رَوى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَن مات لا يشرك بالله شيئًا، دخل الجنة". قال: (وقلتُ أنا: "من مات يشرك بالله [شيئًا] (¬2)، دخل النار"). وكذا عزاه لمسلم الحميدي وغيره، وكل منهما يُحصل المقصود، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة عليه. نعم، رواهما مسلم عن جابر (¬3) - رضي الله عنه - مرفوعًا، فلا حاجة للقياس. وأيضًا فإذا كانت الروايتان السابقتان قد صحتَا مرفوعتين، فلا قياس. نعم، الجمع بين الروايتين أنه عند ذِكر كل لفظة كان ناسيًا للأخرى -كما جمع به النووي، فظهر بذلك كله أنه حُجة، إلا أنه هل يُسمى قياسًا حقيقة؟ أو مجازًا؟ ثلاثة أقوال، أرْجحها الثاني؛ لأن بعضه تلازم كما سبق ونقل عن صاحب "المعتمد". وقيل: لا يُسمى قياسًا أصلا. وبه صرح ابن الصباغ في "العدة"، قال: لأن غايته أنه مِن نَظْم التلازم. ومما احتج به الشافعي من قياس العكس سوى ما سبق: قولُه في المختصر في كتاب الزكاة: (ولَمَّا لم أعْلم مخالفًا إذا كان ثلاثة خلطاء لو كان لهم مائة وعشرون شاه أخذت منهم واحدة فصدقوا صدقة الواحد، فنقصوا المساكين شاتين من مال الخلطاء الثلاثة الذين لو تفرق مالهم كان فيه ثلاث شياه، لم يَجُز إلا أن يقولوا: لو كانت أربعون بين ثلاثة، كانت عليهم شاة؛ لأنهم صدقوا الخلطاء صدقة الواحد) (¬4). انتهى ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 1181) وصحيح مسلم (92). (¬2) ليس في (ص، ض، ق، ت). (¬3) صحيح مسلم (93) بلفظ: (مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهَّ شَيْئًا، دَخَلَ الجْنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللهَّ شَيْئًا، دَخَلَ النَّارَ). (¬4) مختصر المزني (ص 43).

فقاس وجوب واحدة من أربعين لثلاثة خلطاء على سقوط وجوب شاتين في مائة وعشرين لثلاثة خلطاء. وحكى الشيخ أبو حامد في تعليقه مناظرة بين الشافعي ومحمد بن الحسن - رضي الله عنهما - إذْ قال الشافعي له: لِمَ قلتَ: لا قود على مَن شارك الصبي؟ فقال: لأنه شارك مَن لا يجري عليه القلم. فقال له الشافعي: فَأَوْجِب القود على مَن شارك الأب؛ لأنه شارك مَن يجري عليه القلم، وإذا لم توجِب على شريك الأب فهو تركٌ لأصلك. ثم أجاب أصحاب أبي حنيفة عن هذا الإلزام، وأجاب أصحابنا عما قالوه بما محل بسطه في غير هذا الموضع، إنما الغرض تمسُّك الشافعي في المسألة بقياس العكس. ومما تمسك فيه الأصحاب أيضًا به ما قاله الشيخ أبو حامد في باب مسح الخف في تعليل جواز الاقتصار على الأسفل: لَمَّا كان أسفل الخف كظاهره في أنه لا يجوز المسح عليه إذا كان متخرقًا، وجب أنْ يكون أسفله كأعلاه في الاقتصار عليه بالمسح إذا كان صحيحًا. إلا أنه رده بأنه قياس عكس، أيْ: وهو لا يجوز عنده كما نقلناه عنه. ومثل ذلك في المفوضة يجب لها المهر بالوطء على أصح القولين، وثانيهما: بالعقد، فخرَّج القاضي الحسين قولًا ثالثًا: "إنه لا مهر أصلًا" مِن القول في وطء المرتهن الجارية المرهونة بإذن الراهن يظن الإباحة بأنْ لا مهر فيه؛ بجامع الإذن من مالك البضع. فيُرد على تخريجه بقياس العكس، فيقال: وطء المفوضة محترم؛ فيجب فيه المال ولو نُفِي كما أنَّ الزنا لا يوجِب مالًا ولو شُرط. فكما لا يتعلق به شرطًا لم يتعلق به أصلًا. ووطء المرتهن في هذه الحالة بشبهة؛ فهو محترم يوجِب المهر إنْ أذن له -كما لو شُرِط، فالمال كما لم يَنتفِ فيه بالأصل لم ينتفِ فيه بالشرط.

وغير ذلك، وهو كثير. وقد أطلتُ في هذا النوع؛ لمحل الحاجة إلى إيضاحه. وقد عُلم مما سبق في جواب ورود قياس العكس على التعريف بأنه من [اللازم] (¬1) أنه لا يَرِد عليه لا قياس التلازم ولا القياس الاقترانى (نحو: كل جسم مؤلف، وكل مؤلف حادث؛ ينتج: الجسم حادث)؛ لأن الأصوليين لا يسمون ذلك قياسًا، فلا بُدَّ من إخراجه. وأُورد أيضًا على التعريف أنَّ "قياس الشَّبَه" خارج عنه، وكذا "قياس لا فارِق" مع أنه لا عِلة في الأول مُعَيَّنة، ولا علة في الثاني عند [المجتهد] (¬2) كما سيأتي تقريره في محله. وقد يجاب بأنَّ الجامع التقديري كالتحقيقي، فلم يخرج عن [التشارك] (¬3) في شيء له اقتضاء بالقوة. وأَورد الآمدي أيضًا على التعريف أن إثبات الحكم هو أثر القياس وناشئ عنه؛ فَأَخْذه في التعريف مع تَوقُّفه عليه دَور. وضعَّفه الهندي بأنَّ المأخوذ في التعريف "إثبات"، و [أثَر القياس المفرَّع] (¬4) عنه " الثبوت" لا "الإثبات" ونَحْوه مِن "الحَمْل". قلتُ: وفيه نظر؛ فإنَّ القائس لا يثبت حُكمًا، إنما يظهره بقياسه، إلا أنْ يقال: إنه على كل حال غير الثبوت. وقولي: (لَهُ اقْتِضَاءُ الْحُكْمِ) جملة في محل جر صفة لِـ "مَعْنى". ومعنى (حَيْثُ عَنَّا): حيث عرض. ¬

_ (¬1) في (ز، ش): التلازم. (¬2) كذا في (ز، ش)، لكن في سائر النُّسخ: الجمهور. (¬3) كذا في (ز، ش). لكن في (ص، ض): المشارك. وفي (ظ، ق، ت): التارك. (¬4) في (ز): الذي هو أثر القياس ومتفرع.

ومعنى "الاقتضاء": التعريف، لا التأثير كما سيأتي تقريره في باب أركان القياس. والله أعلم. ص: 255 - وَهْوَ [لِذَاكَ] (¬1) حُجَّةٌ في الدُّنْيَوِي ... وَغَيْرِهِ إلَّا الْقِيَاسَ [الْمُنْحَوِي] (¬2) 256 - في كُلِّ خَلْقِيٍّ وَعَادِيٍّ فَلَا ... وَالشَّرْطُ وَالرُّكْنُ يَجِي مُفَصَّلَا الشرح: أي: إذا [عُرِف] (¬3) حقيقة القياس وقد سبق تقرير كونه من الأدلة، فلا بُدَّ من بيان المحل المستدل به فيه: هل هو على العموم؟ أو الخصوص؟ ولا بأس [بذكر مواضع] (¬4) من الخلاف فيه وإنْ سبق بعض ذلك. فنقول: أنكر طائفة كوْن القياس دليلًا شرعيًّا يجب العمل به، وأول مَن باح بذلك النَّظَّام كما سبق نقْله عنه. قال ابن عبد البر في كتاب "جامع العلم": (ما علمتُ أحدًا سبق النظَّام إلى القول بنفي القياس والاجتهاد، ولم يلتفت إليه الناس، وقد خالفه فيه أبو الهذيل ورَدَّ عليه) (¬5). انتهى نعم، وافقه بعض المعتزلة على ذلك، ونُقل إنكاره عن غير هؤلاء أيضًا، والحقُّ خلاف ما قالوه؛ لِمَا سبق من الأمر به وأنه من الدِّين. ¬

_ (¬1) في (ص، ظ، ض، ت، ش، ق): لذاك. لكن في (ز، ن): كذاك. (¬2) كذا في (ز، ش، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5). لكن في (ص، ظ): السحوي. وفي (ق): الفحوي. (¬3) في (ز): عُرِفَتْ. (¬4) في (ز): بالتعرض لمواضع. (¬5) جامع بيان العلم (2/ 856).

ثم المنكرون منهم مَن منعه شرعًا وهو ما نقله القاضي وغيره عن داود، وحكى عنه الآمدي أنه إنما يُنكر غير القياس الجلي، لكن داود إنما يقول بالجلي؛ لأنه فحوى الخطاب، لا [لأنه] (¬1) قياس، ولهذا قال ابن حزم في كتاب "الإحكام" وهو أعلم بمذهبه: وداود وأصحابه لا يقولون بشيء من القياس، سواء أكانت العلة فيه منصوصة أوْ لا. وكذا نقل عنه الأستاذ أبو منصور في كتاب "التحصيل"، فإنه قال: لو قيل لنا: "حرمتُ المسكر؛ لأنه حلو" لم يدل ذلك على تحريم حلو آخَر. وسبق عن ابن حزم أنه يدعي أن النصوص تستوعب الحوادث، أيْ: فهو مستغنًى عنه، فلا يُعمل به. وقيل: لا يعمل به؛ لأنه دليل عقلي، فلا مدخل له في الشرعيات. ونحوه قول مَن قال بأنه قول بالرأي في الذين. ومنهم مَن منعه عقلًا، فقيل: لأنه قبيح في نفسه؛ فيحرم. وقيل: لأنه يجب على الشارع أن يستنصح لعباده وينص لهم على الأحكام كلها. وهذا على رأي المعتزلة المعلوم فساده. حكى هذين القولين إمام الحرمين. وقيل: لأن الأحكام الشرعية جاءت على وجوه لا يمكن العمل بها قياسًا، كتحمل العاقلة الدِّيَة، وإيجابها [في القسامة باللوث] (¬2)، وكالحكم بالشفعة، والفَرْق بين المخابرة والمساقاة، فجمعت الشريعة بين أشياء مختلفة، وفَرَّقَت بين أشياء متفقة؛ فامتنع القياس. حكاه الأستاذ أبو منصور. [وقيل غير ذلك مما لا طائل في ذِكره] (¬3). ¬

_ (¬1) في (ص، ت، ظ، ق): انه. (¬2) في (ز): بالقسامة في اللوث. (¬3) هذه العبارة ليست في (ز)، وفي (ز) في هذا الموضع كلام ليس في سائر النُّسَخ: (وقيل: لأن المعارف=

وقيل: يمتنع شرعًا وعقلًا. حكاه ابن قدامة عن النظَّام. وقال ابن عبدان في "شرائط الأحكام": لا يحتج به ما لم يضطر، بأنْ تحدث الحادثة وتقتضي الضرورة معرفة حُكمها ولا يوجد نَص يدل فيها. وحكاه ابن الصلاح في "طبقاته" عنه، واستغرب الثاني بأنَّ ذلك إنما يعرف بين المتناظرين في مقام الجدل. قال: وأما الشرط الأول فطريق يأباه وضع الأئمة الكتب الطافحة بالمسائل القياسية من غير تقييد بالحادثة. وقيل غير ذلك مما يطول [ذِكْرُه بلا فائدة] (¬1). والقائلون بحجيته اختلفوا: هل ذلك بالشرع؟ أو بالعقل؟ قال الأكثرُ بالأول، وقال القفال وأبو الحسين البصري بالثاني، وأن الأدلة السمعية وردت مؤكِّدة، ولو لم تَرِد لكان العمل به واجبًا. وقال الدقاق: يجب العمل به في الشرع والعقل. حكاه في "اللمع"، وجزم به ابن قدامة في "الروضة"، وحكاه عن أحمد. وأما محل العمل به (على القول بأنه دليل وهو ما ذكرتُه في النَّظم) ففي الأمور الدنيوية بلا خِلاف كما قاله الإمام الرازي، وذلك كما في الأدوية والأغذية والأسفار. وأما قياس اللغة فيأتي في باب اللغات. وأما غير ذلك فالصحيح أنه لا يجرى في كل الأحكام؛ لأنه لا بُدَّ من أصل منصوص ¬

_ = ضرورية والقياس لا يقتضي العلم الضروري. وقيل: لأن الحكم لا يقتضيه على أدنى القياس مع القدرة على أعلاها). (¬1) من (ز).

يقاس عليه. وقيل: يجري في الكل؛ لأنه شرعي؛ فيشمل الجميع. وهذا مردود بما سبق، ولأن الأحكام في بعض الأنواع مختلفة، ولأن من الأحكام ما لا يُعْقَل معناه كما سبق في الدِّيَة على العاقلة ونحوه؛ ولهذا كان الراجح أنه لا يُحتج به في الأمور العادية والخَلْقِية. قاله الشيخ أبو إسحاق، ومَثَّله بأقَل الحيض والنفاس وأكثرهما، وأَقَل مُدة الحمل وأكثره، فلا قياس فيه، بل طريقهُ خبرُ الصادق. ومنعه قوم في الأسباب والشروط والموانع، كجَعْل الزنا موجِبًا للحد، والجماع موجِبًا للكفارة، وقياس اللواط على الزنا في وجوب الحد. قالوا: لأنه لا يحسن أن يقال في طلوع الشمس: إنه موجِب للعبادة؛ كغروبها. واختاره الآمدي وابن الحاجب والبيضاوي، لكن في "المحصول" عن أصحابنا الجواز. وقَلَّ مَن صرح بالخلاف في الشروط والموانع، وقد صرح به إلْكِيا، قال: وقد نفى الشافعي اشتراط الإسلام في الإحصان؛ إلحاقًا له بالجلد، فقال: الجَلد [على] (¬1) أنواع العقوبة، استوى فيه [أبكار] (¬2) المسلمين والكفار؛ فالرجم كذلك. ومنعه أبو حنيفة في: - الحدود، كإيجاب قَطْع النباش، قياسًا على السارق؛ بجامع كوْنه أَخْذَ مالٍ خفْية؛ لحديث: " ادرؤوا الحدود بالشبهات" (¬3). ¬

_ (¬1) كذا في جميع النُّسخ. وعبارة الزركشي في (البحر المحيط، 4/ 282): (فَذَكَرَ الجْلْدَ فِي إحْصَانِهِنَّ الَّذِي هُوَ أَعْلَى؛ لِيُبَيِّن أَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ يَكْفِي فِيهِ الجْلْدُ). (¬2) في (ص): انكار. (¬3) قال الحافظ ابن حجر في (الدراية في تخريج أحاديث الهداية، 2/ 101): (لم أجده مرفوعًا، ورواه =

- وفي الكفارات، كإيجابها على قاتل النفْس عمدًا؛ قياسًا على المخطئ. - وفي المقدرات، كأعداد الركعات؛ لأنه غير معقول المعنى. نعم، قال الشافعي: إنَّ الحنفية ناقضوا أصلهم فأوجبوا الكفارةَ بالإفطارِ بالأكل؛ قياسًا على الإفطارِ بالجماعِ، وقتل الصيد خطأ قياسًا على قتله عمدًا، وقاسوا في التقديرات، حتى قالوا في الدجاجة: إذا ماتت في البئر، يجب كذا وكذا، وفي الفأرة أقل من ذلك. وليس ذلك عن نَص ولا إجماع، فهو عن قياس. وقال القاضي أبو الطيب في كتاب "الحجة": التقدير عندنا بمنزلة سائر الأحكام. ومنعه أيضًا في الرُّخَص. ونقل الإمام وغيره أن الشافعي يخالفه في ذلك، فيُجَوِّز القياس فيها وفيما سبق. وفيه نظر؛ فقد نَص في "الأم " على المنع، فقال آخِر صلاة العيد: (ولا يُعَدى بالرُّخَص مواضعها) (¬1). ¬

_ = الحارثي في "مسند أبي حنيفة" عن ابن عباس). لكن قال الحافظ السخاوي في (المقاصد الحسنة، ص 74): (الحارثي في "مسند أبي حنيفة" له من حديث مقسم عن ابن عباس به مرفوعًا). انتهى قال الألباني في (إرواء الغليل: 2316): (وهو ضعيف). وفي سنن الترمذي (رقم: 1424) وغيره عن عائشة - رضي الله عنها - مرفوعًا بلفظ: (ادْرَءُوا الحُدُودَ عن الْمُسْلِمِينَ ما اسْتَطَعْتُمْ). قال الألباني في (إرواء الغليل: 2355): (ضعيف). (¬1) الأم (1/ 80).

وكذا نقله [البيضاوي] (¬1). ومنعه الحنفية والجبائي أيضًا في إثبات أصول العبادات، حتى لا تجوز الصلاة بالإيماء بالحاجب قياسًا على الإيماء بالطرف. ومنعه قوم من الحشوية وغلاة الظاهرية في العقليات. والأصح الجواز، كما يقول في الرؤية للباري: لأنه موجود، وكل موجود يُرى. ووافقهم على المنع ابن برهان في "الوجيز". ومنع قوم القياس في الجزئي الحاجي إذا لم يَرِد نَص على وَفْقه مِن قِبل الشارع. حكاه ابن الوكيل في "الأشباه والنظائر"، ومَثَّله بِصُوَرٍ، منها: ضمان الدرك، القياس الجزئي يقتضي منعه؛ لأنه ضمان ما لم [يجب] (¬2)، ولكن عموم الحاجة إليه موجود؛ لمعاملة الغرباء، فقال ابن سريج بالمنع، جعله قولًا مُخَرَّجًا، والأصح صحته بعد قبض الثمن، لا قَبْله، والله أعلم. (تَمَّ بِعَوْن الله تعالى الجزءُ الأول، وَيلِيه الجزء الثاني، وأوله: الباب الثاني) ¬

_ (¬1) كذا في كل النُّسخ. وعبارة الزركشي في (تشنيف المسامع، 3/ 160): (وكذا نقله البويطي). (¬2) في (ص): يوجب.

الباب الثاني في "ما يتوقف عليه الاستدلال بالأدلة"

الباب الثاني في "ما يتوقف عليه الاستدلال بالأدلة"

[النوع] الأول: من جهة الثبوت في الثلاثة الأولى وهو السند

الباب الثاني: فيما يتوقف عليه الاستدلال بالأدلة وهو أربعة أنواع: الأول: من جهة الثبوت في الثلاثة الأُولى وهو السند 257 - فَالسَّنَدُ الْإخْبَارُ عَنْ مَتْنٍ ضَبَطْ ... مِنْ قَوْلٍ اوْ فِعْلٍ وَلَوْ فِيهِ وَسَطْ 258 - وَذَاكَ آحَادٌ وَ [ذُو] (¬1) تَوَاتُرِ ... فَالثَّانِ نَقْلُ عَدَدٍ مِنْ آثِر 259 - عَلَيْهِمُ يَمْتَنِعُ التَّوَاطُؤُ ... في الْكِذْبِ عَنْ حِسٍّ بِهِ تَوَاطَؤوا 260 - أَوْ خَبَرٌ عَنْ مِثْلِهِمْ إلى انْتِهَا ... لِذَلِكَ الْمَحْسُوسِ، فَهْوَ الْمُنْتَهَى الشرح: إنما قدمتُ من الأنواع الأربعة ما يتوقف عليه من حيث الثبوت؛ لأن الكلام في الشيء إنما يكون بعد ثبوته، ثم يتلوه ما يتوقف عليه من حيث دلالة الألفاظ؛ لأنه بعد الصحة يتوجه النظر إلى [مدلول ذلك الثابت] (¬2)، ثم يتلوه ما يتوقف عليه من حيث استمرار الحكم وبقاؤه، فلم يُنسخ، ثم يتلوه ما يتوقف عليه الدليل الرابع وهو "القياس" من بيان أركانه وشروطه وأحكامه؛ لأنه مُفَرع عن الثلاثة الأولى؛ إذ لا قياس إلا على ما ثبت بواحد منها كما سيأتي. ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ش، ت، ن). لكن في (ص، ض، ظ، ق): ذا. (¬2) كذا في (ز، ش)، لكن في (ق): ما دل ذلك الثابت عليه. وفي سائر النسخ: ما دل ذلك الثابت.

وقولي: في الترجمة: (وهو السند) إشارة إلى أن المراد بالثبوت صحة وصولها إلينا، لا ثبوتها في أنفسها وكونها حقًّا، فإنَّ ذلك مُبيَن في الأوَّلَين -الكتاب والسُّنة- في أصول الدين، وفي الثالث -وهو الإجماع- في محله من أصول الفقه وهو ذِكر كَوْنه من الأدلة، وقد سبق في الباب الأول. فالنوع الأول: "السند"، ويقال فيه: "الإسناد" أيضًا، وهو الإخبار عن المتن قولًا كان أو فعلًا أو راجعًا إلى أحدهما. ومعنى قولي: (ضَبَطْ) أي: إنَّ ذلك الإخبار عن المتن هو الذي ضبطه وقيده حتى عرفه المخبَر به. وقولي: (وَلَوْ فِيهِ وَسَطْ) أي: ولو كان الإخبار بواسطة مخبر آخر عن مَن ينسب المتن إليه. وأصل "السند" في اللغة: ما يُستنَد إليه، أو ما ارتفع من الأرض. وأَخْذ الاصطلاحي من الثاني أكثر مناسبة؛ فلذلك قال ابن طريف: أسندت الحديث: رفعتُه إلى المحدث. فيحتمل أنه اسم مصدر مِن "أَسند يُسند"، أطلق على المسند إليه، وأنْ يكون موضوعًا لِمَا يُستند إليه. وأما "المتن" فهو المخْبَر به كما سبق، ومادته في الأصل راجعة إلى معنى الصلابة، ويقال لِما صَلُبَ من الأرض: "متن"، والجمع "متان"، ويسمى أسفل الظهر من الإنسان والبهيمة " متنًا" أيضًا، والجمع "متون". وقولي: (وَذَاكَ آحَادٌ وَ [ذُو] (¬1) تَوَاتُرِ) تقسيم للسند قسمين: آحادًا، ومتواترًا؛ لأنه إما أن يفيد العلم بنفسه فـ "المتواتر"، أوْ لا فَـ "الآحاد". وربما أُطلِق على المتن ذلك، فيقال: "حديث ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ش، ت، ن). لكن في (ص، ض، ظ، ق): ذا.

متواتر" و"آحاد"، على معنى: متواتر أو آحاد سنده. و"الآحاد": جمع أحد، كَـ: بطل وأبطال. وهمزة "أحد" مبدلة من واو الواحد. وأصل "آحاد" أأحاد بهمزتين، أبدلت الثانية ألفًا كـ "آدم ". و"المتواتر": المتتابع، تقول: تواتر القومُ، أي: جاءوا متتابعين بِمُهلة. وقولي: (فَالثَّانِ) شروع في شرح كل من القسمين، وقدمتُ الثاني؛ لقوته، ولأن القرآن متواتر وهو أول الأدلة وأصلها، وأيضًا فلِيعلم أن ما خرج من تعريفه هو "الآحاد"؛ لأن ذلك كالملكة والعدم. فَ " المتواتر": خبر جَمعْ يمتنع تواطؤُهم على الكذب عن محسوس أو عن خبر جَمْع مِثْلهم إلى أنْ ينتهي إلى محسوس، أيْ: معلوم بإحدى الحواس الخمس، كمشاهدة أو سماع. فخرج بالقيد الأول: أخبارُ الآحاد ولو كان مستفيضًا، وسيأتي بيانه، خلافًا لدعوى الماوردي في "الحاوي" والأستاذ أبي إسحاق وجَمع أنه قِسم آخَر ثالث. وخرج بالانتهاء إلى محسوس: ما كان عن معقول، أيْ: معلوم بدليل عقلي، كإخبار أهل السُّنة دهريًّا بحدوث العالم، فإنه لا يوجب له عِلمًا؛ لتجويزه غلَطهم في الاعتقاد، بل هو معتقد ذلك، وأيضًا فَعِلم المخبرين به نظري، و"التواتر" يفيد العلم الضروري، فيصير الفرع أقوى من أصله. قلتُ: مثل ذلك [إذا] (¬1) لم يتفق المخبرون على واحد بالشخص الذي هو شرط في المتواتر، بل كل أحدٍ إنما يخبر عن اعتقاد نفسه وإنْ توافقوا نوعًا، ولأجل ذلك لم يكن الإجماع من قبيل الخبر المتواتر، والحجية فيه إنما هي من حيث [ثناء] (¬2) الشرع على تَوافُق ¬

_ (¬1) ليست في جميع النُّسخ، وقد وضع ناسخُ (ت) علامة في هذا الموضع، وكتب في الهامش: لعله "إذا". (¬2) في (ز): بناء.

اعتقاد الأُمة، أو أن العادة تحيل تواطؤهم على اعتقادٍ باطلٍ أعلى ما سبق من المدركين فيه] (¬1). نعم، قال الأستاذ أبو منصور وكذا القاضي وإمام الحرمين وابن السمعاني والإمام والمازري: إنَّ التقييد بالحس لا معنى له، وإنما المدار على العِلم الضروري، ليدخل ما استند فيه عِلم المخبِرين إلى قرائن الأحوال، كإخبارهم عن الخجل الذي علموه بالضرورة من قرائن الحال، فالحس وإنْ وُجد لكن لم يُكْتَفَ به؛ لأنَّ الحمرة إنما تُدرك بالحسِّ ذاتها، وحمرة الخجل كحمرة الغضب، وإنما يُفَرق بينهما بأمر يدقُّ عن ضبط [العبارة] (¬2). وأجيب عن ذلك بأنَّ القرائن تَعُود للحس؛ لأنها إما حالية أو مقالية. تنبيه: تسمية هذا النوع "متواترًا" اصطلاح للفقهاء والأصوليين وبعض المحدِّثين، فقد قال ابن الصلاح: (إنَّ أهل الحديث لا يذكرونه بِاسْمه الخاص، وإنْ كان الخطيب ذكره، وفي كلامه ما يُشعر بأنه اتَّبع فيه أهل (¬3) الحديث) (¬4). ثم قال: (وكأنَّ ذلك لندْرته عندهم حتى لا يكاد يوجد) إلى آخِره. واعتُرض عليه بأنَّ الحاكم وابن عبد البر وابن حزم وغيرهم ذكروه. ¬

_ (¬1) ليس في (ز). (¬2) في (ز، ش): العبارة. وفي سائر النُّسخ: العادة. (¬3) لفظ ابن الصلاح في كتابه (معرفة أنواع الحديث، ص 267): (وَأَهْلُ الحْدِيثِ لَا يَذْكُرُونَهُ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ الْمُشْعِرِ بِمَعْنَاهُ الْخَاصِّ، وَإنْ كَانَ الْحَافِظُ الْخطيِب قَدْ ذَكَرَهُ، فَفِي كَلَامِهِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ اتَّبَعَ فِيهِ غَيْرَ أَهْلِ الحدِيثِ). (¬4) معرفة أنواع علوم الحديث - مقدمة ابن الصلاح (ص 267). تحقيق: نور الدين عتر.

وأُجيب بأنه لم يذكروه بمعناه الخاص عند الأصوليين، بل بمعنى الكثرة كما قال ابن عبد البر في حديث المسح على الخفين: إنه استفاض وتَواتَر. ونحو ذلك. والله أعلم. ص: 261 - [لِذَا] (¬1) يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالضَّرُورَهْ ... في جُملَةٍ أَسْلَفْتُها مَشْهُورَهْ 262 - فَحَيْثُمَا الْعِلْمُ بِهِ قَدْ حَصَلَا ... فَآيَةُ اجْتِمَاعِ شَرْطٍ فُصِّلَا الشرح: أي: فلأجل أن المتواتر خبر مَن يستحيل تواطؤهم على الكذب كان مفيدًا لسامعه عِلمًا ضروريًّا لا يحتاج إلى نظر، وقد أسلفتُ في المقدمة في تعريف "العِلم" بالمعنى الثالث أنَّ موجب الجزْم فيه إما أن يكون بحسٍّ أو عقل أو [تكرر] (¬2)، والحس إما سمع وهو التواتر إلى غير ذلك من الأقسام المفيدة لليقين بالضرورة وهي محصورة، لكن المتواتر إنما يفيد العلم بالضرورة بشروط، وإنما علامة اجتماعها إفادته العلم. وهو معنى قولي: (فَآيَةُ اجْتِمَاعِ شَرْطٍ فُصِّلَا) أي: جنس الشرط، وسأذكر هنا تفصيل الشروط، فالكلام يقع في ثلاثة أمور: إفادته العلم، وكونه ضروريًّا، وتفصيل الشروط. فالأول: ذهب الجمهور إلى ذلك، وقالت السُّمَّنية: لا يفيده. وهي -بضم السين المهملة وتشديد الميم- طائفة من عبدة الأصنام يقولون بالتناسخ، وينقل ذلك أيضًا عن البراهمة ¬

_ (¬1) في (ز، ت، ش، ظ، ن): لذا. وفي (ض، ص، ق): كذا. (¬2) كذا في (ض، ق). لكن في (ص، ظ، ت، ش): مكرر.

(طائفة لا [يجيزون] (¬1) بعثة الرسل)، وعن "السُّوفسطائية" -بضم السين المهملة الأولى وبالفاء، وربما قيل: "السوفسطانية" بنون بعد الألف- قوم ينكرون الحقائق، وكان شيخنا شيخ الإسلام البلقيني يعيبُ ذِكر خلاف مثل هؤلاء في أصول الفقه كما سبق ذِكره في موضع آخَر. نعم، إذا ذكِر لغرض معرفة شبهتهم وردِّها كي لا يغتر بها مسلم، فلا بأس. وحمل إمام الحرمين مخالفة السمنية - أي: ومن وافقهم على عدم إفادة "المتواتر" العِلم -على معنى أنَّ العدد وإنْ كثر فلا اكتفاء به حتى ينضم إليه ما يجري مجرى القرينة. ومن هنا أُخِذ أن الإمام يقول باستناد العِلم للقرينة، لا لمجرد الإخبار المتواتر. وكذلك قال ابن رشد في "مختصر المستصفى": لم يقع خلاف في كون المتواتر يفيد اليقين إلا ممن لا يُؤْبَه له. قال: (وهُم السوفسطائية، وجاحده يحتاج لعقوبة؛ فإنه كاذب بلسانه على ما في نفسه، إنما الخلاف في جهة وقوع اليقين، فقَوم رأوه بالذات وقوم رأوه بالعرض، وقوم رأوه مكتسبًا). انتهى وحاصل قولهما أن الخلاف لفظي. قال ابن الحاجب: (إن قول المنكِر لإفادته العِلم بُهْت، فإنَّا نجد العِلم ضرورةً بالبلاد النائية والأُمم الخالية والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم والخلفاء - رضي الله عنه -بمجرد الإخبار، كما في العلم بالحس) (¬2). وفي المسألة قول ثالث: إنه يفيد في الخبر عن الموجود، ولا يفيد عن الماضي. فإنْ قلتَ: هل لهذه المسألة ثمرة في الفقه؟ ¬

_ (¬1) في (ز، ش): يجوزون. (¬2) مختصر المنتهى مع بيان المختصر (1/ 637).

قلتُ: نعم إذَا فرَّعنا على أن بيع الغائب باطل، فهل يقوم مقام الرؤية خبر التواتر بضبطه حتى يصير كالمشاهَد؟ قال الروياني في "البحر": (قال بعض أصحابنا بخراسان: فيه طريقان، أحدهما: القطع بجواز البيع كالمرئي، والثاني: قولان). انتهى الثاني: ذهب الجمهور إلى أن العلم فيه ضروري لا يتوقف على نظر، خلافًا للكعبي، وصرح إمام الحرمين في "البرهان" بموافقته، لكنه قال: (وقد كثرت المطاعن على الكعبي من أصحابه ومن عصبة الحق، والذي أراه تنزيل مذهبه عند كثرة المخبرين على النظر في ثبوت إيالة جامعة وانتفائها، فلم يَعْنِ الرجُل نظرا عقليًّا وفِكرًا [سبريًّا] (¬1) على مقدمات ونتائج، فليس ما ذكره إلا الحق) (¬2). انتهى وأوضح الغزالي في "المستصفى" ذلك، فقال: (إن تحقيق القول فيه أنه ضروري، بمعنى أنه لا يحتاج في حصوله إلى الشعور بتوسط واسطة مفضية إليه مع أن الواسطة حاضرة في الذهن. وليس ضروريًّا، بمعنى أنه حاصل من غير واسطة) (¬3). انتهى فرجع حملهما إلى قول الجمهور وأنه لا خلاف في المعنى، فالنقل عنهما أنهما يخالفان في إفادته العلم ضرورة -ليس بجيد. نعم، نقل الشيخ أبو إسحاق عن البلخي موافقة الكعبي، وحكاه أيضًا غيره عن الدقاق وأبي الحسين. فإنْ حُمل على تأويل إمام الحرمين، ارتفع الخلاف أصلًا، وهذا هو اللائق؛ فإن حصول العلم فيه بالضرورة أمرٌ مشاهَد. ¬

_ (¬1) كذا في (ز). لكن في (ش): مرتبا. وفي سائر النُّسخ: سريا. (¬2) البرهان (1/ 376). (¬3) المستصفي (1/ 106).

نعم، في المسألة قول ثالث: إنه يفيد عِلمًا بين المكتسَب والضروري. قاله صاحب "الكبريت الأحمر". فإنْ عَنَى ما قاله الإمام فظاهر، وإلا فلا حاصل له. وقول رابع: وهو التوقف في المسألة. قاله الشريف المرتضَى، وصححه صاحب " المصادر"، واختاره الآمدي. الأمر الثالث: الشروط: أحدها: تَعدُّد المخبرين. ثانيها: أن يبلغوا ما يمتنع في مثله التواطؤ على الكذب عُرْفًا. وهل لذلك عدد معين؟ الصحيح المنع، وسيأتي بيان ذلك. ثالثها: الاستناد للحس أو للعلم الضروري كما سبق بيان الخلاف فيه. ولا يخفَى خروج هذه من التعريف. رابعها: كون السامع له غير عالم بمدلوله ضرورةً أو استدلالًا، كالإخبار بأن السماء فوق الأرض، وبأن العالَم حادث لمن هو مسلم. وهذا خارج من قولنا: (يفيد العلم)؛ لأنه لم يُفِد شيئًا؛ لأن العلم بذلك كان حاصلًا. وخامسها: أن لا يكون السامع معتقدًا خلافه؛ لأن اعتقاده يمنع من حصول العلم من التواتر. شَرَطَه المرتضى. قيل: لِيثبت به تواتُر إمامة علي - رضي الله عنه -، وأنَّ المانع من إفادة السامعين العِلم اعتقادهم خلافه. ورُدَّ بأنَّ ذلك بُهت منه؛ فلَم يُنقل ذلك فضلًا عن تواتره، ثُم الاعتقاد لا يدفع أن يحصل من التواتر ما يرفعه ويزيله؛ لأنَّ الفَرْض فيمن يستحيل تواطؤهم على الكذب. سادسها: كوْن المخبرين قاطعين بذلك. شَرَطه جمعٌ، كالقاضي، لكن قال ابن الحاجب: إنه غير محتاج إليه؛ لأنه إنْ أُريدَ عِلم الجميع فباطل؛ لجواز أن يكون بعضهم ظانًّا، ومع ذلك

يحصل العلم. وإنْ أُريدَ عِلم البعض فلازم مِن لازم اشتراط الحس. سابعها: اشتراط أن يكون المخبرون على صفة يوثَق بهم معها، لا كالمتلاعب والمكرَه، ولكن هذا مفهوم من استحالة التواطؤ على الكذب؛ لأن اللاعب والمكرَه قد يكذب لأجل ذلك، وإذا جوز السامع كذبه، فلا يفيده عِلمًا. وثامنها: أن يتوافق إخبارهم لفظًا ومعنًى، أو معنًى فقط كما سيأتي بيانه، وهذا مفهوم من اشتراط التواطؤ، ومثلهم لا يتواطئون على كذب، والله أعلم. ص: 263 - وَلَيْسَ فِيهِ عَدَدٌ مُعَيَّنُ ... لَكِنَّ ذَا أَرْبَعَةٍ لَا يُمْكِنُ الشرح: سبق أن المخبرين شرطهم أن يبلغوا مَبْلغًا يحيل تواطؤهم على الكذب بما أخبروا به، فهل لذلك عدد معيَّن؟ أو لا؟ الأصح لا؛ إذِ الضابط أن يفيد العلم بسبب استحالة تواطؤهم على الكذب، والأعداد لا مدخل لها في ذلك، فكم من قليل يتصف بذلك، وكثير لا يتصف به. نعم، الأربعة لا يمكن أن يكون تواتُرًا، لأن قولهم لو كان [يفيد العلم] (¬1) لاستحالة تواطئهم على الكذب، لَمَا وَجب على القاضي أن يستزكي الأربعة في حد الزنا مثلًا، ولكنه واجب قطعًا؛ فوجب أن لا يفيد العلم إلا ما زاد مِن غير تعيين. وقيل: يتعين الخمسة عدد أُولي العزم من الرُّسل على قول مَن فسرهم به، وهُم: نوح، ¬

_ (¬1) في (ز، ش): مفيدا للعلم.

وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -. وقال القاضي: أقطع بأن قول الأربعة لا يكفي، وأتوقف في الخمسة. وحكى عن صاحب أبي الهذيل المعروف بأبي عبد الرحمن أنه شرط خمسة من المؤمنين أولياء الله ومعهم سادس ليس منهم؛ حتى يكون ملتبسًا فيهم. قال القاضي: وخالف ذلك سائر الذاهب. وقيل: يشترط عشرة. وينسب للإصْطَخْري؛ لأن ما دُونها جمع قِلة. وقيل: اثنا عشر؛ لأنهم عدد النقباء؛ لأن موسى عليه السلام بعثهم ليعرفوا أحوال بني إسرائيل؛ ليحصل العلم بقولهم. وقيل: عشرون؛ لقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [الأنفال: 65] الآية. نُقل عن أبي الهذيل وغيره من المعتزلة، وقيده الصيرفي بما إذا كانوا عدولًا، لكن المصابرة في القتال لا عُلْقَة لها بالأخبار، وأيضًا فقد نُسخ ذلك، فينبغي أن يقال بما نُسخ به وهو المائة التي قيل فيها: تغلب مائتين. وقيل: أربعون، عدد الجمعة، ولقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] وكانوا أربعين. وقيل: سبعون، لقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} [الأعراف: 155]. وقيل: ثلاثمائة وبضعة عشر، عدد أهل بدر؛ لأنهم يحصل بخبرهم العلم للمشركين. و"البِضع" بكسر الباء: ما بين الثلاثة إلى التسعة. وفي "التقريب" للقاضي و"البرهان" للإمام و"الوجيز" لابن بَرهان و"إحكام" الآمدي تعيينهم بثلاثة عشر، وهو قولٌ في عدتهم حكاه الدمياطي. وقيل: وعشرة. وقيل: وخمسة، وهو الذي في كتب الحديث، ولكنه لا يُباين رواية "وثلاثة عشر" كما تَوَهمه الدمياطي؛ لأن الذين خرجوا للقتال ثلاثمائة وخمسة، وأدخل النبي

- صلى الله عليه وسلم - معهم في القسمة ثمانية أسهم لهم ولم يحضروا؛ فنزلوا منزلة الحاضرين؛ فصارت العدة بهم " وثلاثة عشر". وقال بعضهم: لا بُدَّ في التواتر من عدد أهل بيعة الرضوان. قال إمام الحرمين: وهُم ألف وسبعمائة. لكن الذي في "الصحيح" عن البراء وهو رواية عن جابر: ألف وأربعمائة. وقال النووي: إنه الأشهر. وعن سلمة ورواية عن جابر: ألف وخمسمائة. وعن عبد الله بن أبي أوفى: ألف وثلاثمائة. وقال الواقدي وموسى بن عقبة: ألف وستمائة. وقيل غير ذلك. وتعيين الأعداد في التواتر بهذه الشُّبَه لا يخفَى ضعفُه، ويلزم أن يقال بمثل هذا: تسعة عشر؛ لقوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30]، و: ثمانية؛ لقوله تعالى: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]، وأشباه ذلك مما لا ينحصر ويتكلف له مناسبة كما تكلف في هذه المذكورات، ولا قائل به، والله أعلم. ص: 264 - كَذَاكَ مَا شَرْطُهُمُ عَدَالَهْ ... أَيْضًا وَلَا إسْلَامُهُمْ أَصَالَهْ 265 - وَلَا انْتِفَا [انْحِوَائِهِمْ] (¬1) في بَلَدِ ... مِنْ أَجْلِ ذَا الْقُرْآنُ عَالِي السَّنَدِ الشرح: هَذه أيضًا أقوال ضعيفة في شروط التواتر: منها: اشتراط العدالة، وإلا فقدْ أَخبر الإمامية بالنَّص علَى إمامة عِلي -كرم الله وجهه- ولم يُقبل إخبارهم مع كثرتهم؛ لِفسقهم. ¬

_ (¬1) في (ن 3، ن 4): احتوائهم. وفي (ن 1): انحتوائهم. وفي سائر النُّسَخ: انحوائهم.

ومنها: اشتراط الإسلام، وإلا فقد أَخبر النصارى مع كثرةٍ بقتل عيسى -عليه السلام- ولم يصح ذلك؛ لكفرهم. وجوابه فيهما: أن عدد التواتر فيما ذُكر ليس في كل طبقة، فقد قَتل بختنصر النصارى حتى لم يبق منهم إلا دُون عدد التواتر. واعْلم أن كلام الآمدي يوهم أن الشارطين للإسلام والعدالة واحد، وليس كذلك، وإلا فكان الاقتصار على العدالة كافيًا، ولأجل ذلك قدمتُ مسألة العدالة على الإسلام في النَّظم؛ دفْعًا لهذا الإيهام الواقع في لفظ "المختصر" وغيره. ومنها: اشتراط أن لا يحويهم بلد؛ لاحتمال أن يتواطئوا على الكذب. ورُدَّ بأن أهل الجامع لو أخبروا عن سقوط الخطيب، لأفاد خبرُهم العِلمَ فضلًا عن أهل بلد. ومنها: اشتراط اختلاف أنسابهم أو دينهم أو وطنهم؛ لِمَا ذكرناه. وردُّه واضح أيضًا. ومنها: اشتراط الشيعة الإمام المعصوم. وهو أَفْسَد الكل؛ لأن قول المعصوم كافٍ، فَأَيُّ حاجة إلى انضمام أحدٍ معه؟ ! ومنها: اشتراط أن يبلغوا مَبْلغًا لا يحويهم بلد ولا يحصرهم عدد، أيْ: لكثرتهم. وهو غير ما سبق مِن نفي انحوائهم في بلد. وقال ضِرار بن عمرو: لا بُدَّ من خبر قول كل الأُمة، وهو الإجماع. حكاه القاضي في "مختصر التقريب". وقيل غير ذلك من الشروط الفاسدة، والله أعلم. وقولي: (مِنْ أَجْلِ ذَا الْقُرْآنُ عَالِي السَّنَدِ) تمامه قولي بعده:

ص: 266 - لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَوَاتُرٍ سِوَى ... مَا كَانَ حُكْمِيًّا [فَوَاحِدٌ] (¬1) رَوَى 267 - كَالْبَدْءِ في فَاتِحَةٍ بِالْبَسْمَلَهْ ... وَكررهَا [لَا في] (¬2) [بَرَاءَةَ] (¬3) الصِّلَهْ (¬4) الشرح: أيْ: من أجل أن التواتر يفيد القطْع كان ثبوت القرآن لا بُدَّ فيه من التواتر؛ لكونه مقطوعًا به؛ لأنه معجزٌ عظيم، فكان مما تتوفر الدواعي عادةً على نقل جُمله وتفاصيله؛ لدوران الإسلام عليه، فلا بُدَّ من تواتره والقطع به. فما لم يتواتر، لا يثبت كوْنه قرآنًا إلا فيما أُعطي حُكم القرآن فإنه لا يحتاج إلى التواتر، وذلك مفروض في البسملة من أول الفاتحة ومن أول كل سورة بعدها سوَى براءة. والحاصل في المسألة أن "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" متواترة في سورة النمل، فهي قرآن قطعًا، وليست في أول سورة براءة إجماعًا: - إما لكون البسملة أمانًا، وهذه السورة نزلت بالسيف كما قاله ابن عباس، وقد كشفت أسرار المنافقين؛ ولذلك تسمى "الفاضحة"، وتسمى "البَحُوث". - وإما لأنها متصلة بالأنفال سورةً واحدةً. - وإما لغير ذلك كما سيأتي في كونها [توصل بما] (¬5) قبلها. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ظ، ض، ق، ت، ش). وفي (ن): فآحاد. (¬2) في (ز): سوى. (¬3) أي: سورة التوبة. (¬4) أي: التي توصل بما قبلها مِن غير فَصْل بالبسملة. (¬5) كذا في (ش). وفي (ز): كوصلة لما. وفي (ظ): مؤصّلة لما. وفي (ض، ق، ت): مُوصلةً لما.

وأما في أوائل غير براءة من السُّوَر فقطع الشافعي قوله بأنها آية من أول الفاتحة، واختلف قوله فيما سواها، ففي قول: إنها آية من أول كل سورة. وفي قولٍ: بعض آية. وفي قولٍ: لا آية ولا بعض آية. وعُزي للأئمة الثلاثة، بل لا يثبتها أحدٌ منهم في أول سورة. وفي قول رابع: إنها آية مقروءة للفصل بين السور. وهو غريب لم ينقله أحد من الأصحاب عن الشافعي، ولكنه في "الطارقيات" لابن خالويه عن الربيع، قال: سمعت الشافعي يقول: أولُ الحمد "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، وأول البقرة {الم}. قال ابن الصلاح: وله حُسْنٌ، وهو أنها لَمَّا ثبتت أولًا في سورة الفاتحة، كانت في باقي السور إعادةً لها وتكرارًا، فلا تكون من تلك السورة ضرورة؛ ولذلك لا يقال: هي آية مِن أول كل سورة، بل هي آية في أول كل سورة. قال بعض المتأخرين: وهذا أحسن الأقوال، وبه تنجمع الأدلة، فإن إثباتها في المصحف بين السُّوَر من سواده، وأجمع الصحابة - صلى الله عليه وسلم - أن لا يُكتب في المصحف ما ليس بِقُرآن، وأن ما بين دفتَي المصحف كلام الله، فإن في ذلك دليلًا واضحًا على ثبوتها. قال القاضي حسين والغزالي والنووي وغيرهم: هو من أحسن الأدلة، ولم يَقُم دليل على كونها آية من أول كل سورة. وكذلك ذهب أبو بكر الرازي من الحنفية إلى أنها آية مفردة أُنزلت للفصل بين السوَر. حكاه عنه ابن السمعاني في "الاصطلام". وحكى المتولى من أصحابنا [وجهًا] (¬1): أنه إنْ كان الحرف الأخير من السورة قبله ياء ممدودة كالبقرة، فالبسملة آية كاملة منها، وإن لم يكن كذلك كما في {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1]، فبعض آية. ¬

_ (¬1) في (ز): طريقةً.

ومما استُدل به على أنها من الفاتحة - غير ما سبق من تَضَمُّن مصاحف الصحابة فمن بعدهم لها بل وفي سائر السور غير براءة - ما صح عن أُم سلمة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ البسملة في أول الفاتحة، وعَدَّها آية" (¬1). وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87] قال: هي فاتحة الكتاب. قيل: فأين السابعة؟ قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬2). أخرجهما ابن خزيمة في "الصحيح" وغيره. وعن ابن عباس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" (¬3). رواه أبو داود، والحاكم وقال: على شرط الشيخين. وعن علي وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم أن الفاتحة هي السَّبع المثاني وهي سبع آيات، والبسملة السابعة. وفي بعض الروايات عن أبي هريرة ذلك مرفوعًا. رواه البيهقي والدارقطني، والروايات في ذلك كثيرة. ونحن لا ندَّعِي في ذلك أنه تواتر، بل إما أن نقول: أفاد القطع بانضمام القرائن إليه؛ فإنَّ خبر الآحاد إذا احتفت به القرائن الموجِبة للقطع، أفاد القَطْع. أو نقول: إنه وإن لم يتواتر عندنا فقد تواتر عند مَن نُقلده، وهو الإمام الشافعي - رضي الله عنه -، ورُب تواتر يكون في زمن دُون آخَر، ولشخص دون آخر، وإثباته ذلك قرآنا والقرآنُ لا يَثْبت إلا بالتواتر - يدل على تواترها عنده. أو نقول: إنها ليست من القرآن القطعي، بل من الحكمي، وهو أصح الوجهين الذين ¬

_ (¬1) صحيح ابن خزيمة (493)، مستدرك الحاكم (848)، السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 2214). (¬2) السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 2216)، مستدرك الحاكم (2024) وغيرهما. (¬3) سنن أبي داود (رقم: 788)، السنن الكبرى للبيهقي (2206). قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن أبي داود: 788).

حكاهما الماوردي في أنها هل هي قرآن على سبيل القطع كسائر القرآن؟ أو على سبيل الحكم؛ لاختلاف العلماء فيها؟ ومعنى "سبيل الحكم" أنه لا تصح الصلاة إلا بها في أول الفاتحة، ولا تكون قراءتها بكمالها إلا بها. قال: وجمهور أصحابنا على أنها قرآن حُكمًا، لا قطعًا. قال ابن السمعاني: فيكون قرآنا عملًا، لا عِلمًا. قال: كالحجر من البيت في الطواف لا في الاستقبال، فهو حُكمي، لا قطعي. وكذا ضعَّف الإمامُ القولَ بأنها قرآن قطعي، وقال: إنه غباوة عظيمة من قائله؛ لأن ادِّعاء العِلم حيث لا قاطع مُحَالٌ. وصحح أيضا النووي القول بأنها حُكمي، واستند إلى منع تكفير النافي لها إجماعًا كما هو المعروف. وإن كان العمراني حكى في "زوائده" عن صاحب "الفروع" أنَّا إذا قلنا: إنها من الفاتحة قطعًا، كفَّرنا نافِيها، وفسَّقنا تاركها. لكن لا التفات لذلك، ومن أجل ذلك قال ابن الحاجب: (وقوة الشبهة في "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" منعت من التكفير من الجانبين) (¬1). أيْ: جانب المثبتين لها (كالشافعية) والنافين لها (كالأئمة الثلاثة والقاضي أبي بكر). لكن هذا إنما هو إذا أثبتناها قرآنًا قطعيًّا، أما إذا أثبتناها حكميًّا، فليس هنا مُقْتَضٍ للتكفير حتى يُدْفع بالشُّبهة، وكذا إذا قُلنا: إنه قطع بتواترها عند القائل به دُون غيره، أو: إنَّ القطع بالقرائن كما سبق. على أن القطع وحده لا يوجب تكفير النافي، بل لا بُدَّ أن يكون المقطوع به مجمعًا عليه ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (1/ 457).

معلومًا من الدين بالضرورة. ثم قال ابن الحاجب: (والقطع أنها لم تتواتر) (¬1) إلى آخِره. وهو عجيب، فأيُّ قَطْع مع قوة الشُّبهة - على قوله؟ ! وكذلك مبالغة القاضي في تخطئة القول بأنها من القرآن - لا يلاقي مُدَّعَى أنَّ ذلك حُكمي لا قطعي، أو بتواتر حصل له، أو بقطع بقرائن كما سبق بيانه. نعم، كونه قرآنًا حكميًّا هو [أوضح] (¬2) الأوجُه الثلاثة؛ فلذلك اقتصرتُ عليه في النَّظم بقولي: (سِوَى مَا كَانَ حُكْمِيًّا). أي: فإنَّ الحكمي لا يحتاج لتواتر، وبه تندفع الإشكالات كلها إن شاء الله تعالى. وقولي: (بَرَاءَةَ الصِّلَهْ) أيْ التي توصل بما قبلها مِن غير فصل بالبسملة، كما قال ابن عباس: قلت لعثمان: ما حملَكم على أنْ قرنتم بين الأنفال وهي في المثاني وبراءة وهي من المئين، فلم تكتبوا بينهما تسمية ووضعتموها في السبع الطوَل؟ فقال: الأنفال نزلت بالمدينة، وبراءة من أواخر ما نزل، فكانت القصة تشبه بعضها بعضًا، وقُبض - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، فقَرنَّا بينهما (¬3). وهذه المسألة في الحقيقة من مسائل الفقه، وإنما ذكرناها تفريعًا على ما بيناه في الأدلة الثلاثة من أنه لا بُدَّ من ثبوته بالسند، فهو تقسيم [لسندها] (¬4)، فالكتاب بالتواتر، وكُل من ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى مع شرحه (1/ 462). (¬2) في (ز): أصح. (¬3) سنن أبي داود (786)، وسنن الترمذي (رقم: 3086) وغيرهما. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف سنن أبي داود: 786). (¬4) كذا في (ص، ت)، لكن في (ز): لسندهما.

السُّنة والإجماع يكون بالتواتر و [بالآحاد] (¬1) كما سيأتي بيانه، والله أعلم. ص: 268 - وَمَا [قَرَاهُ] (¬2) السَّبع ذُو تَوَاتُرِ ... لأَنَّهُ مِنْهُ بِقَطْعٍ سَائِرِ 269 - لَا الِاخْتِلَافُ في وُجُوهِ التَّأْدِيَه ... مِثْلُ مَقَادِيرِ [مُدُودٍ مُنْهِيَهْ] (¬3) 270 - كَذَا إمَالَةٌ وَهَمْزٌ سَهَّلُوا ... أَوْ حَقَّقُوا، وَوَصْفُ حَرْفٍ يُسْهَلُ 271 - لَا أَصْلُ كُلٍّ؛ فَهْوَ قَدْ تَوَاترَا ... أَمَّا الشُّذُوذُ في قِرَاءَاتٍ تُرَى الشرح: أي: إذا تَقرر أن القرآن يُعتبر في ثبوته التواترُ، انبنى على ذلك مسألتان: القراءات السبعة، و [القراءات] (¬4) الشاذة. فأما الأُولى: وهي ما قرأ به الأئمة السبعة المشهورة وتواترت عنهم من القرآن فيجب أن [تكون متواترة] (¬5) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ [لكونها] (¬6) قرآنًا، ولا يكون إلا متواترًا كما سبق. واحترزتُ بقولي: (وتواترت) عما يُحكَى عن بعضهم آحادًا، فإنَّ ذلك من الشاذ الآتي بيانه، كما لو قرأ بها غيرهم. ¬

_ (¬1) كذا في (ز). وفي (ش): الآحاد. وفي سائر النُّسخ: إلى آحاد. (¬2) ينضبط الوزن هكذا ولا ينضبط مع: قَرَأَه. (¬3) في (ز): المدود المنهية. وفي (ظ): ممدود منهية. (¬4) في (ز، ظ، ش): القراءة. (¬5) كذا في (ز). لكن في سائر النُّسخ: يكون متواترا. (¬6) كذا في (ز). لكن في سائر النُّسخ: لكونه.

والخلاف في تواتُر السبعة حكاه السرخسي من أصحابنا في كتاب الصوم من "الغاية"، فقال: (القراءات السبع متواترة عند الأئمة الأربعة وجميع أهل السُّنة، خلافًا للمعتزلة، فإنها آحاد عندهم). انتهى. وممن ادَّعَى أنها آحاد أيضًا الأبياري شارح "البرهان"، قال: وأسانيدهم تشهد بذلك. ونازع بهذا قول الإمام في "البرهان": إنها متواترة. وقال صاحب "البديع" من الحنفية: إنها مشهورة، لا متواترة. وفي "مختصر الروضة" للطوفي من الحنابلة: (إنها متواترة، خِلافًا لبعضهم) (¬1). فقَوْل ابن الحاجب: (لنا: لو لم تكن متواترة لكان بعض القرآن غير متواتر، كَـ"ملك" و"مالك" ونحوهما) (¬2) إلى آخِره -[نصبٌ للدليل] (¬3) مع مخالف، خلافًا لقول بعض الشراح: إنه دليل لا على مخالف؛ لأنَّ كوْن تواتُر السبعة لا خِلاف فيه - ممنوعٌ؛ لِما بيَّناه. وما أشار إليه شارح "البرهان" وتبعَه جمع عليه مِن أنَّ "أسانيدهم مَن تتبعها يجدها آحادًا، فيكون التواتر إنما هو مِنَّا إليهم فقط" ممنوعٌ؛ فإنها تواترت لهم وشاركهم مَن بلغ معهم حد التواتر، ولكن اشتهرت عنهم، [فلا يكون] (¬4) كل منهم منفردًا، وأسانيد القراءات تدل على ذلك. ثم - على تقدير تسليم ما قالوه - القطعُ حاصل من حيث تَلَقِّي الأُمة لها بالقبول وتوارُد السلف والخلَف على القطعْ بها كما قال ابن الصلاح في أحاديث الصحيحين، وسيأتي بيانه ¬

_ (¬1) شرخ مختصر الروضة (2/ 21). (¬2) مختصر المنتهى مع شرحه (1/ 462). (¬3) كذا في (ز، ش). وفي سائر النُّسخ: نصبَ الدليل. (¬4) كذا في (ش). لكن في (ظ، ت): لا يكون. وفي سائرها: لا بِكون.

وما قيل فيه من النظر. وما أحسنَ قول الإمام كمال الدين ابن الزملكاني: انحصار الأسانيد في طائفة لا يمنع مجيء القراءات عن غيرهم؛ فقد كان يتلقاه من أهل كل بلد بقراءة إمامهم الجمُّ الغفير عن مثلهم، وكذلك دائماً. فالتواتر حاصل لهم، ولكن الأئمة الذين قصدوا ضبط الحروف وحفظوا شيوخهم [فيها] (¬1) جاء السند من جهتهم، وهذا كالأخبار الواردة في حجة الوداع، هي آحاد ولم تزل حجة الوداع منقولة عمن يحصُل بهم التواتُر عن مثلهم في كل عصر. فينبغي أن يتفطن لذلك وأنْ لا يُغتر بقول القراء فيه. وأشرتُ إلى ذلك في النَّظم بقولي: (لأَنَّهُ مِنْهُ بِقَطْعٍ سَائِرِ). أي: لأن ما قرأه السبعة من [القراءات] (¬2) كما هو مقطوع به في كل عصر ومصر فهو سائر في الأعصار والأمصار. وقولي: (لَا الِاخْتِلَافُ) إلى آخِره - بيانٌ لِأنَّ ما أَطْلقه الجمهور مِن تواتُر السبعة ليس على إطلاقهم، بل يُستثنى منه - كما قال ابن الحاجب - ما كان من قبيل الأداء، كالمد والإمالة وتخفيف الهمزة ونحوه. ومراده بالتمثيل بِـ"المد والإمالة" مقادير المد وكيفية الإمالة، لا أصل المد والإمالة؛ فإنه متواتر قطعًا. فالمقادير كَمَدِّ حمزة وورش بقَدْر ست ألِفات، وقيل: خَمس. وقيل: أربع. ورجحوه، وعاصم بقدر ثلاث، والكسائي بقدر ألِفين ونصف، وقالون بقدر ألِفين، والسُّوسي بقدر ألِف ونصف، ونحو ذلك. وكذلك الإمالة تنقسم إلى: - محضة، وهي أن ينحى بالألِف إلى الياء، وبالفتحة إلى الكسرة. - وبَيْن بَيْن، وهي كذلك إلا أنها تكون إلى الألف أو الفتحة أقرب، وهي المختارة عند ¬

_ (¬1) في (ش): منها. (¬2) كذا في (ص)، لكن في (ت، ز، ق): القرآن.

الأئمة. أما أصلُ الإمالة فمتواترة قطعًا. وكذلك التخفيف في الهمز والتشديد فيه، منهم مَن يسهله، ومنهم مَن يبدله، ونحو ذلك. فهذه الكيفية هي التي ليست متواترة؛ ولهذا كره الإمام أحمد - رضي الله عنه - قراءة حمزة؛ لِما فيها من طول المد والكسر والإدغام ونحو ذلك، وكذا قراءة الكسائي؛ لأنها كقراءة حمزة في الإمالة والإدغام كما نقل ذلك السرخسي في "الغاية". فلو كان ذلك متواترًا لَمَا كرهه الإمام أحمد؛ لأن الأُمة إذا كانت مجمعة على شيء، فكيف يكره؟ ! وقولي: (وَوَصْفُ حَرْفٍ يُسْهَلُ) هو مما زاده أبو شامة - في المستثنى - على ما ذكره ابن الحاجب في استثنائه، وهي الألفاظ المختلَف فيها بين القراء، أيْ: ألفاظ اختلف القراء في وجه تأديتها، كالحرف المشدد يبالغ بعضهم فيه حتى كأنه يزيد حرفًا، وبعضهم لا يرى ذلك، وبعضهم يرى التوسط بين الأمرين. وهو معنى قولي: (وَوَصْفُ حَرْفٍ يُسْهَلُ). وهو بضم أوله مِن "أسهل" الرباعي بمعنى "سهَّل" المشدد. أي: يختلف في وجه تسهيله. وهذا الذي قاله [ظاهر، و] (¬1) يمكن دخوله تحت قول ابن الحاجب في الاحتراز عنه: (فيما ليس من قبيل الأداء). على أن بعضهم قد نازع أبا شامة بما لا تحقيق فيه، والله أعلم. وقولي: (أَمَّا الشُّذُوذُ في قِرَاءَاتٍ ترى) تمامه قولي بعده في جواب "أما": ¬

_ (¬1) ليس في (ز).

ص: 272 - فَلَيْسَ قُرْآنًا؛ [لِذَا] (¬1) لَا يُقْرَأُ ... بِهِ، وَذَاكَ بَعْدَ سَبْعٍ تُقْرَأُ 273 - وَاخْتَارَ جَمْعٌ مَا رَآهُ الْبَغَوِي ... مِنْ أَنَّهُ وَرَاءَ عَشْرٍ مُنْحَوِى 274 - نَعَمْ، يَكُونُ حُجَّةً إنْ ثَبَتَا ... نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مُثْبِتَا الشرح: أيْ: إذا عُلم أن القرآن لا يكون إلا متواترًا، نشأ منه أن القراءات الشاذة ليست قرآنًا؛ لأنها آحاد، وحينئذ فلا يجوز القراءة بها، قال ابن عبد البر: إجماعًا. وقال النووي في "شرح المهذب": لا في الصلاة ولا في غيرها. وكذا قاله في فتاويه، قال: فإنْ قرأ بها في الصلاة وغيَّرت المعنى، بطلت صلاته إن كان عامدًا عالمًا. وكذا قال أبو الحسن السخاوي: لا تجوز القراءة بها؛ لخروجها عن إجماع المسلمين وعن الوجه الذي يثبت به القرآن وهو التواتُر وإن كان موافقًا للعربية وخط المصحف. ونقل الشاشي في "المستظهري" عن القاضي الحسين أن الصلاة بالقراءة الشاذة لا تصح. نعم، نازع الشيخ أبو حيان وجَمعٌ في جواز القراءة بها، وليس مخالَفةً لِمَا نُقل مِن الإجماع؛ لأنهم بنوه على تفسير هم "الشاذ"، وسيأتي، فإنما أجازوا فيما ليس بِشَاذ على رأيهم. وعضد أبو حيان ذلك بأن المسلمين لم يزالوا يُصلون خلف أصحاب هذه القراءات، كالحسن البصري ويعقوب وطلحة بن مُصَرّف وابن مُحَيْصن والأعمش وأضرابهم، ولم ينكر ذلك أحد. ¬

_ (¬1) في (ز، ت، ش، ن 2، ن 5): لذا. لكن في سائر النُّسَخ: كذا.

لكن كلام الرافعي يقتضي جواز القراءة بالشاذ من غير أنْ ينبه على تفسير "الشاذ" بغير المشهور فيه، فإنه قال: تسوغ القراءة بالسبع وكذا بالقراءة الشاذة إن لم يكن فيها تغيير معنًى ولا زيادة حَرْف ولا نقصانه. وزعم النووي في "شرح المهذب" أن كلام الرافعي في الصحة، لا في الجواز. يعني: فلا يبقى في كلامه إشكال. وكأنه يريد بذلك أن كلام الرافعي في صحة نقلها وثبوتها بالسند الصحيح، لا في جواز القراءة بها، ولكنه تأويل بعيد، وقد جزم هو في "الروضة" بأنه تصح الصلاة بالقراءة الشاذة إنْ لم يكن فيها تغيير معنى ولا زيادة حرف ولا نقصانه. وقولي: (وَذَاكَ بَعْدَ سَبع تُقْرَأُ) إشارة إلى تفسير "الشاذ"، وهو لُغةً: المنفرد. واصطلاحًا: ما لم يتواتر من القراءات. أما الشذوذ في الأحاديث فسيأتي بيانه. وقد اختُلف في ضبط القراءة الشاذة، فالمشهور أنها ما وراء السبعة المعروفة، وهو ظاهر كلام الرافعي السابق؛ ولذلك جريتُ عليه في النَّظم. ونُقل عن البغوي أنه ما وراء العشرة، أي: هذه السبعة مع يعقوب وخلف وأبي جعفر يزيد بن القَعْقَاع. واختار هذا الشيخ تقي الدين السبكي وغيرُه، وقالوا: إنَّ قراءة الثلاثة المذكورين تواترت كالسبعة. وقد حكى البغويُّ في تفسيره الإجماعَ على جواز القراءة بها. قال أبو حيان وهو من أئمة هذا الشأن: لا نعلم أحدًا من المسلمين حظر القراءة بالثلاثة الزائدة على السبع، بل قُرئ بها في سائر الأمصار. وقال الشيخ تاج الدين السبكي: (القول بأنها غير متواترة في غاية السقوط، ولا يصح القولُ به عمَّن يُعتبر قوله في الدِّين). انتهى قال القاضي أبو بكر بن العربي في "القواصم": (ضَبْط الأمر على سبع قراءات ليس له أصل في الشرع، وقد جمع قومٌ ثماني قراءات، وقومٌ عشرًا).

قال: (وأصلُ ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أُنزل القرآن على سبعة أحرف" (¬1). فظن قومٌ أنها سبع قراءات، وهو باطل) (¬2). انتهى قلتُ: قد يُمنع ما قاله بأن كوْنها سبعة إنما هو بحسب الواقع اتفاقًا، لا للحديث. والحديث في الصحيحين من حديث ابن عباس وأُبي بن كعب وعمر - رضي الله عنهم -. قال أبو حاتم بن حبان: (اختُلف في المراد بذلك على خمسة وثلاثين قولًا، وقد وقفتُ منها على كثير). انتهى ورجح القرطبي قول الطحاوي: إن المراد به أنه وُسع عليهم في مبدأ الأمر أن يُعبِّروا عن المعنى الواحد بما يدل عليه لُغة إلى سبعة ألفاظ؛ لأنهم كانوا أُميين لا يَكتب إلا القليل منهم، فشقَّ على أهل كل ذي لُغة أن يتحول إلى غيرها، فلمَّا كثر مَن يَكتب وعادت لُغاتهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتفع ذلك، فلا ويُقرأ إلا باللفظ الذي نزل. ثم نقل ذلك عن ابن عبد البر وعن القاضي أبي بكر، ومن ذلك أن أُبي بن كعب كان يقرأ {لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا} [الحديد: 13]: "للذين آمنوا امهلونا"، "للذين آمنوا أخرونا". وممن اختار هذا القول أيضًا ابن العربي. وإنْ كان في قوله: "أُنزل على سبعة أَحْرُف" ما قد ينافي إرادة السماحة في لُغات، فإنه ما نزل إلا بواحدة، والتوسيع ليس من المنزل، [بل] (¬3) في حُكمه، إلا أن يُؤوَّل ["أنزل القرآن" أي] (¬4): أنزل أنْ يُقرأ على سبعة أحرف. واعْلم أن ممن نُقل عنه أن المراد به القراءات السبع الخليل بن أحمد، وهو أضعف ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 4754)، صحيح مسلم (رقم: 818). (¬2) العواصم من القواصم (ص 360)، الناشر: دار التراث - مصر. (¬3) من (ز). (¬4) من (ش).

الأقوال، وليس هذا موضع بَسْطها. وقولي: (نَعَمْ، يَكُونُ حُجَّةً) إلى آخِره - إشارة إلى أن القراءات الشاذة إذا صح سندها، فالصحيح أنه يُحتج بها؛ لأنه إذا بطل خصوص كوْنها قرآنًا لِعَدم التواتر، يبقى عموم كوْنها خبرًا. وقد أطلق الشافعي - فيما حكاه البويطي عنه في باب الرضاع وفي تحريم الجمْع - الاحتجاجَ بها، وعليه جمهور أصحابه، كالقضاة: الحسين وأبي الطيب والروياني، وكذا الرافعي. وقد احتجوا على قطع اليمين من السارق بقراءة ابن مسعود: "والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم". ونقله ابن الحاجب عن أبب حنيفة، حيث احتج على وجوب التتابع بما نُقل عن مصحف ابن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" بعد أنِ اختار - تبعًا للآمدي ونسبه للشافعي - أنه ليس بحجة. وكذا قال الأبياري في "شرح البرهان": إنه المشهور من مذهب مالك والشافعي. وقال النووي في "شرح مسلم": إنه مذهب الشافعي. قال: لأن ناقلَها لم ينقلها إلا على أنها قرآن، والقرآن لا يثبت إلا بالتواتر. وإذا لم يثبت قرآنا، لم يثبت خبرًا. وكذا زعم إمام الحرمين في "البرهان" أن الشافعي إنما لم يقُل بالتتابع كأبي حنيفة لأنَّ عنده أن الشاذ لا يُعمل به، وتبع الإمام في ذلك أبو نصر القشيري والغزالي في "المنخول" وإلْكِيا وابن السمعاني. ولكن المذهب إنما هو ما سبق عن نَص البويطي وغيره، فهو الأرجح. ومسألة التتابع حكى الماوردي فيها قولًا بالوجوب احتجاجًا بقراءة "متتابعات"، ولكن الأرجح لا يجب، لا لكون القراءة الشاذة غير حُجة؛ بل لأنها إنما نُقلت تأويلًا، لا قراءةً، أو لمعارضة ذلك بقول عائشة - رضي الله عنها -: (نزلت "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"، فسقطت

"متتابعات") (¬1). أخرجه الدارقطني وقال: "إسناده صحيح"، أو لغير ذلك. ويخرج من كلام الماوردي قول ثالث بالتفصيل في المسألة، فقد قال في موضع من "الحاوي": إنْ أضافها القارئ إلى التنزيل أو إلى سماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، أُجريت مجرى خبر الواحد، وإلا فهي جارية مجرى التأويل. وبذلك صرح الباجي في "المنتقى"، فقال: فيها ثلاثة أقوال، ثالثها: التفصيل بين أن يُسْند أوْ لا. نعم، في شرح "مسلم" للقرطبي محل الخلاف إذا لم يُصرح الراوي بسماعها. ويخرج من كلام بعض الحنفية مذهب رابع، فقال أبو زيد في كتاب "الأسرار": إنه يُعمل بالقراءة الشاذة إذا اشتهرت. وكذا قال صاحب "المبسوط"، قال: ولهذا لم يعملوا بقراءة أُبي بن كعب: "فعدة من أيام أخر متتابعة"؛ لأنها قراءة شاذة غيْر مشهورة، ومثلها لا يُثبت الزيادة على النَّص، بخلاف قراءة ابن مسعود: "ثلاثة أيام متتابعات"، فقد كانت مشهورة في زمن أبي حنيفة. وكذا قال أبو بكر الرازي: (إنهم إنما عملوا بها لاستفاضتها وشهرتها في ذلك العصر وإنْ كانت إنما نُقلت إلينا بطريق الآحاد) (¬2). وقولي: (نَعَمْ، يَكُونُ حُجَّةً إنْ ثَبَتَا) أي: إن ثبت ذلك المروي من القراءات شذوذًا بالسند الصحيح، لا إذا لم يثبت عن المنقول ذلك عنه، أو ثبت لكن لا على أنه قراءة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) سنن الدارقطني (2/ 192)، وقال الإمام الدارقطني: (هذا إسناد صحيح). (¬2) الفصول في الأصول (1/ 199).

ص: 275 - وَتَثْبُتُ السُّنَّةُ وَالْإجْمَاعُ بِه ... كَذَاكَ بِالْآحَادِ لَيْسَ يَشْتَبِهْ 276 - لكِنْ تَوَاتُرٌ بِسُنَّةٍ يَقِلْ ... بَلْ نَفْيُ غَيْرِ الْمَعْنَوِيْ فِيهَا قُبِلْ الشرح: لَمَّا فرغتُ من بيان السند في الدليل الأول وهو الكتاب، شرعتُ في بيانه في الدليلين الآخَرين وهُما السُّنة والإجماع، فذكرتُ أن كُلًّا منهما يكون بالتواتر وبالآحاد، لكن المتواتر في السُّنة قليل حتى إنَّ بعضهم نفاه إذا كان لفظيًّا، وهو أن يتواتر لفظه بعيْنه، لا ما إذا كان معنويًّا، كأن يتواتر معنى في ضمن ألفاظ مختلفة، ولو كان ذلك المعنى [المشترك] (¬1) فيه بطريق اللزوم، ويسمى "التواتر المعنوي"، وسيأتي بيانه. وقد سبق أن ابن الصلاح قال: (إن المتواتر بِاسْمه الخاص إنما لم يذكره المحدثون لندرته عندهم حتى لا يكاد يوجد) (¬2). وسبق التعقب عليه في شيء من ذلك. ثم قال: (ومَن سُئِل عن إبراز مثال لذلك فيما يُروَى من الحديث، أعياه تَطَلُّبه، وحديث: "إنما الأعمال بالنيات" (¬3) ليس من ذلك بسبيل وإنْ نقَله عددُ التواتر وزيادة؛ لأن ذلك طرأ عليه في وسط إسناده، ولم يوجد في أوائله) (¬4). ¬

_ (¬1) في (ز): الشركة. (¬2) مقدمة ابن الصلاح (ص 267). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) المرجع السابق.

يشير بذلك إلى أنه لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمر - رضي الله عنه -، ولا عن عمر إلا علقمة بن وقاص الليثي، ولا عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولا عن محمد إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم اشتهر، فرواه عنه خلْقٌ كثير، قيل: سبعمائة. وقيل غير ذلك، وتَواتَر حتى الآن. نعم، تُعُقِّب عليه بأنه قد رواه نحو العشرين صحابيًّا، وأنه قد تُوبع الثلاثة الذين بعد عمر. وجوابه: أن ما ذُكر من ذلك إنما هو بمعنى "الأعمال بالنية"، لا بلفظِه، والكلام إنما هو في المتواتر لفظًا لا معنًى، وأن [المتابعات] (¬1) الواقعة لا تنتهي إلى حد التواتر. ثم قال ابن الصلاح: (نعم، حديث: "مَن كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" (¬2) نراه مثالًا لذلك؛ فإنه نقله من الصحابة - رضي الله عنه - العددُ الجمُّ) (¬3). إلى آخِر ما ذكره. وقد تُعُقب عليه بوصف غيره من الأئمة عِدة أحاديث بأنها متواترة: كحديث ذكر حوض النبي - صلى الله عليه وسلم -، أورد البيهقي في كتاب "البعث والنشور" روايته عن أزيد من ثلاثين صحابيًّا، وأفرده المقدسي بالجمع. قال القاضي عياض: وحديثه متواتر بالنقل. وحديث الشفاعة، قال القاضي عياض: بلغ التواتر. وحديث المسح على الخفين، قال ابن عبد البر: رواه نحو أربعين صحابيًّا، واستفاض وتواتر. ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ش، ص). لكن في (ق، ظ، ت): المتتابعات. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 107)، صحيح مسلم (رقم: 4). (¬3) مقدمة ابن الصلاح (ص 269).

وقال ابن حزم في "المحلى": (نقل تواتر يوجب العلم) (¬1). قال: (ومن ذلك أحاديث النهي عن الصلاة في [معاطن] (¬2) الإبل، وحديث النهي عن اتخاذ القبور مساجد وحديث قول المصلِّي: "ربنا ولك الحمد") إلى آخِره. وجواب ذلك: يحتمل أنَّ مراد قائل ذلك بِـ"المتواتر" إنما هو المشهور، كما يعبر به كثيرا عنه، أو أنها متواترة معنًى، أو غير ذلك، وإلا فالواقع [فقْدان] (¬3) شرط التواتر في بعض طبقاتها. وإلى هذا أشرت بقولي: (بَلْ نَفْيُ غَيْرِ الْمَعْنَوِيْ فِيهَا قُبِلْ). وأما الإجماع فنقله بالتواتر كثير. نعم، وقع خلاف في أصل الإجماع إذا قُلنا بإمكان تصوُّره: هل يمكن معرفته والاطِّلاع عليه؟ فأثبته الأكثرون كما قاله الآمدي، ونفاه الأقلُّون، ومنهم أحمد بن حنبل، في إحدى الروايتين عنه أنَّ مُدَّعي الإجماع كاذب. ولكنه محمول على: - الاستبعاد، أيْ: يَبعد مع كثرة العلماء وتفرقهم في البلاد النائية أنْ يَعرف الناقل عنهم اتفاقَ معتقداتهم مع إمكان أن يكون قوله أو فعله المنقول عنه مخالفًا لمعتقده؛ لغرضٍ ما. وبتقدير تسليمه فقدْ يرجع عنه قبل الوصول للباقين، فالورَع أنْ لا يُنقل؛ [لذلك] (¬4)، ولأنه قد يكون ثَم مخالف لم يُطَّلَع عليه. - أو أنه قال ذلك في حَق مَن ليس له معرفة بخلاف السلف؛ لأن أحمد قد أطلق القول بصحة الإجماع في مواضع كثيرة. ¬

_ (¬1) المحلى (2/ 83). (¬2) في (ز): مواطن. (¬3) في (ش): فقد. (¬4) في (ق، ت): كذلك.

- وحمل ابن تيمية قوله ذلك على إجماع غير الصحابة؛ لانتشارهم، أما الصحابة فمعروفون محصورون. ونقل ابن الحاجب أنَّ المانع احتج بأن نقْله مستحيل عادةً؛ لأن الآحاد لا يفيد العِلم بوقوعه، وهو قطعي لا بُدَّ له من سندٍ قطعي، والتواتر بعيد. وأجاب عن ذلك بالوقوع؛ فإنَّا قاطعون [بتواتر النقل] (¬1) عن إجماع الأُمة على تقديم النَّص القاطع على الظن. ولم يتعرض لِرد أن الآحاد لا يفيد، ولكنه مردودٌ بأنَّ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفِعله أقوى منه، ومع ذلك يثبت بالآحاد ويجب العمل به. قال الماوردي: وليس آكد من سُنن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهي تثبت بقول الواحد. وجرى على هذا أيضًا إمام الحرمين والآمدي وإنْ نقل عن الجمهور اشتراط نقله بالتواتر. ومنهم مَن فرَّع المنع على كون الإجماع حُجة قطعية، ونقل ذلك عن الجمهور. وقال القاضي في "التقريب": إنه الصحيح. ولكن لا يلزم؛ فإنه وإنْ كان قطعيًّا في نفسه لكن طريق وصوله قد تكون ظنية؛ بدليل السُّنة كما قررناه. وذهب جَمعٌ من الفقهاء إلى ثبوته بالآحاد بالنسبة إلى العمل خاصة، لكن لا يرفع به قاطع، ولا يعارضه. ¬

_ (¬1) في (ز): بنقل التواتر.

تنبيه: قول القائل: "لا أعلم خلافًا بين أهل العلم في كذا" لا يكون نقلًا للإجماع. قال الصيرفي: لجواز الاختلاف. وكذا قاله ابن حزم في "الإحكام". وقال في كتاب "الإعراب": إن الشافعي نَص عليه في "الرسالة"، وكذا أحمد. قال الصيرفي: وإنما يسوغ هذا لمن بحث البحث الشديد وعلم أصولَ العلم وجُمله. وقال ابن القطان: إنَّ قائل ذلك إنْ كان من أهل العلم فهو حُجة، وإلا فلا. وقال الماوردي: إن لم يكن من أهل الاجتهاد المحيطين بالإجماع والاختلاف، لم يَثبت الإجماع بقوله، وإلا ففيه خِلاف لأصحابنا. ورَدَّ ابن حزم على من يجعل مثل هذا إجماعًا بأن الخلاف قد يخفَى على الأئمة الكبار، فقدْ قال الشافعي في زكاة البقر: (لا أعلم خلافًا في أنه ليس في أقل من ثلاثين منها تبيع). مع أن في المسألة قولًا مشهورًا: إنَّ الزكاة في خمس منها كالإبل. و[قال] (¬1) مالك في "الموطأ" في الحكم بِرد اليمين: (وهذا مما لا خلاف فيه بين أحد من الناس أَعْلمه). مع أن الخلاف شهير، فكان عثمان - رضي الله عنه - لا يرى برد اليمين ويقضي بالنكول، وكذا ابن عباس، ومن التابعين الحكَم وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة وأصحابه، وهم كانوا القضاة في ذلك الوقت. والله أعلم. ¬

_ (¬1) في (ص): فقد قال الشافعي وقال.

ص: 277 - وَخَبَرُ الْآحَادِ مَا لَا يَنتهِي ... إلى تَوَاتُرٍ، وَغَيْرُ الْمُنْتَهِي 278 - إنْ شَاعَ عَنْ أَصْلٍ [فَذَا] (¬1) الْمَشْهُورُ ... وَ [الْمُسْتَفِيضُ اسْمَانِ] (¬2)، والْمَذْكُورُ 279 - أَقلُّهُ اثْنَانِ، وَقَوْلُ الْوَاحِد ... يُعْمَلُ في الْمُفْتَى بِهِ وَالشَّاهِدِ الشرح: لَمَّا بينتُ أن السُّنة والإجماع يثبتان بخبر الواحد، شرعتُ في تعريفه وتقسيمه وأحكامه، وهو جُلُّ المقصود من هذا الباب. أما تعريفه فَـ "خبر الواحد": ما لم يَنْتَهِ إلى رتبة التواتر، إما بأن يرويه مَن هو دُون العدد الذي لا بُدَّ منه في التواتر، وهو الخمسة كما تَقدم، بأنْ يرويه أربعة فما دونها، أو يرويه عددُ التواتر ولكن لم ينتهوا إلى إفادة العِلم باستحالة تواطؤهم على الكذب، أو لم يكن ذلك في كل الطبقات، أو كان ولكن لم يخبِروا عن محسوس، أو غير ذلك مما يعتبر في التواتر كما سبق. وقد عُلم ذلك من التقسيم أول الباب مِن أن ما لم يُفِد العِلم بنفسه من الأخبار هو الآحاد، وعُلم أيضًا أنه ليس المراد به ما يرويه الواحد فقط كما قد يُفهم مِن إطلاق خبر الواحد أو الآحاد، بل ما ذكرناه. وقولي: (وَغَيْرُ الْمُنْتَهِي) إلى آخِره - إشارة إلى أن أرجح الأقوال وأقواها في "المشهور" أنه قسم من الآحاد، ويسمى أيضًا "المستفيض". ¬

_ (¬1) في (ق، ت، ن 1، ن 3، ن 4، ن 5): فذا. وفي (ض، ص، ش): كذا. وفي (ز، ن 2): هو. وفي (ظ): لذا. (¬2) كذا في (ت، ن 1، ن 3، ن 4، ن هـ). لكن في (ز، ن 2): مستفيضًا سَمِّ. وفي (ض، ق، ص): المستفيض لاسما. وفي (ظ): المستفيض لاسيما. ولا (ش): المستفيض لاسمان.

وقد سبق عن الماوردي والأستاذ أبي إسحاق وجمعٍ أنه قسم ثالث غير المتواتر والآحاد، وذهب أبو بكر الصيرفي والقفال الشاشي إلى أنه و"المتواتر" بمعنًى واحد. وثالثها: أن "المشهور" أعم من "المتواتر"، وهو طريقة المحدثين. قال ابن الصلاح: (ومعنى الشهرة مفهوم، وهو ينقسم إلى: صحيح، كحديث: "إنما الأعمال بالنية" (¬1)، وغير صحيح، كحديث: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" (¬2). ونقل عن أحمد أن أربعة أحاديث تدور في الأسواق ليس لها أصل) (¬3). إلى آخِره. ثم قال: وينقسم إلى: ما هو مشهور بين أهل الحديث وغيرهم، نحو: "المسلم مَن سلم المسلمون من لسانه ويده" (¬4)، وبين أهل الحديث خاصة، كقنوته - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع شهرًا يدعو على رعل وذكوان) (¬5) (¬6). ثم ذكر وَجْه اختصاصه بالشهرة عندهم، ثم قال: (ومن المشهور المتواتر). إلى آخِر ما ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سنن ابن ماجه (رقم: 224)، مسند أبي يعلى (2837)، المعجم الصغير للطبراني (1/ 36، رقم: 22)، وغيرها. قال الحافظ السخاوي في (المقاصد الحسنة، ص 442): (قال العراقي: "قد صحح بعض الأئمة بعض طُرقه. . "، وقال المِزِّي: "إنَّ طُرقه تبلغ به رُتبة الحسن"). وقال الألباني في (تخريج أحاديث مشكلة الفقر، ص 61 - 62) بعد أنْ ذكر طرقه: (وبالجملة فَجُلّ طُرُق هذا الحديث واهية؛ ولذلك ضَعَّفه جماعة من الأئمة. .، لكن بعض طرقه الأخرى مما يقوي بعضه بعضًا، بل أحدهما حسن. . فالحديث بمجموع ذلك صحيح بلا ريب عندي). (¬3) مقدمة ابن الصلاح (ص 265). (¬4) صحيح البخاري (10)، صحيح مسلم (41). (¬5) صحيح البخاري (958)، صحيح مسلم (677). (¬6) مقدمة ابن الصلاح (ص 265).

سبق نقله عنه. وفسره الماوردي في "الحاوي" والروياني في "البحر" بما يقتضي أنه أَخَص من "المتواتر" وأعلى منه، فيكون قولًا رابعًا، فقالا: (الاستفاضة أن ينتشر من ابتدائه بين البر والفاجر، ويتحققه العالم والجاهل، ولا يشك فيه سامع، إلى أن ينتهي) (¬1). عَنَيا استواء الطرفين و [الواسطة] (¬2). قالا: (وهو أقوى الأخبار وأثبتها حُكمًا. و"التواتر": أن يبتدئ به الواحد بعد الواحد حتى يكثر عددهم، ويبلغوا قدرًا ينتفي عن مِثلهم التواطؤ والغلط، فيكون في أوله من أخبار الآحاد، وفي آخِره من "المتواتر") (¬3). ومرادهما بِـ"أوله" أول أمره، لا أول الطبقات من الأسفل. ثم قالا: (والفرق بينهما من ثلاثة أوجه، أحدها: هذا، وثانيها: أن الاستفاضة لا يراعَى فيها عدالة المخبِر، بخلاف المتواتر. وثالثها: أن الانتشار في الاستفاضة من غير قصد، والانتشار في المتواتر بالقصد، ويستويان في: انتفاء الشك، ووقوع العِلم بهما، وعدم الحصر في العَدد، وانتفاء التواطؤ على الكذب من المخبِرين) (¬4). ومَثَّلا "المستفيض" بعدد الركعات، و"المتواتر" بوجوب الزكوات. وما اشترطاه في الاستفاضة من عدد يمتنع تواطؤهم على الكذب مفرَّع على قولهما في شهادة الاستفاضة بذلك، وبه قال ابن الصباغ والغزالي والمتأخرون. ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (16/ 85). (¬2) في (ص): الوسط. وفي (ض): الوسطة. (¬3) المرجع السابق. (¬4) الحاوي الكبير (16/ 85).

قال الرافعي: (وهو أشبه بكلام الشافعي) ((¬1). ولكن الذي اختاره الشيخ أبو حامد والشيخ أبو إسحاق وأبو حاتم القزويني أنَّ أَقَل ما تثبت به الاستفاضة اثنان، وإليه ميل إمام الحرمين. وقولي: (إنْ شَاعَ عَنْ أَصْلٍ) هذا متضمن لتعريف هذا النوع وهو "المشهور" بأنه: الشائع عن أصل. أي: الشائع بين الناس لكن بشرط أن يكون عن أصل؛ فخرج ما شاع لا عن أصلٍ يُرجَع إليه، فإنه مقطوع بكذبه. وقولي: (والْمَذْكُورُ أَقَلُّهُ اثْنَانِ) أي: هذا الذي يسمى "المشهور" و"المستفيض" أقله اثنان، وقيل: عدد يمتنع تواطؤهم على الكذب. وقد سبق تقرير القولين وتعيين قائلهما. وقال الآمدي: (هو ما نقله جماعة تزيد على الثلاثة والأربعة) (¬2). وقيل: المستفيض ما تلقته الأُمة بالقبول. وعن الأستاذ أنه ما اشتهر عن أئمة الحديث. فلتضم هذه الأقوال إلى ما سبق. تنبيه: قد عُلم من دخوله - على المرجَّح - تحت الآحاد أنه يفيد الظن كما سيأتي، لكن الظن فيه أوكد من غيره. ومَن سَوَّى بينه وبين "المتواتر" أو قال: إنه أعلى منه، فهو مفيد عنده القطع، وكذا مَن يشترط استحالة الكذب في رواته، والله أعلم. وقولي: (وَقَوْلُ الْوَاحِدِ) إلى آخِره وبعده: ¬

_ (¬1) العزيز شرح الوجيز (13/ 69). (¬2) الإحكام للآمدي (2/ 48).

ص: 280 - وَهَكَذَا رَاوٍ وَلَوْ في دِينِي ... سَمْعًا، وَلَا يُشْعِرُ بِالْيَقِينِ 281 - إلَّا إذَا انْضَمَّ لَهُ قَرِينَه ... وَشَرْطُهُ أَذْكُرُهُ مُبِينَه 282 - عَدَالَةُ الرَّاوِي، كَذَا مُرُوءَتُه ... وَضَبْطهُ، فَهَذِهِ شَرِيطَتُهْ الشرح: هو بيان لحكم خبر الآحاد، والكلام فيه في ثلاثة مواضع: في الاحتجاج به، وهل يفيد الظن؟ أو اليقين؟ وفي شروطه. الاول: يُعمل به بإجماع في ثلاثة أماكن: - في الفتوى، ومنها الحكم؛ لأنه في المعنى فتوى، وزيادة التنفيذ بشروطه المعروفة، فلذلك استغنيت عن التصريح به بذلك. - وفي الشهادة، سواء شُرط العدد أو لا؛ لأنه لم يخرج عن الآحاد. - وفي الرواية في الأمور الدنيوية، كالمعاملات ونحوها. وأما في الأمور الدينية فعلَى الصحيح من الخلاف الآتي بيانه؛ ولذلك قلت: (وَلَوْ في دِينِي) إيماءً إلى أنه محل الخلاف. وممن صرح بأن الثلاثة الأُولى محل وفاق القفال الشاشي في كتابه والماوردي والروياني وابن السمعاني، حيث قسموا خبر الواحد إلى ما يحتج به فيه بالإجماع، كالشهادات والمعاملات، ومنها الإخبار بإذن صاحب الدار في دخولها وأكل الهدية بإخباره. قال القفال: ولا خلاف في قبوله؛ لقوله تعالى: {إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} [الأحزاب: 53].

قال الماوردي ومن بعده: (لا يراعى فيه عدالة المخبر، وإنما يراعى سكون النفْس إلى خبره، فيقبل من كل بر وفاجر، ومسلم وكافر، وحر وعبد، فإذا قال الواحد منهم: "هذه هدية فلان إليك"، أو: "هذه الجارية وهبها فلان لك"، أو: "كنت أمَرتَه بشرائها فاشتراها"، كُلِّف المخبَر قبول قوله إذا وقع في نفسه صِدقه، ويحل له الاستمتاع بالجارية والتصرف في الهدية، وكذا الإذن في دخول الدار. وهذا شيء متعارَف في الأمصار مِن غير نكير) (¬1). ويلتحق بذلك خبر الصبي فيه على الصحيح. قلت: وعَدُّ هذا ونحوه من المعاملات الدنيوية فيه نظر، وإنما ينبغي أن يكون قِسمًا من الديني وقع فيه الإجماع؛ لاطِّراد العادات فيه والتعارف، وإلا فأكل الهدية والتصرف فيها ووطء الجارية حُكم شرعي، ويرشد إلى ما قُلتُه أن الفتوى والشهادة إجماع مع أنهما من الديني أيضًا؛ ولذلك أشار الشافعي في الاستدلال بحمل ما سواهما من الديني عليهما؛ إذْ لا فارق، وذلك أنه لَمَّا صنف كتابًا في إثبات العمل بخبر الواحد، أوسع فيه الباع، وساق فيه نحو الثلاثمائة حديث عُمِل فيها بخبر الواحد. قال بعد ذلك: ومَن الذي يُنكر خبر الواحد والحكام آحاد والمفتون آحاد والشهود آحاد؟ ! وقد افتتح الشافعي كت هذا الكتاب بحديث: "رحم الله امرأ سمع مقالتي فأداها كما سمعها" (¬2). الحديث المشهور. ظ عترض ابن داود بأنه أثبت خبر الواحد بخبر الواحد، فقال أصحابه: إن ما قاله ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (16/ 86). (¬2) سنن الترمذي (2656)، سنن ابن ماجه (رقم: 230) وغيرهما، ولفظ ابن ماجه: (نَضَّرَ الله امْرَأً سمع مَقَالَتِي فَبَلَّغَهَا). قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن الترمذي: 2656).

باطل؛ لأن الشافعي - رضي الله عنه - إنما استدل بما تضمنه مجموع ما ذكره من الأحاديث، وسنشير إلى بعض شيء منها. وحاصل ما في العمل بخبر الواحد في الأمور الدينية من الخلاف المنتشر المشهور أقوال: أحدها: أن العمل به جائز عقلًا، وواجب سمعًا. وهو قول الجمهور. قال أبو العباس ابن القاص: لا خلاف بين أهل الفقه في قبول خبر الآحاد، وإنما دفع بعض أهل الكلام خبر الآحاد لعجزه عن السُّنن، زعم أنه لا يقبل منها إلا ما تواتر بخبر مَن لا يجوز عليه الغلط والنسيان، وهذا ذريعة إلى إبطال السُّنن، فإنَّ ما شَرَطَه لا يكاد يوجد إليه سبيل. وقد استدل الشافعي بقضية أهل قباء لَمَّا أتاهم آتٍ وقال: إن القبلة قد حولت. فرجعوا إليه (¬1)، وبإرساله - صلى الله عليه وسلم - عماله واحدًا بعد واحد؛ ليخبروا الناس بالشرائع. وبسط كلامه في ذلك في "الرسالة" بسطًا شافيًا. ومما احتجوا به أيضًا قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، وقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122]، وغير ذلك من الأدلة. ولسنا بصدد ذلك في هذا الشرح المختصر، فأصحاب هذا القول اتفقوا على أن الدليل السمعي دل عليه من الكتاب والسُّنة وعمل الصحابة ورجوعهم كما ثبت ذلك بالتواتر. واختلفوا في أن الدليل العقلي هل دَلَّ على وجوب العمل مع ذلك؟ أم لا؟ فالأكثرون على المنع، وهو معنى قولي في النظم: (سَمْعًا) أيْ: فقط؛ إذ مفهومه أنه لا يُعمل به بغير السمع. وذهب الأقلون إلى أن العقل دل أيضًا، فنقل ذلك عن أحمد وابن سريج والصيرفي ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 4216)، صحيح مسلم (رقم: 527).

والقفال - مِنَّا - وأبي الحسين البصري من المعتزلة. قالوا: لاحتياج الناس إلى معرفة بعض الأشياء من جهة الخبر، وفي ترك ذلك أعظم الضرر، ولأن العمل به يفيد دفع ضرر مظنون؛ فكان العمل به واجبًا، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - مبعوث إلى جميع الناس ولا يمكن مشافهة الكل، فلا بُدَّ من بعث الرُّسل، وإرسال عدد التواتر لكل الأقطار قد يتعذر؛ فلا يَلزم ذلك، فوجب قطعًا أن يُكتفَى بالآحاد. وذكروا نحو ذلك مما لا ينتهض - عند التأمل - أن يدل عقلًا. وقد استغرب عزو ذلك إلى غير أبي الحسين المعتزلي مع أنهم أئمة أهل السُّنة، فقيل: لأن القفال كان أول أمره معتزليًّا، فَلَعَلَّه قال ذلك وقت اعتزاله، وابن سريج كان يناظر ابن داود، فلعله بالغ في الرد عليه؛ فَتُوُهِّم منه هذا القول. وأما أحمد - رضي الله عنه - فيمكن الاعتذار عنه بأنه أراد أنه ليس في العقل ما يمنع العمل به، أو قصد ما هو معلوم من أن الأدلة النقلية لا تخلو عن مقدمة عقلية في الدلالة وإنْ كانت محذوفة؛ للعلم بها، فلا منع أنْ يُصرِّح بها عند وجود المعاند. وربما يُعتذَر عن الجميع بذلك. ومَن قال بهذا فوجوب العمل به عنده قطعي، ومَن قال بالأول فكذلك أيضًا؛ لأن ما استدلوا به مقطوع به بالضرورة. قال ابن دقيق العيد: والحقُّ عندنا في الدليل - بعد اعتقاد أن المسألة عِلمية - أنَّا قاطعون بعمل السلف والأُمة بخبر الواحد، وهذا القطع حصل لنا من تتبعُّ الشريعة وبلوغ جزئيات لا يمكن حصرها، ومَن تتبَّع أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين وجمهور الأُمة - ما عدا الفِرقة اليسيرة المخالفة - عَلِم ذلك قطعًا. واعْلَم أن إمام الحرمين أول "البرهان" قال: (إنَّ إطلاق وجوب العمل بخبر الواحد فيه تساهُل؛ لأن نفس الخبر لو أوجب العمل لَعُلِم ذلك منه، وهو لا يثمر عِلمًا، وإنما وجب

العمل عند سماعه بدليل آخَر وهي الأدلة القطعية على وجوب العمل عند رواية الآحاد. فالتحقيق - وهو قول المحققين - أنه يوجِب العمل عنده، لا بِه) (¬1). قال: وهكذا القول في العمل بالقياس. القول الثاني: إنَّ العمل بالآحاد لا يجب وإنْ كان جائزًا عقلًا، ونُقل ذلك عن ابن داود والرافضة، ونقله ابن الحاجب عن [القاساني] (¬2)، لكن سيأتي أنه ممن يقول بمنعه عقلًا، فلا ينبغي أن ينقل عنه هذا المذهب. واحتجوا لهذا القول بنحو قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وقوله تعالى: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [الأنعام: 116]. وأجيب بأنه محمول على ما يجب فيه العمل باليقين، كالاعتقادات كما سيأتي بيانه. القول الثالث: إنه لا يجوز العمل به؛ لعدم الدليل على حجيته. الرابع: إن العمل به غير جائز عقلًا. وهو قول جمهور القدرية وطائفة من الظاهرية كالقاساني وغيره، ونقله ابن الحاجب عن الجبَّائي، لكن الصحيح في النقل عنه تفصيل يأتي ذِكره. قالوا: لأنه يؤدي إلى تحريم الحلال وتحليل الحرام إذا رُوي كل منهما في محل واحد بالآحاد وكان أحدهما راجحًا. فإن لم يكن ترجيح، أدَّى إلى الجمع بين النقيضين أو الترجيح بلا مرجِّح. ورُدَّ: بأنَّا إنْ قُلنا: (المصيب من المجتهدين واحد)، فإن كان الراجح هو الحقّ في نفس الأمر فواضح, وإن كان غيره فلَم يُكلَّف إلا بما غلب على ظنه وإن كان خطأ في نفس الأمر، ¬

_ (¬1) البرهان (1/ 388). (¬2) في (ز، ظ، ش): القاشاني.

وعند التساوي يوقف إلى أن يتبين الرجحان؛ فلا يَلزم شيء مما قُلتم. القول الخامس: لا يعمل به في الحدود؛ لأن الحدود تُدْرَأ بالشُّبهات، وكونه لم يُرْوَ إلا بالآحاد شُبهة. وهو قول الكرخي. وعبارة أبي الحسين في هذا القول المنع فيما ينتفي بالشبهة، وذلك أعم أن يكون حدودًا أو غيرها. قال: وأيضًا فإنَّ الكرخي يَقبله في إسقاط الحدود ولا يَقبله في إثباتها. السادس: إنه لا يُعمل به في ابتداء النُّصُب، بخلاف غيرها. والفَرق أن ابتداء النصُب أصل والزائد فرع، فيقبل في النصاب الزائد على خمسة أوسق، ولا يقبل في ابتداء نصاب الفصلان (¬1) والعجاجيل؛ لأنه أصل. نقل ذلك ابن السمعاني عن بعض الحنفية. السابع: لا يُعمل به فيما عمل الأكثر بخلافه. والحقُّ أنَّ عمل الأكثر مُرجَّح به، لا مانع. الثامن: لا يعمل به إذا خالف عمل أهل المدينة. وهو قول المالكية؛ ولهذا نفوا خيار المجلس. التاسع: لا يعمل به فيما تَعُم به البَلْوَى. وهو قول الحنفية؛ ولهذا أنكروا خبر نقض الوضوء مِن مَسِّ الذكَر والجهر بالبسملة وغيره. العاشر: لا يقبل إذا خالفه راوِيه. نقل عن الحنفية؛ ولذلك لم يوجبوا السَّبع في الولوغ؛ لمخالفة أبي هريرة - رضي الله عنه - لروايته. وقال صاحب "البديع" منهم: إن محله إذا خالفه بعد الرواية، فإنْ خالفه قَبل الرواية فلا يُرَد، وكذا إذا جُهل التاريخ. الحادى عشر (عن الحنفية أيضًا): إنه لا يقبل ما عارض القياس؛ ولهذا ردوا خبر ¬

_ (¬1) جَمع "فصيل": من أولاد الإبل. (تهذيب اللغة، 12/ 135).

المُصَرَّاة. وقيَّده البيضاوي بكونه عند عدم فِقه الراوي، فإنْ كان فقيهًا فلا يُرد ولو خالف القياس. نعم، في "اللمع" (¬1) للشيخ أبي إسحاق أن أصحاب مالك أطلقوا أنه لا يُقبل إذا خالف القياس، وأن أصحاب أبي حنيفة قالوا: إذا خالف قياس الأصول، لم يُقبل. وذكروه في أحاديث الوقف والقرعة والمصراة. قال: (فإنْ أرادوا بالأصول القياس على ما ثبت بالأصول فهو قول المالكية، وإن أرادوا نفس الأصول التي هي الكتاب والسُّنة والإجماع فليس معهم فيما ردوه كتاب ولا سُنة). انتهى نعم، الصحيح عند الحنفية - وحكاه في "البديع" عن الأكثرين - تقديم الخبر على القياس مطلقًا. وقال الباجي: إنه الأصح عندي مِن قول مالك - رضي الله عنه -، فإنه سُئل عن حديث المصراة فقال: أَوَ لِأَحَدٍ في هذا الحديث رأْي؟ ! وفي المسألة قول ثالث اختاره الآمدي وابن الحاجب: إنْ كانت العلة ثبتت بنص راجح على الخبر في الدلالة وهي موجودة في الفرع قطعًا فالقياس مقدَّم، أو ظنًّا فالتوقف، أو ثبتت لا بنصٍّ راجح فالخبر مقدم. وقول رابع: إنهما متساويان مطلقًا. حكاه الباجي عن القاضي أبي بكر. الموضع الثاني من الكلام في خبر الواحد: أنه وإنْ وجب العمل به فإنه إنما يفيد الظن، ولا يفيد القطْع إلا بقرينة، وهو معنى قولي: (وَلَا يُشْعِرُ بِالْيَقِينِ) إلى آخِره. ¬

_ (¬1) اللمع (ص 73).

والمسألة فيها مذاهب: أرجحها: أنه لا يفيد العلم إلا إذا انضم إليه قرائن يَقطع السامع مع وجودها بصدق الخبر، كإخبار مَلِك عن موت ولده المريض عنده مع قرينة البكاء وإحضار الكفن وآلات الدفن ونحو ذلك، وأما تجويز أن يكون قد أغمي عليه فلا يقدح في المسألة، بل في المقال، فيضيق الفرض فيه بما يمنع الحمل على الإغماء من قرينة أخرى. وإنما مرَدُّ القرائن إلى ما يحصُل معه القطْع؛ إذ منها ما لا يعبر عنه كما يظهر بِوَجْه الخجِل والوَجِل؛ ولهذا قال المازري: إن القرائن لا يمكن أن تضبَط بعبارة. وقال غيره: يمكن أن تضبط بما تسكن إليه النفْس، كالسكن للمتواتر أو قريب منه بحيث لايبقى فيه احتمال عنده. ومن القرائن المفيدة للقطع: نحو الإخبار بحضرته - صلى الله عليه وسلم - فلا ينكره، أو بحضرة جمعٍ يستحيل تواطؤهم على الكذب، أو تتلقاه الأُمة بالقبول - على رأي ابن الصلاح حيث قال: (إن ما في صحيحي البخاري ومسلم أو أحدهما مِن لازِم تَلَقِّي الأُمة له بالقبول اتفاق الأُمة على صحته، فهو مقطوع بصحته، والعلم القطعي حاصل فيه، خلافًا لمن نفى ذلك محتجًّا بأنه لا يفيد. في أصله إلا الظن، وإنما تلقته الأمة بالقبول لأنه يجب عليهم العمل بالظن، والظن قد يخطئ). قال الشيخ: (وقد كنت أميل إلى هذا وأَحسبه قويًّا، ثم بان لي أن ما اخترته هو الصحيح؛ لأن ظن مَن هو معصوم مِن الخطأ لا يخطئ، والأُمة في إجماعها معصومة من الخطأ؛ ولهذا كان الإجماع المبني على الاجتهاد حُجة مقطوعًا بها، وأكثر إجماعات العلماء كذلك) (¬1). انتهى النووي: (إن الشيخ قد خالفه في ذلك المحققون والأكثرون، فقالوا: يفيد الظن ما لم ¬

_ (¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 28).

يتواتر؛ لأن أخبار الآحاد لا تفيد إلا الظن، ولا يَلْزَم مِن إجماع الأُمة على العمل بما فيها إجماعهم على أنه مقطوع به مِن كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬1). وممن أَنكَر هذه المقالة ابن برهان وابن عبد السلام وغيرهما. فإنْ لم تحتف بالآحاد قرائن فلا يفيد اليقين؛ لاحتمال الغلط والسهو ونحو ذلك. وبهذا التفصيل قال الإمام الرازي والآمدي وابن الحاجب والبيضاوي وغيرهم من المتأخرين. والقول الثاني: إنه لا يفيد العلم مطلقًا. وبه قال الأكثرون. قال الحارث المحاسبي في كتاب "فهم السنن": هو قول أكثر أهل الحديث [من] (¬2) أهل الرأي والفقه. الثالث وهو قول أهل الظاهر: إنه يفيد العِلم مطلقًا. ونقله ابنُ عبد البر عن الكرابيسي، والباجيُّ عن أحمد وابنِ خُويز منداد. زاد [المازري] (¬3): وإنه (¬4) نَسَبَه إلى مالك، وأنه نَصَّ عليه. ولكن نازعه (¬5) بأنه لم يعثر لمالك على نَص فيه، قال: ولَعَلَّه رأَى مقالة تشير إليها، ولكنها مُتَأَوَّلة. الرابع: إنه يوجب العلم الظاهر دون الباطن. نقله المازري، وأرادوا أنه يُثْمر الظن ¬

_ (¬1) شرح النووي على صحيح مسلم (ص 20)، الناشر: دار إحياء التراث العربي. (¬2) كذا في جميع النُّسخ، وعبارة الزركشي في (البحر المحيط، 3/ 322): (رَأَيْت كَلَامَهُ فِي كِتَابِ "فَهْمِ السُّنَنِ" نَقَلَ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الرَّأْيِ وَالْفِقْهِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ). (¬3) كذا في (ق) وهو الصواب؛ لأن الكلام للمازري في كتابه (إيضاح المحصول من برهان الأصول، ص 421). وفي سائر النُّسخ: الماوردي. (¬4) يقصد: ابن خويز منداد. (¬5) أي: المازري نازعَ ابن خويز منداد.

القوي، وإلا فالعلم لا يتفاوت كما قرر ذلك الصيرفي وابن فورك، وحينئذ فيَرْجِع إلى القول بأنه لا يفيد العلم؛ ولهذا نقله الصيرفي عن جمهور العلماء، منهم الشافعي. وحمل بعضهم ما نُقل عن أحمد أنه أراد الخبر المشهور، وهو الذي صحت له أسانيد متعددة سالمة عن الضعف والتعليل، فإنه يفيد العِلم النظري لكن لا بالنسبة إلى كل أحد، بل إلى الحافظ المتبحر. الخامس: نقله السهيلي في "أدب الجدل"، وهو غريب: إنه يوجب العلم إن كان في إسناده إمام مثل مالك وأحمد وسفيان، وإلا فلا. والسادس: إنَّ غير المستفيض منه لا يفيد العلم، والمستفيض يفيد العلم النظري، بخلاف المتواتر، فإنه يفيده ضرورةً. تنبيه: قيل: الخلاف في المسألة لفظي. وليس كذلك. فمن فوائده: هل يكفر جاحد ما ثبت بخبر الواحد؟ إنْ قُلنا: يفيد العلم، كفر. وقد حكى ابن حامد من الحنابلة في تكفيره وجهين، ولعل هذا مأخذهما، لكن التكفير بمخالفة المجمع عليه لا بُدَّ أن يكون معلومًا من الدِّين بالضرورة كما سبق، فهذا أولى؛ إذْ لا يَلْزم مِن القطْع أن يكفر منكره. ومنها: هل [يفيد] (¬1) خبر الواحد في أصول الديانات؟ إنْ قلنا: يفيد العلم، قُبِل، وإلا فلا. ¬

_ (¬1) في (ز): يقبل.

قولي: (وَشَرْطُهُ أَذْكُى مُبِينَهْ) أَيْ: وشرط العمل بخبر الواحد (سواء قلنا: يفيد الظن أو العِلم) ما أذكره بعد ذلك مبينًا له ومفصِّلًا، وهو ثلاثة شروط: عدالة الراوي ومروءته، وضبطه. وسيأتي شرحها في الأبيات التي بعد هذه موضحة إن شاء الله تعالى. ونصب (مُبِينَهْ) على الحال؛ لأنه نَكرة؛ لكون إضافته غير مَحْضة. والمراد بالشرط مجموع الشروط؛ لأن المفرد المضاف يَعُم. وضابط الشروط في رواته: صفات تُغَلِّب على الظن أن المخبِر صادق. ولم أذكر من الشروط: - ما ذكره البيضاوي وغيره مما يرجِع إلى المخبَر عنه، ككون اللفظ لا يخالفه قاطع؛ لأن هذا الشرط جارٍ في كل عملٍ بظني، لا بخصوص خبر الواحد. - ولا ما يرجع إلى نفس الخبر، كألفاظ الراوي في كيفية روايته؛ لأن ذلك مما يتحقق به وجود الرواية وصدقها عمن رُويت عنه؛ لأن [مِن] (¬1) شرائط العمل بها تقدم وجودها. والله أعلم. ص: 283 - أَمَّا الْعَدَالَةُ فَتِلْكَ مَلَكَهْ ... مَانِعَةُ اقْتِرَافِ كُلِّ هَلكَهْ 284 - كَبِيرَةً تَكُونُ أَوْ إِصْرَارَا ... عَلَى صَغِيرَةٍ، أَيِ الْإكْثَارَا الشرح: الشرط الأول من شروط الراوي الذي يجب العمل بخبره: العدالة. وهى لُغةً: التوسط في الأمر من غير ميل إلى أحد الطرفين، بل يكون معتدلًا، لا إفراط ¬

_ (¬1) ليس في (ز، ش).

ولا تفريط. وأما في الشرع: فهي مَلَكَة مانعة من اقتراف كبيرة، ومن إصرار على صغيرة. فَـ "مَلَكَة" جنس، وهي الصفة الراسخة في النفْس. أما الكيفية النفسانية في أول حدوثها قبل أن ترسخ فتسمى "حالًا"، و [لذلك] (¬1) عِيبَ على صاحب "البديع" في تعبيره بأن "العدالة": (هيئة في النفس) إلى آخِره؛ لشمولها الحال والملكة. ويعرف هذا الرسوخ بغلبة الطاعات كما قال الشافعي في "الرسالة" ما نَصه: (وليس للعدل علامة تفرق بينه وبين غير العدل في بدنه ولا لفظه، وإنما علامة صدقه ما يخبر عن (¬2) حاله في نفسه، فإذا كان الأغلب من أمره ظاهر الخير، قُبل) (¬3). انتهى وهو معنى قول ابن القشيري: إن الذي صح عن الشافعي أنه قال: ليس في الناس من يُمحض الطاعة فلا يمزجها بمعصية، ولا من المسلمين من يمحض المعصية ولا يمزجها بالطاعة، فلا سبيل إلى رَد الكل ولا إلى قبول الكل. فإنْ كان الأغلب من أمر الرجُل الطاعة والمروءة، قبلت شهادته وروايته. وإن كان الأغلب المعصية وخلاف المروءة، رددتها. وكذا جرى على نحو ذلك أبو بكر الصيرفي وغيره. وما أحسن ما تأسى بذلك محمد بن يحيى في تعليقته، فقال: (العدل مَن اعتاد العمل بواجب الدِّين، واتبع إشارة العقل فيه برهَةً من الدهر حتى صار ذلك عادةً ودَيْدنًا له، والعادة طبيعة خامسة، فيغلب دينه بحكم التمرين و [الترسخ] (¬4) في النفس، فيوثق بقوله، بخلاف الفاسق، فإنه الذي يُتبع نَفْسه ¬

_ (¬1) في (ز): لهذا. (¬2) في "الرسالة، ص 493": (علامة صدقه بما يُختبر من حاله في نفسه). (¬3) الرسالة (ص 493). (¬4) في (ق، ظ، ت): التولج.

هواها، فأَلِفَ ارتكابَ المحظورات واقتضاء [الشهوات] (¬1)؛ فضَعُف وازع الدِّين بسبب ذلك، فلا يُوثق بقوله). انتهى وخرج بِقَيْد كَوْن الملكة مانعة من اقتراف الكبيرة والإصرار على الصغيرة: مَن لا تمنعه من ذلك، وهو الفاسق، وسيأتي بيان ذلك موضَّحًا. فإن قلتَ: فقد أَدْخَل الشافعي في العدالة تعاطي المروءة، وكذا في عبارة الأكثر من الفقهاء والأصوليين، حتى جرى على ذلك من المتأخرين البيضاوي وغيره، وعبارة صاحب "جمع الجوامع" في تعريف العدالة: مَلَكَة تمنع من اقتراف الكبائر وصغائر الخِسة والرذائل المباحة وهوى النفس. فأشار بِـ"صغائر الخسة" إلى نحو سرقة لقمة، و"الرذائل المباحة" إلى ما يُخل بالمروءة منها، كالبَول في الطريق ونحوه مما سنذكره في موضعه. وبِـ"هوى النفس" إلى ما ذكره والده الشيخ تقي الدين - من تفقهه - من الاحتراز به عن انبعاث الأغراض حتى لا يملك نفسه عن اتباع هواها وإلا لخرج بذلك عن الاعتدال. فلِمَ أسقطتها من التعريف؟ فالجواب عن إدخال المروءة أن مراد الشافعي ومَن تبعه على ذلك ذكر العدالة المعتبرة في الشاهد والراوي، لا العدالة من حيث هي، فضمنوا المروءة معناها لذلك، وإنما هي في الحقيقة شرط في قبول الشهادة والرواية كما يشترط فيها الضبط، ولا تدخل في حقيقة العدالة؛ ولهذا ترى في كُتب أصحابنا - كما في شرحَي الرافعي و"الروضة" وغيرها - جَعْل العدالة والمروءة شرطين متغايرين، فلو دخلت المروءة في العدالة لَاكتفي بالعدالة وجعلت شرطًا واحدًا. ¬

_ (¬1) في (ص): المشهورات.

وممن تعقب على البيضاوي في ذلك السبكي في شرحه، وأجاب بما أجبنا به عن الشافعي والأصحاب، إلا أنه لم يقتصر على ذلك، بل جعلها أنواعا نقلها عن الماوردي، وأن منها ما هو شرط في العدل، وستأتي عبارته بتمامها في الكلام على الشرط الثاني. قال: (ومَن يُدْخل المروءة في العدالة فإنما يريد بذلك نوعًا منها، لا الجميع). انتهى ومراده بكونه في نوع منها أنه شرط فيما يشترط فيه، لا أنه من حقيقة ذلك النوع حتى يحتاج لذكره، بل ذكره شرطًا مفردًا لقبول الشهادة والرواية أوضح وأَوْلى؛ لئلا يتوهم أنه من حقيقة العدالة. ويستغنى في المخل بالمروءة عن التعرض لنوعَيْه، وهُما كونه معصية (كسرقة لقمة) أو مباحًا (كالبول في الطريق)، وحينئذ فلم يُحْتَج إلى قوله: (وصغائر الخسة). نعم، ظاهر كلام الشافعي السابق أن العدالة المعتبرة في الشاهد هي المعتبرة في الراوي وإنْ شُرِط في الشاهد زيادة الحرية والعدد ونحو ذلك، فيرجح بذلك أحد الوجهين المحكيين عن الأصحاب أن عدالة الراوي هل يشترط أن تنتهي إلى عدالة الشاهد؟ أَمْ لا؟ حكاهما ابن عبدان في شرائط الأحكام: أحدهما: أنه يعتبر في الراوي عدالة مَن يقبله الحاكم في الدماء والفروج والأموال. وثانيهما: يُقبل في الرواية مَن ظاهره الدِّين والصدق. وأما زيادة الاحتراز عن هوى النفس فيستغنى عنه بالملكة؛ لأنه ينافيها، ومما يؤيده ما سبق نقله عن محمد بن يحيى. قولي: (مَانِعَةُ اقْتِرَافِ) هو صفة لملكة، وإطلاق الهلكة على ما ذكر لأنه سبب للهلاك، قال تعالى: {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [الأنعام: 26]، وفي حديث المجامع في رمضان:

"هلكتُ وأهلكت؛ واقعت أهلي في رمضان" (¬1)، وفي الحديث كما سيأتي: "اجتنبوا السبعَ الموبقات" (¬2). أيْ: الملقيات في الهلاك وهو العذاب. ولم أجمع لفظ "الكبيرة"، بل أفردتُ فقلتُ: (كُلِّ هَلَكَة) وإنْ عبَّر كثيرٌ بالجمع، كالبيضاوي، فقالوا: (تمنع من اقتراف الكبائر)؛ لأن ذلك يوهم أن اقتراف الكبيرة الواحدة لا يقدح. وأما جواب بعض الشراح عن ذلك بأن الملكة إذا قويتْ على دفع الجُملة، قويتْ على دفع البعض من باب أَوْلى - فغير ظاهر؛ لأنه يقال: قد تُسْتَهْوَن الواحدة وتَنْفِرُ النفْس عن الكثير، فتكون الملكة موجودة ولكنها ضعيفة، فانعكس المعنى الذي قاله. وقولي: (كَبِيرَةً تَكُونُ) إلى آخِره - هو تفصيل للذنب الذي هو هلكة، أي: إنه إما كبيرة وإما إصرار على صغيرة، وربما جعل الإصرار من الكبائر كما قال الغزالي في "الإحياء" في كتاب التوبة: إنَّ الصغيرة بالإصرار تصير كبيرة. وحينئذ فإما أن يكون مراده بذلك أنها مثل الكبيرة؛ لِمَا يشتركان فيه من المعنى، فأطلق عليها "كبيرة" مجازًا؛ لذلك، لا أنها كبيرة على الحقيقة. أو تكون كبيرة حقيقةً لكنه عطف على "الكبيرة" من عطف الخاص على العام. لكن الأول أوضح. بل قال أبو طالب القُضاعي في كتاب "تحرير القال في موازنة الأعمال": إن الإصرار حُكمه حُكم ما أصر به عليه، وإن الإصرار على الصغيرة صغيرة. قال: (وقد جرى على أَلْسِنة الصوفية: "لا صغيرة مع إصرار"، وربما يُروى حديثًا، ولا يصح). انتهى ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 5737)، صحيح مسلم (رقم: 1111). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 2615)، صحيح مسلم (رقم: 89).

وما قاله من أن الإصرار على الصغيرة صغيرة هو وجه نقله الدبيلي من أصحابنا في "أدب القضاء"، والمذهب خِلافُه. وقولي: (أَيِ الْإكْثَارَا) تفسير للإصرار، وأن المراد به الإصرار الفعلي، لا الحكمي. قال ابن الرفعة: ولم أظفر في ضابطه بما يثلج الصدر، وقد عبَّر عنه بعضهم بالمداومة، وحينئذ فهل المعتبر المداومة على نوع واحد من الصغائر؟ أو الإكثار من الصغائر سواء أكانت من نوع واحد أو أنواع؟ ويخرج من كلام الأصحاب فيه وجهان. قال الرافعي: (ويوافق الثاني قول الجمهور: مَن تغلب معاصيه طاعتَه، كان مردود الشهادة). قال: (وإذا قلنا به، لم تضر المداومة على نوع واحد من الصغائر إذا غلبت الطاعات. وعلى الأول يضر) (¬1). لكن قال ابن الرفعة: (إن قضية كلامه أن مداومة النوع تضر على الوجهين، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فإنه في ضمن حكايته قال: إن الإكثار من النوع الواحد كالإكثار من الأنواع، وحينئذ لا يَحسُنُ معه التفصيل. نعم، يظهر أثرهما فيما لو أتى بأنواع من الصغائر: إنْ قُلنا بالأول، لم يضر، وإنْ قُلنا بالثاني، ضَر). انتهى واعلم أن صاحب "المهمات" زعم أن الرافعي والنووي قد خالفا ما قالاه من ذلك في كتاب الشهادات بما ذكراه في الرضاع وفي النكاح آخِر الكلام على ولاية الفاسق أن العضل إذا تكرر، يكون فسقًا، وأن أقَل التكرر فيما حكاه بعضهم ثلاث. نعم، هل الثلاث باعتبار أنكحة ثلاث؟ أو باعتبار عرض الحاكم مرات وإن كان في النكاح الواحد؟ فيه نظر. انتهى ¬

_ (¬1) العزيز شرح الوجيز (13/ 9).

قلت: لكن سبق من كلام ابن الرفعة ما يلزم منه موافقة ما في النكاح لِمَا في الشهادات، فلا تناقض. أما الإصرار الحكمي - وهو العزم على فعل تلك الصغيرة بعد الفراغ منها - فقيل: حُكمه حُكم مَن كررها فعلًا، بخلاف التائب منها. وفيه نظر ظاهر. [تنبيهان] الأول: بين العدالة وبين التقوى عموم وخصوص مِن وَجْه؛ لأن التقوى [تفسَّر] (¬1) بأن يُطاع الله، فلا يُعصَى، [فيحذر] (¬2) العبد بطاعته تعالى عن عقوبته، فيتقي الشرك، ثم المعاصي، ثم يتقي الشبهات، ثم يتقي الفضلات عن حاجته، ولا يشترط أن يكون عنده ملكة في ذلك. والعدالة مَلَكَة، ولا يشترط فيها ترك المعاصي كلها، بل الكبائر والإصرار على الصغائر كما سبق. الثاني: تفسير "العدالة" بما سبق يتضمن اعتبار البلوغ -[بما] (¬3) سنقرره - والعقل والإسلام فيمن يتصف بها، وكذا عدم المفسق. فَجَعْل الثلاثة الأوُلى شروطًا زائدة على العدالة مغايرة لها - ليس تحقيقًا، إلا أنْ يراد بذلك الإيضاح بالتصريح وزيادة البيان بكثرة الشروط، فلذلك عقبت تفسير "العدالة" بما يخرج عن الأمور المذكورة بِقَوْلي: ¬

_ (¬1) في (ز): مفسرة. وفي (ش): مفسر. (¬2) في (ز): فيحترز. وفي (ش): فيتحرز. (¬3) في (ز): لما.

ص: 285 - فَيَخْرُجُ الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ ... وَكَافِرٌ وَفَاسِقٌ [مَقْضِيُّ] (¬1) الشرح: أما خروج المجنون بِقَيْد العقل الذي تضمنته الملَكَة فواضح، وأما الصبي فإنه وإنْ [وافق سلامته] (¬2) مما يَفسُقُ به غيره فليس ذلك لملَكَة قائمة به، بل على سبيل الاتفاق، وحينئذ فيضْعُف بذلك دعوى مَن يَصِف الصبي بالعدالة، وأن البلوغ إنما هو شرط لقبول روايته أو شهادته ونحو ذلك. وأما الكافر فمنفي عنه هذه الملكة قطعًا، ووصفه بأنه عدل في دينه (في نحو ولاية النكاح ونظر الوقف والوصاية على الكفار ونحو ذلك) إنما هو بالنسبة لمعتقدهم، فهي ملكة نسبية، لا على الإطلاق، وهي العدالة الحقيقية التي هي شرط هنا، وسيأتي في ذلك مزيد بيان في مرتكب الفسق في اعتقاده دُون نفس الأمر وعكسه. ومن اللطائف في رواية الكافر ما رواه أحمد في مسنده عن عروة بن عمرو الثقفي: سمعت أبا طالب -يعني عَمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -- قال: سمعتُ الأمين ابن أخي يقول: "اشكُر تُرزَق، ولا تكفر فتُعذب" (¬3). ورواه الحافظ الصريفيني، وقال: غريب رواية أبي طالب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) في (ز، ق، ت، ن 3، ن 4): مقصي. وفي (ص، ض، ظ، ش، ن 1، ن 2، ن 5): مقضي. مقصي: تم اقصاؤه. مقضي: قضي بفسقه. (¬2) كذا في (ت). لكن في (ز): وفق لسلامه. وفي (ص، ض، ق، ظ): وافق لسلامته. (¬3) لم أجده في "مسند أحمد"، وقال السخاوي في "فتح المغيث، 2/ 5": (لا يصح).

واعْلَم أن الصبي أَعَم مِن أن يكون مميِّزًا أو غير مميز، فإن الجمهور على عدم قبول المميز في الرواية والشهادة؛ لاحتمال كذبه، كما في الفاسق، بل أَوْلى؛ لِعِلْمه بأنه غير مُكلَّف، وأنه غير مؤاخَذ بالكذب؛ لأجل ذلك فلا واخ له عن ارتكابه، ولأن الصحابة لم يقبلوا إلا بالغًا، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُرسل لتبليغ شرعه إلا بالغًا. وهذان الأمران هما العمدة في تثبيت خبر الواحد. وقيل: يُقبَل الصبي الموثوق به؛ لِغَلبة الظن بصدقه. ويردُّه ما سبق، بل في "مختصر التقريب" للقاضي أبي بكر أنه لا يُقْبَل بالإجماع. لكن ردَّه ابن القشيري بأن الخلاف فيه شهير، أيْ: للأصوليين والمحدثين والفقهاء. وقد حكى فيه إمام الحرمين وجهًا، بل حكى القاضي الحسين الخلاف قولين للشافعي في إخباره عن القبلة، وجرى عليه الرافعي والنووي، وقيَّداه بالمميز، وحكيا في باب التيمم فيه وجهين أيضًا، إلا أنهما قيداه بالمراهق. ونقل التفصيل بين المراهق وغيره أيضًا ابن عَقيل الحنبلي في كتاب "الواضح"، بل في "المنخول" للغزالي أن محل الخلاف في المراهق الثبت، وستأتي مسائل كثيرة من ذلك. وفي المسألة قول رابع للمالكية: إنه يُقبل في الدماء دُون غيرها، قال ابن الحاجب في "مختصر الأصول": (وأما إجماع المدينة على قبول شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الدماء قبل تفرقهم فمستثنى؛ لكثرة الجناية بينهم منفردين) (¬1). أيْ على أصل المالكية. لكن انتقد عليه في ادعاء إجماع المدينة، فالمشهور في كتبهم إنما هو نَقْله عن علي ومعاوية وعروة بن الزبير وشريح وعمر بن عبد العزيز. بل قال ابن حزم: لا نعلم أحدًا قبل مالك ¬

_ (¬1) مختصر منتهى السؤل والأمل (1/ 559)، الناشر: دار ابن حزم.

قال مقالته. فكأنه ينازع في ثبوت ذلك عمن ذكر. وفي رؤوس المسائل للقاضي عبد الوهاب منهم أنه قول علي - رضي الله عنه - وابن أبي ليلى، ولا مخالِف لهما. قال: وحكي أنه قول عمر. فربما يكون ذلك علقة لابن الحاجب في دعواه إجماع المدينة، لكن قال القاضي عَقب ذلك: إن عدم قبولهم قال به ابن عباس وعطاء والحسن والزهري، فكيف يقول: ولا مخالف لهما؟ ! ثم على تقدير صحة إجماع المدينة فقد سبق أنه غير حُجة، خلافًا لمن زعمه منهم. وحكى النووي في "شرح المهذب" (¬1) - في باب الأذان في مسألة أذان الصبي - عن الجمهور قبول إخبار الصبي المميز فيما طريقه المشاهدة، بخلاف ما طريقه النقل، كرواية الأخبار. وسبقه إلى ذلك المتولي، فيكون هذا أيضًا قولًا خامسًا في المسألة. على أنه قد وقع في الفقه مسائل تعتبر من الصبي المميز إخبارًا وإنشاءً، إما قطعًا أو بخلاف، ولها مدارك غير ما نحن فيه من الوثوق بالصدق وإن كان العلائي جعل في "القواعد" أنَّ الخلاف فيها جارٍ من الخلاف في رواية الصبي. ولا بأس بإيراد شيء منها - لتكميل الفائدة - على ترتيب الفقه، وبيان المرجَّح فيها: منها: أن يخبر بتنجيس الماء أو الثوب أو الأرض. في كلٍّ وجهان، الأصح عدم القبول، وكذا إخباره بأن هذا المرض مخوف حتى يبيح التيمم، وسبق بيانها. ومنها: أذانه صحيح، وسبق كلام النووي فيه وفيما أشبهه. ومنها: إمامته جائزة عندنا، ولكن لا تكمل به الأربعون في الجمعة. قيل: وجعل هذا من قبول خبره؛ لأنها تتضمن إخباره بالطهارة وغيرها من الشروط وبالنية ونحو ذلك. ولا ¬

_ (¬1) المجموع شرح المهذب (3/ 100).

يخفى ما فيه من النظر. ومنها: إذا أخبر برؤية الهلال وجعلناه رواية لا شهادة، فالقياس جريان الخلاف فيه، لكن المشهور الرد جزمًا. قاله الرافعي. ومنها: إذا جامع في نهار رمضان عمدًا وهو صائم، لا كفارة على أصح الوجهين ولو قلنا [بأن] (¬1) عَمْدَه عمدٌ؛ لِعَدَم التزام العبادات. ومنها: إذا حج وباشر محظورات الإحرام عمدًا، كلبس ونحوه، وجبت الفدية في الأصح؛ لأن عَمْدَه في العبادات كالبالغ، كتعمد كلامه في الصلاة أو أكله في الصوم، وفيه قول غريب حكاه الداركي: إنه إن [كان] (¬2) يلتذ باللباس والطيب، وجبت، وإلا فلا. نَعَم، الفرْق بين هذه المسألة ومسألة الجماع في الصوم أن الفدية هنا إنْ وجبت في مال الولي وهو الأرجح إن كان قد أحرم بإذنه، فهو من خطاب الوضع، أو في مال الصبي وهو إذا أحرم بغير إذنه، فهو من قبيل [الإتلاف] (¬3)، بخلاف الجماع في الصوم؛ [بدليل أن الفدية تجب في الحلق والتقليم ونحوهما ولو نسيانًا، بخلاف الطيب ولبس المخيط. وأما الصوم فإنما تجب الكفارة فيه حيث كان عمدًا يأثم به، والصبي لا إثم عليه] (¬4). ولا يخفَى ما فيه من نظر. ومنها: بيعه وشراؤه - لاختبار الرشد - يصح قبل البلوغ (على وَجْهٍ). ومنها: اعتماده في الإذن في دخول الدار، وحمل الهدية على الأصح، لكن للقرينة، لا ¬

_ (¬1) في (ز، ص): ان. (¬2) في (ز): كان ممن. (¬3) في (ز): الاتلافات. (¬4) ليس في (ز).

لمجرد إخباره. وفي "البحر" للروياني: قال الزُّبَيري: يجوز توكيل الصبي في طلاق زوجته. وغلطه فيه. ومنها: إخباره بأن الشريك قد باع حتى تسقط الشفعة بالتأخير، وفيها وجهان، الأصح: لا يقبل، فالشفعة باقية. وكذا إخباره بأن المرض مخوف حتى يُحسب تصرف المريض من الثلث، الأصح: لا يقبل. ومنها: تصح وصيته على قولٍ، والأصح المنع. ومنها: لو قتل مورثه عمدًا وقُلنا: إنَّ عمْده خطأ، وإنَّ الخطأ لا يمنع الإرث، هل يرث؟ أو لا؟ ومنها: وطء الصبي هل يثبت المصاهرة؟ إن قلنا: إن عمْده عمدٌ، كان كوطء الزاني، وإلا فكالشبهة، وأجروا مثله في وطء المجنون. ومنها: أخبر بطلب صاحب الدعوة له، قال الماوردي والروياني: يَلْزَمه الإجابة. إلا أن الروياني اشترط أن يقع في قلبه صِدْقه. ويشبه أن ذلك للقرينة في مثل الدعوات. ومنها: خلع الصغيرة المميزة يقع رجعيًّا على الأصح عند البغوي والمتولي، ورجح الإمام والغزالي أنه لا يقع شيء؛ بناءً على أن عَمْدَه ليس عمدًا. ومنها: قال للصَّبية: (أنت طالق إن شئتِ)، فقالت: (شئتُ). فيه وجهان. ومنها: إذا شارك في الجناية بالغًا، فإنْ قُلنا: عمده عمدٌ، اقتص مِن البالغ، وإلا فلا. ومنها: تغليظ الدية عليه إن قُلنا: عمده عمدٌ. ومنها: تحمُّل العاقلة عنه وغير ذلك من الأحكام المتعلقة [بالعمد] (¬1). ¬

_ (¬1) في (ز): بالعقد.

ومنها: إسلامه فيه قولان، المرجَّح المنع. وكان شيخنا شيخ الإسلام البلقيني يرجح الصحة، وقال العلائي: أخبرني من أثق به أن قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة حكم به. ومنها: ذبحه وصيده حلال على الأصح [إنْ] (¬1) عمده عمد. ومنها: وجوب رد السلام عليه. ومنها: أن قيامه بصلاة الجنازة يُسقط فرض الكفاية عن غيره. ومنها: في أمانه طريقان، المشهور: لا يصح. وقيل: فيه الخلاف في تدبيره ووصيته. ومنها: تدبيره، فيه قولان، الأصح: المنع. وغير ذلك. وفي الفقه في الكافر أيضًا مسائل اختلف في قبول قول الكافر فيها، والمراد غيْر المكَفَّر ببدعته، فإن ذلك سيأتي بيانه. منها: قال الشافعي رحمه الله في (باب صلاة الرجل بالقوم لا يعرفونه): (إنه إذا أعلمهم أنه غير مسلم أو علموه من غيره، أعادوا كل صلاة صلوا خَلْفه) (¬2). انتهى قال الشيخ تقي الدين السبكي: ولولا هذا النَّص لكان يظهر أن لا يقبل إلا إنْ أَسلم وأخبر بذلك. ومنها: لو أخبر كافرٌ الشفيعَ بالبيع ووقع في قَلْبه صِدقُه، لا يكون عذرًا في تأخيره. قاله الماوردي، وأطلق الأصحاب أن إخبار الكافر يكون عذرًا للشفيع، فإما أن يكون قد خالفهم، وإما أنْ يُحمل كلامهم على أنه لم يقع في قلبه صِدقُه. ¬

_ (¬1) عند هذا الموضع كتب ناسخ (ق) في الهامش: (ع: قلنا). كأنه يتوقع العبارة هكذا: إنْ قلنا. (¬2) الأم (1/ 190).

قال الشيخ تقي الدين: وعلى هذا ينبغي أن يكون القول قوله أنه لم يقع في قلبه صدقُه. ومنها: في باب الوصية من الرافعي حكاية وَجْه عن الخطابي أنه يجوز العدول من الوضوء إلى التيمم بِقَول الطبيب الكافر، كشرب الدواء من يده ولا يُدرَى أداء هو؟ أم دواء؟ ولم يستبعد الرافعي طرده فيما إذا أخبر بأن المرض مخوف في باب الوصية. أما قبول شهادة الكافر على كافر ففيها الخلاف المشهور بيننا وبين الحنفية. وقيل: يشهد اليهودي أو النصراني على مِثله، لا على الآخَر. والله أعلم. ص: 286 وَمَنْ وَعَى في نَقْصِهِ فَأَدَّى. . . بَعْدَ الْكَمَالِ فَاقْبَلِ الْمُؤَدَّى الشرح: أي: ما سبق من عدم قبول الناقص إذا أدَّى في حال نقْصه، أما إذا كان قد تحمَّل في حال النقص وأدَّى في حالة الكمال فإنه يُقبَل؛ اعتبارًا بحالة الأداء. ويفرض ذلك في ثلاثة مواضع: أن يتحمل وهو صبي أو كافر أو فاسق، ويؤدِّي بعد بلوغه وإسلامه وتوبته. فالأُولى: القبول فيها هو أصح المذهبين، وعليه الجمهور، وممن حكى ذلك الشيخ في "شرح اللمع"، والقاضي في "مختصر التقريب". دليل الراجح: القياس على الشهادة، وهو إجماع. واعتُرض بأن الرواية تقتضي شرعًا عامًّا، فاحتيط فيها. ورُد بأن باب الشهادة أضيق؛ فلذلك يعتبر فيها ما لا يعتبر في الرواية كما سيأتي. واستُدل أيضًا بإحضار السلف للصغار مجالس الحديث. وضُعِّف باحتمال أن يكون تبركًا.

ورُد بأنه لا ينافي أن يقصدوا مع ذلك التحمل للأداء عند الكمال. واستُدل أيضًا بإجماع الصحابة على قبول رواية نحو الحسَنَين وابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير والسائب بن يزيد والمسور بن مخرمة ونحوهم - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحين وفاته لم يكن أحد منهم بلغ إلا ابن عباس على قولٍ. ووهَّموا القاضي أبا بكر في قوله في "مختصر التقريب": (إنه كان حينئذ ابن سبع سنين)؛ فإن ذلك لم يَقُله أحد، بل قيل: إنه كان ابن عشر. وقيل: ثلاث عشرة. وقيل: خمس عشرة، ورجحه أحمد. واستشكل بأنه إنما وُلد قبل الهجرة بسنتين أو ثلاث، والاتفاق على أن إقامته - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة عشر سنين. قال ابن دقيق العيد: وهذه الطريقة في الاستدلال تتوقف على أن من رَووا له فقبله أنه لم يكن يعلم ذلك إلا من جهتهم، وهو متعذر، وإنما ينبغي أن يستدل بإجماع الأُمة على قبول رواية هؤلاء مع احتمال تحمُّلهم صغارًا. وقد يجاب عمَّا قاله بأن الأصل أنهم لم يكونوا يعلمون ما رَووه لهم إلا من جهتهم حتى يَثْبت مِن طريق غيره. واعْلم أن شرط تحمل الصغير التمييز، ونُقل عن المحدثين اعتبار خمس سنين، وقيل: أربع. وذلك لِمَا رواه البخاري والنسائي وابن ماجه عن محمود بن الربيع، قال: "عقلتُ من النبي - صلى الله عليه وسلم - مَجَّة مَجَّها في وجهي مِن دلوٍ وأنا ابن خمس سنين" (¬1). وبوَّب عليه البخاري: "متى يصح سماع الصغير؟ ". وقال ابن عبد البر: إنه حفظ ذلك وهو ابن أربع سنين أو خمس سنين. ووجْه الاستدلال ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 77).

به أنه لم يقيده بسبع ولا بتمييز، بل بعقل المجَّة، ولا يَلزم منها أن يَعْقل غيرها مما سمعه. نعم، الظاهر أن مَن يَعْقل مثل ذلك يكون مميِّزًا، ونحن إذا فرضنا التمييز دُون السبع، كان هو المعتبر، ولكن الراجح عند محققي المحدثين اعتبار التمييز وأن تمييز محمود كان في هذا السن، فلا يقاس به إلا مَن مَيَّز مثله، وإن كان القول باعتبار الخمس هو قول الجمهور الذي نقله القاضي عياض في "الإلماع" عن أهل [الصنعة] (¬1). وقال ابن الصلاح: (إنه الذي استقر عليه عمل أهل الحديث) (¬2). ومما يدل على اعتبار التمييز قول أحمد وقد سُئل: متى يجوز سماع الصبي للحديث؟ فقال: إذا عقل وضبط. فذُكر له عن رجل أنه قال: لا يجوز سماعه حتى يكون له خمس عشرة سنة. فأنكره، وقال: بئس القول. قلتُ: وعلى القول باعتبار الخمس أو دونها فإنما ذلك للمحافظة على سلسلة الإسناد المخصوص بها هذه الأُمة، ثم اعتبار التمييز إنما هو لأجل ضبط اللفظ؛ لأنه المعتبَر في الرواية. وقيل: يعتبر معرفة المعنى. قال ابن الأثير في شرح "المسند": وعليه فيتعذر رواية الحديث إلا على بعض أفراد. الثاني: أن يتحمل [حالة] (¬3) الكفر ويؤدي بعد الإسلام، فيُقبل أيضًا على الصحيح. وممن ذكر المسألة القاضي في "مختصر التقريب والإرشاد". مثاله: حديث جبير بن مطعم المتفق على صحته: "أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب ¬

_ (¬1) في (ز): اللغة. (¬2) مقدمة ابن الصلاح (ص 129). (¬3) في (ز): الكافر حال.

بالطور" (¬1)، وكان قد جاء في فداء أُسارَى بدرٍ قبل أن يُسلم. وفي رواية للبخاري: "وذلك في أول ما وقر الإيمان في قلبي" (¬2). وفي رواية: "فوافقتُه وهو يُصلي بأصحابه المغرب أو العشاء، فسمعته وهو يقرأ وقد خرج صوته من المسجد: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: 7 - 8]. قال: فكأنما صدع قلبي" (¬3). وفي رواية: "فسمعته يقرأ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35 - 36]، فكاد قلبي يطير" (¬4). الحديث. الثالث: أن يتحمل حالة الفسق ويؤدي بعد التوبة المعتبرة، فيُقبل؛ لأن التوبة تَجُبُّ ما قبلها، والشهادة كالرواية في ذلك إلا إذا كان قد رُدت شهادته ثم أدَّى بعد التوبة تلك الشهادة، فإن الراجح بقاء الرد؛ للتهمة، بخلاف العبد والصبي كما بُيِّن في موضعه. قولي: (وَمَنْ وَعَى) احتراز عما لو تحمل حال الجنون وأدَّى بعد زواله، فإنه لا عبرة به؛ لأنه لم يكن عند التحمل واعيًا، فتستحيل المسألة، بل لو كان متقطع الجنون وتحمَّل في إفاقة من إفاقاته، لم يصح تحمُّله إلا إن كان زَمَن جنونه لم يؤثر في ضبْطه عند إفاقته، والله أعلم. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 731)، صحيح مسلم (رقم: 463). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 3798). (¬3) المعجم الكبير للطبراني (2/ 116، رقم: 1499) وغيره بنحوه. (¬4) صحيح البخاري (رقم: 4573).

ص 287 - وَالْفِسْقُ بِاقْتِرَافِ مَا قَدْ سَلَفَا ... وَالضَّبْطُ في كبيرةٍ لِتُعْرَفَا 288 - مَا أَشْعَرَ ارْتكَابُهُ [لِكَامِنِ] (¬1) ... بِأَنَّهُ في الدِّينِ ذُو تَهَاوُنِ 289 - غَيْرُ مُبَالٍ فِيهِ، كَالْقَتْلِ أَذَى ... زِنًا، لِوَاطٍ، شُرْبِ خَمْرٍ، فَانْبِذَا 290 - وَسِرْقَةٍ، غَصْبٍ، وَمَا أَشْبَهَهَا ... وَغَيْرُهُ صَغِيرَةٌ بِلَا انْتِهَا الشرح: لَمَّا سبق أن العدالة ملَكَةٌ تمنع من اقتراف الكبيرة ومن الإصرار على صغيرة بينتُ هنا أن ارتكاب ذلك هو الفسق شرعًا، فمرتكبه هو الفاسق إذا كان عالِمًا بذلك مختارًا، لكنه لا يقال: (إنه ارتكبه) إلا إذا كان كذلك. فالجاهل والمكرَه معذوران، إلا أن المكره قد يؤاخَذ؛ لأنه مكلَّف كما سبق في موضعه، وسبقت الإشارة إلى ما يُعذَر فيه وما لا يعذر، وسيأتي: مَن أَقْدم جاهلًا، هل ترتفع عنه المؤاخذة بهذا العذر؟ أو لا؟ وبينتُ معنى الكبيرة والصغيرة والفرق بينهما. فأما "الفسق" لُغةً: فهو الخروج عن الطريق. قال تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] أي: خرج عن طاعته] (¬2). وأما الفرق بين الكبيرة والصغيرة فإنما هو مفرَّع على القول بانقسام الذنب إليهما، وعليه الجمهور، وقال الأستاذ والقاضي أبو بكر وابن القشيري: إن جميع الذنوب كبائر. ونقله ابن فورك عن الأشعرية واختاره؛ نظرًا إلى مَن عُصي به جَلَّ وعلا. ¬

_ (¬1) في (ن 1، ن 3، ن 4): لكائن. (¬2) في (ز، ق): (ففسقت عن أمر ربها. أي: خرجت).

قال القرافي: (كأنهم كرهوا تسمية معصية الله "صغيرة"؛ إجلالًا له مع موافقتهم في الجرح أنه ليس بمطلق المعصية، بل منه ما يقدح ومنه ما لا يقدح) (¬1). وإنما الخلاف في التسمية. دليل الجمهور: قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] الآية. وقوله عليه الصلاة والسلام في تكفير الصلوات الخمس والجمعات ما بينهما: "ما اجتنبت الكبائر" (¬2). إذ لو كان الكل كبائر، لم يَبْقَ بعد ذلك ما يكفر بما ذكر. وكذا قوله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7]، فغاير بين الفسوق والعصيان، لكن ليس هذا صريحًا؛ لجواز أن المغايرة بين ما يفسق به فاعله و [ما] (¬3) لا يفسق به. وقد سبق أن ذلك محل وفاق. وفي الحديث كما سيأتي: "الكبائر سبع" (¬4). وفي رواية: "تسع" (¬5) وعدَّها، فلو كانت الذنوب كلها كبائر لَمَا ساغ ذلك. ¬

_ (¬1) نفائس الأصول (3/ 591). (¬2) صحيح مسلم (رقم: 233). (¬3) في (ز): بين ما. (¬4) المعجم الكبير (17/ 48، رقم: 102)، المعجم الأوسط (6/ 33، رقم: 5709). وفي المعجم الكبير (6/ 103، رقم: 5636) بلفظ: "اجتنبوا الكبائر السبع". قلتُ: رواية: "الكبائر سبع" عزاها المنذري في (الترغيب والترهيب، 2/ 559) للبزار، وقال الألباني في تحقيقه: (حسن لغيره). لكن الذي في المطبوع من (مسند البزار، 15/ 241، رقم: 8690) هكذا: (الكبائر أولاهن. . .). انظر: الترغيب والترهيب للمنذري، ط: مكتبة المعارف بالرياض. (¬5) سنن أبي داود (رقم: 2875)، المستدرك على الصحيحين (رقم: 197)، السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 20541). قال الألباني: حسن. (صحيح سنن أبي داود: 2875).

ثُم القائل بالفرق بينهما اختلفوا، فقيل: لا يُعْرف ضابطها. قال الواحدي: (الصحيح أن الكبائر ليس لها حد تُعرف به وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها، ولكن الله عز وجل أخفى ذلك عن العباد؛ ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه؛ رجاء أن تُجتنب الكبائر. ونظيره إخفاء الصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة ونحو ذلك). وقال الأكثرون: ضابطهما معروف. فقال سفيان الثوري: ما تعلق بحق الله صغيرة، وما تعلق بحق الآدمي كبيرة. وذكر أصحابنا في ضابطهما غير ذلك، فحكى الرافعي وغيره أربعة أوجُه: أحدها: أن الكبيرة ما فيه وعيد شديد بِنَص كتاب أو سُنة. ثانيها: ما أَوجب حدًّا، قال الرافعي: وهُم إلى ترجيح هذا أميل. [والأول ما يوجد لأكثرهم، وهو الأوفق؛ لِمَا ذكروه عند تفصيل الكبائر] (¬1). ثالثها: لأبي سعد الهروي: كل معصية يجب في جنسها حدٌّ مِن قتل وغيره، وترك كل فريضة مأمور بها على الفور، والكذب في الشهادة والرواية واليمين. رابعها: ما قاله إمام الحرمين في "الإرشاد": كل جريمة تؤذن بِقِلة اكتراث مرتكبها بالدِّين ورِقَّة الديانة. وفي معناه ما في "النهاية": (إنَّ الصادر إنْ دَلَّ على الاستهانة لا بالدِّين ولكن بغلبة التقوى وتمرين عليه رجاءَ العفو فهو كبيرة، وإنْ صدر عن فلتة خاطر أو لفتة ناظر فصغيرة) (¬2). انتهى ملخصًا. ¬

_ (¬1) ليس في (ز، ق). (¬2) نهاية المطلب (19/ 6).

ومعنى قوله: (لا بالدين) لا بأصل الدين، فإنَّ ذلك كفر، وهو معنى قوله في العبارة الأخرى: (بقلة اكتراث)، ولم يَقُل: (بعدم اكتراث). والكفر وإن كان أكبر الكبائر فالمراد تفسير غيره مما يَصْدر من المسلم، وهذا ما اقتصر عليه الرافعي من الأوجُه، وتبعه في "الروضة". ورجح المتأخرون مقالة الإمام؛ لحسْن الضبط بها، وعليها اقتصرتُ في النَّظم، ولعلها وافية بما ورد في السُّنة من تفصيل الكبائر الآتي بيانها وما أُلحق بها قياسًا. ثم قال ابن عبد السلام: (إذا أردت معرفة الكبائر والصغائر، فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فإنْ نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر، وإنْ ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو أَرْبت عليها فهي منها. فمَن شتم الرب سبحانه وتعالى أو الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو استهان بالرسل أو كذَّب واحدا منهم أو ضمخ الكعبة بالعذرة أو ألقى المصحف بالقاذورات، فهذا من أكبر الكبائر، ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة) (¬1). انتهى وانتُقد عليه بأن هذا كله مندرج تحت الشرك بالله الذي هو أول المنصوص عليه من الكبائر؛ إذِ المراد منه مُطلق الكفر إجماعًا، لا خصوص الشرك، إما تعبيرا بالبعض عن الكل، وخُص بالذِّكر؛ لغلبته ببلاد العرب، وإما تنبيهًا بأحد النوعين على الآخَر. قلتُ: وهذا كله بناء على تفسير الكبيرة بالأعم من الكفر وغيره، لا على المعنى الذي سبق من مقتضى كلام إمام الحرمين. ثم قال ابن عبد السلام: وكذلك مَن أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها أو أمسك مسْلمًا لمن يقتله فلا شك أن مفسدته أعظم من مفسدة آكِل مال اليتيم، وكذلك لو دل الكفار على عورة المسلمين مع عِلمه بأنهم يستأصلونهم بدلالته ويسْبون حريمهم وأطفالهم ويغنمون ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 19).

أموالهم، فإن نِسبة هذه المفاسد أعظم من [التَّولِّي يوم] (¬1) الزحف بغير عذر، وكذا لو كذب على إنسان يَعلم أنه يُقتل به. وأطال في ذلك، إلى أنْ قال: (وقد ضبط بعض العلماء الكبائر بأن قال: كل ذنب قُرِن به وعيدٌ أو حَدٌّ أو لَعْن فهو من الكبائر، فتغيير منار الأرض كبيرة؛ لاقتران اللعن به. فَعَلَى هذا كل ذنب يُعلم أن مفسدته كمفسدة ما قُرن الوعيد به أو اللعن أو الحدُّ أو كان أكثر من مفسدته فهو كبيرة) (¬2). انتهى وذَيَّل ابن دقيق العيد على ذلك أن لا تؤخذ المفسدة مجردة مما يقترن بها [من] (¬3) أمرٍ آخَر، فإنه قد يقع الغلط في ذلك، ألا ترى أن السابق إلى الذهن في مفسدة الخمر السكْر وتشويش العقل، فإنْ أخذنا هذا بمجرده، لَزِم أن لا يكون شرب القطرة الواحدة منه كبيرة؛ لخلوها عن المفسدة المذكورة، لكنها كبيرة؛ لمفسدة أخرى وهي التجرِيء على شرب الكثير الموقِع في المفسدة، فبهذا الاقتران تصير كبيرة. تنبيه: قال بعض المحققين: ينبغي أن تجمع هذه التعاريف كلها؛ ليحصل بها استيعاب الكبائر المنصوصة والمقيسة؛ لأن بعضها لا يَصْدق عليه هذا وبعضها لا يصدق عليه الآخَر. قلتُ: لكن تعريف الإمام لا يكاد يخرج عنه شيء منها لمن تأمله. قولي: (وَالْفِسْقُ) مبتدأ خبره "باقتراف"، أي: حاصل بذلك، والإشارة بِـ "مَا قَدْ سَلَفَ" إلى اقتراف الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة. ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ش، ق). وليست في (ص، ض). لكن في (ت، ظ): الفرار من. (¬2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 21). (¬3) كذا في (ز، ش). لكن في سائر النُّسخ: و.

والباقي قولي: (بِأَنَّهُ في الدِّينِ) متعلق بِـ "أَشْعَرَ"، أي: أشعَر بتهاون المرتكِب له. وهو معنى قول الإمام: (بِقِلة اكتراثه). أي: مبالاته، وتاؤه الأخيرة مثلثة. والمراد برقة الديانة ضعف [التدين] (¬1). وقولي: (في الدِّينِ) متعلق بالتهاون، والمعنى أن التهاون في الدِّين، لا بالدِّين، فإن ذاك كفر، وقد سبق كلام الإمام في "النهاية" وإيضاحه. وقولي: (غَيْرُ مُبَالٍ فِيهِ) خبرٌ بعد خبر لِـ "أنَّ" التوكيدية المصدرية، أي: غير مُبَالٍ في ذلك الأمر، أو: غير مبال فيما يُعاب عليه في الدِّين. وهو معنى قول الإمام: (رقة الديانة). قولي: (كَالْقَتْلِ) إلى آخِره -أمثلة من الكبائر المنصوصة وغيرها، وقد ذكر الرافعي وغيره طائفة منها لا بأس بإيرادها؛ تكميلًا للفائدة، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر وأبي هريرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اجتنبوا السبع الموبقات. قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات" (¬2). وسيأتي في رواية ذِكر تِسع، على أن في تعيين السبع اختلافًا في الروايات يُعلم منه عدم الحصر فيما ذكر، وأن ذلك العدد كان بحسب المقام باعتبار السائل أو غير ذلك. وتسمية هذه كبائر رواه أبو القاسم البغوي وابن عبد البر في "التمهيد" بسنده من طريقه عن طيلسة بن علي، قال: "أتيتُ ابن عمر - رضي الله عنه - عشية عرفة وهو تحت ظل أراك وهو يصب الماء على رأسه، فسألته عن الكبائر، فقال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: هن تِسع. قلتُ: وما هن؟ قال: الإشراك بالله، وقذف المحصنة، وقتل النفس المؤمنة، والفرار من الزحف، ¬

_ (¬1) كذا في (ز)، لكن في (ص): الدين. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 2615)، صحيح مسلم (رقم: 89).

والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين، والإلحاد بالبيت الحرام قِبْلتكم أحياءً وأموات" (¬1). ورواه الخطيب في "الكفاية" بلفظ: "الكبائر سبع" (¬2). وذكرها دون "قذف المحصنة" و"الإلحاد في الحرم". وأخرجه البخاري في كتاب "الأدب المفرد" عن طيلسة بن مياس عن ابن عمر موقوفًا (¬3)، وقال الحافظ المزِّي: طيلسة وثَّقه ابن حبان، وهو ابن مياس. ويقال فيه أيضا: طيسلة، بتقديم السين على اللام. وقال العلائي في "القواعد": (إن المنصوص عليه من الكبائر في مجموع أحاديث كثيرة وأنه كتبها في مصنف مفرد: الشرك بالله عز وجل، وقتل النفس بغير حق، والزنا، وأفحشه بحليلة الجار، والفرار من الزحف، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، والاستطالة في عِرض المسلم بغير حق، وشهادة الزور، واليمين الغموس، والنميمة، والسرقة، وشرب الخمر، واستحلال بيت الله الحرام، ونكث الصفقة، وترك السُّنة، و [التعرب] (¬4) بعد الهجرة، واليأس من روح الله، والأمن مِن مكْر الله، ومنع ابن السبيل من فضل الماء، وعدم التنزه من البول، وعقوق الوالدين، والتسبب إلى شتمهما، والإضرار في الوصية. هذا مجموع ما جاء في الأحاديث منصوصًا عليه أنه كبيرة) (¬5). انتهى ¬

_ (¬1) التمهيد (5/ 69). (¬2) الكفاية في علوم الدراية (ص 103). (¬3) الأدب المفرد (ص 202). قال الألباني: صحيح. (صحيح الأدب المفرد، ص 35). (¬4) كذا في (ز، ع، ض). وفي سائر النُّسخ: التغرب. (¬5) المجموع المذهب في قواعد المذهب (1/ 353 - 358). رسالة ماجستير للباحث: إبراهيم جالو، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، تحقيق ودراسة من الجزء المتبقي من الصحة والفساد إلى فائدة في الكلام عن الخنثى، للعام الجامعي 1414 هـ.

وفي النَّظم من ذلك: - " القتل"، وقيدتُه بلفظ: (الأذَى)؛ احترازًا من القتل بحق، فإنه ليس على وجْه الأذى، ويُفهم منه أيضًا أنه يكون عمدًا، لا خطأ ولا شِبه عمد. وحذفتُ حرف العطف مما بعده؛ لاستقامة الوزن، ولأن المقصود سرد هذه الأنواع بعطف وغيره. - و"الزنا"، ويقاس به "اللواط"؛ للحَدِّ فيهما، بل اللواط أفحش، ويلتحق به وطء الزوجة والأَمة في الموضع المكروه. - وشرب الخمر، أي: وإن لم يُسكر، والسكِر مطلقًا في معناه، بل كل ما يزيل العقل لغير ضرورة. - والسرقة والغصب؛ للتوعد والحد في السرقة، وللتوعد في الغصب واللعن في حديث: "لعن الله مَن غيَّر منار الأرض" (¬1). كما سبق رواه مسلم، وقيد العبادي وشريح الروياني بما يبلغ قيمته ربع دينار، كأنهم قاسوه على السرقة. أما سرقة الشيء التافه فصغيرة إلا إن كان المسروق منه مسكينًا لا غنى به عما أخذه، فتكون كبيرة. قاله الحليمي، لكنه من جهة الإيذاء، لا من جهة السرقة فقط، والغصب مثله أيضًا. وأشرتُ بقولي: (وَمَا أَشْبَهَهَا) إلى باقي الكبائر، وسبق منها من كلام العلائي طائفة مما قال: (إنه في الأحاديث)، فنذكرها وغيرها. فمنها: القذف، والنميمة، وشهادة الزور، واليمين الغموس، وقطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، ومال اليتيم، كما سبق في الأحاديث، وخيانة الكيل والوزن؛ لقوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1]، وتقديم الصلاة على وقتها، وتأخيرها عنه، وعليه حمل حديث الترمذي: "مَن جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى بابًا من أبواب ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (رقم: 1978).

الكبائر" (¬1)، والكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمدًا، بل قال الشيخ أبو محمد: إنه كفر، ولا شك في ذلك فيما يكون إحلالًا لحرام أو تحريمًا لحلال، وضرب المسلم بغير حق، وفي معناه ضرب الذمي بغير حق، وفي [الصحيح] (¬2): "صنفان من أهل النار: قوم معهم كأذناب البقر يضربون بها الناس" (¬3)، وسب الصحابة - رضي الله عنه -، وكتمان الشهادة، والرشوة، والدياثة (وهي الاستحسان على أهله)، والقيادة (وهي الاستحسان على غير أهله)، والسعاية عند السلطان بما يضر الناس ولو كان صِدقًا، ومنع الزكاة، واليأس من رحمة الله، والأمن من مكر الله، والظهار، وأكل لحم الخنزير والميتة من غير ضرورة، وفطر رمضان، والغلول (وهي الخيانة في مال الغنيمة أو بيت المال أو الزكاة، وقيل: من المغنم فقط)، والمحاربة، والسحر، وبيع الربا. وعلى ما سبق في الاصرار على الصغيرة إنْ قُلنا: إنَّ نفسه كبيرة، يُعَد أيضًا منها. نعم حكى الدبيلي في "أدب القضاء" وجهًا كما سبق أنه باق على كوْنه صغيرة، وسبق أيضًا نقله عن غيره. ومن الكبائر أيضًا كما في الشرح و"الروضة": (ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة، ونسيان القرآن، وإحراق الحيوان، ، وامتناعها من زوجها بلا سبب، والوقيعة في أهل العلم وحملة القرآن) (¬4). قال الرافعي: (وللتوقف مجال في بعض هذه الخصال، كقطع الرحم وترك الأمر ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (رقم: 188). قال الألباني: ضعيف جدًّا. (ضعيف سنن الترمذي: 188). (¬2) كذا في (ص، ز)، لكن في (ت): الحديث. (¬3) صحيح مسلم (رقم: 2128). (¬4) روضة الطالبين (11/ 223).

بالمعروف على إطلاقهما، ونسيان القرآن وإحراق الحيوان). قال: (وقد أشار الغزالي في "الإحياء" إلى مثل هذا التوقف) (¬1). انتهى وتَعقَّبه النووي في نسيان القرآن بحديث أبي داود والترمذي: "عُرضَتْ علَيَّ ذنوب أُمتي، فلم أرَ ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أو آية أُوتيها رجُل ثم نسيها" (¬2). قال: (لكن في إسناده ضعف، وتكلم فيه الترمذي) (¬3). وقولي: (وَغَيْرُهُ صَغِيرَةٌ بِلَا انْتِهَا) إشارة إلى أن ما سوى ما ذُكر في تعريف "الكبيرة" وأمثلتها هو "الصغيرة"، ولا انتهاء لأمثلتها ولا حصر؛ فلذلك لم أُورِد لها مثالًا؛ لوضوحه. ولا بأس بذكر شيء من ذلك؛ زيادة في الإيضاح، أو للخفاء، أو للخلاف فيه. فمِن ذلك ما نقله الرافعي عن صاحب "العدة": النظر إلى ما لا يجوز، والغيبة، والكذب الذي لا حد فيه ولا ضرر، والإشراف على بيوت الناس، وهجر المسلم فوق الثلاث، وكثرة الخصومات وإن كان مُحِقًّا، والسكوت على الغيبة، والنياحة، والصياح، وشق الجيب في المصيبة، والتبختر في المشي، والجلوس مع الفساق إيناسًا لهم، والصلاة المنهي عنها في أوقات النهي، والبيع والشراء في المسجد، وإدخال الصبيان والمجانين فيه، وإمامة قوم يَكرهونه؛ لِعَيْبٍ فيه، والعبث في الصلاة والضحك فيها، وتَخطي رقاب الناس يوم الجمعة، والكلام والإمام يخطب، والتغوط مُستقبِل القِبلة أو في طريق المسلمين، وكشف العورة في الحمام. قال: ولك أن تقول في كثرة الخصومات من المُحِق: ينبغي أن لا يكون معصية إذا ¬

_ (¬1) العزيز شرح الوجيز (13/ 7). (¬2) سنن الترمذي (رقم: 2916)، سنن أبي داود (رقم: 461). قال الألباني: ضعيف. (ضعيف سنن الترمذي: 2916). (¬3) روضة الطالبين (11/ 223).

راعَى حدَّ الشرع، وتخطي الرقاب؛ فإنه معدود من المكروهات، لا محُرَّم، وكذا الكلام والإمام يخطب -على الأظهر. قال النووي: (المختار أن التخطي حرام؛ للأحاديث فيه) (¬1). قال: (والصواب في الخصومات ما قاله الرافعي، وأنَّ البيع والشراء في المسجد وإدخال الصبيان إذا لم يغلب تنجيسهم إياه والعبث في الصلاة -من المكروهات مشهور) (¬2). قال: (ومن الصغائر: القُبلة للصائم التي تُحرك شهوته، والوصال في الصوم على الأصح، والاستمناء، ومباشرة الأجنبية بغير جماع، ووطء الزوجة المظاهر منها قَبل التكفير والرجعية، والخلوة بالأجنبية، ومسافرة المرأة بغير زوج ولا محَرم ولا نسوة ثقات، والنجش، والاحتكار، والبيع على بيع أخيه، والسوم والخطبة كذلك، وبيع الحاضر للبادي وتَلَقّي الركبان، والتصرية وبيع المعيب مِن غير بيانه، واتخاذ الكلب الذي لا يُباح اقتناؤه، وإمساك الخمر غير المحترمة، وبيع العبد المسلم من الكافر (¬3) والصحف وسائر كُتب العِلم الشرعي، واستعمال النجاسة في البدن لغير حاجة، وكشف العورة في الخلوة لغير حاجة -على الأصح، وأشباه ذلك) (¬4). والله أعلم. ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (11/ 224). (¬2) المرجع السابق. (¬3) كذا في جميع النُّسخ. وعبارة النووي في (روضة الطالبين، 11/ 225): (وَبَيع الْعَبْدِ المُسْلِمِ لِكَافِرٍ). (¬4) روضة الطالبين (11/ 225).

ص: 291 - مِنْ أَجْلِ هَذَا يُقْبَلُ الْمُبْتَدِعُ ... لِأَنَّهُ بِجَهْلِهِ يَبْتَدِعُ 292 - مَا لَمْ يُبِحْ مِنْ كَذِبِ الْكَذَّابِ ... شيْئًا، فَذَا يُرَدُّ كَالْخَطَّابِي الشرح: أي: من أجل أن العدالة هي الملَكة المذكورة قُبلت رواية المبتدعة وشهادتهم، وهُم الذين انتحلوا ما ليس عليه أهل السُّنة من العقائد، وإنما قُبلوا لحصول الملَكة عندهم، لأن المبتدع منهم إنما قال ببدعته جهلًا منه أنها ليست معصية فضلًا عن كونها كبيرة، لكن يُستثنى منهم مَن يستبيح الكذب كالخطابية، فإنه لا يُقبل، وهُم قوم من غلاة الشيعة أصحاب أبي الخطاب الأسدي، كان -لعنه الله تعالى- يقول بإلَاهِيَّة جعفر الصادق ثم ادَّعى [الإلاهية] (¬1) لنفسه، وكان يزعم أنَّ الأئمة أنبياء، وفي كل وقت رسول، إلى غير ذلك من الضلال. الواحد منهم خطابي، وهو معنى قولي: (كَالْخَطَّابِي). وملخص ما في المسألة مذاهب، أرجحها: أن المبتدع يُقبل مطلقًا إلا حيث كفرناه ببدعته، أو لم نكفره ولكن من عقيدته جواز الكذب، كالخطابية، ولكن محل ذلك إذا لم يوافقوا أبا الخطاب على ما هو كافر به مما سبق، وإلا فلا يُقبَلون؛ لأمرين: لِهَذا، وللكفر. فإنما يصح التمثيل به بالتأويل الذي ذكرناه. وإنما ذكرتُ في النَّظم استثناء مَن يبيح الكذب؛ لأنَّ مَن يكفر ببدعته داخلٌ فيما سبق من رد الكافر مطلقًا. وهذا معنى قول ابن الحاجب: (إن المبتدع بما يتضمن الكفر كالكافر عند ¬

_ (¬1) كل النسخ: الإلهية.

المكفر) (¬1). ومقتضاه أن ذلك باتفاق، سواء أكان يعتقد حرمة الكذب أو لا. لكن معتقِد حُرمة الكذب مع الحكم بتكفيره ببدعته (كالقول بنبوة علي، وغَلَطِ جبريل في الرسالة، وكالمجسِّمة عند مَن يكفرهم، ونحو ذلك) فيه مذهبان مشهوران: قال الأكثرون (منهم القاضي والغزالي والآمدي وغيرهم): لا يُقبل. وقال أبو الحسين البصري والإمام الرازي وأتباعه: يُقبل. فإنْ كان مكفَّرًا ببدعته ولكن هو ممن يعتقد جواز الكذب تعبدًا، مردود اتفاقًا. قال ابن السبكي في شرحَي "المختصر" و"المنهاج": (أرى أن موضع الاتفاق فيمن اعتقد الحِل مطلقًا؛ لأنها رذيلة لا نَعلم أحدًا ذهب إليها. أما من اعتقد حِله في أمر خاص كالكذب في نُصرة عقيدته أو في ترغيب وترهيب أو نحو ذلك، فَيُرد في ذلك المحل الخاص) (¬2). وهو فيما سوى ذلك المحل كغيْره في جريان الخلاف. وخرج من ذلك: قولٌ ثان: إنَّ المبتدع مقبول ولو كان كافرًا بشرط أن يعتقد تحريم الكذب. وقولٌ ثالث بالرد فيما يعتقد حِل الكذب فيه دُون غيره. القول الرابع: أن المبتدع مردود مطلقًا وإنْ لم يكفر ببدعته. وبه قال القاضي والأستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق في "اللمع". ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (1/ 549). (¬2) الإبهاج في شرح المنهاج (2/ 314)، رفع الحاجب (2/ 363).

قال الخطيب البغدادي: (ويروى ذلك عن مالك). واستبعده ابن الصلاح بأن كُتب الأئمة طافحة بالرواية عن المبتدعة. قال ابن دقيق العيد: لعل هذا القول مبني على مَن كفر ببدعته. ورُد بأنَّ الفرض فيمن لم يكفر، وإنما مأخذهم أن البدعة نفسها فِسق، ولم يُعذر صاحبها بتأويله، قالوا: فهو فاسق ببدعته وبجهله بها. الخامس: إنْ كان داعية إلى بدعته -أيْ بإظهارها وتحقيق علتها- لم يُقبل. فإنْ كان مع ذلك يَحمل الناس على القول بها، فقال أبو الوليد الباجي: لا خِلاف في ترك حديثه. وممن قال بالتفصيل بين مَن يدعو إلى بدعته أوْ لا: سليم في "التقريب"، وحكاه القاضي عبد الوهاب في "الملخص" عن مالك؛ لقوله: لا تأخذ الحديث مِن صاحب هوًى يدعو إلى هواه. قال القاضي عياض: يحتمل ذلك، ويحتمل أن مراده: لا يُقبل مطلقًا؛ لأن المبتدع يدعو إلى هواه، فهو بيان لسبب تهمته. قال: وهذا هو المعروف من مذهبه. قال الخطيب: والتفصيل أيضًا مذهب أحمد. ونسبه ابن الصلاح للأكثرين، قال: وهو أعدل المذاهب وأَوْلاها. وفي الصحيحين كثير من أحاديث المبتدعة غيْر الدعاة احتجاجًا واستشهادًا، [كعمر بن خطاب] (¬1) وداود بن الحصين وغيرهما، ونقل ابن حبان الإجماع على ذلك. ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ض، ش). وفي سائر النُّسخ: عمر بن الخطاب. ويظهر أن هذا خطأ من النّساخ؛ فالفقرة بتمامها أخذها البرماوي من كتاب "البحر المحيط" لشيخه الزركشي، وعبارة الزركشي في (البحر =

وقال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام": (إنَّ الخلاف في غير الداعية، وإنَّ الداعية ساقط إجماعًا) (¬1). وردَّه عليه ابن دقيق العيد، لكن لم يُعَيّنه، بل نقَله عن بعض متأخري أهل الحديث. السادس: ما قال ابن دقيق العيد: (إنه المختار): أنَّ الداعية إما أن يروي ما ينفرد به عن غيره فيُقبَل؛ للضرورة، وإما أن يروي ما يرويه غيره فلا يُقبل. وهو تفصيل غريب. تنبيهان أحدهما: أنَّ مما قلنا: (إنه أرجح المذاهب) هو المنقول عن نَص الشافعي كما نقله الخطيب عنه أنه قال: (أقْبَل أهل الأهواء إلا الخطابية [من] (¬2) الرافضة؛ لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم) (¬3). قال: (ويُحكى أيضًا عن ابن أبي ليلى والثوري وأبي يوسف القاضي) (¬4). وقال أبو نصر بن القشيري: إلى هذا ميل الشافعي. ¬

_ = المحيط، 3/ 331): (وَفِي الصَّحِيحَيْنِ كَثِير مِنْ أَحَادِيثِ المُبْتَدِعَةِ غَيْرِ الدُّعَاةِ احْتِجَاجًا وَاسْتِشْهَادًا، كَعمْرَانَ بْنِ حطان، وَدَاوُد بْنِ الحُصَيْنِ، وَغَيِرهِمَا). (¬1) بيان الوهم والإيهام (3/ 163). (¬2) في (ز، ق): و. (¬3) الكفاية في علم الرواية (ص 120). (¬4) المرجع السابق.

وكذا قال ابن برهان: إنه الصحيح وقولُ الشافعي، لقوله: أقبل شهادة أهل الأهواء والبدع إلا الخطابية، فإنهم يتدينون بالكذب. وكلام محمد بن الحسن يقتضي قبول الخطابية، إذ قال: إذا كنا نقبل رواية أهل العدل وهم يعتقدون أن مَن كَذب فسق، فلأنْ نَقبل رواية أهل الأهواء -وهُم يعتقدون أنَّ مَن كذب كفر- مِن طريق الأَوْلى. قال ابن برهان: (وتحقيق ما ذكرناه من قبول المبتدعة هو أن أئمة الحديث كالبخاري ومسلم وغيرهما رووا في كُتبهم عن أهل الأهواء، حتى قيل: لو حذفت رواياتهم لابيضت الكتب) (¬1). انتهى واعترض الهندي في "النهاية" على كون الخطابية من هذا القبيل المستثنى بأنَّ المحكي عنهم في بدعتهم ما يوجب كفرهم، فليسوا مِن أهل القِبلة، فاستثناء الشافعي لهم منقطع. قلتُ: قد سبق تأويل كلام مَن استثناهم إما على أنَّ فيهم أمرين كل منهما يقتضي الرد، وإما على أن المراد مَن تبع أبا الخطاب على غير ما كفر به -على ما فيه مِن بُعْد. على أن الشافعي في "المختصر" لم يُعَيِّن خطابيًّا ولا غيره. [نعم] (¬2)، سبق نقل الخطيب عنه تعيينهم [مع الرافضة] (¬3). ونَصُّ "المختصر" في أول كتاب الشهادات: (ولا أَرُد شهادة الرجُل من أهل الأهواء إذا كان لا يرى أن يشهد لِمُوافِقِه بتصديقه وقبول يمينه، وكشهادة مَن يرى كذبه شركًا بالله ¬

_ (¬1) انظر: الوصول إلى الوصول (2/ 184). (¬2) كذا في (ز، ق). وفي سائر النُّسخ: وإن. (¬3) من (ز، ق).

ومعصية تجب بها النار -أَوْلى أنْ تطيب النفْس بقبولها مِن شهادة مَن يخفف المأثم فيها) (¬1). انتهى قال [بعض] (¬2) شراحه كالصيدلاني وغيره: يعني بذلك الخطابية، وهُم قوم من الخوارج يرون الكذب كُفرًا يوجِب التخليد في النار. فإذا حلف أحدهم لصاحبه بما يدعيه، يَشْهد له. قال: (وإنما لا تُقبل شهادته مطلقة، فإنْ بيَّن السبب مِن بيع أو إقرار أو غيره، قُبِل. ثُم ذَكر -يعني الشافعيَّ- أنَّ القلب إلى قول مَن يرى الكذب كفرًا أو موجِبًا للتخليد أَسْكَن بعد ما لم يكن مِن الخطابية). انتهى فبيَّن الجمْعَ بيْن كلامَي الشافعي أوَّ، وآخِرًا. واعْلم أن الشهرستاني وابن السمعاني وغيرهما ممن تَرجم للخطابية ذكروا أمورًا كثيرة مِن كُفرهم، ولم يذكروا استحلالهم الكذب ولا التكفير به، ولكن مَن حَفظ حُجة على مَن لم يحفظ. عَلَى أنَّ الإمام الرازي وأتباعه على هذا المذهب قالوا: إلا أنْ يكون قد ظهر عناد المبتدع، فلا يُقبل قولُه، لأنَّ العناد كذب. وإنما لم أذكر ذلك لأن مَن ظهر عناده وتعمد الكذب، عُرِف أنه يستحل الكذب، فهو داخل في مُستحِل الكذب. الثاني: يستفاد مما ذكرناه من الراجح في قبول المبتدع مسألة مَن أَقْدَم على مفسق مظنون معتقدًا أنه غير مفسق، أنه يُقْبل؛ لأن المبتدع قد أقدم بظنه على مفسق مقطوع به، ومع ذلك يُقبل، فهذا أَوْلى، وهو ما سبق نقْله عن الشافعي مِن قبول أهل الأهواء، والآخَر مأخوذ من قوله في شارب النبيذ الحنفي: (أحدُّه، وأَقْبَل شهادته). أي: لأنه لم يُقْدِم عليه بجرأة، ودليل ¬

_ (¬1) مختصر المزني (ص 310). (¬2) من (ت، ق، ش).

تحريمه ليس قطعيًّا حتى لا يُعتبر ظنُّه معه؛ فتحقق بذلك أن المدار على الملَكَة المانعة كما سبق تقريره. نعم، حكى في "المحصول" الاتفاق في المظنون على القبول. قال الهندي: (والأظهر ثبوت الخلاف فيه، كما في الشهادة؛ إذْ لا فَرق بينهما فيما يتعلق بالعدالة) (¬1). أما مَن يُقْدِم جاهلًا بالحرمة أو الحل فذلك من تفاريع الفقه؛ ولذلك لم أتعرض لهذه المسألة في النَّظم، والله أعلم. ص: 293 ثُمَّ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِالْعَدَالَهْ. . . سَمْعٌ كصَحْبٍ لَهُمُ جَلَالَهْ الشرح: أي: ما سبق من شروط الراوي منه ما هو ظاهر يُطَّلع عليه بسهولة، كالبلوغ والعقل والإسلام، ومنه ما هو خفي لا يُطَّلع عليه إلا بعُسر، وهو العدالة. وقد ذكر في طريق معرفتها أمور: الأول: السمع من الكتاب والسُّنة، وذلك كالصحابة - رضي الله عنهم -، فإن عدالتهم دل عليها قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وقوله تعالى: {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، فهُم المخاطَبون حقيقة بهذا الخطاب الشفاهي حتى نقل بعضهم اتفاق المفسرين على أن الصحابة هم المراد من هاتين الآيتين. ¬

_ (¬1) نهاية الوصول (7/ 2881).

ولكن حكاية الاتفاق مردودة بأنَّ الخلاف شهير في كثير من التفاسير في اختصاصهم بذلك أو هو عام لكل الأمة. نعم، الاختصاص هو قول الأكثر، ويشهد له ما سيأتي من السُّنة والمعنى، ومثل ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري: "لا تسبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مِثل أُحُد ذهبًا ما أدرك مد أحدهم ولا نَصيفَه" (¬1). والحديث وإن وَرَدَ على سبب فالعبرة بعموم اللفظ، ولا يضر أيضًا كوْن الخطاب بذلك لأصحابه أيضًا؛ لأن المعنى: لا يَسُب غيرُ أصحابي أصحابي، ولا يَسُب بعضُكم بعضًا. وفي الصحيحين من حديث عمران بن الحصين: "خير القرون قَرني، ثم الذين يلونهم" (¬2) الحديث، وفي رواية لابن مسعود: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" (¬3)، وفي الترمذي عن عبد الله بن مغفل مرفوعًا: "الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضًا بعدي، فمَن أحبهم فبحبي أحبهم، وَمن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومَن آذاهم فقد آذاني، ومَن آذاني فقد آذى الله، ومَن آذى الله فيوشك أن يأخذه" (¬4). وغير ذلك مما لا ينحصر. فإن قيل: هذه الأدلة دلت على فضلهم، فأين التصريح بعدالتهم؟ ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 3470)، صحيح مسلم (رقم: 2540) واللفظ لمسلم. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 2508)، صحيح مسلم (رقم: 2535) كلاهما بلفظ: (خيركم قرني. . .). (¬3) صحيح البخاري (رقم: 2509)، صحيح مسلم (رقم: 2533). (¬4) مسند أحمد (20568)، سنن الترمذي (رقم: 3862)، صحيح ابن حبان (7256). قال الألباني: ضعيف. (ضعيف سنن الترمذي: 3862).

قلتُ: مَن أثنى الله ورسوله عليه بهذا الثناء كيف لا يكون عدلًا؟ ! فإذا كان التعديل يثبت بِقَول اثنين من الناس أو واحد في الراوي كما سيأتي، فكيف لا تثبت العدالة بهذا الثناء العظيم من الله ورسوله؟ ! وهذا المذهب هو المعتمد، بل حكى ابن عبد البر في مقدمة "الاستيعاب" الإجماع عليه من أهل السنة والجماعة، وقال القاضي أبو بكر: إنه قول السلف وجمهور الخلف. وحكى فيه أيضًا إمام الحرمين الإجماع، قال: (والسبب فيه أنهم نَقَلةُ الشريعة، ولو ثبت توقُّف في روايتهم لَانحصرت الشريعة في عصره - صلى الله عليه وسلم - دُون سائر الأعصار) (¬1). قال إلْكِيا الطبري: إن عليه كافة أصحابنا، وأما ما وقع بينهم من الحروب والفتن فمبني على الاجتهاد، فإما أن كل مجتهد مصيب، وإما المصيب واحد وغير المصيب معذور، بل مأجور؛ لأنه ليس من الاعتقاديات القطعية، وكما قال عمر بن عبد العزيز: تلك دماء طهر الله منها سيوفنا، فلا نخضب بها أَلسِنتنا. ووراء هذا المذهب أقوال ضعيفة، بل باطلة: منها: أنهم كغيرهم في الفحص عن عدالتهم. ومنها: أنهم عدول إلى زمن قتل عثمان - رضي الله عنه -؛ لظهور الفتن من يومئذ. والحقُّ أن عثمان قُتل ظلمًا، وحمى الله تعالى الصحابة من مباشرة قَتْله، ولم يتول قتلَهُ إلا شيطانٌ مريد، ولم يحفظ عن أحد من الصحابة الرضا بقتله، بل المحفوظ أن كُلًّا منهم أنكر ذلك. ومنها: قول المعتزلة كما حكاه ابن الحاجب: إنهم عدول إلَّا مَن قاتل عليًّا ففاسق؛ ¬

_ (¬1) البرهان (1/ 407).

لخروجه على الإمام الحق. وهذا أيضًا باطل؛ لأن مسألة الأخذ بثأر عثمان اجتهادية، رأَى علي - رضي الله عنه - فيها التأخير؛ لمصلحة، ورأت عائشة - رضي الله عنه - المبادرة مصلحة، وكلٌّ مأجور على اجتهاده. فالوقائع كلها جوابها سهل ظاهر، فالصواب التسليم فيما شجر بينهم إلى ربهم جل وعلا، ونبرأ ممن يطعن في أحد منهم، ونعتقد أن المخالف في ذلك مبتدع زائغ عن الحق، نعوذ بالله من ذلك. ومنها: أن مَن قَلَّت صحبته فكَغْيره، والحكم بالعدالة إنما هو لمن اشتهرت صحبته. قاله [المازري] (¬1). ومنها: قول مَن قال: عدول، ومَن خرج منهم عن الطريقة لا يسمَّى صحابيًّا. وغير ذلك من الأقوال الواهية الباطلة. تنبيهات أحدها: ليس المراد بكونهم عدولًا ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية عليهم؛ إنما المراد أنه لا يُتكلف البحث عن عدالتهم ولا طلب التزكية فيهم، وقد سبق أن غلبة الخير في العدل كافية. الثاني: قال الحافظ المزي: من الفوائد أنه لم يوجد قط رواية عمن لُمِزَ بالنفاق من الصحابة. الثالث: من فوائد القول بعدالتهم مطلقًا: إذا قيل: "عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا"، كان ذلك كتعيينه بِاسْمه؛ لاستواء الكل في العدالة. وقال أبو زيد الدبوسى: بشرط أن يعمل بروايته السلف، أو يسكتوا عن الرد مع ¬

_ (¬1) في (ظ، ت): الماوردي.

الانتشار، أو تكون موافِقة للقياس، وإلا فلا يُحتج بها. ولا يخفَى ضعف ذلك، والله أعلم. ص: 294 ثُمَّ الصَّحَابِيُّ الَّذِي قَدِ اجْتَمَعْ. . . مَعَ النَّبِيِّ مُؤْمنًا، بِذَا ارْتَفَعْ 295 وَإنْ يَكُنْ لَمْ يَرْوِ أَوْ لَمْ يُطِلِ. . . أَوْ مَا غَزَا مَعَ الرَّسُولِ الْأَكْمَلِ الشرح: إذا تَقرر أن الصحابة عدول، فلا بُدَّ من بيان الصحابي مَن هو؟ وما الطريق في معرفة كونه صحابيًّا؟ فذكرتُ في هذين البيتين المقام الأول. وقد اختُلف في تفسير الصحابي على أقوال منتشرة، المختار منها ما اقتصرت عليه: وهو أن "الصحابي" مَن اجتمع مؤمنًا بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ولو لم يَرْوِ عنه، ولو لم تَطُل صحبته معه، ولو لم يَغْزُ معه في شيء من غزواته. فقولنا: (مَن اجتمع) يشمل مَن رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لم يره؛ لكونه أعمى، كابن أم مكتوم. وخرج به: مَن رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حين كُشف له عنهم ليلة الإسراء وغيرها، ومن رآه في غير عالم الشهادة، كالمنام، وكذا مَن اجتمع به مِن الأنبياء والملائكة في السماوات؛ لأن مقامهم أجل مِن رُتبة الصحبة، وكذا مَن اجتمع به في الأرض، كعيسى والخضر إنْ صح ذلك، فإنما المراد الاجتماع المعروف على الوجه المعتاد، لا خوارق العادات؛ فلهذا لا يُورَد على هذا التعريف شيء من ذلك. والتعبير بـ "اجتمع" أجود من التعبير بـ "رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - " أو "رآه النبي"؛ لِمَا ذكرناه. وأجود أيضًا من التعبير بِـ "صَحبَ"؛ لئلا يلزم الدَّور ما لم يُحمل "صَحبَ" على المعنى

اللغوي، ولأن الصحبة عُرفًا تتوقف على ملازمة ونحوها. وخرج أيضًا بالاجتماع: مَن رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته قبل الدفن، كأبي ذؤيب الشاعر خالد بن خويلد الهذلي؛ لأنه لَمَّا أَسلم وأُخبر بمرض النبي - صلى الله عليه وسلم -، سافر؛ ليراه، فوجده ميتًا مسجًى، فحضر الصلاة عليه والدفن، فلم يُعَد صحابيًّا. نعم، ابن عبد البر إنما يعتبر في الصحبة أنْ يُسْلم في حياته - صلى الله عليه وسلم - وإنْ لم يَرَه، فالذي رآه ميتًا من باب أَوْلى. عَلَى أن الذهبي في "التجريد" للصحابة قد عَدَّ منهم أبا ذؤيب، وقوَّاه شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص البلقيني، وقال: الظاهر أنه يُعَدُّ صحابيًّا. ولكن مرادهم كلهم الصحبة الحكمية التي سنبينها، لا حقيقة الصحبة. وخرج بالتقييد بالإيمان: مَن رآه واجتمع به قبل النبوة ولم يره بعد ذلك، كما في زيد بن عمرو بن نفيل، مات قبل البعث، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنه يُبعث أُمة وحده" (¬1). كما رواه النسائي، وأما [ذِكر ابن منده وغيره له مِن] (¬2) الصحابة فمن التوسع الآتي بيانه. وليس ورقة بن نوفل من هذا النوع؛ لأنه إنما اجتمع به بعد الرسالة؛ لِمَا صح في الأحاديث أنه جاء له بعد مجيء جبريل- عليه السلام- له وإنزال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] عليه، وبعد قوله له: "أَبْشر يا محمد، فأنا جبريل أُرسلتُ إليك، وإنك رسول هذه الأُمة". وقول ورقة له: "أَبْشر، فأنا أشهد أنك الذي بَشَّر به ابنُ مريم، وإنك على مثل ¬

_ (¬1) سنن النسائي الكبرى (رقم: 8187)، مسند أبي يعلى (973، 2047). وذكر الألباني الإسناد الأخير لأبي يعلى ثم قال: (إسناده حسن). صحيح السيرة النبوية (ص 94). (¬2) في (ز): ما ذكره ابن منده وغيره زمن.

ناموس موسى، وإنك نبيٌّ مرسل" (¬1)، ورؤيته عليه الصلاة والسلام لورقة في الجنة وعليه ثياب خضر. وجاء أنه قال: "لا تَسبُّوه؛ فإني رأيته وعليه جبة أو جبتان" (¬2). رواه الحاكم في "المستدرك". وأما قول الذهبي في "التجريد": (إنَّ ابن منده قال: اختُلف في إسلامه، والأظهر أنه مات بعد النبوة وقبل الرسالة) فبعيد؛ لِمَا ذكرناه، فهو صحابي قطعًا، بل أول الصحابة كما كان شيخنا شيخ الإسلام البلقيني يقرره. وخرج أيضًا بالاجتماع مؤمنًا: مَن ارتد بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو قَبْله وقُتل بالرِّدة، كابن خطل وغيره؛ فإنه بالردة تَبين أنه لم يجتمع به مؤمنًا؛ تفريعًا على قول الأشعري رحمه الله: إن الكفر والإيمان لا يتبدلان، خلافًا للحنفية، والاعتبار فيهما بالخاتمة. أما مَن ارتد ثم رجع للإسلام كالأشعث بن قيس - رضي الله عنه - فقدْ تَبين أنه لم يَزَل مؤمنًا. فإنْ كان قد رآه مؤمنًا ثم ارتد ثم رآه ثانيًا مؤمنًا، فأوْضح؛ فإنَّ الصحبة قد حصلت بالاجتماع الثاني قطعًا. وخرج أيضًا: مَن اجتمع به قبل النبوة ثم أسلم بعد المبعث ولم يَلْقَه، الظاهر أنه لا يكون صحابيًّا بذلك الاجتماع، لأنه حين ذاك لم يكن مؤمنًا كما روى أبو داود عن عبد الله بن أبي الحمساء: "بايعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يُبعث، فوعدته أن آتيه بها في مكانه، ونسيتُ ثم ذكرتُ بعد ثلاث، فجئت فإذا هو في مكانه، فقال: يا فتى، لقد شققتَ علَيَّ، أنا في انتظارك ¬

_ (¬1) قصة ورقة بن نوفل في صحيح البخاري (رقم: 4670) وصحيح مسلم (160)، ولفظ الرواية في الشريعة للآجري (3/ 1442). (¬2) المستدرك على الصحيحين (رقم: 4211) وغيره، بلفظ: "لا تَسُبُّوا وَرَقَةَ؛ فَإِنِّي رَأَيْتُ لَهُ جَنَّةً أَوْ جَنَّتيْنِ". وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة: 405).

منذ ثلاث" (¬1). ثم لم يُنقَل أنه اجتمع به بعد المبعث. ودخل أيضًا في الاجتماع مَن جِيء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو غير مميِّز، فحنكه كعبد الله بن الحارث بن نوفل، أو تفل فيه كمحمود بن الربيع، بل مَجَّه بالماء وهو ابن خمس سنين أو أربع كما سبق بيانه قريبًا، أو مسح وجهه كعبد الله بن ثعلبة بن صُعَير (بضم الصاد وفتح العين المهملتين)، ونحو ذلك. فهؤلاء صحابة وإنِ اختار جماعة خِلاف ذلك كما هو ظاهر كلام ابن معين وأبي زرعة الرازي وأبي حاتم وأبي داود وابن عبد البر وغيرهم، وكأنهم إنما نفوا الصحبة المؤكدة كما سيأتي. واعْلَم أن بعض العلماء شرَط في الصحابي زيادة على ما ذكرناه، والمختار خلافُه. مِن ذلك ما أشرتُ إليه في النَّظم بقولي: (وَإنْ لَمْ يَرْوِ) إلى آخِره، فشرَط بعضهم أن يروى عنه ولو حديثًا، وإلا فلا يكون صحابيًّا. وشرَط بعضهم أن تطول الصحبة وتكثر المجالسة على طريق التبع له والأخذ عنه. ويُنقل ذلك عن أهل الأصول أو بعضهم، ورَدَّه الخطيب في "الكفاية" بأنه لا خلاف بين أهل اللغة أن ما اشتُق منه الصحابي وهو "الصحبة" لا تُحَد بزمن ولا طولٍ، فتقول: صحبته سَنة، وصحبته لحظة (¬2). وفيما قاله نظر؛ لأن الكلام في الصحبة الاصطلاحية، وإلا فليس في اللغة اشتراط الإسلام في الصُّحبة. وشرَط سعيد بن المسيب أن يقيم معه سَنة أو سنتين، أو يغزو معه غزوةً أو غزوتين. وقد ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (رقم: 4996)، السنن الكبرى للبيهقي (20624). قال الألباني: ضعيف الإسناد. (ضعيف سنن أبي داود: 4996). (¬2) انظر: الكفاية (ص 50).

اعتُرض عليه بنحو جرير ممن وفد عليه في السَّنة العاشرة وما قاربها، إلا أن يريد الصحبة المؤكدة، فيستقيم. ومما لم أُشِر إليه في النَّظم من الاختلاف ما شرَطه بعضهم من البلوغ. حكاه الواقدي عن أهل العلم. ورُدَّ بخروج نحو عبد الله بن الزبير والحسن والحسين وأنظارهم - رضي الله عنهم -. وشرط بعضهم كوْنه من البَشَر؛ ليخرج مَن آمن به من الجن الذين قَدِموا عليه من نَصِيبين (¬1) وهم سبعة من اليهود أو ثمانية؛ ولهذا قالوا: {أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف: 30]. وذكر في أسمائهم: شاصر، وماصر، وناشئ، ومنشئ، والأحقب، وزوبعة وسُرق، وعمرو بن جابر. وقد استشكل ابن الأثير في "أسد الغابة" قول مَن ذكرهم في الصحابة، وهو محل نظر. واشترط أبو الحسين بن القطان العدالة، قال: والوليد الذي شرب الخمر ليس بصحابي، وإنما صحْبه الذين هُم على طريقته. والصحيح خلاف ما قال؛ لِمَا سبق من ثبوت عدالة الصحابة المطلقة، وقد سبق بيان معناها. ¬

_ (¬1) مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على جادّة القوافل من الموصل إلى الشام. (معجم البلدان، (5/ 288).

تنبيهان أحدهما: ذكر ابن الجوزي في كتاب "التلقيح" تقسيمًا للصحابة به يجتمع أكثر الأقوال السابقة، وتتضح مدارك قائليها، فجعلها مراتب: الأولى: الصحبة المؤكدة المشتملة على المعاشرة وكثرة المخالطة بحيث لا يُعرف صاحبها إلا بها، فيقال: هذا صاحب فلان. الثانية: مطلق الصحبة التي تَصْدق بمجالسةٍ أو مماشاة ولو ساعة وإنْ لم يشتهر بها صاحبها. قال: وكلام سعيد بن المسيب محمول على إرادة القِسم الأول، وكلام غيره على القسم الثاني؛ فلذلك عدوا جريرًا وأشباهه ومَن لم يَغْزُ ومَن تُوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير السن. قال: وأما مَن رآه رؤية ولم يجالسه ولم يماشه -أيْ: وهو المرتبة الثالثة- فألحقوه بالصحبة إلحاقًا وإنْ كان حقيقة الصحبة لم توجد في حقه. أيْ: فهي صحبة إلحاقية؛ لشرف قَدْر النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لاستواء الكل في انطباع طلعة المصطفى فيهم برؤيته إياهم أو برؤيتهم إياه مؤمنين وإنْ تفاوتت رُتَبهم (¬1). انتهى وهو كلام متين. الثاني: زعم جمعٌ من الأصوليين -كالآمدي وابن الحاجب- أن الخلاف في ذلك لفظي. وليس كذلك؛ فإنَّ مِن فائدته القول بعدالة الكل، وقد أشار إليه ابن الحاجب، ففي كلامه تعارُض بين أوله وآخِره، فإنه قال بعد ذِكر الخلاف في ضابط الصحبة: (وهي لفظية ¬

_ (¬1) تلقيح فهوم أهل الأثر (ص 72).

وإنِ انبنى عليها ما تَقدم) (¬1). أيْ: في عدالة الصحابة. فيقال له: إذا كان مبنيًّا عليها ذلك، فكيف تكون لفظية؟ ! ومن فوائده أيضًا: لو أرسل حديثًا، فإنَّ مُرْسَل الصحابي حُجة، بخلاف مرسَل غيره على ما سيأتي من الخلاف. ومنها: أن قول الصحابي هل هو حُجة؟ وسيأتي الخلاف فيه، [فيتوقف] (¬2) على معرفة مَن هو الصحابي؟ ومنها: مَن شَرَط أن الإجماع من الصحابة معتبَر دُون [غيره] (¬3)، وكذلك مَن لا يَعتبِر خِلاف غيرهم معهم، وغير ذلك مما لا ينحصر. قولي: (مُؤْمِنًا) حال مِن فاعل (اجْتَمَعْ). وقولي: (بِذَا ارْتَفَعْ) أيْ: عظم قَدْرُه وارتفع شأنه بهذا الوصف، والله أعلم. ص: 296 - وَمُدَّعِي الصُّحْبَةِ وَهْوَ عَدْلُ ... مُعَاصِرٌ نَقْبَلُهُ؛ فَالْكُلُّ 297 - بِالنَّصِّ تَعْدِيلُهُمُ، وَعَمَّمَا ... لَهُ ابْنُ عَبْدِالْبَرِّ بَاقِي الْعُلَمَا 298 - كَمَا ابْنُ مَوَّاقٍ رَأَى، وَاسْتَنَدَا ... لِخَبَرٍ أُرْسِلَ، ضَعْفُهُ بَدَا الشرح: هذا هو المقام الثاني، وهو طريق معرفة الصحابي، وله طرق ظاهرة وطريق خفي، فاقتصرتُ على الخفي؛ لأن الظاهر معلوم من باب أَوْلى. ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى مع الشرح (1/ 713). (¬2) كذا في (ز)، لكن في (ص): تتوقف. (¬3) كذا في (ز، ش). لكن في سائر النُّسخ: غيرهم.

فمن الطرق الظاهرة: التواتر والاستفاضة بكونه صحابيًّا أو بكونه من المهاجرين أو من الأنصار، وقول صحابي ثابت الصحبة: (إنَّ هذا صحابي)، أو ذِكر ما يَلزم منه أن يكون صحابيًّا، نحو: (كنت أنا وفلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم -)، أو: (دخلنا عليه)، ونحو ذلك، لكن بشرط أن يُعرف إسلامه في تلك الحالة واستمرار ذلك كما عَلِمتَه مما سبق. وأما الخفِي: فهو إذا ادَّعَى العَدْل المعاصِر للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صحابي. قال القاضي: يُقبل؛ لأن وازع العدالة يمنعه من الكذب. أي: مثل ما روى البخاري في "المغازي" عن الزهري، عن سنين أبي جميلة، قال: زعم أنه أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرج معه عام الفتح (¬1). وحكى هذا المذهب أيضا أبو بكر الصيرفي في كتاب "الدلائل والأعلام" حيث قال: لا يُقبل حتى تُعلم عدالته، فإذا عُرفت، قُبِل منه. وجَرَى على ذلك ابن الصلاح والنووي. ومنهم مَن توقف في الثبوت بذلك؛ لأنه يثبت رُتبةً لنفسه، وهو ظاهر كلام ابن القطان المحدث، وبه قال أبو عبد الله الصيمري من الحنفية، وأنه لا يجوز أن يقال: (إنه صحابي) إلا عن عِلم ضروري أو كسبي، وهو ظاهر كلام ابن السمعاني أيضًا. ويخرج من كلام بعضهم مذهب ثالث بالتفصيل بين: - مُدَّعِي الصُّحْبَة اليسيرة، فيُقْبَل، لأنه قد يتعذر إثبات صحبته بالنقل، إذْ ربما لا يحضره حين اجتماعه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أحد أو حال رؤيته إياه. - ومُدَّعِي طول الصحبة وكثرة التردد في السفر والحضر، لا يُقبل ذلك منه؛ لأن مثل ذلك يشتهر وينقل. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 4050).

قيل: والمنع مطلقًا قوي؛ لأن الشخص إذا قال: (أنا عدل)، لا تُقبل دعواه، فكيف مُدَّعي الصحبة التي هي فوق العدالة؟ قلتُ: الفَرق ظاهر؛ لأن ذلك يثبتُ أصل العدالة من غير دليل، وهذا عدل مقبول القول يُنشئُ رُتبة، فيُقبل منه؛ لوجود عدالته. ولم يقف ابن الحاجب على نقل في المسألة، فقال: (لو قال المعاصر العدل: "أنا صحابي"، احتمل الخلاف) (¬1). فرع: إذا أخبر عنه عدل من التابعين أو تابعيهم أنه صحابي، قال بعض شراح "اللمع": لا أعرف فيه نقلًا. قال: والذي يقتضيه القياس أنْ لا يُقبل؛ لأن ذلك مُرْسَل؛ لكونها قضية لم يحضرها. قيل: والظاهر خلاف ذلك؛ لأنه لا يقول مثل ذلك إلا عن عِلم اضطراري أو اكتسابي. وقد قال ابن السمعاني: إن الصحبة تُعْلَم بالطريق القطعي كالتواتر أو ظني وهو خبر الثقة. قلتُ: مراده بِـ "خبر الثقة" حيث لم يتضمن كَوْنه مرسلًا، والاستناد إلى أنه لم يَقُل ذلك إلا عن عِلم- ضعيفٌ، وإلا لزم الاحتجاج بالمرسل مطلقًا، والتفريع على أنه ليس بحجة ما لم يعتضد كما سيأتي. تنبيه: إذا قال العَدْلُ: (أنا تابعي؛ لأني أدركتُ الصحابي رؤيةً أو اجتماعًا)، الظاهر أنه مِثله، ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى مع الشرح (1/ 715).

وأما بماذا يثبت كون التابعي؟ كذلك فسيأتي في الكلام على المرسَل. وقولي: (فَالْكُلُّ بِالنَّصِّ تَعْدِيلُهُمُ) هذا وإنْ عُلِم من قولي فيما سبق: (طَرِيقُ الْعِلْمِ بِالْعَدَالَهْ سَمْعٌ) إلا أني أَعَدْتُه؛ للإيماء إلى أن مَن قال: إنَّ حَمَلَة العِلم مِثل الصحابة في ثبوت عدالتهم مِن غير طَلَب تزكيتهم؛ للنص فيهم كالصحابة. وهو ابن عبد البر، قال: كل حامل علم معروف العناية به فهو عدل محمول في أمره أبدًا على العدالة حتى يتبين جرْحُه. واستدل لذلك بحديث رواه من طريق أبي جعفر العقيلي من رواية مُعان بن رفاعة السلامي، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يحمل هذا العِلم مِن كل خلف عُدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين" (¬1). أورده ¬

_ (¬1) الضعفاء الكبير (4/ 256). قال الحافظ ابن حجر في كتابه "لسان الميزان، 1/ 77": (قال مهنا: قلت لأحمد: حديث معان بن رفاعة كأنه كلام موضوع. قال: لا، بل هو صحيح). انتهى وذكره الخطيب البغدادي في كتابه "شرف أصحاب الحديث، ص 30" عن مُهَنَّى بن يَحْيىَ، قَالَ: (سَأَلْتُ أَحْمَدَ -يَعْنِي ابْنَ حَنْبَلٍ- عَنْ حَدِيثِ معَانِ بن رِفَاعَة .. قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الجْاهِلِينَ وَانْتِحَالَ الُمبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْغَالِينَ". فَقُلْتُ لِأَحْمَدَ: كَأَنَّهُ كَلامٌ مَوْضُوعٌ. قَالَ: لا، هُوَ صَحِيحٌ. فَقُلْتُ لَه: مِمَّنْ سَمِعْتَهُ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ). انتهى، تحقيق: د. محمد سعيد خطي، نشر: دار إحياء السنة- أنقرة. وقال الشيخ الألباني في تحقيقه لكتاب (مشكاة المصابيح، ص 83): (الحديث قد رُوي موصولًا من طريق جماعة من الصحابة، وصحح بعض طُرُقه الحافظ العلائي في "بغية الملتمس". .، وقد جمعتُ طائفة من طُرق الحديث، والنية متوجهة لتحقيق القول فيها لأول فرصة تسمح لنا إن شاء الله تعالى). قلتُ: وكنتُ قد تَوَهَّمتُ -منذ سنوات- أن الشيخ الألباني صححه، ولكن الصواب ما نقلتُه عنه هنا، وأنَّ الألباني إنما نقل تصحيح الإمام أحمد والحافظ العلائي. وقد ذكر الحافظ العلائي هذا الحديث بإسنادٍ آخَر في كتابه "بغية الملتمس، ص 34"، ثم قال: =

العقيلي في كتاب "الضعفاء" في ترجمة معان بن رفاعة، وقال: (لا يُعرف إلا به). ورواه ابن أبي حاتم في مقدمة كتاب "الجرح والتعديل"، وابن عدي في مقدمة "الكامل"، وهو مرسَل معضل ضعيف. وإبراهيم الذي أرسله قال فيه ابن القطان: (لا نعرفه البتة في شيء من العِلم غير هذا). وقال الخلال في كتاب "العلل": سُئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث، فقيل له: كأنه كلام موضوع؟ فقال: لا، هو صحيح. فقيل له: ممن سمعتَه؟ قال: من غيْر واحد. قيل له: مَن هُم؟ قال حدثني به مسكين إلا أنه يقول: عن معان عن القاسم بن عبد الرحمن، ومعان لا بأس به. ووثَّقه ابن المديني أيضًا. قال ابن القطان: وخَفِي على أحمد مِن أمره ما عَلِمَه غيره. ثم ذكر تضعيفه عن ابن معين وابن أبي حاتم والسعدي، وابن عدي وابن حبان. وقد وَرَدَ هذا الحديث -كما قاله شيخنا الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن العراقي- مرفوعًا مسندًا من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وعلي بن أبي طالب وابن عمر وأبي أُمامة وجابر بن سمرة - رضي الله عنه - بِطُرُق كلها ضعيفة. قال ابن عدي: ورواه الثقات عن الوليد بن مسلم، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، قال: أخبرنا الثقة من أصحابنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال. فَذَكَرَه. وممن وافق ابن عبد البر على قوله هذا من المتأخرين أبو بكر بن المَوَّاق (بفتح الميم وتشديد الواو وآخِره قاف)، فقال في كتابه "بغية النقاد": أهل العلم محمولون على العدالة حتى يظهر فيهم خلاف ذلك. ¬

_ = (هذا حديث حسن غريب صحيح).

واعْلَم أن ابن الصلاح قال في قول ابن عبد البر ذلك: (إن ما قاله فيه اتساع غير مرضِي) (¬1). واستدلاله بذلك لا يصح من وجهين: أحدهما: الإرسال والضعف. والثاني: عدم صحة كَوْنه خبرًا؛ لأن كثيرًا ممن يحمل العِلم غير عدلٍ، فَلَم يَبْقَ إلا حَمْله على الأمر، ومعناه أنه أمر الثقات بحمل العلم؛ لأن العلم إنما يُقْبَل عن الثقات، ويدل له أن في بعض طرق ابن أبي حاتم: "لِيَحْمِل هذا العِلم" بلام الأمر، والله أعلم. ¬

_ (¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 106).

ص: 299 وَيَثْبُتُ التَّعْدِيلُ بِاشْتِهَارِ. . . كَفِي أَئِمَّةِ الْهُدَى الْأَخْيَارِ الشرح: هذا هو الطريق الثاني مما تثبت به العدالة، وهو أن يكون الشخص ممن اشتهر بالإمامة في العلم وشاعَ الثناءُ عليه بالثقة والأمانة، فلا يحتاج مع ذلك إلى تزكية خاصة، بل كوْنه كذلك غاية في تزكيته وثبوت عدالته. قال ابن الصلاح: (هذا هو الصحيح في مذهب الشافعي، وعليه الاعتماد في أصول الفقه، وممن ذكره من أهل الحديث الخطيب، ومثَّل ذلك بمالك وشعبة والسفيانين والأوزاعي والليث وابن المبارك ووكيع وأحمد وابن معين وابن المديني، ومَن جرَى مجراهم في نَباهَة الذِّكر واستقامة الأمر، ولا يُسأل عن عدالة هؤلاء وأمثالهم، إنما يُسأل عمن خَفي أمرُه عن الطالبين) (¬1). انتهى وقد سُئل ابن معين عن أبي عبيد، فقال: مِثلي يُسأل عن أبي عبيد؟ ! أبو عبيد يُسأل عن الناس. وسُئل أحمد عن إسحاق بن رَاهَوَيْه، فقال: مِثل إسحاق يُسأل عنه؟ ! وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: الشاهد والمخبِر إنما يحتاجان إلى التزكية متي لم يكونَا مشهورين بالعدالة والرضا وكان أمرهما مُشكلًا ملتبسًا ويجوز فيه العدالة وغيرها. قال: (والدليل على ذلك أنَّ العِلمَ يُظهر رشدهما، واشتهار عدالتهما بذلك أقوي في ¬

_ (¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 105).

النفوس مِن تعديل واحد أو اثنين يجوز عليهما الكذب والمحاباة) إلى آخِر كلامه في ذلك. ويدخل في قولي: (أَئِمَّةِ الْهُدَى الْأَخْيَارِ) مَن ذُكر ومَن لم يذكره هؤلاء، كأبي حنيفة والشافعي - رضي الله عنهما -، وكذلك داود بن علي الظاهري وغيره من الأئمة، وكذا أصحاب الأئمة الأكابر المشهورون. والله أعلم. ص: 300 كَذَاكَ بِالتَزكِيَةِ الْمُعْتَبرَهْ. . . وَلَوْ بِوَاحِدٍ، كجَرْحٍ ذَكَرَهْ 301 وَعَدَدٌ يُشْرَطُ في الشَّهَادَهْ. . . جَرْحًا وَتَعْدِيلًا لِمَنْ أَرَادَهْ الشرح: هذا هو الطريق الثالث في معرفة العدالة -وهو التزكية- سواء في الراوي والشاهد، والتقييد بِـ "المعتبرة" يَشملُ أمورًا: منها: ما يُعتَبر في لفظ التزكية بأن يقول: هو عدل. وهذا كافٍ في الأصح؛ لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ} [الطلاق: 2]. فمَن شَهَد أو أخبر بمطلق العدالة، وافق إطلاق الآية. وحكاه القاضي أبو الطيب عن نَص الشافعي في "حرملة" (¬1). وقيل: لا بُدَّ أن يقول في الشاهد: عدل عليَّ ولي. وحكاه الروياني عن نص "الأُم" و"المختصر". قال ابن الصباغ: وبه أخذ أكثر الأصحاب. وزاد بعضهم أن يقول: عدل رِضًى لي وعلَيّ. ¬

_ (¬1) أي: الكتاب الذي نقله عنه حرملة.

ومحل بسط ذلك كُتب الفقه. قال القرطبي: عندنا لا بُد أن يقول: عدل رضًى. ولا يكفي الاقتصار على أحدهما، ولا يلزمه زيادة عليهما. هذا في الشهادة، أما الرواية فلهُم ألفاظ غير ذلك تَوَسُّعًا، وجعلوها مراتب: أعلاها: أن يجمع بين لفظين متحدي المعني؛ تأكيدًا، كأن يقول: "ثبتٌ حُجةٌ" أو "ثبتٌ حافظٌ" أو "ثقةٌ متقنٌ" أو نحو ذلك، أو يكرر فيقول: "ثقةٌ ثقةٌ" أو "ثبتٌ ثبتٌ". قاله الذهبي في مقدمة "الميزان". الثانية: وهي ما بدأ بها ابن أبي حاتم وابن الصلاح، أنْ يقول: ثقةٌ، أو: متقنٌ، أو: ثبتٌ، أو: حجةٌ، أو: حافظٌ، أو: ضابطٌ. قال الخطيب: (أرفع العبارات أن يقول: حجةٌ، أو: ثقةٌ). الثالثة: أن يقول: "لا بأس به" أو "صدوق" أو "خيار". الرابعة: أن يقول: "محلُّه الصدق" أو "رَووا عنه" أو "شيخ" أو "وسط" أو "صالح الحديث" أو "مُقارب" بفتح الراء وكسرها كما حكاه صاحب "الأحوذي". على أن ابن أبي حاتم وابن الصلاح جعلَا "محله الصدق" من الرتبة التي قبل هذه، لكن صاحب "الميزان" جعلها من الرابعة. ودُون ذلك أنْ يقول: صويلح، أو: صدوق إن شاء الله تعالى. ومحل البسط في ذلك كتب علوم الحديث. ومنها: ما يعتبر في المزكِّي من كوْنه عدلًا عارفًا بأسباب التعديل والجرح، مطَّلعًا على أحوال من يزكيه بطُول صحبته معه واختباره في سِره وعلانيته سفرًا وحضرًا؛ فلذلك صعبت التزكية جدَّا. نعم، اختُلف في ذلك في مسائل:

الأُولى: هل يُشترط في المزكِّي عدد؟ أو يجوز أن يكون واحدًا؟ وكذا في الجرح: هل يشترط العدد؟ أو لا؟ سواء ذلك في شهادة أو رواية. وأصح المذاهب الاكتفاء بواحد في الرواية تعديلًا وجرحًا، وهو معني قولي: (وَلَوْ بِوَاحِدٍ، كَجَرْحٍ ذَكَرَهْ) أي: ذكره الجارح. وأما الشاهد فيُشترط في مُعَدِّله أو جارحِه عَدْلان؛ جَرْيًا في كل منهما على أصله، وكما أن العدد شرط في الشهادة، اعتُبر في تعديلها وجرحها العدد، والرواية لا يُشترَط فيها ذلك، فلا يشترط في تعديلها وجَرْحها ذلك؛ لأن الفرع لا يزيد على الأصل. ونقل هذا الآمدي وابن الحاجب والهندي عن الأكثرين. قال ابن الصلاح: (وهو الصحيح الذي اختاره الخطيب وغيره) (¬1). وهذا معنى قولي: (وَعَدَدٌ يُشْرَطُ في الشَّهَادَهْ) أي: في ذي الشهادة، وهو الشاهد. القول الثاني: أن العدد في التزكية والجرح شرط مطلقًا في الرواية والشهادة، وهو ما حكاه القاضي أبو بكر عن أكثر الفقهاء من أهل المدينة وغيرهم، وقال الأبياري: إنه قياس مذهب مالك. الثالث: الاكتفاء بالواحد مطلقًا في الشاهد والراوي جرحًا وتعديلًا. واختاره القاضي أبو بكر، وقال: إن الذي يوجبه القياس تزكية كل عَدْل مَرْضِي ذكر أو أنثي، حر أو عبد، شاهد ومخبِر. قال الماوردي والروياني: (إن حاصل الخلاف في ذلك أنَّ تعديل الراوي هل يجري مجرَى الخبر؟ أو مجرى الشهادة؛ لأنه حُكم على غائب؟ ) (¬2). ¬

_ (¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 108). (¬2) الحاوي الكبير (16/ 94).

نعم، جعلا الخلاف السابق في التعديل فيهما فقط، وجزَمَا في الجرح بالتعدد؛ لأنها شهادة على باطن مغيَّب. لكن القاضي أبو [الطيب] (¬1) أَجرَى الخلاف في الأمرين -التعديل والجرح- كما ذكرناه أولًا. فرع: إذا اكتفينا بالواحد، فقد أَطلق في "المحصول" قبول تزكية المرأة. وحكى القاضي أبو بكر عن أكثر الفقهاء أنًّ النساء لا يُقبَلن في التعديل، لا في شهادة ولا في رواية، ثم اختار قبول قولها فيهما كما تُقبَل روايتها وشهادتها في بعض المواضع. وهذا جارٍ على اختياره في قبول الواحد في تزكية الشاهد كالراوي؛ بِنَاءً على أن ذلك مَحْض رواية. وغيره يقول: شهادة -كما سبق عن المارودي والروياني أن ذلك منشأ الخلاف. وأما تزكية العبد فقال القاضي: يجب قبولها في الخبر دون الشهادة؛ لأنَّ خبره مقبول وشهادته مردودة. وبه جزَم صاحب "المحصول" وغيره. قال الخطيب: (والأصل في هذا سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - بريرة في قصة الإفك عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -، وجوابها له) (¬2). قلت: هذا إن كان ذلك قبل أنْ تُعتق، فالإفك في الرابعة أو الخامسة، ويبقى النظر في تاريخ شراء عائشة وعتقها إياها. ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ت، ش)، لكن في (ص): بكر. (¬2) الكفاية في علم الرواية (ص 97).

تنبيه: يُعتبر في الجرح ما سبق اعتباره في التعديل من اللفظ الدال وأهلية الجارح، ولكن لا يشترط هنا صحبته ولا اختباره؛ لأن سبب الجرح يجب بيانه ويكتفَى فيه بسبب واحد كما سيأتي. فمن ألفاظ التجريح عند المحدثين سوى التصريح بفِسقه ونحوه مراتب أيضًا: الأُولى: أن يقول: "كذاب"، أو: "يكذب"، أو: "وضَّاع"، أو: "يضع الحديث"، أو: "دجَّال"، أو: "متروك الحديث"، أو: "ذاهب الحديث"، أو: "ساقط لا يُكتَب حديثه". وإنما كان ذلك خارجًا عما استثنيته من التصريح بالفسق؛ لعدم استلزامه للفسق؛ لجواز أن يقع منه ذلك من غير قصد، أو نحو ذلك. الثانية: أن يقول: "متهم بالكذب"، أو: "بالوضع"، أو: "ساقط"، أو: "هالك". وفي رَأْيٍ أنَّ هذا مِن القِسم الذي قَبْله، الثالثة: "رُدَّ حديثه"، أو "ردوا حديثه"، أو "مردود الحديث"، أو "ارْم به"، أو"ليس بشيء"، أو "لا شيء"، أو "لا يسوي شيئًا". الرابعة: "ضعيف" أو"منكر الحديث" أو "حديثه منكر" أو "مضطرب" أو "واهٍ" أو "ضَعَّفوه" أو "لا يُحتج به". الخامسة: "فيه مقال"، أو "ضُعِّف"، أو "في حديثه ضعف"، أو"يعرف ويُنكِر"، أو "ليس بذاك"، أو "ليس بالقوي"، أو "ليس بالمتين"، أو "ليس عمدةً"، أو"ليس بالمرضِي"، أو "طعنوا فيه"، أو "مطعون"، أو "سَيِّئ الحفظ"، أو "ليِّن"، أو "لين الحديث". وهذه الأمور كلها محل بسطها كُتب علم الحديث، وفي هذه الإشارة كفاية. وسيأتي في أمورٍ أخرى خِلاف: هل هي مِن الجرح؟ أو هل هي من التعديل؟ ذكرت

لمناسبة محلها [التي] (¬1) تُذكَر فيه كما ستعرفه إن شاء الله تعالى. والله أعلم. ص: 302 - فَإنَّهَا الْإخْبَارُ عَنْ خُصُوصِ ... أَيْ بِتَرَافُعٍ مَعَ الْمَخْصُوصِ 303 - وَعَنْ عُمُومٍ مُطْلَقًا هُوَ الْخَبَرْ ... [أَوْمَا] (¬2) إلى ذَا الشَّافِعِيْ في الْمُخْتَصَرْ 304 - لِأَجْلِ ذَاكَ خُصَّتِ الشَّهَادَهْ ... بِشَرْطِهَا الْمَشْهُورِ بِالزِّيَادَهْ الشرح: لَمَّا وقع التفصيل في التزكية والتجريح بين الشهادة والرواية في الاكتفاء بواحدٍ، احتيج للفرق بين حقيقتهما، وهو من المهمات في هذا العلم وغيره، وقد خاض كثير غُمرة ذلك، ولكن غاية ما يفرقون به بينهما اختلافهما في الأحكام، كاشتراط العدد والحرية والذكورة ونحو ذلك مما يُعتبر في الشهادة، ولا يخفَى أنَّ هذه أحكام مترتبة على معرفة الحقيقة، فلو عُرِّفَت الحقيقة بها، لَزم الدَّوْر. قال القرافي: (أقمتُ مُدة أتطَلب الفَرق بينهما حتى ظفرت به في "شرح البرهان" للمازرى. فذكر ما حاصله أنَّ الخبرَ إنْ كان عن عامٍّ لا يختصُّ بمعيَّن ولا تَرافُع فيه ممكن عند الحكام فهو الرواية، وإن كان خاصًّا وفيه ترافُع ممكن فهو الشهادة. وعُلِمَ مِن هذا الفرق المعنى فيما اختصت به الشهادة من العدد والحرية والذكورة ونحوها. واحترز بإمكان الترافع عن الرواية عن خاصٍّ مُعيَّنٍ؛ فإنه لا ترافُع فيه ممكن) (¬3). انتهى ملخَّصًا. ¬

_ (¬1) في (ز): الذي. (¬2) في (ن 3، ن 4): اوفى. (¬3) الفروق مع هوامشه (1/ 14)، ط: دار الكتب العلمية.

قلتُ: هذا الفرق بِعَينه في كلام الشافعي - رضي الله عنه -، وبيَّن المراد من العموم والخصوص هنا، فقال فيما نقله عنه المزني في "المختصر" في باب "شهادة النساء لا رجُل معهن والرد على مَن أجاز شهادة امرأة من [أهل] (¬1) الكتاب" في مسألة الخلاف بينه وبين أبي حنيفة وأصحابه -حيث قبلوا شهادة امرأة على ولادة الزوجة دون المطلقة- ما نصه: (وقلتُ لِمَن يُجيز شهادة امرأة في الولادة كما يُجيز الخبر بها لا مِن قِبل الشهادة: وأين الخبر من الشهادة؟ أتَقْبل امرأةً عن امرأةٍ أنَّ امرأة رُجلٍ وَلَدَتْ هذا الولد؟ قال: لا. قلتُ: وتَقبل في الخبر: أخبرنا فلان عن فلان؟ قال: نعم. قلتُ: والخبر هو ما استوى فيه المخبِرُ والمخبَرُ والعامة من حرامٍ أو حلالٍ؟ قال: نعم. قلتُ: والشهادة ما كان الشاهدُ منه خَلِيًّا والعامَّةُ، وإنما يلْزمُ المشهود عليه؟ قال: نعم. قلتُ: أفَتَرَى هذا مُشْبِهًا لهذا؟ قال: أمَّا في هذا فلا) (¬2). انتهى وقوله: (الخبر بها لا من قِبل الشهادة) هو المصطلح على تسميته "رواية" وإنْ كانت الشهادة أيضًا خبرًا باعتبار مقابلة الإنشاء، فللخبر [إطلاقان] (¬3)، والمتقدمون يُعبِّرون عن "الرواية" بِـ "الخبر" كما قدمناه في بعض عبارة القاضي أبي بكر والماوردي والروياني وغيرهم. وبيَّن الشافعي رحمه الله السبب فيما تُفارقُ فيه الشهادة الرواية مِن الأحكام وتَرتُّبه على ما افترقت به حقيقتاهما من المعنى، وذَكَرَ بعض الأحكام قياسًا على البعض ردًّا على خصمه ¬

_ (¬1) كذا في جميع النُّسخ، والعبارة في (مختصر المزني، ص 304) هكذا: (بَابُ شَهَادَةِ النِّسَاءِ لَا رَجُلَ مَعَهُنَّ وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ أَجَازَ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. .). (¬2) مختصر المزني (ص 304). دار النشر: دار المعرفة -بيروت- 1393 هـ، الطبعة: الثانية. (¬3) كذا في (ز، ق، ش)، وفي سائر النسخ: إطلاقات.

الذي قد سلَّم المعنى وفرق في الأحكام بما لا يناسب. فإن قلتَ: فأين اعتبار إمكان الترافُع في الشهادة دون الرواية في كلام الشافعي؟ قلتُ: من قوله: "وإنما يلزم المشهود عليه"؛ فإن اللزوم يستدعي مخاصمةً وترافُعًا. فإنْ قيل: ليس فيما نقلتَ عن الشافعي ولا فيما نقله القرافي عن المازري ذكر ما يُعتبر في الشهادة مِن لفظ "أشهد" وكوْنه عند الحاكم أو المحكَّم أو سيِّد العبد والأَمة حيث سمع عليهما البيِّنة لإقامة الحدود إنْ جوَّزنا له ذلك، ولا ما أَشْبَه ذلك مما يختص بالشهادة. قلتُ: إنما لم تُذكر؛ لِكونها أحكامًا وشروطًا خارجة عن الحقيقة، وعلى كل حالٍ فقد عُلِمَ مما سبق وجْه المناسبة فيما اختصت به الشهادة عن روايات الأخبار. قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: (لأنَّ الغالب من المسلمين مَهابة الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف شهادة الزور؛ فاحتيج إلى الاستظهار في الشهادات. وأيضًا فقد ينفرد الحديث النبوي بشاهد واحد في المحاكمات وبهذا يظهر فيما سبق في تزكية الواحد في الرواية أنه لكونه أحوط. وأيضًا بيْن كثير من المسلمين إحَنٌ وعَداوات قد تحمل على شهادة الزور من بعضٍ، بخلاف الأخبار النبوية). انتهى ملخصًا. وفَصَّل غيره المعنى فيما اعتُبِر في الشهادة: أمَّا العَدد: فإنها لَمَّا تَعلقت بمُعَين، تَطرَّقت إليها التهمة باحتمال العداوة؛ فاحتيط بإبعاد التهمة بالعدد، بخلاف الرواية. وسيأتي آخِر الفصل الإشارة إلى خلاف ضعيف في اشتراطه في الرواية أيضًا. وأما الذكورة حيث اشتُرِطت: فلأن إلزام المعيَّن فيه نوع سلطنة وقَهْر، والنفوس تأباه ولاسيما من النساء؛ لنقص عقولهن ودِينهن، بخلاف الرواية؛ لأنها عامة تتأسى فيها النفوس، فَيَخِفُّ الألم، وأيضًا فلنقص النساء يكثُر غلطُهن، ولا ينكشف ذلك غالبًا في

الشهادة؛ لانقضائها بانقضاء زمانها، بخلاف الرواية؛ فإنَّ بتعلقها بالعموم يقع الكشف عنها؛ فيتبَيَّن ما عساه وقع من البراءة مِن غلطٍ ونحوه. وأما الحرية: فلأنَّ قهرَ العبيد صعبٌ على النفوس، وأيضًا فَقدْ يحمل الرق على الحقد في المعيَّن؛ لفوات الحرية، فيدخل بذلك من التُّهمة ما لا يَدخل في المتعلق بالعموم. فلذلك أُكِّدَتْ بهذه الشروط وغيرها من انتفاء العداوة وفرط المحبة، كشهادة الأصل للفرع وعكسه، والشهادة بما يجر النفع أو يَدفع الضرر، وكذا التهمة في المبادرة، بخلاف الرواية. وهو معنى قولي: (لِأَجْلِ ذَاكَ) إلى آخِره، فالشرط المشهور هو ما ذكرناه ونحوه، فإنه زائد على شروط الرواية التي شاركت فيها الشهادة، وقد اتضح بحمد الله، والله أعلم. ص: 305 وَقَدْ يُشَابُ الشَّيْءُ في الْأَحْكَامِ. . . مَعْنَاهُمَا، كَرُؤْيَةِ الصِّيَامِ الشرح: هذا تنبيه على أنَّ ما سبق إنما هو في الرواية المحضة (كالأحاديث النبوية) والشهادة المحضة (كالشهادة ببيع عين أو إجارة أو نكاح أو طلاق). وقد يكون الشيء فيه شائبتَا الرواية والشهادة، فتوزع الأحكام باعتبارهما بحسب المناسبة. فمنه الخبر برؤية الهلال لرمضان، فإنه -من جهة عُمومه لأهل المصر أو الآفاق أو لغير البلد البعيد بمسافة القصر أو لمخالف المطلع على الخلاف في ذلك -رواية، ومن جهة اختصاصه بهذا العام وهذا القرن من الناس- شهادة. فروعيت شائبة الشهادة باعتبار الحرية والذكورة -كما نَصَّ عليه الشافعي فيهما- ولفظ الشهادة على الأرجَح مِن الخلاف في الطُّرق، وكذا اعتبار كونه عند القاضي فيه خلاف.

نعم، قَطع بالمنع ابن عبدان والغزالي والبغوي، ومن شهد فيه على شهادته يعتبر العدد على الأرجح. وروعيت شائبة الرواية بالاكتفاء بواحدٍ على أصح قَوْلَي الشافعي المنصوص في أكثر كُتبه كما قاله الرافعي وغيره، وقطع به طائفة. والثاني: لا يُقبَل إلاَّ عدلان؛ تغليبًا للشهادة. وقال الربيع: إنَّ الشافعي رجع إليه. قيل: وينبغي أن يكون الفتوى. ولكن في "الأم" في كتاب "الصيام [الصغير] (¬1) "أنَّ الاكتفاء بالواحد إنما هو للاحتياط في الصوم وإنْ كان هو في ذاته لا يقبل فيه إلا عدلان؛ فلا منافاة بين النصين حينئذ. ولفظه: قال الشافعي: (فإنْ لم تر العامة هلال رمضان ورآه رجل عَدْل، أَقْبله؛ للأثر والاحتياط، أخبرنا الدراوردي عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن [أبيه] (¬2)، عن فاطمة بنت الحسين عليهما السلام: أنَّ رجُلًا شهد عند علي - رضي الله عنه - على رؤية هلال رمضان؛ فصام. وأحسبه قال: وأَمَر الناس بصيامه. وقال: أصوم يومًا من شعبان أَحبُّ إلَيَّ مِن أنْ أفطر يومًا من رمضان). ثم قال الشافعي بعد ذلك: (ولا يجوز على رمضان إلا شاهدان) (¬3). انتهى وللعمل في صوم رمضان دليل مِن: حديث ابن عباس فيما رواه الأربعة وغيرهم (¬4)، وحديث ابن عمر فيما رواه أبو داود وصححه الحاكم (¬5)، وغيره مما هو مشهور في الفقه. ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ق، ظ، ت). لكن في (ص، ش، ض): التعبير. (¬2) كذا في جميع النُّسَخ. (¬3) الأم (2/ 103). (¬4) صحيح مسلم (رقم: 1087). (¬5) سنن أبي داود (رقم: 2320) وغيره، ولفظ أبي داود: (عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله =

ومما يدل على أنَّ ذلك احتياط في الصوم أنه لا يجري في حلول أَجَل ولا معلق طلاق أو عتق أو نحو ذلك قطعًا إلَّا أن يتأخر التعليق عن ثبوته ويعلق به، فإنه ينصرف عُرفًا إلى الثبوت الذي به الصيام، وهذا [مقتضى] (¬1) ما أشرتُ إليه في الجمع بين النصين مِن كوْن العَدْل الواحد للصوم احتياطًا والعَدْلَين في سائر الأحكام. نعم، يُعكِّر على هذا الجمع نصوص الشافعي المصرحة بأنه لا يُصام إلا بشهادة عدلين، منها ما قاله في موضع من "الأم"، ولفظه: (ولا يلزم الناس أنْ يصوموا إلا بشهادة عدلين فأكثر، وكذلك لا يُفطرون، وأَحَبُّ إليَّ لو صاموا بشهادة العدل؛ لأنه لا مؤنة عليهم في الصيام. إنْ كان مِن رمضان، أدوه. وإنْ لم يكن، رجوتُ أنْ يُؤجَروا به) (¬2). انتهى. وهو صريح في أن الصوم بعدل مستحب احتياطًا، لا وجوب فيه، وأن الوجوب بعدلين. وإنما قلنا في قبول الواحد للصوم (على القول به): إنه شهادة كالرواية في الواحد فقط؛ لِمَا في حديث: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإنْ غم عليكم فاقدروا له" (¬3). زيادة ¬

_ = صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى ترَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ". قَالَ: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا كَانَ شَعْبَانُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، نَظَرَ لَهُ، فَإِنْ رُئِيَ فَذَاكَ، وإِنْ لَمْ يُرَ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ وَلَا قَتَرَةٌ، أَصْبَحَ مُفْطِرًا. فَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرَةٌ، أَصْبَحَ صَائِمًا. قَالَ فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفْطِرُ مَعَ النَّاسِ، وَلَا يَأْخُذُ بِهَذَا الحسَابِ). قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن أبي داود: 2320). (¬1) في (ص): يقتضى. (¬2) الأم (7/ 50 - 51). (¬3) صحيح البخاري (رقم: 1810)، صحيح مسلم (رقم: 1080).

النسائي فيه على البخاري: "وإنْ شهد شاهدان فصوموا وأفطروا" (¬1). فسماها "شهادة". فلما جاء حديث الواحد، لم يُزِل عنها حقيقة الشهادة بل وصف العدد. ومنه على ما قاله القرافي: القائف المخبِر بإلحاق النسب؛ فإنه -من حيث خصوص إثبات بنوة زيد لعمرو- شهادة، فينبغي اعتبار العدد فيه، ومن حيث انتصابه للعموم -رواية، فينبغي الاكتفاء فيه بواحد (¬2). ثم ذكر ما يقوي الأول. لكن الأصح عند الشافعية وابن القاسم من المالكية ترجيح قبول الواحد؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قبل خبر مجزز المدلجي وحْده، ولأنه شبيهٌ بالحكم؛ لأنَّ فيه اجتهادًا وفصلًا للخصومة، فأَشْبه الفتوى والقضاء. قال الرافعي: (ويحكَى هذا التشبيه والحكم عن نَص الشافعي في "الأم"، حتى لو كان القاضي قائفًا، قضى بذلك؛ بناءً على الأصح في حُكمه بعلمه) (¬3). قلتُ: فيَضعُف بذلك [ترديد] (¬4) هذا الخبر بين الرواية والشهادة، بل هو غيرهما كما عرفته. ومنه -على ما قاله القرافي أيضًا- المترجم للفتاوى والخطوط، قال مالك: (يكفي الواحد. وقيل: لا بُد من اثنين. ومنشأ الخلاف الشائبتان؛ لأنه نُصب نصبًا عامًّا وإخباره عن مُعيَّن مِن فتوى أو خط). انتهى ملخصًا. والظاهر أنه رواية محضة، وأصله حديث أبي جمرة الضبعي: "كنت أترجم بين يدي ابن ¬

_ (¬1) سنن النسائي (رقم: 2116). قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن النسائي: 2115). (¬2) الفروق مع الهوامش (1/ 18). (¬3) انظر: العزيز شرح الوجيز (13/ 297). (¬4) في (ز): تردد.

عباس وبين الناس" الحديث في "مسلم" وغيره (¬1). فالمخبِر عن المفتي كراوي الأحاديث الحُكمية وغيرها. أما الشهادة على الخط -على مذهب مَن يراها- فشبيهة بالقائف، وفيه ما سبق. ومنه المترجم للقاضي وعنه، وإسماع القاضي الأصم والتبليغ عنه. والأصح فيهما اعتبار العددِ ولفظِ الشهادة. ومنه المزكي عند القاضي المنصوب لذلك، متردد بينهما، والأصح ترجيح الشهادة. ومنه الخارص، والأصح فيه الاكتفاء بواحد. ومنه القاسم من جهة الحاكم، والأصح فيه الاكتفاء بواحد، لكن لشَبهه بالحاكم ففيه ما سبق في القائف. هذا إنْ لم يكن فيها تقويم وإلا فلا بد من العدد، إلا أن يفوض إليه سماع بيِّنة القيمة. ومنه الطبيب في مواضع: - في كوْن المشَمَّس يورث البرص إنْ قلنا بكراهته بقول الأطباء. - وفي كون الماء يضر حتى يعْدل إلى التيمم. والأصح فيهما قبول الواحد؛ لأن ذلك لحقِّ الله في العبادات، فلا يؤكد بالعدد. - وفي كون المرض مخوفًا حتى تعتبر التبرعات فيه من الثلث. - والإخبار عن المجنون أنه يَنفعه التزوج. ولكن الأصح في هذين اعتبار العدد؛ لأنَّ فيه حق آدمي. ومنه الإخبار بأنه عيب في المبيع إذا اختلف المتبايعان فيه. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 87)، صحيح مسلم (رقم: 17).

ومنه بعث الحكمين عند الشقاق بين الزوجين. والأصح العدد، لظاهر الآية. قال الرافعي: ويُشبه أن يقال: إن جعلناه تحكيمًا فلا يشترط العدد، أو توكيلًا فكذلك إلا في الخلع، فيكون على الخلاف في تولي الواحد طَرَفي العقد. وغير ذلك من الفروع، وبسطها وبيان المعنى في ترجيح إحدى الشائبتين فيها والمدارك - محله الفقه، والله أعلم. ص: 306 وَلَيْسَ في التَّعْدِيلِ ذِكْرُ السَّبَبِ. . . شَرْطًا، خِلَافَ الْجَرْحِ [في] (¬1) التَّجَنُّبِ 307 لِكَثْرَةِ الْخِلَافِ في أَسْبَابِهِ. . . وَلِلْغِنَى بِوَاحِدٍ في بَابِه الشرح: اختُلف في كل من الجرح والتعديل -هل يُقبل مِن غير ذِكر سببه؟ أو لا؟ - على أقوال منشؤها أن المجرِّح والمعدِّل مخبِر فيصدق، أو حاكم ومُفْت فلا يقلد. أحدها وهو الصحيح المنصوص للشافعي، قال القرطبي: وهو الأكثر من قول مالك. قال الخطيب: (وذهب إليه الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده كالبخاري ومسلم) (¬2). وعليه اقتصرتُ في النَّظم: التفريق بين التعديل فيُقبل بلا تفسير، والجرح فلا يُقبل إلا مع ذِكر السبب؛ لأمرين ذكرتهما: أحدهما: كثرة الاختلاف في أسباب الجرح، بخلاف التعديل. ¬

_ (¬1) في (ن): ذي. (¬2) الكفاية في علم الرواية (ص 108).

والثاني: أن أسباب العدالة كثيرة ولا بُد مِن ذِكر الكل؛ فيشق ذِكرُها بأن يقول المُعدِّل: (ليس يفعل كذا ولا كذا) إلى آخِر المجتنَبات، و: (يفعل كذا ويفعل كذا) إلى آخِر الطاعات المرتكَبات، بخلاف الجرح، فإنَّ ذِكرَ الواحد من أسبابه يُغْني في ثبوت الجرح. قالوا: وربما استُفْسِر الجارح فذكر ما ليس بجرح، فروى الخطيب بسنده [لأبي] (¬1) جعفر المدائني قال: قيل لشعبة: لِمَ تركت حديث فلان؟ قال: رأيته يركض على برذون؛ فتركت حديثه. إلى غير ذلك مما يُظن جرحًا وليس بجرح، وهو معنى ثالث لكن يمكن دخوله في الأول، فإنه اختلاف في السبب وإنْ كان القول بأحدهما وَهمًا أو نحو ذلك. قلت: لكن ركض البرذون ربما يكون مفسقًا أو مخلًّا بالمروءة، فلا ينبغي أن يمثَّل به لذلك. وفي أنواع الشهادات مواضع أخرى اختُلف في الإطلاق فيها هل يكتفَى به؟ أو لا بُد من السبب؟ وهي مختلفة ترجيحًا وجزمًا، ليس ذلك موضع بسطها، تَعَرَّض لكثير منها العلائي في "قواعده" وغيره. القول الثاني: عكس الأول، وهو أنه يُقبل الجرح بلا تفسير، ولا يقبل التعديل إلا مفسَّرًا؛ لأن أسباب العدالة يَكثُر التصنع فيها، فيبني فيها المعدِّل على الظاهر. حكاه صاحب "المحصول" وغيره، ونقله إمام الحرمين في "البرهان" والغزالي في "المنخول" وإلْكِيَا في "التلويح" وابن بَرهان في "الأوسط" عن القاضي أبي بكر؛ لكن المعروف عنه ما سيأتي. الثالث: يُعتبر في كلٍّ منهما ذِكر سببه؛ لأنَّه قد يجرح بما لا يقدح، وقد يبني المعدِّل على الظاهر والأمر بخلافه. حكاه الخطيب والأصوليون، وبه قال الماوردي أيضًا، قال: وقد ¬

_ (¬1) كذا في (ز) وهو الصواب كما في (الكفاية، ص 111). وفي سائر النُّسخ: لأبي محمد بن.

رُوي أن [ابن عمر] (¬1) زُكِّي عنده رجُل، فسأل المزكِّي عن أحواله، فذكر له ما لا يُكتفَى به. الرابع: أنه يكفي الإطلاق في كل منهما؛ لأنَّ الجارح والمعدِّل إن لم يكونا بصيرين بالأسباب، لم يَصْلُحَا لذلك، فإن كانا بصيرين بها فلا معنى لذكرهما إياها. وهذا ما نَص عليه القاضي أبو بكر في "التقريب"، وكذا نقله عنه الخطيب في "الكفاية" والغزالي في "المستصفى" والمازري في "شرح البرهان" والقرطبي في "الوصول" والإمام الرازي والآمدي وابن الحاجب، وابن القشيري ورَدَّ على الإمام ما نقله في"البرهان" عنه. وأما قول إمام الحرمين والإمام الرازي: (يكفي الإطلاق من العالم بأسبابهما دُون غيره) (¬2) فلَم يخرج عن القاضي وهو الاكتفاء بالإطلاق فيهما؛ لأنَّ غير العارف لا يَصلح لتعديل ولا لتجريح. قال القاضي تاج الدين السبكي: (والمختار عندي في الشهادة التفصيل بين الجرح والتعديل كما ذهب إليه الشافعي، وفي الرواية الاكتفاء بالإطلاق في الجرح والتعديل معًا إذا عُرف مذهب الجارح فيما يجرح به) (¬3). ¬

_ (¬1) كذا في جميع النُّسخ، وعبارة الزركشي في (البحر المحيط، 3/ 352): (وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رضي الله عنه - زُكِّيَ عِنْدَهُ رَجُلٌ. .). وفي (الكفاية، ص 83) للخطيب البغدادي: (شَهِدَ رَجُلٌ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - بِشَهَادَةٍ، فَقَالَ لَهُ: لَسْتُ أَعْرِفُكَ، وَلَا يَضُرُّكَ أَلاَّ أَعْرِفَكَ، ائْتِ بِمَنْ يَعْرِفُكَ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أنا أَعْرِفُهُ. قَالَ: فَبِأَيِّ شَيْءٍ تَعْرِفُهُ؟ قَالَ: بِالْعَدَالَةِ وَالْفَضْلِ. قَالَ: فَهُوَ جَارُكَ الْأَدْنَى الَّذِي تَعْرِفُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ وَمُدْخَلَهُ وَمُخْرَجَهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَمُعَامِلُكَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ اللَّذَيْنِ بِهِما يُسْتَدَلُّ عَلَى الْوَرَعِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَرَفِيقُكَ فِي السَّفَرِ الَّذِي يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: لَسْتَ تَعْرِفُهُ. ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: ائْتِ بِمَنْ يَعْرِفُكَ). (¬2) البرهان في أصول الفقه (1/ 237)، المحصول (4/ 410). (¬3) رفع الحاجب (2/ 391).

قلت: وفيما اختاره نَظَر مِن وجوه: أحدها: مخالفة إمامه الشافعي والجمهور. والثاني: أن الجارح إذا عُرف مذهبه فيما يجرح به، نزل ذلك منزلة ذِكره. الثالث: أن الذي يظهر في مستنده في اختيار ذلك ما قال ابن الصلاح: (إنَّ لقائلٍ أنْ يقول: إنما يعتمد الناس في جرح الرواة ورَدِّ حديثهم على الكُتب التي صنفها أهل الحديث في الجرح، وقَلَّ ما يتعرضون فيها للسبب، بل يقتصرون فيها على مجرد قولهم: "فلان ضعيف" و"فلان ليس بشيء" ونحو ذلك، فاشتراط بيان السبب في جرح الرواة يفضي إلى تعطيل ذلك وسَدِّ باب الجرح في الأغلب الأكثر) (¬1). قال: (وجوابه أنَّ ذلك وإنْ لم يعتمد في إثبات الجرح فالحكم به معتمد في التوقف عن قبول حديث مَن قالوا فيه ذلك؛ بناءً على أنه أَوْجَد عندنا ريبةً قويةً يوجِب مثلها التوقف؛ ولهذا مَن زالت عنه هذه الريبة فبُحِث عن حاله فظهر ما يوجِب الثقة به، قَبِلْناه كمن احتج بكثير منهم صاحِبَا الصحيحين مع أنَّ فيهم مِثل هذا الجرح) (¬2). انتهى ملخصًا. وهو معنى قول النووي في "شرح مسلم": إنَّ المعْنِيَّ بعدم قبول الجرح المطلَق في الراوي وجوب التوقف عن العمل بروايته إلى أن يبحث عن السبب. وهو حسن يزول به عن الصحيحين الإشكال [قبل] (¬3) ذلك. ويزول به إشكالٌ آخَر وهو أنَّ الجرح مقدَّم على التعديل، فكان على مقتضَى ذلك كل مَن جُرح بوجه لا يُقبل مطلقًا لاسيما وقد وقع بعض مَن دخل في الجرح والتعديل في كثير من ¬

_ (¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 108). (¬2) مقدمة ابن الصلاح (ص 108 - 109). (¬3) في (ز): بمثل.

الأئمة الكبار وما سَلِم إلا القليل. فبهذا التوقف لا يلتفت لتجريح أحدٍ أحدًا منهم مع إمامته وجلالته وعدم احتياجه كما سبق لمعدِّل. فافْهَم ذلك، واجعله عقيدة لك في الأئمة؛ تَسْلَم، والله أعلم. ص: 308 - وَقُدِّمَ الْجَرْحُ عَلَى التَّعْدِيلِ ... مَا لَمْ يَكُنْ مُؤَخَّرَ التَّعْوِيلِ الشرح: أي: هذا كله إذا لم يتعارض الجرح والتعديل، فأمَّا إذا تعارضا سواء أكان الجرح مبَيَّن السبب أو مطلقًا وقلنا بقبوله: فالصحيح من المذاهب في المسألة أن الجرح مقدَّم مطلقًا، سواء كَثُر الجارح أو المعدِّل أو استويَا. وبه جزم الماوردي والروياني وابن القشيري وقال: نقل القاضي فيه الإجماع. ونقله الخطيب والباجي عن جمهور العلماء، وقال الإمام الرازي والآمدي وابن الصلاح: إنه الصحيح؛ لأنَّ مع الجارح زيادة عِلم لم يَطَّلِع عليها المعدِّل، فهو موافِقٌ له على أنَّ ظاهره كذلك ومُخْبِرٌ بما خَفي عن المعدِّل (¬1). قال ابن دقيق العيد: هذا إنما يصح على اعتقاد أنَّ الجرح لا يُقبَل إلا مفسرًا. أي: فإنْ قبلناه مجملًا فالأقوى حينئذ أنْ يُطلَب الترجيح؛ لأنَّ قول كل مِن الجارح والمعدِّل ينفي ما يقوله الآخَر. قال: (وبشرط آخَر، وهو أنْ يُبْنَى الجرح على أمرٍ مجزوم به، لا بطريق اجتهادي، كما ¬

_ (¬1) يعني: الجارِح يوافق المعَدَّل على أنَّ ظاهر المعَدَّل العدالة، ثم يخبِر الجارِحُ بما خَفي عن المعَدِّل.

اصطلح أهل الحديث في الاعتماد في الجرح على اعتبار حديث الراوي مع اعتبار حديث غيره والنظر إلى كثرة الموافَقة والمخالفة والتفرُّد والشذوذ). انتهى وقولي: (مَا لَمْ يَكُنْ مُؤَخَّرَ التَّعْوِيلِ) بيان أن ذلك إنمَّا هو حيث لم يكن التعديل مؤخرًا فيما عول عليه عن سبب الجرح، والمراد بذلك ما استثناه أصحابنا مِن تقديم الجرح أنه إذا جرحه بمعصية وقال المعدِّل: (عرفتُ ذلك ولكنه تاب منها) أيْ: مع مُضِي مدة الاستبراء حيث اعتُبِرت، فإنَّ التعديل حينئذ مقدَّم؛ لأنَّ فيه زيادة [عِلم] (¬1). القول الثاني: أنَّ التعديل مقدَّم أبدًا؛ لأنَّ الجارح قد يجرح بما ليس في نفس الأمر جارحًا، والمعدِّل لا يُعدِّل حتى يتحقق بطريقٍ سلامته من كل جارح. وهذا حكاه الطحاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف، لكن قضية تعليله بما سبق تخصيص الخلاف بالجرح غير المفسَّر بناءً على قبوله. الثالث: يُقدَّم الأكثر من الجارح والمعدِّل. حكاه في "المحصول"؛ لأنَّ الكثرة لها تأثير في القوة. ورَدَّ ذلك الخطيب بأنَّ المعدِّلين وإنْ كثروا فليسوا مخبرين بعدم ما أخبر به الجارحون، ولو أخبروا بذلك كانت شهادة نَفْي، وهي باطلة. الرابع: تَعارُض الأمرين، فلا يُقدَّم أحدهما إلا بمرجِّح. حكاه ابن الحاجب. واعْلم أنَّ القاضي في "التقريب" جعل موضع الخلاف فيما إذا كان عدد المعدِّلين أكثر. فإنِ استويا، قُدِّم الجرحُ إجماعًا. وكذا قال الخطيب في "الكفاية" وابن القطان وأبو الوليد الباجي. اعتُرِض على حكايتهم ذلك بأن ابن القشيري قد نصب الخلاف فيما إذا استوى عدد ¬

_ (¬1) في (ز): على القبول.

المعدِّلين والجارحين، قال: فإنْ كَثُر المعدِّلون فقبول المعدِّلين أَوْلى. وقال المازري: (إنَّ [ابن أبي سفيان حكى في كتابه "الزاهر"] (¬1) الخلاف عند التساوي في العدد، قال: فإن زاد عدد المجرِّحين فلا وجه لجريان الخلاف) (¬2). وبه صرح أيضًا الباجي، فقال: لا خلاف في تقديم الجرح. وقال الماوردي: لا شك فيه. وعلى هذا فيخرج في محل الخلاف ثلاث طُرُق، والله أعلم. ص: 309 - وَيثْبُتُ التَّعْدِيلُ أَيْضًا بِعَمَلْ ... مَنْ يَشْرِطُ الْعَدْلَ لِمَا فِيهِ الْعَمَلْ 310 - رِوَايَةً تَكُونُ أَوْ شَهَادَهْ ... كَذَا إذَا عَنْهُ رَوَى مُعْتَادَهْ الشرح: التعديل والتجريح إما بالتصريح وإما بالتضمن لأمرٍ، فلمَّا انقضى القسمُ الأول شرعتُ في الثاني، فذكرت في التعديل الضمني أمرين: أحدهما: أن يُعمَل بخبره، وتحته صورتان: الأُولى: عمل العالِم برواية راو وقد عُلم مِن قاعدته أنَّه لا يَعمل إلا بقول العدل- يكون تعديلًا له كما حكاه القاضي أبو الطيب عن الأصحاب، ونقل الآمدي فيه الاتفاق. ¬

_ (¬1) كذا في جميع النُّسخ، وعبارة المازري في كتابه (إيضاح المحصول، ص 479): (ابن شعبان من أصحابنا ذكر في كتابه المترجَم بِـ "الزاهي"). (¬2) إيضاح المحصول (ص 479).

ورُدَّ بأن الخلاف محكي في "تقريب" القاضي و"منخول" الغزالي، وكذا حكى إمام الحرمين وابن القشيري فيه أقوالًا، ثالثها: الصحيح إنْ أمكن أنه عمل بدليل آخَر فليس بتعديل، وإنْ بَانَ بقوله أو بقرينة أنَّ عمله إنما هو بالخبر الذي رواه ذلك الراوي فتعديل. ورجح هذا أيضاً القاضي في "التقريب"، قال: وفرقٌ بين قولنا: (عمل بالخبر)، و: (عمل بموجَب الخبر). نعم، الشرط -كما قال القاضي والإمام والغزالي- أنْ لا يكون ذلك من مسائل الاحتياط ويظهر أنَّ عمله به للاحتياط، فإنه حينئذ ليس تعديلًا. وقال إلْكِيَا: إنْ كان من باب الاحتياط أو لم يكن من المحظورات التي يخرج المتحلي بها عن سمة العدالة، لم يكن تعديلاً. قال: ومن فروع هذه قبول المرسل. وفي المسألة مذهب آخَر لبعض المتأخرين، وهو التفصيل بين: - أنْ يعمل بذلك في الترغيب والترهيب، فلا يُقبل؛ لأنه يُتسامَح فيه بالضعف. - أو غيرهما، فيكون تعديلًا. وهو حَسَن. الثانية: عملُ الحاكم بشهادته تعديلٌ له كما قاله القاضي والإمام، بل قال القاضي: إنه أقوى من التعديل باللفظ وبقيَّة الطُّرق. والشرط كما بيَّنَّا أن لا يكون الحاكم ممن يرى قبول الفاسق الذي لا يكذب، بل يَشترط فيه العدالة كما قيَّد بذلك الآمدي وإنْ أَطلق الإمام الرازي وأتباعُه المسألة. لكن قال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد: هذا قوي إذا منعنا حُكم الحاكم بعلمه، وإلا فيُحتمل أنه إنما قضَى بعلمه لا بالشهادة؛ فلا يكون تعديلًا إلاَّ إن تَيقَّنا أنه إنما حكم بشهادته دُون علمه. وبذلك صرح العبدري في "شرح المستصفى".

الأمر الثاني: أنْ يروى عنه مَن عادته أنْ لا يروي إلا عن عدلٍ، كيحيى بن سعيد القطان وشعبة ومالك ونحوهم. قال البيهقي: وقد تقع رواية بعضهم عن بعض الضعفاء؛ لخفاء حالِه، كرواية مالك عن عبد الكريم بن أبي المخارق. فيكون تعديلًا له -على المختار عند إمام الحرمين وابن القشيري والغزالي والآمدي وابن الحاجب والهندي والباجي وغيرهم- بشهادة ظاهر الحال، وإليه ذهب البخاري ومسلم في صحيحيهما، وقال المازري: إنه قول الحذاق. وهذا على قول مَن لا يَشترط بيان سبب التعديل، أمَّا مَن يشترط فلا يكون مجرد الرواية عنه تعديلًا ولو كان مِن عادته أن لا يَروي إلا عن عَدْل؛ لأنهم قد يروون عمن لو سُئلوا عنه لجرَّحوه، ووقع ذلك كثيرًا (¬1). قلتُ: هذا ينافي كَوْن مِن عادته أنْ لا يَروي إلاَّ عن عدل، فإنَّ الظاهر أنه لو سُئل عَمن يروي عنه لَعَدَّلَه ولم يجرحه. ويُعرَف كونه لا يَروي إلا عن عَدْل إما بتصريحه وهو الغاية، أو باعتبارنا لحاله واستقرائنا لمن يروي عنه، وهو دُون الأول. قاله ابن دقيق العيد، قال: (وهل يكتفَى بذلك في قبول روايته عمن لا [نعرفه] (¬2)؟ فيه وقفة لبعض أصحاب الحديث من المعاصرين، وفيه تشديد). انتهى ¬

_ (¬1) هذه الفقرة جاءت هكذا في جميع النُّسخ، ويظهر لي وجود خَلَل فيها، وعبارة الزركشي في (البحر المحيط، 3/ 348): (قَالَ الْمَازِرِيُّ: هُوَ قَوْلُ الْحُذَّاقِ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِنَا: لَا حَاجَةَ لِبَيَانِ سَبَبِ التَّعْدِيلِ. فَإِنْ رَوَى عَنْهُ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ الرِّوَايَةَ عَن الْعَدْلِ فَلَيْسَ بِتَعْدِيلٍ؛ لِأَنَّا رَأَيْنَاهُمْ يَرْوُونَ عَنْ أَقْوَامٍ، وَيَجْرَحُونَهُمْ لَوْ سُئِلُوا عَنْهُمْ). (¬2) كذا في (ز). وفي (ظ): تعرفه. وفي (ص، ش): يعرفه.

ووراء التفصيل في أصل المسألة قولان: - المنع مطلقاً، وبه جزم الماوردي والروياني وابن القطان، وهو محكي عن أكثر أهل الحديث، وفي "التقريب" للقاضيْ إنه قول الجمهور، وإنه الصحيح. - وكونه تعديلًا مطلقًا وإلا لَكان غِشًّا. حكاه الخطيب وغيره. ويخرج من تصرف البزار في "مسنده" قول آخَر: إنَّ رواية كثير من العدول عنه تعديلٌ، بخلاف القليل. وحيث قُلنا: (تعديل) فهو تفريع على جواز تعديل الراوي لمن روى عنه، وفيه في باب الأقضية من "الحاوي" حكاية وجهين في أنه هل يجوز للراوي تعديل مَن روى عنه؟ كالخلاف في تزكية شهود الفرع للأصل (¬1). قولي: (مَنْ يَشْرِطُ الْعَدْلَ) أي: العدالة، فهو مَصْدر؛ لكنه يستعمل في الوصف مجازًا. و"مُعْتَادَهْ" نَصْبٌ على الحال؛ لأنَّ إضافته غير محضة، والتقدير: معتادًا إياه. والله أعلم. ص: 311 - وَلَيْسَ تَرْكُ عَمَلٍ بِمَا شَهِدْ ... أَوْ مَا رَوَى جَرْحًا؛ فَذَا لِلْمُجْتَهِدْ الشرح: هذا عكس صورتَي الأمر الأول، وهُما: عمل العالم بروايته والقاضي بشهادته. فإذا لم يعملا بها فهل يكون ترك العمل جرحًا للراوي والشاهد؟ أوْ لا؟ الجمهور على المنع؛ لأنَّ العمل قد يتوقف على أمرٍ آخَر زائد على العدالة، فيحتمل أنْ ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (17/ 230).

يكون التَّرك إنما هو لعدم ذلك، لا لانتفاء العدالة. وقال القاضي: يكون جرحاً إذا تحقق ارتفاع الدوافع والموانع، وأنه لو كان ثابتاً لَلَزِم العمل به، أما إن لم يتبين قصده إلى مخالفة الخبر فلا يكون جرحاً. قلتُ: وفي الحقيقة لا يخالف الأول. وقولي: (فَذَا لِلْمُجْتَهِدْ) أي: راجعٌ إلى رأي المجتهد فيما زاد على أصل العدالة. والله أعلم. ص: 312 - أَمَّا الْمُرُوءَةُ فَتَرْكُ مَا لَا ... يَلِيقُ بِالْحَالِ إذَا يُبَالَى 313 - نَحْوُ صَغِيرةٍ خَسِيسَةٍ، وَمَا ... يُبَاحُ مِنْ رَذَائِلٍ، فَيَسْلَمَا 314 - كسِرْقَةٍ لِلُقْمَةٍ وَكَلَعِبْ ... بِنَحْوِ شِطْرَنْجَ دَوَامًا يَرْتَكِب الشرح: هذا هو الشرط الثاني فيما يُعتبر في الراوي حتى يجب العمل بروايته، ومِثله في الشهادة، وهو أن يكون ذا مروءة. وقد سبق أن المغايرة بينه وبين العدالة هو ما في كُتب أصحابنا الفقهية، وأن ذلك أجود من إدخاله في حد العدالة، وسبق الجواب عن نَص الشافعي الذي يُتوَهم منه خلاف ذلك، وتبعه عليه كثير. وعلى كل حالٍ المروءة معتبَرة في الراوي والشاهد؛ لأنَّ مَن لا مروءة له، لا يؤمَن أنْ يكذب؛ لأنه لا يَكترث بما يقع منه مما يُعاب عليه. قال الجوهري: (المروءة: الإنسانية. ولك أن تشدد، أيْ: تترك الهمزة وتشدد الواو. قال أبو زيد: "مَرُؤ الرجُل" صار ذا مروءة، فهو مَرِيٌ، على "فعيل"، وتَمرَّأ: إذا تَكَلَّف

المروءة) (¬1). انتهى أما معناها الاصطلاحي الذي نقصده هنا فهو: تَوَقِّي الإنسان ما لا يليق بحاله، ويختلف ذلك باختلاف الناس. وهو معنى قول الرافعي وغيره: إنها تَوَقِّي الأدناس؛ لأنَّ ما لا يليق به هو دنس بالنسبة إليه، فلا يلبس ما لا يليق بمثله كفقيه قباء أو قلنسوة لم تَجْرِ عادة الفقهاء بمثله، ومَد رِجله بين الناس، والأكل في السوق، وإكثار الحكايات المضحكة، والإكباب على لعب الشطرنج، ونحو ذلك. وهو معنى قولي: (إذَا يُبَالَى)، أي: إذا كان ذلك الذي يتركه يبالَى بفعله في العادة لمثله، أما ما لا يبالَى به كتعاطي حرفة دنيةٍ وهي تليق به فلا تضر، فيُقبَل، نحو: حجام وكناس ودباغ وقَيِّم حمام (على الأصح). قال الغزالي: (الوجهان في أصحاب الحرَف هُما فيمن تليق به وكان ذلك صنعة آبائه، فأما غيره فتسقط مروءته بها) (¬2). قال الرافعي: وهو حسن. وتفصيل ذلك مستوعبًا محله الفقه. ومما ذكر فيه أنَّ مَن اعتاد ترك السُّنن الراتبة وتسبيحات الركوع والسجود، رُدَّت شهادته؛ لتهاونه بالدِّين وإشعار ذلك بِقِلة مبالاته بالمهمات. وفي وجْه: لا ترد إلا إن كان الترك للوتر وركعتي الفجر، لِمَا جاء في فِعلها من التوكيد. قولي: (نَحْوُ صَغِيرة) إلى آخِره -إشارة إلى أنَّ ما يخرم المروءة لا فرق فيه بين أن يكون معصية صغيرة أو مباحًا، ومثلتُ للأول بسرقة اللقمة، وللثاني بمداومة الشطرنج كما سبق في الأمثلة. ¬

_ (¬1) الصحاح تاج اللغة (1/ 72). (¬2) الوسيط في المذهب (7/ 353).

وأشرتُ بقولي: (بِنَحْوِ شِطْرَنْجَ) إلى ما المدار فيه على الحساب والفطنة؛ ليخرج ما هو قمار ونحوه من المحرم كالنرد على الأصح. نعم، قسم المعصية هل يُخِل بالعدالة؟ أو لا؛ لكونه صغيرة ولا يُخل إلا الإصرار عليها؟ سبق ترجيح الأول والوعد بتقسيم الماوردي فيه وأن الختار خلافه. والذي قاله الماوردي: (المروءة على ثلاثة أضرب: ضربٌ شَرطٌ في العدالة. قال: وهو مجانبة ما سَخُف من الكلام المؤدِّي إلى الضحك، وترك ما قبح من الفعل الذي يلهو به أو يُستقبح، فمجانبة ذلك من المروءة المشترطة في العدالة، وارتكابها مفسق. وضرب لا يكون شرطًا فيها، وهو الإفضال بالمال، والمساعدة بالنفس والجاه. وضرب مختلف فيه، وهو على ضربين: عادات، وصنائع. فأما العادات: فهو أن يقتدي فيها بأهل الصيانة دُون أهل البذلة في مأكله وملبسه وتصرفه، فلا يتعرى من ثيابه في بلد يلبس فيه أهل الصيانة ثيابهم، ولا ينزع سراويله في بلد يلبس فيه أهلها السراويلات، ولا يأكل على قوارع الطُّرق، ولا يخرج عن العُرف في مضغه، ولا يغالي بكثرة أكله، ولا يباشر ابتياع مأكوله ومشروبه وحمله بنفسه في بلد يتحاماه أهل الصيانة. وفي اعتبار هذا الضرب من المروءة في شرط العدالة أربعة أَوْجُه: أحدها: أنه غير معتبَر فيها. والثاني: أنه معتبر فيها وإن لم يفسق. والثالث: إن كان قد نشأ عليها من صغره، لم يقدح في عدالته. وإنِ استحدثها في كبره، قدحت. والرابع: إنِ اختصت بالدِّين، قدحت، كالبول قائمًا وفي الماء الراكد، وكشف عورته إذا

خَلا، وأن يتحدث بمساوئ الناس. وإنِ اختصت بالدنيا، لم يقدح، كالأكل في الطريق، وكشف الرأس بين الناس) (¬1). انتهى ملخصًا. فائدة: قال ابن الرفعة في "المطلب" في "كتاب الشهادات": سمعتُ من قاضي القضاة تقي الدين ابن رَزِين أنَّ بعض مَن لَقيه بالشام من المشايخ كان يقول: في تحريم تعاطي المباحات التي تُرَدُّ بها الشهادة ثلاثة أَوْجُه، ثالثها: إنْ تعلقت به شهادة، حرمت، وإلا فلا. لكن في "النهاية" و"البسيط" الجزم بعدم التحريم مع رد الشهادة. والله أعلم. ص: 315 - وَالضَّبْطُ أَنْ يَكُونَ لَا مُغَفَّلَا ... وَهْوَ الَّذِي نِسْيَانُهُ قَدْ جَزُلَا 316 - وَأَنْ يَكُونَ حَافِظًا مَرْوِيِّهُ ... إنْ كانَ قَدْ حَدَّثَ مِنْ حِفْظٍ لَهُ 317 - أَوْ مِنْ كتَابِهِ رَوَى فَضَابِطَا ... لَهُ أَوِ الْمَعْنَى رَوَى، لَا سَاقِطَا 318 - فَعَالِمًا بِمَا يُحِيلُ الْمَعْنَى ... فَذَا يَجُوزُ مُطْلَقًا إذْ يُعْنَى الشرح: هذا هو الشرط الثالث فيما يُعتبر في الراوي، ومثله الشاهد أيضًا، وهو أن يكون ضابطًا. فمَن ليس بضابط لكونه مغفلًا [أو] (¬2) كثير النسيان والغلط، لا تُعتبر روايته ولا شهادته. و"المغفل" هو الذي لا يحفظ ولا يضبط. قال الرافعي: (إلا أن يشهد مفسرًا ويبين وقت التحمل ومكانه، فإنه تزول الريبة عن ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (17/ 150 - 152). (¬2) ليس في (ص، ض، ش).

شهادته، وتُقبل) (¬1). انتهى والرواية كذلك. وأما مَن لم يكثر نسيانه وغلطه بل كان يسيرًا فلا يقدح في شهادته ولا روايته؛ لأنَّ ذلك لا يَسلم منه أحد. وجعل ابن الصلاح وغيره من الضبط أنه إنْ حدَّث مِن حفظه فيكون حافظًا مَرْوِّيه، أو حَدَّث من كتابه فيكون حاويًا له، حافِظَهُ من التبديل والتغيير، هذا إذا كان يروي باللفظ. أمَّا إذا كان يروي بالمعنى فشرطه أن يكون عالمًا بما يحيل المعنى، وإلَّا فقد يَظن أنه معناه وهو ليس كذلك. وقد نَص الشافعي رحمه الله في "الرسالة" على ذلك كله، فقال: (لا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورًا، منها: أنْ يكون مَن حَدَّث به ثقة في دِينه معروفًا بالصدق في حديثه، عاقلًا لِمَا يُحَدِّث به، عالِمًا بما يُحِيل معاني الحديث من اللفظ. أو يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمعه، لا يُحدث به على المعنى؛ لأنه إذا حدَّث به على المعنى -وهو غير عالم بما يُحيل معناه- لم يَدْرِ لَعلَّه يحيل الحلال إلى الحرام أو الحرام إلى الحلال. وإذا أدَّاه بحروفه، فلم يَبْقَ فيه وَجْه يخالف فيه إحالته الحديث. حافظًا إن حدَّث مِن حِفظه، حافظًا لكتابه إنْ حدَّث مِن كتابه. إذا شَرِكَ أهل الحفظ في الحديث، وافق حديثهم. [بَرِئَ] (¬2) مِن أن يكون: مدلِّسًا يُحدِّث عمن لَقِي ما لم يَسمع منه، ويُحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) العزيز شرح الوجيز (13/ 32). (¬2) كذا في (ز). وفي سائر النُّسخ: بريًّا.

بما يحدث الثقات خلافه. ويكون هكذا مَن فوقه ممن حدَّثه حتى ينتهي بالحديث موصولًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إلى مَن انتهى به إليه دُونه؛ لأنَّ كل واحدٍ مُثْبتٌ مَن حدَّثه و [مُثبتٌ] (¬1) على مَن حَدَّث عنه، فلا يُستغنَى في كل واحد منهم عما وصفتُ) (¬2). انتهى نَصُّه. وهو يشتمل على فوائد كثيرة، منها ما سبق، ومنها ما سيأتي وننبه على معنى كلامه فيه في موضعه. قولي: (نِسْيَانُهُ قَدْ جَزُلَا) أيْ: كثر. وقولي: (أَوْ مِنْ كِتَابِهِ رَوَى فَضابِطَا) أي: فيكون ضابطًا، دل عليه ما سبق في قولي: (وَأَنْ يَكُونَ حَافِظًا مَرْوِّيهُ) وقولي: (أَوِ الْمَعْنَى رَوَى، لَا سَاقِطَا) أي: أو يكون روى المعنى ولم يرو اللفظ حال كوْن ذلك المعنى بتمامه موجودًا لا ساقطاً بأن سقط منه شيء. وقولي: (فَذَا يَجُوزُ مُطْلَقًا إذْ يُعْنَى) استطراد لمسألة الرواية بالمعنى هل هي جائزة؟ أو لا؟ وتمامه قولي بعده: ص: 319 - وَإنْ يَكُنْ لَمْ يَنْسَ أَوْ بِغَير ... مُرَادِفٍ؛ بِالْأَمْنِ مِنْ تَغْيِر الشرح: والحاصل أنَّ في المسألة مذاهب: جواز الرواية بالمعنى مطلقًا، وهو قول الأئمة الأربعة سوى ما نذكره من النقل عن مالك، فالنقل عنه مضطرب، وبالجواز أيضًا قال الحسن البصري وأكثر السلف وجمهور ¬

_ (¬1) كذا في (ق، ش) و"الرسالة، ص 372" بتحقيق: أحمد شاكر. وفي سائر النُّسخ: يثبت. (¬2) الرسالة (ص 370).

الفقهاء والمتكلمين، لكن بشروط: أحدها: أن يكون الراوي عارفًا بدلالات الألفاظ واختلاف مواقعها، وهو معنى قول الشافعي في "الرسالة" فيما سبق ذِكره: أن يكون عالِمًا بما يُحيل المعنى. وفي "مختصر المزني": قال الشافعي: (الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدقة الغنم معنى ما أذكره إن شاء الله تعالى) (¬1). ثم سرده. قال الأصحاب: كان الشافعي لم يحضره حينئذ اللفظ فذكره بمعناه؛ لأنه عارف بما يُحيل المعنى وهو يُجَوِّزه للعارف؛ ليكون مساويًا للأصل بلا زيادة ولا نقص، فغَيْر العارف قد يخالِف وإن لم يقصد، فيمتنع روايته بالمعنى بالإجماع كما في "تقريب" القاضي. ثانيها: أن لا يكون مُتَعَبَّدًا بلفظه، كالقرآن قطعًا وإنْ نقل عن أبي حنيفة في ترجمة الفاتحة بغير العربية ما سنذكره في فوائد الخلاف، وكالتشهد، فلا يجوز نقل ألفاظه بالمعنى اتفاقًا كما نقله إلْكِيا والغزالي، وأشار إليه ابن برهان وابن فورك وغيرهما. ثالثها: أن لا يكون من باب المتشابه؛ ليقع الإيمان بلفظه من غير تأويل أو بتأويل على المذهبين المشهورين، فروايته بالمعنى تؤدي إلى الخلل على الرأيين. رابعها: أن لا يكون من جوامع الكلم. كقوله عليه الصلاة والسلام: "الخراج بالضمان" (¬2)، و"البينة على المدَّعِي" (¬3)، و"العجماء ¬

_ (¬1) مختصر المزني (ص 41). (¬2) سنن أبي داود (رقم: 3508)، سنن الترمذي (رقم: 1285)، سنن ابن ماجه (رقم: 2243). قال الألباني: حسن. (صحيح سنن أبي داود: 3508). (¬3) سنن الترمذي (رقم: 1341)، السنن الكبرى للبيهقي (16222). قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن الترمذي: 1341).

جبار" (¬1)، و"لا ضرر ولا ضرار" (¬2)، و"لا ينتطح فيها عنزان" (¬3)، و"حمى الوطيس" (¬4)، وغير ذلك مما لا ينحصر. ونقل بعض الحنفية فيه خلافًا عن بعض مشايخهم. خامسها: أن لا يكون من مصنفات الناس. فإنْ كان منها، فلا يجوز قطعًا. قال ابن الصلاح: (وهذا الخلاف لا نراه جاريًا ولا أجراه الناس فيما نَعْلم فيما تضمنته بطُون الكتب، فليس لأحد أن يُغَير لفظ شيء من كتاب مصنف ويثبت فيه بدله لفظًا آخَر بمعناه، فإنَّ الرواية بالمعنى رَخَّص فيها مَن رَخَّص لِمَا كان عليهم في ضبط الألفاظ والجمود عليها من الحَرَج والنصب، وذلك غير موجود فيما اشتملت عليه بطُون الأوراق والكتب، ولأنه إنْ ملك تغيير اللفظ فليس يملك تغيير تصنيف غَيْره) (¬5). انتهى وقد تعقب عليه ابن دقيق العيد في ذلك بأنه ضعيف، قال: (وأقَل ما فيه أنه يقتضي تجويز هذا فيما ينقل من المصنفات في أجزائنا وتخاريجنا، فمنه ليس فيه تغيير المصَنَّف). قال: (وليس هذا جاريًا على الاصطلاح، فإنَّ الاصطلاح على أن لا تُغير الألفاظ بعد الانتهاء إلى الكتب المصنفة، سواء رويناها فيها أو نقلناها منها). انتهى قال بعض شيوخنا: ولقائل أن يقول: لا نُسَلم أنه يقتضي جواز التغيير فيما نقلناه إلى ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 1428)، صحيح مسلم (رقم: 1710) واللفظ للبخاري. (¬2) مسند أحمد (2867)، سنن ابن ماجه (رقم: 2340)، مستدرك الحاكم (2345) وغيرها. قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن ابن ماجه: 1909). (¬3) مسند الشهاب (رقم: 857). قال الألباني: موضوع. (السلسلة الضعيفة: 6013). (¬4) صحيح مسلم (رقم: 1775). (¬5) مقدمة ابن الصلاح (ص 214).

تخاريجنا، بل لا يجوز نقله عن ذلك الكتاب إلَّا بلفظه دُون معناه، سواء في مصنفاتنا وغيرها. قلتُ: وإنما لم أتعرض في النَّظم لهذه الشروط لأنَّ غير العارف لا يتحقق-[لا] (¬1) هو ولا غَيْره -أنه وافق المعنى، وأما المتعَبَّد بلفظه فاللفظ فيه مقصود، والإخلال به إخلال بالمعنى الذي قصد به؛ فلا يوافِق. ومثله يُقال في الوارِد من جوامع الكلم؛ لِبُعْد أنْ يُؤْتَى بنظيره من كل وجه. ونحوه الكتب المصَنَّفة، فإنَّ المقصود فيها ما اختير فيها مِن الألفاظ، حتى أنَّ مُصَنِّفها كالمدَّعِي أنه لا شيء يؤدي معناها الذي قَصَدَه، فلا تخلو كلها من نظر، فاستغنى عن الشروط بموافقة المعنى. تنبيه: مما استُدل به على جواز الرواية بالمعنى ما رُوي من تصريح غير واحد من الصحابة به، ويدل عليه روايتهم للحديث الواحد في الواقعة الواحدة بألفاظ مختلفة، وما رواه ابن منده في "معرفة الصحابة" من حديث عبد الله بن سليمان بن أُكيمة الليثي عن أبيه، قال: "قلتُ: يا رسول الله، إني أسمع منك الحديث لا أستطيع أن أؤديه كما أسمع منك، فيزيد حرفًا أو ينقص حرفًا. فقال: إذا لم تحلوا حرامًا ولم تحرموا حلالًا وأصبتم المعنى، فلا بأس". فذكر ذلك للحَسَن، فقال: لولا هذا ما حدثنا (¬2). وأخرجه الطبراني في أكبر معاجمه من حديث يعقوب بن عبد الله بن سليمان بن أُكيمة ¬

_ (¬1) من (ت، ز، ق)، وليست في (ص). (¬2) معرفة الصحابة لابن منده (2/ 724)، ط: جامعة الإمارات المتحدة، تحقيق: د. عامر صبري - ط: الأولى - 2005 م. وقال ابن منده: (سليمان بن أُكيمة الليثي مجهول). وقال الجورقاني (المتوفى 543 هـ) في كتابه (الأباطيل والمناكير، ): (هذا حديث باطل، وفي إسناده اضطراب).

عن أبيه عن جده (¬1). ومما استدل به بعض المتأخرين ما في الصحيحين وغيرهما من حديث سؤاله يوم النحر في حجة الوداع عمن حلق قبل أنْ يذبح، فقال له: "اذبح ولا حرج". وقال آخَر إنه نحر قَبْل أن يرمي، فقال: "ارْم ولا حرج". ثم قال الراوي وهو ابن [عمر] (¬2): فما سُئل يومئذٍ عن شيءٍ قُدِّم ولا أُخِّر إلَّا قال: افعل ولا حرج (¬3). فإنَّ صَدْر الحديث يدل على أنه لم يَقُل: "افْعَل"، بل قال: "اذبح" و"ارْم " وغير ذلك، فعبَّر عن الكل بِـ "افْعَل" الذي هو بمعناه. قال المحدِّثون: ينبغي للراوي بالمعنى أن يقول عقبه: "أو كما قال" أو "نحوه" أو شبهه من الألفاظ الدالة على أنه ليس لفظ الأصل على التحقيق، بل هو أو معناه. رُوي ذلك عن جماعة من الصحابة، منهم ابن مسعود - رضي الله عنه -. المذهب الثاني في أصل المسألة: المنع مطلقًا. نقله إمام الحرمين وابن القشيري عن معظم المحدثين وبعض الأصوليين، ونُقل عن أبي بكر الرازي من الحنفية، ونقله القاضي عبد الوهاب عن الظاهرية، وحكاه ابن السمعاني عن ابن عمر وجمعٍ من التابعين منهم ابن سيرين، وبه أجاب الأستاذ أبو إسحاق، ووَهمَ صاحب "التحصيل" فعزاه للشافعي، ونقله القاضي عن كثير من السلف وأهل التحري في الحديث، وقال: إنه مذهب مالك. ¬

_ (¬1) المعجم الكبير (رقم: 6491). (¬2) كذا في جميع النُّسخ، والصواب أنَّ الراوي ابن عمرو بن العاص. (¬3) صحيح البخاري (رقم: 1649)، صحيح مسلم (رقم: 1306) ولكن الراوي: عبد الله بن عمرو بن العاص.

لكن ابن الحاجب قال: (وعن مالك أنه كان يشدد في الباء والتاء. أي: مثل "بالله" و"تالله"، قال: وحمل على المبالغة في الأَوْلَى) (¬1). وقال غير ابن الحاجب: إنه ذهاب منه إلى منع نقل الحديث بالمعنى، وأنه كان يقول: لا يُنقل حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمعنى، بخلاف حديث الناس. فهذا مذهب ثالث بالتفصيل، ونقل الماوردي ذلك عن مالك. لكن قال الباجي: (لعَلَّه أراد به مَن لا عِلم له بمعنى الحديث، وقد نجد الحديث عنه تختلف ألفاظه اختلافًا بَيِّنًا؛ فَدَلَّ على أنه مُجَوِّزٌ للرواية بالمعنى) (¬2). المذهب الرابع: التفصيل بمن ما يوجِب العِلم من ألفاظ الحديث، فالمعوَّل فيه على المعنى، ولا يجب مراعاة اللفظ. وأما الذي يجب العمل به فمنه ما لا يجوز الإخلال بلفظه، كقوله عليه الصلاة والسلام: "تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم" (¬3)، و: "خمس يُقتلن في الحل والحرم" (¬4). حكاه ابن السمعاني وجهًا لبعض أصحابنا. الخامس: التفصيل بمن أن يُقطع بأنه مَعناه أو يُظن. فإنْ قطع بأنه معناه، جاز. أو ظن، لم يَجُز. قاله إمام الحرمين. السادس: يجوز إن نَسي اللفظ؛ لأنه قد تحمَّل اللفظ والمعنى وعجز عن أحدهما، فيلزمه ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى (1/ 616)، الناشر: دار ابن حرم. (¬2) إحكام الفصول في أحكام الأصول (1/ 390)، نشر: دار الغرب الإسلامي، ت: د. عبد المجيد. (¬3) سنن أبي داود (رقم: 61)، سنن الترمذي (3)، وغيرهما. قال الألباني: حسن صحيح. (صحيح سنن أبي داود: 61). (¬4) صحيح البخاري (رقم: 3136)، صحيح مسلم (رقم: 1198) واللفظ لمسلم.

أداء الآخَر، لاسيما أنَّ تركه قد يكون كتمًا للأحكام. فإنْ كان يحفظ اللفظ، لم يَجُز أن يؤديه بغيره؛ لأنَّ في كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفصاحة ما لا يوجد في غيره. وبهذا قال الماوردي في "الحاوي"، لكن جعل محل الخلاف في الصحابة، أمَّا غير الصحابي فلا يجوز له قطعًا. فيكون ذلك مذهباً سابعاً. الثامن: يحوز إبدال اللفظ بالمرادف دُون غيره، وعلى ذلك جرى الخطيب البغدادي. وإلى السادس والثامن أشَرتُ بقولي في النَّظم: (وَإنْ يَكُنْ لَمْ يَنْسَ) إلى آخِره. التاسع: أن يُورَد على وجه الاحتجاج والفتيَا، فيجوز، أو التبليغ، فلا يجوز؛ لظاهر حديث البراء: "وآمنتُ برسولك الذي أرسلت" (¬1). قاله ابن حرم في كتاب "الإحكام". العاشر: التفصيل بين الأحاديث الطوال فيجوز دُون القصار. حُكِي عن القاضي عبد الوهاب. ويخرج من كلام الناس مذاهب أخرى غير ذلك فيها نظر؛ فلذلك أضربتُ عن حكايتها؛ خشية الطول. وقولي: (بِالْأَمْنِ مِنْ تَغْييِر) تعليل للقول الراجح، أي: يجوز إذا ساوى المعنى جلاءً وخفاءً؛ بسبب الأمن من تغييره وإنْ كان لم يَنْس أو كان اللفظ غيْر مرادف. تذنيب: يظهر لهذه المسألة فوائد، وربما جُعلت ثمرة الخلاف في مسألة إقامة أحد المترادفين مقام الآخر أيضًا، والأحسن الأول؛ لأنه أَعَم. نعم، منهم مَن يجعل الرواية بالمعنى من فروع تلك، وليس بجيد؛ لأنَّ اتحاد المعنى قد لا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 5952)، صحيح مسلم (رقم: 2710).

يكون مع الترادف؛ لِكَوْن اللفظ: - مُركبًا، والمترادف من قِسم المفرد، ولذلك جاء ها هنا مذهب بالفرق بين المترادف وغيره كما سبق. - أو أعجميًّا، والمترادف من أقسام لغة العرب وإن أمكن أن يكون في غيرها. وسيأتي لذلك مزيد بيان في موضعه. وعلى كل حالٍ فهذه الفوائد قسمان: أحدهما: الترجمة عن الألفاظ العربية بغيرها، وله أضرب: أحدها: ما يمتنع قطعًا، كترجمة القرآن بِلُغة أخرى، وهو إجماع. وما يُحكَى عن أبي حنيفة من تجويزه قراءة القرآن بالفارسية صَحَّ أنه رجع عنه. حكاه عبد العزيز في "شرح البزدوي" (¬1)، وعلى تقدير أنه لم يَرجع تأوَّلَه بعض أصحابه بأنه أراد عند الضرورة والعجز عن القرآن. نعم، قال القفال في "فتاويه": عندي أنه لا يَقْدِر أحد أن يأتي بالقرآن بالفارسية. قيل له: فإذَنْ لا يَقدر أحد أن يُفَسرَ القرآن. قال: ليس كذلك؛ لأنَّ هناك يجوز أن يأتي ببعض مراد الله ويعجز عن البعض، أمَّا قراءته بالفارسية فلا يمكن أن يأتي بجميع مراد الله تعالى. وقال غيره: الفرق بين معنى "الترجمة" ومعنى "التفسير" أن "الترجمة" بدل اللفظ بلفظ يقوم مقامه في مفهوم المعنى للسامع المعتبر لتلك الألفاظ؛ فلذلك امتنع. و"التفسير" عبارة عمَّا في النفس من المعنى للحاجة والضرورة، فهو تعريف السامع بما فَهم المترجِم؛ فلا يمتنع، وهو فَرْقٌ حَسَن. ¬

_ (¬1) كشف الأسرار (1/ 40)، ط: دار الكتب العلمية - بيروت.

وممن وافق القفال على إحالة ترجمة القرآن ابنُ فارس في "فقه العربية"، وأوضح الدلالة على ذلك (¬1). ومثل ترجمة القرآن ترجمة الدعاء غير المأثور إذا اخترعه وأتى به في الصلاة بالعجمية، فيمتنع قطعًا كما قاله إمام الحرمين. الثاني: ما يجوز [قطعًا] (¬2) للقادر والعاجز، كالبيع والخلع والطلاق ونحوها، ويكون صريحًا في [الأصح] (¬3). والثالث: ما يمتنع -على الأصح- للقادر دون العاجز، كالأذان وتكبيرة الإحرام والتشهد؛ لِمَا فيه من معنى التعبد، وكذا مأثور الدعاء والذكر في الصلاة والسلام وخطبة الجمعة. الرابع: ما يجوز -على الأصح- للقادر والعاجز (كالنكاح والرجعة واللعان، وكذا الإسلام)، وما يجوز للعاجز دُون القادر (كتكبيرة الإحرام). القسم الثاني: التعبير باللفظ العربي بمعناه من العربي، وهو أيضا أربعة أضرب: - ما يمتنع قطعًا: كاللفظ المتعبَّد به، وكقول القاضي: قُل: "بالله"، فيقول: "بالرحمن"، فإنه لا يقع الموقع، حتى لو صَمم جُعل ناكلًا. فلو أَبدَل الحرف فقال: قُل: "بالله"، فقال: "والله " أو "تالله"، ففي الحكم بِنكوله وجهان، ولو أُكرِه على الطلاق بِ "طلقتُ"، فقال: ¬

_ (¬1) الصاحبي في فقه اللغة العربية (ص 33)، ط: دار الكتب العلمية، تحقيق: أحمد حسن. (¬2) في (ز): مطلقا. (¬3) في (ز، ض): الأول.

"سرحتُ"، وقع الطلاق. - وما يجوز قطعًا. - وما يمتنع على الأصح، كقوله في التشهد ونحوه: "أَعلم" موضع "أَشهد". - وما يجوز في الأصح، كـ "طَلِّقْني على ألْف"، فقال: "خالعتُك". والمخالِف ابن خيران. قال ابن الرفعة: وللمسألة شبه بما لو قال لها: "طلقي نفسك"، فقالت: "اخترتُ"، ونَوَتْ. ومن هذا القسم في الأصل أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" (¬1) مقتضاه تَعيُّن هذا اللفظ، لكن في "المنهاج" للحليمي أنه يقوم مقامه ألفاظ أخرى نقلها عنه الرافعي آخر كتاب الرِّدَّة وأقَرَّها وإنْ كان في بعضها نظر. وفي "التحقيق" و"الأذكار" وغيرهما أنه لو قال في التشهد: "اللهم صَلِّ على أحمد"، لم يَكْفِ، بخلاف "النبي" و"الرسول". ومُقْتَضَى كلامهم أنه لو عَبَّر في التشهد أيضًا بِ "الرسول" عوضًا عن "النبي" المذكور في أوائله وبـ "النبي" عوضًا عن "الرسول" المذكور في آخِره، لم يَكْفِ. والفروع في ذلك كثيرة، وإنمَّا هذا أنموذج [تُستحضَر] (¬2) به القواعد، و [تتمهَّد] (¬3) به، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 385)، صحيح مسلم (رقم: 20). (¬2) كذا في (ت). لكن في سائر النُّسخ: يستحضر. (¬3) في (ش): يتمهد.

ص: 320 - وَيُقْبَلُ الَّذِي لَهُ تَسَاهُلُ ... لَا في الْحَدِيثِ، وَكَذَا الْمُوَاصِلُ 321 - بِكَثْرَةِ الْحَدِيثِ إنْ أَمْكَنَ أَنْ ... يُحَصِّلَ الْمَرْوِيَّ في ذَاكَ الزَّمَنْ الشرح: لما ذكرتُ الشرط الثالث في الراوي وهو كونه ضابطًا واستطردتُ إلى مسألة الرواية بالمعنى، رجعتُ إلى ما يتعلق بالشرط المذكور، وهو كون التساهل هل هو مَظنة عدم الضبط؟ أو لا؟ والإكثار من الحديث هل هو مظنة التساهل؟ أو لا؟ فهاتان مسألتان: الأولى: المتساهل إنْ كان تساهله في الحديث سماعًا وإسماعًا (كمَن لا يبالي بالنوم في السماع أو يُحدِّث لا مِن أصلٍ مصحح أو نحو ذلك)، فلا تعتبر روايته بلا خِلاف كما قاله في "المحصول" (¬1) وغيره. نعم، إذا كان نعاسه يسيرًا بحيث لا يختل معه الكلام، لا يضر. ومما يُعَدُّ من التساهل في الحديث تساهلًا مُضِرًّا مَن عُرِف بالتأويل لأجل مذهبه، فربما أحال المعنى بتأويله، وربما يزيد في موضع زيادة يُصحح بها مذهبه أو ينقص، أو يُغيِّر؛ لذلك فلا يوثق بخبره. قاله ابن السمعاني (¬2). ومن المتساهلين أيضًا: مَن عُرِفَ بقبول التلقين في الحديث، فيروي ولا يَذكر أنه لُقِّنَ ما ¬

_ (¬1) المحصول (4/ 425). (¬2) قواطع الأدلة (1/ 346).

لم يسمعه من الشيخ. ومنه المكثر مِن الشواذ والمناكير في حديثه، ومن عُرِفَ بكثرة السهو في رواياته إذا لم يُحدِّث مِن أصل صحيح، فكل هذا يَخرِم الثقة بضبطه. وإن كان تساهله في غير الحديث ويحتاط في الحديث، قُبِلَت روايته على الأصح. وقيل: يُرَدُّ المتساهل مطلقًا. ونَصَّ عليه أحمد، وأنكر على من قبل روايته إنكارًا شديدًا، وهو ظاهر كلام ابن السمعاني وغيره. المسألة الثانية: وإليها أشرتُ بقولي: (وَكَذَا الْمُوَاصِلُ بِكَثْرَةِ الْحَدِيثِ). فإذا أكثر مع قِلة مخالطته لأهل الحديث، فإنْ أَمْكَن تحصيل ذلك القَدْر من الأخبار في ذلك القدر من الزمان، قُبِلَ إخباره، وإلَّا فلا. أما المُقِل من سماع الحديث ورواياته الذي لم يشتهر بمجالسة المحدثين ومخالطتهم فمقبول. وكذا مَن لم يَرْوِ إلا يسيراً كحديث واحد كما قال في "المحصول"، فإنه مقبول أيضًا، فقد قَبِلَت الصحابة حديث أعرابي لم يرو غير حديث، والله أعلم. ص: 322 - وَاقْبَلْ مُدَلِّسًا إذَا يُسَمِّى ... بِغَير مَشْهُورٍ، كَذَاكَ بِاسم 323 - لِغَيرهِ [مُشَبِّهًا] (¬1) بِذَاكَا ... أَوْ مُوهِمًا رِحْلَة أوْ إدْرَاكا الشرح: لَمَّا كان التدليس له شبه بالتساهل، نالسَب أنْ أذكره عقبه. وهو لُغةً: كتمان العَيْب في مبيع أو غيره، ويقال: "دالَسَه": خادَعَه، كأنه من "الدلس" ¬

_ (¬1) في (ن 3، ن 4): مشتبها.

وهو الظُّلمة؛ لأنه إذا غَطَّى عليه الأمر، [أَظْلَمَه] (¬1) عليه. وأما في الاصطلاح فهو قسمان: قِسم مُضر يمنع القبول، وقسم لا يضر. فالثاني -وهو ما بدأتُ به في النَّظم- له صُوَر: إحداها: أن يُسمِّي شيخَه في روايته بِاسْم له غيْر مشهور، ومرادي بالاسم ما يُقْصد تعريفه به مِن اسمٍ وكنية ولقب ونسبٍ ووصفٍ. كقول أبي بكر بن مجاهد المقرئ الإمام: (حدثنا عبد الله بن أبي [عبد الله]) (¬2). يُريد به عبد الله بن أبي داود السجستاني. وقوله أيضاً: (حدثنا محمد بن سند). يريد النقاش المفسر، نَسَبَه إلى جدٍّ له. وكقول الخطيب الحافظ: (حدثنا أحمد بن أبي جعفر القطيعي)، ومرةً: (الروياني)، وهُوَ هُوَ. وكقوله: (حدثنا علي بن أبي علي المعدل)، ومرةً: (البصري)، وهُو هو، ونحو ذلك. وُيسمَّى هذا "تدليس الشيوخ"، ذكره ابن الصلاح (¬3) بعد مَا ذَكر ما يُسمَّى "تدليس الإسناد"، وهو أن يروي عمن لقيه أو عاصَره ما لم يسمعه منه مُوهِمًا سماعه منه قائلًا: "قال فلان" أو "عن فلان" ونحوه، وربما لم يسقط شيخَه وأسقطه غيره. ومَثَّله غيره بما في "الترمذي" عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن عائشة مرفوعًا: "لا نَذْر في معصية، وكفارتُه كفارة يمين" (¬4). ثم قال: هذا حديث لا يصح؛ لأنَّ الزهري لم يسمعه ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ق). لكن في سائر النُّسخ: أظلم. (¬2) في (ز): أَوفى. (¬3) مقدمة ابن الصلاح (ص 74). (¬4) سنن أبي داود (رقم: 3292)، سنن الترمذي (رقم: 1524). قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن أبي داود: 3290).

من أبي سلمة. ثم ذكر أن بينهما سليمان بن أرقم عن يحيى بن أبي كثير، وأن هذا وَجْه الحديث. وممن ذكر هذا القسم أيضاً الماوردي والروياني، قال ابن الصلاح: إنَّ هذا القسم مكروه جدًّا، ذَمَّه أكثر العلماء، وكان شُعبة مِن أشدهم ذَمّاً له، قال مرةً: "التدليس أخو الكذب"، ومرة: "لأنْ أزني أحبُّ إلَيَّ مِن أنْ أُدَلِّس"، وهذا منه إفراط محمول على المبالغة في الزجر عنه. والصحيح فيه التفصيل بين ما رواه بلفظ محُتمل لم يُبيِّن فيه السماع والاتصال فكالمرسل، وما بين كـ "سمعت" و"حدثنا" و"أخبرنا" فمقبول محتج به، وهو واقع مِن كثير مِن الرواة في الصحيحين وغيرهما كقتادة والأعمش والسُفيانين وهُشَيم بن بشير وغيرهم؟ وذلك لأنه ضربٌ من الإيهام، لا كذب. وطرد الشافعي ذلك فيمن دَلَّس مَرَّة، وكذا قال إلْكِيا الطبري: مَن قَبِل المراسيل، لم يَرَ للتدليس أثرًا إلَّا أنْ يُدلّس -لضعفٍ- عمن سمع منه، فلا يُعمَل به إلَّا أن يقول: "حدثني" أو "أخبرني" أو "سمعتُ". وحُكي عن الشافعي أيضا نحو ذلك. وذهب فريقٌ من أهل الحديث والفقهاء إلى الجرح بهذا التدليس مطلقاً ولو بَيَّنَ سماعَه، وإنما لم أذكر هذا القسم في النَّظم لِمَا عُلِمَ مِن كَوْنه قادحًا عند عدم التصريح بالسماع، فيخرج بالمفهوم؛ لأنه خارج عما ذكرنا قبول التدليس فيه، وأما عند التصريح فيخرج عن كونه تدليساً. وأما القسم الذي بَدأتُ به وسبق شرحه فقال ابن الصلاح: (إنَّ أَمْرَه أخَف، وفيه تضييع للمروي عنه، وتوعيرٌ لطريق معرفته على مَن يطلب الوقوف على حاله وأهليته، ويختلف الحال في كراهته بحسب الغَرض الحامل عليه، فقد يَحمِلُ عليه كَوْن الشيخ غير

ثقة أو متأخِّر الوفاة قد شاركه في السماع منه جماعة دُونه أو أصغر سنًّا من الراوي عنه، أو كونه كثير الرواية عنه فلا يحب الإكثار مِن ذِكْر شخص واحد على صورةٍ واحدةٍ). قال: (وتسمح بذلك جماعةٌ من الرواة المصنِّفين كالخطيب في تصانيفه) (¬1). انتهى وليس فيه تصريح بحكم الجرح به. وقد قال أبو الفتح ابن برهان: هو جرح إلَّا أن يكون مَن عدل عن اسمه مِن أهل الأهواء صوناً له عن القدح مع أنَّ بعض العلماء قبلهم. وقال غيره من الأصوليين: إنه غير قادح. قال ابن السمعاني: (هذا إذا كان لو سُئل عنه أخبر عنه بِاسْمه، كما كان ابن عُيينة يدلس، فإذا سُئل عمن حدَّثه بالخبر، نَصَّ على اسمه ولم يكتمه، أمَّا مَن لو سُئل عنه لم يُنبِّه عليه، فمردود ((¬2). وفَصَّل الآمدي بَين أن يكون تغيير الاسم لضعف المروي عنه فيكون جرحًا، أو لِصغر سِنه أو لكونه مختلَفًا في قبوله وهو يعتقد القبول، كمبتدع لم يُسَمه بِاسْمه المشهور حتى لا يَقدح فيه مَن لا يعتقد قبوله، أيْ: أو نحو ذلك، فلا يكون جرحاً. وما قاله حسن ظاهر؛ لئلا يؤدي إلى العمل بخبر غير الثقة، أما إذا لم يُعلَم تغييرُه لماذا؟ فمحتمل. الصورة الثانية: أن يُسمي شيخه باسْم شيخ آخَر لا يمكن أن يكون رواه عنه، كما يقول تلامذة الحافظ أبي عبد الله الذهبي: (حدثنا أبو عبد الله الحافظ) تَشبيهًا بقول البيهقي فيما يرويه عن شيخه أبي عبد الله الحاكم: (حدثنا أبو عبد الله الحافظ)، وهذا لا يقدح؛ لظهور ¬

_ (¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 76). (¬2) قواطع الأدلة (1/ 346).

المقصود. الصورة الثالثة: أن يأتي في التحديث بلفظ يُوهِم أمرًا لا قدح في إيهامه ذلك، كقوله: (حدثنا وراء النهر) موهِمًا أنه نهر جيحون وهو يريد به نَهر عيسى ببغداد أو الجيزة ونحوها بمصر، فلا حرج بذلك. قاله الآمدي (¬1)؛ لأنَّ ذلك من باب الإغراب، وإنْ كان فيه إيهام الرحلة إلا أنه صِدقٌ في نفسه، ونحوُه أنْ يقول: (حدثني فلان بِالعراق) يريد موضعًا بِإخْمِيم (¬2)، أو: (بِزَبِيد) (¬3) يريد موضعًا بِقُوص (¬4)، أو: (بِحلب) يريد موضعًا متصلًا [بالقارة] (¬5). قولي: (مُوهِمًا رِحْلَةً اوْ إدْرَاكَا) أي: أو موهما إدراك مَن لم يُدركه وقد عُرف أنه لم يدركه، فلا يضر، غايته أن يكون الحديث منقطعًا والثقات تروي المنقطع ولا يقدح ذلك فيهم، وهذا هو المحترز عنه فيما سبق في تعريف "تدليس الإسناد": "أن يروي عمن لقيَه أو عاصره ما لم يسمع منه"، إذْ مفهومه أنه إذا لم يُعاصره ولا لقيه أنه غير [مُدلس] (¬6) على الصحيح المشهور، وحكى ابن عبد البر في "التمهيد" عن قومٍ أنه تدليس، قال: فعلى هذا لا يَسْلم مِن التدليس أحد، لا مالك ولا غيره. والله أعلم. ¬

_ (¬1) الإحكام في أصول الأحكام (2/ 90). (¬2) بلد قديم على شاطئ النيل بالصعيد. (معجم البلدان، 1/ 123). (¬3) مدينة مشهورة باليمن. (معجم البلدان، 3/ 131). (¬4) مدينة كبيرة قصبة صعيد مصر. (معجم البلدان، 4/ 413). (¬5) كذا في جميع النُّسخ، وقد تكون: (بالقاهرة)؛ لأنَّه جاء في (معجم البلدان، 2/ 290): "حلب " أيضًا محلة كبيرة في شارع القاهرة بينها وبين الفُسطاط). (¬6) كذا في (ز). لكن في سائر النُّسخ: تدليس.

ص: 324 - أَمَّا مُدَلِّسُ الْمُتُونِ الْمُدْرجُ ... مَرْوِيَّهُ بِغَيرهِ فَيَمْزُجُ 325 - مِنْ غَر تَمْيِيزٍ فَذَا مَجْرُوحُ ... إنْ كَانَ قَصْدُه لِذَا يَلُوحُ الشرح: ما سبق من الصور الثلاث هو الذي لا جَرح فيه كما عَلمته، وأما هذا القسم فهو الذي يكون جرحًا، وقد سبق القسم الذي بدأ به ابن الصلاح وأنه جرح في بعض أحواله، فَيُضم إلى هذا. نعم، لم يذكر ابن الصلاح هذا القسم الذي ذكرناه هنا فيما يسمى تدليسًا، بل أفرده بنوع آخَر، وهو المسمَّى بِـ "المدرج "، وإليه أشرت بقولي: (الْمُدْرِجُ) بكسر الراء اسم فاعل، و (مَرْوِّيهُ) مفعوله، فالراوي للحديث إذا أدخل فيه شيئًا من كلامه أولًا أو آخِرًا أو وسطًا على وجه يُوهِم أنه من جملة الحديث الذي رواه -وهو المراد بقولي: (فَيَمْزُج مِنْ غَيْر تَمْيِيزٍ) - يُسمَّى هذا "تدليس المتون"، وفاعله مجروح إن كان فَعَله عن قصدٍ؛ لِمَا فيه من الغش. أما لو اتفق ذلك من صحابي أو غيره من غير قصدٍ، فلا. ومن هذا النوع كثير في الحديث أفرده بالتصنيف الخطيب البغدادي، فشفَى وكَفَى. فمن أمثلته المشهورة حديث ابن مسعود في التشهد، قال في آخره: "فإذا قلت هذا، فإنْ شئتَ أنْ تقوم فَقُم، وإنْ شئتَ أنْ تقعد فاقعد" (¬1) وهو من كلامه، لا مِن متن الحديث المرفوع. قاله البيهقي والخطيب. ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (رقم: 970). قال الألباني: (شاذ بزيادة: "إذا قلت ... "، والصواب أنه من قول ابن مسعود موقوفاً عليه). (صحيح سنن أبي داود: 970).

وقال النووي في "الخلاصة": (اتفق الحفاظ على أنها مُدْرَجة) (¬1). ولا يعارضه قول الخطابي: اختلفوا في كونه من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن مراده اختلاف الرواة فيه، وهذا من المدرج آخرًا. أما مثال المدرج أولًا فما رواه الخطيب بسنده عن أبي هريرة: "أسبغوا الوضوء، وَيْل للأعقاب من النار" (¬2). فإنَّ "أسبغوا الوضوء" من كلام أبي هريرة. ومثال الوسط: ما رواه الدارقطني عن بسرة بنت صفوان: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن مَسَّ ذكَره أو أنثييه أو رفغه، فليتوضأ" (¬3) قال: فذِكر الأنثيين والرفغ مُدْرج؛ إنما هو من قول عروة الراوي عن بسرة. والبسط في ذلك محله علم الحديث. ويُعْرف الإدراج بأن يَرِد من طريق أُخرى التصريح بأنَّ ذلك من كلام الراوي، وهو طريق ظني قد يَقوى كما إذا وقع في آخِر الحديث، وقد يَضعُف كما إذا وقع في أثنائه. قلتُ: وهو [مُشْكِل] (¬4) بزيادة الثقة؛ لاحتمال كون ذلك منها، وسيأتي إيضاحه هناك. ¬

_ (¬1) خلاصة الأحكام (1/ 449). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 163) بلفظ: (أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ؛ فإن أبَا الْقَاسِمِ قال ... )، الفضل للوصل المدرج (1/ 158). (¬3) سنن الدارقطني (1/ 148)، وقال الإمام الدارقطني: (كَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الحْمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ هِشَامٍ، وَوَهِمَ فِي ذِكْرِ الْأنْثَيَيْنِ وَالرَّفْغِ وَإِدْرَاجِهِ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ بُسْرَةَ عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ عُرْوَةَ غَيْرِ مَرْفُوعٍ، كَذَلِكَ رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ هِشَامٍ، مِنْهُمْ أَيُّوبُ السخْتِيَانِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَغَيْرُهُمَا). (¬4) في (ش، ض): يشكل. والمعنى: مشتبه.

تنبيهات أحدها: فسر الماوردي والروياني وابن السمعاني مُدلِّس المتون بأنه مَن يُحرِّف الكلم عن مواضعه، وكأنَّ مرادهم التقديم والتأخير المُخِل بالمعنى، أو يأتي بما يُغير المعنى بوجهٍ ما. وأما ما سبق من تسمية الإدراج تدليسًا فهو ما قاله أبو منصور البغدادي. الثاني: مِن أقسام التدليس ما هو خفي، كما ورد في بعض الروايات عن الحسن البصري أنه قال: (حدثنا أبو هريرة)، فقال قوم: لم يسمع من أبي هريرة، وإنما أراد بقوله: (حدثنا): حدَّث أهل بلدنا. وقال قوم: لم يَقُم دليل قاطع على عدم سماعه منه، فلا تدليس. ومن الخفي أيضا قول [أبي] (¬1) إسحاق: (ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه). فظاهره أنَّ المراد سماعه من عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه، ولم يَقُل قَبْله: (ليس أبو عبيدة ذكره). نَبَّه على ذلك ابن دقيق العيد في "الاقتراح"، قال: (وللتدليس مفسدة، وله مصلحة. المفسدة: قد يخفى ويصير الراوي مجهولًا؛ فيسقط العمل به مع كونه عَدْلا. وأما المصلحة فامتحان الأذهان في استخراج التدليسات وإلقاء ذلك إلى مَن يُراد اختبار حِفظه ومعرفته بالرجال) (¬2). ومن التدليس أيضًا: ما يُعرف بِ "تدليس التسوية"، ولم يذكره ابن الصلاح، وهو شَرُّ الأنواع، وهو أن يروي حديثاً عن شيخ ثقة، وذلك الثقة يرويه عن ضعيف عن ثقة، فيأتي المدلس بالثقتين ويُسْقِط الضعيف بلفظ محتمل، وهو غرور شديد. وممن نُقِل عنه فِعْله بقية ¬

_ (¬1) في جميع النُّسخ: ابن. والتصويب من (الاقتراح، ص 289)، الناشر: دار العلوم - الأردن، ط: أولى- 2007 م. (¬2) الاقتراح في بيان الاصطلاح (ص 21).

بن الوليد، والوليد بن مسلم. ومن التدليس أيضاً: أن يُسقِط أداة الرواية ويذكر الشيخ فيقول: (فلان). وهذا يفعله أهل الحديث كثيراً، ولا يضر. قال على بن خشرم: كنا عند ابن عُيينة، فقال: الزهري. فقيل له: حدَّثكم الزهري؟ فسكت، ثم قال: الزهري. فقيل له: سمعته من الزهري؟ فقال: لا، لم أسمعه من الزهري ولا ممن سمعه من الزهري، حدثني عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري. وقد مَثَّل ابن الصلاح بهذا للقسم الأول وهو "تدليس الإسناد"، وسبق ما ذَكره في حُكمه وأنه إذا كان لا يُسمِّي إلَّا ثقة، لا يقدح. قال أئمة الحديث: يُقبَل تدليس ابن عُيَينة؛ لأجل ذلك. قال ابن عبد البر: لا يكاد يوجد له حديث دلس فيه إلا وقد تَبيَن سماعه عن ثقة. ثم مَثَّل ذلك بمراسيل كبار الصحابة، فإنهم لا يُرسِلون إلَّا عن صحابي. الثالث: في اقتصاري في النَّظم على شروط الراوي الثلاثة إشعارٌ بأنه لا يُشترط غير ذلك، وقد أشرتُ إلى بعض ما لا يُشترط مما فيه خِلاف، ولم أستوعبه؛ لكثرته. فمِن ذلك: لا يُشترط أن يكون بصيراً. وفي "الشهادات" مِن الرافعي حكاية وجهين في رواية الأعمَى، والأصح عند الأكثرين الجواز، خلافًا لتصحيح الإمام والغزالي. قال: (ومحل الخلاف فيما تحمَّله وهو أعمى، لا ما سمع قبل العمى، فإنَّ ذلك مقبول قطعًا؛ للإجماع على قبول روايات ابن عباس وغيره ممن طرأ عليه العمى). انتهى لكن الشرط فيمن تحمل حالة العمى أنْ يحصل الثقة به بأنْ يكون ضابطًا للصوت، ويدل له إجماع الصحابة على قبول حديث عائشة مِن خلف سِتْر، فإنهم في هذه الحالة كالعميان، وقَبِلوا خبر ابن أم مكتوم وعتبان بن مالك ونحوهما.

ومنه: لا يُشترط النطق، فيُقبَل الأخرس الذي له إشارة مفهمة، وبناه بعضهم على الخلاف في شهادته، إنْ قُلنا: (تُقْبَل)، قبِلت روايته مِن باب أَوْلى، أو: (لا)، فوجهان: الظاهر القبول؟ لأنَّ باب الرواية أوسع. ومنه: الذكورة لا تُشترط، فتُقبل رواية المرأة والخنثى، ونَقل صاحب "الحاوي" (¬1) عن أبي حنيفة أنه لا يقبل أخبار النساء في الدِّين إلا أخبار عائشة وأُم سلمة - رضي الله عنه -. وغلطه الروياني بأنَّ الحنفية لا يَعرفون هذا النقل، ولكان يَلْزَم أنْ لا يُقبل قولهن في الفتوى، قال أبو زيد الدبوسي: رواية النساء مقبولة؛ لأنهن فوق الأعمى. نعم، ظاهر كلام الروياني الاتفاق على قبولها في الفتوى، وفيه نظر، ففي تعليق ابن أبي هريرة حكاية وجهين فيه، ولا يَبعُد جريانهما في روايتها، وسيأتي في التراجيح خلاف في رُجحان رواية الرجُل عليها. ومنه: الحرية لا تُشترط، فتُقبل رواية العبد. قال إلْكِيَا: بلا خلاف. ومنه: لا يُشترط أن يكون فقيهًا عند الأكثرين، سواء خالفت روايته للقياس أو لا، خلافًا لابن أبان، فلذلك يردُّ حديث المصراة، وتابعه أكثر متأخِّري الحنفية كالدبوسي، لكن الكرخي وأتباعه لم يشترطوا ذلك، قال صاحب "التحقيق" منهم: وقد عمل أصحابنا بحديث أبي هريرة: "إذا أكل أو شرب ناسيًا" (¬2) وإنْ كان مخالفًا للقياس حتى قال أبو حنفية: لولا الرواية لقلتُ بالقياس. قال: ولم يُنقَل عن أحد من السلف اشتراط الفقه في الراوي؛ فثبت أنه قولٌ مُحْدَثٌ. ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (16/ 89). (¬2) صحيح البخاري (1831)، صحيح مسلم (رقم: 1155) بلفظ: (من نَسِيَ وهو صَائِمٌ فَأَكَلَ أو شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ).

قلتُ: وكل هذا بِناء على أنَّ أبا هريرة - رضي الله عنه - لم يكن فقيهًا، والصواب خلافُه، فقد كان من فقهاء الصحابة، وقد أَفْرَد الشيخ تقي الدين السبكي جُزءًا في فتاويه (¬1). وما أحسن ما قاله شارح "البزدوي": (بل كان فقيهًا، ولم يُعْدَم شيئًا مِن آلات الاجتهاد وكان يُفتي في زمن الصحابة، وما كان يُفتي في ذلك الزمان إلَّا مجتهد، وقد انتشر عنه معظم الشريعة، فلا وَجْه لِرَدِّ حديثه بالقياس) (¬2). انتهى ومنه: لا يُشترط أن يكون عالِمًا بالعربية، ولا أن يكون عالمًا بمعنى ما رواه، كالأعجمي؛ لأنَّ جهله بمعنى الكلام لا يمنع من ضبطه الحديث؛ ولهذا يمكنه حفظ القرآن وإنْ لم يَعرف معناه؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "فَرُبَّ مُبَلِّغ أَوْعَى مِن سامِع" (¬3). ولا يُشترط أيضًا أن يكون مُعتنيًا بشأن علوم الحديث كما جزم به إلْكِيا الطبري وغيره وإنْ رجح عليه رواية مَن اعتنى بالروايات. ولا يُشترط كوْنه أجنبيًّا، فلو روى خبرًا ينفع به نفسه أو ولده، قُبِل؛ لأنَّ نفْعه لا يختص به ولا بزمن حياته. ولا يُشترط أن يكون لفظُه: "سمعتُ" و"أخبرنا"، خلافًا للظاهرية. ولا يُشترط أن يحلف على روايته، وعن علي - رضي الله عنه - أنه كان يذهب إلى تحليف الراوي على روايته. وحكاه الأستاذ أبو إسحاق أيضًا. ومنه: هل يُشترط في الراوي العَدد؟ عن الجبائي اشتراطه بأن يروي اثنان عن اثنين حتى ينتهي إلى المخبَر عنه؟ اعتبارًا بالشهادة. ونقل عنه القاضي أبو الطيب أنه زعم أنه مذهب ¬

_ (¬1) جاء في هامش (ز): أيْ: في فتاوى أبي هريرة. (¬2) كشف الأسرار (2/ 559)، الناشر: دار الكتب العلمية. (¬3) صحيح البخاري (رقم: 1654)، صحيح مسلم (1679).

الصدِّيق وعُمر - رضي الله عنهما -؛ لطلبهما الزيادة في الرواية، ولكن ما رُوي مِن ذلك [كله] (¬1) محمول على الاستظهار والتأكيد، لا أنَّ ذلك شرط. وردَّ عليه إلْكِيا الطبري بأنه يلزم منه الخروج عن الحصر كما في تضعيف أعداد بيوت الشطرنج، وبأنَّ الفَرق بينه وبين الشهادة [الاتهام] (¬2)؛ لتعلُّق الشهادة بخصوص كما فرق بينهما في أحكام كثيرة. على أنَّ الجبائي قد نَقل عنه اشتراط أنْ يعضده ظاهر، يَقُوم ذلك العاضد مقام راوٍ آخَر. ومما ينبغي أنْ يُستفاد أنَّ الحاكم نَقل أنَّ البخاري اشترط في صحيحه رواية عَدْلَين عن عَدْلين. وخَطَّأه في ذلك ابن الجوزي وغيره، ولو صح لكان احتياطًا من البخاري، لا شرطاً. وفي "البحر" للروياني و"جامع الأصول" لابن الأثير أنَّ بعضهم اشترط أربعة عن أربعة إلى أن ينتهي. وقال الأستاذ أبو منصور: منهم مَن اعتبر ثلاثة عن ثلاثة، ومنهم من اعتبر خمسة، ومنهم من اعتبر سبعة، ومنهم من اعتبر عشرين، ومنهم من اعتبر سبعين، وكل هذا غريب، إنما ذكر بعض ذلك في شروط عدد التواتر، لا الآحاد. ومنهم مَن شرط في الخبر غير هذا مما يَطُول ذِكره، وفيما ذُكِر كفاية في هذا المختصر، والله أعلم. ¬

_ (¬1) في (ز): كأنه. (¬2) في (ز): الاتهام. وفي (ص، ت، ض): الإبهام. وفي (ق، ظ): الايهام.

تنبيه: 326 - تَحَقُّقُ الشُّرُوطِ فِيهِ مُعْتَبَر ... فَلَيْسَ يُقْبَلُ الَّذِي قَدِ اسْتَتَرْ 327 - في بَاطِنٍ أَؤ ظَاهِرٍ، وَمَنْ جُهِلْ ... بِعَيْيهِ فَذَاكَ أَيْضًا مَا قُبِلْ الشرح: لَمَّا ذكرتُ شروط الراوي الثلاثة نَبهتُ بهذا التنبيه على أنه لا بُد من تحقُّق وجود الثلاثة. فما لا يتحقق فيه اجتماعُها، لا يكون حُجة، ويتضح ذلك بمسائل: إحداها: أنَّ المستور هل يُقبل؟ والمراد به المجهول، وهو على ثلاثة أقسام: مجهول العدالة في الباطن دُون الظاهر، ومجهول العدالة باطنًا وظاهرًا، ومجهول العين. فالأول: مَن هو عَدْل في الظاهر ولم تُعرف له عدالة في الباطن، وقد فَسَّر الرافعي في "كتاب الصيام" العدالة الباطنة بأنها التي يُرجَع فيها إلى أقوال [المزكِّيين] (¬1)، أي: حيث احتيج إليها، بخلاف مَن لم يحتج فيه لذلك كما سبق، وسبقه إليه الإمام في "النهاية". والمراد أنه بحيث يحكم الحاكم بشهادته وإنْ لم تقع تزكيته عند الحاكم، وهو مأخوذ من قول الشافعي - رضي الله عنه - في "اختلاف الحديث" في جواب سؤال أورده: فلا يجوز أنْ يُترك الحكم بشهادتهما إذا كانا عدلين في الظاهر. فعُلِم من ذلك أنَّ المستور مَن يُترك الحكم بشهادته، أي: بكونه لم يُزكِّه مزكيان، فادِّعاء مُغايرة النَّص المذكور لكلام الرافعي غير مستقيم، وكذا ادِّعاء أن المراد بالعدالة الباطنة أن تقع التزكية عند الحاكم ويحكم بالعدالة. وقال إمام الحرمين في أصوله: (المستور هو الذي لم يظهر منه ما يقتضي العدالة، ولم يتفق ¬

_ (¬1) في (ز، ش، ق): المركين. وفي سائر النُّسخ: المزكين.

البحث عن باطنه في العدالة) (¬1). وفي كلام غيره من الأصوليين -كالقاضي في "التقريب"- أنَّ العدالة الباطنة هي الاستقامة بلزوم أداء أوامر الله -سبحانه وتعالى- واجتناب مناهيه وما يثْلم مروءته، سواء ثبت عند الحاكم أوْ لا. وبالجملة فهذا القسم لا يُقبل عند الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم، وعبارة الشافعي في "اختلاف الحديث": لا يُحْتَج بالمجهول. وكذا قال البيهقي في "المدخل": (إنَّ الشافعي لا يحتج برواية المجهولين) (¬2). وجرى على منع القبول الماوردي والروياني وغيرهما من أصحابنا، وجزم به أبو الحسين ابن القطان ونقله إلْكِيا عن الأكثرين. ونقله شمس الأئمة عن محمد بن الحسن، وقال: (نصَّ في كتاب "الاستحسان" على أن خبر المستور كخبر الفاسق) (¬3). وذهب أبو حنيفة إلى قبوله؛ اكتفاءً بظهور الإسلام والسلامة عن الفسق ظاهرًا، ووافقه من أصحابنا ابن فورك كما نقله المازري في "شرح البرهان" وسليم في كتاب "التقريب" له. وعزاه قوم للشافعي، تَوَهَّموه مِن نَصِّه على انعقاد النكاح بالمستورين، وهو غلط؛ فالفَرق بينهما أن المقصود حضور شاهدين ولو كانا يُعدلان عند الاحتياج إليهما، وأما غير النكاح فيقضى بذلك، وفرق بين القضاء بالمستور والانعقاد به؛ ولهذا عند التجاحد في النكاح لا ¬

_ (¬1) البرهان في أصول الفقه (1/ 396). (¬2) قال الإمام البيهقي في (المدخل إلى السنن الكبرى، ص 93). (وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى ألهُ لَا يَجُوزُ قَبُولُ خَبَرِ الْمَجْهُولِينَ حَتَّى يُعْلَمَ مِنْ أَحْوَالِهمْ مَا يُوجِبُ قَبُولَ أَخْبَارِهِمْ). (¬3) أصول السرخسي (1/ 370).

يُقضى إلَّا بِعَدْلَين. وقال ابن الصلاح: (إنَّ الاحتجاج به قول بعض الشافعية، وبه قطع سليم، قال: لأنَّ أَمْر الإخبار مبني على حُسن الظن بالراوي، ولأنَّ رواية الأخبار تكون عند مَن يتعذر عليه معرفة العدالة في الباطن؛ فاقتُصر فيها على معرفة ذلك في الظاهر. وتُفارق الشهادة؛ فإنها تكون عند الحكام ولا يتعذر ذلك عليهم؛ فاعتُبر فيها العدالة ظاهرًا وباطنًا) (¬1). قال الشيخ: (ويُشبه أن يكون العمل على هذا في كثير من كُتب الحديث في جماعة من الرواة تَقَادَم العهد بهم وتعذَّرت خِبْرتهم باطنًا). وصححه المحب الطبري أيضًا. وقال النووي في "شرح مسلم" في المقدمة: (احتج به كثيرون من المحققين). وحكى الرافعي في "الصوم" فيه وجهين من غير ترجيح. وقال في "شرح المهذب": الأصح القبول. وفي المسألة مذهب ثالث قاله أبو زيد الدبوسي في "التقويم" (¬2): إنَّ المجهول إن نقل عنه السلف وسكتوا عن رَده، عُمِلَ به ما لم يخالف القياس. تنبيهات أحدها: ذكر صاحب "البديع" وغيره من الحنفية أنَّ أبا حنيفة إنما قَبِلَ ذلك في صدْر الإسلام حيث الغالب على الناس العدالة، فأمَّا اليوم فلا بُد من التزكية؛ لِغَلبة الفِسق. ¬

_ (¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 112). (¬2) تقويم الأدلة (ص 182).

ومن هذا ما استقرئ في كتاب "الثقات" لابن حبان أن يُوَثق مَن كان في الطبقة المتقدمة من التابعين. الثاني: قال إمام الحرمين: (إنَّ رواية المستور موقوفة إلى استبانة حاله، فلو كُنا على اعتقاد في حِل شيءٍ فروى لنا مستور تحريمه فالذي أراه وجوب الانكفاف عمَّا كنا نستحله إلي تمام البحث عن حال الراوي). قال: (وليس ذلك حُكمًا بالحظر المترتب على الرواية، وإنما هو توقُّف في الأمر، والتوقف في الإباحة يتضمن الإحجام، وهو في معنى الحظر، فهو إذًا حظر مأخوذ من قاعدة في الشريعة ممهدة، وهي: التوقف عند عدم بدُوِّ ظواهر الأمور إلى استبانتها، فإذا ثبتت العدالة فالحكم بالرواية إذْ ذاك) (¬1). انتهى ولا ينافي ما سبق مِن رَد المستور، فإنَّ المراد أنَّا لا نعمل به في الحال، ولكن لا نتركه أصلًا، بل نبحث عنه. نعم، قوله: (لو كنا على اعتقاد في حِل شيء) إلى آخِره -زَعَم [ابن الأنباري] (¬2) أنه إجماع. ورُدَّ: بأنَّ الإجماع لا يُعْرف، وبأنَّ المتجه أنه إنْ روى تحريمًا مخالِفًا للبراءة الأصلية فله اتجاه. أما إذا كان الحِل مستندًا لدليل شرعي فلا وَجْه للإحجام؛ لأنَّ اليقين لا يُرْفع بالشك؛ ولهذا صححوا فيمن قال: (إنْ كنتِ حاملًا، فأنتِ طالق) أنه لا يحرُم وطؤها حتى يظهر الحمل. ¬

_ (¬1) البرهان في أصول الفقه (1/ 397). (¬2) كذا في جميع النُّسخ، والصواب أنه: الأبياري. وكلام الأبياري في كتابه (التحقيق والبيان في شرح البرهان، ص 681).

الثالث: قيل: مثال رواية المستور ما رُوي عن أبي سهل عن مُسة -بضم الميم وتشديد السين المهملة- الأزدية، عن أُم سلمة: "كانت النُّفساء تقعد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين يوماً، وكُنا نطلي على وجوهنا الورس. [تعني] (¬1) من الكلف" (¬2). قال القاضي أبو الطيب: أبو سهل ومُسَّه مجهولان. لكن الحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: لا نعرفه إلَّا من حديث أبي سهل عن مُسة الأزدية. قال: (وقال محمد بن إسماعيل: أبو سهل ثقة). واسمه كثير بن زياد، وهو ثقة. وقال الخطابب: حديث مُسة أثنى عليه محمد بن إسماعيل. ثم ذكر ما سبق. قيل: ومن أمثلته حديث عبد الرحمن بن وَعْلة المصري عن ابن عباس أنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيُّما إهاب دُبغ فَقَدْ طَهُر" (¬3). فقد قال أحمد: ومَن هو ابن وَعْلة؟ إلا أنَّ غير أحمد عرفه ووثَّقه، فقد روى عنه زيد بن أسلم ويحيى بن سعيد وغيرهما، ووثَّقه ابن مَعين والعجلي والنسائي، وروى له مسلم والأربعة. الرابع: ما جرينا عليه -مِن كَون العدالة شرطًا فلا بُد مِن تحقُّقها- أَجْوَد مِن قول ابن الحاجب والبيضاوي وغيرهما: إنَّ الفِسق مانع، وإنه لا بُد مِن تحقُّقه. فجمعوا بين متنافيين؛ لأنَ جَعْله مانعًا يقتضي الاكتفاء بأنَّ الأصل عدمه، لا تَحقُّق عدمه؛ لأنَّ هذا شأن الموانع، ¬

_ (¬1) ليس في (ز). (¬2) سنن أبي داود (رقم: 311)، سنن الترمذي (139)، سنن ابن ماجه (648) وغيرها. قال الألباني: حسن صحيح. (صحيح سنن أبي داود: 311). (¬3) سنن الترمذي (رقم: 1728)، وقال الألباني: صحيح. (صحيح الترمذي: 1728). ورواية صحيح مسلم (رقم: 366) بلفظ: (إذا دُبغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ).

فجَعْل عدم المانع شرطًا غيرُ مستقيم، فتأمله. قولي: (أَوْ ظَاهِرٍ) إشارة إلى المسألة الثانية، وهي "مجهول العدالة ظاهرًا وباطناً"، وقد عُلم مِن ذِكر جهالته ظاهرًا أنه مجهول باطنًا، بخلاف العكس وهو القِسم الذي بدأتُ به. والحاصل أنَّ المجهول ظاهراً وباطناً (أي: وهو معروف العَيْن برواية عَدْلين عنه) لا تُقبل روايته. قال بعضهم: بالإجماع. وجرى عليه في "جمع الجوامع". وهو مردود بحكاية ابن الصلاح فيه عن الجماهير أنه لا يُقبَل. وعن أبي حنيفة أنه يُقبَل. وحكى غيره ثالثًا: إنْ كان الراوي عنه لا يروي إلَّا عن عَدْل، قُبِل، وإلَّا فلا. وهذا القول لا حقيقة له؛ لِمَا سبق أنَّ مثل ذلك تعديل، فهو عَدْل، لا مستور. قولي: (وَمَنْ جُهِلْ بِعَيْيهِ) إلى آخِره -إشارة إلى المسألة الثالثة، وهي "مجهول العين". قال المحدثون: مَن لم يَرْوِ عنه إلا راوٍ واحد. ومثَّله الخطيب بجبار الطائي وعبد الله بن أغر الهمداني والهيثم بن حنش ومالك بن أعز وسعيد بن ذي حدان، لم يَرْوِ عنهم غير أبي إسحاق السبيعي. وذَكر أمثلة أخرى عليه في بعضها نقد. فهذا القسم ظاهر ما في "جمع الجوامع" فيه الاتفاق على عدم القبول، وصرَّح مُصَنِّفه بذلك في غيره، وليس كذلك؛ فقد حَكى ابن الصلاح وغيره الخلاف فيه. وحاصل الأقوال فيه خمسة: أحدها: وهو الصحيح الذي عليه أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم أنه لا يُقبَل

مطلقاً. وثانيها: يُقبَل مطلقًا، وذلك هو رأي مَن لم يشترط في الراوي غير الإسلام. وثالثها: إنْ كان المنفرد بالرواية عنه لا يروي إلَّا عن عدل -كابن مهدي ويحيى بن سعيد- واكتفينا في التعديل بواحد، قُبِل، وإلَّا فلا. رابعها: إنْ كان مشهورًا في غير العِلم بالزهد أو النجدة (أي: القوة) في الدِّين، قُبِل، وإلا فلا. وهو قول ابن عبد البر. وخامسها: إنْ زكَّاه أحد من أئمة الجرح والتعديل مع رواية واحد عنه، قُبِل، وإلا فلا. وهو اختيار أبي الحسين بن القطان في كتاب "بيان الوهم والإيهام". قال أبو العباس (¬1): (التحقيق أنه متى عُرفت عدالة الرجُل، قُبل خبرُه، سواء روى عنه واحد أو أكثر، وعلى هذا كان الحال في العصر الأول من الصحابة وتابعيهم إلى أن [تنطَّع] (¬2) المحدثون). انتهى وتعقب ابن الصلاح على الخطيب بأنَّ البخاري قد روى عن مرداس الأسلمي ولم يَرْو عنه غير ابن أبي حازم. واعتُرض بأنه رَوى عنه أيضًا زياد بن علاقة. ونحو ذلك ما قال الحاكم في النوع السابع والأربعين: إنَّ مسلمًا روى عن ربيعة بن كعب الأسلمي، ولم يرو عنه غير أبي سلمة بن عبد الرحمن. ¬

_ (¬1) قال الزركشي في كتابه (النكت على مقدمة ابن الصلاح، 3/ 384): (قال أبو العباس القرطبي: الحق أنه متى عرفت عدالة الراوي قُبِل خبره .. ). الناشر: أضواء السلف، تحقيق: زين العابدين محمد. (¬2) كذا في (ز، ق، ش). لكن في (ص، ض): ينقطع. في (ظ، ت): انقطع.

واعتُرض بأنه قد روى عنه محمد بن عمرو بن عطاء وأبو عمران الجوني ونعيم المجمر وحنظلة بن علي، وأيضًا فمرداس وربيعة صحابيان، وكُلهم عدولٌ. فائدة: عند المحدثين مِن أقسام المستور أيضًا مَن عُرف -بذكره في الجملة- عَيْنُه وعدالته ولكن جُهل تعيينه، كإيهام الصحابي، وكقول الراوي: (أخبرني فلان أو فلان) والفَرْض أنهما عَدْلان، فهذا لا يضر. أمَّا لو جُهِلت عدالة أحدهما أو قال: (أخبرني فلان أو غيرُه)، فلا يُحتج به حينئذ، والله أعلم. ص: 328 - فَإنْ يَكُنْ مِثْلُ الْإمَامِ الشَّافِعِي ... وَصَفَهُ بِـ "ثِقَةٍ" فَتَابِعِ الشرح: أي: إذا قال الشافعي - رضي الله عنه - أو غيره: (أخبرنا الثقة) أو نحو ذلك، فهل الستر فيه باقي لكونه غير معيَّن؟ أو أنه زال بوصفه فيكون كإبهام الصحابي أو أحد العَدْلَين فلا يضر كما سبق ويسميه بعضهم "التعديل المبهم"؟ فيه مذاهب: أحدها: لا يحتج به. وبه جزم القفال الشاشي والخطيب والصيرفي والقاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ والماوردي، والروياني قال: وهو كالمرسل. وصححه ابن الصباغ، قال: لأنه ربما لو سماه كان ممن جرحه غيرُه. بل قال الخطيب: لو صرح بأنَّ جميع شيوخه ثقات ثم روى عمن لم يُسمه، لا يُعمل به. قال: (نعم، لو قال العالم: "كل مَن أَروي عنه وأُسميه فهو عَدْلٌ رضى مقبولُ الحديث "،

كان ذلك تعديلاً لكل مَن رَوى عنه وسماه كما سبق) (¬1). والثاني: يحتج بذلك مطلقًا؛ لما سبق مِن أن إبهام العدل لا يضر، ونقله ابن الصلاح عن أبي حنيفة. والثالث: التفصيل بين أن يُعرف مِن عادته إذا أَطْلَق ذلك أن يعني به معيَّناً وهو معروف بأنه ثقة، فَيُقبل، وإلَّا فلا. حكاه شارح "اللمع" اليماني عن صاحب "الإرشاد". الرابع: وهو الصحيح المختار الذي قطع به إمام الحرمين وجرَيتُ عليه في النَّظم، ونقله ابن الصلاح عن اختيار بعض المحققين أنه إنْ كان القائل لذلك من أئمة الشأن العارفين بما يشترطه هو وخصومه في العدل وقد ذَكَره في مقام الاحتجاج، فيُقبل؛ لأن مِثل هؤلاء لا يُطْلِق في مقام الاحتجاج إلا في موضع يأمَن أن يخالَف فيمن أطلق عليه أنه ثقة. وإنما أهملتُ في النَّظم ذِكر كوْنه في مقام الاحتجاج؛ لأن هؤلاء الأئمة إنما يذكرون ذلك في مقام الاحتجاج، بخلاف المحدِّث الذي عنايته برواية الحديث فقط. تنبيهات أحدها: عاب بعض المتعنتين على الشافعي مثل ذلك، قال: لأنه مُشعر بسوء الحفظ، وأيضًا فهو ضرب من الإرسال، والمرسل عنده غير حجة. والجواب عن الأول: أنَّ الإمام الحافظ قد يعتريه شك في التعيين مع عدم شَكِّه في عدالته، فيتورع عن التعيين؛ احتياطًا، وقد فعل ذلك الأئمة، فروى مالك في "الموطأ" في باب الزكاة عن الثقة عنده عن سليمان بن يسار. ¬

_ (¬1) الكفاية في علم الرواية (ص 92).

وعن الثاني: بأنه قد استُقرئ عليه أنه لم يُبْهِم ذِكر الراوي إلا في حديث معروفٍ عند أهل الحديث براوٍ معلوم الاسم والعدالة، فلا يضره تركُه تسمية الشيخ. قال الرافعي في "شرح المسند": (ولك أن تقول: المحتاج للوضوء إذا قال له مَن يَعرفه بالعدالة: "هذا الماء نجس بسبب كذا"، يَلْزَمه قبوله. ولو قال له مَن هو مِن أهل التعديل: "أخبرني عدلٌ بذلك"، ولم يُسَم، فيشبه أن الحكم كذلك). انتهى وهذا الجزم مؤيد لِمَا قُلناه، ويؤيد ذلك أنَّ الحديث إذا رُوي عن رجل من الصحابة، يُحتج به ولا يُعَد مرسلًا وإنْ لم يكن الصحابي معيَّنًا كما سبق؛ للعِلم بعدالة الكل. الثاني: إذا قال: (أخبَرني مَن لا أتهم) كما يقع في كلام الشافعي- رحمه الله- كثيرًا، كان دُون: (أخبرني الثقة). فقال الحافظ الذهبي: ليس مِثله فيما سبق؛ لأنه نفَى التهمة ولم يتعرض لإتقانه ولا لكونه حجة. ورجَّح غيره أنه مِثله؛ لأنَّ ذلك إذا وقع مِن مِثل الشافعي في الاحتجاج، فإنما يريد به ما يريد بقوله: ثقة. على أنَّ الذهبي قد سُبق بذلك مِن فحول أصحابنا، ففي كتاب "الدلائل والأعلام" للصيرفي: إذا قال المحدث: "حدثني الثقة عندي" و"حدثني مَن لا أتهم"، لم يكن حجة؛ لأنَّ الثقة عنده قد لا يكون ثقة عندي. وذكر نحوه الماوردي والروياني في القضاء. فاقتصار السبكي في "جمع الجوامع" على الذهبي قصورٌ، إلا أنْ يريد أنَّ الذهبي يفرق بين "ثقة" و"لا أتهم" وهؤلاء يخالفون فيهما معًا كما أوضحناه عند حكاية المذاهب. نعم، قول الصيرفي: (حدثني الثقة عندي) يقتضي التصوير [بِقَيد] (¬1) "عندي"، حتى لو قال: (الثقة) وأَطْلَق، لا يكون كذلك. ¬

_ (¬1) في (ز): بثقة.

الثالث: قال ابن الصباغ في "العدة": إنَّ الشافعي إنما يُطْلق ذلك في ذِكره لأصحابه أنَّ الحجة عنده على هذا الحكم، لا في مقام الاحتجاج به على غيره. وكذا قال القاضي أبو الطيب، قال: وقيل: إنه كان قد أَعْلَم أصحابه بذلك؛ ولهذا قيل في بعضهم: إنه أحمد، وفي بعضهم: يحيى بن حسان، وفي بعضهم: ابن أبي فديك وسعيد بن سالم القداح، وغيرهم. وقال الماوردي والروياني: (اشتهر عنه أنه يعني به إبراهيم بن إسماعيل) (¬1). وقال ابن برهان: قيل: إنه كان يريد به مالكًا، وقيل: مسلم بن خالد الزنجي، إلا أنه كان يرى القدَر، فاحترز عن التصريح بِاسْمه؛ لهذا المعنى. وقال أبو حاتم بن حبان: إذا قال الشافعي: "أخبرني الثقة عن ابن أبي ذئب" فهو ابن أبي فديك، أو: "عن الليث" فهو يحيى بن حسان، أو: "عن الوليد بن كثير" فهو [أبو أسامة، أو: "عن الأوزاعي" فهو] (¬2) عمرو بن أبي سلمة، أو: "عن ابن جريج" فهو مسلم بن خالد الزنجي، أو: "عن صالح مولى التَّوْأَمَة" فهو إبراهيم بن أبي يحيى. وأمَّا مالك فقال بعضهم: إذا قال: (عن الثقة -عنده- عن بكير بن عبد الله ابن الأشج)، فهو مخرمة بن بكير، أو: (عن عمرو بن شعيب) فقيل: عبد الله بن وهب، وقيل: الزهري. وفي "المعرفة" للبيهقي (¬3) في "باب الاستسقاء" عن الربيع: إذا قال الشافعي: (أخبرنا الثقة) فهو يحيى بن حسان، وإذا قال: (مَن لا أتهم) فهو إبراهيم بن أبي يحيى، وإذا قال: (بعض الناس) فهو يريد أهل العراق، وإذا قال: (بعض أصحابنا) فيريد أهل الحجاز. ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (16/ 93). (¬2) تصحيح مِن هامش (ت)، وهذه العبارة مُثْبَتة في بعض كُتب المصطلح التي نَقَلَت هذا النَّص. (¬3) معرفة السنن والآثار (3/ 114 - 115).

ثم قال الحاكم: إنَّ الربيع إنما ذكر الغالب، فإنَّ أكثر ما رواه الشافعي عن الثقة هو يحيى ابن حسان، وقد قال في كُتبه: (أخبرنا الثقة)، وهو يريد به غير يحيى بن حسان. قال البيهقي: (وقد فصَّل ذلك شيخنا الحاكم تفصيلًا على غالب الظن، فقال بعض ما قال: "أخبرنا الثقة" إنه أراد إسماعيل بن عُلية، [وفي بعضها أراد أسامة] (¬1)، وفي بعضها عبد العزيز بن محمد، وفي بعضها هشام بن يوسف الصنعاني، وفي بعضها أحمد بن حنبل، أو غيره من أصحابه، ولا يكاد يُعْرف ذلك باليقين، إلَّا أن يكون قيَّد كلامه في موضع آخَر) (¬2). انتهى وإنما أطلتُ في هذا لاحتياج الشافعية لمثله، والله أعلم. ص: 329 - وَلَيْسَ يُحْتَجُّ بِمَا قَدِ انْقَطَعْ ... سَنَدُهُ؛ لِجَهْلِ مَنْ [مِنْهُ] (¬3) ارْتَفَعْ الشرح: أي: إذا عُرف أنه لا بُد من تحقُّق شروط الراوي فالحديث المنقطع -الذي قد سقط منه الراوي- ليس بحجة؛ للجهل بحاله. والانقطاع في سند الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ضربان: أحدهما: سقوط راوٍ فأكثر ممن هو دون الصحابي. والثاني: سقوط الصحابي. ¬

_ (¬1) ليس في (ص). (¬2) معرفة السنن والآثار (3/ 115). (¬3) في (ن 1، ن 3، ن 4): فيه.

فالأول هو المسمَّى في اصطلاح المحدثين على ما قاله الحاكم بِـ "المنقطع" إما الحديث أو الإسناد على ما يوجد في كلامهم مِن الإطلاقين، إذْ مرةً يقولون في الحديث: (منقطع)، ومرة في الإسناد: (منقطع). فالمنقطع بهذا الاعتبار أخص مِن مطلق المنقطع المقابل للمتصل الذي هو مورد التقسيم في قولي: (بِمَا قَدِ انْقَطَعْ سَنَدُهُ). فما كان فيه راوٍ لم يسمع ممن فوقه سواء أكان الساقط واحدًا أو أكثر إذا كانت الطبقة واحدة. فإنْ كان الساقط أكثر من واحد باعتبار طبقتين فصاعدًا إن كان في موضع واحد، سُمي "مُعضَلًا". وإن كان في موضعين، سُمي "منقطعًا" من موضعين، كحديث عبد الرزاق عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يُثَيع -بضم المثناه تحت وفتح المثلثة بعدها ثم ياء التصغير والعين [المهملة] (¬1) - عن حذيفة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنْ وَلَّيتموها أبا بكر، فقوِي أمين" (¬2). فإنَّ صورته متصل، ولكن سقط بين عبد الرزاق وسفيان: ابنُ أبي شيبة الجنَدي (نِسبة إلى الجنَد -بفتح الجيم والنون- مدينة باليمن)، وسقط بين الثوري وأبي إسحاق: شريك. أما ما فيه راوٍ مُبْهَم (كحديث أبي العلاء بن عبد الله بن الشخير، عن رجُلين، عن شداد ابن أوس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء في الصلاة: "اللهم إني أسألك الثبات في الأمر" (¬3) ¬

_ (¬1) كذا في (ز)، لكن في (ص): مهملة. (¬2) المستدرك على الصحيحين (رقم: 4685) بلفظ: (إن وليتموها أبا بكر فزاهد في الدنيا .. وإن وليتموها عمر فقوي أمين)، معرفة علوم الحديث (ص 28). (¬3) مصنف ابن أبي شيبة (29358)، سنن الترمذي (رقم: 3407) وغيرهما. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف الترمذي: 3407).

الحديث) فمنهم مَن يسميه أيضًا "منقطعًا"؛ لأنَّ مَن لا يُعْلم كالمتروك، لكن المختار أنه يُسمى متصلاً في إسناده لمجهول، والمثال المذكور نقله ابن الصلاح عن الحاكم. والذي قاله الحاكم: إنما هو عن رجُل -بالإفراد- عن شداد. وكذا رواه الترمذي والنسائي عن رجُل من حنظلة. وقال بعضهم في تفسيره: يشبه أنْ يكون هو المُطلب بن عبد الله الحنظلي. لكن قال شيخنا شيخ الإسلام البلقيني رحمه الله في كتابه "محاسن الاصطلاح" إنه وجَدَه في أصلٍ مِن "علوم الحديث" للحاكم مسموع بلفظ: "رجُلين" كما أورده ابن الصلاح. وجعل من ذلك أيضًا إمام الحرمين ما لو قال: أخبرني عدل. واعْلَم أنَّ وراء ما ذكرناه مذاهب في "المنقطع" و"المعضل" مبسوطة في علوم الحديث، لا نطول بها، وإنما الغرض هنا أنَّ هذه الأقسام لا يُحتج بها بأيِّ اسمٍ سُميت، والله أعلم. ص: 330 - وَلَوْ يَكُونُ سَاقِطًا صَحَابِيْ ... في ظَاهِرٍ فَقَدْ يُزَادُ رَابِي 331 - وَذَا يُسَمَّى "مُرْسَلًا"، وَرُبَّمَا ... جَافي الْأُصُولِ رَسْمُهُ مُعَمَّمَا الشرح: هذا بيان الضرب الثاني مما لم يتصل فيه الإسناد؛ لسقوط الصحابي الراوي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو المسمَّى بِـ "المُرْسَل"، بأْن يقول التابعي: (قال رسول- صلى الله عليه وسلم -كذا)، أو: (فعل كذا)، أو نحو ذلك من وجوه السُّنة السابق بيانها، سواء أكان: - من كبار التابعين، وهو مَن لقي جماعة كثيرة من الصحابة، كعبيد الله بن عدي بن الخيار، حتى أنَّ ابن عبد البر وابن حبان وابن منده عَدّوه صحابيًّا؛ لكونه وُلد في حياته - صلى الله عليه وسلم -

على مذهبهم في ذلك كما سبق. وكسعيد بن المسيب، وعلقمة بن قيس النخعي الإمام فقيه العراق وهو قد وُلد في حياته - صلى الله عليه وسلم -، وكأبي مسلم الخولاني الذي يُقال له: حكيم هذه الأُمة، ومسروق وكعب الأحبار وأشباههم. - أو من صغارهم، وهو مَن لم يَلْقَ من الصحابة إلا الواحد [أو] (¬1) الاثنين أو نحو ذلك، نحو يحيى بن سعيد الأنصاري وأبي حازم ومحمد بن شهاب الزهري كما قال ابن الصلاح وإنِ انتقد عليه بأنه قد لقي عشرة من الصحابة وأكثر كما بُسِط في محله حتى عَدَّه الحاكم من كبار التابعين. وأُجيبَ عنه بأنَّ مراده بالواحد والاثنين ذلك ونحوه إلى العشرة وفوقها بقليل، فيكون هذا كالتمثيل. ولا يخفى ضعف الجواب، وأجود منه أنَّ مراده أنْ يلقَى الواحد أو الاثنين مع انضمام أن يكثر من الرواية عنه، والزهري إنما وقع له ذلك في الواحد والاثنين ونحوهما وإنْ رأى مِن الصحابة كثيرًا. وعلى هذا فَعُدَّ نحو كثير بن العباس وأبي إدريس الخولاني، قال أبو داود في "سؤالات الآجُرِّي": سمعت أحمد بن صالح يقول: إنهم يقولون: إنَّ مولد الزهري سنة خمسين. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عبد الله، عن الزهري قال: وفدتُ إلى مروان ابن الحكم وأنا محتلم. ونقل ابن عبد البر عن قوم أن ما كان من قول صغار التابعين في ذلك ليس مرسَلًا، بل يسمَّى "منقطعًا" أيضًا؛ لكثرة الوساطة؛ لِغَلبة روايتهم عن التابعين، فيصير كمَن دُون التابعين في ذلك. ¬

_ (¬1) كذا في (ز)، لكن في (ص): و.

لكن المشهور -كما قال ابن الصلاح وغيره- التسوية بين التابعين في اسم "الإرسال" وإنْ تَغَايَرَا في حُكم الاحتجاج على قول الشافعي كما سيأتي. فقولي: (وَلَوْ يَكُونُ سَاقِطًا صَحَابِيْ) اسم كان مُؤخَّر وهو "صَحَابِيْ"؛ لأنه وإنْ كان بمِرة إلَّا أنه في سياق الشرط؛ فيقتضي العموم، وذلك من مُسَوِّغات الابتداء بالنكرة. وقولي: (في ظَاهِرٍ فَقَدْ يُزَادُ رَابِيْ) أي: زائدٌ على الصحابي، مِن "ربَا يربو": إذا زاد. وإذا احتمل سقوط غير الصحابي ممن يحتمل أن لا يكون عدلًا، فلم تتحقق عدالة الراوي. وكوْن الساقط هو الصحابي فقط إنما هو بحسب الظاهر، ويحتمل أكثر كما بينَّاه. وقولي: (وَذَا يُسَمَّى "مُرْسَلًا") أي: باتفاق في التابعي الكبير، وعلى الراجِح في الصغير. وقولي: (وَرُبَّمَا جَا في الْأُصُولِ رَسْمُهُ مُعَمَّمَا) إشارة إلى أن ما سبق في تفسير "المرسل" هو الراجح، فإنه قول الاكثرين المشهور الذي قطع به الحاكم وغيره من أهل الحديث، وجرى عليه كثير من الأصوليين. وربما وُجد في أصول الفقه تفسيره بأعم من سقوط الصحابي وسقوط غيره، وتحته طريقتان: إحداهما: تسمية ما سقط مِن الإسناد واحد أو أكثر -سواء الصحابب أو غيره- "مرسلًا"، فيتحد مع المسمى بِ "المنقطع" بالمعنى الأعم كما سبق، ويدخل فيه حينئذٍ "المعضل" وهو ما تَعدد فيه الساقط على ما سبق في تفسيره. قال ابن الصلاح: ففي الفقه وأصوله أن كل ذلك يسمى "مرسلًا". قال: (وإليه ذهب من أهل الحديث أبو بكر الخطيب وقطع به، إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الاستعمال ما رواه التابعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما ما رواه تابِعِيُّ التابعي

عنه فيسمونه " المعضل") (¬1). انتهى وعبارة ابن برهان (¬2): "المرسَل" أن يحذف الراوي واحدًا بينه وبين غيره، كقول التابعي: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، أو نحو ذلك، وقول واحد من تابعي التابعين: "قال أبو بكر"، ونحن نعلم أنه ما لقيه ولا سمع منه. وفي "المستصفى" للغزالي نحوه أيضا (¬3)، بل ويوجد مِثله في كلام المحدثين غير الخطيب، فقد نقله النووي في "شرح مسلم" عن جماعة مِن المحدثين. الطريقة الثانية: أن يقول مَن هو دُون الصحابي: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، أو نحو ذلك، أعم مِن أن يكون تابعيًّا أو دُونه، كما قال ابن الحاجب في تعريفه: هو قول غير الصحابي: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). فتلخَّص في تفسير "المرسل" أربعة آراء. وفيه أيضًا خامس: وهو أنه إذا قيل في الإسناد: (فلان، عن رجل)، أو: (عن شيخ، عن فلان) وذلك [غير] (¬4) النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو نحو ذلك مما يُذكر فيه الراوي مُبْهمًا. قال ابن الصلاح: (فالذي ذكره الحاكم في "معرفة علوم الحديث" أنه لا يُسمى "مرسلًا"، بل "منقطعًا" وهو في بعض المصنفات المعتبرة في أصول الفقه معدود من أنواع "المرسَل") (¬5). انتهى ¬

_ (¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 52). (¬2) انظر: الوصول إلى علم الأصول (2/ 178). (¬3) المستصفى (1/ 134). (¬4) في (ص): عن. وفي سائر النُّسخ: غير. (¬5) معرفة أنواع علوم الحديث (ص 53).

قيل: وكأنه يريد ببعض المصنفات المعتبرة "البرهان" لإمام الحرمين، فإنه قال فيه ذلك، قال: وكذا كُتُب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي لم يُسَم حاملها. وزاد صاحب "المحصول" على ذلك أنَّ الراوي إذا سمَّى الأصل بِاسْم لا يُعرف به فهو كالمرسل. على أنَّ هذا موجود في كلام أهل الحديث أيضًا، فقد ذكر أبو داود كثيرًا مما أبهم فيه الرجُل في كتاب "المراسيل". على أنَّ المختار أنه لا يسمَّى "مرسلًا" ولا "منقطعًا"، بل متصلًا في إسناده مجهول كما نقله الحافظ رشيد الدين العطار في "الغُرر" عن الأكثرين. وقال النووي في "شرح مسلم" في (البيوع) في الرجُل الذي أصابته الجائحة في ثمره: (قال القاضي: قول الراوي: "حدثني غير واحد" أو "حدثني الثقة" أو "حدثني بعض أصحابنا" ليس هو من المقطوع ولا من المرسل ولا من المعضل، بل هو من باب الرواية عن المجهول) (¬1). انتهى ومسألة "أخبرني الثقة" سبق ترجيح أن الجهالة فيها زالت بذلك إنْ كان قائله إمامًا معتبرًا. أما إذا وقع الإبهام في الواسطة بين التابعي والنبي - صلى الله عليه وسلم - وصرح في ذلك المبهم بأنه صحابي، فليس من "المرسل"؛ لأنَّ الصحابة عدول. وقد نقله الحافظ عبد الكريم في "القدح المعلى" عن أكثر العلماء. وما وقع في "سنن البيهقي" من جعل ذلك مرسلًا: إن أراد في التسمية مع كونه محتجًّا به كمرسل الصحابة فإنه يُسمى مرسلًا وهو حُجة كما سيأتي، فقريب، وإلا فممنوع؛ فقد ¬

_ (¬1) شرح النووي على صحيح مسلم (10/ 219).

صرح بخلافه البخاريُّ عن الحميدي والأثرمُ عن أحمد. نعم، فرَّق أبو بكر الصيرفي بين أنْ يُصرح التابعي بسماعه من الصحابي فيمبل؛ لأنهم عدول، أو يقول: (عن رجُل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -) فلا يُقبل؛ لاحتمال واسطة بينه وبين الصحابي. وهو حَسَنٌ متجه، وكلامُ مَن أَطْلَق محمولٌ عليه. قلتُ: "عن" محمولة عندهم على الاتصال كما سيأتي، فلا فرق حينئذٍ، وبتقدير التسليم فالفرق بينه وبين مسألتنا ظاهر، فإنَّ التصريح بأنَّ الواسطة صحابب لا يساويه المحتمل لوساطة غير الصحابي، والله أعلم. ص: 332 - نَعَمْ، يَكُونُ حُجَّةً مُرْسَلُ مَنْ ... لَمْ يَرْوِ إلَّاعَنْ عُدُولٍ تُؤْتَمَنْ 333 - كَابْنِ الْمُسَيِّبِ، الَّذِي يُرْسِلُهُ ... عَنْ صِهْرِهِ أَبِي هُرَيْرَةَ اعْزُهُ الشرح: هذا استدراك لإطلاق أنَّ "المرسَل" مِن "المنقطع" الذي لا يُحتج به، وقد حُكي فيه نحو العشرين قولًا، بعضها ضعيف جدًّا وبعضها داخل في الأقوال المشهورة فيه، فلنقتصر في ذلك على خمسة؛ لكونها أقوى، غَيْر ما في مسألة مرسَل الصحابي، فإنها تأتي مِن بعدُ. أحد الأقوال الخمسة: أنه يحتج به مطلقًا، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأشهر الروايتين عن أحمد، وحكاه في "المحصول" عن الجمهور، ومراده جمهور الأصوليين، واختاره أيضًا الآمدي. وذكر محمد بن جرير الطبري أنَّ التابعين أجمعوا بأَسْرهم على قبول المراسيل، ولم يأت عن أحدٍ إنكارُه إلى رأس المائتين.

قال ابن عبد البر: (كأنَّ ابن جرير يعني أنَّ الشافعي أول مَن رد المرسل) (¬1). انتهى قيل: إنْ صحَّ هذا عن ابن جرير فهو محمول على أنه لم يكن يُعمَل به إلى رأس المائتين حتى يحتاج لإنكار، فلمَّا عُمل به، أنكرَه مَن أنكره، وإلَّا فابن جرير مِن أجلاء الشافعية يَبعُد أن يدَّعي خَرْقَ إمامِهِ الإجماع، وإمامُه أَدْرَى بمواقع الإجماع والاختلاف مِن أمثاله، وهذا مُسْلم وابن عبد البر والخطيب ينقلون رده عن الجماهير كما سيأتي. قلتُ: الجواب حسن إلَّا كونه لم يكن يُعمل به إلى رأس المائتين، ففيه نظر؛ لأنَّ أبا حنيفة ومالكًا من القائلين بقبوله والعمل به. قيل: ويحتمل أنَّ مراد ابن جرير مراسيل الصحابة؛ لأنَّ المخالف فيها الأستاذ أبو إسحاق، وهو بعد المائتين. قلتُ: لكن بكثير، فإنَّ وفاته عاشر المحرم سنة ثماني عشرة وأربعمائة، فكيف يكون رأس المائتين غايةً لذلك؟ ! إلَّا أن يكون للأستاذ سَلَف في رأس المائتين قال ابن جرير ذلك لِأَجْلهِ. وغَلَا بعض هؤلاء فزعم أنَّ "المرسَل" أقوى من "المسند" من حيث إنَّ المرسِل له كأنه التزم صحته مِن حيث أَخفَى، بخلاف ما لو صرح. ويحكَى ذلك عن بعض الحنفية، وحكاه صاحب "الواضح" عن أبي يوسف. والشافعي - رضي الله عنه - قد أشار إلى رد ذلك، حيث قال -بعد المرسَل الذي اعتضد بما سنذكره عنه حتى صار حُجة -ما نَصه: (ولا نستطيع أن نزعم أنَّ الحجة تثبت [بها ثبوته] (¬2) بالمتصل، وذلك أن معنى المنقطع مغيب يحتمل أن يكون حمل عمن يَكون يُرْغَبُ عن الرواية ¬

_ (¬1) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (1/ 4). (¬2) كذا في جميع النُّسخ، وعبارة الشافعي في (الرسالة، ص 464): به ثبوتها.

عنه إذا سُمِّي) إلى آخِره. فأشار إلى انحطاطه؛ بما فيه مِن الاحتمال، هذا مع الاعتضاد، فكيف بالمجرد ولو قيل بحجيته؟ ! وإذا لم يُساوه فكيف يكون أقوى؟ ! الثاني: إلرد مطلقًا. قال ابن عبد البر: وهو قول أهل الحديث. قال ابن الصلاح: (وهو المذهب الذي استقر عليه [آراء جماهير] (¬1) حفاظ الحديث ونقاد الأثر) (¬2). أي: كما قاله الخطيب في "الكفاية". وبه قال القاضي أبو بكر من الأصوليين. وفي صدر "صحيح مسلم": ("المرسَل" في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة). وهذا وإنْ قاله مُسْلم على لسان غيره لكنه أَقرَّه. نعم، ظاهر كلام ابن الصلاح في قوله بالرد إنما هو في غير ما قدمه من "المرسل" المحتج به كما سنذكره عن الشافعي، إلَّا أنه لَمَّا نقل عن مسلم ذلك، ، اقتضى أنَّ مراده الرد مطلقًا، فبَيْن كلامَيْه بعضُ تَنافٍ إنْ لم يُؤوَّل. الثالث: إنْ كان المرسِل من أئمة النقل، قُبل، وإلَّا فلا. واختاره ابن الحاجب. الرابع وهو قول عيسى بن أبان: إنْ كان من مراسيل الصحابة والتابعين وتابِعي التابعين ومَن كان مِن أئمة النقل، قُبل، وإلا فلا. وقد يُدَّعَى اتحاده مع ما قَبْله؛ لأنَّ الظاهر بقوله: (التابعين وتابعي التابعين) مَن هو مِن أئمة النقل منهم، وأما الصحابة فكلهم أئمة النقل. فإنْ أراد عموم التابعين وتابعي التابعين، تَغايرَا، ولكنه بعيد. ¬

_ (¬1) في (ز): رأي. (¬2) معرفة أنواع علوم الحديث (ص 55).

نعم، هُما في الحقيقة راجعان إلى قبول المراسيل مطلقًا، إذِ المراد بأئمة النقل أهل الجرح والتعديل، ومَن ليس كذلك لا يقول أحد بقبول مرسَله، لأنَّ اعتماد القائلين له إنما اعتمدوا على أنَّ تركه تعديلٌ له وإلَّا لَمَا جاز له الجزم بأنَّ المحدَّث عنه صَدَر ذلك منه. لكن اختار ابن برهان في "وَجِيزِه" قريبًا من ذلك، وهو: مع كوْنه مِن أئمة النقل أنْ يكون مذهبه في الجرح والتعديل موافِقًا لمذهب مَن يريد العمل بمرسَله في ذلك. الخامس: وهو ما اقتصرتُ عليه في النَّظم؛ لأنَّه مذهب الشافعي الذي نَصَّ عليه، وهو أرجح الأقوال: أنَّ "المرسَل" لا يُحتج به بمجرَّدِه. ومن ألطَف ما استدل به الشافعي في ذلك وتداوله الناس عنه- كالغزالي وغيره- الإجماع على رد "المرسل" في الشهادة، وأهي، (¬1) أنْ لا يَذكر الشاهد مَن شهد على شهادته. ولم يجعلوا تركَه تعديلًا له؛ أفكذا، (¬2) الرواية؛ إذْ لا فارق بينهما فيما يرجع إلى العدالة. نعم، إذا انضم إلى "المرسَل" ما يتقوى به، يكون حجة. فمن ذلك إذا كان المرسِل له ممن عُرف أنه لا يروي إلَّا عن عدلٍ وقد اعتُبِرَت مراسيله فوُجدت مسانيد، كسعيد بن المسيب - رضي الله عنه -. لكن هل يحتاج "مُرْسَلُه" إلى انضمام ما يؤكده -كما سيأتي- مِن مُرْسَل غيْره؛ أو لا؛ قال الماوردي في "باب بيع اللحم بالحيوان": (إنَّ القديم (¬3): يُحتج به؛ لأنه لا يرسِل حديثًا إلَّا ويوجد مُسنَدًا، ولأنه لا يروي إلا عن أكابر الصحابة، وأيضًا فإنَّ مراسيله سُبِرَت ¬

_ (¬1) في (ت): هو. (¬2) في (ز): فكذلك. (¬3) يعني: مذهب الشافعي القديم.

فكانت مأخوذة عن أبي هريرة؛ لِمَا بينهما مِن الوصلة والصهارة (¬1)؛ فصار إرساله كإسناده عنه. ومذهب الشافعي في الجديد أنَ مرسَل سعيد وغيره ليس بحجة، وإنما قال: مرسَل سعيد عندنا حسن بهذه الأمور التي وصفناها) (¬2). يشير بذلك إلى العواضد التي قَدَّمها وسيأتي بيانها، قال: (استئناشا بإرساله، واعتمادًا على ما قارَنَه مِن الدليل؛ فيصير "المرسَل" مع ما قارنه حُجة) (¬3). انتهى فظاهره أنَّ الجديد الاحتياج للعاضد، وهو خِلاف ما حكاه ابن الصلاح عنه من كونه لا يحتاج بخلاف مرسل غيره. أنعم، (¬4)، هو ظاهر نَص الشافعي في "الرهن الصغير"، فإنه لَمَّا قيل له: فكيف قَبلتم عن ابن المسيب منقطعًا ولم تقبلوه عن غيره؛ : (قُلنا: لا نحفظ أن ابن المسيب روى منقطعًا إلَّا وُجد ما يدل على [مسنده] (¬5)، ولا نَأْثرُ روى عن أحد فيما عرفناه عنه إلَّا ثقة معروفا، فمَن كان مِثل حاله، قَبلنا منقطعه) (¬6). قال: (ورأينا غيره يُسمِّي المجهول ويُسمي مَن رُغبَ عن الرواية عنه، ويرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويرسل عمن لم يَلْحَق من الصحابة المستنكَر الذي لا يوجد له شيء [يرده] (¬7)، ففرقنا ¬

_ (¬1) قال الماوردي في (الحاوي الكبير، 5/ 158): (إنَّ سَعِيدًا كَانَ صِهْرَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى ابْنَتِهِ). (¬2) الحاوي الكبير (5/ 158). (¬3) الحاوي الكبير (5/ 158). (¬4) كذا في (ز، ق، ظ، ت)، لكن في (ص، ض، ش): بل. (¬5) كذا في (ز، ق، ش). وفي سائر النُّسخ: سنده. (¬6) الأم (3/ 192). (¬7) كذا في جميع النُّسخ. واللفظ في (الأُم، 3/ 188): يسدده.

بينهم؛ لافتراق أحاديثهم، ولم نُحابِ أحدًا، ولكِنَّا قَبِلنا في ذلك بالدلالة البيِّنة على ما وصفنا من صحة روايته) (¬1). انتهى ويمكن تأويل هذا النص بأنَّ المراد: قبلتم مرسل سعيد بشرطه، ويكون مراد الشافعي التنبيه على أحد الشروط التي نقلها عنه، وهو أنْ يكون المرسِل للحديث إذا سمَّى لا يُسمِّي إلَّا ثقة، فلا يخالف ما نقله الماوردي عن الجديد. ولهذا قال البيهقي: (إنَّ لابن المسيب مراسيل لم يَقبلها الشافعي حين لم ينضم إليها ما يؤكدها، ومراسيل لغيره قَبِلها حين انضم إليها ما يؤكدها) (¬2). انتهى ومنه يُعْلم أنَّ ذلك لا يختص بسعيد كما هو ظاهر نَص "الرهن الصغير" وإنْ زعم الروياني أنه يقتضي اختصاصه بسعيد، وكأنه نَظرَ أول النَّص دُون قوله بعده: (فمَن كان) إلى آخِره. وبذلك أيضًا يُردُّ على مَن زعم أنَّ الشافعي يحتج بمرسل سعيد والحسن دُون غيرهما. قلتُ: ولكون مرسَل سعيد لا بُدَّ له من الاعتضاد قال الشافعي في "المختصر" في باب "بيع اللحم بالحيوان" بعد أن روى عن مالك عن زيد بن أسلم عن ابن المسيب: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع اللحم بالحيوان" (¬3) وعن ابن عباس: "أنَّ جزورًا نُحرت على عهد أبي بكر الصديق، فجاء رجل بعناق، فقال: أعطوني جُزءًا بهذا العناق. فقال أبو بكر: لا يصلح ¬

_ (¬1) الأم (3/ 188). (¬2) معرفة السنن والآثار (4/ 445). (¬3) المستدرك على الصحيحين (رقم: 2252)، السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 10355). قال الألباني: حَسَن. (إرواء الغليل: 1351).

هذا" (¬1): (وكان القاسم بن محمد وابن المسيب وعروة وأبو بكر بن عبد الرحمن يحرمون بيع اللحم بالحيوان). إلى أن قال: (ولا نَعْلم أحدًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خالف في ذلك أبا بكر، وإرسال ابن المسيب عندنا حَسَن) (¬2). انتهى نعم، اختلف الأصحاب في قوله: (حسن) على وجهين حكاهما الشيخ أبو إسحاق والبغوي والخطيب في "الكفاية": أحدهما: معناه: محتج به. وصرح القفال في "شرح التلخيص" بنقله عن النص، فقال: قال الشافعي: مرسَل ابن المسيب عندنا حُجة. والئاني: معناه: يرجح به وإنْ لم يكن حُجة. وصححه الخطيب. فإنْ قيل: ما المراد بأنها تُتبعَتْ فَوُجِدَت مسانيد؟ أيْ: تُتبعَتْ كُلها فظهر أن سعيدًا أسندها مِن غيْر هذا الطريق؟ أو: [أنها] (¬3) تُتبعَ غالِبُها فكانت كذلك، فكأنها كلها مُسْنَدة؛ إلحاقًا للأقل بالأغلب؟ أو: تُتبعت فوُجدت كلها مسندة مِن غير طريق سعيد؛ فَحُكِمَ على الكل بذلك؟ فالجواب: أنَّ الظاهر إرادة الثاني؛ إذْ لو أُرِيدَ الأول لكانت مسانيد، لا مراسيل؛ لخروجها عن الإرسال بمجيئها مسندة مِن هذا الوجه؛ ولهذا قال الخطيب: إنَّ [مراسيل سعيد منها] (¬4) ما لم يوجد مسندًا بحال مِن وَجْهٍ يَصِح. ¬

_ (¬1) شرح السنة (8/ 76 - 77)، معرفة السنن والآثار (4/ 316). (¬2) مختصر المزني (ص 78). (¬3) في (ز): انه. (¬4) كذا في (ز، ظ، ض). وفي (ص، ش): من مراسيل سعيد منها. وفي (ق): من مراسيل سعيد.

وهذا غيْر ما سبق عن البيهقي أن بعضها لم يعتضد، فلا يُظَن اتحادهما. ولو أُريدَ الثالث -وإنْ أَوْهَمه كلام ابن الصلاح- لَمَا احتاجت إلى مُقَوٍّ آخَر، على أنَّ في اعتبار اجتماعه مع المسنَد المقَوِّي إشكال يأتي تقريره وجوابه. ومما يدل على نَفْي إرادة ذلك قول الشافعي: ولا نَعْلمه يَأْثر إلَّا عن الثقات. على أنه قد اختلف في اختصاص مراسيل سعيد بما ذكر بحسب الواقع وإنْ كان الشافعي قال: إنَّ مَن كان مِثله، يكون كذلك. فقيل: يختص، وكأنه قال: (إذا قلتُ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنما أعني أنَّ أبا هريرة أخبرني بذلك). فهو مُسْنَد حُكمًا، ولكنه لَمَّا انحطَّ عن درجة المسنَد الصريح، احتاج إلى المقَوِّي. وقيل: لا يختص؛ لأنه قد يوجد المعنى المذكور في غيره. تنبيهات أحدهما: ما سبق نقلُه عن "نحتصر المزني" من المرسَل في "بيع اللحم بالحيوان" أسنده الترمذيُّ من رواية زيد بن سلمة الساعدي، والبزارُ من رواية ابن عمر، والحاكمُ من حديث الحسن عن سمرة. وقد احتج البخاري بالحسَن عن سمرة، فهذا عاضِد آخَر لمرسَل سعيد زائد على ما في "المختصر". الثاني: من الفوائد المهمة أنَّ الشافعي قال في "الرسالة" ما نَصه: (وكُل حديث كتبه منقطعًا فقد سمعته متصلًا أو مشهورًا رُويَ عنه بنقل عامة مِن الفقهاء يروونه عن عامة، ولكن كرهتُ وضعَ حديثٍ لا أُتقِنُه حِفظًا، وخفتُ طولَ الكتاب، وغاب عني بعضُ كُتبي) (¬1). انتهى ¬

_ (¬1) الرسالة (ص 431).

وهو يشمل كل منقطع أورده في كُتبه مرسَلًا أو منقطعًا بغير الإرسال، فيكون متصلًا؛ لِمَا ذكره. وقد انكشف بذلك عن الناظر في كلامه غُمة عظيمة، فلله الحمد. الثالث: قولي: (الَّذِي يُرْسِلُهُ عَنْ صِهْرِهِ أَبِي هُرَيْرَةَ) إشارة إلى ما سبق نقله عن الماوردي؛ لأنَّ سعيدًا كان زوج ابنة أبي هريرة - رضي الله عنه -، والمعنى أنه إذا أرسل، فإنما يريد به ما رواه عن أبي هريرة -كما دل عليه الاستقراء- وإنْ كان قد روى عن غيره من الصحابة، فروى عن عمر كما في السُّنن الأربعة، وعن أُبَي وعن أبي ذر وأبي بكر عند ابن ماجه، وروى عن علي وعثمان و [سعد] (¬1) وأبي موسى وشريك وعائشة، وروى أيضًا عن أبيه وغيرهم في الصحيحين وغيرهما، وروى عنه خلائق، وقد كان رأس علماء التابعين وفقيههم، وُلد سنة خمس عشرة، وقيل: سبع عشرة. ومات سنة أربع وتسعين. فَ "الَّذِي يُرْسِلُهُ" مبتدأ، خبره الجملة الطلبية وهي "اعْزُهُ"، أي: انْسبه، أو مفعول بفعل مُقَدَّر، أي: اعز الذي يُرسله وارْوِه عن صهره. على قاعدة الاشتغال في العربية، بل هذا أرجح؛ لأنَّ الإخبار بالجملة الطلبية قليل، والله تعالى أعلم. ص: 334 - وَمَنْ يَكُونُ تَابِعًا كبِيرَا ... كَمَا رَآه الشَّافِعِي تَحْرِيرَا الشرح: "مَنْ" هذه في موضع خفض عطفًا على "مَنْ" التي أضيف إليها "مُرْسَلُ" في قولي: (نَعَمْ، يَكُونُ حُجَّةً مُرْسَلُ مَنْ). والمراد استثناء هاتين الصورتين من رَد المراسيل: إحداهما: مرسَل مَن لم يَروِ إلَّا عن العدول، كابن المسيب. ¬

_ (¬1) في (ص): سعيد.

والثانية: مَن يروي عن العدول وغيرهم ولكنه تابعي كبير، فإنَّ الغالب في مِثله أنْ لا يروي إلَّا عن الصحابة، وهُم عدول، فالغلبة فيما سبق باعتبار نفس المرسل، وفي الثاني باعتبار نوع الرسل، فافترقا. والتقييد بالتابعي الكبير هو ما قرَّره الشافعي وحرَّره في نَصه الآتي نقله عن "الرسالة" مبسوطًا وشرح ما يشكل منه. والمراد بالتابعي الكبير والصغير سبق بيانه قريبًا. قولي: (تَحْرِيرَا) مفعول ثاني لِـ "رَأَى"، أيْ: رأَى الشافعي أنَّ هذا القيد هو المحرر. والله أعلم. ص: 335 - بِشَرْطِ أَنْ يَعْضُدَ كلًّا مُسْنَدُ ... أَوْ قَوْلُ أَوْ فِعْلُ الصَّحَابِي يَعْضُدُ 336 - أَوْ وَفْقُهُ لِمَا يَقُولُ الْأَكثر ... أَوْ مُرْسَلٌ بِمِئْلِ هَذَا يُؤْثَرُ 337 - عَمَّنْ رَوَى لَا عَنْ شُيُوخِ الْأوَّلِ ... أَوِ انْتِشَارٌ أَوْ قِيَاسٌ مُنْجَلِي 338 - أَوْ عَمَلُ الْعَصْرِ بِهِ؛ فَيَحْصُلُ ... حُجَّيَّةُ الْمَجْمُوعِ لَا ذَا الْمُرْسَلُ 339 - مُجَرَّدًا وَلَا الَّذِي لَهُ عَضَد ... مَا لَمْ يَكُنْ لِمُسْنَدٍ قَدِ اسْتَنَدْ 340 - فِإنَّ كُلَّ وَاحِدٍ دَلِيل ... يَنْفَعُ في التَّرجِيحِ مَا [نقُولُ] (¬1) الشرح: المراد بقولي: (يَعْضُدَ كُلًّا) كل قسم من القسمين السابقين، وهذا على ما سبق من ترجيح أنَّ مرسَل سعيد بن المسيب ونحوه لا يُعمل به عند الشافعي إلا إذا اعتضد. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ض، ت، ش، ن 5). لكن في (ز، ظ، ن 1، ن 2، 3، ن 4): يقول.

والحاصل أنَّ العمل بالمرسَل مطلقًا عنده لا بُد له من مُقَوٍّ. نعم، شُرط في القسم الثاني زيادة على اشتراط المقوي ثلاثة شروط: - كونْه مِن كبار التابعين، وقد صرحتُ به في البيت الذي قبله. - وأن يكون بحيث لو سمَّى لم يُسَمِّ مجهولًا. - وأنْ لا ينفرد عن الثقات بمعنى مُرسَله. ولم أصرح بهما في النَّظم؛ لأنَّ الثالث يُفهَم مما سيأتي في "زيادة الثقة"، فإنه يدخل فيه الزائد عمَّا رواه الثقات وزيادة بعض حديث انفرد به عن الثقات. وإذا كان هذا في المسند لا يُقبَل إلَّا بشرط أنْ لا يخالفه الثقات في المعنى، ففي المرسَل أَوْلى. وأما الثاني فيخرج مِن اشتراط كوْن التابعي كبيرًا؛ لأنَّ العِلَّة فيه إنما هي روايته غالبًا عن الصحابة، وهُم عدول، فهذا في الغالب إذا سمَّى لا يُسمي إلَّا مَن هو معلوم العدالة، لا مجهولها، وحينئذٍ فتصريح الشافعي بهما للإيضاح وللبيان الشافي في ذلك. فلنذكر نَصه في "الرسالة" بحروفه؛ لِمَا اشتمل عليه من القواعد والفوائد، ونُبيِّن ما قد يحتاج إلى البيان وما تضمَّنه مِن صُوَر الاعتضاد، ثم نذكر ما زاد بعض أصحابه منها مما استُخرج من كلامه في غير ذلك، فأقول: قال الشافعي - رضي الله عنه - في باب "الحجة على تثبيت خبر الواحد" حيث ذكر أنه قال له قائل: فهل يقوم بالحديث المنقطع حُجة على مَن عَلِمه؛ وهل يختلف المنقطع؛ أو هو وغيره سواء؟ : (فقلتُ له: المنقطع نحتلِف، فمَن شاهد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التابعين فحدَّث حديثا منقطعًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، اعتُبِر عليه بأمور: منها: أن يُنظر إلى ما أَرسل من الحديث، فإنْ شركه فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل معنى ما رَوى، كانت هذه دلالة على صحة مَن قَبِل عنه وحفظه. وإنِ انفرد بإرسال حديث لم يشركه فيه مَن يسنده، قُبل ما ينفرد به مِن ذلك وُيعتَبر عليه بأنْ يُنظر هل يوافقه مُرسِلٌ غيرُه ممن قبل العِلم عنه مِن غير رجاله الذين قبل عنهم؛ فإنْ وُجد ذلك، كانت دلالة [تقوي] (¬1) له مرسَله، وهي أضعف من الأُولى. فإنْ لم يوجد ذلك، نُظر إلى ما يُروى عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قولًا له يوافقه، فإنْ وُجِد يوافِق ما رَوى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كانت في هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسَلَه إلَّا عن أصلٍ يصح إن شاء الله تعالى. وكذلك إنْ وُجد عوام من أهل العلم يُفتون بمثل معنى ما رَوى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم يُعتبر عليه بأنْ يكون إذا سَمى، لم يُسم مجهولًا ولا مرغوبًا عن الرواية عنه، فيُستدل بذلك على صحته فيما يروي عنه. ويكون إذا شَرِكَ أحدًا من الحفاظ في حديثه، لم يخالفه. فإنْ خالفه ووُجد حديثه أنقص، كانت في هذه دلائل على صحة مَخْرَج حديثه. ومتى خالف ما وصفتُ، أضَر بحديثه، حتى لا يَسَع أحدًا منهم قبولُ مراسيله. وإذا وُجدت الدلائل بصحة حديثه بما وصفتُ، أحببنا أنْ نَقبل مرسلَه، ولا نستطيع أن نزعم أنَّ الحجة تثبت بها ثبوتها بالمتصل؛ وذلك أنَّ معنى المنقطع مُغَيَّب، يحتمل أنْ يكون حُمِلَ عمن يُرغَب عن الرواية عنه إذا سُمي، وأنَّ بعض المنقطعات -وإنْ وافقه مرسَلٌ مِثله- فَقدْ يحتمل أنْ يكون مخرجهما واحدًا مِن حيث لو سُمي لم يُقبل، وأنَّ قول بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال برأيه [أو] (¬2) وافقه، لم تصح على مخرج الحديث دلالة قوية إذا نُظر فيها. ¬

_ (¬1) كذا في (ت، ق، ظ)، لكن في (ص، ش): يقوى. (¬2) كذا في جميع النُّسخ. لكن في "الرسالة، ص 464": لو.

ويمكن أنه يكون إنما غلط فيه حين سمع بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويحصل مِثل هذا فيمن [يوافقه عن بعض الفقهاء من بعض الفقهاء]) (¬1) (¬2). قال الشافعي: (فأما مَن بَعْد كبار التابعين الذين كثرت مشاهدتهم لبعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا أعلم واحدًا منهم يُقبل مرسلُه؛ لأمور: أحدها: أنهم أشد تَجوُّزًا فيمن يروون عنه. والآخر: أنهم تُؤخَذ عليهم الدلائل فيما أرسلوا بضعف مخرجه. والآخر: كثرة الإحالة في الأخبار، وإذا كثرت الإحالة في الأخبار كان أمكن للوهم وضعف من يُقبل عنه) (¬3). انتهى وممن روى كلام الشافعي هذا: أبو بكر الخطيب في "الكفاية"، وأبو بكر البيهقي في "الدخل" بإسنادهما الصحيح إليه. فقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أخبرنا الربيع بن سليمان. وقال الخطيب: (أخبرنا أحمد بن محمد بن عبد الله الكاتب، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر ابن محمد بن سلم، قال: أنا أحمد بن موسى الجوهري، ح. وأخبرنا محمد بن عبد العزيز الهمداني، قال: أخبرنا صالح بن أحمد الحافظ، قال: أخبرنا محمد بن حمدان الطرائفي، قالا: أخبرنا الربيع بن سليمان، قال: قال الشافعي: المنقطع مختلف ... ) (¬4) إلى آخِره. ¬

_ (¬1) كذا في جميع النُّسخ. لكن العبارة في "الرسالة، ص 465": فيمن وافقه من بعض الفقهاء. (¬2) الرسالة (ص 461 - 464). (¬3) الرسالة (ص 465). (¬4) الكفاية (ص 405).

ففيه ذكر الشروط الثلاثة السابقة. ولا يُقال: إنَّ قوله: (ثم يعتبر عليه بأن يكون إذا سمى مَن روى عنه لم يُسم مجهولًا) إنما هو من العواضد كما زعمه الإمام في "المحصول" وأتباعه حتى لا يكون شرطًا في كل مرسَل. لأنَّا نقول: لو أراد ذلك لقال: (وكذلك أن يكون إذا سمى) إلى آخِره، أو نحو ذلك، فعدوله إلى قوله: (ثم يعتبر) إلى آخِره - كالصريح في اعتباره في المرسل من حيث هو، والمعنى في اشتراطه مطلقًا واضح؛ ولهذا عطف عليه قوله: (ويكون إذا شرك أحدًا من الحفاظ)؛ فإثه لا يصح أن يُجعل من المقويات، بل اشتراط أنَّ المرسَل إذا رُوي معناه من وجهٍ آخَر أنْ يكون مساويًا لِمَا رواه الثقات في المعنى، وهو معنى قوله أولًا: فأسندوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل معنى ما رَوى. فإنْ خالفهم، اشترط أنْ تكون نحالفتهم له بالنقصان في المعنى. فإن قيل: ففي "مختصر المزني" في حديث: "إذا كان الماء قُلتين، لم يحمل نجسًا" (¬1) أو قال: "خبثًا" (¬2). أخرجه الشافعي بسنده، ثم قال: إنَّ ابن جريج روى بإسناد -لم يحضر الشافعي ذلك- بزيادة: "بِقلال هجر" (¬3). وكذا قال في "الأم" و"المسند". وقال ابن الأثير والرافعي في شرحيهما للمسند: إن الإسناد الذي لم يحضر الشافعي كما ¬

_ (¬1) مسند الشافعي (ص 7)، سنن أبي داود (رقم: 63) بلفظ: (إذا كان الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ، لم يَحْمِل الْخَبَثَ). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 63). (¬2) مسند الشافعي (ص 7) بلفظ: (إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ، لَمْ يَحْمِلْ نَجَسًا أَوْ خَبَثًا). (¬3) مختصر المزني (ص 9). ذكر الحافظ ابن حجر إسناده في كتابه (التلخيص، 1/ 18)، وفي إسناده محمد بن يحيى، قال الحافظ ابن حجر: مجهول الحال.

ذكره أهل العلم بالحديث: محمد [بن] (¬1) يحيى بن عقيل، أن يحيى بن يعمر أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا بلغ الماء قُلتين بِقلال هجر" (¬2) الحديث. وأخرجه كذلك الدارَقطني. قال ابن الأثير: (وهو مرسل، فإنَّ يحيى تابعي مشهور). انتهى فقد عمل الشافعي بالمرسل مع كونه مخالفًا للمسند بزيادة. فالجواب: أنه أنقص معنًى؛ لعموم قوله: "قلتين" -الواقع في جواب الشرط- كل قلتين، فتخصيصه بِقلال هجر نقص معنوي، فهو أنقص. وكذا يُجاب عن كل ما أشبه ذلك، كحديث: "قضى بالشاهد واليمين" (¬3)، ونحوه. والعلة في اشتراط عدم مخالفة المرسل رواية الثقات أنه لا يقوى حينئذٍ بما رووه، بل يضعف. ثم حاصل ما في كلام الشافعي من المقويات أربعة: أحدها: أن يأتي معناه مسندًا من طريق آخر، وهو أقوى الأربعة. ويُعْلم من تعبير الشافعي فيه بقوله: (شَرِكهُ فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه) أنَّ مِن شرط ذلك المسند أنْ يكون صحيحًا، خِلافًا لما زعمه الإمام في "المحصول" أنَّ مراد الشافعي المسند الضعيف. ¬

_ (¬1) كذا في جميع النُّسخ، والصواب: (عن) كما هو مَقْتَضى ما في السنن الكبرى للبيهقي (1173)، (التلخيص الحبير، 1/ 18). وفي (سنن الدارقطني، 1/ 24): (محمد بن يحيى أنَّ يحيى بن عقيل أخبره). (¬2) سنن الدارقطني (1/ 24)، السنن الكبرى للبيهقي (1173) بلفظ: ("إذا كان الماء قُلتين، لم يحمل نجسًا ولا بأسًا" فقلت ليحيى بن عقيل: قلال هجر؟ قال: قلال هجر). (¬3) مسند أحمد (2888)، وفي صحيح مسلم (رقم: 1712) بلفظ: (قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ).

ثانيها: أن يوافقه مرسَلٌ أَخَذَ مَن أرسله العِلم مِن غيْر مَن أَخَذ منه مرسِلُ الأول. ثالثها: أن يوافقه قول بعض الصحابة. رابعها: أن يوافقه قول أكثر العلماء، وهو معنى قول الشافعي: (عوام من أهل العلم)؛ إذْ لم يَقُل: (عوام أهل العلم) حتى يكون إجماعًا، ولا قال: (بعض أهل العلم) حتى يكون أقَل. وزاد الماوردي وغيره عن الشافعي: أن يوافقه قياس أو انتشار من غير دافع، أو عمل أهل العصر به، أو فِعل صحابي. وهذا الأخير ربما رُوي في النص السابق، ففيه بعد ما سبق من المقويات ما لفظه: نُظر إلى ما يُروى عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً له أو فعلاً. لكن هذا داخل فيما ذكره الشافعي ثالثًا، وهو عمل بعض الصحابة، فإنه يشمل القول والفعل؛ فلذلك صرحتُ بهما في النَّظم، وذكرت هذه السبعة لا على ما وقع في ترتيب الشافعي كما تراه؛ لأجل النَّظم. وأسقطتُ التقوية بعمل أهل العصر؛ لأنه إذا كان قول الأكثر عاضدًا، فقول الكل أَوْلى، ويأتي فيه ما سنذكره في اجتماع المرسل والمسند من كونهما دليلين. وزاد الماوردي تاسعًا: وهو أنْ لا يوجد دليل سواه. ونقله أيضًا إمام الحرمين عن الشافعي، فقال: (وقد عثرتُ في كلامه على أنه إذا لم يجد إلَّا المرسَل مع الاقتران بالتعديل على الإجمال، عمل به) (¬1). ورُدَّ بأنه لا يُعرف ذلك عن الشافعي. وبالغ ابن السمعاني في التغليظ على الإمام، وقال: (أجمع كل مَن نقل عن الشافعي من ¬

_ (¬1) البرهان في أصول الفقه (1/ 411).

العراقيين والخراسانيين أنَّ أصله رذُ المراسيل، وأنها لا تُقبَل بنفسها بحال) (¬1). وأيضًا فإن كان في نفسه حُجة، فلا حاجة لفقد الدليل. وإنْ لم يكن حُجة، فسواء وجُد دليل آخَر أوْ لا، ومثل هذا بعيد عن التعقل. نعم، إنْ أُريدَ -على بُعْد- بفقد الدليل فقدُ دليل يُخالفه، فيرجع حاصله إلى أنه حُجة ضعيفة لا تقاوم شيئًا من الأدلة إلَّا البراءة الأصلية؛ لفقد غيرها، فإنها أضعف منه. قلتُ: ورأيت في كلام الماوردي ما يرشد لذلك، فقال في "باب زكاة الفطر" في قول الشافعي: (أخبرنا مالك بن أنس، عن حميد بن قيس، عن طاووس أنَّ معاذًا أخذ من ثلاثين بقرة تبيعًا، ومن أربعين بقرة مسنة): (فإنْ قيل: حديث معاذ مرسل؛ لأنَّ طاووسًا ولد في زمن عمر، وكان له سَنة حين مات معاذ، والشافعي لا يقول بالمراسيل، فكيف يعتد بها؛ قيل: الجواب عنه من ثلاثة أوجُه). إلى أن قال: (والجواب الثاني: أنَّ الشافعي يمنع مِن أخذ المراسيل إذا كان هناك مسند يعارضه، فإن كان مشتهرًا لا يعارضه فالأخذ به واجب) (¬2). انتهى نعم، تسميته لذلك "مرسلًا" إنما هو على طريقةٍ كما سبق، إلَّا أن يحمل على أنَ معاذًا إنما أخذ من ثلاثين بقرة تبيعًا ومن أربعين مُسنّة بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له بذلك حين وجَّهه إلى اليمن كما جاء في أصل الحديث، فإنه ينحل إلى رواية طاووس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فهو مرسَل على كل حال على هذا التقرير. ويمكن جواب آخَر عن قول الماوردي والإمام، وهو: أنَّ المرسَل إذا دل على منع شيء ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة (1/ 379). (¬2) الحاوي الكبير (3/ 107).

مباح بالبراءة الأصلية، وجبَ أنْ يُكَف عنه احتياطًا، لا لكون المرسَل حُجة كما قاله إمام الحرمين في المجهول إذا روى خبرًا أنه يجب الانكفاف ويُبحث عن حاله، وقد سبقت المسألة. وزاد بعضهم مقويًّا عاشرًا كما هو ظاهر عبارة "المحصول": أن يكون ممن سُبر مرسَلُه فوُجد مسندًا، كابن المسيب. لكنه تفريع على أنَّ مرسَل ابن المسيب ونحوه يُحتج به بمجرده مِن غير انضمام عاضِدٍ، وسبق أنَّ الراجح خِلافه. وبتقدير التسليم فهو في الحقيقة مسند. ومعنى قول الشافعي: (أحببنا) كما قال البيهقي: اخترنا. وكذلك قال القفال في "شرح التلخيص": إنَّ الشافعي يقول: "أحب" ويريد به الإيجاب. ووقع في "تقريب" القاضي أبي بكر أنَّ معناه: الاستحباب، فيُفهم أنَّ الأخذ بالمرسَل عنده مستحب، لا واجب. وضُعِّف بأن الشافعي لم يُرِد به قسيم الواجب؛ إذ ليس في الأدلة ما يُستحب الأخذ به ولا يجب، فالمراد قصوره عن رُتبة المسند كما صرح به عَقِبَهُ. وأعجَبُ من ذلك قول النووي في "شرح الوسيط": (إنَّ المرسَل ليس بحجة عندنا، إلا أن الشافعي قال: يجوز الاحتجاج بمرسل الكبار من التابعين بشرط أن يعتضد بأحد أمور أربعة) إلى آخِره. وهو إشارة إلى النّص، فعبَّر بالجواز تَعَلُّقًا بِقول الشافعي: (أحببنا)، لكن قد سبق المراد به، إذِ الجواز لا معنى له هنا؛ لأنه إنْ كان دليلاً، وجب العمل به، أو غير دليل، لا يجوز العمل به، اللهم إلا أن يريد النووي بالجواز أنه يسوغ الاستدلال به كسائر الأدلة، بمعنى أنه دليل، لا التخيير في تركه.

قولي: (فَيَحْصُلُ حُجَّيَّةُ الْمَجْمُوعِ) إلى آخِره -إشارة إلى سؤال مشهور أورده القاضي أبو بكر على الشافعي وتداوله الأصوليون، ونقله الإمام فخر الدين عن الحنفية، وتقريره: - إنَّ المرسَل إذا أُسند مِن طريق آخَر، فالعمل بالمسنَد. - وإنْ لم يسند وانضم إليه ما يكون حُجة (كعوام الفقهاء إنْ كان الشافعي أراد به الإجماع، وكالقياس الصحيح ونحوه)، فالعمل بالمنضم؛ لأنه حُجة على استقلاله. - وإنْ لم ينضم إليه ما ليس بحجة (كمرسل آخَر، وقول صحابي، وفتوى الأكثر إنْ أراده الشافعي بقوله: "عوام من أهل العلم"، ونحو ذلك)، فقد انضم غير مقبول إلى مِثله؛ فلا حُجة فيهما. فيجاب عن هذا الشق: بأنَّ المرسَل لَّمَا كان ضعيفًا، انجبر بما انضم إليه، وزال ضعفه بما يزيل التهمة فيه عن الراوي المحذوف، فالحجة بمجموع الأمرين كما يُفهمه قول الشافعي: (يقوي له مرسله). وسبق تقرير الماوردي له بأن الحجة ليست في المرسَل وحده ولا في المنضم وحده. وأما الجواب عن الشق الأول: فإن المسند إذا انضم إلى المرسل -كما قاله ابن الصلاح- كأنه بيَّن أن الساقط في المرسَل عَدْل محتج به، فوجب أن يكون دليلًا، ولا امتناع أن يكون للحكم دليلان، وتظهر فائدته في الترجيح عند التعارض. وأما عند انضمام إجماع أو قياس فكذلك فيه دلالة على صحة سند المرسل، [فيكونان] (¬1) دليلين أيضًا، كما في انضمام المسند. لكن في حالة انضمام إجماع نَظَر؛ فإنَّ الإجماع على وَفْق دليل لا يَلزم أنْ يكون مستندَه، ¬

_ (¬1) في (ض، ص، ظ): فيكونا.

والقياس على وَفق شيء لا يَلزم منه صحته؛ لأنَّ الاعتماد في القياس على دليل الأصل المُقاس عليه؛ فلذلك لم أذكر في النَّظم إلا حالة انضمام المسند التي ذكرها ابن الصلاح، على أنَّ ابن الحاجب قد سلَّم ورود الاعتراض في هذا الشق، واقتصر على الجواب عن الشق الآخَر. تنبيهان أحدهما: مما ذكره الشافعي في كون المرسَل إذا لم يعتضد لا يكون حجة ما قال فيه: أخبرنا ابن عيينة عن محمد بن المنكدر أنَّ رجلًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا رسول الله، إنَّ لي مالًا وعيالًا، وإنَّ لأبي مالًا وعيالًا ويريدُ أنْ يأخذَ مالي فيُطعم عياله؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنت ومالك لأبيك" (¬1). قال الشافعي: محمد بن المنكدر غاية في الثقة والفضل والدِّين والورع، ولكن لا ندري عمن قبل هذا الحديث. الثاني: هل تنحصر التقوية فيما ذُكر؟ أوْ لنا أن نُقوي بغيرها إذا ظهر؟ الظاهر: نعم؛ لأن المراد معلوم. ويحتمل المنع؛ لأنها من تخريج الراسخين في العِلم العالمين بمواقع الانجبار ومناسبة الجوابر، وفي هذه الأزمان قَصُرَت الأفهام عن التدقيق، فَيبعُد الإتيان بمثلها، والله تعالى يؤتي الحكمة مَن يشاء، ويختص بفضله مَن يريد، والله أعلم. ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه (رقم: 2291)، وقال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 2322). وفي سنن أبي داود (رقم: 3530) بلفظ: (أنت وَمَالُكَ لِوَالِدِكَ) بإسناد اَخر، وقال الألباني: حسن صحيح. (صحيح أبي داود: 3530).

ص: 341 - وَالْأَخْذُ بِالَّذِي يَقُولُ الصَّاحِبُ: ... "قَالَ رَسُولُ اللهِ" حُكْم وَاجِبُ الشرح: لَمَّا كان الاتصال شرطًا في السند ليتحقق اجتماع الشروط كما سبق، وَجبَ أن يكون للراوي عن غيره صيغة تدل على عدم الوسط: - صريحة: نحو: "حدَّثني" و"أخبرني" و"سمعتُ" و"رأيتُ"، ونحو ذلك، وهذه أرفع الدرجات، سواء في الصحابي وغيره وإنْ قصرها الإمام الرازي وأتباعه على ألفاظ الصحابي. - أو راجحة من احتمالين: وعليها اقتصرتُ في النظم، لأنَّ الأُولى واضحة. لكن لغير [الصريح] (¬1) مراتب وهي في الصحابي، وأما غيره فسنتعرض لِمَا يمكن أن يجرى فيه من ذلك. فالمرتبة الأولى: إذا قال الصحابي: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أو "فعل كذا" أو نحو ذلك، وجب أن يحمل على الاتصال، وأنْ لا واسطة بينهما، فيكون ذلك حُكمًا شرعيًّا يجب العمل به. ويُعبر عن هذه المسألة بِ: مُرسَل الصحابي هل هو حُجة؛ أوْ لا؟ الأكثرون أنه حُجة، خلافًا لما يُحكى عن الأستاذ أبي إسحاق الأسفراييني أنه ليس بحجة إلا أن يقول إنه لا يروي إلا عن صحابي، أي: فيما لا يمكنه إدراكه وأمما، (¬2) يمكن أنه لا يروى إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو يعتضد بما سبق في مراسيل التابعين. ¬

_ (¬1) في (ز): الصحابي. (¬2) في (ش): فيما.

وهذا بناء على المشهور في تعليل المنع بأن الصحابي قد يروي عمن لا تُعلم عدالته ما لم يُنقَّب عنها كالتابعين، ومقابِله تعليل القرافي ذلك باحتمال روايته عن صحابي قام به مانع، كماعز وسارق رداء صفوان، ولا يَخفى ما فيه من نظر. وفي بعض كُتب الحنفية التصريح بأنه لا خلاف في الاحتجاج به، وكذا في "النهاية" للهندي أنه لا يتجه في قبوله خلاف، قال: لظهوره في الرواية عنه - صلى الله عليه وسلم -، وبتقدير روايته عن الصحابة فغير قادح؛ لثبوت عدالتهم، وأما احتمال رواية الصحابي عن تابعي فنادِر. وقد جرى على نحو هذا السبكي في شرح "المختصر" حيث قال ابن الحاجب: (إنه محمول على أنه سمعه منه، وقال القاضي: متردد). أيْ: بيْن ذلك وبين أن يكون سمعه من غيره عنه -صلى الله عليه وسلم-، بناء على عدالة الصحابة. أي: فإنْ قُلنا: الكل عدول، قُبل، وإلَّا كان كمرسل التابعي، بل يحتمل أن يكون الصحابي سَمعه مِن تابعي [عن] (¬1)، صحابي (¬2) فقال: (هذا الذي نقله المصنف عن القاضي تبع فيه الآمدي، ولا نعرفه، والذي نَص عليه القاضي في "التقريب" حَمْلُ "قال" على السماع ولم يَحْكِ فيه خلافًا، بل ولا أحفظُ عن أحدٍ فيه خِلافًا) (¬3). انتهى وهو عجيب؛ فإن ظاهر إطلاق الغزالي وابن برهان وغيرهما أن الشافعي يَرُد المرسل مطلقًا ولو كان مرسل صحابي إلَّا بانضمام مقوٍّ، وأنَّ الذي يحتج بمرسل الصحابة إنما هو بعض المنكرين للمرسَل، وكذا قال القاضي عبد الوهاب في "الملخص": إنَّ مذهب الشافعي ¬

_ (¬1) كذا في (ز)، لكن في (ص): غير. (¬2) عبارة ابن الحاجب في (مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني، 1/ 718): (إِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: "قَالَ -صلى الله عليه وسلم-"، حُمِلَ عَلَى منهُ سَمِعَهُ مِنْهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: مُتَرَدِّدٌ. فَيُبْتَنَى عَلَى عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ). (¬3) رفع الحاجب (2/ 408).

رد [المراسيل] (¬1) مطلقًا. ومن أصحابه مَن يقول: إنَّ مذهبه قبول مراسيل الصحابة. وفي "الوسيط" لابن برهان: (اختلف أصحابنا في مراسيل الصحابة، فمنهم مَن قال: إنها مقبولة؛ لأنَّ الشافعي قد قبل مراسيل سعيد، فلأنْ يَقبل ذلك مِن الصحابة أَوْلى. ومنهم مَن قال: لا يُقبل؛ لأنَّ الشافعي ما قَبِل المراسيل، وإنما عمل بمراسيل سعيد؛ لأنه تتبعها فوجدها مسندة، فقبلها من حيث الإسناد، لا من حيث الإرسال. وهذا هو الأصح). انتهى ونقله سليم عن الأشعري وأن الشيخ أبا إسحاق حكاه في "التبصرة" عن الأشعرية، واختاره أبو الخطاب من الحنابلة ونقله أيضًا عن الأشعرية، وقد حكى الخلاف أيضًا بعض المحدثين. نعم، ابن الصلاح جَزَم بأنَّ ذلك في حُكم الموصول المسند، لكنه فرض المسألة في أحداث الصحابة، ويؤخَذ منه أن كبار الصحابة مِن باب أَوْلى. وكذلك مَثَّله النووي في "شرح مسلم" بقول عائشة -رضي الله عنها-: "أول ما بُدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة" (¬2). وهي من كبار الصحابة، [فقد] (¬3) روت قضية لا يمكن أن تكون حضَرتها؛ فيُحمل على أنه - صلى الله عليه وسلم - حدَّثها بذلك. وإنما قَبِلنا مراسيل الصحابة -كما قال ابن الصلاح- لأنَّ روايتهم عن الصحابة، والجهالة بالصحابي غير قادحة؛ لأنَّ الصحابة كلهم عدول. وما أشار إليه من روايتهم عن الصحابة إنما هو بحسب الغالب، وربما كانت روايتهم عن التابعين، وقد ذكر الخطيب فيما صَنَّفه فيمن روى مِن الصحابة عن التابعين نحو ثلاث ¬

_ (¬1) في (ز): المرسل. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 3). (¬3) في (ز): نعم قد.

وعشرين رواية وإن كان الغالب أنها إسرائلي أو موقوف أو حكاية، والمرفوع من ذلك قليل. كحديث سهل بن سعد، عن مروان بن الحكم، عن زيد بن ثابت: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أملى عليه: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95]، فجاء ابن أم مكتوم" (¬1) الحديث. رواه البخاري. وحديث السائب بن يزيد، عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري، عن عمر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، كُتب له كأنما قرأه من الليل" (¬2). رواه مسلم. وحديث يعلى بن أمية، عن عنبسة بن أبي سفيان، عن أخته أم حبيبة - رضي الله عنها-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَن صلَّى ثنتي عشرة ركعةً بالنهار أو بالليل، بُني له بيت في الجنة" (¬3). رواه النسائي. وغير ذلك مما يطول ذكره، والله تعالى أعلم. ص: 342 - وَ"عَنْ" وَ"أَنَّ" وَالَّذِي كَ "أُمِرَا" ... أَوْ "حُرِّمَ" اوْ"رُخِّصَ" فِيمَا أُثِرَا الشرح: هذه المرتبة الثانية من ألفاظ الصحابي المحتملة للاتصال -بِرُجْحان- ولغَيْره. أن يقول الراوي عن الصحابي بَعْد ذِكره: "عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "، أو: "عن رسول الله". ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 2677). (¬2) صحيح مسلم (رقم: 747). (¬3) سنن النسائي (رقم: 1799). قال الألباني: صحيح الإسناد. (صحيح النسائي: 1798).

أو يقول: "أنَّ النبي- أو: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال كذا"، أو: "فَعل كذا". فأما "عَنْ " فتكون فيما بين الصحابي والنبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيما بين من دُونه وبين مَن فوقه. وُيسمَّى ذلك كله عند المحدثين "العنعنة"، وهي: إيراد الحديث بلفظ "عن" مِن غير تصريح بالتحديث. قال ابن الصلاح: (عَدَّه بعض الناس من قبيل المرسل والمنقطع حتى يتبين اتصاله بغيره) (¬1). أي: محتجًّا بأنه لَمَّا احتمل الاتصالَ والانقطاعَ، احْتيط في أمره وجُعل مُرْسَلاً إنْ كان مِن قِبَل الصحابي، ومنقطعًا إنْ كان مِن قِبَل غيْره. وأُجيب بأنَّ "عن" لا بُد لها من متعلق كـ "رَوى" أو "حدَّث" أو نحوه، فيكون متصلًا. قال ابن الصلاح: (والصحيح الذي عليه الجمهور أنه من قبيل الإسناد المتصل، أي: حتى لو تَبيَّن عدم اتصاله بوجه آخَر، يكون ذلك كالإرسال الخفي. وإلى هذا ذهب الجماهير من أئمة الحديث وغيرهم، وأودعه المشترطون للصحيح في تصانيفهم فيه وقبلوه، وكاد ابن عبد البر يَدَّعي إجماع أئمة الحديث على ذلك) (¬2). انتهى ولا حاجة [إلى قوله] (¬3): (كاد يدعي)؛ فقد ادَّعاه صريحًا في مقدمة "التمهيد"، فقال: (اعلَم -وفقك الله- أني تأملتُ أقاويل أئمة الحديث ونظرتُ في كتب مَن اشترط الصحيح في النقل ومَن لم يشترطه، فوجدتهم أجمعوا على قبول الإسناد المعنعن، لا خلاف بينهم في ذلك إذا جمعَ شروطا ثلاثة، وهي: عدالة المخبرين، ولقاء بعضهم بعضا مجالسةً ومشاهدةً، ¬

_ (¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 61). (¬2) معرفة أنواع علوم الحديث (ص 61). (¬3) كذا في (ز، ض). وفي (ص، ق، ت، ظ): لقوله.

وأن يكونوا بُرَآءَ من التدليس). ثم قال: (وهو قول مالك وعامة أهل العلم) (¬1). انتهى قال ابن الصلاح: (وادَّعى أبو عمرو الداني المقرئُ الحافظ إجماعَ أهل النقل على ذلك) (¬2). قلمتُ: وكذلك أيضًا ادَّعى مسلم الإجماع في خطبة "الصحيح" وإنِ اعترض عليه في ذلك. نعم، يُشترط في غير الصحابة ما سبق نَقله عن ابن عبد البر ثلاثة شروط، وذكرها أيضًا ابن الصلاح سِوى شرط العدالة، فإنه لم يذكره؛ لأنه شرط في الاحتجاج بالحديث، لا في كَونه متصلًا؛ ولذلك لا يتعرضون له في تعريف "المتصل" ونحوه. وجرى البيضاوي والهندي على تصحيح الاتصال فيما إذا كانت العنعنة بين الصحابي والنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومُقَابِلُه التوقّف كما اقتضاه "المحصول". وأمَّا "أنَّ" فقال ابن الصلاح: (اختلفوا في قول الراوي: "أنَّ فلانًا قال كذا وكذا" هل هو بمنزلة "عن" في الحمل على الاتصال إذا ثبت التلاقي بينهما حتى يتبين فيه الانقطاع؛ مثاله: مالك عن الزهري أنَّ سعيد بن المسيب قال كذا) (¬3). قلمتُ: في كون محل النزاع مثل ما ذكره من التصريح بعد "أنَّ" بلفظ "قال" ونحوه- نَظَرٌ؛ فإنَّ ذلك لا ينحط عن درجة "قال" المجردة عن "أنَّ"؛ إذْ لم يَرِد فيه (¬4) إلا ما يدل على ¬

_ (¬1) التمهيد (1/ 12 - 13). (¬2) مقدمة ابن الصلاح (ص 62). (¬3) مقدمة ابن الصلاح (ص 62). (¬4) يقصد صيغة: أنَّ فلانًا قال كذا.

التأكيد. والذي يظهر أن يكون محل النزاع أنْ يقول -مَثلًا- فلان: (أنَّ فلانًا فَعل كذا) أو: (قال لفلان كذا)، أو نحو ذلك مِن غير أنْ يذكر لفظًا يدل على أنه حدَّثه بذلك أو سمعه منه. قال ابن الصلاح: (ورُوينا عن مالك أنه كان يرى "عن فلان" و"أنَّ فلانًا" سواء، وعن أحمد: [لَيْسَا] (¬1) سواء) (¬2). انتهى واعتُرض عليه بأنَّ أحمد لم يَقُل ذلك كما رواه الخطيب في "الكفاية" بسنده إلى أبي داود فيما قيل له: إنَّ رجُلًا قال: "عروة أنَّ عائشة قالت: يا رسول الله"، و"عروة عن عائشة" سواء. فقال: ليس هذا بسواء. أي: لأنَّ عروة في الأول استند إلى قول عائشة ولا أدرك القصة؛ فكان منقطعًا، و"عن" بمجرفى ها تدل على التحديث، ولا إشكال في ذلك، فكان متصلًا. فلو قال: (أنَّ عائشة قالت: قلتُ: يا رسول الله)، كان متصلًا. وحكى ابن عبد البر عن جمهور أهل العلم أنَّ "عن" و"أنَّ" سواء، وعن البرديجي أبي بكر أنَّ حرف "أنَّ" محمول على الانقطاع حتى يتبين السماع في ذلك الخبر بِعَيْنه من جهة أخرى. قال ابن عبد البر: (وعندي لا معنى لهذا؛ لإجماعهم على أنَّ الإسناد المتصل بالصحابب سواء قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" أو "أنَّ رسول الله" أو "عن رسول الله" أو "سمعتُ") (¬3). انتهى ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ت، ش)، لكن في (ص، ض): لنا. (¬2) معرفة أنواع علوم الحديث (ص 62). (¬3) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (1/ 26).

قال ابن الصلاح: (ووجدتُ مثل ما حكاه عن البرديجي للحافظ الفحل يعقوب بن شيبة في "مسنده " الفحل، فإنه ذكر فيه ما رواه أبو الزبير عن ابن الحنفية عن عمار قال: "أتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يُصلي فسلمت عليه، فَرَدَّ عليّ السلام" (¬1)، وجعله مسندًا موصولًا. وذكر رواية قيس بن سعد لذلك عن عطاء بن أبي رباح عن ابن الحنفية: "أنَّ عمارًا مَرَّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي" (¬2)، فجعله مرسَلًا) (¬3). وأُجيب عن ذلك بمثل ما سبق في قول أحمد؛ وذلك لأنَّ ابن الحنفية لم يُسند القصة إلى قول عمار، ولو قال: أنَّ عمارًا قال: (مررتُ بالنبي - صلى الله عليه وسلم -) لَمَا كان مرسلاً، ولكنه لَمَّا قال: (أنَّ عمارًا مَر)، كان حاكيًا لقصة لم يدركها، فتحَصَّلَ أنه ليس في كلام ابن أبي شيبة ولا أحمد ما يدل على الاستواء، إلا أن يريدا ما سبقت الإشارة إليه من أنَّ "عن" تتعلق بِـ "حدَّث" أو "قال" محذوفة، ولا كذلك "أنَّ"؛ فافترقا. ويظهر أثر هذا الفرق في نحو حديث عائشة في بدء الوحي، فإنه مرسَل صحابي كما قاله النووي كما سبق؛ لأنها لم تسنده إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أدركَتْ الواقعة. ولو أُتِي هنا بِ "عن" بدل "أنَّ" كما لو قيل: (عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أول ما بُدئَ به الوحي) إلى آخره، كان ذلك ظاهرًا في أنه - صلى الله عليه وسلم - حدَّثها بذلك أو سَمعَته يقوله وإنْ لم يُؤتَ في ذلك بلفظ "قال" ونحوه. فالضابط كما قاله ابن عبد البر أنَ الراوي لقضية: - إنْ أمكن أن يكون أدركها، حُكِم بالاتصال. ¬

_ (¬1) مصنف ابن أبي شيبة (رقم: 4823). (¬2) معجم الصحابة لابن قانع (2/ 250) بلفظ: (أن عمار بن ياسر مر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ... ). (¬3) مقدمة ابن الصلاح (ص 62).

- أو لم يدركها وكان صحابيًّا، فمرسل صحابي. - أو تابعيًّا، حُكِم بالانقطاع، إلا أنْ يُسندها إلى صحابي. وممن حكى اتفاق أهل النقل على ذلك أبو عبد الله بن المواق، فذكر من عند أبي داود حديث عبد الرحمن بن طرفة: "أنَّ جدَّه عرفجة قُطع أنفه يوم الكُلَاب" (¬1) الحديث، وقال: إنه عند أبي داود هكذا مرسَل. قال: وقد نبه ابن السكن على إرساله. قال: وهذا بيِّن، لا خلاف بين أهل التمييز من أهل هذا الشأن في انقطاع ما يروى. كذلك إذا عُلم أنَّ الراوي لم يدرك زمان القصة كما في هذا الحديث ونحوه. قولي: (وَالَّذِي كـ "أُمِرَا" أَوْ "حُرمَ" اوْ "رُخِّصَ") هو بضم أولها على البناء للمفعول، والمراد مِن ذلك أن الصحابي إذا قال: (أُمرنا بكذا) أو (نُهينا عن كذا) أو (رُخص لنا في كذا) أو: (حُرم علينا كذا)، يكون ذلك محمولًا على الاتصال، أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أمرهم ونهاهم ورَخص لهم وحَرم عليهم تبليغًا عن الله عز وجل، وإنْ كان يحتمل أنَّ ذلك من بعض الخلفاء لكنه بعيد" فإن المشَرِّع لذلك هو صاحب الشرع. هذا قول الشافعي وأكثر الأئمة، خلافا للصيرفي والإسماعيلي وإمام الحرمين وللكرخي والرازي من الحنفية ولأكثر مالكية بغداد، ونقله ابن القطان عن نَص الشافعي في الجديد وأنَّ القول بأنه مرفوع هو القديم. وحكى ابنُ السمعاني قولًا ثالثًا بالوقف، وابنُ الأثير في أول "جامع الأصول" قولًا رابعًا: إنْ كان من قول أبي بكر الصديق فمرفوع؛ لأنه لم يتأمَّر عليه غيرُه، أو مِن قول غيره فلا. ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (رقم: 4232)، سنن النسائي (5161) وغيرهما. قال الألباني: حسن. (صحيح أبي داود: 4232).

وفي "شرح الإلمام": إنْ كان قائله من أكابر الصحابة كابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ ابن جبل -رضي الله عنه-، وفي معناهم مَن كَثُر إلمامُهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وملازمتهم، كأنس وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس. وأمَّا غير هؤلاء فالاحتمال فيهم قوي. ثم قال القاضي في "التقريب": إنه لا فرق بين أن يقول الصحابي ذلك في زمنه - صلى الله عليه وسلم - أو بعده. أما لو قال التابعي ذلك فقد تردد الغزالي بين كونه موقوفًا أو مرفوعًا مرسَلًا، وجزم ابن عقيل من الحنابلة بأنه مرسل. تنبيهان أحدهما: عُلم من ذلك أنه إذا صرح الصحابي بالفاعل، يكون متصلاً مِن باب أَوْلى، بأنْ يقول: (أَمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، أو: (نهانا)، أو: (حَرم علينا)، أو: (فَرض)، أو: (رَخص)، أو نحوه، وأنَّ ذلك مِثل "قال". وقد سبق بيان ما فيه؛ لأنه مرسل صحابي، إلا أنَّ هذا يطرقه أمر آخَر من حيث يحتمل أنْ يَظن ما ليس بأمرٍ أمرًا، لكنه بعيد، فلذلك ذهب الجمهور إلى أنه حُجة. وخالف داود، فقال: لا يُحتج به حتى ينقل لفظ الرسول. ونازع ابنُ بيان -من أصحاب داود- في ثبوت ذلك عن داود. أمَّا حملُ لفظ الأمر على الوجوب والنهي على التحريم أوْ لا فسيأتي في محله من باب "الأمر والنهي". وفي المسألة مذهب ثالث بالتفصيل بين أن يكون الناقل له من أهل المعرفة باللغة فيجعل قوله: (أمر) -ونحوه- كحكاية لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، أوْ لا يكون كذلك فلا. حكاه القاضي في

"التقريب" وإمامُ الحرمين في "التلخيص". قال القاضي: والصحيح عندنا أنه إن كان المعنى المنقول بحيث تعتور عليه العبارات المختلفة فلا نجعل نقله ذلك كقوله - صلى الله عليه وسلم -، وإلَّا فلا. ثم هل يحمل ذلك على أمر العموم ونهيهم؛ أو على خصوص؛ أو [يُوقف] (¬1)؛ اختار القاضي الوقف. قال ابن القشيري: جرى فيه على معتقده في الوقف. الثاني: من أمثلة القسم الأول وهو البني للمفعول: "أُمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة" (¬2). رواه البخاري وغيره عن أنس. وقول أم عطية - رضي الله عنهما -: "أُمرنا أن نخرج في العيدين الحيَّض وذوات الخدور، وأُمر الحيضُ أن يعتزلن مصلى المسلمين" (¬3). وقولها أيضًا: "نُهينا عن اتِّباع الجنائز ولم يُعزم علينا" (¬4). وكلاهما في الصحيحين. وفي حديث زيد بن ثابت في "النسائي": "أُمروا أن يُسبحوا دُبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين" (¬5). وفي "مسلم" عن عائشة: "أُمروا أن يستغفروا لأصحاب محمد، فسبوهم" (¬6). ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ظ). لكن في (ص): توقف. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 578)، صحيح مسلم (378). (¬3) صحيح البخاري (رقم: 344)، صحيح مسلم (رقم: 890). (¬4) صحيح البخاري (رقم: 1219)، صحيح مسلم (رقم: 938). (¬5) سنن النسائي (رقم: 1350). وقال الألباني: صحيح. (صحيح النسائي: 1349). وفي: مسند أحمد (21640)، سنن الترمذي (3413) وغير هما، بلفظ: "أُمِرْنَا". (¬6) صحيح مسلم (رقم: 3022).

وفي "البخاري" عن أنس: "حُرمت علينا الخمر، وما نجد خمر الأعناب إلا قليلًا، وعامَّةُ خمرنا البُسر" (¬1). وفي أبي داود والترمذي عن عمار - رضي الله عنه -: "رُخِّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفرَ إِذَا حَاضَتْ" (¬2). وأما أمثلة المبنى للفاعل مصرحًا به فكثيرة: كحديث عبد الله بن مغفل في "مسلم": "أَمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب" (¬3) الحديث. وحديث البراء بن عازب في الصحيحين: "أَمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع، ونهانا عن سبع" (¬4) الحديث. وحديث عقبة بن عامر في "أبي داود" و"الترمذي" و ["النسائي"]) (¬5): "أَمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ المعوذات دبر كل صلاة" (¬6). وحديث أبي هريرة في ["مسلم"] (¬7): "حَرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بين لابَتَي المدينة" (¬8). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 5258). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 323) عن ابن عباس - رضي الله عنه -. (¬3) صحيح مسلم (رقم: 280). (¬4) صحيح البخاري (رقم: 1182)، صحيح مسلم (رقم: 2566). (¬5) في (ز): النسائي وابن ماجه. (¬6) سنن أبي داود (1523)، سنن النسائي (1336) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 1523). (¬7) في (ص، ض): مثله. وفي (ز): مسلم أيضا. (¬8) صحيح مسلم (رقم: 1372)، صحيح البخاري (1770).

وحديث جابر في مسلم أيضًا: "رَخص النبي - صلى الله عليه وسلم - لآل عمرو بن حزم في الرقية" (¬1) الحديث. إلى غير ذلك، والله أعلم. ص: 343 - وَقَول رَاوٍ في الصَّحَابِي الْمُنْتَبِهْ: ... "يَرْفَعُهُ"، "يَنْمِيهِ"، أو "يَبْلُغُ بِهْ" الشرح: من الألفاظ المتعلقة برواية الصحابي وإن لم يذكر فيها لفظه: أنْ يقول راوي الحديث عنه: (يرفعه)، أو: (ينميه)، أو: (يبلغ به)، فإنه محمول على أنه يرفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو ينميه عنه (أي: ينقله ويعزوه إليه) أو يبلغ به (أي: يبلغ به منتهى الحديث وهو كوْنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -). قال ابن الصلاح: (حُكم ذلك عند أهل العلم حُكم المرفوع صريحًا) (¬2). وذلك كقول سعيد بن جبير: عن ابن عباس: "الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكيَّة نار". ثم قال: رفع الحديث (¬3). رواه البخاري. وكحديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة يبلغ به، قال: "الناس تبع لقريش" (¬4). وفي الصحيحين عن أبي هريرة رواية: "تقاتلون قومًا صغار الأعين" (¬5) الحديث. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (رقم: 2199). (¬2) مقدمة ابن الصلاح (ص 50). (¬3) صحيح البخاري (رقم: 5356). (¬4) صحيح البخاري (رقم: 3305)، صحيح مسلم (رقم: 1818). (¬5) صحيح البخاري (رقم: 2771)، صحيح مسلم (رقم: 2912) واللفظ لمسلم.

وروى مالك في "الموطأ" عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: "كان الناس يؤمَرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة". قال أبو حازم: الا أعلم إلا أنه ينمِي دلك) (¬1). قال مالك: رَفعَ ذلك. هذه رواية عبد الله بن يوسف. ورواه البخاري من حديث القعنبي عن مالك بلفظ: "يَنْمِي ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - " (¬2). فصرح بالرفع. والمراد بقولي: (رَاوٍ في الصَّحَابِي) الراوي عن الصحابي، أما إذا لم يكن الراوي أدرك الصحابي فالحديث مرفوع منقطع، وكذا إذا كان مَن دُون التابعي -مثلًا- يقول عن التابعي: (إنه يرفعه) أو: (ينميه) أو: (يبلغ به)، فهو مرسل؛ لسقوط الصحابي، والله أعلم. ص: 344 - وَهَكَذَا قَوْلُ الصَّحَابِي يَأْثِره: ... "إنَّ مِنَ السُّنَّةِ ذَا" وَيَذْكُرهُ الشرح: أي: من ألفاظ الصحابي أن يقول: (مِن السُّنَّة كذا)، ويذكره، فإنه أيضًا محمول على الرفع عند الاكثرين، وأن المراد سُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أي: شرعُه الذي تلقَّاه الصحابة عنه. وذلك مثل قول علي - رضي الله عنه -: "مِن السُّنَّة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة" (¬3). رواه أبو داود في رواية ابن داسة وابن الأعرابي. قال ابن الصلاح: (فالأصح أنه مُسْنَدٌ مرفوع؛ لأنَّ الظاهر أنه لا يريد به إلا سُنَّة رسول ¬

_ (¬1) الموطأ (رقم: 376) رواية يحيى الليثي. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 707). (¬3) سنن أبي داود (رقم: 756). قال الألباني: ضعيف. (ضعيف أبي داود: 756).

الله - صلى الله عليه وسلم - وما يجب اتِّباعه) (¬1). وحكى ابن الصباغ في "العدة" عن أبي بكر الصيرفي وأبي الحسين الكرخي وغيرهما أنهم قالوا: (يحتمل أن يريد به سُنَّة غير النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فلا يُحمل على سُنته). انتهى. ونقل هذا إمام الحرمين عن المحققين، وجرى عليه القشيري. وقال الماوردي: (إنَّ القول الجديد للشافعي أنه مجمل، وإنَّ كوْنه محمولًا على سُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - هو القول القديم). انتهى وحكى نحوه ابن فورك وسليم في "التقريب" وابن القطان والصيدلاني في "شرح المختصر" في باب "أسنان إبل الخطا" وغيرهم، حتى قيل: إنها من المسائل التي يفتى فيها بالقديم في الأصول. لكن المشهور أن هذا هو الجديد، فإن الشافعي قال في القديم: المرأة تُعاقِل الرجل إلى ثلث الدية. أي: تساويه في العقل. فإنْ زاد الواجب على الثلث، صارت على النصف. قال الشافعي في الجديد: كان مالك يذكر أنه السُّنَّة، وكنت أتابعه على ذلك وفي نفسي منه شيء، حتى علمتُ أنه يريد سُنَّة أهل المدينة، فرجعتُ عنه. فَدَلَّ هذا على أنَّ عنده أنَّ مَن يقول: (السُّنَّة كذا) إنما يعني به سُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -، سواء الصحابي أو مَن دُونه -إلا أنَّ مَن دُون الصحابي يكون مُرْسلًا- ما لم يتبين أنَّ القائل: (مِن السُّنة كذا) لا يريد به سُنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومثله ما قال الشافعي أيضًا: وقد روي عن سفيان عن أبي الزناد قال: سألتُ سعيد بن المسيب أنَّ الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته، قال: يفرق بينهما؟ قال أبو الزناد: قلتُ: هو ¬

_ (¬1) معرفة أنواع علوم الحديث (ص 50).

سُنَّة؛ فقال سعيد: سُنَّة. قال الشافعي: والذي يُشبه قول سعيد أنْ يكون سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وجمن ثَمَّ قال القاضي أبو الطيب: إنه ظاهر مذهب الشافعي؛ لأنه احتج على قراءة الفاتحة بصلاة ابن عباس وقراءتها والجهر بها، وقال: إنما فعلتُ هذا لتعلموا أنها سُنة. وكذا قال ابن السمعاني أيضًا: إنه مذهب الشافعي. قلتُ: ونَص عليه في "الأم" في باب "عدد الكفن" (¬1)، فقال بعد ذِكر ابن عباس والضحاك: (ذلك أنهما رجلان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا يقولان: "السُّنَّة" إلا لِسُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬2). وحينئذٍ فقد تَلَخَّص أنه منصوص في القديم والجديد، وجزم به الرافعي في "كتاب التيمم"، وقال النووي في "شرح المهذب" في المقدمة: إنه المذهب الصحيح المشهور. وجرى عليه من المتأخرين الإمام الرازي والآمدي. نعم، شرط الحاكم وأبو نعيم كون الصحابي معروفًا بالصحبة، وفيه إشعار بأنَّ مَن قَصُرت صحبته، لا يكون كذلك. فيكون ذلك قولًا ثالثًا مُفَصلًا. وفي المسألة قول رابع: إنه في حكم الموقوف. ونقله ابن الصلاح والنووي عن أبي بكر الإسماعيلي. ¬

_ (¬1) كذا في جميع النُّسخ، لكنه في (الأُم، 1/ 309) باب (الصلاة على الجنازة). (¬2) الأم (1/ 309).

تنبيهان أحدهما: إذا قُلنا بأنَّ "مِن السُّنَّة" مرفوع، لا يكون في ذلك دلالة على تعيين الحكم من وجوب أو ندب؛ فقد يأتي ويُراد به: - الندبُ، كما في: "مِن السُّنة وضع الكف على الكف في الصلاة" (¬1). - والوجوبُ كما في "الصحيحين" من حديث أبي قلابة عن أنس: "مِن السنة: إذا تزوج البكر على الثيب، أقام عندها سبعًا ثم قَسم. وإذا تزوج الثيب على البكر، أقام عندها ثلاثًا، ثُم قسم". قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت: إنَ أنسًا رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). قال ابن دقيق العيد: (يحتمل قول أبي قلابة وجهين: أحدهما: أن يكون ظن ذلك مرفوعًا لفظًا من أنس، فتحرز عن ذلك؛ تَوَزُعًا. والثاني: أنْ يكون رأَى أنَّ قول أنس: "مِن السُّنَّة" في حُكم المرفوع، فلو شاء لَعَبَّر عنه بالمشهور على حسب ما اعتقده). قال: (والأول أقرب) (¬3). انتهى وفي الحديث مباحث أخرى ذكرتها في "جمع العُدة لفهم العمدة"، فراجعها. ومن هذا يُعلم أن إطلاق "السُّنَّة" هنا كما [يُطلق] (¬4) في مقابَلة "الكتاب". ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 4916)، صحيح مسلم (رقم: 1461). (¬3) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (4/ 41). (¬4) في (ز): تطلق.

الثاني: عُلم مِن قولي: (وَهَكَذَا قَوْلُ الصَّحَابِي) أنَّ مَن دُون الصحابي لا يُحتج بقوله ذلك، بل يكون مرسَلًا وإنْ كان مرفوعًا كما فُهم ذلك مِن نَص الشافعي السابق. فإنْ كان مِن مِثل سعيد بن المسيب، ففيه ما سبق في مراسيله، ولهذا قال القاضي أبو الطيب في "شرح الكفاية": قول التابعي: "من السُّنَّة كذا" في حُكم المراسيل، إنْ كان قائله سعيدًا؛ فهو حُجة، وإلَّا فلا. وفي "تعليقه" في "باب الجمعة والعيد": وجهان، أصحهما وأشهرهما: أنه موقوف على بعض الصحابة، وثانيهما: مرفوع مرسَل. والله أعلم. 345 - "كُنَّا مَعَاشِرَ الْأُنَاسِ نَفْعَلُ ... بِعَهْدِهِ" وَ"النَّاسُ فِيهِ تَفْعَلُ" (¬1) 346 - وَ [مِثْلُهُ] (¬2): "كنَّا نَقُولُ" أَوْ "نَرَى" ... أَوْ "نَفْعَلُ الشيْءَ" بِعَهْدٍ ذُكِرَا 347 - قِيلَ: وَإنْ لَمْ يَذْكرِ الْعَهْدَ، وَذَا ... النَّوَوِي قَوَّاهُ في الْمَعْنَى خُذَا 348 - كَذَاكَ: "كَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَا" ... وَ"مَا عَلَى التَّافِهِ يَقْطَعُونَا" الشرح: هذه صيغ مِن ألفاظ الصحابي محمولة على الرفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنْ كانت دُون ما سبق. وبؤخذ ذلك من النَّظم من تأخيرها عنها؛ لأن المقام لبيان المراتب، وبعض هذه تَكون الحجة ¬

_ (¬1) في (ن 1، ن 3، ن 4، ن 5) هكذا: كُنَّا مَعَاشِرَ الْأناسِ نَفْعَلُ * * أو كان عهدُه الأناسُ يَفْعَلُ. (¬2) في (ز، ظ، ن 2): نحوُه.

فيه من إلحاقه بالإجماع، لا من جهة كوْنه سُنَّة مرفوعة كما سيأتي بيانه، وبعضها أقوى من بعض. أولها وهو أعلاها: إذا قال الصحابي: "كنا معاشر الناس نفعل كذا بعهد النبي - صلى الله عليه وسلم -". وعبرتُ في النظم بِ "الْأُنَاسِ" باعتبار الأصل. قال الجوهري (¬1): (والناس قد تكون مِن الإنس والجن، وأصله: "أُناس"، فخفف، ولم يجعلوا الألف واللام فيه عوضًا من الهمزة المحذوفة؛ لأنه لو كان كذلك لَمَا اجتمع مع المُعَوض منه في قول الشاعر: إن المنايا يَطَّلِعـ ... ـــن على الأُناس الآمِنِينا). انتهى ومثل هذه المرتبة: "كان الناس يفعلون في عهده - صلى الله عليه وسلم - "، وهو معنى قولي: (فِيهِ)، أي: في عهده. وإنما حُمل ذلك على الرفع؛ لأنَّ الظاهر من حال الصحابي تبليغ ما يتلقاه من الشارع. قال الشيخ تاج الدين السبكي في "شرح المختصر": (إنَّ هذا مما لا يتجه -في كونه حُجة- خِلافٌ) (¬2). ومراده مِن حيث كونه مرفوعًا، لا من حيث إنه إجماع اعتضد بمعرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما نقله شيخنا الزركشي في "شرح جمع الجوامع" عنه؛ لفساد ذلك؛ لأن الإجماع لا ينعقد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكما سبق بيانه. ¬

_ (¬1) الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (3/ 987). (¬2) رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (2/ 413 - 414).

الثانية: قول الصحابي: "كنا نقول -أو نرى، أو نفعل- كذا بعهده - صلى الله عليه وسلم - "، أو: "في عصره"، أو: "في حياته"، أو نحو ذلك. وهذه دُون ما قبلها؛ لاحتمال عَوْد الضمير على طائفة مخصوصة، لا جميع الناس. قلتُ: لكن المدار على التقييد [بعهده] (¬1) - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنَّ ظاهره أنه اطّلَع عليه وأقره؛ فلذلك قلتُ: ونحوه كذا. ولم أقُل: ودُونه. مِثال ذلك قول جابر: "كنا نَعزِل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬2). متفق عليه. وقوله: "كنا نأكل من لحوم الخيل على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - " (¬3). رواه النسائي وابن ماجه. فهذا قطعَ الحاكم وغيره مِن أهل الحديث وغيرهم بأنه مِن قبيل المرفوع، وصححه الإمام الرازي والآمدي وأتباعهما وغيرهم مِن الأصوليين. قال ابن الصلاح: (وهو الذي عليه الاعتماد؛ لإشعار ذلك بأنه - صلى الله عليه وسلم - اطَّلع عليه وأقره، و"تقريرُه" أحد وجُوه السُّنن المرفوعة) (¬4). قال: (وبلغني عن البرقاني أنه سأل الإسماعيلي عن ذلك، فأنكر كونه من المرفوع) (¬5). أي: فهو موقوف عنده؛ لاحتمال أنه لم يَبْلُغه - صلى الله عليه وسلم - أما لو صرح بِاطِّلاعه فَبِلَا خلاف، كقول ابن عمر: "كنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي: أَفْضل هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر، ¬

_ (¬1) في (ز): بعهده النبي. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 4911)، صحيح مسلم (رقم: 1440). (¬3) سنن النسائي (رقم: 4330)، سنن ابن ماجه (رقم: 3197). قال الألباني: صحيح الإسناد. (صحيح النسائي: 4341). (¬4) مقدمة ابن الصلاح (ص 47). (¬5) المرجع السابق.

وعمر، وعثمان. ويسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا ينكره" (¬1). رواه الطبراني في "المعجم الكبير"، والحديث في "الصحيح" (¬2) لكن بدون التقييد باطِّلاعه. قال ابن الصلاح: (ومن هذا القبيل قول الصحابي: كنا لا نرى بأسًا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا) (¬3). وقد أشرتُ إلى شمول ذلك -بقولي: (أَوْ "نرَى") - قوله: "كنا نرى" أو "لا نرى"؛ إذْ لا فرق بين النفي والإثبات. الثالثة: أن يقول الصحابي ما سبق من: "كنا نفعل"، أو: "نقول"، أو: "نرى"، ولكن لا يُقَيد بعهده - صلى الله عليه وسلم -، فالمختار كما قاله ابن الصلاح أنه موقوف تبعًا للخطيب وغيره. وإنْ كان الحاكم والإمام الرازي أطلقَا أنَّ هذه الصيغة للرفع، فيشمل ما قُيِّد بعهده وما لم يُقيد بعهده. نعم، قال ابن الصباغ في "العدة": إنه الظاهر. ومَثَّله بقول عائشة - رضي الله عنها-: "كانت اليد لا تقطع في الشيء التافه" (¬4). وقال النووي في "شرح المهذب": (إنه قال به أيضًا كثير من الفقهاء، وهو قوي من حيث المعنى). انتهى ولكن هذا التمثيل إنما يَحسُن أنْ يكون من القسم الرابع الذي ذكرته في البيت الرابع ¬

_ (¬1) المعجم الكبير (رقم: 13132). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 3494). (¬3) مقدمة ابن الصلاح (ص 47). (¬4) مصنف ابن أبي شيبة (28114) بلفظ: "لَمْ يَكُنْ يُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الشَّيْءِ التَّافِه". قال الإمام الدارقطني في كتابه (العلل، 14/ 252): (حديث عائشة صحيح، ويشبه أن يكون هشام وصله مرة وأرسله مرة).

بقولي: (كَذَاكَ: "كَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَ") إلى آخِره. فإذا قال الصحابي: (كان الناس يفعلون) أو: (كانوا لا يقطعون في التافه) أو نحو ذلك ولم يقيد بعهده أو في عصره أو زمانه أو نحو ذلك، فقيل: يحتج به؛ لأن ظاهره أنه إجماع. وجمع ابن الحاجب بينه وبين القسم الذي قبله، وسوى بينهما في الاحتجاج به على قول الأكثر لهذا المعنى، فقال: (إذا قال -أيِ الصحابي-: "كنا نفعل" أو: "كانوا يفعلون"، فالأكثر: حُجة؛ لظهوره في عمل الجماعة) (¬1). انتهى ولم يذكر المرتبتين الأولتين؛ لأنهما حينئذٍ حجة من باب أَوْلَى، ومقتضى كلام القاضي في "التقريب" أنه لا يحتج بمثل ذلك إلا إنْ أضافه لعهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أسنده للإجماع صريحًا؛ فإن هذا ليس فيه تصريح بكل الأُمة، وكأن الأولين اكتفوا بظهور ذلك في الاتفاق؛ لأنَّ "الناس" ظاهرُه العموم بالألف واللام، و"كانوا لا يقطعون" أيْ: مَن لهم التصرف في الشرع، وهُم أهل الإجماع. ويظهر أثر ذلك فيما إذا كان القائل لذلك تابعيًّا، فإنْ قيَّده بعهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو كالمرسل، وإنْ لم يقيد وقُلنا: إنه كالإجماع، فكأنه حاكٍ للإجماع. وقد ذكر المسألة في "المستصفى" إلا أنه خبر واحد واختلف في ثبوت الإجماع به، ومختار الغزالي أنه لا يَثْبُت، وهو قول الأكثر، واختار الرازي ثبوته، وجزم به الماوردي، قال: وليس آكد مِن السُّنة، وهِي تَثبت به. وقد سبقت المسألة أول هذا الباب. ومما يشبه ذلك حديث الغيرة بن شعبة: "كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرعون بابه ¬

_ (¬1) مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (1/ 607)، الناشر: دار ابن حزم.

بالأظافير" (¬1). قال الحاكم: هذا يتوهمه مَن ليس مِن أهل الصنعة مُسنَدًا -أيْ مرفوعا- لِذِكْر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه، وليس بمسنَد، بل موقوف. وذكر الخطيب نحوه. قال (أَعْني ابن الصلاح): لكنه مرفوع، بل أَوْلى مما سبق؛ لكونه أحرى باطِّلاعه - صلى الله عليه وسلم - عليه، ولعل الحاكم -وهو ممن يرى بأنَّ ما سبق مرفوعًا- إنما قال ذلك هنا نَفْيًا لكونه مرفوعًا لفظًا، بل هو مرفوع عنده معنًى. هذا معنى كلام ابن الصلاح. ونقل النووي [أوائل] (¬2) "شرح مسلم" في فصوله المفرقة عن جماعات في أصل المسألة أنه إنْ كان ذلك الفعل لا يخفَى غالبًا، كان مرفوعًا، وإلا كان موقوفًا، كقول بعض الأنصار: "كنا نجامع، فنكسل ولا نغتسل". قال: وبه قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية. واختار القرطبي أيضًا هذا التفصيل، ومثّل الشرع المستقر الذي لا يخفى بقول أبي سعيد: "كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير" (¬3) الحديث، ومثّل ما يمكن خفاؤه بحديث رافع بن خديج: "كنا نخابر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى روى لنا بعض عمومتي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك" (¬4). وقال في القطعة التي له على "البخاري": إنَّ ظاهر كلام كثير من المحدثين والفقهاء أنه ¬

_ (¬1) المدخل إلى السنن الكبرى (ص 381، رقم: 659). (¬2) في (ز): في أوائل. (¬3) صحيح مسلم (رقم: 985). (¬4) سنن أبي داود (رقم: 3395)، وبنحوه في سنن ابن ماجه (رقم: 2450). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 3395).

مرفوع مطلقًا، وهو قوي. وهذه العبارة في الترجيح أقوى مما نقلناه آنفا عن"شرح المهذب" وإنْ كنتُ في النَّظم إنما ذكرتُ مقالته في "شرح المهذب". والله أعلم. ص: 349 - وَمَا يَقُولُهُ الصَّحَابِيْ مِمَّا ... لَمْ يَكُنِ الرَّأْيُ لَهُ قَدْ عَمَّا 350 - فَحُكْمُ مَرْفُوعٍ، وَأَمَّا مُسْتَنَدْ ... غَر الصَّحَابِيِّ [فَرَتِّبْ] (¬1)، يُعْتَمَدْ الشرح: إذا قال الصحابي شيئًا ليس للاجتهاد فيه مجال ولا يُقال مِثله من [قِبَل الرأي] (¬2)، فحُكمه حُكم المرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنَّ الظاهر أنه سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم-. قاله الإمام في "المحصول" والحاكم في "علوم الحديث"، ومثّل ذلك بقول ابن مسعود: "مَن أتى ساحرًا أو عرافًا فقد كفر بما أُنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-" (¬3)، ونحو ذلك. واقتضاه أيضًا كلام ابن عبد البر وغيره من الأئمة. ولا التفات إلى قول ابن حزم: إنَّ ذلك وإنْ كان لا يُقال مِثله من جهة الرأي فلعل الصحابي سمعه من أهل الكتاب كما سمع جمعٌ من الصحابة من كعب الأحبار. فقد روى عنه العبادلة وغيرهم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "حَدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" (¬4). ¬

_ (¬1) في (ن 2، ن 5): قريب. (¬2) في (ص): قبيل الرأي. وفي (ض، ظ): قبل الراوي. (¬3) مسند أبي يعلى (9/ 280، رقم: 5408)، السنن الكبرى للبيهقي (16274) وغيرهما. (¬4) صحيح البخاري (3274) وغيره.

قيل: ويخرج كوْن ذلك مرفوعًا من قول الشافعي في مسألة الاحتجاج بقول الصحابي الآتي ذِكرها في باب "الأدلة المختلف فيها" فيما نقله إلْكِيَا أنَّ مذهبه قديمًا وجديدًا اتِّباع قضاء عمر في تقدير دية المجوسي بثمانمائة درهم ونحو ذلك على ما قاله بعض الأصحاب في سبب ذلك أنه كان يرى الاحتجاج بقول الصحابي إذا خالف القياس مِن حيث إنه لا مَحْمَل له سِوَى التوقيف. فتلخص أنَّ قوله: (حُجة) إذا لم يكن مُدْرَكًا بالقياس، دُون ما إذا كان للقياس فيه مجال. قال بعض المحققين: وهذا القول هو المختار، وبه تنجمع نصوص الشافعي، فحيث قال: (إنَّ قول الصحابي غير حجة) أراد إذا كان للقياس فيه مجال، وحيث قال: (إنه حجة) أراد إذا لم يكن للرأي فيه مجال. وكذا حكاه القاضي في "التقريب" والغزالي استنباطًا من قول الشافعي في "اختلاف الحديث": إنه روي عن علي - رضي الله عنه - أنه صلى في ليلة ست ركعات، كل ركعة بست سجدات. ثم قال: إنْ ثبت ذلك عن عَلِي، قلتُ به؛ فإنه لا مجال للقياس فيه (¬1). فالظاهر أنه جعله توقيفًا. قال القاضي: (وهذا من قول الشافعي يدل على أنه كان يعتقد أنَّ الصحابي إذا قال قولًا ليس للاجتهاد فيه مدخل فإنه لا يقوله إلا سمعًا وتوقيفًا، وأنه يجب اتِّباعه عليه؛ لأنه لا يقول ذلك إلا عن خبر). انتهى نعم، الغزالي جعله من تفاريع القديم، وهو مردود؛ لأنَّ كتاب "اختلاف الحديث" من الكتب الجديدة قطعًا، رواه عنه الربيع بن سليمان بمصر، وجزم بهذا الحكم أيضًا ابن الصباغ في "الكامل في الخلاف"، وقال إلْكِيَا في "التلويح": إنه الصحيح. ¬

_ (¬1) انظر: الأم (7/ 168).

وسيأتي في الكلام على قول الصحابي مزيد بيان إن شاء الله تعالى. نعم، هنا تنبيه: وهو أن ما ذكرناه عن الغزالي نقله الشيخ صلاح الدين العلائي في قواعده عن "المستصفى" وتعقب نقله له عن القديم بما سبق مِن كوْن "اختلاف الحديث" جديدًا، وقال: إنما هذا تفريع على قوله: "إنَّ مذهب الصحابي حجة"، وليس هو قديما، بل هو جديد. ثم ذكر نصوصًا له في "الأم" تدل على أنه حجة، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذِكرها هناك. وذكر أيضا نحو هذا في كتاب "إجمال الإصابة في أقوال الصحابة". ولكن الشيخ تقي الدين السبكي جعله مستثنى مما هو مشهور عن الجديد أنه ليس بحجة، ثم ذكر نَص "اختلاف الحديث"، وجَرَى على هذا الشيخ جمال الدين الأسنائي في "التمهيد". وقال بعض المحققين في عصرنا: إنَّ نَقل ذلك عن"اختلاف الحديث" غلط، والظاهر أنهم قلدوا فيه الغزالي، فليس ذلك في "اختلاف الحديث"، فقد تَتبَعنا الكتاب في عِدة نُسَخ فلم نجده. نعم، في كتاب "اختلاف عِلي وابن مسعود" من كتاب "الأم" في ترجمة الصلاة في الزلزلة قال الشافعي ما نَصه: (عبَّاد عن عاصم الأحول، عن قزعة، عن عِلي - رضي الله عنه - أنه [صلَّى في زلزلة ست ركعات، أربع سجدات في خمس ركعات، وسجدتين في ركعة] (¬1)، ولسنا نقول بهذا، نقول: لا يُصَلَّى في شيء من الآيات إلا في كسوف الشمس والقمر. ولو ثبت هذا الحديث ¬

_ (¬1) كذا في جميع النُّسخ، والعبارة في "الأم، 7/ 168" هكذا: (صَلَّى فِي زَلْزَلَة لِستَّ رَكعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجدَاتٍ، خَمْسَ رَكعَاتٍ وَسَجْدَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ، وَرَكْعَةٍ وَسَجْدَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ).

عندنا عن عِلي لَقُلْنَا به، وهُم يثبتونه ولا يقولون به، يقولون: يُصلى ركعتين في الزلزلة، في كل ركعة ركعة. هشيم عن يونس، عن الحسن: أنَّ عليًّا صلَّى في كسوف الشمس خمس ركعات في أربع سجدات. ولسنا ولا إياهم نقول بهذا، أما نحن فنقول بالذي روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أربع ركعات وأربع سجدات") (¬1) (¬2). إلى آخِر ما ذكر. وقد أخرج في الزلزلة ابن أبي شيبة في مُصنفه بسنده عن ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم -: "صلَّى بهم في زلزلة كانت أربع سجدات، [سجد] (¬3) فيها ستًا" (¬4). قال: (فلعل الغزالي وقع له نسخة صحف فيها الناسخ لفظ "زلزلة" بِ "ليلة"، وسبق وهْمه إلى أنَّ ذلك في "اختلاف الحديث"، وإنما هو في "اختلاف علي وابن مسعود"). انتهى والله أعلم. وقولي: (وأما مستند غير الصحابي) تمامه قولي بعده: ص: 351 - قِرَاءَةُ الشَّيْخِ، فَرَاوٍ يَقْرَأُ ... ثُمَّ سَمَاعُ مَا عَلَيْهِ يُقْرَأُ ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (رقم: 1179)، سنن النسائي (1478). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 1179). (¬2) الأم (7/ 168). (¬3) ليس في (ص، ض). (¬4) لفظ "مصنف ابن أبي شيبة" هكذا: (صَلَّى بهم في زلزلة كانت أربع سجدات، ركع فيها سِتًّا). كذا بتحقيق محمد عوَّامة (5/ 432)، وبتحقيق حمد الجمعة ومحمد اللحيدان (3/ 527) طبعة الرشد، وجاء في هامش طبعة الرشد: (في "ط س" وحدها: "أربع سجدات فيها وست ركوعات").

الشرح: والمراد بذلك أنَّ مستند غير الصحابي في الرواية له مراتب وإنْ كان بعضها يكون في الصحابي مِثله كما سبق في عكسه، وهو أن ألفاظ الصحابي قد يكون منها ما هو في غير الصحابي لكن الضرورة داعية إلى بيان مستند غير الصحابي والاصطلاح فيه ولو كان الحكم فيهما سواء. وقد اشتمل هذا البيت على ثلاث منها: إحداهما: وهو أعلى المراتب كلها عند الأكثر، أنْ يقرأ الشيخ والراوي عنه يسمع، سواء كان إملاءً أو تحديثًا لا إملاء فيه، وسواء أكان من حِفظه أو من كتابه. قال الماوردي والروياني: (وسواء أكان عن قصد أو اتفاقًا، وسواء أكان ما بالقصد استرعاء أو في مذاكرة أو غير ذلك، بخلاف الشهادة. وسواء أكان المحدِّث أعمى أو أصم أو سليمًا، فلو كان المتحمِّل أعمى، صَحَّ سماعُه إذا عَرف أنَّ ذلك صوت شيخه بطريق مُعتبر. فإذا حدَّث ما سمعه: فإنْ كان مِن حِفظه، صَح إذا وثق به، أو من كتابه، صَح إن كان بصيرًا بشرط أن يكون ذاكرًا لوقت سماعه، واثقًا بكتابه. ومنع أبو حنيفة أنْ يروي إلا من حفظه كالشاهد) (¬1). قال الماوردي والروياني: (ولو صح ذلك لبطلت فائدة الكتابة، فقد صارت الرواية في عصرنا من الكتاب أثبت عند أصحاب الحديث من [الحفظ] (¬2) (¬3). ومقابل قول الأكثر: أنَّ القراءة على المحدِّث أقوى من قراءته؛ لأنه أَبْعَد من الخطأ ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (16/ 89). (¬2) كذا في (ز، ص)، لكن في (ت): الحفاظ. (¬3) الحاوي الكبير (16/ 91).

والسهو، وإنما كان أكثر التحمل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحديثه لأنه لا يُعْلَم إلا منه، وهو لا يحدِّث إلا مِن حِفظه، وغيْره ليس كذلك. وجواب الأكثرين: أنَّ تجويز الخطأ والنسيان -في صورة القراءة على الشيخ وهو يسمع - أَقْرَب، وسيأتي لذلك مزيد بيان. واعْلم أن كل مرتبة للمتحمل بها لفظ يخبر به عن تحمله هو من وظيفة أهل الحديث؛ ولذلك لم أتعرض له في النظم، لكني أتعرض هنا لشيء منه؛ تتميمًا للفائدة. ففي هذه المرتبة يقول: "حدثنا"، و"أخبرنا"، و"أنبأنا"، و"سمعت فلانًا يقول"، و"قال لنا فلان"، و"ذكر لنا فلان". وقد نقل القاضي عياض الإجماع في هذا كله. فلذلك تعقب بعضهم على ابن الصلاح في قوله بعد أن حكى ذلك: (إنَّ فيه نظرًا، وإنه ينبغي -فيما شاع استعماله من هذه الألفاظ مخصوصًا بما سمع من غير لفظ الشيخ على ما سيأتي- أنْ لا يُطْلَق فيما سمع من لفظ الشيخ؛ لِمَا فيه من الإيهام والإلباس) (¬1). ووجه التعقب عليه: معارضته للإجماع، وأنه لا يجب على السامع أن يُبين هل كان السماع من لفظ الشيخ أو عرضًا. نعم، إطلاق لفظ "أنبأنا" بعد أن اشتهر استعمالها في الإجازة يُوهِم أن يكون ذلك إجازة، والفرض أنه قد سمعه من الشيخ. قال الخطيب: أرفع العبارات: "سمعتُ"، ثم "حدثنا" و"حدثني"، ثم "أخبرنا" وهو كثير في الاستعمال، ثم "أنبأنا" و"نبأنا" وهو قليل في الاستعمال. وقال أحمد بن صالح: " أخبرنا" و"أنبأنا" دُون "حدثنا". وقال أحمد (¬2): "أخبرنا" أسهل من "حدثنا"، فإنَّ "حدثنا" ¬

_ (¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 132). (¬2) يقصد: أحمد بن حنبل.

شديد. وبَسْط هذا الخلاف وتوجيهه محله كُتب علم الحديث. المرتبة الثانية: أن يقرأ هو على الشيخ، والشيخ يسمع. ويسميها أكثر المحدثين "العَرْض"، وكأن القارئ يَعْرِض ذلك على الشيخ. وأصل ذلك حديث أَنس - رضي الله عنه - في الرجل الذي جاء من البادية -وهو ضمام بن ثعلبة- فقال: "يا محمد، أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أنَّ الله أرسلك. قال: صَدَق. قال: فمن خلق السماء؟ قال: الله. قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله. قال: فمن نَصَب هذه الجبال؟ ونصب فيها ما جعل؟ قال: الله. قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونَصَب هذه الجبال الله أرسلك؟ قال: نعم. قال: وزعم رسولك أنَّ علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا. قال: صدق" (¬1) الحديث. واختُلف -في كون هذه المرتبة دون التي قبلها أو فوقها أو مثلها- على ثلاثة أقوال: أرجحها -وهو قول الجمهور من أهل المشرق- الأولُ. وذهب ابن أبي ذئب وأبو حنيفة إلى الثاني، وحكاه ابن فارس عن مالك وعن ابن جريج والحسن بن عمارة، ورواه الخطيب عن مالك والليث وشعبة وابن لهيعة ويحيى بن سعيد ويحيى بن بكير وغيرهم. والثالث: التسوية، وهو مشهور مذهب مالك ومعظم علماء الحجاز والكوفة وقول البخاري. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 63)، صحيح مسلم (رقم: 12) واللفظ لمسلم.

الثالثة (¬1): أن يقرأ غيرُ الشيخ على الشيخ، والراوي يسمع، ويُسمى هذا "عَرْضًا" كالذي قبله، وفي الرواية به خلاف، فحكى الرامهرمزي عن أبي عاصم النبيل المنع، وحكاه الخطيب عن وكيع وعن محمد بن سلام، وكذا عبد الرحمن بن سلام الجمحي. وجمهور العلماء -منهم الأئمة الأربعة- على خلاف ذلك. نعم، شرط بعض العلماء في العَرْض أن يكون الشيخ مُمْسِكًا لأصله إن لم يكن حافظًا ما يُقرأ عليه، أو يمسك غير الشيخ من الثقات- على خلاف في هذا لبعض الأصوليين. وفي معنى إمساك الثقة أصل الشيخ: حِفظه ما يُعرض على الشيخ والثقة مستمع، أو يكون القارئ بنفسه هو الحافظ، فيقرأ مِن حِفظه والشيخ يسمع. نعم، شرَط بعض الظاهرية إقرار الشيخ بصحة ما قُرئ عليه [نُطقًا] (¬2). والصحيح أن عدم إنكاره -ولا حامل له على ذلك من إكراه أو نوم أو غفلة أو نحو ذلك- كافٍ؛ لأنَّ العُرْف قاضٍ بأن السكوتَ تقريرٌ في مثل هذا وإلا لكان سكوتُه -لو كان غير صحيح- قادحًا فيه. واعْلَم أنَّ التحديث بهذا العَرْض المسمَّى عندهم "عَرْض القراءة" يقول فيه الراوي: "حدثنا" أو "أخبرنا"، سواء قيَّد ذلك بقوله: "بقراءتي عليه" أو "سماعي عليه" أو أَطلق -على الأصح عند ابن الحاجب وغيره، فقد نقله الحاكم أبو عبد الله عن الأئمة الأربعة. وذهب ابن المبارك ويحيى بن يحيى وأحمد في رواية والنيسابوري إلى المنع مطلقًا. وقيل: يجوز "أخبرنا" ولا يجوز "حدثنا". وهو قول الشافعي ومسلم وجماهير أهل المشرق، وعليه العمل. ¬

_ (¬1) المرتبة الثالثة. (¬2) في (ص، ش، ض): مطلقا.

وذهب سليم الرازي وأبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ وابن السمعاني إلى أنه لا يقول شيئا من ذلك إنْ لم [يقر الشيخ نُطقًا] (¬1)، وإنما يقول: "قرأتُ عليه" أو "قُرئ عليه وهو يسمع"، كما إذا قرأ على إنسان كتابًا فيه أنه أقَر بِدَيْن أو بَيْع أو نحو ذلك فلم يقر به، لا يجوز أن يشهد عليه. وقد يُفرق بما سبق من اطِّراد العُرْف في نحو ذلك، بخلاف باب الشهادة، فإنه ضيق. قولي: (يقرأ) في آخِر النصف الأول من البيت بفتح أوله، وفي آخِر النصف الثاني بالضم مبنيًّا للمفعول، والله أعلم. ص: 352 - ثُمَّ إجَازَةٌ مَعَ الْمُنَاوَلَهْ ... فَأَنْ يُجيزَ دُونَ أَنْ يُنَاوِلَهْ الشرح: هذان النوعان دُون ما سبق: أولهما: أن يجيزه بشيءٍ ناوله إياه بأنْ يدفع الشيخ إلى الطالب أصلَ مَرويه أو فرعًا مقابَلًا به ويقول له: "هذا سماعي أو مَرْوي بطريق كذا عن فلان، فارْوه عني"، أو: "أَجَزْتُه لك أن تَرويه عني"، ثم يُملِّكه إياه بِطَريقٍ، أو يعيره له ينقله ويقابله به. وفي معناه أن يجيء الطالب بذلك إلى الشيخ ابتداءً ويعرضه عليه، فيتأمله الشيخ العارف اليقظ ويقول: "نعم، هذا مسموعي أو روايتي بطريق كذا، فارْوه عني" أو: "أَجَزْتُه لك". ويُسمى هذا "عَرْض المناولة" كما أنَّ سماع الشيخ يُسمى "عَرْض القراءة" كما سبق. ¬

_ (¬1) في (ص): يقرا الشيخ مطلقا.

والرواية بهذا النوع جائزة، قال القاضي عياض في "الإلماع": بالإجماع. وكذا قال [المازري] (¬1): إنه لا شك في وجوب العمل به. وقد ذكر ابن وهب أن يحيى بن سعيد سأل مالكًا عن شيءٍ من أحاديثه، فكتب له مالك بيده أحاديث وأعطاها له. فقيل لابن وهب: [أَقَرَأَهَا] (¬2) يحيى عليه؟ فقال: يحيى أَفْقَه من ذلك. أي: لاستواء الأمرين. لكن الصيرفي حكى الخلاف في المسألة وأن المانع خَرَّجه على الشهادة [بما] (¬3) في الصك ولم يقرأ على المشهود عليه بل قال: اشهدا علَيَّ بما فيه، فإنَّ القول بمنعه مشهور، وبه قال الشافعي في كتاب القاضي للقاضي: لا يقبله حتى يشهدا بأن القاضي قرأه عليهما أو نحو ذلك، دون ما إذا كان مختومًا، إلا أنْ يُقال: باب الرواية أوسع. وإن كان كلام البيهقي يقتضي أن الشافعي يرى التسوية بينهما في ذلك. ومما استُنِد إليه في أصل المناولة بدون القراءة ما قال البخاري: (إنَّ أهل الحجاز احتجوا به عليها): حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كتب لأمير السرية كتابًا وقال: "لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا"، فلمَّا بلغ ذلك المكان قرأه على الناس، وأخبرهم بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4). لكن أشار البيهقي إلى أنه لا حُجة في ذلك، وهو ظاهر؛ لاحتمال أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأه عليه " فيكون واقعة عَيْن يسقط بها الاستدلال، للاحتمال. ¬

_ (¬1) في (ص): الماوردي. (¬2) في (ز، ص، ض): أقرأهما. (¬3) في (ز): كما. (¬4) صحيح البخاري (1/ 35) بَاب "ما يُذْكَرُ في الْمُنَاوَلَةِ"، قال البخاري: (وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الحِجَازِ فِي المُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَيْثُ كَتَبَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا وَقَالَ: "لاَ تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا". فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ المَكَانَ قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -).

وأمير السرية هو عبد الله بن جحش المُجَدَّع في الله، وذلك في رجب في السَّنة الثانية. والحديث المذكور رواه الطبراني موصولًا (¬1). واعْلَم أني أشرتُ بقولي: (ثُمَّ إجَازَةٌ مَعَ الْمُنَاوَلَهْ) إلى أنَّ هذا ليس كالسماع، بل منحط عنه، وهو الصحيح. حكاه الحاكم عن فقهاء الإسلام المفتيين في الحلال والحرام: الشافعي، وصاحبيه المزني والبويطي، وأحمد، وإسحاق، وابن المبارك، ويحيى بن يحيى، قال: وعليه عَهِدْنَا أئمتنا، وإليه نذهب. وأي مُقابلة: فقول الزهري، وربيعة، ويحيى بن سعيد، ومالك، ومجاهد، وأبي الزبير، وابن عيينة، وقتادة، وأبي العالية، وابن وهب، وآخَرين. قولي: (فَاَنْ يُجِيزَ دُونَ أَنْ يُنَاوِلَهْ) بفتح (أَن) فيهما إشارة إلى أنه أعلى من الإجازة المجردة، وهو الراجح الذي قال به المحدِّثون وإنْ كان الأصوليون خالفوهم في ذلك كما صرح به إمام الحرمين وابن القشيري والغزالي، وقالوا: المناولة ليست شرطًا ولا فيها مزيد تأكيد، وإنما هو زيادة تكلف أَحْدَثه بعضُ المحدثين. واعْلم أنَّ ألفاظ الراوي بهذا النوع أنْ يقول: "ناولني فلان كذا، وأجازني بما فيه"، أو نحو ذلك، أو يقول: "أخبرني -أو: حدثني- مناولةً"، وهذا باتفاق، أمَّا الاقتصار على "حدثني " و"أخبرني" فالأصح المنع. ومَن أجاز، قاسَه على ما لو قُرئ عليه وهو ساكت، بل هذا أَوْلى، ولا يخفَى ما فيه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) المعجم الكبير (2/ 162) من حديث أبي السوار عن جندب بن عبد الله، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في (تغليق التعليق، 2/ 76) كلام الإمام البخاري وذكر عدة طُرُق، ثم قال: (وَله شَاهد جيد مُتَّصِل من حَدِيث أبي السوار الْعدوي عَن جندب بن عبد الله).

ص: 353 - وَهَذِهِ لِذِي خُصُوصٍ أُفْرِدَا ... بِمَا يَخُصُّ، أَوْ يَعُمُّ الْمَوْرِدَا 354 - فَعَكْسُ ذَا، ثُمَّ عُمُومٌ يُطْرَدُ ... ثُمَّ "فُلَانٌ مَعَ نَسْلٍ يُوجَدُ" الشرح: هذا تقسيم للإجازة المجردة عن المناولة. و"الإجازة": مَصدر "أَجَزْتُ لفلان كذا" و"أجزت فلانًا". فمَن عَدَّاه بحرف الجر فهو بمعنى سوغتُ له وأبحتُ له، ومَن عدَّاه بنفسه فهو بمعنى عدَّيته إلى ما لم يكن مُتحمِّلًا له وراويًا. أو من قولهم: "أَجَزْتُه ماءً"، أي: أسقيته ماءً لأرضه أو لماشيته، أو نحو ذلك. ومنهم مَن قال: هي مِن المجاز المقابل للحقيقة؛ لأن حقيقة التحمل هو بالقراءة والسماع، فما سواه مجاز. وصيغتها في الاصطلاح ما نذكره في كل قسم من أقسامها، وقبل ذلك نقول: وقع الخلاف فيها في مواضع، منها ما يتعلق بها من حيث هي، ومنها ما يتعلق ببعض الأقسام، [فيُقدم] (¬1) الأول هنا: فمنه: اختلفوا في العمل بها، فالجمهور على الجواز، وحكى القاضي عن أهل الظاهر أنها كالمرسل. وضُعِّف بأنَّ في الإجازة من اتصال المنقول بها و [الثقة] (¬2) به ما ليس في المرسل. ¬

_ (¬1) كذا في (ش). وفي (ص، ت، ظ): فتقدم. (¬2) في (ز، ق، ش): في الثقة.

وفي "المنخول" للغزالي قول غريب: إنه يعمل بها في أحكام الآخرة دُون ما سواها. ومنه: اختلفوا في الرواية بها، والراجح الجواز، بل حكى القاضي أبو بكر والباجي وغيرهما من الأصوليين الاتفاق عليه. وهو عجيب؛ فقد قال بالمنع شعبة، قال: (ولو صحت الإجازة لبطلت الرحلة). وقال به أيضًا أبو زرعة الرازي، وقال: الو صحت لذهب العلم)، وإبراهيم الحربي كما نقله عنه الخطيب ثم ابن الصلاح وإنِ اضطرب في النقل عنه. واختاره القاضي الحسين والماوردي والروياني، ونقلوه عن نَص الشافعي. وحكى ابن وهب عن مالك أنه قال: لا أرى هذا يجوز، ولا يعجبني. قال أبو طاهر الدباس من الحنفية: مَن قال لغيره: (أجزتُ لك أنْ تروي عني)، فكأنه يقول: (أجزتُ لك أنْ تكذب علَيَّ). وكذا قال غيره: إنه بمنزلة: (أبحتُ لك ما لا يجوز في الشرع)؛ لأنَّ الشرع لا يبيح رواية ما لم يُسْمَع. واحتج ابن الصلاح للإجازة بأنه إذا أجاز له أن يروي عنه مروياته، فقد أخبره بها جملة، فهو كما لو أخبره تفصيلًا، وإخباره بها غير متوقف على التصريح نُطقًا كما في القراءة على الشيخ كما سبق (¬1). انتهى فتقدير قوله: "أجزتُ لك" أخبرتك أني أروي هذا الكتاب وأذنتُ لك أن تنقله عني. وما معنى قول الراوي: (أخبرنا فلان إجازةً) إلَّا هذا، فهو شبيه بمن يكتب الوصية ويقول لشخص: (اشْهَد علَيَّ بما في هذا المكتوب)، فقد جَوَّز محمد بن نصر المروزي -مِن أصحابنا- أن يشهد عليه بما فيه، والرواية أَوْلى. ¬

_ (¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 152).

وأما ما حُكي عن الشافعي فمحمول على كراهة ذلك، لا أنه ممتنع. كذا اقتضاه كلام البيهقي، وحكى عن شيخه الحاكم أنه قال: (فرَضي الله عن الإمام الشافعي كيف كره المكروه عند أكثر أئمة هذا الشأن). انتهى وقد صرح بالجواز في القديم والجديد. أما في القديم: فقال الكرابيسي: إنَّ الشافعي لَما قَدِم -يَعْني إلى بغداد- أتيتُه، فقلتُ: أتأذن لي أنْ أقرأ عليك الكُتب؟ قال: خُذ كُتب الزعفراني فانسخها، فقد أجزتها لك. فأخذتها إجازةً. وأما في الجديد: فروى الربيع عن الشافعي الإجازة لمن بلغ سبع سنين. واختُلِفَ أيضًا فيما يقول الراوي بالإجازة، فإنْ قال: "أجازني" أو "أجاز لنا" فهو الأجود. وهل يقول: "أخبرنا" أو "حدثنا"؟ قال أبو الحسين بن القطان: لا يقول ذلك، بل يحكي لفظ الشيخ. قال: وذهب إلى هذا أبو بكر. وقال المازري: يمتنع حتى يقول بالإجازة. وقال إمام الحرمين: الأَوْلى التصريح به. وأقره ابن القشيري. وسيأتي في بعض الأقسام في ذلك زيادة بيان. إذا تَقرر ذلك، عُدنا إلى الأقسام، وذكرتُ منها خمسة: الأول: إجازة خاصٍّ بخاص، وهي أعلاها. فيقول مثلًا: (أَجَزْتُك -أو: أجزتُ فلانًا أو عددًا [بعينهم] (¬1) - الكتاب الفلاني)، أو: (ما اشتملت عليه فهرستي هذه). وذلك مُعَيَّن ¬

_ (¬1) كذا في (ز)، لكن في (ص): يعينهم.

فيها. وزعم بعضهم أنه لا خلاف في جوازها وأنَّ الخلاف إنما هو في غير هذا القسم. والصحيح شمول الخلاف للكل كما أطلقنا فيما سبق. الثاني: الإجازة لِخَاصٍّ لكن بِعَامٍّ، وهو معنى قولي: (أَوْ يَعُمُّ الْمَوْرِدَا)، فإنه وإن كان معطوفًا بِـ "أو" فهو دُون الذي قَبْله، اعتمادًا على ظهور ذلك بالتقديم ووضوح أنَّ الإجازة [بالعام] (¬1) دون الإجازة بالخاص حتى كان ذلك بديهي، وذلك مثل أنْ يقول: (أجزتُ لك -أو: لكم- جميع مسموعاتي). فالخلاف في هذا النوع أقوى وأكثر. وإلى المنع ذهب إمام الحرمين، إذ قال: (يَبعُد أنْ يحصل العلم إلا بالتعويل على خطوط مشتملة على سماع الشيخ، فإنْ تحقق ظهور سماع لوثوق به، فإذْ ذاك، وهيهات) (¬2). انتهى والجمهور على جوازه أيضًا، وغاية ما قاله استبعاد. الثالث: عكس الثاني، وهو الإجازة لعام بخاصٍّ، نحو: أجزت للمسلمين أو لمن أدرك حياتي أو نحو ذلك -بالكتاب الفلاني. الربا: الإجازة لعام بعام، كـ "أجزتُ أهل العصر بجميع مروياتي". وهو دُون الذي قبله. وقد منعه جماعة، وجوَّزه الخطيب وغيره، وقد فعله ابن منده، فقال: أجزتُ لمن قال: لا إله إلا الله. وحكى الحازمي عمن أدركه من الحفاظ كأبي العلاء الحسن بن أحمد [القطان] (¬3) ¬

_ (¬1) في (ز): بالمعدوم. (¬2) البرهان (1/ 415). (¬3) كذا في جميع النُّسخ، والصواب: العطار. (سير أعلام النبلاء، 21/ 40).

الهمداني وغيره أنهم كانوا يميلون للجواز. وحكى الخطيب عن القاضي أبي الطيب الطبري أنه جوَّز الإجازة لجميع المسلمين مَن كان منهم موجودًا عند الإجازة. وقال ابن الصلاح: (لم نر ولم نسمع عن أحدٍ ممن يُقتدَى به استعمل هذه الإجازة، ولا عن الشرذمة المجوزة، والإجازة في أصلها ضعفٌ، وتزداد بهذا التوسع ضعفًا كثيرًا لا ينبغي احتماله) (¬1). قال بعض شيوخنا: ممن أجازها أبو الفضل بن خَيرون البغدادي وابن رشد المالكي والسلفي وغيرهم. ورجحه ابن الحاجب، وصححه النووي من زيادة "الروضة". وأفرد الحافظ أبو جعفر محمد بن حسين بن أبي البدر البغدادي كتابًا فيمن أجاز هذه الإجازة ومن عمل بها مُرَتبِين على حروف المعجم؛ لكثرتهم. واعْلَم أنَّ مِن الإجازة للعموم أنْ يصفهم بوصفٍ خاص، فيكون إلى الجواز أقرب كما قاله ابن الصلاح، ومَثَّله القاضي عياض بقوله: (أجزتُ لمن هو الآن من طلبة العلم ببلد كذا) أو: (لمن قرأ علَيَّ قبل هذا). قال: (فما أحسبهم اختلفوا في جوازه، أي: ممن يصحح الإجازة؛ لأنه محصور، فهو كقوله: لأولاد فلان، أو: لإخوة فلان) (¬2). الخامس: الإجازة للمعدوم تبعًا للموجود، كـ "أجزتُ لك ولولدك ولعقبك ما تناسلوا". وهى جائزة، فقد أجاز الفقهاء في الوقف مثل هذا، وقد فعل هذا أبو بكر بن أبي ¬

_ (¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 155). (¬2) الإلماع (ص 101).

داود السجستاني، فإنه سُئِل الإجازة، فقال: (قد أجزتُ لك ولأولادك ولحبل الحبلة). يعني: مَن لم يولد بعدُ، وهذا معنى قولي: (ثُمَّ "فُلَانٌ مَعَ نَسْلٍ يُوجَدُ") أي: هي دون ما سبق في المرتبة. تنبيهان أحدهما: دخل في إطلاق جواز الإجازة على ما فُصل إجازةُ المُجَاز كـ: "أجزتُ لك مجُازاتي"، أو: "إجازة ما أُجِيزَ لي روايته". وهو الصحيح، خلافًا لبعض المتأخرين، وقد كان الفقيه نصر المقدسي يروي بالإجازة عن الإجازة، وعليه العمل إلى زماننا. الثاني: عُلم مِن اقتصاري على هذه الخمسة الأقسام أنَّ ما سواها لا يجوز ولا يُعمل به، فمِن ذلك: الإجازة للمعدوم ابتداءً دُون ذكر موجود يكون تابعًا له، نحو: "أجزتُ لمن يولد لفلان". وقد أجازها أبو يعلى من الحنابلة، وأبو الفضل بن عمروس مِن المالكية، والخطيب من الشافعية. والصحيح الذي استقر عليه رأي القاضي أبي الطيب وابن الصباغ أنها لا تصح؛ لأنَّ الإجازة في حكم الإخبار جملةً بالمُجَاز كما تَقدم، فكما لا يصح الإخبار للمعدوم لا يصح إجازته. قال ابن الصلاح: وهو الصحيح الذي لا ينبغي غيره. ونظيره في الوقف لا يجوز عندنا، وأجازه أصحاب مالك وأبي حنيفة، فجوَّزوا الوقف على مَن سيولد أو يوجد مِن نسل فلان. أمَّا الإجازة للمعدوم على العموم -كَ "أجزتُ لمن يوجد بعد ذلك مطلقًا"- فلا يصح بالإجماع، وكأنها إجازة من معدوم لمعدوم.

ومنه: الإجازة للمجهول أو بالمجهول، كـ: "أجزتُ لرَجُلٍ مِن الناس" أو: "لفلان". ويشترك في ذلك الاسم جمع، أو: "أجزتُك أنْ تروي عني شيئًا" أو: "تروي كتاب السُّنن " وهو يروي عِدَّةً مِن كُتب في السُّنن المعروفة بذلك ولا قرينة ترشد للمراد، فهي إجازة فاسدة، لا فائدة لها. وليس من هذه: الإجازة لِمُسَمين معينين بأنسابهم والمجيز جاهل بأعيانهم، فلا يقدح كما لا يقدح عدم معرفته بمن هو حاضر يسمع بشخصه. وكذا لو أجاز للمُسَمَّين في الاستجازة ولم يعرفهم بأعيانهم ولا بأنسابهم ولا [تَصَفَّحَهم] (¬1) واحدًا واحدًا، فإنَّ ابن الصلاح قال: (ينبغي أن يصح كما يصح مَن حضر مجلسه للسماع منه وإنْ لم يعرفهم ولا عددهم ولا أشخاصهم). ومنه: الإجازة المعلَّقة بشرط، مثل: "أجزتُ لمن يشاء فلان" أو نحو ذلك، فلا يصح أيضا كالذي قبله؛ لِمَا فيه من الجهالة والتعليق. وقد أفتى القاضي أبو الطيب بأنه لا يجوز؛ لأنه إجازة لمجهول، قال: كقوله: (أجزتُ بعض الناس). وقال أبو يعلى الحنبلي وابن عمروس المالكي: يجوز ذلك. فلو قال: "أَجزتُ مَن شاء" فهو كـ: "أَجزتُ مَن شاء فلان"، بل [هذا] (¬2) أكثر جهالة وانتشارًا مِن جهة تعليقها بمشيئة مَن لا يُحصَر عددهم. نعم، هذا فيمن أجاز لمن شاء الإجازة منه، أمَّا لو أجاز لمن شاء الرواية عنه فهو أَوْلى بالجواز مِن حيث إنَّ قضية كل إجازة تفويض الرواية بها إلى مشيئة مَن أجاز له، فكان هذا مع كونه بصيغة التعليق تصريحًا بما يقتضيه الإطلاق من حكاية الحال، لا تعليقًا؛ ولهذا أجاز ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ق). لكن في (ص، ش): يصحبهم. وفي (ظ، ت): بصحبتهم. (¬2) في (ص): هو.

بعض أصحابنا في البيع: "بِعْتُك هذا إنْ شئتَ"، فيقول: قَبلتُ. ومنه: الإجازة لمن ليس أهلًا، كالطفل والمجنون والكافر والحمل. قال الخطيب: (سألتُ القاضي أبا الطيب عن الصبي: هل يُعتبر تمييزه في الإجازة له كالسماع؟ فقال: لا. فقلتُ: قد منع بعض أصحابنا أنه [تصح] (¬1) الإجازة لمن لا يصح سماعه. فقال: قد يصح أنْ يُجيز للغائب عنه، ولا يصح السماع له) (¬2). واحتج الخطيب بأنَّ [الإجازة] (¬3) إباحة للرواية؛ فلا فرق بين المكلَّف وغيره، فيدخل الصبي والمجنون، وأما الكافر فقد صححوا تَحَمُّلَه إذا أدَّاه بعد الإسلام، فالقياس جواز الإجازة له. ووقعت المسألة في زمن الحافظ أبي الحجاج المزي بدمشق، فكان طبيب يسمى محمد بن عبد السيد يسمع الحديث -وهو يهودي- عَلَى أبي عبد الله محمد بن عبد المؤمن الصُّوري، وكَتب اسمه في طبقات السماع مع الناس، وأجاز ابنُ عبد المؤمن لمن سمع، وهو مِن جُملتهم، وكان السماع والإجازة بحضرة المِزِّي وبعض السماع بقراءته ولم ينكره، ثُم هَدَى الله -عز وجل- ابنَ عبد السيد للإسلام وحدَّث وتحمل الطلاب عنه. ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ق)، وفي سائر النُّسخ: (لا يصح) أو: (لا تصح). وحذف "لا" هو الصواب؛ فعبارة الخطيب في (الكفاية، ص 225): (فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا قَالَ: لَا تَصِحُّ الْإِجَارةُ لمَنْ لَا يَصِحُّ سَمَاعُهُ). وهذا هو معنى عبارة: (فقلتُ: قد منع بعض أصحابنا أنه تصح الإجازة لمن لا يصح سماعه). (¬2) الكفاية (ص 325). (¬3) في (ز): الرواية.

قال شيخنا الحافظ عبد الرحيم بن العراقي: ورأيتُه ثَمَّ، ولم أسمع منه. وأما الإجازة للمجهول فصحيحة إذا [علم بشخصه أو بنسبه] (¬1) أو نحو ذلك كما سبق. وأما الإجازة للفاسق أو المبتدع فأَوْلى مِن الكافر، بل لا ينبغي الشك في جوازها لهما. وأما الحمل فيفهم من قول الخطيب أنه لم يقع؛ لأنه قال: لم نرهم أجازوا لمن لم يكن مولودًا. لكن لا نعلم إذا وقع، هل يجوز؟ أو لا؟ وهو أَوْلى بالصحة من المعدوم، ويقوى إذا أجيز له تبعًا لأصله. ويحتمل أنْ يُبنى على أن الحمل يُعلم، أي: يُعطى حكم المعلوم؟ أم لا؟ إنْ قلنا: نعم وهو الأصح، فيصح. ومِنه: الإجازة لِمَا لم يتحمله المجيز ليَرْوِيَهُ المُجَاز له إذا تحمله المجيزُ. قال القاضي عياض في "الإلماع": لم أرهم تكلموا فيه، ورأيتُ بعض العصريين يفعله. لكن قال أبو مروان عبد الملك الطُّبني -أيْ بضم الطاء والموحدة مشددة ثم نون-: كنتُ عند القاضي أبي الوليد يونس بقُرْطُبة، فسأله إنسان الإجازة بما رواه وما يرويه مِن بَعد، فلم يُجِبه؛ فغضب. فقلتُ: يا هذا، يعطيك ما لم يأخذ؟ ! فقال أبو الوليد: هذا جوابي. ¬

_ (¬1) في (ز): علمه بشخصه أو نسبه.

قال عياض: (فهذا هو الصحيح) (¬1). وعلى هذا ينبغي أنْ تُبنى المسألة على أن الإجازة إخبار بالمُجَاز جُملةً؟ أو إذن؟ فَعَلَى الأول: لا يصح؛ إذْ لا يُجيز عما لم يوجد. أو بالثاني، فينبني على الخلاف في نظيره من الوكالة فيما لو أَذِنَ في بيع العبد الذي يريد أنْ يشتريه. وقد أجازه بعضُ أصحابنا، والصحيح خِلافه. ومنه: الإذن في الإجازة، كَـ "أذنتُ لك أنْ [تُجِيزَ] (¬2) عني مَن شئت". قال السبكي في "شرح منهاج البيضاوي": (لم أَرَ مَن ذكره، وقد وقعت في عصرنا، وسُئلتُ عنها، فقلتُ: المُتَّجِه الصحة، كـ "وَكِّل عني"، وعلى هذا يكون مُجَازًا من جهة الآذِن، وينعزل "المأذون له في أنْ يجيز" بموت الآذِن كما ينعزل الوكيل بموت الموكِّل). قال: (ولو قال: "أذِنتُ لك أنْ [تجيز] (¬3) عني فلانًا"، فأَوْلى بالجواز) (¬4). والله أعلم. ¬

_ (¬1) الإلماع (ص 106). (¬2) في (ظ، ص): تخبر. (¬3) في (ص): تخبر. (¬4) الإبهاج (2/ 328).

ص: 355 - "تَنَاوُلٌ"، "إعْلَامُهُ"، "وَصِيَّهْ" ... " وِجَادَةٌ" [تَرْتِيبُ ذِي] (¬1) الْبَقِيَّهْ الشرح: هذه أنواع أخرى منحطة عما سبق، وقد رجح كثيرٌ فيها المنع كما سنفصله، لكن جريتُ فيها على قول المجوِّزين؛ لقوته، بل كلام الشافعي يدل على الجواز في أَدْوَنها وهو الوجادة كما سيأتي، وأيضًا فلتكثير الفائدة باستيعاب ما ذكر مِن المراتب. وقولي: ([تَرْتِيبُ ذِي] (¬2) الْبَقِيَّهْ) تنبيه على ترتيبها، فكل واحد أعلى مما بعده. أولها: المناولة المجردة عن الإجازة. وأصلها لُغةً: الإعطاء باليد، ثم استُعملت عند [المحدِّثين] (¬3) وغيرهم في إعطاء كتاب أو ورقة مكتوبة أو نحو ذلك، ويقول المناوِل له: (هذا سماعي من فلان) أو: (مَرْوِيِّي عنه بطريق كذا). سواء قال مع ذلك: (خُذه) أو ناوله بالفعل ساكتًا. فإذا لم ينضم إليها إذْنٌ بالرواية على ما مضى ذِكره، يُسمى "المناولة المجردة"، وهي المراد بقولي: (تَنَاوُلٌ)؛ لأنه مطاوع ناوله مناولةً. والمرجَّح عند الأكثرين فيها أنه لا تصح الرواية بها. وحكى الخطيب عن قوم أنهم صححوها، وبه قال ابن الصباغ. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ظ، ت). لكن في (ض): (ترتيب)، وبها ينكسر الوزن. وفي (ز، ن): (فرتب). وفي (ش): (ترتب). وبهما يصح الوزن أيضًا. (¬2) في (ز): فرتب. وفي (ش): ترتب. (¬3) كذا في (ز، ش، ض، ق). لكن في (ص، ت): المحققين.

قال الهندي (¬1): وكلام الإمام فخر الدين صريح فيه، وكلام غيره يدل على المنع. وقال ابن الصلاح: (إنها [إجازة مجملة] (¬2) لا [تجوز] (¬3) الرواية بها، وعابها غير واحد مِن الفقهاء والأصوليين على المحدثين) (¬4). وقال النووي: إنَّ الصحيح المنعُ عند الأصوليين والفقهاء. الثانية: الإعلام المجرد عن المناولة والإجازة، كأنْ يقول: (هذا سماعي مِن فلان) أو: (روايتي عنه) أو نحو ذلك ولا يزيد على هذا، وهي أَوْلى بالمنع مِن التي قبلها، وإليه ذهب غير واحد مِن المحدثين وغيرهم، وبه قطع أبو حامد الطوسي مِن الشافعية كلما قاله ابن الصلاح. والظاهر أنه أراد به الغزالي؛ فإنه كذلك في "المستصفى"، قال: (لأنه لم يأذن في الرواية، فلَعَلَّهُ لا يُجوِّز الرواية؛ لخلل يعرفه فيه وإنْ سمعه) (¬5). انتهى وإنْ كان في الشافعية كثير أبو حامد الطوسي لكن لا يُعْرف لهم تصنيف فيه هذا غير "المستصفى". وبالجملة فالمنع هو المختار كما قال ابن الصلاح، وهو مقتضَى كلام الآمدي. وذهب كثيرون إلى الجواز، منهم ابن جريج وعُبيد الله الغَمري -بفتح الغين المعجمة وبالراء المهملة- وأصحابه المدنيون وطائفة من المحدثين والفقهاء والأصوليين وأهل ¬

_ (¬1) نهاية الوصول (7/ 3011). (¬2) في (ص، ض): إجازة محتملة. والعبارة في (مقدمة ابن الصلاح، ص 169) هكذا: فهذه مناولة مختلة. (¬3) في (ص، ض): مجرد. (¬4) مقدمة ابن الصلاح (ص 169). (¬5) مقدمة ابن الصلاح (ص 176).

الظاهر، ونصره أيضًا الوليد بن بكر الغَمري -بالمعجمة أيضًا- وبه قطع ابن الصباغ، وحكاه القاضي عياض عن كثير. وأجازه أبو محمد بن خلاد الرامهرمزي، قال: حتى لو قال: "هذه روايتي لكن لا تَرْوِها عني ولا أُجيزه لك"، لم يضره ذلك. قال القاضي عياض: (وما قاله صحيح، لا يقتضى النظر سواه؛ لأنَّ منعه -لا لِعِلة ولا لريبة- لا يؤثر؛ فهو مِن الذي لا يُرجَع فيه) (¬1). ورَدَّ ذلك ابن الصلاح بأنه كالشاهد يسمع مَن يذكر شيئًا في غير مجلس الحكم ليس له أنْ يشهد على شهادته إذا لم يأذن له. قال: (وذلك مما تساوت فيه الرواية والشهادة). انتهى لكن القاضي عياض قد تعرَّض للجواب عن هذا بأنَّ الشهادة على الشهادة لا تصح إلا مع الإشهاد أو الإذن في كل حال سوى ما لو سمعه أدَّى عند الحاكم فإنَّ فيه اختلافًا، وأما الرواية فليس فيها ذلك؛ فإنَّ الحديث عن السماع والقراءة لا يحتاج فيه إلى إذنٍ باتفاق؛ فافترقَا. وقد يخدش هذا الجواب: بأنَّ الحديث عن السماع والقراءة وِزان سماعه عند القاضي يؤدي أو نحو ذلك؛ لأنه لا يحتمل شيئًا آخر، بخلاف ما لو سمع شخصًا يقول: (أنا شاهد على فلان بكذا)، فلا فرق بينهما في ذلك حينئذٍ. واعْلَم أنَّ هذا كله في جواز الرواية، أما العمل بما أخبره به الشيخ أنه سماعه أو مَرْوِيُّه فإنه يجب عليه إذا صح إسناده كما جزم به ابن الصلاح، وحكاه عياض عن محققي أصحاب الأصول أنهم لا يختلفون فيه. ¬

_ (¬1) عبارة القاضي عياض في (الإلماع، ص 110): (وَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ، لَا يَقْتَضِي النَّظَرُ سِوَاهُ؛ لِأَنَّ مَنْعَهُ أَلَّا يُحدِّثَ بِمَا حَدَّثَهُ -لَا لِعِلَّةٍ وَلَا رِيبَةٍ فِي الحَدِيثِ- لَا تُؤَثِّرُ، لِأَنَّهُ قَدْ حَدَّثَهُ، فَهُوَ شَيْءٌ لَا يُرْجَعُ فِيهِ).

الثالث: الوصية: بأنْ يوصي قبل موته أو عند سفره بأنَّ فلانًا يروى عنه كذا كذا. فَعَنْ بعض السلف أنه يجوز للموصَى له أنْ يرويه عن الموصي، فروى الرامهرمزي من رواية حماد بن زيد عن أيوب قال: قلتُ لمحمد بن سيرين: إنَّ فلانًا أوصى لي بكُتبه، أفأُحَدِّث بها عنه؟ قال: نعم. ثم قال لي بعد ذلك: لا آمُرك ولا أنهاك. قال حماد: وكان أبو قلابة قال: ادفعوا كُتبي إلى أيوب إنْ كان حيًّا، وإلا فاحرقوها. وعَلل ذلك القاضي عياض بأنه نوع مِن الإذن. قال ابن الصلاح: (وهذا بعيد جدًّا، وهو إما زَلَّة عالِم أو مُؤَوَّل على أنه أراد أن يكون ذلك على سبيل الوجادة) (¬1). الرابع: "الوِجادة" بكسر الواو: مصدر [مُوَلَّدٌ] (¬2) لِـ "وَجَد". قال المعافَى بن زكريا النهرواني: إنَّ المولدين ولدوه وليس عربيًّا، جعلوه مباينًا لمصادر "وجد" المختلفة المعنى، فكما ميزت العرب بين معانيها فَرَّقَ هؤلاء بين ما قصدوه مِن هذا النوع وبين تلك. قال ابن الصلاح: (يعني قولَهم: وَجَد ضالَّتَه وِجْدانًا، ومطلوبَه وُجُودًا، وفي الغضب: مَوْجِدةً، وفي الغِنَى: وُجْدًا، وفي [الخير] (¬3): وَجْدًا) (¬4). انتهى وزِيد عليه "جِدة" في الغضب، وفي الغِنَى "إجْدان" بكسر الهمزة. حكاهما ابن الأعرابي. وبَسْط ذلك له موضع أَلْيَق مِن هذا. ¬

_ (¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 176). (¬2) كذا في (ز، ت) وهو الصواب. وفي سائر النُّسَخ: مؤكد. (¬3) كذا في جميع النُّسخ. واللفظ في (مقدمة ابن الصلاح، ص 178): الحب. (¬4) مقدمة ابن الصلاح (178).

و"الوجادة" في الاصطلاح: أن يجد الحديث أو نحوه بخط مَن يعرفه ويثق بأنه خطه، حيًّا كان أو ميتًا. فأما الرواية به فأنْ يقول: (وجدتُ بخط فلان كذا). وإذا لم يثق بذلك، يقول: (ذُكر أنه خط فلان). ولا يقول لا "حدَّثنا" ولا "أخبرنا"، خلافًا لمن جازف في إطلاق ذلك. قال القاضي عياض: (لا أعلم أحدًا ممن يُقتدَى به أجاز ذلك) (¬1). وأما أنْ يقول: (عن فلان) فقال ابن الصلاح: (إنه تدليس قبيح إذا كان يُوهم سماعه منه) (¬2). أما العمل بها فمعظم المحدثين والفقهاء والأصوليين على المنع. وحُكي عن الشافعي الجواز، وهو الذي نَصره الجويني، واختاره غيره مِن أرباب التحقيق. قال ابن الصلاح: (قطع به بعض المحققين من أصحابه، وهو الذي لا يتجه غيره في الأعصار المتأخرة) (¬3). وقال النووي أيضًا: إنه الصحيح. تنبيهان أحدهما: سبق في الرواية بالوجادة اللفظ الذي يروى به وينبغي في الوصية أن يصرح ¬

_ (¬1) الإلماع (ص 117). (¬2) مقدمة ابن الصلاح (ص 179). (¬3) مقدمة ابن الصلاح (ص 180).

بذلك بأن يقول: (أوصَى لي فلان أن [أروي] (¬1) عنه كذا). ولا يُطْلِق "حدَّثنا" و"أخبرنا"، وكذا في "الإعلام". وأما "المناولة" وكذا ما قبلها وهو "الإجازة" فلا يُقال فيهما: (حدثنا) ولا: (أخبرنا) على الصحيح المختار عند الجمهور. وقال الزهري وما لك: يجوز فيهما إطلاق "حدثنا" و"أخبرنا". وحُكي عن قوم أنَّ ذلك جائز في "الإجازة" مطلقًا مِن غير أن يُقيد بكونها إجازة. فحكاه عياض عن ابن جريج وجماعة مِن المتقدمين. وقال الوليد بن بكر: إنه مذهب مالك وأهل المدينة. وذهب إليه أيضًا إمام الحرمين، وخالفهم غيرهم مِن أهل الأصول وغيرهم. وجوَّز أبو نُعيم وأبو عبد الله المَرْزَباني -بميم مفتوحة ثم راء ساكنة ثم زاي مفتوحة ثم موحدة وبعد الألف نون- أن يقول: (أخبرنا) دُون (حدثنا) إلَّا أن يقول: (حدثنا - أو: أخبرنا - إجازةً) كما يقول في المناولة: (أخبرنا - أو: حدثنا - مناولة) أو نحو ذلك، وللمحدثين ألفاظ أخرى في ذلك موضحة في عِلم الحديث، لا نُطَول بها. الثاني: "المكاتبة": بأن يكتب الشيخ إلى غيره: (سمعت من فلان كذا). للمكتوب إليه -إذا عَلم خطه أو ظنه بإخبار عدلٍ أنه خطه أو شاهده يكتب -أنْ يعمل به ويرويه عنه إنْ أجازَه به، وكذا إن لم يُجِزه عند كثير من المتقدمين حتى قال ابن السمعاني: إنها أقوى من الإجازة. واقتضى كلام إلْكِيا [أنها] (¬2) كالسماع، قال: لأنَّ الكتابة أحد اللسانين، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يُبلِّغ الغائب بالكتابة إليه. ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ص، ق). وفي سائر النُّسخ: أؤدي. (¬2) كذا في (ز). لكن في سائر النُّسخ: أنه.

قال: ولو بعث إليه رسولًا وأخبره بالحديث، حَلَّت له الرواية؛ لأنَّ الرسول ينقل كلام المرسِل؛ فهو كالكتاب، بل أَوْثق منه، وكان - صلى الله عليه وسلم - يكتب إلى عُماله تارةً ويُرسل أخرى. ونقل الصيرفي عن مالك أنه كان يكتب ويقول: كتبتُ كتابي هذا وختمته بخاتمي، فارْوِه عني. قال البيهقي: (الآثار فيه كثيرة عن التابعين وأتباعهم مِن بعدهم؛ فدَلَّ على أنه واسمع عندهم، وكُتُب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عُمَّاله بالأحكام شاهدة لقولهم. إلا أن ما سَمِعَه مِن الشيخ فوعاه أو قُرئ عليه وأقرَّ به فحَفظه يكون أَوْلى بالقبول مما كتب به إليه؛ لِما يخاف على الكتاب مِن التغيير والإحالة). انتهى ونقل أبو الحسين بن القطان عن بعضهم اعتبار شاهدين على الكاتب بأنه كتبه على حد شرط كتاب القاضي. وصِفَةُ الرواية بهذا النوع: (كَتب إلَيَّ)، أو: (أخبرني كتابةً). وجَوَّز الإمام فخر الدين أن يُطلق "أخبرني" وإنْ لم يقُل: (كتابةً). وجرى عليه ابن دقيق العيد في "شرح العنوان"، فجعل قول الراوي: (كتابةً) أدبًا لا شرْطًا، ونُقل نحو ذلك عن الليث بن سعد أنه يجوز إطلاق "حدثنا" و"أخبرنا". والمختار الراجح: الأول. ومنع قوم مِن الرواية بالكتابة، كالماوردي والروياني، وأجابا عن كُتب النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الاعتماد كان على إخبار المرسَلة على يده، ونُقل إنكار ذلك أيضًا عن الدارقطني. قال إمام الحرمين في "النهاية": (كل كتاب لم يُذكر حامله فهو مرسَل) (¬1). ¬

_ (¬1) نهاية المطلب (1/ 21).

قلتُ: وإنما لم أذكر هذا النوع في النَّظم؛ لأنَّ مَردَّه عند القائل به أحد أمرين: [أحدهما] (¬1): "الوجادة" وإنْ فارقها مِن حيث إنه هنا قصده بالكتابة، بخلاف "الوجادة". [والآخَر] (¬2): "الإجازة" على ما سبق مِن تفاصيلها وإنْ فارقها مِن حيث إنَّ فيها لفظًا، بخلاف الكتابة، فاكتفي بذكرهما. ومَن أراد التوسع في ذلك فليراجعه من محله وهو عِلم الحديث، والله تعالى أعلم. خاتمة: 356 - تَكْذِيبُ أَصْلٍ فَرْعَهُ لَا يُسْقِطُ ... مَرْوِيَّهُ؛ فَإنَّهُ قَدْ يَضْبِطُ 357 - وَالشَّيْخُ نَاسٍ، فَإذَا مَا ظَنَّا ... أَوْ شَكَّ فَهْوَ لِلْقَبُولِ أَدْنَى الشرح: هذه الخاتمة في مسائل كالمفرَّعة على ما تأَصَّل مِن القواعد في خبر الواحد وما شُرط فيه، وربما يخرج مِن ذلك شروط أخرى في قبول خبر الواحد سوى ما تَقدم لكن على آراء تارةً ترجح وتارةً تضعف، والفَطِن ينظر في الراجح [فيزيده] (¬3). الأُولى: إذا كذَّب الأصلُ فرعَه فيما رواه عنه، هل يسقط ذلك المروي عن درجة الاعتبار فَيُرَد ¬

_ (¬1) من (ز، ق). (¬2) في (ز): الثاني. (¬3) كذا في (ظ، ت، ص، ق). لكن في (ز، ش): فيريده.

ولا يُعمل به؟ أوْ لا؟ قولان: أحدهما: وهو المختار وعليه جَريتُ في النظم وفاقًا لابن السمعاني كما سيأتي وجرى عليه صاحب "جمع الجوامع"، لموافقته للقواعد -أنه لا يُسقط مَرْوِيَّه؛ لأنه قد يضبط الفرعُ ويكون الشيخ ناسيًا له؛ فينكره اعتمادًا على غَلبة ظنه أنه ما أخبره؛ ولهذا كان الحالف على غلبة ظنه -والأمر بخلافِه- لا يحنث. وممن اختار ذلك أيضًا أبو الحسين بن القطان وابن السمعاني في "القواطع". وجزم به الماوردي والروياني إلا أنهما قالا: إن الفرع لا يجوز أن يرويه عن الأصل. وهو مُشْكل؛ لأنه إذا كان المروي معتبرًا، فَلِمَ لا يُعزى للشيخ؟ القول الثاني: سقوط ذلك المروي، وهو المشهور، وذكر إمام الحرمين أن القاضي عزاه للشافعي، ونقله ابن السمعاني في كتاب "القواطع" عن الأصحاب وإنْ خالفهم. بل ربما حكى بعضهم الاتفاق عليه كما هو مقتضَى كلام الهندي في بعض كُتبه ومقتضَى كلام النووي في "شرح مسلم" في "باب الذكر بعد الصلاة". وفيه نَظر؛ لِمَا سبق. وفى المسألة قول ثالث بالوقف؛ لتعارُض قَطعْ الشيخ بكذب الراوي وقَطْع الراوي [بأن الشيخ رواه له] (¬1) وليس أحدهما بأَوْلى مِن الآخَر. وهو ظاهر كلام ابن الصباغ في "العدة"، ونقله ابن القشيري عن اختيار القاضي أبي بكر على خلاف ما نقله عنه إمام الحرمين والخطيب في "الكفاية" من الرد. وعلى قول الوقف: يُطلب الترجيح. ¬

_ (¬1) في (ز): بالنقل.

وفي "شرح المختصر" لابن السبكي تأييد القول الأول بأنه كان يلزم أن يقول الأصحاب: إنه لو اجتمع الأصل والفرع في شهادة، تُرد. قال: (وما أراهم يقولون بهذا) (¬1). فقضيته أنه إجماع، وصرح بأنه حكى الاتفاق فيه الشيخ بدر الدين في "شرح جمع الجوامع"، ثم قال: (لكن ينازع في ذلك قول الهندي: إنه لا يصير بذلك واحد منهما بِعَيْنه مجروحًا وإنْ كان لا بُدَّ مِن جَرْح واحد منهما لا بِعينه، كالبينتين المتكاذبتين). قال: (وفائدته تظهر في قبول رواية كل واحدٍ منهما وشهادته إذا انفرد، وعدم قبول شهادته وروايته مهما اجتمعا ولو كان في غير ذلك الحديث) (¬2). انتهى قال السبكي: (وقد حكوا قولين فيما إذا ادَّعى رجل على رجلين أنهما رهناه عبدهما، فزعم كل واحد منهما أنه ما رهن نصيبه وأن شريكه رهن وشهد عليه بذلك: أحدهما: لا يقبل؛ لطعن كل واحد منهما في صاحبه. وأصحهما: يقبل، وبه قال الأكثرون؛ لأنهما ربما نسيا) (¬3). ومما يشبه ذلك من الفقه: البينتان تتكاذبان بتعارضهما، ولا يقدح ذلك في عدالتهما. وإذا قال لامرأته: (إنْ كان هذا الطائر غرابًا فأنت طالق) وعَكَس آخَر ولم يُعْرف الطائر، لا يُمْنَع أحد منهما غشيان امرأته مع أنَّ امرأة أحدهما طالق في نَفْس الأَمْر. ¬

_ (¬1) رفع الحاجب (2/ 431). (¬2) تشنيف المسامع (2/ 971). (¬3) رفع الحاجب (2/ 431).

وكذا المجتهدان في إناءين كل منهما توضأ بإناء، لا يَؤُم أحدهما الآخر. وما لو عَلَّقَ عتق عبده بكون الطائر غرابًا والآخَرُ بكونه ليس غرابًا ثُم ملك أحدهما العبد الآخَر واجتمعا في ملكه، عُتق أحدهما لا بعينه. وهو كثير، إلا أنَّ الفرق أن مسألتنا يقال فيها: إنَّ يقين أحدهما لا ينافي كونه ناسيًا، فلا تُرد شهادته بالاحتمال. تنبيهات أحدهما: محل الخلاف: إذا أنكر الشيخ الحديث بالجملة، أما لو أنكر لفظةً منه فقط فلا خلاف في وجوب العمل به. قاله القاضي في "التقريب". ومحله أيضًا: إذا كان الشيخ المنكِر واحدًا، أمَّا لو كانوا كثيرًا يَبعد أنهم نسوا وحَفظ الراوي فإنه يكون قادحًا قطعًا. قاله ابن فورك. ومحله أيضًا: إذا كان الفرعُ جازمًا به، فإن كان شاكًّا فلا يخفى أنه لا يُعمل به؛ لأن شرط الرواية الجزم وإنْ لم ينكر الشيخ، فكيف مع الإنكار؟ ومحله أيضًا: إذا أنكره لفظًا، وهو معنى قولي: (تَكْذِيبُ). أما لو أنكره فِعلًا بأن رواه له ثم عمل بخلافه: - فإنْ كان مما يَقبل التأويل، فيجوز أن يكون ذلك؛ لأنه أَوَّلَه. - وإنْ لم يقبل فقال ابن الأثير في "شرح مسند الشافعي": إنه مردود. وبمثله قال أبو زيد الدبوسي من الحنفية. لكن قياس مذهبنا أنه لا يُرد بذلك مطلقًا؛ لأنَّ العبرة بما روى الراوي، لا بما يرى، كما لو كانا مِن واحد.

فإنْ لم يعمل الشيخ بخلافه ولكن ترك العمل به، فهو يُشْعر بأنه لو كان صحيحًا لَمَا تركه، والظاهر أنه كالذي قبْله. الثاني: أنَّ الرواية في هذا [تخالف] (¬1) الشهادة، فمانَّ الأصل إذا أنكر، بطلت شهادة الفرع الذي هو شاهد على شهادته. الثالث: إذا لم يقع الإنكار إلا من أصحاب الشيخ، لا مِن الشيخ، فإن لم يكن المنكِر عليه من مشاهير أصحابه فنقل ابن برهان عن أصحابنا أنه يُرد، كما ردوا حديث أبي خالد الدالاني: "ليس الوضوء على مَن نام قائمًا أو قاعدًا أو راكعًا أو ساجدًا، وإنما الوضوء على مَن نام مضطجعًا"؛ لقول أحمد: إنَّ أبا خالد الدالاني يُزاحم أصحاب قتادة وليس منهم. قال ابن برهان: وما تخيلوه لا يصح؛ لأنَّ الفرض أنَّ الناقل ثقة عدل، فكيف يُرد وغاية ذلك زيادة ثقة؟ ! فاللائق بمذهبنا أنه لا يُرد. فإنْ كان الإنكار من الراوي نفسه بأنْ قال: (كنتُ وهمتُ أو أخطأتُ)، فقال ابن القطان: الظاهر أن يكون كما سبق؛ لاحتمال النسيان. وقال القاضي أبو الطيب: يُقبل إنكاره كما قُبل أولا تحديثه. أما لو قال: (تعمدتُ الكذب)، فقال الصيرفي: لا يُعمل بذلك الحديث ولا بشيء مِن نَقْله. فإنْ قال عدل مرتضى في رواية عدل: (إنها ليست بصحيحة)، ولم يُبين لقوله وَجْهًا، لم يُسْمع منه. قاله إلْكِيا الطبري، قال: وبمثله رددنا قول ابن معين: لم يصح في "النكاح بغير ولي" حديثٌ. ¬

_ (¬1) في (ز): بخلاف.

الرابع (¬1): مِن أمثلة المسألة: ما رواه البخاري في رفع الصوت بالذكر عن عمرو - يعني ابن دينار - عن أبي معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس، فإن الشافعي ثُم مُسْلمًا قالا: إنَّ الحديث معلول بأنَّ أبا معبد أنكر تحديثه عَمرًا بذلك. قال الشافعي: وكأنه نَسيَ. ومنها: ما في سؤالات الآجُري لأبي داود: سمعتُ أبا داود يقول: قال ابن المبارك: كابرني روح بن شيبان مكابرة، حدَّثني بحديث، ثم قال: لم أُحدثك. المسألة الثانية: إذا لم ينكِر الشيخ وإنما شك أو ظن أنه لم يحدِّث فرعَه أو قال: (لا أدري صحة ما عزاه إلَيَّ) والراوي ثقة جازم بذلك، فالأكثر على قبوله والعمل به. وإليه أشرتُ بقولي: (فَإذَا مَا ظَنَّا أَوْ شَكَّ فَهْوَ لِلْقَبُولِ أَدْنَى) أي: أقرب للقبول من الذي سبق في إنكار الشيخ، وعلى هذا أصحابنا ومحمد بن الحسن. قال القاضي: وهو مذهب أكثر العلماء والفقهاء مِن أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة. وقال سليم: إنه قول أصحاب الحديث بأسْرهم وبعض الحنفية. قال ابن القشيري: وهو ما اختاره القاضي، وادَّعاه مذهب الشافعي. كما روى ربيعة عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالشاهد واليمين" (¬2). ثم قال سهيل: لا أدري. ثم صار بعد ذلك يقول: حَدَّثني ربيعة عني ¬

_ (¬1) التنبيه الرابع كُله ليس في (ز). (¬2) صحيح ابن حبان (رقم: 5073)، السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 20431). قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 5050).

أني حَدَّثته بذلك، كذا رواه أبو داود (¬1). وهو في "الترمذي" (¬2) و"ابن ماجه" (¬3) بدون قول سهيل لربيعة: لا أدري. واستُدل -باشتهار ذلك ولم ينكره أحد- على جوازه وإنْ كان ابن الحاجب ضَعَّف الاستدلال به بأنه ليس فيه ما يدل على وجوب العمل، والخلاف إنما هو في ذلك. ورُدَّ بأنه إذا جاز أنْ يُعمل به، ثَبتَ أنه حق يجب العمل به. قال السبكي في "شرح المختصر": (ومن ظريف ما اتفق في ذلك أنَّ أبا القاسم بن عساكر -وهو أستاذ زمانه حفظًا وإتقانًا وورعًا- حدَّث عن سعيد بن مبارك الدهان ببغداد، قال: رأيت في النوم شخصًا أعرفه وهو ينشد صاحبًا له: أيُّها [الماِطلُ] (¬4) دَيْني أَمليٌّ ومماطِل ... عَلِّلِ القلبَ فإني قانِعٌ منك بِبَاطِل وحدَّث ابن عساكر بذلك الحافظ أبا سعد بن السمعاني. قال ابن السمعاني: فرأيت سعيد بن البارك وعرضتُ عليه هذه الحكاية، فقال: ما أعرفها. قال ابن السمعاني: وابن عساكر مِن أوثق مَن رأيتُ؛ جُمع له الحفظ والمعرفة والإتقان، ولَعَلَّ ابن الدهان نسيَ) (¬5). وذهب الكرخي والرازي وأكثر الحنفية إلى أنَّ الحديث في هذه المسألة لا يُقبل؛ ولذلك ردُّوا خبر: "أيما امرأة نُكحت بغير إذن وَليها فنكاحها باطل" (¬6)؛ لأنَّ راويَه الزهري قال: لا ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (رقم: 3610). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 3610). (¬2) سنن الترمذي (رقم: 1343). قال الألباني: صحيح. (صحيح الترمذي: 1343). (¬3) سنن ابن ماجه (رقم: 2368). قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 1932). (¬4) في (ص، ض، ظ): المماطل. (¬5) رفع الحاجب (2/ 433). (¬6) سنن الترمذي (رقم: 1102). قال الألباني: صحيح. (صحيح الترمذي: 1102).

أذكره. وكذا حديث سهيل في "الشاهد واليمين" كما سبق، وذكر الرافعي في "باب الأقضية" أنَّ القاضي ابن كج حكاه وجهًا عن بعض الأصحاب، ونقله شارح "اللمع" عن اختيار أبي حامد [المروروذي] (¬1) [وأنه] (¬2) قاسه على الشهادة. فإنْ كان المراد في شهادة الشاهدين على القاضي وهو يقول: (لا أعلم)، فهو ما استدل به مَن قاله مِن الحنفية، ولكن الفرق أنَّ باب الشهادة أضيق. وفى المسألة مذهب ثالث قاله أبو زيد الدبوسي: التفصيل بين أن يكون الأصل ممن يغلب نسيانه واعتياد ذلك فيُقبل، أوْ لا فلا. ورابع قاله إلْكِيا: التفصيل بين أن يكون هناك دليل مستقل فلا يُعمل به؛ لأنه بمنزلة خبرين تعارضَا، والتردد يورث ضعفًا؛ فقُدِّم الأخير. وإنْ لم يوجد دليل مستقل فهو أَوْلى. قال: وهو حسن جدًّا. وقول خامس: إنه يجوز لكل أحد أن يرويه إلَّا الذي نسيه. حكاه بعض شراح "اللمع" عن أهل اليمن أنَّ صاحب "الاتصال" (¬3) حكاه عن بعض أصحابنا، وهو معنى ما حكاه ابن كج وجهًا أنه هو لا يَعمل به، ويعمل به غيره، وكأنَّ ذلك لكون المرء لا يعمل بخبر أحد عن فعل نفسه، كما في المصَلِّي يُنَبَّه على ما لا يعتقده. دليلُه: حديث ذي اليدين، لم يَعمل بخبره حتى أخبره غيره، وتذكر بذلك ما نسي. وبه أُجيب عن رد الشاهدين يشهدان على القاضي وهو لا يستحضر، لكن الفرق في القاضي كما سبق، وأما في مسألتنا فموضع الفائدة من الرواية نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والناس في ¬

_ (¬1) في (ز): المروذي. (¬2) في (ص، ض، ت): فإنه. (¬3) في (البحر المحيط، 4/ 325) طبعة دار الصفوة: الأمثال.

ذلك كلهم سواء. قال الصيرفي: فإنْ قيل: هلا حملتم النسيان على الفرع. قيل: هو جازم مثبت، والنسيان إنما هو في جانب مَن قال: "لا أدري" وشَكَّ. أما إذا لم يكن الراوي جازمًا، فإنْ قال: "أشك" فلا يُقبل قطعًا، وإنْ قال: "أظن" فيقدح كما قاله ابن القطان. وقال صاحب "الإنصاف": فيه نظر أصوليٌّ، ولتجويزه وَجْه؛ ولهذا يجوز أن يروي على الخط، بخلاف الشهادة. وفي "مسلم" في "باب الاغتسال" عن ابن جريج عن عمرو بن دينار: أكثر ظني والذي يخطر على بالي أنَّ أبا الشعثاء أخبرني عن ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بفضل ميمونة" (¬1). واعتذر بعضهم عن مُسلم بأنه إنما ذكره متابعةً لا اعتمادًا. نعم، ينبغي أن يجري في العمل بها الخلاف في الشاهد بالاستفاضة إذا ذكرها في مستنده، وكان شيخنا شيخ الإسلام البلقيني يختار أنه لا يضر ذلك؛ لأنه إذا كان حقًّا فلا يضر التعرض له. قال الهندي: (إذا قال: "أظن أني سمعته منك" فقال الشيخ: "أشك" أو "لا أذكر"، فالأشبه أن يكون مِن صُوَر إنكار الشيخ، فلا يُقبل، أو يُقبل على الخلاف السابق) (¬2). تنبيه: كره العلماء لأجل هذا الخلاف الرواية عن الأحياء، منهم الشعبي وعبد الرزاق ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (رقم: 323). (¬2) نهاية الوصول (7/ 2926).

والشافعي. حكاه الخطيب في "الكفاية"، وذكر البيهقي في "المدخل" أن ابن عبد الحكم روى عن الشافعي حكاية فأنكرها الشافعي ثُم ذكرها، فقال له: "لا تُحدِّث عن حي؛ فإنَّ الحي لا يُؤْمَن عليه النسيان". وصنَّف الدارقطني جُزءًا فيمن روى عنه بعد نسيانه، ثُم صنَّف في ذلك الخطيب وذكر ما أهمل الدارقطني من ذلك. والله أعلم. ص: 358 - وَزَائِدٌ عَلَى الثِّقَاتِ مِنْ ثِقَهْ ... [يُقْبَلُ؛ فَهْوَ قَدْ يَكُونُ] (¬1) حَقَّقَهْ 359 - إلَّا إذَا كَانَ الَّذِي لَمْ يَرْوِهَا ... مِثْلُهُمُ لَا يُغْفِلُونَ مِثْلَهَا 360 - أَوْ مَا دَوَاعِي [نَقْلِهَا] (¬2) تَوَفَّرَتْ ... [فإنْ يُرَ] (¬3) الْأَحْفَظُ عَنْهَا قَدْ سَكَتْ 361 - أَوْ كَانَ قَدْ صَرَّحَ بِالنَّفْيِ لَهَا ... عَلَى الَّذِي يُقْبَلُ حَيْثُ وُجِّهَا 362 - تَعَارَضَا، فَإنْ رَوَاهَا [كَرَّهْ] (¬4) ... وَتَرَكَ التَّحْدِيثَ فِيهَا مَرَّهْ 363 - [فَكَرِوَايَتَيْنِ] (¬5) فِيمَا قُدِّمَا ... وَإنْ تَكُنْ قَدْ غَيَّرَتْ إعْرَابَ مَا 364 - يَبْقَى، تَعَارَضَا، وَمَا فِيهِ انْفَرَدْ ... عَنْ وَاحِدٍ وَاحِدٌ، اقْبَلْ إنْ وَرَدْ ¬

_ (¬1) في (ز، ظ): فاقبل ولو بمجلس إذ. وفي (ن 2): فاقبل ولو بمجلس إن. (¬2) كذا في (ز، ظ، ت، ن 2، ن 3، ن 4). وفي (ص، ض): بعده. وفي (ش، ن 1، ن 5): نقله. (¬3) في (ت، ن 1): فإن يرى. وفي (ز): وإن ير. وفي (ظ): وإن يرى. وفي (ص، ش، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5): فإن تر. (¬4) في (ص، ظ، ض): كثرة. (¬5) في (ن 3، ن 4): فَكَرَاوِيَيْن.

الشرح: المسألة الثالثة من مسائل هذه الخاتمة: زيادة الثقة في الحديث ما لم يَرْوِه غيرُه من الثقات الذين رووا الحديث، ولها ثلاثة أحوال: أنْ يُعْلَم تَعدُّد المجلس أو اتحاده أو لا يُعلم واحد منهما. فالأُولى: وهي أن يُعلم تعدد المجلس فيُقْبَل ما انفرد به. قال الأبياري وابن الحاجب والهندي: بلا خلاف. وانتُقد بأن ابن السمعاني قد أجرى فيها الخلاف الآتي. الثانية: أن لا يُعلم واحد منهما، فكالذي قبْله. الثالثة: أن يعلم اتحاد المجلس، فإما أن يصرح الذي لم يَرْوِها بنفيها أو يسكت، فإن صرَّح بنفيها فسيأتي أن حكمها التعارض وطلب الترجيح. وإن لم يصرح بنفيها بل سكت ففيها مذاهب: أحدها: وهو قول الجمهور مِن الفقهاء والمحدثين أنها مقبولة مطلقًا؛ ولهذا قَبِل النبي - صلى الله عليه وسلم - خبر الأعرابي عن رؤية الهلال مع انفراده، وقَبِل خبر ذي اليدين وأبي بكر وعمر - رضي الله عنه - وإنِ انفردوا عن جميع الرُّواة. وممن نُقل عنه إطلاق القبول مالك كما حكاه عنه القاضي عبد الوهاب في "الملخص" وعن أبي الفرج مِن أصحابه وعن أصحاب الشافعي. وجرى على الإطلاق أبو الحسين بن القطان وإمام الحرمين في "البرهان" والغزالي في "المستصفى" وقال: (سواء أكانت الزيادة مِن حيث اللفظ أو المعنى) (¬1)، والشيخ أبو ¬

_ (¬1) المستصفى (ص 133).

إسحاق في "اللمع" وابن برهان، واختاره ابن القشيري أيضًا. وأطلق إمام الحرمين وغيرُه نَقْل ذلك عن الشافعي، لكن سبق في المرسَل أن كلام الشافعي في "الرسالة" يدل على أنَّ الزيادة ليست مقبولة مطلقًا، بل مقيدة بما سبق هناك. نعم، له نَص آخَر في "الأم" يأتي ذِكره. الثاني: أنها تُقبل إلا إذا كان الساكت عنها لا يَغْفُل مِثلهم عن مِثلها عادةً؛ إما لكثرتهم أو نحو ذلك. وبه قال ابن السمعاني، وابن الصباغ قال: فإنْ كان الراوي للزيادة واحدًا والساكت عنها واحدًا فالأخْذ برواية الضابط منهما، فإنْ كانا ضابطين ثقتين فالأخذ بالزيادة أَوْلى. وفي "المحصول" قريب من ذلك. وكذا قال الآمدي: (إنَّ مَن لم يَرْوِ الزيادة إنِ انتهى إلى حدٍّ لا تقضي العادة بغفلة مِثلهم عن سماعها والذي رواها واحد فهي مردودة، وإلا فاتفق جماعة من الفقهاء والمتكلمين على القبول، خلافًا لجماعة من المحدثين ولأحمد في إحدى الروايتين عنه) (¬1). وجرى عليه أيضًا ابن الحاجب والقرافي وغيرهما. ونقل ابن السبكي عن ابن السمعاني ذلك مع زيادة استثناء أَمْرٍ آخَر، وهو أن تكون الزيادة مما تتوفر الدواعي على نقله، قال: وهو المختار. وعليه جريتُ في النَّظم بقولي: (إلَّا إذَا كَانَ الَّذِي لَمْ يَرْوِهَا) إلى آخِره. و"مَا" في قولي: (أَوْ مَا دَوَاعِي) موصولة بمعنى "التي"؛ فلذلك أعَدتُ الضمير عليها مؤنثًا في "نَقْلها". ¬

_ (¬1) الإحكام (2/ 121).

و (يُغفِل) بضم أوله وكسر ثالثه -مزيد "غفل" "يَغْفُل" بضم الفاء. نعم، قال بعضهم: إن مسألة توفر الدواعي ليست في "القواطع" لابن السمعاني. قلتُ: يجوز أن يكون قالها في موضع آخَر، وأيضًا فاستثناؤها واضح، فقد صرح الإمام الرازي وأتباعه بأن مِن المقطوع بكذبه الخبر الذي تتوفر الدواعي على نقله، وأبطلوا بذلك ما نقله الروافض من النَّص على إمامة علي - رضي الله عنه -، وأبطلوا به أيضًا قول العيسوية -وهُم أتباع أبي عيسى الأصفهاني اليهودي- عن التوراة: (إنَّ موسى عليه السلام آخِر مبعوث) بأنه لو كان كذلك لَذَكَره أحبار اليهود في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع شدة عداوتهم وتبديلهم ما في التوراة مِن بَعْثه وإخفاء نَعْته. بل زاد الإمام الرازي مِن المقطوع بكذبه "ما نُقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد استقرار الأخبار وفُتش عنه فلم يوجد في بطون الصحف ولا في صدور الرجال" وإنْ كان في القطع بكذبه نَظر، وإنما ينبغي أن يكون مُغلبًا على الظن كذبه. وعلى كل حال فجريان مِثل ذلك في الزيادة أَوْلى. الثالث: لا يُقبل مطلقًا. وعزاه ابن السمعاني لبعض أهل الحديث ونقله عن الحنفية، وحكاه القاضي عبد الوهاب عن أبي بكر الأبهري وغيره من أصحابهم، قال: وعلى هذا بَنوا الكلام في الزيادة المروية في حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه -: "وإن أكل فلا تأكل" (¬1). الرابع: الوقف؛ لتَعارُض أصل عدم الزيادة مع أصل صِدق الثقة. الخامس: أن الزيادة لا تُقبل إلا إذا أفادت حُكمًا شرعيًّا. حكاه ابن القشيري والقاضي عبد الوهاب. فإنْ لم تُفِده، لم تُقبل، كقولهم في مُحْرِمٍ: "وقصَتْه ناقتُه في [أخايين] (¬2) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 5167). (¬2) كذا في (ز، ق): أخايين. وفي (ص): أخابن. وفي (ض): أخابن. =

جرذان". فَذِكْر الموضع لا يتعلق به حُكم شرعي. قال البكري في "المعجم": الجرذان أيْ: بجيم ثم راء ثم ذال معجمة على لفظ جمع "جُرْذ" موضع بالشام معروف. لكن هذا لا يناسب تفسير الواقع في الحديث إلا بتأويل. السادس: عكسه، وهو القبول إذا رجعت الزيادة إلى لفظ لا يتضمن حُكمًا زائدًا. حكاه ابن القشيري. السابع: تُقبل الزيادة إن كانت باللفظ دُون المعنى. حكاه القاضي في "التقريب". الثامن: إنِ اشتهر بنقل الزيادات منفردًا بها، لم تُقبل، وإلا قُبل. نقله الأبياري في "شرح البرهان". التاسع: لا يُقبل إن كان الساكت عنها أحفظ وأكثر ممن رواها، ونُقل عن نَص الشافعي في "الأم" في مسألة "إعتاق الشريك" في الكلام على زيادة مالك وأتباعه في حديث: "وإلا فقد عتق منه ما عتق" (¬1)، إذْ قال الشافعي: (إنما يُغلط الرجُل بخلاف مَن هو أحفظ منه أو ¬

_ = جاء في (تاريخ دمشق، 36/ 413): (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا كَانَ وَاقِفًا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَوَقَصَتْ بِهِ دَابَّتُهُ أَوْ رَاحِلَتُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "غَسِّلُوهُ وَكَفِّنُوهُ، وَلا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ أَوْ رَأْسَهُ؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا" .. ، قَالَ غَيْرُ هُشَيْمٍ: فَوَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ فِي أَخَاقِيقَ جُرْذَانِ. قَالَ الأَصْمَعِيُّ: إِنَّمَا هُوَ "لَخَاقِيقُ" وَاحِدُهَا "لُخْقُوق"، وَهِيَ شُقُوقُ الأَرْضِ). وانظر: غريب الحديث (1/ 95) لأبي عبيد القاسم بن سلام. وذكر الأزهري في (تهذيب اللغة، 6/ 286) كلام أبي عبيد ثم قال: (قلتُ: وَقَالَ غَيره: "الأَخاقيق" صَحِيحَة كَمَا جَاءَ فِي الحدِيث، وَاحِدهَا "أُخْقوق" مثل أُخدُود، وأَخَاديد. و"الخَقّ" و"الخدّ": الشّقُّ فِي الأَرْض). (¬1) صحيح البخاري (رقم: 2359)، صحيح مسلم (رقم: 1501)

يأتي بشيء يشركه فيه مَن لم يحفظ منه ما حفظ منه وهُم عدد وهو منفرد) (¬1). انتهى فظاهره أن زيادة الثقة إنما تُرد حيث [خالف] (¬2) بها مَن هو أحفظ منه، أو [لم] (¬3) يخالف وإنما انفرد بها عنه وهُم كثير وهو واحد. ونحوه قول الشافعي أيضًا في حديث سعيد بن أبي عروبة: "وإن كان معسرًا استسعى العبد في قيمته": (إنَّ هذه الزيادة -وهي ذِكر الاستسعاء- تَفرَّد بها سعيد، وخالفه الجماعة؛ فلا يُقبل). ومَن يرى مِن أصحابه قبول الزيادة مطلقًا -كما هو ظاهر ما اشتهر عن الشافعي- يُؤوِّل ذلك. فقال سليم الرازي: أراد الشافعي أنَّ غير سعيد زاد: (قال قتادة: ويستسعى)، فجعله من قول قتادة؛ فيكون مُدْرَجًا في الرواية الأخرى، فقَدَّم مَن أوضح الإدراج، لا أنه ردَّ زيادة مَن زاد "الاستسعاء" لكونها زيادة. وقال إلْكِيا الطبري: إن مُراد الشافعي أنَّ الزيادة لا يُعمل بها عند معارضة حديث آخَر لها؛ تقديمًا لأرجح الدليلين، فقدَّم خبر السراية على خبر السعاية؛ لتفرُّد راويه -وهو سعيد- مِن بين أصحاب الزهري، وسيأتي أنَّ المختار في هذه المسألة التعارض. العاشر: ما عزاه بعض المتأخرين إلى المحققين مِن أهل الحديث -خصوصًا متقدميهم كيحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي ومن بعدهما كأحمد وعلي بن المديني وابن معين والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم الرازي وسليم والترمذي والنسائي وأمثالهم والدارَقطني ¬

_ (¬1) معرفة السنن والآثار (7/ 492). (¬2) في (ز): يخالف. (¬3) في (ز): لا.

أنَّ مقتضَى تصرفاتهم في الزيادة قبولًا وردًّا الترجيح بالنسبة إلى ما يَقْوَى عند الواحد منهم في كل حديث. قلتُ: كذا غاير بعضهم بين هذا وبين ما سبق مِن الأقوال، والظاهر أنه عَيْن قول الوقف الذي سبق، فتأمله. ونُقلت مذاهب أخرى يمكن عَوْدُها إلى ما سبق، لا نُطَول بها. قولي: (فإنْ يُرَ الْأَحْفَظُ عَنْهَا قَدْ سَكَتْ) إلى قولي: (تَعَارَضَا) إشارة إلى مسألتين كالمستثنى مما سبق أيضًا، فيكون عدمهما قيدًا للمختار في المسألة مضمومًا إلى ما سبق؛ لأنَّ الحكم فيهما التعارض حتى لا يرجح أحدهما إلا بمرجِّح مِن الخارج كما قاله الإمام في "المحصول". إحداهما: أن يكون الساكت عن الزيادة أحفظ وأضبط ممن رواها. والثانية: أن يُصرح مَن لم يَرْوِ الزيادة بنفيها. نعم، تقييد الثانية بكون النفي على وجه يُقبل -مأخوذ مِن غضون كلام الإمام في المسألة وإنْ لم يصرح به في الأول، وذلك حيث قال: (لو صرح الممسك بنفي الزيادة فقال مثلًا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف على قوله "فيما سقت السماء العشر" ولم يأت بعده بكلام آخَر مع انتظاري له، فهاهنا يتعارض القولان، ويصار إلى الترجيح) (¬1). وقال أبو الحسين في "المعتمد": (إن قال: "ما أعْلم بالزيادة" أو قال: "ما سمعتها" ولم يقطعه قاطع عن سماعها فإنه يكون ناقلًا للنفي ولارتفاع الموانع كما نقل الآخَر الزيادة؛ فتتعارض الروايتان. ¬

_ (¬1) المحصول (4/ 474).

وإنْ قال: "لم تكن هذه الزيادة" فإنه يحتمل أن يكون ذلك موضع اجتهاد ويحتمل أن يقال: رواية المثْبِت أَوْلى؛ لأنه يحتمل أن يكون النافي إنما نَفَى الزيادة بحسب ظنه، ويحتمل أن يرجع إلى النافي إذا كان أضبط) (¬1). ونقل الأبياري في المسألة أن قومًا قالوا بالتعارض وآخرون بتقديم الزيادة، قال: (وهو الظاهر عندنا؛ فإنه إذا لم يكن بُد مِن تَطَرُّق الوهم إلى أحدهما لاستحالة كذبهما وامتنع الحمل على تعمُّد الكذب، لم يبق إلا الذهول والنسيان، والعادة ترشد إلى أن نسيان ما جَرَى أقرب مِن تَخَيُّل ما لم يَجْرِ، وحينئذٍ فالمُثْبِت أَوْلى) (¬2). وقال ابن الصلاح: (إنَّ الزيادة إذا خالفت ما رواه الثقات فهي مردودة) (¬3). وكأنَّ ذلك حيث كان الساكتون أحفظ، فتنضم المخالفة مع كون الساكت أحفظ، أما غير ذلك فالذي يظهر ترجيح التعارض كما في مسألة النفي، بل أَوْلى. وقولي: (فَإنْ رَوَاهَا كَرَّهْ وَتَرَكَ التَّحْدِيثَ فِيهَا مَرَّهْ فكَرِوَايَتَيْنِ فِيَما قُدِّمَا) إشارة أن إلى ما سبق فيما إذا كانت الزيادة مِن بعض الرواة دون بعض -يجري الحكم فيها أيضًا فيما إذا كان الراوي للزيادة هو الساكت عنها في مرة أخرى حتى يُفصَل فيه بين اتحاد مجلس سماعها مِن الذي روى عنه وتعدده، والمراد ما أمكن جريانه مِن الشروط والأقوال، لا ما لا يمكن، وهو ظاهر. فلا يؤخذ من قولي: (مَا قُدِّمَا) شمول الكل، وما قلناه في المسألة هو ما قاله ابن الحاجب، وعبر بقوله: "فكروايتين". أيْ: حُكمه حُكم الروايتين، هكذا بخط المصنف، ¬

_ (¬1) المعتمد (2/ 131). (¬2) التحقيق والبيان في شرح البرهان (2/ 765). (¬3) مقدمة ابن الصلاح (ص 86).

ويقع في بعض النُّسخ: "فكراويين" تثنية "راوٍ"، وهو أوضح. وقال في "المحصول": (إنْ روى الزيادة مرة ولم يروها أخرى فالاعتبار بكثرة المرات. وإنْ تساوت، قُبلت) (¬1). واعْلَم أن ابن القشيري وكذا القاضي في "التقريب" نقلَا عن فرقة أنها تُرد مِن الراوي الواحد ولا تُرد مِن أحد الراويين. وقال ابن الصباغ في الواحد: إنْ صرَّح بأنه سمع الناقص في مجلس والزائد في آخَر، قُبلت. وإن عزاهما لمجلس واحد [أو] (¬2) تكررت روايته بغير زيادة ثم روى الزيادة فإنْ قال: "كنتُ نسيت هذه الزيادة"، قُبل منه، وإنْ لم يقُل ذلك، وَجَبَ التوقُّف في الزيادة. وقال أبو الحسين في "المعتمد": (محله في الواحد إذا لم يقرنه استهانة، فلو روى الحديث تارةً بالزيادة وتارةً بحذفها استهانة وقِلَّة تحفُّظ، سقطت عدالته ولم يُقبل حديثه) (¬3). تنبيه: مثال زيادة ثقة سكت عنها بقية الثقات: حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، يقول الله عز وجل: حمدني عبدي" (¬4). وهو خبر صحيح. ثم روى عبد الله بن زياد بن سمعان عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة ¬

_ (¬1) انظر: المحصول (4/ 475). (¬2) كذا في (ز)، لكن في (ص): و. (¬3) المعتمد (2/ 131). (¬4) صحيح مسلم (رقم: 395).

الخبر وذَكر فيه: "فإذا قال العبد: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قال تعالى: ذكرني عبدي" (¬1). تفرد بالزيادة عبد الله بن زياد، وفيه مقال. وحديث ابن عمر في صدقة الفطر: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نخرج صدقة الفطر صاعًا من شعير أو صاعًا من تمر" (¬2). انفرد سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن [عبد الله] (¬3) بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر بزيادة: "أو صاعًا من قمح" (¬4). وحديث ابن عمر أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن شرب مِن إناءٍ مِن ذهبٍ أو فضةٍ فإنما يُجرجر في جوفه نار جهنم" (¬5). ¬

_ (¬1) السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 2198). وقال الإمام الدارقطني في (العلل، 9/ 23): (كُلُّهُمْ تَقَارَبُوا فِي لَفْظِهِ إِلَّا ابْن سَمْعَانَ، فَإِنَّهُ زَادَ عليهم ... وَهُوَ ضَعِيفُ الحْدِيثِ). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 1432، 1436)، صحيح مسلم (رقم: 984) بلفظ: (فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر ... ). (¬3) كذا في جميع النُّسخ، والصواب: عبيد الله. وقال الحاكم في (معرفة علوم لحديث، ص 132): (عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: "أَمَرَنَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُخْرِجَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ صَغِير وَكَبِيرٍ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ قَمْحٍ. . " هَذَا حَدِيثٌ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الحْدِيثِ عَنْ نَافِعٍ، فَلَمْ يَذْكُرُوا "صَاعَ الْقَمْحِ" فِيهِ إِلا حَدِيث عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجْمحِيِّ يَتَفَرَّدُ بِهِ عَنْ عُبَيْدِ الله بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ). (¬4) مستدرك الحاكم (1494)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 7492) بلفظ: (صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ بُرٍّ). (¬5) سنن النسائي الكبرى (6878)، المعجم الصغير للطبراني (1/ 339، رقم: 563). وقد ضَعَّف الألباني إسناد الطبراني في (إرواء الغليل: 33). وللحديث طُرُق أخرى صحيحة ذكرها الألباني في =

زاد فيه يحيى بن محمد [الحارثي] (¬1) عن زكريا بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع، عن أبيه، عن جده، عن ابن عمر: "أو إناء فيه شيء من ذلك" (¬2). ومثال زيادة الراوي مرة وتركها أخرى: حديث سفيان بن عيينة عن طلحة بن يحيى بن طلحة بن [عبيد الله] (¬3) بسنده إلى عائشة قالت: " [دخل] (¬4) عَلَيَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ: إنا خبأنا لك [خبيئًا] (¬5). فقال: أما إني كنتُ أريد الصوم ولكن قَرِّبيه" (¬6). أسنده الشافعي عن سفيان هكذا. ورواه عن سفيان شيخ باهلي، وزاد فيه: "وأصوم يومًا مكانه" (¬7). : (ثم عرضته عليه قبل موته بِسَنة فذكر هذه الزيادة) (¬8). ¬

_ = (إرواء الغليل: 33). (¬1) كذا في جميع النُّسخ، والصواب: الجاري. انظر: سنن الدارقطني (1/ 40)، السنن الكبرى للبيهقي (106). (¬2) سنن الدارقطني (1/ 40). قال الألباني في (مشكاة المصابيح: 4285): (إسناده ضعيف). وانظر كلامه الألباني عليه تفصيلًا في (إرواء الغليل: 33)، وانظر أيضًا: البدر المنير (1/ 650). (¬3) كذا في (ق) وهو الصواب، وفي سائر النُّسخ: عبد الله. (¬4) كذا في (ز) وهو الصواب، وفي سائر النُّسخ: دخلت. (¬5) كذا في (ز، ظ، ق، ت). والصواب: (حيسًا) كما في (الأم، 1/ 286) للشافعي. (¬6) مسند الشافعي (ص 84). (¬7) مصنف عبد الرزاق (7793)، السنن الكبرى للنسائي (3300)، سنن الدارقطني (2/ 177)، السنن الكبرى للبيهقي (8125). وانظر كلام الحافظ ابن حجر عليه في (التلخيص الحبير، 2/ 210) وكلام الألباني في (إراواء الغليل: 965). (¬8) هذا كلام الشافعي. انظر: معرفة السنن والآثار (3/ 419)، السنن الكبرى للبيهقي (4/ 275).

وقولي: (وَإنْ تَكُنْ قَدْ غَيَّرَتْ إعْرَابَ مَا يَبْقَى، تَعَارَضَا) إشارة إلى أن ما سبق كله محله ما لم تُغير الزيادة إعراب ما بقي مِن الحديث، كما لو روى راوٍ: "في كل أربعين شاةً شاةٌ" وروى الآخَر: "نصف شاة"، فيتعارضان كما هو الحق عند الإمام الرازي وأتباعه. وحكاه الهندي عن الأكثرين، قال: الأنَّ كل واحد منهما يروي غير ما رواه الآخَر؛ فيكون نافيًا له). قال: (وخالف أبو عبد الله البصري) (¬1). انتهى لكن الذي في "المعتمد" عن أبي عبد الله البصري قبول الزيادة سواء أثَّرت في اللفظ أوْ لا إذا أثرت في المعنى، وأن القاضي عبد الجبار يقبلها إذا أثَّرت في المعنى دُون ما إذا أثَّرت في إعراب اللفظ. وقولي: (وَمَا فِيه انْفَرَدْ) إلى آخِره -إشارة إلى أنه هل يُشترط العَدد في الرواية كالشهادة غالبًا؟ أوْ لا؟ الأكثرون على المنع؛ لإطلاق الأدلة في العمل بخبر الواحد؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل لتبليغ الأحكام وغيرها الواحد. والمخالف في المسألة الجبَّائي، اشترط العدد في كل خبر. ونقل القرافي عن كتاب "المحصول" لابن العربي أن الجبائي اشترط في قبول الخبر اثنين وشرط على الاثنين اثنين، وهكذا إلى أن ينتهي الخبر إلى السامع. ونقله الشيخ عنه في "اللمع". ويؤخذ مِن هذه المسألة أنَّ العَدد لا يُشترط في المنفرد عنه الثقة بالزيادة حتى لو انفرد بها واحد عن واحد، فإنها مقبولة عند الأكثر كما سبق في كلام ابن الصباغ. ¬

_ (¬1) نهاية الوصول (7/ 2952).

ومن ثَم غاير في "جمع الجوامع" بين هذه المسألة وبين مسألة الجبائي حيث ذكر هذه المسألة هنا ناقلًا لها عن الأكثر بعد أنْ سبق منه النقل عن الجبائي أنه لا بُدَّ مِن اثنين أو اعتضاد، فلا يُظَن الاتحاد وأنه كرر كما زعمه شيخنا في شرحه. ومعنى [الاعتماد] (¬1) الذي أشار إليه أنْ يأتي له شاهد -مَثَلًا- يُقَوِّيه. والله أعلم. ص: 365 - وَمُسْنِدٌ أَوْ رَافِعٌ مَا أَرْسَلُوا ... أَوْ وَقفُوا مُقَدَّمٌ، فَيُقْبَلُ الشرح: هذا استطراد للزيادة في السند دون المتن، وقد ذكرتُ في هذا البيت منه مسألتين: إحداهما: إذا أسند الراوي حديثًا ورواه غيرُه مرسلًا. والثانية: إذا رفع الراوي الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواه غيرُه موقوفًا، وهو معنى قولي: "مَا أَرْسَلُوا أَوْ وَقفُوا"، ففيه لف ونشر مرتب. والحكم في المسألتين قبول مَن معه الزيادة وهو ثقة، فيُقدَّم مَن وصل ومَن رفع. وفي حُكم مَن أسند وأرسلوا مَن وصل السند وقطعه غيرُه، أي: رواه منقطعًا؛ فلذلك اقتصرتُ في النَّظم على إحدى المسألتين؛ لكون الأخرى في معناها وإنْ كان ابن الحاجب صرح بالثلاثة. مثال ما أسند وأرسلوا: إسناد إسرائيل بن يونس، عن جده أبي إسحاق السبيعي، عن ¬

_ (¬1) كذا في جميع النُّسخ، والصواب: الاعتضاد. وعبارة السبكي في (جمع الجوامع، 2/ 164): (الْجُبَّائيُّ: لَا بُدَّ مِن اثْنَيْنِ أَوِ اعْتِضَادٍ). جمع الجوامع مع حاشية العطار.

أبي بردة، عن أبيه أبي موسى الأشعري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث: "لا نكاح إلا بولي" (¬1). ورواه سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا، فقضى البخاري لمن وصله وقال: (زيادة الثقة مقبولة) مع أنَّ المُرْسِل له شعبة وسفيان، وهُما مَن هُما حفظًا وإتقانًا. ومثال مَن رفع ووقَّفوا: حديث مالك في "الموطأ" عن أبي النضر، عن [بُسر] (¬2) بن سعيد، عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - موقوفًا عليه: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" (¬3). وخالفه موسى بن عقبة وعبد الله بن سعيد بن أبي هند وغيرهما، فرووه عن أبي النضر مرفوعًا. ومثل هذا كثير في حديث مالك. واعْلم أن قولي: (فَيُقْبَلُ) يحتمل أن يكون جزمًا ولو رددنا زيادة الثقة، ويحتمل أن يكون على الراجح؛ لكون الراجح قبولها، فيكون تفريعًا على الراجح في زيادة الثقة. وعبارة ابن الحاجب وابن السمعاني أن ذلك كالزيادة؛ فيقتضي جريان الخلاف الذي فيها فيه، وليس ببعيد وإنْ كان أكثر النَّقلة ساكتًا عنه. ونقل بعضهم أنَّ الراجح مِن قول أئمة الحديث أن الرفع والوقف يتعارضان، وكذا الوصل مع الإرسال، وهو نظير الوقف فيما سبق من الخلاف في زيادة الثقة. ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (رقم: 2085)، سنن الترمذي (رقم: 1101). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 2085). (¬2) كذا في (ز)، لكن في (ص): بشر. (¬3) صحيح البخاري (رقم: 698) باللفظ المذكور، وفي الموطأ (1/ 130، رقم: 291) بلفظ: (أَفْضَلُ الصَّلاَةِ صَلاتُكُمْ في بُيُوتِكُمْ إِلَّا صَلاةَ الْمَكْتُوبَةِ).

فرع: لو كان الذي أرسل وأسند واحدًا مرة كذا ومرة كذا، فالظاهر القبول، وبه جزم الإمام وأتباعه وإنْ كان في عبارة البيضاوي في "المنهاج" حكاية خلاف، لكن الخلاف إنما يُنقل عن بعض المحدثين، فيبعد أن يكون البيضاوي أراده وخرج بحكايته عن طريقة إمامه. وحمل السبكي في شرحه قوله: (إنْ أرْسلَ ثم أسْندَ، قُبِلَ. وَقِيلَ: لا) على أنه إذا كان من شأنه إرسال الأخبار وأسند خبرًا هل يُقبل؟ أوْ لا؟ والخلاف في هذه المسألة مشهور. واحتج المانع بأنَّ إهماله ذِكر الرواة في الغالب يدل على ضعف الراوي، فيكون سَتْره له خيانة وتدليسًا؛ فلا يُقبل. وفيه نظر؛ لاحتمال أنْ يكون آثَر الاختصار أو طَرَقه النسيان. وإذا قُلنا بالراجح وهو القبول، فقال الشافعي: إنما يُقبَل مِن حديثه ما قال فيه: "حَدَّثَني" أو "سمعتُ"، لا باللفظ الموهِم. وقال بعض المحدِّثين: لا يُقبل إلا إذا قال: سمعتُ فلانًا. وقال شيخنا بدر الدين الزركشي في "شرح جمع الجوامع": (إن المصنِّف أهمل ما إذا أرسل ثم أسند أو وقف ثم رفع، وهو في "المنهاج" ورجَّح القبول) (¬1). انتهى وقد عرفتَ أنه إنما ذكر ما إذا أرسل ثم أسند، وفي كَوْن الوقف والرفع في معناه فيه نظر. وأيضا فقد حمله السبكي في شرحه على ما سبق، فلَعَلَّه لذلك أهمله في "جمع الجوامع"، على أنه في "جمع الجوامع" وقع له في المسألة سبق قَلَم، فإنه قال: (أو وقف ورفعوا)، وهو ¬

_ (¬1) تشنيف المسامع (2/ 980).

بالعكس، أي: "رفع ووقفوا"، والله أعلم. ص: 366 - وَحَذْفُ بَعْضِ خَبَرٍ مَا غَيَّرَا ... حُكْمًا لِبَاقٍ جَائِزٌ قَدْ حُرِّرَا الشرح: من مسائل الخاتمة أيضًا: إذا انفرد الراوي الثقة عن الثقات بنقص بعض الحديث -عكس مسألة الزيادة- فهل يكون ذلك جائزًا؟ أوْ لا؟ الأكثرون على الجواز إذا كان مستقلًّا؛ لأنهما كخبرين، وقد فرَّق الأئمة حديث جابر الطويل في حج النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأبواب، وكثيرًا ما يُفرق البخاري الحديث؛ لقصد الاستدلال أو لغير ذلك. وأما إذا لم يكن مستقلًّا، فإما أنْ يتغير -بحذفه- حُكم الباقي أو لا. إنْ لم يتغير حُكم الباقي فهو جائز، وإنْ تَعْير فلا يجوز، كما لو كان الساقط غايةً فيما بقي، نحو: "نهى عن بيع الثمرة حتى تزهو" (¬1). أو استثناء، نحو: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء" (¬2). أو صفة، نحو: "في الغنم السائمة الزكاة" (¬3). ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه (رقم: 2217)، قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 1816). وفي صحيح البخاري (رقم: 2086)، صحيح مسلم (رقم: 1555) بنحوه. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 2066)، صحيح مسلم (رقم: 1584) واللفظ للبخاري. (¬3) صحيح البخاري (رقم: 1386) أن أبا بكر - رضي الله عنه - كتب لأنس - رضي الله عنه -: (هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين ... وفي صَدَقَةِ الْغَنَمِ في سَائِمَتِهَا ... ).

أو شرطًا، نحو: (¬1) أو كان فيه تغيير معنوي كما في النَّسخ، نحو: "كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها" (¬2). فلا يحذف "فزوروها". أو بيان المُجْمَل فيه، أو تخصيص العام، أو تقييد المطْلَق، أو نحو ذلك. وهذا التفصيل بين ما يُغَيِّر وما لا يُغَير هو ثالث المذاهب الصحيحُ المرضي عند القاضي، كما نقل المذاهب والترجيح إمام الحرمين وابن القشيري. نعم، حكاية قول بالجواز مع التغيير للمعنى في ثبوته بُعْد، وقد قال الهندي والأبياري في التعليق: إنه لا خلاف في عدم جوازه. وفي المسألة قول رابع حكاه القاضي في "التقريب" والشيخ في "اللمع": إنه إن كان نَقَل ذلك هو أو غيرُه مَرة بتمامه، جاز أن ينقل البعضَ. وإنْ لم ينقل ذلك لا هو ولا غيْره، لم يَجُز. نعم، قيَّد الغزالي وغيْره الجواز كيف كان بأن لا يتطرق إليه سوء الظن بالتهمة باضطراب النقل. وقول خامس: إن كان الحديث مشهورًا بتمامه، جاز نقْل بعضه، وإلا فلا. قاله بعض شُراح "اللمع". وسادس: إن لم يُعلم إلا مِن جهته فإنْ تَعلق به حُكم، لم يَجُز أن يترك منه شيء. وإن لم يتعلق به حكم: فإنْ كان فقيهًا، جاز له ذلك الحذف، أو غير فقيه، لم يجز. قاله ابن فورك ¬

_ (¬1) هنا بياض في جميع النُّسخ. (¬2) سنن ابن ماجه (رقم: 1571) وغيره، وفي صحيح مسلم (رقم: 977) بلفظ: (نَهَيْتُكُمْ عن زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا).

وابن القطان في كتابيهما. وقسَّم الأبياري غير المتعلق إلى ثلاثة أقسام: أحدها: أن يُقْطع بذلك. ولا يَبْعُد طَرْد قول المنع هنا؛ حَسْمًا للذريعة، وحَذرًا مِن الإفضاء إلى موضع الإشكال. ثانيها: أن يُظن، فلا يجوز الحذف بحال. ثالثها: أن يُعْلم ذلك بنوع مِن النظر، فَعَلَى الخلاف في جواز الرواية بالمعنى للعارف. وبالجملة فالمسألة قريبة مِن مسألة الرواية بالمعنى. تنبيهان أحدهما: جاء في حديث ابن مسعود في الاستنجاء بالحجر: "أتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين ورمى بالروثة" (¬1). زاد أحمد: "وقال: ائتني بحجر ثالث" (¬2). فهذا ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (رقم: 17) وغيره بلفظ: (فَأَتيْتُهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ فَأَخَذَ الحجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وقال: إِنَّهَا رِكْسٌ)، صحيح البخاري (رقم: 155) (فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ وَالْتَمَسْتُ الثَّالِثَ فلم أَجِدْهُ، فَأَخَذْتُ رَوثَةً فَأَتَيْتُهُ بها، فَأَخَذَ الحجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوثَةَ، وقال: هذا رِكْسٌ). (¬2) مسند الإمام أحمد بن حنبل (رقم: 4299) بلفظ: (فَأَلْقَى الرَّوْثَةَ وقال: إنها رِكْسٌ، ائتني بِحَجَرٍ). قال الحافظ ابن حجر في (التلخيص الحبير، ): (روى أحمد هذه الزيادة بماسناد رجاله ثقات). وذكرها الإمام الدارقطني بإسناده في (العلل، 5/ 30) ثم قال: (هذه زيادة حسنة، زادها معمر، وافقه عليها أبو شيبة إبراهيم بن عثمان). وقال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري، 1/ 257): (قيل: إنَّ أبا إسحاق لم يسمع من علقمة. لكن أثبت سماعه لهذا الحديث منه الكرابيسي).

يدل على جواز حذف بعض الخبر وإنْ تَعلق به حُكم يَفُوت بالحذف. لكن قال إلْكِيَا الطبري: الحقُ التفصيل بين أن يكون الناقل فقيهًا -كابن مسعود- فيجوز الحذف، أوْ لا يكون فلا؛ لأنَّ ابن مسعود حيث لم ينقل الأمر بالإتيان بحجر ثالث كان مقصوده منع الاستنجاء بالروث، وحيث كان مقصوده مراعاة العدد نَقَل جميعه. وكذا قاله إمام الحرمين. نعم، للشافعي - رضي الله عنه - نَص على أن الإخلال بزيادة تُخِل بالمعنى لا يجوز، وحمل في حديث ابن مسعود طلب الحجر الثالث على أنه مما لم يسمعه بعض الرواة؛ فلم يَرْوِه. وما أشار إليه الشافعي ظاهر؛ لأن الإيهام حاصل على أيِّ القَصْدَين كان. الثاني: مما [يشبه] (¬1) هذا ما وقع البحث فيه أنه إذا استُدِل بآية وأَولها حرف عطف أو نحوه، هل يجوز إسقاط ذلك حيث استقام المعنى بدونه؟ ظاهر تَصرُّف الفقهاء جوازه. ففي "الوسيط" للغزالي في أول الصلاة: قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]، وفي كتاب البيع: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]. وفي "صحيح البخاري": "لم ينزل علَيَّ إلا هذه الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]. وفي "الترمذي": "إذا خطب لكم مَن ترضون خُلقه، فزوجوه، إلَّا تَفعلوا تَكُن فتنة في الأرض وفساد كبير" (¬2). ¬

_ (¬1) في (ز): يشابه. (¬2) سنن الترمذي (رقم: 1084) بنحوه. قال الألباني: حسن صحيح. (صحيح سنن الترمذي: 1084).

ونحو ذلك، والله أعلم. ص: 367 - ثُمَّ الصَّحَابِيُّ إذَا كَانَ رَوَى ... ذَا مَعْنييْنِ [لِتَنَافٍ] (¬1) قَدْ حَوَى 368 - يُقْبَلُ حَمْلُهُ عَلَى مَا أَدْرَكَا ... مَا لَمْ يَكُنْ لِظَاهِرٍ قَدْ ترَكَا الشرح: هذه المسألة تُعرف بما إذا قال راوي الحديث فيه شيئًا، هل يُقْبَل؟ أو يُعمل بالحديث؟ ولها أحوال: منها: أن يكون الخبر عامًّا فيحمله الراوي على بعض أفراده، وسيأتي ذلك في باب "تخصيص العام" موضحًا. أو يدعي تقييدًا في مطلَق، فكالعام يُخصِّصه. أو يدعي نَسْخَه، وسيأتي ذلك أيضًا في "النَّسخ". أو يخالفه بِتَرْك نَص الحديث، كرواية أبي هريرة في الولوغ سبعًا وقوله: "يُغسل ثلاثًا". وبعضهم يمثل بذلك لتخصيص العام، ولا يصح؛ لأن العَدَد نَص. أما مسألتنا فمذهب الشافعي فيها أن الاعتبار بروايته، لا برأيه، خلافًا للحنفية. وحكى القاضي عن ابن أبان أنه إنْ كان مِن الأئمة فيدُل على نَسخ الخبر. وقال إمام الحرمين وابن القشيري: (إنْ تَحقَّقْنا نسيانه للخبر أو فرضنا مخالفته لخبر لم يَرْوِه وجَوَّزنا أنه لم يَبْلُغه، فالعمل بالخبر، أو روى خبرًا يقتضي رفع الحرج فيما سبق فيه حظرٌ ¬

_ (¬1) كذا في (ز)، وبه ينضبط الوزن. لكن في سائر النُّسَخ: (ولتنافٍ)، وبه ينكسر الوزن.

ثُم رأيناه يتحرج، فالعمل بالخبر أيضًا، ويُحمَل تَحَرُّجُه على التورُّع. وإنْ ناقض عملُه روايتَه ولم نجد محمَلًا في الجمْع، امتنع التعلق بروايته، إذْ لا يُظَن بمن هو أَهْل للرواية أن يتعمد مخالفة ما رواه إلا عن ثبتٍ يُوجِب المخالفة) (¬1). قال ابن القشيري: وعلى هذا فلا يُقطع بأن الحديث منسوخ كما يقوله ابن أبان. وربما ظن الراوي شيئًا ناسخًا وليس بناسخ؛ ولهذا إذا قال الصحابي في خبر: "إنه منسوخ"، لا يَثْبُت النسخ بذلك كما سيأتي. ثم قال إمام الحرمين: (إن هذا غير مختص بالصحابي، بل لو روى بعض الأئمة خبرًا وعمل بخلافه، كان على هذا التفصيل) (¬2). وستأتي المسألة قريبًا. وما نُقل مِن مخالفة أبي حنيفة حديث خيار المجلس وكذا مالك فمحمول على أن أبا حنيفة لَمَّا قَدَّم القياس ومالِكًا عملَ أهلِ المدينة (¬3) ترَكَا ظاهر الحديث لذلك، وقد بَيَّنَّا المسألتين في محلهما. ومتى لم يُعْلم سبب المخالفة، كان في ذلك تضعيف للحديث عند المخالف. ومنها وهو مسألة الكتاب: أن يروي الصحابي خبرًا محتملًا لمعنيين ويحمله على أحدهما. فإنْ تَنَافَيَا كالقروء ويحملُه الراوي على الأطهار، وَجبَ الرجوع إلى حمله كما قاله جمهور أصحابنا كالأستاذَين -أبي إسحاق وأبي منصور- وابن فورك وإلْكِيَا وسليم، ونقله القاضي أبو الطيب في باب "بيع الثمار" عن مذهب الشافعي؛ ولذلك رجع إلى تفسير ابن ¬

_ (¬1) البرهان (1/ 294). (¬2) البرهان (1/ 295). (¬3) يعني: قَدَّم مالك عملَ أهل المدينة.

عمر التفرق في خيار المجلس (¬1) بالأبدان، وإلى تفسيره "حبل الحبلة" (¬2) ببيعه إلى نتاج النتاج، هالى قول عمر في "هاءَ وهاءَ" (¬3): إنه التقابض في مجلس العقد. وقال الشيخ أبو إسحاق في "اللمع" بعد حكاية هذا القول: وفيه نظر عنده (¬4). فجعل ذلك بعضهم قولًا بالوقف، وعليه جَرَى في "جمع الجوامع". ولا يخفَى ما فيه؛ فإنَّ ظاهر المراد به تضعيف القول به، لا الوقف في المسألة. وقال أبو بكر الصيرفي: تأويل الراوي أَوْلى؛ لأنه قد شاهد مِن الأمارات ما لا يَقدر على حكايته، إلا أن يقوم دليل على مخالفته، فالحكم للدليل. وهذا معنى قولي في النَّظم: (يُقْبَلُ حَمْلُهُ عَلَى مَا أَدْرَكَا)، أي: يُقبل حَمل الصحابي الحديث على المعنى الذي رآه وأدركه باعتقاده. وقولي: (ذَا مَعْنيينِ) أي: فأكثر، فهو مثال. أما إذا لم يكن بين المعنيين تنافٍ: فإنْ قُلنا: اللفظ المشترك ظاهر في جميع محامله كالعام، فتعود المسألة إلى التخصيص بقول الصحابي، وقد سبقت الإشارة إليه وإحالته على محله. وإنْ قُلنا: لا يحمل على جميعها، ففي "البديع": يُحمل فيه على ما حمله راويه وعَيَّنَه؛ لأن الظاهر أنه لم يحمله عليه إلا بقرينة. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 2001)، صحيح مسلم (رقم: 1531). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 2036)، صحيح مسلم (رقم: 1514). (¬3) صحيح البخاري (رقم: 2065)، صحيح مسلم (رقم: 1586). (¬4) كذا في جميع النُّسخ، ولفظ الشيرازي في "اللمع، ص 37": (قِيلَ: إنه يُقْبَل ذلك ... ، وفيه نَظَر عندي).

قال: (ولا يَبْعُد أن يقال: لا يكون تأويله حُجة على غيره، فإنْ لاح لمجتهد تأويلٌ غيْره بدليل، [حَمَله] (¬1) عليه، وإلا فتعيين الراوي صالح للترجيح). انتهى نعم، محل ذلك إذا لم يُجْمِعوا على أن المراد أحدهما وجوزوا كُلًّا منهما؛ ولهذا لَمَّا ذكر الماوردي في "الحاوي" حديث ابن عمر في التفرق في خيار المجلس هل هو التفرق بالأبدان؟ أو بالأقوال؟ قال: (وأجمعوا على أن المراد أحدهما، فكان ما صار إليه الراوي أوْلى) (¬2). قال: (وقال أبو علي بن أبي هريرة: أحمله عليهما معًا، فأجعل لهما في الحالين الخيار بالخبر) (¬3). قال الماوردي: (وهذا صحيح لولا أنَّ الإجماع منعقد على أن المراد أحدهما). واعْلَم أن الخلاف -كما قاله الهندي- فيما إذا ذكر ذلك الراوي لا بطريق التفسير لِلَفْظةٍ (¬4)، وإلا فتفسيره أوْلى بلا خلاف. وقولي في موضوع المسألة: (الصَّحَابِيُّ) -يقتضي قَصْر المسألة عليه، وهي طريقة الآمدي وابن الحاجب، ورجحها القرافي وإنْ كان إمام الحرمين والإمام الرازي وغيرهما فَرَضُوها في الراوي سواء أكان صحابيًّا أو غيْرَه، ورجَّحها كثيرٌ لكن بشرط أن يكون ذلك الراوي مِن الأئمة. ¬

_ (¬1) في (ز): حُمِل. (¬2) الحاوي الكبير (5/ 33). (¬3) الحاوي الكبير (5/ 34). (¬4) عبارة الهندي في (نهاية الوصول، 7/ 2959): (إذا حمل الراوي الخبر على أحد محتملاته، فهذا يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون ذلك بطريق التفسير للفظة، فهاهنا لا نعرف خلافًا أنَّ تفسيره أَوْلى، ولا يتجه فيه خِلاف. وثانيهما: أن يكون ذلك بطريق النظر والاجتهاد منه ... ).

ويأتي للمسألة مزيد بيان في تخصيص العموم يظهر منه ترجيح ما جَرَيْنَا عليه هنا من القَصْر على الصحابي. وقولي: (مَا لَمْ يَكُنْ لِظَاهِرٍ قَدْ تَرَكَا) أي: محل قبوله في حمله على أحد المعنيين إذا استويَا أو حمله على الراجح، أما إذا حمله على المرجوح وترك الظاهر كما إذا حمل ما ظاهره الوجوب على الندب أو بالعكس أو ما هو حقيقة على المجاز أو نحو ذلك، فالعبرة بالظاهر، لا بحَمْله (على أصح المذاهب). قال الآمدي: (ولهذا قال الشافعي: كيف أترك الخبر لأقوال أقوام لو عاصرتُهم لحججتهم؟ ! ) (¬1). وهي أحسن من قول ابن الحاجب: (وفيه قول الشافعي: كيف أترك الحديث لمن لو عاصرته لحججته؟ ! ) (¬2). فإنه يقتضي قصور قول الشافعي ذلك فيما نحن فيه وهو مخالفة الصحابي لظاهر ما روى، والفرض أنه قال ذلك في الأَعَم مِن هذا ومن مخالفة حديث وإنْ لم يكن هو راوِيه. كذا قيل، ولكن في التغاير بينهما نظر. ومقابل الراجح قول ثانٍ عن أكثر الحنفية: العمل بتعيين الراوي مطلقًا؛ لأنه لا يفعل ذلك إلا عن توقيف. وقول ثالث لأبي الحسين مِن المعتزلة: (إنه يحمل على تأويله إنْ صار إليه لِعِلمه بقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - مِن مشاهدته قرائن تقتضي ذلك، فإنْ جهل وجَوَّزنا أن يَكون لظهور نَص أو ¬

_ (¬1) الإحكام (2/ 128). (¬2) مختصر المنتهى (1/ 749) مع (بيان المختصر).

قياس أو غيرهما، وجَبَ النظر في الدليل، فإنِ اقتضى ما ذهب إليه، وَجَبَ، وإلا فلا) (¬1). وذهب الآمدي إلى قول رابع: (إنه إنْ عُلِم مَأْخَذُ خِلافه وأنه مما يوجبه، صِيرَ إليه؛ اتِّباعًا للدليل. وإنْ جُهِل، عُمِل بالظاهر؛ لأن الأصل في خبر العَدْل وجوب العمل به، ومخالفة الراوي للظاهر يحتمل النسيان) (¬2). واعْلَم أن هذه المسألة غيرُ ما سبق في صدْر الكلام أن يكون الخبر نَصًّا في شيء فيخالفه الصحابي، وعلى ذلك ينزل ما رُوي مِن قول الشافعي: كيف [يترك] (¬3) كلام المعصوم إلى مَن ليس بمعصوم؟ ! وتلك أَوْلى مِن هذه أن يُعْمَل بما رَوى، لا بما رأى؛ فلذلك اقتصرتُ في النَّظم عليها. فرع: إذا خالف الحديثَ عَمَلُ أكثر الأُمة وقُلنا بالراجح: (إنَّ ذلك ليس إجماعًا)، فالعبرة بالحديث (على الصحيح). واستثنى ابن الحاجب مِن ذلك إجماع أهل المدينة؛ بِناءً على قاعدة المالكية، وقد سبق بيانه في باب الإجماع وأنَّ ذلك ليس بحجة. بل مقتفَى كلامه هنا تقييد إجماع أهل المدينة بكونهم أكثر الأُمة، ولا قائل به، بل إما بحجِّيَّتهم وإنْ كانوا أَقَل الأُمة، أو لا حُجة في قولهم مطلقًا، إلا أنْ تُؤَوَّل عبارته بأنَّ الاستثناء منقطع. وأما مسألة تعارض القياس مع خبر الواحد فستأتي في باب القياس. والله أعلم. ¬

_ (¬1) المعتمد (2/ 175). (¬2) الإحكام (2/ 128). (¬3) كذا في (ص، ز)، لكن في (ت): نترك.

النوع الثاني: ما يتوقف عليه الاستدلال من جهة فهم المعنى، وهو اللغة

النوع الثاني: ما يتوقف عليه الاستدلال من جهة فَهْم المعنى، وهو اللغة 369 - كِتَابُ رَبِّنا وَسُنَّةُ النَّبِيْ ... أَفْصَحُ لَفْظٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ الشرح: لَمَّا فرغتُ مِن النوع الأول مما يتوقف عليه الاستدلال بالأدلة الثلاثة -الكتاب والسُّنة والإجماع- وهو طريق ثبوتها، شَرعتُ في النوع الثاني، وهو ما يتوقف عليه مِن جهة دلالتها، وذلك في الكتاب والسنة اللذين هما أصل الإجماع، بل وأصل القياس، وربما كانا دالَّين على الأصل المقيس عليه كما سيأتي، وذلك هو اللغة؛ لأن فَهْم المعاني [فيهما] (¬1) متوقف على معرفة أن هذا هو مدلوله لُغةً؛ لأن القرآن والسنة عربيان، فلا بُدَّ للمستدل بهما مِن معرفة لُغة العرب، بل هما أفصح الكلام العربي، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2]، وقال تعالى: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 102]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]، وغير ذلك من الآيات. فإنْ قيل: مَن سَبقَ نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - مِن الأنبياء المرسلين إنما كان مبعوثًا لقومه خاصة، فهو مبعوث بلسانهم، وأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فمبعوث لجميع الخلْق، فَلِمَ لَمْ يُبعَث بسائر الألسنة ولم يُبعث إلا بلسان بعضهم وهُم العرب؟ فالجواب: أنه لو بُعث بلسان جميعهم لكان كلامه خارجًا عن المعهود، وَيبْعُد -بل يستحيل- أن تَرِد كل كلمة مِن القرآن مكررة بكل الألسنة؛ فتَعَيَّن البعض، وكان لسان العرب أَحَق؛ لأنه أوسمع وأفصح، ولأنه لسان المخاطَبين وإنْ كان الحكم عليهم وعلى ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ت، ش، ض)، لكن في (ص): منهما.

غيرهم. كذا قرر ابن السمعاني السؤال والجواب، وهو حَسَن. قولنا في التر جمة: (فَهْم المعنى) هو مَفْعَلٌ مِن "عَنيتُ كذا" أيْ: قصدتُه، فالمراد به المصدر منه، ثم المراد بالمصدر المفعول، كالصيد بمعنى المصيد. و"عَنَى" يتعدى لمفعولين ثانيهما بالجارِّ، تقول: عَنيتُ زيدًا بكذا. قال أبو علي: "المعنى": هو القصد إلى ما يُقصَد إليه. وقال الخليل: معنى كل شيء: محنته وحاله التي يصل إليها أمرُه. وقال ابن الأعرابي يقال: ما أَعرِفُ معناه ومعناته. ف "المعنى" في كل شيء كما قال ابن فارس: (هو المقصد الذي يُبْرَزُ ويُظهر في الشيء إذا بحِث عنه) (¬1). وأما " اللغة " فقال الجوهري: (أصلها "لُغَيٌ" أو "لُغَوٌ") (¬2). فردد بين أن يكون من ذوات الياء أو من ذوات الواو، قال: (والهاء عوض، وجمعها "لُغا" و"لغات"، والنسبة إليها " لُغَويٌّ "، ولا يقال: " لَغَوي ") (¬3). أي: بفتح أوله. انتهى لكن فيها لُغة ضعيفة حكاها صاحب "تثقيف اللسان"، كما قالوا: "أَمَوي" بفتح أوله نِسبةٌ إلى "أُميَّة" وإن كان ضعيفًا. والمراد بِ "اللغة": اللفظ الموضوع، فخرج المهمل، وسيأتي تفسير الوضع. وللُّغة علوم كثيرة تُسمَّى "علوم اللسان"، سنشير إليها بعد ذلك. ¬

_ (¬1) مقاييس اللغة (4/ 148). (¬2) الصحاح تاج اللغة (6/ 2484). (¬3) الصحاح (6/ 2484).

تنبيه: مِن لطف الله تعالى حدوث الموضوعات اللغوية ليُعَبَّر بها عمَّا في الضمير، سواء قلنا: الواضعُ الله تعالى أو البشر بإقداره تعالى وإلهامه. ووَجْه الحاجة إلى ذلك أنَّ الله عز وجل لَمَّا خلق النوع الإنساني وجعله محتاجًا لأمور لا يستقل بها بل يحتاج فيها إلى المعاونة، ولا بُد للمعاون مِن الاطلاع على ما في نفس المحتاج إليه بشيء يدل، وذلك إما لفظ أو إشارة أو كتابة أو مثال، وكان اللفظ هو أكثر إفادة وأيسر. أما كونه أكثر فلأنَّ اللفظ يقع على: المعدوم والموجود، الغائب والحاضر، الحسي والمعنوي، ولا شيء مِن الباقي يستوعب ذلك. وأما كونه أَيسر؛ فلأنه موافق للأمر الطبيعي؛ لأن الحروف كيفيات تعْرِضُ للنفَس الضروري. وإذا تَقرر الاحتياج للوضع، فكلما اشتدت الحاجة إليه افتقر إلى ما يُوضَع له وإلا لكان ذلك مُخِلًّا بمقصود الوضع، وما لا تشتد إليه الحاجة يجوز أن يوضع له (لِمَا فيه مِن الفوائد) وأنْ لا يوضع له الأنه قد لا يُحتاج إليه). قال الماوردي في "أدب الدين والدنيا": (وإنما كان نوع الإنسان أكثر حاجة من جميع الحيوان؛ لأن غيره قد يستقل بنفسه عن جنسه، وأما الإنسان فمطبوع على الافتقار إلى جنسه في الاستعانة به، فهو صفة لازِمةٌ لطبعه وخِلقةٌ قائمة في جوهره؛ ولذلك قال تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، أي: ضعيفًا عن الصبر عمَّا هو إليه مفتقر واحتمال ما هو عنه عاجز. وإنما خُصَّ الإنسان بكثرة الحاجة وظهور العجز نعمة عليه ولُطفًا به؛ ليكون لِذُل الحاجة و [مهانة] (¬1) العجز خارجًا مِن طغيان الغِنى وبَغْي القدرة؛ إذ هما مركوزان في ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ت)، لكن في (ص، ض): مهابة.

طَبْعه، قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6 - 7]؛ ولذلك لَمَّا خلقه محتاجًا عاجزًا جعل له فيما يحتاج إليه في دفع حاجته وقضاء وطره حِيَلًا، وخَلَق له عقلًا يهتدي إليها به، وكل ذلك ليتصف بالرغبة إلى الله تعالى والرهبة منه) (¬1). فسبحان مَن هذا مِن بديم صُنعِه! قولي: (أَفْصَحُ) إشارة إلى أن الكتاب والسنة -مع أنهما عربيان- جاءَا على أفصح لغات العرب. قال ابن مالك: (نزل القرآن بلغة الحجاز، وما فيه من لغة تميم -أيْ: ونحوهم- إلا قليلًا، كإدغام {وَمَنْ يُشَاقِّ} [الحشر: 4] و {مَنْ يَرْتَدَّ} [المائدة: 54] في قراءة غير نافع وابن عامر، والأكثر إنما هو لغة الحجاز بالفك، نحو: {فَلْيُمْلِلْ} [البقرة: 282]، و {يُحْبِبْكُمُ} [آل عمران: 31]، و {يُمْدِدْكُمْ} [آل عمران: 125]، {وَمَنْ يُشَاقِقِ} [النساء: 115]، و {مَنْ يُحَادِدِ} [التوبة: 62]، {وَاسْتَفْزِزْ} [الإسراء: 64]، ونحو ذلك، وهو كثير). قال: (وقد أجمع القراء على نَصْب {إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] ونَصْب {مَا هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31]) (¬2). وقد عنيَ بعض العلماء بجمع ما في القرآن مِن غير لغة الحجاز ونسبها إلى أهلها. والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) أدب الدنيا والدين (ص 129 - 131). (¬2) شرح التسهيل (2/ 286 - 287).

ص: 370 - وَلَيْسَ في الْقُرْآنِ مِنْ مُعَرَّبِ ... وَهْوَ الَّذِي لَيْسَ بِلَفْظٍ عَرَبِي 371 - أَمَّا الَّذِي كَـ "سُنْدُسٍ" وَ" اسْتَبْرَقِ " ... وَعِدَّةٍ مِنْ نَحْوِ ذَا الْمُحَقَّقِ 372 - فَإنَّهُ تَوَافُق في اللُّغَة ... فَعَرَبِيٌّ كُلُّهُ، فَأَثْبِتِ 373 - لَكِنَّ مَا يَكُونُ مِنْ ذَا عَلَمَا ... فَهْوَ حِكَايَةٌ لِمَا قَدْ عُلِمَا الشرح: لَمَّا ذكرتُ أن التوقف على معرفة لغة العرب لكون الكتاب والسنة عربيين ذكرتُ جوابًا عن سؤال مُقدَّر وهو أن: في القرآن ما ليس بعربي، وهو المسمَّى بِ "المُعَرَّب" بتشديد الراء؛ لأنهم تَكلفوا بإدخاله في لُغتهم وليس منها. و"المُعَرَّب": لفظ استعملته العربُ في معنى وُضِع له في غير لُغتهم. وفي القرآن مِن ذلك ألفاظ كثيرة جمعها بعضهم في قوله: السَّلْسَبِيلُ وَطَهَ كُوِّرَتْ بِيَعٌ ... إسْتَبْرَقٌ صَلَواتٌ سُنْدُسٌ طُورُ والزنجبيلُ ومِشْكاةٌ سرادق مع ... رُومٌ وَطُوبَى وسِجِّيلٌ وكافُورُ كذا قَرَاطِيسُ ربَّانِيُّهُم وغَسَّا ... قٌ ثُمَّ دِينارٌ القسطاسُ مَشْهورُ كَذَاكَ قَسْوَرَةٌ وَاليَمُّ ناشِئةٌ ... ويُؤْتِ (¬1) كِفْلَيْنِ مَذكُورٌ ومَنْظُورُ لَهُ مقاليدُ فِرْدَوْسٌ فَعُدَّ كَذَا ... فيما حَكَى ابنُ دُريد مِنْهُ تَنُّورُ (¬2) ¬

_ (¬1) في (ق): مؤت. يقصد قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: 28]. (¬2) هناك أبيات زادها الحافظ ابن حجر والإمام السيوطي، أمَّا الحافظ ابن حجر فقد ذكر زياداته في كتابه=

على ما في بعض هذه الألفاظ مِن خلاف -في كونه عربي الأصل أوْ لا- مشهور في التفاسير، وقد ذكر في غير ما نُظم كثير فيه خلاف كَـ "مرجان" وغيره، ولسنا بصدد الكلام في ذلك ولا تفسير معانيها ولا عزو كل إلى أهلٍ، بل الإشارة إلى هذا النوع فقط، على أنه قد عَنيَ بجمع ما في لغة العرب مطلقًا مِن ذلك ابن الجواليقي، وربما جعل بعض اللغويين وغيرهم لكثير مِن المعرَّب ضوابط، كقول ابن جنى وغيره مِن النُّحَاة: متى خلا اسمٌ رباعي الأصول أو خماسيها عن بعض حروف الذلاقة الستة المجموعة في "فرّ مَنْ لَبَّ" يكون أعجميًّا. وقول الجوهري وغيره: متى اجتمع جيمٌ وقاف في كلمة فهي أعجمية، كَ " منجنيق " و " جَرْدَق " و " جِلَّق " ونحوها. ¬

_ = (فتح الباري شرح صحيح البخاري) وقد انتهى مِن شرحه هذا عام 842 هـ كما ذكر الحافظ السخاوي في كتابه (الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر، 2/ 675)، أيْ بعد وفاة الحافظ البرماوي. قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري شرح صحيح البخاري، 8/ 252): (تَتبَّعَ الْقَاضِي تَاجُ الذَينِ السُّبْكِيُّ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ، وَنَظَمَهُ فِي أَبْيَاتٍ ذَكَرَهَا فِي شَرْحِهِ عَلَى الْمُخْتَصَرِ. . وَقَدْ تَتبَّعْتُ بَعْدَهُ زِيَادَة كَثِيرَةً عَلَى ذَلِكَ تَقْرُبُ مِنْ عِدَّةِ مَا أَوْرَدَ، وَنَظَمْتُها أَيْضًا، وَلَيْسَ جَمِيعُ مَا أَوْرَدَهُ هُوَ مُتَّفَقًا عَلَى أَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنِ اكْتَفَى بِإِيرَادِ مَا نُقِلَ فِي الْجُمْلَةِ، فَتَبِعْتُهُ فِي ذَلِكَ). وقال السيوطي في كتابه (الإتقان، 1/ 407): (فَهَذَا مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْألفَاظِ المُعَرَّبَةِ فِي الْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَحْصِ الشَّدِيدِ سِنِينَ، وَلَمْ تَجْتَمِعْ قَبْلُ فِي كِتَابٍ قَبْلَ هَذَا. وَقَدْ نَظَمَ الْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ بْنُ السُّبْكِيِّ مِنْهَا سَبْعَة وَعِشْرِينَ لَفْظًا فِي أَبْيَاتٍ، وَذَيَّلَ عَلَيْهَا الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ حَجَير بِأَبْيَاتٍ فِيهَا أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ لَفْظًا، وَذَيَّلْتُ عَلَيْهَا بِالْبَاقِي وَهُوَ بِضْعٌ وَسِتُونَ؛ فَتَمَّتْ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ لَفْظَةٍ). وانظر: رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (1/ 416)، والتحبير شرح التحرير (ص 471).

إلى غير ذلك من الضوابط. فقلتُ في جواب هذا السؤال: إنه مِن تَوافُق وَضْع العجم مع وضع العرب، فيظن الظان أن العرب أخذت لفظ العجم واستعملته في لغتها، وليس كذلك، وهذا إنما نَدَّعيه في الواقع في القرآن فقط؛ لِمَا سيأتي من الدليل على أن القرآن كله عربي، وأما وقوعه في لغة العرب فَبِلَا خلاف وإنْ كان حازم في "منهاج البُلغاء" قد ذكر تقسيمًا طويلًا ربما قدح في حكاية الاتفاق لسنا بصدد بسطه، إنما الحاجة إلى وقوعه في القرآن أوْ لا. فممن أثبته فيه: ابن عباس وعكرمة ومجاهد وجمعٌ، واختاره ابن الحاجب مع نقل نَفْيِه عن الاكثرين، وإنْ كان الآمدي لم يرجح شيئًا، ولكن ما ذهب إليه الأكثرون هو الأرجح، منهم القاضي أبو بكر والقفال وأبو الوليد الباجي والشيخ أبو إسحاق، وابن القشيري قال: وعليه المحققون. وجرى عليه الإمام الرازي وأتباعه. وقال ابن فارس في "فقه اللغة": إنه قول أهل العربية. ونَصَّ عليه الإمام الشافعي - رضي الله عنه - في "الرسالة" في الباب الخامس، فقال: (وقد تكلم في العلم مَن لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه لكان الإمساك أوْلى له، فقال منهم قائل: إن في القرآن عربيًّا وأعجميًّا. والقرآن يدل على أنه ليس في كتاب الله شيء إلا بلسان العرب، أووجدنا قائل هذا القول ومَن قَبِل ذلك منه تقليدًا وتركًا للمسألة عن حُجة ومسألة عصره ممن خالفه، (¬1)، وبالتقليد أغفلَ مَن أغفلَ منهم، والله يغفر لنا ولهم). انتهى وممن نقل هذا النص: الشيخ أبو حامد في "تعليقه"، وقال: (إنه قول عامة أهل العلم وقول المتكلمين بأسرهم). ثم نَصَره. ¬

_ (¬1) كذا في جميع النُّسخ، ولفظ الشافعي في (الرسالة، ص 42): (وَوَجَدَ قائل هذا القول مَن قَبِلَ ذلك منه تقليدًا له وتَرْكًا للمسألة عن حُجته ومسألةِ غيره ممن خالفه).

فإنْ قُلتَ: المنقول عنهم إثباته أئمة، فكيف يقول الشافعي ذلك؟ قلتُ: قد أجاب هو في "الرسالة" عنه بأنه لعلَّ قائله أراد به ما جهل معناه بعض العرب، ولهذا قال عمر - رضي الله عنه - لَمَّا سمع {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]: (لا أدري ما "الأَبُّ"). وقال ابن عباس: (ما كنتُ أدري معنى {افْتَحْ بَيْنَنَا} [الأعراف: 89] حتى سمعتُ أعرابية تقول: تعال إلى القاضي يفتح بيننا). ولا يَلزم مِن كونه غير معلوم لواحد أو اثنين أن لا تكون عربية. وأجاب غير الشافعي: بأن الوضع في الأصل للعجم، فلمَّا استعملتها العرب في لُغتها، كان ذلك وضعًا موافقًا لُغة غيرهم. وإليه ذهب أبو عبيد في "غريبه" بعد أن نقل عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أنَّ مَن زعم أنَّ في القرآن لسانًا سِوَى العربية فقد أعظم على الله تعالى القول. وقال: إنَّ مَن ذهب إلى إثباته -كابن عباس وغيره- وإنْ كانوا أَعْلم مِن أبي عبيدة فإنما أرادوا باعتبار الأصل، وهو أراد باعتبار أنها لَمَّا استعملته صار عربيًّا، فكلاهما مُصيبٌ إن شاء الله تعالى. وهذا الجواب قريب مما ذكرتُه في النَّظم الذي سبق تقريره، إلا أنَّ ذاك أَحْسن باعتبار جريانه على أن اللغة توقيفية أو اصطلاحية، وهذا إنما هو على كونها اصطلاحية. أما وقوع المعرَّب في السُّنة فجزَم به كثير وإنْ كان ابن القشيري وغيره نصبوا الخلاف الذي في القرآن فيها أيضًا، ولكون هذا بعيدًا لم أتعرض في النَّظم له. وقد بوَّب البخاري في "صحيحه" باب "مَن تكلم بالفارسية والرَّطَانة"، وأسند فيه عن أُم خالد: "أتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أبي وعلَيَّ قميصٌ أصفر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: سَنَهْ سَنَهْ" (¬1). قال ابن المبارك: هي بالحبشية: حسنة. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 2906).

وفي "الصحيح" أيضًا: "ويكثر الهَرْجُ. قيل: وما الهرج؟ قال: القتل" (¬1). قال أبو موسى الأشعري: هي لغة الحبشة. قولي: (لَكِنَّ مَا يَكُونُ مِنْ ذَا عَلَمَا) إلى آخِره -إشارة إلى أنَّ الأعلام الأعجمية خارجة عن الخلاف في المعرَّب كما قرره الهندي وغيره، وإنما الخلاف في أسماء الأجناس كاللجام والفرند والفيروزج والياقوت والسمور والسنجاب والإبريق والطست والخوان والفلفل والقرفة والخولنجان والياسمين والكافور، ونحو ذلك مما سبق من المذكور في القرآن وغيره، وذلك لأنَّ نحو "إبراهيم" و"إسماعيل" و"إسحاق" و"يعقوب" من أسماء الأنبياء والملائكة -عليهم الصلاة والسلام- حتى قال أبو منصور: كُل أسماء الأنبياء أعجمية إلا أربعة: آدم وصالح وشعيب ومحمد - صلى الله عليه وسلم -. وعلى هذا تكون الأعلام معرَّبة لكن واقعة في القرآن قَطعًا، ولا يستطيع مَن أجاب عن المعرَّب غيرها بأنه مِن تَوافُق اللغتين أن يقول به فيها؛ لأنه متى وُجد وضع العرب وجبَ أن يكون عربيًّا وصُرف، والفَرْضُ منعه من الصرف؛ للعَلَمِثة والعجمة، إلا أن يُقال بأنه لَمَّا كان في الأصل مِن وضْعهم تَمَيَّز عمَّا لم يكن مِن وضعهم أصلًا، بل محض وضع عربي [بِمَنعْ] (¬2) ذاك من الصرف دُون هذا -على ما فيه من بُعْد. وحينئذٍ فلا يُعَد شيء مِن الأعلام الأعجمية مُعرَّبًا. ولعل صاحب "جمع الجوامع" أخرجه مِن تعريف "المعرَّب" لذلك، حيث قال: ("المعرَّب" لفظ غيرُ عَلَم استعملته العرب في معنى وُضع له في غير لغتهم) (¬3). لكن انتُقِد عليه بأنه إنما يخرج من الخلاف في وقوعه لا مِن تسميته معرَّبًا؛ لأنه أعجمي ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 5690). (¬2) كذا في (ز، ت)، لكن في (ص، ظ، ق): يمنع. (¬3) جمع الجوامع (1/ 426) مع حاشية العطار.

استعملته العرب، وهذا معنى التعريب. وعندي أنها خارجة مِن المعرَّب بالطريق الذي أشرتُ إليه في النَّظم، وهو أنه حكاية ألفاظ الأعلام كما هي كما أن العجم إذا حكت أعلامًا عندنا ك "محمد" و"أحمد" لا يَصِير بذلك وضعًا أعجميًّا؛ إذْ لا سبيل إلى أنْ يُعَبَّر في الأعلام عن مدلولها إلا بها، بخلاف أسماء الأجناس، لكون العَلَم وُضِع لِمُعَيَّن لا يتناول غيره. تنبيهات أحدها: قال ابن دقيق العيد: الخلاف في المعرَّب مبني على إثبات الحقيقة الشرعية، فَمَن أَثبتها وجعلها مجازات لغوية، لا يلزم مِن قوله أنْ يكون القرآن غير عربي. ولكن يَرُد ذلك قول أبي نصر القشيري: إنَّ هذا ليس هو الخلاف في الأسماء الشرعية. وهو ظاهر؛ لأنَّ الأسماء الشرعية نُقِلت إلى معنى غير الأول، والمعرَّب باقٍ على معناه، فكيف يكون هو إياه أو مُفَرَّعًا عليه إلا بِعُسْر؟ ! الثاني: عُلم مِن إخراج الأعلام مِن الخلاف أن استدلال ابن الحاجب تبعًا لشيخه الأبياري بذلك ليس بجيد؛ لكونه إما غير مُعرَّب أو مُعرَّبًا ليس الخلاف في وقوعه في القرآن كما سبق، بل سبقهما إلى ذلك خَلْقٌ. وربما عزوا ذلك إلى نَص سيبويه في "كتابه" فيما لا ينصرف وفي النسب وفي الأمثلة وغير ذلك، وجرى عليه ابن خروف وغيرُه. الثالث: إن منشأ الخلاف في اشتمال القرآن على المعرَّب أنه لَمَّا وُصف في عِدة آيات بكونه عربيًّا كما سبق أول الباب وكما أشار إليه الشافعي فيما ذكرناه مِن نَص "الرسالة" فهل يكون المراد الجميع كما فهمه مَن مَنع؟ أو الأكثر كما أَوَّله مَن أَثبت وقوعه؟ لكن الحقيقة هو الكل؛ فلذلك كان أَرْجَح، والله أعلم.

ص: 374 - لِذَا تَوَقَّفَ الدَّلِيلُ مِنْهُمَا ... عَلَى الَّذِي في لُغَةٍ قَدْ رُسِمَا 375 - وَفي الْأُصُولِ يُعْتَنَى بِذِكْرِ ... مُهِمِّ أَقْسَامٍ؛ لِجَوْلِ الْفِكْرِ الشرح: أي: لأجل أنَّ القرآن والسنة عربيان تَوقَّف الاستدلال بهما على حكم من الأحكام على معرفة ما نُقل مِن لغة العرب ورُسم فيها على اختلاف فنونه؛ لأن عِلم لسان العرب: - إما أن يُبحث فيه عن مدلول اللفظ، فهو عِلم "اللغة"، وإنْ كان في الأصل يشمل كل علومها لكن له إطلاقان: عام، وخاص. - وإما أن يُبحث فيه عن بنية المفردات وأحوالها، وهو عِلم "التصريف". - أو عن المركبات وما يعرض لها، فهو علم "النحو". - أو عن فصاحتها وبلاغتها ووجوه حُسنها، وهو علم "المعاني والبيان والبديع". فمَن لا يَعرف قَدْر الحاجة من هذه العلوم ولا يخوض في أسرارها لا يفهم القرآن والسنة على الوجه اللائق. فإنْ قيل: سيأتي أنَّ الألفاظ تكون غير لُغوية إما شرعية أو عُرفية، فلا يكون الاستدلال في تلك متوقفًا على لغة العرب؛ فلا يُطْلق أن الاستدلال دائمًا متوقف على معرفة اللغة، ولذلك قال الأبياري في "شرح البرهان": إنَّ الافتقار إلى اللغة إنما هو حيث عُلم أن الشرع لم يتصرف في ألفاظ اللغة وأنها باقية، أي: ولا أرشد فيها إلى اتِّباع العُرف في مدلول اللفظ، فإنْ عُلِم تَصَرُّفه بذلك فلا يحتاج إلى معرفة اللغة، بل لمعرفة تلك الأوضاع الشرعية. أي: أو العرفية.

فالجواب: أن معرفة اللغة لا بُد منها مع معرفة هذه الأوضاع؛ لجواز أن يَصرف اللفظ عنها إلى اللغة قرينةٌ كما سيأتي ذلك في أحوال التعارُض؛ فقدْ تَوقَّف في الجملة. ثم النظر في علوم اللغة المذكورة لا يخلو إما أن يكون عن جزئيات أو كليات، وعادة الأصوليين أن يتكلموا على بعض أنواع من الكليات؛ لكثرة دورانها، ولأن لها ضوابط تضبطها، فتشتد الحاجة في الاستدلال إليها، فهي من الأقسام المهمة في فن الأصول؛ فلذلك اعتنوا بها. وهذا معنى قولي: (لِجَوْلِ الْفِكْرِ). أي: لجولان الفكر، أي: في أي شيء يكون منه اللفظ لمستدَل به حتى يُرَد إليه، والله أعلم. 376 - فَ "اللَّفْظُ ": صَوْتٌ بَعْضَ أَحْرُفٍ وَعَى ... بِالْقَصْدِ، وَ"الْقَوْلُ" لِمَعْنًى وُضِعَا الشرح: لَمَّا سبق أنَّ مِن لُطف الله تعالى حدوث اللفظ الموضوع للمعنى، احتِيجَ إلى تفسير اللفظ والوضع وبيان الاصطلاح في أسمائها؛ لِيُفهم المراد عند إرادة تلك الأقسام، وقد اشتمل هذا البيت على تفسير "اللفظ" وما يُسمى إذا وُضِع. فَ "اللفظ" في اللغة: مصدر "لفظ الشيء"، أي: طرحَه، ثم استعمل في المطروح، كالصيد بمعنى المصيد. وفي الاصطلاح: الصوت المشتمل على بعض الحروف قصدًا. ليخرج بذلك تصويت الجمادات وغيرُ الناطق مِن الحيوان وإنْ تخيل في صوته بعض أَحْرُف لكنه بغير قصد، فليس بلفظ" فلذلك قيدته بقولي: (بِالْقَصْدِ). وربما عُبِّر عن ذلك بالصوت المعتمد على مقاطع

الحروف؛ حتى يخرج بالاعتماد ما ذكرناه. وهو معنى قولي: (بَعْضَ أَحْرُفٍ وَعَى)، فَ "بعض" مفعولٌ مُقدَّم على ناصِبِه وهو " وَعَى "، أي: حَوَى. وإنما سُمي "لفظًا"؛ لأنه مطروح بلسان اللافظ إلى سمع السامع ولو بتقدير أن لو كان سامع. وأما "القول" فهو في اللغة: مصدر "قال يقول" إذا نطق. ثم نُقل اصطلاحًا إلى المقول مِن اللفظ المستعمل، فَ "القول": هو اللفظ الموضوع لمعنًى. وهو معنى قول بعضهم: (المستعمل)؛ ليخرج بذلك اللفظ المهمل وهو الذي لم يوضع، كَ "ديز" مقلوب لفظ "زيد"، و"رفعج" مقلوب "جعفر"، فاللفظ أعم من القول مطلقًا. وهو معنى قولي: (وَ"الْقَوْلُ" لِمَعْنًى وُضِعَا)، أي: الذي من اللفظ وُضع لمعنى، والله أعلم. ص: 377 - وَ"الْوَضْعُ": جَعْلُهُ دَلِيلَ مَعْنَى ... أَوْمَا كَجَعْلٍ في اشْتِهَارٍ يُعْنَى الشرح: لَمَّا سبق أنَّ "القول" ما وُضع لمعنى، احتيجَ إلى تفسير "الوضع" في الاصطلاح، وله إطلاقان: خاص: وهو تخصيص اللفظ بمعنى ليدُل عليه. وهو المراد هنا، فاللام فيه للعهد الذهني؛ لأن الكلام في الألفاظ. وعام: وهو تخصيص شيء بشيء بحيث يدل عليه، سواء فيه ما سبق وجَعْل المقادير دالة

على مقدراتها مِن موزون ومكيل ومزروع ومعدود، وجَعْل مركبات الأدوية والأغذية بإزاء ما وُضعت له. فالضمير في قولي: (جَعْلُهُ) عائد على اللفظ، سواء أكان اسمًا كَـ "زيد" و"رجُل" و"قائم"، أو فِعلًا ك "قام"، أو حرفًا كَـ "ثم" و"بل". وقولي: (أوْ مَا كَجَعْلٍ) إشارة إلى أن الوضع قد لا يكون تخصيصَ واضعٍ بإرادته، بل اشتهار لفظ في معنى إما في الشرع أو في العُرف، فالاشتهار ليس حقيقة الجعل، بل يُشْبه الجعل. ويَصْدُق أن يُقال: الواضع الشرع أو العُرف، والمراد ما ذكرناه مع أن الشارع لم يَقُل: اعلموا أنَّ هذا اسم لذلك. وكذلك أهل العُرف لم يقولوا ذلك. فمَن يُعَرِّف "الوضع" بأنه "جَعْل اللفظ دليلًا على المعنى" يُورِد عليه الوضع الشرعي والعُرفي إلا أنْ يذكر في تعريفه هذه الزيادة أو يريدبِ "الجَعْل" الحقيقي والمجازي. تنبيه: قد يؤخذ من قولي: (جَعْلُهُ) -أي: جَعْل اللفظ- أنَّ المركَّب موضوع؛ لشموله المفرد والمركب، بل زعم بعضهم أنَّ "اللفظ" جمعٌ واحِدُه "لفظة"، والحقُّ أنه اسم جنس، و [التاء في] (¬1) "لفظة" إنما هي للوحدة من الجنس، لا لتمييز المفرد عن الجمع، إلا أن المفرد موضوع قطعًا، وفي المركب خلاف: - فقيل: ليس بموضوع؛ ولهذا لم يتكلم أهل اللغة فيه ولا في أنواع تأليفه؛ لكون الأمر فيه موكولًا إلى المتكلم. واختار هذا الإمام الرازي، وهو ظاهر كلام ابن مالك حيث قال: إن دلالة الكلام عقلية. واحتج له في "الفَيْصَل على المُفصل" بأنَّ مَن يعرف لفظين لا يفتقر ¬

_ (¬1) في (ز): الباقي.

عند سماعهما مع إسنادٍ إلى مُعَرِّف لمعنى الإسناد، بل يُدركه ضرورةً، ولأنه لو كان المركب موضوعًا، لافتقر كل مُركَّب إلى سماعه من العَرَب كما في المفردات. ونحوه ما حكاه ابن إياز عن شيخه. - وقيل: بل المركب موضوع؛ بدليل أن له قوانين في العربية لا يجوز تغييرها، ومتى غُيرت حُكِم عليها بأنها ليست عربية، كتقديم المضاف إليه على المضاف وإنْ قُدِّم في غير لُغة العرب، وكتقديم الصلة أو معمولها على الموصول، وغَيْر ذلك مما لا ينحصر، فحجروا في التركيب كما في المفردات. هالى هذا ذهب ابن الحاجب حيث قال: (وأقسامها مفرد ومركَّب) (¬1). قال القرافي: وهو الصحيح. وعزاه غيره للجمهور. والتحقيق أن يقال: إنْ أُرِيدَ أنواع المركَّبات فالحقُّ أنها موضوعة، أو جزئيات النوع فالحقُّ المنع. وينبغي أن يتنزل المذهبان على ذلك، وعلى هذا فيقال: إنَّ كَوْن "الوضع" جَعْل اللفظ دليلًا على المعنى -صادقٌ على المفردات مطلقًا، وعلى المركبات باعتبار الأنواع لا الجزئيات. أو يقال: إنَّ مَن قال: (المركَّب موضوع) قد يعني به أن مفرداته موضوعة، فيصدُق كونه موضوعًا بهذا الاعتبار. ويصح تفسير "الوضع" السابق وتقسيم "القول" إلى مفرد ومركَّب كما سيأتي. ومما يتفرع على هذا الخلاف ما سيأتي أن المجاز هل يكون في التركيب؟ وأن العلاقة هل ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (1/ 149).

تشترط في آحاده؟ ونحو ذلك. نعم، المثنى والجمع هل هو مِن قبيل المفرد فيكون موضوعًا؟ أو مِن قبيل المركَّب؛ لِشبَهِه به فلا يكون موضوعًا؟ على الخلاف السابق فيه. ظاهر كلام ابن مالك في "التسهيل" الثاني، حيث قال: ("التثنية" جَعْل الاسم القابل دليل اثنين متفقين) إلى آخِره. وقال في "الجمع": (جَعْله دليل ما فوق اثنين) (¬1) إلى آخرِه. وبعضهم يقول: "المثنى" ما وُضع لاثنين، و"الجمع" ما وُضِع لأكثر، فيقتضي أنه موضوع؛ لأنه مفرد على قوانين لا يجوز الإخلال بها، وينبغي أن يجري فيه ما سبق في المركَّبات وهو الوضع في الأنواع [لا] (¬2) الجزئيات، ويُحمل كلام الفريقين على ذلك. ولا ينبغي أن يقال: إن كلام ابن مالك مفرَّع على مذهبه في [وضع] (¬3) المركب؛ لانتفاء النسبة في المثنى والجمع، فيفترقان من المركَّبات، لأنهما مفردان قطعًا، وإنما المدرك ما سبق. فائدة: اختُلف في أن اللفظ إذا وُضع لمعنًى: هل هو موضوع للمعنى الخارجي (أي: الموجود في الخارج)؟ أو للمعنى الذهني وهو ما يتصوره العقل، سواء طابق ما في الخارج أوْ لا؟ أو للمعنى مِن حيث هو مِن غير ملاحظة كَوْنه في الذهن أو في الخارج؟ ¬

_ (¬1) تسهيل الفوائد (ص 12). (¬2) في (ز): لا في. (¬3) عبارة الزركشي في (البحر المحيط، 1/ 396): (وَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: "فَرَّعَهُ عَلَى رَأْيِهِ فِي عَدَمِ وَضْعِ المُرَكَّبَاتِ"؛ لِأنَّهُ لَا تَرْكِيبَ فِيهَا، لَا سِيَّمَا أَنَ المُرَكَّبَ فِي الحقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ الْإِسْنَادُ).

على ثلاثة أقوال: الراجح منها: الأول، وبه جزم أبو إسحاق في "شرح اللمع"؛ لأن به تستقر الأحكام، ونصره ابن مالك في كتاب "الفيصل". واختار الثاني الإمام الرازي وأتباعه كالبيضاوي؛ لدوران الألفاظ مع المعاني الذهنية وجودًا وعدمًا، فإنَّ الإنسان إذا رأى شخصًا مِن بُعد تخيله طللًا، سَمَّاه بذلك، فإذا قرُبَ منه وظنه شجرًا، سمَّاه بذلك، فإذا قرب منه ورآه رجُلًا، سماه بذلك. ورُدَّ بأن ذلك إنما هو لاعتقاد مطابقة الذهني للخارج، فالمدار على الخارجي. والثالث: هو مختار الشيخ تقي الدين السبكي، وأفرد المسألة بالتصنيف. وإنما أَسْقَطتُ هذه المسألة من النَّظم وهي في "جمع الجوامع"؛ لقِلة جدواها. وكذلك أسقطتُ مسألة "إنه ليس لكل معنى لفظ، بل كل معنى محتاج للفظ يدل عليه إما بخصوصه حقيقةً أو مجازًا أو في ضمن عموم"؛ لوضوح المراد بها، وقِلَّة نفعها في الاستدلال، والله أعلم. ص: 378 - وَالرَّسْمُ لِلدِّلَالَةِ اللَّفْظِيَّهْ ... وَرُبَّمَا عُدِّيَ لِلْتقِيَّهْ 379 - هُوَ كَوْنُ اللَّفْظِ حَيْثُ أُطْلِقَا ... يُفْهَمُ مَعْنَاهُ الَّذِي تُحُقِّقَا الشرح: لمَّا ذكرت في "الوضع" أنه جَعْلُ اللفظ دليلًا، احتجتُ لتفسير الدلالة التي صار بها دليلًا. فذكرتُ في رسم "الدلالة اللفظية" التي الكلام فيها أنها: كَوْن اللفظ بحيث إذا أُطلِق،

فُهِم منه المعنى الذي هو له محقق بالوضع، فيفهمه مَن يَعرف أنه موضوع له، كدلالة "إنسان" على حيوان ناطق. وأما مَن يذكر في رسم هذه الدلالة أنها "فَهْم المعنى عند ذِكر اللفظ" فمردود مِن وجهين: أحدهما: أنَّ فَهْم المعنى فرعٌ عن كون اللفظ دل عليه، فلو عُرِّف به، لَتَوَقَّف معرفة الدلالة عليه، فيلزم الدور. الثاني: أن الدلالة في اللفظ موجودة سواء فهمها فاهم أوْ لا. فالصواب ما قلناه: إنَّ الدلالة هي كون اللفظ بالحيثية المذكورة، لا الفهم. وقولي: (مَعْنَاهُ) أعم من أن يكون دلالته عليه مِن حيث وضع اللغة أو مِن حيث اشتهاره شرعًا أو عرفًا. وقولي: (وَرُبَّمَا عُدِّيَ لِلْتقِيَّهْ) الضمير في "عُدِّيَ" للرسم المذكور، أي: وربما عُدِّي هذا الرسم لبقية الدلالات بعد اللفظية، فَجُعل رسمًا لها مُعَرِّفًا لمعناها. والمراد بِ "البقية" ما يقابل "اللفظية" مِن "العقلية" و"الطبيعية"، فَفُهِما وإنْ لم يسبق لهما ذِكر، لأن ذِكر الضد يُشْعر بضده، كالعمى والبصر، والحر والبرد، كما في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، ولم يَقُل: "والبرد"؛ لِعِلمه مِن ضِده، وما أَشْبه ذلك. ولمَّا كان الكلام في الدلالة اللفظية التي هي وضعية، دخل أيضًا في لفظ "البقية" ضد الوضعية مِن اللفظية ما هو لفظي لكن غير وضعي كما سنوضح ذلك. والحاصل أن الدلالة مِن حيث هي يمكن تعريفها بهذا الرسم، فيقال: كون الشيء يَلزم مِن فَهْمه فَهْم شيء آخَر.

وتفصيل الدلالات أنا الدلالة من حيث هي: - إما وضعية: كدلالة الأقدار على مقدراتها، ونحو ذلك كما سبق، ومنه دلالة السبب على المسبَّب، كالدلوك على وجوب الصلاة، ودلالة المشروط على وجود الشرط، كالصلاة على الطهارة وإلا لَمَا صَحَّت. - أو عقلية: كدلالة الأثر على المؤثِّر، ومنه دلالة العالَم على مُوجِدِه وهو الباري جلَّ جلاله، وعلى ما يجب له من الصفات الثبوتية والسلبية، وما يجوز له من صفات الأفعال، ومنه أيضًا دلالة الدليل على ما يُستدل به عليه، كالمقدمتين على النتيجة. - أو لفظية: وهي المستندة لوجود اللفظ إذا ذكر. وهذه الثالثة ثلاثة أقسام: - إما عقلية: كدلالة الصوت على حياة صاحبه. - أو طبيعية: كدلالة "أح أح" على وجع الصدر. - أو وضعية: أي بوضع اللغة أو الشرع أو العرف لذلك اللفظ. فهي غير الوضعية التي هي قسيم اللفظية. فالوضعية مِن الدلالات اللفظية هي المرادة، وبِ "البقية" ما سواها، والله أعلم.

ص: 380 - [مِنْ هَذهِ] (¬1) "دِلَالَةُ الْمُطَابَقَهْ" ... يَكُونُ مَعْنَى اللَّفْظِ فِيهَا طَابَقَهْ 381 - وَمَا عَلَى بَعْضٍ لَهُ "تَضَمُّنُ" ... وَ" لَازِمٍ " هِيَ الْتِزَامٌ بَيِّنُ 382 - وَالْعَقْلُ في ذَيْنِ لَهُ دُخُولُ ... مِنْ حَيْثُ الِانْتِقَالُ إذْ يَجُولُ 383 - ثُمَّ الْمُرَادُ بِ " اللُّزُومِ " الذِّهْنِي ... لَا خَارِجٌ فَإنَّهُ لَا يُغْنِي الشرح: هذا تقسيم للدلالة اللفظية الوضعية إلى ثلاثة أقسام: مُطَابَقة، وتَضَمُّن، والتزام. فَ "دلالة المطابقة": هي دلالة اللفظ على مُسَمَّاه، ك "إنسان" على حيوان ناطق. ويقع في عبارة كثير: "على تمام مسماه"، وهي قاصرة، لخروج ما لا جُزء له، كاسْم "الله" تعالى، وكالجوهر الفرد، فلا يقال فيه: "تمام"؛ لأنه لا جُزء له. و"دلالة التضمن" هي: دلالة اللفظ على جزء مسماه، كدلالة "إنسان" على حيوان فقط أو ناطق فقط، سُمي بذلك لتضمنه إياه. و"دلالة الالتزام": دلالة اللفظ على ما هو خارج عن المسمَّى لكنه لازِم له، كدلالة "إنسان" على كونه ضاحكًا. قيل: ينبغي أن يُزاد في تعاريفها "مِن حيث هو كذلك"، ففي "المطابقة": من حيث هو مسماه، وفي "التضمن": من حيث هو جزؤه، وفي "الالتزام": من حيث هو لازِم؛ لِدَفْع ما يَرِد على ذلك مِن كون اللفظ قد يكون مشتركًا بين المسمَّى وجزئه، أو بين المسمى ولازِمه، ¬

_ (¬1) في (ن 1، ن 3، ن 4): فهذه.

كَـ "مصر" اسم للمدينة و [لإقليمها] (¬1) جميعه، و"الشمس" لِقُرصها وللضوء الذي هو لازِمها. فإنما يكون مطابقة من حيث الوضع للمسمَّى، وتَضمُّنًا من حيث الوضع للجزء، والتزامًا من حيث الوضع لِلازم. وكذلك قيَّد به صاحب "المحصول" وتلميذه صاحب "التحصيل"، لكن في دلالتَي التضمن والالتزام فقط. وينبغي أن يُقيِّدا به في المطابقة أيضًا على ما قصداه. لكن المتقدمون وكثير من المتأخرين لم يقيدوا بذلك؛ لأن الكلام في كل دلالة مِن حيث الوضع للمسمَّى، لا مِن وضع آخر؛ لأن ذلك حينئذٍ هو تمام مسماه، وهو واضح. وزعم ابن الحاجب في "المنتهى" أنه ينبغي أن يُزاد: "المراد لمعنًى"؛ للاحتراز عن دلالة اللفظ إذا أُريد نفس اللفظ لا مدلوله، كما تقول: "زيد" مبتدأ، "قام" فِعل ماض، "ثُم" حرف عطف. فإن الدلالة حينئذٍ ليست راجعة إلى معنى اللفظ. قلتُ: لكن مدلوله حينئذٍ هو ذاك، كأنك قلتَ: لفظ "زيد"؛ ولذلك تصير كلها أسماء وتُعرب أو تُبنى. كما قال ابن مالك في "الكافية": وإنْ نَسبْتَ لأداةٍ حُكْمَا ... [فابْنِ] (¬2) أو اعرِبْ، واجْعَلنهَا اسْمَا نعم، استُشكِل انحصار الدلالة في الثلاث بدلالة العام على جزئي منه، كدلالة "المشركين" على "زيد" منهم، فإنه: - ليس مطابقة؛ إذ ليس هو جميع المشركين. ¬

_ (¬1) في (ز): لما يليها. (¬2) كذا في جميع النُّسخ، وفي (الكافية): فاحْكِ. وقال ابن مالك في شرحها: (وإذا نسب إلى حرف أو غيره حكم هو للفظه دُون معناه، جاز أن يُحْكَى، وجاز أن يعرف بما تقتضيه العوامل. فمن الحكاية قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إياكم و"لو"، فإنَّ "لو" تفتح عمل الشيطان).

- ولا تَضَمُّنًا؛ لأنه ليس جزءًا منهم، بل جزئيًّا، وسيأتي بيان الفرق بينهما في باب العموم. - ولا التزامًا؛ لأنه داخل في مدلول "المشركين" بوصف الشرك. وقد يُجاب بادِّعاء كونه مِن المطابقة باعتبار صِدق المشرك عليه مِن حيث هو، وهو موضوع اللفظ، والكمية فيه بالكلية، والجزئية خارجة عما وُضع له اللفظ الذي هو كُلي. وبادِّعاء كونه مِن الالتزام؛ لأن لازم هذه الماهية الموضوع لها العموم كل فردٍ فردٍ، فالفرد لازم، وسيأتي في باب العموم فيه مزيد بيان. قولي: (يَكُونُ مَعْنَى اللَّفْظِ) إلى آخِره -أي: المطابقة أن تكون كذلك. وقولي: (وَمَا عَلَى بَعْضٍ لَهُ) أي: الذي وضع اللفظ له. وقولي: (ولازم) أي: وما هو دال فيه على لازم للمعنى هو التزام. وقولي: (وَالْعَقْلُ في ذَيْنِ لَهُ دُخُولُ) إلى آخِره -إشارة إلى التحقيق من الخلاف المشهور في الدلالات الثلاث: - أنها كلها لفظية. - أو المطابقة فقط، والأخريان عقليتان. - أو المطابقة والتضمن لفظيتان، والالتزام عقلية. ثلاثة مذاهب: الأول: هو المَعْزيُّ للأكثرين؛ لأن الاستناد لِلَّفْظ في كل مِن الثلاث، إذْ هو واسطة في الدلالة على الجزء واللازم، فكان كالمطابقة. الثاني: هو اختيار الإمام في "المحصول"، وتبعه ابن التلمساني والهندي وغيرهما؛ لأن اللفظ الموضوع للكل لم يوضع للجزء ولا للازم، فما دل إلا بواسطة تَضمُّنه له عقلًا

ولازِميَّته له عقلًا؛ فلذلك ينتقل الذهن من المسمَّى إليهما انتقالًا من الملزوم إلى اللازم. والثالث: هو رأي الآمدي وابن الحاجب؛ لأن الجزء داخل فيما وُضع له اللفظ، بخلاف اللازم؛ فإنه خارج عنه. فذكرتُ في النَّظم ما هو الحقّ أن للعقل دخولًا في التضمن والالتزام مع الاستناد للفظ، فليسا لفظيًّا محضًا كما في المطابقة، ولا عقليًّا محضًا حتى لا يحتاج للفظ فيهما، فكأنهما لفظيتان باعتبارٍ عقليتان باعتبارٍ، حتى زعم بعضهم أن الخلاف لفظي وأنه لا خلاف في المعنى؛ ولأجل ذلك كان تقسيم الدلالة اللفظية إلى الثلاثة، فاللفظ معتبَر فيها قطعًا وإلا فكان يلزم أن يدخل في المقسم ما ليس منه. وقولي: (ثُمَّ الْمُرَادُ بِ "اللُّزُومِ" الذِّهْنِي) إشارة إلى أن المعتبر في دلالة الالتزام اللزوم الذهني (على المرجَّح)، لا الخارجي؛ وذلك لأن اللفظ غير موضوع للازم، فلو لم يكن اللازم بحيث يَلزم مِن تَصَوُّرِ مُسَمَّى اللفظ تَصَوُّرُه، لَمَا فُهم مِن اللفظ، وهو معنى تعليل المنطقيين لِكَوْنه المختار عندهم بِكَوْن الذهن ينتقل مِن المسمَّى إليه. نعم، قيَّد في "المحصول" اللزوم الذهني بالظاهر؛ لأن القطع غير معتبر وإلا لم يَجُز إطلاق "اليد" على القدرة، فإن "اليد" ليست مستلزمة للقدرة بحسب القطع؛ إذ قد تكون شلَّاء. قلتُ: لزوم القدرة لليد إنما هو لزوم خارجي باعتبار ما ركَّبه الله فيها؛ دليلُه أنَّ "اليد" لا يَلزم مِن تصوُّرها تَصوُّر القدرة لها، والتخلف في الخارج قد يكون لمانع كما في الشلاء، فالذهني لا يحتاج لهذا القيد أصلًا، وإنما لم يعتبر اللزوم الخارجي كالسرير مع الإمكان؛ لأنه إذا لم ينتقل الذهن إليه، لم تحصل الدلالة البتة، وقد تحصل الدلالة وليس هناك لزوم خارجي، كدلالة العمى على البصر، والحر على البرد.

واعتبر كثير مِن الأصوليين وأهل [البيان] (¬1) اللزوم مطلقًا، أَعَم من الذهني والخارجي. وسواء أكان الذهني في ذهن كل أحد -كما في العدم والملكة- أو عند العالم بالوضع أو غير ذلك؟ ولهذا يجري فيها الوضوح والخفاء بحسب اختلاف الأشخاص والأحوال. ولكن عند التحقيق تراهم يرجعون إلى لزوم ذهني ولو بقرينة تدل عليه وأصله خارجي، وذلك حتى ينتقل الذهن كما بيناه؛ فلذلك جريتُ في النَّظم على إطلاق اعتبار اللزوم الذهني؛ وفاقًا لمن قاله، فإنه الظاهر. وقولي: (لَا خَارِجٌ) أي: ليس المعتبر مجرد اللزوم الخارجي؛ لأنَّ الدلالة قد توجد وليس هناك لزوم خارجي كما سبق، والله أعلم. ص: 384 - وَالْقَوْلُ إنْ جُزْءٌ لَهُ دَلَّ عَلَى ... جُزْءٍ لِمَعْنَاهُ بِقَصْدٍ وُصِلَا 385 - " مُرَكَّبٌ " وَمَا سِوَاهُ " الْمُفْرَدُ " ... وَالْبَدْءُ في تَقْسِيمِ هَذَا أُورِدُ الشرح: لَمَّا بيَّنتُ أنَّ اللفظ الموضوع لمعنى يُسمى "قولًا" وبيَّنتُ معنى "الوضع" ومعنى "الدلالة" وتقسيمها، ذكرتُ هنا أن القول ينقسم إلى مفرد ومركب، وقدمتُ في النظم تعريف "المركَّب"؛ لأن التقابل بينهما مِن تقابُل العدم والملَكَة، والأعدام إنما تُعرف بملكاتها. وإنما قَدَّم ابن الحاجب "المفرد" لمناسبة مختارِه في الفَرْق بين "المفرد" و"المركب" كما سيأتي. فَ "المركَّب": ما دَلَّ جزؤه على جزء معناه الذي وُضع له، سواء أكان تركيبه إسناديًّا كَ ¬

_ (¬1) في (ز): الشأن.

"قام زيد"، أو إضافيًّا ك "غلام زيد"، أو تقييديًّا ك "زيد العالم "، لا مزجِيًّا ك "خمسة عشر" و"بعلبك"، فإنه لا يدل -حين كونه عَلَمًا- جزؤه على جزء معناه. وكذا المضاف إذا كان عَلَمًا، نحو"عبد الله". وقولي: (بِقَصْدٍ وُصِلَا) أي: إنما يكون مُركبًا إذا كان ذلك الجزء منه دالًّا على جزء معناه بالقصد؛ ليخرج نحو: "حيوان ناطق" عَلَمًا على إنسان؛ فإنه مفرد وإنْ كان جزؤه دل على جزء معناه من حيث هو. وبعضهم يقول: لا حاجة لهذا القيد؛ لأنه بعد العَلَمية لا يَصدُق أنَّ جزءه دلَّ على جزء معناه؛ لأن كُلًّا مِن جزئَيه صار بالعَلَمية بمنزلة حَرْف الهجاء فيه، ك "الزاي" من "زيد"، فكما لا يدل على جزء من ذات "زيد" كذلك هذا. وعلى هذا يكون هذا القيد إيضاحًا. وقولي: (إنْ جُزْءٌ لَهُ دَلَّ عَلَى جُزْءٍ لِمَعْنَاهُ) خرج به نحو "إنسان"، فإنه وإنْ دلَّ فيه "إنْ" على [الشرط] (¬1) لكن لم يدل على جزء معناه، وبعضهم يُسمي هذا مؤلفًا لا مركبًا، والمشهور المنع وأنَّ المؤلَّف بمعنى المركَّب. ومنهم مَن يُفرق بينهما بأن المؤلَّف يكون بين جزئيه ألفَة، بخلاف المركب. ورُدَّ بأن المراد بالتركيب إنما هو على الوجه المعتبر في كلام العرب، لا مطلق انضمام لفظ إلى آخَر، فحينئذٍ لا يوجد مركَّب إلا وبين جزئيه ألفة. وزعم بعضهم أنه يخرج بذلك أيضًا أنَّ حروف "زيد" -مَثلًا- كل واحد يدل على شيء في الجملة وهو ذلك الحرف، ف "الزاي" يدل على "زه"، وكذا الباقي. وهو فاسد؛ لأنه إن أراد بالدال اللفظ المعبَّر عنه ب "الزاي والياء والدال" فليس لذلك دلالة أصلًا، وإنْ أراد هذا اللفظ وهو "زاي ياء دال" فهذا ليس الذي تركب منه "زيد"، بل ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ص)، لكن في (ت): الشرطية.

مِن مدلولاته، فَتَأَمَّلَه. وقولي: (إنْ جُزْءٌ لَهُ دَلَّ) ولم أَقُل: (كل جزء)؛ إشارة إلى أنك إذا قلتَ: (زيد قائم) فإنما دل من الأجزاء كلمة "زيد" وكلمة "قائم"، لا كل حرف من حروفها؛ لأن كل حرف من حروف الكلمتين معًا لا دلالة له أصلًا، لا على جزء المعنى ولا غيره كما بيناه. وإنما يكون ذلك في الجزء القريب؛ فلذلك قيَّد به بعضهم. فإنْ قُلتَ: فَدَلَّ قولك ذلك أنه إذا دل جزءٌ على جزءِ المعنى، يكتفَى بذلك وإنْ لم تدل بقية الأجزاء على باقي المعنى، والفرض أنك إذا قلت مثلًا: (زيد قائم)، ف "زيد" دل على جزء المعنى و"قائم" دَلَّ على جزئه الآخَر، فكان ينبغي أن تقول: [(كل واحد من أجزائه) أو: (من أجز ائه القريبة)] (¬1) إذا أردت الإيضاح كما تَقدم. قلتُ: لم أحْتج لذلك؛ لأنه متى دَلَّ جزء على جزء المعنى كان الجزء الآخَر دالًّا على باقي المعنى بالضرورة؛ لئلا يَلزم ضَم مُهْمَل إلى مستعمَل، بل يصير مجموع اللفظ غيرَ وافٍ بجملة المعنى، والفَرْضُ خِلَافُه. أو يقال: المراد ما ذكرتم، ويدل عليه أن النكرة في سياق الشرط للعموم، ويكون المراد أن كل جزء قريب يدل على جزء من المعنى. وقولي: (وَمَا سِوَاهُ "الْمُفْرَدُ") بيان؛ لأن كل ما اختل فيه قيد من تعريف المركَّب يكون "مفردًا"؛ فيدخل: - ما لا جزء له أصلًا، ك "باء" الجر، فإنها مفرد وإن لم تستقل بالنطق بها ولا بالدلالة على معنى في نفسها؛ لكونها حرفًا. - وما له جزء لكن لا يدل، ك "زيد". ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ظ، ت). لكن في سائر النُّسخ: كل واحد من أجزائه القريبة.

- أو يدل لا على جزء المعنى، كما سبق في "إنْ" مِن "إنسان". - أو يدل على جزء المعنى لكن في وضع آخَر لا في ذلك الوضع، كما سبق في "حيوان ناطق" عَلَمًا على "إنسان". تنبيه: هذا التعريف للمركَّب والمفرد هو اصطلاح المنطقيين وغيرهم مِن أهل الأصول، وأما أهل العربية فتُعزى إليهم تفرقة أخرى، وهي: أنَّ "المفرد" اللفظ بكلمة واحدة، و"المركَّب" بخلافه. واختار هذا ابن الحاجب. فخرج بِ "الكلمة" في تفسير المفرد: الكلام ونحوه من المتضايفين وغيرهما. وبِقَيْد الوحدة: المركَّبات الناقصة والمركَّب الذي هو عَلَم، ك "عبد الله" و"حيوان ناطق" عَلَمًا على إنسان، فهو وإن كان كلمة لكنه غير مفرد؛ إذِ "المفرد" عندهم أخص من الكلمة. ثم فرَّع ابن الحاجب على الفرقين أنَّ نحو: "بعلبك" مركَّب على طريق أهل العربية، واختاره دُون الأخرى، ونحو: "يضرب" بالعكس، أي: يكون على طريقة المنطقيين وأهل الأصول مركَّبًا، وعلى طريق أهل العربية مفردًا، وهو واضح. ثم قال: (ويَلزمهم -أي: المنطقيين ومَن [تبعهم] (¬1) - أن نحو "ضارب" مِن أسماء الفاعلين و"مخرج " ونحو ذلك مما لا ينحصر مُركَّب) (¬2). أي: لأن "الألف" من "ضارب" و"الميم" من "مخُرج" جزء دل على جزء من المعنى. وما ادَّعاه مِن الإلزام لهم غير سديد؛ لأنَّ الدال على وصفيَّة الفاعل مجموع اللفظ، لا ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ت)، لكن في (ص): معهم. (¬2) مختصر المنتهى (1/ 152) مع (بيان المختصر).

" الألف " وحدها و [لا] (¬1) " الميم " وحدها. وقد أوضح هو هذا في "أماليه "، فقال: إنَّ "الألف" من "ضارب" و"الميم" من "مخرج" وأَحرُف المضارعة و"الألف" في "سكرى" و"غضبى" ونحو ذلك ليست كلمات مستقلة، بل جزء كلمة. قال: (وقد تَخيل كَوْن حروف المضارعة كلمة بعض المتأخرين، وهو غلط، والفرق بين هذه الحروف وأشباهها مما ليس بكلمة وبين التي هي كلمات أنَّ هذه لا تدل على المعنى الذي قُصِد بزيادتها له إلا بِسَبْك ما انضم إليها معها حتى صار كالجزء منه، وأما الحرف الذي هو كلمة فتجد ما ينضم إليه مستقلًّا في دلالته قبله، وتجده موضوعًا لذلك بمجرده وإنِ اشترط في استعماله ذِكر متعلقه، ك "اللام" مِن "لزيد"، فإن كُلًّا منهما يُفهم معنًى مستقلًّا، بخلاف " الألف " مِن " ضارب " و" الياء" من "يخرج"). انتهى مُلخصًا. وبه يُعلم أن قوله: (ونحو "يضرب" بالعكس) أي: ما يكون مركَّبًا على طريقة المناطقة قد يمنع؛ لعدم استقلاله بالدلالة على ما قرره، فَحَقِّقْ ذلك؛ فإنه نفيس، والله أعلم. وقولي: (وَالْبَدْءُ في تَقْسِيمِ هَذَا أُورِدُ) إشارة إلى أن كُلًّا من "المفرد" و"المركب" له تقسيمات من وجوه لا بُد من معرفتها، فنشرع في ذِكر ذلك. وبدأتُ هنا بالمفرد؛ لسبقه على المركَّب وإنْ كان في تفسيره وقع الأمر بالعكس؛ لِمَا قررناه. فمِن تقسيم "المفرد" ما ذكرتُه بقولي: ¬

_ (¬1) من (ظ، ت).

ص: 386 - فَإنْ يَكُنْ تَصَوُّرُ الْمَعْنَى مَنَعْ ... مِنْ شِرْكَةٍ فِيهِ، فَجُزْئِيًّا يَقَعْ 387 - وَمَا سِوَى هَذَا هُوَ "الْكُلِّىُّ" ... تَقْسِيمُهُ يَكْثُرُ، وَالْمَرْضِىُّ الشرح: وهو أنه ينقسم إلى جزئي وكُلي. وفي الحقيقة إنما هما قسمان لمعنى اللفظ، لا لنفس اللفظ، لكن بطريق التبعية، فنقول: معنى اللفظ إنْ مَنَع تَصَوُّره مِن وقوع الشركة فيه عقلًا فجزئي، ك "زيد"، وإنْ لم يمنع فكُلى، ك "إنسان". وقال الغزالي: الكلي ما قبل الألف واللام. ورُدَّ بنحو: "ابن آدم". وقد يجاب بأنه يقبل لولا مانع الإضافة. والكلى له تقسيمات، منها: أنه إما أنْ يوجد منه شيء في الخارج، أوْ لا. فإنْ وُجِد فإما أن يوجد واحد فقط أو كثير. وما وُجد منه واحد إما أن يكون غيره ممتنعًا وجوده أو جائزًا. وما وُجد منه كثير فإما أن يكون متناهيًا أو غير متناهٍ. والذي لم يوجد منه شيء إما أن يمكن وجوده أو يستحيل. فهذه ستة أقسام.

وبهذا يُعلم أن التعبير بقولنا: (إن لم يمنع) إلى آخِره -أَوْلى من نحو قول ابن الحاجب: (إن اشترك في مفهومه كثيرون) (¬1)؛ لخروج بعض هذه الأقسام عن تعبيره، إلا أن يحمل قوله: (إن اشترك) على الأَعَم من الاشتراك بالفعل أو بالقوة، ولا يخفَى ما فيه. فمثال ما وُجد منه واحد وغيرُه ممتنع: "إله"، فإنه الله تعالى لا إله غيره، ولا يمكن وجود إله غيره: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، ومعنى دخول لفظ "إله" في تعريف الكُلي أنه لا يمنعُ تَصورُ معناه مِن الشركة في معناه باعتبار التصور في الذهن، لا باعتبار الممكن في الخارج؛ فلهذا ضَلَّ مَن ضل بالإشراك. ولو كانت الوحدة بضرورة العقل، لما وقع ذلك من عاقل، ولكنها عقول أضلها بارئها بما قضى مِن شقاوتها. وعلى كل حال: في ذِكر المناطقة هذا المثال نوع من إساءة الأدب؛ فلذلك أهملتُ في النَظم ذِكر هذا التقسيم بالكُلية، وأشرتُ إلى أنه غير مُرْضٍ بقولي: (وَالْمَرْضِىُّ كذا وكذا) لِمَا أذكره من التقسيم بعد ذلك، وتعرضتُ له في الشرح؛ لئلا يظن الناظر في كتبهم ما لم يقصدوه، فيضل عن سواء السبيل. ومثال ها وُجد منه واحد ولا يمتنع وجود غيره: "الشمس". ومثال ما يوجد منه في الخارج كثير متناه: "إنسان". ومثال الكثير الذي لا يتناهى متعذرٌ على قول أهل السُّنة؛ إذْ ما في العالم شيء من الموجودات إلا وهو متناهٍ. ومثال ما لا يوجد منه شيء أصلًا ويمكن وجوده: بحر من زئبق. ومثال ما يستحيل وجوده: شريك الإله، فإنه مُحال. ولا يخفَى ما في التمثيل به من الإساءة على نحو ما سبق. ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى (1/ 158) مع (بيان المختصر).

تنبيهات أحدهما: لا بُد في الجزئي من ملاحظة قيد التشخيص والتعيين في التصور وإلا لَصَدق أنه لم يمنع تَصوُّره من وقوع الشركة فيه، إذْ لا بُد مِن اشتراك ولو في أخص صفات النفس. ثم المراد به الجزئي الحقيقي؛ لأن الجزئي قد يكون إضافيًّا، أي: بالنسبة لإضافته لِمَا هو أَعَم منه مع كونه كُليًّا بالنسبة إلى ما هو أخص منه، ك "حيوان"، فإنه جزئي بالنسبة إلى "جسم"، كُلي بالنسبة إلى "إنسان"، كما يسمى مثل ذلك نوغا إضافيًّا وإن كان النوع الحقيقي إنما هو المقول على كثيرين متفقين بالحقيقة. الثاني: زاد التستري في تفسير "الكُلي" قَيْد أن يكون ذلك في الإيجاب، قال: فإن "زيدًا" يشترك في [مفهومه] (¬1) كثيرون باعتبار سلبه عن مفهوم خِلافِهِ مع أنه ليس بِكُلي. قلتُ: وهذا عجيب، فإن الكلام في تَصور حقيقتَي الكُلي والجزئي، والسلب والإيجاب أمر زائد على ذلك. قولي: (وَالْمَرْضِىُّ) تمامه ما بعده، وقد سبق أني أشرتُ بذلك إلى عدم ارتضاء نحو ما سبق من تقسيم الكلي إلى وحدته وكثرته، ومثل ذلك تقسيم الكلي إلى طبيعي ومنطقي وعقلي. مثاله: "الإنسان" من حيث الحيوانية التي فيه فقط هو "كُلي طبيعي"، وهذا موجود في الخارج؛ لأنه جزء الإنسان الموجود، وجزء الموجود موجود. ومن حيث إن تَصوُّره غير مانع من تَصوُّر الشركة فيه "كُلي منطقي"، وهذا لا وجود له؛ لأنه من حيث لا يتناهى. وقد سبق أن وجود ما لا يتناهى في العالم محُال. ¬

_ (¬1) في (ز): فهمه.

ومن حيث ملاحظة الأمرين معًا "كُلي عقلي"، ولا وجود له أيضًا، لاشتماله على ما لا يتناهى. وخالف في ذلك أفلاطون، فقال: إنه موجود. ومحل ذلك الأليق به غير هذا المختصر. ومثل ذلك أيضًا: تقسيم الكُلي إلى جنس ونوع حقيقيَّين، فَـ "الجنس" هو المقول على مختلف بالحقيقة، و"النوع " هو المقول على متفق بالحقيقة، وقد يكونان إضافيين، أي: بالنسبة إلى ما فوقهما ودُونهما كما سبقت الإشارة إليه، ونحو ذلك. والله أعلم. ص: 388 - مِنْ ذَلِكَ: الْكُلِّيُّ إنْ تَسَاوَتْ ... أَفْرَادُهُ وَمَا [بِهَا] (¬1) تَفَاوَتْ 389 - فَـ "مُتَوَاطِئٌ"، وَمَا سِوَاهُ ... "مُشَكِّكٌ"؛ لِشَكِّ مَنْ يَرَاهُ الشرح: أي: مِن المرْضِي في تقسيم "الكلي" انقسامه إلى "متواطئ" و"مُشَكِّك". فالمتواطئ: ما تساوت أفراده باعتبار ذلك الكلي الذي تشاركت فيه، كالإنسان بالنسبة إلى أفراده، فإنَّ الكلي فيها -وهو الحيوانية الناطقية- لا تفاوُت فيها بِزَيْد ولا نقصٍ، وسُمي بذلك من "التواطؤ" وهو التوافق، قال تعالى: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37]، وهذا معنى قولي: (وما بها تفاوت) أي: ولم يتفاوت ذلك الكلي بها، أي: فيها، ف "ما" نافية، و"الباء" في "بها" متعلق بِ "تَفَاوَتْ"، وهو فعل ماض، والضمير في "بها" للأفراد، وموضعه نَصبٌ على الحال. ¬

_ (¬1) في (ض، ن): به.

و"المشَكِّك": ما سوى ذلك، وهو ما تَفَاوَت في أفراده الكُلي: - إما باعتبار الوجوب وا لإمكان، كالوجود للقديم والحادث. - وإما باعتبار الاستغناء والافتقار، كالموجود الممكن للجوهر المستغني عن محل، والعَرَض المفتقر إلى محل يقوم به. - أو بالشدة، كبياض الثلج وبياض العاج، وكالنور لضوء الشمس وضوء السراج. وسمى "مُشَكِّكًا"؛ لِمَا فيه من تشكيك الناظر في معناه: هل هو متواطئ؛ لوجود الكُلي في أفراده؟ أو مشترك؛ لتغاير أفراده؟ فهو اسم فاعل من "شَكك" المضعَّف من "شك" إذا تَرَدَّد. تنبيه: اشتراط عدم التفاوت في "المتواطئ" كيف يجامع قولهم: (سُمي "مشككًا" لشك الناظر في كونه متواطئا)؟ كيف يقع الشك والفرضُ أنه متفاوت وقد شُرِط في "المتواطئ" عدم التفاوت؟ ويمكن الجواب عنه بأنَّ تَقابُل المتواطئ والمشكك تقابُل الأَعَم والأَخَص. فالمتواطئ أعم من المشكك. ويكون المراد بقولهم: (إن تساوت أفراده) أي: لم يُشرَط فيها تفاوُت، بل سواء اتفق فيها وقوع تفاوُت أوْ لا؟ لأن النظر إلى كونه متواطئًا من حيث الاشتراك. وبذلك يجمع بين قول ابن الحاجب: (فإنْ تَفاوَت كالوجود للخالق والمخلوق، فمشكك، وإلا فمتواطئ) (¬1)، وقوله في مسألة "وقوع المشترك" في جواب استدلال لا ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى (1/ 158).

يرتضيه: (وأُجيب بأن الوجوب والإمكان لا يمنع التواطؤ) (¬1). فجعله متواطئًا مَرة ومشككًا أخرى، فليس ذلك إلا لِمَا ذكرناه، لا تناقضًا. ومن هنا يُعلم جواب سؤال ابن التلمساني المشهور: (أنه لا حقيقة للمشكك؛ لأن ما حصل به الاختلاف إنْ دخل في التسمية كان اللفظ مشتركا، وإلا كان متواطئا). لأنَّا نقول: - هو داخل في التسمية، ولا يلزم أن يكون مشتركًا؛ لأن "المشترك" ما ليس بين معنييه قَدْرٌ مشترك به سُمي بذلك الاسم. - ولا يكون خارجًا من المتواطئ؛ لأن التواطؤ أعمُّ مما تساوَت أفراده أو تفاوتت، إلا أنه إذا كان فيه تفاوت فهو مشكك. وهذا أحسن من جواب القرافي عنه بأن كُلًّا من المتواطئ والمشكك موضوع للقَدْر المشترك، ولكن الاختلاف إن كان بأمور من جنس المسمَّى فمشكك، أو بأمْرٍ خارج فمتواطئ. لأن ذلك إنما يمشي فيه التفاوت بالشدة والضعف فقط، لا فيما هو مختلف بالإمكان والوجوب أو بالاستغناء والافتقار ونحو ذلك. واعْلم أنه سيأتي لنا في مسألة "حمل المشترك على معنييه" أن الشافعي يجعله من قبيل العموم، ولا يكون ذلك إلا إذا كان بينهما قَدْر مشترك، فإذا قُدِّر قَدْر مشترك، أَشْبه ذلك المشكك. وسيأتي [فيه] (¬2) مزيد بيان هنالك، والله أعلم. ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى (1/ 170). (¬2) في (ص): له.

ص: 395 - وَأَيْضًا الْكُلِّيُّ إنْ يَسْتَغْرِقِ ... أَشْخَاصَهُ، فَذُو " الْعُمُومِ " حَقِّقِ 391 - وَإنْ يَكُنْ دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّهْ ... فَقَطْ فَ "مُطْلَق" بِلَا كَمِّيَّهْ الشرح: هذا هو التقسيم الثاني من تقسيمَي "الكُلي" اللذين ذكرتهما، وهو انقسامه إلى: عام، ومطلق. وذلك أن الكلي إن وُضع اللفظ [فيه] (¬1) لاستغراق مَحاله لُغةً أو عُرفا فهو "العام"، نحو: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، ونحو: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، إذ المراد جميع أنواع الإيذاء، فعمومه عُرفي كما سيأتي في باب "المفهوم" وفي باب "العموم"، ويأتي فيه مزيد بيان [لحقيقته] (¬2) وأقسامه. وقد يكون العموم عقليًّا ولا يذكر هنا؛ لأن الكلام في تقسيم اللفظ، وذاك يذكر في باب العموم من حيث هو. وإن لم يكن كذلك بل دل على الماهيَّة من حيث هي من غير نظر إلى أفرادها -أي محَالها التي لا توجد حقيقتها إلا في شيء منها- فهو "المُطْلَق"، كقولك: (الرجُل خير من المرأة)، أي: هذه الحقيقة خير من هذه الحقيقة وإنْ كان في بعض أفراد هذه ما هو أفضل من أكثر تلك لكن لأمر خارجي، وسيأتي إيضاح ذلك في موضعه والفرق بينه وبين النكرة وما يترتب على ذلك. وقولي: (بِلَا كَمِّيَّهْ) أي: بلا مراعاة أفراد لا كثيرة ولا قليلة، فهو منسوب إلى "كَمْ" ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ت)، لكن في (ص): له. (¬2) في (ص): تحقيقه.

المسئول بها عن عدد الشيء، والقاعدة في مِثله التضعيف للحَرف الثاني، فلذلك شُدِّدت الميم، والله أعلم. ص: 392 - وَذَلِكَ "الْجُزْئِيُّ "إمَّا شَائِعُ ... فَسَمِّهِ "بمِرَةً" لَا مَانِعُ 393 - وَإنْ يَكُنْ مُعَيَّنًاتَ "الْمَعْرِفَهْ" ... فَمَا بِوَضْعٍ التَّعَيُّنُ اعْرِفَه 394 - بِ "الْعَلَمِ" الْمَعْرُوفِ، ذَا "شَخْصِىُّ" ... إنْ كَانَ في الْخَافيِ، وَ"الْجِنْسِيُّ" 395 - إنْ كانَ في الذِّهْنِ، بِهَذَا افْتَرَقَا ... مِنِ اسْمِ جِنْسٍ، قَالَهُ مَنْ حَقَّقَا الشرح: لَمَّا فرغتُ من تقسيم "الكُلي" شرعتُ في تقسيم مُقابِلِه وهو "الجزئي"، فذكرتُ أنه ينقسم إلى: نكرة، ومعرفة. وذلك أن الجزئي إنْ قُصد به فردٌ مشخصٌ مِن محَال الكُلي ولم يقصد عموم المَحال كلها كما هو العام على ما سبق، فذلك الفرد: - إنْ قُصد شيوعه في الأفراد (أي: يكون مُبْهمًا يحتمله كل فرد فرد على البدل) فهو "النكرة"، مفردًا كان (ك "رجل") أو جَمعًا حقيقيًّا (ك "رجال" و"مسلمين") أو ما كالجمع (ك "قوم" و"نساء" و"تمر") أو محتملًا (كـ " لبن " و" عسل "). - وإنْ قُصد به فردٌ مُعَين فهو "المعْرِفة". والتفرقة بينهما بعلامة لفظية، وهو قبول النكرة "رُب" أو "ال" المؤثرة للتعريف، أو نحو ذلك من وظيفة النحوي. فإنْ قيل: إذا كانت "النكرة" فيها شيوع، كانت مما لا يمنع تَصوُّره من وقوع الشركة فيه،

وهو خلاف ما سبق أن الجزئي هو ما يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه. قيل: المراد بالشركة في "الكُلي" التعدد لمحاله، وإذا كانت النكرة فردًا واحدًا واللفظ إنما دل عليه من حيث هو فرد، فقد منع تصوره من وقوع الشركة فيه من حيث فرديته، ولهذا كان داخلًا في الجَمْع ونحوه -كما سبق- وفي الأعداد نحو ثلاثة [وعشرة] (¬1)؛ لأن الجمع ليس قابلًا لأن يكون جمعين ولا العشرة [عشرتين] (¬2)، فَتَأَمَّل ذلك، فإنه دقيق. وقولي: (بِوَضْعٍ التَّعَيُّنُ) إلى آخِره -تقسيم للمعرفة إلى عَلَم وغير عَلَم، والعَلَم إلى عَلَم شخصي وعَلَم جنسي، فالباء في "بِالْعَلَمِ" متعلق بفعل الأمر في قولي: (اعْرِفَه)، أي: اعْرف هذا النوع بِاسْم "العَلَم"، أي: بكون "العَلَم" اسمًا له. والحاصل أنه لَمَّا تَقرر أنَّ المعرفة هي التي فيها تَعَيُّن بخلاف النكرة فإنها شائعة، انقسمت المعرفة إلى: - ما يكون التعيُّن فيه بالوضع، وهو العَلَم. - وإلى ما يكون التعين فيه لا بالوضع، بل بأمر خارجي، وهو غيره من المعارف كما سيأتي بيانه. ثم التعين الوضعي في العَلَم إما أن يكون بحسب الوجود الخارجي، فيُسمى العَلَم حينئذٍ "عَلَم شخص"، نحو "زيد" و"هند". وإما باعتبار التصور في الذهن، فيُسمى "عَلم الجنس"، ك "أسامة" عَلَمًا على حقيقة "الأسد" المشخصة في الذهن. وهو معنى قولى: (ذَا "شَخْصِىُّ") إلى آخِره، والضمير في قولي: (إنْ كَانَ) عائد على ¬

_ (¬1) في (ز): عشر. (¬2) في (ز): عشرين. وفي (ش): عشرة.

التعين في البيت الذي قبله، وكذا في قولي: (إنْ كَانَ في الذِّهْنِ). وينقسم [العلمان] (¬1) باعتبارات: مرة بكون المدلول ذا عِلم، كأسماء الله تعالى الأعلام، ومن ذلك أعلام العقلاء من الملائكة (ك "جبريل") أو الأنبياء (ك "محمد"). أو عَلَم لغير ذي عِلم إما لحيوان غير مألوف (ك "أسامة" للأسد و"ثُعالة" للثعلب) أو مألوف (ك " لاحق " فرس لمعاوية، و"شذقم" لجمل، و" واشق " لكلب) أو للأمكنة (ك "بغداد") أو الأزمنة (ك "رمضان")، وغير ذلك. وينقسم مرة إلى اسم وكنية ولقب؛ لأنه إن بُدئ بـ "أب" أو "أم" فكُنية، أو دَلَّ على رفعة المسمَّى" "زين العابدين" أو ضِعَتِه ك "إبليس" فلقب، وإلا فاسْم. ومرة إلى منقول (ك "فضل") وغير منقول وهو المرتجل (ك "أدد" و" غطفان "). وينقسم مرة إلى مفرد (ك "زيد") ومركب إضافي (ك "عبد الله") أو إسنادي (ك "برق نحرُه") أو غير ذلك. وكل هذه الأقسام موضحة في محلها من النحو. وقولي: (بِهَذَا افْتَرَقَا) الضمير فيه عائد إلى عَلَم الجنس، أي: بهذا المعنى المذكور في علم الجنس -وهو قيد التشخُّص في الذهن- افترق من اسم الجنس الذي هو النكرة، نحو "أسد"، فإن أسدًا إنما دل على فرد شائع كما سبق، لا على الحقيقة من حيث هي بقيد تشخُّص [فرد منها] (¬2) في الذهن، أي: حضور فرد مشتمل على الحقيقة مما يمكن أن تكون الحقيقة فيه ¬

_ (¬1) في (ز، ظ): العلم. (¬2) في (ز): فرديتها.

[كسائر] (¬1) الأفراد في الذهن مطلقًا. وقولي: (قَالَهُ مَنْ حَقَّقَا) أي: قاله المحققون، وملخص الخلاف في المسألة أن "عَلَم الجنس" و"اسم الجنس" هل معناهما واحد وإنما فُرق بينهما في الأحكام اللفظية (كمنع الصرف في عَلم الجنس مع عِلة أخرى، ووقوعه مبتدأ بلا مسوغ، وكذا في الحال منه بلا مسوغ، وكامتناع دخول "أل" و" الإضافة " فيه، وغير ذلك)؟ أو بينهما فرق من جهة المعنى؟ فالأول قال به جمعٌ من النحاة، منهم ابن مالك كما قرره في شرح "التسهيل"، إذ قال: إنه نكرةٌ معنًى، معرفةٌ لفظًا. وكذا عبر في "خلاصته" بقوله: ووضعوا لبعض الأجناس عَلَم ... كعَلم الأشخاص لفظًا، وهو عم أي: في الأحكام اللفظية، وهو عام في الأفراد عمومًا بدليًّا كاسم الجنس. والثاني هو قول كثير من المحققين، قال القرافي: (إن الخسروشاهي كان يفرق بين علم الجنس واسم الجنس ويقرره بتقرير لم أسمعه من أحد إلا منه، وكان يقول: ما في البلاد المصرية من يعرفه). أي: لأن الفرق مشكِل حتى إن بعض الأئمة ينفيه كما سبق، فقال الخسر وشاهي: (إن الموضوع للماهية من حيث خصوصها في الذهن "عَلَم الجنس"، ومن حيث عمومها ذهنًا في أفرادها "اسم الجنس") (¬2). وهو معنى ما ذكرناه من كون "أسد" مثلًا موضوعًا للحقيقة من غير اعتبار قيد معها ¬

_ (¬1) في (ز، ص): لسائر. (¬2) شرح تنقيح الفصول (ص 33).

أصلًا، وعلم الجنس الذي هو "أسامة" مثلًا موضوع للحقيقة باعتبار حضورها الذهني الذي فيه نوع تشخص لها مع قطع النظر عن أفرادها. ونظيره الفرق بين النكرة وبين المعرَّف بلام الحقيقة بأنه دال عليها باعتبار حضورها في الذهن وإن كانت عامةً بالنسبة إلى أفرادها، فهي باعتبار حضورها أخص من مُطلق الحقيقة، فإن الصورة الكائنة في الذهن من حقيقة الأسد جزئية بالنسبة إلى مطلق الحقيقة؛ لأن هذه الصورة واقعة لهذا الشخص في زمان، ومِثلها يقع في زمان آخَر وفي ذهن آخَر، والجميع مشترك في مطلق صورة الأسد. وفي كلام سيبويه إشارة إلى هذا الفرق، إذ قال في ترجمة "باب من المعرفة يكون الاسم الخاص فيه شائعًا في أمته ليس واحدٌ منها بأوْلى من الآخَر" ما نَصه: (إذا قلتَ: "هذا أبو الحارث"، إنما تريد هذا الأسد، أي: هذا الذي سمعت باسْمه أو عرفتَ أشباهه ولا تريد أن تُشير إلى شيء قد عرفتَه بمعرفته ك "زيد"، ولكنه أراد هذا الذي كل واحد من أمته له هذا الاسم) (¬1). ومعنى قوله: (عرفته بمعرفته) عرفته بشخصه الخارجي. فانظر كيف جعله سيبويه بمنزلة المعرف باللام التي للحقيقة، وقوله "هذا" إشارة إلى شيء بعَيْنه، فصار "أسامة" يغني عن هذا كما أن "زيدًا" يغني عن قولك: (الرجُل المعروف بكذا وكذا)، وكون "أسامة" واقعًا على كل أسد إنما كان لأن التعريف فيه للحقيقة وهي موجودة فيه. هكذا قرره ابن عمرون في شرحه، قال: (ونظيره "يا رجُل" إذا أردت مُعَينًا، فأيُّ رجُل أقبلتَ عليه وناديتَه كان معرفة؛ لوجود القصد إليه، فكذا أسامة، أي أسد رأيته فإنك تريد هذه الحقيقة المعروفة بكذا، فالتعدد ليس بطريق الأصل). انتهى ¬

_ (¬1) الكتاب لسيبويه (2/ 94).

وأما ابن مالك فقال بعد حكاية نَص سيبويه: إنه جعله خاصًّا شائعًا في حالة واحدة، فخصوصه باعتبار تعيينه الحقيقة في الذهن، وشياعُه باعتبار أن لكل شخص من أشخاص نوعه قسطًا من تلك الحقيقة في الخارج. قلتُ: وهذا يعكر على ما ادَّعاه من كونه مِثل العَلم الشخصي لفظًا ومِثل النكرة في المعنى. وفرق ابن الحاجب في "شرح المفصل" بين أسامة وأسد بأن "أسدًا" موضوع لفرد من أفراد النوع لا بعينه، فالتعدد من أصل الوضع، و"أسامة" موضوع للحقيقة المتحدة في الذهن. واختار الشيخ تقي الدين السبكي أن "عَلم الجنس" ما قُصد به تمييز الجنس عن غيره مع قطع النظر عن أفراده، و"اسم الجنس" ما قُصد به [اسم] (¬1) الجنس باعتبار وقوعه على الأفراد حتى إذا أدخلتَ عليه الألف واللام الجنسية، صار مساويًا لعَلم الجنس؛ لأن الألف واللام الجنسية لتعريف الماهية. وفرّع على ذلك أنَّ "عَلَم الجنس" لا يُثنى ولا يجُمع؛ لأن الحقيقة من حيث هي لا تقبل جَمعًا ولا تثنية، والجمع إنما هو للأفراد (¬2). لكن صرح ابن السمعاني بأن الألف واللام الداخلة على اسم الجنس لعهد الجنس لا للتعريف (¬3). ¬

_ (¬1) في (الإبهاج، 2/ 46): مُسمَّى. الناشر: دار البحوث - الإمارات، الطبعة: الأولى - 1424 هـ/ 2004 م. (¬2) الإبهاج (1/ 20). (¬3) قواطع الأدلة (1/ 34).

وبالجملة فهذه الفروق متقاربة، لكن تحتاج إلى نقل يدل على قصد العرب في وضعها ذلك. قال أبو حيان بعد أن قرر ما حكيناه عن ابن مالك من ترادُف "اسم الجنس" و"عَلم الجنس" وإنِ اختص أحدهما بأحكام لفظية - كَـ "ذِي" بمعنى صاحب- مع افتراقهما في أحكام لفظية، قال: (وقد رام بعض المتنطعين من المتأخرين التفرقة بين أسامة وأسد من جهة المعنى). فذكر ما نقلناه عن ابن الحاجب، ثم قال: (وما أظن العرب قصدت شيئًا من هذا الذي ذكره هذا المتأخر في "عَلم الجنس"، وأيضًا فإنه ما من نكرة إلا ومعناها الذهني مفرد لا متكثر، فلا اختصاص لأسامة بذلك). انتهى وقد علمت أن في كلام سيبويه -إمام اللغة والعربية- الإشعار بالفرق، فكيف يدعي أنه مِن تفرقة المتنطعين؟ ! أي: المتعمقين في الكلام. وأمَّا أن العرب لا تقصد ذلك فقد يُمْنَع بأنها كان لها دقائق في كلامها لا تنحصر وإنْ لم يدل دليل على أنها قصدتها بل يُستدل عليها بالاستقراء لتراكيبها، بل مما وضع لاستخراج تلك الأسرار المستقرأة من كلمها علم المعاني والبيان ونحو ذلك. والخسر وشاهي السابق ذِكره في كلام القرافي هو الإمام العلامة شمس الدين الشافعي أبو محمد، تلميذ الإمام الرازي، روى عنه الحافظ الدمياطي، وأخذ عنه أيضًا الخطيب زين الدين ابن المرحل، رحمهم الله تعالى. والله أعلم.

ص: 396 - أَوْ بِقَرِينَةٍ يُرَى التَّعَيُّن ... فَ "مُضْمَرٌ" وَنَحْوُهُ يُبَيَّنُ الشرح: هذا مقابل لقولي: (إن كان التعين بالوضع)، وهو القسم الثاني من "المعرفة"، أي: وهو ما يكون فيه التعيُّن لا بالوضع بل بقرينة، وهو "المضمر"؛ لأن التعين بقرينة خارجية وهي التكلم (نحو: "أنا")، والخطاب (نحو: "أنت")، والغيبة (نحو: "هو"). ومثله بقية المعارف، كاسم الإشارة، فإنها بقرينة الإشارة إليه، والمعرَّف باللام بقرينة انضمامها إليه، والمضاف بقرينة الإضافة لمعرفة، والموصول بقرينة الصلة أو اللام الفظًا فيما هي فيه كَـ"الذي"، وتقديرًا فيما تَجَرَّد منها كَـ "مَن" و"ما")، والمنادى بقرينة القصد والإقبال. وهذا كله مبيَّن في محله في كتب النحو. وهو معنى قولي: (يُبَيِّن). وأما بيان تفاوتها في التعريف فمبيَّن في محله، وقد عُلم بهذا أن قول جمعٍ كالبيضاوي: (إنَّ الذي لا يستقل بإفادة المعنى بل يحتاج لقرينة هو "المضمر") ليس جيد، بل وغير المضمر كالإشارة وغيره من بقية المعارف كما سبق. تنبيه: اختُلف في "المضمر" هل هو جزئي؟ . أو كُلي؟ فالأكثرون على الأول؛ لأنه لِمُعَيَّن، بل هو أعرف المعارف عند الأكثر، ونقل القرافي والأصفهاني في "شرح المحصول" عن الأوَّلين أنه كُلي، ورجَّحاه. وقال بعض المتأخرين: إنه الصواب؟ لأن نحو: "أنا" و"أنت" ليس لمتكلِّم أو مخاطَب بالتعيين، بل كل مَن كان كذلك،

وهذا حقيقة الكلي، [فالتعيين] (¬1) إنما هو عند الإرادة وتعريفه على حسب الواقع، فأشبه لفظ "الشمس" من حيث إن الواقع منه في الوجود واحد، بل ولا ينبغي أن يختص هذا الخلاف بالضمير، بل كل المعارف غير العَلم كذلك؛ ولهذا قال الشيخ أَبو حيان: الذي نختاره أن الضمير كُليٌّ وضعًا جزئيٌّ استعمالًا. قلت: إذا كان الوضع إنما هو لإفادة المعنى وقت النطق لا لمعنى يشترك في مفهومه كثيرٌ أو يقبل الاشتراك من حيث هو و [كأنّ]، (¬2) الوضع إنما هو لجزئي، والكلي إنما هو الذي وُضع لِمَا لا يمنع تصوُّره مِن وقوع الشَّرِكةَ فيه، فيستوي الوضع والاستعمال في كون ذلك جزئيًا. مثاله: "أنا"، لم تضعْه العرب لمعنًى لا يمنع تصوُّره من وقوع الشَّرِكةَ فيه مع المتكلِّم به، بخلاف "إنسان"، فمن أجل ذلك أدخلنا المعارف كلها في قسم الجزئي، والله أعلم. ص: 397 - وَكُلُّ ذَا عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَعْنَى ... وَاللَّفْظِ، لَا تَعَدُّدٍ إذْ يُعْنَى الشرح: أي: كل ما قُلناه - من تقسيم المفرد إلى كلي وجزئي وتقسيم كل منهما - حيث كان اللفظ واحدًا والمعنى واحدًا، لا حيث تَعدد اللفظ وتَعدد المعنى، ولا حيث اتحد اللفظ وتعدد المعنى، ولا حيث تعدد اللفظ واتحد المعنى. فالقسمة رباعية، سبق منها القسم الأول، والثلاثة الأخرى المشار إليها بقولي: (لَا تَعَدُّدٍ إذْ يُعْنَى) فإنه يشمل التعدد في كل من ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ظ، ض). وفي سائر النُّسخ: التعين. (¬2) كذا في (ز)، لكن في سائر النُّسخ: كان.

اللفظ والمعنى والتعدد في اللفظ فقط والمعنى فقط - يأتي بيانها واحدًا واحدًا، والله أعلم. ص: 398 - فَفِيهِمَا "الْمُبَايِنُ" الْمُنَاصِفُ ... وَاللَّفْظُ وَحْدَهُ هُوَ "الْمُرَادِفُ" الشرح: اشتمل هذا البيت على قسمين: أحدهما: إذا كان التعدد فيهما معًا بشرط مساواة عدد كلٍّ عددَ الآخَر بحيث يكون لكل لفظ معنًى يخصه، فهو المسمى بالألفاظ المتباينة. وهذا معنى قولي: ("الْمُبَايِنُ" الْمُنَاصِفُ)، أي: الذي وقع فيه التناصف من الجانبين بحيث لا يزيد عدد الألفاظ على عدد المعاني، سواء: - تفاصلت، أي: ليس لأحدها ارتباط بالآخَر، كَـ "الإنسان" و"الفرس" ونحو: "ضرب زيد عمرًا". - أو تواصلت، بأنْ كان بعض المعاني صفة للبعض الآخَر، كَـ "السيف" و"الصارم"، فإنَّ "السيف" اسم للحديدة المعروفة ولو مع كونها كالَّةً، و"الصارم" اسم للقاطع، وكَـ "الناطق" و"الفصيح" و"البليغ". والمراد أنَّه يمكن اجتماعها في شيء واحد ونحوه لو كان أحدهما جزءًا من الآخَر كالإنسان والحيوان.

القسم الثاني: أن يكون اللفظ كثيرًا والمعني واحدًا، فيسمى "مترادفًا"؛ لأن كل لفظ مرادف في المعنى للفظ الآخَر، مأخوذ مِن "الرديف" وهو ركوب اثنين دابة واحدة، كَـ "الإنسان" و"البشر"، و"البُر" و"الحنطة"، و"جلس" و"قعد"، و"دخلت النار في هرة" و"لِهرة"، والله أعلم. ص: 399 - ذَا وَاقِعٌ كَمَثَلِ "اجْلِسْ" وَ"اقْعُدِ" ... وَاغْنَ بِكُلٍّ غَيْرِ ذِي تَعَبُّد الشرح: اشتمل هذا البيت أيضًا على [مسألتين متعلقتين] (¬1) بالمترادف: إحداهما: أنَّه واقع في كلام العرب في الأسماء والأفعال والحروف، ففي الأسماء: جلوس وقعود، وفي الأفعال: جلس وقعد، وهو ما مَثَّلتُ به في النَّظم بقولي: ("اجْلِسْ" وَ"اقْعُدِ")، وفي الحروف: "إلى" و"حتَّى" لانتهاء الغاية. هذا أصح المذاهب في المسألة وقول الجمهور، وفي "سنن أبي داود" و"التِّرمِذي" و"ابن ماجة" من حديث العباس - رضي الله عنه -: "كنا جلوسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبطحاء، فمرت سحابة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أتدرون ما هذا؛ فقلنا: السحاب. قال: والمزن. قلنا: والمزن. قال: والعنان" (¬2) الحديث. الثاني: أن المترادف لم يقع مطلقًا، لأنَّ وضع اللفظين لمعنى واحد غش يجل الواضع ¬

_ (¬1) في (ز، ق): أمرين متعلقين. (¬2) سنن أبي داود (4723)، سنن التِّرمِذي (3320)، سنن ابن ماجة (193)، وغيرها. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف أبي داود: 4723).

عنه، ولأنه لا فائدة فيه. ورُدَّ بأن الأكثر في سبب المترادف أن يقع مِن واضعَين. قال الإمام الرازي: ويلتبسان. واعتُرض بأنه لا معنى للالتباس. وقد يكون مِن واضع واحد لفائدة التوسعة في التعبير عن المعاني المطلوبة حتَّى نُقل عن واصل بن عطاء المعتزلي - وكان ألثغ في الراء - أنَّه كان يجتنبها بالإتيان بالمرادف الذي لا راء فيه. والثالث ونُقل عن شذوذ: امتناع وقوع المترادف في اللغة؛ لِما سبق في المذهب الذي قبله وسبق رده. ومن فوائده أيضًا تيسير النظم للروي والنثر للوزن والجناس والمطابقة. واختار هذا القول ابن فارس في "فقه العربية" وحكاه عن شيخه ثعلب، وكذا حكاه عنه ابن السراج. ورُد عليه بأنَّ اللغة طافحة به، كَـ "مضى" و"ذهب" ونحو ذلك. وممن منع ذلك أيضًا الزجاج، وصنَّف في رده كتابًا سماه "الفروق"، كجلوس وقعود، ف "القعود" ما كان عن قيام، و"الجلوس" ما كان عن نوم ونحوه؛ لدلالة المادة على معنى الارتفاع. قال: وإليه ذهب المحققون مِن العلماء. وأشار إليه المبرد وغيره حتَّى إنَّ بعض أهل العربية فرَّق بين صيغ المبالغة مثلًا فجعل فعولًا كَـ "صبور" على معنى القوة في الفعل، وفَعَّالًا لِمَا يمرر منه كَـ "علَّام"، ومِفعالًا لما كان عادةً له كَـ "مِغْوار"، وأشباه ذلك. ولهذا قال أيضًا المحققون: إن حروف الجر لا تتعاقب.

وقال سيبويه: في جواز تعاقبها إبطال حقيقة اللغة وإفساد الحكم فيها. وممن اختار ذلك مِن المتأخرين الخُوَبي في "الينابيع"، وقال: أكثر ما يظن أنه مترادف مختلف، لكن وجه الاختلاف خفي. وبالجملة فلا يخفَى بُعْدُ ما ذكروه وصحةُ القول بوقوع الترادف. نعم، هو على خلاف الأصل، حتى إذا دار اللفظ بين أنْ يُجعل مترادفًا أو متباينًا، يرجَّح التباين؛ لأنه الأصل. تنبيهات الأول: محل الخلاف في وقوعه مِن لغة واحدة، أمَّا مِن لغتين فلا ينكره أحد. قاله الأصفهانى (¬1)، وكذا العسكري مع أنه ممن ينكر المترادف. الثاني: يقع الترادف أيضًا في الأسماء الشرعية كما في اللغة. وقيل: لا. واختاره في "المحصول" (¬2)، ولكنه مخالف لقوله: (إن الفرض والواجب مترادفان، خِلافًا لأبي حنيفة) (¬3). الثالث: إذا قلنا بوقوعه في اللغة، فهل وقع في القرآن؟ نقل أبو إسحاق - الشهير بابن المرأة - في أول كتاب "الإرشاد" عن أبي إسحاق الأسفراييني منعه، وهو ظاهر كلام المبرد وغيره ممن يُبدِي لكل لفظ معنًى مغايرًا. ¬

_ (¬1) الكاشف عن المحصول (2/ 120). (¬2) المحصول في أصول الفقه (1/ 439). (¬3) المحصول في أصول الفقه (1/ 119).

لكن الصحيح الوقوع؛ لقوله تعالى: " {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ} [النحل: 36] (¬1)، وفي الآية الأخرى: {أَرْسَلْنَا} [الأنعام: 42] وهو كثير. المسألة الثانية: مما ذُكر في النظم أن أحد المترادفين هل يقوم مقام الآخر؛ فأما من حيث هو فبلا خلاف كما قاله ابن الحاجب في "المنتهى" (¬2) وغيره. وأما إذا فرض أحدهما في تركيب فهل يلزم صحة وقوع الآخَر في محله في ذلك التركيب؟ فيه مذاهب: أصحها: نعم، وربما يعبَّر عن ذلك باللزوم كما قال في "المحصول" (¬3) وأتباعُه، والمراد: يلزم أن يصح وقوع كل من الرديفين مكان الآخَر؛ لأن كل واحد معناه معنى الآخر، وكل ما في أحد المثلين من حيث هما مِثلان يجب أن يكون في الآخر ضرورةً. وصححه ابن الحاجب. الثاني: المنع، واختاره في "الحاصل" و"التحصيل" تبعًا "للمحصول" في موضع وإنْ صرح في موضع آخَر بخلافه. والثالث: يصح إذا كان مِن لغة واحدة، لا من لغتين. واختاره البيضاوي والهندي. الرابع: الجواز ما لم يكن تُعُبِّد بلفظه. ¬

_ (¬1) في جميع النُّسخ: (ولقد بعثنا في كل قرية). (¬2) مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (1/ 230)، الناشر: دار ابن حزم. (¬3) المحصول في أصول الفقه (1/ 352)، الكاشف عن المحصول (2/ 126) حيث فسر الوجوب باللزوم.

ويتفرع على هذه القاعدة مسائل: منها: عقود البياعات ونحوها مما لم يُتعبد بلفظه، يجوز فيها استعمال أحد الرديفين مكان الآخر. أما ما تُعبد بلفظه فالمنع منه لأمر خارجي؛ لأن جوهر لفظه مقصود، فلو تغير لَاخْتَل المراد، وهو منشأ الخلاف في انعقاد النكاح بالعجمية، والصحيح الجواز. ثالثها: لمن لم يُحسن العربية، بناءً على أن ذلك اللفظ مُتعبَّد به أو لا. ومنعوا لذلك قراءة القرآن بالعجميَّة؛ لِتَعَيُّن لفظه، خِلافًا لمن أجازه، ونحوه التكبير والتشهد. تنبيه: مما يشبه المترادف وليس منه: الحد والمحدود، كَـ "الإنسان حيوان ناطق"، ولا خلاف في وقوعه، وإنَّما لم يجعل مترادفًا؛ لأن الترادف مِن عوارض المفردات؛ لأنها الموضوعة كما سبق، والحدُّ مركَّب. ولو سُلِّم فالمترادف ما اتحد فيه المعنى، ولا اتحاد؛ لأن المحدود دَلَّ مِن حيث الجملة والوحدة المجتمعة، والحد دَلَّ من حيث التفصيل بذكر المادة والصورة مِن غير وحْدة. ومن ذلك أيضًا: التوابع، نحو حسن بسن، وشيطان ليطان، وخاز باز، ونحو ذلك. وزَعْم بعضهم أنَّه من المترادف. ورُدَّ بأن التابع وحده غير مفيد، إنما يتبع للتقوية. وصنف فيه ابن خالويه كتابًا سماه "الإتباع والألباع"، وكذلك عبد الواحد اللغوي وابن فارس. وهو في ثلاثة ألفاظ كثير، كَـ: حَسَن بَسَن فَسَن.

ولم يسمع في أكثر من خمسة، نحو: كثير [بثير] (¬1) برير بجير [بذير] (¬2). وقيل: [بحير] (¬3). ومن ذلك: التأكيد، نحو: قام القوم كلهم أجمعون أكتعون أبصعون أبتعون. فليس أيضًا من المترادف؛ لعدم استقلاله كما سبق في الذي قبله، والله أعلم. ص: 400 - أَمَّا الَّذِي الْمَعْنَى فَقَطْ تَعَدَّدَا ... فَإنْ يَكُنْ بِالْوَضْعِ قَدْ تَفَرَّدَا 401 - فَذَلِكَ "الْمُشْتَرَكُ" الْمَشْهُورُ ... وُقُوعُهُ فِيمَا تُلي مَسْطُورُ الشرح: هذا هو القسم الرابع: وهو المتحد لفظه المتعدد معناه، وله أنواع: الأول: أن يُوضع لكل واحد مِن ذلك المعنى المتعدد، فيسمى "المشترك"، وأصله أن يقال: "المشترك فيه"، فحذف لفظة "فيه"؛ توسعًا؛ لكثرة دوره في الكلام أو لكونه صار لقبًا كما قاله ابن الحاجب في "شرح المفصل" (¬4)، نحو "القُرْء" للطهر والحيض، و"العين" للباصرة وعين الذهب وعين الشمس وعين الميزان، وغير ذلك كما هو مشهور. ¬

_ (¬1) في (ز، ق): عمير. (¬2) كذا في (ص، ت). لكن في سائر النسخ: بدير. (¬3) في (ز): مجير. (¬4) الإيضاح في شرح المفصل (2/ 288) الناشر: دار سعد الدين - دمشق، الطبعة: الأولى 1425/ هـ - 2005 م. أو: (2/ 291)، الناشر: وزارة الأوقاف والشئون الدينية - العراق.

نعم، قال الإمام فخر الدين في "تفسيره": إنه حقيقة في الباصرة، مجاز في غيرها (¬1). وإلى هذا النوع أشرتُ بقولي: (بِالْوَضْعِ قَدْ تَفَرَّدَا) أي: كل فرد من المعنى المتعدد هو موضوع له، لا لمجموعها، نحو: "العشرة" فإنها لمجموع ذلك العدد، لا لكل واحد منه. واحترزتُ بالوضع عما لو وُضع لواحد فقط ثم نُقل إلى غيره، فإنه لا يكون "مشتركًا"، وسيأتي بيانه. وقولي: (وُقُوعُهُ فِيمَا تُلي مَسْطُورُ) متضمن لمسألتين في "المشترك": إحداهما: أنَّه واقع في اللغة، ويَلزم من ذلك أنَّه جائز الوقوع؛ لأن مِن لازِم الوقوع الجواز بالضرورة. والمسألة الثانية: أنَّه مع وقوعه في اللغة وقع في القرآن، وهو معنى قولي: (فِيمَا تُلي)؛ لأن المتلو هو القرآن، فاكتفيتُ بأَخَص المسألتين عن أَعَمهما، فتصير المسائل ثلاثًا: - هل هو جائز الوقوع في اللغة؟ أم لا؟ - وإذا جاز، فهل وقع فيها؟ أم لا؟ - وإذا وقع فيها، فهل وقع في القرآن؟ أم لا؟ وما قلتُه هو الأصح في الثلاث، ولا بأس ببسطها قليلًا. الأولى: المخالف فيها ثعلب وأَبو زيد البلخي والأبهري على ما حكاه كثيرٌ عنهم. وفَصل الإمام الرازي، فمنعه في النقيضين فقط، قال: لخلوه عن الفائدة؛ (لأن سماعه ¬

_ (¬1) التفسير الكبير (29/ 34).

لا يفيد غير التردد بين الأمرين، وهو حاصل بالعقل، فالوضع له عبث) (¬1). لكن هذا إنما يكون عند اتحاد الواضع، أما إذا تَعدد - وهو السبب الأكثري - فلا، وذلك كالسُّدْفة (بضم [السين المهملة وسكون الدال المهملة] (¬2) وبعدها فاء)، ففي "الصحاح": (إنها في لُغة نجد: الظُّلمة، وفي لُغة غيرهم: الضوء) (¬3). وعلى تقدير أن يكون الواضع واحدًا فلا نُسَلم انتفاء الفائدة، بل له فوائد هي لأصل وضع المشترك. منها: غرض الإبهام على السامع حيث يكون التصريح سببًا لمفسدة. ومنها: استعداد المكلَّف للبيان كما قاله الإمام الرازي وغيره. نعم، منع المبرد -وغيرُه مِن أئمة اللغة- وقوعه مِن واضع واحد، وحكاه الصفار في "شرح سيبويه". الثانية: أنَّه واقع في اللغة كثيرًا في الأسماء كما سبق وفي الأفعال، كَـ "عسعس" لأَقْبَل وأَدْبَر، و"عسي" للترجي والإشفاق، و"المضارع" للحال والاستقبال على أرجح المذاهب الخمسة فيه. وكذا وقوع الفعل الماضي خبرًا ودعاءً، نحو: "غفر الله لنا ولك"، وإنشاءً، نحو: "بعتُ". وفي الحروف على طريقة الأكثر كما سنذكره في فصل الأدوات، كَـ "الباء" للتبعيض وبيان الجنس والاستعانة والسببية وغيرها. ¬

_ (¬1) المحصول في أصول الفقه (1/ 368). (¬2) في (ص، من، ض): السين المهملة وسكون الدال. وفي (ت، ظ): السين وسكون الدال المهملة. (¬3) الصحاح تاج اللغة (4/ 1372).

وذهب قوم إلى المنع، وحُكي عن ثعلب والأبهري والبلخي أنهم لا يحيلون وقوعه كما سبق نقله عنهم، بل يمنعون وقوعه وَيرُدُّون ما نُقل من ذلك إلى المتباين لكن بتكلُّف في الفرق وتعسُّف. ثم القائلون بالوقوع اختلفوا، فقيل: واجب الوقوع، لأن الألفاظ قليلة والمعاني كثيرة، فإذا وُزَعت، حصل الاشتراك. وهو ظاهر الفساد، لا حاجة إلى الإطالة فيه. ومنهم مَن رَدَّ القول بوجوب الوقوع والقول بالإحالة إلى أنَّه هل وقع؟ أو لا؟ فإنَ الواقع يجب أن يكون موجودًا، وما لم يقع يمتنع أن يكون موجودًا، ولذلك لم يَحْكِ ابنُ الحاجب إلَّا قول الوقوع وعدمه. ورُدَّ بأن سبب الوجوب أمر زائد على ذلك، وكذا سند المنع كما بيَّناه، فالتغاير ظاهر. الثالثة: حُكي عن ابن داود الظاهري أنَّه لم يقع في القرآن. ورُدَّ بنحو "القُرْء" و"الصريم" و"عسعس" وغيره مما سبق مِن اشتراك الفعل الماضي في الخبر والدعاء، نحو: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [النور: 9]، على قراءة تخفيف النون وكسر الضاد من "غَضبَ"، ومن اشتراك الحروف. ونقل عن قوم منعُه في الحديث، ولَعلَّهم هم المانعون في القرآن؛ لأن الشُّبهة في ذلك واحدة كما قاله صاحب "التحصيل" وهي أنَّه لو وقع فإما أن يقع مُبَينًا فيطول الكلام بغير فائدة، أو غير مُبيَّن فهو غير مفيد (¬1). ¬

_ (¬1) التحصيل من المحصول (1/ 219 - 220).

وأُجيب بأنَّ فائدته إجمالية كما في فائدة أسماء الأجناس، وأيضًا فمن فائدته في الأحكام الاستعداد للامتثال إذا بُيِّن المراد. تنبيه: المشترك ولو ثبت وقوعه فإنه على خلاف الأصل، أي: الغالب خِلافه، حتَّى إذا جُهل كَوْنه مشتركًا أو منفردًا، رُدَّ إلى الغالب. واختلف في وقوعه في الأسماء الشرعية، فقال الإمام الرازي: الحقُّ الوقوع؛ لأن لفظ "الصلاة" مستعمَل في معانٍ شرعية مختلفة بالحقيقة ليس فيها قَدْر مشترك بين الجميع، والله أعلم. ص: 402 - كَـ "الْقُرْءِ"، ذَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَا ... كُلُّ مَعَانِيهِ لِمَنْ أَرَادَا 403 - ثُمَّ إذَا خَلَا عَنِ الْقَرَائِنِ ... فَاحْمِلْ عَلَى الْكُلِّ مَعَ التَّبَايُنِ 404 - لَا إنْ تَنَافَيَا كَـ "أَعْطِ عَيْنَا" ... يُعْطَى الَّذِي يُمْكِنُ أنْ يَبِينَا الشرح: قولي: (كَـ "الْقُرْءِ") مثال لما سبق مِن وقوع المشترك في القرآن، وقد سبق بيانه. وقولي: (ذَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَا) إلى آخِر الأبيات الثلاثة - فيه مسألتان متعلقتان بالمشترك: الأولى: يصح أن يريد المتكلم بالمشترك جميع معانيه إذا أمكن، فلو كان ذا معنيين فكذلك. فليس قولي: (مَعَانِيهِ) قَيْدًا، فاستعمال المشترك في أحد معنييه أو معانيه جائز قطعًا، وهو

حقيقة؛ لأنه فيما وُضع له. وأما إطلاقه على الكل معًا في حالة واحدة ففيه مذاهب: أحدها وهو الصحيح: يصح، ونُسب للشافعي، وقطع به مِن أصحابه ابن أبي هريرة في "تعليقه"، ومَثَّله بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]، [فإن الصلاة من الله تعالى الرحمة ومن الملائكة دعاء] (¬1) وإن كان في الاستدلال بذلك مباحث مشهورة، وكذلك لفظ "شهد" في {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18]، إذ شهادته تعالى علمه وغرره إقرارٌ بذلك، وقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22]، النكاح: العقد والوطء مرادان منه إذا قُلنا: مشترك. وقطع بذلك أيضًا القاضي أَبو بكر، ونقله إمام الحرمين في "التلخيص" عن مذهب المحققين وجماهير الفقهاء، ونقل ابن القشيري عن القاضي أنَّه قال: (إنه المختار عندنا إذا دلت عليه قرينة) وإن نازع ابن تيمية في صحة ذلك عن القاضي. وحُكي هذا أيضًا عن أكثر المعتزلة وأكثر أصحاب أبي حنيفة، وحكاه أَبو سفيان في "العيون" عن أبي يوسف ومحمد، وحملوا مَن حلف "لا يشرب من النهر" على الكرع والشرب من الإناء وإن كان أَبو حنيفة يحمله على الكرع وحده، ونسبه القاضي عبد الوهاب لمذهبهم، قال: وهو قول جمهور أهل العلم. وقد قال سيبويه: يجوز أن يراد باللفظ الواحد الدعاء على الغير والخبر عن حالِه في نحو: "الويل له". ثم اختلف المجوِّزون، فقيل: إن ذلك بطريق الحقيقة. ¬

_ (¬1) كذا في جميع النُّسخ، والعبارة في (البحر المحيط، 1/ 493) للزركشي: (فَكَانَت الصَّلَاةُ مِن الله رَحْمَةً، وَمن الْمُؤْمِنِينَ دُعَاءً، وَمن الْمَلَائِكَةِ اسْتِغْفَارًا).

قال الأصفهاني: (وهو اللائق بمذهب الشَّافعي) (¬1)؛ لأنه يوجب حمله على الجميع كما سنذكره. ونقله أيضًا عن الشَّافعي والقاضي، ونقل صاحب "التلخيص" عن الشَّافعي أنَّه بطريق المجاز، وإليه مال إمام الحرمين، واختاره ابن الحاجب، وتبعه في "جمع الجوامع". المذهب الثاني: المنع. ونصره ابن الصباغ في "العُدة"، وبه قال أَبو هاشم والكرخي وأَبو عبد الله البصري والإمام الرازي وغيرهم، وحكاه الكرخى عن أبي حنيفة، ونقل عن جمع مِن أصحابه. ووقع في "الرافعي" في "باب التدبير" أن: (الأشبه أن اللفظ المشترك لا يراد به جميع معانيه، ولا يُحمل عند الإطلاق على جميعها) (¬2). وقال في "باب الوصية" في مسألة الوصية بِعُود: (في حمل المشترك على الجميع نظرٌ للأصوليين) (¬3). ولم يرجح شيئًا، فلا ينبغي أنْ يُعوَّل على ذلك، لِمَا سبق من النقل عن الشَّافعي والأصحاب من مخالف ذلك. واختلف المانعون في سبب المنع: فقيل: لأنه لا يصح أن يقصد من حيث اللغة؛ لكونه لم يوضع إلَّا لواحد. قاله الغزالي وأَبو الحسين البصري. وضُعِّف بأنه لم يخرج بذلك عن استعمال اللفظ فيما وُضع له. ¬

_ (¬1) الكاشف عن المحصول (2/ 154). (¬2) العزيز شرح الوجيز (13/ 414). (¬3) العزيز شرح الوجيز (7/ 79).

وقيل: السبب أنَّه استعمال في غير ما وضع له، وهو على البدل؛ فيكون مجازًا. وهو في الحقيقة راجع لما قَبْله، وفيه تسليم الجواز ولكن مجازًا كما سبق أنَّه أحد القولين تفريعًا على الجواز. المذهب الثالث: أنَّه يجوز استعماله في معنييه إنْ كان معه قرينة متصلة. وهو ظاهر كلام الإمام في "البرهان"، وسبق نقل ابن القشيري له عن القاضي. الرابع: يجوز في النفي دون الإثبات؛ لأن النكرة في النفي تَعُم. ورُدَّ بأن النفي لا يرفع إلَّا ما يقتضيه الإثبات. وقد حكى هذا القول ابن الحاجب، وإنَّما هو احتمال لصاحب "المعتمد" تبعه عليه الإمام الرازي. نعم، الماوردى حكاه وجهًا لأصحابنا في "كتاب الأشربة"، وهو ظاهر كلام الحنفية، فحكى ثلاثة أَوْجُه، ثالثها: الفرق بين الجمع والسلب. الخامس: يجوز إنْ كان المشترك جمعًا (كَـ "اعْتَدِّي بالأقراء") أو مثني (كَـ "قُرْءَين")، لا إن كان مفردًا؛ لأن الجمع في حكم تعدد الألفاظ، وهو وجه لأصحابنا فيما حكاه الماوردي كما سبق، وهو مُفرع على جواز تثنية المشترك وجمعه باعتبار معنييه أو معانيه. وقد منعه أكثر النحاة كما حكاه ابن الحاجب في "شرح المفصل" واختاره، ورجح ابن مالك الجواز مطلقًا كما في حديث: "الأيدي ثلاث" (¬1)، وحديث: "ما لنا إلَّا الأسودان" (¬2). واستعمل الحريري ذلك في "المقامات" في قوله: (فانثني بلا عَيْنين). يريد الباصرة والذهب. وفصل ابن عصفور بين أن يتفقَا في معنى التسمية (نحو: الأحمران الذهب والزعفران) فيجوز، أو لا فلا (كالعين الباصرة والذهب). ¬

_ (¬1) مسند أحمد (4261)، سنن أبي داود (1649) وغيرهما. (¬2) مسند أحمد (9248)، صحيح ابن حبان (683) وغيرهما، وبنحوه في صحيح البخاري (2428).

ولا يخفى ما فيه من نظر؛ لأن الإطلاق إن كان باعتبار ذلك الوصف فليس ذلك من المشترك اللفظي، بل من المعنوي الذي هو المتواطئ، وإن كان لا باعتباره فلا موقع لهذا التفصيل. ووجه تفريع هذا المذهب على هذا الخلاف واضح. ومنهم من يعكس البناء، فيجعل تثنية المشترك وجمعه مبنيًّا على استعماله في كل معانيه أو لا. قال ابن الحاجب: (والأكثر أن جمعه باعتبار معنييه مبني عليه) (¬1). أي: على الخلاف في المفرد، إنْ جاز، ساغَ وإلَّا فلا. ووجْه البناء أن التثنية والجمع تابعان لما يسوغ استعمال المفرد فيه. وقال بعضهم: يجوز وإنْ لم يَجُز في المفرد؛ لأنه كما سبق في حُكم ألفاظ متعددة. السادس: التفصيل بين أن يتعلق أحد المعنيين بالآخَر فيجوز، نحو: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]، فإنَّ كلًّا من اللمس باليد والوطء لازِمٌ للآخَر، والنكاح للوطء والعقد كذلك. وإنْ لا فلا. حكاه بعض شراح "اللمع". ولا يخفَى - مع غرابته - ضعفُه. السابع: الوقف. واختاره الآمدي. تنبيه: محل هذا الخلاف استعمال المشترك في كل من معنييه أو معانيه في حالة واحدة، لا في الكل المجموعي كَـ "الخمسة"؛ لأن كل واحد حينئذٍ جزء مِن المدلول، بخلاف استعماله في الجميع؛ لأن كل واحد تمام المدلول. ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى (2/ 162) مع (بيان المختصر).

نعم، ادَّعى الأصفهاني في "شرح المحصول" أنَّه رأى في مصنف آخَر لصاحب "التحصيل" أن الخلاف في الكل المجموعي، قال: الأن أكثرهم صرحوا بأن المشترك عند الشَّافعي كالعام) (¬1). قلتُ: هذا عليه، لا لَهُ؛ فإن دلالة العام من دلالة الكلي على جزئياته، لا الكل على أجزائه، وإلَّا لَتَعذر الاستدلال بالعام على بعض أفراده. وأما إذا لم يستعمل في وقت واحد بل في وقتين مثلًا، فإنَّ ذلك جائز قطعًا. ومما اختلف فيه القائلون بالجواز أن ذلك هل هو بإرادة واحدة لكل المعاني؛ أو لكل معنى إرادة؟ وهو من الخلاف الذي لا طائل تحته. المسألة الثانية: هل يجب على سامع المشترك المكلَّف بمعناه عملًا أو اعتقادًا أن يحمله على معنييه أو معانيه؟ وهي ما أشرتُ إليه في النَّظم بقولي: (ثُمَّ إذَا خَلَا عَنِ الْقَرَائِنِ) إلى آخِره، وتحته صُوَرٌ: - أن لا يكون هناك قرينة لا بإعمال ولا بإلغاء. - أو قرينة بإعمال في متعدد. - أو بإلغاء بعضٍ وغيرُه متعدد، لا قرينةٌ في بعضه. وعُلم من ذلك أنَّه: - إذا دلت على إرادة واحد مُعَين قرينةٌ، وجب الحمل عليه. - أو إلغاء البعض وبقي واحد مُعَين، فكذلك. ¬

_ (¬1) الكاشف عن المحصول (2/ 155).

- أما لو دلت قرينة على أن المراد واحد لا الكل ولا مُعَين ولكن مُبْهَم، فهو مُجْمَل قطعًا؛ لعدم إمكان حمله على مُعَين بلا دليل وعلى الكل. وحاصل ما في مسألتنا - المقيدة بما سبق - مذاهب: أصحها: وجوب الحمل على الكل. نقله الرافعي في "المناقب" عن القاضي عبد الجبار، ونقله البيضاوي عن الجبائي، قال ابن القشيري: وعليه يدل كلام الشَّافعي؛ فإنه حمل {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} على الجس باليد الذي هو فيه حقيقة وعلى الوقاع الذي هو فيه مجاز. قال: وإذا قال ذلك في الحقيقة والمجاز، ففي الحقيقتين أَوْلى. وقال الأستاذ أَبو منصور: إنه قول أكثر أصحابنا. قال: ولهذا حملنا اللمس على الجماع والجس باليد. ونقله غيرهما أيضًا عن الشَّافعي والقاضي صريحًا، لكن قال القرطبي: الحقَّ أن في النقل عنهما في هذا خللًا. وقال أَبو العباس بن تيمية: (ليس للشافعي فيه نَص صريح، بل مستنبط من قوله فيما لو أوصى لمواليه وله مَوَالٍ من أعلى وَموَالٍ من أسفل أو وقف والأمر كذلك: إنه يصرف للجميع. ولكن يجوز أن يكون ذلك لكون المولى عنده لفظًا متواطئًا؛ لِمَا بينهما من القَدْر المشترك وهو الموالاة والمناصرة) (¬1). ونقله ابن الرفعة في "الكفاية" عن شيخه الشريف عماد الدين. وقيل: يحتمل أن ذلك لكون المضاف يَعُم. ولا يخفى ما فيه؛ فإن العموم تابع للمدلول المراد. ¬

_ (¬1) المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 189).

قال: (والنقل عن القاضي أيضًا غير سديد؛ لأنَّ مِن أصله الوقف في صيغ العموم وأنه لا يحملها على الاستغراق، فكيف يجزم في المشترك بالحمل على معانيه؟ ! ). قال: (والذي في كُتبه أن المشترك لا حقيقة له، وإنَّما هو متواطئ باعتبار معنًى مشترك بين الأفراد). انتهى نعم، أجاب الأبيارى والقرافي عن القاضي بأنه إنما ينكر وضعها، لا الاستعمال، والكلام فيه، والحمل فرع عنه. لكن بعض المحققين قال: إن الذي في كلام القاضي في "التقريب" ونقله عنه الإمام في "التلخيص" أنَّه إنما يحمل على الكل بقرينة وإلَّا فيتوقف، فلم يخرج عن قاعدته في الصيغ. وأما إنكار ما عُزي للشافعي فَردَّه بعض شيوخنا بنصوصه، إذْ قال في "الأم" في "الكتابة" في قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] أن المراد بالخير الأمانة والقوة، إذ قال ما نَصه: (وأظهر معاني الخير قوة العبد - بدلالة الكتاب -[للاكتساب] (¬1) مع الأمانة، فأحب أن لا يمتنع من مكاتبته إذا كان هكذا). انتهى وفي "الأم" أيضًا في حديث حكيم بن حزام: "لا تَبع ما ليس عندك" (¬2). قال الشَّافعي: (فكان نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع المرء ما ليس عنده يحتمل أن يبيع بحضرته فيراه المشتري كما يراه البائع عند تبايعهما) (¬3). أي: فيكون المعتبر في سلامته من النهي أن يكون كذلك. ¬

_ (¬1) كذا في (ص). لكن في سائر النُّسخ: الاكتساب. ولفظ الشافعي في (الأُم، 8/ 31): (كَانَ أَظْهَرُ مَعَانِيهَا - بِدَلَالَةِ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ مِن الْكِتَابِ - قُوَّةً عَلَى اكْتِسَابِ المَالِ وَأَمَانَةً). (¬2) سنن أبي داود (3503)، سنن التِّرمِذي (1232) وغيرهما، وصححه الألباني (إرواء الغليل، 1292). (¬3) النص في (الرسالة، ص 339).

قال: (ويحتمل أن يبيع ما ليس عنده ما ليس يملك [لغيبته] (¬1)، فلا يكون موضوعًا مضمونًا على البائع يُؤخَذ به ولا في مِلكه، فيلزمه أن يسلمه إليه؛ لأنه كغيبته) (¬2). انتهى وعَنَى هذين المعنيين (¬3). وكذا في {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} كما سبق، وغير ذلك. قلتُ: ولكن هذه المواضع كلها قد ترجع إلى المتواطئ، ألا ترى إلى قوله: (إن الخير القوة)؟ ثم جعل القوة أمرين: الاكتساب والأمانة، وكذا الباقي لمن تأمله. الثاني: ونقله الهندي عن الأكثرين، أنَّه لا يُحمل أصلًا. وقد سبق ما في "باب التدبير" من"الرافعي" وأنه مُعترَض بأنَّ ذلك إنما هو قول الحنفية كما قاله أَبو زيد الدبوسي في "تقويم الأدلة"، قال: (ولهذا قال علماؤنا: مَن أوصى لمواليه وله موالٍ مِن أعلى وأسفل، أن الوصية باطلة. وإذا قال لامرأة: "إنْ نكحتك فأنت طالق" لم ينصرف للعقد والوطء جميعًا؛ لأنهما مختلفان) (¬4). انتهى وبه قال الإمام أيضًا؛ تفريعًا على جواز الاستعمال. الثالث: الوقف؛ إذ ليس بعضها بِأَوْلى مِن بعض، فيجب التوقف حتَّى يدل الدليل على الكل أو البعض. الرابع: إن كان بلفظ المفرد فمُجْمَل، أو بلفظ الجمع فيجب الحمل. وبه قال القاضي من ¬

_ (¬1) في (ز): تعينه. (¬2) الرسالة (ص 339). (¬3) كذا في جميع النُّسخ، وعبارة الشَّافعي في (الرسالة، 339 - 340): (ويحتمل أن يبيعه ما ليس عنده: ما ليس يملك بِعَيْنه، فلا يكون موصوفًا مضمونًا على البائع يُؤْخَذُ به، ولا في مِلْكِهِ، فيلزم أن يُسَلِّمَهُ إليه بِعَيْنه، وغيْرَ هذين المعنيين). (¬4) تقويم الأدلة (ص 95).

الحنابلة. فإنْ قيل: إذا كان المرجَّح في مذهب الشَّافعي الحمل على الكل، فَلِمَ لا حمل ما لو قال: "أنت طالق في كل قرء طلقة" على أنَّها تُطلق في الطُهر طلقة وفي الحيض طلقة؟ قلتُ: إما حملًا للقُرء على أنَّه حقيقة في الطهر فقط؛ فلا يدخل الحيض، وإما لكون قرينة كَوْنه في الحيض بِدعيًّا عَيَّنَتْ إرادة الطهر ولو قُلنا: مشترك. تنبيهان الأول: القائلون بوجوب الحمل على الجميع اختلفوا في سبب ذلك: هل هو لكونه من باب العموم؟ أو أن ذلك احتياط؟ فبالأول قال إمام الحرمين وابن القشيرى والغزالي والآمدي، وجرى عليه ابن الحاجب حتَّى إنه ذكر المسألة في باب العموم. وقال الأستاذ أَبو منصور: إنه قول الواقفية في صيغ العموم. وتوجيه ذلك أن نسبة المشترك إلى معانيه كنسبة العام إلى أفراده، وعند التجرد يَعُم الأفراد، فكذا المشترك، والجامع صِدق اللفظ بالوضع على كل فرد كما يصدق العام على كل فرد مِن أفراده وإنِ افترقا مِن حيث إنَّ العام صِدقه بواسطة أمر اشتركت فيه، والمشترك صِدقه بواسطة الاشتراك في أن اللفظ وُضع لكل واحد. فعُلِم من هذا التقرير الرد على مَن ضَعَّف ذلك بأن العام إنما دَلَّ بالقدر المشترك والمشترك ليس مثله، حتَّى قال النقشوانى: لا يَبعُدُ أن الأئمة لم يريدوا العموم حقيقة، وإنَّما هذه الزِّيادة من جهة النَّقَلة عنهم لَمَّا رأوا أنهم يقولون بإطلاق المشترك على معنييه، ظنوا أنهم ألحقوه بالعام في معنى استغراقه لمدلولاته ووجوب الحمل على جميع معانيه.

وبالثاني - وهو كونه احتياطًا - قال الإمام الرازي، وينقل ذلك عن القاضي أيضًا، لكن سبقت المنازعة في ثبوت قوله بالحمل. الثاني: محل الحمل على الكل - عند القائل به - حيث لا يكون بين المعنيين أو المعاني تنافٍ، كاستعمال لفظ "افْعَل" في الأمر والتهديد، وهذا قيد في الاستعمال أيضًا. وإلى ذلك أشرتُ بقولي: (لَا إنْ تَنَافَيَا). أي: فإنه لا يُستعمل ولا يُحمل، فهو راجع للمسألتين. وهذا التقييد ذكره ابن الحاجب بقوله: (إن صح الجمع) (¬1)، والبيضاوي بقوله: (في جميع مفهوماته الغير المتضادة) (¬2) وإنْ لم يذكره إمامه، لكن في عبارته - مع ضَعْفها بإدخال "ال" على "غَيْر" - خَلَل؛ فإنَّ التضاد لا يلزم منه التنافي، بدليل أنَّه لو قال: (اعْتَدِّي بِقُرْء) وأراد الحيض والطهر معًا، صح، أو قال: (الجونُ ملبوسُ زيد) وأراد الأبيض والأسود، فكذلك، إلَّا أن يُريد بتضادهما في العمل بهما، أي: بالنسبة إلى الجمع، فيعود إلى معنى التنافي، ولهذا مَثَّل الإمام وغيره محل النزاع بلفظ "القروء" مع وجود التضاد من حيث هو. ويؤخذ مِن قيد عدم التنافي أن بعض المعاني إذا تعذر أن يُراد مع الآخَر، كان خارجًا من المسألة قطعًا، كما لو قال لوكيله: (أَعْطِه عَيْنًا)، فإنما يحمل على ما يمكن أن يَبِين مِن محله ويُعْطَى، كعين الذهب وعين الميزان والعين الجارية على معنى تمليكها له أو نحو ذلك، لا عين الشمس ولا العين الباصرة ولا عين الركبة ونحوها، فإنه لا يكون مرادًا. وهو معنى قولي: (يُعْطَى الَّذِي يُمْكِنُ أنْ يَبِينَا). إذا علمتَ ذلك، فمما يتخرج على القاعدة في جانب الممكن: إذا قال: (أنتِ عَلَيَّ كظهر أُمي خمسة أشهر) مثلًا وقُلنا بصحة الظهار المؤقت وهو ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى مع شرحه (2/ 162). (¬2) منهاج الوصول (ص 152) بتحقيقي.

الصحيح، فإنه يكون مع ذلك موليًا؛ لامتناعه من الوطء مدة تزيد على أربعة أشهر مقيدًا بوقوع محذور، فكان موليًا على الصحيح. وقيل: لا، بل يُحمل على الظهار خاصةً؛ لِمدْرك آخَر خارج عن الجمع في المشترك بين معنييه، وهو عدم الحلف صريحًا. ولكن الصحيح أنَّه لا يتقيد. وفي جانب المتنافي: إذا أسلم على أكثر من أربع نسوة وخيَّرناه، فقال لواحدة منهن: (فارقتُك)، فقال القاضي أَبو الطيب: يكون ذلك اختيارًا للزوجية ثم تطلق؛ لأنه صريح في الطلاق، والطلاق يستلزم الزوجية، فأشبه ما لو قال: طلقتُك. والأصح - كما قاله الرافعي - أنَّه فسخ للنكاح، كقوله: (اخترتُ قطعَ نكاحك)، وليس بطلاق. قال ابن الصباغ: فيكون حقيقة فيهما، ولكن تُخصص بالموضع الذي يقع فيه. قيل: والأمر على ما قاله ابن الصباغ من كونه على هذا التقدير مشتركًا ولكن بين معنين متضادين، فإن أحدهما يقتضي اختيارها للنكاح والآخَر يقتضي خِلافه، فلا يصح الإعمال فيهما ولا الحمل عليهما؛ لأنهما متنافيان، فينبغي أن لا يحمل على أحدهما إلَّا بالنية. نعم، دعوى ابن الصباغ أنَّه [يخصص] (¬1) بالموضع - ضعيف؛ لأن الموضع هنا صالح لهما، فالحمل على الفسخ ترجيح بلا مرجّح. هذا مقتضَى القواعد، فينبغي حمل كلام الرافعي عليه وهو أن محله إذا نوى بالفراق فرقة الفسخ. لكن يشكل من وجه آخر وهو أن لفظ "الفراق" حقيقة في بابه وهو الطلاق، ووجد نفاذًا في موضوعه؛ فلا يُصرف إلى غيره بالنية. ¬

_ (¬1) كذا في (ز)، لكن في (ص): تخصَّص.

ونحو ذلك لفظ "شَري" يكون بمعني اشترى وبمعني باع؛ لقوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20]، ويتصور التردد فيه بأنْ يكون وكيلان كُل منهما في بغ وشراء فيقول أحدهما للآخر: (شريتُ منك كذا)، ونحو ذلك، والله أعلم. ص: 405 - وَالْجَمْعُ في الْمَجَازِ وَالْحَقِيقَةِ ... أَوْ في مَجَازينِ كَذِي الطَّرِيقَةِ الشرح: لَمَّا ذكرتُ مسألتَي استعمال المشترك في معانيه والحمل من السامع استطردتُ منه إلى ذكر المسألتين في أمرين آخَرين، وهُما: الحقيقة والمجاز، والمجازان. فيُقال في اللفظ الذي له حقيقة ومجاز: هل يصح إطلاقه عليهما؟ وهل يجب على السامع الحمل عليهما؟ وفيما إذا تَعذر حمل اللفظ على معناه الحقيقي أو قام دليل على أنَّه غير مُراد وعدل إلى المعنى المجازي إطلاقا أو حملًا وكان المجاز متعددًا، فهل يجوز إرادة الكل؟ وهل يجوز للسامع الحمل على الكل؟ فهي في الحقيقة أربع مسائل، فذكرتُ أن حُكمها على الأصح كما مضى في "المشترك" إطلاقًا وحَملًا، وهذا معنى قولي: (كَذِي الطَّرِيقَة)، أي: كما في الطريقة المذكورة في "المشترك". نعم، محل ذلك في الحقيقة والمجاز ما إذا رجح المجاز بمرجِّح من الخارج حتَّى ساوى الحقيقة، وفي المجازين إذا لم يرجح أحدهما، وإلَّا فالحقيقة مقدَّمة قطعًا والراجح من المجازين مقدَّم قطعًا، وإنَّما أهملتُ التقييد بذلك في النَّظم، لظهوره من التشبيه بالمشترك، إذ

هو بالنسبة إلى معانيه سواء؛ لعدم القرينة كما سبق. فلو لم يكن في الحقيقة والمجاز أو في المجازين تساوٍ، لم يكن شبيهًا بالمشترك، ولا يخفَى أيضًا أن محل الجواز فيهما حيث لا تنافي كما هو في "المشترك". ولا بأس ببسط المسائل قليلًا: أما مسألة استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه (كإطلاق النكاح للعقد والوطء معًا إذا قُلنا: حقيقة في أحدهما مجاز في الآخَر) ففيها مذاهب: أحدها: وهو مذهب الشَّافعي وجمهور أصحابنا كما قاله النووي رحمه الله في "كتاب الأيمان" من "الروضة" (¬1) أنَّه يجوز وإنْ كان الرافعي قد خالف ذلك كما سبق أنَّه قال: إن استعمال اللفظ في الحقيقة والمجاز مستبعَد عند أهل الأصول. وهو قول القاضي، صرح به في كتاب "التقريب"، ونقل بعضهم أن الرافعي قال بالمنع، وهو غلط عليه، إنما قال ذلك في مسألة [الحَمْل] (¬2) الآتية. وحيث قُلنا بالإطلاق هنا على الكل فهو مجاز قطعًا؛ لأن بعض المعاني مجاز قطعًا. قيل: ولا يُعْرف أحدٌ يقول: (حقيقة) والمراد حقيقة في كل منهما. أما كونه في الحقيقة حقيقة وفي المجاز مجازًا فهو ظاهر لا شك فيه، بل هو التحقيق في المسألة، خلافًا لإطلاق ابن الحاجب وغيره أن ذلك مجاز. الثاني: المنع. وهو قول الحنفية، واختاره من أصحابنا ابن الصباغ وابن برهان، ونقله صاحب "المعتمد" عن أبي عبد الله البصري وأبي هاشم والكرخى، وتجري بقية المذاهب السابقة في "المشترك" هنا أيضًا، ويقال: كل مَن جَوَّز هناك جَوَّز هنا، ومَن منع منع، ومَن فصَّل يأتي تفصيله؛ ولهذا قَرن ابن الحاجب بينهما في الخلاف والحجاج. ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (11/ 48). (¬2) في (ز، ظ، ق): الاستعمال.

نعم، خالف القاضي في ذلك وقال: إن استعماله فيهما هنا محُال؛ لأن "الحقيقة" استعمال اللفظ فيما وُضع له، و"المجاز" فيما لم يوضع له، وهُما متناقضان، فلا يصح أن يُراد بالكلمة الواحدة معنيان متناقضان. لكن قد سبق أن محل الخلاف عند تساوي المجاز والحقيقة، وحينئذٍ فلا تناقض في المرادَين، وموضع البيان ليس محل النزاع. ومنهم مَن قال: إن القاضي إنما يخالف في الحمل. ومنهم مَن نقل أنَّه لا يمنع إلَّا عند تَعذُّر الجمع، وهو وفاق، ومنهم مَن نقل عنه غير ذلك، فالنقل عنه مضطرب. وأما مسألة حمل اللفظ على حقيقته ومجازه عند المساواة كما سبق فالمنقول عن الشَّافعي وجوب الحمل؛ طردًا لأصله في مسألة الإطلاق في الحقيقة والمجاز، وطردًا لأصله في الإطلاق والحمل في المشترك. قال ابن الرفعة في "باب الوصية" من "المطلب": إنه نَص على ذلك فيما إذا عقد لرجُلين على امرأة ولم يُعلم السابق منهما. وقال إمام الحرمين وابن القشيرى: إنه اختيار الشَّافعي، فإنه قال في آية اللمس: هي محمولة على الجس باليد حقيقة وعلى الوقاع مجازًا. وقد سبق أن منه استُنبط قوله في حمل المشترك. ومن نصوصه أيضًا في ذلك ما قاله في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، حيث احتج به على جواز العبور في المسجد؛ لقوله تعالى: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيل} [النساء: 43]، وقال: أراد الصلاة؛ لقوله تعالى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا

تَقُولُونَ} [النساء: 43] ومواضع الصلاة؛ لقوله تعالى: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} (¬1). نعم، نَص في البويطي على أنَّه لو أوصي لواليه وله عتقاء ومعتقون أنَّها تختص بالأولين؛ لأن الآخَرين مجاز بالسببيَّة، وكذلك لو وقف على أولاده لم يدخل ولد ولده على الأصح. وجوابه أن المجاز إذا لم يرجح حتَّى ساوى الحقيقة، فالحقيقة مقدَّمة؛ لرجحانها، وهنا كذلك؛ لأن معتقيه ليس إرثهم له، بخلاف العكس. وأما ولد الولد فلا قرينة فيه مرجِّحة. وفى المسألة مذهب ثالث قاله القاضي عبد الوهاب: وجوب الحمل على الحقيقة دُون المجاز. ورابع حكاه القاضي أيضًا: الوقف حتَّى يتبين المراد. وأما مسألة استعمال اللفظ في جميع مجازاته عند انتفاء الحقيقة ومسألة الحمل ففيهما ما سبق في الحقيقة والمجاز. مثاله: حلف لا يشتري دار زيد، وقامت قرينة على أن المراد أنَّه لا يعقد بنفسه، وتردد الحال بين السوم وشراء الوكيل، هل يحمل عليهما؛ أو لا؛ فمَن جوَّز الحمل فيقول: يحنث بكل منهما. وقَل مَن تَعرَّض لمسألتَي المجازين، وقد ذكر ذلك إمام الحرمين وابن السمعاني والأصفهاني في "شرح المحصول"، وكذا الآمدي وابن الحاجب في باب "المجمل" لكن اختارا فيهما الإجمال، عكس اختيارهما في الحقيقتين والحقيقة والمجاز. نعم، اختار الإمام الرازي الإجمال في الموضعين. ¬

_ (¬1) الأم (1/ 54).

تنبيهات الأول: احتج ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" على جواز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه معًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صُبوا عليه ذَنوبًا مِن ماء" (¬1) من حيث إنَّ صيغة الأمر توجهت إلى صب الذنوب، والواجبُ مِن ذلك القَدْرُ الذي يغمر النجاسة ويزيلها، والزائد مستحب، فقد استعمل صيغة الأمر في الحقيقة والمجاز. الثاني: إذا قُلنا: يجوز الحمل على الكل في الحقيقة والمجاز، فقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] شاملٌ للواجب والمندوب، خلافًا لمن خَصَّه بالواجب؛ بِناءً على منع الاستعمال في الكل. وبعضهم قال: للقَدْر المشترك وهو مُطْلَق الطلب؛ فرارًا من الاشتراك والمجاز. ونحو ذلك قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، عند مَن يرى بأنَّ العمرة غير واجبة، فحمل الأمر بالإتمام على الوجوب في الحج والسُّنة في العمرة. ومَن يرى وجوب العمرة يجعله إما مِن حمل المشترك على حقيقتيه أو للقدر المشترك بينهما. الثالث: قد عُلِم مما سبق أن محل الحمل على الكل في الحقيقة والمجاز عند التساوي؛ فلذلك قال أصحابنا فيما لو قال: (وقفتُ على أولادي): لا يدخل أولاد الأولاد. وسبق نقله عن النص. ولو أوصى لإخوة زيد، لا يدخل أخواته كما قال إمام الحرمين في "النهاية": إنه مذهب الشَّافعي وأبي حنيفة، وقال أَبو يوسف ومحمد: للجميع. الرابع: نقض ابن السمعاني على الحنفية أصلهم في منع حمل اللفظ على حقيقته ومجازه ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (380)، السنن الكبرى للبيهقي (4039)، وبنحوه في صحيح البخاري (217).

بقولهم: (لو حلف لا يضع قَدَمه في الدار فدخل راكبًا أو ماشيًا، حنث) فعمَّموه في الحقيقة والمجاز. وكذا لو قال: (اليوم الذي يدخل فيه فلان الدار عبدي فيه حر) أنَّه إنْ دخل ليلًا أو نهارًا حنث. وقالوا: إن في "السير الكبير" أنَّه لو أخذ الكافر الأمان لِبَنِيه، دخل بنو بَنِيه (¬1). انتهى أما مذهبنا في الأُولى: فالظاهر عدم الحنث، تقديمًا للحقيقة، لرجحانها، وليس في المجاز قرينة إلحاق بالحقيقة. وأما الثانية: فالظاهر موافقتهم، لأنَّ الرافعي نقل عن"التتمة" أنَّه: الو قال: "أنت طالق اليوم"، طلقت في الحال وإن كان بالليل ويلغو اليوم، لأنه لم يُعلِّق ولم [إن] (¬2) سمَّى الوقت بغير اسمه) (¬3). قلتُ: مِن إطلاقات "اليوم" في اللغة: مُطْلق الزمان كما صرح به أهل اللغة، وهو شاع في الاستعمال كما يقول الفقهاء: قيمة يوم التلف ومهر المثل يوم الوطء ويوم الولادة ويوم الترافع للقاضي وغير ذلك. ولا يُراد بذلك النهار فقط، بل مطلق الزمان. وأما المسألة الثالثة: فمقتضَى قولهم في الوقف على الأولاد: (إنه لا يدخل أولاد الأولاد) جريان مثله في الأمان، إلَّا أنْ يقال: دخولهم في الأمان أَوْلى؛ لقوة الاستتباع في الأمان؛ ولذلك لو قال: "أَمَّنْتُك"، تَعدَّى الأمان إلى ما معه مِن أهل ومال على وجهٍ مع أن اللفظ لا يَصْدُق عليهما لا بالحقيقة ولا بالمجاز، قال الرافعي: وفي "البحر" تفصيل حَسَن. وذكَره، فليراجَع منه، فإنَّ ذاك محله، والله أعلم. ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة (1/ 280). (¬2) في (ز): إنما. (¬3) العزيز شرح الوجيز (9/ 64).

ص: 406 - وَمَا لِبَعْضٍ وَضْعُهُ في الِابْتِدَا ... مُسْتَعْمَلًا "حَقِيقَة" في الْمُبْتَدَا 407 - في لُغَةٍ أَوْ شَرْعٍ أوْ في عُرْفِ ... لِذِي عُمُومٍ أَوْ خُصُوصٍ تُلْفِي الشرح: هذا قسيم قولي فيما سبق: (فَإنْ يَكُنْ بِالْوَضْعِ قَدْ تَفَرَّدَا)، وهو أن يكون اللفظ واحدًا والمعنى كثيرًا وليس منفردًا بالوضع لكل واحد، بل وُضع لبعض المعاني وضعًا أولًا ثم استُعمل بعد ذلك في غير ما وُضع له، فيسمَّى بالنسبة إلى ما وُضع له أولًا "حقيقة"، وأما في غيره فسيأتي تفصيله، لكن إنما يكون حقيقة في الأول إذا استُعمل فيه، فإنْ وُضع ولم يُستعمل، لا يكون حقيقة. وهو معنى قولي: (مُسْتَعْمَلًا). وهو حال مِن الضمير في الجار والمجرور الأول أو الثاني مِن السابقين عليه حيث خبر المبتدأ الذي هو "وضعه"، أو من الضمير في "وضعه"؛ لأنَّ المضاف عامل في المضاف إليه في "وضعه"، أي: وضع اللفظ في الابتداء لمعنًى حال كونه مستعملًا فيه. فتعريف "الحقيقة": قولٌ مُستعمَلٌ فيما وُضع له ابتداء. فخرج المجاز مِن قَيْد كونه في الابتداء، فإنه بوضعٍ ثانٍ؛ بناءً على أنَّه موضوع. أمَّا مَن يقول بأنه غير موضوع فيخرج بقيد الوضع، ولا حاجة حينئذٍ إلى التقييد بكونه "أوَّلًا"، وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه. وخرج بقيد "الاستعمال" ما لم يُستعمل، فإنه لا حقيقة ولا مجاز؛ إذِ المجاز يُعتبر فيه أيضًا الاستعمال كما سيأتي. فإنْ قيل: يَرِد على التعريف "العَلَم"، فإنه يَصْدُق عليه هذا التعريف وليس حقيقة.

قيل: الذي [في "العَلَم" تعليق اسم يُخَصُّ ذلك المسمَّى] (¬1) به، لا من حيث وضع الواضع في اللغة، بل كل أحد له جَعْل عَلَم على ما يريده، والذي ذكر من الوضع إنما هو من جهة مَن يُعْتبر وضعه لِلُّغات. ولكن فيه نظر؛ فإنَ الأعلام قد تكون بوضع اللغة. قولي: (في لُغَةٍ) إلى آخِره - تقسيم للحقيقة إلى ثلاثة أقسام: لُغوية، وشرعية، وعُرْفية. وذلك باعتبار الوضع الأول. فإنْ كان مِن حيث اللغة فهي الحقيقة اللغوية، أو الشرع فالشرعية، أو العرف فالعرفية، وهذا بناء على أن الوضع أعم مِن جَعْلِ اسمٍ لمعنى أو ما أكان، (¬2) كالجعل وهو الاشتهار في شرع أو عُرف كما سبق تقريره. نعم، إطلاق الوضع بحسب الاشتهار مجاز، فيكون استعمال الوضع في جميع ذلك استعمالًا للفظ في حقيقته ومجازه معًا، وهو جائز كما سبق ما لم يجعل لِقَدْرٍ مشترك بين الجعل وما كالجعل وهو مطلق تخصيص اللفظ بمعني يدل عليه حيث أُطْلِق. تنبيه: إطلاق لفظ "الحقيقة" على المعنى المذكور حقيقة عُرفية؛ لأنه مِن الاصطلاحي، لا من وضع اللغة. نعم، هي منقولة منها، واختُلف في كيفية النقل، فقال البيضاوي تبعًا لإمامه ما معناه: (إن الحقيقة فعيلة مِن الحقِّ بمعنى الثابت أو المثبَت، نُقِل إلى العقد المطابق ثم إلى القول ¬

_ (¬1) في (ز): للعلم تعليق اسم تخص تلك الحقيقة. وفي (ق): للعلم تعليق اسم يخص تلك الحقيقة. (¬2) من (ز).

المطابق ثم إلى المعنى الاصطلاحي) (¬1). يريد بذلك أن فعيلًا منه إن كان: - بمعنى فاعِل، فمعناه: الثابت، مِن"حَق الشيء يَحقُّ" بالكسر والضم (¬2) - بمعني "ثَبتَ"، والتاء حينئذ على بابها في إفادة التأنيث. - أو بمعنى مفعول، مِن "حَققتُ الشيء": أثبتهُ، فهذا وإنْ كان يستوي فيه المذكر والمؤنث (كَـ "جريح") لكن التاء فيه لنقل اللفظ فيه مِن الوصفية إلى الاسمية بأن يستعمل بدون موصوفه، كقوله تعالى: {وَالْنَّطِيحَةُ} [المائدة: 3] أي: والبهيمة النطيحة، ولولا إخراجها للاسمية لَقِيل: "البهيمة النطيح" بلا تاء، ثم نقل هذا اللفظ - وهو الحقيقة سواء بمعني الثابت أو المثبت - إلى العقيدة الحق، ثم نقل منها إلى النسبة الصادقة، ثم إلى الكلمة الباقية على مدلولها الأول. وهذا أحسن ما يُقرَّر به كلامه وإلَّا فالعقد والقول المطابق واللفظ الموضوع أولًا لا تأنيث في شيء منها، فكيف أتى بالتاء ولا تأنيث أصلًا؟ ! نعم، تُعُقِّب على القول بذلك بأنه لِمَ احتيج في النقل إلى هذه الوسائط؟ ولمَ لا يقال: إنه نقل إلى الاصطلاحي من الأول [من غير] (¬3) ضرورة إلى وساطة؟ بل مقتضَى كلام ابن سِيدَه أن لا نَقْل أصلًا، فإنه قال في "المحكم": (الحقيقة في اللغة ما أُقِرَّ في الاستعمال على أصل وضعه، والمجاز بخلافه) (¬4). ¬

_ (¬1) منهاج الوصول (ص 152)، بتحقيقي، الناشر: مكتبة التوعية الإسلامية بالقاهرة - 2013 م. (¬2) بالكسر: يَحِق، وبالضم: يَحُق. (¬3) كذا في (ز، ق، ظ). لكن في سائر النُّسخ: إذ لا. (¬4) المحكم والمحيط الأعظم (2/ 474).

وحكاه في "المحصول" عن ابن جني، واعترضه بأنه غير جامع؛ لخروج الشرعية والعُرفية. ورُدَّ بأن المراد أنَّه في اللغة ما بقِي على وضعٍ أولٍ بأي وضعٍ كان، لا بوضع اللغة فقط، والله أعلم. ص: 408 - وَذِي الثَّلاثُ وَاقِعَاتٌ، كَـ "الْأَسَدْ " ... وَكَـ "الصَّلَاةِ" وَكَـ "دَابَةٍ" وَرَدْ الشرح: أي: إذا ثبت انقسام الحقيقة إلى هذه الثلاث، فاعلم أنَّها واقعة. أما اللغوية: فقطعًا، كالأسد للحيوان المفترس. وأما الشرعية: فكإطلاق "الصلاة" على ذات الركوع والسجود، وهذه على الأرجح كما سيأتي، وإنَّما أصلها الدعاء. وأما العُرفية: - فالعام منها: كَـ "الدابة" على ذوات الأربع، وإنَّما أصلها لُغةً لِمَا يدب على الأرض. وهو معنى قولي: (وَكَـ "دَابَةٍ")، ولكني قصرته وتركت مَده وتشديده؛ للضرورة، فزالت منه إحدى الباءين. - والخاص منها: كًـ "النقض" كما ذكرته في أول البيت الذي بعد هذا، وهو ما يذكره الأصوليون وأهل الجدل كما سيأتي في "باب القياس"، ومثله الكسر والجمع والفرق، وكالمبتدأ والخبر والحال والتمييز في اصطلاح النحاة، وكاصطلاح علماء الجبر على المال والعدد والجذر، وما أَشبه ذلك في سائر العلوم، وكذا أرباب الصنائع في تسمية آلاتها

وغيرها. وهذا القسم لا خِلاف فيه. قيل: ولا الذي قَبْله وهو العامة. ورُدَّ بحكاية الآمدي الخلاف فيه تبعًا "للمحصول"، لكن استغربه شارحه الأصفهاني عليه. ولا غرابة؛ فقد حكى الخلاف فيه صاحب "المعتمد" وإنْ كان الأكثر على الوقوع، ثم قال في "المعتمد": (إن مَن أجاز ذلك شَرَط أن لا يتعلق بالاسم اللغوي حُكم شرعي، فإنْ تَعلق، لم يَجُز نقله للعُرف قطعًا). قال: (لأنه يرجع حينئذٍ إلى التكليف). انتهى فيخرج فيه ثلاثة مذاهب. [بل] (¬1) يخرج مِن كلام القاضي وأتباعه والإمام الرازي مذهب رابع: وهو جوازه إن خَصص العُرفُ عمومَ المعنى اللغوي، كَـ "الدابة" خُصت بِ "ذي الحافر"، أو كان له باللغوي مناسبة ما ولو هُجرت الحقيقة، كلفظ "الغائط"، بخلاف غيرها. ورُدَّ ذلك بأنهم قد نقلوا فيما ليس مِن الأمرين، كَـ "عسى"، فإنه وُضع أولًا للفعل الماضي ولم يستعمل فيه قط، بل استعمل في الإنشاء بوضع العُرف. أما الخلاف [في] (¬2) "الشرعية"، وهي: "المستفاد وضعها لذلك المعنى مِن الشرع" كما فسرها به في "المحصول" تبعًا "للمعتمد"، والمراد بالوضع اشتهار ذلك في ألفاظ الشرع كما سبق في تفسير أصل الوضع أول الفصل، وأنه ليس المعْنى إعلام الشارع بأنه وضعه له. وقال ابن برهان: "الشرعي" أنْ يستفاد اللفظ مِن اللغة والمعنى مِن الشرع، أو المعنى مِن اللغة واللفظ مِن الشرع. ¬

_ (¬1) في (ت): قيل. (¬2) في (ش، ت، ظ): ففي.

لكن القول الأول أَعَم؛ لشموله أربعة أقسام: - ما إذا كان اللفظ والعنى معلومين من اللغة لكن لم يضعوا ذلك اللفظ لذلك المعنى، كلفظ "الرحمن" اسمًا لله عَزَّ وَجَلَّ؛ ولهذا قالوا: "وما الرحمن؟ لا نعلم إلَّا رحمان اليمامة". - وما إذا لم يُعلم من اللغة لا اللفظ ولا المعنى، كأوائل السُّوَر. - وما إذا عُلم اللفظ ولم يُعلم المعنى، كالصوم والصلاة والحج وغالب الأمور الشرعية. - وما إذا عُلم المعنى ولم يُعلم اللفظ، كَـ "الأَب" بالتشديد وهو "المرعى"؛ ولهذا قال عمر - رضي الله عنه -: "ما الأَبّ؟ ". وكذا قرر الهندي الأقسام الأربعة ومَثلها بذلك. نعم، حكي الماوردي في"كتاب الصلاة" خلافا لأصحابنا في أن الشارع أَحْدَث وجود اللفظ كما أحدث المعنى أوْ لا. وقد عُلم مما قررناه أنَّه ليس مِن الألفاظ التي الكلام فيها - وفيها الخلاف في الشرعية - ما اصطلح عليه علماء الشرع مِن الفقهاء والأصوليين مِن الفرض والواجب والمندوب ونحوها، وكذا السبب والشرط والماخ وما أَشبه ذلك، بل هي عُرفية محضة مِن عُرف علمائه كما تَقدم في "النَّقض" ونحوه. كذا قرره القاضي عضد الدين، وهو واضح؛ ولذلك تراهم في الاستدلال إنما يقولون: "الشارع وضعها" و"هي بوضع الشارع"، ونحو ذلك. نعم، قد يقع مِن ألفاظ الشارع - صلى الله عليه وسلم - أو الراوي عنه لفظٌ ويتكرر في المعنى الذي اصطلح أهل الشرع على وضعه له، فيكون عُرفًا للشارع وعرفًا لأهل الشرع، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خشيت أنْ تُفرض عليكم"، وقول [الصحابة] (¬1): "فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا"، فلا منافاة، ¬

_ (¬1) في (ز): الصحابي.

فاعْلَمه. إذا علمتَ ذلك: فالقول الأول مِن الخلاف في الأسماء الشرعية: إنها لم تقع. قال المازري في "شرح البرهان": (وهو رأي المحققين مِن أئمتنا الفقهاء والأصوليين) (¬1). وبه قال القاضي أَبو بكر، وابن القشيري ونقله عن أصحابنا وأنهم قالوا: لم ينقل الشارع شيئًا مِن الأسامي اللغوية، إنما خاطبنا - صلى الله عليه وسلم - بلسان العرب. ونقله الأستاذ أَبو منصور عن القاضي أبي حامد [المروروذي] (¬2) وعن الأشعري كما سيأتي، فَ "الصلاة": الدعاء، و"الزكاة": النمو، و"الصوم": الإمساك، و"الحج": القصد لكن كُلٌّ على وجه مخصوص؛ ولهذا يعرفونها بمثل ذلك. نعم، اختُلف هل زِيدَ في معناها في الشرع على المعنى اللغوي ما هو داخل في المدلول الشرعي؟ أوْ لا؟ والأول هو المختار عند ابن فورك، ونقله عن الأشعري، وبه قال طائفة من الفقهاء كما نقله إمام الحرمين وابن السمعاني، إلَّا أنَّه يؤول إلى القول بالنقل؛ لأن تلك الزيادات تصير داخله في المدلول الشرعي مع خُلو المدلول اللغوي عنها، وهذا حقيقة النقل. ونَقَلًا الثاني عن القاضي، وهو أنَّها لم تُنقل ولم يُزد في معناها. أي: وإنْ زِيدَ في المعتبر فيها شرطا وحُكما ونحوهما مِن الأمور الخارجية. والقول الثاني مِن الأصل: إن الشرعية واقعة. وهو قول الجمهور مِن الفقهاء والمعتزلة، وحكاه ابن برهان وابن السمعاني عن أكثر المتكلمين والفقهاء، وصححاه. ¬

_ (¬1) إيضاح المحصول (ص 154). (¬2) في (ز): المروذي. وفي (ظ): المروزي.

قال الأستاذ أَبو منصور: (أجمع أصحاب الشَّافعي على أنَّه قد نُقل في الشرع أسماء كثيرة عن معانيها في اللغة إلى معانٍ سواها، إلَّا أبا حامد المروروذي كالأشعري). قال: (كَـ "الإيمان" في اللغة، فإنه بمعنى التصديق، وقد صار عند أصحاب الشَّافعي اسمًا لجميع الطاعات، وعند الأشعري أنَّه الآن أيضًا بمعنى التصديق، وذلك نحو الصلاة والحج والعمرة). انتهى ونقل نحوه أيضًا عن الأشعري ابنُ فورك في جزءٍ جمعه في "الإسلام" و"الإيمان". نعم، هذا يُشعر بدخول "الإيمان" في الخلاف، وذلك هو إثبات الألفاظ الدينية - على أحد تفسيريها الآتيين - كالشرعية، وهو ما نُقل عن المعتزلة أنهم أثبتوها مغا لكن على معنى أن الشارع اخترع أسماء خارجة [عن] (¬1) اللغة لمعانٍ أثبتها شرعًا كما سيأتي، فمخالفتهم في إثبات الشرع الأمرين على الوجه المذكور وإنْ أَوْهمت عبارة ابن الحاجب بعض شراحه أنهم [لا يخالفون في الدينية بل] (¬2) يخالفون في الشرعية، لكن الصواب أن خلافهم في الدينية أيضًا، وإنَّما لم يصرح ابن الحاجب في نَصْب الأدلة بذلك؛ لأنه محل وفاق. نعم، اختلف النقل عنهم في تفسير "الدينية"، ففي "التقريب" للقاضي و"تلخيص" الإمام و"بُرهانه" أنَّه ما تعلق بأصول الدِّين كالإيمان والكفر والفسق، بخلاف نحو الصلاة والحج والزكاة والصيام. وكذا نقل عنهم القشيري والغزالي وغيرهم، وهو الصواب. ونقل الإمام الرازي وجَمعٌ عنهم أن الديني أسماء الفاعلين، كالمؤمن والفاسق والمصلِّي والصائم، بخلاف الإيمان والفسق والصلاة والصيام، فإنَّ ذلك شرعي لا ديني. ورُدَّ بأنه يلزم تسمية اللفظ باسم لا يجري في المشتق منه. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ش). لكن في (ت، ق، ظ، ض): من. (¬2) في (ز، ظ): يثبتون الدينية و.

والمختار - وفاقًا للشيخ أبي إسحاق الشيرازي وابن الصباغ وأكثر أصحابنا - أن النقل إنما وقع في الشرعية، لا في الدينية. واختاره ابن الحاجب وغيره. ومنهم مَن يجعل الخلاف في الإيمان فقط، لا في كل ديني. وقد نقل محمد بن نصر المروزي عن أبي عُبيد أنَّه استدل على أن الشارع نقل "الإيمان" بأنه قد نقل "الصلاة" و"الحج" ونحوهما إلى معانٍ أُخَر. قال: فما بالُ "الإيمان"؟ فهذا يدل على تخصيص الخلاف بالإيمان، إلَّا أن يُراد: و [نحوه] (¬1) من الألفاظ المتعلقة به، وهو الأمور الدينية. وعلى كل حال ففيه إشارة إلى أن مَن أثبت الدينية - كالإيمان - دُون غيرها خارقٌ للإجماع. فالحاصل مِن الخلاف: - إما نفي النقل مطلقًا، كما هو قول القاضي ومَن سبق. - وإما إثباته مطلقًا، كالمعتزلة ومن وافقهم كما سبق. - وإما التفرقة بينه وبين الدينية بوقوع الشرعية دُون الدينية، وهو المختار، ولم يَقُل أحد بعكسه. وإنَّما لم أَتَعرَّض في النَّظم لنفي وقوع الدينية؛ لأن المثبِت لها هُم المعتزلة، وأما غيرهم فلا يثبت أن الشارع له في ذلك عُرف مُغايِر لِلُّغة حتَّى يُحتاج إلى إجراء الخلاف فيها. ثم اختلف المثبتون للشرعية في أن الشارع اخترع لهذه المعاني ألفاظًا فصادفت ألفاظًا مِن اللغة؛ أو أنَّه نقلها عن معناها اللغوي؟ ¬

_ (¬1) في (ص، ش، ض): نحوهما.

والثاني هو اختيار الإمام في "المحصول"، فلم يخرج عن كلام العرب وإنْ لم تَعرف العرب ذلك المعنى الذي آلَتْ إليه دلالة اللفظ، وأنَّ المجاز منسوب للغة العرب باعتبار العلاقة، فَيُعَدُّ مِن أوضاعهم بهذا الاعتبار، وحينئذٍ فيقال: إنه بوضع الشرع باعتبار ما آلَ إليه. قال الماوردي في "كتاب الصلاة" من "الحاوي": (إنَّ الذي عليه جمهور أهل العلم أن الشرع لاحَظَ في الألفاظ الشرعية المعنى اللغوي) (¬1). انتهى وقال الشيخ شمس الدين ابن اللبان في "ترتيب الأُم" للشافعي - رضي الله عنه -: إن نصوصه صريحة في أنَّها مجازات لُغوية. وبالأول قالت المعتزلة، قالوا: وتارةً يصادفُ الوضع الشرعي علاقة بينه وبين اللغوي، لا قصدًا، بل اتفاقًا، وتارةً لا يُصادف، فليست حقيقة لغوية ولا مجازًا لُغويًّا. ووافقهم مِن أصحابنا كثير كابن السمعاني، إلَّا أنَّه قال في ذيل المسألة: (ويجوز أن يُقال: هذه الأسماء حقائق شرعية فيها معنى اللغة؛ لأن الصلاة لا تخلو عن الدعاء في غالب الأحوال، والأخرس نادر، فقد تخلو في بعض المواضع عن معظم الأفعال) (¬2). انتهى وهو ظاهر في عَوْدِه إلى القول الآخَر. وتظهر ثمرة هذين القولين في أن المعنى الشرعي هل يحتاج لعلاقة؛ أوْ لا؟ فعَلَى القول الأول: لا يحتاج، وعلى الثاني: يحتاج. ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (2/ 10). (¬2) قواطع الأدلة (1/ 274).

تنبيهات الأول: قد عُلم أن الخلاف السابق إنما هو في وقوع الشرعية، أما الجواز فزعم الإمام الرازي والآمدي والهندي أنَّه لا خلاف فيه، حتَّى عبَّر ابن الحاجب في "المنتهى" بأنَّ الجواز ضرورة، وأسقط المسألة في "الصغير" (¬1)؛ لاعتقاده الاتفاق أو أن الخلاف شاذ، لكن أَبو الحسين في "المعتمد" حكى عن بعضهم أنَّه منع مِن إمكانها، وكذا نقله ابن برهان في "الوجيز" عن طائفة يسيرة، قال: وبناءُ المسألة على حرف واحد، وهو أن نقلي مِن اللغة إلى الشرع لا يؤدي إلى قلب الحقائق، وعندهم يؤدي. ثم حكى ابن برهان خلافا آخَر تفريعًا على الجواز: هل يصير [حسنًا كالفسخ] (¬2)؛ أو [قبيحًا] (¬3) لِمَا يَلْزَم عليه مِن إسقاط الأحكام الشرعية؟ الثاني: لا يختص الخلاف في الوقوع بالحقيقة الشرعية، بل يجري في المجاز أيضًا. وإنَّما لم أذكره في النظم؛ لأن الحقيقة إذا ثبتت، لزم ثبوتُ مجازها؛ لأن كل مجاز ناشئ عن [حقيقته] (¬4) كما سيأتي. نعم، لا يختص ذلك بالأسماء ولا بنوع منها، بل يكون في الألفاظ المتباينة - كالصلاة ¬

_ (¬1) يقصد: مختصر المنتهى. (¬2) ي (ز): حسيا كالنسخ. (¬3) في (ز): فسخا. وفي (ظ): نسخا. (¬4) في (ز، ق): حقيقة.

والزكاة - والمشتركة، فالأصح وقوعها في الشرعية كَـ "القرء" إنْ قُلنا حقيقة في الحيض والطهر، وكالصلاة على الكاملة وعلى ناقصة رُكن أو شرط، كصلاة المصلوب ونحوه ومُصلِّي الفرض قاعدًا للعجز عن القيام. ومَثَّله الهندي بِـ "الطهور" للماء والزاب، وفيه نظر؛ فإنَّ بينهما قَدْرًا مشتركًا وهو [التطهير] (¬1) بالماء والتيمم بالتراب، خلافًا لن زعم أن هذا مِن المشترك. وكَـ "الصلاة" للفرض والنفل، وفيه النظر السابق، بل و [فيما مُثِّل] (¬2) به قَبْله أيضًا. وأما المترادفة ففي "المحصول": الأظهر أنَّها لم توجد. ورُدَّ بأن الفرض والواجب مترادفان شرعًا، لكن سبق أنَّ عُرْفَ أهلِ الشرع غَيْرُ عُرْف الشرع الذي الكلام فيه، وقد يجتمعان، ولكن يمنع بأنهما في ذلك اجتمعا. قلتُ: ويمكن تمثيله بالزكاة مع الصدقة، فإن الصدقة كثيرًا ما تُطلق شرعًا على الزكاة، نحو: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]، {) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة: 9 - 60]، الآية. وفي الحديث: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة إلَّا زكاة الفطر في الرقيق" (¬3). فاستثنى بلفظ "الزكاة" مما هو بلفظ "الصدقة"، ونحو ذلك. ومن ذلك أيضًا لفظ التزويج والإنكاح، وما أَشبهه. وأما الأفعال فلم توجد إلَّا تبعًا لمصادرها، كَـ "صلَّى" من"الصلاة"، و"زكَّى" من "الزكاة"، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ز)، لكن في (ت): التطهر. (¬2) كذا في (ص، ض، ش). لكن في (ظ): قد قيل. وفي (ت): فيما قيل. (¬3) صحيح ابن حبان (رقم: 3272)، السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 7194). قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 3261).

وأما الحروف فليس في الشرع استعمال حرف بغير معناه اللغوي يكون منقولًا منه إلَّا باعتبار متعلَّقه، فيكون نَقْلُه شرعًا نقلًا للحرف بالتبع. الثالث: سبق أن"الشرعي"المراد به هنا: ما لم يُستفَد معناه إلَّا من الشرع. وربما يُطلق "الشرعي" على بعض أحكام الشرع. قال إمام الحرمين في "الأساليب": الذي يعنيه الفقيه بِـ "الشرعي" هو الواجب والمندوب. ويشهد له قول الأصحاب: إن الجماعة في النفل المطلق لا تشرع. أي: لا تندب وإنْ كانت مباحة. وفي زيادات "الروضة" في "باب صلاة الجماعة": معنى قولهم: "لا تشرع" لا تستحب. وقد يطلق المشروع على المباح، كما تقول: بيع المجهول غير مشروع، وشرع السلم للحاجة، ونحو ذلك. الرابع: قيل: الخلاف في هذه المسألة يضمحلُّ عند التحقيق؛ فإن الزِّيادة على المعنى اللغوي لم تُستفَد إلَّا مِن الشرع، والمعنى اللغوي موجود في الشرعي. وهذا مردود بما سبق من تقسيم الشرعية أول المسألة. وأيضًا فمن فائدة الخلاف أن الفسق عند المعتزلة منزلة بين الإيمان والكفر؛ بِناءً على أن الإيمان نُقِل إلى جميع الطاعات، والفاسق مُخِلٌّ ببعضها، فليس مؤمنًا، ولا هو كافر؛ لتصديقه. قيل: وللإجماع على أنَّه ليس بكافر. وفيه نظر؛ فإن الخوارج تُكَفره بالكبيرة.

وعلى كل حالٍ فَحَمَلَ المعتزلةَ على ذلك الأحاديثُ الواردة في نَفْي الإيمان عنه، مثل: "لا يَزْنِي الزاني حين يَزْنِي وهو مؤمن" (¬1)، ونحو ذلك. وغيرُ المعتزلة رأَى أن الإيمان بإزاء المعنى اللغوي وإنْ زِيدَ في مدلوله، فلم يخرج الفاسق بذلك عن الإيمان، وأَوَّلوا الوارد إما على نفي الكمال أو على المستحِل، وأنه ليس [متلبسًا] (¬2) بفعل من الإيمان بل بخارج عن الإيمان وإنْ كان في ذاته مؤمنًا، إلى غير ذلك. وكذا القول في الأسماء الفرعية، كمن صلَّى بغير قراءة، هل يقال: لم يُصلِّ؛ لأن الصلاة نُقلت شرعًا للهيئة المجموعة؟ أو [يُسمَّى] (¬3) بذلك؛ لوجود المعنى اللغوي وهو الدعاء بالفعل أو بالقوة؟ ومن ثَم استشكل الإمام في "المعالم" على الشَّافعي أن الماهية المركبة تنتفي بانتفاء جزئها، وإذا كان الإيمان مركَّبًا من قول وعمل واعتقاد، فينبغي إذا انتفى العمل أنْ ينتفي الإيمان. وزعم أنَّه سؤال صعب. لكن قد ذكر هذا السؤال محمد بن نصر المروزي، وأجاب عنه بأن الإيمان له أصل مَتَى نقص ذَرَّةً، زال اسمُ الإيمان عنه، وما بَعْده إنْ فَعله فقد زاد إيمانًا على إيمانه. وإنْ لم يفعل الزِّيادة، لم [ينقص] (¬4) الأصل الذي هو التصديق. قال؛ كَـ "شجرة" تُطلَق على مجموعها، وإذا أُزِيل منها غُصن، لا يزول اسم الشجرة عنها، بل تبقى شجرة ناقصة. ومن ثمرة الخلاف أيضًا: أنَّ الاسم الشرعي إذا ورد في كلام الشارع مجردًا عن القرينة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 2343)، صحيح مسلم (رقم: 57). (¬2) كذا في (ص، ز)، لكن في (ت): ملتبسا. (¬3) كذا في (ز). لكن في (ص): سمي. وفي (ش، ض): انه يسمى. وفي (ق، ظ، ت): لا يسمى. (¬4) في (ز): ينقض.

محتملًا للغوي والشرعي، فمَن يقول بنقل الشارع، يحمله على الشرعي، ومَن ينفي كالقاضي، فقياسه أن يحمل على اللغوي، لكن المنقول عن القاضي أنَّه مُجْمل، وعبارته في "التقريب": (يجب التوقف؛ لجواز أن يُراد اللغة أو الشرع أو هُما). وهو مُشْكِل على أصله إنْ لم يكن له قول آخَر بإثبات الحقيقة الشرعية. نعم، قال السهروردي: إنَّ تَردُّد القاضي بين الكمال والصحة في نحو: "إنما الأعمال بالنية" (¬1)، "لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب" (¬2) - ليس لاعترافه باللغات الشرعية، بل لأنه يرى الإضمار، ولا تعيين لأحد الإضمارين. والله أعلم. الخامس: من المنقولات الشرعية: صِيَغ العقود، كَـ "بِعْتُ" و"اشتريتُ"، والحلول كَـ "فسختُ" و"طلقتُ" و"أعتقتُ". وإنَّما أصلها الخبر. هذا قول الأكثرين، منهم الإمام الرازي وأتباعه. ونُقل عن الحنفية أنَّها إخبارات على حالها يُقَدَّر وقوع معانيها قبل اللفظ بها؛ ليطابق خبرُها مُخْبَرَها. لكن أنكر القاضي شمس الدين السروجي - من الحنفية - في كتاب "الغاية" ذلك، وقال: المعروف عند أصحابنا أنَّها إنشاءات. وقال صاحب"البديع" منهم: إنه الحقُّ. وإنَّما اختلفوا بعد إجماعهم على ثبوت أحكامها عند التلفظ بها: هل يَثبت مع آخِر حرف من حروفها؟ أو عَقبه؟ نعم، قال الأصبهاني فى "شرح المحصول": (إن الأول اختيار أئمة النظر من ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه.

الخلافيين) (¬1). والله أعلم. ص: 409 - وَ"النَّقْضِ"، وَ"الْمَجَازُ" مَا يُسْتَعْمَلُ ... في ثَانِ وَضْعٍ حَسْبَمًا يُفَصَّلُ 410 - عِلَاقَةٌ لَهُ، وَوَضْعُهُ انْقَسَم ... كَفِي حَقِيقَةٍ ثَلَاثًا، [فَلْيُضَمْ] (¬2) الشرح: قولي: (وَ"النَّقْضِ") بالجر عطف على الأمثلة السابقة، وسبق بيانه. وقولي: (وَ"الْمَجَازُ") مبتدأ خبره ما بعده، وهو إشارة إلى تعريف "المجاز" في الاصطلاح. أما لفظ المجاز في الأصل فَـ "مَفَعْل" من الجواز وهو العبور والانتقال، فأصْله "مَجْوَز"، استثقلَت حركة "الواو"، لأنها حرف علة، فنُقِلت إلى الساكن قبلها، فانقلبت "الواو" ألِفًا، لسكونها بعد فتحة. والـ "مفعل" يكون مصدرًا ومكانًا وزمانًا. فَـ"المجاز" بالمعنى الاصطلاحي إما مأخوذ مِن الأول أو مِن الثاني، لا مِن الثالث؛ لعدم العلاقة فيه، بخلافهما" فإنه إن كان مِن المصدر فهو مُتَجَوَّز به إلى الفاعل" للملابسة، كَـ "عَدْل" بمعنى "عادل"، أو من المكان له، فهو من إطلاق المحل على الحالّ. ومع ذلك ففيه تَجَوُّز آخَر؛ لأن الجواز حقيقة للجسم لا للفظ؛ لأنه عَرَض لا يقبل ¬

_ (¬1) الكاشف عن المحصول في علم الأصول (2/ 257). (¬2) في (ن 1، ن 3، ن 4): فلتضم.

الانتقال، فهو مجاز باعتبارين، لا أنَّه مجاز منقول من مجاز آخر فيكون بمرتبتين كما زعم الإمام وأتباعه كالبيضاوي. فالمجاز هو اللفظ الجائز مِن شيء إلى آخَر، تشبيها بالجسم المنتقل مِن موضع إلى آخر. فَحَقِّقْ ذلك. والتعبير في هذا المعنى الاصطلاحي أن يقال: "المجاز" قولٌ مستعمَل بوضحٍ ثانٍ؛ لِعلاقة. فَـ "قول": جنس، مُعَبَّر عنه في النظم بـ "مَا"؛ لأن الكلام في تقسيم القول المفرد، فيعلم أنَّه المراد، ولا يقال: "لفظ"؛ لأنه جنس بعيد. والعلاقة: هي العُلْقة الحاصلة بين المعنى الأول والمعنى الثاني بحيث ينتقل الذهن بواسطتها على ما سنفصله بعد ذلك. وكان القياس فتح عَيْنها؛ لأن الفتح في المعاني، كما تقول: علقت زوجتي عَلاقة، أي: أحببتها حُبًّا شديدًا. والكسر في الأجسام، ومنه عِلاقة السوط، وحينئذٍ فإما أن يُقرأ بالفتح على الأصل أو بالكسر على التشبيه بالجسم. وخرج بقيد الاستعمال في وضع ثانٍ: الحقيقةُ، فإنها المستعمل بوضع أولٍ كما سبق. ومَن لم يَرَ المجاز موضوعًا يقول: (في غير ما وُضع له)، لكن المرجح - كما سيأتي - أنَّه موضوع على الوجه الآتي بيانه. وعُلم أنَّه لا يشترط في المجاز إلَّا سَبْق وضعٍ فقط، سواء سَبَق استعماله أوْ لا، وهي مسألة أن المجاز هل يستلزم الحقيقة؟ أوْ لا؟ والثاني: هو ما رجحه الآمدي، ونقله صاحب "البديع" عن المحققين، واختاره في "المحصول" في موضع. وبالأول قال أَبو الحسين وابن السمعاني والإمام الرازي في موضع آخَر. واحتجوا على

ذلك بأنه لو لم يستلزم لَعَرِيَ الوضع عن الفائدة. ورُدَّ بأن الفائدة لا تنحصر في استعماله فيما وُضع له أولًا، فقد يُتَجَوَّز؛ فتحصل الفائدة بالمجاز. وخرج بقيد العلاقةِ: العَلمُ المنقول، ولو لُحِظت العلاقة في أول نقله إلَّا أن استمرار دلالته إنما هو لمجرد الوضع مع عدم الالتفات إلى غيره. وحينئذٍ فالقول إما حقيقة أو مجاز، أو لا حقيقة ولا مجاز، وهو ما وُضع لشيء ولم يُستعمل فيه ولا نُقل عنه، ومنه الأعلام على ما قررناه. وقد يكون حقيقة ومجازًا باعتبارين: - إما بحسب وضعين لُغوي وعُرفي، أو لُغوي وشرعي، أو نحو ذلك. - أو بمعنيين مختلفين، كألفاظ العام المخصوص على قول مَن يقول: إنه حقيقةٌ باعتبار دلالته على ما بقي، مجازٌ باعتبار سلب دلالته على ما أُخْرِج. أما بحسب وضع واحد فمُحال؛ لامتناع اجتماع النفي والإثبات مِن جهة واحدة. واعْلَم أن ما سبق في تعريف "المجاز" قد يُورَد عليه مجازُ التركيب، فإن المركب غير موضوع، فيكون غيرَ جامعٍ لأنواع المجاز، إلَّا أن يُقال: الكلام إنما هو في المجاز اللغوي، وأما المجاز العقلي الواقع في الإسناد فَمَعَ كوْنه في ثبوته خلاف (كما سيأتي بيانه) ليس مقصودًا. وقولي: (ووَضْعُهُ انْقَسَمْ) إلى آخِره - إشارة إلى أن المجاز ينقسم بحسب جهة وضعه إلى ثلاثة أقسام: لُغوي، وشرعي، وعرفي، كما انقسمت الحقيقة إلى ذلك. فاللغوي: كَـ "الأسد" للشجاع؛ لعلاقة الوصف الذي هو الجرأة. فكأن أهل اللغة باعتبارهم النقل لهذه المناسبة وضعوا الاسم ثانيًا للمجاز.

والشرعي: كَـ "الصلاة" لمطلق الدعاء؛ انتقالًا من ذات الأركان للمعنى المضمن لها مِن الخضوع والسؤال بالفعل أو القوة. وكأن الشارع بهذا الاعتبار وضع الاسم ثانيًا لَمَّا كان بَيْنه وبين اللغوي هذه المناسبة. والعُرفي الخاص والعام كذلك، فكل معنى حقيقي في وضعٍ هو مجاز بالنسبة إلى وضعٍ آخَر؛ ولهذا مَثَّلنا به فيما سبق لِمَا يكون حقيقة ومجازا باعتبارين، وعلى هذا فيُرَد كل مجاز إلى حقيقته كما قررناه، وهو معنى قولي: (فَلْيُضَمْ). تنبيهات أحدها: قد سبق الخلاف في استلزام المجاز للحقيقة، ووقع في "جمع الجوامع" - تفريعًا على أنَّه لا يشترط سَبْق الاستعمال - أنَّه: (قيل بذلك مطلقًا، والأصح لِمَا عَدَا المَصْدَر) (¬1). وتَوقَّف كثير مِن العَصريين في مراد المصنِّف بذلك، حتَّى إنَّ شيخنا بدر الدين الزركشي (رحمه الله تعالى) لم يتعرض لشرح ذلك، بل بيض له. وقد ألهمني الله - سبحانه وتعالى - مقصوده بذلك من كلامه في "شرح المختصر"، فإنه لَمَّا تكلم على استدلال ابن الحاجب على عدم الاستلزام بأنه لو استلزم لكان للفظ "الرحمن" حقيقة، أي: وليس كذلك؛ لأنَّ "رحمان" فَعْلان للمبالغة في الكثرة، وصفاتُ الله تعالى لا تقبل ذلك، قال: (وأيضًا فهو مِن معنى الرقة وميل القلب، وهو مستحيل على الله تعالى، ولم يُستعمل إلَّا ¬

_ (¬1) جمع الجوامع (1/ 401) مع شرح المحلي وحاشية العطار.

في الله تعالى، وهذا بناء على أن أسماءه تعالى صفات لا أعلام. أما إذا قلنا: أعلام، فالعَلَم ليس حقيقة ولا مجازًا. وما يقال: "قد قال بنو حنيفة: رحمان اليمامة، ولا زلت رحمانًا في مسيلمة" فقد أجاب الزمخشري بأن ذلك من تَعنّتهم في كفرهم. وهو غير مفيد؛ لأن التعنت سبب في الإطلاق، ومتى ثَبتَ الإطلاق، قام الدليل. وإنَّما الجواب السديد أنهم لم يستعملوا "الرحمن" بالألف واللام والكلام فيه) (¬1). ثم قال: (وعند هذا أقول: مذهبي أن المجاز يستلزم استعمال اللفظ المشتق منه بطريق الحقيقة، سواء استُعمل مع ذلك بالحقيقة فيما استعمل بالمجاز أم لا. فأقول مثلًا: إنما استعمل "رحمن" إذا استعملت العرب الرحمة، ثم إذا استعملت الرحمة، كان لنا أن نتصرف فيما يُشتق منها مِن فَعْلان وفاعل ومَفْعُول وغير ذلك وإنْ لم تنطق به العرب البتَّة، ولا أَشترِط أن تكون العرب استعملت "رحمن" - الذي هو فَعْلان - بالحقيقة). ثم قال: (إن بهذا يَخْلُصُ ابن الحاجب مِن الاعتراض عليه في استدلاله بأنَّ هذا مشترك الإلزام في الوضع بعين ما ذكره، لا مَخْلَصَ له غيره) (¬2). انتهى ملخصًا. قلت: وفيما قاله نَظر مِن وجوه: الأول: أن قوله: (إن صفات الله تعالى لا تَقبل القِلة والكثرة) إنما ذاك في صفات الذات؛ لأنها قديمة، أما صفات الأفعال - على القول الراجح وهو قول الأشاعرة بحدوثها - فتَقبل باعتبار متعلقها. ثانيها: أنَّ هذه المسألة عَيْن مسألة الإمام أن المجاز لا يدخل في المشتقات بالذات بل بطريق التبع للمصدر، ثم هذا إنما هو إذا قُلنا: المجاز في "رحمان" باعتبار المبالغة في "فَعْلان". ¬

_ (¬1) رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (1/ 384). (¬2) رفع الحاجب (1/ 385).

أما إذا قُلنا بأنَّ المجاز في المادة، فلا. ثالثها: أن قوله: (إن الأصح لِمَا عَدَا المصْدَر) يقتضي أنه خِلافٌ منقول، وهو في شرح "المختصر" إنما جعله مذهبًا لنفسه. رابعها: أن قوله: (لما عدا المصدر) يقتضي اشتراط الاستعمال في المصدر على الإطلاق، سواء تُجُوِّز بالمصدر لِغَير معناه أو بالنسبة لِمَا اشتق منه إذا تجوّز به عن معنى ذلك المشتق حقيقة أَم إليهما معًا، لكن كلامه في الشرح يقتضي أن ذلك إنما هو بالنسبة للمشتقات فقط. خامسها: أن قوله: (إن جواب الزمخشري عن "رحمان اليمامة" لا يفيد) ممنوع؛ وذلك لأن تعنتهم في كفرهم أدَّاهم إلى أن يأخذوا ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الألفاظ التي لا يعرفونها ويستعملونه فيما شاءوا، ولا يَلزم من ذلك استعمالهم لها قبل أن يأتي بها الشارع. نعم، إنْ ثبت استعمالهم لها قبل ذلك، اتضح ما قاله من الرد. سادسها: أن ما أجاب به من أنهم لم يستعملوه بالألف واللام - عجيبٌ؛ فإنَّ المجاز والحقيقة للمفرد، ولا مدخل للمركب في ذلك، ولا شك أن "أل" كلمةٌ أخرى زائدة على المفرد الذي الكلام فيه. الثاني: ما أطلقتُه مِن وقوع المجاز هو الأصح، خِلافًا للأستاذ أبي إسحاق الأسفراييني كما نُقل عنه، لكن استبعده الإمام والغزالي؛ باعتبار جلالته، فلا يقع ذلك منه. قال الإمام (¬1): (فإنْ أراد الأستاذ أن أهل اللغة لم يسموه "مجازًا" بل حقيقة عند القرينة، ¬

_ (¬1) هذا ليس كلام إمام الحرمين، بل هو كلام الزركشي في (البحر المحيط)، وبيان ذلك كما يلي: قال إمام الحرمين في (التلخيص، 1/ 193): (هَذَا الْقَائِل. . إِنْ ذهب إِلَى نفي المْجَاز عَن اللُّغَة =

فممنوع؛ فإنَّ كُتبهم مشحونة بتلقيبه "مجازًا"، و [لو سُلِّم ذلك لم يَقدح في تسميتهم بانفراده] (¬1) مجازًا). انتهى فيتعجب من إلْكِيَا كيف أجاب عنه بهذا الجواب وإمامه قد ضعفه؟ ! وقال الغزالي في "المنخول": إنَّ [مراده] (¬2): ليس ثابتًا ثبوت الحقيقة. ونَقَل عنه في موضع آخَر أن النص عنده هو الحقيقة وأن الظاهر هو المجاز (¬3). وقد قال جَمْعٌ بأن المجاز من النص. ¬

_ = جملَة فقد أَخطَأ، وَقد حُكيَ عَن الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق، وَالظَّن بِهِ أَنَّ ذَلِك لَا يَصح عَنهُ). وهنا انتهى كلامه بخصوص ذلك. فقال الإمام الزركشي في (البحر المحيط، 1/ 536): (قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "التَّلْخِيصِ": "وَالظَّنُّ بِالْأُسْتَاذِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُ". وَإنْ أَرَادَ أَهْل اللُّغَةِ لَمْ يُسَمُّوهُ بِذَلِكَ بَلْ اسْمُهُ مَعَ قَرِينَةٍ حَقِيقَةٌ، فَمَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّ كُتُبَهُمْ مَشْحُونَةٌ بِتَلْقِيبِهِ "مَجَازًا"، وَلَوْ صَحَّ كَوْنُ الْمَجْمُوعِ حَقِيقَةً، لَمْ يَقْدَحْ فِي تَسْمِيتِهِمْ الِاسْمَ بِانْفِرَادِهِ "مَجَازًا"). انتهى قلتُ: فَتَوَهَّم الإمام البرماوي أنَّ الكلام كُله لإمام الحرمين، لكن الصواب أن كلام الزركشي يبدأ بقوله: (وإنْ أراد ... ). (¬1) هكذا يوافق كلام الزركشي في (البحر المحيط، 1/ 536). والعبارة في (ز، ق): [لولا ذلك لم يقدح في تسميتهم الاسم بانفراده). وفي (ص، ش): (لو سلم ذلك لم يقدح نفي تسميتهم الاسم في أن الشيء يكون). وفي (ض، ت): (لو سلم ذلك لم يقدح نفي تسميتهم الاسم في كون الشيء يكون). (¬2) في (ز، ق): طرده. (¬3) عبارة الغزالي في (المنخول، ص 166): (وأما الظاهر، قال الأستاذ أبو إسحاق: هو المجاز، والنص هو الحقيقة. ورب مجاز هو نَص).

نعم، الفارسي منعه مطلقًا كما نقله عنه ابن الصلاح في "فوائد الرحلة"، لكن تلميذه ابن جني -وهو أَخْبر بمذهبه- نقل عنه في "الخصائص" أن المجاز غالب على اللغات كما هو اختيار ابن جني أنه غالب على لغة العرب وغيرها. كذا نقل عنه في "المحصول" وأنه ادَّعى أن نحو: "قام زيد" يقتضي نسبة جميع أفراد القيام إليه؛ لأن القيام جنس. قال: (وهو ركيك؛ لأن المصدر إنما دَل على ما يَصْدق عليه مِن القدْر المشترك، لا على جميع أفراده) (¬1). نعم، ابن جني قال: إن نحو: "ضربت زيدًا" لم يضرب إلا بعضه. واعترضه تلميذه ابن مَتُّويه المتكلم بأن التأَلُّم وقع لكله. وما قاله ضعيف؛ لأن الكلام في نسبة الضرب لا التألم. ولا شك أن الضرب الذي هو الإمساس إنما وقع في بعضه، والتألم أثَرُه وإنْ كان في الكل. ونقل ابن السمعاني عن أبي زيد الدبوسي أن المجاز غالب على اللغات كما نقل عن ابن جني. قيل: وغرض ابن جني بذلك نفي خلق الله عز وجل لأفعال العباد؛ لقوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [التوبة: 36]، قال: ولو لم يكن ذلك لكان خالقًا لأفعالنا، فيكون خالقًا للكفر والعصيان ونحوهما، تعالى الله عن ذلك. وقد استدرج إلى أمور [صعبة] (¬2)، منها: نفي عِلمه تعالى، و [غيرها] (¬3). وخَطَأُ ابن ¬

_ (¬1) المحصول في علم أصول الفقه (1/ 468). (¬2) في (ز): ضعيفة. (¬3) في (ص، ض، ت): غيره.

جني في ذلك كُله ظاهرٌ. ومنع قوم وقوع المجاز في القرآن، ونَسبه الغزالي في "المنخول" للحشويه، وحُكي عن الأستاذ وابن خويز منداد، وبه قال أيضًا ابن القاص مِن أصحابنا كما حكاه عنه العبادي في "الطبقات"، وحكوه عن داود وابنه وعن جماعة آخرين. وقيل: إنما أنكرت الظاهرية مجاز الاستعارة؛ لأنها عند الضيق، وأنه مُنَزه عن ذلك. ورُدَّ بأنه يَلزم أن لا يكون في القرآن توكيد ولا نحوه مِن تثنية القصص، وأيضًا فالمجاز يكون أَبْلَغ مِن الحقيقة، ولامتحان السامعين به، وغير ذلك من المقاصد. ومنع ابن داود وقوعه في السُّنة أيضًا كما حكاه في "المحصول"، لكن استنكره الأصفهاني في "شرحه"، وقال: (إنه تفرد بنقله) (¬1). لكن هذا مردود بقول ابن حزم في "الإحكام": (إن قومًا منعوه فيهما) (¬2). وفي "شرح المفصَّل" لابن الحاجب في "باب الإضافة": (ذهب القاضي إلى أنه لا مجاز في القرآن، وأن مِثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] محمول على أن القرية تُطلَق على الأهل والجدران معًا على وَجْه الاشتراك) (¬3). ورُدَّ بتبادر الجدران وتَوقُّف الأهل على القرينة. وقيل: إنْ تَعلق به حُكم شرعي، لا يجوز، وإلا جاز. وقد أَلجأَتْ هذه المذاهب الفاسدة سلطان العلماء ابن عبد السلام إلى أن يصنف كتابه ¬

_ (¬1) الكاشف عن المحصول (2/ 307، 310). (¬2) الإحكام في أصول الأحكام (4/ 437). (¬3) الإيضاح في شرح المفصل (1/ 424). الناشر: وزارة الأوقاف والشئون الدينية - العراق.

الحافل في مجاز القرآن الذي أطال فيه وأجاد وعَمَّ نفعُه أقطار البلاد. الثالث: المجاز خلاف الأصل؛ لأن الأصل بقاء اللفظ على دلالته على معناه الأول. وكذا يقال في المنقول شرعًا أو عُرفًا: الأصلُ عدم النقل، وعدم الاشتهار الذي يصير به حقيقةً فيهما، وحينئذٍ فالعدول إلى المجاز -مع إمكان الحمل على الحقيقة- غير جائز. نعم، هو والنقل أَوْلى من الاشتراك؛ لاحتياج "المشترك" إلى قرينة، فإنْ لم تكن قرينة فهو مُخِل بالفَهم، بخلاف الحقيقة والمجاز، فإنَّ اللفظ يُحمل على الحقيقة ما لم تكن قرينة للمجاز فيُحمل عليه بها. وقيل: الاشتراك أَوْلى؛ لِتوقُّف المجاز على وَضْعَين وعلاقة، بخلاف "المشترك" مِن واضع واحد، ولتوقُّفه على نَسخ الحقيقة اللغوية. قلتُ: لكن مَن يحمل "المشترك" على معنييه لا يرجح المجاز والنقل عليه مطلقًا، بل من حيث يتعذر الحمل، فتأمله. نعم، إنما يعدل عن الحقيقة إلى المجاز مع الإمكان: - لِثقل لفظ الحقيقة على اللسان، كَـ "الخنفقيق" اسم للداهية، فيُعدل إلى لفظ النائبة أو الحادثة أو نحو ذلك. - أو بشاعتها، كالعدول في اسم الخارج البشع إلى "الغائط"، أو جهل الحقيقة مِن المتكلِّم أو المخاطَب. - أو يُعدَل إلى المجاز؛ لبلاغته في سجع أو تجنيس أو غير ذلك مِن أنواع البلاغة. - أو لكونه أشهر من الحقيقة. - أو حيث لا يكون للمعنى الذي عُبِّر عنه بالمجاز لفظ حقيقي أو يقصد المتخاطبان

إخفاءه، أو نحو ذلك. أما إذا تعذرت الحقيقة؛ للاستحالة وأمكن المجاز، فيُعدَل إليه قطعًا. الرابع: إذا استحالت الحقيقة، لا يتعين كَوْن المجاز معتمَدًا بمجرد ذلك، بل لا بُد من دليل للحمل على أن المتكلم أراده. وخالف أبو حنيفة فقال: يتعين حملُ اللفظ على المجاز بمجرد تَعذُّر الحقيقة؛ تصحيحًا للكلام حيث ما أَمكن. وانبنى على هذا الخلاف ما لو قال لغلامه الذي هو أسن منه: (هذا ابني)، فعنده يتعين حمله على المجاز، أي: مِثل ابني في الحرية؛ فيُعتق. وعندنا يُلغَى لفظه؛ لِتعذُّره، ولا يُعتق، فقد يقصد المتكلم مجازًا آخَر، أي: مثل ابني في الحنو، أو نحو ذلك. ولو قال: (أوصيت له بنصيب ابني) فوجهان: أصحهما عند العراقيين والبغوي: بُطلان الوصية؛ لورودها على حق الغير، وعزاه الرافعي لأبي حنيفة، وهو مُشْكل على أصله. والثاني وبه قال مالك: يصح وكأنه قال: (مثل نصيب ابني)؛ لكثرة استعمال مِثل ذلك، وصححه الإمام والروياني وغيرهما. ويجريان فيما لو قال: (بعتُ عبدي بما باع به فلان فرسه) وهُما يَعْلمان قَدْره ولم يكن ذلك بعينه، انتقل إلى مِلك المشتري، ونحو ذلك. واعْلَم أن الفرق بين هذه المسألة وبين ما سبق مِن أن "الحقيقة إذا تَعذرت، يُعدَل للمجاز" أنَّ ذلك في الاستعمال، وهذه في الحمل. قلتُ: ومِن هنا نشأ كلام العلماء في الآيات والأحاديث الواردة في الصفات المشكلة،

فإن الحقيقة فيها متعذرة بالأدلة القطعية عقلًا ونقلًا على طريق أهل السُّنة، فهل يُقال حينئذٍ: يجب الحمل على المجاز بمجرد التعذر؟ أوْ لا؛ لاحتمال إرادة ما يليق مما لا نعرفه مُعَيَّنًا؟ طريقتان: طريقة السلف الثانية مع اعتقاد التنزيه، خِلافًا لِمَا ينسبه المبتدعة لهم مِن الإجراء على الظاهر. وطريقة مَن بَعْدهم هي الأَوْلى الآن؛ محافظةً على التنزيه ونَفْي التوهُّم. فالفريقان متفقان على التنزيه. بل أقول: الواجب في هذا الزمان العمل بطريق التأويل (¬1)، لِمَا سلكه المبتدعة مِن الحلول والاتحاد ومِن الجهة والتجسيم وتسمية مَن لم يعتقد ذلك "مُعَطِّلًا" والدعاء لهذه البدعة العوام؛ لضعف عقولهم عن إدراك حقائق التوحيد ودقائق الشرع. وقد بينتُ في مقدمة كتابي المُسمى بـ "تحقيق القول بالصمات عن مشكلات الصفات" وجوهًا مِن الترجيح: منها: ما نقلناه عن أبي حنيفة مِن وجوب الحمل على المجاز بمجرد تَعذُّر الحقيقة وقوة ما تمسك به؛ لأن خطاب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو باللسان العربي، ووجدنا العرب تستعمل مثل ذلك في هذه المعاني التي يُؤَوَّل بها المُشْكل مجازًا، فنكاد أنْ نَقطع بأنَّ ذلك هو المراد. ومنها: أنَّ سلوك التأويل يدفع تَوهُّم ما هو محُال والضرر العظيم الحاصل مِن عوامِّهم لعوامّ آخَرين. وعدمُ تَعرُّض الأوَّلين لذلك إنما كان لخلو زمانهم عن مثل هذا الفساد، وربما نَهوا عن الاشتغال بعلم الكلام كما يُروى ذلك عن الإمام الشافعي وغيره - رضي الله عنه - خشيةً من ¬

_ (¬1) هذا يخالف منهج السلف الصالح وما عليه أهل السُّنة والجماعة، وتم بيان ذلك في مُقدمتي لهذا الكتاب.

تخيُّل ضعفاء العقول ما يجب من التنزيه [عنه] (¬1). أما مَن كمل رأيه وأدواته فواجب عليه ذلك؛ لردِّ المُبْطِلين وإقامة الحجج عليهم، وقد تكلم في ذلك نفس الأئمة الناهين عن ذلك بما يشفي الصدور، - رضي الله عنهم - أجمعين. وقد أوسعَ العلماء في كل فَنٍّ مِن الفقه وغيره في بيان أحكام عسى أن تقع أو تجري في الخيال، فادِّعاء أن الصحابة ما كانوا يتكلمون في العقائد - يُوهم أن ذلك لِمَا قرروه مِن اعتقاد ظواهر المُحَالات، وليس كذلك، إنما هو خشية الوقوع فيما لا يجوز كما وقع في هذا الزمان. وكل هذا ظاهر لا خفاء به، والله أعلم. ص: 411 - وَاللَّفْظُ دَائِمًا عَلَى عُرْفِ الَّذِي ... خَاطَبَ مَحْمُولٌ، فَغَيْرَهُ انْبِذِ 412 - فَفِي خِطَابِ الشَّرْعِ شَرْعِيٌّ قَوِي ... وَبَعْدَهُ الْعُرْفِيُّ، ثُمَّ اللُّغَوِي الشرح: لما بينتُ أن الحقيقة إما لُغوية أو شرعية أو عُرفية وأن المجاز كذلك، ذكرتُ هنا أن اللفظ إذا سُمع من كلٍّ من الجهات الثلاثة فإنما يجب حمله على ما هو المتعارف في تلك الجهة. فإذا سُمع مِن الشارع، وجبَ حملُه على ما بَيَّنه الشرع مِن مدلول اللفظ. وإذا سُمع من أهل اللغة، حُمل على ما يُعرف في اللغة. وإذا سُمع في عُرفٍ عام أو خاص، حُمل على ذلك العرف. فإذا تَعذَّر الحمل عليه، وجب الحمل على ما يدل عليه الدليل من المجاز في عُرف مَن يُخاطِب به، أي: بحسب العلاقة المعروفة فيه، وعلى ذلك يجري كثير مِن مسائل الفقه. والأهم من هذا ما أشرتُ إليه بقولي: (فَفِي خِطَابِ الشَّرْعِ) إلى آخِره - معطوفًا على ما ¬

_ (¬1) من (ت، ش، ظ).

سبق بـ "الفاء" المشعِرة بتَسَبُّبه عنه وهو أن خطاب الشرع بلفظٍ يجب حمله على عُرف الشرع؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - مبعوثٌ لبيان الشرعيات؛ ولأنه كالناسخ المتأخر، فيجب حمله عليه. ولهذا ضعَّفوا حمل حديث: "مَن أكل لحم الجزور فليتوضأ" (¬1) على التنظيف بغسل اليد، ورجَّح النووي التوضؤ منه؛ لضعف الجواب عن الحديث الصحيح بذلك. هذا هو أرجح المذاهب في المسألة. فإنْ تَعذَّر الحمل على الشرعي، حُمل على العُرفي؛ لأنه المتبادر إلى الفَهم؛ ولهذا اعتبر الشرع العادات في مواضع كثيرة كما سيأتي ذلك في قواعد الفقه التي ذكرها القاضي الحسين في الكلام على قاعدة تحكيم العادة ودليلها من السُّنة. فإذا تَعذَّر العُرفي أيضًا، حُمل على اللغوي، كقوله عليه الصلاة والسلام: "مَن دُعي إلى وليمة فليُجب، فإنْ كان مفطرًا فليأكل، وإنْ كان صائمًا فَلْيُصَلِّ" (¬2). حمله ابن حبان في "صحيحه" على معنى "فَلْيَدْعُ" (¬3). فإن تعذَّر حَملُه على الحقائق الثلاث، حُمل على المجاز كما سبق بيانه آنفًا. فإنْ قيل: هذا يخالف قول الفقهاء: (ما ليس له ضابط في الشرع ولا في اللغة، يُرجع فيه إلى العُرف)؛ فإنَّ فيه تأخير العُرف عن اللغة. ¬

_ (¬1) لم أجده بهذا اللفظ، ولكن في صحيح مسلم (رقم: 360) بلفظ: (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَوَضَّأْ. قَالَ: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ). (¬2) صحيح مسلم (رقم: 1431) بلفظ: (إذا دُعِيَ أحدكم فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كان صَائِمًا فَلْيُصَلِّ، وَإِنْ كان مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ). (¬3) يعني: الصلاة هنا بمعنى الدعاء.

فالجواب من وجوه: أحدها: حمل ما قاله الأصوليون على لفظ الشارع، وما قاله الفقهاء على لفظِ غيره. وضُعِّفَ بأن الفقهاء قد استعملوا ذلك في القبض والإحياء والحرز ونحوها مِن ألفاظ الشرع. وثانيها وبه أجاب الباجي: أن كلام الأصوليين في العُرف الكائن في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، وكلام الفقهاء في عُرفِ غيره. وضُعِفَ أيضًا بأنه لا يظهر بينهما فرق في المخاطبات حيث يتبادر الذهن إليه. وثالثها وهو الأَجود: أن مراد الأصوليين مدلول اللفظ، ومراد الفقهاء ضبط المعنى المقصود وتحديده؛ ولهذا يقولون: (ما ليس له حَد في اللغة) ولم يقولوا: (ما ليس له معنى في اللغة). أما بقية المذاهب في الوارد مِن لفظ الشارع: فقال أبو حنيفة: يُحمل على اللغوي إلا أن يدل دليل على إرادة الشرعي. قال: لأن الشرعي مَجاز، والكلام بحقيقته حتى يدل دليل على المجاز. وأجيب بأنه بالنسبة إلى الشرع حقيقة وإلى اللغة مجاز. فذلك دليل عليه، لا لَهُ. وثمرة الخلاف في مسائل، منها: أن الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة عندنا، ويوجب عنده؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] وهو لُغةً: الوطء، فغيرُه مجَاز. فيُقال له: هو في العقد حقيقة شرعية، وفي الوطء مجاز؛ فيُحمل على الحقيقة. وإلحاق الشبهة به للمعنى الذي ليس مثله في الزنا.

ومنها: في قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يَنكح المحرم ولا يُنكح" (¬1). جَوَّز الحنفية عقد النكاح للمحرم؛ حملًا للحديث على أن النكاح بمعنى الوطء. ومنها قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] الآية. جَوَّزوا للحر نكاح الأَمة بدون خوف العنت لذلك. ومنها حديث: "لا صلاة إلا بطهور" (¬2)، وحديث: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" (¬3) وحديث: "لا نكاح إلا بولي" (¬4)، كلها تُحمل عندنا على الشرعي. نعم، إذا دل دليل على إرادة غيره، حُمل عليه، كما في حديث: "لا صلاة خلف الصف" (¬5) كما بُيِّن ذلك في الفقه. وقال الغزالي والآمدي: يحمل اللفظ في الإثبات وما في معناه - كالأمر- على الشرعي؛ لِمَا سبق، كقوله عليه الصلاة والسلام: "إني إذَن أصوم" (¬6)، أي: الصيام الشرعي، حتى يُستدل به على جواز النية في النَّفْل بالنهار. وأما في النفي وما في معناه -وهو النهي- فاختلفا فيه: ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (رقم: 1409). (¬2) صحيح مسلم (رقم: 224) بلفظ: (لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ)، سنن ابن ماجه (رقم: 271) بلفظ: (لَا يَقْبَلُ الله صَلَاةً إلا بِطُهُورٍ)، سنن أبي داود (رقم: 59) بلفظ: (ولا صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) سبق تخريجه. (¬5) سنن ابن ماجه (رقم: 1003) بلفظ: (لَا صَلَاةَ لِلَّذِي خَلْفَ الصَّفِّ)، صحيح ابن حبان (2203) بنحوه، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 829). (¬6) صحيح مسلم (رقم: 1154) بلفظ: (فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ).

فقال الغزالي: مُجْمَل (¬1). كالنهي عن الصيام يوم النحر، إذْ لو حُمل على الشرعي، لَلَزِمَ صحة الصوم فيه؛ لأنه لا ينهى إلا عمَّا يمكن. ولو حُمل على اللغوي، لكان حَملًا لكلام المتكلم على غير عُرفه. وقال الآمدي: يُحمل على اللغوي؛ للاستحالة المتقدمة، والأصلُ اللغة (¬2). ويُضعِّف مذهبَهما الاتفاقُ على حَمل نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "دَعِي الصلاة أيام أَقرائك" (¬3) على المعنى الشرعي باتفاق مع أنه في معنى النهي. تنبيه: قد يرجح المجاز حتى يصير مُعادِلًا للحقيقة، لاشتهاره، فيصير حقيقة شرعية أو عُرفية، أو تدل قرائن على ضعف الحقيقة اللغوية بحيث لا تُمَاتُ أصلًا، وإنما تتساوى مع المجاز، وفي ذلك حينئذٍ مذاهب: أحدها: تُقدم الحقيقة اللغوية؛ لأنها الأصل. وهو قول أبي حنيفة، وسبق ذلك في معارضتها الشرعية والعُرفية. والغرض هنا مسألة ضَعْفها بالقرائن، وذلك كما لو حلف ليشربنَّ مِن هذا النهر، فإن حقيقته أن يكرع منه، ومجازه الراجح المعادل للحقيقة أن يغترف بإناء منه ويشرب، فالحقيقة ليست مماتة أصلًا؛ لأن كثيرا مِن الرعاة وغيرهم يكرع بِفِيه. وثانيها: يقدم المجاز؛ لِغَلبته. وهو قول أبي يوسف، واختاره القرافي؛ لأنه هو الظاهر، والتكليف إنما هو بالظهور. ¬

_ (¬1) المستصفى (ص 160). (¬2) الإحكام للآمدي (3/ 27). (¬3) سنن الدارقطني (1/ 212، رقم: 36)، وفي صحيح البخاري (رقم: 314)، صحيح مسلم (رقم: 333) بلفظ: (فإذا أَقْبَلَت الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ)

وثالثها وهو المختار عند البيضاوي وجمعٍ وعُزيَ للشافعي رحمه الله: مُجْمَل؛ للتعارض؛ لأن كُلًّا منهما راجح مِن وَجْه. ويجوز أن يُقال: إنما يحكم بأنه مجمل إذا لم يحمل اللفظ على حقيقته ومجازه عند عدم القرينة، أما إذا قُلنا بذلك فيحمل عليهما معًا. وفي "كتاب الأيمان" مِن "الرافعي": (لو حلف لا يأكل مِن هذه الشجرة، حُمل على الأكل مِن ثمرها دُون الورق والغصون، بخلاف ما لو حلف لا يأكل من هذه [الشاة] (¬1)، فإن اليمين تحمل على لحمها دُون لبنها ولحم ولدها؛ لأن الحقيقة فيه متعارفة) (¬2). نعم، في "المطلب" لابن الرفعة في "باب الإيلاء" أنَّ: (محل الخلاف في الإثبات، أما في النفي فيعمل بالمجاز الراجح جزمًا؛ فلهذا كان "لا أجامعك" صريحًا في الإيلاء مع أن حقيقته الاجتماع). انتهى ومما يقرُب مِن هذه المسألة مسألة ذكرها في "المحصول" (¬3)، وهي: أن يكون للفظ حقيقة ومجاز ويدل على إرادة الحكم في المعنى المجازي دليل مِن إجماع أو غيره لكن يمكن أن يكون هو المراد مِن هذا الخطاب ويمكن أن يراد معه غيره، هل يتعين المجاز؟ أو يحمل اللفظ عليه وعلى الحقيقة؟ ذهب الكرخي والبصري إلى الثاني. وذهب القاضي عبد الجبار - وتبعه في "المحصول"- إلى الأول. والصحيح الثاني؛ لأن المرجح -كما سبق عن الشافعي وغيره- حمل اللفظ على حقيقته ¬

_ (¬1) في (ز، ظ): البقرة. (¬2) العزيز شرح الوجيز (12/ 347). (¬3) المحصول في أصول الفقه (1/ 587 - 588).

ومجازه عند عدم الدليل على تَعيُّن أحدهما. مثاله قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]، فالتيمم لمعنى اللمس المجازي -وهو الجماع- ثابت بالدليل، فهل هو المراد من الآية حتى لا يُستدل بها على الانتقاض باللمس الذي هو المعنى الحقيقي في {أَوْ لَامَسْتُمُ} وهو تماس البشرتين؟ أو لا يدل على أنه المراد بل يجوز أن يكون المراد المعنيين المجازي والحقيقي؟ ويرجع حاصل الخلاف فيها إلى أن المجاز هل رجح ها هنا حتى صارت الحقيقة مماتة؛ لكون الدليل قام على إرادته؟ أو لم تمت الحقيقة؛ إذْ لا مانع من إرادتها أيضًا، بل يُعمل باللفظ فيهما معًا؟ ولا يتأتى هنا القول بأنه يَكون مُجْمَلًا؛ لأن المجاز هنا مراد قطعًا؛ للدليل، والحقيقة ليست مماتة؛ لأن كون الدليل قائمًا على أن المجاز مراد -لا يدل على إماتة الحقيقة. نعم، قال الشيخ علاء الدين بن نفيس في كتابه "الإيضاح": إنه وإن لم يمنع إرادة الحقيقة مع المجاز لكنه يُرجح اعتبار المجاز. وذهب الأصفهاني في "شرح المحصول" إلى أن هذه المسألة إنما هي مُفرعة على القول بمنع الحمل على الحقيقة والمجاز معًا، وأن الذي يقول بأن الحقيقة تُراد مع المجاز لا من حيث الحمل عليهما، بل لأن موجب الحقيقة قائم لم يمنعه مانع، وغايته أن المجاز دل دليل على إرادته وتلك المسألة حيث لا قرينة. قلتُ: لكن سبق تقرير أن الدليل الذي قام على المجاز لم يدل على أنه هو المراد فقط، فيقال: إنه لم يقم دليل على أن أحدهما هو المراد، بل على أنه مراد. وفَرْقٌ بينهما؛ ولهذا قال بعضهم: إنَّ هذه المسألة شبيهة بما سبق مِن أن الإجماع على وَفْق دليل لا يدل على أن ذلك الدليل هو مستندهم، بل يجوز أن يكون دليلًا آخَر (على الأصح). أي: الإجماع لَمَّا قام على أن المجاز مراد، هل مستنده أن الحقيقة لا يُعمل بها؛ فيتَعَيَّن

المجاز؟ أو أن اللفظ يحمل على الحقيقة والمجاز معًا؟ والله أعلم. ص: 413 - أَمَّا الْعِلَاقَةُ الَّتِي تُعْتَبَرُ ... بِنَوْعِهَا فِيهِ فَوَصْفٌ يَظْهَرُ 414 - أَوْ شَكْلٌ، اوْ مَا كَانَ أَوْ يَؤُولُ ... بِالْقَطْعِ أَوْ بِالظَّنِّ، لَا الْمَجْهُولُ 415 - أَوْ بِتَجَاوُرٍ، وَكَالزِّيَادَهْ ... وَالنَّقْصِ، وَالضِّدِّ لِمَنْ أَرَادَهْ 416 - أَوْ سَبَبًا يَكُونُ أَوْ مُسَبَّبًا ... وَالْكُلُّ لِلْبَعْضِ، وَعَكْسٌ نُسِبَا 417 - وَمُتَعَلَّقٌ لِمَا تَعَلَّقَا ... وَعَكْسُهُ بِصُوَرٍ قَدْ حُقِّقَا 418 - وَمَا بِفِعْلٍ أَطْلَقَوا بِالْقُوَّهْ ... لِهَذِهِ أَمْثِلَةٌ مَدْعُوَّهْ الشرح: هذا تفسير لما سبق مِن اعتبار العلاقة في المجاز وبيان اعتبار الواضع معناها وأنواعها. أما اعتبارها في الجملة فباتفاق وإلا لكان الكلام كذبًا أو خارجًا عن كلام الذي المجاز باعتبار وضعه من شرع أو لغة أو عرف (¬1). وأمَّا اعتبار الواضع معناها: فالمراد اعتبار نوعها مِن كونها مِن إطلاق الكل على البعض أو عكسه أو المجاورة أو نحو ذلك مما سيأتي، فإن ذلك هو معنى الوضع في المجاز كما سبق. وليس المراد اعتبار وضع كل فرد مِن النوع. ويُعبر عن هذه المسألة أيضًا باشتراط السمع في المجاز، أي: السمع في النوع، لا في الفرد المشخص قطعًا، ولا في كون العلاقة لا حاجة إليها أصلًا، إذ لا بُد مِن عُلقة باتفاق، بل ¬

_ (¬1) كذا في جميع النُّسَخ.

المراد اعتبار النوع. وهو ما اختاره إمام الحرمين في "التلخيص" والإمام الرازي وأتباعه. وقيل: لا حاجة إلى سماع النوع أيضًا، بل يكفي وجودها وإنْ لم يسمع نوعها. ورجحه ابن الحاجب وغيره وإنْ لم يرجح الآمدي مِن القولين شيئًا. نعم، في كلام السمرقندي من الحنفية في كتاب "الميزان" ما يُشعر بخلاف في جزئيات كل نوع، فإنه قال: (قيل: إنه موضوع كالحقيقة إلا أنها بوضع أول. وقيل: الموضوع طريقُه دُون لفظِه. وقيل: لم يضعوا لفظَه ولا طريقَه؛ لأن العلاقة عِلة، فإذا وُجدت العلة، وُجد المعلول، فلو شرطنا سماع العلاقة لَزِمَ أن يكون الحكم منصوصًا كما في عِلل الأحكام، فيرتفع المجاز أصلًا) (¬1). انتهى ولا يخفَى ما في ذلك مِن نظر؛ لأن النَّص على العلة لا يَلزم منه أن يصير الحكم منصوصًا. وقال ابن الحاجب في "أماليه" (¬2): الإنصاف أن المجاز إن كان باعتبار الألفاظ مفردة، احتاج إلى النقل، وإن كان باعتبار المعاني الحاصلة باعتبار تَعدُّد الألفاظ - مثل "طلع [فجرُ عُلاه] (¬3) " وشابت لمَّةُ رأسه وأشباهه - لم يحتج لنقل. قلتُ: وكأنه يشير إلى أن المجاز العقلي غير موضوع، بخلاف المجاز في المفرد وإنْ كان في أمثلته مجاز الإفراد ومجاز التركيب، على أنه في "مختصره" يَرُد المجاز العقلي في مثل ذلك إلى مجاز المفرد كما سيأتي، فتضعف هذه التفرقة. ¬

_ (¬1) ميزان الأصول في نتائج العقول (ص 382 - 383). (¬2) أمالي ابن الحاجب (2/ 790). (¬3) في (ز): فجره وعلاه.

أما بيان أنواع العلاقة: فقال في "المحصول": (الذي يحضرنا منها اثنا عشر قِسمًا) (¬1). وأنهاها الهندي في "النهاية" إلى أحد وثلاثين، وزاد غيره على ذلك، وقال بعضهم: إنَّ فيها تَداخُلًا. وقد ذكرت في النظم منها طائفة مهمة، فنشرحها ثم نذكر بعض زيادة، ونشير إلى وجه التداخل فيما لم نذكره: الأول: مجاز المشابهة في معنى، كَـ "الأسد" للشجاع بشرط أن يكون صفة ظاهرة، لا خَفية؛ ليخرج إطلاق الأسد على الأبخر؛ لأن البخر خفي. وقال القرافي: أن يكون أشهر صفات المشبَّه به، ومنه نحو قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]، أي: في الحرمة، وكذلك لو قال لعبده: (أنت ابني) وكان بحيث يمكن، فإنه يعتق. الثاني: مجاز المشابهة الصورية، كالأسد على ما هو بشكله مِن مُجَسَّد أو منقوش، وربما وجدت العلاقتان نحو: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [طه: 88]. الثالث: إطلاقه باعتبار ما كان وزال، كتسمية العتيق عبدًا، لكن يُشترط أن لا يكون متلبسًا الآن بضده، فلا يقال للشيخ: (إنه طفل) باعتبار ما كان، ولا للثوب المصبوغ: (أبيض) باعتبار ما كان، ولا لمن أسلم: (كافر) باعتبار ما كان. وكأنهم يريدون بذلك أنْ لا يطرأ وصف وجودي محسوس قائم به، وإلا فما الفرق بين ذلك وبين تسمية العتيق عبدًا باعتبار ما كان؟ وقد قال أصحابنا في حديث المفلس: "فصاحب المتاع أحق بمتاعه" (¬2): إنه جُعل كذلك باعتبار ما كان مع أن صاحب المتاع الآن ¬

_ (¬1) المحصول (1/ 323). (¬2) سنن ابن ماجه (رقم: 2360)، سنن الدارقطني (3/ 29)، مستدرك الحاكم (2314)، وغيرها. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف ابن ماجه: 468). لكنه صححه في (صحيح ابن ماجه: 1923) بلفظ: =

هو المفلس إلا أنها ليست صفة وجودية فيه. وبالجملة فلا يخلو ذلك كله مِن نظر. الرابع: إطلاقه باعتبار ما يَؤُول إليه: إما بالفعل: كإطلاق الخمر على العنب، كما في قوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36]. أو بالقوة: كإطلاق المسكر على الخمر، ومنهم مَن اعتبر أن يؤول بنفسه؛ ليخرج أن العبد لا يُطلق عليه "حُر" باعتبار ما يؤول إليه. وقولي: (بِالْقَطْعِ) إلى آخِره - إشارة إلى اعتبار كَوْن المآل مقطوعًا بوجوده، نحو: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، أو غالبًا كما سبق في تسمية العصير خمرًا، فإنَّ الغالب أنه إذا بقي، ينقلب خمرًا، لا ما إذا كان نادرًا أو محتملًا على السواء. وهو معنى قولي: (لَا الْمَجْهُولُ)؛ فلذلك ضعَّف أصحابنا حمل الحنفية "فنكاحها باطل" (¬1) على أن المراد: يَؤول إلى البطلان؛ لِكون الولي قد يَرده ويفسخه، فإن ذلك ليس قطعيًّا ولا غالبًا. وشَرَطَ إلْكِيَا القَطع، وكذا محمد بن يحيي في "تعليقه"، والجمهور على أن الغَلَبة كالقَطْع. الخامس: إطلاقه باعتبار المجاورة، كإطلاق لفظ "الراوية" على ظرف الماء، وإنما هي في الأصل للبعير، ومنه: جَرَى الميزاب و {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25] إذا لم يُجعَل مِن مجاز الحذف، أي: ماء الميزاب أو ماء الأنهار. ¬

_ = (مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ). (¬1) سبق تخريجه.

السادس: الزيادة، كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فالكاف زائدة، أي: ليس مِثله شيء. وقيل: الزائد لفظ "مثل". حكاه إمام الحرمين، وكذا حكاهما الماوردي وغيره وجهين لأصحابنا. وإنما حُكِم بزيادة أحدهما لئلا يَلزم أن يكون للباري تعالى مِثْل؛ لأنَّ نفي مِثل المِثل يقتضي ثبوت مِثل، وهو مُحال، أو يَلزم نفي الذات الشريفة؛ لأنَّ مِثل مِثل الشيء هو ذلك الشيء، وثبوته واجبٌ؛ فتَعَيَّن أن المراد نَفْي المِثل، وذلك إما بزيادة "الكاف" أو "مِثل". نعم، ادَّعى كثيرٌ عدمَ الزيادة والتخلصَ مِن المحذور بغير ذلك، لاسيما على القول بأنه لا يُطلق أنَّ في القرآن ولا في السُّنة زائدٌ كما سبق بيانه، وذلك من وجوه: أحدها: أن سلب المعنى عن المعدوم جائز، كسلب الكتابة عن ابن فلان الذي هو معدوم، فلا يلزم مِن نفي المِثل عن المِثل ثبوت المِثل. ثانيها: أن المراد هنا بلفظ "المثل" الصفة كالمَثَل -بفتحتين- كما قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الرعد: 35]، فالتقدير: ليس كصفته تعالى شيء. ثالثها: أن المراد بـ "مثل" ذاتٌ، نحو قولك: مثْلك لا يبخل. أي أنت لا تبخل. قال الشاعر: ولم أقُل مثلك أَعْني به ... غيرَك يا فردًا بلا مُشبه بل هذا النوع مِن الكناية أَبلغ من الصريح؛ لتضمنه إثبات الشيء بدليله. رابعها: أنه لو فُرض لشيءٍ مِثلٌ ولذلك المثل مِثل، كان كلاهما مِثلًا للأصل، فيَلزم مِن نفي مِثل المثل نفيُهما معًا، ويبقى المسلُوب عنه ذلك بالضرورة؛ لأنه الموضوع وكلٌّ منهما مُقَدَّرٌ مِثْليته وقد نُفِيَا عنه.

خامسها: قاله يحيى بن إبراهيم السَّلمَاسي في كتاب "العَدْل في منازل الأئمة الأربعة": (إنَّ الكاف لتشبيه الصفات، و"مِثل" لتشبيه الذوات، فنَفَى الشبهين كليهما عن نفسه، فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، أي: ليس له مِثل ولا كهو شيء) (¬1). انتهى ولا يخفى بُعْدُه ومنافرته لكلام العرب. تنبيه: قال القاضي عبد الوهاب في "الملخص": (قد اختُلف في كون هذا مجازًا، فقال الجمهور: إن الكلام يصير بالزيادة مجازًا. وقيل: إن نفس الزيادة هي المجاز دُون سائر الكلمات؛ لأن "الكاف" مثلًا هي المستعملة في غير موضوعها، وأما "المِثل" فمستعمل في موضوعه). قال: والصحيح الأول؛ لأن الحرف الواحد لا يفيد بنفسه، وما لا يفيد بنفسه لا يوصَف بأنه حقيقة ولا مجاز، وإنما يوصف بذلك الكلام المفيد. [ففي] (¬2) هذا تفريع على أن المجاز لا يكون في الحرف، وستأتي المسألة. السابع: علاقة النقصان، بأنْ ينقص لفظ من المركب ويكون كالموجود؛ للافتقار إليه، سواء أكان مفردًا أو مركبًا، جملة أو غيرها، كقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} [المائدة: 33]، أي: يحاربون عباد الله أو أهل دين الله أو نحو ذلك، ومثل: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} [طه: 96]، أي: من أثر حافر فرس الرسول، وبه قُرِئ شاذًّا، ومثل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، أي: فأفطر. وهو كثير جدًّا، والقرآن مملوء منه، وقد أورد منه ابن عبد السلام في كتاب "المجاز" على ¬

_ (¬1) منازل الأئمة الأربعة (ص 149). (¬2) كذا في (ت، ش، ق، ظ، ض)، وفي (ص): لكن.

ترتيب نظم القرآن من أوله إلى آخِره، بل هو غالب كتابه. لكن حكى الإمام خلافًا في أن ذلك هل يسمى مجازًا؟ أو لا؛ لأن المجاز هو اللفظ المستعمل؟ كما جرى مثله في الزيادة حتى زعم بعضهم أنهما مِن مجاز التركيب، واختاره الأصفهاني وغيره، ولا يخفَى ضعفه. نعم، دخوله في المجاز الإفرادي قيل: باعتبار تغيُّر الإعراب الذي شرَطه بعضهم في المجاز حتى يخرج مِن ذلك ما سبق في نحو: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ}. قال: فلا يُسمى ذلك مجازًا؛ لعدم تغيُّر الإعراب؛ لأنه لم يستعمل في غير ما وُضع له. قال: وميل القاضي للأول، وهو الظاهر. والخلاف في ذلك سهل. ولهذا قال إلْكِيَا: إن الخلاف لفظي، على أن طريقة البيانيين تقتضي الثاني. ومن أمثلته المشهورة قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي: أهل القرية، لكن هذا إذا لم نجعل القرية اسمًا للناس المجتمعين بها، مِن "قرأتُ الشيء": جمعتُه، ومنه نحو: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} [الأنبياء: 11]. أو القرية مشتركة بين الأبنية والمجتمعين بها، وأُريدَ الثاني. أو أن يجعل المجاز فيه مِن إطلاق المحل على الحالّ. أو المراد سؤال الأبنية؛ لِتُجِيب، ويكون ذلك معجزة. والأرجح مِن هذه الأقوال أنه من مجاز الحذف، ونَص عليه الشافعي في "الرسالة" وجعله من الدال لفظه على باطنه دون ظاهره، فقال بعد ذِكر الآية: (لا يختلف أهل العلم باللسان أنهم إنما يخاطبون أباهم بمسألة أهل القرية وأهل العير؛ لأن القرية والعير لا يُنبئان

عن صدقهم) (¬1). انتهى تنبيه: قال المطرزي: (إنما يكون كل من الزيادة والنقصان مجازًا إذا تغير بسببه حُكم، فإنْ لم يتغير فلا. فلو قلت: "زيد منطلق وعمرو" وحذفت الخبر، لم يوصف بالمجاز؛ لأنه لم يؤَد إلى تغيير حُكم من أحكام ما بقي من الكلام). انتهى الثامن: علاقة المضادة، بأن يطلق اسم الضد على الضد، كإطلاق البصير على الأعمى. ووَهِمَ مَن يمثلها بإطلاق "الجون" للأسود أو للأبيض؛ لأن اللفظ مشترك، فإطلاقه على كُلٍّ حقيقةٌ، وأكثر ما تقع هذه العلاقة عند التقابل، نحو: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإن الله لا يمل حتى تملوا" (¬2)، على أن بعضهم رَد هذا النوع إلى مجاز المشابهة ولو بوجهٍ ما. ووجَّه بعضهم هذه العلاقة باللزوم الذهني. ورُدَّ بأنه كان يلزم أن يسمَّى الابن أبًا، وإنما هو من قبيل الاستعارة بتنزيل القابل منزلة المناسب بواسطة تمليح أو تهكم، كإطلاق الشجاع على الجبان. التاسع: إطلاق السبب على المسبَّب، وربما قيل: العِلة على المعلول. وتحته أربعة أقسام؛ لأن العلة: إما فاعلية، نحو: نزل السحاب، أي: المطر، لكن فاعليته باعتبار العادة، كما تقول: ¬

_ (¬1) الرسالة (ص 64). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 1100)، صحيح مسلم (رقم: 782).

أحرقت النار، وكما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بلوا أرحامكم ولو بالسلام" (¬1). أي: صلوها. أو مادية: كتسمية العصير عنبًا، وقد يُرَدّ هذا إلى المجاز باعتبار ما كان. أو صورية: كإطلاق اليد على القدرة في نحو قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]. وقد يُرَدّ هذا لمجاز المشابهة في أمر لائق بالمقام. أو غائية: كتسمية العصير خمرًا والحديد خاتمًا. وبعضهم يَرُد هذا إلى مجاز ما يَؤول، لكن سبق أن شرطه أن يكون بقَطْعٍ أو غَلَبة، لا باحتمال. نعم، هو يشبه ما سيأتي مِن إطلاق ما بالفعل على ما بالقوة - على أن فيه نظرًا من حيث إنَّ العِلة الغائية إنما هي في الذهن وهي معلولة في الخارج، فإنْ رُوعِي: - الخارج، فهو مِن إطلاق المعلول على العلة، كتسمية الخشب سريرًا. - أو الذهن، فهو من إطلاق العلة على المعلول؛ لأن العلة حينئذٍ إرادة خمريته بالعصير أو إرادة كونه سريرًا قبل عمله، لكن العلة في الحقيقة هي إرادة ذلك. العاشر: عكسه، وهو إطلاق المسبَّب على السبب، كتسمية المرض المهلك "موتًا" وهو من السبب العادي، ومنه قوله: شربتُ الإثم حتى ضَلَّ عقلي ... كذاك الإثم يذهب بالعقول قال الله عز وجل: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا} [آل عمران: 164] الآية، أي: أعطاهم؛ لأنَّ مَن يُعطي يَمُن، لكن الامتنان ليس بمحمود إلا مِن الله؛ ¬

_ (¬1) مسند الشهاب (1/ 397، رقم: 424)، شعب الإيمان (6/ 226، رقم: 7972). قال الألباني في (السلسلة الصحيحة: 1777): (هذا إسناد صحيح ولكنه مرسل ... ، وقد رُوي موصولًا ... ، وجملة القول أن الحديث بمجموع طُرُقه حسنٌ على أقَل الدرجات).

لأن عطاءه مِن فضله، فله المنة، وأما مَنُّ غيره تعالى فمذموم، قال تعالى: {ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى} [البقرة: 262]. وإنما أخرتُ هذا النوع عن الذي قبله لأولويَّة ذلك؛ لأن السبب المعيَّن يستدعي مُسبَّبًا معيَّنًا، كزنا المحصن في الرجم، والمسبَّب المعيَّن لا يستدعي سببًا مُعيَّنًا، كإباحة الدم، إما لِرِدَّة أو زِنَا مُحصَن أو ترك صلاة أو موجب قصاص أو دفع صِيال أو بَغْي. وما يقتضي المعيَّن أقوى مما يقتضي المطلَق؛ لأنه يقتضي المطلق وزيادة. ويأتي فيه الأقسام الأربعة السابقة: إطلاق المسبَّب على السبب الفاعلي والمادي والصوري والغائي، ولا يخفى أمثلتها مما سبق في عكوسها. الحادي عشر: باعتبار الكُلية، وهو إطلاق الكل على الجزء، كقوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [البقرة: 19]، أي: أناملهم؛ لأن العادة أن الإنسان لا يضع جميع الإصبع في الأذن. ومثله قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22]، فإن الناظر من الوجهِ العينُ فقط. ومَثَّله البيضاوي بإطلاق القرآن على بعضه. وفيه نظر؛ فإنَّ ذلك مِن الكُلي على الجزئي، ومثل ذلك إنما هو حقيقة كما قرر ذلك فخر الإسلام وهو ظاهر؛ لأن المجاز هو المستعمل في غير ما وُضع له أولًا، والجزئي ليس غير الكلي كما أنه ليس عَيْنه؛ ولأجل ذلك لم أذكر في النَّظم إطلاق الكُلي وإرادة الجزئي. الثاني عشر: باعتبار الجزئية، عكس ما قبله، بأنْ يُطلق الجزء ويُراد الكل، نحو: "فعتق رقبة"، والعتق إنما هو للكل، لا للرقبة فقط.

و"على اليد ما أخذته حتى تؤديه" (¬1)، المراد صاحب اليد بكماله. ونحو ذلك: "فلان يملك كذا رأسًا من الغنم"، وقولهم للجاسوس: "عَيْن"، وإطلاق "الكلمة" على الكلام، نحو: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ} [المؤمنون: 100] إشارة إلى قوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99 - 100]. وقيل: العلاقة في هذا أن له وحْدَةً جعلته كالمفرد، فأطلق عليه اسم المفرد. ومثَّله البيضاوي بإطلاق "الأسود" على الزنجي، فإن بياض عينيه وسنِّه مانع مِن كونه حقيقة. وتعقب ذلك بعضهم بأنه من القسم الذي قبله، وهو إطلاق الكل للبعض. وفساده ظاهر؛ لأنه مشتمل على بعضٍ أسود وبعضٍ أبيض، فإطلاق اسم أحد البعضين على الكل مجاز باعتبار ذلك قطعًا. وقد فرَّع بعض أصحابنا على ذلك إضافة الطلاق إلى جزئها مِن يد ونحوها، لكن الأصح أن ذلك من باب السراية، لا من إطلاق البعض على الكل. ويجري ذلك في العتق وفي البيع ونحوه لو قال: (بعتُ نصفك هذه الدار)، هل هو كناية؟ أوْ لا؟ ومحل بسط ذلك كتب الفقه. ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (رقم: 1266)، سنن ابن ماجه (رقم: 2400) وغيرهما. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف الترمذي: 1266).

تنبيه: إذا تعارض هذا والذي قبله، كان ذلك أوْلى؛ لأن الكل يستلزم الجزء، ولا عكس. نعم، تعقب ذلك الهندي بأن الجزء الخاص يستلزم الكل، كالناطق يستلزم الإنسان. وفيه نظر؛ فإن استلزامه ليس مِن حيث كونه مطلق جزءٍ، بل بكونه جزءًا خاصًّا، وهو كونه جُزئيًّا للجزء الأعم الذي هو الحيوان. أشار إلى ذلك الهندي. الثالث عشر: علاقة التعلق، وهو إما إطلاق المتعلَّق (بالفتح) على ما تعلق به، وإما بالعكس، وذلك يستدعي صُوَرًا كثيرة لا تكاد تنحصر؛ وذلك لأن المصدر اسم للمعنى الصادر مِن الفاعل أو ما هو كالصادر كالحادث القائم به، ثم يُصاغ منه الأفعال الثلاثة ووَصْفَا الفاعل والمفعول، ومِن وَصْف الفاعل صيغة المبالغة بشرطها، وهى الخمسة المشهورة: فَعَّال، ومِفْعَال، وفعول، وفعيل، وفَعِل، وغيرها، وأسماء الآلات والزمان والمكان، وغير ذلك مما هو مشهور في التصريف واللغة. فإذا أُطلق المصدر على شيء من ذلك أو أُطلق شيء منها وأُريدَ به المصدر، كان مجازًا، والعلاقة فيه التعلق، إما إطلاق المتعلِّق على المتعلَّق أو بالعكس أو إطلاق بعض المتعلقات على بعض، ولا بأس بذكر بعض صُوَر منه: فمنه نحو قول تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11]، أي: مخلوقه، {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255] أي: مِن معلومه، ولو كان المراد حقيقة العِلم لَمَا دخلت عليه "مِن" التبعيضيَّة؛ لأن القديم لا يتبعض. ونحو: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] أي: مصيدُه. ومنه: إطلاق الفقه على المفقوه والنحو على المنحو، وهو باب واسع. ومثله إطلاق المصدر على الفاعل، كَـ "عَدْل" و"صوم" بمعنى "عادل" و"صائم"، ما لم

يُقَدَّر "ذو عدل" أو "ذو صوم"، فيكون من مجاز الحذف. وعكسه، نحو: قُم قائمًا، أي: قيامًا. وأَنصِتْ ساكتًا، أي: سكوتًا، ما لم يجعل ذلك حالًا مؤكدة. ويتفرع على الأول من الفقه: ما لو قال لها: (أنت طلاق)، أو للعبد: (أنت عِتقٌ) أو: (حريَّة)، فإنه كناية فيهما، إنْ نَوَى أنه بمعنى "طالق" و"مُعْتَق" أو "محرر"، وقع. ومنه قولك: (ضربًا زيدًا) بمعنى: اضرب زيدًا؛ لأنه أُقيم مقام الفعل، فهو مجاز. ومن عكسه نحو: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الروم: 24]، أي: إراءتكم، و"تسمع بالمُعَيدي" (¬1) أي: سماعك. ومن مجاز التعلق نحو: نهارُه صائم وليلُه قائم، على الخلاف بين السكاكي وغيره في كونه مجازًا أو كناية كما هو مبين في علم البيان. ومنه قوله تعالى: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 107] أي: في الجنة؛ لأنها محل الرحمة. ومنه: {حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] أي: ساترًا، {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم: 61] أي: آتِيًا على طريقة. وفي تقرير هذه المواضع أبحاث لا يليق ذكرها بهذا المختصر، إنما الغرض تقرير أصل هذه العلاقة بأمثلة توضحها. ومن أمثلتها أيضًا نحو: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84] أطلق ¬

_ (¬1) "تسمع بالمُعَيدي خير مِن أنْ تراه" مَثَل يُضرَب يضرب للرجل الذى له صيت وذِكر في الناس، إذا رأيته ازدريت مرآته. (الصحاح تاج اللغة، 2/ 506).

اسم الآلة -وهو اللسان- على المعمول بها وهو الذِّكْر. وإلى كثرة الصُّوَر والأنواع أشرتُ في النَّظم بقولي: (بِصُوَرٍ قَدْ حُقِّقَا)، أي: كثيرة، نَكَّرْتُها؛ للكثرة. الرابع عشر: إطلاق ما بالفعل على ما بالقوة، وربما عُبر عنه بمجاز الاستعداد، كإطلاق "الخمر" على العصير في الدن قبل أن يتخمر، وإطلاق "كاتب" على العارف بالكتابة حالة تركها. واعلم أن منهم مَن يُوَحِّد بين هذه العلاقة وبين علاقة ما يَؤول السابق ذِكرها، وهو ظاهر تمثيل "المحصول" وابن الحاجب. والحقُّ تغايرهما كما غايرتُ بينهما في النَّظم؛ لأن المستعد للشيء قد لا يَؤول إليه، بأن يكون مستعدًّا له ولغيره، كما أن العصير قد لا يؤول إلى الخمرية وإن كان مستعدًّا لها. نعم، سبق أنه يشابه مجاز العلة الغائية، وسبق تقريره وبيان النظر فيه. قلتُ: لكنه على كل حال يعكر على مَن شرط في مجاز الأيلُولة القَطْع أو الغَلَبة، لا مطلق الاحتمال. غايته أنه عند مطلق الاحتمال لا يُسمى مجازًا بما يؤول إليه، ويُسمى مجاز القابلية، فإنْ أُريدَ ذلك فالتسمية اصطلاح لا أثر له مع وجود أصل التجوز. فصل في علاقات أخرى قد يُدَّعى زيادتها على ما سبق، وقد يُدَّعى دخولها فيها: نذكرها لتمام الفائدة: منها: إطلاق اللازم على الملزوم، كالمس على الجماع، وهذا على الغالب، وإلا فقد يكون الجماع بحائل. ومنه قوله: قَومٌ إذا حاربوا شَدُّوا مآزِرهُم ... دُونَ النساء ولو باتَتْ بأطْهار

فالمراد بالشد الاعتزال عن النساء؛ لأنه مِن لوازم الاعتزال، وهذه العلاقة قد يُدَّعى دخولها في إطلاق السبب على المسبَّب. ومنها عكس ذلك: وهو إطلاق الملزوم على اللازم، كقوله تعالى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 35] أي: يدل على ذلك، والدلالة مِن لازم الكلام. ومنه قولهم: (كلُّ صامتٍ ناطقٌ بموجِدِه)، أي: دال على وجود مُحْدِثه. وقد يُدَّعَى دخول هذه أيضًا في إطلاق المسبَّب على السبب. ومنها: تسمية الحالّ باسم المحل، كقوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق: 17] إن لم يُجعل من الحذف، أي: أهل ناديه، أو يُقَلْ: إن النادي اسم لهم. وكَـ "الغائط" للخارج، وإنما أصله المكان المطمئن من الأرض، كانوا ينتابونه لقضاء الحاجة. ومنه قولهم: (لا فَضَّ الله فاك) أي: أسنان فِيك، إنْ لم يجعل من الحذف، وقد يُدَّعَى أيضًا أنه من مجاز المجاورة. ومنها: عكسه، نحو قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 31] أي: ثيابكم التي هي محل الزينة. وقد يُدَّعَى أنه من المجاورة كما في عكسه أو من إطلاق المسبَّب على السبب. ومنها: إطلاق المنكَّر وإرادة المعرَّف، نحو: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] إن كان المراد بها مُعيَّنة. وقد يقال: إن المعرَّف جُزئيٌّ للمنكَّر، وسبق أن إطلاق الكلي على الجزئي حقيقة، لا مجاز. ومنها عكسه، نحو: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [النساء: 154] إنْ قُلنا: المأمور به دخول أَيِّ باب كان. وقد يقال: إذا كانت اللام فيه للجنس، كان المراد ذلك، وكون اللام للجنس

حقيقة. ومنها: إطلاق المعرَّف باللام على الجنس، نحو: الرجل خير من المرأة. وجوابه كالذي قبله، إلا أن الجنس قد يقصد به واحد منه كالذي سبق. وقد يقصد به الحقيقة من غير نظر للأفراد كهذا. ومنها: إطلاق اسم المقيد على المطلق، كقول القاضي شريح: أصبحتُ ونصفُ الناس عَلَيَّ غضبان. المراد مطلق البعض، لا خصوص النصف. ونحوه قول الشاعر: إذا مت، كان الناس نصفان: شامت ... وآخَر مُثن بالذي كنت أفعل بدليل الرواية الأخرى: كان الناس صنفان. وحمل عليه بعضهم: "الطهور شطر الإيمان" (¬1) المراد: بعضٌ منه. وقيل فيه غير ذلك، وقد يقال: إنما قصد في ذلك حقيقة النصفية باعتبارٍ ما، لا باعتبار الأفراد. ومنها عكسه، نحو قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} عند مَن يرى بأن المراد بها مؤمنة. وقد يقال: إن التقدير "رقبة مؤمنة" فحُذفت الصفة، فهو مِن مجاز الحذف. ومنها: تسمية البدل بِاسْم المبدل، كتسمية الدِّيَة دمًا، نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" (¬2). وقد يقال: إنه من مجاز الحذف، أي: بدل دمه. ومنها تسمية الأداء قضاء في نحو قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 103]. وجواب ذلك أن المراد بالقضاء المعنى اللغوي، ولا فرق بين أن يكون في الوقت أو ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (رقم: 223). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 6769)، صحيح مسلم (رقم: 1669).

خارجه، فهو حقيقة، والتفرقة اصطلاحية شرعية حادثة. وذكر أبو إسحاق النهَاوَندي مِن النحاة في "شرح الجمل" أنواعًا لم يتعرض لها الأصوليون. قيل: لأنَّ المجاز فيها في التركيب، لا في الإفراد. وعندي أنه ولو سُلِّم التجوز فيها في الإفراد فدخولها فيما سبق ممكن، من ذلك: القلب، نحو: (خرق الثوبُ المسمارَ)، وعليه: {إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} [القصص: 76] على القول بأن المراد: تنوء العُصْبةُ. وجواب ذلك أن المختلف الإعراب لا المدلول، فأين المجاز؟ وإلا فنحو: (جحر ضب خرب) بالجر مع كونه صفة من ذلك، ولا قائل به. ومنه التشبيه، كقوله تعالى: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور: 39]. كذا قاله أبو حيان في "الارتشاف" تبعًا لبعض المغاربة. والحقُّ أن التشبيه حقيقة، لا مجاز. ومنه قلب التشبيه: نحو: (كأن لون أرضه سماؤه). ولا يخفَى أنه من المبالغة في التشبيه التي جعلت حقيقة ذلك ادَّعاء. ومنه: الكناية والتعريض على رأي، لكن الراجح أنهما حقيقة كما سيأتي بيانه. ومنه: المدح في صورة الذم، وعكسه، نحو: "ما أشعره قاتله الله"، ونحو: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]. ويمكن دخولهما تحت مجاز المضادة؛ تمليحًا أو تَهكُّمًا. ومنه: المستثنى المنقطع من غير الجنس. وقد يقال: إنه بتأويله بدخوله تحت الجنس يكون من مجاز المشابهة أو نحو ذلك.

ومنه: ورود الأمر بصيغة الخبر، وعكسه، نحو: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233]، وقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38]. وقد يقال: إن ذلك من المضادة أو المبالغة بتنزيله منزلة الذي استعمل فيه حقيقةً بحسب اعتقاده. ومنه: ورود الواجب أو المُحَال في صورة الممكن، كقوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]. وقد يقال: إنه لا يخرج عن إطلاق الملزوم على اللازم؛ لِتَعَذُّر الحقيقة. ومنه: التقدم والتأخر، نحو: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى: 4 - 5]، والغثاء: ما احتمله السيل مِن الحشيش، والأحوى: الشديد الخضرة، وذلك سابق في الوجود. ويمكن أن يُدَّعَى أنه مِن التجوز بما كان عليه. ومنه: إضافة الشيء إلى ما ليس له، نحو: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ: 33]. وقد يُدَّعَى أن الإضافة بأدنى ملابسة، فلم تخرج عن كونها حقيقة. ومنه: إيراد المعلوم مساق المجهول. وربما عُبر عن ذلك بتجاهل العارف إذا كان في غير كلام الله، ومَثَّلوه بنحو: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]. وقد يقال: إن هذا من باب التشكيك على المخاطب، فلم يخرج عن كونه حقيقةً. وقولي: (لِهَذِهِ أَمْثِلَةٌ مَدْعُوَّهْ) أي: وإن كانت في النظم غير ممثَّلة، أي: فينبغي أن يُبْحث عن أمثلتها ويُسْتَدْعَى حضورها. والله أعلم.

ص: 419 - وَقَدْ يُرَى الْمَجَازُ في الْإسْنَادِ ... كَـ "أَهْلَكَ الدَّهْرُ" بِلَا اعْتِقَادِ الشرح: لَمَّا بينتُ أن المجاز في المفرد وذكرتُ أنواعه، شرعتُ في مسائل جرى الخلاف فيها في بعض المفردات وفي غير المفرد بالكُلية، وجريتُ فيها على الراجح: الأولى: هل يجري المجاز في الإسناد؟ أو لا؟ الراجح: نعم، فيجري فيه وإن لم يكن في لفظَي المسند والمسند إليه تجوزٌ، وذلك بأنْ يُسنَد الشيء إلى غير مَن هو له بِضرب من التأويل بلا واسطة وضعٍ. فخرج بِقَيْد ضرب التأويل الكذبُ، وبقيد نَفْيِ الوضعِ مجازُ المفرد. ومثال مجاز الإسناد قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2]، {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 36]. فكل مِن طَرَفَي الإسناد حقيقة، وإنما المجاز في إسناد الزيادة إلى الآيات والإضلال إلى الأصنام، وكذا نحو: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} [الأعراف: 27] والفاعل لذلك في الكل هو الله تعالى. ويُسمى ذلك المجاز العقلي والحكمي ومجاز التركيب؛ لأن النسبة في المركب أمر عقلي، بخلاف المجاز في المفرد، فإنه وضعي مِن اللغة. وهذا مذهب عبد القاهر الجرجاني. وأنكر السكاكي (¬1) المجاز العقلي، ورَدَّه إلى أنه استعارة بالكناية، فنحو قولهم: (أنبت ¬

_ (¬1) مفتاح العلوم (ص 401). الناشر دار الكتب العلمية.

الربيع البقل) استعارة عن الفاعل الحقيقي بواسطة المبالغة في التشبيه على قاعدة الاستعارة، ونسبةُ الإنبات إليه قرينةُ الاستعارة، وهكذا يُصنع في بقية الأمثلة. وتُعُقِّب عليه بما هو موضح في فن المعاني والبيان، فيؤول إلى أن ذلك إما حقيقة أو من مجاز المفرد. وجرى على ذلك ابن الحاجب في "أماليه" وفي "مختصره الكبير" في أصول الفقه، واستبعده في "الصغير" وحاول رده إلى الحقيقة. وعَلَى المنع: فقيل: المجاز في المُسْنَد، فنحو: (أنبت الربيع البقل) "أنبت" فيه بمعنى "تَسَبَّب"، والمراد التسبب العادي. وهذا رأي ابن الحاجب. وقيل: في المُسْنَد إليه، فهو في "الربيع" في المثال، فأطلق على الفاعل الحقيقي مجازًا ثم وقع الإسناد. وهو رأي السكاكي إذ جعله مِن الاستعارة بالكناية. واختار الإمام الرازي في "نهاية الإيجاز" مذهبًا رابعًا: أن هذا ونحوه من باب التمثيل، فلا مجاز فيه، لا في المفرد ولا في الإسناد، بل هو كلام أُورِد لِيُتَصَوَّر معناه، فينتقل الذهن منه إلى إنبات الله تعالى في المثال المذكور، ويُقاس عليه غيره. وقال القاضي عضد الدين: (والحقّ أنها تصرفات عقلية، ولا حجر فيها، فالكل ممكن، والنظر إلى قصد المتكلم) (¬1). وقولي: (كَـ "أَهْلَكَ الدَّهْرُ" بِلَا اعْتِقَادِ) أي: إنَّ هذا إذا صدر من المسلم السُّني، كان مجازًا؛ لأنه لا اعتقاد له في كون الدهر أو غيره من المخلوقات موجِدًا لشيء، بخلاف ما لو ¬

_ (¬1) شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي (ص 46).

صدر من غير المسلم؛ لاعتقاده أن الدهر فَعَّال، فإنه يكون حقيقة، كقولهم فيما حكى الله تعالى عنهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]. ونحو ذلك لو قال المعتزلي: (خلق الله فِعل المعصية)، فإنه إنما يريد: خَلَق للعبد قُدرة الخلْق للفعل، وأن إسناده ذلك لله تعالى مجاز. وربما احتمل كون المتكلم بذلك معتقدًا أوْ لا، فيُعتمد على قرينة إنْ وُجدت، نحو قول أبي النجم: قد أَصبحتْ أُمُّ الخيار تَدَّعِي ... عَلَيَّ ذئبًا كُلّه لم أَصْنَعِ مِنْ أنْ رأَتْ رأسي كرأسِ الأَصْلَعِ ... مَيَّزَ عنه قُنْزعًا عن قُنْزعِ جَذْبُ الليالي، أَبطئِي أو أسرعي فلما قال بعد ذلك: (أفناه قِيلُ اللهِ للشمس: اطلعي)، عرفنا أنه قصد المجاز في إسناد "مَيَّز" إلى "جذب الليالي". تنبيه: هل المسمى بالمجاز في العقلي نفس الإسناد؟ أو الكلام المشتمل عليه؟ قال صاحب "الكشاف" بالأول، ونقله ابن الحاجب عن عبد القاهر، لكن الموجود في "دلائل الإعجاز" له أن المسمى بالمجاز الكلام لا الإسناد، وعليه جرى السكاكي في "المفتاح". قيل: والخُلْفُ لفظي. وقد اختُلف فيه أيضًا: هل هو أمرٌ عقلي؟ أو لفظي؟ وبنوه على أن المركبات موضوعة؟ أَمْ لا؟ وليس هذا محل التطويل في ذلك؛ لِقِلَّة جدواه فيما نحن فيه، والله أعلم.

ص: 420 - وَهَكَذَا في الْفِعْلِ وَالْحُرُوفِ ... وَمَنَعُوا في الْعَلَمِ الْمَعْرُوفِ الشرح: المسألة الثانية: هل يجري المجاز في الأفعال؟ أي: وما كان في معناها من اسمَي الفاعل والمفعول والصفة المشبهة ونحو ذلك مما اشتق من المصدر؟ أوْ لا؟ الراجح: الجريان في ذلك كله كما يجري في الجوامد، كَـ "الأسد" للشجاع. وسواء أكان المجاز في الأفعال وغيرها مِن المشتقات: - بطريق التبعية للمصدر، كما يقال: "صلَّى" بمعنى دَعَا فهو "مُصَلٍّ" بمعنى دَاعٍ تبعًا لإطلاق الصلاة، وقِسْ على ذلك. - أوْ لا بطريق التبع، كإطلاق الفعل الماضي بمعنى الاستقبال، نحو: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [ق: 20]، أي: يُنفخ، {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 44] أي: ينادون. وإطلاق المضارع بمعنى الماضي، نحو: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [البقرة: 102]، أي: تلته. والتعبير بالخبر عن الأمر، نحو: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233]. وعكسه، نحو: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75]، "فليتبوأ مقعده من النار" (¬1)، "إذا لم تستحي فاصنع ما شئت" (¬2) على أحد الأقوال كما سيأتي في باب الأمر. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (108)، صحيح مسلم (2). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 3296).

وكإطلاق اسم الفاعل بمعنى الاستقبال أو الماضي على الراجح كما سيأتي في مسائل الاشتقاق. ومنع الإمام في "المحصول" دخول المجاز في الأفعال والمشتقات إلا بالتبع للمصدر الذي هي مُشتقة منه، قال: (لأن المصدر في ضمن الفعل وكل مشتق، فيمتنع دخول المجاز في ذلك إلا بعد دخوله فيما هو في ضمنه) (¬1). وضَعَّف شُراح "المحصول" وغيرهم مقالة الإمام بما سبق مِن التجوز في [الفعل] (¬2) بالاستقبال والمضي، وكذا في الأوصاف؛ إذ لا مدخل للمصدر في التجوز بذلك. واكتفيتُ في النَّظم بذكر الفعل عن بقية المشتقات؛ لأن المعنى في الجميع واحد والخلاف واحد. المسألة الثالثة: هل يجري المجاز في الحروف كما في الأسماء والأفعال؟ الراجح: نعم، كما في "هل" تجوَّزوا بها عن: الأمر، كقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 14] أي: فأسلِموا. والنفي، نحو {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8] أي: ما ترى. والتقرير، نحو: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الروم: 28]، وشبه ذلك، لاسيما على القول بأن كل حرف ليس له إلا معنى واحد، وإذا استعمل في غيره، كان مجازًا، خلاف مَن يرى بالاشتراك اللفظي أو بوضعه للقَدْر المشترك ¬

_ (¬1) المحصول (1/ 328). (¬2) كذا في (ص، ز)، لكن في (ت): الأفعال.

من باب التواطؤ، ولبسط ذلك موضع أَليق به. وخالف الإمام في "المحصول" في المسألة، وقال: لا يجري المجاز في الحروف إلا بالتبع؛ لوقوع المجاز في متعلقه. قال: (لأن مفهوم الحرف غير مستقل، فإن ضُم إلى ما ينبغي ضمه إليه، كان حقيقة وإلا كان مجازًا، لكن مِن مجاز التركيب، لا من مجاز الإفراد) (¬1). وتُشبه مخالفة الإمام في المشتقات والحروف منعَ البيانيين الاستعارة في ذلك إلا بالتبع للمصدر ولمتعلِّق الحرف، فيقع التجوز في ذلك أولًا ثم يَسري إلى هذه، فلا يقال: (نَطقَت الحال بكذا) ويراد به "دَلَّت عليه" حتى يُستعار نُطق الحال لمعنى دلالتها ثم يُعَدَّى ذلك [مِن الفعل للحرف] (¬2). وكذا "لَعلَّ" مثلًا تُقدر الاستعارة في معنى الترجي ثم تستعمل "لعل" في ذلك المعنى. وممن خالف الإمام في ذلك كله ابن عبد السلام، وأطال في ذلك في كتاب "مجاز القرآن"، وكذا النقشواني ورَدَّ مقالة الإمام بأن الحرف مثلًا إذا نُقل مِن موضوعه الأول لعلاقة واستُعمل في الثاني، كان مجازًا، نحو: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، فنقلت "في" عن الظرفية واستعملت في غيرها. المسألة الرابعة: هل يجري المجاز في الاسم العَلَم المعرَّف عند أهل العربية بِـ: "ما وُضع لمعَيَّن لا يتناول غيره" كما سبق بيانه وانقسامه إلى "عَلَم شخص" و"عَلَم جنس"؛ أوْ لا يجري فيه؟ ¬

_ (¬1) المحصول (1/ 328). (¬2) في (ز): للفعل.

الأصح من المذاهب: المنع مطلقًا، لا بالذات ولا بالواسطة؛ لأن الأعلام وُضعت للفرق بين ذاتٍ وذاتٍ، فلو تُجُوِّز فيها، لَبَطل هذا الغرض، وأيضًا فنقْلها إلى مسمى آخَر إنما هو بوضع مستقل، لا لعلاقة، وشرط المجاز العلاقة. وهذا مذهب الإمام الرازي، وتبعه البيضاوي وغيره. وثانيها: يجري فيها مطلقًا. حكاه الأبياري، كما تقول: "قرأتُ سيبويه"، تريد كتاب سيبويه، نقلتَ عَلَم صاحبه إليه مجازًا. ورَدَّه بأنه على حذف مضاف، فهو مِن مجاز الإضمار. وقد قال ابن يعيش في "شرح المفصل": (قال النحويون: العَلَم ما يجوز تبديله وتغييره، ولا تتغير اللغة بذلك. فإنه يجوز أن تسمي ولدَك خالدًا ثم تُغيره إلى جعفر أو محمد، بخلاف اسم الجنس مثلًا، بل لو أردت تسمية الرجُل فرسًا والفرس رجُلًا، غيَّرتَ اللغة). وممن حكى القولين فيه القاضي عبد الوهاب في "الملخص" وصاحب "الميزان" من الحنفية، وقال: (إن الأكثرين على دخول المجاز فيه) (¬1). نعم، قال الهندي: (إن الخلاف في الأعلام المنقولة) (¬2). وقال غيره: الصواب جريانه في الأَعَم مِن المنقول والمرتجل. وثالثها: التفصيل بين ما يُلمح فيه صفة فيجوز (كأَسْود وحارث) دُون العَلَم الذي وُضع للفرق المحض بين الذوات (كزيد وعمرو). وبه قال الغزالي، واستحسنه بعضهم. لكن في بعض شروح "المحصول" أن الغزالي إنما فصَّل ذلك بناء على رأيه في عدم اعتبار العلاقة. ¬

_ (¬1) ميزان الأصول في نتائج العقول (ص 384). (¬2) نهاية الوصول في دراية الأصول (2/ 395).

وفيه نظر؛ لأنَّ مقتضاه حينئذٍ أنه يجوز مطلقًا مِن غير تفصيل؛ لأنه يَصْدُق على كُلٍّ أنه [استُعمل] (¬1) في غير موضوعه. قيل: ويجب أيضًا أن يختص الخلاف بالأعلام المتجددة، أما الأعلام التي بوضع اللغة فيجب أن يقال: إنها حقائق. فقولهم: (العَلَم لا يوصف بكونه [حقيقة] (¬2) ولا مجازًا) مَحَلُّه في غير ذلك، والله أعلم. ص: 421 - وَيُعْرَفُ الْمَجَازُ مِنْ تَبَادُرِ ... غَيْرٍ بِلَا قَرِينَةٍ في الْحَاضِرِ 422 - وَصِحَّةِ النَّفْيِ، وَأَنْ لَا يُطْرَدَا ... حَتْمًا، وَبِالْتِزِامِ أَنْ يُقَيَّدَا 423 - وَنَحْوِهِ، وَالسَّمْعُ فِيهِ مُشْتَرَطْ ... لَا في مُشَخَّصٍ، بَلِ النَّوْعِ فَقَطْ الشرح: قد اشتملت هذه الأبيات على مسألتين: إحداهما: بماذا يُعرَف المجاز مِن الحقيقة؟ وقد ذكرتُ عدةً من العلامات، وأشرتُ إلى عدم الانحصار في ذلك بقولي: (وَنَحْوِهِ). أحدها: بِتَبادُر غيره إلى الفَهْم عند الإطلاق حيث لا قرينة هناك حاضرة، بخلاف ¬

_ (¬1) في (ز، ق، ظ): استعملته العرب. (¬2) كذا في (ص). لكن في سائر النُّسخ: لا حقيقة.

الحقيقة، فإنها هي المتبادرة إذا كانت واحدة، أو لا تتبادر لا هي ولا غيرها إذا تَعددت الحقائق. فإنْ قِيل: المجاز الراجح يتبادر أيضًا. قيل: إنْ رجح بقرينة فالكلام حيث لا قرينة، أو رجح باشتهاره فَقَدْ صار حقيقة بحسب ما اشتهر فيه مِن عُرف أو شرع، فما تبادر إلا لكونه حقيقة وإنْ كان مجازًا باعتبار وضع آخَر، ولم يتبادر مِن حيث كونه مجازًا. ثانيها: بصحة النفي، كقولك للبليد: ليس بحمار، وللجد: ليس بِأَبٍ، بخلاف الحقيقة، فإنها لا تُنفَى. وزاد بعضهم: (في نَفْس الأمر)؛ احترازًا عمَّا إذا كان ذلك لظنِّ ظانٍّ، فإنه لا يدل عليه. وقال صاحب "البديع": هذا حُكم المجاز بعد ثبوت كونه مجازًا، فلو تَوقف عليه عِلمه، لَزِمَ الدَّور (¬1). وقد يجاب بأن نفيه إنما صحته باعتبار التعقُّل، لا باعتبار أنْ يُعلم كونه مجازًا فتنفيه. ثالثها: بعدم وجوب اطراده، بل قد يطَّرد تارةً، كالأسد للشجاع، ولا يطَّرد أخرى، نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي: أهلها، فلا يقال: (واسأل البساط)، أي: أهله، بخلاف الحقيقة، فإنها واجبة الاطراد. وأما قول ابن الحاجب: (إن الاطراد ليس دليل الحقيقة؛ لأن المجاز قد يطرد) (¬2). ¬

_ (¬1) بديع النظام الجامع بين أصول البزدوي والأحكام - نهاية الأصول (1/ 33 - 35). رسالة دكتوراة للباحث: سعد السلمي، جامعة أم القرى. (¬2) هذا كلام العضد في شرحه مختصر ابن الحاجب (ص 44).

فَمُسَلَّم، لكن الذي هو علامة الحقيقة إنما هو وجوب الاطراد، لا وقوع الاطراد، عَكْس المجاز، فإنه لا يجب، وقد يطرد. فإنْ قِيل: فالحقيقة قد لا تطرد، كَـ "القارورة" للزجاجة مع كونها من "القر"، و"الدبران" لمنزلة القمر مع كونه من الدبور، فلا يُسمى كل ما فيه قرار أو دبور بذلك. قيل: عدم اطراده لكون المحل المعيَّن قد اعتُبر في وضع الاسم، فلا يُسمى ما وُجد أصل المعنى فيه غير هذا بذلك الاسم؛ لفقدان تمام مُوجِب التسمية. والحاصل الفرق بين تسمية غير ذلك لوجود المعنى فيه أو بوجود المعنى فيه، والمراد الثاني، فلا يتعدى. ونظيره لو عُلل في باب القياس بالمحل أو جزئه أو لازمه، لم يُقَس غيرُه عليه، كجوهرية النقدية الغالبة في الربا في الذهب والفضة إنما لم تطَّرد ولم تُعَد لشيء آخَر؛ لِتَعذُّر وجود العِلة فيه، وسيأتي بيانه في القياس. رابعها: بالتزام تقييده، فلا يُستعمل في ذلك المعنى بالإطلاق، كَـ "جناح الذل" و"نار الحرب"؛ إذ لو استعملت الجناح والنار في معناهما الأصلي لجاز بلا تقييد، لكن لو قيَّدتَ، لم يمتنع، كالمشترك قد يُقيَّد في أحد المعنيين لكن لا لزومًا. وهو معنى قولي: (وَبِالْتِزِامِ أَنْ يُقَيَّدَا). ومما يدخل تحت قولي: (ونحوه) اعتبار المجاز بأن يكون صيغة جَمْعه على خلاف صيغة جمع الحقيقة، كالأمر [للصيغة] (¬1) الآتي ذِكرها في باب "الأمر" يُجمع على "أوامر"، وأما بمعنى الفعل أو نحوه مما سيأتي بيانه فيُجمع على "أمور"، لكن سيأتي أن هذا على رأي الجوهري وأنه لا يُوافَق عليه في اللغة. ¬

_ (¬1) في (ز، ظ): لصيغته.

وكذا أن يتوقف جواز استعماله على وجود مُسمَّى آخَر له يكون حقيقة فيه، سواء أكان ملفوظًا به نحو: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ}، فلا يُقال ابتداءً: (مكر الله)، أو مقدَّرًا نحو: {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} [يونس: 21]؛ لأنه مذكور فيما سبق بالمعنى. وزعم بعضهم أنه لا بُد مِن سَبْق المعنى الحقيقي كما مَثَّلنا. وهو مردود بنحو ما جاء في حديث: "فإن الله لا يمل حتى تملوا" (¬1)، فإن المجازي فيه متقدِّم [لمقابَلة] (¬2) الحقيقي المتأخِّر. وكذا أن يكون معناه الحقيقي مستحيلًا، فيدل إطلاقه في المحل الذي هو مستحيل فيه على أن المراد المجاز، نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}. ومِن هذه الآياتُ والأحاديثُ الواردة في الصفات التي معناها الحقيقي مستحيل في حقه تعالى، كاليد والعين والنزول والاستواء ونحو ذلك. فيجب أن يعتقد أن الحقيقة ليست مُرادة بلا خلاف. وأما غيرها فللناس طريقان فيها: أحدهما: تعيين ما يحمل عليه مِن المجاز، وهُم الذين يرون التأويل. والثانية: طريقة السلف، عدم التعرض للتأويل، والإيمان بها على ما أراد الله منها من غير الحقيقة المستحيلة، وهو معنى قولهم: "مع التنزيه"، فالإحالة على تعيين مجاز، لا على الترديد بين حقيقة ومجاز كما يزعمه المبتدعون تلبيسًا على مَن لا ملكة عنده، فإياك وتلبيساتهم، وقد سبق - في مسألة كون المجاز معتمَدًا حيث تستحيل الحقيقة أوْ لا -ما يُعرف منه الفَرق بين جعل استحالة الحقيقة مِن علامات المجاز وكون المرجح أن المجاز ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) يحتمل أن المؤلِّف يقصد: لِمُقَابِلِه.

ليس يُعتمَد [حيث] (¬1) تستحيل الحقيقة، وسبق التحذير مِن تدليسهم، فراجعه. المسألة الثانية: لا بُدَّ في المجاز من سمع، والمراد (كما سبق) أن يُسْمع اعتبار العرب نوع العلاقة - على المختار وقول الجمهور، وأنه لا يشترط سماع كل فرد فرد من محالّ كل علاقة حتى يتوقف إطلاق الأسد مثلًا على الشجاع على نقلٍ عن العرب، بل المراد إطلاق التجوُّز بالمشابهة المعنوية، وسبق بيان ذلك كله وما فيه. وسبق أيضًا الإشارة إليه في النَّظم لكن من حيث تفسير اعتبار العلاقة، ثم زدناه هنا إيضاحًا، والله أعلم. ص: 424 - ثُمَّ "الْكِنَايَةُ": [الَّذِي يُسْتَعْمَلُ] (¬2) ... في أَصْلِ مَعْنَاهُ، وَلَكِنْ يُعْمَلُ 425 - في لَازِمٍ قَصْدًا كَمِثْلِ الْكَرَمِ ... بِكَثْرَةِ الرَّمَادِ يُعْنَى إذْ نُمِي 426 - فَهْيَ حَقِيقَةٌ، وَ"تَعْرِيضٌ" كَذَا ... لَكِنْ بِتَلْوِيحٍ بِغَيْرٍ نُبِذَا الشرح: لَمَّا فرغتُ مِن المجاز وأنواعه، ذكرتُ ما قد يلتبس به وليس منه، وهو "الكناية" و"التعريض" وهُما المقابلان للتصريح. فأما "الكناية" فهي: القول المستعمل في معناه الموضوع له حقيقة ولكن أُريدَ بإطلاقه لازِم المعنى، كقولهم: "كثير الرماد" يكنون به عن كرمه، فكثرة الرماد مستعمل في معناه ¬

_ (¬1) في (ز): حتى. (¬2) في (ن 3، ن 4، ن 5): التي تستعمل.

الحقيقي ولكن أريد به لازِمُه وهو الكَرَم وإنْ كان بواسطة لازم آخَر؛ لأن لازم كثرة الرماد إنما هو كثرة الطبخ، ولازِم كثرة الطبخ كثرةُ الضيفان، ولازم كثرة الضيفان الكرم، وكل ذلك عادة. فالدلالة على المعنى الأصلي بالوضع، وعلى اللازم بانتقال الذهن مِن الملزوم إليه. ومِثله قولهم: "طويل النجاد" كناية عن طول القامة؛ لأن نجاد الطويل يكون طويلًا بحسب العادة، وعلى هذا فهو حقيقة؛ لأنه استُعمل في معناه وإنْ أريدَ به اللازم، فلا تنافي بينهما. فإنْ لم يُرَد المعنى الحقيقي وإنما عُبر بالملزوم عن اللازم بأنْ يُطلق المتكلم "كثرة الرماد" على اللازم وهو الكَرَم و"طول النجاد" على اللازم وهو طول القامة - مِن غير ملاحظة الحقيقة أصلًا، فهو مجاز؛ لأنه استُعمل في غير معناه، والعلاقة فيه إطلاق الملزوم على اللازم. وقد عُلِم من ذلك أن الكناية تكون حقيقة وتكون مجازًا، ولا مخرج لها عنهما، وهذا على طريقة بعض المتأخرين، وإليه ذهب الشيخ تقي الدين السبكي وغيره، وهو الراجح. ووراء ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: [أنها] (¬1) مجاز مطلقًا؛ نظرًا إلى المراد منه، وهو مقتضَى قول صاحب "الكشاف" عند قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235] حيث فَسَّر "الكناية" بأن يذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له. نعم، شَرَط في الكناية إمكان المعنى الحقيقي، ذَكَره في قوله تعالى: {وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 77]، فقال: إنه مجازٌ عن الاستهانة والسخط، فإطلاق النظر إلى فلان ¬

_ (¬1) في (ز، ظ، ق): أنه.

بمعنى الاعتداد به والإحسان إليه كناية إذا أُسند إلى مَن يجوز عليه النظر، ومجاز إذا أُسند إلى مَن لا يجوز عليه النظر. وعلل ذلك بأنَّ مَن يجوز عليه النظر إذا اعتد بإنسان، التفت إليه وأعاره نظره، فكثر حتى صار عبارة عن الإحسان. وحاصل ما ادَّعاه أن المجاز أعَم مِن الكناية، فَمِمَّن يجوز عليه النظر كناية ومجاز، وممن لا يجوز عليه النظر مجاز فقط. ثانيها: إنها حقيقة مطلقًا. وإليه جنح كثير من البيانيين، وتبعهم ابن عبد السلام في كتاب "المجاز"، فقال: الظاهر أن "الكناية" ليست من المجاز؛ لأنها وإن استُعملت فيما وُضع له لكن أُرِيدَ بها الدلالة على غيره، كدليل الخطاب في قوله: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، وكذلك نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن التضحية بالعوراء والعرجاء. قلتُ: ونحوه النهي عن الدباء والحنتم و [المقَيَّر] (¬1)، فإنه يَنْصَبُّ إلى ما يَلزم منه وهو النبيذ. ثالثها: أنها لا حقيقة ولا مجاز. وهو قول السكاكي، وتبعه في "التلخيص"، ووافق السكاكي في موضع آخَر البيانيين في كونها حقيقة. وجمع بعض الشُّراح بين كلاميه بتأويل. وقال الإمام في "نهاية الإيجاز": (إن اللفظ إذا أُطلق وأريد به معناه الأصلي ولازِمه، يكون كناية، وإنْ أريد اللازم فقط يكون مجازًا). ثم قال: (وليست الكناية من المجاز؛ بدليل أنها ضد المقصود بمعنى اللفظ) (¬2) إلى آخِره. ولكن هذا يقتضي أنه لا يكون كناية حتى يُراد المعنى الحقيقي والمجازي معًا، فلا يُقال: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 500)، صحيح مسلم (رقم: 17). (¬2) نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز (ص 160 - 162).

"كثير الرماد" إلا عند وجود رماد حقيقةً وإلا لكان كذبًا؛ لأنه بلا تأويل. فإنْ كان المراد الكَرَم ليس إلَّا، فهو مجازٌ، إلا أنْ يُقال: إنما يكون كذبًا أنْ لو أريد باللفظ المعنى الحقيقي بالذات فقط، فأما إنْ أريد به التوصل إلى المعنى اللازم، فلا يكون كذبًا. فإنْ قِيل: هل يُطابق تفسيرُ "الكناية" بما ذُكِر تفسيرَ الأصوليين والفقهاء بأنها اسمٌ استتَر فيه مرادُ المتكلم؛ لِتردده بين محتملين؟ كقوله في البيع: "جعلته لك بكذا"، وفي الطلاق: "أنت خَلِيَّة"، فيدخل في ذلك المجمَل ونحوه مما لم تتضح دلالته، مأخوذًا مِن "كَننتُ" و"كَنيتُ" إذا لم تُفْصح بالشيء. ويقابلها "الصريح"؛ لأنه اسمٌ لِمَا هو ظاهر المراد عند السامع بحيث يسبق إلى فَهْمه المراد، ولا يَسبق غيرُه عند الإطلاق. كقوله: (أنت طالق)، و: (أنت حر)، و: (بعتُ واشتريت)، ومنه سُمي القصرُ صَرْحًا؛ لظهوره وارتفاعه على سائر الأبنية. والغرض من العدول إلى "الكناية" وغيرها إما التحرز عن قبح [الصريح] (¬1)، نحو: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6]، وإما إخفاء المكني عنه عن السامع، أو نحو ذلك. قلتُ: نعم؛ لأن قوله مثلًا: "حبلك على غاربك" حقيقته إلقاء الحبل على رقبتها، وليس المراد إلا لازِمه فيما يفعل بالبعير عند إرادة تسييبه إلى حيث شاء، وكذا الباقي، فأحَدُ المعنيين لازِمٌ للآخَر، والمقصود اللازم، لا الملزوم؛ فلذلك افتقر إلى نيةٍ تُميزه عن إرادة المعنى الأصلي. ومِن هنا يخرج جوابُ سؤال، وهو أن من قاعدة الشافعي حمل اللفظ على حقيقته ومجازه، فلِمَ لا يُحمل لفظ الكاني عليهما حتى يقع على كل حال وإنْ لم يَنْوِ؟ ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ز)، لكن في (ت): التصريح.

لأنَّا نقول: ذاك في لفظٍ وُضِع لمعنى حقيقةً ثم لمعنى آخَر مجازًا، فيُحمل عليهما؛ احتياطًا؛ للظفر بمراد التكلم، وذلك في ألفاظ الشرع التي اضطُررنا إلى العمل بها. أمَّا في غير كلام الشارع فليس لنا أن نحتاط ونوقع بالاحتمال، لاسيما و"الكناية" إنما تدل على الشيء بالإرادة، لا بالوضع كما سبق تقريره. وأما "التعريض" فهو: القولُ المستعمل في معناه مرادًا منه ذلك لكن مع التلويح بغيره، كقول إبراهيم عليه السلام: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، غَضِبَ أن عُبدت هذه الأصنام الصغار، فكسرها، فإنما القصد التلويح بأنَّ الله تعالى يغضب لعبادة غيره ممن ليس بإله مِن طريق الأَوْلى مما ذُكِر. وبذلك يُعْلم أن اللفظ إذا لم يطابق في الخارج معناه الحقيقي، لا يكون كذبًا إذا كان المراد به التوصل إلى غيره بكناية (كما سبق) أو تعريض (كما هنا). وإنْ سُمي هذا كذبًا فمجاز باعتبار الصورة، كما جاء: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات" (¬1) المراد صورة ذلك، وهو في نفسه حق وصدق؛ لأنه هو وسائر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- معصومون. وقد عُلم مِن تفسير "التعريض" بذلك أنه حقيقة، لا مجاز؛ لأنه مستعمَل فيما وُضع له أوَّلًا. والفرق بين "التعريض" وأحد قِسمَي "الكناية" أن الملازمة هناك واضحة بانتقال الذهن إليها سريعًا. تنبيه: "الكناية" تنقسم إلى أقسام، ذكر شيخنا الشيخ بدر الدين الزركشي في كتاب "علوم ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 3179)، صحيح مسلم (رقم: 2371).

القرآن" منها عشرة أقسام، أغربها أنْ تعمدَ إلى جملة وَرَدَ معناها على خلاف الظاهر فتأخذ الخلاصة منها مِن غير اعتبار مفرداتها بالحقيقة أو المجاز، فتعبر بها عن مقصودك (¬1). وهذه "الكناية" استنبطها الزمخشري، وخرَّج عليها قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، فإنه كناية عن الملك؛ لأن الاستقرار على السرير لا يحصل إلا مع الملك، فجعلوه كناية عنه (¬2). وقوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67] الآية، فإنه كناية عن عظمته وجلاله [مِن غير] (¬3) ذهاب بالقبضة واليمين إلى جهتين: حقيقة، ومجار. وقد اعترض الإمام فخر الدين ذلك بأنَّ فيه فتح باب تأويلات الباطنية، فلهُم أنْ يقولوا: المراد مِن قوله تعالى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] الاستغراق في الخدمة مِن غير ذهاب إلى نعل وخلعه، ونظائر ذلك (¬4). وجوابه: أن "الكناية" إنما يصار إليها عند قيام دليل على عدم إجراء اللفظ على ظاهره مع قرائن تحتف به دالَّة على المراد كما سبق من الأمثلة، بخلاف خلع النعلين ونحوه. وقولي: (لَكِنْ بِتَلْوِيحٍ بِغَيْرٍ نُبِذَا) أي: لم يقصد باللفظ الدلالة عليه مع عدم قصد الأصلي، بل المقصود هو الأصلي، والآخَر إنما لُوِّح به من غير أن يكون مقصودًا بدلالة اللفظ، بل مُطَّرحًا، والله أعلم. ¬

_ (¬1) البرهان في علوم القرآن (2/ 309). (¬2) الكشاف (3/ 54). (¬3) في (ز، ق): فعبر. (¬4) مفاتيح الغيب (22/ 7).

ص: 427 - أَمَّا "الْمُرَكَّبُ" الَّذِي تَقَدَّمَا ... فَإنْ يُفِدْ فَبِـ "الْكَلَامِ" وُسِمَا الشرح: لَمَّا فرغتُ من بيان المفرد من القول وأقسامه، شرعتُ في ذِكر المركَّب منه وأقسامه. فالمركب إنْ أفاد فهو الموسوم بِـ "الكلام"، وإلا فلا. فَـ "الكلام": قول مفيد، ويُسمى أيضًا "جُملة"، نحو: "زيد قائم" و"خرج عمرو". وظاهر كلام الزمخشري وابن الحاجب -واختاره أبو حيان- أن الجملة والكلام مترادفان. والصواب أنَّ "الجملة" أعم؛ لصدقها على ما لا يفيد أو لا يفيد فائدة يحسُن السكوت عليها، كجملة الصِّلَة وجملة الشرط وجملة الجزاء، ونحو ذلك. فدخل في قولنا في تعريف الكلام: (قول) كلُّ لفظ له معنى، سواء المفرد والمركب التامُّ وغيرُ التام، وسواء الكَلِمُ (وهو ما فيه ثلاث كلمات) وما ليس بكلم (وهو ما دُون ذلك)، وخرج بقيد "الإفادة" كل ما سِوى الكلام. وقد عُلم من تعريف "الكلام" بذلك أمور: الأول: اعتبار التركيب فيه؛ لأنَّ الفائدة إنما هي من الحكم بشيء على شيء. وخالف ابن طلحة - مِن المغاربة- في ذلك؛ تَعلُّقًا بأن حرف الجواب كَـ "نعم" و"بلى" و"لا" في جواب نحو: (أقام زيد؟ ) أو (ألم يَقُم زيد؟ ) مفيدٌ؛ فيكون كلامًا مع كونه مفردًا. ورُدَّ بأن الفائدة مِن المقَدَّر بعده، فهو الكلام، إذِ التقدير: (نعم، قام زيد)، أو: (بلى، قام)، أو: (لا، ما قام).

الثاني: اشتراط الإفادة فيه، وهو المشهور، وزعم بعضهم أن المهمل يُسمى "كلامًا". حكاه ابن فارس، ونحوه ما حكى بعض شُراح "اللمع" في الأصول أن أبا إسحاق حكى في كتابه "الإرشاد" وجهين لأصحابنا في أن المهمل كلام؛ أَمْ لا؟ قال: والأشبه أنه يسمى "كلامًا" مجازًا. الثالث: أنَّ التركيب المفيد هو الذي يتألف مِن مُسنَدٍ ومُسنَدٍ إليه، وذلك المسنَد أَعم أنْ يكون اسمًا أو فِعلًا، فلا يتألف الكلام إلا مِن اسمين أو اسم وفِعل، لا مِن حرفين؛ لعدم ما يَصلح أن يكون مُسنَدًا أو مُسنَدًا إليه، ولا مِن حرف واسم؛ لعدم صلاحية الحرف أن يكون مسنَدًا أو مسنَدًا إليه. وخالف في ذلك الجرجاني وطائفة؛ تمسُّكًا بنحو: (يا زيد)، فتألَّف مِن حرف النداء والمنادَى. ورُدَّ بأنه مفعول بفعل محذوف دَلَّ عليه حرف النداء، والتقدير: (أدعو -أو أنادي- زيدًا). ومعناه حينئذٍ الإنشاء، لا الخبر كما سيأتي. على أنه قيل: العامل فيه هو الحرف؛ لأنه صار بدلًا مِن الفعل، ولا ينافي ذلك كونه تَرَكَّب مِن المحذوف الذي هذا بدل منه. ألا ترى إلى قول سيبويه في "أمَّا": (إن معناها مهما يكن من شيء [فكذا] (¬1) (¬2)؟ فجعل الحرف قائمًا مقام أداة شرط وجملة شرط، فالكلام في الحقيقة هو ذلك المحذوف مع ما بَعده. ¬

_ (¬1) في (ز، ق، ظ): فكذا وكذا. (¬2) الكتاب لسيبويه (3/ 137).

ولا يتركب الكلام أيضًا مِن حرف وفعل؛ لعدم المسنَد إليه. وخالف القاضي وإمام الحرمين، تَعَلُّقًا بإفادة نحو: (قد قام). ورُدَّ بأن فيه ضميرًا مستترًا. ولا مِن فعلين؛ لعدم المسنَد إليه أيضًا. فالأقسام ستة: اثنان صحيحان، وأربعة لغو. الرابع: لا فرق في المركَّب بين ما فيه مستتر (نحو: "قُم". أي: أنت) أو محذوف إما بعضه (نحو: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] أي: خلقهن الله) أو كُله (كما في حروف الجواب كما سبق). الخامس: المراد بـ "المفيد" هو ما يحسُن السكوت عليه، فلا يحتاج لتقييد الإفادة بذلك؛ لأن الإفادة هي ذلك، خلافاً لمن زعم أن المفيد ضربان: تام وناقص. فالتام ما يحسُن السكوت عليه، فيقيَّد؛ ليخرج الناقص، كجملة الصلة ونحوها. زعم ذلك ابن طلحة في "شرح الجزولية" وغيره، وتبعهم بدر الدين ابن مالك في "شرح الخلاصة"، والجمهور على خِلافِه، فقد قرر والده في "شرح الكافية" أن في الاقتصار على "مُفِيد" كفاية، وهذا ظاهر؛ لأن الفائدة هي حصول حُكم زائد، والناقصة ليس فيها حُكم مُحَصَّل. نعم، كثير مِن النحاة -كالزمخشري وابن الحاجب كما سبق- يُسمِّي جملة الشرط وجملة الصلة ونحوهما "كلامًا"؛ لوجود أصل الفائدة وإنْ لم يَحسُن السكوت عليها، [و] (¬1) اختاره أبو حيان. فهو أَبلغ مِن جعلها مفيدة لا كلامًا كما سبق عن ابن طلحة ومَن تبعه. والذي نَص عليه سيبويه في مواضع وتبعه المحققون أنه لا يُسمَّى "كلامًا" [و] (¬2) "مفيدًا" إلا ما ¬

_ (¬1) كذا في (ظ، ق). لكن في سائر النُّسخ: وأنه. (¬2) ليس في (ز، ظ).

يحسُن السكوت عليه، وجرى عليه الجزولي وابن معطي والحريري وغيرهم. السادس: يؤخذ من الاقتصار على قول الإفادة أيضًا أنه لا يشترط أن يكون مقصودًا، وعبارة "التسهيل" تُوهم اشتراطه، إذ قال: (والكلام ما تضمَّن مِن الكلم إسنادًا مفيدًا مقصودًا لذاته) (¬1). وقال المصنف في شرحه: (إنه احترز بِ "القصد" عن نحو كلام النائم والساهي وبعض الطيور، وإنه احترز بِ "ذاته" عن الجمل الموصول بها، فإن جملة الصلة مقصودة للتتميم لا لذاتها) (¬2). ولكن يُقرَّر كلامه بأنه إنما شرط ذلك في الإسناد، لا في اللفظ المتضمن له؛ لأن الإسناد وإن كان مفيدًا فقد يقع لا بالقصد أو بالقصد لكن لا لذاته، وأما اللفظ فإنما يكون مفيدًا إذا تضمن الإسناد المقيَّد بهذه القيود، وإلا فتنتفي عنه الإفادة أصلًا. والحاصل أن مَن قيَّد اللفظ بالإفادة لم يحتج إلى قصده لذاته، ومَن قيد [به الإسناد] (¬3) الذي تضمنه اللفظ فهو محتاج للتقييد المذكور. نعم، قد يُدَّعَى أن التصريح بالإسناد يُغْني عن التقييد المذكور؛ لأن غير القاصد لا يقال: إنه أَسْنَد. ومما يوضح ذلك أن المفيد في الحقيقة إنما هو المتكلِّم، وإسناد الإفادة لغيره إنما هو مجاز؛ لكونه مِن إسناد الشيء إلى متعلَّقه، وهو آلتُه هنا. وما قررتُ به كلام "التسهيل" أَجْوَد مِن تأويله بالحمل على مطلق الفائدة لا الفائدة المصطلح عليها وحمل كلامه في "الكافية" و"الخلاصة" على الفائدة المصطلح عليها. أو أنه في "التسهيل" أراد أن ينص بالصريح على ما يُفْهَم مِن "مفيد" بطريق الالتزام. ¬

_ (¬1) تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد (ص 3)، الناشر: دار الكاتب العربي، تحقيق: محمد بركات. (¬2) شرح تسهيل الفوائد (ص 5، 8). (¬3) كذا في (ز، ت، ق)، لكن في (ص): بالإسناد.

فإنَّ في ذلك تعسُّفًا ونظرًا. وبنى بعضهم على اشتراط القصد في الكلام مسائل في الفقه، كسجود التلاوة لقراءة النائم والساهي وبعض الطيور وغير ذلك. فكلام أصحابنا مجزوم فيه بعدم الاستحباب في الجميع، ولو حلف لا يكلمه فكلمه وهو نائم أو مغمى عليه، لم يحنث. السابع: يؤخذ مِن الاقتصار على "مفيد" أيضًا أنه لا يشترط في الإفادة تحصيل عِلم للسامع بما ليس عنده، وقد حكى ابن دقيق العيد أن بعضهم شرط ذلك. وضُعِف بأنه يَلزم منه أن القضايا البديهية لا يُسمى شيء منها "كلامًا" نحو: (الواحد نِصف الاثنين) وليس كذلك، بل يُسمى "كلامًا"؛ لأنها [فائدة] (¬1) يصح السكوت عليها، والمدار إنما هو على ذلك سواء استفاد المخاطَب [أوْ] (¬2) لا؛ بدليل أن المخاطَب إذا كان يَعلم حُكمًا وأُخبر به، لا يخرج الكلام بذلك عن كونه كلامًا. الثامن: يؤخذ مِن إطلاق كونه مفيدًا أنه لا فرق بين أن يصدر مِن متكلم أو أكثر، وذلك بأن يصطلح اثنان على أن يذكر هذا الفعلَ والآخَرُ الفاعلَ، أو أحدهما المبتدأَ والآخَرُ الخبرَ. وخالف في ذلك القاضي والغزالي في "المستصفى" في الكلام على تخصيص العموم، فشرَطَا اتحاد المتكلم، ونقله ابن مالك في "شرح التسهيل" عن بعض العلماء، ولعله قصد هذين؛ لأن ظاهره أن مَن قال به ليس من النحاة وأن النحاة إنما يطلقون ذلك. وردَّه بأن الخط لا يخرج بتعدد الكاتب عن كونه كتابة، فكذلك هذا، وممن صحح العموم أيضًا أبو حيان في "الارتشاف". ¬

_ (¬1) في (ز): مفيدة فائدة. (¬2) كذا في (ص، ض، ش، ق)، لكن في (ز، ت): أم.

وذكر ابن مالك في الشرح أيضًا جوابًا آخَر وهو التحقيق: أن الكلام لا بُدَّ له من إسناد، وهو لا يكون إلا مِن واحد، فإنْ وُجِد مِن كل منهما إسناد بالإرادة، فكل منهما متكلم بكلام مركب ولكن حذف بعضه لدلالة الآخَر عليه، فلم يوجد كلام مِن متكلمَين، بل كلامان مِن اثنين. ومما يتفرع على ذلك: لو قال: (لي عليك ألف)، فقال المخاطَب: (إلا عشرة) أو: (غير عشرة) أو نحو ذلك، هل يكون مُقِرًّا بباقي الألف؟ فيه خلاف، قال في "التتمة": المذهب أنه لا يكون مُقِرًّا. التاسع: هذا التعريف للكلام إنما هو في الاصطلاح النحوي، ومَن يذكره مِن الأصوليين فإنما أخذه منهم. وأما الكلام في اللغة فله خمس إطلاقات: أحدها: مطلق التلفظ، ومنه حديث البراء بن عازب: "فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام" (¬1)، وحديث ابن مسعود: "وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة" (¬2)، وتقول: (يَكَلم الصبي) تُريد أصل التلفظ وإنْ لم يُفِد. ولو حلف لا يتكلم، حنث بمطْلَق اللفظ. ثانيها: المعنى القائم بالنفس، وسيأتي بيان الخلاف في إثباته. ثالثها: الخط، ومنه قولهم: ما بين دَفتَي المصحف كلام الله. رابعها: الرَّمز، ومنه قوله تعالى: {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41]. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (4260)، صحيح مسلم (رقم: 539) من حديث زيد بن أرقم. (¬2) سنن أبي داود (رقم: 924) بلفظ: (وَإِنَّ الله جَلَّ وَعَزَّ قد أَحْدَثَ من أَمْرِهِ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا في الصَّلَاةِ). قال الألباني: حسن صحيح. (صحيح أبي داود: 924).

خامسها: ما يفهم من حال الشيء، ويُذكر مِن شواهده قوله تعالى: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] على أحد التفسيرين، والآخَر أنه نُطْقٌ حقيقةً، ونحو قول الشاعر: امتلأ الحوضُ وقال قطني ... مهلًا رويدًا قد ملأتُ بطني كما استدل على الرمز بقوله: أشارت بطرف العين خِيفةَ أهلها ... إشارةَ مذعورٍ ولم تتكلم فأَيقنتُ أن الطرفَ قد قال مرحبا ... وأهلًا وسهلًا بالحبيب المتيَّم ولكن ليس في هذا كله لفظ الكلام، بل القول، وإنما ينبغي أن يستشهد في الرمز بقوله: أرادت كلامًا فاتَّقَتْ من رَقِيبها فلم [يك] (¬1) إلا [رمزها] (¬2) بالحواجب أقامه مقام الكلام اللفظي، على ما فيه من نظر. وفي حديث النفس بقوله: لو كنتَ قد أوتيتَ عِلم الحُكْل ... عِلمَ سليمان كلام النمل قال الجوهري: (الحُكْل -بضم الحاء وسكون الكاف- ما لا يُسمع له صوت) (¬3). فَعَلَى هذا يكون المراد ما يُفهم مِن أحوال النمل وما في نفسها. نعم، إنْ جُعل كلامها نطقًا حقيقيًّا لا يسمعه إلا سليمان معجزةً له، فلا شاهد فيه حينئذٍ. ¬

_ (¬1) في (ز، ظ): يكن. (¬2) كذا في (ص، ق). لكن في سائر النُّسخ: ومؤها. (¬3) الصحاح (4/ 1672).

العاشر: حقيقة لفظ "الكلام" أنه اسم مصدر لِـ "تكلم تكلُّمًا". وأما مصدر "كلم" فَ "تكليم"، ومصدر "كالَمَ": مُكالمة وكِلام (بكسر الكاف والتخفيف) كـ "جادل مجُادلة وجِدالًا". وجعل الجوهري "كِلَّامًا" (بكسر الكاف والتشديد) مصدرًا آخر لـ "كلم"، قال: نحو: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)} [النبأ: 28] (¬1). وظاهره أنه قياس، لكنه سماع. ومصدر "تكالم": التكالُم (بضم اللام). على أنه قد اختُلف في مدلول اسم المصدر هل هو مدلول المصدر حتى يكونا مترادفين؟ أو مدلوله لفظ المصدر، فدلالته على مدلول المصدر بواسطة، لا أنه مرادف له؟ فيه خلاف للنحاة لا طائل تحته. الحادي عشر: عُلِم مِن تعريف "الكلام" أنه مما يحتاج للتعريف، ونُقل عن القاضي أبي بكر قولان في كونه يُحَد أو لا يُحَد. والمانِعُ قال: إنه مركب مِن الأمر والنهي والخبر والاستخبار وغير ذلك، ولا عبارة تحيط به، وإنما يتبين بالتفصيل. كأنه يشير إلى أنه ليس له حقيقة مشتركة بين أقسامه، وهذه الشبهة هي المذكورة في أن "العلم" لا يُحَد، والحقُّ خلافه كما سبق. والله أعلم. ¬

_ (¬1) الصحاح (1/ 210، 5/ 2023).

ص: 428 - وَالْخُلْفُ فِيهِ قِيلَ: في النَّفْسَانِي ... حَقِيقَةٌ، وَقِيلَ: وَاللِّسَانِي 429 - مُشْتَرَكًا، وَحُكِيَ الْقَوْلَانِ ... عَنِ الْإمَامِ الْأَشْعَرِيْ، وَالثَّانِي 430 - مَحَلُّ بَحْثِ الْفَنِّ أَوْ كَنَحْوِ: ... تَفْسِيرٍ، اوْ بَيَانٍ، اوْ كَالنَّحْو الشرح: قد سبق أن "الكلام" قِسم مِن المركَّب القولي، لكن قد يقوم معناه بنفس المتكلم مِن غير تَلفُّظ، ويسمى هذا "الكلام النفساني"، وهو في المخلوق: الفِكر الذي يُزَوِّرُه الإنسان في نفْسه قبل أن يُعَبر عنه باللسان، كما قال الأخطل: إن الكلام لَفِي الفؤاد، وإنما ... جُعلَ اللسانُ على الفؤاد دليلا وعبَّر عنه ابن مالك بِ "المعنوي"، قال: وهو الذي أشار إليه عمر - رضي الله عنه - بقوله: "وكنت زَوَّرْتُ مقالةً أعجبتني أردتُ أن أقدمها بين يدي أبي بكر" (¬1). ومن ذلك قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} [المجادلة: 8]، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]، ومن المعلوم أن قولهم: (إنه رسول الله) حقٌّ وأن التكذيب إنما هو لعدم مواطأة لسانهم ما أَسَرُّوه في أنفسهم؛ ولهذا قال تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك: 13]، إلى غير ذلك مما لا سبيل إلى إنكاره. وأما في الخالق عز وجل فالمراد به صفة قائمة بذاته تعالى ليست بحرف ولا صوت ولا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 6442).

غير ذلك مما يكون حادثًا. وقد اختُلف في إطلاق "الكلام" على كل مِن الأمرين اللفظي المفسِّر لمَا في النفس وحديثِ النفس في الموضعين على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه حقيقة في النفساني، مجاز في اللساني، مِن باب إطلاق اسم المدلول على الدالّ، كما تقول: (سمعتُ عِلمًا) تريد: سمعتُ عبارة تدل على عِلم. واختاره إمام الحرمين في "باب الأوامر" من "البرهان"، وهو أحد قولَي الأشعري وطوائف، ولكن قصدهم النفساني القديم، لا مطلق النفساني، فإنهم يوافقون على أنه في الحادثِ حقيقةٌ في اللفظ، فَعَلَى هذا لا يكون ما سبق مِن إطلاق "الكلام" على النفسي فيه دلالة في محل النزاع وإنْ كانوا يذكرونه في الاستدلال، إنما يستشهد به على إثبات النفساني في الجملة، ولو كان يُطلق عليه "كلام" مجازًا. وأما إثباته في القديم فإنما ثَبتَ بالبراهين القاطعة المذكورة المشهورة في فن أصول الدين، فإنها أصعب مسائله. وإنما صاروا إلى إثباته بالدلائل ردًّا على المعتزلة دعواهم المؤدِّية إلى خَلْق القرآن وعلى الحشوية دعواهم المؤدية إلى أن ذاته تعالى تكون مَحلًّا للحوادث. القول الثاني: أنه مشترك بين النفساني واللساني، وهذا هو القول الثاني مِن قولَي الأشعري، ونقله الهندي عن الأكثرين، وحكاه في "المحصول" عن المحققين، وقال إمام الحرمين: إنه الطريقة المرْضية عندنا. وكذا قال ابن القشيري والشيخ أبو إسحاق، وعبارته في ذلك في كتاب "الحدود": ("الكلام" نوعان: قديم ومحدَث. فالمحدَث: كلام المخلوقين، وينقسم إلى معنى في النفس يجده كل عاقل بالضرورة قبل أن ينطق به، وإلى ما يكون أصواتًا تترتب، وكلاهما على الحقيقة "كلام". والقديم: هو كلام الله سبحانه وتعالى، قائم بذاته المقدسة، لا يشبه كلام

المخلوقين، فليس بحرف ولا صوت؛ لأنَّ الكلام صفة، ومن شأن الصفة أن تتبع الموصوف، فإذا كان الموصوف لا يشبهه شيء، فكذلك صفاته، وإنما غلط الخصوم في إلحاقهم الغائب بالشاهد). قال: (فحصل أن كلام الخلق ينقسم إلى نفسي ولفظي، بخلاف القديم، كما تقول: عِلم المخلوق ينقسم إلى ضروري وكَسْبي، بخلاف القديم. فكما أن عِلمنا لا يُشبه عِلمه كذلك كلامنا لا يُشبه كلامه وإنْ كان للكلام في الجملة حد جامع وهو الصفة التي يستحق مَن قامت به أن يشتق منها اسم "المتكلِّم"، لكن يختلفان في التفصيل). قال: (ومن أصحابنا مَن قال: كلام الخلق في الحقيقة هو ما في النفس، وما يوجد بالنطق يسمَّى "كلامًا" مجازًا). قال: (والأول أصح؛ لِمَا قُلناه، ولأنه أحسم [للتشعث]) (¬1). انتهى وعلى هذين القولين اقتصرتُ في النَّظم؛ لأنهما الراجحان والمنقولان عن الأشعري، ولا يكاد يرجح أحدهما على الآخر. وأما القول الثالث وهو قول المعتزلة: (إنه حقيقة في اللساني) فقول ضعيف لم يشتهر عن أحدٍ مِن أئمة أهل السُّنة موافقةٌ عليه. نعم، نُقل عن الأشعري أيضًا، لكنه بعيد عن قواعده؛ فلذلك لم أَتعَرَّض في النَّظم له. وهذه المسألة أصل عظيم مِن أصول الدين حتى قيل: إنه إنما سُمي عِلم الكلام لأجلها؛ لأنها أعظم مسألة فيه. وقيل: لغير ذلك. وقولي: (مُشْتَرَكًا) نصب على الحال. ¬

_ (¬1) في (ش): للتشغب.

وقولي: (عَنِ الْإمَامِ الْأَشْعَرِيْ) إشارة إلى أنه إمامنا وقدوتنا، نلقَى الله عز وجل باتِّباعه في معتقداته، وهو الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة عامر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري، إمام المتكلمين وناصر السُّنة، مولده سَنة ستين ومائتين، ووفاته سَنة أربع وعشرين وثلاثمائة ببغداد. تنبيه: مِن فوائد الخلاف في هذه المسألة المذكورة في الفقه أن المصلِّي إذا نظر في مكتوب وهو في الصلاة وقرأه في قلبه مِن غير تلفُّظ، لم تبطل، وقيل: تبطل إنْ طال. حكاه ابن كج. ومنها: لو قرأ الجنُب أو الحائض القرآن في نفسه ولم يتلفظ، لا يكون حرامًا؛ لأنَّ المدار في الأمرين على اللفظ باللسان ولم يوجد، بخلاف ما إذا دار الحكم على الأعم كالغيبة بالقلب من غير تلفُّظ فإنه حرام كما صرح به الغزالي في "الإحياء" وتبعه النووي في "الأذكار"؛ لأن "الغيبة" ذِكر الشخص بما يكرهه، فلا فرق بين اللسان والجنَان. ومنها: في قوله - صلى الله عليه وسلم - في الصائم: "فإنِ امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم" (¬1) هل يقول بقلبه أو بلسانه؟ وجهان: نقل الرافعي عن الأئمة الأول، ورجح النووي في "الأذكار" و"لغات التنبيه" الثاني، وفي "شرح المهذب": (إنه الأقوى، فإنْ جَمع بينهما فَحَسَن) (¬2). واستحسن الروياني وَجْه التفصيل بين النفل (فيقوله بقلبه) والفرض (فبلسانه). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 1795)، صحيح مسلم (رقم: 1151) واللفظ لمسلم. (¬2) المجموع شرح المهذب (6/ 398) الناشر: مكتبة الإرشاد - جدة.

ومنها: حلف لا يتكلم، فتكلم في نفسه. قال الخوارزمي في "الكافي": يحتمل وجهين، أحدهما: لا يحنث، ويحمل على الكلام المتعارف بين الناس. قال: والأصح أنه يحنث؛ لأنه كلامٌ حقيقة. ومنها: لو تكلم بطلاقها في قلْبه من غير تلفُّظ، لا يقع عليه طلاق. وكذا العتق ونحوه، وكذا العقود والفسوخ والاستثناء في الطلاق ونحوه بالقلب، وكأنَ ذلك كله لحديث: "إنَّ الله تجاوز لأمتي ما حدَّثت به أنفُسها ما لم تتكلم أو تعمل" (¬1). نعم، لو حرَّك لسانه بالطلاق ولم يرفع صوته بحيث يسمع السميع لكن يُدرك من التحريك أنه نطق به، يقع الطلاق على أحد الوجهين، والثاني: لا؛ لأن المدار فيه على التصويت، فكما لم يجعل مِثله قراءة لم يجعل كلامًا. وفي النذر بالقلب وجهان، أصحهما عدم الصحة. وقولي: (وَالثَّانِي مَحَلُّ بَحْثِ الْفَنِّ) أي: إن "الكلام" وإن كان يُطلق على النفساني -على الخلاف السابق- فإنما محل كلام أهل فن أصول الفقه في اللساني؛ لأنه الذي يُستدل به في الأحكام ويُتكلم على الأقسام الموصلة إلى فَهْمه، وكذلك هو أيضًا محل كلام المفسرين وأهل عِلم المعاني والبيان والنحو ونحو ذلك من تصريف وعَروض وغيرهما كما سبق بيانه في تعريف القرآن أول الباب الأول، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

ص: 431 - فَمَا بِذَاتِهِ يُفِيدُ الطَّلَبَا ... فَـ "أَمْرٌ" اوْ "نَهْيٌ" إذَا مَا طُلِبَا 432 - فِعْلٌ وَتَرْكٌ، وَكذَا "اسْتِفْهَامُ" ... إنْ كَانَ فِيهِ يُطْلَبُ الْإعْلَامُ 433 - وَشِبْهُ ذَا "التَّنْبِيهُ" فِيمَا يَعْنِي ... كالْعَرْضِ وَالتَّحْضِيضِ وَالتَّمَنِّي 434 - وَكَالرَّجَا، وَمَا بِلَفْظِهِ حَصَلْ ... وُجُودٌ "الْإنْشَاءَ" سَمِّ حَيْثُ حَلْ الشرح: أي: إذا كان الكلام اللساني هو محل بحث أصول الفقه، فلا بد مِن بيان أنواعه والفرق بينها؛ ليحصل الاستدلال بها على المراد، وإنْ كانت تلك الأقسام في النفساني -على المرجَّح أيضًا- لكن الحاجة لِمَا في اللساني كما بيناه. وللناس في التقسيم طُرُق: فمنهم مَن يقسمه إلى خبر وإنشاء؛ لأنه إن احتمل الصدق والكذب فهو الخبر، وإلا فهو الإنشاء. وذلك الإنشاء إما طلب أو غيره، وهو المشهور باسم الإنشاء. والطلب إما أمر أو نهي أو استفهام، نحو: (قُم ولا تقعد)، و: (هل عندك أحد؟ ). و[مثال] (¬1) الإنشاء (وهو الذي [يُقْتَرف] (¬2) معناه بوجود لفظه): بعتُ واشتريتُ وأعتقتُ وطلقتُ، وما أَشْبَه ذلك. ومنهم من يقسمه ثلاثة أقسام: خبر، وطلب، وإنشاء، ويرى بأن الإنشاء ليس منه ¬

_ (¬1) كذا في (ص). لكن في سائر النُّسخ: بيان. (¬2) كذا في (ز، ت). لكن في (ص، ظ): يقترن. وفي (ش): يفترق.

الطلب، بل قسيمه؛ لأن المطلوب مستدعَى الحصول في المستقبل، والإنشاء مدلوله يحصل في الحال، ولفظ الإنشاء سبب لوجود معناه، ولفظ الطلب ليس سببًا لوجود معناه. وإنْ أُريدَ بالإنشاء إحداث شيء لم يكن فالكل إنشاء؛ لأن الخبر إحداث الإخبار به، ولا قائل بذلك. ومنه مَن يقسمه إلى: خبر، وطلب كما قال ابن مالك في "كافيته": قولٌ مفيدٌ طلبًا أو خبرا ... هو الكلام، كاستمع وسترى وكأنه رأَى أن الإنشاء فرع عن الخبر كما سيأتي بيانه، فيكتفي بذكر الخبر أو غير ذلك، وقد بسطتُ المسألة بسطًا شافيًا في "شرح الصدور بشرح زوائد الشذور" لابن هشام في النحو، فليطلَب منه؛ فإنه مهم. وقد جريتُ في هذا النَّظم على تقسيمه إلى ثلاثة أقسام؛ لأنه أرجح الطرق وأوضحها. فبدأتُ بذكر الطلب بقولي: (فَمَا بِذَاتِهِ يُفِيدُ الطَّلَبَا)، والتقييد بلفظ "بذاته" للاحتراز عما يفيده باللازم أو بالقرينة. نحو: (أنا أطلب منك أن تخبرني بكذا)، أو: (أن تسقيني ماء)، أو: (أن تترك الأذى) أو نحو ذلك، فإنَّ هذا وإنْ كان دالّا على الطلب لكن لا بذاته، بل هذه إخبارات لازِمُها الطلب، ولا يُسمَّى الأول استفهامًا ولا الثاني أمرًا ولا الثالث نهيًا لذلك. وكذا نحو قوله: (أنا عطشان)، كأنه قال: (فاسْقني)، فإن هذا طلبٌ بالقرينة، لا بذاته. وربما عُبِّر عن هذا القيد بكونه بالوضع، وربما عُبِّر بما يُفيده إفادةً أوليَّة، والكل صحيح. وقولي: (فَـ "أَمْرٌ" اوْ "نَهْيٌ") إلى آخِره -إشارة لانقسام الطلب لأمر ونهي واستفهام؛ لأنه إنْ طلب به تحصيل فِعل فأمر، أو ترك فنهيٌ. وربما قُيدا بكونهما مِن الأعلى لِمَن دُونه، فإنْ كان بالعكس فدعاء، وإنْ كان مِن مساوٍ

فالتماس. هذا في الاصطلاح، وأما في اللغة فلا فرق، وستأتي المسألة في باب الأوامر والنواهي وأن الاستعلاء أيضًا لا يُعتبر. وإنْ كان الطلب للإعلام بشيء لا لتحصيل فِعل ولا ترك فهو استفهام (استفعال مِن "الفَهْم")، فَ "السين" للطلب. وما أحسن ما عبَّر عن ذلك البيانيون، فقالوا في "الأمر" و"النهي": إنهما طلب ما هو حاصل في الذهن أن يحصل في الخارج، وفي "الاستفهام" بالعكس، أي: طلب ما في الخارج أن يحصل في الذهن. وقولي: (وَشِبْهُ ذَا "التَّنْبِيهُ") إلى آخِره -إشارة إلى قسم آخَر غير الثلاثة المذكورة، وهو المسمى بِـ "التنبيه"، وتحته أقسام: العَرْض، نحو: ألا تنزل عندنا. والتحضيض، نحو: هلا تنزل. وهو أشد وأَبْلَغ من العرض. والتمني، نحو: ليت لي مالًا فأُنفِقه. والرجاء، نحو: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} [المائدة: 52]. والفرق بينه وبين التمني أن الترجي في الممكن، وأما التمني فيكون في المستحيل، واستُغني بذكر الترجي عن الإشفاق وهو ما يكون في المكروه. وربما تُوُسِّع بإطلاق الترجي على الأعم، وقد اجتمعا في قوله تعالى: {عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216]. وهذا القِسم ليس طلبًا صريحًا، بل إيماء إلى الطلب؛ فلذلك عبَّرتُ عنه بقولي: (وَشِبْهُ ذَا)، أي: شبه الطلب الصريح، فليست الإشارة إلى الاستفهام، بل لمطلق الطلب.

ولكونه ليس طلبًا بالوضع جعله قومٌ -كالبيضاوي- قَسِيمًا له، حيث قال: إن الكلام إما أن يفيد طلبًا بالوضع وهو الأمر والنهي والاستفهام، أوْ لا، فما لا يحتمل الصدق والكذب تنبيهٌ وإنشاء، ومحتملهما الخبر. وكذا عبَّر به في "جمع الجوامع"، ولكنه لا يُعرف منه ما يتميز به "التنبيه" من "الإنشاء"، ولا كَوْنه فيه طلبٌ ما، على أنَّ البيانيين يُطْلقون عليه اسم الطلب، فيجعلون الطلب أمرًا ونهيًا واستفهامًا وتنبيهًا. وقولي: (وَمَا بِلَفْظِهِ حَصَلْ وُجُودٌ "الْإنْشَاءَ") إشارة إلى ما سبق في تعريف الإنشاء بأنه الذي يحصل معناه بوجود لفظه، فـ "الْإنْشَاءَ" منصوب بالفعل الذي بعده وهو "سَمِّ". تنبيهات الأول: ادَّعى القرافي في "الفروق" الإجماع على أن "الأمر والنهي والقَسَم والترجي والنداء" مِن أقسام الإنشاء، وهو جارٍ على ما قرره مِن تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء، وجرى عليه البيانيون في جعلهم الإنشاء أَعَم مِن الطلب. أما على الطريقة الراجحة في جعله ثلاثة أقسام فلا يتأتى ذلك؛ ولهذا جعل الإمام الرازي وأتباعه الطلب غير الإنشاء. نعم، جَعْلُه القَسَم والنداء من الإنشاء قطعًا ظاهر؛ لأن القَسَم جملة إنشائية يؤكَّد بها جملة خبرية ولو كانت صيغتها "أقْسم" ونحوه من المضارع، إذْ لو قلنا: (إنها خبرٌ)، لكان وَعْدًا بالقَسم، لا قَسَمًا. وأما النداء فدائر بين: - كَوْنه طلبًا؛ ولهذا يُقال في المنادَى: هو المطلوب إقباله بـ "يا" ونحوها.

- وكونه تنبيهًا؛ لأن "يا" فيه لتنبيه السامع؛ ولهذا يذكر غالبًا للإقبال بالقلب والخاطر لسماع كلام المتكلم وتَلَقِّي ما يريده. - وكونه إنشاءً؛ لأنَّ "يا" في نحو: "يا زيد" نائبةٌ منابَ "أدعو" ونحو ذلك، وهذه الصيغة المقصود بها إنشاءٌ لا إخبار. وقد يُدفع بذلك تعقُّب الإمام الرازي في تفسيره (¬1) -في سورة البقرة- وغيْره بأنَّ "يا" إنشاء و"أدعُو" خبر، فكيف يُقدر ذلك؟ وبأمور أخرى كلها ترجع إلى هذا التشكيك الذي قد علمتَ جوابه بادِّعاء أن "أدعو" أو "أنادي" إنشاء، لا خبر. وكذا ما أَوْرَدَه على [مذهب] (¬2) سيبويه حيث قَدَّر في "يا زيد": (يا أنادي زيدًا) مِن أنَّ "أنادي" خبر عن النداء، والخبر عن الشيء غَيْرُه، أي: و"يا زيد" نداء قطعًا، فلا يكون تقديره "أنادي زيدًا". وجوابه ما سبق: أن "أنادي" إنشاء، فيكون "يا" للتنبيه، و"أنادي" بعدها لإنشاء النداء وهو تنبيه أيضًا، لكن الأول تنبيه عام والثاني تنبيه خاص. نعم، وقع خلاف في بعض المنادَى أنه خبر، لا إنشاء، فقال ابن بابشاذ في نحو: "يا زانية" أو "يا فاسقة": إنه خبر؛ لأنه مما يدخله الصدق والكذب. وغَلَّطوه؛ إذْ لا فرق بين نداء الاسم ونداء الصفة، واحتمال الكذب إنما هو مِن جهة الوصف، لا مِن جهة النداء بالوصف، وهما غَيْران. وفي "الغُرَّة" لابن الدَهَّان قريب مِن مقالته، فإنه قال: (إذا ناديتَ وصفًا فالجملة خبرية، أو اسمًا فالجملة غير خبرية؛ ولهذا لو قال: "يا زانية" وَجَبَ الحد). انتهى ¬

_ (¬1) التفسير الكبير (مفاتيح الغيب) (2/ 76). (¬2) ليس في (ز، ق).

وقد فرَّع أصحابنا على البحث الذي ذكرناه في المنادى فيما لو قال لها: (يا طالق إنْ شاء الله) أنه لا يصح عَوْدُ الاستثناء إلى المنادى؛ لأنه ليس بإنشاء، فقالوا: لو قال لها: (يا طالق، أنت طالق ثلاثًا إنْ شاء الله) إنَّ الاستثناء يعود إلى الجملة الأخيرة؛ لكونه إنشاء يَقبل الاستثناء، فلا يقع الثلاث، ويقع عليه بقوله: (يا طالق) طلقة. فلو أَخَّر النداء فقال: (أنت طالق ثلاثًا إنْ شاء الله يا طالق)، لا يقع عليه شيء؛ لأن قوله: (يا طالق) مُرتَّبٌ على قوله أولًا: (أنت طالق ثلاثًا)، وذاك لم يقع به شيء، لتعقيبه بالاستثناء بالمشيئة. لكن كوْن المنادَى لا يكون إنشاء إنما هو مِن جهة إنشاء الطلاق وأما مِن حيث إنه إنشاء لدعائه وطلبه فلا يمتنع. الثاني: مِن الإنشاء صِيَغُ العقود والفسوخ كما تَقدم، وهي خبر في الأصل بلا شك، ولكن لَمَّا استُعملت في الشرع في معنى الإنشاء، اختُلف فيها: هل هي باقية على أصلها من الخبرية؟ أو نُقلت؟ الأكثرون على الثاني، والحنفية على الأول على معنى الإخبار عن ثبوت الأحكام. فمعنى قولك: "بِعتُ" الإخبار عمَّا في قلبك، فإنَّ أصل البيع هو التراضي، فصار "بِعتُ" لفظة دالة على الرضَا بما في ضميرك، فيُقدَّر وجودها قبيل اللفظ؛ للضرورة، وغاية ذلك أن يكون مجازًا، وهو أَوْلى مِن النقل. ودليل الأكثرين أنه لو كان خبرًا لَكان إما عن ماضٍ أو حالٍ أو مستقبلٍ، والأوَّلان باطلان؛ لِئلَّا يَلْزَم أنْ لا يَقْبَل الطلاق ونحوُه التعليق، لأنه يقتضي توقُّف شيء لم يوجد على ما لم يوجد، والماضي والحال قد وُجِدَا، لكن قبوله التعليق إجماع. والمستقبل يَلزم منه أن لا يقع به شيء؛ لأنه بمنزلة "سأُطَلِّق" والفَرْض خِلافُه. إلى غير

ذلك من أدلته التي لسنا بصددها في هذا المختصر، والله أعلم. ص: 435 - وَمَا لَهُ مِنَ الْكَلَامِ خَارِجُ ... يَصْدُقُ أَوْ يَكْذِبُ، ذَاكَ الرَّايِجُ 436 - فَخَبَرٌ، وَفِيهِمَا يَنْحَصِرُ ... بِطِبْقِهِ لَهُ وَنَفْيٍ يُقْصَرُ 437 - لَا [الِاعْتِقَادُ مُفْرَدًا] (¬1) أَوْ مَعْهُ ... فَيَنْتَفِي تَوَسُّطٌ، فَدَعْهُ الشرح: اشتملت هذه الأبيات على أمرين: أحدهما: تعريف الخبر الذي هو أحد الأقسام الثلاثة للكلام كما بيناه. والثاني: بيان أقسامه. فأما الأول: فالخبر: ما له من الكلام خارج، أي: لنسبته وجود خارجي في زمن غير زمن الحكم بالنسبة، وربما فسر ذلك بما هو خارج عن كلام النفس المدلول عليه بذلك اللفظ. فيخرج عن ذلك "الطلب" أمرًا أو نهيًا أو استفهامًا، فإنه كلام محكوم فيه بنسبة ولكن ليست خارجية، إذ ليس لنسبته الطلبية خارج عن زمن الطلب، ولا وجود لها خارج عن نفس المتكلم، فالخارج على كل حال قابِل لمطابقة ما في النفس من الحكم بالنسبة فيكون صدقًا، ولعدم المطابقة فيكون كذبًا، وهو معنى قولي: (يَصْدُقُ أَوْ يَكْذِبُ). ويخرج أيضًا بقيد كونه له خارج: الإنشاء، فإنَّ مدلوله موجود به، فلا خارج له. ¬

_ (¬1) في (ن): لاعتقادٍ مفردٍ.

وهذا التعريف يرجع [إلى] (¬1) قول مَن عَرَّفه بما يحتمل الصدق والكذب أو بما يحتمل التصديق والتكذيب، فإن ذلك متضمن لكونه له خارج، فهو [الفصل] (¬2) المُخْرج للطلب والإنشاء، لا أن نفس كونه محتملًا هو المُخْرِج لهما خلافًا لمن تَوهَّم ذلك حتى توَجَّه -بمقتضى ذلك- على التعريف أسئلة تحتاج إلى جواب: منها: على مَن قال: (ما يحتمل التصديق والتكذيب) أنهما نوعان للخبر، والنوع إنما يعرف بعد معرفة الجنس، فإذا عُرِّف به الجنس، لَزِمَ الدَّور. وجوابه: ما قررناه أن القيد المخرج إنما هو تضمن التصديق والتكذيب كون الكلام له خارج، وأيضًا التصديق أو التكذيب اعتقاد كوْن الخبر صدقًا أو كذبًا، لا الإخبار بذلك، ولو سُلِّم أن المراد الإخبار به فتوقف الخبر عليهما توقُّف على وجود أحدهما لا على تَصوُّره، فاختلفت جهة التوقف، فلا دَوْر. وأجاب القرافي بأن السائل عن الخبر يعرف التصديق والتكذيب إجمالًا ولا يعرف نفس الخبر، فإذا ذكر له ذلك، انتظم له بالتفصيل معنى الخبر، وتَبيَّن له مدلوله بمدلول لفظ الصدق والكذب. ومنها: على مَن يقول: (ما يحتمل الصدق والكذب) أنه لا يحتمل إلا واحدًا منهما وإلا لزم اجتماع الضدين، فينبغي أن يُقال: (الصدق أو الكذب)؛ حتى يكون الواقع أحدهما فقط. كذا جنح إليه إمام الحرمين. وجوابه: أن القابلية لهما لا بُدَّ منها في حالة واحدة، وأما الوقوع فلا يكون إلا أحدهما فقط، وذلك أنه لا يَلزم مِن تنافى المقبولين تنافي القَبولين، ألا ترى أن الممكن قابل للوجود ¬

_ (¬1) كذا في (ز)، لكن في (ص): إليه. (¬2) كذا في (ز، ق، ظ، هامش ت). لكن في (ص، ض، ت): القيد. وفي (ش): العقد.

والعدم، ولو وُجد أحد القَبولين دُون الآخر لَزِمَ استحالة ذلك [المقبول] (¬1)، فإنْ كان المستحيل هو الوجود، لَزِمَ كون الممكن مستحيلًا، وإنْ كان المستحيل هو العلم، لزم كون الممكن واجب الوجود، وهُما مُحالان، فلا يُتصور الإمكان إلا باجتماع القبولين. ومنها: ما قاله القرافي في "الفروق" وغيرها: إن الخبر بالوضع اللغوي إنما هو للصدق ولا يحتمل الكذب؛ لأن معنى "قام زيد" حصول قيامه في زمن ماض (¬2). فالاحتمال للكذب إنما جاء مِن حيث المخبر، لا مِن حيث الخبر. وجوابه: أن المركب غير موضوع، وعلى تسليم كونه موضوعًا فالواضع إنما وضع نحو "قام زيد" للحُكم بالنسبة، لا لوقوع النسبة، فمدلوله الحكم، لا الوقوع، والحكم محتمل للأمرين من حيث هو. وأما كونه قد يكون صدقًا قطعًا [فخبر] (¬3) المعصوم والمعلوم بالضرورة، كقولنا: (الواحد نصف الاثنين) أو بالاستدلال كالحكم بحدث العالم، وقد يكون كذبًا قطعًا كالمعلوم خِلافه ضرورةً أو استدلالًا، فإنما ذلك لأمر الخارج كما قرر الإمام ذلك في "المحصول"، وأطال في الاستدلال عليه، ولا التفات إلى ما تُعُقِّب به عليه، فإنه ظاهر الفساد، وأيضًا فالاتفاق على انقسام الخبر إلى صدق وكذب. وبهذا التقرير يُعلم جواب مَن قال: (ينبغي التعبير بالتصديق والتكذيب، لا بالصدق والكذب؛ لأن مِن الأخبار ما يحتمل أحدهما دُون الآخَر)، فيُجاب بما سبق. ¬

_ (¬1) في (ز، ص، ظ): القبول. (¬2) الفروق (1/ 44). (¬3) في (ص، ش): كخبر.

تنبيهات أحدها: قد عُلم أن الخبر مشتمل على محكوم عليه ومحكوم به، وربما عُبر عن ذلك بمُسنَد إليه ومُسْنَد، وهو عبارة البيانيين، ويعدونه إلى مطلق الكلام. وأما المنطقيون فيسمون الخبر "قضيةً"، لِمَا فيها مِن القضاء بشيء على شيء، ويسمون المقضي عليه "موضوعًا"، والمقضي به "محمولًا"؛ لأنك تضع الشيء وتحمل عليه حُكمًا، ويقسمون القضية إلى: طبيعية: وهي ما حُكم فيها بأحد أمرين مِن حيث هو على الآخَر مِن حيث هو، لا بالنظر إلى أفراده، نحو: "الرجل خير من المرأة"، ونحو: "الماء مُرْوٍ". وغير طبيعية: وهي التي قصد الحكم فيها على مشخص في الخارج، لا على الحقيقة مِن حيث هي، ثم يُنظر: فإن حُكم فيها على جُزئي مُعَين، سميت "شخصية" نحو: زيد قائم، أوْ لا على مُعَين، فإنْ ذكر فيها سورُ الكل أو البعض في نفي أو إثبات، سميت "محصورة"، نحو: "كل إنسان كاتب بالقوة، وبعض الإنسان كاتب بالفعل"، ونحو: "لا شيء أو لا واحد مِن الإنسان بجماد، وليس بعض الإنسان بكاتب بالفعل، أو بعض الإنسان ليس كذلك". وإنْ لم يكن للقضية سور والمراد الحكم فيها على الأفراد لا على الحقيقة مِن حيث هي، سُميت "مهملة"، نحو: "الإنسان في خسر"، والحكم فيها على بعضٍ ضروريٌّ، فهو المتحقق، ولا يصدق عليها كُلية. نعم، إذا كان فيها "أل" كما في "الإنسان كاتب"، يُطلِق عليها ابن الحاجب وغيره كثيرًا أنها "كُلية"؛ نظرًا إلى إفادة "أل" العموم، فهي مِثل "كُل" وإن لم يكن ذلك مِن اصطلاح

المنطقيين. الثاني: سأل بعضهم: إنَّ سُنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها الأمر والنهي والاستفهام وأنواع التنبيه وغير ذلك، فكيف تُسمَّى كلها أخبارًا فيقال: أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وأجاب عنه القاضي أبو بكر بجوابين: أحدهما: أن الكل أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حُكم الله تعالى، فأمره ونهيه وما أشبههما هو في الحقيقة خبر عن حكم الله عز وجل. الثاني: إنها سُميت أخبارًا لنقل المتوسطين، فَهُم يخبرون بها عَمَّن أخبرهم، إلى أن ينتهي إلى مَن أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أو نهاه، فإن ذلك يقول: (أمرَنا ونهانا)، والذي بعده يقول: (أخبرنا فلان عن فلان بأنه - صلى الله عليه وسلم - أمرَ ونهى). التنبيه الثالث: زعم قوم أن الخبر ضروري فلا يُحَد، منهم الإمام الرازي، قال: (لأن كل أحد يعلم أنه موجود ويُخبر به، والخبر بذلك جُزئي مِن مُطلِق الخبر) (¬1). ونظيره ما قيل في "العلم"، وجوابه كجوابه، وقد سبق. وقيل: لا يحد؛ لأنه عسر كما سبق أيضًا في "العلم"، ومثلهما الوجود والعدم ونحوهما. الرابع: ذكر القرافي (¬2) فروقًا بين الخبر والإنشاء: أحدها: قبول الخبر الصدق والكذب كما سبق، بخلاف الإنشاء. الثاني: أن الخبر تابع لمخبَره في أي زمان كان ماضيًا أو حالًا أو مستقبلًا، والإنشاء متبوع ¬

_ (¬1) المحصول في أصول الفقه (4/ 314). (¬2) الفروق (1/ 37).

لمتعلَّقه، فيترتب عليه بعده. الثالث: أن الإنشاء سبب لوجود متعلقه، فَيَعقُب آخِر حَرْفٍ منه، أو يوجد مع آخر [حرف] (¬1) منه على الخلاف في ذلك إلا أن يمنع مانع، وليس الخبر سببًا ولا معلَّقًا عليه، بل مُظهِر فقط. قلتُ: وهذه الفروق راجعة إلى أن الخبر له خارج يصدق أو يكذب كما ذكرته في النظم. فرع: مما يبني على الفرق بينهما أن الظهار هل هو خبر؟ أو إنشاء؟ قال القرافي: (قد يتوهم أنه إنشاء، وليس كذلك؛ لأن الله تعالى أشار إلى كذب المظاهِر ثلاث مرات بقوله تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2]). قال: (ولأنه حرام، ولا سبب لتحريمه إلا كونه كذبًا) (¬2). وأجاب عمن قال: سبب التحريم أنه قائم مقام الطلاق الثلاث وذلك حرام على رأي. وأطال في ذلك. لكن الظاهر أنه إنشاء، خلافاً له؛ لأن مقصود الناطق به تحقيق معناه الخبري بإنشاء التحريم، فالتكذيب ورَدَ على معناه الخبري، لا على ما قصده من إنشاء التحريم. وهذا مثل قوله: (أنتِ عَلَيَّ حرام)، فإنَّ قصده إنشاء التحريم؛ فلذلك وجبت الكفارة حيث لم يقصد به طلاقًا ولا ظهارًا، لا مِن حيث الإخبار. ¬

_ (¬1) في (ز، ت، ظ): جزء. (¬2) الفروق (1/ 55).

[لكن الإنشاء] (¬1) ضربان: ضرب أَذِن الشرع فيه كما أراده المنشئُ، كالطلاق. وضرب لم يأذن فيه الشرع ولكنه رتب فيه حُكمًا وهو الظهار رتب فيه تحريم المرأة إذا عاد حتى يُكفِّر. وقوله: (إنها حرام) لا بقصد طلاق أو ظهار رتب فيه التحريم حتى يُكفر. قال الشيخ تقي الدين السبكي: (وينبغي أن يسمى هذا الإنشاء الثاني باطلًا، وأما الأول فإن وقع بشروطه الشرعية فصحيح وإلا ففاسد أو باطل) (¬2). قال: (والباطل هنا لا يترتب عليه أثرٌ أصلًا، بخلاف الباطل في القسم الثاني وهو الظهار والتحريم حيث يترتب عليهما حُكم شرعي؛ لأن البطلان فيهما لإلغاء الشارع لهما، لا لفوات شرط أو وجود مُفسدٍ، والبطلان في البيع والنكاح وغيرهما إما لفوات شرط أو لوجود مُفسد) (¬3). الأمر الثاني مما اشتملت عليه الأبيات: أنه قد عُلم انقسام الحكم بحسب مطابقته للخارج الذي هو نفس الأمر وعدم مطابقته إلى: صدق، وكذب. ولا مخرج للخبر عنهما عند الجمهور، وخالف في كل مِن الأمرين مخالِف: فأما الأول، فقد قيل: إنَّ صِدق الخبر هو مطابقته لاعتقاد المخبر، سواء طابق الخارج أوْ لا. وكِذبه عدم مطابقته لاعتقاده، سواء طابق الخارج أوْ لا، ويدخل في عدم مطابقته ¬

_ (¬1) في (ز، ق، ظ): فالإنشاء. (¬2) الإبهاج (1/ 293). (¬3) الإبهاج (1/ 294).

للاعتقاد "الشاكُّ"، وهو مَن لا اعتقاد له في شيء مِن الطرفين. كذا حكاه صاحب "التلخيص" البياني فيه وفي "إيضاحه". قيل: وهو قول غريب لم يَحْكِه سِوى القاضي جلال الدين في هذين الكتابين وإن كان ظاهر عبارة ابن الحاجب تقتضيه أيضًا، لكن شُراحه حملوه على خلاف ذلك. وجوَّز الخطيبيُّ في شرح "التلخيص" أن يكون [أراد] (¬1) بهذا القول أن بين الصدق والكذب واسطة باعتبار أنه إنْ طابق الاعتقاد فهو صدق، وإن خالفه فكذب، وإن لم يطابق ولا خالف يكون واسطة. وجرى على ذلك في "جمع الجوامع". قيل: ولا يُعرف هذا القول عن أحد، وإنما إثبات الواسطة على ما سيأتي في الأمر الثاني. وبالجملة فقد استُدل لهذا القول بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}، فسماهم كاذبين مع مطابقة قولهم الواقع. وأجيب بأن المراد: لَكاذبون في شهادتهم، لا في خبرهم، أو في مطابقتها لِمَا في اعتقادهم، أو في تسميتها "شهادة"، والشهادة هي المطابق لِمَا في الاعتقاد. الأمر الثاني: وهو أنه لا واسطة بين الصدق والكذب، خالف فيه الجاحظ، فشرط في "الصدق" أن يطابق ما في نفس الأمر والاعتقاد معًا ولو يكون الاعتقاد ظنيًّا كما نقله أبو الحسين في "المعتمد" عنه، و"الكذب" عدم مطابقته لهما. فإن لم يطابق أحدهما سواء طابق الآخَر أوْ لا، فليس بصدق ولا كذب، فيدخل في الواسطة بينهما أربعة أقسام. وقد استُدل له بقوله تعالى: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8] والمراد الحصر في الافتراء والجنون ضرورةَ عدم اعترافهم بصدقه، فعَلَى تقدير أنه كلام مجنون لا يكون صِدقًا؛ لأنهم لا يعتقدون صِدقه، ولا كذبًا لأنه قسيم الكذب على ما زعموه؛ فثبتت ¬

_ (¬1) في (ز، ق، ظ): أراد في التلخيص.

الواسطة بين الصدق والكذب. وأجيب: بأنَّ المعنى: افْترى كذبًا أم لم يفتر فيكون مجنونًا؛ لأن المجنون لا افتراء له؛ لعدم قَصْده. واستدلوا أيضًا بنحو قول عائشة عن ابن عمر في حديث: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" (¬1): ما كذب، ولكنه وَهِمَ. وأجيب: بأنَّ المراد: ما كذب عمدًا، بل وَهِمَ. وإلى التعريض بمخالفة هذين المذهبين أشرتُ بقولي في النظم: (لَا الِاعْتِقَادُ مُفْرَدًا) إلى آخِره، أي: ليس المدار على المطابقة لاعتقاد المتكلم وعدمه كما هو القول الأول، ولا له مع الخارج حتى تثبت الواسطة كما هو القول الثاني. وفي المسألة مذهب رابع قال به أبو القاسم الراغب في كتاب "الذريعة": (إن الصدق التام هو المطابقة للخارج والاعتقاد معًا، فإن انخرم شرط مِن ذلك لم يكن صدقًا تامًّا، بل إما أن لا يوصَف بصدق ولا كذب كقول المبرسم الذي لا قصد له: "زيد في الدار"، فلا يُقال له: إنه صدق، ولا: كذب، وإما أن يقال له: صِدق، و: كذب؛ باعتبارين، وذلك إذا كان مطابقًا للخارج غير مطابق للاعتقاد أو عكسه، كقول المنافقين: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] فيصح أن يُقال لهذا: "صِدق"؛ اعتبارًا بالمطابقة لِما في الخارج، و: "كذب"؛ لمخالفة ضمير القائل؛ ولهذا أَكذبهم الله تعالى. وكذلك إذا قال مَن لم يَعلم أن زيدًا في الدار: "إنه في الدار" والفرض أنه في الدار، يصح أن يُقال: صدق، وأن يُقال: كذب، بنظرين مختلفين) (¬2). انتهى ¬

_ (¬1) صحيح البخارى (رقم: 1226)، صحيح مسلم (رقم: 927). (¬2) الذريعة إلى مكارم الشريعة (ص 193).

وتحرَّف هذا المذهب على صاحب "جمع الجوامع" فأورده على غير وَجْهه. ويمكن أن لا يكون ذلك مذهبًا آخَر، بل توفيقًا بين الأقوال؛ فلذلك لم أُومِ له في النَّظم كغيره مما أُومِئ إليه غالبًا مِن المذاهب الضعيفة. تنبيهات أحدهما: مما يتفرع على انقسام الخبر إلى صدق وكذب فقط مسألة محمد بن الحسن في "الجامع": "إنْ أخبرتني أن فلانًا قَدِمَ فأنت طالق"، أنه يحنث بإخبارها صادقةً أو كاذبةً، وهو مذهبنا أيضًا. ومثله "مَن أخبرني بقدوم زيد فهو حر" فأخبره كاذبًا، يُعتق، بخلاف "مَن بشرني" فإن البشارة الخبر الأول السارُّ الصادق. نعم، يُشكِل على هذا الأصل قول أصحابنا فيما إذا قال: (إن لم تخبريني بعدد حَب هذه الرمانة فأنت طالق)، أن طريق الخلاص أن تذكر عددًا لا تنقص عنه ثم تزيده واحدًا واحدًا إلى حدٍّ لا يمكن أن تجاوزه الرمانة. فإن مقتضَى كون الخبر يكون صدقًا وكذبًا أن تَبَر بأي شيء قالته ولو كان كذبًا، ونحوه: (إن لم تخبريني بعدد الصلوات في اليوم والليلة) ونحو ذلك. وقد يجاب بأن القرينة قامت في هذه الصورة على أنه قصد الإخبار الصدق، لا مطلق الخبر. الثاني: مورد الصدق والكذب في الخبر هو النسبة الإسنادية، لا ما يقع في أحد الطرفين من النِّسَب التقييدية، فإذا قلتَ: (زيدُ بنُ عمرو قائم)، فمحلهما إسناد القيام لزيد، لا نسبة بُنُوَّتِه لعمرو. وكذا قرره السكاكي وغيره من البيانيين.

ونشأ عن ذلك فرع ذكره الهروي في "الإشراف" والماوردي في "الحاوي" والروياني في "البحر"، وهو ما لو شهد شاهدان أن فلان بن فلان وَكَّل فلانًا، فهو شهادة بالتوكيل قطعًا، وهل يكون شهادة بالبُنَوة مع ذلك؟ منعه مالك وبعض أصحابنا. والمذهب الصحيح عندنا أنه شهادة بالنسب ضِمنًا، ويشهد لذلك ما في "البخاري" مرفوعًا: "إنه يُقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله. فيقال: كذبتم؛ ما اتخذ الله مِن صاحبة ولا ولد" (¬1). وأيضًا فقد استدل الشافعي وغيره مِن الأئمة على صحة أنكحة الكفار بقوله تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 9]. فتقرر أن مثل ذلك يدل على نسبة المحمول للموضوع بالمطابقة وعلى ما تضمنه التركيب مِن النِّسَب [وغير] (¬2) ذلك بالالتزام. نعم، ينبغي فيما قصد فيه النسبة [التقييدية] (¬3) القطع فيها بالدلالة، نحو: "الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم"، إذ المقصود الوصف بهذه الهيئة الحاصلة مِن النِّسَب التقييدية مع النسبة الإسنادية، فلو لم نَقُل بدلالتها فيه لَفَاتَ الغرض، ونحوه إذا قلتَ في التعريف للإنسان: (هو حيوان ناطق)، فإنَّ المراد الحكم بالمجموع، فلو جعل الإخبار بالموصوف فقط لَفَسد الحد، ونحوه: (الرمان حلو حامض)؛ فلذلك رُدَّ على مَن جعله مِن تَعدُّد الخبر، إنما المتعدد نحو: (زيد شاعر كاتب)، فإن كل واحد إسناده مقصود، والله أعلم. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 4305)، صحيح مسلم (رقم: 183). (¬2) في (ز، ظ): غير. (¬3) كذا في (ز، ص، ق)، لكن في (ت): التقييد به.

ص: 438 - وَمَا تَعَدَّى كِلْمَتَيْنِ "الْكَلِمُ" ... وَاحِدُهُ "كَلِمَةٌ" إذْ [تُفْهِمُ] (¬1) الشرح: لَمَّا بينتُ "الكلام" وأقسامه ذكرتُ الفرق بينه وبين "الكَلِم"، وهو أن "الكلم": ما زاد على كلمتين، كأنْ كان ثلاث كلمات فأكثر؛ لأنه اسم جنس جمعي يُفَرق بينه وبين مفرده بالتاء، كتمرٍ وتمرة ونبقٍ ونبقة. وهو معنى قولي: (وَاحِدُهُ "كَلِمَةٌ") فهو كالتعليل لاشتراط أكثر مِن كلمتين في "الكلم". وقولي: (إذْ تُفْهِمُ) معناه: أن يكون واحد "الكلم" ما يُسمى "كلمة"، وهو: ما وُضع لمعنى مفردٍ كما سبق، فتخرج اللفظة المفردة إذا لم يكن لها معنى، فإنها لا تُسمى "كلمة" ولا المجتمِع منها "كَلِمًا". و"الكلمة" فيها ثلاث لُغات: فتح الأول وكسر الثاني، وهي الفصيحة، وبها جاء القرآن؛ لأنها لغة الحجاز. وفتح الأول وسكون الثاني تخفيفًا، وكسر الأول وسكون الثاني على نقل حركته لِما قبله بعد سلب حركته، وهاتان لُغتَا تميم. واللغات الثلاث جارية في كل ما وزنه "فَعِل" بفتح أوله وكسر ثانيه، سواء أكان فيه تاء ¬

_ (¬1) في (ظ، ض، ش، ن 1): يُفهم.

التأنيث أوْ لا. فإن كان وسطه حرف حلق ففيه رابِعة (¬1) وهي كسر الأول اتِّباعًا لكسر الثاني. وقد عُلم مِن تفسير "الكلم" بذلك أن بينه وبين "الكلام" عمومًا وخصوصًا مِن وَجْه؛ لأن أقَل ما يتركب منه "الكلام" -كما تَقدم- كلمتان مع الإفادة، و"الكلم" ثلاث فصاعدًا، أفاد أو لَم يُفِد. واعْلَم أنَّ كثيرًا مِن الأصوليين يتعرض هنا لتقسيم "الكلمة" إلى اسم وفعلٍ وحرفٍ، والفعل إلى ماضٍ وأمرٍ ومضارع، وذِكر اسمَي الفاعل والمفعول والزمان والمكان والآلة وشِبه ذلك، وللفرق بين هذه الحقائق، وقد أسقطتُ ذلك؛ لأن محله النحو، ولا حاجة إلى ذِكره هنا. وإنما نذكر أقسام "الكلام" لتوقُّف الاستدلال عليها؛ لغموضها والاختلاف فيها. ويتعرض بعضهم أيضًا إلى ما يُذكر في النحو مِن إطلاق "الكلمة" على "الكلام"، كقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ} [المؤمنون: 100] إشارة إلى قول القائل: {رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99، 100]، ونحو ذلك. وهو من المجاز الشائع، إما من إطلاق الجزء على الكل أو باعتبار وحدةٍ حصلت فيه؛ فأَشبه الكلمة المفردة، وأشباه ذلك، والله أعلم. ¬

_ (¬1) يعني: لُغة رابعة.

ص: 439 - وَكُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ مِنْ مَعْنَى ... فَذَلِكَ "الْمُهْمَلُ" حَيْثُ عَنَّا (¬1) الشرح: لَمَّا سبق أن "القول" هو اللفظ الموضوع لمعنى وقسمناه إلى "مفرد" و"مركب" وذكرنا أقسامهما، بينتُ هنا أن اللفظ إذا لم يكن موضوعًا لمعنى، يُسمى "المهمل". ولم أُقيده بالمفرد؛ ليشمل ما كان مفردًا ومركَّبًا تبعًا للبيضاوي، ومثل "المركب" منه بالهذيان، مصدر "هَذَى" بالذال المعجمة، قال الجوهري: (هَذَى في منطقه يَهذِي ويَهذُو هَذْوًا وهَذَيانًا) (¬2). وقال الإمام في "المحصول" في المركب المهمل: (الأشبه أنه غير موجود؛ لأن الغرض مِن التركيب هو الإفادة) (¬3). وجزم بذلك في "المنتخب"، وتبعه عليه صاحبا "التحصيل" و"الحاصل". وهو ضعيف؛ فإن ما قالوه دليل على أن المهمل غير موضوع، وهذا مُسلَّم، وإنما الكلام في أن العرب وضعت له اسمًا، والاسم يوضع للمعدوم وللمستحيل، ولا يَلزم مِن ذلك وجوده. على أن الهندي قد قال: (إن ما قاله الإمام حق إنْ عَنَى بالمركب ما يكون جزؤه دالًّا على جزء المعنى حين هو جزؤه، فإن عَنى به ما يكون لجزئه دلالة في الجملة ولو في غير معناه كـ "عبد الله" عَلَمًا أو ما يكون مؤتلفًا مِن لفظين كيف كان وإن لم يكن لأجزائه دلالة كَـ ¬

_ (¬1) يعني: حيث عرض. (¬2) الصحاح (6/ 2535). (¬3) المحصول (1/ 236).

"الهذيان"، فهو باطل) (¬1). قلتُ: وأيضًا فليس المراد بالتركيب هنا إلا اجتماع لفظات، لا التركيب المعتبر للإفادة. وقولي: (مِنْ مَعْنَى) - "من" فيه زائدة في اسم ليس، ومعنى "عَنَّا": عَرَض. والله أعلم. تقسيم آخَر: 440 - اللَّفْظُ جَامِدٌ، وَمُشْتَقًّا وَرَدْ ... وَ"الِاشْتِقَاقُ" الِاقْتِطَاعُ، فَيُرَدْ 441 - لِأَصْلِهِ اللَّفْظُ؛ لِوَفْقِ الْمَعْنَى ... وَفي حُرُوفِهِ أُصُولُ الْمَبْنَى 442 - مَعَ تَغَيُّرٍ وَلَوْ مُقَدَّرَا ... وَلَوْ مَجَازًا، ثُمَّ طَرْدًا قَدْ يُرَى الشرح: هذا تقسيم للغة راجع للمفردات، يتوقف الاستدلال في كثير مِن المسائل عليه كما سيأتي بيانه، فاحتيج إلى ذكره في مباحث اللغة. وهو أن اللفظ العربي إما جامد وإما مشتق. وهو معنى قولي: (وَمُشْتَقًّا وَرَدْ)، فقدمتُ الحال مِن الضمير في "ورد" العائد على اللفظ. والمشتق أشرف؛ لأن فيه فائدتين: إفادة ذات الشيء، وإفادة وصفه. وزاد [الخُوَيِّي] (¬2) فائدة ثالثة، وهي تسهيل السبيل على الواضع والمتعلم. قال الأئمة: علم الاشتقاق مِن أشرف علوم العربية وأدقها، وعليه مدار علم ¬

_ (¬1) نهاية الوصول في دراية الأصول (1/ 143). (¬2) كذا في (ز، ص). لكن في سائر النسخ: الجويني.

التصريف. وانقسام اللفظ إلى جامد ومشتق هو الصحيح المشهور، وعليه الخليل وسيبويه والأصمعي وأبو عُبَيد وقطرب وغيرهم. وقيل: الألفاظ كلها جامدة، وليس شيء منها مشتقًّا مِن شيء، بل كلها موضوعات. وبه قال نفطويه؛ لأنه كان ظاهريًّا مِن أصحاب داود، فلذلك جنح إلى هذا. وقيل: الكل مشتق. وتكلفوا للجامدات اشتقاقًا، وإليه ذهب ابن درستويه والزجاج حتى إنه صنف كتابًا ذكر فيه اشتقاق جميع الأشياء، وحتى إن ابن جني قال: إن الاشتقاق يقع في الحروف، فإنَّ "نَعَم" حرف جواب، ونِعْمَ والنعيم والنعماء ونحوها مشتقة منه (¬1). إذا علِمتَ ذلك فَـ "الاشتقاق" لغةً هو الاقتطاع، افتعال مِن "الشق" وهو القطع، والمعنى الاصطلاحي كأَخْذِ "ضَرَبَ" من "الضَّرْب" موجود فيه ذلك، ولذلك قال الجوهري: الاشتقاق: أَخْذ شق الشيء. قال: (واشتقاق الحرف من الحرف: أخذُه منه) (¬2). انتهى وأما معناه في الاصطلاح فهو على ثلاثة أقسام: أكبر، وأوسط، وأصغر. فالأكبر: اتفاق اللفظين في بعض الحروف الأصلية، كَـ "ثلم" و"ثلب"، ومن هذا قول الفقهاء مئلًا: الضمان مشتق من الضم؛ لأنه ضَمُّ ذمة إلى أخرى، فلا يعترض بأنهما مختلفان في بعض الأصول؛ لأن النون ليست في الضم، والضمان ليس متحد العين واللام، بخلاف الضم. قال أبو حيان: (ولم يَقُل به أحدٌ من النحاة إلا أبو الفتح، وكان ابن الباذش يأنس به، ¬

_ (¬1) الخصائص لابن جني (2/ 35). (¬2) الصحاح (4/ 1503).

والصحيح أنه غير مُعَوَّلٍ عليه؛ لعدم اطراده). انتهى قيل: وقال به أيضًا ابن فارس، وبنى عليه كتابه "المقاييس" في اللغة. وأما "الأوسط" وربما سمي الاشتقاق الصغير: فهو اتفاق اللفظين في المعنى وفي الحروف دون ترتيبها، كَـ "جبذ" و"جذب". وخرج باشتراط اتحاد المعنى نحو: حلم ولحم وملح، فليس بعضها مشتقًّا مِن بعض أصلًا. وأما "الأصغر" وهو المراد حيث أطلقوا الاشتقاق في الغالب، وإذا أرادوا غيره قيدوه بالأكبر أو بالأوسط. و"الصغير" فللعلماء فيه تعاريف، أشهرها تعريف الميداني، نقله عنه الإمام الرازي وأتباعه، فقال: هو أن تجد بين اللفظين تناسُبًا في المعنى والتركيب، فيُرد أحدهما إلى الآخر (¬1). فخرج باعتبار التناسب في المعنى نحو: اللحم والملح والحلم؛ لاختلاف المعنى. وعُلم مِن قوله: "اللفظين" أنه لا بُدَّ مِن تغايُرٍ بتغيرٍ ما ولو تقديرًا كما سيأتي بيانه، وإلا فهُما لفظ واحد. وإطلاقه اللفظين من غير تعيين اسمٍ أو فعلٍ جارٍ على كل مذهب من مذاهب النحاة، فإن البصريين يقولون باشتقاق الفعل والوصف من المصدر، و [الكوفيون] (¬2) يقولون باشتقاق المصدر والوصف من الفعل، وابن طلحة يقول: (إن كُلًّا من المصدر والفعل أصل بنفسه) كما نقله عنه في "الارتشاف". وقيل غير ذلك كما هو مبسوط في محله، فلو لم يُطْلِق "اللفظين" لَجَرَى على بعض ¬

_ (¬1) المحصول (1/ 237). (¬2) في (ز): الكوفيين.

الأقوال دُون بعض أو خالف الكل. فإنْ قيل: إطلاقه اللفظ يدخل فيه الحرف وليس بمشتق ولا مشتق منه قطعًا. قيل: لم يُرد كل لفظ، بل مُطْلَق لفظين، فيحمل على الممكن، فهو مُطلق، لا عام. وفيه نظر؛ فإن مقام الشرح والتعريف ينافي الإبهام. والمراد بالتناسب في التركيب: الموافقة في الحروف الأصلية كما عبَّر بذلك البيضاوي؛ احترازًا مِن الزوائد، فإن التخالف فيها لا يضر، كَـ "ضَرب" و"ضارب". وخرج بهذا القيد اللفظان المترادفان، فإن أحدهما وإنْ وافق الآخَر في المعنى لكنه لم يوافقه في الحروف الأصلية، وسواء أكانت الأصول موجودة لفظًا أو تقديرًا؛ ليدخل نحو: "خَفْ" من الخوف، و"كُلْ" من الأكل. وعُلِم من هذا التعريف أن للاشتقاق أربعة أركان: مشتق، ومشتق منه، وموافقة في الحروف، وتناسب في المعنى. غير أنهم أوردوا عليه أمورًا: منها: أن المعدول والمصغر ليسَا مشتقين مِن المعدول عنه والمكبر مع صِدق التعريف عليهما؛ فلا يكون الحد مانعًا. وجوابه: أن التناسب في المعنى يقتضي أن معناهما ليس متحدًا مِن كل وجه، وهذان متحدان في المعنى من كل وجه. ومنها: أنه يقتضي أن الاشتقاق فِعل المتكلم؛ لأنه قال: (فَيُرَد أحدهما إلى الآخَر)، ولكن هذا إنما هو لواضع اللغة، ونحن إنما نستدل بأمارات استقرائية على وقوع ذلك منه. وجوابه يؤخَذ مما سيأتي في جواب الذي بَعْده. ومنها: قوله: (أن تجد) يقتضي أن الاشتقاق هو الوجدان، وليس كذلك، إنما الاشتقاق

الرد عند الوجدان، لا نفس الوجدان. وجوابه متوقف على معرفة المراد بالرد في قوله: (فَيُرَد). فإن أراد اقتطاع لفظٍ مِن لفظٍ، فالثاني هو المردود إليه، والمعنى أنه حُوِّل من الأول إلى الثاني حتى صار كذلك، فالرد حينئذٍ عملي، وحيمئذٍ فالإيراد متوجه. وإن أراد بالرد الاعتبار والعلم، فيكون الثاني مردودًا للأول بمعنى اعتبار أنه قد أخذ منه، فالرد حينئذٍ علمي لا عملي، فلا إيراد حينئذٍ عليه لا بهذا ولا بالذي قَبْله، فإنَّ وجْدان التناسب المذكور هو الاشتقاق، أي: معرفة أن الثاني مأخوذ مِن الأول؛ لمعرفة ما بينهما مِن التناسب المشروح. ولعلَّ هذا هو مراد الميداني وغيره؛ لأن المقصود بعد استقرار اللغة إنما هو معرفة المأخوذ والمأخوذ منه، لا الاقتطاع الأصلي؛ لأن ذاك أمر قد انْقَضَى، والمراد الآن إنما هو معرفة ما دَلَّ عليه الاستقراء حتى لا يحتاج في كل مشتق إلى نَقْل، فتأَمَّله؛ فإنه دقيق. وقد أوضحتُ في "شرح لاميّة الأفعال" لابن مالك هذا المعنى، وذكرتُ الفرقَ بين الاشتقاق والتصريف بما يتعين الوقوف عليه. إذا علمتَ ذلك، فاعلم أني أشرتُ في النَّظم إلى الاشتقاق بالاعتبارين؛ لأني فسرتُه بالاقتطاع، ومُرادي به اقتطاعٌ خاصٌّ، وهو ما ذكرت فيما بعد استغناءً به، فكأني قلتُ: اقتطاع لفظٍ من آخَر؛ لموافقته له في المعنى وفي الحروف الأصلية مع تغيُّرٍ ما. وهذا هو الذي باعتبار تصرف الواضع وصُنْعه. ثم ذكرتُ الاشتقاق بالاعتبار الثاني وهو العلمي الذي هو مُراد الميداني (فيما يظهر) مُرتبًا عليه بالفاء المشعِرة بالسببية؛ لأنَّ الثاني مُسببٌ عن الأول، فقلتُ: (فَيُرَدْ لِأَصْلِهِ)، أي: فبسبب الاقتطاع يُرد المقتطَع -الذي هو فرعٌ- لأصله الذي هو مقتطع منه؛ لأجل العِلم

بموافقته له في المعنى وفي الحروف الأصلية التي هي حروف بنائه على هذه الصورة. وصرحتُ باعتبار التغيير؛ لأجل قولي أولًا: (وَفْقِ الْمَعْنَى) بخلاف مَن يُعَبر بالتناسب، فإنه قد يُستغنَى به عن التصريح بالتغيير كما قدمناه. ولذلك لَمَّا قال ابن الحاجب: (إنَّ المشتق ما وافق أصلًا بحروفه الأصول ومعناه) (¬1)، قال: (وقد يُزاد: "بتغييرٍ ما") (¬2). أي: للإيضاح، خِلافًا لمن رد عليه بأنه يقتضي أنه مِن تمام الحد وإنما هو مِن شروط المغايرة، وليس كذلك؛ لِمَا علِمتَه. وقولي: (وَلَوْ مُقَدَّرَا) تنبيه على أن التغيير قد يكون ظاهرًا كَـ "عالِم" من العِلم، وقد يكون مقدَّرًا كَـ"طَلَبَ" من الطَّلَب و"هَرَب" من الهرب و"جَلَبَ" من الجلَب، فيقدر زوال الفتحة التي في العين ومجيءُ فتحة أخرى بها بناء الفعل كما فعل سيبويه في "جُنُب" للمفرد والجمع، وأنَّ ضمةَ النون في الجمع غير ضمة النون في المفرد تقديرًا، وأيضًا فحركة لام الفعل في نحو "طَلَبَ" بِناءٌ، وآخِر المصدر إذا حُرِّك إنما هو إعرابٌ للعامل، فتغايَرَا. وقولي: (وَلَوْ مَجَازًا) إشارة إلى مسألة خلافية، وهي أن المجاز هل يشتق منه؟ أوْ لا يكون الاشتقاق إلا من حقيقة؟ فنحو "الصلاة" إذا قُلنا: حقيقتها الدعاء ومجازها ذات الركوع والسجود، فهل يُقال مِن الثاني: "صلى، ويصلي، ومُصَلٍّ" من حيث كوْنه مجازًا قبل أن يصير حقيقة شرعية؟ أو يُقَدر أن هذا أُخِذَ من "الصلاة" بمعنى الدعاء ثم تُجُوِّز به كما تُجوز بأصله؟ الجمهور على الأول. وخالف القاضي أبو بكر والغزالي وإلْكِيَا، فمنعوا الاشتقاق مِن المجازات وأنه لا ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (1/ 237). (¬2) مختصر المنتهى مع الشرح (1/ 241).

اشتقاق إلا مِن الحقائق. ويدل للجمهور إجماع البيانيين على صحة الاستعارة بالتبعيَّة وهي مشتقة مِن المجاز؛ لأن الاستعارة تكون في المصدر ثم يشتق منه. وقولي: (ثُمَّ طَرْدًا قَدْ يُرَى) بيان لكون الاشتقاق قد يكون مطردًا وقد [يُقْصَر] (¬1) على محله. فمن الأول: غالب المشتقات، كاسْمَي الفاعل والمفعول ونحوهما. ومن الثاني: نحو لفظ "القارورة" كما ذكرته أول البيت الذي بعد هذا ومثلتُه بذلك، فإن "القارورة" مختصة بالزجاج وإنْ كانت مأخوذة مِن "القَرِّ في الشيء"، فلم يعدوها إلى كُل ما يَقِرُّ فيه الشيء من خشب أو خزفٍ أو نحو ذلك. وكَـ"الدبران" لمنزلة القمر وإنْ كان مِن الدبور، وكأن عدم الاطراد لكون التسمية لا لهذا المعنى فقط بل لمصاحبته له، وفرقٌ بين تسمية العين لوجود المشتق منه فيه (وهو الاطِّرادي) أو بوجوده فيه (وهو ما لا يطَّرِد). تنبيه: تَعَرَّض البيضاوي لأنواع التغيير، وبلغ بها خمسة عشر قِسمًا، وبيَّن أمثلتها وإنْ كان في بعضها نظر، ولم يذكر إمامُه إلا تسعة، فلنذكر الأقسام كلها وأمثلتها مستقيمة؛ لتكميل الفائدة، فنقول: التغيير: [1] إما بزيادة حرف. [2] أو حركة. [3] أو هُما. ¬

_ (¬1) في (ز، ق، ظ): يقتصر.

[4] أو بنقص حرف. [5] أو حركة. [6] أو هُما. [7] وإما بزيادة حرف ونقصانه. [8] أو زيادة حركة ونقصانها. [9] وإما بزيادة حرف ونقصان حركة. [10] أو بزيادة حركة ونقصان حرف. [11] وإما بزيادة حرف مع زيادة حركة ونقصانها. [12] وإما بزيادة حركة مع زيادة حرف ونقصانه. [13] أو بنقص حرف مع زيادة حركة ونقصانها. [14] أو نقص حركة مع زيادة حرف ونقصانه. [15] وإما بزيادة حرف وحركة معا مع نقصان حرف وحركة معًا. أمثلتها: أما الستة الأولى فنحو: [1] "كاذب" مِن: كَذِب. [2] "نَصَر" مِن: نَصْر. [3] "ضارِب" مِن: ضَرْب. [4] "ذَهَبَ" مِن: ذَهَاب. [5] "سَفْر" جمع سافر اسم فاعل مِن: سَفَر. [6] "سِرْ" مِن: سَيْر، لكن مع اعتبار حركة الإعراب، وقد يُمثل بِـ "صَبٍّ" اسم فاعل "الصبابة". وأما الأربعة التي بعدها فنحو: [7] "مُدَحْرَج" [اسم مفعول] (¬1) مِن: دَحْرَجَة. ¬

_ (¬1) من (ز، ظ).

[8] "حَذِر" وَصْفٌ مِن: حَذَر. [9] "عادٍّ" اسم فاعل من: عَدَدٍ. [10] "رَجَعَ" من: رجْعَى. وأما الأربعة التي بعدها فنحو: [11] "اضْرِب" من: ضَرْب. [12] "خَافَ" من: خَوْف. [13] "عِدْ" فِعل أمر مِن: وَعْدٍ. [14] "كالٍّ" اسم فاعل من: كَلَالٍ. ومثال الخامس عشر: "إرْمِ" من: رَمْيٍ. وتقريرها واضح، فلا نُطَول به بعد أن تَعرف أن المراد بالحركة جنسها، لا خُصوص حركة، وأن حركات الإعراب لا أثر لها، ولا حركات البناء على ما قاله بعض المحققين؛ لأن الأصل في البناء السكون، وما في بعض ما سبق مِن الأمثلة من بنائه على اعتبار حركات الإعراب والبناء فقد ارتكبناه للضرورة في التمثيل مع ما سبق من التنبيه على شيء منه، ويُقاس الباقي، ويُعرَف أن التمثيل بناء على أن المصدر هو الأصل، وهو قول البصريين، وجردتها من الألِف واللام؛ إشارة إلى أنها لا مدخل لها في ذلك، والله أعلم. ص: 443 - أَوْ لَا، كَفِي "قَارُورَةٍ"، وَمَنْ بِهِ ... وَصْفٌ فَيُشْتَقُّ لَهُ مِنَ اسْمِهِ 444 - إنْ يَكُ، وَالَّذِي خَلَا يَمْتَنِعُ ... مَا لَمْ يَزُلْ، فَلِلْمَجَازِ يَرْجِع الشرح: قولي: (أَوْ لَا، كَفِي "قَارُورَةٍ") متعلق بما قبله مِن تمام التقسيم وتمثيله، وقد تَقدم

بيانه. وقولي: (وَمَنْ بِهِ وصْفٌ) إلى آخِره - بيان لثلاث مسائل من الاشتقاق مهمة، وهي: - أنَّ مَن قام به معنى هل يجب أن يُشتق له من اسم ذلك المعنى اسم؟ - ومَن لم يَقُم به، هل يجوز أن يُشتق منه له مع فَقْدِه فيه؟ - ومَن ثبت له وصفٌ وزال، هل يبقى ذلك الاسم -الذي سُمي به حين الوصف- حقيقةً؟ أو يكون مجازًا؟ والقصد بهذه المسائل تمهيد قواعد مِن أصول الدِّين والفقه كما سنذكره بعد ذلك. فَمِنْ ما يتعلق بالأُولَتين أن أهل السُّنة يُسمون الله متكلمًا باعتبار الكلام النفساني القديم القائم به تعالى، وعند المعتزلة أنه متكلم لا بكلام قائم به؛ لأنهم يمنعون الكلام النفساني كما سبق، ويقولون: إنه تعالى يُسمى متكلمًا بِخَلْقِهِ كلامًا في اللوح المحفوظ أو في الشجرة في قضية تكليم موسى عليه السلام أو نحو ذلك. فأثبتوا متكلمًا من غير قيام كلام به، ونفوا أن يُسمى اللوح أو الشجرة متكلمًا مع قيام الكلام بهما. فالمسألة الأولى: يجب أن يُشتق [لمن قام به وصفٌ وله اسم مِن ذلك الوصف اسم] (¬1)، خلافًا لهم، كَـ "متكلِّم" لمن قام به الكلام، و"مريد" لمن قام به الإرادة، و"ضارِب" لمن قام به الضرب، وهكذا. وهو معنى قولي: (إنْ يَكُ). أي: إن يكن له اسم. فإنْ لم يكن له اسم كأنواع الروائح والآلام، لم يجب ذلك. وهذا التفصيل هو الحقُّ كما قرره في "المحصول"، إلا أن في كلامه ما ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ظ، ق)، لكن في (ص، ض، ش): اسم لمن قام به وصف وله اسم من ذلك الاسم.

يَميل إلى قول المعتزلة، فإنه قال: (ليس مِن شرط المشتق منه قيامه بمن له الاشتقاق، إذِ المكي والحداد ونحوهما مشتقة من أمور يمتنع قيامها بمن له الاشتقاق) (¬1). ورُدَّ ما قاله -بعد تسليم أن هذا من الاشتقاق- بأنَّ أهل السُّنة إنما ادَّعوا ذلك في المشتقات مِن المصادر التي هي [أسماء] (¬2) المعاني، لا من الذوات وأسماء الأعيان. قرر ذلك القرافي وغيره. نعم، قال الجَزَري: إن النقض منه على الأصحاب بذلك في غير محله، إنما يرد على قولهم: إنَّ المعنى إذا لم يَقُم بالمحل، لم يُشتق له منه اسم. فيقال لهم: هذه أشياء لم تَقُم بمحالِّها وقد اشتُق منها أسماء. ولكن جوابه أنه لَمَّا كانت الأجسام لا لبْس في عدم قيامها بمحالِّها إنما اللبس في المعاني؛ لأنها يصح قيامها بالمَحالّ، فلو أُطلقت على غير محالها، التبس الأمر. قال: ولو قيل: إن المراد إنما هي النِّسَب وهي موجودة بالمَحالّ وإن لم يوجد المنتسَبُ إليه، لَكَان له وَجْه. أي: فيكون كلام الناس على إطلاقه، ولا حاجة للتقييد بالمعاني. المسألة الثانية: وإليها أشرتُ بقولي: (وَالَّذِي خَلَا) إلى آخِره، أي: الذي خلا من الوصف يمتنع أنْ يشتق له منه اسم، والفَرْضُ أنه لم يَقُم به. والمعتزلة ورأسُهم فيها أبو على الجبائي وابنه أبو هاشم خالفوا في ذلك، فقالوا: إن الله عالم لا بِعلم قائم به، بل بالذات. وكذا قالوا في جميع الصفات الذاتية المجموعة في قول القائل: ¬

_ (¬1) المحصول في أصول الفقه (1/ 344). (¬2) كذا في (ص، ز، ش)، لكن في (ض، ت): من أسماء. وفي (ق): في أسماء.

حياةٌ وعِلمٌ قُدرةٌ وإرادة ... وسمعٌ وإبصارٌ كلامٌ مع البقا فهو -تعالى- عندهم حي بلا حياة، قادر بلا قُدرة، مريد بلا إرادة، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، متكلم بلا كلام، باقٍ بلا بقاء. فَيُثبتون العالِميَّة والمُريدية ونحوهما بدون العِلم والإرادة. نعم، تحرير النقل عن أبي علي وابنه كما صرَّحَا به في كُتبهما الأصولية أنهما يقولان: إن العالِمية بِعِلم لكن عِلم الله عَينُ ذاتِه، لا أنه عالم بدون عِلم كما اشتهر في النقل عنهما في كلام الإمام الرازي وأتباعه كالبيضاوي. وكذا القول في بقية الصفات. وأما أهل السُّنة فيُعلِّلون العالِم بوجود عِلم قديم قائم بذاته تعالى، وكذا في الباقي، لكن اختلفوا في مَحَلين: أحدهما: أن العِلم هو العالِمية والقدرة هو القادرية؟ أو وَصْفٌ زائد عليها؟ وكذا في الباقي. قال الأشعري بالثاني، والقاضي أبو بكر بالأول. ثانيهما: أن ذلك كله في الصفات الثمانية غير البقاء، وأما البقاء فقال الأشعري وأتباعه: إنه صفة زائدة على الذات قائمة بها، فهو تعالى باقٍ بِبَقاءٍ قديم قائم بذاته. وقال القاضي وإمام الحرمين والإمام الرازي ووالدُه والبيضاوي كما يقوله جمهور المعتزلة: إنه باقٍ؛ لِذاته، لا بِبَقاء، وإلا لزم أن يكون للبقاء بقاء، ويتسلسل. ولكن جوابه: أن البقاء لا يحتاج إلى بقاء آخَر؛ فلا تَسلسُل، وكذا كَوْنه قديمًا هو بِقِدَم لكن لِذاته، لا بِقِدَم آخَر؛ لأن قيام الصفة بالصفة مُحَال. احتجَّ أهل السُّنة بأنَّ موضوع اللغة في "عالِم" مثلَّا ذَاتٌ لها عِلم، فلو انتفى العِلم لَا نتفَى العالِم. وأما شُبهة المعتزلة فَأنَّ هذه الصفات إنْ كانت حادثة، لَزِمَ قيام الحادث بالقديم، أو

قديمة، لَزِمَ تَعَدُّدُ القديم. والنصارى كفروا بالتثليث، فكيف بادِّعاء تسعةٍ: الذات وثمانية صفات؟ ! وأجاب الإمام عنها في "الأربعين" وغيرُه أنهم عدَّدُوا ذوات قديمة لِذَاتها، ونحن نقول: القديم واحدٌ، وهذه صفاته هي ممكِنة في نفسها ولكن وجبَتْ لِلذات، لا بالذات؛ فلا تَعَدُّد في قديم لِذاته، فلا قديم لِذاته إلا الذات الشريفة. على أن المعتزلة لم يُصرحوا في قاعدة الاشتقاق بما نقل عنهم، وإنما أُخذ مِن إنكارهم الكلام النفساني، فلزم مِن مذهبهم صِدق المشتق على مَن لم يَقُم به المعنى المشتق منه، لكن لازِم المذهب ليس بمذهب؛ ولذلك لا يُنسَب للشافعي الأقوال المُخَرَّجة على أصوله. فقد [يقول] (¬1) المعتزلة هنا: إنَّ مقتضي اللغة ما ذكرتم، ولكن الدليل العقلي منع منه هنا، فاستثنى ذلك من المشتقات؛ لوجود المانع الخاص. ولهذا لا يقولون بذلك إلا في صفات الله تعالى فقط كما سيأتي. وقال إمام الحرمين في "الرسالة النظامية": ظَنَّ مَن لم يُحصِّل عِلم هذا الباب أن المعتزلة وصفوا الربَّ تعالى بكونه متكلِّمًا، وزعموا أن كلامه مخلوق، وليس ذلك مذهب القوم، إنما الكلام عندهم فِعْل الخَلْق؛ فينحل كلامهم إلى أنه تعالى ليس متكلِّمًا ولا آمرًا ولا ناهيًا إلا بِخَلْق أصوات في جِسم مِن الأجسام تدل على إرادته. نعم، [يؤول] (¬2) تقريرهم ذلك إلى عَوْده إلى صفات الأفعال، [و] (¬3) من قاعدتهم أن ¬

_ (¬1) كذا في (ت)، لكن في (ص): تقول. (¬2) في (ز، ظ): يعود. (¬3) كذا في (ص، ز)، لكن في (ت): فإن.

صفات الذات وصفات الأفعال حادثة. [لكن] (¬1) مذهب الأشعري و [غالب] (¬2) أهل السُّنة أن صفات الذات قديمة وصفات الأفعال حادثة. فإذا قُلنا بذلك [و] (¬3) أنَّ صفات الأفعال (كَـ"الخالق" و"الرازق") حادثة -على قول الأشعري وقولهم خِلافًا للحنفية- فكيف يُشترط في الاسم [المشتق] (¬4) قيام المشتق منه به مع أن الخلق والرزق لم يَقُم به وإلا لزم قيامُ الحوادث به؟ تعالى الله عن ذلك، فما ذلك إلا لخروج صفاته عن قاعدة الاشتقاق؛ للدلائل العقلية، فاستُثني هذا، وحينئذٍ فيُحتاج إلى الفرق بينه وبين صفات الذات. تنبيه: لا فرق في هذه القاعدة بين اشتقاق وصف الفاعل والمفعول والزمان والمكان والآلة ونحو ذلك، فتنشأ من ذلك مسائل: منها: ما [قاله] (¬5) المعتزلة في مسألة النسخ قبل الفعل: إنه لا يجوز. فاستدل أهل السُّنة عليهم بأن إبراهيم -عليه السلام- أُمر بذبح ولده ثم نُسخ قبل التمكن. فأجابوا بأنه ذَبح ولكنه كان يلتحم. فأبطلوا عليهم ذلك باتفاقهم على أن إسماعيل عليه السلام (على القول بأنه المأمور ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ظ). لكن في سائر النُّسخ: وإن كان. (¬2) في (ز): سائر. (¬3) كذا في (ز، ص)، لكن في (ت): و. (¬4) ليس في (ز، ظ، ص). (¬5) في (ز): قالت.

بذبحه) ليس بمذبوح، [فكيف يختلفون في تسمية إبراهيم ذابحًا] (¬1)؟ فقيل: يُسمى بذلك؛ لأنه كان يقطع وإنْ كان الولد غير مذبوح؛ للالتئام. وقيل: لا؛ لأنَّ "ذابحًا ولا مذبوح" مُحَالٌ. فيُقال لهؤلاء: كيف تُحِيلون "ذابحًا ولا مذبوح" مع قولكم بجواز اشتقاق اسم الفاعل لمن أيَقُم به الفعل؟ ! ولهم أنْ يجيبوا بأنَّ اعتبار الفعل اتفاق و [إنْ] (¬2) لم يكن مذبوح؛ لأن المذبوح مَن زهقت روحُه، فلا ذبح، وإذا انتفى الفعل فكيف يثبت وصف الفاعل؟ وقرره في "جمع الجوامع" على العكس من ذلك، فقال: (ومن بنائهم اتفاقُهم على أن إبراهيم -عليه السلام- ذابح، واختلافهم هل إسماعيل مذبوح؟ ) (¬3). ولا يخلو مِن نَظَر (¬4). ومنها فى الفقه: قال الروياني في "البحر" فيما لو حلف لا يأكل مُسْتلَذًّا: (إنه يحنث بما يستلذه هو أو غيره، بخلاف ما لو حلف لا يأكل شيئًا لذيذًا، فإنَّ العبرة فيه بالحالف فقط؛ لأن المستلَذ من صفات المأكول واللذيذ من صفات الأكل، فيقال: أَكْلٌ لذيذ) (¬5). انتهى قيل: وفيه نظر. قلتُ: وجهه أن "لذيذًا" فعيل بمعنى مفعول، فلا فرق بينه وبين مستلذ إلا أن تجعل ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ص، ق). وفي (ت، ش، ظ، ض): واختلافهم في إبراهيم هل كان ذابحا. (¬2) في (ز، ظ): إذا. (¬3) جمع الجوامع (1/ 373) مع شرح المحلي وحاشية العطار. (¬4) هذه الفقرة ليست في (ز، ص، ق). (¬5) بحر المذهب (10/ 511).

"لذيذًا" صفة للمصدر لا مفعولًا كما هو ظاهر فرق الروياني، لكن هذا إنما هو بقصد الحالف ذلك. ومنها: لو حلف لا يفعل كذا فَوَكَّل مَن يفعله، لا يحنث؛ لأن الفعل لم يقع منه، فلا يُسمى فاعلًا. وكذا لو وكَّل في البيع أو الطلاق ثم قال: (والله لستُ ببائع ولا مُطَلِّق)، [لا] (¬1) يحنث. المسألة الثالثة: إطلاق المشتق باعتبار المستقبل مجاز اتفاقًا. قيل: وفي حكاية الاتفاق نظر؛ فإن أبا حنيفة قال في حديث: "المتبايعين بالخيار" (¬2): إنهما المتساومان، سُمِّيَا متبايعين لأخذهما في مبادئ البيع وسيصيران متبايعين. فَردَّه الشافعي بأنه يصح نفيه، وهو دليل المجاز، فلا يحمل الحديث عليه. قال الشافعي: (فيقال في المتساومين: إنهما غير متبايعين، حتى لو قال امرأته طالق "إنْ كنا تبايعنا" وقد كانا متساومين، لا حنث) (¬3). انتهى وقد يقال: يحتمل أن أبا حنيفة عمل به مع كونه مجازًا لانضمام قرينة إليه، فَرَدَّه الشافعي بأنه مجاز ولا قرينة؛ لأن الأصل عدمها. وإطلاقه باعتبار الحال حقيقة اتفاقًا. وباعتبار الماضي فيه ثلاثة مذاهب: ¬

_ (¬1) في (ص، ز، ق): هل. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) الأم (3/ 6 - 7).

أحدها (وعليه الجمهور، وفي "المحصول" (¬1): إنه الأقرب): أنه مجاز باعتبار ما كان، كما سبق أن ذلك من أنواع العلاقة، كالضارب بعد انقضاء الضرب. وُيعبر عنه باشتراط بقاء المشتق منه في صِدق المشتق حقيقة، سواء أكان المشتق مما يمكن حصوله بتمامه وقت الإطلاق (كالقيام والقعود) أو لا يمكن كما لو كان من الأعراض السيَّالة (كالكلام). وإنما طريق الإطلاق الحقيقي في هذا ونحوه أن يكون عند آخِر جزء، فلا يُطلق على مَن قال: (زيد قائم) أنه متكلِّم أو مخبر أو محدِّث إلا عند نُطقه بالميم ونحوها؛ لأن الكلام اسم لمجموع الحروف، ويستحيل اجتماع تلك الحروف في وقت واحد؛ لأنها أعراض سيَّالة لا يوجد منها حرف إلا بعد انفصال الآخَر. هذا ما بحثه في "المحصول"، وهو حَسنٌ يتنزل عليه إطلاق الجمهور وإنْ كان ظاهر كلام الهند -ووافقه ابن السبكي في "جمع الجوامع"- أن الجمهور صرحوا بذلك، وليس كذلك. الثاني: أنه حقيقة مطلقًا، ونقل عن ابن سينا وأبي هاشم. قيل: وإن كانا لا يشترطان صِدق الأصل، لكن ذاك في صفات الله تعالى، بخلاف صفات غيره، فإن المعتزلة كلهم موافقون عليها. وسبق مُدْركهم فيه. نعم، قال الأصفهاني في "شرح المحصول": (إنَّ نَقْل هذا عن ابن سينا وأبي هاشم فيه نظر، أما ابن سينا فليس له موضوع في أصول الفقه ولا العربية حتى يؤخَذ خِلافُه منه. نعم، قال: إن الاصطلاح في عِلم المنطق أن قولنا: "كُل ج ب" لا نعني به ما هو ¬

_ (¬1) المحصول في أصول الفقه (1/ 329).

[حينئذٍ] (¬1) دائمًا أو في الحال أو في وقت مُعَين، بل هو أَعَم من ذلك، فإذا قيل: "الضارب متحرك"، لا يلزم أن يكون ذلك حُكمًا على الضارب في الحال، بل على ما يَصْدُق عليه "الضارب" سواء كان في الماضي أو الحال أو المستقبل. وهذا اصطلاح، ومن المعلوم أن الاصطلاحات لا مناقشة فيها، ولا يلزم مِن الاصطلاح المنطقي أن يكون موافقًا للأوضاع اللغوية العربية إلا إنِ ادَّعى صاحب الاصطلاح الموافقة) (¬2). والمناطقة كلهم مصطلحون على ذلك، حتى الإمام الرازي، فتعيين ابن سينا لا معنى له. وأما أبو هاشم فهو لا يشترط في صدق المشتق ثبوت أصله، إلا أن ذاك في صفات الله تعالى كما تقدم إيضاحه، وأن ذلك لا ينبغي أن يدخل في بحث اللغة. المذهب الثالث: التفصيل بين الممكن وجوده (كالقاعد) فيكون بعد انقضائه مجازًا، وبين غير الممكن وجوده (كالمتكلم) فيكون بعد انقضائه حقيقة؛ للتعذر. وجوابه: الإناطة بآخِر جُزء كما سبق. وهذا المذهب نقله الآمدي، ولكن في موضع من "المحصول" أن هذا الفرق لم يَقُل به أحدٌ من الأُمة، وفي موضع صرح باختياره ومنع دعوى الإجماع فيه. الرابع: الوقف. حكاه بعض المتأخرين، كالسبكي. قيل: ولا يوجد منقولًا، وإنما جَوَّزه بعض شُراح "المختصر" فيه كالقاضي عضد الدين، إذْ قال: كأنَّ ميل ابن الحاجب إلى التوقف. وأما الشريف وغيره فصرحوا بأنَّ ابن الحاجب ¬

_ (¬1) كذا في جميع النُّسخ، والذي في (الكاشف عن المحصول، 2/ 90): ج. (¬2) الكاشف عن المحصول (2/ 90).

اختار القول الثالث المفصِّل. نعم، الآمدي لَمَّا حكى المذاهب الثلاثة ولم يرجح منها شيئًا ربما يدل على أنَّه يقول بالوقف. ويخرج مما سيأتي في التنبيهات في تقرير محل الخلاف مذاهب أخرى بتفاصيل، لكن الحق أنَّه تحرير لمحل الخلاف، لا تفصيل. نعم، يخرج مِن كلام القاضي أبي الطيب في مسألة "خيار المجلس" قول آخَر بالتفصيل بين إطلاقه عقب المعنى المشتق منه فيكون حقيقة، وبين أن يتطاول الزمان فلا. وفي كلام أبي الخطاب الحنبلي نحوه. تنبيهات أحدها: محل الخلاف ما إذا لم يطرأ على المحل ما يُضاد الوصف الذي زال، كالقاتل والسارق، أما لو طرأ ذلك كتسمية اليقظان "نائمًا" باعتبار النوم السابق فمجاز قطعًا. وهو متجه؛ لأنه مِن إطلاق أحد الضدين على الآخَر. هذا مقتضَى كلام الإمام في "المحصول" و"المنتخب"، وتبعه صاحبا "الحاصل" و"التحصيل". وصرح به الآمدي في "الإحكام"، إذْ قال في آخِر المسألة: (لا يجوز تسمية القائم "قاعدًا" والقاعد "قائمًا" للقيام والقعود السابق بإجماع المسلمين وأهل اللسان) (¬1). أي: حقيقةً، بل مجازًا. ومحل الخلاف أيضًا إذا لم يمنع مانع مِن الخارج مِن إطلاقه، أما إذا منع فلا يطلق حقيقةً ¬

_ (¬1) الإحكام (1/ 88).

ولا مجازًا، كإطلاق "الكافر" على مَن أَسلم؛ لتضاد الوصفين، فلا يكون حقيقة، ولمَا فيه مِن إهانة المسلم والإخلال بتعظيمه، ولذلك يُسمى "مؤمنًا" في حالة نومه -ونحوه- إطلاقًا متعينًا شائعًا ولو كان مجازًا. بل لو قيل: إنه حقيقة شرعية أو مستثنى مِن القواعد اللغوية لذلك، لم يكن بعيدًا كما سبق نحوه، وحينئذٍ فإسناد منع ذلك إلى المانع أَوْلى مِن القول بإسناده إلى عدم المقتضِي؛ لكون الأصل عدم المقتضِي وعدم المانع؛ لأنَّا نقول: إنما ذلك عند الاحتمال، وهُنا قد تحقق وجود مانع. نعم، سيأتي في القياس لنا خِلاف في أن المانع يستدعي وجود المقتضِي أوْ لا. ومحل الخلاف أيضًا كما قاله القرافي: إذا كان المشتق محكومًا به، كَـ "زيد مشرك" أو "زانٍ " أو "سارق". أما إذا كان متعَلَّق الحكم نحو: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2]، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38]، الآيات، فيكون حقيقة؛ إذ لو كان مجازًا لَكان مَن أشرك أو زنى أو سرق بعد زمان نزول الآية والخطاب بها يكون مجازًا، فلا يدخل فيها؛ لأن الأصل عدم المجاز، ولا قائل بذلك. أي: وإذا قُلنا باعتبار الانقضاء في الماضي فيقيد بذلك أيضًا. قال: (ولا مخلص مِن الإشكال إلَّا بما قررناه؛ لأنَّ الله تعالى لم يحكم في تلك الآيات بشرك أحد ولا بزناه ولا بسرقته، وإنَّما حكم بالقتل والجلد والقطع على الموصوف بهذه الصفات. نعم، هو متعلَّق هذه الأحكام) (¬1). انتهى وقد خُولِفَ في زمانه واختبطوا في جوابه وإنْ كان الأصفهاني في "شرح المحصول" قد ذكر نحوه. ¬

_ (¬1) انظر: شرح تنقيح الفصول (ص 50).

فأجاب بعضهم عن ذلك بأنَّ المجاز وإنْ كان الأصل عدمه إلَّا أن الإجماع انعقد على أن المتصفين بهذه الصفات بعد ورود النصوص تتناولهم وتثبت تلك الأحكام فيهم. ولكن الجواب الحقّ أن هنا شيئين: إطلاق اللفظ وإرادة المعنى من غير تَعرُّض لزمان، كقولنا: (الخمر حرام)، فإنه صادق سواء أكانت الخمرية موجودة أوْ لا، فإطلاق "الخمر" في هذه الحالة حقيقة؛ لأن المراد بالحال حال التلبس، لا التلفظ، وكذلك نحو آيات: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}، و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا}، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} لم يقصد إلَّا مَن اتصف بالشرك وبالزنا وبالسرقة وقت تَلبُّسه، وذلك حقيقة. ومثلُه إطلاق ذلك بعد الانقضاء، فإنه لم يخرج عن ذلك الذي قد أُطلِق حقيقة واستمر، وإنَّما يقع التجوُّز عند إرادة المتكلم إطلاق الوصف باعتبار ما كان عليه أو ما يؤول إليه. قال الشيخ تقي الدين السبكي: وإنَّما سرى الوهم للقرافي مِن اعتقاده أن الماضي والحال والمستقبل بحسب زمان إطلاق اللفظ، والقاعدة صحيحة في نفسها، ولكن لم [يفهمها] (¬1) حَق فهمها، فالمدار على حال التلبُّس، لا حال النُّطق. على أنَّه قد نوقش القرافي في مواضع: منها قوله: (إن متعلَّق الحكم ليس مرادًا)، يرد عليه قولك: (القاتل يقتل أو الكافر يقتل) تريد به معهودًا حاضرًا، فإنه لا يكون حقيقة حتَّى يكون القتل قائمًا به من حيث الخطاب. وأيضًا فإنَّ قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ينحل إلى الذين هم يشركون، فَهُم محكم عليهم. ¬

_ (¬1) في (ص، ق، ش، ض): يفهموها.

وبالجملة فلا فرق بين أن يكون المشتق محكومًا عليه أو متعلق الحكم أو غير ذلك، فالمدار على ما قررناه. الثاني: تكميل ما تحرر في جواب شبهة القرافي أنَّ اللفظ على أربعة أقسام: قِسم وُضع للزمان المعيَّن: كأمس وغدًا والآن. وقِسم وُضع مجردًا عن الدلالة على الزمان تَضَمُّنًا والتزامًا: كأسد، فهذا لا يتصف من حيث الأزمنة لا بحقيقة ولا بمجاز. وقِسم وُضع للحدث والزمان المعيَّن: كالأفعال، فالزمان فيها جزء مِن مدلولها، فهذه حقيقة فيما وُضعت له، مجاز إنِ استُعملت في غيره. فالفعل الماضي وضْعُه للحدث والزمن الماضي، كَـ "قام"، فإذا أُريدَ به الاستقبال نحو: (غفر الله لك) ونحو: {وَنُفِخَ فِى الصُّورِ} [الكهف: 99]، أو الحال كَـ "قام الآن" ونحو ذلك، كان مجازًا قطعًا. والمضارع فيه خمسة مذاهب: - كَوْنه للحال لا للاستقبال، عكسُه. - كونه حقيقة في الحال ومجازًا في الاستقبال، عكسُه. - حقيقة فيهما، فيكون مشتركًا. وظاهر "التسهيل" اختياره، فمتى استُعمل في الماضي كان مجازًا قطعًا، وكذا لو استُعمل في غير ما هو موضوع له عند القائل به. وقِسم رابع وهو نحو: أسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبهة ونحو ذلك، فما أُريد فيه الثبوت مِن اسمَي الفاعل والمفعول وكالصفات المشبهة مطلقًا لا دلالة له على زمان أصلًا، بل يصير كلفظ "أسد" و"إنسان"، وعليه حُمل نحو: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ونحو:

{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}. فإنْ قصد به الحدوث كما يقصد بالأفعال ولهذا أُعْمِل عَمَل الفعل، فدلالته على الزمان بالالتزام لا بالتضمن كما هو شأن الفعل، فيطرقه الانقسام للحقيقة والمجاز، ويأتي فيه ما سبق في أصل المسألة. الثالث: نشأ مما قررناه الاختلاف في مسائل: منها: رجوع البائع في سلعته بفلس المشتري؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما رجُل مات أو أفلسَ فصاحب المتاع أحق بمتاعه" (¬1). إنْ قُلنا: إنه صاحبه باعتبار ما مضى حقيقة، رجع وإلَّا فلا، فيتعين الحمل على المستعير. وجوابه: أنَّه وإنْ كان مجازًا فقد قام الدليل على إرادته كما ذُكر ذلك في محله. ومنها: قال الكافر: (أنا مسلم)، هل يحكم بإسلامه؛ فيه اضطراب في "الشرح" و"الروضة". وبالجملة فمنشأ الخلاف فيه أنَّه قد يريد "أنا أُسْلم بعد ذلك" فيكون وعدًا، وقد يريد الماضي وهو دِينه الذي هو عليه في الماضي ولكنه سماه إسلامًا. ومنها: لو قال: (أنا مقرٌ بما يدَّعيه)، كان إقرارًا؛ لأنه حقيقة في الحال. ومنها: قال لزوجته: (يا طالق)، طلقت لذلك، فإنِ ادَّعى أنَّه أراد الماضي وقد وقع عليه طلاق قبل ذلك، صُدِّق. ومنها: هل تزول كراهة السواك للصائم بالغروب قبل فطره؟ أوْ لا بُدَّ من إفطاره؛ لأنه ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

ليس حينئذٍ صائمًا وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" (¬1)؟ فالأكثر على أنَّه يزول بالغروب؛ لأنه قد أفطر شرعًا. ومنها: لو أوصى أو وقف على حُفاظ القرآن، لا يدخل مَن نسيه (¬2)؛ لأنَّ ذلك مجاز. ومنها: وقف أو أوصى لورثة زيد وَزيد حي، لا يصح؛ لأنه ليس وارثا إلَّا باعتبار المستقبل وهو مجاز. ومنها: في مسألة "كُلما وَلَدت واحدةٌ فصواحبها طوالق" هل يخرج عن الصحبة مَن وقع عليها الطلاق؟ أوْ لا؛ لأنها صاحبة باعتبار ما كان؟ تذنيب: من مسائل الاشتقاق أن المشتق لا إشعار له بخصوصية الذات، فالأسود مثلًا ذاتٌ لها سواد، ولا يدل على حيوان ولا غيره، والحيوان ذات لها حياة، لا خصوص إنسان ولا غيره. قال الهندي: (لا بالمطابقة ولا بالتضمن) (¬3). ومفهومه أنَّه يدل بالالتزام، فإنْ أراد مُطلق الجسم فمُسَلَّم، أو نوعًا معيَّنًا فلا. والله أعلم. * * * (تَمَّ بِعَوْن الله تعالى الجزءُ الثاني، وَيلِيه الجزء الثالث، وأوله: المنطوق والمفهوم) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 1795)، صحيح مسلم (رقم: 1151). (¬2) يعني: مَن نسي القرآن. (¬3) نهاية الوصول في دراية الأصول (1/ 179).

تقسيم آخَر وهو راجع للمفرد تارة وللمركب أخرى كما ستراه، وهو انقسامه باعتبار محل الدلالة إلى منطوق ومفهوم، إذ لا تخلو الدلالة عن القسمين، لكن لكل منهما أقسام وشروط لا بُد من معرفتها، يأتي إن شاء الله تعالى بيانها واضحة. ص: 445 - اللَّفْظُ إنْ كَانَ بِنُطْقٍ دَلَّا ... فَسَمِّ بِ "الْمَنْطُوقِ" ذَا، وَإِلَّا 446 - فَسَمِّهِ "الْمَفْهُومَ"، فَالْمَنْطُوقُ ... "نَصٌّ" إذَا مَعْنًى لَهُ يَفُوقُ 447 - بِلَا احْتِمَالٍ، وَالَّذِي قَدْ ضَعُفَا ... فِيهِ احْتِمَالٌ "ظَاهِرٌ" قَدْ عُرِفَا الشرح: أي: إن المعنى المستفاد مِن اللفظ إنِ استُفيد مِن حيث النُّطق به، سُمي"منطوقًا"، أو من حيث السكوت اللازم للفظ، سُمي"مفهومًا". و"المفهوم" وإن كان في الأصل عامَّا لكل ما فُهم من نُطق أو غيره؛ لأنه اسم مفعول "فَهمَ يَفهَمُ" لكن اصطلحوا على اختصاصه بهذا النوع وهو المفهوم المجرد الذي لا يستند إلى نُطق؛ لكونه فُهم مِن غير تصريح بالتعبير عنه، بل له استناد إلى طريق عقلي. فالقسم الأول وهو "المنطوق" ينقسم إلى: نَص، وظاهر. فَـ "النص": مما أفاد معني لا يحتمل غيره، كَـ "زيد". وهو معنى قولي: (يَفُوقُ بِلَا احْتِمَالٍ)، أي: ذلك المعنى فائق بسبب عدم الاحتمال فيه، فسُمِّي اللفظ الدال عليه "نَصًّا"؛ لارتفاعه على غيره مِن الألفاظ في الدلالة، مأخوذ من قولهم: (نصت الظبية جيدها) إذا

رفعته، ومنه: مَنصة العروس (بفتح الميم). قاله المطرزي. فقولي: (مَعْنًى) مرفوع بفعل محذوف على حد قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)} [الانفطار: 1]. والظاهر: ما أفاد معنى مع احتمال معنى غيره لكنه ضعيف، فهو بسبب ضعفه خفي؛ فلذلك سُمي اللفظ لدلالته على مقابِله وهو القوي "ظاهرًا"، كالأسد فإنه ظاهر في الحيوان المفترس، ويحتمل أن يُراد به الرجل الشجاع مجازًا، لكنه احتمال ضعيف. والكلام في دلالة اللفظ الواحد؛ ليخرج "المُجْمَل مع المُبَيِّن"؛ لأنه وإنْ أفاد معنى لا يحتمل غيره فإنه لا يُسمى مِثله "نَصًّا". واعْلَم أن "النَّص" كما يُطلق في مقابَلة "الظاهر" يُطلق أيضًا في مقابلة الاستنباط والقياس، فيقال مثلًا: دَلَّ عليه النَّص والقياس. فهو أَعَم مِن أن يكون معه احتمال آخَر أو ليس معه، وهذا كما سيأتي في أن العلة إما منصوصة وإما مستنبطة، وفي أن شرط الفرع أنْ لا يكون منصوصًا، ونحو ذلك. ومن هذا قولهم: (نَصُّ الشَّافعي كذا) في مقابلة قول مُخَرَّج أو نحوه، يعنون به أَعَم مِن النَّص والظاهر، والله أعلم. ص: 448 - كِلَاهُمَا "الْمُحْكَمُ"، وَالْمُقَابِلُ ... فَ "مُتَشَابِهٌ" إذَا [تُقَابِلُ] (¬1) 449 - يَسْتَأْثِرُ اللهُ بِعِلْمِهِ، وَقَد ... يُطْلِعُ بَعْضَ أَصْفِيَاهُ [الْمُعْتَمَدْ] (¬2) ¬

_ (¬1) في (ض، ت، ن): يقابل. (¬2) في (ن 1، ن 3، ن 4): المعد.

الشرح: أيْ: إنَّ كُلًّا مِن النص والظاهر يُسمى "مُحْكَمًا"، مِن الإحكام وهو الإتقان؛ لأنه أُحْكِمَ بظهور المراد منه، إما بلا احتمال أصلًا أو برجحان احتمال يظهر المراد فيُحْمل عليه، فهو بإزاء القدر المشترك بين القسمين وهو عدم المرجوحية. وهذا أحسن مِن تعبير بعضهم بالراجحية؛ لأن ما لا احتمال فيه لا يُقال له: دراجح. فَـ "المُحْكَم" هو: المتضح المعنى. ومقابِلُه يسمى "المتشابه": وهو ما لم يتضح فيه المعنى. سُمي بذلك لِتَشابه المعاني فيه وعدم ظهور المراد منها، فيدخل تحته: - ما احتمل معنيين على السواء: وهو "المُجْمَل"، وسيأتي بيان جهات الاستواء. - وما كان ظاهرًا في أحدهما أو أحدها ولكن قام دليل على إرادة المرجوح، فَيُؤَوَّل اللفظ بالحمل عليه. فمدلول "المتشابه" أمران: المجمل، والمؤَوَّل؛ باعتبار القَدْر المشترك بينهما وهو عدم الرجحان. وفي "تفسير الماوردي" عن الشَّافعي رحمه الله أن: ("المحكم" ما لا يحتمل من التَّأويلِ إلَّا وجهًا واحدًا، و"المتشابه" ما احتمل أَوْجُهًا) (¬1). والمراد بِ "الوجه الواحد": الذي يتعين العمل به سواء أكان لا احتمال معه أو معه احتمال مرجوح. وبِـ "الأوْجُه": ما ليس فيه مُتَعَيّن للعمل كما بيناه. بل قال الماوردي: (ويحتمل أن "المحكَم" ما كانت معاني أحكامه معقولة، بخلاف ¬

_ (¬1) تفسير النكت والعيون (1/ 369).

"المتشابه" كأعداد الصلوات واختصاص رمضان بالصيام دون شعبان) (¬1). وفي تفسير المحكم والمتشابه سوى ما سبق أقوال كثيرة: منها: أن "المحكم" ما خَلُص لفظُه مِن الاشتراك ولم يُشَبْ بغيره، و"المتشابه" بخلافه. أو أن "المحكم" ما اتصلت حروفه، و"المتشابه" ما تقطعت، كالحروف المقطعة أوائل السور. أو أن "المحكم" ما تُوُعِّد به الفساق، و"المتشابه" ما أُخْفي عقابه. أو أن "المحكم" ما احتج الله تعالى به على الكفار، و"المتشابه" خلافه. أو أنَّه الوعد والوعيد في الأحكام، و"المتشابه" القصص وسِيَر الأولين. أو أن "المحكم" نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التوراة والكتب المتقدمة، و"المتشابه" نعته في القرآن. أو أن "المحكم" الناسخ، و"المتشابه" هو المنسوخ. أو أن "المتشابه" آيات القيامة، و"المحكم" ما سواها. أو نحو ذلك مِن الأقوال المنتشرة. قال ابن السمعاني: أحسنها أن "المحكم" ما أبان معرفة المراد بظاهره أو بدلالة تكشف عنه، و"المتشابه" بخلافه، فيدخل في كلامه في "المحكم" المُؤَوَّل، ويجمع بينه وبين ما سبق من القول الراجح أنَّه -مِن حيث هو- كان "متشابهًا"؛ لِعدم إرادة الظاهر فيه، وبَعد قيام الدليل على إرادة المرجوح صار "مُحْكَمًا". وإليه أشرتُ بقولي: (إذَا تُقَابِلُ)، أي: إذا أردت أن تقابله بالمحكم وإنْ أُطلق عليه في ¬

_ (¬1) تفسير النكت والعيون (1/ 370).

بعض أحواله "محكمًا" باعتبارٍ آخَر. وقولي: (يَسْتَأْثِرُ اللهُ بِعِلْمِهِ) بيان لحكم"المتشابه" وإنْ أوهمت عبارة "جمع الجوامع" أنَّه تفسير له. قال الأستاذ أَبو منصور: إن هذا قول كثير من أصحابنا المتكلمين والفقهاء، كالحارث والقلانسي، ووقفوا في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ} [آل عمران: 7] على ذلك. قال: وهو الأصح عندنا؛ لأنه قول الصحابة، كابن عبَّاس، وابن مسعود وأُبي بن كعب، وهو اختيار أبي عُبيد والأصمعي وأحمد بن يحيى النحوي. وقال ابن السمعاني: إنه المختار على طريق أهل السُّنة. وحكاه البغوي في "تفسيره" عن الأكثرين من الصحابة والتابعين والنحويين، وقطع به الزبيري - من أصحابنا - في كتاب "المسكت". ومقابِلُه قول الأشعري والمعتزلة؛ إنه لا بُدَّ أنْ يَكون مِن الراسخين في العلم مَن يَعلمه. والوقف عندهم في الآية على {فِي الْعِلْمِ}، وجملة {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} نَصب على الحال مِن {وَالرَّاسِخُونَ} فقط دُون المعطوف عليه؛ لِتَعَذُّره، فهو قرينة مُخَصِّصة لتقييد الحال بالمعطوف كما في {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72]، فإنَّ "نَافِلَة" حال من المعطوف فقط وهو "يعقوب"؛ لأنه ولد الولد، دُون إسحاق؛ لأنه ولد. وقال ابن الحاجب: (إنه الظاهر؛ لأن الخطاب بما لا يُفهم بعيد) (¬1). وقال النووي رحمه الله في "شرح مسلم" في "كتاب [الأدب] (¬2) ": (إنه الأصح؛ لأنه يَبْعُد أن ¬

_ (¬1) مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (1/ 390 - 391). (¬2) كذا في (ص، ز، ض)، لكن في (ت): الإيمان.

يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد مِن الخلْق إلى معرفته) (¬1). قال: (وقد اتفق أصحابنا وغيرهم مِن المحققين على أنَّه يستحيل أن يتكلم الله تعالى بما لا يفيد) (¬2). ورجح هذا الشيخ أَبو إسحاق؛ لأن الله تعالى أَوْرَدَ هذا مدحًا للعلماء، فلو كانوا لا يعرفون معناه لَشاركوا العامة وبَطل مدحهم. وصححه أيضًا سليم في "التقريب"، وحكاه القاضي أَبو بكر وإمام الحرمين في "البرهان" عن أكثر القراء والنحاة، قال: وهو مذهب ابن مسعود وأُبي بن كعب، أي: عكس حكاية الأستاذ والبغوي عنه. وإلى هذا أشرتُ بقولي: (وَقَدْ يُطْلِعُ بَعْضَ أَصْفِيَاهُ). والأصل: أصفيائه، ولكن قصرتُه؛ للضرورة. واعلم أنَّه قد سبق في باب الأدلة - عقب ذِكر الكتاب والسُّنة - الخلافُ في أنَّه هل يجوز أن يكون فيهما لفظ له معنى لكن لا نفهمه؛ وبيان أن خلاف الحشوية ليس في هذا القِسم كما زعم بعضهم، ولا في ورود لفظ بلا معنى أصلًا؛ فإنه لا يُظن بعاقل أن يقوله، وأن الإمام في "المحصول" إنما حكى خلاف الحشوية في كون اللفظ له معنى ولكن أُريدَ غيره، وإنْ كان قد أقام دليلا يقتضي أن خلاف الحشوية في التكلم بما لا يفيد، فراجعه؛ فإنه مهم. ¬

_ (¬1) شرح صحيح مسلم للنووي (16/ 218). (¬2) شرح صحيح مسلم للنووي (16/ 218).

تنبيهات الأول: قد يطلق "المحكم" على ما أُحكم على وجهٍ لا تفاوُت فيه، فالقرآن كله بهذا المعنى "محكم"؛ ولهذا قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1]. ويطلق "المتشابه" بمعنى أنَّه متماثل في الدلالة والإعجاز، فالقرآن كله "متشابه" بهذا المعنى؛ ولهذا قال تعالى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23]. الثاني: فائدة ذِكر "المحكم" و"المتشابه" في هذا التقسيم بيان القِسم الذي يجب الإيمان به ولا يتعرض للكشف عنه - على طريقة القائلين بأنَّ الله تعالى يستأثر بعلمه، وأما على الطريقة الأخرى فالسعي في تحقيق معناه بأن يتهيأ العالِم باستعداده حتَّى يكون من الراسخين ويبحث عن المعنى بالدليل. وقيل: بل الخُلْف في المسألة لفظي، فإنَّ مَن قال: (إن الراسخ في العِلم يَعلم تأويله) أراد به أنَّه يَعلم ظاهره، لا حقيقته. ومَن قال: (لا يَعلم) أراد أنَّه لا يَعلم حقيقته وإنما ذلك إلى الله، والحكمة في إنزال "المتشابه" ابتلاء العقلاء. وقال [ابن] (¬1) إسحاق: إن الكلام تَمَّ عند قوله تعالى: {إِلَّا اللهُ}، ومعنى ما بعده أنهم يردون المتشابه إلى المحكم، ويستدلون على الخفي بالجلي، لا أنهم لا يعلمونه أصلًا. وأما عِلم الله تعالى فهو بالعلم القديم الذي لا يتوقف على شيء، وعِلم غيره متوقِّف على التذكر والتدبر. وهذا في الحقيقة قول متوسط بين القولين السابقين، واختاره السهيلي. ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ت). لكن في سائر النسخ: أَبو.

وللقفال الشاشي قول بالوقف، إذ قال: القولان محتملان، ولا يُنكَر أن يكون في "المتشابه" ما لا يُعلم. ومنهم مَن جمع بين القولين بأن الله تعالى يَعلم ذلك على التفصيل، والراسخون في العلم يعلمونه على الإجمال. وبالجملة فالمختار: الوقف على {إِلَّا اللهُ}، فإذا جمع بما ذكرناه، زال الإشكال واجتمع القولان. الثالث: الخلاف في "المتشابه" لا يجري في آيات أحكام الشريعة كما قال الأستاذ أَبو إسحاق؛ إذ ليس شيء منها إلَّا وعُرف بيانه، وليس في السُّنَّة ما يشاكله. وفي "المنخول" للغزالي أن: ("المتشابه" في الآيات المتضمنة للتكليف مُحال، ويبين المقصود منه رسم المسألة في آية الاستواء، قال مالك لَمَّا سُئل عنه: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". وقال سفيان بن عيينة: يُفْهَم منه ما يُفهم مِن قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29]. وقد تحزَّب الناس فيه، فَضلَّ قوم فأجروه على الظاهر، وفاز مَن قَطع بنفي الاستقرار، وإنْ تردد في مُجْمَله فلا يُعاب عليه، فإنَّ تعليم الأدلة على نفي الاستقرار لا نراه واجبًا على الآحاد، بل يجب على كل شخص في كل إقليم أن يقوم ليدفع البدع إذا [ثارت]) (¬1) (¬2). انتهى الرابع: مِن هذا الخلاف تشعَّب العلماء في آيات الصفات وأحاديثها المشكلة: هل يجب تأويلها بِناء على أن بعض الراسخين في العِلم قد يَطَّلِعون على المعنى؟ أوْ لا؛ لكونه مما استأثر الله تعالى به، ويحتمل أن المراد غير ما أُوِّل به، فيرون الإمساك عنه لذلك؟ ¬

_ (¬1) كذا في (ت، ق)، لكن في (ص، ز، ش، ض، ظ): فارت. (¬2) المنخول (ص 172).

والطريقتان مشهورتان، إلَّا أنَّه ينبغي في مِثل هذا الوقت رجحان طريقة التَّأويلِ وإظهاره؛ لِمَا حدث من البدع وتلبيس بعض المبتدعة على ضعيفي العقول وحملهم على أن يعتقدوا ظاهرها الذي قامت الأدلة القاطعة على استحالته، وقام الإجماع من الفريقين على عدم إرادة ظاهره، فهو من باب النصح الواجب، والله تعالى أعلم. ص: 450 - وَسمِّ بِـ "الْمُجْمَلِ" مَا لَمْ يَتَّضِحْ ... دِلَالَةً؛ لِلاشْتِرَاكِ لم [يَضِحْ] (¬1) 451 - أَوْ رَجَحَ الْمَجَازُ حَتَّى سَاوَى ... حَقِيقَةً، وَكُلُّ مَا تَسَاوَى الشرح: لَمَّا ذكرتُ أن المتشابه ما لم يتضح المقصود منه وأن تحته نوعين: أحدهما: ما لم يُرَد ظاهرُه. وثانيهما: ما تساوى محتملاه أو محتملاته وهو "المجمل". وسبق الكلام في القسم الأول، بينتُ هنا القسم الثاني الذي هو "المجمل"، وأصله من الجمل وهو الجمع. قال ابن طريف: أجملتُ الشيء: جمعته عن تفرقة، وأجملت الحساب: جمعته. وقال ابن دُرَيد: ("أجملت الحساب" لا أحسبه عربيًّا صحيحًا) (¬2). فَـ "المُجْمَل": ما لم تتضح دلالته من حيث الاستواء فيها: - إما للاشتراك ولا قرينة ترجح شيئًا من المحتمل، إما بأنْ لا قرينة أصلًا، أو لكُلٍّ ¬

_ (¬1) في (ض، ت) ت تضح. وفي (ن 1، ن 2، ن 3، ن 4): يصح. (¬2) جمهرة اللغة (1/ 491).

قرينة. - وإما لرجحان المجاز حتَّى ساوى الحقيقة. - وإما لِتَعذُّر الحقيقة مع تَعدُّد المجاز والتساوي فيه، أو نحو ذلك. وهو معنى قولي بعده: (وَكُلُّ مَا تَسَاوَى) إلى آخِر الأبيات الآتية، فعممتُ الحكم بذلك لكل متساو، وبينتُ به أن الصورتين المتقدمتين مثال، لا للحصر. واحترزت هنا - بقولي: (لِلاشْتِرَاكِ) إلى آخِره - عن القسم الأول الذي من "المجمل" وهو الذي لم تتضح دلالته لِكَونه لم يُرَد به المعنى الظاهر وأُريد الخفي، ولكن لَمَّا لم تتعين جهة من الخفي، نَشأ من ذلك مسألة: هل يُؤَوَّل المشْكل من الآيات والأحاديث؛ أو يُسْكت عنه؟ وقد سبق التنبيه عليه. واعلَم أنَّه لا يخفى أن ذلك حيث لم يحمل المشترك والحقيقة والمجاز والمجازين على الكل، فإنْ وجب الحمل حيث أَمكن فلا إجمال، وقد سبق بيان ذلك في محله، والله أعلم. ص: 452 - فَإنْ يُبَيِّنِ الدَّلِيلُ الْمَقْصَدَا ... مِنْهُ، فَذَا "مُبَيَّن"، أَوْ فُقِدَا 453 - في الْأَصْلِ إجْمَالٌ لَهُ فَيُسْمَى ... "مُبَيَّنًا"، لِقَصْدِ ذَاكَ [رَسْمَا] (¬1) الشرح: هذا خبر عن المبتدأ المذكور في آخر البيت الذي قبله، وهو قولي: (وَكُلُّ مَا تَسَاوَى). أي: ما تساوى فيه المحتمل فالحكم فيه ذلك. ¬

_ (¬1) في (ق، ت، ش): رُسِمَا. وفي (ص، ن 1، ن 3): رَسْمَا. وبالثاني ينضبط الوزن.

ودخلت الفاء في خبر المبتدأ، لتضمُّنه معنى الشرط، أي: إذا عرف معنى "المجمل" وأنه ما لم تتضح دلالته؛ لِتَسَاوي ما يحتمله، فإنْ دَل دليل على المقصود منه، سُمي "مُبَيَّنًا" بالفتح، اسم مفعول مِن: بَيَّنه تبيينًا. وربما سُمي بِ "المُبَيِّن" ما لم يكن مُجْمَلًا قط وإنَّما هو واضح من الابتداء؛ لكونه بُيِّن، أي: قُصِد فيه البيان وإن لم يطرأ عليه، فالمبيَّن نوعان. وهو معنى قولي: (لِقَصْدِ ذَاكَ رَسْمًا)، أي: لأجل ذلك رُسم بهذا الاسم، وإنَّما عللتُ تسمية الثاني "مُبينًا" بالقصد؛ لأن الأول لا يحتاج [في] (¬1) تسميته بذلك لتعليل. و"المقصَد" بفتح الصاد بمعنى القصد، لأن "المَفْعَل" منه بالفتح: المصدر، وبالكسر: المكان والزمان. ثم يحتمل أنْ يُراد به المفعول، أي: المقصود، ويحتمل بقاؤه على المصدرية، فالمعنى صحيح على التقديرين، والله أعلم. ص: 454 - وَإنْ عَلَى الْمَرْجُوحِ جَا دَلِيلُ ... فَتَرْكُ ظَاهِرٍ لَهُ تَأْوِيل 455 - صَحِيح، أوْ مَا أَشْيَهَ الدَّلِيلَا ... فَفَاسِدٌ، وَلَيْسَ ذَا مَقْبُولَا 456 - أَوْ لَا لِشَيْءٍ أَبَدًا فَلَعِبُ ... وَلَيْسَ في التَّأْوِيلِ هَذَا يُحْسَبُ الشرح: لَمَّا سبق أن المتشابه نوعان: مجمل، و [مؤَوَّل] (¬2)، وبينتُ آنفًا أن المجمل يزول إجماله ¬

_ (¬1) من (ق). (¬2) في (ص، ق، ظ): مشكل.

بدليل يجيء مبيِّنًا للمقصود منه، بينتُ هنا أن القِسم الآخَر يتضح إذا قام على بيان المراد منه دليل، فيخرج بذلك عن "المتشابه". وحقيقة هذا النوع أن يكون حملُ اللفظ على حقيقته الظاهرة منه متعذِّرًا؛ لاستحالتها عقلًا أو نقلًا، فيجب حيلَهُم ذٍ طرح ذلك الظاهر قطعًا، ثم يُنظر: فإنْ جاء دليل يدل على إرادة المرجوح عقليًّا أو نقليًّا، وَجَبَ الحمل عليه، وسُمي حينئذٍ "تأويلًا"، وهو مصدر "أَوَّلتُ الشيء": فسرتُه، مِن "آلَ": إذا رجع؛ لأنه رجوع من الظاهر إلى ذلك الذي آلَ إليه مِن دلالة اللفظ، وهو معنى قول صاحب "المقاييس": (تأويل الكلام: عاقبته، قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 53]، أي: ما يؤول إليه في بعثهم ونشورهم) (¬1). ويجوز أن يكون مِن"الإيالة" وهي السياسة، فكأنه يسوس اللفظ إلى أن يستخرج معناه القصود منه. وللناس كلام في الفرق بين التفسير والتأويل، قال الراغب: (أكثر ما يستعمل "التأويلُ" في المعاني و"التفسيرُ" في الألفاظ، وأكثره في مفردات الألفاظ، و"التَّأويلِ أكثره في الجُمل" (¬2). ويُسمَّى هذا "التَّأويلِ" الذي لدليل: "تأويلًا صحيحًا". فإنْ تُرك الظاهر لا لدليل محقق بل لشبهة تُخَيَّل للسامع أنَّها دليل وعند التحقيق تضمحل، يُسمى "تأويلًا فاسدًا"، أو ربما قيل له: "تأويل بعيد"، كما سيأتي في موضعه ذِكر أمثلة من النوعين. فإنْ عدل عن الظاهر لا لدليل ولا شُبهة دليل فهو ضربٌ من اللعب، ولا يُعد من التَّأويلِ، ولا يحسب بالكُلية. ¬

_ (¬1) مقاييس اللغة (1/ 162). (¬2) تفسير الراغب الأصفهاني (1/ 11).

وقد عُلم مما قررناه أن حَمْل اللفظ على ظاهره ليس مِن التَّأويلِ، وأن حمل المشترك ونحوه مِن [المتساوي] (¬1) على أحد محمليه أو محامله لدليل لا يُسمى تأويلًا، وأن حمله على المجموع لا يُسمى تأويلًا أيضًا، والله أعلم. ص: 457 - فَإنْ تَوَقَّفَتْ عَلَى إضْمَارِ ... دِلَالَةُ النُّطْقِ لِصِدْقٍ جَارِ 458 - أَوْ صِحَّةٍ عَقْلًا يُرَى أَوْ شَرْعَا ... فَهْوَ اقْتِضَاءٌ كلُّهُ، فَيُرْعَى 459 - كَـ "رُفِعَ الْخَطَا" وَمثْلُ "وَاسْأَلِ" ... وَ"أَعْتِقِ الْعَبْدَ عَلَيَّ"، فَاقْبَل الشرح: أي: من دلالة المنطوق على المراد منه: صريح: وهو ما وُضع اللفظ له، فيدل عليه بالمطابقة أو التضمُّن، حقيقةً أو مجازًا. وغير صريح: وهو ما دل [على] (¬2) غير ما وُضِع له، وإنَّما يدل من حيث إنه لازم له، فهو دالٌّ عليه بالالتزام. وقَسَّمه ابن الحاجب إلى ثلاثة أقسام: اقتضاء، وإشارة، وإيماء؛ لأنه إما أن يكون مقصودًا للمتكلِّم ولكن توقف على ما يصححه، أو لم يتوقف، أو يكون غير مقصود للمتكلم. فالأول - وهو ما توقفت دلالته على مُقَدَّر آخَر - يُسمى "دلالة الاقتضاء"، وإليها ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ز)، لكن في (ت): المساوي. (¬2) في (ز): عليه في.

أشرتُ بقولي: (فَإِنْ تَوَقَّفَتْ) إلى آخِره. وَجِهات التوقف ثلاثة: ما يتوقف فيه صِدق اللفظ، وما يتوقف فيه صحة الحكم عقلًا، وما يتوقف فيه صحة الحكم شرعًا. فالأول: مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رُفع عن أُمتي الخطأ والنسيان" (¬1)، فإنَّ ذات الخطأ والنسيان لم [ترتفع] (¬2)؛ فيُضمَر ما يتوقف عليه الصِّدق مِن لفظ "الإثم" أو "المؤاخذة" أو نحو ذلك. والثاني: مثل قوله تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}، أي: أهل القرية؛ إذْ لو لم يُقَدَّر ذلك أو نحوه، لم يصح عقلًا، إذْ هي لا تُسأل، ولا يخفَى ما في نسبة ذلك للعقل مِن المسامحة؛ ولذلك قالوا: إن هذا بِناءٌ على أنَّها لم تكن مسئولة حقيقةً من باب المعجزة له، وهو مبني أيضًا على أنَّه لم يُعَبَّر بالقرية عن أهلها؛ إذِ المجاز حينئذٍ مجاز استعارة، لا مجاز إضمار. ومثله قوله تعالى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63]، أي: فَضرَب؛ فانفلق. والثالث: كقول القائل: أَعْتِق [عبدك] (¬3) عني على كذا)، أو قال: (مجانًا)، فإنه في الأول بيع ضمني، وفي الثاني هبة ضمنية لا يستحق صاحب العبد عليه شيئا جزمًا. نعم، قال المزني: إنه لا يقع عن المستدعي. ولكن المذهب خِلافه، وكذا لو سكت على "أَعْتِق" ولم يذكر شيئًا فإنه هبة ضمنية ولا يستحق شيئًا على أصح الوجهين، وقيل: يستحق. وإنَّما توقفت الصحة الشرعية في [ذلك] (¬4)؛ لأنَّ العتق شرعًا لا يكون إلَّا لمملوك. وهو ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) كذا في (ز، ص)، وفي (ت): ترفع. (¬3) في (ت، ض): عبدي. (¬4) في (ز، ق، ظ): الأحوال الثلاثة.

معنى قولي في النظم: (وَ"أَعْتِق الْعَبْدَ عَلَيَّ"، فَاقْبَلِ) أي: فَقُل: (أعتقته)، فيشمل الثلاثة. تنبيه: جَعْلُ الأقسام [الثلاثة] (¬1) اقتضاء هو قول أصحابنا، وذهب جَمعٌ من الحنفية - كالبزدوي - إلى أن "المقتضِي" ما تَوقَّف فيه الصحة شرعًا، وسَموا الأول والثاني "محذوفًا" أو "مضمرًا"، وفرقوا بين المحذوف والمقتضَى بأنَّ "المقتضَى" لا يتغير فيه ظاهر الكلام عن حاله ولا إعرابه عند التصريح به، بل يبقى كما كان قبله، بخلاف المحذوف كَـ {اسْأَلِ الْقَرْيَةِ} و"رُفع عن أمتي الخطأ" ونحوه، والله أعلم. ص: 460 - وَمَا يَدُلُّ وَبِلَفْظٍ مَا قُصِدْ ... "إشَارَةٌ" في "الْآنَ بَاشِرُوا" تَجِدْ الشرح: هذا هو القسم الثالث مما ذكره ابن الحاجب مِن أقسام غير الصريح. وأما القسم الثاني وهو "الإيماء": وهو ما فيه قصد المتكلم ولا يتوقف على إضمار شيء ولكنه اقترن بحكم لو لم يكن اقترانه به عِلةً له لكان بعيدًا مِن الشارع أن يقرنه به وهو أجنبي، ويُسمى "تنبيهًا" و"إيماء"، وسيأتي بمثاله في "باب القياس" من جملة الطُّرق الدالة على العِلية؛ ولهذا أسقطته من النَّظم هنا، ولأن الحكم ليس منسوبًا لدلالة اللفظ عليه البتَّة. وأما هذا الثالث الذي ذكرته هنا في النظم (وهو: ما له عليه دلالة ولكن لم تقصد دلالته) فيُسمى "إشارة"، كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ¬

_ (¬1) في (ز، ظ، ق): الأصلية الثلاثة.

[البقرة: 187]، فإنه يدل بالصريح على جواز المباشرة إلى الصبح ولكن يلزم منه صحة الصوم جُنبًا، فلو لم يكن ما بين الفجر إلى تمام الغسل صيامًا لَكان مستثنًى مقداره قبل الفجر مِن المباشرة في الليل، وهو معنى قولي: (في "الْآنَ بَاشِرُوا" تَجِدْ)، أي: في قوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [[البقرة: 187]]، الآية - تجد المثال للمسألة. وكذلك تقدير مدة الحمل بستة أشهر مِن قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، مع قوله تعالى: " {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]. وجمن أمثلة ابن الحاجب قوله - صلى الله عليه وسلم - في النساء: "إنهن ناقصات عقل ودين" (¬1)، ثم قال في نقصان دينهن: "تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي" (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 298)، صحيح مسلم (رقم: 79) بلفظ: (ما رأيت من نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحْازِمِ من إِحْدَاكُنَّ). (¬2) لم أجد رواية بهذا اللفظ، وقال السخاوي في (المقاصد الحسنة، ص 267): (حَدِيث: "تمَكُثُ إِحْدَاكُنَّ شَطْرَ دَهْرِهَا لا تُصَلِّي" لا أَصل له بهذا اللفظ، فقد قال أَبو عبد الله ابن منده فيما حكاه عنه ابن دقيق العيد في "الإمام": ذكر بعضهم هذا الحديث، ولا يثبت بوجه من الوجوه. وقال البيهقي في "المعرفة": هذا الحديث يذكره بعض فقهائنا، وقد تطلبته كثيرًا، فلم أجده في شيء من كتب الحديث، ولم أجد له إسنادًا. وقال ابن الجوزي في "التحقيق": هذا لفظ يذكره أصحابنا ولا أعرفه. وقال الشيخ أَبو إسحاق في "المهذب": لم أجده بهذا اللفظ إلَّا في كتب الفقهاء. وقال النووي رحمه الله في شرحه: باطل لا يُعرف. وفي "الخلاصة": باطل لا أصل له. وقال المنذري: لم يوجد له إسناد بحال. وأغرب الفخر ابن تيمية في شرح "الهداية" لأبي الخطاب، فنقل عن القاضي أبي يعلى أنَّه قال: ذكره عبد الرحمن بن أبي حاتم البستي في كتاب "السنن" له. كذا قال! وابن حاتم ليس بُستيًّا، وإنَّما هو رازيّ، وليس له كتاب يقال له "السنن"). والرواية التي في صحيح مسلم (رقم: 79) بلفظ: (وَتمَكُثُ اللَّيَالِي ما تُصَلِّي).

[ففيه] (¬1) أن أكثر الحيض خمسة عشر يومًا مع أنَّه غير مقصود من الحديث، بل من حيث إن لفظ "الشطر" يُشْعِر به؛ لأن المبالغة تقتضي أن أكثر ما يتعلق به الغرض ذلك، ولو كان زمان الحيض الذي تترك فيه الصلاة أكثر من ذلك لَذَكره. نعم، [ذكر] (¬2) ابن دقيق العيد في كتاب "الإمام" عن البيهقي أنَّه قال: تتبعتُ هذا اللفظ - أي: لفظ "الشطر" - فلم أجده في شيء من كتب الحديث. وحينئد فيتعجب من القاضي أبي الطيب في اعتماده عليه في كتاب "المنهاج" في الاستدلال على أقَل الطهر مع معرفته بالحديث. وقد أجاد تلميذه الشيخ أَبو إسحاق حيث لم يذكره في كتاب "النكت"، وقال في كتاب "المهذب": (لم أره إلَّا في كتب الفقه) (¬3). ولعله رأَى في كلام البيهقي ذلك. نعم، في بعض كتب الحنابلة أن القاضي أبا يعلى عزاه إلى "السنن" لابن أبي حاتم، أما لفظ رواية البخاري في ذلك: "أليس إذا حاضت لم تُصل ولم تَصُم؟ [قال] (¬4): بلى. قال: فذلك من نقصان دينها" (¬5). ولمسلم نحوه، وفيه: "وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان" (¬6). في جمع "ليلة"؛ حتَّى لا يُقْصَر على يوم وليلة. ¬

_ (¬1) في (ز): يفهم. وفي (ظ): نفهم. (¬2) كذا في (ز، ظ). وفي سائر النسخ: قال. (¬3) المهذب في فقه الإمام الشَّافعي (1/ 39). (¬4) كذا في جميع النسخ، لكن لفظ البخاري: قُلْن. (¬5) صحيح البخاري (رقم: 298). (¬6) صحيح مسلم (79).

تنبيهات الأول: جَعْلُ الاقتضاء والإشارة مِن أقسام المنطوق وكذا التنبيه والإيماء اللذان سبق ذِكرهما - هو طريقة ابن الحاجب، على خلاف ما صرح به الغزالي في "المستصفى" وجَرى عليه البيضاوي وغيره مِن كونها أقسامًا للمفهوم، وقَوَّى هذا بعضهم. وتُعُقِّب على ابن الحاجب ما صَنَع مع قوله: (إن "المنطوق" ما دل في محل النطق، و"المفهوم" في غير محل النطق) (¬1)، فأين دلالة محل النطق في هذه؟ وأما الآمدي فمقتضى ما ذكره في "إحكامه" أن ذلك ليس مِن المنطوق ولا من المفهوم. وقد وقع بين الشيخين علاء الدين القونوي وشمس الدين الأصفهاني بحث في ذلك، وكتبَا فيه رسالتين، وانتصر الأصفهاني لابن الحاجب، وهو الظاهر؛ لأنَّ لِلَّفظ دلالة عليها من حيث هو منطوق كما قررناه، بخلاف المفهوم كما سيأتي، فإنه إنما يدل من حيث [هو] (¬2) قضية عقلية خارجة عن اللفظ. قال بعض شيوخنا: ويمكن أن يجعل ذلك واسطة بين المنطوق والمفهوم؛ ولهذا اعترف بها مَن يُنكر "المفهوم". الثاني - مِن مُثُل (¬3) الحنفية [لدلالة] (¬4) الإشارة قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8]، الآية، قالوا: تدل على أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالاستيلاء مع أنَّها إنما ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى (2/ 431) مع (بيان المختصر). (¬2) من (ز، ظ). (¬3) جمع "مِثال". (¬4) كذا في (ص). لكن في سائر النُّسخ: دلالة.

سيقت لبيان استحقاقهم مِن الغنيمة، ووجه الإشارة إلى أنهم يملكون أموال المسلمين بالاستيلاء أن الله سماهم"فقراء" مع إضافة الأموال إليهم، والفقير مَن لا مال له، لا مَن لا تصل يده إلى المال وإنْ كان مِلْكًا له، فلو كانت باقية على ملكهم، لزم المجاز وهو خِلَاف الأصل. وضُعِّف بأن التسمية وإن دَلَّت على ما ذكروه لكن إضافة الأموال إليهم تدل على بقاء ملكهم؛ إذِ الأصل في الإضافة الملك، فليس حملهم الإضافة على المجاز وإجراء التسمية المذكورة على الحقيقة بأوْلى مِن العكس، والله أعلم. ص: 461 - وَإنْ يَكُنْ لَا في مَحَلِّ النُّطْقِ ... دَلَّ، فَـ "مَفْهُومٌ "يُرَى بِصِدْقِ الشرح: هذا مقابل ما سبق مِن دلالة اللفظ بمنطوقه. فَـ "المفهوم": ما دَلَّ لا في محل النطق. وسبق وجه تسميته "مفهومًا". واختلفوا في وجه استفادة الحكم منه: هل هو بدلالة العقل مِن جهة التخصيص بالذِّكْر؟ أو مستفاد مِن اللفظ؟ على قولين: قطع إمام الحرمين في "البرهان" بالثاني. و [رَدَّه] (¬1) أَبو الفرج في "نكته"؛ فإنَّ اللفظ لا يُشعر بذاته، وإنَّما دلالته بالوضع، ولا شك أن العرب لم تضع اللفظ ليدل على شيء مسكوت عنه؛ لأنه إما أن يُشعر به بطريق الحقيقة أو بطريق المجاز، وليس "المفهوم" واحدًا منهما. ¬

_ (¬1) كذا في (ص). لكن في سائر النُّسخ: رواه.

وبنى على هذا أنَّه لا يصح الاستدلال بِكَون أهل العربية صاروا إلى المفهوم، فإنهم إنما أخذوه بطريق الاستدلال بالعقل، وقد يخطئون فيكونون كغيرهم. نعم، لا خلاف أن دلالته ليست وضعية، إنما هي انتقالات ذهنية من باب التنبيه بشيء على شيء، وبالجملة فالمفاهيم التركيبية مِن عوارضه. قولي: (فَـ "مَفْهُومٌ " يُرَى بِصِدْقِ) هو جواب الشرط، فيُقرأ "مفهوم" بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي: فهو مفهوم. ويجوز أن يقرأ بالنصب مفعولا ثانيًا لـ "يُرى"؛ لأن "رأَى" بمعنى "عَلِم" يتعدى لمفعولين، و"بصدق" في محل نصب على الحال. والله أعلم. ص: 462 - فَإنْ يَكُنْ مَسْكُوتُه قَدْ وَافَقَا ... مَذْكُورَهُ حُكْمًا، يَكُنْ "مُوَافِقَا" 463 - "فَحْوَى الْخِطَابِ" إنْ يَكُنْ بِالْأَوْلَى ... وَ"لَحْنه" عِنْدَ اسْتِوَاءٍ يُجْلَى 464 - وَالشَّافِعِيُّ قَدْ رَأَى "الْمُوَافَقَهْ" ... مِنَ الْقِيَاسِ، لَا بِلَفْظٍ وَافَقَه 465 - فَهْمًا، وَلَا بِنَقْلِ لَفْظٍ لِلْأَعَمْ ... عُرْفًا، وَلَا قَرَائِنٍ بِتِلْكَ عَمْ الشرح: إذا عُلم معنى المفهوم، فهو على ضربين: مفهوم موافقة، ومفهوم مُخَالَفَةُ. فالأول: ما وافق فيه حُكمُ المسكوت حكمَ المذكور. وهو معنى قولي: (يَكُنْ "مُوَافِقَا")، أي: يُسمى ذلك المسكوت في الاصطلاح "مواففا"، ويُسمى المفهوم فيه "موافقة"؛ لوفق التنبيه المراد المعنى اللغوي. فَقَولي: (قَدْ وَافَقَا) المراد به المعنى اللغوي، وقولي: ("مُوَافِقَا") آخِر البيت - المراد به المعنى الاصطلاحي حتَّى لا يتحد الشرط والجزاء، والضمير المخفوض في "مسكوته" عائد

على اللفظ المذكور في صَدر التقسيم موردًا له. وقولي: ("فَحْوَى الْخِطَابِ") إلى آخِره - إشارة إلى أن مفهوم الموافقة نوعان: ما هو موافق بطريق الأَوْلى، وما هو موافق بطريق المساواة. والأول يُسمى "فحوى الخطاب"، أي: معناه المفهوم على سبيل القطع، قال الجوهري: إنه بالقصر والمد (¬1). قال الزمخشري في "الأساس": "فحوى الكلام" ما تُنُسِّم فيه (¬2). مِن "الفَحَا" وهو أبزار (¬3) القِدْر. مثاله: قوله تعالى: {فَلَا تَقُل لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23 [مفهومه النهي عن الضرب ونحوه مِن باب أَوْلى. وقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]، الآية، مفهومه أن ما فوق الذرَّة مِن باب أَوْلى. وقوله تعالى: {[وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] (¬4) مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]، فإنَّ مفهوم الأول أن ما دُون القنطار من باب أَوْلى، ومفهوم الثاني أن ما فوق الدينار من باب أولى. وقوله تعالى: ، وفي الآية الأخرى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31] {مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151]، فإن مفهومهما تحريم قتله بدون الإملاق وخشيته من باب أَوْلى. ¬

_ (¬1) الصحاح (6/ 2453). (¬2) انظر: أساس البلاغة (ص 466). (¬3) الأبزار: التوابل. (تاج العروس، 10/ 166)، (الصحاح، 2/ 589). (¬4) في جميع النُّسخ: ومنهم.

ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، مفهومه وجوب الكفارة في العمد من باب أوْلى، إلَّا أنْ يُقال: ذنب المتعمِّد أعظم مِن أن يُتلافَى بالكفارة. وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أسلف في شيء فليُسْلِف في شيءٍ معلوم ووزنٍ معلوم إلى أَجلٍ معلوم" (¬1)، فإن أصحابنا قالوا: إذا جاز في المؤجَّل، ففي الحال مِن باب أَوْلى؛ لأنه أقَل [غرورًا] (¬2) وأَبْعَد خطرًا. وأما تضعيف تمثيل الكفارة بأنَّ العمد أشد فلا يُجبر بكفارة بخلاف الخطأ، وتضعيف تمثيل السلم بأنه ليس مِن الغَرر حتَّى يكون الحالُّ فيه كالمؤجَّل، فجوابهما: أن الكفارة شُرعت للزجر، لا للجبر، وزجر المتعمِّد أَحَق مِن المخطئ. وأن البيع لِما في الذمة له فوائد جُوِّز السلم لأجلها، وتلك موجودة في الحالّ كما في المؤجَّل مع كونه أَقَل خطرًا. وذلك كُله مبسوط في محله مِن الفقه. والثاني: وهو المساوي، يُسمى "لحن الخطاب"، أي: معناه، كما قال تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]. مثاله قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] ولا شك أن سائر الإتلافات كذلك في الوعيد. وظاهر كلام ابن الحاجب أن هذا القِسم غير معتبر، وأن الأولوية شرط في الاحتجاج، حيث اقتصر في الموافقة على "فحوى الخطاب" وذكر أمثلته، ثم قال: (وهو تنبيه بالأدنى). أي: على الأعلى. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 2125)، صحيح مسلم (رقم: 1604). (¬2) كذا في (ص، ض، ت، ش)، لكن في (ز): غررا.

قال: (ويُعرف ذلك بمعرفة المعنى وأنه أَشد مناسبة [في] (¬1) المسكوت) (¬2). نعم، قوله في صَدْر المسألة: (أنْ يكون المسكوت موافقًا في الحكم) دليل على عدم الفرق بين الأَوْلى والمساوي. وكذا قوله في مفهوم المخالفة: (وشرطه أنْ لا يظهر أَوْلَوية ولا مساواة) (¬3). على أنَّ اشتراط الأولوية هو ظاهر كلام الشَّافعي في "الرسالة" كما نقله إمام الحرمين في "البرهان"، وبه قال الشيخ أَبو إسحاق وغيره من أئمتنا، ونقله الهندي عن الأكثرين. والقول بأنه لا يشترط هو طريقة الغزالي والإمام الرازي وأتباعه، وهو ظاهر استدلالات الأئمة بالمساوي كالأَوْلى وإنْ خَصَّصوا بالتسمية الأَوْلَوي. أمَّا تسمية الأَوْلَوي بِـ "فحوى الخطاب" والمساوي بِ "لحن الخطاب" فَعَلَيْه قوم من أصحابنا، وبعضهم يُسمي الأَوْلوي بالاثنين معًا. وحكى الماوردي (¬4) في الفرق بينهما وجهين: أحدهما: ما سبق. والثاني: أن "الفحوى" ما نَبَّه عليه اللفظ، و"اللحن" ما لاح في أثناء اللفظ. وقال القفال في "فتاويه": "الفَحْوَى" ما دَلَّ المُظْهَر على المُسْقَط، و"اللحن" ما يكون محالًا على غير المراد في الأصل والوضع، و"المفهوم" ما يكون المراد به المُظهَر والمُسْقَط. وقيل غير ذلك، والخلاف في الاصطلال، ولا مشاححة فيه. ¬

_ (¬1) في (ز، ظ): من. (¬2) مختصر المنتهى (2/ 439) مع (بيان المختصر). (¬3) مختصر المنتهى (2/ 440). (¬4) الحاوي الكبير (16/ 153).

وقولي: (وَالشَّافِعِيُّ قَدْ رَأَى "الْمُوَافَقَهْ") إلى آخِره - بيان لمدْرَك الاستدلال في مثل صورة الفحوى المذكورة على المسكوت بحكم المذكور هل هو بطريق المفهوم السابق بيانه؛ أو بطريق آخَر؟ وإذا قلنا بطريق آخَر، فما هي؟ وحاصل ما فيه ثلاثة أقوال، مع الأول تصير أربعة: الأول منها: بالمفهوم، وهو المشهور، وجرى عليه ابن الحاجب والبيضاوي تَبعًا لأصلهما؛ فلذلك ذكرناه في أصل التقسيم، ونقله سليم في "التقريب" عن المتكلمين بأَسْرهم الأشعرية والمعتزلة، وسمَّاه الحنفية "دلالة النَّص". الأول: أنَّه من باب القياس، قِيسَ المسكوت على المذكور قياسًا جَلِيًّا كما سماه الشَّافعي بذلك، فإنه يشترط في القياس الجِلي كَوْن الحكم في المقِيس أَوْلَى مِن المقيس عليه. وقد حكى الشَّافعي القولين في "الأُم" هل دلالة النص في ذلك لفظية؟ أو قياسية؟ وبالثاني صَدَّر كلامه في "الرسالة" وأوضحَه بالأمثلة، ثم قال: ومنع بعض أهل العلم أن يُسمى قياسًا؛ لأنه معلوم مِن النَّص. وهو ما نقله الرافعي أيضًا في "باب القضاء" عن الأكثرين، وكذا الهندي في "النهاية". وعبارة الصيرفي: ذهب طائفة جِلَّة إليه، سيدهم الشَّافعي. وقال الشيخ في "اللمع" (¬1): إنه الصحيح. وجَرَى عليه القفال الشاشي. الثالث: أن اللفظ الدال على الأَخَص نُقل عُرْفًا إلى الأَعَم، فنُقِل: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} إلى معنى "ولا تؤذهما". الرِّابِع: أنَّه أُطْلِق على الأَعَم إطلاقًا مجازيًّا، مِن باب إطلاق الأخص على الأعم، ولم ¬

_ (¬1) اللمع في أصول الفقه (ص 44).

يَبْلُغ في الاشتهار أن يصير حقيقة عُرفية، وإنَّما دل على إرادة الجاز فيه السِّيَاق والقرائن. وقال به كثير من المحققين، كالغزالي في موضع وإنْ كان في موضع آخَر أطلق أن النَّص دل عليه بالفحوى، كأنه جرى هنا على المشهور وحقق هناك. وكذا ابن القشيري، وهو ظاهر اختيار ابن الحاجب [حيث] (¬1) ضَعَّف طريقة القول بأنه قياس بأمور قد سبقه بها الآمدي وغيره ووَهَّاها المحققون، ليس ذلك موضع ذِكرها. نعم، زعم قوم - كابن السمعاني - أن الشَّافعي لم يُرد حقيقة القياس، بل شبهه. والحقُّ أن له جهتين: جهة هو بها قياسٌ حقيقةً، وجِهة هو بها مُستنِد إلى اللفظ، ولا امتناع أن يكون للشيء اعتباران، فلذلك أَجمع على القول به مُثْبِتُو القياس ومُنكروه، كُلٌّ نَظَر إلى جهة. وقد قال ابن سريج لأبي بكر بن داود: ما تقول فيمَن يعمل مثقال ذَرَّتين؟ فقال: الذرتان ذَرة وذَرة. فقال ابن سريج: فلو عمل مثقال ذَرة ويصف؟ قال إمام الحرمين: (فتبلَّد وظهر حزنه) (¬2). أي: لأن بإنكاره القياس لا يجري القياس في نِصف [ذَرة] (¬3)، لعدم شمول اللفظ لها. ومن هنا يُعْلَم وَجْه آخَر في اجتماع النَّقْلَين عن الغزالي. قولي: (لَا بِلَفْظٍ وَافَقَهْ) إلى آخِره - تعريض بالمذاهب الثلاثة المذكورة في المسألة على خِلاف المرجَّح الذي هو نَص الشَّافعي وإنْ كنتُ قد جزمتُ بالأول منها، لضرورة التقسيم ¬

_ (¬1) في (ز، ظ): حتَّى انه. (¬2) البرهان في أصول الفقه (2/ 575). (¬3) في (ز، ظ، ض): الا.

كما بينتُ ذلك؛ ولهذا [لم أتركه] (¬1)، بل عقبته بالتحقيق الذي هو النَّص، فاعْلَمه. تنبيهان الأول: قال صاحب "كشف الأسرار" من الحنفية ما نَصه: (ظن بعض الشَّافعية أن هذا قياس جَلِي، وأصْله التأفيف وفَرْعه الضرب وعِلَّته دَفْع الأذى، وليس كما ظن؛ لأنَّ الأصل في القياس لا يجوز أن يكون جُزءًا مِن الفرع بالإجماع) (¬2). قلتُ: هذا عجيب؛ فإنه إنما قِيس المسكوت على المنطوق، لا الأَعَم على بعضه، والعجب أنَّه إنما تَعرَّض للضرب فقط، لا لِمُطْلَق الإيذاء حتَّى يكون أَعَم من التأفيف. الثاني: أشار إمام الحرمين في "البرهان" في "كتاب القياس" إلى أن الخلاف لفظي، وليس كذلك، بل من فوائده ما سيأتي في باب النسخ أَنَّا إذا قُلنا: (دلالته لفظية)، جاز النَّسخ به، وإلا فلا. ومنها: أنَّه يُقَدَّم عليه الخبر إنْ كان قياسًا، وإلا فلا. قاله الغزالي في "المنخول". نعم، قال الأستاذ أَبو إسحاق: هو قياس ولكن لا يُقَدَّم عليه الخبر. قلتُ: ومَنْشَأُ ذلك كله ما سبق مِن أن له اعتبارًا آخَر في استناد النَّص. قيل: ولا شك في تقديمه على القياس؛ لأنه أقوى منه، لكن لو كان القياس عِلته منصوصة فالظاهر تقديم القياس عليه؛ لأنه بمنزلة النَّص. ¬

_ (¬1) في (ز، ظ): أركتمه. (¬2) كشف الأسرار (1/ 115).

ومنها: ما قاله صاحب "الكشف" (¬1) أيضًا: إنه هل يعمل عمل النَّص؟ أوْ لا حتَّى لا يجري فيما يمتنع فيه القياس من الحدود والكفارات؟ أي: بناءً على مذهبهم، وقد سبقت المسألة في "باب الأدلة" في الكلام على القياس. ومنها: ما سيأتي أيضًا في تخصيص العام بالفحوى، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيُّ الواجِد يُحِل عرضَه وعقوبته" (¬2). أي: وعقوبته هي الحبس، هل يختص ذلك بغير الولد؛ لقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}؟ فلا يُحْبَس الوالِدُ للولدِ كما نسبه إمام الحرمين لمعظم الأصحاب ونسبه الرافعي في "باب [التفليس] (¬3) " لتصحيح البغوي، وزاد النووي رحمه الله: إنه الأصح في "المهذب" وغيره، ومقابِلُه وَجْه صححه الغزالي، وجَرَى عليه صاحب "الحاوي الصغير". ومَنْشَأُ الخلاف صلاحية تخصيص الفحوى - أو القياس - للعموم. وسيأتي فيه مزيد بيان في باب التخصيص، والله أعلم. ص: 466 - وَإنْ يَكُنْ خَالَفَ، فَـ "الْمُخَالَفَهْ" ... فَخُذْ بِهَا بِمَا تَرَاني وَاصِفَهْ 467 - وَبِـ "دَلِيلٍ لِلْخِطَابِ" إنْ [تُضِفْ] (¬4) ... سَمِّ بِهِ ذَا النَّوْعَ فِيمَا قَدْ وُصِفْ الشرح: هذا هو الضرب الثاني من المفهوم وهو "مفهوم المخالفة"، وهو أن يكون المسكوت ¬

_ (¬1) كشف الأسرار (1/ 116). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) كذا في (ز). وفي (ظ): الفيلس. وفي سائر النُّسخ: الفلس. (¬4) في (ش، ن 2): يضف.

مخالفًا في الحكم للمذكور، ويجب الأخذ به والاحتجاج في أنواع يأتي ذِكرها ووصفها وما يُشترط في العمل بها، ويُسمى هذا النوع "دليل الخطاب"، وهو معنى قولي: (إنْ تُضِفْ)، أي: عند إضافة لفظ دليل إلى الخطاب، فلمَّا لم يَتأتَّ لي نَظْمه بصورته، عَبَّرت عنه بذلك. وإنَّما سُمي بذلك لأن دلالته من جنس دلالات الخطاب، أو لأن الخطاب دالٌّ عليه، أو لمخالفته منظوم اللفظ كما في "منخول" الغزالي عن ابن فورك، على أن بعضهم حاول فرقًا بينهما، والحقُّ خِلافه. ومنهم مَن يُسميه "لحن الخطاب"، وقد سبق أن "لحن الخطاب" عند الجمهور إنما هو اسم لأحد نَوْعَي الموافقة. واعْلَم أنَّ التخالف بين المذكور والمسكوت هل هو لكون حُكمه ضد حُكمه؟ أو نقيضه؟ زعم القرافي في قواعده [الثاني] (¬1)، قال: (ولهذا استدل بعض أصحابنا بقوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] على وجوب الصلاة على المؤمنين) (¬2). أي: فَضِد النهي عن الصلاة إيجابها. وضُعِّف بأنَّ المخالفة تَصْدُق بالأعَم وهو النقيض، فالاقتصار على الضد يستدعي دليلًا، وحينئذٍ فمفهومُ النهي عن الصلاة على المنافقين عدمُ النهي عن الصلاة على غيرهم، وهو أَعَم مِن الإيجاب والندب والإباحة، فلا دلالة فيه على خصوص الوجوب؛ إذْ لا يَلزم مِن وجودِ الأَعَم وجودُ الأَخَص، والله أعلم. ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ق، ظ) وهو الصواب كما في الفروق (2/ 71). لكن في (ص، ش، ت، ض): الأول. وهذا الاستدلال نقله القرافي ثم ضَعَّفه بما ذكره البرماوي. (¬2) الفروق (2/ 70).

ص: 468 - وَشَرْطُهُ أَنْ لَا يَكُونَ سُكِتَا ... عَنْهُ لِخَوْفٍ أَوْ لِجَهْلٍ ثَبَتَا 469 - وَلَا جَرَى لِلْغَالِبِ الْمَذْكُورُ ... أَوْ لِسُؤَالٍ طَابَقَ الْمَحْصُورُ 470 - أَوْ حَادِثٍ وَنَحْوِهِ مِنْ مُقْتَضِي ... تَخْصِيصِ ذِكْرٍ، غَيْرَهُ لَا يَقْتَضِي (¬1) الشرح: أي: يُشترط في العمل بمفهوم المخالفة (وهو إثبات خلاف المذكور للمسكوت) شروط، بعضها راجع للمسكوت وبعضها للمذكور. فمِن الأول ما بدأ به ابن الحاجب: أنْ لا تظهر فيه أولوية بالحكم مِن المذكور ولا مساواة. أي: فإنه حينئذٍ "مفهوم الموافقة" كما سبق، لا "مفهوم المخالفة". وإنَّما لم أذكر هذا شرطًا في النَّظم لأنه معلوم مِن لفظ المخالفة المشار إليها بقولي أولًا: (وَإنْ يَكُنْ خَالَفَ، كَـ "الْمُخَالَفَهْ")، فإن الأولوية والمساواة منتفيان [بذلك] (¬2). ومنه: أنْ لا يكون المسكوت تُرك ذِكر حُكمه لخوف على المخاطب أمرًا ما، فإنَّ الظاهر أن هذا فائدة التخصيص للمذكور بالذِّكر، أو لكون المتكلِّم يخاف من التصريح بحكم المسكوت أمرًا من ذلك، وهذا في المتكلِّم إذا كان غير الشارع. والأمران داخلان في قولي: (لِخَوْفٍ). ¬

_ (¬1) يعني: لا يقتضي فائدة غَيْرها، فالتخصيص بِالذِّكر - في الحالات المذكورة - لا يقتضي نَفْي الحكم عن غَيْر المذكور. (¬2) كذا في (ز، ظ). وفي سائر النسخ: لذلك.

نعم، كلام ابن الحاجب يقتضي أن هذا مِن شروط المذكور، لكن على معنى أن المذكور صُرح به لرفع الخوف، كقولك لمن يخاف من ترك الصلاة الموَسَّعة في أول الوقت: (تركُها أول الوقت جائز)، ليس مفهومه عدم الجواز في باقي الوقت، وهكذا إلى أن يتضيق كما سبق في المُوَسَّع. ومنه: أن لا يكون سُكت عنه لكون المخاطَب غير جاهل به، ويمكن جعْل هذا من شروط المذكور، على معنى أن يكون ذِكره لأجل جهالة المخاطَب إياه، بخلاف المسكوت فإنه يَعلمه. كما لو قيل: (صلاة السُّنة فروضها كذا وكذا)، فلا يُقال: مفهومه أن الفرض ليس كذلك؛ لأنَّ ذلك معلوم. وربما قُدِّر أن المتكلِّم جاهل بحكم المسكوت، وذلك في غير الشارع كما سبق نظيره في الخوف، فيكون التكلِّم - غير الشارع - إنما تَرك حُكم المسكوت جَهْلًا، فظهر للتخصيص بالذِّكر سبب آخَر. وربما يُدَّعى أن ذلك من شروط المذكور، على معنى أنَّه خُص بالذكر؛ [لِجَهْل] (¬1) حُكم غيرِه. ومن القسم الثاني: أنْ لا يكون ذُكر لكونه الغالب عادةً، فأما إنْ جَرَى على الغالب فإنه لا يُعتبر مفهومه، كقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23]، فتقييد تحريم الربيبة بكونها في حجره لكونه الغالب، فلا يدل على حِل الربيبة التي ليست في حجره. قال الماوردي: {فِي حُجُورِكُمْ} أي: في بيوتكم. واختلف الفقهاء في اعتباره، فقال داود: إنه شرط في تحريم الربيبة. ومذهب الشَّافعي وأبي حنيفة وجمهور الفقهاء أنَّها ¬

_ (¬1) في (ص): لجهله.

لكنه أجاب في "أماليه" بأنَّ المفهوم إنما قُلنا به لخلو القيد عن الفائدة لولاه، أما إذا كان الغالب وقوعه: فإذا نُطق باللفظ أوَّلًا، فُهم القيد لأجل غَلَبته، فذِكره بعد يكون تأكيدًا للحُكم المتصف بذلك القيد. فهذه فائدة أمكن اعتبار القيد فيها، فلا حاجة إلى المفهوم، بخلاف غير الغالب. واعْلَم أن ابن دقيق العيد في "شرح العنوان" بعد أنْ نصر مقالة الجمهور قال: (يشكل على الشَّافعي في قوله: "في سائمة الغنم الزكاة" (¬1)، فإنه قال فيه بالمفهوم وأسقط الزكاة في المعلوفة مع أن الغالب والعادة السوم، فمقتضَى هذه القاعدة أن لا يكون لهذا التخصيص مفهوم). انتهى وهذا السؤال ذكره القفال الشاشي وأجاب عنه بما حاصله أن اشتراط السوم لم يَقُل به الشَّافعي مِن جهة المفهوم، بل مِن جهة أن قاعدة الشرع أن لا زكاة فيما أُعِد للبذلة، وإنَّما تجب في الأموال النامية، فعُلم مِن ذلك اعتبار السوم. نعم، قصد القفال بذلك إبطال المفهوم بالكُلية، ولكنه مردود، وسيأتي مِن نَص الشَّافعي ما يدل على أنَّه إنما أوجب في السائمة دُون المعلوفة تَعلُّقًا بما في الحديث مِن القيد. ومنه: أن لا يكون المذكور خارجًا لجواب سؤال عنه، مِثل أن يُسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هل في الغنم السائمة زكاة؟ "، فلا يَلزم مِن جواب السؤال عن إحدى الصفتين أن يكون الحكم على الضد في الأخرى؛ لظهور فائدة في الذِّكر غير الحكم بالضد. ومنه أيضًا: أن لا يكون خرج لبيان حكم حادثة اقتضت بيان الحكم في المذكور، كما لو قيل بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لزيد غنم سائمة"، فقال: "في السائمة الزكاة"، إذِ القصد الحكم على تلك الحادثة، لا النفي عمَّا عداه. ¬

_ (¬1) سبق الكلام عليه.

ومن هذا قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] فإنه وَرَد على ما كانوا يتعاطونه في الآجال أنَّه إذا حَلَّ الدَّين، يقول للمديون: (إما أن تعطي وإما أن تزيد في الدَّين)؛ فيتضاعف بذلك مضاعفة كثيرة. وهنا سؤال: وهو أنَّه لمَ جعلوا هنا السؤال والحادثة قرينة صارفة عن القول بضد الحكم في المسكوت ولم يجعلوَا ذلك في ورود العام على سؤال أو حادثة صارفًا له عن عمومه على الأرجح؟ بل لم يُجْروا هنا ما أَجْروه هناك من الخلاف في أن العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب وإنْ كان ابن تيمية في "المسودة" حكى عن القاضي أبي يعلى وأصحابهم فيه احتمالين. وقد يُجاب بأنَّ المفهوم لَمَّا ضَعُف عن المنطوق في الدلالة، اندفع بذلك ونَحْوِه، وقوة اللفظ في العام تخالف ذلك، حتَّى إنَّ الحنفية ادَّعوا أن دلالة العام على كل فردٍ من أفراده قطعية كما سيأتي في موضعه؛ فلَم يندفع بذلك (على الطريقة الراجحة). قولي: (وَنَحْوِهِ مِنْ مُقْتَضِي) إلى آخِره - إشارة إلى أن احتمال وجود فائدة للتخصيص بالذكر يُحال الأمر عليها حتَّى لا يُعمل بالمفهوم - ليس منحصرًا فيما ذُكِر، بل كل ما وُجِد له فائدة يمكن الإحالة عليها يمتنع العمل به؛ ولهذا ذكر البيضاوي عبارة شاملة للصُّوَر كلها، وهي: أنْ لا تظهر لتخصيص المنطوق بالذِّكْر فائدة غَيْر نَفْي الحكم عن المسكوت (¬1). فمِن الفوائد أيضًا: أنْ لا يكون عَهْدٌ، فإنْ كان فهو بمنزلة الاسم اللقب الذي يُحتاج إليه في التعريف، فلا يدل على نَفْي الحكم عمَّا عداه. ومنها: أن لا يُقْصَد بذكره زيادة الامتنان على المسكوت، كقوله تعالى: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14]، فلا يدل على منع القديد. ¬

_ (¬1) منهاج الوصول (ص 162) بتحقيقي.

ومنها: أن لا يخرج مخرج التفخيم والتأكيد، كحديث: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخِر أن تحد على ميت" (¬1) الحديث، فَقَيْد "الإيمان" لِلتفخيم في الأمر وأن هذا لا يليق بمن كان مؤمنًا. ومما يذكر مِن شروط العمل بالمفهوم أن لا يعود على الأصل - الذي هو المنطوق فيه - بالإبطال، كحديث: "لا تَبع ما ليس عندك" (¬2). لا يُقال: مفهومه صحة بيع الغائب إذا كان عنده " إذْ لو صَحَّ فيه لَصَحَّ في المذكور وهو الغائب الذي ليس عنده، لأن المعنى في الأمرين واحد، ولم يُفَرق أحدٌ بينهما. وقد ذُكِرتْ لشروط أخرى غير مما سبق وصُوَر من الفائدة يحتمل رجوعها إلى ما سبق، وفَهْمُها منه، ولا حاجة إلى التطويل بها بَعْد تَقَرُّر الضابط بما سبق. قولي: (لَا يَقْتَضِي) أي: لا يقتضي العمل بالمفهوم، أي: إن هذه الأمور تقتضي تخصيص المذكور بالذِّكْر، لا نَفْي الحكم عن غيره. ولكن وراء هذا بحث آخَر، وهو أن المقترِن مِن المفاهيم بما يمنع القول به لوجود فائدة تقتضي التخصيص في المذكور بالذكر كما سبق شرحه: هل يدل اقترانه بذلك على إلغائه وجعله كالعدم؛ فيصير المعروض [لقيد] (¬3) المفاهيم - إذا كان فيه لفظ عموم - شاملًا للمذكور والمسكوت حتَّى لا يجوز قياس المسكوت بالمذكور بِعِلَّة جامعة، لأنه منصوص، فلا حاجة لإثباته بالقياس؟ أوْ لا يدل، بل غايته الحكم على المذكور وأما غير المذكور فمسكوت عن حُكمه؛ فيجوز ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 1221)، صحيح مسلم (رقم: 1491). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) في (ز) كأنها: بقيد. وفي سائر النسخ: لقيد.

حينئذٍ قياسه عليه؟ مثاله في الصفة مثلًا: لو قيل: هل في الغنم السائمة زكاة؟ فيقول المسئول: في الغنم السائمة زكاة. فغيْر السائمة مسكوت عن حُكمه، فيجوز قياسُه على السائمة، بخلاف ما لو أَلْغَى لفظ "السائمة" وصار التقدير: "في الغنم زكاة"، فلا حاجة حينئذٍ لقياس المعلوفة بالسائمة؛ لأن لفظ "الغنم" شامل لهما. في ذلك خلاف، والمختار الثاني، حتَّى إنَّ بعضهم حَكى فيه الإجماع، وهو ظاهر ما أَوْرَدَه ابن الحاجب في أثناء مسألة "مفهوم الصفة" عند ذِكر اعتراضات مِن جهة القائل بِنَفْي مفهوم الصفة، ومن جُملتها: لا نُسَلِّم أن فائدة التقييد بالصفة نَفْيُ ما عداها، بل تقوية حُكم المذكور بحيث لا يجوز إخراجه مِن العموم المعروض. أيْ: كما يمتنع إخراج صورة السبب من العموم الوارد عليها. فأجاب ابن الحاجب بأنَّ ذلك فَرعُ العموم، ولا قائل به، أمَّا القائل بالمفهوم فظاهر، وأما النافي له فلأنه يقول: إنه مسكوت عن حُكمه. لكن ابن الحاجب لم يُصرح به في مسألتنا بخصوصها، بل فيما لو لم يُقَلْ بالمفهوم مُطلقًا. فإذا لم يُقَلْ به لِمانع، يكون كذلك؛ إذْ لا فَرق. فلا ينبغي أنْ يُنقل عن ابن الحاجب ادِّعاء الإجماع في عَيْن المسألة، والله أعلم.

ص: 471 - أَقْسَامُهُ: الْوَصْفُ، وَمنْهُ: عِلَّةُ ... ظَرْفٌ وَحَالٌ، عَدَدٌ قَدْ أثبَتُوا الشرح: إذا عُلم مفهوم المخالفة، فَلَهُ أقسام ذكرناها واحدًا واحدًا: أحدها: مفهوم الصفة: وقَدَّمْتُه، لأنه رأس المفاهيم. قال إمام الحرمين: (ولو عبَّر مُعبِّر عن جميع المفاهيم بالصفة لَكان ذلك منقدحًا؛ لأن المعدود والمحدود موصوفان بِعَددهما وحَدِّهما) (¬1). ثم قال بعد ذلك: (وكذا سائر المفاهيم). انتهى ومراده أن معنى الوصفية يُدَّعَى رجوع الكل إليه باعتبارٍ وإن كان المقصود هنا نوعًا مِن ذلك خاصًّا بالاعتبار الآتي بيانه. فبعضهم يُعبر عنه بتعليق الحكم بإحدى صِفَتَي الذات أو أوصافها، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "في سائمة الغنم زكاة" (¬2)، وهو حديث معناه ثابت في "الصحيح"، كحديث كتاب الصديق الذي أرسله إلى أَنس حين وجَّهه إلى البحرين حكاية عن فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: "وفي الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين" (¬3) الحديث، وقال فيه: "فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة ¬

_ (¬1) البرهإن (1/ 301). (¬2) سبق الكلام عليه. (¬3) صحيح البخاري (رقم: 1386) بلفظ: (وفي صَدَقَةِ الْغَنَمِ في سَائِمَتِهَا إذا كانت أَرْبَعِينَ).

عن أربعين شاة واحدة، فليس فيها صدقة" (¬1). فإنَّ الغنم ذات، والسوم والعَلف وَصْفان لها، ومثله تعليق [النفقةِ] (¬2) البينونة على الحمل، وشرط ثمرة النخل للبائع بما إذا كانت مؤبَّرة. فهو يدل على أنْ لا زكاة في المعلوفة، وأنْ لا نفقة [للحائل] (¬3)، وأنْ لا ثمرة لبائع النخل غير المؤبَّرة. وربما عُبِّر عن ذلك بتقييد لفظ مشترك المعنى بلفظ آخَر مختص ليس بشرطٍ ولا استثناء ولا غاية. وبالجملة فليس المراد بالصفة النعت فقط كما هو اصطلاح النحاة؛ ولذلك يُمَثِّلون ب "مَطْل الغَنِي ظُلْم" (¬4) مع أن التقييد به إنما هو بالإضافة. نعم، قد يُدَّعَى بأنَّ هذا نَعت محذوف منعوته، إذِ التقدير: مطل الشخص الغني. وإنَّما إدخال الإضافة في مفهوم الصفة في نحو: "في سائمة الغنم زكاة" فإن التقييد فيه بالإضافة كما مَثَّل به البيضاوي، لا بلفظ "الغنم"؛ لئلَّا يكون ذلك من مفهوم اللقب؛ لأنه اسم جامد، فلا فرق حينئذٍ في قوله: "في الغنم السائمة زكاة" و"في سائمة الغنم زكاة" في أن كُلًّا منهما مِن مفهوم الصفة، إلَّا أن ظاهر كلام البيضاوي استواؤهما في المفهوم. ولكن الظاهر التغاير؛ فالقيد في الأول "الغنم" بوصف السوم، وفي الثاني "السائمة" بوصف كونها من الغنم. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 1386). (¬2) في (ز، ق): نفقة. (¬3) كذا في (ت، ض). وفي سائر النسخ: الحائل. (¬4) صحيح البخاري (رقم: 2166)، صحيح مسلم (رقم: 1564).

فمفهوم الأول عدم وجوب الزكاة في معلوفة الغنم، ومفهوم الثاني عدم الوجوب في سائمة غيْر الغنم مِن الإبل والبقر. قال ابن السبكي في "منع الموانع": (إنَّ هذا هو التحقيق، أما عدم وجوب الزكاة في الغنم المعلوفة بالنسبة للتركيب الثاني فمِن باب مفهوم اللقب، كما أن عدم وجوب الزكاة في الإبل والبقر بالنسبة إلى قولنا: "في الغنم السائمة الزكاة" مِن مفهوم اللقب أيضًا؛ لأن المقيد في هذا - وهو "الغنم" - لم يشمل غير الغنم، فلم يخرج بالصفة التي لو أُسقطت لم يَخْتَل الكلام. والمقيد في "سائمة الغنم" - وهو "السائمة" - لم يشمل المعلوفة حتَّى يخرج بقيد الإضافة للغنم التي لو أُسقطت لاختل الكلام؛ ولذلك لم يَقُل أَبو عُبَيد في "مَطْل الغَنِي ظُلم" إلَّا أن مفهومه أن مَطْل غير الغَنِي ليس بظلم، لا أن غير المَطْل ليس بظلم، ولا أن الغَنِي الذي ليس بمماطل ليس بظالم. وقد عُلم بما تَقرر أن لكل من التركيبين منطوقًا ومفهوم صفة ومفهوم لقب، فمنطوقهما واحد، وهو وجوب الزكاة في السائمة مِن الغنم، ومفهوم الصفة فيهما مختلف، وكذا مفهوم اللقب أيضًا فيهما مختلف كما سبق تقريره) (¬1). انتهى ملخصًا. قلتُ: قد تَقرر أنَّه ليس مرادهم بالصفة النعت الذي هو أحد التوابع في النحو، بل الأَعَم منه ومما يكون صفة في الأصل، فمعروض (¬2) الصفة في "سائمة الغنم" هو لفظ "الغنم" وإنْ تقدمت صفته؛ لكونها أُضِيفت له. ولذلك وقع الخلاف - في إضافة الصفة للموصوف - بين البصريين والكوفيين، فالكوفيون لَمَّا جَوَّزوه لم يحتاجوا إلى تأويل، والبصريون أَوَّلُوه، فلم يخرج - على الرأيين - ¬

_ (¬1) منع الموانع (ص 514 - 517). (¬2) جاء في هامش (ص): معروض الصفة هو الموصوف، وهو الغنم.

بذلك عن كونه صفةً إلَّا صناعة فقط، فيتحد على هذا مفهوم التركيبين معًا كما أبداه ابن السبكي احتمالًا لأبيه وإنْ رَجَّح هو خِلافَهُ وزعم أنَّه التحقيق كما سبق. فَعَلَى هذا: مفهوم"في سائمة الغنم الزكاة" أنْ لا زكاة في معلوفة الغنم - من مفهوم الصفة، لا اللقب؛ لأن "اللقب" - كما سيأتي - أنْ يُرتب فيه الحكم على محكوم عليه جامد، وهذا مشتق، ولكنه لَمَّا كان الوصف مضافًا، لُوحِظَت الإضافة فيه تتميمًا، فيخرج منه سائمة نحو البقر، لا بلفظ "الغنم"، بل بإضافة "السائمة"، فيُدَّعَى خروج الأمرين معشًا، وأنهما مِن مفهوم الصفة. وقد تَعرَّض أَبو عُبيد في "مَطْل الغَني ظُلم" للثاني (لِخَفَائه) دُون الأول (لِوضُوحه)، فاعْلَمه. وسيأتي في هذا التركيب مباحث أُخرى في التنبيهات الآتية. وبالجملة ففي كون مفهوم الصفة حُجةً معمولًا بها مذاهب: أحدها: نعم، وبه قال الشَّافعي ومالك وأحمد وأَبو عُبيدة معمر بن المثنى فيما حكاه القاضي في "التقريب" وإمام الحرمين وغيرهما، ونقله الآمدي وابن الحاجب وابن السمعاني عن أبي عُبيد والفقهاء والمتكلمين، ونقله ابن الحاجب عن إمام الحرمين، وحكاه سليم الرازي عن اختيار المزني والإصْطَخْري وأبي إسحاق المروزي وابن خيران وأبي ثور وداود الظاهري، ومنهم مَن يَنقل عنه أنَّه إنما يقول بمفهوم الموافقة، لا المخالفة، فالنقل عنه مضطرب، وهو منصوص الشَّافعي في كتاب "أحكام القرآن"، وبه أيضًا قال الصيرفي ونقله عن نَص الشَّافعي، إذْ قال: (ومعقول في لسان العرب أن الشيء إذا كان له وصفان فوُصف بأحدهما، أن ما لم يكن بتلك الصفة بخلافه). انتهى وكذا حكاه ابن القطان عن نَصه في "كتاب الزكاة"، وحكاه القاضي عن نَص الأشعري في إثبات خبر الواحد، فقال: قال الله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:

6] مفهوم ذلك يدل على أن غير الفاسق لا نَتبَيَّنه، وتَمسك أيضًا في إثبات الرؤية بقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15] فإنَّ مفهومه إثبات الرؤية لأهل الجنان. وجرى على القول به أكثر أصحابه. وفي "صحيح البخاري" في "كتاب الجنائز" و"مسلم" في "كتاب الإيمان" عن ابن مسعود قال: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن مات يُشرك بالله شيئًا، دخل النار". وقلتُ: مَن مات لا يشرك بالله شيئًا، دخل الجنَّةَ) (¬1). قيل: وهذا مصير منه إلى القول بالمفهوم؛ لأن الجملة حالية، ومفهوم الحال من باب الصفة كما سيأتي. قلتُ: وقد سبق في "باب القياس" احتمال أنَّه من باب قياس العكس، فلا امتناع أنَّه يدل بالطريقين. وهو يُشْبه قول الشَّافعي في مفهوم الموافقة: إنه مِن باب القياس. لكن ذاك قياس مستوٍ، وهذا قياس عكس، وسبق أنَّه جاء مرفوعًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يحتج لمفهوم ولا قياس. المذهب الثاني: نَفْي حُجيته، وإليه ذهب أَبو حنيفة وأصحابه، ووافقهم من أصحابنا ابن سريج والقفال وأَبو بكر الفارسي وطوائف مِن المالكية، ونقله الإمام في "المعالم" عن مالك، لكن القاضي عبد الوهاب في "الملخص" نقل عن أصحاب مالك أنَّه حجة وأنه ظاهر قول مالك. انتهى واختاره الغزالي والآمدي وصاحب"المحصول" على خِلاف ما اختاره في "المعالم". الثالث قاله الماوردي: التفصيل بين أن يقع ذلك جرابًا لسؤال فلا يكون حجة، أو ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (1181)، صحيح مسلم (92).

ابتداءً فيكون حُجة؛ لأنه لا بُدَّ لتخصيصه بالذكر من موجِب، فلَمَّا خرج عن الجواب، ثبت وروده للبيان. قال: (وهذا هو الظاهر مِن مذهب الشَّافعي وقول جمهور أصحابنا) (¬1). قيل: وينبغي أن لا يُعد هذا مذهبًا ثالثًا؛ لأنَّ مِن شرط القول بالمفهوم في الأصل أن لا يظهر للتخصيص بالذِّكْر فائدة غَيْر نَفْي الحكم. الرِّبَا: قول إمام الحرمين في "البرهان" (¬2) بالتفصيل بين: - أن يكون الوصف مناسبًا، فيكون حُجة، نحو: "في الغنم السائمة الزكاة"، فإنَّ خفة المؤونة مناسبة للمواساة بالزكاة. - وبين ما لا مناسبة فيه، فلا، نحو: "الإنسان الأبيض ذو إرادة". قال ابن السمعاني: (وهو خلاف مذهب الشَّافعي، فإن العِلة ليس مِن شرطها الانعكاس) (¬3). لكن الإمام قد أورد هذا على نفسه، وأجاب بأن قضية اللسان هي الدالة عند إحالة الوصف على ما عداه بخلافه. وقال: إن هذا وضع اللسان ومقتضاه، بخلاف العِلل المستنبطة. الخامس: قول البصري، وهو أَبو عبد الله كما حكاه عنه صاحب "المعتمد" أنَّه حُجة في ثلاث صور: إحداها: أن يكون الخطاب وَرَد للبيان، كالسائمة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "في الغنم السائمة زكاة"، فإنه ورد بيانًا لآية الزكاة. ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (16/ 68). (¬2) البرهان في أصول الفقه (1/ 309 - 310). (¬3) قواطع الأدلة في أصول الفقه (2/ 163).

الثانية: أن يكون ورد للتعليم، أي: الابتداء بما لم يَسْبق حُكمه لا مُجْمَلًا ولا مُبَيَّنًا، كحديث: "إذا اختلف المتبايعان، تحالفا" (¬1)، فإنَّ في رواية: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة، تحالفا" (¬2) مفهومه أن السلعة إذا لم تكن قائمة، لا تحالف، وهو من مفهوم الحال الآتي ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن الملقن في (البدر المنير، 6/ 597 - 605): (هَذِه رِوَايَة غَرِيبَة عَلَى هَذَا النمط لم أرها كَذَلِك فِي شَيْء من كُتب الحدِيث ... ، نعم "التراد" بِدُونِ التَّحْلِيف ورد فِي هَذَا الحدِيث من طُرق). ثم ذكر هذه الطرق، وقال: (فَهَذَا مَا حَضَرنَا من طُرق هَذَا الحدِيث وَاخْتِلَاف أَلْفَاظه ... ، وَبِالجمْلَةِ وَكُل طرق هَذَا الحدِيث لَا تَخْلُو من عِلّة). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في (التلخيص الحبير، 3/ 13): (أَمَّا رِوَايَةُ التَّحَالُفِ فَاعْتَرَفَ الرَّافِعِيُّ فِي "التَّذْنِيبِ" أنَّهُ لَا ذِكْرَي فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الحْدِيثِ، وَإِنَّمَا تُوجَدُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ). وقال الألباني في (إرواء الغليل: 1322): (قد ذكر المؤلف رحمه الله في ألفاظ الحديث: "تحالفا" ولم أره فى شيء من هذه الطرق، والظاهر أنَّه مما لا أصل له). قلتُ: في سنن الدَّارَقُطني (3/ 18)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 10591) واللفظ للبيهقي: (إذَا اخْتَلَفَ الْمُتبَايِعَانِ وَلَيْسَ بَيْنَهُما شَاهِد، اسْتُحْلِفَ الْبَائِعُ). وقال الإمام البيهقي: (هذا الحديث أيضًا مُرْسَل؛ أَبو عبيدة لَمْ يُدْرِك أباه). (¬2) المعجم الكبير للطبراني (رقم: 10365) بلفظ: (إذا اخْتَلَفَ المتبايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بعينها فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ أو يَتَرَادَّانِ). ونحوه في المعجم الأوسط (4/ 105، رقم: 3720). قال الحافظ ابن الملقن في (البدر المنير، 6/ 605): (كل طُرُق هذا الحديث لا تخلو من علة). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في (التلخيص الحبير، 3/ 32) بعد أنْ ذكر رواية "المعجم الأوسط": (انْفَرَدَ بِهَذ الزِّيَادَةِ - وَهِيَ قَوْلُهُ: "وَالسِّلْعَةُ قَائِمَة" - ابْنُ أَبِي لَيْلَى. . وَهُوَ ضَعِيفٌ سيء الحفْظِ، وَأُمَّا قَوْلُهُ فِيهِ: "تحَالَفَا" فَلَمْ يَقَعْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا عِنْدَهُمْ: "وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ أَوْ يَتَرَادَّانِ الْبَيعَ"). وقال الألباني في (إرواء الغليل: 1322) بعد أن ذكر إسناد رواية "المعجم الكبير": (رجاله ثقات رجال الشيخين غير النرسى والعطار، فلم أعرفهما).

بيانها من أقسام الصفة. كذا أورده وقرره أَبو الحسين [البصري] (¬1) في "شرح المعتمد". والحديث بهذه الزِّيادة رواه الدَّارَقُطني بإسناد ضعيف. الثالثة: أن يكون ما عدا الصفة داخلًا تحتها، كالحكم بالشاهدين؛ لأن المفهوم - وهو الشاهد الواحد - داخل تحت لفظ "الشاهدين". ومثله: حديث القلتين، فإن القُلة الواحدة داخلة تحت القُلتين، أي: فلو لم يكن الحكم في الواحد مخالفًا، لَمَا كان لِذِكْر الاثنين فائدة. ويخرج مما سيأتي في أقسام الصفة مذاهب أخرى، ويجري بعض هذه المذاهب أيضًا في غير مفهوم الصفة كما سنشير إليه في كل واحد. تنبيهات أحدها: قد سبق أن المراد بالصفة أَعم مِن النعت النحوي وغيره، لكن إذا كان نعتًا فإِنما يكون له مفهوم حيث سِيق للتخصيص، ويكثر ذلك في النكرات، نحو: "رجل صالح"، أو للتوضيح وهو في المعارف، وربما تَردد بين الأمرين واحتملهما، كقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75]، فيحتمل: - أن يكون للتخصيص، فيكون حجة للمالكية (وهو القديم عندنا) أن العبد يملّك بتمليك السيد. - وأن يكون للتوضيح، أي: شأنه أن لا يَقدر على شيء. فيكون حجة للجديد من مذهبنا أنَّه لا يملك. ¬

_ (¬1) من (ز).

وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا استعار من صفوان بن أمية (إذ قال له صفوان: "أغَصْبًا يا محمد؟ " فقال: "بل عارية مضمونة" (¬1) (يحتمل الإيضاح، أي: إن العارية شأنها ذلك، فهو حُكم العارية مطلقًا، ويحتمل التخصيص، أيْ: إنه شرط فيها الضمان، فلا تكون العارية مضمونة حتَّى يُشرط فيها ذلك، فيكون حجة للحنفية أنَّها لا تُضمن إلَّا بالشرط. ومثله في الفروع الفقهية: لو قال: (إذا [تظاهرتُ] (¬2) مِن فلانة الأجنبية، فأنتِ عَلَيَّ كظهر أمي)، ثم تزوجها فظاهر منها، هل يصير مُظاهرًا مِن الأُولى؟ وجهان. أما إذا سِيقَ النعت للتوكيد (نحو: {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 13]) أو للمدح (كصفات الله تعالى، نحو: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، أو لمجرد الذم (نحو: الشيطان الرجيم) أو للترحم والتحنن (نحو: انظر لعبدك المسكين)، فهذه كُلها لا مفهوم لها. ثانيها: ما سبق مِن مُثُل "مفهوم الصفة" إذا كان هناك اسم تجري عليه الصفة متقدمًا أو متأخرًا على ما قررناه. أما لو ذكر الاسم المشتق بلفظ نحو: "في السائمة الزكاة" فهل هو كالصفة؛ لأن غايته أن الموصوف فيها محذوف؟ أوْ لا مفهوم له؛ لأن "الصفة" إنما جُعِل لها مفهوم لأنه لا فائدة لها إلَّا نَفْي الحكم، والكلام بدونها لا يختل، وأما "المشتق" فكاللقب يختل الكلام بدونه؟ اختلف أصحابنا في ذلك كما حكاه الشيخ أَبو حامد وابن السمعاني وغيرهما. ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (رقم: 3562)، السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 11257)، المسند (رقم: 15337). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 3562). (¬2) في (ز): ظاهرت.

قال ابن السمعاني: (جمهور أصحاب الشافعي على الأول) (¬1). و [إنْ] (¬2) وقع في "جمع الجوامع" ترجيح خلافه. واعْلَم أنَّ هذا غير مسألة "التعليق بالاسم المشتق يدل على تعليله بما منه الاشتقاق"، والفرق أن ذلك نَظرٌ في العِلة، ولا يلزمها الانعكاس، وهذا نظرٌ في دلالة هذا اللفظ. وقد سبق نحوه مِن كلام إمام الحرمين وإنْ تعقبه بعض شُراح كلامه بشيء ضعيف. نعم، الصفة المقيدة بذكر موصوفها أقوى دلالة في المفهوم مِن الصفة المطلقة؛ لأن المقيدة كالنص؛ ولهذا جعل أبو الحسن السُّهيلي -مِن أصحابنا- في كتاب "أدب الجدل" أن محل الخلاف في الاقتصار على الصفة دون الاسم، فإنْ ذُكِرَا جميعًا فظاهره أنه حُجة قطعًا. وقال الهندي: الخلاف في هذا أَبعَد؛ لأن في صورة التخصيص بالصفة من غير ذِكر العام يمكن أن يكون الباعث على التخصيص عدم [خُطُورِه] (¬3) بالبال (¬4). وهذا الاحتمال وإنْ أَمْكَن في الصفة المقيدة بذكر موصوفها إلا أنه بعيد جدًّا. وأَبْعَد مِن ذلك أيضًا إجراء الخلاف في صفة ليس مِن شأنها أنْ تطرأ وتزول، بل هي ملازمة للجنس، كالطعم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبيعوا الطعام بالطعام" (¬5)، فهو قريب من ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة في أصول الفقه (1/ 238). (¬2) من (ز، ق، ص)، وليست في (ض). (¬3) في (ش): حضوره. (¬4) عبارة الهندي في (نهاية الوصول، 5/ 2569): (في صورة التخصيص بالصفة مِن غير ذِكْر العام يمكن أن يكون الباعث التخصيص هو خطرانه بالبال وذهول المتكلِّم عما ليس له تلك الصفة). (¬5) صحيح مسلم (رقم: 1592) وغيره بلفظ: (الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ).

التخصيص بالاسم. و [لهذا] (¬1) جزم العبدري وابن [الحاج] (¬2) باشتراط هذا الشرط، بل زادا اشتراط أن يكون نقيض الصفة يخطر بالبال. قلتُ: وفيه نظر؛ لأن المعنى: لا تبيعوا الشيء الموصوف بأنه طعام، أي: مطعوم. فهو لا ينفك عن موصوف محذوف تطرأ فيه الصفة وتزول. ثالثها: حيث قُلنا بأنَّ المفهوم حجة على معنى نَفْي الحكم المذكور في المنطوق عن المسكوت سواء مفهوم الصفة وغيرها فهو من حيث دلالة اللغة ووضع اللسان كما قاله أكثر أصحابنا كما نقله ابن السمعاني، وهو الصحيح، وهو ظاهر إطلاقِي في النَّظم؛ إذِ الكلام فيما يستفاد من اللغة. وقال بعضهم: إنما هو مِن قِبل الشرع بتصرف منه زائد على وضع اللغة. وحكى الروياني في "البحر" وجهين في ذلك. وقال الإمام في "المعالم": (إن ذلك من قبيل العُرف العام؛ لأنَّ أهل العرف يقصدون مثل ذلك) (¬3). أما في "المحصول" فوافق الحنفية في المنع من الأصل. وقيل: من حيث العقل. ويوافقه ما سيأتي في باب العموم أن عموم المفهوم عند بعضهم بالعقل. ¬

_ (¬1) في (ص): كذا. وفي (ش): لذا. (¬2) في (ز): الحاجب. (¬3) المعالم في أصول الفقه (ص 63)، الناشر: دار المعرفة.

رابعها: اختلفوا أيضًا: هل دل على النفي عمَّا عداه مطلقًا سواء أكان من جنس المنعوت فيه أو لم يكن؟ أو تختص دلالته بما إذا كان من جنسه؟ ففي نحو: "في الغنم السائمة الزكاة" هل الزكاة منفية عن المعلوفة مطلقًا سواء أكانت من الإبل أو البقر أو الغنم؟ أو معلوفة الغنم فقط؟ على قولين حكاهما الإمام الرازي وغيره، وحكاه الشيخ أبو حامد خلافًا لأصحابنا، وصحح الثاني. ووَجْهُه أن المفهوم نقيض المنطوق، والمنطوق سائمة الغنم دُون غيرها. قال ابن السبكي: (ولعل هذا الخلاف مخصوص بصورة "في الغنم السائمة زكاة"، أما صورة "سائمة الغنم" فقد قُلنا: إنَّ المنفي فيها سائمة غير الغنم، فالمنفي "سائمة"، لا "غير سائمة"، والمنفي هناك "غير سائمة". لكن "غير سائمة" على العموم؟ أو على الخصوص؟ فيه القولان) (¬1). قلت: وقد سبق ما فيه من النظر. خامسها: قال ابن السمعاني: إذا اقترن بالحكم المعلَّق بالصفة حُكم مطلق، فقد اختلف قول الشافعي في دليل المقيَّد بالصفة (أي: دليل الخطاب فيه، وهو مفهوم المخالفة) هل يصير مستعملًا في المطلق؟ على قولين. مثاله قوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] فكان مقيَّدًا بصفة اقتضت أن لا عدة ¬

_ (¬1) منع الموانع عن جمع الجوامع (ص 520).

على غير المدخول بها، ودليله وجوب العدة على المدخول بها. ثم قال تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49]، فهل تكون المتعة معطوفة على العدة في اشتراط الدخول فيها؟ على قولين: أحدهما: تصير بالعطف مشروطة. والثاني: لا، ويجري قوله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ} على إطلاقه. سادسها: ذكر بعضهم أنَّ أبا حنيفة إنما يخالف في مفهوم الصفة إذا ورد دليل العموم ثم ورد إخراج فَرْد منه بوصفٍ، كمجيء دليل بوجوب زكاة الغنم مطلقًا، ثم يقول: "في الغنم السائمة زكاة"، فلا ينفي الزكاة عن غير السائمة؛ استصحابًا لدليل العموم السابق. أما إذا لم يسبق عموم بل جاء ابتداءً "في السائمة الغنم الزكاة"، فأبو حنيفة يوافق على عدم الزكاة في المعلوفة. قولي: (وَمنْهُ: عِلَّةُ) إلى آخِره -إشارة إلى أن مفهوم الصفة يدخل تحته أقسام أربعة وإنْ كان كثير من الأصوليين يغاير بينها وبين الوصف. لكن إمام الحرمين جعلها من الوصف؛ لرجوعها إليه، فقال: (لو عُبِّر عن جميع هذه الأنواع بالصفة لَكان ذلك منقدحًا؛ فإنَّ المحدود والمعدود موصوفان بعددهما وحدهما، والمخصوص بالكون في زمان أو مكان موصوف بالاستقرار فيهما، فقول القائل: "زيد في الدار" أي: مستقر فيها، وكذا القتال يوم الجمعة، أي: كائن فيه) (¬1). وكذلك صرح القاضي أبو الطيب في العَدد بأنه قِسم مِن الصفة، وأشار إليه ابن ¬

_ (¬1) البرهان (1/ 301).

الحاجب أيضًا. أحدها: مفهوم العلة: وهو تعليق الحكم بِعِلَّة، كـ "حرمت الخمر؛ لشدتها، والسُّكَّر؛ لحلاوته"، فيدل على أنَّ غير الشديد وغير الحلو لا يحرم، وإنما كان هذا أَخَص مِن مفهوم الصفة؛ لأن الوصف قد يكون تتميمًا للعلة، كالسوم، فإنه تتميم للمعنى الذي هو [عِلة] (¬1)، فالخلاف فيه هو الخلاف في مفهوم الصفة كما قاله القاضي والغزالي حتى لا يعمل بمفهوم ذلك على قاعدتهما. أما نَفْي الحكم عند إضافة الحكم إلى وصف، نحو: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38]، و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2]، فليس مِن مفهوم العِلة كما قال الغزالي، بل هو ملحق بدلالة الإشارة، وجعله ابن الحاجب مِن أقسام المنطوق غير الصريح، وسيأتي في مباحث القياس إيضاحه. الثاني: مفهوم الظرف: أما الزمان فنحو: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9]. وهو حجة عند الشافعي كما نقله إمام الحرمين والغزالي في " المنخول ". فلو قال لوكيله: (بعْ يوم الخميس)، فليس له أن يبيع في غيره؛ لأن الراغبين قد يكثرون ذلك اليوم كما لو أمره ببيع الفراء في الشتاء. ولو قال: (زَوِّج يوم الخميس)، لا يُزوج قبله، أو: (طَلِّق زوجتي يوم الخميس)، فالمنقول أنه إذا طَلَّق قَبْل ذلك الوقت، لا يقع، وبَعْده يقع. واستشكله النووي، ولعل جوابه أن ما بعد الوقت المأذون فيه مُستصحَبٌ، بخلاف ما قَبْله؛ لِعَد الإذْن أصلًا. ¬

_ (¬1) كذا في (ز، ظ، ض، ش)، لكن في (ص، ق): علته.

ولو ادَّعى عليه بعشرة فقال: (لا يلزمني اليوم)، لا يكون إقرارًا؛ لأنَّ الإقرار لا يثبت بالمفهوم. نقله الرافعي عن القاضي [حسين] (¬1). وأما المكان فنحو: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]، وهو حُجة كما نقله الإمام والغزالي في "المنخول"، ولو قال: (بعْ في مكان كذا)، تَعَين على الأصح. نَعَم، هنا بحث، وهو أنه هل يُشترط كَوْن الفاعل والمفعول في المكان؟ مقتضَى كلام النحاة أنه لا يشترط، وقد فرق أصحابنا بين ما لو قال: (إنْ قتلتِ زيدًا في المسجد فأنت طالق) وبين قوله: (إنْ قذفتِ زيدًا في المسجد فأنت طالق) بِشَرط وجود القاذف فيه والمقتول فيه. والتحقيق في هذه القاعدة التفصيل بين الحسي فيشترط وجوده كالمسألة الأولى، و [المعنوي فلا يشترط] (¬2) كالثانية. ونشأ مِن هذا خلاف بيننا وبين [الحنفية] (¬3) في حديث: "صَلَّى على سُهيل بن بيضاء في المسجد" (¬4). فَهُم يقولون: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد وسهيل خارجه. ونحن نقول: كانا في المسجد. ويُضعِّف قولهم أن الصلاة مِن الحسي، فلا بُدَّ من وجود الفاعل والمفعول في الظرف. وَيرُد قولهم أيضًا أن الواقع أنْ ليس في حائط مسجده - صلى الله عليه وسلم - فُرْجة من جهة القِبلة حتى يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يراه منها فيُصلي عليه وهو خارج عن المسجد. ¬

_ (¬1) في (ز، ظ، ض): الحسين. (¬2) في (ز، ق): إلا فلا. (¬3) في (ز): أبي حنيفة. (¬4) صحيح مسلم (رقم: 973) بنحوه.

ونحو ذلك أيضًا: "البصاق في المسجد خطيئة" (¬1)، فهل يمتنع مَن بالمسجد أن يبصق إلى خارجه؟ يجري فيه هذا العمل. الثالث: "مفهوم الحال": كقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. ذكره ابن السمعاني في "القواطع" وإنْ لم يذكره أكثر المتأخرين، وقال: (إنه كالصفة) (¬2). وهو ظاهر؛ لأن الحال صفة في المعنى قُيِّد بها. الرابع: "مفهوم العدد": أي: تعليق الحكم بِعَدد مخصوص، كقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، وهو كالصفة كما قاله الشيخ أبو حامد وابن السمعاني، وجرى عليه الإمام والغزالي وابن الصباغ في "العدة"، وسليم قال: وهو دليلنا في نصاب الزكاة والتحريم بخمس رضعات. ونقله الشيخ أبو حامد عن نَص الشافعي. وكذا الماوردي في باب "بيع الطعام قبل أن يستوفى"، ومَثَّله بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "في أربعين شاةً شاةٌ" (¬3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بلغ الماء قُلتين، لم يحمل خبثًا" (¬4). ¬

_ (¬1) سنن النسائي (723)، وقال الألباني في (صحيح النسائي: 722): صحيح. وفي: صحيح البخاري (رقم: 405)، صحيح مسلم (رقم: 552) بلفظ: (البُزَاقُ فِي المَسْجِدِ خَطيئةٌ). (¬2) قواطع الأدلة في الأصول (1/ 251). (¬3) سنن ابن ماجه (رقم: 1805)، وفي سنن أبي داود (رقم: 1568) وغيره بلفظ: (في كل أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ). وقال الألباني فيهما: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 1834، صحيح أبي داود: 1568). (¬4) سبق تخريجه.

لكن في الثاني نظر؛ فقد قال ابن الصباغ في "العدة": (إن مذهب الشافعي أن مفهوم العدد حُجة إلا إذا كان في ذِكر المعدود تنبيه على ما يُزاد عليه، نحو: "إذا بلغ الماء قُلتين لم يحمل خبثًا"، فإنه تنبيه على أن ما زاد عليهما أَوْلى بأن لا يحمل). انتهى ومِثله قال الشافعي في "اختلاف الحديث": (إنَّ في حديث "إذا بلغ الماء قُلتين، لم يحمل نجسًا" دلالتين: إحداهما: أن ما بلغ قُلتين فأكثر لم يحمل نجسًا. والثانية: إذا كان دون قُلتين، يحمل النجاسة؛ لأن قوله: "إذا كان الماء كذا، لم يحمل النجاسة" دليل على أنه إذا لم يكن كذا، حمل النجاسة، وهذا يوافق حديث أبي هريرة في غسل الإناء من الولوغ؛ لأن آنيتهم كانت صغارًا) (¬1). انتهى وعلى هذا الثاني يحمل كلام الماوردي وأنه حُجة بالنسبة إلى عدم النقصان، لا الزيادة. قال ابن الرفعة في "المطلب" في "باب الجماعة": إن القول بمفهوم العدد هو العمدة عندنا في عدم تنقيص الحجارة في الاستنجاء من الثلاثة، ولا زيادة على ثلاثة أيام في خيار الشرط، ويتعَجَّب من النووي- رحمه الله تعالى- في قوله: إن مفهوم العدد باطل عند الأصوليين. قال: (ولَعَلَّه سبق الوهم إليه مِن اللقب). انتهى ونقل اعتباره أيضًا أبو الخطاب الحنبلي عن منصور بن أحمد، وبه قال مالك وداود. وأما القول بأنه غير حُجة فهو رأْى منكري مفهوم الصفة، كالقاضي وإمام الحرمين، وبه قال صاحب "الهداية" من الحنفية، ونُقل عن بعض الحنفية غير ذلك، فعندهم اضطراب ¬

_ (¬1) اختلاف الحديث (ص 500).

فيه. وممن أنكر مفهوم العدد الإمام الرازي في تفصيل مُطَوَّل حاصله أنه لا يدل على نَفْي الحكم فيه فيما زاد أو نقص إلا بدليل. تنبيهان أحدهما: محل الخلاف فيه في عَدد لم يقصد به التكثير، كالألْف والسبعين ونحوهما مما يُستعمل في لغة العرب للمبالغة. قاله ابن فورك وغيره، فإن قولهم: (أسماء العدد نصوص) إنما هو حيث لا قرينة تدل على إرادة المبالغة، نحو؛ (جئتُك ألف مرة فلم أجدك). وبذلك يُعلم ضعف الاحتجاج بقوله - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا نزل: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]: "لأزيدن على السبعين" (¬1)، فعمل - صلى الله عليه وسلم - بالمفهوم فيه، وذلك مِن أَشهر حجج المعْتَبِرين لمفهوم العَدد، بل ويجاب عنه بأمر آخَر، وهو أنه لَعلَّه قاله رجاءً لحصول المغفرة؛ بناءً على بقاء حُكم الأصل وهو الرجاء الذي كان ثابتًا قبل نزول الآية، لا لأنه فَهِمه من التقييد. وأما جواب القاضي أبي بكر والإمام والغزالي ومَن تبعهم بالطعن في الحديث فعجيب؛ فإنه في "الصحيحين" لكن بلفظ "سأزيد". قال أبو بكر الرازي: (فأما ما رواه أبو عبيد: "لأزيدن على السبعين" فهي رواية باطلة لا تصح ولا تجوز؛ فإنه يمتنع غفران ذنب الكافر، وإنما الروي: لو علمتُ أنه يغفر له إذا زدتُ على السبعين لَزِدْتُ) (¬2). انتهى ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (4393)، صحيح مسلم (2400) بلفظ: "سَأَزِيدُهُ عَلَى السَّبْعِينَ". (¬2) أحكام القرآن لأبي بكر الجصاص (4/ 351).

وهذه الرواية في "البخاري" في "باب الجنائز" بلفظ: "لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها" (¬1). وقد قال ابن فورك: لا معنى لتوهين الحديث؛ لأنه قد صح، وليس بمستنكَر استغفاره - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها لا تستحيل عقلًا، والإجابة ممكنة، ولو خُلِّينا وظاهر الآية لكان الزائد على السبعين يقتضي الغفران، لكن نزل بعده: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84]، فَدَلَّ ذلك على زوال حُكم المفهوم " فإن صلاته - صلى الله عليه وسلم - توجِب المغفرة؛ ولهذا امتنع مِن الصلاة على المدين. وتَلَطَّف ابن المنير فقال: لَعلَّ القصد بالاستغفار التخفيف، كما في الدعاء به لأبي طالب، وقوله: " لأزيدن على السبعين" أي: أفعل ذلك لأُثاب على الاستغفار، فإنه عبادة. الثانى: قال الشيخ تقي الدين السبكي: (التحقيق عندي أن الخلاف في مفهوم العدد إنما هو عند ذِكر نفس العدد، أما المعدود فلا يكون مفهومه حُجة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أُحِلَّت لنا ميتتان ودمان" (¬2)، فلا يكون فيه [عدم تحريم] (¬3) ميتة ثالثة) (¬4). ثم ذكر تمثيل الأصوليين بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بلغ الماء قُلتين"، ولم يرتضه، لأنه ليس فيه ذِكر عدد، واعتل بأنَّ العدد يشبه الصفة، والمعدود يشبه اللقب، فما ذكره إنْ لم يكن تنقيح مناط ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 1300). (¬2) مسند أحمد (5723)، سنن ابن ماجه (رقم: 3314)، السنن الكبرى للبيهقي (1128) وغيرها. قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 2695). (¬3) في (ش): (تحريم). وفي هامش (ز): (كذا في شرح منهاج البيضاوي .. وصوابه: عدم حل ميتة ثالثة). (¬4) الإبهاج في شرح المنهاج (1/ 382).

فهو تفصيل حَسَن، والله أعلم. ص: 472 - وَالشَّرْطُ، وَالْغَايَةُ، حَصْرٌ أُبْرِ مَا ... بِـ "النَّفْيِ وَاسْتِثْنَاءٍ" اوْ بِـ "إنَّمَا" 473 - أَوْ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ، أَوْ تَقْدِيمِ ... مَعْمُولٍ انْ عُدَّ مِنَ الْمَفْهُومِ الشرح: أي: مِن أقسام مفهوم المخالفة مفهوم الشرط، فقولي: (وَالشَّرْطُ) عطف على قولي: (الْوَصْفُ). فلمَّا فرغتُ مِن الوصف وأقسامه شرعتُ في بيان باقي المفاهيم، وقد اشتمل البيتان منها على أقسام: أحدها: "الشرط": والمراد به ما علق مِن الحكم على شيء بأداة شرط كـ "إنْ" و "إذَا" ونحوهما، وهو المسمى بالشرط اللغوي، وليس المراد الشرط الذي هو قسيم السبب والمانع السابق بيانهما في خطاب الوضع. مثال الشرط اللغوي: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] دَلَّ منطوقه على وجوب النفقة على أُولات الحمل، فهل دَلَّ بالمفهوم بالعدم على العدم حتى يُستدل به على منع وجوب النفقة للمعتدة [غير الحامل] (¬1)؟ أوْ لا؟ ذهب الشافعي إلى دلالته عليه، وكُل مَن قال بمفهوم الصفة يقول به؛ لأنه أقوى منه. وأما المنكِرون له فاختلفوا، فقال به ابن سريج وابن الصباغ والكرخي وأبو الحسين ¬

_ (¬1) في سائر النُّسخ: الحامل. ولعلها: الحائل.

البصري، ونقله إمام الحرمين عن أكثر العلماء وبالغ في الرد على مُنكِره، وابن القشيري عن معظم أهل العراق، وأبو الحسن السهيلي في "أدب الجدل" عن أكثر الحنفية. وذهب أكثر المعتزلة -كما قال في "المحصول"- إلى المنع، وقالوا: لا ينتفي بعدمه، بل هو باقٍ على الأصل الذي كان قبل التعليق، ورجحه المحققون من الحنفية، ونُقل عن أبي حنيفة، ونقله ابن التلمساني عن مالك، واختاره القاضي والغزالي والآمدي. فَتَلَخَّص أنه لا خِلاف في انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط، لكن هل الدال على الانتفاء صيغة الشرط؟ أو البقاء على الأصل؟ فمَن جعل الشرط حُجة، قال بالأول، ومَن أنكره، قال بالثاني. وقد احتج القاضي حسين في "باب بيع الأصول والثمار" من "تعليقه " على الحنفية بحديث يعلى بن أُمية أنه قال لعمر بن الخطاب: لماذا نقصر وقد أمِنا وقال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ} [البقرة: 229]؟ فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: "صَدَقة تَصدَّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته" (¬1). قال: وكانا من صميم العرب وأرباب اللسان، وأن المفهوم إنما تُرك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك. ولا حُجة للمانع في نحو قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33]، لأن الإكراه حرامٌ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا أَم لم يُرِدْن، فلو كان معتبرًا لَتَقَيَّد بإرادة التحصُّن. بل جوابه: ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (رقم: 686).

- أنه مما خرج مخرج الغالب؛ إذِ الغالب أن الإكراه يكون عند إرادة التحصن، فلا يعمل بمفهومه كما سبق. - وأنه مُعارَض بالإجماع على تحريم الإكراه على البغاء مطلقًا، فلا يُعمل بالمفهوم مع مُعارَضة الإجماع. وهذان أجاب بهما ابن الحاجب، وأَحسن منهما الجواب بأنه لا يُتصور الإكراه عند عدم إرادة التحصن؛ لأن اجمراه حَمْلُ المرء على ما يَكره، فإذا لم يُتصور الإكراه، جاز أن يقول: ليس بحرام؛ لأنه غير متصور، والتحريم فرع كونه مُتصوَّرًا. وعلى هذا فالفائدة في الشرط التنصيص على قُبح فعلهم وتشنيعه عليهم، وإنما يُعتبر مفهوم الشرط وغيره حيث لم يظهر للتخصيص فائدة كما سبق، وقد ظهر للتقييد -بإرادة التحصن- فائدة كما قررناه. ومِثله: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]، وقول القائل لابنه: (أطعني إنْ كنتَ ابني)، فإنَّ المراد التنبيه على السبب الباعث للحكم، لا تقييد الحكم به. تنبيه: حرف هذه المسألة الذي نشأ منه الخلاف فيها أن لفظ "أنت طالق" و"أنت حر" مثلًا عِلة في حصول الطلاق والعتق، فإذا قُيد بشرطٍ كـ "أنت طالق -أو حر- إنْ دخلت الدار"، فيقال: إن دخول الشرط هل يمنع انعقاد العِلة؟ أو لا يمنع إلا الحكم؟ فعند الحنفية يمنع انعقاد العلة، وعندنا لا يمنع. فإذا بقيت العلة منعقدة مع وجدان الشرط، أَوجبت الحكم عند وجود المعلق عليه و [نَفَتْه] (¬1) عند عدمه. وأما عندهم فإذا ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ش، ض). لكن في (ز، ت، ق، ظ): نفيه.

انتفت العلة، لم يكن انتفاء الحكم مسندًا إلى انتفائها. والخلاف بين الفريقين في ذلك طويل، محله ما وُضع للحجاج. الثاني: "مفهوم الغاية": وهي مد الحكم بأداة الغاية كـ "إلى" و"حتى" و"اللام" ونحوها. وألحقَ بعضهم به نحو: "صوموا صومًا آخِره الليل". قال الهندي: وفيه نظر (¬1). فمثال الغاية [بحرفها] (¬2) قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]، وحديث: "لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الحول" (¬3). وهو حُجة كما نَص عليه الشافعي، فقال في "الأم": (وما جعل الله تعالى له غاية فالحكم بعد مُضِي الغاية فيه غَيْره قَبْل مُضِيها). ثم مَثَّله بقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] الآية: (وكان في شرط القصر بحالةٍ موصوفةٍ دليلٌ على أن حُكمهم في غير تلك الصفة غير القصر) (¬4). انتهى وقد اعترف به جمعٌ ممن أنكر مفهوم الشرط، كالقاضي أبي بكر والغزالي والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين، وإليه ذهب مُعظم نُفاة المفهوم كما قاله القاضي في "التقريب"، قال: وكنا ¬

_ (¬1) نهاية الوصول في دراية الأصول (5/ 2087). (¬2) في (ز): نحو. (¬3) سنن ابن ماجه (1792)، سنن أبي داود (رقم: 1573). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 1573). (¬4) الأم (5/ 28).

نصرنا إبطال حُكم الغاية، والأصح عندنا الآن القول به. قال: ولهذا أجمعوا على تسميتها "حروف الغاية"، وغاية الشيء: نهايته، فلو ثبت الحكم بعدها، لم يفد تسميتها "غاية". واحتج القاضي أيضًا بالاتفاق على تقدير ضد الحكم بعدها، ففي: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} يُقَدر: "فاقربوهن"، وفي: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] يُقَدر: "فتحِل"، ونحو ذلك. ولا شك أن المضمر كالملفوظ به؛ لأنه إنما أُضمِر لَسَبقه إلى فَهم العارف باللسان، فكأنه نَص أهل اللغة على أنه منطوق. وهذا مِن القاضي يدل على أن انتفاء الحكم فيما بَعد الغاية مِن جهة المنطوق لا المفهوم، على خِلاف ما نقله ابن الحاجب عنه. ولهذا قال العبدري في "المستوفى" وابنُ الحاج في "تعليقة المستصفى" وجَرَى عليه صاحب "البديع" من الحنفية: ذهب طائفة من الحنفية إلى انتفاء الحكم فيما بعدها مع ذهابهم إلى عدم اعتبار مفهوم الغاية، تصميمًا على إنكار المفاهيم. ووافقهم الآمدي، ونقله المازري عن [الأزدي] (¬1) تلميذ القاضي (¬2). ¬

_ (¬1) كذا في (ظ). لكن في (ز، ص، ق، ض): الأدري. وفي (ش): الأودي. وفي (ت): الأردي. وهو الحسين بن حاتم الأزدي، صاحب القاضي أبي بكر الباقلاني. (¬2) هذه الفقرة جاءت هكذا في جميع النُّسخ، لكن عبارة الزركشي في (البحر المحيط، 3/ 131) هكذا: (كَذَا قَالَ الْعَبْدَرِيُّ فِي "الْمُسْتَوْفَى" وَابْنُ الْحْاجِّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى "الْمُسْتَصْفَى": عَدُّ الْأُصُولِيِّينَ الْمُغَيَّا بِـ "إِلَى" وَ"حَتَّى" فِي الْمَفْهُومِ جَهْلٌ بِكَلَامِ الْعَرَبِ، فَإِنَّ الْمُخَالِفَ بِمَا يَقْتَضِيهِ "حَتَّى" وَ"إِلَى" لَا مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ. قُلْتُ: ويَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقُولُوا بِذَلِكَ فِي الشَّرْطِ، فَإِنَّ الجْزَاءَ مُرْتَبِطٌ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ، هُوَ=

تنبيه: إذا تُصُوِّر في الغاية تطاول، هل يتعلق الحكم بأولها؟ أو يتوقف الحكم على تمامها؟ الأكثر على الأول. تظهر فائدته في قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، فيجب دم التمتع عندنا إذا فرغ مِن العمرة وأحرم بالحج؛ لأنه يسمى حينئذٍ "متمتعًا"، [فيكتفَى] (¬1) بأولها. وقال مالك ما لم يقف بعرفة لا يجب دم التمتع. وقال عطاء: ما لم يَرْمِ جمرة العقبة. منشأ ذلك أنه لا يكتفَى بأول الغاية. ولنا قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، والاتفاق على التعلق بأوله، وليس استيعاب الليل ولا مُضِي شيء منه شرطًا. الثالث: "مفهوم الحصر": وذكرت منه أربعة أمور: أولها: الحصر بالنفي والاستثناء، سواء فيه الاستثناء من التام والاستثناء المفرغ، وسواء أكان النفي فيه بـ "ما" أو "لا" أو "ليس" أو "لم" أو "إن"، أو ما هو في معنى النفي، نحو: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف: 35]، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32]، وسواء أكانت أداة الاستثناء "إلا" أو غيرها، نحو: لا إله إلا الله، وما لي سِوَى ¬

_ = غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ كَالْغَايَةِ. وَذَهَبَ الْآمِدِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْحْنَفِيَّةِ إلَى الْمَنْعِ، تَصْمِيمًا عَلَى إنْكَارِ الْمَفْهُومِ، وَنَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ عَن الْأَزْدِيِّ تِلْمِيذِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ). (¬1) في (ز): فينتفي.

الله. رضيتُ بك اللهم ربًّا فلن أرى ... أدين إلها غيرك الله واحدا ونحو: ما قام القوم إلا زيد، و: ما رأيت إلا زيدًا، ونحو ذلك من الأمثلة، وهي واضحة. وقد اعترف أكثر منكري المفهوم -كالقاضي والغزالي- باعتبار الفهوم هنا، وأصرَّ الحنفية على نفيهم. نعم، الصحيح أن الدلالة هنا بالمنطوق؛ بدليل أنه لو قال: (ما له عَلَيَّ إلا دينار)، كان ذلك إقرارًا بالدينار. ولو كان بالمفهوم، لم يؤاخَذ به؛ لعدم اعتبار المفهوم في الأقارير. وبذلك صرح أبو الحسين بن القطان في نحو: "لا نكاح إلا بولي" (¬1)، و"لا صيام لمن يبيت الصيام من الليل" (¬2)، فقال: إن النفي والإثبات كلاهما بالمنطوق، وليس أحدهما بالمفهوم؛ لأنك لو قلتَ: "لا تُعطِ زيدًا شيئًا إلا إنْ دخل الدار"، كان العطاء والمنع منصوصًا عليهما. وممن جزم بأنه منطوق أيضًا الشيخ أبو إسحاق في "الملخص"، ورجحه القرافي في "القواعد"، وإنما أدخلتُه في [المفاهيم] (¬3) تبعًا للمشهور في الأصول. قال الماوردي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور" (¬4): إنه يدل على قبولها بالطهور، ونَفْي الحكم عن تلك الصفة موجِب لإثباته عند عدمها، وهو الظاهر من مذهب ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) في (ز): المفهوم. (¬4) سبق تخريجه.

الشافعي. قال: (ويحتمل قول مَن جعل ما عدا الإثبات في "إنما" موقوفًا أن يجعل ما عدا النفي هنا موقوفًا) (¬1). انتهى وظاهره أن الدلالة على النفي بطريق التضمن اللفظي وأن الإثبات هو محل الخلاف: هل هو بالمنطوق؟ أو بالمفهوم؟ وسيأتي في المخصصات -في جريان الخلاف في أن الاستثناء من النفي إثبات وعكسه- فروع لم يجعل فيها الاستثناء من النفي إثباتًا؛ لمدارك فقهية، لكن في نحو: (ما زيد إلا قائم) نسبةُ ثبوت القيام لزيد نُطق قطعًا، وإنما النظر في نفي القيام عن غيره: هل هو بالنطق؛ أو بالفهم؛ والظاهر أن الحال مختلف بحسب التراكيب، ولهذا قال إلْكِيَا: المفهوم يجرى في النفي كالإثبات، فلا فرق بين قولنا: "القطع في رُبع دينار" وقولنا: "لا قطع إلا في ربع دينار". قال: ومِن العلماء مَن قال: إذا قال: "لا قطع إلا في ربع دينار"، كان نَصًّا في القطع بالربع، مفهومًا فيما فوقه ودُونه. فأفاد أن محل النزاع في التراكيب موضع النفي، وأنه يختار عدم الدلالة فيه، فيكون فيه الآراء الثلاثة: هل هو بالنُّطق؟ أو بالفهم؟ أو لا يدل أصلًا؟ كما هي آراء في "إنما" كما سيأتي. وقد سبق إشارة الماوردي إلى ذلك. الثاني: الحصر بـ "إنما": والجمهور على إفادتها الحصر، وهو إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه. وبه قال الشيخ ابو اسحاق والغزالي وإلْكِيا والإمام الرازي وأتباعه وغيرهم كما نقله عنهم ابن ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (16/ 68).

السبكي في "جمع الجوامع"، لكن الغزالي إنما نقل عن القاضي أنها ظاهرة في الحصر محتملة للتأكيد، ثم قال: وهو المختار. وعبارة القاضي في "التقريب": إنها محتملة للحصر ولتأكيد الإثبات، وأن العرب استعملتها لهما. ثم قال: (ولا يَبْعُد أنها ظاهرة في الحصر). انتهى وقد نَص الشافعي على ذلك في "الأم"، فقال: (وإذا أَسلم الرجل على يد الرجل ووالاه ثم مات، لم يكن له ميراثه [مِن قِبَل] (¬1) قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الولاء لمن أعتق" (¬2)، وهذا يدل على معنيين، أحدهما: أن الولاء لا يكون إلا لمن أعتق، والثاني: لا يتحول الولاء عمن أعتق) (¬3). انتهى ولهذا قال الماوردي في "الحاوي": (مذهب الشافعي وجمهور أصحابه أنها في قوة الإثبات والنفي. وذهب ابن سريج وأبو حامد المروروذي إلى أن حُكم ما عدا الإثبات موقوف على الدليل؛ لِمَا تضمنه من الاحتمال، والمذهب الأول) (¬4). انتهى والقول بأنها ليست للحصر جرى عليه الآمدي، وكذا أبو حيان قال: كما لا يفهم ذلك من أخواتها المكفوفة بـ "ما"، مِثل: "لَيْتَما" و"لَعَلَّمَا"، وإذا فُهم من "إنما" حصر فإنما هو من السياق، لا أنها تدل عليه بالوضع. وبالغ في إنكار ذلك، ونقله عن البصريين. وفيه نظر؛ فإن إمام اللغة الأزهري نقل عن أهل اللغة أنها تفيده، نحو: "إنما المرء ¬

_ (¬1) كذا في (ص) ويوافق (الأُم، 7/ 133). لكن في سائر النُّسخ: وقيل. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 444). (¬3) الأم (7/ 133). (¬4) الحاوي الكبير (16/ 68).

بِأَصغريه، [قلبه ولسانه] (¬1) "، أي: كماله بهذين العضوين، لا بهيأته ومنظره. قلتُ: وكلام النحاة في تقرير تقديم المبتدأ على الخبر وعكسه وتقديم الفاعل على المفعول وعكسه حيث حصر بِ "إنما" (اتفاقًا) أو بِـ "ما" و"إلا" (على الأصح) كالصريح في أنه لا خِلاف في إفادة "إنما" الحصر، وإلا لم يترتب الحكم المذكور. وأبو حيان ممن قرر ذلك في كُتبه النحوية كَشَرْحَي "الألفية" و"التسهيل" و"الارتشاف" وشرح "الغاية" و"مختصر المقرب" وغيرها. ومَن تأمل كلامهم، لا يشك في إجماعهم عليه. نعم، للعلماء طُرق في إفادتها: أقواها: نقل أهل اللغة، واستقراء استعمالات العرب إياها في ذلك. وأضعفها: طريقة الإمام الرازي وأتباعه أنَّ "إنَّ " للإثبات و"ما" للنفي ولا يجتمعان، فيجعل الإثبات للمذكور والنفي للمسكوت. ورُدَّ بمنع كُلٍّ من الأمرين؛ لأن "إنَّ" لتأكيد النسبة نفيًا كان أو إثباتًا، نحو: إنَّ زيدًا قام، إنَّ زيدًا لم يقم. و"ما" كافَّة، لا نافية على المرجح، وبتقدير التسليم فلا يلزم استمرار المعنى في حالة الإفراد حالة التركيب. وقال السكاكي: ليس الحصر في "إنما" لكون "ما" للنفي كما يَفْهمه مَن لا وقوف له على النحو، لأنها لو كانت للنفي لكان لها الصدر. ثم حكى عن ابن عيسى الربعي واستلطفه أنَّ: ("إنَّ" لتأكيد إثبات المُسْنَد للمسنَد ¬

_ (¬1) من (ز). وجاء في (تهذيب اللغة، 8/ 60): (من أَمْثَال الْعَرَب: "المُرْء بأصغريه"، وأصغراه: قلبه، وَلسَانه).

إليه، و"ما" مؤكِّدة، فناسب معنى الحصر). انتهى وفيه نَظَر؛ إذْ لا يَلْزم مِن حصولِ تأكيدٍ على تأكيد الحصرُ، كما في: قام القوم كلهم أجمعون. وقال بعضهم: أحسن ما يُستدل به انفصال الضمير بعدها في نحو: (وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مِثلي). أي: فكأنها نفي واستثناء تقديرًا. وفيه أيضًا نظر؛ فإن ذلك لأجل أنه مِن قَصْر الصفة على الموصوف. وأما استدلال ابن دقيق العيد وغيره بِفَهم ابن عباس الحصر من "إنما الربا في النسيئة" (¬1) ففيه نظر أيضًا؛ فإن ابن عباس رواه عن أسامة بلفظ: "ليس الربا إلا في النسيئة" (¬2) كما في "مسلم"، فيحتمل أنه مُسْتَنَد ابن عباس. لكن قد يجاب بأنهم قد رووا أنه استدل بذلك وأنهم لَمَّا وافقوه كان كالإجماع وإنْ كان قد رواه مرة أخرى بصيغة "إلا"، وغايته أن الصيغتين سواء، فاستدل بهذه تارة وبهذه أخرى. وقال الشيخ تقي الدين السبكي: (من دلائل إفادتها الحصر قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} [النحل: 82]؛ إذْ لو لم تُفِد إلا معنى "عليك البلاغ" لَمَا استقام الكلام؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - عليه البلاغ تَوَلَّوا أو لم يَتَوَلَّوا) (¬3). وفي المسألة مذهب ثالث: أنها تفيد الحصر بالمنطوق. حكاه الشيخ أبو إسحاق في ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (رقم: 1596). (¬2) لم أجده في "صحيح مسلم"، فهذا اللفظ في مسند الإمام أحمد (رقم: 21844)، والذي في صحيح البخاري (رقم: 2569) بلفظ: (لَا رِبًا إلا في النَّسِيئَةِ). (¬3) الإبهاج في شرح المنهاج (1/ 358).

"التبصرة" عن القاضي أبي حامد المروروذي، قال: مع نفيه لدليل الخطاب. وكذا حكاه الماوردي وجهًا لأصحابنا أيضًا، بل وإذا قُلنا: إنه إنما انتفى بالمفهوم، فقد اختلفوا أيضًا في أن: ذلك من لسان العرب لُغةً؟ أو أَوْجَبه دليلُ الخطاب شرعًا؟ تنبيه: تظهر ثمرة الخلاف في نحو: (إنما قام زيد وعمرو)، هل يكون "وعمرو" تخصيصًا؟ أو نسخًا؟ أيْ إذا قلنا: إن التخصيص نسخ، وإذا لم يُشترط تراخي دليل النسخ، وإلا فهو في الحقيقة إخراج بعض العام. ومن فوائده: الاستدلال على الحنفية المنكِرين للمفهوم بنحو: "إنما الشفعة فيما لم يقسم" (¬1). فان كان الحصر في "إنما" بالمفهوم فلا يُستدل به عليهم. واعلم أن هذا كله في صيغة "إنِّما" بالكسر، وأما "أنَّما" بفتح الهمزة فقد ادَّعى الزمخشري إفادتها أيضا القصر -يعني الحصر- في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنبياء: 108]، وقال: (إنَّ القصر في "إنما" المكسورة الأُولى في الآية: قصر الحكم على الشيء، وفي "أنما" الثانية المفتوحة: قصر الشيء على الحكم) (¬2). يريد بذلك قصرَ الصفة على الموصوف، وعَكْسَه. و[بناء] (¬3) المسألة على أن المفتوحة فرع المكسورة على أصح المذاهب، ولهذا ترجم سيبويه باب إن وأخواتها بِـ "باب الأحرف الخمسة"، وعَدَّ المكسورة والمفتوحة واحدًا. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 2363) بلفظ: (إِنَّمَا جَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ). (¬2) الكشاف (3/ 139). (¬3) في (ز): بنى.

وقيل: المكسورة فرع المفتوحة. وقيل: كل منهما أصل برأسه. فتبين بذلك أن إنكار أبي حيان على الزمخشري ذلك وأنه تَفَرَّد به -ممنوعٌ لهذا البناء. واعتراضه عليه بأنه يقتضي أنه لم يُوحَ إليه سِوَى التوحيد -عجيبٌ؛ لأن ذلك مِن قَصر القلب، فإن خطابه بذلك للمشركين، أي: ما يوحَى إلَيَّ في الربوبية إلا التوحيد، لا الإشراك الذي يعتقدونه. وأيضًا فبتقدير كونه قصرًا حقيقيًّا قد يلتزمه الزمخشري على رأيه الفاسد في الاعتزال من إنكار الصفات، بل لَعَله مأخذه في تقرير الحصر هناك. قلت: لكن لا يخرج بذلك عن كونه غير حقيقي؛ لأنه قد أُوحي إليه غير الصفات من فروع الشريعة والأخبار ونحوها. والذي أظنه أن الشيخ أبا حيان إنما اعترض بما قاله سهوًا؛ لأن الكلام فيما حصر بِـ "أنما" الأخيرة المفتوحة، وذلك حصر الإلهية في واحد، وهذا حصر حقيقي لا تَردُّد فيه، وإنما يصلح هذا التقرير اعتراضًا على الحصر في "إنما" الأُولى وهي المكسورة، فإن أبا حيان ينازع في إفادتها الحصر أيضًا كما سبق، لكن كلامه مصرح بذلك في "أنما" الأخيرة. نعم، قد يدفع قول الزمخشري بأن حصر الإلهية في واحد مستفاد من نفس الكلام، فإن لفظ "إلهكم" اسم جنس مضاف، فيعم، وقد حصر في واحد بالإخبار بذلك صريحا، فلا حاجة إلى إسناده إلى "أنما"؛ ولهذا جوَّز المعْرِبون أن "ما" في "أنفي" هذه موصولة، وما بعده صلة حُذِف صَدرُها، أي: هو إلهكم. على أن عبارة أبي حيان يمكن أن تُؤَول بإعادة الكلام للأُولى، وأنه بعد خوضه في المفتوحة رجع لِمَا كان قَرره في "إنَّ" المكسورة؛ لأنهما في آية واحدة، ولكنه بعيد.

والثالث: الحصر بضمير [الفَصْل] (¬1): نحو: (زيد هو العالم). ومنه قوله تعالى: {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} [الشورى: 9]، {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3]. ذكره البيانيون. وقال ابن الحاجب في "أماليه": صار إليه بعض العلماء؛ لوجهين: أحدهما: قوله تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173]، فإنه لم يُسَق إلا للإعلام بأنهم الغالبون دُون غيرهم، وكذا قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 43]، و {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى: 5]. والثاني: أنه لم يوضع إلا للإفادة، ولا فائدة في مثل قوله: {وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76] سوى الحصر. والرابع: الحصر بتقديم المعمول: نحو: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، أي: نخصك بالعبادة والاستعانة، وهذا معنى الحصر كما سنذكره من بعد، وسواء في المعمول المفعول والحال والظرف والخبر بالنسبة للمبتدأ، نحو: تميميٌّ أنا. وبه صرح صاحب "المثل السائر"، وأنكره [عليه] (¬2) صاحب "الفلك الدائر" وقال: (لم يَقُل به أحد) (¬3). وإنكاره عجيب؛ فكلام البيانيين طافح به. ¬

_ (¬1) في (ز): المنفصل. (¬2) كذا في (ص، ت) وهو الصواب. لكن في سائر النُّسخ: على. فالكتاب الثاني اسمه: "الفلك الدائر على المثل السائر". (¬3) الفلك الدائر (4/ 250) مطبوع مع المثل السائر.

وقد احتج أصحابنا على تعيين لَفْظَي التكبير والتسليم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم" (¬1)، ومنعه الحنفية؛ لمنعهم المفاهيم، وزيَّفه إمام الحرمين بأن التعيين مستفاد من الحصر المدلول عليه بالمبتدأ والخبر، فإن التحريم منحصر في التكبير كانحصار زيد في صداقتك إذا قلتَ: (صديقي زيد)، ولكنه لا يخرج عن كونه مفهومًا. نعم، قرر الشيخ بهاء الدين ابن النحاس وَجْه الحصر فيه بأن المبتدأ لا يكون أَعم من الخبر، لا تقول: (الحيوان إنسان). فإذا قلتَ: (زيد صديقي)، كان الخبر صالحًا لأنْ يكون أعم من المبتدأ، فتجعله كذلك؛ ولذلك قالوا: لا يلزم انحصار الصداقة في زيد، بخلاف قولك: (صديقي زيد)، فلا يكون الخبر الذي هو "زيد" أَعَم مِن المبتدأ، فما بَقي إلا أن يجعل مساويًا، وإلا كان الخبر أخص من المبتدأ وهو غير جائز. وإذا كان مساويًا، لزم الانحصار؛ ضرورةَ صِدْق أن كل صديق هو زيد. ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (61)، سنن الترمذي (3) وغيرهما. وصححه الألباني في (إرواء الغليل، رقم: 301).

تنبيهان الأول: إفادة التقديم الاختصاص الذي قال به البيانيون خالفهم فيه ابن الحاجب وأبو حيان، فقال ابن الحاجب في "شرح المفصل": (إنَّ تَوَهُّم الناس لذلك وَهْم، وتمسكهم بالتقديم في نحو: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} [الزمر: 66] ضعيفٌ؛ لورود {فَاعْبُدِ اللَّهَ} [الزمر: 2]) (¬1). فيلزم أن المؤخَّر يفيد عدم الحصر، لكونه نقيضه. وأُجيب بأن التأخير لا يستلزم حصرًا ولا عدمه، ولا يَلزم من عدم إفادة الحصر إفادة نفيه، لاسيما و"مُخْلِصًا" في قوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا} [الزمر: 2] مُغْن عن إفادة الحصر. وقال أبو حيان أول "تفسيره" في رد دعوى الاختصاص: إن سيبويه قال: إن التقديم للاهتمام والعناية، فهو في التقديم والتأخير كما في "ضرب زيدٌ عَمرًا" و"ضرب عمرًا زيدٌ" (¬2)، فكما أنَ هذا لا يدل على الاختصاص فكذلك مثالنا. وأُجيب بأنَّ تشبيه سيبويه إنما هو في أصل الإسناد، وأن التقديم يُشْعر بالاهتمام والاعتناء، ولا يَلزم من ذلك نفي الاختصاص. ومما يستدل به بعض المتأخرين على المنع أيضًا ورود: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41]، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] ونظائره. ويجاب عنه بما سبق، بل يُقال: إنَّ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} لا يمنع أن يقرأ بغير الاسم، ¬

_ (¬1) انظر: الإيضاح شرح المفصل (1/ 47)، الناشر: وزارة الأوقاف والشئون الدينية - العراق. (¬2) تفسير البحر المحيط (1/ 127).

و {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} لا يمنع أنها لا تجري إلا بِاسْمه. وقال صاحب "الفلك الدائر": (الحقُّ أنه لا يدل على الاختصاص إلا بالقرائن، وإلا فقد كثر في القرآن التصريح به مع عدم الاختصاص، نحو: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} [طه: 118] ولم يكن ذلك خاصًّا به؛ فإنَّ حواء كذلك) (¬1). وأما كون الاختصاص الحصر فهو رأْي الجمهور، وخالف الشيخ تقي الدين السبكي في ذلك، فقال: ليس معنى الاختصاص الحصر، خِلافًا لِمَا يفهمه كثير من الناس؛ لأن الفضلاء- كالزمخشري- لم يُعبروا في نحو ذلك إلا بالاختصاص، والفرق بينه وبين الحصر أن "الاختصاص" افتعال من الخصوص، و"الخاصُّ" مُركَّب من عموم ومعنى يفصله، فالضربُ مثلًا عام، فإذا قلتَ: "ضربتُ" خصصته بإسناده لك، فإذا قلتَ: "زيدًا" خصصتَ ضربَك بوقوعه على زيد، فالمتكلم إما أن يكون مقصوده الثلاثة أو بعضها، فتقديمه أحدها يُشعر باختصاصه لها مِن مُطْلق الضرب؛ لدلالة الابتداء بالشيء على الاهتمام، ويبقى ذِكر الباقي بالتبعية لِمَا قَصَده، وليس فيه حينئذٍ ما في الحصر مِن نَفْي غيره، وإنما جاء الحصر في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ونحوه لِلعِلم به مِن خارج، لا من نفس اللفظ، بدليل أن بقية الآيات لا يطرد فيها ذلك. ألا تَرى أن قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران: 83] ليس المراد إنكار كَوْنهم لا يبغون إلا غير دين الله، بل كونهم يبغون غير دين الله مُطلقًا) (¬2). انتهى ملخَّصًا. وقد يحتج للتغاير بقوله تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 105]، فإن رحمة الله لا تنحصر. ¬

_ (¬1) الفلك الدائر (4/ 258) مطبوع مع المثل السائر. (¬2) رفع الحاجب (4/ 25).

الثاني: مما ذُكر مِن صِيَغ الحصر المعتبر مفهومه: حصر المبتدأ في الخبر، ولذلك صيغتان: إحداهما: نحو: "صديقي زيد". صرح بذلك إمام الحرمين والغزالي وإلْكِيَا وغيرهم مستدلين بأن "صديقي" عام، فإذا أخبر عنه بخاص وهو زيد، كان حصرًا لذلك العام (وهو الأصدقاء كُلهم) في الخبر (وهو "زيد")؛ إذْ لو بقي من أفراد العموم ما لم يدخل في الخبر، لَزِمَ أن يكون المبتدأ أعم من الخبر، وذلك لا يجوز. قال الغزالي (¬1): لا لُغةً ولا عقلًا. فلا تقول: (الحيوان إنسان) ولا: (الزوج عشرة)، بل أن يكون المبتدأ أَخَص أو مساؤيا. نعم، حَكَى ابن الحاجب في "أماليه" فيه ثلاثة أقوال: أحدها: هذا، نقله عن إمام الحرمين، فقال: زعم أنك إنْ أخرت "صديقي" عن "زيد" كانت الصداقة غير محصورة في زيد. وإنْ قَدَّمْتَه، كانت محصورة فيه. قال: وكلامه مُشْعر بأن "صديقي" هو الخبر في الجملتين جميعًا. ووجه ما قال أن "صديقي " يقتضي الخبرية لإفادة النسبة إلى "زيد"، فإذا كان خبرًا فأخَّرته، لم يَلْزم الحصر؛ لجواز أن يكون الخبر أَعَم، فإذا قدمته مع كونه خبزا فلم تُقَدمه إلا لغرض، وذلك هو قصد الحصر. والقول الثاني: مِثله، إلا أن أيهما قدمته فهو المبتدأ، لكن تقديم "صديقي" يفيد الحصر، وتقديم "زيد" لا يفيده كما قدمناه. ووَجْه ذلك أن المعرفتين إذا اجتمعتَا، كان أسبقهما المبتدأ، وتوجيه الحصر -في تقديم "صديقي" وعدمه في تأخيره- ما سبق. ¬

_ (¬1) انظر: المستصفى (1/ 271 - 272).

قال ابن الحاجب: (وليس القولان بِقَوِيَّيْن) (¬1). والثالث: استواء التقديم والتأخير. قال: والدليل على أن المعرفتين إذا اجتمعتا فالمقدم هو [المبتدأ] (¬2) مذكور في موضعه، وحينئد فإما أن تريد بِـ "صديقي" خاصًّا أو عامًّا، إنْ أردتَ عامًّا فلا حصر، سواء قدمت أو أخَّرت. وإنْ أردتَ خاصًّا، أفاد الحصر، سواء قدمت أو أخرت. وقريب من ذلك قول العبدري في الرد على الغزالي: إنَّ "صديقي" ولو كان عامًّا إنما عمومه من حيث هو، أما إذا وقع مبتدأ أو خبرًا، يجب أن يكون مقصورًا على خصوص ما أخبر عنه أو [العكس] (¬3). وأنكر القاضي وجمعٌ من المتكلمين -وتبعهم الآمدي- إفادةَ نحو ذلك الحصر. ثم اختلف القائلون بالحصر: هل هو من حيث المنطوق؟ أو المفهوم؟ وبالأول قال الإمام الرازي وأتباعه، وبالثاني قال الغزالي وبعض الفقهاء. الصيغة الثانية: "العالِم زيدٌ" و"زيدٌ العالم". إذا جعلت "اللام" للحقيقة أو للاستغراق لا للعهد، فلذلك قال القاضي مُجَلِّي في "الذخائر" في باب "الرد بالعيب" في حديث: "الخراج بالضمان" (¬4): إنَّ اللام فيه للتعريف، ¬

_ (¬1) أمالي ابن الحاجب (2/ 698)، بيان المختصر (2/ 482). (¬2) كذا في (ز). لكن في (ق): الثالث. وفي سائر النُّسخ: الثابت. (¬3) في (ز): بالعكس. (¬4) سبق تخريجه.

أي: للعهد، كأنه قال: الخراج في مقابلة [نَيْل] (¬1) هذا بالضمان. ودَلَّ على هذا التقييد قيام الدليل مِن خارج أنَّ ضمان الغاصب والمقبوض عن سوم البائع والعقود الفاسدة الضمان فيها، ولا خراج للضامن. أما إذا كان الخبر بمِرة (نحو: "زيد قائم") فالأصح: لا يفيد الحصر، كما في حديث: "الصيام جُنة" (¬2)، فإنه لا يمنع أنَّ غيره أيضًا جُنة؛ ولهذا جاء: "فَلْيتق النار ولو بِشقِّ تمرة" (¬3). وقيل: يفيده. فقيل: [نُطْقًا] (¬4). وقيل: فَهْمًا. إذا علِمتَ ذلك، ظهر لك أن إسقاطي في النَّظم لهذا النوع (وهو حصر المبتدأ في الخبر) لِمَا فيه من الغموض والاختلاف، والله أعلم. ص: 474 - وَأَظْهَرُ الْأَقْسَامِ مَا بِـ "اسْتِثْنَا" ... فَمَا مِنَ الْمَنْطُوقِ قِيلَ وَهْنَا 475 - كَـ "غَايَةٍ"، وَبَعْدَ ذَاكَ "الشَّرْطُ" ... فَـ "صِفَةٌ [نَسِيئةٌ] (¬5) "ذَا ضَبْطُ 476 - فَغَيْرُ ذَا مِنْ صِفَةٍ إلَّا الْعَدَدْ ... فَـ "عَدَدٌ"، فَمَا بِتَقْدِيمٍ وَرَدْ ¬

_ (¬1) في (ت، البحر المحيط 3/ 138): مثل. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 1795)، صحيح مسلم (رقم: 1151). (¬3) صحيح البخاري (رقم: 1347)، صحيح مسلم (رقم: 1016) بلفظ: (اتقوا النار ولو بشق تمرة). (¬4) كذا في (ز). لكن في سائر النُّسخ: قطعا. (¬5) كذا في (ص، ت، ق، ن 5)، وهو الصواب، والمعنى: صفة مُنَاسِبَة (القاموس المحيط، ص 176). لكن في (ز، ظ، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4): نسبيَّة.

الشرح: لَمَّا ذكرتُ أقسام المفهوم بينتُ هنا ترتيبها باعتبار القوة والضعف؛ ليظهر بذلك فائدته في التراجيح. فأظهر الأقسام: ما كان من الحصر بالنفي والاستثناء إنْ قُلنا: إنه بالمفهوم. لكن سبق أن الأرجح كونه منطوقًا. ويلي هذا النوع كل ما قِيل بأنه من قبيل المنطوق وإنْ كان القول بذلك ضعيفًا؛ إذْ لولا قوته لَمَا جُعِل منطوقًا على قولٍ. وهو معنى قولي: (فَمَا مِنَ الْمَنْطُوقِ قِيلَ وَهْنَا)، أي: فالذي هو من المنطوق قِيل به حال كونه واهنًا، فَـ "وهنًا" مصدر منصوب على الحال، وذلك كالغاية، فقد قيل: إنه بالمنطوق كما سبق. وكذا الحصر بـ "إنما"، فَهُما في الرتبة سواء كما قرره السبكي في "شرح المختصر" وجعل بعدهما حصر المبتدأ في الخبر مُقَدَّمًا على الشرط، إلا أني لَمَّا لم أذكره في النَّظم؛ لِمَا سبق، لم أتَعَرَّض له في الترتيب. ثم بعد ذلك مفهوم الشرط؛ لأنه لم يَقُل أحد بأنه بطريق النُّطق. ثم بعده الصفة، وإنما قُدِّم عليها؛ لأنه قد قال به مَن لا يقول [بها] (¬1)، كابن سريج كما أسلفناه. والصفة لها مراتب: أعلاها: المناسبة، وهو معنى قولي: (نَسِيبَةٌ) فعيلة بمعنى الفاعل وإنْ كان من غير الثلاثي. وإنما قُدمتْ لاتفاق القائلين بالصفة عليها؛ ولأنه في "المستصفى" جعلها من قبيل ¬

_ (¬1) كذا في (ز). لكن في سائر النُّسخ: به. يعني: مَن قال بمفهوم الشرط ولَمْ يَقُل بمفهوم الصفة.

الإشارة، وهي قريبة من النطق. ثم بعد ذلك الصفة غير المناسبة سِوَى العَدد، فدخل تحت ذلك العِلَّة والظرف والحال، فتكون في مرتبة واحدة، لكن ينبغي تقديم العلة؛ لدلالتها على الإيماء، فقربتْ من المنطوق. ثم بَعد الثلاثة مِن الصفة: العَدد؛ لإنكار كثير له كما سبق وإنْ كان الأرجح خِلافه. ثم بَعد ذلك مفهوم تقديم المعمول؛ لِمَا سبق من إنكار بعضهم إفادته الاختصاص، وبتقدير ذلك فهل الاختصاص الحصر؟ أو أَعَم منه؟ فأُخِّر عن الكل لذلك، والله أعلم. ص: 477 - وَمَا بِإسْمٍ عُلِّقَ الْحُكْمُ "لَقَبْ" ... وَلَيْسَ حُجَّةً، وَبَعْضٌ ارْتَكَبْ الشرح: أي: ما سبق من المفاهيم هو المعتبر، وأما "مفهوم اللقب" فليس بحجة. ومفهوم اللقب: أَنْ يعلق الحكم بِاسْم عَلَم (نحو: أَكْرِم زيدًا) أو اسم نوع (نحو: في الغنم الزكاة)، فلا يدل على نفي الحكم عَمَّا عداه. وقد نَص عليه الشافعي كما قاله إمام الحرمين في "البرهان"، وقال الأستاذ أبو إسحاق: لم يختلف قول الشافعي وأصحابه فيه. وقولي: (وَبَعْضٌ ارْتَكَبْ) أي: وقد ارتكب بعض العلماء القول بِحُجِّيَّة مفهوم اللقب، والمشتهر عنه ذلك أبو بكر الدقاق محمد بن محمد بن جعفر القاضي الأصولي الفقيه الشافعي، ناظره الأستاذ أبو إسحاق فيه، وقال عنه في "شرح الترتيب": إنه ممن يُنسب إلى أصحاب الحديث والشافعي، وكان معتزلي الذهب في الأصل، وتمذهب بمذهب الكعبي في أن أصل الأشياء على الحظر. وتوفي الدقاق سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة.

قال ابن الرفعة وغيره: لم يَقُل بمفهوم اللقب من أصحابنا غيره. وليس كذلك؛ فقد قال سليم: إنه صار إليه من أصحابنا الدقاق وغيره. وكذا حكاه ابن فورك عن بعض أصحابنا، ثم قال: وهو الأصح. وكذا نقل إلْكِيَا في "التلويح" عن ابن فورك أنه كان يميل إليه ويقول: إنه الأظهر والأَقْيَس. وحكاه السهيلي في "نتائج الفكر" في "باب العطف" عن أبي بكر الصيرفي. قيل: ولَعلَّه تحرَّفَ عليه بالدقاق أبي بكر. ونقله عبد العزيز في "التحقيق" عن أبي حامد [المروروذي] (¬1)، لكن المعروف أن أبا حامد ينكر المفهوم مطلقًا. وقال إمام الحرمين: (القول باللقب صار إليه طوائف من أصحابنا) (¬2). ونقله أبو الخطاب الحنبلي في "التمهيد" عن منصور بن أحمد (¬3)، ومنهم من عزاه إلى أحمد نفسه. قال أبو الخطاب: وبه قال مالك وداود وبعض الشافعية. ونقله المازري عن ابن خويز مِنداد من المالكية، وحكاه الباجي عنه وعن ابن القصار. و"خويز مِنداد" بالميم المكسورة، وعن ابن عبد البر بالموحدة بدلها. وقال المازري: نسب إلى مالك القول به؛ لاستدلاله في "المدونة" على عدم إجزاء الأضحية إذا ذبحت ليلًا؛ لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: ¬

_ (¬1) في (ز): المروزي. (¬2) البرهان في أصول الفقه (1/ 301). (¬3) هنا آخِر نُسخة الأزهرية (ز).

28]. قال: فذكر الأيام ولم يذكر الليالي. وزُيِّفَ هذا المذهب بأن المصير إليه يلغي تعيين كل ما اعتبر الشارع عَيْنه، ويستلزم إنكار قيام كل مَن في العالم عند قولنا: (زيد جالس)، ويَلزم تكفير مَن قال: عيسى رسول الله. ويمكن الجواب عن ذلك بأن المفهوم إنما يُحتج به عند عدم معارضة منطوق. وفي المسألة مذهب ثالث بالتفصيل بين أسماء الأنواع فيعتبر مفهومها، وبين أسماء الأشخاص فلا يُعتبَر. ووقع في كلام جماعة من أئمتنا -كالشيخ أبي حامد وابن السمعاني وغيرهما- ذِكر مفهوم الأعيان، قالوا: وهو كقولك: "في هذا المال زكاة"، و"على هذا الرجل حج". قالوا: وهو كاللقب. والمتأخرون اكتفوا باسْم اللقب عن الكل، فإن المراد ليس اللقب عند النحاة الذي هو أحد أنواع العَلم مقابلًا للاسم و [الكنية] (¬1)، إنما المراد اللغوي وهو مطلق الاسم سواء أكان اسم جنس أو عَلمًا، ولا يخرج به إلا الصفات المشتقة؛ فإنها من قبيل مفهوم الصفة كما سبق. وبه صرح ابن السمعاني، وأوضح ابن الحاج في "تعليق المستصفى" ذلك، قال: فإنه قد يكون الاسم مشتقًا ولكنه في معنى الجامد؛ لغلبة الاسمية عليه، كتمثيل الغزالي اللقب بحديث: "لا تبيعوا الطعام بالطعام" (¬2)، وكذا لا فرق بين قولنا: "في الغنم زكاة" و"في الماشية زكاة"؛ لأن الماشية هان كانت مشتقة لكن لم يُلحظ فيها المعنى، بل غلب عليها الاسمية. ¬

_ (¬1) في (ق): الصفة. (¬2) سبق تخريجه.

وحكى ابن حمدان وأبو يعلى من الحنابلة قولًا رابعًا: وهو التفصيل بين أن تدل قرينة فيكون حُجة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "جُعلت لي الأرض مسجدًا وتربتها طهورًا" (¬1)، إذْ قرينة الامتنان تدل على الحصر فيه، أوْ لا فلا. وقريب من هذا قول الغزالي في "المنخول": (إنه حُجة مع قرائن الأحوال) (¬2). وينبغي أن يُعد من ذلك ما وقع لأصحابنا في مواضع من الاحتجاج بمفهوم اللقب، كاستدلالهم بحديث: "حتيه ثم اقرصيه بالماء" (¬3)، وبحديث: "وتربتها طهورًا" على تَعَيُّن ذلك، لكن نَفْي ما سواه ليس من حيث الحكم بالاسم فقط، بل للانتقال من العام إلى الخاص، فإنه يدل على تَقَيُّد الحكم به، فلما ترك مطلق المائع وأتى بالماء وترك الأرض وأتى بالتراب، دَلَّ على الاختصاص، فلا يخرج عن عهدة الأمر إلا بامتثال الخاص. كذا قرره ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" قلتُ: مَن تأمل ذلك يجده لا يخرج عن اعتبار مفهوم اللقب. نعم، أشار ابن دقيق العيد إلى التحقيق في المسألة، وهو أن يقال: إن اللقب ليس بحجة إذا لم يوجد فيه رائحة التعليل، فإنْ وُجدت، كان حجة. قال: كما في قوله: "إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها" (¬4)، يُحتج به على أن الرجُل يمنع امرأته من الخروج إلا بإذنه؛ لأجل تخصيص النهي بالخروج للمسجد، فإنه يقتضي المنع من الخروج لغير المسجد، ولا يقال: إنه مفهوم لقب؛ لِمَا في المسجد من المعنى ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (رقم: 522). (¬2) المنخول (ص 217). (¬3) صحيح البخاري (رقم: 225)، صحيح مسلم (رقم: 291) بلفظ: (تحتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ). (¬4) صحيح البخاري (رقم: 4940)، صحيح مسلم (رقم: 442).

المناسب وهو محل العبادة، فلا تمنع منه، بخلاف غيره. وقد حصل الجواب عما سبق في "اقرصيه بالماء"، و"تربتها طهورًا". تنبيه حيث قلنا باعتبار مفهوم من المفاهيم السابقة ففيه بحثان: الأول: ظاهر كلام كثير من القائلين به أن محله في الإنشاء، لا في الخبر؛ ولهذا لَمَّا ذكر ابن الحاجب من اعتراضات المانع أنه: (لو ثَبتَ، لَثَبتَ في الخبر، وهو باطل؛ لأن مَن قال: "في الشام الغنم السائمة" لم يدل على خِلافه قطعًا)، ثم قال: (وأجيب بالتزامه، وبأنه قياس في اللغة). قال: (ولا يستقيمان). لأن الالتزام مكابرة مخالفة المنقول. ولو سُلم ثبوته في الخبر فليس ذلك قياسًا في اللغة، بل باستقراء. ثم قال: (إن الحقَّ -أيْ في الجواب- الفَرق بين الخبر والإنشاء، فإنَّ الخبر وإنْ دَلَّ على أن المسكوت عنه غير مُخْبَر به فلا يلزم أن لا يكون حاصلًا). أي: في الخارج؛ لجواز أن يكون حاصلًا ولم يخبَر عنه؛ لأن الخبر يفتقر إلى خارج وهو مُتعلَّقُه. : (بخلاف الحكم -أي الإنشائي- إذْ لا خارج له حتى يجري فيه ذلك) (¬1). ¬

_ (¬1) هذا تتمة كلام ابن الحاجب في مختصره الأصولي (2/ 464 - 469) مع (بيان المختصر).

فإن وجوب الزكاة [نشأ مِن] (¬1) نَفْس قوله: "أوجبتُ" أو نحوه. فإذا انتفى هذا القول فيه، فقد انتفى وجوب الزكاة فيه، ولا يَلزم من الانتفاء في قولك: (في الشام الغنم السائمة) انتفاء كونها في غير الشام، بل قد تكون وأنت لم تخبر عنها لكنه وإن كان صحيحًا فقد لا يكون له غرض في الإخبار عنه. فلهذا قال ابن السمعاني: (إن المخبِر قد يكون له غرض في الإخبار بأن في الشام غنمًا سائمة ولا يكون له غرض في الإخبار عن غير الشام. وأما الشارع في مقام الإنشاء فغرضه أن يبين جميع الأحكام التي كلفنا بها، فإذا قال: "زكوا عن الغنم السائمة"، عَلِمنا أنها لو كانت الزكاة في جميع الغنم لَعَلَّق بِمُطْلَق الاسم) (¬2). الثاني: إن المفاهيم إنما يُعمل بها في كلام الشارع؛ لِعِلمه بواطن الأمور وظواهرها، دون كلام الناس كألفاظ الواقفين والموصين والمقِرين والمصنفين في ذلك؛ لِغَلبة الذهول على الناس، فيكون كالقياس لا يُعمل به في أمور الناس كما قرره الشيخ تقي الدين السبكي، وهو ظاهر المذهب. فنقل الرافعي عن فتاوى القاضي حسين -وأقره- أنه لو ادُّعِي عليه بعين مال مثلًا فقال: (لا يلزمني تسليم هذا إليك اليوم)، لا نجعله مُقِرًّا. قال: (لأن الإقرار لا يثبُت بالمفهوم) (¬3). قيل: وله التفات إلى ما سبق من كون العمل بالمفهوم من جهة الشرع أو اللغة. فإنْ قُلنا ¬

_ (¬1) في (ق): هو. (¬2) انظر: قواطع الأدلة (1/ 248). (¬3) العزيز شرخ الوجيز (13/ 289).

بالأول فيقع الفرق، أو بالثاني فلا فرق؛ ولهذا يطلقون الخلاف في المسألة. وقد حكى الغزالي في "البسيط" -فيما لو قال: (قارضتك على أن لي النصف) وسكت عن جانب العامل- أنَّ: (ظاهر النص أنه فاسد؛ لأن جميع أجزاء الربح تضاف إليه بحكم الملك، وإنما تنصرف عنه بإضافته إلى غيره، ولم يُضف. وذكر ابن سريج قولًا مُخَرَّجًا: إنه يصح؛ تمسكا بالفحوى والمفهوم). انتهى وقال الهروي في "الإشراف": (لو قال: "ما لِزَيْد علَيَّ أكثر من مائة درهم" لم يكن مُقِرًّا بالمائة؛ لأنه نَفْي مجرد؛ فلا يدل على الإثبات. وفيه وجه أنه إقرار وهو قول أبي حنيفة، وأصل هذا أن دليل الخطاب هل هو حُجة؟ أو لا؟ ). انتهى وحكى ابن تيمية في بعض مؤلفاته التفصيل بين كلام الشارع وكلام الناس، وقال: (إنه خِلاف الإجماع؛ فإن الناس إما قائل بأن المفهوم من جملة دلالات الألفاظ؛ ولهذا يستدلون -على أنه حُجة- بكلام الناس، أوْ لا، فالتفصيل إحداثُ قولٍ ثالث. وأما إلحاقه بالقياس فممنوع؛ لأنه ليس من دلالات الألفاظ حتى يستوفي فيه الشرع والناس، إنما صار دليلًا بِتَصَرُّف الشارع وجَعْله حُجة) (¬1). وقد يقال: هذا التفصيل قريب من الذي قبله، وهو الفرق بين الخبر والإنشاء؛ لأن الناس مخبرون عما في أنفسهم، لا منشئون. وعَكَس بعض الحنفية هذا التفصيل، فقال الخبازي في حواشي "الهداية" في باب "جنايات الحج": إن شمس الأئمة ذكر في "السير الكبير" أن تخصيص الشيء بالذِّكْر لا يدل على كون الحكم بخلافه، إنما هو في خطابات الشرع، فأما في معاملات الناس وعُرفهم فإنه يدل. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (31/ 136).

ويدل على ما قاله ما سبق عن حكاية الهروي، فإنَّ أبا حنيفة جعله مُقِرًّا مع أنه لا يقول بالمفهوم، على أن التفصيل الأول موجود قديمًا، فدعْوَى ابن تيمية أنه خرق للإجماع ممنوعة، وكذلك اقتصار تاج الدين السبكي على أنه كلام والده، بل ولا خصوصية له بالمفهوم؛ فقد حكى إلْكِيَا الهراسي الخلاف في أن قواعد الأصول المتعلقة بالألفاظ كالعموم والخصوص وغير ذلك هل تختص بألفاظ الشارع؛ أو تجري في كلام الآدميين؟ وسيأتي في "باب العموم" حكايته عن القاضي حسين أيضًا، والراجح الاختصاص، ويشهد له هنا قولهم: إن المفهوم إنما كان حُجة لأنه في معني العلة، فيقتصر على المذكور دون المسكوت، ولا شك أن العِلَل لا ينظر إليها في كلام الناس؛ إذ لا يجري فيها القياس قطعًا. وكذا قولهم: (إن المسكوت قد لا يخطر بالبال) إنما هو في غير كلام الشارع. ومن هذا تخريج مسائل الفروع على القواعد الأصولية إذا كانت تلك الفروع من كلام الناس، ففيه نظر ظاهر، والله أعلم. تذنيب الشرح: ترجمتُ بذلك لِمَا بقي من مسائل وضع اللغة المحتاج إليها في الاستدلال. وهو من مادة "ذنب" الدالة على التأخر والتعقب، ومنه: ذنب الدابة والذنابة، فهو استعارة منه. والغرض بهذه الترجمة أمران: أحدهما: بيان مَن هو واضع اللغة. والثاني: بيان الطريق إلى معرفتها. فإلى الأول أشرت بقولي:

ص: 478 - اللهُ جَلَّ وَاضِعُ اللُّغَاتِ ... فَلَا تَدُلُّ بِالْمُنَاسَبَاتِ 479 - وَوَقَّفَ الْعِبَادَ إمَّا وَحْيَا ... أَوْ خَلْقَ فَهْمٍ، أَوْ وَعَوْهَا وَعْيَا 480 - لِعِلْمِهَا ضَرُورَةً، لَا الْبَشَرُ ... وَلَوْ لِقَدْرِ حَاجَةٍ تُعْتَبَرُ الشرح: ومعنى "جَلَّ": عَظُم، فهو تعالى ذو الجلال والإكرام، ومن أسمائه الحسنى " الجليل " وهو الموصوف بنعوت الجلال، وهي: الغِنى والمُلْك والقُدْس والعِلم والقدرة ونحوها. والمضارع من "جَلَّ " يَجِل بالكسر، بخلاف نحو: "جل الرجل عن منزلته" بمعنى: جَلَا عنها، و: "جل القوم عن البلد" جَلوا عنها جلولًا، و: "هُم الجالَّة" فإنَّ مضارع هذا "يَجُل" بالضم. وقد اشتملت هذه الأبيات على مسألتين: إحداهما: احتياج اللغة إلى وضع. والثانية: أن واضعها هو الله تبارك وتعالى. فأما احتياجها فهي مسألة: دلالة اللفظ على المعنى هل يشترط فيه المناسبة؟ فالجمهور على المنع؛ لأن اللفظ علامة على المعنى ومُعَرف له بطريق الوضع. وذهب عباد بن سليمان الصيمري (وهو أبو سهل من معتزلة البصرة من أصحاب هشام ابن عمرو، وكان الجبَّائي يصفه بالحذق في الكلام) إلى أن دلالة اللفظ على المعنى لا بُدَّ لها من مناسبة طبيعية، وتبعه بعضهم. ثم اختلف في النقل عنه ذلك في محلين:

أحدهما: نقل عنه في "الحصول" أنه أراد أن اللفظ يفيد المعنى بذاته من غير وضع واضع؛ لِمَا بينهما من المناسبة الطبيعية. قال الأصفهاني: (وهو الصحيح عنه) (¬1). ونقل عنه الآمدي أن المناسبة حاملة للواضع على أن يضع. واحتج عباد بأن المناسبة لو لم تعتبر لكان اختصاص اللفظ بذلك المعنى ترجيحًا من غير مُرجِّح. وجوابه -على النقل الأول- أنه ترجح بإرادة الواضع. ولو كانت ذاتية، لَمَا اختلفت باختلاف النواحي، ولاهتدى كل أحد لمعرفة كل اللغة، ولكان الوضع للضدين -إذا قُلنا بجواز [الاشتراك] (¬2) بين الضدين كـ "الجون" للأسود والأبيض- مُحَالًا. وعلى النقل الثاني: يكون المرجِّح ليس الباعث العقلي، وإلا لَمَا اختلف العرب والعجم فيه، لكن إرادة الواضع، أو إلهام الله تعالى إياه إنْ قُلنا: (الواضع البشر)، أو خُطُوره ببالهم. الثاني: قال السكاكي: هذا المذهب متأول على أن للحروف خواص تناسب معناه من شدة وغيرها كالجهر والهمس والتوسط، كَـ "الفصم"، فإنه بالفاء -التي هي حرف رخو- معناه: كسر الشيء من غير إبانة، و"القصم" الذي هو حرف شديد: كسره بإبانة ونحو ذلك. لكن القائل باعتبار المناسبة إنْ قَصد أن ذلك علِة مقتضية -لِذَاتها- هذه المعاني، فخرقٌ للإجماع. وإنْ قصد أن الواضع راعَى هذا المعنى في وضعه وإنْ لم يكن هو الباعث له عليه -وهو الظاهر من كلامه- فهو مذهب جَمْعٍ من أرباب عِلم الحرف زعموا أن للحروف طبائع في طبقات من حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة، فناسب أن يوضع لكل مسمّى ما يناسبه من ¬

_ (¬1) انظر: الكاشف عن المحصول (1/ 431 - 434). (¬2) كذا في (ض، ت، ظ)، لكن في (ص، ش): المشترك.

طبيعة تلك الحروف؛ ليطابق لفظه معناه. وكذا زعم المنجمون أن حروف اسم الشخص مع اسم أُمه واسم أبيه تدل على أحواله مُدة حياته؛ لِمَا بينهما من المناسبة. فَيُرَد على عبَّاد حينئذٍ بما هو مشهور في رَد هذه المذاهب الفاسدة. وعبارة [الخُويي] (¬1) في المسألة: هل للحروف في الكلمات خواص؟ أو وضعت لمعانيها اتفاقًا؛ فوضع " الباب" لمعنى، و"الناب" بالنون لآخَر، ولو عُكس لم يمتنع. قال: والاشتغال بالمناسبة لكل لفظ لمعناه -اشتغال بما لا يمكن، وتضييع للزمان. فإنِ اتفق أنْ وقع شيء في الذهن من غير نكير، قيل به كما سبق في الشدة والرخاوة في "قصم " و"فصم". وبناء المسألة على مسألة حكمية، وهي أن الفاعل المختار هل يشترط في اختياره وجود مرجِّح؟ والأظهر: لا، كاختيار الجائع -لِدفع جوعه- أحد رغيفين. وحكى الواحدي في "البسيط" عند قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] أن الزجاجي فصل في هذه المسألة بين: - الألقاب، فلا تحتاج للمناسبة؛ لأن القصد بتسمية "زيد" مثلًا ليس هو لمعنى الزيادة. - أو غيرها، فيحتاج. ثم قال بعض شيوخنا: تظهر ثمرة هذا الخلاف فيما إذا تعارض مدلول اللفظ والعُرف، أيهما يُقَدَّم؟ فيه وجهان، أصحهما عند إمام الحرمين والغزالي اعتبار العُرف. ووجَّهَه الإمام ¬

_ (¬1) في (ت): الخوبي. لكن في (ص، ق، ظ): الجويني.

بأن العبارات لا معنى لأعيانها، وهي في الحقيقة أمارات منصوبة على المعاني المطلوبة. المسألة الثانية (في تعيين الواضع): وهي مُرتبة على التي قبلها، وهو معنى قولي: (فَلَا تَدُلُّ بِالْمُنَاسَبَاتِ). أي: فلأجل ذلك كانت اللغة لا بُدَّ لها من واضع، وهو الله تعالى، إذ ليست تدل بالمناسبة حتى يُكتفَى بها عن الوضع، ولا أن الباعث لواضعها المناسبة؛ لأن أفعال الله تعالى لا تُعَلل بالغرض. هذا معنى تعقيبي بالفاء، لا أن مسألة المناسبة مُفَرعة على اشتراط الواضع، فاعْلَمه. والمسألة فيها مذاهب: أحدها وعُزي للأشعري، وبه قال أبو بكر بن فورك من كبار أصحابه والجمهور: اللغات توقيفية، لا مدخل للخلق في وضعها، فالله تعالى وضعها، ثم وقَّف العباد عليها إما: - بوحي إلى أنبيائهم الذين يتلقون الشرائع منهم؛ لقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} إذا لم نَقُل: معناه المسميات، ولا الخواص، ولا نحو ذلك. - وإما بخلق فَهْم لها من أصوات خلقها فسمعوها. - أو بخلق عِلم ضروري في صدورهم علموها ووعوها وعيًا كما عبرت به في النَّظم. وقيل: إن الأشعري إنفي تكلم في الوقوع، لا في الجواز، وإلا لَنقله عنه القاضي أبو بكر وغيره من أصحابه. ولكن ذكر إمام الحرمين الخلاف في الجواز وأن الوقوع لم يثبت. وممن اختار هذا المذهب أيضًا ابن فارس في "فقه اللغة" (¬1)، قال: (لأن إجماعهم على الاحتجاج بِلُغة القوم لو كان لكونها مواضعة، لم يكونوا أَوْلى منا بالاحتجاج باصطلاحنا ¬

_ (¬1) في (ص، ش): العربية.

اليوم على لغة) (¬1). وفي "شرح سيبويه" لابن خروف: لو كانت اصطلاحًا، لم يختلفوا فيقول بعضهم: "مررت بأبيك"، وآخَرون: "بأباك". وأيضًا فقد استعملوا أبنية وتركوا غيرها، ولا سبيل إلى الاصطلاح؛ لأنه لم توجد أُمة وُلدت متكلمة ولا تكلمت حتى عُلِّمت. واحتج ابن فورك بأنها لو كانت اصطلاحية لاحتاجت إلى لغة أخرى أو إشارة أو كناية، وذلك يحتاج إلى آخر، والآخر كذلك حتى ينتهي إلى غير مصطلح عليه؛ فيؤول إلى التوقيف. المذهب الثاني: أن الله ألهم العباد أن يتكلموا بها من غير أن يضعها واضع، كأصوات الطير والبهائم حيث كانت أمارات على إرادتها فيما بينها بإلهام الله تعالى. حكاه صاحب "الكبريت الأحمر" عن الفارسي. قلتُ: قد يقال: إن هذا عَيْن الذي قَبْله؛ لأنه لَمَّا ألهمهم ذلك كان عَين إرادته أنَّ هذا اسم لهذا، وهذا معنى الوضع بالنسبة إليه، فلا تَغايُر بينهما، وقد سبق أن من طُرق تعليم العباد "الإلهام"، فهو هذا. وأخرج الحاكم في "المستدرك" عن جابر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا قوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ [يَعْلَمُونَ] (¬2)} [فصلت: 3]، ثم قال: ألهم إسماعيل هذا اللسان إلهامًا" (¬3). قال ¬

_ (¬1) الصاحبي في فقه اللغة (ص 14). (¬2) في جميع النسخ: يعقلون. (¬3) المستدرك على الصحيحين (2/ 516، رقم: 3641). قال الإمام الذهبي في (تلخيص المستدرك، رقم: 3698): (مدار الحديث على إبراهيم بن إسحاق العسيلي، وكان ممن يسرق الحديث). المستدرك على الصحيحين مع انتقادات الذهبي، طبعة: دار الحرمين بالقاهرة - 1997 م.

الحاكم: صحيح الإسناد. قال الذهبي في "مختصره": (حقه أن يقول: "على شرط مسلم"، ولكن مدار الحديث على إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم الغسيلي، وكان ممن يسرق الحديث). انتهى المذهب الثالث وبه قال أكثر المعتزلة: أنها اصطلاحية، على معنى أن واحدًا أو جَمْعًا من البشر وضعوها، وحصل التعريف للباقين بالإشارة والقرائن، كتعريف الوالدين لغتهما للأطفال. وحكاه ابن جني في "الخصائص" عن أكثر أهل النظر. وقال إلْكِيَا الطبري: معنى الاصطلاح أن يعرفهم الله مقاصد اللغات، ثم يهجس في نفس واحد منهم أن ينصب أمارة على مقصوده، فإذا بسطها وكررها واتصلت القرائن بها، أفادت العِلم، كالصبي يتلقى من والده. وفسر ابن السمعاني الاصطلاح بأنه لا يبعد أن يحرك الله نفوس العقلاء لذلك ويُعَلم بعضهم مراد بعض، ثم ينشئون على اختيار منهم صِيَغًا لتلك المعاني المرادة، كتسمية الأب مولوده، وكذا تستحدث صنعة أو آلة فتسميها. وعلى هذا القول قال ابن جني في "الخصائص": (إنها متلاحقة، بعضها يتبع بعضًا، لا أنها وضعت في وقت واحد) (¬1). قال: وهو قول أبي الحسن الأخفش. وهو الصواب بناء على أن الواضع وضع من أول الأمر شيئًا ثم احتيج للزيادة عليه بحصول الداعية إليه، فَزِيدَ فيه شيئا فشيئًا. الرابع وبه قال الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني: القَدْر المحتاج إليه في التعريف توقيفي، ¬

_ (¬1) الخصائص (2/ 28 - 30).

وأمما غيره - وهو الزائد على الاحتياج - فاصطلاحي. كذا حكاه عنه ابن القشيري، وجرى عليه صاحب "المحصول" وأتباعه كالبيضاوي. لكن الذي حكاه عنه ابن برهان والآمدي وغيرهما - وهو الصواب الموجود في كتاب الأستاذ - أنه محتمل لأنْ يكون توقيفيًّا أو اصطلاحيًّا. ونقله عن بعض المحققين من أصحابنا، وعلى النقلين يَصيران مَذهبين. الخامس (عكس هذا المذهب): أن يكون القدر المحتاج محتملًا أو مصطلحًا على [النقلين] (¬1)، والباقي توقيفًا. وربما عُبر عن هذين القولين بأن مبتدأ اللغة توقيفي والباقي مصطلح، وبالعكس. وإلى ذلك أشرت بقولي في النَّظم: (وَلَوْ لِقَدْرِ حَاجَةٍ تُعْتَبَرُ)، ثم بينتُ في البيت الذي بعده القول الآخر بقولي: (وَعَكْسٌ). وهذه الاحتمالات في النقل يمكن دخولها في هذه العبارة. السادس: الوقف في المسألة، فلا يُقْضَى فيها بتوقيف ولا باصطلاح، لا في الكل ولا في البعض. وبه قال كثير، كالقاضي وجمهور المحققين كما في "المحصول"؛ لتعارض الأدلة عندهم، فلم يرجحوا شيئًا. والسابع (وهو مختار ابن الحاجب وتبعه في "جمع الجوامع" واختاره أيضًا ابن دقيق العيد): الوقف عن القطع بواحد من الاحتمالات، ولكن التوقيف مطلقًا هو الأغلب على الظن. الثامن (وهو يخرج من كلام ابن السمعاني): أن الكل محتمل مع ظهور مذهب الأستاذ. التاسع: يخرج من كلام بعض المتأخرين أن الأعلام يُقطع فيها بالاصطلاح، والباقي محتمل. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ش)، لكن في (ض، ظ، ت، ق): القولين.

العاشر (حكاه الأستاذ أبو منصور): التوقيف في الابتداء على لغة واحدة، وما سواها من اللغات تفرقوا فيه. قال: وقد رُوي عن ابن عباس أن أول مَن تكلم بالعربية المحضة إسماعيل عليه السلام. وأراد به عربية قريش التي نزل بها القرآن، وأما عربية قحطان وحمير فكانت قبل إسماعيل عليه السلام. تنبيهات أحدها: قال السمناني في "الكفاية": قال المتأخرون من الفقهاء: هذا الخلاف إن كان في الجواز العقلي فهو ثابت بالنسبة إلى جميع المذاهب؛ إذْ لم يَلزم منه محُال، وإنْ كان في الوقوع السمعي فباطل؛ لأن الوقوع إنما يكون بالنقل، ولم يوجد فيه خبر متواتر ولا برهان عقلي. الثاني: قال الأستاذ أبو منصور في "التحصيل": أجمع أصحابنا على أن أسماء الله تعالى توقيفية، ولا يجوز إطلاق شيء منها بالقياس وإن كان في معنى المنصوص. وجَوَّزه معتزلة البصرة. قال: (وأما أسماء غيره فالصحيح من مذهب الشافعي جواز القياس فيها، وقال بعض أصحابه مع أكثر أهل الرأي [بامتناع] (¬1) القياس. وأجمعوا أنه لو حدث في العالم شيء بخلاف الحوادث كلها جاز أن يوضع له اسم، واختلفوا في كيفيته، فمنهم مَن قال: [يُسَمَّى] (¬2) باسم الشيء القريب منه في صورته، ويكون ذلك من جملة اللغة التي قِيس عليها. ومنهم من قال: يُسند إليه اسم كيف كان، ويكون ذلك لغة مختصة بالمسمَّى بها). ¬

_ (¬1) في (ق): باجتماع. (¬2) في (ص): نسميه. وفي (ش): يسمه.

انتهى الثالث: قال الأبياري في "شرح البرهان": (لا فائدة للمسألة، وذِكرها في الأصول فضول) (¬1). وقال بعضهم: لا فائدة لها إلا تكميل العِلم بهذه الصناعة أو جواز قلب ما لا يُطلَق له بالشرع، كتسمية الفرس ثورًا وعكسه. وقال بعضهم: إنها جرت في الأصول مجرى الرياضيات، كمسائل الجبر والمقابلة. وزعم بعضهم خلاف ذلك وأن لها فوائد، فخرج عليها: ما لو عقد بصداق في السر وبآخَر في العلانية. أو استعملا لفظ شركة المفاوضة في شركة العنان حيث نَص الشافعي على جوازها. أو تبايعا بالدنانير وسَمَّياها دراهم، أو عكسه، فإن ابن [الصباغ] (¬2) قال: لا يصح. وكما لو قال لزوجته: إذا قلتُ: "أنت طالق ثلاثًا" فإني لم أُرِد به الطلاق، وإنما غرضي أن تقومي أو تقعدي، ثم قال لها ذلك، وقع. وحكى الإمام في "باب الصداق" وجهًا أن الأثمان بما [يتواضعان] (¬3) عليه. وفي "البسيط" (¬4): سمى أَمته "حرة" ولم يكن ذلك اسمها، ثم قال لها: "يا حرة"، الظاهر أنها لا تعتق إذا قصد النداء. وجعله ملتفتًا على هذه القاعدة. ¬

_ (¬1) التحقيق والبيان في شرح البرهان (1/ 510). ونص كلام الأبياري: (قال بعض الأصوليين: الكلام عليها في الأصول فضول). ثم ذكر الأبياري فائدة واحدة للمسألة. (¬2) كذا في (ص، ش). لكن في (ت، ق، ظ، ض): الصلاح. (¬3) كذا في (ق، ظ). لكن في (ص، ش، ض): يتواصيان. (¬4) في (ق): الوسيط.

قال في "المطلب": والأشبه عدم بنائه على ذلك؛ لأنه مُفَرع على وضع الاسم بالاصطلاح، وإذا جاز، صار كالاسم المستمر. ولو كان اسمها بعد الرق "حرة" ولم يكن ذلك من تسميته وناداها به وقصد ذلك، لم يقع، فكذا هنا. وغير ذلك من الصوَر. والحقُّ أنه لا يتخرج شيء من ذلك على هذه القاعدة؛ لأن مسألتنا في أن اللغات التي هي بين أَظْهُرنا هل هي توقيف؟ أو اصطلاح؟ لا في شخص خاص اصطلح مع صاحبه على تغيير الشيء عن موضوعه. وإنما تناسب هذه الفروع قاعدة: "إن الاصطلاح الخاص هل يرفع الاصطلاح العام؟ أو لا؟ " وفيها خلاف. ومنهم من قال: فائدة الخلاف في مسألتنا تظهر في جواز قلب اللغة، فالقائلون بالتوقيف يمنعونه مطلقًا، وبالاصطلاح يجوزونه إلا أن يمنع الشرع منه كما قاله القاضي وإمام الحرمين وغيرهما. وأما المتوقفون فقال المازري: اختلف فيه المتأخرون، فقال [الآذري] (¬1) بالجواز كمذهب الاصطلاح، وعبد الجليل الصابوني بالمنع. وقال الماوردي في "تفسيره": (فائدة الخلاف أن مَن قال بالتوقيف جعل التكليف مقارنًا لكمال العقل، ومَن جعله اصطلاحًا جعله متأخرًا مدة الاصطلاح). ثم حكى وجهين في تعليم الأسماء لآدم عليه السلام: (أحدهما ان التعليم كان للاسم دون المعنى. ¬

_ (¬1) لعلها الأزدي. وفي (ض، ش): الأدري. وفي (ق): الأودني. وفي (ظ): الأودي. وفي (ت، تقريبًا ص): الآذَرِي.

والثاني: للأسماء ومعانيها، وإلا فلا فائدة في الأسماء وحدها. وعلى الأول وجهان: أحدهما: عَلَّمه إياها باللغة التي كان [يتكلم] (¬1) بها. والثاني: بجميع اللغات، وعَلَّمها آدم ولده، فلمَّا تفرقوا تكلم كل قوم منهم بلسان استسهلوه منها وألِفوه، ثم نَسوا غيره بتطاوُل الزمان. وقيل: أصبحوا وكُل قوم منهم تكلموا بِلُغة نسوا غيرها في ليلة واحدة. و [قيل] (¬2): هذا في [العُرف] (¬3) ممتنع) (¬4). انتهى وزعم بعض الحنفية أنهم يقولون بالتوقيف، وعزا الاصطلاح لأصحابنا، ثم قال: (وفائدة الخلاف أنه يجوز التعلق باللغة عند الحنفية لإثبات حكم الشرع من غير رجوع إلى الشرع، وبنوا عليه أن حكم الرهن الحبس؛ لأن اللفظ ينبئ عنه. وعند الشافعية أن [التعلق] (¬5) باللغة لأحكام الشرع لا يجوز؛ لأن الواضعين في الأصل كانوا جُهالًا وضعوا عبارات لِمُعَبرات لا لمناسبات، ثم استُعملت وصارت لُغة). انتهى والله أعلم. ¬

_ (¬1) كذا في (ت)، لكن في سائر النسخ: يَعْلم. (¬2) كذا في جميع النُّسخ. لكن في تفسير الماوردي (النكت والعيون، 1/ 99): مثل. طبعة: دار الكتب العلمية - بيروت. (¬3) كذا في (ت) وتفسير الماوردي (1/ 99). لكن في سائر النُّسخ: العرب. (¬4) النكت والعيون (1/ 99). (¬5) في (ق): التعليق.

ص: 481 - بِهِ، وَعَكْسٌ، ثُمَّ طُرْقُ الْمَعْرِفَهْ ... مِنْ أَهْلِهَا بِمَا تَرَى أَنْ تَعْرِفَهْ 482 - النَّقْلُ بِالْآحَادِ أَوْ تَوَاتُرِ ... كَذَلِكَ اسْتِنْبَاطُ عَقْلٍ وَافِرِ 483 - مِنْ ذَاكَ، لَا مُجَرَّدُ الْقِيَاسِ ... وَلَا بِعَقْلٍ دُونَ ذَا الْأَسَاسِ الشرح: قولي: (بِهِ، وَعَكْسٌ) متعلق بما سبق من الإشارة إلى بقية المذاهب في تلك المسألة كما بيناه. وقولي: (ثُمَّ طُرْقُ الْمَعْرِفَهْ) إشارة إلى الأمر الثاني مما عقد له الترجمة بالتذنيب، وهو بيان الطريق إلى معرفة اللغة من أهلها الذين قد تلقوها من واضعها: - إما من الله تعالى إنْ قلنا بالتوقيف بواسطة ما سبق من الوحي إلى الأنبياء أو الإلهام أو غيره على ما سبق. - وإما من الذي وضعها من البشر. والذي يقتضيه التقسيم ثلاثة أقسام: نقل محض، وعقل محض، ومركَّب منهما. فالأول والثالث صحيحان، والثاني باطل كما سنبينه. فأما النقل المحض فَعَلَى ضربين: إما [تَواتُر] (¬1): كالأرض والسماء والحر والبرد، وهو يفيد القطع. وإما آحاد: كالقرء ونحوه، وهو يفيد الظن عند اجتماع الشروط السابقة في ¬

_ (¬1) في (ت، ق، ظ): متواتر.

[موضعها] (¬1). وحكى القاضي من الحنابلة عن الشيباني: أن اللغة لا تثبت بالآحاد، وكأنه قول الواقفية في صِيَغ العموم، والحقُّ: أنه حُجة في العمليات دون العقائد. والدليل على وجوب التمسك بالآحاد في اللغة هو الدليل على وجوب التمسك به في الشرعيات، لأنها وسيلة إليها. وللإمام الرازي في "المحصول" طريقة في الرد على [المخالِف] (¬2)، وهي أن اللغة إنْ كانت مما عُلم بالاحاد -[أيْ مِن] (¬3) الضروريات وهو أكثر اللغة- فلا يسمع التشكيك؛ لأنه تشكيك في الضروريات، أو من غير الضروريات فيكتفَى فيه بالظن كما في الشرعيات. نعم، قال ابن السيد: إنما يسمى لغةً ما كان في الكلام، أما ما ينفرد به الشعر فإنما يسمى ضرورة، لكن ذكره في الاستعمالات النحوية، لا الألفاظ المفردة. وأما المركَّب -وهو استنباط العقل من النقل- فله ثلاث طرق: إحداها: استقراء كلام العرب في أمر، فيفيد إما القطع وإما الظن على ما سيأتي في الكلام على الاستقراء من الأدلة المختلَف فيها. ومن هذا أبنية اسم الفاعل والمفعول وغيرها من أحكام التصريف والنحو والبيان على ما فُصل كل واحد في فنه. الثانية: أنه إذا ثبت مقدمة بحكم من أحكام الكلم العربي ومقدمة أخرى لذلك وكانتا ¬

_ (¬1) في (ق، ظ، ت، ض): موضوعها. (¬2) في (ت، ق): المخالفة. (¬3) من (ص، ش).

بحيث يتركب منهما قياس [مستوف لشرائط] (¬1) الإنتاج على القانون المبرهن في المنطق، أنتج نتيجة وهي باجتماع الأمرين: النقل في كل من المقدمتين، والعقل في تركيب إحداهما مع الأخرى على الوجه المنتج. كما نقل أن الجمع المعرَّف باللام يدخله الاستثناء وأنَّ كل ما يدخله الاستثناء مما يحتمل العموم وغيره يكون عامًّا؛ لكون الاستثناء إخراج ما لولاه لوجب دخوله؛ فينتج أن الجمع المعرف بِـ "أل" للعموم. ثم إنْ كانت المقدمتان قطعيتين فالنتيجة قطعية، أو ظنيتين أو إحداهما ظنية فالنتيجة ظنية على ما قررناه في الكلام على الدليل. واعترض في "المحصول" بأن الاستدلال بالمقدمتين النقليتين على النتيجة لا يصح إلا إذا ثبت أن المناقضة [ممنوعة] (¬2) على الواضع، وهذا إنما يثبت إذا قُلنا: [الواضع غير] (¬3) الله تعالى. وقد قلنا: إن ذلك غير معلوم (¬4). الثالثة: القياس على معنى القياس الشرعي ونَظْمه الذي سبق أن أهل المنطق يسمونه "التمثيل"، وهو أنْ ينقل عن العرب تسمية شيء بلفظ يلحظ في تسميتهم له ذلك معنى، فإذا وجد ذلك المعنى في شيء آخر، سُمي بذلك الاسم. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ت). لكن في (ق، ظ): مسبوق بشرائط. وفي (ض، ش): مسبوق لشرائط. (¬2) كذا في (ت)، وهو الصواب، لكن في سائر النُّسخ: مسموعة. (¬3) كذا في جميع النُّسخ، وعبارة الرازي في المحصول (1/ 215): (فالاعتراض عليه أن الاستدلال بالمقدمتين النقليتين على النتيجة لا يصح إلا إذا ثبت أن المناقضة غير جائزة على الواضع، وهذا إنما يثبت إذا ثبت أن الواضع هو الله تعالى، وقد بينَّا أن ذلك غير معلوم). (¬4) هنا آخِر اعتراض الرازي.

كتسمية النباش سارقًا، قياسًا على مَن سرق من غير القبر، بجامع أن كلًّا منهما أخذ من حرز بِخفيه. وكتسمية اللائط زانيًا، قياسًا على الواطئ في قُبل أنثى بشروطه المعروفة، بجامع أن كلًّا إيلاج في فرج محرَّم. وكتسمية النبيذ (وهو ما كان من غير العنب) خمرًا؛ قياسًا على المتخَذ من عصير العنب، بجامع أن كلًّا فيه مخامرة العقل ما لم يجعل الخمر اسمًا لِمَا خامر العقل مطلقًا؛ فيشمل الكل. وشبه ذلك. وفي ثبوت اللغة به قولان للأصوليين، وهُما وجهان لأصحابنا كما في "اللمع" للشيخ أبي إسحاق و"الحاوي" و"البحر": أحدهما: المنع، وبه قال الصيرفي والقاضي كما هو في "تقريبه"، وحكاه عنه [المازري] (¬1) وغيره خِلافًا لحكاية ابن الحاجب عنه الجواز. وإلى ذلك ذهب ابن القطان وإمام الحرمين وإن كان يقول به في أثناء [استدلالاته] (¬2)؛ لأن هذا المحل هو مظنة تحقيق [هذه] (¬3) المسألة، وأما مقام المناظرة فقد يُرتكب فيها في الرد على الخصم غير المعتقد. وكذلك قال الغزالي والآمدي، بل معظم أصحابنا والحنفية. وهذا معنى قولي في النظم: (لَا مُجَرَّدُ الْقِيَاسِ). والحجة في ذلك أنه ما من شئ إلا وله اسم في اللغة ولو بطريق الشمول له ولغيره، فلا ¬

_ (¬1) كذا في (ت)، لكن في سائر النسخ: الماوردي. (¬2) في (ق، ظ): الاستدلال. وفي (ض): الاستدلالات. (¬3) من (ص).

يَثبُت له آخَر قياسًا، كما في الأحكام لا يكون للشيء حُكم بالنص وحُكم آخَر بالقياس مخالِف له. قلتُ: قد يُفرق بالاستحالة هناك؛ لأن فيه جمع ضدين، بخلاف الاسمين، فإنه لا تَضاد بينهما؛ لأن كلًّا منهما علامة، ولا يمتنع تَعدُّد العلامة، كدليلين على حُكم واحد. وأيضًا فقد سبق أنه لا يَلزم أن يكون كل معنى له لفظ يدل عليه، بل كل معنى محتاج إلى لفظ، وهذا يوجد بطريق العموم. واحتُج أيضًا للمنع بأن القياس إنما هو في المشتق حتى يكون ما منه الاشتقاق هو العلة، والعرب قد لا تَطْرُد الاشتقاق كما سبق. قلتُ: قد تكون العِلة غَيْر ما منه الاشتقاق، بل تناسب الاسم، كما في تسمية اللائط زانيًا؛ فإن العلة ليست ما اشتق منه لفظ "الزاني" وهو "الزنَى"، ونحو ذلك. وأيضًا التجوز إذا قُدِّر بأنه في المصدر كاللواط وكالنبش، فأين الاشتقاق على القول المرجَّح أن المصدر أصل للفعل والوصف؟ الثاني (وعليه الأكثر من أصحابنا كما قاله القاضي أبو الطيب وابن برهان والسمعاني ومنهم ابن سريج وابن أبي هريرة وأبو إسحاق الشيرازي والإمام): الجواز. قالوا: لأن الاشتقاق في الاسم كالتعليل، فحيثما وُجد المشتق منه نُلحقه بالمشتق في التسمية. ونقله الأستاذ أبو منصور في كتاب "التحصيل" عن نَص الشافعي، فإنه قال في الشفعة: إن الشريك جارٌ؛ قياسًا على تسمية امرأة الرجل جارة له. و[لذلك] (¬1) قال ابن فورك: إنه الظاهر من مذهب الشافعي؛ إذ قال: الشريك جار. ¬

_ (¬1) كذا في (ظ). لكن في (ص): به. وفي (ت): كذا. وفي (ض، ت): له.

وفي "الخصائص" لابن جني أنه قول أكثر علماء العربية كالمازني وأبي علي الفارسي. وحكى ابن فارس في "فقه العربية" إجماع أهل اللغة عليه. وأُلزم ابن درستويه في مناظرة في المسألة أن يسمِّي كل ما يستقر فيه الماء "قارورة"، كالجب والحوض والبحر، فالتزمه؛ وشنعوا عليه. وكان له أن ينفصل بقيد آخَر فيقول: ما استقر فيه الماء وخَفَّ حَمْلُه. نعم، في التعليل بالاشتقاق النظر السابق. وفى المسألة مذهب ثالث: أنه يجوز ولكن لم يقع. حكاه ابن فورك. ورابع حكاه ابن السمعاني عن ابن سريج خِلاف ما سبق نقلُه عنه، وهو: جواز ثبوتها بالقياس في الأسماء الشرعية دُون اللغوية، واختاره. قال: (لأنَّا نَعلم أن الصلاة إنما سميت بذلك لصفة متى انتقصت عنها لم تُسم صلاة، فنعلم أن ما شاركها في تلك الصفة يكون صلاة، بخلاف الأسماء اللغوية فإنه لم يُلتزم فيها ما ذُكِر مِن اطراد معاني الاسم، وعلى هذا نثبت اسم الخمر للنبيذ شرعًا، ثم نحرمه؛ للآية، ونثبت اسم الزنا للواط شرعًا، ثم نحده [بالآية] (¬1)، والسارق للنباش شرعًا، ثم نقطعه بالآية) (¬2). انتهى بمعناه. وعُلم منه فائدة الخلاف في المسألة، فَعَلَى القياس اللغوي تندرج المسميات تحت العموم ولا يحتاج لقياس شرعي ولا لشرائطه، ويكون الدليل عليه النص. ومَن يمنع، يقيس الحكم، ويحتاج لاستيفاء شرائط القياس، ولا يكون من دلالة النص. وتظهر فائدة ذلك في النَّسخ والتخصيص وغير ذلك من التعارض. ¬

_ (¬1) في (ض، ظ، ق، ت): للآية. (¬2) قواطع الأدلة (1/ 283).

ومذهب خامس: وهو أنه يثبت بالقياس الحقيقة، لا المجاز؛ لأنه أنقص رُتبة منها؛ فتُميَّز عليه. وهذا يخرج من كلام القاضي عبد الوهاب. وسادس: وهو ما سبق أن الأستاذ أبا منصور حكاه في "التحصيل" من إجماع أصحابنا أن أسماء الله تعالى لا يجوز إطلاق شيء منها بالقياس، وأسماء غيره الصحيح من مذهب الشافعي جواز القياس فيها، خلافًا لبعض أصحابه مع أكثر أهل الرأي. وقولي: (وَلَا بِعَقْلٍ دُونَ ذَا الْأَسَاسِ) بيان لكون العقل الصِّرْف لا يُجْدي شيئًا في ثبوت اللغة كما قاله البيضاوي وغيره؛ إذ لا مجال له في كيفية الموضوعات اللغوية. قلتُ: إلا إنْ فرَّعنا على مذهب عبَّاد -على أحد النقلين عنه- أنه يفيد بذاته، وأن العقل يدرك ذلك. تنبيهات الأول: عُلم -من لفظ القياس من قولنا: (لا يثبت بالقياس) وتقريره- الاستغناءُ عن تقييد محل الخلاف بما لم يثبت تعميمه بالاستقراء، كرفع الفاعل ونصب المفعول، فإن عموم ذلك بالاستقراء (وهو تَتَبُّع الأمر الكلي من الجزئيات كما سيأتي)، ولا يتحقق فيها أصل وفرع؛ لأن بعضها ليس أَوْلى من بعض بذلك. وكذا يُستغنى به عن أسماء الأعلام، فإنها غير معقولة المعنى، والقياس يُعتبر فيه فَهْم المعنى، فيصير كالحكم التعَبُّدي. الثاني: زاد بعضهم طريقًا آخَر غير ما سبق وهو القرائن، قال ابن جني في "الخصائص": مَن قال: "إنَّ اللغة لا تُعرف إلا نقلًا" فقد أخطأ؛ فإنها تُعلم بالقرائن أيضًا، فإن الرجل إذا سمع قول الشاعر:

قومٌ إذا الشَر أَبْدَى ناجِذَيْه لهم ... طاروا إليه زرافات وَوحْدانا عَلِم أن "زرافات" بمعنى جماعات. ولا يخفَى ما في ذلك مِن نظر؛ فإن نفس اللفظ نُقل بطريق، وإنما القرينة في إرادة الشاعر به هنا ذلك. الثالث: قد عُلم في سبق من تغايُر النقل الصِّرْف والاستقراء بطريق الاستقراء ما قاله الخطيب البغدادي في "شرح الخطب النباتية" من أن اللغوي شأنه أن ينقل ما يظفر به عن العرب ولا يتعداه، والنحوي شأنه أن يتصرف فيما ينقله اللغوي ويقيس عليه، كالمحدِّث شأنه أن ينقل الحديث، والفقيه شأنه أن يتلقاه ويتصرف فيه ويقيس عليه الأشباه. الرابع: قال الشافعي - رضي الله عنه - في "الرسالة": (لسان العرب أوسع الألسنة، لا يحيط بجميعه إلا نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامَّتها. والعِلم به عند العرب كالعلم بالسُّنة عند أهل الفقه، لا نَعلم رجُلًا جمع السُّنن فلم يذهب منها عليه شيء، وتوجد مجموعة عند جميعهم) (¬1). ونقل ابن فارس في "فقه العربية" عن بعض الفقهاء أنه لا يحيط بها إلا نبي، قال: (وهو كلام خليق أن يكون صحيحًا. قال: وما بلغنا عن أحد من الماضين أنه ادَّعَى حِفظ اللغة. وما وقع في آخِر "كتاب الخليل" أن هذا آخِر كلام العرب فالخليل أتْقَى لله من أن يقول ذلك) (¬2). قال: (وذهب علماؤنا -أو أكثرهم- إلى أن الذي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقل، ولو جاءنا جميع ما قالوه لجاءنا شِعر كثير وكلام كثير، وأحْرِ بهذا القول أن يكون ¬

_ (¬1) الرسالة (ص 42). (¬2) الصاحبي في فقه اللغة (ص 24).

بيان معاني كلم يحتاج إليها

صحيحًا) (¬1). الخامس: قال ابن الحاجب: إذا خرج بعض العرب عما عليه الناس واستعمال الفصحاء، كان مردودًا عند أهل التحقيق؛ لأن قبولنا إياه إنما هو لغلبة الظن بوفق ما وضعه الواضع، فإذا خالف استعمال الفصحاء، غلب على الظن النقيض؛ فزال الموجِب لقبوله. والله أعلم. بيان معاني كلم يُحتاج إليها الشرح: عادة الأصوليين يختمون مباحث اللغة بذكر بعض معاني حروف تتداول في القرآن والسُّنة يحتاج إليها غالبًا في مواضع الاستدلال، وربما ذكروا أسماءً وأفعالًا؛ فلذلك ترجمتُه بـ "كلم"؛ ليعم الأنواع الثلاثة، ولم أقتصر على حرفين أو ثلاثة كما فعل ابن الحاجب، ولا أوسع كما فعل صاحب "جمع الجوامع" وكثير من الحنفية في مختصراتهم. وربما ذكروا أحكامًا نحوية متعلقة ببعضها قليلة الجدوى في الاستدلال. بل سلكتُ طريقًا وسطًا، ورتبت ما ذكرتُ على حروف المعجم؛ ليسهل كشفه، والله أعلم. ص: 484 - مِنْ ذَاكَ "إنْ" لِلشَّرْطِ وَالنَّفْيِ، وَقَدْ ... تُزَادُ بَعْدَ النَّفْيِ فِيمَا قَدْ وَرَدْ الشرح: الإشارة بقولي: (ذَاكَ) إلى بيان الذي هو مذكور في صدر الترجمة. ¬

_ (¬1) الصاحبي في فقه اللغة (ص 36).

"إنْ" - بالكسر والسكون - للشرط غالبًا، بل هي أَعم أدواته؛ لأنها الحرف الموضوع له، واستعمال ما عداها من أسماء الشرط كَـ "إذا" و"متى" إنما هو تضمين لها معناها؛ ولذلك كان العلة في بنائها. والمراد بِـ "الشرط": تعليق حصول مضمون جملة لم يوجد على مضمون جملة أخرى لم يوجد، يكون سببًا له، إنْ وُجد وُجد، وإنِ انتفى انتفى. نحو: (إنْ قام زيد، قام عمرو). وربما نُزِّل قطعي الوجود أو الانتفاء منزلة المشكوك، فأدخل فيه الشرطية؛ لنكتة مُوضَّح أنواعها في علم البيان. وتجيء "إنْ" نافية أيضًا، سواء عملت عمل "ليس" عند مَن يرى ذلك وهُم الكوفيون (كقراءة سعيد بن جبير: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194]) أَم لم تعمل (نحو: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك: 20]). وزعم بعضهم أنها لا تكون نافية إلا وبعدها "إلَّا" أو "لَما"، نحو {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] على قراءة التشديد. ورُد بنحو قوله تعالى: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [يونس: 68]، {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ} [الأنبياء: 111]. وقد تأتي زائدة، وذلك بعد النفي، كقوله: بني غدانة ما إن أنتم ذهب. أي: ما أنتم ذهب. ووقع لابن الحاجب أنها تزاد بعد "لما" الإيجابية. ورُدَّ بأن تلك "أنْ" المفتوحة، نحو: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} [يوسف: 96]. أما "إنَّ" المشددة فللتأكيد، وسيأتي في "باب القياس" في طُرق العلة كوْنها للتعليل أوْ لا؛ فلذلك لم أذكرها هنا، والله أعلم.

ص: 485 - وَمنْهُ: "أَوْ" شَكٌّ وَتَشْكِيكٌ، كَمَا ... إبَاحَةٌ، تَخْيِيرُهَا قَدْ عُلِمَا 486 - وَالْجَمْعُ، أَوْ مَعْنَى "إلَى" أَوْ "إلَّا" ... تَقْسِيمٌ، الْإضْرَابُ فِيهَا حَلَّا 487 - وَقِيلَ: وَالتَّقْرِيبَ أَيْضًا قَدْ [حَوَتْ] (¬1) ... وَالْبَاءُ لِلْإلْصَاقِ فِيمَا قَدْ ثَبَتْ الشرح: أي: ومن ذلك، أي: من بيان معاني الكلم أيضًا "أو"، وتَرِد لِمَعانٍ: أحدها: الشك، وهو معنى قولي: ("أَوْ" شَكٌّ)، أي: [ذات] (¬2) معنى شك، فحذف المضاف، وأُقيم المضاف إليه مقامه، وكذا ما عُطف على "شك" تقديره ما ذكرناه. مثالها للشك: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19]. و[يشاركها] (¬3) "إما" في هذا المعنى وفي غالب ما يأتي، إلا أن الشك في "إما" [مبني] (¬4) عليه في الابتداء، و"أو" تأتي بعد الجزم، فيُبين بها الشك فيه. ثانيها: التشكيك، وربما عُبر عنه بِـ "الإبهام"، وهو التعمية على المخاطَب مع أن المتكلم عالِم بالحال، نحو: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]. وربفي عُبر عن هذا المعنى بِـ "الإيهام" (بالمثناة تحت) كما جوَّزه القرافي؛ لأن القصد التلبيس على السامع. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ن). لكن في (ت، ش، ظ، ض، ق): جرت. (¬2) كذا في (ص). لكن في سائر النُّسخ: كان. (¬3) في (ق): تشاركها. (¬4) كذا في (ص). لكن في سائر النُّسخ: يبنى.

قلتُ: وفيه نظر؛ فإنَّ الإيهام القصد فيه أن يقع المخاطَب في الوهم، وأما الإبهام فعدم الإعلام بالتعيين ولو لم يقصد وقوعه في الوهم، فهو أعم. ثالثها: الإباحة، نحو: جالِس الحسن أو ابن سيرين. رابعها: التخيير، نحو: (تزوج زينب أو أختها)، و: (خُذ من مالي درهمًا أو دينارًا)، ومنه قوله تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]، وحديث الجبران في الزكاة في الماشية: "شاتان أو عشرون درهمًا" (¬1). ومنهم من جعل ذلك هو الإباحة، والأكثر على المغايرة. والفرق بينهما أن الجمع هنا ممتنع، وفي الإباحة غير ممتنع. ولا يُقال: المخاطَب بآية الكفارة ونحوها لا يمتنع أن يجمع. لأنَّا نقول: يمتنع على أن يكون ذلك كفارة، لا على أنه تبرع كما أجاب به صاحب "البسيط" من النحاة. خامسها: مطلق الجمع، كَـ "الواو"، نحو قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]. وقيل في الآية غير ذلك كما سيأتي. سادسها: بمعنى "إلى"، نحو: (لألزمنك أو تقضيني حَقي)، أي: إلى أن تقضيني. قيل: ومنه قوله تعالى: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] إذا قُدِّر "تفرضوا" منصوبًا بِـ "أن" مُقدرة. سابعها: بمعنى "إلا"، نحو: (لأقتلن الكافر أو يُسْلم). أي: إلا أن يسلم، فلا أقتله. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

ومنه قول الشاعر: وكنت إذا غمزت قناة قوم ... كسرت كعوبها أو تستقيما أي: إلا أن تستقيم، فلا أكسرها. ثامنها: التقسيم، نحو: الكلمة اسم أو فعل أو حرف. وعبَّر ابن مالك بالتفريق المجرد، أي: عن المعاني السابقة، ومَثَّله بقوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 135]، أي: انقسموا إلى قِسمين: قِسم يهود قالوا: (كونوا هودًا)، وقِسم نصارى قالوا: (كونوا نصارى). ولهذا أدخله البيانيون في نوع اللف والنشر، لأن فيه رد كل قول إلى قائل مما جُمع أولًا. قال ابن مالك: والتعبير عنه بالتفريق أَوْلى من التقسيم؛ لأن استعمال الواو فيما هو تقسيم أَجود من استعمال "أو". ونُوخ في ذلك بأن مجيء الواو في التقسيم أكثر -لا يقتضي أنَّ "أو" لا تأتي له، بل تقتضي ثبوته غير أكثر. وفيه نظر؛ فإنه لم يَنْفِ، إنما جعله أَوْلى، وذلك باعتبار الأكثرية. قلتُ: ويمكن رد ما سبق من معنى "إلى" أو "إلَّا" إلى هذا؛ لأنه قَسَّم حالَهُ في "لألزمنك أو تقضيني حقي" مثلًا إلى قِسمين: الملازمة وقضاء الحق، وأن الواقع أحد الأمرين. وكذا "لأقتلن الكافر أو يسلم" قسَّم حَالَهُ معه إلى [حالَيْن] (¬1): إسلامه، وقتلِه. والمعنى: لا بُدَّ من أحدهما. ولم يذكره ابن مالك في الخلاصة في ذكر معاني "أو" في حروف عطف النسق، بل تَعَرَّض ¬

_ (¬1) في (ظ، ق): قسمين.

له في نواصب المضارع. تاسعها: الإضراب، نحو: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]، أي: بل يزيدون، أي: عند مَن لا يجعلها لمطلق الجمع في الآية. ثم قيل: إنها تأتي للإضراب مطلقًا. وعن سيبويه: لا تجيء إلا بشرطين: تَقدُّم نفي أو نهي، وإعادة العامل، نحو: (ما قام زيد أو ما قام عمرو)، و (لا يَقُم زيد أو لا يَقُم عمرو). عاشرها: التقريب. ذكره الحريري، ولم يذكره الأكثرون؛ فلذلك عبَّرتُ فيه بقولي: (قِيلَ). ومثله بقولهم: (ما أَدْرِي أَسَلَّم أو وَدعَّ). أي: لسرعته فينْ كان يَعلم أنه سَلَّم. ونحو: ما أدري أَأَذَّن أو أقام. وظاهر كلام ابن هشام في "المغني" أن الحريري ابتكر ذلك، وليس كذلك؛ فقد سبقه إليه أبو البقاء في "إعرابه" وجعل منه: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77]. وبالجملة فقد رُدَّ هذا القول بأنه لم يخرج عن معنى الشك، وأن القُرْب هو المقتضي للشك، وأما في الآية فيكون للتشكيك؛ لِتَعذُّر كونه للشك. وفيه نظر؛ فإن هذه المعاني كلها إذا حُققت، ترجع إلى شيء واحد وهو أحد الشيئين أو الأشياء؛ ولهذا قيل: إنها للقَدْر المشترك بينها وهو ذلك، وما عدا ذلك فمستفاد من قرائن خارجية. فمَن عدَّد وغايَر بين المعاني فإنما قصد باعتبار تلك الأمور، فين كان لها قرينة خارجية فلا [تُنافي] (¬1) عَدَّ التقريب. ¬

_ (¬1) في (ت، ق، ظ): ينافي.

وبذلك يجاب أيضًا عمَّا سبق من دخول بعض المعاني تحت بعض. واعْلَم أن هذه المعاني لا تخلو مِن كونها في طلب أو خبر، فالإباحة والتخيير في الطلب ما لم يكن نهيًا نحو: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] فيكون مُنْصَبًّا على كُل منهما، خلافًا لابن كيسان في تجويزه في "لا تضرب زيدًا أو عمرًا" أن يكون النهي عن ضرب واحد وأنْ يكون عن الجمع. قلتُ: ومن هنا أُخِذت مسألة تحريم واحد من خصلتين أو أكثر لا بِعَيْنه، وقد سبقت، والله أعلم. قولي: (وَالْبَاءُ لِلْإلْصَاقِ فِيَما قَدْ ثَبَتْ) تتمته قولي بعده: ص: 488 - حَقِيقَةً يَكُونُ أَوْ مَجَازَا ... أَوْ سَبَبًا، أَوْ مُسْتَعَانًا [حَازَا] (¬1) 489 - أَوْ صُحْبَةً، ظَرْفِيَّةً، أَوْ بَدَلَا ... تَقَابُلًا، وَقَسَمًا، وَ"عَنْ"، "عَلَى" الشرح: والمعنى أن الباء لها مَعَانٍ: أحدها: الإلصاق، وهو أنْ يضاف الفعل إلى الاسم ويلصق به بعد ما كان لا يضاف إليه لولا دخولها، نحو: "خُضْتُ الماء بِرِجْلي" و"مسحتُ برأسه". وهو أصل معاني "الباء"، وعليه اقتصر سيبويه. ¬

_ (¬1) كذا في (ش، ن 1، ن 3، ن 4). لكن في سائر النُّسَخ: جازا. ويظهر أنَّ الصواب "حازَا"، لقول المؤلف في الشرح: (فَـ "مستعانًا" مَصْدر ميمي بمعنى "الاستعانة"، وهو مفعول بالفعل الذي بَعْده).

قال بعضهم: وكُل معنى جُعل لها لا ينفك عنه، وقد لا يكون مع الإلصاق غيره. وقال عبد القاهر: وقولهم "الباء" للإلصاق إنْ حملناه على ظاهره، اقتضى إفادتها له في كل ما دخلت عليه، وهذا محُال؛ لأنها [تجيء] (¬1) مع الإلصاق نفسه، كقولك: "ألصقتُ كذا بكذا" و"لصق به". فلا بُدَّ من تأويل كلامهم بأن الملابسة فيه لملابسة، كقولك: ألصقه به. وقولي: (حَقِيقَةً يَكُونُ أَوْ مَجَازَا) إشارة إلى تقسيم الإلصاق إلى: حقيقة: وهو الأكثر، نحو: (أمسكت الحبل بيدي)، أي: [ألصقته] (¬2). وإلى مجاز: نحو: "مررت بزيد"، فإنك لم تلصق المرور بنفس زيد، بل بمكان يقرب منه كما قرره الزمخشري وغيره. الثاني: السببية، نحو: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40]. الثالث: الاستعانة، وهو معنى قولي: (أَوْ مُسْتَعَانًا حَازَا) فَـ "مستعانًا" مصدر ميمي بمعنى الاستعانة، وهو مفعول بالفعل الذي بعده، وباء الاستعانة هي الداخلة على آلة الفعل ونحوها، نحو: "كتبت بالقلم " و"قطعت بالسكين"، ومنه قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]. وقد أدرج في "التسهيل" هذا المعنى في السببية، وقال في "شرحه": (إن التعبير بالسببية أَوْلى؛ لأنه يستعمل في الأفعال المنسوبة إلى الله تعالى، فإنها لا يقال فيها: "استعانة"، ويقال: "سببية") (¬3). نعم، زاد في "التسهيل" التعليل، واستغنى عنه كثير بالسببية؛ لأن العِلة والسبب واحد. ¬

_ (¬1) في أكثر النسخ: تجر. (¬2) في (ص): ألصقته به. (¬3) شرح التسهيل (3/ 150).

لكن ابن مالك قد غاير بينهما ومَثَّل التعليلية بقوله تعالى: {ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 54]، وقوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} [النساء: 160]. ويؤيده ما فَرق به بعضهم بين السببية والتعليل بأن العلة مُوجِبة لمعلولها، بخلاف السبب فإنه أمارة على المسبَّب. قال: ومن هنا اختلف [أهل السنة] (¬1) والمعتزلة في أن أفعال العبد هل هي عِلة لثوابه وعقابه؟ أو سبب؟ فقال المعتزلة بالأول. وأهل السنة بالثاني، وفرَّعوا على ذلك الحج عن الغير، فمَن قال: (عِلة)، أبطله؛ لأن عمل زيد لا يكون علة لبراءة عمرو. ومَن قال: (سبب)، قال: يصح؛ لجواز أن يكون سببًا للبراءة وعَلَمًا عليها. قلتُ: قد سبق أن مذهب أهل السنة أن كُلًّا من السبب والعلة مُعَرِّف، لا موجِب مُؤَثِّر بذاته، فلا فرق حينئذٍ بينهما من هذه الجهة وإنِ افترقا كما سبق من حيث إنَّ العلة فيها مناسبة وملائمة للحُكم، والسبب أَعَم من ذلك؛ فيُكتفَى به؛ ولذلك اقتصرتُ في النَّظم عليه. الرابع: المصاحبة بمعنى "مع "، كقوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 170] ويغني عنها وعن مصحوبها الحال، فالتقدير هنا: "مُحِقًّا"؛ ولهذا يسميها كثير من النحويين "باء" الحال. الخامس: الظرفية بمعنى "في" المكانية، نحو: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} [آل عمران: 123]، أو الزمانية، نحو: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ} [الصافات: 137، 138]. وربما كانت الظرفية مجازية، نحو: "بكلامك بهجة". ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ش). لكن في (ت، ظ): بين السُّنة. وفي (ق): بين السنية. وفي (ض): بين أهل السنة.

ولو قلنا بكونها للظرف مجازًا فلا بِدْعَ أن يتعدد المجاز في الواحد بحسب الاعتبار. السادس: البدَلية، وهي ما يصح أن يحل محلها لفظ "بدل"، كما في حديث: "ما يَسُرني بها حُمر النعم" (¬1). أي: بَدَلها. السابع: المقابلة، وذلك في الداخلة على الأثمان والأعواض، نحو: اشتريت الفرس بألف. ودخولها غالبًا على الثَّمن، وربما دخلت على المثَمَّن، نحو: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 41]، ولم يَقُل: (ولا تشتروا آياتي بثمن قليل)، فيُؤَوَّل على حذف مضاف كما قال الفارسي: إن التقدير: "ذا ثمن قليل". ومن ثَم قال أصحابنا: إذا كان العوضان في البيع نقدين أو عرضين، فالثمن ما دخلت عليه "الباء". ولا يُنافي ذلك قول الفراء: إذا كانا نقدين، جاز دخول الباء على كل منهما. وكذا إذا كانا معنيين، نحو: {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16]. نعم، قال بعضهم: "الباء" تدخل على المتروك المرغوب عنه في باب الشراء، بخلاف البيع. ورَدَّ بعضهم هذا المعنى والذي قبله إلى السببية؛ إذِ التقدير: إنَّ هذا بسبب كذا. الثامن: القَسَم، نحو: "بالله لأفعلن". وهي أصل حروف القَسَم. التاسع: تكون للمجاوزة، وتكثر بعد السؤال، نحو: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]، {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1]. وتَقِل بَعْد غيره، نحو: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان: 25]. ¬

_ (¬1) السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 1350)، وفي صحيح البخاري (رقم: ) بلفظ: (فَوَالله ما أُحِبُّ أَنَّ لي بِكَلِمَةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُمْرَ النَّعَمِ)، وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل (رقم: 1574) بلفظ: (فَدَعَا لي بِدَعَوَاتٍ ما يسرني بِهِنَّ حُمْرُ النَّعَمِ).

ومنهم مَن يَرُدُّ هذا العنى أيضًا إلى السببية. العاشر: الاستعلاء بمعنى "على"، كقوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} [آل عمران: 75] (¬1). أي: على قنطار. وحكاه الإمام في "البرهان" عن الشافعي، ويؤيده قوله تعالى: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ} الآية [يوسف: 64]. الحادى عشر: التبعيض، قاله الأصمعي والفارسي وابن مالك، مستدلين بقوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6]، أي: منها. وخرج عليه قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]. ومَن أَثبتها قَصَرها على ورودها مع الفعل المتعَدِّي. وأنكر هذا العنى ابن جني، وأَوَّلوا ما استُدِل به على التضمين، أو أن التبعيض إنما استُفيد من القرائن. ورَدَّ الإمام فخر الدين قول ابن جني بأن قوله ذلك شهادة نَفْي، فلا تُقْبل. ولكن هو قَبْل ذلك قال: زَعَم قومٌ أخها للسببية، وهو ضعيف؛ لأنه لم يَقُل به أحد من أهل اللغة. فيُقال له: هذه شهادة نَفْي أيضًا، فكيف ترتكبها؟ ! نعم، ابن دقيق العيد أجاب عن ذلك فيما كتبه على "فروع ابن الحاجب": ليس هو شهادة نَفْي، إنما هو إخبار مبني على ظن غالب مُستنِد إلى الاستقراء ممن هو أَهْل لذلك مُطَّلِع على لسان العرب، كما في سائر الاستقراءات لا يُقال فيها: شهادة نفي، وحينئذٍ فتتوقف مقابلته على ثبوت ذلك من كلامهم. فيقال للشيخ: قال ابن مالك فى "شرح الكافية" (¬2): إن الفارسي في "التذكرة" أثبت ¬

_ (¬1) في جميع النُّسخ: (ومنهم من إن تأمنه بقنطار). (¬2) شرح الكافية الشافية (2/ 807).

مجيئها للتبعيض كما أثبته الأصمعي من قول الشاعر: شَرِبْنَ بماء البَحْر ثُم ترَفَّعَتْ ... مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لهُنَّ نَئِيجُ وقال الشيخ في "شرح الإلمام": إن المثبتين للتبعيض فرقوا بين الفعل المتعدي بنفسه فتكون فيه للتبعيض؛ حذرًا من زيادتها، وبين غير المتعدي فلا يكون كذلك. واعتُرض بأن كونها زائدة لا يُنافي أن تكون حينئذٍ للتبعيض. ولو سُلِّم أن الأصل عدم الزيادة لكن هذا الأصل متروك إذا دَل دليل على تركه، وقد دل دليل عليه، وهو عدم كونها للتبعيض بالاستقراء ممن هو أَهْل للاستقراء؛ فوَجَبَ الحمل على أنها زائدة. هذا مع أن الزيادة في الحروف كثيرة، قال ابن العربي: إنها تفيد فائدة غير التبعيض، وهو الدلالة على ممسوح به. قال: والأصل فيه: "امسحوا برؤوسكم الماء"، فيكون من باب القلب، والأصل: رؤوسكم بالماء. تنبيهان أحدهما: الحرف إذا وافق حرفًا آخر في معناه فمرة يُعَبرون عن المعنى صريحًا، ومرة يحيلون على ذلك الحرف، فيقولون: بمعنى كذا. والأمر في ذلك سهل، غَيْر أن التعبير الثاني إنما يكون غالبًا عند اشتهار ذلك الحرف في ذلك المعنى. وسنذكر خِلاف البصريين والكوفيين: هل [تتعارض الحروف] (¬1) في المعنى؟ أو لا؟ الثاني: أهملتُ من معاني ما ذكرت من الأدوات كثيرًا؛ إما اقتصارًا على الأشهر، وإما لأن ذِكره أنفع في الاستدلال، أو لغير ذلك. وربما كان ذلك اختصارًا، ولكني أذكر ذلك في ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ش)، لكن في (ض، ظ): يتعارض الحرف. وفي (ق): يتقارض الحرف.

الشرح تكميلًا للفائدة: فمِن معاني الباء مما لم أذكره: الغاية: نحو: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف: 100]. أي: أحسن إلَيَ. ومنها: مجيئها للتوكيد، وهي الزائدة: - إما مع فاعل، نحو: "أحسن بزيد" على قول البصريين: (إن "بِزَيْد" فاعل زِيدَ فيه الباء). فأما على قول الكوفيين: (إنه مفعول) فهي مُعدِّية، لا زائدة. - وإما مع المفعول، نحو: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25]. - أو مع المبتدأ، نحو: "بحسبك درهم". - أو الخبر، نحو: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]. ومن استعمالات "الباء" أيضًا أنه يدخل للتعدية، وتُسمَّى "باء النقل"، فتنقل الفاعل، فتصيِّره مفعولًا، نحو: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17]، {لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} [البقرة: 20]. ولابن مالك في التعبير عن هذا القِسم كلام تَعَقَّبه عليه أبو حيان وأُجِيب عنه، ومحل بسطه النحو، فلا نُطَوِّل به. وذكر العبادي في كتاب "الزيادات" للباء معنى آخَر وهو التعليق، نحو: "أنت طالق بمشيئة الله أو بإرادته". أي: إن شاء الله، أو: إن أراد. فَعَلَى هذا لا تطلق؛ لأن اللغة كذلك، كما لو قال: (أنت طالق بدخول الدار). أي: إنْ دخلتِ. قال: (أما لو قال: "أنت طالق بأمر الله" أو: بتقدير الله، أو: بحكم الله، أو: بعلم الله، فإنها تطلق في الحال). انتهى وهذا يدل على أنه إنما أخذ هذه التفرقة من العُرف، لا من اللغة؛ لأن مسائل الفقه لا

تُبْنَى على دقائق النحو، والله أعلم. ص: 490 - وَبَعَّضَتْ، وَمنْهُ: "بَلْ" لِلْعَطْفِ ... كَذَا لِإضْرَابٍ بِبُطْلٍ تُلْفِي 491 - أَوِ انْتِقَالٍ، "ثُمَّ" لِلتَّشْرِيكِ ... بِمُهْلَةٍ في ذَلِكَ [الشَّرِيكِ] (¬1) الشرح: قولي: (وَبَعَّضَتْ) هو من تمام معاني "الباء" كما سبق، والمعنى أن "الباء" أيضًا أفادت البعضية، وقد مضى شرح ذلك. وقولي: (وَمنْهُ: "بَلْ") إلى آخِره -الضمير للمذكور أولًا في الترجمة وهو الأدوات المحتاج إليها في الاستدلال، فالضمير [يذكر] (¬2) باعتبار عَوْده لما ذكر. و"بل" من حروف العطف، تشرك ما بعدها لما قبلها في الإعراب إذا كانا مفردين، سواء في الإثبات وما في حُكمه، أو في النفي وما في حكمه، إلا أنها في القسم الأول [تسلب الحكم قطعًا] (¬3) عما قبلها وتجعله لما بعدها، أي: تُصَيِّر الأول كالمسكوت عنه وتثبت الحكم للثاني. نحو: (جاء زيد بل عمرو)، و: (أَكْرِم زيدًا بل عمرًا). واختُلف في القسم الثاني، نحو: (ما قام زيد، بل عمرو)، و: (لا تضرب زيدًا، بل عمرًا). فقال الجمهور: إنها لتقرير ما قبلها وجعل ضده لما بعدها، فتقرر نفي القيام أو ¬

_ (¬1) في (ن 2، ن 3، ن 4، ن 5): التشريك. (¬2) في (ص): مذكر. (¬3) في (ص): قطعا تسلب الحكم. وفي (ش): تسلب قطعا الحكم.

النهي لزيد وضده لعمرو. وأجاز المبرد وعبد الوارث وتلميذه الجرجاني مع ذلك أن تكون ناقلة للحكم الأول لما بعدها كما في الإثبات وما في حُكمه. فيحتمل عندهم في نحو: (ما قام زيد بل عمرو) أن يكون المراد: بل ما قام عمرو. وفي: (لا تضرب زيدًا بل عمرًا) أن يكون التقدير: بل لا تضرب عمرًا أيضًا. حتى لو قال: (ما له عَلَيَّ درهم بل درهمان) لا يلزمه شيء؛ إذ التقدير: بل ما له عَلَيَّ درهمان أيضًا. فيكون النفي للأمرين. بل قال القواس في "شرح ألفية ابن معطي": (إنهم أوجبوا تقدير حرف النفي بعدها، فتتحقق المطابقة في الإضراب عن منفي إلى منفي كما يتحقق من موجب إلى موجب). ثم قال: (ويجب أن يُقال: إن كان المعطوف غلطًا، قُدِّر حرف النفي؛ ليشتركا في نفي الفعل عنهما، وإن لم يكن غلطًا فلا؛ لأن الفعل ثابت له، فلا ينفى عنه) (¬1). انتهى نعم، ضُعِّفَ هذا المذهب من الأصل بما في "إيضاح الفارسي" أنه لا يجوز في "ما زيد خارجًا بل ذاهب" إلا الرفع؛ لأن الخبر موجب، و"ما" الحجازية لا تعمل في الخبر إلا منفيًّا، فلو قُدِّر النفي، لجاز النصب، فالعرب إذا [قرنت] (¬2) في ذلك لزم تفسير أحد المعنيين بالآخَر، فإذا أرادوا نفي الفعل، صرحوا بالنفي وشبهه، فيقولون: ما قام زيد بل ما قام عمرو، و: لا تضرب زيدًا بل لا تضرب عمرًا. أما إذا وقع بعد "بل" جملة نحو: "ما قام زيد بل عمرو قائم" فلا تكون حينئذٍ عاطفة عند الجمهور، بل حرف ابتداء يفيد الإضراب. ¬

_ (¬1) شرح ألفية ابن معطي (1/ 786)، الناشر: مكتبة الخريجي، تحقيق: علي موسى الشوملي. (¬2) في (ص): فرقت.

[ثم] (¬1) هو ضربان: إضراب إبطال للحكم السابق، كقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} [المؤمنون: 70]، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] ففي ذلك كله رد على ابن العلج في "البسيط" وتبعه ابن مالك في "شرح الكافية" أنَّ هذا القسم لم يقع في القرآن، بل قال في "البسيط": ولا في كلام فصيح. وإنما يقع الثاني، وهو إضراب الانتقال من حُكم إلى حكم من غير إبطال للأول، كقوله تعالى: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} [المؤمنون: 62، 63]، وقوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل: 66]. لم تبطل شيئًا مما سبق، وإنما فيه انتقال من خبر عنهم إلى خبر آخَر. فالحاصل أن الإضراب الانتقالي قَطعْ للخبر لا للمخبَر عنه. ثم ظاهر كلام ابن مالك أن هذه عاطفة أيضًا لكن جملة على جملة، وصرح به ولده في "شرح الخلاصة". وأيَّده بعضهم بأن اختلافهما في النفي والإثبات لا ينافي العطف، كما تقول: "ما قام زيد ولم يخرج عمرو"، و: "ما قام بكر وخرج خالد". لكن الفرق بين هذا وبين ما نحن فيه أن "بل" لَمَّا كانت للإضراب صار ما قبلها كأنه لم يذكر، وكأنه لا شيء يعطف عليه. نعم، كان مقتضى هذا أنَّ "حتى" عاطفة إذا وقع بعدها جملة، إلا أنها لَمَّا لم يكن أصلها العطف بل الغاية والانتهاء -كَـ "إلى"- ووقع بعدها الجُمَل، لم يتعذر بقاؤها على أصلها، ولَمَّا وقع بعدها المفرد مع عدم صلاحيتها للغاية، جُعلت حرف عطف؛ ولهذا يُدَّعَى فيها ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ش)، لكن في (ض، ظ، ت، ق): ثم.

-مع كونها عاطفة- معنى الغاية. إذا علمت ذلك، علمت أنَّ بين الأمرين المذكورين في "بل" -وهُما العطف والإضراب- عمومًا وخصوصًا من وجه؛ لأن الداخلة بين مفردين عاطفة، أَعَم أن تكون للإضراب وغيره، والإضراب أعم أن تكون عاطفة (وذلك في المفردات) أو غير عاطفة (وذلك في الجُمَل عَلَى غير رأْي ابن مالك وولده). أما إذا قُلنا بذلك، فبينهما عموم وخصوص مطلق؛ لأن العطف أعم أن يكون بإضراب (كما في الجمل وفي نوع من المفرد) وبغير إضراب (كما في نوع من المفرد). فقولي: (كَذَا لِإضْرَابٍ) لم أُرِد به تغايُر المعنيين من كل وجه، بل أردت ما سبق. وقولي: (ثُمَّ) إلى آخِره -إشارة إلى الكلام على "ثُم"، وهي للتشريك بين ما قَبلها وما بعدها في الحكم لكن مع التراخي والمهلة، نحو: "قام زيد ثم عمرو". فأما كونها للتشريك فالمخالف فيه الكوفيون، جوَّزوا أن تقع زائدة، كقوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 118]، فليست عاطفة البتة حتى يكون فيها تشريك. وأما الترتيب فالمخالف فيه الفراء فيما حكاه عنه السيرافي، وعزاه وغيره للأخفش، محتجًّا بقوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: 6]، ومعلوم أن هذا الجَعل كان قبل خَلْقنا. والجمهور تأوَّلوه على الترتيب الإخباري. وفيها مذهب ثالث: أنها للترتيب في المفردات دون الجُمل، كقوله تعالى: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46]، إذ شهادة الله مُقدَّمة على المرجع. قاله ابن الدهان، وجرى عليه ابن السمعاني في "القواطع". والصحيح أنها للترتيب مطلقًا، لكنه في المفردات معنوي وفي الجُمل ذِكْرِيّ، نحو:

إنَّ مَن ساد ثُم ساد أبُوه ... ثُم ساد قبل ذلك جده فهو ترتيب في الإخبار، لا في الوجود. واعلم أنه في "جمع الجوامع" نقل المخالفة في الترتيب عن العبادي فقط، وهو مع قصوره وَهْم على العبادي تبع فيه والده في "فتاويه" وغيره من المتأخرين، فنقلوا عنه في نحو: "وقفت هذا على زيد ثم على أولاده ثم أولاد أولاده" أنه يشترك الكل. وأنكروه حتى قال ابن أبي الدم في "أدب القضاء": إن هذا زلة من كبير. وقال الشيخ تقي الدين: لعل مأخذه أن "وقفت" إنشاء، [فلا] (¬1) مدخل للترتيب فيه، نحو: بِعْتُ هذا ثم هذا. لكن العبادي إنما قاله في صورة ما لو زاد على التصوير المذكور بطنًا بعد بطن كما نقله عنه القاضي حسين في كتاب "الوقف" بناء عنده على أن هذا يقتضي التسوية، فهو ينافي معنى "ثم"، فيرجع إلى أصل الاشتراك؛ حملًا على السداد، لا لكون "ثم" ليست للترتيب، فهو كما لو قال: (له عَلَيَّ درهم ثم درهم)، يَلْزمه درهمان؛ لأن الترتيب لا معنى له، فهو هنا جمع كالواو. قلتُ: قولهم (يقتضي عنده التسوية) يُنَبِّه على أن لفظ "بطنًا بعد بطن" عند غيره يقتضي الترتيب أيضًا، فهو موافق لمعنى "ثُم"، لا مخرج لها عن الترتيب، بل لو كان العطف بالواو وزاد قوله بعد ذلك: (بطنًا بعد بطن)، كان للترتيب، خِلافًا للبغوي، ووافقه عليه في "المحرر" و"المنهاج". والمختار ما سبق؛ لأن لفظ "بعد" يُشعر بالترتيب قطعًا، وذِكر "بعد" للوجود، لا ¬

_ (¬1) في (ت، ق): لا.

للاستحقاق (وكأنه قال: الذين يوجَدون بطنًا بعد بطن) بعيدٌ من العُرْف. وأما التراخي فالمخالف فيه الفراء، قال: (بدليل "أعجبني ما صنعت اليوم، ثم ما صنعت أمس أعجب") (¬1). فَـ "ثم" في ذلك كله لترتيب الإخبار، ولا تراخي بين الإخبارين. ووافقه على ذلك ابن مالك، وجعل منه: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا} [الأنعام: 154]. قال ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام": ولكونها للتراخي امتنع أن يجاب بها الشرط؛ لأن الجزاء لا يتراخى عن الشرط؛ ولذلك أيضًا لا تقع في باب التفاعل والافتعال؛ لمنافاة معناها معناهما. ورُد بغير ذلك أيضًا. قال الراغب: (والعبارة الجامعة أن يُقال في "ثم": إنها حرف عطف يقتضي تَأخُّر ما بعده عمَّا قَبْله، إما تأخُّرًا بالذات، أو بالمرتبة، أو بالوضع) (¬2). والله أعلم. ص: 492 - "عَلَى" للاسْتِعْلَاءِ، وَالْمُصَاحَبَهْ ... تَجَاوُزٍ، وَعِلَّةٍ مُصَاحِبَهْ 493 - ظَرْفِيَّةً تُفِيدُ، وَاسْتِدْرَاكَا ... أَيْضًا، وَقَدْ تُزَادُ، فَاعْرِفْ ذَاكَا ¬

_ (¬1) معاني القرآن (2/ 411)، الناشر: عالم الكتب، الطبعة: الثالثة - 1983 م. (¬2) المفردات في غريب القرآن (ص 81).

الشرح: "على" -التي هي حرف جر- لها معانٍ: أحدها: الاستعلاء إما حسًّا نحو: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] أو معنًى نحو: {وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91]، و: (عَلَى فلان دَيْن). كأنه بلزومه صار عاليًا على المديون، كما يقال: (ركبهُ الدَّين). ولم يُثبِت لها أكثر البصريين غير هذا المعنى، وردُّوا الكل إليه. نعم، مثل قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأحزاب: 3] لا استعلاء فيه، لا حقيقةً ولا مجازًا، وإنما هو بمعنى الإضافة، أي: أضفتُ توكُّلي إلى الله. الثاني: المصاحبة، نحو: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177]. الثالث: المجاوزة بمعنى "عن"، كقوله: إذا رضيت على بنو قُشير ... لعمر الله أعجبني رضاها وخرج عليه المزني وابن خزيمة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من صام الدهر، ضيقت عليه جهنم" (¬1). أي: عنه، فلا يدخلها. الربع: التعليل، كقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]. وهو معنى قولي: (وَعِلَّةٍ مُصَاحِبَهْ). أي: مصاحبة لمعلولها، غير متخلفة عنه. وهذا شأنها، فليس المراد به قيدًا مُخْرِجًا. الخامس: الظرفية، كقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد (رقم: 19728)، صحيح ابن حبان (3584) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 3576).

[البقرة: 102]. أي: فيه. السادس: الاستدراك، نحو: (فلان لا يدخل الجنة؛ لسوء صنيعه، عَلَى أنه لا ييأس من رحمة الله). وربما تكون "على" زائدة، لا معنى لها غير التوكيد والتقوية، خلافًا لقول سيبويه: إنها لا تزاد. ومثال زيادتها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن حلف على يمين" (¬1). أي: مَن حلف يمينًا. ومنهم من خرجه على أن المراد: على محلوف يمين، فلا زيادة فيه، ويبقى النظر في أي المجازين أرجح: الزيادة؟ أو النقص؟ والأكثر الثاني. وقد تُزاد للتعويض مِن "على" أخرى محذوفة، كقول الشاعر: إنْ لم يجد يومًا على مَن يتكل. أي: إنْ لم يجد مَن يتكل عليه. تنبيه: قد تخرج "على" عن الحرفية، وهو ما احترزنا عنه أولًا بقولنا: "على" التي هي حرف جر، فتكون اسمًا -على الأصح- بمعنى "فوق"، وذلك إذا دخل عليها حرف جر، كقول الشاعر: غَدَتْ مِن عليه بَعْدَمَا تَمَّ ظمؤهَا. قال الأخفش: أو يكون مجرورها ومتعلقها (أي: معموله) ضميرين لمسمى واحد، كقوله تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37]. ومقابِل الأصح قول السيرافي: إنها لا تكون اسمًا أبدًا ولو دخل عليها حرف جر، بل ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 2229)، صحيح مسلم (رقم: 138).

يُقَدَّر لذلك الحرف لمجرور محذوف. وعكس هذا مذهب ابن طاهر وابن خروف وابن الطَّرَاوة والأبّدي والشلوبين أن "على" اسم دائمًا، وزعموا أنه مذهب سيبويه، ولكن مشهور مذهب البصريين أنها حرف جر في غير ما سبق. وقد تكون "على" فِعلًا ماضيًا، فتقول: "عَلَا يعلو عُلوًّا"، قال تعالى: {وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] الأُولى فِعل ماض، والثانية حرف جر كما سبق. قولي: ("عَلَى" لِلاسْتِعْلَاءِ) مبتدأ وخبر، أي: لفظ " على" لهذه المعاني. وقولي: (تَجَاوُز) يجوز أن يُقرأ بالرفع خبرًا بعد خبر، وإن كان الخبر الأول جارًّا ومجرورًا. ويجوز أن يُقرأ بالجر، أي: (وتأتي لتجاوز أيضًا). وحُذِف العاطف كما يقع ذلك كثيًرا في النَّظم، وسبق بيانه مرات. وأن يُقرأ بالنصب على نزع الخافض بالتقدير المذكور في الجر، وكذا ما بعده. وقولي: (ظَرْفِيَّةً) بالنصب مفعول مقدم لِـ "تُفِيدُ". والله أعلم. ص: 494 - وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى التَّرتيبِ ... مَعْنًى، كَذَا ذِكْرًا مَعَ التَّعْقِيبِ الشرح: "الفاء" حرف عطف [يفيد] (¬1) الترتيب المعنوي، نحو: جاء زيد فعمرو. ¬

_ (¬1) في (ق، ظ): تفيد.

والذِّكري إذا عُطف بها مُفَصَّل على مُجْمل، نحو: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة: 36]، ونحو: "توضأ فغسل وجهه" (¬1) الحديث. وربما كان في الكلام تقدير؛ فيُظن عدم الترتيب في معطوفها، نحو: {أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} [الأعراف: 4] التقدير: أردنا إهلاكها. ونحوه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل: 98]، أي: إذا أردت أن تقرأ. وزعم الفراء أنها لا تفيد الترتيب؛ تمَسُّكًا بظاهر نحو هذا. وجوابه ما سبق، والعجب منه أنه يقول في "الواو" إنها للترتيب! واعْلَم أن الترتيب في "الفاء" قد يكون في الإخبار وهو الذِّكري (كما تقدم وكما سبق في "ثم") نحو: "مُطرنا بمكان كذا فمكان كذا" وإنْ لم يُعْلَم [فيه] (¬2) تَقدُّم ولا تَأخُّر. ونازع ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" في إفادتها الترتيب الإخباري، وذكر أنها لترتيب الرُّتَب، نحو: "رحم الله المحلِّقين فالمقصِّرين". فإن رُتبة التقصير دُون رتبة التحليق. ومنه: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} [الصافات: 1 - 2]، أي: باعتبار أن رُتبة الأوَّلين أعلا مما بعدهم. وقولي: (مَعَ التَّعْقِيبِ) إشارة إلى أن "الفاء" يلازمها مع الترتيب التعقيب، فيكون الثاني أعقيب، (¬3) الأول بلا مُهْلة، عَكْس "ثُم"، لكن المعاقبة فيها في كل شيء بِحَسَبه؛ فلهذا يقال: (تزوج فلان فَوُلد له) ليس المراد أنها ولدت عقب التزوج في الزمان، بل أنه لم يكن بينهما مهلة غير مدة الحمل ولو تطاولت. وتقول: (دخلت البصرة فالكوفة) إذا لم تُقِم بالبصرة ولا بين البلدين. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 140)، وفي صحيح مسلم (رقم: 246) بلفظ: (يَتَوَضَّأُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ). (¬2) في (ص): عقب. (¬3) كذا في (ص)، لكن في (ت، ق، ظ): منه.

وبهذا يجاب عن استناد السيرافي في منع إفادتها التعقيب بذلك؛ لأنَّا نقول: في هذا تعقيب على الوجه الممكن. وقال ابن الحاجب: المراد بالتعقيب ما يُعَد في العادة تعقيبًا لا على سبيل المضايقة. قال تعالى: {خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ} [المؤمنون: 14] الآية، مع أنه بين كل أمرين زمان (¬1) جاء مُصَرحًا به في حديث ابن مسعود: "إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أُمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك" (¬2) الحديث. وأما ابن مالك فقال: (إن الفاء قد تكون للمهلة، نحو: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج: 63]) (¬3). وجوابه -على الأحسن- أن يجعل للتعقيب بالتقدير السابق. ووقع في "إيضاح" الفارسي أن "ثم" أشد تَراخيًا من "الفاء"، فأَوهم أن "الفاء" فيها تراخٍ. فقال ابن أبي الربيع في شرحه: إن مُراده إذا كان الاتصال -أي: التعقيب- فيها مجازيًّا، وحينئذٍ ففيها تراخ بلا شك، لكن تراخي "ثُم" أشد. وهو تنزيل حسن. ¬

_ (¬1) انظر: أمالي ابن الحاجب (1/ 123). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 3036)، صحيح مسلم (رقم: 2643) واللفظ للبخاري لكن (إِنَ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ .. ) (¬3) شرح التسهيل (3/ 354).

تنبيه: جَعْل التعقيب في "الفاء" العاطفة يقتضي أن "الفاء" المجاب بها الشرط لا تعقيب فيها؛ لأن انعقاد السببية في الشرط والجزاء يُغْني عن ذلك. وقد صرح القاضي في "التقريب" بأن "الفاء" لا تقتضي التعقيب في الأجوبة؛ فرارًا من مذهب المعتزلة في أن الكلام حروف وأصوات، فقالوا في قوله تعالى: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117]: إن الكلام عندهم القديم هو الكاف والنون، فإذا تعقبه الكائن فإما أن يؤدي إلى قِدم الحادث أو حَدث القديم. ومن معاني "الفاء" أيضًا السببية، وهو معنى قولي في البيت الآتي: (وَلتَسَبُّبٍ). مثاله قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37]، {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الواقعة: 52، 53]. وجعل منه العبدي في "شرح الجُمل" "طلعت الشمس فوجد النهار" وحديث: "فإذا ركع، فاركعوا" (¬1). لكن السببية قد استُفيدت من كونه جوابًا للشرط ولو لم توجد "الفاء". واعْلَم أن السهيلي حصر معنى "الفاء" في التعقيب، ورَدَّ الترتيب والسببية إليه؛ لأن الثاني إذا تعقبه، تَرتب عليه وتَسَبب عنه. قلتُ: وفيه نظر؛ لجواز أن يكون الأول [بعد] (¬2) الثاني مع كونه عقبه، وكَوْن الشيء عقب الشيء لا يَلزم أن يكون متسببًا عنه، وهذا ظاهر. والله أعلم. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 656)، صحيح مسلم (رقم: 412). (¬2) في (ص): قبل.

ص: 495 - وَلتَسَبُّبٍ، وَ "في" لِلظَّرْفِ ... مَكَانًا اوْ وَقْتًا لِهَذَا الْحَرْفِ 496 - وَالصُّحْبة، التَّعْلِيلِ، وَاسْتِعْلَاءِ ... وَأَكَّدُوا بِهَا [لَدَى] (¬1) الْإعْلَاءِ 497 - وَعِوَضًا تَأْتِي، وَمَعْنَى "الْبَاءِ" ... وَ"مِنْ، إلَى" [تُعْطَى] (¬2) بِلَا امْتِرَاءِ الشرح: قولي (وَلتَسَبُّبٍ) من تمام معاني "الفاء" كما سبق. وأما "في " فَلَها مَعانٍ: أحدها: الظرفية، مكانية أو زمانية، وقد اجتمعا في قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 2 - 4]. والمراد أن يكون شيء محلًّا لشيء: حقيقةً كان كما مَثلنا، لأن الأجسام قابلة للحلول. أو مجازًا، نحو: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الشورى: 8] جعلت الرحمة كالجسم المحيط بالمؤمن. ونحو: "النجاة في الصدق"، جعل العرضان كجسمين حل أحدهما في الآخر. فلو قال: (أنت طالق اليوم وفي الغد وفيما بعد الغد)، قال المتولي: يقع عليها في كل يوم طلقة، لأن الظرف لا بُدَّ له من مظروف. ¬

_ (¬1) في ص، ن 1، ن 2: لَدَى. في ض: لدا. في ت: لدى. في ش: لذي. في ن 3: لَذَا. (¬2) كذا في (ص). وفي (ظ، ق، ت) أولها ياء، وفي (ن 1، ن 3، ن 5): تعطِي.

قال الرافعي: (وليس هذا الوجه بواضح؛ إذ يجوز أن يختلف الظرف ويتحد المظروف) (¬1). الثاني: المصاحبة، نحو: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص: 79]. الثالث: التعليل، نحو: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32]، {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]. الرابع: الاستعلاء، نحو: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]. وقيل: إنما هي هنا للظرفية المجازية، فكأنه لَمَّا قصد المبالغة في الاستقرار جعل ظرفًا له. قال الزمخشري في "المفصل": (لِتَمَكُّن المصلوب في الجذع تَمَكُّن الكائن في الظرف فيه) (¬2). الخامس: التوكيد، نحو: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ} [هود: 41]. السادس: التعويض، وهي الزائدة عوضًا من أخرى، نحو: "ضربت فيمن رغبت"، أي: فيه. كذا نقله ابن هشام في "المغني" عن ابن مالك، قال: (وذلك لأن الأصل "ضربت من رغبت فيه"، فحذف "في" بعد رغبت وزادها بعد "ضرب"، وأنه قاس ذلك على "الباء" في قوله: "انظر بمن تثق". أي: انظر مَن تثق به). ثم قال: (وفيه نظر) (¬3). السابع: معنى "الباء"، كقوله تعالى: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [الشورى: 11]، أي: يلزمكم به. الثامن: معنى "إلى"، كقوله تعالى: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} [إبراهيم: 9]، أي: إلى ¬

_ (¬1) العزيز شرح الوجيز (9/ 69). (¬2) المفصل في صنعة الإعراب (ص 381). (¬3) مغني اللبيب عن كتب الأعاريب (2/ 520).

أفواههم. التاسع: معنى "من"، كقول امرئ القيس: وهل يعمن مَن كان أحدث عَهْده ... ثلاثين شهرًا في ثلاثة أحوال أي: من ثلاثة أحوال. والله أعلم. ص: 498 - وَ"كُلٌّ" اسْمٌ شَامِلٌ أَفْرَادَا ... مُنكَّرٍ، أَوْ مَا لِجَمْعٍ عَادَا 499 - مُعَرَّفًا، وَ [مُفْرَدًا] (¬1) إنْ عُرِّفَا ... أَجْزَاؤُهُ، وَ"اللَّامُ" تَعْلِيلًا وَفَى الشرح: من الكلمات المحتاج إلى تفسيرها "كل"، وهو اسم واجب الإضافة، فما يضاف إليه إنْ كان مفردًا نكرة فهي لشمول أفراده، نحو: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]. وإن كان لجمع مُعَرَّف نحو: "كل الرجال" فكذلك، وإنْ كان لمفرد معرفة فهي لشمول الأجزاء، نحو: "اشتريت كل الدار وكل العبد". ولا خلاف في ذلك إلا في الحالة الثانية، فإن فيها احتمالين للشيخ تقي الدين السبكي في أن الألف واللام هل أفادت العموم و"كُل" تأكيد لها؟ أو هي لبيان الحقيقة و"كُل " تأسيس؟ ثم قال: ويمكن أن يُقال: إنَّ الألف واللام تفيد العموم في مراتب ما دخلت عليه، و"كُل" تفيد العموم في أجزاء كل من تلك المراتب. فإذا قلت: "كل الرجال" أفادت الألف واللام استغراق كل مرتبة من مراتب جميع الرجال، وأفادت "كل" استغراق الآحاد كما قيل ¬

_ (¬1) كذا في (ن 1، ن 3، ن 4، ن 5). لكن في (ص): مفردٌ.

في أجزاء العشرة، فيصير لكل منهما معنى، وهو أوْلى من التأكيد. قال: (ومن هنا يُعلم أنها لا تدخل على المفرد المعرف بالألف واللام إذا أريد بكل منهما العموم، وقد نَص عليه ابن السراج في "الأصول") (¬1). انتهى وتعقب عليه بعض شيوخنا بأنه لِمَ لا يجوز أن تكون "كل" مؤكدة كما هو أحد الاحتمالين السابقين عنده في المعرف المجموع؟ ويمكن الفرق. فائدة: جعل بعضهم من دخولها على المفرد المعرَّف قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 93]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل الطلاق واقع إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله" (¬2). رواه الترمذي. واستُشكل بأنه لشمول الجزئيات. وجوابه أنه لَمَّا أريد الجنس كان بمنزلة المجموع المعرَّف، كما في حديث: "كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها" (¬3). والله أعلم. وقولي: (وَ"اللَّامُ" تَعْلِيلًا وَفَى) تمامه قولي بعده: ص: 500 - كذَاكَ الِاخْتِصَاصُ وَاسْتِحْقَاقُ ... مِلْكٌ وَعُقْبَى لَهُمَا إطْلَاقُ ¬

_ (¬1) الإبهاج (2/ 96). (¬2) سنن الترمذي (رقم: 1191) بلفظ: (كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ الْمَغْلُوبِ على عَقْلِهِ). قال الألباني: ضعيف. (إرواء الغليل: 2042). (¬3) صحيح مسلم (رقم: 223).

501 - وَهَكَذَا تَمْلِيكٌ اوْ شَبِيهُهُ ... تَوْكِيدُ نَفْي أَوْ سِوًى (¬1) [تَزِيدُهُ] (¬2) 502 - مَعْنَى "إلَى"، "عَلَى" وَ"فِي" وَ"عِنْدَا" ... وَ"مِنْ" وَ"عَنْ" تَأْتِي لِذَاكَ قَصْدَا الشرح: فَـ "تَعْلِيلًا" مفعول مقدم، وعامله "وَفَى"، أي: إنَّ حرف اللام يَفِي بمعنى التعليل، أي: يفيده. وكذا تفيد المعاني التي ذكرت بعده. والحاصل أن اللام لها مَعانٍ كثيرة بلغت فوق الثلاثين، وأفردها الهروي بكتاب "اللامات"، وقد ذكرت في النَّظم طائفة يُحتاج إليها في الاستدلال: أحدها: التعليل، كقوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. ومنه قول الزوج: (أنت طالق لرضا فلان)، فإنه يقع الطلاق في الحال سواء رضي أو سخط؛ لأنه للتعليل، لا للتعليق. الثاني: الاختصاص، نحو: (الجُلُّ لِلْفَرَس). قال القرافي: وهو ما شهدت به العادة، كَـ "السرج للفرس" و"الباب للدار". وقد لا تشهد له عادة، كَـ "الولد لزيد"، فإنه ليس من لازم البشر أن يكون له ولد. الثالث: الاستحقاق، نحو: النار للكافر. الرابع: الملك، نحو: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 284]. ¬

_ (¬1) معناها: غَيْر. يعني: التوكيد لِغَيْر النفي. لسان العرب (14/ 413). (¬2) كذا في (ن 2، ظ)، ويظهر لي أنه الصواب؛ لقول المؤلف في الشرح: (وهي الداخلة لتقوية عامل ضعيف بالتأخير). لكن في (ض، ق، ش، ص، ن 1، ن 3، ن 4، ن 5): تريده.

ومنهم من يجعله داخلًا في الاستحقاق، وهو أقوى أنواعه، وكذلك الاستحقاق نوع من الاختصاص؛ ولهذا اقتصر الزمخشري في "المفَصل" على الاختصاص. وقيل: إن اللام لا تفيد بنفسها الملك، بل استفادته من أمر خارجي. الخامس: العاقبة، ويُعبر عنها ايضًا بالصيرورة وبالمآل، نحو: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]. ويعزى للبصريين إنكار لام العاقبة، لكن في كتاب "الابتداء" لابن خالويه أن اللام في قوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} لام "كي" عند الكوفيين، ولام الصيرورة عند البصريين. نعم، قال ابن السمعاني في "القواطع": (عندي أن هذا على طريق التوسع والمجاز) (¬1). ولهذا قال الزمخشري: (إنه لا يتحقق). قال: (فإنه لم تكن داعية الالتقاط كونه لهم عدوًّا، بل المحبة والتبني، غَيْر أن ذلك لَمَّا كان نتيجة التقاطهم له وثمرته، شُبِّه بالداعي الذي يفعل الفعل لأجله). قال: (واللام مستعارة لِمَا يُشبه التعليل، كما استُعير "الأسد" لن يشبه الأسد) (¬2). ويمثل بعضهم لام العاقبة بقوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} [الأعراف: 179]. لكن قال ابن عطية: إنه ليس بصحيح؛ لأن لام العاقبة إنفي تتصور إذا كان فِعل الفاعل لم يُقصد به ما يصير الأمر إليه مِن [سكناهم] (¬3). ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة في أصول الفقه (1/ 44). (¬2) الكشاف (3/ 398). (¬3) في (ق، ظ، ض): سكناتهم. وعبارة ابن عطية في تفسيره (المحرر الوجيز، 2/ 479): (و "ذرأ" معناه خلق وأوجد مع بث ونشر: وقالت فِرقة: اللام في قوله: {لِجَهَنَّمَ} هي لام العاقبة. أي: ليكون =

السادس: التمليك، كَـ: (وهبت لزيد دينارًا)، ومنه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الآية. السابع: شبه التمليك، نحو: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل: 72]. الثامن: توكيد النفي، أي نَفْي كان، نحو: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33]. ويُعبر عنها بِـ "لام" الجحود؛ لمجيئها بعد النفي؛ لأن الجحد هو نفي ما سبق ذِكره. التاسع: مُطلق التوكيد، وهي الداخلة لتقوية عامل [ضعيف] (¬1) بالتأخير، نحو: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] الأصل: تعبرون الرؤيا، أو لكونه فرعًا في العمل، نحو: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16]. وهذان مَقِيسان. وربما أكد بها بدخولها على المفعول، نحو: {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72]. نعم، لم يذكر سيبويه زيادة اللام، وتابعه الفارسي؛ ولهذا أوَّل بعضهم {رَدِفَ لَكُمْ} على التقريب، أي: اقترب. ويشهد له تفسير البخاري "ردف" بمعنى: قرب. العاشر: أن تكون بمعنى "إلى"، نحو: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} [الأعراف: 57]، {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5]. ¬

_ = أمرهم ومَاَلهم لجهنم. وهذا ليس بصحيح؛ ولام العاقبة إنما تُتصور إذا كان فِعل الفاعل لم يُقصد به ما يَصِير الأمر إليه. وهذه اللام مِثل التي في قول الشاعر: يا أم فرو كفي اللوم واعترفي ... فكل والدة للموت تَلِد وأما هنا فالفعل قُصد به ما يَصير الأمر إليه مِن سكناهم جهنم). (¬1) في (ص): ضَعُفَ.

الحادى عشر: بمعنى "على"، نحو: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ} [الإسراء: 107]. وحكى البيهقي عن حرملة عن الشافعي - رضي الله عنه - في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "واشترطي لهم الولاء" (¬1) أن المراد: عليهم. الثاني عشر: بمعنى "في"، نحو قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]. الثالث عشر: بمعنى "عند"، أي: الوقتية وما يجري مجراها، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صوموا لرؤيته" (¬2). ومنه أن تقول: (كتبته لخمس ليال من كذا). أي: عند انقضائها. قال الزمخشري: ومنه: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، {يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24]. الرابع عشر: بمعنى "مِن"، نحو: (سمعت له صراخًا)، أي: منه. الخامس عشر: بمعنى "عن"، نحو: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11] أي: قالوا عنهم ذلك. وضابطها أنْ تَجُرَّ اسم مَن غاب حقيقةً أو حُكمًا عن قول قائل يتعلق به، ولم يَخُصُّه بعضهم بما بَعْد القول، ومَثَّله بقول العرب: (لقيته كفة لكفةٍ). أي: عن كفةٍ؛ لأنهم قالوا: (لقيتُه عن كفةٍ)، والمعنى واحد. تنبيه: دلالة حرف على معنى حرف آخر هو طريق الكوفيين، وأما البصريون فهو عندهم على ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 2060)، صحيح مسلم (رقم: 1504). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 1810)، صحيح مسلم (رقم: 1081).

تضمين الفعل المتعلق به ذلك الحرف ما يَصْلُح معه معنى ذلك الحرف على الحقيقة، ويَرَوْن التجوُّز في الفعل أسهل من التجوز في الحرف. والله أعلم. ص: 503 - وَمنْهُ "لَوْلَا"، وَهْوَ حَرْفٌ يَقْتَضِي ... في اسْمِيَّةٍ أَنَّ جَوَابَ الْمُقْتَضِي 504 - مُمْتَنِعٌ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ ... وَفي مُضَارعٍ [لِحَضٍّ] (¬1) تُعْطِي 505 - وَالْمَاضِ تَوْبِيخًا، وَممَّا قُدِّمَا ... "لَوْ" لِامْتِنَاعِ مَا يَلِيهَا اسْتَلْزَمَا الشرح: "لولا" حرف معناه باعتبار ما يدخل عليه، فإن دخلت على جملة اسمية، كانت للشرط، فتقتضي امتناع جوابها؛ لوجود شرطها، نحو: (لولا زيد لأكرمتك)، أي: لولا زيد موجود، فحذف خبر المبتدأ وجوبًا. وأما نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك" (¬2) فالتقدير فيه: لولا مخافة أن أشق عليهم لأمرتهم أمر إيجاب. فالمنفي أمر الإيجاب، لوجود خوف المشقة، وإلا لانعكس المعنى، إذِ الممتنع المشقة والموجود الأمر. وإن دخلت على جملة فعلية فِعلها مضارع، كانت للتحضيض، أي: للطلب الحثيث، نحو: {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} [النمل: 46]. وإن دخلت على فِعلية فِعلها ماض، كانت للتوبيخ، كقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ش، ن 3، ن 4) وهو الصواب. لكن في (ن 1، ن 5): لحظ. وفي (ن 2): لحد. وفي (ظ): يحض. وفي (ف): بحض. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 6813)، صحيح مسلم (رقم: 252).

بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13]، {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ} [النور: 16]، ونحو ذلك. وربما كانت للعَرْض، وذلك حيث تَعذَّر التوبيخ، نحو: {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [المنافقون: 10]. ومن ذلك قوله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} [يونس: 98] عند الجمهور، خِلافًا لمن زعم أنها فيه للنفي بمنزلة "لم" كما نقله الهروي في "الأزهية"، وتقرير التوبيخ: فهلا كانت قرية واحدة من القرى المهلَكة تابت عن الكفر قبل مجيء العذاب، فنفعها ذلك؟ قولي: (أَنَّ جَوَابَ) في محل نصب مفعول "يَقْتَضِي". وقولي: (لِحَضٍّ تُعْطِي) أي: تعطي معنى الحض، أي: التحضيض. فزيدت اللام في المفعول مقدَّمة لضعف العامل بالتأخر كما سبق تقريره في معاني اللام. وقولي: (وَالْمَاضِ تَوْبِيخًا) أي: وتُعطي في الماضي -أي في الجملة المصدَّرة بالفعل الماضي- معنى التوبيخ، والله أعلم. وقولي: (وَممَّا قُدِّمَا) إلى آخِره -تتمته ما بعده، وهو: ص: 556 - تَالِيَهُ، فَيَنْتَفِي إنْ نَاسبَا ... وَلَا مُقَدَّمٌ يَكُونُ ذَاهِبَا 507 - يَخْلُفُهُ غَيْرٌ، مِثَالٌ أُكْمِلَا ... {لَوْ كَانَ فِيهِمَا}، فَكُنْ مُكَمِّلَا 558 - لَا إنْ يَكُنْ [يَخْلُفُهُ] (¬1) مَرْعِيَّا ... "لَوْ كَانَ إنْسَانًا لَكَانَ حَيَّا" ¬

_ (¬1) في (ن 1): لخلفه.

509 - وَيَثْبُتُ التَّالِي إذَا بِالْأَوْلَى ... نَاسَبَهُ فَلَمْ يُنَافِ أَصْلَا 510 - مِثَالُهُ: "لَوْ لَمْ يَخَفْ لَمْ يَعْصِ" ... أَوْ بِالْمُسَاوَاةِ، الْمِثَالُ الْمُحْصِى 511 - "لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَةً مَا حَلَّتِ" ... أَوْ أَدْوَنَ، الْمِثَالُ: لَوْ تَنَفَّت 512 - أُخُوَّةٌ مِنْ نَسَبٍ لَمْ تَحْلِلِ ... فَإنَّهَا أُخْتِي بِرَضْعٍ مُكْمَلِ 513 - وَللتَّمَنِّي، الْعَرْضِ، وَالتَّحْضِيضِ ... كَذَلِكَ التَّقْلِيلُ في التَّعْوِيضِ الشرح: أي: ومما تَقدم في الترجمة وهو "بيان معاني كلم يحتاج إليها" بيان معاني "لو"، وهي تَرِد على وجوه: أحدها: الشرطية في الماضي، نحو: (لو قام زيد لقام عمرو)، فيكون قيام عمرو مرتبطًا بقيام زيد، لكنهما منتفيان، عكس "إن" الشرطية وما تضمن معناها، فإنها تقتضي في الاستقبال أن وجود جوابها مرتبط بوجود شرطها مع احتمال أن يوجدَا وَأنْ لا يوجدَا، فمقابلتها لها من وجهين: أحدهما؛ باعتبار المضي والاستقبال. والثاني: باعتبار أن "لو" تدل على الانتفاء و"إن" وما في معناها لا تدل على انتفاء ولا وجود. هذا ما صرح به ابن مالك والزمخشري وغيرهما. وأَبَى قوم تسميتها حرف شرط؛ لأن حقيقة الشرط إنما تكون في الاستقبال، و"لو" إنما هي للتعليق في الماضي؛ فليست من أدوات الشرط. قيل: والخُلْف لَفْظي؛ لأنه إنْ أريد بالشرطية الربط فهي شرط، وإنْ أريد العمل في

الجزئين فلا. قلتُ: وينتقض ذلك بِـ "إذَا" الشرطية، فإنها للشرط بلا خلاف. وهل تَرِد "لو" للشرط في المستقبل؟ أَثبته جمعٌ؛ [كقوله] (¬1) تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17]، وقوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 9]. وخطَّأهم ابن الحاج في نقده على "المقرب" (¬2)؛ للقطع بامتناع "لو يقوم زيد فعمرو منطلق" كما يقال: "إن لا يقم زيد فعمرو منطلق". أي: من حيث إنها إذا كانت للشرط في المستقبل تكون باقية على حُكمها في انتفاء جوابها لانتفاء شرطها، لكن لا يَلزم من كون الشرط منتفيًا أن يكون الجواب منتفيًا في غير "لو"، فكذا في "لو" إذا انتفى شرطها فقدْ لا ينتفي جوابها، فاتفاقهم على منع "لو يقوم زيد فعمرو منطلق " ينافي أن يكون شرطًا كَـ "إن". وفيما قاله نظر؛ لأن الذي يجعلها كَـ "إن" لا يقدر فيها امتناعًا لامتناع؛ ولذا منع بدر الدين ابن مالك ذلك؛ لصحة حمل ما أورده على الشرط في المعنى. ثم إذا قُلنا بالظاهر المشهور من اختصاصها بالماضي، فقال أبو علي الشلوبين: إنها لمجرد الربط. والجمهور على أنها تقتضي امتناع ما دخلت عليه. ولهم في التعبير عن معناها عبارات: ¬

_ (¬1) في (ص، ض): لقوله. (¬2) كتاب "المقرب" في النحو، لابن عصفور.

إحداها وهي المشهورة: أنها حرف امتناع لامتناع. أي: تقتضي امتناع جوابها؛ لامتناع شرطها. وهي عبارة الأكثرين لا سيما المُعْرِبين. الثانية: عبارة سيبويه: إنها حرف لِمَا كان سيقع؛ لِوقوع غيره. والعبارة الأُولى راجعة إلى هذه؛ لأن المعنى: لكنه لم يقع، فلم يقع [المترتب] (¬1) عليه. وممن رجع ذلك إلى عبارة سيبويه بدرُ الدين ابن مالك، وقال: (يستقيم على وجهين: أحدهما: أن المراد أن جواب "لو" ممتنع لامتناع الشرط، غَيْرُ ثابتٍ لثبوت غيره؛ بناءً على أن اعتبار مفهوم الشرط من طريق اللغة، لا العقل. ثانيهما: أن المراد أن جواب "لو" امتنع؛ لامتناع شرطه، وقد يكون ثابتًا؛ لثبوت غيره، لكن النظر إلى طرف الامتناع للامتناع؛ فيَصْدُق التعبير بِـ "امتناع؛ لِامتناع ") (¬2). قيل: وعلى كل حال فالتعبير مدخول؛ لأن التالي قد يكون ثابتًا في بعض المواضع كما سيأتي؛ فلذلك اختار المحققون العبارة الثالثة، وهي أنها: حرف يقتضي امتناع ما يليه واستلزامه لتاليه. وممن اختارها الشيخ تقي الدين السبكي وولده، وربما وقعت في بعض نُسخ "التسهيل"، لكن ليس فيها تقييد ذلك بالمضي، فينبغي أن يُزاد فيها ذلك، فيقال: (يقتضي في الماضي امتناع) إلى آخِره. وبالجملة فحاصل المقصود منها أنها تدل على أمرين: أحدهما: امتناع تاليها وهو الشرط. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ض). لكن في (ق، ظ): الترتيب. وفي (ش): المرتب. (¬2) شرح التسهيل (4/ 95).

والثاني: استلزام الشرط للجزاء، أي: يكون الشرط ملزومًا والجزاء لازمًا. وحينئذٍ فينظر فيهما: إنْ تَساويا، لَزِمَ مِن انتفاء الشرط انتفاء الجواب، وإنْ لم يتساويا فلا يَلزم من انتفائه انتفاؤه. فمِن الأول نحو: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، فتَعدُّد الآلهة ملزوم للفساد الذي هو لازم، وهو مساوٍ له، فيلزم من انتفاء كل منهما انتفاء الآخر، ومن وجود كل منهما وجودُ الآخر. وعلى هذا النوع يَصْدُق أنها حرف امتناع؛ لامتناع. وِمن الثاني -وهو ما يكون اللزوم فيه أَعَم- نحو: (لو كان إنسانًا لكان حيوانًا)، فإن مِن لازِم الإنسان الحيوان، ولكنه أعم من الإنسان وغيره، فلا يَلزم مِن انتفاء كونه إنسانًا انتفاءُ كونه حيوانًا. قيل: هذا وارد على مَن يقول: (امتناع؛ لامتناع). وهذا معنى قولي: (فَيَنتفِي إنْ نَاسَبَا وَلَا مُقَدَّمٌ يَكُونُ ذَاهِبَا يَخْلُفُهُ غَيْرٌ). أي: فيرتب على ما سبق -من كونها تقتضي امتناع ما يليها وأنها حال- كَوْنُ ذلك المقدم استلزم تاليه ما ذكر، وهو أنه إذا كان المقدم مناسبًا للتالي ولا يمكن أن يذهب ويخلفه غيره وهو المشارك الذي شرحناه. ومعنى قولي: (يَخْلُفُهُ غَيْرٌ) أي: غيره. ثم قلتُ: إن مثال هذا القسم أكمل. أي: ذكر في القرآن العظيم مكملًا، (فكُنْ) إذا ذكرته (مُكَمِّلًا) له بتلاوتك الآية بكمالها. نعم، اشتراط الناسبة في هذا القسم وقع في عبارة كثير، وهو مستغنًى عنه؛ فإن المدار على كونه لا يخلف المقدم غيره، أي: للمساواة بينهما، بخلاف ما إذا لم يتساويَا.

ثم وراء كون المقدم أَخَص من التالي وأنه لا يَلزم مِن انتفائه انتفاؤه أن التالي قد يكون ثابتًا باعتبار أن المقدم المنفي بِـ "لو" [قد اقتضى ثبوته بأن] (¬1) كان المنفي في المقدم مناسبًا له إما بطريق الأولوية أو المساواة أو الأَدْوَبيَّة. ولكلٍّ مثال: فمثال الأول: قول عمر - رضي الله عنه -: "نِعْم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه" (¬2). فدخلت "لو" فيهما وهُما نفي؛ فاقتضت امتناع أولاهما وهي الشرط، فصارت مثبتة؛ لأن نَفْي النفي إثبات، فيثبت الخوف، وهو مناسب لثبوت التالي الذي هو نَفي العصيان بالأولوية على حال عدم الخوف وهو الإجلال؛ لأن مَن لا يخاف إذا كان لا يعصي إجلالا فَلأنْ لا يعصي عند الخوف من باب أَوْلى. فَلِعَدَم العصيان سببان: الإجلال، والخوف. فإذا كان يوجد مع الإجلال وإن لم يكن خوف فمع الخوف أَوْلى. ومثل هذا قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27] الآية، فعدم النفاد ثابت على تقدير كون ما في الأرض من الشجر أقلامًا وسبعة أبحر تمد البحر الذي يمد منه، فثبوت عدم النفاد على تقدير عدم ذلك أَوْلى. وكذا: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23] يقتضي أنه ما عَلِم فيهم ¬

_ (¬1) في (ص): لا يقتضي ثبوت التالي له وان. (¬2) قال الإمام السخاوي في (المقاصد الحسنة، ص 701): (حَدِيث: "نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ، لَوْ لَمْ يَخَفِ الله لَمْ يَعْصِهِ" اشتهر في كلام الأصوليين وأصحاب المعاني وأهل العربية من حديث عمر، وذكر البهاء السبكي أنه لم يظفر به في شيء من الكتب، وكذا قال جمعٌ جم من أهل اللغة، ثم رأيت بخط شيخنا أنه ظفر به في "مشكل الحديث" لأبي محمد بن قتيبة، لكن لم يذكر له ابن قتيبة إسنادًا، وقال: أراد أن صهيبًا إنما يطيع الله حُبًّا، لا لمخافة عقابه).

خيرًا وما أسمعهم. ثم قال الله تعالى: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]، فيكون معناه أنه ما أسمعهم وأنهم ما تولوا، ولكن عدم التولي خير من الخيرات، فإن أول الكلام يقتضي نفي الخير، وآخِره يقتضي حصوله، وهُما متنافيان، إلا أن عدم إسماعهم أَوْلى بأنْ يُعْرضوا مما لو أسمعهم؛ لأنهم إذا أعرضوا مع سماع كلمات النصح فتوليهم مع عدم [سماعها] (¬1) من باب أَوْلى، فلا تنافي حينئذٍ بين أولها وآخِرها. ومثال الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم - في بنت أُم سلمة: "إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة" (¬2). فإن عدم حِلها له -عليه السلام- من وجهين: كونها ربيبة، وكونها ابنة أخيه من الرضاعة. ومثال الثالث: وهو أن تكون مناسَبة ذلك دون مناسبة المقدم، فيلحق به؛ [لِلاشتراك] (¬3) في أصل المعنى، كقول القائل: (لو انتفت أُخوة هذه مِن النَّسب لَمَا كانت حلالًا؛ لِمَا بيننا من الرضاع). فإن تحريم الرضاع دون تحريم النسب. واعْلَم أن بعضهم طبق عبارة سيبويه على هذه العبارة الثالثة؛ لأنه قال: (لِمَا كان سيقع؛ لوقوع غيره)؛ لأنه إنما تَعَرَّض لامتناع الشرط، كأنه قال: لكن ذلك الغير لم يقع؛ فلذلك لم يقع المُرَتَّب عليه. أما كونه لا يقع المرتَّب عليه دائمًا فلا دلالة فيه. فائدة: ما مثّل به للقسم الأول -من قول عمر في صهيب- قال بعض الحفاظ: كثيرًا ما نسأل عنه ولم نجد له أصلًا. ¬

_ (¬1) في (ق): سماعهم. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 4813)، صحيح مسلم (رقم: 1449). (¬3) في (ص، ش، ض): الاشتراك.

نعم، في "الحلية" لأبي نعيم -في ترجمة "سالم مولى أبي حذيفة" بسند فيه ابن لهيعة- أن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن سالمًا شديد الحب لله عز وجل، لو لم يخف الله لم يعصه" (¬1). ومن جهته أورده صاحب "الفردوس"، فيحصل الغرض في التمثيل بذلك. وأما [مثال] (¬2) الثاني وهو: "لو لم تكن ربيبتي في حجري" فإنه في "الصحيحين". الثاني من معاق "لو": التمني، نحو: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [الشعراء: 102]. أي: فليت لنا كرة، ولهذا ينصب المضارع في جواب "لو" كما ينصب في جواب "ليت". ثم اختُلف في هذه، فقيل: إنها الامتناعية، أشربت معنى التمني. وقيل: قسم برأسه. وقيل: إنها المصدرية، أغنت عن التمني، لكونها لا تقع غالبًا إلا بعد مفهم تَمَنٍّ. واختار هذا القول ابن مالك، وغلط الزمخشري في عَدِّها حرف تَمَنٍّ، لمجيئها مع فِعل التمني في قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]، ولو كانت للتمني لَمَا جمع بينهما، كما لا يُجْمَع بين ["ليت"] (¬3) وفِعل تَمَنٍّ. وأُجيبَ بأن حالة دخول فِعل التمني عليها لا تكون حرف تمنٍّ، بل مجردة عنه، وهو مراد الزنحشري وغيره ممن أثبتها للتمني. الثالث: العَرْض، نحو: لو تنزل عندنا فتصيب خيرًا. ¬

_ (¬1) حلية الأولياء (1/ 177) بلفظ: "إِنَ سَالِمًا شَدِيدُ الحبِّ لله عَزَّ وَجَلَّ، لَوْ كَانَ لَا يَخَافُ اللهَ- عَزَّ وَجَلَّ - مَا عَصَاهُ". (¬2) في (ق، ظ، ض): بيان. (¬3) في (ق، ت): ليت ولعل.

الرابع: التحضيض، وقَلَّ مَن ذكره، إنما ذكره العكبري في "الشامل"، ومَثَّله بنحو: (لو فعلت كذا يا هذا)، بمعنى: افْعَل. والفرق بينه وبين العَرْض أنه طلب بِحَثٍّ، والعَرْض طلب بِلِين. الخامس: التقليل، ذكره ابن هشام الخضراوي وابن السمعاني في "القواطع"، نحو: "التمس ولو خاتما من حديد" (¬1)، "اتقوا النار ولو بشق تمرة" (¬2)، "تصدق ولو بظِلف محرق" (¬3)، وهو أشد في التقليل. و"الظِّلف" -بكسر الظاء المعجمة- من البقر والغنم كالحافر من الفرس. وهذا معنى قولي: (كَذَلِكَ التَّقْلِيلُ)، أي: في مقام ذكر التعويض أنه يكتفي بذلك؛ لحقارته، وتعوض الكثير من فضل الله عز وجل، والله أعلم. ص: 514 - وَ"لَنْ" لِنَفْيِ مَا يُرَى مُسْتَقْبَلَا ... أَمَّا لِتَأْكِيدٍ وَتَأْبِيدٍ فَلَا الشرح: "لن" من نواصب المضارع لكنها لنفي المستقبل؛ فلذلك تخلصه للاستقبال، ولا [تفيد] (¬4) مع ذلك تأكيدًا في [نفيها] (¬5) ولا تأبيدًا له، خلافًا للزمخشري فيهما، الأول صرح به ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (4829). (¬2) صحيح البخاري (1351)، صحيح مسلم (1016). (¬3) مسند أحمد (27491)، صحيح ابن حبان (3374)، وغيرهما، بِنَحْوِه، ولفظ أحمد: (لا تردوا السائل ولو بظلف محرق). (¬4) في (ظ): يقيد. (¬5) في (ق، ظ): نفسها.

في "الكشاف"، والثاني في "الأنموذج" في كثير من نُسخه. قال ابن مالك: (وحَمَله على ذلك اعتقاده أن الله [لا] (¬1) يُرى، وهو اعتقاد باطل) (¬2). وقال ابن عصفور: (ليس له دليل على مقالته، بل قد يكون النفي بِـ "لا" آكد من النفي بِـ "لن") إلى آخِر ما قال. ومما يُرَد به على الزمخشري في التأبيد أنها لو أفادته لم يقيد نفيها باليوم في قوله تعالى: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26]، أو بحالة حادثة، نحو: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه: 91]، ولكان ذِكر أبدًا في قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95] تكرارًا. نعم، وافق الزمخشري على التأبيد ابن عطية إذ قال في قوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]: (إنه لو مَضَيْنا على هذا النفي بمجرده لتَضمَّن أن موسى لا يراه أبدًا ولا في الآخرة، لكن [ردّوه من] (¬3) جهة أخرى [في الحديث] (¬4) المتواتر أن أهل الجنة يرونه، فاقتضى أن موضوعها لغةً ذلك) (¬5). لكن يحتمل أن مراده أن المستقبل بعدها يَعُم جميع الأزمنة المستقبلة؛ من جهة أن الفعل نكِرة، والنكرة في سياق النفي تَعُم. ووافق أيضًا الزمخشري على القول بتأكيد النفي ابن الخباز في "شرح الإيضاح" إذ قال: ¬

_ (¬1) في (ق): لن. (¬2) شرح الكافية الشافية (2/ 1531). (¬3) في (ق): رده في. (¬4) في (ت): بالحديث. (¬5) المحرر الوجيز (2/ 450).

ولكنه أَبلغ مِن نفْي "لا"، ألا ترى أنه [مستعمل] (¬1) في المواضع التي يستمر عدم الاتصال فيها، كقوله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، أي: إلى آخِر الدنيا. ومِثله: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج: 47]؛ لأنَّ خُلْف الوعد على الله تعالى مُحَال. ووافقه أيضًا صاحب "التبيان" على أن النفي بها أوكد. وزعم ابن عصفور أنها تَرِد للدعاء، نحو: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17]. والصحيح عند ابن مالك وغيره أنه لم يستعمل في الدعاء إلا "لا" خاصة، ولا حُجة له فيما سبق؛ لاحتمال أن يكون خبرًا, ولأن الدعاء لا يكون للمتكلم. والله أعلم. ص: 515 - وَ"مَا" كَـ"مَنْ" لِلشَّرْطِ وَاسْتِفْهَامِ ... نَكِرَةٌ بِوَصْفٍ اوْ تَمَامِ 516 - مَوْصُولَةٌ، وَ"مَا" فَقَطْ لِلنَّفْيِ ... وَقَدْ تُزَادُ في كثِيرٍ يُعْنِي (¬2) الشرح: "ما" مثل "مَن" في المعاني المذكورة، وتنفرد "ما" عنها بما سنذكره. فمِمَّا يشتركان فيه أمور: أحدها: الشرطية: زمانية، نحو: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7]، وغير زمانية، نحو: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106]، ونحو: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ش). لكن في سائر النُّسخ: يستعمل. (¬2) (عَنِيَ) بِالْكَسْرِ عَنَاءً أَيْ تَعِبَ وَنَصِبَ. (مختار الصحاح، ص 192). وقال المؤلف في شرحه: (يُعْنِي طالبهُ؛ لكثرته).

الثاني: الاستفهام، نحو: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى} [طه: 17]، {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى} [طه: 49]. الثالث: تَرِد كل منهما نكرة موصوفة، نحوة "مررت بما معجب لك". أي: بشيء. ومنه ما أنشده سيبويه: رُبما تَكْره النُّفوسُ منَ الأَمْـ ... رِ لَهُ فرْجَةٌ كحَلِّ العقَالِ أي: رُب شيء، وجملة "تكره النفوس" صفة له، والعائد محذوف، أي: تكرهه. ونحو: "مررت بمن معجب لك"، أي: بإنسان ونحوه. وشرط الكسائي في "مَن" هذه أنها لا تقع إلا في موضع لا يقع فيه إلا [النكرة] (¬1)، نحو: "رُب مَن عالم أكرمت"، و"رب مَن أتاني أحسنت إليه". ورُدَّ ما بما أنشده سيبويه: فكفى بنا فضلا على مَن غيرنا ... حب النبي محمد إيانا مع أن مجرور "على" يكون نكرة ومعرفة. الرابع: أن يقعا نكرة تامة. نحو: ما أحسن زيدًا. ويُعبر عنها بِـ"ما" التعجبية، فَـ"ما" مبتدأ، وما بعدها الخبر، أَي شيء حسن زيدًا، أي: صَيَّرَه حسنًا. والمسوغ للابتداء بها -مع كونها نكرةً- إفادةُ التعجب، كما في نحو: [عجبٌ] (¬2) لزيد. هذا مذهب سيبويه، وزعم الأخفش أن "ما" التعجبية موصولة، والفعل بعدها صلة لها، ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ش). لكن في سائر النُّسخ: التنكير. (¬2) كذا في (ص، ض، ش). لكن في (ت، ظ): عجبت. وفي (ق): عجيب.

والخبر محذوف وجوبًا. ونحو قول الشاعر: ونِعْمَ مَن هو في سرٍّ وإعلان. قاله أبو علي الفارسي، فزعم أن الفاعل مستتر، و"مَن" تمييز، والضمير المنفصل هو المخصوص. وقال غيره: "مَن" موصول فاعل. الخامس: ورودهما موصولتين بمعنى "الذي". نحو: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96]، ونحو: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} [الأنبياء: 19]. وهُما حينئذٍ مفردان مذكران في اللفظ، وأما المعنى فقد يكونان كذلك، وقد يكون المعنى غير ذلك، ويظهر بِعَوْد الضمير ونحوه كما هو معروف في محله من النحو. وقولي: (وَ"مَا" فَقَطْ لِلنَّفْيِ) إشارة إلى ما يختص به "ما"، وذلك أنها تكون على وجهين: اسمية: ولها الأوجُه السابقة. وحَرْفية: وهي ما تنفرد به عن "من". والحرفية إما نافية أو زائدة أو موصولة. فالأول: إما عاملة على لغة الحجاز، كقوله تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2]، أو غير عاملة، نحو: "ما قام زيد"، و"ما يقوم عمرو". والثاني: إما كافة أو غير كافة. والكافة إما: - عن عمل الرفع، نحو: "قلَّما" و"طالما". - أو النصب والرفع، وهي المتصلة بِـ"إنَّ" وأخواتها حيث كفت، نحو: إنما زيد قائم.

- أو الجر، نحو: ربما. وغير الكافة إما: - عوض، نحو: أمَّا أنت منطلقًا انطلقت، كما قال: أما أنت ذا نفر ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع - وإما غير عوض، نحو: شتان ما بين زيد وعمرو. وإلى كثرة أقسام الزائدة أشرت في النظم بقولي: (وَقَدْ تُزَادُ في كَثِيرٍ يُعْنِي). أي: يُعْني طالبه؛ لكثرته، وذلك على وجه المبالغة، ومحله كتب العربية. الثالث: من أقسام الحرفية أن تكون موصولًا حرفيًا، أي: تكون هي وما بعدها في تأويل مصدر، نحو: أعجبني ما قلت. أي: قولك. وهي ضربان: - ظرفية: وذلك بأن يقع المصدر المؤوَّل منها موقع الظرف، نحو: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، أي: مدة استطاعتكم. - وغير ظرفية، نحو: {بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]، {لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} [النحل: 116]. ونازع ابن عصفور أبا موسى الجزولي في كون هذا قِسمًا آخَر؛ لأن المصدر الصريح يقع موقع الظرف، نحو: أتيتك خفوق النجم، أي: وقت خفوقه. وخلافة زيد، أي: مدة خلافته. فالمصدر المؤول كذلك، لا أن ذلك معنى يختص بِـ"ما" المصدرية. وإنما لم أذكر في النَّظم هذا القسم الثالث لدخوله تحت إطلاق قولي: (مَوْصُولَةٌ)، وهو بالرفع كالذي قبله، وهو قولي: (نكِرَةٌ). وهو على إرادة سرد المعاني، وإلا فكان حقهما أن يُعطفا بالواو، فإن النظم يبيح مثل ذلك كما ذكرناه غير مرة.

فإنْ قلتَ: يشكل هذا بأنك جعلت "ما" كَـ"مَن" في هذه المعاني، فيقتضي أن يكون "مَن" موصولًا حرفيًّا وليس كذلك. قلتُ: التشبيه يَصْدُق بصورة "من" الموصولية، ولا يَلزم أن يكون بسائر الوجوه، والله أعلم. ص: 517 - وَ"مِنْ" بِكَسْرٍ لِابْتِدَاءِ الْغَايَهْ ... وَلِبَيَانِ الْجنْسِ في الدِّرَايَهْ 518 - وَهَكَذَا التَّبْعِيضُ وَالتَّعْلِيلُ ... وَبَدَلٌ وَغَايَةٌ [تَحُولُ] (¬1) 519 - وَمثْلُهُ التَّنْصِيصُ لِلْعُمُومِ ... وَالْفَصْلُ وَالْمَجيءُ في التَّفْهِيمِ 520 - كَـ"الْبَا"، كَذاكَ "في" وَ"عِنْدَ" وَ"عَلَى" ... وَ"هَلْ" لِتَصْدِيقٍ [يُرَادُ] (¬2) بِانْجِلَا الشرح: الاحتراز بالكسر عن "مَن" المفتوحة التي سبق ذكرها مع "ما". فـ"مِن" المكسورة (وفيها لغة "منا" بألِف، حكاه في "التسهيل") تَرِد على وجوه: أحدها: لابتداء الغاية، وهو الأغلب عليها، وتُعْرف بأن يذكر بعدها "إلى"، فيستقيم الكلام، نحو: "سِرتُ من البصرة"، فإنه يَصْدُق أن يقول: "إلى بغداد"، وهو معنى قول بعضهم: وقد يحذف انتهاء الغاية بعدها؛ للعِلم به. وقد لا يقصد فيه انتهاء الغاية أصلًا، نحو: "أعوذ بالله من الشيطان"، و"زيد أفضل من ¬

_ (¬1) في (ض، ن 1): تجول. (¬2) في (ظ، ن 5): يزاد.

عمرو"، ونحوه. ثم هي لابتداء الغاية في المكان اتفاقًا، نحو: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1]، وفي الزمان عند الكوفيين، نحو: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108]، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} [الإسراء: 79]، {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4]. وصححه ابن مالك وغيره؛ لكثرة شواهده، وأما تأويل البصريين ففيه تَعسُّف. قال ابن أبي الربيع: ومحل الخلاف أن "من" هل تقع موقع "مُذْ"؟ فإنها لابتداء الغاية في الزمان بلا خلاف، فالبصريون يمنعونه، والكوفيون يجوزونه. وما ورد في القرآن لا يحتج به على البصريين؛ لأنه لم يرد "مُذ" قبل ولا "مُذْ" بعد. الثاني: بيان الجنس، وعلامتها أن يصح وضع "الذي" قبلها، نحو: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]. أي: الذي هو [مِن] (¬1) الأوثان، فإن الأوثان كلها [رجس] (¬2) وإنْ كان الرجس قد يكون من غير الأوثان. ونحوه قوله تعالى: {خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ} [الكهف: 31]. وحكى الصيمري -من أصحابنا- عن الشافعي فيما لو قال: (له مِن هذا المال ألف)، وكان المال كله ألفًا، أنه إقرار بجميعه، حملًا على أن "مِن" للتبيين. الثالث: التبعيض، وعلامتها صحة "بعض" محلها، نحو: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253]. نعم، فرق بعضهم -كما قال ابن أبي الربيع- بين "أكلت من الرغيف"، و"أكلت بعض ¬

_ (¬1) ليست في (ظ، ق، ت). (¬2) كذا في (ت). لكن في سائر النُّسخ: جنس.

الرغيف" بأن مع "من" كان يحتمل تَوجُّه الأكل للكل وللبعض، [فبَيّنت] (¬1) "من" أن المراد أكل البعض، وأما لو صرح بِـ "بعض" فإن الأكل متوجه ابتداءً للبعض. هذا معنى ما نقله، ولكنه قليل الجدوى. نعم، البعض يَصْدُق على النصف أو ما دونه، قولان لأهل اللغة، فقياس ذلك أن يجري في البعض المستفاد من "مِن" القولان. ويشهد للثاني قوله تعالى: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]، وفي "النهاية" في "كتاب الوكالة": لو قال: "بعْ مِن عبيدي مَن شئت"، فليس للوكيل أن يبيع جميعهم، بل له أن يبيعهم إلا واحدًا باتفاق الأصحاب. وإنْ كان التبعيض في النظم المعروف إنما يورد على النصف فما دونه. قال: وهذا يناظر الاستثناء، فإن الغالب استثناء الأقل واستبقاء الأكثر، ولكن لو قال: "له عَلَيَّ عشرة إلا تسعة"، صَحَّ، وجُعِل مُقرًّا بدرهم. الرابع: التعليل، نحو: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ} [البقرة: 19]. الخامس: البدل، نحو: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة: 38]، أي: بدل الآخرة. السادس: الغاية، كذا عبر به كثير، وهو محتمل لأمرين: أحدهما: الغاية كلها. كذا حكاه ابن أبي الربيع عن قوم، نحو: "أخذت من الياقوت"، فالياقوت مبدأ الأخذ ومنتهاه. قال: وهذا إذا تحقق, رجع لابتداء الغاية؛ لأنه لَمَّا لم يكن للفعل [امتداد] (¬2)، وجب أن ¬

_ (¬1) في (ش): فيثبت. (¬2) في (ق، ظ، ت): ابتداء.

يكون المبدأ والمنتهى واحدًا. ثانيهما وهو الظاهر: أنه على حذف مضاف، أي: انتهاء الغاية، فيكون بمنزلة "إلى"، وربما وقع في بعض نُسخ "التسهيل": وبمعنى "إلى"، ومثلوه بقول الشاعر: عَسَى سائل ذو حاجة إنْ مَنَعْتَه ... مِن اليوم [سؤلًا] (¬1) أْن يُيَسَّر في غَد وفي "التسهيل" -قبل ذلك- أنها تكون للانتهاء. ومثلوه بقريب من ذلك، فتكون لابتداء الغاية من الفاعل، ولانتهاء غاية الفعل من المفعول، مثل: "رأيت الهلال من داري من خلل السحاب". فابتداء الغاية وقع من الدار، وانتهاؤه من خلل السحاب. قال ابن مالك: (وسيبويه أشار إلى هذا) (¬2). وإنْ أنكره جماعة وقالوا: لم تخرج عن ابتداء الغاية، لكن الأُولى ابتداؤها في حق الفاعل، والثانية في حق المفعول؛ لأن الرؤية إنما وقعت بالهلال وهي في خلل السحاب. ومنهم مَن جعلها في الثانية لابتداء الغاية أيضًا، إلا أنه جعل العامل فيها فِعلًا، كأنه قال: "رأيت الهلال مِن داري ظاهرًا مِن خلل السحاب"، فجعل "مِن" لابتداء غاية الظهور؛ لأن ظهور الهلال بدأ من خلل السحاب. ورُدَّ بأن الخبر المحذوف الذي يقوم المجرور مقامه إنما يكون بما يناسب معناه الحرف، و"مِن" الابتدائية لا يفهم منها معنى الكون ولا الظهور، فلا ينبغي أن يحذف. ومنهم من جعلها بدلًا من الأولى. السابع: تنصيص العموم، وهي الداخلة على نكرة لا تختص بالنفي، نحو: (ما جاءني مِن رجل). فإنه كان قبل دخولها محتملًا لنفي الجنس ولنفي الوحدة؛ ولهذا يصح أن تقول: ¬

_ (¬1) كذا في (ص). لكن في (ت، ظ، ق): يسرا. وفي (ض، ش): سوا. (¬2) شرح التسهيل (3/ 136).

(بل رجلان)، ويمتنع ذلك بعد دخول "مِن". أما الواقعة بعد "ما" فلا تستعمل إلا في النفي والتأكيد لا غير، نحو: (ما جاءني من أحد). وزعم الكوفيون أنها تزاد في الإثبات نحو: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف: 31]؛ بدليل: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]. وأُجيب بأن "مِن" للتبعيض؛ لأن مِن الذنوب حقوق العباد، والله عَزَّ وَجَلَّ لا يغفرها، بل يستوهبها إذا شاء. وقوله: {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} إنما هو في هذه الأُمة، وقوله في الآية الأخرى: {مِنْ ذُنُوبِكُمْ} هو في قوم نوح، فلم يتواردا على محل. ولو سُلِّم أنها أيضًا في هذه الأُمة فلا يبعد أن يغفر بعض الذنوب لقوم وجميعها لآخَرين. الثامن: الفصل، نحو: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]، وتُعْرف بدخولها على ثاني المتضادين. التاسع: مجيئها بمعنى "الباء"، وهو معنى قولي: (وَالْمَجِيءُ في التَّفْهِيمِ كـ "الْبَا")، أي: مجيء "مِن" لإفهام هذه المعاني كما تُفهمها الحروف المذكورة. مثالها بمعنى "الباء" قوله تعالى: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45]. قال يونس: أي: بِطرف. ويحتمل أنه من ابتداء الغاية. العاشر: بمعنى "في"، كقوله تعالى: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} [فاطر: 40]، أي: في الأرض. كذا مُثِّلت، والظاهر أنها على بابها؛ لصحة المعنى بذلك. والأحسن أن يمثل بما حكاه ابن الصباغ في "الشامل" عن الشافعي - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} [النساء: 92] أنها بمعنى "في"؛ بدليل قوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: 92]. الحادى عشر: بمعنى "عند"، كقوله تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ

مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [آل عمران: 10]. قاله أبو [عبيدة] (¬1). الثاني عشر: بمعنى "على"، كقوله تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنبياء: 77]. وقيل: بل هو على التضمين، أي: منعناه. وهو أَوْلى من التجوُّز في الحروف كما سبق تقريره والخلاف فيه، والله أعلم. وقولي: (وَ"هَلْ" لِتَصْدِيقٍ يُرَادُ بِانْجِلَا) تمامه قولي: ص: 521 - في مُوجَبٍ لَا غَيْرِهِ، وَالْوَاوُ ... لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ إذَا يُسَاوُوْا الشرح: فقد اشتمل مع هذا البيت على بيان معنى حرفين: "هل"، و"الواو". فأمل "هل" فموضوع لطلب التصديق الإيجابي دون التصور ودون التصديق السلبي. تقول: "هل جاء زيد؟ " و"هل عمرو منطلق؟ " ولا يجوز "هل زيد قائم؟ أَم عمرو؟ " إذا أُريد بِـ"أَم" المتصلة، ولا "هل لم يَقُم زيد؟ ". ونظيرها في الاختصاص بطلب التصديق "أَم" المنقطعة، و [عكسهما] (¬2) "أم" المتصلة. قيل: ومن معاني "هل" النفي؛ بدليل دخول "إلا" على الخبر بعدها، نحو: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، و"الباء" في قوله: (ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم). ¬

_ (¬1) كذا في (ت) وهو الصواب. لكن في سائر النُّسخ: عبيد. قال أبو عبيدة في كتابه (مجاز القرآن، 1/ 87): ({لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} يعني: عند الله). (¬2) كذا في (ص، ش). لكن في سائر النُّسخ: عليهما.

وغير ذلك. والأصوب أن يقال: إنها للاستفهام، ولكن أريد بالاستفهام بها النفي، كما يقال بذلك في الاستفهام الإنكاري، نحو: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135]. قيل: وتأتي أيضًا بمعنى "قد"، وذلك مع الفعل، كما في {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْر} [الإنسان: 1]. وبالغ الزمخشري حتى قال: إنها أبدًا بمعنى "قد"، وإنَّ الاستفهام إنما هو مستفاد من همزة مقدَّرة معها. ونقله في "المفصل" عن سيبويه. وضُعِّف ما قاله الزمخشري بأنه لو كان كما قال، لم تدخل إلا على فعل كَـ "قد". وأما نَص سيبويه فمذكور في "باب أَم المتصلة"، ولكن قد نَص على خلافه في "باب عدة ما يكون عليه الكلم"؛ فَلْيُؤَوَّل نَصُّه. نعم، معنى "قد" المحمول عليها "هل" في {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [التقريب] (¬1). قال في "الكشاف": (إن التقدير في {هَلْ أَتَى}: "أقد أتى؟ " على معنى التقرير والتقريب جميعًا، أي: أتى على الإنسان قبل زمان قريب طائفة من الزمان الطويل الممتد لم يكن [فيه] (¬2) شيئًا مذكورًا، بل شيئًا منسيًّا نطفة في الأصلاب، والمراد بالإنسان: الجنس؛ بدليل: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} [الإنسان: 2]) (¬3). انتهى وفسرها غيره بِـ "قد" خاصة، ولم يحملوا "قد" على التقريب، بل على معنى التحقيق. وقيل: بل معناها التوقُّع، وكأنه قيل لقوم يتوقعون الخبر عما أتى على الإنسان وهو آدم ¬

_ (¬1) كذا في (ص). لكن في سائر النسخ: للتقريب. (¬2) كذا في (ص)، لكن في (ت): فيها. (¬3) الكشاف (4/ 666).

عليه السلام. قيل: و"الْحِين" زمن كَوْنه طِينًا. وفي "التسهيل" أنه يتعين مرادَفة "هل" لِـ "قد" إذا دخلت عليها الهمزة، أي: كما في قوله: سائل فوارِس يَرْبُوع بِشِدَّتنَا ... أَهَلْ رَأَوْنَا بسفْحِ القاع ذِي الأكم ومفهوم ما قاله ابن مالك أنه لا تتعين لذلك إذا لم تدخل عليها، بل قد تأتي لذلك كما في الآية، وقد لا تأتي له. وقد عَكَس قومٌ ما قاله الزمخشري، فزعموا أن "هل" لا تأتي بمعنى "قد" أصلًا. قال ابن هشام في "المغني": (وهذا هو الصواب عندي) (¬1). ثم ذكر توجيه تصويبه وأطال فيه، فليراجَع منه، فمَن ثَم لم أتعرض لغير ما سبق في النَّظم. وأما "الواو" فإنْ كانت عاطفة فمعناها -على المرجَّح- مُطْلَق الجمْع، فتعطف متقدمًا على متأخِّر كعَكْسه، وتعطف المتساويين في الزمان، وتعطف مع التراخي ومع الفورية، نحو: "جاء زيد وعمرو" سواء أكان في الواقع جاء قبله أو بعده أو معه، وسواء تَعقبه أو تَراخَى. ومعنى قولي: "إذا يُسَاوُوا" أن العرب تأتي "بالواو" إذا أرادت المساواة بين المعطوف والمعطوف عليه في مطلق اشتراكهما في معنى العامل مِن غير إرادة شيء مما ذكرناه. فإذا أرادوا ذلك، أتوا بقرينة أو بما وُضِع للترتيب والمهلة (وهو "ثُم") أو للترتيب والتعقيب (وهو "الفاء") بحسب قصدهم استغناءً عن القرينة، وعند "الواو" إنما يُستفاد ذلك من القرينة، لا مِن نفس "الواو". ¬

_ (¬1) مغني اللبيب (3/ 339 - 340).

وإنما حذفتُ "النون" في النَّظم من قولي: (يُسَاوُوْا) مع عدم الناصب والجازم اضطرارًا، وإلا فالأصل: "يساوون"، بل ربما حذفت في غير ذلك كما هو مشهور في العربية. وما قررته في معنى "الواو" هو الصحيح من الأقوال الذي عليه الجمهور ونَصُّ سيبويه إذ قال: (وذلك قولك: "مررت برجُل وحمار" لم تجعل للرجُل منزلة بتقديمك إياه يكون بها أَوْلى مِن الحمار، كأنك قلت: "مررت بهما"، وليس في هذا دليل على أنه بدأ بشيء قبل شيء) (¬1). انتهى [فَبَيَّن] (¬2) بهذا أنها لمجرد الجمع وأنها كالتثنية لا ترتيب فيها ولا مَعِيَّة. قيل: ونَص عليه سيبويه في سبعة عشر موضعًا من كتابه. ونقل الفارسي والسيرافي في "شرح سيبويه" والسهيلي وغيرهم إجماع أئمة العربية عليه وإنْ كان في حكايته الإجماع نظر مع وجود الأقوال الآتية وشهرتها، وحكاه القاضي أبو الطيب في "شرح الكفاية" عن أكثر الأصحاب، وزعم ابن برهان أنه قول الحنفية بأَسْرهم ومعظم أصحاب الشافعي. وفي إطلاقه ذلك عن الحنفية نظر؛ لِمَا سيأتي. ثم قال: وهو الذي صَحَّ عن الشافعي؛ فإنه نَص على أنه إذا قال: "هذه الدار وقف على أولادي وأولاد أولادي"، أنهم يشتركون فيه، بخلاف "ثم أولاد أولادي". وإذا قال: "إذا مت فسالم وغانم وخالد أحرار" وكان الثلث لا يَفِي إلا بأحدهم، فإنه يقرع. فلو كانت الواو عنده للترتيب لَقال: يعتق سالم وحده. ودليل هذا القول موارد استعمالها، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ} [الحديد: ¬

_ (¬1) الكتاب لسيبويه (1/ 437). (¬2) كذا في (ص، ش). لكن في سائر النُّسخ: فتبين.

26]، وفي الآية الأخرى: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الشورى: 3]، وقال: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت: 15]، وقال: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الأحزاب: 7]، وقال تعالى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7]، فالرد بُعيد إلقائه في اليَم، والإرسال وقع متراخيًا، فإنه على رأس أربعين سَنة. القول الثاني: إنها للترتيب. قاله ابن عباس، فأسند إليه ابن عبد البر في "التمهيد": (ما ندمت على شيء لم أكن عملت به ما ندمت على المشي إلى بيت الله أن لا أكون مشيت؛ لأني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول حين ذكر إبراهيم وأُمر أن ينادي في الناس بالحج: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} (¬1)، فبدأ بالرجال قبل الركبان) (¬2). وإلى هذا القول ذهب من أهل العربية من الكوفيين ثعلب والفراء وهشام وأبو عمر الزاهد على ما نقله الشيخ أبو إسحاق في "التبصرة". لكن في كتاب أبي بكر الرازي: (قال لي أبو عمر غلام ثعلب: "الواو" عند العرب للجمع لا للترتيب، وأخطأ مَن قال: إنها للترتيب) (¬3). انتهى ومن البصريين قطرب وعلي بن عيسى الربعي وابن درستويه، وعُزي للشافعي، فذكر بعض الحنفية أنه نَص عليه في كتاب "أحكام القرآن"، وبعضهم أخذه من لازِم قوله في اشتراط الترتيب في الوضوء والتيمم ونحو ذلك. والحقُّ أنه ليس مستدركه في ذلك "الواو"، بل الترتيب عنده بدليل آخَر، وهو قطع النظير ¬

_ (¬1) [الحج: 27]. (¬2) التمهيد (2/ 84). (¬3) الفصول في الأصول لأبي بكر الجصاص (1/ 86).

عن النظير وإدخال الممسوح بين المغسولين، والعرب لا تفعل ذلك إلا إذا أرادت الترتيب. نعم، هو وجه لأصحابنا حكاه الماوردي في "باب الوضوء" عن جمهورهم، وكذا الصيدلاني في "شرح المختصر"، قال: وقولنا: إن "الواو" للترتيب هو قول أبي عبيد والفراء وغلام ثعلب. وفي "الأساليب" لإمام الحرمين أنه صار إليه علماؤنا، وفي "البرهان" له أنه الذي اشتهر عن أصحاب الشافعي (¬1)، ونصره الشيخ أبو إسحاق في "التبصرة"، وجزم به ابن سريج في "الودائع"، وقال: إنه لا خلاف فيه بين أهل اللغة. وقال بعض المحققين من شيوخنا: إن الذي يظهر من تَصرُّف الشافعي أن إفادة "الواو" للترتيب ليس لغةً، بل مِن عُرف الشرع، فهو حقيقة شرعية، لا لغوية، ويدل لذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - حين خرج من باب الصفا وهو يريد الصفا: "نبدأ بما بدأ الله به" (¬2). أي: شرعنا دائمًا أن نبدأ بذلك، فهو عام وارِد على سبب خاص، فكل موضع وقع فيه التردد فإنما يحمل على الشرعي، وحينئذٍ فإطلاق كثير من أصحابنا الترتيب ونقلهم ذلك عن مذهب الشافعي إنما مرادهم ذلك، وبه يجتمع الكلام ويرتفع الخلاف. وأما النقل عن اتفاق أئمة اللغة ذلك كما سبق ففيه منازعة. فقد قال ابن الأنباري في مصنفه المفرد في هذه المسألة: إن ما نقل عن ابن درستويه والزاهد وابن جني وابن برهان والربعي من أنها للترتيب فليس بصحيح، وكتبهم تنطق بضد ذلك. ثم ذكر كلام عَلي الربعي في "شرح كتاب الجرمي"، وهو أنه قال: إن "الواو" للجمع ¬

_ (¬1) البرهان في أصول الفقه (1/ 137). (¬2) صحيح مسلم (1218)، سنن أبي داود (1905)، سنن الترمذي (2967)، وغيرها.

على مذهب النحويين والفقهاء إلا الشافعي. قال: ولقوله وَجْه. ولكن هذا يدل على تقويته في الجملة، لا أنه مُختاره. وقال ابن مالك في "شرح الكافية": (زعم بعض الكوفيين أنها للترتيب، وعلماء الكوفة بُرآءمن ذلك) (¬1). وبالجملة فقد استُدل لقول الترتيب بنحو قول الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18]، {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)} [الزلزلة: 1 - 2]. لكن لا دلالة في ذلك، غايته أنها استُعملت في الترتيب، وليس ذلك بلازم، كما استعملت في عكسه، نحو: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 16] والنذر قبل العذاب؛ بدليل قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. ومن حجج الترتيب أيضًا ما في "البخاري" عن البراء قال: "أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل مقنع بالحديد، فقال: يا رسول الله، أُقاتل وأُسلم؟ قال: أَسلم ثم قاتِل. فأَسلم ثم قاتَل، فقُتل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمل قليلًا وأُجِرَ كثيرًا" (¬2). و[يجاب] (¬3) عنه بأنه قال له ذلك خوفًا أن يختار من الأمر المحتمل المقاتلة قبل الإِسلام فيُقتل كافرًا، والمبادرة للإسلام واجبة، لا من حيث إفادة "الواو" الترتيب. ¬

_ (¬1) شرح الكافية الشافية (3/ 1206). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 2653). (¬3) في (ق): أجيب.

ومنها حديث الخطيب: "قُل: ومَن يطع الله ورسوله" (¬1). ولا حُجة فيه؛ لأنه إنما نهاه لأن الأدب أن لا يجمع بين اسم الله وغيره في ضمير، كما في قوله: "وصدق الله ورسوله"، ولم يَقُل: وصَدَقَا. وكذا لا حُجة لهم في الترتيب بنحو: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 277]، حيث رتب العمل على الإيمان؛ لأن ذاك ليس من "الواو"، بل لكونه لا يصح بدونه، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [طه: 112]. القول الثالث في "الواو": إنها للمعية، واستعمالها في غير ذلك مجاز. ويُنسب لبعض الحنفية. نعم، أنكره ابن السمعاني وغيره. ونسبه بعضهم لأبي يوسف ومحمد؛ أَخْذًا مِن قولهما فيما لو عقد لأختين على رجُل من غير إذنه: إن أجاز نكاحهما معًا، بطل فيهما، أو إحداهما ثم الأخرى، بطل في الثانية، فإن قال: "أجزت نكاح فلانة وفلانة" فهو كما لو أجاز نكاحهما معًا. ومن قولهما في "إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق": يقع الثلاث. وعند أبي حنيفة واحدة. ونُسب هذا القول أيضًا للشافعي في "القديم" ولمالك حيث قالا في غير المدخول بها: لو قال لها: "أنت طالق وطالق وطالق"، يقع الثلاث. الرابع: إنها للترتيب حيث يستحيل الجمع، كقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]. حكاه بعضهم عن الفراء، وقال المراغي: لم أره في كتابه، ولو صح عنه، رجع إلى ¬

_ (¬1) كذا في جميع النُّسخ، ولفظ الحديث في (صحيح مسلم، 870): "قُل: ومَن يَعْصِ الله ورسوله".

أنها للمعية إلا إذا تَعذَّر الجمع، فيتعين الترتيب؛ لاستحالة الجمع، لا لكونها دالة عليه. الخامس: إنْ دخلت بين أجزاء بينها ارتباط، كانت للترتيب، كآية الوضوء، أو أفعال لا ارتباط بينها نحو: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فلا. وهو قول أبي موسى من الحنابلة، ورجحه بعض متأخِّريهم. السادس: تقتضي الترتيب في المفردات دون الجمل. حكاه ابن الخباز عن شيخه. وفيها أقوال أخرى ضعيفة أو راجعة إلى ما سبق. تنبيهات أحدها: قال ابن مالك في "التسهيل": (إن "الواو" تنفرد عن "الفاء" و"ثم" ونحوهما -مما يقتضي التشريك- بأنَّ متبعها في الحكم محتمل للمعية برجحان، وللتأخُّر بكثرة، وللتقدم بِقِلَّة) (¬1). وزعم بعضهم أن نَص سيبويه السابق يَرُد ما قاله، وفيه نظر، فإن سيبويه تكلم على أصل احتمالها، والشيخ تكلم على مَحال استعمالها. الثاني: التعبير بِـ "مُطْلَق الجمع" قيل: إنه أصوب من التعبير بِـ"الجمع المطلق"؛ لأن مطلق الجمع أعم من الجمع الذي فيه قرينة ترتيب أو معية أو فور أو ضد ذلك. والجمع المقيد بالإطلاق أخص؛ لأن الماهية بعدم القيد أعم من الماهية بقيد عدم شيء معها, ولذلك نظائر، كمطلق الماء والماء المطلق، ومطلق التصور والتصور المطلق. لكن ذهب بعض المحققين أنه لا فرق؛ لأن مطلق الجمع إنما معناه المقيد بالإطلاق من ¬

_ (¬1) شرح التسهيل (3/ 347 - 348).

المجموع؛ لأن الإضافة فيه على معنى "مِن" التبعيضية، فلا فرق بين أن تتأخر صفة الشيء أو تتقدم. وممن جرى على عدم الفرق بينهما الشيخ تقي الدين السبكي. الثالث: مما يتفرع من الفقه على الخلاف المذكور: "إنْ دخلتِ الدار وكلمتِ زيدًا فأنت طالق"، ففي التتمة وَجه لا يقع حتى تدخل أولًا، والصحيح لا فرق. نعم، قالوا فيما لو قال لوكيله: "خذ مالي من زوجتي وطَلِّقها": لا بُدَّ من أخذ المال أولًا على أصح الوجهين كما نقله الرافعي عن البغوي، وكأن ذلك للاحتياط، لكن السرخسي (¬1) لما حكى الوجهين استدل على عدم الاشتراط بأنه لو قال: "طلقها وخذ مالي منها"، لا يشترط تقديم الأخذ. ثم قال: وثانيهما يشترط؛ لأنه ذَكر أخْذ المال قبل الطلاق، أي: فجعل المدرك المتقدم والتأخر، ولو رُوعِي الاحتياط، لم يكن فرق بين أن يتقدم الأخذ في لفظِه أو يتأخر. ومنها: قال لغير المدخول بها: "إنْ دخلتِ الدار فأنت طالق وطالق وطالق" أو قَدَّم قوله: "أنت طالق وطالق وطالق" على "إن فعلت"، يقع الثلاث في أصح الأَوْجُه. وقيل: واحدة. وقيل: إن قدم الشرط فواحدة، أو الجزاء فثلاث. ولو أتى بِـ"ثم" أو "الفاء" لم يقع إلا واحدة، فربما يقال فيها: إنها للمعية. وهو قول الحنفية. ¬

_ (¬1) هو: أبو الفرج السرخسي الزاز، فقيه شافعي، ولد عام (432 هـ). (شذرات الذهب، 3/ 400).

وقد يجاب بأن نسبة الكل عند وجود الصفة واحدة، فتعذر غير المعية، كما أخرجوا من محل الخلاف نحو: "اشترك زيد وعمرو"، و"تقاتل عبد الله وبكر". الرابع: إنما أطلتُ الكلام على "الواو"؛ لأنها من المهمات، واقتصرتُ في النظم على ذِكر معنى العاطفة؛ لوضوح بقية أنواع "الواو" في الاستدلال، كـ"واو" المفعول معه، و"واو" القَسم، و"واو" الحال، و"وا و" رُب والزائدة، و"واو" الثمانية عند مثبتها. بل وذُكر للعاطفة مَعَانٍ أُخَر ضُعِّف القول بها، أهملتها أيضًا، ككونها بمعنى "أو" وبمعنى "الباء" ونحو ذلك، وهو مبسوط في محله. والله أعلم.

باب في بيان أحكام المهم من الأمور السابقة

باب في بيان أحكام المهم من الأمور السابقة وفيه فصول: الأول: في "الأمر" و"النهي" لَمَّا فرغت من تقسيم الألفاظ وكان من جملة الأقسام أمور مقصودة في هذا الفن يشتد تَعلُّق الاستدلال بها ولها أحكام كثيرة تفتقر إلى إفراد كل منها بترجمة تخصه يُذكر فيها أنواعه وأحكامه كالأمر والنهي والعام والخاص والمطلق والمقيد والظاهر والمؤَوَّل والمجمَل والمبيَّن، شرعتُ في ذِكرها على هذا الترتيب في فصول، الفصل الأول منها في بيان الأمر والنهي. فأما "الأمر" فإنما بُدئ به لأنه إثبات، وهو أشرف من "النهي"، ولو لوحظ الزمان لَقُدِّم النهي؛ لأن العدم سابق على الوجود. ولفظة "الأمر" تطلق على معانٍ: منها: المعنى الاصطلاحي الذي هو مقصود الفصل على الخلاف الآتي فيه أول هل هو الصيغة الدالة على طلب إيجاد فِعل نحو: "اضرب"؟ أو نفس الطلب الذي تدل عليه الصيغة؟ ومنها: الفعل، فيقال: (زَيد في أمر عظيم)، أي: في فِعل مهم من سفر أو غيره. ومنه قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، أي: في الفعل الذي تعزم عليه، ونحوه قوله تعالى: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود: 73]، {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} [هود: 40]. ومنها: الشأن، كقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97]، أي: ما شأنه،

والمعنى الذي هو [متلبس] (¬1) به. ومنها: الصفة، كقول الشاعر: لأمر ما يُسوَّد من يسود. أي: لصفة من صفات الكمال. ومنها: الشيء، كقولنا: تحرك هذا الجسم لأمر. أي: لشيء. ومنها: الطريق، وقع ذلك في عبارة "المعتمد" لأبي الحسين، فقيل: إنه غير ما سبق. [لكنه] (¬2) قال في "شرح العمد": إن الطريق والشأن بمعنى واحد، فَيُكتفَى بأحدهما. وربما ذكر أنه يطلق على القصة والمقصود وليس المراد غير ما ذكر، بل اختلاف في العبارة. وبالجملة فإطلاقه بالمعنى الاصطلاحي حقيقة بلا خلاف. واختلفوا في إطلاقه بالمعاني المذكورة على أقوال: أحدها وهو قول الأكثرين: أنه مجاز وإلا لَزم الاشتراك، والمجاز خير منه. وفرَّعوا على ذلك أن جمع "الأمر" بالأول "أوامر"، وجمعه ببقية المعاني "أمور". ومما يُعرف به المجاز -كما سبق- أن يخالف جمعُه جمعَ الحقيقة، ولكن هذا لا يُعْرف لأهل اللغة إلا للجوهري، وقد قال الأزهري في "التهذيب": ("الأمر" ضد النهي، واحد "الأمور") (¬3). وقال ابن سِيده في "المحكم": (إن "الأمر" لا يكسر على غير "الأمور") (¬4). ¬

_ (¬1) كذا في (ص). لكن في (ش): منكس. وفي سائر النُّسخ: مباشر. (¬2) كذا في (ص، ش). لكن في (ض، ق، ت): إليه. (¬3) تهذيب اللغة (15/ 207). (¬4) المحكم والمحيط الأعظم (10/ 298).

وأما أئمة النحو فلم يَقُل أحد منهم: إن "فَعْلًا" يجمع على "فواعل" مع ذِكرهم الصيَغ الشاذة ومع ذلك لم يذكروه منها. وممن نبه على أن قول الجوهري في ذلك شاذ غير معروف عند أئمة العربية أبو الحسن الأبياري في "شرح البرهان"، ثم حكى عن بعضهم أن "أوامر" جمع "آمِر" بوزن فاعل، قال: (وفيه تَجوُّز؛ لأن الآمِر هو المتكلم، فإطلاقه على المصدر أو الصيغة مجَاز وإنْ كانت صيغة فاعل أو فاعلة تُجمع على فواعل، اسمًا كان كَفَواطم، أو صفة ككواتب) (¬1). انتهى وقد تُعُقِّب عليه بأن ابن جني في كتاب "التعاقب" ذكر ما يقتضي أن جمع "أمْر" و"نهي" على "أوامر" و"نواهٍ" شائع، وذكر له نظيرًا. وأما جَعْل "أوامر" جمعًا لِـ "آمِر" بوزن فاعل وإنْ كان فيه تَجوُّز إلا أنه عُرف شائع؛ ولهذا يُقال في صِيَغ القرآن والسُّنة: إنها آمِرَةٌ بكذا وناهِية عن كذا. وقال الأصفهاني في "شرح المحصول": (إن بعضهم قال: إن "أوامر" جمع الجمع، فجُمع أولًا جَمع قِلة على أَفْعُل، ثم جُمع أَفْعُل على أفاعِل، كما فُعِل في كلْب وأكلُب وأكالِب) (¬2). وضُعِّف بأن "أوامر" فواعل، لا أفاعل، فليس مثل أكالب. ولكن في هذا نظر؛ فقد يُدَّعَى أنه أفاعل لا فواعل [وأيضًا فإنَّا] (¬3) إذا قُلنا: إنه جمع "آمِر"، فهو أفاعل، والهمزة التي هي فَاء "أَمْر" هي المبدلة واوًا في "أوامر"، فهو وزن أكالب سواء، لكن هذا وإنْ كان محتملًا فجعله على فواعل كَـ "ضوارب" أوضح. القول الثاني: إنه مشترك بين القول -الذي هو الصيغة- وبين الفعل بالاشتراك ¬

_ (¬1) انظر: التحقيق والبيان في شرح البرهان (1/ 581 - 582). (¬2) الكاشف عن المحصول (3/ 6). (¬3) كذا في (ش)، لكن في (ص): فإنا. وفي (ض، ظ، ت): وأيضًا وأمَّا. وفي (ق): أيضًا وأما.

اللفظي؛ لأنه أُطلق عليهما، والأصل في الإطلاق الحقيقة. نقله في "المحصول" عن بعض الفقهاء، وعزاه ابن برهان إلى كافة العلماء. والثالث: إنه للقدر المشترك بينهما، من باب المتواطئ؛ دَفْعًا للاشتراك والمجاز. وهذا القول لا يُعرف قائله، وإنما ذكره الآمدي في "الأحكام" على وجه الإلزام للخصم، أي إنه لو قيل بذلك فما المانع منه؟ ولهذا لَمَّا تعرض له ابن الحاجب قال في آخِر المسألة: (وأيضًا فإنه قول حادث هنا) (¬1). وبذلك يصح قول ابن الحاجب وغيره: إنَّ إطلاقه على القول المخصوص حقيقة اتفاقًا، فإن الذي يقول بالتواطؤ يجعله حقيقة باعتبار المعنى المشترك، لا أنه حقيقة في أحد مَحَليه. الرابع: إنه مشترك بين الصيغة وبين الفعل وبين الشأن. ويُعزى لأبي الحسين البصري، كذا نُقل عنه، لكن عبارته في "المعتمد": (وأنَا أذهب إلى أن قول القائل "أمر" مشترك بين الصفة والشيء والطريق وبين جملة الشأن وبين القول المخصوص) (¬2). انتهى فلم يذكر "الفعل" أصلًا إلا أن يكون من حيث دخوله في الشأن. وذكر "الطريق"، وسبق أنه في "شرح العمد" وَحَّد بينه وبين الشأن، والأمر في ذلك سهل. والخامس: إنه مشترك بين الكل، فإذا أُطلق، احتمل كل واحد ما لم تكن قرينة للمراد منها. وحكاه ابن برهان عن كافة العلماء، وحكاه القاضي عبد الوهاب والباجي عن أكثر أصحابنا. ويمكن تخريج قول سادس: أنْ يكون للقدر المشترك بين الكل كما ذكر ابن الحاجب تبعًا ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى (2/ 10) مع (بيان المختصر). (¬2) المعتمد (1/ 39).

للآمدي على وجه الإلزام في الصيغة والفعل كما سبق. وقول سابع: حكاه صاحب "المصادر" من المعتزلة عن أبي القاسم البستي: أنه حقيقة في القول الذي هو الصيغة والشأن والطريق دُون آحاد الأفعال، وقال: إنه الأقرب؛ لأن مَن صَدر منه فِعل قليل غير مُعْتَد به -كتحريك أصابعه وأجفانه- لا يُقال: إنه مشغول بأمر، أو: هو في أمر. قال: (والذي أداهم إلى البحث في هذه المسألة اختلافهم في أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل هي على الوجوب؟ أم لا؟ ). انتهى وكذا قال صاحب "المعتمد" لما اختار ما اختار: (إنَّ أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوجوب" لأنها داخلة تحت قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 62]) (¬1). وقال الشيخ أبو إسحاق في "شرح اللمع": أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - هل تُسمى أمرًا؟ فيه وجهان، أصحهما: لا. وفرَّع صاحب "المحصول" على الخلاف في المسألة أيضًا لو قال: (إنْ أمرت فلانًا فعبدي حر) ثم أشار بما يُفهم منه مدلول الصيغة فإنه لا يحنث، ولو كان حقيقة في غير القول لزم العتق. قال: (ولا يُعارَض هذا بما إذا خرس وأشار فإنه يعتق؛ لأنَّا نمنع هذه المسألة) (¬2). انتهى قلتُ: لكن رجع كلامه إلى أن الدال على الأمر الذي هو الطلب هل هو مثل الصريح؟ أو لا؟ من غير تَعَرُّض لبقية المعاني، والله أعلم. ¬

_ (¬1) المعتمد (1/ 39). (¬2) المحصول (2/ 25).

ص: 522 - "الْأَمْرُ": الِاقْتِضَا لِفِعْلٍ غَيْرِ كَفْ ... مَا لَمْ يُفَدْ بِنَحْوِ "كُفَّ" أَمْرُ كَفْ الشرح: الكلام في الأمر في مقامين: أحدهما: في لفظِه، وقد سبق. والثاني: في معناه، وهو ما ذكرته في النظم من المختار في تعريفه، وذلك أن الأمر والنهي نوعان من الكلام، وفي كونه حقيقة في النفساني أو في اللساني أو مشتركًا أو في الحادث حقيقة في اللساني -مذاهب سبق بيانها، فالتعاريف مَبنية على ذلك. فمِن المعَرِّفين مَن يلاحظ في تعريفهما النفساني فقط، ومنهم مَن يلاحظ اللفظي فقط، ومنهم مَن يلاحظهما معًا. فالأول: طريقة القاضي وإمام الحرمين، قال القاضي في "مختصر التقريب": الأمر الحقيقي معناه قائم بالنفس (¬1)، والعبارات دالة على ذلك المعنى. وسيأتي كلامه بتمامه لغرض آخَر، وعَرَّف هو وإمام الحرمين "الأمر" بأنه: القول المقتضي بنفسه طاعة المأمور بفعل المأمور به (¬2). فأخرجَا بقولهما: "بنفسه" الصِّيَغ الدالة على الاقتضاء؛ لأن دلالتها بواسطة الوضع. وبيَّنا أن المراد بالقول النفسى، وأن التعريف للأمر النفساني، فإسقاط ابن الحاجب -في ¬

_ (¬1) انظر: التقريب والإرشاد (2/ 5). (¬2) التقريب والإرشاد (2/ 5)، البرهان في أصول الفقه (1/ 151)، التلخيص في أصول الفقه (1/ 242).

النقل عنهما- لفظَة "بنفسه" ليس بجيد. ثم قال: ورُدَّ -أي: هذا التعريف- بأن المأمور مشتق منه، وأن الطاعةَ موافَقةُ الأمر؛ فيجيء الدَّوْرُ فيهما. أي: لأن المشتق يتوقف معرفته على المشتق منه، فلو عُرّف به لَتَوَقَّف عليه، فيدور. وكذا قوله: "طاعة المأمور" أُضيف إلى ما لا يُعْرف إلا بمعرفة الأمر، والمضاف لا يُعْرف إلا بمعرفة المضاف إليه؛ فيدور أيضًا. وأجاب النقشواني بأن المراد بِـ"المأمور" و"المأمور به" المعنى اللغوي، وهو المخاطَب والمخاطَب به، وبِـ"الطاعة" مطلق الموافقة، فلا دَوْر. ووجَّه نَفْي الدَّوْر بأمر آخَر، ونازعه الأصفهاني في "شرح المحصول" فيهما. الثاني: هُم المعتزلة، لَمَّا أنكروا كلام النفس حَدُّوهما تارة باعتبار اللفظ، وتارة باقتران صفة الإرادة، وتارة جعلوه نفس صفة الإرادة. فقال بعضهم في "الأمر": إنه قول القائل لمن دُونه: "افْعَل"، ونَحْوه. وأشار بِـ"نَحْوه" إلى شمول سائر اللغات. وأُورِدَ على ذلك ورُود صيغة "افعل" ونحوها من غير أن يكون طلبًا، بل لتهديد أو تعجيز أو تسخير أو غير ذلك، والمبلِّغ والحاكي لأمر غيْره. وقال بعضهم: صيغة "افعل" بتجردها عن القرائن الصارفة عن الأمر. ورُدَّ بأنه تعريف "الأمر" بِـ "الأمر". وإنْ أُسْقِطَتْ، وَرَدَ ما سَبَق وغَيْرُه (¬1). وقال مَن اعتبر الاقتران بالإرادة: "الأمر" صيغة "افْعَل" بإرادات ثلاث: إرادة وجود ¬

_ (¬1) يعني: إنْ أُسقطت لفظة "بالأمر" مِن التعريف، وَرَدَ عليه ما سبق ذِكْره من اعتراضات.

اللفظ، وإرادة دلالتها على الأمر، وإرادة الامتثال. واحترزوا بالأول عن نحو النائم، وبالثاني عن نحو التهديد، وبالثالث عن نحو المبلِّغ. ورُدَّ بأنه كلام متهافت؛ لأن المراد بِـ"الأمر" في قوله: (دلالتها على الأمر) إنْ كان اللفظ، فَسدَ؛ لقوله: (وإرادة دلالتها على الأمر)، واللفظ غير مدلول عليه، فكأنه اشترط دلالة الشيء على نفسه. وإنْ كان المعنى (أي: معنى الصيغة)، فسد؛ لقوله: (الأمر صيغة افعل)؛ لأن "الأمر" -على تقدير إرادة المعنى- يكون غير صيغة "افْعَل". وقال مَن اعتبر منهم نفس الإرادة: إن الأمر إرادة الفعل. ورُدَّ بأن السلطان لو أَنكر -مُتوعِّدًا بالإهلاك- ضَرْبَ سَيِّدٍ لِعَبْده، فادَّعَى السيدُ أنه يخالِفه فيما يأمره به، فأَمَره -لتمهيد عُذْره- عند الملِك، فإنَّ ذلك إنما يكون لمخالفته، فهو يأمره ويقصد مخالفته؛ فانْفَكَّ "الأمر" عن الإرادة. ويمكن أن يجاب بأن الموجود هنا صيغة الأمر، لا نفس الأمر. وأيضًا فَيَرِد مثل ذلك على الطلب؛ لأن العاقل كما لا يريد هلاك نفسه لا يطلب هلاك نفسه. كذا أورده الآمدي، وقال ابن الحاجب: إنه لازم (¬1). وقد يجاب عن الأخير أيضًا بأن الموجود صيغة الطلب، لا الطلب. سلَّمْنَا، وقولكم: (العاقل لا يطلب هلاك نفسه) إنْ أريد به المقرون بالإرادة فمُسَلَّم ولا نُسَلم أنه موجود هنا، أو العاري عنها فممنوع. قال ابن الحاجب تبعًا للآمدي: (والأوْلى -أَيْ في الرد عليهم في دعوَى أن الأمر ¬

_ (¬1) مختصر منتهى السؤل والأمل (1/ 651)، الناشر: دار ابن حزم، تحقيق: د. نذير حمادو.

الإرادة- أن يُقال: لو كان إرادة، لَوقعت المأمورات كلها، وأن معنى الإرادة تخصيص الفعل بحالة حدوثه، فإذا لم يوجد الفعل، لم يتخصص) (¬1). قيل: وإنما يَرِد هذا عليهم لو كانوا يفسرون "الإرادة" بما ذكر، ولكنهم يفسرونها يكون المزيد مُوجِدًا إنْ كان في فِعل نفسه، وإن كان في فِعل غيره بكونه آمِرًا به، ويفسرونها مرة بغير ذلك مما لا ينافي ما ذكروه. والثالث: وهُم مَن يلاحظ شمول التعريف اللفظي والنفسي؛ لأن اللفظي هو المبحوث عنه في فن أصول الفقه وفي التفسير وعلم النحو والبيان ونحو ذلك، والنفسي إنما هو بحث المتكلمين كما سبق إيضاحه، وهي طريقة التحقيق. وجرى عليها ابن الحاجب في "مختصره" بقوله: (حد "الأمر" اقتضاء فِعل غير كَف على جهة الاستعلاء) (¬2). فَجَعْل الأمر الاقتضاء، أَعَم أن يكون في حال كونه نفسانيًّا أو مدلولًا عليه بصيغة، خلافًا لمن زعم مِن الشُّراح أنه إنما عَرَّف الأمر النفساني؛ لأن العمل على الأعم محتمل مع أنه أكثر فائدة. وكذا البيضاوي -تبعًا لإمامه- حيث قال: (إنه القول الطالب للفعل) (¬3). أي: سواء أكان ذلك القول نفسيًّا أو لفظيًّا، إلا أنه إذا كان لفظيًّا، كان نسبة الطلب إليه مجازًا؛ لأن الطالب إنما هو المتكلم، فإسناد الطلب لآلَة الطالب مجاز. وإذا كان نفسانيًّا فالإسناد حقيقة؛ لأن القول الطالب في النفس هو نفس الطلب القائم بالنفس. ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى (2/ 14) مع (بيان المختصر). (¬2) مختصر المنتهى (2/ 10). (¬3) منهاج الوصول (ص 164) بتحقيقي.

نعم، على التعريفين اعتراضات كثيرة تظهر من شرح ما [اخترته] (¬1) في النظم في تعريفه، وهو: اقتضاء فِعل غَيْر كَفٍّ مدلول عليه بغير صيغة "كُفَّ" أو "لِتكفَّ" أو نحو ذلك. فَـ"الاقتضاء" جنس، والمراد به الطلب، أَعَم أن يكون قائمًا بالنفس أو مدلولًا عليه بصيغة. وخرج عنه نحو: التهديد والحكاية، لانتفاء الاقتضاء. ولا يقال: (خرج به)؛ لأن الجنس لا يخرج به؛ لأنه للإدخال، لا للإخراج. نعم، حكى أبو [المحاسن] (¬2) المراغي في "غُنْية المسترشِد" عن الإِمام محمَّد بن يحيى أن: (تفسير أمر الله تعالى بالطلب محُال؛ لأن الطلب [مَيْل] (¬3) النَّفْس، وهو مُنَزَّه عنه، فيجب تفسيره بالإخبار عن الثواب والعقاب). انتهى واعترض بعضهم على التعريف بالطلب بأن الطلب أَخْفَى من الأمر، فكيف يُعرف به؟ ! والجواب عن الأمرين بأن الطلب معنًى قائم بالنفس، لا ميلها أو نحوه مما يليق بالمخلوق. والطلب بَدِيهِيُّ التصور؛ لأن كل أحد يفرق بينه وبين غيره، ويفرق بين طلب الفعل والترك، فليس تعريفًا بالأخفَى. وبإضافة الاقتضاء للفعل يخرج الاستفهام، فإنه طلب إعلام وإخبار، لا إيجاد فعل. ¬

_ (¬1) في (ق): احترزت. (¬2) في (ق): الحسن. (¬3) كذا في (ص، ش)، لكن في (ض، ظ، ق، ت): فعل.

ولَمَّا كان الفعل شاملًا للكف كما سبق وطلب الكف يقع على وجهين: أحدهما: أن يكون بصيغ النهي، مثل: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32]، و"لا تأكلوا مال اليتيم"، ونحو ذلك. الثاني: أن يقع بصيغة الأمر، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كف عليك هذا" (¬1). يعني: اللسان، وقوله تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37]، {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} [الحجر: 3]. أخرجتُ (¬2) النهي بقولي: (غَيْر كَفْ)، لكن بقيد كونه مدلولًا عليه بغير نحو: "كُف"؛ لأنه إذا كان مدلولًا عليه بنحو "كُف"، كان أمرًا، فهو مخُرج من مخرج من الكف، والمخرج من المخرج عن شيء داخِلٌ في ذلك الشيء، فهو وارد على قول ابن الحاجب: "غير كف"، إذ مقتضاه أن كل ما كان مقتضيًا لكف لا يكون أمرًا، بل نهيًا؛ فَيَرِد عليه ما أُخْرِج من المُخرج. وأما قوله: (على جهة الاستعلاء) فهو على اختياره في اشتراط الاستعلاء، ولكنه ضعيف كما سيأتي. وأما عبارة البيضاوي فَيَرِد عليها النهي، فإنه طَلَب فِعل، وهو لم يُخْرِجه بشيء. نعم، في كلام الإِمام الرازي ما يقتضي التقييد للطلب بكونه مانعًا من النقيض؛ ليخرج بذلك أمر الندب، لكن هذا على رأي ضعيف أن "المندوب" ليس مأمورًا به، والصحيح أنه مأمور به، وقد سبقت المسألة في الكلام على تقسيم الحكم في مقدمة الكتاب. ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه (رقم: 3973) بلفظ: (تَكُفُّ عَلَيْكَ هذا). قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 3224). (¬2) هذه مع ما قبلها هكذا: (لَمَّا كان الفعل شاملًا ... أخرجتُ النهي بقولي ... ).

قال القاضي في "مختصر التقريب": (الأمر الحقيقي معنى قائم بالنفس، وحقيقته اقتضاء الطاعة). قال: (ثم ذلك ينقسم إلى ندب ووجوب؛ لتحقق الاقتضاء فيهما، وأما العبارة الدالة على المعنى القائم بالنفس كقول القائل: "افْعَل" فمتردد بين الدلالة على الوجوب والندب والإباحة والتهديد؛ فَيُتَوَقَّف فيها حتى يثبت بقيود القال أو قرائن الأحوال تخصيصها ببعض المقتضيات، فهذا ما نرتضيه من المذاهب) (¬1). انتهى واعْلَم أن بعض شُراح "البيضاوي" جعل التعريف للأمر اللفظي، لا للنفساني، وعاب عليه إطلاق "القول" مع شموله النفساني. والأحسن حمل كلامه على الأعم كما قررناه؛ لأنه أكثر فائدة. نعم، أُورِدَ عليه أنه كان ينبغي أن يقول: (الطالب للفعل بذاته)؛ [لتخرج الأخبار المستلزمة] (¬2) للطلب، نحو: "أوجبت عليك كذا"، و: "أنا طالِب منك كذا". وقد صرح به البيضاوي في تقسيم الألفاظ، وهنا أوْلى بأن يُذكر. فإنْ قيل: هذا وارد على مختارك أيضًا وعلى ابن الحاجب وغيره، بل وَيرِد كل طلب فعل بصيغة ترَجٍّ أو عرض أو تحضيض أو نحو ذلك مما سبق بيانه في تقسيم الكلام. قلتُ: المراد هنا الأمر من حيث هو، سواء كان بصيغته الصريحة أو باللازم. ثم يتبَيَّن بعد ذلك أن صيغته الصريحة الدالة بالذات هي "افْعَل" و"لِتَفْعَل". بل ولو لم تَرِد صيغة بل كان النفساني فقط، كان أمرًا؛ لأنَّا قد قلنا: إن المراد الأعم. ¬

_ (¬1) التقريب والإرشاد (2/ 5 - 7). (¬2) في (ت، ق، ظ): ليخرج الإخبار المستلزم.

ولهذا لَمَّا فرغ ابن الحاجب من بيان التعريفات المختارة عنده والمزيف، قال: (إن القائلين بالنفسي اختلفوا في كون "الأمر" له صيغة تخصه). ثم قال: (والخلاف عند المحققين في صيغة "افْعَل") (¬1). أي: وأما في دلالة صيغةٍ ما فَبِلَا خِلاف، لكن لا يكون بالوضع. وسنزيد ذلك بيانًا بَعْد. فإنْ قيل: كيف تدَّعِي أن تعريفك شامل للنفسي واللفظي مع ذِكرك فيه ما يقتضي انطباقه على اللفظي فقط؟ وذلك قولك: (مدلولًا عليه بغير "كُف")، فاقتضَى أن كلامك فيما له صيغة. قلتُ: المراد بـ"مدلول عليه" أنه لو أُريد الدلالة عليه لَكان بهذا، لا أن المراد أن يكون موجودًا فيه دلالة لفظ "كُف". قولي: (مَا لَمْ يُفَدْ بِنَحْوِ "كُفَّ")، أي: ما لم يُستفَد بنحو "كف"، أي: مِثل: "أَمْسِك" و"دع" كما سبق، ومنه نحو: "لِتكُف" و"لِتمْسِك"، فإن صيغة الأمر الموضوعة له -كما صرح به ابن فارس وغيره- إما فِعل الأمر وإما المضارع المقرون بلام الأمر، نحو: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]، {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} [المائدة: 47]. نعم، اختلف النحاة أيهما الأصل؟ فالأكثرون أنه "افْعَل"؛ لإفادته المعنى بلا واسطة، و"لتفعل" إنما تفيده بواسطة اللام. وقيل: الأصل "لتفعل"؛ لأن الأمر معنى، والأصل في المعاني أن يدل عليها بالحروف. ¬

_ (¬1) مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (1/ 651)، الناشر: دار ابن حزم.

حكى هذا الخلاف العكبري في "شرح الإيضاح"، وقد صرحت في تمثيل الأمر في البيت الثاني بالنوعين، وهو قولي: (كَـ "لِتَصُمْ" وَ"صَلِّ") وإن كان دخول لام الأمر على فعل المخاطب المبني للفاعل قليلًا. ومنه قراءة عثمان وأُبَي وأنس: {فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا} [يونس: 58] بالتاء من فوق، بل ذلك أَقَل من جزمها فعل المتكلم، نحو قوله تعالى: {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قوموا فلأُصَلِّ لكم" (¬1). وسواء أكان النوعان في الأمر من فعل ثلاثي أو أكثر؛ فلذلك أتيت بكاف التشبيه في النَّظم. وشمل التشبيه أيضًا أسماء الأفعال، نحو: "صَهْ" و"مَهْ"، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَهْ، عليكم من العمل ما تطيقون" (¬2). ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - للحسن حين أخذ تمرة من الصدقة: "كخ كخ" (¬3). وفي معنى ذلك أيضًا المصدر القائم مقام الأمر، نحو: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]، ولو حول من النصب إلى الرفع نحو: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196]، {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]. والله أعلم. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 373)، صحيح مسلم (رقم: 658) واللفظ للبخاري. (¬2) سنن النسائي (رقم: 5035)، وهو في: صحيح البخاري (رقم: 43) بلفظ: (مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ)، صحيح مسلم (رقم: 785) بلفظ: (عَلَيْكُمْ من الْعَمَلِ ما تُطِيقُونَ). (¬3) صحيح البخاري (رقم: 1420)، صحيح مسلم (رقم: 1069).

ص: 523 - كَـ "لِتَصُمْ "وَ"صَلِّ"، وَ"النَّهْيُ": طَلَبْ ... كَفٍّ بِغَيْرِ نَحْوِ "كُفَّ" يُجْتَنَبْ الشرح: قولي: (كَـ "لِتَصُمْ" وَ"صَلِّ") مثالان للأمر كما أوضحناه. وقولي: ([وَ "النَّهْيُ"]) (¬1) إلى آخِره -تعريف للنهي بعد بيان تعريف الأمر. والنهي وزنه "فَعْل"، وجمعه "نواهي"، وفيه الإشكال السابق في "أمر"، وهو أن القياس في جمعه "أَفْعُل" لا "فواعل" سواء أكان صحيحًا أو معتلًّا بالواو أو بالياء، كَـ"أَكْلُب" جمع كلب، وأدل جمع دلو، وأظب جمع ظبي، وأصل هذين أدلو وأظبي، فقلبوا الضمة كسرة والواو ياء؛ فصار منقوصًا كقاضٍ وغازٍ. ويجاب عنه بما سبق من كونه جمع "ناهية"؛ لأن الصيغة ناهية. ولا يجاب هنا بما سبق في "أوامر" أنه جمع الجمع؛ لأن النون "فاء" الكلمة، فينبغي أن يقال: إنهم إنما قالوا: "أوامر" و"نواهٍ" للمجانسة، كما قالوا: غدايا وعشايا، فإن الغدوة لا تجمع على فعائل، بل لمجانسة عشايا قالوا: غدايا. هذا ما يتعلق بلفظ النهي، وأما تعريفه فكل ما سبق في "الأمر" يأتي فيه سوى أنه متعلق بالترك لا بالفعل، وحينئذٍ فيكون الأحسن في تعريفه ما ذكرته في النظم وهو أنه: طلب كَف بغير نحو "كُف". فالطلب: جنس، وبإضافته للكف المذكور خرج الأمر. ¬

_ (¬1) في (ق، ت): طلب.

والمراد بِـ "غير نحو كُف": أن يكون بصيغة "لا تفعل"، نحو: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108]، {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} [الأنعام: 151]، {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11]، "لا يبع بعضكم على بيع بعض" (¬1)، وشبه ذلك. أما إذا كان بصيغة نحو: "كُف" و"أَمْسِك" و"دع"، و"لِتكف" و"لتمسك" و"لتدع" وما أَشبه ذلك، فإنه أَمْرٌ كما سبق تقريره. نعم، في كلام ابن فورك أنه يسمى نهيًا، فإنه قال: (صيغة النهي عندنا: "لا تفعل"، و"انته"، و"اكفف"، ونحوه). انتهى فإنْ أراد أنه في معنى النهي في الجملة فواضح، وإنْ أراد حقيقةً فمخالف لكلام أهل العربية والأصول وغيرهم، وإذا جرينا على قول ابن فورك، لم نحتج في حد "الأمر" أن نقول: (مدلول عليه بغير "كُف")، ولا في حد النهي أن نقول: (بغير نحو "كُف"). والله أعلم. ص: 524 - كَـ "لَا تَبِعْ"، وَلَيْسَ الِاسْتِعْلَاءُ ... شَرْطًا، وَلَا يُشْتَرَطُ الْعَلَاءُ الشرح: وقولي: (كَـ "لَا تَبعْ") هو مثال للنهي، كقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تبع ما ليس عندك" (¬2). ونحو ذلك مما سبق من الأمثلة. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 2043)، صحيح مسلم (رقم: 1412). (¬2) سبق تخريجه.

وقولي: (وَلَيْسَ الِاسْتِعْلَاءُ) إلى آخِره -المراد به أنه لا يشترط في الأمر والنهي لا استعلاء ولا عُلُو على أرجح المذاهب، ونقله في "المحصول" عن أصحابنا. والمراد بِـ "العُلُو" أن يكون الآمِر في نفسه عاليًا، أيْ أعلى درجة من المأمور، و"الاستعلاء" أنْ يجعل الآمِر نفسه عاليًا بكبرياء أو غير ذلك، سواء أكان في نفس الأمر كذلك أو لا، فالعلو من الصفات العارضة للآمِر، والاستعلاء من صفة صيغة الأمر وهيئة نُطقه مثلًا. والمذهب الثاني: أنهما يعتبران في الأمر والنهي. وبه جزم ابن القشيري والقاضي عبد الوهاب. والثالث: يعتبر العلو، لا الاستعلاء. وهو قول المعتزلة، ووافقهم من أصحابنا الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ وحكاه عن أصحابنا وابن السمعاني، واختاره القاضي أبو الطيب الطبري والقاضي عبد الوهاب في "الملخص" ونقله عن أهل اللغة وسليم وأبو بكر الرازيان وابن عقيل الحنبلي وأبو الفضل بن عبدان من أصحابنا في "شرائط الأحكام". قالوا: فإنْ كان مساويًا فهو التماس، أو دُونه فسؤال. الرابع: يعتبر الاستعلاء، دون العلو. وهو قول أبي الحسين من المعتزلة، وصححه الإمام والآمدي وابن الحاجب وابن برهان في "الأوسط". ويفسد كلاًّ من القولين -العلو والاستعلاء كما قاله البيضاوي- قولُه تعالى حكايةً عن قول فرعون لقومه في مجلس المشاورة: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء: 35]، ومعلوم انتفاء العلو؛ لأن فرعون أعلَى رتبة منهم، وانتفاء الاستعلاء؛ لأنهم لا يستعلون عليه. ولكن فيه نظر؛ لأنه ليس الأمر في الآية بمعنى القول المخصوص، وإنما المراد: ماذا تشيرون به عَلَيَّ؟

ومثله قول عمرو بن العاص في مشاورته في رجل من بني هاشم خرج في العراق على معاوية فأمسكه، فأشار عمرو بقتله، فخالفه معاوية، لشدة حلمه وعفا عنه، فخرج عليه ثانيًا، فقال: أمرتُك أمرًا جازمًا فعصيتني ... وكان من التوفيق قتل ابن هاشم ومثل ذلك من المحتمل للتأويل كثير، عَلى أن البيضاوي -في تقسيم الألفاظ- اعتبر في الأمر العلو، إلا أن يقال: ذاك بحسب الاصطلاح، وهذا بحسب اللغة. نعم، أصرح منه في إفساد قول العلو قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268] مع أن الشيطان أَدْوَن، وفي إفساد الاستعلاء ورود آيات في الكتاب العزيز فيها الأمر مع اقتران غاية التلطف ونهاية الاستجلاب بتذكيرهم النعم، كقوله تعالى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21]، وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] إلى غير ذلك. قولي: (الْعَلَاءُ) عبَّرتُ به دون لفظ "العلو"؛ لأن المراد: الشرف، ويقال فيه: "عَلِيَ" بالكسر "يَعْلَى" بالفتح "علاء"، وفي المكان "عَلَا" -بالفتح- يعلو علوًّا, ولأن العلو قد يستعمل في الاستعلاء. قال الجوهري: (وعلا في الأرض: تكبَّر علوًّا) (¬1). هذا مع ملائمة لفظ "العلاء" [للنَّظم] (¬2) كما ترى، والله أعلم. ¬

_ (¬1) الصحاح (6/ 2435). (¬2) كذا في (ص، ش)، لكن في (ض، ظ، ق، ت): للمتكلم.

ص: 525 - فَصِيغَتَا الْأَمْرِ عَلَى الْوُجُوبِ ... حَقِيقَةً، كَـ "صَلِّ" لِلْمَكْتُوبِ 526 - وَلسِوَى هَذَا مَجَازًا يَرِدُ ... كَالنَّدْبِ في {فَكَاتِبُوهُمْ} يُوجَد الشرح: المراد بصيغتي الأمر نحو: "افعل" ونحو: "ليفعل" كما سبق، فهُما للوجوب حقيقة، واستعمالهما في غير الوجوب مجاز على الصحيح من المذاهب الآتي بيانها بعد ذكر صُوَر غير الوجوب وغالبها في "افعل"؛ لأنها الأكثر في الاستعمال؛ فلهذا يقتصرون في الأمثلة على ذلك. فمثال ورودها للوجوب نحو: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72] إذا كان المراد به المكتوبات الخمس "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬1)، بخلاف نحو: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] أي: ادْع لهم. ومن الوجوب أيضًا: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]، {وَلْيَتَّقِ (¬2) اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 282]. وهذا أحد ما تَرِد له صيغة الأمر. وقد ذكر البيضاوي منه نحو الستة عشر موضعًا، وزِيد عليه كثير كما في النَّظْم. الثاني: ورودها للندب، كقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، فإن ذلك للندب على أصح قولَي الشافعي، وبمقابِلِه قال داود وجَمْعٌ. وقرينة صرفه عن الوجوب -على الأول- إما لكونه علق على رأي السادات، أو لكونه ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) في جميع النسخ: فليتق.

أمرًا بعد حظر، وسيأتي -إن شاء الله- أنه قرينة الإباحة، إما لأن بيع ملكه بملكه فاسد حرام أو غير ذلك كما بُين في محله. والله أعلم. ص: 527 - وَكَالْإباحَةِ الَّتِي مِثْلُ {كُلُوا ... مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} تَلُوا الشرح: الثالث: ورود الصيغة للإباحة، وقد مَثَّله بعضهم بقوله تعالى لأهل الجنة: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} [الطور: 19]، فقال الجبائي: هو إباحة ولا يريده القديم تعالى ولا يَكرهه. وقال أبو هاشم: يجوز أن يريده؛ لِمَا فيه من زيادة السرور للمُثاب. وقال القاضي عبد الجبار: يجب أن يريده؛ لأن الثواب لا يصح إلا بها. ومرادهم بإرادته [تَحَتُّم] (¬1) وقوعه على قواعدهم في الاعتزال، والحقُّ خِلاف ذلك. ولا يصح التمثيل للإباحة بذلك؛ لأن الإباحة من الأحكام التكليفية كما سبق بيانه، وهي مرفوعة في الآخِرة؛ لأنها دار الجزاء. ومَثَّل بعضهم بقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]. وضُعِّف بأن إحياء النفس بذلك واجب. فالأَوْلى أن يمثَّل بقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51]. وقد سمَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك أمرًا، فقال: "إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51]، وقال: {يَاأَيُّهَا ¬

_ (¬1) في (ق، ظ، ت): تحتيم.

الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172"] (¬1). وقد مثلتُ في النُّظم بهذه، وزدت قولي: (تَلُوا) تفسيرًا، أي: حال كونكم تلوه، أي: لكم عليه ولاية تقتضي حل أكله، إذ لا إباحة إلا في الرزق الحلال. وإنْ كان الرزق يُطلق على الحرام خلافًا للمعتزلة، إلا أنَّ المقام هنا إنما هو في الرزق الحلال. واعلم أن الإباحة إنما تستفاد من الخارج؛ فلهذه القرينة يحمل الأمرُ عليها مجازًا بعلاقة المشابهة المعنوية؛ لأنَّ كلاًّ منهما مأذون فيه، فمَن أنكر من المتأخرين ذلك وقال: (إنه لم يثبت عندي لغةً كون "افْعَل" للإباحة)، ضَعْفُ إنكاره ظاهر. نعم، التمثيل إنما يستقيم إذا قلنا: (الأصل في الأشياء الحظر)، أما إن قلنا: (الإباحة)، فلا تستند الإباحة للصيغة، بل للأصل، والله أعلم. ص: 528 - وَفي {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} التَّهَدُّدُ ... وَهَكَذَا الْإرْشَادُ في {وَاسْتَشْهِدُوا} الشرح: الرابع: التهديد، وعبَّرت عنه بالتهدد؛ لأنه مطاوع هدد تهديدًا، فلمَّا استلزمه عبرت عنه به؛ لأجل النظم. مثاله قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]. وقوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} [الإسراء: 64] الآية. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (رقم: 1015).

الخامس: الإرشاد، كقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]. وهو معنى قولي: (في {وَاسْتَشْهِدُوا})، أي: الكائن في هذه الآية. ومِثله قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، ونحو: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. والضابط فيه: أن يرجع لمصلحة في الدنيا، بخلاف الندب، فإنه لمصالح الآخرة. كذا فرق بينهما القفال الشاشي وغيره، قالوا: والأول لا ثواب فيه، والثاني فيه الثواب. نعم، قد يكون الأمر له جهتان مرادتان كما قرره الشافعي في "الأُم" في قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، وسماه الشافعي في "أحكام القرآن" "الرشد"، ومَثَّله بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "سافروا تَصِحُّوا" (¬1)، وأشار إلى الفرق بينه وبين الطلب بالإيجاب، فقال: وفي كل حَتْمٍ من الله عَزَّ وَجَلَّ رشد، فيجتمع الحتم والرشد. وسماه الصيرفي "الحظ". والله أعلم. ص: 529 - وَالْإذْنُ في "اصْطَادُوا" لَدَى التَّحَلُّلِ ... كَذَلِكَ التَّأْدِيبُ "كُلْ مِمَّا يَلي" الشرح: السادس: الإذن، كقولك لمن طرق الباب: (ادْخل). ¬

_ (¬1) مسند الإِمام أحمد (رقم: 8932)، السنن الكبرى للبيهقي (13366). قال الألباني: (يرتقي إلى رتبة الصحيح). (السلسلة الصحيحة: 3352).

ومنهم من يُدخِل هذا في قسم الإباحة، وقد يقال: الإباحة إنما تكون من صِيَغ الشرع الذي له الإباحة والتحريم، وإنما الإذن [مُعْلِم] (¬1) بأن الشرع أباح دخول ملك ذلك الآذِن مثلًا، فتغايَرا. ومنهم مَن يمثله بقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، أيْ إذا قُلنا بأن الأمر بعد الحظر للإباحة، فيكون المعنى أنَّ هذا الإذن يَرُد ذلك الفعل إلى ما كان عليه قبل التحريم. وستأتي المسألة مبسوطة، وإلى هذا [المثال] (¬2) أشرتُ بقولي: (لَدَى التَّحَلُّلِ). أي: للآية الدالة على ذلك. السابع: التأديب، كقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن أبي سلمة المخزومي: "سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك" (¬3). أخرجاه في "الصحيحين" من حديث عمر المذكور. وفي "المستصفي" و"المحصول" أنه - صلى الله عليه وسلم - قاله لابن عباس، ولا يُعْرَف. نعم، في "الترمذي" و"الطبراني" وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعكراش في حديث طويل: "كُل من موضع واحد؛ فإنه طعام واحد" (¬4). ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ش). لكن في سائر النُّسخ: يعلم. (¬2) كذا في (ص، ش)، وفي سائر النسخ: الثاني. (¬3) صحيح البخاري (رقم: 5061)، صحيح مسلم (رقم: 2022). (¬4) سنن الترمذي (رقم: 1848)، المعجم الكبير للطبراني (18/ 82). قال الألباني: ضعيف. (ضعيف الترمذي: 1848).

تنبيهان الأول: منهم مَن يُدخل التأديب في قسم الندب. وفي "المنهاج" للبيضاوي في الندب: (ومنه: "كُل مما يليك") (¬1). أي: فإنَّ الأدب مندوب إليه. ونقل في "المحصول" عن بعضهم أنه جعله قِسمًا آخر، فقال في الندب: (ويقرب منه) (¬2). وذلك أيضًا يدل على المغايرة، لكن المغايرة إما لكونه أَخَص، وإما لغير ذلك. قلتُ: والظاهر أن بينهما عمومًا وخصوصًا من وجه؛ لأن الأدب متعلق بمحاسن الأخلاق، أَعَم أن يكون لمكلَّف أو غيره؛ لأن عُمَر كان صغيرًا؛ ولهذا في بعض الروايات: "يا غلام، سَمِّ الله" إلى آخِره، والندب مختص بالمكلَّفين، وأَعَم أن يكون في محاسن الأخلاق وغيرها. نعم، نَص الشافعي -في "الأُم" في باب "صفة نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - " بعد باب من أبواب الصوم- على تحريم الأكل من غير ما يليه، فَيشْكل التمثيل به [للأدب] (¬3) أو للندب، فقال: (فإنْ أكلَ مما لا يليه أو من رأس الطعام أو عرس على قارعة الطريق -أيْ نزل ليلًا- أَثِمَ بالفعل الذي فعله إذا كان عالِمًا بما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬4). انتهى ونَص في "البويطي" و"الرسالة" على نحو ذلك، وكذا نقله الضمير في في "شرح الرسالة". ¬

_ (¬1) منهاج الوصول (ص 165) بتحقيقي. (¬2) المحصول (2/ 39). (¬3) في هامش (ص): للتأديب. (¬4) الأم (7/ 292).

وهذه إحدى المسائل الخمس الغرائب التي أفردها الشيخ تقي الدين السبكي بكتابه المسمَّى بِـ"كشف اللبس عن المسائل الخمس". فالتحريم: - إما لأن الشافعي - رضي الله عنه - أخذه من كون الأصل في الأمر من قوله: "كل مما يليك" للوجوب، وتَرْك الواجب حرام؛ لأن الخطاب وإنْ كان لعمر بن أبي سلمة وهو صغير إلا أن المراد به عموم الأُمة، ولا يضر ذلك، فإنَّا ولو قُلنا بالندب فقد خاطب به مَن لا وجوب عليه ولا ندب. وقد سبق أنَّ أَمْر الصبي بالصلاة لسبع ونحو ذلك من خطاب الوضع، لا لوجوب ولا لندب، ولو قُلنا: الأمر بالأمر بالشيء أَمْرٌ به. على أنه قد خاطب - صلى الله عليه وسلم - بهذا المعنى غير الصبي، وهو عكراش كما ذكرناه. - وإما لِأَخْذ الشافعي ذلك من دليل آخَر. الثاني: منهم مَن عَبَّر عن هذا النوع بِـ "الأدب" على معنى طلب الأدب، فهو بمعنى التأديب، ويمثلهما بقوله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، قال: وليس في القرآن غيره. ومَثَّله ابن القطان بالنهي عن التعريس على قارعة الطريق، والأكل من وسط القصعة، وأن يقرن بين التمرتين. والمدار فيه على ما سبق مِن إصلاح الأخلاق، والله أعلم.

ص: 530 - وَمِثْلُهُ الْإنْذَارُ {قُلْ تَمَتَّعُوا} ... وَالِامْتِنَانُ في {كُلُوا} لَنْ [تُمْنَعُوا] (¬1) الشرح: الثامن: الإنذار، كقوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [إبراهيم: 30]. وقد جعله قوم قِسمًا مِن التهديد، وهو ظاهر قول البيضاوي: (ومنه {قُلْ تَمَتَّعُوا}). وعبارة "المحصول": (ويَقْرُب منه الإنذار) (¬2). والقصد بذلك بيان أنهما ليسا متغايرين كما زعم بعضهم، لكنه أصوب؛ فإن الفرق بينهما ظاهر، إذِ التهديد هو التخويف، والإنذار إبلاغ المخوف كما هو تفسير الجوهري لهما. وفرَّق الهندي (¬3) بينهما بأنَّ الإنذار يجب أن يكون مقرونًا بالوعيد كما في الآية المذكورة، والتهديد لا يجب فيه ذلك، بل قد يكون مقرونًا وقد لا يكون. وفرَّق آخَرون بأنَّ التهديد عُرْفًا أَبْلَغ في الوعيد والغضب من الإنذار. وقيل في الفرق أيضًا: إنَّ المهدد عليه يكون ظاهره التحريم والبطلان أو يكون مكروهًا؛ ولهذا كانت العلاقة بينه وبين الوجوب التضاد، وأما الإنذار فقد يكون كذلك وقد لا يكون. وفيه نظر؛ فإنه إذا كان مقرونًا بالتخويف فكيف لا يكون حرامًا؟ ! بل يكون كبيرة على ¬

_ (¬1) في (ق، ش، ن 1): يمنعوا. (¬2) المحصول في أصول الفقه (2/ 40). (¬3) انظر: نهاية الوصول (3/ 848).

رأْي مَن ضبطها بالتوعُّد عليها كما سبق. وقد يمثَّل بقوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} [الحجر: 3] مع كونها ليس فيها لفظ الأمر بالإبلاغ، بل معناه. التاسع: الامتنان، وسمَّاه إمام الحرمين "الإنعام"، كقوله تعالى: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأنعام: 142]. والفرق بينه وبين الإباحة أنها مجرد إذن، والامتنان لا بُدَّ فيه من اقتران حاجة الخلق لذلك وعدم قدرتهم عليه ونحو ذلك، كالتعرض في هذه الآية إلى أن الله تعالى هو الذي رزقه. والعلاقة بين الامتنان والوجوب: المشابهة في الإذن؛ إذِ الممنون لا يكون إلا مأذونًا فيه. وقيل في الفرق بينه وبين الإباحة أيضًا: إنها يسبقها حَظْر، بخلافه. والله أعلم. ص: 531 - و {كُنْ} لِتكْوِينٍ، وَلِلْإكْرَامِ ... نَحْوُ {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} نَامِي الشرح: العاشر: التكوين، نحو: "كُنْ" في قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]، وهو تفعيل مِن "كان" بمعنى: وُجِد. فتكوين الشيء إيجادُه مِن العَدَم، والله تعالى هو المُوجِد لكل شيء وخالقه. وسمَّاه الغزالي والآمدي: "كمال القدرة". وسماه القفال والشيخ أبو إسحاق وإمام الحرمين: "التسخير".

الحادى عشر: الإكرام، نحو: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46]، فإن قرينة {بِسَلَامٍ آمِنِينَ} تدل عليه. قال صاحب "التنقيحات": ولا وَجْه لحمله على الوجوب كما زعم بعض المعتزلة؛ فإن الآخِرة ليست دار تكليف. أي: فإنما هو غاية في إكرام أهل الجنة؛ بسلامتهم من جميع آفات الآخرة. وهذا معنى قولي: (بِسَلَامٍ نَامِي)، أي: زائد، بالغ إلى الغاية. والله أعلم. ص: 532 - كَذَلِكَ التَّسْخِيرُ "كُونُوا قِرَدَهْ" ... {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} لِعَجْزٍ أَوْرَدَهْ الشرح: الثاني عشر: التسخير، كقوله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]، والمراد به: السخرياء بالمخاطَب به، لا بمعنى التكوين كما سمَّاه [به] (¬1) القفال وغيرُه كما سبق. والفرق بينه وبين التكوين أن التكوين: سرعة الوجود عن العدم، وليس فيه انتقال إلى حالة مُمْتَهَنَة، بخلاف التسخير، فإنه لُغةً: الذِّلة والامتهان في العمل، ومنه قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} [الزخرف: 13]، أي: ذَلَّلَه؛ لنَرْكَبه. ونقول: فلان سُخْرة السلطان. وبالجملة فالعلاقة فيه وفي التكوين المشابهة المعنوية وهو التحتم في وقوع ذلك. وقد يقال: العلاقة هي الطلب وإنِ اختلفت جهته. ¬

_ (¬1) كذا في (ت). لكن في سائر النُّسخ: ابن.

الثالث عشر: التعجيز، كقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]. والعلاقة بينه وبين الوجوب المضادة؛ لأن التعجيز إنما هو في الممتنعات، والإيجاب في الممكنات. ومثله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور: 34]. ومَثَّله الصيرفي والقفال بقوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)} [الإسراء: 50]، قال: ومعلوم أن المخاطَبين ليس في قدرتهم قَلْب الأعيان؛ فَيُعْلَم أن ذلك تعجيز لهم. والفرق بين هذا وبين التسخير أن التسخير نوع من التكوين، فمعنى {كُونُوا قِرَدَةً} [البقرة: 65]: انقلبوا إليها. وأمَّا التعجيز فإلزامهم أن ينقلبوا، وهُم لا يقدرون أن ينقلبوا حجارة أو حديدًا. نعم، قال ابن عطية في "تفسيره": (في التمثيل بهذا نظر. وإنما التعجيز حيث يقتضي بالأمر فِعْلَ ما لا يَقْدر عليه المخاطَب، نحو: {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} [آل عمران: 168]، وأمَّا هذه الآية فمعناها: كونوا بِالتوهُّم والتقدير كذا وكذا) (¬1). وهو معنى قولي: (لِعَجْزٍ أَوْرَدَهْ)، أي: أورده لعجز المخاطَب عن ذلك، فهو معنى التعجيز، والله أعلم. ص: 533 - ولإهَانَةٍ كـ {ذُقْ}، وَالتَّسْوِيهْ ... مِثْلُ {اصْبِرُوا أَوْ لَا (¬2)} كُمْ ذي التَّصْلِيَهْ الشرح: الرابع عشر: الإهانة للمخاطَب بصيغة "افعل"، كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ ¬

_ (¬1) المحرر الوجيز (3/ 462). (¬2) [لا] ثابتة في (ص، ت، ن) وبه ينضبط الوزن، وليست في (ش، ق، ت، ظ، ض).

الْكَرِيمُ (49)} [الدخان: 49]. ومنهم مَن يسميه "التهكم". وضابِطُه أن يؤتى بلفظ ظاهره الخير أو الكرامة والمراد ضده. ويمثَّل أيضًا بقوله تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64] الآية، والعلاقة هنا أيضًا المضادة. الخامس عشر: التسوية، كقوله تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} [الطور: 16]، بعد قوله: {اصْلَوْهَا}، أي: هذه التصلية لكم سواء صبرتم أو لا، فالحالتان سواء. والعلاقة المضادة؛ لأن التسوية بين الفعل والترك مضادة لوجوب الفعل. ومنه حديث أبي هريرة في "البخاري" لَمَّا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني أخاف العنت، ولا أجد ما أتزوج به من النساء" ثلاث مرات وهو يسكت عنه، ثم قال له: "يا أبا هريرة، جرى القلم بما أنت لاقٍ، فاختص على ذلك أو ذر" (¬1). والله أعلم. ص: 534 - وَكَالدُّعَا في {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} ... كَذَا التَمَنِّي في "أَلا انْجَلي لنَا" الشرح: السادس عشر: الدعاء، نحو: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران: 147] الآية، و [كأنه] (¬2) طلب أن يعطيهم ذلك على وجه التفضل والإحسان، والعلاقة بينه وبين الإيجاب طلب أن يقع ذلك لا محالة. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 4788) بلفظ: (جَفَّ الْقَلَمُ بِما أنت لَاقٍ، فَاخْتَص على ذلك أو ذَرْ). (¬2) كذا في (ص). لكن في سائر النُّسخ: كله.

السابع عشر: التمني، كقول امْرئ القيس: (ألا أيها الليل الطويل ألا انْجَلي). وإنما حُمل على التمني دون الترجي؛ لأنه أَبلَغ، لأنه نَزَّلَ ليلَه -لِطولِه- منزلة المستحيل انجلاؤه، كما قال آخَر: (وليل المحب بلا آخِر). والأحسن تمثيل هذا كما مثَّله ابن فارس بقولك لشخص تراه: (كن فلانًا)؛ لأن بيت امرئ القيس قد يُدَّعَى استفادة التمني فيه من "ألَا"، لَا من صيغة "افْعَل"، بخلاف هذا المثال. وقد يقال: إنَّ "ألَا" قرينة إرادة التمني بِـ "افْعَل"، وأما: "كن فلانًا" فليس تَمَنيًا أن يكون إياه، بل الجزم به وأنه ينبغي أن يكون كذلك، والله أعلم. ص: 535 - وَخَبَرٌ نَحْوُ "إذَا لَمْ تَسْتَحِيْ ... فَاصْنَعْ لِمَا شِئْتَ"، فَفَازَ الْمُسْتَحِي الشرح: أي: وكذا الخبر يراد بصيغة "افعل" و"لِتفعل"، وهو الثامن عشر مِن معانيهما، نحو: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا} [التوبة: 82]، {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75]، {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12]. ومنه على رأْيٍ: "فليتبوأ مقعده من النار" (¬1). أي: فهو مُتَبَوِّء ذلك. وقيل: المراد: لِيَتَخَيَّر أيّ المواضع من النار شاء، فإنَّ دخوله لها لا بُدَّ منه. ومن ذلك أيضًا حديث أبي مسعود في "البخاري" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأُولى: إذا لم تَسْتَحِي، فاصنع ما شئت" (¬2). أي: مَن لا يَسْتَحْيِي فهو يصنع ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 110)، صحيح مسلم (رقم: 3). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 3296).

ما يشاء، أخبر عنه الشارع بذلك. وقيل: المعنى: إذا لم تَسْتَحِي من شيء لِكونه جائزا فاصنعه؛ إذِ الحرام يُستَحْيَا منه، بخلاف الجائز. وقال ابن عبد السلام: هو إما تَهكُّم أو معناه: اعْرِضْه على نفسِك، فإنِ استحييت منه لو اطُّلع عليه فلا تفعله، وإنْ لم تستحي فاصنع ما شئت من هذا الجنس. وجَوَّز غيره أن يكون معناه الوعيد، أي: افعل ما شئت، فأنت تُجازَى به. فيكون كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]. وقيل: المراد: لا يمنعك الحياء من فعل الجائز. وقيل: إنه على طريقة المبالغة في الذم، أي: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت، فتركك الحياء أعظم مما تفعله؛ لأن السياق في مدح الحياء، فقد قَدَّم أنه من النبوة الأُولى، أي: إنه أمر ثابت منذ زمان النبوة، فما مِن نبي إلا وقد ندب إلى الحياء وبعث عليه، ولم يُنسخ فيما نُسخ من شرائعهم، ولم يُبَدَّل فيما بُدِّل؛ لأنه معلوم صفاته وفضله. وقولي: ("إذَا لَمْ تَسْتَحِيْ) إما أن أصله "تستحيي" بكسر الياء؛ لأن أصل الفعل "تستحيي" بيائين، فحذفت الثانية؛ للجازم، فسكنت الياء الثانية؛ للضرورة؛ لأن "اسْتَحْيَى يَسْتَحْيِي" هو الأفصح الأشهر. وإما أنه جاء على اللغة الأخرى، وهي "استحَى يستحِي" بياء واحدة، فهو مُستحٍ، مثل: استقَى يستقِي فهو مستقٍ. وقُرئ بذلك في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26]، ويُروى عن ابن كثير، وهذه الياء تحذف؛ للجازم. وإنما أُشبِعَت في النظم للضرورة.

وقولي: (فَفَازَ الْمُسْتَحِي) أي: سَلمَ مِن الذم، وهو اسم فاعل من "استحَى" كما سبق وهو ظاهر، أو من "استحْيَى"، وأصْله "المستحْيِي" ولكن حُذفت الياء الثانية وسُكنت الأُولي؛ للضرورة. تنبيه: كما جاءت صيغة الأمر بمعنى الخبر جاء عكسه وهو الخبر بمعنى الأمر، نحو: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233]. وكذا يجيء بمعنى النهي، كما في حديث ابن ماجه بسند جيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُزَوِّجُ المرأة المرأة، ولا تزوجُ المرأة نفسها" (¬1) بالرفع، إذْ لو كان نهيًا لَجُزِم، فيُكسر؛ لالتقاء الساكنين. قالوا: وهو أَبْلَغ من صريح الأمر والنهي؛ لأن المتكلم -لشدة تَأَكُّد طلبه- نَزَّل المطلوب منزلة الواقع لا محالة. ومن هنا تعرف العلاقة في إطلاق الخبر بمعنى الأمر والنهي. وحركَ ابن دقيق العيد في "شرح العنوان" هنا بحثًا لطيفًا، وهو أن صيغة الخبر بمعنى الأمر والنهي هل يجري فيهما الخلاف في كونهما حقيقة في الوجوب والتحريم ويترتب عليهما أحكام ذلك؟ أو لا؟ ولم يرجِّح شيئًا. ووقع النزاع في ذلك بين ابن تيمية، فقال: (إنه يجري كذلك)، وبين ابن الزملكاني، فقال: (لا يجري فيه شيء من ذلك، إنما ذلك في الصيغة الأصلية). قال: فدعوَى خِلاف ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجة (رقم: 1882)، سنن الدارقطني (3/ 227)، سنن البيهقي الكبرى (13410). قال الألباني: (صحيح دُون جملة الزانية). صحيح سنن ابن ماجه (1539).

ذلك مكابَرة. قال: ويغلط في ذلك كثير من الفقهاء، ويغترون بإطلاق الأصوليين، فيُدخلون فيه كل ما أفاد أمرًا أو نهيًا وإنْ لم يكن فيه الأمر أو النهي من المحقق. وأيَّد بعضهم القول الأول بقول القفال: ومن الدليل على أن ذلك معناه [وأنَّ ذلك كُله مِن] (¬1) الامر والنهي: دخول النّسخ فيه؛ إذِ الأخبار المحضة لا يدخلها النسخ، ولأنه لو كان خبرا، لَمْ يوجد خِلافُه. قال: ومن هذا عند أصحابنا قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} [الواقعة: 79]. واستند بعضهم في ذلك لقول البيانيين وغيرهم: إن ذلك أَبْلَغ من صريح الأمر والنهي، فينبغي أن يكون للوجوب قطعًا. والجواب عن الأول: بأن عبارة القفال [تُشعِرُ] (¬2) بأن كلامه في أنه: هل هو خبر؟ أو لا؟ لا أنه يُعْطَى حُكم الأمر والنهي في سائر أحوالهما. وعن الثاني: بأن الأبلغية في كل شيء بحسبه، فلمَّا احتمل أن يكون: - للوجوب، كان ذلك أَبلغ في مراتبه. - أو الندب، كان ذلك أَبلغ في مراتبه. - أو الإباحة، فكذلك. فَحَقِّق ذلك؟ فإنه دقيق، والله أعلم. ¬

_ (¬1) كذا في (ت، ق)، وليس في (ص)، لكن في سائر النُّسخ: وأن ذلك كله. (¬2) كذا في (ص)، لكن في سائر النُّسخ: مشعرة.

ص: 536 - كَذَلِكَ التَّفْوِيضُ {فَاقْضِ} تَجْتَبِي ... {كُونُوا حِجَارَةً} مِنَ التَّعَجّب الشرح: التاسع عشر: ورود لفظ الأمر للتفويض، مثل قوله تعالى: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه: 72]. ذكره إمام الحرمين في "البرهان"، ويسمى أيضًا "التحكيم"، وسمَّاه ابن فارس والعبادي "التسليم"، وسمَّاه محمد بن نصر المروزي "الاستبسال"، قال: أَعْلَموه أنهم قد استعدوا له بالصبر، وأنهم غير تاركين لدينهم، وأنهم يستقلون بما هو فاعل فى جنب ما يتوقعونه من ثواب الله تعالى. قال: ومنه قول نوح عليه السلام: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} [يونس: 71]، أخبرهم بهوانهم عليه. العشرون: التعجب، نقله العبادي في "الطبقات" عن أبي إسحاق الفارسي، ومَثَّله بقوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} [الإسراء: 48]. ومثَّله الصفي الهندي بما ذكرته في النَّظم، وهو قوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)} [الإسراء: 50]، لكن سبق أن الصيرفي والقفال مثَّلَا به للتعجيز، وأن ابن عطية قال: فيه نظر. وهو الظاهر؛ فإن التمثيل به [للتعجب] (¬1) أوضح؛ لأن المراد به التعجيب، وربما عبر به بعضهم. والمعنى أن المخاطَب يحصل له التعجب من مِثل ذلك، وانقلابهم حجارة أو حديدًا مما ¬

_ (¬1) (في (ت، ق، ظ): للتعجيب.

يُتعجَّب منه، والله أعلم. ص: 537 - كَذَاكَ في مَشُورةٍ، نَحْوُ: "انْظُرِ ... مَاذَا تَرَى"، وَفي اعْتِبَارٍ مُذْكِرِ 538 - لِلثَّمَرِ {انْظُرُوا}، وَفي التَّكْذِيبِ ... {فَأْتُوا [بِسُورَةٍ] (¬1)} عَلَى الْكَذُوبِ الشرح: الحادى والعشرون: المشورة، كقول إبراهيم لابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102]، فأشار إلى مشاورته في هذا الأمر. ذكر ذلك العبادي. الثانى والعشرون: الاعتبار، كقوله تعالى: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ} [الأنعام: 99] الآية، فإن في ذلك عبرة لمن يعتبر. الثالث والعشرون: التكذيب، كقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]، {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)} [آل عمران: 93]، {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ} [الأنعام: 150] الآية. تنبيهان أحدهما: ذكر بعضهم زيادة على هذه المعاني فيها نظر؛ فلذلك لم أتعرض لها في النظم: منها: ما في "البرهان" لإمام الحرمين: الإنعام، كقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا ¬

_ (¬1) في (ن 2، ن 5): بتوراة.

رَزَقْنَاكُمْ} [طه: 81]. قال: (فهذا وإنْ كان فيه معنى الإباحة فإن الظاهر تذكير النعمة) (¬1). انتهى ويشبه أن يندرج هذا في قسم الامتنان كما سبق تقريره. ومنها: الاحتقار، كقوله تعالى حكاية عن موسى -عليه السلام- يخاطب السحرة: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)} [يونس: 80] إذ أَمْرُهم في مقابلة المعجزة حقير، وهو مما أورده البيضاوي. قيل: والفرق بينه وبين "الإهانة" أنها إما بِقَول أو فعل أو تقرير، كترك إجابته أو نحو ذلك، لا بمجرد اعتقاد. و"الاحتقار" قد يكون بمجرد الاعتقاد؛ فلهذا يقال في مثل ذلك: احتقَره، ولا يقال: أَهانهُ. ولكن جواب ذلك أن المراد بالإهانة: اعتقاد كونه هينًا، سواء انضم إليه ما يُنكيه من قول أو فعل أو ترك أو لا، فهُما سواء. ألا ترى أن نحو: {ذُقْ} من الاستهزاء به إنما نشأ من حقارته عند المتكلِّم؟ ومنها: الوعد، كقوله تعالى: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)} [فصلت: 30]. وقد يقال بدخول ذلك في الامتنان؛ فإنَّ بُشرى العبد مِنَّة عليه. ومنها: الوعيد، نحو: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] ولكن هذا من التهديد، بل قال بعضهم: إن التهديد أَبلغ من الوعيد. ومنها: الاحتياط. ذكره القفال ومَثَّله بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا" (¬2)، بدليل "فإنه لا يدري". وهذا داخل تحت الندب، فلا حاجة لإفراده. ¬

_ (¬1) البرهان (1/ 218). (¬2) صحيح مسلم (رقم: 278).

ومنها: الالتماس، كقولك لنظيرك: (افْعَل). وقد يقال: إن هذا وشبهه مما يقل جدواه في دلائل الأحكام. وفيه نظر. ومنها: التحسير والتلهيف. ذكره ابن فارس، ومَثَّله بقوله تعالى: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران: 119]، {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)} [المؤمنون: 108]. ومنها: التصبير، كقوله تعالى: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)} [الطارق: 17] , {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} [الزخرف: 83] ذكره القفال. ومنها: قرب المنزلة. ذكره الصيرفي، ومَثَّله بقوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} [الزخرف: 70]. ومنها: التحذير والإخبار عما يَؤُول الأمر إليه، نحو: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] (¬1). ذكره الصيرفي. ومنها: إرادة الامتثال فقط، كقولك عند العطش: اسقني ماء. فإنْ كان مِن السيد لعبده فللوجوب أو الندب، ولا يخفَى دخول هذا فيما سبق وهو الإيجاب أو الندب. ومنها: إرادة الامتثال لأمر آخَر، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل" (¬2). فإنما المقصود الاستسلام والكَف عن الفتن. ومنها: التخيير، نحو: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42]. ذكره القفال، وقد يقال: نفس صيغة "افعل" ليس فيها تخيير، بل بانضمام أمر آخَر بضده، لكن مثل ذلك ¬

_ (¬1) (في (ص، ش، ق، ض، ت): قل تمتعوا في داركم ثلاثة أيام. (¬2) مسند الإمام أحمد (رقم: 21101)، مسند أبي يعلى (7215). قال الألباني: (صحيح، وهو من أحاديث جَمع من الصحابة). إرواء الغليل (2451).

يأتي في التسوية. الثانى: في نجاز ما سبق الوعد به مِن ذِكر الخلاف في كون صيغتَي الأمر حقيقة في غير الوجوب أو مجازًا. فنقول الأصح من المذاهب أنهما حقيقة في الوجوب فقط، وفيما سواه مجاز؛ ولهذا أشرنا في غالبها إلى علاقة ذلك إلا ما يكون ظاهرًا. هذا مذهب الجمهور، وهو المحكي عن الشافعي - رضي الله عنه -. وقال إمام الحرمين في "تلخيص التقريب والإرشاد": (إن الشافعي قد ادَّعَى كل مِن أهل المذاهب في هذه المسألة أنه على وفاقه، وتمسكوا بعبارات متفرقة. وهذا عدول عن سَنن الإنصاف؛ فإن الظاهر والمأثور من مذهبه حمل مطلق الأمر على الوجوب) (¬1). انتهى ونقله الشيخ في "شرح اللمع" وابن برهان في "الوجيز" عن الفقهاء، واختاره الإمام وأتباعه. قال الشيخ أبو إسحاق: (وهو الذي أملاه الشيخ أبو الحسن على أصحاب أبي إسحاق -يعني المروزي- ببغداد) (¬2). ثم اختلف القائلون بهذا المذهب كما في "تقريب القاضي" وغيره: هل اقتضاء الوجوب بوضع اللغة؟ أَم بالشرع؟ أَم بالعقل؟ ثلاثة مذاهب، صحح الشيخ أبو إسحاق الأول، ونقله إمام الحرمين عن الشافعي ثم اختار هو أنه بالشرع. الثانى: أنه حقيقة في الندب. وبه قال أبو هاشم كما نقله عنه ابن الحاجب. ¬

_ (¬1) التلخيص (1/ 264). (¬2) شرح اللمع (1/ 206).

ونُوزع بأن عبارته لا تقتضيه، ونقله أيضًا عن كثير من المتكلمين، وكأن مراده المعتزلة؛ فقد نقله الشيخ أبو حامد عن المعتزلة بأَسْرها. نعم، نُقل عن جماعة من الفقهاء ونقله الغزالي والآمدي قولًا للشافعي، قال القاضي عبد الوهاب: كلامه في "أحكام القرآن" دالٌّ عليه. الثالث: أنه حقيقة في الإباحة؛ لأن الجواز محقَّق، والأصل عدم الطلب. وربما يُفهم ذلك من المحرر في النقل عن المعتزلة، بناءً على أن المباح عند أكثرهم حسن. وحكاه البيهقي في "سُننه" عن حكاية الشافعي في "كتاب النكاح". الرابع: أنه مشترك بين الوجوب والندب. وحُكي عن المرتضى من الشيعة، لكن الذي حرره عنه صاحب "المصادر" غير ذلك. وقال الغزالي: صرح الشافعي في كتاب "أحكام القرآن" بتردد الأمر بالوجوب والندب. لكن ابن القطان أَوَّله. الخامس: أنه حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو الطلب. لكن قال أبو منصور الماتريدي: يحكم بالوجوب ظاهرًا في حق العمل -احتياطًا- دُون الاعتقاد. السادس: الوقف. وبه قال القاضي وأتباعه، فقالوا: حقيقة إما في الوجوب وإما في الندب وإما فيهما جميعًا بالاشتراك اللفظي، لَكِنَّا لا ندري ما هو الواقع مِن الأقسام الثلاثة. ونقله ابن القطان عن ابن سريج ونسبه للشافعي، لأنه قال في "أحكام القرآن": (لَمَّا قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] احتمل أمرين) إلى آخِره. قال أصحابنا: (وهذا تَعنُّت مِن أبي العباس؛ لأن الشافعي يقول ذلك كثيرًا ويريد أنه يحتمل أن يَرِد دلالة تخصه ويحتمل أنْ يخلى والإطلاق، إنما أراد الشافعي بذلك أنه يجوز أن

يختص كما يقول به [في] (¬1) العموم). انتهى السابع: وحكاه الصفي الهندي عن القاضي وإمام الحرمين والغزالي: التوقُّف في أنه حقيقة في الوجوب فقط أو الندب فقط أو فيهما بالاشتراك اللفظي أو المعنوي. فزاد على القول الذي قبله أمرًا رابعًا. الثامن: أنه مشترك بين الوجوب والندب والإباحة اشتراكًا لفظيًّا. الثامن: الاشتراك في الثلاثة اشتراكًا معنويًّا. العاشر: أنه مشترك بين خمسة: هذه الثلاثة، والكراهة، والتحريم. حكاه في "المحصول"، وكأن المراد بهما ما يتضمنه التهديد، وربما عُبِّر عنه بأنه مشترك بين الثلاثة والتهديد، وهو أوضح. الحادى عشر: قول عبد الجبار: إنه حقيقة في إرادة الامتثال فقط، والوجوب وغيره مُستفاد من القرائن. وعزاه ابن السمعاني لأبي هاشم، وأوضحه فقال: (إذا قال القائل لغيره: افعل، دَلَّ على أنه مُرِيد منه الفعل، فإنْ كان القائل حكيمًا، وَجَبَ كون الفعل على صفة زائدة على حُسْنه يستحق لأجلها المدح. فإذا كان المقُول له مُكلَّفًا، جاز أن يكون واجبًا وأن يكون مندوبًا. فإذا لم يَقُم دليل على وجوب الفعل، وَجَب نَفْيُه والاقتصار على المحقَّق وهو كَوْن الفعل ندبًا يستحق فاعله المدح) (¬2). الثانى عشر: حكاه القاضي عبد الوهاب في "ملخصه" عن شيخه أبي بكر الأبهري بأن أمر الله تعالى للإيجاب وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المبتدأ للندب، أي: الذي ليس موافقًا لنَص أو بيانًا ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ش). لكن في سائر النسخ: في زمن. (¬2) قواطع الأدلة (1/ 54).

لِمُجْمَل. ومنهم من ينقل عن الأبهري أنه حقيقة في الندب، فيكون له قولان. الثالث عشر: إنه مشترك بين الخمسة: الإيجاب، والندب، والإباحة، والإرشاد، والتهديد. حكاه الغزالي. ونُقِلت [فيه] (¬1) مذاهب أخرى إما ضعيفة أو داخلة فيما سبق، أَعْرَضْنَا عن حكايتها؛ لعدم جدواها. تنبيه: إذا وردت صيغة الأمر من الشارع وقُلنا: للوجوب ما لم تَقُم قرينة بخلافه، فهل يحمل ذلك على الوجوب قبل البحث عن القرينة أن المراد بها غيره؟ فيه خلاف "العام" في وجوب اعتقاد عمومه قبل البحث عن المخَصِّص، وستأتي المسألة في موضعها. لكن صرح بجريان الخلاف فيها هنا الشيخ أبو حامد في كتابه في الأصول وابن الصباغ في "العدة"، وقد مَرَّ ذِكرها، والله أعلم. ص: 539 - وَإنْ تَرِدْ صِيغَته اثْرَ حَظْر ... أَوْ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ حَيْثُ يَجْرِي 540 - كَانَ قَرِينَةً عَلَى الْإباحَة ... وَالْأَمْرُ فِيهِ طَلَبُ الْمَاهِيَّةِ الشرح: لَمَّا بينتُ أن صيغة الأمر حقيقة في الوجوب -وهو الأرجح- إلا أن تقوم قرينة لِما سِوَى الإيجاب فإنه مجاز، ولابُدَّ للمجاز مِن قرينة، ذكرتُ ما اختُلف في كونه قرينة أو لا، ¬

_ (¬1) من (ق).

وهي إذا وردت صيغة الأمر بعد سَبْق حَظْر، هل يكون سبق الحظر قرينة عدم إرادة الوجوب وبكون حينئذٍ للإباحة؛ لأنها أقل درجات الإذن؟ أو غيرها؟ أقوال: أحدها: هذا الذي اقتصرتُ عليه في النظم ورجحه ابن الحاجب، وجزم به الصيرفي والخفاف في "الخصال"، ونقله ابن برهان في "وجيزه" عن أكثر الفقهاء والمتكلمين والقيرواني في "المستوعب" وابن التلمساني في "شرح المعالم" عن نَص الشافعي، وكذلك نقله عن نَصه عبد العزيز بن عبد الجبار الكوفي كما في "شرح المحصول" للأصفهاني. وفي "مختصر التقريب" للقاضي: إنه أظهر أجوبة الشافعي. وقال الشيخ أبو إسحاق: للشافعي كلام يدل عليه. وفي "قواطع" ابن السمعاني أنه نَص عليه في "أحكام القرآن". وكذا نقله الشيخ أبو حامد، قال: (وقال الشافعي في "أحكام القرآن": وأوامر الله ورسوله تحتمل معاني، منها الإباحة كالأوامر الواردة بعد الحظر، كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10]. فاقتضى أن الأمر بعد الحظر للإباحة دون الإيجاب، وإليه ذهب جمعٌ من أصحابنا). انتهى وقال القاضي أبو الطيب: إنه ظاهر مذهب الشافعي. وإليه ذهب أكثر من نظر في أصول الفقه. وقال سليم الرازي: نَص عليه الشافعي. وقال القاضي عبد الوهاب في "الإفادة": إنه الذي صار إليه الفقهاء من أصحاب الشافعي. وأطلقوا أن ذلك قوله الذي نَص عليه في كثير من كلامه، لا يجوز أن يُدَّعَى معه أن مذهبه خِلافُه. قلتُ: ومن نصوصه في "الأم" ما قاله في "كتاب النكاح" في "باب ما جاء في أمر النكاح"، قال: (قال الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] إلى قوله: {يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32]، والأمر في الكتاب والسُّنة وكلام الناس يحتمل معاني،

أحدها: أن يكون الله عز وجل حرم شيئًا ثم أباحه، فكان أمره إحلال ما حرم، كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، وكقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]) (¬1) إلى آخِر ما ذكره. فذكر مِن الوجوه التي يحتملها {وَأَنْكِحُوا} الوجه الذي ليس غيره في نحو: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]، فهو جازم فيه بذلك. ونقله القاضي عبد الوهاب أيضًا والباجي وابن خويز منداد عن مالك؛ ولذلك احتج على عدم وجوب الكتابة بقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، فقال: هو توسعة، كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]. القول الثانى: أنه على حالِه للوجوب كما لو وردت ابتداءً، وبه قال الإمام وأتباعه كالبيضاوي. وهو قول المعتزلة كما أن صيغة النهي بعد الوجوب لا تخرج عن التحريم، لكن ستأتي المسألة في موضعها والفرق بينهما. وصححه أيضًا القاضي أبو الطيب في "شرح الكفاية" والشيخ أبو إسحاق وابن السمعاني، ونقله الماوردي عن أبي حامد، وهو كذلك، فإنه نصره في كتابه ونقله عن أكثر أصحابنا، قال: وهو قول كافة الفقهاء والمتكلمين. وقال الأستاذ أبو منصور: هو قول أهل التحصيل مِنا. وقال سليم الرازي في "التقريب": إنه قول أكثر أصحابنا. وقال ابن برهان في "الأوسط": إليه ذهب معظم العلماء. وقال إمام الحرمين: إن القاضي قال: لو كنت من القائلين بالصيغة لَقطعتُ بأنها بعد الحظر للوجوب. ونقل غيره عن القاضي غير ذلك، فالنقل عنه مضطرب. ¬

_ (¬1) الأم (5/ 142).

وقال القاضي عبد الوهاب: إنه الأقوى في النظر. ونقله في "الإفادة" عن المتكلمين أو أكثرهم. الثالث: حكاه إمام الحرمين (¬1) (في "التلخيص" و"البرهان" عن بعضهم، أنه إنْ ورَدَ الحظر مؤقتا وكان منتهاه صيغة في الاقتضاء فهي للإباحة، فالغرض من [مسَاق] (¬2) الكلام رد الحظر إلى غاية، نحو: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] انتهى واختار هذا الغزالي بزيادة بيان، فقال: (إن كان الحظر السابق عارضا لِعلة وعلقت صيغة "افعل" بزواله مثل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، فَعُرْف الاستعمال يدل على أنه لِرفع الذم فقط حتى يرجع حُكمه إلى ما قَبْله، وإنِ احتمل أن يكون رفع هذا الحظر بندب أو إيجاب لكن هذا هو الأغلب، كقوله عليه الصلاة والسلام: "كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي، فادخروا" (¬3). وإذا لم يكن الحظر عارضًا لِعلة ولا صيغة "افْعَل" فيه متعلقة بزوالها، أي: كالجلد عقب الزنا بعد تَقَرُّر تحريم الإيذاء، فهذا يبقى فيه موجب الصيغة على أصل التردد بين الإيجاب والندب، ويزيد هنا احتمال الإباحة، فيكون هذا قرينة تروج هذا الاحتمال وإنْ لم تُعَيِّنه. وأما إذا لم تَرِد صيغة "افعل" ولكن قال مثلًا: "إذا حللتم فأنتم مأمورون بالاصطياد" فهذا يحتمل الوجوب والندب، ولا يحتمل الإباحة. وقوله: "أمرتكم بكذا" يضاهي قوله: "افعل" في جميع المواضع إلا في هذه الصورة وما يقاربها) (¬4). انتهى ¬

_ (¬1) التلخيص (1/ 287)، البرهان (1/ 187). (¬2) في (ت، ق): سياق. (¬3) سنن ابن ماجه (رقم: 3160)، سنن الترمذي (رقم: 1510). قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن الترمذي: 1510). (¬4) المستصفى (ص 211).

واختاره أيضًا إلْكِيَا الهراسي. قلتُ: وهذا التفصيل مُفرَّع على القول بأنَّ أصل الأشياء الإباحة، أما إذا قيل: الحظر، فكل صيغة أمر بعد حَظر، فلأجْل ذلك قال صاحب "الواضح" من المعتزلة وصاحب "المصادر" من الشيعة: إنَّ محل الخلاف إذا كان الحظر السابق شرعيًّا، لا عقليًّا. وصرح بذلك أيضًا القاضي عبد الوهاب مِن المالكية، وهو أظهر مِن قول أبي الحسين بن القطان من أصحابنا: إنه لا فرق في الحظر السابق بين الشرعي والعقلي. الرابع: الوقف بين الإباحة والوجوب. وحكاه سليم عن المتكلمين، واختاره إمام الحرمين والغزالي في "المنخول"، وقال ابن القشيري: إنه الرأي الحقُّ. والخامس: أنه للاستحباب. وبه جزم القاضي الحسين (¬1) (في "باب الكتابة" من "تعليقته" (¬2) ومَثَّله بنحو: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]. قال الشافعي: إنه للاستحباب. وإنْ حُكي عنه قول آخَر بالوجوب. وإنما كان ذلك من الأمر بعد الحظر، لأن بيع الإنسان ماله بماله ممتنع بلا شك. وكقوله - صلى الله عليه وسلم - في خِطبة المغيرة: "انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" (¬3)، ونحو ذلك، فإن أصح الوجهين: الاستحباب، وثانيهما: الإباحة. ومنشأهما -كما قال الإمام- هذه القاعدة. وإنما لم يحمل على الوجوب، لذلك، أو لأن من قرائن الصرف عن الوجوب كون ¬

_ (¬1) هنا آخِر نُسخة (ظ). (¬2) في (ص): تعليقه. (¬3) سنن الترمذي (رقم: 1087)، سنن ابن ماجه (1865)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن الترمذي: 1087).

الداعية تدعو إلى ذلك الفعل، فورود الأمر على وَفْقها يقتضي عدم الوجوب، أو غير ذلك. أما الصرف بذلك عن الإباحة عند مَن يقول بها هنا فلا. وقد يُدَّعى أن زيادة الاستحباب على أصل الإباحة بدليل آخَر. والسادس: أنها لرفع الحظر السابق وإعادة حال الفعل إلى ما كان قبل الحظر، فإنْ كان مباحًا، كانت للإباحة، نحو: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] (¬1)، أو واجبًا، كانت للوجوب، نحو: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] إذا قلنا بوجوب الوطء. واختاره بعض محققي الحنابلة، ونسبه للمزني، قال: وعليه يُخرج قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]. وهو ظاهر كلام القفال الشاشي حيث قال في {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222]: إنه ليس بايجاب، بل إباحة، كأنه قال: فإذا تطهرن فهن على الحالة الأُولى. وكذا في زيارة القبور: "فزوروها" (¬2)، أي: فقد أبحْتُ لكم الآن ما حظرتُه عليكم. قال ابن دقيق العيد: إنَّ مَن يرى تَقدُّم الحظر قرينة صارفة للأمر عن مقتضاه ليس له مستند إلا العُرف أو أكثرية الاستعمال كما سبق من الأمثلة. أي: وإن ورد في بعضها بخلافِه، نحو: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا} [التوبة: 5]، فإن الجهاد واجب. ونحو: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] أيْ: فاحلقوا، والحلق نُسُك. وكذا: "إذا أدبرت الحيضة فاغسلي عنك الدم وصلِّي" (¬3) فإنه واجب أيضًا. ¬

_ (¬1) في جميع النُّسخ: فإذا. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) صحيح البخاري (رقم: 226) بلفظ: (فإذا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وإذا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلي عَنْكِ الدَّمَ، ثم صَلِّي)، صحيح مسلم (333).

قال: وإلا فلا إشكال في إمكان الانتقال مِن بعض الأحكام لبعض كيف كانت. فَعُلم ضعف الاستدلال على الوجوب بأنه يؤدي للانتقال مِن تحريم إلى وجوب، فيقال: وما المحذور في ذلك؟ تنبيهان الأول: قولي: (وَإنْ تَرِدْ صِيغَتُهُ) أي: صيغة الأمر -أوضح من تعبير الماوردي وغيره بالأمر بعد الحظر؛ فإنه إذا كان أمرًا فكيف يكون للإباحة والمباح ليس مأمورًا به؟ إلا على ما سبق مِن قول الكعبي ومَن وافقه في أن المباح ترْك الحرام وهو واجب، وسبق جوابه. نعم، سبق في نَص "الأم" في أول المسألة تعبير الشافعي بالأمر مع قوله: إنه للإباحة. فليحمل على أن المراد لفظ "الأمر"، فإن صيغة "افْعَل" و"لِتَفْعَل" يقال فيها: فِعْل أَمْر، إما بنفسها أو بواسطة لام الأمر، فتُعطَى في العربية أحكام الأمر مِن جَزْم وبناء على السكون أو ما يقوم مقامه وفي نصب الجواب بعده وغير ذلك من أحكام العربية، ولو كانت في المعنى دعاءً أو خبرًا أو نحو ذلك نَظرًا لصورة اللفظ لا للمعنى، فيكون مراد مَن عبَّر بذلك، فلا إشكال وإنْ كان التعبير بالصيغة أوضح في المقصود. الثانى: قد استُشكل المختار من الأقوال -وهو أنه للإباحة- بأمرين: أحدهما: أنَّ كون تَقَدُّم الحظر قرينة صارفة له عن الوجوب ليس بأَوْلى من كونه قرينة مقتضية لكونه تهديدًا، فيكون تقريرًا للحظر السابق. كذا عارض به ابن عقيل الحنبلي. وجوابه: أن أقرب المجازين للحقيقة هو الذي يُصار إليه، وأقربهما كونه طلبًا أو إذنًا في الفعل، لا منعًا؛ لأنه ضده. ثانيهما: أنَّ هذا تعارضه القاعدة الفقهية، وهي أن كل ما كان ممنوعًا لو لم يجب يكون

الأمر فيه للوجوب، كالختان وقطع السارق، فليكن في مسألتنا للوجوب، فإنه كان ممنوعًا لو لم نَقُل بوجوبه. وجوابه: أن القاعدة قد نُقِضت كما سبق في الكلام في أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى تقدير التسليم فهي مفروضة في شيء كان ممنوعًا منه على تقدير عدم وجوبه، وهذه في ممنوع على الإطلاق، لا لممنوع على هذا التقدير؛ فافترقا. قولي: (أَوْ بَعْدَ الِاستئذَانِ) أي: إن الصيغة إذا وردت بعد الاستئذان إذا جرى استئذان تكون كالواردة بعد الحظر حتى يكون المرجَّح فيها الإباحة؛ لقرينة الاستئذان. ذكر ذلك في "المحصول". إلا أن قصده أن تكون للإيجاب على أصلها وأن الاستئذان ليس قرينة صارفة على مختاره في الوارد بعد الحظر أنه كذلك، فما ذكرها إلا ليقضي بالبقاء في الوجوب. قالوا: وهو حسن؛ لنفعه في الاستدلال على فرضيَّة الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التشهد بقوله لَمَّا قيل له: "قد علمنا كيف نُسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ " قال: "قولوا: اللهم صَلِّ على محمد" (¬1) إلى آخِره. قلتُ: وفيه نظر؛ لأن هذا ليس أمرًا بعد استئذان، بل أمر بكيفية مسئول عنها بعد تَقَرُّر الأصل، فالأصل ليس فيه استئذان ولا سؤال؛ لأن السؤال بِـ "كيف" يقتضي وجود الأصل، وإنما يكون مما نحن فيه لو قيل: هل نصلي عليك؟ أو نحو ذلك. نعم، هي قريبة من مسألتنا في المعنى وإنْ لم تكن إياها، لكن الأمر بكيفية شيء [منتهٍ] (¬2) لذلك الشيء. إنْ يكن واجبًا، كان واجبًا. أو نَدْبًا، كان نَدْبًا، فلا بُدَّ من ثبوت الصلاة أولًا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 5996)، صحيح مسلم (رقم: 406) واللفظ للبخاري. (¬2) كذا في (ص). لكن في سائر النُّسخ: منه.

حتى يكون الأمر بهذه الكيفية للوجوب، فكيف يستدل بها على وجوب الأصل؟ ثم الذين أوجبوا الصلاة لم يوجبوا هذه الكيفية، حتى لو قال: (اللهم صَلِّ على محمد)، اكتُفِي به. ثم إن هذا طريقة الإمام؛ لأن عنده أنَّ الأمر بعد الحظر للوجوب كما سبق. أما إذا قُلنا بأنه للإباحة كما سبق أو للاستحباب، لا ينتهض الدليل من ذلك. نعم، لوجوب الصلاة في الصلاة أدلة غير ذلك مُبيَّنة في محلها من الفقه، والله أعلم. قولي: (وَالْأَمْرُ فِيهِ طَلَبُ الْمَاهِيَّةِ) تمامه قولي بعده: ص: 541 - لَا لِتكَرُّرٍ وَلَا لِلْمَرَّهْ ... بَلْ هِيَ مِنْ ضَرُورةٍ مُقَرَّهْ الشرح: مِن مباحث الأمر ما ذكرته مِن هذه المسائل، فمن ذلك أن الأمر هل يقتضي طلب إيقاع المأمور به مرة؟ أو أكثر؟ أو لا يقتضي شيئًا من الأمرين؟ الصحيح الثاني، أي لا يدل على ذلك بذاته، بل إنْ قُيد لفظ الأمر -ولو بدليل منفصل- بالمرة أو بالتكرار، كان كذلك قطعًا. وكذا إذا دل المعنى على مرة كـ "اقتل زيدًا" و"أَعْتِق سالمًا" أو تكرر كـ "اترك الغيبة"، فقد سبق أنَّ هذا وإن كان في معنى النهي فهو أمر مع كونه للتكرار، [لقرينة] (¬1) كونه في معنى النهي. فإذا لم يكن شيء من ذلك فإنما يفيد طلب الماهية من غير إشعار بوحدة ولا بكثرة، إلا أنه لا يمكن إدخال الماهية في الوجود بأقل من مرة، فصارت المرة مِن ضرورة الإتيان ¬

_ (¬1) (في (ت، ض): ولقرينة.

بالمأمور به، لا أنَّ الأمر يدل عليها بذاته، بل بطريق الالتزام. وسواء أكان الأمر مجردًا أو معلقًا بشرط أو صفة، فالصحيح في المسألتين ذلك. فمِن ثَم أطلقتُ في النظم ولم أُقيد الأمر بكونه غير مقيد بمرة ولا تكرار؛ فإنَّ من المعلوم أنه متقيد به. ولم أُقيده أيضًا بكونه غير معلق؛ لأن المختار في المسألتين واحد؛ ولهذا يُطلق كثيرٌ المسألة ويجعل القول بالفرق بين الحالين قولًا فيها بالتفصيل، ونحن نُفرِد كلًّا من المسألتين؛ لبيان الخلاف وإيضاحه. فأما مسألة "ما إذا لم يُعلق بشرط ولا صفة": فالصحيح من المذاهب فيها ما ذكرناه، وقال الخطابي في "المعالم": (إنه قول أكثر الناس) (¬1). قال ابن السمعاني: وهو قول أكثر أصحابنا (¬2). وقال إلْكِيَا الطبري: إنه رأى القاضي. واختاره الإمام الرازي والآمدي وأتباعهما. وقال صاحب "اللباب" من الحنفية والباجي من المالكية أنه قول عامَّة أصحابهم. ثم حكى ابن السمعاني -تفريعًا على هذا القول- خلافًا في كونه بعد ما لا يمكن الامتثال إلا به -وهو المرة- هل يحتمل التكرار؟ أو لا؟ أَوْلى الرأيين: نعم، وهو ظاهر كلام إمام الحرمين في "البرهان" إذْ قال: (إنا في الزائد على المرة نتوقف، لا ننفيه ولا نثبته) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: معالم السنن (2/ 144). (¬2) قواطع الأدلة في أصول الفقه (1/ 65). (¬3) البرهان (1/ 167).

لكن الأحسن أن مراد الإمام بقوله: "نتوقف" أنه لا ينافيه شيء من قيود التكرار لَوْ وَرَد، فهو لا ينفيه ولا يثبته، لأن اللفظ محتمل لأن يكون موضوعًا لخصوص التكرار أوْ لا. قيل: ولَعلَّ ابن الحاجب لَمَّا لمح أن مراد الإمام هذا، قال بعد قوله: إلا يدل على تكرار ولا مرة): (وهو اختيار الإمام) (¬1). وإلا فلا معنى لتخصيص الإمام بذلك مع أنه قول الأكثرين. نعم، ممن قال بأنه يحتمل التكرار: أبو زيد الدبوسي، إذ قال: الصحيح أنه لا يقتضيه. ثم قال: ولكن يحتمل كل الفعل المأمور به، لكن لا يثبت إلا بدليل، وعليه دَلت مسائل علمائنا. وكذا قال شمس الأئمة السرخسي. المذهب الثانى: أنه يقتضي المرة الواحدة بلفظِه ووضعِه. وحكاه في "التلخيص" عن الأكثرين والجماهير من الفقهاء، وقال ابن فورك: إنه المذهب. قال ابن القطان: إنه مذهب الشافعي وأصحابه. وكذا قال الغزالي في "المنخول". وقال الشيخ أبو حامد في كتابه في الأصول: (إنه الذي عليه كلام الشافعي في الفروع، وعليه أكثر الأصحاب، وهو الصحيح الأشبه بمذاهب العلماء). انتهى قيل: بل صرح به في "الرسالة" في "باب الفرائض المنصوصة" التي سَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الشافعي: (فكان ظاهر قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] أقَل ما يقع عليه اسم الغسل مرة، واحتمل أكثر، وبيَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوضوء مرة، فوافق ذلك ظاهر القرآن، ولو لم يَرِد الحديث به لاستُغني بظاهر القرآن) (¬2). انتهى وممن اختاره ابن الصباغ، ونقله الأستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق وسليم الرازي ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى (2/ 28) مع (بيان المختصر). (¬2) الرسالة (ص 164).

وابن برهان في "الأوسط" عن أكثر أصحابنا وأبي حنيفة وأكثر الفقهاء، وحكاه الشيخ أبو إسحاق عن اختيار شيخه القاضي أبي الطيب، ونقله عبد الوهاب عن أصحاب مالك، ونقله صاحب "المصادر" عن شيوخ المعتزلة وأبي الحسن الكرخي. قيل: والنّقَلة لهذا عن أصحابنا لا يفرقون بينه وبين القول الأول المختار، وإنما غرضهم بذكر المرة نفيُ التكرار والخروج عن العهدة بالمرة؛ ولذلك لم يجمع أحد منهم بين القولين، بل يقتصرون على هذا؛ لأن عندهم أنه عَيْن الأول، فهو اختلاف في العبارة وإن كانا مختلفين في طريق الدلالة: هل هو بالمطابقة؟ أو بالالتزام؟ ولا تظهر له ثمرة في الأحكام. وعلى هذا القول: هل يحتمل التكرار؟ أو لا؟ فيه ما سبق، وقد فَرَّعه ابن الحاجب على هذا، لأنا بَيَّنا أنهما في المعنى سواء. والمذهب الثالث: أنه يقتضي التكرار مُدة العُمر فيما يمكن؛ ليخرج أوقات ضروريات الإنسان من أكل وشرب ونوم ونحو ذلك. وهل يتقيد بما لا بُدَّ منه؟ أو بأوسع من ذلك باعتبار العادة؟ الظاهر هذا كما اقتضاه كلام ابن السمعاني من أنه لا بُدَّ من استئناء شيء وراء الإمكان باتفاق وإنْ أَطلق غيْرُه الإمكان. وبالجملة فهذا القول قال به الأستاذ أبو إسحاق والشيخ أبو حاتم القزويني وغيرهما من أئمتنا، ونقله الشيخ أبو إسحاق عن القاضي أبي بكر، ونقل الأصفهاني أن العالمي نقله عن أكثر الشافعية، وحكاه شمس الأئمة السرخسي عن المزني، ونقله في "المنخول" عن أبي حنيفة والمعتزلة، ونقله الباجي عن ابن خويز منداد، وحكاه ابن القصار عن مالك، وأبو الخطاب الحنبلي عن شيخه. والمراد بالتكرار: فِعل مِثل الأول، لا الأول بِعَيْنه، لأن ذلك محُال كما قرر ذلك الصفى

الهندي، وهو واضح. وبعضهم يعبر عن التكرار بالعموم. الرابع: أنه يدل على المرة الواحدة قطعًا، ويتردد الأمر في الزائد. قال إمام الحرمين في "التلخيص": (وهو ما ارتضاه القاضي). قال: (والفرق بين هذا وما سبق بأن ذاك مع عدم احتمال الزائد على المرة، وهذا مع الاحتمال حتى تأتي قرينة تدل عليه) (¬1). قلتُ: هو عيْن ما سبق من الخلاف المُفرَّع على القولين في الاحتمال وعدمه، فينبغي الاكتفاء [به] (¬2) عن هذا التفصيل. الخامس: الوقف في الكل. وهو رأي القاضي أبي بكر وجماعة الواقفية. السادس: إنْ كان فِعلًا له غاية يمكن انقطاعه في جميع المدة فيلزمه في جميعها، وإلا فيلزمه الأول. حكاه الهندي عن عيسى بن أبان. ونقل في "المعتمد" عن أبي عبد الله البصري أن ورود النَّسخ والاستثناء على الأمر يدل على أنه قد أُريد به التكرار. السابع: إنْ كان الطلب راجعًا إلى قَطْع الواقع كقولك في الأمر للساكن: (تَحرك)، فللمرة. وإنْ رجع إلى اتصال الواقع واستدامته كقولك في الأمر للمتحرك: (تحرك)، فللاستمرار والدوام. وأما مسألة ما "إذا عُلق بشرط أو صفة أو وقت" نحو: إن كان زانيًا فارجمه، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38]، و {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، فهذه أَوْلى -مِن المُجَرَّد- بالتكرار عند مَن يقول به فيه. ¬

_ (¬1) التلخيص (1/ 300). (¬2) كذا في (ص، ش). لكن في (ت، ق، ض): فيه.

والمنع فيهما هو العتمد من الخلاف. وقال أبو بكر الصيرفي: إنه أَنْظَر القولين. وابن فورك: إنه الأصح. وقال الشيخ أبو إسحاق وابن السمعاني والشيخ أبو حامد وسليم وإلْكِيَا: إنه الصحيح كما في الأمر المطلق. ونقله في "المعتمد" عن أكثر الفقهاء، وقال صاحب "المصادر": وهو قول أبي حنيفة. وقال السرخسي من الحنفية: إنه المذهب الصحيح. ونقله القاضي عبد الوهاب في "الملخص" عن أكثر الفقهاء من المالكية والشافعية والأصوليين، وربما نُسِب للشافعي. واختار هذا القول أيضًا الآمدي وابن الحاجب، لكنهما والهندي حرروا محل النزاع أنه في غير المعَلَّق بما ثبت كونه عِلة للمأمور به، أما المعلق بذلك فيتكرر بتكرره اتفاقًا، لكن هذا التكرر هو أنه كُلما وُجِدت العِلة وُجِد الحكم، لا أنه إذا وُجِدت العلة يتكرر الفعل به حتى لو قال: (اجلد الزاني)، أو: (مَن زنا فاجلده)، فَزَنَا، جُلِدَ، ثم لا يُعاد الجلد. ومحل الخلاف إنما هو هذا، لا التكرار الأول؛ فلهذا أطلقتُ في النظم أن الأمر به لا يقتضي التكرار. وقد سبقهم إلى حكاية الاتفاق في صورة العلة القاضي في "التقريب" وابن السمعاني، ولكن صاحب "المحصول" وأتباعه أطلقوا الخلاف. ووفَّقَ بعضهم بين الطريقين بأن الإمام لَعَلَّه نَصَب الخلاف مع من يُنكر اقتضاء تَرَتُّب الحكم على الوصف عِلِّيَّة ذلك الوصف (¬1)، والجماعة نَصبُوه مع القائلين باقتضائه العِلِّيَّة. قلتُ: وفيه نظر؛ فإن الإمام وأتباعه قالوا: إن الراجح أنه لا يقتضيه لفظًا، ولكن يقتضيه قياسًا؛ لأن المعلول يتكرر بتكرر عِلته. ¬

_ (¬1) يعني: تَرتُّب الحكم على الوصف يقتضي عِلِّيَّة ذلك الوصف.

فشمل كلامهم ما [عِليته] (¬1) ثابتة. ووراء المختار في هذه المسألة مذاهب: منها: أنه يقتضي التكرار مطلقًا كالنهي. قال ابن القطان: قال أصحابنا: وهو أَشْبَه بمذهب الشافعي، لأنه قال في التيمم لكل صلاة لَمَّا قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية: اقتضى وجوب الوضوء لكل صلاة، فلمَّا توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلوات وضوءًا واحدًا، دَلَّنا على أن المراد بذلك في الطهارة بالماء، وبَقي على التكرر في التيمم. ونقل عن أبي بكر الصيرفي أن الأظهر على المذهب التكرار، وكذا هو في "كتاب الصيرفي". وحكى هذا الاستدلال أيضًا شمس الأئمة السرخسي، ولكنه رَدَّه؛ لأن المراد بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} أي: محدِثين باتفاق المفسرين، وعلى هذا يستوي الوضوء والتيمم. وقال ابن فورك: (ما تَعَلَّلوا به من احتجاج الشافعي في التيمم فلا حُجة فيه، لأن وجوب تكرر التيمم لا يصح الاستدلال عليه بذلك إلا بعد أن يصح وجوب تكرر الصلاة، فيجري أمر التيمم على ما جرى عليه أمرها). انتهى ومنهم مَن يجيب عن التكرر في الشرع -في هذا ونحوه على تقدير ثبوته- بأنه بدليل خَصَّه، لا من مجرد الأمر المعلق بذلك، ومن ثَم لم يتكرر الحج المعلَّق على الاستطاعة، ولهذا لَمَّا سأل الرجل: "أَكُل عام يا رسول الله؟ " قال - صلى الله عليه وسلم - بعد أن سكت حتى قالها السائل ثلاثًا: ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ش)، لكن في (ت، ق): علته. وفي (ض): عليه.

"لو قلتُ: نعم، لَوَجَبَت" (¬1). فإنه علق التكرر بقوله: "نعم" لو قالها، لا بمجرد الأمر، وأيضًا فالسائل عربي، فلو اقتضى المعلَّق التكرر بوضعِه لما سأل عنه. والحديث في "مسلم" عن أبي هريرة، وفي السُّنن ما يدل على التكرر. [واعْلَم] (¬2) أن التكرر في مثل ذلك لو قيل به، لم يكن هو التكرر المقصود من هذه المسألة كما بيناه آنفًا، فلا يضر نقله عن الشافعي وغيره، فَتَأَمَّله. ومنها: التفصيل بين كون المعلَّق عَليه مناسبًا بحيث يصلح للعِلية فيتكرر بتكرره وإلا فلا. وقد سبق أن هذا تحرير للخلاف، لا قول بالتفصيل. ومنها: ما اختاره البيضاوي تبعًا لإمامه: أنه لا يدل عليه من جهة اللفظ، بل من جهة القياس. وقد سبق ما يُشعِر بأن هذا في الحقيقة هو القول الأول، وأنه إذا كان من حيث القياس فهو لكون التعليق على الوصف يُشعِر بِعليته، فتكرره من حيث العلة، وهو محل وفاق كما سبق. وقيل غير ذلك. قيل: ومحل الخلاف إذا لم يكن التعلق بأداة تقتضي التكرار، نحو: كُلما. ولكن هذا لا يُحتاج [إليه] (¬3)؛ لأن التكرار بالصيغة لا من حيث كونه أمرًا، والكلام فيه. ومما يشبه ذلك في التكرر لفظًا: ما لو أُعيد لفظ الأمر، نحو: صَلِّ صَلِّ. وسيأتي إيضاح المسألة بعد ذلك في النَّظم وشرحه. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (رقم: 1337). (¬2) في (ت، ق): واعلم أن التكرر في مثل ذلك لو مثل به، لم يكن هو التكرر المقصود من ما يدل على التكرر، واعلم. (¬3) في (ت، ض، ق): هذا.

تنبيه: قولي في صدر المسألة: "إنَّ الأمر لطلب الماهية" يؤخذ منه أن المطلوب في الأمر بالفعل المطلق هو الماهية الكلية، لا جزئي من جزئياتها، وهو الراجح هناك. وستأتي المسألة في "باب المطلق المقيد"، ويأتي بَسْطها، والله أعلم. ص: 542 - وَلَا لِفَوْرٍ، وَالَّذِي يُبَادِرُ ... مُمْتَثِل، وَالْقَطْعُ فِيهِ ظَاهِرُ الشرح: أي: ولكون مطلق الأمر لطلب الماهية، لا لتكرار ولا لمرة، كذلك لا يكون مقتضيًا لا لفورٍ ولا لتراخٍ وإنْ لم أُصرح بهذا؛ لضعف الخلاف كما ستعلمه. أما إذا كان الأمر مقيدًا بوقتٍ مُضَيَّقٍ أو مُوَسَّعٍ، كان بحسب ما قُيد به، وقد مضى بيان المضيق والموسع في مقدمة الكتاب، وكذلك ما يُفعل في الوقت وبعده من كونه أداء أو قضاء. أو لم يُقيد بوقتٍ ولكن قُيد بفورٍ بلفظ المبادرة أو المسارعة أو التعجيل أو نحو ذلك، فهو للفور اتفاقًا. وإن قُيد بتراخٍ أو قيل: (افعل في أي وقت شئت) أو نحو ذلك، كان التراخي فيه جائزًا اتفاقًا. وإنْ لم يُقيد بشيء -وهو الذي الكلام فيه- فأرجَح المذاهب في المسألة أنه لا يقتضي فورًا ولا تراخيًا، بل متى شاء فعل؛ إذ ليس في الصيغة ما يدل على زيادة على طلب الفعل؛ ولهذا مَن يرى دلالتها على التكرار يقول بالفورية؛ لأنها من ضرورة التكرر، فالكلام مع

القول [بمنع] (¬1) اقتضاء التكرر. والقول بعدم الفور والتراخى عليه جمهور الشافعية كما قاله الأستاذ أبو منصور، وسليم قال: وهو ظاهر قول الشافعي في "باب الحج" والصحيح من المذهب. قال إمام الحرمين: (وهو اللائق بتفريعاته في الفقه وإن لم يصرح به في مجموعاته في الأصول) (¬2). وكذا قال ابن برهان في "وجيزه": (إنه لم يُنقَل عن الشافعي وأبي حنيفة نَقْل في المسألة، وإنما فروعهما تدل على ما نُقل عنهما). قال: (وهذا خطأ في نقل المذاهب؛ إذِ الفروع تُبنى على الأصول). انتهى وقد أُجيبَ عن إشكاله بأن استقراء فروع الإمام يدل على أصله المقصود فيها، وهذا كما يقال: (مذهب الشافعي كذا، مذهب مالك كذا) وإنْ لم يوجد نَص للإمام فيه بِعَيْنه، بل مِن لازم منصوصاته في الفروع. وعلى هذا القول أيضًا أبو علي وابنه وأبو الحسين والغزالي والإمام الرازي وأتباعه والآمدي وابن الحاجب. ويُنقل عن القاضي أبي بكر، قال إمام الحرمين في "البرهان": (وهذا بديع من قياس مذهبه مع استمساكه بالوقف وتجهيله مَن لا يراه) (¬3). وسيأتي الرد على ابن الحاجب في نقله عنه غير ذلك. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ش). لكن في (ت، ق): يمنع. (¬2) البرهان (1/ 168). (¬3) البرهان (1/ 169).

والمذهب الثانى: أنه يقتضي الفور. وبه [قال] (¬1) الحنفية والحنابلة وجمهور المالكية والظاهرية، واختاره من أصحابنا الصيرفي وأبو حامد المروروذي والدقاق والقاضي أبو الطيب، وقال القاضي حسين في "تعليقه" في "كتاب الحج": إنه الصحيح من مذهبنا. قال: وإنما جَوَّزنا تأخير الحج بدليل مِن خارج. وجزم به أيضًا المتولي في "كتاب الزكاة" من "التتمة"، ونقله صاحب "المصادر" عن المزني، وقال الشيخ أبو حامد: إنه قول أهل العراق. وقد اختُلف -تفريعًا على هذا المذهب- أنه إذا لم يبادر، هل يجب أن يفعل بعد ذلك؟ [أَم] (¬2) لا إلا بأمر جديد؟ وهو شبيه [ما] (¬3) سيأتي في "مسألة القضاء": هل هو بأمر جديد؟ قال ابن فورك: واختلفوا أيضًا: هل اقتضاؤه الفور من اللغة؟ أو بالعقل؟ قال: والأرجح الأول. الثالث: أن الأمر يقتضي التراخي. كذا أطلق جماعة حكايته، ومقتضاه أن المبادِر لا يكون ممتثلًا، أو يتوقف فيه، وذلك بعيد هنا. نعم، سيأتي حكاية الخلاف في ذلك تفريعًا على قول الوقف، وسيأتي أنه خَرق للإجماع. وفي كلام أكثر النقَلة أن المراد بالتراخي في قول الأئمة: عدم الفور، فهو في الحقيقة هو القول الأول الذي قُلنا: إنه الراجح، فإنهم ينقلونه عمن نُقل عنه ذلك القول. قال ابن السمعاني بعد نقل التراخي عن ابن أبي هريرة وأبي بكر القفال وابن خيران وأبي ¬

_ (¬1) في (ق): قالت. (¬2) في (ص، ش): أو. (¬3) في (ق): بما.

علي الطبري صاحب "الإفصاح": (وإن معنى ذلك ليس على التعجيل) (¬1). قال الشيخ أبو حامد: والعبارة الصحيحة أنه لا يقتضي الفور والتعجيل. وعبارة إمام الحرمين فيما نقلناه عنه فيما سبق: قول التراخي هو اللائق بتفريعات الشافعي. يريد بالتراخي ما ذكرناه. وممن قال به: أبو إسحاق الشيرازي، وهو الذي نصره القاضي أبو بكر في كتاب "التقريب" بهذا المعنى إذْ قال: والوجه عندنا في ذلك القول بأنه على التراخي دُون الفور والوقف. وأراد بنفي الوقف أن المبادِر ممتثل قطعًا، ثم أخذ يطنب في إفساد الأمرين وتصحيح التراخي بالمعنى المذكور وهو أن المراد: طلبُ الفعل فَحَسْب مِن غير تَعَرُّض للوقت. فما نقله ابن الحاجب عن القاضي بأنه للفور أو العزم -كما هو القول الآتي- مدخول. وكذا نقل السرخسي -من الحنفية- عن علمائهم ذلك، وقال: (نَص عليه في "الجامع"، قال: فمَن نذر أن يعتكف شهرًا، اعتكف أي شهر شاء، خِلافًا لقول الشافعي: إنه على الفور) (¬2). انتهى وكذا نقله صاحب "اللباب" - منهم- عن البزدوي وأنه بلا خلاف عندهم. فعُلِمَ بذلك أن مَن ينقل عن الأئمة القول بالتراخي مراده ذلك، لا حقيقة هذا القول الثالث. ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة (1/ 78). (¬2) أصول السرخسي (1/ 126).

المذهب الرابع: أنه يقتضي إما الفور أو العزم. نقله صاحب "المصادر" عن أبي علي وأبي هاشم وعبد الجبار، وسبق حكاية ابن الحاجب له عن القاضي ورَده. الخامس: الوقف إما لعدم العلم بمدلوله، أو لأنه مشترك. وصححه الأصفهاني في "قواعده"، وحُكي عن المرتضى. وعلى هذا القول: هل يكون المبادِر ممتثلًا؟ أو يكون أمره موقوفًا؟ قولان: حكى الأول منهما ابن الصباغ في "العدة"؛ لاحتمال إرادة التراخي، فلا يقطع بأنه ممتثل. قال: وهو خَرْق للإجماع. أما إذا فرَّعنا على القول الصحيح سواء عبَّرنا عنه بالتراخي أو لا أو قُلنا بالفور، فيمطَع بأن المبادر ممتثل. وهو معنى قولي: (وَالَّذِي يُبَادِرُ مُمْتَثل، وَالْقَطْعُ فِيهِ ظَاهِرُ)، ففيه إيماء إلى رَد القول الثالث وأنه لا سبيل إلى القول به. تنبيهات الأول: إذا قُلنا بالمرجَّح وهو جواز التأخير، فالاتفاق على نفي الإثم حيث لم يَغْلب على الظن الفوات. وقد اختلفوا فيما لو مات على قول التراخي في الحج، وحيث أَثِمَ فإنما ذلك لتفويته؛ إذِ التأخير مشروط بسلامة العاقبة، وقد سبق ذلك في المقدمة في بيان الوقت الموَسَّع، والمعنى في الموسع هو المعنى في [المتراخي] (¬1)، فمَن لا يرى بالموسع لا يرى هنا بالتراخي. لكن الحج ليس مِن الموسع كما سبق، فلذلك يلحقه الإثم في بعض الصُّوَر. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ش). لكن في (ق): التراخي.

الثاني: هل يجري الخلاف في هذه [المسألة] (¬1) في أمر الندب؟ أو يختص بأمر الوجوب؟ فيه خلاف، قال القاضي عبد الوهاب: والصحيح: لا فرق. الثالث: محل الخلاف في الأمر الذي يُطلب به فِعل وجودي، لا نحو: "دع" و"اترك"، فإن ذلك في حُكم النهي، وسيأتي أنه يقتضي التكرار والفور وإلَّا لم يقع فيه امتثال، فكذا [ينتفي] (¬2) فى الأمر الكَفِّي. وهذا يُفهَم مِن رَدِّهم على مَن قال: (إن الأمر للفور كالنهي) بأن الفرق بينهما عدم إمكان الامتثال في النهي إلا بذلك؛ فافترقَا. ومما يدخل في هذا المعنى الذي ذكرناه ما ذُكِر في الفقه فيما لو قال: (إنْ لم أطلقك -أو نحو ذلك- فأنت طالق)، فإنها لا تُطلق بهذا التعليق إلا عند اليأس بموت أو بجنون الزوج المتصل بموته أو نحو ذلك مما هو مذكور في محله. ولو قال لها: [أنت طالق إنْ تركت طلاقك، أو: إن تركت طلاقك فأنت طالق] (¬3)، فإنها تُطلق بِمُضي زمن يمكنه أن يُطَلِّق فيه فلا يُطَلِّق؛ لأن التعليق على النفي لا يتحقق فيه المعلق عليه إلا باستيعابه أزمنة الإمكان؛ لأن النكرة في النفي للعموم، وقد علق على العموم، فلا بُدَّ من وجوده. وأما المعلق على الترك فمُعَلق على صورة منه؛ لأن الفعل نكرة في إثبات، فَيَصْدُق بصورة. والنكرة وإن كانت في سياق الشرط للعموم، لكن العموم في "إنْ لم أُطَلِّقك" عموم في ¬

_ (¬1) (في (ق، ت، ض): أي. (¬2) كذا في (ت، ق)، والمعنى: ينتفي الخلاف. لكن في (ص، ش): ينبغي. (¬3) كذا في (ق). والعبارة الأولى ليست في (ص، ش). لكن في (ت، ض): أنت طالق إن تركت طلاقك فأنت طالق.

نفي، والعموم في الشرط عموم في إثبات، فالعمل بالعموم فيه كَوْن الطلاق يقع في كل صورة توجد فيه، لا على وجود كل الصُّوَر، لأن ذاك كُلّ [مجموعي] (¬1)؛ فلذلك إذا طلق مطلقًا بالتعليق على النفي أو على الترك لكن على الفور، لا يقع طلاق؛ لانتفاء المعلق عليه. وفي الجملة ففي التعليقين لم يخرج المعلق عليه عن الفور، لأن المعلق على النفي مبدأ أزمنة المعلق عليه الفور وجميع ما بعده إلى التعذر. نعم، يشكل على "إنْ تركت طلاقك" لو قال: (إنْ سكتُّ عن طلاقك)، فإنه إذا طلَّق عقب التعليق ثم سكت، يقع عليها طلقة ثانية. وإن كانت الصيغة: "كلما"، فيقع ثالثة بما بعد التطليق المنجز بالسكوت أو السكوتين. وأما في "إنْ تركت طلاقك" فإذا طلق عقبه ثم ترك، لا يقع به طلقة أخرى. وقد يُفَرق بأنه لَمَّا طَلَّق، صَدق في العُرف أنه لم يترك طلاقها، وأما إذا سكت بعد أن نجز فإنه يصدق أنه سكت عن طلاقها. قلتُ: ولا يخلو مِن نَظَر؛ فإنَّ السكوت عن الطلاق قد يعود إلى معنى تَرْك الطلاق، فأيُّ فَرْق بينهما؟ ! الرابع: مما فَرَّعه بعض المتأخرين على الخلاف في هذه المسألة: اعتبار قبول الوكيل فيما لو قال الموكِّل: (بع) أو: (اشْتَرِ) أو: (أَعْتِق) ونحوه من صِيَغ الأمر. ولا يخفَى ما في ذلك من النظر، فإنَّ قولَ الموكِّل ذلك إذْن، لا أمر. وبتقدير أنه مِثله فليس هو المدْرَك في اعتبار قبول الوكيل باللفظ؛ لأن الخلاف فيه سواء أكانت صيغة الموكِّل: ¬

_ (¬1) في (ق، ت): مجموع.

"وكلتُ" أو: "بعْ"؛ ولهذا كان التفصيل رأيًا ثالثًا، فقد اشترط الفور على رأْي وإنْ لم يكن صيغة أمر، ومنع اعتبار الفور على رأْي مع وجودها. على أن الخلاف إنما هو في اعتبار لفظ القبول، حتى لو أَوْجَد الوكيل الفعل على الفور، لا يكفي عند مَن شَرَطَ القبول لفظًا. والله أعلم. ص: 543 - وَالْأَمْرُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَضَاءَ ... بَلْ هُوَ لِلْأَمْرِ الْجَدِيدِ جَاءَ الشرح: هذا أيضًا من المسائل المفرعة على أن الأمر لطلب الماهية من غير زيادة على ذلك، وهي متعلقة بالمأمور به المؤقت إذا خرج وقته ولم يُفعل: هل يجب القضاء بالأمر الأول، نظرًا إلى تحصيل الماهية أي وقت كان؟ أو لا؛ نظرًا إلى تقييد الأمر بوقت، فبِانقضائه زال القيد، فلا بُدَّ مِن أمرٍ جديد يقتضي فِعله بعد خروج الوقت؟ فيه مذهبان: الأول منهما: قول الحنابلة وأكثر الحنفية منهم أبو بكر الرازي، وبه قال عبد الجبار وأبو الحسين من المعتزلة، حكاه عبد العزيز في "الكشف" عن عامة أصحاب الحديث، وقال ابن الرفعة في "المطلب": (إنه ظاهر [كلام] (¬1) الشافعي في "الأم" في "باب الظهار" لَمَّا قاس بقاء الكفارة في الظهار المؤقت التي وجبت بالعَوْد فيه -وهو الوطء- على مسألتنا، إذ قال: كما ¬

_ (¬1) في (ص، ش): نص.

يقال له: "أَدِّ الصلاة في وقت كذا" أو "قبل وقت كذا"، فيذهب الوقت، فيؤديها؛ لأنها فرض عليه، وإذا لم يؤدها في الوقت وأدَّاها بعده، فلا يقال: زد فيها؛ لِذهاب الوقت قبل أن تؤديها). انتهى إذ لو كانت بأمر جديد لَمَا قاس عليها الظهار. أو المذهب الثانى، (¬1) هو الأصح وقول الأكثرين. قال إمام الحرمين في "النهاية" في "باب صلاة التطوع": (إن القضاء عند الشافعي بأمر مجدد، ويؤيده نَصه في "الرسالة" على أن الصوم لا يجب على الحائض، وإنما وجب القضاء بأمر جديد). انتهى وبذلك قال أكثر المحققين من أصحابنا، الصيرفي وابن القشيري. وممن نقله عن أكثر أصحابنا الشيخ أبو حامد وسليم وابن الصباغ وأنه الصحيح، وكذا صرح الشيخ أبو إسحاق في "اللمع" بأنه الأصح، خلافًا لمن نقل عنه القول الأول كما وقع في "جمع الجوامع" لابن السبكي وفي شرحِه ["المختصر"] (¬2). وحُكي هذا القول أيضًا عن البصري من المعتزلة وعن الكرخي من الحنفية، وقال العالمي من الحنفية: إنه اللائق بفروع أصحابهم. وقال الباجي من المالكية: إنه الصحيح. ونقله عن القاضي أبي بكر وابن خويز منداد. وقال عبد العزيز من الحنفية أنه مذهب أصحابهم، قال: لأن صيغة التأقيت تقتضي اشتراط الوقت في الاعتداد بالمؤقت، فإذا انقضى الوقت، فليس في الأمر بالأداء أمر بالقضاء. ¬

_ (¬1) في (ت، ق): وهذا المذهب الثاني. (¬2) في (ص): للمختصر.

أَيْ: يستلزمه كما هو مُدَّعَى مَن يقول: (إنه بالأمر الأول)، إذ ليس مراده أنه عَيْن الأمر بالقضاء وإنْ كان الأصفهاني في "شرح المحصول" قال: إنهم يقولون بدلالته عليه بالمطابقة. ويساعده قول ابن برهان: إنَّ الخلاف هل بقيت العبادة بعد الوقت واجبة بالأمر السابق؟ أو وجبت بأمر جديد؟ لكن الصواب ما قدمناه من الاستلزام كما قرره المازري وغيره. وفى المسألة مذهب ثالث حكاه الآمدي عن صاحب "التقويم": أنه يجب بالقياس على العبادات الفائتة التي دل الدليل على وجوب قضائها (¬1). والجامع بينهما استدراك مصلحة الفائت. وحاصله أن ما لم يُنقل فيه أمر بالقضاء يكون مأمورًا؛ قياسًا، لا بالأمر الأول ولا بأمر جديد. ونُقل معنى ذلك عن أبي زيد الدبوسي، إذ قال: إن ذلك بقياس الشرع. ومراده الاحتراز عن قياس التلازم المذكور في المنطق اقترانيًّا أو استثنائيًّا. وقرر بعض المتأخرين القول بكون القضاء بالأمر الأول بأن الأمر بالأداء مع تَعلُّق العِلم القديم بأنه لا يقع معه الأداء لو لم يكن المراد به وجوب قضائه لكان تكليفًا بما لا يطاق. قلتُ: ولا يخفَى فساد ذلك؛ لأن كل أمر إذا تَعلَّق علم الله بأنه لا يُفعل، لا يخرج بذلك عن كونه مأمورًا به. وهذا النوع من المُحال لا خلاف في التكليف به كما سبق تقريره في مسألة "التكليف بالمحال". ¬

_ (¬1) الإحكام للآمدي (1/ 159).

تنبيهات الأول: المراد بخروج الوقت في هذه المسألة الخروج الذي يُحكم على العبادة حينئذٍ بأنها به تصير قضاء؛ ليخرج بذلك ما لو بقي من الوقت ما يَسَع ركعة كما سبق تقريره في موضعه. الثاني: من المسائل المفرَّعة على هذه القاعدة: ما لو استأجر سَنة فمضت ولم يتسلم المستأجر، انفسخ العقد، ولا يجب بدلها سَنة أخرى اعتبارًا بالعقد الأول، بل لا بُدَّ من إنشاء عقد جديد للمدة الثانية إنْ أرادها. الثالث: يستفاد من التعبير في المسألة بِـ "القضاء" أن ما لا يُسمى "قضاء" لا يجري فيه هذا الخلاف، وذلك في الأمر المطلق إذا قُلنا: (لِلْفَوْر) وفات الفور، فإنَّ فِعله بعده ليس [لكونه] (¬1) قضاءً عند الجمهور، خِلافًا للقاضي أبي بكر. وقد سبقت المسألة في: الأمر هل هو للفور؟ أوْ لا؟ أما إذا قلنا: (الأمر للتراخي)، فليس بقضاء قطعًا كما صرح به صاحب "المعتمد" وغيره. ومنهم مَن يرتب مسألة "الأمر على الفور" على مسألة "القضاء"، ويقول: إن الغرض الإتيان بالمأمور به سواء أكان مؤقتًا أوْ لا. الرابع: محل الخلاف في مسألة القضاء يرجع إلى أصلين: أحدهما: الأمر بالمركب أمر بأجزائه، سواء أجزاؤه الذاتية وأجزاؤه الخارجية التقييدية. الثاني: إن الأمر بالفعل في وقت معيَّن فيه دلالة على أن المصلحة في إيقاعه فيه حتى لو فات تفوت المصلحة، فيفوت المعنى في أصل الأمر به. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ض، ق)، لكن في (ش): ككونه.

فمَن لاحظ الأصل الأول، قال: القضاء بالأمر الأول؛ لأنه اقتضى أمرين، [فعدَم أحدهما يوجب] (¬1) بقاء الآخر بالأمر الأول. ومَن لاحظ الثاني، قال: القضاء بأمر جديد؛ إذ الزمن الثاني قد لا يشرك الأول في تلك المصلحة. وإذا شككنا، لم يثبت وجوب الفعل إلا بأمر آخَر. الخامس: المراد بالأمر الجديد: إجماع أو قياس حلي أو نَص [حيث]، (¬2) احتمل مجيئه، كلما استدل على الأمر الجديد بحديث: "مَن نام عن صلاة أو نسيها فليُصلها إذا ذكرها" (¬3). إذ لو لم يوجد هذا النَّص لَمَا كان لنا دليل [نَصِّي] (¬4) يدل عليه. وإنْ كان هذا الحديث تَعلَّق به مَن يقول بالأمر الأول؛ لكونه [كالبيان] (¬5) لبقاء المأمور به في الذمة، لكنه تَعَلُّق ضعيف، والأصوب قَلْبُه عليه. أما إذا فات حدوث النصوص، فلم يَبْقَ إلا القياسات أو الإجماع؛ لأن الوحي قد انقطع. ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (ق): تعذر أحدهما فوجب. (¬2) في (ق، ض): متى. (¬3) سنن الدارمي (1229)، مسند أبي يعلى (3086)، صحيح ابن حبان (1556)، المعجم الأوسط (6129)، وغيرها. وقال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 1554). وأيضا: صحيح البخاري (رقم: 572) بلفظ: (من نَسِيَ صَلَاة فَلْيُصَلِّ إذا ذَكَرَهَا)، صحيح مسلم (رقم: 680) بلفظ: (من نَسِيَ الصَّلَاةَ فَلْيُصَلّهَا إذا ذَكَرَهَا)، وفي المصنف لابن أبي شيبة (رقم: 3738) بلفظ: (فَمَنْ نَامَ عن صَلاَةٍ أو نسى صَلاَةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكرهَا). (¬4) في (ش): مرضي. (¬5) في (ش): كالمثال.

السادس: مما يتعلق بهذه المسألة ما هو عكس المعنى فيها، وهو أن المكلَّف إذا أتى بالأمور به على الوجه المطلوب منه، هل يقتضي إجزاءه عنه؟ أو لا يقتضيه؟ وربما تُذكر [هذه] (¬1) المسألة عقب المسألة السابقة كما ذكرها في "جمع الجوامع" وأن الأصح أن الإتيان بالمأمور به يستلزم الإجزاء وإلا لكان الأمر بعد الامتثال مقتضيًا إما لِما فُعِل وهو تحصيل الحاصل، وإما لغيره فالمجموع مأمور به فلَم يُفعل إلا بعضه، والفَرْض خِلافه. والمخالف في المسألة أبو هاشم وعبد الجبار، قالا: لا يوجب الإجزاء كما لا يوجب النهي الفساد. قال في "المنتهى": (إنْ أرادا أنه لا يمتنع أن يَرِد أمر بعده بمثله فمُسَلَّم، ويرجع النزاع إلى تسميته "قضاء"، وإنْ أرادا أنه لا يدل على سقوطه فساقط) (¬2). قيل: مرادهما الأول كما صرح به عبد الجبار في "العمد" حيث قال: لا يمتنع أن يقول الحكيم: افْعَل كذا، فإذا فعلتَ، أديتَ الواجب ويلزمك مع ذلك القضاء. لكن الخلاف المذكور في هذه المسألة مبني على تفسير الإجزاء بسقوط القضاء، أما إذا فسرناه بسقوط التعبد، فالامتثال مُحَصِّل للإجزاء بلا خلاف. فلأجْل ذلك حذفتُ هذه المسألة من النَّظم هنا، لأنها تفريع على ضعيف، وأيضًا فقد صرحتُ في المقدمة بالمسألة وأنَّ صحة العبادة ينشأ عنها الإجزاء، وسبق شرح ذلك هناك، [فراجِعْهُ] (¬3). والله أعلم. ¬

_ (¬1) في (ق، ض): في هذه. (¬2) منتهى الوصول (ص 97)، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى -1985 م. (¬3) في (ق): فراجعه هناك.

ص: 544 - وَالْأَمْرُ بِالْأَمْرِ بِشَيْءٍ لَيْسَا ... أَمْرًا بِهِ، فَلَا يُرَى مَقِيسَا الشرح: هذه المسألة (وهي: الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر للمأمور الثاني بذلك الشيء؟ أو لا؟ ) مفرَّعة أيضًا على قاعدة أن " [الأمر لطلب] (¬1) الماهية"، فإن الاَآر با لأمر إنما طلب إيجاد الأمر من [مأموره] (¬2)، لا الفعل مِن مأمور مأموره. ومَن يجعله أمرًا له إنما هو عنده بطريق الاستلزام؛ لأن الآمر بالأمر بالشيء لولا أنه [طالب] (¬3) لإيجاد المأمور الثاني له لَمَا أَمَر بالأمر له. وبالجملة فالجمهور على أنه ليس أمرًا به، ونقل العالمي الحنفي عن بعضهم أنه أمر، ونصره العبدري وابن الحاج في شرحيهما على "المستصفى"، وقالا: (هو أمر حقيقةً لغةً أو شرعًا؛ بدليل قول الأعرابي: "آلله أمرك بكذا؟ " فقال: "نعم". فَفَهم الأعرابي مِن أمر الله لنبيه أنْ يأمرهم بذلك أنهم مأمورون به). انتهى وجواب ذلك أن معناه: آلله أمرك أن تُبلغنا أمره بذلك؟ إذ أوامر الرسول كلها تبليغ لأمر الله. ونحوه استدلال الخصم أيضًا بنحو قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]، فإنه لا يُفهم منه إلا أمر الله تعالى لأهل نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة. ¬

_ (¬1) في (ق، ض): الأول طلب. (¬2) كذا في (ق). لكن في (ص، ش، ض): مأمور. (¬3) في (ق): طلب.

وجوابه كما أشار إليه ابن الحاجب في "مختصريه": بأن معنى أمره بأمرهم تبليغه أمر الله؛ [لقوله] (¬1) تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} [المائدة: 67]، فليس ذلك من مسألتنا في شيء؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - تبليغه يكون بأمره، فله علينا الأمر؛ ولهذا من صفاته - صلى الله عليه وسلم - وأسمائه "الآمر الناهي"؛ لقوله تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157]، وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث المطلب بن حنطب: "ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا تركت شيئا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه" (¬2). ويسمى أيضًا "المحلِّل المحرِّم؛ لقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف: 157]. وأما غَيره فلا إمرة له على مَن يأمره، فلا يكون أمره تبليغًا لأمر مَن أمره أن يأمر. أما مثال المسألة فأن يقول له: (مُر زيدًا يفعل كذا). وقد مُثِّل فيما مثلوا به بما في "الصحيحين" وغيرهما من قوله - صلى الله عليه وسلم - لعُمر وقد طلَّق ابنُه عبد الله امرأته وهي حائض: "مُره ليراجعها" (¬3)، وفي رواية: "فليراجعها حتى تطهر" (¬4) الحديث. وفي التمثيل به نظر؛ فإنه صرح فيه بالأمر من الشارع بالمراجعة وهو قوله: (ليراجعها) بلام الأمر، وإنما يكون مثالًا لو قال: (مُره بأن يراجعها)، فتَعيَّن أنْ يكون عمر مُبلغًا ليس ¬

_ (¬1) في (ص): كقوله. (¬2) السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 13221)، شعب الإيمان (2/ 67، رقم: 1185). قال الألباني: (هذا إسناد مرسل حسن). السلسلة الصحيحة (1803). (¬3) صحيح البخاري (رقم: 4953)، صحيح مسلم (1471) بلفظ: (مُرْهُ فَلْيراجِعْهَا) , (صحيح البخاري، رقم: 6741) بلفظ: (لِيراجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حتى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ). (¬4) صحيح البخاري (رقم: 4953)، صحيح مسلم (رقم: 1471).

إلا، فيكون كما لو قال له: "قل له: افعل كذا"، فإن الأول آمِر، والثاني مُبلغ بلا خلاف كما قاله ابن الحاجب في "المنتهى". قلتُ: ولهذا في بعض طُرق الحديث: "فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يراجعها" (¬1). والعجبُ ممن يستدل بذلك على أنَّ الأمرَ بالأمرِ أمرٌ، قال: بدليل ما جاء أنه أَمَره، فلولا أن الأمرَ با لأمرِ أمرٌ لَمَا قال: "أَمَره". وجوابه أنه أمره بصيغة "ليفعل" بلام الأمر. وكلام سليم في "التقريب" يدل على اختيار المذهب الضعيف، فإنه قال: (إذا أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر أُمته بشيء فإن ذلك الشئ يجب فِعله عليهم من حيث المعنى، وهكذا إذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الواحد من أُمته أن يأمر غيره بشيء، كان دالًّا على وجوب الفعل عليه، ويصير ذلك بمنزلة ورود الأمر ابتداءً عليه). انتهى وأخذ بعضهم من قوله: (من حيث المعنى) أنه لا يُسمى "أمرًا" وإن قُلنا بأنه وجب عليه، وفيه نظر ظاهر. ومن العجيب أيضًا تفريع وجوب المراجعة أو استحبابها على هذا الخلاف وأنَّ مَن قال بالوجوب فمِن حيث كون الأمر بالأمر أمًرا، ومَن قال بالاستحباب فلكونه ليس أمرًا. فإن مَن يراه أمرًا قد يرى بعدم الوجوب؛ لانصرافه بقرينة كما لو كان أمرًا ابتدائيًّا، لاسيما ونحن بيَّنا أن فيه الأمر صريحًا. وإنما مدْرَك الشافعي وأحمد والأوزاعي وأبي حنيفة وغيرهم في القول بالاستحباب -خِلافًا لقول مالك وأصحابه بالوجوب- انصرافه بقرينة قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 5022).

بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]، فإنما يجامعه التخيير إذا حُمل على الندب" جمعًا بين الدليلين، وغير ذلك من الصوارف. فإن قلتَ: فقد اتفق الأصحاب على الاستحباب، وهو دليل على أنَّ الأمرَ بالأمرِ أمرٌ على ما قررت مِن كون الأمر للأعم. قلتُ: لِمَا ثبت من وجود الأمر الصريح في الحديث. وأيضًا فهو في قوة الأمر بالتبليغ لِما فُهم من تشوُّف الشرع لذلك الفعل، ولهذا في بعض الطرق أنه - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا ذكر له عمر ذلك، تغيَّظ فيه، ثم قال له: "مُره فليراجعها" (¬1)، فكما أنه [بلَّغه] (¬2) الواقعة أَمرَه أن يُبلِّغ الحكم. ومما مُثل به المسألة أيضًا قوله عليه الصلاة والسلام في الصبيان: "مروهم بالصلاة وهُم أبناء سبع" (¬3). رواه أبو داود وغيره. والتمثيل يقتضي أن يكون الصبي مأمورًا بأمر الشارع، والإجماع على أنه ليس مخاطَبًا بخطاب التكليف وإنْ جَرَى خلاف بين أصحابنا الفقهاء في أن الصبي مأمور بأمر الولي؟ أم بأمر الشارع؟ لكن الأرجح الأول، نظرًا إلى [المرجَّح] (¬4) في مسألتنا، وهو أن الأمر بالأمر ليس أمرًا، بل جُعِل هذا دليلًا عليه؛ لأنه لا يُتصور أن يُخاطَب. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) كذا في (ق، ض)، لكن في (ص، ش): بلغ. (¬3) مسند أحمد (6689)، سنن أبي داود (رقم: 495) وغيرهما. قال الألباني: حسن صحيح. (صحيح أبي داود: 495). (¬4) في (ق، ض): الراجح.

والعجب من بعض الفقهاء أنه يجعل هذا محل الخلاف، قال: لأنه أمر [اصطلاحي] (¬1)، بخلاف: "مُره فليراجعها". ومن المتأخرين من جعل الضابط في الحالين أنه إن قامت قرينة على إرادة التبليغ فهو أمر، وإلا فلا. وهو حَسَن. قلتُ: من أمثلته السالمة مما سبق حديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لامرأة من الأنصار: "مُري غلامك النجار يعمل لي أعوادًا أجلس عليها" (¬2). يعني: المنبر. أخرجه البخاري وغيره. تنبيه: مما يلتحق بهذه المسألة ويشبهها في اعتبار استلزام الطلب فيكون أمرًا -مواضع: أحدها: نحو قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]، فإن الأمر بالأخذ يتوقف على إعطاءهم تلك، فهل يكون أمرًا لهم بالإعطاء؟ أو لا؟ فيه خلاف حكاه ابن القشيري، فقال بعض الفقهاء: يجب عليهم الإعطاء؛ من حيث إنَّ الأمر بالأخذ يتوقف عليه، فيجب من حيث كونه مُقدمة للواجب، كالطهارة للصلاة وإنِ اختلف الفاعل هنا، فيكون كالأمر لهم ابتداءً. وقال القاضي: يجب لا بهذا الطريق، بل بالإجماع؛ لأنه إذا وجب عليه الأخذ، فيأمر بالإعطاء، وامتثال أمره واجب. الثانى: الأمر بإتمام [الشيء] (¬3) يتضمن الأمر بالشروع؛ ولهذا احتج أصحابنا على ¬

_ (¬1) كذا في (ق)، لكن في (ص، ش): استصلاح. وفي (ض): اصطلاح. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 437)، وفي صحيح مسلم (رقم: 544) بلفظ: (انْظُرِي غُلَامَكِ النَّجَّارَ). (¬3) في (ض، ق، ش): شيء.

وجوب العمرة من القرآن بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]. قلتُ: إن كان الأمر بالإتمام بعد الشروع فلا يكون أمرًا بالشروع؛ لأنه تحصيل الحاصل. وإن كان قبل الشروع فهو أمر بالأصل عُبر عنه بالإتمام، كما في: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، لا من حيث إنَّ الأمر بالإتمام تضمنه. ولهذا قال بعض أصحابنا: إن في الآية دليلًا على أنَّ وجوب الحج كان في السنة السادسة في الحديبية؛ لأن الأمر ورد ونزلت آيته حينئذٍ ولم يكونوا في حج حتى يؤمروا بالإتمام؛ فَتَعيَّن أن يكون أمرًا بأصل الحج عُّبر فيه بالإتمام. وأما العمرة فإن كانت الآية نزلت وقد أحرموا بها فلا دليل على وجوب العمرة؛ لأن الشروع تحصيل الحاصل، والإتمام واجب وإنْ كان الابتداء تطوعًا؛ [لآن] (¬1) هذا حكم الحج والعمرة باتفاق. وإنْ لم يكونوا عند نزول الآية مُحْرمين بالعمرة فالأمر لأصل العمرة كما قلناه في الحج ولكن عُّبر بالإتمام فيهما. الثالث: الأمر بصفة [شيء] (¬2) هل يقتضي الأمر بالموصوف؟ قال الشيخ أبو إسحاق: (نعم، كالأمر بالطمأنينة في الركوع والسجود يكون أمرًا بهما). قال: وغلطت الحنفية حيث استدلوا على وجوب التلبية في الإحرام بما رُوي أن جبريل نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مُر أصحابك ليرفعوا أصواتهم بالتلبية" (¬3). فجعلوا الندب إلى الصفة -وهي رفع الصوت بها- دليلًا على وجوبها. ¬

_ (¬1) من (ص، ش). (¬2) في (ص): الشيء. (¬3) سنن ابن ماجه (رقم: 2923)، سنن النسائي (2753). قال الألباني: صحيح. (صحيح النسائي: 2752).

أي: فكيف يكون الأمر بالصفة للندب وهو يتضمن الأمر بالموصوف إيجابا؟ قيل: قد نقل غيره عن الحنفية عكس ذلك، فنقل بعض الحنابلة ذلك عن أحمد وأصحابه؛ لأن الأمر بها لَمَّا كان أمرًا بالموصوف، كان ظاهره الوجوب فيهما، فلما دل الدليل على صرف الأمر بالصفة عن الوجوب إلى الندب، بقي الأمر بالموصوف على وجوبه. قال: (وقد تمسك به أحمد على وجوب الاستنشاق بالأمر بالمبالغة، قال: وقالت الحنفية فيما حكاه الجرجاني: لا يبقى فيه دليل على وجوب الأصل). انتهى وقد استُفيد منه جواز دعوى الغلط في المقالة مِن أي قائل كان لما ظهر من مدرك هذه المقالة. نعم، حرر ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" المسألة، فقال: الأمر بالصفة إنْ كان المراد به الإيجاد فهو أمر بالموصوف، أو أنه إنْ وقع الموصوف فليكن بهذه الصفة، فلا يقتضي وجوب الموصوف. قال: وقد يحتمل الحال الأمرين، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أفشوا السلام بينكم" (¬1) يحتمل أن [يُراد] (¬2): إنْ سلمتم فأفشوا، ويحتمل: أوجدوا الإفشاء بإيجاد السلام. قلتُ: وعكس ذلك أن يَرِد الأمر بصفة مع موصوف ويكون الوجوب في أمر الصفة، لا في الموصوف كما قرر ذلك أصحابنا في حديث: "مَن أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجَل معلوم" (¬3) أن المراد: إيجاب كون الأجل معلومًا، لا إيجاب الأجل، وإلا لكان السلم لا يجوز إلا في مكيل وموزون، لا في مذروع ومعدود. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (رقم: 54). (¬2) كذا في (ص)، لكن في (ض، ق): المراد. (¬3) سبق تخريجه.

وقولي: (فَلَا يُرَى مَقِيسَا) أي: مساويًا للأمر الابتدائي، فإن "القياس" لغةً: المساواة والتقدير. والله أعلم. ص: 545 - وَآمِر بِمَا لَهُ تَنَاوَلَا ... فَالْأَكْثرونَ: لَيْسَ فِيهِ دَاخِلَا الشرح: هذا من مباحث الأمر باعتبار متعلقه وهو الآمر والمأمور أنه هل من قضية الأمر تَغايُرهما حتى لو كان الأمر بلفظ متناوِل للآمِر لا يكون داخلًا؛ لِفَقْد التغايُر؟ أو لا حتى [يكون] (¬1) مأمورًا بذلك؟ فيه مذهبان: أحدهما وهو قول الأكثرين: أنَّ الآمر لا يكون داخلًا في أمره. وهو ما رجحه ابن الصباغ من وجهين حكاهما. وسبقه إلى ترجيحه الشيخ أبو حامد وقال: القول بالدخول ظاهر الفساد. وبه أيضًا قطع الجرجاني في "كتاب الوصية"، قال: لأن الظاهر أن المأمور غيره. بل ظاهر كلام الرافعي جزمًا والنووي نقلًا عن أصحابنا أنَّ المتكلم لا يدخل في عموم كلامه ولو كان غير آمرٍ وناهٍ. ففي "الروضة" فيما إذا قال: "نساء المسلمين طوالق"، ففي طلاق زوجته وجهان. ثم صحح من "زوائده" أنه لا يقع، وعلَّله بأن الأصح عند أصحابنا في الأصول أنه لا يدخل (¬2). وجزم الرافعي بنحوه أيضًا في الكلام على الكنايات، فقال: (إذا قال: "نساء العوالم ¬

_ (¬1) في (ص): لا يكون. (¬2) روضة الطالبين (8/ 34).

طوالق وأنت يا زوجتي"، لا تطلق زوجته؛ لأنه عطف على نسوة لم يطلقن) (¬1). انتهى وهو صريح في أن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه. نعم، نقل الإمام في "المحصول" عن الأكثرين عكسه، فقال: المتكلم يدخل في عموم متعلق خطابه عند الأكثرين، سواء أكان خبرًا أو أمرًا أو نهيًا، كقوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29]، وقول القائل: مَن أحسن إليك فأكرمه، أو: لا تُهِنه (¬2). وجرى أيضًا ابن الحاجب على الدخول مطلقًا، فقال في مسائل العموم: (المخاطِب داخل في عموم متعلق خطابه عند الأكثر) (¬3) إلى آخِر ما سبق من كلام الإمام. والحقُّ أن الأكثرين في الأمر والنهي على عدم الدخول كما ذكرناه هنا وفي النهي، وأما في الخبر فالاكثرون على الدخول كما سيأتي في باب العموم. وفي كلام الصفي الهندي ما يُشعر بهذا التفصيل تبعًا لأبي الحسين، خلافًا لمن نقل عن الهندي أنه يقول بالدخول مطلقًا، وسيأتي ذِكر كلامه بعد ذلك. ووقع في "جمع الجوامع" اختلاف في الموضعين، فقال هنا: إن الآمِر يدخل في عموم متعلق أمره (¬4). وفي "باب العموم": إنه لا يدخل إلا إذا كان خبرًا، لا أمرًا (¬5). أي: ولا نهيًا. ولَمَّا استُشكل عليه ذلك أجاب في "منع الموانع" بما لا يخلص عن الإشكال. ¬

_ (¬1) العزيز شرح الوجيز (8/ 534). (¬2) انظر: المحصول (2/ 132). (¬3) مختصر المنتهى (2/ 228) مع بيان المختصر. (¬4) جمع الجوامع (1/ 488) مع شرح المحلي وحاشية العطار. (¬5) جمع الجوامع (2/ 29) مع شرح المحلي وحاشية العطار.

قال شارحه شيخنا بدر الدين الزركشي: (إنه لو جمع بين كلاميه بأن المذكور في "باب الأمر" حيث كان الخطاب متناولًا له نحو: "إن الله يأمرنا بكذا"، ونحو قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11]، والمذكور في "باب العموم" حيث لم يكن بلفظ يتناوله نحو: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] فلا يدخل فيه موسى عليه السلام؛ بدليل قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]، وموسى عليه السلام لا يظن به ذلك) (¬1). قال: (ورأيت هذا التفصيل لأبي الخطاب في "التمهيد"، وبه يزول الإشكال). انتهى قلتُ: وفي ذلك نظر؛ لأن الصيغة إذا لم يمكن أن تكون شاملة للمتكلم فليس محل الخلاف، وإن كانت شاملة له فالحكم كما سبق من التفصيل بين الخبر وبين الأمر والنهي. ويظهر ذلك مما سنذكره في محل الخلاف كما ذكره الهندي نقلًا عن أبي الحسين، وقال: إنه جيد. فلا حاجة لنقله عن "التمهيد". قولي: (بِمَا لَهُ تَنَاوَلَا) إشارة إلى تحرير محل الخلاف، وهو أن يأمر غيره بلفظ عام متناوِل للآمِر. فخرج بذلك ما لو أمر نفسه وحدها، فإنه لا يقال في مثل ذلك: إنه بلفظ يتناوله. وذلك كأن يقول لنفسه: افْعَل كذا. أو يُجرد مِن نفسه مخاطبًا ويأمره بشيء وهو في الحقيقة آمِرٌ لنفسه. أو يأتي بلام الطلب مع فعل المتكلم، نحو: "قوموا فلأُصَلِّ لكم" (¬2)، ونحو ذلك، فلا خلاف في جوازه وأن المتكلم هو المراد به. ¬

_ (¬1) تشنيف المسامع (2/ 615). (¬2) سبق تخريجه.

ولكن هل يسمى ذلك [حسنًا] (¬1)؟ قال الهندي تبعًا لأبي الحسين: (الحقُّ المنع؛ لأن فائدة الأمر الإعلام بالطلب، ولا فائدة في إعلام الشخص نفسه) (¬2). قال: (وهل يسمى أمرًا؟ إنْ شرطنا الاستعلاء -أيْ: أو العلو- امتنع، وإنْ لم نشرطه فيحتمل المنع أيضًا؛ لأن المغايرة بين الآمِر والمأمور معتبرة) (¬3). وخرج مما لو أمر غيره بلفظ خاص بذلك الغير، فهذا غير متناوِل للمتكلم؛ فلا يدخل فيه قطعًا، وسواء في هذا أمر مِن قِبَل نفسه أو إخبار عن أمر غيره، نحو ما سبق في: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}. وخرج ما لو بلغ أمر غيره لكن بلفظ عام يتناوله، كما لو قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله أمر بكذا" أو: "أمركم بكذا"، فإن شرعه عام له ولغيره إلا أن يدل دليل على خصوصه أو خصوص غيره، فإن هذا في حيز الخبر، فيكون داخلًا فيه على الخلاف الآتي في "باب العموم"؛ ولهذا قال ابن العارض المعتزلي بعد حكاية قولين فيه: إن الصحيح دخوله. وفي كلام الهندي نقلًا عن أبي الحسين وقال: (إنه جيد): (مما يفصل في هذا القسم أن الإنسان إذا خاطب غيره بالأمر، فإنْ نقل كلام الآمِر في ذلك الغير كقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ}، دخل؛ لأنه خطاب مع المكلفين، وهذا على سبيل التمثيل وإلا فالأنبياء لا تورث، وإن نقل [أمر غيره] (¬4) بكلام نفسه وهو يتناوله، دخل أيضًا؛ [لما ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ض، ش)، لكن في (ق): حسا. (¬2) نهاية الوصول (3/ 1002). (¬3) نهاية الوصول (3/ 1002). (¬4) كذا في (ص)، لكن في (ض، ش، ق): ذلك.

يشمله] (¬1)، مثل: إن الله يأمرنا بكذا. وإنْ لم يتناوله، لم يدخل، مثل: إن الله يأمركم) (¬2). انتهى وهو عائد إلى التفصيل بين الأمر فلا يدخل والخبر فيدخل، فليس للهندي مخالفة. نعم، زعم بعضهم أن الظاهر أن هذا محل وفاق، وكأنه يقول: إن الذي يُلحظ فيه محض التبليغ ينبغي أن يكون شاملًا قطعًا. لكن الظاهر أنه لا فرق كما سيأتي بسطه في "باب العموم". قولي: (وَآمِرٌ) مبتدأ سوغ الابتداء به -مع كونه نكرة- اختصاصه بمتعلقه، والخبر جملة قولي: (فَالْأكْثَرُونَ: لَيْسَ فِيهِ دَاخِلَا) أي: قائلون ذلك. أو: قال الأكثرون ذلك. و [الفاء لقصد] (¬3) العموم في المبتدأ. تنبيه: ذكر في "جمع الجوامع" مسألة النيابة هل تدخل في المأمور به؟ أي: حتى يفعله غير المأمور نيابة عن المأمور؛ لأن الغرض حصوله في الجملة، أوْ لا؛ لأن الغرض الابتلاء والاختبار، فيفعله بنفسه؟ فعُلقتها بالأصول -وإنْ كانت من الفروع الفقهية كما هي مبسوطة في كتب الفقه في "باب الوكالة" وغيرها - أن المخاطَب بالأمر هل هو مكلف بمباشرته بنفسه؛ أوْ لا؟ وتبع في ذلك كثيرًا من الأصوليين كالآمدي وغيره، لكن ذِكرها في الفقه أليق؛ فلذلك لم أذكرها ¬

_ (¬1) ليس في (ص). وفي (ش): بما يشمله. (¬2) انظر: نهاية الوصول (3/ 1002 - 1003)، المعتمد (1/ 137). (¬3) في (ق، ض): الباء ليفيد.

في النَّظم. وعبارة الأمدي: (يجوز عندنا دخول النيابة فيما كُلِّف به من الأفعال البدنية، خلافًا للمعتزلة؛ تعلُّقًا بأن المطلوب من المأمور قهر النفس وكسرها، والنيابة تأبَى ذلك) (¬1). وأجيب بأن فيها أيضا بذل المئونة أو حمل المنة. نعم، شَرْطُ المسألة أن لا يكون ثَمَّ مانع؛ لتخرج النيابة في الصلاة ونحوها. والمسألة مبسوطة في الفروع، والله أعلم. ص: 546 - وَالْأَمْرُ في النَّفْسِ بِشَيْءٍ عُيِّنَا ... نَهْيٌ عَنِ الضِّدِّ الْوُجُودِي بُيِّنَا 547 - وُجُوبًا اوْ نَدْبًا يُرَى، لَا اللَّفْظِي ... فَلَيْسَ عَيْنَ أَوْ ضَمِينَ اللَّفْظِ الشرح: هذه المسألة أيضًا من مباحث مدلول الأمر، وهي أن دلالة الأمر على طلب الفعل المأمور به قطعية، لكن هل على طلب ترك الكف عنه؟ أو فِعل يحصل به الكَف عنه؟ وهو المراد بقولهم: هل هو نهي عن ضده؟ أو لا؟ واعْلَم أنه قد سبق في الكلام في حد "الأمر" أنه إما أن يراد بالأمر نفس الطلب أو الصيغة الدالة على الطلب، فالكلام في هذه المسألة بكل من الاعتبارين. فالأول: وهو الأمر النفساني الذي هو الاقتضاء والطلب، اختلف المثبتون للكلام ¬

_ (¬1) انظر: الإحكام في أصول الأحكام (1/ 196).

[النفسي] (¬1) في كونه نهيًا عن ضد المأمور به أوْ لا - على مذاهب: أحدها: أن الأمرَ بالشيء المعيَّنِ عَيْنُ النهي عن ضده الوجودي. وهو قول الأشعري والقاضي، ونقله في "التقريب" عن جميع أهل الحق النافين لخلْق القرآن، وأطنب في نُصرته، ونقله الغزالي في "المنخول" عن الأستاذ والكعبي، ونقله ابن برهان في "الأوسط" عن العلماء قاطبة، وقال صاحب "اللباب" من الحنفية: إنه قول أبي بكر الجصاص، وهو أشبه. وقال القاضي عبد الوهاب في "الملخص": إنه قول المتكلمين، الأشعري وغيره. قال الشيخ أبو حامد: بَنَى الأشعري ذلك على أن الأمر لا صيغة له، وإنما هو معنى قائم بالنفس، فالأمر عندهم هو نفس النهي من هذا الوجه. أي: فاتصافه بكونه أمرًا ونهئا كاتصاف الكون الواحد بكونه قريبًا من شيء بعيدًا من شيء. قال الماوردي: الأمر له متعلقان متلازمان: اقتضاء إيقاع الفعل، واقتضاء اجتناب تركه، والترك هو فِعل آخَر هو ضد المتروك. الثاني: أنه ليس عَيْن النهي ولكن يتضمنه ويستلزمه من طريق المعنى. وبه جزم القاضي أبو الطيب، ونصره الشيخ أبو إسحاق في "التبصرة" وابن الصباغ في "العدة"، ونقله الشيخ أبو حامد وسليم عن أكثر أصحابنا وأكثر الفقهاء. وقال ابن السمعاني: (هو مذهب عامة الفقهاء) (¬2). ونقله القاضي عبد الوهاب عن أكثر أصحاب الشافعي، قال: وهو الذي يقتضيه مذهب أصحابنا وإن لم يصرحوا به. وقال إمام الحرمين وابن القشيري والمازري: إن القاضي أبا بكر مال إليه في آخِر ¬

_ (¬1) في (ص): النفساني. (¬2) قواطع الأدلة (1/ 123).

مصنفاته. واختاره الإمام فخر الدين والآمدي وأتباعهما، وإنْ جعلوا الخلاف في الأمر الذي هو الصيغة لكن قصدهم مدلولها، فيؤول إلى ما ذكرناه. الثالث: أنه ليس عَيْن النهي عن ضده ولا يقتضيه. ونُقل عن اختيار الإمام والغزالي وإلْكِيَا الطبري. وحكاه خَلقٌ من الأئمة عن المعتزلة، وليس بجيد؛ فإن المعتزلة لا يُثبتون الكلام النفسي بل اللفظ، والكلام الآن ليس فيه. وقال إمام الحرمين وإلْكِيَا: إنه الذي استقر عليه رأي القاضي آخِرًا. وهذا غير ما سبق نقله عنه، فله أقوال مضطربة، وحكى الآمدي وابن الحاجب عنه النفي مطلقًا، وقول أنه يتضمنه، وأنه آخِر قوليه. أما الأمر بالاعتبار الثاني -وهو صيغة الأمر- فلا يجري فيها المذهب الأول وهو كَوْنه عَيْن النهي عن الضد قطعًا إلا أن يُراد اتحاد مدلوليهما، فيعود إلى الأمر النفساني. وإليه أشار الصفي الهندي إذ قال: (لا يمكن أن تكون صيغة: "تحرك" مَثَلًا هي عين صيغة: "لا تسكن"؛ فإن ذلك معلوم الفساد، بل مَن قال: "إن الأمر بالشيء نهي عن ضده" عَنَى أن المعنى المعَبَّر عنه بِـ "تحرك" عَيْن المعنى المعبَّر عنه بِـ "لا تسكن") (¬1). ويجري فيه المذهبان [الآخَران] (¬2)، لكن عند مَن يرى بأن الأمر له صيغة، لا سيما مَن يقول بأنه: لا أمر إلا الصيغ. فقالت المعتزلة -ومنهم عبد الجبار وأبو الحسين- بالقول الثاني، وهو أن الأمر يتضمن النهى عن الضد. ¬

_ (¬1) نهاية الوصول (3/ 988). (¬2) في (ق): الأخيران.

قال الأَبياري: إنهم إنما ذهبوا إليه لإنكارهم كلام النفس، والكلام عندهم ليس إلا العبارات، ولم يمكنهم أن يقولوا: الأمر بالشيء عَيْن النهي عن ضده؛ لاختلاف الألفاظ قطعًا، فقالوا: يقتضيه، لأن مُريد الشيء كارِهٌ لضده، فكأنه نهَى عنه. وقال بالقول الثالث فيه (وهو أنه لا يدل عليه أصلًا) قدماء مشايخ المعتزلة وكثير من أصحابنا، وهو المختار، وجزم به النووي في "الروضة" في "كتاب الطلاق"؛ لأن القائل: "اسْكُن" قد يكون غافلًا عن ضد السكون وهو الحركة، فليس عَيْنه ولا يتضمنه. وهو معنى قولي في النَّظم: (فَلَيْسَ عَيْنَ أَوْ ضَمِينَ اللَّفْظِ)، أي: لفظ النهي ليس عَيْن لفظ الأمر ولا يتضمنه، فحذف المضاف إليه من الأول، لدلالة الثاني عليه. واللام في "اللفظ" للعهد، أي: لفظ الأمر بالشيء المتكلم عليه. واختار الآمدي (¬1) أن يقال: إن جوَّزنا تكليف ما لا يطاق فالأمر بالفعل ليس نهيًا عن ضده ولا يستلزمه، بل يجوز أن يأمر بالفعل وبضده في الحالة الواحدة. وإنْ مُنِع فالأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضده. قال الهندي: (لأن ما لا يتم الواجب إلا به واجب) (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: الإحكام في أصول الأحكام (2/ 192). (¬2) نهاية الوصول في دراية الأصول (3/ 993).

تنبيهات الأول: محل الخلاف في الأمر بمُعين الذات والوقت كما قاله الشيخ أبو حامد وابن القشيري، وكذا قيد به القاضي عبد الوهاب مذهب الشيخ الأشعري، فإن الأمر على التخيير قد يتعلق بالشيء وضده، فيكون المأمور به أحدها لا بعينه، وهو مراد القاضي بتقييده بأن لا يكون له بدل. وربما جمع بينهما تأكيدًا كما عبر به عبد القاهر البغدادي فقال: إنه إنما يكون نهيًا عن الضد إذا كان بلا بدل وتخيير. وأراد بالبدل في المخيَّر لا الرتب؛ لأن الرتب المطلوب فيه مُعَين. وخرج بقولي: "مُعيَّن" [الوقت] (¬1) الموسَّع، فإنه يُترك في وقتٍ لِيفعل في آخَر، فلا يكون الأمر به نهيًا عن ضده، إلا أن يقال: ضده الترك من أول الوقت إلى آخِره، فلا حاجة لاستثنائه. وهذا معنى قولي في النظم: (بِشَيْءٍ عُيِّنَا)، فإنه يشمل المعيَّن في نفسه وفي وقته. وقولي بعده: (لَا اللَّفْظِي) أي: لا الأمر اللفظي بِقَيْده وهو التعيين، فهو قيد فيهما. وفي "القواطع" لابن السمعاني اشتراط كونه على الفور، فإنَّ ما كان على التراخي لا يُنهَى عن ضده؛ لجواز التأخير، وكذا ذكره بعض الحنفية كشمس الأئمة وغيره. وفيه نظر؛ لأن ضده تركه بالكلية كما سبق نظيره في الموسَّع، فحَقِّق ذلك. الثاني: محل الخلاف أيضًا في الضد الوجودي كما قيدت به في النظم، وذلك أنه هو الذي من لوازم نقيض الشيء المأمور، كالأمر بالحركة هل هو نهي عن نفس السكون الذي ¬

_ (¬1) في (ق): الموقت.

هو ضِد لها؟ أَم لا؟ فإن لم يكن له إلا ضد واحد فالخلاف في النهي عنه، كصوم يوم العيد، الأمرُ بالفطر فيه نهى عن ضده وهو الصوم، ومِثله الأمر بالإيمان نهيٌ عن الكفر. وإن كان له أضداد كالأمر بالقيام فإن له أضدادًا من قيام وقعود وركوع وسجود ونحوها، ففي النهي عنه -إذا قُلنا: نهي عن ضده أو يستلزمه- هل المراد جميع أضداده؟ أو واحد منها لا بِعَيْنه؟ فيه خلاف حكاه عبد العزيز من الحنفية. قلتُ: والظاهر الثاني. أما النقيض فقيل: نهي عنه بلا خلاف، فالأمر بالحركة نهى عن انتفائها، وبالعكس. قلتُ: إنْ أُرِيدَ العدم المحض فليس داخلًا تحت القدرة، سواء فيه المقابلة في نقيضين أو في عدم وملكة، لأنه إنْ نُظِر إليهما بشرط وجود موضوع قابل للأمرين، فَهُمَا العدم والملكة كالبصر والعمى. وإنْ نُظر إليهما لا بشرط موضوع مستعد لذلك، فَهُمَا السلب والإيجاب، كالإنسانية وعدم الإنسانية. وإنْ أريد فِعل وجودي يُضاد المأمور به فهو ما سبق فيما إذا لم يكن له إلا ضد واحد، وهو داخل في محل الخلاف. فينبغي أن يُقال: إن التحرز بالوجودي عن الفعل الذي هو كَف لا العدم، فقد قال الآمدي وغيره: الأمر بالشيء نهي عن تركه بطريق التضمن قطعًا. الثالث: قولي: (وُجُوبًا اوْ نَدْبًا) إشارة إلى أن مورد الخلاف مطلقُ الأمر، سواء أكان أمر

إيجاب أَم أمر ندب. وبه صرح القاضي في "مختصر التقريب"، و [جعل] (¬1) النهي عن الضد في الوجوب تحريمًا وفي الندب تنزيهًا. قال: وبعض أهل الحق خصَّص ذلك بأمر الإيجاب، لا الندب. وهو ما حكاه القاضي عبد الوهاب في "الملخص" عن الشيخ، وأنه قال في بعض كتبه: إنَّ الندب حسنٌ وليس مأمورًا به، وعلى هذا القول لا حاجة لاشتراط الوجوب في الأمر؛ لأنه لا يكون إلا للوجوب. ثم قال عبد الوهاب: والصحيح عندي لا فرق بين الوجوب والندب. افيج: استُشكِل تصوير المسألة بأن الكلام إن كان في النفساني فإنه إلى الله تعالى، فالله تعالى بكل شيء عليم، وكلامه واحد بالذات، وهو أمر ونهي وخبر واستخبار باعتبار المتعلق. وحينئذٍ فأمر الله تعالى بالشيء عَيْن نهيه عن ضده، بل وعَيْن النهي عن شيء آخَر لا تعلق له به -كالأمر بالصلاة والصوم- هو عَيْن النهي عن الزنا والسرقة، فكيف يأتي فيه ذلك؟ ! وإن كان الخلاف بالنسبة إلى المخلوق فكيف يكون هو عَيْن النهي عن ضده أو يتضمنه مع احتمال ذهوله عن الضد مطلقًا؟ كما هو حُجة من قال: لا عَيْنه ولا يتضمنه كما سبق. وجوابه: أن الكلام في "التعلق"، فهل متعلق الأمر بالشيء هو عين متعلق النهي عن ضده؟ أو مستلزم له؟ كالعلم المتعلق بمتلازمين: يمين وشمال، وفوق وتحت، وشبه ذلك. وأما في اللفظي فهل يدل عليهما معًا؟ أو على واحد فقط؟ على أن القرافي والصفي الهندي والتبريزي في "التنقيح" جزموا بأن الخلاف في المسألة في اللساني فقط، وأنه لا يتأتى في كلام الله تعالى أنه غيره. ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في سائر النسخ: حمل.

قال الهندي: لا على رأْي مَن يرى تَعَدُّد كلام الله تعالى. يريد تنويعه باعتبار المتعلق كما قدمناه. فإن كان مراد مَن خصص بغير كلام الله تعالى لِمَا فيه مِن الاتحاد في ذاته، فليس بينهم وبين الناس خلاف. فإن قيل: على كل حال إنما يُتكلم في أصول الفقه في الأمر اللفظي، فَلِمَ تفرض المسألة في هذا العِلم في النفساني؟ وما فائدتها في هذا الفن؟ قلتُ: لأن اللفظي فرع النفسي؛ لدلالته عليه، فإذا وُجد، أَشْعَر بما يتعلق بالنفسي مِن كَوْنه عَيْنه أو ضمينه، وتأتي حينئذٍ الفائدة بوجود اللفظي. الخامس: عكس هذه المسألة، وهو أن النهي عن الشيء هل هو أمر بضده؟ يأتي الكلام عليه في موضعه وهو مسائل النهي. وقد خرج على القاعدة -[مما] (¬1) يتعلق بالأمر باعتبار الصيغة- مسائل: منها: ما قاله العلامة شهاب الدين محمود الزنجاني في كتابه "تخريج الفروع على الأصول" بعد أن قرر أن مذهب الشافعي أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده وأن النهي ليس أمرًا بالضد، خلافًا للأصوليين من أصحاب أبي حنيفة: (إنَّ التخلي للعبادة أفضل من الاشتغال بالنكاح، خلافًا لهم، لأن النكاح يتضمن ترك الزنا، والزنا منهي عنه نهي تحريم، لكن لَمَّا كان هذا يؤدي إلى قولهم بوجوب النكاح التزموه فيما إذا تركه جميع عُمره، فإنه يعاقب في الآخِرة) (¬2). ولكنه مردود بما محله كتب الفقه. ومنها: ما قاله الزنجاني أيضًا: (إرسال الطلقات الثلاث مباح عندنا، خلافًا لهم. قالوا: لأن الأمر بالنكاح نهي عن قَطْعِه بالكلية، والثلاث هي قَطْعه وقَطعْ مصلحته بالكُلية، ¬

_ (¬1) في (ص، ش): فيما. (¬2) تخريج الفروع على الأصول (ص 252).

بخلاف الطلقة والطلقتين فإنه قَطْعٌ لكن لا بالكُلية). قال: (فلئن قُلنا: النكاح عند تنافر الأخلاق يصير مفسدة، فلَم يتضمن قَطْع مصلحة. قالوا: النكاح لا يصير مفسدة لا باعتبار ذاته ولا ما يختص به من الأحكام، وإلا [لامتنعت] (¬1) شرعيته) (¬2). انتهى قلتُ: هذا حيث لا معارض أرجح، وإلا فيُعمل بالمعارِض، وقد يكون في الطلقات الثلاث مصلحة ترجح على عِصمة تلك المرأة، لا مطلقًا. ومنها: ما قاله الرافعي في "الشرح الصغير" تفريعًا على الخلاف في القاعدة: (لو قال لها: "إنْ خالفت نهي فأنت طالق" ثم قال لها: "قومي" فقعدت) (¬3). وسيأتي في "باب النهي" في مسألة "النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده" الكلامُ على ذلك مبسوطا. والله أعلم. ص: 548 - ثُمَّ إذَا تَبَاعَدَ الْأَمْرَانِ ... أَوْ مَا تَمَاثَلَا، هُمَا غَيْرَانِ 549 - فَإنْ تَعَاقَبَا مَعَ التَّمَاثُلِ ... وَمَانِعُ التَّكْرَارِ غَيْرُ حَاصِلِ 550 - وَذَلِكَ الثَّاني بِعَطْفٍ، عُمِلَا ... بِالْكُلِّ، أَوْ بِدُويهِ فَاحْتَمَلَا الشرح: من مباحث الأمر أنه إذا تَعدد، هل يلزم فيه تَغايُر المطلوب وتعدده؟ أو لا؟ وقد جعلته خمسة أقسام: ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: لامتنع. والتصويب من (تخريج الفروع على الأصول، ص 253). (¬2) تخريج الفروع على الأصول (ص 253). (¬3) العزيز شرح الوجيز (9/ 141).

وذلك أن الأمرين إذا كانا من آمِر واحد: - فإما أن يكونا في وقتين غير متعاقبين، بل بينهما فصل طويل بسكوت ونحوه، سواء أكانا بمأمور واحد أو لا. - أو يكونا متعاقبين إلا أنهما بمأمورين متغايرين. - أو يكونا متعاقبين إلا أنهما متماثلان، ولكن منع مانع مِن تَكرُّر المطلوب بهما. - أو في التماثل كذلك ولكن لم يمنع من التكرار مانع، وهو إما بعطف أو بغير عطف. فالأول وإليه أشرت بقولي: (تبَاعَدَ الْأَمْرَانِ)، أي: فهُما متغايران، وتغايُرهما قيل: بلا شك. وفيه نظر؛ فإن الخلاف محكي فيه كما سيأتي نقلًا عن الصيرفي. والثاني: وهو مما إذا تعاقَبَا لكن بمتغايِر، فهُما غَيْران أيضًا، كـ {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]. والثالث: أن يتعاقبا ويتماثلا وهناك مانع من التكرار عادي أو غيره، فهو متحد قطعًا. وهذا القِسم خارج من مفهوم القِسم الذي يأتي بعده. وهو قولي: (وَمَانِعُ التَّكرَارِ غَيْرُ حَاصِل)، أي: أما إذا كان مانع التكرار حاصلًا، فالاتحاد قطعي؛ لأجل المانع. فمِن الموانع: أن يستحيل عقلًا تكرره، كـ "اقتل زيدًا، اقتل زيدًا". أو شرعًا، كـ "أَعْتق فلانًا، أعْتق فلانًا" حيث لا يمكن عتقه مرتين، بخلاف ذِمي التحق بدار الحرب ثم استرق، فإنه يمكن تكرر العتق فيه مرارًا.

ومنها: أن يكون مستغرقًا، كـ "اجلد الزناة، اجلد الزناة" أو "اجلد الزناة، اجلد زيدًا الزاني". وأمَّا ما حكاه القاضي عبد الوهاب من قولي بالتغاير كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] أي: لأن التقدير "وحافظوا على الصلاة الوسطى" فإنه يجب أن تكون الوسطى غير الصلوات المذكورة، فذاك خلاف في أنه [دخل] (¬1)؟ أو لا؟ . وكلامنا فيما إذا كان داخِلًا قطعًا. نعم، حكَى خلافًا فيما إذا كان الثاني أعم كَـ "اقتل أهل الأوثان، واقتل جميع المشركين"، قال: والصحيح أنه لا يقتضي المغايرة، بل ذلك للتفخيم والبدأة بما هو الأهم. ومنها: أن تكون العادة في مِثله المَرَّة، نحو: "اسقني ماء، اسقني ماء"، فإنَّ دفْع الحاجة في ذلك غالبًا بِمَرَّة. ومنها: تعريف الثاني، فإنه يقتضي إرادة الأول، لا غيره، نحو: "صَلِّ ركعتين، صَلِّ الركعتين"؛ لظهور العهد فيه؛ ولهذا حمل ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} [الشرح: 5، 6] العُسر الثاني على الأول، حتى قال: لن يغلب عُسرٌ يُسْرَين. ومنها: أن يكون بين الآمِر والمأمور عهد ذهني، فإنه يقتضي الاتحاد. والرابع: وهو ما إذا تعاقبَا وتماثلا ولا مانع من التكرار، ولكن الثاني معطوف على الأول، نحو: "صَلِّ ركعتين، وصَلِّ ركعتين"، فهما غَيْر ان؛ لاقتضاء العطف المغايَرة، هذا مع [أن] (¬2) التأسيس هو الأصل، فرجحت المغايرة من وجهين، وهذا أرجح القولين في المسألة. ¬

_ (¬1) في (ت، ق): داخل. (¬2) ليس في (ض، ق، ت).

وهو معنى قولي: (عُمِلَا بِالْكُلِّ). وقد حكى القولين القاضي عبد الوهاب، وقال: إن التعدد هو الذي يجيء على أصول أصحابهم. بل قطع كثير هنا بالتعدد؛ لأن الشيء لا يعطف على نفسه. قاله الباجي وصاحب "الواضح"، وبه جزم ابن الصباغ في "العدة"، إلا أنه قال: إن ذلك حيث لم يكن في المعطوف ألِف ولام، فإنْ كان ففيه خلاف، فقيل بالاستئناف، لأن العطف يقتضي المغايرة، والألف واللام تقتضي الاتحاد (¬1)، فتساويَا، ووُقِف. قيل: والأرجح التعدد؛ لأن كون العطف يقتضي التغايُر وإنْ كان مُعارَضًا بلام التعريف لكن يبقى كون "التأسيس هو الأصل" مُرجِّحًا سالِمًا مِن المعارضة. نعم، اعتُرض بأن هذا أيضًا يعارضه براءة الذمة، فيبقى العطف، ويعارضه أحد الأمرين، فيبقى سالمًا من المعارضة، وهو يقتضي التأكيد. وعلى هذا فتدخل هذه الصورة في مفهوم قولي: (وَمَانِعُ التكرَارِ [ليس حَاصِلًا]) (¬2) فإن مانع التكرار فيها حاصل، فاعْلَمه. الخامس: ما إذا تماثلا وتعاقبا من غير عطف، نحو: "صَلِّ ركعتين، صَلِّ ركعتين". وقد ورد هذا في حديث عبد الله بن مغفل في "البخاري" بلفظ: "صَلِّ قبل المغرب، صَلِّ قبل المغرب"، ثم قال في الثالثة: "لمن شاء" (¬3). ورواه ابن حبان بلفظ: "صَلِّ ركعتين، صَلِّ ¬

_ (¬1) عبارة الزركشي في (البحر المحيط، 2/ 125): (فَقِيلَ: يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقِيلَ بِالْوَقْفِ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايِرَةَ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ تَقْتَضِي الِاتِّحَادَ). (¬2) كذا في جميع النُّسخ. والذي في النَّظم: غَيْر حاصِل. (¬3) صحيح البخاري (1128، 6934) بلفظ: (عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "صَلُّوا قَبْلَ صَلاَةِ المَغْرِبِ"، قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: "لِمَنْ شَاءَ").

ركعتين" (¬1). فهذا فيه ثلاثة مذاهب، قال بكل منها خلائق؛ فلذلك لم أذكر في النظم ترجيحًا، بل قلتُ: (أَوْ بِدُويهِ فَاحْتَمَلَا)، أي: فاحتمل أن يقال بالتعدد، وأن يقال بالاتحاد. وهُما وجهان لأصحابنا حكاهما الشيخ أبو إسحاق وسليم الرازي وغيرهما. وقيل: يوقف. فنقل قول الاتحاد -وهو كونه تأكيدًا له- عن أصحابنا الأستاذ أبو منصور، ونسبه ابن فورك والشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ للصيرفي، وهو كذلك؛ فقد نَص عليه في كتاب "الدلائل والأعلام" (¬2)، بل زاد على ذلك فصححه فيما إذا لم يتعاقب الأمران. فمقتضاه أنه من محل الخلاف، وأنه مِثل المتعاقبين. وعبارته: (متى خوطِبنا بإيجاب شيء وكُرِّر، لم يتكرر الفعل بتكرر الأمر، كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} في مواضع كثيرة، والدليل عليه حديث الأقرع بن حابس في الحج). انتهى وبه جزم أبو الخطاب الحنبلي في "تمهيده"، ونقل قول التعدد ابن الصباغ عن أكثر أصحابنا، وصححه الشيخ أبو إسحاق وإلْكِيَا الهراسي. ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (رقم: 1281)، صحيح ابن حبان (رقم: 1588) بلفظ: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى قبل المغرب ركعتين، ثم قَالَ: "صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ". ثُمَّ قَالَ عِنْدَ الثَّالِثَةِ: "لمِنْ شَاءَ"). قال الألباني في (التعليقات الحسان: 1586): (شاذ بذكر صلاته - صلى الله عليه وسلم -). وانظر: السلسلة الضعيفة (5662)، السلسلة الصحيحة (233). (¬2) في (ص): الدلائل والإعلام. لكن ذكر البعض أن اسمه: "دلائل الأعلام على أصول الأحكام" أو: "البيان في دلائل الأعلام على أصول الأحكام".

وقال ابن برهان: إنه قول الجمهور. وحكاه الهروي عن الأكثرين، ونسبه الأستاذ أبو منصور لأهل الرأي مع أنه قطع بالأول. وقال الباجي أنه قول جماعة من شيوخهم وأنه ظاهر مذهب مالك. قال: وإليه ذهب عامة أصحاب الشافعي. وأما قول الوقف -وهو أنه لا يُحمل على التأكيد ولا على التكرار إلا بدليل- فنسبه الباجي لابن فورك، وهو كذلك؛ ففي كتابه: إنه الصحيح. وحكاه ابن القشيري وغيره عن الواقفية، قال: (وكلام القاضي متردد، فتارة يميل إلى الوقف، وهو الصحيح عنه، وتارة يقول بأنه يقتضي إنشاءً متجددًا). انتهى وممن حكى الوقف عن القاضي: أبو الحسين البصري. قال الشيخ أبو إسحاق: ويمكن تخريج هذين الوجهين من قول الشافعي في الفروع في "أنت طالق أنت طالق" ولا نية له: هل يقتضي التأكيد؟ أو الاستئناف؟ قولان. ولم يرجح ابن الحاجب من الأقوال الثلاثة شيئًا، وجرى على عدم الترجيح أيضًا صاحب "جمع الجوامع" وإنْ كان قال في "شرح المختصر": (إن القول بالعمل بهما هو قول الأكثرين مِنا ومن غيرنا) (¬1). قؤلي: (هُمَا غَيْرَانِ) حذفت الفاء فيه؛ للضرورة، والأصل: "فهما غيران" على حد: من يفعل الحسنات الله يشكرها. وهو جواب عن الصورتين المذكورتين. ¬

_ (¬1) رفع الحاجب (2/ 565).

تنبيهات الأول: لا يخفَى أن محل هذه المسألة إذا لم نَقُل في الأمر الواحد: إنه يقتضي التكرار، بل إما للمرة، وإما لا للتكرار ولا للمرة، وهو الأرجح كما سبق. ولا أن محلها أيضًا ما إذا لم يمتثل الأمر الأول، بل جاء الثاني قبل امتثاله، وإلا فهو مغاير قطعًا. الثاني: نقل ابن القشيري عن القاضي أن فرض الكلام في الأمر الصادر من الخلْق، فلا يبعُد التفصيل بين المتعاقب وغيره. فأما أوامر الله تعالى فلا فرق؛ ولذلك جاز التخصيص. قال ابن القشيري: وفيه نظر؛ فإن المتصل بنا من أوامر الله تعالى هو العبارات الدالة عليه، فأي فرق؟ ولو صح هذا لَصَحَّ تأخير المستثنى عن المستثنى منه. الثالث: إذا تكرر المأمور به دون صيغته، نحو: "صَلِّ ركعتين ركعتين"، قال السبكي في "شرح المختصر": (فلم أَرَه مُصرحًا به في الأصول، والظاهر أنه لا فرق، فإنه قول الأكثرين فيما لو قال: "أنت طالق طالق" أنه مِثل "أنت طالق" في التفصيل والحكم، خلافًا لقول القاضي حسين: إنه يقع به طلقة واحدة قطعًا) (¬1). الرابع: مما يتفرع على المسألة في بعض الأقسام السابقة لو قال الموكِّل -الذي له زوجتان فأكثر- لوكيله: "طَلِّق زوجتي، طَلِّق زوجتي"، أو مَن له عبيد: "أَعْتِق عبدي، أعتق عبدي"، هل له تطليق ثنتين وإعتاق عبدين؟ أوْ لا؟ بل يجري في الواحدة إذا كان طلاقها رجعيًّا، فينبغي مراجعة نَقْلٍ في ذلك، فبعض المتأخرين قال: إنه لم يحضره نَقْل في ذلك. ¬

_ (¬1) رفع الحاجب (2/ 565).

والتخريج فيه على ما قُلناه ظاهر، والله أعلم. ص: 551 - وَصِيغَةُ النَّهْيِ عَلَى التَّحْرِيمِ ... حَقِيقَةً، كَآبَةِ الْيَتِيمِ الشرح: لما فرغت من مباحث الأمر، انتقلت إلى مباحث النهي، وقد سبق حَدُّه وصيغته. فمن مسائل النهي: أن صيغته تَرِد لمعانٍ كما في صيغة الأمر، لكن منها ما هو حقيقة وما هو مجاز، فأشرتُ إلى أن الحقيقة هي دلالتها على التحريم، وذلك مثل قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]. وهو معنى قولي: (كَآيَة الْيَتِيمِ)، وهذا على أصح المذاهب التي سنذكرها إذا فرغنا من بقية معاني الصيغة وأمثلتها، والله أعلم. ص: 552 - وَلكَرَاهَةٍ مَجَازًا في {وَلَا ... تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ}، ذَاكَ [نُقِلَا] (¬1) 553 - [كَذَاكَ لِلْإرْشَادِ] (¬2) في {لَا تَسْأَلُوا} ... وَللدُّعَاءِ {لَا تُزِغْ} فَيُقْبَلُ 554 - وَمِثْلُهُ أَيْضًا بَيَانُ الْعَاقِبَهْ ... {لَا تَحْسَبَنَّ} لِلشَّهِيدِ وَاجِبَهْ 555 - وَالِاحْتِقَارُ، نَحْوُ {لَا تَعْتَذِرُوا} ... {وَلَا تَمُدَّنَّ} لِتَقْلِيلٍ أُرُوا ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ش، ن). لكن في (ت، ض، ق): مثلا. (¬2) كذا في (ص، ش، ن 1، ن 4). لكن في (ض، ت، ق، ن 2): كذلك الإرشاد. وفي (ن 3): كذلك للارشاد. وفي (ن 5): كذاك في الارشاد. والوزن يصح في الجميع ما عدا (ن 3).

556 - قُلْتُ: وَممَّا أَهْمَلُوهُ التَّسْوِيهْ ... وَآيَةُ الْأَمْرِ الْمِثَالُ فَاسْوِيَهْ الشرح: أي: وتَرِد صيغة النهي مجازًا لهذه المعاني: أحدها: الكراهة، وهو الثاني من معاني صيغة النهي مطلقًا، وربما عُبِّر عنه بنهي التنزيه، وبكراهة التنزيه. مثاله قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267]. قال الصيرفي: لأنه حثهم على إنفاق أطيب أموالهم، لا أنه [يحرم] (¬1) عليهم إنفاق الخبيث من التمر أو الشعير من القوت، وسبب النزول أنهم كانوا يعلقون الأقناء في المسجد للصدقة، فربما علقوا الحشف. قال: فهو المراد هنا بالخبيث، لا الحرام الذي في نحو قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]. وربما مُثِّلت الكراهة بقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، وبقوله تعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]، أي: على عقدة النكاح، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول" (¬2)، وذلك كثير. الثالث: الإرشاد، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، والمراد: الدلالة على أن الأحوط ترك ذلك. كذا مَثَّل به إمام ¬

_ (¬1) في (ت، ض، ق): محرم. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 153)، صحيح مسلم (رقم: 267) واللفظ لمسلم.

الحرمين، قيل: وفيه نظر، بل هو للتحريم. قلتُ: الذي يظهر قول الإمام؛ فإن الأشياء التي يسأل عنها السائل لا يعرف حين السؤال هل [تؤدي] (¬1) إلى محذور؟ أو لا؟ ولا تحريم إلا [بالتحقق] (¬2). ومنهم مَن يمثله بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تعمروا ولا ترقبوا" (¬3). قال الرافعي في "باب الهبة": (هذا إرشاد، ومعناه: لا تعمروا طمعًا في أن يعود إليكم، فإن سبيله سبيل الميراث) (¬4). فما تقولونه لغو. وبالجملة فهذه الأمثلة ونحوها النهي فيها لمعنى دنيوي، فكان إرشادًا، ولا امتناع أن يكون أيضا أمرًا شرعيًّا كما نَص عليه الشافعي في نظيره مِن الأمر، وقد سبق ذِكره؛ ولهذا وقع التردد في النهي عن "الماء المشمس" هل هو دِيني؟ أو إرشادي؟ كما بُيِّن ذلك في الفقه. الرابع: الدعاء، نحو: {لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8]، {لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. وقولي: (فَيُقْبَل) استئناف على وجه التفاؤل بقبول هذا الدعاء. الخامس: بيان العاقبة، كقوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] الآية في الشهداء؛ فلذلك قلتُ: (لِلشَّهِيدِ وَاجِبَهْ)، أي: نازلة في الشهيد مُبَينة لعاقبته. ¬

_ (¬1) في (ص): يؤدي. (¬2) كذا في (ص، ش)، لكن في (ت، ق): بالتحقيق. (¬3) سنن أبي داود (رقم: 3556)، سنن النسائي (3731) وغيرهما، بلفظ: (لَا ترقبوا، ولا تعمروا). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 3556). (¬4) العزيز شرح الوجيز (6/ 312).

و [مثله] (¬1) قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42]. السادس: الاحتقار، نحو: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] الآية، والمراد: تحقير شأن المخاطَب بهذا النهي. السابع: التقليل، كقوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [طه: 131]، أي: إنَّ ذلك قليل لا يلتفت إليه، وهذا غير التحقير السابق، فإن ذلك لتحقير المخاطب، وهذا التحقير شيء في المخاطب به. فمَن يمثِّل بهذه الآية للتحقير فليس بجيد، وكذا مَن يجعلهما واحدًا ويمثِّل بها لهما كما فعل الأَرْدبِيلي في "شرح منهاج البيضاوي"، ووافقه شيخنا بدر الدين الزركشي في "شرح جمع الجوامع" وشرحَهما فيه على أنهما واحد. نعم، التمثيل به هو ما في "البرهان" لإمام الحرمين، ولكن فيه نظر؛ فإن النهي في الآية للتحريم، فإن من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - تحريمه عليه. ويستدل أصحابنا له بذلك، إلا أن يجاب بأنه لم يخرج عن كونه فيه تقليل أو تحقير من حيث هو، وهو حيمئذ عام للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولغيره وإنْ كان بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم - حرامًا. فقد اشتمل النهي على التحريم باعتباره، وعلى التقليل أو التحقير من حيث هو عام له ولغيره، فليُتأمَّل. الثامن: التسوية، ولم أر مَن ذكره، وهو أَوْلى بالذكر من كثير مما ذكروه، ويمثَّل له بقوله تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور: 16]؛ لأن المراد التسوية في الأمرين. وهو معنى قولي: (آيَةُ الْأَمْر الْمِثَالُ فَاسْوِيَه)، أي: في هذه الآية التي يمثَّل بها لأمر ¬

_ (¬1) في (ق، ت): منه.

التسوية المثال لنهي التسوية، والمراد صيغة الأمر وصيغة النهي، وإلا فمع التسوية لا أمر ولا نهي حقيقة. وأصل قولي: (فَاسْوِيَهْ) فَاسوه، أي: اسوه معه. فإثبات الياء فيه كإثبات الألف في قول الشاعر: (ولا ترضاها ولا تملق)، وحركت؛ للضرورة، وفتحت؛ لأنه أخف. تنبيهان الأول: هذا ما ذكرته في النظم من المعاني، ومما أأذكره فيه: منها: ورودها للأدب، كقوله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]. ولكن هذا راجع للكراهة؛ إذِ المراد: لا تتعاطوا أسباب النسيان، فإن نفس النسيان لا يدخل تحت القدرة حتى يُنهَى عنه. ومنها: التحذير، كقوله تعالى: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. ولكن هذا أيضًا راجع للتحريم؛ إذِ المراد: ولا تتركوا الإسلام، بل أديموه إلى الموت حتى لا تموتوا إلا وأنتم مسلمون. ومنها: اليأس، كقوله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا} [التوبة: 66]. وقد يقال: إنه راجع للاحتقار؛ فلهذا مَثَّل بعضهم له بذلك كما سبق. ومنها: إيقاع الأمن، كقوله تعالى {وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [القصص: 31]. ولكن هذا راجع إلى الخبر، كأنه قيل: أنت لا تخاف. وسيأتي الكلام على ورودها للخبر. ومنها: الالتماس، نحو قول المساوي للمساوي: لا تفعل كذا. وقد سبق نظيره في "الأمر" وأنه مَنعْ بمنزلة التحريم، ولكنه لا أثر له؛ لأن المتكلم به ليس ممن يَمنع ولا

يُوجِب. ومنها: الخبر، ومثَّله الصيرفي بقوله تعالى: {لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33]. وهو عجيب؛ فإنه لو كان نهيًا لحذفت النون، فهو خبر لفظًا ومعنًى [بعجزهم] (¬1) عن ذلك. أما ورود الخبر بمعنى النهي فكثير، كقوله تعالى: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2]، أي: لا ترتابوا -على أحد التآويل. وذُكِرت أقسام أُخَر فيها نَظَر، أضربتُ عنها في هذا الشرح أيضًا. الثاني: كون صيغة النهي حقيقةً في التحريم مجازًا في غيره هو أصح المذاهب كما في نظيره في "الأمر" أن صيغته للوجوب حقيقة وما سواه مجاز. فإذا تَجَرَّد النهي عن القرائن، حُمِل على التحريم. وهذا ما تظاهرت عليه نصوص الشافعي وأصحابه. ففي "الرسالة" في "باب العلل في الأحاديث" ما نَصه: (وما نهى عنه فهو على التحريم حتى تأتي دلالة عنه على أنه أراد غير التحريم). انتهى وفي "الأُم" في "كتاب صفة الأمر والنهي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ": "إن كل ما نهى عنه فهو محرم حتى تأتي دلالة أنه بمعنى غير التحريم). انتهى ونَص عليه أيضًا في "أحكام القرآن"، ولهذا قال الشيخ أبو حامد: قطع الشافعي قوله بأن النهي للتحريم قولًا واحدًا حتى يَرد ما يَصْرفه، وله في الأمر قولان. ¬

_ (¬1) في (ق، ت): لعجزهم.

ثاني المذاهب: أنه حقيقة في الكراهة، وربما عُبِّر عنه بأنه للتنزيه، ونظيره في "الأمر" أن يكون للندب. ثالثها: أنه مشترك بين التحريم والتنزيه. ورابعها: الوقف، وعُزي للأشاعرة. وما ذكر من بقية المذاهب في "الأمر" لا يجري هنا وإنْ أمكن جريان بعض ذلك، لكن لم يُنقل؛ ولهذا عَيَّن ابن الحاجب هذه الأربعة، وظاهر ذلك أنه لعدم جريان غيرها. نعم، إذا قُلنا: حقيقة في التحريم، فهل هو بالشرع؟ أو اللغة؟ أو المعنى؟ فيه الخلاف السابق في "الأمر". وحكى القرافي هنا قولًا بالإباحة، وأنكره بعضهم عليه، وإنما قال الغزالي في "المنخول": (إن مَن حمل الأمر على الإباحة ورَفْع الحرج حمل هذا على رفع الحرج في ترك الفعل) (¬1). وقال أبو زيد في "التقويم": لم أقف على الخلاف في حكم "النهي" كما في "الأمر". فيحتمل أنه على الاختلاف فيه. وقال البزدوي: إن المعتزلة قالوا بالندب في الأمر، وقالوا بالتحريم في النهي؛ لأن الأمر يقتضي حُسن المأمور به، والواجب والمندوب داخلان في اقتضاء الحسن، بخلاف النهي، فإنه يقتضي قُبح المنهي عنه، والانتهاء عن القبيح واجب. والله أعلم. ¬

_ (¬1) المنخول (ص 126).

ص: 557 - فَإنْ [تَكُنْ] (¬1) بَعْدَ الْوُجُوبِ وَرَدَتْ ... تَبْقَى عَلَى التَّحْرِيمِ فِيمَا قَدْ ثَبَتْ الشرح: اعْلَم أنه قد سبق في الأمر مسائل يقع النظر في كون النهي مِثله فيها أوْ لا، تعرضتُ في النظم لطائفة منها. فمنها هذه المسألة، وهي أن صيغة النهي إذا وردت في شيء قد كان واجبًا إلى حين ورودها، هل يكون سَبْق الوجوب قرينةً تُبيِّن أنَّ النهي خرج عن حقيقته وهو التحريم؟ أوْ لا؟ وهي مَبنية على مسألة: الأمر بعد الحظر. إنْ قُلنا: يستمر على الوجوب، فهنا يستمر على التحريم مِن باب أَوْلى، وإنْ قُلنا: هو هناك قرينة، فهنا طريقان: أحدهما: القطع بعدم كون الوجوب السابق قرينة صارفة عن التحريم، وبها قال الأستاذ أبو إسحاق والغزالي في "المنخول" وحكيَا الإجماع على ذلك. الثاني: طرد ما يمكن طرده من خِلاف الأمر، كالقول بأنه للإباحة. ومنهم مَن قال: إنه للكراهة. وهو مذكور في "مسودة" [بني] (¬2) تيمية عن حكاية القاضي أبي يعلى منهم. وفيها قول آخر: إنه هنا رفع الوجوب، فيكون نسخًا، ويعود الأمر إلى ما كان قبله. ¬

_ (¬1) في (ش، ت، ق، ن 5): يكن. (¬2) في (ض، ق، ت): ابن.

قلتُ: لكنه لا يخرج عما سبق، فإنَّ الوجوب إذا نُسخ، هل يبقى الجواز بمعنى رفع الحرج؟ أو الإباحة؟ أو الاستحباب؟ فيه خلاف سبق وسيأتي في "باب النسخ" أيضًا. وقد حكى ابن فورك الطريقين: القطع، وإجراء الخلاف، وقال: الأشبه التسوية. ومنع إمام الحرمين [الاتفاق] (¬1)، وطرد الوقف هنا بناء على اعتقاده أن لا فرق بينهما. لكن قد فرق غيره بوجهين: أحدهما: أن حمل النهي على التحريم يقتضي الترك، وهو على وَفْق الأصل؛ لأن الأصل عدم الفعل. وحمل الأمر على الوجوب يقتضي الفعل، وهو على خلاف الأصل. ثانيهما: أن النهي لدفع المفسدة والأمر لتحصيل المصلحة، واعتناء الشارع بِدَرْء المفاسد أشد مِن جَلْب المصالح. وفَرْق ثالث: وهو أن الإباحة أحد محامل "افْعَل"، بخلاف "لا تفعل". وأَوْرَد ابن الحاجب الخلاف على وجه ليس بجيد يحتاج لتأويل إن أمكن. تنبيه: هل يجري هنا في ورود النهي بعد الاستئذان وشبهه ما سبق في ورود الأمر بعده؟ وَرد فيه مواضع متباينة بدليل من خارج أو بحسب ما يدل السياق عليه. فما هو على التحريم: حديث المقداد: "أرأيت إن لاذ مني بشجرة بعد أن قالها -أي: كلمة الإيمان- أفأقاتله؟ قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا" (¬2). أي: لا تقاتله، وحديث: "أينحني بعضنا ¬

_ (¬1) في (ق، ت): من الاتفاق. (¬2) صحيح البخاري (3794)، صحيح مسلم (رقم: 95).

لبعض إذا التقينا؟ قال: لا" (¬1). وحديث بيع الرطب بالتمر بعد قوله: "أينقص الرطب إذا جف؟ " فقيل: نعم. قال: "لا" (¬2). ومما ليس للتحريم: حديث: "أَنُصَلي في مبارك الإبل؟ قال: لا. أَنُصَلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم" (¬3). فإن النهي هنا للكراهة. وحديث سعد بن أبي وقاص: "أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا " (¬4) الحديث. نعم، صرح القاضي الحسين بأن الوصية بما زاد على الثلث حرام. وعبارة الرافعي: (لا ينبغي أن يوصي بأكثر من الثلث) (¬5). فظاهره: أنه نهي إرشاد؛ بدليل: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة" (¬6). وأيضًا فإن الورثة قد تجيز الوصية، فتحصل الوصية بالزائد على الثلث. والله أعلم. ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه (رقم: 3702)، سنن الترمذي (رقم: 2728) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن الترمذي: 2728). (¬2) سنن أبي داود (رقم: 3359)، سنن النسائي (4546)، سنن ابن ماجه (2264)، وغيرها، ولفظ أبي داود: (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذا يَبِسَ؟ " قالوا: نعم. فنهاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 3359). (¬3) صحيح مسلم (رقم: 360) بلفظ: (قال: أُصَلِّي في مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ قال: نعم. قال: أُصَلِّي في مَبَارِكِ الْإِبِلِ؟ قال: لَا). (¬4) صحيح البخاري (رقم: 1233)، صحيح مسلم (رقم: 1628). (¬5) العزيز شرح الوجيز (7/ 22). (¬6) صحيح البخاري (رقم: 1233)، صحيح مسلم (رقم: 1628).

ص: 558 - وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الدَّوَامَ مَا لَم ... [يَكُنْ] (¬1) لَهُ الْمَرَّةُ قَيْدًا زَاحَم الشرح: من المسائل التي يخالف النهي فيها الأمر: أن النهي يقتضي الدوام مطلقًا، بخلاف الأمر على ما سبق من القول الراجح فيه. وقطع كثير في النهي بذلك، كالصيرفي وأبي إسحاق الشيرازي، بل نقل الإجماع فيه الشيخ أبو حامد وابن برهان وأبو زيد في " التقويم ". والفرق بينه وبين الأمر أن له حدًّا ينتهي إليه، فيقع الامتثال فيه بالمرة، وأما الانتهاء عن المنهي عنه فلا يتحقق إلا [باستيعابه] (¬2) في العمر، فلا يُتصور فيه تكرار، بل استمرار به يتحقق الكَف. نعم، نقل القاضي عبد الوهاب قولًا أنه كالأمر في اقتضاء المرة، وأنَّ القاضي أبا بكر وغيره أجروه مجَرى الأمر في عدم الاستيعاب. وممن نقل ذلك عن القاضي: أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي وإنْ كان المازري نقل عنه خلاف ذلك. قيل: وهو الصواب. وفي "أدب الجدل" للسهيلي أن القول باقتضائه الاجتناب في الزمن الأول وحده مما لا تجوز حكايته؛ لضعفه وسقوطه. ¬

_ (¬1) في (ق، ت، ن 2، ن 3، ن 4): تكن. (¬2) كذا في (ق، ت). لكن في (ص، ش، ض): باستيفائه.

وممن نقل الخلاف أيضًا الآمدي وابن الحاجب، واختار الإمام في "المحصول" أنه لا يقتضي التكرار مطلقًا. فتَحَصَّلنا على ثلاثة مذاهب، ثالثها: يقتضيه مرة عقب تعلُّق النهي. تنبيهات الأول: هذا في النهي المطلق، أما المقيد بشرط أو صِفة ففيه الخلاف السابق في الأمر باقتضائه للتكرار، وأولى بعدم اقتضائه للتكرار؛ ولهذا فرق إلْكِيَا بين النهي المقيد بشرط أو صفة فلا يقتضي التكرار، وبين النهي المطلق فيقتضيه. ولهذا حكاه صاحب "الواضح" عن أبي عبد الله البصري تسويةً بينه وبين الأمر في حال [التعلق] (¬1)، بخلاف الأمر، قال: كما إذا قال لعبده: (اسقني الماء إذا دخل زيد الدار)، فيكتفَى بمرة، ولا يجب أن يسقيه كلما دخل زيد الدار. الثاني: يؤخذ من كون النهي للدوام أنه للفور؛ لأنه مِن لازِمه؛ فلذلك لم أذكره في النظم؛ ولهذا قالوا: لا يُتصور مجيء الخلاف في كون الأمر للفور هنا. وقال أبو حامد: إنه يقتضي الفور على المذهب بلا خلاف. وحكى ابن عقيل الحنبلي عن القاضي أبي بكر أنه لا يقتضيه. وقال ابن فورك: يجيء الخلاف في النهي إنْ قُلنا: الأمر يقتضي التكرار بظاهره. وإنْ قُلنا: لا يقتضيه الأمر إلا بدليل، فكالأمر في الخلاف في الفور. وقال الإمام الرازي: إنْ قُلنا في الأمر: "يقتضي التكرار" فهو للفور، أو لا فلا. ¬

_ (¬1) في (ق): التعليق.

ونازعه النقشواني والأصفهاني في بناء عدم وجوب الفور على عدم اقتضاء التكرار؛ لجواز أن لا يقتضي التكرار ويقتضي الفور. الثالث: قد عُلم أن اقتضاء النهي الدوام ليس بالوضع، بل [بالضرورة] (¬1) في اجتناب المنهي عنه، فلذلك لم أَقُل في النَّظم: إنه يدل على الدوام، بل يقتضيه، أي: بطريق اللزوم لامتثال النهي. وقولي: (مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمَرَّةُ قَيْدًا زَاحَمْ) معناه أنه إنما يقتضي الدوام إذا لم يكن قُيد بمرة واحدة. كما لو قيل: (لا تفعل هذا مرة فقط)، فإنه حينئذٍ يتقيد بالمرة قطعًا، ولا يجري فيه خلاف. ومعنى "زَاحَمْ": عارَض مع إطلاق النهي. والله أعلم. ص: 559 - وَالنَّهْيُ عَنْ شَيْءٍ يَكُونُ أَمْرَا ... بِأَحَدِ الْأَضْدَادِ لَيْسَ يَعْرَى الشرح: هذه المسألة مما يتساوى فيه الأمر والنهي على المختار، فكما أن الأمر النفسي بشيء مُعَين نَهْي عن ضده الوجودي -كما سبق- يكون النهي النفساني عن شيء مُعيَّن أمرًا بأحد أضداده الوجودية، لأن الامتثال لا يتحقق إلا بذلك. ولم نُعِد هنا القيود المذكورة هناك، اختصارًا، فينبغي أن تُستحضر. فإذا لم يكن للمنهي عنه إلا ضد واحد فهو مأمور به قطعًا، كالنهي عن الكفر، فإنه أمر ¬

_ (¬1) في (ف): لضرورة.

بالإيمان، والنهي عن الصوم أَمْرٌ بالإفطار، ونحو ذلك. وإنْ كان له أضداد فلا يكون مأمورًا بالكل قطعًا. وهل يكون مأمورًا [بأحدها] (¬1)؟ فيه طريقان مشهوران: أحدهما: أنه مأمور به قطعًا، ولا يجري فيه الخلاف السابق في الأمر، وهي طريقة القاضي في "التقريب"؛ لأن دلالة النهي على مقتضاه أقوى من دلالة الأمر على مقتضاه؛ لأن مطلوب النهي فِعل الضد وهو تَرْك المنهي، ولا بُدَّ من حضوره في ذهنه، فإحضار الضد في جانب النهي أَوْلى منه في جانب الأمر؛ ولأن النهي يستدعي درء مفسدة، والأمر جلب مصلحة، واعتناء الشرع بدرء المفاسد أكثر من [اعتنائه بالآخَر] (¬2). الطريقة الثانية: إجراء الخلاف الذي في الأمر وإن كان نهيًا عن جميع الأضداد عند القائل به كما سبق. وهو ما قاله إمام الحرمين في "البرهان" والقاضي عبد الوهاب في "الملخص" وابن السمعاني في "القواطع" وسليم في "التقريب"، إلا أنه قال: يكون متضمنًا للأمر بأحد أضداده. وكذا حكى ابن برهان في "الأوسط" عن العلماء قاطبةً أن النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده. ونقله صاحب "اللباب" عن الشافعي وعن عامة أصحابهم الحنفية. ومُقَابِله قول أبي عبد الله الجرجاني: إنه لا يقتضي أمرًا بها. ¬

_ (¬1) في (ت، ق، ض): بأحدهما. (¬2) كذا في (ص، ش). ويحتمل في (ص): اعتنائه بالأجر. لكن في (ض، ت، ق): اغتنام الأجر.

ومَن تَردد قوله في أن الأمر عَيْن النهي عن الضد أو يتضمنه -كالقاضي كما سبق- طريقته هنا كذلك. وكذا قال ابن الحاجب بعد نقل القولين عنه في الأمر: (وقال القاضي: والنهي كذلك فيهما) (¬1). أي: في الرأيين المنقولين عنه في "الأمر". إلا أن كلامه يتضمن حكاية طريقة ثالثة: أن النهي ليس أمرًا بضد قطعًا، وأن الخلاف إنما هو في الأمر هل هو نهي عن ضده؟ أو لا؟ وذلك ظاهر من قوله: (ثم اقتصر قوم، وقال القاضي: النهي كذلك فيهما). أي: في أنه عَيْنه أو يتضمنه، أي: اقتصر قوم على أن الأمر نهي عن ضده، ولم يقولوا به في النهي، فلا يكون أمرًا بأحد أضداده. ثم قال في أثناء الاستدلال تعبيرًا عن هؤلاء: (الفارُّ مِن الطَّرْد) إلى آخِره. لكن قال السبكي في "منع الموانع" أنه لم يجد له في هذه الطريقة مستندًا مِن معقول ولا منقول. قال: ولا رأيتها فيما رأيت مِن كتب الأصول، ولا أدري من أين أخذها؟ قال: ولَعَله أخذها مِن قول بعض الأصوليين في الاستدلال على أن الأمر ليس نهيًا عن ضده: "كما أن النهي ليس أمرًا بضده"، فكأنه مُقاس عليه؛ للقَطعْ فيه بذلك. لكن ليس [فيه] (¬2) صراحة؛ لاحتمال أن يُراد ذِكر المسألتين معًا، واختيار النفي فيهما، لا لكون إحداهما أصلًا للأخرى. ولا عُلْقة له أيضًا بما سيأتي من الفرعين في الفقه الآتي بيانهما؛ لِمَا سنقرره من أن الفارق بينهما إنما ادُّعِيَ مساعدة العُرف له فيه، لا لهذا المعنى. ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى (2/ 48) مع (بيان المختصر). (¬2) في (ص): له.

قال: ولهذا حذفتها في "جمع الجوامع". تنبيهات الأول: قيل: التحقيق في هاتين المسألتين في الأمر والنهي ما أشار إليه أبو نصر القشيري أن معنا مقامين: - كون الأمر نهيًا عن الضد، وعكسه. - وكون المأمور منهيًّا عن الضد، وعكسه. وكذا الآمِر والناهي. فأما الثاني: فنقل القاضي فيه الإجماع وأنه لا شك فيه. قال ابن القشيري: وأنا لا شك أنه ممنوع، أي: لأن ما يقال في الأمر والنهي يقال مِثله في المأمور والآمِر والمنهي والناهي. وأما الأول فلا سبيل إلى القول به مع تجويز عدم خطوره بالبال، وعلى تقدير خطوره فيه فليس الضد مقصودًا بالذات، بل لضرورة تحقُّق المأمور به. ولكن هذا مردود بما سبق. الثاني: ظاهر كلام الأصوليين أن هاتين المسألتين ليستا مقصورتين على صيغَتي الأمر والنهي، بل كيف قُدِّر أمر ونهي ولو في ضِمن خبر أو فِعل للرسول - صلى الله عليه وسلم - أو إجماع أو قياس أو غير ذلك مما بيَّناه في أقسام الحكم في المقدمة في تفسير "الاقتضاء". بل وغالب مسائل هذا الفصل في الأعم من الأمر والنهي بصيغتهما أو بغيرها. وقد سبق طرف من ذلك في الخلاف في صيغة الأمر هل هي حقيقة في الوجوب فقط؟ أو لا؟ ولهذا يذكر كثير من الأصوليين المسألة في تقسيمات الحكم كما ذكرها هناك الإمام -وأتباعه كالبيضاوي- مُعبِّرًا بأن وجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه.

الثالث: وقع في كلام أصحابنا في الفقه مسألتان قد تتفرعان على هذه القاعدة، ووقع فيهما اضطراب شديد، نذكرهما باختصار، وهُما: إذا قال لامرأته: (إن خالفتِ أمري فأنت طالق) ثم قال لها: (لا تكلمي زيدًا)، فكلمته، لم تطلق؛ لأنها خالفت نهيه، لا أمره. ولو قال: (إن خالفتِ نهيى فأنت طالق)، ثم قال لها: (قومي)، فقعدت، الأظهر عند الإمام وغيره أنه لا يقع، لكن كلام "الروضة" يقتضي عكسه، وعليه جرى البارزي في "التمييز". وهو مُشْكل؛ لأنه إنْ عمل بالقاعدة، فالمرجح فيها استواؤهما، خلافًا للطريقتين الأخيرتين كما سبق وإنِ اقتضى كلام الرافعي في "الشرح الصغير" تفرعهما على القاعدة، وإنْ لم يعمل بالقاعدة بل عمل بالعُرف كما أشار إليه الغزالي في "الوسيط" في الفرع الأول من كون أهل العُرف يَعُدُّونه مخالفًا للأمر، أي: حتى تطلق وإن كان ذلك خلاف قول الجمهور. ومنعوا العُرف فيه؛ إما لاضطرابه وإما لكون العُرف لا يَعُدُّ الأمر نهيًا ولا النهي أمرًا. وأما مِن جهة اللغة فقد سبق أن لفظ الأمر ليس عَيْن النهي قطعًا ولا يتضمنه على الأصح، فأشكل الفرق بين الفرعين. ولبسط القول فيهما موضع أَليَق من هذا، والله أعلم. ص: 560 - وَمَنْ نَهَى بِمَا لَهُ تَنَاوَلَا ... فَإنَّهُ كَالْأَمْرِ لَيْسَ شَامِلَا الشرح: هذه المسألة موافقة لنظيرها في الأمر، وهي أن المتكلِّم بالنهي الشامل له هل يكون

داخلًا فيه؟ أوْ لا؟ الصحيح المنع كما سبق نظيره في الأمر، وبيَّنا ذلك مبسوطًا، فلينظر من هناك، والله أعلم. ص: 561 - وَمُطْلَقُ النَّهْيِ وَلَوْ تَنْزِيهَا ... فِيمَا سِوَى عِبَادَةٍ أَوْ فِيهَا 562 - لِدَاخِلٍ أَوْ لَازِمٍ مُفِيدُ ... شَرْعًا فَسَادَهُ، وَذَا التَّقْيِيدُ 563 - يُخْرِجُ مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ بَدَا ... مِنْ خَارِجٍ، كَالْبَيْعِ في وَقْتِ النِّدَا 564 - وَكطَلَاقِ حَائِضٍ، وَكَالَّذِي ... صَلَّى بِمَغْصُوبٍ، وَمثْلٍ فَاحْتَذِي 565 - وَالشَّكُّ في اللَّازِمِ كَالْيَقِينِ ... أَلْحَقَ ذَاكَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ الشرح: من مباحث النهي أنه: هل يقتضي الفساد في المنهي عنه إذا فُعِل؟ أوْ لا؟ وفيه هذا التفصيل المذكور على المختار من الأقوال، وهو أن النهي: - إما أن يكون لِعَيْن ذلك الشيء، كالنهي عن الزنا؛ حِفظًا للأنساب، والنهي عن اللواط؛ لأنه في غير محل [النسل] (¬1) الذي شُرع الوطء لأجْله. - فيما أن يكون لخلل في جزء الماهية، كالنهي عن بيع حَبل الحبلة؛ لجهالة المبيع أو أجل الثمن على التفسيرين المشهورين فيه. وكلا هذين القسمين أردتُ بقولي: (لِدَاخِلٍ). ¬

_ (¬1) في (ق، ض): القبل.

- وإما أن يكون لأمر خارج عن ماهية المنهي عنه، لكنه لازِم له، كبيوع الربا. فهذه الثلاثة النهي فيها يدل على فسادها إذا فُعِلت؛ إذ لو لم يَقْتَضٍ الفساد لَفاتت حِكمة النهي عنه، وأيضًا فلم تَزَل العلماء تستدل على الفساد بالنهي في الربويات والأنكحة وغيرها شائعًا ذائعًا من غير نكير؛ فكان إجماعًا سكوتيًّا، وسواء ذلك في العبادات والإيقاعات، كإيقاع الطلاق والعتق ونحو ذلك، والمعاملات ونحوها. نعم، هل يدل على فساد ذلك من جهة الشرع؟ أو وضع اللغة؛ لأن صيغته تدل على عدم المشروعية؟ قولان حكاهما القاضي في "التقريب" وكذا ابن السمعاني، ونقل عن طائفة من الحنفية ثالثًا: أنه يقتضيه من حيث المعنى، لا من حيث اللفظ؛ لأن النهي يدل على قُبح المنهي عنه، وهو مضاد للمشروعية. قال: وهو أَوْلى. وعلى المختار -وهو الأول- جريتُ في النظم، فقلتُ: (شرعًا) كما جرى عليه ابن الحاجب وغيره؛ إذ ليس في اللغة ما يدل على سَلْب أحكام المنهي عنه، وإنما يستفاد ذلك من الشرع. وأما كونه قبيحًا فإنَا لم نَعلم قُبحه إلا بالشرع. وقولي: (وَذَا التَّقْيِيدُ) إلى آخِره -إشارة إلى المقابل للأقسام الثلاثة السابقة، وهي أن يكون النهي عنه لا لذاته ولا لجزء داخل فيه ولا لأمر ملازم له، بل لأمر خارج غير لازم، وإنما هو مجاور له فقط، غير متصل به، فلا يقتضي الفساد لا في عبادة ولا في إيقاع ولا في غيرهما؛ ولهذا مَثَّلت بثلاثة أمثلة: الأول من المعاملات، وهو البيع في وقت النداء للجمعة؛ لقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]؛ لأنه أمر في معنى النهي، وسبق أن المراد هنا ما هو أَعَم مِن النهي بصيغته وغير صيغته، فالنهي فيه راجع إلى تفويت الجمعة، وليس لِعَيْن البيع ولا لِجُزْئه ولا لِلَازِم له.

ومثله النهي عن تَلَقِّي الركبان وعن بيع الحاضر للبادي، خلافًا لمن زعم أن النهي لخارج لازم، حتى أنه استشكله على القاعدة، ولا إشكال؛ لأن النهي فيه إنما هو للتضييق على أهل البلد ببيعه قليلًا قليلًا ونحو ذلك. والمثال الثاني من الإيقاعات: طلاق الحائض، فإنه لتطويل العدة؛ فلذلك لو كانت حاملًا وقُلنا: "إن الحامل تحيض" وكانت تلك الأدوار لا تنقضي بها عِدة المطلق فإنه لا يكون الطلاق بِدْعيًّا. ومثله إعتاق الراهن العبد المرهون إذا كان مُوسِرًا، فإنه ينفذ وإن كان منهيًّا عنه؛ لأنه لِتعلُّق حق المرتهن. والمثال الثالث من العبادات: الصلاة في الدار المغصوبة، ونحوه الوضوء من إناء الذهب والفضة والاستنجاء بهما، وأمثال ذلك. وهو معنى قولي: (وَمِثْلٍ فَاحْتَذِي)، أي: وبمثل ذلك احتذِ، أي: اطلُب حذو ذلك. هذا قول الأكثرين في القِسمين، ووراء ذلك خلاف نذكره مبسوطًا في المنهي عنه لِعينه أو لجزئه. وحاصل ما فيه مذاهب: أحدها: المختار كما سبق أن النهي يدل على الفساد مطلقًا، سواء أكان المنهي عنه عبادة أو معاملة. وهو رأي الجمهور من أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأهل الظاهر وطائفة من المتكلمين كما نقله القاضي في "مختصر التقريب" وابن فورك والأستاذ أبو منصور. وقال الشيخ أبو حامد: (إنه مذهبنا الذي نَص عليه الشافعي وأكد القول فيه في "باب البحيرة والسائبة" أن النهي إذا ورد مجردًا، اقتضى فساد الفعل المنهي عنه. وبه قال مالك وأبو حنيفة وأهل الظاهر وكافة أهل العلم). انتهى

وكلامه في مواضع من "الرسالة" يدل عليه، ومَن تَأمل استدلاله بالآيات والأحاديث عَلم ذلك، كاحتجاجه في النهي عن الصلاة في الأوقات الخمسة على فسادها، وكقوله: (وكل موضع خَلَا عن الولي والشهود والرضا من المنكوحة الثيب فين فاسدًا؛ لأنه أخلَّ بشيء مما سَنَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه) (¬1). وكما ذكره مِن نحو ذلك في "بيع الغرر". وقال ابن السمعاني: إنه الظاهر من مذهب الشافعي وإن عليه أكثر الأصحاب. وقال أبو زيد الدبوسي -من الحنفية- أنه قول علمائهم؛ لأن القبيح لِعَيْنه لا يشرع لِعَينه. وقال: سواء قَبُحَ لعينه وضعًا أو شرعًا، كالنهي عن بيع الملاقيح، والصلاة بغير طهارة. الثاني: لا يدل على الفساد أصلًا، ويحتاج الفساد إلى دليل غير النهي. وهو قول الأشعري والقاضيين أبي بكر وعبد الجبار، وزاد ابن برهان نَقْله عن أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم، واختاره من أصحابنا القفال الشاشي وأبو جعفر السمناني والغزالي، وحكاه عن جمهور المتكلمين (¬2)، وإلْكِيَا الطبري عن أكثر الأصوليين، وصاحب "المحصول" عن أكثر الفقهاء، والآمدي عن المحققين. قال الشيخ أبو إسحاق: وللشافعي كلام يدل عليه. ولهذا قال المازري: أصحاب الشافعي يحكون عنه القولين. ونَص الغزالي على أن الاعتماد على فساده إنما هو على فوات شرط، ويُعْرف الشرط بدليل يدل عليه، وعلى ارتباط الصحة به. وحكى جماعة -آخِرهم الصفي الهندي- إطلاق حكايته عن الحنفية. والصواب أن خِلافهم إنما هو في المنهي عنه لِغَيره كما سيأتي، أما المنهي عنه لِعَينه فلا يختلفون في فساده، ¬

_ (¬1) الرسالة (ص 344). (¬2) عبارة الزركشي في (البحر المحيط، 2/ 167): (وحكاه القاضي عن جمهور المتكلمين).

وبه صرح أبو زيد الدبوسي في "تقويم الأدلة" كما سبق آنفًا نَقْلُه عنه، وكذا قال شمس الأئمة السرخسي في "أصوله"، وقرره عنهم ابن السمعاني وهو أثْبَت؛ لأنه كان أولا حنفيًّا. الثالث: أنه يدل على الفساد في العبادات دون العقود. وبه قال أبو الحسين، وحكاه ابن الصباغ عن متأخري أصحابنا، وحكاه الهندي عن اختيار الغزالي والإمام الرازي، لكن آخِر كلامه في "المستصفى" يقتضي قولا آخَر يأتي ذِكره، و [كذا] (¬1) ذكر في كُتبه الفقهية ما يقتضي خلاف ذلك. فنَصُّه في "الوسيط": (عندنا مطلق النهي عن العقد يدل على فساده، فإن العقد الصحيح هو المشروع، والمنهي عنه لعينه غير مشروع، بخلاف ما نُهي عنه لمجاوِرِه، كالبيع في وقت النداء) (¬2). ثم قسم المناهي في البيع إلى ما لا يدل على الفساد، كالنجش والبيع على بيع أخيه وبيع الحاضر للبادي، وإلى ما يدل على الفساد إما لخلل في رُكنه أو شرطه وإما لأنه لم يَبْقَ للنهي تَعلُّق سوى العقد، فحُمل على الفساد، كبيع حبل الحبلة والحصاة وبيوع الغرر (¬3). انتهى وأما المنهي عنه لخارج لكنه وصف لازم فكالذي قبله على الأصح في اقتضاء الفساد، وذلك كالربا، فإنه لوصف الزيادة المقارن للعقد اللازم له، وكصوم يوم النحر وأيام التشريق؛ لكونها أيام ضيافة الله، وهذا معنى لازم لها. ومقابِل الأصح قولٌ ثانٍ: إنه لا يقتضي الفساد مطلقًا، وعزاه ابن الحاجب للأكثرين. وقول ثالث عن الحنفية: إنه يدل على فساد الوصف لا الموصوف المنهي عنه؛ لكونه ¬

_ (¬1) في (ق، ض، ت): كذا. (¬2) الوسيط (3/ 63). (¬3) الوسيط (3/ 63 - 70).

مشروعًا بدون الوصف. وبنوا على ذلك ما لو باع درهمًا بدرهمين ثم طرحا الزيادة أنه يصح العقد. قلتُ: ومن هنا يُعلم أن ما يُنقل عنهم في الفرق بين الفاسد والباطل أن "الباطل" ما لم يُشرع بأصله ولا وَصفه، و"الفاسد" ما شُرع بأصله دُون وَصفه -أن مرادهم أن الباطل هو المنهي عنه لعينه أو لجزئه، والفاسد هو المنهي عنه لوصف لازم لكن يكون الفساد راجعًا للوصف لا للموصوف، خِلافًا لِمَا يتبادر للفهم من الحكم على الأصل بالفساد. ومن هنا يُعلم أيضًا وَجْه ما قاله الهندي وابن فورك: إن محل الخلاف إنما هو في الفساد بمعنى البطلان، لا على معنى تفرقتهم بين الفساد والبطلان. فائدة: رد الشافعي - رضي الله عنه - هذا القول بأن النهي عن الشيء لوصفه يضاد وجوب أصله. فقال ابن الحاجب: (أراد أنه يضاده ظاهرًا). لا قطعًا، وإلا لَوَرَد عليه نحو الصلاة في أعطان الإبل والأماكن المكروهة، إذ لو كان يضاد وجوب الأصل، لم تصح الصلاة، وليس كذلك، فإذا كان المراد: يضادها ظاهرًا، خرجت هذه الصورة؛ لأنها تضاد ظاهرًا؛ لدليل راجح. نعم، قَيَّده البيضاوي في توضيحه بالتحريم، فقال: قال الشافعي: حُرمة الشيء لوصفه تُضاد وجوب أصله. وهو تقييد حسن مُخرج لما سبق من الصلاة في الأماكن المكروهة حتى لا يحتاج أن يقال: يضاده ظاهرًا، لا قطعًا. لكن مقتضاه أن النهي يدل على الفساد هنا إذا كان نهي تحريم لا تنزيه حتى يكون النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة صحيحًا. وزعم الصفي الهندي أنه لا خلاف فيه، قال: (على ما يشعر به كلامهم وصرح به بعض

المصنفين) (¬1). وهو عجيب، فإن الأظهر أنه لا فرق بين التحريم والتنزيه في ذلك. وهو معنى قولي في النَّظم: (وَلَوْ تَنْزِيهَا)؛ لأن "المكروه" مطلوب الترك، و"الصحيح" مطلوب الفعل شرعًا؛ فيتنافيان، فيُعْلم أن طلب تركه يقتضي عدم انعقاده. وقد سبق بيان ذلك في أول الكتاب في الكلام في الأحكام في مسألة أن "الأمر لا يتناول المكروه"، وأن الصحيح عند أصحابنا فسادُ الصلاة في الأوقات المكروهة وإنْ قُلنا: النهي للتنزيه. فإنْ قلتَ: فيَلزم على هذا فساد الصلاة في الأماكن المكروهة، وليس كذلك. قلتُ: إنما قلنا بالصحة فيها لأن النهي فيها ليس لوصف لازم، بل لأمر خارج غير لازم، كالصلاة في المغصوب، والبيع في وقت النداء، فصار هذا كالوضوء بالماء المشمس، وهو صحيح بلا خلاف. فإنْ قلتَ: فما الفرق بين الزمان والمكان؟ قلتُ: الفعل في الزمان يُذْهِب جُزءًا منه، فكان النهي منصرفا لإذهاب هذا الجزء في المنهي عنه، فهو وصف لازم، إذْ لا يتصور وجود فِعل إلا بإذهاب جزء من الزمان. وأما المكان فلا يذهب جزء منه ولا يتأثر بالفعل، فالنهي فيه لأمر خارجي مجاور، لا لازم. فحَقِّق ذلك؛ فإنه نفيس. واعْلَم أن حقيقة هذا الخلاف بيننا وبين الحنفية ينبني على أصل آخَر وهو أن الشارع إذا أمر بشيء مطلقًا ثم نهى عنه في بعض أحواله، هل يصير فَقْد تلك الحالة شرطًا في المأمور به ¬

_ (¬1) نهاية الوصول (3/ 1180).

حتى لو فُعِل بدونه لا ينعقد كما في سائر الشروط؟ أو لا؟ فعندنا: نعم، وعندهم خِلافه. وذلك كصوم يوم النحر والتشريق، الصوم مأمور به في الأصل، ومنهي عن إيقاعه في النحر والتشريق. ونحوه طواف الحائض، الطواف مأمور به ومنهي عن إيقاعه في حالة الحيض. فإذا فعل المأمور به في تلك الحالة، كان صحيحًا من حيث الأصل، فاسدًا من حيث الوصف. وقالوا: إن النهي يدل على الصحة حينئذٍ كما نُقل عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن؛ احتجاجًا بأنه لو كان غير صحيح لم يحتج للنهي عنه، بل يكون النهي لغوًا، إذ لا يقال للأعمى: (لا تبصر)، فيصح عندهم لذلك صوم العيد والتشريق والصلاة في الأوقات المكروهة. هكذا احتج به أبو زيد الدبوسي وغيره. [قالوا]، (¬1): ولا يُخلِّص من ذلك أن يُجعل النهي منصرفًا إلى إيجاد صورته؛ لأن الحقيقة الشرعية إنما تكون بالصورة والمعنى بها يكون صحيحًا، فلولا أنه صحيح لَمَا نُهِي عنه. والجواب: أن فساده إنما عُرف بالنهي عنه، وإنما يكون النهي لغؤا لو كان فساده قد عُرف بغير النهي. وادِّعاء أن النهي لا يكون للصورة فقط ممنوع؛ لأنه يكون تلاعبًا، فنُهي عنه لذلك. ويدل عليه ما في "الصحيحين" من قوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت أبي حبيش وقد قالت: "إني امرأة أُسْتَحاض فلا أَطْهُر، أَفَأَدعُ الصلاة؟ ": "فإذا أقبلت الحيضة، فدعي الصلاة" (¬2) الحديث. ولو كان المنهي عنه صحيحًا لَصَحَّت صلاة الحائض؛ إذِ النهي إنما هو للصلاة ¬

_ (¬1) في (ص): وقالوا. (¬2) سبق تخريجه.

الشرعية، لا اللغوية. وذهب قوم إلى أنه لا يدل على الصحة، وادَّعى القاضي فيه الاتفاق. وكأن الحنفية لما قالوا: فاسد من حيث الوصف، يصدق موافقتهم على الفساد في الجملة. نعم، فرَّعوا على ذلك أنه لو نذر صوم يوم النحر، ينعقد نَذْره عندهم، ويجب عليه إيقاعه في غير يوم النحر. فإنْ أَوْقَعه فيه، كان ذلك محرَّمًا، ويقع عن نذره. وكذا قالوا في طواف الحائض: إنه يجزئها عن طواف الفرض حتى [يحصل] (¬1) التحلل به. وإذا باع درهمًا بدرهمين، يبطل العقد في الدرهم الزائد، ويصح في القَدْر المساوي. كل ذلك تحقيق لقولهم: إنه صحيح بأصله، فاسدٌ بالوصف. وبالغوا في التخريج على هذه القاعدة، فقالوا: الزنا يُثبت المصاهرة حتى تحرم أُم المزني بها وبنتها على الزاني، وإنَّ الكفار إذا استولوا على أموال المسلمين، ملكوها. لكن الصواب أن هذا ليس من هذه القاعدة؛ لأن الزنا والاستيلاء من الأفعال الحسِّية، ولا خِلاف عندهم في أن النهي عن الأفعال الحسية لانتفاء الشرعية؛ ولهذا لم يَقُل أحد بمشروعية الزنا والغصب. ولهم في ذلك مأخذان: أحدهما: أن المنهي عنه في يوم النحر مثلًا إيقاع الصوم، لا الصوم الواقع، والمفهومان متغايران؛ إذْ لا يَلزم مِن تحريمِ الإيقاع تحريمُ الواقع، كما لا يَلزم مِن تحريمِ الكون في الدار المغصوبة تحريمُ نفس الصلاة؛ لِتغايُر المفهومين. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق، ش)، لكن في (ت، ض): يحلل.

قلتُ: قد سبق أنَّ فِعل الشيء وإيقاعه والفعل الواقع معناهما واحد، وأيضا سبق الفرق بين النهي عن الفعل في الزمان وفي المكان. المأخذ الثاني: أن النهي يستلزم تَصوُّر حقيقة المنهي عنه شرعًا، وذلك يقتضي الصحة، والمنهي عنه قبيح لذاته، وذلك قائم بالوصف، لا بالفعل. قلتُ: لكن لا نُسَلم أن القبح في المنهي استُفِيد من غير النهي، فلا يُعْرف قُبح المنهي عنه إلا بالنهي، وقد مضى تقريره. وبالجملة فعند الشافعي أن المعصية والصحة متنافيان في زمان واحد مِن حيثية واحدة. وبحث بعض المحققين في القول بأن "النهي يقتضي الصحة" بأنه إنْ أريد "الصحة العقلية" على معنى إمكان كونه صحيحًا، فلا خلاف في ذلك، أو "العُرفية" على معنى أنه يَصْدُق على صومه عُرفًا اسم ذلك، فكذلك. وأدلتهم إنما تدل على الصحة بهذين المعنيين، أما "الشرعية" على معنى ترتُّب الآثار عليه شرعًا فَهُم لا يقولون به، ولا أدلتهم تقتضيه؛ فيرجع الخلاف لفظيًّا. قلتُ: قد سبق للخلاف فوائد في النذر ونحوه. وأما المنهي عنه لأمر خارج غير لازم فلا يقتضي الفساد عند الشافعي والجمهور، سواء أكان في العبادات أو في العقود. قال الآمدي: (لا خلاف أنه لا يقتضي الفساد إلا ما نُقل عن مالك وأحمد) (¬1). انتهى وهو المشهور عند الحنابلة وداود، وعُزي إلى أبي هاشم وغيره؛ ولهذا أَبْطل أحمد الصلاة في الدار المغصوبة كما سبق بيانه في الأحكام. ¬

_ (¬1) الإحكام (2/ 210).

نعم، قيل: إطلاق النقل عن أحمد ليس بجيد؛ فإنه إنما قال ذلك في بعض العبادات وبعض العقود خاصة، كالبيع في وقت النداء والصلاة في المغصوب، وإلا فهو موافق على وقوع الطلاق في الحيض وفي طُهْر جامَعَها فيه وإرسال الثلاث ونحو ذلك. نعم، إذا قُلنا في هذا النوع: (إنه يقتضي الفساد) كما يقول أحمد وغيره فقام دليل في موضع على أنه لا يقتضي الفساد: هل يكون اللفظ باقيًا على حقيقته؛ لأنه لم يخرج عن جميع موجبه، فيصير كالعام الذي خرج بعضه، فإنه يبقى حقيقة فيما يبقى (على المرجَّح كما سيأتي)؟ أو يبقى مجازًا؛ لخروجه عما يقتضيه في الأصل؟ فيه خِلاف حكاه ابن عقيل في كتاب "الواضح"، وهو مبني على أن لفظ النهي يدل على الفساد [بصيغته] (¬1)، أما إذا قلنا: (يدل عليه شرعًا أو معنًى)، فليس فيه إخراج بعض مدلول اللفظ. ولعل هذه المسألة هي فائدة الخلاف في كونه لُغةً أو شرعًا أو معنًى. وقد حُكي في الخلاف أقوال سوى ما سبق كما زعمه بعض المصنفين: منها ما حكاه الشيخ أبو إسحاق في "شرح اللمع" أن: (النهي إن كان مختصًّا بالمنهي عنه كالصلاة في الثوب النجس، دَلَّ على فساده، وإلا فلا، كالصلاة في الدار المغصوبة والثوب الحرير والبيع وقت النداء) (¬2). قلتُ: لكنه لا يخرج عمَّا سبق، فإن الثوب النجس إنما كان مختصًّا لأن شرط الصلاة ¬

_ (¬1) من (ص، ش). (¬2) شرح اللمع (1/ 297).

طهارة الثوب، فالنهي عنه لعدم شرطه، بخلاف ما لا [يختص] (¬1)؛ لأنه لأمر خارجي. ومنها: القول بأن النهي عن العبادة يقتضي الفساد مطلقًا، والتفصيل بين ما هو لِعَيْنه أو لخارج لازم أو مجاور لها [إنما] (¬2) هو في غير العبادات. نقله ابن برهان في "الوجيز" عن الشافعي، واختاره الإمام الرازي في "المعالم"، وجرى عليه البيضاوي، وظاهر نَقْل الآمدي أنه قول أصحاب الشافعي واختاره. قيل: ونَصَّ عليه الشافعي في "الرسالة" و"البويطي"، وهو ظاهر عبارة ابن السبكي في "جمع الجوامع" على ما قرره شيخنا الزركشي في شرحه. وعندي أنه يمكن حمل كلامه على أن التفصيل يعود إلى الجميع؛ بدليل آخِر كلامه، [بل] (¬3) والمنقول عن نَص "الرسالة" و"البويطي" يمكن حمله على ذلك، بل ما سبق في المذهب المختار من النصوص وكلام الأصحاب يقتضي ذلك. ومنها: ما حكاه القرافي عن المالكية أنه يقتضي شبه الفساد، ولكن ظاهره يقتضي تخصيصه بالعقود. قلتُ: الظاهر أن مراد قائله بِـ "شبه الفساد" نَفْس الفساد، وإنما عبر بذلك تفرقة بَيْنه وبين ما نُهي عنه من الفاسد الذي قد عُلِم فساده بغير النهي. ومنها: أن ما يُخِل بركن أو شرط يقتضي الفساد دُون ما لا يُخل بواحد منهما. ذكره ابن برهان وابن السمعاني، وهو ظاهر كلام الغزالي في "المستصفى" آخِرًا. قالوا: فيكون معنى كلامه أن النهي لم يقتضِ فساده، إنما فساده عُلِم بأمر آخَر. ¬

_ (¬1) كذا في (ت)، لكن في (ص): يخص. (¬2) من (ص). (¬3) في (ق): قيل.

قلتُ: يمكن ادِّعاء أنه عَيْن قول الجمهور مِن حيث إنه رجع النهي عنه لأمر داخل أو لازم، ولكن كونه داخِلًا أو لازمًا استُفيد مِن غير النهي. ومنها: ما ذكره المازري في "شرح البرهان" عن شيخه -والظاهر أنه أبو الحسن اللخمي- التفصيل بين ما النهي عنه لِحَقِّ الخلْق فلا يقتضي الفساد، أو لِحَقِّ الله تعالى فيقتضيه. قال: ولهذا لم يُبْطِل الشارع بيع المُصرَّاة، بل أَثبت للمشتري الخيار. قيل: وهو قول غريب. قلت: هو في الحقيقة راجع إلى ما سبق مِن الفرق بين اللازم والمجاور، فإن مراده بِـ "حَقِّ الخلْق" نحو الصلاة في المغصوب، بخلاف الصلاة بالنجاسة. على أن ما ذكره من التعبير بذلك ينتقض طردًا وعكسًا؛ فإن البيع بالشرط الفاسد والأجل المجهول فاسد مع أنه لِحَقِّ الآدمي، ونحوه -على مذهبهم- البيع على بيع أخيه، والبيع في وقت النداء لِحَقِّ الله عز وجل وهو صحيح. نعم، هو عندهم فاسد كما سبق. تنبيهان الأول: قولي: (وَمُطْلَقُ النَّهْيِ) أي: الذي ليس مقيَّدًا بما يُشعر بالفساد أو بالصحة. فالأول: نحو: (لا تُصل بغير طهارة)، ونحوه، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُزَوِّج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تنكح نفسها" (¬1). رواه ابن ماجه والدارقطني بطُرق، فآخِر الحديث يدل على اقتضاء ذلك الفساد. ومثله: نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الكلب، وقال فيه: "فإنْ جاء وطلب ثمنه، فاملأ كفه ترابًا" (¬2). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) مسند أحمد (2626)، سنن أبي داود (رقم: 3482) وغيرهما. قال الألباني صحيح الإسناد. =

رواه أبو داود بإسناد صحيح، ونهيه عن الاستنجاء بالعظم والروث، وقال: "إنهما لا يطهران" (¬1). رواه الدارقطني وصححه. ففي ذلك كله أنه يقتضي الفساد قطعًا، خلافًا لِمَا أفهم كلام بعضهم -كابن برهان- من إجراء الخلاف فيه أيضًا. والثاني كحديث: "لا تصُرُّوا الغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين" (¬2) الحديث. ونحو ذلك مما فيه النهي وإثبات الخيار. ومِثله أيضًا: النهي عن طلاق الحائض والأمر فيه بالمراجعة. وقولي: (وَالشَّكُّ في اللَّازِمِ كَالْيَقِينِ) أي: إنَّ المشكوك في كونه لازمًا بماذا يلتحق؟ وهي مسألة نفيسة تَعَرَّض لها الشيخ عز الدين بن عبد السلام في "قواعده"، فقال: (كل تَصَرُّف منهي عنه لأمر [يجاوره] (¬3) أو [يقارنه] (¬4) مع توفر شروطه وأركانه فهو صحيح، وكل تصرف نُهي عنه ولم يُعلم لماذا نُهي عنه؛ فهو باطل؛ حملًا للفظ النهي على الحقيقة) (¬5). انتهى وقد استُفيد من كلام ابن عبد السلام أن المراد بالخارجِ غيرُ اللازم الذي لا يتعلق ¬

_ = (صحيح أبي داود: 3482). (¬1) سنن الدارقطني (1/ 56) بلفظ: (نَهَى أَنْ يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ أَوْ عَظْمٍ، وَقَالَ: إِنَّهُمَا لَا يُطَهِّران). وقال الإمام الدارقطني: (إسناده صحيح). سنن الدارقطني، الناشر: مؤسسة الرسالة، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، الطبعة: الأولى - 2004 م. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 2043). (¬3) في (ت): يجاوزه. (¬4) في (ص، ت): يقاربه. (¬5) قواعد الأحكام (2/ 21).

بإخلال ركن أو شرط، فالأول هو مرادهم بالجزء الداخل، والثاني هو مرادهم باللازم الخارج؛ لِلزوم الشرط للماهية، فنشأ من ذلك الخلافُ في الأمثلة. الثاني: قال ابن السمعاني في "الاصطلام" في مسألة "صوم يوم العيد": (إنهم لم يتعرضوا لحقيقة الفرق بين المنهي عنه لِعَينه أو لغيره. ويمكن أن يقال: النهي لعينه هو ما طُلب فيه إيجاد ضد المنهي عنه، كالنهي عن صوم يوم العيد، وما ليس كذلك فالنهي فيه لغيره، كالنهي عن الصلاة في الدار المغصوبة، ليس المطلوب ترك الصلاة، وكذا البيع في وقت النداء، إذْ لو اشتغل بغير البيع كان كذلك) (¬1). والنهي عن صوم يوم العيد ونكاح المحارم ونحوه كما صرح به القاضي الحسين في "باب النذر" من "تعليقته". على أن ابن السمعاني قد ضايق في بعض كتبه الخلافية في الفرق، وقال: إن النهي لا يكون لعين المنهي عنه أبدًا، إنما هو دائما لغيره؛ إذ الأحكام ليست بأوصاف ذاتية للأفعال، بل متعلقة بها. وفيما قاله أولًا نظر؛ لِمَا قررناه أول المسألة من الفرق بين الأمرين. وكذا فيما ضايق به على الفرق بينهما نظر؛ فإن الأحكام وإنْ لم تكن وصفًا بل متعلقة لكن التعلق مرة يقع بواسطة و [مرة] (¬2) بلا واسطة؛ فحصل الفرق، والله أعلم. ¬

_ (¬1) الاصطلام في الخلاف بين الإمامين الشافعي وأبي حنيفة (2/ 217 - 218)، الناشر: دار المنار بالقاهرة، تحقيق: د. نايف نافع، الطبعة: الأولى / 1412 هـ- 1992 م. (¬2) في (ت): مرة يقع.

ص: 566 - وَالنَّفْيُ في قَبُولٍ اوْ إجْزَاءِ ... هَلْ هُوَ لِلصِّحَّةِ ذُو اقْتِضَاءِ؟ 567 - أَوْ لِلْفَسَادِ؟ رَجَّحُوا كِلَيْهِمَا ... بِمَا أتي مِنْ شَاهِدٍ عَلَيْهِمَا الشرح: لَمَّا [بينتُ] (¬1) أن النهي يقتضي الفساد فيما سبق من الأنواع، ذكرتُ ما هو في معنى النهي هل يقتضيه أيضًا؟ أو لا؟ وذلك فيما إذا نفى الشارع القبول عن فعل في حالة من أحواله، كقوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران: 91]، {أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ} [التوبة: 54] (¬2)، وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" (¬3)، "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" (¬4)، "لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول" (¬5)، ونحو ذلك. ووجْه مشابهته للنهي أنه في معنى: "لا يُصَلِّ أحدكم إلا بطهارة" و"لا تُصَل حائض إلا بخمار". وهكذا في الكل، فيقتضي الفساد كالنهي على ما سبق. ويكون معنى نفي القبول نفي الصحة؛ ولذلك أدخل ذلك في "جمع الجوامع" في نفس ¬

_ (¬1) في (ش): ثبت. (¬2) في جميع النُّسخ: لن تقبل منهم نفقاتهم. (¬3) صحيح البخاري (رقم: 135)، صحيح مسلم (رقم: 225). (¬4) سنن أبي داود (رقم: 641)، سنن الترمذي (رقم: 377)، سنن ابن ماجه (رقم: 655) وغيرهم. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 641). (¬5) سبق تخريجه.

المنهي عنه لوصفه، حيث قال عن أبي حنيفة: (إنَّ المنهي عنه لوصفه يفيد الصحة. وقيل: إنْ نفي عنه القبول) (¬1) إلى آخِره، إذ التقدير: وقيل في المنهي عنه: إنْ نُفِي عنه القبول فإنه أيضًا يفيد الصحة على قولٍ. والحاصل أن ما نُفي عنه القبول هل يكون فاسدًا؟ أو لا؟ قولان: أحدهما: أن القبول والصحة متلازمان، فإذا نفي أحدهما، انتفى الآخَر. الثاني: لا؛ لأن القبول أخص من الصحة؛ إذ كل مقبول صحيح، وليس كل صحيح مقبولًا؛ بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أتى عرافًا، لم تُقبل له صلاة" (¬2)، "إذا أبق العبد، لم تُقبل له صلاة حتى يرجع إلى مواليه" (¬3)، "مَن شرب الخمر، لم تُقبل له صلاة أربعين صباحًا" (¬4)، وشبه ذلك. فيكون القبول هو الثواب ونحوه. وقد يصح الفعل ولا ثواب فيه كما هو الصحيح عندنا في الصلاة في المغصوب، فلا يلزم حينئذٍ مِن نفي القبول نفي الصحة. وهذان القولان متكافئان، لا رُجحان لأحدهما على الآخَر، لأن نفي القبول وَرَدَ في ¬

_ (¬1) جمع الجوامع (1/ 503) مع شرح المحلي وحاشية العطار. (¬2) صحيح مسلم (رقم: 2230). (¬3) سنن النسائي (4049)، صحيح ابن خزيمة (941)، وغيرهما. وقال الألباني: صحيح. (صحيح النسائي: 4060). والحديث في صحيح مسلم (رقم: 70) دُون قوله: "حتى يرجع إلى مواليه". (¬4) سنن ابن ماجه (رقم: 3377)، سنن الترمذي (رقم: 1862) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن الترمذي: 1862).

الشرع تارة بمعنى نفي الصحة كما في حديث: "لا تُقبل صلاة بغير طهور" (¬1) ونحو ذلك مما يستدل به أصحابنا وغيرهم على اشتراط الطهارة أو ستر العورة. وتارة ينفي القبول مع وجود الصحة، كما في الأحاديث السابقة في الآبق وشارب الخمر ومَن أتى العراف. وحكى الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" القولين، وأشعر كلامه بعدم ترجيح أحدهما على الآخَر، حيث حكى في تفسير "القبول" قولين: (أحدهما: ترتيب الغرض المطلوب من الشيء على الشيء، فيقال: "قَبِل عُذرَه" إذا رتب على عذره الغرض المطلوب وهو عدم المؤاخذة بالجناية، وعلى هذا فالصحة والقبول متلازمان. والثاني: أن "القبول" كون العبادة بحيث يترتب الثواب عليها، وعلى هذا فالقبول أَخَص من الصحة، فكل مقبول صحيح، ولا ينعكس) (¬2). انتهى نعم، ابن عقيل -من الحنابلة- حكى القولين في كتابه في الأصول، ورجح أن الصحيح لا يكون إلا مقبولًا، ولا يكون مردودًا إلا وهو باطل. لكن ترجيحه ذلك ليس بالواضح مع كثرة مجيء الأمرين في الشرع كما أشرنا إليه؛ ولذلك جريتُ في النظم على عدم الترجيح، فقلتُ: (رَجَّحُوا كِلَيْهِمَا بِمَا أتي مِنْ شَاهِدٍ عَلَيْهِمَا). وقولي: (اوْ إجْزَاءِ) أشرتُ به إلى أن نفي الإجزاء كنفي القبول فيما ذكر، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 63 - 63).

تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن" (¬1). رواه الدارقطني، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أربع لا تجزئ في الضحايا" (¬2)، ونحو ذلك. نعم، اختُلف في كيفية الخلاف فيه على طريقين: أصحهما: القطع بأنه كَنَفْي القبول. والثاني: أن فيه الخلاف السابق في نفي القبول، وأَوْلى باقتضائه الفساد؛ لأن الصحة قد توجد حيث لا قبول، بخلاف الإجزاء مع الصحة. قلتُ: وقد سبق في الكلام في خطاب الوضع معنى الإجزاء والفرق بينه وبين الصحة بما يخدش ما ذكر هنا، فراجعه، والله تعالى أعلم. (تم الجزء الأول بعون الله وتوفيقه في ليلة سفر صباحها عن سابع عشر شهر المحرم الحرام من شهور سنة ست وعشرين وثمانمائة بمنزلي بالصالحية من الشام المحروسة أحسن الله عاقبتها، ويتلوه الجزء الثاني: الفصل الثاني في "العام" و"الخاص") (¬3). وحسبنا الله ونعم الوكيل. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) كُتِب هذا في آخِر نُسخة (ص)، ثم كُتب بعده: (انتهى انتساخه عشية يوم الخميس لسبع بقين من جمادى الأولى من شهور سنة تسع وعشرين وثمانمائة برباط السِّدرة الملاصق للمسجد الحرام بمكة المشرفة زادها الله تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا ومهابة. . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم).

الفصل الثاني في: "العام" و"الخاص"

الفصل الثاني في: "العام" و"الخاص" 568 - فَذُو الْعُمُومِ: اللَّفْظُ إذْ يَسْتَغْرِقُ ... صَالِحَهُ مِنْ غَير حَصْرٍ يُطْلَقُ الشرح: هذا الفصل معقود للثاني مِن مهمات أقسام الكلام، ولإمامنا الشافعي - رضي الله عنه - فيه البيان الشافي. قال الإمام أحمد رحمه الله: (لم نكن نَعرف الخصوص والعموم حتى قَدِمَ علينا الشافعي). وإنما أخرتُ الكلام فيه عن الأمر والنهي لتعلقهما بنفس الخطاب الشرعي، وتعلق العموم والخصوص بالمخاطَب باعتبار كمِّيته. فَ "العموم" في اللغة: شمول أمرٍ لمتعدد، والأمرُ الشامل هو العام، لفظًا كان أو غيره، نحو: عَمَّ الخيرُ، وعَمَّ الخصْبُ. ولهذا يقع في عبارة بعض المناطقة: العام ما لا يمنع تَصوُّره مِن الشركة فيه. والأكثر إنما يفسرون بذلك الكُلي، وهو بمعنى العموم لغةً، وأما اصطلاحًا فسيأتي. فَ "العام" في الاصطلاح فيه تعاريف كثيرة، المختار منها تعريف أبي الحسين وابن السمعاني وغيرهما، وهو ما أوردتُه في النَّظم: إنه اللفظ المستغرق لِمَا يَصلح له مِن غير حَصْر.

وإنما عبرت بقولي: (فَذُو الْعُمُومِ) ولم أقُل: (العام)؛ لِضيق الرجز عن لفظه، فعدلتُ إلى معناه. "فذو" مبتدأ، وما بعده من التعريف خبره. وأيضًا ففيه تنبيه على تسامح مَن قال: (العموم: اللفظ المستغرق)، كما عبر به عبد الجبار وابن برهان وغيرهما. فَـ "اللفظ" جنس، وما بعده الخاصة، و"القول" وإنْ كان أحسن في التعبير لِكونه جنسًا قريبًا إلا أنه لَمَّا كان المراد هنا اللفظ الموضوع لمعنى؛ لأن الكلام فيه، ساغ التعبير به؛ لمساواته للقول، وكان "اللام" فيه للعهد العائد إلى ما سبق في التقسيم، وأيضًا [فقرينة] (¬1) استغراقه [المدلول] (¬2) يُخرج اللفظ الذي لا يدل. وأيضًا ففيه التعريض بأن العموم حقيقة في اللفظ دُون المعاني، وستأتي المسألة؛ وذلك لأن القول كثيرًا ما يطلق على الرأي، كقولك: "قول الشافعي"، "قول أبي حنيفة"، ولا شك أنَّ الرأي معنى. نعم، التعبير به مُعرَّفًا باللام -وإنْ سبق أنه مما يُعاب في التعاريف لأن التعريف للماهية - فيه ما فيه، لكن لما شاع استعمال ذلك وكثر بعد التنبيه مرات عليه، اغتُفِر، لاسيما في النَّظم. وخرج بقيد "استغراق ما يصلح له": - المُطْلَق؛ فإنه لا يدل على أفراد فضلًا عن استغراقها. - والنكرة في الإثبات؛ فإنها لا تَعُم على المرجَّح (كما سيأتي)، سواء أكانت بصيغة مفرد (كـ "رجل") أو جمع (كـ "رجال") أو نحوه من أسماء الجموع (كـ "قوم" و"رهط") أو عدد ¬

_ (¬1) في (ت): بقرينة. (¬2) في (ت، س، ض، ش): للمدلول.

(كَـ "خمسة")، فإنَّ دلالةَ العدد على أفراده دلالةُ كُلٍّ على أجزائه، فلا استغراق فيه. نعم، قد يطلق على هذه الأمور أنها عامة، أَيْ على سبيل البدل، كما في نحو: {تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]، {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89]، ونحو ذلك. ومعنى "عموم البدل" أنه يَصْدُق على كل واحد بدلًا عن الآخَر، [لا مَعَ] (¬1) صِدقه عليه، بخلاف "عموم الشمول"، فإنه يَصدق على كل فرْد في حالة واحدة. وحيثما يطلق "العموم" في الأصول والفقه وغالب العلوم فإنما يراد "عموم الشمول"، لا عموم البدل. وهذا معنى قولي: (إذْ يَسْتَغْرِقُ صَالِحَهُ)، أي: حيث يكون مستغرقًا، أي: شأنه ذلك حتى يدخل فيه نحو: الشمس والقمر والسماء والأرض، فإن كُلًّا من ذلك عام وإنْ كان منحصرًا في الواقع في واحد أو في سبعة، وقد سبق في بعض تقسيمات "الكُلي" ما يوضح ذلك. ومعنى قولي: (صَالِحَهُ) أي: الصالح له. فالإضافة بمعنى اللام. ومما يدخل في مدلول الصلاحية أن كل مدلول بحسبه، كَـ"مَن" في شمول العقلاء دون غيرهم، و"ما" لغيرهم، و"أين" في عموم الأمكنة، و"متى" في عموم الأزمنة، و"كل" بحسب ما يدخل عليه كما سيأتي إيضاحه في صِيَغ العموم وإنْ كان مفردًا. وكُل عام فاستغراقه في أفراد ما يدل عليه، فاستغراق "المفرد" في المفردات، و"الجمع" في الجموع، و"المثنى" في المثنيات، حيث كان فيها ما يقتضي العموم من "أل" أو "إضافة" أو غير ذلك. ¬

_ (¬1) كذا في (ت، س)، لكن في سائر النسخ: ولا يمنع.

وقد عُلم من تعبيري بِـ "الصالح له" دون قولي: "مدلوله" أن كونه صالحًا له إنما هو بحسب الأمر الذي اشتركت الأفراد فيه. فلو عُبربِ "المدلول"، لكان موضوعًا لكل فرد وَضْع المشترك لكل مِن مَعنييه أو معانيه، وليس ذلك مرادًا. فالمراد بِـ "الصلاحية" أنْ يَصْدُق عليه لُغةً بهذا الاعتبار. واستغنيت بعموم "صالحه" عن قول البيضاوي وغيره: (يستغرق جميع ما يصلح له) (¬1). نعم، اعترضه السبكي بأنَّ هذه الصيغ العامة من جملة المُعَرَّف، فأَخْذها في التعريف دَوْر، وادَّعَى أن جوابه متعذِّر. قلتُ: قد يجاب بأنَّ كونها للعموم من باب وجود العموم فيها، لا تَصَوُّر العموم، وإنما يَلزم الدور لو توقَّف التعريف على تَصَوُّر العموم فيها كما سبق نظيره في حد "العِلم" ونحوه. إلا أن يقال: حصول العموم هنا لا بُدَّ مِن تَصوُّره؛ ليحكم بالعموم، فيرجع إلى التوقف على تصوره؛ فَجَاءَ الدور؛ لاتحاد جهة التوقف. وقولنا: (مِنْ غَير حَصر) احتراز من اسم العدد، نحو "عشرة"، فإنها تستغرق الأفراد المركبة لكن بحصر؛ إذ دلالتها دلالة كُلٍّ على أجزائه، ودلالة العموم كُلّي على جزئياته كما سيأتي. وبذلك صرح ابن الحاجب هنا وقال: (إنه لو لم مِحترز عنه بـ "عدم الحصر" لكان الحد غير مانع) (¬2). نعم، في كلامه في بحث "الاستثناء" ما يخالف ذلك، وتابعه في "جمع الجوامع"، ¬

_ (¬1) منهاج الوصول (ص 172) بتحقيقي. (¬2) مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (2/ 695).

والصواب ما هنا، لكن سبق في تفسير "الاستغراق " أنه مخرج للعدد، وعلى هذا فيستغنى عن قيد "عدم الحصر". أما لفظ "المثنى" باعتبار جزئيه ولفظ "جمع القِلة" باعتبار أقَل الجمع (وهو ثلاثة أو اثنان على الخلاف في ذلك) و"جمع الكثرة" على أحد عشر -فإنه خارج بقيد "الاستغراق"، لأن دلالةَ كُلٍّ مِن ذلك دلالةُ الكل على أجزائه، وعمومه في كل اثنين اثنين وجَمْع جَمْع عموم بَدَل، لا عموم شمول، إلا أن يقترن به ما يقتضي العموم من "أل" أو "إضافة" أو "نفي" أو "شرط" أو نحو ذلك مما سيأتي تفصيله، فيفيد عموم الشمول بما انضم إليه كما سبق. وكل ذلك سيتضح في الكلام على صِيَغ العموم مُفصلًا -إن شاء الله تعالى- لاسيما في مسألة أن "الجمع المنكَر لا يفيد العموم". تنبيه: قد عُلم مِن شرح هذا التعريف ضَعف غيره مِن التعاريف. فمِن ذلك قول الغزالي: (إنه اللفظ الواحد الدال مِن جهة واحدة على شيئين فصاعدًا) (¬1). فإنه ليس بجامع ولا مانع كما أشار إليه ابن الحاجب. أما الأول فلخروج المعدوم والمستحيل؛ لأن ذلك لا يسمى "شيئًا" على قول أهل السنة مع أن العموم قد يكون فيهما، بخلاف قولنا: (الصالح له)؛ فإنه شامل لهما. نعم، قد يجاب عن الغزالي بأن مراده بِـ "الشيء" المعنى اللغوي الشامل للموجود والمعدوم، وكونه لا يسمى "شيئًا" إلا الموجود إنما هو في عُرف المتكلمين، إلا أن يقال: مدرك الخلاف بينهم فيه إنما هو الاستناد إلى اللغة كما يُعرف ذلك مِن أدلتهم المقررة في ¬

_ (¬1) المستصفى (ص 224).

محلها. قال ابن الحاجب: (ولخروج الموصولات وصلاتها؛ لأنها عامة وليست بلفظ واحد) (¬1). لكن في هذا أيضًا نظر؛ لأن الدال هو الموصول وهو مفرد، والصلات إنما هي لتبيين المراد منه؛ لتظهر الفائدة؛ ولهذا كان الإعراب إنما يُحكم به لمحل الموصول وحده. اما الثاني: فلدخول المثنى؛ لأنه دال على مفرديه وليس بعام كما سبق، ولدخول المعهود (نحو: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ} [آل عمران: 173]) والنكرة (نحو: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]) وليس شيء منهما بعام. ثم قال ابن الحاجب: (وقد يلتزم الغزالي هذين) (¬2). أي: فيدعي عمومهما؛ لمطلق الشمول في المثنى والعموم البدلي في النكرة. وهو عجيب؛ فإن المثنى لا استغراق فيه بالمعنى السابق أو لأنه فيه حصر، وشَرْطُ العموم عدم الحصر. وأما العموم البدلي في النكرات فليس هو المراد كما سبق تقريره، فكيف يلتزم ما لا يمكنه التزامه؟ ! وقد قال هو في "المستصفى": إن النكرة في الإثبات لا عموم فيها (¬3). وذكر ابن الحاجب تعريف أبي الحسين الذي اخترناه، وزعم أنه ليس بمانع. قال: (لأن الأعداد نحو: "عشرة" ونحو: "ضرب زيد عمرًا" يدخل كل منهما فيه) (¬4). ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى (2/ 104) مع بيان المختصر. (¬2) مختصر المنتهى (2/ 104) مع بيان المختصر. (¬3) انظر: المستصفى (1/ 243). (¬4) مختصر المنتهى (2/ 104) مع بيان المختصر.

مع أنه لا عموم فيهما؛ ولهذا احترز عنه الغزالي في تعريفه السابق بقوله: (اللفظ الواحد) إلي آخِره. وما قاله ممنوع. أما الأول: فقد بيَّنا أنه يخرج بقيد الاستغراق أو بقيد عدم الحصر. وأما الثاني: فلأن الكلام في المفرد، وأما "ضرب زيد عمرًا" فليس بمفرد. وقد سبق تقرير أن العموم من عوارض المفرد وأقسامه، فكيف يدخل في ذلك المركَّب؟ ! والتقدير في التعريف: "العام: اللفظ المفرد" كما سبق تقريره في شرح الحد. وأيضًا فقد سبق في تفسير "الاستغراق" أنه الدلالة على كل فرد من جهة واحدة، و"ضرب زيد عمرًا" دال من جهات متعددة، فكل كلمة دالة على معناها؛ فلا استغراق. وأما ما اختاره ابن الحاجب في تعريفه بقوله: (ما دل على مسميات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقًا ضربة) (¬1) فإنه سالم من أمورٍ أُوردت على ما سبق. وقال: "مطلقًا"، ليحترز عن المعهود؛ فان د لالته بقرينة العهد. قلتُ: وهو معنى قولي: (يُطْلقُ)، وهو مؤخر من تقديم، وهو وفاعله جملة حالية، والتقدير: العام هو اللفظ حال كونه مطلقًا -لا بقرينة- المستغرِق لِمَا يصلح له. ويجوز أن تكون الجملة في موضع رفع؛ صفة لِلَّفظ؛ على قاعدة: "الجملة إذا وقعت بعد المعرَّف بِـ "أل" الجنسية فإن فيها الوجهين". إلا أنَّا قد قدَّمنا أن الألف واللام ينبغي أن تكون للعهد وهو ما له معنى، لا مطلق ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى (2/ 104) مع بيان المختصر.

اللفظ؛ فتتعيَّن الحالية حينئذٍ. وإنما قال ابن الحاجب: (ما دل) ولم يقُل: (اللفظ الدال)؛ لأن مختاره أنَّ العموم يكون في المعنى حقيقةً كاللفظ وإنْ كان المرجَّح خلافه كما سيأتي. فإن قيل: لمَ لا قيدت تعريفك بأن يكون "بوضع واحد" كما قيد به البيضاوي؛ ليخرج المشترك وما لهَ حقيقة ومجاز؟ فإنه وإن كان مستغرقًا لجميع ما يصلح له لكن لا بوضع واحد. قلتُ: إن كان اللفظ أُطلق في حالة واحدة على معنييه أو معانيه بالإرادة فذلك مجاز على المرجح كما سبق في بحث المشترك. ولو قلنا: حقيقة، ففيه الحصر، وهو خارج؛ مِن قولنا: (بلاحصر). وإن كان إنما أطلق على أحد معنييه أو معانيه فلا استغراق، فلا يحتاج إلى هذا القيد. ولذلك قرر الأسفراييني -شارح "البيضاوي"- أنه قيدٌ أريدَ به إدخال المشترك وما له حقيقة ومجاز، لا إخراجه ولكن حيث كان في المشترك ما يقتضي العموم، نحو: "رأيت العين أو العيون"، و"ما في الدار عين"، و"كل عين تفنى" ونحو ذلك إذا أريد بالعين حينئذٍ نوع من مدلولاتها، فإنه عام فيه بلا شك مع أنه لم يستغرق جميع ما يصلح له وهو بقية المعاني التي لم تقصد أصلًا. فكأنه يقول: يستغرق جميع ما يصلح له استغراقًا مقيدًا بكونه بوضع واحد؛ ليخرج الاستغراق لما يصلح له بوضعين، فإنه غير معتبر، [فيُدْخِل] (¬1) الصورة التي ذكرناها، ويُخرج الاستغراق الذي لم يقصد في العموم؛ وذلك لأن قيد القيد مُدْخِلٌ في الأصل ما خرج بالقيد. ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (ت): تدخل.

فعُلِمَ بذلك أن معنى قوله وقول غيره في قيد القيد: (إنه مُدْخِل، لا مخُرج) ما ذكرناه، وإلا فالقيد إنما يكون للإخراج لا للإدخال. فَحَقَق ذلك وتجنَّب ما وقع لشارحي "المحصول" -الأصفهاني والقرافي- في ذلك مما لا ينبغي أنْ يُتشاغل به. على أنه قد سبق أن إطلاق المشترك على معنييه أو معانيه من قبيل شمول العام لكن على الوجه الذي سبق تقريره هناك وما ذكرنا فيه من الأمور المهمة، فليراجع. وعلى كل حال فَعَنْ ذلك كله غِنًى بقيد "استغراق ما يَصلح له" على ما قررنا أنه باعتبار أمر اشتركت فيه. وإنما يكون ذلك بوضع واحد، فإن بقية المعاني التي هي بوضع آخَر ليست بواسطة أمر اشتركت فيه، بل هي مغايرة. فإن قيل: كيف يفسر "العام" بِ "المستغرق" وهُما مترادفان، فيكون هذا من التعريف اللفظي، لا الحقيقي ولا الرسمي؟ قيل: لا نُسَلم الترادف لغةً، وبتقدير التسليم فالعموم الاصطلاحي ليس هو عَيْن المستغرق لغةً، فالأول بالاصطلاح، والثاني باللغة؛ فلا تَرادف. وهذا الجواب ينفع في كثير من حدود يُورَد عليها مِثل ذلك، والله أعلم. ص: 569 - وَنَادِرًا يَحْوِي وَمَا لَمْ يُقْصَدِ ... وَيُوصَفُ الْمَعْنَى بِهِ كَـ "الرَّشَدِ 570 - يَعُمُّنَا وَالْخِصْبُ أَيْضا وَالْمَطَرْ" ... لَكِنْ مَجَازًا بِالْأَعَمِّ يُدَّكرْ الشرح: لما عَرَّفتُ العام بأنه: "اللفظ المستغرق لما يصلح له" إلى آخِره، ذكرت هنا ما فيه خلاف

في دخوله، وما يكون إطلاق العموم فيه حقيقة ومجازًا، وما وقع في اصطلاحهم من العبارة في عام وأعم. فهذه ثلاثة أمور اشتمل عليها البيتان. الأول فيه مسألتان: إحداهما: هل يحكَم بدخول الصورة النادرة تحت اللفظ العام؛ لشموله إياها لغةً؟ أو لا؛ لخروجها باستبعاد قَصْدِها؟ والخلاف في هذه المسألة مذكور في الفقه مُفرَّع عليه مسائل سيأتي ذكر شيءٍ منها. وزعم ابن السبكي أن الشيخ أبا إسحاق ذكر الخلاف فيها في الأصول. قال شيخنا بدر الدين في "شرح جمع الجوامع": (ولم أجده في كُتبه، وإنما يوجد في كلام الأصوليين اضطراب فيه يمكن أن يؤخذ منه الخلاف، وكذا في كلام الفقهاء؛ ولهذا اختلفوا في المسابقة على الفيل على وجهين: أصحهما: نعم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا سبق إلا في خُفٍّ أو حافِر" (¬1). والثاني: لا؛ لأنه نادر عند المخاطَبين بالحديث، ولم يُرَد باللفظ) (¬2). وذكروا في المتمتع العادم للهدي أنه يصوم الأيام في الحج قبل عرفة، فلو أخَّر طواف الزيارة عن أيام التشريق وصامها، لا يكون أداء وإنْ بقي الطواف؛ لأن تأخُّره عن أيام التشريق مما يَبعد وَيندر؛ فلا يدخل في قوله تعالى: {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196]، بل هو محمول على الغالب المعتاد. ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه (رقم: 2878)، سنن النسائي (رقم: 3589). قال الألباني: صحيح. (صحيح النسائي: 3591). (¬2) انتهى كلام الزركشي في تشنيف المسامع (1/ 324).

قال الرافعي: كذا حكاه الإمام وغيره. وفي "التهذيب" حكاية وَجْه بخلافه. وقال الغزالي في "البسيط": (لو أوصى بعبد أو برأس من رقيقه، جاز دفع الخنثى. وذكر صاحب "التقريب" وجهًا أنه لا يُجزئ؛ لأنه نادر لا يخطر بالبال. وهو بعيد؛ لأن العموم يتناوله). انتهى فهذا ترجيح لدخول النادر؛ لكن الشافعي نص على عدم الدخول، وبه قطع إمام الحرمين في "العُمَد" كما حكاه عنه ابن العربي في "القَبس". وفي "المطلب" في باب المسابقة أنَّ مَحط كلام الإمام والغزالي على أنه إنما يدخل في العام ما يخطر لِلَّافظ به حين النطق به، وهذا إنما يعتبر في قوله عليه الصلاة والسلام إذا قُلنا: إن جميع ما يقوله لا يكون إلا بوحي. أما إذا قلنا: يكون باجتهاد، فلا يظهر اعتباره؛ لأن موجبه عام لجميع الجزئيات. ولكن جوابه ما سيأتي. وحكى الرافعي عن الإمام في مهايأة المبعض: هل يدخل فيها النادر من هبة أو وصية إذا لم يصرحا في المهايأة بإدراج الاكساب النادرة؟ : (أنها تكون على الخلاف فيما إذا عمت الهبات والوصايا في قطر أنها تدخل لا محالة كالأكساب العامة، أو هي على الخلاف؛ لأن الغالب فيها الندور) (¬1). انتهى وفي "الأوسط" لابن برهان أن اللفظ العام لا ينزل على النادر؛ لأنَّا نقطع بكونها غير مقصودة لصاحب الشرع؛ لعدم خطورها بالبال. قال: وبنى على هذا أصحابنا كثيرًا من المسائل، منها: أنهم أبطلوا حمل أبي حنيفة "لا ¬

_ (¬1) العزيز شرح الوجيز (5/ 148).

نكاح إلا بولي" (¬1) على المكاتمة، وقالوا: المكاتبة نادرة من نادر؛ لأن الأصل في النساء الحرائر، والإماء نادر، والمكاتب منهن نادر. ويؤخَذ من تفصيل إلْكِيَا (في تخصيص العام بين أن يتقدم عهد كـ "أكرِم مَن دخل داري" ثم يقول: "أردت مَن تَقدم ذِكره مِن أخِصَّائي"، فيجوز؟ أو لا؟ فقيل: يجوز. وقيل: لا يجوز) أنَّ هذا التفصيل يجيء هنا؛ لأن التخصيص فرع الدخول في العام. واعلم أن بعض المتأخرين استشكل إطلاق الخلاف في هذه المسألة، وقال: لا يبين لي في كلام الله تعالى؛ لأنه لا يخفى عليه خافية، فكيف يقال: لا يخطر بالبال؟ ! ونحوه ما سبق من كلام "المطلب". وأجيب بأن المراد إجراء ذلك على ما يُعْهَد في كلام العرب مِن خطورِه بالبال؛ لأن كلام الله عز وجل جارٍ على أسلوب كلام العرب في مخاطبتها وإنْ كان فيها ما هو محُال في حقه كما في نسبة الغضب والقرب والبعد ونحو ذلك إليه تعالى. وكذلك الاستثناء مثلًا، فإنه إنما دخل لِمَا لَعلَّه يُنسى، فيستدرك إخراجه، وهذا ظاهر كثير لمن تتبَّعه. تنبيه: ينبغي تقييد المسألة: - بأنْ لا يدوم ذلك النادر؛ فإنَّ النادر الدائم كالعام كما قرروه في "باب التيمم" وغيره. - وبأنْ لا يساعده المعنى، فإنْ ساعده مع عدم ظهور اندراجه في اللفظ، فلم يتعرضوا له، فقيل: يحتمل أن يقال: يدخل قطعًا، وأن يقال: يجري فيه خلاف من الخلاف في بيع الأب مال ولده من نفسه وعكسه: هل يثبت فيه خيار المجلس؟ وجهان: ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

أحدهما: لا، فإن ثبوته للمتبايعين يقتضي التعدد، فعند الاتحاد لا يدخل. والثاني: نعم؟ لأن المعنى في ثبوته موجود، وذِكر "المتبايعين" في لفظ الشارع لِكَوْنه الغالب المعتاد. كذا وجهه الإمام في "النهاية". المسألة الثانية: إذا كان لفظ العام يَصدق على صورة يغلب على الظن أن المتكلم لم يقصدها لقيام قرينة على ذلك، هل تكون داخلة؛ لأن اللفظ يشملها؟ أَم لا تدخل؟ لاقتضاء القرينة عدم دخولها؟ فيه خلاف حكاه القاضي عبد الوهاب في "الملخص". ونقل [الأول] (¬1) عن أكثر متأخري أصحابهم، والثاني عن متقدمي أصحابهم وعن القفال من أصحابنا. وذلك مثل قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] الآية، هل يستدل به على إباحة أكل نوع مختلَف في جواز أكله أو شربه أو جماع مختلَف في [حِلِّه] (¬2)؛ عملًا بظاهر اللفظ؟ أوْ لا؛ لأنها مسوقة لبيان وقت الأكل وغيره مما ذكروا أنه يجوز بعد النوم نَسخًا لِمَا كان مِن التحريم لهما بعد النوم؟ ونحوه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34]، الآية، هل يستدل به على نوع مختلَف في وجوب الزكاة فيه؟ وكذا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5]، هل يستدل به على تحريم الجمع بين الأختين بملك اليمين؟ ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ش، ق)، لكن في (ض): الامام. وفي (ت، س): الامام الاول. (¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): حكمه.

ومن ذلك أيضًا ما سيأتي في العام بمعنى المدح والذم: هل يبقى على عمومه؟ وأشباه ذلك. والأصح المختار: الدخول، وهو ما يقتضيه كلام أصحابنا في تفاريع الفقه. ومنه يؤخذ حكاية الخلاف في المسألة، ففي "البسيط" -لما حكى الخلاف في التوكيل بشراء عبد وأطلق فاشترى من يعتق على الموكل- قال: ومثار الخلاف التعلق بالعموم أو الالتفات إلى المقصود. ومن ذلك: ما يقع في ألفاظ الواقفين مما يكون فيه صورة يظهر أن الواقف لم يقصدها، الصحيح الدخول؛ لدلالة اللفظ، وعدم انضباط القصد وفقده. نعم، الحنابلة يميلون إلى عدم الدخول، ويبنون عليه أصولاً عظيمة في "باب الوقف"، ومذهبنا خلاف ذلك؛ ولهذا استنبط ابن الرفعة من كلام الغزالي في "الفتاوى" أن مقاصد الواقفين تعتبر، فيُعَمم بها الخصوص ويُخصص بها العموم. وليس المراد أن المقصود إخراج ما قد دخل، والفرق ظاهر بين عدم قصد الشيء وبين قصد خروجه، فغير المقصود يدخل لفظًا وحُكمًا، والمقصود إخراجه وإنْ دخل لفظًا لكن لا يدخل حُكمًا قطعًا؛ لأنه تخصيص، والتخصيص إخراج من الحكم، لا من المدلول. نعم، لا يحكم بأنه مقصود إخراجه إلا بدليل، بخلاف غير المقصود فإنه لا يُعلم هل قصد خروجه؟ أو لا؟ والقرينة إنما بعَّدت أن يكون داخلاً، لا أنها صريحة في عدم دخوله. ومن هذا نشأ الخلاف في أن المتكلم هل يدخل في عموم كلامه؟ وسبق بيانه في الأمر والنهي وأن المرجَّح دخوله في غيرهما، وسيأتي في المسألة مزيد بيان. فإن قلت: ظاهر كلام الشافعي أن غير المقصود لا يدخل؛ ولهذا منع الزكاة في الحُلِىِّ؛ تمسكًا بآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ}؛ لأن قرينة الذم أخرجته عن العموم.

قلتُ: قد يمنع أن اعتماده على هذا المدرك وحده في ذلك، بل بقرينة أخرى اقتضته سيأتي بيانها في محلها من باب العموم. وفي كلام إمام الحرمين وإلْكِيَا قاعدة في ذلك زادها ابن دقيق العيد وضوحًا: أنَّ لفظ العام إما أن يظهر فيه قصد العموم مطلقًا بقرينة حالية أو مقالية، فيدخل قطعًا. وإما أن لا يظهر قصد العموم في شيء وأنه بمعزل عن قصد شيء آخر، فلا يدخل. هذا على المرجح. ومثَّله ابن دقيق العيد بحديث: "فيما سقت السماء العشر" (¬1) هل يدخل القليل والكثير كما زعمت الحنفية؟ أوْ لا؛ لأن المقصود بيان القدر الواجب إخراجه، لا المخرج منه؟ وهذا إنما بُين في حديث: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" (¬2). قال: (والتحقيق عندي أنَّ دلالة لفظ العام فيه أضعف مِن دلالة المقصود، ومراتب الضعف متفاوتة، فأما أنْ لا يظهر فيه شيء مما سبق فيحتمل الأمرين، مثل قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] هل يستدل به على منع شراء الكافر العبد المسلم ونحوه؟ ). تنبيه: يأتي في هذه المسألة ما سبق في التي قبلها من كونه هل يختص بلفظ غير الشارع من حيث التعليل بعدم خطوره في البال؟ أو لا يختص؟ ويجاب بما سبق. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 1378)، صحيح مسلم (رقم: 979).

نعم، قد يتوهم اتحاد المسألتين؛ لأن النادر هو غير المقصود، وليس كذلك. فالفرق أن المقصود قد يكون نادرًا وقد لا يكون، والنادر قد يُقصد وقد لا يُقصد، فَرُب صورة تتوفر القرائن على أنها لم تُقصد وإن لم تكن نادرة، ورُب صورة تدل القرائن على أنها مقصودة وإنْ كانت نادرة. الأمر الثاني: في محل العموم: فأما كونه من عوارض اللفظ حقيقة فلا خلاف فيه. يقال: "هذا لفظ عام"، كما يقال: "لفظ خاص". قال في "البديع": بمعنى وقوع الشركة في المفهوم، لا بمعنى الشركة في اللفظ. يريد بذلك أنه ليس المراد بوصف اللفظ بالعموم وصفه به مجردًا عن المعنى، فإن ذلك لا وجه له، بل المراد وصفه به باعتبار معناه. فمعنى كون اللفظ عامًّا حقيقة أنه يصح أن يشترك في مفهومه كثيرون، لا أن يكون مشتركًا بالاشتراك اللفظي كالقرء للطهر والحيض لكونه وُضع لكل منهما. وحاصله أن مدلوله معنى واحد مشترك بين الجزئيات المشخَّصة، بخلاف المشترك، فإنه وُضع لكل معنى على حدته مشخصًا. وترتب على ذلك أن عموم الكلام النفسي هو بهذا الاعتبار؛ لأن اللفظ الدال عليه يقال فيه ذلك. ولهذا قال الأبياري في قول الغزالي: (إن العموم والخصوص من عوارض الألفاظ): (لا يُظَن به إنكار كلام النفس وإلا لما كان في الاحتياج إلى الصِّيَغ ذكر معرفة وضع اللغة فيها). انتهى واعلم أن إطلاق كون العموم في اللفظ كما عبرت بذلك في تعريف العام بقولي: (اللَّفْظُ

إذْ يَسْتَغْرِقُ) يدل على دخوله في المجاز كما يدخل في الحقيقة. قاله الأكثرون، خلافًا لبعض الحنفية. لنا: أنَّ أئمة اللغة وغيرهم لا يزالون يقولون في المحلَّى بِـ "أل" و"المضاف" و"النكرة في سياق النفي" ونحوه: إنَّ ذلك للعموم، مِن غير أن يُقَيِّدوا بكون ذلك في الحقيقة، بل للأعم من الحقيقة والمجاز. وفي الحديث: "الطواف بالبيت صلاة، إلا أنَّ الله أَحَلَّ فيه الكلام" (¬1). والاستثناء معيار العموم، وقد استثنى منه وهو مجاز. قلتُ: فيه نظر؛ لأن "صلاة" خبر عن الطواف، وهو نكرة؛ لأنها في إثبات، والاستثناء إنما هو في بعض أحكامها، إذِ التقدير: كالصلاة إلا في حل الكلام فيه، أي: في الطواف، فإنه ليس كالصلاة. واستدل المانع بأن المجاز على خلاف الأصل؛ فيقتصر منه على قَدْر الضرورة، فلا يدخله عموم. وجوابه: منع أن المجاز للضرورة، حتى إنَّ قومًا قالوا: إنه غالب على اللغات وإنْ سبق أن ذلك إنما هو في نوع منه غَيْر لفظ وهو المُقْتَضَى، فجرى فيه الخلاف لذلك. ووقع في "منع الموانع" (¬2) لابن السبكي أن هذه المسألة هي مسألة "جريان العموم في المجاز". وليس كذلك كما بيناه، فهو وهْم. هذا ما يتعلق بالعموم في الألفاظ. ¬

_ (¬1) المستدرك على الصحيحين (رقم: 1686)، صحيح ابن حبان (3836)، وغيرهما بنحوه. قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 3825). (¬2) منع الموانع (ص 508).

وأما كونه من عوارض المعاني أيضًا -أي: المستقلة التي ليست هي من مدلولات اللفظ المحكوم بأنه عام- فإن هذا قد تَقدم بيان تقرير العموم فيه، بخلاف ما نحن فيه وهو المعنى من حيث هو، وفيه مذاهب: أحدها: أن العموم لا يكون في المعاني، لا حقيقة ولا مجازًا. حكاه ابن الحاجب وغيره. ثانيها: أنه يكون في المعاني حقيقة كما يكون في الألفاظ، فيكون العموم موضوعًا للقَدْر المشترك بينهما بالتواطؤ على الأصح. وقيل: موضوع لكل منهما حقيقة، فهو مشترك لفظي. وممن قال بأنه حقيقة في المعاني كالألفاظ: أبو بكر الرازي من الحنفية، وحكاه عن مذهبهم، واختاره ابن الحاجب. فيقال: عَمَّ المطرُ والخصبُ الناسَ، وعمهم العطاءُ، ونحو ذلك كله حقيقة. والمذهب الثالث (وهو المختار وقول الأكثرين): أنه يكون من عوارض المعاني كما مثَّلنا، وأشرت إلى ذلك في النظم بقولي: ("الرَّشَد يَعُمُّنَا وَالْخِصْبُ وَالْمَطَرْ" لَكِنْ مَجَازًا) لا حقيقة. ونقله مع الذي قبله الشيخ أبو إسحاق وجهين لأصحابنا وأنَّ الأكثرين على أنه مجاز، وكذا صححه إلْكِيَا وابن برهان. ونقله عبد الوهاب في "الإفادة" عن الجمهور، واختاره الآمدي وغيره، وحملوا إطلادق عموم المطر والخصب ونحو ذلك على المجاز؛ لأن العام أمر واحد شامل لمتعدد، وعموم هذه ليس من ذلك؛ لأن الموجودَ [منها] (¬1) في محلٍّ غيرُ الموجود منها في المحل الآخَر، فليس ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): هنا.

بين المطر الواقع في ذلك المكان والعطاء المتصل بزيد نِسبة بالواقع بهذا المكان والعطاء المتصل بعمرو. وأما جواب ابن الحاجب (¬1) عن ذلك بأن "اشتراط الوحدة في العموم ليس من اللغة بل المدار فيها على الشمول، سواء أكان هناك أمر واحد أَم لا" ففيه نظر؛ فإنه إذا لم يكن هناك وحدة، فهي أمور متعددة، فأين العموم حقيقةً؟ ! وأما قوله: (إن نحو: "عموم الصوت" متحد، وكذا الأمر والنهي اللذان هما الطلب النفساني، والمعاني الكلية) (¬2) كالحيوان فقد يجاب عنه بأن: - العام في الصوت إنما هو سماع الصوت من السامعين، وهو من المتعدد المحل كما سبق، وإلا لزم أن يكون ذات الشمس أو القمر عامًّا؛ لأن كل واحد يراهما. أما نفس الصوت فلا عموم فيه. - وأما الأمر والنهي النفسانيان فقد سبق في صدر المسألة بيان المراد بذلك وتقريره من كلام الأبياري شارح "المستصفى". - وأما المعاني الكلية فسنوضح ذلك فيها في تقرير المذهب الذي بعد هذا (وهو المذهب الرابع) بالتفصيل بين المعاني الخارجية والذهنية، ففي الذهنية حقيقة، وفي الخارجية مجاز. وقال الصفي الهندي: (إن هذا هو الحق، فتعدد الخارجي بتعدد محاله، بخلاف المعاني الكلية الذهنية، فإنها عامة بمعنى أنها معنى واحد متناول لأمورٍ كثيرة) (¬3). ولأن الخارجية ليس العموم فيها على سبيل الاستغراق الذي لا يتحقق العام إلا به كما ¬

_ (¬1) مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (2/ 698). الناشر: دار ابن حزم. (¬2) مختصر منتهى السؤل والأمل (2/ 698). الناشر: دار ابن حزم. (¬3) نهاية الوصول في دراية الأصول (3/ 1231).

سبق في تعريفه. وقد حُكي في المسألة مذاهب أخرى ضعيفة. منها: أنه حقيقة في المعاني دون الألفاظ. وهو أَبْعَدها، فإنْ ثبت فهو قادح في حكاية كثير الاتفاق على أنه حقيقة في اللفظ كما سبق. ومنها: أنه مجاز في الألفاظ والمعاني معًا، وعموم اللفظ إنما هو بحسب الاصطلاح فقط. يخرج ذلك من قول الصفي الهندي في "الرسالة السيفية": (إن العموم من عوارض الألفاظ خاصة بحسب الاصطلاح إجماعًا، وكذا في اللغة على المختار، وقيل: من عوارض المعنى). انتهى ومنها: أن المعنى الكلي يوصف بالعموم، بخلاف الجزئي. ومنها: القول بالوقف. وعُزي للآمدي؛ وذلك لتعارض الأدلة من الجانبين وتكافُؤهما. وغير ذلك مما لا نُطَول به. تنبيهان الأول: مما يتفرع على الخلاف في هذه المسألة مسألة: المفهوم هل له عموم؟ أم لا؟ وكذا مسألة عموم المقتفَى في نحو: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، حتى يَعم الأكل واللبس والبيع وسائر الانتفاعات بها وإنْ لم يكن لهذه الأحكام ذِكر، وسيأتي بيان ذلك في محله. ومنها: أن العقل هل يكون مُخَصِّصّا؟ ومنها: أن سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - هل يكون عامًّا؟ وغير ذلك.

الثاني: أن هذا الخلاف يجري في الخصوص هل يوصف به اللفظ أو المعنى حقيقةً؟ أو مجازًا؟ وعبارة "المقترح" في ذلك: (القائلون بأن "العام والخاص من عوارض الألفاظ" اختلفوا على مذهبين) إلى آخِر ما ذكره. الأمر الثالث: يقال في المعنى: (أعم)، وفي اللفظ: (عام). وهو معنى قولي: (بِالْأَعَمِّ يُدَّكَرْ). أي: يُعبر عن عموم المعنى بهذا اللفظ، ويذكر في وَصفه ذلك، فيقال: هذا أَعَم. قال القرافي: (اصطلحوا على أن المعنى يقال له: "أَعَم" و"أَخَص"، واللفظ يقال له: "عام" و"خاص"، لأن "أَعَم" أَفْعل تفضيل، والمعاني أفضل من الألفاظ) (¬1). انتهى ولا يخفَى ما فيه من نظر، بل إطلاق الناس يخالف هذا الاصطلاح.، فيقولون فيها: (عام) و (خاص) كالألفاظ. تنبيه: الأخص يندرج تحت الأعم، ويقع في عبارة بعضهم: إن الأعم يندرج تحت الأخص. كما عبر به "المقترح". ووجْه الجمع أنَّ الأول في اللفظ، فإن الحيوان صادق على الإنسان وغيره، بخلاف العكس. والثاني في المعنى، فيقال فيه: إنَّ الإنسان لا بُدَّ فيه من الحيوانية. فصار الأعم مندرجًا في ¬

_ (¬1) نفائس الأصول في شرح المحصول (2/ 422).

الأخص، وهي الحيوانية في الإنسانية بمعنى الاستلزام. والله أعلم. ص: 571 - مَدْلُولُهُ كُلمة، أَيْ يُحْكَمُ ... فِيهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ إذْ تَحْكُمُ 572 - لَاكُلٌّ الْمُخْتَصُّ بِالْمَجْمُوعِ ... وَاحِدُ ذَا جُزْءٌ، وَبِالْمَرْفُوعِ 573 - يَرْتَفِعُ الْكُلُّ، خِلَافَ الْكُلِّي ... وَالْمُفْرَدُ الْجُزْئِيُّ مِنْ ذَا الْأَصْلِ الشرح: لَمَّا فرغتُ مِن تعريف "العام" وبيان أن محله الحقيقي اللفظ باعتبار عموم معناه، وكان فائدة ذلك أنه إذا حُكم على العام بحكم نفيًا أو إثباتًا، يكون ذلك الحكم عامًّا على كل فرد فرد حتى يستغرق، نحو: كل رجل يشبعه رغيفان. فيكون مدلوله حين الحكم عليه كُلية؛ لأن المراد حينئذٍ أنه صار قضية كُلية، كما أن الحكم على البعض قضية جزئية، وذلك معنى "القضية المسورة" عند المناطقة، حيث يقسمون ما له سور كُل أو بعض إلى: موجبة كُلية وجزئية، وسالبة كُلية وجزئية. فالمعنى في القضية أنه قُضي وحُكم فيها بشيء على شيء، فعيلة بمعنى: مفعولة، وإنْ تركت الصلة لكثرة الاستعمال. وفي كونها كُلية أن الحكم على كل فرد مما دخل تحت الموضوع، نحو: كل إنسان حيوان. والجزئية: الحكم على البعض، نحو: بعض الحيوان إنسان. وفي السلب: لا شيء من الإنسان بحَجر، بعض الإنسان ليس بحَجر. فقولي: (إذْ تَحْكُمُ) هو بالتاء المثناة من فوق أو بالنون مبنيًّا للفاعل؛ ليباين قولي أولًا: (أيْ يُحْكَمُ) فإنه بالمثناة تحت مضمومة مبني للمفعول.

والمراد الإشارة إلى أن مدلول العام كلية عند الحكم عليه لا من حيث هو؛ لأن مدلوله من حيث هو "المعنى المستغرق" كما سبق في تعريفه، وهو من قبيل التصور، لا الحكم عليه؟ فإنه من قبيل التصديق. وهذا معنى إطلاق مَن يطلق أنَّ مدلول العام كلية، فإنما مراده عند الحكم، لا مِن حيث التصور. وقولي: (لَا كُلٌّ الْمُخْتَصُّ بِالْمَجْمُوعِ) إلى آخِره -أي: ليس مدلول العام حين الحكم عليه كُلًّا المجموعي، أي: الدال على أفراد مجتمعة، كالعشرة، ومقابِل هذا: "الجزء" (¬1)، نحو "الخمسة" منها، فنحو: "كل رجل يرفع الصخرة" من الكل المجموعي؛ إذ المراد فيه المجموع، لا كل فرد. وليس المراد أيضًا -بالحكم في العام- الكُلي، وهو كما سبق: ما لا يمنع تَصوره من وقوع الشركة فيه. وربما يقال: ما يشترك في مفهومه كثيرون. فليس مدلول العام -عند الحكم- الحكم على الكُلي؛ لأن الحكم على الكلي حكم على القَدْر المشترك بين الجزئيات، لا على كل جزئي جزئي حتى يستغرقها، كما تقول المناطقة في القضية التي هي غير محصورة ويقسمونها قسمين: مهملة: وهي ما قصد فيها الحكم على الأفراد من غير تَعرُّض لكُلها ولا بعضها. نحو: الإنسان كاتب بالقوة. و[طبيعية] (¬2): وهي الحكم على ذلك القدر المشترك من غير نظر إلى المشخَّصات. نحو: الإنسان حيوان ناطق. فهو وإن كان فيه عموم لكنه ليس استغراقيًّا، بل بدلي، مِن قبيل ¬

_ (¬1) يعني: مصطلح "الكل" يقابله مصطلح "الجزء"، كالخمسة جزء من العشرة. (¬2) في (س، ض): طبيعته.

المطلق. فحصل الفرق بين الحقائق الستة: الكُل، والجزء، والكُلي، والجزئي، والكُلية، والجزئية. وأنها الحكم على كل فرد أو بعض الأفراد، نحو: "بعض الإنسان كاتب"، ومعنى الحكم على كل منها إذا حكم. وعرف أن العام في الحكم كُلية، لا كُلي في الحكم، ولا كُل في الحكم. وممن تَعرَّض للفرق بين هذه الحقائق: شارحا "المحصول" -الأصفهاني والقرافي- وقد علمت مأخذهما من علم المنطق واصطلاح أهله. وقولي: (وَبِالْمَرْفُوعِ يَرْتَفِعُ الْكُلُّ) إشارة إلى ما يتميز به "الكل المجموعي" عن "الكلي" مِن أنَّ الجزء مِن الكل إذا ارتفع، ارتفع الكل، كالواحد مِن العشرة. وأنَّ الجزئي مِن الكلي إذا ارتفع، لا يرتفع الكلي، فإنك إذا قلت: (هذا المتحرك ليس بإنسان)، فلا يلزم ارتفاع الحيوان عنه. وعُلِم مِن هذا أنَّ الكُلي يَصْدق على كل مِن جزئياته، بخلاف العكس، وأن الجزء مِن الكل لا يَصْدقُ عليه اسم الكل، ولا العكس. ومن هذا يُعلم جواب سؤال القرافي المشهور: أنَّ دلالة العام على الواحد مِن أفراده خارجة عن الدلالات الثلاث: المطابقة والتضمن والالتزام، فيلزم فساد الانحصار فيها أو عدم دلالة العام على فرد مِن أفراده، وكلاهما باطل. وسبق هذا السؤال في مباحث اللغة وجوابه، ونزيده هنا بيانًا، فنقول: قال القرافي: (دلالة المشركين على الواحد منهم -كـ "زيد المشرك" مثلًا- لا يمكن أن تكون بالمطابقة؛ لأنه ليس تمام مُسمَّى المشركين، ولا بالالتزام؛ لأنه ليس خارجًا، ولا

بالتضمن، لأنه ليس جزء المسمَّى، إذِ الجزء يقابل الكل، والعموم كُلية، لا كُل) (¬1). انتهى وقد أجاب الأصفهاني عن ذلك بما حاصله: أنه دالٌّ بالمطابقة، قال: (لأنَّ تلك إنما هي في دلالة المفرد حيث لا حُكم، وأما عند الحكم فنحو: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] متضمن لقضايا كثيرة، كأنه قيل: "اقتل زيدًا المشرك وفلانًا المشرك" وهكذا إلى آخِره، وكل واحد مطابقة) (¬2). وأوضح مِن هذا ما أشرتُ إليه في الكلام على الدلالة أنْ يُقال: "الفرد المشخَّص مِن أفراد العام" لفظ العام دل عليه بالمطابقة من حيث المعنى المشترك فيه وإنْ كان لا يدل عليه من حيث خصوصه، فإن ذاك أمرٌ خارجي عن دلالة المتواطئ على جزئيات الكلي، فالاستدلال بالعام على المشخَّص من أفراده من هذه الحيثية، لا من حيث تشخيصه، وهو ظاهر، والله أعلم. ص: 574 - ثُمَّ دِلَالَة لَهُ قَطْعِيَّهْ ... في أَصْلِ مَعْنًى، وَلنَا ظنِّيَّهْ 575 - في كُلِّ جُزْئِيٍّ، وَذُو التَّعْمِيمِ ... [مِنْ لَازِمِ] (¬3) الْأَشْخَاصِ لِلْعُمُومِ 576 - في سَائِرِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ ... وَبُقَعٍ، لَا مُطْلَقُ الْمَعَانِي الشرح: قد عُلم مما قررناه أنَّ لفظَ العامِ له دلالتان: ¬

_ (¬1) شرح تنقيح الفصول (ص 26). (¬2) الكاشف عن المحصول (4/ 213 - 214). (¬3) كذا في (ص، ن 3، ن 4). لكن في (ض، س): ولازم. وفي (ن 1، ن 2): في جملة. وفي (ق، ن 5): فِى لازم.

- دلالة على المعني الذي اشتركت فيه أفراده، وهي التي بيَّنا أنَّ الحكم فيها على الكلي، وليس للعام بها اختصاص، فإنها تتعلق بِـ"الكُلي" سواء أكان فيه عموم أو لا. - ودلالة على كل فرد من أفراده [بالخصوص] (¬1)، وهي التي لها خصوصية بالعام، ويُعبر عنها بِـ "الكُلية"، وعليها السؤال السابق وجوابه. وحينئذٍ فيبقى النظر في أن الدلالتين قطعيتان أو لا. أما الأُولى: فقطعية بلا شك، وهو معنى قولي: (في أَصْلِ مَعْنًى). أي: في ذلك المعنى المشترك. قال صاحب "جمع الجوامع": (وهو عن الشافعي) (¬2). أي: محكي عنه. وهذا التخصيص لا معنى له؛ فإنه محل وفاق، ومعنى القطع فيه دلالة النصوصية. أي: هو نَص، فالقطع فيه من هذه الحيثية؛ فيكون كدلالة الخاص. وأما الدلالة الثانية: فالمنقول عن الشافعية أنها ظنية، لا تدل على القطع إلا بالقرينة؛ وذلك لأن صِيَغ العموم تَرِد تارة باقية على عمومها، وتارة يُراد بها بعض الأفراد، وتارة يقع فيها التخصيص، ومع الاحتمال لا قَطْع. بل لما كان الأصل بقاء العموم فيها، كان هو الظاهر المعتمد للظن، ويخرج بذلك من الإجمال؛ ولهذا الصحابة وأهل اللغة إنما يتطلبون عند ورود العمومات دليل التخصيص، لا دليل التعميم؛ لأنه الأصل. وأيضًا فلولا ذلك لَمَا جاز تأكيد الصِّيَغ العامة، إذ لا فائدة فيه، وقد قال تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30]. ¬

_ (¬1) في (ص، ق): من خصوص. (¬2) جمع الجوامع (1/ 514) مع شرح المحلي وحاشية العطار.

والمنسوب للحنفية أنَّ دلالة العام على كل فرد منه قطعية، ولكن ذلك إنما قال به جمهورهم، ومنهم صاحب "اللباب" وأبو زيد الدبوسي وغيرهم، وإلَّا فقال بمثل قولنا: (إنها ظنية) أبو منصور الماتريدي ومَن تبعه من مشايخ سمرقند. نعم، عَزى الأبياري في "شرح البرهان" كونها قطعية إلى المعتزلة، قال: (لاعتقادهم استحالة تأخير البيان عن وقت الخطاب، فلو لم يُرَد عمومه، لَزِمَ تأخير البيان) (¬1). ونقل هذا القول الأستاذ أبو منصور عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة، وكذا نقله الغزالي في "المنخول". ولكنه خلاف المشهور عن الشافعي الذي نقله إمام الحرمين وابن القشيري وغيرهما. وكأنَّ مَن نقل عنه القطع توهَّمه من إطلاقه أنه نَص في الأفراد، وهو إنما يريد بالنصوصية -في الغالب- ما يكون ظاهرًا في الدلالة بحيث يكون الاحتمال فيه ضعيفًا. ولهذا أنكر إلْكِيَا في"التلويح" على مَن نقل ذلك عن الشافعي، فقال: هذا لم يصح عنه، فالحقُّ غيره. وعبارة إمام الحرمين في "البرهان": (أما الفقهاء فقد قال جماهيرهم: إن الصِّيَغ الموضوعة للجمع نصوص في الأقل، ظواهر فيما زاد عليه. والذي صح عندي من مذهب الشافعي أن الصيغة العامة لو صح تجردها عن القرائن، لكانت نصًّا في الاستغراق) (¬2). قال: (وإنما التردد فيما عدا الأقل من جهة عدم القطع بانتهاء القرائن المخَصِّصة) (¬3). انتهى ¬

_ (¬1) التحقيق والبيان في شرح البرهان (1/ 881). (¬2) البرهان (1/ 221). (¬3) البرهان في أصول الفقه (1/ 221).

نعم، في كلامه بعد ذلك ما يدل على أنه لا ينبغي أن يُطلق ذلك، بل يقال: بعض الأفراد الدلالة فيه قطعية والبعض ظنية. وكأنه يشير إلى ما قدَّمه مِن أنه لو كانت صيغة العموم جمعًا مثلًا فتكون في أقَل الجمع قطعية وفيما زاد ظنية. وكذا قال إلْكِيَا في "تعليقِه" في الأصول، وكذا قرره المازري، لكن قال: (إن محل الخلاف فيما زاد على أقَل الجمع، أما الأقل فقطعي بلا خلاف) (¬1). قلتُ: وكأنَّ هذا مُفرَّع على ما سيأتي في الباقي بعد التخصيص إذا كان العام جمعًا. ونحوه: هل يشترط أن يبقى أقَل الجمع؟ أو يجوز إلى واحد؟ وعلى كل حال فإذا كان الخلاف قائمًا، فكيف يحكي القطع في أقَل الجمع؟ وعبارة الإمام وإلْكِيَا إنما تشعر بنصوصية أقَل الجمع، فيقطع به قَطْع النصوصية، لا أنه بلا خلاف بين العلماء. نعم، قيل: محل الخلاف ما لم تكن قرينة تقتضي قصد كل فرد، وذلك كالعمومات التي يُقطع بعمومها ولا يدخلها تخصيص، نحو: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35]. وسيأتي منها طائفة وزيادة بيان في الكلام على التخصيص، وكذلك ما لا يحتمل إجراؤه على العموم، كقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20]. كذا استثناه بعض الحنفية. قال: لأن كل فرد فرد من الفريقين ليس مُعَينًا حتى يدل عليه العموم، بل ذلك كالمجمل، يجب التوقف فيه إلى بيان المراد منه. وأنا أقول: لا يحتاج إلى هذا التقييد؛ فلذلك أطلقت في النَّظم؛ لأن الكلام في العام من الأصل، والأصل عدم القرائن على إرادة عمومه أو خصوصه. ¬

_ (¬1) انظر: إيضاح المحصول (ص 272).

تنبيه: مما يترتب على هذا الخلاف أنه: هل ينسخ العام الخاص والخاص العام في القدر المعارض؟ وهل [يخصص] (¬1) العموم بالقياس وبخبر الواحد؟ ومن الفقه: لو قال في الإقرار: (له علَيَّ خاتم)، ثم قال: (ما أردت الفص)، ففي قبوله وجهان، أصحهما المنع؛ لأن الفص يتناوله اسم الخاتم، فهو رجوع عن بعض ما أَقَر بِه. وفي تفريع هذا على المسألة نظر؛ فإن دلالة الخاتم على الفص ليس من دلالة العام على الأفراد، وإنما نشأ الخلاف: هل الفص داخل في مسمَّى الخاتم مِن دلالة الكل على الجزء؟ أو مُسمَّى "الخاتم" الحلقة بدون الفص؟ ولما كان الأرجح الدخول كان المرجح أنه لا يُقبل؛ فقد قال أهل اللغة: إن الخاتم اسم له مع الفص، وإلا فيُسمى حلقة، وقيل: فتخًا. وقولي: (وَلَنَا ظَنيهْ) إلى آخِره -أي: وعندنا أيها الشافعية أن هذه الدلالة ظنية. وقولي: (وَذُو التَّعْمِيمِ) إلى آخِره -إشارة إلى أنَّ العام في الأشخاص المدلول عليها بلفظ العام هل هو عام أيضًا في أحوال تلك الأشخاص والأزمنة والبقاع والمتعلقات؟ أو مُطْلَق فيها بحيث يُكتفَى من ذلك بما يَصْدُق من غير تعميم في الكل؟ فيه طريقتان: إحداهما: أنَّ العام في الأشخاص عام في الأمور الأربعة. صرح به ابن السمعاني في "القواطع في مسألة "الاستصحاب"، والإمام في "المحصول" في "القياس"، إذ قال في جواب سؤال: (قُلنا: لَمَّا كان أمرًا بجميع الأقيسة، كان متناولًا لا محالة لجميع الأوقات، ¬

_ (¬1) في (ت): يختص.

وإلا لقدح ذلك في كونه متناولا لكل الأقيسة) (¬1). الثانية وإليها جنح كثير من المتأخرين كالآمدي والأصفهاني في شرح "المحصول" والقرافي وغيرهم: أن العام في الأشخاص ليس عامًّا في الأربعة؛ لأن العام في شيء بلفظ لا يكون عامًّا في غيره إلا بلفظ يدل عليه، بل مطلق. فإذا قال {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، عَمَّ كل مشرك، ولا يَعُم كل حال حتى يقتل في حال الهدنة أو الذمة أو نحو ذلك، لكن قيل: إنَّ في هذه الآية دليلًا على أنه مُطلق في غير الأشخاص، لا عام؛ لأنه قال: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191]، ولو كان عامًّا لكان ذكر العموم في "حيث" في الزمان تكرارًا. نعم، بعد أنْ اختارها القرافي وقررها شكك عليها بأنه يَلزم عليها عدم العمل بجميع العمومات في هذا الزمان؛ لأنه قد عُمل بها في زمنٍ ما، والمطلَق يخرج عن عُهدة العمل به بِصُورَةٍ. وأجاب عن ذلك الشيخ علاء الدين الباجي -فيما نقله الشيخ تقي الدين السبكي في كتاب "أحكام كُل"- بأن المراد بكونه مطلقًا في الأحوال والأزمنة والبقاع باعتبار الأشخاص الذين عُمل به فيهم، لا باعتبار أشخاص آخَرين، حتى إذا عُمل به في شخص في حالة ما في مكان ما، لا يُعمل به فيه مرة أخرى. أما في شخص آخَر فيُعمل به فيه وإلا يلزم التخصيص في الأشخاص، فالتوفية بالإطلاق أن لا يتكرر ذلك الحكم، فإذا جُلد زانٍ، لا يُجلد ثانيًا إلا بزنًا آخَر. وبه ينجمع كلام مَن قال: "مُطْلَق" ومَن قال: "عام". وكذا أجاب الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام"، وقال في "شرح العمدة" في حديث أبي أيوب الأنصاري: "ثم قدمنا الشام، فوجدنا مراحيض قد بُنيت قِبل ¬

_ (¬1) المحصول (5/ 37).

القِبلة" (¬1): (إنَّ في ذلك دلالة على العموم؛ لأنَّ أبا أيوب -وهو من أهل اللسان والشرع- فَهِمَ العموم في الأمكنة) (¬2). وإنما استدل به لأن الحديث عام في الأشخاص باعتبار أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها" (¬3) نكرة في سياق النهي، فكان عامًّا في كل استقبال واستدبار. نعم، وقع له في "شرح العمدة" ما يخالف ذلك، فقال في حديث "بيع الخيار" (¬4): (إن الخيار عام، ومتعلقه -وهو ما يكون فيه الخيار- مُطْلَق). قال: (فيحمل على خيار الفسخ) (¬5). انتهى والتحقيق في المسألة (كما يُفهم مِن نُقول الطريقتين واختاره ابن المرحل والشيخ تقي الدين السبكي وولده) أنه يعم بطريق الاستلزام، لا بالوضع، وهو معنى: "مِن لازم الأشخاص"، أي: مِن لازم تعميمه للأشخاص عمومه في الأحوال والأزمنة والبقاع. وقال الشيخ تاج الدين السبكي: (وقع لي مرة الاستدلال على العموم بحديث أبي سعيد بن المعلى حيث دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة فلم يُجِبْه، فقال له عليه الصلاة والسلام: "ألم يقُل الله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 24] " (¬6) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (386)، صحيح مسلم (رقم: 264). (¬2) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 99). (¬3) صحيح مسلم (264)، سنن الترمذي (رقم: 8)، سنن النسائي (21)، وفي صحيح البخاري (رقم: 386) بلفظ: (إذا أتيْتُم الْغَائِطَ فلا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ ولا تَسْتَدْبِرُوهَا). (¬4) صحيح البخاري (رقم: 2005)، صحيح مسلم (1532)، وغيرهما. (¬5) شرح عمدة الأحكام (2/ 106 - 110). (¬6) صحيح البخاري (رقم: 4204)، وغيره.

فقد جعله - صلى الله عليه وسلم - عامًّا في الأحوال). قال: (ثم ظهر لي أنَّ العموم في الأحوال إنما جاء من صيغة "إذا" الشرطية، فإنها ظرف، والأمر متعلق بها، والمعلَّق على شرط يقتضي التكرار، والظرف يشمل جميع الأوقات) (¬1). نعم، قال الشيخ تقي الدين في مصنفه في "كل": إن تقرير الباجي المتقدم -وكذا ما في "شرح الإلمام"- قد يُعترض عليه بأن عدم تكرار الجَلْدِ مثلًا معلوم مِن كون الأمر لا يقتضي التكرار وبأن "المطلق" هو الحكم، و"العام" هو المحكوم عليه، وهُما غيران، فلا يصلح أن يكون ذلك تأويلًا لقولهم: العام مطلق. قال: فينبغي أن يهذب هذا الجواب، ويجعل العموم والإطلاق في لفظ واحد، بأنْ يقال: المحكوم عليه -وهو الزاني مثلًا أو المشرك- فيه أمران، أحدهما: الشخص، والثاني: الصفة، كالزنا والشرك مثلا. فأداة العموم لَمَّا دخلت عليه أفادت عموم الشخص، لا عموم الصفة، والصفة باقية على إطلاقها، فهذا معنى قولهم: "العام في الأشخاص مُطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع". أي: كل شخص حصل منه مطلق زنا حُدَّ، أو مطلق شِرك قُتل بشرطه، ورجع العموم والإطلاق إلى لفظة واحدة باعتبار مدلولها مِن الصفة والشخص المتصف بها. ثم إنه مع هذا لا يكون كون الصفة مطلقة يحمل على بعض مُسماها؛ لأنه يَلزم منه إخراج بعض الأشخاص. نعم، لو حصل استغراق الأشخاص، لم يحافظ مع ذلك على عموم الصفة؛ لإطلاقها. تنبيه: مما يوافق المختار في المسألة -وهو العموم في الأحوال والأزمنة والبقاع والمتعلقات- ¬

_ (¬1) الإبهاج (2/ 86).

ما في فتاوى "الغزالي": الو قال لأَمته الحامل: "كل ولد تلدينه فهو حر" إنه كما يشمل الذكر والأنثى يشمل اختلاف الوقت، فينبغي أنْ يعم ويتكرر). انتهى ونَصَّ الشافعي فيما إذا قال: (أنت طالق) ثم قال: (أردتُ إنْ دخلتِ الدار) أنه لا يدين، وإذا نوى إلى شهرين، يدين، فيفرق بين الزمان والمكان. وظاهر كلام مُجَلي في "الذخائر" والرافعي وغيرهما أنه لا فرق. نعم، هذا اللفظ لا عموم له البتة، وإنما هو مُطلق، والكلام في العام في الأشخاص، والله أعلم. ص: 577 - وَصِيَغُ الْعُمُومِ "كُلّ" وَكذَا ... نَحْوُ "جَميعٍ" وَلمَوْصُولٍ بِذَا 578 - يُقْضَى، كَذَا لِلشَّرْطِ وَاسْتِفْهَامِ ... أَسْمَاءُكُلِّ هَذ الْأَقْسَامِ الشرح: لَمَّا تقرر أنَّ العموم من عوارض اللفظ قطعًا، ترتب عليه أنَّ العام هل له صيغة تخصُّه يتميز بها عن غيره تكون حقيقة فيه؟ أوْ لا؟ فيه مذاهب: أحدها: نعم، وهو قول الأئمة الأربعة وجمهور أصحابهم. قال عبد الوهاب: (هو قول مالك والفقهاء بأَسْرهم). ومَن تتبع كلام مالك في "الموطأ" يجده كثيرًا. وقال ابن حزم: إنه قول جميع أهل الظاهر، وبه نأخذ. وقال الصيرفي: زعمت طائفة من أصحاب الشافعي أن مذهبه التوقف. كما هو أحد

المذاهب الآتية، وهو ضد قول الشافعي المشتهر في كُتبه وعند خصومه. فَنَصُّه في "الرسالة": (إنَّ الكلام على عمومه وظاهره حتى تقوم دلالة على أنه خاص دون عام، وعلى أنه باطن دون ظاهر) (¬1). وقال أيضًا: (فكل خطاب في سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو في كلام الناس فهو على عمومه وظهوره إلى أن تأتي دلالة تدل على أنه خاص دون عام وباطن دون ظاهر). وكرر مثل هذا فيها كثيرًا. ثم ذكر الصيرفي نصوصًا للشافعي كثيرة صريحة، بل ظاهرها القطع بذلك، قال: (والدليل القطعي قائم عليه). ثم بين عُلْقة مَن نقل عن الشافعي الوقف ورَدَّها، قال: (ولا يقال: له في المسألة قولا؛ لأن هذا غير معروف، بل العروف خلافه بين أصحابه، كالمزني وأبي ثور والبويطي والكرابيسي وداود والأشعري وسائر الشافعيين). انتهى فقضى بأن الأشعري من أصحاب الشافعي، ونقل عنه ذلك، لكن سيأتي أن مذهب الأشعري الوقف، ويأتي الجمع بين كلاميه. وممن نقل ذلك أيضًا عن الشافعي: الشيخ أبو حامد، وذكر نَصه في "الرسالة" السابق، وذكر نحوه عن نَصه في "أحكام القرآن". وكذا قال أبو الحسين بن القطان: (إن فرقة شذت من أصحاب الشافعي زعمت أن مذهبه الوقف في صِيَغ العموم؛ لأشياء تعلَّقوا بها من كلامه، حيث قال في آيات: إنها تحتمل أن تكون للعموم وأن تكون للخصوص. والشافعي لم يُرِد ما ذهبوا إليه، وإنما مراده أنها ¬

_ (¬1) الرسالة (ص 322).

تحتمل عنده أن دلالة تنقله عن ظاهره من العموم إلى الخصوص، لا أنَّ حقه الاحتمال). انتهى وبالجملة فنصوصه طافحة بِصِيَغ العموم وأنها تُحمل عليه عند الإطلاق والتجرد عن القرائن، ثم يبقى النظر في كونه قطعًا في كل فرد أو ظاهرًا أو أنه في أصل المعنى قطعي كما سبق. وعلى هذا القول: إذا استعملت صيغة العام في خاص، تكون مجازًا، وستأتي المسألة مبسوطة. المذهب الثاني: أنه قد يدل على العموم باللفظة الواحدة لكن مجازا، وإنما أصلها الخصوص، فلا يدل على العموم إلا بقرينة. وبهذا قال ابن المنتاب من المالكية ومحمد بن شجاع البلخي من الحنفية وغيرهما. ثم اختلف هؤلاء في أنه: هل تحمل هذه الصيغ على اثنين؟ أو على ثلاثة؟ على حسب اختلافهم في أقَل الجمع، أيْ وإنْ لم يكن صيغة العام جمعًا. قالوا: لأن ذلك محقَّق، والأصل عدم الزائد. لكنه مردود بما سيأتي في ثبوت ذلك، فالجميع محقَّق. الثالث: الوقف، ويُعزى للأشعري وكثير من أتباعه كالقاضي والآجري وغيرهما، وإليه ذهب الآمدي، ونقله القاضي في "مختصر التقريب" عن الأشعري ومعظم المحققين؛ لأَنا سبرنا اللغة ووضْعها فلم نجد في وضع اللغة صيغة دالة على العموم، سواء وردت مطلقة أو بضرب من التأكيد. قال الإمام في "البرهان": (ومما زَلَّ فيه الناقلون عن أبي الحسن ومتبعيه أن الصيغة وإن تقيدت بالقرائن فإنها لا تُشعر بالجميع، بل تبقى على التردد. وهذا وإن صح النقل فيه فهو

مخصوص عندي بالتوابع المؤكِّدة لمعنى الجمع، كقولك: رأيت القوم أجمعين أكتعين أبصعين. فأما ما ألفاظه صحيحة صريحة تعرض مُقَيدة فلا يُظَن بذي عقل أن يتوقف فيها) (¬1). انتهى وحاصله إنكار النقل عن الواقفية أنها لا تدل على العموم. وسيأتي مذهب قريب من ذلك، وهو: المذهب الرابع: أن شيئًا من الصيغ لا يقتضي العموم ولا مع القرائن، بل إنما يكون العموم عند إرادة المتكلم. وهو قول جمهور المرجئة، ونُسب أيضًا للأشعري. وفي "البرهان": (نقل مصنفو "المقالات" عن الأشعري والواقفية أنهم لا يثبتون لمعنى العموم صيغة لفظية، وهذا النقل على الإطلاق زلل؛ فإنَّ أحدًا لا يُنكر إمكان التعبير عن معنى الجمع بترديد ألفاظ مشعرة به، كقول القائل: رأيت القوم واحدًا واحدًا لم يَفُتني منهم أحد. وإنما كرر هذه الألفاظ قَطْعًا لِتَوَهُّم مَن يحسبه خصوصًا، وإنما أنكرت الواقفية لفظة واحدة مشعرة بمعنى الجميع) (¬2). انتهى قيل: وما ادعَى فيه الوفاق هو محل خلاف كما صرح به هو في "التلخيص من التقريب". ¬

_ (¬1) البرهان في أصول الفقه (1/ 222). (¬2) البرهان في أصول الفقه (1/ 221).

تنبيهات الأول: القائلون بالوقف اختلفوا في محله على أقوال وفي صيغته على أقوال: فأما الأول: فأحد الأقوال أنه على الإطلاق. وثانيها: في الوعد والوعيد دُون الأمر والنهي ونحوهما. ويُحكى هذا عن الكرخي كما حكاه أبو بكر الرازي عنه، ثم قال: (وربما ظن أن ذلك مذهب أبي حنيفة؛ لأنه كان لا يقطع بوعيد أهل الكبائر من المسلمين، ويجوز أن يغفر الله لهم في الدار الآخرة، وليس ذلك مدْركه، بل إن الأدلة الموجِبة للوعيد بالتخليد في النار إنما انتهضت في الكفار بدلائل من خارج) (¬1). وثالثها: عكسه، وهو عن المرجئة، فقالوا بصيغ العموم في الوعد والوعيد، وتوقفوا فيما عداها. ورابعها: يوقف في العمومات الواردة بالوعيد على عصاة أهل الملة خاصة دون غير ذلك، وهو قول جمهور الأشعرية. وخامسها: [يُوقف] (¬2) فيمن لم يسمع خطاب الشارع، فأما مَن سمع منه - صلى الله عليه وسلم - وعرف تصرفاته فيه ما بين خصوص وعموم فلا. حكاه المازري، قال: وهذا يلحق بالقائل بالعمومات؛ لأنه إنما شكك فيمن لم يسمع منه ويعرف قصده. وسادسها: أن الوقف في الوعيد دون الوعد. ¬

_ (¬1) الفصول في الأصول لأبي بكر الجصاص (1/ 102). (¬2) كذا في (ص)، لكن في (س): توقف.

قال القاضي: وفرقوا بينهما بما يليق بالتُّرَّهات. وسابعها: أن الوقف فيما لم يتقيد به ضرب من التأكيد؛ فإن ذلك للعموم. وثامنها: أن لفظة المؤمن والكافر حيثما وقعت في الشرع أفادت العموم، دُون غيرها، فإنه يُتوقَّف فيه. حكاه المازري عن بعض المتأخرين. وأما صفة الوقف: فقيل: لأن لفظة العموم مشتركة بين الواحد اقتصارًا عليه وبين أقَل الجمع فما فوقه اشتراكا لفظيًا، كالقرء والعين ونحوهما. حكاه المازري والأصفهاني، وهذا فيما يحتمل الواحد من العمومات كـ "مَن" و"ما". وأما ألفاظ الجموع ونحوها فمشتركة بين أقل الجمع وما فوقه. وقيل: لعدم العِلم بكيفية الوضع؛ لأنها استعملت في العموم والخصوص ولكن لا يُدْرَى هل ذلك على وجه الحقيقة؟ أو المجاز؟ نعم، حكى ابن الحاجب هذين القولين على وجه آخر، وهو أن أحدهما: لا يُدْرَى هل وضعت هذه الصيغة للعموم؟ أو لا؟ وثانيهما: أنها استعملت للعموم، ولكن لا ندري هل هو حقيقة؟ أو مجاز؟ وجعل قول الاشتراك في أصل المسألة مباينًا لقول الوقف. الثاني: مأخذ قول الوقف من الأصل أن الأشعري لمَّا تكلم مع المعتزلة في عمومات الوعيد في الكتاب والسنة نحو قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13 - 14]، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [الجن: 23] ومع المرجئة في عموم الوعد، نفى أن تكون هذه الصيغ موضوعة للعموم، وتَوقَّف فيها، وتبعه جمهور أصحابه. وقال ابن القشيري في "باب المفهوم": لم يصح عندنا عن الشيخ إنكار الصيغ، إنما قال

ذلك في معارضاته في أصحاب الوعيد. قال: وسِر مذهبه إنكار التعلق في مثل ذلك بالظواهر مع أن المطلوب فيه القطع، وهذا هو الحقُّ المبين. ولم يمنع من الظواهر في مظان الظنون. ولهذا حكى الصيرفي عن الأشعري أنه يقول بالصيغ كالشافعي كما سبق، ومراده من حيث الظن، والوقف من حيث القطع، فلا منافاة بين النقلين. الثالث: في إثبات صيغ العموم بحث ذكره القرافي (في بعض كتبه) يظهر منه أنَّ مُسمى العموم في غاية الغموض، وهو أن صيغة العموم بين أفرادها قَدْر مشترك، ولكل فرد منها خصوص يختص به، كـ"المشركين" مثلًا اشتركوا في الشرك، وامتاز هذا بِطُولِه أو قصره، وهذا بسواده أو بياضه، إلى غير ذلك من أنواع التمييز، فالصيغة إما أن تكون موضوعة للقدر المشترك بينها أو لخصوصياتها أو للقدر المشترك بقيد العدد أو بقيد سلب النهاية أو لمجموع الأفراد أو للمجموع المركب من القدر المشترك والخصوصيات، فهذه احتمالات ستة، لا يصح تنزيله على واحد منها. أما الأول: فلأنه يلزم أن يكون العموم متواطئًا، وذلك هو المطلق الذي عمومه عموم بدل، لا شمول. الثاني: ظاهر البطلان؛ لأن العموم لم يوضع لكل فرد منها بحسب خصوصياته وإلا لَزِم أن تكون صيغة العموم مشتركة اشتراكًا لفظيًا بين الأفراد الداخلة تحته. وكذلك القول في الاحتمال الأخير وهو أن تكون موضوعة للمشترك مع الخصوص في كل فرد؛ لأنه يلزم منه أن يكون اللفظ موضوعًا لحقائق غير مختلفة متناهية، ويستحيل أن تكون مشتركة اشتراكًا لفظيًا بين أفراد ومسميات غير متناهية.

وأما الاحتمال الثالث وهو أن تكون موضوعة للمشترك بين أفراده بقيد العدد فيُبطله أن "مفهوم العدد" أمر كلي، وكذلك "مفهوم المشترك"، فيكون المركَّب منهما كليا أيضًا، فيكون اللفظ مطلقًا، والكلام إنما هو في عموم الشمول. وكذلك الرابع وهو القدر المشترك بقيد سلب النهاية؛ لأن المعنى يكون حينئذٍ في نحو قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151]: لا تقتلوا النفوس بقيد سلب النهاية؛ فينعدم الاستدلال به على ثبوت حُكمه لكل فرد. وبهذا أيضًا يبطل الاحتمال الخامس. ثم اختار أن صيغة العموم موضوعة للقدر المشترك مع قيد تتبعه لحُكمه في جميع موارده، قال: (فخرج بالقدر المشترك "الأعلام" كزيد وعمرو؛ لأن ألفاظها موضوعة بإزاء أمور جزئية، لا كلية، وخرج المطلق). انتهى ملخصًا. وظاهره أنه اختراع، لكن في كلام صاحب "الحاصل" في تقسيم اللفظ إلى المطلق والعام ما [يؤخذ] (¬1) منه كثير مما ذكر. الرابع: في ثبوت صيغ العموم -لمن قال بها- أدلة لا تنحصر: فمن القرآن نحو قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} [هود: 42] الآية، ففهم نوح عليه السلام العموم من قوله تعالى: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون: 27]؛ فلذلك أجيب بما يقتضي عدم دخوله في العام لمعنى أنه عمِل عملًا غير صالح، وقوله تعالى: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت: 31]، فَهِمَ منه إبراهيم ¬

_ (¬1) في (ت): يوجد.

عليه السلام العموم حتى قال: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} [العنكبوت: 32]، فأجابته الملائكة بتخصيصه بإخراجه من العموم بقولهم: {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ}، وكذا في استثناء امرأته مِن أهله. وللآمدي هنا بحث ضعيف، لا حاجة لذِكره. ومن السنة ما في "الصحيحين" في أمر الزكاة، قالوا: يا رسول الله، فالخمر؟ قال: "ما أنزل الله عليَّ فيها شيئًا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] " (¬1). وما في "البخاري" من قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي سعيد بن المعلى لَمَّا دعاه وهو في الصلاة فلم يُجِبه: "ما منعك أن تجيبني؟ " (¬2) الحديث. فإنه طالبه بموجب العموم في {الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 24]. وما في "الترمذي" وصححه النسائي من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن جر ثوبًا من ثيابه من مخيلة، فإن الله لا ينظر إليه ". فقالت أم سلمة: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: "يُرخِين شِبرًا" (¬3) الحديث. وفيه: فقال: أبو بكر - رضي الله عنه -: إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده. ففهم العموم، وأقره - صلى الله عليه وسلم - حتى قال له: "إنك لست ممن يصنعه خيلاء" (¬4). وكذا فهمت أم سلمة العموم حتى قال لها رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ما قال. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 2242)، صحيح مسلم (رقم: 987). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) سنن الترمذي (رقم: 1731)، سنن النسائي (رقم: 5336، 9740)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن الترمذي: 1731). (¬4) صحيح البخاري (رقم: 5447).

وما في "الصحيحين" لمَّا نزل قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] الآية، قال ابن أم مكتوم: إني ضرير البصر. فنزل: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] (¬1). فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على فَهم العموم، ونزل القرآن بالتخصيص من العام. وما في "الصحيح" أيضًا لما نزل {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، قال الصحابة: وأيّنا لم يظلم نفسه؟ ! فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ألم تسمعوا ما قال لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] " (¬2). ففهموا العموم من: {الَّذِينَ} أو من النكرة في النفي حتى بَيَّن لهم أن المراد ظلم خاص. وكذا لما نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، قال ابن الزِّبَعْرَى: قد عُبد المسيح والملائكة. فنزل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] (¬3)، فأقره على العموم، ولكنه مخصص. والحديث مشهور في السير والتفسير، ورواه السهيلي عن ابن عباس بسندٍ صحيح. وكذلك فَهم علي - رضي الله عنه - من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} العموم حتى قال: "أنا منهم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف" (¬4). رواه ابن أبي حاتم وابن عدي وابن مردويه والثعلبي من رواية ليث ابن أبي سليم. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 4704)، صحيح مسلم (رقم: 1898). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 3181)، صحيح مسلم (رقم: 124). (¬3) انظر: مصنف ابن أبي شيبة (31882)، المعجم الكبير للطبراني (12739)، المستدرك على الصحيحين (رقم: 3449). (¬4) الكامل في الضعفاء (3/ 122)، تفسير ابن أبي حاتم (8/ 2469) نشر: نزار الباز - السعودية.

وفي حديث التشهد: "وعلى عباد الله الصالحين، إذا قلتموها، أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض" (¬1). أخرجه الشيخان. وفي "مسلم" عن أبي هريرة: لما نزل {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 284] الآية، اشتد على الصحابة، وقالوا: كُلفنا من العمل ما لا نطيق. فنزل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] (¬2). وفي "الترمذي" عن عائشة أنه لما نزل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة: 284] سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "هذه معاتبة الله تعالى العبد" (¬3) الحديث. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفتح: "مَن أغلق بابه فهو آمن، ومَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن" (¬4)، ثم استثنى مَن استثنى، فلولا العموم لَمَا احتاج لذلك. وغير ذلك مما لا ينحصر من الآيات والأحاديث. وأيضًا فقد اتفق الصحابة وأهل اللغة على العموم مِن هذه الألفاظ المفردة ولو كانت خالية مِن القرائن، ولَمَّا قال عمر لأبي بكر - رضي الله عنهما -: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله"؟ (¬5) الحديث، فلم ينكر أحد العموم. واستقراء كلام أهل اللغة يفيد القَطع بذلك. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 797)، صحيح مسلم (رقم: 402). (¬2) صحيح مسلم (رقم: 125). (¬3) سنن الترمذي (رقم: 2991). قال الألباني: ضعيف الإسناد. (ضعيف سنن الترمذي: 2991). (¬4) مسند أحمد (7909)، صحيح ابن حبان (رقم: 4760)، سنن النسائي الكبرى (رقم: 11298)، وغيرها. قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 7740). (¬5) صحيح البخاري (رقم: 1335)، صحيح مسلم (رقم: 20).

وأيضًا: فالعموم معنى من المعاني المفتقرة إلى وضع ما يدل عليه. وأيضًا: فالاستدلال بالاستثناء في كثير من المواضع، وهو معيار العموم كما سيأتي. وإنما تعرضت لهذا الطرف من الأدلة لمسيس الحاجة إليه. إذا علمت ذلك فقد ذكرت عِدة من صيغ العموم بحسب تقسيم لها: وهو أن المفيد للعموم إما من جهة اللغة أو العرف أو العقل. والأول: إما أن تكون إفادته ذلك بنفسه أو بانضمام قرينة. والأول: إما أن لا يختص بنوع أو يختص. والثاني: إما أن تكون قرينته في الثبوت أو في النفي [أو] (¬1) ما في معناه. فأشرتُ في النظم إلى هذه الأقسام على هذا الترتيب. فذكرتُ من القسم الأول (وهو ما يدل بنفسه) ألفاظًا: أحدها: "كل"، وقد سبق ذكر معناها في "فصل الحروف" وغيرها من الأدوات، وأنها إن أضيفت: - إلى نكرة، فهي لشمول أفراده، نحو: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت: 57]. - أو لمعرفة وهي جمع أو ما في معناه، فلاستغراق أفراده أيضًا، نحو: "كل الرجال" أو "كل النساء" أو"كل الناس على وَجَل إلا مَن آمَنه الله"، وفي الحديث: "كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فموبقها أو مُعتقها" (¬2). - أو لمعرفة مفرد، فلاستغراق أجزائه أيضًا، نحو: "كل الجارية حسن" أو "كل زيد ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): و. (¬2) صحيح مسلم (رقم: 223)، وغيره، ولفظ مسلم: (كُلُّ الناس يَغْدُو فَبَائعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أو مُوبِقُهَا).

جميل". ونزيد هنا أن مادتها تقتضي الاستغراق والشمول، كـ "الإكليل" لإحاطته بالرأس، و"الكلالة" لإحاطتها بالوالد والولد، فلهذا كانت أصرح صيغ العموم؛ لشمولها العاقل وغيره، المذكر والمؤنث، المفرد والمثنى والجمع. وسواء بقيت على إضافتها كما مثلنا، أو حُذف ما أضيفت إليه، نحو: {كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص: 19]، {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116]. قال القاضي عبد الوهاب: (ليس بعدها في كلام العرب كلمة أَعَم منها تفيد العموم مبتدأة وتابعة لتأكيد العام، نحو: جاء القوم كلهم). قال سيبويه: (معنى قولهم: "كل رجل": كل رجال) (¬1). فأقاموا "رجلًا" مقام "رجال"؛ لأن "رجلًا" شائع في الجنس، و"الرجال" الجنس. وأما مراعاة التذكير والتأنيث في خبرها وضميرها ونحو ذلك فمن وظيفة النحوي. نعم، ينبه فيها على مواضع: أحدها: أنَّ ما سبق -من كونها تستغرق الأفراد فيما إذا أضيفت لجمع مُعرَّف كما لو أضيفت لنكرة فتكون من الكلية كقوله - صلى الله عليه وسلم - حكايةً عن ربه عز وجل؛ "يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته" (¬2) الحديث- هو قول الأكثر. وذهب بعض الأصوليين إلى أنه مِن "الكل المجموعي"، لا من "الكلية"، وهو ظاهر تجويز ابن مالك فيها حينئذٍ اعتبار اللفظ واعتبار المعنى. وبذلك صرح ابن الساعاتى فى "البديع"، فقال: إن قولك: "كل الرجال" كل مجموعي. ¬

_ (¬1) الكتاب لسيبويه (1/ 203). (¬2) صحيح مسلم (رقم: 2577) وغيره.

ففرق بين أن يقال: "كل حبة من البُر غير متقومة" وأن يقال: "كل الحبات منه غير متقوم"، فالأول صحيح؛ لأنه كُلٌّ عددي، والثاني غير صحيح؛ لأنه كُلٌّ مجموعي. وضُعِّف قوله بأن ذلك إنما هو بحسب الإرادة إذا اقتضاها قرينة؛ فقد قرر هو قبل ذلك أن قولنا: "كل شيء" ليس معناه "كل الشيء"؛ لأن الأول عددي والثاني مجموعي، والفرق بينهما ظاهر. فالخلل إنما جاء مِن تمثيله بِـ "كل حبة" و"كل الحبات". ثانيها: إذا دخلت "كل" على جمع أو اسم جمع مُعرف باللام وقُلنا بعمومها، فهل المفيد له الألف واللام، و"كل" تأكيد؟ أو هي لبيان الحقيقة، و"كل" لتأسيس إفادة العموم؟ الثاني أظهر؛ لأن "كُلًّا" إنما تكون مؤكِّدة إذا كانت تابعة. وقد يقال: اللام أفادت عموم مراتب ما دخلت عليه، و"كل" أفادت استغراق الأفراد. فنحو: "كل الرجال" تفيد فيها الألف واللام عموم مراتب جمع الرجل، و"كل" استغراق الآحاد. ولهذا قال ابن السراج في الأصول: (إنَّ "كل" لا تدخل في المفرد والمعرف بالألف واللام إذا أريد بكل منهما العموم). انتهى وهو ظاهر؛ ولهذا مُنع دخول: "أل" على "كل"، وعِيب قول بعض النحاة: بدل الكل من الكل. ص: ثالثها: ليس من دخولها على المفرد المعرف نحو قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 93]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "كل الطلاق واقع إلا طلاق المعتوه (¬1)؛ لأن الظاهر أنها مما هو في معنى الجمع المعرف حتى يكون لاستغراق الأفراد لا الأجزاء. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

رابعها: محل عمومها إذا لم يدخل عليها نفي متقدمًا عليها، نحو: "لم يَقُم كل القوم"، فإنها حينئذٍ للمجموع، والنفي وارد عليه، ويسمى "سلب العموم"، بخلاف ما لو تأخر عنها نحو: "كل إنسان لم يقم"، فإنها حينئذٍ لاستغراق النفي في كل فرد، ويسمى "عموم السلب". وهذه القاعدة متفق عليها عند أرباب البيان، وأصلها قوله -صلى الله عليه وسلم-في حديث ذي اليدين: "كل ذلك لم يكن" (¬1) جوابًا لقوله: (أنسيمت؟ أَم قصرت الصلاة؟ ). أي: لم يكن كل من الأمرين، لكن بحسب ظنه -صلى الله عليه وسلم-؛ فلذلك صحَّ أن يكون جوابًا للاستفهام عن أي الأمرين وقع. ولو كان لنفي المجموع لم يكن مطابقًا للسؤال ولا لقول ذي اليدين في بعض الروايات: (قد كان بعض ذلك) (¬2)، فإن السلب الكلي [نقيضه] (¬3) الإيجاب الجزئي. ومحل بسط ذلك عِلم البيان. قال القرافي: وهذا شيء اختصت به "كل" من بين سائر صيغ العموم. واعلم أن حُكم النهي فيما ذكر حكم النفي، فيُفرق بين "كل عالم لا تهنه" وبين "لا تُهن كل عالم". والظاهر أن الشرط كذلك، نحو: "كل عبد لي إن حج فأعتقه"، أو: "فهو حر"، فيشمل كل فرد فرد، بخلاف: "إن حج كل عبد من عبيدي"، لا يعتق أحد منهم حتى يحج الجميع. ومنه نحو قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأنعام: 25] المراد المجموع، فهو أبلغ، ويلزم منه أنهم إذا رأوا بعض الآيات لا يؤمنون بها من باب أَولى. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (رقم: 573)، وغيره. (¬2) صحيح مسلم (رقم: 573). (¬3) في (ت): يقتضيه.

وأما إذا كانت "كل" مؤكِّدة، فهل يفرق فيها بذلك؟ نحو: "لم أر القوم كلهم" أو "القوم كلهم لم أرهم". قال القرافي: لم أَرَ فيه نقلًا، وهو محتمل، لكن يرجح التفرقة أن صيغة التأكيد تقرير للسابق، فبتقدم النفي عليه لا يبطل حكم العموم، بخلاف المستقل. لكن صرح ابن الزملكاني في "البرهان" بالتسوية. نعم، أورد على قولهم: (تقدُّم النفي لسلب العموم) نحو قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} [مريم: 93]، فينبغي أن تُقيد القاعدة بأن لا ينتقض النفي، فإن انتقض، كانت لعموم السلب. وقد يقال: انتقاض النفي قرينة إرادة عموم السلب؛ لأن النفي للموضوع، وما بعد "إلا" لا تَسلط للنفي عليه، بل هو مثبت، والتفريع في الاستثناء يجعل ما بعد "إلا" مستندًا لما قبلها، فالإثبات لكل فرد فرد كما لو لم يدخل النفي والاستثناء. وأورد بعضهم على التقرير للقاعدة بأن "السلب الكلي يقتضي نفي الحكم عن كل فرد" أنه إنما يقتضيى نفي الحقيقة من حيث هي، ولكن نفي الحقيقة مستلزم لنفي الأفراد. ورُدَّ ذلك بأن "كُلًّا" و"كلما" و" لا لشيء" و"لا واحد" وسائر كلمات السور إنما تستعمل باعتبار الأفراد، لا باعتبار الحقيقة، لأن اعتبار الحقيقة إنما هو في القضية الطبيعية، لا المسوَّرة. الثاني من الصيغ: "جميع": وهي مثل "كل"، إلا أنها لا تضاف إلا إلى معرفة، فلا تقول: (جميع رجل)، وتقول: (جميع الناس) و (جميع العبد). وإلا أنَّ دلالتها على كل فرد فرد بطريق الظهور، بخلاف "كل"، فإنها بطريق

النصوصية. وفرق الحنفية بينهما بأن "كُلا" تعم على جهة الانفراد، و"جميع" على جهة الاجتماع. ونقل ابن العارض المعتزلي في كتاب "النكت" عن الزَّجاج أنه حكاه عن المبرد. قيل: والذي قاله المبرد إنما هو في نحو: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30]. وحكاه كذلك ابن الخشاب وابن إياز، وإن كان ابن بابشاذ نقل عنه خلافه. على أنه قد تمنع التفرقة بينها وبين "كل" بذلك، فإن "جميع" تقتضي التفصيل بخلاف مجموع، وهذا شائع في الاستعمال. قال بعضهم: إذا كانت "جميع" إنما تضاف لمعرفة فهو إما بِـ "اللام" أو بكونه "مضافًا لمعرفة"، وكُل منهما يفيد العموم، فَلَمْ تُفِده "جميع". وجوابه أن ما فيه الألف واللام يُقدر حينئذٍ أنها للجنس، والعموم مستفاد من "جميع". وأما المضاف نحو: "جميع غلام زيد" فليست فيه لعموم كل فرد، بل لعموم الأجزاء كما سبق إيضاح الأمرين في الكلام على "كل"، فاعْلَمه. وقولي: (نَحْوُ "جَمِيعٍ") إشارة إلى أن ما كان من هذه المادة مثلها في العموم، كَـ"أجمع" و"أجمعين" ونحوهما. ومَن زعم أن "أجمعين" تقتضي الاتحاد في الزمان بخلاف "جميع"، فالأصح خلاف قوله، قال تعالى: {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39]. نعم، اختلف في أن: "أجمع" ونحوه إذا وقع بعد "كل"، هل التأكيد بالأول والثاني زيادة فيه؟ أو بكل منهما؟ أو بهما معًا؟ الأرجح الأول كما في سائر التوابع. ومن مادة [جمع] (¬1) أيضًا: "جاء القوم بأجمُعهم" (وهو بضم الميم جمع "جَمعْ" بفتح أوله ¬

_ (¬1) كذا في (ص، س، ض)، لكن في (ق): جميع.

وسكون ثانيه): كَـ "عَبْد وأَعْبُد". ولا يقال: بِـ "أجمَعهم" بفتح الميم؛ لئلا يتوهَّم أنه "أجمع" الذي يؤكد به؛ لأن ذاك لا يضاف للضمير ولا يدخل عليه حرف الجر. كذا قاله الحريري في "درة الغواص" (¬1)، لكن قد حكى الوجهين ابن السكيت، وإنْ كان الأقيس "الضم". ويدخل في قولي: (نَحْوُ) أيضًا "سائر"، فقد قال الجوهري: إنها بمعنى "جميع" (¬2)؛ لأنها من سور المدينة، وهو المحيط بها. وغلطوه، وليس كذلك؛ فقد ذكره السيرافي في "شرح سيبويه" والجواليقي في "شرح أدب الكاتب" وابن بري وغيرهم، وأوردوا له شواهد كثيرة. وممن عدها من صيغ العموم القاضي في "مختصر التقريب" والقاضي عبد الوهاب في "الإفادة" كما نقله الأصفهاني في "شرح المحصول"، لكن الموجود في "الإفادة" إنما هو حكاية ذلك وتغليطه بأنها من "أسأر"، أي: أبقى، فهو من "السؤر" وهو البقية، فلا تعم كما هو المشهور. لكن لا تَنافي بينهما، فهي للعموم المطلق ولعموم الباقي بحسب الاستعمال، كما تقول: اللهم اغفر لي ولسائر المسلمين. وقال -صلى الله عليه وسلم- في حديث غيلان لما أسلم على عشرة نسوة: "أمسك أربعًا، وفارق سائرهن" (¬3). أي: جميع من يبقى بعد الأربع. ويدخل في قولي: (نَحْوُ) أيضًا: "معشر" و"معاشر" و"عامة" و"كافة" و"قاطبة". ¬

_ (¬1) درة الغواص في أوهام الخواص (ص 202). (¬2) قال في (الصحاح، 2/ 692): (سائر الناس: جميعهم). (¬3) صحيح ابن حبان (رقم: 4157)، سنن البيهقي الكبرى (13819) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 4145).

نحو: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأنعام: 130]، "إنَّا معاشر الأنبياء لا نورث" (¬1)، {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36]، وقالت عائشة: "لَمَّا مات -صلى الله عليه وسلم- ارتدت العرب قاطبة" (¬2). قال ابن الأثير: أي: جميعهم. لكن "معشر" و"معاشر" لا يكونان إلا مضافين، بخلاف "قاطبة" و"عامة" و"كافة": فإنها تضاف وتفرد. وقولي: (وَلمَوْصُولٍ بِذَا يُقْفَى) إلى آخره -أي: بالعموم يُقضى فيه، فالأسماء الموصولات من صيغ العموم، وكذا أسماء الشرط والاستفهام، لكن هل هي من القسم الذي يفيد بمفرده؟ أو لا؟ الظاهر الأول، خلافًا لمن زعم أن ذلك لانضمام الصلة ونحوها كما اعترض به القرافي على الإمام وعدى ذلك إلى أسماء الاستفهام والشرط وإلى ما سبق من لفظ: "كل" و"جميع"؛ لأنه لا بُدَّ في ذلك من انضمام لفظ إليه. وهذا مردود؛ لأن الصلة إنما هي قيد في أصل الدلالة، لا في إفادة العموم. وكذا ما ينضم لأسماء الاستفهام والشرط ونحو: "كل" و"جميع". نعم، من ألفاظ هذه الأنواع الثلاثة ما يختص في العموم بنوع في الغالب، نحو: "مَنْ" للعاقل، وربما قيل: التعبير بِـ "العالِم" أَوْلى؛ ليدخل نحو: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} ¬

_ (¬1) مسند أحمد (9973)، سنن النسائي الكبرى (رقم: 6309)، المعجم الأوسط (رقم: 4578) بلفظ: (إنا معشر الأنبياء لا نورث). وفي صحيح البخاري (رقم: 2926)، صحيح مسلم (رقم: 1759) بلفظ: (إِنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لَا نُورثُ، ما تَرَكْنَا صَدَقَة). قال الحافظ ابن حجر في (التلخيص الحبير، 3/ 100) في إسناد النسائي: (إسناده على شرط مسلم). (¬2) تاريخ دمشق (36/ 310)، المطالب العالية (15/ 727).

[لرعد: 43]. لكن الكلام الآن حيث كانت عامة، فالتعبير بالعاقل مستقيم، نحو: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46]، {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56]. و"ما" لغير العاقل، نحو: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر: 2]، {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى} [طه: 17]. ومنها ما يختص بالزمان، كـ"متى"، أو المكان، كَـ "أين". وما يعم الكل، كَـ"أل"، وسيأتي إيضاحها في المحلَّى بِـ "أل" والفرق بينهما والخلاف فيهما. وكَـ "أي" الشرطية والاستفهامية، لا الموصولة؛ فلذلك عَقَّبتُ بالأمثلة وبينتُ ما يحتاج إلى البيان وإخراج ما يخرج في الأبيات الآتية. والله أعلم. ص: 579 - كَـ "مَا"وَ "مَنْ "، وَلإنَاثٍ يَشْمَلُ ... ذِي في كَـ "مَنْ بَدَّلَ دِينًا، يُقْتَلُ" 580 - وَكَـ "مَتَى" في زَمَنٍ، وَ"حَيْثُما" ... وَ"أَيْنَ" في الْمَكَانِ فِيمَا عُلِمَا 581 - نَعَمْ، مِنَ الْمَوْصُولِ "أَيٌّ "تُفْرَدُ ... فَلَيْسَ فِيهَا مِنْ عُمُومٍ يُقْصَدُ الشرح: فأشرت إلى أن "مَن" و"ما" للعموم، سواء أكانتا للشرط أو للاستفهام أو موصولتين. أما الشرطيتان: فبالاتفاق، وأما الاستفهاميتان فعَلَى قول الجمهور، منهم: الشيخ أبو إسحاق وسليم الرازي وابن السمعاني وابن الصباغ وغيرهم، وأبو بكر الرازي والبزدوي من الحنفية، والقرطبي والأبياري مِن المالكية، واختاره الإمام الرازي والآمدي والهندي،

لكن ظاهر تقييد إمام الحرمين بالشرطية خروج الاستفهامية. وأما الموصولتان: فالمختار فيهما العموم، فقد مَثَّل الغزالي في "المستصفى" لعموم "ما" بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" (¬1). وقد مثل الكلُّ تأخيرَ البيان إلى وقت الحاجة بقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] حتى قال ابن الزبَعْرى ما قال. وجرى على عمومهما ابن الحاجب وابن الساعاتي والصفي الهندي. ونقله القرافي عن صاحب "التلخيص"، يعني: النقشواني، وأنكر ذلك الأصفهاني وقال: (إن المصرح به فيه خلاف ذلك) (¬2). فلذلك أطلقته في النَّظم وإنْ كان مقتضى كلام كثير أنهما ليسا للعموم، وصرح به أبو منصور البغدادي وسليم في "التقريب"، وهو ظاهر تقييد القاضيين أبي بكر وعبد الوهاب "مَن" و"ما" بالشرطيتين والاستفهاميتين. وفيهما قول ثالث لبعض الحنفية: أن العموم فيهما عموم كل مجموعي، لا كلية، بخلافهما شرطيتين واستفهاميتين. فإذا قال: (مَن زارني فأعطه درهمًا)، استحق كل واحد واحد ممن زاره درهمًا. وإذا قال: (أعط مَن في هذه الدار درهمًا)، استحق الكل درهمًا واحدًا. ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (رقم: 3561)، سنن الترمذي (1266)، وغيرهما. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف أبي داود: 3561). (¬2) الكاشف عن المحصول (4/ 230).

تنبيهات الأول: استُشْكل عموم "مَن" و"ما" في الاستفهام مثلًا بأنه لو قيل: مَن في الدار؟ حَسُنَ أن يجاب بالمفرد، فيقال: زيد. وكذا لو قيل: ما عندك؟ فتقول: درهم. وأجاب القرافي بما معناه أن العموم من حيث شموله لكل ما يصلح دخوله فيه، وأما الجواب بالواحد فباعتبار الواقع، ولا تنافي بينهما. واستُشكل أيضا بِقَول الفقهاء فيما لو قال: (مَن دخل داري فله درهم)، أو: (مَن خلت فهي طالق) أنَّ مَن دخل ثانيًا لا يستحق درهمًا آخَر، ولا مَن دخلت لا تُطلَّق طلقةً ثانيةً. وجوابه: أن العموم في الأشخاص، لا في الأفعال، إلا أنْ تقتضي الصيغة التكرر، نحو: "كلما"، أو يحكم به قياسًا؛ لكون الشرط علة، نحو: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [الجاثية: 15]، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} [الزلزلة: 7]. فإن قيل: لو قتل المُحرِم صيدًا بعد صيد، تكرر الجزاء مع أن الصيغة "مَن" في قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] الآية. قيل: لتعدد المحل كما أجاب به الماوردي والمحاملي والجرجاني في "المعاياة". قالوا: بخلاف ما لو كان المحل واحدًا كالمثال السابق، حتى لو قال: (مَن دخل داري فله درهم) وله عدة دُور، فكلما دخل دارًا، استحق درهمًا؛ لاختلاف المحل. ولهذا لو قال: (طَلق من نسائي مَن شئت)، لا يطلق إلا واحدة. ولو قال: (مَن شاءت)، له أن يطلق عددًا يشاء؛ لتعدد المحل. فإن قيل: لو قال: (مَن رد عبدي فله درهم) فرده جمع، استحقوا درهمًا، لا أن لكل

واحد درهمًا. فالجواب -كما قرره الماوردي- أنه لم يصدر مِن كُلٍّ تمام الشرط المعلَّق عليه، بل جزؤه؛ فاستحق الجزء. الثاني: أن العموم في "مَن" و"ما" وغيرهما لا يخفى أنه فيمن يقبل الحكم المذكور. ففي "الكفاية" في باب السير: إذا قال الأمير: (مَن غزا معي فله دينار)، لا يدخل أهل الفيء ولا النساء، بخلاف ما لو قال: مَن قاتل معي فله دينار. قال: لأن الغزو حُكم يتوجه لأهله، وأما الصبيان فخارجون من الأمرين؛ لذلك، وكذا العبيد بلا إذن السيد. الثالث: لم أذكر اختصاص "مَنْ" بالعاقل و"ما" بغيره؛ لأنَّ كُلًّا منهما قد يستعمل في الآخَر كثيرًا في مواضع مشهورة في النحو، والعموم موجود، فلا حاجة لذِكر اختصاص ولا غيره فيهما. وذكرتهما من أمثلة الأقسام الثلاثة؛ حتى يتقيدا بها؛ ليخرج ما سبق في باب الأدوات من ورودهما نكرتين موصوفتين ونكرتين تامتين، فإن ذلك لا عموم فيه إلا بقرينة نفي ونحوه، نحو: ما مررت بمن معجب لك، أو: بما معجب لك. وقولي: (وَلإنَاثٍ يَشْمَلُ) إلى آخِره -إشارة إلى مسألة تتعلق بِـ "مَن" الشرطية، وهي أنها هل تشمل المؤنث؟ أو تختص بالمذكر؟ المشهور الأول؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [النساء: 124]، فلولا شمولها للأنثى لَمَا بيَّن به مع المذكر، ولقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأحزاب: ]، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه". فقالت أم

سلمة: "فكيف تصنع النساء بذيولهن" الحديث (¬1)، وقد سبق، فأقرها النبي -صلى الله عليه وسلم- على فهم دخول النساء في "مَن" الشرطية. ولأنه لو قال: (من دخل داري فهو حر) فدخلها النساء، عُتِقن بالإجماع كما قاله في "المحصول". وحكى ابن الحاجب وغيره قولًا أنَّ "مَنْ" تختص بالذكور، ولا يدخل فيها الإناث. ويُعزى لبعض الحنفية، وأغرب ابن الدهان النحوي فعزاه للشافعي. وبنى المخالف على ذلك عدم قتل المرتدة؛ لحمله قوله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن بَدَّل دِينه فاقتلوه" (¬2) على اختصاصه بالذكور. ومذهبنا أنها تُقتل؛ بناء على دخول الإناث في الحديث. نعم، قيد إمام الحرمين الخلاف بِـ "مَنْ" الشرطية، وبه عَبَّر ابن الحاجب وجَمعٌ حتى لا يجري الخلاف في الاستفهامية والموصولة. لكن قال الصفي الهندي: الظاهر أنه لا فرق. واعتذر بعضهم عن إمام الحرمين بأنه إنما قيد بذلك لكونه لم يذكر الاستفهامية والموصولة في صيغ العموم. وقولي في النَّظم: (في كَـ "مَنْ بَدَّلَ") يحتمل الرأيين، أي: مثل: "مَن بدل دينه" في كونها شرطية أو في كونها مِن صُوَر "مَنْ" في الجملة، مثالًا، لا قيدًا، ولكن الاحتمال الثاني أعم وأَفْيد، فهو الأرجح. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 2854)، وغيره.

تنبيهات الأول: الخلاف في مدلول "مَنْ" و "ما"، لا في لفظهما. فقد قال النحاة كما في "التسهيل" وغيره: إن "مَن" و"ما" في اللفظ مفردان مذكران، وإذا قصد بمعناهما غير ذلك فإنما يدل عليه مراعاة المعنى مِن عَوْد ضمير ونحوه (¬1). ومرادهم بذلك أن معناهما في الأصل من حيث إطلاق لفظهما مفرد مذكر، ومخالفة ذلك إنما هي بحسب مراد المتكلم، فالكل باعتبار المدلول باعتبارين، وإلا فنفس اللفظ ليس الكلام فيه، فإن "لفظ سائر الكلمات" إذا أريد لفظه، يذكَّر باعتبار "لفظ"، ويؤنث باعتبار "كلمة". فتقول: (زيد ثلاثي) و: (ثلاثية)، أي: كلمة ثلاثية. الثاني: اختُلف في "مَنْ"، فالأرجح تناولها للعبيد، وقيل: تختص بالأحرار. وكأنَّ ذلك من حيث الشرع، فسيأتي أن العبيد هل تدخل في العمومات الشرعية؟ أو لا؟ وقولي: (وَكـ "مَتَى" في زَمَنٍ) أي إنَّ عموم "متى" إنما هو باعتبار الأزمنة، فنحو: (متى دخلت الدار، فأنت حر) يعتق بأيِّ وقت دخل. نعم، قيده ابن الحاجب وغيره بالأزمان المبهمة، فلا يقال: (متى طلعت الشمس)، بل يقال: (إذا طلعت). وهذا مراد مَن أطلق العبارة كما أطلقتُ ذلك في النَّظم؛ لظهوره. ولا فرق في "متى" أن يتصل بها "ما" (كَـ) "متى ما") أوْ لا. وقولي: (وَ"حَيْثُمَا" وَ"أينَ" في الْمَكَانِ) معناه أن عمومهما في الأمكنة، كقوله: حيثما ¬

_ (¬1) تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد لابن مالك (ص 36).

تستقم يقدِّر لك الله خيًرا في سالف الأزمان. وكقولك: أين أجلسَني الله أجلِس. ومما يختص أيضًا من أسماء الشروط والاستفهام: "أنَّى وأيَّان" للزمان. و"مهما" و"إذ ما" في الشرط. وغير ذلك مما تقرر في العربية. ومما يدخل أيضًا في إطلاق الموصول: "الذي" و"التي" وفروعهما، و"ذا" بعد "ما" و"مَن" الاستفهاميتين، نحو: "ماذا عندك؟ " و"مَن ذا عندك؟ " على الخلاف في اشتراط ذلك، فإن الكوفيين لا يشترطونه؛ تعلقًا بقوله: (وهذا تحملين طليق). وأوَّلَه البصريون على أن "تحملين" حال، لا صلة. وكذلك "ذو" الطائية وما تَفرع منها. نعم، قيد بعضهم ذلك بأن لا يظهر فيه عهد، نحو: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة: 4]، {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10]، بخلاف نحو: {وَقَالَ الَّذِي آمَن} [غافر: 30]، {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة: 1]. وفيه نظر؛ لأنَّ شرط صلة الموصول العهد على ما فيه من إشكال سيأتي، ويأتي جوابه وأنه لا ينافي العموم، وحينئذٍ فنحو: {وَقَالَ الَّذِي آمَن} [غافر: 30] غايته أنه عام أريد به خاص، لا أنه لا عموم فيه أصلًا. ومن الموصولات أيضًا "أل" في نحو: "العالم" و"المخلوق"، فيقتضي العموم، كما لو قال: (القائم من عبيدي حر)، أو: (الداخلة للدار من نسائي طالق). ذكره بعض الحنفية، وهو واضح وإنْ تعقبه بعض شيوخنا بما لا يجدي، بل ويلزم على قوله أن لا يستدل بعموم {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38]، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] الآيات.

نعم، مَن لم يجعل "مَنْ" و"ما" الموصولتين عامتين يقول بذلك أيضًا في: "الذي" و"التي" وفروعهما وغير ذلك من الموصولات. وستأتي نصوص الشافعي وكلام الأصحاب في ذلك (في مسألة: المحلَّى بِـ "أل"). والراجح عموم الموصولات كلها سِوَى ما استثنيته في النَّظم، وهو "أي"، نحو: "يعجبني أيهم هو قائم"، فلا عموم فيها، بخلاف الشرطية نحو: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]، والاستفهامية نحو: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38]، ومن الشرطية: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل" (¬1). وهي تشمل العاقل وغيره، كما في: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38]، هذا هو المرجح عند الجمهور. وممن صرح بعموم الشمول فيها الشيخ أبو إسحاق، وإنْ كان القاضي عبد الوهاب وافق ابن السمعاني في أنها للعموم البدلي، لا الشمولي، وكذا قال صاحب "اللباب" من الحنفية وأبو زيد في "التقويم": إنها نكرة، لا تقتضي العموم إلا بقرينة، حتى لو قال: "أي عبيدي ضربته فهو حر" فضربهم، لا يعتق إلا واحد، بخلاف: "أي عبيدي ضربك فهو حر" فضربوه جميعًا، عُتقوا؛ لعموم فعل الضرب. وكذا صرح إلْكِيَا بأنها ليست للعموم. وفي "فتاوى" القاضي حسين والغزالي: لو قال: "أي عبيدي حج فهو حر" فحجوا كلهم، لا يعتق إلا واحد. لكن في "فتاوى الشاشي" أنه لا فرق عندنا بين الصورتين، وأنهم يعتقون جميعًا؛ عملًا بعموم "أي". ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

وبذلك صرح الأستاذ أبو منصور، فقال: ("أَيّ " أَعَم المبهمات). وزعم أصحاب الرأي أنه على الواحد غالبًا. وكذلك قال أبو حنيفة في "أي عبيدي ضربت فهو حر": يحمل على الواحد، و"أي عبيدي ضربك ": على الجميع؛ لأنه أضاف الفعل الذي علق به الحرية إلى الجماعة. قال الأستاذ: (ونحن نقول بعموم اللفظ في الموضعين). انتهى ووجَّه ابن يعيش وغيره هاتين المسألتين -وهُما معروفتان لمحمد بن الحسن- بأن الفعل في المسألة الأولى خاص؛ لإسناده لضمير المخاطب، وفي الثانية عام؛ لإسناده لضمير هو عام. وقرروا أن الفعل يعم بعموم فاعله، لا بعموم مفعوله؛ لأن الفاعل كالجزء من الفعل، لا يُستغنى عنه، والمفعول يستغني عنه الفعلُ. وبذلك أيضا وجَّه القاضي حسين الفرق. وقد اعترض ابن عمرون النحوي على ذلك بأن ضمير الفاعل والمفعول فيهما على حدٍّ سواء، كقول العباس بن مرداس: وما كنتُ دُون امرئ منهما ... ومَن تخفض اليوم لا يُرفع فإن "مَن" الشرطية عامة باتفاق، مع أن التقدير: "ومَن تخفضه اليوم"، و"الهاء" عائدة على "مَن" وهو الاسم العام. وأما ضمير الفاعل فخاص، وهو ضمير النبي -صلى الله عليه وسلم-. وأطال في ذلك وفي الاستشهاد عليه. واعلم أن الحنفية عدوا الحكم إلى "أي عبيدي ضُرب" مبنيًّا للمفعول. قاله ابن جني؛ لأن الفاعل وإنْ لم يُذكر ففي حُكم المذكور.

ويَرُده: "أيما إهاب دُفي فقد طهر" (¬1)، وهُم ممن قال فيه بالعموم حتى أدرجوا فيه جِلد الكلب. تنبيه: إذا اتصلت "أي " بِـ "ما"، كانت "ما" تأكيدًا لها، خلافًا لقول إمام الحرمين في "البرهان ": إن "ما" للعموم في "أيما امرأة نكحت نفسها" الحديث. لاعتقاده أن "ما" فيها هي الشرطية. وقريب من ذلك قول الغزالي: إنَّ "ما" مؤكدة للعموم. لكن الصواب أن يُقال: إنها مؤكدة لأداة الشرط، وهو عند النحويين من التأكيد اللفظي بمنزلة تكرير اللفظ، فإنْ أراد الغزالي ذلك فواضح. تنبيه آخر: استُشكِل جَعْل الموصولات من صيغ العموم مع اشتراطهم في الصلة أن تكون معهودة معلومة للمخاطب إلا إذا قُصد الإبهام تهويلًا؛ لتذهب نفس السامع كل مذهب، كقوله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78]؛ ولهذا كانت الصلة هي المعرِّفة للموصول، خلافًا لمن قال: إنَّ المعرِّف له هو "أل" ظاهرة أو مقدرة فيما ليست فيه كَـ "من" و"ما"، والعهد ينافي العموم (كما سيأتي)، وصرح به ابن الحاجب وغيره. قلت: قد يجاب بأن العهد ليس في نفس الموصول المدَّعَى عمومه، بل في قيده، وقيد العام إنما يخصص محل عمومه ولا يسقط عمومه، كَـ: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

رأت" (¬1) الحديث، فوصْفهم بالصلاح لم يخرج "عبادي" عن العموم بالكلية. فإن قلتَ: العهد يجعل المدلول معيَّنًا، والعموم استغراق بلا حصر، بخلاف ما ذكرت من قيد الوصفية ونحوها. قلتُ: لم يجعله إلا معيَّنًا في الذهن، لا في الخارج. فإذا أريد تعيُّنه في الخارج فذاك بحسب الواقع؛ ولهذا قال البيانيون في التعريف بالموصولية: إنه قد يكون لينبه المخاطب على [خطئه] (¬2)، نحو: إن الذين تَرونهم إخوانكم ... يشفي غليلَ صدورهم أن تُصْرَعُوا فإنه ليس المقصود معيَّنًا في الخارج، بل كل مَن ظُن بهذه الصفة. وقد يكون بالإيماء إلى وجه بناء [الخبر] (¬3)، نحو: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر: 60] الآية، ليس المراد قومًا بأعيانهم. وبهذا التقدير يُعلم أن نحو: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} لم يخرج عن العهد؛ لأن كل ما يتخيله المخاطب في ذهنه يصير به عهدًا، بخلاف ما لم يُعْهَد فيه الصلة لا عهذا خارجيًا ولا ذهنيًا، فإنه مخصوص حقيقةً أو تقديرًا. فَتَأَمَّلْه. فإن قيل: المحكوم بأنه معهود في المحلَّى "بأل" إنما هو الاسم الداخل عليه "أل"، وهو الذي يُقضَى بعمومه حيث لا عهد، فلِمَ لا قيل بعمومه ولو كان فيه عهد كما قلتَ به في الموصول؟ قلتُ: المعهود هو الاسم، و"أل" قرينة العهد. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 3072)، صحيح مسلم (رقم: 2824). (¬2) كذا في (ص)، لكن سائر النسخ في بعضها: (خطابه)، وفي البعض الآخر: (خطايه). (¬3) في (ق): الخير.

وأما المعهود في الموصول فهو الصلة، والموصول ليس فيه عهد، بل مُقيد بما فيه العهد، والله أعلم. ص: 582 - وَللْعُمُومِ أَيْضًا الْمُعَرَّفُ ... بِـ "ألْ" لِغَير الْعَهْدِ فِيمَا تَصِفُ الشرح: هذا هو القسم الثاني من صيغ العموم الدالة عليه من حيث اللغة، وهو ما يدل لا مستقلًّا، بل بواسطة أمر آخر. وقد سبق أنه قسمان: في إثبات، وفي نفي ونحوه. فما في الإثبات ضربان: اقتران بالألف واللام، وتقييد بإضافة لمعرفة. والمراد أن قرينته ليست هي النفي، لا أنه لا يكون في النفي؛ لئلا يَرِد: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَات} [البقرة: 221]، "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" (¬1). فأشرت بهذا البيت إلى الضرب الأول من القسم الأول في الإثبات، وهو ما قرينته "أل"، وفي معناه أن يكون نفس "أل" هي العامة كما سبق في الموصولات، فإن القول فيهما واحد على القول بعموم الموصولة. ولهذا يقع في تمثيلاتهم المحلَّى بِـ "أل" واستدلالاتهم على العموم فيها بمواضع "أل" فيها موصولة؛ إشعارًا بأنه لا فرق بينهما في الحكم. ويتميز كلّ عن الآخر بأن الموصولة هي الداخلة على وصف صريح، كاسْم الفاعل ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 858)، صحيح مسلم (رقم: 442).

واسم المفعول ونحوهما من صِيَغ المبالغة، و"فعيل" كَـ "جريح"، والصفة المشبهة كالجميل، خلافًا لقول ابن العلج في "البسيط": إنها لا توصل بها؛ لبُعدها عن شبه الفعل؛ لثبوت معناها. ورجحه من المتأخرين الشيخ جمال الدين ابن هشام في "مغني اللبيب". أما غير الصريح كالذي غلبت عليه الاسمية: كَـ "أبطح" و"أجرع" فَـ "أل" فيه للتعريف كما هي في الجوامد كَـ "رجل". فى أن أبا الحسن الأخفش يقول في "أل" الموصولة: إنها للتعريف. وبالجملة فالمقترن بِـ "أل" كيف كانت إما أن تكون للعهد أو للجنس، والعهد إما ذِكري وإما ذهني. وفي تحقيقهما وتفاصيلهما أمور مشهورة في العربية لا نُطَول بها. فإذا عرف إرادة العهد بقرينة، فلا عموم اتفاقًا. نحو: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16]، {يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان: 27]، {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36]. وممن نقل الاتفاق في ذلك الإمام الرازي في "المحصول". قال بعضهم: إلا أن يكون باعتبار أفراد المعهودين خاصة، فيكون العموم فيه بهذا الاعتبار. وهو ظاهر. فإن قيل: ما الفرق بين هذا وبين العام إذا ورد على سبب خاص؟ فإنه عام على المرجَّح كما سيأتي، فلِمَ لم يُجْرَ الخلاف الذي هناك هنا في أنه يَعُم المعهود وغيره ولا يُعْمَل بخصوص العهد؟ فالجواب أنَّ "أل" العهدية إذا لم يكن موضوعًا ما هي فيه للعموم، فليس من العام الذي يخرج بعضه ويبقى بعضه، بخلاف ذاك، فإن العموم فيه بالوضع، ولكن هل يطرقه تخصيص بالسبب؟ أوْ لا؟ فافترقا.

والجنسية إما أن تدخل على: - جمع كثرة لمذكر كَـ "رجال"، أو مؤنث كَـ "صواحب"، أو قِلة وهو جمْعَا التصحيح لمذكر كَـ "مسلمين" أو مؤنث كَـ "مسلمات")، أو تكسير بوزن "أفعِلة" أو "أفعُل" أو "فِعْلة" أو "أفعال"، كَـ "أكسِية" و"أفلُس" و"صِبية" و"أجمال"). والقلِة من ثلاثة أو اثنين -على الخلاف- إلى أحد عشر، ومن بعدها للكثرة. - أو ما في معنى الجمع من "اسم جنس جمعي" كَـ "تمر"، أو "اسم جمع" كَـ "قوم " و"رهط" و" طائفة" و"نساء". - وإما على مثنى، كَـ "رجُلين". - أو ما في معناه، كَـ "شفع" و"زكا". - وإما على مفرد، كَـ "رجُل". فأما غير المفرد مما ذكرناه فالصحيح من الأقوال أنه للاستغراق، نحو: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} [النمل: 88]، {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، "الناس مجزيون بأعمالهم" (¬1) و"في الغنم السائمة الزكاة" (¬2). ومن الموصولة نحو: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] الآية، {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، وغير ذلك من الآيات والأحاديث. قال ابن برهان: القول بعمومها هو قول معظم العلماء. وقال ابن الصباغ: إنه إجماع أصحابنا. ¬

_ (¬1) الأسرار المرفوعة للأخبار الموضوعة (ص 362)، المقاصد الحسنة للسخاوي (ص 282). (¬2) سبق تخريجه.

ودليله أن العلماء لم تزل تستدل بآية السرقة وآية الزنا وآية الأمر بقتال المشركين ونحو ذلك. وفي "الصحيحين" احتجاج عمر حين قتال أبي بكر -رضي الله عنها- مانعي الزكاة بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" (¬1) الحديث، وأقره أبو بكر وغيره، ثم احتج أبو بكر بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إلا بحقه"، والزكاة من حقه. وقد احتج أبو بكر - رضي الله عنه - بقوله عليه الصلاة والسلام: "الأئمة من قريش" (¬2)، وأقروه. رواه أحمد والنسائي وغيرهمما. ووقع في "شرح المهذب" أنه في "الصحيحين"، ولعله أراد معنى الحديث، وهو حديث ابن عمر مرفوعًا: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي في الناس اثنان" (¬3). وكذا الاستدلال بحديث: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث" (¬4). رواه النسائي. وفي "الصحيحين" منه: "لا نُورَث، ما تركنا صدقةٌ" (¬5). وغير ذلك مما لا ينحصر. وأصرحها قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في التشهد في "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين": "فإنكم إذا قلتم ذلك، فقد سلمتم على كل عبد لله صالح في السماء والأرض" (¬6). أخرجه البخاري ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 1335)، صحيح مسلم (رقم: 20) (¬2) مصنف ابن أبي شيبة (رقم: 32388)، مسند الإمام أحمد (رقم: 12329)، سنن النسائي الكبرى (رقم: 5942)، وغيرها. قال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 520). (¬3) صحيح البخاري (رقم: 3310)، صحيح مسلم (رقم: 1820)، واللفظ لمسلم. (¬4) سبق تخريجه. (¬5) صحيح البخاري (رقم: 2926)، صحيح مسلم (رقم: 1759). (¬6) سبق تخريجه.

ومسلم. والقول الثانى: لا يفيد الاستغراق. حكاه صاحب "المعتمد" عن الجبائي، وحُكي أيضًا عن جمعٍ من الفقهاء. قال ابن السمعاني: (سواء جمع السلامة والتكسير) (¬1). وقال سليم في "التقريب": سواء المشتق وغيره. وحُكي أيضًا في "المعتمد" عن أبي هاشم أنه يفيد الجنس دون الاستغراق، وحكاه غيره عنه أيضًا وعن الفارسي. ومن الغريب عزو المازري والأبياري في شرحَي "البرهان" ذلك للشيخ أبي حامد، يدفعان بذلك قول إمام الحرمين: إن اتفاق الأصوليين على أن ذلك يفيد الاستغراق. ولا يصح عنه إلا أنه نقله عن أبي هاشم. نعم، زعم بعضهم أن القول بعموم الجمع المعرف إذا كان جمع قِلة -مُشكل؛ لأنه إلى عشرة، والعموم ينافي ذلك. وعنه أجوبة كثيرة: منها جواب إمام الحرمين: حمل كلام سيبويه والنحاة على المنكَّر، وكلام الأصوليين على المعرَّف. ومنها: أن أصل الوضع في القِلة ذلك، لكن كثر استعماله كالكثرة إما بِعُرف الاستعمال، أو بِعُرف الشرع. ومنها: أن المقتضي للعموم إذا دخل على الواحد، لا تدفعه وحدته، فدخوله على جمع ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة (1/ 167).

القِلة لا يدفعه تحديده بهذا العدد من باب أَوْلى. وقيل: السؤال من أصله لا يَرِد؛ فقد قال الزَّجاج وابن خروف: إن جَمْعَي القِلة والكثرة سواء. وقيل: لا يَرِد؛ لأمر آخَر، وهو أن المقتضي للعموم إذا دخل على جمع -فيه خلاف سيأتي- أن آحاده جموع أو وحدان. فإن كان وحدانًا فقد ذهب اعتبار الجمعية بالكلية، وإن كان جموعًا فلا تنافي بين استغراق كل جمعٍ جمعٍ [وكَوْن] (¬1) تلك الجموع كل واحد منها له عدد مُعَين. وقيل غير ذلك. وأما المفرد المحلَّى بِـ "أل" ففيه أيضًا مذاهب سواء أكانت "أل" مُعرفة أو موصولة (كما سبق تقريره). أحدها: إفادته العموم، وهو ما نص عليه الشافعي في "الرسالة" حيث قال: (إن {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} ونحوه مِن العام الذي خُص). وكذا في "الأم" و"البويطي". ونقله عنه أصحابه في {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، وله في الآية كلام آخر سيأتي بيانه. وأيضًا: فلم تَزل العلماء تستدل بآية السرقة وآية الزنا من غير نكير. ولوقوع الاستثناء منه وهو معيار العموم، نحو: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 2 - 3]، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] الآية، {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19] الآية. ¬

_ (¬1) كذا في (ت، س)، لكن في (ص، ق): لانه. وفي (ض، ش): كون.

وأيضًا: فيوصف بصيغة العموم، كما قال تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31]. وقال الأستاذ وسليم: إنه المذهب. ونقله الأستاذ أبو منصور عن القائلين بالصيغ، ونقله القاضي عبد الوهاب عن جمهور الأصوليين وكافة الفقهاء، وبه قال أبو عبد الله الجرجاني الحنفي، وقال القرطبي: إنه مذهب مالك وغيره من الفقهاء. وقال الباجي: إنه الصحيح. وبه قال أيضًا الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن برهان وابن السمعاني، واختاره إلْكِيَا وابن الحاجب، ونقله الآمدي عن الشافعي والأكثرين، ونقله الإمام الرازي عن المبرد والفقهاء. نعم، اختُلف في جهة عمومه -هل هو من حيث اللفظ؟ أو المعنى؟ - على وجهين حكاهما الشيخ أبو حامد وسليم وابن السمعاني. الأكثر على الأول، ورجحه سليم. وصحح ابن السمعاني الثاني، قال: (وكأنه لما قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] أَفْهَمَ أن القطع من أجل السرقة) (¬1). وكذا قال إلْكِيَا: إنه من ترتيب الحكم على الوصف. ولعله إنما ذكره تفريعًا على طريقة أرباب الخصوص، وإلا فقد قال هو آخرًا: إنَّ الصحيح أنَّ هذه الألفاظ للعموم. المذهب الثاني: إنه يفيد الجنس، لا الاستغراق. وهو عن أبي هاشم والفارسي كما يقولان به في الجمع، واختاره الإمام الرازي وأتباعه. ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة (2/ 155).

ولما نقله ابن الخباز النحوي عن الفارسي قال: إنه احتج على ذلك بأمور لا تصبر على النظر حق الصبر. قال: (ويُضعِّف مذهبه أنها لو كانت لتعريف الماهية لم يكن بين النكرة والمعرف بها فرق، لأن النكرة تدل على الماهية دلالة وضعية، كَـ "فرس" و"حجر". فإذا قلت: "الفرس" و"الحجر" ولم تقصد العهد وأردتَ نفس الماهية فقد عَنيتَ ما عَنَاه الواضع، وأضَعْتَ حَقَّ الألف واللام؛ فثبت أن المراد بها العموم كما قال المبرد). انتهى الثالث: أنه يحتمل الأمرين؛ فيكون مُجْمَلًا. حكاه الأستاذ عن بعض أصحابنا. الرابع أنه يفيد العموم إن كان مما يتميز واحِدُه بالتاء ولكن لا يتشخص له واحد ولا يتعدد، كَـ "الذهب" و"العسل"، بخلاف ما يتشخص مدلوله كَـ "الدينار" و"الدرهم" و"الرجُل"، فإنه يحتمل العموم، نحو: "لا يقتل المسلم بالكافر" (¬1)، ويحتمل قصد تعريف الماهية، كَـ "الدينار أفضل من الدرهم ". قاله الغزالي في "المستصفى" و"المنخول" وإنْ وافق في "معيار العلوم" على أنه للاستغراق، واختار هذا التفصيل أيضًا ابن دقيق العيد. الخامس: الفرق فيما دخلت عليه "أل" بين ما فيه "هاء التأنيث" الدالة على توحيده كَـ "ضربة") فهو محتمل للعموم وللجنس، بخلاف ما لا هاء فيه أصلًا (كَـ "رجل")، أو فيه هاء بنيت عليها الكلمة (كَـ "صلاة" و"زكاة")، فالمقترن بِـ "أل" من ذلك عام. نقله الأبياري عن إمام الحرمين، وقال: (إنه الصحيح) (¬2). ونوزع بأن الذي في "البرهان" ونقله عنه المازري غير ذلك. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 6517) وغيره بلفظ: (لَا يُقْتَل مُسْلِمٌ بِكَافِر). (¬2) التحقيق والبيان في شرح البرهان (1/ 903).

تنبيهات الأول: تقييد العموم فيما سبق بانتفاء العهد يقتضي أن الأصل فيه هو الاستغراق؛ ولذلك احتاج العهد إلى قرينة. فما احتمل العهد والاستغراق لانتفاء القرينة محمول على الأصل وهو الاستغراق (كما هو ظاهر كلام أكثر الأصوليين)؛ لعموم فائدته. ونقله ابن القشيري عن المعظم وصاحب "الميزان " عن ابن السراج النحوي، وهو الذي أورده الماوردي والروياني أول "البيع "، قالا: لأن الجنس يدخل فيه العهد، بخلاف العكس. وظاهر كلام بعضهم الحمل على العهد، وبه صرح ابن مالك من النحاة. وفي قول ثالث: إنه مجمل؛ لكونه محتملًا على السواء. وهو قول إمام الحرمين وابن القشيري، وقال إلْكِيَا: إنه الصحيح. بل سبق الإمام إلى ذلك غيره، فقد حكاه الأستاذ عن بعض أصحابنا. وقول رابع يخرج من كلام ابن دقيق العيد في "شرح العنوان" حيث قال: إنَّ هذا يختلف باختلاف السياق ومقصود الكلام، وُيعرف ذلك بقرائن ودلائل. قلتُ: غايته تَوقُّف كل مِن الأمرين على قرينة تدل على إرادته. وهذا عَيْن القول بأنه مجمل، على أن الترجيح من هذا الخلاف مضطرب عند الأصوليين وغيرهم في أن: الأصل العموم حتى يقوم دليل على العهد؟ أو العهد حتى يقوم دليل على العموم؟ أو كلٌّ أصل فيحتاج لدليل؟ لكن الأول هو مقتضَى ترجيح الأكثر. التنبيه الثاني: إذا قلنا بعموم صيغ الجموع والمثنى وما في معناهما بقرينة في الإثبات كَـ "أل"

و"الإضافة" الآتي ذِكرها وفي النفي ونحوه مما سيأتي، هل تسلب دلالته على الجمعية وتصير أفراده وحدانًا كأفراد المفرد في ذلك؟ أو تبقى آحاده جموعًا أو مثنيات؟ فيه خلاف يظهر أثره في الاستدلال بذلك على حكم الواحد وفي أن العموم إذا خُص وكان جمعًا هل يجوز إلى أن يبقى واحدٌ؟ أو لا بُدَّ من عدد يَصْدُق عليه ذلك اللفظ؟ وستأتي هذه المسألة وما فيها في محلها من التخصيص، وفي غير ذلك أيضًا كما سبق في التفرقة بين جمعَي القِلة والكثرة، فيلحظ معنى ذلك في كل فرد من أفراد ذلك العام. ذهب كثيرٌ إلى الثاني. ورجح القرافي الأول، وقال: (يتعين اعتقاد زوال الجمعية ويصير كالمفرد، ويكون الحكم لكل فرد فرد، سواء كانت الصيغة جمعًا أو ما في معناه) (¬1). وربما نقل عن الحنفية الأول. وعن الشافعية الثاني؛ ولهذا شرطوا في كل صنف من مستحقي الزكاة ثلاثة إلا العاملين، وقالوا فيمن حلف لا يتزوج النساء أو لا يشتري العبيد: لا يحنث إلا بثلاثة. وعند الحنفية يحنث بواحد. قاله الرافعي في "كتاب الطلاق" محافظةً على الجمع، ولم ينظروا لكونه جمع كثرة حتى لا يحنث إلا بأحد عشر. نعم، في "الحاوي" للماوردي: حلف "لا يتصدق على المساكين"، يحنث بواحد. أو "ليتصدقن على المساكين"، لا يبر إلا بثلاثة؛ لأنَّ نفي الجمع ممكن، بخلاف إثبات الجمع، أي: مع عمومه. قلتُ: وبهذا نستفيد أنهم إنما قالوا في أصناف الزكاة بالجمع؛ لتعذر تعميمهم، فاقتصر ¬

_ (¬1) شرح تنقيح الفصول (ص 180).

على ما يقع عليه لفظ الجمع في الأصل. ونقل عن ابن الصباغ أن اللام الداخلة على الجمع تُصيِّره كاسم الجنس، أي: حتى يصدق على الواحد، لكنه يشكل بمسألة أصناف الزكاة. نعم، الفرع الثاني -وهو "لا أتزوج النساء" أو "لا أشتري العبيد"- في نفي، ومع ذلك شرطوا فيه الثلاثة. وعلى الجملة فالفروع فيه مضطربة، إلا أن يُعلَّل كل فرع بما يليق به مِن غير نظر إلى خصوص ما نحن فيه. على أنَّ القول الأول هو ما يقع في عبارة كثير من علماء البيان. ففي "المفتاح" و"التلخيص" أن استغراق المفرد أشمل، بدليل: "لا رجال في الدار" إذا كان فيها رجل أو رجلان، دُون "لا رجل". ذَكَرَا ذلك لَمَّا تَكلمَا على أن تعريف المسند إليه باللام قد يكون لإفادة الاستغراق؛ فعُلم من كلامهما أنَّ هذه القاعدة وإنِ استدل عليها بما هو في النفي وهو: "لا رجال في الدار" و"لا رجل في الدار"، فإنما ذلك لظهور الاستدلال منه، وإلا فلا فرق في قرينة العموم بين أن يكون في إثبات أو نفي. نعم، النفي الداخل على الجمع قد يُعْنَى به سلب العموم أو نفي المجموعية، فلا يكون مما نحن فيه من "أل" المفيدة للاستغراق، كما قيل به في قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 102]: إنَّ المراد: لا يدركه الكل، بل البعض. فهو مِن سلب العموم. وقيل: المراد: لا يحيط بكنه حقيقته. فيكون من عموم السلب، وهو الأرجح، وعليه فالمراد نَفْي كل فرد فرد، لا نفي كل جمع جمع، حتى لا يلزم منه نفي إدراك فرد واحد أو اثنين.

ومن ثَم قالوا في قوله تعالى حكايةً عن زكريا عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم: 4]: إنما لم يَقُل: "وهن العظام" بالجمع؛ لإرادته شمول الوهن لكل عظم عظم، لا لجمعٍ جمع فقط الذي لا يلزم منه وهن كل فرد فرد من العظام. قال صاحب "الكشاف": (إنما وَحَّد العظم لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية. وقصده إلى أن هذا الجنس الذي هو عمود البدن وبه قوامه قد أصابه الوهن. ولو جمع لكان قصد إلى معنى آخَر، وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه، ولكن كلها) (¬1). انتهى وهو ظاهر فيما ذكر من الفرق. ويحتمل أنه إنما أراد أن "اللام" في العظم للحقيقة، لا للاستغراق؛ لأنه ممن يرى بنفي إفادة "اللام" الاستغراق بذاتها كما سنذكره عنه من بعد. وقد تعقب المولى سعد الدين التفتازاني على صاحب "التلخيص" وأشبع الكلام في إبطال مغزاه، فقال: (ولقائل أن يقول: لو سُلم كَوْن استغراق المفرد أشمل في النكرة المنفية فلا نُسلم ذلك في المعرَّف باللام، بل الجمع المحلَّى بلام الاستغراق يشمل الأفراد كلها مثل المفرد كما ذكره أكثر أئمة الأصول والنحو، ودل عليه الاستقراء، وصرح به أئمة التفسير في كل ما وقع في التنزيل من هذا القبيل، نحو: {أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 33]، {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]، {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34]، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83]، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 108]، إلى غير ذلك؛ ولهذا صح بلا خلاف: "جاءني القوم -أو العلماء- إلا زيدًا" أو "إلا الزيدين" مع امتناع "جاءني جماعة من العلماء إلا زيدًا" على الاستثناء المتصل). ¬

_ (¬1) الكشاف عن حقائق التنزيل (3/ 6).

إلى آخر ما ذكر بِطُولِه. ثم قال: (وإنما أطنبتُ الكلام في هذا المقام؛ لأنه من مسارح الأنظار ومطارح الأفكار، كم زلَّت فيه للأفاضل أقدامهم، وكَلَّتْ دُون الوصول إلى الحقِّ أفهامهم). انتهى وهو كلام نفيس وإن كان لنا معه في بعضه أبحاث ليس هذا موضع ذكرها، لكن منها فيما نقلناه عنه من الاستشهاد بامتناع "جاءني جماعة من العلماء إلا زيدًا" على الاستثناء المتصل، قَصْده بذلك أنَّا إذا قلنا: آحاد الجمع العام جموع وإنَّ الجمعية في الأفراد باقية مع العموم، كان يلزم أن يجوز الاستثناء من جماعة جماعة، [لا] (¬1) من الأفراد واحدًا، وذلك ممتنع. فثبت سلب الجمعية بالكُلية، لكن لفظ "جماعة" ليس هو المدَّعَى أنه فرد من أفراد صيغ الجموع المقترنة بدليل الشمول كَـ "العلماء"، إنما الخصم يدَّعِي أنَّ آحاد "العلماء" علماء وعلماء وعلماء، وهكذا. وعلى تقدير أنْ يكون هذا مراده بجماعة من العلماء فقد يقال: إنما امتنع الاستثناء منه؛ لكونه نكرة. وسيأتي أن النكرة -وإنْ كانت جمعًا- لا يستثنى منها. وكان ينبغي أن ينقض على صاحب "التلخيص" بقوله عقب ذلك: (ولا تنافي بين الاستغراق وأفراد الاسم) جوابًا عن سؤال السكاكي: إن الاسم المفرد -الذي يقابل المثنى والمجموع- يدل على الوحدة، والاستغراق يدل على الكثرة، والجمع بينهما في نحو "الإنسان" و"لا رجل في الدار" جمع بين متنافيين. فأجاب بأنه لا تنافي؛ لأن الحرف وهو "لام الاستغراق" أو "لا" التي للنفي إنما دخلت عليه حال كونه مجردًا من إرادة معنى الوحدة والكثرة، ودلَّ على هذا التجرد كلمة الاستغراق، فيصير اللفظ بذلك دالًّا على الحقيقة، محتملًا للوحدة والكثرة. ¬

_ (¬1) من (ت، س).

فمقتضى الاستغراق عَيَّن أحد الاحتمالين ونَفَي الأخر؛ فلم يجتمعَا. وأيضا: فلأنه بمعنى كل فرد، لا مجموع الأفراد، وإذا كان كذلك جاء مثلُه في الجمع، فيصير اللفظ بقرينة العموم المراد به الحقيقة من غير وحدة ولا كثرة، على أن في العموم مع الحقيقة إشكالاً سنذكره والجواب عنه. الثالث: التحقيق فيما يدخل عليه "أل" المعرِّفة وفي حكمها الموصولة كما سبق أنه: إما أن يكون المراد معها نفس الحقيقة، لا ما يصدق عليه من الأفراد وهو تعريف الجنس والحقيقة ونحو ذلك. ويساوي ذلك دلالة عَلَم الجنس كما سبق تقريره في موضعه كَـ "أسامة". وإما أن يكون المراد فردًا معينًا في الخارج (وهو العهد الخارجي)، ونحوه العَلَم الشخصي كَـ"زيد". وإما فرد غير معيَّن (وهو العهد الذهني) كَـ "أدخل السوق" لمن ليس بينك وبينه عهد بِسُوق معيَّن، ونحوه النكرة كَـ"رجل". وإما كل الأفراد (وهو الاستغراق)، ونحوه لفظ: "كل" ونحوها من صيغ العموم؛ فلذلك جعلوا ضابطها أن يحل "كل" محلها حقيقةً إذا أريد استغراق الأفراد. فإن كان مجازًا فهو لاستغراق الخصوصيات، نحو "أنت الرجُل علمًا". وقد شكك السكاكي في استفادة الاستغراق من اللام، فقال: (إن الحقيقة من حيث هي هي لا واحدة ولا كثيرة؛ لتحققها مع الوحدة تارة ومع الكثرة أخرى، وإنْ كانت لا تنفك في الوجود عن أحدهما، فهي صالحة للتوحد والتكثر بكون الحكم استغراقًا أو غير استغراق، على مقتضَى المقام. فإذا كان خطابيًّا مثل: "المؤمن غِير كريم، والفاجر خِب لئيم"،

حُمل على الاستغراق؛ بِعِلَّة إيهام أن القصد إلى فرد دون آخر مع تحقق الحقيقة فيهما -ترجيحٌ لأحد المتساويين (¬1). وإذا كان استدلاليًّا، حُمل على أقَل ما يحتمل وهو الواحد في المفرد والثلاثة أو الاثنان في الجمع). ثم اختار أن "اللام" للعهد، قال: (تبعًا لبعض أئمة أصول الفقه، وقَصْدُ الحقيقة [في] (¬2) جملة المعهود الذهني، ولكن الاستغراق في أفرادها لمكان الاحتياج على طريق التحقيق أو التهكم، أو لأنه عظيم الخطر، أو لغير ذلك) (¬3). انتهى ملخصًا. قال صاحب "التلخيص" (¬4) في "الإيضاح ": (حل هذا الإشكال يخرج مما سبق). يريد ما قدمته من التفرقة بين قَصْد "الدلالة على الحقيقة" و"الدلالة على أفراد الحقيقة". الرابع: استُشكل على العموم في المفرد المُحلى بِـ "أل" ما لو قال: "الطلاق يلزمني لا أفعل كذا"، وحنث، فإنه لا يقع الطلاق الثلاث. وقد سأل أبو العباس القرافي الشيخ عز الدين بن عبد السلام عن ذلك، فأجابه -كما حكاه في "شرح المحصول"- بأن هذا يمين، فيراعَى فيها العُرف دون الأوضاع اللغوية (¬5). قال الشيخ تقي الدين السبكي: (وقد يجاب بأن الطلاق حقيقة واحدة، وهي قطع عصمة النكاح، وليس له أفراد حتى يقال: تندرج في العموم، ولكن مراتبه مختلفة، منها ما ¬

_ (¬1) كأنه قال: أنَّ القصد إلى فَرد .. ترجيحٌ لأحد المتساويين. (¬2) في (ت، س): من. (¬3) مفتاح العلوم (ص 215 - 216). (¬4) يقصد: جلال الدين القزويني (المتوفى 739 هـ). (¬5) نفائس الأصول (2/ 509).

قصد به تشعيث النكاح وهو الرجعى، وجوز الشارع فيه أن يكون مرة بعد أخرى، والتشعيث الحاصل من الثانية اكثر مِن الأُولى، ومنها ما يحصل به البينونة مع إمكان الرد بغير محلل، وهو إذا كان بعوض، ومنها البينونة الكبرى وهو الثلاث، فيحمل اللفظ عند الإطلاق على أدنى المراتب، ولا يُعمم المراتب؛ لأنها ليسست أفرادًا، فالألف واللام لا تدل على قوة مَرتبة أو ضعفها، فلا يحمل إلا على الماهية). قال: (وهذا شيء يمكن أن يقال، والأدب مع الشيخ عز الدين الاقتصار على جوابه) (¬1). انتهى قلتُ: على أن ما قاله الشيخ تقي الدين لا يخلوا من نظر؛ لِمَا قررناه من أن العموم لا ينافي الحقيقة، خلافًا للسكاكي، وحينئذٍ لا ينافي تفاوت الأفراد في مراتب ولا غيرها، فتأمَّله، وستأتي لنا مسائل في العام في النفي مع التعريف والتنكير. الخامس: قد سبق الخلاف في الجمع إذا اقترن به قرينة العموم: هل تصير أفراده جموعًا؟ أو وحدانًا؟ وأن ما في معنى الجمع مثله، كَـ "اسم الجمع" إذا دخلته "لام التعريف"، حتى يحنث مَن حلف "لا يكلم الناس" بواحد، لكن إذا حلف "لا يكلم ناسًا" لا يحنث إلا بثلاثة. نقله الرافعي في "كتاب الأيمان" عن ابن الصباغ وغيره، ففيه التفرقة بين قرينة العموم في الإثبات والنفي، وفيه ما سبق. ثم يقع النظر من ذلك في ألفاظ، منها: "طائفة": فقيل: أقَلها ثلاثة. وقيل: يصدق على الأقل من ذلك؛ لأنها القطعة من الشيء. ¬

_ (¬1) الإبهاج (2/ 103).

والذي نَص عليه الشافعي الأول. فقال في "باب صلاة الخوف": (والطائفة ثلاثة فأكثر، وأكره أن يصلي بأقل من طائفة) (¬1). انتهى واعترض عليه ابن داود بأن اللغة أنها تطلق على الواحد [بِقِلَّة. نُقِل] (¬2) عن الفراء. وأيضًا فالشافعي قال في: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122]: (إنَّ الطائفة تصدق على الواحد). وأجيب: - إما بأن مراد الشافعي بأنها ثلاثة في صلاة الخوف، فيستحب أن تكون ثلاثة، وذلك لقرينة: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] وكذا في الأخرى {لَمْ يُصَلُّوا} الآية. فضمائر الجمع تدل على ذلك، لا أن كل طائفة ثلاثة. - وإما أن الطائفة ثلاثة في اللغة كما نقله غير واحد، منهم الزمخشري وغيره. وإنما قال في {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122]: (إنها واحد) بقرينة الإنذار؛ لأنه يكون بالواحد. ومنها: "قوم"، وهُم الذكور، بدليل: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11] الآية، فإنه قابلهم بالنساء. وكذا "الرهط"، قال الجوهري: هو ما دون العشرة من الرجال لا يكون فيهم امرأة. وقال ابن سِيدَهْ: من ثلاثة إلى عشرة. ¬

_ (¬1) الأم (1/ 219). (¬2) في (ت، ش، ض): نقله ثعلب.

وكذلك "النفر" اسم جمع كَـ"قوم" و"رهط". السادس: للعلماء اضطراب في مواضع من "المحلَّى بِأل"؛ لمحل الاحتمال فيها، كلفظ "البيع" في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، فيه للشافعي أقوال: هل هو عام مخصوص؟ أو أريد به خاص؟ أو اللام فيه للعهد؟ أو مجمل؟ وفي قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] له قولان في انه للعموم أو مجمل، الى غير ذلك. فليس منشأ الخلاف في مثل ذلك التردد في عدم اقتضاء "أل" العموم؛ بل لتجاذب القرائن في الاحتمالات كما هو مبين في محله في الفقه، وسنذكر فيه بحثًا في "باب المجمل". ونحو ذلك قول الزمخشري في لفظ "الحمد": (إن "أل" فيه للحقيقة، لا الذي يزعمه الناس من الاستغراق) (¬1). وتردد الناس في أنه يرى ما يُعْزى للمعتزلة مِن أنَّ "اللام" للعهد في "الحمد" الذي يعرفه كل أحد منه، أو أنه يقول: إنها للجنس المشار به إلى ما يعرفه كل أحد مِن الحمد كما ينقل ذلك عن المعتزلة أيضًا وأنهم لا يقولون بالاستغراق، أو هو مخالف لهم برأي آخر كما هو مُقرر في موضعه. ونحو ذلك قول أهل المنطق: إن موضوع القضية إذا كان مُعرفًا بِـ "أل"، لا يكون مسورًا بسور الكلية كالواقع بعد "كل"، بل تكون مهملة، نحو: "الإنسانُ في خُسْر" كما تقدم التنبيه عليه في تقسيم الكلام وأن ابن الحاجب يقول: المتحقق فيها الجزئية. كما هو قول ¬

_ (¬1) الكشاف (1/ 53).

الغزالي في كتاب "معيار العلوم"، وكأنهم إنما لم يجعلوا "أل" سورًا؛ لمحل الاحتمال، بخلاف "كل"، فإنها صريحة، والله أعلم. ص: 583 - وَشَامِلٌ {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} النَّبِيْ ... وَإنْ وُصِلْ بِـ "قُلْ "، وَمثْلُ ذَاحُبِيْ (¬1) الشرح: لما بينتُ أن المحلَّى بِـ "أل" للعموم، ذكرت مسائل من مختلف في محل العموم فيه، كالفروع للقاعدة. فمنها: لفظ "الناس" في نحو: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] هل يشمل الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ فيه مذاهب هي جارية أيضًا في نحو: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104]، {يَاعِبَادِيَ} [العنكبوت: 56]، وغير ذلك من صيغ العموم: أحدها وهو الصحيح وقول الجمهور: نعم، لِصِدق ذلك عليه، فلا يخرج إلا بدليل. ثانيها: لا، لقرينة المشافهة؛ لأن المشافِه غير المشافَه، والمبلِّغ غير المبلَّغ، والآمِر والناهي غير المأمور والمنهي، فلا يكون داخلًا. ورُدَّ بأن الخطاب في الحقيقة هو من الله للعباد، وهو منهم، وهو مع ذلك مبلِّغ [للأمة] (¬2)، فالله هو الآمر الناهي، وجبريل هو المبلغ له، ولا تنافي في كون النبي -صلى الله عليه وسلم- مخاطَبًا ¬

_ (¬1) قد يكون معناه: اعتُرِض. في لسان العرب (14/ 162): (حَبَا لَهُ حَبِيٌّ: اعترضَ لَهُ مَوْجٌ). (¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): للآية.

مخاطِبًا مبلَّغًا مبلِّغًا باعتبارين. وربما اعتل المانع بأنه -صلى الله عليه وسلم- له خصائص، فيحتمل أنه غير داخل؛ لخصوصيته، بخلاف الأمر الذي خاطب به الناس. ورُدَّ بأنَّ الأصل عدمُه حتى يأتي دليل. ثالثها وبه قال الصيرفي والحليمي: لا يدخل إنِ اقترن ذلك بِـ "قُل"، نحو: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ} [لأعراف: 158]، {قُلْ يَاعِبَادِيَ} [الزمر: 53]، وإلا فيدخل. ورَدَّه إمام الحرمين بأن القول مستندٌ إلى الله تعالى، والرسول مبلِّغ عنه، فلا معنى للتفرقة. رابعها: يدخل في خطاب القرآن ولا يدخل في خطاب السُّنة. قاله المقتَرح. تنبيهات الأول: محل الخلاف حيث لا قرينة تنفي دخوله، نحو: "يا أيها الأمة" أو "يا أمة محمد". أما ذلك فلا يدخل فيه بلا خلاف. قاله الصفي الهندي (¬1). وأشار اليه القاضي عبد الوهاب، ومثَّله بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 24] الآية؛ لأنَّا المأمورون بالاستجابة. قال: (ومثله قوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا} [الطلاق: 10 - 11]، تقديره: اطلبوا رسولًا، على الإغراء). انتهى الثاني: قيل: لا فائدة للخلاف في هذه المسألة، فإنه -صلى الله عليه وسلم- داخل في الحكم كَـ "الأُمَّة" ¬

_ (¬1) نهاية الوصول (4/ 1381).

قطعًا. ورُدَّ باحتمال أن يقول المخالف: إنَّ ذلك بدليل خارجي. وتظهر فائدته فيما لو فعل ما يخالف ذلك: هل يكون نسخًا في حقه؟ إنْ قلنا: هو داخل، فنسخ. أي: إذا دخل وقت العمل، لأن ذلك شرط المسألة كما سيأتي في كل عام وخاص بعده. الثالث: مما يشبه هذه المسألة في مدركها أنَّ الشاة مثلًا مِن الأربعين من الغنم تزكي نفسها وغيرها. وكذا الواحد من الأربعين في الجمعة يصحح الجمعة له ولغيره، والنية في الصلاة إذا جعلناها ركنًا تُصحح نفسها وسائر الأركان. وبه يندفع قول الغزالي: إنها بالشروط أَشبه من حيث إنها لا تتعلق بنفسها بل بغيرها. نعم، أجاب الرافعي بأنه لا يمتنع أن تصحح سائر الأركان دون نفسها، لعدم احتياجها. قال: (وكأن القائل: "أُصلي" مريد معظم الأركان) (¬1). وفيه نظر إذا لم نجعل النية شرطًا، وما ذكرناه أَوْلى. وقد تعلق بشبهة الغزالي مَن يجعل تكبيرة الإحرام شرطًا ومن يجعل السلام شرطًا. وجوابه ما سبق، والله أعلم. ص: 584 - وَيَدْخُلُ الْعَبْدُ كَذَاكَ الْكَافِرُ ... في مِثْلِ لَفْظِ "الناسِ"؛ فَهْوَ وَافِرُ الشرح: مِن المسائل المشار إليها أيضا هاتان المسألتان: ¬

_ (¬1) العزيز شرح الوجيز (1/ 461).

الأُولى: العبيد والإماء داخلون فيما يشملهم لُغة من خطاب الشارع، مثل: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104]. ومثل "المؤمنين" و"العباد" ونحو ذلك على الأصح من ثلاثة أوجُه حكاها الماوردي؛ لأنهم مكلفون، فلا مانع من دخولهم في لفظ يشملهم لغةً، وعليه أتباع الأئمة الأربعة. فقد نقله ابن برهان عن معظم أصحابنا، وبه قال أيضًا الأستاذ والقاضي أبو الطيب وإلْكِيَا، ونقله القاضي عبد الوهاب عن معظم أصحابهم. وثانيها: لا يدخلون إلا بدليل؛ لأنهم أتباع الأحرار. وثالثها: إنْ تَضمَّن الخطاب تعبُّدًا، تَوجه إليهم، أو مُلكًا أو ولاية أو عقدًا فلا. بل حكى بعضهم الإجماع على عدم خطابهم بالعبادات المالية؛ لأنه لا ملك لهم. وفيه نظر. قال الهندي: (القائلون بعدم دخول العبيد والكفار -أيْ في لفظ "الناس" ونحوه- إنْ زعموا أنه لا يتناولهم لغةً فمكابرة، وإن زعموا أنَّ الرِق والكفر أخرجهم شرعًا فباطل) (¬1). لأن الإجماع أنهم مكلفون في الجملة، أما المبعض فالظاهر تغليب جزء الحرية، فلا يجري فيه الخلاف في العبيد. المسألة الثانية: دخول الكفار في لفظ يشملهم لغةً كَـ "الناس" و"أُولي الألباب" ونحو ذلك، وهو الصحيح. وبه قال الأستاذ؛ إذْ لا مانع من ذلك. ونقل عن بعض أصحابنا أنهم لا يدخلون، ولَعَله لكون الكفار غير مخاطبين بالفروع، ¬

_ (¬1) نهاية الوصول (4/ 1400).

وسبقت المسألة. إلا أنَّ المانع هنا أَطلق، ولم يقيد بخطاب الفروع. نعم، إنْ قامت قرينة بعدم دخولهم أو أنهم هم المراد لا المؤمنون، عُمل بها، نحو: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173]، لأن الأول للمؤمنين فقط إما نعيم بن مسعود الأشجعي أو أربعة كما نَص عليه الشافعي في "الرسالة" (¬1)، والثاني لكفار مكة. لكن قد يقال: إنَّ "اللام" في ذلك للعهد الذهني، والكلام في الاستغراقية. وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج: 73] المراد الكفار؛ بدليل باقي الآية. نَص عليه الشافعي في "الرسالة"، وجعله من العام الذي أُريدَ به خاص (¬2). فقد يُدَّعَى ذلك أيضًا في الآية التي قبلها، فلا تكون "أل" فيها عهدية. ويتفرع على ذلك أنَّ الذِّمي إذا زنا، هل يرجم؛ من حديث: "الثيب بالثيب رجم بالحجارة "؟ فعندنا يُرجم، وعند الحنفية لا يرجم، لذلك. أما "الذين آمنوا" و"المؤمنون" ونحو ذلك فلا يدخل فيه الكفار. لكن ابن السمعاني -بعد أن نقل عن الحنفية أنَّ الخطاب بذلك لا يشملهم- قال: (المختار أنه يعم المؤمنين والكفار؛ لعموم التكليف، وإنما خُص المؤمنون بذلك؛ للتشريف، ¬

_ (¬1) الرسالة (ص 59). (¬2) الرسالة (ص 60).

لا للتخصيص، بدليل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278]، وقد ثبت تحريم الربا في حق أهل الذمة). انتهى وضُعِّفَ بأن هذا لأمر خارجي، لا من حيث الصيغة، إما لعموم الشرع، أو للعمومات الشاملة لهم لغةً، أو لغير ذلك. والله أعلم. ص: 585 - كَذَا الْمُضَافُ إنْ يَكُنْ مُعَرَّفَا ... جَمْعًا وَمُفْرَدًا وَلَوْ قَدْ وُصِفَا 586 - بِوَحْدَةٍ بِالتَّاءِ أَوْ بِغَيْرهَا ... مِنْ جِنْسِهِ كـ "تَمْرَةٍ" عَرَّفْتَهَا الشرح: أي: ومن صيغ العموم بالقرينة في الإثبات: المضاف إلى معرفة، وهو معنى قولي: (إنْ يَكُنْ مُعَرَّفَا). وسواء أكان ذلك المضاف: - جمعًا، أي: في المعنى؛ ليدخل فيه الجمع بصيغته وما فيه معنى الجمعية من اسم جنس جمعي أو اسم جمع أو نحو ذلك كما سبق نظيره في المحلَّى بِـ "أل". - أو مفردًا، وهو ما ليس شيئًا من ذلك. أما الجمع فقد صرحوا به، نحو: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى آخِر المذكورات بصيغة الجمع في الآية. وفي التشهد: "وعلى عباد الله الصالحين"؛ ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد لله صالح في السماء والأرض" (¬1). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

وأما المفرد فزعم الهندي في "النهاية" (¬1) -كما نقله شيخنا بدر الدين الزركشي- أنهم لم يَنصوا على المسألة، وإنما ذلك من قضية التسوية بين الإضافة ولام التعريف. قال: (لكن قد صرح بالتسوية جماعة) (¬2). وممن صرح بذلك الإمام الرازي في أثناء الاستدلال على أن الأمر للوجوب، وذلك في قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63]. وفي الفروع الفقهية مما يشهد لإفادة المضاف المفرد العموم، لو قال: "إن كان حملك ذكرًا، فأنت طالق طلقة" أو "أنثى، فطلقتين" فولدت ذكرًا وأنثى، لم تطلق؛ لأن المعلق عليه "كل حملها ذكرًا أو أنثى" ولم يوجد. ويجري مِثله في "تعليق العتق" وغيره. ومن وروده للعموم قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18]، وقوله تعالى: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} [الحاقة: 10]، والرسول إلى المؤتفكات موسى وهارون، ونحوه: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16]، وفي الحديث: "منعت العراق درهمها ودينارها، ومنعت الشام قفيزها وصاعها" (¬3). وقال أصحابنا فيمن حلف ليشربنَّ ماء النهر: يحنث في الحال؛ لعموم المضاف وهو محال، فكان نحو: "لأصعدن إلى السماء". وفي وجه: لا يحنث، كما هو قول الحنفية؛ لأن العُرف في مِثله إرادة شيء من ماء النهر. ويجري في أصل المسألة خلاف مما سبق في المحلى بِـ "أل"، نحو قول أبي هاشم وغيره: ¬

_ (¬1) نهاية الوصول (3/ 1234). (¬2) تشنيف المسامع (2/ 669). (¬3) صحيح مسلم (رقم: 2896) وغيره.

إنه لا يعم المضاف كما لا يعم المحلَّى. قال: لاستوائهما. وقول الغزالي في "المستصفى" و"المنخول": (إن كان مما يتميز واحدُه بالتاء ولكن لا يتشخَّص له واحد كـ "الذهب" و"العسل"، فيعم، أو لا يتميز بالتاء بل يتشخص كَـ "الدينار" و"الدرهم" و"الرجُل" فيحتمل العموم) (¬1). وسبق أنه خالف ذلك في "المعيار"، وأنَّ ابن دقيق العيد اختار تفصيله السابق. وقول آخر بالتفصيل بين ما فيه "هاء التأنيث" للوحدةكـ "ضربة" فيحتمل العموم وغيره، وبين ما لا "هاء" فيه كـ "رجل"، أو فيه هاء لا للوحدة بل بُني عليها كـ"صلاة" و"زكاة"، فيعم. وإلى هذا الخلاف أشرت بقولي في النَّظم: (وَلَوْ قَدْ وُصِفَا بِوَحْدَةٍ بِالتَّاءِ أَوْ بِغَيْرِهَا مِنْ جِنْسِهِ). أي: ولو كان ذلك المضاف متصفًا بأنه واحد إما بالتاء الفاصلة بينه وبين جنسه كَـ "تمرة" و"تمر") وإما بوحدة لا بالتاء كَـ "دينار" و"درهم" و"رجل"). نعم، للقرافي هنا تفصيل آخر بين أن يَصدُق على القليل والكثير نحو: "مالي صدقة" فيعم، وبين أن يَصدُق على الجنس بِقَيْد الوحدة فلا يعم، نحو: "عبدي حر" و"امرأتي طالق". قال ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام": (وقد أشار إليه ابن الحاجب إشارة لطيفة -يعني في "مختصره الكبير" (¬2) - حيث قال في [تعداد] (¬3) صيغ العموم: والمضاف مما يصلح للبعض ¬

_ (¬1) المستصفى (ص 233). (¬2) مختصر منتهى السؤل والأمل (2/ 701)، الناشر: دار ابن حزم. (¬3) في (ت): هذا إن.

والجميع) (¬1). وهذا التفصيل يقرُب مما سبق عن الغزالي في اسم الجنس المحلى بِـ "أل". قيل: ولعله إنما أخذه منه. تنبيهات أحدها: ما سبق في الجمع أو نحوه المحلى بِـ "أل" حيث كان عامًّا هل أفراده جموع؟ أو وحدان؟ يأتي مثله هنا. ومما يدل على الثاني في باب المضاف ما سبق من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد لله صالح في السماء والأرض" مع أنَّ الصيغة "عباد الله" جمع مضاف، فجعله الشارع شاملًا لكل فرد فرد، ولم يقُل: سلمتم على كل عباد عباد من عباد الله. ويدل له أيضًا: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45]، ففهم -صلى الله عليه وسلم- من قوله تعالى: {وَأَهْلَكَ} [هود: 40] أن ابنه داخل حتى أجابه تعالى بأنه: {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46]. وكذا قوله تعالى: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت: 31] فَهِم إبراهيم -عليه السلام- العموم لكل واحد واحد، فقال: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} [العنكبوت: 32]، حتى أجابه الملائكة بتخصيص لوطٍ من العموم وأهلِه إلا امرأته. وفهمت فاطمة -رضي الله عنها- من قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] أن الولد وارث، وهي ولد واحد، حتى أجابها الصديق -رضي الله عنه- بقوله عليه السلام: "إنا معاشر ¬

_ (¬1) شرح الإلمام بأحاديث الأحكام (1/ 143 - 144)، ط: دار النوادر.

الأنبياء لا نورث" (¬1)، وهو كثير. ومَن تتبع هذا، يجده غير منحصر، وكذلك التشكيك في اجتماع العموم في جمع القِلة مع تحديده وغير ذلك مما سبق. فليستحضر ما يمكن مجيئه هنا. الثاني: حيث قلنا بتعميم المضاف فعمومه أقوى من عموم المحلَّى بِـ "أل" الاستغراقية؛ بدليل أن الإمام الرازي ممن ينفي عموم المحلَّى بِـ "أل" وقد صرح بتعميم المضاف في: {الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] كما سبق. قال السبكي في "شرح المختصر": (ولذلك لو حلف لا يشرب الماء، حنث لشرب القليل؛ لعدم تناهي أفراده، فلما استحالت إرادة الجميع، انتقل لأحد محامل اللام وهو الجنس، ولو حلف لا يشرب ماء البحر، لم يحنث إلا بِكُله؛ لأن عموم الإضافة أقوى، وكأنه قال: "ماء البحر كله") (¬2). انتهى وتوجيه ذلك أن "لا يشرب الماء" "اللام " فيه تحتمل الاستغراق والجنس، فاستحالة الاستغراق قرينة إرادة الجنس، وليس للمضاف إلا وجه واحد وهو الاستغراق، فاستمر عليه. ثم قال: (ولو كتب الزوج بِطلاق زوجته عند بلوغ الكتاب، فبلغها وقد انمحى موضع الطلاق أو سقط، فالأصح: لا يقع؛ لأنه لم يبلغها جميع الكتاب. وقيل: يقع. وقيل: إن قال: "إذا جاءك كتابي"، يقع؛ لأنه قد جاءها كتابه. وإن قال: "إذا جاءكِ الكتاب" لم يقع؛ لأنه لم ¬

_ (¬1) سبق تحريجه. (¬2) رفع الحاجب (3/ 81).

يَجِئها جميعه، وكذا إذا قال: "إذا جاءك كتابب هذا"؛ لتأكيد المفرد المضاف باسْم الإشارة، فقد جعل على هذا الوجه عموم الإضافة أقوى) (¬1). انتهى وفيه نظر؛ لأن مدْرَك هذا الوجه أنه أرادبِ "الكتاب" المجموع، وتعليله بأنه لم يجئها جميعه يرشد إلى ذلك، فأين العموم فيه الذي قُدِّم عليه عموم الإضافة؟ وإنما يقال: (أقوى) إذا كان كل منهما للعموم، اللهم إلا أن يريد أنه محتمل للمجموع، فأشبه الفرع الذي قَبْله في احتمال الجنسية، ولا كذلك المضاف؛ فإنه لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا، فيصح. الثالث: لو قال: "زوجتي طالق" وله زوجات، لمَ لا يطلق الكل؛ لأن المضاف يَعُم كما هو قول ابن عباس وأحمد فيما حكاه الروياني في "البَحر"؟ قال: لأنَّ الواحد يُعبر به عن الجنس، مِثل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} [البقرة: 187] المراد: ليالي الصيام. ثم أجاب بأنه مجاز، والكلام محُال على الحقيقة ما أمكن. انتهى وفيه نظر؛ لأن العموم في المضاف حقيقة، والتفريع عليه، وإنما يجاب عنه بما سبق في المحلى بِـ "أل" من قوله: (الطلاق يلزمني) من اقتضاء العُرف ذلك، ولا يأتي جواب السبكي هنا؛ لأن الكلام في زوجاته. أما لو قال: "مالي صدقة"، فإنه يعم؛ إذْ لا عُرف فيه؛ ولهذا استدل على إباحة السمك الطافي بحديث: "والحل ميتته" (¬2). ¬

_ (¬1) رفع الحاجب (3/ 82). (¬2) سنن أبي داود (رقم: 83)، سنن الترمذي (69) وغيرهما بلفظ: (هو الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحلُّ مَيْتَتُهُ). قال=

الرابع: قيل: يُستثنى من محل الخلاف في المضاف لفظ "بعض" و"نصف" و"ثلث" و"ربع" ونحو ذلك؛ إذْ لو اقتضى العموم، لَمَا كان فرقٌ بين الحكم على البعض والحكم على الكل، وينبغي أن يخصص ادعاء ذلك بما إذا لم تَدْع للعموم ضرورة، نحو: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55]؛ لاستحالة أن يفضل كل واحد على كل من سواه، فتفوت الأفضلية للبعض. فإنْ دعت الضرورة للعموم، فهو عام، نحو: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت: 25]، {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} [سبأ: 42]، {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 50]، {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الأعراف: 24]، على أن في عموم بعض هذه الأمثلة نظرًا، والله أعلم. ص: 587 - كَذَاكَ في سِيَاقِ نَفْيٍ نَكِرَهْ ... وَمنْهُ: "لَا يَسْتويان"، وَاذْكُرَهْ 588 - في نَحْوِ: "لَا أَكلْتُ"، أَوْ سِيَاقِ ... نَهْيٍ أَوِ الشَّرْطِ إذَا [يُلَاقِي] (¬1) 589 - كَذَاكَ الِاسْتِفْهَامُ، نَحْوُ: "هَلْ رَجُلْ؟ " ... وَفي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ ذَاكَ قُلْ الشرح: قد سبق أنَّ مِن أقسام العام لغةً ما يكون في النفي أو معناه، فذكرتُ في هذه ¬

_ =الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 83). (¬1) في (ض، ش، ن 3، ن 4): تلاقي.

الأبيات منه أربع مسائل، وخامسة من غيره ذكرتها استطرادًا. الأولى: النكرة في سياق النفي، سواء باشرها النافي وهو "ما" و"لا" و"لاتَ" و"ليس" و"لَمْ" و"إنْ" والفعل المستعمل فيه نحو "قَلَّما رجل يفعل كذا إلا بكذا" أو لم تباشره أداة النفي، خلافًا للآمدي في قوله في "الأبكار": إن ما لم تباشره لا يعم. حتى زعم بعضهم أن التعبير بكون "النكرة في النفي "أحسن؛ لأنه أعم، بخلاف السياق، فإنه قاصر على محل خلافية الآمدي، لكن الظاهر أن السياق يدخل فيه ما باشر النافي وما لم يباشر. وبالجملة فيُرد على الآمدي بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91] ردًّا على مَن قال: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]، فلو لم يكن عامًّا لَمَا حصل به الرد. ومما استُدل به على أن النكرة في النفي عامة أنه لو لم يكن كذلك لَمَا كان قولنا: "لا إله إلا الله" نفيًا لدعوى مَن ادَّعى إلهًا سوى الله. ذكره الإمام الرازي. نعم، من النكرة في النفي ما هو نَص، ومنها ما هو ظاهر في العموم. فالأول: إما لكون النكرة لا تقع إلا في نفي وشبهه، نحو: "ما فيها ديار" أو "داعٍ" أو "غريب" أو "أحد" إذا لم تُقَدر همزته بدلًا من واو "واحد" فإن ذلك يكون في الإثبات نحو: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وإما لكونها مما يصدق على القليل والكثير، نحو: "ما فيها شيء". وإما أن يكون اسمًا لـ "لا" العاملة عمل "إنَّ"، نحو: "لا حول ولا قوة إلا بالله" سواء

بُنيت كما مثلنا أو لم تُبن نحو: "لا غلام سفر قادم" و"لا طالعًا جبلًا ظاهر"، ونحو ذلك مما اختل فيه شرط التركب مع "لا". وإما أن تكون مقترنة بـ "مِن" المزيدة لتنصيص العموم أو تأكيده كما قاله في "التسهيل". فالأول نحو: "ما في الدار مِن رجل"، والثاني نحو: "ما فيها مِن ديار"؛ لأن العموم فيها نَص كما قدمنا بدون "مِن"، فدخولها مؤكِّد، بخلاف الأول فإنه محتمِل قبل دخول "مِن" لإرادة نفي الواحد أو الجنس وإنْ كان مرجوحًا فبدخول "مِن" صار نصًّا في العموم. وسواء في مَدْخول "من" [أن] (¬1) يكون مبتدأ نحو: ألَا لا من سبيل إلى هند. أو فاعلًا، نحو: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2]. أو مفعولًا، نحو: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]. أو اسم كان، نحو: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 4]. أو مفعولًا أولًا في "باب ظن" أو نحو ذلك. نعم، يُنبه في هذا القسم على أمرين: أحدهما: أن المفيد للعموم الذي فيه "مِن" لتنصيص العموم هل هو "مِن"؟ أو النفي؟ الراجح الثاني؛ لأنها كانت للعموم فيه ظاهرًا، فلم تُفِد "مِن" إلا جعله نصًّا. ثانيهما: أن "مِن" الداخلة على النكرة مطلقًا هل تحتمل معنى آخر؟ قيل: نعم، تكون للتبعيض ولابتداءِ الغاية. قال ابن مالك: (في كلام سيبويه إشارة إلى أنها للتبعيض، أيْ إذْ قال في "ما أتاني مِن ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (س): بين أن.

رجل": إنَّ "مِن" أُدْخِلت؛ لأن هذا موضع تبعيض) (¬1). هذا نصُّه. وقد استشكل أبو حيان مجامَعة التبعيض للعموم؛ إذ يصلح موضعها "بعض"، وهو ينافي العموم. قيل: والحامل له على ذلك اعتقاده أنَّ "مِن" هي المفيدة للعموم. ولكن سبق أن الراجح خلافه. فعَلَى الراجح -وهو أن المفيد له النفي- لا ينافيه؛ لأن النفي كأنه منصب على كل بعض بعض إشعارًا بشمول كل بعض، وهو حقيقة العموم. الثانى: وهو ما ليس نصًّا: وهو النكرة في النفي في غير الصُّوَر المذكورة في القسم الأول، نحو: {لَا فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47]، و"ما مررت برجل"، و"ليس في الدار رجل"، ونحو ذلك. وقد اختُلف في عموم النكرة فيه على قولين: أحدهما: لا، وهو قول المبرد كما حكاه أبو حيان في "الارتشاف" في "باب حروف الجر"، واختاره القرافي وحكاه عن سيبويه وعن الجرجاني والزمخشري إذ قال في قوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]: إنَّ العموم استُفيد من لفظة "مِن"، وكذا {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ} [الأنبياء: 2] الآية، وإنَّ "مِن" تارة تكون لإفادة العموم نحو ما تقدم، وتارة لتوكيد العموم نحو: "ما جاء في من أحد". ولكن يحتمل أن مراد الزمخشري: لا تفيده نصًّا، بل ظهورًا؛ بدليل مقابلته بتوكيده، فيكون جاريًا على ما قررناه، ولأن قوله: (إنَّ "مِن" هي المفيدة للعموم) لو حمل على إفادة ¬

_ (¬1) شرح التسهيل لابن مالك (3/ 135)، الكتاب لسيبويه (4/ 225).

أصل العموم، لكان هو القول المرجوح فيما سبق. فإذا أُوِّل على إفادته نَصِّيَّته، كان مطابقًا للراجح وهو أنَّ النفي هو المفِيد له. ونقله أيضًا القرافي عن ابن السيد تمسكًا بقوله: إنَّ "لا رجلَ في الدار" بالبناء على الفتح جواب لمن قال: "هل في الدار مِن رجل؟ " فإنه سؤال عن مفهوم مطلق الرجل. وإنَّ "لا رجُل" بالرفع جواب لمن قال: "هل في الدار رجل واحد؟ "، فلذلك يُقال في هذا: "بل رجلان". ويمكن حمل كلامه على الفرق بين النصية والظهور، لا أنه لا عموم فيه أصلًا. وتبع القرافي في نقل ذلك عن مَن سبق الأصفهاني في "شرح المحصول"، وحكاه الأبياري في "شرح البرهان" والقرطبي في أصوله عن النحاة، قال: (وإن كان ظاهر كلام الأصوليين التسوية بينها وبين المبنية على الفتح). والقول الثاني: إنها تعم، وهو ظاهر إطلاق الجمهور، ونقله أبو حيان عن سيبويه وأن "مِن" إذا دخلت في مثل هذا فإنما هي لتأكيد الاستغراق. وكذا نقله عن سيبويه أيضًا إمام الحرمين في كلامه على حروف المعاني، فقال: (قال سيبويه: إذا قلت: "ما جاءني رجل" فاللفظ عام، ولكنه يحتمل أن يريد "ما جاءني رجل، بل رجلان" -كما يعدل عن الظاهر في نحو: "جاء الرجال إلا زيدًا" (¬1) - فإذا قلت: "ما جاءني من رجل" اقتضى نفي جنس الرجال على العموم من غير تأويل) (¬2). وهذا صريح في تقرير القول المرجح. لكن قال القرافي أنه لم يجد هذا النص في كتاب سيبويه وأنه سأل عنه مَن هو عالم ¬

_ (¬1) هذه الجملة ليست في "البرهان". (¬2) البرهان في أصول الفقه (1/ 143).

بالكتاب، فقال: لا أعرفه. ورُد ذلك بأن مَن حفظ حُجةٌ على مَن لم يحفظ. وقد صنف ابن خروف في ما نقله إمام الحرمين عن سيبويه ولم يجده في كتابه، ولم يذكر هذا الموضع منه. وما نقله القرافي عن سيبويه إنْ ثبت فيُحمل على إرادة نفيه للعموم نصًّا، لا ظهورًا؛ جمعًا بينه وبين هذا النص، وكذا غيره كما سبق. وأما قول "جمع الجوامع": (نصًّا إنْ بُنيت على الفتح، وظاهرًا إنْ لم تُبن) (¬1) فحسن من حيث إنه جمع بين القولين مِن غير أن لا يبقى في المسألة خلاف، إلا أنه قاصر من حيث إن النصية تكون في مواضع أخرى وإن لم تُبْن كما قررناه. تنبيهات الأول: إذا قلنا بأن النكرة في النفي للعموم فظاهر كلام الحنفية -واختاره السبكي- أن ذلك من حيث إن النفي إذا ورد على الماهية، لزم منه انتفاء الأفراد المتضمنة لها، فالعموم فيه لزوم، لا بالذات. وظاهر قول غيره من الشافعية -واختاره القرافي- أن ذلك بالذات، وأن النفي إنما هو للأفراد؛ بدليل جواز الاستثناء، والماهية لا يستثنى منها، بل من الأفراد. لكن فيه نظر؛ لأنَّ الأفراد مُراد نفيها قطعًا سواء بالمطابقة أو اللزوم، فالاستثناء سائغ على كل حال. ¬

_ (¬1) جمع الجوامع (2/ 10) مع شرح المحلي وحاشية العطار.

ويبنى على الخلاف التخصيص بالنية، فإنْ قلنا يقول الحنفية فلا يؤثر، حتى لو قال في اليمين: "لا أكلت" ونوى معينًا، لا يُسمع. وإنْ قلنا يقول الآخر، فيؤثر وُيسمع. وسيأتي في هذه المسألة مزيد بيان. وقال القاضي تاج الدين السبكي في "منع الموانع": (المختار في المبني على الفتح أن العموم باللزوم، وفي غيره أن العموم بالذات) (¬1). ولا يظهر لهذا التفصيل وجه، على أنه قد سبق في تقرير العموم في الصيغ ما يؤيد قول الشافعي في المسألة، فراجعه. الثاني: محل كون النكرة في النفي للعموم -كما قاله السهروردي في "التنقيحات"- ما إذا لم يقصد سلب العموم في الحكم، نحو: "ما كل عدد زوجًا"، فإنَّ المقصود إبطال قول مَن قال: "كل عدد زوج"، ففرق بين عموم السلب وسلب العموم. الثالث: هل يقال: إن العام هو النكرة في النفي بلا زيادة على ذلك؟ أو بزيادة عليه وهو أن العموم لضرورة تصحيح الكلام؟ ذهب أبو الحسين في "المعتمد" إلى الأول، والإمام الرازي إلى الثاني. وكذا قال إلْكِيَا والدبوسي. قيل: وهو الحق. ولعل فائدة الخلاف في ذلك تظهر في التراجيح. الرابع: محل عموم النكرة في النفي إذا كانت مفردًا، فإن كانت جمعًا أو ما في معناه نحو: "ما رأيت رجالًا" فقال أبو هاشم: لا تعم؛ بدليل: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ ¬

_ (¬1) منع الموانع (ص 178).

الْأَشْرَارِ} [ص: 62]. وصححه إلْكِيَا، قال: (لأن الإبهام في النكرة اقتضى الاستغراق، فإذا ثُني أو جُمع، زال الإبهام، ويَحسُن أنْ يقال حينئذٍ: "ما رأيت رجالا، بل رجلين"). وظاهر كلام الغزالي ترجيحه أيضًا، وقال القاضي: هو كالنفي للواحد في الاستغراق. وقد سبق في مسألة أن "عموم الجمع هل أفراده جموع؟ أو وحدان؟ " كلام صاحب "التلخيص" في البيان وإيضاحه ما يوضح هذا البحث، فراجعه. قولي: (وَمنْهُ: "لَا يَسْتَوِيَانِ"، وَاذْكُرَهْ في نَحْوِ: "لَا أَكَلْتُ") إشارة إلى مسألتين مفرعتين على أن "النكرة في النفي للعموم"، ولكن فيهما خلاف من وجه آخر: الأُولى: نفي الاستواء وما في معناه من التساوي والمساواة والتماثل والمماثلة ونحو ذلك سواء فيه نفيه في فعل مثل: "لا يستوي كذا وكذا" أو في اسم مثل: "لا مساواة بين كذا وكذا" هل يعم كل استواء؟ أو لا؟ قولان: بأولهما قال جمهور أصحابنا، وعليه جرى الآمدي وابن الحاجب وغيرهما. وبالثاني قال أبو حنيفة وأصحابه والمعتزلة والغزالي والإمام الرازي وأتباعه كالبيضاوي. وأثر الخلاف في: الاستدلال على أن المسلم لا يقتل بالذمي بقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} الحشر: 20] فلو قيل به، لثبت استواؤهما. والاستدلال على أن الفاسق لا يلي عقد النكاح بقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ

كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18]؛ إذ لو قلنا: يَلِي، لاستوى مع المؤمن الكامل وهو العدل. فإنِ ادُّعِي أن الفاسق في الآية إنما أريد به الكافر بدليل مقابلته بالمؤمن، قلنا: ففيه دلالة على أن الكافر لا يكون وليًّا على المؤمنة. ومَن نفى العموم في الآيتين، لا يمنع قصاص المؤمن بالذمي ولا ولاية الفاسق. فإن قلتَ: قوله تعالى: {هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20] قرينة على أن المراد نفي الاستواء في الآية بالفوز، لا مطلقًا، وكذا قوله عقب الآية الأخرى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 26] إلى آخره -قرينة أن المراد نفي الاستواء في دخول الجنة. قلتُ: لا قرينة في ذلك، غايته أنه ذكر بعض أفراد العموم، ولا يخصِّص على الصحيح. ومن أمثلة المسألة أيضًا: قوله تعالى في سورة آل عمران: {لَيْسُوا سَوَاءً} [آل عمران: 113] , وفي الجاثية {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] الآية -على قراءة {سَوَاءً} بالنصب، وفي الحديد: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد: 10] وفي الزمر: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ} [الزمر: 29] , ونحو ذلك. إذ لا فرق -كما سبق- في نفي النكرة الدالة على الاستواء بين أن يكون فعلًا أو اسمًا. واعلم أن مأخذ القولين في المسألة أن "الاستواء في الإثبات" هل هو من كل وجه في اللغة؟ أو مدلوله لغةً الاستواء من وجه ما؟ فإن قلنا: من كل وجه، فنفيه مِن سلب العموم، فلا يكون عامًّا. وإن قلنا: من بعض الوجوه، فهو من عموم السلب في الحكم؛ لأن نقيض الإيجابِ الكُلي سَلْبٌ جُزئي، ونقيض الإيجابِ الجزئي سَلْبٌ كُلي. ولكن كون الاستواء في الإثبات عامًّا من غير صيغة عموم -ممنوع، غايته أن حقيقة

الاستواء [ثبتت] (¬1). وأعجب من ذلك احتجاج الإِمام الرازي وأتباعه بأن نفي الاستواء أعم مِن نَفْيه من كل وجه ومن نَفْيه مِن بعض الوجوه، والأعم لا يَلزم منه الأخص. وهو مردود -كما قاله ابن الحاجب وغيره- بأنَ ذلك في الإثبات. أما نفي الأعم فيلزم منه انتفاء الأخص، كنفي "الحيوان" نفي للإنسان. هذا إن سَلَّمنا أنَّ الاستواء عام له جزئيات. أما إذا قلنا: [حقيقة] (¬2) واحدة، فإنه يلزم مِن نَفيها نفي كل متصف بها. وقد استدل مَن نفى العموم في المسألة أيضًا بأنه لو عَمَّ، لم يَصْدُق؛ إذ لا بُدَّ بين كل شيئين من مساواة ولو في نفي ما سواهما عنهما. وجوابه أنه إنما ينفي مساواة يصح انتفاؤها, لا كل مساواة؛ لأن ذاك مدرك إرادته بالعقل. وفي كلام إلْكِيَا حكايته قول ثالث، وهو حكايته عن قوم أنه من باب المجمل؛ لأنه يحتمل من كل وجه ومن الوجه الذي قد ذكر في الآيتين الأولتين، وهو قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20] وكذا التفصيل في الأخرى؟ إذ معناه: "لا يستوون في الفوز بالجنة". وعليه جرى الهندي، إذ قال: (الحق أن قوله: {يَسْتَوِي} أو {لَا يَسْتَوِي} من باب المجمل ومن باب المتواطئ، لا العام) (¬3). انتهى ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (ت، ش، ض): نفيت. (¬2) كذا في (ص)، لكن في (س): حقيقته. (¬3) نهاية الوصول (4/ 1369).

وقد سبق أن ذلك مِن ذِكر بعض أفراد العام، ولا يلزم منه أن يبقى مجملًا. ونظير هذا الخلافِ الخلافُ في قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36] هل هو عام حتى إذا خرج منه شيء يكون تخصيصًا بدليل؟ أو مجمل؛ لأنا نعلم بالضرورة تساويهما في الإنسانية وغيرها؟ والأرجح الأول؛ لعموم نفي المشابهة؛ فلذلك يحتج به على أن المرأة لا تكون إمامًا ولا قاضيًا ولا إمامة في اقتداء المذكور بها وغير ذلك؛ عملًا بالعموم. وأما كون تساويهما في الإنسانية فذاك خارج من المراد كما سبق، ومن ثَم امتنع اجتماع المثلين. قال ابن دقيق العيد: (لفظ "المثل" قال على المساواة بين الشيئين إلا فيما لا يقع التعدد إلا به). وفي شرح "جمع الجوامع" لشيخنا بدر الدين الزركشي أن المصنف (يعني تاج الدين السبكي) قد اختار أمرًا آخر غير ما سبق، وهو أنَّ لفظ "المساواة" المراد به المعادلة، والسواء: العدل، و"فلان لا يساويه" أي: لا يعادله ولا يكون وزانه، ومنه قوله: وليس سواء عالم وجهول. وقوله: وأَعْلَمُ إنَّ تسليمًا وتركًا ... لَلَا متشابهان ولَا سَوَاء أي: لا يتعادلان ولا قريبًا من المعادلة، وإذا كان معناه المعادلة والمكافأة، كان هذا معناه نفيًا وإثباتًا. وحينئذٍ فيتوقف الاستدلال بالآية على عدم القصاص في الكافر وعدم ولاية الفاسق بالآية الأخرى على أنه ليس بكفء وأن الكفاءة معتبرة (¬1). انتهى ملخصًا. ¬

_ (¬1) تشنيف المسامع (2/ 687).

ولا يخلو من نظر لمن تأمله. المسألة الثانية: الفعل المنفي هل يعم حتى إذا وقع في يمين نحو: "والله لا آكل" أو "لا أضرب" أو "لا أقوم" أو "ما أكلت" أو "ما قعدت" ونحو ذلك ونوى تخصيصه بشيء، يُقبل؟ أو لا يعم فلا يقبل؟ يُنظر: إما أن يكون الفعل متعديًا أو لازمًا، فالأول هو الذي يُنصب فيه الخلاف عند أكثر الأصوليين كما سنذكره. فإذا نُفي ولم يُذكر له مفعول به، ففيه مذهبان: أحدهما قول الشافعية والمالكية وأبي يوسف من الحنفية: إنه عام. وثانيهما وبه قال أبو حنيفة: لا يعم. واختاره القرطبي من المالكية والإمام الرازي من الشافعية. ومنشأ الخلاف أنَّ المنفي الأفراد، فيقبل إرادة التخصيص ببعض المفاعيل به؛ لعمومه؟ أو المنفي الماهية ولا تَعدد فيها؛ فلا عموم؟ وقد سبق أن الأصح هو الأول، وبنوا عليه أن الحالف إذا قال: "إن تزوجت أو أكلت أو شربت أو سكنت أو لبست" ونوى شيئًا دون شيء، لا يُقبل. فإنْ ذَكر المفعول به كـ "لا آكل تمرًا" أو "لا أضرب زيدًا" فلا خلاف بين الفريقين في عمومه وقبوله التخصيص. لكن فرق الحنفية بأن المفعول به إذا لم يذكر، يكون النفي منصبًّا على حقيقة الأكل وماهيته، وإذا ذكر المفعول به، توجَّه النفي إليه، فكان الفعل المتعلق به عامًّا يقبل التخصيص.

ورُد بأن المقدَّر في حكم المذكور، فلا فرق. نعم، ألحقَ أبو حنيفة بذكرِ المفعول به ما إذا أتى بعد الفعل بمصدره كـ "لا آكل أكلا"؛ لأنه إذا ذكر، تقيَّد الفعل به، فكان كالمفعول به. وأجيب عنه بأنه وإن لم يذكر فلم يخرج عن دلالة الفعل عليه؛ لأنه مضمونه، فكان كالمذكور. وربما قرروا قوله بأن المصدر يدل على المرة، فجاز أن يراد به خاص. وجوابه: أن المصدر المؤكد لا يدل إلا على الحقيقة؛ فلهذا كان مؤكدًا. واعلم أن الإِمام الرازي لما اختار مذهبهم قال: (نَظرُ أبي حنيفة فيها دقيق؛ لأن النية لو صحت لصحت إما في الملفوظ أو غيره، والأول باطل؛ لأن الملفوظ هو الأكل وهو ماهية واحدة لا تقبل التعدد. فإن أُخِذَت مع زيادة عليها فتعددها بحسبه، وحينئذ فتقبل التخصيص. فإذا لم تكن تلك الزيادة، فلا تَعدد، فلا تقبل تخصيصًا. وأيضًا أجمعنا على أنه لو نوى التخصيص بالزمان والمكان، لم يصح، فكذا إذا نوى تخصيص المفعول به بشيء دون شيء) (¬1). انتهى بمعناه. ورُد بأن الماهية إنما لا تتعدد إذا لم يدخل عليها النفي؛ لأنها حينئذ من قبيل المطلق. فإذا نفيت، فلا بُد من نفي جميع الأفراد؛ ضرورة انتفاء الماهية، سواء قلنا: النفي للأفراد بالذات، أو: باللازم لنفي الماهية. فتبيَّن أن النظر الدقيق إنما هو لأصحابنا. وأما دعوى الإجماع على عدم صحة التخصيص بزمان أو مكان وقياس المفعول به ¬

_ (¬1) المحصول (2/ 384).

فممنوعان. أما الأول: فالشافعية لا فرق عندهم في صحة إرادة التخصيص بين المفعول به وبين الزمان والمكان ونحوهما، وقد نص الشافعي على أنه إذا قال: "إن كلمت زيدًا فأنت طالق" ثم قال: "أردت شهرًا" أنه يصح ويُقبل منه. وأما الثاني -وهو القياس عليه- فلو سلم، أمكن الفرق بأن المفعول به من مقومات الفعل المتعدي وجودًا وذهنًا، إذ لا يوجد ولا يُعقل إلا به. وأما الزمان والمكان فمتعلِّقان بالفاعل حيث افتقر، وإلا فأفعال الله تعالى لا تفتقر لزمان ولا مكان. ومما ضعِّف به قول الحنفية أنهم وافقوا في الفعل المذكور على جواز تخصيصه باللفظ بخلاف النية، وعللوه بأن النية ضعيفة، فلا تقوى على تخصيص المقدَّر. فناقضوا في جعله عامًّا لقبول التخصيص باللفظ، غير عام لعدم قبوله التخصيص بالنية. ثم هو على العكس مما ذكروه؛ فإن الضعيف يقوى على تخصيص الضعيف ما لا يقوى على القوي، فإذا كان يَقْوَى على تخصيص القوي وهو المفعول إذا ذُكر، فأَولى أن يقوى على تخصيصه إذا لم يُذكر وكان مُقدرًا. ومن هنا يُعلم ضعف رد القرافي عليهم بمثل قوله تعالى: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66]؛ لأنه ليس محل النزاع، إنما محله التخصيص بالنية. تنبيهات الأول: ظاهر كلام إمام الحرمين والغزالي والآمدي والهندي أن الخلاف لا يجري في الفعل القاصر حتى يجوز التخصيص باعتبار المصدر المضمن له بالنية قطعًا. لكن القاضي عبد الوهاب في "الإفادة" أطلق الفعل، فاقتضى أنْ لا فرق، فقال: الفعل

في سياق النفي هل يقتضي العموم كالنكرة في سياق النفي؛ لأن نفي الفعل نفي للمصدر، فإذا قلنا: "لا يقوم زيد"، كأنَّا قلنا: "لا قيام"؟ أوْ لا؟ إلى آخِره. وربما وقع في تمثيل الغزالي المسألة بأفعال قاصرة وإن كان موضوع المسألة فيما له مفعول، فمثَّل بِـ "إنْ ضربت -أو إن خرجت- فأنت طالق" ونوى الضرب بآلة بعينها أو الخروج من مكان بعينه، مع أن ترجمة المسألة ليس فيها التخصيص بالنية في الآلة ولا في فعل قاصر في المكان، اللهم إلا أن يريدوا بتعدي الفعل ما هو أعم من التعدي بنفسه أو بالحرف. وقولي في النظم: (في نَحْوِ: "لَا أَكَلْتُ") يحتمل نحوه في كونه فعلًا أو في كونه فعلًا متعديًا. ومن أمثلة العموم في اللازم قوله تعالى: {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [طه: 74] , {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36] {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر: 36] , {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} [طه: 118]. الثاني: إذا قال: "إن أكلت" فهو مثل: "لا أكلت"؛ لِمَا سيأتي من كون النكرة في سياق الشرط للعموم كالنفي، فمِن ثَّم جمع بينهما ابن الحاجب وغيره. وإن كان ابن السبكي جعل ذلك ضعيفًا، إذ قال: ("لا أكلت"، قيل: و"إنْ أكلت") (¬1). لأنه يحمل كلام مَن قال: (النكرة في سياق الشرط للعموم) على العموم البدلي، لكن سيأتي رد ذلك وأن المراد الشمولي. ولا تظن أني أسقطتُ ذلك في النظم اختيارًا مني لهذا، بل لأني لما ذكرتُ أن النكرة في الشرط تعم، كان ذلك مُكتفًى به؛ لأنه والنفي في ذلك سواء. ¬

_ (¬1) جمع الجوامع (2/ 20) مع حاشية العطار.

الثالث: لا يختص جواز التخصيص بالنية بالعام، بل يجري في تقييد المطلق بالنية؛ ولذلك لما قال الحنفية في "لا أكلت": (إنه لا عموم فيه، بل مطلق، والتخصيص فرع العموم)، اعتُرض عليهم بأنه يصير بالنية تقييدًا لمطلق، فَلِمَ [منعوه] (¬1)؟ نعم، إذا قلنا بجواز الأمرين بالنية، فيقال: كيف خالفت الشافعية ذلك في فروع؟ منها إذا قال: "كل امرأة لي طالق" أو "نسائي طوالق" وعزل بعضهن بالنية، لا يقبل. وكذا لو قال: "أنت طالق ثلاثًا" وأراد تفريقها على الأقراء أو أراد "إذا جاء رأس الشهر"، على الصحيح في الكل. وجوابه أنه إنما لم يُقبل؛ لأنه ادَّعى خلاف الظاهر، بخلاف مسألة: "لا أكلت" و"إن أكلت"، فإنه إذا نوى مأكولًا خاصًّا، فليس فيه مخالفة الظاهر. ولهذا قلنا في المسائل السابقة: إنه مع نفي القبول يُديَّن إلا إذا رفع بالكلية، كما إذا قال: "أردت إن شاء الله" على ما ذكره كُبراء المذهب. ولو أَقرَّ في صك أنه لا دعوى له على زيد ولا طلب بوجه من الوجوه ثم قال: "أردت في عمامته -أو قميصه- لا في داره وبستانه"، قال القاضي أبو سعد: هذا موضع تردد، والقياس قبوله؛ لأن غايته تخصيص عموم، وهو محتمل. قال النووي: (الصواب لا يقبل في ظاهر الحكم، لكن له تحليفه أنه لا يعلم أنه قصد ذلك). الرابع: حكى الغزالي عن الحنفية أنهم ردوا هذه المسألة إلى أنه من المقتضَى، وهو لا عموم له. ¬

_ (¬1) كذا في (من)، لكن في سائر النُّسخ: يمنعوه.

ورَدَّه بالفرق بينهما من جهة أن المقدَّر في المقتضى إنما هو لِيَتم الكلام به، وأما المفعول فإن الفعل يدل عليه بصيغته ووضعه، فَـ "الأكل" يدل على "مأكول" لا من جهة الاقتضاء، بل من نفس اللفظ. قيل: وفيما قاله نظر؛ فإن الذي هو من دلالة اللفظ بوضع الفعل إنما هو المصدر؛ لدلالة الفعل عليه مع الزمان المحصل، أما بقية المفاعيل -وكذا الفاعل- إنما دلالته عليه باللزوم، لا بالصيغة والوضع. المسألة الثانية من مسائل الأصل: " النكرة في سياق النهي" للعموم؛ لأنه في معنى النفي كما صرح به أهل العربية، نحو: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24]. ويجري فيه ما سبق فيما يختص بالنفي، نحو: "لا تضرب من أحد"، أو لا يختص، نحو: "لا تضرب من رجل"، ويدخل أيضًا الفعل المنهي عنه، نحو: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ} [طه: 81] , {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32] , {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33] {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]. الثالثة: " النكرة في سياق الشرط" للعموم أيضًا، نحو: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46] , {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} [التوبة: 6] ونحو ذلك؛ لأنه في معنى النفي؛ لكونه تعليق أمر لم يوجد على أمر لم يوجد. وقد صرح إمام الحرمين في "البرهان" بإفادته العموم، ووافقه الأبياري في شرحه، وهو

مقتضَى كلام الآمدي [و] (¬1) ابن الحاجب في مسألة: "لا أكلت" و"إن أكلت" كما سبق. وزعم بعضهم أن المراد بعمومه "العموم البدلي" لا "الشمولي" كابن السبكي في "شرح المنهاج"، كأنه أخذ ذلك من أن أداة الشرط إما للتكرر وهي "كلما" أو لغيره وهي باقي الأدوات، ولكن هذا لا ينافي العموم وإلا لم تكن أدوات الشرط للعموم وقد سبق أنها مِن صِيَغِه. ويدل على ذلك أن المراد في نحو: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} أنه لو استجاره واحد أو الكل، كان الحكم فيهم ما ذُكر، فلولا العموم لاقتصر على إجارة واحد، فإذا استجار بعده أحد، لا يجيره، كـ "أعتق رقبة" لا يختص؛ لأن عمومه بدلي، حتى إذا أعتق واحدة، لا يَلزم أن يعتق بعدها شيئًا. والتكرير في "كُلما" إنما هو في واحد، نحو: "كلما جاءك زيد فأعطه درهمًا". وهو واضح. الرابعة: النكرة في سياق الاستفهام الإنكاري تعم أيضًا؛ لأنه في معنى النفي كما صُرِّح به في العربية في "باب مسوغات الابتداء وصاحب الحال" وفي "باب الاستثناء" وفي "الوصف المبتدأ المستغني بمرفوعه عن خبر" عند مَن يشترط [تقدُّم نَفْي] (¬2) أو ما في معناه، نحو: "هل قائم زيد؟ "، وفي غير ذلك. قال تعالى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98] , {هَلْ تَعْلَمُ ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): وكذا. (¬2) كذا في (ت، س)، لكن في سائر النُّسخ: النفي.

لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] , فإن المراد نفي ذلك كله؛ لأن الإنكار هو حقيقة النفي. المسألة الخامسة: وهي المذكورة استطرادًا بعد ما ذُكر من صيغ العموم لغةً بقرينة في النفي: "النكرة في سياق الامتنان"، وهي للعموم كما ذكره القاضي أبو الطيب في "تعليقه" في الكلام في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] , وجرى عليه ابن الزملكاني في كتاب "البرهان". قيل: والقول بذلك مأخوذ من قول البيانيين في تنكير المسند إليه: إنه يكون للتكثير، نحو: "إنَّ له لإبلًا" و "إن له لغنمًا". وعليه حمل الزمخشري {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} [الشعراء: 41] , وكذا قرره في قوله تعالى: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12)} [الغاشية: 12] , ولكن في أخذ العموم من ذلك نظر؛ إذْ لا يَلزم من الكثرةِ الاستغراقُ. قلت: مرادهم بالكثرة البلوغ إلى غاية لا تدرك، مبالغةً في الكثرة، لا كثرة ما وإن كان ذلك على وجه الادعاء، وحينئذٍ فهو معنى العموم؛ فإنهم قالوا فيه: (إنه الاستغراق من غير حصر) كما سبق. ونظير ذلك ما قالوه في نحو: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] , وفي نحو: "لبيك وسعديك" من كون المراد الكثرة بلا حصر، وهذا أمر مذوق لمن تأمله. نعم، لا يبقى لخصوص الامتنان معنى، بل كل مقام اقتضى في النكرة التكثير يقال فيه ذلك، والامتنان فرد منه، وهو حسن. تنبيه: مما ذكر من عموم النكرة في الإثبات - غير ما سبق من الامتنان ونحوه - صُوَر: منها: ما سيأتي من الجمع المنكَّر على قول الجبائي، ويأتي رده.

ومنها: "النكرة في سياق الطلب"، نحو: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 201]. وقد يقال: إن كان ذلك لاقتضاء المقام التكثير، فهو مما سبق تقريره في الامتنان، وإن كان التنكير فيه للتعظيم، فلا يلزم منه العموم؛ لأن العظمة باعتبار الشيء في نفسه، والتكثير باعتبار الكمية. وذِكر هذا الدعاء من جوامع الأدعية يحتمل أن يكون لإرادة التكثير أو التعظيم، لا لاقتضاء العموم بذاته. ومنها: "النكرة في سياق الأمر" على خصوصه وإن دخل تحت الذي سبق من الطلب. قاله في "المحصول" ونقله عن الأكثرين، واستدل عليه بأن نحو: "أعتق رقبة" لولا أنه للعموم لَمَا خرج عن العهدة بأي إعتاق أعتقه، بل يعتق جميع ما يَقدر عليه من رقاب الدنيا. وهو عجيب؛ فإنه مطلق يكتفَى فيه بواحد؛ فإن عمومَه عمومُ بَدَل. قال أبو الحسين بن القطان: (إذا قال: "اقتل مشركا"، لا يلزم منه قتْل كل مشرك، بل يقتل مشركًا ما). قال: (ويحتمل أن يريد معيَّنًا، فيجب التوقف إلى البيان. وقيل: إذا حمل على الجنس، خُص ووقف فيه. وهو قول أهل العراق). انتهى ومنها: قول الحنفية: إن النكرة إذا وُصفت بصفة عامة، كانت معرفة بذلك، كالمعرف بـ "لام الجنس". قالوا: مثل: "لا تكلم إلا رجلًا كوفيًّا"، فله أن يكلم جميع الكوفيين، بخلاف ما لو قال: "إلا رجلًا" فكلَّم رجلين؛ فإنه يحنث. ومنه قوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} [البقرة: 221]؛ لأنه في معرض التعليل، فلولا أنه عام لَمَا صح التعليل. ومنه أيضًا: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] , فهو عندهم عام؛ لأجل وصفه

بالأحسنية، إذِ المراد بالوصفِ الوصفُ المعنوي، لا خصوص النعت النحوي. ورُدَّ ذلك بأن هذا العموم إنما هو العموم العقلي الذي يأتي من الأقسام، والكلام في العام لغةً. على أن ما ذكروه قد صرح محمَّد بن الحسن في "الجامع الكبير" بما يخالفه، فقال فيما لو حلف لا يكلم كوفيًّا: إنه يبر بواحد. ولو كان للعموم لَمَا برَّ بذلك، بل بالجميع. وأيضًا فهو مردود بأن الوصف للنكرة ليس مسوقًا للتعميم، بل لبيان المراد بالنكرة. وقد فرعوا على هذا قاعدتهم المشهورة، وهي: "أيُّ عبيدي ضربك فهو حر" فضربوه جميعًا، عُتقوا. و "أيُّ عبيدي ضربته فهو حر" فضربهم جميعًا، لا يُعتق إلا واحد منهم. والفرق أنه وصف في المسألة الأولى بالضرب، وهو عام، وفي الثانية قطع عن الوصفية؛ لأن الضرب إنما أضيف إلى المخاطَب، لا إلى النكرة التي [تتناولها] (¬1) "أيّ". وهو عجيب؛ لأنه إنْ أريد النعت النحوي فلا نعت في الموضعين، وإن أريد الوصف المعنوي فهو موجود في الموضعين؛ لأنه كما وصف في الأُولى بالضاربية وُصِف في الثانية بالمضروبية له. وقد أجاب بعضهم عن ذلك بما لا يشفي؛ فلا نُطَول به. ومنها: الفعل المتعدي إذا حذف مفعوله واحتمل أن يكون معرفة ونكرة ولكنه ذُكر لِيعم، نحو: "زيد يعطي ويمنع "، ومنه: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25] , أي: كل أحد. ولم يذكر ذلك الأصوليون، بل أهل البيان. لكن عموم المفعول إنما هو بالقرينة التي ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (س): يتناولها.

اقتضت أن يكون عامًّا كما مُثِّل، فالتعميم في الحقيقة إنما هو بلفظ عام مقدَّر، فيكون كما لو ذُكر؛ بدليل أنه لو قال قائل: (هل ضربت رجلًا؟ ) فقلت: (ضربت)، لا عموم فيه؛ لعدم قرينة العموم، بل فيه قرينة الخصوص. قولي: (كَذَاكَ في سِيَاقِ نَفْيٍ بكِرَهْ) أي: كذلك من الصِّيَغ "النكرة في سياق النفي". فـ "كَذَاكَ" خبر مقدَّم، و"نَكِرَهْ" مبتدأ مؤخَّر، و"في سياق نفي" حال. وقوفي: (وَاذْكُرَهْ في نَحْوِ) إلى آخِره -أي: اذكُر العموم واعتقده في ذلك أيضًا. والله أعلم. ص: 590 - وَقَدْ يَعُمُّ اللَّفْظُ عُرْفًا مِثْلُ مَا ... في رَأْيٍ الْفَحْوَى وَ"حُرِّمَ" اتْمِمَا الشرح: هذا هو القسم المقابل للعام لغةً، وكذا ما بعده، وهو أن يكون اللفظ عامّا بالعُرف أو بالعقل. فالأول في ثلاثة أمور: أحدها: فحوى الخطاب. الثاني: لحن الخطاب وإنْ لم أذكره في النَّظم ولا فرق، وهو واضح. ولكني جريت على المشهور كما فعل صاحب "جمع الجوامع". وقد مَثَّل هو في "شرح المنهاج" بالقسمين، وهُما الحكم على شيء والمسكوت عنه مساوٍ له فيه أو أَوْلى، نحو: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23].

وقد سبق بيان القسمين في مفهوم الموافقة وحكاية الخلاف في "الفحوى" أنه دَلَّ على المسكوت قياسًا؟ أو نقل عُرفًا؟ أو مجازًا بالقرينة؟ أو دَلَّ من حيث المفهوم؟ فلذلك قلت: (في رَأْيٍ)؛ لأن الراجح ما نص عليه الشافعي أنه بالقياس. والثالث: ما نُسب الحكم فيه لذات، وإنما تعلق في المعنى بفعل اقتضاه الكلام، نحو: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]. فإنَّ العُرف في الأُولى نقله إلى تحريم الأكل على العموم، وفي الثانية إلى جميع الاستمتاعات المقصودة من النساء، فيشمل الوطء ومقدماته، ومنهم مَن يُقَدر الوطء فقط. وسيأتي بيان ذلك مبسوطًا في "مسألة عموم المقتضَى". ومنهم مَن زعم أنه من قبيل المجمل، وسيأتي بيانه أيضًا هناك وفي باب "المُجْمَل". وقولي: (وَ"حُرِّمَ" اتْمِمَا) أي: أتمم المذكور في الآية، إما الآية الأولى أو الثانية. والله أعلم. ص: 591 - وَعَقْلًا ايْضًا مِثْلُ تَرْتِيبٍ عَلَى ... وَصْفٍ، فَذَا بِلَفْظِهِ لَنْ يَشْمَلَا 592 - وَمثْلُهُ الْمَفْهُومُ في الْمُخَالَفَهْ ... وَللْعُمُومِ ضَابِط مَا خَالَفَهْ الشرح: هذا الثاني من المقابل للعام لغةً، وهو العام بالعقل، وذلك ثلاثة أمور: أحدها: ترتيب الحكم على الوصف، نحو: "حرمت الخمر؛ للإسكار"، فإن ذلك يقتضي أن يكون عِلَّة له، والعقل يحكم بأنه كما وُجدت العلة يوجد المعلول، وكلما انتفت ينتفي. فهذا القسم لم يدل بِلُغة؛ لأنه لا منطوق فيه بصيغة عموم، ولا بالمفهوم، وذلك ظاهر،

ولا بالعُرف؛ لعدم الاشتهار فيه، فلم يَبْقَ إلا العقل. وإذا قلنا بأن نحو: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] من باب القياس، يكون من العام عقلاً أيضًا. ولك أن تقول في عموم العِلل: إن هذا إنما هو في العِلل العقلية، أما الشرعية فمُعَرِّفات، ولا يَلْزَم من ثبوتها ولا من انتفائها ما ذكر؛ فقَدْ يتخلف المعلول؛ لمانع، وهي مسألة "نقض العلة"، وسيأتي إيضاح ذلك في "باب القياس"؛ فإنه محله. نعم، ترتيب الحكم على العلة وإنْ كان من حيث عموم العلة عقلًا لكنه إذا كان من الشرع، فالحكم في عمومه لكل ما فيه تلك العلة التي وقع القياس بها -شرعي. وقيل: لُغوي، وقيل: لا يعم، لا شرعًا ولا لغةً. ومن أمثلة المسألة: قولة - صلى الله عليه وسلم - في قتلى أُحد: "زملوهم بكلومهم ودمائهم؛ فانهم يحشرون وأوداجهم تَشْخَبُ دمًا" (¬1). فإنه يعم كل شهيد شرعًا، أو لغةً، أوْ لا ولا (على الأقوال). ¬

_ (¬1) انظر: مسند أحمد (رقم: 23708)، معرفة السنن والآثار للبيهقي (3/ 142، رقم: 2097)، ولفظ أحمد: (زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ). وفي: سنن النسائي (2002) وغيره، ولفظ النسائي: (زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كَلمٌ يُكْلَمُ في الله إِلَّا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى، لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ وَرِيحُهُ رِيحُ المسْكِ). قال الألباني: صحيح. "صحيح النسائي: 2001). وفي: سنن الترمذي (3029)، سنن النسائي (4005) وغيرهما، بلفظ: (يَجِيءُ الْمَقْتُولُ بِالْقَاتِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاصِيَتُهُ وَرَأْسُهُ في يَدهِ، وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا .. ) الحديث. قال الألباني: صحيح. "صحيح سنن الترمذي: 3029).

الثاني: مفهوم المخالفة عند القائل به، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مطل الغني ظلم" (¬1)، فإنه بمفهومه يدل على أن مطل غير الغني عموماً لا يكون ظلمًا. والثالث: إذا وقع جوابًا لسؤال، كما لو سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مَن أفطر، فقال: "عليه الكفارة"؛ فيُعلم أنه يَعُم كل مفطر. وإنما لم أذكر هذا في النَّظم لأنه يمكن دخوله تحت الذي قبله، فإنه ينحل إلى أن الحكم بالكفارة لأجل الإفطار، فهو تعميم بالعلة، والله أعلم. وقولي: (وَللْعُمُومِ ضَابِطٌ مَا خَالَفَهْ) تمامه قولي بعده: ص: 593 - مِعْيَار صِحَّةُ الِاسْتثنَاءِ ... مِنَ الَّذِي فِيهِ احْتِمَالٌ جَائِي 594 - لِأنَّهُ إخْرَاجُ مَا قَدْ وَجَبَا ... دُخُولُهُ، فَلَا عُمُومَ نُصِبَا 595 - في عَدَدٍ؛ إذْ هُوَ غَيْرُ مُحْتَمِلْ ... وَلَا مُنكَّرٍ سِوَى مَا قَدْ قُبِلْ 596 - وَلَوْ يَكُونُ في جُمُوعٍ رَاسِبًا (¬2) ... إذِ الدّخُولُ لَيْسَ فِيهِ وَاجِبَا الشرح: لما انتهى الكلام في صيغ العموم لغة وعرفًا وعقلاً، ذكرتُ ضابط العام الذي به يعرف عمومه، حتى لو ادُّعي في شيء عموم، عُرض على الضابط، فإن قَبِله، عرفنا عمومه. وهو أنَّ: ضابط العموم ومعياره صحة الاستثناء منه، نحو: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) جاء في "لسان العرب, 1/ 418 ": (جَبَل راسبٌ: ثابتٌ).

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر: 2، 3]؛ ولذلك يستدل به من أثبت صيغ العموم ردًّا على من زعم أن وضعها للخصوص أو وقف كما سبق من المذاهب. وقولي: (مِنَ الَّذِي فِيهِ احْتِمَالٌ جَائِي) قَيدٌ في الضابط، زِدته على البيضاوي وغيره ممن يطلق أن الاستثناء معيار العموم، حتى يخرج العدد إذا قلنا بصحة الاستثناء منه كما هو قول الجمهور (كما سيأتي)، فإنه قابل للاستثناء وليس بعام قطعًا. فيقال: إلا أنه ليس محتملًا للعموم، ونحن إنما جعلنا الاستثناء معيارًا في لفظ يكون محتملاً، فيكون المراد يكون الاستثناء معيارًا أنَّ كل ما لم يَقبل الاستثناء منه لا يكون عامًّا، لا أن كل ما يَقبل الاستثناء منه عام. ثم عَللتُ كون الاستثناء معيارًا بأن الاستثناء: إخراج ما لولاه لوجب دخوله في المستثنى منه، فإذا كان القابل للإخراج بالاستثناء واجب الدخول، فكل فرد يمكن إخراجه به واجب الدخول، وذلك حقيقة العموم. وما اعتُرض به من كون وجوب الدخول يناقض خروجه بالاستثناء -فاسد؛ لأنا لم نَدَّعِ وجوب الاندراج إلَّا بتقدير أن لا يخرج بالاستثناء، فهو خارج منه وإن دخل لغةً. وسيأتي في التنبيهات فيه زيادة بيان وأن الحكم على المستثنى منه إنما هو بعد إخراج المستثنى، فلا تناقض. وقولي: (فَلَا عُمُومَ نُصِبَا في عَدَدٍ) إلى آخره -هو مما نُفي فيه العموم، لعدم صِدق ضابط العام فيه؛ ولذلك عطفته بِـ "الفاء" المشعرة بالسببية والترتيب. فأشرت إلى مسألتين، لتمهيد الضابط وتقريبه: الأُولى: أن العدد ليس بعام، بل دلالته دلالة الكل على أجزائه، ولو كان عامًّا لكان من دلالة الكلي على جزئياته مستغرقًا لها، وهو وإن ساغ الاستثناء منه على الراجح لكنه -كما

تَقدم- ليس محتملًا للعموم حتى يكون الاستثناء منه دليل عمومه. وإنما قلت: إنه يستثنى منه على الراجح؛ لأن الاستثناء من العدد فيه ثلاثة مذاهب: الصحيح: الجواز مطلقًا؛ يخطيء ذلك في كلام العرب فيما لا ينحصر. الثاني: المنع مطلقا؛ لأن أسماء الأعداد نصوص، والنصوص لا تقبل التخصيص. ونقل ذلك ابن عصفور عن البصريين، قال: إلا إذا كان العدد مما يستعمل للمبالغة، كالمائة والألْف. أي: ولأجل ذلك لا يكون في نحو قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] إبطالًا لقول المنع مطلقًا؛ لأن هذا خارج عن محل الخلاف. والثالث: إن كان المستثنى عقدًا كالعشرة والعشرين، فلا يجوز، وإن لم يكن عقدًا كالواحد والاثنين إلى التسعة، جاز. أي: ومحله أيضًا فيما لا يكون للمبالغة، وإلا فقوله تعالى: {إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} المستثنى عقد، فكيف تمتنع؟ ونشأ من هذا الخلاف خلافٌ في فروع: منها: لو قال: "أربعتكن طالق إلا فلانة"، وقع الطلاق على الكل عند القاضي حسين والمتولي؛ لعدم صحة الاستثناء؛ لأن الأربع ليست صيغة عموم، بل نصوص، فرَفْع البعض رفْع بعد نَص، فكان كقوله: "أنت طالق طلاقًا لا يقع عليك". وردَّ ذلك الرافعي بأن مقتضَى التعليل بذلك أن لا يصح الاستثناء من العدد في الإقرار، نحو: "له عليَّ عشرة إلا درهما". قال: (ومعلوم أنه ليس كذلك) (¬1). ¬

_ (¬1) العزيز شرح الوجيز (9/ 131).

ثم استشكل على القاضي قوله: (إنه لو قدم المستثنى على المستثنى منه كما لو قال: "إلا فلانة أربعتكن طوالق" أنه يقع على الثلاث دون المستثناة)، وما الفرق بين التقدم والتأخر في هذا؟ قيل: ولا إشكال؛ لأنه لَمَّا أخرج قبل الحكم، كان الحكم موجهًا للثلاث دون المستثناة. قلتُ: وهو عجيب؛ فإن الرافعي إنما استشكل تعليل القاضي بأنه ليس عامًا حتى يخرج منه، بل نص، ومن هذه الحيثية لا فرق بين التقديم والتأخير. المسألة الثانية: الجمع المنكَّر -كـ "رجال" و"مسلمين" ونحوهما- ليس بعام، خلافًا للجبائي من المعتزلة كما نقله القاضي في "مختصر التقريب" والإمام الرازي والآمدي وأتباعهم، وربما حُكي عن المعتزلة كما عبَّر به ابن برهان، لكن الذي حكاه عبد الجبار إنما هو عن الجبائي، وحكى مقابِلَه عن أبي هاشم. نعم، لا اختصاص للمعتزلة بذلك، فقد حكى الشيخ أبو حامد الخلاف وجهين لأصحابنا، وكذا الشيخ أبو إسحاق في "اللمع" وسليم في "التقريب"، ونصر ابن حزم قول التعميم، ونُقل أيضًا عن جمهور الحنفية، واختاره البزدوي وابن الساعاتي. وعلى كل حال فالأصح أنه "لا يعُم" كما قال الشيخ أبو حامد وسليم: إنه ظاهر المذهب، وعليه عامة أصحابنا. قال: لأن أهل اللغة يسمونه نكرة، ولو كان عامًّا، لم يكن نكرة. أي: لمغايرة معنى النكرة لمعنى العموم كما سبق في تعريف "العام"، ولأنه يَصْدُق على أقَل الجمع وعلى ما زاد مرتبة بعد أخرى إلى ما لا يتناهى، وهذا الأخير هو مدلول "العام". وإذا كان مدلول النكرة أعم من هذا ومن الصُّوَر السابقة، فالأعم لا يدل على الأخص،

وعمومه في هذه [الصُّوَر] (¬1) إنما هو عموم بدل، لا شمول. ومن هنا يُعلم فساد قول الجبائي: إنه مشترك بين هذه [الصور] (¬2)، فيحمل على الجميع؛ بناءً على أن المشترك يُحمَل على جميع معانيه. فإنه يقول بذلك كالشافعي. لأنَا (¬3) نمنع كونه مِن قبيل المشترك، بل مِن الكُلي الذي تحته جزئيات يصدق على كل منها حقيقة، كـ "إنسان" على كل فرد فرد، فالمراتب في الجمع كالأفراد في "إنسان". وأما استدلاله على عمومه بأنه يَقبل الاستثناء وهو دليل العموم فيُرَد بمنع ذلك؛ فإنَّ الأصح عند النحاة أنه لا يجوز الاستثناء من النكرة؛ لِمَا سبق أنه "إخراج ما لولاه لوجب دخوله"، وهذا لا يجب دخوله على تقدير عدم الاستثناء، نحو: "جاء رجال إلا زيدًا"؛ لجواز أن يكون "رجال" مراد المتكلم بها غير زيد، فلا يحتاج لإخراجه؛ لأنه لم يدخل. وتَعلُّق مَن جوَّز الاستثناء منه بأن "عموم البدل موجود فيه، وذلك كاف في صحة الاستثناء" مردود بأنه لم يُقْطَع بدخوله حتى يخرج. نعم، اختار ابن مالك أن الاستثناء من النكرة جائز بشرط الفائدة، نحو: "جاءني قوم صالحون إلا زيدًا"، وخَرَّج عليه الاستثناء من العدد نحو: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا}. وعلى تسليم أنه يجوز الاستثناء من الجمع المنكَّر فقد بيَّنا أنَّ المراد يكون "الاستثناء معيار العموم" أنَّ ما لا يُستثنَى منه لا يكون عامًّا، لا أن كل ما يصح الاستثناء منه يكون عامًّا؛ بدليل العدد. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): الصورة. (¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): الصورة. (¬3) هذا بيان سبب فساد قول الجبائي.

ولهذا كان قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] "إلَّا" فيه صفة للنكرة، لا استثناء منه؛ لِتَعذُّر الاستثناء فيه من جهة المعنى ومن جهة اللفظ على القول الراجح. تنبيهات الأول: إذا قلنا بأنَّ الجمع المنكر ليس عامًّا، فعَلَى ماذا يحمل؟ فقيل: يُحمل على أقَل الجمع. وقيل: يُحمل على مجموع الأفراد مِن دلالة الكل على الأجزاء، ويحكَى في المسألة خلاف آخَر لا تَحقُّق له، أضربنا عنه. نعم، أقَل الجمع ما هو سنذكره في بحث "التخصيص" وأنَّ "جمع القِلة" أقَلُّه ثلاثة إلى عشرة، وأقَل "جَمْع الكثرة" أحد عشر فصاعدًا. ولهذا قال الهندي في هذه المسألة: (الذي أظنه أنَّ الخلاف في عموم الجمع المنكَّر في غير جمع القِلة، وإلا فالخلاف فيه بعيد جدًّا؛ إذْ هو مخالف لِنَصِّهم أنه للعشرة فما دُونها، فالقول بعمومه بعيد) (¬1). لكن القاضي في "مختصر التقريب" لما نقل مذهب الجبائي نقله في الجمْعَين معًا، وهو قضية كلام البزدوي. نعم، فرَّق بعض الحنفية، فقال في "جمع السلامة": يُحمل على المتيقن، وهو أقَل الجمع. وفي "جمع الكثرة": يُحمل على العموم. ¬

_ (¬1) نهاية الوصول (4/ 1332).

وهو أقرب من القول بالتعميم في النوعين؛ لِمَا قررنا في نهاية القِلة أنها إلى عشرة، وفي الكثرة إلى ما لا نهاية له. الثاني: من فروع هذه المسألة: لو أَقرَّ له بدراهم، قُبِل تفسيره بأقَل الجمع على الأرجح كما هو ظاهر كلام الأصحاب، وقد صرح الهروي في "الإشراف" بحكاية وجهين فيه مَبنيين على القاعدة، وأشار إليه أيضًا الماوردي في "الحاوي". وغير الإقرار في ذلك مِثله، كَالعتق والنذر والوصية ونحو ذلك. ففي الرافعي في فروع "الطلاق": (لو حلف لا يشتري العبيد أو لا يتزوج النساء، يحنث بثلاثة) (¬1). وفي "طبقات العبادي" أن أبا عبد الله البوشنجي نقل عن الشافعي -فيما لو قال: (إنْ في كفي دراهم هي أكثر من ثلاثة فعبدي حر) فكان في كله أربعة- أنه لا يعتِق عبده؛ لأن ما زاد في كفه على ثلاثة درهم واحد، لا دراهم. وهذا حَمْل لقول المعلِّق: "أكثر" على معنى "زائد"؛ لأنه العُرف، فأما إذا قصد أن المجموع أكثر، فينبغي أن يعتِق. وبالجملة فلم يحمل "دراهم" على العموم. وقد عُلم مما حكيناه من الخلاف أن رد ابن الحاجب وغيره على الجبائي بأنه لو قال: (له عندي عبيد) صحَّ تفسيره بأقَل الجمع، أي: اتفاقًا، لا يحسُن؛ لجواز أن يقول الجبائي بالوجه الآخر في المسألة. وأيضًا فقد يقول: إنما حُمل على ذلك؛ لتعذُّر العمل على العموم؛ إذِ المقر له لا يستوعب ¬

_ (¬1) العزيز شرح الوجيز (12/ 347).

ملك العبيد. لكن في هذا نظر؛ لأن مِثل هذا إنما يُحمل على ما يمكن منه. الثالث: كل مما دلَّ على جمعية دلالة المجموع -كـ "ناس" و"خيل" ونحو ذلك- حُكمه حُكم الجمع، لا نحو "قوم" و"رهط"؛ لأن دلالته دلالة المجموع، لا الجميع، وسيأتي في مسألة "أقَل الجمع" في ذلك مزيد بيان. الرابع: ضمير الجمع [لمخاطَبين] (¬1) يَعُمهم، كـ {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110] {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]. وهل يَعُم غيرهم؟ أم لا؟ هي مسألة الخطاب الشفاهي، وستأتي. ونقل صاحب "الكبريت الأحمر" -من المعتزلة- أن القاضي عبد الجبار نقل في الدرس عن الشيخ أبي عبد الله البصري أنه يُحمل على الاستغراق. وجرى على ذلك في "المحصول"، فقال: إذا قال: "اكرموا زيدًا"، دل على الاستغراق حتى يتوجه الأمر إلي كل واحد بخصوصه. وما قاله يقتضي أنه لو قال مثلًا لعبيده أو وكلائه: "أعطوا زيدًا مما في أيديكم عشرة"، يكون كل واحد مأمورًا بإعطاء عشرة. وفيه نظر، وإنما ينبغي أنْ يُحمل على أنَّ كل واحد يعطي قَدْر ما يَخُصه مِن توزيع العشرة عليهم، حتى لو قال لنسوته: "إنْ أعطيتنني ألفًا فأنتن طوالق" يُوزع كذلك. نعم، لو أعطت واحدة أكثر مما عليها وكان المعطَى هو القَدْر الذي قاله، وقع الطلاق كما في الذي قبله. ¬

_ (¬1) في (ص، ق): المخاطبين.

وقولي: (وَلَا مُنكرٍ سِوَى مَا قَدْ قُبِلْ) أي: سِوَى النكرة في سياق النفي وما أُلحق به كما سبق، فإن ذلك مقبول فيه ادِّعاء العموم. وقولي: (وَلَوْ يَكُونُ في جُمُوعٍ) أي: ولو يكون التنكير في صِيَغ جموع، فإنه لا عموم فيه. ثم أشرت إلى دليل نفي العموم وخروجه من ضابط الاستثناء بقولي: (إذِ الدُّخُولُ لَيْسَ فِيهِ وَاجِبَا)، وسبق تقريره، والله أعلم. ص: 597 - وَمنْهُ فِعْل مُثْبَت، نَحْوُ: "قَضَى ... لِلْجَارِ بِالشُّفْعَةِ" فِيمَا يُقْتَضَى 598 - كَذَاكَ "كَانَ يَجْمَعُ الصَّلَاةَ في ... سفَرِهِ"، وَالْمُقْتَضَى فِيهِ نُفِي الشرح: هذا أيضًا مما لا عموم فيه؛ لأنه نكرة، وهو الفعل المثبت، فقد حكى الزجاجي إجماع النحاة على أن الأفعال نكرات؛ لأن كل فعل له فاعل يكون به جملة، والجُمَل نكرات؛ ولذلك لا [يضاف الفعل] (¬1)؛ لانتفاء فائدة الإضافة من الجمل، وإن أضيف إليها فلكونها حَلَّت محل مفرد. وقد مثلتُ في النَّظم المسألة بنحو: ("قَضَى لِلْجَارِ بِالشُّفْعَةِ")، ونحو: ("كَانَ يَجْمَعُ الصَّلَاةَ في سَفَرِهِ"). وأشرتُ بالمثالين إلى أنه لا فرق بين أن يكون الفعل مما ادُّعي أنه يدل على التكرر عُرفًا (نحو: "كان") أو لا، وأنه لا فرق بين أن يذكر له متعلق من صيغة العموم أو لا، وأنه لا ¬

_ (¬1) في (ت): يضاف للفعل. وفي (س): تضاف للفعل.

فرق بين أن يكون المعبر عنه لفظًا (كـ "أمر - صلى الله عليه وسلم - " و"نهى" و"قضى بكذا") أو فِعلًا غير لفظ (كـ "صلى" ونحوه). وفي كل من ذلك خلاف وتفصيل نذكره. فأما الفعل الذي لا يُشعِر بتكرر قطعًا فأصح الأقوال فيه وقول الجمهور أن الراوي إذا أخبر به، لا يكون عامًّا؛ لأنه إذا كان له جهات وأحوال، فلا يقع إلا على وجه واحد: - فإنْ عُلم بدليل، تَعَيَّن الحملُ عليه. - أو لم يُعْلم والأحوال فيه غير متضادة، فهو محمول على واحد منها مِن غير تعيين؛ للاحتمال. ولا عموم؛ للاستحالة. - وإن [كانت] (¬1) متضادة، فهو مجُمل حتى يتبين الحال. فمن ذلك حديث ابن عمر في الصحيحين: "دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - البيت ومعه أسامة وبلال وعثمان بن طلحة، فأغلقوا عليهم الباب، فلمَّا فتحوا كنتُ أول مَن ولج، فلقيتُ بلالاً، فسألته: هل صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة؟ قال: ركعتين بين الساريتين عن يسارك إذا دخلت، ثم خرج فصلَّى في وجه الكعبة ركعتين" (¬2). وهذا معنى تمثيل ابن الحاجب بقوله: (مِثل: "صلَّى داخل الكعبة"، فلا يَعُم الفرضَ والنفلَ) (¬3). وذلك لأن قول بلال: "ركعتين" تقديره: صلَّى ركعتين. وبعض الشراح لمَّا لم يكن في لفظ الحديث "صلى داخل الكعبة" جعله في كلام ابن الحاجب مثالًا. ¬

_ (¬1) في (ت): كانت فيه. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 388). (¬3) مختصر المنتهى (2/ 181) مع بيان المختصر.

وأما قول أصحابنا بالاكتفاء بالفعل الواحد للفرض والنفل في مسائل (كصلاة داخل المسجد الفرض، فإنه يحصل به التحية، وكالغسل في يوم الجمعة للجنابة وغسلها، وكذا في العيد، وكالفرض عند الإحرام بحج أو عمرة يُغني عن ركعتي الإحرام، وما أشبه ذلك) فليس من عموم الفعل الفرض والنفل، بل لسقوط السُّنة به، لحصول المقصود، كما يسقط فرض الكفاية عن مَن لم يفعل بفعل غيره إذا عَلِمه، أو أنه يحصل له الثواب على النفل، لكن هذا إذا نواهما، فإنْ نوى الفرض فقط ففي حصول السُّنة كلام في ذلك مذكور في الفقه في مواضعه. ومثل ذلك أيضًا حديث عمران بن حصين في "أبي داود" و"الترمذي" و"النسائي" أنه - صلى الله عليه وسلم -: "صلى بهم، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم" (¬1). قال الترمذي: حسن غريب. والحاكم: صحيح على شرط البخاري ومسلم. وكذا الحديث المشار إليه في النَّظم وهو: "قضى بالشفعة للجار" (¬2) محمول -إنْ صحَّ- ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (رقم: 1039)، سنن الترمذي (رقم: 395)، وغيرهما، وفي سنن النسائي (1236) بلفظ: (أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِهِمْ، فَسَهَا، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ). قال الألباني: ضعيف شاذ. (إرواء الغليل: 403). (¬2) قال الإِمام البخاري في (التاريخ الكبير، 1/ 111): (عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ: "قَضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ في الدَّارِ وَالأَرْضِ"). وفي مصنف ابن أبي شيبة (22716) بلفظ: (قَضَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِالشُّفْعَةِ لِلْجِوَارِ)، وفيه أيضًا (22717) بلفظ: (قَفَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِالشُّفْعَةِ بِالجوَار). وفي صحيح البخاري (رقم: 2138) بلفظ: (قَضَى النبي - صلى الله عليه وسلم - بِالشُّفْعَةِ في كل مَالٍ لم يُقْسَمْ)، صحيح مسلم (رقم: 1608) بلفظ: (قَضَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِالشُّفْعَةِ في كل شِرْكَةٍ لم تُقْسَمْ ربْعَةٍ أو حَائِطٍ، لَا محلُّ له أَنْ يَبِيعَ حتى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ). وفي سنن النسائي (4705) بلفظ: (قَضى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِالشُّفْعَةِ والجوَار). وقال الألباني: صحيح بما قبله. (صحيح النسائي: 4719).

على أنه قضى به لجار في حالة يكون فيها الشفعة، أو أن الشريك يسمى "جارًا" كما قاله الشافعي - رضي الله عنه - في "المختصر" في استدلال الخصم بحديث: "الجار أحق بسقبه" (¬1)، أو قال: "بشفعته" (¬2) كما رواه في "الأم" عن سفيان، عن إبراهيم بن ميسرة، عن عمرو بن الشريد، عن أبي رافع. واستشهد في "الأم" و"المختصر" في تسميته "جارًا" يقول الأعشى: (أَجَارَتنا بِيني، فإنك طالِقة). فسمَّى الزوجة "جارًا"؛ فكذا الشريك. وإنما قلتُ: (إنْ صحَّ)؛ لأن بعض الحفاظ قال: لم يَرِد بهذا اللفظ. قال ابن السبكي في "شرح المختصر": (إنه لفظ لا يُعرف). قال: (ويقرب منه ما رواه النسائي عن الحسن مرسلًا: "قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجوار") (¬3). انتهى وقال غيره: إن النسائي قد روى أيضًا من حديث أبي الزبير عن جابر: "أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالشفعة بالجوار" (¬4). وأخرجه البيهقي من حديث سمرة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالجوار، وقال: جار الدار أحق ¬

_ (¬1) الأم (7/ 110)، صحيح البخاري (رقم: 2139). (¬2) مصنف عبد الرزاق (14396)، مصنف ابن أبي شيبة (22719). وفي سنن الترمذي (1369) بلفظ: (الجار أحق بالشفعة). وفي سنن أبي داود (3518) بلفظ: (الجار أحق بشفعة جاره). وقال الألباني في (إرواء الغليل: 1540): (حديث جابر: "الجار أحق بشفعة جاره .. "صحيح). (¬3) رفع الحاجب (3/ 172). (¬4) سنن النسائي (رقم: 4705) بلفظ: (قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة والجوار). وقال الألباني: صحيح بما قبله. (صحيح النسائي: 4719).

بالدار" (¬1). نعم، روى هذا الأخير أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح. وممن قال: (إن الفعل المثبت لا يَعُم) القاضي أبو بكر، والقفال الشاشي، والأستاذ أبو منصور، والشيخ أبو حامد، والشيخ أبو إسحاق، وسليم، وابن السمعاني، وإمام الحرمين، وابن القشيري، والإمام الرازي، ونقله الآمدي عن الأكثرين. ولم يفصلوا بين عمومه في أحواله وبين أن يذكر له متعلق بصيغة عموم؛ نظرًا إلى أن صيغة (فَعَلَ) تقتضي تَقدم معهود خاص، فيكون مُقَدمًا على العموم. فنحو: "نهى عن بيع الغرر" (¬2)، لا يَعُم كل غَرر. وكذا نحو: "أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب" (¬3). رواه مسلم عن ابن مغفل. "نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة وعن الثنيا" (¬4). وكذا حديث: "قضى بالشفعة للجار" كما سبق. قال الغزالي: (وكما لا عموم للفعل بالنسبة إلى أحواله، لا عموم له بالنسبة إلى ¬

_ (¬1) سنن البيهقي الكبرى (رقم: 11361) بلفظ: (عن سمرة: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالجوار"، وعن سمرة أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "جار الدار أحق بالدار"). والجزء الثاني في سنن الترمذي (رقم: 1368). وقال الألباني: صحيح. (صحيح سنن الترمذي: 1368). (¬2) مسند أحمد (8871)، سنن أبي داود (رقم: 3376) وغيرهما. وقال الألباني في (إرواء الغليل: 1294): صحيح. وهو في صحيح مسلم (1513) بلفظ: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر). (¬3) صحيح مسلم (280)، ورواه البخاري (3145) عن ابن عمر - رضي الله عنه - مرفوعًا. (¬4) صحيح مسلم (رقم: 1536).

الأشخاص إلا أن يدل دليل من خارج، نحو: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬1). والقول الثاني: التفصيل بين الأحوال فلا عموم له فيها، وبين ما يذكر بصيغة عموم فيعمها؛ نظرًا إلى صِيَغ العموم المتعلقة بالفعل. واختار هذا ابن الحاجب بعد أن قال: (إن الفعل المثبَت لا عموم له). وجعل هذا مسألة أخرى بعد أن فرغ من مسألة الفعل المثبت. وقد سبقه إلى هذا شيخه الأبياري حيث أورده سؤالًا في "شرح البرهان" والآمدي بحثًا، فأقامه ابن الحاجب مذهبًا وارتضاه، وتبعه ابن الساعاتي في "البديع". وقال ابن دقيق العيد في "شرح العنوان": (اختار بعض الفضلاء -وكأنه يريد ابن الحاجب- عموم نحو: "قضى بالشفعة للجار"؛ بناء على عدالة الصحابي ومعرفته باللغة ومواقع اللفظ، مع جواز أن تكون الرواية على وَفْق السماع مِن غير زيادة ولا نقصان). قال: (ومنهم مَن قال: لا يَعُم؛ لأن الحجة في المحكي، ولا عموم في المحكى). ثم قال: (وهذا لا بُدَّ فيه من تفصيل: إنْ كان المحكي فِعلًا لو شوهد لم يَجُز حملُه على العموم، فلذلك وجه. وإنْ كان فِعلًا لو حُكي لكان دالًّا على العموم، فعبارة الصحابي عنه يجب أن تكون مطابقة [للمقول] (¬2)؛ لِمَا تَقدم مِن معرفته وعدالته ووجوب مطابقة الرواية للمعنى المسموع). انتهى وما قاله قد ذكر القاضي في "التقريب" قريبًا منه، إذ قال: (إن الصحابي العالم باللسان إذا قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - " عبَّر عن إثبات معنى وحُكم ليس له في اللسان ألفاظ محتملة، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (5662) وغيره. (¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): للقول.

[قُبِل] (¬1) ذلك بمثابة روايته اللفظ. وإنْ ذكر معنًى وهو مما له عبارة محتملة، وجب مطالبته بحكاية اللفظ). انتهى ونحو ذلك قول ابن القشيري: إذا تحققنا في "قضَى بكذا" أنَّ القضاء فِعل فليس بعام. وإنْ كان لفظًا فإنِ اختص بمعيَّن في خصومه، تَعَيَّن، إلا أن يقوم دليل على العموم. أي: كما أشار إليه الغزالي كما سبق. قال ابن القشيري: فإنْ كان لفظًا عامًّا في وضع اللغة، تمسكنا بعمومه. أي: كما لو قال الشارع: "قضيت بالشفعة للجار" أو: "لا تقتلوا الكلاب" أو: "لا تبتاعوا بالملامسة" (وهو قول الشيخ تقي الدين) لو حُكي لكان دالًّا على العموم. ومن ثَّم قال القرافي: (إن المسألة مبنية على جواز الرواية بالمعنى، فإنْ منعنا، امتنعت المسألة؛ لأنَّ "قضى" ليس هو لفظ الشارع، وإنْ جوَّزنا -وهو الصحيح- فشرطه المساواة، فيجب حينئذٍ فيما فيه صيغة عموم -كـ "الغرر"- أن يكون عامًّا، وإلا فتقدح في عدالته حيث روى بصيغة العموم ما ليس بعام، وحينئذٍ فلا يتجه قولنا: "الحجة في المحكي، لا في الحكاية"، بل الحجة في الحكاية؛ لأجل قاعدة الرواية بالمعنى) (¬2). قلتُ: وربما عبر بعضهم عن هذا التفصيل بأن لفظ "قضى" عام، بخلاف لفظ "أمر" و"نهى" ونحوهما. وفيه نظر؛ لأن كلاًّ مِن الأمرين محتمل أن يكون المعبر عنه كان بصيغة عموم أو كان خاصًّا. وفي المسألة مذهب آخر بالتفصيل في "قضى" بين أن تتصل به "الباء" نحو: "قضى ¬

_ (¬1) كذا في (ت، س)، لكن في (ش، ض): قيل. (¬2) شرح تنقيح الفصول (ص 189)، نفائس الأصول (2/ 544).

بالشفعة" فلا يعم، أو لا، نحو: "قضى أن الخراج بالضمان" فيعم؛ لأن الظاهر من ذلك حكايته لفظه عليه السلام. حكاه القاضي والأستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق في "شرح اللمع" والقاضي عبد الوهاب وصححه، وحكاه عن أبي بكر القفال من أصحابنا، لكن المحرر عن القفال ما سبق. على أنَّ مِثل هذا "الباء" فيه مُقدَّرة، فلا فرق بين وجودها لفظًا أو تقديرًا. ومذهب آخر بالتفصيل بين لفظ "أمر" و"نهى" وبين سائر الأفعال، فالأول للعموم، والثاني محتمل. واختاره القرطبي، قال: لأنَّ الأمر والنهي لا بُدَّ فيهما من دالٍّ مِن الشارع عليهما، فلمَّا لم يذكر الصحابي لا مأمورًا ولا منهيًّا، عُلم أن المخاطَب بذلك كل المكلفين كسائر خطابات التكليف. ولا يخفَى ضَعْف ذلك مما سبق من توجيه الأقوال. تنبيهان الأول: وقع في كلام الشافعي ما يقتضي العموم وما يقتضي عدمه، فيكون له قولان. فقال في "الأم" مجيبًا عن قوله على: "لعن الله المحلل والمحلل له" (¬1) ما نصه: (ونكاح المحلل الذي رُوي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعنه عندنا -والله أعلم- ضرب من نكاح المتعة؛ لأنه غير مُطلَق) (¬2). انتهى. أي: غير عام. ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (رقم: 2076)، سنن ابن ماجه (1936)، وغيرهما. قال الألباني: (صحيح. "صحيح أبي داود: 2076). (¬2) الأم (5/ 79).

وقال في تأجيل الدية على العاقلة [ثلاث] (¬1) سنين كما نقله عنه الإِمام في "النهاية" أنه قال في بعض مجاري كلامه: (لم ينقل النقلة واقعة قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضرب العقل فيها على العاقلة إلا المرأتين، فأمكن من ذلك أن يضرب عقل المرأة على العاقلة في ثلاث سنين. ثم إذا قلت ذلك، اطرد فيه أن بدل كل نفس مضروب في ثلاث سنين) (¬2). أي: سواء كان الواجب الدية كاملة (كالرجل) أو نصفها (كالمرأة). قال الإِمام: (ويمكن أن يقال: قول الراوي "قضى" تأسيسُ شرع منه، وليس تمهيدًا في قضية) (¬3) إلى آخِره. قلت: ومثل ذلك استدلاله بحديث: "قضى - صلى الله عليه وسلم - بأن الخراج بالضمان" (¬4)، واستدلاله بقوله: "نهى عن بيع اللحم بالحيوان" (¬5)، فاستدلاله -رضي الله عنه وأصحابه بمثل ذلك مما لا ينحصر- دليل على قولهم بالعموم، لكن عمومه ليس بالصيغة، بل لورود ما يدل على العموم غير ذلك من لفظ الشارع، أو من حيث عموم شرعه، أو بالقياس. وفي "المستصفى" في "باب السُّنة": (إن قول الصحابي: "أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا" أو: "نهى عن كذا" قيل: إنه أمر لجميع الأُمة. والصحيح أن من يقول بصيغ العموم ينبغي أن يتوقف في هذا، ويحتمل أن يكون ما سمعه أمرًا للأُمة أو أطلقه أو لشخص بعينه؛ فيوقف ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): في ثلاث. (¬2) نهاية المطلب (16/ 528). (¬3) نهاية المطلب (16/ 528). (¬4) سنن الترمذي (رقم: 1285)، سنن النسائي (4490)، وغيرهما. قال الألباني: حسن. "صحيح سنن الترمذي: 1285). (¬5) سبق تخريجه.

فيه إلى الدليل، لكن يدل عليه أن أمره للواحد أمره للجماعة) (¬1). الثاني: جعل بعض المتأخرين الخلاف في المسألة لفظيًّا من جهة أن المانع للعموم ينفي عموم الصيغ المذكورة، والمثبِت له إنما هو بدليل من خارج، وهو إجماع السلف على التمسك بها، وهو قريب مما سبق عن الغزالي. لكن في جعله لفظيًّا نظر؛ فإنه إذا وَرَدَ مثل هذه الصيغ ولم يَقُم دليل، فالقائل بالعموم يُعمم من غير تَوقُّف على مجيء دليل عليه. اما القسم الثاني: وهو الفعل الذي قد تلمح إفادته التكرار (نحو: "كان يفعل كذا") ففي عمومه وجهان حكاهما الشيخ أبو إسحاق، أصحهما: لا عموم فيه؛ لأنه فِعل مُثْبَت. وحكى الوجهين أيضًا ابن برهان. وذلك كحديث أنس في "البخاري": "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الصلاتين في السفر" (¬2). فمقتضاه وقوع الجمع لكن -على المرجَّح- مَرة، إما تقديمًا وإما تأخيرًا، لا أنه كان يجمع بينهما في السفر دائمًا. وذهب ابن برهان إلى قولٍ بالتفصيل: - بين ما شأنه أن يشيع، فَيعُم، نحو قول عائشة: "كانت الأيدي لا تُقطع في زمن النبي ¬

_ (¬1) المستصفى (ص 105). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 1059)

- صلى الله عليه وسلم - في الشيء التافه" (¬1) - وبين ما شأنه الكتمان، كَـ "الوطء" ونحوه، فلا يَعُم، يقول زيد بن ثابت: "كانت عمومتي يفعلونه ولا يغتسلون" (¬2). قيل: ومنشأ الخلاف أنَّ "كان" هل تقتضي التكرار؟ أو لا؟ فقيل: تقتضيه لُغةً. وبه جزم القاضي أبو بكر، فقال: إن قول الراوي: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل كذا" يفيد في عُرف اللغة تكثير الفعل وتكريره، قال تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم: 55] أي: يداوم على ذلك. وكذا قال القاضي أبو الطيب، وجرى عليه ابن الحاجب، إلا أنه قال ما معناه: إنه لا يَلزم مِن التكرار العموم. وهو ظاهر. وقيل: تقتضي التكرار عُرفًا لا لغةً. ونقله صاحب "المعتمد" عن عبد الجبار، وقال الهندي: إنه الأظهر. ويمكن حمل كلام ابن الحاجب أيضًا على هذا. والثالث: لا يفيده لا لغةً ولا عرفًا. واختاره في "المحصول". وقال النووي في "شرح مسلم": (إنه المختار الذي عليه أكثر المحققين من الأصوليين، فهي تفيد مرة. فإنْ دل دليل على التكرار من خارج، عُمل به، وإلا فلا) (¬3). ¬

_ (¬1) مصنف ابن أبي شيبة (28114) بلفظ: "لَمْ يَكُنْ يُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في الشَّيْءِ التَّافِه". قال الإِمام الدارقطني في كتابه "العلل"، 14/ 202): (حديث عائشة صحيح، ويشبه أن يكون هشام وصله مرة وأرسله مرة). (¬2) مسند أحمد (21134) بنحوه. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم (6/ 21).

والتحقيق ما قاله ابن دقيق العيد: إنها تدل على التكرر كثيرًا (¬1)، كما يقال: "كان فلان يقري الضيف"، ومنه: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس" (¬2) الحديث، ولمجرد الفعل قليلاً مِن غير تكرر (¬3)، نحو: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقف بعرفات عند الصخرات" (¬4)، وقول عائشة: "كنت أُطَيِّب النبي - صلى الله عليه وسلم - لِحِلِّه وحرمه" (¬5). ولم يقع وقوفه بعرفة وإحرامه وعائشة معه إلا مرة. ومنه: ما في "سنن أبي داود" بسند صحيح عن عروة عن عائشة وهي تذكر شأن خيبر: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود خيبر فيخرص النخل" (¬6). فهذا لا يمكن فيه التكرار؛ لأن خيبر كانت سنة سبع، وعبد الله بن رواحة قُتل في غزوة مؤتة سنة ثمان. واعلم: أن هذا الخلاف غير خلاف النحاة في أن "كان" هل تدل على الانقطاع؟ أو لا؟ اختيار ابن مالك الثاني، ورجح أبو حيان الأول. وإنما قلنا: (إنه غيره)؛ لأنه لا يلزم من التكرار عدمُ الانقطاع، فقد يتكرر الشيء ثم ينقطع. ¬

_ (¬1) يعني: تأتي كثيرًا دالة على التكرار. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 1803)، صحيح مسلم (رقم: 2308). (¬3) يعني: تأتي قليلاً لمجرد الفعل من غير تكرُّر. (¬4) صحيح مسلم (1218) بلفظ: ( .. ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، حَتَّى الى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاء إِلَى الصَّخَرَات ... ) الحديث. (¬5) مسند أحمد (25564)، سنن النسائي (رقم: 2691)، صحيح ابن حبان (3772). قال الألباني: صحيح الإسناد. "صحيح النسائي: 2690). (¬6) مسند أحمد (25344)، سنن أبي داود (رقم: 1606) وغيره. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف سنن أبي داود: 1606).

نعم، يلزم بالضرورة من عدم الانقطاعِ التكررُ، لكن لا قائل به. قولي: (وَالْمُقْتَضَى فِيهِ نُفِي) [هي] (¬1) مسألة مستأنفة بعد تمام المسائل التي لا عموم فيها؛ لكونها نكرة في الإثبات، وهي أن المقتضَى هل هو عام؟ أو لا؟ والمرجَّح المنع، وهو معنى قولي: (نُفِي)، أي: العموم. فالضمير فيه عائد إلى العموم الذي الباب معقود له، أي: نفاه الأكثرون كما سيأتي. وقد سبق في تقسيم الكلام إلى منطوق ومفهوم وتقسيم "دلالة المنطوق" أنها إذا توقفت في الصدق أو الصحة على محذوف، تسمَّى "دلالة الاقتضاء". ف "المقتضِي " (بالكَسر) هو الكلام المحتاج للإضمار. و"المقتضَى" (بالفتح) هو ذلك المحذوف. ويعبر عنه أيضًا بِـ "المُضْمَر" وإن لم يكن اصطلاح النحاة. فالمختلف في عمومه على أظهر الاحتمالين هذا المقتضَى بالفتح؛ بدليل استدلال مَن نفى عمومه يكون العموم من عوارض الألفاظ، فلا يجوز دعواه في المعاني كما ذكره ابن السمعاني وغيره. ويحتمل أن محل الخلاف في "المقتضِي" (بالكسر) وهو المنطوق به المحتاج في دلالته للإضمار كما صَوَّر به من الحنفية شمس الأئمة والدبوسي وصاحب "اللباب"، لكن جَعْلهم مدار الخلاف على أن ذلك المحذوف "هل هو كالمنطوق حتى يقال بعمومه؟ أو معدوم حقيقةً حتى لا يُدَّعَى فيه العموم؟ " يقتضي خلاف ذلك. إلا أنْ يقال: مرادهم عموم المنطوق المحتاج للإضمار باعتبار الإضمار أوْ لا، لا عموم المنطوق لذاته، فبهذا ينجمع الطريقان في محل الخلاف. ¬

_ (¬1) كذا في (ق، س)، لكن في (ص): هذه.

وبالجملة فحاصل المسألة أن المحتاج إلى تقدير -في نحو {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] و [غيرها] (¬1) من الأمثلة الآتي ذِكرها- إنْ دَلَّ دليل على تقدير شيء من المحتملات بِعَيْنه، فذاك، سواء أكان المقدَّر عامًّا في أمور كثيرة أو خاصًّا بِفَرد. وإنْ لم يدل دليل على تعيين شيء -لا عام ولا خاص- مع احتمال أمور متعددة لم يرجح بعضها، فهل تُقَدَّر المحتملات كلها وهو المراد بالعموم في هذه المسألة؟ أوْ لا؟ فيه مذاهب، وأجرى القرافي الخلاف وإنْ تَعيَّن البعض بدليل، قال: (كما يقول الشافعي بالجمع بين الحقيقة والمجاز وإنْ كانت الحقيقة متعينة). وما قاله بعيد، والظاهر أن الأقوال حيث لا دليل كما قرره ابن الحاجب وغيره. أحدها: نعم، نقله الأصفهاني في "شرح المحصول "عن "شرح اللمع" للشيخ أبي إسحاق، وبه قال جمعٌ من الحنفية، ونقله القاضي عبد الوهاب عن أكثر الشافعية والمالكية، وصححه النووي في "الروضة" في "كتاب الطلاق" حيث قال: المختار لا يقع طلاق الناسي؛ لأن دلالة الاقتضاء عامة. يعني من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" (¬2) الحديث. إلا أن يُحمل كلامه على أن الذي يُقدَّر يكون عامًا، لا أن المراد التعميم بتقدير المحتملات كلها. وكذا يحمل على ذلك قول مَن قال: إن قاعدة الشافعي تقتضي التعميم؛ بدليل أنَّ كلام الناسي عنده لا يُبطل الصلاة، وعند أبي حنيفة يبطلها. وكذا يحمل كلام مَن نقل من الحنفية (وهُم من سبق ذِكره آنفًا) عن الشافعي أنه يقول بالعموم؛ تنزيلًا للمقدِّر منزلة المنصوص، بخلاف قول أبي حنيفة، فإن عنده أن ذلك معدوم ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): نحوها. (¬2) سبق تخريجه.

حقيقةً، فلا يوصف بالعموم. نعم، سيأتي حكايته نَص للشافعي مُصرِّح بتقدير المحتملات. فإن قيل: إذا كان بعض المحتملات عامًّا وبعضها خاصًّا ولم يدل على التعيين شيء، فهل يترجح العام؛ لِكثرة فائدته؟ أو لا؟ قيل: اختيار القرافي تقدير الأعم. قلتُ: وقرره الشيخ تقي الدين في "شرح الإلمام"، وقال: (إنه وجه يمكن أن يحصل به مقصود مَن أراد التعميم، مِثل أن يُقَدر في مِثل: "رُفع عن أمتي الخطأ" حُكمَ الخطأ). انتهى ومثله تقدير الإِمام الرازي في: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} التصرف في الميتة؛ ليعم الأكل والبيع والملابسة وغير ذلك. الثاني: أن المقتضَى لا عموم له باعتبار تقدير المحتملات كلها، وهو المشهور عن الحنفية وعن جمهور الشافعية. قال ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام": وهو المختار عند الأصوليين؛ لأن ضرورة [الإخبار] (¬1) تندفع بالبعض، فلا حاجة للزائد عليه. قيل: فيؤدي للإجمال. وعُورِض بأن إضمار الكل يَلزم منه تكثير مخالفة الدليل، أو أن العموم من عوارض اللفظ، والمقتضَى معنى، لا لفظ، أو غير ذلك. ثم اختلف القائلون بعدم التعميم على أقوال: أحدها: أنه مجُمَل؛ فيُتوقَّف فيه حتى يبيَّن المراد بدليل أو يترجح بكونه أقرب إلى ¬

_ (¬1) في (س): الاضمار.

الحقيقة أو بغير ذلك. وهو ما اختاره الشيخ أبو إسحاق والغزالي وابن السمعاني والإمام الرازي والآمدي وابن الحاجب وغيرهم. فإنْ رجح بعضها [بمُرجح] (¬1)، فلا إجمال، فإن المقدَّر حينئذٍ كالملفوظ، فإن كان عامًّا فعام من هذه الحيثية، أو خاضًا فيتعين. ثانيها: أنه ليس بمجمَل، بل يُحمل على اللائق بالمقصود. حكاه ابن برهان. وفيه نظر؛ فإنه إذا كان لائقًا دون غيره، فقدْ تَرجَّح، والصورة (¬2) حيث لم يترجح منها شيء. ثالثها: يرجع في التعيين للمجتهد. وهو فاسد؛ لأن المجتهد لا يقول إلا بدليل، والفرض خلافه. رابعها: يضمر الموضع المختلف فيه؛ لأن المجمَع عليه مستغنٍ عن الدليل. حكاه الشيخ أبو إسحاق. وفيه نظر أيضًا؛ فإنَّ المخالِف -في ذلك المختلَف فيه- يقول في تقدير خصمه مِن غير دليل: إنه تَحَكُّم. خامسها: يُقدر ما يقتضيه عُرف الاستعمال قبل الشرع. ونُقل عن الآمدي. وفيه النظر السابق، وهو أن الكلام في ما لم يترجح فيه شيء لا بِعُرْفٍ ولا بِغيره. الثالث من المذاهب: التوقف في رجحان شيء من القولين. وهو ظاهر كلام الآمدي آخِرًا؛ لتعارض المحذور مِن كثرة الإضمار ومن الإجمال. نعم، اختار في "باب المجمل" أن كثرة الإضمار أرجح؛ لثلاثة أَوجُه: كون الإضمار في ¬

_ (¬1) كذا في (س، ق)، لكن في (ص): مرجح. (¬2) يعني: صورة المسألة.

اللغة أكثر من الإجمال، والإجماع على وجود الإضمار، والخلاف في جواز الإجمال، ودلالة حديث: "لعن الله اليهود؛ حُرمت عليهم الشحوم، فجملوها، وباعوها، وأكلوا أثمانها"ـ (¬1) على إضمار جميع التصرفات المتعلقة بالشحوم في التحريم. وأما ابن الحاجب فخالف هناك اختيار الكرخي في مِثل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} أن ذلك مجمل مع التزامه هنا أن الإجمال أقرب من مخالفة الأصل. واعلم أن الشافعأنه نَصان يوافق كل منهما قولًا من القولين الأولين: أحدهما: نَصه في "الأم" (¬2) في "كتاب الحج" لما ذكر الدماء الواجبة [للترفه] (¬3) -وهو دم التقليم وترجيل الشعر والطيب واللباس والتغطية- جعل جميع ذلك مقدَّرًا في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196]. قال الماوردي: (التقدير عند الشافعي: "فمن كان منكم مريضًا فتطيَّب أو لبسَ أو أَخذَ من ظفره") (¬4) إلى آخره. الثاني: قوله في "الإملاء": إنَّ هذا ليس مضمرًا في الآية، وإنما يضمر حلق الرأس فقط، والباقي مقيس عليه. قلت: ويمكن الجمع بين النصين -مع التزام أن الشافعي لا يُقدِّر الجميع- بأن يقال: إنَّ نَص "الأم" إنما دل على أن الحكم في الكل كذلك، لكن لا من حيث وجوب تقدير ¬

_ (¬1) مسند البزار (1/ 295)، مصنف ابن أبي شيبة (21615) وغيرهما. وبنحوه في: صحيح البخاري (رقم: 3273، 4357)، صحيح مسلم (رقم: 1582). (¬2) الأم (2/ 188). (¬3) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): للمترفه. (¬4) الحاوي الكبير (4/ 227).

الاحتمالات كلها عمومًا، بل لأن الدليل قام على تقدير هذه الأمور بأعيانها حتى لا يجري في غيرها من الاحتمالات. ونحن قد بيَّنا أن الدليل إذا قام على تقدير شيء، وجب تقديره واحدًا أو اثنين أو ثلاثة أو أكثر، وسواء أكان ذلك الدليل قياسًا أو غيره؛ فلهذا قال في نص "الإملاء": وإنه يُضْمَر الحلق. أي: لقرينة سبب النزول في الآية، فإن كعب بن عجرة قال: "فِيَّ نزلت، حُملت إلى رسول الله والقمل يتناثر على وجهي" (¬1) الحديث، وغير الحلق بالقياس عليه. تنبيهات الأول: نشأ من هذا الخلاف اختلاف في المقدر فيما لا ينحصر في الكتاب والسنة. من ذلك قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] أي: وقت الحج. ثم قيل: التقدير: وقت الإحرام. وقيل: وقت الأعمال. ومنه: هو {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} سبق تقدير الإِمام في "تفسيره": التصرف؛ ليعم. وهو خلاف ما قدَّره في "المحصول" مِن "أَكْل". قيل: وهو أجود؛ لأن الأكل إذا حرم على الإطلاق لا للحرمة ولا للاستقذار ولا للضرر، يكون نجسًا، فينشأ عنه امتناع بيعه والصلاة فيه ونحو ذلك من الأحكام، إلا ما يستثنى من دبغ الجلد والاستصباح بالدهن؛ لدليل قام على ذلك، ولهذا قال عليه السلام: "إنما حر من الميتة أكلها" (¬2). وعليه أيضًا حديث: "لعن الله اليهود؛ حُرمت عليهم شحوم ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 1721)، صحيح مسلم (رقم: 1201). (¬2) تهذيب الآثار للطبري (2/ 803)، سنن الدارقطني (1/ 42)، وغيرهما. وهو في صحيح البخاري (1421) وصحيح مسلم (363) بلفظ: (إنما حُرم أكلُها).

الميتة، فجملوها، فباعوها" (¬1)؛ لأنه إذا حرمت، لزم منع بيعها وغيره كما قررناه. ومنه حديث: "إنما الأعمال بالنية" (¬2)، هل يُقَدَّر: "إنما صِحَّة"؛ لأن نفي الصحة أقرب إلى الحقيقة وهي نفي الذات؟ أو يُقدر نفيُ الكمال؟ أو يُقدر ما هو أعم نحو: "إنما يُعتَبر" أعم من الاعتبار للصحة أو للكمال؟ أو غير ذلك؟ وقد بسطناه في "شرح العمدة"، ونزيد هنا ما قال إمام الحرمين: إنه لا ينبغي للخصم -على بُعد مذهبه- أن يُقَدر الكل إلا إذا لم يُنافِ بعضُها بعضًا، فمن قَدَّر الكل عند المنافاة فقد أساء وأسرف وركب شططًا. وهذا مِثل: "لا صيام"، فإن تقدير الكمال ينافي تقدير الصحة؛ إذْ نفي الكمال يُفْهِم إثبات الصحة، فلا يصح تقديره مع نفي الصحة (¬3). ووافق إمامَ الحرمين على هذا ابنُ السمعاني. قيل: وفيما قالاه نظر، فإنَّ نفي الكمال لا يقتضي إثبات الصحة، فإن نفي الأخص قد يكون لانتفاء الأعم، ولانتفاء الأخص مع ثبوت الأعم، كما في قوله تعالى: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [لقمان: 10] أي: لا عمد [فيها] (¬4) فترونها. ونحوه قول الشاعر: علَى لاحِبٍ لا يُهْتَدَى بمناره. أي: لا منار له فيُهتدَى به. نعم، تَوجُّه النفي للأخص وإنْ ثبت الأعم أرجح مِن حيث إنه لولا ثبوت الأعم لَمَا كان لتسليط النفي على الأخص معنى ولا فائدة. ولهذا قال أبو حيان في "تفسيره" عند قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [البقرة: 9]: إن ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) البرهان (2/ 659). (¬4) كذا في (ص، ق)، لكن في (ت، س، ض): لها.

الأكثر في كلام العرب فيما إذا نُفِي المقيد بقيد أنه نَفْي للقيد فقط وإثبات للمقيد، وأنَّ نفيهما معًا خلافُ قول الأكثر في كلامهم (¬1). فوضح بذلك قول الإِمام والسمعاني. ومنه حديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬2). كذا رواه بهذا اللفظ أبو القاسم التيمي الحافظ في "مسنده" عن ابن عباس مرفوعًا، والبيهقي في "خلافياته" عن ابن عمر مرفوعًا، ورواه ابن ماجه والضياء المقدسي، كلاهما عن ابن مصفى بلفظ: "إن الله وضع عن أمتي" (¬3). نعم، أنكره أحمد، وقال محمَّد بن نصر المروزي: ليس له إسناد محتج به. وقال البيهقي عن الحاكم: إنه تفرد به الوليد بن مسلم عن مالك، وهو صحيح غريب. وعلى كل حال فيقدر فيه كما تَقدم: "رُفع حُكم"، وهو أحسن من تقدير: "إثم" أو نحوه إنْ قُلنا: الأعم أرجح. ومن هذا الباب: "لا هجرة بعد الفتح" (¬4). أي: لا وجوب هجرة؛ لأن الهجرة جائزة، ¬

_ (¬1) تفسير البحر المحيط (1/ 184). (¬2) سُنن ابن ماجه (2045) وغيْره بلفظ: (وضع عن أمتي .. )، صحيح ابن حبان (7219) وغيْره بلفظ: (تجاوز عن أمتي ... ). وقال الشيخ الألباني في (إرواء الغليل، رقم: 265): "صحيح بمعناه). وذكر بعض طُرُقه وألفاظه في (إرواء الغليل، رقم: 82) وقال: (المشهور في كُتُب الفقه والأصول بلفظ: "رفع عن أمتي ... "، ولكنه منكر). وانظر المقاصد الحسنة للإمام السخاوي (ص 369). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) صحيح البخاري (رقم: 2631)، صحيح مسلم (رقم: 1862).

و"لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" (¬1)، "لا عدوى ولا طيرة" (¬2)، "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" (¬3)، "لا إيمان لمن لا أمانَ له، ولا عهد لمن لا دِين له" (¬4)، "لا نكاح إلا بولي" (¬5)، "لا أُحِل المسجد لِجُنُب ولا لحائض" (¬6). وهو باب واسع، مقرر كل لفظة منه في موضعها, ولكنه إنما يتأتى على أن اللفظ الشرعي يُطلق على الصحيح والفاسد. أما إذا قُلنا: (يختص بالصحيح) وهو الحقُّ، فنفْي ذلك لا يحتاج لتقدير أصلًا؛ لأن الحقيقة غير متعذرة حتى يُعدَل إلى المجاز؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - للمسيء صلاته: "ارجع فَصَلِّ؛ فإنك لم تُصَلِّ" (¬7). الثاني: قد تَقرر أنَا إذا قُلن النهي عموم المقتضَى وأنهْ يقدر بعض المحتملات ولو كان عامًّا إذا دل عليه دليل. لكن الحنفية عَدوا منع العموم فيه إلى صورة تقدير العام، وبنوا عليه مسائل، فقالوا: إذا قال: "أنت طالق" ونوى الثلاث، لا يصح. ¬

_ (¬1) مصنف عبد الرزاق (1915)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 4721)، سنن الدارقطني (1/ 419)، وغيرها. قال الألباني: ضعيف. (السلسلة الضعيفة: 183). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 5380)، صحيح مسلم (رقم: 2220). (¬3) صحيح مسلم (رقم: 710). (¬4) مسند الإِمام أحمد بن حنبل (رقم: 12406)، صحيح ابن حبان (رقم: 194)، وغيرهما بلفظ: (لَا إِيمَانَ لمِنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ). قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 194). (¬5) سبق تخريجه. (¬6) سنن أبي داود (رقم: 232)، السنن الكبرى للبيهقي (13178)، وغيرهما. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف أبي داود: 232). (¬7) سبق تخريجه.

وعندنا يصح؛ لأن عندهم المقتضَى لا يمكن أن يكون عامًّا، وعندنا يمكن. وتقريره أنَّ "أنت طالق" يحتمل أن يُقَدر بعده: "واحدة" و"اثنتين" و"ثلاثًا". فإذا نوى الثلاث أو اثنتين، أضمر بعض المحتمل الذي هو أَعَم من قوله "واحدة"، فقُبل. ووافقوا على أنه لو قال: "أنت طالق طلاقًا" ونوى الثلاث، وقعت؛ لأنه صرح بما كان يُقَدر في دلالة الاقتضاء، فجاز أن يخصصه ويعممه. ونحوه: "حلف لا يشرب" ونوى مياه العالم، وقد سبق أن مسألة: "لا آكُل" و"إنْ أكلت " جعلها بعض الحنفية من فروع هذه المسألة. الثالث: اختلف في دلالة الاقتضاء: هل هي مغايرة [للإضمار] (¬1)؟ ومَن قال بالتغاير فَرَّقوا بفروق فيها نظر. ولا جدوى لذلك ولا طائل تحته، فلا نُطَول به، فإن المتكلمين في عموم المقتضَى أمثلتهم وتقريراتهم شاهدة بأن لا فرق بينهما هنا. الرابع: ليس بين قولنا هنا: (إن الراجح أن المقتضى ليس بعام) وبين ما سبق من كون {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة} [المائدة: 3] و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] ونحو ذلك من العام عُرفًا- تنافٍ؛ لأن المراد هناك أنه إذا قُدِّر شيء عام في جزئيات، يكون المفيد لعمومها العرُف. والذي هنا إنما هو هل يُقَدَّر كل المحتملات؟ أوْ لا؟ والله أعلم. ¬

_ (¬1) في (ص): للاجمال. وفي (ق): للاحتمال.

ص: 599 - كَذَاكَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا عَمَّا ... وَمَا يَلِي مِنْ ذِي الْعُمُومِ ذَمَّا 600 - أَوْ مَدْحًا الْعُمُومُ فِيهِ بَاقِي ... مَا لَمْ يُعَارِضْهُ عُمُومٌ لَاقِي الشرح: تضمن البيتان مسألتين: الأُولى المرجح فيها عدم العموم، والثانية بالعكس. فأما الأُولى وإلى نَفْي العموم فيها أشرت بقولي: (كَذَاكَ)، أي: كالذي قبله في كون العموم فيه نُفِي، وهي "المعطوف على العام" إذا تَعَذَّر عمومه، وجب أن يعتقد خصوصه، ولا يلزم أن يكون عامًّا كالمعطوف عليه. مثاله قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده" (¬1). رواه أحمد وأَبو داود والنَّسائي. ولفظه عن قيس بن عباد، قال: (انطلقت أنا والأشتر إلى علي، فقلنا: هل عَهِدَ إليك نبي الله شيئًا لم يعهده إلى الناس عامة؛ قال: لا، إلَّا ما كان في كتابي هذا. فأخرج كتابًا من قُراب سيفه، فإذا فيه: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهُم يد على مَن سواهم، وَيسْعَى بذمتهم أدناهم، ألَا لا يُقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده") (¬2). والحديث في "البخاري" (¬3) سوى قوله: (ولا ذو عهد في عهده). ¬

_ (¬1) مسند أحمد (6690)، وفي: سنن أبي داود (2751)، سنن النَّسائي (4745)، وغيرهما بلفظ: (لا يُقتل مسلم بكافر .. ). قال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 2208). (¬2) سنن النَّسائي (رقم: 4734)، سنن أبي داود (رقم: 4530) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 4530). (¬3) صحيح البخاري (رقم: 2882) بلفظ: (وَأَنْ لَا يقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ).

والخلاف في هذه المسألة شهير بيننا وبين الحنفية مع الاتفاق على أن "النكرة في سياق النفي للعموم". فهُم يقدرون - تتميمًا للجملة الثانية - لفظًا عامَّا؛ تسويةً بين المعطوف والمعطوف عليه في متعلقه، فيكون على حد قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة: 285]، فيُقدر: "ولا ذو عهد في عهده بكافر"؛ إذ لو قدّر خاصًّا وهو "ولا ذو عهد في عهده بحربي"، لزم التخالف بين المتعاطفين وأن يكون تقديرًا بلا دليل، بخلاف ما لو قدّر عامًّا، فإن الدليل عليه من المصرح به في الجملة التي قبلها، وحينئذٍ فيخصص العموم في الثانية بالحربي بدليل آخَر، وهو الاتفاق على أن المعاهد لا يُقتل بالحربي ويُقتل بالمعاهد والذمي. قالوا: وإذا تَقرر هذا، وجب أن يخصص العام المذكور أولًا؛ ليتساوَيا، فيصير: "لا يُقتل مسلم بكافر حربي، ولا ذو عهد في عهده بحربي". وأما أصحابنا فإذا قدَّروا في الجملة الثانية، فإنما يقدِّرون خاصًّا، فيقولون: "ولا ذو عهد في عهده بحربي"؛ لأن التقدير إنما هو بما تندفع به الحاجة بلا زيادة، وفي تقدير بـ "حربي" كفاية، ولا يضر تخالفه مع المعطوف عليه في ذلك؛ إذ لا يشترط إلَّا اشتراكهما في "أصل الحكم"، وهو هنا "منع القتل" بما يذكر أو بما يقوم الدليل عليه، لا في كل الأحوال. كما في قوله تعالى: {وُبُعُوَلَتُهُنَّ} [البقرة: 228] فإنه مختصٌّ بالرجعيات وإنْ تَقدم المطلقات بالعموم، وستأتي المسألة. وممن حرر محل الاختلاف بذلك ابن السمعاني، فقال: (لا يجب أن يضمر فيه جميع ما يمكن إضماره مما في المعطوف عليه، بل يُضمر قَدْر ما يفيد ويستقل به. وعند أبي حنيفة يضمر فيه جميع ما سبق مما يمكن إضماره) (¬1). انتهى ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة (1/ 205).

وقيل بالوقف. وقيل: إنْ قُيد بقيد غير قيد المعطوف عليه فلا يُضمر فيه، وإنْ أطلق، أضمر فيه. كذا نُقل عن بعض الحنابلة، وعن بعض المتأخرين منهم أنَّه إنما يخصص المعطوف عليه بما في المعطوف من الخصوص إذا كان بخصوص المادة كالحديث، لا نحو: "اضرب زيدًا وعمرًا قائمًا في الدار". ولأجل ذلك عِيب على مَن ترَجم هذه المسألة - كالآمدي - بأن "العطف على العام هل يقتضي العموم في المعطوف؟ "؛ فإن هذا شامل لما لا خلاف فيه، وهو ما لو قال: "ولا ذو عهد في عهده بحربي"، فلا يَسع أحدًا أن يقول باقتضاء العطف على العام - هنا - العموم مع كون المعطوف خاصًّا. ولا نحن نقول فيما إذا قُدر عام: (إنه خاص) بلا دليل خصصه، إنما المقصود بالمسألة أن إحدى الجملتين إذا عُطفت على الأخرى وكانت الثانية تقتضي إضمارًا ليستقيم وكان نظيره في الجملة الأولى عامًّا، هل يجب أن يساويه في عمومه فيضمر عام؟ أو لا كما قررناه؟ ولذلك لّمَا رأى ابن الحاجب التَّرجمة بذلك مختلة، عبَّر عنها بقوله: (مسألة: قالت الحنفية: مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ) (¬1) الحديث. ومنهم مَن يصحح التَّرجمة بِـ "العطف على العام" بأن هذا خرج مَخْرج اللقب على المسألة، لا لمراعاة قيودها. وسلك الإمام فخر الدين والبيضاوي والهندي وغيرهم مسلكًا آخر في التَّرجمة، فقال: عطف الخاص على العام لا يقتضي تخصيص المعطوف عليه. أي: فإن "بكافر" في الجملة الثانية تخصَّص "بالحربي"، فهل يكون تخصيصًا للعام الأول ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى (2/ 195) مع بيان المختصر.

به، ويكون التقدير: "لا يقتل مسلم بكافر حربي"؟ أي: بل يقتل بالذمي؟ أو هو باق على عمومه ولا يقدح عطف الخاص عليه؟ الأول قول الحنفية، والثاني قول الشَّافعية. ولكن هذا يشمل ما لو صرح في الثانية "بحربي" من باب أَولى، ولا يضر ذلك في التصوير، إلَّا أنَّه يخرج عن ملاحظة المقدر هل يقدر عامًّا؟ أو خاصًّا؟ ومما يُضعف قولهم أنَّ كون الحربي مهدرًا مِن المعلوم من الدين بالضرورة، فلا يَتوهم أحد قَتْل مُسلِم به، فحمل الكافر في "لا يُقتل مسلم بكافر" عليه ضعيفٌ؛ لعدم فائدته. على أن ترجمة المسألة بِـ "المعطوف" على كل حال فيه نظر؛ لأن المعطوف في الحديث في الحقيقة هو "ذو عهد" على النائب عن الفاعل في "يُقتل" وهو "مُسلم"، إلَّا أنْ يُقدر بعده مجرور بِباء؛ ليقابل"بكافر" في الجملة الأُولى، فيكون من عطف معمولين على معمولي عامل، وهو جائز قطعًا. لكن فيه على كل حال إبهام؛ لأنَّا لا نَعلم ما المراد بالمعطوف: المرفوع؟ أو المجرور؟ نعم، ابن السمعاني وجمع من أصحابنا قد وافقوا الحنفية على أن مُدَّعاهم في هذه المسألة أرجح، وكذا ابن الحاجب مُصرَّح بموافقتهم، قائمٌ بالاستدلال لهم، مجيبٌ عن أدلتنا وإنْ لم يكن من مذهبه قتل المسلم بالكافر، إلَّا أنَّه يقول: (التخصيص طَرَق العام الأول بدليل من خارج، والعام الثاني كذلك) (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: مختصر المنتهى مع شرحه (2/ 196).

تنبيهات الأول: كل ما سبق مِن اختلاف الفريقين إنما هو حيث كان الأمر لا يستقيم إلَّا بإضمار في الجملة الثانية. فهل يضمر قَدْر الضرورة؟ أو ما دل عليه العام في الجملة قبلها؟ ولهذا عقبتُ في النَّظم هذه المسألة بمسألة المقتضَى؛ لاشتراكهما في الإضمار، لكن قَدْر الحاجة؟ أو العام؟ فيه الخلاف. نعم، ذهب قوم من أصحابنا إلى أن الجملة الثانية كلام تام لا يحتاج إلى تقدير خاص ولا عام، وأن المعنى: النهي عن قتل المعاهد ما دام في عهده. فالقيد في منع قتله كَوْنه "في عهده"، والفائدة حاصلة بذلك. واعتُرض: - بأنه يلزم امتناع قتل المعاهد مطلقًا ولو قَتل مسلمًا أو معاهدًا. - وبأنه لا يصير له مناسبة للجملة قبله؛ لأن تلك في بيان "المكافأة في القصاص"، وهذه في "مطلق قتل المعاهد"، وأي ارتباط بينهما؟ " وكلام البليغ يُصان عن ذلك. - وبأن الإقدام على قتل ذي العهد حرام، والصحابة يعرفون ذلك، وقد قال تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4]، فلم يَبْقَ في ذلك فائدة جديدة؛ ولذلك لَمَّا كان إقدام المسلم على قتل الكافر غير الحربي محرَّمًا، لم يذكر في الجملة الأولى إلَّا كونه إذا قتله هل يقتل به؟ أو لا؟ والجواب: عن الأول: أنَّه عام خُص، كما أنهم قدَّروا "ولا ذو عهد في عهده بكافر"، وهو كان عامًّا

خُص. بل في تقديرهم ذلك مجازان: حذف وتخصيص، وفي هذا التقدير تخصيص فقط. وعن الثاني: كما قال أَبو إسحاق المروزي في "التعليقة": إن عداوة الصحابة للكفار في صدر الإسلام كانت شديدة جدًّا، فلما قال عليه الصلاة والسلام: "لا يقتل مسلم بكافر" خشي أن يتجرد هذا الكلام، فتحملهم العداوة الشديدة بينهم على قتل كل كافر مِن معاهد وغيره، فعقبه بقوله ما معناه: (ولا يُقتل ذو عهد في زمن عهده). وعن الثالث: بأن هذا الحكم عام في الصحابة وغيرهم، وربما اشتدت عداوة غير الصحابة للكفار؛ فقتلوا المعاهد وغيره؛ غفلة عن عصمة المعاهد، بل وفي الصحابة قد يكونون إنما علموا ذلك بهذا اللفظ. فلو سكت الشارع عنه؛ لَبادروا لقتلهم. وأما أن في القرآن ما يدل على تحريم قتل المعاهد فليس هذا بأول شيء توارد عليه دلالة الكتاب والسُّنة. الثاني: ذكر القدوري من الحنفية في كتابه "التجريد" (¬1) في الحديث تقديرين آخَرين غير تقديرهم المشهور: أحدهما: أنَّه لا حذف فيه، بل على التقديم والتأخير. والأصل: "لا يقتل مسلم ولا ذو عهد في عهده بكافر". وثانيهما: أن"ذو عهد" مبتدأ، و"في عهده" خبره، و"الواو" للحال. أي: لا يقتل المسلم بكافر، والحال أنَّه ليس ذو عهد في عهده. ¬

_ (¬1) التجريد (11/ 5456).

قال: (ونحن لو فرضنا خلو الوقت عن عهد لجميع الكفار، لم يقتل مسلم بكافر) (¬1). أي: لأنه لا كافر حينئذٍ إلَّا وهو حربي. وجوابه: أن الأول ضعيف؛ لأن التقديم والتأخير خلاف الأصل، ولا دليل يقتضيه. والثاني في غاية البعد؛ لأن فيه إخراج "الواو" عن أصلها وهو العطف، ومخالفة رواية "ولا ذي عهد" بالخفض إما عطفًا على كافر كما يقوله الجمهور، أو على "مسلم" كما يقوله الحنفية وأنه خفض بالمجاورة. وأيضًا فيقتضي بمفهومه أن المسلم يقتل بالكافر مطلقًا في حالة "كون ذي العهد في عهده"، وهذا لا يقوله أحد، فإنه لا يُقتل بالحربي اتفاقًا. الثالث: من فروع هذه القاعدة: لو قال: "حفص طالق ثلاثا وعمرة"، قال القاضي حسين قبيل باب طلاق المريض: (يحتمل أن تقع على "عمرة" واحدة؛ لأن المعطوف يجوز أن يكون بخلاف المعطوف عليه). وفي "الرافعي": (لو طلَّق إحدى امرأتيه ثلاثًا ثم قال للأخرى: "أشركتُك معها"، عن إسماعيل البوشنجي أن المسألة جرت بين يدي فخر الإسلام الشاشي بمدينة السلام، فأجاب بأنها تطلق واحدة. وخالف البوشنجي فيه وقال: قد أوقع على الأُولى ثلاثًا، والعطف يقتضي التشريك) (¬2). قال الرافعي: (والتردد قريب من الخلاف فيما إذا قال مَن تحته أربع لِثلاث منهن: ¬

_ (¬1) التجريد (11/ 5459). (¬2) العزيز شرح الوجيز (9/ 24 - 25).

"أوقعتُ عليكن - أو بينكن - طلقة"، ثم قال للرابعة: "أشركتُك معهن". وفيه وجهان، أظهرهما: تطلق واحدة، والثاني: عن القفال: تطلق ثنتين) (¬1). نعم، ربما قدر الأصحاب في بعض الفروع ما في المعطوف عليه في المعطوف، ولَعَلَّه لقرينة في ذلك الموضع. ففي "فروع ابن الحداد": أوصَى لزيد بعشرة ولعبد الله بعشرة ولخالد بخمسة، وقال: "قدِّموا خالدًا على عبد الله"، وكان الثُّلث عشرين، كان لزيد ثمانية، ولخالد خمسة؛ لتقدمه، ولعبد الله سبعة؛ لأن الثلث لا يفي بالكل. فيجب أن ينقص الخَمس من كُلٍّ، ويزاد نقص عبد الله واحدًا، لتقدم خالد عليه. ووافقه الأصحاب، وكأنه قال: "وقدموا خالدًا على عبد الله بشيء". ولو قدر كذلك؛ لكان لخالد أربعة وشيء، ولعبد الله ثمانية إلَّا شيء. المسألة الثانية: العام إذا كان في سياق المدح أو الذم، هل العموم فيه باقٍ؟ أو لا؟ وذلك مثل قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13، 14]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)} [المؤمنون: 5]. فيه ثلاثة مذاهب: أحدها: أنَّه غير باقٍ على عمومه. ونقله إمام الحرمين وغيره عن الشَّافعي، وهو أحد وجهين لأصحابنا، حكاهما أَبو الحسين بن القطان والأستاذ أَبو منصور وسليم الرازي وابن ¬

_ (¬1) العزيز شرح الوجيز (9/ 24 - 25).

السمعاني وغيرهم. ونقل الثاني منهما أَبو بكر الرازي (مِن الحنفية) عن القاشاني، ونقله ابن برهان عن الكرخي وغيره. وقال إلْكِيَا: إنه الصحيح. وجزم به القفال الشاشي؛ ولذلك منع الشَّافعي التمسك بآية الزكاة السابقة في وجوب زكاة الحلي المباح، إلى غير ذلك. وجزم به أيضًا القاضي حسين. الثاني وعليه الجمهور: أنَّه عام؛ إذْ لا تنافي بين قَصْد العموم وبين المدح أو الذم. وقال الأستاذ أَبو إسحاق الأسفراييني: إنه الظاهر من المذهب. وقال الشيخ أَبو حامد وسليم: إنه المذهب. وكذا قال ابن برهان وابن السمعاني والشيخ أَبو حامد وغيره. والثالث: وهو أصحها، وهو الثابت عن الشَّافعي، الصحيح من مذهبه: إنه باقٍ على عمومه إذا لم يعارضه عام آخر لم يُسَق لمدح ولا ذم. فإنْ عارضه ذلك، عُمل بالمعارِض الخالي مِن المدح والذم. وهذا في الحقيقة عَيْن القول بالعموم؛ لأن غاية المعارَضة قرينة تُقَدِّم غيرَه عليه في صُورة. ولهذا قال الشيخ أَبو حامد وسليم الرازي وابن السمعاني وغيرهم من أئمتنا: إنه لا خلاف حينئذ على المذهب أنَّه يترجح على ما فيه مدح أو ذم. نعم، حكى غير هؤلاء الخلاف مطلقا في الحالين. وحكى أَبو عبد الله السهيلي - من أصحابنا - وجهًا أنَّه يوقف هذان العامَّان إلى أن يتبين الحال، كالمتعارضين. ولكن يدل للمُرجَّح عملُ الصحابة بالعام المعارِض للعام الذي فيه المدح. فقد رُوي عن عثمان كت أنَّه قال في الجمع بين الأختين بملك اليمين: "أحلتهما آية

وحرمتهما آية، والتحريم مُقدَّم" (¬1). وأراد بآية الحل: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3]، وآية التحريم: {وَأَنْ تَجْمَعُوا} [النساء: 23]. فحَكَمَ بعموم آية الحل، ولكن قدم عليه آية التحريم؛ لأن آية الحل مسوقة للمدح والمنة. ووافقه الصحابة على ذلك. وبهذا رد على داود احتجاجه بقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} على إباحة الأختين بملك اليمين. ومَثَّل أَبو عبد الله السهيلي للعامَّين اللذين سِيق أحدهما للمدح دُون الآخر بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5، 6]، فإنه سِيق للمدح وهو يَعُم مِلك اليمين، سواء الأخت وغيرها، فيرجح عليه {وَأَنْ تَجْمَعُوا}؛ فإنه عام في مِلك اليمين والنكاح. نعم، قد يقال: إن بين الآيتين عمومًا وخصوصًا مِن وجه، فرجحت إحداهما بكونها تقتضي التحريم كما سبق عن عثمان، لا لِكونها تجردت عن مدح فَقُدِّمت على ذات المدح. ومَثَّل الشيخ أَبو حامد وابن السمعاني وغيرهما بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] الآية، سِيقت لبيان عَيْن المحرمات دُون العَدد، بخلاف آية: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1]، فإنها للعَدد، وهي تعم الأخت وغيرها، فيقضَى بتلك؛ لأنها مسوقة لبيان المحرَّم. وكذلك يُقضَى بها على قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}. ¬

_ (¬1) الذي في مصنف ابن أبي شيبة (16264) وسنن الدَّارَقُطني (3/ 281) واللفظ للدارقطني: (أن عثمان بن عفان سُئل عن الأختين مما ملكت اليمين، فقال: لا آمرك ولا أنهاك، أحلتهما آية وحرمتهما آية). وفي: مصنف عبد الرزاق (12728)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 13708) وغيرهما واللفظ للبيهقي: (أحلتهما آية وحرمتهما آية، وأما أنا فلا أحب أنْ أصنع هذا).

تنبيهات أحدها: ليست هذه المسألة مقصورة على ما سِيق للمدح أو الذم فقط، بل ذلك خارج مخَرَج المثال. وإنَّما الضابط أن كل عام سِيق لغرض هل يبقى على عمومه؟ أو يكون ذلك الغرض صارفًا له عن العموم؟ فيقال على هذا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فيما سقت السماء أو كان عثريًّا العُشر، وما سُقي بالنضح نصف العُشر" (¬1) مَسوق لبيان مقدار الواجب، فلا يكون عامًّا في الخضراوات نحو القثاء والرمان. ومَن يقول بالعموم، يقول: إنه خُص بنحو ما رواه الحاكم: "فأما القثاء والرمان والقصب فعفو عفا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬2). أو: إن هذا الحديث عام قدِّم على حديث: "فيما سقت السماء"؛ لكونه مسوقًا لبيان المقدار. الثاني: قال الشيخ عز الدين: ليس من هذا الباب: العام المرتب على شرط تَقدم ذِكره، بل ذلك خاص اتفاقًا، كقوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25]، فالشرط المتقدم هو صلاح المخاطَبين الحاضرين، وصلاحهم لا يكون سببًا للمغفرة لمن تَقدم مِن الأمم قبلهم أو يأتي بعدهم؛ فإن قواعد الشرع تَأبى ذلك، ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) المستدرك على الصحيحين (رقم: 1458)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 7268) بلفظ: (وأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب فقد عفا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في (التلخيص الحبير، 2/ 165): (فيه ضعف وانقطاع).

فإنَّ صلاح كل [أحد] (¬1) لا يتعداه لغفران غيره إلَّا أن يكون فيه سبب، وهنا لا سبب؛ فلا يتعدى، فيتعين أن يكون المراد: "فإنه كان للأوابين منكم غفورًا"، فإن الشرط لا يكون جزاؤه لغيره. قلت: وتحتمل الآية أيضًا أن "الألف واللام" في "الأوابين" للعهد، كما في قوله تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170]، في خبر: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} [الأعراف: 170] الآية. وقد قيل هنا: إن الرابط العموم اكتُفي به لدخول المبتدأ تحته. فيقال هنا مثله. وربما يُقَرَّر في آية "الأوابين" بأن الجواب فيه مُقدَّر، أي: إن تكونوا صالحين فأنتم أوابون، والله تعالى للأوابين غفور. أو أن الخطابَ في قوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} [الإسراء: 25] عامّ للخلق كلهم، أي: يا أيها العباد إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورًا. ويكون صلاح كلٍّ سبئا لمغفرته، من باب"ركب القوم دوابهم"، لا أن المجموع سببٌ للغفران للمجموع. الثالث: قيل: إنَّ هذه المسألة هي مسألة "غير المقصودة" هل تدخل في العموم؟ وقد سبقت، فلا حاجة لإعادتها. يدل على ذلك أن القاضي عبد الوهاب لما حكى الخلاف في تلك، مَثَّل بآية الزكاة: هل يدخل فيها الحُلي المباح ونحوه مما لم يُقصَد؛ ووافقه الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام". ومِن ثَمَّ نقل الأصفهاني في "شرح المحصول" الخلاف الذي نقله القاضي ¬

_ (¬1) كذا في (ق، ص)، لكن في (س): واحد.

عبد الوهاب في "غير المقصودة" هنا. وعلى هذا فاستغراب ابن السبكي في "منع الموانع" الخلاف في غير المقصودة - حتَّى نَقْلُه عن"المسودة" الأصولية لبني تيمية - ليس بجيد. قلتُ: قد يفرق بين المسألتين بأن تلك لا يشترط فيها وجود قرينة من مدح وغيره تَصْرفه عن العموم بالكُلية، والعموم باق هناك في غير المقصودة إجماعًا. وأما هنا فيرتفع العموم فيه، ويكتفى فيه ببعض ما يصدق عليه اللفظ عند مَن يرى بأن لا عموم فيه؛ ولهذا نُقل عن الشَّافعي في هذه المسألة أنَّه قال: (الكلام مفصل في مقصوده، مجمل في غير مقصوده). فانظر كيف سماه "مجملًا"؛ والله أعلم. ص: 601 - وَذُو الْعُمُومِ في خِطَابٍ شُوفِهَا ... بِهِ لِمَوْجُودٍ، وَمَا لَهُ انْتِهَا 602 - لِغَيْرِهِمْ لَفْظًا، وَلَكِنْ يَشْمَلُ ... لِأَنَّ شَرْعَهُ عُمُومًا يُقْبَل الشرح: مما اختُلِف في عمومه: الخطاب الوارد شفاهًا في الكتاب والسنة، مِثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 168]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 172]، {يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ} [الزخرف: 68]. لا خلاف في أنَّه عام في الحكم الذي تضمنه لمن لم يشافَه به، سواء أكان موجودًا أو غائبًا وقت تبليغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أو معدومًا بالكلية. فإذا بلغ الغائب والمعدوم بعد وجوده، تَعَلَّق به الحكم. وإنَّما اختُلِف في جهة عمومه.

والحاصل: أن العام المشافَه فيه بحكم لا خِلاف في شموله لغةً للمشافَهين وفي غيرهم حُكمًا، وإنَّما الخلاف في غيرهم: هل الحكم شامل لهم باللغة؟ أو بدليل آخر؟ ذهب جمعٌ من الحنابلة والحنفية إلى أنَّه من اللفظ. وذهب أكثرون إلى أنَّه بدليل آخر، وذلك مما عُلم مِن عموم دِينه - صلى الله عليه وسلم - بالضرورة إلي يوم القيامة. ويدل عليه قوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وبعثت إلى الناس عامة" (¬1). وأَصْرح من ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا} [الجمعة: 2] إلى قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3]. وهذا معنى قول كثير كابن الحاجب: (إن مِثل: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 168]، ليس خطابًا لمن بَعْدهم - أَيْ مَن بَعْد المواجَهين - وإنَّما يثبت الحكم بدليل آخَر من إجماع أو نص أو قياس) (¬2). واستدلوا بأنه لا يقال للمعدومين: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ}. وأجابوا عما استدل به الخصم بأنه: الو لم يكن المعدومون مخاطبين بذلك، لم يكن - صلى الله عليه وسلم - مرسَلًا إليهم) بأنه لا يتعين الخطاب الشفاهي في الإرسال، بل مطلق الخطاب كافٍ. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 328). (¬2) مختصر المنتهى مع شرحه (2/ 223).

تنبيهات الأول: قال ابن دقيق العيد: مَن خصَّه بالمخاطَبين فينبغي أن يعتبر فيه أحوالهم؛ حتَّى لا يدخل في خطابهم مَن ليس بِصِفتهم إلَّا بدليل مِن خارج، وهذا غير الاختصاص بأعيانهم، وهو أعلى مرتبة منه؛ لأن اعتبار الأعيان في الأحكام عليه أدلة كثيرة. ويحتمل أن لا يعتبر أحوالهم وصفاتهم إلَّا لاعتبار مناسبة أو غيرها، والأليق بالتخصيص الأول. وقال في "شرح العنوان": الخلاف في عموم خطاب المشافَهة قليل الفائدة، ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف عند التحقيق؛ لأن اللغة تقضى بأنْ لا يتناول غير المخاطَب، والقَطْع بأن الحكم شامل لغير المخاطَب؛ لِمَا عُلم من عموم الشريعة. الثاني: عَبَّر جمعٌ عن المسألة بأن الخطاب مع الموجودين في زمنه - عليه السلام - لا يتناول مَن بَعدهم إلَّا بدليل منفصل. وعَبَرَّ جمعٌ بأخص، وهو نحو: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ}، {يَاأَيُّهَا آمَنُوا}. وقال بعض المتأخرين: للألفاظ حالتان: أن يكون محكومًا بها، أو محكومًا عليها. ففي الأول: يجب أن يكون مدلولها موجودًا حالة الحكم، نحو: "يا زيد"، ونحوه. وفي الثاني: يشمل مَن وُجِد ومن سيوجَد، نحو: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. وذلك كما لو قلت لولدك: "اصحب العلماء"، فلا فرق بين الموجود عالِمًا حال الخطاب ومَن سيصير عالِمًا بعد ذلك. الثالث: اعترض النقشواني في "تلخيص المحصول" على هذه المسألة بقول الأصوليين: إن المعدومَ محكومٌ عليه بالخطاب القديم مِن غير فرق بين خطاب المشافَهة وغيره. وأجيب بأن ذلك غفلةٌ منه؛ لأن ذاك في الكلام النفسي، والكلام هنا في الخطاب

اللفظي. وأجاب في "البديع" بأن الكلام هناك في تسميته أمرًا ونهيًا، وهنا في تسميته خطابًا. وضُعِّف بأن ذلك إذا قلنا: لا يسمى خطابًا. والمرجَّح خلافُه كما سبق. الرابع: مما يحقق المرجَّح في المسألة (وهو أن الخطاب مقصور لُغة على المشافَهين) الاتفاق على أنَّه لو قال لمن حضر مِن زوجاته: (يا نسائي أنتن طوالق)، لا يقع الطلاق على مَن لم [يواجهه] (¬1) بالخطاب مِن بقية زوجاته ولو كان في المجلس. ويُعرف تمييز مَن خوطِب مِن غيْره بالقرائن. وقولي: (لِأَنَّ شَرْعَهُ) إلى آخِره هو تعليل لعمومه، أي: ليس العموم باللفظ مِن وضع اللغة، بل لكون شرعِه عامًّا. ولم أذكر الإجماع ولا القياس؛ لأن هذا كافٍ، والقياس إنما نشأ مِن هذه الحيثية، والإجماع إنما استند إلى عموم شرعه. والله أعلم. 603 - ثُمَّ خِطَابُ الْمُصْطَفَى لَا يَشْمَلُ ... أُمَّتَهُ، وَالْجَمْعُ حَيْثُ يُجْعَلُ 604 - مُذَكَّرًا مُسَلَّمًا لَا يَدْخُلُ ... فِيهِ الْإنَاثُ؛ فَلِذَا يُفَصَّلُ 605 - إلَّا بِتَغْلِيبٍ مَعَ الدَّلِيلِ ... وَلَيْسَتِ الْأُمَّةُ في الْمَشْمُولِ 606 - بِنَحْوِ {يَا أهْلَ الْكِتَابِ} ثُمَّ مَا ... خُوطِبَ وَاحِدٌ بِهِ لَنْ يَعْمُمَا الشرح: اشتملت الأبيات على أربع مسائل: ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): تواجهه.

الأولى: خطاب الله تعالى نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بنداءٍ ونحوه هل يتناول الأُمة؟ أو لا؟ وذلك مِثل قوله تعالى: ، {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 1 - 2]، {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ} [التحريم: 1]: ا، ونحو ذلك مما يمكن أن يراد بما تضمنه مِن الحكم الأُمة معه، ويمكن أن يراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضًا به، ولا قرينة على إرادتهم معه. فقال الجمهور: ليس بعام للأُمة إلَّا بدليل يوجب التشريك، إما مطلقًا أو في ذلك الحكم بخصوصه مِن قياس أو غيره. وحينئذ فشمول الحكم لهم بذلك لا باللفظ؛ لأن اللغة تقتضى أن خطاب المفرد لا يتناول غيره. وقال أَبو حنيفة وأحمد: يشمل الأُمة، ولا ينصرف الحكم عنهم إلَّا بدليل من خارج. واختاره جمعٌ من أصحابنا كابن السمعاني، وكذا إمام الحرمين على ما يؤول إليه تفصيل له نذكره. أما ما لا يمكن إرادة الأمة معه فيه مِثل: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1 - 2] {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] ونحو ذلك فلا دخول للأُمة فيه قطعًا. ومن ذلك ما قامت فيه قرينة على اختصاصه به من الخارج، نحو: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]. فتفصيل إمام الحرمين بين أن تَرِد الصيغة في محل التخصيص فيكون خاصًّا به، أوْ لا فيكون عامًّا - ليس قولًا آخَر، بل تبيين لمحل الخلاف. وأما ما لا يمكن فيه إرادة النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك الحكم المقترن بخطابه بل يكون الخطاب له والمراد الأُمة فليس ذلك مِن محل النزاع أيضًا، وذلك مِثل قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، فخطابه بذلك من مجاز التركيب، وهو ما أُسنِد فيه الحكم

لغير مَن هو له، نحو: "أنبت الربيع البقل"، {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر: 36]. وقد سبق تقريره في "باب المجاز". ولأجل ذلك انتُقد على ابن الحاجب تمثيله محل النزاع بآية: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ}. نعم، حكى ابن عطية عن مكي والمهدوي أن الخطاب بقوله تعالى: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35] للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد أُمته. ثم قال: (وهذا ضعيف؛ لا يقتضيه اللفظ) (¬1). والتحقيق: أن هذا ونحوه من باب"خطاب العام مِن غير قَصْد مخاطَب معيَّن". والمعنى: اتفاق جميع الشرائع على ذلك، أي: ويكون هذا مثل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12] كما قرره أهل البيان، وأنهم لَمَّا تناهت حالهم الفظيعة في الظهور، لم يختص بها مخاطَب دون مخاطَب. ونحوه: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف: 18]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "بَشِّر المشائين في ظُلَم الليل إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة" (¬2). قيل: والأَولى أن يُقَرر مِثل ذلك بأنه عام عموم الشمول، كاستعمال المشترك في معانيه، لا أن المراد عموم البدل للمخاطَبين للصلاحية لكل مخاطَب بما يقتضي أن يصير الضمير - وهو أَعْرَف المعارف - في معنى النكرة. وإذا قرر: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ}، {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ونحو ذلك على هذا المحمَل، اندفع الإشكال في هذه الآيات ونحوها من أصله؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - ليس مقصودًا بذلك. ¬

_ (¬1) المحرر الوجيز (2/ 288). (¬2) سنن أبي داود (رقم: 561)، سنن التِّرمِذي (223) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 561).

وأما التقييد بأن لا قرينة على إرادة الأُمة معه فمُخرج لِمَا إذا دلت قرينة على ذلك، فليس ذلك من محل النزاع أيضًا، مِثل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1]، الآية، فإن ضمير الجمع في: "طَلَّقْتُم" و"طَلِّقُوهُنَّ" قرينة لفظية تدل على أن الأُمة مقصودة معه بالحكم، وأنَّ تخصيصه بالنداء تشريفٌ له - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه إمامهم وقدوتهم وسيدهم الذي يَصدر فِعلهم عن رأيه وإرشاده؛ ولذلك ابتدأ الشَّافعي - رحمه الله - "كتاب الطلاق" بهذه الآية؛ لِمَا فهمه من عمومها. وخطاب الواحد وإن كان قد يَرِد بصيغة جمع، نحو: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا} [المؤمنون: 99، 100] إلَّا أنَّه مجاز، فلا يقدح في دعوى القرينة في نحو: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ}، بل القرينة في مِثل ذلك قد توجد والضمير مفرد، نحو: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، الآية، فإن غير النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحكم أَوْلى منه به؛ ولهذا قال بعده: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]. تنبيهات الأول: عَكْس هذه المسألة - نحو "يا أيها الأُمة" - قال الهندي والقاضي عبد الوهاب: لايدخل قطعًا. كما سبق تقريره في مسألة: شمول {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} الرسولَ. الثاني: القائلون بشمول نحو {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} للأُمة لا يقولون: إنه باللغة، بل للعُرف في مِثله، حتَّى لو قام دليل على خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - مِن ذلك، كان من العام المخصوص. ولا يقولون: إنهم دخلوا بدليل آخَر؛ لأنه حينئذٍ ليس محل النزاع. فيتحد القولان. الثالث: مما يظهر فيه ثمرة الخلاف في المسألة ما خرَّجه الحنفية على أصلهم مِن انعقاد

النكاح بلفظ الهبة بقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50]، إذِ الأُمَّة مِثله في هذا الحكم؛ لشمول اللفظ لهم عُرفًا. وعندنا لم يدخل غيره، فيكون مِن خصائصه على المرجَّح. وفي وَجْه أنه لا ينعقد نكاحه بلفظ الهبة؛ قياسًا على الأُمة. عَكْس مقالة الحنفية مطلقًا. المسألة الثانية: جمع الذكر السالم - كَـ "المسلمين" - هل يدخل فيه الإناث؛ وكذا ضمير المذكرين نحو: "فعلوا" و"افعلوا" و"تفعلون" و"فعلتم" ونحو ذلك. بل ولا يختص بالضمائر، بل اللواحق، نحو: "ذلكم" و"إياكم" إذا قلنا بأنها حروف لحقت الضمائر المنفصلة، وهو المرجَّح، فكل ذلك لا يدخل فيه النساء إلَّا بطريق التغليب مجازًا. هذا ما ذهب إليه الشَّافعي وأصحابه والجمهور، كما لا يدخل "الرجال" في لفظ المؤنث إلَّا بدليل. وممن نقله عن الشَّافعي القفالُ الشاشي وابن القطان والشيخ أَبو حامد والماوردي في "كتاب القضاء"، والروياني: في "كتاب السير"، وابن القشيري. قيل: وأخذوا ذلك من حديث عائشة: "يا رسول الله، على النساء جهاد؟ قال: عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة" (¬1). أخرجه ابن ماجة بإسناد جيد. فلو كن يدخلن في جمع المذكر وهو قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65]، ونحو قوله: {وَجَاهَدُواْ} [البقرة: 218] لَعرفت عائشة ذلك ولم تَسأل. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (25361)، سنن ابن ماجة (2901) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجة: 2362).

وهذا أَوْلى من الاستناد إلى حديث أم سلمة في النَّسائي: "قلت: يا رسول الله، ما لَنا لا نُذْكَرُ في القرآن كما يُذكر الرجال؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] الآية" (¬1)؛ لجواز أن تريد أُم سلمة: ما لَنا لا نُذكر صريحًا بالتنصيص؟ وممن نقله عن أصحابنا الأستاذُ أَبو منصور وسليم في "التقريب"، واختاره القاضي أَبو الطيب في "الكفاية"، وابن السمعاني في "القواطع"، وإلْكِيَا الهراسي، ونصره ابن برهان في "الوجيز" ونقله في "الأوسط" عن معظم الفقهاء، والشيخ أَبو إسحاق في "التبصرة"، ونقله ابن القشيري عن معظم أهل اللغة، وقال القاضي: إنه الصحيح. وذهبت الحنفية - ومنهم شمس الأئمة وصاحب"اللباب" وغيرهم - إلى أنَّه يتناول الذكور والإناث. وحكاه القاضي أَبو الطيب عن أبي حنيفة، وحكاه الباجي عن ابن خويز منداد، ونُسب للحنابلة والظاهرية. لكن ظاهر هذا القول أنَّه ليس مِن حيث اللغة، بل بالعُرف أو بعموم الأحكام أو نحو ذلك. قال إمام الحرمين: (اندراج "النساء" تحت لفظ "المسلمين" بالتغليب، لا بأصل الوضع) (¬2). وقال الأبياري: (لا خلاف بين الأصوليين والنحاة في عدم تناولهن بجمع المذكرين. ¬

_ (¬1) السنن الكبرى للنسائي (11404)، مستدرك الحاكم (3560). (¬2) البرهان (1/ 244).

وإنَّما ذهب بعض الأصوليين إلى ثبوت التناول؛ لكثرة اشتراك النوعين في الأحكام) (¬1). أي: فيكون الدخول عُرفًا أو نحوه، لا لُغةً. ثم قال: (وإذا قُلنا بالتناول، هل يكون دالًّا عليهما بالحقيقة والمجاز؛ أو عليهما مجازًا صِرفا؟ فيه خلاف، ظاهر مذهب القاضي الثاني، وقياس قول الإمام الأول) (¬2). تنبيهات الأول: احترزت بقولي: (الْجَمْعُ) عن اسم الجمع نحو: "قوم" كما سبق في مسألة "الجمع المحلَّى بِأل". وبقولي: (المسَلَّم) - أي الذي سلم فيه بِناء واحِدِه - عن المكسر (¬3) كَـ "رجال"، فإنه لا يشمل المؤنث قطعًا، وعن اللفظ الذي يدل على الجمعية من غير علامة للتذكير وليس جمعًا مكسرًا، كَـ "الناس"، فإنه يدخل فيه الرجال والنساء قطعًا. وقولي: (فَلِذَا يُفَصَّلُ" إشارة إلى ما سبق من قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الآية وما سبق في سببها. نعم، ما أُلحق بالجمع: منه ما يُلْحَق به في هذا الحكم (كَـ "بنين")، ومنه ما يشملهما قطعًا (كَـ "عشرين")، ومنه ما يختص به الإناث قطعًا (كَـ "أرضين" و"سنين"). ويظهر ذلك كله بتأمله. ¬

_ (¬1) التحقيق والبيان في شرح البرهان (2/ 41). (¬2) التحقيق والبيان في شرح البرهان (2/ 42 - 43). (¬3) يعني: قولي: (المسَلَّم) احترزت به عن المكسر.

الثاني: يُستثنى من محل الخلاف في ضمير الجمع المذكر ما لو عاد على النوعين، نحو: "يا أيها الرجال والنساء"، {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. فلا خلاف في دخولهن. قاله القاضي عبد الوهاب، ولكن هذا بقرينة، والكلام حيث لا قرينة. ونحوه في القرينة (وإنْ تأخرت) حديث: "سبق المفردون"، ثم فسرهم - صلى الله عليه وسلم - بقوله بعده: "هم الذاكرون الله كثيرا والذاكرات" (¬1). فلا شاهد فيه لمن قال بالدخول. ومنهم مَن قال: محل الخلاف في غير الخطاب الشفاهي، أما إذا شافَه رجالًا ونساءً بـ "افعلوا"، فإنهن يدخلن قطعًا. ولكن هذا بالقرينة، والكلام حيث لا قرينة. ولم يختلف المفسرون في قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة: 38]، أنَّه متناول لآدم وحواء ولإبليس. وربما كانت القرينة مخُرجة، كما في قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، فإن المشركات لا يَدخُلن؛ لقرينة نهيه عليه السلام عن قتل النساء. ولأجل قرينة الإدخال استُدل بقوله عليه السلام: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" (¬2) على أن المرأة تُقيم الحد على مملوكها بحق المِلك الذي يشترك فيه الذكر والأنثى، فالقرينة: تعليق الحكم بوصف الِملك. الثالث: سكتوا عن الخناثى، هل يدخلون في خطاب المذكر؟ أو المؤنث؟ والظاهر مَن تَصرّف الفقهاء دخولهم في خطاب النساء في التغليظ والرجال في التخفيف، وربما أُخْرج عن القسمين. وقد أُفرد أحكام الخناثى بالتصنيف. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (2676). (¬2) مسند أحمد (736)، سنن أبي داود (4473) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 4473).

الرابع: مما يُخرَّج على هذه القاعدة مسألة "الواعظ" المشهورة في الفقه وهو قوله للحاضرين عنده: "طلقتكم ثلاثًا" وامرأته فيهم وهو لا يدري. أفتى الإمام بوقوع الطلاق. قال الغزالي: وفي القلب منه شيء. وقال الرافعي والنووي: ينبغي أن لا يقع. قال النووي رحمه الله: لأن النساء لا يدخلن في هذا اللفظ كما تَقرر في الأصول. وذكر الرافعي مَأْخذًا غير ذلك، وذكر غيرهما أنَّه ينبغي أن يخرَّج على "حنث الجاهل" كما لو حلف لا يسلم على زيد، فسلَّم على قوم هو فيهم ولم يَعلمه. وفي المسألة مباحث مذكورة في كتب الفقه لا نُطَول بها. المسألة الثالثة: خطاب الشارع بنحو: "يا أهل الكتاب" لا يدخل فيه أُمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، سواء أكان ذلك من خطاب الله عَزَّ وَجَلَّ أو خطاب نبيه - صلى الله عليه وسلم - لهم بأمر الله تعالى. ومثله خطاب بني إسرائيل، كقوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا} [النساء: 47] {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [آل عمران: 64]، {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا} [المائدة: 59]، {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40]، ونحو ذلك من الآيات، وهو كثير. إلَّا أنْ يدل دليل على مشاركتهم لهم فيما خوطِبوا به؛ وذلك لأن اللفظ قاصر عليهم، فلا يتعداهم. والمراد بـ "أهل الكتاب"اليهود والنصارى، لا عبدة الأوثان ولا المجوس؛ إما لأن كتابهم رُفع، أو لغير ذلك مما قرره أصحابنا في النكاح وغيره. وخالف في ذلك أَبو البركات مجد الدين ابن تيمية في "مسودته" في الأصول، وقال: (إنه

يشمل الأُمة إنْ شركوهم في المعنى) (¬1). قال: (لأن شرعه عام لبني إسرائيل وغيرهم مِن أهل الكتاب وغيرهم كالمؤمنين؛ فيثبت الحكم فيهم كما في أهل الكتاب. وذلك كأمره لواحد مِن المكلَّفين، فإنه يعم غيره). أي: على رأي من يقول به كما سيأتي. قال: وإن لم يشركوهم فلا، كما في قوله لأهل بدر: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 69] {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} [آل عمران: 122]، فإنَّ ذلك لا يَعُم غيرهم. قال: (ثم الشمول هاهنا هل هو بطريق العادة العُرفية؟ أو الاعتبار العقلي؟ فيه الخلاف المشهور). قال: (وعلى هذا ينبني استدلال الأئمة على حُكمنا بمثل قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} [البقرة: 44]، الآية، فإن هذه الضمائر راجعة لبني إسرائيل). قال: (وهذا كله في الخطاب على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -، أما خطابه لهم على لسان موسى أو غيره من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فهي مسألة: شرع من قبلنا هل هو شرع لنا؟ والحكم هنا لا يثبت بطريق العموم الخطابي قطعًا، بل بالاعتبار العقلي عند الجمهور) (¬2). وأما عكس هذه المسألة: وهو دخول الكفار في نحو: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أو "يأيها المؤمنون" أو نحو ذلك - فقد سبق الكلام عليه في مسألة دخول الكافر في لفظ "الناس"المقترن بلام الاستغراق وأن المسألة مَبنية على تكليف الكافر بالفروع، فدخولهم من حيث عموم الشرع، لا مِن حيث اللغة، فإنَّ الوصف نحُرج لهم. ¬

_ (¬1) المسودة (ص 42). (¬2) المسودة (ص 42 - 43).

المسألة الرابعة: خطاب الشرع لواحد هل يدخل فيه غير ذلك المخاطَب؟ أو لا؟ وهي أَعَم من المسألة السابقة، وهي مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ يختص به، هل تدخل الأُمة؟ ولكن ربما تفاوتا بمدارك خاصة بأحدهما دون الآخر. يظهر ذلك للمتأمل. وإنْ كان الشيخ أَبو حامد فَرَضَ مسألة خطاب الواحد بأَعَم مِن خطاب الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ومن خطاب النبي لواحد مِن أُمته، ومثَّله بـ {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} [المائدة: 67]، {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65]. وحاصل هذه المسألة: أن الخطاب الخاص بواحد من الأُمة إنِ اقترن بما يخص ذلك الواحد، فلا يكون غيرُه مِثله في ذلك الحكم، كحديث أبي بردة في العناق في "الصحيحين": "تجزئك، ولن تجزئ عن أحد بعدك" (¬1). نعم، رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في العناق أيضًا لزيد بن خالد الجهني كما في أبي داود (¬2)، ولعقبة بن عامر كما في "الصحيحين" (¬3)، وربما قال: "ولن تجزئ عن أحد بعدك". وهو محمول على تخصيص لعموم بعد تخصيص. وإنْ لم يقترن بما يدل على اختصاص المخاطَب به فالأصح مِن المذاهب أنَّه لا يتناول ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (912)، صحيح مسلم (1961). (¬2) في سنن أبي داود (2798): (عَنْ زيدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ، قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي أَصْحَابِهِ ضَحَايَا، فَأَعْطَانِي عَتُودًا جَذَعًا. قَالَ: فَرَجَعْتُ بِهِ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ جَذَع. قَالَ: "ضَحِّ بِهِ". فَضَحَّيْتُ بِهِ). قال الألباني: حسن صحيح. (صحيح أبي داود: 2798). (¬3) صحيح البخاري (2178)، صحيح مسلم (1965)، ولفظ البخاري: (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ، فَبَقِيَ عَتُودٌ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "ضَحِّ بِهِ أَنْتَ").

غيره من الأُمة إلَّا بدليل، وهو قول الجمهور. ونَص عليه الشَّافعي، فقال الإمام في "النهاية" في "باب الرضاع": (وقد أشار الشَّافعي إلى تَصرُّف في حديث سالم رمز إليه المزني، وهو أن خطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اختص بشخص في حكاية حال، فحُكْم الصيغة اختصاص الحكم بالمخاطَب. وإذا قضينا بأن الناس في الشرع واحد فإنما هو مُتلَقّى من إجماع الصحابة لما يشاهدونه من قرائن الأحوال الدالة على عدم الاختصاص). قال: (واضطرب رأيهم في قضية سالم في التخصيص واللفظ في نفسه مختص بالمخاطَب، فلم يَجُز تعميم الحكم، لاسيما إذا اعتقد خلافه مما يستقل دليلًا) (¬1). انتهى القول الثاني: ويُعْزى للحنابلة، صرح به القاضي أَبو يعلى منهم وغيره: أنَّه عام بنفسه. إلَّا أن كلام القاضي يقتضي أنَّه عام بالشرع، لا بوضع اللغة؛ للقطع باختصاصه لغةً. وحكى ابن القطان من أصحابنا هذين القولين وجهين لأصحابنا، قال: والأكثرون على الأول، والثاني: أنَّه للعموم؛ بدليل حديث: "حُكمي على الواحد حُكمي على الجماعة" (¬2). وحكى الأستاذ أَبو منصور خلافًا لأصحابنا أن العموم لغير الواحد هل هو بالقياس؟ أو بحديث "حُكمي على الواحد"؟ وقال: إن الأول قول ابن سريج. فيخرج مِن قول الإمام: (إنه بالإجماع) ومن هذين ثلاثةُ آراء في جهة العموم. ¬

_ (¬1) نهاية المطلب (15/ 353). (¬2) قال الإمام السخاوي في (المقاصد الحسنة، ص 314): (ليس له أصل كما قاله العراقي في تخريجه، وسُئل عنه المزي والذهبي فأنكراه، وللترمذي والنَّسائي من حديث أميمة ابنة رقيقة: "ما قولي لامرأة واحدة إلَّا كقولي لمائة امرأة" لفظ النَّسائي، وقال التِّرمِذي: "إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة").

وفي كلام الإمام أيضًا ما يُشعر برابع، وهو أنَّه بمقتضى عُرْف الشرع. وفي كلام غيره إطلاق أنَّه بالعُرف، حتَّى إنَّ الإمام قال: لا ينبغي أن يكون لهذا الخلاف حقيقة. وخالفه المقترح وغيره، وقالوا: الخلاف معنوي. والقول الثالث في الأصل وبه قال أَبو الخطاب [من] (¬1) الحنابلة: أنَّه إنْ وقع جوابًا لسؤال كقول الأعرابي: "واقعتُ أهلي في رمضان" (¬2) فقال: "أَعْتِق"، كان عامًّا، وإلَّا فلا، نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مروا أبا بكر فليُصَلِّ بالناس" (¬3)، فلا يدخل فيه غير أبي بكر. وكذا قوله في المبارزة: "يا فلان، قُم فبارز" (¬4). قال: و (كذلك إذا حَكم - صلى الله عليه وسلم - في حادثة بين نَفْسَين، كان واجبًا على كل أَحد أن يحكم عليه بمثل تلك الحادثة. فهذا لا أعلم فيه خلافًا) (¬5). انتهى ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق، ش)، لكن في (س، ض، ت): و. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) صحيح البخاري (633)، صحيح مسلم (418). (¬4) الذي في السنن الكبرى للبيهقي (18124) بلفظ: (قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: قُمْ يَا حَمْزَة، قُمْ يَا عَليّ، قُمْ يَا عُبَيْدَة، ... فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ عُتْبَةَ ... ) الحديث. وبنحوه في: مسند أحمد (948)، سنن أبي داود (2665)، مستدرك الحاكم (4882) وغيرها. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 2665). (¬5) التمهيد في أصول الفقه (1/ 276).

تنبيهات الأول: حديث: "حُكمي على الواحد حُكمي على الجماعة" لا يُعرف بهذا اللفظ، وسُئل عنه المِزِّي والذهبي، فقالا ذلك. نعم، معناه ثابت، فروى التِّرمِذي والنَّسائي من حديث مالك، عن محمد بن المنكدر، عن أميمة بنت رقيقة، قالت: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في نساء من المهاجرات نبايعه، فقال: "إني لا أصافح النساء، وما قولي لامرأة واحدة إلَّا كقولي لمائة امرأة" (¬1). وقال التِّرمِذي حسن صحيح. الثاني: إذا قُلنا بعموم خطاب الواحد وأن ذلك بِعُرف الشرع حتَّى يصير إذا تلفظ بالواحد، كان المراد به كل أحد عمومًا، وإنْ كان مجازًا إلَّا أنَّه صار حقيقة شرعية أو عُرفية، تَفَرع عن ذلك مسائل: منها: ما حكاه الرافعي عن أبي العباس الروياني: (أن الرجُل إذا قال: "متَى قلتُ لامرأتي: أنت علَيَّ حرام، فإني أريد به الطلاق"، ثم قال لها بعد مُدة: "أنت علَيَّ حرام"، يحتمل وجهين: أحدهما: الحمل على الطلاق؛ لكلامه السابق. والثاني: أنَّه كما لو ابتدأ به؛ لاحتمال أن نيته تغيرت) (¬2). ¬

_ (¬1) مسند أحمد (27051)، سنن التِّرمِذي (1597)، سنن النَّسائي (4181)، وغيرها. قال الألباني: إسناده صحيح. (السلسلة الصحيحة: 529). (¬2) العزيز شرح الوجيز (8/ 525).

وإنه يقتضي أنَّها لو لم تتغير، يُحمل على الطلاق جزمًا. ويشبه المسألة ما لو ذكرا صداقًا في السر وصداقًا بالعلانية، وكذا إذا استعملا لفظ "المفاوضة" وأرادا "شركة العنان"، فإنه جائز على المنصوص. وكل هذه المسائل مما يؤيد قول العموم لغير المخاطَب الواحد بالعُرف أو بغيره كما سبق، فإنه قوي وإنْ كان المرجَّح خلافه. الثالث: "النداء" في هذه المسائل ليس بقيد، بل على سبيل المثال، وكذا الخطاب؛ إذَ المراد الحكم كيف كان. والله أعلم. ص: 607 - وَفي الْخِطَاب يَدْخُلُ الْمُخَاطِبُ ... في خَبَرٍ يَعُمُّهُ، وَالْوَاجِب 608 - أَخْذٌ مِنَ الأَنوَاعِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ... في آيَةِ الْأَخْذِ لِفَرْضِ مَالِهِمْ الشرح: أي: ومن الصُّوَر التي اختُلف في محل العموم فيها هاتان المسألتان: الأُولي: أنَّ المخاطِب (بكسر الطاء) داخل - على الأرجح من المذاهب - في عموم متعلق خطابه إذا كان صالحًا له وكان خبرًا، لا أمرًا ولا نهيًا، أما الآمِر والناهي فغير داخلين في أمر ونهي بصيغة تَعُمهما كما سبق مبسوطًا في باب الأمر والنهي. سواء أكان ذلك الخبر إخبارًا: - عن أمر ونهي، كما لو قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله أمر بكذا"، أو: "نهى عن كذا".

- أو عن غيرهما، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن قال لا إله إلَّا الله خالصًا من قلبه، دخل الجنَّةَ" (¬1)، "مَن أحيا أرضًا ميتة، فهي له" (¬2). ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] إذا قلنا بصحة إطلاق لفظ "شيء" عليه تعالى، وكذا: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شّيْءٍ} [الرعد: 16] فإنه وإنْ دخل لفظًا بناء على هذه القاعدة لكنه خارج قطعًا؛ إما بالعقل أو بغير ذلك كما سنذكره في مسألة التخصيص بالعقل. وخرج بقيد "أن يكون اللفظ صالحًا لدخوله فيه" ما إذا كان بلفظ المخاطبة: نحو: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" (¬3). بل ولو قُلنا في الأمر والنهي: إن الآمِر والناهي يدخلان فيهما لكن إذا كان بلفظ الخطاب لا يدخلان، نحو: "لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول" (¬4). بخلاف نحو: "من نام فليتوضأ" (¬5)، فإن القائل بدخول الآمِر والناهي يقول هنا بالشمول. نعم، الخلاف في الخبر وفي الأمر والنهي محله إذا لم يَقُم دليل على الدخول في الحكم، فإنْ كان كذلك فالشمول بذلك الدليل قطعًا. واعلَم أنَّه يجري مع وجود لفظ الخطاب ما سبق مِن خلاف الحنابلة في أن الخطاب مع ¬

_ (¬1) مسند أحمد (22113)، صحيح ابن حبان (200) وغيرهما، ولفظ ابن حبان: (مَنْ شَهِدَ انْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ). قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 200). (¬2) سنن أبي داود (3073)، سنن الترمذي (1378) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 1550). (¬3) صحيح البخاري (5757)، صحيح مسلم (1646). (¬4) سبق تخريجه. (¬5) سنن أبي داود (203)، سنن ابن ماجة (477)، وغيرهما. قال الألباني: حسن. (إرواء الغليل: 113).

الموجودين يتناول مَن بعدهم بغير دليل منفصل. وقد سبق في باب الأوامر والنواهي أن مقتضى كلام الرافعي والنووي في مسائل من "الطلاق" أن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه ولو كان غير آمرٍ وناهٍ على الأصح. ومما لم يسبق ما قاله أصحابنا فيما لو وقف على الفقراء ثم صار فقيرًا، هل يجوز له الأخذ؟ والأصح نعم، وقيل: لا، لأن مطلق الوقف ينصرف إلى غير الواقف. وهذا وإن لم يكن فيه خطاب لكن الخلاف في الحقيقة في أن المتكلِّم بكلام يشمله: هل يدخل فيه؟ أو لا؟ سواء أكان هناك خطاب أو لا كما عُلم ذلك مِن الأمثلة السابقة. وكثير من الأصوليين يعبر بذلك، وكثير يعبرون بِـ "المخاطِب" كما عبَّر به ابن الحاجب وغيره، وجرينا عليه في النَّظم، وكأنَّ النظر فيه إلى معنى الخطاب وإنْ لم يكن صيغة خطاب. فتأمله. تنبيهات الأول: وقع بحث في أن جبريل - عليه السلام - هل يدخل فيما [يُبلغه للنبي] (¬1) - صلى الله عليه وسلم - من التكليف؟ والتحقيق نعم فيما يحتاج لفعل، كإمامته به في اليومين، وأما غيره فمأمور بتبليغه إياه فقط. الثاني: المخاطَب (بفتح الطاء) هل يجري فيه الخلاف في المكسور؟ قال الشيخ جمال الدين في كتاب "التمهيد": لا يَبعُد تخريجه فيه. وفرع عليه لو قال: ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): يبلغ به النبي.

"أعطِ هذا لمن شئت"، أو: "اصنع فيه ما شئت"، فليس له أخذه. ولو قال: "وكَّلتُك في إبراء غرمائي" وكان هو منهم، لم يدخل (¬1). وعلَّله القاضي أَبو الطيب بقوله: لأن المذهب الصحيح أن المخاطَب لا يدخل في عموم أمر المخاطِب له. وذكر فروعًا غير ذلك. وكان شيخنا شيخ الإسلام البلقيني يرد كون هذا قاعدة وتخريجها على مسألة المخاطِب (بالكسر)، وكتب بخطه: (إنه لا خلاف بين العلماء - بل بين الناس - مطلقًا في المخاطب بنحو "قوموا" أن كل مَن خوطِب به داخل. فإنْ كان الخطاب بنحو "مَنْ" و"الذين" فلا خلاف في الدخول أيضًا، نحو: "مَن رد عبدي فلَهُ كذا"، "مَن دخل الدار من نسائي فهي طالق"، فالمخاطب بذلك ونحوه داخل قطعًا، ولا يتخرج على المخاطِب - بالكسر - لأن المنع في ذلك لأن الشخص لا يخاطِب نفسه، فالقرينة فيه ظاهرة. والخلاف في الفروع المذكورة إنما هو لمدْرَك آخَر، وهو اقتضاء الحال أن لا يدخل المخاطب بما خوطب به لتهمة أو نحوها من القرائن، لا أن المخاطب هل يدخل في الخطاب؟ فإنه متناقض). انتهى ملخصًا. وتعقب أيضًا الفروع المذكورة بما يطول ذِكره، وفي هذه الإشارة كفاية. قلتُ: لكن كلام القاضي أبي الطيب السابق ذِكره أن المدرك هذا، وأن الخلاف منقول، وأن الراجح فيه عدم الدخول، إلَّا أنْ يُحمل على أن مراده بكونه لا يدخل في عموم أمر المخاطب له - لقرينة أنَّه لَمَّا لم يصرح المتكلم بإدخاله بالخطاب، كان المراد غيره. قيل: وهذه المسألة هي مسألة: أوامر الله تعالى العامة هل يدخل فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ ¬

_ (¬1) التمهيد للإسنوي (ص 353).

وقد سبق أن الصحيح الدخول. المسألة الثانية: ذهب الجمهور إلى أن مثل قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]، يقتضي أخذ الصدقة من كل نوع إلَّا أن يُخص بدليل من السنة. وهو ما نص عليه الشَّافعي في "الرسالة"، إذ قال بعد ذِكر الآية ما نصه: (وكان مخرج الآية عامًّا على الأموال، وكان يحتمل أن يكون بعض الأموال دون بعض، فدلَّت السّنة على أن الزكاة في بعض المال دون بعض) (¬1). وقال في موضع آخر: (ولولا دلالة السنة لكان ظاهر القرآن أن الأموال كلها سواء، وأن الزكاة في جميعها، لا في بعضها دون بعض) (¬2). ونُقل عن نَص البويطي نحوه؛ ولهذا احتج بها أصحابنا على وجوب الزكاة في مال التجارة وعلى أخذ الشاة الصغيرة من الصغار، ونحو ذلك. ومَن يرى العموم يستدل بها في كل نوع اختُلف في الزكاة فيه إلَّا أن يخرج مِن دلالة السُّنة المنع فيه. ونُقل عن الشَّافعي أنَّه نَص في موضع آخَر على أن الآية من المجمَل الذي بيَّنته السّنة، وربما حمل نصه الأول على أنَّه أراد ذلك؛ لأن آخِره يقتضي احتمال الأمرين، إلَّا أن يقال: إنه إنما ذكره لكونه مرجوحًا بالنسبة إلى الأول، والإجمال شرطه التساوي. وبالجملة فالقولان هنا كالقولين المنقولين عنه في قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: ¬

_ (¬1) الرسالة (ص 187). (¬2) الرسالة (ص 196).

43] وفي قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، مع قولين آخرين، وفي غير ذلك أيضًا. وعلى قول الإجمال فلا يُستدل بها على مختلَف فيه إلَّا بدليل على شمول الآية له. ونُقل عن الكرخي من الحنفية أن مقتضى الآية إنما هو أخذ صدقة واحدة من نوع واحد. ورجحه ابن الحاجب حيث قال خلافا للأكثر: (لنا: أنَّه بصدقة واحدة يَصْدُق أنَّه أخذ منها صدقة، فيلزم الامتثال. وأيضًا فإن كل دينار مال، ولا يجب ذلك بإجماع) (¬1). انتهى وقد أُجيب: - عن الأول بمنع صِدق ذلك؛ لأن "أموالهم" جمع مضاف، فكان عامًّا في كل نوع نوع وفرد فرد، إلَّا ما خرج بالسُّنة كما أشار إليه الشَّافعي. - وعن الثاني بأن المراد: عن كل نصاب نصاب كما بيَّنته السُّنة. ومما ذكر احتجاجًا للكرخي: أنَّ "مِن" في الآية للتبعيض ولو كانت الآية عامة، والتبعيض يَصْدُق ببعض المجموع ولو مِن نوع واحد. وجوابه أن التبعيض في العام إنما يكون باعتبار تبعيض كل جزئي جزئي منه، فلا بُدَّ أن يكون مأخوذًا مِن كل نصاب؛ إذ لو أسقطت "مِن" لكان المال يؤخذ كله صَدَقة. نعم، أجاب القرافي عن شُبهة الكرخي بأن "مِن" لا بُدَّ مِن تَعلُّقها بمحذوف، والأصل: "خذ صدقة كائنة من أموالهم"، فلمَّا قدم الجار والمجرور، كان في محل نَصب على الحال مِن المفعول، فلو أريد الخصوص، كانت الصدقة كائنة من بعض أموالهم، لا مِن كلها، ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى (2/ 228) مع بيان المختصر.

وهو خلاف قضية أنَّها كائنة من أموالهم. وفيه نظر؛ لأن وجود كونها بعض أموالهم يَصدق ولو كان بعض نوع منها. ولعلَّ ما قاله القرافي هو الحامل لبعضهم على قوله: إن الجار إنْ كان متعلقًا بالفعل وهو "خُذ"، رجح قول الكرخي؛ لأن "صدقة" نكِرة في إثبات، فيحصل الامتثال بصَدقة واحدة مِن نوع. وإنْ تعلَّق بصفة "صَدقة" فيقوى قول الجمهور؛ لأنها إنما تكون من أموالهم إذا كانت مِن كل نوع نوع. وفيه النظر السابق. عَلَى أن أبا بكر الرازي - من الحنفية - نقل في كتابه عن شيخه أبي الحسن الكرخي أن الآية تقتضي أخذ الحقِّ مِن سائر أصناف الأموال. فعَلَى هذا لا يبقى خلاف. وأما الآمدي فتوقف في المسألة فلم يرجح شيئا، إذ قال في آخر كلامه: (وبالجملة فهي محتملة، ومأخذ الكرخي دقيق) (¬1). فائدة: استنبط ابن حبان في صحيحه دليلًا لمقالة الكرخي السابقة من حديث: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة، ولا فيما دون خمسة أوسق صدقة" (¬2)، فقال: (هذا يبين أن المراد مِن قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] أن المراد به بعض المال؛ إذ اسم"المال" يقع على ما دُون الخمس مِن ذلك، وقد نفى النبي - صلى الله عليه وسلم - إيجاب الصدقة عن ما دُون الذي أخذ) (¬3). انتهى ¬

_ (¬1) الإحكام للآمدي (2/ 298). (¬2) صحيح البخاري (1340)، صحيح مسلم (979)، صحيح ابن حبان (3268). (¬3) صحيح ابن حبان (8/ 62).

ولا يخلو مِن نَظَر؛ فإن التخصيص يَطرق العام ولا ينفِي كونه عامًّا، بل يصير عامًّا مخصَّصًا. وقد سبق نحو هذه الشبهة في كلام ابن الحاجب والجواب عنها، والله أعلم. فائدة: 609 - لِلشَّافِعِيِّ: تَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ ... يُنْزَلُ [كَالْعُمُومِ في الْمَقَالِ] (¬1) 610 - لَكِنْ لَهُ: وَقَائِعُ الْأَحْوَالِ ... إذَا تَطَرُّقٌ لِلاحْتِمَالِ 611 - فِيهَا، [اكتَسَتْ] (¬2) ثَوْبًا مِنَ الْإجْمَالِ ... وَسَقَطَ الْأَخْذُ بِالِاسْتِدْلَالِ 612 - وَالْجَمْعُ قَالَ شَيْخُنَا: في الْأُولَى ... لَفْظٌ وَذِي فِعْلٌ، فَهَذَا الْأَوْلَى الشرح: هذه أيضًا مِن المواضع التي يبحث عن اقتضاء العموم فيها، ومَن يُثبته يجعله نوعًا خارجًا عما سبق من صيغ العموم. وإنَّما أفردته بالترجمة؛ لأنه من أصول إمامنا الشَّافعي الذي ذكره بأبلغ عبارة وأجمعها. وله عبارة أخرى ربما تُوهِم مخالفتها، فأوضحتها، وبيَّنتُ أنَّه لا تنافي بينهما على المرجَّح. فأما العبارة الأولى فقد اشتهرت عنه ونقلها إمام مذهبه إمام الحرمين، وهي: "تَرْك الاستفصال في وقائع الأحوال مع قيام الاحتمال - يُنَزَّل مَنزلة العموم في المقال". ومعناها أن الشارع - صلى الله عليه وسلم - إذا حَكم بأمر في واقعة اطَّلع عليها إما بسؤال سائل أو بغير ذلك وهي تحتمل وقوعها على وجه من وجهين أو وجوه، يكون ما حَكم به - صلى الله عليه وسلم - عامًّا في كل محتملاتها، وكأنه تَلفَّظ بعمومه فيها. ¬

_ (¬1) في (س، ت): في العموم كالمقال. (¬2) في (ض، من، ت): اكتسب.

فمن ذلك: أن غيلان بن سلمة الثقفي أَسلم وعنده عشر نسوة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمسك أربعًا، وفارق سائرهن" (¬1). رواه الشَّافعي من حديث معمر، عن الزُّهْريّ، عن سالم، عن أبيه. وكذا التِّرمِذي بلفظ: "فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يختار منهن أربعًا ويترك سائرهن" (¬2). ورواه أيضًا ابن ماجة والبيهقي، وأخرجه ابن حبان والحاكم. وما نقله التِّرمِذي عن البخاري - من كونه غير محفوظ من تلك الجهة - يُعارضه تصحيح الأئمة له وما له من الشواهد. واعلم أنَّه وقع في "النهاية" للإمام وتبعه الغزالي في "وسيطه" وفي "المستصفى" وتبعه الإمام الرازي في "المحصول" وكثير من أتباعهما وبعض "شراح البيضاوي" وافقهم أن صاحب هذه الواقعة ابن غيلان. وهو غلط؛ فليس في الصحابة ابن غيلان. نعم، في الرواة ابن عيلان (بالمهملة)، وهو قيس بن عيلان بن مضر، وزفر بن عيلان. وكأن هذا هو الحامل لابن الحاجب بعد قوله في "المختصر": (إنه ابن عيلان). ضبطه بخطه بالمهملة، ذكره في باب "الظاهر والمؤول" في التأويلات البعيدة. فأخذ الشَّافعي من هذا الحديث أن الكافر إذا أسلم على أكثر من العدد الشرعي، عليه أن يختار العدد الشرعي من الكل ولو مع تأخُّر العقد عليهن عن المتروكات (¬3)؛ لعدم ¬

_ (¬1) صحيح ابن حبان (4157)، سنن البيهقي الكبرى (13819) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 4145). (¬2) سنن التِّرمِذي (1128)، سنن ابن ماجة (1953) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن التِّرمِذي: 1128). (¬3) يعني: التي اختارها كان عقد نكاحها متأخِّرًا عن عقد التي تركها.

استفصال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كونه عقد على الكل مغا أو مرتَّبًّا؛ تنزيلًا لذلك منزلة التنصيص على عمومه في الأحوال كلها، وإلَّا لكان تأخيرًا للبيان عن وقت الحاجة. ونحو ذلك: ما رواه أَبو داود عن هُشَيم، عن ابن أبي ليلى، عن [حُمَيْضَة] (¬1) بنت الشمردل، عن قيس بن الحارث: "أَنَّهُ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ ثَمانِ نِسْوَة، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يختار أربعًا" (¬2). وإسناده حسن، وله إسناد آخر يَقوى به. وأخرج البيهقي بسنده عن عروة بن مسعود قال: (أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي عَشر نِسْوَة، أربع منهن من قريش، إحداهن بنت أبي سفيان، فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا وَخَلِّ سَائِرَهُنَّ"). قال: (فَاخْتَرْتُ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، منهن ابنة أَبِي سُفْيَانَ) (¬3). رجاله ثقات إلَّا أن فيه إرسالًا. وروى الشَّافعي والبيهقي بسند غير قوي من حديث عمرو بن الحارث، عن نوفل بن معاوية، قال: (أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي خَمْسُ نِسْوَة، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "فَارِقْ وَاحِدَةً، وَأَمْسِكْ أَرْبَعًا"). قال: (فَعَمَدْتُ إِلَى أَقْدَمِهِنَّ عِنْدِي عَاقِر مُنْذُ سِتينَ سَنَةً، فَفَارَقْتُهَا) (¬4). ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: خميصة. والصواب: حميضة. (¬2) سنن أبو داود (2241)، سنن ابن ماجة (1952). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 2241). (¬3) سنن البيهقي الكبرى (13833). قال الألباني في (إرواء الغليل: 1883): (أخرجه الحافظ ابن المظفر .. والبيهقى .. والضياء المقدسى .. من طريق محمد بن عبيد الله، عن عروة، به، وقال المقدسى: رجاله ثقات، إلَّا أن عروة الثقفى قتلته ثقيف فى زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومحمد بن عبيد الله لم يدركه). (¬4) مسند الشَّافعي (ص 274، رقم: 1316)، سنن البيهقي الكبرى (13835). قال الألباني: ضعيف. (إرواء الغليل: 1884).

وكذا عمم الشَّافعي الحكم في الأختين؛ لحديث فيروز الديلمي أنَّه أسلم وتحته أختان، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اختر أيتهما شئت" (¬1). رواه أحمد والتِّرمِذي وابن ماجة. وخالف أَبو حنيفة في جَعْلِ ترك الاستفصال كالعام، وقال: إنه لم يقع في الواقعة إلَّا حالة واحدة، فإنْ دَلَّ على خصوص حاله دليل، فهو، وإلَّا [فمُجمَل] (¬2) إلى قيام دليل على كيفية الوقوع. ووافقه أصحابه سوى محمد بن الحسن؛ فإنه استحسن مقالة الشَّافعي. ثم أوَّل أصحابه هذه الأحاديث إما على أنَّه - صلى الله عليه وسلم - علم أن عَقد كل واحد ممن خَيَّره كان على كل نسائه معًا، لا مُرتَّبًا، وإما أنَّه مُرتَّب ولكن قوله له: "أمسك أربعًا" معناه: ابتدئ نكاح أربع. أو أن المراد: اختر أربعًا أوائل، أو غير ذلك من التأويلات البعيدة. والقول بالعموم أقرب من ذلك كله؛ فقد كان من عادته - صلى الله عليه وسلم - أن يستفسر في القضايا؛ حتَّى لا يدع ريبةً ولا إشكالًا. ففي قصة ماعز لما قال: (زنيت)، قال له: "كيف كذا؟ أَبِكَ جنون؟ هل أحصنت؟ " (¬3). وغير ذلك من السؤالات الواقعة في حديثه في "الصحيحين" وغيرهما. وفي "البخاري": "لعلك قَبَّلْتَ أو غَمَزتَ" (¬4). وفي ابن حبان: "هل تدري ما الزنا" (¬5). ¬

_ (¬1) سنن التِّرمِذي (1129)، سنن ابن ماجة (1951). قال الألباني: حسن. (صحيح سنن التِّرمِذي: 1129). (¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): فمحتمل. (¬3) صحيح البخاري (رقم: 6430)، صحيح مسلم (رقم: 1691). (¬4) صحيح البخاري (رقم: 6438). (¬5) صحيح ابن حبان (4399)، سنن أبي داود (رقم: 4428)، سنن النَّسائي الكبرى (7165) وغيرها.=

وفي حديث: علقمة بن وائل في "مسلم" في الرجل الذي جاء يقود آخر بنَسعَة وقال: هذا قتل أخي. فقال: "أقتلته؟ " قال: نعم. قال: "كيف قتلته؟ " فذكر له كيف وقع (¬1). وفي حديث المجامع في رمضان: "هل تجد؟ هل تجد؟ " (¬2). وفي حديث بيع الرطب بالتمر لَمَّا سُئل عنه، صححه التِّرمِذي وغيره: "أينقص الرطب إذا جف؟ " (¬3). وغير ذلك مما لا ينحصر، مع أن بعضه ليس فيه حد ولا قصاص حتَّى يُدَّعى أن الاستفسار إنما هو للاحتياط فيهما. ومما يُبعِد نفي القول بالعموم: كيف يخاطِب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتخيير مَن هو متجدد في الإسلام وغريب مِن غير سبق بيان لشرائط النكاح مع أن الحاجة داعية إليه؛ لِقُرب عهده بالإسلام؟ " وأَبْعَد منه أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يعرف كُلَّ حالة مِن حالات كل مَن خَيَّره، ولأن العقود فيها وقَعَت معًا، أو يعرف القديمات مِن الجديدات، ويصرح بالاختيار ومراده التعيين للقديمات، لاسيما وحديث الأختين فيه: "اختر أيتهما شئت"، فعلَّق بمشيئته. وتقريره مَن عمد إلى أقدم مَن عنده ففارقها واختار غيرها، وأنه فَهِم ذلك من قوله قوله: "اختر من شئت" الذي ¬

_ = قال الألباني: ضعيف. (التعليقات الحسان: 4383). (¬1) صحيح مسلم (رقم: 1680). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 1834)، صحيح مسلم (رقم: 1111). (¬3) شرح معاني الآثار (4/ 6، رقم: 5076). وهو في: سنن التِّرمِذي (رقم: 1225)، سنن أبي داود (رقم: 3359) وغيرهما بلفظ: (أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذا يَبِسَ؟ ). قال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 1352).

تضمنه قوله: "فَارِقْ وَاحِدَةً، وَأَمْسِكْ أَرْبَعًا". فإن قيل: كيف يثبت العموم بغير صيغة؟ قيل: الشَّافعي إنما قال: (يُنزل منزلة العموم). وهذا كما قال في المشترك في كونه يُحمل على معانيه: (إنه كالعام)، ولم يَقُل: إنه عام. نعم، هو عكس إخراج صيغة العموم عن عمومها بالقرينة (كما سبق في مسائل، وكما سيأتي) على رأْي في العام على سبب، لكن المرجَّح في الوارد على سبب أنَّه باقٍ على عمومه، يُفرَّق بينه وبين هذا بأن تخصيص العام أصعب من تعميم الخاص. تنبيهات الأول: قَيَّد إمام الحرمين وابن القشيري القول في ترك الاستفصال بالعموم بأن يظهر استبهام الحال على الشارع. فإن عُلم بحال الواقعة، نَزل جوابه على وَفْقها ولا عموم. قال: (كما يجري كثير من الفتاوى على مثل ذلك). قلتُ: هذا في الحقيقة بيان لصورة المسألة، لا تقييد. ألا ترى إلى قول الشَّافعي: (تَطرَّق إليها الاحتمال)؛ فإنَّ ما عَلِم به لم يَبْق فيه احتمال. ونحو ذلك ما حكى الشيخ تقي الدين في "شرح الإلمام" عن بعضهم أنَّه زاد في القاعدة أنَّه عام في واقعة سُئل عنها ولم تقع بعد، فإنْ وَقَعت وعُلِم حالها فلا عموم، بل الجواب واقعٌ على ما علِم. وإن التبس علينا أَعَلِمَ؟ أو لا؟ فالوقف. وذكر الأبياري هذه الأقسام الثلاثة، غير أنَّه قال في الثالث: (إنه إنْ عُلم استبهامه على النبي - صلى الله عليه وسلم - بقرينة، فالحمل على العموم باتفاق، وإنْ لم يُعلم استبهامه عليه، فالالتفات إلى القيد الوجودي يمنع القضاء على الأحوال كلها، وهو مُدرك أبي حنيفة، والالتفات إلى

الإطلاق في السؤال ونحوه يقتضي استيفاء الأحوال) (¬1). أي: وإلا لكان إطلاقًا في موضع التقييد، أو إبهامًا في موضع البيان المحتاج إليه. الثاني: قال الأستاذ أَبو منصور: وافقنا أهل الرأي على جَعْلِه كالعام في جنين الحرة حيث أوجب فيه - صلى الله عليه وسلم - غرة عَبد أو أَمَة ولم يسأل أَذَكَر هو؟ أم أنثى؟ قال الحافظ العلائي: وكذا حديث أم سلمة في المرأة التي كانت تهراق الدماء، فاستفتت لها أم سلمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أنْ يُصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قَدْر ذلك" (¬2) الحديث. فأطلق الجواب باعتبار العادة مِن غير استفسار عن أحوال الدم، فكان مُقدَّمًا على التمييز. لكن المرجَّح عندنا تقديم التمييز؛ لحديث فاطمة بنت أبي حبيش مرفوعًا: "دم الحيض أَسود يُعْرَف، فإذا كان ذلك، فأَمْسِكي عن الصلاة" (¬3) الحديث. ومن الحمل على العموم: حديث الأعمى الذي كانت أم ولده تقع فيه - صلى الله عليه وسلم -؛ فقتلها، فلما ذكر ذلك له - صلى الله عليه وسلم -، قال: "اشهدوا أن دمها هدر" (¬4). فاحتج به المالكية على عموم تحتم قتل ¬

_ (¬1) التحقيق والبيان في شرح البرهان (2/ 7 - 9). (¬2) سنن النَّسائي (رقم: 208)، سنن أبي داود (رقم: 274) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 274). (¬3) سنن أبي داود (رقم: 286)، سنن النَّسائي (215)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 204) (¬4) سنن أبي داود (رقم: 4361)، سنن النَّسائي (4070)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 4361).

المتعرض لجنابه - صلى الله عليه وسلم - ولو تاب؛ لأنه لم يستفسره، وكذلك قال أحمد؛ لأنه لم يسأل سيدها هل استتابها فتابت؟ أو لا؟ فيعُم وجوب القتل الحالين. الثالث: تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - في الواقعة بمنزلة صريح جوابه حتَّى يكون عامًّا، كما قال ابن دقيق العيد: إن الأقرب تنزيله على ذلك؛ طردًا للقاعدة، ولإقامة التقرير مقام الحكم عند الأصوليين. و[هكذا الحديث] (¬1): "إنَّا نركب البحر ومعنا القليل من الماء، فإنْ توضأنا به، عطشنا" (¬2) يستدل به على أن إعداد الماء الكافي للطهارة بعد دخول الوقت مع القدرة عليه غير لازم؛ لأنهم أخبروا أنهم يحملون القليل من الماء، وهو محتمل أن يكون للعجز وأن يكون مع القدرة، ولم ينكر عليهم؛ فَيَعُم؛ لترك الاستفصال. الرابع: إذا ثبت عمومه، فقد يَطرقه التخصيص، وقد يُخصَّص به ما هو أعم منه: فالأول: كحديث المرأة التي أراد زوجها أن يأخذ منها ابنها، فقال لها: "أنتِ أحقُّ به ما لم تنكحي" (¬3). ولم يُفصِّل بين سِن وسِن؛ فيُخَص بحديث الذي خيَّره فيه؛ لتمييزه. ¬

_ (¬1) في (ت): هذا كحديث. وفي (ش): هكذا كحديث. (¬2) سنن أبي داود (رقم: 83)، سنن التِّرمِذي (69)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 83). (¬3) مسند أحمد (6893)، سنن أبي داود (رقم: 2276) وغيرهما. قال الألباني: حسن. (صحيح أبي داود: 2276).

والثاني: كحديث "إنَّ أُمي توفيت، أفينفعها إنْ تَصدقت عنها؟ قال: نعم" (¬1). ولم يستفسره هل أوصت بذلك؟ أوْ لا؟ فيُخَص به - مع عمومه - حديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلَّا من ثلاث" (¬2) الذي هو أعم من الصدقة وغيرها. الخامس: قد يُستشكل على الشَّافعية عدم العمل بعموم إيجابه - صلى الله عليه وسلم - الكفارة على المجامع في رمضان (¬3) ولم يستفسره عن كونه مُقيمًا أو مُسافرًا، عامدًا أو ناسيًا، مفسدًا بالجماع أو لا، ونحوه مما قُيِّد به إيجاب الكفارة. وجوابه: أن ذلك مفهوم من قوله: (هلكت وأهلكت)، فإنه يدل على اجتماع الشروط. وكُل موضع يُتخَيل فيه المخالفة إذا تأمله المنصف، يجد فيه قرينة المنع من العموم. السادس: إذا كان بعض حالات الواقعة نادرًا، فقضية كلام المقترح أنَّها لا تدخل في العموم، لأن العموم فيها ضعيف. لكن الظاهر الدخول إذا قلنا بدخول النادر تحت اللفظ العام. بل قيل: يدخل قطعًا؛ لجواز أن يكون هو الواقع في الواقعة. نعم، قضية كلام الرافعي أيضًا عدم الدخول؛ إذْ قال في اختلاع الحائض لَمَّا استدل ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 2605)، سنن أبي داود (رقم: 2882)، سنن التِّرمِذي (669) وغيرهما. (¬2) سنن التِّرمِذي (رقم: 1376)، سنن النَّسائي (3651)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن التِّرمِذي: 1376). (¬3) سبق تخريجه.

بقصة امرأة ثابت في خلع الحائض: (إن الحيض ليس بأمر نادر) (¬1). فإن مفهومه أنَّه لو كان أمرًا نادرًا، لَمْ يَعُمه الحكم. وقال ابن دقيق العيد في حديث سبيعة الأسلمية لما أخبرته بوضع حملها، قالت: "فأفتاني أني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إنْ بَدَا لي" (¬2): (إن بعضهم استدل به على انقضاء العدة بوضع الحمل على أي وجه كان، مُضغة أو عَلَقة، استبان فيه التخلق أم لا؛ لعدم الاستفصال). قال: (وهو ضعيف لأن الغالب هو الحمل التام المتخلق، ووضع العَلَقة والمضغة نادر). قال: (وإنَّما تقوى القاعدة حيث لا يترجح بعض الاحتمالات على بعض) (¬3). انتهى وقولي: (لَكِنْ لَهُ: وَقَائِعُ الْأَحْوَالِ) إلى آخره - إشارة إلى أن للشافعي عبارة أخرى نُقِلت عنه وهي أيضًا مما يليق بفصاحته - رضي الله عنه -، ظاهرها مُخَالَفَةُ ما سبق، وهي: "وقائع الأحوال إذا تَطرق إليها الاحتمال، كساها ثوب الإجمال، وسقط بها الاستدلال". فإنَّ مفهومها أن المحتمِلَ من الوقائع لوجهين أو وجوه - مُجْمَلٌ، لا عام؛ لتعارض الاحتمالات من غير ترجيح. قال القرافي: (سألت بعض الفضلاء الشَّافعية عن ذلك فقال: يحتمل أن يكون للشافعي قولان فيه). ثم جمع القرافي بينهما بطريقين: ¬

_ (¬1) العزيز شرح الوجيز (8/ 483). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 3770)، صحيح مسلم (رقم: 1484). (¬3) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (2/ 195).

(أحدهما: أن الأُولى فيما ضَعُف احتماله؛ لأن الاحتمال الضعيف لا يؤثر في دلالة الظواهر؛ لأنها لا تخلو عن احتمال. والثانية فيما قَوِيَ فيه الاحتمال بحيث ساوى الباقي أو قاربَه. الثاني: أن الأُولى إذا كان الاحتمال في محل الحكم، والثانية فيما إذا كان في دليل الحكم. فالأول: كقصة غيلان؛ لأن الاحتمال في النسوة، ونحوه: {فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] يحتمل أن تكون سوداء أو بيضاء وغير ذلك من الأوصاف. والثاني: كحديث: "فيما سقت السماء العشر" (¬1)، يحتمل أن يراد به عموم ما فيه الزكاة حتَّى من الخضروات، ويحتمل أنَّه سِيق لبيان قَدْر المخرج؛ لأن اللفظ إذا خرج لمعنى، لا يُحتج به في غيره. وكحديث المُحْرِم الذي وقع عن راحلته، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تمسوه طِيبًا، ولا تُخمِّروا رأسه" (¬2) يحتمل أن يختص به وأنْ يَعُم كل محُرم) (¬3). انتهى وضُعِّفَ الفرقان: - بأن الاحتمال وإن ضَعُف فهو داخل في العموم، فيحتمل أنَّه المراد دون غيره، فهو - في ذلك - والقوي سواء. - وأنَّ المحرم الذي مات: الاحتمال فيه في محل الحكم، بل غالب وقائع الأعيان الاحتمال فيها في محل الحكم، لا في دليله. وجمع الأصفهاني في "شرح المحصول" بأجود من طريقي القرافي، و [كذلك] (¬4) الشيخ ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (1412). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 1208)، وفي صحيح مسلم (رقم: 1206). (¬3) نفائس الأصول (2/ 537 - 538)، شرح تنقيح الفصول (ص 187). (¬4) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): لم يذكر.

تقي الدين ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" والشيخ تقي الدين السبكي في "باب ما يحرم من النكاح" من"شرح المنهاج"، وهو أن: الأُولى: فيما إذا كان فيه لفظ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، كقوله - صلى الله عليه وسلم - لغيلان: "أمسك أربعًا" على رواية مَن روى قوله: "أمسك أربعًا وفارق سائرهن" (¬1). وكذا في باقي الذين أسلموا كما تَقدم. والثانية: فيما إذا لم يكن له فيها قول، بل حُكي فِعله فقط، نحو: "قضى بالشفعة للجار" (¬2). وسبق منه طائفة في مسألة الفعل المثبَت. وإنَّما كان كذلك، لأن العموم من عوارض اللفظ قطعًا، وفي المعنى خلاف كما سبق أول الباب، فأمكن أن يحال عليه العموم. نعم، سبق أنَّه ينبغي أن يكون تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك كقوله. وقد ذكرنا في " [باب] (¬3) السُّنة" أن التقرير هل هو من قبيل القول؟ أو الفعل؟ فإنما يأتي حمله على العموم إذا قلنا أنَّه كالقول. وإلى هذا الجمع الثالث أشرت بقولي: (وَالْجَمْعُ قَالَ شَيْخُنَا) إلى آخره، إشارة إلى أن شيخنا شيخ الإسلام أبا حفص البلقيني قال: (إن هذا هو الأَولى في الجمع بين عبارتَي الشَّافعي). فقولي: (في الْأُولَى) في شَطر البيت بضم الهمزة، أي: العبارة الأُولى. وقولي في آخِر البيت: (الْأَوْلَى) بفتح الهمزة، أي: الأَرجَح. وإنما تَعرضتُ لذلك؛ لِمَا كان شيخنا عليه من الاعتناء بنصوص الشَّافعي وممارسة ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) في (س، ت): كتاب.

كلامه. تنبيهات الأول: وقع في عبارة الشيخ تقي الدين في "شرح المنهاج" أن الاستدلال في العبارة الأُولى بقول الشارع وعمومه. وقد يُستشكل بأن محل الخلاف حيث لا يكون ثَمَّ لفظ عام، إلَّا أن يقال: مراده بِـ "قوله وعمومه " على تقدير أن يُجعل عامًّا كما قررناه، لا أن يكون صيغته صيغة عموم. نعم، قيل: في حديث: "اختر أيتهما شئت" صيغة عموم، وهي "أي" الموصولة. لكن سبق أن "أيًّا" الموصولة لا عموم فيها. وبتسليم أن يكون فيها عموم فهو من جهة المرأتين، لكن يحتمل أن يكون في حالة نكاحهما مرتبًا أو معًا؛ ولهذا أدخلوه في محل الخلاف. وأيضًا فعموم الشمول فيه متعذر، إنما عمومه عموم بدل، وإلا لجاز الجمع، وقد قال تعالى في المحرَّم: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23]. الثاني: في ذكر أمثلة - غير ما سبق - تتمهد بها العبارتان، فمنها: مِن الأولى: حديث ابن عمر في "الصحيحين": أن رسول الله " - صلى الله عليه وسلم - أتاه رجل وهو واقف عند الجمرة، فقال: يا رسول الله، حلقت قبل أن أرمي. فقال: "ارْمِ ولا حرج". وأتاه آخَر، فقال: ذبحتُ قبل أن أرمي. فقال: "ارْمِ ولا حرج". وأتاه آخر، فقال: أفضت قبل أن أرمي. فقال: "ارْمِ ولا حرج" (¬1). وفي حديث ابن عبَّاس نحوه. فقوله: "ولا حرج" شامل للعمد والسهو والعِلم والجهل وغير ذلك من الحالات، وأما ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

الحديث الذي فيه: "لم أَشْعُرْ، ففعلت كذا" (¬1) فتلك واقعة أخرى. ويكون الأمران مِن ذِكر بعض أفراد [العام] (¬2)، لا أنَّه من المطلق والمقيد فيتقيد بحالة عدم الشعور. ومنها: حديث الذي كان على خيبر، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: "أَكُل تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ " (¬3). الحديث. وقال له فيه: "لَا تَفْعَلْ، بِعْ الجْمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ اشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا". رواه البخاري. فاحتج به الشَّافعية والحنفية على الجواز، قَبِض أو لم يَقبِض؛ لعدم الاستفسار. ومنها: حديث ثابت بن قيس: "خذ الحديقة، وطلقها تطليقة" (¬4). ولم يفصل بين أن تكون حائضا أو لا. وقد سبق، ونحو ذلك، وهو كثير. ومن الثانية: حديث؛ "أنَّه كان يغتسل هو وبعض أزواجه من إناء واحد تختلف أيديهما" (¬5) محتمل لكونه مع رشاش ودونه. ومع الرشاش محتمل أن الواقع قُدِّر، لو قُدِّر مخالفًا لغَيَّر أوْ لا. والإناء صغير، أو ما فيه قُلَّتان. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 83)، صحيح مسلم (رقم: 1306). (¬2) في (ص، ق): العموم. (¬3) صحيح البخاري (رقم: 2089)، صحيح مسلم (رقم: 1593)، واللفظ للبخاري ولكن بـ (ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيًا). (¬4) صحيح البخاري (رقم: 4971) بلفظ: (اقْبَل الحْدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَة). (¬5) صحيح البخاري (رقم: 258).

وأيضًا فيحتمل أن تتأخر يده - صلى الله عليه وسلم - عنها أو يدها حتى يُستدل به على الأول للطهارة بفضل مائِها أو لا؛ ولذلك جاء في حديث عائشة أنها قالت: "أَبْقِ لي، أَبْقِ لي". ولم يَرِد أنه قال لها: أَبْقِي لي، أَبْقي لي. ومنها: ما روي "أن زنجيًّا وقع في بئر زمزم؛ فمات، فأمر ابن عباس بأن تُنزح" (¬1). فاستدل به الحنفية على تنجيس الماء الذي بلغ قُلتين وإنْ لم يتغير، بل بمجرد الملاقاة. وأجاب الشافعي بأنه قد يكون الدم ظهر وغَيَّر، ويحتمل أن نزحها كان [تنظيفًا] (¬2)، لا لأجل التنجيس، وأن يكون احتياطًا؛ لاحتمال التغير؛ فلا يتعيَّن كونه للتنجيس بمجرد الملاقاة. إلى غير ذلك، وقد ذكر الحافظ العلائي في قواعده طائفة مِن الأمثلة. الثالث: قولي: (إذَا تَطَرُّقٌ) أي: إذا حصل أو وُجد؛ لأن "إذَا" تختص بالجُمَل الفعلية. وقولي: (سَقَطَ الْأَخْذُ بِالِاسْتِدْلَالِ) أي: سقط الأخذ للحُكم منها بسبب الاستدلال؛ فإنه لا دليل فيها؛ لإجمالها. والله أعلم. * * * (تَمَّ بِعَوْن الله تعالى الجزءُ الثالث، وَيلِيه الجزء الرابع، وأوله: التخصيص) ¬

_ (¬1) سنن الدارقطني (1/ 33) بلفظ: (أَنَّ غُلامًا وَقَعَ فِي بِئْرِ زَمْزَمَ؛ فَنُزِحَتْ). وفي تاريخ ابن أبي خيثمة (1/ 289، رقم: 981) بلفظ: (إِنَّ إِنْسَانًا وَقَعَ فِي بِئْرِ زَمْزَمَ، فَمَاتَ، فَأَمَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْعُيُونِ فَسُدَّتْ وَأَنْ يُنْزَحَ الْمَاءُ). (¬2) في (ص، ق): تطييبًا.

التخصيص 613 - الرَّسْمُ في "التَّخْصِيصِ" قَصْرُ مَا يَعُمْ ... في بَعْضِهِ وَلَوْ عَلَى فَرْدٍ يَلُمْ 614 - إلَّا إذَا كَانَ الْعُمُومُ جَمْعَا ... فَذَا أقَلُّهُ ثَلَاثٌ وَضْعَا 615 - مَا لَمْ يَكُنْ لِكَثْرَةٍ فَزَائِدُ ... عَشَرَةٍ مَا لَمْ يَنُبْ فَعَائِدُ الشرح: لما انتهى الكلام في العموم وصِيَغه، شرعتُ في مُقابِلِه وهو الخصوص. فالخاص في الابتداء أمره ظاهر، وإنما النظر فيما كان عامًّا ثم صار خاصًّا بدليل، فهذا يتوقف معرفته على بيان التخصيص والمخصَّص (بالفتح) والمخصِّص (بالكسر). فأما "التخصيص" فرسْمه كما أشرتُ إليه في النَّظم: قَصْر العام على بعض أفراده. فخرج تقييدُ المطلق؛ لأنه قَصْر مُطْلَق لا عام، كَ {رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]. وكذا الإخراجُ من العدد، كَـ "عشرة إلا ثلاثة" ونحو ذلك. ودخل في العام: - ما عمومه باللفظ، نحو: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] قُصِر بالدليل على غير الذمي ونحوه ممن عُصِمَ بأمان. - وما عمومه بالمعنى، كقصر عِلة الربا في بيع الرطب بالتمر -مثلًا- بأنه "ينقص إذا جَف" على غير العرايا، وكقَصْر مفهوم الموافقة في نحو: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] على غير حبس الأصل في دَين الفرع على قول الغزالي بجوازه، وإنْ كان المرجَّح في المذهب ما صححه البغوي وغيره مِن المنع. وكقَصْر مفهوم المخالفة في نحو: "إذا بلغ الماء

قلتين، لم يحمل الخبث" (¬1) على غير ما وقع فيه ميتة لا نَفس لها سائلة، وشبه ذلك. تنبيهات الأول: المراد مِن قَصْرِ العام قصرُ حُكمه، وإنْ كان لفظ العام باقيًا على عمومه لكن لفظًا لا حُكمًا؛ فبذلك يخرج إطلاق العام وإرادة الخاص؛ فإنَّ ذلك قَصْر دلالة لفظ العام، لا قصر حُكمه. وسيتضح ذلك بما سيأتي مِن كون التخصيص إخراجًا مِن الحكم، لا مِن لفظ "العام"، ومِن الفرق بين العام المخصوص والعام المراد به الخصوص، وأن دلالةَ الأولِ على باقي الأفراد حقيقةٌ (على المرجَّح)، والثاني مجاز قطعًا. ولهذا قال البيضاوي عقب تعريف "التخصيص" وتبعه في "جمع الجوامع": إنَّ القابل للتخصيص حكم ثبت لمتعدد (¬2). ولكن استُشكِل عليه بأنه يشمل العدد والجمع المنكَّر، والتخصيص إنما هو للعام، ولا عموم فيهما. وقد أجاب في "منع الموانع" عن الأول: بأنَّ مدلول اسم العدد واحد، والتعدد إنما هو في المعدود. ومراده بذلك أنَّ مدلول العدد كلٌّ مجموعيٌّ، فهو مفرد ذو أجزاء، بخلاف العام؛ فإن مدلوله جزئيات متعددة؛ لأنه كُلي كما سبق، والحكم فيه كُلية. وعن الثاني: (بأنَّ الجمع المنكَّر إنِ اقترن بما يقتضي عمومه كـ "أل" أو "النفي" أو نحوه ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) منهاج الوصول (ص 174) بتحقيقي، جمع الجوامع (2/ 33) مع حاشية العطار.

فواضح؛ لأنه عام، وإن لم يقترن بذلك وقُلنا: لا عموم فيه في الإثبات، فهو عام باعتبار قابليته لِأنْ يكون عامًّا بِشَرْطه. فقبوله لتخصيص حُكمه لذلك) (¬1). انتهى وفي الأخير نظر؛ لأن المفرد كَ "رجُل" كذلك، فيكون متعددًا بالقابلية، ولكنه حقه أن يزيد في الجواب بأنَّ الجمع المنكَّر إذا لم يكن عامًّا، فتعدده تَعدُّد أجزاء، لا جزئيات كما قُلنا بنحوه في العدد. ولا يقال: فيه عموم بدلي، فيتعدد باعتباره. لأنَّا نقول: عندما يكون دالًّا على فرد لا يكون دالًّا على آخَر؛ فلا تَعدُّد، وإلا يَلزم أن يكون نحو: "رجُل" في الإثبات متعدد المعنى، وهو باطل. نعم، كَوْن الإخراج مِن الحكم لا مِن اللفظ سيأتي إيضاحه. وقد تبين بذلك المخصَّص (بفتح الصاد)، وأنه العام بمعنى حُكمه، لا لفظه، فاعلمه. الثاني: قد يقال: يَرِد على تعريف "التخصيص" بما ذُكِر أن النادر وغير المقصود داخل لا العموم على المرجَّح كما سبق، وقَصْر العام عليهما ليس تخصيصًا شرعيًّا، خلافًا للحنفية. فلذلك ضُعِّفَ تأويلهم حديث: "أيما امرأة نكحت نفسها" بالحمل على المكاتبة أو المملوكة -بأنه نادرٌ؛ فلا يُقصَر الحكم عليه. فالجواب: أن المراد أنه مع ندوره لا يكون فيه دليل على تخصيص العام بذلك. الثالث: أورد القرافي دخول النسخ لبعض أفراد العام باعتبار كون تخصيصها إنما ورد بعد دخول وقت العمل كما سيأتي إيضاحه. ¬

_ (¬1) منع الموانع (ص 180 - 181)، الناشر: دار البشائر الإسلامية.

وقد يجاب بأن الكلام في عامٍّ باقٍ على أن دلالته على فرد فرد ظاهرة، لا نص. وبعد وقوع العمل يصير كالنص على كل فرد فرد؛ فلذلك كان نسخًا. الرابع: قد يورَد على تعريف "التخصيص" أنه إنما يكون تخصيصًا بدليل، فَلِمَ لا قيل: قَصْر العام بدليل؟ وجوابه: أن الكلام في التخصيص الشرعي، فالتقدير: قَصْر الشارع العام على بعض أفراده. فأُضيف المصدر إلى مفعوله وحُذف الفاعل؛ لِلعِلم به؛ ولأجل ذلك لم أتعرض لكون تخصيص العام جائزًا؛ استغناءً بِذكر جوازه إلى واحد أو كذا إلى آخِر ما سيأتي. وقد تَعرض ابن الحاجب وغيره لحكاية الخلاف في جواز تخصيص العام، فقال: (التخصيص جائز إلا عند شذوذ) (¬1). وأراد بذلك أن العام سواء كان أمرًا أم نهيًا أم خبرًا يجوز أن يَطرقه التخصيص ولو كان مؤكدًا بِـ"كل" ونحوها، إلا أن قومًا شذوا فمنعوه مطلقًا - وكذا حكاه الإمام الرازي وأتباعه. لكن مقتضى إيراد الشيخ أبي حامد وسليم والشيخ أبي إسحاق وابن الصباغ وابن السمعاني وأبي الحسين والآمدي أن الخلاف إنما هو في تخصيص العام إذا كان خبرًا، لا أمرًا أو نهيًا، فإنه جائز بلا خلاف. لنا: ورود ما هو مخصوص قطعًا، نحو: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16]، {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25]، {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57]، {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23]، {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84]. وفي الأمر: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، وفي النهي: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى (2/ 235) مع بيان المختصر.

يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] مع أن بعض القربان غير منهي قطعًا. بل قالوا: لا عام إلا وطَرقَه التخصيص، إلا مواضع يسيرة عقد الشافعي في "الرسالة" لها بابًا، وسيأتي بيانها. وأما "العام" إذا أُكِّد، فلا يمتنع تخصيصه على أصح قولين للعلماء، حكاهما الماوردي والروياني في "باب القضاء"، ونقل القول بالمنع أيضًا أبو بكر الرازي عن بعضهم، وجزم به المازري، مستندين إلى أن التأكيد لنفي المجاز. ولهذا وقع الجواب في قوله تعالى: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154] على قراءة نَصْبِ "كُلَّه"؛ لأنه لو لم يكن معيِّنًا للعموم، لَمَا وقع جوابًا لمن قال: {هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} [آل عمران: 154]. ولكن الأصح نعم، بدليل: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ} [الحجر: 30 - 31] إذا قُدِّر متصلًا، وفي الحديث: "فأحرموا كلهم إلا أبو قتادة" (¬1). وفي "البرهان" لإمام الحرمين أن الجواز قضية كلام الأشعري. وصرح به القفال الشاشي والماوردي والروياني. بل ظاهر كلام الهندي في "باب النسخ" أنه إجماع. قولي: (وَلَوْ عَلَى فَرْدٍ يَلُمْ) إشارة إلى القَدْر الذي ينتهي إليه التخصيص ويبقى العام مقصورًا عليه، وأنه إنْ كان العام بصيغة غير الجمع وما في معناه فيجوز إلى واحد، وإنْ كان جمعًا أو ما في معناه فيجوز إلى أقَل الجمع. وهذا هو أرجح المذاهب كما سنذكره، وحينئذٍ فيُحتاج إلى معرفة "أَقَل الجمع" ما هو إذا كان جمع قِلة أو كثرة؟ ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 1728)، صحيح مسلم (رقم: 1196).

فيتوجه الكلام إلى أمرين: ما ينتهي إليه التخصيص، [و] (¬1) بيان أقَل الجمع. فالأول: فيه مذاهب: أحدها: المختار -وهو رأي القفال الشاشي- أنه يجوز التخصيص إلى أن ينتهي إلى أقَل المراتب التي ينتهي إليها ذلك العام الذي قد خُصَّ. فإن لم يكن جمعًا ولا في معنى الجمع كَـ "مَن" و"ما" و"أين" ونحو ذلك، فإلى أن يبقى واحد. وإنْ كان جمعًا كَـ "الرجال" أو ما في معناه كَـ "النساء" و"القوم" و"الرهط" ونحو ذلك، فإلى أن يبقى أقَل ما ينطلق عليه الجمع أو ما في معناه. وعلى هذا فيُفَصَّل في الجمع: فإنْ كان جمع قِلة فإلى ثلاثة أو اثنتين على الخلاف الآتي في أقَل الجمع. وإنْ كان جمع كثرة أو ما في معنى الجمع إذا لم يُقيِّد أهل العلم أقَله بشيء فإلى أحد عشر. بل حكى قوم الاتفاق في إبقاء واحد إذا لم تكن الصيغة جمعًا أو معناه. فقال الأستاذ أبو إسحاق: (إنه لا خلاف في ذلك). وحكى القاضي عبد الوهاب عنه أنه ألحق أسماء الأجناس -كَـ "السارق" و "السارقة"- بالجمع المعرَّف في امتناع ردِّه إلى الواحد. وقال الأصفهاني: (ينبغي أن يلحق بذلك أيضًا "أيّ" و"مَن" و"ما"؛ لتناوله الواحد والاثنين) (¬2). ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (س): وفي. (¬2) الكاشف عن المحصول (4/ 401 - 402).

بل صرح إلكيا الطبري بذلك. قال السبكي في "شرح البيضاوي" بعد حكاية مذهب القفال: (وما أظن القائل بهذا الرأي يقول به في كلِّ تخصيص، ولا يخالف في صحة استثناء الأكثر إلى الواحد، بل الظاهر أن قوله مقصور على ما عدا الاستثناء من المخصصات؛ بدليل احتجاج بعض أصحابنا عليه بقول القائل: عليَّ عشرة إلا تسعة. ويحتمل أن يعم الخلاف، إلا أن الظاهر خِلافه؛ لأن المنقول عنه المخالفة هنا لم تُنقل عنه ثَمَّ) (¬1). انتهى قلتُ: على أن هذا التفصيل وإنْ كان هو الراجح المفهوم من كلام جمهور أصحابنا لكنه مُفرَّع على أن الجمع العام آحاده جموع، لا وحدان. فأما إذا قُلنا: الآحاد وحدان، فهو حينئذٍ كَـ "مَن" و "ما" ونحوهما بلا فرق. نعم، سبق اضطراب الترجيح في تلك المسألة، فاعْلَمه. المذهب الثاني: أنه يجوز التخصيص إلى أن يبقى واحد مطلقًا، سواء أكانت الصيغة جمعًا أَم لا. وهو قول الشيخ أبي إسحاق الشيرازي. وحكاه إمام الحرمين في "التلخيص" عن معظم أصحاب الشافعي، قال: وهو الذي اختاره. ونقله أيضًا عن معظمهم ابن الصباغ، ونقله ابن السمعاني عن سائر أصحابنا خلا القفال، وحكاه الشيخ أبو إسحاق عن إجماع أئمتنا، وصححه القاضي أبو الطيب، ونسبه القاضي عبد الوهاب للجمهور. مِثاله قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] والقائل لذلك هو نعيم بن مسعود الأشجعي كما ذكره الآمدي وابن الحاجب وغيرهما تبعًا لكثير من المفسرين، لكن الذي ذكره الشافعي في "الرسالة" أنهم ¬

_ (¬1) الإبهاج (2/ 125).

أربعة. وزاد بعضهم في نقله عن "الرسالة" أنه قال: وهُم الأربعة الذين تخلَّفوا عن أُحد. لكن الذي رأيته في "الرسالة" في عِدة نُسخ صحيحة في "باب ما يكون من الكتاب عام الظاهر والمراد خاص" ما سبق بدون هذه الزيادة. أما الناس في قوله تعالى: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] فذكر كثير من المفسرين أنه أبو سفيان، فيكون أيضًا شاهدًا للمسألة. ومِثله أيضًا قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54]، المراد بالناس هُم النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قاله كثير، ونحوه أيضًا قوله تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران: 39]. قيل: هو جبريل وحده، وكذا قيل به في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ} [آل عمران: 42]، {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} [النحل: 2] أيْ: بالوحي؛ لأن الرسول إلى جميع الأنبياء جبريل. قلتُ: وفي الاستدلال بذلك على المسألة نظر؛ فإن ذلك إنما هو مِن العام المراد به خاص، لا من العام المخصوص، ويدل على ذلك ترجمة الشافعي السابقة. المذهب الثالث: ما ذهب إليه أبو الحسين، وربما نُقل عن المعتزلة مِن غير تعيين، وإليه مَيل إمام الحرمين، واختاره الغزالي، ونقله بعض المتأخرين عن أكثر أصحابنا: أنه لا بُدَّ مِن بقاء جَمعٍ كثير. قيل: إلا أن يستعمل ذلك العام في الواحد تعظيمًا، نحو: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات: 23]. لكن لا حاجة إلى هذا الاستثناء؛ لأن هذا من إطلاق العام وإرادة الخاص، وليس الكلام فيه كما بيَّناه. وهذا المذهب نقله أيضًا الآمدي وابن الحاجب عن الأكثرين، واختاره الإمام وأتباعه، لكن اختلفوا في تفسير ذلك الجمع الكثير الذي يبقى.

فقال ابن الحاجب: (إنه الذي يَقْرب من مدلوله قبل التخصيص) (¬1). ومقتضى هذا أن يكون أكثر من النصف، وفسره جَمعٌ -كالبيضاوي- بأن يبقى غير محصور. والتفسيران متقاربان؛ إذِ المراد بكونه يقرب من مدلول العام أن يكون غير محصور، فإنَّ العام هو المستغرق لِما يَصْلح له مِن غيْر حَصْر، فهو معنى أن يبقى غير محصور، ولهذا قابله ابن الحاجب بأقوال الثلاثة والاثنين والواحد الآتي ذِكرها. فقول البيضاوي في تعليله على تفسيره السابق: (لسماجة "أكلتُ كُل رمان في البيت" ولم يأكل غير واحدة) (¬2) إنما مراده أن يكون الذي في البيت الواحد والاثنان والثلاثة؛ لكون ذلك محصورًا، و"كُل" إنما تكون لغير المحصور. وذِكرُهُ الواحد مثال، خلافًا لمن انتقد عليه بأنه لا يَلزم مِن قُبْح هذا قُبْحُ المحصور كالاثنين والثلاثة. فالدعوى عامة والدليل خاص. وإذا تَقرر ما ذكرناه من عدم مغايرة التفسيرين، عرفتَ أن ما في "جمع الجوامع" مِن جَعْلِهما قولين متغايرين ليس بجيد. المذهب الرابع: أنه لا بُد من بقاء أقَل الجمع مطلقًا ولو لم يكن صيغة العموم جمعًا. حكاه ابن برهان وغيره. فقول ابن الحاجب: (وقيل: اثنان. وقيل: ثلاثة) لَعلَّه للخلاف الآتي في كون الجمع اثنين أو ثلاثة، فيرجعان إلى هذا المذهب، ويحتمل أن المدْرَك غير ذلك، والأمر سهل. المذهب الخامس: التفصيل بين أن يكون التخصيص بالاستثناء والبدل فيجوز إلى واحد، وبين أن لا يكون بهما فلا يجوز إلى واحد. حكاه ابن المطهر. ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى (2/ 235) مع بيان المختصر. (¬2) منهاج الوصول (174) بتحقيقي.

السادس: تفصيل آخَر، قال ابن الحاجب: (إنه المختار). قال الأصفهاني وغيره: ولا يعرف لغيره أن التخصيص إنْ كان بالاستثناء والبدل يجوز إلى واحد، أو بالمتصل غيرهما -كالصفة- يجوز إلى اثنين، أو بالمنفصل في العام المحصور القليل يجوز إلى اثنين أيضًا. مِثل: "قتلتُ كل زنديق"، وقد قتل اثنين، والزنادقة كانوا ثلاثة. وبالمنفصل غير المحصور أو العدد الكثير يكون المختار القول بإبقاء العدد الذي يَقْرب مِن مدلول العام. قولي: (إلَّا إذَا كَانَ الْعُمُومُ جَمْعَا) إلى آخِره -بيان لمسألة أقَل الجمع ما هو؟ حتى يترتب عليها بعض المذاهب في المسألة السابقة. وهذا وجه مناسبة ذِكر مسألة "أقَل الجمع" هنا كما ذكرها إمام الحرمين والإمام الرازي وأتباعه. وذكرها جَمعٌ -كابن الحاجب- عقب مسألة: الجمع المنكَّر هل هو للعموم؟ أو لا؟ ولكن هنا أليق؛ لأنَّ مَن يقول بعموم الجمع المنكَّر لا يُعَيِّن الحمل على أقَل الجمع، بل على الأقل أو غيره مما يقتضيه الحال وإنْ كان يُحمل على الأقل حيث لا قرينة، لكنه ليس المقصود من تلك المسألة. وفي أقل ما ينطلق عليه الجمع مذاهب تُقدَّم عليها مُقدِّمة، وهي: أن الدال على متعدد إما مثنى أو جمع أو اسم جمع أو جنس جمعي أو غير ذلك من الضمائر (كَـ "قمنا" و"قمتم" و"أنتم") أو الإشارة (كَـ"أولئك") أو الموصول (كَـ "الذين") أو غير ذلك مما لا ينحصر. لكن المثنى ونحوه لا غرض لنا فيه، بل في غيره. فلنبدأ بالجموع؛ لأنها موضوع هذه المسألة غالبًا، ثم نتعرض لبعض ما أشرنا إليه. فنقول: الجمع قِسمان: جمع قِلة: وهو ما يطلق للعَشرة فمَا دُونها.

وجمع كثرة: وهو ما يُطلق لأحد عشر فصاعدًا إلى ما لا نهاية له. وجمع القِلة منحصر في نوعين: أحدهما: جموع التصحيح وهو: ما سَلِمَ فيها بناءُ الواحد، سواء كانت لمذكر نحو: "مسلمين" أو مؤنث نحو: "مسلمات". وثانيهما: أربعة من جموع التكسير، جمعها بعض القدماء في قوله: بأفعُلٍ وبأفعالٍ وأفعِلةٍ ... وفِعْلةٍ يعرف الأدنى من العددِ وزاد -في ضم جمعي التصحيح إليها أبو الحسن الدَّباج من نحاة أشبيلية -بيتًا، فقال: وَسَالِمُ الْجَمْعِ أَيْضًا دَاخِلٌ مَعَهَا ... في ذلك الحكم، فَاحْفَظْهَا وَلَا تَزِدْ ودليل كون النوعين للقِلة الاستقراءُ، فإنهم لا يفسرون العدد القليل إلا بها، كَـ"ثلاثة أفلُس"، و"أربعة أجمال"، و"خمسة أرغِفة"، و"سبعة صِبية"، و"سبع بَنين" و "تسع شجرات" ونحو ذلك. وعلَّل النحاة ذلك في جمع التصحيح بأنه على حَد المثنى، فوجب قِلته وحصره. وفي الأربعة من التكسير بأنها تُصَغَّر على لفظها كالمفرد، وغيرها من جموع التكسير إنما تُصَغَّر على إفراد واحدها ثم يجمع بِـ "الواو والنون" في العاقل، وبـ "الألف والتاء" في غيره، فيقال: "رُجَيْلون" و"دريهمات". نعم، قد يقوم جمع القِلة مقام جمع الكثرة، وبالعكس، كما في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فإن المطلقات في غاية الكثرة، وجمعها بالألف والتاء، وأكَدَها في قوله: {بِأَنْفُسِهِنَّ} بجمع قِلة. واستعمل جمع الكثرة وهو "قروء" في ثلاثة، وربما كان ذلك استغناءً بما لا يستحق عما يستحق، كـ"رجال" ليس له جمع قِلة، و"أقلام" ليس له جمع كثرة.

نعم، مقتضى قول سيبويه وجمع من أئمة النحو في التعبير عن ذلك بأنه قد "يُستعار كذا لكذا" أنَّ ذلك مجازٌ، وأن الحقيقة التفرقة السابقة. فأول المذاهب في أقَل الجمع أنه ثلاثة، ولا يستعمل في الاثنين إلا مجازًا. وإليه ذهب الأكثرون، منهم الشافعي وأبو حنيفة، واختاره الإمام الرازي وأتباعه كالبيضاوي، وكذا ابن الحاجب في "مختصره الكبير"، أما في "الصغير" فسيأتي ما وقع له فيه. وربما رُوي هذا القول عن مالك، حكاه عنه عبد الوهاب، لكن المشهور عنه ما سيأتي. ورُوي عن عثمان وابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما -. وممن نقله عن نَص الشافعي الروياني في "البحر" في "كتاب العدد"، قال: (وهو مشهور مذهب أصحابنا) (¬1). وقال إمام الحرمين: إنه ظاهر مذهب الشافعي. وقال إلْكِيا: هو مختار الشافعي. ونقله القاضي أبو الطيب عن أكثر أصحابنا، وقال الأستاذ أبو إسحاق: إنه ظاهر المذهب. ونقل أيضًا عن نَص الشافعي في "الرسالة"، ونقله أَبو الخطاب -من الحنابلة- عن نَص أحمد، وحكاه ابن الدهان عن جمهور النحاة، وفي "شرح الكتاب" لابن خروف أنه مذهب سيبويه. قال القفال الشاشي في "أصوله": ولهذا جعل الشافعي أقَل ما يعطى من الفقراء والمساكين -أيْ من الزكاة- ثلاثة، وفي الوصية للفقراء أقَلهم ثلاثة. قال: لأن السِّمات دلائل على المسميات، وقد جعلوا للمفرد والمثنى صيغة، فلا بُدَّ أن يكون للجمع صيغة بخلافهما. الثاني من المذاهب: أن أقَله اثنان. وبه قال القاضي أبو بكر، وحكاه هو وابن خويز منداد عن مالك، واختاره الباجي. ¬

_ (¬1) بحر المذهب (11/ 255).

ونقله صاحب "المصادر" عن أبي يوسف، قال: ولهذا ذهب إلى انعقاد صلاة الجمعة باثنين سوى الإمام. فجعل قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] اثنين يسعيان فصاعدًا إلى الإمام. لكن أنكر ذلك عن أبي يوسف شمسُ الأئمة السرخسي، وقال: (إن عنده الجمع الصحيح ثلاثة كما يقوله محمد فيما نَص عليه في "السير الكبير") (¬1). وقال ابن حزم: (إنَّ كون أقل الجمع اثنين قولُ جمهور أهل الظاهر) (¬2). ثم اختار خِلافه. وحكاه سليم عن الأشعرية وبعض المحدثين، وحكاه ابن الدهان النحوي عن محمد بن داود وأبي يوسف والخليل ونفطويه، واختاره الغزالي. وربما احتُج لذلك بقوله تعالى: {قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، فسألوا إلهًا مع الله؛ لتكون الآلهة اثنين، تَعالَى الله عن ذلك، لا إله غيره. وُيروى هذا القول أيضًا عن عمر وزيد بن ثابت - رضي الله عنهما -. واعلَم أن ما نُقل من ذلك عن الصحابة إنما أُخذ من اختلافهم في حجب الأم عن الثلث إلى السدس بأخوين أو بثلاثة، لا أنهم تكلموا في أقَل الجمع بخصوصه. وربما كان مَأخذ مَن قال باثنين غير ذلك، كما روى ابن خزيمة والبيهقي وابن عبد البر بسندٍ -وإن كان متكلَّمًا فيه- إلى ابن عباس في الاستدلال على ذلك، ولكن الحاكم رواه، وقال: صحيح الإسناد: أنه دخل على عثمان، فقال له: (إن الأخوين لا يردان الأم إلى السدس، فإنما قال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11]، والأخوان في لسان قومك ¬

_ (¬1) أصول السرخسي (1/ 151). (¬2) الإحكام في أصول الأحكام (4/ 413).

ليسَا بإخوة. فقال عثمان: لا أستطيع أن أنقض أمرًا كان قبلي وتوارثه الناس ومضى في الأمصار) (¬1). فقال ابن عباس: (إن الأخوين ليسَا بإخوة)، فلم يُنكر عليه عثمان ذلك، بل عدل إلى الاستدلال بما ذكره؛ فدل على توافقهما عليه، وأن مَن يرى بالحجب بأخوين ليس لكون أقَل الجمع اثنين، بل للإجماع السابق، أو قول الأكثر، أو نحو ذلك. فمَن ينقل عن الصحابة أن أقَل الجمع اثنان، فَظَنٌّ منه أن سنده في الحجب لفظ "إخوة" في الآية. وعلى ذلك يُحمل ما رواه الحاكم في المستدرك عن زيد أنه كان يقول: "الإخوة في كلام العرب أخوان فصاعدًا" (¬2) وروي نحوه عن عمر أنما مُرادهما في هذا الموضع، لدليل قام عندهما فيه. الثالث: الوقف. حكاه الأصفهاني في "شرح المحصول" عن الآمدي، وفي ثبوته نظر؛ لأنه إنما أَشْعر به كلام الآمدي، إذْ قال في آخِر المسألة: (وإذا عُرف مآخذ الجمع من الجانبين، فعَلَى الناظر الاجتهاد في الترجيح، وإلا فالوقف لازم) (¬3). ولكن هذا الكلام بمجرده لا يكفي في حكاية الوقف مذهبًا. ¬

_ (¬1) مستدرك الحاكم (7960). قال الألباني: ضعيف. (إرواء الغليل: 1678). (¬2) المستدرك على الصحيحين (رقم: 7961). قال الألباني في (إرواء الغليل: 1678): (أخرجه الحاكم .. من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه .. وقال: "صحيح على شرط الشيخين". ووافقه الذهبى، وأقول: ابن أبي الزناد لم يحتج به الشيخان، وإنما أخرج له البخارى تعليقًا، ومسلم في المقدمة، وهو حَسن الحديث). (¬3) الإحكام للآمدي (2/ 247).

الرابع: أن أقَل ما يُطلق الجمع عليه واحد. وربما ينقل ذلك عن إمام الحرمين كما عزاه ابن الحاجب له، إذْ قال في "مختصره الصغير": (مسألة: أبنية الجمع لاثنين تصح، وثالثها: مجازًا. الإمام: ولواحد) (¬1). فإن كلامه يقتضي أن لنا قولًا أن الجمع لا يصح إطلاقه على الاثنين، لا حقيقة ولا مجازًا. ولكن لا يُعرف ذلك. ويقتضي أن الإمام يقول: إنَّ أقَل الجمع واحد. فإنْ أراد حقيقةً فلا قائل به أصلًا، أو مجازا فلا يمنعه أحد، لا الإمام ولا غيره. والذي غَرَّ ناقل ذلك عن الإمام أنه قال في "البرهان" عقب مسألة: "التخصيص إلى ماذا ينتهي؟ " وذكر صيغة الجمع، ثم قال: (والذي أراه أن الرد إلى واحد ليسِ بدعًا، ولكنه أَبْعَد مِن الرد إلى اثنين) (¬2). لكن كلام الإمام إنما هو منحط على ما قبله، وهو ما ينتهي إليه التخصيص. ومراده بقوله: (ليس بِدعًا) أن الانتهاء إلى واحد في التخصيص ليس بِدعًا وإنْ كان مجازًا. ولهذا قال عقبه: (وهو أبْعد من الرد إلى اثنين)؛ لأن المجازات قد تتفاوت بها القُرب والبُعد من الحقيقة، ولو كان مراده أن ذلك يكون حقيقة، لَمَا قال: (وهو أبعد من الرد لاثنين)؛ لأن الحقيقة لا تتفاوت جزئياتها من حيث كونها حقيقة. فالذي يقتضيه قول الإمام أو، وآخِرًا أن أقَل الجمع ثلاثة حقيقةً، وأنه في دُونها مجاز. فمن أمثلة الإطلاق على الواحد: ما سبق في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173]، ونحوه. ومثَّله ابن فارس بها "فقه العربية" بقوله تعالى: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى مع شرحه (2/ 122). (¬2) البرهان (1/ 241).

35]؛ لأن المراد بالمرسلين سليمان. وفيه نظر؛ لاحتمال إرادتها جنس المرسلين الذين سليمان -عليه السلام- منهم. ونحوه قول الزمخشري (¬1) في: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105]؛ لأنه نوح. وفيه أيضًا نظر؛ لأنَّ مَن كذَّب رسولًا فقد كذّب الرسُل كلهم، كما يقال: فلان يركب الدواب. أي: شأنه ذلك. وعلى هذا فهو حقيقة خلاف، فقول الغزالي وغيره: (إنَّ مثل ذلك مجاز بالاتفاق) إنما نظروا في ذلك للواقع، لا للمفهوم. نعم، إمام الحرمين مَثَّله بأن يرى امرأة تبرجت لرجلٍ فيقول لها: (أتتبرجين للرجال؟ ! )، فإن كان مراده أنه يكون حينئذٍ مجازًا -وقد نقله عنه كذلك إلْكِيا- فهو مما لا نزاع فيه كما سبق؛ لأنه مِن إطلاق الكل على البعض. وإنْ كان حقيقةً، فهو نظر إلى المفهوم، لا إلى الواقع، أي: شأنك أن تتبرجي لجنس الرجال. ويدل عليه قرينة خصوص الرجل المرئي، لا أن قصد قَصْر الرجال عليه. نعم، من إطلاق الجمع وإرادة الواحد مجازًا إذا أطلق ذلك في مقام التعظيم برفع قَدْرِه عن رُتبة الواحد وضعًا ومحلًّا، كما يقال للكبير: (أنتم فعلتم ذلك). وقول المعظِّم نفسه: (فَعَلْنا ذلك). كما صرح أهل العربية بأن ذلك للمشارك أو المعظِّم نفسه كما في قوله تعالى حكايةً عمن قال: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99]، وقوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف: 12]، {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات: 23]، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر: 9]. وهو أمر لا ينحصر. ومنهم من أَوَّل كلام الإمام السابق على أن إطلاق الجمع للواحد جائز اتفاقًا. ¬

_ (¬1) قال الزمخشري في تفسيره (الكشاف، 3/ 328): (قوله: {الْمُرْسَلِينَ} والمراد نوح عليه السلام).

وإنْ حَمل السامع الجمع على واحد، الأكثر على المنع؛ لأنَّ المعْظَم على أن ألفاظ الجموع العامة نَصٌّ في أقَل الجمع وإنِ اختُلف في أنه اثنان أو ثلاثة. وذهب الإمام إلى أنه يصح، فمسألة الإطلاق غير مسألة الحمل؛ كنظيره في المشترك في إطلاقه على معنييه وحَمْله عليهما. قلتُ: وهذا عائد إلى ما سبق من أن كلام الإمام فيما ينتهي إليه التخصيص، فإن التخصيص إذا انتهى لواحد، [حمله] (¬1) السامع عليه. وقد تحررت المسألة وكلام ابن الحاجب عن الإمام، ولله الحمد. تنبيهات الأول: في تحرير محل الخلاف: فليس الخلاف في لفظ "جَمْع" الذي هو مَصْدر جمَع يَجمَعُ جَمْعًا؛ فإنَّ معنى ذلك لغةً: الضم، وهو صادق على اثنين اتفاقًا. ولا في لفظ "جماعة"؛ فإن ذلك لاثنين فصاعدًا قطعًا، كما في حديث أبي موسى الأشعري كما رواه ابن ماجه لكن بطريق ضعيف، وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فيما رواه الدارقطني من حديث عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي، وهو ضعيف وإنْ كان "عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده" محتجًّا به على الراجح. نعم، للحديث طرق ضعيفة قد يتقوى بعضها ببعض أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الاثنان فما فوقهما جماعة" (¬2)، فإن القصد بذلك أيضًا الاجتماع؛ لحكمة تألُّف القلوب وغيرها. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): حمل. (¬2) سنن ابن ماجه (972)، سنن الدارقطني (1/ 280)، المستدرك على الصحيحين (رقم 7957)، =

ونحوه حديث النهي عن السفر إلا في جماعة (¬1)؛ لِمَا في الاجتماع من الأُنس والأمن وغير ذلك. وليس الخلاف أيضًا في نحو: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وإنِ استدل به بعض من يرى أن أقَل الجمع اثنان، وهو مردود؛ لأن ذلك إنما هو لأن قاعدة اللغة أن كل اثنين أُضيفَا إلى مُتَضَمِّنيهما يجوز فيه ثلاثة أَوْجُه: - الجمع على الأفصح، نحو: "قطعت رؤوس الكبشين". - ثم الإفراد، كَـ"رأس الكبشين". - ثم التثنية، كَـ"رأسَي الكبشين". وإنما رُجح الجمع استثقالًا لتوالي دالَّين على شيءٍ واحد وهو التثنية، وتضمن الجمع التعدد، بخلاف ما لو أُفْرِد. فالخلاف حينئذٍ إنما هو في الدال على الجمعية لا بطريق التثنية، وهي صِيَغ الجموع وما في معناها من أسماء الجموع، كَـ"قوم، ورهط، وخيل، ونساء، وبقر، وتمر"، ونحو: "أُولي، ¬

_ =وغيرها. قال الألباني: ضعيف. (إرواء الغليل: 489). (¬1) في مسند أحمد (5650): (عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ الْوَحْدَةِ، أَنْ يَبِيتَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ، أَوْ يُسَافِرَ وَحْدَهُ). قال الحافظ العراقي في (تخريج أحاديث الإحياء، ص 721): (أخرجه أحمد من حديث ابن عمر بسند صحيح). وفي: مصنف ابن أبي شيبة (26388)، المراسيل لأبي داود (ص 237، رقم: 311)، وغيرهما: عَنْ عَطَاء، قَالَ: "نَهَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُسَافِرَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ، أَوْ يَبِيتَ فِي بَيْتٍ وَحْدَهُ". وفي صحيح البخاري (2836) عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوحْدَةِ مَا أَعْلَمُ، مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ".

وأولات"، ونحو: "الذين، واللاتي"، ونحو: "هؤلاء"، ونحو: "فعلوا، وفعلنا" كما سبقت الإشارة إليه. فالخلاف في ذلك كله مطَّرد كما يُفهم من أمثلِتهم واستدلالاتهم، كاستدلال الإمام الرازي وأتباعه بقوله تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] لمن قال: أقَل الجمع اثنان. وأجابوا عنه بأن المتقدم وإنْ كان داود وسليمان فقط لكن ضُم معهما المحكوم فيهما وهُما الخصمان. نعم، رُدَّ هذا الجواب بأن المصدر إنما يضاف إلى فاعِله تارةً وإلى مفعوله أخرى، أما لهما معًا فلا، حتى [قال] (¬1) أبو حيان: سمعتُ شيخنا أبا جعفر بن الزبير يقول: إنه جواب مَن لا يعرف شيئًا من العربية. نعم، أشار ابن الحاجب في "مختصره الكبير" إلى تصحيحه بأنَّ "حُكم" هنا ليس مصدرًا حتى يُرَدَّ بذلك، بل المراد به "الأمر"، أي: أَمْر داود وسليمان والخصمين؛ فصَحَّ إضافته للكل، فاستقام الجواب. قيل: وفيه تَكَلُّف. قلتُ: لكنه أَوْلى مِن نِسبة هؤلاء الأئمة إلى جهل مِثل هذا، ويؤيد ذلك أنه يقال: (حضرت حكومة القاضي فلان وفلان وفلان المتحاكمين عنده). والإضافة تَصدُق بأدنى ملابسة، فإذا كان الحكم المراد به المحاكمة الصادرة بين الحاكم والمحكوم عليه، وضح ذلك. الثاني: قد سبق الفرق بين جَمعَي القِلة والكثرة، فإطلاق الخلاف حتى يشملهما مما يُستشكَل ¬

_ (¬1) في (ص): قال شيخنا.

باتفاق النحاة على أنَّ جمع الكثرة مِن أحد عشر فصاعدًا. فإنْ كان الخلاف في جمع القِلة فكيف يُطلِقون؟ وكيف يأتون في مُثُلهم واستدلالهم بكثير من جموع الكثرة؟ ! فإنْ كان ذلك لأن كُلًّا منهما يُطلق في معنى الآخَر، فمجاز كما سبق وصرح به الزمخشري وغيره، والكلام إنما هو في الإطلاق حقيقةً، حتى قال القرافي في بعض كُتبه أنَّ له نحوًا من عشرين سَنة يُورده ولم يتحصل عنه جواب. قلتُ: إذا كان جمع القِلة يجري فيه الخلاف لا محالة، فالتجوز باستعمال "جمع الكثرة" في "جمع القِلة" يُصَيِّره كأنه مِن جموع القِلة، لا سيما إذا استُغنِي به عنه طرَقَهُ الخلافُ مِن حيث كونه صار مِن هذا النوع، فيُحكم عليه بما يُحكم على جمع القِلة، ويقع به التمثيل، وتترتب الأحكام كما ستراه في الفروع الآتية. ونظير ذلك اليَدُ في السَّوْم والبيع الفاسد يَدُ غَصْبٍ مجَازًا، ويترتب عليها أحكام الغصب من الضمان بأقصى القيم من الغصب إلى التلف. وكذا ما ذكر في الممْسِك في رمضان هل يُكره له السواك بعد الزوال كالصوم وإن أُطلق عليه صائم مجَازًا؟ ونحو ذلك. بل قد يُدَّعَى أنَّ التجوز باستعمال "جمع الكثرة" موضع "جمع القِلة" إنما هو في الأصل، ثُم غلب في الاستعمال حتى صار حقيقة عُرفية. كما قالوا في "غَنَم يَغْنَم": إنه أَخْذُ الغنم. ثم استُعمل في أَخْذ كل مال وغَلَبَ في كل نماء، كما في حديث: "له غنمه وعليه غرمه" (¬1). ونحوه في "السلب"، أصله فيما يلبسه، ثم عدوه إلى الفرس وآلة السلاح وغير ذلك، ¬

_ (¬1) صحيح ابن حبان (5934)، المستدرك على الصحيحين (رقم: 2315)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 11002). قال الألباني: ضعيف. (التعليقات الحسان: 5934).

وأعطوه حُكم الحقيقة مع أنه مجَاز. قلتُ: وعكسُ هذا الإشكالِ من حيث [العلة] (¬1) الإشكالُ في جمع القِلة إذا اقترن بما يقتضي عمومه: كيف يقال بالعموم فيه مع أن نهايته في اللغة عشرة مع إطباق العلماء على الاستدلال بعمومه؟ نحو: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35]، {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13]، إلى غير ذلك. فَجُمِع بين الطريقين بأن الشارع تَصَرَّف في ذلك بالنقل، كما في الصلاة والحج والصوم، فعمم هذه الجموع بما اقترن بها وإنْ كان أصلها بغير العموم. وجمع إمام الحرمين بأحسن من ذلك، وهو حمل كلام أهل العربية على حالة التجرد عما يقتضي العموم مِن "أل" ونحوها، وكلام الأصوليين والفقهاء على حالة الاقتران باللام ونحو ذلك. وأقول: إنَّ هذا الإشكال في الأصل إنما يتوجه إذا قُلنا بأن الجمع إذا اقترن بما يقتضي عمومه، كانت أفراده وحدانًا، لا جموعًا. أما إذا قُلنا: (أفراده جموع)، فَجِهَة عمومه غير نهاية أفراده، فإنَّ العموم حينئذٍ في كل عشرة عشرة أو تسعة تسعة أو باقي مراتبه. بل والقائل بالأول جَرَّد الدلالة عن الجمعية أصلًا، وصار عنده دالًّا على الحقيقة مِن حيث هي كما سبق تقريره مطولًا، فتأمله. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (ش): العلية. وفي (ت، س): الغاية. وفي (ض) كأنها: (الغاية) أو (الكفاية).

الثالث: من فوائد الخلاف سوى ما سبق من مسألة الأصول وهي "غاية ما ينتهي إليه التخصيص" خلافًا لما يقتضيه نَقْل الأستاذ أبي إسحاق من اتفاق أئمتنا على أنَّ التخصيص يجوز إلى واحد، فلا يبقى للخلاف في هذه المسألة فائدة. لكن سبق رد ذلك بنقل [المذاهب] (¬1) في تلك المسألة، ويترتب عليها أن الجمع نَصٌّ في أَقَلِّه، فإخراج بعضه يكون نسخًا، لا تخصيصًا. وتضم هذه المسألة إلى أن إخراج بعض العام بعد دخول وقت العمل يكون نسخًا كما سيأتي. وسِوَى ما سبق من الفروع الفقهية: لو قال: (له علَيَّ دراهم)، يلزمه ثلاثة، وقيل: درهمان. وأنه يُكتفَى في الصلاة على الميت باثنين. نقله الرافعي عن "التهذيب"، وقال: (إنه بناء على أن أقَل الجمع اثنان) (¬2). ولو أوصى لأقاربه وليس له إلا قريب واحد، فهل يصرف إليه الكل؟ أو الثلث؟ وجهان، وفي وجه ثالث حكاه الأستاذ أبو منصور: النصف. قال في "المطلب": ولم أفهم له معنى، فإن كان بناءً على أن أقَل الجمع اثنان، فيلزمه فيما إذا أوصى للفقراء أنه يجوز الاقتصار على الاثنين، ولم نَرَ مَن قال به. ولو قال: (إنْ تزوجتُ النساء -أو اشتريتُ العبيد- فهي طالق)، لم يحنث إلا بثلاثة. وقياس مَن يرى أن أقَل الجمع اثنان أنْ يحنث بهما. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق، ش)، لكن في (س، ت، ض): أئمة المذهب. (¬2) العزيز شرح الوجيز (2/ 442).

فإنْ قيل: هلَّا جُعل ذلك تعليقًا على مستحيل حتى لا يحنث؛ لأن (اللام) للعموم؛ [فيقتضي] (¬1) نساء أو عبيد العالم؟ قيل: لأن إعمال الكلام أَولى من إهماله؛ فيُحمل على الجنس، كما لو حلف لا يُكلم الناس، فإنه يحنث بواحد كما قاله ابن الصباغ وغيره. فلو قال: (ناسًا) بالتنكير، حنث بواحد؛ لأجل دلالة العموم. لكن هذا إذا قُلنا: أفراده وحدان، لا جموع. أمَّا إذا قُلنا: جموع، فينبغي أن لا يحنث إلا بثلاثة. وشبَّه ابن الصباغ الأول -وهو ما اقترن بمقتضِي العموم- بما لو قال: (لا آكُل الخبز). وفيه نظر؛ لِصِدْق ذلك على القليل والكثير، كَـ"الماء" و"العسل"، فلا يُشبَّه به ما يدل على الجمعية. وفروع الفقه على هذه المسألة لا تنحصر، وفي هذه الإشارة كفاية. قولي: (مَا لَمْ يَكُنْ لِكَثْرَةٍ فَزَائِدُ عَشَرَةٍ) أي: أقَل الجمع ثلاثة ما لم يكن من جموع الكثرة، فإن أقَله الزائد على العشرة، وهو أحد عشر. وقولي: (مَا لَمْ يَنُبْ) تخصيص لقاعدة جمع الكثرة: أنه إذا ناب باستغنائه أو غيره، فإنه يصير كجمع القِلة حتى يكون أَقَله فيه الخلاف، والأرجح ثلاثة. وقد أوضحنا ذلك. والله أعلم. ¬

_ (¬1) كذا في (ق، س)، لكن في (ص): تقتضي.

ص: 616 - وَإنْ يُخَصُّ اللَّفْظُ ذُو الْعُمُومِ ... يُرَدْ عُمُومُهُ لَدَى التَّفْهِيمِ 617 - تَنَاوُلًا لَا حُكْمًا، الَّا أَنَّهُ ... حَقِيقَةٌ فِيمَا بَقِيْ، وَحُكْمُهُ 618 - بَاقٍ إذَا يَكُونُ بِالْمُعَيَّنِ ... خُصَّ وَلَوْ مُنْفَصِلًا مِنْهُ عُنِي 619 - أَوْ لَمْ يَكُنْ عُمُومُهُ قَدْ أَنْبَأَ ... عَنْهُ، وَأَمَّا إنْ يَكُنْ قَدْ [بُدِئَ] (¬1) 620 - بِقَصْدِ أَنْ يَكُونَ لِلْخُصُوصِ ... فَذَا مُجَرَّدٌ عَنِ التَّخْصِيصِ 621 - وَهْوَ مَجَازٌ نَوْعُهُ كُلِّيُّ ... أُطْلِقَ لِلَّذِي هُوَ الْجُزْئِيُّ الشرح: اشتملت هذه الأبيات على أربع مسائل من مباحث تخصيص العموم. الأُولى: أن تخصيص العام هل هو إخراج من حُكمِه والعمومُ في اللفظ باقٍ؟ أو مِن اللفظِ؟ الثانية: وهي مُفرَّعة على الأُولى، الفرق بين العام المخصوص والعام المراد به خاص. الثالثة: أن العام بعد التخصيص دلالته على ما بقي حقيقة؟ أَم مجاز؟ وهل يَطَّرِد ذلك في العام المراد به خاص؟ أو لا؟ الرابعة: الحكم على العام إذا خُص هل هو باقٍ في الأفراد بعد التخصيص فيكون حُجة فيها؟ أو لا؟ فأما المسألة الأولى: وهي كون الإخراج في التخصيص مِن الحكم لا من اللفظ؛ فلأن مقصود الشرع بيان ¬

_ (¬1) في (ت، س، ض): ندبا.

الحُكم للأفراد عمومًا أو خصوصًا، لا لكون اللفظ يدل أو لا. فإذا أَمر بقتل الكفار مثلًا ثم خَصص الذمي، فإنما خرج من الحكم وهو القتل، والمخرَج كافر لم يخرج عن تناول الكفار له. وقد سبق الإشارة لذلك مِن قول مَن قال: إن القابل للتخصيص حُكم ثبت لمتعدد. فالإخراج من الحكم على المتعدد، لا من إطلاق لفظ المتعدد. وعن ذِكر ذلك استغنيت في النَّظم بما ذكرته هنا. نعم، سيأتي في التخصيص بالاستثناء أن إسناد الحكم بعد الإخراج [أَوْلى] (¬1). وقد ذكره ابن الحاجب هناك في كيفية دلالة نحو: (عشرة إلاَّ ثلاثة) هل الإسناد للسبعة بعد الإخراج للثلاثة؟ أو أن مجموع اللفظ يصير دالًّا؟ أو غير ذلك مما سيأتي إيضاحه في محله؟ وأما المسألة الثانية (وهي من مهمات هذا الباب): الفرق بين العام المخصوص والعام الذي أُرِيدَ به الخصوص، وهو مهم عزيز الوجود. والشافعي رحمه الله أشار إلى تغايرهما في ترديده في آية البيع ونحوه بين أقوال، منها: أنه عام مخصوص. ومنها: أنه عام أُريدَ به الخصوص، وكثرت مقالات أصحابه في تقرير ذلك. قال الشيخ أبو حامد: (والفرق بينهما أن الذي أريد به الخصوص ما كان المراد به أقَل، وما ليس بمراد هو الأكثر). قال ابن أبي هريرة: (وليس كذلك العام المخصوص؛ لأن المراد به هو الأكثر، وما ليس بمراد هو الأقل). قال: (ويفترقان في الحكم مِن جهة أنَّ الأول لا يصح الاحتجاج بظاهره، وهذا يمكن ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن (ق، س، ض): أولا.

التعلق بظاهره؛ اعتبارًا بالأكثر). وفرق الماوردي بوجهين، أحدهما هذا، والثاني أن إرادة ما أُريدَ به خاص متقدمة على لفظ العام، وما أُريدَ به العموم ثُم خُصَّ تتأخر أو تقارن. وقال ابن دقيق العيد في "شرح العنوان": (يجب أن يُتَنبه للفرق بينهما، فالعام المخصوص أعم مِن العام الذي أُريدَ به الخصوص، ألا ترَى أن المتكلِّم إذا أراد باللفظ أولًا ما دَلَّ عليه ظاهره مِن العموم ثم أَخرَج بعد ذلك بعض ما دل عليه اللفظ، كان عامًّا مخصوصًا، ولم يكن عامًّا أريد به الخصوص. ويقال: إنه منسوخ بالنسبة إلى البعض الذي أخرج. وهذا متوجه إذا قصد العموم، وفرق بينه وبين أنْ لا يقصد الخصوص، بخلاف ما إذا نطق باللفظ العام مريدًا به بعض ما تناوله في هذا). انتهى وحاصل ما قرره أنَّ العام إذا قُصِر على بعضه، له ثلاثة أحوال: الأول: أنْ يُراد به في الابتداء خاص، فهذا هو المراد به خاص. والثاني: أن يراد به عام ثم يخرج منه بعضه، فهو نسخ. والثالث: أن لا يقصد به خاص ولا عام في الابتداء، ثم يخرج منه أمر يتبين بذلك أنه لم يُرَد به في الابتداء عمومُه، فهذا هو العام المخصوص. فلهذا كان التخصيص عندنا بيانًا، لا نَسخًا، إلا إنْ أُخْرِج بعد دخول وقت العمل بالعام، فيكون نَسْخًا؛ لأنه قد تبَيَّن أن العموم أُرِيدَ في الابتداء. وممن حرر الفرق بينهما أيضًا من المتأخرين الشيخ تقي الدين السبكي، فقال: (جرى ذِكر هذه المسألة في درس في العادلية يوم الاثنين، الثالث والعشرين من صفر سنة خمس

وأربعين وسبعمائة، فخبط فيها الحاضرون، وهُم معذورون [بسبب] (¬1) ما بَلَغَهم مِن العِلم، فكتبتُ فيها وفي دلالة العام في الأمرين على الخاص -هل هو حقيقة؟ أو مجاز؟ - زبدة كلام مَن تكلم فيه من العلماء، وزدتُ عليهم تحقيقات لم يلموا بها). فنذكر ما قاله؛ لما اشتمل عليه من الفوائد. فقال: (العام الذي أريدَ به الخصوص هو العام إذا أُطلق وأريدَ به بعض ما يتناوله، فهو لفظ مستعمل في بعض مدلوله، وبَعْضُ الشيء غَيْره، فالذي يظهر أنه مجاز قطعًا، إلا إنْ قيل: إن العام دلالته على كل فرد من أفراده دلالة مطابقة. فقد يقال حينئذٍ على هذا بأنه حقيقة في كل فرد. فإنْ جاء خلاف فيه فإنما يجيء من هذه الجهة. وشرط الإرادة في هذا النوع -على ما ظهر لنا- أن تكون مقارِنة لأول اللفظ، ولا يُكتفَى بطريانها في أثنائه؛ لأن المقصود فيها نقلُ اللفظ عن معناه إلى غيره واستعماله في غير موضوعه، وليست إرادة إخراج لبعض المدلول، بل إرادة استعمال اللفظ في شيء آخَر غَيْر موضوعه، كما يُراد باللفظ مجازه الخارج عنه، لا فرق بينهما إلا أنَّ ذاك خارج وهذا داخل؛ لأن البعض داخل في الكل. ومَن يجعل الدلالة على كل فرد دلالة مطابقة، لا يناسبه أن يقول: إنه استعمال اللفظ في غير موضوعه، بل يصير كاستعمال المشترك في أَحد معنييه، وهو استعمال حقيقي، وإرادة أَحد مَعْنَيَي المشترك عند مانع استعمال المشترك في مَعْنَيَيْه لا شك أنها لا تخرجه عن موضوعه ولا تجعله مجازًا، بل هي مُصَحِّحة لاستعماله. وأما عند مَن يُجَوِّز استعماله في معنييه فَهُم مختلفون إذا استُعمل في معنييه هل هو مجاز؟ أَم لا؟ فمَن جعله مجازًا فذلك لأن الاستعمال الحقيقي عنده هو استعماله في أحد المعنيين، ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): بحسب.

ومَن جعله حقيقة كالعام كما هي طريقة السيف الآمدي في النقل عن الشافعي - رضي الله عنه -، فيصير البحث فيه كالبحث في العام المراد به الخصوص. وفيه نظر؛ لأنَّا نَعلم أن المشترك وَضَعَه الواضع لكل مِن المعنيين وَحْده، بخلاف العام. ولكن أدى مساق البحث على طريقة الآمدي إلى ما قُلناه. ويؤنسك إلى اشتراط مقارنة الإرادة في هذا النوع لأول اللفظ ما ذكره الفقهاء في تكبيرة الإحرام وقي كنايات الطلاق، وإذا حَقَّقْت هذا المعنى، اضبطه. وأما العام المخصوص فهو العام الذي أُريدَ به معناه مخُرجًا منه بعض أفراده. فالإرادة فيه إرادة الإخراج، لا إرادة الاستعمال، فهي تشبه الاستثناء، فلا يشترط مقارنتها لأول اللفظ، ولا يجوز تأخرها عن آخِره، بل يُشترط -إنْ لم توجد في أوله- أن تكون في أثنائه. ويؤنسك في هذا ما قاله الفقهاء في مشيئة الطلاق وأنه يشترط اقتران النية ببعض اللفظ قبل فراغه، فالتخصيص إخراج كما أن الاستثناء إخراج. ولهذا نقول: المخصصات المتصلة أربعة: الاستثناء، والغاية، والشرط، والصفة. والمخَصِّص في الحقيقة هو الإرادة المُخْرِجة، وهذه الأربعة والمخَصِّص المنفصل خَمْسَتُها دالة على تلك الإرادة، وتلك الإرادة ليست إرادة استعمال اللفظ في غير موضوعه؛ فلذلك لم يُقْطَع بكونها مجازًا، بل حصل التردد. ومنشأ التردد أنَّ إرادة إخراج بعض المدلول هل [تُصَيِّر] (¬1) اللفظ مُرادًا به الباقي؟ أو لا؟ والحقُّ لا، وهو يُشْبه الخلاف في الاستثناء، وبهذا يقوى أن العام المخصوص حقيقة، لكن الأكثرون على أنه مجاز. ووَجْهه أنْ يجعل اللفظ موضوعًا ليستعمل في معناه بتمامه غير مخرج منه شيء، فإذا أُخْرج منه شيء، كان مجازًا؛ لاستعماله على غَيْر الوجه الذي وَضَعَه ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (س): يصير.

الواضِعُ له عند الإطلاق. هذا فيما يحتمل المجاز، وهو ما كان ظاهرًا كالعام. أما ما كان نصًّا كالعَدد فلا مجاز فيه، وليس إلا الإخراج المَحْض. ويظهر أثر هذا في أن المخصِّص المنفصل يأتي في العام ولا يأتي في العَدد، والاستثناء في العام كاشف عن الإرادة المخصِّصة، والاستثناء في العَدد هو المُخرج بنفسه، لا بدلالته على إرادة متقدمة، ولهذا لو أراد بعضَه فقط ولم يوجد لفظ الاستثناء، لم يَصِح في العَدد وَيصح في العام. ولو قال: "أنت طالق ثلاثًا"، ونَوَى بِقَلْبه: "إلا واحدة" وماتت قبل نُطقه بقوله: "إلا واحدة"، يقع الثلاث. نعم، يُشترط نية الاستثناء قبل فراغ اللفظ؛ لأجل الربط، فالنية فيه شرط لاعتبار الاستثناء بعده، وليست مُؤثِّرة، والنية في التخصيص مؤثرة في الإخراج وحدها، ويدل عليها تارةً بمخصِّص منفصل، وتارةً بمتصل. والنية في العام المراد به الخصوص مؤثِّرة في نقل اللفظ عن معناه إلى غيره. ومن هنا يُعْرَف أن عَدَّ ابن الحاجب البدل في المخصِّصات ليس بجيد؛ لأن الأول في قولنا: "أكلت الرغيف ثُلثه" يشبه العام المراد به الخصوص، لا العام المخصوص) (¬1). انتهى وهو كلام نفيس أوردتُه بحروفه؛ لِمَا فيه من تقرير أمور يُحتاج إليها في هذا الباب، ولكن إذا تأملته مع ما سبق من كلام مَن تَقدمه، تجده مفهومًا منه. ويُعلم مِن ذلك أيضًا أن قول بعض مُتأخِّري الحنابلة في الفَرق بأن: (العام الذي أُريد به الخصوص أن يُطلِق المتكلِّم اللفظ العام ويريد به بعضًا مُعَينًا، والعام المخصوص هو الذي أريد به سَلْب الحكم عن بعض منه. وأيضًا فالذي أريد به خصوص يحتاج لدليل معنوي يمنع إرادة الجميع، فيتعيَّن له البعض، والمخصوص يحتاج لتخصيص لفظي غالبًا، كالشرط والاستثناء والغاية والمنفصل). انتهى ¬

_ (¬1) الإبهاج في شرح المنهاج (2/ 132 - 134).

والوجهان خارجان مما سبق. أما الأول وهو كون التخصيص السلب عن بعض الأفراد فهو قولهم: (التخصيص إخراج). وأما الثاني وهو الاحتياج في المراد به خاص للدليل المعنوي فمعناه: الدليل الذي يدل على إرادة الخاص؛ لأنها أمر معنوي، فهو راجع لقولهم: (إن إرادة الخاص فيه سابقة). ويُعلم أيضًا أن ما قاله تاج الدين السبكي في "شرح البيضاوي" بعد نقل كلام والده أن مقتضَى كلام الشافعي أنه لا فرق بينهما -ممنوع. فذكر أن الشافعي في "الرسالة" قال في "باب ما نزل عامًّا دلت السُّنة على أنه يُراد به الخاص": (قال الله جل ثناؤه: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11] إلى قوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]، وقال: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] إلى قوله: {فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12]. فأبان أن للوالدين والأزواج ما سُمّي في الحالات وكان عام المَخْرج، فدلت سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما أريد به بعض الوالدين والمولودين والأزواج دُون بعض، وذلك أن يكون دِين الوالدين والمولودين والأزواج واحدًا، ولا يكون الوارث قاتلًا ولا مملوكًا). انتهى قال: (ووقف والدي على ذلك، فذكر أن البحث الذي قرره -أي في الفرق بين النوعين- إنْ صح، احتمل أن يكون ما أورده الشافعي أراد به أن يكون عامًّا مخصوصًا وأنْ يكون مرادًا به الخصوص). فظاهر كلامه أن والده يُسلِّم ما قاله في فَهم نَص الشافعي، وهو عجيب. فقد عرفت من كلام ابن دقيق العيد وغيره أن العام المخصوص أُريدَ به خاص بالإخراج، لا في الابتداء، وأن مِن هذه الجهة يكون العام المخصوص أَعَم من العام الذي

أريدَ به خاص. فمعنى قول الشافعي: (دَلَّت السُّنة على أنه يُراد به الخاص) أنه سلب الحكم عن بعض الأفراد وبقي الحكم في الباقي؛ بدليل إيرادِه في ترجمة الباب، فالإرادة التي عناهَا إرادة الحكم، لا إرادة دلالة اللفظ وإطلاقه على الخاص. ومن هنا يُعلم أنَّ قول الأصوليين: (إنَّ الخاص يُقضَى به على العام، تَقدَّم أو تَأَخر أو جُهِل أو قارَن) لا يُنافي ما سبق في الفرق بين العام المخصوص والمراد به الخصوص؛ لأن الإرادة في الثاني سابقة على العام، وفي الأول متأخِّرة أو مقارِنة؛ لأن إرادة الإطلاق غير إرادة السلب عن البعض، فلا يَضُر كَوْن إرادة السلب دليلها سابقًا. ثم ذكر القاضي تاج الدين أن العام الذي يُراد عمومُه ضربان: ما أفراده كلها مُرادة، وما أُريدَ غالب أفراده ولكن نزل الغالب منزلة الكل. وأن الشافعي في "الرسالة" مثَّل للأول بقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176] وبقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16]، بناءً على أنه ليس مما خُص بالعقل، بل دَلَّ العقل أنه لم يدخل أصلًا، فالعموم فيه مراد. ومَثَّل [للثاني] (¬1) بقوله تعالى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء: 75]، فإنَّ مِن المعلوم أن فيها غَيْر الظالم، ولكن لِقِلَّتهم جُعلوا كالعدم (¬2). انتهى وهذا يقتضي أنَّ لنا قِسمًا ثالثًا -في قَصْر اللفظ على بعض الأفراد- غير العام المخصوص والعام المراد به الخصوص؛ لأن الثاني إنما يكون إذا أطلق على الأقل كما سبق في كلام الشيخ أبي حامد والماوردي، والأول إنما يكون حيث لم يُرَد إطلاق اللفظ وإرادة بعض ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (ق، س): الثاني. (¬2) انظر: الإبهاج (2/ 134).

الأفراد، وهذا أريد به بعض الأفراد وإنْ كانت هي الأكثر. وأما المسألة الثالثة: وهي أن دلالة العام بعد تخصيصه على باقي الأفراد هل هو حقيقة؟ أو مجاز؟ فيه مذاهب: أحدها وهو المختار وعليه جريتُ في النَّظم: أنه حقيقة مطلقًا بأيِّ تخصيص خُصِّص. فقد قال الشيخ أبو حامد: (إنه مذهب الشافعي وأصحابه، وهو قول مالك وجماعة من أصحاب أبي حنيفة). انتهى وذلك لأن الواضع لما وضعه للجميع وخرج بعض الأفراد من الحكم بدليل، لم تتأثر دلالة اللفظ على الباقي حقيقةً كما كانت كذلك. وجزم بأنه حقيقة أيضًا القاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ وسليم، ونقله ابن برهان في "الوجيز" عن أكثر علمائنا، وقال إمام الحرمين في "التلخيص" وابن القشيري: إنه مذهب جماهير الفقهاء. ونقله الغزالي في "المنخول" عن الشافعي، ونقله ابن الحاجب عن الحنابلة، ورجحه الشيخ تقي الدين السبكي وغيره من المتأخرين. الثاني: أنه مجاز مطلقًا، ونقله الإمام الرازي عن جمهور أصحابنا والمعتزلة كأبي علي وابنه، ونقله الشيخ أبو حامد وسليم عن المعتزلة بأسرها، واختاره البيضاوي وابن الحاجب والهندي. وفي "الأوسط" لابن برهان: إنه المذهب الصحيح. ونسبه إلْكِيَا للمحققين، ونقله في "المنخول" عن القاضي أبي بكر، وممن جزم به من الحنفية: الدبوسي والسرخسي والبزدوي، وحكوه عن اختيار العراقيين من الحنفية. وحُكي عن الأشعري، لكن فيه نظر مِن وجهين كما قاله الشيخ أبو حامد: أحدهما: أن الصِّيَغ عنده مشتركة بين العموم والخصوص، فإذا دَلَّ دليل على أنه

للخصوص، كان استعماله فيه حقيقةً. والثاني: أنه يحتج به فيما بقي بمجرده، فلو كان مجازًا، لم يحتج به إلا بقرينة. احتُج لهذا المذهب بأنه حقيقة في الاستغراق، فلو كان حقيقة في الباقي بعد التخصيص، للزم الاشتراك، والمجاز خير منه. وجوابه: أن الكُلي دلالته على كل جزئياته وبعضها سواء، إذ لا يُقال: دلالة إنسان على كل أفراده حقيقة وعَلَى زيد مجاز. الثالث: أن له جهتين: إحداهما: مِن حيث تناول اللفظ له بعد التخصيص كما كان قبله، فهو حقيقة. والثانية: من حيث الاقتصار عليه دون ما خرج بالتخصيص، فهو مجاز. كأنه جَمعْ بين القولين السابقين، وتحقيق المناط فيهما. وهو اختيار إمام الحرمين كما نص عليه في "البرهان". وقال ابن القشيري والمقترح في تعليقه على "البرهان": (إنه معنى كلام القاضي). وفيما قالاه نظر؛ فإنَّ القاضي أورده سؤالًا على نفسه، ثم أجاب عنه بأن هذا التفصيل ساقط، وذكر ما حاصله أن اللفظ إنما يكون حقيقة إذا كان الباقي منضمًّا مع الذي خرج، فبَعْد خروجه لا يبقى حقيقة، بل يجب أن يكون مجازًا، لاسيما إذا كان العام صيغة جمع وبقي بعد التخصيص واحد، فإنه مجاز وفاقًا. وحاول ابن القشيري التوفيق بين كلام القاضي والإمام وأن كُلًّا منهما حق من وجه بما يَؤُول الأمر به إلى ما قاله إمام الحرمين من أنه حقيقة ومجاز باعتبارين. ومنهم مَن حمل القول بكونه مجازًا على أنه أراد من حيث اللغة، والقول بكونه حقيقة من حيث الشرع، فلم يتواردَا على محل واحد.

الرابع وبه قال أبو بكر الرازي من الحنفية: إنْ كان الباقي غير منحصر فحقيقة وإلا فمجاز؛ وذلك لأنه إذا بقي غير منحصر، كان معنى العام فيه وهو الاستغراق بغير حصر، بخلاف ما إذا كان الباقي محصورًا، فإنه مُغايِر حينئذٍ لمعنى العام. ويتعجب من ابن السبكي في "شرح المختصر" في ضبط مقالة الرازي هذه بضابط قد ذكره أصحابنا في الفقه في تَزَوُّج امرأة من نساء فيهن له محَرم يجوز في غير المحصور دون المحصور. قال إمام الحرمين: (غير الحصور كثرة يعسر العلم بقدرها على آحاد الناس). وقال الغزالي: كل عدد لو اجتمعوا في صعيد لَعَسُر على الناظر عدتهم بمجرد النظر -كالألْف- فغير محصور، وإنْ سَهُل كالعشرة والعشرين فمحصور. قال: (وبين الطرفين أوساط يلحق بأحدهما بالظن، وما وقع فيه الشك استفت فيه القلب). انتهى ولكن هذا إنما هو في المحصور وغير المحصور في العُرف في الأفراد الوجودية في الخارج، وبحث الأصولي الذي عناه أبو بكر الرازي إنما هو مدلول الكُلي في الذهن. الخامس: أنه حقيقة إن خُص بما لا يستقل من شرط أو صفة أو استثناء أو غاية، لا بالمستقل من عقل أو سمع، فإنه مجاز. وبهذا قال الكرخي من الحنفية والإمام الرازي. وقال المازري أنه آخِر قَوليِّ القاضي، وأن أولهما كونه مجازًا مطلقًا (¬1). السادس ونقله بعضهم عن القاضي كابن الحاجب في "مختصره": أنه حقيقة إنْ خُص بشرط أو استثناء، لا صفة وغيرها. ¬

_ (¬1) إيضاح المحصول (ص 302).

السابع: حقيقة إن خُص باستثناء، وإلا فلا. كذا قاله القاضي في "مختصر التقريب"، ولفظه: (فالصحيح عندنا من هذه المذاهب أن نقول: إذا تَقرر التخصيص باستثناء متصل، فاللفظ حقيقة في بقية المسميات، وإنْ [تَقرر] (¬1) التخصيص بدلالة منفصلة، فاللفظ مجاز، لكن يُستدل به في بقية المسميات) (¬2). انتهى نعم، إنْ جُعِل اقتصارُه على الاستثناء كالمثال لا للحصر فيه لأنه جَعَله في مقابلة المنفصل، كان موافقًا لِمَا سبق مِن نقل المازري عنه القول الخامس. الثامن وبه قال عبد الجبار: أنه حقيقة إنْ خُص بشرط أو صفة، لا استثناء أو غيره. التاسع: أنه حقيقة إن خُص بدليل لفظي، سواء أكان متصلًا أَم منفصلًا، وإلا فمجاز. العاشر: إنْ بقي بعد التخصيص جمع فهو حقيقة، وإلا فهو مجاز. وأما قول الغزالي: (إنه إذا لم يبق بعد التخصيص جمع، لا خلاف في كونه مجازًا) ففيه نظر، فقد ذكر القاضي عن بعض أصحابنا أن اللفظ حقيقة فيما يبقى وإن كان أقل من الجمع، قال: (وهذا بعيد جدًّا). فلعل الغزالي إنما نفى الخلاف لقول الإمام ذلك. وممن قال بهذا القول -مع بُعده- الباجي من المالكية، ونقله القاضي أبو الطيب عن الشيخ أبي حامد احتجاجًا بقوله تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات: 23]. وقد تعقب ابن القشيري بذلك على مقالة القاضي السابقة المشعِرة بالاتفاق؛ لاستبعاده ذلك القول وأنه لا يُعْبَأُ به. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): تقدَّر. (¬2) التقريب والإرشاد - الصغير (3/ 67)، التلخيص (2/ 41).

وأما شُبَه هذه المذاهب فَلَسْنَا بصدد ذِكرها؛ قصدًا للاختصار. نعم، ننبه هنا على أمور: أحدها: قد علمت أن هذا الخلاف إنما هو في العام المخصوص، أما العام المراد به الخصوص فمجاز قطعًا إلا على الجهة التي سبق في كلام السبكي أنه يمكن أن يَطْرقه الخلاف منها. الثاني: فائدة الخلاف في هذه المسألة الخلاف في المسألة الآتية، فمَن يقول: حقيقة، يقول بأنه يُحتج به في الأفراد الباقية. ومَن يقول: مجاز، فلا إلا بقرينة تدل على بقاء الحكم فيه. الثالث: إنما أطلقتُ في النَّظم كونه حقيقة ولم أُشِر إلى التعريض بشيء من المذاهب فيه بخلاف المسألة الآتي ذِكرها، وهي كونه حُجة في الباقي، فإني أومأت إلى بعض ما فيها من الأقوال؛ لأن الأهم في الباب بحث كونه حُجة أو لا. المسألة الرابعة: إذا خُص العام بشيء من المخصصات، هل تبقى حُجيته فيما بقي كما كانت قبل التخصيص؟ فيه مذاهب: أصحها: أنه إنْ خُصَّ بمبهَم فليس بحجة. كما لو قال: (اقتلوا المشركين إلا بعضهم)، لا يُستدل به على الأمر بقتل فرد من الأفراد؛ إذ ما مِن فرد إلا ويجوز أن يكون هو المخرج. ومنه قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] حتى ادَّعَى بعضهم الاتفاق فيه كالقاضي وابن السمعاني والأصفهاني في "شرح المحصول"، وكذا الآمدي، وهو ظاهر تقييد ابن الحاجب والبيضاوي وغيرهما محل الخلاف بالمخصص بمعيَّن. وليس حكاية الاتفاق بصحيحة؛ ففي "الوجيز" لابن برهان حكاية الخلاف في هذه

الحالة، بل صحح العمل به مع الإبهام. قال: (لأنَّا إذا نظرنا إلى فرد، شككنا فيه هل هو مِن المخرج؟ أم لا؟ والأصل عدمه، فيبقى على الأصل ويُعمل به إلى أن يُعْلم بالقرينة أن الدليل المخصِّص معارِض لِلَّفظ العام، وإنما يكون معارِضًا عند العِلم به). انتهى وهو صريح في الإضراب عن المخصِّص والعمل بالعام في جميع أفراده. وهو بعيد وإنْ قال به بعض الحنفية كما نقله ابن الساعاتي في "البديع"، وكذا صاحب "اللباب" وأبو زيد وغيرهم، وحكاه أبو الحسين بن القطان من الشافعية عن بعض أصحابنا. وبالجملة فالراجح المنع؛ لأن إخراج المجهول مِن المعلوم يُصَيِّر المعلوم مجهولًا، وهذا كما لو قال: (بِعْتُك هذه الصبرة إلا صاعًا منها)، لا يصح. فالإضراب عن التخصيص بالمبهَم والعمل بالعموم -ناءٍ عن قواعد الشرع، ويلزم أن مَن طلق إحدى امرأتيه يَطَأهُما جميعًا، ومَن اشتبه عليه الطهور من إناءين، يستعملهما. ولكنه رأي ضعيف، وهو أنه يهجم. نعم، لو قيل: يُحتج به إلى أنْ يبقى فرد، كان له وجه، كمن اشتبه مَحْرمه بنساء غير محصورات، ولو حلف لا يأكل هذه التمرة فاختلطت بتمر كثير فأكله إلا تمرة، لم يحنث. بخلاف اختلاط المحرم بالمحصور فإنَّ الكل حرام، حتى لو وطأَ رجلان امرأة وطئًا يلحق به النسب فأتت بولد وأرضعت طفلًا بلبنه [ولم] (¬1) يثبت نَسبه وأراد أن يتزوج ببنت أحدهما، لم تَحِل على الأصح. وقيل: يحِل أن يتزوج بنت مَن شاء منهما؛ لأن الأصل في كل واحدة الِحل. ¬

_ (¬1) في (ص): فلم.

وقيل: تحِل كل واحدة على الانفراد، ولا تُجمع. وقيل: يجوز الجمع. قال الماوردي: وهو الظاهر من كلام الشافعي. وأما إذا كان التخصيص بمُعيَّن فحُجة؛ لأن الصحابة لم تَزَل تستدل بالعمومات مع دخول التخصيص فيها. قيل: ولأنه لو لم يُحتج به في الباقي لكان متوقفًا على دلالته على الأفراد المُخْرَجَة. فإنْ كانت تلك لا تتوقف على هذا فتَحَكُّم، أو توقفت فَدَوْر. ولكن هذا مردود بأن هذا مِن الدور المَعِي وليس بِمُحَال، إنما المُحَال الدَّوْر السبقي. وهذا القول بالتفصيل المذكور هو قول معظم الفقهاء، واختاره الإمام الرازي والآمدي وابن الحاجب. وقال ابن القطان من أصحابنا: إنه الأصح. وقال ابن الصباغ: إنه قول أصحابنا. وبه قال إلْكِيَا، قال: لكنه دُون ما لم يتطرق التخصيص إليه يُكْسبه ضربًا من التجوز. ولمثْلِه رجح نهيه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير على عموم قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الآية -بأن التخصيص تَطَرَّق إليها، فإنَّ الخمر والقاذورات المحرَّمة خارجة منها. وقال أبو زيد الدبوسي أنه الذي صح عنده من مذهب السلف، قال: (لكنه غير موجِب للعِلم قطعًا، بخلاف ما قَبْل التخصيص) (¬1). المذهب الثاني: أنه حُجة مطلقًا في المخصوص بمعيَّن وبمبهم. وسبق القائل به وتقريره. ¬

_ (¬1) عبارته في تقويم الأدلة (ص 105): (غير موجب للعلم قطعا كما قال الشافعي قبل الخصوص).

الثالث: أنه ليس بحجة مطلقًا. ونُقل عن عيسى بن أبان وأبي ثور، وحكاه القفالُ الشاشي عن أهل العراق، والغزاليُّ عن القدرية، ونقله إمام الحرمين وابن القشيري عن كثير من الشافعية والمالكية والحنفية. وعن الجبائي وابنه قالوا: لأنَّ اللفظ موضوع للاستغراق، وإنما يخرج عنه بقرينة، ومقدار تأثير القرينة في اللفظ مجهول؛ فيصير مُجْمَلًا. قال بعض مَن قال به: ويجاب عما قيل مِن عمل الصحابة إما بأن ذلك لقرائن شاهدوها، أو لغير ذلك. وهو مردود بأن الأصل عدم القرائن. وربما قَرر بعضهم الدليل بأن التخصيص قد دل على أن العموم غير معمول به، بل يتوقف على دليل. ولا يخفَى فسادُه؛ فإنَّ الدليل إنما دل على عدم العمل به في المُخْرَج، لا مطلقًا. الرابع: أنه حُجة إنْ خُص بمتصل كالشرط والاستثناء والصفة، وإنْ خُص بمنفصل فهو مجُمَل في الباقي. حكاه الأستاذ أبو منصور عن الكرخي والبلخي، وكذا نقله في "المعتمد" وأبو بكر الرازي في "أصوله" عن الكرخي. الخامس: وبه قال أبو عبد الله البصري: إنْ كان لفظ العموم مُنبئًا عما بقي قبل التخصيص كـ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، فهو حجة، فإنه يُنبئ عن الحربي كما يُنبئ عن المستأمن. وإنْ لم يكن مُنبئًا، فليس بحجة، كـ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38]، فإنه لا ينبئ عن النِّصاب والحِرْز. فإذا انتفى العمل به عند عدم النصاب والحرز، لم يُعمل به عند وجودهما. السادس قول عبد الجبار: حُجة إنْ كان لا يتوقف على البيان، كَـ "المشركين"، فإنه بيِّن

في الذمي قَبْل إخراجه، بخلاف نحو: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 73] فإنه مفتقر إلى البيان قبل إخراج الخاص من عموم اللفظ؛ ولذلك بَيَّنه - صلى الله عليه وسلم - وقال: "صَلُّوا كما رأيتموني أصلي" (¬1). السابع: أنه حُجة في أقَل الجمع، اثنين أو ثلاثة على الخلاف السابق، لا فيما زاد. حكاه القاضي والغزالي وابن القشيري، وقال: إنَّه تَحكُّمٌ. وقال الهندي: (لعله قول مَن لا يُجوِّز التخصيص إليه) (¬2). الثامن: وحكاه الغزالي في "المنخول" عن أبي هاشم: أنه يُتمسَّك به في واحد، ولا يُتمسك به في جمع. التاسع: الوقف، فلا يُقضَى بأنه خاص أو عام إلا بدليل. حكاه ابن القطان وجعله مُغايرًا لقول ابن أبان بعد أن نقل عنه القول بأن الباقي على الخصوص. لكن على كل حالٍ لا يخرج عن الثمانية السابقة. نعم، مَن يقول: (إنه مُجْمَل) اختلفوا كما قال الشيخ أبو حامد: هل هو مجمل من حيث اللفظ والمعنى فإنه لا يُعقل المراد من ظاهره إلا بقرينة؟ أو مجمل من حيث المعنى فقط؟ وجهان لأصحابنا، الأكثرون على الثاني؛ لافتقار العام المخصوص لقرينة تُبَين ما هو مراد به، وافتقار العام المراد به خاص إلى قرينة تُبيِّن ما ليس مرادًا به. فتزيد المذاهب. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) نهاية الوصول (4/ 1488).

تنبيهات الأول: محل هذا الخلاف -كما ذكرنا- في العام المخصوص، أما المراد به خاص فلا يصح الاحتجاج بظاهره كما قاله الشيخ أبو حامد في "كتاب البيع" من "تعليقته"، وفيه ما يدل على أنَّ ابن أبي هريرة قاله أيضًا. قلتُ: وهو مُشْكل؛ لأن المراد إنْ كان الاحتجاج به في الخاص الذي أُريدَ به فلا يُتصور فيه خلاف، أو فيما عدَاه فليس مرادا قطعًا، فكيف يُستدَل بالعام عليه؟ ! الثاني: قد ذكرنا أن الخلاف في هذه المسألة مُفرَّع على التي قبلها. نعم، مَن جوَّز التعلق به مع كونه مجازًا -كالقاضي- يبقى الخلاف على قوله لفظيًّا كما قاله أبو حامد وغيره؛ لأنه هل يُحتج به ويُسمَّى مجازًا؟ أو لا يُسمى مجازًا؟ وقال صاحب "الميزان" (¬1) -من الحنفية- أنَّ المسألة مُفرَّعة على أن دلالة العام على أفراده قطعية؟ أو ظنية؟ فمَن قال: قطعية، جعل الذي خُص كالذي لم يُخص. قيل: وفيه نظر. وقيل: مُفرَّعة على أن اللفظ العام هل يتناول الجنس؟ أوْ لا وتندرج الآحاد تحته؛ ضرورةَ اشتماله عليها؟ أو يتناول الآحاد واحدًا واحدًا حتى يستغرق الجنس؟ فالمعتزلة قالوا بالأول، فعند الإطلاق يظهر عمومه، فإذا خُص، تبيَّن أنه لم يُرد العموم. وعند إرادة عدم العموم ليس بعض أَوْلى مِن بعض، فيكون مجمَلًا. الثالث: قولي: (وَلَوْ مُنْفَصِلًا مِنْهُ عُنِي أَوْ لَمْ يَكُنْ عُمُومُهُ قَدْ أَنْبَأَ عَنْهُ) تَعريضٌ ببعض ما ¬

_ (¬1) ميزان الأصول في نتائج العقول (ص 290 - 292).

سبق في المسألة الأخيرة مِن الأقوال، وقد أوضحناها. وقولي: (وَأَمَّا إنْ يَكُنْ قَدْ بُدِئَ) إلى آخِره فهو إشارة إلى ما فُرِّق به بين العام المخصوص والمراد به الخصوص. وقولي: (أُطْلِقَ لِلَّذِي هُوَ الْجُزْئِيُّ) أي: مقصورًا عليه، وإلا فقد سبق أن مِثْل ذلك حقيقة. وهذا أصوب مِن التعبير بأنه كُلٌّ أُطلق على البعض؛ لأنَّ العموم في أفراده مِن قبيل الكلي مع جزئياته كما سبق تقريره غير مَرَّة، والله أعلم. ص: 622 - وَبِالْعُمُومِ قَبْلَ أَنْ يُبْحَثَ عَنْ ... تَخْصِيصِهِ تَمَسُّكٌ لِمَنْ فَطَنْ 623 - أَيْ في حَيَاةِ الْمُصْطَفَى مُحَمَّدِ ... صَلَّى عَلَيْهِ اللهُ مِنْ مُمَجَّدِ 624 - كَذَاكَ بَعْدَهُ، وَحَيْثُ شُرِطَا ... فَالظَّنُّ كافٍ فِيهِ فِيمَا ضُبِطَا الشرح: من مباحث التخصيص أيضًا أن العام هل يجوز التمسك به قبل البحث عن مخصِّص له؟ أو لا يجوز؛ لأنَّ العمومات التي لم يَطْرقها تخصيص نادرة فلا بُدَّ مِن البحث عن المخصِّص قَبْلَ العمل؟ فيه خلاف. قال الأستاذ أبو إسحاق: محلُّه بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما في حياته فلا خلاف في وجوب المبادرة إلى الأخذ به وإجرائه على عمومه؛ لأن أصول الشريعة لم تكن متقررة؛ لجواز أن يحدث بعد ورود العام مخصِّصٌ وبَعد النص نسخٌ، فلا يفيد البحث عن ذلك شيئًا. وحاصل الخلاف فيما بعده - صلى الله عليه وسلم - مذهبان: أحدهما وبه قال الصيرفي ومَالَ إليه إمام الحرمين وغيره: وجوب العمل قبل البحث،

حتى قال الإمام: إن قول التوقف على البحث غير معدود مِن مباحث العُقلاء و [مُضْطرب العلماء] (¬1)، وإنما هو قول صدر عن غباوة واستمرار في عناد. ولأجل رجحان الأول عند المحققين واختاره حذاق المتأخرين جريتُ عليه في النَّظم بقولي: (كَذَاكَ بَعْدَهُ)؛ لأنَّ الأصل عدم المخصِّص. وأيضًا فاحتماله مرجوح، وظاهر العموم راجح، والعمل بالراجح واجب، كما أن احتمال النسخ لا يؤثر في المبادرة بالعمل بالنص؛ ولذلك هَمَّ عثمان - رضي الله عنه - برجم التي ولدت لستة أشهر، وهَمَّ عمر - رضي الله عنه - برجم مجنونة؛ عملًا بظاهر العموم حتى أتاهما عَلِي - رضي الله عنه - بنص خاص يُخصِّص العموم. الثاني: المنع. وبه قال ابن سريج، وحكاه الشيخان أبو حامد وأبو إسحاق الشيرازي وغيرهما عن عامة أصحابنا سوى الصيرفي، ونقله أبو حامد عن الإصْطَخْري وابن خيران والقفال الكبير. ثم اختلف القائلون به في أنه هل يكفي في البحث الانتهاء إلى ظن عدم المخصص؟ أو لا بُدَّ من اعتقاد جازم يسكن إليه القلب؟ أو لا بُدَّ من القطع؟ ثلاثة أقوال، أصحها الأول؛ جريًا على الاكتفاء بالظن في مِثله، وبالثالث قال القاضي، قال: (ويحصل ذلك بتكرير النظر والبحث). ¬

_ (¬1) (في (ص، ق): مضطرف.

تنبيهات الأول: حكاية الخلاف هكذا هو إيراد الإمام الرازي وأتباعه، وسبقهم إلى ذلك الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وغيرهما. لكن اقتصر القاضي أبو الطيب وإمام الحرمين وابن السمعاني في النقل عن الصيرفي على وجوب اعتقاد العموم في الحال قبل البحث. وصرح غيرهم عنه بأنه قال: يجب الاعتقاد والعمل. ولك أن تقول: إنْ دخل وقت العمل، لزم مِن وجوبِ الاعتقاد وجوبُ العمل؛ فلذلك اكتفَى مَن اقتصر على وجوب الاعتقاد بذلك. وأما الغزالي ثم الآمدي وابن الحاجب فحكوا الخلاف على وجه آخر، وهو أنه يمتنع العمل قبل البحث قطعًا، وإنما الخلاف في كونه يكفي الظن (وهو قول الأكثر) أو لا بُدَّ من القطع (وهو قول القاضي)، قال: (ويحصل ذلك بتكرير النظر والبحث من اشتهار كلام الأئمة). قالوا: وليس خلاف الصيرفي إلا في اعتقاد عمومه قبل دخول وقت العمل به، وإذا ظهر مخصِّص، تَعَيَّن الاعتقاد. ومنهم مَن جمع بين الطريقين بأنهما مسألتان: وجوب العمل (وهو محل القطع)، واعتقاد العموم (وهو محل الخلاف). وفيه نظر؛ فإن ذلك إنْ كان قبل دخول وقت العمل فقد جعلوا محل خلاف الصيرفي فيه، وإن كان بعد دخول وقت العمل فقد سبق أنه لا معنى لاعتقاده إلا وجوب العمل به.

الثاني: استند مَن قال بوجوب [العمل] (¬1) (وهو الصيرفي) إلى نَصِّ الشافعي في "الرسالة"، إذْ قال ما نصه: (والكلام إذا كان عامًّا ظاهرًا، كان على عمومه وظهوره حتى تأتي دلالة تدل على خلاف ذلك). حكى ذلك عنه الشيخ أبو حامد، وحُكي عن القفال أن الصيرفي سُئل عن قوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] مَن سَمع هذا، يأكل جميع ما يجده؟ قال: يبلع الدنيا بلعًا. قال أبو حامد: (وابن سريج ورفقته تعلقوا بقول الشافعي ما نصه: وعلى أهل العلم بالكتاب والسنة أن يطلبوا دليلًا يفرقون به بين الحتم وغيره في الأمر والنهي) (¬2). انتهى الثالث: مثار الخلاف في المسألة التعارض بين الأصل والظاهر، وله مثار آخر وهو أن التخصيص هل هو مانع؟ أو عدمه شرط؟ فالصيرفي يجعله مانعًا، فالأصل عدمه. وابن سريج يجعله شرطًا، فلا بُدَّ مِن تحقُّقه. ونظيره الشاهد عند الحاكم لا يُعرف حاله، فيُبحث عنه حتى يُعمل بشهادته إذا عُدِّل. ونظيره أيضًا صيغة العموم المحتملة للعهد، هل يُعمل بها؛ لأن العهد مانع والأصل عدمه؟ أو عدم العهد شرط، فلا بُدَّ مِن تحقُّقه؟ الرابع: قال ابن الحاجب: (إنَّ هذا الخلاف يجري في كل دليل مع معارِضِه). وهي طريقة لبعضهم ممن ذكرها الشيخ أبو حامد، إذ قال: (وهذا الخلاف بين أصحابنا في لفظ الأمر والنهى إذا وردَا مُطلقَين). ¬

_ (¬1) في (ت): وقت العمل. (¬2) الأم (5/ 143).

نعم، منهم مَن نقل الإجماع على أنه لا يجب -عند سماع الحقيقة- طلبُ المجاز وإنْ وجب عند سماع العام طَلَبُ المخصِّص؛ لأنَّ تَطرُّق التخصيص إلى العام أكثر. قال الشيخ تقي الدين السبكي: (ولأن في العام دلالتين: إحداهما على أصل المعنى وهي نَص، والثانية على استغراق الأفراد وهي ظاهرة. واحتمال المجاز حاصل في الأول. وأما الحقيقة فاللفظ فيها يدل على مُعيَّن مفرد، والدلالة الإفرادية عِلمية قطعية؛ فلذلك لم يُطلب المجاز، واحتمال التخصيص إنما هو في الثانية) (¬1). قال: (ومَن شَبَّه العام بالحقيقة فقد أتى بساقط مِن القول). الخامس: إذا اقتضى العام عملًا مؤقتًا وضاق الوقت عن طلب الخصوص، فهل يُعمل بالعموم؟ أو يُتوقَّف؟ حكى ابن الصباغ فيه خلافًا. ونظيره هل للمجتهد التقليد عند ضيق الوقت؟ فيه وجهان. وكذا القادر على الاجتهاد في القِبلة، وكذا لو استيقظ قبل الوقت وكان بحيث لو اشتغل بالوضوء لخرج الوقت، هل يتيمم؟ أو يتوضأ وإنْ خرج الوقت؟ وجهان. قولي: (وَحَيْثُ شُرِطَا) أَجود من قوله في "جمع الجوامع": (وكذا بعد الوفاة، خلافًا لابن سريج. ثم يكفي في البحث الظن، خلافًا للقاضي) (¬2). لأنه يُوهِم أنه تفريع على القول بعدم البحث، وليس كذلك، بل هو على وجوبه. وأيضًا ففيه تخليط طريقة بطريقة، وقد أوضحنا الطريقين. والله أعلم. ¬

_ (¬1) الإبهاج (2/ 142). (¬2) جمع الجوامع (2/ 40) مع شرح المحلي وحاشية العطار.

المُخَصِّص: 625 - مُخَصِّصُ الْعُمُومِ إمَّا مُتَّصِلْ ... لَا [يَسْتَقِلُّ] (¬1) مُفْرَدًا، أَوْ مُنْفَصِلْ الشرح: لَمَّا فرغتُ مِن بيان التخصيص، شرعت في المخصِّص (بالكسر)، وهو حقيقةً فاعِلُ التخصيص الذي هو الإخراج كما سبق، ثم أُطلق على إرادته الإخراج؛ لأنه إنما يُخصِّص بالإرادة، فأُطلِق على نَفْس الإرادة "تخصيصًا"، حتى قال الإمام الرازي وأتباعه: (إن حقيقة التخصيص هو الإرادة) (¬2). لكن الأصوب ما ذكرناه. ثم أُطلق "المخَصِّص" على الدليل الدال على الإرادة. ومنهم من يحكي هذين قولين كما فعل القاضي عبد الوهاب وابن برهان: أحدهما: أنَّ "المخصِّصَ": إرادةُ المتكلم إخراج بعض ما يتناوله الخطاب. والثاني: الدليل الدال على إرادة ذلك. وبالجملة فالمقصود من الترجمة الثاني، وهو الدليل، فإنه الشائع في الأصول حتى صار حقيقة عرفية. وربما أطلق "المخصِّص" على المُظْهِر لإرادة مُرِيد التخصيص مِن مجتهدٍ أو غيره. إذا عُرف ذلك، فالمخصِّص قسمان: متصل: وهو ما لا يستقل، بل مرتبط بكلام آخَر. ¬

_ (¬1) في (ت): مستقل. (¬2) المحصول (3/ 8).

ومنفصل: وهو ما يستقل. فأما المتصل فالمشهور انقسامه إلى أربعة: الاستثناء، والصفة، والشرط، والغاية. وزاد ابن الحاجب: بدل البعض. وسيأتي تضعيفه. وذُكِرَت مخصِّصات أخرى في عَدِّها نظر يأتي بيانه. والله أعلم. ص: 626 - فَأَوَّلٌ مُنْقَسِمٌ لِخَمْسَةِ ... أَحَدُهَا: اسْتِثناؤُهُمْ بِوصْلَةِ 627 - وَذَاكَ إخْرَاجٌ بِنَحْوِ "إلَّا" ... مِنْ وَاجِبِ الدُّخُولِ فِيمَا دَلَّا الشرح: أي: الأول وهو المخصِّص المتصل خمسة أقسام كما سبق: أحدها: الاستثناء، وهو مأخوذ مِن الثني، وهو العطف. تقول: ثنيتُ الحبل أثنيته، أي: عطفت بعضه على بعض. وقيل: مِن ثنيتُه عن الشيء، إذا صرفته عنه. وهو ضربان: استثناء متصل، واستثناء منقطع. والمراد هنا المتصل، وهو معنى قولي: (بِوصْلَةِ). أما المنقطع فسيأتي أنَّ الراجح أنه لا يُعَد من المخصصات. وفي تعريف كل منهما عبارات كثيرة ذكر منها ابن الحاجب طائفة، ولكنَّا نقتصر على المختار في تعريف المتصل، ثم نذكر المنقطع استطرادًا. فَـ "المتصل" هو إخراج بنحو: "إلا" مما وُضع من الأدوات للإخراج لشيء مما هو

واجب الدخول في آخَر دال عليه. فَـ "إخراج" جنس يدخل فيه التخصيص بالمنفصل والمتصل بأقسامهما. وقولنا: (بِنَحْوِ "إلَّا") إلى آخِره - مخُرِج لما سوى الاستثناء المتصل مما دخل تحت "إخراج". والإشارة بِـ "نحو: إلا" إلى أدوات الاستثناء الثمانية المشهورة التي منها ما هو حرف اتفاقًا كَـ "إلا" أو على الأصح: كَـ "حاشَا" فإنها حرف عند سيبويه دائمًا، ويقال فيها أيضًا: "حاشَ" و "حَشَا". ومنها ما هو فعل (كَـ "لا يكون") أو على الراجح (كَـ "ليس"). ومنها ما يتردد بين الفعلية والحرفية، فإنْ نَصب ما بعده، كان فعلًا، أو خفضه، كان حرفًا، وهو "خَلَا" باتفاق، و"عَدَا" عند غير سيبويه. ومنها ما هو اسم، وهو "غَيْر" و"سِوَى"، سواء قلنا: إنه ظرف دائمًا استثني به. أو قُلنا: يتصرف تَصرف الأسماء. ويقال فيه: "سُوى" بضم السين، و"سواء" بفتحها والمد، أو بكسرها والمد. ذكرها الفاسي في شرح الشاطبية. نعم، قيد البيضاوي وابن الحاجب في بعض تعاريفه "إلا" بغير الصفة وإن لم يقيد في تعريفه المختار. والقصد بهذا القيد إخراج نحو: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، فليست "إلا" فيه استثناء، بل وصف، وإلا لفسد المعنى؛ لأنه إذا كان الفساد مرتبًا على وجود آلهة ليس فيهم الله، اقتضَى نَفْي الفساد في وجود آلهة فيهم الله. وذلك باطل قطعًا. نعم، زعم المبرد أنها استثناء، وما بعدها بدل؛ لأنَّ الشرط بِـ "لو" امتناع، وهو معنى النفي.

ورُدَّ بأنه لا يقال: (لو جاءني ديار أو من أحد) كما يقال: (ما جاءني ديار أو من أحد). وإنما لم أُقيد به اعتناءً بلفظ إخراج، فإنَّ "إلا" الوصفية لا إخراج فيها بالوضع وإنْ كانت مُخرجة من حيث الوصفية؛ ولذلك لم يذكرها الإمام الرازي وأتباعه غير مَن ذكرنا. بل مِن الوصف ما لا إخراج به أصلًا كما لو كان للمدح أو الذم أو الترحم أو التوكيد. وأيضًا فلا يُقصر هذا القيد على "إلا"، بل يجري فيما يكون وصفًا مما هو نحو "إلا" كَـ "غير" و "سوى"، فينبغي تأخير القيد عن قوله: (ونحوها)؛ لِيَعُم "إلا" وغيرها. وأيضًا فينبغي أن يحترز عن "إلا" الواقعة عاطفة كما ذكره الأخفش والفراء وأبو عبيد، كقوله تعالى: {لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} [النمل: 10 - 11]، الآية، ومنه على رأْيٍ: وكُلُّ أَخٍ مُفارِقُهُ أخوه ... لَعَمْرُ أبيكَ إلاَّ الفَرقدانِ أي: والفرقدان. والزائدة -كما قاله الأصمعي وابن جني- نحو: (حَرَاجِيجُ لاَ تَنْفَكُّ إلاَّ مُنَاخَةً). إذ المعنى: لا تنفك مناخة. وقولنا: (مما هو واجب الدخول) احتراز مِن نحو: (جاء رجال إلا زيدًا)؛ لاحتمال أن لا يريد المتكلم دخوله حتى يُخرجه. أما إذا أفاد الاستثناء من النكرة كاستثناء جزء من مركب، فيجوز، نحو: اشتريت عبدًا إلا رُبعه، أو: دارًا إلا سَقْفها. ومنه الاستثناء مِن العدد، نحو: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14]. وكما أن الاستثناء مِن النكرة إذا لم يُفِد لا يكون متصلًا كذلك لا يكون منقطعًا؛ لأن

شرطه أن لا يدخل في المستثنى منه قطعًا، وهذا يحتمل أن يراد دخوله. ولهذا لما عَرَّف ابن الحاجب المنقطع، قال: (ما دل على مخالفة بِـ "إلا" غَيْر الصفة وأخواتها مِن غير إخراج) (¬1). وهذا معنى قولي في النَّظم: (مِنْ وَاجِبِ الدُّخُولِ) أي: إخراج [شيء] (¬2) مِن واجب الدخول، أي: لا إخراج واجب الدخول جميعه؛ لئلا يبقى الاستثناء مستغرقًا، وهو باطل كما سيأتي. وقولي: (فِيمَا دَلَّا) أي: دلَّ، فالألف فيه للإطلاق. وشمل ما دَلَّ على المستثنى: - ما تَقدم، وهو الأصل. - وما تَأخَّر، نحو: (ما قام إلا زيدًا القوم). - وما كان مرادًا ذِكره ولم يُذكر، وذلك في الاستثناء المفرغ. وفي تقدير التلفظ به خِلاف للنحاة، نحو: (ما قام إلا زيد). والأرجح لا يُقدر شيء، بل إرادته في المعنى كافية. ¬

_ (¬1) مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (2/ 794). (¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في سائر النُّسخ: لشيء.

تنبيهات أحدها: إنما قيدت الاستثناء المعدود مِن المخصِّصات بِـ "المتصل"؛ لأن المنقطع يسمى "استثناء" لكن مجازًا عند الأكثرين، واختاره ابن الحاجب وغيره. وقيل: يُسمى حقيقةً؛ فيكون اللفظ مشتركًا. وقيل: موضوع للقدر المشترك بين المتصل والمنقطع؛ فيكون متواطئًا. وعلى هذه الأقوال الثلاثة يُسمى "استثناء". قال ابن الحاجب في "مختصره الكبير": إن ذلك باتفاق. ولكن فيه نظر؛ فقد حكى الشيخ أبو إسحاق قولًا أنه لا يُسمى "استثناءً" لا حقيقةً ولا مجازًا. ثم قال ابن الحاجب: (إنه على القول بالمجاز أو بالاشتراك لا يُجْمعان في تعريف واحد) (¬1). ثم عرف المنقطع بما سبق، لكنه قال في تعريفه: (مِن غير إخراج)؛ ليخرج به المتصل. وهو يقتضي أنه إذا سقطت هذه اللفظة، كان بقية التعريف شاملًا لهما. ثم ذكر تعريفه على قول التواطؤ بِـ: (ما دَلَّ على مخالفة بِـ "إلا" غير الصفة وأخواتها). وأما ابن مالك فجمعهما في تعريفه في "التسهيل"، فقال في المستثنى: (هو المخرج تحقيقًا أو تقديرًا مِن مذكور أو متروك بِـ "إلا" أو ما بمعناها، بشرط الفائدة) (¬2). ¬

_ (¬1) منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل (ص 79)، مطبعة السعادة - 1326 هـ. (¬2) شرح التسهيل لابن مالك (2/ 264).

فأدخل المنقطع بقوله: (أو تقديرًا)، نحو: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157]. فالظن لم يدخل في العلم تحقيقًا لكنه في تقدير الداخل، إذ هو مستحضر بذكره. أي: ما لهم به من علم ولا غيره من الشعور إلا اتباع الظن. ونحوه: ما في الدار أحد إلا حمارًا. فإن المعنى: ما فيها عاقل ولا شيء من متعلقاته إلا الحمار. نعم، قد قسم النحاة الاستثناء المنقطع إلي: - ما ليس للعامل عليه تسلط، فيجب نصبه باتفاق، نحو: (ما زاد المال إلا ما نقص)، و: (ما نفع زيد إلا ما ضر). - وما للعامل عليه تسلط، فالحجازيون يوجبون نصبه، وتميم تُرجِّحه وتجيز البدل. فمِن النَصب قراءة السبعة قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} بالنصب. ومن الاتباع قول الشاعر: وبَلْدَةٍ ليس بها أَنِيسُ ... إلا اليَعافِيرُ وإلاَّ العِيسُ أي: ورب بلدة ما فيها إلا اليعافير (وهي الظباء البيض) والعيس (أي: إبلنا التي نحن سائرون عليها). وقيل: المراد بالعيس بقر الوحش، شبَّهها بالإبل، فاستثني من الأنيس ما ليس منه. وعبَّر في "التسهيل" عن هذا القسم بما يصح إغناؤه عن المستثنى منه وما لا يصح. وهو معنى ما سبق. ومن أمثلة ما لا يصح إغناؤه قوله تعالى: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43]؛ إذ لو قُدر "لا عاصم إلا المرحوم" لم يصح. وقيل في الآية أيضًا غير ذلك.

فهذا القسم الذي لا يصح فيه تسلط العامل أو يقال: (إنه لا يغني) كيف يقال: إنه مخرج تقديرا؟ ومحل بسطه النحو. الثاني: ما ذكرته مِن كون المخَصص مِن الاستثناء هو المتصل؛ لأن المنقطع لا إخراج به - هو ظاهر كلام الأكثر. وزعم بعضهم أنه تخصيص، قال ابن عطية في "تفسيره": (يخصص تخصيصًا ما، لا كالمتصل) (¬1). فإنْ زعم هؤلاء أنه بالتأويل يصير فيه إخراج ولو من مفهوم المذكور أو من لازِمه، فما جعلوه تخصيصًا إلا بِرَدِّه للمتصل، بل يكون هذا شُبهة لمن أنكر الاستثناء المنقطع في كلام العرب وبعضهم في القرآن؛ لأن المذكور منه يمكن رده للمتصل. فالنزاع راجع للفظ. ولهذا نقل الأستاذ أبو إسحاق الاتفاق على صحة الاستثناء من غير الجنس، فإذا قال: (له علَيَّ عشرة إلا ثوبًا)، رجع الاستثناء إلى قيمة الثوب. فإن كانت أكثر منه أو مساوية، بطل الاستثناء؛ لكونه مستغرقًا في الأصح. قال الشافعي - رضي الله عنه -: لو قال: "له علَيَّ ألف إلا عبدًا"، قُبِل منه (¬2). أي: إذا اعتُبِرَت قيمتُه فكانت أقَل. وممن منع المنقطع إلْكِيَا وابن برهان، ونقله عن الحنفية الأستاذ أبو منصور وابن ¬

_ (¬1) عبارته في المحرر الوجيز (3/ 482): (وهذا الاستثناء المنقطع يخصص تخصيصًا ما، وليس كالمتصل). (¬2) انظر: الأم (6/ 223).

القشيري، وحكاه الأستاذ أيضًا عن ابن داود، والباجي عن ابن خويز منداد. وقيل: يقطع بصحته في الإقرار، وفي غيره وجهان. قاله الماوردي. الثالث: أُورِد على تعريف الاستثناء المتصل أمور: ذكر "إلا" ونحوه في التعريف؛ لكونه أداة استثناء، فتَصوُّر ذلك فيه متوقِّف على تَصوُّر الاستثناء، فإذا عَرَّفناه به، كان دَوْرًا. وجوابه: إنما وقع التعريف بها مِن حيث كونها مخرجة، لا من حيث خصوص الاستثناء، فإنَّ الإخراج أَعَم. ويجاب بهذا أيضًا عن السؤال في قوله: (ونحوها) أنه إنْ كان من حيث الاستثناء، لَزم الدَّوْر، أو مِن حيث الإخراج في الجملة، دخل التخصيص بالمنفصل وغير الاستثناء من المتصل. فيقال: المخرج بالوضع إنما هو أدوات الاستثناء، فهو المراد. ومنها: أهملتم التقييد بكون الاستثناء والمستثنى منه مِن متكلم واحد؛ ليخرج ما لو قال الله تعالى: "اقتلوا المشركين"، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إلا أهل الذمة"، فإن ذلك استثناء منفصل، لا متصل. ولهذا قُيد به في "جمع الجوامع" وضُعِّف مقابِله؛ ولهذا قال الرافعي: لو قال: (لي عليك مائة) فقال: (إلا درهمًا) لم يكن مقرًّا بما عدا المستثنى على الأصح. وأما استناد مَن جوَّزه مِن متكلِّمَيْن إلى أن المثال السابق في قول الله تعالى وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا بِدع فيه؛ لأن الكلامَيْن كالواحد؛ لأنه مُبلِّغ عن الله، فذاك لخصوص المثال، لا في كل استثناء مِن متكلِّمَين.

ولذلك احْتِيج في: (قول العباس - رضي الله عنه - بعد قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ولا يُخْتَلَى خلاها": إلا الإذخر. فقال: "إلا الإذخر") (¬1) إلى تأويله بأن العباس أراد أن يُذكره - صلى الله عليه وسلم - بالاستثناء؛ خشية أن يسكت عنه اتكالًا على فَهم السامع ذلك بقرينة وفهمًا منه أنه يريد استثناءه؛ ولأجل ذلك أعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستثناء فقال: "إلا الإذخر". ولم يكتف باستثناء العباس. فكل ذلك يرشد إلى اعتبار كونه من متكلم واحد. وجوابه: أن اشتراط الاتصال كافٍ في ذلك، فإنه ليس المراد به مجرد اتصال زمانه بزمان المستثنى منه، بل تعقيب المتكلِّم كلامه بكلامه؛ للارتباط في نطقه. ولذلك شُرِطت فيه نيته قبل أن يفرغ مِن المستثنى منه، أو مِن أوله على رأْيٍ مرجوح كما بُيِّن في الفقه على اضطراب فيه وقع للرافعي. فإنْ فُرض أن المتكلم بالمستثنى منه اتكل على المتكلم بالاستثناء، فالأول لم يستثن، والثاني لم ينطق بمفيد؛ لأن الاستثناء لا يستقل بنفسه. وقد سبق في مباحث اللغة أن الكلام هل يشترط فيه أن يكون من واحد؟ أوْ لا؟ وأن ابن مالك رد على مَن اشترطه، وأن التحقيق فيه أن الإسناد إنْ صدر مِن كل مِن القائل: (زيد) والقائل: (قائم)، فكل منهما متكلم بكلام ذكر بعضه وحذف الآخَر لِقرينة تَكلُّم الآخر، والحذفُ للقرينة اللفظية في المبتدأ والخبر وفي الفعل ومرفوعه جائزٌ. وإنْ لم يكن لأحدهما قصد ولا إسناد فلا كلام لا مِن هذا ولا مِن هذا. الرابع: اختُلف في تقدير دلالة الاستثناء على مذاهب منشأها إشكال في معقولية الاستثناء. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (112)، صحيح مسلم (1355).

فإنك إذا قلت: (قام القوم إلا زيدًا)، فإنْ لم يكن زيد دخل فيهم، فكيف أُخْرج هذا وقد اتفق أهل العربية على أنه إخراج؟ وإنْ كان دخل، فتناقَض أول الكلام وآخِره. وكذا نحو: (له علَيَّ عشرة إلا درهمًا)، بل أَبْلغ؛ لأن العدد نَص في مدلوله، والعام فيه الخلاف السابق. وذلك يؤدي إلى نفي الاستثناء من كلام العرب؛ لأنه كذب على هذا التقدير في أحد الطرفين، ولكن قد وقع في القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. أحد المذاهب وبه قال القاضي أبو بكر: أن نحو: "عشرة إلا ثلاثة" مدلوله سبعة، لكن له لفظان، أحدهما: مركَّب، وهو: "عشرة إلا ثلاثة"، والآخَر: "سبعة". وقصد بذلك أن يُفرق بين التخصيص بدليل متصل فيكون الباقي فيه حقيقة، أو بالمنفصل فيكون تناول اللفظ للباقي مجازًا. ووافقه إمام الحرمين على أن ذلك بمنزلة اسمين بالوضع: أحدهما مركب، والآخر مفرد. والثاني (ونقله ابن الحاجب عن الأكثرين): أن المراد بِـ "عشرة": سبعة، و"إلا" قرينة بيَّنت أن الكل استُعمل وأُريد به الجزء مجازًا. وعلى هذا فالاستثناء مُبيِّن لغرض المتكلم بالمستثنى منه. فإذا قال: (علَيَّ عشرة)، كان ظاهرًا في الجميع، ويحتمل إرادة بعضها مجازًا، فإذا قال: (إلا ثلاثة)، فقد بَيَّن أن مراده بِـ "العشرة" سبعة فقط كما في سائر التخصيصات. واستنكر إمام الحرمين هذا القول، وقال: (إنه مُحَال، لا يعتقده لبيب) (¬1). والثالث (واختاره ابن الحاجب): أن المراد بالعشرة: عشرة باعتبار أفراده، ولكن لا يُحكم بما أُسنِد إليها إلا بعد إخراج الثلاثة منها، ففي اللفظ أسند الحكم إلى عشرة، وفي ¬

_ (¬1) البرهان (1/ 270).

المعنى إلى سبعة. وعلى هذا فليس الاستثناء مُبيِّنًا للمراد بالأول، بل به يحصل الإخراج، وليس هناك إلا الإثبات، ولا نفي أصلًا، فلا تناقض. ثم ذكر استدلاله على ذلك وإبطال غيره، وأطال، ثم قال: - (فتبيَّن أن الاستثناء - على قول القاضي- ليس بتخصيص) (¬1). أي: لأن "التخصيص" قَصْرُ العام على بعض أفراده، وهنا لم يُرد بالعام بعض أفراده، بل بالمجموع المركب. - (وأنه على قول الأكثر تخصيص) (¬2). أي: لِمَا فيه من قَصْر اللفظ على بعض مسمياته. - (وأنه على الثالث المختار - عنده- محتمل) (¬3). أي: لِأَنْ يكون تخصيصًا؛ نظرًا إلى كون الحكم في الظاهر للعام والمراد الخصوص، وأنْ لا يكون مخصصًا؛ نظرًا إلى أنه أُريدَ بالمستثنى منه تمام مسماه. وذكر القاضي عضد الدين في تحقيق هذه المذاهب كلامًا أطال فيه، وتعقب عليه في بعضه السبكي في "شرح المختصر"، فليراجَع منه. والله أعلم. ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى (2/ 799). (¬2) مختصر المنتهى (2/ 799). (¬3) مختصر المنتهى (2/ 799).

ص: 628 - وَشَرْطُهُ اتِّصَالُهُ بِالْعَادَةِ ... وَعَدَمُ اسْتِغْرَاقِهِ لِلْجُمْلَةِ 629 - وَلَوْ يَكُونُ مُخْرَجٌ أَكْثَرَ مِنْ ... بَاقٍ أَوِ اسْتِوَاهُمَا [مِمَّا] (¬1) زُكِنْ الشرح: ذكرتُ لصحة الاستثناء شرطين، وذكرتُ في أمر ثالث أنه لا يُشترط وإنْ شَرَطه بعضهم. فأما الشرط الأول: فأنْ يتصل الاستثناء بالمستثنى منه اتصالًا عاديًّا حتى يُغتفر الفصل بالتنفس أو السعال أو نحو ذلك، وكذا إذا طال الكلام متعلقًا بالمستثنى منه، فإنه لا يضر كما قاله الإمام. والخلاف في اشتراط ذلك نُقِل عن ابن عباس وغيره. فَعَنِ ابن عباس: جواز تأخيره إلى شهر. وقيل: إلى سنة. وقيل: أبدًا، كما يجوز التأخير في تخصيص العام وبيان المجمل. وعن سعيد بن جبير: إلى أربعة أشهر. وعن عطاء والحسن: ما لم يَقُم من المجلس. حكاه عنهما الشيخ أبو إسحاق. وعن مجاهد: إلى سنتين. ¬

_ (¬1) في (ق، ن 2، ن 5): فيما.

وقيل: ما لم يأخذ في كلام آخَر. وقيل: يشترط أن ينوي في الكلام أنه سيستثنى. قال القاضي: إن صح النقل عن ابن عباس في جواز تأخيره فلعَل مراده أن يستثنى متصلًا بالكلام ثم يظهر ما نواه بعد ذلك، فإنه يُدين. وقال بعضهم: يجوز في كلام الله تعالى. وحمل بعضهم خلاف ابن عباس على ذلك، أي: يجوز تراخيه في القرآن دُون غيره. وضُعِّف هذا القول بأن كلام الله إنْ أُريد به القديم فلا يوصف لا بإخراج ولا بإدخال، وإنْ أُريدَ اللفظ المنزل ولو إلى اللوح المحفوظ كما قال المقْترح، فذلك إنما هو على أساليب كلام العرب، ما امتنع فيه يمتنع فيه، وما جاز فيه جاز فيه؛ لأن القرآن إنما نزل بلُغة العرب، فلا يكون مخالفًا لِلُغتهم. وبالجملة فهذه الأقوال كلها ضعيفة، وما نُقل منها عن هذه الأئمة فيجب تأويله. أما ضعفها فلأن أهل الأدب (أيْ: أهل العربية) متفقون على اشتراط الاتصال؛ ولهذا أَوَّلوا ما يُنقل عن ابن عباس وغيره من أهل الحجة في لسان العرب وبأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير" (¬1). ولم يقُل: (أو ليستثنِ). وكذلك لَمَّا أرشد الله تعالى أيوب عليه السلام بقوله: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ ¬

_ (¬1) سنن النسائي (3781)، سنن ابن ماجه (2108)، وغيرهما. قال الألباني: حسن صحيح. (صحيح النسائي 3790). وفي صحيح مسلم (رقم: 1650) بلفظ: (من حَلَفَ على يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا منها، فَلْيُكَفِّرْ عن يَمِينِهِ، وَلْيَفْعَلْ).

بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} جعل طريق بِره ذلك، ولو كان الاستثناء المتراخي يُحصِّل البِر، لَمَا جعل الله الوسيلة في البر ذلك. وفي "تاريخ بغداد" لابن النجار في أثناء "حرف الشين المعجمة" أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أراد الخروج مرة من بغداد فاجتاز في بعض الطرق، وإذا برجُل على رأسه سلة فيها بَقل وهو يقول لآخَر: مذهب ابن عباس في تراخي الاستثناء غير صحيح، ولو صح لَمَا قال الله تعالى لأيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ}، بل كان يقول له: استثنِ، ولا حاجة إلى التوسل للبر بذلك. فقال أبو إسحاق: بلدة يَرُد فيها رجُل يحمل البَقل على ابن عباس لا تستحق أن يُخرج منها. قال ابن الحاجب: (ولو صح تراخي الاستثناء لبطل جميع الإقرارات والطلاق والعتق، وأيضًا فيؤدي إلى أنه لا يُعلم صِدق ولا كذب) (¬1). لأنَّ مَن قال: (قَدم الحاج)، يحتمل أنه يريد أن يستثني بعد ذلك بعضهم. والأدلة في المسألة كثيرة. وأما النَقْل عن ابن عباس فيُحمل على محامل سبق بعضها، ومنها ما قاله القرافي: (إنه إنما قال ذلك في التعليق على مشيئة الله عز وجل بأنْ يقول: "إن شاء الله"، لا الاستثناء بِـ "إلا" أو إحدى أخواتها). قال: (ونقَل العلماء أن مدْركه في ذلك: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23 - 24]، المعنى: إذا نسيت أن تقول: "إن شاء الله"، فقُلْه إذا تذكرت أنك لم تَقُل). انتهى لكن في "مستدرك الحاكم" بسنده عنه أنه قال: "إذا حلف الرجل على يمين، فَلَه أن ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى (2/ 804).

يستثني إلى سَنة" (¬1) وأنَّ المعنى في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} أنك إذا ذكرت، فاستثنِ. وقال: صحيح على شرط الشيخين. فأطلق لفظ الاستثناء. إلا أن يقال: إنه محمول على "إن شاء الله"، فسياق الآية يرشد إليه. ونحو ذلك في إطلاق لفظ الاستثناء ما رواه الحافظ أبو موسى في كتاب "التبيين لاستثناء اليمين" من حديث يحيى بن سعيد - قرشي كان بفارس- عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلف على يمين، فمضى له أربعون ليلة، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}، فاستثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أربعين ليلة". لكن قال الحافظ أبو موسى: إن هذا لا يثبت؛ لأن يحيى بن سعيد غير محتج به. ورواية أن ابن عباس يرى التراخي إلى سَنة رواه الطبراني في "معجمه الأوسط" (¬2)، قال الحافظ أبو موسى فيه أيضًا: (إنه لا يثبت). ثم قال: (إن صح هذا عن ابن عباس فيحتمل أنه رجع عنه). وساق إلى ابن عباس بسنده أنه قال في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} أن المعنى: "إذا نسيت الاستثناء فاستثنِ إذا ذكرت، هي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وليس لأحد ¬

_ (¬1) المستدرك على الصحيحين (رقم: 8733) من طريق الأعمش، عن مجاهد عن ابن عباس. قال الحافظ ابن حجر في (إتحاف المهرة، 8/ 41): (هُوَ مَعْلُولٌ، فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، وَقَالَ فِيهِ: قِيلَ لِلأَعْمَشِ: سَمِعْتَهُ مِنْ مُجَاهِد؟ قَالَ: لا، حَدَّثَنِي بِهِ اللَّيْثُ عَنْ مُجَاهِد). (¬2) المعجم الأوسط (119)، السنن الكبرى للبيهقي (19716) بلفظ: (عن ابن عباس أنه كان يرى الاستثناء ولو بعد سَنة).

منا أن يستثني إلا بصلة اليمين" (¬1). وأخرج ذلك الطبراني في "معجمه" وقال: (تفرد به الوليد). فيحصَّل من ذلك أن إطلاق النقل عن ابن عباس في هذه المسألة ليس بجيد؛ لأمرين: أحدهما: أن ذلك في "إن شاء الله"، لا في مطلق الاستثناء؛ لأنه قاله في الآية. والمعنى: لا تقولن لشيء إنك فاعل جزمًا إلا أن تعلم مشيئة الله له، بل إذا قلت: "إن شاء الله"، لم تكن جازمًا، فلا تكون حينئذٍ آتيًا بالمنهي عنه. والخطاب له ولغيره من الأُمة. وكذا قال ابن جرير: إنَّ ذلك إنْ صح عن ابن عباس فهو محمول على أن السُّنَّة أن يقول الحالف: "إن شاء الله" ولو بعد سَنة. أو كما قال؛ ليكون آتيًا بسُنَّة الاستثناء ولو كان بعد الحنث، لا أنه بذلك رافع للحنث ومُسقِط لكفارة. وثانيهما: أنه جعل ذلك من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا ينسب إليه أن يقول ذلك عمومًا في كل استثناء منه - صلى الله عليه وسلم - أو من غيره. تنبيهات الأول: وقع بحث في الفقه في الفصل بالكلام اليسير بين الاستثناء والمستثنى منه، كما بين الإيجاب والقبول في العقود، والمرجَّح منه الأقيس أنه لا يضر وإنْ وقع في كلام الرافعي والنووي من أصحابنا فيه اضطراب مُوضَّح في كتب الفقه. الثاني: سبق أن الاستثناء مع كونه متصلًا لا بُدَّ أن يُنوى قبل تمام اللفظ بالمستثنى به. بل قيل: مِن أوله. ولكن ينبغي لمن جعل قوله: (عشرة إلا ثلاثة) مثلًا اسمًا مركبًا موضوعًا ¬

_ (¬1) المعجم الأوسط (7/ 68، رقم: 6872).

للسبعة أنْ لا يشترط نية الاستثناء البتة. وحينئذٍ فيقال: كيف يوافق إمام الحرمين القاضي على أنه اسم مركَّب للسبعة ويصرح في الفقهيات باشتراط النية في الاستثناء؟ إلا أنْ يُدَّعى أن هذا إنما هو في كيفية الدلالة مع وجود اعتبار ما يعتبر من نية واتصال وغير ذلك عند مَن يرى به. فهو أمر اعتباري بعد تكامل الشروط. الثالث: من اللطائف ما [يُحكى] (¬1) أن الرشيد استدعى أبا يوسف القاضي، وقال له: كيف مذهب ابن عباس في الاستثناء؟ فقال له: يلحق عنده بالخطاب، ويُغَير حُكمه ولو بعد زمان. فقال: عزمت عليك أن تُفتي به، ولا تخالفه. وكان أبو يوسف لطيفًا فيما يورده متأنيًا فيما يقوله، فقال: (رأْي ابن عباس يفسد عليك بيعتك؛ لأن مَن حلف لك وبايعك، يرجع إلى منزله فيستثني). فانتبه الرشيد، وقال: إياك أن تُعَرف الناس مذهبه في ذلك، فاكتمه. الرابع: قد يُستشكَل ما لو قال له: (عليَّ أَلْف درهم إلا شيئًا). فإنه يستفسر ويقبل منه [المتراخي] (¬2) بعد مُدة. وجوابه أن الاستثناء لَمَّا كان إسقاطًا لبعض السابق اعتُبر فيه الاتصال ولا يضر منافاته؛ لأن الكلام بآخِره، فإذا تراخى، كان ابتداء إسقاط بَعد انبرام الأول، فلا يُسمع. بخلاف التفسير، فإنَّ الكلام قد انتظم بأصل الاستثناء، والمُجْمَل لا يُعْرف تفسيره إلا منه، فيُقبل منه التفسير ولو بَعد مُدة. قال الروياني: ولهذا قال أصحابنا: لو فسر المجمل بتفسير غير مقبول وأراد أن يستأنف ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (ق، س): حكي. (¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): التراخي.

غيره، مُكِّنَ منه، ولو وصل بالأصل استثناء يرفع الجميع ثم أراد أن يستثني مرة أخرى، لم يمكَّن مِن ذلك. الشرط الثاني لصحة الاستثناء: أن لا يكون مستغرقًا، نحو: (له علَيَّ خمسة إلا خمسة)، فيلزمه الخمسة كما لو لم يستثنِ. وادَّعى جماعة -منهم الآمدي وابن الحاجب- الإجماعَ عليه. لكن الخلاف محكي في بعض المذاهب وإنْ كان شاذًّا. ففي "المدخل" لابن طلحة في: (أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا) قولان عن مالك. كذا رأيته فيه، ونقله القرافي عنه. ونقل اللخمى عن بعضهم في: (أنت طالق واحدة إلا واحدة) أن الطلاق لا يقع؛ لأن الندم منتفٍ بإمكان الرجعة، بخلاف: (ثلاثًا إلا ثلاثًا). وفي "الهداية" للحنفية أن بطلان المستغرق إنما هو في نحو: (نسائي طوالق إلا نسائي)، أو: (أو صيت بثلث مالي إلا ثلث مالي). لا في نحو: (نسائي طوالق إلا هؤلاء) مشيرًا إليهن، أو: (ثلث مالي إلا ألف درهم) وهو ثلثه. قالوا: لأنَّ الاستثناء تصرُّف، فيبنى على صحة اللفظ، لا على صحة الحكم؛ ولهذا لو قال: (أنت طالق عشر طلقات إلا ثمانيًا) يقع طلقتان، ويصح الاستثناء وإن كان العَشر لا صحة لها مِن حيث الحكم. وأما عند الشافعية فمحل بطلان المستغرق ما لم يعْقب المستغرق استثناء بعضه، كَـ: (عشرة إلا عشرة إلا ثلاثة) فإنَّ فيه وجوهًا: أحدها: يلزمه عشرة، فإن الاستثناء الأول لم يصح، والثاني مُرتب عليه. وثانيها: يلزمه ثلاثة، واستثناء الكل من الكل إنما لا يصح إذا اقتصر عليه. أما إذا عقبه

باستثناء صحيح، فيصح؛ لأن الكلام بآخِره. وهذا هو المرجَّح. وثالثها: يَلزمُه سبعة، والاستثناء الأول لا يصح، فيسقط مِن اثنين. وفي "التجريد" للمحاملي: لو قال: "له علَيَّ ألْف إلا ثوبًا" وفسر الثوب بما قيمته ألف، ففيه وجهان. وحكى الرافعي عن الحناطي فيمن قال: (أنت طالق ثلاثًا إلا واحدة إلا واحدة) أنه يقع الطلاق الثلاث؛ فإنه أبْطل المستثنى وهو الواحدة بالاستثناء منه المستغرق. ونقل عن "فتاوى القفال" فيمن قال: (كل امرأة لي طالق إلا عمرة) ولا امرأة له سواها، أنها تطلق؛ لأنه مستغرق. ولو قال: (النساء طوالق إلا عمرة) ولا امرأة له سواها، لم تطلق. والفرق أنه هنا لم يُضفهن إلى نفسه. ولك أن تقول: ينبغي أن لا تطلق في الأُولى أيضًا علَى أن "إلا" صفة، لا استثناء، كما في: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]. ويؤيده قول الشافعي: لو قال الزوج وقد عوتب في نكاح جديدة: "كل امرأة لي طالق" وعزلها بِنيته، أنه يُقبل؛ لأنه لو لم يصح لو صرح به لم تُفِده نيته له. وينبغي أن تطلق في الثانية على قولنا: (إن الاستثناء من المملوك)، فإنه لا يملك [إلا طلاق عمرة] (¬1). فكأنه استثناها من نفسها، وهو مستغرِق؛ فيبطُل. ونقل الشيخ أبو حيان عن الفراء أن المستغرق إنْ كان أكثر مِن المستثنى منه، جاز. نحو: (له علَيَّ ألْف إلا ألفين). ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (س): الطلاق غيره.

قال: إلا أنه يكون منقطعًا وليس من المستغرق، نحو: "أنت طالق خمسًا إلا ثلاثًا"، باعتبار أن المملوك له ثلاث؛ لأن الأصح أن الاستثناء مِن المذكور، لا من المملوك. حتى لو قال: "أنت طالق عشرًا إلا ثمانيًا"، طلقت ثنتين. ولذلك ينشأ [فرع] (¬1) من خلاف آخَر في جمع المفرق وتفريق المجتمع، نحو: "أنت طالق ثلاثًا إلا طلقة وطلقة وطلقة"، تطلق ثنتين؛ بناءً على أنه لا يُجمَع المفَرَّق؛ فيبطل الأخير، ويصح ما سواه. وقيل: يقع الثلاث. وغير ذلك مما هو مذكور في الفقه. نعم، لو قال: (أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا)، يقال فيه: لِمَ لا فرقت الصفقة في الاستثناء فأبطل فيما وقع به الاستغراق وهو واحدة، وصَحَّ الباقي؟ فكأنه قال: (ثلاثًا إلا ثنتين)، فتطلق واحدة. وجوابه أنه إذا لم يفرق المجموع ينظر في الكل، إنْ كان باطلًا فباطل. ونظيره لو جمع أختين في عقد نكاح، بطل فيهما، بخلاف ما لو عقدهما مرتبًا. وقريب منه لو زاد في شرط الخيار على الثلاث، بَطُل. بخلاف ما لو ألحق في المجلس زائدًا بعد ما شرط فيه الثلاث فما دُونها. وأما الأمر الثالث: وهو كون المستثنى إما أقَل مِن الباقي أو أكثر أو مساويًا، فليس كونه أقَل شرطًا في الاستثناء على المرجَّح. ¬

_ (¬1) في (ص، ق): نزاع.

وتفصيل القول في ذلك أن استثناء الأقل حتى يبقى الأكثر - جائز. قيل: بالإجماع. ورُدَّ بأن المازري إنما حكى الإجماع فيما إذا كان المستثنى ليس بواحد صحيح من أفراد المستثنى منه، نحو: (له علَيَّ عشرة إلا حبة)، أو: (إلا سدسًا)، بخلاف: (إلا واحدًا)، أو: (إلا ثلاثًا)؛ فإنه وإن كان المشهور جوازه إلا أن بعضهم استهجنه وقال: الأحسن أن يقول: (له تسعة) أو: (سبعة)، ولا يقول: (عشرة إلا واحدًا) ولا: (إلا ثلاثًا). ونقل في "شرح التلقين" أنهم شذوا فقالوا: لا يجوز استثناء الأقَل إلا لضرورة إليه، كَـ "مائة إلا ربع درهم". قالوا: وأما نحو: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] فإنما سوغه أن الخمسين كالكسر؛ لأنها نصف مائة، فكأنه قال: عشر مئين إلا نصف مائة (¬1). وهذا وإن كان مخالفًا للمشهور مع تكلُّف فيه وتعسُّف فهو قادح في حكاية الإجماع، إلا أن يقال: لِشذوذه لم يُلتفَت إليه. وأما استثناء الأكثر ويبقى الأقل واستثناء المساوي ويبقى نظيره ففيه مذاهب لأهل العربية والأصول: الأول: الجواز فيهما، فيجوز: (له عليَّ عشرة إلا تسعة)، و: (له عليَّ عشرة إلا خمسة). وهو قول أكثر الأصوليين. وقال الشيخ أبو حامد: إنه قول أكثر الكوفيين من النحاة. ونقله أبو حيان في "الارتشاف" عن أبي عبيدة. ¬

_ (¬1) شرح التلقين (ج 3، المجلد الثاني، ص 45).

الثاني: المنع فيهما. ونقله الشيخ أبو حامد عن البصريين من النحاة. وكذا حكاه عنهم أبو حيان في "الارتشاف"، وهو أحد قولَي القاضي أبي بكر، ونقله القاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق والمازري والآمدي عن الحنابلة. نعم، الذي في "مختصر التقريب" للقاضي مقتضاه أنه لا يخالف إلا في الأكثر فقط، فإنه قال: (كنا على تجويز استثناء الأكثر دهرًا، والذي صح عندنا آنفًا منع ذلك) (¬1). ولم يتعرض لاشتراط الأقلية، لكن في تقريره الأدلة ما يُشعِر بمنع المساوي أيضًا. فإنْ صح النقلان عنه فيكون له قولان في المسألة، ونقل المازري والباجي عن القاضي قولًا ثالثًا بجواز استثناء الأكثر، فإنْ كان ما أشار إلى أنه رجع عنه، فلا ينبغي أن يُنسَب له. الثالث: المنع في الأكثر فقط دُون المساوي. وهو أحد أقوال القاضي كما سبق. ونقله ابن السمعاني وغيره عن الأشعري، ونقله الإمام الرازي وأتباعه عن الحنابلة، ونقله ابن الحاجب عن بعضهم. وبه يحصل التوفيق بين النقلين عن الحنابلة. نعم، سيأتي عنهم نقل آخَر غير هذين. الرابع: أن استثناء الأكثر مستقبَح عند العرب، لا ممتنع في لغتهم كما هو المذهب الذي قبله. ونقله المازري عن الشافعي قولًا، وعن القاضي فيما كان يقوله أولًا، وعن ابن الماجشون والقاضي عبد الوهاب. ونقل المازري عن الشافعي قول المنع قولًا له آخر، ونقله أيضًا عن أحمد. قيل: ولا يُعرف ذلك للشافعي قولًا. الخامس: يمتنع استثناء الأكثر إنْ كان المستثنى والمستثنى منه في أعداد صريحة، نحو: (عشرة إلا تسعة). فإنْ لم يكن كذلك نحو: (خذ ما في الكيس إلا الزيوف) وكانت الزيوف ¬

_ (¬1) التقريب والإرشاد - الصغير (3/ 141)، التلخيص (2/ 75).

أكثر من الباقي، فهو جائز. [وقيل: هو الموجود في كُتب الحنابلة] (¬1). السادس: يمتنع استثناء الأكثر جملة، ولا يمتنع تفصيلًا. فيمتنع: (جاء إخوتك العشرة إلا تسعة). ويجوز: (إلا زيدًا وعمرًا وبكرًا) وهكذا لتمام التسعة. السابع: التفصيل بين أن يكون السامع عالِمًا بأن المخرج أكثر فيمتنع، أوْ لا فيجوز. الثامن: يجوز استثناء الأكثر، لكنه لم تَرِد به اللغة، بل ذُكِر قياسًا على التخصيص. ورُدَّ بأن القياس في اللغة ممتنع عند الكثير كما سبق. التاسع (ويُعزى للحنابلة): يجوز في المنقطع، لا المتصل. فيجوز: (له عندي ألف درهم إلا الثوب الفلاني) إذا كان ذلك الثوب يساوي ستمائة. ولكن هذا راجع إلى المذهب الخامس عند التأمل؛ لأنه في تقدير: (إلا قيمة الثوب). تنبيهات الأول: أنكر بعض أهل اللغة ورود مثل ذلك في اللغة، وأن ما استدل به المجوِّزون من: (قوله تعالى: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40] مع قوله تعالى: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] فاستثنى كل واحد منهما مِن الآخر، وأنه أيهما كان الأكثر، حصل به الاستدلال) يجاب عنه بجوابين: أحدهما: أن الاستثناء للمخلصين إنما هو من بني آدم، ولا شك أنهم أقَل مِن الباقي. واستثنى "الغاوين" من جميع العباد وهُم الأقَل أيضًا؛ فإنَّ الملائكة من عباد الله؛ لقوله تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]، وهُم غير غاوين. ¬

_ (¬1) هذه العبارة في (ص، ق، ش) جاءت بعد قوله الآتي في المذهب السادس: (ولا يمتنع تفصيلا).

وفي الحديث الصحيح: "أَطَّتِ السَّمَاءُ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ؛ مَا فِيهَا قدر أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَفيه مَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا للهِ" (¬1). وقال الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31]. وكذا قوله تعالى فيما رواه مسلم وغيره من حديث أبي ذر: "يا عبادي، كلكم جائع إلا مَن أطعمتُه" (¬2) الحديث، مع أن المطْعَمين أكثر. يجاب عنه بأن الملائكة مِن جملة العباد، ولا يوصفون بجوع وإطعام. ثانيهما: أن الاستثناء في: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} منقطع، بمعنى: "لكن"؛ بدليل الآية الأخرى: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22]. وقال القاضي في "التقريب": (إن ما استدل به المجوِّزون مِن قول الشاعر: رُدوا التي نقصَت تسعين من مائة ... ثم ابعثوا حَكمًا بالحق قوالا رُدَّ بأن هذا ليس فيه استثناء، وإنما فيه نقصان الأكثر، وليس محل النزاع). قال: (وكذا قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ} [المزمل: 2 - 3] الآية - أنَّ ذلك ابتداء كلام، كأنه قال: "بل قُم نصفه أو زد عليه أو انقُص منه، فإنه أعظم لثوابك") (¬3). ¬

_ (¬1) مسند أحمد (21555)، سنن الترمذي (رقم: 2312)، سنن ابن ماجه (4190)، وغيرها. قال الألباني في (صحيح سنن الترمذي: 2312): (حسن دُون قوله: لوددت ... ). وقال في (السلسلة الضعيفة: 1780): (ضعيف ... ، لكن جُل الحديث قد صح من طُرق أخرى). (¬2) صحيح مسلم (2577). (¬3) التقريب والإرشاد (3/ 144).

أي: لا أنَّ المراد استثناء النصف وزيادة بقوله تعالى: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 4]. وللمعْربين في تقرير الآية أقوال مشهورة ليس ذلك موضع بسطها، فبان بذلك ونحوه أن مَنْزَع الأكثرين في جواز ذلك غير خالٍ مِن نَظَر، إلا أنْ يتقوى بأدلة أخرى. ومحل ذلك ما يُذكر فيه الأدلة مُطَوَّلة. الثاني: قال المازري: الخلاف في المسألة لفظي؛ لأن المانع مِن استثناء الأكثر قال بعضهم معتذرًا عنه: إنه لم يخالف في الحكم، إنما خالف في كون العرب استعملت ذلك، ولكن لا يُسقِط حُكمه في الإقرار وغيره بذلك. وبه صرح إلْكِيَا الهراسي. وكذا قال ابن الخشاب: إن ذلك وإن لم يُسمع في العربية لكنه جائز في المعقول، ومَن ادَّعى فيه سماعًا فقد أخطأ. قلت: قد ذكرنا ذلك قولًا من جملة الأقوال، وذكرنا في التنبيه الأول تضعيف من ضعف مَنْزع الجواز بما سبق. الثالث: قد سبق في تقرير الدلالة في المستثنى منه والاستثناء أقوال. وحُجة مَن يمنع مِن استثناء الأكثر والمساوِي مِن حيث إن القليل يُنْسَى فيستدرك - إنما تأتي على أحد الأقوال، وهو: الإخراج من الحكم، لا قول أنه إخراج من اللفظ وأنَّ الحكم بعد الإخراج، ولا أنه صار لفظًا مركبًا دالًّا على الباقي مِن المستثنى منه. قولي: (وَلَوْ يَكُونُ مُخْرَجٌ أَكْثَرَ مِنْ) إلى آخِره، المسوغ لكون اسم "كان" هنا نكرة وقوعُه في حيز الشرط، وهو مِن المسوِّغات. وقولي بعده: (أَوِ اسْتِوَاهُمَا مِمَّا زُكِنْ) أي: عُلِم، معطوف على اسم "كان". أي: ولو

يكون استواء المستثنى والباقي بعد الاستثناء موجودًا في التركيب معلومًا. وفي تعبيري عن المسألة بذلك وضوح أكثر من عبارة مَن قال: (يستثنى الأكثر مِن الأقل ويستثنى المساوي)؛ لأنه ربما يوهِم أن المستثنى أكثر من المستثنى منه قبل دخول الاستثناء أو مساوٍ له، وذلك إنما هو المستغرق. فعبَّرت بقولي: (أَكْثَرَ مِنْ بَاقٍ) إلى آخِره؛ لرفع هذا التوهم. والله أعلم. ص: 630 - وَهْوَ مِنَ الْإثْبَاتِ نَفْيٌ، وَكَذَا ... في عَكْسِهِ، فَإنْ تَعَدَّدْ، فَبِذَا 631 - يُحْكَمُ في الْكُلِّ عَلَى مَا نُظِمَا ... مَا لَمْ يَكُنْ عَطْفٌ أَوِ [اسْتَغْرَقَ] (¬1) مَا 632 - يَلِي، [فَكُلٌّ] (¬2) رَاجِعٌ لِلْأَوَّلِ ... وَوَارِدٌ مِنْ بَعْدِ سَبْقِ جُمَلِ الشرح: لمَّا كان الاستثناء من جملة المخصِّصات المتصلة وكان التخصيص هو الإخراج من اللفظ العام، احتمل ذلك أمرين: أحدهما: أن يكون إخراجًا من الحكم على العام مع الحكم بضده، وأن يكون لا مع الحكم بضده، فيكون واسطة بين الحكم بشيء والحكم بضده وهو أنْ لا حُكم عليه أصلًا. فعبَّروا عن هذه المسألة بأن: (الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي). ثانيهما: أنه إخراج من النفي بلا إثبات فيه، وإخراج من الإثبات بلا حُكم [يُنفَى] (¬3) فيه ¬

_ (¬1) كذا في (ص، س، ش، ن 1، ن 2، ت). لكن في (ض، ق، ن 3، ن 4، ن 5): استغراق. (¬2) كذا في (ص، ق، ن). لكن في (س، ش، ت): وكل. وفي (ض): والكل. (¬3) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): بنفي.

مِن حيث إنه أُخْرِج من الإثبات، بل من حيث إنَّ الأصل فيه نَفْي ذلك الحكم. فالحكم [مَنْفِي] (¬1) عنه باعتبار الأصل، لا بدلالة الاستثناء. والأول هو قول الجمهور، فإذا قال: (له علَيَّ عشرة إلا درهمًا)، كان إقرارًا بتسعة. وإذا قال: (ليس له عليَّ شيء إلا درهمًا)، كان مقرًّا بدرهم. والثاني قول الحنفية، فيوجبون في: (له عليَّ عشرة إلا درهمًا) تسعة، مِن حيث إنَّ الدرهم المخرج منفي بالأصالة، لا من حيث إن الاستثناء من الإثبات نفي. ولا يوجبون في: (ليس له عليَّ شيء إلا درهمًا) شيئًا؛ إذِ المراد: (إلا درهمًا، فإني لا أَحْكُم عليه بشيء)، ولا إقرار إلا مع حُكم بإثبات. فإنْ قيل: فقد رجح أصحاب الشافعي في فروع خلاف ذلك، كقولهم في: (ليس له عليَّ عشرة إلا خمسة): إنه لا يلزمه شيء عند الأكثر. وفي وجه: يلزمه خمسة؛ على قاعدتهم. فكيف خالف الأكثر القاعدة؟ ولو قال: (لا ألبس إلا الكتان) ولم يلبس شيئًا، كان كذلك. وكذا: (لا أجامعك في السَّنة إلا مَرة)، فمضت السنة ولم يطأ، ففي وجه: يحنث؛ للقاعدة. والأصح (كما قال النووي): لا. فكيف رجَّحوا خلاف القاعدة؟ فجوابه أن استثناء العَدد مِن العَدد تعبير بذلك عن الباقي بعد الاستثناء. والنفي إنما انصَبَّ عليه، فكأنه قال: (لا يلزمني خمسة). لا سيما إذا قلنا: (إن الحكم بعد الإخراج) كما سبق في تقرير دلالة ذلك. وأما: (لا ألبس إلا الكتان) فمعناه الحلف على لبس غير الكتان، وإذا لم يلبس شيئًا، صدق أنه لم يلبس غير الكتان. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): ينتفي.

وكذا: (لا أُجامِع في السَّنة إلا مَرة) معناه: لا أجامع زائدًا على المرة. وإذا مضت ولم يجامع، صدق ما حلف عليه، فليس ذلك منافيًا لقاعدتهم. فإنْ قيل: تقرير المسألة على هذا الوجه يقتضي أن الحنفية يخالفون في الأمرين، لكن الإمام الرازي وطائفة إنما يحكون الخلاف عن الحنفية في أن الاستثناء من النفي إثبات أوْ لا، وأن الاتفاق على أن "الاستثناء مِن الإثبات نَفْي". قيل: قد حكى الخلاف في الأمرين معًا القرافي، فقال: (إن الخلاف موجود عندهم) (¬1). وكذا حكى عن بعضهم ذلك الصفي الهندي وغيره. ولا تَعارُض بين النقلين؛ فإنَّ: - مَن حكى تعميم الخلاف، أراد ما قررناه من ثبوت الواسطة بين الحكمين وهو عدم الحكمين؛ بِناءً على أنَّ تَقابُلَ حُكم المستثنى والمستثنى منه تَقابُلُ نقيضين عندهم (حُكم، وعَدَم حُكم) وتقابُل ضدين عند الجمهور. - ومَن حكى الاتفاق في صورة الاستثناء من الإثبات على أنه نَفْي، أراد الاتفاق على أصل النفي فيه، لا على أن النفي مستند للاستثناء كما قررناه. فلا يظهر حينئذٍ للخلاف معهم في الإثبات فائدة. قلتُ: قد يقال: تظهر فائدته في تعارض مع ما قام عليه دليل شرعي، فإنه يُقدم ما قام الدليل عليه؛ لأن الاستناد للأصل لا يقاومه. وتظهر أيضًا في أنه هل يقاس عليه؟ أو لا؟ فإن النفي إذا كان بالأصالة، لا يقاس عليه؛ لأن شرط الحكم في الأصل أن يكون بدليل. وتظهر أيضًا في أنَّ رَفْعه بدليل هل يكون نسخًا؟ فإنْ كان باعتبار أنه نَفْي أصلي فلا ¬

_ (¬1) نفائس الأصول (2/ 602).

يكون رفْعه نسخًا؛ لِمَا سيأتي في أبواب هذه الأمور تقرير ذلك وإيضاحه. تنبيهات أحدها: ما قاله الحنفية موافق لقول نحاة الكوفة. وأبو حنيفة - رضي الله عنه - لما كان كوفيًّا كان مذهبه ذلك. وما قاله الجمهور موافق لقول سيبويه والبصريين. والإمام الرازي وإنْ وافقهم في "المحصول" لكنه وافق الأوَّلِين في "المعالم" وفي "تفسيره" في سورة النساء. الثاني: الاستثناء المتصل هو الذي تأتي فيه هذه المسألة والاختلاف فيها؛ لأن فيه إخراج. أما المنقطع فالظاهر أن ما بعد "إلا" فيه محكوم عليه بضد الحكم السابق. فإنَّ مساقه هو الحكم بذلك. فنحو: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] المراد أن لهم اتباع ظن، لا عِلم وإنْ لم يكن الظن داخلًا في العلم، هذا إذا جُعل منقطعًا. وَقِسْ على ذلك. لكن هل يجري ذلك في التام والمفرغ؟ أو لا يجري في المفرغ؟ قيل: الظاهر هو عدم إجراء الخلاف فيه، وأن الاستثناء فيه إثبات قطعًا؛ لأن قولك: (ما قام إلا زيد) ليس معك شيء ثبت له القيام فيكون فاعلًا إلا زيد، فيكون متعينًا للإثبات بالضرورة، بخلاف قولك: (ما قام أحد إلا [زيد]) (¬1). نعم، حكى القرافي في "العقد المنظوم" عن الحنفية أنهم أجروا ذلك في التام والمفرغ، قال: (ويلزمهم أن يعربوا "زيد" في: "ما قام إلا زيد" بدلًا، لا فاعلًا، ويكون الفاعل ¬

_ (¬1) في (ت): زيدا.

مضمرًا، أي: "ما قام أحد إلا زيد". لكن حَذف الفاعل ممتنع عند النحاة) (¬1). قلت: لا بُدَّ في الاستثناء المفرغ مِن معنى محذوف يُستثنَى منه وإنْ لم يُقَدَّر لفظُه على المرجَّح، فالقول بجريان الخلاف فيه غير بعيد. الثالث: من أدلة الجمهور أنَّ "لا إله إلا الله" لو لم يكن المستثنى فيه مُثبتًا لم يكن كافيًا في الدخول في الإيمان، ولكنه كاف باتفاق. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" (¬2). فجعل ذلك غاية المقاتلة. وقد أجابوا بأن الإثبات معلوم، وإنما الكفار يزعمون شِركة، فنُفيت الشركة بذلك. أو أنه وإنْ كان لا يفيد الإثبات بالوضع اللغوي لكن يفيده بالوضع الشرعي، فإنَّ المقصود نَفْي الشريك، وهو مُستلزِم للثبوت. فإذا قلتَ: (لا شريك لفلان في كرمه)، اقتضى أن يكون كريمًا. وأيضًا فالقرائن تقتضي الإثبات؛ لأنَّ كل مُتلفِّظ بها ظاهرٌ قَصْده إثباته واحدًا، لا التعطيل. ورُدَّ ذلك بأن الحكم قد عُلِّق بها بمجردها؛ فاقتضى ذلك أنها تدل بلفظها دُون "شيء زائد" الأصلُ عَدَمُه. قال ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام": وكل هذا عندي تشغيب ومراوغات جدلية، والشرع خاطب الناس بهذه الكلمة وأمرهم بها؛ لإثبات مقصود التوحيد، وحصل الفهم ¬

_ (¬1) العقد المنظوم (2/ 226). (¬2) سبق تخريجه.

لذلك منهم من غير احتياج لأمر زائد. ولو كان وضع اللفظ لا يقتضي ذلك لَكَان أهم المهمات أنْ يُعلمنا الشارع ما يقتضيه بالوضع مِن غير احتياج لأمر آخَر، فإنَّ ذلك المقصود الأعظم في الإسلام. ومن أدلتهم أيضًا قوله تعالى: {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ: 30]. وهو ظاهر. وأما أدلة الحنفية: فمِن أعظمها أنه لو كان كذلك، لَلَزِمَ مِن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة إلا بطهور" (¬1) أن مَن تَطهر، يكون مصليًّا، أو تصح صلاته وإنْ فقد بقية الشروط. وجوابه أن [الاستثناء] (¬2) مطلق يَصْدُق بِصُورة ما لو توضأ وصلَّى؛ فيحصل الإثبات، لا أنه عام حتى يكون كل متطهر مصليًّا. وأيضًا: فهو استثناء [شرط] (¬3)، أي: لا صلاة إلا بشرط الطهارة. ومعلوم أن وجود الشرط لا يَلزم منه وجود المشروط. وأيضًا: فالمقصود المبالغة في هذا الشرط دُون سائر الشروط؛ لأنه آكِد. فكأنه لا شرط غيره، لا أن المقصود نفي جميع الصفات. وأيضًا: فقد يقال: الاستثناء فيه منقطع، وليس الكلام فيه. لكن ابن الحاجب قال: (إنه ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه (رقم: 271) وغيره بلفظ: (لا يَقبل الله صلاة إلا بطهور). وفي: صحيح ابن خزيمة (9)، صحيح ابن حبان (رقم: 3366) وغيرهما بلفظ: (لا تُقْبَلُ صَلاةٌ إِلا بِطَهُورٍ). قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 3355). (¬2) كذا في (ت، ض، س). لكن في (ص، ق، ش): المستثنى. (¬3) في (ص): بشرط.

بعيد؛ لأنه استثناء مفرغ، وكل مفرغ متصل) (¬1). على أن هذا الحديث بهذا اللفظ لا يُعرف، إنما المعروف: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور" (¬2). أخرجه مسلم. نعم، في ابن ماجه: "لا تقبل صلاة إلا بطهور" (¬3). ولو مثلوا بحديث: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" (¬4) الثابت في "الصحيحين" لكان أجود. قال السبكي في "شرح البيضاوي": (وقع لي في بعض المجالس الاستدلال للحنفية بقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، فإنه لو اقتضى الإثبات لَلَزِمَ أن يُكلف كل نفس بجميع وُسعها؛ لأنَّ "وُسْع" مفرد مضاف؛ فكان عامًّا، فيصير التقدير: "لا يكلف الله نفسًا بشيء إلا بكل ما تسعه، فإنها مكلَّفة به". وليس كذلك). قال: (واستحسن ذلك والدي) (¬5). قلت: لا يلزم مِن تَعذُّر العموم في الشيء أن [ينفى] (¬6) مدلوله، فنقول: انتفى العموم؛ للإجماع، فبقي أصل الإثبات. الرابع: "الاستثناءُ مِن التحريمِ نَفْيٌ للتحريم" أَعَم أنْ يكون إباحة أو غيرها، ولكن المتحقق ¬

_ (¬1) مختصر منتهى السؤل والأمل (2/ 819). (¬2) صحيح مسلم (رقم: 224). (¬3) سنن ابن ماجه (رقم: 271). قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 271). (¬4) سبق تخريجه. (¬5) الإبهاج (2/ 152). (¬6) في (ص) كأنها: يبقى.

الإباحة، وما زاد يحتاج لدليل؛ فلذلك استشكل الاستدلال بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحد المرأة إلا على زوج" (¬1) الحديث - على الوجوب حتى احتاج لأمر آخَر يدل على الوجوب، كما بُيِّن في محله، وأوضحنا ذلك في "شرح العمدة". ولم يتعرض الأصوليون لهذه المسألة صريحًا، لكنها تخرج من عموم قاعدة "الاستثناء مِن النفي إثبات" على ما قررناه. قولي: (فَإنْ تَعَدَّدْ، فَبِذَا يُحْكَمُ في الْكُلِّ) المراد به أن هذه القاعدة [إذا تمهدت] (¬2) في الأمرين (وهُما الاستثناء من النفي ومن الإثبات)، ترتَّب عليها تَعدُّد الاستثناء، نحو: (له علي عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة) وهكذا. لكن للمسألة أحوال: الأولى: ما ذكرناه من المثال ونحوه مما ليس فيه عطف استثناء على استثناء، ولا كون أحدهما مستغرقًا لما قبله. ويمكن أن كُلًّا مُخْرَج مما قَبْله، فهذا كل استثناء يُرْجَع فيه لِمَا قَبْله. فإنْ كان الذي قبله مثبتًا، كان منفيًّا، أو منفيًّا، كان مثبتًا. فالعشرة إثبات، والتسعة نفي؛ فيبقى واحد. والثمانية إثبات، تصير مع الواحد تسعة، والسبعة نفي؛ يبقى المقَرُّ به اثنان. ولاستخراج الحكم من ذلك طُرُق للنحاة وغيرهم: إحداها: ما أشرنا إليه مِن طريقة الإخراج وجبر الباقي بالاستثناء الثاني، وهكذا إلى ¬

_ (¬1) مسند أحمد (20813)، سنن أبي داود (رقم: 2302) وغيرهما بلفظ: (لَا تحِدُّ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلا على زَوْجٍ). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 2302). (¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في (ت، س، ض): إذ المذهب. وفي (ش): إذ المهذب.

آخِره. فإذا قال: (عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة إلا ستة إلا خمسة إلا أربعة إلا ثلاثة إلا اثنين إلا واحدًا)، فلمَّا خرج تسعة بالاستثناء الأول جُبر ما بقي (وهو واحد) بالاستثناء الثاني (وهو ثمانية)، فصار تسعة، ثم خرج بالاستثناء الثالث سبعة، بقي اثنان، فجبر بالرابع (وهو ستة)، فصار ثمانية، ثم خرج بالخامس خمسة، فبقي ثلاثة، فجبر بالسادس (وهو أربعة)، فصار سبعة، ثم خرج بالسابع ثلاثة، فبقي أربعة، فجبر بالثامن (وهو اثنان)، فصار الباقي ستة، فأخرج منه بالاستثناء التاسع واحدًا، فصار المُقَرُّ بِه خمسة. الثانية: أن تحط الأخير مما يليه، وهكذا إلى الأول، فتحط واحدًا من اثنين؛ تبقى واحد، تحطه من ثلاثة، يبقى اثنان. تحطهما من أربعة، يبقى اثنان، تحطهما من خمسة، تبقى ثلاثة، تحطها من ستة تبقى ثلاثة، تحطها من سبعة، تبقى أربعة، تحطها من ثمانية، تبقى أربعة، تحطها من تسعة، تبقى خمسة، تحطها من عشرة، يبقى المُقَرُّ بِه خمسة. الثالثة: أن تجعل كل وتر من الاستثناءات خارجًا، وكل شفع مع الأصل داخلًا في الحكم، فما اجتمع فهو الحاصل، فتُسقط ما اجتمع من الخارج مما اجتمع من الداخل فهو الجواب. فالعشرة والثمانية والستة والأربعة والاثنان: ثلاثون، هي المُخْرَج منها. والتسعة والسبعة والخمسة والثلاثة والواحد: خمسة وعشرون، هي المخرَجة، تبقى خمسة. الرابعة: أن المستثنى منه أولًا إنْ كان شفعًا كالعشرة في مثالنا، فخذ لكل استثناء من الأوتار واحدًا واجمعه وأسقطه منه، فالباقي الجواب. فعدد الاستثناءات الأوتار خمسة، تُسقِطها من العشرة؛ تبقى خمسة. وإنْ كان المستثنى منه أولًا وترًا كَـ "لَهُ عليَّ أحد عشر إلا عشرة، إلا تسعة" إلى آخِره،

فَخُذ عدد الاستثناءات الأشفاع (وهو خمسة) فأسقطها، فالباقي ستة. لكن هذه الطريقة لا تأتي إلا في استثناءات متوالية بحيث لا يكون بين كل واحد من المستثنى منه والمستثنى شيء [كما] (¬1) في مثالنا، فتأمله. وطُرُق أخرى لا نُطَوِّل بها. وكل ذلك على الصحيح من الأقوال في المسألة. وبه قال البصريون والكسائي؛ لأن الحمل على الأقرب متعيِّن عند التردد. وقيل: جميع الاستثناءات تجمع وتخرج من أصل المستثنى منه أولًا إن لم يستغرق، وإلا فتُبطل ما وقع به الاستغراق، وتُخرج الباقي من الأصل. وبه أجاب أبو يوسف حين سأله الكسائي فيمن قال: (له عليَّ مائة إلا عشرة إلا اثنين)، فقال: يلزمه ثمانية وثمانون. وقيل: الأمران محتملان حتى يعمل في نحو الإقرار باليقين ويُلغى المحتمل. وفي قول رابع للفراء: إن الاستثناء الثاني منقطع، لكنه يصير المستثنى به ثابتًا، فتضمه في الثبوت للمستثنى منه أولًا، فيلزمه في مسألة أبي يوسف اثنان وتسعون كما يقوله البصريون ومَن وافقهم، لكن لا مِن حيث إنه استثناء مما قبله، بل لأن المراد: لكن له عندي اثنان مع التسعين الباقية بعد الاستثناء الأول. وبالجملة: فالراجح القول الأول، حتى نقل فيه الأستاذان أبو إسحاق وأبو منصور إجماع أصحابنا عليه. وفيه نظر؛ فقد قال الحناطي -فيما حكاه الرافعي عنه- فيما لو قال: (أنت طالق ثلاثًا ¬

_ (¬1) في (ت): لا كما.

إلا ثنتين إلا واحدة): يحتمل أن يعود الثاني إلى المستثنى منه أولًا. أي: فتطلق واحدة؛ لأن الثاني إذا عاد للأول، صَيَّر الاستثناء مستغرقًا، فيبطله وحده؛ لأنه الذي به الاستغراق. ولكن المرجَّح خِلافه حتى تطلق ثنتين، لأن كل استثناء مما يليه. حتى قال في "الروضة": إنه الصواب. فقول بعضهم: (إن قول الحناطي قوي؛ لأنَّ مقابِلَهُ ليس له مأخذ غير القُرْب، والقُرْب لا يقتضي تَعَيُّنًا، إنما يقتضي رجحانًا. كما قال البصريون في تنازع العاملين: إنَّ إعمال الثاني أَوْلى؛ لِقُربه. مع اتفاقهم مع الكوفيين على جواز الوجهين) بعيد؛ لأن الفصل في كثير من الأماكن يقتضي المنع، فَعَوْده لِمَا يَلِيه مع [القُرب] (¬1) سالِمٌ مِن الانفصال، فَتَعَيَّن القول به. أما إذا كانت الاستثناءات متعاطفة نحو: (عشرة إلا أربعة وإلا ثلاثة وإلا اثنين)، فيرجع الكل للمستثنى منه أولًا؛ حملًا للكلام على الصحة ما أَمكن، فإنَّ عَوْد كلٍّ لِمَا يليه قد تَعذَّر بانفصاله بأداة العطف. هذا إذا لم يلزم مِن عود الكل الاستغراق. فإنْ كان يلزم منه استغراق، نحو: (له عليَّ عشرة إلا ستة وإلا خمسة)، ألغي ما يقع به الاستغراق، فيلزم أربعة. وكذا: (عشرة إلا خمسة وإلا ستة) يَلزم خمسة. و: (عشرة إلا خمسة وإلا خمسة) يَلزم: خمسة. قال القاضي أبو الطيب: إذا كان المجموع مساويًا للأصل أو أزيد ببعضها أو بمجموعها فإنْ حصلت المساواة بالاستثناء الأول فلا شك في فساده. أو بالأول والثاني وكان الثاني مساويًا للأول فقد تَعذَّر رجوعه مع الأول إلى المستثنى، وتعذر رجوعه إلى الثاني؛ للعطف وللمساواة، فيفسد لا محالة. ¬

_ (¬1) في (س، ت، ض): الفرق.

وهل يفسد معه الأول أيضًا حتى لا يسقط من المستثنى منه شيء؟ أَم يختص الثاني بالفساد؛ لأنه نشأ منه؟ فيه احتمالان. قال الهندي: (والظاهر الثاني). قال: (فإنْ كان الثاني أنقص مِن الأول، تَعارضَا) (¬1). انتهى نعم، يَطْرق المعطوفات إذا استغرقت الأصل خِلافٌ مِن أن المفرَّق في المستثنى منه أو في المستثنى هل له حُكم الجمع؟ والجمع فيهما هل له حُكم المفرَّق؟ والصحيح فيهما المنع كما أوضحوه في الفقه في باب الإقرار وغيره. وأما إذا لم تكن الاستثناءات متعاطفة ولكن بعضها لا يمكن أن يرجع لما يليه؛ لكونه مستغرقًا، نحو: (أنت طالق ثلاثًا إلا ثنتين إلا ثنتين)، أو: (إلا واحدة إلا ثنتين)، فتعاد كلها للأصل أيضًا. فإنْ أدَّى المجموع لاستغراق الأصل، أبْطل ما به الاستغراق كما سبق تقريره في المتعاطفة. نعم، إذا استغرق استثناءٌ استثناءً بمساواة، احتمل التوكيد كما قاله الرافعي. وقواه بعضهم بأن التوكيد وإنْ كان خِلاف الأصل فالاستثناء أيضًا خلاف الأصل، فلا ينبغي تكثيره. وقد يجاب بِقِلَّة التوكيد بالنسبة إلى كثرة الاستثناء؛ فقوي جانبه. واعلم أنَّا إذا فرَّعنا على قول الفراء السابق أن الثاني منقطع فيضم للأصل، ينبغي أن يقال في: (له عليَّ عشرة إلا اثنين إلا اثنين): يلزمه عشرة. وفي: (عشرة إلا اثنين إلا ثلاثة): يلزمه أحد عشر. ¬

_ (¬1) نهاية الوصول (4/ 1549).

وكأن مستنده في مذهبه أنه لا يستثنى من استثناء. وسيأتي الخلاف فيه، ولا يمكن أن يُعاد للأول؛ للفصل والبُعد، لكن قد قامت الحجة للجمهور في الأمرين كما سبق. تنبيهات أحدها: القول في إعراب الاستثناءات متقدمة ومتأخرة مع تفريغ وعدمه من وظيفة النحاة. والأصولي والفقيه إنما يبحثان في المعاني. نعم، لم يتعرض ابن الحاجب في "مختصره" (¬1) لمسألة التعدد صريحًا، لكن في نَصْب أدلة القائلين بِعَوْد الاستثناء المتعقِّب للجُمَل إلى الأخيرة ذكر منها ما لو قال: (له عليَّ عشرة إلا أربعة إلا اثنين) فإنما يعود [الأخير إلى] (¬2) الذي قبله، لا إلى الكل. ثم أجاب بما يقتضي تسليم القاعدة، وذكر بعد ذلك أيضًا في الأدلة ما يرشد إليها. الثاني: هذه المسألة مفرَّعة على مسألة جواز الاستثناء من الاستثناء، وهو الصحيح. وبه قال سيبويه، وترجم عليها "باب تثنية المستثنى". وحكى ابن العربي في "المحصول" عن بعضهم منعه (¬3). وحكى مجلي في "الذخائر" في "باب الإقرار" أن بعض الفقهاء حكى المنع عن بعض أهل العربية؛ لأن العامل في الاستثناء الفعل الأول بتقوية حرف الاستثناء، والعامل الواحد لا يعمل في معمولين. وكذا قال الروياني: إن مِن أهل اللغة مَن ينكر ذلك؛ لهذه العلة. ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى (2/ 282) مع شرحه. (¬2) كذا في (ص، ق، ش). لكن في (ض، س): الآخر إلى. وفي (ت): إلى الآخر. (¬3) المحصول (ص 83).

وأجاب المانعون عما استدل به الجمهور مِن قوله تعالى: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ} [الحجر: 58، 59] الآية - بأن الاستثناء الثاني وهو: {إِلَّا امْرَأَتَهُ} [الحجر: 60] إنما هو من قوله: {أَجْمَعِينَ} [الحجر: 59]. قال الروياني: (والمجوزون يقولون: العامل "إلا"). انتهى وكون العامل "إلا" هو مُرَجَّح ابن مالك في "التسهيل" وفاقًا لسيبويه والمبرد والجرجاني. خلافًا لمن قال: (ما قبلها مُعَدًّى بها أو مستقلًّا) كما هو مذهب ابن خروف، أو: (بِـ: أستثني مضمرًا) كما هو قول الزجاج، أو: (بِـ "أنَّ" مُقَدَّرة بعدها) كما عزاه السيرافي للكسائي، أو: (بِـ "إنْ" مخففة مُركبًا منها ومِن "لَا": إلَّا) (¬1) كما قاله الفراء. ومنهم مَن أجاب في الآية -كما أشار إليه صاحب "الذخائر" في كتاب الطلاق- بأنَّ الاستثناء الأول منقطع؛ لأنَّ آل لوط ليسوا مِن المجرمين. قال: ولم يَحْك الزجاجي سواه. الثالث: قولنا في أصل المسألة: (إنَّ محلها إذا أمكن أنَّ كل استثناء مُخْرَجٌ مما قَبْله) يخرج به إذا تَعدَّد وكان المستثنى الثاني عَيْن المستثنى الأول، نحو: (قام القوم إلا الفتى إلا العلاء)، فإنهما واحد خارج من الأصل. وقولي: (عين المستثنى)؛ ليخرج: (إلا ثلاثة إلا ثلاثة)، فإن ذاك مِثله، لا عَيْنه، وقد سبق الكلام عليه. والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) يعني: "إلَّا" مُرَكَّبة مِن "إنْ" و"لا".

وقولي في النَّظم: (وَوَارِدٌ مِنْ بَعْدِ سَبْقِ جُمَلِ) تمامه قولي بعده: ص: 633 - أَوْ مُفْرَدَاتٍ عُطِفَتْ بِالْوَاوِ ... وَلَمْ يَطُلْ فَصْلٌ مَعَ التَّسَاوِي 634 - في نَفْيِ مَانِعٍ فَرَاجِعٌ إلَى ... جَمِيعِهَا، وَإنْ رَأَيْتَ جُمَلَا الشرح: والإشارة بذلك من قولي: (وَوَارِدٌ) إلى قولي: (جَمِيعِهَا) إلى مسألة الاستثناء المتعقب لمتعدد من جمل أو مفردات هل يعود للكل؟ أو للأخير؟ وهي عكس المسألة التي قبلها، فإنَّ تلك في تعدُّد الاستثناء، وهذه في تعدُّد ما يمكن عَوْد الاستثناء إليه، وربما كانا متعددين. ويُعلم حُكمه مِن حُكم كُلٍّ من الأمرين. والحاصل: أن الاستثناء إذا تعقب مذكورات متعاطفة بالواو، فإنْ لم يمكن عَوْدُه إلى كُلٍّ منها لدليل اقتضى عَوْدَه للأول فقط أو للأخير فقط أو كان عائدًا إلى كل منها بالدليل، فلا خلاف في العود إلى ما قام له الدليل. وإنْ أَمكن بأنْ تَجرد عن قرينة شيء مِن ذلك، فهو محل الخلاف الآتي بيانه. فمثال ما دل على عوده للأول دليل فيعود إليه قطعًا: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة: 249] الآية، فاستثناء {مَنِ اغْتَرَفَ} إنما يعود إلى {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ}، لا إلى {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ}. وقوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] الآية، فاستثناء {مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب: 52] يعود إلى لفظ "النساء"، لا إلى الأزواج؛ لأن زوجته لا تكون مِلك يمينه.

وحديث: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة إلا زكاة الفطر في الرقيق" (¬1). ونحو ذلك ما قال أهل التفسير في قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ} [النساء: 83] إلى قوله: {إِلَّا قَلِيلًا}: إنه استثناء مِن الجملة الأولى. ومثال العائد للأخير جزمًا -للدليل- لا إلى غيره: قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} [النساء: 92] الآية، فإنَّ {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} إنما يعود للدية، لا للكفارة. ونحوه: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] لا يعود للسُّكْر؛ لأن السكران ممنوع من دخول المسجد؛ إذْ لا يُؤْمَن مِن تلويثة. قاله ابن أبي هريرة في "تعليقِه". أو للأخير جزمًا وإنْ كان في غيره محتملًا، فيجري فيه الخلاف، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الآية، فـ {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] عائد للإخبار بأنهم فاسقون قطعًا حتى يزول عنهم -بالتوبة- اسمُ "الفسق". بل قال بعض أصحابنا: ويلزم منه لازِم الفسق، وهو عدم قبول الشهادة، خلافًا لقول أبي حنيفة: إنه [تزول] (¬2) سِمةُ الفسق ولا تُقبل شهادته؛ عملًا بما سيأتي من قاعدته وهو العَوْد للأخير، لا إلى غيره. ولا يعود في هذه الآية للجَلد المأمور به قطعًا؛ لأن حد القذف حَقُّ آدمي؛ فلا يَسقط بالتوبة. وهل يعود إلى قبول الشهادة، فتُقبل إذا تاب؟ أوْ لا فلا تقبل؟ فيه الخلاف الآتي. ومثال العائد للكل قطعًا بالدليل: قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} [المائدة: 33] الآية، فـ {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} عائد للجميع بالإجماع كما قاله ابن السمعاني. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) في أكثر النُّسخ: يزول.

وكذا قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] الآية، فـ {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} عائد للكل. وكذا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] الآية، فَـ {إِلَّا مَنْ تَابَ} عائد للجميع. قال السهيلي: بلا خلاف. أما ما تَجرد عن القرائن وأَمكَن عَودُه للأخير ولغيره ففيه مذاهب، أصولها ثلاثة: العَوْد للجميع، أو للأخير فقط، أو الوقف. وما سوى ذلك من الأقوال فإنما هو في إثبات قرينة صارفة أو نفيها كما سيتضح ذلك في محله. فالمذهب الأول: وهو العود إلى الجميع. به قال الشافعي كما حكاه الماوردي والروياني، ونقله البيهقي في "سُننه" في "باب شهادة القاذف" عن نَصه، فقال: (قال الشافعي: والاستثناء في سياق الكلام على أول الكلام وآخِره في جميع ما يذهب إليه أهل العلم، لا يُفرق بين ذلك أحد) (¬1). انتهى وكذا نقله غيره عن نَص "الأُم"، إذْ قال في "باب الخلاف في إجازة شهادة القاذف" في المناظرة بينه وبين مَن يمنع شهادة القاذف إذا تاب مع انتفاء اسم الفسق عنه استنادًا إلى عَوْد الاستثناء للأخير فقط: (فقلتُ لقائل هذا: أرأيت رجلًا لو قال: "والله لا أكلمك أبدًا، ولا أدخل لك بيتًا، ولا آكل لك طعامًا، ولا أخرج معك سفرًا أبدًا، وإنك لغير حميد عندي، ولا أكسوك ثوبًا إن شاء الله" أيكون الاستثناء واقعًا على ما بَعد قوله: "أبدًا"؟ أو على ما بعد: "غير حميد عندي"؟ أَم على الكلام كله؟ قال: بل على الكلام كله. ¬

_ (¬1) السنن الكبرى للبيهقي (10/ 152).

قلتُ: فكيف لم توقع الاستثناء في الآية على الكلام كله وأوقعت في هذا الذي هو أكثر في اليمين على الكلام كله؟ ) (¬1). انتهى قلتُ: قد يقال: إنَّ الشافعي إنما ألزم بذلك الخصم، والمناظِر قد يُلزم الخصم بما لا يعتقده، وأيضًا فإنما ألزمه في تعقيب الكلام بـ "إن شاء الله"، وسيأتي أنه ليس الخلاف بيننا وبين الحنفية إلا في الاستثناء بِـ "إلا" ونحوها مِن أدواته. وأما "إن شاء الله" فقد سبق أن تسميته استثناءً مَجازٌ، إلا أن يريد الشافعي قياس الاستثناء على "إن شاء الله" الذي هو متفق على عَوْده للكل. وأما ما حكاه البيهقي فيحتمل أنَّ المراد بالاستثناء فيه "إنْ شاء الله"، وهو وفاق. ولأجل ذلك قال القاضي أبو الطيب: (وما وجدت مِن كلام الشافعي ما يدل عليه إلا أنه قال في "كتاب الشاهد واليمين": إذا تاب القاذف، قبلت شهادته، وذلك بيِّنٌ في كتاب الله عز وجل. وهذا يدل على أنه رَدَّ الاستثناء إلى الفسق ورَدِّ الشهادة. وقد استدل أبو إسحاق وغيره من أصحابنا على قبول شهادته بعموم الاستثناء). انتهى قلتُ: ويحتمل أن الشافعي إنما قال ذلك لأنه إذا انتفى الفسق، وجب قبول شهادته؛ للتلازم. وقد أشار إلى ذلك الشافعي في بعض مناظرات الخصم، فقال في "الأم" -في الباب الذي سبق ذِكره بَعد أن قال له محمد بن الحسن: (إن أبا بكرة قال لرجل استشهده: لا تستشهدني، فإن المسلمين فَسَّقُوني)، أي: وإنْ كنتُ قد تُبْتُ- ما نصه: (وفيما قال دلالة على أن المسلمين لا يُلزمونه اسم "الفسق" إلا وشهادته غير جائزة، ولا ¬

_ (¬1) الأم (7/ 90).

يُجَوِّزون شهادته إلا وقد أسقطوا عنه اسم "الفسق") (¬1) إلى آخِر ما قال - رضي الله عنه -. وعلى كل حال فهذا مذهب الشافعي. وإنْ وقع في بعض نصوصه ونصوص أصحابه ما قد يخالف ذلك فِلأَمر آخَر سيأتي في ذِكر المذاهب الآتية بيانُه. وممن قال بذلك أيضًا مالك كما نقله عنه ابن القصار، وقال: إنه الظاهر من [مذاهب] (¬2) أصحابه. ويُحكى عن عبد الجبار، ونقله ابن القشيري عن القاضي أبي بكر. وهو المرجَّح أيضًا عند الحنابلة، ونقلوه عن نَص أحمد حيث قال في حديث "لا يؤَمنَّ الرجل في سلطانه ولا يُجلس على تكرمته إلا بإذنه" (¬3): أرجو أن يكون الاستثناء على كله. نعم، يُقيد محل الخلاف في عَوْدِه للكل أو للأخير بقيود، منها ما يقتضي أن يعود للكل قطعًا، ومنها ما يقتضي أن يعود للبعض قطعًا. وكل منهما إما على المرجَّح أو على رأي مرجوح، فتُذكر هاهنا؛ لأن كثيرًا منها مخصِّص للقول الذي بدأنا به وهو أرجَح المذاهب وهو العَوْد إلى الكل وإنْ كان تأخيرها عن المذاهب جميعها أَنْسَب مِن تلك الجهة. منها: أن يكون المتعدد السابق جُملًا كما عبَّر به الأكثرون، وبه عبر ابن الحاجب والبيضاوي وغيرهما، ولكن كلام أصحابنا في الفروع واستدلالات الأصوليين في المسألة [صريحة] (¬4) ¬

_ (¬1) الأم (7/ 90). (¬2) في (س، ت، ض): مذهب. (¬3) صحيح مسلم (رقم: 673) بلفظ: (ولا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في سُلْطَانِهِ، ولا يَقْعُد في بَيْتِهِ على تَكْرِمَتِهِ إلا بِإِذْنِهِ). (¬4) كذا في (ص، ق)، لكن في (س، ت): صريح.

بأنه لا فرق، ودليل على أن مَن عبر به إنما هو باعتبار الغالب؛ فإن العَوْد إلى جميع المفردات أَوْلى مِن الجُمَل، بل في كلام ابن الحاجب وغيره ما يؤخَذ منه الاتفاق في المفردات. وقد مثَّل الرافعي وغيره المسألة في الوقف بِـ (وقفتُ على أولادي وأحفادي وإخوتي المحتاجين إلا أن يفسق بعضهم) وهي مفردات، إلا أن يقال: العامل في كُلٍّ فِعل آخر، [فتصير] (¬1) جُملًا. لكنه ضعيف في العربية. ومثَّله الإمام في "البرهان" بصريح الجُمل، فقال: (كَـ: وقفتُ على بني فلان داري، وحبستُ على أقاربي ضيعتي، وسبلت على خَدَمي بيتي، إلا أن يفسق واحد منهم) (¬2). ولهذا عبرّتُ في صدر المسالة بأنه إذا تعقب مذكورات كما صرحت بالأمرين في النَّظم. نعم، يبقى النظر فيما يسمى جملة، والمشهور أنها الاسمية من مبتدأ وخبر، والفِعلية من فعل وفاعل. وقال ابن تيمية: المراد بها هنا اللفظ الذي فيه شمول ويصح إخراج بعضه. ولهذا مثَّلوا بالأعداد، وكذا آية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33]، فهي مفردات مُؤَوَّلة مِن "أنْ" والفعل، عقبها قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}. وحاصله يرجع إلى أن مَن عَبَّر بالجمل فإنما أراد الأَعَم بالتقرير الذي ذكره، وهو حَسَن. ومنها: أن يكون المذكورات قبل الاستثناء متعاطفة كما صرح به القاضي في "التقريب" والقاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق وابن السمعاني وابن القشيري، والسهيلي أبو عبد ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق). وفي سائر النسخ: فيعتبر. (¬2) البرهان (1/ 266).

الله وأبو نصر [القشيري] (¬1) والآمدي وابن الساعاتي والهندي والقرطبي. واغتر القرافي بمن أطلق -كالإمام الرازي وأتباعه- فحكى الخلاف وإنْ لم يكن عطف. وليس كذلك، بل إطلاق مَن أَطلق محمول على أنه سكت عنه؛ لوضوحه. وممن أَطلق: الماوردي وإمام الحرمين وابن الصباغ والغزالي والمازري وابن قدامة الحنبلي وغيرهم. وعُذرهم ما ذكرناه، فإنَّ أمثلتهم وكلامهم في المسألة يرشد إلى تقييدها بالعطف، وكذا تصويراتهم في الفروع الفقهية. فمنه قول أصحابنا: لو قال: (يا طالق، أنت طالق [ثلاثًا] (¬2) إن شاء الله)، انصرف إلى الأخير، ويقع بـ "يا طالق" طَلْقة. نعم، قد يخالف ذلك قولهم فيمن قال: (أنت طالق، أنت طالق، إن شاء الله) قاصدًا للتأكيد: يعود للجميع. ولم يَحْكِ الرافعي فيه خلافًا، ولكن المقصود في التأكيد الأول، والثاني عَيْنه، فلا تَعَدُّد. ولو قال: (أنت طالق واحدة ثلاثًا إن شاء الله) لا يقع شيء أيضًا. وجوابه أنه كأنه أكد [الأُولى] (¬3) بزيادة [اثنين] (¬4)، ثم عقَّب بالاستثناء، فعاد للمجموع؛ لعدم تَغايُر الأول مع الثاني. وفي "كتاب الأيمان": لو قال: (إن شاء الله أنت طالق وعبدي حر)، لا تطلق ولا يُعتَق. قال الرافعي: (وليكن هذا فيما إذا نوى صرف الاستثناء إليهما. فإنْ أَطْلَق، فيجيء فيه ¬

_ (¬1) في (ص، ق، ش): التستري. (¬2) في (ت، ض، س): إلا. (¬3) في (ص، ق): الأول. (¬4) في (ص): اثنتين.

خلاف عَوْد الاستثناء للكل أو للأخيرة) (¬1). وزاد النووي أن الصحيح التعميم. فاستفدنا مِن ذلك أن الخلاف جارٍ مع عدم العطف، وأن الاستثناء المتقدم على الجمل يجري فيه الخلاف، وسيأتي خِلافه. قلتُ: سيأتي أن هذه المسألة إنما هي في الاستثناء الحقيقي، لا في تعليق المشيئة. وتَقدُّم الشرط سيأتي أنه يعود للكل. والظاهر أن ذلك سواء مع العطف وعدمه، فليس مما نحن فيه. واعلم أن البيانيين ذكروا أن ترك العطف قد يكون لكمال الارتباط، نحو: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2]. وحينئذٍ ففي مِثل ذلك قال الشيخ تقي الدين السبكي: (لا يبعد مجيء الخلاف فيه). قال ولده في "شرح المختصر": (يحتمل أنهما لما صارا كالجملة الواحدة، فيعود للجميع قطعًا) (¬2). ومنها: كون العطف بالواو أو نحوها مما يقتضي المشاركة، خلافًا لمن أطلق كما نقله الرافعي عن أصحابنا، وخلافًا لما نقله الرافعي أيضًا عن إمام الحرمين من تقييده بِـ "الواو" في تدريسه، إذْ قال: (ورأى الإمام تقييده بقيدين، أحدهما: أن يكون العطف بالواو الجامعة، فإنْ كان بـ "ثُم"، اختص بالأخيرة. والثاني: أن لا يتخلل بين الجملتين كلام طويل، كما لو قال: "وقفتُ على أولادي، فمَن مات منهم وأعقب، كان نصيبه لأولاده، للذكر مثل حظ الانثيين، وإلا ¬

_ (¬1) العزيز شرح الوجيز (12/ 232). (¬2) رفع الحاجب (3/ 272).

فنصيبه لمن في درجته، فإذا انقرضوا، صُرف إلى إخوتي فلان وفلان الفقراء، إلا أن يفسقوا"). انتهى وجرى على ذلك الآمدي وابن الحاجب وابن الساعاتي. لكن الصواب أن ما كان مِثل "الواو" في اقتضاء المشاركة كَـ "الواو". وعبارة ابن القشيري: أما إذا اشتمل الكلام على جُمل متقطعة تُنبئ كل واحدة عما لا تُنبئ عنه أخواتها ولكنها جُمعت بحرف مِن حروف العطف جامع في مقتضَى الوضع ثم تُعُقِّب باستثناء، فهذا محل الخلاف. ونحوه عبارة الشيخ أبي إسحاق، وإلى ذلك المعنى أشار الإمام فيما سبق نقل الرافعي عنه بقوله: (الواو الجامعة). فإنْ كان قول الرافعي عقبه: (فإنْ كان بِـ "ثُم"، اختص بالأخيرة) مِن كلام الرافعي أَخَذَه مِن مفهوم تقييده بالواو لا مِن كلام الإمام، فلا يناسب تعبيره بِـ "الجامعة"؛ لأنه قد أفادنا أن كل عاطف جامع كَـ "الواو". ولهذا صرح في النهاية بعدم التقييد بالواو، فقال: إنَّ الظاهر أنَّ "ثم" و"حتى" و"الفاء" مثل الواو في ذلك. وإنْ كان مِن بقية كلام الإمام، فيخالف ما في "النهاية"، ويقال: ما الفرق بين الواو الجامعة وغيرها مما هو جامع؟ وإذا لم يصح تقييد الإمام بالواو، صح ما قاله الأصفهاني في "شرح المحصول" أنه لم ير التقييد لأحد بالواو قبل الآمدي، فلا يتعجب مِن ذلك كما تعجب منه بعض المتأخرين. وممن صرح بعدم التقييد بالواو القاضي في "التقريب"، فقال: إذا عطفت بأي حرف كان مِن "فاء" و "واو" وغيرهما. أي: مما هو في معناهما.

واعلم أني قيدتُ في النَّظم: (بِالْوَاوِ) جريًا على ما قاله إمام الحرمين وَمن تبعه؛ لظهور حُكم [المسألة] (¬1) فيها، أو لأن ما في معناها كالفرع عنها، فاقتصرتُ عليها، لا لقصد التقييد بها. أما ما لم يكن في معنى الواو في الجمع (كَـ "لكن" و"بل" و"أو" و"لا" و"إما") فلا يتأتى فيها ذلك فيما ذكره بعضهم. وقال القرافي: (لا يتأتى ذلك في "أو"، و"أَم"، و"إما"؛ لأنها لأحد الشيئين لا بِعَيْنه. وأما "بل" و"لا" و"لكن" فيحتمل أنها كالواو، فإنَّ في كل مِن المعطوف بها حُكمًا وإنِ اختلف بالنفي والإثبات، ويحتمل المنع؛ لاختلاف الحكم وهي لأحد الشيئين بعينه، بخلاف "أو" و"أَم" و"إمَّا") (¬2). وسبق أن عبارة القاضي فيها إطلاق أي حرف كان من حروف العطف، ولكن ينبغي أن يُحمل على ما في معنى الواو. نعم، يشكل على هذا التفصيل أن الماوردي وغيره مَثَّلوا المسألة بآية المحاربة مع أن العطف فيها بِـ "أو". وحكى الرافعي الخلاف في "بل" قبيل الطلاق بالحساب، فقال: (لو قال: "أنت طالق واحدةً بل ثلاثًا إنْ دخلتِ الدار" فوجهان، أصحهما -وبه قال ابن الحداد- تقع واحدة بقوله: "أنت طالق" وثنتان بدخول الدار، ردَّا للشرط إلى ما يليه خاصة. والثاني: يرجع الشرط إليهما جميعًا إلا أن يقول: أردتُّ تخصيص الشرط بقولي: "بل ثلاثًا") (¬3). ¬

_ (¬1) في (ص، ق، ش): العلة. (¬2) شرح تنقيح الفصول (ص 253). (¬3) العزيز شرح الوجيز (9/ 16).

ومنها: أن لا يتخلل بين الجملتين كلام طويل. فإنْ تخلل، اختص بالأخيرة كما سبق نقله عن حكاية الرافعي عن إمام الحرمين. والمعنى فيه أن طُول الفصل يُشعر بقَطْع الأُولى عن الثانية. ومنها: ما ذكره أبو نصر القشيري أنْ لا يكون كل مِن المتعدد [بمعنى] (¬1) الآخَر، بل يُنبئ عما لا يُنبئ عنه الآخر، كَـ: (اضرب العصاة والجناة والطغاة والبغاة إلا مَن تاب)، فيعود للكل قطعًا. وهذا من قيود نفي الخلاف الآتي. ومنها: تَناسُب الجمل، فقد ذكره البيانيون في صحة عطفها حتى لا يعطف إنشاء على خبر، وخبر على إنشاء، ووافقهم ابن مالك، وحينئذٍ فلا يحسُن التمثيل بآية القذف. لكن أكثر النحويين على الجواز؛ ولهذا مثّل الأئمة بالآية. ونحو ذلك: مَن يمنع عطف الفعلية على الاسمية وعَكْسَه، لا يمثل بالآية أيضًا؛ لأن {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] اسمية. ومنها: اشتراط بعضهم في محل الخلاف أنْ لا يكون العامل في الكل واحدًا، فإنْ كان العامل واحدًا، عاد للكل قطعًا، نحو: (اهجر بني فلان وبني فلان إلا مَن صلح)، بخلاف آية القذف، فإن العامل فيها متعدد. واشتراط بعضهم اتحاد العامل، فإنِ اختلف، اختص بالأخيرة. ¬

_ (¬1) في (ص، ق، ش): معنى.

ولا يخفى ضَعْفُ الأمرين؛ لِمَا ذكر الأئمة مِن الأمثلة في محل الخلاف. وكذا اشتراط تأخُّر الاستثناء. ولكن الصواب لا فرق. وأما المتوسط بين جملتين إحداهما معطوفة على الأخرى فَقَلَّ مَن تَعرَّض له، وقد ذكره الأستاذان أبو إسحاق وأبو منصور، نحو: (أَعْطِ بني زيد إلا من عصاك، وأَعْطِ بني عمرو). وحكيَا عن الأصحاب فيها وجهين: الرجوع إليهما، وإلى ما قَبله دُون ما بَعده. ثم ذكرَا كلامًا في الأمر والخبر وأَطالَا فيه. وقياس قول أبي حنيفة باختصاصه بالجملة التي تليه أنَّ الاستثناء إذا تَقدم، اختص بالجملة الأُولى. وربما خرج من هذه القيود مذاهب غير ما سنذكره من المذاهب الأصلية. فالمذهب الثاني في المسألة: أنه عند التجرد عن قرينة للكل أو للبعض إنما يعود للأخير فقط، وهو قول أبي حنيفة وأكثر أصحابه، واختاره الإمام الرازي في "المعالم"، وقال الأصفهاني في "القواعد": إنه الأشبه. ونقله صاحب "المعتمد" عن الظاهرية، ويحكَى أيضًا عن أبي عبد الله البصري من المعتزلة وعن أبي الحسن الكرخي، وإليه ذهب الفارسي، وحكاه إلْكِيَا وابن برهان عنه، واختاره المَهَابَاذيُّ في "شرح اللمع". وقد يُظَنُّ أن ذلك مذهب الشافعي؛ لأن النصوص -كما قال الشيخ أبو إسحاق- فيما لو قال: (أنت طالق طلقة وطلقة إلا طلقة) وقوع طلقتين. وفي وجهٍ: طلقة. فيظن أن هذا [بناءه] (¬1) على عَوْدِه للجميع، وأن النص بناء على عَوْده للأخير. ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (س، ق): بناء.

ونحوه ما قاله ابن الصباغ في: (أنت طالق ثلاثًا وثلاثًا إلا أربعًا) أنه يقع ثلاث؛ إذ لو أُعيد للجميع لَوقعت طلقتان. ولكن ليس الأمر كذلك، إنما ذلك لقاعدة أن المفرَّق لا يُجْمَع على الأصح. ونحو ذلك أيضا ما قاله القاضي أبو الطيب: (لو قال: "له عليَّ درهم ودرهم إلا درهمًا" يَلزمه درهمان على المنصوص). نعم، لذلك مدْرَك آخَر، وهو أن عَوْد الاستثناء للجميع هل معناه إلى كل واحد؟ أو إلى المجموع ويوزع عليها؟ فيه خلاف حكاه الماوردي وفرَّع عليه لو قال: (له عليَّ ألف درهم ومائة دينار إلا خمسين) وأراد بالخمسين جنسًا غيرهما، فيُقبَل منه. فإنْ أراد عَوْده إلى أحدهما، عُمِل به، أو إليهما معًا بمعنى نقص خمسين مِن كل منهما، عُمِل به، أو يُنصف الخمسين عليهما، عُمل به. وإنْ مات قبل البيان، قال: فعند أبي حنيفة يعود إلى ما يليه، وعند أصحابنا يعود إليهما. ثم اختلفوا على وجهين: أحدهما: على معنى إخراج خمسين مِن كل منهما. والثاني: يعود إليهما نصفين، مِن كلٍّ خمس وعشرين (¬1). ولم يصحح الماوردي شيئًا، وذكرهما الروياني في "البحر" وصحح الأول. ويظهر أثر هذا الخلاف -الذي ذكره الماوردي- فيما لو قال: (أكرِم بني تميم وبني بكر إلا ثلاثة)، هل معناه: إلا ثلاثة مِن كل قبيلة؟ أو إلا ثلاثة من المجموع؟ وبالجملة فقد استُدل لهذا المذهب بأن الاستثناء لَمَّا لم يكن [مستقلًّا] (¬2) واحتاج إلى ما ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (7/ 23). (¬2) في (ت، س، ض): متصلا.

يعود عليه وأمكن الاكتفاء بما يليه، لم [يُعْدَل] (¬1) إلى سابق على ذلك. وجوابه أن الجمل أو المفردات المتعاطفة تُصَيِّر الكل كالجملة الواحدة، فلا يقتصر به على البعض؛ بدليل الشرط، فإنه يعود للكل قطعًا. نعم، إن كان أبو حنيفة لا يفرق بينهما، فلا يُستدل بالقياس على الشرط. وستأتي المسألة. فإنْ قيل: الفرق تَقدُّم الشرط وتأخُّر الاستثناء. قيل: قد يتقدم الاستثناء وقد يتأخر الشرط، سواء قلنا: المتقدم الجواب، أو: [دليل] (¬2) الجواب. قال القرطبي: وقد خالف أبو حنيفة أصله، فإنه يلزمه أن لا تُقبل التوبة قبل الحد ولا بعده كما قال بذلك شريح، لكنه قال بقبولها قَبله لا بَعده، فخالف أصله. الثالث من المذاهب: الوقف حتى تقوم قرينة تَصرفه للكل أو للأخير أو للأول أو للأوسط كما في الأمثلة السابقة. قال سليم: وهو مذهب الأشعرية. وحكاه ابن برهان عن القاضي، واختاره الغزالي والإمام الرازي في "المنتخب"، وفي الكلام على التخصيص من "المحصول" التصريح به. وحكاه إلْكِيَا عن اختيار إمام الحرمين، قال: فقيل له: فقد قال الشافعي: إذا قال الواقف: "وقفتُ داري على فلان وحبست أرضي على بني فلان" وذكر نوعًا آخر ثم قال: "إلا الفساق"، فينصرف الاستثناء إلى الكل. ¬

_ (¬1) في (ت، س): يعد. (¬2) كذا في (ص، ق). لكن في سائر النسخ: ذلك.

فأجاب بأن ذلك للتعارض بين الجميع وما يليه، لا لأنه يعود للكل. قال إلْكِيا: (وهذا المأخذ غير مَرْضي؛ فإنَّ التوقف في المستثنى يوجب التوقف في المستثنى منه). نعم، نقل ابن القشيري والمازري أن التوقف إنما هو إذا كانت الجمل متناسبة ولا قرينة. فإنْ كانت مختلفة الجهات [متباينة] (¬1) المأخذ، فالظاهر الاختصاص بالجملة الأخيرة، للانقطاع [بينها] (¬2) في المعنى والغرض وإنْ أمكن العود للكل. واختار إلْكِيَا ذلك، وقال: إنه حسن جدًّا، وإن به يتهذب مذهب الشافعي ويُغني عما عداه. تنبيه: حكوا قول الوقف عن المرتضى، إلا أنه يقول به لكونه عنده مشتركًا بين عَوْده للكل والأخير فقط، بخلاف تَوقُّف القاضي، فإنه لعدم العلم بمدلوله لغةً. بل بعضهم يغاير بين قولَي الاشتراك والوقف كما فعل في "جمع الجوامع". والصواب أنه قول واحد وإنِ اختلف مدْرَك التوقف؛ ولهذا لم يعد ما ذكره بعد مِن تخصيص محل الوقف قولًا آخر، وذلك أن الأثبت في النقل عن المرتضى ما حكاه صاحب "المصادر" أنه يقطع بِعَوْده إلى الجملة الأخيرة فقط، ويتوقف في الرجوع إلى غيرها، وهو أَعلم بمذهبه؛ لأنه شيعي مثله. الرابع ما سبق اختيار إلْكِيَا له، ونحوه ما حكى ابن برهان في "الأوسط" عن عبد ¬

_ (¬1) في (ت، س): متناسبة. (¬2) في (ص، ض): بينهما.

الجبار أنَّ الجُمَل إنْ سِيقت لمقصود واحد، عاد للكل، أو لأغراض مختلفة، اختص بالأخيرة. الخامس: إنْ ظهر أنَّ الواو الواقعة بين الجملتين فأكثر للابتداء، نحو: (أكرم بني تميم والنحاة البصريين إلا البغاددة)، اختص بالأخيرة. وإنْ تَردد بين العطف والابتداء، فالوقف. السادس: إنْ كانت الجملة الثانية إعراضًا وإضرابًا عن الأُولى، اختص بالأخيرة، وإلا انصرف للجميع. حكاه ابن برهان عن أبي الحسين البصري، لكن الذي في "المعتمد" حكايته عن عبد الجبار وأقرَّه. نعم، قال ابن برهان: إن ما قاله أبو الحسين هو المعتمد، وإنه مذهب الشافعي، وإنه لم ينقل عن الشافعي في ذلك نَص بخصوصه، بل أُخذ من مسألة المحدود بالقذف. ونحن نُبيِّن أنَّ الشافعي إنما صار إلى ذلك؛ لأن ذِكر الجمل هناك لم يكن إضرابًا عن المتقدم، إنما مساق الآيات لغرض واحد وهو الجرأة على تلك الجريمة. واختار هذا أيضًا ابن السمعاني في "القواطع". الساب: ما حكاه في "المحصول" عن أبي الحسين: إنْ كان بينهما تَعلُّق، عاد للجميع، وإلا اختص بالأخيرة. وقال: (إنه التحقيق). وحُكيت أقوال أخرى غير ذلك، والمدار في ذلك كله ما ذكرنا من أنَّ في الكلام قرينة صارفة أوْ لا. فكل مَن تخيل قرينة، أَدَار عليها الحكم. فائدة: كان القاضي جلال الدين القزويني يقول: إنَّ عَوْد الاستثناء للجميع يَلزم منه تَوارُد عوامل على معمول واحد.

وجوابه أن مَن يجعل العامل "إلا" كابن مالك، لا يَلزمه ذلك. ومَن لا يقول بذلك، قد يقول: حذف مِن المتقدم؛ لدلالة المتأخر. على أنَّ ابن مالك وغيره جوَّزوا ذلك في نحو: (جاء زيد وأتى عمرو العاقلان). وقيل: يجب القطع. والله أعلم. قولي: (وَإنْ رَأَيْتَ جُمَلَا) تتمته قولي بعده: ص: 635 - أَوْ جُمْلَتَيْنِ بِاقْتِرَانِ أَمْرِ ... فَالِاسْتِوَا في الْحُكْمِ لَيْسَ يَجْرِي الشرح: وهو إشارة إلى المسألة المشهورة بأن دلالة الاقتران حُجة؟ أو لا؟ ولها مناسبة بالمسألة السابقة؛ لأن الاستثناء إذا أُعيد للجميع، وجب الاقتران في الاستثناء. وحاصل هذه المسألة: أن القِران بين أمرين في اللفظ في حُكم هل يقتضي التسوية بينهما في غيره من الأحكام؟ أو لا؟ الجمهور على المنع، فيعطف واجب على مندوب، كقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]. وقال المزني وأبو يوسف من الحنفية: يقتضي التسوية؛ لأن العطف يقتضي المشاركة، نحو: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]؛ فلذلك لا تجب الزكاة في مال الصبي؛ لأنه لو أريد دخوله في الزكاة لكان فيه عطف واجب على مندوب؛ لأن الصلاة عليه مندوبة اتفاقًا.

وضُعِّف بأن الأصل في اشتراك المعطوف والمعطوف عليه إنما هو فيما ذكر، لا فيما سواه من الأمور الخارجية. وقد أجمعوا على أن اللفظين العامَّين إذا عُطف أحدهما على الآخر وخُصَّ أحدهما، لا يُقضَى بتخصيص الآخر. على أنَّ إطلاق الخلاف عن أبي يوسف ومَن تبعه من الحنفية ليس بجيد؛ فإن الذي في كُتبهم التقييد بتعاطف الجُمَل الناقصة، نحو: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]، {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، لأن الجملتين حينئذٍ يصيران كالواحدة، والإشهاد في المفارقة غير واجب، فكذا في الرجعة. بخلاف الجمل التامة، نحو: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، لَمَّا كانتا مستقلتين، لم يَقْتَضِ ثبوتُ حُكم في إحداهما ثبوتَه في الأخرى. وأما تفسير القِران بما ذكرناه فربما يخالفه تفسير الجدليين إياه بأنْ يجمع بين الشيئين في الأمر أو في النهي ثم يتبين حُكم أحدهما، فيُستدل بالقِران على ثبوت ذلك الحكم للآخر، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة" (¬1). أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة، فَقَرَنَ البول فيه بالاغتسال منه، والبول فيه مفسدة، فكذلك الاغتسال. وهو غير مَرْضِي عند المحققين؛ لاحتمال أن يكون النهي عن الاغتسال فيه لمعنى غَيْر المعنى الذي منع مِن البول فيه لأجله، ولعل المعنى في النهي عن الاغتسال فيه أنه لا يرفع جنابته كما هو مذهب الخضري. ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (رقم: 70)، مسند أحمد (9594)، وغيرهما. قال الألباني: حسن صحيح. (صحيح أبي داود: 70).

تنبيه: كثيرًا ما تُذْكَر هذه المسألة في باب الأدلة المختلَف فيها، ومناسبتها ظاهرة، إلا أنَّا [اتبعْنا] (¬1) "جمع الجوامع" في إيرادها هنا، لِمَا سبق من المناسبة. ومما يظهر فيه فائدة الخلاف فيها ما لو قال: (أحجُّوا عني حجة الإسلام، وأعتقوا كذا، وتصدقوا بكذا) ولم يُقَيد ذلك بكونه مِن الثلث، فهل تتقيد حجة الإسلام بالثلث كما لو قيد بذلك وتكون فائدته في مضايقة أهل الثلث؛ مِن أَجْل اقترانه بما يعتبر من الثلث قطعًا؟ أوْ لا؛ لعدم الاحتجاج بدلالة الاقتران؟ والمرجَّح الثاني؛ لأن دلالة الاقتران غير حُجة على المرجح كما سبق. قولي: (بِاقْتِرَانِ أَمْرِ) في محل نصب على المفعول الثاني لـ "رأي"، أي: مقترنين في أمر من الأمور. وقولي: (فَالِاسْتِوَا في الْحُكْمِ)، أي: في الحكم الخارج عن ذلك لا يجري فيهما أو فيها. والله أعلم. ص: 636 - وَالثَّانِ مِنْ مُتَّصِلٍ: شَرْطٌ، وَذَا ... تَعْلِيقُ أَمْرٍ بِأَدَاةٍ تُحْتَذَى 637 - نَحْوُ: وَقَفْتُ ذَا عَلَى أَوْلَادِي ... إنْ دَخَلُوا في الْعِلْمِ بِاجْتِهَادِ الشرح: الثاني من المخصصات المتصلة: الشرط. والمراد به هنا اللغوي. ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (ق، س): تبعنا.

وهو: تعليق أمر على أمر بِـ "إنْ" أو إحدى أخواتها التي سبق ذِكرها في صِيَغ العموم وبيان معانيها في شرطيتها، نحو: إنْ دخلت الدار فأنت طالق، أو: فأنت حر. ومثال تخصيص العموم به ما أشرت إليه في النَّظم أنْ يقول: (وقفتُ هذا على أولادي إنْ كانوا علماء). فإنَّ مَن ليس بعالم خارجٌ بمفهوم هذا الشرط. وسيأتي أن التخصيص بالمفهوم جائز، أَعَم من أنْ يكون منفصلًا عن العام أو متصلًا به. فالكلام هنا في المتصل في الشرط، وهناك في الأَعَم. واعلَم أن الشرط له ثلاثة إطلاقات سبق بيانها في الكلام على خطاب الوضع، وسبق أن المراد هنا مِن تلك الإطلاقات إنما هو اللغوي الذي هو التعليق، وأنَّ تفسير مَن يفسره هنا بأنه "الذي يَلزم مِن عدمه العدمُ، ولا يَلزم مِن وجوده وجودٌ ولا عدمٌ [لذاته] (¬1) " كما في أكثر كُتب الأصول -ليس بجيد؛ لأن هذا إنما هو تفسير لإطلاق آخَر مِن الإطلاقات الثلاثة وهو "الشرط" الذي هو قَسِيم للسبب والمانع وغيرهما من خطاب الوضع إذا كانت في الشرع، فإنَّ الثلاثة قد تكون عقلية وعادية، وسبق تمثيلها. على أنه بذلك الإطلاق لا يُفسَّر بهذا أيضًا؛ لأن هذا حُكمه بَعد تَصَوُّره، وإنما حقيقته ما يتوقف عليه تعريف المعرف كما بيَّنتُه هناك، وأن مَن عبَّر بقوله: (ما يتوقف عليه تأثير المؤثِّر) فاسد؛ لأن العِلَل والأسباب مُعرِّفات لا مؤثِّرات (على قول أهل السُّنة). ولو سُلِّم التأثير فيفسد بما أفسد به ابن الحاجب وغيره، وهو أن الحياة شرط في العِلم، فإذا فُرض ذلك في القديم، فيلزم أن يكون هناك تأثير، وهو محُال. فالصواب حينئذٍ التعبير بِـ "التعريف" لا بِـ "التأثير" كما عبَّرنا به، إلا أنْ لا يُراد بِـ "التأثير" حقيقته بل ما له دَخْل في الوجود وعدمه في الجملة. وإذا كان المراد ذلك، فلا يضر ¬

_ (¬1) ليس في (ص، ق).

التعبير به فيما سيأتي من المباحث. أما "الشرط" اللغوي فيرجع إلى السبب؛ لأنه يَلزم مِن وجوده الوجودُ ومن عَدَمِه العدمُ كما قرره القرافي في كتاب "الفروق"، ولكنه بطريق وضع المتكلم ذلك بنطقه. قال القرافي: وإطلاق "الشرط" على هذا وعلى الذي سبق يمكن أن يكون بالاشتراك ويمكن أن يكون بالحقيقة في أحدهما والمجاز في الآخَر، وأنْ يكون بالتواطؤ (¬1). قلتُ: دعوى التواطؤ بإبداء مَعْنى مشترك بين الإطلاقين إنْ صح فهو أَصوب؛ لأنه خير مِن الاشتراك والمجاز، ولأنه يكون جوابًا لتعريف الأئمة "الشرط" -الذي هو مِن المخصِّصات- بما يتوقف عليه تعريف المعرِّف أو تأثير المؤثِّر أو بما يَلزم مِن عدمه العدمُ، ولا يَلزم مِن وجوده وجودٌ ولا عدمٌ. وتصحيح قول القرافي وغيره أن الشروط اللغوية أسباب، وتقرير ذلك أنَّ القائل: (إنْ دخلت الدار فأنتِ طالق) فيه ثلاثة أمور: تَلفُّظ بهذا الشرط، ووقوع المعلَّق عليه وهو دخول الدار، ووقوع المعلَّق وهو الطلاق. فمَن نظر إلى التلفُّظ ورأَى أنه هو الشرط، صَحَّ أنه يَلزم مِن عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته؛ إذ لا يَلزم مِن التعليقِ الطلاقُ ولا عدمُه. بل إنْ وُجِد المعلَّق عليه، طلقت، وإلا فلا. وَيلزم مِن عدمِ التعليق عدمُ الطلاق مِن هذه الحيثية. ويقال فيه أيضًا: إنه يتوقف عليه تأثير المؤثِّر مِن حيث إنَّ إرادة الزوج الطلاق هو المؤثِّر في طلاقها إذا أَوْجَد لفظًا يقتضيه. ومَن نظر إلى المعلَّق عليه وهو دخول الدار [وسَمَّاه] (¬2) "شرطًا" لِكونه يتوقف عليه تأثير ¬

_ (¬1) الفروق (1/ 107 - 108). (¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في (س، ض، ت): فإنما يسميه.

المؤثِّر وهو تعليق الزوج الطلاق، يقول: إنه صار سببًا [بوضع] (¬1) المتكلِّم، [فَلَزِمَ] (¬2) مِن وجوده الطلاقُ ومن عدمِه عدمُ الطلاق مِن هذه الحيثية. وربما يدعي في الشرط نفسه أنه سبب شرعي، إما لأنه المؤثِّر عند وجود المعلَّق عليه هاما لأنه سبب لكون الدخول صار سببًا، وسَببُ السببِ سَببٌ وإن كان بواسطة كما قرره القرافي في الكتاب المذكور أيضًا. واعْلَم أنه وقع في باب "القياس" مِن "البرهان" لإمام الحرمين أنَّ للشرط دلالتين: إحداهما: مصرح بها، وهي إثبات المشروط عند ثبوت الشرط. والأخرى: ضمنية، وهي الانتفاء. والذي ذكره غيره من الأصوليين أن الشرط لا دلالة له في الإثبات بحال، وإنما يدل في [جانب] (¬3) الانتفاء خاصة. وعلى ما قاله يَلزم اتحاد الشرط مع العلة، ورَدَّ عليه الأبياري في "شرحه" وأطال في ذلك، وكذا أبو العباس ابن المنير قال: وما حمله على ذلك إلا رؤيته العِلل تُستعمل بصيغة الشرط كثيرًا؛ فاعتقد أن الشرط اللغوي عِلة. ثم أوَّلَ كلامه بان دخول الدار -مثلًا- ليس عِلة للطلاق شرعًا ابتداءً، لكنه يجوز أن يكون عِلة بوضع المطلِّق وغرضه؛ لأنه قد فَوَّض الشرعُ إليه إيقاعَ الطلاق بلا سبب، فيَلزم أنْ يفوِّض إليه إيقاعَه بوضع سبب له؛ ولهذا لا يقع التعليق غالبًا مِن مُطلِّق إلا لِغرض في مَنعْ المعلَّق عليه. ¬

_ (¬1) في (ص، ق): لوضع. (¬2) كذا في (ص)، لكن في سائر النسخ: يلزم. (¬3) في (ت): حال.

قلتُ: ويشهد لهذا التأويل تمسُّك الإمام بقول القائل: (إنْ جئتني، أكرمتك)، فإنه يلزم مِن المجيء استحقاقُ الإكرام، فبَانَ مراده بما سبق في تقرير إطلاقات الشرط وأنه لا يريد أنَّ وجود المعلَّق عليه اقتضَى وجود المعلَّق؛ لذاته، بل للتعليق السابق والجَعْل. وإذا تَقرر أن إطلاق "الشرط" على ذلك كله مِن قبيل [المتواطئ] (¬1)، صَحَّ تقسيم بعض المتأخرين "الشرط" إلى عقلي وعادي وشرعي ولغوي كما صنع القرافي، وذكر في "قواعده" مما يتميز به اللغوي أنه يمكن التعويض عنه وإبداله وإبطاله، بخلاف الثلاثة الأخرى. قال: لأن القائل: "إنْ دخلت فأنت طالق" إذا نجز الثلاث، كان ذلك عوضًا عن سبب التعليق بسبب آخَر وهو التنجيز. وإذا قال: "إنْ رددتَ عبدي فَلَكَ هذا الدينار" ثم وهبه له، فقد أبدله بالهبة. وإذا علق الطلاق ثم قال: "نجزت ما علقته"، فقد أبطل التعليق بالتنجيز عند مَن يراه. ويتميز اللغوي أيضًا بأنه ومشروطه دائمًا معدومات، وما عداه كل مِن الشرط والمشروط يكون وجودًا وعدمًا. وأيضًا الشرط اللغوي قد يكون غير معلوم، فلا يقع مشروطه، كالتعليق على مشيئة الله -عز وجل- لطلاق أو عتق أو نحوهما. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق، ض)، لكن في (ت): التواطؤ.

تنبيهات أحدها: حُكي عن المرتضى مخالفة في كون الشرط مخصِّصًا مخرِجًا لبعض الأفراد كما في الاستثناء، ووافقه صاحب "المصادر" -مِن المعتزلة- على ذلك؛ تَعلُّقًا بأنَّ الشرط إنما يُخرِج بعض الحالات، لا بعض الأفراد. فإنَّ القائل: (أكرم القوم إنْ دخلوا) إنما يفيد تقييد الإكرام بحالة دخولهم، ولولا الشرط لاستحقوا كلهم في كل حال. وردَّه الجمهور بأنَّ مَن دخل، استحق دُون مَن لم يدخل، فهو تخصيص؛ لإخراجه بعض الأفراد؛ لأن القيد لكل فرد [فرد] (¬1)، لا للمجموع من حيث هو، وإلا لزم في نحو قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] أنْ لا تستحق مَن أرضعت ولدها إلا أن تُرضع جميع نساء العالم أولادهن، فعند ذلك تستحق الكل الأجر. الثاني: الشرط المراد هنا ما كان بِـ "إنْ " وما في معناها كما سبق، بخلاف "لو" فإنه شرط في الماضي يقتضي امتناع جوابها؛ لامتناع شرطها كما سبق. والشرط بِـ "إنْ" وما في معناها متوقَّع في المستقبل إما قطعًا (كَـ: إذا طلعت الشمس فأنت طالق) وإما مع الاحتمال (كـ: إنْ قام زَيد). فإنْ ورَدَ ما يتوهم أنه لماضٍ، أُوِّل، نحو قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه الصلاة والسلام: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116]، فإنه إنْ كان قال ذلك في الدنيا فالاستقبال ظاهر، أو يقوله في الآخِرة -وهو الظاهر- فمُؤَوَّل على حذف فِعل مستقبل، نحو: إنْ ثبت أو تبيَّن أني قلتُه فأنت أَعْلم. ¬

_ (¬1) ليس في (ص).

ونحوه قول الشاعر: (أتغضب إنْ أذنا قتيبة حزنا)، أي: إنْ تبيَّن ذلك. الثالث: ذكر في "المحصول" وتبعه البيضاوي وغيره في مسائل "الشرط" هنا ما حذفتُه تبعًا لـ "جمع الجوامع"؛ لقِلة جدواه في كون الشرط تخصيصًا. فمِنه أنَّ الشرط إما أن يقع في الوجود دفعةً أو تدريجًا، وكل منهما إما أن يكون التعليق على وجوده أو عدمه. فما عُلِّق على وجود ما يقع دفعةً لِعدم تركُّبه أو لكون أجزائه لا توجد إلا معًا نحو: (إنْ طلقتك، فأنت طالق)، فالمشروط يقع في أول زمن وقوع الشرط. وما عُلِّق على عدمه نحو: (إنْ لم أطلقك)، فالمشروط يقع أول أزمنة عدمه. وما كان على التدريج نحو: (إنْ قرأت الفاتحة فأنت حر)، فالمشروط يقع عند تكامل أجزائه إنْ عُلِّق بوجوده، وعند انتفاء آخِر جُزء إنْ عُلِّق بعدمه، نحو: (إنْ لم تقرئي الفاتحة فأنت طالق). قلتُ: المسائل الأربع تدور على أن المشروط في الشرط اللغوي -الذي قد بيَّنا أنه سبب- يقع مع الشرط، لا بَعده، وهو الأرجح مِن قولَي الشافعي كما هو موضح في الفقه. إلا أنَّ ما يقع دفعةً ليس له إلا زمن واحد، فكيف يقال: أول أزمنة وجوده؟ ولو قُدِّر تَعدُّد زمنه لَمَا كان يقع حتى يصدق، ولا يصدق إلا في آخِر أزمنته، لا في أولها. وما عُلِّق بعدم هذا إنْ قُيِّد بزمان والتعليق بِـ "إنْ" كَـ: (إنْ لم أطلقك اليوم، فأنت طالق) و: (إنْ لم أَبع في هذا اليوم، فأنت حر) فإنَّ المشروط إنما يقع في آخِر أزمنة العدم، لا في أولها. وإنْ لم يقيد بزمان كـ: (إنْ لم أطلقك، فأنت طالق)، فلا تطلق إلا قبل الموت، وهو آخِر أزمنة العدم الممكن فيها الطلاق، أو قبيل الجنون الحاصل للزوج متصلًا بالموت كما قُرر ذلك كله في الفقه.

نعم، إنْ كان التعليق بِـ "إذَا" ونحوها فيقع في أول أزمنة العدم إذا مَضَى قَدْر زمن الفعل المعلَّق على عدمه ولم يفعل. وكذا إذا كان التعليق [بفعل] (¬1) الكف، نحو: (إنْ كففتُ عن طلاقك) أو: (أمسكتُ) أو: (تركتُ). فالإطلاق ليس بجيد. ومما ذكروه أيضًا من المسائل أن كُلًّا من المعلَّق والمعلَّق عليه إما واحد أو عدد، والعدد إما [معلَّق] (¬2) بمجموعة أو بواحد منه، فهي تسعة أقسام مِن ضرب ثلاثة في ثلاثة، وأمثلتها ظاهرة؛ فلا نُطَوِّل بها. ومما يذكر هنا أيضا أنَّ دخول الشرط على الشرط هل هو تعليق بالشرطين إذا اجتمعا سواء تَقدم أولهما على ثانيهما أوْ لا؟ أو أنَّ الشرط الثاني شرطٌ في الشرط الأول؟ كَـ: (إنْ دَخلت إنْ كَلَّمْت) يشترط وجود الكلام قبل الدخول. الأرجح في مذهب الشافعي هذا، وأفرد الشيخ تقي الدين السبكي المسألة بالتصنيف. ومثال المسألة قوله تعالى: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] المعنى: إنْ كان الله يريد أنْ يغويكم، فلا ينفعكم نُصحي إنْ أردتُ أنْ أنصح لكم. الرابع: قولي: (بِأَدَاةٍ) أي: آلة موضوعة لذلك، (تُحْتَذَى) بالذال المعجمة، أي: يُقتدَى بها ويُجْرَى على مثالها. والله أعلم. ¬

_ (¬1) في (ص، ق): لفعل. (¬2) في (ص): متعلق.

ص: 638 - وَهْوَ كَالِاسْتِثْنَاءِ في [اتِّصَالِ] (¬1) ... وَمَا مَضَى، وَالْعَوْدُ بِالتَّوَالِي 639 - لِلْكُل أَوْلَى، وَكَذَاكَ الْأَكْثَرُ ... يَخْرُجُ فِيهِ حَسْبَمَا قَدْ حَرَّرُوا الشرح: اشتمل البيتان على ثلاث مسائل سبق نظيرها في الاستثناء، فيأتي فيها مِثله بوفاق أو خلاف. إحداها: هل يُشترط في الشرط الاتصال كما في الاستثناء؟ الثانية: عَوْد الشرط المتعقِّب لِجُمَل أو مفردات لكُلها، لا للأخِير فقط. وإليها أشرت بقولي: (وَمَا مَضَى). أي: وهو كالاستثناء أيضًا في الذي مضى من مفردات أو جُمل، أي: في عَوْده لكلها، بل عوده في الشرط للكل أَوْلى مِن الاستثناء، لِمَا سنبينه. الثالثة: يجوز إخراج أكثر المفردات بالشرط كما يجوز -على المرجَّح- بالاستثناء. فأما المسألة الأولى: وهي أنه يُشترط الاتصال في الشرط فبلا خِلاف وإنْ جرى في الاستثناء. نعم، سبق أن التعليق بـ "إنْ شاء الله " يسمى "استثناءً" وأنه من محل الخلاف في اتصال الاستثناء، وأنَّ عند بعضهم أنه هو محل الخلاف لا مُطلق الاستثناء، فليكن ذلك خارجًا من محل الاتفاق في الشرط. ¬

_ (¬1) في (ت، س): (الاتصال). ولا يصح معه الوزن.

وأما الثانية: فقال الإمام في "المحصول": (اتفق الإمامان الشافعي وأبو حنيفة على رجوع الشرط إلى الكل، وذهب بعض الأدباء إلى أنه يختص بالجملة التي تليه، حتى إنه إنْ كان متأخرًا، اختص بالجملة الأخيرة، أو متقدمًا اختص بالأُولى. والمختار التوقف كما في الاستثناء) (¬1). انتهى فتَحَصَّلنا منه على ثلاثة آراء في المسألة، ولا يبعد أن يجيء [هنا أيضًا] (¬2) توقُّف القاضي المذكور في الاستثناء. نعم، هو أَولى بالعود إلى الكل من الاستثناء كما أشرت إليه في النَّظم؛ بدليل موافقة أبي حنيفة عليه، نحو: اكرِم تميمًا وأَعْطِ مُضَر إنْ نزلوا بك. وفرق أبو حنيفة بأن الشرط له صَدْر الكلام، فهو مُقدَّم تقديرًا، وذلك لأنَّ الشرط إذا تأخر، فما سبق إما نفس الجواب أو دليل الجواب كما هو المرجَّح عند ابن مالك وغيره. قال في "التسهيل": الأداة الشرط صَدْر الكلام، فإنْ تَقدم عليها شبيه بالجواب معنًى فهو دليل الجواب، وليس إياه، خلافًا للكوفيين والمبرد وأبي زيد) (¬3). انتهى ولأجل ذلك قال في "شرح التسهيل" في "باب الاستثناء": (واتفق العلماء على تعلق الشرط بالجميع إذا تَقدَّم، فكذا المتأخر في نحو: "لا تصحب زيدًا ولا تَزُرْه ولا تكلمه إنْ ظلمني"، واختلفوا في الاستثناء) (¬4). انتهى ¬

_ (¬1) المحصول (3/ 62). (¬2) كذا في (ش)، لكن في (ص، ق): أيضًا. وفي (س، ت، ض): هنا. (¬3) تسهيل الفوائد (ص 238). (¬4) شرح التسهيل (2/ 295).

واعلم أن الخلاف في المسألة قديم قبل صاحب "المحصول"، فقد حكى الصيرفي في كتاب "الدلائل" قولين عن أهل اللغة: أحدهما: أنه يرجع إلى ما يليه حتى يقوم دليل على إرادة الكل. والثاني: أنه يعود للكل؛ لأنه وقع في آخِر الكلام؛ فلَم يكن آخر المعطوفات مختصًّا به دون غيره. وحكى الغزالي عن الأشعرية عدم عوده للجميع، وحكى ابن العارض المعتزلي عن علمائهم عَوْدَه للجميع ولو قيل في الاستثناء: يعود للأخير. ثم نقل عن بعض الأدباء ما سبق حكاية الإمام في "المحصول". وأما قوله في "المحصول": (إنَّ الشافعي وأبا حنفية متوافقان) فمردود بحكاية الماوردي وابن كج عن أبي حنيفة أنه كالاستثناء في اختصاصه بالأخير. ثم قال الماوردي: (إن ذلك غلط؛ لقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] إلى قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ}، فإنه عائد للجميع، لا الرقبة فقط) (¬1). وأما النقل عن بعض الأدباء أنه "إنْ تَقدم، اختص بما يليه" فبناء على عدم العَوْد للكل. وكذا قال الهندي: إنه منقول عن كل مَن خصصه بجملة واحدة. لكن قد صرح الصيرفي بأنه يعود للكل، سواء تَقدم أو تأخر، وكذا إلْكِيَا الطبري. وقال أبو الحسن السهيلي -من أصحابنا- في كتاب "أدب الجدل": إنه مذهب الشافعي. ثم حكى عن بعضهم أن المتقدم يعود للجميع، والمتأخِّر للأخير فقط. وهو تفصيل غريب يكون قولًا خامسًا في المسألة. ¬

_ (¬1) انظر: الحاوي الكبير (16/ 71).

وأما المسألة الثالثة: وهي أنه هل يخرج بالشرط الأكثر ويبقى الأقل؟ قال في "المحصول": (واتفقوا على أنه يحسُن التقييد بِشرط أنْ يكون الخارج [منه] (¬1) أكثر من الباقي وإنِ اختلفوا فيه في الاستثناء) (¬2). انتهى فلو قال: (أكرِم بني زيد إنْ كانوا علماء) وكان الجهال أكثر، جاز. بل ولو كان الكل جُهالًا، [يخرج] (¬3) الكل بالشرط. لكن قال الصفي الهندي: (إنَّ إبقاء شيء وإنْ قَلَّ [يجب] (¬4) تنزله على ما عُلِم أنه كذلك. وأما ما يُجهل الحال فيه فإنه يجوز أن يُقيد ولو بشرط لا يُبقِي مِن مدلولاته شيئًا، كقولك: "أكرِم مَن يدخل الدار إنْ أكرمك" وإنِ اتفق أنَّ أحدًا منهم لم يكرمه) (¬5). تنبيه: حكاية الخلاف في الباقي بعد الاستثناء وحكاية الوفاق في الباقي بعد الشرط ما محله مع ما سبق في الباقي بعد التخصيص و [ترجيح] (¬6) أنه لا بُدَّ مِن جمع يَقْرُب مِن مدلول العام؟ والجواب: أنَّ ذاك في مطلق التخصيص ولو بمنفصل، وهنا في استثناء وشرط ولو لم يكونا تخصيصًا لعامٍّ سبقهما، فبيْن الموضعين عموم وخصوص مِن وَجْه، ولكل منهما مدْرَك ¬

_ (¬1) في (ص، ق): فيه. (¬2) المحصول (3/ 62). (¬3) في (ص، ق): لا يخرج. (¬4) في (س، ت، ض): ثم. (¬5) نهاية الوصول (4/ 1589 - 1590). (¬6) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): يرجح.

يخصه يَظهر مِن أدلة ذلك. والله أعلم. ص: 645 - وَالثَّالِثُ: التَّقْيِيدُ بِالْوَصْفِ إذَا ... مَفْهُومُهُ كمَا مَضَى لَنْ يُنْبَذَا الشرح: الثالث من المخصصات المتصلة: "الوصف"، والمراد به ما أَشعر بمعنى يتصف به أفراد العام، سواء أكان نعتًا أو عطف بيان أو حالًا، وسواء اكان ذلك مفردًا أو جملة أو [شبهها] (¬1) وهو الظرف والجار والمجرور. نحو: (وقفتُ على أولادي الفقراء) أو: (أبوي بكر) إذا كان فيهم مَن يُسَمى أبا بكر ومَن لا يسمى، أو: (أولادي سالكي الطرق الحميدة). ونحو: (على أولادي يقرؤون القرآن) أو: (وَهُم علماء) أو: (على بناتي عند عزوبتهن) أو: (عند فقرهن). سواء كان دالًّا على معنى في العموم باشتقاق مِن اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة و"أفعل" التفضيل أو بجمود مؤولًا بمشتق نحو: أولادي المكيين، أو: ذوي العلم، أو نحو ذلك. وسواء أكان ذلك الوصف نفسه قائمًا بهم أو غير قائم بهم لكن بسبب قائم بهم، كَـ: (وقفتُ على أولادي القرشية أُمهم)، أو غير ذلك. وقد يفرض ذلك في تمييز ومفعول معه، فيتقيد العموم به. ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في سائر النسخ: شبههما.

وسنذكر من ذلك أمثلة فيما تعقب منه جُملًا: هل يعود [للأخير] (¬1)؟ أو للكل؟ وما يمثَّل به له من الفروع الفقهية. وقولي: (إذَا مَفْهُومُهُ كَمَا مَضَى لَنْ يُنْبَذَا) أي: الشرط في الوصف المخصص أن يكون له مفهوم معمول به لن يُطرَح، ويخرج بذلك صور: منها: أن يكون الوصف خرج مَخْرَج الغالب، فَطُرح مفهومه كما سبق بيانه في باب المفاهيم. ومنها: أن يساق الوصف لمدح أو ذم أو ترحُّم أو توكيد أو تفصيل كما هو موضح في العربية، فليس شيء من ذلك مخصصًا للعموم. وإنما ينحصر المخصص في [المَسُوق لتخصيص] (¬2) أو لإيضاح، لأنه إنْ كان: - لِمعرفة، فللإيضاح، نحو: (أولادي العلماء) و: ([الصلاة] (¬3) الوسطى)، ويُسمى عند البيانيين "الصفة المفارقة". - أو لِنكرة، فللتخصيص، كَـ: (أوصيت لكل رجُل فاضل في البلد بكذا). نعم، في كل من الأمرين بحث. أما الأول: فقال الزملكاني (تلميذ ابن الحاجب) في كتابه "البرهان": إن صفة المعَرف بلام الجنس إنما هي [للتخصيص] (¬4)؛ لأن الحقيقة الكُلية لو أريدت باسْم الجنس مِن حيث هي هي، كان الوصف لها نسخًا، فتَعَيَّن أن يكون مَعْنِيًّا بها خاص. وهذا معنى ¬

_ (¬1) كذا في (ض)، لكن في سائر النسخ: للآخر. (¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في (ش): المفرق ليخصص. وفي (ت، س، ض): التخصيص. (¬3) في (ت، س، ض): الصف. (¬4) في (ص، ق): بالتخصيص.

"التخصيص"، بخلاف "الإيضاح" فإنه لا يخرج به شيء. وقد يقال: لا ينافي هذا كلامهم؛ لأنَّ اسمَ الجنس المعرَّف باللام نَكرةٌ في المعنى؛ فلذلك يوصف بالجملة إنْ رُوعِي المعنى، ويأتي [منها] (¬1) الحال إنْ رُوعِي التعريف في اللفظ. وأما الثاني: فظاهر تَصرُّف أصحابنا أن صفة النكرة للتوضيح، خلافًا لقول أبي حنيفة: إنها للتخصيص. ولذلك كانت العاريَّة -عندنا- مضمونة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في [قصة] (¬2) صفوان بن أمية: "عاريَّة مضمونة" (¬3) وعنده أمانة إلا إذا شرط ذلك، وعليه يُحمل الحديث. ومنشأ الخلاف: هل الصفة هنا للإيضاح؟ أو للتخصيص؟ ونحوه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75]، إنْ قُلنا: للتوضيح، فلا ملك للعبد، أو: للتخصيص، فيملك. فإنْ قيل: كيف اتفقوا على أن الصفة مِن جملة المخصصات، واختلفوا في أن مفهوم الصفة حُجة؟ أو لا؟ قيل: ورود الصفة مخُرج مِن الحكم على العام، ويبقى النَّظر في المُخْرَج: هل يُحْكَم عليه بضد الحكم؟ أو هو مسكوت لا يُعْلَم حُكمه؟ جاء الخلاف في المفهوم. والله أعلم. ¬

_ (¬1) كذا في (س، ض)، لكن في (ق، ص): منهما. (¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): قضية. (¬3) مسند أحمد (15337)، سنن أبي داود (رقم: 3562) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 3562).

ص: 641 - وَهْوَ كَالِاسْتِثْنَاءِ أَيضًا عَائِدُ ... لِلْكُلِّ مِنْ قَبْلُ وَبَعْدُ عَاضِدُ 642 - أَمَّا إذَا تَوَسَّطَتْ تِلْكَ الصِّفَهْ ... فَهْيَ لِمَا [تَلِيهِ] (¬1)، لَا مَا خَلَفَهْ الشرح: سبق في الاستثناء ثلاثة أمورٍ: أحدها: وجوب الاتصال، والصفة في ذلك مِثله وإنْ لم أتعرض له في النَّظم؛ لشهرته لا سيما في الصفة التي هي النعت؛ لأن التوابع لا تُفصل من متبوعاتها بِمُبَايِن مَحْض، بخلاف ما لا يتمحض مباينته فإنه يُغتفَر الفصل به، كالمبتدأ [في] (¬2) نحو: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10]، وكالخبر [في] (¬3) نحو: (زيد قائم العاقل)، وكمعمول الصفة نحو: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: 44]، بخلاف نحو: (مررت برجل على فرس عاقل أبلق)، فإنَّ ذلك متمحض [المباينة] (¬4). قال المازري: لا خلاف في وجوب اتصال التوابع، وإنما الخلاف في الاستثناء. لكن جَوَّز بعضهم -حثًا- أن تكون الصفة المخصِّصة للعموم كالاستثناء في جريان خلاف الاتصال فيها. الثاني: إخراج الأكثر والمساوِي على الراجح، فهل يأتي مِثله في المحض ويجري الخلاف فيها؟ ¬

_ (¬1) كذا في (ت، س، ن 5) وهو أَوْفَق للمعنى. لكن في (ص، ض، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4): يليه. (¬2) من (ص). (¬3) من (ص). (¬4) في (ص، ق): المناسبة.

ظاهرُ إطلاق البيضاوي وغيره أن الصفة كالاستثناء -جريانُه (¬1)، وهو محتمل، لكن لم أره تصريحًا، فلذلك لم أتعرض أيضًا في النَّظم له. الثالث: إذا تعقب جُملًا أو مفردات، هل يعود للكل؟ أو للأخير؟ على الخلاف السابق، فهل يأتي مِثله في الصفة؟ الذي يقتضيه كلام أصحابنا في الفقه أنه يعود للكل. وفي "المحصول" للإمام: (إذا تعقبت الصفة شيئين فإما أن يتعلق أحدهما بالآخَر كَـ: "أكرم العرب والعجم المؤمنين"، فتكون عائدة إليهما، أو لا يكون كذلك كَـ: "أكرِم العلماء وجالِس الفقهاء الزهاد"، فهُنا الصفة عائدة للأخيرة). قال: (وللبحث فيه مجال كما في الاستثناء) (¬2). فلم يصرح الإمام بأن أبا حنيفة يخُصها بالأخير كما في الاستثناء، لكنه في أثناء الاستدلال في الاستثناء المتعقب للجُمل نقل عن أبي حنيفة أن الحال أو الظرف أو الجار والمجرور إذا تعقب متعددًا، يختص بالأخير على قول أبي حنيفة، ولهذا يستدرك -على مَن استدل على أبي حنيفة بالعَوْد في ذلك على الكل فينبغي أن يكون الاستثناء كذلك- بأنَّ هذا أيضًا مما يخالف فيه أبو حنيفة، فلا يُستدل به عليه. وإذا كان هذا قول أبي حنيفة في الحال والظرف والمجرور مع أنها كما سبق صفات، فيؤخذ منه أنه يقول به في مُطلق الصفة. وجرى الصفي الهندي على أن الصفة المتعقبة لمتعدد يجري فيها الخلاف في الاستثناء. قولي: (مِنْ قَبْلُ وَبَعْدُ عَاضِدُ) إشارة إلى أن الصفة تعود للكل، سواء تأخرت عن المتعدد أو تقدمت، كما لو قال: (وقفتُ هذا على محتاجي أولادي وأولادهم)، فتعتبر الحاجة في ¬

_ (¬1) يعني: ظاهر إطلاق البيضاوي جريانُه. يعني: جريان الخلاف. (¬2) المحصول (3/ 69).

أولاد الأولاد كما في الأولاد. قال الرافعي: وأطلق الأصحاب ذلك. ورأى الإمام تقييده بالقيدين السابقين في الاستثناء، أي: كون العطف بالواو، وأن لا يفصل بينهماكما سبق بيانه. وقولي: (أَمَّا إذَا تَوَسَّطَتْ) إلى آخِره فالمراد به أن الصفة إذا لم تتقدم على المتعدد ولا تأخرت بل توسطت، فإنما تعود للذي قبلها، لا لما بعدها، نحو: (وقفتُ على أولادي المحتاجين وأولادهم). ويدل لاختصاصها بما وليته ما نقله الرافعي في "الأيمان" عن ابن كج أنه: (لو قال: "عبدي حر إن شاء الله وامرأتي طالق" ونوى صرف الاستثناء إليهما) (¬1) إلى آخِره، فإن مفهومه أنه لو لم يَنْوِ، لَمَا عاد لِمَا بَعْده. وإذا كان هذا في الشرط الذي له صَدْر الكلام وقد قال بِعَوْده للجميع بعضُ مَن لا يقول بِعَود الاستثناء والصفة للجميع، فلأنْ يجري مِثل ذلك في الصفة بطريق الأَوْلى. نعم، حكى فيه ابن داود في "شرح مختصر المزني" خلافًا، وبَنَى عليه إيجاب المتعة للمطلقة بعد الدخول، فقال في قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236]: يحتمل أن يعود على مَن سبق وهُن غير الممسوسة والمفروض لها، أي: ومتعوا النساء الموصوفات بذلك، فلا تجب المتعة لغيرهن. ويحتمل أن يعود على مُطلق النساء، أي: ومتعوا النساء، فتجب المتعة للكل. وتقرير كون ذلك مِن الصفة المتوسطة أن نفي الجناح مُقيَّد بالنساء التي لم يُمسسن ولم يُفرض لهن. وقوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} لمطلق النساء من غير الصفة في الذي قبله، فالصفة متوسطة. ¬

_ (¬1) العزيز شرح الوجيز (12/ 233).

فإنْ عمم العود، كان التقدير: ومتعوا النساء التي لم يُمسسن ولم يفرض لهن. وإلا فيبقى على إطلاقه. تنبيهان الأول: قد تتردد الكلمة بين كونها استثناء أو صفة، فيجري في كل [محمل] (¬1) على حُكمه، وذلك نحو: "غير" فإنها تكون استثناء، نحو: (قام القوم غير زيد)، وصِفة، نحو: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]. قال الرماني: إذا كانت صفة، لم توجِب شيئًا للاسم الذي بعدها ولم تَنْفِ عنه. فنحو: "جاءني رجُل غير زيد" لم تَنْفِ عن زيد المجيء كما لم تثبته له، بخلاف الاستثناء، فإنه إنْ كان مِن موجِب، نَفَتْ عنه الحكم، أو مِن نفي، أوجبته له. وبينهما فرق آخر، وهو أن الصفة تكون للواحد والجمع، والاستثناء لا يكون إلا مِن جمع أو مما في معناه. ويجري مَجْرَى "غَيْر" في ذلك "سِوَى" و"مثل" ونحوهما. ومما يقع صفة واستثناء "إلا" وإن كان الأصل فيها الاستثناء، ومن الوصف قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، لو جُعلت استثناء لَفَسد المعنى. والبحث فيها مشهور في العربية. الثاني: مما يناسب ما ذكر مِن المتعقب لمتعدد هل يعود للكل؟ أو للأخير؟ ما سبق الإشارة إليه من الحال والظرفين (الزماني والمكاني) والجار والمجرور، وأنَّ إطلاق البيضاوي وغيره يدل على عدم مخالفة أبي حنيفة فيه، وأنَّ في "المحصول" للإمام التصريح بالخلاف ¬

_ (¬1) في (ص): محل. وفي (ش، ق): مجمل.

عنه، فلو توسط الظرف أو الجار والمجرور، ففي "مختصر ابن الحاجب" في مسألة: "لا يقتل مسلم بكافر" أن نحو قولنا: "ضربت زيدًا يوم الجمعة وعمرًا" ما يقتضي أن الحنفية يقيدونه بالثاني أيضًا (¬1). لكن قال أبو البركات ابن تيمية: ينبغي أن يعود للكل؛ لتعلقه بجمله الكلام. ومن ذلك: "التمييز"، ظاهر إطلاق البيضاوي أيضًا أنه يعود للكل اتفاقًا. وفيه نظر؛ فينبغي أن يأتي فيه ما ذكر في الحال، ويشهد لذلك حكاية خلاف عندنا فيما لو قال: (له علي كذا وكذا درهمًا)، يَلزمه درهمان على المذهب، وفي قولٍ: درهم وشيء بِناء على العَود للأخير فقط. ولو قال: (له فيَ خمسة وعشرون درهمًا)، هل يكون "درهمًا" تمييزًا للجملتين؟ أو لما يليه فقط؟ وجهان في "حلية" الشاشي، ونسب الثاني لابن خيران وللإصْطخري، والأول للجمهور. وبنى عليهما ما لو قال: (بعتُك بخمسة وعشرين درهمًا)، يصح على الأول دُون الثاني. وقد يتردد في "التمييز" إذا وَلي متعددًا، هل يكون للمجموع؟ أو لكل واحد؟ فيخرج عليه لو كان ذلك في مفعول، نحو: (إنْ حضتما حيضة فأنتما طالقان). فإنْ أُعيد لكل، وقع الطلاق بتمام حيضة كلٍّ، وإلا فهو مُحال، فيكون من التعليق بمستحيل. ونحوه: إنْ ولدتما ولدًا. ومن ذلك أيضًا الضمير المحتمل لِمَا قبله مِن متعدد ولكل مِن المتعدد، كَـ: (وقفتُ كذا على أولادي وأولاد أولادي، وأوصيتُ لهم بكذا)، فيعود للجميع. أما نحو: (وقفتُ على بناتي وعلى أولادهن، وأوصيتُ لهم) فينبغي العود للأخير، وإنِ ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى مع شرحه (2/ 196).

احتمل العود للكل من باب التغليب إلا أنه مجَاز على خلاف الأصل. قولي: (لَا مَا خَلَفَهْ) أي: لا [للذي] (¬1) بعد المتوسط. فإن المتأخر يخلف المتقدم. والله أعلم. ص: 643 - الرَّابِعُ: الْغَايَةُ: مَا بِحَرْفِهَا ... خُولِفَ مَا بَعْدُ لِمَا قَبْلُ انْتِهَا 644 - نَحْوُ: وَقَفْتُ ذَا عَلَى بَنَاتِي ... حَتَّى [يَصِرْنَ] (¬2) في الْمُزَوَّجَاتِ الشرح: الرابع من أقسام المخصص المتصل: "الغاية"، والمراد بها أَنْ يأتي بعد العام حرف من أحرف الغاية كـ "إلى" و"حتى" و"اللام"، فإن ذلك مُشعِر بمخالفة ما بعد ذلك الحرف لِمَا قَبْله، نحو: (وقفتُ هذا على بناتي حتى يتزوجن) فيقتضي أن مَن تزوجت منهن لا تستحق شيئًا. والكلام في ذلك في أمور: أحدها: غاية الشيء طَرَفه ومنتهاه، وفي معناه قول بعضهم: نهايته ومنقطعه. ثم يطلق تارةً على الحرف الدال على ذلك، كـ "حتى" و"إلى"، وتارةً على ما دخل عليه ذلك الحرف، كقوله تعالى: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5]، {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: ¬

_ (¬1) في (ت): الذي. (¬2) في (ق): تصرن.

222]، {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، {إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]. فإذا قيل: الغاية هل تدخل في المُغيَّا؟ أوْ لا؟ إنْ أريد [بالمعنى] (¬1) الأول وهو طرف الشيء ومنتهاه، فداخلة قطعًا. وإنْ أريد ما بعد الذي دخل عليه الحرف، فلا خلاف في عدم دخوله وإنْ أوهمه عبارة الإمام الرازي، كما استدركه عليه القرافي. وإنْ أريد نفس ما دخل عليه حرف الغاية، فهو محل الخلاف المعبَّر عنه بِـ: ما بَعد الغاية هل يدخل فيما قبلها؟ فإن الغاية هنا نفس الحرف، وما دخل عليه هو ما بعد الغاية. وفي هذه المسألة أقوال: أحدها: أنه ليس داخلًا في حُكم ما قبلها، بل محكوم عليه بنقيض حُكمه؛ لأنه لو كان ثابتًا فيه، لم يكن الحكم منتهيًا ولا منقطعًا. فلا تكون الغاية غاية، وهو مُحال. هذا مذهب الشافعي والجمهور كما قاله الإمام في "البرهان". قال تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، فليس شيء من الليل داخلًا قطعًا. الثاني: أنه داخل مطلقًا. والثالث: أنه داخل إنْ كان من الجنس، نحو: (بعتك الرمان إلى هذه الشجرة) والواقع أنها رمانة، وإلا فلا. قال الروياني في "البحر": إن أبا إسحاق المروزي حكاه عن المبرد. والرابع: يدخل إنْ لم يكن معه "مِنْ"، بخلاف نحو: (بعتك مِن هذا إلى هذا). ¬

_ (¬1) في (ت، س): بالمغيّى.

والخامس: لا يدخل إنِ اقترن بـ "مِن". وإنْ لم يقترن بها فجاز أن يكون تحديدًا وأنْ يكون بمعنى"مع". قال الإمام في "البرهان": إنه مذهب سيبويه. وأنكره ابن خروف عليه، وقال: إن سيبويه لم يَقُل شيئًا من ذلك. ثم ذكر عن سيبويه خِلاف ما فهم الإمام عنه. والسادس: قال الإمام: (وهو الأَوْلى): إنْ تميز عما قبله بالحس مثل: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، كان حُكم ما بعدها خلاف ما قبلها. وإنْ لم يتميز حسًّا، استمر ذلك الحكم على ما بعدها، مثل: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، فإنَّ المرفق غير منفصل عن اليد بمفصل محسوس. والسابع (وبه قال بعض الحنفية): إنْ كان المُغيَّا عينًا أو وقتًا فلا يدخل، وإنْ كان غيرهما، دخل، كقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]؛ لأن الغاية هنا فِعل، والفعل لا يدخل بنفسه ما لم يفعل. وما لم توجد الغاية لا ينتهي المغيَّا، فلا بُدَّ من وجود الفعل الذي هو غاية للنهي؛ لانتهاء النهي، فيبقى الفعل داخلًا في النهي. الأمر الثاني: قال الشيخ تقي الدين السبكي: (إن قول الأصوليين: "إن الغاية من جملة المخصصات" إنما هو فيما إذا تَقدمها عموم يشملها لو لم يؤت بها، كقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29]، فلولا الغاية لقاتلْنا الكفار أعطوا أو لم يعطوا. فأما نحو: "رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق" (¬1) لو سكت عن الغاية، لم ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

يكن الصبي شاملًا للبالغ، ولا النائم للمستيقظ، ولا المجنون للمفيق، فذِكر الغاية في ذلك إما تأكيد لتقرير أن أزمنة الصِّبَا وأزمنة الجنون وأزمنة النوم لا يستثنى منها شيء، ونحوه: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] طلوعه أو زمن طلوعه ليس مِن الليل حتى يشمله {سَلَامٌ هِيَ} [القدر: 5] بل حقق به ذلك. وإما للإشعار بأنَّ ما بعد الغاية حُكمه مخالِف لما قبله، ولولا الغاية لكان مسكوتًا عن ذِكر الحكم محتملًا. وهذا على رأي مَن يقول بالمفهوم (¬1). قال الشيخ: (وهذا وإنْ قيل به في نحو: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] فهو أقوى من القول به هنا؛ لأن هناك لو لم يَقُل به، لم تكن للغاية فائدة، وهنا فائدتها المذكورة أولًا فيما سبق. نعم، قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} يحتمل أنه مثل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}؛ نظرًا إلى أن الصوم الشرعي مختص بالنهار، وأيضًا فالعموم في الصيام إنما هو في أفراد الصوم، لا لأوقاته) (¬2). قلتُ: وما ذكره الشيخ إنما هو في تحقيق فائدة الغاية فيما وردت فيه مما يشملها وما لا يشملها ولو لم يكن المذكور قبل الغاية عامًّا عمومًا استغراقيًّا؛ ولهذا جعل منه {سَلَامٌ هِيَ} وليس في "هي" عموم استغراقي. فإنْ كان عموم استغراقي، كان التخصيص موجودًا فيه مِن حيث ما قصد مِن العموم ومن حيث العموم الاستغراقي الذي هو محل الكلام في المسألة. [فإنْ] (¬3) لم يكن فيه عموم استغراقي، انصرف البحث إلى عمومٍ ما وعدمه. فمراد الشيخ الأعم منهما، فتأمله. ¬

_ (¬1) الإبهاج (2/ 161 - 162). (¬2) الإبهاج (2/ 161 - 162). (¬3) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): وإن.

الأمر الثالث: قال الشيخ تقي الدين أيضًا: (إطلاق كون "الغاية" من المخصصات لا بُدَّ فيه مِن إخراج ما سبق في حديث: "رفع القلم"، و {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] و {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] ونحوه مما لا يكون شاملًا لِمَا بعد الغاية. وإخراج نحو: "قطعت أصابعه من الخنصر إلى الإبهام"، فإنَّ الغاية فيه داخلة قطعًا، فهو تأكيد وتحقيق للعموم) (¬1). كما سبق من الفائدة الأولى في مثل ذلك. نعم، لو كان اللفظ غير صريح نحو: (ضربت القوم حتى زيدًا)، كان تأكيدًا [بالظهور] (¬2)، لا بالقطع، لاحتمال أنه أراد أن الضرب انتهى إليه ولم يشمله. الرابع: الأصل في مقصود الغاية أن المُغَيَّا بالتدريج إلى أن يصل لها، نحو: سِرت من البصرة إلى الكوفة. وحينئذٍ فقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] مع أنه بَعد صِدق غسل اليد لا تدريج ينتهي إلى المرافق إنما ينتظم فيه ذلك لو قيل: اغسلوا إلى المرافق. قال بعض الحنفية: فيتعين أن يكون في الآية المغيَّا غير الغسل، والتقدير: واتركوا من إباطكم إلى المرافق، لأنَّ غسل اليد إنما يحصل بعد الوصول إلى الإبط، فليس ثابتًا قبل المرفق، فإنَّ الترك متدرج من حين ابتداء الغسل إلى الوصول فيه إلى المرافق. وفي هذا الموضع قد تعارَض الإضمار (وهو تقدير "اتركوا") والمجاز (وهو إطلاق اليد على بعضها)، ¬

_ (¬1) الإبهاج (2/ 163). (¬2) في (ص، ق): للظهور.

والإضمار خير. وهذا البحث يجري أيضًا في نحو: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، فإنه يقتضي تكرر أيام الصوم وتدرجه إلى الليل، فتشكل الغاية. وإنما تظهر لو قال: صوموا إلى الليل. وقال القرافي: (إن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أجاب عنه بأن المراد: أتموا كل جزء من أجزاء الصوم بسننه وفضائله وكرروا ذلك إلى الليل. فالكمال في الصوم قد يحصل في جزء دُون جزء من جهة اجتناب الكذب والغيبة والنميمة ونحو ذلك مما يأباه الصوم، وكذلك آدابه الخاصة، كترك السواك والتفكر في أمور النساء وغير ذلك) (¬1). الخامس: من تفاريع كون الغاية مخصصة: لو قال: (له علَيَّ مِن درهم إلى عشرة) وصححناه كما هو الصحيح، لزمه تسعة على الأصح؛ بِناءً على أن الغاية لا تدخل، وأن ابتداءها يدخل. وهو أحد قولين فيه حكاهما الغزالي. بل ظاهر كلام الأصفهاني أن الخلاف الذي في انتهاء الغاية يأتي في الابتداء، أي: ما يمكن منه. وقيل: إنما يلزمه ثمانية؛ بناءً على أن الابتداء والغاية لا يدخلان. وقيل: يلزمه عشرة؛ بناءً على أنهما يدخلان، وهو ما صححه البغوي، ورجحه الرافعي في "المحرر" في الضمان دون غيره من الإقرار ونحوه، وقوَّاه الشيخ تقي الدين السبكي أيضًا. ولو قال: (بِعتُك مِن هذا الجدار إلى هذا الجدار)، لم يدخل الجداران في البيع. وفي الفرق بينه وبين ما سبق نظر. ¬

_ (¬1) نفائس الأصول (3/ 6).

ولو قال: (له مِن هذه النخلة إلى هذه النخلة)، قال الشيخ أبو حامد: تدخل الأُولى في الإقرار دُون الأخيرة. وقال الرافعي: (ينبغي أن لا تدخل الأُولى أيضًا كما في: بِعتُك من هذا الجدار إلى هذا الجدار) (¬1). انتهى نعم، في الفرق بين مسألة الجدار وغيرها نظر كما سبق. ولو شرط في البيع الخيار إلى الليل، انقطع بغروب الشمس. وقال أبو حنيفة: بالفجر. ولو قال: (بعتُك بكذا إلى شهر كذا)، لم يدخل ذلك الشهر في الأجل. وفي "البحر": لو وكَّلَه ببيع عَيْن بعشرة مؤخلة إلى يوم الخميس، لم يدخل يوم الخميس. وفي "البسيط" حكاية وجهين فيما لو حلف لَيقضين حقه إلى رأس الشهر وقُلنا: (لا يدخل رأس الشهر بل يقضيه قبله) فقال: أردتُ بـ "إلى" معنى "عند"، هل يُقبل؟ والأرجح القبول. السادس: قولي: (مَا بِحَرْفِهَا خُولفَ) يشمل "حتى" و"إلى"، وهو ما يقتصر عليه كثير، ويشمل ما له دلالة على الغاية مِن غيرهما في بعض حالاته: كـ "اللام" في نحو قوله تعالى: {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} [الأعراف: 57]، أي: إلى. ومثله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5] كما سبقت الأشارة إليه في الكلام على الحروف، وكـ "أو" في نحو قوله: (لأستسهلن الصعب أو أدرك المُنَى) أي: إلى، وكـ "مِن" في بعض التراكيب بتأويل في نحو: (رأيت الهلال من داري من خلل السحاب) أي: من داري إلى خلل. ¬

_ (¬1) العزيز شرح الوجيز (5/ 314).

وذكر ابن مالك أن سيبويه أشار إلى هذا المعنى، وأنكره جَمعٌ وقالوا: هو يرجع لابتداء الغاية. نعم، الغاية هي أظهر معاني "إلى" و"حتى". وربما كانت "إلى" بمعنى "مع"، نحو: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]، و"حتى" للابتداء، نحو: (حتى ماء دجلة أشكل). فإنها وإنْ أشعرت بغاية لكن لا للعامل فيما قبلها كما في نحو: (أكلت السمكة حتى رأسها). بل قيل: إن الخلاف في دخول ما بعد الغاية لا ينبغي أن يجري في "حتى"؛ لاشتراط أهل العربية أن يكون معطوفها جزءًا من المعطوف عليه بها. ولكن ذاك في العاطفة، والخلاف إنما هو في "حتى" مِن حيث هي. نعم، نشأ من احتمال "إلى" أنْ تكون بمعنى "مع " أن المرافق في غسلها في الوضوء إنما هو لذلك، أو أنه لما لم يكن [متميزًا بمحسوس] (¬1) كما سبق عن اختيار الإمام الرازي، كان غسل المرافق احتياطًا كما أجاب به البيضاوي. أو أنه لما احتمل، بينته السُّنة في حديث: "وأدار الماء على مرفقيه" (¬2). السابع: حكى التبريزي في "مختصر المحصول" خلافًا في أن الغاية إذا كان لها جزءان فأكثر، هل الخلاف في الأول؟ أو الأخير؟ ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (س، ض): يتميز المحسوس. وفي (ق): متميز المحسوس. (¬2) سنن الدارقطني (1/ 83)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 259). وفي إسناده عبد الله بن عقيل، قال الدارقطني في سُننه: (ابن عقيل ليس بقوي). وهو في (السلسلة الصحيحة: 2067) وقال الألباني: (الحديث قواه الصنعاني في "سبل السلام" بحديثي ثعلبة ووائل).

قال القرافي: (ولم أره إلا فيه، وغيره إنما يحكى الخلاف مطلقًا من غير تَعرُّض للأجزاء) (¬1). انتهى. ولكن ليس ما قاله التبريزي بعيدًا، بل يظهر من فوائده أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَقبل الله صلاة أحدكم إذا أَحْدَث حتى يتوضأ" (¬2) هل معناه كمال الوضوء فلا يرتفع الحدث عن عضو حتى يتم؟ أو يرتفع عن كل عضو قبل أن يشرع فيما بعده؛ إذ المعنى: لا يقبل الله صلاة مَن أحدث ما كان مُحْدثًا وحَدَثه لا يزال حتى يتوضأ. قلتُ: وفيه نظر؛ لأنَّ نفي القبول أو نفي الصحة (إذا قُلنا: لازِمَة له) إنما هو متعلق بتمامه إجماعًا. وإنما منشأ الخلاف في ارتفاع حدث البعض النظرُ إلى توقُّف كلٍّ على المجموع، لا كل واحد على تطهيره فقط. ونحوه حديث "مسح الخفين": "إذا تَطَهَّر فَلَبسَ خُفَّيْه" (¬3)، هل المعنى الكامل؟ أو تطهير كل رِجل؟ الثامن: قوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] الآية، وقع خلاف للعلماء في أن المغيَّا هو المعلق عليه الشرط لا سيما على قراءة: {حَتَّى يَطَّهُرْنَ} بالتشديد؟ أو غيره؟ وعلى الأول: يكون الإذن في القربان استُفيد من الغاية بـ "حتى"؛ أو مِن الشرط بـ "إذا"؟ أو ¬

_ (¬1) نفائس الأصول (3/ 7). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) صحيح ابن خزيمة (192)، صحيح ابن حبان (1324)، السنن الكبرى للبيهقي (1250) وغيرها. قال الألباني: حسن. (التعليقات الحسان: 1321).

بهما، والثاني تأكيد؟ وعلى الأول: يكون الأول يقتضي الجواز بعد انقطاع الحيض قبل الغسل. والثاني يقتضي خِلافَه. ولكن مفهوم الشرط مُقدَّم؛ لأمور أخرى مذكورة في الخلاف. التاسع: الغاية يُشترط فيها الاتصال كما في الاستثناء والشرط. وكذا إذا ولي متعددًا، يعود للكل، نحو: (وقفتُ على أولادي وأولاد أولادي إلى أن يستغنوا). وكذا في إخراج الأكثر. وأما قول ابن الحاجب و"جمع الجوامع": (إنها كالاستثناء في العَوْد) (¬1) فليس المقصود القَصْر على العَوْد فقط، بل تَعَرَّضَا له؛ لكونه أَهَم. والله أعلم. ص: 645 - خَامِسُهَا: بَدَلُ بَعْضٍ تَابِعُ ... وَالْأَكثَرُونَ فِيهِ لَمْ يُتَابِعُوا الشرح: الخامس من المخصصات المتصلة: بدل البعض من الكل، مثل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ} [آل عمران: 97]، {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ} [المزمل: 2، 3]، {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} [المائدة: 71]. كذا عَدَّه ابن الحاجب من المخصص المتصل. وأنكره الصفي الهندي في "الرسالة السيفية"، قال: لأن المُبْدَل منه كالمطرح، فلم ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (2/ 299)، جمع الجوامع (2/ 58) مع حاشية العطار.

يتحقق فيه معنى الإخراج، والتخصيص لا بُدَّ فيه من الإخراج؛ فلذلك قدروا في آية الحج: ولله الحج على المستطيع. وكذا أنكره الاصفهاني في "شرح المحصول"؛ ومن ثَم لم يذكره الأكثرون كما أشرتُ إليه في النَّظم، وصوَّبَهم الشيخ تقي الدين السبكي؛ لِما سبق مِن كون المبدل منه في نية الطرح. وأيضًا: فلو لم يكن البدل مُستغنًى به عن المبدل منه لَمَا سموه بدلًا؛ لأن بدل الشيء لا يجتمع معه، فإذا اجتمعا، وجب تقدير اطراحه. وأيضًا: فالبدل مُعبَّر به عن بعض المبدل منه، فهو من العام المراد به الخصوص، لا العام المخصوص. قلتُ: لكن فيما قالوه نظر من وجهين: أحدهما: أن الشيخ أبا حيان نقل التخصيص بالبدل عن الشافعي، إذ قال في قصيدته التي رويناها عن شيخنا شيخ الإسلام البلقيني قراءة عليه عن أبي حيان متضمنة لمدح الشافعي (رحمه الله): إنه هو الذي استنبط الفن الأصولي، وإنه الذي يقول بتخصيص العموم بالبدلين. ومراده: بدل البعض، وبدل الاشتمال. فاستفدنا منه أن بدل الاشتمال في معنى بدل البعض في التخصيص عند مَن يقول به. ومعناه ظاهر؛ لأنَّ قولك: (أعجبني زيد علمه) يكون الأول مُعبرًا به عن مجموع ذاته وعِلمه وسائر أوصافه، فإذا قلت: (عِلمه) تخصَّصَ الحكم بعلمه فقط. وإنما لم أذكره في النَّظم لرجوعه بالتأويل المذكور لبدل البعض فيما قصد من التخصيص. نعم، فهم كثير مِن "البدلين" أنهما بدل البعض وبدل المطابقة، وذلك فيما إذا كان المبدل منه نكرة عامة والبدل معرفة أو نكرة خاصة، فإن ذلك لا يخرجه عن كونه بدل مطابقة.

وحينئذٍ فتكون الأقسام الثلاثة مخصصة، لكن الأشهر منها بدل البعض. ثانيهما: أن ما قالوه من اطراح المبدل منه إنما هو تفريع على أن المبدل منه مطرح، وهو أحد الأقوال في المسألة، والأكثر على خلافه. قال السيرافي: زعم النحويون أنه في حُكم تنحية الأول وهو المبْدَل منه، ولا يريدون إلغاءه، وإنما مرادهم أنَّ البدل قائم بنفسه وليس تبيينًا للأول كتبيين النعت الذي هو تمام المنعوت ومعه كالشيء الواحد. تنبيه: لا بُدَّ في البدل أيضًا مِن الاتصال كسائر التوابع على ما سبق في الصفة، وهو مقرر في كتب النحو. ويجوز أن يخرج به الأكثر ويبقى الأقل، كَـ: أكلتُ الرغيف ثلثه أو نصفه أو ثلثيه. وأمَّا تَعَقُّبه لمتعدد حيث يحتمل أن يكون بدلًا مِن الكل ومن الأخير كَـ: (وقفتُ على أولادي وأولاد أولادي أَرْشَدهم) فيظهر أنْ يأتي فيه ما سبق. والله أعلم. ص: 646 - ثَانِي مُخَصِّصٍ هُوَ الْمُنْفَصِلُ ... الْحِسُّ وَالْعَقْلُ وَسَمْعٌ يُنْقَلُ 647 - كَـ "أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ"، وَ"اللهُ ... خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ"، ايْ: سِوَاهُ الشرح: لما انتهى الكلام في المخصِّص المتصل، شرعتُ في المنفصل، أي: المستقل الذي لا يحتاج لذِكر العام معه كما سبق، وهو ثلاثة أنواع -في المشهور- ووراءها ما هو راجع إلى أحدها أو مختلَف فيه، نذكره عند الفراغ منها.

فالأول: الحِس، أي: المشاهدة، وإلا فالدليل السمعي مِن المحسوس بالسمع أيضًا. فالمراد أنْ يَرد حُكم في عام ونحن نشاهد بعض أفراده خارجًا مِن ذلك الحكم. ومَثَّلوه: - بقوله تعالى إخبارًا عن بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23]، ومن المعلوم بالشاهدة أنها لم تُؤْتَ مُلْك سليمان عليه السلام. زِيدَ على ذلك: ولم تؤتَ أيضًا شيئًا مِن الملائكة والعرش. ولكن فيه نظر من حيث إنَّ ذلك غير مشاهَد حتى يكون علمنا به بالحس. - وبقوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25]، ونحن نشاهد موجودات لم تدمرها، كالسماوات والجبال وغيرها. - ونحو ذلك أيضًا قوله تعالى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42]، {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57]، فإنَّ مِن المُشاهَد ما لم تجعله كالرميم، وأنَّ ما في [أقصى] (¬1) المشرق والمغرب لم يُجْبَ إليه. نعم، هنا ثلاث كلمات: الأُولى: أنَّ هذه الأمثلة لا تتعين أن تكون مِن العام المخصوص بالحِس، فقد يُدَّعَى أنها مِن العام الذي أُريد به خاص. وقد سبق الفرق بينهما وثمرة اختلافهما. الثانية: أنَّ ما كان خارجًا بالحِس قد يُدَّعى أنه لم يدخل حتى يخرج كما سيأتي نظيره في التخصيص بالعقل، فليكن هذا على الخلاف هناك. الثالثة: يَؤُول التخصيص بالحس إلى أنَّ العقل يحكم بخروج بعض الأفراد بواسطة ¬

_ (¬1) في (ص، ق): الأقصى.

الحس، فلم يخرج عن كونه خارجًا بالعقل؛ فَلْيَكُونَا قِسمًا واحدًا وإنِ اختلف طريق الحصول. وقد أشار إلى ذلك العبدري في "شرح المستصفى" في المقدمة حتى ادَّعَى أن أصل العلوم كلها الحِس. لكن ما قاله مردود، فإنَّ مِن الفِرَق مَن ينكر الحسِّيَّات ويعترف بالبديهيات، كأفلاطون وأرسطاطاليس وبطليموس وجالينوس، لا على معنى سقوطه بالكُلية، بل على معنى أنه يُخطئ ويصيب؛ لأنه عُرضة للآفات وفاسد التخيلات. والرد عليهم في ذلك مشهور في محله، فكيف يُدَّعَى الاتحاد بين الحس والعقل؟ نعم، قد يؤخذ مِن ذلك خِلاف في أن الحس يُخصِّص أوْ لا وإنْ لم يتعرضوا لخلاف فيه. الثاني من المخصِّص المنفصل: العَقل، ضروريًّا كان أو نظريًّا. فالأول: كتخصيص قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16]، فإنَّ العَقل قاضٍ بالضرورة أنه لم يخلق نَفْسَه الكريمة ولا صفاته القديمة. والثاني: كتخصيص قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، فإنَّ العقل -بِنَظَرِه - اقتضى عدم دخول الطفل والمجنون في التكليف بالحج؛ لعدم فَهْمهما، بل هما من جملة الغافل الذي هو غير مخاطَب بخطاب التكليف كما سبق في الكلام على الحُكْم أول الكتاب. قال الشيخ أبو حامد: (لا خلاف بين أهل العلم في ذلك). نعم، منع كثيرٌ أنَّ ما خرج مِن الأفراد بالعقل مِن باب "التخصيص"، وإنما العقل اقتضى عدم دخوله في لفظ العام، وفَرْق بين عدم دخوله وبين خروجه بعد أنْ دخل.

وما ذكروه هو ظاهر نَص الشافعي في "الرسالة"، فإنه قال في "باب ما نزل من الكتاب عامًّا يُراد به العام": (إنَّ مِن العام الذي لم يدخله خصوص قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16]، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6] (¬1). قال: (فهذا عام لا خاص فيه، فكل شيء من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك فالله خالقه، وكل دابةٍ فَعَلَى الله رِزقُها ويعلم مستقرها ومستودعها) (¬2). انتهى فجعله الشافعي - رضي الله عنه - مما لم يدخله تخصيص، وما ذلك إلا لأن ما اقتضى العقل عدم دخوله -لم يدخل، فكيف يقال: دَخلَ ثم خَرجَ؟ ! نعم، اختُلِف في أنَّ هذا الخلاف هل هو معنوي؟ أو لفظي لا فائدة فيه؟ وبالثاني قال القاضي وإمام الحرمين وابن القشيري والغزالي وإلْكِيَا وغيرهم، ووافقهم القرافي وكذا الشيخ تاج الدين السبكي بعد ما نقل عن إمام الحرمين أنَ هذه المسألة قليلة الفائدة نزرة الجدوى والعائدة؛ فإنَّ تَلَقَي الخصوص مِن مأخذ العقل غير مُنكَر، وكَوْن اللفظ موضوعًا للعموم على أصل اللسان لا خِلاف فيه مع مَن يعترف ببطلان مذهب الواقفية وإنِ امتنع مِن تسمية ذلك "تخصيصًا"، فليس في إطلاقه مخالفة شرع أو عقل. والخلاف في المسألة لفظي عند التحقيق، ويشهد له قول الأستاذ أبي منصور: أجمعوا على صحة دلالة العقل على خروج شيء عن حُكم العموم، واختلفوا في تسميته "تخصيصًا". ومَن قال بالأول قال: لأنَّ العام المخصوص بدليل العقل -على قول مَن يُجَوِّز تخصيصه به- يجرى فيه الخلاف السابق في أنه حقيقة فيه أو مجاز، ومَن لا يجوِّز تخصيصه به ¬

_ (¬1) الرسالة (ص 53). (¬2) الرسالة (ص 54).

يقول: هو حقيقة بلا خلاف. كما قاله الصفي الهندي. قال بعضهم: أو يكون عندهم من العام الذي أريد به الخصوص، فيَطرُقه الخلاف في أنه هل يكون حقيقةً؟ أو مجازًا؟ وجعل أبو الخطاب -من الحنابلة- مأخذ الخلاف في كون العقل مخصصًا أوْ لا: التحسين والتقبيح العقليين. فإنْ صح ذلك، كان أيضًا هذا من فائدة الخلاف. لكن استدركه عليه الأصفهاني والنقشواني بما فيه نظر لا يليق التطويل فيه بهذا المختصر. تنبيهات الأول: إنما قدمت في الذِّكر الحِس على العقل وإنْ كان البيضاوي وغيره قدَّموا العقل؛ لأن الإمام في أول "البرهان" قال: (إنَّ اختيار الشيخ أبي الحسن الأشعري أنَّ المدرَك بالحواس مقدَّم على ما يدرَك بالعقل. وإنَّ القلانسي -مِن أصحابنا- خالف في ذلك فَقَدَّم المعقولات) (¬1). انتهى فيؤخَذ مِن ذلك خلاف فيما إذا تَعارض في لفظ عام أنْ يكون مخصوصًا بالعقل أو بالحس، أيُّهما يكون هو المخصِّص؟ الثاني ما مَثَّلوا به المسألة من قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} مبني على أمرين: أحدهمما: أن المتكلم داخل في عموم كلامه، وهو رأْي يحتمل أن الشافعي لا يختاره؛ ¬

_ (¬1) البرهان (1/ 109).

فلذلك قال بأنه عام لا تخصيص فيه. ولذلك لو قال رجل: (نساء العالم طوالق)، لم تطلق امرأته على أحد الوجهين. ولذلك رد الصيرفي اعتراض ابن داود وابن أكثم وابن أبي داود على الشافعي ادِّعاء بقاء ذلك على عمومه بأنَّ هؤلاء جهلوا الصواب وذهلوا عن اللغة؛ لأن رجُلًا لو كان مِن أهل بغداد فقال: (أطعمتُ أهل بغداد جميعًا)، لا يقال له: خرجتَ بتخصيص. بل يقال: لَمْ تدخل؛ لأنك المطْعِم وهُم المطعَمون سواك. ثانيهما: أن لفظ "شيء" يطلَق على الله عز وجل، وهو أحد المذهبين. ومأخذ المنع إما عدم الإذن؛ فالأسماء توقيفية، وإما أنَّ "شيئًا" مصدر أُطلِق على المفعول، فهو بمعنى "مشيء"، و"المشيء" مُحْدَث، فلا يُطلق على القديم "شيء". وأما قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 19] فليس بصريح؛ لجواز أن لا يوقف على الجلالة، بل يكون مبتدأ، وما بَعده الخبر. فإنْ قيل: فقد قال تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255] وعِلمه تعالى قديم، فلو كان "شيء" بمعنى "مشيء"، لكان يلزم حدوث عِلمه تعالى. قيل: يجوز أنْ يكون أطلق العِلم بمعنى المعلوم؛ فلَم يقع إطلاق "الشيء" على نفس العلِم الذي هو قديم. وقد بَطُل بذلك قول ابن داود: إنه يَلزم على الشافعي أن يكون عِلم الله تعالى مخلوقًا. وقد سَفَّه الأئمة اعتراضه ووَهّوه بأمور كثيرة. وفيما ذكرناه كفاية. وكذلك اعترض ابن داود على الشافعي في جَعْلِه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] مِن العام الذي لم يخصص بأنَّ مِن الدواب مَن أفناه الله قبل أنْ يرزقه. وردَّه الصيرفي بأن ذلك خطأ؛ لأنه لا بُدَّ له مِن رزق يقوم به حياته ولو بِنَفَس يأتيه به.

وقد جعل الله غذاء طائفة مِن الطير التنفس إلى مُدة يصلح فيه للأكل والشرب. وأما قوله تعالى: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 38] فمعناه: يزيد في رزقه؛ بدليل {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل: 71]. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث المطلب بن حنطب فيما رواه الشافعي وغيره: "إنَّ الروح الأمين نَفَثَ في رَوْعي أنه لن تموت نَفْسٌ حتى تَسْتَوْفِيَ رِزقها، فاتقوا الله، وأَجْمِلوا في الطلب" (¬1). نعم، هل يطلق على المعدوم "شيء"؛ إنْ كان مستحيلًا، فلا بلا خلاف عند المتكلمين. و[غَلطَ] (¬2) الزمخشري على المعتزلة في ذلك، إنفي خِلافُهم في المعدوم الذي ليس بمستحيل. نعم، عند النحاة أن المعدوم يُطلق عليه "شيء"، مستحيلًا كان أوْ لا. إذا تَقرر أن المستحيل لا يُسمى "شيئًا" على رأي التكلمين، تَبيَّن أن نحو: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] مِن العام المخصوص بالعقل، أو مِن الذي أريد به الخصوص -على الخلاف السابق. الثالث: إنما جاز التخصيص بالعقل على رأْيٍ ولم يَجُز النسخُ به؛ لأن النسخ رَفْع، والعقل لا يستقل بالرفع. ولا ينافي ذلك القول بأنَّ النَّسخ بيان؛ فإنَّ المراد بيان انتهاء المدة مع أنَّ الحكم قد ارتفع قطعًا كما سيأتي بيانه في محله. نعم، ادَّعَى الإمام جواز النَّسخ بالعقل محتجًّا بأن مَن سقطت رِجْلاه، نُسِخ عنه غسلهما. وسيأتي تضعيف ذلك وأنَّ الإمام خالفه في موضع آخَر. ¬

_ (¬1) مسند الشافعي (ص 233). قال الألباني: صحيح. (صحيح الجامع الصغير وزيادته: 2085). (¬2) في (ش): غلظ.

الرابع: قولي في النَّظم: (كَـ "أُوبيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ") هو بتسكين الياء بلا همز تخفيفًا؛ لإقامة الوزن، أو لتقدير الوقوف عليه مع مراعاة الوزن. وقولي: (أيْ: سِوَاهُ) هو بحذف همزة "أي"؛ لضرورة النَّظم أيضًا. والله تعالى أعلم. ص: 648 - وَالسَّمْعُ مَا أَذْكُرُ مفَصَّلَا ... [فَلِلْكِتَابِ] (¬1) بِكِتَابٍ أُنزِلَا 649 - خُصَّ [اعْتِدَاءٌ بِـ "قُرُوءٍ" تُتْلَى] (¬2) ... بِوَضْعِ حَمْلٍ في "أُولَاتُ" نَقْلَا الشرح: الثالث من المخصصات المنفصلة: التخصيص بالسمع. وله أقسام يأتي ذكرها على التفصيل: الأول: تخصيص الكتاب بالكتاب، وهو مِن تخصيص قَطعي المتن بقطعيِّه. ومثاله قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، خُصَّ عمومه للحوائل والحوامل بقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]. وخُصَّ أيضًا عمومه في المدخول بها وغيرها بقوله تعالى في غير المدخول بها: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]. ¬

_ (¬1) في (ص): فلكتاب. (¬2) في (ت، س): (اعتدادها بقرْء يُتلى)، ومعه يصح الوزن أيضًا. لكن في (ق، ن 3): (اعتداد بقرْء تتلى)، ولا يصح معه الوزن.

ونحوه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 234] الآية، خُصَّ بقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. وكذا قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] خُصَّ بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5]. تنبيهات الأول: المخالف في هذه المسألة بعض الظاهرية، تمسكوا بأنَّ التخصيص بيان للمراد باللفظ؛ فلا يكون إلا بالسّنة؛ لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. وما ذُكر مِن الأمثلة يجوز أن يكون التخصيص فيه بالسُّنة. كما في حديث أبي السنابل بن بعكك مع سبيعة الأسلمية حين قال لها: ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشرًا. فجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأفتاها بأنها حَلَّت بوضع حملها (¬1). وأجيب بأنه لا يخرج عن كونه مُبيِّنًا إذا بَيَّن ما أُنزل بآية أخرى مُنزَّلة كما بيَّن بما أُنزل عليه مِن السُّنة، فإنَّ الكل مُنزَّل. وأيضًا فالاستدلال على مُدَّعاهم بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} مُعارَض بقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، فإنه يقتضي أن القرآن أيضًا مُبيِّن لجميع الأشياء ومن جُملتها الكتاب، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - مُبيِّن تارة بالكتاب وتارة بالسُّنة. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

الثاني: لا يخفَى أنَّ هذه المسألة فرع عن كون الخاص مع العام يخصصه سواء تَقدم أو تأخَّر أو جُهل أو قارَن كما سيأتي، فهو تخصيص، لا نَسخ، خِلافًا للحنفية كما سيأتي بيانه أيضًا وإنْ كان ابن الحاجب مزجهما معًا في "مختصره" حتى اضطرب الشراح في تقرير كلامه. والله أعلم. ص: 655 - [كَذَا بِسُنَّةٍ] (¬1) وَذَا كَثِيرُ ... كَآيَةِ الْمِيرَاثِ لَا يَصِيرُ 651 - ذُو مَانِعٍ فِيهَا، كفِي "لَا نُورَثُ" ... وَ"لَيْسَ لِلْقَاتِلِ شَيْءٌ يَرِثُ" الشرح: القسم الثاني مِن المخصصات السمعية: تخصيص الكتاب بالسُّنة، وهو كثير جدًّا. فمنه ما مَثلتُ به في النَّظم وهو آيات المواريث التي أولها: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] إلى آخِرها، والتي أولها: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] إلى آخِرها. فقولي (آيَةِ الْمِيرَاثِ) مفرد مضاف؛ فيَعُم، فالكل مخصوص بما جاء في السُّنة مِن موانع الإرث، فذُو المانع مُخْرَج من عموم الآيات، كحديث: "لا نُورث، ما تركنا صَدَقة" (¬2). وهو في الصحيحين من حديث عمر وعائشة. ¬

_ (¬1) في (ت، س): كذاك سنة. ومعه يصح الوزن أيضًا. (¬2) سبق تخريجه.

ورواه النسائي في "سُننه الكبرى" من حديث أبي بكر بلفظ: "إنَّا معاشر الأنبياء لا نُورث" (¬1). فقول الذهبي: (إنه ليس في شيء من الكتب الستة) صحيح؛ لأن المعدود منها "النسائي الصغير" المسمى بِـ "المجتبى"، وليس الحديث فيه. وكحديث: "ليس للقاتل من الميراث شيء" (¬2). وقد رواه النسائي والترمذي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة بلفظ: "القاتل لا يرث" (¬3)، وأبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: "لا يرث القاتل شيئًا" (¬4). وفي رواية "ليس لقاتل ميراث" (¬5). وطُرق الحديث وإنْ كان فيها ضَعف -مِن جهة أنَّ راويه إسحاق بن عبد الله ابن أبي فروة متروك عند بعض أهل العلم ومن جهة غيره أيضًا- فهي تُقوي بعضها بعضًا. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سنن النسائي الكبرى (رقم: 6367)، سنن الدارقطني (4/ 96)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 12021). قال الحافظ ابن الملقن في كتابه (تذكرة المحتاج إلى أحاديث المنهاج، ص 27): (هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن غير الشاميين، وَهُوَ ضَعِيف فِيهَا عِنْد البُخَارِيّ وَغَيره). وقال الألباني: صحيح لغيره. (إرواء الغليل: 1671). (¬3) سنن الترمذي (رقم: 2109)، سنن ابن ماجه (رقم: 2735)، سنن الدارقطني (4/ 96)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 12023). قال الألباني: صحيح. (صحيح الترمذي: 2109). (¬4) سنن أبي داود (رقم: 4564)، سنن البيهقي الكبرى (12020). قال الألباني: حسن. (صحيح أبي داود: 4564). (¬5) مصنف عبد الرزاق (17783)، سنن ابن ماجه (رقم: 2646)، سنن الدارقطني (4/ 95) وغيرها. قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 2158).

ومن تخصيص آية المواريث حديث: "لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر" (¬1). ومن أمثلة تخصيص الكتاب بالسُّنة الفعلية قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] الآية، خُصِّص برجم النبي - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا لَمَّا كان محصنًا (¬2). نعم، قد يقال: إنَّ التخصيص إنما كان بالقرآن الذي نُسخت تلاوته وبقي حُكمه، وهو: "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البَتَّة"، إذِ المراد بهما المحصن والمحصنة. قولي في البيت الثاني: (ذُو مَانِعٍ) هو اسم "يصير" في آخِر البيت قبلها، و"فيها" خبره، والضمير فيه عائد لآية المواريث. واعْلَم أن السُّنة ضربان: متواترة، وآحاد. الضرب الأول: سبق في الكلام في الإسناد أنه إما مفقود أو قليل جدًّا. فذِكر التخصيص به إنما هو على تقدير الوجود، أو أن ذلك في زمن كان كثيرًا، وهو الصدر الأول. قال ابن الحاجب: (إن تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة جائز باتفاق) (¬3). وتبع في ذلك قول الآمدي: لا أعلم فيه خلافًا. وكذا حكى الاتفاق الهندي، لكن حكى بعضهم في الفعلية خلافًا. وعبارة الشيخ أبي حامد الأسفراييني: لا خلاف في ذلك إلا ما يُحكى عن داود في إحدى الروايتين. وقال ابن كج: (لا شك في الجواز؛ لأن الخبر المتواتر يوجِب العلم كما أن ظاهر الكتاب ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 6383)، صحيح مسلم (رقم: 1614). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (2/ 316).

يوجبه) (¬1). انتهى نعم، ألحق الأستاذ أبو منصور بالمتواترةِ الخبرَ المقطوع بصحته، ومَثَّله بتخصيص آية المواريث بحديث: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم". ونحوه قول ابن السمعاني: (إنَّ محل الخلاف في الآحاد إذا لم يجمِعوا على العمل به، أما إذا أجمعوا عليه نحو حديث: "لا ميراث لقاتل" (¬2) و"لا وصية لوارث" (¬3) ونهيه عن الجمع بين المرأة وعمتها (¬4)، فيجوز التخصيص به بلا خلاف؛ لأن هذه الأخبار بمنزلة المتواتر؛ لانعقاد الإجماع على حُكمها وإنْ لم ينعقد على روايتها) (¬5). انتهى قلتُ: وفي ذلك كله نظر؛ لأنه إن أريد القطع بصحة المتن فهذه مسألة ما في "الصحيحين" مُسندًا: هل هو مقطوع بصحته كما اختاره ابن الصلاح؟ أوْ لا وهو الذي صَوَّبه النووي وقال به الأكثر؛ وقد سبق بيان ذلك في الكلام على المتواتر والآحاد. وعلى الثاني: فكيف يساوي القرآنَ والمانعُ مِن التخصيص بالسُّنة للقرآن إنما مستنده عدم المساواة؟ وإنْ أريد القطع في الدلالة فلا شيء مقطوع بدلالته مِن النقليات مِن حيث هو. ¬

_ (¬1) هذا النص جاء في (ص) فقط هكذا: وقال ابن كج: لا شك في الجواز؛ لأن الخبر المتواتر يوجِب العلم -أي ثبوته أمَّا دلالته على حُكم فلا- كما أن ظاهر الكتاب يوجبه. انتهى (¬2) سبق تخريجه بنحوه. (¬3) سنن أبي داود (رقم: 2870)، سنن الترمذي (رقم: 2120) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 1635، صحيح الترمذي: 2120). (¬4) صحيح البخاري (رقم: 4820)، صحيح مسلم (رقم: 1408). (¬5) قواطع الأدلة (1/ 185).

وإنْ أريد انعقاد الإجماع على الحكم، فالتخصيص حينئذٍ إنما هو بالإجماع، لا بالسُّنة، وسيأتي بيان التخصيص به. ومما يُتعجب منه هنا تمثيل البيضاوي تخصيص القرآن بالسنة المتواترة بتخصيص آية المواريث بحديث: "القاتل لا يرث" مع أنه ضعيف الطرق -كما سبق- فضلًا عن أن يكون متواترًا! وأما جواب القرافي عن مثل ذلك بأن "زمان التخصيص وزمان النَّسخ إنما كان في عصر الصحابة، وقد يكون ذلك متواترًا حينئذٍ، ولا يَضُره أنْ صار في هذا الزمان آحادًا، بل ربما يُنسى الحديث بالكُلية" ففيه نظر؛ لأنَّ احتمال ذلك لا يلزم منه أن يكون هو الواقع. وأيضًا فلا يبقي فرق بين التواتر والآحاد في الأحكام؛ لأنَّ الآحاد كانت تَواتُرًا، فيُنسخ المتواتر الآن بالآحاد الآن ويُدَّعَى أن النَّسخ كان في ذلك الزمان وإنْ صار الناسخ في هذا الزمان آحادًا. الضرب الثاني: التخصيص للقرآن بالسُّنة الآحاد: وفيه مذاهب: أحدها: وهو الصحيح وقول الجمهور ونقله الآمدي وابن الحاجب عن الأئمة الأربعة: الجواز. قال ابن السمعاني: (لإجماع الصحابة على تخصيص: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] بحديث: "لا نُورَث" وبحديث: "لا يرث المسلم الكافر". وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] بخبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس: "سنوا بهم سُنة أهل الكتاب" (¬1). وأما قول عمر: ¬

_ (¬1) مصنف عبد الرزاق (10025)، مسند البزار (1056)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 13764)، =

"لا نَدَع كتاب ربنا ولا سُنة نبينا لقول امرأة" (¬1) إلى آخره -إنَّ ذلك إنما هو في نَسخِه به، لا في التخصيص) (¬2). انتهى والإشارة بهذا إلى ما رواه مسلم عن الشعبي أنه حدث بحديث فاطمة بنت قيس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل لها سكنى ولا نفقة" (¬3)، فأخذ الأسود بن يزيد كفًّا من حصباء، فحصبه به، وقال: ويلك تُحدِّث بمثل هذا؟ قال عمر: "لا نترك كتاب ربنا وسُنة نبينا لقول امرأة لا ندري أحفظت؟ أم نسيت؟ " (¬4). وزاد الترمذي في روايته: "وكان عمر يجعل لها السكنى والنفقة" (¬5). ووقع في "مختصر ابن الحاجب" أن عمر قال: ("لا ندري أصدقت؟ أم كذبت؟ ") (¬6). وأنكروه عليه؛ فإن المحفوظ كما سبق: "أحفِظَتْ؟ أم نسيت؟ ". وليس بمنكر؛ فقد رواه الحارثي في "مسنده" من طريق إلى أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود. لكن قال صاحب "التنقيح": (إن هذا الإسناد مُظلِم إلى أبي حنيفة). المذهب الثاني: المنع مطلقًا. حكاه أبو الخطاب عن بعض الحنابلة، ونقله الغزالي في ¬

_ = وغيرها. قال الألباني: ضعيف. (إرواء الغليل: 1248). (¬1) صحيح ابن حبان (رقم: 4250)، سنن البيهقي الكبرى (15508) وغيرهما. وفي سنن الترمذي (رقم: 1180) وغيره بلفظ: (لَا نَدَعُ كِتَابَ الله وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - لِقَوْلِ امْرَأَةٍ)، وفي صحيح مسلم (رقم: 1480) وغيره بلفظ: (لَا نَتْرُكُ كِتَابَ الله وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - لِقَوْلِ امْرَأَةٍ) (¬2) قواطع الأدلة (1/ 372). (¬3) صحيح مسلم (رقم: 1480). (¬4) صحيح مسلم (رقم: 1480). (¬5) سنن الترمذي (رقم: 1180). قال الألباني: صحيح. (صحيح الترمذي: 1180). (¬6) مختصر المنتهى (2/ 319) مع بيان المختصر.

"المنخول" عن المعتزلة، ونقله ابن برهان عن طائفة من المتكلمين والفقهاء، ونُقل عن طائفة مِن أهل العراق وأنهم لأجله منعوا الحكم بالقرعة وبالشاهد واليمين. الثالث: عن عيسى بن أبان: إنْ خُص بقاطع، جاز تخصيصه بعد ذلك بالاَحاد؛ لأنه بعد التخصيص يكون مجازًا في الباقي. أما قَبْله فحقيقة في الأفراد. وقد استشكل نَقْل هذا عنه مع نَقل عدم حُجية العام بعد التخصيص عنه. وأجيب بأنَّ قوله: (غير حجة) إنما هو من حيث احتمال أن يُراد الحكم بالباقي وأنْ لا يراد، فصار مُجْمَلًا، فإذا أُخرج مِن الباقي بعد الحكم شيء بخبر الواحد، كان محكومًا عليه بضد حكم العام، خارجًا مِن محل الاحتمال والإجمال. قال ابن السبكي في "جمع الجوامع": (وعندي عكسه" (¬1). أي: إنْ خُص بقاطع، لم يجز تخصيصه بالآحاد، وإلا جاز ذلك؛ لأنَّ الغالب في العمومات أنها مخصَّصة، حتى قيل: ما مِن عام إلا وخُصَّ. فإذا كان لا بُدَّ مِن مُخصِّص، فالتخصيص بخبر الواحد يلحق بما هو الأغلب في العمومات، بخلاف العام إذا خُصَّ بقاطع، فقد وافق الأغلب، فلا ضرورة إلى تخصيصه بعد ذلك بخبر الآحاد. وأقام شارحُه ذلك قولًا وأنه انفرد به، وهو لم يُورده إلا بحثًا واحتمالًا، وإلا فكان يختار في سائر المخصصات -على آراء ضعيفة- أنها يجوز التخصيص بها إذا لم يتقدم تخصيص بما يسوغ التخصيص به؛ إلحاقًا لذلك العام بالأغلب في العمومات. ولم يَقُل ذلك، فاعْلَمه. الرابع: إنْ خُصَّ قبل ذلك بمنفصل، جاز أن يُخص بالآحاد، وإلا فلا. قاله الكرخي؛ ¬

_ (¬1) جمع الجوامع (2/ 64) مع حاشية العطار.

لأنه بالتخصيص بالمنفصل يصير مجَازًا عنده كما سبق. وبالجملة فهذا المذهب ومذهب ابن أبان السابق مَبنيان على القول بأنَّ دلالة العام على كل فرد من أفراده قطعية، وسبق بيان ضَعف ذلك. الخامس: أن التخصيص بذلك يجوز أنْ يقع ولكن ما وقع. حكاه القاضي في "التقريب"، وحكى قولًا آخَر: إنَّ الدليل قام على المنع من التخصيص بالآحاد. وهذا في الحقيقة هو القول الثاني، وهو المنع مطلقًا. السادس: الوقف، إما على معنى "لا ندري" وإما على معنى تَعارُض أمرين: دلالة العموم على إثباته، والخصوص على نفيه. وذلك لأنَّ متن الكتاب قطعي وفحواه مظنون، وخبر الواحد بالعكس؛ فتعارضَا، ولا مُرجِّح؛ فالوقف. والله تعالى أعلم. ص: 652 - وَ [قَلَّ] (¬1) عَكْسٌ، نَحْوُ: "مَا أُبِينَا ... مَيْتٌ" بِـ "أَصْوَافٍ" وَمَا تَلَوْنَا الشرح: القسم الثالث من التخصيص بالسمعي: تخصيص عموم السنة بخصوص القرآن، وهو قليل، حتى إنَّ كثيرًا -كالبيضاوي- لم يذكروه أصلًا، وابن الحاجب وإنْ ذكره لكنه لم يُمثِّل له. وقد ذكرته، وأشرتُ إلى تمثيله بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أُبِين مِن حي فهو ميت" (¬2). رواه ابن ¬

_ (¬1) في (ص): قيل. (¬2) سنن ابن ماجه (رقم: 3217) بلفظ: (فما قُطِعَ من حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ). قال الألباني: ضعيف جدًّا. (ضعيف ابن ماجه: 3277). =

ماجه، خُصَّ بقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80]. وهذا معنى قولي: (بِـ "أَصْوَافٍ" وَمَا تَلَوْنَا). أي: خُصَّ بأصواف وما نتلوه بَعْده مِن الأوبار والأشعار. ومن أمثلته أيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم عن عبادة بن الصامت: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة ونَفْي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" (¬1)، فإنَ ذلك يشمل الحر والعبد، مُخَصَّص بقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]. ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما رجع إلى المدينة بعد الحديبية، جاءه نساء المؤمنات، منهن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فجاء أهلها يسألونها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحكم ما شرطوه عليه في صلح الحديبية: "أنَّ مَن أتى مِن أصحابك لم نَرُده عليك، ومَن أتاك مِن أصحابنا رددته علينا". فنهاه الله- عز وجل- عن ذلك بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] الآية (¬2)، فخصص النساء مِن شرط النبي - صلى الله عليه وسلم - العام. هذا على أحد الأقوال. وقيل: بل نُسخ الشرط. ¬

_ = وفي سنن ابن ماجه (3216) بلفظ: (مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ، فَمَا قُطِعَ مِنْهَا فَهُوَ مَيْتَةٌ). قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 3276). (¬1) صحيح مسلم (رقم: 1690). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 2564).

وقيل: لم يقع الشرط إلا على الرجال خاصة، وأراد المشركون تعميمه؛ فنزلت الآية. ومنها حديث: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أَحْدَث حتى يتوضأ" (¬1)، خُصَّ منه المتيمم بآية التيمم. وقد يمنع هذا مَن يرى أن التيمم يرفع الحدث. ومنها حديث: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" (¬2)، خُصَّ بقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29]. ومنها حديث: "إن الله تَجاوز لأُمتي ما حدَّثت به أنفُسها" (¬3)، خُصَّ بقوله تعالى في سبق اللسان باليمين: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225]. تنبيهان أحدهما: أشار ابن الحاجب إلى خلاف في المسألة، وأن المخالِف استدل بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. وقد سبق الجواب في مِثله بأن ذلك لا يقتضي أن يخرج عن كونه [تبيينًا] (¬4)، فإنَّ تبيينه تارة بالقرآن وتارة بالسُّنة. الثاني: إطلاق التخصيص بالسُّنة شامل للآحاد وللمتواتر إنْ أثبتناه في السُّنة. فأما الآحاد فهو ما سبق من الأمثلة. وأما المتواتر فهو قول الجمهور، وعن بعض فقهاء أصحابنا المنع، وعن أحمد روايتان، ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): مبينا.

وقال ابن برهان: إن المنع قول بعض المتكلمين. وبه قال مكحول ويحيى بن أبي كثير، إذْ قالا: السُّنة تَقْضِي على الكتاب -أيْ تُبَيِّنه- والكتاب لا يقضِي على السُّنة. نعم، سيأتي في "باب النَّسخ" من كلام الشافعي أنَّ السُّنة لا ينسخها القرآن إلا إذا كان معه سُنة تُبَيِّن، فيحتمل أن يجيء مِثله هنا. وكذا في نَسخ الكتاب بالسنة المتواترة. وقد سبق جواب القرافي في "إطلاقهم السُّنة المتواترة، ومِثْلها لا يوجد، فكيف يمثل به؛ " بأنَّ ذلك باعتبار الزمن الذي كانت فيه متواترة وإنْ طرأ عليها الانتقال [للآحاد] (¬1). وسبق رده، والله تعالى أعلم. ص: 653 - وَسُنَّةٌ بِهَا كَمَا في خَبَرِ ... "فِيمَا سَقَتْ" يُخَصُّ ذَا بِالْأَثَرِ 654 - أَيْ: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةٍ" إلَى ... آخِرِهِ، فَالْقَول أَوْ مَا [فَعَلَا] (¬2) 655 - أَوْ قَرَّرَ النَّبِيُّ سُنَّةً بِهَا ... يُخَصُّ حَيْثُ أُطْلِقَتْ فَعَمَّهَا 656 - فَعَادَةً قَرَّرَهَا مُخَصِّصَهْ ... كَمَا بِإجْمَاعٍ تُقَرُّ، فَاخْصُصَه الشرح: القسم الرابع: تخصيص السُّنة بالسُّنة: وكُل مِن السُّنة العامة والمخَصِّصة إما متواترة أو آحاد، فمسائلها أربع، ثلاثة منها فَرْعُ وجود المتواتر، وقد سبق بيانه، وعلى تقدير وجوده يأتي في كل قِسم مِن الخلاف ما سنذكره. ¬

_ (¬1) في (ص، ق): بالآحاد. (¬2) في (ت، س): نقلا.

الأُولى: تخصيص السنة المتواترة بمثلها: ويجري فيها الخلاف السابق في تخصيص القرآن بالقرآن. وحكى الشيخ أبو حامد عن داود أنهما يتعارضان. ومنشأ الخلاف أيضًا في ذلك مما سبق في أنَّ السُّنة إنما تكون مُبيِّنة؛ لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ}، لا محتاجة للبيان، سواء تواترت أوْ لا. ولذلك قال القاضي عبد الوهاب: منع بعضهم من تخصيص السُّنة بالسنة بما سبق. المانية: تخصيص المتواترة بالآحاد: ويطرقها الخلاف مِن حكاية القاضي عبد الوهاب آنفًا. وجوابه: أن المبيَّن (بالفتح) لا يمتنع أن يكون مُبيِّنًا (بالكسر) مِن وجه آخَر، إذْ لا تنافي بينهما. ومنهم مَن يحكي فيه الخلاف السابق في تخصيص القرآن بالسُّنة، وقد صرح بذلك القاضي في "التقريب" وإمام الحرمين في "البرهان" وغيرهما، فإنكار ذلك على البيضاوي ليس بجيد. فائدة: تخصيص عموم القرآن والسُّنة المتواترة هل يجوز بالقراءة الشاذة؟ يتجه تخريجه على ما سبق من الخلاف في أنها يُحتج بها [أَم] (¬1) لا. نعم، في كتاب أبي بكر الرازي أنه يجوز إذا اشتهرت واستفاضت، قال: (ولهذا أخذنا بقراءة ابن مسعود: "متتابعات"، ومنعنا به الإطلاق في الآية) (¬2). ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): أو. (¬2) الفصول في الأصول لأبي بكر الجصاص (1/ 198).

التالثة: تخصيص الآحاد بالمتواترة: ويطرقه الخلاف مِن كون السُّنة مُبَيِّنة، لا محتاجة للبيان. وسبق بجوابه. الرابعة: تخصيص الآحاد بالآحاد: وهو ما ذكرته في النَّظم؛ لأنه الذي توجد أمثلته، وهي كثيرة، وهي على أربعة أضرب؛ لأن العام دائمًا قول، والمخصِّص إما قول أو فعل، والفعل إما وجودي وإما كَفِّي وهو تقريره - صلى الله عليه وسلم -، وذلك إما لفعل عَلِمَ به وإما لعادة اطَّلَع عليها فَقَرَّرَها. فالأول: مِن أمثلته ما أشرتُ إليه في النَّظم من حديث: "فيما سقت السماء العشر" (¬1). أخرجه أبو داود والنسائي عن ابن عمر، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" (¬2). متفَق عليه من حديث أبي سعيد الخدري. وقولي: (بِالْأَثَرِ) المراد به الحديث؛ فلذلك عقبتُه بقولي: (أَيْ: لَيْسَ فِيمَا) إلى آخِره، وإنْ كان الأثر غالبًا إنما يُطلق في الموقوف على صحابي أو غيره مِن غير رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سبق بيانه في محله. الضرب الثاني: الفعل، فإذا قُلنا: يجب على الأُمة التأسي به، فالأكثرون من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم على جواز التخصيص به. قال الشيخ أبو حامد: هذا إذا قُلنا: إنه على الوجوب أو الندب، فإنْ قُلنا بالتوقف، فلا يخصص به. وقال جمعٌ (منهم الكرخي): لا يخصص به مطلقًا. واختاره ابن برهان، وحكاه الشيخ في "اللمع" عن بعض أصحابنا. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه.

وقيل: إنْ فَعَله مرة، فلا يخصص به؛ لاحتمال أنه مِن خصائصه - صلى الله عليه وسلم -. نقله صاحب "الكبريت الأحمر" عن الكرخي وغيره من الحنفية، قال: فإنْ تَكرر، خُصَّ به إجماعًا. وقيل: إنْ كان فِعلًا ظاهرًا، خُصَّ به، وإنْ كان مستترًا فلا. وقيل: إنِ اشتهر كون الفعل مِن خصائصه، لم يُخَص به، وإلا خُصَّ. جزم به سليم في " التقريب". وقال إلْكِيَا: إنه الأصح. قال: ولهذا حمل الشافعي تزويج ميمونة وهو مُحْرِم على أنه كان مِن خصائصه. وقيل بالوقف، ونُقل عن عبد الجبار. وقيل: إنْ كان منافيًا للظاهر، [خُصِّص] (¬1) به، أو موافقًا له فلا. أيْ: ولو في غير ما نحن فيه مِن تخصيص السُّنة بالسُّنة، حتى يجري في تخصيص القرآن بالسُّنة، نحو: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وقطع - صلى الله عليه وسلم - سارق رداء صفوان وغيره، فلا تخصص الآية. قاله ابن القطان. قلتُ: لا معنى لهذا التفصيل؛ لأن التخصيص إنما هو بفعل ينافي العموم، لا أنْ يكون فردًا من أفراده. وقيل: إنما يكون تخصيصًا إذا عُرِف مِن قوله أنه قصد به بيان الأحكام، نحو: "صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي" (¬2)، "خذوا عني مناسككم" (¬3)؛ لأنه إذا لم يكن كذلك، فقدْ يكون من ¬

_ (¬1) في (ص، ق، ش): خص. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) سبق تخريجه.

خصائصه، كنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال ثم واصل، ثم قال: "إني لست كأحدكم" (¬1). فَبَيَّن أنه يفعل مُريدًا به بيان حُكمهم وإلا فينبههم على اختصاصه بذلك. نعم، محل كونه تخصيصًا ما إذا كان العموم شاملًا له وللأُمة بتحريم شيء مَثلًا ثم يفعل الفعل المنهي عنه وهو مما لا يجب اتِّباعه فيه إما لكونه مِن خصائصه أو غير ذلك. أما إذا أوجبنا التأسي به فيه، فيرتفع الحكم عن الكل، وذلك نَسخ، لا تخصيص. وأما إذا كان العموم للأُمَّة دُونه، فَفِعله ليس بتخصيص، لعدم دخوله في العموم. وقد مُثِّل ذلك بالنهي عن استقبال القبلة واستدبارها، ثم جلس في بيت حفصة مستقبل بيت المقدس (¬2). فعَلَى القول بأن النهي شامل للصحراء والبنيان فيحرم فيهما وبِه قال جمعٌ: يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - خُصَّ بذلك، وخرج من عموم النهي. فإنْ قُلنا: إنه - صلى الله عليه وسلم - ليس مختصًّا بذلك، فالتخصيص للبنيان مِن العموم سواء هو والأُمَّة في ذلك. ومثاله في جانب التَّرْك: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الثيب بالثيب جلد مائة والرجم". ثم إنه رجم ماعزًا والغامدية مِن غير جَلد. لكن ليس هذا من باب التخصيص؛ لأنه رَفْع لأحد أمرين منصوصين، فيكون نَسخًا، لا تخصيصًا. ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد (رقم: 4752)، سنن الترمذي (رقم: 778)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح الترمذي: 778). وفي صحيح البخاري (رقم: 1860) بلفظ: (لسْتُ كَأَحَدٍ مِنكمْ). وفي صحيح مسلم (1102) بلفظ: (إني لست كهيئتكم). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 147، 148).

ومُثِّل أيضا بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة بعد العصر، ثم صلَّى ركعتين بعد العصر، ولكن لها سبب؛ فحصل التخصيص. الضرب الثالث: التخصيص بتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدًا مِن المكلفان على خِلاف مُقْتَضَى العام، فهل يكون مخُصِّصًا إذا وُجِدت شرائط التقرير فيه؟ فإنْ كان قَبْل دخول وقت العمل به ولم تَثبت مساواة الذي قرره لغيره، كان تخصيصًا. وإنْ ثبتت المساواة لجميع ما دل عليه الكلام أو كان بعد دخول وقت العمل، كان نَسخًا. ومَثَّل الأستاذ أبو منصور ما يكون تخصيصًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فيما سقت السماء العشر" وتَرْك - صلى الله عليه وسلم - أَخْذ الزكاة من الخضراوات. قال ابن القطان: (وكذا تقريره على ترك الوضوء لِمَن نام قاعدًا). نعم، التخصيص بالتقرير هل هو تخصيص بنفس تقريره؟ أو بما تضمنه مِن سَبْق قول به فيكون مُستدلًّا بتقريره على. أنه قد خُص بقول سابق؛ إذ لا يجوز لهم أن يفعلوا ما فيه مخالفة للعام إلا بإذن صريح، فتقريره دليل ذلك؛ وجهان حكاهما ابن القطان وإلْكِيَا. قال ابن فورك والطبري: إن الظاهر الأول. وكذا مُقْتَضَى كلام ابن القطان ترجيحه، وحينئذٍ فتكون صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - قاعدًا دليلًا على أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلي الإمام قاعدًا فصلوا قعودًا" (¬1) على أنهم لم يكونوا ليفعلوا ذلك وينتقلوا عن الحالة الأُولى إلا بشيء مُتقدِّم. وليس ذلك نقلًا عن الحال، إنما هو بناء على ما ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (411)، وبنحوه في صحيح البخاري (1063).

كانوا عليه، ويتوصل بالحال إلى العِلم به. قولي: (سُنَّةً بِهَا يُخَصُّ حَيْثُ أُطْلِقَتْ فَعَمَّهَا) أي: عَمَّ الأمور الثلاثة (القول والفعل والتقرير) سُنَّةٌ يُخص بها عموم السُّنة. فحيث أطلقت "السُّنة" كانت شاملة للثلاثة؛ فإنَّ لفظ "السُنَّة" يعمها وَيصْدُق عليها. وقولي: (فَعَادَةً قرَّرَهَا مُخَصِّصَهْ) إلى آخِره -إشارة إلى بيان حُكم الضرب الرابع وهو ما إذا اطَّلع النبي - صلى الله عليه وسلم - على عادة اطردت في زمانه وأقَرها ولم يُنكرها ولكن تلك العادة مخالفة لبعض ما دخل في عموم سُنَّة أخرى، فإنَّ ذلك يكون تخصيصًا. وأشرتُ بعطف ذلك بِـ "الفاء" إلى أنه مُرتَّب على ما قَبله؛ لرجوعه إلى التخصيص بالتقرير. واعْلَم أنَّ في هذا الضرب اضطرابًا شديدًا يظهر ذلك بما نذكره مِن الأحوال في تصويره المحتملة فيه: فأحدها: أنْ يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجبَ أشياء أو حَرَّمها بلفظ عام، ثم تجري عادة بعد ذلك بترك بعض ما أوجب أو بفعل بعض ما حرم. فقال الإمام الرازي وأتباعه: إنها تخصيص إذا عَلِم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يُنكرها ولا منعها. قال في "المحصول": (فأما إذا عُلِم جريانها مِن بَعْده - صلى الله عليه وسلم -، فإنها لا تُخصِّص إلا أنْ يُجمَع على فِعلها؛ فيكون تخصيصًا بالإجماع الفعلي) (¬1). أي: والتخصيص بالإجماع -كيف كان- جائز كما سيأتي. وعلى هذا جريتُ في النَّظم بقولي: (فَعَادَةً قَرَّرَهَا مُخَصِّصَهْ). ¬

_ (¬1) المحصول (3/ 132).

الثانية: أن تتقدم عادة في فِعل شيء على ورود عام شامل له ولغيره، فلا يكون العام منصرفًا إلى المعتاد فقط مخصَّصًا به، بل هو على عمومه فيه وفي غيره، إلا أن ذلك الذي جرت به العادة مراد قطعًا، وإنما الكلام في غيره. وهذه التي قال الآمدي وابن الحاجب فيها: إن الجمهور على أن العادة تتناول بعض خاص ليس بمخصص، خلافًا للحنفية. مثل ما لو قال الشارع: (حرمتُ الربا في الطعام) وعادتهم تناول البُر، فيجري اللفظ على عمومه في كلِّ طعام. وعليه يُحمل إطلاق الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وابن السمعاني وغيرهما أنَّ العادة لا تُخصِّص. قال الهندي بعد أن ذكر هاتين الحالتين: (إنَّ الحقَّ في هذه أنها لا تُخصص) (¬1). وحينئذٍ فمَن ادَّعى أن مسألة "المحصول" ومسألة الآمدي وارِدتان على محل واحد حتى حاول الجمع بين كلاميهما (إمَّا بأنَّ مَن قال: "تُخصِّص" أراد أنه إذا قررها - صلى الله عليه وسلم -، ففي الحقيقة تقريره هو المخصِّم، ومَن قال: "ليس بمخصِّص" أراد إذا لم يطَّلع عليها ويقررها، أو بغير ذلك) ليس بِمُسلَّم، والصواب: أنهما مسألتان. وممن صرح بأنهما لا تعلُّق لإحداهما بالأخرى: القرافي في "شرح التنقيح". وممن صرح في الحالة الثانية بأن العادة لا تُخصص مِن أصحابنا: أبو حامد وسليم والصيرفي، وابن القشيري، قال: خلافًا لأبي حنيفة. لكن قال الشيخ أبو حامد: يجب الأخذ بالخبر واطِّراح العادة بلا خلاف. وقال إمام الحرمين في "النهاية" في باب الزكاة في أنه يجب في خمس من الإبل شاة وأنه مُخيَّر بين غنم البلد وغيرها: (إنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "في خمس شاة"، واسم الشاة يقع عليهما جميعًا، ¬

_ (¬1) نهاية الوصول (5/ 1760).

ولفظ الشارع لا يُخصَّص بالعُرف عند المحققين من أهل الأصول) (¬1). انتهى وقد استُفيد منه أن مرادهم بالعادة السابقة ليس اعتياد فِعل فقط، بل اعتبار الوجود ولو في ذوات، كما في وجود نوع غنم البلد. الحالة الثالثة: أن تكون العادة جارية بإطلاق لفظ على بعض أفراد العام الدال عليها لغةً، نحو أن يكون عُرْفهم إطلاق "الطعام" على البُر مثلًا أو على المقتات، ثم يأتي النهي عن بيع الطعام بالطعام، فهذا تخصيص. وهو في الحقيقة مِن تقديم الحقيقة العُرفية على اللغوية، وممن صرح بذلك الشيخ أبو حامد، فقال بعد ما حكيناه عنه مِن أن العادة بفعل شيء لا تخصِّص العام الآتي بَعْده: (فإنْ قيل: أليس قد خصصتم عموم لفظ اليمين بالعادة؟ فقُلتم: إذا حلف لا يأكل بيضًا أو لا يأكل الرءوس، فلا يحنث إلا بما يعتاد أكله من الرءوس والبيض. فهلَّا قلتُم في ألفاظ الشارع مثل ذلك؟ قيل: نحن لا نُخصِّص اليمين بعُرف العادة، وإنما نخصصه بِعُرف الشرع، مِثل: لا يُصلي ولا يصوم، فيحنث بالشرعي. أو بِعُرف قائم في الاسم، مِثل الحلف على أن لا يأكل البيض أو الرءوس، فيُعقَل مِن إطلاق هذا الاسم الرءوس التي تُقصد للأكل، فتخصيص اليمين بِعُرف قائم في الاسم. فأمَّا بعُرف العادة فلا يخصَّص، فإنه لو حلف لا يأكل خبزًا ببلدٍ لا يؤكَل فيه إلا خبز الأرز، حنث بأكل خبز غير الأرز وإنْ كان لا يعتاد أَكْله). انتهى وممن نَص على أن العادة القولية تُخصِّص: الغزالي وإلْكِيَا وصاحب "المعتمد" والآمدي ومَن تبعه، وكذا القاضي عبد الوهاب والقرطبي. وفي "شرح العنوان" لابن دقيق العيد: إنَّ الصواب التفصيل بين العادة الراجعة للفعل ¬

_ (¬1) نهاية المطلب (3/ 82).

والراجعة للقول، فيُخصَّص بالثانية العمومُ؛ لِسَبْق الذهن عند الإطلاق إليه دُون الأول. أي: إذا تَقدمت أو تأخرت ولكن لم يُقررها - صلى الله عليه وسلم -؛ حتى يجتمع كلامه مع ما سبق. قلتُ: وكلام القرافي في "شرح التنقيح" كالصريح في هذه الحالة، خلافًا لمن زعم أنه في الحالة التي قبلها. وهذه الحالة الثالثة لم أتعرَّض لها في النَّظم؛ لأنها حينئذٍ مِن حمل اللفظ على حقيقته العُرفية. وأما الحالة الثانية: فتخرج مِن كونه - صلى الله عليه وسلم - قَرر العادة إذا أتى بلفظ عام موافِق للعادة السابقة في البعض، فيُستفاد منه جريان الحكم فيه وفي غيره، فلا يقال: إنه قَرَّر العادة. بخلاف ما إذا جاءت بَعْد مخالِفة للعام وعَلِم بها وسكت، فإنه يقال: قررها. تنبيهات الأول: من فروع المسألة: لو قال: (بعتُك هذه الشجرة)، فهو في قوة بيعها مُصرِّحًا بجميع أغصانها، لكن لا يدخل فيها الغصن اليابس؛ لأن العادة فيه القطع. وقال صاحب "التهذيب": يحتمل أن يدخل كالصوف على ظهر الغنم إذا بِيعت الغنم وقد استحق جز صوفها في العادة. وما قاله هو قياس ما سبق من عدم التخصيص بالعادة السابقة، إلا أن يقال: إنما لم يدخل الغصن اليابس لأنه كالخارج من مدلول لفظ الشجرة؛ لأنَّ اليابس كالمنفصل، فهو كالسُّلم ونحوه في بيع الدار حيث لا يكون مُثَبَّتًا. ومن ذلك ما أشار إليه القرطبي إذ قال: اختلف أصحابنا في تخصيص العموم بالعادة الغالبة، كقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6]، فهو كناية عن الخارج

مِن المَخْرَجَين وهو عام، غير أنَّ أكثر أصحابنا خصصوه بالأحداث المعتادة، فلو خرج ما لا يُعتاد كالحصاة والدود، لم يكن ناقضًا، لأن الذهن لا يتبادر إلا إلى المعتاد. قال: وعلى هذا الأصل انبنى الخلاف في مسائل الأيمان، فإذا حلف بلفظٍ له عُرف فِعْلي ووَضْع لغوي، فهل يُحمَل على العُرف الفعلي؛ أو على الوضع اللغوي؟ قولان. الثاني: قال القرافي: (شذَّ الآمدي بحكاية الخلاف في العادة الفِعلية). قال: (ووقع للمازري خلاف في ذلك عن المالكية، ولَعَلَّه ممن التبس عليه الفعلية والقولية). قال: (وأظن أني سمعتُ الشيخ عز الدين بن عبد السلام يحكي الإجماع أن الفعلية لا تُخصِّص. وقال العالمي من الحنفية: العادة الفعلية لا تكون مُخصِّصة إلا أن تُجمِع الأمة على استحسانها. ثم قال: ولقائل أن يقول: هذا تخصيص بالإجماع، لا بالعادة) (¬1). انتهى وقد سبق بيان الأحوال التي فيها الخلاف والقطْع. الثالث: نسب بعضهم القول بتخصيص العادة الفعلية إلى الشافعي؛ لأنه حمل الأمر في قوله - صلى الله عليه وسلم - في الرقيق: "أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون" (¬2) على الاستحباب دُون الوجوب. قال: لأن العرب كانت مطاعمهم وملابسهم متقاربة، وكان عيشهم ضيقًا. وأما مَن لم يكن كذلك، فإنه يطعم ويكسو رقيقه -إذا لم يَرد ذلك- بالمعروف؛ لحديث: "له نفقته وكسوته بالمعروف" (¬3). ¬

_ (¬1) نفائس الأصول في شرح المحصول (3/ 58). (¬2) صحيح مسلم (رقم: 3007). (¬3) قال الإمام الشافعي في (الأم، 5/ 101): (أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ =

لكن هذا الذي قاله ليس بجيد، لأن الشافعي (- رضي الله عنه -) إنما قال ذلك لحديث: "نفقته وكسوته بالمعروف"، لا لأجل أن العُرف خصَّصه، بل هو من تخصيص حديث بحديث. والله أعلم. ص: 657 - كَذَاكَ بِالْإجْمَاعِ خُصَّ الْمُنْزَلُ ... مُضَمَّنًا [لِسَنَدٍ] (¬1) يُفَصَّلُ 658 - وَمَثَّلُوا بِالْقَذْفِ إذْ يُنَصَّف ... في الْعَبْدِ إجْمَاعًا، وَفِيهِ يُوقَفُ الشرح: القِسم الخامس من التخصيص بالمنفصل: تخصيص عموم الكتاب والسُّنة بالإجماع. وذلك معنى قولي: (خُصَّ الْمُنزلُ)، فإنه شامل للقرآن والسنة كما سبق من بيان أن السنة مُنزَّلة، لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]. وقال الشافعي أنه سمع مَن يرضَى من أهل التفسير يقول في نحو قوله تعالى: {وَمَا ¬

_ = عَبْدِ الله، عَنْ عَجْلَانَ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا يطِيقُ"). ثم قال الإمام الشافعي: (فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَهُ مَا قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَفَقَتُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ"). انتهى ومن طريقِه في: السنن الكبرى للبيهقي (15551). قلتُ: لم أجد الحديث بهذا اللفظ، فَلَعَل الإمام الشافعي قصد ذِكر معنى الحديث. (¬1) كذا في (ص، ق، ن)، وهو الصواب. لكن في سائر النُّسَخ: السنة).

أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} [البقرة: 231]: إنَّ الحكمةَ السُنَّةُ. فأما تخصيص القرآن بالإجماع فمثَّلوه بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الآية، خُص بالإجماع على أنَّ العبد القاذف يُجلَد على النصف مِن الحُر. لكن التخصيص في الحقيقة إنما هو بما تضَمَّنه الإجماع من الدليل في الأصل على الحكم؛ إذِ الإجماع لا بُدَّ له من مُستنَد وإنْ لم نَعرفه. نعم، في التمثيل بذلك نظر، وإليه أشرت في النَّظم بقولي: (وَفِيهِ يُوقَفُ). أي: يتوقف فيه من جهة احتمال أن يكون التخصيص بالقياس. فإن قيل: لِمَ لا تقولون بأنَّ الإجماع يكون ناسخًا على معنى أنه يتضمن ناسخًا؟ فجوابه: أنَّ [سند] (¬1) الإجماع قد يكون مما لا يُنسخ به، فليس في كل إجماع تَضمُّن لِما يسوغ النسخ به. وأما التخصيص فلَمَّا كان مِن البيان، كان كل دليل يخصَّص به ولو كان العام الذي يخصَّص قطعيًّا في المتن، فافترقَا. وأما مَن قال: (النَّسخ بالإجماع ما وقع حتى يقول: إنه يتضمن ناسخًا، بخلاف التخصيص) فلا يخلو مِن نظر. وبالجملة فمعنى تخصيص العام بالإجماع: أن يُجمِعوا على أنه مخصوص بدليل آخَر، فيَلزم مَن بَعْدَهم متابعتهم وإنْ جهلوا المخصِّص. وليس معناه أن الإجماع نفسه مخُصِّص؛ لأن الإجماع في زمنه - صلى الله عليه وسلم - محُال، وبَعْده -على خِلاف الكتاب أو السُّنة- خطأ لا ينعقد. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في. (س): مستند.

قال الآمدي: (لا أعرف في التخصيص بالإجماع -بالمعنى المذكور- خلافًا) (¬1). وجرى عليه ابن الحاجب وغيره. وممن حكى الإجماع في ذلك أيضا الأستاذ أبو منصور البغدادي من أصحابنا. نعم، قال ابن القشيري: إن الخلاف يطرقه مما سبق في التخصيص بالعقل: هل المراد أن العقل دَلَّ على أنه لم يدخل؟ أو على أنه خرج مِن اللفظ بعد دخوله؟ فيقال في الإجماع مثل ذلك. لكن قد سبق أن الخلاف لفظي. وجعل الصيرفي من أمثلة التخصيص بالإجماع قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] خُصَّ بالإجماع على عدم وجوب الجمعة على العبد والمرأة. ومَثَّله ابن حزم بأنَّ قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] مخصوص بإجماعهم على أنه لو بذل فِلسًا أو فِلسين، لم يحقن بذلك دماؤهم. وفيه نظر؛ لأنَّ الألف واللام في الجزية إن كانت للعموم، فالتخصيص بحديث معاذ: "خذ من كل حالم دينارًا" (¬2)؛ إذ مفهومه أنه لا يؤخذ أقَل. وإن كانت للعهد، فالمراد ما تَقرر في شرعه مِن دينارٍ لكل واحد. أما مِثال تخصيص السُنَّة العامة بالإجماع فلم أرهُم تعرَّضوا له، كأنه استغناء بمثال تخصيص القرآن به. والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) الإحكام للآمدي (2/ 352). (¬2) سنن أبي داود (رقم: 1576)، سنن الترمذي (623)، سنن النسائي (رقم: 2450)، وغيرها. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 1576).

ص: 659 - وَخُصَّ بِالْفَحْوَى مِنَ الْخِطَابِ ... وَبِدَلِيلِهِ، وَلِلْأَصْحَابِ 660 - تَمْثِيلُهُ بِالْخَبَرِ [الْمَأْثُورِ] (¬1) ... في الْقُلَّتَيْنِ، خُصَّ بِالتَّغْيِيرِ الشرح: مِن المخصصات المنفصلة: تخصيص اللفظ العام بفحوى الخطاب، أي: "مفهوم الموافقة" إذا كان الحكم فيه أَوْلى مِن المذكور كما سبق في موضعه، وربما أطلق هنا "مفهوم الموافقة"؛ ليشمل "لحن الخطاب"، إذْ لا فرق. فمثاله بالفحوى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيُّ الواجِد يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ" (¬2). رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي من رواية عمرو بن الشريد عن أبيه. وقال الحاكم: صحيح الإسناد. و"اللَّيُّ": المَطْل. والمراد بِ "حِل عِرْضه" أن يقول غريمه: ظلمني، وبـ "عقوبته": الحبس ونحوه. خُصَّ بمفهوم قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، فمفهومه أنه لا يؤذيهما بحبس ولا غيره؛ فلذلك نقل الإمامُ عن المعْظَم، والرافعي عن تصحيح البغوي أنَّ الوالد لا يُحبَس في دَيْن وَلَدِه، وصححه النووي أيضًا، وفيه وجه صححه الغزالي وصاحب ¬

_ (¬1) في (ن 3، ن 4): المشهور. (¬2) سنن أبي داود (رقم: 3628)، سنن النسائي (رقم: 4690)، سنن ابن ماجه (رقم: 2427)، صحيح ابن حبان (رقم: 5089)، المستدرك على الصحيحين (رقم: 7065)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 11061). قال الألباني: حسن. (إرواء الغليل: 1434).

"الحاوي الصغير". ومما يمثَّل بذلك له أيضًا تخصيص عموم السُّنة بخصوص القرآن، وإنْ ذكرنا فيما سبق له أمثلة لكنها بمنطوق، وهذا بمفهوم، فَاعْلَمه. وقولي: (وَبِدَلِيلِهِ) أي: ومن المخصصات أيضًا التخصيص بدليل الخطاب، فالضمير عائد للخطاب، والمراد به "مفهوم المخالفة". ومثاله -كما ذكره بعض أصحابنا وإليه أشرتُ بقولي: (لِلْأَصْحَابِ) أي: [مِن جهتهم] (¬1)، لا أن الكل مثَّلوا به- قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بلغ الماء قلتين، لم يحمل الخبث" (¬2). رواه الأربعة، وصححه ابن حبان والحاكم والبيهقي وغيرهم. خَصَّ بمفهومه -وهو ما لم تبلغ قلتين- عمومَ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه". رواه ابن ماجه والبيهقي من حديث أبي أمامة على ضَعف فيه، فإنه أَعَم مِن القلتين ودُونهما؛ فتصير القُلتان في الحديث الأول تنجُّسهما مخصوص بالتغيير، أي: تغييرهما بالنجاسة، ويبقى ما دُونهما ينجس بمجرد الملاقاة في غير المواضع المستثناة بدليل آخَر. وهو معنى قولي: (في الْقُلَّتَيْنِ)، أي: في قَدْر القُلتين المذكور ذلك في الحديث السابق خُصَّ تنجيسه بالتغيير، بخلاف ما دُونهما فإنه ينجس بمجرد الوقوع، تَغيَّر أوْ لا. إلا أن في قولي: (وَلِلْأَصْحَابِ تَمْثِيلُهُ) [إيماء] (¬3) إلى عدم اختياري للتمثيل بذلك؛ لأن كلًّا مِن الحديثين عام مِن وجه وخاص من وجه. ¬

_ (¬1) في (ت، س، ض): وجههم. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) كذا في (س، ت)، لكن في سائر النُّسخ: الماء.

فالأول: عام مِن جهة حمل الخبث وهو التنجيس فيما تَغير وما لم يتغير، وخاص مِن جهة ما دُون القلتين. والثاني: عام مِن حيث القُلتين ودُونهما، وخاص مِن حيث التقييد بالتغيير. وليس تخصيص عموم أحدهما بخصوص الآخِر بِأَوْلى مِن عكسه، فيوقف حتى يرجح أحدهما على الآخَر بدليل كما سيأتي. وقد مَثَّله ابن السمعاني بما سيأتي من آيتَي المتعة. ومثَّله ابن الحاجب بما لو قيل: (في الأنعام زكاة). فإنَّ عمومه حينئذٍ يُخَص بمفهوم حديث: "في سائمة الغنم الزكاة". إلا أن الأول ليس حديثًا، خِلافًا لما تَوهمه الشيرازي في "شرحه". فإنْ قيل: العام لفظ، فكيف يُعمل بالمفهوم في تخصيصه ومن شَرْطه أن لا يعارضه ما هو أقوى منه؟ قيل: هو مِن حيث كونه خاصًّا أقوى مِن العام وإنْ كان العام مِن حيث كَوْنه نُطقًا أقوى؛ فتعارضا؛ فيُعمل بهما؛ جمعًا بين الدليلين. تنبيهات الأول: إنما يُخَص بدليل الخطاب على رأي مَن يجعله دليلًا؛ حتى يكون جمعًا بين الدليلين. وإنما يكون التخصيص بالفحوى حيث لم يُجعل مِن باب القياس، وإلَّا فهو تخصيص بالقياس، وسيأتي. وحيث لم يُجعل من الإطلاق العُرفي أو نحوه فيكون تخصيصًا بلفظ، لا بمفهوم. الثاني: قال الآمدي: (لا نَعرف خلافًا بين القائلين بالعموم وبالمفهوم أنه يجوز

تخصيص العموم بالمفهوم، سواء [كان] (¬1) مِن قبيل مفهوم الموافقة أو المخالفة) (¬2). وما ادَّعاه مِن الاتفاق مردود؛ فقد توقَّف الإمام في ذلك ولم يختر شيئًا. وقال سراج الدين الأرموي: (في جواز ذلك نظر) (¬3). وجزم الإمام في "المنتخب" بأنه لا يجوز، ونقله أبو الخطاب الحنبلي عن بعضهم. وقال ابن دقيق العيد في الكلام على الحديث الثاني من "شرح الإلمام" أنه رأَى المنع في ذلك لبعض المتأخرين. قلت: أما الفحوى إذا لم نَقُل: (إنه قياس أو غيره)، فلا يبعد أنه باتفاق. قال الصفي الهندي: (لا يستراب في جواز التخصيص بمفهوم الموافقة) (¬4). أي: ويكون محل الخلاف في مفهوم المخالفة. بل صرح الإمام في "باب النسخ" بأن الفحوى قد يكون ناسخًا باتفاق، وكذا حكى الاتفاق فيه أيضًا الآمدي. ولهذا لَمَّا نَصَب ابن الحاجب الأدلة في المخالفة هنا، تَبين أنه المراد بالمفهوم في أول المسألة وأنه لم يتعرض للموافقة؛ إذْ لا غرض فيما يكون باتفاق. وأما المخالفة فيعضد ما سبق مِن الإشارة إلى الخلاف قولُ ابن السمعاني: (يجوز تخصيص العموم بدليل الخطاب على الظاهر مِن مذهب الشافعي) (¬5). فقوله: (الظاهر) يُشعِر بالخلاف. ¬

_ (¬1) من (ت). (¬2) الإحكام (2/ 353). (¬3) التحصيل من المحصول (1/ 396). (¬4) نهاية الوصول (4/ 1678). (¬5) قواطع الأدلة (1/ 184).

ثم قال: (ومثاله في الكتاب قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241]، فإنه عام في كلِّ مُطلَّقة). ثم قال: ({لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 236] الآية، فكان دليله- أيْ "دليل الخطاب" وهو المفهوم -أنْ لا متعة للمدخول بها، فخَصَّ بها -في أظهر قوليه- عموم المطلقات، وامتنع مِن التخصيص بها في القول الآخر) (¬1). انتهى وقضيته تخريج قولين للشافعي في تخصيص العموم بالفهوم، وهو فائدة جليلة. نعم، المرجَّح المنقول عن الجديد أن المدخول بها لها المتعة على خِلاف ما اقتضاه كلام ابن السمعاني، وعلى خِلاف ما تقتضيه قاعدة الأصول التي ذكرناها، فإنها إنما توافق القديم وهو المنع في المدخول بها. لكن أبو الحسين بن القطان جعل ذلك من باب ذِكر بعض أفراد العموم، فإن قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} [البقرة: 241] شامل لمن دخل بها ومَن لم يدخل بها، ولمن لها فرض ولمن لا فرض لها. وقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] أي: التي لم يمسها والتي لم يفرض لها، وهو بعض أفراد المطلقات، فلا منافاة. قال: (هذا على قول للشافعي، وعلى القول الآخَر يخصُّ بآية: {وَمَتِّعُوهُنَّ} عموم آية: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ}؛ لأن مفهومها أنَّ مَنْ مُسَّت أو فُرض لها، لا متعة لها) (¬2). قال: (وقد قيل: إن آية {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] غير مَسُوقة لتعريف حُكم المتعة، بل للفرق بين الموسر والمعسر، فإنما يخصَّص العموم بما وَرَد مِن الخاص لأجل التخصيص، لا لمعنى آخَر). انتهى بمعناه. ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة (1/ 185). (¬2) قواطع الأدلة (1/ 185).

ثم قال بعد ذلك: (ومن المخصص أن يأتي بدليل الخطاب، وهو ما كان له وصفان، فتعليق الحكم بأحد وَصْفَيْه يدل على أن ما عدَاه بخلافه. فهذا يُخَصُّ به العموم قولًا واحدًا). انتهى والجمع بينه وبين ما ذكره أولًا أنَّ ذلك في موضع يتردد بين أن يكون تخصيصًا أو ذِى بعض أفراد العموم. أما إذا لم يحتمل إلا التخصيص، فيُقضَى به قطعًا. وذكر الصيرفي في "الدلائل" نحو هذا، فقال: (العام إنْ لم يمكن استعماله في جميع أفراده، تَوَقَّف على البيان، كقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، فإذا ذكر بعض الأفراد، عُلِمَ أنه المراد بالزكاة المذكورة، كقوله: "ليس فيما دون خمسة أواقٍ صدقة" (¬1). وإنِ احتمل أن يكون المذكور إنما هو بعض الجنس، فالحكم للعموم، كقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} فهذا عام، ثم قال تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية، فلمَّا احتمل الأول أن يكون خاصًّا بمن لم تمُس وأن يكون ذكر بعض الجنس الذي أريد بالمتعة ولم يَنْفِ - مع الجمع بينهما - أحدُهما صاحبَه، اقتضَى الحكم بذاك لكل مطلقة). انتهى فإنْ قيل: يَلزم على أنه مِن باب ذِكر فَرد مِن العموم أنْ لا يكون في الآية دليل على أنَّ مَن فُرض لها لا متعة لها، بل لها المتعة كما قدرته فيمن مُست أن لها المتعة. قلتُ: هو قول [للشافعي] (¬2) أثبتَه ابن سُريج وغيره من الخراسانيين: أنَّ لها المتعة؛ عملًا بعموم المطلقات. وعلى المرجَّح المشهور أنها لا متعة لها يكون العام قد خُصّص بمعنى مُستنبط من النص، وهو أنها لَمَّا طُلِّقَت قبل الدخول، حصل لها ابتذال، فلما أخذت في مقابِله شطر ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 1340)، صحيح مسلم (رقم: 979). (¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): الشافعي.

المفروض، سواء سُمِّي لها مهر صحيح أو وجب لها مهر المثل بأنْ كان المسمَّى فاسدًا أو سكت عن ذكر المهر. ثم قال الصيرفي: (وقد يحتمل أيضًا -على جواب الشافعي في المجمل والمفسر- أن يكون قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} مرتبًا على قوله {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} ما لم تَقُم دلالة على الجمع، وقد قامت الدلالة بقوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28]، وقد عُلِم أنهن مدخول بهن، فثبتت المتعة للممسوسة وغيرها بهذا الدليل). انتهى الثالث: في كَوْن "مفهوم المخالفة" بمنزلة اللفظ أو القياس وجهان حكاهما سُليم، أصحهما الأول، وينبني عليهما ما إذا عارضه لفظ آية أو خبر، هل يُقَدَّم عليه؛ أو هُما بمنزلة لفظين؟ الرابع: محل الخلاف في التخصيص بدليل الخطاب إذا عارضه غير النطق الذي هو أصله. فإن عارضه النطق الذي هو أصله، فإما أنْ يُسقِطه ويُبطله، وإما أنْ يُخصِّصه فقط. فإنْ كان الأول، فيسقط المفهوم، كحديث: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل" (¬1) مفهومه يقتضي جوازه بالإذن، لكن لو عُمل به لأدَّى إلى مخالفته للمنطوق الذي هو بغير الإذن، وحُكمه البطلان. وقد ثبت بالإجماع أنهما مستويان، فإنْ جاز بغير الإذن، جاز بالإذن، وإنْ مُنع بغير الإذن، مُنع بالإذن، فيكون بهذا المعنى مُسْقطًا لأصله. وإنْ كان الثاني، فيسقطه أيضًا على المرجَّح، نحو: "إن الله حرم الكلب وحرم ثمنه (¬2). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سنن الدارقطني (3/ 7)، المعجم الكبير للطبراني (12/ 102) وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ثَمَنُ =

فإنَّ تحريم الكلب تحريمٌ لجهات انتفاعه مِن بيع وإجارة وغيرهما. وقوله: (وحرم ثمنه) مفهومه أن غير الثمن ليس بمحرم، فلا يُخصُّ به عموم الأول، خلافًا لابن القطان. وليس هذا كما في استنباط معنى من النص يَعُود بالإبطال أو بالتخصيص؛ لأن ذلك قياس، وسيأتي إيضاحه في "باب القياس". والله تعالى أعلم. ص: 661 - [كَذَاكَ] (¬1) بِالْقِيَاسِ إنْ جَلِيَّا ... يَكُونُ أَوْ تَعُدُّهُ خَفِيَّا 662 - كَالنِّصْفِ في حَدِّ الزِّنَا لِلْعَبْدِ ... كَأَمَؤ مَنْصُوصَةٍ في الْحَدِّ 663 - قَدْ خَصَّصَا زَانِيَةً وَالزَّانِي ... نَضًّا، وَبِالْقِيَاسِ في ذَا الثَّانِي الشرح: مِن المخصِّصات المنفصلة "القياس"، فيُخصُّ به العمومات مِن الكتاب والسنة؛ لأنه دليل شرعي، ففي التخصيص به جمعٌ بين الدليلين. وأفسد الغزالي هذا الاستدلال بأنَّ القدْر الذي وقع فيه التقابل ليس فيه جمع بين الدليلين، بل هو رفْع للقدْر المعارِض للقياس، وتجريد العمل بالقياس. قال القاضي تاج الدين السبكي في "شرح المنهاج": (وهذا حسن، وهو مأخوذ من ¬

_ = الْخَمْرِ حَرَامٌ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ حَرَامٌ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ حَرَامٌ ... ". وفي صحيح البخاري (5428) وصحيح مسلم (1567) واللفظ للبخاري: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثَمن الكلب ومهر البغي ... ". (¬1) في (ص، ق): وذاك.

جواب القاضي في "مختصر التقريب" عن هذه الشبهة) (¬1). قلتُ: ليس المراد بإعمال الدليلين إعمالهما مِن كل وجه، بل في الجملة وإلَّا لجرى ذلك في كل تخصيص، فإنَّ القدْر المعارِض مِن العام للخاص طُرِح وعُمِل بالخاص. وأما القدر الذي لا يعارِض الخاص فهو وإنْ كان معمولًا به لكنه ليس الكلام فيه، فظهر أن المراد بإعمال الدليلين إعمال العام في غير ما عارض المخصِّص وإعمال المخصص في المعارِض لبعض أفراد العام. وقولي: (إنْ جَلِيَّا يَكُونُ) أي: سواء كان القياس جليًّا أو خفيًّا. فـ "جليًّا" خبر "يكون"، قُدِّم عليه، و"خفيًّا" مفعول ثانٍ لـ "تعد"، فإنه يتعدى لمفعولين، كقول الشاعر: (فلا تعدد المولى شريكك في الغنى). وفي هذا التنبيه على أنَّ لنا قولًا بالتفرقة بين القياس الجلي والخفي، وسيأتي إيضاحه. والحاصل أنَّ الراجح مِن المذاهب في المسألة التخصيص بالقياس مطلقًا، وإليه ذهب الأئمة الأربعة والأشعري وأبو هاشم وأبو الحسين، وعليه جرى الإمام والآمدي وأتباعهما، إلا أن ابن الحاجب زاد تفصيلًا آخَر يأتي بيانه. وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي أنَّ الشافعي نَصَّ على جواز التخصيص بالقياس في مواضع. وقال ابن داود في "شرح المختصر": إنَّ كلام الشافعي يُصرِّح بالجواز. والمذهب الثاني: المنع مطلقًا. قاله أبو علي الجبائي، ونقله القاضي عن طائفة من المتكلمين، منهم ابن مجاهد مِن أصحابنا. ¬

_ (¬1) الإبهاج (2/ 177).

والثالث: إنْ خُص العام بغير القياس، جاز بالقياس، وإلا فلا. قاله ابن أبان، ونقله ابن برهان في "وجيزه" عن أصحاب أبي حنيفة. والرابع: إنْ خُص بمنفصل، جاز بالقياس، وإلا فلا. قاله الكرخي. والخامس: إنْ كان القياس جليًّا، خُصِّص به، وإلا فلا. وبه قال [ابن سريج وجمعٌ من أصحابنا فيما هو المشهور عنهم وإنْ كان الشيخ أبو حامد نقل عنهم الجواز مطلقًا، ونقل هذه] (¬1) التفرقة عن ابن مروان من أصحابنا، ثم اختلفوا في تفسيرهما: فقيل: الجلي قياس العلة، والخفي قياس الشَّبه. وسيأتي بيانهما في "باب القياس". وقيل: الجلي ما تتبادر عِلته إلى الفهم عند سماع الحُكم، كتعظيم الأبوين عند سماع قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}. وقيل: الجلي ما ينقض قضاء القاضي بخلافه، والخفي خِلافُه. ونقله الشيخ أبو حامد عن الإصْطَخْري. وقيل غير ذلك، وسيأتي بيانه في موضعه. نعم، قال القفال: هذا التفصيل لا معنى له، لأن الخفي إنْ وجب العمل به فهو دليل شرعي كالجلي، فيُخص به. والسادس: إنْ تَفاوَت العام والقياس في إفادة غَلبة الظن، رجح الأقوى، أو تساويا، وُقِف. وهو قول الغزالي، واعترف الإمام في أثناء المسألة بأنه حق، وكذا قال الأصفهاني: إنه حق واضح. وكذا الهندي في أثناء المسألة، واستحسنه القرافي أيضًا. وقال ابن دقيق العيد: إنه مذهب جيد. ¬

_ (¬1) كذا في (ش)، لكن في (ص، ق): (ابن سريج فيما هو المشهور عنه وإنْ كان الشيخ أبو حامد نقل عنه الجواز مطلقًا، ونقل هذه). وفي (ت، س، ض): (ابن سريج وجمعٌ من أصحابنا فيما هو المشهور عنهم وإنْ كان الشيخ أبو حامد نقل عنه).

لكن جَعْل هذا مذهبًا من المذاهب في المسألة لا يستقيم، فإنه أمر كُلي لا تَعلُّق له بخصوص المسألة، ولا أحد ينازع فيما قرره مِن أَرْجَح الظنَّين ولا في الوقف عند الاستواء، فتأمله. والسابع: الوقف. قاله القاضي وإمام الحرمين. والثامن قاله الآمدي: إنْ كانت العلة منصوصة أو مجمَعًا عليها، جاز التخصيص، وإلا فلا. والتاسع: إنْ كان الأصل المقيس عليه مخُرَّجًا مِن عام، جاز التخصيص، وإلا فلا. والعاشر: ما قال ابن الحاجب: (إنه المختار): إنْ ثبتت العلة بنص أو إجماع أو كان الأصل مخصصًا، خُص العام به، وإلا فالمعتبَر القرائن في آحاد الوقائع. فإنْ ظهر ترجيح خاص لأصل القياس، فالقياس مُرجَّح وإلا فعموم الخبر. ولكنه آيِلٌ إلى اتِّباع أرْجَح الظنين، فإنْ تَسَاويا فالوقف. وهذا هو رأي الغزالي السابق، فتأمله. والحادي عشر: يمتنع تخصيص عموم الكتاب به. ويُعزى للحنفية؛ لأن التخصيص عندهم نَسخ، ولا يُنسخ القرآن بقياس ولو كان جليًّا. ولذلك قالوا في الملتجئ للحرم ممن دمه مباح: يعصمه الالتجاء؛ عملًا بعموم: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]. والشافعي خصص هذا العموم بقياس الملتجئ على غيره ممن وُجِدَ فيه موجِب الاستيفاء لغير الدم مِن الحقوق، لاسيما وقد ظهر إلغاء معنى اللياذ فيما إذا كان القتل في الحرم أو قطع الطريق فيه، فإنهم لا يخالفون في ذلك. وقولي: (كَالنِّصْفِ) إلى آخِره -هو مثال التخصيص بالقياس كما مَثَّل به ابن السمعاني. فقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} يَعُم الأحرار والأرقاء، فخُصَّ مِن ذلك الأَمَةُ بالنص،

والعبدُ بالقياسِ عليها. أمَّا الأَمَة فبقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]. وأمَّا العبد فلأنه رقيق فَعَل ما يوجب الحد، فكان على النصف مِن الحر؛ قياسًا على الأَمَة؛ بجامع ما بينهما مِن نقص الرق المقتضِي للتنصيف. فصار بعض الآية مخصَّصًا بالنص وبعضها بالقياس الذي هو مقصود التمثيل. وهو معنى قولي: (كَالنِّصْفِ في حَدِّ الزِّنَا لِلْعَبْدِ). أي: كالحكم في حد العبد في الزنا، فإنه على النصف من الحر. وقولي: (كَأَمَةٍ) أي: كما أنَّ الأَمة على النصف من الحرة، إلا أن الأَمة بالنص. فقد وقع التخصيص بالأَمة والعبد للعموم في "الزانية" و"الزاني" الواقعين في الآية، لكن الأول بالنص، والثاني بالقياس. ومن التخصيص بالقياس أيضًا قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] إلى قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} [البقرة: 58]، ففيه عموم جواز الأكل مِن ذلك مطلقًا، لكن خُص من ذلك ما كان في جزاء الصيد، فإنه يحرم الأكل منه بالإجماع. ويقاس على ذلك الأكل مِن هدي المتعة والقران، فيصير أيضًا بعض الآية مخصَّصًا بالإجماع والبعض بالقياس على المجمَع عليه.

تنبيهان أحدهما: ذكر الشيخ أبو حامد أن مَن منع تخصيص العموم بالقياس قد يتعلق بقول الشافعي في "باب أحكام القرآن" من "الأُم": (إنما القياس الجائز أن يشبه ما لم يأت فيه حديث بما فيه حديث لازم، فأمَّا أنْ يَعْمد إلى حديث عام فيحمل على القياس، فأين القياس في هذا؟ ) (¬1) [إلى آخِر ما قاله] (¬2). قال: فقد ذكر الشافعي أن القياس لا يُعمل به في الحديث العام، وإنما يُعمل به في أن يبتدئ به الحكم في موضع لا يكون فيه حديث ويُقاس على موضع فيه حديث؛ فدَلَّ أنَّ مذهبه منع التخصيص بالقياس. ثم رد ذلك الشيخ أبو حامد بأن الشافعي في "الأُم" ذكر قول الله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. واحتمل أمره تعالى بالإشهاد أن يكون على سبيل الوجوب كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" (¬3)، واحتمل أن يكون على الندب كقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]. قال الشافعي: فلما جمع الله تعالى بين الطلاق وبين الرجعة وأمر بالإشهاد فيهما ثم كان ¬

_ (¬1) الأم (5/ 169). (¬2) كذا في (ص، ق، ش). لكن في (ت، ض): الاخبار. (¬3) صحيح ابن حبان (رقم: 4075)، سنن الدارقطني (3/ 221)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 20313)، وغيرها. قال الألباني في (التعليقات الحسان: 4075): حسن صحيح. وقال في (إرواء الغليل: 1860): صحيح؛ لشواهده.

الإشهاد على الطلاق غير واجب، كان الإشهاد على الرجعة كذلك (¬1). قال الشيخ أبو حامد: (فقد قاس الشافعي الإشهاد على الرجعة على الإشهاد على الطلاق وخَص به ظاهر الأمر بالإشهاد؛ إذْ ظاهر الأمر الوجوب). انتهى وكأنَّ الشيخ أبا حامد أخذ مِن عدول الشافعي عن ظاهر الأمر للوجوب في شيء قياسًا على آخَر أنه يعدل بالقياس عن ظاهر العموم إلى الخصوص. ثم أجاب الشيخ أبو حامد عن النص السابق بأن الشافعي إنما قصد فيه أنه لا يجوز ترك الظاهر بالقياس، وذلك أنه ذكر هذا في مسألة النكاح بلا ولي، فروى حديث: "أيما امرأة نكحت" ثم حكى عن أصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا: العلة في طلب الولي أنه يطلب الحظ للمنكوحة ويضعها في كفء، فإذا تولت هي ذلك، لم يحتج إلى الولي. فقال الشافعي: (هذا القياس غير جائز؛ لأنه يعمد إلى ظاهر الحديث ونَصه فيسقطه؛ لأن ما ذكروه يُفضي إلى سقوط اعتبار الولي، وذلك يُسقِط نَص الخبر. فاستعمال القياس هنا لا يجوز، وإنما يجوز حيث يخص العموم). انتهى بمعناه. وحاصله أنه يعود إلى أن الاستنباط من النص بما يعود عليه بالتخصيص سائغ، بخلاف ما إذا عاد عليه بالإبطال، لا أنَّ مُراد الشافعي تخصيص العموم بالقياس، فإنَّ ذلك لا يُبطل العموم. وقد سبق عن الشيخ أبي إسحاق أن الشافعي خصص بالقياس في مواضع. الثاني: المراد بالقياس الذي يُخص به: أن يكون قياسًا على منصوص بِنص خاص كما قاله ¬

_ (¬1) انظر: الأم (7/ 84).

الغزالي. نعم، محل الخلاف في القياس المستنبَط مِن الكتاب أو السنة المتواترة، وفي معناه الإجماع كما سبق تمثيله، فيُخص به عموم الكتاب أو السنة متواترة كانت أو آحادًا. وأما القياس المستنبَط من خبر الواحد بالنسبة إلى عموم الكتاب أو المتواترة فمُرتَّب على جواز تخصيصهما بخبر الواحد. فمَن لا يجوِّز تخصيصهما بخبر الواحد، لا يجوِّز بالقياس المستنبَط منه مِن باب أَوْلى. ومَن يجوزه، قال الهندي: (فيحتمل أن لا يُجيز ذلك؛ لزيادة الضعف، ويحتمل أن يجيزه كما في القياس المستنبَط مِن الكتاب أو المتواترة؛ إذ قد يكون قياسه أكثر قوة مِن ذلك العموم بأنْ يكون قد تَطرَّق إليه تخصيصات كثيرة، ويحتمل أن يتوقف فيه؛ لِتَعادُلهما إذْ قد يظهر له ذلك) (¬1). وفي شرح "البرهان" للأبياري وغيره: (إن القياس القطعي يجوز التخصيص به بلا خلاف، أي: وذلك فيما إذا كان حُكم الأصل الذي يَستند إليه الفرع مقطوعًا به، وعِلته منصوصة أو مجمَعًا عليها، وهي موجودة في الفرع قطعًا، ولا فارق قطعًا، فهذا النوع مِن القياس لا يُتصور فيه الخلاف) (¬2). والله أعلم. ص: 664 - وَلَا يُخَصُّ بِمَقَالِ الرَّاوِي ... وَلَوْ مِنَ الصَّحْبِ؛ فَذَا مُسَاوِي الشرح: هذه مسائل مما قيل بأنه مخُصِّص والمرجَّح خِلافُه. ¬

_ (¬1) نهاية الوصول (4/ 1688). (¬2) التحقيق والبيان في شرح البرهان (2/ 214).

فمنها: ما إذا قال الراوي للعام -في بعض أفراده- بخلاف ما رواه من عموم الحكم، أو فَعَل على خِلاف بعض الأفراد، هل يكون ذلك مخُصِّصًا؟ أَم لا؟ فيه مذاهب: أحدها: قول الجمهور وهو الراجح: المنع. وعزاه في " المحصول" للشافعي، قال: إنْ حمل الراوي الخبر على أحد محمَليه، صِرتُ إليه، وإلا فلا أصير إليه. وهذا سواء أكان الراوي صحابيًّا أو لا. وإليه أشرت بقولي: (وَلَوْ مِنَ الصَّحْبِ؛ فَذَا مُسَاوِي). أي: فإنَّ الصحابي وغيره سواء في أنَّ قول كل منهما غير حُجَّة، والعموم حجة، فلا يترك ما هو حجة لِمَا هو غير حجة. وسيأتي الخلاف في قول الصحابي أنه حُجة وبيان أقوال الشافعي فيه في فصل "الأدلة المختلف فيها". الثاني: أنه يخصَّص به، سواء أكان الراوي صحابيًّا أوْ لا. ونقل ذلك ابن الحاجب وغيره عن الحنفية والحنابلة؛ لأنهم قائلون في قول الصحابي بأنه حُجة، وأما غير الصحابي فلأنه أَعْرَف بِمَخْرَج ما رواه مِن غيره، وأيضًا فمخالفته تستلزم دليلًا وإلا كان فاسقًا، فيجب الجمع بين العام، والدليل الذي خالَف مِن أجله. وجواب ذلك أنه قد يكون بحسب ظنه، وليس هو دليلًا عند غيره مِن المجتهدين، ولا قوله حُجة على غيره. الثالث: قول عبد الجبار: إنْ وُجِد ما يقتضي التخصيص غير قول الراوي، فذاك هو المخصِّص. وإنْ لم يوجد إلا تخصيص الراوي، تَعيَّن أن يكون هو المخصِّص. قلتُ: وهذا عَيْن القول بأنه مخصِّص مطلقًا؛ لأنه إذا وُجِد مخصِّص شرعي فلا نزاع في التخصيص، وإنْ لم يوجد إلا هو فهو محل النزاع.

الربا قول إمام الحرمين: إنْ عُلم مِن حال الراوي أنه خالف ذلك نسيانًا فلا ينبغي أن يكون فيه خلاف، أو احتمل أنه فَعل ذلك احتياطًا كأنْ يكون قد روي ما يقتضي أنْ لا حرج في فِعْلٍ قد يظن أنه حرام، فرأيناه مُتحرِّجًا عنه غير مُلابِس له، فالتعويل حينئذٍ على الحديث، ويُحمَل فِعْلُه على الورع والتعليق بالأفضل. وإنْ لم يحتمل شيء مِن ذلك فلا يُعمل بتخصيصه. قال بعض المتأخرين: ينبغي أن يكون هذا الأخير محل الخلاف، والأوَّلان محل وفاق، فيعود إلى تحرير محل النزاع. الخامس: قول إلْكِيَا وابن فورك: إن المختار أنَّا إنْ عَلِمنا مِن حال الراوي أنه إنما حمل ما روى على ما خصص به بما عَلِمه مِن قَصْد النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك العام، فيجب اتِّباع الراوي فيه، لئلا يكون مخالفة لِمَا أراد - صلى الله عليه وسلم -. وإنْ حمله على وجه الاستدلال والتخصيص على حسب ما أدَّى إليه اجتهاده، فلا يجب اتباعه. وسكتَا عن ما لم يُعلم فيه لا هذا ولا هذا، وكأنَّ ذلك لأنه محل النزاع، وإليه يشير كلام القاضي عبد الوهاب في "الإفادة"، ويعود هذا أيضًا إلى تحرير محل الخلاف. أما مِثال المسألة فكحديث أبي هريرة في "مسلم" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "طهور إناء أحدكم إذا وَلغَ فيه الكلب أن يغسل سَبع مرات أُولاهن بالتراب" (¬1). وكذا رواه البخاري لكن بلفظ: "إذا شرب" (¬2). ولهما روايات أخرى. ثم جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - فيما رواه الدارقطني بسنده إلي عبد الملك، عن عطاء، عنه أنه ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (رقم: 279). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 170).

قال: "إذا ولغ الكلب في الإناء، فأهرقه، ثم اغْسله ثلاث مرات" (¬1). وأخذ بذلك أبو حنيفة، فقال: إنما يجب الغسل من الكلب ثلاثًا؛ عملًا بقول راوِيه. لكن قال الدارقطني: لم يروه غير عبد الملك عن عطاء عنه. والصحيح ما رواه غيره عنه سبع مرات، وعلى تقدير صحته عنه ففي التمثيل به نَظَر (وإنْ مَثَّل به على هذا الوجه القاضي في "التقريب" وغيره)؛ وذلك لأنَّ سبعًا ليس فيه عموم؛ لأن أسماء العَدد نصوص، وإذا لم يكن عموم، فأين التخصيص؟ قال القاضي تاج الدين السبكي: (وكان الشيخ علاء الدين الباجي يقرر التمثيل على أن الكلب عام -بالألف واللام- في كلب الزرع وغيره، وأبو هريرة - رضي الله عنه - يقول: إنَّ كلب الزرع لا يغسل منه إلا ثلاث، ويغسل من غيره سبع. وهو حسن، لكن ما أدري مِن أين له أن أبا هريرة كان يقول بذلك؟ فإنَّ المعروف اختلاف الرواية عن أبي هريرة في السبع والثلاث، لا في كون الثلاث في كلب الزرع. نعم، إنْ صَحَّ عنه إخراج كلب الزرع، كان في ذلك جمع بين روايَتَي سبع وثلاث، فيكون الثلاث في كلب الزرع والسَّبع فيما سواه) (¬2). انتهى وقد مَثَّل ابن برهان في "وجيزه" والصفي الهندي للمسألة بمثال آخَر: وهو أن ابن عباس روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَن بَدَّل دِينه فاقتلوه" (¬3)، وكان يذهب إلى أن المرتدة لا تُقتل. ¬

_ (¬1) سنن الدارقطني (1/ 66). قال الإمام ابن دقيق العيد: (روى الدارقطني بإسناد صحيح .. ). فذكره في كتابه (الإمام في أحاديث الأحكام، مخطوط، ورقة: 27). محفوظ بالمكتبة الأزهرية (رقم: [287] 2128). وانظر كلام الألباني عليه في (سلسلة الأحاديث الضعيفة: 1037). (¬2) الإبهاج (2/ 193). (¬3) سبق تخريجه.

وفي التمثيل به أيضًا نظر؛ لاحتمال أن يكون مِن القائلين بأن "مَنْ" الشرطية لا تتناول الإناث. وقد سبقت المسألة. ومن أمثلة المسألة أيضًا حديث: "لا يحتكر إلا خاطئ" (¬1). رواه مسلم من حديث سعيد بن المسيب، عن معمر بن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان سعيد يحتكر الزيت، فقيل له، فقال: (إنَّ مَعمرًا راوي الحديث كان يحتكر). وقد خصص الشافعي تحريم الاحتكار بالأقوات، كأنه ذهب إلى أن مذهب الصحابي أو الراوي يُخَصّص به، فيُخرَّج له بذلك قول آخر في المسألة. وقد يُقال: لا يَلزم أنَّ ذلك لأجل حَمل الراوي، بل لأنه استنبط مِن النص معنى خَصَّصه، وذلك المعنى هو شدة الإضرار في قوام الأنفُس غالبًا، وغايته أنه عضد ذلك بفعل الراوي. واعْلم أنَّ بعضهم يمثِّل بهذا المثال لتخصيص الراوي غير الصحابي وهو احتكار سعيد. وفيه نظر؛ فيحتمل أنه إنما تبع احتكار الصحابي وهو معمر، وإنما يكون ذلك أنْ لو كان سعيد وَحْده احتكر. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (رقم: 1605) بلفظ: (مَن احتكر فهو خاطئ).

تنبيهات الأول: في موضوع المسألة اضطراب، فمرة يقال: مذهب الصحابي هل يُخَصَّص به؟ أو لا؟ سواء كان هو الراوي أو غيره. ومرة يقال: مخالفة الراوي في بعض ما رواه هل هو تخصيص؟ أو لا؟ أي: ولو كان صحابيًّا. والأول هو ظاهر كلام ابن الحاجب، حيث قال: (الجمهور: إنَّ مذهب الصحابي ليس بمخصِّص ولو كان الراوي) (¬1) إلى آخِره. وكذا قال القرافي: (إنَّ غير الصحابي ليس مخصِّصًا قطعًا) (¬2). وكأنه بَنَى ذلك على أن قول غير الصحابي إذا لم يَقُل أحد: إنه حُجة، فكيف يخصَّص به؟ ولكن قد سبق أنَّ مَن عَمَّم في الراوي إنما يقول: مخالفته تدل على اطِّلاعه على مخُصِّص، وإلا لفسق بالمخالفة. فَجَعْل الخلاف في الراوي على الإطلاق هو الظاهر الذي جريتُ عليه في النَّظم. نعم، الخلاف فيما إذا كان الراوي صحابيًّا أقوى مما إذا كان غير صحابي. وربما قَيَّد بعضهم في الراوي بأن يكون مجتهدًا. ولا يُحْتَاج إليه؛ لأن المذهب أو الرأي إنما يُقال في المجتهد، فتعبيرهم بذلك يدل على التقييد بالاجتهاد. ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (2/ 330). (¬2) انظر: شرح تنقيح الفصول (ص 219).

الثاني: إذا كان مورد النزاع في الصحابي: فهل هو تفريع على أن قوله حُجة؟ فإذا قُلنا: (غير حجة) فلا يخصَّص به قطعًا؟ أو إنه تفريع على أنه غير حُجة؟ أمَّا إذا قُلنا: (حُجة) فيخصَّص به قطعًا؟ فيه اضطراب أيضًا. ففي "التقريب" للقاضي الأول، قال: (وقد يُنسب للشافعي ذلك في قوله الذي يجوِّز فيه تقليد الصحابي). قال: (ونُقل عنه أنه لا يخصص به إلا إذا انتشر في أهل العصر ولم ينكروه، وجعل ذلك نازلًا منزلة الإجماع). وكذا فرَّعه كثير على حُجية قول الصحابي. لكن في استدلالات ابن الحاجب في المسألة -وبه قال جمعٌ- أن ذلك إذا قُلنا: (إنَّ قوله غير حُجة)؛ لأن القول بحجيته إنما هو حيث لم يخالِف قولُه قولَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد كانت الصحابة يتركون أقوالهم إذا سمعوا العموم. قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: "كنا نخابر أربعين سَنة حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن المخابرة؛ فتركناها" (¬1). فإذا كان غير حُجة، تَساوَى حينئذٍ مع غير الصحابي، وحينئذٍ فذِكْر الصحابي كالمثال، وإلا لكان الحِجاج بأنه غير حُجة مصادرة على المطلوب. ¬

_ (¬1) سنن النسائي (3917)، سنن ابن ماجه (2450)، وغيرهما بلفظ: (كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسًا حتى زعم رافع بن خديج أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة). قال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 1478).

الثالث: يمثل تخصيص الصحابي عموم الرواية التي رواها صحابي غيرُه بحديث أبي هريرة: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صَدقة" (¬1). أخرجه الشيخان، خصصه حديث عَلِي أنه قال: "غفرت لكم غير صَدقة الخيل والرقيق" (¬2). ويروى عن ابن عباس أنه قال: "نفي الزكاة في الخيل مخصوص بما يُغزَى عليه في سبيل الله، فأما غيرها ففيه الزكاة". وهذا -على تقدير صحته عنهما- لا يكون مخصِّصًا. والله أعلم. ص: 665 - كَذَلِكَ الْعَطْفُ لِذِي عُمُومِ ... عَلَى الَّذِي لَهُ خُصُوصٌ يُومِي الشرح: أي: ومن الذي ليس بتخصيص أيضًا عطف العام على خاص، كقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] الآية مخصوصة بالمطلقات، عُطِف عليها قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وهو أَعَم مِن المطلقات والمتوفَّى عنها، فلا يكون هذا العطف مقتضيًا لتخصيص العام المعطوف، بل يبقى على عمومه. وهذه المسألة ذكرها في "جمع الجوامع"، وقال شيخنا المرحوم بدر الدين شارحه: (إنها ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 1395)، صحيح مسلم (رقم: 982)، واللفظ لمسلم. (¬2) سنن الترمذي (رقم: 625) بلفظ: (قد عَفَوْتُ عن صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ)، وفي سنن أبي داود (رقم: 1574) بلفظ: (قد عَفَوْتُ عن الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح الترمذي: 620).

قَلَ مَن ذكرها). قال: (وقد وجدتها في كتاب أبي بكر القفال الشاشي في الأصول، ومثَّلها بما سبق، وإنها يمكن أن يتخرج فيها الخلاف المذكور في عكسها، وهو عطف خاص على عام، فإنه لا يوجب تخصيص المعطوف عليه، نحو: "لا يُقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده" (¬1)؛ لأنَّ المأخذ اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الأحكام) (¬2). والإشارة بذلك إلى ما سبق في "باب العموم" في قولي: (كَذَاكَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا عَمَّا). أي: فإنه باقٍ على خصوصه، ولا يُكسبه العطف على العام تعميمًا، فلا يُكسب العطفُ "عامًّا عُطِف على خاص" تخصيصًا. فذكرنا كُلًّا مِن المسألتين في موضع يليق بها. ومما يمثل به مسألتنا أيضًا ما نقله الشيخ بدر الدين أيضًا في غير "شرح جمع الجوامع" عن تمثيل القفال آية: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، ثم قال بعده: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة: 39]، فهو أَعَم مِن الظلم بالسرقة وبغيرها، فلا يكون خاصًّا بالظلم بالسرقة. قال: وذكر ذلك السهيلي النحوي أيضًا، ومثَّله بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11]، ثم قال تعالى عقبه: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، وهو شامل للأولاد وللإخوة والأخوات، فلا يكون هذا الحكم مقصورًا على ما سبق من الخاص وهو الأولاد. قلتُ: لكن هذا لا عطف فيه، فليس مِن هذا الباب. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) تشنيف المسامع (2/ 788).

وقولي: (لَهُ خُصُوصٌ يُومِي) أي: يشير إلى أنَّ الذي عُطِف عليه يكون مُساويًا له في خصوصه. ولكن لا اعتبار بهذا الإيماء؛ لِمَا عَلِمْتَه. والله أعلم. ص: 666 - كَذَا ضَمِيرٌ عَائِدٌ لِلْبَعْضِ ... كَآيَةِ الرَّدِّ لِبَعْلٍ [يُفْضِي] (¬1) الشرح: أي: وليس من المخصِّصات أيضًا عَوْد ضمير على بعض أفراد عام مُتقدِّم؛ ليتطابق المفسِّر والمفسَّر، بل يبقى العام على عمومه. وذلك كقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] بعد العموم في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] فإنه يشمل الرجعيات والبوائن، وآية أحقية البعول بالرد إنما هو خاص بالرجعيات. هذا قول الأكثرين مِن أصحابنا وغيرهم، وبه جزم البيضاوي، وهو الذي اختاره الغزالي والآمدي وابن الحاجب والهندي. وذهب أكثر الحنفية إلى أنه مِن المخصِّصات؛ ولذلك قالوا في قوله عليه السلام: "لا تبيعوا البر بالبر إلا كيلًا بكيل" (¬2) أي: إلا كيلًا منه بكيلى منه، فالضمير محذوف، وهو عائد على البُر الذي يمكن كيله، لا جميع البُر. فيجوز بيع حفنة بُر [بحفنة] (¬3) منه؛ لأن ذلك لا ¬

_ (¬1) في (ت، ش): يقضي. (¬2) شرح معاني الآثار (4/ 66، رقم: 5322)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 10321) بلفظ: (والبر بالبر كيلًا بكيل). قال الحافظ ابن الملقن: صحيح. (البدر المنير، 6/ 470). وقال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 1349). (¬3) كذا في (ص، ق)، لكن في سائر النسخ: بحفنتين.

يكال، فيكون العام -وهو البُر- مخصَّصًا بما يُكال. وفي المسألة مذهب ثالث بالوقف. قاله جمعٌ، منهم إمام الحرمين وأبو الحسين والإمام الرازي في "المحصول"، وتبعه مختصروه كَـ "الحاصل"، على أن ابن الحاجب نقل عن إمام الحرمين وأبي الحسين القول بأنه تخصيص، عكس ما سبق على ما نقله الآمدي عنهما. ودليل مَن قال بأنه ليس تخصيصًا أنَّ جَعْلَ العامِّ خاصًّا لأجل مطابقة الضمير تَصَرُّفٌ في لفظ ظاهر، وجعل الضمير مفسَّرًا ببعض السابق تصرُّف في ضمير، وهو أضعف، فالتصرف فيه أَوْلى مِن التصرف في الأقوى. ومَن قال بالتخصيص راعى المطابقة. ومَن يُوقف، نَظَر إلى أن التصرف بكل مِن الأمرين يقابل الآخَر بلا ترجيح؛ فيتوقف. ولكن جوابه ما سبق من الترجيح. تنبيهان الأول: قد يُعبر في هذه المسألة بأَعَم مِن عَوْد ضمير على بعض العام، بِأن يقال: تعقيب العام بما يكون مختصًّا ببعضه هل يقتضي تخصيصه سواء أكان ذلك ضميرًا كما سبق؟ أو استثناء؟ كقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] بعد قوله: {إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 236] الذي هو أعم من الرشيدات وغيرهن، والعفو مختص بالرشيدة، لا الصغيرة والمجنونة والسفيهة. قيل: إلا أن هذا المثال إنما يكون مما نحن فيه إذا لم يذكر حُكم غير الرشيدة حتى يكون خاصًّا بعد عام، لكنه مذكور في قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237].

والجواب: أنَّ هذا إذا قُلنا: الذي بيده عقدة النكاح الولي. وهو القول القديم للشافعي، أما إذا قلنا بالجديد: (إنه الزوج)، فلا سؤال. أو أمرًا يقتضى تقييدًا ببعض أفراد العام السابق، كقوله تعالى بعد: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] الآية إلى قوله: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]، أي: الرغبة في مراجعتهن، ولا شك أن ذلك إنما هو في غير البوائن. الثاني: وقع للشافعي في هذه المسألة ما يقتضي أنه تخصيص وما يقتضي خِلافَه؛ فيكون له قولان. فمِن الأول قوله في "الأم" في قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]: إنَّ الضمير إنما يعود لِما فيه حصاد، لا للنخل والزيتون؛ فلذلك لم يوجب الزكاة في غير الزروع (¬1). أي: إلا بدليل آخر. ومنه قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] عام في الحُر والعبد، لكنه لّمَا قال: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [التوبة: 41]، خصص الأول؛ لأنَّ العَبدَ لا مال له. ومنه: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] عام في العبد والحُر، لكنه قال بعد ذلك: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229]، والعبد لا يُعطي شيئًا؛ فيُخصَّص الأول بالأحرار. ومنه: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] الآية -محمول على الأحرار؛ لقوله ¬

_ (¬1) انظر: الأم (2/ 46).

بعده: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3]. ومن الثاني أنه قال: إنَّ ظهار الذمي صحيح؛ لعموم {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ} [المجادلة: 2] مع أن بعده: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة: 2]، وإنما يكون ذلك للمؤمنين. وكذا إيلاء الذمي عنده صحيح؛ لعموم {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] مع أنَّ بعده {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. لكن يؤخَذ مِن أكثرية مواضع القول بالتخصيص أنَّ الأرجح عنده أنه تخصيص؛ ولهذا نقل ذلك عن الشافعي جماعة. قلتُ: لا يتعين في كون ذلك مُخصصًا أن يكون هو مستنده في تلك الأحكام، بل لها أدلة أخرى موضحة في الفقه؛ ولهذا في مسألة عطف الخاص على العام في نحو: "لا يقتل المسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده" القَطْع عنده أنه على عمومه كما سبق وبأنَّ تلك المسألة ومسألتنا واحد. والله أعلم. ص: 667 - وَذِكْرُ بَعْضِ مَا يَعُمُّ لَا يَخُصْ ... مِثْلُ: "دِبَاغُهَا طَهُورُهَا" [يَنُصْ] (¬1) الشرح: أي: ومما قيل بأنه مِن المخصِّصات وليس بمخصِّص: ذِكر بعض أفراد العموم محكومًا فيه بمثل ما حُكِم به في العام. مثاله قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم عن ابن عباس: "إذا دبغ الإهاب، فقد طهر" (¬2). ¬

_ (¬1) في (ش): بنص. (¬2) صحيح مسلم (رقم: 366).

وأما رواية: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" (¬1) فرواه النسائي والترمذي وابن ماجه. فمَن نسبها إلى "مسلم" فقد وهم. ثم مَرَّ - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم عن ابن عباس عن ميمونة -بشاة لمولاة ميمونة ماتت، فقال: "ألا أخذوا إهابها فدبغوه، فانتفعوا به؟ ". فقالوا: يا رسول الله، إنها ميتة. فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "إنما حرم أكلها" (¬2). وفي "الصحيحين" مِن حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بشاة ميتة فقال: "هلَّا استمتعتم بإهابها؟ ". فقالوا: يا رسول الله، إنها مَيتَة. فقال: "إنما حَرَّم من الميتة أكلها" (¬3). ووَهَّمَ القاضي تاج الدين السبكي في "تخريج أحاديث البيضاوي" المُصَنِّف في أمرين: - نِسبته الشاة لميمونة، وإنما هي لمولاة ميمونة كما ذكرنا. - وفي قوله: "دباغها طهورها"، وليس ذلك في الحديث، بل ما سبق. ثم ذَكَره بسنده إلى ابن عباس بلفظ: "دباغه ذكاته" (¬4). فربما يُعترَض بذلك قولي في النَّظم: ("دِبَاغُهَا طَهُورُهَا"). قلتُ: لكن روى البيهقي في "خلافياته" عن أبي داود، عن حفص، عن همام، عن قتادة، عن الحسن، عن جون، عن سلمة بن المحبق الهذلي: "أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء في غزوة تبوك إلى بيت وإذا فيه قربة مُعلَّقة، فسأل الماء، فقالوا: يا رسول الله، إنها مَيتَة. أي: جلد ميتة. فقال: ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 1421)، صحيح مسلم (رقم: 363). (¬3) صحيح البخاري (2108) واللفظ له، صحيح مسلم (رقم: 363). (¬4) سنن الدارقطني (1/ 42)، وهو في صحيح مسلم (رقم: 366) بلفظ: (دِبَاغُهُ طهُورُهُ).

"دباغها طهورها" (¬1). وروى أيضًا في حديث ابن عباس وعائشة أنَّ شاة ليمونة ماتت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هلَّا استمتعتم بإهابها؟ " قالو ا: إنها مَيتَة. فقال: "إنَّ دباغ الأديم طهوره" (¬2). وكذا رواه البزار في "مسنده" (¬3) من حديث يعقوب، عن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس، وقال: (لا يُعْلم رواه عن يعقوب إلا شعبة). انتهى وهذا لا يضر؛ لأن شعبة إمام. وأما يعقوب فذكره ابن حبان في "الثقات" وإن ضَعَّفَه أحمد وغيره. ووجْه التمثيل بذلك أنَّ الحديث الثاني فيه ذِكر بعض العام والحُكم عليه بمثل حُكمه، فلا يخصص كما قاله الأكثرون. قال القفال: وكأنَّ الخاص ورد فيه خبران، خبر يشمله وغيره، وخبر يخصه. وخالف أبو ثور، فخصص التطهير بالدبغ بما كان جلد مأكول؛ لحديث شاة ميمونة أو مولاة ميمونة. ونقل صاحب "المصادر" عن أبي ثور أنه قال في قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} [البقرة: 241] وفي الآية الأخرى وهي: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 236] ¬

_ (¬1) سنن البيهقي الكبرى (رقم: 53)، وهو في سنن أبي داود (4125). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 4125). (¬2) مسند أحمد (رقم: 3521)، المعجم الكبير للطبراني (11411)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح الجامع الصغير وزيادته: 3359). (¬3) مسند البزار (11/ 373، رقم: 5203) ط: العلوم والحكم.

إلى قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ}: فأثبَت المتعة للمطلقة التي [هذه] (¬1) سبيلها؛ فوجب أن يكون المراد من الآية الأُولى ذلك حتى لا تجب المتعة لغير المطلقة التي لم تمُس ولم يُفْرَض لها. وقد حكى أبو الحسين بن القطان قولين للشافعي في هذه الآية كما سبق في التخصيص بالمفهوم. وقضية ذلك أن يكون للشافعي قول كمذهب أبي ثور، إلا أنْ يقال: إنَّ قول أبي ثور أَعَم أن يكون في ذِكر الخاص مفهوم معمول به كمفهوم الصفة ونحوها، لا اللقب. والذي سبق عن الشافعي إنما هو فيما إذا كان له مفهوم، فيكون من باب التخصيص بدليل الخطاب، لا مِن حيث إنه ذِكر بعض أفراد العام، فتصير المسألة هي مسألة التخصيص بمفهوم المخالفة. ولأجل ذلك لم أُقَيد في النَّظم بأن لا يكون لذكر الخاص مفهوم؛ لأن التخصيص مِن حيث المفهوم، لا من حيث إنه ذِكر بعض أفراد العموم، فاعْلَمه. على أنَّ مِن الناس مَن أنكر الخلاف في هذه المسألة، وقال: إنما كان أبو ثور ممن يقول بمفهوم اللقب، فظن أنه يقول بالتخصيص. ولعله إنما يقول: إنَّ هذه الصورة لا يجوز تخصيصها مِن العام، بل تصير قَطْعية كما سيأتي مِثله في العام على سبب: لا يجوز إخراج محل السبب قَطْعًا. وأيضًا فمِن فوائد ذِكر الخاص -على قول الجمهور- الاعتناء بشأنه والتَّفخيم على بقية الأفراد. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ش، ض)، لكن في (ق، س، ت): هي.

تنبيهات الأول: مِن أمثلة المسألة أيضًا: - قضية المجامِع في نهار رمضان الثابتة في "الصحيحين" (¬1) وغيرهما مع حديث: "مَن أَفطر في رمضان فَعَلَيْه ما على المظاهِر" (¬2) إنْ صحَّ الخبر، لكنه من حديث ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه أَمَر الذي يفطر في رمضان بمثل كفارة الظهار" (¬3). قال البيهقي: (وليث ليس بالقوى، وقد أرسله غيره عن مجاهد) (¬4). ومع ذلك فحديث المجامِع يفسر الإفطار فيه. - وحديث: "وجُعِلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" (¬5)، وفي الرواية الأخرى: "وترابها طهورًا" (¬6)، والتراب بعض الأرض. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) لم أجده بهذا اللفظ ولكن في صحيح مسلم (رقم: 1111) بلفظ: (أَمَرَ رَجُلًا أَفْطَرَ في رَمَضَانَ أَنْ يعْتِقَ رَقَبَةً أو يَصُومَ شَهْرَيْنِ أو يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا). (¬3) مختصر خلافيات البيهقي (3/ 58)، وانظر: سنن البيهقي الكبرى (رقم: 7858). (¬4) مختصر خلافيات البيهقي (3/ 58). (¬5) صحيح البخاري (رقم: 328)، وبنحوه في صحيح مسلم (521). (¬6) مسند أبي داود الطيالسي (1/ 56، رقم: 418)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 964). وفي: صحيح ابن خزيمة (264)، صحيح ابن حبان (رقم: 6400) بلفظ: (وَجُعِلَ ترَابُهَا لَنَا طهُورًا). قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 6366).

- وحديث: "الطعام بالطعام مثلًا بمثل" (¬1)، وفي حديث آخر: "البُر بالبُر" (¬2). الثاني: قال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد: لا ينبغي أن يُكتفَى في تقرير القاعدة الكلية بِصُوَر جزئية؛ لاحتمال دليل آخَر يخصها. فقول أبي ثور بمنع تطهر الدِباغ جِلد ما لا يؤكل لحمه يحتمل أنه لهذه القاعدة وأنه باستنباط، فإنْ صرح بالقاعدة فواضح، وإلا فلا يَلزم مِن الاستنباط القول بالقاعدة. قال بعضهم: والظاهر عنه الأول؛ فإن ابن عبد البر نقل عنه في "التمهيد" أنه إنما صار إلى تخصيص الدباغ بالمأكول لأجل قوله في جلد الشاة: "هلَّا دبغتموه؟ "، وقال في حديث آخر: "نهَى عن جلود السباع" (¬3). قال أبو ثور: (فلما رُوي الخبران، أخذنا بهما جميعًا؛ لأنه لا تناقض فيهما). انتهى ويقال له: كل مِن الخبرين فيه عموم وخصوص مِن وَجْه. فحديث النهي عن جلد السباع أَعَم مِن المدبوغ وغيره، وحديث: "أيما إهاب دبغ" أَعَم مِن جلد السباع وغيرها، فيُطلب في مِثله الترجيح. الثالث: التعبير في تصوير المسألة بِـ "ذِكر بعض أفراد العام" ليس المراد أن يكون قولًا فقط، بل ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (رقم: 1592). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) سنن أبي داود (رقم: 4132)، سنن الترمذي (رقم: 1771)، سنن النسائي (رقم: 4253) وغيرها. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 4132).

متى كان نصًّا في بعض العام أو فِعلًا، يكون كذلك إذا لم يَقُم دليل على أنَّ ذلك استنادًا للعموم وبيانًا له وتفسيرًا. كذا قاله القفال الشاشي، ومَثَّله بقَطْعِه - عليه السلام - فيما قيمته ثلاثة دراهم وعشرة، وليس فيه أن ذلك تفسير للآية. قال: ولذلك لم يجعل أصحابنا الثلاثة دراهم حدًّا كما ذهب إليه مالك، ولا عشرة كما ذهب إليه أهل الرأي؛ لأن العموم قد ثبت بقَطْع السُّرَّاق. الرابع: قيَّد ابن الرفعة في "باب الأواني" مِن "المطلب" هذه المسألة بما إذا لم يعارض العموم عموم آخَر، فإنْ عارضه عموم آخَر، قُدِّم. قال: (كحديث: "هذان حرامان على ذكور أُمَّتي، حِلٌّ لإناثهم" (¬1)، ورواية أبي موسى: "حرم لبس الحرير والذهب على ذكور أُمتي" (¬2)، فاقتضى الثاني تخصيص الأول [باللبس] (¬3). وقد عارض الأول حديث أُم سلمة: "الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة فإنما يجرجر في جوفه نار جهنم" (¬4)، فإنه يقتضي تحريم الأواني على الرجال والنساء). انتهى قيل: وفيه نظر؛ فإن حديث الأواني غيْر حديث الاستعمال. ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه (رقم: 3595)، مسند البزار (333)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 2912). (¬2) سنن الترمذي (رقم: 1720) بلفظ: (حُرِّمَ لِبَاسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ على ذُكُورِ أُمَّتِي، وَأُحِلَّ لِإِنَاثِهِمْ). قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن الترمذي: 1720). (¬3) في (ص، ق): من لبس. (¬4) سبق تخريجه.

الخامس: [يَقْرُب] (¬1) مِن هذه المسألة إذا عُطف خاص على عام، نحو: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] هل يدل العطف على أنَّ المعطوف غير مُراد في المعطوف عليه؟ حكى الروياني في "البحر" عن والده في "كتاب الوصية" أن بعض العلماء قال: (لا يدخل؛ [إذ] (¬2) لو دخل، لم يكن للإفراد فائدة). وبعضهم قال: (يدخل، وفائدته التأكيد، وكأنه ذُكِر مرتين). وفَرَّعَ الروياني عليه ما لو أَوْصَى لزيد بدينار وثلثه للفقراء وزَيد فقير، فلا يجوز أن يُعْطَى غير الدينار؛ لأنه بالتقدير قَطَع اجتهاد القاضي (¬3). جزم به في "الحاوي". وحكى الحناطي فيه وجهين: أحدهما: هذا، وهو الأظهر. والثاني: أنه يُجمع له بين ما أوصي له به وبشيء آخَر مِن الثلث على ما أراد الموصي. انتهى وعلى عدم الدخول جرى الفارسي وابن جني، بل وظاهر كلام الشافعي يدل عليه، حيث قال: إن الوسطى ليست العصر؛ لأن العطف يقتضي المغايرة. والله أعلم. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق، ش)، لكن في (ض، س): يعرف. (¬2) كذا في (ش، س). لكن في (ص، ق): و. (¬3) انظر: بحر المذهب (8/ 108)، ط: دار الكتب العلمية.

ص: 668 - وَمثْلُهُ الْعُمُومُ حَيْثُ وَرَدَا ... عَلَى خُصُوصِ سَبَبٍ قَدْ وُجِدَا 669 - وَلَوْ سُؤَالًا حَيْثُ يَسْتَقِلُّ ... ذَاكَ الْجَوَابُ، فَالْعُمُومُ يَعْلُو 670 - نَعَمْ، تَكُونُ صُورَةٌ فِيهَا وَرَدْ ... قَطْعِيَّةَ الدُّخُولِ فِيمَا يُعْتَمَدْ الشرح: أي: ومثل ما سبق في كونه ليس مخصِّصًا: العام الوارِد على سبب خاص -باقٍ على عمومه، لا مخصوص بمحل السبب، سواء أكان جواب سؤال أوْ لا، لكن بشرط أن يكون جواب السؤال مستقلًّا بحيث لو ابتدئ به كان تامًّا مفيدًا. فأما إذا لم يكن مُستقلًّا، فإنه تابع للسؤال في خصوصه وعمومه. أما في خصوصه فنحو قوله تعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44] , وكحديث أنس: "قال رجل: يا رسول الله، الرجل منا يلقَى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا. قال: أفيلتزمه ويُقَبله؟ قال: لا. قال: فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم" (¬1). قال الترمذي: حديث حسن. وكما لو قال له - صلى الله عليه وسلم - قائل: "جامعت في نهار رمضان"، فقال: "عليك الكفارة". وأما في عمومه فكما لو سُئل عمن جامع في نهار رمضان، فقال: "يعتق رقبة". فإنه سُئل عن كلِّ مَن جامع، فأجاب بأنه -أيْ كل مَن جامع- يعتق؛ لأن السؤال مُعاد في الجواب. واختُلف في جهة عمومه، فقيل: لعدم استفصاله عن حاله. وقيل: لعموم علة الحكم ¬

_ (¬1) مسند أحمد (رقم: 13067)، سنن الترمذي (رقم: 2728)، وغيرهما.

المذكورة للسائل ولغيره. وجُعِل من هذا حديث: "أنتوضأ بماء البحر؟ فقال: هو الطهور ماؤه" (¬1)؛ لأن الضمير يحتاج إلى سَبْقٍ مُفسِّر، فلم يستقل الجواب، إلا أن يجعل "هو" ضمير الشأن، فيكون الجواب مستقلًّا. فأما المستقِل فَعَلَى ثلاثة أقسام: مساوٍ للسؤال، وأَخَص منه، وأَعَم منه. فالمساوي: كما لو سُئل عن ماء البحر، فقال: (ماء البحر طهور). وأمره ظاهر. إنْ كان السؤال عامًّا والجواب عامًّا فذاك، أو خاصَّين فذاك. أو الجواب أَخَص: فإذا دل على بقية المسئول عنه أو كانت الحاجة ماسة لِمَا أجاب عنه دُون غيره، فواضح، وإلا فلا يجوز؛ لأن فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة. وشرط في صحة الجواب كذلك القاضي أبو بكر وابن فورك وصاحب "المعتمد" وغيرهم ثلاثة شروط: - أن يكون في الجواب تنبيه على حُكم غير ما أجاب عنه. - وأن يكون السائل المخاطَب بالجواب مجتهدًا، أي: له قوة التنبه لِمَا سُكِت عنه وإن لم يبلغ رُتبة الاجتهاد المطلق. - وأن يبقى مِن وقت العمل زمان متسع للتأمل والاجتهاد كما أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - في مثل ذلك بقوله لعمر حين مسألة عن القُبلة للصائم: "أرأيت لو تمضمضت؟ " (¬2)، وللخثعمية: ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (رقم: 83)، سنن ابن ماجه (رقم: 386)، سنن الترمذي (رقم: 69)، وغيرها. قال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 9). (¬2) مسند أحمد (رقم: 128، 372)، سنن أبي داود (2385)، سنن النسائي الكبرى (رقم: 3048)، صحيح ابن حبان (3544)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 1572)، وغيرها. =

"أرأيت لو كان على أبيك دَين فقضيتيه؟ " (¬1). ومَثَّل القاضي في "شرح الكفاية" بما لو سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء الكوافر فقال: "اقتلوا المرتدات"، فإنه يختص القتل بهن ولا يقتل الحربيات، لأجل دليل الخطاب، فإنَّ عدوله عن الجواب العام إلى الخاص دليل على قصد المخالفة. ولهذا قال أصحابنا في حديث: "جُعلت لي الأرض مسجدًا وتربتها طهورًا": علق على اسم الأرض كَوْنها مسجدًا، وعلق على ترابها كَوْنه طهورًا؛ فدَلَّ على قصد المخالَفة بين المسجديه والطهورية، خِلاف قول الحنفية: إنَّ الأرض كلها مسجد وطهور. ومنه أيضًا قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6] , ثم قال بَعده: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ}، فأوجَب السكنَى مطلقًا والنفقة بشرط الحمل؛ فدَلَّ على قَصْد المخالفة بينهما. ومَثَّله الأستاذ بحديث: "هلكت وأهلكت" فقال: "أعتق رقبة" (¬2) الحديث. ولم يتعرض للموطوءة؛ فدل على عدم الكفارة عليها. وأمَّا الأعم فعَلَى ضربين: أحدهما: أن يذكر معه حُكم آخَر غير ما سُئل عنه، كجواب السؤال عن التوضؤ بماء البحر بقوله: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" (¬3). ولا خلاف في هذا أنه لا يختص بالسائل، ¬

_ =قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 3566). (¬1) سنن ابن ماجه (رقم: 2909)، مسند أحمد (16170) وفيه: (جاء رجل من خثعم)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 2368). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) سبق تخريجه.

بل يَعُمه ويَعُم غيره كما قاله ابن فورك وصاحب "المعتمد" والإمام في "المحصول". نعم، صرح القاضي أبو الطيب وابن برهان بجريان الخلاف الآتي فيه. الثاني: أن يكون العموم في ذلك الحكم المسئول عنه كقوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سُئل عن بئر بُضاعة وهي بئر يُلقى فيها الحيض والنتن ولحوم الكلاب: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء" (¬1). رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، وقال أحمد: (صحيح). وقال الترمذي: (حسن). وفي بعض نُسَخه: (حسن صحيح). وصححه أيَضًا ابن معين وغيره. وهو يَرُد قول الدارقطني: إنه غير ثابت. ويقع في كُتب كثير من أصحابنا -وكذا وقع في "مختصر ابن الحاجب" في الأصول- زيادة في هذا الحديث: "إلا ما غَيَّر لونه أو طعمه أو ريحه". وهو تخليط؛ فإنَّ هذا حديث آخَر ليس فيه ذِكر بئر بُضاعة، رواه ابن ماجه: "إنَّ الماء لا ينجسه إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه" (¬2). ورواه الدارقطني بلفظ: "لا ينجسه إلا ما غيَّر ريحه أو طعمه" (¬3). ولم يذكر اللون، بل لا يُعرف لِلَّون ذِكر في غير ابن ماجه. وقال الشافعي: (هذا الحديث لا يُثْبِت أهل الحديث مثله). وقال أبو حاتم الرازي: (الصحيح أنه مُرْسل). وكحديث مَن اشترى عبدًا فاستعمله، ثم وجد به عيبًا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الخراج ¬

_ (¬1) مسند أحمد (رقم: 11275)، سنن أبي داود (رقم: 66)، سنن الترمذي (رقم: 66)، سنن النسائي (رقم: 326). قال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 14). (¬2) سنن ابن ماجه (521). قال الألباني: ضعيف. (ضعيف ابن ماجه: 105). (¬3) سنن الدارقطني (1/ 29). وقال الإمام الدارقطني: (مُرْسَل).

بالضمان" (¬1). أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم. فإذا مع حالة ورود العام على سبب غير سؤال إذا لم يكن ثَمَّ قرينة دالَّة على التعميم، فهُما محل الخلاف. فأمَّا إذا دَلَّت قرينة كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} نزلت في رجُل سرق رداء صفوان (إنْ قُلنا: إنه سبب. ولكن سيأتي بيان ما فيه) فإنَّ الإتيان بالسارقة معه - قرينة تدل على عدم الاقتصار على المعهود. ونحوه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] نزلت في عثمان ابن طلحة لَمَّا أُخِذ منه مفتاح الكعبة. فالإتيان بضمير الجمع في قوله: {الْأَمَانَاتِ} قرينة عدم الاقتصار على أمانة المفتاح. [وهنا مذاهب] (¬2): أحدها: وهو الصحيح عند الجمهور وعليه جريتُ في النَّظم، فهو أنَّ السبب لا يخصِّص وأنَّ العموم باقٍ على عمومه؛ لأن عدولَ المجيبِ عمَّا سُئل عنه أو عمَّا اقتضاه حال السبب الذي وَرَدَ العام عليه عن ذِكره بخصوصه إلى العموم -دليلٌ على إرادته؛ لأنَّ الحجة في اللفظ وهو يقتضي العموم، والسبب لا يَصْلح معارِضًا؛ لجواز أن يكون المقصود عند ورود السبب بيان القاعدة العامة لهذه الصورة وغيرها. قال الشيخ أبو حامد: إنَّ هذا مذهب الشافعي. وكذا قاله القاضي أبو الطيب والماوردي وابن برهان. وقال ابن السمعاني: (إن عامة الأصحاب تسنده إلى الشافعي) (¬3). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) كذا في (س، ت، ض)، لكن في (ش): فيه. وفي (ص، ق): فأمَّا المذهب الأول من الخلاف. (¬3) قواطع الأدلة (1/ 195).

واختاره أبو بكر الصيرفي وابن القطان، وقال الأستاذ أبو إسحاق والشيخ أبو إسحاق وابن القشيري وإلكيا والغزالي: (إنه الصحيح). وجزم به القفال الشاشي، ونقله ابن كج عن عامة أصحابنا وأنه مذهب الشافعي وأن به قال أبو حنيفة، وحكاه أيضًا الأستاذ عن أكثر أصحابنا والحنفية، وكذا حكاه القاضي عبد الوهاب عن الحنفية وأكثر الشافعية والمالكية، ونقله الباجي أيضًا عن أكثر المالكية، وقال: (إنه الصحيح). وقال القاضي أبو بكر: (هو الصحيح كما لو قاله ابتداءً). الثاني: أنه [يتخصَّص] (¬1) بمحل السبب. ونقله الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ وسُليم وابن برهان والسمعاني عن المزني وأبي ثور والدقاق والخفاف في "الخصال"، ونسبه الأستاذ إلى الأشعري، ونقل عن القفال. قيل: وفي نقله عنه نظر. ونَسبه عبد الوهاب والباجي لأبي الفرج مِن أصحابهم، ونسبه كثير من المتأخرين للشافعي. ونَسبه الإِمام في "البرهان" لأبي حنيفة، وقال: (إنه الذي صحَّ عندنا من مذهب الشافعي) (¬2). وكذا نقله عن الشافعي الغزالي في "المنخول"، ونقله القاضي أبو الطيب والماوردي وابن برهان والسمعاني عن مالك. قال الماوردي: (ولهذا لو قذف زوجته ثم وطئها, لم يلاعن عنده، وجعل الوطء تكذيبًا له؛ لأن آية اللعان وردت على سبب خاص وهو عويمر العجلاني؛ إذ قال: رأيت بِعَيْني وسمعت بأُذني وما قربتها بعد ذلك. فجعل عدم إصابتها شرطًا يتخصص به العموم). ¬

_ (¬1) كذا في (س، ق)، لكن في (ص): مخصص. (¬2) البرهان (1/ 253).

قال الباجي: ورُوي عن مالك المذهبان. وقال القاضي أبو بكر: رُوي عن الشافعي المذهبان؛ لأنه جعل الخراج بالضمان عامًّا وحمله على جميع المبيعات ولم يخصه بالعبد. وقال في موضع آخر: (إنَّ قوله: "إنما الربا في النسيئة" (¬1) يحتمل أن يكون خارجًا على سؤال سائل، فيجب قَصْرُه عليه). انتهى وقد تَعلَّق إمام الحرمين لقول الشافعي بخصوص السبب بِقَصْره قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الآية -على تحريم ما كان الكفار يعتقدون حِله من الميتَة والدم ولحم الخنزير وما أُهل به لغير الله، مع أن المحرمات غير ذلك كثيرة. وأُجِيب بأن الشافعي لم يأخذ التخصيص مِن السبب، بل من تأويل اللفظ [بمخايل] (¬2)، وإلا لكانت الآية نصًّا في الحصر؛ ولذلك أجمع الصحابة في الحشرات والقاذورات ونحوها على التحريم. ولو سُلِّم أنه مقصور على السبب فذلك لدليل، ومحل النزاع حيث لا دليل، والدليل هو ورود السُنَّة بمحرمات كثيرة، كالحُمُر الأهلية، وبه تنجمع الأدلة كما قرره الشافعي في "الرسالة"، وهو أَعْلَم بمراده. وتَعلق غيْر الإِمام بمواضع كثيرة أُجِيب عنها كلها, لا نُطَوِّل بها. وبالجملة فالصحيح عن الشافعي القول ببقاء العموم، وفروع مذهبه تدل عليه. فمِن نصوصه وهو في "باب ما يقع به الطلاق من الكلام وما لا يقع" وذلك بعد باب الطلاق الذي يملك فيه الرجعة ما نَصه: (وسواء فيما يَلزم من الطلاق وما لا يُلزم به الزوج عند غضب أو مسألة طلاق أو رِضًا وغير مسألة طلاق، ولا تَصنَع الأسباب شيئًا، إنما تصنَعه الألفاظ؛ لأن السبب قد يكون ويحدث الكلام على غير السبب ولا يكون مبتدأ ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) كذا في (ص، ق، ش)، لكن في (ت، س، ض): لمخايل.

الكلام الذي حكم فيقع، فإذا لم يصنع السبب بنفسه شيئًا، لم يصنعه بما بعده، ولم يمنع ما بعده أن يصنع ما له حُكم إذا قيل) (¬1). انتهى واستدل بهذا النص كثير من أصحابنا المتأخرين، وردوا به نَقْل مَن نَقَل عن الشافعي اعتبار خصوص السبب. لكن قال القاضي تاج الدين السبكي أنه كان ذَكَر ذلك في كتاب "الطبقات" وأنه وقع منه ذلك خطأً في اللهم للنص: (وإنما مراد الشافعي بذلك أنَّ الغضب وغيره مِن الأسباب التي يَرِد عليها الطلاق، لا يدفع وقوعه، وهذا كما ترى لا تَعلُّق له بمسألة الأصول وهي ورود العام على سبب خاص) (¬2). انتهى وهو ظاهر، إلا أن يكون أخذ من قوله: (ولا يصنع السبب شيئًا). أي: فإنه أَعم مِن صُنعْ رَفْع الطلاق وصُنعْ رَفْع العموم، لكنه فيه إثبات الشيء بنفسه؛ لأن قوله: (ولا يصنع السبب شيئًا) وارد على سبب وهو كون الطلاق في غضب أو نحوه. نعم، إذا ثبت مِن الخارج أنه يقول بالعموم في الوارد على سبب خاص، كان هذا المكان فردًا مِن ذلك، لا أنه وحده شاهد على المسألة، فتأمله. وممن قرر أنَّ مذهب الشافعي القول ببقاء العموم الإِمام الرازي في "مناقب الشافعي"، فقال: (ومعاذ الله أنْ يصح هذا النقل -أيْ تخصيص العام بالسبب عن الشافعي- وكيف وكثير مِن الآيات نزل في أسباب خاصة ثُم لم يَقُل الشافعي: إنها مقصورة على تلك الأسباب؟ ). قال: (والسبب في وقوع هذا النقل الفاسد عنه أنه يقول: إنَّ دلالته على سببه أقوى؛ ¬

_ (¬1) انظر: الأم (5/ 259). (¬2) الإبهاج (2/ 187).

لأنه لَمَّا وقع السؤال عن تلك الصورة، لم يَجُز أن لا يكون اللفظ جوابًا عنها، وإلا تأخر البيان عن وقت الحاجة. وأبو حنيفة عكس ذلك وقال: دلالته على سبب النزول أضعف. وحَكَم بأنَّ الرجُل لا يلحقه ولد أَمَته وإنْ وطأها ما لم يُقر بالولد، مع أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" (¬1) إنما ورد في أَمة، والقصة مشهورة في عبد بن زمعة. فبَالغَ الشافعي في الرد على مَن يجوِّز إخراج السبب، وأطنب في أن الدلالة عليه قطعية؛ لدلالة العام عليه بطريقين، أحدهما: العموم، وثانيهما: كونه واردًا لبيان حُكمِه. فتوهَّم المتوهَّم أنه يقول: إنَّ العبرة بخصوص السبب) (¬2). انتهى وقد يجاب عن إمام الحرمين وغيره ممن نقل عنه التخصيص بما ذكره الإِمام الرازي، أو أنهم اطَّلعوا على نَص مرجوح عنه، أو غير ذلك؛ فإن الخلاف فيه بعيد عن المذهب؛ ولذلك اختلف الأصحاب في أن العرايا هل تختص بالفقراء؟ أَم لا؟ والأصح الثاني؛ عملًا بعموم اللفظ. وقالوا فيمن دخل عليه صديقه فقال: (تغد معي)، فامتنع، فقال: (إن لم تتغد معي، فامرأتي طالق) فلم يفعل: لا يقع الطلاق. ولو تغدى بعد ذلك معه وإنْ طال الزمان، انحلت اليمين. أي: بخلاف ما إذا لم يتغد معه، فإن اليمين لا تنحل إلا بموت أحدهما على قاعدة الحالف على فعل غيره. قال: فإنْ نوى الحال، فلم يفعل، وقع الطلاق. وهذا وإنْ كان مخالفًا للقول بالعموم إلا أن العُرف لَمَّا اقتضى عدم استقلاله، نزل مَنزلة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (1948)، صحيح مسلم (1456)، وغيرهما. (¬2) مناقب الشافعي (ص 171 - 173)، تأليف: الفخر الرازي، تحقيق: د. أحمد السقا، نشر: مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة، الطبعة: الأولى - 1406 هـ.

ما لم يكن مستقلًّا كما اقتضاه كلام الأصوليين، وكأنه قال: (إنْ لم تتغد معي في الحال)؛ ولهذا رأى البغوي حمل المطْلَق على الحال؛ للعادة مطلقًا. لكن أفتى القاضي [الحسين] (¬1) في امرأة صعدت بالمفتاح إلى السطح فقال زوجها: (إنْ لم تُلقِ المفتاح، فأنت طالق) فلم تلقه ونزلت، أنه لا يقع، ويحمل قوله: (إن لم تلقه) على التأبيد. وفي "الرافعي" عن "المبتدأ" في الفقه للقاضي الرُّوياني أنه: (لو قيل له: "كَلِّم زيدًا"، فقال: "والله لا كلمته"، انعقدت اليمين على الأبد إلا أن ينوي اليوم. فإنْ كان ذلك في طلاق وقال: "أردتُ اليوم"، لم يُقْبل في الحكم) (¬2). وهذا كله شاهد على كون العبرة بعموم اللفظ، وبعدم اعتبار العُرف في جعل المستقل كالذي لا يستقل؛ لِمَا تقدم أن العادة في الإطلاقات لا أثر لها. والثالث من المذاهب: التفصيل بين أنْ يكون الشارع ذَكرَ السبب في الحكم فيقتضي التخصيص به، أو لم يقع ذِكره إلا في كلام السائل، فيكون الجواب على عمومه. حكاه ابن القطان عن ابن أبي هريرة. الرابع: وهو بحث للشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد: أنه ينبغي أن يُفرَّق بين سبب لا يقتضي السياق التخصيص به، وبين سبب يقتضي السياق والقرائن التخصيص به. فإنْ كان من الثاني، فالواجب اعتبار ما دل عليه السياق والقرائن؛ إذ به يتبين مقصود الكلام، وبه يرشد إلى بيان المجملات وفَهم مَأْخَذ الخطاب. والخامس: الوقف، فإنه يحتمل البعض ويحتمل الكل؛ فيجب أن يتوقف. حكاه ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في سائر النسخ: حسين. (¬2) العزيز شرح الوجيز (12/ 350).

القاضي في "التقريب". والسادس: التفصيل بين أن يكون السبب سؤال سائل فيختص به، أو وقوع حادثة فلا. حكاه عبد العزيز في "شرح البزدوي". والسابع: إن عارضه عموم عَرِي عن سبب، قُصِر العام الوارد على سبب على سببه. وإنْ لم يعارضه، بَقِي العام على عمومه. قال الأستاذ أبو منصور: (إنَّ هذا هو الصحيح). قال: ولذلك قُصِر نهيه - صلى الله عليه وسلم - في قتل النساء على الحربيات دُون المرتدات؛ لمعارضة حديث: "مَن بدل دينه فاقتلوه". وقد يقال: هذا [عَيْن] (¬1) المذهب السابق، فإنَّ شَرْطه أنْ لا يعارضه معارِض. تنبيهات الأول: قال المازري: (لو خرجت هذه المسألة على الاختلاف في الألف واللام هل يقتضي العموم؟ أو يُحمل على العهد؟ لكان لائقًا. فمَن يقصر اللفظ على سببه هو القائل بالعهد، ومَن يعممه يقول بغير ذلك) (¬2). انتهى وقد ينازع المعممون في كون السبب يصلح عهدًا؛ لأن المعهود هو ما لم يختص بسائل أو بواقعة، مِثل الطعام في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الطعام بالطعام ربا" (¬3) الحديث. فإنهم كانوا يعهدون إطلامتى الطعام على خاص، فهل يُحْمَل "الألف واللام" عليه؟ أو يجرى على عمومها؟ هذا ¬

_ (¬1) في (ت، س): غير. (¬2) إيضاح المحصول (ص 290). (¬3) في صحيح مسلم (رقم: 1592) بلفظ: (الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ).

محل الخلاف، ويتجه فيه القول بالحمل على العهود اتجاهًا لا يتهيأ مثله هنا في قصر اللفظ على سببه؛ لأنه لَمَّا كان هو المعهود، صار اللفظ كأنه موضوع له وإليه ينصرف الذهن عند سماع اللفظ دُون غيره. الثاني: قولي: (نَعَمْ، تكون صُورَةٌ فِيهَا وَرَدْ قَطْعِيَّةَ الدُّخُولِ فِيَما يُعْتَمَدْ) إشارة إلى أن صورة السبب مقصودة بالعموم قطعًا، والخلاف إنما هو فيما عداها، وحينئذٍ فيطرق التخصيص ذلك العام إلا تلك الصورة، فإنها لا يجوز إخراجها. لكن قال الشيخ تقي الدين السبكي: (إنما تكون صورة السبب قطعية إذا دل الدليل على دخولها وضعًا تحت اللفظ العام، وإلا فقد ينازع فيه الخصم ويدعي أنه قد يقصد المتكلم بالعام إخراج السبب، فالمقطوع به إنما هو بيان حُكم السبب، وهو حاصل مع كونه خارجًا كما يحصل بدخوله، ولا دليل على تعيين واحد من الأمرين. فللحنفية أن يقولوا في حديث عبد بن زمعة: إن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الولد للفراش" وإنْ كان واردًا في أَمَة فهو وارد لبيان حُكم ذلك الولد، وبيان حُكمه إما بالثبوت أو بالانتفاء. فإذا ثبت أن الفراش هو الزوجة؛ لأنها التي يتخذ لها الفراش غالبًا وقال: "الولد للفراش"، كان فيه حصر أن الولد للحرة، ومقتضى ذلك أن لا يكون للأَمَة، فكان فيه بيان الحكمين جميعًا: نَفْي النَّسَب عن السبب، وإثباته لغيره. ولا يليق دعوى القطْع هنا وذلك مِن جهة اللفظ، وهذا في الحقيقة نزاع في أن اسم "الفراش" هل هو موضوع للحرة والأَمَة الموطوءة؟ أو للحرة فقط؟ فالحنفية يدَّعون الثاني، فلا عموم عندهم له في [الأَمة] (¬1)، فتخرج المسألة من باب أن العبرة بعموم اللفظ؟ أو بخصوص السبب؟ ¬

_ (¬1) في (ص، ق، ش): الآية.

نعم، قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد: "هو لك يا عبد، وللعاهر الحجر" (¬1) هذا التركيب يقتضي أنه ألحقه به على حُكم التشبيه، فيلزم أن يكون مرادًا مِن قوله: "الفراش") (¬2). قال (¬3): (ولا يقال: إن الكلام إنما هو حيث يتحقق دخوله في اللفظ العام وضعًا، لأنَّا نقول: قد يتوهم أن يكون اللفظ جوابًا للسؤال يقتضي دخوله، فأردنا أن ننبه على أن الأمر ليس كذلك، والمقطوع به أنه لابُدَّ مِن بيان حُكم السبب. أما خصوص دخوله أو خروجه فلا). فلذلك قال ولده في "جمع الجوامع" أنَّ والده يخالف الجمهور في أن صورة السبب قطعية ويقول: إنها ظنية. الثالث: سأل الشيخ تقي الدين على قولهم: (إنَّ صورة السبب داخلة قطعًا) أنه قبل نزول الآية، والحكم إنما يثبت [حين] (¬4) نزول الآية مثلًا، فكيف ينعطف على ما مضى وقد أجمعت الأُمة على أن أوس بن الصامت يشمله الظهار وأمثاله من الأسباب؟ وأشار بذلك إلى أن سبب نزول آية الظهار مُظاهرة أوس بن الصامت مِن زوجته خويلة بنت مالك بن ثعلبة ومجيئها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشتكي إليه ووقوع المجادلة، فنزل: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 2105)، صحيح مسلم (رقم: 1457) بلفظ: (هو لك يا عبد، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَللْعَاهِرِ الحْجَرُ). (¬2) الإبهاج شرط المنهاج، 2/ 188). (¬3) يقصد: تقي الدين السبكي، وكلامه في (الإبهاج شرح المنهاج، 2/ 188). (¬4) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): من حين.

{قَدْ سَمِعَ} [المجادلة: 1] الآية (¬1). رواه أحمد وأبو داود، ورواه البخاري تعليقًا. وأما قول ابن الحاجب: (إنها نزلت في سلمة بن صخر) فليس بجيد، بل سلمة بن صخر ظاهَر مِن امرأته. رواه أبو داود والترمذي -وحَسَّنه- وابن ماجه. واَية اللعان نزلت في هلال بن أمية أو غيره، ففي "البخاري" نزولها في هلال بن أمية (¬2)، وفي "الصحيحين" نزولها في عويمر العجلاني (¬3). واَية السرقة، قيل: واردة في سرقة المِجَن. وقيل: في الخميصة. وفيهما نظر؛ فالذي في الحديث إنما هو قطعهما، لا أن الآية نزلت فيهما، ففي "الصحيحين" - بل رواه الستة - من حديث ابن عمر: "أنه - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم" (¬4). وفي حديث صفوان بن أمية قال: "كنت نائمًا في المسجد على خميصة، فسُرقت، فأخذنا السارق، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقَطعه" (¬5). رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه. قال الشيخ تقي الدين: (ويخص آية الظهار واللعان إشكال آخَر: أن "الذين" في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] مبتدأ، وخبره "فتحرير" [أو] (¬6) ¬

_ (¬1) مسند أحمد (رقم: 27360)، سنن أبي داود (رقم: 2214). قال الألباني: (حسن دُون قوله: "والعرق ... "). (صحيح أبي داود: 2214). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 4470). (¬3) صحيح البخاري (رقم: 6874)، صحيح مسلم (رقم: 1492). (¬4) صحيح البخاري (رقم: 6411)، صحيح مسلم (1686). (¬5) مسند أحمد (رقم: 15345)، سنن أبي داود (رقم: 4394)، سنن النسائي (4883). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 4394). (¬6) في (ش، ض، ت، س): أي أو.

"فكفارتهم تحرير"، وجاز حذف ذلك، لدلالة الكلام عليه. ودخلت "الفاء" في الخبر لتَضمُّن المبتدأ معنى الشرط. وبالجملة فالآية لا تشمل إلا مَن وُجِد منه الظهار بعد نزولها؛ لأن معنى الشرط مستقبل؛ فلا يدخل فيه الماضي. وقد أوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - الكفارة على أوس ولا شك في ذلك، إلا أن هذا الإشكال [يعتوره]) (¬1) (¬2). ثم أجاب بما حاصله أنه لَمَّا كان السببَ، كان في حُكم المقارن؛ لأنها نزلت مُبيِّنة لحُكمه؛ فلذلك ثبت حُكمها فيه دُون غيره ممن تَقدمه. وأما "الفاء" المتضمنة للشرط فتستدعي العموم في كل مَن يتظاهر مثلًا، وذلك يشمل الحاضر والمستقبل. وسبب النزول حاضر، أو في حكم الحاضر. وأما دلالة "الفاء" على الاختصاص بالمستقبل فقد تمُنع. الرابع: مِن أجل دخول صورة السبب قطعًا ولا يجوز إخراجها صنَّف بعض المتأخرين في معرفة أسباب الحديث، كما صنَّف العلماء في معرفة أسباب نزول الآيات. وحينئذٍ فاستدلال مَن قال بخصوص السبب (لأنَّ السبب لو لم يكن مخصصًا، لَمَا نقله الراوي؛ لعدم فائدته) مرودٌ بما ذكرناه من الفائدة. واعْلَم أنَّ بعض مَن يَنقل القول بخصوص السبب عن الشافعي نقل ابن برهان عنهم في "الوجيز" أنهم قالوا: لو كان اللفظ على عمومه، لَمَا قَدَّم الشافعي عند تعارض "عام مُجَرَّد عن السبب" و "عام وارِد على سبب" العامَّ المجردَ عن السببِ. وأجاب بأنَّ السبب وإنْ لم يكن مانعًا مِن العموم إلا أنه يوجب ضَعفًا؛ فقدم العَرِي ¬

_ (¬1) في (س، ض، ت): يصوره. (¬2) الإبهاج (2/ 191).

عليه. الخامس: قال الشيخ تقي الدين السبكي: (جميع ما تَقدم في السبب وبقية الأفراد التي دَلَّ اللفظ العام عليها بالوضع وبين ذينك [الشيئين] (¬1) رُتبة متوسطة، فنقول: قد تنزل الآيات على الأسباب الخاصة، ويوضع مع كل واحدة منها ما يناسبها مِن الآي؛ رعايةً لنَظم القرآن وحُسن اتساقه، فذلك الذي وضعت معه الآية النازلة على سبب خاص للمناسبة إذا كان مسوقًا لِمَا نزل في معنى يدخل تحت ذلك اللفظ العام أو كان مِن جملة الأفراد الداخلة وضعًا تحت اللفظ العام، فدلالة اللفظ عليه يحتمل أن يقال: إنه كالسبب، فلا يخرج، ويكون مرادًا مِن الآية قطعًا. ويحتمل أن يقال: إنه لا ينتهي في القوة إلى ذلك؛ لأنه قد يراد غيرُه وتكون المناسبة لِشَبَهه [به] (¬2). والحقُّ أن ذلك رُتبة متوسطة دُون العام على سبب وفوق العام العَرِي عن السبب. مثاله قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] , فإن مناسبتها لما قبلها وهي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)} [النساء: 51] أنَّ ذلك إشارة إلى كعب بن الأشرف، كان قد قدم مكة وشاهد قتلى بدر وحرَّض الكفار على الأخذ بثأرهم، فسألوه: مَن أهدى سبيلًا؟ فقال: أنتم. كذبًا منه وضلالة. فنزلت الآية في حقه وحق مَن شاركه في تلك المقالة، وهُم أهل كتاب يجدون عندهم في كتابهم بَعْث النبي - صلى الله عليه وسلم - وصِفَته، وقد أُخذت عليهم المواثيق أنْ لا يكتموا ذلك وأن ينصروه، وكان ذلك أمانة لازِمة، فلم يؤدوها وخانوا فيها، وذلك يناسب الأمر ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: السببين. (¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): فيه.

بالأمانة) (¬1). السادس: قضية مَن قال: (العبرة بخصوص السبب) أنْ يكون الوارد عليه عامًّا أُريدَ به خصوص، لا عامًّا مخصوصًا. فالأليق أن يُذكر في مباحث العام المراد به الخصوص. قلتُ: لكنه ذكر في العام المخصوص كما ذكر التخصيص بالعقل وبالحس، مع أنه -عند التأمل- عامٌّ أُريدَ به خاص. السابع: قال المازري: أَوْرَد بعض الأكابر سؤالًا، فقال: كيف يمكن الجمع بين قول النحاة: "متى أَمْكَن حمل "أل" على العهد، لا يحمل على العموم" وقول الأصوليين في المذهب الراجح: "العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب"؟ وأُجيب بأنه لا تنافي بينهما؛ لأن العموم لا ينحصر في الألف والسلام، بل له صِيَغ كثيرة. فإنْ أَوْرَد ما إذا كانت الصيغة "أل"، قُلنا: إرادة العموم قرينة. والحقُّ أنَّ السؤال لا يَرد؛ لأن الأصل عند الأصوليين في "أل" العموم؛ فلهذا لم يقصروه على سببه، وعند النحاة الأصل العهد حتى يقوم خلافه. وقد سبق بيان ذلك في الكلام على صِيَغ العموم. فإنْ قيل: فهلَّا كان السبب قرينة إرادة العهد في المعرَّف بِـ "أل" إذا وَرَدَ على سبب؟ قيل: السبب قرينة على إرادته بالعام، لا نَفْي إرادة ما سواه مِن أفراد العام؛ إذ ليس في السبب ما يثبته ولا ما ينفيه. بل التحقيق أنَّ العدولَ عما يقتضيه السبب من الخصوص إلى العموم دليلُ إرادةِ العمومِ كما سبق بيانه. وأشار إليه الزمخشري في سورة "البقرة"، فقال: (فإنْ قلتَ: كيف قيل: {مَسَاجِدَ ¬

_ (¬1) الإبهاج (2/ 189).

اللَّهِ} [البقرة: 114] وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد وهو بيت المقدس أو المسجد الحرام؟ قلتُ: لا بأس أنْ يجيء الحكم عامًّا وإنْ كان السبب خاصًّا، كما تقول لمن آذى صالحًا واحدًا: ومَن أظلم ممن آذى الصالحين. وكما قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)} [الهمزة: 1] و [المُنزل] (¬1) فيه الأخنس بن شريق) (¬2). قال: (وينبغي أن يُراد بِـ "مَن منع" العمومُ كما أريد بِ "مساجد الله"، ولا يُراد الذين منعوا بأعيانهم) (¬3). الثامن: استثنى ابن عبد السلام مِن قولنا في المسألة: (العبرة بعموم اللفظ) ما لو كان السبب شرطًا، كقوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25] , فيجب أن [يختص] (¬4) العموم بمن تَقدم ذِكره مِن المخاطبين بقوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا}، ولا يعم جميع الخلائق ولا جميع الأُمم السالفة؛ لأن التعاليق اللغوية أسباب، والجزاء المرتَّب عليها مُسبَّب، وصلاح المخاطَبين لا يكون سببًا لصلاح غيرهم مِن الأُمم؛ لأن عمل كل واحد يختص فائدته به؛ لقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39] وإنْ لم يكن شرطًا فالحقّ العموم. وحكاه الأصفهاني في "شرح المحصول" عن بعض المتأخرين، قال: (وهو تفصيل حسن لا بأس به). وكذلك ارتضاه ابن دقيق العيد والقرافي. ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (ق، س): المنزول. (¬2) الكشاف (1/ 205). (¬3) الكشاف (1/ 205). (¬4) في (ص، ق): يخص.

التاسع: المراد بالسبب الأمر المقتضِي للجواب عن السؤال أو عن الواقعة. أي: الداعي لذلك، لا المقتضي للحُكم في الشخص كما في "زَنَا ماعز؛ فَرُجِم". وكلام الشافعي في "اختلاف الحديث" في بئر بُضاعة مُصرِّح بأنه ليس المراد بالسبب عَيْن ما وقع الحكم بسببه، بل هو أو مِثله أو ما هو أَوْلى بالحكم منه، حيث قال: (وكان العلم أنه على مِثلها أو أكثر منها) (¬1). العاشر: قال القاضي: يجب أن تُترجم هذه المسألة بِـ: "اللفظ العام إذا وَرَدَ على سبب خاص" أو: "في سبب خاص"، ولا يقال: "عند سبب خاص". قال: والفرق بينهما أنَّ "عند" ليس فيه تَعلُّق للسبب بالعام، ففرقٌ بين: "ضربتُ العبد على قيامه" و "ضربته عند قيامه". الحادي عشر: مِن المسائل التي يعاكس فيها أبو حنيفة والشافعي أصليهما: ذهاب الشافعي ومالك إلى أنَّ التحلل في الحصر في الحَج مخصوص بحصر العَدُوِّ، ومنعاه في المرض؛ لأن قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] نزل في الحديبية وكان الحصر بِعدو، فاعتبرَا خصوص السبب. وخالفهما أبو حنيفة في ذلك، فاعتبر عموم اللفظ؛ لأن الآية دالة على جواز الخروج مِن الحَج بالعُذْر، فإنَّ "الإحصار" عند المعتبَرين مِن أهل اللغة موضوع لإحصار الأعداء، و "الحصر" موضوع لحصر الأعذار. قال الشيخ عز الدين: (ولا يحسُن أن يقال: إن محل السبب يقتضي حصر العدو؛ لأن اللفظ إذا دل على حصر العدو، كان دلالته على حصر الأعذار مِن طريق الأَوْلى. فنزلت على إحصار العَدُوِّ بمنطوقها وعلى إحصار العُذْر بمفهومها، فتناولت الأمرين جميعًا. فإنْ قيل: ¬

_ (¬1) اختلاف الحديث (ص 500).

فقوله تعالى بعد ذلك: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} [البقرة: 196] قرينة لإرادة حصر العدو. قيل: إنه راجع إلى ما دلَّت عليه بطريق الأَوْلى. وإنْ جعلنا "حصر" و "أحصر" لُغتين، كان دالًّا على الأمرين، ورجع لفظ "الأمن" إلى أحدهما) (¬1). قال: (والذي ذكره مالك والشافعي لا نظير له في الشريعة السمحة، فإنَّ مَن انكسرت رِجله وتَعَذَّر عليه العَوْدُ إلى الحج والعمرة، يبقى في بقية عُمره حاسر الرأس مجردًا مِن اللباس محُرَّمًا عليه ما يَحرُم على المُحْرِم. وذلك بَعِيد شرعًا) (¬2). والله تعالى أعلم. تنبيه: 671 - إنْ يَكُ ذُو الْخُصُوصِ قَدْ تَأَخَّرَا ... عَنْ ذِي الْعُمُومِ بَعْدَ وَقْتٍ قُرِّرَا 672 - لِعَمَلٍ بِهِ، فَذَاكَ نَاسِخُ ... لِقَدْرِ مَا عَارَضَهُ، وَرَاسِخُ 673 - وَ [قَبْلَ وَقْتِهِ] (¬3) يُخَصُّ مُطْلَقَا ... مُؤَخَّرًا يَكُونُ أَوْ قَدْ سَبَقَا 674 - أَوْ كَانَ قَدْ قَارَنَهُ أَوْ جُهِلَا ... فَإنْ يَكُنْ كُلٌّ إذَا مَا نُقِلَا 675 - أَخَصَّ مِنْ وَجْهٍ وَمنْ وَجْهٍ أَعَمْ ... فَيَطْلُبُ التَّرْجِيحَ مَن لِذَاكَ أَمْ الشرح: لما انتهى بيان العموم وصِيَغه والتخصيص والمخصص، احْتِيج إلى معرفة بناء العام على ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/ 11). (¬2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/ 12). (¬3) في (ض، ش): قيل وفيه. وفي (ن 3، ن 4): قيل وقته.

الخاص والخاص على العام. أي: أيُّهما يُعمَل به؟ وفي أي حال؟ ولما كانت داخلة في القواعد السابقة فيهما -لمن تَأمَّل ذلك- ترجمتُ عليها بالتنبيه. فإذا ورد نَصَّان مِن الكتاب أو مِن السُّنة أو أحدهما مِن الكتاب والآخَر من السنة فلا يخلو أن يكون أحدهما أَعَم مِن الآخَر مطلقًا والآخَر أَخَص منه مطلقًا. وإما أن يكون كل منهما أعم مِن الآخَر مِن وَجْه وأَخَص منه مِن وجه. فالأول: إما أن يُعْلَم تاريخ ورُودِهما أو يُجهَل. فإنْ عُلم فإما أن يكون الخاص مؤخَّرًا عن العام، أو العام مؤخَّرًا عن الخاص، وإما أن يتقارنَا. فإنْ كان الخاص مؤخرًا عن العام فهو قِسمان: أحدهما: أن يكون بعد دخول وقت العمل به. والثاني: أن يكون قبله. فإنْ كان بعد دخول وقت العمل به، كان الخاص ناسخًا لِقَدْر ما عارضه مِن أفراد العام، فيُشترط فيه ما يُشترط في النَّسخ، حتى لا يجعل الآحاد في الخاص ناسخًا للقرآن أو متواتر السُّنة. ولا يقال في مثل ذلك: إنه تخصيص؛ لأن التخصيص بيان، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع قطعًا، فيُعمل بالعام في بقية الأفراد. وهو معنى قولي: (نَاسِخُ لِقَدْرِ مَا عَارَضَهُ)، فهو أحسن مِن قوله في "جمع الجوامع": (إنْ تأخَّر الخاص عن العمل، نسخ العام) (¬1)، فإنه يوهم أنه ينسخ جملة العام، وإنْ كان المعنى ¬

_ (¬1) جمع الجوامع (2/ 77) مع حاشية العطار.

مفهومًا. وأيضًا فقوله: (عن العمل) يقتضي أنه يتأخر عن نفس العمل، وإنما المدار على تأخُّره عن وقت العمل وإنْ لم يقع عمل. والمراد بقولي: (بَعْدَ وَقْتٍ): بعد أول الوقت، فهو أحسن مِن التعبير بالتأخر عن وقت العمل وان كان هذا هو المراد. القسم الثاني من تأخُّر الخاص: أن يكون قبل دخول وقت العمل بالعام، فيكون تخصيصًا للعام وبيانًا أنَّ ما بقي من أفراده هو المراد. وهو بناء على المرجَّح في تأخير البيان عن وقت الخطاب. فأما إنْ قيل بالمنع، فإنه يكون كالذي قبله في كونه نسخًا، لا تخصيصًا. كذا قاله الشيخ أبو حامد و [الشيخ أبو إسحاق، وسُليم] (¬1) قال: ولا يُتصور في هذه المسألة خلاف يختص بها، وإنما هما القولان في جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب ونَفْيه. ويُنقل كوْنه نسخًا في هذه الحالة عن معظم الحنفية بشرط أنْ يتراخى الخاص عن العام بقدر ما يتمكن المكلَّف مِن العمل أو الاعتقاد. قالوا: لأنهما دليلان وبيْن حُكمَيهما تنافٍ، فيُجعل المتأخِّر ناسخًا للمتقدم؛ دَفْعًا للتناقض. ¬

_ (¬1) في (س، ت، ض): سليم والشيخ أبو إسحاق. وعبارة الزركشي في (البحر المحيط، 2/ 537): (هَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبَو حَامِدٍ الْأسْفَرايِينِي، وَسُلَيْمٌ، قَالَ: وَلَا يُتَصَوَّرُ في هَذ الْمَسْأَلةِ خلَافٌ يخْتَصُّ بِهَا، وَإِنَّمَا يَعُودُ الْكَلَامُ فِيهَا إلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ. اهـ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ في "اللُّمَعِ" نَحْوَهُ).

ورُدَّ بأن التخصيص أقَل مفسدة مِن النسخ. وإنْ كان العام مؤخَّرًا عن الخاص فهو أيضًا قسمان: أن يتأخر عن وقت العمل بالخاص، أو يَرد قبل دخول وقته. فالأُولى: يُبْنَى فيه العام على الخاص عندنا؛ لأن ما تناوَله الخاص مُتَيَقَّن وما تناوله العام ظاهر مظنون، فالمتيقَّن أَوْلى. قال إلْكِيَا: وهذا أحسن ما عُلل به. وذهب أبو حنيفة وأكثر أصحابه والقاضي عبد الجبار إلى أنَّ العام المتأخر ناسخٌ للخاص المتقدم. وفي قول ثالث: الوقف. قاله ابن العارض المعتزلي. وفي قول رابع: أنه نَسخٌ ما لم تَقُم دلالة مِن غيره على أنَّ العموم مرتَّب على الخصوص. قال أبو بكر الرازي: (وكان شيخنا يحكي أنَّ مذهب أصحابنا ومسائلهم تدل عليه. وقد جعل أبو حنيفة قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] منسوخًا بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]؛ لأنه نزل بعد) (¬1). ثم قال: (وقد ناقض الشافعي أصله في هذه المسألة في صُوَر: منها: قوله لأنيس: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإنِ اعترفت فارجمها" (¬2). فجعله قاضيًا على قضية ماعز في اعتبار تكرار الإقرار أربع مرات، مع أنَّ قضية ماعز خاصة مُفسرة وقضية أنيس عامة. ¬

_ (¬1) الفصول في الأصول (1/ 385). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 2190)، صحيح مسلم: (رقم: 1697) واللفظ للبخاري.

ومنها أنه قال: "الوضوء مما مست النار" (¬1) منسوخ بأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - لحمًا وخبزًا ولم يتوضأ، فنسخ العام بالخاص الذي هو ترك بعض ما مست النار وهو الخبز واللحم، ونَسخ بالفعل، ولا ينسخ في مثل ذلك إلا بلفظ) (¬2). قال: (ونحن إنما تركنا الوضوء مما مست النار لقاعدة أنَّ خبر الواحد لا يُقبَل فيما تَعُم به البلوى، وحملنا الحديث على غسل اليد. ومنها قوله: إن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث" (¬3) يكون ناسخًا لقتل شارب الخمر في الرابعة، فجعل العام ناسخًا للخاص) (¬4). قلتُ: وجواب الأول أنَّ صورة التخصيص أو النسخ أن يقع تعارُض، ولا تعارض بين العام الذي هو "فإنِ اعترفت" من حيث إنه نكرة في سياق الشرط يشمل الاعتراف مرة وأكثر. وأما اعتراف ماعز أربعًا فواقعة عَيْن يحتمل أن ذلك لكون الأربع لابُدَّ منها، وأنْ يكون لطلب الستر والإيماء إلى الرجوع؛ ولهذا قال له: "أبك جنون؟ لعلك قَبَّلت؟ " (¬5). فأين المعارضة التي قَدَّم فيها الشافعي العموم على الخصوص؟ ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (رقم: 351). (¬2) الفصول في الأصول (1/ 401 - 403). (¬3) سنن أبي داود (4502)، سنن الترمذي (2158)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 4502). وهو في: صحيح البخاري (رقم: 6484)، صحيح مسلم (رقم: 1676) بلفظ: (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله وَأَنِّي رسول الله إلا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ .. ). (¬4) الفصول في الأصول (1/ 401 - 403). (¬5) سبق تخريجه.

وجواب الثاني: فقد روى جابر -كما في "سنن أبي داود" و "النسائي" وصححه ابن حبان وابن خزيمة وابن السكن- أنه قال: "كان آخِر الأمرين مِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار" (¬1). وليس فيه تقييد لا بِلَحم ولا بخبز، فهو مستند الشافعي في نسخ الوضوء مما مست النار مع ما انضم إليه مما هو في معناه. وجواب الثالث: أنه لم يصح في قتل شارب الخمر في الرابعة شيء حتى يكون الأخذ بحديث: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث" ناسخًا له، والنسخ متوقف على صحة ذلك المنسوخ وتَقدُّمه على الناسخ، وذلك يستدعي معرفة التاريخ. فلم ينسخ الشافعي خاصًّا بعام. والقسم الثاني: أن يتأخر العام عن وقت الخطاب بالخاص، لا عن وقت العمل به. فهو كالذي قبله في جريان الخلاف، إلا على رأي مَن لم يجوِّز نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به، كعبد الجبار. وجعل إلْكِيَا الخلاف في هذا القسم مَبنيًّا على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، فمَن لم يجوِّزه، جعله نسخًا. وأما المتقارنان (والمراد أن يتصل أحدهما بالآخر، لِتَعذُّر القرآن الحقيقي في مثل ذلك) فهو أيضًا قِسمان: ¬

_ (¬1) سنن النسائي (رقم: 185)، صحيح ابن حبان (1134) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح النسائي: 185). وهو في سنن أبي داود (رقم: 192) بلفظ: (كَانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ).

أحدهما: أن يقارن الخاص العام، كما لو قال - صلى الله عليه وسلم -: "زكوا البقر ولا تزكوا العوامل"، فالخاص هنا مُقدَّم على العام بالإجماع كما قاله الشيخ أبو حامد والقاضي عبد الوهاب وأبو بكر الرازي؛ لأن الخاص بيَّن العام وخصَّصه بما أريد به. قال أبو بكر الرازي: (هو معه كالاستثناء مع المستثنى منه بلا خلاف، كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] الآية، وعقَّبها بقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة: 3] فخص حالة الاضطرار قبل استقرار حكمها) (¬1). نعم، في "المحصول" أنَّ بعضهم ذهب إلى أن ذلك القدْر مِن العام يعارض الخاص، أي: فيرجح بمرجِّح أو يوقف. وعزاه ابن السمعاني للقاضي أبي بكر. الثاني: أن يكون العام مقارنًا للخاص، نحو أن يقول: "لا زكاة فيما دون خمسة أوسق"، ثم يُعقِّبه بقوله: "وفيما سقت السماء العشر". فإنه عام في الخمسة أوسق وفيما دُونها، فهذا لا يمكن فيه النسخ؛ لأن شرطه التراخي، وهو هنا مقارن؛ فَيتَعَيَّن بناء العام على الخاص. وأما إذا جُهل التقدم أو التأخر في أحدهما، فعند الشافعي وأصحابه أنَّ الخاص منهما يخص العام، وهو قول الحنابلة، ونقله القاضي عبد الوهاب والباجي عن عامة أصحابهم، وبه قال القاضي عبد الجبار وبعض الحنفية. وذهب أبو حنيفة وأكثر أصحابه إلى التوقف إلى ظهور التاريخ أو إلى ما يرجِّح أحدهما أو يرجع إلى غيرهما. ويحكَى أيضًا هذا عن القاضي أبي بكر وعن الدقاق. والحاصل أن [كُلًّا مِن] (¬2) الإمامين الشافعي وأبي حنيفة جارٍ في هذه الحالة على أصله؛ لأن عند الشافعي العمل بالخاص دائمًا, ولا يضر كونه في بعض الصور نسخًا. ¬

_ (¬1) الفصول في الأصول (1/ 406). (¬2) في (س، ت، ض): كلام.

وأبو حنيفة لما كان ينسخ الخاص بالعام المتأخر ويخصص بالخاص المتأخر أو ينسخ به فالأمر عند الجهل دائرٌ بين أن يكون الخاص منسوخًا أو مخصِّصًا أو ناسخًا. فعند التردد يجب الوقف. وقد لخصتُ مذهب الشافعي في هذه الأقسام بقولي: (وَ [قَبْلَ وَقْتِهِ] (¬1) يُخَصُّ مُطْلَقَا) إلى آخره. وأما إذا كان أحد النَّصين أَعَم مِن الآخَر مِن وَجْه وأَخَص من وجه، فليس تخصيص عموم أحدهما لعموم الآخر بأَوْلى مِن عكسه؛ فيُطْلَب الترجيح من الخارج. وهو معنى قولي: (فَيَطْلُبُ التَّرْجِيحَ مَن لِذَاكَ أَمْ). أي: مَن قصد معرفة الراجح مِن هذين المتساويين فيما ذكرناه. مثاله قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن بَدَّل دِينه فاقتلوه" مع نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء (¬2). فإن الأول خاصٌّ بالمرتدين، عامّ في الرجال والنساء، والثاني خاصٌّ بالنساء، عامٌّ في الحربيات والمرتدات. قال ابن دقيق العيد: (وكأنَّ مرادهم بالترجيحِ الترجيحُ العام الذي لا يخص مدلول العام، كالترجيح بكثرة الرواة وسائر الأمور الخارجة عن مدلول العموم من حيث هو). انتهى لكن صاحب "المعتمد" حكى عن بعضهم أن أحدهما إذا دخله تخصيص مجُمَع عليه، كان أَوْلى بالتخصيص، وكذا إذا كان أحدهما مقصودًا بالعموم، فإنه مرجَّح على ما كان عمومه اتفاقًا. ¬

_ (¬1) في (ض، ش): قيل وفيه. وفي (ن 3، ن 4): قيل وقته. (¬2) صحيح البخاري (2852)، صحيح مسلم (1744).

تنبيهات أحدها: لم يحكوا عن الحنفية في هذا القسم الأخير التفصيل بين معرفة التاريخ في المتقدم أو التأخر والمقارنة حتى يكون المتأخر ناسخًا كما ذكروه في الأقسام التي قبله، ولكنه قياس ذلك، فلا يبعد أن يقولوا به. الثاني: جَعْل الحنفية الخاص المتأخر عن الخطاب قبل دخول وقت العمل ناسخًا لِمَا قابله مِن أفراد العام -مُفَرَّع على قولهم: إنَّ دلالة العام على كل فرد من أفراده قطعية. وقد سبقت المسألة في موضعها، وكذلك أشار إليه إلْكِيَا، فقال: خلافهم مبني على قولهم في العام الذي لم يدخله التخصيص: إنه نَصٌّ في الاستغراق حتى لا يجوز تخصيصه بالقياس. الثالث: قال ابن دقيق العيد: إن شرط البناء في الأقسام السابقة -غير الأخير- التنافي في الكل أو في موضع الخاص. أما إذا لم يحصل التنافي، فلا. قال: وكذا القول في حمل المطلق على المقيد. وعلى هذا فإذا ورَدَ عام وخاص في طرف النفي والنهي، فلا يُبْنى العام على الخاص ولا يُقيَّد المطلق. كما في نهيه عن مَس الذكَر باليمين في الاستنجاء، والنهي عن مَسِّه باليمين مطلقًا. فيبقى ذلك على عمومه؛ لدلالته على النهي في محل لا يدل ذلك الآخَر عليه. هذا إذا قلنا بتعدد الحديث. أما إذا قُلنا: حديث واحد اختلفت الرواية في لفظه، فلا. الرابع: لهذه المسألة عُلْقَة أيضًا بباب التراجيح، لكن عُلْقتها هنا أقوى، فتذكر هنا غالبًا كما سبق نظير ذلك في تَعارض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - مع فِعله. والله أعلم.

الفصل الثالث في "المطلق" و "المقيد"

الفصل الثالث في "المُطْلَق" و "المُقَيَّد" 676 - " الْمُطْلَقُ" الَّذِي عَلَى الْمَاهِيَّهْ ... يَدُلُّ دُونَ الْقَيْدِ بِالْكُلِّيَّهْ 677 - وَقَدْ مَضَى بَيَانُهُ، وَ "النَّكِرَهْ" ... بِوَحْدَةٍ شَائِعَةٍ مُشْتَهِرَهُ الشرح: لَمَّا كان معنى "المطلق" و "المُقَيَّد" قريبًا مِن معنى "العام" و "الخاص" ذُكِرا [عقبهما] (¬1)، بل جعله البيضاوي تذنيبًا داخلًا في باب العام والخاص. أيْ: ذنابة وتتمة له. و"المطلق": مأخوذ مِن مادة تدور على معنى الانفكاك مِن القيد، ثم صار في عُرْف اللسان حقيقة في اللفظ الآتي بيانه وبيان ضده وهو "المقيد". فـ "المطلق" عُرفًا: اللفظ الدال على الماهيَّة بلا قَيْد. أي: بلا تقييد بشيء من عوارض الماهية من كثرة ووحدة. وإليه الإشارة بقولي: (دُونَ الْقَيْدِ بِالْكُلِّيَّهْ). فإنْ قُيِّدت تلك الماهية بكثرة محصورة فالعدد، أو غير محصورة فالعام، أو قيدت بوحدة شائعة فالنكرة، أو مُعيَّنة فالمعرفة. وقد سبق بيان ذلك في مباحث اللغة في تقسيم القول المفرد. وقد عُلم من هذا أن مفهوم "المطلق كُلي". هذا حاصل معنى كلام الغزالي في "المستصفى" والإمام الرازي ¬

_ (¬1) في (ض، ت): عقيبهما. وفي (س): عقبيهما.

وأتباعه. ووهم ابن الزملكاني في "البرهان" حيث نقل عن الإِمام أنَّ المطلق والنكرة سواء، وأورد عليه أنَّ عَلَم الجنس -كَـ "أسامة"- يدل على الحقيقة مِن حيث هي وليس بنكرة. وليس كما نَقل؛ لِمَا سبق مِن النقل عن الإِمام التقسيم المشْعِر بالمغايَرة. وأيضًا فعَلَم الجنس إنما وُضع للماهية بِقَيْد حضورها في الذهن، لا مِن حيث هي. فكيف يوردها على الإِمام بتقدير أنَّ الإِمام وَحَّد بين المطلق والنكرة؟ نعم، الآمدي وابن الحاجب قالا: إن المطلق الدال على الماهية بقيد الوحدة الشائعة كالنكرة. إلا أنَّ دعوى الآمدي ذلك لقاعدته في إنكار الكُلي الطبيعي، وابن الحاجب وإنْ أَثبته لكنه وافق النحاة في عدم الفرق بين المطلق والنكرة. لكن النحاة إنما سلكوا ذلك [لعدم] (¬1) غرضهم في الفَرق؛ لاشتراكهما في أحكام الألفاظ، كقبول "أن" ونحوه. وقد سبق لذلك مزيد بيان في الفرق بين عَلَم الجنس واسم الجنس. وأما الأصوليون فنظرهم في تحقيق المعاني، والقَطع بالفرق موجود كما سبق في التقسيم، وكذا الفقهاء؛ لاختلاف الأحكام بسبب المعاني. فقال الغزالي فيمن قال: "إنْ كان حملُها غلامًا فأعطوه كذا" فكان غلامين: لا شيء لها؛ لأن التنكير يُشعر بالتوحيد. وفيمن قال: "إنْ كان حملُك ذكرًا فأنت طالق طلقتين" فكان ذكرين: لا تطلق؛ لهذا المعنى. وقيل: تطلق؛ حملًا على الجنس. فانظر كيف فرقوا بينهما. ¬

_ (¬1) في (ت، س، ض): لعذر. وفي هامش (س): (لَعَلَّهُ: لعدم).

قيل: والتحقيق أنَّ المطلق قسمان: - واقع في الإنشاء، نحو: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] , وهو الدال على الحقيقة مِن حيث هي. وعليه يُحمل كلام "المحصول" وأتباعه. - وواقع في الخبر، كَـ "رأيت رجُلًا"، فالمراد واحد مِن الجنس. وعليه ينزل كلام ابن الحاجب. تنبيهات الأول: المطلق قطعيُّ الدلالة على الماهية عند الحنفية وظاهر فيها عند الشافعية كالعام، وهو يشبهه كما سبق؛ لاسترساله على كل فرد، إلا أنه على سبيل البدل، ولهذا قيل: عام عموم بَدَل. الثاني: الإطلاق والتقييد مِن عوارض الألفاظ باعتبار معانيها اصطلاحًا. فإنْ أُطلِق في عُرف على المعاني فلا مُشَاححة في الاصطلاح، وهُما أمران نسبيان باعتبار الطرفين. فمُطلق لا مطلق بعده (كَـ "معلوم")، ومُقيَّد لا مقيد بعده (كَـ "زيد")، وبينهما وسائط يكون مِن المقيد باعتبار ما قَبْل ومن المطلق باعتبار ما بَعْد، كجسم وحيوان وإنسان. قال الهندي: فالمطلق الحقيقي ما دل على الماهية فقط، والإضافي مختلف. فالحاصل أنَّ الشيء قد يكون مطلقًا باعتبار ومُقيَّدًا باعتبار. كَـ "رقبة مؤمنة" مطلق باعتبار سائر الرقاب المؤمنة، ومقيَّد باعتبار مُطْلَق الرقبة. وذلك إنما يكون في الاعتباري، لا الحقيقي. الثالث: قال صاحب "خلاصة المآخذ": (اختيار مشايخ خراسان وما وراء النهر أن المطلق ثابت في الأذهان دُون الأعيان، وحُكمه حُكم العام إلى قيام دليل التعيين). انتهى

وحينئذٍ فيكون في العمل بالمطلق قبل البحث عن المقيد الخلاف في العموم. أنْايع: قال ابن السبكي في "جمع الجوامع": (إنَّ الآمدي وابن الحاجب إنما وَحَّدَا بين المطلق والنكرة؛ لِتَوَهُّمهما أن المطلق هو النكرة) (¬1). قيل: ولم يتوهماه، إنما تَحققاه [كمَا] (¬2) ذكرناه مِن الباعث لهما على ذلك، وإلا فلا يخفَى عليهما ولا على غيرهما أن مفهوم الماهية بلا قيد ومفهومها مع قيد الوحدة متغايران. وإنما التكليف لا يتعلق إلا بالموجود في الخارج، وذلك لابُدَّ أن يكون واحدًا غير مُعَيَّن. ولهذا وافق صاحب "البديع" ابن الحاجب على مقالته، ثم قال فيما بعد: (إن الحق تفسير المطلق بالماهية مِن حيث هي) (¬3). ولذلك فرّعا ما سيأتي. والله أعلم. ص: 678 - فَالْأَمْرُ بِالْمُطْلَقِ مِنْ مَاهِيَّهْ ... لَيْسَ بِجُزْئِيٍّ عَلَى الْجَلِيَّهْ 679 - لَكِنْ بِهِ يَحْصُلُ الِامْتِثَالُ ... فَغَيْرُهُ "مُقَيَّد"، يُقَاُل: الشرح: أي: يتفرع على أنَّ المطلقَ الدالُّ على الماهية من حيث هي (لا مَع وحدة شائعة؛ لأن ذاك النكرة) أنَّ الأمر بالمطلق أمر بالماهية، ولكن لَمَّا لم يحصل إلا في ضمن جزئي، اقتضى ذلك أنه مطلوب مِن حيث ما يحصل به الامتثال، لا أن الجزئي مطلوب ابتداءً. ¬

_ (¬1) جمع الجوامع (2/ 79) مع حاشية العطار. (¬2) في (ت): لما. (¬3) نهاية الوصول إلى علم الأصول للساعاتي (2/ 484) رسالة جامعية لنيل درجة الدكتوراة من الطالب: سعد بن عرير بن مهدي السلمي، جامعة أم القرى/ 1985 م.

وأما على طريقة الآمدي وابن الحاجب فالأمر بالمطلق أمر بجزئي من جزئيات الماهية، لا بالكُلي المشترك. فالمطلوب بـ "اضْرِب" مثلًا فِعل جزئي من جزئيات الضرب من حيث مطابقته للماهية الكُلية المشتركة؛ لأن الماهية الكلية يستحيل وجودها في الأعيان. وضُعِّف ذلك بوضوح الفرق بين الماهية بشرط شيء وبشرط لا شيء ولا بشرط. وحينئذٍ فالمطلوب الماهية من حيث هي، لا بقيد الجزئية ولا بقيد الكلية. واستحالة وجودها في الخارج إنما هو من حيث تجردها, لا في ضمن جزئي، وذلك كافٍ في القدرة على تحصيلها. نعم، ابن الحاجب يقول: إن الماهية مطلوبة أولًا باعتبار دلالة المطلق عليها بالمطابقة، ولما توقف وجودها على جزئي، كان ذلك الجزئي مطلوبًا من حيث توقف وجودها عليه؛ فآلَ الأمر إلى أن المطلوب بالمطلق جزئي وإن لم يكن بالمطابقة. وممن حكى ما قرره الإِمام الرازي وأتباعه -مِن أن الأمر بالمطلق أمر بالكلي المشترك- عن مذهب الشافعي أبو المناقب الزنجاني، وقال: (إن مُقابِلَه مذهب أبي حنيفة). تنبيه: أَبْدَى الصفي الهندي احتمالًا في "باب القياس" في الكلام على حُجية قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] أنه إذن في كل جزئي من جزئيات الماهية. حيث اعترض الخصم بأن الدال على الكُلي لا يدل على الجزئي، فلا يَلزم الأمر بالقياس الذي هو جزئي من الكُلي الذي هو مُطْلَق الاعتبار. فقال الهندي: (يمكن أن يجاب بأن الأمر بالماهية الكلية وإنْ لم يَقتضِ الأمر بجزئياتها لكن يقتضي تخيير المكلَّف في الإتيان بكل واحد مِن تلك الجزئيات بدلًا عن الآخَر عند عدم القرينة المعيِّنة لواحد منها أو بجميعها، ثم التخيير بينها يقتضي جواز فِعل كل واحد

منها) (¬1). وقولي: (فَغَيْرُهُ "مُقَيَّدٌ") إشارة إلى أن تعريف مقابِل المطلق -وهو المقيد- بمقابِل تعريف المطلق. فيقال: المقيد الذي يدل على الماهية بقيد. وقولي: (يُقَالُ) تتمته قولي بعده والله أعلم: ص: 680 - هُمَا كَذِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ... فِيمَا مَضَى لَكِنْ مِنَ التَّخْصِيصِ 681 - بِذَيْنِ أَنْ يُقَالَ: إنْ كَانَ اتَّحَدْ ... حُكْمُهُمَا وَمُوجِبٌ فِيمَا وَرَدْ 682 - وَمُثْبَتٌ كِلَاهُمَا وَأُخِّر ... مُقَيَّدٌ لِوَقْتِ أَنْ تَقَرَّرَ 683 - عَمَلُ مُطْلَقٍ، فَمَنْسُوخٌ بِهِ ... في غَيْرِ ذَا الْمُطْلَقِ قُلْ بِحَمْلِهِ 684 - عَلَى مُقَيَّدٍ، نَعَمْ، إنْ نُفِيَا ... فَقَائِلُ الْمَفْهُومِ قَالَ: أُجْرِيَا 685 - تَقْيِيدُهُ بِهِ وَلكِنَّهُمَا ... فَمُطْلَقٌ بِضِدِّ وَصْفٍ قُيِّدَا 686 - وَذَانِ إنْ أَمْرًا وَنَهْيًا وَرَدَا ... مِنْ ذِي عُمُومٍ وَخُصُوصٍ، فَاعْلَمَا 687 - أَمَّا اللَّذَانِ اخْتَلَفَا في السَّبَبِ ... أَوْ حُكْمِهِ مَعَ اتِّحَادِ الْمُوجِبِ 688 - فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ فِيهِمَا عَلَى ... مُقَيَّدٍ، أَيْ: بِالْقِيَاسِ حُمِلَا الشرح: أي: المطلق والمقيد كالعام والخاص في كل ما سبق مِن المخصِّصات المتفق عليها والمختلف فيها والمختار والمُزَيَّف على ما فُضل هناك كما أشار إلى ذلك ابن الحاجب وغيره. ¬

_ (¬1) نهاية الوصول (7/ 3088).

ونزيدهما مسألة في حمل المطلق على المقيد. ولا يقال: كان ينبغي -إذا كانت داخلة في تعميم التشبيه بالعام والخاص من حيث إنَّ العام محمول على الخاص والمطلق محمول على القيد -أن لا تُفْرَد بالذكر. لأنَّا نقول: تخالفهما مِن وجوه أخرى، وهي أنَّ لنا هنا مَن يرى يحمل المقيد على المطلق، ولا قائل هناك يحمل الخاص على العام. وأيضًا فالحمل هناك للعام على غير المُخرَج بالتخصيص، وهنا بالعكس، العمل هنا للمطلق على نفس المقيد. وأيضًا فمِن أقسام ورود المطلق والمقيد ما قد يكون فيه تخصيص، وما يكون حملًا لا تخصيصًا. وأيضًا فالحمل هنا بطريق القياس على رأيٍ، وغير ذلك من الأحكام الآتي بيانها، فاحْتِيجَ للإفراد بالذكر. فإذا ورد مطلَق فقط أو مقيَّد فقط فحُكمه واضح، أو مطلق في موضع ومقيد في آخَر، فقصر المقيد على قيده يَطرقه الخلاف السابق في المفاهيم. وأما تقييد المطلق بقيد المقيد فهو المراد هنا، لكن شرط فيه الماوردي والروياني أن يكون القيد معمولًا به، نحو: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] الآية، فالمرض والسفر شرط في إباحة التيمم. فأما إذا لم يكن معمولًا به، فلا يُحمل عليه المطلق قطعًا، كقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] فليس الخوف شرطًا في القصر. وإهمال الأصوليين هذا الشرط إنما هو لوضوحه، وحينئذٍ فللمطلق والمقيد بشرطه أحوال:

الأُولى: أنْ يتحد حُكمهما والوجِب للحكم وهُما مُثبَتان أو ما في معنى الإثبات، وهو الأمر، نحو: (إنْ ظاهرتَ فأعتِق رقبة)، وفي موضع آخَر: (فأعتق رقبة مؤمنة). فهذا يُحمل فيه المطلَق على المقيَّد اتفاقًا كما قاله القاضيان أبو بكر وعبد الوهاب، وابن فورك وإلْكِيَا وغيرهم. وممن نقل موافقة أبي حنيفة في ذلك أبو زيد في "الأسرار" وأبو منصور الماتريدي في "تفسيره" وغيرهما؟ ولهذا حمل قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] على قراءة ابن مسعود: "متتابعات"، أي: إذا قيل: إنها قراءة. وأما إذا قلنا: (تفسير منه باجتهاده) كما يقوله أصحابنا، فلا. ومن ذلك إطلاق تحريم الدم في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] , وفي موضع تقييده بالمسفوح حتى يكون الدم غير المسفوح من الباقي على اللحم والعظام غير منهي عنه كما قاله النووي في "شرح المهذب" نقلًا عن الثعلبي في "تفسيره"، قال: (وهو مِن كبار أصحابنا، وقَلَّ مَن تَعرض للمسألة، وهو أمر مهم؛ لمشقة الاحتراز فيه؛ ولأن الله لم يَنْهَ إلا عن الدم السفوح وهو السائل) (¬1). انتهى قلتُ: وكذا قال البغوي وابن القشيري في "تفسيرهما" وغيرهما أيضًا من المفسرين. بل نقل ابن عطية الإجماع على حِل الدم المخالِط للحم. لكن في كل ذلك نظر؛ ففي "النهاية" لإمام الحرمين في "باب الرهن" أنَّ مذهب الشافعي الحكم بنجاسة الدم حالة تخلله في العروق. وضَعَّف الإِمام اشتراط السفح بأنه ليس في سفحه وخروجه من اللحم والعروق ما يقتضي تنجسه بخصوصه، ولو كان التحريم مُقيدًا بالمسفوح لَمَا احْتِيجَ إلى استثناء الكبد ¬

_ (¬1) المجموع شرح المهذب (2/ 515).

والطحال. ويدل لذلك أيضًا تضعيف أصحابنا مقالة الحنفية: إنَّ دم السمك والجراد طاهر؛ لأنه ليس مسفوحًا. وأجاب الإمام الرازي في "تفسيره" بأن: (الآية إنما قيل فيها: {قُلْ لَا أَجِدُ} [الأنعام: 145] , ويجوز أن يكون تحريم الدم على الإطلاق متأخرًا عن تحريم المسفوح) (¬1). انتهى قلتُ: ولا يقدح ذلك في قاعدة حمل المطلق على المقيد باتفاق في مثل هذه الحالة؛ لأن [القيد] (¬2) خرج مَخْرَج الغالِب يومئذٍ؛ لأنهم كانوا يأخذون الدم المسفوح يضعونه في المصران ويجففونه ويضيفون به الناس. وشَرْط القيد كما سبق أن يكون معتبرًا. ومما مثل به هذه الحالة أيضًا {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] , وفي موضع بِقَيْد "منه" [المائدة: 6]. وحديث: "يمسح المسافر ثلاثة أيام" (¬3) وفي موضع: "إذا تطهر فلبس خُفَّيه" (¬4). وفي حديث: "فرض زكاة الفطر على كل صغير وكبير" (¬5) إلى آخره، وفي موضع: "ممن ¬

_ (¬1) مفاتيح الغيب (5/ 18). (¬2) كذا في (ق، ش، ت)، لكن في (ص): المقيد. (¬3) صحيح مسلم (276)، سنن أبي داود (157)، سنن النسائي (رقم: 128، 129)، وغيرها. (¬4) صحيح ابن خزيمة (رقم: 192)، سنن الدارقطني (1/ 204)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 1251)، وغيرها. قال الألباني: إسناده حسن. (السلسلة الصحيحة: 3455). (¬5) سنن الدارقطني (2/ 140) بلفظ: (فرض زكاة الفطر على الصغير والكبير)، وفي صحيح البخاري (رقم: 1432) بلفظ: (فَرَضَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا من تَمْرٍ أو صَاعًا من شَعِيرٍ على الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيِر من المُسْلِمِينَ)، صحيح مسلم (رقم: 984).

تمونون" (¬1). وفي: "لا نكاح إلا بولي" (¬2) في موضع آخَر: "بولي مرشد" (¬3). نعم، في بعض هذه المثُل نظر مِن حيث إن العام في الأشخاص عام في الأحوال، لا مطلق. وأيضًا هذا كما قال ابن العربي هو مسألة المفهوم، نحو: "في أربعين شاة شاة" (¬4)، وفي موضع: "في الغنم السائمة الزكاة" (¬5). وهذا يقتضي مخالفة الحنفية في ذلك؛ لأنهم لا يقولون بالمفهوم، بل صرح ابن برهان في "الأوسط" بأن عندهم خلافًا في العمل [وأن الصحيح: يُحمل. وممن حكى الخلاف عندهم ابن السمعاني] (¬6). وحكى [الطَّرَسُوسِي] (¬7) في ذلك أيضًا الخلاف عن المالكية، وأنهم مثلوه بإطلاق المسح ¬

_ (¬1) سنن الدارقطني (2/ 140)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 7475). قال الألباني: (هذا سند ضعيف كما قال الحافظ في "التلخيص"). (إرواء الغليل: 835). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) المعجم الأوسط للطبراني (1/ 166، رقم: 521)، سنن البيهقي الكبرى (13491) عن ابن عباس مرفوعا، بلفظ: (لا نِكَاحَ إِلا بِإِذْنِ وَلِيٍّ مُرْشِدٍ أَوْ سُلْطَانٍ). قال البيهقي: (تفرد به القواريري مرفوعًا، والقواريري ثقة، إلا أن المشهور بهذا الإسناد موقوف على ابن عباس). وهو في: مسند الشافعي (ص 220)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 13428) موقوفًا على ابن عباس، بلفظ: (لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل). وانظر: كلام الحافظ ابن الملقن في (البدر المنير، 7/ 578)، وكلام الألباني على طُرق هذا الحديث في (إرواء الغليل: 1839). (¬4) سبق تخريجه. (¬5) سبق تخريجه. (¬6) كذا (ص، ق). وفي سائر النسخ: (وممن حكى الخلاف عندهم ابن السمعاني وأن الصحيح: يُحمل). (¬7) في (ت، س، ض): (الطُّرْطُوشي). وفي (البحر المحيط، 3/ 8): ("الطَّرَسُوسِيُّ" بِالسِّينَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ). =

وتقييده في موضع بِـ "إذا تطهر" كما سبق. واستثنى منه بعض الحنابلة ما لو كان القيد آحادًا والمطلق متواترًا، قال: فإنه يبنى على أن الزيادة نسخ، وعلى نَسخ المتواتر بالآحاد. والمنع قول الحنفية. لكن قضية ذلك أن الحمل ليس بيانًا، بل نسخًا، وفيه خلاف، والذي صححه ابن الحاجب وغيره الأول. لكن منشأ هذا الخلاف أن الزيادة نسخ؟ أوْ لا؟ ومع ذلك لابُدَّ من تأخُّر المقيد؛ لأن الناسخ متأخر. ولكن ظاهر القول يحمل المطلق على المقيد هنا أنه لا فرق بين أن يتقدم المقيد أو يتأخر أو يقارِن أو يُجهل. وقال الغزالي في "المستصفى": (إنَّ هذا صحيح على مذهب مَن لا يرى بين العام والخاص تقابُل الناسخ والمنسوخ) (¬1). انتهى وهو يقتضي أنَّ مَن ينسخ بالعام المتأخِّر ينسخ بالمطلق المتأخِّر، ويقف عند الجهل بالتاريخ كما قاله الهندي والأردبيلي. ولكن الحقّ أنَّ هذا لا يلزم، فقد نقل الغزالي أن القاضي مع مصيره إلى التعارض في "باب العام والخاص" -أيْ ينسخ بالمتأخِّر- نقل الاتفاق على تنزيل المطلق على المقيد في هذه الحالة، أي: ذلك لأن بين العام والخاص تَعارُضًا في نفي الحكم وإثباته، وأما المطلق والمقيد فحُكمهما متحد، فلا معارضة؛ فلا نَسخ. ¬

_ =و"طُرْطُوشة" مدينة في آخر بلاد المسلمين بالأندلس على ساحل البحر وهي شرق الأندلس (وفيات الأعيان، 4/ 265). و "طَرَسُوس" من بلاد الثغر بالشام (الأنساب لابن السمعاني، 4/ 60). (¬1) المستصفى (ص 262).

نعم، إذا تأخر المقيد عن وقت العمل بالمطلق، كان ناسخًا له بدليل الخطاب كما سبق نظيره في التخصيص. وهو معنى قولي في النَّظم: (إنْ اتَّحَدْ حُكْمُهُمَا وَمُوجِبٌ) إلى قولي: (فَمَنْسُوخٌ بِهِ). وفي هذه الحالة مذهب ثالث: أنه لا يُحمل المطلق على المقيد، لا بيانًا ولا نسخًا، بل يحمل المقيد على المطلق، سواء تَقدَّم أو تأخر. وأما ما سبق في المتحد الحكم والوجِب وهُما مثبَتان ولم يتأخر المقيد عن وقت العمل مِن أنه يحمل المطلق على المقيد فأشرف إليه بقولي: (في غَيْرِ ذَا الْمُطْلَقِ قُلْ بِحَمْلِهِ عَلَى مُقَيَّدٍ). الحالة الثانية: أن يكونا مع اتحاد السبب والحكم منفيين أو في حكم المنفي وهو النهي، نحو: إلا تعتق مكاتبًا) وفي موضِع: (لا تعتق مكاتبًا كافرًا). وهو ما مثَّل به ابن الحاجب [للنفي] (¬1)، يريد ما في معناه، وهو النهي. نعم، إدخال هذا القسم في المطلق والمقيد غير جيد؛ لأن النكرة في سياق النهي عامة، فَهُما عام وخاص، فيَخُص العام بالخاص مَن يحتج بالمفهوم، ومَن لا يعمل به يعمل بالأعم مطلقًا، إلا أنه يطرقه هنا ما سبق مِن أنَّ ذِكر بعض أفراد العام هل يخص؟ أوْ لا مطلقًا؟ أو إنْ كان له مفهوم، خص، [أوْ لا] (¬2) فلا؟ وسبق ترجيح هذا. وإلى هذه الحالة أشرتُ في النَّظم بقولي: (نَعَمْ، إنْ نُفِيَا) إلى آخِره. وقال ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" في حديث: "لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه ¬

_ (¬1) كذا في (ق، س)، لكن في (ص): بالنفي. (¬2) كذا في (ص، ق)، وفي (س): وإلا.

وهو يبول" (¬1): (إنه وردت رواية أخرى في النهي عن مسه باليمين مطلقًا). وقال: (فمِن الناس مَن أخذ بهذا العام، وقد سبق إلى الفَهم أنَّ العامَّ محمولٌ على الخاص، فيختص النهي بهذه الحالة، وفيه بحث؛ لأنَّ هذا الذي قِيل متجه في باب الأمر والإثبات، فإنا لو جعلنا الحكم للمطلق في صورة الإطلاق مثلًا، كان فيه إخلال باللفظ الدال على المقيد وقد تناوله لفظ الأمر، وذلك غير جائز. وأما في باب النهي فإذا جعلنا الحُكم للمقيد، أَخْلَلْنَا بمقتضَى اللفظ المطلق مع تَناوُل النهي له، وذلك غير سائغ) (¬2). انتهى ومراده أنه في حالة النهي يخرج عن كونه مطلقًا ومقيدًا، بل عامًّا وخاصًّا كما ذكرناه، وإنْ سُمي مطلقًا ومقيدًا فمجاز كما عبَّر به هو عنهما آخِرًا. وإذا كان عامًّا، فذكر الخاص بذلك الحكم هي مسألة ذِكر بعض أفراد العام، أي: فلا تخصيص. لكن قد سبق أن ذلك حيث لا مفهوم له، وإلا فالراجح التخصيص. فإن قيل: العموم إنما هو فيما دخل عليه النهي، وهو فِعل الإمساك. قيل: قد قرر هو قبل ذلك أنَّ العام في الأشخاص عامٌّ في الأحوال والأزمنة والأمكنة. ثم قال عقب ما سبق: (إن هذا العمل إذا قُدِّرَا حديثين، أما إذا قُدِّرَا حديثًا واحدًا، فالزائد في الرواية الأخرى زيادة عَدْل يجب العمل بها) (¬3). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 103). (¬3) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 104).

الحالة الثالثة: أن يكون أحدهما في معنى النفي والآخَر في معنى الإثبات، بأنْ يكون أحدهما أمرًا والآخر نهيًا. مثل: (إنْ ظاهرت فأعتق رقبة)، ويقول: (لا تملك رقبة كافرة). فلابُدَّ من التقييد بنفي الكفر؛ لاستحالة إعتاق الرقبة الكافرة. فالحمل في ذلك ضروري، لا من حيث إن المطلق حُمل على المقيد؛ ولذلك قال ابن الحاجب: إنه واضح. وإلى هذه الحالة أشرتُ في النظم بقولي: (وَذَانِ إنْ أَمْرًا وَنَهْيًا وَرَدَا) إلى آخره. فَـ "ذان" إشارة إلى ما سبق مِن المطلق والمقيد، وتسميتهما بذلك مع كونهما عامًّا وخاصًّا مجَازٌ كما سبق. الحالة الرابعة: أنْ يختلفَا في السبب والحكم، كتقييد الشاهد بالعدالة وإطلاق الرقبة في الكفارة، فلا يحمل أحدهما على الآخر اتفاقًا كما نقله القاضي أبو بكر وإمام الحرمين وإلْكِيَا وابن برهان والآمدي وغيرهم. لكن نقل الباجي عن القاضي أبي محمَّد - مِن المالكية - أن: (مذهب مالك فيه حمل المطلق على المقيد؛ لأنه روي عنه أنه قال: عجبٌ مِن رجل عظيم مِن أهل العلم يقول: إن التيمم إلى الكوعين. فقيل له: إنه حمل ذلك على آية القطع. فقال: وأين هو من آية الوضوء؟ ). أي: فلمَ لا حَمله على آية الوضوء؛ لأن كُلًّا منهما طهارة؟ ! قال الباجي: (وهذا التأويل غير مُسلَّم؛ لأنه يحتمل أنه إنما يحمله على آية الوضوء

بقياس أو عِلة، والخلاف إنما هو في العمل بمقتضى اللفظ) (¬1). قلت: وأيضًا فيكون مِن الحالة الآتية. وهي مع اتحاد السبب كما سيأتي التمثيل به، والكلام هنا إنما هو عند اختلافهما. نعم، للشافعي قول في كفارة القتل بجواز الإطعام كما في الظهار، فيخرج منه خلاف في هذه الحالة. نعم، إنْ كان يُلتفت فيها إلى أنه: - هل هو من باب القياس؟ فيمتنع؛ لأن من شرط القياس اتحاد الحكم. - أو باللفظ؟ فيحمل عليه. واعلم أن هذه الحالة تخرج مِن ذِكري في النَّظم ما فيه اتحاد في الموِجب أو في الحكم أو فيهما، فيخرج ما اختلفا فيهما، فلا يحمل. الحالة الخامسة: أن يتحد السبب ويختلف الحكم، كإطلاق اليدين في [آية] (¬2) التيمم وتقييدهما بالمرافق في آية الوضوء، وموجِبهما واحد وهو الحدث، أو هو مع الوقت، أو الوقت فقط على الخلاف المذكور في الفقه. وظاهر إطلاقهم أنه لا خِلاف في العمل هنا، لكن ابن العربي في كتابه "المحصول" حكى فيه الخلاف الآتي في الحالة التي بعدها بين الحنفية والشافعية، وكذا حكى فيه أبو الخطاب الحنبلي روايتين عن أحمد، ومثَّلاه بما سبق، وكذا مثل القاضي في "التقريب". ¬

_ (¬1) إحكام الفصول في أحكام الأصول (1/ 286). (¬2) كذا في (ت)، لكن في سائر النسخ: باب.

بل مقتضَى إطلاق ابن الحاجب أنه لا يُحمل فيه اتفاقًا، فإنه قال: (إنِ اختلف حكمهما مثل: "اكْسُ ثوبًا"، و "أَطْعِم طعامًا نفيسًا"، فلا يحمل أحدهما على الآخر بِوَجْهٍ اتفاقًا) (¬1). وهذا يشمل ما إذا اتحد السبب وما إذا اختلف. وكذا المثال الذي مَثَّل به يحتمل الأمرين. الحالة السادسة: أن يختلف السبب ويتحد الحكم، كإطلاق الرقبة في كفارة الظهار واليمين، وتقييدها بالإيمان في كفارة القتل، فالحكم واحد، وهو وجوب الإعتاق، والسبب مختلف، وهو الظهار والقتل واليمين. وكقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} [البقرة: 282] يُحمَل على قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. فهذا هو موضع الخلاف بيننا وبين الحنفية كما سيأتي. وإليها وإلى الحالة التي قبلها أشرتُ في النظم بقولي: (أَمَّا اللَّذَانِ اخْتَلَفَا في السَّبَبِ) إلى آخر البيتين. وحاصل الخلاف - في هذه الحالة الأخيرة - مذاهب: أحدها: أن الطلق يُحمل على المقيد بمقتضَى اللغة مِن غير دليل ما لم يَقُم دليل يحمله على الإطلاق. قال الماوردي والروياني في "باب القضاء": (إنه ظاهر مذهب الشافعي). وقال الماوردي في "باب الظهار": (إنه عليه جمهور أصحابنا). وقال سُليم: إنه ظاهر كلام الشافعي. وحكاه القاضي عبد الوهاب عن جمهور ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (2/ 349).

أصحابهم. ونقله إمام الحرمين عن بعض أصحابنا، لكنه رَدَّه بقوله: (إن أقرب طريق هؤلاء أن كلام الله تعالى في حُكم الخطاب الواحد؛ فيترتب فيه المطلق على المقيد). قال: (وهذا من فنون الهذيان؛ فإنَّ قضايا الألفاظ في كتاب الله تعالى مختلفة متباينة، لبعضها حُكم التعلق والاختصاص ولبعضها حُكم الانقطاع. فمَن ادَّعَى تنزيل جهات الخطاب على حُكم كلام واحد مع العلم بأنَّ في كتاب الله تعالى النفي والإثبات والأمر والزجر والأحكام المتغايرة، فقد ادَّعَى أمرًا عظيما) (¬1). وأطال في ذلك. والمذهب الثاني: أنه لا يحمل عليه بنفس اللفظ، بل بدليل آخَر من قياس ونحوه، كما يخصَّص العموم بالقياس. فإنِ انتظم قياس بشروطه أو غيره كذلك قُيِّد به وإلا فالمطلق باقٍ على إطلاقه والمقيَّد على تقييده. وهذا هو الأظهر مِن مذهب الشافعي كما قاله الآمدي وصححه هو والإمام الرازي وأتباعهما. وإليه أشرت بقولي في النظم: (أَيْ: بِالْقِيَاسِ حُمِلَا). فيحتاج كل حَمْلٍ إلى عِلة جامعة يقع بها الإلحاق. ففي المثال السابق -وهو تقييد الرقبة بالإيمان- الجامِعُ كَوْنُ كل منهما كفارة، وفي تقييد اليدين في التيمم بالمرافق الجامعُ أنَّ كلًّا منهما طهارة في حدث في أعضاء منها اليدان. وممن ذهب إلى هذا القول القفال الشاشي، ونقل عن ابن فورك، وصححه الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني والقاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق وإمام الحرمين وابن القشيري والغزالي وابن برهان وابن السمعاني. ابن دقيق العيد في "شرح العمدة": إنه الأقرب. ¬

_ (¬1) البرهان (1/ 290).

واختاره القاضي أبو بكر ونَسبه للمحققين، وقال: لو كان تقييد المطلق لِتَقيُّد المقيَّد، لجاز إطلاق المقيَّد لإطلاق المطلَق، وهو لا يجوز إجماعًا. أي: لأن الذي لا يحمل المطلق على المقيد يعمل بالمقيد في محله بلاشك. ونقله الماوردي أيضًا عن ابن أبي هريرة، ونقله القاضي عبد الوهاب عن جمهور المالكية وغيرهم، ونقله الأستاذ أبو منصور عن ابن سريج، ونقله الروياني عن بعض أصحابنا وضعَّفه كما ضعفه الماوردي، ونُقل عن كثير غير هؤلاء. على أنَّ بعض المتأخرين زعم أن هذا كله لا يقاوم ما سبق من النقل في المذهب الذي قبله عن نفس الشافعي ومذهبه وهُم أعرف بذلك. لكن في "مناقب الشافعي" لابن أبي حاتم عن يونس بن عبد الأعلى: (سمعت الشافعي يَعِيب على مَن يقول: لا يُقاس المطلَق من الكتاب على المنصوص. وقال: يلزم مَن قال هذا أنْ يُجيز شهادة العبيد والسفهاء؛ لأن الله عَزَّ وَجَلَّ قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}، وقال في موضع آخر: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]. قال: ولكن المطلق يقاس على المنصوص في مِثل هذا، فلا يجوز إلا العدل). انتهى وهو صريح في أن الحمل بالقياس. وقال ابن برهان: كل دليل يجوز تخصيص العموم به يجوز تقييد المطلق به، وما لا فلا؛ لأنَّ المطلق عام مِن حيث المعنى، فيجوز التقييد بفعله عليه السلام وتقريره - خلافًا لبعضهم - وبمفهوم الخطاب. وقال ابن فورك وإلْكِيَا والقاضي عبد الوهاب: إنَّ القائلين بأنه قياس اختلفوا: هل القياس تخصيص للمطلق؟ أو زيادة فيه؟ والصحيح الأول، صححه عبد الوهاب وغيره. وفي "المنخول" للغزالي: (إن القائلين بالقياس اختلفوا، فقيل: لا يجوز الاستثناء من محل

التقييد، فليكن من محل آخر، وهو عدم إجْزَاء [المرتد] (¬1) بالإجماع). قال: (وهذا باطل، وإنَّ المستنبط مِن محل التقييد إنْ كان مخيلًا صالحاً، قُبِل، وإلا فهو باطل؛ لعدم الإخالة) (¬2). والمذهب الثالث: قال الماوردي: أَوْلى المذاهب يُعمل بالأغلظ حُكمًا من المطلق والمقيد إلا أنْ يدل على الحملِ على الآخَر دليلٌ. الرابع: التفصيل بين أن يكون القيد في المقيد وصفًا فيحمل المطلق عليه كالإيمان في الرقبة كما سبق، أو ذاتًا فلا، كالتقييد بالمرافق في الوضوء دُون التيمم. وهو حاصل كلام الأبهري الآتي نقله في الشروط. وحينئذٍ فيكون هذا القول هو عَيْن القول بحمل المطلق على المقيد، وغايته أن ذلك شَرْطه. الخامس: لا يحمل المطلق على المقيد مطلقًا، لا من حيث القياس ولا من حيث اللغة باللفظ. وهو مذهب الحنفية، ونقله القاضي عبد الوهاب عن أكثر المالكية بعد أن قال: إن الأصح عندهم أنه يحمل عليه قياسًا؛ لأن تقييد الخطاب في محل لا يقتضي تقييده في محل آخر؛ كما أن تخصيص العموم في موضع لا يوجب تخصيص العموم في موضع آخر. ومنشأ خلافهم في المسألة أمور: أحدها: أن المطلق هل هو ظاهر فيما يشمله؟ أو نَص فيه؟ فإنْ قُلنا: نَص، فلا يحمل على المقيَّد بالقياس، لأنه يكون نسخًا، والنسخ بالقياس ممتنع. ثانيها: أن الزيادة على النص نَسخٌ عندهم وتخصيصٌ عند الشافعي كما نقله في "المنخول" عنه والنسخ لا يجوز بالقياس، ويجوز التخصيص. ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ ولفظ "المنخول، ص 178": (المزيد). (¬2) المنخول (ص 178).

ثالثها: عدم حُجية المفهوم عندهم، فلا يحمل المطلق عليه؛ لذلك. تنبيهات الأوَّل: يُشترط في حمل المطلق على المقيد في هذه الحالة السادسة شروط: منها: أن يكون القيد صفة، نحو تقييد الرقبة بالإيمان، لا ذاتًا كالإطعام في كفارة القتل، فلا يحمل على الظهار في وجوبه عند تعذُّر صوم الشهرين على أصح قولَي الشَّافعي، وكحَمل التَّيمم في الأعضاء الأربعة على الوضوء في ذلك، بل يقتصر على الوجه واليدين. قال الماوردي: (ولذلك حمل إطلاق اليدين في التَّيمم على قيد المرافق في الوضوء؛ لأنَّ ذلك صفة في اليدين، لا أصل مستقل كما في الرأس والرجْلين) (¬1). انتهى ومنهم مَن منع ذلك؛ لأنَّه في ذات الساعدين زيادة على الكوعين. ومَن ثَم رجح ذلك النووي، فقال: يجب المسح في التَّيمم للكوعين. وممن ذكر هذا الشرط القفال الشاشي والشَّيخ أبو حامد والماوردي والروياني، ونقله [المازري] (¬2) عن الأبهري من المالكيّة. إلَّا أن القفال مَثَّل بالتيمم إلى المرفقين للصفة كما زعمه الآمدي. وفيه ما سبق مِن أنَّه حمل في ذاتٍ، لا في صفة. وقضية رد أصحابنا على الحنفية (في منعهم حمل المطلق على المقيد لكونه زيادة على ¬

_ (¬1) انظر: الحاوي الكبير (10/ 463). (¬2) في (ص، ت، س): الماوردي.

النص) [بأنَّ] (¬1) زيادة الصفة ليست زيادة؛ لدخولها تحت المطلق -أنَّ إثبات الذّات بالحمل لا يجوز اتفاقًا؛ لأنَّه زيادة قطعًا. لكن الماوردي نقل عن ابن خيران في "باب القضاء" أن المطلق يحمل على المقيد في الأصل أيضاً، كإثبات الطَّعام في كفارة القتل. أي: على أحد القولين. ومن أمثلة عدم إثبات أصل بالحمل: إذا اختار المُحْرِم في جزاء الصيد إخراج الطَّعام، فيُفرِّقه على ثلاثة؛ لأنَّ "مساكين" جمعٌ أقَله ثلاثة، ولا يوجِب عليه إطعام ستة حَملًا على كفارة الإتلاف في الحج، فإنَّه يجب لستة؛ لأنَّ ذلك زيادة ذوات ثلاث. ومنها: أن لا يتردد المطلق بين مقيدين متضادين يحتمل حَمْله على كل منهما. وسيأتي بيان ذلك في الفرع الآتي. ومنها: أن لا يكون في الإباحة. ذكره ابن دقيق العيد في حديثي المحرم إذا لم يجد نعلين فإنَّه يلبس الخفين. فقال هناك: إنَّ المطلق لا يُحمَل على المقيد في جانب الإباحة؛ إذْ لا تَعارُض. ومنها: أن لا يمكن الجمع بين المطلق والمقيد. فإن أمكن، فلا يُحمل أحدهما على الآخَر. ذكره ابن الرفعة في "المطلب"، قال: كحديث ابن عمر: "من باع عبداً وله مال فماله للذي باعه إلَّا أن يشترط المبتاع" (¬2). وفي رواية: "مَن باع عبداً فماله للبائع" (¬3) بدون ذِكر ¬

_ (¬1) في (ت، س): فإن. (¬2) صحيح البُخاريّ (رقم: 2250) بلفظ: (وَمَن ابْتَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ). (¬3) سنن أبي داود (رقم: 3435)، سنن النَّسائيّ (رقم: 4636) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 3435).

"وله مال". فإن الرّواية الأُولى تقتضي أنَّ بعض العبيد لا يكون له مال، فتكون الإضافة فيه للتمليك. والمال فيه محمول على ما يُملِّكه السيد إياه، وليس كل عبد يملّكه السيد مالاً. والثانية تشمل كل عبد، فكانت الإضافة فيها إضافة تخصيص، لا تمليك، فيحمل على ثيابه التي عليه؛ فإنَّه لابُدَّ غالبًا لكل عبد مِن ثياب. قال: فهذه الرِّواية مُطلقة تنزل على ما ذكرناه، فلا حاجة إلى تقييدها بحالة تمليك السيد المال؛ لأنَّ الجمع ممكن. ومنها: أن لا يكون المقيد ذُكِر معه قَدْر زائد يكون ذلك القيد لأجله، كـ. "إنْ قتلت، فأعتق رقبة"، وفي موضع: "إن قتلت مؤمنًا، فأعتق رقبة مؤمنة"، فلا يحمل المطلق هنا على المقيد؛ لأنَّ التقييد إنما جاء للقدْر الزائد؛ فيقتصر عليه. ولذلك لَمَّا قال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217] وفي الآية الأخرى {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] فقال أصحابنا: يحمل مطلق الآية الثَّانية على تقييد الأُولى بأن يموت وهو كافر. خلافًا لأبي حنيفة حيث قال بإحباط العمل بالرّدة وإنْ لم يتصل بالموت. فبحث فيه بعض المحقّقين بأن في المقيد زيادة يَرْجِع القيدُ لها ليست في المطلق، فكيف يحمل على المقيد؟ والزيادة هي الخلود في النَّار، وَمن لم تتصل رِدَّته بالموت بل أَسْلَم قَبْله، لا يخلد في النَّار. وأيضاً فالآيتان عام وخاص، لا مطلق ومقيد. على أنَّ الآية المطْلَقة التي تَعلَّق بها الحنفية فيها: {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85]، وذلك لا يكون فيمن عاد للإسلام؛ ولأجْل ذلك نَصَّ الشَّافعي في "الأم" على أن الرِّدَّة بمجردها تُحبط العمل وإنْ لم تتصل بالموت -على معنى: ذهاب الأَجْر.

ومنها: أن لا يمنع مِن الحمل مانع، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] الآية، لم يُقيد بالدخول وقيدت به في عِدة الطلاق في قوله: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 49] الآية، فلا يقيد في الموت بالدخول؛ للمانع، وهو بقاء أحكام الزوجية بعد الموت، وهو أنَّها ترثه وتُغسله، بخلاف المطلَّقة بائنًا، فمنع ذلك من التّقييد والتخصيص. الثَّاني: وقع في "الوسيط" للغزالي في "باب قطاع الطَّريق" أنَّ المقيد يحمل على المطلق عكس ما هو المذهب، وذلك حيث احتجَّ للقول بأنَّ توبة قاطع الطَّريق بعد القُدرة عليه تُسقط عنه الحد. قال: (لأنه تعالى خصص هنا بقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34]، وأَطلَق في آية السرقة في قوله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة: 39]) (¬1). أي: فيُعمل بالمطلَق وهو سقوط حد القاطع، قُدِر عليه أو لم يقدر؛ حملًا على عموم آية السرقة. قلتُ: ويمكن أنَّه فعل ذلك لأنَّه عام، لا مطلق. وآية التّقييد ذِكْر بعض أفراد العام، وقد سبق بيان ذلك. نعم، عمل الأصحاب بذلك في صورة، وهي حديث: "يمسح المسافر ثلاثة أيَّام بلياليهن" (¬2). لا يتقيد بهذه الإضافة، بل ثلاث ليالٍ مع الأيَّام مطلقًا؛ حملًا على إطلاق: ¬

_ (¬1) الوسيط في المذهب (6/ 499). (¬2) سبق تخريجه.

"يمسح المقيم يومًا وليلة" (¬1). قلتُ: يجوز أن يكون ذلك لتوجه المعنى، فيلحق قياساً لما سبق من اشتراط نفي الدليل على العمل بالمطلق مطلقًا. الثالث: اللفظ المطلق إذا تَطرق إليه التّقييد، حكى فيه السمناني في "الكفاية" الخلاف في الاحتجاج بالعام بعد التخصيص. وفيه نظر؛ فإن المطلَق هنا صار بعد التّقييد مرادًا به المقيَّد ليس إلَّا، وإلا فلا فائدة في الحمل. إذْ لو قِيل بالعمل بالمطلَق فيما بقي من الأفراد، لم يتحقق حَمْلُ المطلَق فيه على المقيَّد. الرابع: قال ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" في قولهم: (إنَّ المطلَق يُكتفَى بالعمل به مَرة، فلا يكون حُجَّة فيما زاد): إنَّه إنْ أُرِيدَ يُكتفَى به فِعلاً فمُسلَّم، أو حَمْلًا عليه فممنوع. فإذا قال: "أَعتِق رقبة" وأعتقت، لا يَلزم إعتاق أخرى؛ لحصول المقصود مِن غير أن يكون هناك عموم. وكذا "إنْ دخلتِ الدار فأنتِ طالق" فدخلت مرَّة، انحلت اليمين، بخلاف ما إذا قال: "أعتق رقبة" وحملناها على المؤمنة، فإنَّه يمتنع إجزاء الكافرة. والله أعلم. ص: فرع: 689 - الْمُطْلَقُ الَّذِي لَهُ قَدْ وَرَدَا ... قَيْدَانِ فِيهِمَا تَنَافٍ قَدْ بَدَا 690 - يَكُونُ بِالْأُولَى مُقَيَّدًا، وَإنْ ... تَسَاوَيَا، فَالْغِ كلَيْهِمَا، وَدِنْ 691 - بِمُطْلَقٍ، قُلْتُ: وَنَصُّ الشَّافِعِيْ ... في "الْأُمِّ" ثُمَّ في "الْبُويطِيْ" التَّابع ¬

_ (¬1) مصنف ابن أبي شيبة (1866)، سنن النَّسائيّ (رقم: 129)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح النَّسائيّ: 129).

692 - بِأنَّهُ يُعْمَلُ بِالْقَيْدَيْنِ ... أَيْ: [مبهم] (¬1) مُنْحَصِر في ذَيْنِ 693 - وَذَاكَ في غُسْل مِنَ الْكَلْبِ وَرَد ... "إحْدَى" فَفِي "أُولَى" وَ"أُخْرَى" الْمُسْتَنَدْ الشَّرح: أي: تفرع عمَّا سبق في حمل المطلق على المقيد أنَّه لو كان مقابل المطلق مقيدان متضادان، فعَلَى أيهما يحمل؟ يُنظر: إمَّا أن يكون السبب مختلفًا، فلا يجوز حمل المطلق على أحدهما إلَّا بدليل، وحينئذٍ فما لم [يدل] (¬2) قياس ولا غيره على الحمل عليه، يفرض عدمًا، ويحمل على ما دل عليه الدليل. ولأجل ذلك لم أذكر في النَّظم هذه الحالة، بخلاف الحالة الآتية. وقد سبق أنَّ مِن شروط حمل المطلق على المقيد أن لا يتردد بين مقيدين متضادين، ووعدنا ببسطه هنا، فنقول: ذكر هذا الشرط الأستاذ أبو منصور والشَّيخ أبو إسحاق في "اللمع" وإلْكِيا. وحكى القاضي عبد الوهاب فيه الاتفاق، ولكنه ليس بجيد؛ فقد حكى القفال الشاشي فيه خلافًا لأصحابنا، ولم يرجِّح شيئًا. وممن ذكره الماوردي في "باب الكفارات" ومَثَّله بالصيام في كفارة اليمين [بأنَّ] (¬3) في وجوب تتابعه قولان، أصحهما المنع؛ لأنَّه دائر بين قيدين: التتابع في صوم الظهار، والتفريق ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق، س، ن). لكن في (ض، ت، ش): منهم. والمُثبت هو الصواب؛ لقول المؤلف: (فقد جريت في النظم على ما نقلوه عن النَّصُّ أنَّه عمل بالقيدين، أي: بالإبهام). (¬2) في (ص، ق): يذكر. (¬3) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): فإن.

في صوم التمتع في الحج، وليس أحدهما أوْلى مِن الآخَر؛ فيبقى على إطلاقه. وكذا ذكره الروياني في "باب كفارة اليمين" وغيرها، قال: وهذا مما سبق الشَّافعي إليه ولم يُسبق فيه. ومَثَّله بعضهم بتردد إطلاق اليدين في التَّيمم بين الوضوء المقيَّد بالمرافق وقطع السرقة المقيَّد بالكوع بالإجماع. ولكن الأَشبَه به أَرْجَح في الحمل وهو الوضوء؛ لأنَّ التَّيمم بَدَلُه، وهُما طهارتان. فإن لم يوجد مرجِّح، قال إلْكِيَا: يجب الوقف. وكذا قال الإمام في "المحصول": (إنَّ مَن لا يرى تقييد المطلق أصلًا، لا يقيد هنا بأحدهما. ومَن يرى أنَّ التقيد باللفظ لا بالقياس، لا يقيده أيضاً بأحدهما. ومَن يراه بالقياس فيُلحقه بما القياس عليه أَوْلى) (¬1). انتهى ولهذا قيل: يرجح حمل مطلق الصوم في كفارة اليمين على كفارة الظهار في التتابع، لا على صوم التمتع في التَّفريق، لاسيما والتفريق فيه ليس هو التَّفريق المراد بين كل يوم مع آخر، بل في موضع واحد. والشافعي له قولان في وجوب التتابع في كفارة اليمين، الجديد: المنع، لا لعدم حمل المطلق على أَوْلى القيدين، بل لعدم وجوب ما في صوم الظهار والقتل من التغليظ بالشهرين، فغلظ بالتتابع أيضاً؛ لعظم مفسدتهما. وليس ذلك في كفارة اليمين؛ لِخِفَّة الأمر، لاسيما إذا كان الحنث خيرًا. وإنْ كان السبب واحدًا: وهو ما ذكرته في النَّظم، فإن كان حملُه على أحدهما أرجَح مِن الآخَر بأنْ كان القياس فيه أظهر، قُيِّد به؛ لأنَّ العمل بالقياس الأَجْلَى أَوْلى. ¬

_ (¬1) المحصول (3/ 147).

فإن تَساويَا، فيُعمل بالمطلَق، ويُلغَى القيدان. كالبَيِّنتيْن إذا تعارضتَا، فإن الأرجَح فيهما لتساقط وكأن لا بَيِّنَة هناك. وهو معنى قولي: (فَالْغِ كِلَيْهِمَا، وَدِنْ)، فحذفت الهمزة من "ألغ"؛ لضرورة النظم. ومعنى قولي: "دِنْ" أي: اعمل بالمطلق دِينًا وشرعًا. ولك أن تدخل مسألة المختلفين في قول النَّظم أنَّه يتقيد بالأَوْلى من المقيدين، وإنْ تساويَا، عُمِل بالمطلق. ويُمثَّل بقوله تعالى في قضاء رمضان: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، وفي كفارة اليمين: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196]، فإنَّه متردد - كما سبق- بين صوم الظهار والقتل وبين صوم التمتع. نعم، ما ذكر في مسألة اتحاد السبب إذا لم يكن أَوْلى بأحد القيدين مِن طرحهما والعمل بالمطلق هو ما أجاب به القرافي قول بعض الحنفية له: إنَّ الشَّافعية خالفوا قاعدتهم في حمل المطلق على المقيد في حديث الولوغ، فإنَّه قد جاء: "إحداهن بالتُّراب" (¬1) وهو مطلق، وجاء في رواية: "أُولاهن" (¬2) وفي رواية: "أُخراهن" (¬3)، وهُما قيدان متنافيان، فلم يحملوا، وجَوَّزوا ¬

_ (¬1) مسند إسحاق بن راهويه (39)، سنن النَّسائيّ الكبرى (رقم: 69)، مسند البزار (15/ 332، رقم: 8887). انظر كلام الحافظ ابن الملقن على طُرق هذه الرِّواية في (البدر المنير، 1/ 548)، وانظر أيضاً كلام الحافظ ابن حجر في (التلخيص الحبير، 1/ 40). (¬2) صحيح مسلم (رقم: 279)، وغيره. (¬3) مسند البزار (17/ 262، رقم: 9950) بلفظ: (آخِره بالتُّراب)، وفي سنن التِّرمذيُّ (91) وغيره بلفظ: (يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات أولاهن أو أخراهن بالتُّراب). قال الألباني: صحيح. (صحيح التِّرمذيُّ: 91).

التتريب في كُلِّ مِن السبع. فقال له القرافي: (ذلك إنَّما هو حيث يكون قيداً واحدًا، أما في القيدين فيُعمل بالمطلق) (¬1). وما ذكره هو ما جَرَى عليه أصحابنا في الفقه مِن عدم تَعَيُّن شيء مِن السبع، وقالوا: التتريب في الأُولى أَوْلى، لا واجب. لكن نَصَّ الشَّافعي في "الأم" على تَعيُّن الأُولى أو الأَخيرة، وكذا نَصَّ فيما نقله البويطي في "مختصره"، وهو معنى قولي: (ثُمَّ في "الْبُوَيْطِيْ" التَّابع) أي: الذي هو مِن أتباع الشَّافعي الآخِذين بنصوصه، فهو عمل بالقيدين على معنى أن الواجب أحدهما لا بِعَيْنه، وأحدهما قَدْر مشترك، فهو القيد، لا كُل مِن [المشخصين] (¬2)، وفائدته دَفْع الخمسة المتوسطة بين الأُولى والأخيرة. وبحث الشَّيخ تقي الدين السبكي في ذلك أنَّه ينبغي وجوبه في كليهما؛ لورود الحديث فيهما ولا تَنافي في الجمع بينهما. قلتُ: لكن الشَّافعي إنَّما عَوَّل في إحدى المرتين -الأُولى والأَخيرة- على حديث التّقييد بذلك كما سنذكره. وقد جريتُ في النَّظم على ما نقلوه عن النَّصُّ أنَّه عمل بالقيدين، أي: بالإبهام، فاعْلَمه. فأمَّا نَص الشَّافعي في "الأم" فذكره في باب ما ينجس الماء مما خالطه، فقال: (أخبرنا سفيان، عن أيوب بن أبي تميمة، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات أُولاهن أو أُخراهن بالتراب") (¬3). ¬

_ (¬1) شرح تنقيح الفصول (ص 269). (¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): الشخصين. (¬3) الأم (1/ 6)، سنن التِّرمذيُّ (رقم: 91)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 1079). قال الألباني: =

وأورد أحاديث أخرى، وقال في النجاسة: (فإن غسل واحدة يأتي عليه طهر، وهذا مِن كل شيء خالطه إلَّا أن يشرب فيه كلب أو خنزير فلا تطهر إلَّا بأنْ يغسل سبع مرات. وإذا غسلهن سبعًا، جعل أُولاهن أو أُخراهن بتراب، لا تطهر إلَّا بذلك) (¬1). ولفظ نَص "البويطي" في أثناء "باب غسل الجمعة" قال (يعني الشَّافعي): (وإذا ولغ الكلب في الإناء، غُسل سبعًا أُولاهن أو أُخراهن بالتُّراب، فلا يُطهره غير ذلك، وكذلك رُوي عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم-). انتهى وهو يشير إلى ما سبق عن "الأم" مِن ورود الحديث بالتقييد بالأُولى أو الأخيرة. وإذا كان الحديث كذلك، فليس مما نحن فيه مِن ورود مقيدين متنافيين. فإن قلتَ: لِمَ لَمْ يعمل الأصحاب بذلك؟ بل جوَّزوا أن يكون التُّراب في إحداهن إلَّا ما ذكره المرعشي في ترتيب الأقسام مِن التّقييد كما في "البويطي" و "الأم". قلتُ: لأنَّ الشَّافعي نَصَّ على ذلك أيضاً، ففي "عيون المسائل" ما نَصه: إلَّا أن يشرب فيه كلب أو خنزير فلا يجزئ إلَّا غسلها سبعًا إحداهن بالتُّراب، لا يطهر إلَّا بذلك. ولفظة: "إحداهن" كما نقلها في "عيون المسائل" عن الرَّبيع عن الشَّافعي نقلها حرملة عن الشَّافعي. كذا أفاده شيخنا شيخ الإسلام البلقيني في كتاب "ترتيب الأم". قلتُ: ونَصُّ الشَّافعي السابق لا يُنافي هذا المذكور؛ لأنَّ هذا كالمجمَل وذاك تفصيل له، أو مطلق وذاك تقييد له. فَتَأَمَّله. ¬

_ = صحيح. (صحيح التِّرمذيُّ: 91). وقال الحافظ ابن الملقن في (البدر المنير، 1/ 546): رواية صحيحة. (¬1) الأم (1/ 6).

واعْلَم أنَّ حكايتهم حديث: "أخراهن" بالانفراد إنما أخِذت من رواية: "وعفروه الثامنة بالتراب" (¬1)، وليس فيها دليل؛ فإن المراد بها أن الثامنة زيادة على السبع بالماء. فسواء تَقدمت أو توسَّطت أو تأخرت هي ثامنة مِن حيث إنَّها تراب، وهي إحداهن من حيث المزج بواحدة؛ ولهذا شُرط المزج وإنْ رجح السبكي الاكتفاء بتعفير التُّراب، ومحل بيان ذلك الفقه. تنبيه: السؤال المذكور عن بعض الحنفية لازِم للحنفية أيضاً، فإنهم يحملون المطلق على المقيد إذا اتفق السبب والحكم. ونظير هذا السؤال سؤالان آخَران: أحدهما: أنَّ أبا حنيفة قال: (لَّا يجري التحالف بين المتبايعين إلَّا إنْ كانت السلعة قائمة، أما في التالفة فالقول قول المشترى). وعندنا يتحالفان مطلقًا مع أنَّه روي عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم-: "إذا اختلف المتبايعان، تحالفاً" (¬2) ورُوي بقيد: "والسلعة قائمة" (¬3)، فلِمَ لا حُمل المطلق على المقيد عندنا؟ وجوابه: أنَّه وَرَدَ بقيد آخَر ضد ذلك، وهو: "إذا اختلف المتبايعان و [المبيع] (¬4) مستهلك، فالقول قول البائع" (¬5). رواه الدارقطني. فرجعنا إلى أصل الإطلاق أو الانحصار ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (رقم: 280). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) كذا في (س)، لكن في (ص، ق): البيع. (¬5) سنن الدارقطني (3/ 21).

في [القيدين] (¬1)؛ [إذْ لا غيرهما] (¬2)، فانحصر العمل بِأحد [المقيدين] (¬3) وهو العمل بالمطلق. وأيضاً: [فالمقيِّدان] (¬4) ضعيفًا الإسناد، وأمَّا قول الغزالي في كتاب "المآخذ": (إنَّ المقيَّد بقيد "الهلاك" أَجمع أهل الحديث على صحته) فممنوع؛ لِمَا ذكرناه. وأيضاً: فلأنه إذا كان التحالف مع قيام السلعة مع إمكان الاستظهار بالرجوع إلى القيمة وتَعَرُّف صفاتها، فالتحالف مع تلفها وعدم إمكان الرجوع إلى صفاتها أَوْلى. ثانيهما: أنَّ في كتاب "فريضة الصدقة" في فريضة الإبل: "فإن زادت على عشرين ومائة" (¬5)، جاءت الزيادة مقيدة في حديث ابن عمر: "فإن زادت واحدة" (¬6). فلا يجب في مائة وعشرين وبعض واحدة إلَّا ما في مائة وعشرين. فلِمَ لا حُمل المطلق على المقيد؟ وجوابه: أنَّا حملْنا وقُلنا: الواجب حقتان. إنَّما يَرِد ذلك على الإصطخري الذي يقول: (إنَّ مطلق الزيادة كافٍ). فيجب عنده في الزائد -[ولو بعض] (¬7) الحادي والعشرين- ثلاث بنات لبون. والله أعلم. ¬

_ (¬1) في (س): القيدان. (¬2) في (ض، س، ت): إذا اعتبرهما. (¬3) في (ت): القيدان. (¬4) في (ت): القيدان. (¬5) صحيح البُخاريّ (رقم: 1386). (¬6) سنن أبي داود (رقم: 1568) وسنن ابن ماجة (رقم: 1805)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 1568). (¬7) كذا في (ص، ق، ش). لكن في (ت، س): بعد. في (ض): بعض.

الفصل الرابع في "الظاهر" و "المؤَوَّل" 694 - تَفْسِيرُ كُلٍّ وَصَحِيحُ الثَّانِي ... وَفَاسِد - لَهَا مَضي بَيَانِي 695 - لَكِنْ نَقُولُ: إنْ وَهَى الدَّلِيلُ ... فَعِنْدَ ذَاكَ يَضْعُفُ التَّأوِيل 696 - كحَمْلِ "أَمْسِكْ أَرْبَعًا" عَلَى: ابْتَدِي ... نِكَاحَهُنَّ، مَا لَهُ مِنْ عَضُدِ 697 - وَنَحْوه {سِتِّينَ مِسْكِينًا} عَلَى ... سِتِّينَ مُدًّا، مِثْلُ ذَا لَنْ يُقْبَلَا الشَّرح: أي: هذا الفصل فيما سبق مِن [أحد] (¬1) المهمات مِن أقسام القول، وهو: "الظاهر" و "المُؤَوَّل". وقد سبق تفسير كل منهما في مباحث الأقوال، وسبق أن التأويل ينقسم إلى صحيح وفاسد وتفسير كل منهما. فقولي: (لَهَا) أي: للأمور الثلاثة (مَضى بَيَانِي) فتعلق اللام بالمصدر وهو "بيان"، والإشارة بالسبق إلى قولي في تقسيم المنطوق إلى "نص" و "ظاهر". (وَالَّذِي قَدْ ضَعُفَا فِيهِ احْتِمَالٌ "ظَاهِرٌ" قَدْ عُرِفَا) أي: "الظاهر" ما يدل على معنى مع احتمال إرادة معنى غيره مرجوح، بخلاف "النَّصُّ"، فإنَّه الذي لا يحتمل غير معنى. وسواء في "الظاهر" أن يكون: ¬

_ (¬1) في (ت، س): إحدى.

- دلالته من حيث اللُّغة، كـ "الأسد" مع احتمال الشجاع. - أو من حيث العُرْف، كـ "الغائط"، فإنَّه يحتمل معناه الأصلي وهو المكان المطمئن. - أو من حيث الشرع، كـ "الصَّلاة" مع احتمال إرادة الدعاء كما في {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]. وأصل "الظاهر" في اللُّغة: الواضح. وأمَّا المؤول تأويلًا صحيحًا أو فاسدًا فسبق في قولي: وَإنْ عَلَى الْمَرْجُوحِ جَا دَلِيلُ ... فَتَرْكُ ظَاهِرٍ لَهُ تَأْوِيلُ صَحِيحٌ، اوْ مَا أَشْبَهَ الدَّلِيلَا ... فَفَاسِد، وَلَيْسَ ذَا مَقْبُولَا أَوْ لَا لِشَيْءٍ أبدًا فَلَعِبُ ... وَلَيْسَ في التَّأوِيلِ هَذَا يُحْسَبُ وسبق شرح ذلك كله. وقولي هنا: (لَكِنْ نَقُولُ) أي: نزيد هنا على ما سبق أنَّ التأويل إذا كان دليله ضعيفًا، كان مردودًا كما سبقت الإشارة إليه هناك، ويُسمى "التأويل البعيد"، بخلاف ما دليل إرادة الخفي فيه قوي، فإنَّه صحيح، ويسمى "التأويل القريب". فمن القريب بل المتعين تأويل آيات الصفات والأحاديث المشْكلة، فإن الدليل العقلي والشرعي قائم على عدم إرادة ظاهره، بل اتفاق السلف والخلف على منع حمله على الظاهر إذا خالف التنزيه. وقد سبق تقرير ذلك مرات (¬1). وأمَّا في أدلة الأحكام الفرعية فكثير، كتأويل: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم ¬

_ (¬1) بل هذا يخالف عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد سبق بيان ذلك في مقدمة تحقيقي (ص 32).

بالسواك" (¬1) أي: أمر إيجاب، فإن مطلَق الأمر قد ورد في قوله: "استاكوا" (¬2). وأمثلة ذلك كثيرة جدًّا. وأمَّا التأويلات البعيدة فذكرت في النَّظم منها مثالين: أحدهما: تأويل الحنفية قوله - صلى الله عليه وسلم - لغيلان بن سلمة وقد أسلم على عشر نسوة: "أَمْسِك أربعًا وفارق سائرهن" (¬3) على أن المراد: ابتدئ نكاح أربع إنْ شئت بعد مفارقتك [مَن] (¬4) تقرر نكاحه مِن الأربع الأوائل. ونحوه تأويل "الأربع" بالأوائل، أي: أمسك الأربع الأوائل وفارق سائرهن، وهو مَن بقي بعد الأوائل. ووَجْه بُعده أن مخاطبة مَن تَجدد إسلامه مِن غير سَبْق بيان لشروط النكاح بذلك مع أن الحاجة داعية إليه لِقُرْب عَهْده بالإسلام -في غاية البُعد، ومع أنَّه لم ينقل تجديد قط لا منه ولاِ من غيره. وأيضًا: فالابتداء يحتاج إلى رِضَى مَن يبتدئها، ويصير التقدير: فارِق الكل، وابتدِئ بعد ذلك مَن شئت. فيضيع قوله: "اختر أربعاً"؛ لأنهن قد لا يرضين -أو بعضهن- أن يرجع إليه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) مسند أحمد (رقم: 1835)، مصنف ابن أبي شيبة (1806)، مسند البزار (4/ 131، رقم: 1302)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 151)، وغيرها. قال الشَّيخ الألباني: ضعيف. (السلسلة الضعيفة: 1748). وانظر كلام الحافظ ابن الملقن عليه في (البدر المنير، 2/ 40). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) في (ص، ق): مع.

وأيضًا: الأمر للوجوب، وكيف يجب عليه ابتداؤه وليس بواجب في الأصل؟ ومن ثَمَّ قال أبو زيد مِن الحنفية: هذا الحديث لا تأويل فيه، ولو صح عندي لقُلتُ به. ولهذا قلتُ في النَّظم: (مَا لَهُ مِنْ عَضُدِ)، أي: ليس لتأويلهم بذلك شيء يعتضد به. وقد سبق فوائد تتعلق بهذا الحديث في قاعدة: "ترك الاستفصال"، فليراجع. قال ابن الحاجب: (وأمَّا تأويل قوله - صلى الله عليه وسلم - لفيروز الديلمي وقد أَسلم على أختين: "اختر أيتهما شئت" (¬1) فأبعد) (¬2). أي: تأويله بمثل ما سبق في حديث غيلان أَبْعَد؛ لِما سبق مِن الأمرين، وزيادة أمر ثالث وهو التصريح بقوله: "أيتهما شئت"، لظهوره في أن التَّرتيب غير معتبَر. ولهم أيضاً تأويل ثالث يشملهما، وهو أنَّه لعل هذا كان قبل حَصر النساء وقَبْل تحريم الجمع بين الأختين. وهو مردود بما سبق. المثال الثَّاني: تأويلهم قوله تعالى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] على إطعام طعام ستِّين مسكينًا، وهو ستون مُدًّا ولو كان ذلك لمسكين واحد في ستِّين يومًا؛ لأنَّ المقصود دفع الحاجة، وحاجة ستِّين كحاجة واحد في ستِّين يومًا؛ فاستويَا في الحكم. ووجْه بُعْده أنَّه تعطيل للنَّص؛ إذ جعلوا [المعدوم] (¬3) -وهو "طعام"- مذكورًا، فيصح كونه مفعولًا لِـ "إطعام"، وجعلوا المذكور -وهو "ستِّين مسكينًا"- عَدمًا مع صلاحيته لكونه مفعولًا لِـ "إطعام" مع ظهور قصد العدد؛ لفضل الجماعة وبركتهم وتظافُر قلوبهم على ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) مختصر المنتهى (2/ 419) مع بيان المختصر. (¬3) في (ص، ق): المعلوم.

الدعاء للمحسن، وهذا لا يوجد في الواحد؛ ولهذه الحكمة شُرِعَت الجماعة في الصَّلاة وغيرها. وأيضًا فلا يجوز استنباط معنى مِن النَّصُّ يعود عليه بالإبطال. قال إمام الحرمين: (ولأنَّ "أطعم" يتعدى إلى مفعولين، والمهم منهما ما ذُكر، وغير المهم هو المسكوت عنه، وقد ذكر الله عدد المساكين وسكت عن ذِكر [الطَّعام] (¬1)، فاعتبروا المسكوت وتركوا المذكور، وهو عكس الحق) (¬2). وانتصر المازري (¬3) للحنفية بوجهين: فقهي، ونحوي: فالفقهي: أنَّه لا يَلزم مِن قولهم إبطال النَّصُّ إلَّا إذا جوَّزوا إعطاء المسكين الستين مُدًّا دفعةً، أما في ستِّين يومًا فكل يوم ذلك المعطَى يَصدُق عليه أنَّه مسكين. فإذا أطعِم في ستِّين يومًا، كان إطعام ستِّين مسكينًا؛ لأنهم لم يُعيِّنوا المعطَى، إنَّما ذلك على سبيل الاتفاق مثلًا. وأمَّا النّحوي: فذكر أن سيبويه يُقدِّر المصدر بـ "ما" ويقدره بـ "أن". فهنا يُقدَّر بـ "ما"، أي: فما يُطعِم ستِّين مسكينًا. وإليه جنح أبو حنيفة. وغيرُه يُقدِّر بـ "أن". ورُدَّ الأوَّل بأنَّ تعطيل النَّصُّ بالاتحاد حاصل سواء في ستِّين يومًا أو دفعةً، وقد سبق حِكمة الجمع. ورُدَّ الثَّاني بأنَّ الذي يُقدِّره سيبويه إنَّما هو في المصدر العامل، يُقدِّره بالحرف المصدري مع الفعل على تفصيله المشهور في الماضي والحال والمستقبل. قال ابن السبكي: (وقد أرسلتُ إلى الشَّيخ جمال الدين ابن هشام وهو أَعْلَم هذه ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): الاطعام. (¬2) البرهان (1/ 361). (¬3) إيضاح المحصول (ص 399 - 400).

الأقاليم الآن بالعربية، فقال: لا يعْرف ما قاله المازري في كلام سيبويه) (¬1). انتهى وحينئذٍ فما قاله المازري إنَّما هو إذا كانت "ما" موصولة بمعنى "الذي" حتَّى يكون مُعبّرًا به عن الأمداد التي هي الطَّعام. ومن أمثلة البعيد أيضاً تأويلهم قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والدارَقُطْني عن عائشة: "أيُّما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل" (¬2) على الصغيرة والأَمَة والمكاتِبة. ووجه بُعده أنَّ الصغيرة ليست بامرأة في لسان العرب، وقد ألزموا سقوط هذا التأويل على مذهبهم، فإن الصغيرة لو زوجت نفسها، كان العقد عندهم صحيحًا [لكن] (¬3) يتوقف على إجازة الولي. فلما ألزِموا بذلك، فروا إلى حمله على الأَمة، فألزموا بطلانه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فلها المهر" (¬4). ومَهْر الأَمَة إنَّما هو لسيدها، ففروا مِن ذلك إلى حمله على المكاتبة، فقيل لهم: هو أيضاً باطل؛ لأنَّ صيغة العموم الصريحة [المؤكدة] (¬5) بضم "ما" معها في قوله: "أيُّما" على صورة نادرة لا تخطر بالبال غالبًا وذلك بالنسبة للمخاطَبين في غاية البُعد. وقد رتبها في "المختصر" وتبعه في "جمع الجوامع" لما قررناه في الجدال، وهو مِن المحاسن المغفول عن إدراكه. ¬

_ (¬1) رفع الحاجب (3/ 465). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) في (ص، ق): لا. (¬4) سنن أبي داود (رقم: 2083)، سنن ابن ماجة (رقم: 1879) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 2083). (¬5) في (ت، س، ض): المذكورة.

ومنها: حملهم حديث أبي بكر في "كتاب فريضة الصدقة" في "البُخاريّ": "وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة شاة" (¬1) وفي رواية أبي داود والترمذي مِن حديث ابن عمر: "وفي الغنم في أربعين شاة شاة" (¬2) على أنَّ المراد: في أربعين شاة قيمة شاة؛ لأنَّ اندفاع الحاجة كما تكون بالشاة تكون بالقيمة. وهو يؤدِّي إلى بطلان الأصل؛ لأنَّه إذا وجبت القيمة، لم تجب الشَّاةِ؛ فعاد هذا الاستنباط على النَّصُّ بالإبطال، وذلك غير جائز. قيل: وفيه نظر؛ لأنهم لم يُبطلوا إخراج الشَّاةِ، بل قالوا: يتخير بين الشَّاةِ وقيمة الشَّاةِ. وهو استنباط يعود بالتعميم كما في "وليستنج بثلاثة أحجار" (¬3) تعمم في الخِرَق ونحوها. وفي: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" (¬4) تُعمَّم في كل ما يشوش الفكر، ولا يعود بالإبطال. وأُجيب بأنَّ الشارع لَعلَّه راعَى أن يأخذ الفقير مِن جنس مال الغني، فيتشاركان في الجنس، فيبطل بالقيمة، فعاد بالبطلان مِن هذه الجهة، وباب الزكاة فيه ضرْب مِن التعبُّد. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) مسند الشَّافعي (ص 13، رقم: 38)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 437، 500)، وغيرهما. قال الحافظ ابن الملقن في (البدر المنير، 2/ 296): (هو حديثٌ صحيحٌ). (¬4) مسند أحمد (20405)، سنن ابن ماجة (رقم: 2316)، وغيرهما بلفظ: (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان). قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 1888). وهو في صحيح البُخاريّ (6739) بلفظ: (لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان). وفي صحيح مسلم (1717) بلفظ: (لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان).

قلتُ: وأيضًا فإذا كان التقدير "قيمة شاة"، يكون قولهم بإجزاء الشَّاةِ ليس بالنص، بل بالقياس، [فيترك] (¬1) المنصوص ظاهرًا ويخرج ثم يدخل بالقياس. فهذا عائد بإبطال النَّصُّ لا محالة. ومنها حديث: "لا صيام لمن لم يُبيِّت الصيام من الليل" (¬2). وقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنَّسائيُّ وابن ماجة عن ابن عمر على خلافٍ في رَفْعه ووَقْفه. ورواه الدارقطني عن عائشة [مرفوعًا] (¬3). حملوه على صوم القضاء والنذر؛ بِناءً منهم على مذهبهم في صحة الفرض بِنِيَّة مِن النهار. قال ابن الحاجب: (فجعلوه كاللغز) (¬4). أي: في حملهم العام على صورة نادرة. فإن ثبت ما ادَّعوه مِن الحُكم بدليل كما قالوا، فليُطْلَب لهذا الحديث تأويل قريب غير هذا، مِثل نفي الكمال، فقد قال إمام الحرمين: إنَّه أقرب مِن التأويل السابق. قال: (وهو أقرب أيضاً مما قاله الطحاوي وتبجَّح به مِن أنَّ المراد النَّهي عن الاكتفاء بِنِيَّة صوم الغد في بياض نهار اليوم، بل عليه أن يؤخَر النيَّة إلى غيبوبة الشَّمس؛ حتَّى يكون بإيقاع النيَّة في الليل مُبَيِّتًا. وزعم أن هذا التأويل يجري في جميع أنواع الصوم فرضًا ونفلًا) (¬5). ¬

_ (¬1) في (ق، ص): فيدرك. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) ليس في (ص، ق). (¬4) مختصر المنتهى (2/ 425) مع بيان المختصر. (¬5) البرهان (1/ 344).

قال الإمام: (وهو كلام غث لا أصل له، وهو يَحطُّ مِن مرتبة الطحاوي) (¬1). وحاصل التأويل أنَّ "مَن لم يُبَيِّت" يشمل: مَن لم يَنْوِ أصلًا، ومَن قدَّم النيَّة على الليل فنوى قبل غيبوبة الشَّمس. فظاهر العموم بطلان صوم الجميع. وقال الطحاوي: يستقر مَن لم يَنْوِ أصلًا ومَن قدَّم النيَّة على الليل، ويخرج عنه مَن أخرج النيَّة عن الليل وأوقعها في نهار الصوم بِناءً على القياس على التطوع المنصوص عليه. وقد أطال الإمام في رَدِّه بما لا مزيد على حُسنه. ومنها حملهم قوله تعالى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] في آيتَيِّ الفيء والغنيمة على الفقراء منهم دُون الأغنياء؛ لأنَّ المقصود دفع الخلة، ولا خلة مع الغني. فعطلوا لفظ العموم مع ظهور أنَّ القرابة هي سبب استحقاقهم ولو مع الغِنَى. فإن عللوا بالفقر وإنْ لم يكن قرابة، فعطَّلوا لفظ: {ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة: 177]. وإنِ اعتبروهما معًا فلا يبعد، وغايته تخصيص عموم كما فعله الشَّافعي في أحد القولين في تخصيص اليتامى بذوي الحاجة. نعم، هو أنزل مِن صنيع الشَّافعي في اليتامى؛ مِن وجهين: أحدهما: أنَّه زيادة على النَّصُّ، كالإيمان في "رقبة"، وأبو حنيفة يرى ذلك نَسخًا، والنسخ لا يكون بالقياس واستنباط المعنى. بخلاف ما قال الشَّافعي في اليتامى، فإنَّه لا يرى الزيادة نسخًا. الثَّاني: أن لفظ "اليتيم" مع قرينة إعطاء المال مُشْعِر بالحاجة، فاعتباره مأخوذ من نَفْس الآية. واليتيم إذا تَجرد عن الحاجة، غير صالح للتعليل، بخلاف القرابة، فإنَّها مناسبة ¬

_ (¬1) البرهان (1/ 344).

للإكرام باستحقاق خمس الخمس. ومنها قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة: 60]، الآية، حمله مالك على أنَّه بيان للمصرف دون إرادة استيعاب الأصناف بالعطاء. وقد نُقل عن الشَّافعي استبعاده، وذلك واضح؛ لأنَّ الاقتصارَ على صنْفٍ تعطيلٌ، لا تأويل؛ لأنَّ "اللام" للملك، والعطف للتشريك فيه. وقد وافقنا المالكيّة في ما لو أوصى بثلث ماله للفقراء وفي الرقاب وفي سبيل الله على أنَّه لا يجوز صرف الثلث إلى أحدها. ولذلك أوضح الشَّافعي مذهبه بمسألة الوصيَّة. قال إمام الحرمين: (ولم يظن -يعني الشَّافعي- أنَّ أحدًا يُجيز أن يُقدم في مسألة الوصيَّة على منع) (¬1). انتهى وقد أَحدث بعض المتأخرين منعًا؛ إلحاقًا لها بمصرف الصدقات. ولم يَرْتَضِ ابن الحاجب أن التأويل في هذه الآية من البعيد. قال: (لأنَّ مساق الآية قبلها [والرد] (¬2) على لمزهم في المعْطِين ورضاهم في إعطائهم وسخطهم في منعهم يدل عليه) (¬3). أي: على أنَّ الغرض بيان المصرف. وبالجملة فالجدال بين الفريقين في ذلك طويل، لا يليق بهذا المختصر. والقصد التمثيل. ومنها حديث: "ذكاة الجنين ذكاة أُمه" (¬4). رواه أحمد وابن حبان مِن حديث أبي سعيد ¬

_ (¬1) البرهان (1/ 360). (¬2) في (ص): وارد. (¬3) مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (2/ 431). (¬4) مسند أحمد (رقم: 11361)، سنن التِّرمذيُّ (رقم: 1476)، صحيح ابن حبان (5889). قال الألباني: صحيح. (صحيح التِّرمذيُّ: 1476).

مرفوعًا، وهو يُروى بالرَّفع على المحفوظ، وبه ينتهض استدلال الشَّافعي على أنَّه يحل بذكاة أُمه إذا لم يُقْدر على ذبحه. وعند الحنفية تجب ذكاة الجنين مطلقًا، ويروون الحديث بنصب "ذكاة أُمه" على تقدير "كذكاة أُمه"، فنُصِبَ على إسقاط الخافض. وعلى هذا يحملون رواية الرفع على حذف مضاف، أي: "مِثل ذكاة أُمه"، ويوجهون النصب بتوجيه آخَر، وهو أنَّه منصوب على المفعول المطلق المبين للنوع، والعامل فيه "ذكاة" الأُولى، والخبر محذوف، أي: "واجبة" أو: "لازِمة" أو نحو ذلك. لكن أصحابنا وهَّموا رواية النصب، وقالوا: المحفوظ الرَّفع كما قاله الخطابي وغيره؛ إمَّا لأنَّ "ذكاة" الأُولى خبر مقدَّم، و "ذكاة" الثَّاني هو المبتدأ، أي: ذكاة أُم الجنين ذكاة له، وإلا لم يكن للجنين مزية. وحقيقة "الجنين" ما كان في البطن، وذبحه في البطن لا يمكن. فعُلم أنَّه ليس المراد أنَّه يُذكَّى كذكاة أُمه، بل إنَّ ذكاة أُمه ذكاةٌ له كافية عن تذكيته، ويؤيده رواية البيهقي: "ذكاة الجنين في ذكاة أُمه" (¬1). وفي رواية: "بذكاة" (¬2). فالنصب إنْ ثبت فهو على حذف هذا الخافض، لا على حذف الكاف كما زعموا. قال ابن عمرون: تقديرهم حذف الكاف ليس بشيء؛ لأنَّه يَلزم منه جواز قولك: "زيد عمرًا" أي: "كعمرو". وأيضًا فحذف حرف الخفض مِن غير سبق فِعل يدل على التوسع ¬

_ (¬1) موطأ مالك (رقم: 1046) من قول سعيد بن المسيب، وعنه نقله البيهقي (مختصر خلافيات البيهقي، 5/ 85). (¬2) قال الإمام البيهقي في (مختصر خلافيات البيهقي، 5/ 85): (روى مَالك عَن نَافِع أنّ عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - كَانَ يَقُول: "إِذا نحرت النَّاقة، فذكاة مَا فِي بَطنهَا بذكاتها إِذا كَانَ قد تمّ خلقه وَتمّ شعره، فَإِذا خرج من بَطنهَا -يَعْنِي حَيا- ذبح حَتَّى يخرج الدَّم مِن جَوْفه).

فيه. وعلى تقدير صحة النصب، فيجوز أن يكون على الظرفية، أي: وقت ذكاة أُمه. فحُذف المضاف وأُقيم المضاف إليه مقامه، وهو حينئذٍ دليل للشافعي؛ لأنَّ الثَّاني إنَّما يكون وقتًا للأول إذا أغنى الفعل الثَّاني عن الأوَّل، ويرجح هذا التقدير موافقته لرواية الرفع. وأمَّا ما قالوه في تقدير الرَّفع فساعدهم ابن جني -على عادته- وقال: إذا حمل على ما قاله أبو حنيفة، يكون المجاز وقع في الخبر، وهو الكثير، فكان الحمل عليه أَوْلى. وهذا مردود بما قاله ابن عمرون؛ لأنَّ سياق الحديث وسؤالهم: أنلقيه؟ أَم نأكله؟ لم يكن لأنهم شكوا أنَّ ما أدرك ذكاته وذكي مِن هذا الصنف المأكول يحل أكله، وإنَّما سألوه عن ما تَعذَّر فيه الذبح؛ فوجب حمله على ذلك؛ ليكون الجواب مطابقًا للسؤال. ومنها حديث الحسن، عن سمرة، عن النَّبيِّ -صَلَّى الله عليه وسلم-: "مَن مَلَكَ ذا رَحِم مَحْرَم فهو حُر" (¬1). رواه أحمد وأبو داود والنَّسائيُّ وابن ماجة والطبراني، والترمذي وقال: لا نعرفه مسندًا إلَّا مِن حديث حماد عن قتادة عن الحسن. وقد [تكلم] (¬2) في هذا الحديث غير واحد مِن الحفَّاظ، وقد رُوي مِن قول عمر ومن قول الحسن، وقال النَّسائيّ: (حديث منكر). ورُوي من حديث ابن عمر وعائشة. فعَلَى تقدير صحته حمله بعض الشَّافعية على الأصول والفروع؛ لأنَّ مذهب الشَّافعي اختصاص العتق بذلك، لا مطلق الرَحم. لكن ليس للشافعي احتياج لهذا الحمل في ثبوت الحكم، إنَّما له أدلة أخرى مشهورة في الفروع، مع ضعف هذا الحديث من الأصل. فليس هذا الحمل بمرضِي عند الحُذاق. ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (رقم: 3949)، سنن التِّرمذيُّ (رقم: 1365)، وسنن ابن ماجة (رقم: 2524)، وغيرها. قال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 1746). (¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): نظر.

ومنها حديث: "لعن الله السارق يسرق البيضة؛ فتقطع يده، ويسرق الحبل؛ فتقطع يده" (¬1). أخرجه البُخاريّ ومسلم عن أبي هريرة. حمله بعضهم على البيضة مِن الحديد وحَبل السفينة. حكاه ابن قتيبة عن يَحْيَى بن أكتم. ووَجْه بُعده أنَّه ليس موضع تكثير لما يقطع به السارق، إنَّما هو موضع تقليل؛ إذ لا يقال: قبح الله فلاناً؛ عرض نفسه للضرب في عقد جوهر. إنَّما يقال: عرض يده في خلق رث. وإنَّما سياق الحديث في تَدَرُّج السارق مِن القليل إلى أن يصعد، فأول ما سرق بيضة الدجاج مثلاً والحبل الذي ثمنه يسير، وإنْ كان لا يُقطع بهما لكنه يتدرج إلى أن يسرق أكثر فأكثر حتَّى يسرق نصابًا؛ فتُقطع. وأمَّا الجواب بأن ذلك كان أولاً ثم جاء الإعلام بأنه لا يُقطع إلَّا في ربع دينار فصاعدًا فَفِيه بُعْد. ومنها حديث: "أُمر بلال أن يشفع الأذان" (¬2). أخرجاه. نقل عن بعض السلف أن الأذان فرادى، وأن الحديث محمول على أن يجعل أذانه شفعاً لأذان ابن أم مكتوم. وضُعِّف بأنَّ بلالًا كان يؤذن بِلَيْل، وابن أم مكتوم يتأخر حتَّى يقال له: "أصبحت أصبحت" (¬3)، فكيف يكون [الأوَّل] (¬4) شفعًا للثاني؟ ! ¬

_ (¬1) صحيح البُخاريّ (رقم: 6401)، صحيح مسلم (رقم: 1687). (¬2) صحيح البُخاريّ (رقم: 580)، صحيح مسلم (رقم: 378). (¬3) صحيح البُخاريّ (592). (¬4) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): الاذان.

وفيه نظر؛ فقد روي في حديث آخَر أنَّ أذان ابن أم مكتوم كان يتقدم على أذان بلال (¬1). والأجود الرد بغير ذلك، وهو ثبوت كوْن الأذان مثنى. وقد أشرتُ إلى هذه التأويلات البعيدة كلها بقولي في النَّظم: (مِثل ذَا لَنْ يُقْبَلَا). والله أعلم. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (27480)، صحيح ابن خزيمة (406)، صحيح ابن حبان (3473، 3474)، وغيرها. قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 3464).

الفصل الخامس في "المُجْمَل" و "المُبَيَّن" 698 - قَدْ فُسِّرَ "الْمُجْمَلُ" وَ"الْمُبين" ... فِيمَا مَضى، وَهَا هُنَا [يُبيَّنُ] (¬1) 699 - أَنَّ مِنَ الْمُبين ابْتِدَاءَ ... آيَةَ {وَالسارق} لَا مِرَاءَ الشَّرح: أي: ومن أقسام القول: "المُجْمَل" و "المُبَيَّن". وقد سبق أيضاً في تقسيمات الألفاظ تفسيرهما ومحلهما، ولكن نذكر هنا مِن أمثلتهما وأحكامِهما طَرفًا يتضحان به. ولنُقدِّم على ذلك أنَّه قد سبق أنَّ المجمل أصله مِن الجمل وهو الجمع، ونزيد هنا أنَّ من معانيه اللغوية أيضاً: الإبهام، مِن "أَجْمَل الأمر" أي: أَبْهَمه. ومنها: التحصيل. مِن "أَجْمل الشيء": حَصَّله. فيمكن أن يكون الاصطلاحي من واحد منها. وأمَّا في الاصطلاح فذكروا له تعريفات، والمختار ما أسلفناه من التعريف هناك، إلَّا أن قولي فيه: (مَا لَمْ تتضح دلالته) يشمل ما هو المقصود هناك مِن أقسام القول، ويشمل الفعل أيضاً؛ لأنَّه لا تتضح دلالته. ولذلك اختاره ابنُ الحاجب، وضَعَّفَ تفسيره بِـ "اللفظ الذي لا يُفهم منه عند الإطلاق ¬

_ (¬1) في (ن 1): نبين.

شيء" بأنه يدخل فيه المُهْمَل والمستحيل (¬1). أي: لأنَّه لا يُفهم مِن المُهْمَل شيء، وأمَّا المستحيل فليس بشيء. وانتُقِد ذلك بأن قوله: "عند الإطلاق" يقتضي أنَّه يُفهم منه شيء عند التّقييد، فلا يدخل المهمل ولا المستحيل؛ لأنهما لا يُفهم منهما شيء لا عند الإطلاق ولا عند التّقييد. قلت: إذا لم يُفهم منه عند الإطلاق شيء، فتقييده في ذلك وعدم تقييده سواء؛ لأنَّ التّقييد لا يُحدِث للمطلق دلالة بعد أن لم تكن. وإنَّما الحادث مِن دلالة المطلق عند التّقييد مِن مجموعهما، لا مِن اللفظ وَحْده. قال ابن الحاجب: (ولا ينعكس) (¬2). أي: هذا التعريف؛ لجواز فَهْم أحد المحامل منه على الجملة وهو أحد هذين. فيُفْهِم انتفاء غيرهما؛ ولأن ذلك قد يكون في الفعل كقيامٍ مِن الرَّكعة الثَّانية مِن غير تَشَهد، فإنَّه مجمَل؛ لاحتمال الجواز والسهو مع أنَّه ليس بلفظ. وسبق أيضاً أنَّ "المبيَّن" إنَّما يكون مِن الابتداء، أو إمَّا أنه كان مجُمَلًا ثم صار مبيَّنًا. فمِن الذي عَدَّه بعضهم مِن "المجمَل" وهو مِن المبيَّن في الابتداء قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. قال بعض الحنفية: مجُمَل؛ لأنَّ اليد تطلق على ما هو للكوع وما هو للمنكب وما هو للمرفق؛ فيكون مشتركًا، وهو مِن المجمَل. والقطع: يطلق على الإبانة وعلى الجرح؛ فيكون مجمَلًا. والصحيح أنَّه لا إجمال في ذلك؛ لأنَّ اليد حقيقة إلى المنكب؛ لصحة إطلاق بعض اليد لِمَا دُونه، والقطع حقيقة في إبانة المنفصل، فلا إجمال في شيء منهما، فإطلاقها إلى الكوع مجاز قام الدليل على إرادته في الآية وهو فِعل النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - والإجماع. والله أعلم. ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى مع شرط الأصفهاني (2/ 358). (¬2) مختصر المنتهى مع شرط الأصفهاني (2/ 358).

ص: 700 - وَمثْلُهَا تَحْرِيمُ الُامَّهَاتِ ... وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الشَّرح: أي: ومما عُدَّ مِن "المجمَل" وهو مِن "المبيَّن" نحو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، فإنَّه يحتمل تقديرات، فزعم الكرخي والبصري وبعض أصحابنا أنَّه مجُمَل. والصحيح -وهو مذهب الشَّافعي كما قال ابن برهان- أنَّه مِن "المبَين"، قال: خلافًا للحنفية؛ لأنَّ الحذف إذا قامت عليه قرينة، وضحت دلالته؛ لأنَّ العُرف دَلَّ على أحد التقديرات وهو الفعل المقصود مِن تلك الذّات التي أُسْنِد التحريم إليها، بدليل أنَّه لو قال لغيره: "حرمت عليك هذا الطَّعام"، عُقِل منه تحريم الأكل، فكذلك يُعقَل مِن تحريم الميتة تحريمُ أكلها، وكذلك الأمهات المعقول فيهن تحريم نكاحهن، فلا إجمال. واحتج لهذا الشَّيخ أبو حامد باحتجاج الصّحابة بظواهر هذه الأمور ولم يرجعوا إلى غيرها، فلو لم يكن مِن المبيَّن، لم يحتجوا بها. نعم، إذا لم يتضح أحد المجازات المقَدَّرة بقرينة ولا بشهادة عُرف، قُدِّر الجميع؛ لأنَّه الأقرب إلى الحقيقة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله اليهود؛ حُرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها؛ فأكلوا ثمنها" (¬1). فلو لم يَعُم جميع التصرفات، لَمَا اتجه اللعن في البيع. وقد سبق شرح هذا كله في دلالة المقتضى [في] (¬2) باب العموم في أنَّه يَعُم؟ أوْ لا؟ ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) كذا في (س، ت)، لكن في سائر النسخ: وفي.

أما إذا قُلنا بأن الأحكام تتعلق بالذوات وأنها توصف بالحِل والحرمة كما ذهب إليه المعتزلة ويُعْزَى للحنفية أيضاً، فعدم الإجمال فيها واضح. نعم، اختلفوا في الأحكام هل تكتسب بها الذوات صفة؟ أوْ لا؟ فالجمهور على المنع وأنها مِن صفات التعلق. فإذا قيل: هذا الشيء نجس، فليس النجاسة ولا كونه نَجِسًا راجعًا إلى نفسه ولا إلى صفة للذات، بل الذّات على حالَتَي الطهارة والنجاسة سواء، لم تستفد بهذا الحكم صفة زائدة قائمة بها، وإنَّما استفادت تَعلُّق حُكم الاجتناب -مثلاً- في النجاسة بها، وفي الخمر تَعلُّق التحريم بشربها، وأشباه ذلك. كما إذا عَلِمْتَ أنَّ زيدًا قائم أو قاعد، لم يكتسب زيد بذلك وصفاً، ولا تغَير مِن صفاته شيء. وذهب السرخسي وفخر الإسلام -مِن الحنفية- إلى أنَّ الحكم يتعلَّق بالعين كما يتعلق بالفعل، وتكتسب العين وصفًا به. قال القاضي في "التقريب": واعتل مَن زعم أنَّ التحريم والوجوب يرجعان إلى ذات الفعل بضرْبٍ من الجهل، وهو أنَّه لو توهم عدم الفعل؛ لَعدمت أحكامه بأسرها، فوجب أن تكون أحكامه هي هو. قال: وهذا باطل؛ لأنَّه قولٌ يوجِب أن يكون جميع تصرفات الأجسام وأحكامها وأقوالها وأفعالها هي هي؛ لأنَّه لو تصوّر عدم الجسم؛ [لعُدمت] (¬1) أحواله وأكوانه وجميع تصرفاته، [فيجب] (¬2) أن يكون هو عبارة عن أفعاله ونحو ذلك، ولا يقول بذلك عاقل. قال: واعتلوا أيضاً بقولك: هذا حلال وهذا حرام. وجوابه أنَّه لا اعتبار بالإطلاقات التي منها حقيقة ومنها مجاز. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في سائر النسخ: لعدم. (¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في سائر النسخ: لوجب.

وأعلم أن القاضي أبا الطَّيِّب جعل مِن أمثلة المسألة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أحل المسجد لجنب ولا لحائض" (¬1). قال: (فمن أصحابنا مَن قال: مجُمَل؛ لأنَّ الأعيان لا تدخل في التحريم، بل الأفعال. ويحتمل أنَّ المقدَّر "المروردَّ أو "المكث"، فيتوقف فيه؛ إذ ليس إضمار أحدهما بِأَوْلى مِن الآخَر). انتهى لكنْ قام الدليل على جواز المرور، وهو: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43]؛ فتعيَّن المُكث، فلا إجمال. والله تعالى أعلم. ص: 701 - وَفي الْوُضُوءِ {بِرُءُوسِكُمْ}، وَفي ... "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِيَ الْخَطَأ" نُفِي 702 - كَذَاكَ: "لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَليْ" ... وَنَحْوُهُ، فَوَاضِحٌ ذَا مُنْجَلِيْ الشَّرح: هذه ثلاثة مواضع أخرى قيل: إنها مُجْمَلة. والصحيح خِلافُه. أحدها: قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ)} [المائدة: 6]، ذهب بعض الحنفية إلى أنَّه مجُمل؛ لتردده بين الكل والبعض، وأن السُّنَّة بيَّنت البعض. وحكاه في "المعتمد" عن أبي عبد الله البصري. والمرجَّح أنَّه لا إجمال، لأنَّ: مَن ذهب إلى أن الوجوب متعلق بالبعض -كالشافعية- اعتمادًا على إفادة "الباء" ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

التبعيض، أو أنَّه لو لم يكن المراد بعد دخول "الباء" البعض، لم تكن لها فائدة؛ فإنَّ "مسح" يتعدى بنفسه. أو أن الرأس آلة و "الباء" للاستعانة، والآلة لا يمسح بجميعها، فلا إجمال عنده. ومَن رأى مسح الكل -كالمالكية على المشهور عندهم- لِتعلُّق الحكم بالرأس، والأصل والحقيقة هو الكل، فلا إجمال أيضاً عنده. ومَن قال: إن القدر المشترك بين مسح الكل والبعض، فيَصْدُق مسح البعض. ونَسَبه في "المحصول" للشافعي. وقال البيضاوي: (إنَّه الحقُّ). لكنَّه مخالف لما أسلفه من أنَّ "الباء" تجيء للتبعيض كالآية. ونقل ابن الحاجب عن الشَّافعي وأبي الحسين وعبد الجبار ثبوت التبعيض بالعُرف، لكن نقل في "المعتمد" عن أبي الحسين أن اللُّغة تقتضي مسح الجميع. ثم قال ابن الحاجب: (وعلى قول الشَّافعي ومَن وافقه لا إجمال) (¬1). انتهى وعبارة الشَّافعي في كتاب "أحكام القرآن": فكان معقولًا في الآية أنَّ مَن مسح مِن رأسه شيئًا فقد مسح برأسه، ولم تحتمل الآية إلَّا هذا، وهو أظهر معنييها، أو مسح الرأس كله. قال: (فدلت السُّنَّة على أن ليس على المرء مسح رأسه كله. وإذا دلت السُّنَّة على ذلك، فمعنى الآية أنَّ مَن مسح شيئًا مِن رَأسه أَجزأَه). انتهى فلم يثبت الشَّافعي التبعيض بالعُرف كما زعمه ابن الحاجب. ومَن قال بالإجمال زعم أن السُنَّة بينت المراد وهو مسحه - صلى الله عليه وسلم - على ناصيته وكمل على العمامة، ففي رواية عن أبي حنيفة: إذا مسح بناصيته، أجزأه، وهي ما بين النزعتين، وهي أقل من الربع. والرواية الأخرى المشهورة عنه وبها قال أبو يوسف: أنَّه لا بُدَّ مِن مسح ربع ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (2/ 365).

الرأس بثلاثة أصابع. وقال زفر: (الواجب الربع مطلقًا كيف مسحه). وقال محمَّد بن مسلمة مِن المالكيّة: (يجوز اقتصاره على الثلثين). وقال أشهب: (على الثُّلث). والكل تَعلَّقَ ببيان ما في الآية مِن الإجمال على رأيهم. ثانيها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رُفع عن أُمتي الخطأ"، وقد سبق في باب العموم تخريجه وفي وَجْه دلالة الاقتضاء منه وتقرير أنَّه ونحوه ليس من المجمل. والقائل بأنه مجُمل: أبو الحسين وأبو عبد الله البصريان وبعض الحنفية، ويُحكى أيضاً عن القدرية. قالوا: لتردده بين نفي الصورة والحكم. وأيضًا إذا لم يكن نفي المذكور مرادًا، فلا بُدَّ مِن إضمار لمتعلق الرَّفع وهو متعدد. وأُجيب عن الأوَّل بأنَّ نفي الصورة لا يمكن أن يكون مُرادًا؛ لِمَا فيه مِن نسبة كلامه - صلى الله عليه وسلم - إلى الخُلْف، فتَعيَّن أن المراد نفي الحُكم. وأمَّا الثَّاني: وهو احتمال المضمرات، فقد دلَّ الدليل على المراد إمَّا بالعُرف أو غيره على ما سبق نظيره في نحو: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}. فيقال هنا: دلَّ العُرف بأن المرفوع المؤاخذة والعقاب كما قرره القاضي في "التقريب"، وجرى عليه ابن الحاجب. بل قال ابن السمعاني: (إنَّه يمكن أن يقال: إنَّه معقول المعنى لغةً أيضاً، ألا ترى أنَّه إذا

قال لعبده: "رفعت عنك جنايتك"، عُقِل منه رفع المؤاخذة؟ ) (¬1). أما التضمين؛ فلأنه مِن خطاب الوضع كما سبق في الكلام في خطاب الوضع في مقدمة الكتاب. فيقال هنا: إنَّ هذا ليس بعقاب، بل جُبران للمتلفات؛ ولذلك يجري في مَن ليس مُكلَّفًا أصلًا، كالصبي والمجنون. أو: إنَّ هذا العموم في نفي المؤاخذة مخصَّص بالدليل، إمَّا الإجماع أو غيره كما هو موضح في محله. نعم، انتُقد على ابن الحاجب و "جمع الجوامع" في قولهما في "باب المقتضَى": (إنَّه لا عموم فيه)، مع قولهما هنا: (إنَّه لا إجمال). وجوابه أنَّه لا يلزم مِن نفي عمومه ثبوت الإجمال، لأنَّ بعض المقدرات إذا دلَّ الدليل عليه مِن غير أن يقال بالعموم في كل المقدرات، انتفى العموم والإجمال كما بيناه هنا، وسبق أيضاً تقريره هناك. وحاصل ما ذُكر في هذه المسألة مِن المذاهب -كما قاله الاصفهاني في "شرح المحصول"- ثلاثة: - مجمل. - ومحمول على رفع الإثم ناجزًا والعقاب آجلًا. وهو مذهب الغزالي؛ لِمَا سبق مِن العُرف، إلَّا أنَّه يستثني الضَّمان كما سبق. - ثالثها واختاره في "المحصول": محمول على رفع جميع الأحكام الشرعيّة. ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة (1/ 293).

وكذا حكى الثلاثة الأقوال القاضي عبد الوهاب في "الملخص" ونسب الثالث لأكثر الفقهاء من أصحابنا وأصحابه، واختار هو الثَّاني. ثالثها: قوله - صلى الله عليه وسلم - "لا نكاح إلَّا بولي" (¬1). وقد رواه أبو موسى الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا نكاح إلَّا بولي". أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وابن حبان، وصححه ابن المديني وغيره. والمراد هنا هذا الحديث ونحوه مما فيه نفي ذوات واقعة تتوقف الصحة فيها على إضمار شيء: "لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب" (¬2)، "لا صيام لمن لم يُبَيِّت الصيام" (¬3)، وهو كثير. وقد سبق تقرير المقدَّر فيه في دلالة المقتضَى وفي عمومه أولاً. والمراد هنا أنَّ الجمهور على أنَّها ليست بمجملة؛ بناء على القول بثبوت الحقائق الشرعيّة. فإن المختل منها بشرط أو ركن يصح نفيه حقيقة؛ لأنَّ الشرعي هو تام الأركان متوافر الشروط؛ ولهذا قال - صَلَّى الله عليه وسلم - للمسيء صلاته: "ارْجع فَصَلِّ؛ فإنَّك لم تُصلِّ" (¬4). وإذا كانت الحقيقة هي المراد نفيها، فلا يحتاج نفيها لإضمار شيء؛ فلا إجمال. وذهب القاضي أبو بكر وبعض المعتزلة إلى أنَّها مجُملة؛ بناءً منه على مذهبه في نفي الحقيقة الشرعيّة، وأنَّ الشرعي للأَعم [مِن] (¬5) الصَّحيح والفاسد. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) سبق تخريجه. (¬5) في (ص، ق، ش): و.

نعم، القائلون بالإجمال اختلفوا في سببه على أقوال: أحدها: أنَّه لم يُرد بنفيه نفي وقوعه؛ لأنَّ ذلك مُشاهَد، وإنما أريد به أمر آخَر غير مذكور، وهو محتمل. الثَّاني: أن ذلك محُتمِل نفي الوجود ونفي الحكم. الثالث: أنَّه يحتمل نفي الصحة ونفي الكمال. وبهذا صرح القاضي في "التقريب". وزعم الماوردي أنَّ القاضي مذهبه الوقف في هذه المسألة، وهو غير الإجمال؛ لأنَّ القائل بالوقف يحصر في الاحتمالين ويتوقف على رجحان أحدهما، وأمَّا القائل بالإجمال فيقول: يحتمل احتمالات كثيرة؛ فكان مجملًا. وفي هذا الفرق عندي نظر، وبالجملة فالمدْرَك في غالب هذه المسائل ما قررناه مِن الشبهة والجواب، وإلى ذلك أشرتُ بقولي: (فَوَاضِحٌ ذَا مُنْجَلِيْ). أي: فلا يُعد مِن الإجمال مع وضوخ المراد. تنبيه: اختُلف في مواضع هل هي مِن المجمل؟ أو لا؟ والخلاف فيها قوي، منها: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، وللشافعي فيها أربعة أقوال: أحدها: أنَّها عامة خصَّصها الكتاب. الثَّاني: عامة خصَّصتها السُّنة. الثالث: مجملة بيَّنها الكتاب. الرابع: مجملة بيَّنتها السُّنة. واختلف قوله أيضاً في قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] على قولين:

أحدهما: عام خصَّصته السُّنة. والثَّاني: مجمل بيَّنته السنة. ومنشأ الخلاف أن "أل" للشمول، أو عهدية، أو للجنس من غير استغراق، أو محتملة. وفيه سؤال، وهو أنَّ اللفظ في كل مِن الآيتين مُفرد مُعرَّف، فإنِ عَمَّ مِن حيث اللفظ فليعُم في الآيتين، أو المعنى فليَعُم فيهما أيضًا، وإنْ لم يَعُم لا مِن حيث اللفظ ولا المعنى فَهُما مستويان مع أن الصَّحيح في آية البيع العموم وفي آية الزكاة الإجمال. وجوابه أنَّ في ذلك سِرًّا، وهو أنَّ حِل البيع على وَفْق الأصل مِن حيث إنَّ الأصل في المنافع الحِل وفي المضار الحرمة بأدلة شرعية، فمهما حَرُم البيع فهو خلاف الأصل. وأمَّا الزكاة فهي على خلاف الأصل، لتضمنها أخذ مال الغير بغير إرادته، فوجوبها على خلاف الأصل. والأخبار الواردة في البابين مُشعِرة بهذا المعنى، فلذلك اعتنى - صلى الله عليه وسلم - ببيان المبيعات الفاسدة، كالنهي عن بيع حَبَل الحُبلة، والمنابذة والملامسة وغير ذلك، بخلاف الزكاة، فإنَّه لم يَعتنِ فيها ببيان ما لا زكاة فيه. فمَن ادَّعى وجوبها في مخُتلَفٍ فيه كالرقيق والخيل، فقد ادَّعى حُكمًا على خلاف الدليل. وأمَّا تَردُّد الشَّافعي في آية البيع هل المخصِّص [أَو] (¬1) المبيِّن لها الكتاب أو السُّنَّة؟ دون الزكاة، فلأنه عَقَّب على البيع بقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، والربا مِن أنواع البيع اللغوية، ولم يُعقِّب آية الزكاة بشيء. والله أعلم. ¬

_ (¬1) في (ص، ق): أم.

ص: 703 - وَإنِّمَا "الْبيَانُ" إخْرَاجٌ إلَى ... حَوْزِ التَّجَلِّي مَا يَكُونُ مُشْكِلَا الشَّرح: الإشارة بذلك إلى أنَّ هذه الأمثلة إنَّما لم يحكَم عليها بأنها كانت مجُمَلة ثم بُيِّنت فصارت من المجمَل أولاً ومن المبَيَّن آخِرًا، بل حُكِمَ عليها بأنها مُبيَّنة من الابتداء؛ لأنَّ "البيان" فُسِّر بأنه الإخراج مِن حَيِّز الإشكال إلى حيز التجلي. وهذه لم تكن في ابتدائها مُشْكِلة، بل واضحة كما بَيَّناه. واعْلَم أن البيان يُطْلق تارةً على فِعل مُبيِّن وهو التبيين، كالسلام بمعنى التسليم، والكلام بمعنى التكليم. فهو اسم مصدر، لا مصدر، لعدم جريانه على الفعل. ويُطلَق تارةً على الدليل الدَّال على ذلك، وتارةً على المدلول وهو المبيَّن (بالفتح)؛ أي: مُتعلَّق التبيين ومحِله؛ فمِن ثَمَّ اختلف العلماء في تفسير "البيان". فالتعريف الذي ذكرناه جارٍ على الإطلاق الأوَّل، وهو الذي عرَّف به الصَّيْرفيُّ كما نقله ابن السمعاني وغيره، وجرى عليه إمام الحرمين والآمدي وابن الحاجب، إلَّا أنهم زادوا عليه: (والوضوح)؛ تأكيدًا وتقريرًا. وأُورِد عليه أنَّه غير جامع؛ لأنَّه يخرج عنه البيان ابتداءً وهو الظاهر مِن غَيْر سَبْق إجمال. قال ابن السمعاني: (فإنه ربما ورَدَ مِن الله تعالى بيان لمِا لم يخطر ببال أحد) (¬1). وأيضًا ففي التعبير بـ "الحيز" -وهو حقيقة في الأجسام- تَجَوُّز في إطلاقه في المعاني، ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة (1/ 258).

ونحوه "التجلي". وأجيب عن الأوَّل: بأنَّ السامع لِما يَرِد مِن المبين بمنزلة مَن أشْكل عليه الحكم في ذلك؛ إذ لم يكن عنده عِلم من ذلك. كذا أجاب به القاضي عبد الوهاب، ولكن في تسميته عدم العلم "إشكالًا" تَجَوُّز. على أنَّ هذا فرع عن تسمية إيراد ما كان واضحاً مِن الابتداء بيانًا. وقد لا يختاره الصَّيْرفيُّ، ويخص البيان بما سبقه إشكال فبيَّنه. وعن الثَّاني: بأنَّ المجاز بالقرينة يدخل في التعاريف كما صرح به الغزالي، وسبق بيانه أول الكتاب. وعَرَّف الأكثرون -ومنهم الآمدي- البيان بأنه الدليل، والبصريُّ بأنه العِلم الحاصل عن الدليل. وهذان مُفرَّعان على الإطلاقين الآخَرين. وممن اختار تعريف الصَّيْرفيُّ: القاضي أبو الطَّيِّب وغيره مِن أئمتنا. واعترضه ابن السمعاني بأنَّ لفظ "البيان" أظهر مِن لفظ "إخراج الشيء" إلى آخِره. وقد يُمْنَع ذلك. وقال الماوردي: إنَّ جمهور الفقهاء قالوا: "البيانُ" إظهارُ المراد بالكلام الذي لا يُفهم منه المراد إلَّا به. قال ابن السمعاني: (وهو أحسن مِن جميع الحدود) (¬1). والعجب أنَّه أورد على الصَّيْرفيُّ المبيَّن ابتداء، ولا شك في وروده هنا، بل أولى؛ لأنَّه صرح بتَقدُّم كلام لم يُفْهَم المراد منه. وأيضًا فالبيان قد يَرِد على فِعْلٍ، ولا يُسمى مثل ذلك كلامًا. ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة (1/ 259).

واعْلَم أنَّ الشَّافعي في "الرسالة" قال: ("البيان" اسم جامع لأمور متفقة الأصول مُتَشعِّبة الفروع) (¬1). وليس مراده تفسيره كما فهمه ابن داود وقال: إن البيان أبين من التفسير. وإنَّما مراده أنَّه أنواع مختلفة المراتب، بعضها أَجْلَى مِن بعض، فمنه ما لا يحتاج لتَدبُّر، ومنه ما يحتاج له. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ مِن البيان لَسِحرًا" (¬2). فبيَّن أنَّ بعض البيان أظهر مِن بعض. ويدل عليه أنَّ الله تعالى خاطبنا بالنص والظاهر وبالمنطوق والمفهوم والعموم والمجمل والمبين وغير ذلك مما سبق، ولذلك عَقد الشَّافعي لكل مِن الأنواع بابًا، فقال: "باب البيان الأوَّل"، "باب البيان الثَّاني"، وهكذا. وللحنفية في أصولهم اصطلاحات في البيان وأقسامه مشهورة. والله أعلم. ص: 704 - نَعَمْ، مِنَ "الْمُجْمَلِ" في الْقُرْآنِ ... وَسُنَّةٍ نَوْعٌ بِلَا بَيَانِ 705 - وَ"الْمُتَشَابِهُ" اسْمُهُ كَمَا مَضَى ... وَمَثَّلوهُ بِأُمُورٍ تُقْتَضَى 706 - وَمنْهُ مَا إجْمَالُهُ قَدِ انْمَحَى ... بِمَا أَتَى مِنَ الدَّلِيلِ أُوضِحَا 707 - كَقَوْلِهِ جَلَّ عَلَا: {أَوْ يَعْفُوَ} ... {وَالرَّاسِخُونَ}، وَعَلَيْهِ الْوَقْف 708 - مُرَتَّبٌ، وَالْقُرْءِ في الْمَقْرُوءِ ... في آيَةِ الْعِدَّةِ بِالْقُرُوءِ 709 - وَمِثْلُهُ الضَّمِيرُ في جِدَارِهِ ... في خَبَرٍ في وَضْعِ خُشْبِ جَارهِ ¬

_ (¬1) الرسالة (ص 21). (¬2) صحيح البُخاريّ (رقم: 4851)، صحيح مسلم (رقم: 869).

الشرح: أي: إذا تحرَّر معنى الإجمال والبيان، انبنى عليه معرفة ما ورد مجُمَلاً ولم يَرِد بيانه، وما كان مجُمَلًا ووَرَدَ بيانه. فالوارد مِن المجمَل إمَّا في الكتاب أو السُّنة أو في كلام العرب وغيرهم؛ فذكرنا هنا الأنواع الثلاثة: الأوَّل: ما وَرَدَ في القرآن مجُمَلاً ولم يأت بيانه، ويسمى "المتشابه" كما سبق في تقسيم الألفاظ أن النَّصُّ والظاهر يقال لهما "المُحْكَم"، وغيرهما المقابِل لهما -وهو الذي لم تتضح دلالته لا في الابتداء ولا في الانتهاء- يقال له: "المتشابه". والأصل في ذلك قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]. وهذا لِأَصَح الأقوال دليل واضح، والثَّاني: أنَّ القرآن كله محُكم؛ لقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1]، والثالث: كله متشابه؛ لقوله تعالى: {نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23]. فعَلَى الصَّحيح ليس المراد بالمحكم والمتشابه في الآيتين الأخيرتين ما أُرِيدَ في الأُولى، بل المراد بالمحكم في الكل أنَّه لا خلل فيه بوجه مِن الأوجُه، بل في غاية البلاغة والإحكام لِما أريدَ فيه من المقاصد. والمراد بأنَّ الكل متشابه أي: يشبه بعضه بعضًا في الحقِّ والصدق والإعجاز وفي البلاغة والمعاني اللطيفة، وأنَّ بعض معانيه يشبه بعضاً مِن الأوامر والنواهي والوعد والوعيد والقصص والأخبار وغير ذلك مما ليس له انحصار. وعلى القول بانقسامه إلى محكَم ومتشابه ففي المراد بكلِّ منهما أقوال كثيرة، أَرْجَحُها ما اقتصرتُ عليه هنا مِن أنَّ "المحكم" المتضح المعنى كيف كان أمرًا أو نهيًا أو خبرًا، وأنَّ "المتشابه" ما لم يتضح، وعِلمُه عند الله لم يُطْلِع عليه عباده.

وأمَّا ما كان أولاً غير متضح ثم وضح فهو القسم الثَّاني، وقد بيَّناه عقب هذا، وهو ما أريد في قوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]؛ إذِ الآية الأُولى وهي: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} لا حصر فيها؛ بدليل "منه" الدّالة على البعض. نعم، في ثبوتِ هذا القسم -وهو الذي استأثر الله تعالى بعلمه ولم يُطلع الأمة عليه وربما أَطْلَع عليه بعض أصفيائه دُون الأُمة- خِلافٌ. فقال الراغب في مقدمة تفسيره: (ذهب عامة المتكلمين إلى أنَّ كل القرآن يجب أن يكون معلومًا وإلا أدَّى إلى إبطال فائدة الانتفاع به) (¬1). ويناسب هذا القول أنَّ المفسرين لم يحجموا عن تفسير شيء من القرآن ويقولوا فيه: (إنَّه متشابه لا يَعلمه إلَّا الله)، بل فسروا كل ما فيه حتَّى الحروف المقطعة في أوائل السور ونحوها. وأمَّا الآيات المشكل ظاهرها -كآيات الصفات- فللناس فيها طريقان: منهم من لا يخوض فيها بتأويل، ويؤمن بها كما جاءت على مُراد الله تعالى مع التنزيه عن النقائص وكُل ما قام الدليل العقلي والنقلي على استحالته على الله تعالى، وهو طريق السلف والأئمة الماضين. والطريق الثَّاني: الخوض في التأويل بما يناسب المقام مما قام الدليل عليه من لغة العرب؛ لأنَّ الله تعالى لا يخاطبنا إلَّا بما يُفهَم مِن كلامهم وعُرِف مِن أوضاعهم، حقيقةً كان أو مجازًا. وهذا طريقة الخَلَف المحققين، وربما وَجَب في هذا الزمان القول به؛ لِمَا انتشر مِن فساد ¬

_ (¬1) تفسير الراغب الأصفهاني (1/ 33).

المجسمة والمبتدعة ودعوتهم لمن لا معرفة له إلى بدعتهم [تخييشًا] (¬1) عليهم بورود الظواهر وأن ذلك غير محُال، وأنَّ هذا طريقة السلف. ولا يُعْلِمُونهم باتفاق الطريقين على التنزيه، فنسأل الله السلامة. وقد بيَّنا ذلك في غير موضع مِن هذا الكتاب (¬2). والمقصود أنَّ هذا القسم مِن المجمل المسمَّى بِـ "المتشابه" يمثَّل بنحو أوائل السور عند مَن لا يرى تفسيرها وبالآيات والأحاديث المشكلة المعنى عند مَن لا يرى الخوض في تأويلها. وقولي: (وَمنْهُ مَا إجْمَالُهُ قَدِ انْمَحَى بِمَا أَتَى مِنَ الدَّلِيلِ أُوضِحَا) إشارة إلى القسم الثَّاني مِن المجمل وهو الذي كان مجملًا في الابتداء ثم بُيِّن بعد ذلك بالدليل، فصار مبيِّنًا في الانتهاء، وهو لا ينحصر. ومنه بيان نحو ما سبق في: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وفي نحو: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] على ما سبق من أحد أقوال الشَّافعي، وفي ما ادُّعي إجماله من آية السرقة ونحوها مما أسلفناه عند القائل بأنه مجُمل، فإنَّه يقول: إنَّه بُيِّن بعد ذلك. بل ذلك جارٍ في جميع الأسماء الشرعيّة الواقعة في القرآن والسُنَّة، نحو: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، و {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]. فمِن أصحابنا مَن قال: هي مجُملة؛ لأنَّ المراد مِنها لا تدل عليه اللُّغة. ومنهم مَن قال: عامة خُصَّ منه ما دخل لغةً وخرج شرعًا. والحقُّ أنَّها -تفريعًا على ثبوت الحقائق الشرعيّة- مُبيَّنة، لا إجمال فيها. ¬

_ (¬1) كذا في (ت، س) وقد يكون معناها: التغليف بالخيش؛ لإخفاء شيء. ويحتمل تكون الكلمة: (تحبيشًا) أو (تخبيشًا). ومعناهما: تجميعًا؛ أي: يجمعون الظواهر الواردة التي أشار إليها المؤلف. (¬2) ذكرتُ في مقدمة تحقيقي (ص 32) منهج أهل السُّنة والجماعة، بخلاف ما زعمه البرماوي هنا.

ومنه أيضاً تخصيص العام، ومنه النسخ إذا قلنا: بيان، لا رَفْع. وسيأتي. ومثلتُ ذلك في النَّظم بأمثلة، منها: وهو في التركيب لا في الإفراد: قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]. فإن الذي بيده عقدة النكاح يحتمل أن يكون الولي؛ لأنَّه الذي يعقد نكاح المرأة؛ لأنها لا تُزوج نفسها، ويحتمل أن يكون الزوج؛ لأنَّه الذي بيده دوام العقدة والعصمة. ثم وقع الاختلاف في بيانه، فقال الشَّافعي في القديم -وهو مذهب مالك - بأنه الولي، وعليه جَمْعٌ مِن التّابعين وفقهاء المدينة: الزُّهريّ، وربيعة، يزيد بن أسلم، والحسن، ورُوي عن ابن عباس، وهو قول أحمد. وقال الشَّافعي في الجديد: إنَّه الزوج. وبه قال أبو حنفية، وحُكي عن علي وابن عباس وجبير بن مطعم وابن المسيب وسعيد بن جبير وشريح ومجاهد والثوري. وللقول بالقديم عندنا شروط: أن يكون الولي أباً أو جدًّا، وأن يكون قبل الدخول، وأن يكون عن دَيْن، لا عَيْن، وأن تكون بكرًا عاقلةً صغيرةً أو سفيهةً على المرجَّح، وأن يكون بعد الطلاق أو معه بِخُلع على الأرجح. ومحل بسط ذلك الفقه. ومنها قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7]، فإنَّه يحتمل أن يكون الكلام تَمَّ عند قوله: {إِلَّا اللَّهُ}. أي: إنَّه سبحانه استأثر بِعلمه، فيكون الوقف عليه، والذي بعده مبتدأ وخبر؛ لأنَّ كون الجملة خبرًا عمدة أَوْلى [مِن أن] (¬1) يكون حالًا فضلة كما سيأتي تقريره. ويحتمل أن لا يوقَف عليه، ويكون "والراسخون" عطفًا على الذي قبله؛ لأنَّ الراسخين أيضاً يَعلمونه بإعلام الله تعالى لهم، فلمَّا احتمل واحتمل، كان مجمَلًا. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (ش): وأن. وفي (س، ت، ض): بأن.

ثم بعد ذلك مَن يرى بأنَّ لنا مجمَلًا استأثر الله تعالى بعلمه وهو "المتشابه"، يقول: تَبين بالدليلِ التمامُ عند: {إِلَّا اللَّهُ}. ومَن يرى بخلاف ذلك، لا يقف، وهو الراجح، وعليه يصح التمثيل. وإليه أشرف بقولي: (وَعَلَيْهِ الْوَقْفُ). ويكون قوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} جملة حالية من المعطوف دون المعطوف عليه؛ لِتعذُّر عودها للمعطوف عليه، كما تقول: "جاءني زيد وعمرو راكبًا)؛ لأنَّ وجوب اشتراك المتعاطفين إنَّما هو في العامل، لا في كل شيء. أما إذا أَمْكَن العَوْدُ للكل، فإنَّه يَعُود للكل كما سبق في تَعَقُّب الاستثناء ونحوه جُمَلًا أو مفردات. والحاصل في هذه الآية أنَّ الواو مُترددة بين العطف والاستئناف. ومما يرجح القول بأن الوقف ليس على {إِلَّا اللَّهُ} مع ما سبق مِن أنَّ الله لا يخاطبنا بما لا نفهم: أنَّ أحدًا لا يقول: إنَّ رسول الله -صَلَّى الله عليه وسلم-[لا] (¬1) يَعلم المتشابه. فإذا جاز أن يَعرفه الرسول، جاز أن يَعرفه الربانيون مِن صحابته وأتباعهم مِن أئمة أُمته. كان ابن عباس إذا قرأ الآية يقول: "أنَا مِن الراسخين في العلم" (¬2). ويقول في قصَّة أهل الكهف {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف: 22]: "أَنا مِن أولئك القليل" (¬3). وقال مجاهد: لو لم يكن للراسخين في العلم حظٌّ مِن المتشابه إلَّا أن يقولوا: "آمَنَّا به"، لم يكن لهم على الجاهل فَضْل؛ لأنَّ الكل يقولون: "آمَنَّا به". وقيل: التقدير في الآية: (يقولون: عَلِمنا وآمَنَّا به)؛ لأنَّ العِلم بالشيء سابق على الإيمان ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (ق، س): لم. (¬2) لم أجده مُسنَدًا. (¬3) تفسير الإمام الطبري (15/ 226) بإسناده، تفسير (الوسيط، 3/ 142) للإمام الواحدي بإسناده (طبعة: دار الكتب العلمية - بيروت).

به كما ترجمه البُخاريّ: "باب العِلم قبل القول والعمل؛ لقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] الآية، فبدأ بالعِلم". وقد سبقه إلى هذا سفيان بن عيينة؛ إذْ لا يُتصور الإيمان مع الجهل. وأيضًا فلو لم يَعْلم الراسخون المتشابه، لم يكونوا راسخين، ولم يقع الفرق بينهم وبين الجهال. فإن قيل: فما الحكمة في إنزال المتشابه والحاجة للعباد إنما هو البيان والهدى؟ قلت: أما على إمكان عِلمه فلأنْ يبحث عنه العلماء ويتبصروا في دقائقه وغوامضه؛ فيُؤجَروا على ذلك، وليحذروا مِن قول المشركين: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22]، ولمَا في الامتحان بذلك مِن ما أُعِدَّ مِن ثواب الاجتهاد كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم: 27] إلى قوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الروم: 45] الآية، فنبههم على أنَّ أعلى المنازل هو الثواب، فلو كان القرآن كله محُكمًا لا يحتاج لِتأويل، لسقطت المحنة وبَطُل التفضيل واستوت منازل الخلق، ولم يظهر بذلك فضل العالم على الجاهل. وما لم يوقف على معناه إمَّا لتعذُّره -على القول باستئثار الله تعالى بعلمه- أو بعد البحث فلَم يُعْرف، فيكون الامتحان بالإيمان به. ومن فوائده: هدم مذهب القائلين بأنه يجب على الله تعالى مراعاة مصالح العباد، كالمعتزلة. ومنها إقامة الحجة على مَن نزل القرآن بلسانهم وهُم عاجزون عن الوقوف على ما فيه مِن السر والحكمة والبلاغة. ومنها قوله سبحانه وتعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فإنَّه يحتمل الحيض والطهر، لكن يتبين المراد به بالدليل من خارج.

فالشافعي لَمَّا حمله على الطهر، حمله لقوله - صلى الله عليه وسلم - في طلاق ابن عمر: "مُره فليراجعها حتَّى تحيض ثم تطهر". قال: "فتلك العدة التي أمر الله" (¬1). وأيضًا فقال: ثلاثة (بالتاء). فلو كان المراد الحيضة، لَقال: (ثلاث قروء). وغير ذلك مِن الأدلة. وأبو حنيفة لَمَّا حمل على الحيض، ذَكر دليله. فَعَلَى كل حال هو مِن المجمَل الذي بيّن بعد ذلك. ومنها حديث أبي هريرة في "الصحيحين" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يمنعن جارٌ جارَه أن يغرز خشبة في جداره" (¬2). فإنَّ الضمير في "جداره" يحتمل عوده على الغارز، أي: لا يمنعه جاره أن يفعل ذلك في جدار نفسه. وعلى هذا فلا دلالة فيه على القول القديم عندنا أنَّه إذا طلب جاره منه أن يضع خشبة في جداره المطلوب منه، وجب عليه التمكين. ونَصَّ عليه الشَّافعي في "مختصر البويطي"، وقوَّاه النووي. ويحتمل أن يعود على الجار الآخَر، فيكون فيه دلالة على ذلك. لكن يُرجِّح الأوَّل موافقته لقاعدة العربيَّة في عَوْد الضمير إلى أقرب مذكور. وكلٌّ مِن القولين يُدَّعَى فيه أنَّه تبيّن المجمَل بالدليل على المدعَى. ولكن للقديم شروط معروفة في الفقه. ومن الأمثلة -ولم أتعرض له في النَّظم- قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1]، فإنَّه قد استثنى مِن المعلوم ما لم يُعْلم؛ فصار الباقي محتملًا؛ فكان مجُملاً. وقد سبق ذلك في أنَّ العام بعد التخصيص حُجَّة أوْ لا، وسبق إيضاحه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) صحيح البُخاريّ (2331)، صحيح مسلم (رقم: 1609).

ومثله: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151]، فإن الحقَّ لَمَّا لم يكن معلومًا، كان مجمَلًا. وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الصلح جائز بين المسلمين إلَّا صلحًا أَحَل حراماً أو حرم حلالًا" (¬1). على ما في التمثيل بهذين مِن نظر. وبالجملة فقد تَبين المراد من ذلك كله بالدليل. والله أعلم. ص: 710 - وَمَثّلوا "الْمُجْمَلَ" غَيْرَ الْمُنْزَلِ ... بِلَفْظِ "مُخْتَارٍ" مِنَ الْمُؤَوَّلِ 711 - بِفَاعِلٍ في الْأَصْلِ أَوْ مَفْعُولِ ... " [زيدٌ طَبِيبٌ مَاهِر] (¬2) ذُو قُوْلِ" الشَّرح: هذا هو القسم الثالث: وهو المجمل في كلام العرب وغيرهم مِن غير الكتاب والسُّنَّة، وهو معنى قولي: (غَيْرَ الْمُنْزَلِ). فإن الكتاب والسُّنَّة منزلان. فمنه لفظ "مختار"، فإنَّه محتمل أن يكون اسم فاعل وأصله "مخُتير" بالكسر على وزن مُقتدر، وأن يكون اسم مفعول على وزن مُعتبر. تحركت "الياء" فيهما بعد فتحة، فقُلِبَت "أَلِفًا". قال العسكري: (ويتميز بحرف الجر، تقول: "هذا مختار لِكذا" في الفاعل، و "مختار مِن ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (رقم: 3594)، سنن التِّرمذيُّ (رقم: 1352)، وغيرهما. قال الألباني في (صحيح أبي داود: 3594): حسن صحيح. وقال في (صحيح التِّرمذيُّ: 1352): صحيح. وقال في (إرواء الغليل: 1420): حسن. (¬2) في (ش): وقد ظننته ما هو. وفي (ت): زيد ظننت ماهر.

كذا" في المفعول) (¬1). والفرق بَيْن هذا وبين نحو "قروء" أنَّ الإجمال طَرأَ على هذا باعتبار الإعلال والعمل التصريفي كما بيَّناه، و "القرء" مجُمَل مِن حيث وضعه، مع أنَّ كُلًّا منهما إجماله مِن حيث هو مُفرد، لا بواسطة تركيبه كما سبق من الأمثلة. وحاصله أنَّ المجمل أعم مِن المشترك؛ لأنَّ المجمل يشمل ما احتمل معنيين سواء واللفظ فيهما حقيقة أو مجاز، أو أحدهما حقيقة والآخر مجاز مساوٍ للحقيقة كما بيَّنا ذلك في تقسيم اللفظ في بحث اللغات. فلذلك يدخل فيه ما كان صالحاً لمتماثلين بوجه من الوجوه، كالنور للعقل وللشمس، والجسم للسماء وللأرض، والرجُل لزيد ولعمرو. كذا ذكره الغزالي، وفيه نظر ظاهر؛ لأنَّه [يَلزم] (¬2) أنَّ كل متواطِئ مجمَل. وقولي: (زَيْدٌ طَبِيبٌ مَاهِرٌ) معطوف على ما سبق، حُذف منه حرف العطف، أو هو مِن باب سَرد الأمثلة. وهو مثال [المجمَل] (¬3) باعتبار التركيب، لا الإفراد. وذلك أنَّ "ماهر" يحتمل عَوْده إلى ذات "زيد" وإلى وصفه المذكور وهو "طبيب". ولا شَكَّ أنَّ المعنى مُتفاوت باعتبارهما وإنْ كان بينهما فرق. وهو مِن الأمثلة التي ليست مِن الكتاب ولا السُّنَّة ولا مِن كلام العرب. ومما لم أذكره في النَّظم أيضاً وهو كالذي قَبْلَه: "الثلاثة زوج وفرد". فإن اللفظ متردد بين العَوْد للأجزاء وبين العود للصفة، وإنْ شئت قلت: بين جمع الأجزاء وبين جمع ¬

_ (¬1) الفروق اللغوية (ص 125). (¬2) في (ت): لا يلزم. (¬3) كذا في (ص)، لكن في (ق، س): لمجمل.

الصفات، فهو محتمل من حيث هو، أي: مِن حيث دلالة اللفظ، لا الواقع. وإن كان أحد الاحتمالين -وهو كونه مركبًا مِن زوج وفرد- هو الواقع. ولا يخفَى ما في ذلك مِن نظر. فلذلك أسقطته مِن أمثلة "جمع الجوامع" كما مَثَّل مصنفه به في "شرح المختصر". وقولي: (ذُو قُوْلِ) أي: مِن مهارته له قولٌ مُعتبر كيف فُرِض عود ماهر. والله أعلم. ص: 712 - أَمَّا الدَّلِيلُ في الْبيانِ فَإلَى ... قَوْلٍ وَفِعْلٍ قَسْمُهُ قَدْ فُصِّلَا 713 - فَإنْ يَكُنْ عَنْ مُجْمَلٍ تَأخَّرَا ... فَسَابِق إنْ عِلْمُ سَبْقِهِ جَرَى 714 - أَمَّا مَعَ الْجَهْلِ فَذُو الْبيانِ ... الْقَول، أَيْ لِقُوَّة التّبيانِ 715 - كَذَا إذَا تَنَافَيَا، وَهْوَ كَمَا ... طَافَ طَوَافَيْنِ وَكَانَ أَحْرَمَا 716 - أَيْ قَارِنًا لَكِنَّهُ قَدْ أَمَرَا ... بِوَاحِدٍ، مَثِّلْ بِذَا، لَا تَأثرَا الشَّرح: لما انتهى الكلام في المجمل وأقسامه الثلاثة وكان الثالث منها يكون مجُمَلًا أو، ثم يجيء ما يبينه فيصير مبينا وعُرف معنى "البيان"، ذكرتُ هنا أنَّ الدليل المبيِّن إما قول أو فعل. فالقول يكون مبينا اتفاقًا، وهو إما مِن الله عز وجل أو مِن رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فالأول كقوله تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة: 69]، فإنه مُبيِّن لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]. هذا إذا قلنا بأن المراد بالبقرة بقرة مُعيَّنة، وهو المشهور. وعن ابن عباس خِلافه، وأنه قال: "لو ذبحوا أي بقرة كانت؛

لأجزأهم ذلك، ولكنهم شددوا، فسألوا؛ فشدد الله عليهم" (¬1). الثاني كقوله (عليه الصلاة والسلام) فيما رواه البخاري من حديث ابن عمر: "فيما سقت السماء أو كان عثريّا العشر، وما سُقي بالنضح نصف العشر" (¬2). ورواه مسلم عن جابر بنحوه (¬3). وهو مبيِّن لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]. واستفدنا مِن هذا المثال أنَّ السُّنَّة تُبيّن مجُمَل الكتاب، وهو كثير، كما في الصلاة والصوم، والحج والزكاة والبيع والربا وغالب الأحكام التي جاء تفصيلها في السُّنَّة. وأما الفعل فالمراد به فِعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفي كونه بيانًا خلاف. فالجمهور: نعم، وخالف شرذمة يسيرة فيه. دليل الجمهور -كما قال ابن الحاجب- أنه - صلى الله عليه وسلم - الصلاة والحج بالفعل وقال: "خذوا عني مناسككم" (¬4)، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬5). روى الأول مسلم في حديث جابر الطويل، والثاني البخاري من حديث مالك بن الحويرث. لا يقال: إن الذي وقع به البيان قول، وهو قوله: "صلوا" و"خذوا". لأَنا نقول: إنما دلَّ القول على أنَّ فِعله بيان، لا أنَّ نفس القول وقع بيانًا. وأيضًا فالفعل مُشاهَد، والشاهدة أَدَل، فهو أَولى مِن القول بالبيان. ¬

_ (¬1) تفسير الطبري (1/ 347، 348) بإسناده بنحوه. (¬2) صحيح البخاري (1412). (¬3) صحيح مسلم (981). (¬4) سبق تخريجه. (¬5) سبق تخريجه.

وفي الحديث: "ليس الخبر كالمعاينة" (¬1). رواه أحمد بسند صحيح عن ابن عباس مرفوعًا، وابن حبان، والطبراني وزاد فيه: "فإن الله تعالى أخبر موسى بن عمران -عليه السلام- عما صنع قومه من بعده، فلم يُلْقِ الألواح، فلمَّا عاين ذلك، ألقَى الألواح" (¬2). وأما شُبهة الخصم بأنَّ الفعل يطول فيتأخر البيان به مع إمكان تعجيله -فمردود؛ [لأنه] (¬3) قد يطول بالقول ويزيد على زمان الفعل. وأيضا فهو أقوى مِن القول في البيان كما سبق. واعلم أنه يدخل في الفعل ما سبق في بيان السُّنَّة في "باب الأدلة"، وأنَّ الترك فِعل؛ لأنه كَف، فيكون مِن الترك بيان، وذلك كترك التشهد الأول بعد فِعله - صلى الله عليه وسلم - إياه، فإنه بيان أف غير واجب. والإشارة والكتابة: قال صاحب "الواضح" من الحنفية: لا أعلم خلافا في أنَّ البيان يقع بهما. وقولي: (فَإنْ يَكُنْ عَنْ مُجْمَل تَأَخَّرَا)، أي: إذا تَقرر أنَّ البيان يكون بالقول وبالفعل، فلو تأخر عن المجمَل قولٌ وفعلٌ فما الذي يكون بيانًا؟ ففي قولي: "يَكُنْ" ضمير الشأن، والألف في "تأخرا" ضمير القول والفعل، فهي "ألِف" اثنين، لا "ألِف" الإطلاق. ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد (رقم: 1842)، صحيح ابن حبان (رقم: 6213)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 6185). (¬2) المعجم الأوسط (1/ 12، رقم: 25)، صحيح ابن حبان (رقم: 6214). قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 6181). (¬3) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): بأنه.

لتأخرهما عن المجمَل حالتان: إحداهما: أن يتفقا في غرض البيان بلا تنافٍ. والثاني: أن يكون بينهما تنافٍ. فأما الأُولى: [فأنْ] (¬1) يسبق أحدهما ويُعلم، فهو المبيِّن، قولًا كان أو فعلًا. وإنْ لم يُعلم السابق فلا يُقضَى على واحد منهما بأنه المبيِّن بعينه، بل يُقضَى بحصول البيان بواحد لم يُطّلَع عليه وهو الأول في نفس الأمر، والتأكيد بالثاني. وقيل: يتعيَّن -في حالة الجهل بالسابق- غيرُ الأرجح للتقدم حتى يكون هو المبيِّن؛ لأنَّ المرجوح لا يكون تأكيدًا للراجح؛ لعدم الفائدة. واختاره الآمدي. ولكن جوابه أنَّ المؤكِّد المستقل لا يَلزم فيه ذلك، كالجمَل التي يُذكر بعضها بعد بحض للتأكيد. فإنَّ التأكيد يحصل بالثانية وإنْ كانت أضعف بانضمامها إلى الأُولى. وإنما يَلزم كَوْن المؤكّد أقوى في المفردات، نحو: جاءني القوم كُلهم. الثانية: إذا لم يتفق الفعل والقول بل تنافيَا في الحكم كما لو رُوي أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بعد نزول آية الحج في القِران بطواف واحد، ورُوي أنه طاف قارنًا طوافين، فالمختار عند الجمهور -منهم الإمام وأتباعه وابن الحاجب- أنَّ المبيِّن هو القول، سواء كان قبل الفعل أو بعده. ويُحمل الفعل حينئذٍ على الندب أو على الوجوب المختص به - صلى الله عليه وسلم -؛ وذلك لأن القول يدل على البيان بنفسه، بخلاف الفعل، فإنه لا يدل إلا بواسطة انضمام القول إليه، والدال بنفسه أقوى مِن الدال بِغَيره. لا يُقال: قد سبق أن الفعل أقوى في البيان. لأنَّا نقول: التحقيق أنَّ القول أقوى في الدلالة على الحكم، والفعل أَدل على الكيفية. ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (ت): فإما أن.

ففِعل الصلاة أَدل مِن وصفها بالقول؛ لأن فيه المشاهدة. وأما استفادة وجوبها أو ندبها أو غيرهما فالقول أقوى وأوضح؛ لِصراحته. وخالف أبو الحسين، فقال: إنَّ المتقدِّم هو البيان، قولًا كان أو فعلًا. ويَلزمه -كما قال ابن الحاجب- نَسخ الفعل بالقول إذا وقع الفعل متقدِّمًا مع إمكان الجمع بينهما؛ لأَنا إذا حملنا الفعل على البيان أو الخصوصية، جمعنا بين القول والفعل، بخلاف النسخ، فإنه إبطال للمنسوخ. وقولي: (مَثِّلْ بِذَا، لَا تَأْثُرَا)، أي: اجعله مثالاً على تقدير أنْ لو وقع، أما كونه قد وقع وصار حديثًا مأثورًا فلا، وهو معنى قولي: (لَا تَأْثُرَا). يقال: آثرت الحديث آثره، أي: نقلته، فأنا آثر والحديث مأثور. و"الألف" مِن (تَأْثُرَا) بدل مِن نون التوكيد الخفيفة. ويقع في كلام كثير من شُراح "المختصر" والبيضاوي جَعْل ذلك حديثًا، وليس كذلك كما بينته، بل كلام القاضي تاج الدين السبكي في "شرح المنهاج" يُوهم ذلك. والله أعلم. ص: 717 - وَمَنْ أُرِيدَ فَهْمُهُ فَيَجِبُ ... لَهُ الْبيانُ حَسْبَمَا يَسْتَوْجِبُ الشَّرح: هذه المسألة قد سبقت في أنَّ لنا قِسمًا مِن "المجمَل" يستمر بلا بيان إلى آخِر الدهر، وذلك إنما يكون عند عدم الحاجة إلى بيانه، بأنْ لا يكون مِن دلائل الأحكام المكلَّف بها. فأما إذا كان كذلك وأريد بالخطاب إفهام المخاطَب به؛ لِيعمل به فِعلًا أو اعتقادًا، فيجب أن يبُيَّن له ذلك على حسب ما يراد بذلك الخطاب؛ لأن الفهم شرط التكليف. فأما مَن لا يراد إفهامه ذلك فلا يجب البيان له باتفاق.

ولهذا قال بعضهم: إنه لا يجب البيان في الخطاب إذا كان خبرًا لا يتعلق به تكليف، وإنما يجب في التكاليف التي يحتاج إلى معرفتها. قلتُ: والمسألة تلتفت إلى "تكليف المُحال" وهو تكليف الغافل، وقد سبق امتناعه، بخلاف "التكليف بالمُحَال". والله أعلم. ص: 718 - وَعَنْ زَمَانِ الْفِعْلِ لَا يُؤَخَّرُ ... نَعَمْ، إلَيْهِ وَاقِعٌ؛ فَيُؤْثَرُ الشَّرح: أي: إذا عُلِمَ أنه يجب البيان عند الحاجة، فهل يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب بما يحتاج للبيان؟ أوْ لا سواء أكان ذلك في بيان المجمل أو غيره من تخصيص أو تقييد أو نسخ أو نحو ذلك؛ له حالان: إحداهما: تأخيره عن وقت العمل بالخطاب، وهو معنى قولي: (عَنْ زَمَانِ الْفِعْلِ)، أي: الفعل الممتثل به الخطاب. والثانية: تأخيره عن وقت الخطاب إلى زمان تَوجُّه التكليف بمباشرة الفعل، لا عنه. فأما الأُولى (وهي التأخير عن الوقت الذي إذا أُخِّر البيان عنه، لم يتمكن الكلَّف من المعرفة بما تضمنه الخطاب) فلا يقع فيها تأخير البيان وإنْ جاز أن يقع بِناء على جواز التكليف بالمحال، وهو الراجح كما سبق، خلافًا للمعتزلة؛ لأن العلة في عدم وقوع التأخير عن وقت العمل أن الإتيان بالشيء مع عدم العلم يه ممتنعٌ، فالتكليف بذلك تكليف بما لا يُطاق. ولهذا قال إمام الحرمين: إنْ منعنا التكليف بما لا يطاق فلا يجوز تأخير البيان عن وقت

الحاجة، وإلا جاز. ولكن لم يقع؛ لأن التكليف بالمحال غير واقع. أي: الذي ليس مُحَاله لِتَعَلُّق عِلم الله تعالى بأنه لا يقع؛ لأنَّ ذلك واقع قطعًا كما سبق في موضعه. فالتعبير بأنه "لم يقع " أصوب مِن "لا يجوز". وأما وقت الحاجة فالمراد به -كما قال إمام الحرمين- تَوَجُّه الطلب، وبه يجاب عن كون الأستاذ لم يستحسن التعبير ب "الحاجة"، قال: لأنها تليق بمذهب المعتزلة القائلين بأنَّ للمؤمنين حاجة إلى التكليف. قال: فالعبارة الصحيحة -على مذهبنا- أن يقال: تأخير البيان عن وقت وجوب الفعل بالخطاب. وهو مُشَاححة لفظية، والمعنى واحد كما بيَّناه. نعم، ترددوا في أنَّ المراد بوقت الحاجة أو وقت الفعل زمن يمكن فيه الفعل، أو زمن يضيق بحيث لا يمكن فيما دونه الفعل. كالظهر مثلًا هل يجب بيانها بمجرد دخول الوقت؛ أو لا يجب إلا إذا ضاق وقتها؟ صرح أبو الحسين في "المعتمد" وغيره بالثاني، والقاضي أبو بكر بالأول. واستُشكل بتعليلهم المنع في أصل المسألة بأنه مِن التكليف بما لا يطاق. ويمكن جوابه بأنه لما دخل الوقت، تَعَلَّق الطلب به، فكيف يُطلب منه ما لا علِم له به؟ وأما الحالة الثانية وهي "تأخير البيان إلى وقت الحاجة" لا عَنْهُ: فأرجح المذاهب أنه جائز وواقع مطلقًا، سواء أكان للمبيَّن ظاهر يُعمَل به (كتأخير بيان التخصيص وبيان التقييد وبيان النَّسخ) أوْ لا (كبيان المجمَل). وبهذا قال أكثر أصحابنا وغيرهم، وعليه جمعٌ من الحنفية، واختاره الإمام الرازي وأتباعه، وابن الحاجب. ونقله القاضي في "مختصر التقريب" عن الشافعي نفسه، ونُقل عن

الأشعري وعن المزني وعن ابن أبي هريرة وغيرهم، وإليه ذهب المحققون من المتأخرين كالقاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق الشيىرازي؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18] و"ثُمَّ" للتراخي، وقال في قصة نوح: {وَأَهْلَكَ} [هود: 40] والعموم يتناول ابنه؛ ولهذا سأل عن إهلاكه. وكذا قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98] الآية. وسأل ابن الزِّبَعْرَى عن دخول عيسى والملائكة، فجاء. البيان بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101]، وغير ذلك. الثاني: المنع مطلقًا، فلا يقع مجُمَل إلا والبيان معه، وكذا غير المجمَل. وينقل عن أبي إسحاق المروزي والصيرفي وأبي حامد المروروذي والدَّقاق، وهو قول المعتزلة وكثير من الحنفية، وإليه صار ابن داود الظاهري، ونقله ابن القشيري عن داود نفسه وعن غيرهم. نعم، الصيرفي رجع، فقد قال الأستاذ أبو إسحاق: إنه نزل به أبو الحسن الأشعري ضيفاً، فناظره، فلم يَزَل به حتى رجع إلى مذهب الشافعي. نعم، عبارته في كتاب "الدلائل والأعلام" مُصرِّحة بالتفصيل الآتي، وهو: المذهب الثالث: أنه يجوز تأخير بيان المجمَل دُون غيره، وذلك جابى على اعتقاد الصيرفي أن الصيغة العامة إذا وردت، [يجب] (¬1) اعتقاد عمومها والعمل بموجبها. وَيلزم مِن رجوعه عن منع التأخير -فيما نقله الأستاذ عنه- رجوعه عن وجوب اعتقاد العموم ضرورة. ولذلك نَقل هذا القول الثالث عن الصيرفي القاضيان أبو الطيب وعبد الوهاب، ويُنقل أيضا عن كثير مِن الحنفية، حتى قال أبو بكر الرازي: (هو عندي مذهب أصحابنا؛ لأنهم ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (ت): يجوز.

يجعلون الزيادة على النص نَسخًا إذا تراخت عنه، فلا يجيزونها إلا بمثل ما يجوز به النَّسخ، ولو جاز عندهم تأخير البيان في مِثله، لَمَا كانت الزيادة نَسخًا، بل بيانًا) (¬1). الربا: يجوز تأخير بيان العموم؛ لأنه قبل البيان مفهوم، بخلاف المجمَل؛ لأنه قبل البيان غير مفهوم. حكاه الماوردي والروياني وجهًا لأصحابنا، وكذا حكاه ابن السمعاني عن بعضهم، وحكاه ابن برهان عن عبد الجبار. فيتعجب مِن قول القاضي عبد الوهاب: (إنه لم يَقُل به أحد). وأما المازري فنقله عن بعضهم، وقال: لا أثق به. والخامس: يجوز تأخير بيان الأوامر والنواهي، لا الأخبار كالوعد والوعيد. حكاه الماوردي عن الكرخي وبعض المعتزلة، ومنع السمعاني ذلك عن الكرخي. قال الماوردي: ولم يَقُل به أحد مِن أصحاب الشافعي. والسادس: عكسه، حكاه الشيخ أبو إسحاق، ونازع بعضهم فيه وفيما قبله بأنَّ الكلام في خطاب التكليف، لا في الأخبار. السابع: يجوز تأخير بيان النَّسخ دون غيره. حكاه في "المعتمد" عن أبي على وابنه وعبد الجبار. والثامن: يجوز فيما ليس له ظاهر، كالمشترك (قال الإمام الرازي: والمتواطئ. وفيه نظر)، دُون ما له ظاهر كالعام والمطلق والمنسوخ، فإنه يجوز تأخير بيانه التفصيلي دُون الإجمالي، فإنَّ الإجمالي يُشترط وجوده عند الخطاب؛ حتى يكون مانعًا من الوقوع في الخطأ، فيقال: هذا العام مُراد به خاص، أو: هذا المطلق مُراد به مقيد، أو: هذه النكرة مراد بها مُعيَّن، أو: هذا الحكم سيُنسخ. ¬

_ (¬1) الفصول في الأصول (2/ 49).

أما البيان التفصيلي فليس ذِكره مع الخطاب شرطًا. نَقل هذا المذهب الإمام الرازي وأتباعه عن أبي الحسين والدَّقاق والقفال وأبي إسحاق. فأما أبو الحسين فصحيح، وأما القفال فالظاهر أنه الشاشي، لكن سبق أنه موافق للجمهور، بل هو موجود صريحا في كتابه "التبصرة". وأما أبو إسحاق فإنْ كان المروزي كما صرح به الإمام، فقد سبق عنه النَقل بموافقة المعتزلة على المنع، وحكى عنه القاضي عبد الوهاب الثالث، وقال الهندي: إنَّ عنه روايتين. وإن كان الشيرازي فقد صحح في "شرح اللمع" الجواز مطلقًا. والتاسع: حكاه ابن السمعاني عن أبي زيد: أنَّ بيان المجمَل إنْ لم يكن تبديلاً ولا تغييرًا، جاز مقارنًا وطارئًا، وإلا فيجوز مقارنًا، لا طارئًا. ثم ذكر أنَّ الاستثناء مِن بيان التغيير. قال أبو زيد: والخلاف الذي بيننا وبين الشافعي في بيان الخصوص، فعندنا هو من قبيل بيان الاستثناء، فلا يجوز إلا مقارنًا، وعند الشافعي مِن قبيل بيان المجمل، فيصح مقارنًا وطارئًا. فمَن أُوصِي له بخاتم ولعمرو بِفَصِّه بكلام متصل، فالفص كله للثاني، ويكون تخصيصه بيانًا كالاستثناء. فإنْ فَصَل الوصية بالفص، كان الفص بينهما؛ لأنه في الفصل ليس بيانًا. قال: وأما بيان المجمل منفصلًا فجائز، فمَن أَقَر بشيء، جاز أن يُبينه متصلًا ومُنفصلًا. والعاشر: يجوز في النسخ ولا يجوز في غيره. بل قيل: إنَّ محل الخلاف في غيره، وأما هو فباتفاق. وهو مقتضَى كلام القاضي وإمام الحرمين، وبه صرح ابن برهان والغزالي وغيرهما. ولكن الخلاف محَكي في الكل كما سبق، ومنهم مَن يوحِّد بَين هذا وبين القول الخامس ويقول: (إن التعبير في الخامس أَجود؛ لعمومه). وفيه نظر.

تنبيهات الأول: ذكر المازري مِن فوائد الخلاف في المسألة ورود خبر الواحد متأخرًا عن عموم الكتاب، رافعًا لبعض مقتضاه، كحديث: "مَن قتل قتيلًا فله سلبه" (¬1). الثاني: القائلون بجواز التأخير اختلفوا في جواز التدريج بالبيان -بأن يُبيِّن تخصيما بعد تخصيص -على مذاهب: أحدها (وهو قول الأكثر ومنهم القاضي): يجوز ذلك في الثاني والثالث، وما بعدهما كالأول. فيقال مثلًا: (اقتلوا المشركين)، ثم يقال: (سُلخ الشهر)، ثم يقال: (الحربيين)، ثم يقال: (إذا كانوا رجالًا). والثاني: المنع في الثاني وما بعده، لأنَّ قضية البيان أنْ يكمله أولًا. والثالث: يجوز ذلك في المجمل، وأما في العموم فعلى الخلاف في البيان الأول. الراب يجوز إذا علم المكلف أنَّ فيه بيانًا متوقعًا. ومنهم مَن يأخذ مِن هذا قولًا آخَر مفصِّلا في أصل [المسألة] (¬2)، فيقول: يمتنع تأخير بعض البيان، ولا يمتنع تأخير الكل. التنبيه الثالث: المانعون لتأخير البيان اختلفوا في مسألتين: إحداهما: هل يجوز للرسول - صلى الله عليه وسلم - تأخير تبليغ ما أُوحي إليه مِن الأحكام إلى وقت الحاجة؟ ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 2973)، صحيح مسلم (رقم: 1751). (¬2) كذا في (ص، ق، ش)، لكن في (ض، ت، س): الحكم.

الأكثر: نعم؛ لأن وجوب معرفتها إنما هو للعمل، فلا حاجة له قبل وقت العمل. وقيل: لا، لقوله تعالى: {بَلِّغْ} [المائدة: 67]. ورُدَّ بأنَّ الأمر ليس للفور، وبأن المراد: بَلِّغ القرآن. وفي هذا نظر؛ إذ لا فرق بين القرآن والسُّنَّة في ذلك. نعم، حكى صاحب "المصادر" عن عبد الجبار أنَّ المنزل إنْ كان قرألا، فيجب تبليغه في الحال؛ لقصد انتشاره وإبلاغه. أو غير قرآن، لم يجب. الثانية: إسماع العام المقصود تخصيصه بدون مخُصِّصه -جوَّزه الأكثر، ومنعه أبو الهذيل والجبائي في التخصيص بالسمع، لا بالعقل. الرابع: إذا تعارض دليلان كل منهما بيانٌ في شيء مجملٌ في آخَر، كحديث: "فيما سقت السماء العشر" (¬1) بيانٌ في الإخراج مجملٌ في المقدار، وحديث: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" (¬2) بيانٌ في المقدار مجمَلٌ في الإخراج. فتَمسَّك أبو حنيفة بالأول في عدم اعتبار النصاب، وتمسَّك الشافعي بالثاني في اعتباره. قال الماوردي: (ومذهبنا يترجَّح بأنَّ بيان المقدار في خبرنا قاضٍ على إجمال المقدار مِن خبرهم، كما أنَّ البيان بالإخراج مِن خبرهم قاضٍ على إجمال الإخراج من خبرنا) (¬3). الخامس: يدل للجواز وقوع ذلك في مثل قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41] ثم بيَّن - صلى الله عليه وسلم - أنَّ السَّلَب للقاتل، نزلت الآية في بدر، والحديث كان في ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) الحاوي الكبير (3/ 211).

[حنين] (¬1). وجاء بيان ذوى القربى أنهم بنو هاشم وبنو المطلب دُون بني عبد شمس وبني نوفل، مع كون الأربعة بني عبد مناف. وكذا: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 83] نزلت، ثم بيَّن جبريل. وكذا الزكاة، وكذا السرقة، وغير ذلك مما بيَّنه - صلى الله عليه وسلم - على تدريج. السادس: ثمرة الخلاف في المسألة: إذا اطَّلع المجتهد على عموم في القرآن ثم على ما يرفع بعضه من السُّنَّة، فإنْ منعنا تأخير البيان وكان الخبر متواترًا، كان نسخًا، وإلا فلا نأخذ به. وإنْ أَجزنا تأخير البيان، كان ذلك تخصيصًا إنْ قلنا: [يُخَصَّص] (¬2) المتواترُ بالآحاد. ويُمثَّل بما سبق ونحوه. ومن هنا يُعرف وجه الاحتياج إلى معرفة التواريخ؛ لِمَا يترتب عليها مِن أحكام الشرع. السابع: إذا قلنا بالمنع مِن تأخير البيان، فالمختار عند ابن الحاجب وغيره جواز تأخير إسماع المخصّص الموجود. وهو رأي أبي هاشم والنظام وأبي الحسين. وقال الجبائي وأبو الهذيل: [ممتنع] (¬3) في الدليل المخصص السمعي دُون العقلي. وعلى الأول: فمَن ليس موجودًا حال نزول المخصّص، لا يُشترط إسماعه؛ لعدم إمكانه. ويجب تعميم الموجودين بالإسماع، ولا يكفي البعض؛ ولذلك استدل بأن فاطمة - رضي الله عنها- سمعت آية: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} [النساء: 11] ولم تسمع: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث" (¬4). ¬

_ (¬1) في (ت، س): خيبر. (¬2) كذا في (ص)، لكن في (ت): تخصيص. (¬3) كذا في (ص)، لكن في (س، ق): يمنع. (¬4) سبق تخريجه.

وسمع الأكثر: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ولم يسمعوا في المجوس: "سنوا بهم سُنة أهل الكتاب" (¬1). رواه الشافعي وغيره. ولولا شرط إسماع الكل، لَمَا صح الاستدلال بذلك، فإنه كان للخصم أن يقول: إنما يشترط سماع البعض، وقد سمع غيرُ فاطمة وغيرُ الأكثر. والله أعلم. ص: 719 - وَجَازَ أَنْ يُبَيِّنَ الْمَظْنُونُ ... مَا كانَ قَطْعِيَّا، وَذَا مَزْكُونُ الشَّرح: أي: لا يشترط في البيان أنْ يكون أقوى مِن المبيَّن على ما اختاره الإمام الرازي، ونقله الهندي عن الجماهير، ولم ينقله ابن الحاجب إلا عن الكرخي، وقال: إنَّ المختار خِلاف ذلك. وهو أنه يجب كون البيان أقوى، والكرخي إنما قال: تجب المساواة حتى يمتنع بالأدنى. قال الهندي: (ولا يتوهم في حق أحد أنه ذهب إلى اشتراط أنه كالمبيَّن في قوة الدلالة، فإنه لو كان كذلك، لَمَا كان بيانًا له، بل كان هو يحتاج إلى بيان آخَر) (¬2). نعم، ابن الحاجب بعد أنْ أَطْلَق المسألة أولًا ذَكر دليلًا يقتضي تخصيصها، فإنه قال: النا: لو كان مرجوحًا أو مساويًا لألغِيَ في صورة المرجوحية الأقوى بالأدنى في العام إذا خُصِّص والمطلَق إذا قُيِّد، وفي صورة التساوي يَلزم التحكم) (¬3). أي: وكلاهما لا يجوز. فإنْ كان ما اختاره هو التفصيل بين بيان العام والمطلق وبين بيان المجمَل، فهو غير ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) نهاية الوصول في دراية الأصول (5/ 1890). (¬3) مختصر المنتهى مع شرحه (2/ 391).

مذهب مَن عَمَّم في الكل، وإلا فيكون دليلًا خاصًّا على دعوى عامة. والعجب أنه في المخصِّصات جرى على تخصيص الأقوى بالأدنى في غالب المسائل. وأما المجمَل فالاكتفاء فيه بالأدنى واضح لا خفاء به، إذْ لا تَعارُض بينه وبين المبيِّن. وقولي: (وَذَا مَزْكُونُ) أي: معلوم. والله أعلم.

النوع الثالث ما يتوقف عليه من حيث بقاء الحكم [أو] رفعه، وهو"النسخ "وأحكامه

النوع الثالث ما يتوقف عليه مِن حيث بقاء الحُكم [أو] (¬1) رَفْعه، وهو"النَّسْخ "وأحكامه تقدَّم أنَّ الاستدلال بالكتاب والسُّنَّة مُتوقِّف على مَعرفة ثلاثة أشياء: طريق ثبوتها في نفسها من حيث نقلها، وثبوت معرفة لغة العرب وأقسامها، ومعرفة أحكام المهم من أقسام اللغة. وقد فرغنا مِن الأولَين، فالثالث ما يتوقف مِن حيث بقاء الحكم أو ارتفاعه، وهو بيان النَّسخ وأحكامه. فأما بيان حقيقة النسخ فقد أشرت إليه بقولي: ص: 720 - "النَّسْخُ": رَفْعُ الْحُكْمِ حَيْثُ شُرِعَا ... أَيِ: التَّعَلُّقُ الَّذِي قَدْ وُضِعَا 721 - بِمَا مِنَ الْخِطَابِ جَا في الشِّرْعَةِ ... فَهْوَ بَيَانٌ لِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ 722 - لَا الرَّفْعُ لِلْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّهْ ... وَلَا سُقُوطُ الْعُضْوِ بِالْكُلمهْ 723 - فَحُكْمُ ذَيْنِ ثَابِتٌ بِالْعَقْل ... وَالنَّسْخُ وَاقِعٌ صَحِيحُ النَّقْلِ الشَّرح: "النَّسخ" في اللغة يُطْلَق على: ¬

_ (¬1) في (ص): و.

- الإزالة، كـ "نسخت الشمس الظل"، أي: أزالته. - وعلى النَّقل مع عدم بقاء الأول، كالمناسخات في المواريث. ومنه قول بعض المبتدعة بالتناسخ فى الأرواح، يزعمون أنَّ الأرواح تنتقل مِن هيكل إلى هيكل. - وعلى النقل مع بقاء الأول، فيكون المراد مماثلته، كنَسخ الكتاب، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]. فقيل: مشترك بَيْن الإزالة والنَّقل. وعليه القاضي والغزالي. وقيل: حقيقة في الأول فقط. وهو قول الأكثرين كما قاله الهندي، وهو المختار. وقيل عكسه، وعليه القفال الشاشي. وقيل: للقدر المشترك بينهما وهو الرفع، فيكون متواطئًا. وبه قال ابن المنير في "شرح البرهان"، ولكن لا يتأتى ذلك في نحو نسخ الكتاب؛ إذْ لا رفع فيه. ثم قيل: الخُلْفُ لفظي. وقيل: معنوي، تظهر فائدته في جواز النَّسخ بلا بدل. وفيه نظر؛ لأن المدار على الحقائق العُرفية، لا اللغوية. وأيضًا فهو يُبْنَى على أنَّ الاصطلاحي نُقل من اللغوية كما نُقِلَت "الصلاة" إلى الشرعية. وإليه ذهب بعض المتكلمين، لكن الأظهر أنه كنقل "الدابة"، فنُقل من الأَعم إلى أخص. وأما "النَّسخ" في الاصطلاح فقد اختُلِفَ في أنه "رفع" أو "بيان". فمَن قال: رَفْع، قال في تعريفه: رَفْع حُكم شرعي بخطاب شرعي. ومَن قال بيان، قال: هو بيان انتهاء حكم شرعي بطريق شرعي متراخٍ. ولَمَّا كان الأَرجح الأول (وبه قال أكثر المحققين من الأصوليين، كالصيرفي والشيخ أبي إسحاق والقاضي والغزالي، وبه قال الآمدي وابن الحاجب والأبياري)، جريتُ عليه في

النَّظم، وأشرتُ إلى جواب شُبهة مقابِلهِ. ومعناه: أنه لولا مجيء النَّسخ لَتقِي ذلك الحكم. وذهب الأستاذ وإمام الحرمين وأكثر الفقهاء إلى أنه بيان، ومعناه أنَّ الناسخ بَيَّن أنَّ الأول انتهى التكليف به. وأنكروا كونه رَفْعًا؛ بناءً على أنَّ الحكم راجع إلى كلام الله تعالى وهو قديم، والقديم لا يرتفع. لكن جوابه أنَّ المرفوع هو تَعلُّق الحكم، والتعلق حادث كما سبق بيانه أول الكتاب. فقد اتفق القولان على أنَّ الحكم الأول انعدم تَعلُّقه، لا ذاته، وعلى أنَّ الخطاب الثاني هو الذي حقق زوال الأول. وإنما اختلفا في أنَّ الرافع هو الثاني، حتى لو لم يجئ، لَتقي الأول؟ أو يقال: إنَّ الأول له غاية لا نَعلمها، فلمَّا جاء الدليل، بيَن انتهاءها، حتى لو لم يجئ، كان الحكم للأول وإنْ لم نعلمه؟ لكن قد سبق أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فرجع القول الثاني للأول؛ فلذلك أشرتُ بقولى: (فَهْوَ بَيَان لِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ) إلى رجوعه إليه. وينحل الفرق بينهما إلى أنه زال به، أو زال عنده، لا بِه. ولكن لما لم يُعلم الزوال إلا به، استوى القولان. ونظير هذا الخلافِ الخلافُ عند المتكلمين في أنَّ زوال الأعراض بالذات أو بالضد. فإنَّ مَن قال ببقائها، لمحال: إنما ينعدم الضد المتقدِّم بطريان الطارئ، ولولاه لَتقي. ومَن لم يَقُل ببقائها، قال: إنه ينعدم بنفسه، ويحدث الضد الطارئ، وليس له تأثير في إعدام الضد الأول. ونظيره في الفقهيات الزائل العائد كالذي لم يَزُل، أو كالذي لم يَعُد. فالذي يقول بالأول: يجعل العَوْد بيانًا لاستمرار حُكم الأول.

والقائل بالثاني يقول: ارتفع الحكم الأول بالزوال، فلا يرجع حُكمه بالعَود. وقد ظهر بهذا التقرير أنَّ النزاع ليس لفظيًّا مِن كل وجه، بل معنوي، لكن يعود القولان إلى مقصد واحد بالاعتبار الذي سبق. ومما يشبه ذلك تعبيرهم في الحدث بِـ "نواقض الوضوء"، و"انتقض الوضوء" كما هو رأي ابن القاص، وعبر به صاحب "التنبيه" وجمعٌ وإنْ فرَّ منه الأكثرون؛ لعدم الرفع فيه. لكن الأول أيضًا صحيح؛ لِمَا سبق. ونحوه: الفسخ للعقود هل هو مِن حين الفسخ؟ أو مِن الأصل؟ فمَن قال: مِن حينه، جعله كالنسخ هنا؛ لأنَّ المراد انتهاء المدة، لا الرفع من الأصل؛ لأن الواقع لا يرتفع. فمَن أفسد هذه العبارة بهذه الشبهة، يُجاب بذلك. إذا عَرفْتَ ذلك، رجعنا إلى شرح التعريف. فقولنا: (رَفْع): جنس. وقولنا: (حُكم شرعي) خرج به المباح بحكم الأصل عند القائل به؛ فإنَّ ذلك بحكم عقلي، لا شرعي. فإذا خرج فَرْد مِن تلك الأفراد، فلا يُسمى نَسخًا. ولهذا اعتُرِضَ على مالك في قوله: (إنَّ الكلام كان مباحًا في الصلاة في ابتداء الإسلام على الإطلاق، ثُمَّ نُسخ فيما لا يتعلق بمصلحة الصلاة بالإجماع، وبقي ما سواه على أصل الإباحة) بأنَّ هذا ليس بِنَسخ؛ لأن إباحة الكلام إنما كانت على الأصل، لا بخطاب شرعي. وقولنا: (بخطاب شرعي) خرج به ما زال الحكم فيه بأمر عقلي كالموت والجنون والنوم والغفلة ونحو ذلك. وزاد ابن الحاجب: "متأخِّر"؛ ليخرج ما لو قال: (صلِّ عند كل زوال إلى آخِر الشهر)، و [نحوه] (¬1) المخصصات المتصلة كلها؛ فإنها إخراج بدليل شرعي لكن مقارِن، لا متأخِّر. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، س)، لكن في (ق): نحوه من.

وإنما لم أذكر في التعريف هذا القيد؛ لأنَّ الرفع يستدعي ثبوت حُكم، والحُكم لم يثبت بأول الكلام؛ إذِ الكلام بآخِره، فكيف يرفع؟ وأيضا فيُستغنَى عن قيد "التأخر" بقولنا: (بخطاب شرعي)، فإنه إذا لم يتأخر، فكيف يكون رافعًا؟ وأيضا فالمخصِّصات [المتصلة] (¬1) متأخِّرة لفظًا، فلا يُخرجها قوله: (متأخر). ولهذا أَبْدَل بعضهم "متأخر" بـ "مُتراخٍ"؛ لتخرج المخصِّصات المتصلة. والكل لا يُحتاج إليه؛ لِمَا قررناه. ومما يَخرُج بقولنا: (بخطاب شرعي) مَنْ سقطت رِجْلاه، فإنه لا يقال فيه: إنه رفع بدليل شرعي، بل بالعقل. وما وقع للإمام الرازي في "المحصول" مِن جَعْل ذلك نَسخًا فضعيف. وهذا كله معنى قولي: (لَا الرَّفْعُ لِلْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّهْ) إلى آخره. فإن قيل: النسخ قد يقع بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يُقال فيه: "خطاب"، فكان الصواب التعبير بِ "دليل شرعي" كما عبَّر به ابن الحاجب، أو بِ "طريق شرعي" كما عبر به البيضاوي؛ ليدخل فيه الفعل. فقد جعل الأئمة منه نَسخ الوضوء مما مست النار بأكل الشاة ولم يتوضأ - صلى الله عليه وسلم -. قيل: الفعل ونحوه هو مِن خطاب الشارع؛ لأنَّ المراد به كل ما وَرَدَ مِن الشرح دليلاً على حُكم فإنه يُسمى "خطابًا"؛ لأن الخطاب قديم وهو كلام الله تعالى، واللفظ والفعل دالَّان عليه. أو يقال: إنَّ الفعل حيث قلنا: (ناسخ) فإنما المراد أنه دالّ على ناسخ، لا أن الفعل نفسه ناسخ؛ لأن للفعل أزمنة متعاقبة فلو كان هو الناسخ، لَمَا تَحقَّق نَسخ إلا بعد انقضائه، فكان ¬

_ (¬1) في (ص، ق): المنفصلة.

قبل انقضائه واقعًا على خِلاف الحكم الثابت، وهو مُحَال. كذا قاله السبكي. وفيه نظر؛ لإطلاق العلماء أنَّ الفعل ناسخ ومخصِّص، ولا يقال: تضمن ناسخًا ومخصِّصًا. وأما ما تعلق به مِن كون الفعل له أوقات متعاقبة فمُسلَّم، ولكن نحن نقول بابتداء الفعل وَقَعَ النَّسخ، ولكن لم يُعْلم حتى انقضى الفعل، فلا يتضمن سَبْق شيء آخَر على الفعل. وإنما احتجنا لمثل ذلك في قولنا: (الإجماع على خلاف نَص يتضمن ناسخًا)؛ لأن النسخ لا يكون بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا أجمعوا، عَلِمْنَا أنَّ ثَمَّ ناسخًا كان قبل وفاته. وأما إذا أجمعت الأُمَّة على قولين وقُلنا: (إنَّ الحكم في العامِّي أنْ يأخذ بما شاء من القولين) ثم إذا مات أحد الفريقين أو رجعوا للفريق الآخَر وقُلنا: (صار إجماعًا)، فقد تَغيَّر الحكم الذي ثبت بعد وفاته بحكم ثبت بَعْده، فليس مِن قبيل النسخ، بل كان الحكم خفيًّا ثم ظهر بالإجماع، والتخيير إنما كان لخفائه وللانحصار فيهما. فإنْ قلتَ: سيأتي مِن أقسام النَّسخ أنه يُنسخ اللفظ ويبقى الحكم وليس فيه رَفْع حُكم، بل رَفْع لفظ. قلتُ: تَضمن رَفْع أحكام كثيرة، كالتعبد بتلاوته، وإجراء حُكم القرآن عليه في منع الجُنب ونحوه مِن قراءته ومَس المُحْدِث إياه وحَمْله، وإبطال التلفُّظ به الصلاة، وغير ذلك. وقد حكى ابن الحاجب وغيره تعريفات أخرى للأئمة زيَّفوها، فلا حاجة للتطويل بها. بل وتزييفها يُعْرَف مِن تَأمُّل التعريف الصحيح وما وَقَعَت به المخالفة، فالاشتغال بأهم مِن ذلك أَوْلى. فإنْ قيل: التخصيص منه ما هو نَسخ (كالواقع بعد زمان الفعل) وغَيْر نسخ (وهو

بخلافه كما سبق) فمِن أين يدخل النَّسخ في تعريفه ويخرج غير النَّسخ مِن تعريفه؟ قلتُ: ما كان قبل وقت الفعل لم يتقرر فيه حُكم حتى يرتفع، وما كان بعده فقد تَقرر الحكم، فبالتخصيص ارتفع، وهذا ظاهر. تنبيهات الأول: قال الشافعي في "الأم": النَّاسخ مِن القرآن: الأمر يُنزله الله بَعد الأمر بخلافه، كما حُوِّلَت القبلة. وقال في "الرسالة": (وهكذا كل ما نسخ الله تعالى وفي نَسْخه تَرْك فَرضِه، فكان حقًّا في وقته، وتَرْكه حق إذا نسخه، فيكون مَن أدرك فرَضَه [قطعنا] (¬1) باتِّباع الفرض الناسخ له) (¬2). وأورد أمورًا ودقائق فيه لم يُسبَق بمثلها. قال ابن الصلاح في "علوم الحديث": (روينا عن الزهري - رضي الله عنه - أنه قال: أَعْيَا الفقهاء وأَعْجزهم أنْ يعرفوا ناسخ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِن مَنسوخه، وكان للشافعي فيه يَدٌ طُولى وسابقة أُولَى. قال أحمد: ما عَلِمْنا المجمَل مِن المفسَّر ولا ناسخ الحديث مِن مَنسوخِه حتى جالسنا الشافعي) (¬3). ثم قال (وفيمن عاناه من أهل الحديث مَن أَدْخل فيه ماليس منه؛ لخفاء معنى النَّسخ ¬

_ (¬1) في (ش): قطعيا. وفي سائر النُّسخ: قطعنا. وعبارة الشافعي في "الرسالة، ص 122": (فيكون مَن أدرك فرضَه مُطِيعًا به وبتركه، ومَن لم يُدْرِك فرضَه مُطِيعًا باتِّباع الفرْضِ الناسِخ له). (¬2) الرسالة (ص 122). (¬3) مقدمة ابن الصلاح (ص 276).

وشرطه. وهو عبارة عن رَفْع الشَّارع حُكْمًا مِنه مُتقدِّمًا بحكم منه متأخر). قال: (وهذا حَدٌّ وقع لنا سالِمٌ مِن اعتراضات وَردَت على غيره) (¬1). انتهى الثاني: جَمَعَ كثير مِن العلماء ناسخ القرآن ومنسوخه، منهم قتادة بن دعامة السدوسي، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو داود السجستاني، وأبو جعفر النحاس، وهبة الله بن سلامة الضرير، وابن العربي، وابن الجوزي، وابن الأنباري، ومكي وغيرهم. لكن يتسامحون كثيرًا في التخصيص للعمومات فيسمونها "نَسخًا"، وكذا فيمن صَنَّف في ناسخ الحديث ومَنسوخه. والنَّسخ إنما يكون للكل أو للبعض بِشرط دخول وقت الفعل كما بيناه، فينبغي لمن يتتبعه أن يتأمل ذلك وَيرُدَّ كلَّ شيءٍ إلى قاعدته. ومن أطريف، (¬2) ما حُكي في كتاب هبة الله أنه قال في قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)} [الإنسان: 8]: إنَّ {وَأَسِيرًا} مَنسوخ؛ لأنَّ أسرى المشركين خارجة مِن ذلك. فلما سمعته ابنته يقرأ ذلك قالت له: أخطأتَ يا أَبتِ. فقال: ولمَ؛ قالت: أجمع المسلمون على أنَّ الأسير يُطْعَم ولا يُقتل جوعًا. الثالث: قال العلماء: لا يجوز لأحد أنْ يُفسِّر كتاب الله تعالى حتى يعرف الناسخ والمنسوخ. وروى أبو جعفر النحاس بسنده إلى عِلي - رضي الله عنه - أنه مَرَّ برَجُل يَقُصُّ، فقال: أَعرفتَ الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا. قال: هَلَكتَ وأَهلَكت (¬3). ¬

_ (¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 276). (¬2) في (ش، ت، س): ظريف. (¬3) الناسخ والمنسوخ (ص 49).

وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]: هي مَعرِفة القرآن ناسخه ومَنسوخه، ومحُكَمه ومُتشابهه، ومُقدمه ومؤخره، وحرامه وحلاله، وأمثاله (¬1). وقولي: (وَالنَّسْخُ وَاقِعٌ صَحِيحُ النَّقْلِ) هو شروع في ما يتعلق بالنسخ بعد معرفة حقيقته. فمن ذلك أنَّ النَّسخ هل يجوز؟ أوْ لا؟ وهل وقع؟ أو لا؟ فأمَّا الجواز فالمخالِف فيه اليهود -غير العيسوية- وبعض غلاة الرافضة، ونقله الشيخ أبو إسحاق وسليم والإمام الرازي عن أبي مسلم الأصفهاني مِن المعتزلة، إلا أنه صرَّح بأنَّ المنع إنما هو في القرآن خاصةً، لا على الإطلاق. ونقل الآمدي وابن الحاجب عن أبي مُسلِم أنه يخالف في الوقوع، لا في الجواز. ومنهم مَن قال: إنه جائز عقلًا. حكاه أبو زيد عن بعض المسلمين ممن لا يُعتد بخلافه. ثم المانع مِن جوازه منهم مَن قال: لأنه يستلزم البداء، وهو محُال. وإنْ جَوَّزه الرافضة. ومنهم مَن سّمَاه "تخصيصًا". وقيل غير ذلك، والكل باطل، فالصواب جوازه عقلًا وشرعًا. وأما الوقوع فواقع لا محالة، وَيلزم مِن ذلك الجواز؛ فلذلك اقتصرتُ في النَّظم على مسألة الوقوع. وقولي: (صَحِيحُ النَّقلِ) أي: كونه واقعًا صحيح النقل ما بين تَواتُر وآحاد كما سيأتي تفصيله في الباب. ¬

_ (¬1) الناسخ والمنسوخ (ص 50).

نعم للنسخ شروط منها: كَوْن المنسوخ حُكما شرعيًّا لا عقليًّا، وأنْ [يكون منفصلًا] (¬1) متأخرًا عن المنسوخ، وأن يكون النسخ بخطاب شرعي، وأن لا يكون المنسوخ مُقيَّدًا بوقت ينتهي بانتهائه. وقد علمت هذه الشروط من تعريفه، وسبق شرحها. ومنها: أن يكون النَّاسخ أقوى مِن المنسوخ أو مِثله، لا أَضْعَف منه. قال إلْكِيَا: والعقلُ يقضي بهذا، ودَلَّ عليه الإجماع. ومنها: أنْ يكون المنسوخ مما يجوز أنْ يكون مشروعًا وأنْ لا يكون، فلا يدخل النَّسخ أصل التوحيد بحال؛ لأنَّ الله تعالى بأسمائه وصفاته لم يَزَل ولا يزال، ومنها ما عُلِمَ بالدليل أنه مُتَأَبد، كشريعة نبينا محمد (¬2) - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: أن لا يكون مما هو على صِفة واحدة لا يتغير، كمعرفة الله تعالى مما يجب له ويستحيل عليه ويجوز له؛ ولهذا يمتنع نَسخ الأخبار كما سيأتي؛ إذ لا يُتصور وقوعها على خِلاف ما وقعت عليه. أما المعلَّق بلفظ "أبدًا" ونحوه فسيأتي بيانه. ومنها: أن يكون بَيْن الناسخ والمنسوخ تَعارض. وقد يقال: لا يحتاج لهذا الشرط، لأن هذا مِن ضرورة تَصوُّر النَّسخ؛ لأنه إذا أمكن ¬

_ (¬1) كذا في جميع النُّسخ، وعبارة الزركشي في (البحر المحيط، 3/ 157): (أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مُنْفَصِلًا عَن الْمَنْسُوخِ، مُتَأَخِّرًا عَنْهُ). (¬2) عبارة الزركشي في (البحر المحيط، 3/ 158): (فَلَا يَدْخُلُ النَّسْخُ أَصْلَ التَّوْحِيدِ بِحَالٍ، لِأَنَّ الله تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، وَكَذَا مَا عُلِمَ بِالنَّصِّ أنَّهُ يَتأبَّدُ وَلَا يَتَأَقَّتُ فَلَا يَدْخُلُهُ نَسْخ، كَشَرِيعَتِنَا هذه).

الجمع، فلا تَعارض؛ فلا نَسخ. فلهذا لا يقال: نُسِخ صوم عاشوراء برمضان، ولا كل صدقة بالزكاة. غايته أنه وافق نَسخ وجوب صوم عاشوراء (على تقدير صحة ذلك) فَرض رمضان، ووافق رَفعُ فَرْضٍ غير الزكاة فرضَ الزكاة، فالنسخ واقع عند ذلك، لا بِه، ولذلك فائدة تظهر فيما بَعْد في بعض المسائل. تنبيه: كان شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص البلقيني يَعيبُ على الأصوليين ذكر خلاف اليهود في النَّسخ ويقول: الكلام في أصول الفقه فيما هو مُقرَّر في الإسلام وفي اختلاف الفِرق الإسلامية، أما خلاف الكفار فإنما يناسب ذِكره في كُتب أصول الدين. وأما أبو مُسلِم فهو محمد بن بَحر الأصفهاني. قال ابن السمعاني: (وهو رجل معروف بالعلم وإنْ كان قد انتسب إلى المعتزلة، ويُعد منهم، وله كتاب كبير في التفسير، وله كتب كثيرة، فلا أدري كيف وقع هذا الخلاف منه؟ ! ). انتهى قال السبكي: (وقد وقفتُ على تفسيره، وليس هو الجاحظ كما تَوهمه بعضهم). قال: (وأنا أقول: الإنصاف أنَّ الخلاف بين أبي مُسلِم والجماعة لفظي، وذلك أن أبا مُسلِم يجعل ما كان مُغَيًّا في عِلم الله تعالى كما هو مُغَيًّا باللفظ، وسمَّى الجميع "تخصيصًا"، ولا فرق عنده بَيْن أن يقول: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وأن يقول: "صوموا" مُطْلَقًا (¬1) وعِلمه محيط بأنه سينزل: "لا تصوموا وقت الليل". والجماعة يجعلون الأول تخصيصًّا والثاني نَسخا. ولو أنكر أبو مسلم النسخ، لَزِمَه إنكار شريعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يقول: كانت شريعة السابقين مُغيَّاة إلى مبعثه - صلى الله عليه وسلم -. وبهذا يتضح لك الخلاف الذي حكاه بعضهم في أنَّ هذه الشريعة مخصِّصة للشراع السابقة؟ أو ناسخة؟ فهي منتهية إلى مبعث ¬

_ (¬1) يعني: الأمر بالصوم غير مقَيَّد بوقت.

نبيِّنا قطعًا، وما تَجدد في شرعنا موافقًا لبعض شرائعهم فليس لكونها باقية، بل كل مشروع مفتتح التشريع) (¬1). ثم قال: (إنَّ ما ادَّعاه ابن الحاجب مِن الإجماع على أن شريعتنا ناسخة فصحيح، ولا ينافيه حكاية بعضهم الخلاف في كونه تخصيصًا أو نسخًا؛ لِما قررناه، فالخلاف لفظي). ثم قال: (وسيكون لنا عودة إلى ذِكر ذلك عند المسألة) (¬2). أي: مسألة شرع مَن قبلنا هل هو شرع لنا؟ والله أعلم. ص: 724 - وَلَوْ يَكُونُ ذَاكَ قَبْلَ الْفِعْلِ ... في قِصَّةِ الذَّبِيحِ هَذَا مَجْلِي الشَّرح: أي: لا يُشترط في النَّسخ أنْ يَرِد الناسخ بَعْد فِعل المنسوخ، بل يجوز أن يَرِد قبل فِعله. أي: قبل التمكن منه؛ فلذلك لم نعُد هذا مِن شروط النسخ. كما لو قال: (حجُّوا هذه السَّنة)، ثم يقول قَبْلَه (¬3): (لا تحجُّوا). وخالف في ذلك الصيرفي والمعتزلة وأكثر الحنفية كما حكاه ابن السمعاني، ونقله غيره عن أكثر الحنابلة أيضًا، فمنعوا ذلك. ولكن الجمهور على الجواز. وقال القاضي في "التقريب": إنه قول جميع أهل الحق. ¬

_ (¬1) رفع الحاجب (4/ 47). (¬2) رفع الحاجب (4/ 48). (¬3) يعني: قبل أن يحجوا.

دليله أنَّ إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أمره الله عز وجل بذَبْح ولده، ثم نسخ ذلك عنه قبل الفعل. أما كَوْنه أمره بالذَّبح فدليله قوله: {يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] جوابًا لقوله: {يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102]، ولقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106]، وذلك الذَّبح؛ لأنَّ مقدماته لا توصَف بمثل ذلك، ولقوله: {وَفَدَيْنَاهُ}، فلو لم يكن أُمِر بذبحه، لَمَا احتاج للفداء. وأما كَوْنه نَسخ فإنه لو لم يُنسخ لَوُجِد الذبح؛ لضرورة الامتثال، لكنه لم يذبح؛ فدلَّ على النسخ، وشاهِدُه: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}. وهذا كله جَلي؛ فلذلك قلتُ في النَّظم: (في قِصَّةِ الذَّبِيحِ هَذَا مَجلي). وللخصوم أجوبة وشُبَه ليس للتطويل بها فائدة غير تحقيق الدليل، ولَسنا بصدد الأدلة. [نعم] (¬1)، وقع اضطراب في التعبير عن المسألة، فعبَّر ابن الحاجب بِ "النَّسْخ قبل وقت الفعل" (¬2). قيل: وهي قاصرة عن الغرض وإنْ كانت عبارة الأكثرين، وإنَّ الأحسن في التعبير أن يقال: "نَسْخ الشيء قبل مُضِي مقدار ما يَسَعُه مِن وقته"؛ ليدخل فيه ما إذا حضر وقت العمل ولكن لم يمضِ مقدار ما يسعه، فإنَّ هذه الصورة في محل النزاع أيضًا. وقد يجاب بأنَّ المراد بما قبل الوقت: ما قبل خروجه، لا قبل دخول وقته فقط. وحينئذٍ فيشمل الأمرين، ويكون هذا مواففا للتعبير بِ "النسخ قَبْل التمكن مِن الفعل". فيكون المراد بالوقت: ما يمكن فيه الفعل حِسًّا وشرعًا، لا الوقت المقدَّر حتى تكون المسألة خاصة ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): ثم. (¬2) مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (2/ 512).

بالمؤقَّت فقط. وعبَّر البيضاوي بقوله: (يجوز نسخ الوجوب قبل العمل) (¬1). فوافقته في النَّظم إلا في ذِكر الوجوب، فإنه لا فرق بين الواجب وغيره في ذلك. وقد تُعُقِّب عليه بأمور تَرِد على كل مَن وافقه، وهو أنه: - يشمل ما قبل دخول وقت العمل وما بعده قبل مُضِي زمن يَسَعُه، وفي معناه إذا لم يكن له وقت ولكن أُمر به على الفور ثم نُسخ قبل التمكن. وإجراء الخلاف في هذه الثلاثة واضح. - ويشمل ما بعد خروج الوقت، وليس ذلك من محل الخلاف سواء كان مأمورًا [فيه] (¬2) بالقضاء أو قُلنا: الأمر به يتضمن الأمر بالقضاء. بل جزم ابن الحاجب بأنه لا يجوز، واقتضى كلامه الاتفاق عليه. - ويشمل ما [قبل] (¬3) خروج الوقت وبَعد التمكُّن مِن فعله، وليس ذلك من محل النزاع؛ فقد حكى الآمدي فيه الاتفاق، وكذا الإمام في "البرهان" وابن برهان في "الوجيز". ولكن الجواب عن ذلك كله بأنَّ كُلَّ نسخٍ لا بُدَّ أن يكون قَبْل الفعل (¬4)، فَعُلم أنَّ المراد ¬

_ (¬1) منهاج الوصول (ص 186) بتحقيقي. (¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): به. (¬3) في (ت)؛ بعد. (¬4) قال الإمام الزركشي في (البحر المحيط، 3/ 169): (قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاق وَالْخَفَّافُ فِي "الخصَالِ": كُلُّ نَسْخٍ فَإِنَّما يَكُونُ قَبْلَ الْفِعْلِ، لِأَنَّ مَا مَضى يَسْتَحِيلُ لحوقُ النسخِ لَهُ، لِأَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِن الزَّمَانِ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ أَبْطَلَ النسخَ قَبْلَ الْفِعْلِ. وَلهذَا قَالَ إمَامُ الحرَمَيْنِ: تَرْجَمَةُ الْمَسْأَلةِ بِ "النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ" مخُتلَّةٌ. يَعْنِي لِأَنَّهَا تُفْهِمُ صِحَّةَ النَّسْخِ بَعْدَ الْفِعْلِ، هُوَ=

بقولنا: (قَبْل الفعل): قَبْل التمكن منه وإنْ لم يفعل. فخرج ما بعد الفعل وما قبله بعد التمكن، فرجعت العبارة إلى ما قَبْل التمكُّن مِن الفعل. والله أعلم. ص: 725 - وَذَاكَ لِلْقُرْآنِ كلِّهِ امْتَنَع ... وَالْبَعْضُ فِيهِ جَائِز كيْفَ وَقَعْ 726 - تِلَاوَة أَوْ حُكْما اوْ مَا جُمِعَا ... "الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ" في الزِّنَا مَعَا 727 - فَحُكْمُهَا بَاقٍ، وَلَفْظٌ رُفِعَا ... وَفي تَصَدُّقٍ لِنَجْوَى مُنِعَا 728 - حُكْمٌ، وَلَفْظُهُ مِنَ الْبَاقِي، وَفي ... عَشْرٍ مِنَ الرَّضْعَاتِ تَحْرِيم نُفِي الشَّرح: الذي يَرِد عليه النسخ إما كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس أو غير ذلك، فبدأت بالأول. فنسخ جميع القرآن ممتنعٌ، بالإجماع كما قاله الإمام الرازي وغيره؛ لأنه معجزة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - المستمرة على التأبيد {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 42]. ففي بعض التفاسير: إنه لا يأتي ما يُبْطِله. وفي بعضها غير ذلك. ولا يمتنع تعميم النفي في كل ما قيل كما في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]. وأما نَسخ بعضه فجائز، خِلافًا لأبي مسلم الأصبهاني كما نقله الإمام عنه. وقولي: (كَيْفَ وَقَعْ) إلى آخِره -إشارة إلى تقسيم كيفية وقوع النسخ في بعضه، فقسمته إلى ثلاثة أقسام: ¬

_ = غيرُ صَحِيحِ، وَلَا نَسْخَ أربدًا إلَّا قَبْلَ الْفِعْلِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: إنَهُ رَفْعٌ أوْ بَيَان؛ إذْ لَا يَنْعَطِفُ النَّسْخُ عَلَى سَابِقِ).

- ما نُسخ تلاوته، وحُكمه باقٍ. - وما نُسخ حُكمه فقط، وتلاوتُه باقية. - وما جُمع فيه نسخُ التلاوة والحكم. وذكرت لكل واحد مثالًا على الترتيب. فالأول: وهو ما نُسخت تلاوته دُون حُكمه: مثاله: ما رواه الشافعي عن سعيد بن المسيب، عن عمر قال: (إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم، أو يقول قائل: لا نجد حَدَّين في كتاب الله تعالى، فلقد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لَأثْبتُّها: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة"، فإنَّا قد قرأناها) (¬1). وفي "الصحيحين" (¬2) نحوه. وقد تابع عمر جمعٌ من الصحابة على ذلك، [كأبي ذر] (¬3) فيما رواه أحمد وابن حبان والحاكم وصححه. وفي رواية أحمد وابن حبان أنها كانت في سورة الأحزاب (¬4). وروى زيد بن ثابت في "معجم الطبراني الكبير" -وأبي فيما رواه ابن حبان- قال: ¬

_ (¬1) مسند الإمام الشافعي (ص 163، رقم: 792)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 16697). قال الألباني في (السلسلة الصحيحة: 2913): (هذا إسناد صحيح -على الخلاف المعروف في سماع سعيد من عمر). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 6441)، صحيح مسلم (رقم: 1691). (¬3) كذا في (ص، ق، س، ت، ش)، والصواب كما في كتُب الحديث: أبُي. (¬4) مسند أحمد (21245)، صحيح ابن حبان (4428). قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 4411).

(كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة، فكان فيها: الشيخ والشيخة) (¬1) إلى آخِره، والعجماءُ -فيما رواه الطبراني- قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة بما قضيا من اللذة" (¬2). والمراد بالشيخ والشيخة: المحصنان، حدهما الرجم بالإجماع. فالحكم باقٍ واللفظ مرتفع؛ لرجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا واليهوديين وغيرهم. والثاني: ما نُسخ حُكمه وبقي لفظه: وذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12]. ففي "الترمذي" عن علي أنها لَمَّا نزلت قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما ترى دينارًا؟ " قال: لا يطيقونه. قال: "نصف دينار؟ " قال: لا يطيقونه. قال: "ما ترى؟ " قال: شعيرة. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنك لزهيد" (¬3). قال علي: ([فَبِي] (¬4) خفَّف الله عن هذه الأُمة بترك الصدقة، فنزلت: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ ¬

_ (¬1) صحيح ابن حبان (4428)، ولم أجده من رواية زيد بن ثابت - رضي الله عنه -. قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 4411). (¬2) المعجم الكبير (24/ 350، رقم: 867)، سنن النسائي الكبرى (رقم: 7146) وغيرهما. قال الألباني في (السلسلة الصحيحة: 2913): (رجاله ثقات رجال الشيخين غير مروان بن عثمان. . غمزه النسائي، وقال أبو حاتم: ضعيف. .، جزم الحافظ في "التقريب" بأنه ضعيف. وقال في "الإصابة": متروك). (¬3) سنن الترمذي (رقم: 3300)، سنن النسائي الكبرى (رقم: 8537) وغيرهما. قال الألباني: ضعيف الاسناد. (ضعيف الترمذي: 3300). (¬4) في جميع النسخ: حتى.

تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ}). ثم قال (¬1): حسن. قال: ومعنى قوله: "شعيرة" أي: وزن شعيرة مِن ذهب. وأخرجه أيضًا البزار في "مسنده" وقال: الا نعلم روى هذا الكلام عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عِلي) (¬2). قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن مجاهد، قال: قال عِلي: "ما عمل بها أحد غيري حتى نُسخت". وأحسبه قال: "وما كانت إلا ساعة من نهار" (¬3). لكن رُد ما قاله البزار بما في "معجم الطبراني" بسنده (¬4) إلى سعد، قال: "نزلت فِيّ ثلاث آيات من كتاب الله تعالى: تحريم الخمر في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ} [المائدة: 90] الآية، {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8] الآية، و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ} الآية". قال: "فقدمت شعيرة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: إنك لزهيد. فنزلت الآية الأخرى: {أَأَشْفَقْتُمْ} " (¬5). ويمثل لهذا القسم أيضًا بالاعتداد في الوفاة بالحول، وهو قوله تعالى: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة: 240] نُسخ بقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. وإنما لم أُمثل بهذا المثال وإنْ كان عليه جمهور المفسرين وهو مثال أكثر الأصوليين ونقله البخاري عن ابن عباس؛ لأن مِن العلماء مَن ذهب إلى أنها غير منسوخة، ففي ¬

_ (¬1) يعني: الترمذي. (¬2) مسند البزار (2/ 258، رقم: 668). قال الألباني: ضعيف الإسناد. (ضعيف الترمذي: 3300). (¬3) تفسير عبد الرزاق الصنعاني (3/ 293)، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، تحقيق: د. محمود عبده. (¬4) كذا في (ت)، وفي (س): بسنده. وفي سائر النسخ: بسند. (¬5) المعجم الكبير (1/ 147، رقم: 321).

"صحيح البخاري" بسنده عن مجاهد أنه قال: (إنها غير منسوخة) (¬1). وعليه أيضًا أبو مسلم الأصبهاني، وقد سبق أنه يمنع النَّسخ مُطلقًا، أو يمنعه في القرآن وهو المحرَّر في النقل عنه، وقال هنا: إنَّ وَضْع الحمل قد يكون عند تمام حول، فلم يرتفع إلا ما إذَا كان غَيْر الحول، ورفع البعض تخصيص، لا نَسخ. ورُد: بأن العدة إنما هي وضع الحمل، لا بالمدة. وإنْ صادف موافقة، فخصوص السَّنة فيه لَغْو لا عِبرة به. وهذا وإن كان جوابًا صحيحًا لكن أبو مسلم ومجاهد لم يمنعا النَّسخ لِمَا ذُكِر حتى يجاب عنه به. فأما مجاهد فإنه قال: إنِ اختارت السكنى، اعتدت بحول كما في إحدى الآيتين، وإنْ لم تختر، فبأربعة أشهر وعشر كما في الآية الأخرى. فلا تَعارُض؛ فلا نَسخ. وأما أبو مُسلم: فإنَّ عدة الحول عنده لمن أوصى زوجها لها بنفقة حول وسكناه، فإنْ خرجت قَبْله وخالفت وصية زوجها بعد المدة التي ضربها الله تعالى لها وهي أربعة أشهر وعشر، كان لها أن تتزوج؛ لأنَّ الجاهلية كانوا يوجبون الحول؛ لأنَّ الزوج كان يوصي ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 4257) قال: (عَنْ مُجَاهِد: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ العِدَّةُ تَعْتَدُّ عِنْدَ أَهْلِ زَوْجِهَا وَاجِب، فَأنزَلَ الله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، قَالَ: جَعَلَ الله لها تمامَ السَّنَةِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَصِيَّةً، إِنْ شَاءَتْ سَكَنَتْ فِي وَصِيَّيهَا، وإنْ شَاءَتْ خَرَجَتْ، وَهْوَ قَوْلُ الله تَعَالَى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}، فَالعِدةُ كمَا هِيَ وَاجِبٌ عَلَيْهَا).

لزوجته بالنفقة والسكنى حولًا كاملًا، فبيَّن الله تعالى أن العمل بهذه المدة لأجل الوصية غير لازمة؛ لأن الوصية بذلك لا تلزم، فلا نسخ. وهذه الطريقة هي التي اختارها الإمام الرازي في تفسيره أيضًا، وقال: (إنها في غاية الصحة). وذهب الشيخ تقي الدين السبكي إلى أنها غير منسوخة بطريقة رابعة، وهي أنَّ الله تعالى أنزل في المتوفَّى عنها زوجها آيتين: آية العدة بالأشهر، وآية الوصية. ومعناهما أنه جعل للأزواج وصية منه بِسكنى حَول كامل بعد وفاة زوجها، سواء أوصى الزوج بذلك أو لم يُوص. قال (¬1): (وهذا هو ظاهر الآية، فلا يخرج عنه بغير دليل) (¬2). فإنْ قيل: فما ذكرته مِن التمثيل بآية النجوى قد اعترضه أبو مسلم بأن ذلك كان بسبب التمييز بين المنافق وغيره؛ لأنَّ المؤمن يمتثل والمنافق يخالف. فلما تميزَا، زال بزوال وقته، ومثل ذلك لا يكون نسخًا. وجوابهم عنه بأنه "زال الحكم كيف كان" ضعيف جدًّا؛ لأنَّ الزوال بزوال الوقت ليس نسخًا قطعًا كما سبق. بل الجواب أن الواحدي حكى الإجماع على أن هذه الآية منسوخة. وقول أبي مسلم: (إن ذلك كان للتمييز) ممنوع؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عالمًا بالمنافقين وسمَّاهم لحذيفة صاحب سِره. وإنْ أريدَ التمييز للصحابة، فيبعُد أن يتميز الفريقَان في ساعة واحدة. ¬

_ (¬1) القائل هو السبكي. (¬2) الإبهاج (2/ 231).

وقد أُجِيبَ عنه بأجوبة أخرى مُعْتَرَضة، وفي هذا كفاية؛ خشية التطويل. وكذلك اعترض أبو مسلم بغير ذلك، وأُجيب عنه بما ليس هذا محل بسطه. وأما الثالث: وهو ما نُسخ لفظُه وحُكمه: فمثاله حديث عائشة - رضي الله عنها- فيما رواه مسلم: "كان مما أُنزل عشر رضعات معلومات، فنُسخن بخَمس معلومات" (¬1). فلم يبق لهذا اللفظ حُكم القرآن، لا في استدلال ولا في غيره؛ فلذلك كان أصح الوجهين جواز مَس المحدِث ما نُسخ لفظُه، أَعَم مِن أنْ يُنسخ حُكمه أو لا. قال أصحابنا: ولذلك تبطل الصلاة بِذكره فيها. نعم، حكى الرافعي أول "باب حد الزنا" عن ابن كج أنه حكى وجهًا أنه لو قرأ قارئ آية الرجم في الصلاة، لم تفسد. أما المنسوخ حُكمه دُون لفظه فله حُكم القرآن بإجماع المسلمين، ويستدل به فيما لم يُنسخ مِن الأحكام. وإلى المثال المذكور للقسم الثالث أشرتُ بقولي: (وَفي عَشْر مِنَ الرَّضْعَاتِ تَحْرِيمٌ نُفِي بِالْخَمْسِ)، وهي اللفظة المبدوء بها أول البيت الذي بعده كما سنذكره. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (رقم: 1452).

تنبيهات الأول: هذه الأقسام فيها خِلاف سوى ما سبق عن أبي مُسلِم الأصبهاني من منع النسخ بشيء في القرآن بالكُلية. فمنع بعض الأصوليين نسخ الحكم دون التلاوة، قال: لأن القصد من التلاوة حُكمها، فإذا انتفى الحكم فلا فائدة في بقائها. حكاه جماعة من الحنفية والحنابلة، وهو قادح في دعوى بعضهم الإجماع على الجواز. ومنع بعضهم نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، وبه جَزَم شمس الأئمة السرخسي. ومنع بعضهم القسمين معًا، قال: لأن أحدهما فيه بقاء الدليل بلا مدلول، والآخَر بقاء المدلول بلا دليل. والصحيح الجواز؛ لأنهما شيئان متغايران، فيجوز رفع أحدهما وإبقاء الآخر. الثاني: قسم أبو إسحاق المروزي والماوردي وابن السمعاني وغيرهم النَّسخ في القرآن ستة أقسام: أحدها: ما نُسخ حُكمه وبقي رَسْمُه، وحُكم الناسخ ورسمه باقيان، كنسخ آية الوصية للوالدين والأقربين بآية المواريث، ونسخ عدة الوفاة حولًا بأربعة أشهر وعشر. ثانيها: ما نُسخ حكمه ورَسْمه، وهُما في الناسخ ثابتان، كنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة، وصيام عاشوراء برمضان على رأْيٍ. وقيل: إنما كان استقبال بيت المقدس بالسُّنَّة، فنسخ بالقرآن. ثالثها: ما نُسخ حكمه وبقي رسمه، ورُفع رسمُ الناسخ وبقي حكمه، كقوله تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] الآية بِـ "الشيخ والشيخة" إلى آخِره.

فإنْ قيل: رجم المحصن إنما أُخِذ من حديث عبادة بن الصامت في "مسلم" مرفوعًا: "خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" (¬1). قيل: النسخ بـ "والشيخ والشيخة"، والحديث مُقَرِّر أنه لم يُنسخ. وضُعِّف بأنَّ التأسيس أرجح مِن التأكيد، وبأن الحديث إنما ورد مبيِّنًا للسبيل في: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]، فهو إما مستقل أو مُبيِّن للسبيل، لا متعلق بآية الرجم. رابعها: ما نُسخ حكمه ورسمه وبقي حكم الناسخ لا رسمه: كحديث عائشة في العَشر رضعات، فإن الخَمْس حُكمها باقٍ دُون لفظها. وأما قول عائشة: "فتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهُن فيما يتلى من القرآن" (¬2) فَمُؤَوَّل كما قال ابن السمعاني بأن مرادها: يُتلى حُكمه، أو أنَّ مَن لَمْ يَبْلُغه نَسخ تلاوته يتلوه وهو معذور. وإنما أُوِّل بذلك؛ لإجماع الصحابة على تركها مِن المصحف حين جمعوا القرآن، وأجمع عليه المسلمون بَعدهم. خامسها: ما نُسخ رسمه وبقي حكمه ولكن لا يُعلم ناسخه. ففي "الصحيحين" من حديث أنس أنه كان في القرآن: "لو أن لابن آدم واديًا من ذهب، لابتغى أن يكون له ثانٍ، ولا يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب" (¬3). ورواه أحمد، وقال: (كان هذا قرآنا، فنُسخ خطه). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) صحيح مسلم (1452). (¬3) صحيح البخاري (رقم: 6075)، صحيح مسلم (رقم: 1048).

قال ابن عبد البر في "التمهيد": (قيل: إنه من سورة "ص") (¬1). نعم، في رواية: "لا ندري أشيء نزل؛ أو شيء كان يقوله؟ " (¬2). ويمثل أيضًا بما في "البخاري" في الجهاد في "باب العون بالمدد" في حديث السبعين الذين قتلهم رعل وذكوان وعصية ومكث - صلى الله عليه وسلم - يقنت يدعو عليهم شهرًا، عن أنس أنهم قرءوا فيهم قرآنا: "ألا بَلِّغوا عنا قومنا بأنَّا قد لقينا ربنا، فَرَضِي عنَّا وأرضانا" ثم رُفع بعد ذلك (¬3). وبالجملة: فمثل هذا كثير، ولهذا قيل في سورة الأعراف: إنها كانت نحو البقرة. وكذا سورة الأحزاب كما سبق قريبًا. نعم، مَثل بعضهم بذلك ما نُسخ لفظه وبقي حُكمه. سادسها: ناسخ صار منسوخًا وليس بينهما لفظ متلو، كالإرث بالحلف والنصرة نُسخ بالتوارث بالإسلام والهجرة، ثم نُسخ التوارث بذلك. ذكره الماوردي. قال ابن السمعاني: (وهذا يدخل في النسخ مِن وَجْه). قال: (وعندي أن القسمين الأخيرين في إدخالهما في النسخ تَكلُّف) (¬4). الثالث: تمثيل ما نُسخ تلاوته وبقي حُكمه بِ "الشيخ والشيخة إذا زنيا" استُشكل مِن حيث يَلزم ¬

_ (¬1) التمهيد (4/ 274). (¬2) مسند أحمد (رقم: 12250، 12826). (¬3) صحيح البخاري (رقم: 2899). (¬4) قواطع الأدلة (1/ 428).

مِن ذلك أن يثبت قرآن بالآحاد وأنَّ ذلك القرآن نُسخ حتى لو أنكره شخص كَفَر، ومَن أنكر مِثل هذا لا يَكفر. وإذا لم يثبت قرآنيته لم يثبت نَسْخ قرآن. بل ويجري هذا الاعتراض في مثال ما نُسخ حُكمه وبقي تلاوته ونَسخهما معًا؛ وذلك لأنَّ نَسخ المتواتر بالآحاد لا يجوز كلما سيآتي. وأجاب الهندي عن أصل السؤال بأنَّ التواتر إنما هو شرط في القرآن المثبَت بين الدفتين، أما المنسوخ فلا. سَلَّمْنَا، لكن الشيء قد يثبت ضِمنًا بما لا يَثبت به أصله، كالنسب بشهادة القوابل على الولادة، وقبول الواحد في أن أحد المتواترين بعد الآخر، ونحو ذلك. قلت: وجواب آخَر، وهو أنَّ الصدر الأول يجوز أنْ يقع فيه التواتر ثم ينقطع فيصير آحادًا. فما رُوي لنا بالآحاد إنما هو حكاية عن ما كان موجودًا بشروطه. فتأَمَّله. الرابع: وقع إشكال في قول عمر - رضي الله عنه -: "لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها"، فإنه إنْ كان جائز الكتابة كما هو ظاهر اللفظ، فهو قرآن متلو، ولكن لو كان مَتلُوًّا لوجب على عمر المبادرة لكتابتها؛ لأنَّ مَقال الناس لا يَصلح مانعًا مِن فِعل الواجب. قال السبكي: (ولعلَّ الله أن يُيَسِّر علينا حَل هذا الإشكال، فإنَّ عمر - رضي الله عنه - إنما نطق بالصواب، ولكنَّا نتهم فَهْمَنا) (¬1). قلت: يمكن تأويله بأنَّ مراده: "لَكتبتُها مُنبِّها على أنها نُسخت تلاوتها"، لِيَكون في كتابتها في محلها أمنٌ مِن نسيانها بالكُلية، لكن قد يكتب مِن غير تنبيه فيقول الناس: زاد عمر، فتركت كتابتها بالكُلية، وذلك مِن دَفْع أَعظم المفسدتين بأخفهما. والله أعلم. ¬

_ (¬1) الإبهاج (2/ 242).

ص: 729 - بِالْخَمْسِ، وَالْقُرْآنُ إمَّا يُنْسَخُ ... بِمِثْلِهِ، أَوْ سُنّةٌ تُنْتَسَخ 730 - بِمِثْلِهَا، اوْ هُوَ بِهَا، أَوْ عَكْسُهُ ... فَقَسْمُهُ لِتِسْعَةٍ نُحِسُّهُ 731 - يُمْنَعُ مِنْهَا خَبَرُ الْآحَادِ ... يَنْسَخُ ذَا تَوَاتُرِ الْإسْنَادِ 732 - فَاثْنَانِ يَخْرُجَانِ، ثُمَّ أَرْبَعَه ... لِفَقْدِهَا تَوَاترا مُمْتَنِعَهْ 733 - يَبْقَى [ثَلَاثَةٌ] (¬1) كَنَسْخِ الْأَشْهُرِ ... [لَدَى] (¬2) الْوَفَاةِ الْحَوْلَ فِيمَا قَدْ دُرِي 734 - وَ"كُنْتُ عَنْ زِيَارةِ الْقُبُورِ ... نَهَيْتكُمْ، زُورُوا" رَجَا التَّذْكير 735 - وَالْمَنع لِلصَّائِمِ مِنْ مُبَاشَرَه ... لَيْلًا بِسُنَّةٍ بِآيٍ ظَاهِرَهْ الشَّرح: لفظة: "بِالْخَمْسِ" متعلقة بالذي قبلها مِن المثال، وسبق شرحه، وما بعد ذلك هو تقسيم للناسخ والمنسوخ في الكتاب والسُّنَّة متواترة كانت أو آحادًا بما يمكن الانقسام إليه عقلًا وبيان الواقع مِن الأقسام وما لم يقع أو امتنع وقوعه. فيقال: المنسوخ إما قرآن أو سُنَّة متواترة أو سُنَّة آحاد، والناسخ ثلاثة أقسام كذلك، فينتهي -بضرب ثلاثة في ثلاثة- إلى تسعة. وهو معنى قولي: (وَالْقُرْآنُ إمَّا يُنْسَخُ بِمِثْلِهِ)، فهذا قِسم. وقولي: (أَوْ سُنَّةٌ تُنْتَسَخُ بِمِثْلِهَا) تحته أربعة أقسام؛ لأن المنسوخ إما متواترة أو آحاد، ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق، ش، ن). لكن في (ض، ت، س): تلاوة. (¬2) كذا في (ض، س، ن 5). لكن في (ص، ق): كذي. وفي (ت، ش، ن 1، ن 2، ن 4): لذي.

والناسخ إما متواتر أو آحاد. فهذه الأربعة مع الأول خمسة. وقولي: (أوْ هُوَ بِهَا) الضمير المذكر للقرآن، والمؤنث للسُنَّة، تحته قِسمان: قرآن بِسُنة متواترة، وقرآن بسنة آحاد. وقولي: (أَوْ عَكْسُهُ) أي: يكون الناسخ قرآنا والمنسوخُ إما سُنَّة متواترة أو آحاد. فهذه أربعة مع تلك الخمسة تصير تسعة ظاهرة محسوسة، وهو معنى قولي: (فَقَسْمُهُ) بفتح القاف وضم الميم والهاء، وهي ضمير النَّسخ الذي هو مورد التقسيم. والضمير في (تُحِسّهُ) عائد للقسم. وقولي: (يُمْنَعُ مِنْهَا) إلى آخِره -أي: يمتنع مِن هذه الأقسام التسعة نسخ المتواتر بالآحاد؛ لضعفه كما سنذكره، فيخرج اثنان: نَسخ القرآن بالسّنَّة الآحاد ونَسخ السّنَّة المتواترة بالسّنَّة الآحاد، ثم يخرج من الباقي بعد هذين الاثنين أربعة، وهي: نسخ القرآن بالسُّنَّة المتواترة، وعكسه، ونسخ السُّنَّة المتواترة بمثلها، ونَسخ الآحاد بالسّنَّة المتواترة. وإنما خرجت هذه الأربعة لِمَا سبق في الكلام في الإسناد أنَّ السُّنَّة لا يتحقق فيها متواتر لفظي في هذه الأزمان، بل كلها آحاد، إما في أولها وإما في آخِرها وإما مِن أول أسانيدها إلى الآخِر، وأنَّ ما ذكره كثير مِن أحاديث متواترة بَيَنَّا خِلاف ما ادَّعاه. نعم، في الزمن القريب مِن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان التواتر موجودًا في كثير، ولكن صار بعد ذلك آحادًا، وإنما نتكلم بحسب ما صار الآن. وكذلك لا كلام في المتواتر معنًى، وحينئذ فبقي -بعد إسقاطه ستة من التسعة- ثلاثةُ أقسام: نَسخ القرآن بالقرآن، ونسخ السّنَّة الآحاد بالسُّنَّة الآحاد، ونسخ السّنَّة الآحاد بالقرآن. وذكرت في النَّظم أمثلة الثلاثة. فأما نسخ القرآن بالقرآن فكنَسخ الاعتداد بالحول في الوفاة بأربعة أشهر وعشر كما

سبق ذكره، وهو معنى قولي: (فِيمَا قَدْ دُرِي). أي: [ما] (¬1) عُلم. وكذلك ما سبق من [الأقسام، أي: ] (¬2) نسخ التلاوة دُون الحكم، ونسخهما. أما نسخ السُّنَّة الآحاد بمثلها فكما في "صحيح مسلم" عن بُريدة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها" (¬3). ورواه الترمذي بزيادة: "فإنها تذكركم الآخرة" (¬4). وقال: حسن صحيح. وإلى هذه الزيادة أشرتُ بقولي: (رَجَا التَّذْكِير)، ولكن قَصرتُ "رجا" للضرورة. فإن "الرجاء" ضد الخوف بالمد، و"الرجا" بمعنى الناحية مقصور كما أشار ابن دريد في "المقصور والممدود" لذلك بقوله: كم من حقير في رجا ... بئر لمنقطع الرجاء ووَجْه الشاهد في الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "كنت نهيتكم"، فصرَّح بأنَّ النهي كان مِن السُّنَّة. ويمثَّل بأمثلة كثيرة، كنسخ المتعة ونسخ الوضوء مما مسته النار، وغير ذلك. ولابن الجوزي كتاب لطيف جمع فيه أحد وعشرين موضعًا، وتعقب في بعضها، وتعقب غيره كثيرًا منها. وفي ما أوردناه مِن المثال كفاية. أما نسخ السُّنَّة بالآحاد بالقرآن فمثاله ما كان من تحريم مباشرة الصائم أهله ليلًا، ¬

_ (¬1) في (ت، س): قد. (¬2) كذا في (س، ض)، لكن في (ص، ق): الانقسام إلى. (¬3) صحيح مسلم (رقم: 977، 1977). (¬4) مسند أحمد (رقم: 1235)، سنن ابن ماجه (رقم: 1569). وفي: سنن الترمذي (رقم: 1554)، سنن النسائي (رقم: 4430) بلفظ: (فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ). قال الألباني: صحيح. (صحيح الترمذي: 1054).

نُسخ بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] وقوله تعالى {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ}، هذا على رأي الجمهور الذين جوَّزوا نَسخ السُّنَّة بالقرآن وأنه وقع، ومَثَّلوا وقوعه بهذا وبأنَّ التوجُّه إلى البيت المقدَّس كان بالسُّنَّة، فنُسخ بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]. وبأن عاشوراء كان واجبًا، فنُسخ بالقرآن وهو قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة: 185] [الآية] (¬1). ولكن نُقل عن الشافعي قول بالمنع في ذلك، وأجاب مَن رجحه بأنَّ الشافعي لا ينكر الجواز العقلي كما يوهمه كلام ابن الحاجب حيث قال: (الجمهور على جواز نسخ السُّنَّة بالقرآن، وللشافعي قولان) (¬2). ثم قال: (لو امتنع إما لذاته) إلى آخِره. وأما ما استندوا إليه في الوقوع من قصة المباشرة فقد يُمنع بما ذكره أبو عبيد في كتاب "الناسخ والمنسوخ"، وأنَّ الأكل والشرب والجماع ليلة الصيام بعد أن ينام الإنسان كان محُرَّمًا، ثم شُكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله عز وجل: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187] الآية. وكذا ذكره النحاس، فلم يُصرِّحا ولا غيرهما بأنَّ تحريم ذلك كان بالسُّنَّة. أي: فيجوز أن يكون بقرآن نُسخ لفظه واستمر حُكمه حتى نُسخ بالقرآن الثابت لفظًا وحُكمًا. قلتُ: إطلاقهما يقتضي أنَّ ذلك كان بسُنة وإلا لَذُكِر المنسوخ. نعم، في "البخاري" مِن حديث البراء قال: "لَمَّا نزل صوم شهر رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم. فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ ¬

_ (¬1) كذا في (ق، ص)، لكن في (ض، س، ش، ت مع هامشها): (نعم، سبق رد ذلك فيه وفي الآية). (¬2) مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (2/ 537).

تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} الآية" (¬1). فهو أوضح في أنَّ ذلك لم يكن بقرآن؛ فهو بالسُّنَّة. وكذا يُمنع في قصة استقبال بيت المقدس، فإنَّ الحازمي حكى قولين للعلماء في أنَّ التوجه للقدس هل كان بالقرآن؟ أو السنَة؟ بل القول بأنه كان بالقرآن هو ظاهر كلام الشافعي، وعليه يدل قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [البقرة: 143] الآية. فإن الضمير في {جَعَلْنَا} لله تعالى، فالظاهر أنَّ الجعل كان بالقرآن. لكن فيه نظر؛ فإنَّ ما في السُّنَّة هو مِن جَعْل الله تعالى وحُكمه. وكذا يمنع في صوم عاشوراء أنه كان واجبًا ثم نُسخ، فإن ذلك إنما هو قول الحنفية، وحكاه عبد الرزاق في "مصنفه" عن علي وأبي موسى. وأما أصحابنا فقالوا: لم يكن فرضًا قط. وقد بيَّن ذلك البيهقي في "الخلافيات" وأبو إسحاق الشيرازي في "النكت" وغيرهما من علمائنا. تنبيهات الأول: قد بينا أن ستة من الأقسام التسعة مخرَجة إما لضعف الناسخ وقوة المنسوخ، وإما لعدم وجود التواتر. فمِن ذلك نسخ القرآن بالسُّنَّة المتواترة. قال ابن الحاجب: إن الجمهور على جوازه، ومنعه الشافعي. ومقتضاه أنَّ تواتُر السُّنَّة موجود ولكن الشافعي يمنع جواز نسخ القرآن بالمتواتر. فأما كونه موجودًا فلا؛ لِمَا أسلفناه. وأما منع الشافعي له لو وُجد فنصُّه في "الرسالة": (لا ينسخ كتاب الله إلا كتابه، كما كان المبتدِئ بفرضه فهو المزيل المثبِت لِمَا شاء منه جل ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 4238).

ثناؤه، ولا يكون ذلك لأحد من خلقه) (¬1). انتهى فظاهره نفي الوقوع فقط. نعم، قال بنفي الجواز العقلي الحارث المحاسبي وعبد الله بن سعيد والقلانسي، وهُم مِن كبار أهل السُّنَّة. ويروَى أيضًا عن أحمد. وقيل: الماح منه الشرح، لا العقل. وهو قول الشيخ أبي حامد الأسفراييني. وقيل ة الممتنع الوقوع فقط. وهو ما فهمناه عن نَص الشافعي كما سبق. وأما ما سبق مِن نسخ السُّنَّة بالقرآن وأنَّ ابن الحاجب حكى عن الشافعي فيه قولين في الجواز وأنه ليس بجيد، كما أنه حكى عنه الجزم في نسخ القرآن بالسُّنَّة بأنه لا يجوز -فلا بُدَّ من تحرير قول الشافعي في المسألتين، وذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أن من أصحابنا مَن [وافقه] (¬2) ابن الحاجب في حكاية قولين عن الشافعي في مسألةٍ والجزم في أخرى، كالقاضي أبي الطيب في "شرح الكفاية" مُصرِّحًا بلفظ الجواز، وكذا قال إمام الحرمين: (قطع الشافعي جوابه بأن الكتاب لا يُنسخ بالسُّنَّة، وتَردَّد قوله في نسخ السُّنَّة بالكتاب) (¬3). انتهى ومنهم مَن حكى عنه القولين في كل من المسألتين. نعم، حكى الرافعي في "باب الفدية" في نسخ السُّنَّة بالقرآن وجهين أو قولين على التردد، قال: ويُنسب المنع إلى أكثر الأصحاب. ¬

_ (¬1) الرسالة (ص 107). (¬2) في (ت): وافق. (¬3) البرهان (2/ 851).

ثانيها: قد بيَّنا أنَّ الشافعي لا يتكلم في الجواز العقلي أصلًا؛ لأن القول بمنع ذلك عقلًا إنْ كان المراد به أنه يَلزم مِن فرضه وقوع مُحَال فواضح البطلان وإنْ حكاه القاضي في "التقريب" قولًا لبعضهم. أو أنَّ العقل يقضي بأنه مُحَال فهو مدْرَك اعتزالي. والشافعي بريء مِن المقالتين، وهو أَجَلّ مِن أنْ يقول بشيء منهما. وقد صرح الشيخ أبو إسحاق بأن الشافعي إنما يمنعه سمعًا، وعليه يُحمَل ما سبق عن شيخه القاضي أبي الطيب مِن إطلاق الجواز مِن غير تعيين عقل أو سمع، لأنَّ تلميذه أوضَحَ بذلك مُراد شيخه. وأما قول ابن السمعاني: (إنَّ الشافعي نَصَّ في عامة كُتبه أن القرآن لا يُنسخ بالسُّنَّة، واختُلف في أن ذلك بالعقل أو بالشرع، والظاهر مِن مذهبه أنهما جميعًا) (¬1). فمراده بالعقل: القياس. فإنَّ الفقهاء كثيرًا ما يريدون به ذلك كما سبق بيانه في مسألة التحسين والتقبيح العقليين. قيل: والمراد بالمنع سمعًا دَفْع توهُّم بعض الأغبياء أنَّ الله تعالى لم يَرْضَ بما سَنَّه نبيه - صلى الله عليه وسلم -. وما أسمج هذا! فإنَّ الكل مِن عند الله، والنبي لا ينطق عن الهوى، إنْ هو إلا وَحْي يوحى. وثالثها: أنَّ الذي ينبغي حمل منعِ الشافعي شيئًا من ذلك على عدم الوقوع كما ينقل عن ابن سُريج -إمام أصحابنا- القول به، لا على عدم الجواز لا عقلًا ولا سمعًا. قال القاضي تاج الدين السبكي: (لم أجد -مع تنقيبي عن ذلك- في نصوصه تصريحًا بمنع جوازه) (¬2). ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة (1/ 450). (¬2) رفع الحاجب (4/ 96).

أو يُحمَل على ما سأذكره في النَّظم عنه من أنه لا ينسخ القرآن قرآنا إلا ومعه سُنَّة، ولا السُّنَّة سُنّة إلا ومعها قرآن. وسأذكر نصوصه في ذلك. وإلى هذا أشرتُ بتعقيبي [ذلك] (¬1) للأحوال الثلاثة مع ذِكر أمثلتها. وقد اتضح بحمد الله تعالى ما أشكل مِن نسبة هذا القول للشافعي حتى أن إلْكِيَا نقل أن عبد الجبار كان ينصر مذهب الشافعي في الأصول، فلمَّا وصل إلى هذا المكان قال: هذا الرجل كبير ولكن الحقّ أكبر منه. وفَهم بعض الأئمة مُراد الشافعي حق الفَهم، وأفردوا ذلك بالتصنيف، كالإمام أبي الطيب بن أبي سهل الصعلوكي، وكان إمام زمانه باتفاق، وكذا الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني وأبو منصور البغدادي. الثاني قال في "جمع الجوامع": (إنه يجوز نَسخ القرآن بالسُّنَّة، وقيل: يمتنع بالآحاد. والحقُّ: لم يقع إلا بالمتواترة) (¬2). ومُراده: الجواز على تقدير أنْ: لو وُجِد متواتر، فيُنْسَخ به، وكذا بالآحاد، لكن لم يقع. بل نقل جماعة الاتفاق على الجواز، لكن الخلاف موجود، حكاه القاضي أبو بكر وغيره، واختاروا الجواز، وجعلوا القول بالمنع ساقطًا وإنْ عزاه بعضهم للأكثر، وأنهم فرقوا بينه وبين التخصيص بأنه رفع، والتخصيص بيانٌ وجمعٌ بين الدليلين. نعم، الأكثر على عدم الوقوع، خلافا لجمْعٍ مِن الظاهرية. وفصل القاضي والغزالي بين زمانه - صلى الله عليه وسلم - فيجوز، وبَعْده لا يجوز. بل نقل القاضي الإجماع ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س، ض): بذلك. (¬2) جمع الجوامع (2/ 112) مع حاشية العطار.

على المنع فيما بَعده. وأما قصة أهل قُباء في تَحوُّلهم بإخبار واحد فقيل: لأنَّ ذلك جائز في العقل وفي صدر الإسلام، ثم قام الإجماع بعد ذلك على المنع. كذا أجاب أبو الحسين في "المعتمد". ونقل عن الجبائي أن ذلك كان لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان أخبرهم بنسخ القِبلة وأنه ينفذ إليهم مَن يخبر بنسخها، فلمَّا رأوه، علموا صِدقَه مما سبق، فلم يقع نسخ إلا بخبر معلوم. وأما نسخ القرآن بالمتواتر فهو وإنْ طَوَّلوا به وبأدلته لكن لَمَّا [بَيَّنْتُ] (¬1) أنه لم يوجد، لم أَحْتَج إلى ذِكر ما أطالوا به فيه. الثالث: سيأتي -بَعد ذِكر نصوص الشافعي في أن القرآن لا ينسخه إلا قرآن والسُّنَّة لا ينسخها إلا سُنة-[نَصّ للشافعي] (¬2) يقتضي أن ثبوت نَسخ السُّنَّة يتوقف على مجيء سُنَّة تدل على النسخ، ويأتي بيانه. قولي: (وَالْمَنع لِلصَّائِمِ) البيت -"الباء" في (بِسُنَّةٍ) متعلقة بالمنع، أي: إنَّ منع المباشرة ليلًا كان بالسُّنَّة كما سبق شرحه. و"الباء" في قولي: (بِآيٍ) متعلق بِ "نَسخ" مُقَدَّر دَلَّ عليه ما سبق في قولي: (كَنَسْخِ الْأَشْهُرِ) أي: نَسخه بآيٍ ظاهرة في القرآن، وهو جمع "آية". والله أعلم. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): ثبت. (¬2) كذا في (ت، س)، لكن في سائر النسخ: فنص الشافعي.

ص: 736 - وَالشَّافِعِيُّ قَالَ: لَيْسَ يَقَعُ ... نَسْخ لِقُرْآنٍ بِهَا يَرْتَفِعُ 737 - إلَّا وَذِي السُّنَّة مَعْ قُرْآنِ ... وَنَسْخُهَا بِهِ مَعَ اقْتِرَانِ 738 - بِسُنَّةٍ؛ حَتَّى يَكُونَا جِنْسَا ... ذَاكَ بِالِاسْتِقْرَاءِ قَدْ أُحِسَّا الشَّرح: هو إشارة إلى ما ذكرته [من] (¬1) أن الشافعي حيث نُقل عنه المنع في نَسخ القرآن بالسُّنَّة أو السُّنَّة بالقرآن فإنما يُحمل على عدم الوقوع أو الوقوع لكن على هذا الوجه، فإنَّ به يصح النفي. وعبارة نَص الشافعي في ذلك في "الرسالة" غير ما سبق مِن نَصه: قال الشافعي: (وهكذا سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تنسخها إلا سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو أَحدث الله لرسوله في أمر سنَّ فيه غير ما سنَّ فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لَسنَّ فيما أَحدث الله إليه؛ حتى يبين للناس أنَّ له سُنة ناسخة للتي قبلها ما يخالفها) (¬2). انتهى [فكأن] (¬3) مَن نقل عن الشافعي أن السُّنَّة لا تُنسخ بالكتاب أخذه مِن صَدْر هذا النص، ولكن الظاهر أنه إنما أراد عدم وقوعه، ويدل عليه قوله: (ولو أحدث الله) إلى آخِره، فإنه صريح في ذلك. ثم قال الشافعي بعد ذلك ما نَصه: (فإنْ قلتَ: هل تُنسخ السُّنَّة بالقرآن؛ قيل له: لو ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): و. (¬2) الرسالة (ص 108). (¬3) كذا في (ص)، لكن في (س، ق): وكان.

نُسخت السُّنَّة بالقرآن، كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه سُنة تُبين أنَّ سُنته الأُولى منسوخة بِسُنته الأخيرة؛ حتى تقوم الحجة على الناس بأن الشيء يُنسخ بمثله) (¬1). انتهى أي: فإذا نُسخ الشئ بمثله، لم يكن للغبي أن يقول: كيف يتخالف الكتاب والسُّنَّة؛ ! وكذا ما ذكره بعد ذلك حيث قال بعد أن تكلم على صلاة ذات الرقاع ما نَصه: (وفي هذا دلالة على ما وصفتُ قبلُ في هذا الكتاب مِن أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سَن سُنة فأَحدث الله تعالى في تلك السُّنَّة نَسخًا أو تخريجًا إلى سعة فيها، سَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُنة تقوم الحجة على الناس بها؛ حتى يكونوا إنما صاروا من سُنة إلى سُنته التي بعدها) (¬2). انتهى فيحصل لنا مِن ذلك أن نَسخ السُّنَّة ونَسخ الكتاب لا يقع إلا على هذا الوجه، وأنه ليس ممتنع الجواز عقلًا قطعًا ولا سمعًا كما نقلناه عن الأئمة مِن حكاية ذلك. فكل مِن الكتاب والسُّنَّة من عند الله، فإذا نُسخ أحدهما، فالاستقراء دل أنهما لا بُدَّ أن يجتمعا؛ لتقوم الحجة على الناس بهما؛ و [لأنه] (¬3) يكون انتقال من سُنة إلى سُنة. وفيه فائدتان: إحداهما: التنويه بقَدره - صلى الله عليه وسلم - وإظهار عظمته، وهي في نَسخ القرآن بالسُّنَّة أظهر منها في عكسه؛ لأن إنزال القرآن موافقًا للسُّنة الناسخة فيه مِن التعظيم ما لا يخفَى. وثانيهما: انتقال الناس من سُنة إلى سُنة، وهي في نَسخ السُّنَّه بالقرآن أظهر منها في عكسه؛ لأنَّ مَن سنَّ سُنة حسنة فلهُ أجرها وأجر مَن عمل بها إلى يوم القيامة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو صاحب السنن الحسنة، فله مِن الأجر ما لا يتناهى. ¬

_ (¬1) الرسالة (ص 110). (¬2) الرسالة (ص 183). (¬3) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): ولأن.

وكلما نَسخت سُنةٌ سُنةً فقدْ سَن سُنة حسنة وإنْ كان معها قرآن، وكل هذه الأمور تعليل للواقع، وسنده الاستقراء. وهو معنى قولي: (حَتَّى يَكُونَا جِنْسَا ذَاكَ بِالِاسْتِقْرَاءِ قَدْ أُحِسَّا). أي: عُلم بطريق الحس، وهو سماع الوارد بأسانيده الصحيحة. تنبيه: قيل: كلام الشافعي في "الرسالة" قَبْل بعض ما نقلناه مِن نصوصه يقتضي أن السُّنَّة لا يَثبت نسخها إلا بسُنة، ولا ينعقد الإجماع على أنها منسوخة إلا مع ظهور الناسخ. حيث قال الشافعي: (أيحتمل أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - سُنة مأثورة وقد نُسخت ولا يؤثَر له السُّنَّة التي نَسختها؟ فلا يحتمل هذا، وكيف يحتمل أن يؤثَر ما وُضِع فَرْضُه ويُترك ما لَزِمَ فرضه. فلو جاز هذا، خرجت عامة السنن مِن أيدي الناس بأنْ يقولوا: لعلها منسوخة. وليس يُنسخ فرضٌ أبدًا إلا أُثبِتَ مكانه. فإنْ قيل: فهل تنسخ السُّنَّة بالقرآن؟ قيل: لو نُسخت السُّنَّة بالقرآن) (¬1) إلى آخِر النص كما ذكرناه آنفا. وهذه غير المسألة السابقة، فإنَّ المراد هنا أن الاستقراء يدل على أنه ما مِن سُنة نُسخت بسُنة إلا وقد عُلم ما نسخها مِن السنن ولو كان الإجماع منعقدا على أنها نسخت. والله أعلم. ¬

_ (¬1) الرسالة (ص 109).

ص: 739 - وَالنَّسْخُ لَا يَكُونُ لِلْإجْمَاعِ ... وَلَا بِهِ يُنْسَخُ، بَلْ [نُرَاعِي] (¬1) 740 - أَنَّ مُخَالِفًا لِنَصٍّ وَرَدَا ... تَضَمَّنَ النَّاسخَ فِيمَا أُورِدَا الشرح: لما انتهى الكلام في النسخ لقرآن أو لسُنة أو بهما، شرعتُ في نسخ الإجماع أو كونه ناسخًا. فأما نسخ الإجماع فواضح المنع؛ لأن الإجماع لا يكون في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سبق ذِكره في بابه، والنسخ إنما يكون بإعلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإذا وقع الإجماع بعد وفاته، فلا يمكن أن يأتي بعده ناسخ. وأما النسخ لشيء مما سبق مِن كتاب أو سُنة بالإجماع فتقع صورة، لكن في الحقيقة حيث وُجِد إجماع على خِلاف نَص فيكون قد تَضمَّن ناسخًا، لا أنه هو الناسخ. وعليه ينزل كلام الشافعي الذي حكاه البيهقي في "المدخل" أن النسخ كما يثبت بالخبر يثبت بالإجماع. أما ما ذكرناه في مستند المسألة الأُولى فهو ما قاله ابن الصباغ وسليم وابن السمعاني وأبو الحسين في "المعتمد" والإمام الرازي وأتباعه؛ بِناءً على ما سبق من أن الإجماع لا ينعقد في زمانه؛ لأنَّ قولهم بدونه لاغٍ، ومع قوله لا يُحتاج إليهم، والحجة إنما هي قوله. وأما الإجماع إذا انعقد بَعده: - فلا يمكن نسخُه بالكتاب والسُّنَّة؛ لعدمهما بعد وفاته. ¬

_ (¬1) في (ش، ن 1، ن 3، ن 4، ن 5): تراعي.

- ولا بإجماع آخَر؛ لأن الثاني إنْ كان لا عن دليل فخطأ، أو عن دليل ولكن غفل عنه الإجماع الأول فيلزم أنْ يكون خطأ، والإجماع لا يكون خطأ. - ولا بالقياس؛ لأنَّ شرطه أنْ لا يكون مخالفًا للإجماع. وأما ما [بُحث] (¬1) مِن إمكان الإجماع في حياته مِن حيث إنَّ الاجتهاد في حياته جائز على الأصح فظاهر الفساد؛ لأن المجتهد يجتهد فيما جاء به من الكتاب والسُّنَّة، وبإذنه بقوله لمعاذ: "اجتهد رأيك" (¬2). وأما الإجماع فاتفاق العلماء، وهو أَعْلَم العلماء، فكيف ينعقد بدونه؛ بل هو العالِم في الحقيقة، وغَيْرُه تبع له. وأما ما ذكرناه في الثانية فلأنَّ الإجماع معصوم مِن مخالفة دليل شرعي لا مُعارِض له ولا مُزيل عن دلالته؛ فَتَعَيَّن إذا وجدناه خالف شيئًا أنَّ ذلك إما غير صحيح إنْ أمكن ذلك، أو أنه مُؤَوَّل، أو نُسخ بناسخ؛ لأنَّ إجماعهم حقٌّ. فالإجماع دليل على النسخ، لا رافع للحكم كما قرره الصيرفي والأستاذ أبو منصور وابن ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في سائر النسخ: يجب. (¬2) تاريخ دمشق (58/ 409)، ط: دار الفكر - 1415 هـ. وفي إسناده محمد بن سعيد المصلوب، قال الحافظ ابن حجر في (التقريب، ص 480): (محمد بن سعيد بن حسان. . كذبوه). وكذلك في تاريخ دمشق (58/ 411)، وفي إسناده سليمان الشاذكوني والهيثم بن عبد الغفار، قال الإمام الذهبي في (ميزان الاعتدال، 3/ 291): (الشاذكوني. . كذبه ابن معين. . وقال أبو حاتم: متروك الحديث). وأما الهيثم بن عبد الغفار فمتهم بالكذب. (ميزان الاعتدال، 7/ 110). وانظر كلام الألباني على الإسنادين في (السلسلة الضعيفة: 881).

السمعاني والقاضي أبو يعلى من الحنابلة وغيرهم. ولهذا كان حديث الغسل مِن غسل الميت والوضوء مِن مَسِّه لَمَّا انعقد الإجماع على خِلافِه حُكِمَ بأنه تَضمَّن ناسخًا. قاله ابن السمعاني، ومراده: على تقدير صحة الحديث. وأما قول ابن حزم: (جوَّز بعض أصحابنا أنْ يَرِد حديث صحيح والإجماع على خِلافِه، فيدل على أنه منسوخ، وهو عندنا خطأ فاحش؛ لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]، فمثل ذلك لا يقع؛ لأن كلام الرسول محفوظ) (¬1). انتهى فجوابه ما قررناه؛ لأنَّ ذلك لا ينافي كونه محفوظًا؛ لِتَطَرُّق العارِض الأقوى، فَيُؤَوَّل أو يُنسَخ بمتأخِّر بشروطه. وكذلك قول إلْكِيَا بتصوُّر نسخ الإجماع بأنَّ الأوَّلين إذا اختلفوا على قولين ثم وقع الإجماع على أحدهما، فقدِ ارتفع الإجماع على الأخذ بكل من القولين، وأن الاختلاف جائز بالإجماع على الأخذ بما أجمعوا عليه، لا بغيره. يجاب عنه بأنهم إنما سوَّغوا الأخذ بكل مِن القولين بشرط أنْ لا يوجد ما يمنع الاجتهاد. وإذا انعقد الإجماع، فقد وُجِد ما يمنع الاجتهاد. وكذا قرره ابن برهان، فقال في "الأوسط": وأما إجماع الطبقة الثانية على أحد القولين فليس بنسخ؛ لأن القول المهجور بَطُل في نفسه. والحاصل: أن في كُلٍّ مِن المسألتين قولين، أصحهما المنع. فإنْ قيل: ما ذكرتم مِن سند المنع يجري مِثله في النصوص، فإنَّ النص الأول شَرْط العمل به أنْ لا يأتي ما ينسخه. فإذا جاء النسخ، فترك العمل بالأول إنما هو لفقد شرطه، وما ¬

_ (¬1) الإحكام لابن حزم (2/ 201).

فُقِد لِفَقد شَرْطه لا يكون نسخًا. قيل: النص الأول معمول به إلى أنْ يأتي الناسخ، لا أنه [بشرط] (¬1) فَقْد الناسخ. بخلاف الاجتهاد، فإنَّ ذلك شرط فيه. والله أعلم. ص: 741 - وَالنَّسْخُ بِالْقِيَاسِ لَا [يُحَادِي] (¬2) ... غَيْرًا، وَجَوِّزْ نَسْخَهُ في الْبَادِي 742 - في زَمَنِ النَّبِيِّ مُطْلَقًا، وَذَا ... إنْ نَاسِخٌ لَهُ قِيَاسٌ نَبَذَا 743 - فَالشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ أَجْلَى ... وَالنَّسْخُ لِلْأَصْلِ [فَرَفْعٌ] (¬3) أَصْلَا الشرح: لما فرغت من النسخ المتعلق بالكتاب والسُّنَّة والإجماع، شرعتُ في المتعلق بالقياس، وفيه مسألتان: النسخ به، والنسخ له. فأما النسخ به: فلا يكون لنص ولا إجماع، بل لقياس مثله. وهو معنى قولي: (لا يُحَادِي غَيْرًا). أي: لا [تُحَاد] (¬4) بالقياس غير القياس مِن نَص أو إجماع. هذا ارجح المذاهب وقول الجمهور، كالصيرفي وإلْكِيَا وابن الصباغ وسليم الرازي وأبي ¬

_ (¬1) في (ت، س): يشترط. (¬2) كذا في (ش، ت، ن 3، ن 4). ومعناه: يُبْعِدُ وَيُنَحِّي، أَيْ: النسخ بالقياس لا يُبْعِد ولا يُنَحِّي غَيْرَ القياس. (¬3) كذا في (ص، ق، ن 2). وفي سائر النُّسَخ: (ارتفاع). لكن المؤلف في شرحه أَعَاد ذِكْر البيت -في جميع النُّسَخ- بلفظ: فَرَفع. والوزن صحيح مع اللفظين. (¬4) كذا في (س)، لكن في (ش، ت): يحاد.

منصور البغدادي وابن السمعاني، ونقله أبو إسحاق المروزي عن نص الشافعي، وهو الموافق لما سبق مِن اشتراط اتحاد نوع الناسخ والنسوخ، وحُكي عن ابن سُريج، وقال القاضي حسين في "باب القضاء" مِن "تعليقته": إنه الصحيح في المذهب. واختاره القاضي أبو بكر، ونقله عن الفقهاء والأصوليين، قال: لأن القياس يُستعمل مع عدم النص؛ فلا ينسخ النص، ولأنه دليل محتمل، والنسخ إنما يكون بغير محتمل. وأيضًا فشرط صحة القياس أنْ لا يخالف الأصول، فإنْ خالف، فسد. قال: بل ولا ينسخ قياسًا آخَر؛ لأن التعارض إنْ كان بين أَصْلَي القياسين فهو نسخ نَص بنص، وإنْ كان بين العِلتين فهو من باب المعارضة في الأصل والفرع، لا من باب القياس. والمذهب الثاني: الجواز مطلقًا حتى يُنسخ به القرآن والسُّنَّة المتواترة كما في التخصيص. ولكن الفرق ظاهر؛ لأنَّ التخصيصَ بيانٌ والنسخَ رفعٌ. وجرى صاحب "جمع الجوامع" على هذا القول الضعيف، واستُشكل عليه بأنه قد قال في "باب القياس": إن شرط العلة المستنبطة أنْ لا تُعارَض بمعارِض. فأجاب بِـ: إني أطلقتُ القياس، فيُحمل على ما عِلته منصوصة. وبتقدير التسليم فالمعارِض للعلة إذا وُجِد، لا يكون القياس معتبَرًا، والكلام إنما هو في قياس صحيح. وفيما قاله نظر؛ لأن النص الذي يُدَّعَى نسخُه بالقياس لا يزال معارِضًا لِعِلته، فأين موضع القياس الصحيح الناسخ لنص؟ والحقُّ أَحَق أنْ يُتبع. الثالث: أن القياس يُنسخ به الآحاد فقط، لا المتواتر. وهو فاسد أيضًا، لأن المعارِض المانع مِن القياس لا فرق فيه بين المتواتر والآحاد. الرابع: يُنسخ بالجلي، لا بالخفي. حكاه الأستاذ أبو منصور عن الأنماطي، وحاكاه صاحب "المصادر" عن ابن سُريج، وكذا حكاه الباجي عنه، لكن قال: إنه راجع إلى القول

بالمنع مطلقًا؛ لأنَّ الجِلي عنده مِن باب الفحوى، وهو جارٍ مَجْرَى النص، فليس نسخًا بقياس. الخامس: حكاه أبو الحسين بن القطان وغيره عن الأنماطي: أنَّ القياس المستخرَج مِن القرآن يُنسخ به القرآن، والمستخرَج مِن السُّنَّة تُنسخ به السُّنَّة. السادس: إنْ كانت عِلته منصوصة جاز النسخ به وإلا فلا. قال الباجي: إنَّ هذا هو الحق. الساب: قاله الآمدي: إنْ كانت منصوصة جاز، وإلا فإنْ كان القياس قطعيًّا كقياس الأَمَة على العبد في السراية، فهو مقدَّم لكن لا مِن باب النسخ، أو ظنيًّا بأنْ كانت عِلته مستنبطة فلا. وسبقه إلى هذا التفصيل صاحب "المصادر". الثامن: قاله الهندي: إنْ كان في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، جاز على الأصح، بل هو محل الخلاف، وإنْ كان بعده - صلى الله عليه وسلم - يجوز قطعًا. وأما نَسخ القياس نفسه فَعَلَى وجهين: نسخ القياس مِن حيث هو، ونسخ الأصل المقيس عليه. فالأول جائز عند الجمهور في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا فيما بعده. فيُنسخ إما بنص أو بقياس آخَر، لا بإجماع؛ لعدم انعقاده في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. خلافًا لما وقع للإمام في "المحصول" من كون القياس في حياته يُنسخ بالإجماع، قال: بِأنْ تختلف الأُمة على قولين قياسًا، ثم يجمعوا على أحد القولين، فيكون إجماعهم على أحد القولين رافعًا لحكم القياس الذي اقتضاه القول الآخَر. والعجب أنه قد صرح قبل ذلك بأن الإجماع لا ينعقد في زمنه - صلى الله عليه وسلم -! وإنما قُيِّد نَسخُه بنص أو قياس بزمنه - صلى الله عليه وسلم - لأنه زمن مجيء الوحي، وهو طريق النسخ.

فأما بَعده فلا يُتصور نَسخُه؛ لأنه: - إما أن يُنسخ بنص مُحْدَث بَعده، وهو مستحيل. - أو بنص كان موجودًا مِن قبل لكن المجتهد القائس كان غافلًا عنه ثم ظفر به، فذاك باطل أيضًا؛ لأنه قد تَبيَّن فساد القياس مِن أصله؛ فلا نَسْخ. - وإما أنْ يُنسخ بالإجماع، وهو باطل؛ لِمَا ذكرنا. ومثَّلوا ذلك بأنْ يقول الشارع: (حرمتُ المفاضلة في البُر؛ لأنه مطعوم). فقد نَص على الحكم وعِلته. فإذا قال بعد ذلك: (بِيعوا الأرز بالأرز متفاضلًا)، كان نَسخًا لذلك القياس بهذا النص. وأما نَسخه بالقياس فبِأن يأتي بعد القياس الأول نَصٌّ بجواز بيع الذرة بالذرة متفاضلًا، فيقاس عليه الأرز بالأرز متفاضلًا. فهذا القياس ناسخٌ لذلك القياس. نعم، شرط الإمام الرازي وغيره في القياس الناسخ أنْ يكون أجلَى من القياس المنسوخ، أي: أرجح في الإلحاق منه وأظهر. ويعرف قوة أحد القياسين بما سيأتي -إن شاء الله تعالى- في باب التراجيح في ترجيح الأقيسة؛ لأنه إذا كان أخفَى فلا يرفع الأَجْلَى، أو متساويين، كان ترجيحًا من غير مُرجِّح. وقصر جمعٌ -كالبيضاوي- جواز نَسخ القياس على نَسخِه بالقياس الأَجْلَى حتى لا يجوز نَسخُه بنص ولا بإجماع. فأما الثاني فمُسَلَّم، وأما الأول فممنوع؛ لِمَا سبق. ولم يُقيده بزمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا بُدَّ مِن تقييده؛ لَما سبق أيضًا. وقال الإمام الرازي: (إنه يجوز بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في المعنى، وإنْ كان ذلك لا يُسمَّى

"نسخًا" في اللفظ) (¬1). وقد ضُعِّف ما قاله كما ضُعِّف ما سبق نقله عنه في مسألة النسخ بالقياس. على أن أبا الحسين في "المعتمد" سبقه إلى ذلك كله. ووراء هذا مذاهب أخرى: منها ما قاله عبد الجبار وغيره: إنه لا يجوز نسخ القياس أصلًا؛ لأنه مستنبَط مِن أصل، فما دام حُكم الأصل باقيًا فحُكم الفرع يجب بقاؤه. ومنها ما صار إليه كثير من الحنابلة كأبي الخطاب وغيره: الفرق بين ما عِلته منصوصة فهو كالنص يَنسخ كما يُنسخ به، بخلاف المستنبَطة، فإنه متى وُجِدَ نَصٌّ بخلافها، تَبيَّن فساد القياس. واختاره الآمدي. قال الهندي: (وينبغي أن يكون موضع الخلاف في أنه هل يمكن نسخه بدون نسخ أصله؟ أوْ لا؟ ) (¬2). أما نَسخه مع نَسخ أصله أو نسخ الأصل ففيه الخلاف الآتي. ولابن الحاجب تفصيل في المسألتين، فقال: (والمختار أنَّ القياس المظنون لا يكون ناسخًا ولا منسوخًا). قال: (أما الأول فلأنَّ ما قبله إنْ كان قطعيًّا، لم يُنسخ بالمظنون، وإنْ كان ظنيًّا، تَبيَّن زوال شرط العمل به وهو رجحانه؛ لأنه ثبت مُقيَّدًا). أي: مشروطًا بأنْ لا يترجح عليه غيره. ¬

_ (¬1) المحصول (3/ 359). (¬2) نهاية الوصول (6/ 2374).

قال: (وأما الثاني فلأنَّ ما بعده -قطعيًّا كان أو ظنيًّا- تَبيَّن زوال شرط العمل به. وأما القياس المقطوع فيُنسخ بالمقطوع في حياته - صلى الله عليه وسلم -، وأما بَعده فيتبين أنه كان منسوخًا) (¬1). أي: ولا سبيل إلى إنشاء النسخ؛ لِمَا سبق تقريره. وقولي: (إنْ نَاسِخٌ لَهُ قِيَاسٌ نبَذَا) أي: إنْ كان الناسخ له قياس آخَر نبذ ذلك القياس الأول. أي: طرحه وألغَى حُكمه. وقولي: (وَالنَّسْخُ لِلْأَصْلِ فَرَفْعٌ أَصْلَا) إشارة إلى أن النسخ إذا ورد على الأصل المقيس عليه، ارتفع القياس معه بالتبعية. والمخالِف فيه الحنفية، جوَّزوا صوم رمضان بِنِيَّة من النهار بالقياس على ما كان في صوم يوم عاشوراء من الاكتفاء بِنِية من النهار حين كان واجبًا على معتقدهم ذلك مع زوال فرضيته بالنَّسخ، وأبقوا الفرع على حاله. لكن ليس هذا نَسخًا للقياس، بل رفع لنص، فلا يكون إلا بنص؛ لأن النص لا يُنسخ بقياس كما سبق. وما أحسن تعبير ابن الحاجب عن هذه المسألة بقوله: (المختار أنَّ نَسخ حُكم أصل القياس لا يبقى معه حُكم الفرع) (¬2). فعبَّر بقوله: الا يبقى) ولم يُعبِّر بالنسخ كما وقع في كلام بعضهم تسمية ذلك "نسخًا"، وليس بجيد؛ لأن الحكم إذا زال بزوال عِلته، لا يقال: إنه منسوخ. وعبارة إمام الحرمين في ذلك: إنه يتداعى ذلك إلى ارتفاع القياس المستنبَط منه. وهذا معنى قول ابن الحاجب: (لا يبقى). ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى مع شرحه (2/ 553). (¬2) مختصر المنتهى مع شرحه (2/ 558).

وفصل إلْكِيَا في هذه المسألة بين أن يُنسخ الأصل بلا بَدَل فلا يبقى الفرع، أو بِبَدَل فيبقى. وهو غريب، والله أعلم. ص: 744 - وَالنَّسْخُ لِلْفَحْوَى بِدُونِ الْأَصْلِ ... وَعَكْسَهُ جَوِّزْ كَمَا لِلْكُلِّ 745 - نَعَمْ، إذَا أُطْلِقَ نَسْخُ وَاحِد ... يَتْبَعُهُ وَإنْ يَكُنْ بِزَائِد الشرح: قد سبق في باب المفهوم أنَّ مفهوم الموافقة -وهو ما يكون المسكوت فيه موافقًا للمذكور في حُكمه- إن كان بالأَولى، يسمَّى "فحوى الخطاب"، وسبق في طريق دلالته أربعة مذاهب: أحدها: بطريق المفهوم، وهو المراد هنا في نَسخه والنسخ به، لا [على] (¬1) أنه بالقياس؛ لأن ذلك داخل في قاعدة النسخ للقياس وبه، وقد سبق. ولا على أن دلالته مجَازية بقرينة، ولا على أنه نقل اللفظ لها عُرْفًا. إذا عُلم ذلك، فالنسخ إما أن يتوجه على الفحوى أو على أصله، وكل منهما إما مع التعرض لبقاء الآخَر أو مع عدم التعرض لذلك، وإما أن يُنسخا معًا. فهذه خمس مسائل. وإما أن يكون النسخ بالفحوى. فالخمسة مذكورة في هذين البيتين، والسادسة تأتي فيما بعد. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): على قول.

الأُولى: أن يَرِد النسخ على الفحوى مع التعرض لبقاء الأصل، كما لو قال: (رفعتُ تحريم كل إيذاء غير التأفيف)، فيجوز ذلك على الأصح عند أكثر المتكلمين، والمنع منقول عن أكثر الفقهاء. قيل: ولعل مأخذه أن دلالته لفظية أو قياسية. الثانية: أن يَرِد النسخ على الأصل مع إبقاء الفحوى، نحو: (رفعتُ عنك تحريم التأفيف دون بقية أنواع الإيذاء). فهو جائز أيضًا؛ لأنه لا يَلزم من إباحةِ الخفيف إباحةُ الشديد. وقيل: يمتنع؛ لأن الفرع يتبع الأصل. فإذا رفع الأصل، فكيف يبقى الفرع؟ ! ويجتمع في المسألتين ثلاثة أقوال، ثالثها التفصيل. الثا لثة: نسخهما معا، كَـ: (رفعتُ تحريم التأفيف وكل إيذاء). وجوازه واضح. وأما الرابعة والخامسة: وهُما نسخ الفحوى مِن غير تَعرُض لبقاء الأصل أو رفعه، وعكسه، فهُما اللتان تَعرَّض لهما ابن الحاجب والبيضاوي. فقال ابن الحاجب: (يجوز نسخ أصل الفحوى دُونه -أي دُون نسخ الفحوى- وامتناع نسخ الفحوى دُون أصله) (¬1). قال: (ومنهم مِن جوَّزهما، ومنهم مَن منعهما). وإنما حملنا كلامه على الإطلاق في الأمرين؛ لأنه قال في الاستدلال: (لنا: أن جواز التأفيف بعد تحريمه لا يستلزم جواز الضرب). أي: فجاز ثبوته دونه. : (وبقاء تحريمه -أيْ تحريم التأفيف- يستلزم تحريم الضرب) (¬2). فاستدلاله با لاستلزام وعدمه يدل على تصويره المسألة بما ذكرناه. ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى مع شرحه (2/ 558). (¬2) هذا تتمة كلام ابن الحاجب.

ومنهم مَن حمل كلامه على المسألتين الأُولتين، وكأنه رأي أن الاستلزام في كلامه إنما أراد به أن ما يستلزم يمتنع التصريح بخلافه، وما لا يستلزم لا يمتنع التصريح بخلافه. ولكنه بعيد. وأما البيضاوي فعبَّر في المسألة با لاستلزام، فهو صريح فيما ذكرناه، فقال: (نسخُ الأصل يستلزم نسخَ الفحوى، وبالعكس؛ لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم) (¬1). انتهى إلا أنه لم يستدل إلا لإحدى المسألتين دُون الأخرى، وهي أنَّ نَسخ الأصل يَلزم منه رفع الفحوى. لكن دليلها أن الفحوى تابعٌ والأصلَ متبوعٌ، فإذا رُفِع المتبوع، ارتفع التابع. وهذا الذي رجحه فيهما هو المختار عند الأكثر؛ ولذلك قال في "جمع الجوامع": (والأكثر أن نسخ أحدهما يستلزم الآخَر) (¬2). وفي الحقيقة المسألتان مُفرَّعتان على الجواز في المسألتين الأولتين، لأنَّا إذا قلنا بالجواز عند التقييد ببقاء الآخَر، فعند الإطلاق يُعمل بالاستلزام؛ لعدم ما يقتضي خِلافه. على أن الإمام الرازي قد جزم بأنَّ نَسخَ الأصل يستلزم، وأما استلزام نسخ الفحوى نَسخ الأصل فنقله عن اختيار أبي الحسين، وسكت عليه. فيحتمل أنه موافقه؛ ولهذا جرى عليه البيضاوي. ويحتمل أنه ذكره على وجه التضعيف له؛ فيكون من القائلين بالتفصيل. وأما الآمدي فقال: (المختار أن تحريم الضرب في محل السكوت، إنْ جعلناه مِن باب القياس فنسخ الأصل يوجب نسخ الفرع؛ لاستحالة بقاء الفرع بدون الأصل. وإنْ جعلناه بدلالة اللفظ فلا شك أنَّ إحدى الدلالتين باللفظ والأخرى بالفحوى، وهُما مختلفان، فلا ¬

_ (¬1) منهاج الوصول (ص 188) بتحقيقي. (¬2) جمع الجوامع مع حاشية العطار (2/ 116).

يَلزم مِن رفعِ إحدى الدلالتين المختلفتين رفعُ الأخرى). فيكون قولًا بعدم الاستلزام في المحلَّين. ثم قال: (فإنْ قيل: الفحوى تابع، فكيف يبقى مع ارتفاع المتبوع؟ قيل: التبعية إنما هي في الدلالة، لا في الحكم، والنسخ إنما هو وارد على الحكم، فقد يرتفع الحكم والدلالة باقية) (¬1). وقولي: (وَإنْ يَكُنْ بِزَائِدِ) أي ولو كان زائدًا على اللفظ في الظاهر؛ لأنه إنما يتبع بطريق اللزوم، لا [بطريق] (¬2) اللفظ. والله أعلم. ص: 746 - وَالنَّسْخُ بِالْفَحْوَى، وَفي الْمُخَالَفَهْ ... لَا يُنْسَخُ الْأَصْلُ الَّذِي قَدْ خَالَفَهْ 747 - [بِدُونِهِ] (¬3)، وَذَا امْنَعِ النَّسْخَ بِهِ ... وَخَبرٌ يُنْسَخُ؛ لِلتَّنَبُّه الشرح: قولي: (وَالنَّسْخُ بِالْفَحْوَى) بالنصب عطفًا على مفعول "جوز" في البيتين قبله. أي: وجوز أيضًا أن يكون الفحوى ناسخة لغيرها. وهي المسألة السادسة مما أشرتُ إليه فيما يتعلق بالفحوى. ولم يذكرها ابن الحاجب، وقد ذكرها البيضاوي وغيره، بل ادَّعى الإمام والآمدي فيها ¬

_ (¬1) الإحكام للآمدي (3/ 180). (¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في سائر النسخ: بصريح. (¬3) كذا في (ص، ق، ش، ن)، وهو الصواب الموافق لِـ "النبذة الزكية". لكن في (ض، س، ت): فدونه.

الاتفاق على الجواز، لكن انتُقد بوجود الخلاف، حكاه الشيخ أبو إسحاق في "شرح اللمع" بناءً عَلى أن الفحوى قياس، والقياس لا يكون ناسخًا. وحكاه ابن السمعاني عن الشافعي؛ لأنه يقول بأن الفحوى قياس، والقياس لا يَنسخ النص. قلت: فإنْ كانت حكايته الاتفاق بناءً على أنه ليس مِن باب القياس، فلا انتقاد عليهما بالمنع تفريعًا على أنه قياس. وقد نَصَّ القاضي في "مختصر التقريب" على المنع أيضًا كما هو مختار الشيخ أبي إسحاق. وقولي: (وَفي الْمُخَالَفَهْ) إلى آخِره -إشارة إلى أن مفهوم المخالفة هل يُنسخ أو يُنسخ به؟ أما نسخه فيجوز نسخ حُكم المسكوت الذي هو مخالف للمذكور مع نسخ الأصل ودُونه. ذكره القاضي عبد الوهاب وغيره؛ فقد قالت الصحابة - رضي الله عنهم -: إنَّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الماء من الماء" (¬1) منسوخ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل" (¬2) مع أن الأصل باقٍ، وهو وجوب الغسل بالإنزال. وأما نَسخ الأصل بدون مفهومه الذي هو نحالِف له حُكمًا، فذكر الصفي الهندي فيه احتمالين. قال: (وأظهرهما أنه لا يجوز؛ لأنه إنما يدل على ضد الحكم باعتبار ذلك القيد المذكور، فإذا بَطُل تأثير ذلك القيد، بَطُل ما يُبْنَى عليه. وعلى هذا فنسخ الأصل نسخٌ للمفهوم ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (رقم: 343). (¬2) مسند أحمد (26067)، سنن ابن ماجه (رقم: 608)، صحيح ابن حبان (1183)، وغيرها. قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 1179).

منه) (¬1). والمعنى أنه يرتفع الحكم الشرعي الذي حُكم به على المسكوت بضد حُكم المذكور. وقولي: (وَذَا امْنَعِ النَّسْخَ بِهِ) إشارة إلى أن مفهوم المخالفة لا يُنسخ به شيء. قال ابن السمعاني: لأنَّ النص دائمًا أقوى منه، فكيف يَنسخ الأضعفُ الأقوى؟ ! قلتُ: وقد يُضَعَّف بأنَ المنسوخ به قد يكون مساويًا أو دُونه، كأنْ يكون مفهوم مخالفة أو نحو ذلك. والله أعلم. وقولي: (وَخَبرٌ يُنْسَخُ؛ لِلتَّنَبُّهِ) تمامه قولي بعده: ص: 748 - لَكِنْ بِإخْبَارٍ بِضِدِّ الْحُكْمِ ... لَا الْحُكْم نَفْسه، فَجُدْ بِالْفَهْمِ 749 - إلَّا إذَا أُرِيدَ لِلْإنْشَاءِ ... فَإنَّهُ مَعْهُ عَلَى [اسْتِوَاءِ] (¬2) الشرح: والمراد بذلك أنه لَمَّا انقضَى بيان نَسخ الإنشاء، ذُكِر نسخ الخبر، وذلك يُفْرَض على وجوه: أحدها: أن يُنسخ التكليف بالإخبار بالخبر. وهو جائز بلا خلاف؛ لأنه من قبيل نسخ الإنشاء. وسواء في هذا أن يكون المخْبَر عنه مما يتغير أو لا. الثاني: أن يراد مع نَسخه التكليف بالإخبار بضد الأول وهو مما يتغير، كنسخ الإخبار ¬

_ (¬1) نهاية الوصول (6/ 2383). (¬2) في (ض، ت، س): السواء.

بقيام زَيْد بالإخبار بأنه لم يَقُم. فلا خلاف أيضًا في جوازه؛ لأنه قد يكون قائمًا في وقت أو حالٍ غير قائم في غيره. وفي معنى هذين الأمرين نسخ التعبد بتلاوة شيء أو الأمر بتلاوة ضده. الثالث: أن يكون كالذي قبله، إلا أن المخبَر به مما لا يتغير، كالإخبار بكون السماء فوق الأرض يُنسخ بالإخبار بأن السماء تحت الأرض. وذلك جائز. وخالف المعتزلة فيه -كما قال الآمدي- محتجين بأن أحدهما كذب والتكليف به قبيح؛ فلا يجوز عقلًا. وهو بناء على قاعدتهم الباطلة في التحسين والتقبيح العقليين. فإنْ قيل: الكذب نقصٌ، وقُبحه بالعقل باتفاق، فلِمَ لا يمتنع ذلك؟ فالجواب: أنَّ القُبح فيه بالنسبة لفاعله، لا باعتبار التكليف به، بل إذا كُلف به، صار جائزًا، فلا يكون قبيحًا؛ إذْ لا حُسن ولا قُبح إلا بالشرع، لاسيما إذا تعلق به غرض شرعي، فإنه مِن حيث ذلك يكون حسنًا. وشاهد ذلك مِن الفقه ما لو قال مُتغلِّب لضعيف: (اختلِق كذبة وإلا ضربت عنقك). بل والظاهر أن المعتزلة لا يخالفون في مِثل ذلك وإنْ قالوا بالحسن والقبح العقليين، ويُقَيدون القبح بما لم يتعلق به غرض. ولو أكُره على كلمة كفر لا يأثم بقولها؛ لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، ولو طالبه ظالم بالوديعة جاز أن يكذب بالإنكار والإخفاء ما أَمكنه، بل يجب عليه ذلك بلا خلاف ولكن يُكَفر عن يمينه على الأظهر؛ لأنه كاذب والكفارة منوطة بالكذب. وكذا مَن التجأ إليه مظلوم، فخبأه في داره. إلى غير ذلك من الفروع. وهذه الصوَر كلها داخلة في قولي: (لَكِنْ بإخْبَارٍ بِضِدِّ الْحُكْمِ) سوى الصورة الأُولى، فإنها تُفهم مِن باب أَوْلى.

الرابع: نسخ نفس الحكم المخبَر به، وهو المعروف في الأصول بِـ "نَسْخ الأَخبار" بالفتح. فإنْ كان ذلك الحكم مما لا يتغير، فلا يجوز فيه النسخ بالإجماع كما حكاه أبو إسحاق المروزي وابن برهان، وذلك: كصفات الباري سبحانه وتعالى وأخبار الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) وأخبار الأُمم السالفة والأخبار عن الساعة وأماراتها ونحو ذلك. وإنْ كان مما يتغير كإيمان زيد وكُفره، فلا يجوز أيضًا على الأصح، سواء كان الخبر ماضيًا أو مستقبلًا أو حالًا، وسواء أكان وعدًا أو وعيدًا. وإلى هذا ذهب الصيرفي وأبو إسحاق المروزي والقاضي أبو بكر والجبائي وابنه أبو هاشم وابن السمعاني وابن الحاجب. وقال الأصفهاني: إنه الحقُّ. ومقابل الأصح: الجواز مطلقًا. وإليه ذهب أبو عبد الله وأبو الحسين البصريان، وعبد الجبار والإمام الرازي. ونَسَبه ابن برهان للمعظم. والتفصيل بين الخبر عن الماضي فيمتنع؛ لأنه يكون تكذيبًا، دُون المستقبل؛ لجريانه مجرى الأمر والنهي، فيجوز أن يُرْفَع. وبه قال سليم الرازي، وسبقه إليه ابن القطان، وجرى عليه البيضاوي. وهذا التفصيل مبني على أن الكذب لا يكون في المستقبل، بل في الماضي. وهو قول مشهور، بل هو المفهوم عن الشافعي - رضي الله عنه -؛ فلذلك قال: لا يجب الوفاء بالوعد. وضعّف احتجاج قائل الوجوب (بأنه كذب، وهو حرام) بأنَّ الوعد إنشاء، لا خبر، فَخُلْفه خُلْف وَعْد، لا كذب؛ ولذلك جاء في صفة المنافق: "إذا حَدَّث كذب، وإذا وَعد أَخْلف" (¬1)، فَغَايَر بينهما، ويسمي الثاني "إخلافًا"، لا "كذبًا". ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 33)، صحيح مسلم (رقم: 59).

وكذا قال الزجاجي في كتاب "الأذكار" بأن الإخبار بضد الصدق إذا كان مستقبلًا، يُقال فيه: أخلف، ولا يقال: كذب. لكن قد يشكل هذا بأنه إذا لم يقبل الكذب فكيف يكون خبرًا؟ والحقُّ أن الخبر عن المستقبل يقبل التصديق والتكذيب. فإنْ تَعلق بالمستقبل ولم يقبل ذلك كالوعد، كان إنشاءً، وليس مما نحن فيه. وحينئذٍ فيقال: الوعيد نَسْخه جائز؛ لأنه لا يفضي إلى كذب ولا يُعَد خُلْفًا، بل عفوًا وكرمًا. وأما الوعد فهو وإنْ كان مِثله في أن نسخه لا يفضي إلى كذب، لكن لا يقع الخلف فيه، بخلاف الوعيد؛ لأنَّ الخلف في الإنعام نقص قادح في كرم الكريم، فكيف بأكرم الأكرمين؛ فالخلف فيه محال على الله تعالى من هذه الحيثية. قال الخطابي: النسخ يجري فيما أخبر الله تعالى أنه يفعله؛ لأنه يجوز تعليقه على شرط، بخلاف إخباره عما لا يفعله؛ إذ لا يجوز دخول الشرط فيه. قال: وعلى هذا تأول ابن عمر النسخ في قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]، فإنه نسخها بعد ذلك برفع حديث النفس، وجرى ذلك مجرَى العفو والتخفيف عن عبادِه، وهو كرم وفضل، وليس بخلف. قال الأصمعي: (سمعتُ أعرابيًّا يقول: سبحان مَن إذا وعد وفا، وإذا تَوعَّد عفا). وفي نَسخ الخبر قول رابع بالتفصيل بين أن يكون الخبر الأول معلقًا بشرط أو استثناء فيجوز نسخه، وإلا فلا. قاله ابن بقلة في كتاب "البرهان"، قال: كما وَعَدَ قوم يونس بالعذاب إنْ لم يتوبوا، فلمَّا تابوا كشف عنهم. وقول خامس اختاره الآمدي: يجوز مطلقًا إذا كان مما يتكرر والخبر عام، فيتبين بالناسخ

إخراج ما لم يتناوله اللفظ. تنبيهان الأول: محل الخلاف في غير الخبر عن الحكم، نحو: (هذا الفعل جائز) أو: (حرام)، فهذا يجوز نسخه بلا خلاف؛ لأنه في الحقيقة إنشاء. ونحوه الخبر بمعنى الأمر والنهي، نحو: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228] , {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233]. فنسخ ذلك جائز عند الأكثر؛ لأنه إنشاء. ونقل الشيخ أبو إسحاق في "شرح اللمع" والقاضي عبد الوهاب وابن السمعاني فيه خلافًا عن الدَّقاق. ولا وجه له إلا أن يقال: لكونه على صورة الخبر. الثاني: بنى القاضي في "التقريب" الخلاف في المسألة على الخلاف في أن النَّسخ رفع أو بيان. فإن قلنا: رفع، امتنع، للزوم الكذب في الأول أو في الثاني، وهو محال. وإن قلنا: بيان، فلا تمتنع إبانة أن ذلك "الحكم الذي في الخبر" في بعض الأزمنة دُون بعض. والله أعلم. ص: 750 - كَذَا مُقَيَّدٌ بِلَفْظِ "أَبَدَا" ... وَنَحْوِهَا، كَـ "مُسْتَمِرًّا" قُيِّدَا 751 - يَجُوزُ، وَالنَّسْخُ بِغَيْرِ بَدَلِ ... وَالشَّافِعِيْ نَفَى الْوُقُوعَ في الْجَلِيْ الشرح: اشتمل ذلك على مسألتين:

إحداهما: إذا قُيِّد حُكم بلفظ التأبيد، مثل: (صوموا يوم عاشوراء أبدًا)، فيجوز بعد ذلك نَسخه عند الجمهور، خلافا لبعض المتكلمين. وبه قال من الحنفية أبو بكر الجصاص وأبو منصور الماتريدي وأبو زيد الدبوسي والبزدويان الأخوان، قالوا: لمناقضة الأَبَدية؛ فيؤدي ذلك إلى البداء. وجوابه: أن ذلك إنما تُقصد به المبالغة، لا الدوام. كما تقول: (لازم غريمك أبدًا). وإنما تريد: لازِمه إلى وقت القضاء. فيكون المراد هنا: لا تخل به إلى أن ينقضي وقته بالنَّسخ. قالوا: إذا كان الحكم -لو أُطْلِق الخطاب (¬1) - مستمرًّا إلى النسخ، فما الفائدة في التقييد بالتأبيد؟ قلنا: فائدته التنصيص والتأكيد، وأيضًا فلفظ "الأبد" إنما مدلوله الزمان المتطاول. وقولي: (وَنَحْوِهَا) أي: مثل: (افْعَل ذلك دائمًا) أو: (مستمرًّا) أو شبه ذلك مما يدل على الاستمرار؛ لأن غايته أن يكون نَصًّا في الفعل في وقت ويُنسخ قبله، فيكون مثل: (صوموا غدًا) ثم يُنسخ ذلك قبل مجيء الغد. وإلى ذلك أشرتُ بقولي: ("مُسْتَمِرًّا" قُيِّدَا). أي: كلفظ "مستمرًّا" إذا قيد به، فـ "قُيِّدَا" جملة نُعِتَ بها النكرة وهي "مُسْتَمِرًّا". وقولي: "يَجُوزُ" هو خبر المبتدأ الذي هو "مقيد"، أي: يجوز نسخه؛ لأنَّه المحدث عنه. وأطلقتُ ذلك ولم أقيده بالإنشاء؛ لأنَّ الخبر لا يدخله النسخ كما سبق. نعم، الخبر عن الحكم سبق أنه كالإنشاء في جواز النسخ به، فهل يجوز نسخ ما قُيِّد منه بالتأبيد؟ أو يمتنع؟ ¬

_ (¬1) يعني: ليس مُقَيَّدًا بالتأبيد.

الظاهر الجواز؛ لأنه في الحقيقة بمنزلة: افعل كذا أبدًا. ووقع في "ابن الحاجب" عبارة تحتمل المنع في ذلك وتحتمل أن يُراد بها غيره. فقال: (الجمهور: جواز نسخ مثل: "صوموا أبدًا"، بخلاف: "الصوم مستمر أبدًا") (¬1). ففهم بعض شُراحه أنه يفرق بين الأمر الصريح وبين الخبر المتضمن للأمر، وأنه جائز في الأول دون الثاني. ولكن لم يصرح الآمدي ولا غيره بذلك، إلا أن الآمدي سأل في المحل أسئلة، منها: (أن المتكلِّم إذا أخبر بلفظ التأبيد، لم يَجُز نسخه، فكذلك غير الخبر) (¬2). ثم أجاب عنه بأنه قد يُمنع ذلك في الخبر أيضًا. أي فيقال: بل هو جائز في الخبر أيضًا. فأراد ابن الحاجب بذلك دفع توهُّم موافقته للآمدي. لكن الآمدي بناه على اختيار النسخ في الخبر، وابن الحاجب لا يرى ذلك. كذا شرحه الأصفهاني وغيره. وفيه نظر من وجهين: أحدهما: يُبْعِده زيادة "مستمرًّا" في المسألة الثانية. والثاني: أن الخبر عنده لا يُنسخ، سواء قيد بالتأبيد أو لا. ويحتمل أن ابن الحاجب إنما أراد التفصيل في التقييد بالتأبيد بين أن يكون في فِعل المكلف كَـ "صوموا أبدًا" فيجوز النسخ فيه، وبين أن يكون قيدًا في الإيجاب وبيانًا لمدة بقائه واستمراره نحو: "الصوم واجب مستمر أبدًا" فيمتنع. وهو ما شرحه به القاضي عضد الدين، ووافقه على اختياره السبكي؛ ولهذا زاد لفظ "الاستمرار" في الثانية، فإنه قرينة تقييد الخطاب به. ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى مع شرحه (2/ 518). (¬2) الإحكام للآمدي (3/ 148).

وبالجملة: فالخبر إذا كان بمعنى الإنشاء، جاز أن ينسخ كما سبق، فمسألتَا ابن الحاجب مستويتان. المسألة الثانية في النَّظم: أن النسخ جائز للحكم وإن لم يؤت بحكم آخر بدلًا عنه. وإذا قلنا: يجوز، فلم يقع إلا ببدل. فهُما بحثان: الأول في الجواز، والثاني في الوقوع. فأما أنه يجوز بلا بدل فهو قول الجماهير، وخالف فيه قوم من أهل الظاهر، ونقله القاضي في "مختصر التقريب" عن المعتزلة. دليل الجمهور: أنَّ المصلحة قد تكون فيما نُسخ ثم تصير المصلحة في عدمه. هذا عند مَن يعتبر المصالح، وأما مَن لا يعتبرها فلا إشكال فيه. وأيضًا: فقد وقع، فإنَّ وجوب تقديم الصدقة بين يَدَي مناجاته - صلى الله عليه وسلم - نُسِخَ بلا بدل. وأما مَن ادَّعَى أنَّ نَسْخه بالزكاة فرُدَّ عليه من وجهين: أحدهما: أنه تعالى قال: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [المجادلة: 13] الآية، فلمَّا ضُم إلى الزكاة الصلاة والطاعة، عُلِم عدم كون شيء منهما بدلًا عن المنسوخ؛ لأنَّ الصلاة والطاعة مأمور بهما مِن قبل. ثانيهما: أن ذلك يحتاج لمعرفة التاريخ، وإنما المراد في الآية أن ذلك إذا نُسخ فليكن اعتمادكم على ذروة الأمر وسنامه المأمور به دائما، وهو طاعة الله تعالى والصلاة. ومما نُسخ بلا بدل أيضًا: الإمساك عن الطعام بعد الفطر في الليل الذي كان واجبًا في أول الإسلام. ونحوه: نسخ ادِّخار لحوم الأضاحي.

وبالجملة: فالله تعالى يفعل ما يشاء. قال القاضي: كما يجوز أنَّ الله تعالى يرفع التكاليف كلها يجوز أن يرفع بعضها بلا بدل مِن باب أَوْلي. وأما تَعلُّق الخصم بقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] الآية فالمراد: لا ينسخ لفظ إلا ويُؤتَي بلفظ خير منه، لا في نَسخ الأحكام. ولو سُلِّم أن الآية باقية علي عمومها فقد يكون النسخ بلا بدل خيرًا؛ لمصلحة يعلمها الله تعالى، فالآية شاملة له. وأيضًا: فالذي في الآية نَفْي إيقاع ذلك، فمِن أين نفي الجواز؟ وأما بحث الوقوع المشار إليه في النَّظم بالنقل عن الشافعي (رحمه الله تعالى) أنه نفاه فليس المراد أن الشافعي نفي أن لا يُنسخ حكم إلا ويثبت حُكم آخر متجدد، بل علي معني آخَر نذكره بعد حكاية النص. وذلك أنَّ الشافعي (رحمه الله تعالى) قال في "الرسالة" في ابتداء الناسخ والمنسوخ: (وليس يُنسخ فرضٌ أبدًا إلا أُثبت مكانه فرضٌ، كما نُسخت قِبلة بيت المقدس فأثبت مكانها الكعبة) (¬1). انتهى قال الصيرفي في شرحه: (إن مراده أن يُنقل مِن حظر إلي إباحة أو مِن إباحة إلي حظر أو تخيير علي حسب أحوال الفروض). قال: (كنسخ المناجاة، فإنه تعالى لَمَّا فرض تقديم الصدقة، أزال ذلك بِرَدِّهم إلي ما كانوا عليه. فإنْ شاءوا تَقرَّبوا إلى الله تعالى بالصدقة، وإنْ شاءوا ناجوه من غير صدقة). قال: (فهذا معنى قول الشافعي: فرض مكان فرض. فَتَفَهَّمه). انتهى ¬

_ (¬1) الرسالة (ص 109).

فظهر أن مراد الشافعي بالبدل أَعَم مِن حُكم آخر ضد المنسوخ، كالقبلة أو الرد لِما كانوا عليه قبل شَرْع المنسوخ، كالمناجاة. فالمدار على ثبوت حُكم شرعي في المنسوخ في الجملة حتى لا يتركوا هملًا بلا حُكم في ذلك المنسوخ بالكُلية؛ إذْ ما في الشريعة منسوخ إلا وقد انتقل عنه إلى أمر آخَر ولو أنه إلى ما كان عليه قبل ذلك، فلم يغادر الرب سبحانه وتعالى عباده هملًا. فالصور أربع: [إحداها] (¬1): الجواز. ولا يخالف فيه إلا بعض المعتزلة والظاهرية. والثانية: الوقوع بلا بدل أصلًا، ويصير ذلك بلا حُكم أصلًا، بل يبقي كالأفعال قبل ورود الشرع. وهذا -مع جوازه- لم يَقُل به أحد، ولا حُفِظ فيه شيء في الشرع يكون مِثالًا له. والثالثة: وقوعه ببدل، إما بإحداث أمر (كالكعبة) أو بإباحة ما كان واجبًا (كالمناجاة)، وهو الذي أراده الشافعي بقوله السابق، فلا يُفهم مما أراد من البدل إلا ذلك، وهو قضية كلام القاضي أبي بكر أيضًا، وهو الحقُّ كما قررناه. والرابعة: وقوعه ببدل متجدد أصل -كالكعبة بعد بيت المقدس- يكون شرطًا لا بُد منه، وهي مسألة الوقوع التي يقع فيها الخلاف. والجمهور علي عدم اشتراط مثل ذلك، وليس ذلك محل كلام الشافعي. وممن أشار إلي ما قررناه إمام الحرمين في "التلخيص مختصر التقريب"، والله أعلم. ¬

_ (¬1) كذا في (س)، لكن في (ص، ق): أحدها.

ص: 752 - وَمَا بِهِ فَقَدْ يَكُونُ أَثْقَلَا ... كَرَمَضَانَ بَعْدَ عَاشُورَا انْقُلَا 753 - وَالنَّسْخُ بِا لْأَخَفِّ كَالْمُصَابَرَهْ ... [لِعَشْرَةٍ] (¬1) بِالضِّعْفِ فِيمَنْ صَابَرَهْ الشرح: إذا تَقرر أنَّ النَّسخ جائز وواقع ببدل وبغير بدل، فإذا كان ببدل، فالبدل إما مساوٍ أو أخف أو أثقل. والأولان جائزان باتفاق. مثال المساوي: نسخ استقبال بيت المقدس بالكعبة. وإنما لم أتعرض له لوضوحه. ومثال الأخف: وجوب مصابرة العشرين من المسلمين مائتين من الكفار، والمائة ألفًا، كما في الآية تضمنت مصابرة كل طائفةٍ من المسلمين عشرة أمثالهم نُسخ بقوله تعالي: {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال: 66] فأوجب مصابرة الضعف، وهو أخف من الأول. ومثله: نَسخ العدة بالحول في الوفاة بالعدة بأربعة أشهر وعشر. وأما النسخ بالأثقل فهو محل الخلاف، فقال بعض أهل الظاهر بمنعه. قال ابن برهان في "الوجيز": ونقل ناقلون ذلك عن الشافعي، وليس -أيْ هذا النقل- بصحيح عنه. ثم منهم مَن أجاز ذلك عقلًا ومنع منه شرعًا، وهو رأي أبي بكر بن داود الظاهري، ومنهم مَن منعه عقلًا، ومنهم مَن قال: يجوز ولكن لم يقع. ¬

_ (¬1) في (ت): كعشرة. وفي سائر النُّسخ: لعشرة.

دليل القول الصحيح -أنه جائزٌ واقعٌ- أنَّ الكَف عن الكفار كان واجبًا بقوله تعالي: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48]، فنُسخ بإيجاب القتال وهو أثقل، أي: أكثر مشقة. وكذا نسخ وجوب صوم يوم عاشوراء بصوم رمضان، وهو أثقل. ولكن هذا علي طريقة مَن قال: كان عاشوراء واجبًا، فنُسخ برمضان. وهو قول أبي حنيفة وظاهر كلام أحمد، وعليه جريتُ في التمثيل في النَّظم تبعًا لتمثيل كثير من الأصوليين. لكني لوحتُ بقولي: (انْقُلَا) إلي الأمر بنقل هذا عن مَن قاله ومَثِّل به ولكن لا تعتقده. هذا مرادي: بـ "انْقُلَا". وقصرتُ "عَاشُورَا"؛ للضرورة. والذي قاله الشافعي: إنه لم يكن واجبًا، إنما كان متأكد الاستحباب فقط. وبه قال كثير مِن الحنابلة وغيرهم. ولَمَّا فُرض رمضان لم يَصِر تأكُّده بَعد ذلك كما كان قَبله. نعم، وافق بعض أصحاب الشافعي أبا حنيفة في ذلك؛ تمسُّكًا بظواهر أحاديث وردت لا تقاوم صريح الأحاديث الصحيحة، كحديث معاوية في "الصحيحين" أنه حج، فقال علي المنبر يوم عاشوراء: "يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لهذا اليوم: هذا يوم عاشوراء، لم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم. فمَن أَحَب منكم أن يصوم، فَلْيَصُم، ومَن أَحَب أنْ يفطر فليفطر" (¬1). وفي "مسلم" عن عائشة - رضي الله عنه -: "إنَّ يوم عاشوراء كان يُصام في الجاهلية، فلمَّا كان الإسلام مَن شاء صامه ومَن شاء تركه" (¬2). وغير ذلك وليس هذا محل بسطه. والله أعلم. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (1899)، صحيح مسلم (رقم: 1129). (¬2) صحيح مسلم (رقم: 1125).

ص: 745 - وَلِلْوُجُوبِ وَحْدَهُ يَرْتَفِعُ ... وَبَعْدَهُ الْجَوَازُ يَبْقَي الْمَرْجِعُ الشرح: أي: إذا نُسخ الوجوب وحده، فهل يرتفع معه الجواز؟ أو يبقي؟ فيه مذهبان: أحدهما: وهو ما جرى عليه الإمام الرازي وأتباعه: أنَّ الجواز بعد نَسخ الوجوب باقٍ؛ لأنَّ الصورة أنه رفع الوجوب وحده بأنْ يقول الشارع: نسختُ الوجوب أو حُرْمَة الترك، أو: رفعتُ ذلك. والوجوب كان مُركبًا مِن جزأين: أحدهما هذا، والثاني جواز الفعل. فإذا رفع أحدهما، يبقي الآخَر. بخلاف ما لو نُسخ الوجوب بالتحريم، أو قال: رفعتُ ما دل عليه الأمر السابق مِن جواز الفعل ومنع الترك. فهذا يرتفع الجواز فيه قطعًا ويثبت التحريم. وهذا ما ذهب إليه الإمام الرازي وأتباعه، ورجَّحه المتأخرون. ومقابلُه المذهب الثاني: نقلوه عن الغزالي: أنَّ الجواز لا يبقي، بل يرجع الأمر إلي ما كان قبل الوجوب مِن البراءة الأصلية أو الإباحة أو التحريم، وكأنَّ الوجوب بَعد نَسْخه لم يكن. قال شيخنا الزركشي في "شرح جمع الجوامع": (إن هذا هو الذي وجدته في كلام أكثر أصحابنا الأقدمين) (¬1). وعاب علي ابن السبكي قوله في "شرح المنهاج": (إن الأول قول الأكثرين)؛ لأنه إنما هو قول الإمام وأتباعه. قلتُ: لكنه يقوي بما سنذكره من قاعدة "إذا بطل الخصوص، يبقي العموم" القائل بها جماهير أصحابنا في كتب الفروع. ¬

_ (¬1) تشنيف المسامع (1/ 243).

نعم، المراد بِـ "الجواز" فيه أقوال: أحدها: أنه رفع الحرج عن الفعل، لا الإباحة التي هي رفع الحرج عن الفعل وعن الترك معًا؛ لأن هذه ليست هي جنس الوجوب، إنما جنسه الجواز بمعني: رفع الحرج عن الفعل. الثاني: أن المراد بالجواز: التخيير بين الأمرين. وهذا ما صرح به الغزالي، وهو ظاهر كلام الإمام وأتباعه؛ لأنه بهذا المعني وإنْ لم يكن جنسًا للواجب لكن يخلف عند النسخ قَيْدَ "المنع مِن الترك" -الذي هو فصل الإيجاب- فصلُ "رفع الحرج عن الترك" (¬1)، فيكون الجنس الذي هو قَدْر مشترك بين الإيجاب والإباحة. ولو سلمنا أنه لا بُدَّ له مِن فصل يتَقَوَّم به ولا يتقوم بنفسه كما يقوله ابن سينا متقوِّمًا بأحد الأمرين فلم يتقوم جنس بدون فصل. وعلي مثل ذلك قول بعضهم: [أيا] (¬2) من حياتي جنس فَصْل وصاله ... ومن عيشتي ملزوم لازم قُربه [أَيُوجَدُ] (¬3) مَلْزُومٌ ولا لازِم له ... [مُحَالٌ]، (¬4) وجِنْسٌ لَمْ يَقُمْ فَصْلُه به لكن قد خالف الإمامُ وأتباعُه ابنَ سينا في أنَّ فصل الجنس ليس عِلة لوجود [حصته] (¬5) من الأصل، وإنما هما معلولان لِعلة واحدة وهو حصول الماهية المركَّبة منهما. ¬

_ (¬1) يعني: فصلُ "رفع الحرج عن الترك" يخلف قَيْدَ "المنع مِن الترك" الذي هو فصل الإيجاب. (¬2) في (ش): أنا. (¬3) في (ش): أيؤخذ. (¬4) كذا في (ص، ق). لكن في سائر النسخ: بحالٍ. (¬5) كذا في (ص، ش)، لكن في (س، ت): جنسه. وفي (ق): حصة.

وتقرير ذلك مشهور في الكتب الحكمية. الثالث: أن الباقي بعد نسخ الوجوب الجوازُ المشترك بين الإباحة والندب، فيبقي الفعل إما مباحًا أو مندوبًا؛ لأنَّ الماهية الحاصلة بعد النسخ مركَّبة مِن قيدين: أحدهما: زوال الحرج عن الفعل، وهو مستفاد من الأمر. والثاني: زوال الحرج عن الترك، وهو مستفاد من الناسخ. وهذه الماهية صادقة على المندوب والمباح؛ فلا يتعيَّن أحدهما بخصوصه. الرابع: أن الباقي هو الجواز ومُطْلَق الطلب اللذان قد استُفِيدَا أولًا من الأمر الذي هو الإيجاب؛ لأنَّ المرتفع إنما هو التَّحَتُّم بالطلب، فبزوال التحتم يبقي أصل الطلب، وذلك هو الندب، فيبقي الفعل بعده مندوبًا. وهذا القول حكاه في "جمع الجوامع". واستشكل بقول ابن القشيري في تقرير الدليل علي أنَّ الجواز لا يبقي بعد نسخ الوجوب: (إنه لو جاز أن يقال: يبقي الجواز، لساغ أن يقال: يبقي الندب. لاسيما والاقتضاء الكائن في الندب كائن في الوجوب. والمحكي قصر الخلاف على الجواز). انتهى ونحوه قول الغزالي: (إن هذا بمنزلة قول القائل: كل واجب فهو مندوب وزيادة. فإذا نُسخ الوجوب، يبقى الندب. ولا قائل به) (¬1). انتهى فاقتضى كلامهما أن كونه يبقي الندب لم يَقُل به أحد وإنْ كان الرد على القائلين ببقاء الجواز بذلك ليس بجيد؛ لأنهم لم يُعَيِّنوا الجواز مجردًا، بل أرادوا به الأعم، لكن هذا إنما يمشي على القول الثالث في تفسير الجواز. أما على الأولين فيتوجه الرد به. نعم، الندب علي ¬

_ (¬1) المستصفي (ص 95).

ما قررناه لا يَبْعُد القول به. وأما قول شيخنا الزركشي في شرحه: (إن الظاهر أن صاحب "جمع الجوامع" أخذه مِن "المسودة الأصولية" لمجد الدين ابن تيمية؛ فإنه قال: إذا صُرِف الأمر عن الوجوب، جاز أن يحتج به على الندب والإباحة. وبه قال بعض الشافعية وبعض الحنفية) (¬1). انتهى فليس صريحًا في تَعيُّن الندب؛ لجواز أن يُراد الأَعَم منهما كما سبق تقريره في القول الثالث. تنبيهات الأول: ذهبت طائفة إلي أن الخلاف لفظي، منهم ابن التلمساني والهندي؛ لأنَّا إنْ فسَّرنا الجواز بنفي الحرج فلا شك في أنه جنس للواجب، وإذا رُفِع الوجوب وحده فلا يلزم ارتفاعه. وإنْ فسرناه بالإباحة أو الأعم أو بالندب فخاصَّتها تُنافي خاصة الوجوب. فليس شيء منهما جنسًا للوجوب. فإذا رُفع الوجوب، لا توجد إلا بدليل يخصها؛ فلا نزاع؛ لأنَّ الأقوال لم تتوارد علي محل واحد. قلتُ: الذي [يُصَيِّر] (¬2) الحال إلى ما كان قبل الإيجاب مِن إباحة أو تحريم أو كراهة غيرُ الذي يأخذ مِن حدوث الإيجاب بعد ذلك أن تبقي إباحة شرعية أو ندب كما قررناه حتي يستدل علي أنه مباح أو مندوب بذلك الأمر الذي نسخت خاصة التحتُّم منه وبقية ما تضمنه باقية؛ فلا يكون الخلاف لفظيًّا، بل معنويًّا؛ لأنه إذا كان قبل مجيء أمر الإيجاب حرامًا وأُعيد الحال إلى ذلك، كان حرامًا. ومَن يقول بنفي الجواز، يقول: لا يكون حرامًا. ¬

_ (¬1) تشنيف المسامع (1/ 242). (¬2) في (ش، ث، س، ض): يعيد.

الثاني: إذا كان أمر الإيجاب متضمنًا لشيئين: أَعَم وأَخَص، فإذا رُفع الأخص وبقي الأعم، كيف يكون نسخًا ولم يُرفع الكل وإنما خصصه؟ وجوابه: أن رفع أحد الجزأين مِن المركَّب لا يكون تخصيصًا، إنما التخصيص إخراج جزئي مِن كُلي. فإنْ قيل: فلمَ لا يكون ذلك قرينة مُبيِّنة أن المراد بذلك الأمر هو الإباحة أو الندب، كما لو وردت صيغة "افعل" واقترن بها ما يدل على أنه لا حرج في تركه، فإنَّا نحملها على الندب أو الإباحة، ولو كان ناسخًا لما جاز اقترانه به؛ لأنَّ مِن شرط الناسخ التراخي؟ قلتُ: قد تُفرض المسألة في أنَّ الرافع للوجوب إنما جاء متراخيًا بعد ثبوته وتَقرُّره؛ فيكون نسخًا قطعًا. نعم، إنْ كان الغزالي لا يُسمي ما رفع أحد الجزأين نَسخًا فيرجع النزاع لفظيًّا في تسميته نسخًا أوْ لا. الثالث: اختلاف الأصوليين في هذه المسألة يناظره اختلاف الفقهاء في أنه إذا بطل الخصوص، هل يبقي العموم؟ وفيه فروع كثيرة: منها: مَن صلَّي الظهر قبل الزوال ظانًّا للزوال، لا تنعقد صلاته ظهرًا. وفي انعقادها نفلًا هذا الخلاف، والأرجح: نعم. ومنها: أحال المشتري البائع بالثمن على رجُل ثم وجد بالمبيع عَيبًا، فَرَدَّه، بَطُلت الحوالة على الأصح. وهل للمحتال قبضه للمالك بعموم الإذن الذي تضمنته الحوالة؟ فيه الخلاف. ومنها: عَجل الزكاة بلفظ: هذه زكاتي المعجلة فقط، فهل له الرجوع إذا عرض مانع؟

أصح الوجهين: نعم، والثاني: يقع نفلًا. و [قربها] (¬1) الإمام مِن الخلاف في مسألة الصلاة قبل الزوال. ومنها: أنَّ الوكالة لا تُعَلَّق، فلو عُلِّقَت فتصرَّف الوكيل بعد حصول الشرط، فأصح الوجهين: الصحة؛ لعموم الإذن. خلافًا لقول الشيخ أبي محمد. ومنها: قالت لِولِيِّها: وكلتك بتزويجي. قال الرافعي: (فالذين لقيناهم من الأئمة لا يَعتدُّون به إذنًا، لأنَّ توكيل المرأة في النكاح باطل. لكن الفرع غير مسطور، ويجوز أن يُعتد به إذنًا؛ لِمَا ذكرناه في الوكالة) (¬2). ومنها: قال الماوردي: (إذا فسدت الشركة، بَطُل أصل الإذن في التصرف). انتهى وينبغي أن يتخرج على الخلاف في الوكالة. ومنها: باع بلفظ السَّلم، ليس بسلم قطعًا. وفي انعقاده بيعًا قولان، أظهرهما: لا. وبنوا الخلاف على أن العِبرة بِصِيَغ العقود؟ أَم بمعانيها؟ ويتجه بناؤه علي ما سبق. ومنها: شَرَطَا الخيار لثالثٍ وأبطلناه. هل يبقي الخيار لهما لكونهما شرطاه وقد بَطُل الخصوص فيبقي العموم؟ يتجه تخريجه علي القاعدة. ومنها: أحال بالدراهم على الدنانير أو بالعكس، لم يصح. فهل تكون حوالة علي مَن لا دَيْن عليه؟ وهل يعمل بأصل الحوالة عملًا بهذه القاعدة ويتخرج على الخلاف في الحوالة على مَن لا دَين عليه؟ يتجه ذلك. والله أعلم. ¬

_ (¬1) في (ت، س، ض): قربهما. (¬2) العزيز شرح الوجيز (7/ 541 - 542).

ص: 755 - وَلَيْسَ مِنْ نَسْخٍ زِيَادَةٌ عَلَى ... نَصٍّ، كَذَا جُزْءٌ وَشَرْط أُكْمِلَا الشرح: تضمن هذا البيت مِن مباحث النسخ ثلاث مسائل فيما إذا زِيد شيء علي ما تَقرر بنص الشارع. وذلك أنه إما زيادة عبادة مستقلة وإما غير مستقلة. وغير المستقل: إما زيادة جزء مِن أجزاء الماهية داخلًا فيها، وإما في شروطها الخارجة عنها. فالأول: إذا زِيدت عبادة مستقلة: وهو ضربان: أحدهما: أن يكون مِن غير جنس المزيد عليه، كزيادة وجوب الزكاة علي وجوب الصلاة، وزيادة وجوب الصوم على ذلك، وزيادة وجوب الحج علي ذلك. فهذا جائز وواقع، وليس نسخًا كما سبق باتفاق؛ فإنَّ أول ما فُرض الشهادتان، ثم الصلاة في ليلة الإسراء، ثم الزكاة في السنة الثانية والصوم ثم الحج. ومَن استقرأ الشريعة، وجدها كلها كذا: شيئًا فشيئًا. ثانيهما: أن يكون مِن جنس ما سبق، كزيادة صلاة على الصلوات الخمس. فالجمهور علي أنه ليس بنسخ. وقال بعض أهل العراق: يكون نسخًا. وقد نقل ذلك ابن الحاجب ولم يعقبه بِرد ولا إنكار، بل قال: (العبادات المستقلة ليست نسخًا. وعن

بعضهم: صلاة سادسة نسخ) (¬1). ثم انتقل إلى ذِكر مسألة زيادة جزء أو شرط. وأما البيضاوي فأشار إلي حُجتهم بقوله: (قيل: تغير الوسط. قُلنا: وكذا زيادة العبادة) (¬2). فبيَّن أن سبب قولهم: (إنه نسخ) كونه يُغير الوسط. وكذا نقل غيره. لكن المدَّعَي عام، وهو مطلق زيادة من الجنس، سواء في الصلاة أو غيرها مما له وسط وما لا وسط له. والدليل خاص، وهو زيادة صلاة سادسة علي خمس حتي أنَّ الوسط يتغير بذلك. فإنْ كان محل خلافهم في الأَعم، فدليلهم هذا ساقط؛ لأنَّ كون الشيء له وسط أو آخِر ويتغير ذلك بالزيادة فهو ليس بشرعي؛ لأنَّ الوسط والآخِر أمر اعتباري عقلي لا يَرِد النسخ عليه. وإنْ كان محل خلافهم هذه الصورة الخاصة، فلا ينبغي تعبيرهم بمطلق الزيادة واعتلالهم بتغير الوسط -تَغَيُّر كونه متوسطًا بين متساويين- فهذا أمر حقيقي عقلي، لا شرعي حتي تكون إزالته نسخًا. وأيضًا: فلا يختص بصلاة سادسة، بل يجري في كل مزيد. وإنْ أرادوا أن الوسطي مأمور بالمحافظة عليها فبزوالها يزول ذلك: فإنْ كان المسمي بِـ "الوُسطَي" صلاة مُعيَّنة مِن عَصْر أو غيرها وأنَّ ذلك [كالعَلَم] (¬3) عليها، فالأمر بالمحافظة عليها باقٍ ولو زِيدَ على الخَمس أو نقص منها. ¬

_ (¬1) مختصر المنتهي مع شرحه (2/ 562). (¬2) منهاج الوصول (ص 188) بتحقيقي. (¬3) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): علم.

وإنْ كان "الوُسطَى" المأمور بالمحافظة عليها مرادًا بها المتوسطة كيف كانت، فالذي يظهر حينئذٍ أنَّ الأمر يختلف بما يُزاد. فإنْ زِيدَ واحدة، فهي ترفع الوسط بالكُلية، ويتجه ما ذكروه، لأنَّ الوسط حينئذٍ وإنْ كان أمرًا حقيقيًّا إلا أن الشرع وَرَدَ عليه وقَرره؛ فتكون الزيادة نسخًا للأمر الشرعي. وإنْ زيد ثنتان أو نحو ذلك مما لا يرفع الوسط، فلا نَسخ، ويكون الأمر بالمحافظة علي تلك الصلاة لذاتها، وكونها وسطًا إنما هو أمر اتفاقي. وإنْ كان الأمر بالمحافظة عليها إنما هو مِن حيث كونها وسطًا؛ [لِسِرٍّ شرعي] (¬1) فهو لم يَزُل بالزيادة. الثاني والثالث: إذا زِيد في الماهية الشرعية جزء أو شرط، فلا يكون ذلك أيضًا نسخًا على المرجَّح. وبه قال الشافعية والحنابلة وجماعة مِن المعتزلة كالجبائي وأبي هاشم. وهو معنى قولي: (كَذَا جُزْءٌ وَشَرْطٌ أُكْمِلَا). فمثال زيادة الجزء: زيادة ركعة، وزيادة التغريب على الجَلد، أو جَلد آخَر علي العدد المقَرَّر. مثال زيادة الشرط: زيادة وصف الإيمان في إعتاق رقبة بالإطلاق. ووراء هذا المذهب مذاهب أخرى: أحدها: أنه يكون نسخًا مطلقًا. وبه قالت الحنفية، واختاره بعض أصحابنا وادَّعي أنه مذهب الشافعي، قال: لأنَّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الماء من الماء" (¬2) نُسخ بقوله: "إذا التقي الختانان" (¬3)؛ لأنَّ الموجِب كان هو خروج المني فقط، فزِيد عليه التقاء الختانين. ¬

_ (¬1) في (س، ت): ليس بشرعي. وفي (ض): ليس شرعي. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) سبق تخريجه.

قال ابن السمعاني: (وهذا غلط؛ لأنَّ "الماء مِن الماء" إنما دل على نفي غيره من حيث دليل الخطاب، فهو نَسخ للمفهوم، لا للنص مِن حيث الزيادة) (¬1). وليس هذا رأي مَن قوله التفصيل بين ما نفاه المفهوم وما لم ينفه؛ لأنَّ ذاك يجعل ما نفاه المفهوم نَسخًا للنص. ثانيها: إنْ كانت الزيادة قد أفادت خلاف ما استُفيد مِن مفهوم المخالفة، كانت نسخًا، كإيجاب الزكاة في معلوفة الغنم، فإنه يفيد خلاف مفهوم "في السائمة زكاة"، وإلا فلا. ثالثها وبه قال عبد الجبار: إنْ غيرت الزيادة المزيد عليه تغييرًا شرعيًّا بحيث صار المزيد عليه لو فُعل بعد الزيادة كما كان يُفعل قَبْلها كان وجودُه كعدمه ووجب استئنافه كزيادة ركعة علي ركعتي الفجر، كان ذلك نسخًا. أو كان قد خيّر بين فِعلين فزِيد فِعل ثالث، فإنه يكون نسخًا، وإلا فلا، كزيادة التغريب علي الجلد، وزيادة عشرين جلدة على حد القاذف، وزيادة شرط منفصل في شرائط الصلاة كاشتراط الوضوء. كذا نقله الآمدي عنه خلافًا لِمَا في "مختصر ابن الحاجب" في نقله. رابعها وبه قال الغزالي: إنْ كانت الزيادة متصلة بالمزيد عليه اتصال اتحاد رافع للتعدد والانفصال كزيادة ركعتين، فنسخ، وإلا فلا، كزيادة عشرين جلدة. خامسها: وبه قال الكرخي وأبو عبد الله البصري: إنْ كانت الزيادة مغيِّرة لحكم المزيد عليه في المستقبل كزيادة التغريب وزيادة عشرين جلدة علي القاذف مثلًا، كان نسخًا، وإلا فلا. وسواء كانت الزيادة لا تنفك عن المزيد عليه كما لو أَوجب علينا ستر الفخذ فإنه يجب ستر بعض الركبة؛ لأنه مقدمة الواجب، أو كانت الزيادة عند تَعذُّر المزيد عليه، كإيجاب ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة (1/ 448).

قطع رِجل السارق بعد قطع يده. سادسها: وبه قال القاضي في "مختصر التقريب": إنْ تضمنت الزيادة رفعًا فهي نسخ، وإلا فلا. وذكر في "التقريب" نحوه. وحذا حذوه أبو الحسين البصري، فقال في "المعتمد" ما حاصله: إنْ كان الزائد رافعًا لحكم شرعي، كان نسخًا، سواء أُثبت بالمنطوق أَم بالمفهوم، بخلاف ما إذا كان ثابتًا بدليل عقلي، كالبراءة الأصلية. واستحسنه الإمام الرازي، واختاره الآمدي وابن الحاجب، وهو قضية اختيار إمام الحرمين أيضًا. وحاصله: أنَّ المُزال إنْ كان حُكمًا شرعيًّا، كان نسخًا، وإلا فلا. قيل: ولا حاصل لذلك؛ للاتفاق علي أنَّ رفعَ الحكم الشرعي نسخٌ ورفْعَ غيره ليس بنسخ. فينحل ذلك إلى أن الزيادة إن كانت نسخًا فهي نسخ وإلا فلا. وإنما محل النزاع أن ذلك هو رفع حتى يكون نسخًا؟ أو لا؟ وأيضا: فقولهم: إن الزيادة هل هي نسخ؟ إنما معناه: هل هي نسخ للمزيد عليه؟ أم لا؟ والمزيد عليه حكم شرعي، فهل الزيادة رافعة له فيكون منسوخًا؟ أو لا؟ هذا حرف المسألة، ولكن توسعوا في ذكر ما إذا رفعت المزيد عليه وما إذا رفعت غيره؛ فلذلك يقولون في رفع التغريب: إنه رفع لتحريمه شرعًا. والمراد: إنما هو نَسخ للمزيد عليه. بل منع أن تحريمه بالشرع، وإنما هو بالبراءة الأصلية، وإزالتها لا يكون نسخًا. وفيه أبحاث طويلة لا نُطوِّل بها.

تنبيهات الأول: مما يتخرج على هذه القاعدة أنه تعالى لما قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] الآية ثم جاء بخبر الواحد أنه - صلى الله عليه وسلم -: "قضي بالشاهد واليمين" (¬1)، فهل ذلك نَسخ حتي يمتنع؛ لأن القرآن لا يُنسخ بالآحاد؟ أو لا فيعمل به؟ ذهب الشافعي والجمهور إلى الثاني، والحنفية إلي الأول، قالوا: لأنَّ الأمر كان دائرًا بين شهادة رجُلين أو رجُل وامرأتين، فزِيد عليه الشاهد واليمين. وفيه ضعف من جهة أخرى وهي عدم توارُد الآية والحديث على محل واحد، إذ الآية في الأمر باستشهاد شهيدين، فإنْ لم يكونا رجُلين فرجُل وامرأتان. والحديث في الحكم بشاهد ويمين، والاستشهاد غيْر الحكم. كذا قرره ابن الحاجب وهو حسن، ويزداد حُسنًا بأن الأمر بالاستشهاد أمر إرشاد، فالله تعالي أرشد إلي الأكمل، وأما الشاهد واليمين فدُون ذلك؛ فاختلف المحل. الثاني: مِن صُوَر المسألة: ما لو زِيد في الوضوء -مَثلًا- غسل عضو آخَر، فإنه ليس بنسخ، خلافًا لمن قال: نسخ مِن حيث إن الطهارة كانت قبل هذه الزيادة مجُزئة ثم صارت غير مجزئة إلا بها، فقد ارتفع إجزاؤها، وهو حُكم شرعي؛ فيكون نسخًا عند المخالف. وجوابه: أنَّ معني الإجزاء: امتثال الأمر، ولم يرتفع؛ لتوقف الارتفاع علي أمر آخَر، وانتفاء [المتوقف] (¬2) عليه إنما كان بالبراءة الأصلية، وليس رفعها نسخًا. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): التوقف.

الثالث: توصلت الحنفية بادِّعاء أن الزيادة على المنصوص نسخ لمسائل لا تُحصيَ: كرد أحاديث وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، وأحاديث الشاهد واليمين، واشتراط الإيمان في الرقبة، والنية في الوضوء، وغير ذلك. ولكن خالفوا أصولهم في ذلك في اشتراطهم في ذوي القربي الحاجة، وهو زيادة علي القرآن ومخالفة للمعنى المقصود [فيهم] (¬1)، وفي أن القهقهة تنقض الوضوء، مستندين لأخبار ضعيفة، وهي زيادة علي نواقض الوضوء المنصوصة في القرآن. وأعجب من ذلك ادِّعاء بعضهم أنَّ أحاديث القهقهة مشهورة، فكانت كالمتواترة، وأحاديث الفاتحة مع شهرتها وصحتها لا يجعلونها مشهورة. وأمثال ذلك، وهو كثير. ولذلك قال الأستاذ أبو منصور البغدادي: (مَن زاد الخلوة علي الآيتين الواردتين في الطلاق قبل المسيس في إيجاب العدة وتكميل المهر بخبر عمر - رضي الله عنه - مع مخالفة غيره له وامتنع عن الزيادة على النص بخبر صحيح، كان حاكمًا في دين الله تعالى برأيه). ونقض عليهم الأستاذ أبو منصور في زيادة التغريب بأن ذلك إنْ كان نسخًا، لزمكم أن يكون إدخال نبيذ التمر بين الماء والتراب نسخًا لآيتَي الوضوء والتيمم، فهو مساوٍ لزيادة التغريب وأنظاره مما تقدم. فإنْ قالوا: إنه داخل في عموم الماء؛ لحديث: "تمرة طيبة وماء طهور" (¬2). قيل لهم: فيكون رافعًا لإطلاق {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]؛ ضرورة أنه لا يجوز التوضؤ به عند وجود غيره من المياه، وتقييدُ مدلول النص المطلق نسخٌ للنص عندهم. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق، ش). لكن في (ت، س): فهمه. (¬2) سنن أبي داود (رقم: 84)، سنن ابن ماجه (رقم: 384) وغيرهما. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف أبي داود: 84).

الرابع: نقص جزء من العبادة أو شرط من شروطها نسخٌ لذلك فقط، لا لأصل تلك العبادة كما نقله ابن السمعاني عن جمهور أصحاب الشافعي. وقيل: نسخٌ لها. وقال عبد الجبار: نسخٌ إنْ كان جزءًا، لا إنْ كان شرطًا. ووافقه الغزالي في الجزء وتردَّد في الشرط، وجعل الهندي الخلاف في الشرط المتصل كاستقبال القبلة في الصلاة، لا المنفصل كالطهارة. قال: (فإيراد الإمام وغيره يُشعر بأنه لا خلاف فيه، وكلام غيره يقتضي إثبات الخلاف في الكل) (¬1). انتهى وبالأول صرح صاحب "المسودة"، فقال: (إن الخلاف في المتصل كالتوجُّه، أما المنفصل -كالوضوء- فليس نسخًا إجماعًا) (¬2). وصرح ابن السمعاني بأنه في جانب الشرط ليس نسخًا، وأما في الجزء كإسقاط ركوع قال: (فينبغي أن يكون على ما ذكرناه فيما إذا زِيدت ركعة علي ركعتين) (¬3). وكأنه يشير إلى مجيء قول عبد الجبار بالتفصيل بين أن يغير الأصل أوْ لا. واعلم أن صاحب "جمع الجوامع" لم يتعرض لمسألة النقص وإن كانت في "ابن الحاجب"، بل ذكر الزيادة على النص أنها ليست بنسخ، خلافًا للحنفية. ثم قال: (ومثَارُه هل رَفَعَتْ؟ وإلي المأخذ عَوْدُ الأقوال المفصِّلة والفروع المُبَيَّنة) (¬4). ثم قال عقبه: (وكذا الخلاف في جزء العبادة أو شرطها). ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة (1/ 449). (¬2) المسودة (ص 192). (¬3) قواطع الأدلة (1/ 449). (¬4) جمع الجوامع (2/ 125) مع حاشية العطار.

ووقع في شرحه لشيخنا الزركشي أنه شرح هذا الأخير بمسألة نقص جزء العبادة أو شرطها. وهي ليست في الكتاب، وأهمل لشرح زيادة جزء أو شرط مع أنها المذكورة في الكتاب. فلعل ذلك سقط في نُسخ الشرح أو سبق وهمه إلي أن مسألة النقص هي مسألة "جمع الجوامع". الخامس: إذا نقصت العبادة ما لا يتوقف صحتها عليه كسُنة مِن سننها كالوقوف عن يمين الإمام وكستر الرأس كما مثَّل بهما الغزالي، فلا يكون ذلك نسخًا للعبادة باتفاق وإنْ أَوهم كلام الغزالي جريان خلاف فيه، لكن أَوَّله بعضهم. نعم، للخلاف وجه، فإنَّ العبادة مركَّبة من الفروض والسنن؛ ولهذا يقال: فروضها كذا، وسُننها كذا. وإذا كانت السنن أجزاء منها بهذا الاعتبار، فلا يبعد أن يجري فيها خلاف نقص الركن ويكون داخلًا في قولهم: زيادة جزء، أو: نقص جزء. اول دس: تغيير الصفة بضدها هل يكون نسخًا للصفة فقط؟ أو للأصل؟ كنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة. نقل عن الخصم في مسألة الزيادة أن ذلك نسخ للأصل وأن تلك الصلاة نُسخت، وهذه صلاة غيرها ابتُدِئَ فرضها. السابع: مما ينبغي أن يُختم به هذا الفصل مسألة تَعرَّض لها ابن الحاجب في "المختصر" وصاحب "جمع الجوامع" وهي أنه هل يجوز نَسخ جميع التكاليف باعتبار أن كل حُكم شرعي فهو قابل للنسخ. أو لا؟ وأن المختار الجواز، خلافًا للغزالي، وأنه يجوز نَسخ المعرفة، خلافًا للمعتزلة حيث قالوا: مِن الذي لا يَقبل النسخ ما كان بذاته أو للازم ذاته حَسنًا أو قبيحًا لا يختلف باختلاف الأزمان، كحُسْن معرفة الباري تعالى وشُكر المنعِم والعدل وقُبح الكفر والظلم والكذب الضار.

ولكنه بناء علي أصلهم في الحسْن والقُبح العقليين، ونحن نمنع ذلك، ولا حُسن ولا قُبح إلا بالشرع؛ فلذلك جاز ذلك كله عندنا. نعم، نَسخ المعرفة فيها ضرب مِن التكليف بالمحال، وهو جائز عندنا؛ لأنه إنما ثبت نسخها بمعرفة الناسخ لها وهو الله تعالى، وإذا عرفه فكيف ترتفع معرفته؟ ! فالتكليف به تكليف بما لا يطاق. واتفقوا علي عدم الوقوع، وإنما الخلاف في الجواز العقلي. ولم أذكر هذه المسألة في النَّظم؛ لما فيها من خشونة العبارة وعدم جدواها في الفقه، وإنما ينبغي أن تُسطر في علم أصول الدين. والله أعلم. خاتمة: 756 - النَّسْخُ لَا يَثْبُتُ لِلْمُكَلَّفِ ... قَبْلَ بُلُوغِ نَاسِخٍ لَهُ [وَفِيْ] (¬1) الشرح: إذا لم يَعرف المكلَّف النسخ، فلا يَثبت في حقه؛ لأنَّ التكليف به قبل عِلمه مِن تكليف الغافل، وهو ممتنع كما سبق في موضعه. ووضع هذه المسألة مقدمة للمترجَم عليه بِـ "خاتمة" أَنْسَب مِن ذِكرها قبل ذلك في أحكام النسخ؛ لأنَّ المترجم عليه بِـ "خاتمة" هو الطُّرُق التي يَعرف بها المكلَّفون ثبوت النسخ، ولَمَّا كان متعلقًا بجميع أنواع النسخ، جُعِل خاتمة له. فأما هذه المسألة فالحكم قبل نزوله وقبل تبليغه للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يَثبت حُكمه، وتحته ثلاث صور: ¬

_ (¬1) جاء في (لسان العرب، 15/ 399): (الوَفيُّ: الوافِي).

أنْ يُبلَّغ النبي - صلى الله عليه وسلم - في السماء قبل النزول للأرض، كفرض خمسين صلاة ليلة الإسراء، فلا يتعلق به حكم؛ ولذلك كان رَفْعه بخمس صلوات ليس بنسخ على ما هو الظاهر. ويحتمل أن يكون نسخًا؛ لكونه قد بُلِّغ بعض المكلَّفين به وهو سيد البشر، فإنه قد اعتقد وجوبه وعَلمه. وعليه يدل كلام السمعاني حيث قال: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد علمه واعتقد وجوبه، فلم يقع النسخ له إلا بَعْد عِلمه واعتقاده) (¬1). انتهى فسمَّاه "نسخًا". الثانية: أن يوحيه الله تعالى إلى جبريل ولم ينزل به إلى الأرض بَعْد. الثالثة: أن يكون ذلك بعد النزول من السماء وقبل أن يُبلِّغه جبريل إلي النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذان لا يتعلق بهما حُكم اتفاقًا. فأما إذا بلغه - صلى الله عليه وسلم -، فيثبت حُكمه في حقه وحق كل مَن بلَّغه النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه بطريق من الطُّرق. وأما مَن لم يبلغه فلا يتعلق به حُكمه على المشهور، لا بمعنى وجوب الامتثال ولا بمعني ثبوته في الذمة. وقال بعضهم: يَثبت بالمعني الثاني كالنائم. ولا يُعْرَف قائل بثبوته بالمعنى الأول. وفي "التقريب" للقاضي أن الخلاف لفظي، وذكر في "مختصر التقريب" أن القائلين بثبوته يقولون: لو قُدِّر ممن لم يَبْلُغه الناسخ إقدامٌ على الحكم الأول، كان زللًا وخطأً، بَيْدَ أنه لا يؤاخَذ به، ويُعذَر؛ لجهله. ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة (1/ 430).

وممن جري علي هذا القول المشهور ابن الحاجب وغيره. لكن عزاه ابن برهان في "الأوسط" للحنفية، وحكي الثبوت عن مذهبنا ونَصَره. قيل: وهو الموجود لأصحابنا المتقدمين. ففي "البحر" للروياني في "باب الوكالة": (إذا نسخ الله حُكمًا وعلم رسوله، هل يكون نسخًا في حق مَن لم يَعْلم مِن أُمته؟ فيه طريقان: أحدهما: فيه الوجهان، كالوكالة. والثاني: لا يكون نسخًا في حقهم قطعًا. وبه قال أبو حنيفة؛ لأنَّ أمر الشريعة يتضمن تركه المعصية، ولا يجوز أن يكون عاصيًا مع جهله به) (¬1). وقد توقف في الترجيح ابن دقيق العيد حيث قال: (لا [أشك] (¬2) أنه لا يَثبت في حُكمه التأثيم. وهل يثبت في حُكمه القضاء [و] (¬3) هو مِن الأحكام الوضعية؟ فيه تردُّد؛ لأنه ممكن، بخلاف الأول؛ لأنه يَلزم منه تكليف ما لا يطاق). انتهى واعلم أن إمام الحرمين قال في "مختصر التقريب": هذه المسألة قطعية. وذهب بعضهم إلى إلحاقها بالمجتهدات حتى نقلوا فيها قولين من القولين في الوكيل إذا عُزل ولم يبلغه العزل. أي: والصحيح من القولين أنه ينعزل في الحال، وفي قول: لا، كالنسخ. ومنهم مَن عكس، فخرج مسألة النسخ على قولَي الوكالة كما سبق نقله عن "مختصر ¬

_ (¬1) بحر المذهب (6/ 37). (¬2) كذا في (ص)، لكن في (ق، س): شك. (¬3) في (ص، ق، ض، ش): أو.

التقريب"، وإليه أشار القاضي في "التقريب" أيضًا. قال الرافعي: (ولا فرق بين النسخ وما نحن فيه؛ لأنَّ حكم النسخ إما إيجاب امتثال الأمر الثاني وإما إخراج الأول عن الاعتداد به، فالإيجاب لا يَثبت قبل العِلم؛ لاستحالة التكليف بغير المعلوم، وهذا النوع لا يثبت في الوكالة؛ لأنَّ أمر الموكل غير واجب الامتثال. والنوع الثاني ثابت هناك أيضًا قبل العِلم حتي يَلزمه القضاء، ولا تبرأ ذِمته بالأول) (¬1). قال الشيخ تقي الدين السبكي: (وما قاله الرافعي مِن لزوم القضاء في النسخ بعيد؛ لأنَّ أهل قباء أتاهم الخبر بنسخ القبلة وهُم في الصلاة، فاستداروا. ولو ثبت الحكم في حقهم قبل ذلك، لقضوا. وقد استشهد هو في باب استقبال القبلة [بقضية] (¬2) أهل قباء على أنه ينحرف في أثناء الصلاة إلى جهة الصواب إذا قُلنا: لا يجب القضاء. والذي قاله هناك هو ما عليه جمهور الأصوليين، بخلاف ما ذكره في باب الوكالة، فإنه لا يتأتي إلا على القول المرجوح أن الحكم يَثبت في حَقِّ مَن لم يَبْلُغه الخبر ولكنه لا يأثم؛ لأنه معذور. فإنْ قيل: فما الفرق بينه وبين الوكيل حيث ينعزل على الصحيح وإنْ لم يَبْلُغه الخبر؟ قلتُ: الفرق -كما قاله الشيخ تقي الدين- أن الاعتداد بالعبادة حقٌّ لله تعالي، والله تعالى قد شرط العِلم في الأحكام؛ بدليل أنه لا يقع منه التكليف بالمستحيل، والعقود حقُّ الموكل، ولم يَشترط العلم. فإنْ قيل: إنما اشترط الله تعالى العِلم في خطاب التكليف، لا الوضعي، والاعتداد بالعبادة مِن خطاب الوضع. قلتُ: بل هو راجع للتكليف، وليس كالضمان المتعلق بالذمة. ¬

_ (¬1) العزيز شرح الوجيز (5/ 254). (¬2) في (س، ت): بقصة.

واتفق الأصحاب -فيما لو وكله ببيع عبده أو إعتاقه فباعه الموكل أو أعتقه- أنه ينعزل ضمنًا. روي البيهقي في أَمةٍ أَمر مولاها رجُلًا ببيعها ثم بَدَا له فأعتقها وقد بِيعت الجارية وكان عِتقها قبل بيعها، فقضى عمر - رضي الله عنه - بعتقها ورَدِّ ثمنها وأخذ صداقها لما كان قد وطئها (¬1). فهذا دليل على الانعزال الضمني، فيلحق به الصريح. ومِن هذه المادة أيضًا: ما لو عُزل القاضي ولم يَعلم، ففيه الخلاف. ومنهم مَن جزم هنا بعدم الانعزال. وكذا لو مات مستنيبة ولم يَعلم وقُلنا: إنه ينعزل بموته، فيأتي فيه الخلاف أيضًا. ومنها: ما لو أُعتقت الأَمة وهي في الصلاة ولم تَعلم ولم تكن ساترة ما يجب ستره علي الحرة، فقولان (¬2). ومنها: ما لو أَذِن لعبده في الحج ورجع قبل الوقوف، فقولان. ومنها: ما لو أذن الراهن للمرتهن في البيع ورجع ولم يَعلم، ففي صحته قولان. ومنها: ما لو أعاره للغراس والبناء ورجع ولم يَعلم فغرس أو بَنَي، فهل يكون محترمًا فيُخيَّر بين الخصال؟ أو يقلع مجانًا؟ وجهان. ومنها: ما لو رجعت الواهبة نوبتها في هِبتها ولم يَعلم الزوج، فطريقان. ومنها: ما لو أباحه ثمار بستانه ورجع ولم يَعلم، فالخلاف. ومنها: ما لو قال: "مَن رَد عبدي الآبق فله كذا" ورجع ثم رده مَن لم يَعلم بالرجوع، ففي استحقاقه الجعْل وجهان. ¬

_ (¬1) سنن البيهقي الكبري (رقم: 11227). (¬2) إلى هنا ينتهي نقل التاج السبكي عن والده، وما بعده من كلام تاج الدين السبكي.

ومنها: لو قتل مَن عَهدَهُ حربيًّا أو مرتدًّا فبَان أنه قد أَسلم ولم يَعلم، ففيه الخلاف) (¬1). تنبيه: إذا قلنا بأن النسخ لا يثبت في حق مَن لم يَبْلُغه، فهو مخاطَب بالحكم الأول قطعًا إلي أنْ يَبلغه، لكن هل يتصف الثاني بكونه ناسخًا قبل البلوغ كما أنَّ الأمرَ أمرٌ للمعدوم على شرط الوجود؟ أو لا يتصف إلا بَعد أنْ يَبلغه؟ فيه خلاف للقائلين به. قال القاضي في "مختصر التقريب": وهو راجع إلي اختلاف عبارة. قال: وإنما الخلاف الحقيقي مع الآخَرين. أي: القائلين بأن الحكم مرتفع عن مَن لم يَبلغه الناسخ، لكن سبق نقلًا عنه القول بأن الخلاف لفظي وأن الأرجح أنه معنوي. والله أعلم. ص: 757 - ويُعْرَفُ النَّاسِخُ بِالتَّأَخُّرِ ... إمَّا بِإجْمَاع بَدَا مُقَرِّرِ 758 - أَوْ قَوْلِ خَبْرِ الْخَلْقِ: "هَذَا نَاسِخُ" ... أَوْ: "بَعْدَ ذَاكَ"، فَبِذَا التَّنَاسُخُ 759 - وَنَحْوُهُ: "كُنْتُ نَهَيْتُ، فَافْعَلِ" ... أَوْ [نَصِّهِ] (¬2) عَلَى خِلَافِ الْأَوَّلِ 760 - كَذَاكَ قَوْلُ الرَّاوِ: "هَذَا النَّاسِخُ" ... أَوْ: "آخِر"، لَا قَوْلُهُ: "ذَا نَاسِخُ" الشرح: إذا تَقرر أن حُكم النسخ لا يتعلق بالمكلَّف حتى يَعرفه، فلا بُدَّ من بيان الطريق إلى معرفته، وذلك بأن يُعرف أنه متأخِّر عن دليل الحكم المُقَرَّر الذي هو ضده. ¬

_ (¬1) كل ما سبق من كلام السبكي في رفع الحاجب (4/ 114 - 116). (¬2) في (ق، ص): نصبه. ومعها ينكسر الوزن، ولا يصح.

وهو من وجوه: أحدها: أن يُعرف بالإجماع على أن هذا ناسخ لهذا، كالنسخ بوجوب الزكاة سائر الحقوق المالية. ذكره ابن السمعاني، ونحوه أيضًا ما ذكر الخطيب البغدادي: "أن زر بن حبيش قال لحذيفة: أي ساعة تسحرتم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع" (¬1). وأجمع المسلمون على أن طلوع الفجر يُحرِّم الطعام والشراب مع بيان ذلك من قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187] الآية. قال الأصحاب في مثل هذا: إن الإجماع مُبَيِّن للمتأخِّر وأنه ناسخ، لا أن الإجماع هو الناسخ. الثاني: أن يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا ناسخ لذاك" أو: "هذا بعده" أو ما في معنى ذلك، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها" (¬2). الثالث: أن يَنُص الشارع على خِلاف ما كان مُقَرَّرًا بدليل بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين، فما تأخر يَكون ناسخًا للمتقدِّم، وهو كثير، وقد سبق في أمثلة النسخ طائفة منه. الرابع: أن يقول الراوي: (هذا متأخر الورود على الأول). فيكون ناسخًا له، وذلك كقول جابر - رضي الله عنه -: "كان آخِر الأمْرَين مِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تَرْك الوضوء مما مست النار" (¬3)، وقول علي - رضي الله عنه -: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقيام للجنازة، ثم قعد" (¬4). ¬

_ (¬1) سنن النسائي (رقم: 2152)، سنن ابن ماجه (رقم: 1695) وغيرهما. قال الألباني: حسن الإسناد. (صحيح النسائي: 2151). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) مسند أحمد (623)، صحيح ابن حبان (3056) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (التعليقات =

وفي معنى ذلك لو قال الراوي: (هذا سابق على هذا)، أو: (هذه الآية نزلت قبل تلك) أو: (في سنة كذا والآخَر في سَنة كذا) لِسنة بعدها، وكذا في الأحاديث. فإنْ قيل: قول الراوي هذا كيف يُنسخ به القرآن أو غيره من السُّنة المتواترة على تقدير وجودها مع أنه خبر آحاد والآحاد لا يُنسخ به المتواتر؟ قيل: هذا حكاية للنسخ، لا نسَخ، والحكاية بالآحاد يجب العمل بها كسائر أخبار الآحاد. وأيضًا: فاستفادة النسخ مِن قوله إنما هو بطريق التضمن، والضمني يُغتفَر فيه ما لا يُغتفَر فيما إذا كان أصلًا كما في مسائل كثيرة أصولية وفقهية لا تنحصر، كثبوت الشفعة في الشجر تبعًا للعقار، و [عدم الفدية في الشعر والظفر] (¬1) في قطع عضو من المحرم عليه شعر أو ظفر، وثبوت النسب بشهادة أربع نسوة بالولادة تبعًا لثبوتها بهن، وغير ذلك. وقولي: (فَبِذَا التّناسُخُ) أي: ظهر بهذه الصور التناسخ. وقولي: (كَذَاكَ قَوْلُ الرَّاوِ) أصله: "الراوي" ولكن حذفتُ الياء منه؛ للضرورة. والله أعلم. وقولي: (لَا قَوْلُهُ: "ذَا نَاسِخُ") تتمته قولي بعده: ص: 761 - وَلَا الَّذِي خَالَفَ مِنْ نَصَّيْنِ ... أَصْلًا، وَلَا الَّذِي مِنَ ايَتَيْن ¬

_ = الحسان: 3045). (¬1) في (س، ت، ض): عدم الفدية في الشعر والفدية.

762 - مُؤَخَّرٌ في مُصْحَفٍ، وَهَكَذَا ... تَأَخُّرَ الْإسْلَامِ في الرَّاوِي انْبِذَا الشرح: وهو إشارة إلى مواضع ادُّعِي فيها أنها مِن طُرق معرفة الناسخ أو قد يُتخيل فيها ذلك، ولكن المعتمد أنها لا تدل على ذلك. منها: قول الراوي: (هذا ناسخ) بتنكيره؛ لأنه قد يكون عن اجتهاد. والفرق بينه وبين ما سبق من قوله: (هذا الناسخ) -بالألف واللام- أنَّ النسخ يكون معلومًا بأنْ يَثبت أن هذا الحكم [منسوخ] (¬1) ولا يُعْرَف الناسخ له. فإذا قال الراوي: (هذا الناسخ)، قُبِل، وَيثبُت بقوله أن هذا هو الناسخ، وفي الحقيقة إنما عُمِل بتعيينه الناسخ، لا في أصل النسخ. بخلاف: (هذا ناسخ)، فإنه يُنشئ دَعْوَى نَسخ، وأنَّ هذا ناسخ لِمَا هو مُقَرَّر، وقد يكون ذلك باجتهاده، وليس اجتهاده حُجة على مجتهد آخر. وفي المسألة قول: إنه يكون ناسخًا مطلقًا؛ لأنه لا يقوله إلا عن نَقْل غالبًا. وقول ثالث عن الكرخي: إنه إنْ عَيَّنه بأنْ قال: (هذا نَسخ هذا)، لم يُرْجَع إليه فيه؛ لاحتمال أنْ يكون عن اجتهاد. وإنْ لم يُعيِّنه، بل قال: (هذا منسوخ)، قُبِل. حكاه أبو الحسين في "المعتمد" عنه. قيل: بل ظاهر نَص الشافعي يوافقه وأنه يثبت بذلك النَّسخ. وذلك أن أصحابنا احتجوا بقول عائشة - رضي الله عنها - في الرضعات: "إنَّ العَشْر منها نُسِخْنَ بِخَمْس" (¬2). ¬

_ (¬1) كذا في (س)، لكن في (ص، ق): المنسوخ. (¬2) سبق تخريجه.

نعم، التفرقة بين "هذا ناسخ" و"هذا الناسخ" قَلَّ مَن ذكرها وإنْ كانت متجهة؛ لِمَا سبق تقريره في الفرق. ونظيره مِن الفقه: لو عرف عموم الحريق وجهل هل احترقت الوديعة به؟ فإنه يُقبل قول المودع: (إنها احترقت) مِن غير يمين، بخلاف ما لو لم يعرف عمومه. ونحوه: مَن قال: (طلقتُ زوجتي) وقال: (أردتُ طلقة سابقة، لا إنشاء طلقة) وعُرِف سَبْق طلاق له، فإنه يُقْبل، بخلاف ما إذا لم يَسبق طلاق. ومنها: إذا وَردَ نَصان في حُكم متضادان ولم يمكن الجمع بينهما لكن أحد النَّصين موافِق للبراءة الأصلية والآخَر مخالف، وهو معنى قولي: (خَالَفَ مِنْ نَصَّيْنِ أَصْلًا)، فزعم بعضهم أن ذلك الذي خالف الأصل ولم يوافِق -ناسخٌ للذي وافق؛ لأنَّ المخالِف مستفاد مِن الشرع وهو المضاد للبراءة الأصلية؛ لأنَّ الانتقال من البراءة لاشتغال الذمة يقين، والعَوْد إلى الإباحة ثانيًا شك، فقُدِّم ذلك الذي لم يوافق الأصل. قيل: لكن هذا بناءً على أن الأصل في الأشياء الإباحة. قلتُ: وفيه نظر؛ فإنا ولو قلنا بأن الأصل التحريم وكان أحد النصين تحريمًا والآخر إباحة، صدق أن التحريم موافِق للأصل، إلا أنْ تُفْرَض المسألة في خصوص البراءة الأصلية ولا نجعل ذِكر ذلك مثالًا فقط، فيأتي ما ذكر. ومما يماثل هذه المسألة من الفقه: ما لو تيقن الطهارة والحدث وشَكَّ في السابق منهما وقُلنا: يعمل بضد ما قبلهما إنْ كان حدثًا مطلقًا أو طهارة وهو ممن يعتاد التجديد، فإنَّ الانتقال للضد محقَّق، والعَوْد إلى مِثل السابق عليهما مشكوك. ومنها: ثبوت إحدى الآيتين في المصحف قبل الأخرى، فلا تكون الأخيرة في الترتيب ناسخة للمقدَّمة؛ لأنَّ العِبرة إنما هو بالنزول، لا بالترتيب في الوضع؛ لأنَّ النزول بحسب

الحكم، والترتيب للتلاوة. ومنها: تَأخُّر إسلام راوي أحد الدليلين لا يدل على أن ما رواه ناسخٌ للآخَر؛ لجواز أن يكون تَحمله قبل الإِسلام. وأما حديث جرير في "الصحيحين": "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَالَ، ثم توضأ ومسح على خُفيه" (¬1). قال إبراهيم النخعي: "كان يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة". فوجْه إعجابهم أن آية الوضوء في المائدة لا تكون ناسخة لحديثه؛ لِتأخُّر حديثه مع احتمال أنه تَحمل قبل إسلامه. لكن يُبْعِده أن المخالِط للنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يَعلم طهاراته وكيفيتها إنما يكون غالبًا مُسلمًا. وفي "الحاوي" للماوردي أن رواية أبي داود عن عمرو بن [جرير] (¬2) البجلي أن جريرًا لما مسح على خُفيه قال: "ما يمنعني أن أمسح وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح؟ ". قالوا: "إنما كان ذلك قبل نزول المائدة"، فقال: "ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة" (¬3). وهذا صريح في أنه لم يَر النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح إلا بعد إسلامه بعد نزول المائدة. قولي: (وَلَا الَّذِي مِنَ ايَتَيْنِ) حذفتُ الهمزة من "آيتين"، للضرورة. وصدر صلة "الذي" محذوف، أي: ولا الذي هو مؤخَّر مِن آيتين. والله أعلم. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 380)، صحيح مسلم (رقم: 272). (¬2) في (ص، ق): (جريج). ورواية أبي داود إنما هي عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، وكذلك في (الحاوي الكبير، 1/ 351). (¬3) سنن أبي داود (رقم: 154). قال الألباني: حسن. (صحيح أبي داود: 154).

النوع الرابع ما يتوقف عليه الدليل الرابع (وهو "القياس")

النوع الرابع ما يتوقف عليه الدليل الرابع (وهو "القياس") قد بيَّنا فيما سبق أنَّ أدلة الفقه الأصول الثلاثة: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، وما يُستخرج به من الثلاثة وهو القياس. وأن الاستدلال بكل من الأربعة يتوقف الاستدلال به على شيء لا بُدَّ من معرفته. فلمَّا فرغنا مما يتوقف عليه الاستدلال بالثلاثة، ذكرنا ما يتوقف عليه الدليل الرابع -وهو القياس- وذلك: أركان القياس، وشروط كل ركن، والموانع فيها. وقد سبق تعريف "القياس" بأنه: حَمْل معلوم على معلوم في حُكمه؛ لمشاركته له في المعنى المُقْتَضِي للحُكم. فلزِم مِن ذلك بالضرورة أن تكون أركان القياس أربعة: الأصل، والفرع، والعلة الجامعة، والحكم [الملحق فيه] (¬1). وأما ما حُكي مِن خلاف في أن القياس يجوز من غير أصل فقال ابن السمعاني: (إنه قول مَن خلط الاجتهاد بالقياس) (¬2). أي: سمَّى الاجتهاد قياسًا. والحقُّ أنه نوع مِن الاجتهاد، والذي لا يحتاج إلى أصل هو ما سواه مِن أنواع الاجتهاد، وأما القياس فلا بُد له من أصل. وكذا ما حكاه ابن السمعاني مِن خلاف شاذ في أن العِلة ليست مِن أركان القياس وأنه القياس بدونها إذا لاح بعض الشَّبَه. وهو قول باطل، لا سيما إذا قُلنا: إن العلة هي ¬

_ (¬1) ليس في (ص، ق). (¬2) قواطع الأدلة (2/ 135).

الدالة على الحكم في الأصل مع وجود النص على الحكم، وأنهما دليلان كما سيأتي. وأيضاً فقوله: (يكون بينهما بعض الشبه) هو [عَيْن] (¬1) العِلة في الجملة، وهو معنى قولي: ص: 763 - الرُّكْنُ لِلْقِيَاسِ إذْ يَتِمُّ: ... أَصْلٌ، وَفَرْعٌ، عِلَّةٌ، وَحُكْمُ 764 - [كَـ: يَحْرُمُ] (¬2) النَّبِيذُ مِثْلَ الْخَمْرِ ... لِوَصْفِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالسُّكْرِ الشرح: المراد بالأركان هنا: ما لا يتم القياس إلا به؛ لأنَّ القياس إذا كان هو حمل معلوم على معلوم على ما بيناه، فالحمل مصدر، وهو معنى من المعاني، فكيف يكون أركانه وأركان الشيء هو ما يتألف ذلك الشيء منه؟ فإطلاق الأركان على هذه الأمور مجَاز، إلا [أن] (¬3) يُعْنَى بالقياس مجموع هذه الأمور مع العمل تغليبًا، فيصير كل من الأربعة شطرًا له، لا شرطًا. ونظير ذلك في الفقه: إطلاق أنَّ البيع أركانه ثلاثة: عاقد، ومعقود عليه، وصيغة. وقد أوَّله الرافعي بنحو هذا التأويل، وهو أن المراد ما لا بُدَّ منه. وفيه أبحاث مشهورة في محله. ¬

_ (¬1) في (ص): قول باطل. (¬2) في (ت، س): كتحريم. وفي (ش): كمحرم. ولا يصح معهما الوزن. (¬3) في (ص): أنه.

ونظيره أيضًا في العلوم العقلية: أن التصديق بالنسبة إلى ما يتوقف الحكم عليه من التصورات هل هي شطر له؟ أو شرط؟ وقد سبق بيانه أول المقدمة. ويدل لجعله مطلقًا على المجموع أن الحمل إنما المراد به كشف ذلك وإظهاره؛ لأنه يتبين عند القائس أن الواقع في نفس الأمر هو كونه محمولًا عليه، فيكون الحمل في الحقيقة هو اعتقاد كَوْن ذلك. كذلك قولي: ([كَـ: يَحْرُمُ] (¬1) النَّبِيذُ) أي: مثال القياس أن يقول القائل: يحرم النبيذ مثل ما يحرم الخمر بجامع ما بينهما من المعنى المقتضِى للتحريم وهو السُّكْر. فـ"مِثْل" منصوب على الحال، أي: حال كونه مِثله. فالتحريم هو الحكم، والنبيذ هو الفرع، والخمر هو الأصل، والمعنى الجامع هو اتصاف كل منهما بالسكر، أي: بالإسكار. أي: شأنه أنْ يسكر. هذا على المرجَّح في تفسير "الأصل" و"الفرع" كما سيأتي بيانه. فإنْ قلت: معنا تحريمان، أحدهما حكم الأصل والثاني حكم الفرع، فلِمَ لا عُدَّت الأركان خمسة؟ قلت: مَن يُطلق أن مِن أركان القياس الخكم لا يَرِد عليه ذلك؛ لأنَّ الحكم الذي في "الأصل" هو الذي في "الفرع"، فهو واحد في ذاته وإنِ اختلف محله، فهذه الحيثية هي المرادة وإنْ كانا اثنين باعتبار المحل. وأما مَن يقول: إنَّ من أركان القياس حُكم الأصل -وهو الغالب- فيحتمل أن يريد ما ذكر مِن الاتحاد، ولكنه أُضِيف للأصل؛ لأنه الأول في الاعتقاد ثم يصير معتقدًا في الفرع. أو يجاب -كما قال الآمدي- بأنَ حُكم الفرع ثمرةُ القياس، فلو كان من أركانه لَتَوَقَّف القياس عليه، وهو دَوْر. ¬

_ (¬1) في (ت، س): كتحريم. وفي (ش): كمحرم. ولا يصح معهما الوزن.

ولكنه قد رُدَّ بأن ثمرة القياس إنما هي العِلم بالحكم، لا نفس الحكم. فإنْ أريد ما قررناه مِن أن القياس يكشف ما في نَفْس الأمر فصحيح، وإن أريد أنه من حيث هو دليل إنما يفيد العِلم بالحكم لا نَفْس الحكم فهو على أحد القولين في المسألة: أن الدليل هل يقتضي نفس الحكم؟ أو العِلم بالحكم؟ ورجح الثاني. والله تعالى أعلم. ص: 765 - فَـ"الْأَصْلُ": مَا [يُرَى] (¬1) مَحَلَّ الْحُكْمِ ... إذْ شَبّهوا بِهِ، كخَمْرٍ سُمِّي 766 - لَا حُكْمُهُ وَلَا دَلِيلُهُ وَلَا ... مِنْ شَرْطِهِ كَوْنُ الدَّلِيلِ جَا عَلَى 767 - أَنَّ قِيَاسَنَا عَلَيْهِ جَائِزُ ... بِنَوْعِهِ أَوْ شَخْصِهِ وَحَائِزُ 768 - وَلَا اتِّفَاقٌ أَنَّ فِيهِ الْعِلَّهْ ... وَ"الْفَرْعُ": مَا التَّشْبِيهُ قَدْ أُحِلَّهْ الشرح: أي: إذا تَقرر أن أركان القياس أربعة، فلا بُدَّ من تعريف كل منها وبيان شَرْطه بوفاق أو خلاف. وإنما بدأتُ بِـ"الأصل" لِمَا لا يخفَى مِن تفريع غيره عليه، فهو أَوْلى مِن تأخيره كما فعل البيضاوي إلى ما بعد الكلام على العلة. وقد سبق أن "الأصل" في اللغة: "ما يُبْنَى عليه الشيء" أو نحو ذلك، وأن له في الاصطلاح إطلاقات، أحدها ما يُذكر في القياس وهو المراد هنا، وقد اختُلف فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: المرجَّح وقول الأكثر وبه قال الفقهاء وكثير من المتكلمين وصححه ابن ¬

_ (¬1) في (ت): (يرى به). ولا يصح معه الوزن؛ فالصواب كما في سائر النُّسَخ.

السمعاني: أنه محل الحكم المشبه به، كالخمر في المثال السابق. الثاني: أنه دليل الحكم. حكاه في "الملخص" عن القاضي، وحكاه صاحب "الواضح" عن المعتزلة، فيكون في المثال قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] وما في معنى ذلك من الكتاب والسنة والإجماع. الثالث: أنه نفس الحكم الذي في الأصل، وهو كالتحريم في المثال؛ لأنه الذي يتفرع عليه الحكم في الفرع. ثم أشار ابن الحاجب إلى أن "الأصل" في اللغة: "ما يَنْبَني عليه غيره"، فهو يساعد إطلاقه اصطلاحًا على كل مِن الثلاثة، فلا بُعْد في الجميع. لكن هذا وإنْ كان مُسلَّمًا لكن الأول أَرْجَح من حيث إنَّ باب القياس مَرْجِعه إلى الفقهاء، وقد ساعدهم الأصوليون فيه على مصطلحهم وجروا في ذلك على مقتضَى قولهم، فلا يطلقون "الأصل" إلا على ما يُطلقه الفقهاء وهو محل الحكم المشبه به؛ لئلا يختبط الذهن بين الاصطلاحات. ثم قال ابن الحاجب بعد ما نقلناه عنه: (ولذلك -أيْ لأجل أن الأصل "ما يَنْبَني عليه غيره"- كان الوصف الجامع فرعًا للأصل، أصلًا للفرع) (¬1). ومراده أن الشيء الواحد يكون أصلًا باعتبار، فرعًا باعتبار. وهذا معنى قول الإِمام الرازي: (إنَّ الحكمَ أصلٌ في محل الوفاق، فرعٌ في محل الخلاف، والعِلة بالعكس) (¬2). وتحقيق ذلك: أنَّ الأصل إما إن يكون بالذات -أيْ بلا واسطة- أو بالعَرَض، أيْ: بواسطة أمر آخَر. فإنَّ أصلَ الأصل أصلٌ، فلا خِلاف في المعنى، بل في الاصطلاح. ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى (3/ 14) مع شرحه. (¬2) المحصول (5/ 17).

لكن قال ابن الحاجب بعد ذلك قبيل الكلام في شروط الفرع نقلًا عن الشافعية أنهم قالوا: إن حُكمَ الأصل -أيْ المُعَلَّل لا التعبُّدي فإنه ليس الكلام فيه- ثابتٌ بالعِلة. قال: (والمعنى أنها الباعث على حُكم الأصل. وقال الحنفية: بالنَّص. والمعنى: أنَّ النص عَرَّف الحكم، فلا خِلاف في المعنى) (¬1). انتهى وذكره غيره أيضًا. والمسألة مشهورة في الخلاف بين الشافعية والحنفية، واقتضى نقلهم عن الشافعية ذلك أنهم يفسرون "العِلة" بالمؤثِّر أو الباعث حتى لا يكون النص على الحكم منافيًا لتعليله، بخلاف ما لو فُسرت بالمعرِّف، فإنه ينافي النص؛ لأنَّ النص أيضًا مُعرِّف، وهو قد عُرف من التعليل، فأيّ فائدة في النص؟ ولكن الشافعية ليس عندهم العلة إلا مُعرّفة، لا مُؤثِّرة. أي: إنها أَمَارة دالة على الحكم، وغايته أن يكون للحكم مُعَرِّفان: النَّص، والعِلة. وإنما الداعي لابن الحاجب وغيره إلى ذلك أنهم لما جعلوا العلة فرعًا للأصل أصلًا للفرع كما سبق؛ حذرًا مِن لزوم الدَّوْر؛ لأنها إذا كانت مأخوذة مِن النص على حكم الأصل، فلا تكون مُعرِّفة لحكم الأصل؛ لِلِزُوم الدَّوْر. لَكِنَّا إذا قُلنا: مُعَرِّفة، تكون هي والنَّص مُعَرِّفَيْن. إلا أن تعريف النص قاصر على تعريف حُكم الأصل، والعِلة مُعرفة لحكم الأصل ولحكم الفرع معًا. فَتُعَرِّف حُكمَ الأصل لمن لم يَعْرفه مِن النص، وتُعَرِّف حُكمَ الفرع لمن عَرف مساواته مع الأصل. فمَن عرف بطريق مِن الطُّرق أن علة تحريم المسكرات الإسكار، يَعْرف تحريم الخمر من ذلك، لا مِن نَصٍّ على تحريمه. ومَن عَرف تحريمه بنَصٍّ، لا يَضُره أنْ لا يَعْرفه مِن حيث العِلة؛ لأن التعريف إنما يكون لمن يجهل ما عرف به. ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (3/ 81).

ولذلك فوائد كثيرة يظهر أثر اختلاف الشافعية والحنفية فيها، خلافًا لمن زعم أن الخلاف لفظي كما اقتضاه كلام ابن الحاجب والهندي وابن برهان. منها: التعليل بالعلة القاصرة، فالحنفية منعوه؛ لزعمهم أنه لا فائدة فيه؛ لكون الحكم قد عُرف بالنص. ونحن نقول: فائدتها تعريف الحكم كما عَرَّفَه النَّص، فيكون للحُكم مُعَرِّفان. وستأتي المسألة وفوائد القاصرة. ومنها: ما سيأتي من أن العلة هل يشترط أن لا يكون ثبوتها متأخرًا عن ثبوت حكم الأصل؟ نحن نشترطه، وهُم لا يشترطونه. وسيأتي إيضاح ذلك في الكلام على العِلل. ويأتي أيضًا في النَّظم الإشارة إلى مسألة أنَّ "الحكم ثابت بالعلة؟ [أَمْ] (¬1) بالنص؟ " في قولي: (وَالْحُكْمُ في الْأَصْلِ بِهَا قَدْ ثَبَتَا) البيت. وإنما ذكرتها هنا مبسوطة؛ لتعلقها تَعلقًا قويًّا بما سبق وإنْ كان لها تَعلُّق هناك أيضًا. وسنحيل هناك شرحها على ما تقرر هنا، فاعْلَمه. قولي: (وَلَا مِنْ شَرْطِهِ) إلى آخِره -إشارة إلى ما شَرَطَه بعضهم في الأصل وليس شرطًا فيه. فمنه ما شَرَط عثمان البتِّي، وهو بموحدة ثم مثناة من فوق مشددة نِسبة إلى موضع، قال السمعاني: أظنه بنواحي البصرة. وعثمان هذا [رأَى] (¬2) أنس بن مالك، وروى عن الحسن البصري. فقال عثمان: إنه لا بُدَّ في الأصل المقيس عليه أن يقوم دليل على جواز القياس عليه بنوعه أو شخصه، حتى لو كان القياس في بيع مثلًا فلا بُدَّ مِن دليل على أنه يجوز القياس في البيوع أو إذْن بأنْ يُقاس على ذلك الأصل المنصوص. ¬

_ (¬1) في (ت، س): لا. (¬2) في (ت): روى عن.

وخالفه الجمهور فجوَّزوا القياس على كل أصل انقدح في حكمه معنى مخيل غلب على الظن اتِّباعه. ومَن استقرأ ذلك في قياسات العلماء، وجدها طافحة به. ومنه ما شَرَط بعضهم في الأصل أنْ يُجْمِعوا على أنَّ حُكمه مُعَلَّل، لا تَعَبُّدي. ونُقل عن بشر المريسي والشريف المرتضى. ومنهم مَن شَرَط الاتفاق على وجود العلة في الأصل. وخالف الجمهور، فاكتفوا بانتهاض الدليل على ذلك. قال الشيخ أبو إسحاق: (إنْ أراد مُشترِط ذلك إجماع الأُمة فهو يؤدي إلى إبطال القياس بالكُلية؛ لأنَّ نُفاة القياس مِن جُملة الأُمة، وإنْ أراد إجماع مَن يقول بالقياس فَهُم بعض الأُمة) (¬1). انتهى وفيه نظر؛ لأن مخالفة نُفاة القياس -كالظاهرية- سبق أنه لا يُعتبَر في الإجماع (على المرجَّح). ومنهم مَن شَرَط كَوْنه غير محصور بالعَدد، نحو: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم" (¬2). ومنهم مَن شَرَط كَوْنه مؤثرًا في كل موضع، كما قاله القاضي أبو الطيب في إبطال بيع الغائب باع عَيْنًا لم يَرَ منها شيئًا، فبَطُل، كبيع النوى في التمر. فقيل: إذا كان يَرى بعضه، يصح. فيقال: ليس مِن شرطه تأثيره في كل موضع. ومنهم مَن شرط كون القياس صحيحًا. ¬

_ (¬1) اللمع في أصول الفقه (ص 103). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 3136).

ورُدَّ بأنه قياس وإنْ كان فاسدًا. قاله الأستاذ أبو منصور. قلت: وفيه نظر؛ فإنَّ هذه الشروط إنما هي للقياس الصحيح. وقولي: (بِنَوْعِهِ أَوْ شَخْصِهِ) متعلق بقولي في البيت قبله: (جَا). وقولي: (وَحَائِزُ) بالحاء المهملة، أي: حائز ما جاء من الدليل بالنوع أو بالشخص. فهو توكيد لما سبق. والله أعلم. وقولي: (وَ"الْفَرْعُ": مَا التَّشْبِيهُ قَدْ أُحِلَّهْ) تمامه ما بعده، وهو: ص: 769 - لَا حُكْمُهُ، وَشَرْطُهُ أَنْ يُوجَدَا ... تَمَامُ عِلَّةٍ بِهِ، فَإنْ بَدَا 770 - بِالْقَطع ذَا، فَهْوَ إذَنْ قَطْعِيُّ ... أَوْ كَانَ بِالظَّنِّ، فَذَا ظنِّيُّ 771 - وَسَمِّ هَذَا بِـ"قِيَاسِ الْأَدْوَنِ" ... كَقَيْسِكَ التُّفَّاحَ في الْمُعَيَّنِ 772 - بِالْبُرِّ؛ لِلطّعْمِ الَّذِي في [ضِمْنِهِ] (¬1) ... [ولَيْسَ] (¬2) شَرْطَهُ ثُبُوتُ حُكْمِهِ 773 - بِالنَّصِّ إجْمَالًا، وَلَا انْتِفَاءُ ... نَصٍّ أَوِ اجْمَاعٍ لَهُ اقْتِضَاءُ 774 - بِوَفْقِهِ، فَإنْ أَتَى، كانَ عَلَى ... ذَاكَ دَلِيلَانِ عَلَى مَا فُصِّلَا الشرح: وهو بيان لتعريف الركن الثاني من القياس وهو "الفرع" وبيان شرطه. وإنما قدمتُه على الحكم والعلة؛ لأنَّ "الفرع" مقابل للأصل، فناسب أن يذكر عقبه؛ لِمَا بين الضدين مِن ¬

_ (¬1) كذا في (ض، ن 3، ن 4، ن 5). لكن في سائر النُّسَخ: ضمه. (¬2) في (ت): فليس.

اللزوم الذهني. وفي المراد به في القياس قولان: أحدهما وهو الأرجَح: أنه المَحل المشبه، وهو معنى قولي: (مَا التَّشْبِيهُ قَدْ أُحِلَّهْ)، وهو بضم الهمزة على البناء للمفعول، أي: جُعل حالًّا فيه، وذلك كالنبيذ في المثال السابق. والثاني: أنه الحكم القائم بالمحل المشبه. وهذان القولان مُرتَّبان على القولين في تعريف الأصل. فمَن قال: "المحل" هناك، قال هنا: "المحل". ومَن قال هناك: "الحكم"، قال هنا: "الحكم". وأما من قال هناك: (إنَّ الأصل هو الدليل) فلا يمكن أن يقول هنا: (دليل الفرع)؛ لأن دليله إنما هو القياس؛ ولذلك لم يُجعل حُكم الفرع من أركان القياس؛ لكونه ثمرته وناشئًا عنه كما سبق بيانه آنفًا. وأما شرط الفرع: فهو أن يشتمل على عِلة حُكم الأصل بتمامها حتى لو كانت ذات أجزاء، فلا بُدَّ مِن اجتماع الكل في الفرع. ثم إنْ كان وجودها بتمامها فيه قطعيًّا كقياس الضرب للوالدين على قول: "أُف" بجامع أنه إيذاء، وكالنبيذ يُقاس بالخمر بجامع الإسكار، فَيُسَمَّى الأول: "قياس الأَوْلَى" والثاني: "قياس المساواة"، وكُل منهما قَطْعِي. وإنْ كان وجود العلة بتمامها في الفرع ظنيًّا، فالقياس ظني، ويسمى "قياس الأَدون"، كقياس التفاح على البُر في أنه لا يباع إلا يدًا بِيَد [و] (¬1) نحو ذلك؛ بجامِع الطعم، لا أنَّ المراد بِـ"الأَدون" أن يكون المعنى الذي في الفرع ناقصًا عن المعنى الذي في الأصل، فإنَّ القياس ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (ق، س): أو.

حينئذٍ فاسدٌ بالكُلية. وهذا معنى قول ابن الحاجب في شروط الفرع: (أن يُساوي في العلةِ عِلةَ الأصل) (¬1). إلا أنه يُوهِم خروح قياس الأَوْلى، لكن لما كان المعنى نَفْي النقص دُون نفي الزيادة، صَحَّ تعبيره بالمساواة. وعلى كل حال فالتعبير بوجود العلة بتمامها فيه أَجْوَد؛ لعدم الاحتياج لتأويل. ثم فسر ابن الحاجب "المساواة" بقوله: (فيما يقصد مِن عَيْنٍ أو جنسٍ) (¬2)؛ للإشارة إلى ما سيأتي مِن تقسيمات العلة موضحًا. ومن شروط الفرع أيضًا: أن يساوي حُكمُه حُكمَ الأصل فيما يقصد كونه وسيلة للحِكمة مِن عَيْن (كالقصاص في النفس بالمثقل إذا قِيس على المحدد) أو جنس (كالولاية في النكاح في الصغيرة تُقاس على المولى عليها في المال، فإنَّ ولاية النكاح مساوية لولاية المال في جنس الولاية، لا في عَيْن تلك الولاية). كذا ذكره ابن الحاجب، ولم أذكره في النَّظم هنا؛ لأنه من أحكام إثبات الحكم في الفرع بالقياس. أي: تعيين ما يحكَم على الفرع به من حكم الأصل. قولي: (ولَيْسَ شَرْطَهُ ثُبُوتُ حُكْمِهِ بِالنَّصِّ إجْمَالًا) معناه: أنه لا يشترط في الفرع أن يدل النص على حُكمه في الجملة لا بالتفصيل، خلافًا لقول أبي هاشم: (إنه يشترط، وإنَّ التفصيل يُطلب بالقياس). وحكاه أيضًا إلْكِيَا عن أبي زيد. مثال ذلك: إذا قُلنا في اجتماع الجد مع الأخوة: يرث معهم؛ قياسًا على أحدهم؛ لأنَّ كُلًّا مِن الجد والأخ يدلي بالأب. فلولا دل الدليل على إرث الجد في الجملة لَمَا ساغ القياس في ¬

_ (¬1) مختصر المنتهى مع شرحه (3/ 83). (¬2) مختصر المنتهى مع شرحه (3/ 83).

هذه الصورة. ورُدَّ عليهم بأن العلماء قاسوا: (أنتِ علَيَّ حرام) إما على الطلاق في تحريمها أو على الظهار في وجوب الكفارة أو على اليمين في كونه إيلاء. ولم يوجد في ذلك نَص يدل على الحكم، لا جُملةً ولا تفصيلًا. وقولي: (وَلَا انْتِفَاءُ نَصٍّ) أي: ولا يشترط أيضًا انتفاء نَص على حُكم الفرع بحكم يوافق الحكم الذي يُراد إثباته بالقياس عند الأكثرين، خلافًا للغزالي والآمدي؛ للاستغناء بالنص؛ ولهذا في قصة معاذ كان القياس فيها مُرتبًا بِـ"إنْ" الشرطية على فقدان النص، وهي أصل في مشروعية القياس. وجواب ذلك: أن المراد تَعَيُّن القياس عند الفقد، وأما عند وجوده فيكون مِن اجتماع دليلين؛ إذ لا يمتنع تَرادُف الأدلة على مَدلول واحد. وأيضًا: فبالقياس تُعرف علة الحكم، وهو معنى قولي: (فَإنْ أَتَى)، أي: نَصٌّ على وَفْق القياس، كان على ذلك الحكم في الفرع دليلان: النص، والقياس. وهو معنى (فُصِّلَا). وقد فُهِم مِن القيدين المذكورين في المسألة أمران: أحدهما: أن يكون النص الدال على حكم الأصل هو الدال على ذلك في الفرع بِعَيْنه، وذلك خارج بقولي: (بِوَفْقِهِ)، فإنه يقتضي المغايرة؛ ضرورة تَغايُر الموافِق للموافَق. فالقياس حينئذٍ باطل؛ إذ ليس ما ادُّعِي أنه أصل وأنَّ الآخر فرع بِأَوْلى مِن عكسه. كما لو قِيس السفرجل على العنب في جريان الربَا فيه بِعِلة الطعم، فيقال: النهي عن بيع الطعام بالطعام شامل للأمرين، فجَعْل أحدهما أصلًا والآخَر فرعًا تَحَكُّم. وكما لو قيس منع قَتْل المسلم بالذمي على مَنْعه بالحربي بأنَّ كُلًّا منهما فيه قَتْل "مَن فُضِّل

بالإِسلام" بِغَيْره، فيُقال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقتل مؤمن بكافر" (¬1) نصٌّ شامل لهما. وهذا معنى قول البيضاوي: (وَأَنْ لَا يتنَاوَل دَليلُ الأصْلِ الفَرعَ، وَإلِاَّ لضَاعَ القِيَاسُ) (¬2). وعليه يحمل قول ابن الحاجب فيما يشترط في الفرع: (وأن لا يكون منصوصًا عليه) (¬3). أي: بِعَيْنه، خلافًا لحمل بعض شَارِحِيه ذلك على المسألة السابقة وهي أنْ يكَون النَّص موافقًا لنص الأصل، لا عَيْنه. الأمر الثاني: أن يكون النص في الفرع على خلاف الحكم المراد إثباته بالقياس؛ لأن القياس حينئذٍ باطل، إذ القياس لا يُقدَّم على النص. لكن القياس في نفسه صحيح إلا أنه مُلْغًى لا يُعمل به؛ ولذلك يقال: إذا تَعارَض القياس والنص، فالنص مُقَدَّم؛ لأن التعارُض إنما يكون عند صحة المتعارِضَيْن. ففائدة القياس التمرين ورياضة الذهن، وهو معنى قوله في "جمع الجوامع": (إلا لتجربة النظر) (¬4). قلتُ: ولكن فيه النظر الذي سبق آخِر الكلام في الأصل. ومما شُرط في الفرع أيضًا وليس بِمَرْضِيٍّ: أن لا يكون الفرع سابقًا على الأصل؛ لأنَّ المستفاد لا بُدَّ مِن تأخُّره عن المستفاد منه وإلا لتناقض فَرْض تَقدُّمه مع تأخّره، فلا يُقاس الوضوء على التيمم في وجوب النية؛ لأنَّ ورود التيمم بعد الهجرة والوضوء قبلها. وردَّه ابن الصباغ بأنه لا يمتنع أن الشيء عليه أمارات متقدمة ومتأخرة، كمعجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، منها مقارِن لنبوته ومنها ما هو بعد ذلك. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) منهاج البيضاوي (ص 220) بتحقيقي. (¬3) مختصر المنتهى مع شرحه (3/ 83). (¬4) جمع الجوامع (2/ 270) مع حاشية العطار.

وقال ابن دقيق العيد: إنما يُشترط هذا إذا كان طريق حُكم الفرع [مُتَعَيّنًا] (¬1) في استناده للأصل. وقال ابن الحاجب: لا يمتنع أن يكون إلزامًا للخصم. ولا يخفَى ما في المقالَين مِن نَظَر. والله أعلم. ص: 775 - وَ"الْحُكْمُ" كَالتَّحْرِيمِ في الْمِثَالِ ... وَشَرْطُهُ الثُّبُوتُ بِاتِّصَالِ 776 - في الْأَصْلِ، لَا مِنَ الْقِيَاسِ، وَكَذَا ... عَنْ سَنَنِ الْقِيَاسِ لَيْسَ نُبِذَا 777 - وَوَفْقُ خَصْمَيْنِ عَلَى ذَا الْمُثْبَتِ ... وَلَيْسَ شَرْطًا اتِّفَاقُ الأُمَّةِ الشرح: هذا بيان الثالث من الأركان، وهو "الحكم"، وله بالنظر إلى تَعلُّقه بالأصل المقِيس عليه شروط على الراجح، وبعض على رأيٍ. وإنما لم أذكر تعريفه هنا لأنه قد سبق تعريف الحكم في أول الكتاب؛ فأغْنَى عن إعادته هنا. وإنما مثلتُ بما وقع في المثال الممثَّل به للقياس حتى يجري مثله في كل قياس. فمِن شروطه المعتبرة: أن يكون ثبوته في الأصل إما بنص أو إجماع، [لا بقياس] (¬2). أما النص من كتاب أو سنَّة فبِلا خلاف، وأما الإجماع فَعَلَى قول الجمهور. ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (ق): معينا. وفي (ش): مستفتيًا. وفي سائرها: سببا. (¬2) ليس في (ص، ق).

وحكى الشيخ أبو إسحاق في "شرح اللمع" وجهًا أنه لا يجوز القياس على ما ثبت بالإجماع إلا أن يُعْلَم النص الذي أجمعوا لأجله، فإنه يعود إلى قياس على ما ثبت بالنص. قلتُ: وله قوة من حيث إن الإجماع قد يكون عن قياس، وسيأتي المنع فيه، وهو قولي: (لَا مِنَ الْقِيَاسِ)، فلا يجوز القياس على ما ثبت حُكمه بقياس على قول الجمهور من أصحابنا والحنفية. وخالف فيه الحنابلة وبعض المعتزلة كأبي عبد الله البصري. لنا: أن العِلة الجامعة بين القياسين إنْ كانت واحدة فيهما، فالقياس في الحقيقة على أصلِ الأول، وذِكْر الأصل الثاني تطويلٌ بلا فائدة؛ للاستغناء عنه بقياس الفرع الثاني على الأصل الأول. مثاله: لو قال الشافعية: (الوضوء عبادة، فيشترط فيه النية؛ قياسًا على الغسل). ثم قاسوا الغسل في اعتبار النية فيه على الصلاة والصوم بجامع كونه عبادة، فَرَدّ الوضوء إلى الصلاة والصوم مِن الابتداء هو الوجه. وكقياس التفاح على السفرجل بجامع الطعم بَعْد قياس السفرجل على البُر المنصوص بجامع الطعم. وإنْ كانت العلة في القياسين مختلفة، لم ينعقد القياس الثاني؛ لانتفاء علة الحكم فيه؛ لأنَّ الفرض أنَّ العِلة الأُولى هي عِلة الحكم ولم توجد في الفرع الثاني. كما يقال مِن جانِبِنا: (الجذام عيب يُفسخ به البيع، فيُفسخ به النكاح؛ قياسًا على الرتَق والقرن)، ثم يُقاس مثلًا القَرن على الجب في الحكم المذكور بجامع فوات الاستمتاع. فإنَّ عِلة ثبوت الحكم في القرن فوات الاستمتاع وهو غير موجود في الجذام، فلا يصح قياسه عليه. كذا مَثَّل به ابن الحاجب. قال ابن السبكي: (وهو على سبيل ضرب المثال، وإلا فَرَدُّ المجبوب عندنا إنما هو

لنقصان عَيْن المبيع نقصًا يفوت به غرض صحيح؛ وذلك لانسلاله من حد الرجال ذوي الشهامة، لا لفوات الاستمتاع؛ إذْ لا استمتاع بِذَكَر العبد؛ ولذلك لا [يثبت] (¬1) الرد بكونه عِنِّينًا، خلافًا للصيمري وإمام الحرمين. وأما إثبات الفسخ بالجب في النكاح فلفوات الاستمتاع. فالعلتان متغايرتان على كل حال). قلتُ: قد يقال في تقرير كلام ابن الحاجب المَعْزِيّ عنده للشافعية: إنه يُقاس أولًا الجذام على الرتق والقرن في فسخ النكاح بجامع أن كُلًّا مِن ذلك عَيْب يُفسخ به البيع. فالأصل هو الرتق والقرن، والفرع هو الجذام، والعلة هي كونه عيبًا يُفسخ به البيع، فهي مركَّبة مِن الأمرين معًا؛ لأن انفراد العيب قد لا يُفسخ به وقد يُفسخ بالشيء ولا يكون عَيْبً, وحُكم الأصل هو فسخ النكاح به، فعَدَّيناه إلى الفرع. فإذا قيل لنا: ما الدليل على حُكم الأصل وهو كون النكاح يُفسخ بالرتق والقرن؟ فنقول: دليله قياسه على الجب في فسخ النكاح بجامع ما بينهما من فوات الاستمتاع. وكَوْن الجب في باب النكاح عِلة فَسْخِه به فوات الاستمتاع -لا إشكال فيه، فاستقام [المثال] (¬2). واعْلم أن عبارة ابن الحاجب في المسألة: (أن يكون -أيْ حُكْم الأصل- غَيْرَ فرع) هو معنى قول البيضاوي: (شرطه ثبوت الحكم فيه بدليل غير القياس). فجَمْع ابن السبكي في "جمع الجوامع" الأمرين يقتضي أنهما مسألتان، وليس كذلك وإنْ كان لَمَّا سُئِل عن ذلك، أجاب في "منع الموانع" عنه بجواب متكلَّف لا حاجة للتطويل به. نعم، قال في "شرح المختصر": (إنَّ الأصوليين أطلقوا هذا الشرط، وهو مخصوص ¬

_ (¬1) في (ص، ق): يفوت. والصواب: (يثبت) كما في (رفع الحاجب، 4/ 160). (¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في سائر النسخ: الحال.

عندي بما إذا لم يظهر للوسط فائدة، كقياس السفرجل على التفاح، والتفاح على البُر. أما إذا ظهرت له فائدة، فلا يمتنع عندي أنْ يُقاس فرعٌ على فرعٍ إذا كان حُكم الفرع المقيس عليه -الذي هو وسط- أظهر وأَوْلَى بحيث إنه لو قِيس الفرع الأول -الذي هو فرع الفرع- على الأصل الأول، لاستُنكِر في بادِئ الرأي جدًّا، بخلاف ما إذا جُعِل مُندرجًا. مثاله: التفاح رِبَوِي؛ قياسًا على الزبيب، والزبيب ربوي؛ قياسًا على التمر، والتمر رِبَوِي؛ قياسًا على الأرز، والأرز ربوي؛ قياسًا على البُر إذا كان الجامع في قياس التفاح على الزبيب الطعم، وفي قياس الزبيب على التمر الطعم مع الكيل، والتمر على البر الطعم والكيل والقوت الغالب، إذْ لو قِيس ابتداءًا لتفاح على البر، لم يَسْلَم مِن مانع يمنع عِلِّيَّة الطعم وحده، وكذا في الأقيسة التي بعده [يتخلص] (¬1) بما يُزاد فيها مِن مانع يمنع استقلال ذلك [بالعِلِّية] (¬2) بدون تلك الزيادة) (¬3). انتهى بمعناه. وقد أطال في ذلك بمسائل في الأقيسة من الفقه من "سلسلة" (¬4) الشيخ أبي محمَّد وغيرها، فليراجع منه. وهو معنى قوله في "جمع الجوامع": (وغير فرع إذا لم يظهر للوسط فائدة، وقيل: مطلقًا) (¬5). فهو -مع إبهامه أن ذلك منقول- لا يخفَى ما فيه من نظر؛ فإن المُنازع إذا نازع في ¬

_ (¬1) في (ت، س): تتخلص. (¬2) في (ص، ق، ش، ض): بالعلة. (¬3) رفع الحاجب (4/ 161). (¬4) قال تاج الدين السبكي في (رفع الحاجب، 4/ 162): (في كتاب "السلسلة" للشيخ أبي محمَّد منه الشيء الكثير). (¬5) جمع الجوامع (2/ 257) مع حاشية العطار.

وصف أنه ليس مستقلًّا بالعلة ولم يُقِم المستِدلُّ دليلًا بالاستقلال، فالقياس فاسد. وإنْ أقام دليلًا، فالزائد لَغو ويرجع الكل إلى وصف واحد كالطعم فيما ذكر من الأقيسة؛ ولأجل ذلك لم أذكر في النَّظم هذا القيد؛ لأنه عندي غير معتيَر. واعلم أن ابن برهان لَمَّا نقل عن الحنفية مَنع القياس على ما ثبت حُكمه بالقياس قال: (وساعدهم من أصحابنا أبو بكر الصيرفي، وجمهور أصحابنا على الجواز). قال: (وحَرْفُ المسألة أنه هل يجوز تعليل الحكم الواحد بِعِلَّتين؟ ). انتهى قلتُ: المشهور عند أكثر أصحابنا المنع مطلقًا، وهو ظاهر نص الشافعي في "الأم"، فقال في المزارعة من اختلاف العراقيين أنَّ المساقاة على النخل جائزة و [المزارعة] (¬1) على الأرض البيضاء ممتنعة وأن مَن أجازها قاسَها على المضاربة- ما نصه: (وهذا غلط في القياس، إنما أَجَزْنَا بخبر المضاربة، وقد جاء عن عمر - رضي الله عنه - أنها كانت قياسًا على المعاملة في النخل، فكانت تَبعًا قياسًا، لا متبوعًا مَقِيسًا عليها) (¬2). انتهى واستثنى الغزالي في مسائل الاجتهاد من هذه المسألة [نوعين] (¬3): [أحدهما] (¬4): إذا قاس النبي - صلى الله عليه وسلم - فرعًا ثم قاس على ذلك الفرع فرعًا، وإذا أجمعت الأُمة على إلحاقه بالأصل ثم قِيس عليه. إنتهى وفيهما نظر: أما الأول: فإن ذلك بقياسه يصير نَصًّا. ¬

_ (¬1) في (ص): المساقاة. (¬2) الأم (7/ 112). (¬3) في (ص، ق، ش): صورتين. (¬4) في (ص، ق): إحداهما.

وأما الثاني: فقد سبقت المسألة في القياس على مجمَع عليه، وسيأتي [فيها] (¬1) مزيد بيان. ومن شروط حكم الأصل أيضًا ما أشرتُ إليه بقولي: (وَكَذَا عَنْ سَنَنِ الْقِيَاسِ لَيْسَ نُبِذَا) أي: يشترط في حكم الأصل المقيس عليه أن لا يكون مَعْدُولًا به عن سَنَن القياس، أي: طريقه المعتبَر فيه؛ لِتَعَذُّر التعدية حينئذٍ. وذلك على ضربين: أحدهما: لكونه لم يُعْقَل معناه، إما لكونه استُثْنِي من قاعدة عامة، كالعمل بشهادة خزيمة وَحْده فيما لا تُقْبَل شهادة الواحد فيه، أو لم يُسْتَثْنَ، كتقدير نُصُب الزكوات وأعداد الركعات ومقادير الحدود والكفارات. والضرب الثاني: ما عُقِل معناه ولكن لا نظير له، سواء أكان له معنى ظاهر (كرُخَص السفر) أو غير ظاهر (كالقسامة). كذا مثَّل به ابن الحاجب، لكن في "جَعْله القسامة معقولة المعنى وهو خفي بخلاف شهادة خزيمة ومقادير الحدود" نَظَر ظاهر. نعم، إذا كان المعدول عن سَنن القياس خارجًا عن المعنى الملاحَظ في الشرع لا لمعنى فهو واضح. أما إذا شُرع ابتداءً لا لمعنى، فجَعْله من الخارج عن سَنن القياس مجاز؛ لأنه لم يدخل حتى يخرج. وإذا كان أيضًا خارجًا عن المعنى لمعنى (كالعرايا المخرَجة من الربويات؛ لحاجة الفقراء في الأصل)، لا يُقال فيه: "خارج عن سَنَن القياس" إلا مجازًا. نَبَّه على ذلك الغزالي في "المستصفى". نعم، يقع البحث في أمور جُعلت خارجة عن سَنَن القياس من وجه آخَر. ¬

_ (¬1) في (ت، س): فيهما.

منها: رُخَص السفر، قالوا: لا يدخل فيها القياس؛ لعدم النظير، فيمنع لوجود المشقة في غير السفر مِن الأعمال الشاقة كالحمَّالين. وجوابه: أن التعليل بمظنة المشقة؛ لِعدم انضباط الحكمة وهي المشقة كما سيأتي بيانه. ومنها قولهم: يجري القياس في الحدود والكفارات والرُّخَص والتقديرات المراد فيها نفسها. أما مقاديرها فلا يجري فيها القياس. ومنها: ما استُثني من القواعد العامة وهو معقول المعنى، ظاهر ما سبق أنه لا يقاس عليه. لكنه رأي بعض الحنفية، والذي عليه جمهورهم وجمهور أصحابنا أنه يقاس عليه، إلا أنهم لا يسمونه -والحالة هذه- "معدولًا به عن سَنَن القياس". وقال محمَّد بن شجاع البلخي من الحنفية: إنْ ثبت المستثنى بدليل قطعي، جاز القياس عليه، وإلا فلا. والكرخي: إنْ كانت عِلة المستثنى منصوصة أو مجمَعًا عليها أو موافقة لبعض الأصول، جاز القياس، وإلا فلا. وقال الإِمام الرازي: يُطلب الترجيح بينه وبين غيره. ومن أمثلة المستثنى لمعنًى: تجويز بيع الرطب بالتمر في العرايا، فإنه على خلاف قاعدة الربويات عندنا، واقتُطِع عنها؛ لحاجة المحاويج، وذلك ثابت في حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أنهم لما شكوا إليه ذلك، رخَّصَ لهم في العرايا في الرطب (¬1). قال أصحابنا: والعنب بالزبيب كالتمر. ثم قيل: إنه قياس. وبه قال ابن أبي هريرة. وقيل: بالنص. قاله المحاملي وابن الصباغ، ورووا في الحديث أنه رخص بيع الرطب بالتمر والعنب بالزبيب لهم. فترخيصه للأغنياء كما هو المرجَّح على ما وَرَدَ مِن الترخيص للمحاويج إنما هو بالقياس وكذا مَن أجاز بيع الرطب على الشجر بالرطب على وجه ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 2080)، صحيح مسلم (رقم: 1539).

الأرض إنما هو بالقياس أيضًا. ولكن الأصح المنع، و [ثانيها] (¬1): يمتنع في نوع واحد. ومنهم مَن أَجْرَى الأَوْجُه في الرطب بالرطب على الأرض. ومن القياس في مثل ذلك أيضًا: قياس مَن جَوَّز في المصَرَّاة تَعْدِية الحكم لبدل صاع التمر مِن قوت غيره. ومَن قال: إن المردودة بعيب غير التصرية يُرَد بَدَل لَبنها صاعًا من تمر. وأشباه ذلك، وهو كثير. على أن إمام الحرمين قال: إنَّ الوارد استثناءً غير معقول المعنى دائمًا، وإنَّ ما يُعقل معناه لا يُستثنى. ولَعَله يمنع المعنى في مسألة العرايا، ويقول في العنب بالزبيب: إنه بالنص موافقة لمن سبق. ومن شروط حُكم الأصل أيضًا تَوافُق الخصمين على حُكم الأصل. فإنْ كان أحدهما يمنعه فلا يُستدَل عليه بالقياس فيه. وإنما شُرط ذلك لئلَّا يحتاج القائس عند المنع إلى إثباته، فيكون انتقالًا من مسألة إلى أخرى. ولا يشترط اتفاق الأُمة، بل يكفي اتفاق الخصمين؛ لحصول المقصود بذلك. وقول ثالث: إنه يُشترط اتفاق الخصمين واختلاف الأُمة حتى لا يكون مُجْمَعًا عليه. وهو رأي الآمدي، وهو قريب مما سبق. نقل الشيخ أبي إسحاق له وجهًا أنَّ حُكم الأصل شَرْطه أنْ يكون منصوصًا، وإذا كان إجماعًا فلا بُدَّ أن يعْرف أنَّ مُستندَهم نَص. ¬

_ (¬1) كذا في (س)، لكن في (ص، ق): ثالثها.

وقد سمّى بعضهم ما كان متفقًا بين الخصمين فقط بـ"القياس المركَّب"، ولكن الصحيح أن "المركب" إنما هو بِقَيْد أن يتفق الخصمان لكن لِعِلَّتين مختلفتين أو لِعِلَّة يمنع الخصم وجودها في الأصل كما قاله الآمدي وابن الحاجب. كقول الشاقعي فيما إذا قتل الحُرُّ عبدًا: المقتول عبد؛ فلا يُقتل به الحر، كالمكاتب إذا قتل وترك وفاء ووارثًا مع المولى. فإنَّ أبا حنيفة يقول هنا: إنه لا قصاص. فليلحق العبد به هنا؛ بجامع الرق. فلا يحتاج الشافعي فيه إلى إقامة دليل على عدم القصاص في هذه الصورة؛ لموافقة خصمه. فيقول الحنفي في منع ذلك: إنَّ العلة إنما هي جهالة المستحق من السيد والورثة، لا الرق؛ لأنّ السيد والوارث وإنِ اجتمعا على طلب القصاص لا يزول الاشتباه، لاختلاف الصحابة في مُكاتب يموت عن وفاء. قال بعضهم: يموت عبدًا وتبطل الكتابة. وقال بعضهم: يُؤَدَّى بَدَل الكتابة مِن [أكسابه] (¬1)، ويُحكم بعتقه في آخِر جزء من حياته. فقد اشتبه المولى مع هذا الاختلاف، فامتنع القصاص. فإن اعترض عليهم بأنكم لا بُدَّ أن تحكموا في هذه الحالة بأحد هذين القولين: إما بموته عبدًا، أو حُرًّا، وأيًّا ما كان فالمستحق معلوم. فيقول الحنفي: نحن نحكم بموته حرًّا بمعنى أنه [يورث] (¬2)، لا بمعنى وجوب القصاص على قاتله الحر؛ لأنَّ حُكمنا بموته حرًّا ظني؛ لاختلاف الصحابة، والقصاص ¬

_ (¬1) في (ق): اكتسابه. (¬2) في (ص): لا يورث.

ينتفي بالشُّبهة، فهذه جهالة تَصلُح لدرء القصاص ولا تمنع عِلمنا بمستحق الارث. إذا عَلمت ذلك، فهذا القياس المركَّب لِعلتين مختلفتين يسمى "مركب الأصل"، يُسمَّى بذلك لاختلافهما في تركيب الحكم على العِلة في الأصل. فإنْ كان الخصم يوافق على العِلة ولكن يمنع وجودها في الأصل فهو "مركَّب الوصف"، يسمى بذلك لاختلافهما في نفس الوصف الجامع. كقولنا في تعليق الطلاق قبل النكاح: تعليق للطلاق، فلا يصح، كما لو قال: زينب التي أتزوجها طالق. فيقول الحنفي: العِلة -وهي كونه تعليقًا- مفقودة في الأصل؛ فإنَّ قوله: (زينب التي أتزوجها) تنجيز، لا تعليق. ثم المشهور عند الأصوليين أن هذين النوعين غير مقبولين. أما الأول: فلأن الخصم لا ينفك عن منع عدم [العِلة] (¬1) في الفرع أو منع الحكم في الأصل، وعلى التقديرين فلا يتم القياس. وأما الثاني: فلأنه لا ينفك عن منع الأصل كما لو لم يكن التعليق ثابتًا فيه، أو منع حُكم الأصل إذا كان ثابتًا. وعلى التقديرين لا يتم القياس. قال الهندي: وخالف الخلافيون في النوعين، فقالوا: [يُقبلان] (¬2). نَعم، إذا سَلَّم الخصم العِلة فأثبت المستدِل في القسم الثاني أنها موجودة في الأصل، أو سَلَّم أنَّ العلة التي عيَّنها المستدِل في الأول هي العلة وأنها موجودة في الفرع، انتهض الدليل ¬

_ (¬1) في (س، ت، ض): العلية. (¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): يفيدان.

عليه، فيصح القياس؛ لاعتراف الخصم بالمقتضِي لصحته. وذلك كما لو كان مجتهدًا أو غلب على ظنه صحة القياس فإنه لا يكابِر نفسه فيما أَوْجَبه عليه. أما إذا لم يتفق الخصمان على الحكم لكن حاول المستدِل إثباته بالنَّص ثم ثبتت العِلة بطريق مِن طُرُقها، فقيل: لا يُقبل ذلك منه؛ حذرًا من الانتشار. والأصح القبول [وإلَّا] (¬1) لم يقبل في المناظرة مقدمة تحتمل المنع. تنبيهات احدها: شرط بعضهم -ونقل عن بشر المريسي كما سبق نقله عنه في شروط الأصل- الاتفاق على تعليل حُكم الأصل. وليس بمعتبَر على كل حال، سواء جعل شرطًا في نفس الأصل أو شرطًا في حكمه. وشرط بعضهم أن تكون عِلته منصوصة، والأصح خلاف ذلك، بل تثبت العلية بطريق من طُرُقها؛ لأن أدلة القياس شاملة لذلك كله. ومنهم مَن يذكر الكلام في هذا الشرط في مباحث العلة، ولكن ذِكره هنا أنسب. الثاني: قال ابن الحاجب: إنَّ من شرط حُكم الأصل أن يكون شرعيًّا. أي: تفريعًا على أن القياس لا يجري في اللغات والعقليات. قال: وأنْ لا يكون منسوخًا؛ لزوال اعتبار الجامع. أي: في نظر الشرع، فلا يتعدى الحكم به. ووافقه في "جمع الجوامع" على اشتراط كونه شرعيًّا، لكن إذا استلحق شرعيًّا، فإنَّ ¬

_ (¬1) في (ت، س): إذا.

اللغوي والعقلي على تقدير أن يجري القياس فيهما فليس قياسًا شرعيًّا، والكلام إنما هو في القياس الشرعي، مع أن القياس فيهما صحيح يُتوصل به إلى الحكم الشرعي، كقياس تسمية اللائط "زانيًا" والنباش "سارقًا" والنبيذ "خمرًا"؛ [فيثبت] (¬1) الحد والقطع والتحريم. فإذا قُيِّد بأنَّ ذلك إنما هو في استلحاق نفس الحكم الشرعي، فلا بُدَّ من اشتراط كونه شرعيًّا. وزاد من الشروط كَوْنه غير متعبَّد فيه بالقطع. أيْ: بالعِلم القطعي، كإثبات حُجية خبر الواحد بالقياس على الشهادة والفتوى على قول مَن يقول: إن ذلك من المسائل العلمية، ونحوه إثبات كون الاجتهاد جائزًا في طلب الحكم الشرعي بالقياس على جواز الاجتهاد في طلب القِبلة. ولم أذكر في النَّظم شرطًا مِن الثلاثة. أما اشتراط كونه شرعيًّا: فإن القياس لا يختص بذلك، والمقصود إنما هو بيان ما يصح به القياس. وأما كونه معمولًا به في الشرع أو في اللغة أو في العقليات فأمر آخَر. وقد تَقدم أن القياس في العقليات جائز. وأما اشتراط أن لا يكون منسوخًا: فلا حاجة إليه؛ لأن المنسوخ لم يَبْقَ له وجود في الشرع فيُلحق فيه الأحكام بقياس ولا غيره. وأما اشتراط أن لا يكون قاطعًا: فهو مع مخالفته لتجويز القياس في العقليات على المرجَّح فإنما يتوجه أن يكون شرطًا فيما يقع فيه الاختلاف، فيثبت الحكم فيه بالقياس. أما إذا كان الكلام في صحة القياس مِن حيث هو، فلا يحتاج لاشتراطه. ¬

_ (¬1) في (ص، ق، ش): ليثبت.

وكذا قال الهندي: إنه إنما يستقيم [اشتراط ذلك فيما] (¬1) هو في الحكم الذي هو ركن القياس الظني، لا الذي هو ركن في القياس كيف كان. الثالث: أهملتُ في النَّظم ما شَرطه بعضهم في حُكم الفرع مِن كونه مساويًا لحكم الأصل فيما يقصد مِن عَيْن أو جنس. وربما جُعل هذا مِن شروط الفرع. ومثَّلوا العين بالقياس للقتل بالمثقل على القتل بالمحدد، فإنَّ حكم الأصل (وهو القتل بذلك) هو بِعَيْنه حُكم الفرع (وهو القتل). ومثَّلوا الجنس بقياس إثبات الولاية على الصغيرة في نكاحها على إثبات الولاية عليها في مالِها، فالجنس واحد وهو مُطلَق "الولاية"، والنوع يختلف؛ لأنَّ ولاية النكلاح غير ولاية المال؛ لاختلاف التصَرُّفين. فإنْ خالف حُكم الفرع حُكم الأصل في العين والجنس، فسد القياس. كقولنا: الظهار يوجب الحرمة في حق الذمي، كالمسلم. فيقول الحنفي: الحرمة متناهية في الظهار بالكفارة، والحرمة في الذمي مؤبدة؛ لأنه ليس من أهل الكفارة؛ فاختلفَا. وجواب الاعتراض بذلك أن يُبَيّن المستدِل الاتحاد، وهو هنا مَنعْ كَوْن الذمي ليس من أهل الكفارة. وإنما أهملتُ ذلك كله لأنه بيان ما يُستفاد من القياس، لا شرط في شيء مق الأركان، وذلك مفهوم من تعريف "القياس" بأنه: "حمل معلوم على معلوم في حُكمه" أي: المقصود ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): اشتراطهما.

منه عينًا كان أو جنسًا، فيخرج المختلف. والله أعلم. ص: 778 - وَ"الْعِلَّةُ": الْوَصْفُ يَكُونُ ظَاهِرَا ... مُنْضَبِطًا، إمَّا حَقِيقِيًّا يُرَى 779 - أَوْ كَانَ عُرْفِيًّا أَتَى مُطَّرِدَا ... أَوْ لُغَوِيًّا، أَوْ بِشَرْعٍ قُصِدَا 780 - أَيْ: جَالِبًا مَصْلَحَةً، أَوْ رَافِعَا ... مَفْسَدَةً، أَوْ دَافِعًا، أَوْ جَامِعَا 781 - فَقَالَ أَهْلُ الْحَقِّ: أَيْ تُعَرِّفُ ... لِلْحُكْمِ، بِالتَّأْثِيرِ لَا تَتَّصِفُ 782 - بِالذَّاتِ أَوْ بِالْوَصْفِ أَوْ بِغَيْرِ ... وَلَا بِجَعْلِهَا بِذِي تَأْثِيرِ الشرح: هذا هو الركن الرابع من أركان القياس وهو: "العِلَّة". وأشرتُ إلى تعريفها بأنها: وَصْفٌ ظاهرٌ منضبطٌ مُعَرِّف لِلحُكم. فخرج بقيد الظهور: الخفيُّ، كالبخر في الأسد. وبالانضباط (والمراد به تميُّز الشيء عن غيره): ما هو منتشر لا ضابط له، كالمشقه؛ فلذلك لا يُعَلَّل إلا بوصف منضبط يشتمل عليها كما سيأتي. وبقولنا: (مُعَرِّف للحكم) ما يُعَرِّف نقيضه وهو "المانع"، أو ما يتوقف عليه المعَرِّف وهو "الشرط" كما سبق تقرير ذلك في تقسيم الحكم الوضعي إلى: سبب، وشرط، ومانع. وفصلتُ في النَّظم -لأجل الاختصار- بين قيد الانضباط وقيد كونه معرفًا بتقسيم المنضبط إلى: حقيقي، وعُرفي، ولُغوي، وشرعي. وتقسيمه باعتبار آخَر إلى: ما يكون جالبًا لمصلحة، أو رافعًا لمفسدة، أو جامعًا للأمرين فيكون دافعًا رافعًا. ثم ذكرت الخلاف في أن العلة هل هي مؤثِّرة في الحكم بالذات؟ أو بالوصف؟ أو

مُعَرِّفة ولا تأثير لها البتَّة؟ أو مؤثِّرة لكن بِجَعْل الباري تعالى ذلك؟ فالكلام على تقرير هذه الأمور. أما الأول (وهو تقسيم الوصف الظاهر المنضبط إلى أربعة أقسام) فوَجْه الحصر أنَّ ما يُعْلَم مِن ذلك: إما أن يتوقف العِلم به على وَضْع؟ أو لا؟ فإنْ لم يتوقف بل تُعُقِّل باعتباره في نفسه وإنْ كان تعريفه للحُكم إنما عُلِم مِن حيث الشرع، فهو "الوصف الحقيقي". وْإن توقف على وضع، فإما أن يكون الواضع له الشرع (أي: لم تُعْرف [وَصْفِيتُه] (¬1) إلا بالشرع) أو مِن حيث وضع لفظ يدل عليه مِن اللغة أو العُرف، فيُعْلَم مِن واضع اللغات أو مِن أهل العُرف. فالأول: الشرعي، والثاني: اللغوي، والثالث: العُرفي. فأما الأول (وهو "الحقيقي") فلا خلاف في التعليل به إذا كان مشتملًا على مصلحة مما سيأتي، كالطعم في قولنا: مطعوم؛ فيكون رِبَوِيًّا. فإن الطعم يُدْرَك بالحسِّ، لا يتوقف تَعَقُّلُه على تَعَقُّلِ غيره. وأما الشرعي (وهو الحكم الشرعي) فاختُلف في كونه علة لحكم شرعي: فجَوَّز الأكثرون التعليل به، كتعليل منع بيع الكلب بنجاسته؛ لأن العلة هي المعَرِّف على قول أهل السُّنة كما سيأتي، فلا امتناع أن يُجْعَل حُكم شرعي مُعَرِّفًا لحكم شرعي. وقيل: لا يُعَلَّل به؛ لأنه مُعَلَّل، فكيف يكُون عِلة؟ وجوابه: أنَّ جهة مَعْلُولِيَّتِه غير جهة عِلِّيَّتِه. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (ت): وضعيته.

ثم اختُلف أيضًا على قول كَوْنه علة لحكم شرعي: هل يُعَلَّل به وصف حقيقي؟ على قولين حكاهما في "المحصول"، أصحهما -كما قاله الهندي وغيره- الجواز؛ لِمَا قُلنا من أن العلة المعَرِّف، فيجوز أن يُعَرِّف حُكمٌ شرعي وصفًا حقيقيًّا. مثاله: تعليل كون الشعر موصوفًا بأنه تحله الحياة بأنه يحرم بالطلاق ويحل بالنكاح؛ فيكون حيًّا، كاليد. وأما اللغوي: فكتعليل تحريم النبيذ بأنه يسمى "خمرًا"؛ فحرم كعصير العنب. وأما الوصف العُرفي: فنحو الشرف والخسة في الكفاءة وعدمها، فإن الشرف يناسب التعظيم والإكرام، والخسة تناسب ضد ذلك؛ فيُعَلَّل به بشرط أن يكون مطردًا، أي: لا يختلف باختلاف الأوقات، وإلا لجاز أن يكون ذلك العُرف في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دُون غيره، فلا يُعَلَّل به. وأما تقسيم الوصف الظاهر المنضبط باعتبار وَجْه صلاحيته للتعليل مراعاةً لجلب المصالح ودرء المفاسد تَفضّلًا من الله -عَزَّ وَجَلَّ- لا وجوبًا فالوصف إما أن يكون جالبًا لمصلحة للعبد أو دارئًا لمفسدة عنه، أو يجتمع فيه الأمران. والدارئ للمفسدة على ثلاثة أقسام: إما أن يكون دافعًا لها، أو رافعًا لها، أو يجتمع الأمران فيه فيكون دافعًا رافعًا. فقولي في النَّظم: (أَوْ جَامِعَا) صادق على أمرين: أحدهما: أن يكون جامعًا لجلب المصلحة ودرء المفسدة. والثاني: أن يكون جامعًا لدفع المفسدة ورفعها. فأما الوصف الجالب للمصلحة والدارئ للمفسدة والجامع للأمرين فسيأتي مبسوطًا في اشتمال العلة على مصلحة العبد.

وأما كون الوصف "دافعًا لا رافعًا" أو "رافعًا لا دافعًا" أو "دافعًا رافعًا" فأمثلة ذلك كثيرة. فمن الأول: العدة دافعة للنكاح إذا وُجدت في ابتدائه، لا رافعة له إذا طرأت في أثناء النكاح، فإن الموطوءة بشبهة تعتد وهي باقية على الزوجية. ومن الثاني: الطلاق، فإنه يرفع حِل الاستمتاع ولا يدفعه؛ لأن الطلاق -أيْ استمراره- لا يمنع وقوع نكاح جديد بِشرطه. ومن الثالث: الرضاع، فإنه يمنع من ابتداء النكاح، وإذا طرأ في أثناء العصمة, رفعها. وإنما كان هذا وشِبهه من موانع النكاح يمنع في الابتداء والدوام [لتأبُّده] (¬1) واعتضاده بأن الأصل في الأبضاع الحرمة. وأما تقييد الوصف الظاهر المنضبط بكونه مُعَرِّفًا وحكاية الخلاف فيه فهو المشار إليه بقولي: (فَقَالَ أَهْلُ الحَقِّ) إلى آخِره. وحاصله حكايته أربعة أقوال في الأصل: أحدها: قول أهل السنة وهو الحق: أن العلة مُعرِّفة للحكم، لا مؤثِّرة؛ لأن الحكم قديم، فلا مؤثر له. فإن أريد تعلُّق الحكم بالمكلَّف فهو بإرادة الله تعالى، لا بتأثير شيء من العالم. ومعنى كونهها مُعرِّفة أنهها نُصبت أَمارة وعلامة يَستدل بها المجتهد على وجدان الحكم إذا لم يكن عارفًا به، ويجوز أن يتخلَّف (¬2)، كالغيم الرطب أَمارة على المطر وقد يتخلَّف. وهذا لا يُخْرِج الأمارة عن كونهها أَمارة. ¬

_ (¬1) كذا في (ق، ص، ش)، لكن في (ت): لفائدة. (¬2) يعني: قد توجد العِلة ويتخلَّف الحكم.

وقد سبقت مسألة أن الدال على الحكم النص أو العلة، وسيأتي لنا عودة إليه قريبًا. الثاني: أن العلة مؤثرة في الحكم، وهو قول المعتزلة، بناءً على قاعدتهم في التحسين والتقبيح العقليين. ثم قال بعضهم: إنها أثَّرت بذاتها. وقال بعضهم: بصفة ذاتية فيها. وقيل غير ذلك، وقال بعضهم: بوجوه واعتبارات. وقد أشرنا إلى ذلك في المقدمة في الكلام على "السبب" من خِطاب الوضع. وليس عند أهل السُّنة شيء من العالم مؤثِّرًا في شيء، بل كل موجود فيه فهو بخلق الله تعالى وبإرادته. الثالث: أنها مؤثِّرة لكن لا بذاتها ولا بصفة ذاتية فيها ولا غير ذلك بل بِجَعْل الشارع إياها مؤثِّرة. وهو قول الغزالي، وكذا قال سليم الرازي. قال الهندي: (وهو قريب لا بأس به). وردَّه الإِمام الرازي بأن الحكم قديم، فلا يُتصور أن يؤثِّر فيه شيء. وأيضًا: فإذا وُجِد المعلول فإما أن يكون مُوجِدُه الله تعالى أو تلك العلة أو هُما. والأخيران باطلان، لما يَلزم منه أنَّ غَيْر الله خالقٌ، أو أن له شريكًا في خَلْقه، وذلك مُحَال؛ فَتَعَيَّن الأول. ومنهم مَن بَنَى ذلك على أنه هل يعقل تأثير مِن غير أن يكون المؤثِّر مؤثِّرًا بذاته أو بصفة قائمة به أو نحو ذلك؟ أو لا يعقل؟ وبنوا [على ذلك] (¬1) مسألة خَلْق الأفعال. فأهل السنَّة يثبتون تعقله فيبطلون تأثير العبد في أفعاله، وإنما هي بِخَلْق الله تعالى وإيجاده. ¬

_ (¬1) في (ص): ذلك على.

والمعتزلة يقولون: إنه (¬1) خالقٌ لأفعال نفسه. ومحل بسط هذه المسألة أصول الدين. الرابع: أنها مؤثِّرة بالعُرف. واختاره الإِمام الرازي في " [الرسالة] (¬2) البهائية في القياس". فإن قلت: قال الآمدي وابن الحاجب: (إنَّ العلةَ: الباعثُ). فهل ذلك موافقة للمعتزلة؟ أو الغزالي؟ أو المراد غير ما أرادوه؟ قلت: ليس موافقةً لهم؛ لأنهما قد فَسَّرا ذلك بأنْ تكون مشتملة على حِكمة مقصودة للشارع مِن شَرْع الحكم، أي: مِن تحصيل مصلحة أو تكميلها أو دفع مفسدة أو تعليلها حتى لا تكون مجرد أمارة، وذلك إنما يكون إذا كانت العلة مستنبطة؛ فإنها إذا كانت منصوصة أو مجمعًا عليها، فالمعَرِّف النص أو الإجماع. فإن قوله مثلًا: (علة تحريم الخمر الإسكار) تصريح بحرمة الخمر، فلا يكون قد عُرِف بالعلة. وأما المستنبطة فإنما عُرِفَت من الحكم بطريق الاستنباط، فكيف تكون مُعَرفة له فيَلزم الدَّوْر؟ نعم، إنْ أُجيبَ بأن المراد مُعرِّفة لحكم الفرع وحُكمُ الأصل عَرَّفها، فلا دور. وهو معنى ما سبق نقله عن ابن الحاجب مِن أن الجامع فرعٌ للأصلِ أصلٌ للفرع، وسبق شرحه والتعقب عليه من وجه آخر. نعم، ردوا قول الآمدي: (إنها بمعنى الباعث للشارع على شَرْع الحكم) بأنه مخالف ¬

_ (¬1) يعني: العَبْد. (¬2) في (ص): المسألة. وفي معجم الأدباء (6/ 2589) ذكر ياقوت الحموي من تصانيف الرازي: "النهاية البهائية في المباحث القياسية".

لقول أهل السُّنَّة من حيث إنَّ أفعال الرب تعالى لا تُعَلَّل بالأغراض، وأن تفسيره بالاشتمال على حِكمة مقصودة للشارع من شرع الحكم لا يدفع هذا المحذور؛ لأنَّ المعنى أنه لأجل ذلك شرعه، فهو الباعث والداعي. فإذا قلت: (الربُّ تعالى حَرَّم الخمر؛ لأجل الإسكار)، فجعلتَ فِعلهُ لغرض، والرب منزه عن ذلك؛ لأن مَن فَعل فِعلًا لغرض لا بُدَّ أن يكون حصول ذلك الغرض بالنسبة إليه أَوْلى مِن عدم حصوله وإلا لم يكن غرضًا. وإذا كان أَوْلى، اكتسب به فاعلُه صفة مدح ويكون حصول تلك الأولوية لله تعالى متوقفة على الغير، فتكون ممكنة غير واجبة؛ فيكون كمالُه تعالى ممكنًا غير واجب، وهو مُحال. قلت: إذا حُمل كلام الآمدي وابن الحاجب على أحد أمرين، كان كلامهما سديدًا: أحدهما: أن يكون المراد أن شرعه لذلك على وَفْق مصلحة للعبد أرادها الله تعالى له، وهو الذي خلقها، وذلك من فضله وإحسانه، لا أنه واجب عليه؛ إذ لا يَلزم مِن قولنا: (إن الحكمة مقصودة للشارع) الإيجابُ عليه، بل بالمعنى الذي قررناه. ثانيهما: أن يُفَسر الباعث بما يُفسَّر به قول الفقهاء: (إن الله حَكم بكذا لِعِلة كذا، أو لمعنى كذا). فإنه ليس مرادهم تأثيره فيه لا بالذات ولا بغيرها، بل يَعْنون أن العلة باعثة للمكلَّف على الامتثال. كقولنا: حفظ النفوس يبعث المكلفين على فِعل القصاص الذي حَكم به الله تعالى، لا باعث للشرع على شرعية القصاص. كما نبه على ذلك الشيخ تقي الدين السبكي، وسيأتي في النَّظم التعرض له لما يترتب عليه من بيان أقسام العلة والطرق الدالة عليها. نعم، ينبغي أن يتجنب الألفاظ الموهمة، فالاعتراض إنما يتوجه عليها بهذا الاعتبار. ولهذا قال تقي الدين أبو العز المقترح: مَن فسر العلة بالباعث للشارع على الحكم أو الحاملة له على ذلك أو الداعية إنْ أراد به إثبات غرض حادث له فهو محال قررنا بطلانه في علم التوحيد، وإن أراد به أن يعقبها حصول الصلاح في العادة فسميت "باعثًا" تَجَوُّزًا فهذا لا

يجوز إطلاقه على الباري تعالى؛ لِمَا فيه من الإيهام للمُحال، إلا أن يُتَحَقَّق مِن الشرع إذن في إطلاقه، ولا سبيل إليه. تنبيهان الأول: قد سبق في الكلام على السبب أن "العِلة" قِسم من السبب، فهو أَعَم منها؛ فإنها يُعتبر فيها المناسبة وهو أَعَم من ذلك. فقد يكون زمانًا ومكانًا وغير ذلك مما بيَّناه هناك. ونزيد هنا أنَّ بينهما فرقًا في اللغة والكلام والأصول والفقه. فأما اللغة: فَـ"السبب" ما يُتَوَصَّل به إلى غيره ولو بوسائط. كتسمية الحبل سببًا. وذكروا للعلة معاني يدور [القَدْر] (¬1) المشترك فيها على أن يكون أمر مستمدًّا من آخَر له في إيجاده تأثير. ولهذا يقول أكثر النحاة: "اللام" للتعليل، و"الباء" للسببية. ولم يعكسوا التعبير فيهما. وقال ابن مالك: (الباء للسببية والتعليل). فَغَايَر بينهما. وأما في الكلام: فالسبب: ما يحصل الشيء عنده، لا بِه. والعلة: ما يحصل به. وأيضًا: "العلة" ما يتأثر بها المعلول بلا واسطة ولا شرط. و"السبب" ما يُفضِي للحكم بواسطة وشرط؛ ولذلك يتراخى حتى توجد وسائطه وشرطه وتنتفي موانعه. وفي الأصول: ¬

_ (¬1) في (ص، ق): الأمر.

قال الآمدي في "جدله" (¬1): العلة ما تكون للمظنة أو للحكمة، وأما السبب فللمظنة دائمًا، إذ بالمظنة يُتَوصل إلى الحكم لأجل الحكمة. وأما في الفقه: فذكر إلْكِيَا أنه يطلق فيه على أمور: منها: أن الإمساك مثلًا للقتل سبب، ومباشرة القتل عِلة. كأنه يجعل ما لا واسطة فيه "عِلة"، وما فيه واسطة "سببًا". وقال مرة: العلة ما يعقبه الحكم، والسبب ما يتراخى عنه و [يتوقف] (¬2) على شرط أو شيء بعده. وذكر الغزالي في الجنايات أن ما له مدخل في التلف إنْ لم يؤثر فيه ولا فيما يؤثر فيه فهو الشرط، كالإمساك. وإنْ أثَّر فيه وحَصَّله فهو العلة، ويسمى المباشرة، كالقَدِّ. وإنْ أثَّر فيه ولم يحصِّله فهو السبب، كشهادة الزور. وللقفال تَفْرقة أخرى قريبة من ذلك، وبسط ذلك محله الفقه. الثاني: قد يُعبَّر عن "العلة" بألفاظ ذكرها المقترح: السبب، الأَمَارة، الداعي، المستدعي، الحامل، المناط، الدليل، المقتضي، الموجِب، المؤثِّر. وزاد غيرُه: المعنى. وكُل ذلك اصطلاح سهل، والله أعلم. ¬

_ (¬1) كتاب للآمدي في عِلم الجدل. (¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): يتوقف عنه.

ص: 783 - وَالْحُكْمُ في الْأَصْلِ بِهَا قَدْ ثبَتَا ... وَلَيْسَ بِالنَّصِّ [بِحُكْمٍ] (¬1) أُثْبِتَا الشرح: المراد بالثبوت: ثبوت معرفته؛ لِمَا قررناه من أنَّ العِلة مُعَرِّفة، لا مؤثِّرة. وقد سبق تقرير هذه المسألة في تعريف الأصل وقول ابن الحاجب: (إنَّ الوصف الجامع فرعٌ للأصل، أصلٌ للفرع). وأنه ليس مذهب الشافعية، وإنما مذهبهم أنها مُعرفة لا مؤثِّرة كما سبق تقريره قريبًا، فلا حاجة إلى إعادة شيء مما سبق. والله أعلم. ص: 784 - وَمنْ شُرُوطِهَا: اشْتِمَالُهَا عَلَى ... حِكْمَةٍ، ايْ تَبْعَثُ أَنْ يُمْتَثَلَا 785 - وَنَفْيُ الِاطِّلَاعِ لَيْسَ قَادِحَا ... إنْ يَقُمِ الدَّلِيلُ فِيهِ جَانِحَا 786 - نَعَمْ، يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ ... عِنْدَ انْضِبَاطٍ هِيَ فِيهِ الْعِلَّةُ الشرح: أي: من شروط العلة اشتمالها على حكمة باعثة لكن على معنى أنها تبعث المكلَّف على الامتثال، لا أنها باعثة للشرع على ذلك الحكم كما سبق تقريره وأنَّ المراد بذلك هذا أو أنه على وَفْق ما جعله الله -عَزَّ وَجَلَّ- مصلحة للعبد تفضلًا عليه وإحسانًا له، لا وجوبًا على الله تعالى. ¬

_ (¬1) في (ت، س، ن 5): لحكم.

ففي ذلك بيان قول الفقهاء: (الباعث على الحكم بكذا هو كذا). أو أنهم لا يريدون بَعْث الشارع، بل بَعْث المكلَّف على الامتثال، مثل حفظ النفوس باعث على تَعاطي فِعل القصاص الذي هو مِن فِعل المكلَّف. أما حُكم الشرع فلا علة ولا باعث عليه. فإذا انقاد المكلَّف لامتثال أمر الله تعالى في أخذ القصاص منه ولكونه وسيلة لحفظ النفوس، كان له أجران: أَجْر على الانقياد، وأجر على قصد حفظ النفوس. وكلاهما أمر الله به، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178]، وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]. ومن أجل كون العلة لا بُدَّ من اشتمالها على حِكمة تدعو إلى الامتثال كان مانعها وصفًا وجوديًّا يُخِلُّ بحكمتها، ويسمى هذا "مانع السبب". فإنْ لم يُخِل بحكمتها بل بالحكم فقط والحكمة باقية، يُسمى "مانع الحكم". وقد سبق بيان ذلك في تقسيم خطاب الوضع أول الكتاب. فمثال المقصود هنا وهو "مانع السبب": الدَّين إذا قلنا بأنه مانع لوجوب الزكاة؛ لأن حِكمة السبب -وهو ملْك النصاب- استغناء مالِكه به، فإذا كان محتاجًا إليه لوفاء الدَّين، فلا استغناء؛ فاختلَّت حِكمة السبب بهذا الوصف المانع. وقولي: (وَنَفْيُ الِاطِّلاع) إلى آخِره -إشارة إلى أن الوصف وإنِ اشتُرط فيه اشتماله على حكمة لكن يجوز التعليل بما لا يُطلَع على حكمته؛ لأنه لا يخلو عنها في نفس الأمر. فإنَّ التعبُّدي ليس المراد به ما لا عِلة له، بل ما لا يُطَّلَع على عِلته، ولكن ما لا يُعْقَل فيه مناسبة يسمى "أَمَارة". نعم، إذا قُطِع بعدم وجود الحكمة في بعض الصوَر، جاز أن يُعَلَّل بالمظنة، خلافًا للجدليين. وممن صرح بالجواز: الغزالي وابن يحيى في "الأصول"، كاستبراء الصغيرة، فإنَّ حكمة الاستبراء تيَقُّن براءة الرحم، وهي مفقودة في الصغيرة، والتيقن محقَّق بدون

الاستبراء. والخلاف في الفقه في ذلك كثير منتشر. فمِن ذلك أن مَن قام مِن النوم وشَكَّ في طهارة يده، يُكره أن يغمسها في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثًا، فإن تَيقَّن فلا كراهة. وقال إمام الحرمين: يُكره وإنْ عُلِّق الحكم في الخبر على توهُّم النجاسة؛ لجواز أن يكون للتوهم ثم يَعُم، كالعدة شُرعت لبراءة الرحم ثم عُمّمَت في موضع تُعْلَم فيه البراءة. قال الشاشي في "المعتمد": (والمذهب الأول؛ لأنه علق على توهُّم النجاسة، وما عُلق بشيء، ينتفي عند انتفائه. هذا هو الأصل في العِلَل). قال: (وقد أبْعَدَ الإِمام المَرْمَى في تشبيهه بالعدة، وإلحاقه بالنجاسة المحققة أَوْلَى؛ فإنها تؤثر في المنع مِن غمس اليد في الإناء، ثم لا يثبت هذا الحكم فيه إذا كانت النجاسة متوهمة، أو بجعل توهم النجاسة كتحققها. كما قال أحمد في المنع، ويلحق ذلك بالعدة. فإذا لم يلحق حال تَوهُّم النجاسة بالعدة في وجوب المنع؛ فلأنْ لا يلحق حال تَحقُّق الطهارة في الاستحباب بالعدة أَوْلى. والعدة فيها ضربٌ من التعبد، و [حال تَحقُّق] (¬1) البراءة حالة نادرة، فألحقت بالغالب؛ لعدم إمكان الضبط. وتَيقُّن الطهارة ليس بنادر، والأصل طهارة اليد). انتهى قلتُ: فلو غسل مَن شك في نجاسة يده مرة أو مرتين بحيث تيقن طهارتها، فالأرجح لا تزول الكراهة حتى يغسل ثلاثًا؛ عملًا بظاهر الأمر. هذا مع انتفاء المعنى، [إلا] (¬2) أنْ يقال: دخله هنا ضربٌ مِن التعبد، فيكون كالعدة. ومن ذلك أيضًا: لو قال: (أنت طالق آخِر حيضك) أو: (مع آخر حيضك) فأصح ¬

_ (¬1) في (ص، ق): جاء في تحقيق. (¬2) في (س، ت): الأول إلا.

الوجهين أن الطلاق سُنِّي. ونَسبه الإِمام في "النهاية" للقياسيين، وقال في الوجه الثاني وهو أنه بِدعي: (إنه يعتقد بالرجوع إلى التوقف بالتعبد) (¬1). انتهى ومَأْخَذ الأول: أنَّ الحكمة في تحريم طلاق الحائض تطويل العدة، وهو مقطوع بانتفائه في هذه الصورة؛ فلا يثبت الحكم. ومأخذ الثاني: انتفاء الحكمة، [فأثبت] (¬2) بالعِلة وهي الحيض، وهو معنى قول الإِمام: (بالتعبد) أيْ: مِن جهةٍ. وإلا فالحيض هو العلة، ولا امتناع أن يكون الشيء تَعبُّديًّا مِن وَجْهٍ معقولًا مِن وَجْهٍ. والحاصل: أن التعليل بالمظنة وإنْ قُطِع فيها بنفي الحكمة إما لعدم انضباطها أو غير ذلك. ونحو هذا أيضًا: ما ذكره أصحابنا في "باب صلاة العيد" في ذهاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في طريق والرجوع في أخرى مِن الخلاف أنَّ: ما فَعله - صلى الله عليه وسلم - لمعنًى وزال، هل تبقى [سُنِّيَّته] (¬3)؟ أو لا؟ على وجهين، كالرمل ونحوه. لكن ليس هذا عَيْن الخلاف المذكور هنا؛ لأنَّ القائل ببقاء [سُنيته] (¬4) يقول: له علة أخرى. وهو جارٍ على جواز التعليل في حالة بِعِلَّة وفي أخرى بِعِلة غيرها. وقولي: (نَعَمْ، يَجُوزُ أَنْ تكُونَ الْحِكْمَةُ) إلى آخره -بيان أن ما سبق هو في الوصف المشتمل على الحكمة، أما نفس الحكمة فهل يجوز التعليل بها؟ أو لا؟ ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) نهاية المطلب (14/ 18). (¬2) في (ت، س، ض): فيما ثبت. (¬3) في (ص، ق، ش): سببه. (¬4) في (ص، ق، ش): سببه.

أحدها: يجوز مطلقًا؛ لأنها المقصود في التعليل. وهو اختيار الإِمام الرازي. والثاني: المنع مطلقًا؛ لخفائها (كالرضا في البيع؛ ولذلك أُنِيطَت صحةُ البيع بالصِّيَغ الدالة عليه) ولعدم انضباطها (كالمشقة؛ فلذلك أنيطت بالسفر). وهذا ظاهر كلام "جمع الجوامع" ترجيحه. والثالث: وهو ما صححه ابن الحاجب واختاره الهندي وعليه جريتُ في النَّظم: التفصيل بين أن تكون الحكمة (أي: المصلحة المقصودة لشرع الحكم) ظاهرة منضبطة فيجوز التعليل بها، وبين أن لا يكون كذلك فيمتنع. ووجْه ذلك: أنَّا نعْلم أنها هي المقصودة للشارع، وإنما عدل عن اعتبارها لخفائها واضطرابها في الأغلب، فإذا زال هذا المانع بظهورها وانضباطها، صَحَّ أن يُعَلَّل بها. وقولي: (عِنْدَ انْضِبَاطٍ) فيه استغناء عن اشتراط الظهور؛ لاستلزام الانضباط الظهور. وقولي: (هِيَ فِيهِ الْعِلَّةُ) جملة اسمية خبر "كان" في قولي أول البيت: (يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ). والضمير في "فِيهِ" يعود على الحُكم. أي: هي العلة في الحكم. والله أعلم. ص: 787 - لَا عَدَمِيٌّ عِلَّةً في مُثْبَتْ ... أَيْ: كَالْإضَافِيِّ، فَذَا لَا يُثْبَت الشرح: أي: لا أنْ يكون وصفٌ عدميٌّ علةً في حُكم ثبوتي. أي: فهذا من شروط العلة أيضًا على المختار عند الآمدي وابن الحاجب وغيرهما؛ لأن العدم إن كان:

- مطلقًا، فالتعليل به باطل قطعًا؛ لعدم تخصيصه بمحل أو بحكم، فلا [تميُّز] (¬1) فيه؛ لأنَّ الكل فيه سواء. - أو عدمًا مخصوصًا، فلا يُعلَّل به إنْ كان وجود ذلك "المفروض عَدَمه" منشأ مصلحة؛ لأنه لا يكون عدمه مصلحة أيضًا. وإنْ كان وجوده منشأ مفسدة فهو من قبيل الموانع، والمانع لا يكون علة، بل لا بُدَّ من مُقْتَضٍ. وهو معنى قول بعض الجدليين: [لأن] (¬2) العدم طرد، والتعليل بالطرد ممتنع. قال: فلو قال الشارع: (حكمتُ بكذا؛ لعدم كذا) كان للتأقيت (بمعنى: إذا انعدم، فاعرفوا ثبوت الحكم)، لا للتعليل. وخالف الإِمام الرازي وأتباعه فجوَّزوا أن يعلل به الحكم الثبوتي كما يُعلل به الحكم العَدَمي. وقال في "المحصول": (خلافًا لبعض الفقهاء). قال: (لأنه قد يحصل دوران الحكم مع بعض المقدمات، والدوران يفيد الظن). ولكن ضعّف هذا بأنه ليس له جهة اقتضاء يتخيل بالدوران التعليل بها. مثاله في الفقه: أن يقال: (بيع الآبق باطل؛ لعدم القدرة على التسليم). وقد يقال: إنما العلة العجز، وهو أمر وجودي، فهُما صفتان وجوديتان متقابلتان، لا مِن قبيل العدم والملكة. ووقع في "جمع الجوامع" النقل عن الإِمام المنع، وعن الآمدي الجواز. وهو سَبْق قَلَم. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): تمييز. (¬2) في (ت، س، ض): ان.

نعم، اختار الإِمام في "المعالم" المنع كما هو طريقة الآمدي. واعلم أن في ثبوت الخلاف بين الإِمام والآمدي نظر؛ لعدم تَوارُدهما على محل واحد، فإنَّ الإمام بناه على رأيه أن العلة مُعَرِّف، ولا امتناع أن يُعَرِّف عَدَميٌّ وجوديًّا. والآمدي بناه على أنها بمعنى الباعث، قلتُ: على كل حال الخلاف بينهما ثابت ولو كان مدْركهما [خِلافًا] (¬1) بينهما آخَر. نعم، قال ابن التلمساني: إن المسألة مبنية على تخصيص العلة، فإن منع التخصيص، جَوَّز هنا، ومَن جوَّز التخصيص يقول: العلة ضابط المصلحة، وهي شيء، والعدم لا شيء، فكيف يعلل به الشيء؟ قولي: (لَا عَدَمِيٌّ عِلَّةً) قد يدخل فيه ما إذا كان العدمٍ ليس تمام العلة، بل جزء منها, فإنَّ الخلاف جارٍ في ذلك أيضًا, فإنَّ العدمي أعم أن يكون كُلّا أو بعضًا. وقولي: (أَيْ: كالْإضَافيِّ) أي: من جملة العدمي إذا كان الوصف إضافيًّا، وهو ما [تَعقُّله] (¬2) باعتبار غيره، كالبنوة والأبوة، والتقدم والتأخر، والمعيَّة والقَبْلية والبَعْدية، ففي التعليل به ما سبق. وإنما قلنا: إنه عدمي؛ لأن وجوده إنما هو في الأذهان, لا في الخارج. هذا على المختار من الخلاف في أن الإضافي عدمي أو لا. ومحل بسطه عِلم الكلام. والله أعلم. ¬

_ (¬1) في (ص، ق، ض، ش): خلاف. (¬2) في (ق): تعلقه.

ص: 788 - وَعِلَّةٌ قَاصِرَةٌ يُعَلَّلُ ... بِهَا، فَذَا يُفِيدُ مَا يُفَصَّلُ 789 - فَمِنْهُ أَنْ يُعْلَمَ بِالْمُنَاسَبَهْ ... وَمَنْعُ إلْحَاقٍ لِمَا قَدْ قَارَبَهْ 790 - وَقُوَّةٌ لِلنَّصِّ، وَالزِّيَادَهْ ... لِلأَجْرِ في امْتِثَالِهِ عِبَادَهْ 791 - وَاعْدُدْ مِنَ الْقَاصِرَةِ الْمَحَلَّا ... وَجُزْءَهُ وَلَازِمًا قَدْ حَلَّا الشرح: هذا من الذي اشتُرط في العلة، ولكن الراجح المنع، وهو كَوْن العلة لا تكون قاصرة، بل متعدية لغير الحل المنصوص؛ حتى لا يُعَلَّل بالقاصرة، وهي التي لا توجد في غير المحل المنصوص. ولا تخلو القاصرة من أمرين: أن تكون عِليتها ثابتة بنص أو بإجماع، أو تكون مستنبطة. فأما الأول: فأَطْبَقَ العلماء كافَّة على جواز التعليل بها، وأن الخلاف كما في "التقريب والإرشاد" للقاضي إنما هو في المستنبطة. وأغرب القاضي عبد الوهاب في "الملخص" بحكاية قول بمنع التعليل بها مطلقًا منصوصة كانت أو مستنبطة، وقال: إنه قول أكثر فقهاء العراق. وأما الثاني: وهو أن تكون مستنبطة فالذي ذهب إليه الأكثرون (منهم الشافعي وأصحابه ومالك وأحمد والقاضي أبو بكر وإمام الحرمين وكذا عبد الجبار وأبو الحسين، وعليه المتأخرون كالإمام الرازي وأتباعه والآمدي): أنه يُعَلَّل بها. وذهب أبو حنيفة وأصحابه (منهم الكرخي وبه قال أبو عبد الله البصري) إلى أنه لا يُعلل بها. وحكاه الشيخ أبو إسحاق في "شرح اللمع" ثم النووي في "شرح المهذب" وجهًا لأصحابنا.

احتج المانع بأنه لا فائدة في التعليل بها؛ لأن الحكم مقرَّر بالنص. وغير المنصوص لا توجد فيه تلك العلة، فأي فائدة لها؟ والجواب: أن القاصرة المنصوصة أو المجمَع عليها متفق عليها، وما قالوه موجود فيها، فلو صح ما قالوه لكان النص عليها عبثًا والإجماع عليها خطأ. ونفي الفائدة أو حصرها فيما نفوه ممنوع؛ فلها فوائد تذكر مُفَصَّلة. منها: معرفة مناسبة الحكم للحكمة؛ إذ بالتعليل تُعرف الحكمة وأن الحكم على وَفْق الحكمة والمصلحة؛ فيكون أَدْعَى إلى القبول والانقياد مما لم تُعْلَم مناسبته. لكن قال المقترح: إن السببية إنما جعلت لتعريف [الحكم] (¬1)، لا لِما ذُكِر. وجوابه: أنه لا ينافي الإعلام طلب الانقياد لحكمته. ومنها: إفادة المنع لإلحاق فرع بذلك؛ لعدم حصول الجامع الذي هو [عِلة] (¬2) في الأصل. واعتُرض بأن ذلك من المعلوم من موضوع القياس، فأين الفائدة المتجددة؟ وأجيب بأنه لو وُجد وصف آخَر مُتَعَدٍّ، لا يمكن القياس به حتى يقوم دليل على أنه أَرجح من تلك العلة القاصرة، بخلاف ما لو لم يكن سوى العِلة المتعدية، فإنه لا يفتقر الإلحاق بها إلى دليل على ترجيح. نعم: سيأتي في باب التراجيح أنهما إذا تعارضا مِن غير أن يكون لإحداهما مرجِّح أن الأصح تقديم المتعدية. وقيل: القاصرة. وقيل بالوقف. ¬

_ (¬1) في (ض، ت، س): الحكمة. (¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): علته.

فلا يُعترض به على ما قررناه؛ لأن القصد أنها إذا رجحت القاصرة بدليل، قُدِّمت، أو كان للقاصرة مرجِّح يقابل التعدي، تَعادَلَا، فظهرت الفائدة. ومنها: أن النص يزداد قوة بها، فيصيران كدليلين يتقوى كل منهما بالآخر. قاله القاضي في "التقريب والإرشاد"، وهو مخصوص بما يكون دليل الحكم فيه ظنيًّا، أما القطعي فلا يحتاج لتقوية. نبه عليه الإِمام في "البرهان". ومنها ما قاله الشيخ تقي الدين السبكي: إن المكلف يزداد أجرًا بانقياده للحكم بسبب تلك العلة المقصودة للشارع مِن شرعه، فيكون له أجران: أجر في امتثال النص، وأجر في امتثال المعنى فيه (¬1). وذكر بعضهم معنًى خامسًا: أن معرفة العلة زيادة في العِلم، ولا شك أنه فضل على مَن لم يَعلم. ولكن فيه نظر؛ لأنَّ المانع يمنع أن يكون هذا عِلة حتى يكون العِلم به فضيلة، بخلاف الفوائد المذكورة. وذكر الشيخ أبو إسحاق من الفوائد أيضًا أنه لو حدث فرع فيه تلك العِلة، أُلْحِق بالأصل؛ لأجلها. فلو لم تكن معلومة مِن قبل حدوثه؛ لَمَا ألحقناه. وضُعِّف بأنه حينئذٍ يتبين أن العلة غير قاصرة، والكلام في القاصرة. فلذلك لم أَتَعَرَّض في النَّظم لشيء من ذلك. وقولي: (وَاعْدُدْ مِنَ الْقَاصِرَةِ الْمَحَلَّا) إلى آخِره -إشارة إلى أن مِن العلل القاصرة: - محل الحكم، كقولنا: الذهب رِبوي، لكونه ذهبًا، والخمر حرام؛ لأنه مُسْكر معتصر ¬

_ (¬1) انظر: رفع الحاجب (4/ 187).

من العنب. - وجزء المحل الخاص به، كالتعليل باعتصاره من العنب فقط. - والوصف اللازم، كالنقدية في الذهب والفضة، فأنه وصف لازم لهما. ومثَّله في "المستصفى" بالصغر في الولاية عليه. وفيه نظر؛ فإنه ليس بلازم، فقد يكبر، فهو كالشدة المطربة في العصير إذا اشتد. وقَيَّدنا الجزء بالخاص؛ تَحَرُّرًا من المشترك بين المحل وغيره، فإن ذلك لا يكون إلا في المتعدية، كتعليل إباحة البيع بكونه عقد معاوضة، فإن جزءه المشترك وهو عقد الذي هو شامل للمعاوضة وغيرها -لا يُعَلَّل به. وإنما لم أقيد بذلك في النَّظم لظهور المراد بالجزء؛ لأنَّ لفظ القصور مخرج له بالضرورة. واعلم أن الهندي جعل الخلاف في هذا مبنيًّا على جواز التعليل بالعلة القاصرة، فمَن منع هناك منع هنا، ومن أجاز -وهُم الأكثرون- أجاز هنا. لكن المتجه أنه مِن صُوَر القاصرة، فلا حاجة لجعله مبنيًّا عليه، فإن ذلك يُشْعِر بالمغايرة، وليس كذلك. وهو معنى قول ابن الحاجب في شروط العلة: (وأن لا تكون المتعديةُ المحلَّ ولا جزءًا منه؛ لامتناع الإلحاق، بخلاف القاصرة). أي: فإنها تكون نفس المحل أو جزءه. نعم، جَعْله ذلك شرطًا في المتعدية مع عدم إمكانه -فيه نظر؛ فإن انتفاء المستحيل في الشيء لا يُجعل شرطًا له؛ لأنه تحصيل الحاصل إلا أن يذكر ذلك على سبيل التنبيه والتوكيد. وفي المحل والجزء قول ثالث: إنه يمتنع التعليل بالمحل دُون الجزء. قولي: (لِمَا قَدْ قَارَبَهْ) أي: منع الإلحاق بالأصل الفرع الذي قد قارب الأصل ولكن لم

توجد فيه العلة؛ لأن الفرض أنها قاصرة على محلها. وقولي: (في امْتِثَالِهِ عِبَادَهْ) أي: له الأجر في امتثال الوصف المعَلَّل به حال كونه مقصودًا به العبادة. والله أعلم. ص: 792 - وَعَلَّلُوا بِذِي اشْتِقَاقٍ وَلَقَبْ ... وَعَدَدٍ؛ لِنَفْيِ تَأْثِيرٍ وَجَبْ الشرح: اشتمل هذا البيت على ثلاثة أمور جائزة في التعليل: أحدها: التعليل بالاسم المشتق -كاسْم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة ونحو ذلك- جائزٌ على معنى أن المعنى المشتق ذلك منه هو علة الحكم، نحو: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، "مطل الغني ظلم" (¬1)، "ليس للقاتل ميراث" (¬2)، وغير ذلك مما لا ينحصر. وفي معناه "الموصول"، فإنَّ صلته تكون علة للحكم، سواء أكانت صلته فيها مشتق كالفعل ونحوه أو لا. وحكى بعضهم فيه الاتفاق. وفيه نظر؛ فإنَّ سليمًا في "التقريب" حكى قولًا، بمنع التعليل بالاسم مطلقًا، جامدًا كان أو مشتقًا. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه.

الثاني: التعليل بالاسم اللقب، والمراد به ما ليس بمشتق، لا الذي هو أحد أقسام العَلَم فقط كما عُبِّر في المفاهيم بِـ "مفهوم اللقب"، والمراد به الأعم من العَلم واسم الجنس الجامد. ومثال التعليل باللقب: تعليل الربا في النقدين بكونهما ذهبًا وفضة، وتعليل ما يُتيمم به بكونه ترابًا، وما يُتوضأ به بكونه ماءً. كما أشار إلى التمثيل بذلك الشيخ أبو إسحاق في "اللمع"، والتعليل بذلك جائز على الأصح. وقيل: ممتنع؛ لأنه لا إشعار له بمعنى يُجْعَل عِلته. ورُدَّ بأن المدار على أنه تعلق به الحكم كيف كان، فكما يجوز النص على حُكمه وهو جامد فكذلك تكون عِلته وهو جامد. ووقع في "المحصول" حكاية الاتفاق على أنه لا يجوز التعليل بالاسم، كتعليل تحريم الخمر بأنه يسمى "خمرًا"، قال: (فإنا نَعلم بالضرورة أن هذا اللفظ لا أثر له، فإنْ أُريد به [تعليل لمسمَّى] (¬1) هذا الاسم من كونه مخامرًا للعقل فذلك تعليل بالوصف، لا بالاسم) (¬2). فيصير ما قاله الإمام طريقة ثانية بعدم الخلاف والقطع بالمنع. لكن الأصح الجواز كيف فُرِض الخلاف كما صححه ابن السمعاني وغيره. وقد وقع للشافعي التعليل به كثيرًا، فمن ذلك قوله في بول ما يؤكل لحمه: لأنه بول، فشابَهَ بول الآدمي. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (ت): التعليل بمسمى. وفي (س): تعليل مسمى. (¬2) المحصول (5/ 311).

وقال صاحب "الخصال" من الحنابلة أنَّ الإمام أحمد نَص على التعليل به أيضًا. واعْلَم أن الشيخ بدر الدين في "شرح جمع الجوامع" ذكر أمرين: أحدهما: أنه جعل من التعليل بالاسم قِسمًا ثالثًا غير المشتق واللقب بعد أن فسر المشتق بأنه ما اشتق مِن فِعل، كالسارق والقاتل، فقال: (الثالث: اسم اشتُق مِن صفة، كالأبيض والأسود). قال: (قال ابن السمعاني: فهذا مِن عِلل الأشباه الصورية، فمَن احتج بالشبه الصوري احتج به) (¬1). وفيما قاله نظر من حيث إن مذهب البصريين أن الأفعال مشتقة من الاسم وهو المصدر، والكوفيون عندهم بالعكس، فلا توافق التفرقة بين ما اشتق من اسم وما اشتق مِن فِعل لا البصريين ولا الكوفيين. فإنْ أراد بما اشتُق مِن فِعل أنْ يُسْمَع له فِعل وبما اشتُق مِن اسم أنْ لا يُسْمَع له فِعل، فيقال: الأبيض والأسود ونحوهما من الألوان لها فِعل، [وهو: بيض وسَوِدَ] (¬2)، قال الجوهري: (وقد سَوِدَ الرجُل، كما يقول: عَوِرَتْ عَيْنُه) (¬3). قال نُصَيْب (¬4): سَوِدْتُ فلم أَمْلِكْ سوادي وتَحْتَه ... قميصٌ مِن القُوهِي بِيضٌ بَنائِقُه وإنْ أراد أن الصفة المشبهة ليس من المشتق فممنوع؛ لأنه من أوصاف اسم الفاعل إلا أنه من اللازم. وكذا لو جعل "أَفْعَل" تفضيل، كما يقول: هذا أَسْوَد مِن هذا. ¬

_ (¬1) تشنيف المسامع (3/ 230). (¬2) هذه العبارة ذُكرت هنا في (ت، هامش س)، لكن في سائر النُّسخ ذُكرت بعد قول نُصَيْب. (¬3) الصحاح (2/ 491). (¬4) نُصيب بن رباح شاعر مشهور، توفي 108 هـ. (الأعلام، 8/ 31).

وكأنَّ مراد ابن السمعاني أن السواد والبياض لا مناسبة فيهما بجلب مصلحة ودرء مفسدة؛ فيكون التعليل بهما ونحوهما من الشبه الصوري، لا أنَّ المدار على اشتقاقه من فِعل ولا اسم. الثاني: قال: لك أن تسأل عن الفرق بين العلة القاصرة والتعليل بالمحل والتعليل بالاسم. قال: والجواب أنَّ العلة القاصرة أعم من المحل؛ لأن المحل ما وُضع له اللفظ، كالخمر والبُر. والقاصرة وصف اشتمل عليه محل الوصف لم يوضع له اللفظ، كالنقدية، فكل محل علة قاصرة، وليس كل علة قاصرة محلًّا. قال: (وأما الفرق بين المحل والاسم فقيل من وجهين: أحدهما: أن المراد بالاسم الجامد الذي لا يُنبئ عن صفة مناسبة، بخلاف الخمر الدال على التخمير المناسب للتحريم. وهذا يشكل بالبر فإنهم جوَّزوا التعليل به وهو جامد. والثاني: أن يكون المراد التعليل بالتسمية، نحو: "حرمتُ الخمر؛ لتسميتها خمرًا، والتفاضل في البُر؛ لتسميته بُرًّا" ونحوه؛ إذِ التسمية لا تأثير لها، بخلاف المعنى المستفاد من المحل بإشارة أو تنبيه. وربما التفت الكلام هنا إلى الاسم والمسمَّى هل هما واحد؟ أو متغايران؟ والمراد "المسمَّى" الذي هو مدلول الاسم، فحُكمه حُكم سائر العِلل، إنْ كان مؤثِّرًا أو مناسِبًا، عُلل به، وإلا فلا. ومَن أراد "الاسم" الذي هو اللفظ، لم يُعَلل به قطعًا) (¬1) انتهى وفيه مناقشات: أحدها: قوله في التفرقة بين المحل والقاصرة: (إنَّ القاصرة وَصْفٌ اشتمل عليه محل ¬

_ (¬1) تشنيف المسامع (3/ 140 - 141).

الوصف لم يوضع له اللفظ) غير سديد؛ لأنَّ قصده بيان أن القاصرة أعم، فذكر شيئًا لا يدخل فيه المحل، فكيف يكون أعم؟ ! وأيضًا فتعريف القاصرة بذلك ولم يشترط في الوصف أن يكون لازمًا، بل الذي لم يوضع له اللفظ. أي: اللفظ الدال على المحل يشمل الوصف غير اللازم؛ ليخرج نحو الطعم في البُر، فإنه غير لازم، فهو مِن المتعدي؛ لشموله غير البُر مع أنَّ اسم البُر ليس موضوعًا له. وإنما كان صواب العبارة أن يقول: والقاصرة أَعَم من المحل؛ لأنها تكون بالمحل وبجزئه الخاص وبالوصف اللازم للمحل أو لجزئه الخاص كما سبق إيضاحه. ثانيها: تفرقته بين المحل والاسم بوجهين، ثم قال عقب الأول: (وهذا يشكل بالبُر). [فليس] (¬1) فيه إشكال؛ لأن الكلام في التفرقة بين حقيقتيهما، لا بين حُكميهما، فإنه قد قدّم أنَّ حُكمهما في التعليل الجواز. ثالثها: قوله في الفرق الثاني بين الاسم والمحل: (إنَّ المحل يُلْحَظ فيه مناسبة، بخلاف الاسم). قد يُدَّعَى أنه يُلحظ في التسمية معنى [مناسب] (¬2). ثم ذكر التفاته إلى أنَّ الاسم عَيْن المسمَّى أو غيره. يُقال: عليه التفريع، على أنَّ الاسم يُعَلَّل به وإنْ لم يكن فيه مناسبة كما سبق تقريره. وإنما السؤال عن الفرق بين حقيقتيهما، لا عن كون أحدهما يُعلَّل به والآخَر لا يُعلل به، فَتَأَمَّله. ¬

_ (¬1) كذا في (س)، لكن في (ص، ق): ليس. (¬2) في (ص، ق): المناسب.

الأمر الثالث مما اشتمل عليه البيت: تَعَدُّد العِلل والحكم المعَلَّل واحد، والتعدد فيه على وجهين: أحدهما: أن يكون كلٌّ مِن ذلك المتعدد مستقلًّا بالعِلِّية لو انفرد. والثاني: أن يكون أوصاف متعددة ولكن مجموعها عِلة، وكلُّ واحدٍ منها جزء علة. والأمران جائزان؛ فلهذا أطلقتُ قولي في النَّظم: (وَعدد) وإن كان في الثاني مجازًا؛ إذ لا يقال: إنها عدد عِلل، بل عدد أجزاء عِلة واحدة. لكني قصدتُ إدخالها اقتصارًا؛ لأنهما في الحكم واحد، وهو الجواز. وأيضًا: فإذا جاز تَعدُّد العلل المستقلة فلأنْ يجوز تَعدُّد أركان عِلة واحدة من باب أَوْلى. فأما المسألة الأُولى: فالمعلَّل بالعلل المتعددة إما أن يكون واحدًا بالنوع أو واحدًا بالشخص. فالواحد بالنوع يجوز تعدد عِلله بحسب تعدد أشخاصه بلا خلاف: كتعليل إباحة قتل زيد بِرِدَّته، وقتل عمرو بالقصاص، وقتل بكر بالزنَا، وقتل خالد بترك الصلاة. وأما الواحد بالشخص فلا خلاف في امتناع تعدد العِلل العقلية فيه؛ لأنها بمعنى تأثير كل واحدة، والمؤثِّرات على أثر واحد مُحَال كما قرر في محله. وأما العلل الشرعية فهي محل الخلاف. والصحيح فيها فمن المذاهب الجواز والوقوع، كتحريم وطء الحائض المعتدة المحرمة، وكالحدث بخروج مِن فرج وزوال عقل ومس فرج ولمس أجنبية، فإنَّ كل واحد من المتعددين المذكورين يُثْبِت الحكم مستقلًّا. وإنما كان كذلك؛ لأن العلة الشرعية بمعنى المعَرِّف، ولا يمتنع تعدُّد المعرف؛ لأن مِن شأن كل واحد أن يُعَرِّف، لا الذي وُجِد به التعريف حتى تكون الواحدة إذا عُرفت فلا تُعرف الأخرى؛ لأنه تحصيل الحاصل.

وهو معنى قولي: (لِنَفْيِ تَأْثِيرٍ وَجَبْ). أي: إنما جاز تعدُّد العلة؛ لأن العلل الشرعية يجب نفي التأثير عنها، بل هي مُعَرِّفة. والمذهب الثانى: ونقله القاضي وإمام الحرمين واختاره الآمدي: إنه غير جائز. فبالضرورة يكون غير واقع. وأن ما ذكرتم من الوقوع يعود إلى القسم الأول وهو أن المعلل بها واحد بالنوع، وأما الشخص فمتعدد. فالقتل بأسباب أشخاص القتل متعددة، والنوع واحد في المحل الواحد. فإنَّ القتل في صورة واحد مُحال تَعَدُّده؛ إذ هو إزهاق الروح. وكذلك أسباب الحدث إنما هي أحداث في محل، لا حدث واحد. قيل: لو ارتضعت صغيرة بلبن زوجة أخيك وبلبن أختك كانت محرمة عليك؛ لكونك خالها وعمها، ولا يقال: فيه تحريمان: تحريم العم، وتحريم الخال. فهو مُزيل لِمَا تعلقوا به من الشبهة. وفيه نظر؛ فقد يقال فيه بذلك بحسب التقدير؛ إذ لا مانع من ذلك. والمذهب الثالث: وبه قال الأستاذ وابن فورك واختاره الإمام الرازي وأتباعه: أن ذلك جائز في العلة المنصوصة دون المستنبطة؛ لأن المنصوصة دل الشرع على تعددها، فكانت أمارات. وأما المستنبطة فما فائدة استخراجها علة إلا أنه لا علة غيرها تُتَخَيَّل. وجوابه: أنها إذا كانت أمارات فاستنبطت متعدِّدة، فلا فرق. الرابع: أن التعدد جائز عقلًا وممتنع شرعًا، على معنى أنه لم يقع في الشرع، لا على معنى أن الشرع دل على منعه. وهذا ما نقله ابن الحاجب عن إمام الحرمين. ونقل الآمدي عنه خلاف ذلك، ولكن قال الهندي: إن هذا هو الأشهر في النقل عنه. قيل: وهو الصحيح؛ فإنَّ عبارته في "البرهان": "ليس ممتنعًا عقلًا وتسويغًا ونظرًا إلى المصالح الكلية، ولكنه ممتنع شرعًا". وقال أنه تصفح الشريعة فلم يجد ذلك.

وقال: إن المختلفين في المسائل يختلفون في العِلل كاختلافهم في الحكم، كباب الربا. وأما كلام الإمام في "الفروع" فإنه يقتضي خلاف ذلك، كما قال في تدبير المستولدة: إنه يصح، ويكون لعتقها يوم موت السيد سببان. إلا أن يقال: إنه قد صرح بأنه لا بقاء للتدبير. وكأنه إنما منع اجتماع علتين مُعَرِّفتين أو مؤثِّرتين، فحيث لا يحصل اجتماع لا مَنعْ. نعم، هل يجري هذا الخلاف في التعليل بِعلتين سواء أكانتا متعاقبتين أو معًا؟ أو هو مختص بِالمَعِيَّة؟ كلام ابن الحاجب يقتضي الأول، ورجح غيرُه الثاني؛ لما يَلزم من شموله حالة التعاقب أن يكون [أحدٌ مِن الأُمة يمنع] (¬1) أنَّ اللمس والمس ليسَا بعِلتين وإنْ وُجِد أحدهما بمفرده، بل لا علة إلا واحد فقط، فلا يكون للحدث -مثلًا- غير علة واحدة. ولا قائل بذلك. وأما المسألة الثانية: فهي التعليل بالوصف المركب، والمعظم على الجواز، وبه قال المتأخرون ومنهم الإمام الرازي وأتباعه؛ لأن الذي يُستَدل به على العِلة المفردة يُستدل به على المركَّبة، فهُما سواء. وذلك كما تقول في قصاص النفس: قَتْل عَمْد مَحْض عدوان. هذا قول الجمهور. ومنهم مَن منع ذلك مطلقًا. ومنهم مَن قال: يجوز ولكن لا تزيد الأوصاف على خمسة. نقله الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، ووقع في "المحصول" في نقله عن حكاية الشيخ أبي إسحاق أنه قال: لا تزيد على سبعة. قيل: وكأنه تصحيف، والذي في عِدة نُسخ من "شرح اللمع" إنما هو خمسة. والله أعلم. ¬

_ (¬1) في (س، ت): أخذ من الآية منع. وفي (ش، ض): أخذ من الآية يمنع.

ص: 793 - كَذَا تَعَدُّدٌ لِحُكْمِ وَاحِدَهْ ... كسِرْقَةٍ قَطْعًا وغُرْمًا [قَائِدَهْ] (¬1) الشرح: هذه المسألة مقابلة للمسألة السابقة، وهي أن تتحد العلة ولكن يتعدد المعلول فيكون أحكامًا مختلفة، وله صورتان: أنْ لا يكون المتعدد من الحكم فيه تضاد، أو يكون فيه تضاد. فأما الأُولى: فذهب الجمهور فيها إلى أن العلة الواحدة الشرعية يجوز أن يترتب عليها حُكمان شرعيان مختلفان معًا؛ لأنَّ العلة إنْ فُسرت بالعَرِّف فجوازه ظاهر؛ إذ لا يمتنع عقلًا ولا شرعًا نَصْبُ أَمارة واحدة على حُكمين مختلفين، بل قال الآمدي: لا نعرف في ذلك خلافًا. كما لو قال الشارع: جعلت طلوع الهلال أَمارة على وجوب الصوم والصلاة، أو: طلوع فجر رمضان مُعرِّفًا لوجوب الإمساك من الصبح. وسواء أكان ذلك في الإثبات أو في النفي. فمِن الإثبات ما مثَّلتُ به في النَّظم من السرقة، فإنها عِلة في القطع؛ لمناسبة زَجْر السارق حتى لا يعود، وفي غرامة المال المسروق لصاحبه؛ لمناسبته لِجَبْره. وهو كثير. ومن العلة في النفي: الحيض؛ فإنه عِلة لمنع الصلاة والطواف وقراءة القرآن ومَس المصحف، ووطئها، وطلاق الزوج، وغير ذلك؛ لمناسبته للمنع من كل من ذلك. ولا بُعد في مناسبة وصف واحد لِعَدَد من الأحكام كما مثَّلنا. وذهب شرذمة يسيرة إلى المنع من ذلك، قالوا: لِمَا فيه مِن تحصيل الحاصل؛ لأن الحكمة ¬

_ (¬1) كذا في (ن 3، ن 4)، ويظهر لي أنَّ معناها: كَسَرقة تَقُود إلى القَطْع والغُرْم. وفي (ق، ص، ش، ن 2، 5): قايدة. وفي (ن 1): فائدة. وفي (ت): فايدة.

التي اشتمل عليها الوصف استوفاها أحد الحكمين. وَرُدَّ بأنه يكون فيه حكمة أخرى تناسب الحكم الآخَر، أو أن الحكمة لا تحصل إلا بالحكمين معًا. الصورة الثانية: أن يكون بين المتعدد مِن الحكم المعَلل تضاد. وعلى هذه الصورة اقتصر البيضاوي، ولم يصرح ابن الحاجب بها. ولكنها داخلة في إطلاقه تعليل حُكمين بِعِلَّة واحدة. ولكن لا يجوز هنا إلا بشرطين متضادين، كالجسم يكون علة للسكون بشرط البقاء في الحيز، وعِلة للحركة بشرط الانتقال عنه. وإنما اعتُبر فيه الشرطان لأنه لا يمكن اقتضاؤهما لهما بدون ذلك؛ لئلَّا يَلزم اجتماع الضدين، وهو مُحال. وإنما شُرط التضاد في الشرطين؛ لأنه لو أمكن اجتماعهما كالبقاء في الحيز مع الانتقال -مثلًا- فعند حصول ذينك الشرطين إنْ حصل الحكمان -أعني السكون والحركة- لَزِمَ اجتماع الضدين. وإنْ حصل أحدهما دون الآخر، لزم الترجيح دون مُرجِّح. وإنْ لم يحصل واحد منهما، خرجت العلة عن أن تكون علة؛ فتعَيَّن التضاد في الشرطين. وهو معنى قول البيضاوي: (ولكن بشرطين متضادين). والله أعلم. ص: 794 - وَمِنْ شُرُوطِهَا انْتِفَا تَأَخُّرِ ... ثُبُوتهَا عَنْ حُكمِ الَاصْلِ المُعْتَرِي 795 - وَعَوْدِ الِابْطَالِ عَلَى أَصْلٍ، وَإنْ ... تَكُنْ بِالِاسْتِنْبَاطِ فِيمَا قَدْ زُكِنْ 796 - فَالنَّفْيُ لِلْمُعَارِضِ الْمُنَافِي ... لَهَا، وَأَنْ تَعْرَى مِنَ الْخِلَافِ 797 - لِلنَّصِّ وَالْإجْمَاعِ فِيمَا عَلِمَه ... وَشَرْطُهَا التَّعْيِينُ؛ فَاطْرَحْ مُبْهَمَهْ

الشرح: اشتملت هذه الأبيات على خمسة مِن شروط [عِلة] (¬1) الأصل. أحدها ما ذكره ابن الحاجب وغيره: أن لا يكون ثبوت العلة متأخرًا عن ثبوت حُكم الأصل. وخالف في ذلك قوم من أهل العراق كما قاله القاضي عبد الوهاب. كما لو قيل فيمن أصابه عَرَق الكلب: أصابه عرق حيوان نجس؛ فكان نجسًا، كلعابه. فيمنع السائل كَوْن عرق الكلب نجسًا. فيقول المستدِل: لأنه مستقذر شرعًا، أي: أمر الشارع بالتنزه منه؛ فكان نجسًا، كالبول. فيقول المعترِض: هذه العلة ثبوتها متأخر عن حُكم الأصل، فتكون فاسدة؛ لأن حُكم الأصل -وهو نجاسته- يجب أن يكون سابقًا على استقذاره؛ لأن الحكم باستقذاره إنما هو مرتب على ثبوت نجاسته. وإنما كانت هذه العلة فاسدة لتأخرها عن حكم الأصل؛ لِمَا يَلزم مِن ثبوت الحكم بغير باعث (على تقدير تفسير العلة بالباعث)، وقد فرضنا تأخُّرها عن الحكم، وهو محُال. فإن قلنا بأن العلة أَمارة مُعَرِّفة لا باعثة فيلزم منه تعريف المعَرف، وهو محال؛ لأن الفرض أن الحكم قد عُرف قبل ثبوت عِلته. لكن إنما يتأتى هذا إذا قلنا أن معنى "المُعَرِّف": الذي يحصل التعريف به. أما إذا قلنا: الذي مِن شأنه التعريف، فلا. فلذلك قال الهندي: إنَّ الحقَّ الجواز إنْ أُريدَ بالعلة المعرف. أي: لأن المعرف يتأخر، بل الحادث يُعَرِّف القديم كما في تعريف العالَم لوجود الصانع واتصافه بصفات ذاته السنية. الثاني: أنْ لا يعود على حُكم الأصل بالإبطال، حتى لو استنبطت مِن نَص وكانت تؤدي إلى ¬

_ (¬1) في (ت): علية.

ذلك، كان ذلك فاسدًا. وإنما لم أُخَصص هذا الشرط بالمستنبطة بل أطلقتُ كما أطلقه ابن الحاجب وغيره وإنْ قيدت الشرط الذي بعده بالمستنبطة؛ لأنَّ ما يعود بالإبطال لا يكون في منصوصة؛ لئلَّا يؤدي للتناقض، ولا في مستنبطة؛ لِمَا ذكرناه، وذلك لِمَا يَلزم مِن إبطالها أصلها أن تكون هي باطلة؛ لأن الفرع يَبْطل ببطلان أصله. ولهذا ضُعِّف تأويل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "في أربعين شاة شاة" (¬1) ونحو ذلك أنَّ المعنى فيه سد خلة المستحق حتى يجوز أن يدفع له قيمة الشاة كما سبق في أمثلة التأويلات البعيدة. ووَجْه ضَعْفه أنه يعود على أصله -وهو إيجاب الشاة- بالبطلان، وذلك أنه يَلزم أن لا تجب الشاة عينًا؛ فإنَّ غَيْر الشاة ليس بِشاة. قال بعض المحققين: ليس هذا رفعًا؛ لأنه إنما يكون رفعًا أنْ لو أدى إلى عدم إجزاء الشاة مثلًا. ولهذا قال أصحابنا في الإيتاء في الكتابة: إنه إنْ شاء السيد أَسقط عن المكاتب قَدْر ما يؤتيه مِن آخِر نجم، وإنْ شاء إذا قبضه يدفع منه. ذلك لأن المعنى في الإيتاء إعانة المكاتب، وهو حاصل بذلك، ولم يقولوا: إنه عاد بالإبطال باعتبار أن الإيتاء صار غير واجب عَيْنًا. ولهذا قال السهروردي: أنصف أمير المتأخرين -يعني الغزالي- إذ قال في "المستصفى": ليس هذا رفعًا للنص، وإنما يَلزم أنْ لو جوَّزوا الترك مطلقًا، أما إلى بدل فلا تخرج الشاة عن كونها واجبة. فإنَّ مَن أدَّى خصلة من خصال الكفارة المخيرة فقد أدَّى واجبًا وإنْ كان الوجوب يتأدى بغيرها، فهذا توسيع للوجوب، لا إسقاط له. وأما تخصيص الشاة بالذِّكر فيجوز أن يكون لكثرة الوجود عندهم كما ذكر الحجر في الاستنجاء مع جوازه بالمدر والخرق ونحوها، أو لسهولة الأداء على المالك. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

وأجاب بعضهم عن ذلك بأن وجه الرفع للنص في ذلك أن الزكاة تتعلق بِالعَيْن على الأرجح من أقوال الشافعي، فإذا جُوِّزَت القيمة، كان تعليقًا للزكاة بالذمة؛ فأبطل التعلُّق بِالعَيْن. ويمكن أن يُفَرق بذلك بين هذا وبين مسألة الإيتاء في المكاتب، فيقال: الإيتاء لم يتعلق بعين ما يأخذه السيد، بدليل أنه لو أعطاه مِن غير الذي جاء به، جاز قطعًا. ولكن فيه نظر؛ فإنه لو أعطى شاة مِن غير الأربعين بأنْ حَصَّلها للمستحق مِن خارج، فإنه يجوز قطعًا. وإنما فائدة تَعلُّقها بالعين ما لو تلف -قبل التمكن بعد الوجوب- منها شيءٌ، سقطت زكاته. وجواب آخَر: أن الإبطال هو تغيير النص، ولا يجوز تغييره ولا سيما وباب الزكاة تَعبُّد. ولا يخفَى ضعف هذا؛ فإنَّ التعميم والتخصيص [يُغَيِّران] (¬1)، وسيأتي أنهما جائزان. فالإشكال قوي والأجوبة ضعيفة. وعُلم من اشتراط أن لا تَعُود العلة على النص بالإبطال أنها لو عادت بالتعميم أو بالتخصيص كان جائزًا. أما عَوْدها بالتعميم فبِلا خلاف كما يستنبط من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقضي القاضي وهو غضبان" (¬2) أن العلة تشويش الفكر؛ فتعدَّى إلى كل مُشَوِّش مِن شدة فرح ونحوه. قال القاضي أبو الطيب الطبري: أجمعوا على أنه ليس لنا علة تعود على أصلها بالتعميم إلا هذا المثال، وذلك جائز بالإجماع. وفيما قاله نظر؛ فقد وُجِد من ذلك كثير، نحو: النهي عن الصلاة وهو يدافع الأخبثين، والأمر بتقديم العشاء على الصلاة، فإنَّ العلة ترك الخشوع، فَيَعُم كل ما يحصل به ذلك. بل ¬

_ (¬1) كذا في (ش)، لكن في (ت): تغييرات. (¬2) سبق تخريجه.

باب القياس كله من باب تعميم النص بالعلة، وقد تَقدم طرف من ذلك في باب العموم في تقسيم العمومات، فليراجَع. وأما عودها بتخصيص النص فللشافعي فيه قولان مستنبطان مِن اختلاف] قوله] (¬1) في نقض الوضوء بمس المحارم. ففي قول: ينقض؛ تمسكًا بالعموم في قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]. وفي قول وهو الراجح: لا ينقض؛ نظرا إلى كَوْن الملموس مظنة للاستمتاع، لاسيما إذا فُسرت الملامسة في الآية بالجماع؛ فعادت العلة على عموم النساء بالتخصيص بغير المحارم. ومثله: حديث النهي عن بيع اللحم بالحيوان (¬2) شامل للمأكول وغيره، والعِلة فيه -وهو معنى الربا- تقتضي تخصيصه بالمأكول؛ لأنه بيع رِبَوِي بأصله، فما ليس بِرِبَوِي لا مدخل له في النهي؛ فلذلك جرى للشافعي قولان في بيع اللحم بالحيوان غير المأكول، مأخذهما ذلك. ولكن الأرجح هنا المنع؛ عملًا بالعموم مِن غير نظر للمعنى؛ ولهذا لم يرجِّح كثيرٌ مِن الخلاف شيئًا؛ لاضطراب الترجيح كما عرفته. وكذا جرى على عدم الترجيح ابن السبكي في "جمع الجوامع". وعبارة النَّظم إنما يخرج ما يعود بالتعميم وبالتخصيص، فيحتمل أن [ذلك] (¬3) للجواز ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق، ش)، لكن في (س): قوليه. (¬2) مسند البزار (12/ 205، رقم: 5888) ط: مكتبة العلوم والحكم، سنن الدارقطني (3/ 70)، المستدرك على الصحيحين (رقم: 2252)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 10350). قال الألباني: حسن. (إرواء الغليل: 1351). (¬3) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): تلك.

[أو] (¬1) أنَّ في بعض ما خرج قولان. نعم، قول الجواز هو الظاهر [كتخصيص] (¬2) عمومات الألفاظ، بل بعضهم جعله من جملة تخصيص العموم بالقياس، فيجري فيه الخلاف الذي هناك. وكذا ذكر الهندي في موضع، فقال: إن الخلاف هنا مبني على أنه هل يجوز تخصيص العموم بالقياس؟ أم لا؟ . لكن ذاك إنما هو في قياس على نَص خاص إذا عارض عموم نَص آخر، وهذا معناه أن العلة المستنبطة مِن أصل عام في كتاب أو سُنة هل يشترط أن لا تعود على [أصلها] (¬3) بالتخصيص؟ [أم] (¬4) لا؟ فهو غيره. نعم، قال الهندي في "الرسالة السيفية": إن القولين مبنيان على القولين في تخصيص العلة. قال: لأن التخصيص مُنافٍ، والفرع لا ينافي أَصْلَه. وأما الغزالي فجزم في "المستصفى" بأن العلة إذا [عكرت] (¬5) على الأصل بالتخصيص، لا يُقبل، واستثنى ما إذا سبق المعنى إلى الفهم. قال: (فيجوز أن يكُون (¬6) قرينةً مخصِّصة للعموم، وأما المستنبَطة بالتأمل ففيه نظر). ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): و. (¬2) كذا في (ص، ش)، وفي بعض النُّسخ: لتخصيص. (¬3) في (ص، ق، ش): أصله. (¬4) كذا في (س، ت)، لكن في (ق، ص، ش): أو. (¬5) في (س، ت): عادت. (¬6) يعني: المعنى الذي سبق إلى الفهم.

الثالث: يشترط في العلة إذا كانت مستنبطة أن لا تكون معارَضة بمعارِض مُنافٍ موجود في الأصل صالح للعِلية وليس موجودًا في الفرع؛ لأنه متى كان في الأصل وصفان متنافيان يقتضي كل منهما نقيض الآخر، لم يَصلح أن يُجعل أحدهما علة إلا بمرجِّح. مثالُه قول الحنفي في نية صوم الفرض: صوم عين؛ فيتأدَّى بالنية قبل الزوال، كالنفل. فيقال له: صوم فرض؛ فيُحتاط فيه ولا يُبْنَى على السهولة. وقولي: (لِلْمُعَارِضِ الْمُنَافِي لَهَا) احتراز عما إذا كان المعارِض للفرع، لا للعلة، فإنه ليس من شروط العلة، خلافًا لبعضهم. كقول شافعي في مسح الرأس: ركن في الوضوء؛ فيُسَن تثليثه، كغسل الوجه. فيعارضه الخصم، فيقول: مسح في وضوء؛ فلا يُسن تثليثه، كالمسح على الخفين. وذلك لأن انتفاء [المعارِض] (¬1) في الفرع إنما هو شرط ثبوت حُكم العلة في الفرع، لا شرط في صحة العلة نفسها، فيجوز أن تكون صحيحةً سواء ثبت الحكم في الفرع أَمْ تَخلَّف بسبب من الأسباب اقتضى تَخُّلفه. فمَن ادَّعاه شرطًا للعلة نفسها فقد وَهمَ، فالمعارضة في الفرع تَقدح في القياس، لا في خصوص العلة. فإنْ قِيل: لم قيّد المعارِض بِـ "المُنافي"، ومفهوم المعارضة يقتضي المنافاة. قيل: لأن المعارِض قد يكون غير مُنافٍ، وذلك في غير العلة كما سيأتي، فأريد تحقيق أن المراد هنا المنافي؛ لأن ما لا يُنافي مِن الأوصاف غايته أن يكون علة أخرى، وسبق أنه يجوز اجتماع عِلتين لمعلول واحد. ¬

_ (¬1) في (ص، ق، ش): التعارض.

ومثال ذلك: أن يتفقا على أنَّ البُر رِبَوِي ويُعَلِّل أحدُهما بالطعم ويذكر مناسبته، والآخَر بالكيل ويذكر مناسبته. نعم، قد يؤول إلى الاختلاف كما في مثالنا، فإنَّ [التفاح] (¬1) داخل في تعليل الأول وخارج من تعليل الثاني، لكن إنما لم يكن قادحًا في العلة مع أنه قد يؤدي للاختلاف؛ لأنه مساوٍ له في الأصل، وليس الشرط أنْ يُساويه مِن كل وجه. الرابع مما يُشترط في العلة: أن تكون عَرِيَّة مِن مخالفة نَص كتاب أو سُنَّة أو مخالفة إجماع؛ لأن النص والإجماع لا يقاومهما القياس، بل يكون إذا خالفهما باطلًا. مثال مخالفة النص: أن يقول حنفي: المرأة مالكة لبضعها؛ فيصح نكاحها بغير إذْن وليها؛ قياسًا على ما لو باعت سلعتها. فيقال له: هذه عِلة مخالفة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل" (¬2). ومثال مخالفة الإجماع: أنْ يقال: مسافر؛ فلا تجب عليه الصلاة في السفر؛ قياسًا على صومه في عدم الوجوب في السفر، بجامع السفر. فيقال: هذه العلة مخالفة للإجماع على عدم اعتبارها في الصلاة [وأنَّ] (¬3) الصلاة واجبة على المسافر مع وجود مشقة السفر. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): النكاح. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): فإن.

الخامس: أن تكون العلة مُعَيَّنة، لا مُبْهَمة بمعنى شائعة، خلافًا لمن اكتفى بذلك؛ تَعلُّقًا بقول عمر - رضي الله عنه -: "اعْرف الأشباه والنظائر، وقِس الأمور برأيك" (¬1). فيكفي عندهم كون الشيء مشبهًا للشيء شبهًا ما. قال الهندي: لكن أطبق الجماهير على فساده؛ لأنه يُفْضِي إلى أن العامي والمجتهد سواء في إثبات الأحكام الشرعية في الحوادث؛ إذ ما مِن عامِّي جاهل إلا وعنده مَعْرفة بأنَّ هذا النوع أصل مِن الأصول عامٌّ في أحكام كثيرة. وأجمع السلف على أنه لا بُدَّ في الإلحاق مِن الاشتراك بوصف خاص، فإنهم كانوا يتوقفون في الحادثة ولا يُلحقونها بأيّ وصف كان بَعد عجزهم عن إلحاقها بما شاركها في وصف خاص. أما التعليل بأحد أمرين أو ثلاثة أو نحو ذلك من المحصور فلا يمتنع. كما يقول أصحابنا فيما إذا مَس الرجل مِن الخنثى فرج الرجال أو المرأة من الخنثى فرج النساء فإنه ينتقض الماس إذا كان أجنبيًّا مِن الخنثى؛ لأنه إما ماس فرج أو لامس أجنبية أو أجنبي. فعللوا النقض بأحد الأمرين: اللمس أو المس. وذلك في الفقه كثير، فعَلِمْنا المراد هنا بالإبهام. والله أعلم. ¬

_ (¬1) سنن الدارقطني (4/ 206) بلفظ: (اعْرفِ الأَمْثَالَ وَالأَشْبَاهَ، ثُمَّ قِسِ الأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ). وفي إسناده عبيد الله بن أبي حميد، قال الحافظ ابن حجر في (التقريب، ص 370): (متروك الحديث). وفي سنن البيهقي الكبرى (رقم: 20134) بلفظ: (فَتَعَرَّف الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ، ثُمَّ قِسِ الْأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ).

ص: 798 - وَلَا تَكُونُ ضُمِّنَتْ زِيَادَهْ ... نَافَتْ، وَلَا مُقَدَّرَ الْإرَادَهْ 799 - وَعَدَمُ الشُّمُولِ في دَلِيلِهَا ... لِحُكْمِ فَرْعٍ، ذَاكَ مِنْ عَدِيلِهَا الشرح: هذه ثلاثة شروط أخرى في العلة: أحدها: أن لا تتضمن العلة زيادة على النص إنْ كانت تلك الزيادة منافية لمقتضَى النص كما شرط الآمدي هذا فيه وإنْ كان بعضهم أطلقه. ولكن أشار ابن الحاجب إلى تضعيفه بقوله: (وقيل: إنْ نافَت). لكن المختار ما قاله الآمدي؛ لأنها إذا لم تُنافِ، لا يضر وجودها. الثاني: أن لا يكون وصفا مقدَّرًا غير حقيقي كما شرط ذلك الإمام الرازي. كما لو علل جواز التصرف في الشيء ببيع أو هبة أو وقف أو عتق بأنه ملك لفاعل ذلك، فإنَّ الملك إنما هو وصف حُكمي. فمنهم مَن فسره بأنه معنى مُقَدَّر في المحل يعتمد المكنَة من التصرف على وجه ينفى التبعة والغرامة. وكذلك قال صاحب "التتمة" في باب الإجارة: ما قَبِل التصرف مملوك، وما لا يَقبل -كالحشرات- فلا. ومحل بيان ذلك وما يترتب على التعاريف فيه كُتب الفقه. قال في "المحصول": (الحقُّ أنه لا يجوز التعليل بالصفات المقدَّرة، خلافا للفقهاء العصريين). انتهى

قال صاحب "تنقيح المحصول": أَنكر الإمام وجمعٌ [تصوُّر] (¬1) التقدير في الشرع فضلًا عن التعليل به. قلتُ: الفروع الفقهية طافحة بالتعليل بالأمور التقديرية، لا يكاد أن يكون عندهم في ذلك خلاف، وكأنها عندهم بمنزلة التحقيقات. ألا ترى أن الحدث عندهم وَصْفٌ وجودي مُقدَّر قيامه بالأعضاء، يَرفعه الوضوء والغسل، ولا يرفعه التيمم ونحو ذلك؟ الثالث: أن لا يكون دليل العِلة شاملًا لحكم الفرع: - بعمومه، كقياس التفاح على البُر بجامع الطعم. فيقال: العلة دليلها حديث: "الطعام بالطعام مثلًا بمثل" (¬2). رواه مسلم. وأما تمثيل ابن الحاجب بِـ "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلًا بمثل" فلا يُعْرف بهذا اللفظ. فالفرع داخل في الطعام. - أو بخصوصه، كقوله عليه السلام: "من قاء أو رعف فليتوضأ" (¬3). وإنْ كان الحديث ¬

_ (¬1) كذا في (ت، س)، لكن في سائر النسخ: تصوير. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) سنن الدارقطني (1/ 154) بلفظ: (مَن قلس أو قاء أو رعف فلينصرف فليتوضأ، وليتم على صلاته). وقال الإمام الدارقطني: (أصحاب ابن جريج الحفاظ عنه يروونه عن ابن جريج عن أبيه مُرْسَلًا). وفي سنن البيهقي الكبرى (رقم: 652) بلفظ: (إذا قاء أحدكم في صلاته أو قلس أو رعف فليتوضأ، ثم لِيَبْنِ على ما مضى مِن صلاته ما لم يتكلم). وقال الإمام البيهقي: (رواه إسماعيل بن عياش مرة هكذا مرسلًا كما رواه الجماعة، وهو المحفوظ عن ابن جريج، وهو مرسل). وقال أيضًا: (قال الشافعي في حديث ابن جريج عن أبيه: ليست هذه الرواية بثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد أطال الحافظ ابن الملقن في كتابه (البدر المنير، 4/ 100 - 109) في الكلام على طُرُقه، نقل =

ضعيفًا لكن يُذكر للتمثيل. فلو قيل في القيء: خارج مِن غير السبيلين؛ فينقض كالخارج منهما. ثم استُدِل على أن الخارج منهما ينقض بهذا الحديث، لم يصح؛ لأنه تطويل بلا فائدة، بل في الثاني -مع كونه تطويلًا- رجوع عن القياس؛ لأنَّ الحكم حينئذٍ ثبت بدليل العلة، لا بنفس العلة، فلم يثبت الحكم بالقياس. ثم ذكر الآمدي وابن الحاجب أنه قيل: إنَّ هذه مناقشة جدلية، وهي لا تقدح في صحة القياس؛ لأنَّ المناقشة الجدلية ترجع إلى بيان أوضاع الأدلة، وليس فيها بحث فقهي. ولم يُجِيبَا عن ذلك. ولكن جوابه أن لها فائدة فقهية، وذلك لأنَّ الحكم في المسألة الأُولى كان مستندًا للنص، فجعله المناظِر مستندًا للقياس، وحكم العموم والقياس مختلف. وفي الثاني كان قياسًا، فعاد منصوصًا، ولا يخلو مثل ذلك من غرض. فيقال: إنْ كان في التطويل مقصد فقهي، قُبِل، وإلا فلا. قلتُ: وأيضًا فقد سبق أن اجتماعَ النص والقياس في الفرع اجتماعُ دليلين، ولا منع من ذلك؛ لِمَا فيه من الترجيح لو عُورِض؛ لكثرة الأدلة. فقولي: (وذَاكَ مِنْ عَدِيلِهَا) أي: في أن النص يكون دالًّا على العلة وعلى الفرع فيكون الفرع عديلًا لها في دلالة النص عليهما معًا. وفيه الإيماء بأنه لا يمتنع أن يتوارد دليلان على ذلك الفرع وإنْ لم يكن تصريحًا به. ¬

_ = اختلاف الأئمة في تضعيفه.

تنبيه: الاقتصار على هذه الشروط فيه نَفْي كثير مما عُدَّ شرطًا ولم نتعرض له؛ اختصارًا، كاشتراط بعضهم في المستنبطة أن تكون مِن أصل مقطوع بحكمِه، والصحيح لا؛ [إذْ] (¬1) يجوز القياس على ما ثبت حُكمه بدليل ظني كخبر الواحد والعموم والمفهوم وغيرها. وشرط بعضهم أن يُقطع بوجودها في الفرع. والأصح المنع؛ لأنَّ القياس إذا كان ظنيًّا، فلا يضر كون مقدماته أو شيء منها ظنيًّا. والله أعلم. * * * (تَمَّ بِعَوْن الله تعالى الجزءُ الرابع، وَيلِيه الجزء الخامس، وأوله: مسالك العلة) ¬

_ (¬1) في (ت، س، ض): لأنه.

ص: 800 - أَمَّا الَّذِي يَثْبُتُ لِلْعِلِّيَّه ... فَأَوْجُة نَذْكُرُهَا جَلِيَّه 801 - أَوَّلُهَا: "الْإجَماعُ"، وَالثَّاني لَهَا ... نَصّ صَرِيحٌ، كـ "الِعِلَّةٍ نَهَى" 802 - "لِسَبَبٍ"، "لِأَجْلٍ"، اوْ "مِنْ أَجْلِ" ... وَنَحْوِ "كَيْ"، "إذَنْ"، وَمَا كمِثْلِ الشرح: لما فرغت من بيان شروط العلة، شرعتُ في الطرق التي تدل على عليتها، ويُعبر عنها أيضًا بمسالك العلة. وذلك إما إجماع أو نص أو استنباط. والنص إما صريح أو ظاهر أو إيماء. فأما الأول وهو الإجماع فإنما قُدِّم لأنه أقوى، قطعيًّا كان أو ظنيًّا، ولأن النص تفاصيله كثيرة. وبعضهم -كالبيضاوي- يُقدم النص؛ لكونه أصل الإجماع. والمراد بثبوتها بالإجماع أنْ تجمع الأُمة على أن هذا الحكم عِلته كذا. كإجماعهم في "لا يقضي القاضي وهو غضبان" (¬1) على أنَّ علته شَغْل القَلب. وممن حكى فيه الإجماع القاضي أبو الطيب. وأما الثاني وهو النص (أي: مِن الكتاب أو السُّنة): فـ "الصريح" هو: ما وُضع لإفادة التعليل بحيث لا يحتمل غير العِلية؛ ولذلك عَبَّر عنه البيضاوي بِـ "النص القاطع". ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

وأما "الظاهر" فهو: ما يحتمل احتمالًا، مرجوحًا، بأنْ يكون قد وُضع للتعليل لكنه استعمل في معنى غيره. فإذا ورد فإنما يحمل على الأصل مع احتمال أن يراد غيره، بخلاف ما لم يُستعمل في غير التعليل. فأما "الصريح" الذي لا يحتمل غير العِلية فمثل أن يقال: "لِعِلة كذا" أو "لِسَبب" أو "لأَجْل" أو "مِن أَجْل". كقوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 32]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جُعل الاستئذان مِن أَجْل البصر" (¬1). رواه الشيخان، وقوله: "إنما نهيتكم مِن أَجْل الدافة التي دفت، فكُلوا وادخروا" (¬2). رواه مسلم. أي: لأجل التوسعة على الطائفة التي قَدِمت المدينة أيام التشريق. والدافة: القافلة السائرة. وَنَحْوِ "كَيْ" سواء كانت مجردة عن "لا" نحو قوله تعالى: {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} [طه: 40] أو مقرونة بها نحو: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] أي: إنما وجب تخميسه لئلَّا يتناوله الأغنياء منكم؛ فلا يحصل للفقراء شيء. وذكر ابن السمعاني أن "لأجْل" و"كَيْ" دُون ما قَبْلهما في الصراحة. وربما يفهم ذلك [مِن النَّظْم مِن] (¬3) ترتيبها في الذكر. وقولي: (وَمَا كَمِثْلِ) أي: وما كان كمثل ما ذكر من هذه الصيغ، نحو: "إذًا" في قوله - صلى الله عليه وسلم - لأُبي بن كعب وقد قال له: "أجعل لك صلاتي كلها": "إذًا يغفر الله لك ذنبك كله" (¬4). وفي ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 5887)، صحيح مسلم (رقم: 2156). (¬2) صحيح مسلم (رقم: 1971). (¬3) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): في النظم و. (¬4) سنن الترمذي (رقم: 2457) بلفظ: (إِذًا تُكفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لك ذَنْبُكَ). قال الألباني: حسن. (صحيح الترمذي: 2457).

رواية: "إذًا يكفيك الله هَم الدنيا والآخرة" (¬1). والله أعلم. ص: 803 - أَوْ ظَاهِرٌ، كَاللَّامِ أَوْ أَنْ قُدِّرَتْ ... كـ "أَنْ كذَا"، فَالْبَاءِ، فَالْفَاءِ ثَبَتْ 804 - في كَلِمِ الشَّارعِ فَالْفَقِيهِ ... مِنَ الرُّوَاةِ، ثُمَّ غَيْرٍ فِيهِ 805 - وَ"إنَّ، إذْ"، وَمَا مَضى لِلسَّبَبِ ... وَالثَّالِثُ: "الْإيمَاءُ" في التَّجَنُّبِ الشرح: القسم الثاني مِن قِسْمَي النص وهو ما كان ظاهرًا -لا صريحًا- له ألفاظ: أحدها: "اللام"، ظاهرة كانت نحو: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم: 1] أو مُقدَّرة كقوله تعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 13، 14] أيْ: لِأنْ كان. وهذا معنى قولي: (أَوْ أَنْ قُدِّرَتْ) وهو بفتح الهمزة، وهو عطف على مُقدَّر، أي: كـ"اللام" ظهورًا أو تقديرًا. فإنَّ "أنْ" والفعل يتَأَوَّلان بالمصدر. ثم مثلت المقدَّرة بقولي: (كـ "أَنْ كَذَا") أي: كما يقال في الكلام: "أنْ كذا". فالتعليل مستفاد من "اللام" المقدَّرة، لا مِن "أن". ومن هذا ما في الحديث الصحيح في قصة الزبير من قول الأنصاري الذي خاصمه: "أنْ ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد (رقم: 21280)، مصنف ابن أبي شيبة (رقم: 8706، 31783) بنحوه. قال الألباني: (هذا مرسل صحيح الإسناد، ويشهد له ما بعده). تحقيق كتاب "فضل الصلاة على النبي، ص 31".

كان ابن عمتك؟ " (¬1). ويدخل في هذا النوع إذا كان الواقع بعد "أنْ" "كان" وحذفت واسمها وبقي خبرها وعُوض من ذلك "ما"، كقوله: أبا خراشة، أما أنت ذا نفر ... فإنَّ قَومي لم تأكلهم الضبع أي: لأَنْ كنت ذا نفر. وإنما لم يجعل اللام وما سيأتي بعدها من الصريح لأن كلًّا منهما له مَعَانٍ غير التعليل، ككون (اللام) للملك أو للاختصاص أو لبيان العاقبة، نحو: (لِدوا للموت وابنوا للخراب). أو نحو ذلك، وكذا الباقي. ثانيها: "الباء"، نحو: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]، {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 82]. فهي وإنْ كان أصل معناها الإلصاق ولها معانٍ أخرى لكن أكثر استعمالها في التعليل. وقيل: لأنَّ في التعليل أيضًا إلصاقًا كما قرره الإمام فخر الدين الرازي بأنها لَمَّا اقتضت وجود المعلول، حصل معنى الإلصاق، فحسُن استعماله فيه مجازًا بكثرة. فقولي: (فَالْبَاءِ) بالخفض عطفًا على (كَاللَّامِ)، وكذا ما بعده. ثالثها: "الفاء"، ولها ثلاثة أحوال مرتبة كما ذكرتها في النَّظم معطوفةً بالفاء: الأُولى: أن تكون في كلام الشارع داخلة على العِلةِ، والحكمُ مُتقدِّم، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في المحرم ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 2231)، صحيح مسلم (رقم: 2357).

الذي وقصته ناقته: "لا تمسوه طِيبًا ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يُبعث يوم القيامة مُلبيًا" (¬1). أخرجاه. الثانية: أن تدخل في كلام الشارع على الحكم، نحو: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38]، و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2]. وإلى هاتين الحالتين أشرتُ بقولي: (فَالْفَاءِ ثَبَتْ في كَلِمِ الشَّارعِ) أي: سواء دخلت على العلة أو الحكم. وما ذكرتُه مِن أنَّ تَقدُّم العلة ثم مجيء الحكم بـ "الفاء" أقوى مِن عكسه -هو ما قاله الإمام الرازي؛ لأن إشعار العلة بالمعلول أقوى من إشعار المعلول بالعلة؛ لأنَّ الطرد واجب في العِلل، دُون العكس. ونازعه النقشواني، وقال: بل تقديم المعلول على العلة أقوى؛ لأن الحكم إذا تَقدَّم، طلبت النفسُ عِلته. فإذا ذُكِر وصفٌ، ركنَتْ إلى أنه هو العلة، بخلاف ما لو تقدمت العلة ثم جاء الحكم، فقد تكتفي النفسُ بأنَّ ما سبق عِلته، وقد تطلب له علة بطريق أخرى. وأطال في ذلك، ولا يخفَى ضَعفُه وقوة ما قاله الإمام. وهل ما دخلت عليه "الفاء" في نَص الكتاب أقوى مما في نَص السُّنَّة؟ أو متساويان؟ فبالأول قال الآمدي، وبالثاني قال الهندي وهو الحق؛ لاستوائهما في عدم تَطرُّق الخطأ إليهما. الثالثة: أن تكون "الفاء" في كلام الراوي ولا تكون إلا داخلة على الحكم، والعلة ما قبلها، نحو: "سها - صلى الله عليه وسلم -، فسجد" (¬2). وسواء كان الراوي فقيهًا أو لا. لكنه إذا كان فقيهًا، كان ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سنن أبي داود (رقم: 1039)، سنن الترمذي (رقم: 395)، سنن النسائي (1236) وغيرها. قال الألباني في (إرواء الغليل: 403): (فالإسناد صحيح، لولا أن لفظه "ثم تشهد" شاذة فيما يبدو).

أقوى. قيل: وينبغي قَصْره على الصحابي أو مَن بَعْده إذا كان عالِمًا بمدلولات الألفاظ. وهو ظاهر، ولهذا عطفته بـ "ثُمَّ" في قولي: (ثُمَّ غَيرٍ). أي: غير الفقيه. فإنْ قيل: إذا قال الراوي: (هذا منسوخ) أو حمل حديثًا -رواه- على غَيْر ظاهره، لا يُعْمَل به؛ لجواز أن يكون ذلك عن اجتهاد، فكيف إذا قال الراوي: "سها، فسجد" ونحوه يُعمل به مع احتمال أن يكون عن اجتهاد؟ فالجواب: أن هذا مِن قبيل فَهْم الألفاظ مِن حيث اللغة، لا أنه يرجع للاجتهاد. بخلاف قوله: (هذا منسوخ) ونحو ذلك؛ ولهذا إذا قال: (أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكذا) أو: (نهي عن كذا) يُعمل به؛ حملًا على الرفْع، لا على الاجتهاد. ومَن منع في هذا إنما قال: إنه يحتمل الخصوصية، فعمم. أو عدم الدوام، فحمله على الدوام. وقد سبق ذلك في بابه. واعلم أن ابن الحاجب جعل هذا من الصريح، لا من الظاهر. والأجود ما جرى عليه البيضاوي أنَّ هذا من الظاهر؛ لأنَّ لها معاني غير ذلك كما بيناه، فإنَّ "الفاء" أيضًا تكون بمعنى "الواو" وغير ذلك. نعم، يقوى كلام ابن الحاجب إذا كان في الكلام صريح شرط أو معنى شرط، كالنكرة الموصوفة والاسم الموصول، فإنه لا يمكن حمل "الفاء" فيهما على معنى "الواو" العاطفة؛ إذِ العطف لا يحسُن قبل تمام الجملة. ولهذا لا ينبغي أن يمثل بنحو: "مَن أحيا أرضًا ميتة فهي له" (¬1). وكذا نحو: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا}؛ لما فيه من معنى الشرط. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

وجعل ابن الحاجب أيضًا من الصريح: "سها، فسجد"، و"زَنَا ماعز، فرجِم"؛ لاحتمال أن يكون المذكور جزءَ علة ولم يذكر الجزء الآخر. فهو وإنْ كان نَصًّا في الاعتبار به لكن ليس نَصَّا في الاستقلال كما في: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] الآية، فإنَّ التقدير فيها: إذا قمتم مُحْدِثين. فحذف بعض العلة الموجِبة للوضوء. وكذا في: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}، السرقة جزء من الموجِب للقطع؛ لتوقفه على الحرز والنصاب؛ ولذلك اختُلف في أنَّ الآية مُجْمَلة كما سبق. وبالجملة: فالمدار في الصراحة وعدمها على مَحَال وقوع ذلك فيها. ففي بعض المواضع يتعذر الحمل على غير التعليل؛ فيتعيَّن التعليل، فيكون صريحًا كما سبق في الشرط لفظًا أو معنًى. وفي موضع يحتمل؛ فيكون من الظاهر، لا من الصريح. والناظر يَعْتَبِر ذلك، ويعمل بمقتضى الحال. الرابع مِن صِيَغ الظاهر: " إنَّ" المكسورة المشددة، نحو: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} [نوح: 27]، "لبيك، إن الحمد والنعمة لك" (¬1)، "إنك إنْ تذر ورثتك أغنياء خير مِن أنْ تذرهم عالة" (¬2)، "إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات" (¬3)، ونحو ذلك، وهو كثير. وقد أنكر التبريزي على الإمام جَعْلها للتعليل، وسبقه ابن الأنباري إلى إنكار مجيئها ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (1474)، صحيح مسلم (1184). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) مسند أحمد (22633)، سنن الترمذي (92)، سنن ابن ماجه (367)، شرح معاني الآثار (1/ 18) وغيرها. وقال الألباني: صحيح. (صحيح الترمذي: 92، صحيح ابن ماجه: 299).

لذلك. أي: فإن التعليل إنما هو مستفاد من وقوع الجملة استئنافية مُشْعِرة بسؤال مُقَدَّر كما في {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، كأنه قيل: ما سبب أن لا تبرئ نفسك؟ فأجاب بذلك. ولهذا يستفاد التعليل في مِثله مِن غير أن يكون في الكلام "إنَّ"، نحو: قال لي كيف أنت؟ قلتُ: عليل ... سهر دائم وحزن طويل كأنه سُئل: ما سبب عِلتك؟ فقال: سببها السهر وطول الحزن. الخامس: من صيغ الظاهر أيضًا: "إذْ"، فإنها تأتي للتعليل كما قاله ابن مالك. كقوله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف: 16]، {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} [المائدة: 20]، {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ} [الأحقاف: 11]، {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} [الزخرف: 39]، {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء: 72]، {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} [الأحزاب: 9]. وقول الشاعر: فأصبحوا قد أَعادَ اللهُ نِعمتهم ... إذْ هُم قريش وإذْ ما مِثلهم بشَر وذكر أن سيبويه أشار إلى ذلك، ونازعه أبو حيان. وقولي: (وَمَا مَضى لِلسَّبَبِ) أي: ومما يُعد مِن أدوات التعليل في الظاهر ما سبق في باب معاني الكلم التي يُحتاج إليها مما ذكر مِن معانيه السببية، مثل: "على" في قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]، و"في" مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "دخلت امرأة

النار في هرة" (¬1). فالمدار على أن يظهر التعليل فى لفظه في ذلك المحل. والله أعلم. وقولي: (والثالث الإيماء في التجنب) تمامه قولي بعده: ص: 806 - أَنْ يُقْرَنَ الْوَصْفُ بِحُكْمٍ، أَيْ وَلَوْ ... مُسْتَنْبَطًا، لَوْ لَمْ يُفِدْ أَوْ مَا رَأَوْا 807 - نَظِيرَهُ عِلِّيَّةً لَبَعُدَا ... وَذَا كتَفْرِيقٍ بِوَصْفٍ قُيِّدَا 808 - أَيْ: بَينَ حُكْمَيْنِ هُمَا قَدْ ذُكِرَا ... أَوْ وَاحِدٌ فَقَطْ، فَكُنْ مُعْتَبِرًا الشرح: والمراد بذلك الطريق الثالث مِن طُرق العلة، وهو "الإيماء" للعلة والتنبيه من غير أن يكون فيه نَص لا صريحًا ولا ظاهرًا. ومنهم مَن يُدْخله في قِسم الظاهر، ويجعل منه ما سبق في الترتيب بِـ "الفاء" في كلام الشارع - صلى الله عليه وسلم - أو في كلام الراوي كما جرى عليه البيضاوي، فإن ظاهره أن [الكل] (¬2) مِن قبيل النَّص على العلة. لكن قال الآمدي والهندي: إن دلالة هذا الطريق على العلة إنما هي بالالتزام؛ لأنه يُفهم التعليل فيه مِن جهة المعنى، لا من جهة اللفظ. قال الهندي: لأنه لو كان موضوعًا للعلة، لم يُجعل مِن قبيل الإيماء، إذ لا يقال في الموضوع للشيء: إنه إيماءٌ إليه. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 3140)، صحيح مسلم (رقم: 2619). (¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): الكلام.

وفيما [قالا] (¬1) نظر؛ لأن ما كان بـ "الفاء" ونحوه مِن حروف العلة يُعَد مِن قبيل النص كما ذكرناه، وإنما الذي مِن قبيل اللزوم ما سيأتي، ومع ذلك لا يخرج عن كونه مِن قبيل النص المقابل للاستنباط. فـ "الإيماء": هو اقتران الوصف بحكم لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل لكان ذلك الاقتران بعيدًا مِن فصاحة كلام الشارع وإتيانه بالألفاظ في مواضعها؛ لِتَنزُه كلامه عن الحشو الذي لا فائدة فيه. وهو على خمسة أوجه: أحدها: أن يحكم عقب عِلمه بصفة المحكوم عليه وقد أَنْهَى إليه المحكوم عليه حالَه، كقول الأعرابي: "واقعتُ أهلي في نهار رمضان". فقال: "أعتِق رقبة" (¬2). أخرجه الأئمة الستة، وهذا لفظ ابن ماجه. فكأنه قيل: كفِّر؛ لكونك واقعتَ في نهار رمضان. فكأنَّ الحرف الذي ترَتَّب به الحكم لفظًا موجود هنا، فيكون موجودًا تقديرًا. هذا هو الذي يغلب على الظن مِن ذلك، ولا التفات إلى احتمال أن يكون ابتداء كلام أو جواب سؤال أو زجرًا للسائل عن الكلام، كقول السيد لعبده إذا سأله عن شيء: اشتغل بشأنك. أيضًا فكان يلزم خلو السؤال عن الجواب وتأخير البيان عن وقت الحاجة. فإنْ حذف شيء من الأوصاف المرتَّب عليها الجواب لكونه لا مَدخل له في العِلية، نحو أن يقال: (في يوم كذا) أو: (للشخص الفلاني)، فيسمَّى إخراج ذلك مِن الاعتبار "تنقيح ¬

_ (¬1) كذا في (ق، ص)، لكن في (س): قالاه. (¬2) سبق تخريجه.

المناط" كما سيأتي بيانه. الثاني: أنْ يُقَدر في كلام الشارع وَصْف لو لم يكن للتعليل لكان بعيدًا كما تَقدم، سواء أكان ذلك التقدير في محل السؤال أو في نظيره. ففي محل السؤال كقوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سُئل عن بيع الرطب بالتمر: "أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذَن" (¬1). رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح. وصححه ابن خزيمة والحاكم. فلو لم يكن تقدير نقصان الرطب بالجفاف لأجل التعليل لكان تقديره بعيدًا؛ إذ لا فائدة فيه حينئذٍ، والجواب يتم [بدُونه] (¬2). ونحو ذلك حديث: "إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات" في دخوله في بيت فيه هِر وامتناعه مِن دخول بيت فيه كلب لَمَّا قِيل له: "إنك تدخل على بني فلان وعندهم هرة". فقال: "إنها ليست بنجسه، إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات" (¬3). ومثال التقدير في النظير: ما رُوي في الكتب الستة: "أنه - صلى الله عليه وسلم - لما سألته الخثعمية: إنَّ أبي ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) كذا في (ص)، لكن في (ق، س): دونه. (¬3) قال الإمام أبو زرعة ابن العراقي في كتابه (التحرير، ص 410) بتحقيقي: (وهو بهذا السياق غير معروف في كُتب الحديث أصلًا، ومَن عزاه هكذا إلى أصحاب السنن الأربعة فقد أخطأ؛ فإنَّ الذي فيها حديث إصغاء الإناء للهرة وقوله: "إنها ليست بنجس؛ إنها من الطوافين عليكم والطوافات" مِن غير ذِكر الكلب أصلًا. والقصة التي فيها ذِكر الكلب رواها أحمد في مسنده، وفيها أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاب بقوله: "الهرة سبع").

أدركتْه الوفاة وعليه فريضة الحج، أينفعه إنْ حججتُ عنه؟ فقال: أرأيت لو كان على أبيك دَين فقضيته أكان ينفعه؟ قالت: نعم" (¬1). فنظيره في المسئول عنه كذلك، وفيه تنبيه على الأصل الذي هو دَين الآدمي على الميت، والفرع وهو الحج الواجب عليه، والعلة وهي قضاء دَين الميت. فقد جمع فيه - صلى الله عليه وسلم - أركان القياس كلها. ونحوه ما في "الصحيحين": "جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، إنَّ أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ فقال: أرأيتِ لو كان على أُمك دَين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها؟ قالت: نعم. قال: فصومي عن أمك" (¬2). وقيل: إن من ذلك حديث عمر في "أبي داود" و"النسائي" لما سأله عن قُبلة الصائم: "أرأيت لو تمضمضت من الماء وأنت صائم أتفطر؟ ". قال: لا. قال: "فَمَهْ" (¬3). وذلك أنه ذكر الوصف في نظير المسئول عنه وهو المضمضة التي هي مقدمة الشرب، ورتَّب عليها الحكم وعدم الإفساد، ونَبَّه على الأصل وهو الصوم مع المضمضة، والفرع وهو الصوم مع القُبلة. وقيل: ليس هذا مِن ذلك، وإنما هو نقض لِمَ تَوهَّمه عُمَر مِن إفساد القُبلة التي هي مقدمة الجماع الذي هو مُفْسد، فإن عمر فض توهَّم أن القُبلة تفسد كما يفسد الجماع، فنقض - صلى الله عليه وسلم - تَوهُّمه بالمضمضة، لا أن ذلك تعليل لِمَنعْ الإفساد. الثالث: أنْ يُفرق بين حُكمَين بصفتين، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "للراجل سهم، وللفارس سهمان". كذا ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) صحيح مسلم (رقم: 1148)، وانظر: صحيح البخاري (1852). (¬3) سبق تخريجه.

يمثلون به، والذي في "الصحيحين" جَعْله للفرس سهمين ولصاحبه سهمًا (¬1). وفي "البخاري": "للفرس سهمين وللراجل سهمًا" (¬2). ورواه الدارقطني بلفظ: "جعل للفارس سهمين وللراجل سهمًا" (¬3). أو بِصِفةٍ مع أحد الحكمين دُون الآخَر، كحديث: "القاتل لا يرث" (¬4). رواه الترمذي وقال: (لا يصح). فإنَّ مقابِله -وهو مَن ليس بقاتل مِن الورثة- يكون محكومًا عليه بضد هذا الحكم وهو منع الإرث، فيكون وارثًا. وفي معنى التفريق بين الحُكمين بصمة التفرقة بينهما بغايةٍ كقوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ}، أو استثناء كقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237]، أو شرطٍ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اختلفت هذه الأجناس، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بِيَد" (¬5)، أو لفظٍ دال على استدراك نحو: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]. ووجه استفادة العلة من ذلك كله أن التفرقة لا بُدَّ لها من فائدة، والأصل عدم غَيْر المُدَّعَى وهو إفادة كَوْن ذلك عِلَّة. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 2708)، صحيح مسلم (رقم: 1762). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 3988). (¬3) سنن الدارقطني (4/ 106). وقال الإمام الدارقطني: (قال لنا النيسابوري: هذا عندي وَهْم من ابن أبي شيبة أو من الرمادي؛ لأن أحمد بن حنبل وعبد الرحمن بن بشر وغيرهما رووه عن ابن نمير خلاف هذا، وقد تَقدم ذِكره عنهما). (¬4) سبق تخريجه. (¬5) صحيح مسلم (رقم: 1587) بلفظ: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد).

الرابع: مِن وجوه الإيماء: أنْ يذكر مع الحكم وصفًا مناسبًا كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" (¬1). رواه الشافعي - رضي الله عنه - بلفظ: "لا يحكم الحاكم أو لا يقضي بين اثنين" (¬2). ورواه أصحاب الكتب الستة بلفظ: "لا يقضِين حاكم بين اثنين وهو غضبان" (¬3). ففيه التنبيه على أن علة ذلك ما فيه من تشويش الفكر، ثم يطرد ذلك في كلِّ مُشَوِّش؛ لأن خصوص كونه غضبان ليس هو المناسب للحكم؛ فيلحق به الجائع والحاقن ونحو ذلك. وقال الإمام الرازي: (لا مُلازَمَة بين التشويش والغضب) (¬4). لأن التشويش إنما ينشأ عن الغضب الشديد، لا مُطْلَق الغضب. وأجيب عنه بأن الغضب مظنة التشويش؛ فكان هو العلة، كالسفر مع المشقة. وكل ما كان مظنة من جوع ونحوه يكون كذلك. واعلم أن هذا سبق التمثيل به لِمَا أجمعوا على أنه علة، فالمراد بالتمثيل به هنا أن يكون في الابتداء قبل أن يُجْمِعوا. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) مسند الإمام الشافعي (ص 276). (¬3) صحيح البخاري (رقم: 6739) بلفظ: (لَا يَقْضِيَنَّ حَكَم بين اثْنَيْنِ وهو غَضْبَانُ)، صحيح مسلم (1717) وسنن النسائي (5406) بلفظ: (لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان)، سنن أبي داود (3589) بلفظ: (لا يقضي الحكم بين اثنين وهو غضبان)، سنن الترمذي (رقم: 1334) بلفظ: (لا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان)، سنن ابن ماجه (2316) بلفظ: (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان). وانظر: إرواء الغليل (2626). (¬4) المحصول في أصول الفقه (5/ 157).

الخامس: إذا نُهي عن فِعل (ذلك الفعل يكون مانعًا من فِعل واجب)، كان إيماءً إلى أنَّ عِلة النهي عنه كونه مانعًا من الإتيان بالواجب. فكل ما منع من الإتيان بالواجب يكون كذلك، كقوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، فإنه نهى في المعنى عن إيجاد البيع وقت النداء؛ لأنه يمنع مِن السعي المأمور به في قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]. فلو لم يكن علة لَمَا كان لِذِكره فائدة. وقال القرافي: إنما استُفيد ذلك من السياق، فإنَّ الآية لم تنزل لبيان أحكام البياعات، بل لتعظيم شأن الجمعة. وهذه الأقسام الخمسة كلها داخلة تحت قولي في النَّظم: (أَنْ يُقْرَنَ الْوَصْفُ بِحُكْمٍ) إلى آخِره. ومدارها كلها على تجنب الحشو وعدم الفائدة في كلام الشارع. وهو معنى قولي أولًا: ("الْإيمَاءُ" في التَّجَنُّبِ). وقولي: (وَلَوْ مُسْتَنْبَطًا) إشارة إلى أن الحكم المقرون به الوصف لا يُشترط في واحد منهما أن يكون مذكورًا، بل قد يكون واحد منهما مستنبطًا. مثال كون الوصف مذكورًا والحكم مستنبطًا قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]. فإن الوصف الذي هو حِل البيع مُصرَّح به، والحكم وهو الصحة مستنبط من الحِل؛ فإنه يَلزم مِن حِله صحتُه. وأما عكسه وهو كون الحكم مذكورًا والوصف مستنبطًا فهو الذي في أكثر العِلل المستنبطة.

نحو: "لا تبيعوا البُر بالبُر إلا مِثلًا بِمِثل" (¬1). فالضمير في قولي: (وَلَوْ مُسْتَنْبَطًا) عائد لكل من الوصف والحكم. نعم، في هذين خلاف، ففي قول: إنهما إيماء. وقول بالمنع. وفي ثالث اختاره الهندي: أن الأول -وهو التلفظ بالوصف- إيماء إلى تعليل الحكم المصرَّح به، لا العكس. بل ادَّعَى بعضهم الاتفاق على أن الثاني ليس بإيماء، ومال إليه الهندي وقال: الخلاف فيه بعيد نقلًا ومعنًى؛ لأنه يقتضي أن تكون العلة والإيماء متلازمين لا ينفك أحدهما عن الآخر. وقولي: (أَوْ مَا رَأَوْا نَظِيرَهُ) المراد أن يرى القائس أن ذلك نظير الحكم المعلل بذلك الوصف كما سبق في قضاء الدَّين ونحوه. وقولي: (عِلِّيَّةً) بالنصب مفعول الفعل في "لَوْ لَمْ يُفِدْ". وقولي: (لَبَعُدَا) أي: لَبَعُدَ وقوع ذلك في لفظ الشارع الذي هو في غاية الفصاحة. وقولي: (وَذَا كَتَفْرِيقٍ) هو تمثيل بأحد الأقسام الخمسة السابقة، وهو القسم الثالث كما مثلنا المذكورين فيه بأنَّ للفارس سهمين وللراجل سهمًا. والمذكور فيه أحد الحكمين أي مع ذكر وصف ويكون المحذوف مقابل الحكم مع علته وهو ضد الوصف. نعم، هذه الأقسام من حققها يجد فيها بعض تداخل؛ لأنه يمكن رَدُّ بعض منها لبعض؛ فلذلك لم أتعرض لجميعها في النَّظم. ¬

_ (¬1) مصنف ابن أبي شيبة (22484) والسنن الكبرى للبيهقي (10261) بلفظ: (لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة ولا البر بالبر ... إلا مثلا بمثل. .) الحديث. وبنحوه في: سنن النسائي (4560)، صحيح ابن حبان (5015)، وغيرهما.

تنبيه: لم أتعرض في الإيماء في النَّظم لاعتبار المناسبة في الوصف؛ لأنه لا يعتبر إلا في القسم الرابع فقط. وقد حكى ابن الحاجب وغيره في ذلك ثلاثة مذاهب: أحدها: اشتراط المناسبة في الوصف في كل قسم من أقسام الإيماء، وهو ما اختاره الغزالي؛ لأن تصرف العقلاء المستند للتعليل لا بُدَّ في علته من حِكمة؛ لقبح "أكرِم الجاهل وأَهِن العالم". وثانيها: لا يشترط مطلقًا، أي: في غير القسم الرابع؛ لأنَّ العلة بمعنى المعرِّف. وهذا هو المعْزي للأكثرين؛ فلذلك لم أُقيِّد المسألة في النَّظم بالوصف المناسب. والثالث واختاره ابن الحاجب: إن كان التعليل فُهِم مِن المناسبة مثل: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"، اشتُرطت، وإلا فلا. وغايته ما ذكرته من اعتبار المناسبة في القسم الرابع دُون بقية الأقسام. فإنْ قلت: فمِن أين يخرج القسم الرابع الذي في المناسبة مِن الذي ذكرته في النَّظم. قلت: لأنه لَّمَا كان راجعًا إلى استنباط كونه علة بما فيه من المناسبة، كان داخلًا فيما سيأتي مِن طُرق العلة وهو "المناسبة". وإنما ذكرته مِن أقسام الإيماء هنا تبعًا لابن الحاجب وغيره في ذِكرهم له من الإيماء مِن حيث اشتماله على معنى مُومَأ إليه، وقد تقدم إيضاحه. والله أعلم.

ص 809 - وَالرَّابِعُ: "السَّبْرُ" مَعَ "التَّقْسِيمِ" ... بِحَصْرِهِ الْأَوْصَافَ بِالتَّتمِيمِ 810 - في الْوَصْفِ مَعْ إبْطَالِ مَا لَا يَصْلُحُ ... مِنْهَا؛ فَبَاقِيهَا الَّذِي يُسْتَصْلَحُ 811 - فَمَا يَكُونُ حَصْرُهُ قَطْعِيَّا ... قَطْع، وَغَيْرُهُ يُرَى ظَنِّيَّا 812 - وَكُلُّ هَذَا حُجَّة لِلنَّاظِرِ ... وَهَكَذَا يَكُونُ لِلْمُنَاظِرِ الشرح: الرابع من الطُّرق الدالة على العِلة "السبر والتقسيم"، وهو ذِكر أوصاف في الأصل المقيس محصورة، وإبطال بعضها بدليل؛ فَيَتَعَيَّن الباقي للعِلية. سُمي بذلك؛ لأن الناظر يقسم الصفات ويختبر صلاحية كل واحد منها للعلية، فيُبْطِل ما لا يَصْلح ويُبقِي ما يصلح. و"السبر" في اللغة هو: الاختبار. وكان الأَوْلى أن يقال: "التقسيم والسبر"؛ لأن "الواو" وإنْ لم تدل على الترتيب لكن البداءة بالمقدَّم أَجْوَد. وأجاب بعضهم عن ذلك بأنه أول ما يسبر أنَّ له علة، ثم يقسم، ثم يعود فيسبر الأوصاف. قلنا: بهذا الاعتبار سَبْر سابِق به سُمي هذا النوع "سبرًا وتقسيمًا"، ولا مدخل للسبر المتأخر في التسمية. وفي ذلك نظر؛ لأن لنا تقسيمًا سابقًا على هذا السبر المدَّعَى وهو أن نقول: إنَّ هذا الحكم إما له علة أو تعبُّدي لا علة له. ثم نسبر؛ [لنفي] (¬1) كونه تعبُّدًا، ثم نقسم الأوصاف، فكونه ¬

_ (¬1) كذا في (ت)، لكن في (ص، ق، ش): بنفي.

علما باعتبار السبر الأول والتقسيم مِن غير نظر إلى السبر الثاني خِلاف الظاهر. وإنما ينبغي أن يجاب بأنَّ المؤثِّر في عِلْم العِلية إنما هو السبر، وأما التقسيم فإنما هو لاحتياج السبر إلى شيء يُسْبَر. وربما سُمي ذلك بِـ "التقسيم الحاصر" كما هو عبارة البيضاوي. وهو ضربان: أحدهما: ما يكون الحصر في الأوصاف وإبطال ما يبطل منها قطعيًّا، فيكون دلالة قطعية بلا خلاف. ولكن هذا قليل في الشرعيات. ثانيهما: ما يكون حصر الأوصاف ظنيًّا أو السبر ظنيًّا أو كلاهما وهو الأغلب، فلا يفيد إلا الظن. ويُعمل به فيما لا يُتعبَّد فيه بالقَطْع من العقائد ونحوها. كقول الشافعي مثلًا: ولاية الإجبار على النكاح إما أن لا تُعَلل أو تُعَلل. وحينئذٍ فإما أن تكون العِلة البكارة أو الصغر أو غيرهما. وما عدا القِسم الثاني باطل. الأول والرابع بالإجماع. وأما الثالث فلأنه لو كانت العلة الصغر لَثبت على الثيب الصغيرة، وذلك باطل؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الأيم أحق بنفسها" (¬1). أخرجه مسلم. والأيم: هي الثيب. وأما ما استُفيد الحصر فيه مِن كون الأصل عدم ذلك فيسمى "التقسيم المنتشر"، ويحتج به باعتبار استناده للأصل. مثاله: أنْ يقال في علة الربا فيما عدا النقدين من الربويات: إنها إما الطعم أو الكيل أو القوت. والثاني والثالث باطلان؛ فَتَعَيَّن الطعم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "الطعام بالطعام" (¬2) الحديث، فعلق بالطعام وهو مشتق من الطعم، فيكون مُعللًا بما منه الاشتقاق. وهذا دليل على أن غير ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) صحيح مسلم (1592).

الطعم ليس بِعِلة، بل هو صالح أن يكون دليلًا على ذلك ابتداءً من غير نظر إلى سبر وتقسيم. وإنما عُمل بهذا لأنَّ الأغلب في الأحكام أن تكون مُعلَّلة بالمصالح تَفضلًا، فبطل أن يكون هذا الحكم لا عِلة له، والأوصاف المذكورة الأصلُ عَدَمُ غيرها. وقولي: (وَكُلُّ هَذَا حُجَّةٌ لِلنَّاظِرِ والمناظِر) معناه: أن المجتهد يرجع إلى ظنه، فإذا حصل له الظن بذلك، عمل به، وكان مؤاخَذًا بما اقتضاه ظنه. وأما المناظِر فيكفي قوله: (بحثتُ فلم أجد غير هذه الأوصاف، والأصل عدم ما سواها). فيقْبَل؛ لأنه ثقةٌ أهلٌ للنظر. فالحكم بنفي ما سوى ذلك مستنِد إلى ظن عَدَمِه، لا إلى عدم العلم بوصف آخَر. فإنْ بَيَّن المعترِض وصفًا غير ذلك، لَزِمَ المستدِل إبطاله، ولا يَلْزم المعترض بيان صلاحيته للتعليل. وإذا أخذ المستدِل في إبطال ما ذكره المعترِض، فهل يكون ذلك انتقالًا منه ينقطع به؟ أو لا ينقطع حتى يعجز عن إبطاله؟ الأصح الثاني؛ لأنه لم يدَّع القَطْع في الحصر، فغاية ما أبداه المعترِض مَنعْ لمقدمة مِن مقدمات المستدِل يُحتاج إلى إقامة الدليل عليها. وقيل: ينقطع؛ لأنه كأنه ادَّعى الحصر وقد ظهر بطلانه. وجواب ذلك: أنه لا يظهر بطلانه إلا إنْ عجز عن دَفْعِه. قال ابن السبكي: وعندي أنه ينقطع إنْ كان ما اعترض به المعترِض مساويًا في العلة لما ذكره المستدِل في حصر الأوصاف وأَبْطلَه؛ لأنه ليس ذكر المذكور وإبطاله أَوْلى مِن ذلك المسكوت عنه المساوي له، وإنْ كان دُونه فلا انقطاع له؛ لأنَّ له أن يقول: هذا لم يكن عندي

مخيلًا البتة، بخلاف ما ذكرتُه وأبطلته. قلتُ: ما مِن وَصْف يأتي به المعترِض إلا والمستدِل ينازع في مساواته؛ ولهذا يَدْفَعه، فأين محل هذا التفصيل؟ ! واعلم أن الإشارة بقولي: (هَذَا) إلى القسم الثاني وهو الظني. وفي كونه حجة للناظر والمناظر ثلاثة مذاهب: أحدها وهو الراجح: أنه حُجة لهما، لأنَّ المدار على غلبة الظن، وقد وجدت؛ فيكون حجة مطلقًا. واختاره القاضي أبو بكر، وقال: إنه [مِن] (¬1) أقوى ما تثبت به العِلل. الثاني: ليس بحجة مطلقًا. حكاه في "البرهان" عن بعض الأصوليين. والثالث: أنه حجة للناظر دُون المناظِر؛ لأنه يعمل بظن نفسه، وأما كون ظنه حُجة على غيره فلا. واختار إمام الحرمين قولًا رابعًا: أنه حُجة بشرط قيام الإجماع على أن حكم الأصل معلَّل في الجملة؛ لأنه لو كان ما ذكر مِن الأوصاف لا عِلية لواحد منها والأصل عدم غيرها، لَعَادَ ذلك إلى تخطئة الإجماع في أنه مُعلَّل. قيل له: فالقائسون بعض الأُمة. فقال: منكر القياس لا يُعَد مِن علماء الأُمة الذين يؤثر خلافهم. تنبيه: يكفي في حصر الأوصاف اتفاق الخصمين بالنسبة إلى نفي ما عداها، وأما إذا اتفقا مثلًا على أن الحكم معلَّل وأن العلة فيه أحد المعنيين، واختار المستدِلُّ واحدة والمعترِضُ أخرى، ¬

_ (¬1) من (ش، ض).

فقال المستدِلُ: لِعِلَّتي مرجِّح، وهو كذا، فهل يكفي ذلك؟ قال القاضي أبو الطيب في مناظرته مع أبي [الحسين] (¬1) القُدُوري: لا يكفي؛ فإن اتفاقهما ليس اتفاق الأُمة؛ فلا يكون حجة. وقال القدوري: يكفي لقطع المنازعة. وأما إبطال بعض الأوصاف فله طُرق: أحدها: أن يدل دليل شرعي على إلغائه كما سبق. ثانيها: بيان كون الوصف طرديًّا مِن جنس ما عُلِم مِن الشرع إلغاؤه: - إما مطلقًا، كالطول والقصر بالنسبة لوجوب القصاص أو الكفارة أو العتق أو الإرث أو التقديم في الصلاة أو نحو ذلك. - أو لا مُطلقًا، بل بالنسبة لذلك الحكم فقط، كالذكورة في العتق مع أنها معتبرة في غيره كالشهادة والقضاء وولاية النكاح والإرث، فلا يُعَلَّل بها شيء من أحكام العتق. نعم، في الثواب والجزاء في الآخرة قد يكون ذلك، فقد روى الترمذي: "مَن أعتق عبدًا مُسلِمًا أعتقه الله مِن النار، وَمن أعتق أَمَتين مُسْلمتين أعتقه الله من النار" (¬2). ثالثها: أن لا تظهر مناسبة في وصف؛ فيكفي ذلك في إلغائه، ويكفي قول المستدل: بحثتُ، فلم أجد له مناسبة للحكم. فإنْ قال المعترِض مِثله في الوصف [المنفي] (¬3) أنه بحث فلم يجد له مناسبة، تَعارضَا، ¬

_ (¬1) كذا في (ت)، لكن في (ص): الحسن. (¬2) بنحوه في: مسند أحمد (18088)، سنن الترمذي (1547)، سنن ابن ماجه (2522) وغيرها، ولفظ ابن ماجه: (مَن أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا، كان فكَاكَهُ من النَارِ ... ومَن أَعْتَقَ امْرَأتيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ، كَانَتَا فكَاكَهُ من النَّارِ). قال الألباني: صحيح. (صحيح الترمذي: 1547). (¬3) كذا في جميع النُّسخ. ولَعَله: المتبقي. وفي (البحر المحيط، 4/ 205): (الوصف المستبقَى).

وليس للمستدِل بيان مناسبته؛ لأنه انتقال في الاستدلال على العِلية مِن السبر إلى المناسبة. إنما طريقه أن يأتي بمرجِّح لِسَبْرِه على سَبْر المعترِض، كأنْ يُبيِّن أنَّ سبره موافِق لتعدية الحكم، وسَبْر المعترض قاصر. وهو مبني على المختار في ترجيح المتعدية على القاصرة. والله أعلم. كل: 813 - وَالْخَامِسُ: الْمَعْرُوفُ بِـ "الْمُنَاسَبَهْ" ... بِأَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ ذَا مُنَاسبَهْ 814 - مُلَائِمًا فِعْلَ ذَوِي الْعُقُولِ ... عَلَى الَّذِي يُذْكَرُ في التَّفْصِيلِ 815 - وَبِـ "إخَالَةٍ" يُسَمَّى، وَكَذَا ... ذَلِكَ الِاسْتِخْرَاجُ "تَخْرِيجًا" إذَا 816 - تُضِيفُهُ إلَى "الْمَنَاطِ"، وَهْوَ أَنْ ... يُعَيَّنَ الْوَصْفُ لِتَعْلِيلٍ إذَنْ 817 - مَعْ كَوْنِ الَاصْلِ نَفْيَ مَا سِوَاهُ ... بِشَرْطِ الِاقْتِرَانِ إذْ يَغْشَاهُ 818 - كَذَا خُلُوّهُ عَنِ الْقَوَادِحِ ... إنْ لَمْ يُجبْ عَنْهَا بِرَدٍّ صَالِحِ الشرح: الخامس مِن الطرق الدالة على العلية: "المناسبة"، ويقال له: "الإخالة" وهو أن يكون الأصل مشتملًا على وصف مناسب للحكم، فيحكم العقل -بوجود تلك المناسبة- أنَّ ذلك الوصف هو عِلة الحكم. والمراد بالمناسبة في قولي: (ذَا مُنَاسَبَهْ) المناسبة اللغوية، بخلاف المعَرِّف وهو المناسبة فإنها بالمعنى الاصطلاحي؛ حتى لا يكون تعريفًا للشيء بنفسه. فحينئذٍ الوصف المناسب الأَرْجَح في تعريفه ما أشرتُ إليه بقولي: (مُلَائِمًا) بالنصب إما "خبرًا" بعد خبرل "كان"، أو "بدلًا" من خبر "كان" وهو: "ذَا مُنَاسَبَهْ". فيقال على هذا التعريف: "المناسب" هو المُلائِم لأفعال العُقَلاء، وهذه الملائَمة تُدْرَك

بواسطة العادة التي أجراها الله تعالى. وقولي: (عَلَى الَّذِي يُذْكَرُ في التَّفْصِيلِ) أي: على ما سيأتي تفصيله في "الملائمة" أنها إما لجلب مصلحة أو دفع مفسدة، وإما بأنها ضروري أو حاجي أو تحسيني ونحو ذلك مما يأتي موضحًا مفصلًا. وهذا التعريف جارٍ على طريقة مَن [لا] (¬1) يُعَلِّل أفعال الله بالمصالح، أيْ بمراعاة المصالح للعباد تَفَضُّلًا وإحسانًا، لا لِزُومًا كما تقوله المعتزلة. وعلى هذا يُحمل قول ابن الحاجب في تعريف "المناسب": (إنه وصف ظاهر منضبط يحصل عَقْلًا مِن ترتيب الحكم عليه ما يَصْلُح أن يكون مقصودًا مِن حصول منفعة أو دَفْع مفسد) (¬2). فلم يجعله مُحَصِّلًا لذلك، بل إنه بحيث يحصل به ذلك وإنْ لم يذكر في قوله: (يحصل): "بحيث يحصل" كما هي عبارة الآمدي. لكنها مرادهما فيما يظهر؛ لقولهما: (ما يصلح أن يكون مقصودًا)، ولم يقولا: (ما قُصِد به حصول منفعة). ولو لم يحمل كلامهما على ذلك، لَزِم أنْ يَعْتَبِرَا في ماهية "المناسبة" ما هو خارج عنها وهو اقتران الحكم بالوصف، فإنه خارج، بدليل قولنا: (المناسبة مع الاقتران دليل العلة). فالمقارنة قَيْد في اعتبار المناسب عِلة، لا في تحقيق ماهيته. وكذلك ترتيب الحكم على وَفْقه في الشرع زائد على ماهية "المناسب". واحترز بِـ "صلاحية أن يكون مقصودًا" عن: الوصف المستبقى في السبر، والمدار في الدوران، وغير ذلك. وليس هذا مغايرًا للتعريف الأول، بل هو بهذا التقدير يكون بسطًا له وإيضاحًا. وإنْ ¬

_ (¬1) ليس في (ت). (¬2) مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (2/ 1085)، الناشر: دار ابن حزم.

كان في "جمع الجوامع" جعله قولًا مغايِرًا له، ولكن هذا عندي أجود. الثاني مِن التعاريف للمناسب: ما عَرَّف به البيضاوي أنه: ما يجلب للإنسان نفعًا أو يدفع عنه ضررًا. ونحوه عبارة بعضهم: الوصف المُفْضِي إلى ما يجلب للإنسان نفعًا أو يدفع عنه ضررًا. وهو مغايِر للذي قَبْله بأنَّ هذا لم يجعل المقصود في جلب النفع ودفع الضرر نفس الوصف، بل الذي يفضي إليه الوصف، والأول جعله نفس الوصف، وكلاهما على طريقة مَن يُعَلِّل أفعال الله عز وجل بمراعاة المصالح، أي: بالنسبة للعبد؛ لِتَعَالِي الرب عن الانتفاع والضرر. وهذا بخلاف التعريف المختار كما قررناه، وهو الجاري على قول الأشعري؛ ولهذا الإمام الرازي لَمَّا ذكر هذين التفسيرين أشار إلى مَا قُلناه مِن اختلافهما باختلاف قَوْلَي الناس في تعليل أفعال الله تعالى. الثالث: قول أبي زيد الدبوسي مِن الحنفية: إنَّ المناسب ما لو عُرض على العقول لَتَلَقَّتْهُ بالقبول. قال صاحب "البديع": (وهو أقرب إلى اللغة) (¬1). وبُنِيَ عليه الاحتجاج به على العلة في مقام المناظرة دون مقام النظر؛ لإمكان أن يقول الخصم: هذا لا يتلقاه عقلي بالقبول وليس الاحتجاج عَلَيَّ بِتَلَقِّي عقل غيري له بِأَوْلَى مِن الاحتجاج على ذلك الغَيْر بِعَدَم تَلَقِّي عقلي له بالقبول. ومنهم مَن أجاب عن ذلك بأنه ليس الاعتبار بتلقي عقله ولا عقل مناظره فقط، بل المراد العقول السليمة والطباع المستقيمة إذا عُرِضَ عليها وتلقته، انتهض دليلًا على مُناظِرِه. ¬

_ (¬1) بيان معاني البديع (2/ 794)، رسالة دكتوراة مقدمة من الطالب: صبغة الله غلام، جامعة أم القرى/ 1410 هـ.

تنبيهات أحدها: قولهم: (وَصْف) جارٍ على الغالب، وإلا فقد سبق أن العلة تكون حُكمًا شرعيًّا وأمرًا عرفيًّا أو لُغويًّا. الثاني: إنَّ مقتضَى ما سبق نقله في تعريف الآمدي وابن الحاجب يقتضي أن الحكمة لا يُعَلَّل بها. ولكن مختارهما أن الحكمة إنِ انضبطت جاز التعليل بها. الثالث: إنَّ حصول الحكم في الوصف المناسب قد يكون: - يقينًا، كالبيع، فإنه إذا كان صحيحًا، حصل منه الملك الذي هو المقصود. - أو ظنًّا، كالقصَاص للانزجار، بدليل وجود الإقدام مع عِلمهم بأنَّ القصَاص مشروع. - وقد يتساوى حصول المقصود وعدم حصوله، فلا يوجد لا قَطْع ولا ظن، بل يكونان متساويين. قال صاحب "البديع": (ولا مثال له على التحقيق) (¬1). ويقرب منه ما مَثَّل به ابن الحاجب مِن حد شارب المسكر؛ لحفظ العقل، فإنَّ المُقدمين كثير والمجتنبين كثير، فتساوى المقصود وعدمه فيه. وقد يكون عدم حصول المقصود أَرْجَح من حصوله، كنكاح الآيسة لمصلحة التوالد؛ لأنه -مع إمكانه- بعيدٌ عادةً. ¬

_ (¬1) بيان معاني البديع (2/ 798).

والتعليل في هذين الآخَرين فيه خلاف. فمنهم مَن منع في الأول منهما؛ للتردد بين حصول المقصود وعدمه من غير ترجيح. وفي ثانيهما أيضًا؛ لرجحان نفي المقصود على حصوله. ولكن الأصح -وفاقًا لابن الحاجب وغيره- الجواز؛ فإن السفر مظنة المشقة، وقد اعتُبِرَ وإنِ انتفى الظن في سفر الملك المُتَرفِّه على هيئةٍ لا مشقة فيها بمجرد احتمال المقصود. وقال في "البديع": إن هذين الآخَرين متفق على اعتبارهما إذا كان المقصود ظاهرًا من الوصف في غالب صُوَر الجنس، وإلا فلا. أما إذا كان المقصود فائتًا قطعًا فلا يُعتبر، خلافًا للحنفية، فيلحق عندهم النسب في ولد مَن تزوج وهو بالمشرق امرأة بالمغرب بطريق التوكيل -مع القطع بأنَّ الولد ليس منه؛ وذلك لاقتضاء الزواج ذلك في الأغلب. فعمم ذلك؛ حفظًا للنسب. ومثله في الاستبراء جارية اشتراها بائعُها في المجلس. وجعله في "جمع الجوامع" مما يبعد فيه العلوق منه. وينبغي أن يُقيَّد بأنْ يقارِنه احتمالٌ ما. أما إذا لم يحتمل فهو مِن المقطوع بنفيه كما ذكرناه، وإنما الاستبراء هنا للتعبد. قولي: (وَبِـ "إخَالَةٍ" يُسَمَّى) أي: يقال في "المناسبة" أيضًا: "إخالة"، فَهُمَا اسمان مترادفان. وسُمي "إخالة"؛ لأن ذلك باعتبار النظر إليه يُخال أنه علة، أي: يُظَن. وكذا يسمى ذلك الاستخراج (أيْ: استخراج كون ذلك علة؛ لِمَا فيه مِن المناسبة): "تخريج المناط"، مِن "نَاطَ" أيْ: تعلق. أيْ: خرج ما نِيطَ به الحكم. فالنياط: التعلُّق. و"المناط": هو المُتَعَلَّق، كأنه استخرج مُتَعَلَّق هذا الحكم مِن أوصاف الأصل المَقِيس عليه، فَحَكَم بأنه عِلة.

وقولي: (وَهْوَ أَنْ يُعَيَّنَ الْوَصْفُ) إلى آخِره -هو تعريف لتخريج "المناط" بأنه تعيين العلة بإبداء مناسبة مع الاقتران والسلامة من القوادح. فمعنى كونه "بإبداء مناسبة" أي: بينها وبين الحكم، فيخرج تعيين العلة بغير ذلك مما سيأتي من الطرد والشبه والدوران وغير ذلك. وقد احترز عن ذلك ابن الحاجب بقوله: (بمجرد إبداء المناسبة من ذاته) (¬1). أي: من ذات الأصل، أي: لا بنص ولا غيره من إجماع أو غيره مما ذكرنا. وقولي: (مَعْ كَوْنِ الَاصْلِ نَفْيَ مَا سِوَاهُ) أي: لا يتحقق الاستدلال بذلك إلا مع ضميمة أنَّ الأصلَ عدمُ وصفٍ آخَر له مناسبة للحكم. ولا يُكتفَى في ذلك بقول القائس: (بحثتُ فلم أجد) وإلا لزم الاكتفاء بذلك في كل مسألة خلافية، ولا قائل به. بخلاف ما سبق في طريق السبر والتقسيم فإنه يُكتفَى بذلك؛ لأنَّ المدار هناك على الحصر؛ فاكتُفِي فيه ببحثه فلم يجد، وهنا على أنه ظفر بوصف في الأصل مناسب؛ فافترقَا. وقولي: (بِشَرْطِ الِاقْتِرَانِ) إشارة إلى أن الاقتران مُعتبَر في كون المناسب علة، لا في كونه مناسبًا، أي: ليس قَيْدًا في ماهيته. وقد سبقت الإشارة إلى تقرير هذا المعنى. وُيشترط أيضًا في الوصف المناسب الذي يُستخرَج بالاستنباط أن يكون خاليًا عن القوادح. وسيأتي ذكرها مفصلة. نعم، إنْ أتى المعترِض على القائس بقادح في عِلته فطريق تصحيح عِلته أن يُجيب عنه ويردَّه بِرَدٍّ صالح بحيث يصير الوصف سالِمًا عما يقدح. وهو معنى قولي: (إنْ لَمْ يُجِبْ) أَيِ القائس (عنها) أَيْ عن القوادح بِرَدٍّ صالح لِدَفْعِه ¬

_ (¬1) مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (2/ 1084)، الناشر: دار ابن حزم.

بحيث تَسْلم العِلة. مثال الوصف المناسب الذي استخرجه القائس مِن الأصل وجعله علة للحكم: "الإسكار" في قياس النبيذ على الخمر في التحريم، و"القتل العَمْد المحض العدوان" في القصاص، ونحو ذلك مما استنبطه الأئمة بالنظر والاجتهاد. وهذا هو الذي عَظُم فيه الخلاف بين العلماء، فأهل الظاهر ينكرونه، ومقالتهم في غاية الضعف، حتى أن أصحابها انحطوا بها عن درجة الاعتبار؛ لجمودهم وقصُور أفهامهم عن معاني الشريعة ودقائقها اللطيفة. والله أعلم. ص: 819 - فَإنْ يَكُنْ خَفِيًّا اوْ لَمْ يَنْضَبِطْ ... عَلِّلْ بِلَازِمٍ لِذَاكَ مُنْضَبِطْ 820 - كَسَفَرٍ مَظِنَّةِ الْمَشَقَّةِ ... وَالْوَطْءِ لِلشَّغْلِ الَّذِي في الْعِدَّةِ الشرح: اكتفيتُ بالتنبيه هنا على حُكم ما لو كان الوصف خفيًّا أو غير منضبطٍ عن جعل عدم ذلك شرطا في الوصف المناسب. فلم أَقُل هناك: (أنْ يكون وصفًا ظاهرًا منضبطًا) كما قال ابن الحاجب في تصريحه به. ثم إنه بعد ذلك ذكر ما تحرز به عنه، فقال: (فإنْ كان المذكور خفيًّا أو غير منضبط اعتُبِرَ مُلازمُه وهو المظنة). أي: وهي الوصف الظاهر المنضبط. فيجعل هو العلة يوجد المعلول بوجوده ويُعْدَم بعدمه سواء كانت الملازمة عقلية أم لا. وإنما لم نعتبره لأنه غير معلوم؛ لكونه خفيًّا أو لكونه غير منضبط. فإذا لم يُعْرَف في نفسه فكيف يُعرِّف غيره؟ ! وهو معنى تعليل ابن الحاجب ذلك بقوله: (لأنَّ الغَيْبَ لا يُعَرِّف

الغيب). وذلك كالسفر لعدم انضباط المشقة التي هي المعنى المناسب لترتُّب [الترخص] (¬1) عليه، فيناط الترخص بِمُلازِمها وهو السفر. ومثال إقامة المظنة مقام المناسب عند خفائه: شغل الرحم المناسب للعدة؛ حفظًا للنسب، لَمَّا لم ينضبط، أُنِيطَ بالوطء الذي هو وصف ظاهر منضبط، حتى لو تحققت البراءة لرحمها، تَعْتَد. قال الغزالي في "الوسيط" في "أول العدد": (ومقصود هذه العدة براءة الرحم، ولكن يُكتفى بسبب الشغل ولا يُشترط عينه؛ لأنَّ ذلك خفي لا يُطَّلَع عليه؛ فلذلك تجب العِدة بوطء الصبي بمجرد تغييب الحشفة. وحيث علق طلاقها بيقين براءة الرحم. ومن دَأْب الشرع في مظان التباس المعاني المقصودة رَبْط الأحكام بالأسباب الظاهرة، كما علق البلوغ بالاحتلام والسن؛ لخفاء العقل. وعلق الإسلام بكلمتي الشهادة مع الإكراه؛ لخفاء العقيدة). انتهى وهو معنى قولي: (وَالْوَطْءِ لِلشَّغْلِ الَّذِي في الْعِدَّةِ). والله أعلم. ص: 821 - ثُمَّ: الْمُنَاسِبُ الَّذِي تَقَدَّمَا ... هُوَ ضَرُورِيٌّ، فَحَاجِيٌّ، فَمَا 822 - بَعْدَهُمَا يُعْرَفُ بِـ "التَّحْسِيني" ... فَأَوَّلٌ مِنْهَا [لِحِفْظِ] (¬2) الدِّينِ 823 - فَالنَّفْسِ، فَالْعَقْلِ، فَبَعْدَهُ النَّسَبْ ... فَالْمَالُ، فَالْعِرْضُ، فَحَقِّقِ الرُّتَبْ الشرح: لما ذكرت في تعريف "المناسب" أنه الملائم لفعل ذوى العقول وفي معنى ذلك ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): (الرخص). وكذلك كلمة (الترخص) التالية. (¬2) في (س، ت): كحفظ.

ما نقلته في الشرح من التعاريف، بينتُ هنا ما أشير إليه في جميع ذلك من وجه الملائمة والمناسبة أنها لا تخلو عن ثلاثة أمور مرتبة في الملائمة: الضروري، ثم الحاجي، ثم التحسيني؛ لأنها إما في محل الضرورة أو في محل الحاجة أو لا في محلهما ولكن في محل الاستحسان في مطرد العادات. فأما "الضروري": فهو الذي يكون في محل ضرورة العباد لا بُدَّ منه، وذلك خمسة أنواع، وهي المقاصد التي اتفق الملل في حفظها، وهي: الدِّين، فالنفْس، فالعقل، فالمال، فالنَّسَب. فحِفظ الدِّين بقتال الكفار، قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" (¬1)، وقال: "مَن بَدَّل دِينه فاقتلوه" (¬2). وحِفظ النفس بمشروعية القصاص، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة 179]. وحِفظ العقل بتحريم المسكرات ونحوها، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَا} [المائدة: 91] الآية. وحِفظ المال بقطع السارق وتضمينه وتضمين الغاصب، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]. والنَّسب بوجوب حَد الزاني، قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] الآية. وقد أشير إلى خمسة بقوله تعالى: {لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه.

يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ} [الممتحنة: 12]. أربعة مِن الخمسة التي ذكرت، إذْ لا تَعَرُّض فيه لحفظ العقول، وواحد آخَر تصير به المقاصد ستة وهو العِرْض. وفي "الصحيحين " أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته في حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام" (¬1) الحديث. والأخبار فيه كثيرة وأحكام حِفظه شهيرة في الشرع، فهو من الضروريات المعلومة من الدِّين، وحِفظه بحد القذف. أما [مرتبته] (¬2) فيحتمل أن يكون في رُتبة الأموال، فيكون مِن أدنى الكليات، فإن [ترتيبها] (¬3) كما ذكرناه متعاطفة بـ "الفاء". ويحتمل أنْ لا يُجعل مِن الكليات، فيكون ملحقًا بها، ويحتمل أن يفصل في ذلك. قيل: وهو الظاهر، لأنَّ الأعراض تتفاوت، فمنها ما هو من الكُليات وهي الأنساب، وهي أرفع مِن الأموال؛ فإن حِفظ النسب بتحريم الزنا تارة وبتحريم القذف المؤدِّي إلى الشك في أنساب الخلْق وبسبتهم إلى غير آبائهم تارة. وتحريم الأنساب مُقدَّم على الأموال. ومنها ما هو دونها، وهو ما يكون مِن الأعراض غير الأنساب. وبالجملة فلا ينبغي إهمال الأعراض مِن الكُليات؛ فلذلك ذكرته في النَّظم تبعًا لـ "جمع الجوامع" وعطفته بالواو على الأموال على ما يتبادر للذهن من الاحتمالات السابقة وهو أنه في رُتبة أدناها وهو الأموال. والله أعلم. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 1652)، صحيح مسلم (رقم: 1679). (¬2) في (ص، ق، ش): ترتيبه. (¬3) في (س، ت): مرتبتها.

ص: 824 - وَمُكْمِلٌ لِذَا يَكُونُ لِاحِقَا ... بِهِ، كمُسْكِرٍ قَلِيلٍ وَافَقَا 825 - كَثِيرَهُ في الْحَدِّ، أَمَّا الْحَاجِي ... فَنَحْوُ بَيْع في سِوَى الْمُحْتَاجِ 826 - فَإنَّ ذَا يلْحَقُ بِالضَّرُورِي ... وَذَا كَالِاسْتِئْجَارِ لِلصَّغِير 827 - في أَنْ يُرَبَّى، وِبهَذَا مُكْمِل ... مِثْلُ خِيَارِ الْبَيْعِ حِينَ يَحْصُلُ الشرح: أي: ويلحق بالضروري مُكَمِّلُه في حُكمه. ومعنى كونه مُكملًا له أنه لا يستقل ضروريًّا بنفسه بل بطريق الانضمام، فله تأثير فيه لكن لا بنفسه، فيكون في حكم الضرورة مبالغةً في مراعاته. كالمبالغة في حفظ الدين بتحريم البدعة وعقوبة المبتدع الداعي إليها، والمبالغة في حفظ النفس بإجراء القصاص في الجراحات، والمبالغة في حفظ العقل بتحريم شرب قليل المسكر والحد عليه؛ وذلك لأنَّ الكثير السكر مفسد للعقل، ولا يحصل إلَّا بإفساد كل واحد مِن أجزائه، فَحُدَّ شارب القليل؛ لأنَّ القليل متلف لجزء من العقل وإنْ قَل. وكذلك المبالغة في حفظ المال والعِرض بتعزير الغاصب ونحوه، وتعزير الساب بغير القذف، ونحو ذلك. والمبالغة في حفظ النسب بتحريم النظر والمس والتعزير عليه. وقد نبه الشارع على إلحاق ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه". ثم قال: "ألا وإن حمَى الله محارمه" (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (52)، صحيح مسلم (1599).

وقولي: (أَمَّا الْحَاجِي) بيان للقسم الثاني وهو الذي لا يكون في محل الضرورة بل في محل الحاجة. ويقال له أيضًا: "المصلحي" كما عبر بذلك البيضاوي، كالبيع والإجارة؛ لأنَّ مالك الشيء قد يُضَر بإعارته؛ ولذلك قال إمام الحرمين: (إنَّ مَن زعم أنَّ الإجارة خارجة عن مقتضَى القياس فليس على بصيرة؛ لأنَّ الحاجة أصل). وكالمساقاة والقراض؛ لأنه ليس كل أحد يَعرف عمل الأشجار ولا التجارة، أو لاشتغال الملاك بأهم من ذلك. ومن ذلك أيضًا: نَصْبُ الولي [للصغير] (¬1)، فإنَّ مصالح النكاح غير ضرورية ولكن واقعة في محل الحاجة، فإنها داعية إلى الكُفْء الموافق، وهو لا يوجد في كل وقت، فكل هذه لا يَلْزَم مِن فواتها فوات الشيء من الضروريات الخمس. وادَّعَى إمام الحرمين أن البيع ضروري، ولعله أراد ما كَثُرت شدة الحاجة إليه بحيث صار كالضروري؛ لأنَّ الناس لو لم يتبادلوا ما بأيديهم لَجَرَّ ذلك ضرورة. وقولي: (في سِوَى الْمُحْتَاجِ) إلى آخِره أي: إنما يكون البيع حاجيًّا في غير هذه الصورة، فإنها من الضروريات، كالإجارة على تربية الطفل وشراء المطعوم والملبوس له حيث كان في معرض التلف من الجوع والبرد. وحاصله أن الحاجي يتفاوت، حتى أن بعضه ينتهي إلى رتبة الضروري؛ لشدة الاحتياج، وهو نادر كما في هذه الصورة. وإنما لم يكن هذا من الضروري نفسه لإمكان حصول المقصود بوضع اليد قهرًا عند خوف الهلاك وغرم قيمته، كواجد طعام الغير في المخمصة. وقولي: (وِلهَذَا مُكْمِلُ) أي: للحاجي مُكمل مُلْحَق به في تعليله بالحاجة، كرعاية ¬

_ (¬1) في (س، ت): للصغيرة.

الكفاءة ومهر المثل في التزويج، فإنه أفضى إلى دوام النكاح وتكميل مقاصده وإنْ [حصل] (¬1) أصل الحاجة بدون ذلك. وكذلك إثبات الخيار في البيع بأنواعه؛ لِمَا فيه من التروي وإنْ كان أصل الحاجة حاصلًا بدونه. وقولي: (حِينَ يَحْصُلُ) أي حين يحصل البيع، فإنه حينئذٍ سبب الخيار كما هو مُقَرر موضح في الفقه. والله أعلم. ص: 828 - ثُمَّ: الَّذِي يُعْرَفُ بِالتَّحْسِيني ... مَا لَا يُنَافِي قَاعِدَاتِ الدِّينِ 829 - كَالسَّلْبِ في أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَهْ ... مِنَ الرَّقِيقِ؛ لِانْحِطَاط عَادَهْ 830 - وَمَا يُنَافِي كَكِتَابَةٍ فَهِيْ ... بَيْعُ امْرِئٍ مَالًا لَهُ بِمَالِه الشرح: القسم الثالث: ما ليس ضروريًّا ولا حاجيًّا ولكنه في محل التحسين، وذلك ضربان: أحدهما: ما ليس فيه منافاة لقاعدة من قواعد الشرع، وإليه الإشارة بقولي (من قَاعِدَاتِ الدَّينِ) أي: لا تعارضه قاعدة شرعية، كسلب الرقيق أَهْلِيَّة الشهادة؛ لانحطاطه في محاسن العادات عن المناصب الشريفة من قضاءٍ وولايةٍ وشهادةٍ ونحو ذلك. نعم، سلب الولاية عنه من الحاجي؛ لأنها تستدعي فراغًا، والرقيق مستغرق في خدمة السيد، فتفويض أمر الطفل ونحوه إليه إضرار بذلك. وأما روايته وفتواه فإنما جازَا منه؛ لعدم الضرر بما يترتب عليهما؛ فلذلك فارقَا الشهادة ¬

_ (¬1) كذا في (س، ت)، لكن في (ص، ق، ض، ش): حصلت.

والقضاء والولاية. ومن ذلك أيضًا اعتبار الولي في النكاح؛ لاستحياء النساء من مباشرة العقود على فروجهن؛ لإشعاره بتوقان نفوسهن إلى الرجال، وهو غير لائق بالمروءة. وكذلك اعتبار الشهادة في النكاح؛ لتعظيم شأنه وتميزه عن السفاح بالإعلان والإظهار؛ ولذلك اكتفى مالك [بالإعلان] (¬1) دون الشهادة. ولو علل بإثباته عند التنازع لكان حاجيًّا، لا تحسينيًّا، كما لو عُلِّل اعتبار الولي بفتور رأي المرأة في الانقياد للأزواج وسرعة الاغترار بالظواهر لَكان حاجيًّا. ولكن لا يصح التعليل بذلك في سلب عبارتها وفي نكاح الكفء. ومن ذلك أيضًا: تحريم القاذورات، فإن نفرة الطباع معنى يناسب تحريمها حتى يحرم التضمخ بالنجاسة بلا عُذر، ولبس جلد الميتة ونحو ذلك. الثاني من التحسين: ما ينافي قاعدة شرعية، كالكتابة، فإنها مِن حيث كونها [مكرمة] (¬2) في العادة مُستحسنة احتمل الشرع فيها خرم قاعدة ممهدة وهي امتناع بَيعْ الإنسان مال نفسه بمال نفسه ومعاملة عبده. ومِن ثَمَّ لم تجب الكتابة عند المعظم. وفي قول حكاه صاحب "التقريب": إنها تجب إذا طلبها العبد وعَلِم السيد فيه خيرًا؛ عملا بالأمر الوارد في الإيجاب. والمعظم حملوه على الندب؛ لِمَا تقدم من المعنى. ¬

_ (¬1) في (ق، ص): بالإعلام. (¬2) ليس في (س، ت، ض).

تنبيهات الأول: هذا المذكور في الأقسام الثلاثة إنما هو في المناسب الدنيوي، أما الأخروي فكتزكية النفس ورياضتها وتهذيب الأخلاق المؤدي إلى امتثال الأوامر واجتناب النواهي المتوصَّل بذلك إلى رضَا الرب عز وجل. وربما كان متعلقًا بالدارين، كإيجاب الكفارات، فإنها يحصل بها الزجر عن تَعاطي تلك الأفعال التي أوجبت التكفير، ووسيلة إلى تكفير الذنوب التي قد حصلت بفعلها. الثاني: مِن الأمور ما يظهر رَدُّه إلى نوع مِن الأنواع المذكورة، كوجوب القصاص بالمثقل، فإنَّ ردَّه إلى الضروريات ظاهر؛ وذلك لما فيه من حفظ النفوس، وإلا لَبَادَرَ الناس إلى القتل به، بل هو أَيْسَر مِن المحدد؛ لِغَلَبَةِ وجوده. ومنها ما يظهر أنه ليس منه، كغرز الإبرة في غير مقتل بلا ألم ولا ورم، وكإبانة فلقة من اللحم خفيفة، فيظهر أن لا يُعَلَّل به وجوب قصاص؛ إذ ليس هو من رعاية المصالح الضرورية؛ لأنه لا يُفْضِي للهلاك إلا نادرًا. ومنها ما يحتمل أنه منه وأن لا يكون منه، كإيجاب القصاص على الجماعة بقتل الواحد، فإنه يحتمل أن يكون من الضروري؛ لئلَّا يؤدي إلى أنَّ مَن يريد قَتْل شخص، لا ينفرد به، بل يستعين بمن يشاركه. ويحتمل أن لا يكون منه؛ لاحتمال أنْ لا يوافقه مَن يريد مشاركته. وجمن هنا تعرف مدارك الفقه في هذه الصوَر. الثالث: هذا كله إذا كان الوصف المناسب حقيقيًّا، لكنه قد يكون إقناعيًّا، وهو ما يظن مناسبته في بادئ الرأْي، وعندما يُبحث فيه حَق البحث يظهر خلاف ذلك، كتعليل بعض الأصحاب تحريم بيع الخمر والميتة بنجاستهما، وقياس الكلب والسرجين عليهما.

قال: لأن كونه نَجسًا يناسب إذلاله، وكونه يُقابَل في البيع بِعوَض يقتضي إعزازه، والجمع بينهما متعذر. فهذا وإنْ تُخيِّلَت مناسبته أولًا لكن يتبين خلاف ذلك؛ إذِ المَعْنِي بكونه نجسًا مَنعْ الصلاة معه، فإنَّ ذلك مِن جُملة أحكام النجس، وحينئذٍ فالتعليل بكون النجاسة تناسب الإذلال ليس بإقناعي. نعم، قد يمثَّل له بمن وكّل في شراء عبد من عبدين أو ثلاثة فإنه يصح؛ لأنه غرر قليل تدعو الحاجة إليه، فَأَشْبَه خيار الثلاث، فإن الرؤساء لا يحضرون الأسواق لاختيار المبيع، فيشتري الوكيل واحدًا مِن ثلاثة، ويختار الموكل ما شاء. فهذا وإنْ تُخيِّلَت مناسبته أولًا فعند التأمل يظهر أنه غير مناسب؛ لأنه يمكن أن يشتري ثلاثة في ثلاثة عقود بشرط الخيار، فيختار الموكل منها ما يريد. والله أعلم. ص: 831 - فَإنْ يَكُنْ مُنَاسِبٌ قَدِ [اعْتُبرْ] (¬1) ... بِنَصٍّ اوْ إجْمَاعِهِمْ حَيْثُ أُثِرْ 832 - في عَيْنِ حُكْمٍ عَيْنُ وَصْفٍ، [سَمِّ] (¬2) ... "مُؤثّرا"، وَغَيْرَهُ في الرَّسْمِ 833 - "مُلَاِئمًا"، أَمَّا الَّذِى لَمْ يُعْتَبر ... وَجَاءَ بِالْإلْغَا دَلِيلٌ مُعْتَبَرْ 834 - فَلَيْسَ عِلَّةً، وَمَا لَا يُلْغَى ... فَذَاكَ "مُرْسَلٌ" يَكُونُ مُلْغَى الشرح: لا بُدَّ في كون الوصف المناسب المعلَّل به [معتبَرًا] (¬3) أنْ يُعْلَم مِن [الشارع] (¬4) ¬

_ (¬1) في (ت): اعتبره (¬2) في (ض، س): اسم. (¬3) من (ت، س). (¬4) كذا في (ص، ق)، لكن في سائر النسخ: الشرع.

التفات إليه، ويظهر ذلك بتقسيم المناسب. وهو ينقسم إلى: مُؤَثِّر، وملائِم، وغريب، ومُلْغًى، ومُرْسَل. لأنه إما أنْ يُعْلَم أن الشرع اعتبره، أو يُعْلم أنه ألغاه، أو لا يُعلم أنه اعتبره ولا ألغاه. والمراد بالعِلم هنا ما هو أعم مِن اليقين والظن، وذلك إما بالنص أو الإجماع. والمراد بِ "اعتبار الشرع" أنْ يورد الفروع على وَفْقه، لا أنْ يَنُصَّ على العلة أو يُومئ إليها، هالا لم تكن العِلية مستفادة بالمناسبة. فإنْ عُلم أن الشارع اعتبره، فهو على أربعة أقسام: - إما أنْ يُعْلَم بالنص أو بالإجماع أنه اعتبر عَيْن الوصف في عَيْن الحكم (والمراد بِالعَيْن: النوع، لا المشخص مِن النوع). - أو أنه اعتبر عَيْن الوصف في جِنس الحكم. - أوجنس الوصف في عَيْن الحكم. - أو جنسه في جنسه. فالأول - وهو ما اعتبر نوعه في نوعه - إنِ اعتبر مع ذلك جنسه في جنسه، سُمِّي "المُؤَثِّر"؛ لحصول التأثير فيه عيْنًا وجنسًا، هالا فيُسمى "الغريب". ولم أتعرض له في النَّظم؛ لأنه لا يُعَلَّل به اتفاقًا. وأما الثلاثة الأخرى فتسمى "الملائم"؛ لكونها موافقة لِمَا اعتبره الشرع. أي: [ما] (¬1) دل عليه النص أو الإجماع. أي: دل على إيراد الفروع على وَفْق ذلك، لا النص أو الإجماع أنَّ هذا عِلةُ هذا، فإن ذلك ليس مِن المناسبة كما سبق تقريره. ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (ق، س): مما.

أما لو دَلَّ على الاعتبار بمعنى الموافقة والإيماء والتنبيه ففيه خلاف: هل هو من المؤثر؟ أو من الملائم؟ حكاه الهندي. وأما ما عُلم أن الشرع ألغاه فهو مُلْغًى بلا خلاف. وما لم يُعْلم هل اعتبره الشرع؟ أو لا؟ هو المسمى بـ "المُرْسَل". وقبل الكلام على هذه الأقسام وأمثلتها نقول: كُل مِن الوصف والحكم نوع، وما هو أَعَم منه جِنس، وله مراتب: عالٍ، وسافل، ومتوسط. والعبرة دائمًا بالأسفل القريب مِن العَين في الوصف وفي الحكم. فأعم الأوصاف وصف يُناط به الحكم، ثم كونه مناسبًا، ثم كونه -مثلًا- ضروريًّا، ثم كونه لحفظ النفوس. وأَعَم أجناس الحكم كَوْنه حُكمًا شرعيًّا، ثم كونه واجبًا، ثم كونه عبادة، ثم كونه صلاة، ثم كونه ظهرًا. إذا عُلِم ذلك: فمثال "المؤثر" الذي دل على اعتبار عين الوصف [فيه] (¬1) في عين الحكم: نفس السُّكْر عِلة للتحريم في الخمر، اعتبر عَيْنه في عَين الحكم وهو التحريم حيث حرم الخمر، فيلحق به النبيذ. ونحوه: مَس الذكر، اعتبر عينه في عين الحكم، وهو الحدث؛ لحديث: "مَن مس ذكره فليتوضأ" (¬2). ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، وفي سائر النسخ: منه. (¬2) مسند أحمد (7076)، سنن أبي داود (رقم: (181)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي=

ومثال "الغريب" -وسمي بذلك لأنه لم يشهد له غير أصله بالاعتبار- الطعم في الربا، فإنَّ نوع الطعم مؤثِّر في حُرمة الربا، وليس جنسه مؤثرًا في جنسه. وأما الثلاثة الأخرى فتسمَّى الملائم؛ لكونها موافقة لِمَا اعتبره الشرع. فمثال ما اعتبر الشرع عَيْن الوصف فى جنس الحكم: امتزاج النسبين في الأخ مِن الأبوين، اعتُبِر في تقديمه على الأخ مِن الأب في الإرث، وقِسْنَا عليه تقديمه عليه في ولاية النكاح وفي الصلاة ونحوها في الميت وتحمُّل العقل وغير ذلك من الأحكام، فإنه وإنْ لم يعتبره الشرع في عَيْن هذه الأحكام لكن اعتبره في جنسها وهو التقدُّم في الجملة. ومثال ما اعتُبر فيه جنس الوصف فى عين الحكم: المشقة المشتركة بين الحائض والمسافر في سقوط القضاء، فإن الشارع اعتبرها في عَيْن سقوط القضاء في الركعتين من الرباعية، فسقط بها القضاء في صلاة الحائض؛ قياسًا. وإنما جُعِل الوصف هنا جنسًا والإسقاط نوعًا؛ لأنَّ مشقة السفر نوع مخالف لمشقة الحيض، وأمَّا السقوط فأمر واحد وإنِ اختلفت محالّه. ومثال ما اعتُبر فيه جنس الوصف فى جنس الحكم: ما رُوي عن علي - رضي الله عنه - في شارب الخمر أنه: "إذا شرب هَذَى (¬1)، وإذا هَذَى افترى؛ فيكون عليه حد المفتري". أي: القاذف. ووافقه الصحابة عليه، فقد أوجبوا حد القذف على الشارب لا لكونه شرب، بل لكون الشرب مظنة القذف، فأقاموه مقام القذف؛ قياسًا على إقامة الخلوة بالأجنبية مقام الوطء في التحريم؛ لكون الخلوة مظنة له. فظهر أن الشارع إنما اعتبر المظنة (التي هي جنس لمظنة الوطء ومظنة القذف) في الحكم (الذي هو جنس لإيجاب حد القذف وحرمة الوطء). ¬

_ =داود: 181). (¬1) يعني: صَدَر منه الهذيان، وهو كلام غَيْر مَعْقُول. لسان العرب (15/ 360).

وبهذا يظهر الجواب عما ذكر فيه مِن إشكال مِن حيث إنَّ تفريع مظنة القذف على مظنة الوطء حقه أنْ يتساويا في الحد كما تَساويَا في التحريم؛ لأنَّ الوفاء بإقامة المظنة مقام المظنون أن يوجَب الحد بالخلوة، ولا قائل به. فصار في جعل الشرب مظنة القذف زيادة وجوب عقوبة ليست موجودة في الأصل الذي هو إلحاق الخلوة بالوطء؛ لأنَّ ذلك إنما هو في الحرمة فقط. فيقال في جوابه: إنما أخذنا باعتبار الشرع الجنس في جنس الحكم، وجنس الحكم يشمل التحريم والعقوبة وإن تَغايرَا؛ إذ لو اتحد في الموضعين لكان مِن اعتبار الجنس في العين. فَتَأَمَّله. واعلم أن المراد بالجنس دائمًا هو القريب، لا البعيد. وأعلى هذه الثلاثة ما أثَّر عين الوصف في جنس الحكم؛ لأنَّ الإبهام في العلة أكثر محذورًا من الإبهام في المعلول، ثم عكسه، ثم الجنس في الجنس. وأقسام "الملائم" كلها يسوغ التعليل بها عند الجمهور؛ لأنَّ الله تعالى شَرَّعَ أحكامه لمصالح العباد، وعُلِم ذلك بطريق الاستقراء، وذلك من فضل الله تعالى وإحسانه، لا بطريق الوجوب عليه، خلافًا للمعتزلة. فإذا وُجِد وصفٌ صالح للعِلية وقد اعتبره الشرع بوجْهٍ مِن الوجوه السابقة، غلب على الظن أنه عِلة للحكم. وأما "المُلْغَى": وهو الذي عُلِم أن الشارع ألغاه مع أنه مُتَخيَّل المناسبة فلا خلاف في أنه لا يجوز التعليل به. وذلك كإيجاب صوم الشهرين ابتداء على المجامِع في نهار رمضان إذا كان مَلِكًا؛ لأنَّ العتق سهل عليه، فلا يُرْدِعُه عَمَّا وقع منه إلا الصوم شهرين؛ ولهذا أنكروا على يحيى بن يحيى بن كثير الليثي - صاحب مالك - إمام أهل الأندلس حيث أفتى بعض

ملوك المغاربة بذلك وهو الأمير عبد الرحمن بن الحكم الأُموي المعروف بِـ "الرَّبَضِي" (¬1) صاحب الأندلس، وكان قد نظر في رمضان إلى جارية له كان يحبها حبًّا شديدًا، فعبث بها ولم يملك نفسه أنْ وقع عليها، ثم ندم ندمًا شديدًا، فسأل الفقهاء عن توبته وكفارته، فقال له يحى بن يحمى: تصوم شهرين متتابعين. فلمَّا بَدر يحيى سكت بقية الفقهاء حتى خرجوا من عنده، فقالوا ليحيى: ما لك لم تُفْتِه بمذهب مالك وهو التخيير بين العتق والإطعام والصيام؛ فقال: لو فتحنا له هذا الباب سَهُل عليه أنْ يَطأ كل يوم ويعتق رقبة، ولكن حَملْتُه على أصعب الأمور؛ لئلَّا يَعُود. وأما "المرسل": فهو ما لم يُعْلم أن الشرع ألغاه أو اعتبره. وربما سمي ذلك: "المصالح المرسلة". والخلاف فيها محكي عن مالك. وفي كلام ابن الحاجب ما يقتضي انقسام "المرسل" إلى مُرْسَل ملائم ومرسل غريب. أي: إنِ اعتُبر جنسه البعيد في جنس الحكم فهو الملائم، وإلا فهو "الغريب". فالغريب بهذا التفسير غير الغريب بالتفسير السابق. قال ابن الحاجب: (فإنْ كان - أيِ المرسل - غريبًا أو ثبت إلغاؤه فمردود اتفاقًا) (¬2). أي: ولأ يُظَن بمالك أن يخالف فيه. قال إمام الحرمين: (لا نرى التعلُّق عندنا بكل مصلحة، ومَن ظن ذلك بمالك فقد أخطأ) (¬3). انتهى نعم، سبق أن ما ثبت إلغاؤه قَسِيم للمرسل، لا قِسم منه، ولا مشاححة في الاصطلاح. ¬

_ (¬1) نِسبة إلى "الربض": موضع بقرطبة. (¬2) مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (2/ 1098)، الناشر: دار ابن حزم. (¬3) البرهان في أصول الفقه (2/ 783).

ثم قال (¬1): (وإن كان ملائمًا - أيْ مُرْسَلاً ملائمًا - فقد صرح الإمام والغزالي بقبوله، وذُكِر عن مالك والشافعي) (¬2). وانتُقِد عليه في نقله عن الشافعي ذلك؛ فإنَّ الذي يعتبره الشافعي إنما هو الذي شهد الشرع باعتباره كما سبق، وبأنَّ الإمام والغزالي لا يُطْلِقان، كما قد صح عن مالك أنه يعتبر جنس المصالح مطلقًا. ثم قال ابن الحاجب: (المختار ردُّه). أيْ: كما هو مذهب الأكثر. وحاصل ما في المرسل مِن الخلاف مذاهب: أحدها: المنع مطلقًا، وعليه الأكثرون. وإليه أشرتُ بقولي: (فَذَاكَ "مُرْسَلٌ" يَكُونُ مُلْغَى). ويقابل هذا المذهب الثاني: وهو القبول مطلقًا؛ لإفادته ظن العِلية. وهو المنقول عن مالك، وسبق مخالفة ابن الحاجب والأكثرين له. وبالغ إمام الحرمين في الرد عليه، وقال: (الذي ننكره مِن مذهب مالك تركه رعاية ذلك، وجريانه على استرساله في الاستصواب مِن غير اقتصاد) (¬3). قال: (ونحن نعرض على مالك واقعة وقعت نادرة لا يُعْهَد مِثلها، ونقول له: لو رأى ذو نظر فيها جدع أنف أو اصطلام شفة، وأبدى رأيًا لا تنكره العقول صائرًا إلى أن العقوبة شُرعت لحسم الفواحش، وهذه العقوبة لائقة بهذه النازلة، لَلَزِمَكَ التزام هذا؛ لأنك تُجَوِّز ¬

_ (¬1) يعني: ابن الحاجب. (¬2) مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (2/ 1098)، الناشر: دار ابن حزم. (¬3) البرهان في أصول الفقه (2/ 733).

لأصحاب [الإيالات] (¬1) القتل في التُّهَم العظيمة، حتى نَقل عنك الثقات أنك قلت: "أقتل ثلث الأُمة في استبقاء ثلثيها"). قال: (ثم إنَّا نقول له ثانيًا: لا يجوز التعلق بكل رأي. فإنْ أبَى ذلك، لم نجد مرجعًا نقر [عنده] (¬2) إلا ما ارتضاه الشافعي مِن اعتبار المصالح المشبهة [بما] (¬3) عُلِم اعتباره. وإنْ لم يذكر ضابطًا وصرح بأنَّ ما لا نَص فيه ولا أصل له فهو مردود إلى الرأي واستصحاب ذوي العقول، فهذا اقتحام عظيم، وخروج عن الضبط، ومصير إلى إبطال أبَّهة الشريعة، وأنَّ كُلًّا يفعل ما يرى، ثم يختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان وأصناف الخلق، وهو في الحقيقة خروج عما درج عليه الأوَّلون) (¬4). انتهى والله أعلم، ثم عرضت بذكر باقي المذاهب في المسألة بقولي: ص: 835 - إنْ يَكُنْ في غَيْرِ مَا عِبَادَةْ ... وَلَيْسَ مِنْ هَذَا لِمَنْ أَرَادَهْ 836 - مَصْلَحَةٌ قَطْعِيَّة كلِّيَّهْ ... مِنَ الضَّرُورِيِّ؛ فَذِي الْمُضِيَّهْ 837 - دَلَّ عَلَى اعْتِبَارِهَا الدَّلِيلُ ... فَهْيَ مِنَ الْحَقِّ، بِهِ نَقُولُ الشرح: فالمذهب الثالث: التفصيل بين العبادات وغيرها: فما كان من العبادات فلا يجوز التعليل بالمرسل فيه؛ لِمَا فيها من لحاظ التعبد. ¬

_ (¬1) في (ت): الولايات. (¬2) في (ق): منه. وفي سائر النسخ: عنه. والتصويب من البرهان (2/ 725). (¬3) في (ص، ق): لما. (¬4) البرهان في أصول الفقه (2/ 725).

وما كان من غير العبادات كبيع ونكاح وحدود وقصاص فيجوز؛ لأنَّ الملاحظ فيها المناسبات اللائحة في مصالحها. وهذا قول الأبياري شارح "البرهان"، وزعم أنه الذي يقتضيه مذهب مالك. المذهب الرابع: قول الغزالي واختاره البيضاوي: أنه يُعَلَّل به بثلاثة قيود: أن يشتمل ذلك "المناسب المرسل" على مصلحة ضرورية كلية قطعية، فإنْ فات شيء من الثلاثة فلا يعتبر. فالضرورية ما يكون من الضروريات الخمس السابقة، والقطعية ما يُجْزَم بحصول المصلحة فيها، والكُلية ما تكون موجِبة لفائدة تَعُم المسلمين. مثاله: ما لو تَتَرس الكفار حال التحام القتال بأسارى المسلمين وقطعنا بأنَّا إنْ رمينا الترس نقتل مسلمًا بلا جريمة صدرت منه، وإلا فيُقطع باستئصال المسلمين. قال الغزالي: (فحفظ المسلمين أَقْرب إلى مقصود الشرع؛ لانا نقطع بأن الشرع يقصد تقليل القتل كما يقصد حَسْم سبيله عند الإمكان. وإذا لم نَقدر على الحسم فقد قدرنا على التقليل. فليس في معنى اجتماع هذه القيود في هذه الصورة ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم، فإنه لاْ يحل رَمْي الترس؛ إذ لا ضرورة بنا إلى أخذ القلعة. وليس في معنى ذلك جَمْع في سفينة لو طرحوا واحدًا لَنَجوا وإلا غرقوا جميعًا؛ لأنها ليست كُلية؛ إذ يحصل بها هلاك عدد محصور، ولَعَلَّ مصلحة الدِّين في بقاء مَن طُرِح أَعْظم منها في بقاء مَن بقي في مخمصة لو أكلوا واحدًا بالقرعة لنجوا، فلا رخصة فيه. وكذا ليس في معنى ذلك ما إذا لم يُقْطَع بظفرهم، فإنها ليست قطعية، بل ظنية) (¬1). نعم، قال الغزالي في "المستصفى": (إن الظن القريب مِن القطع كالقطع) (¬2). ¬

_ (¬1) المستصفى (1/ 176). (¬2) انظر: المستصفى (1/ 177).

وقوَّى هذا السبكي في "شرح البيضاوي"، قال: (وقد حكى الأصحاب في مسألة التترس وجهين من غير تصريح منهم باشتراط القطع، وعللوا وَجْه المنع بأن غاية الأمر أن نخاف على أنفسنا، ودم المسلم لا يباح بالخوف. وهذا تصريح بجريان الخلاف في صورة الخوف ولا قاطع. وقد يقال: إنَّ المسألة في حالة القطع مجزوم باعتبارها، والخلاف إنما هو في حالة الخوف) (¬1). تنبيهان الأول: هذه المسألة التي فيها القيود الثلاثة زعم الإمام الرازي والآمدي وجمع أنها لا بُدَّ مِن إخراجها من المصالح المرسلة التي يمنعها الشافعي وغيره، فقالوا: إن الشافعي لم يَقُل بالمرسل إلا في هذه المسألة. ولكن الحقّ أن هذه ليست من ذلك أصلًا؛ لأنَّ "المرسَل" هو ما لم يدل دليل على اعتباره ولا إلغائه. وهذه دَلَّ الدليل فيها على الاعتبار؛ لأنَّ الكَف عن دم معصوم قد عارضه أنَّ في الكف عنه إهلاك دماء معصومة لا حَصْر لها، وربما يُسْفك الدم الذي كففنا عنه معهم. ونحن نَعلم أنَّ الشرع يُؤْثِر حِفظ الكُلي على الجزئي، وأنَّ حِفظ أصل الإسلام عن اصطلام الكفار أَهَم في مقصود الشرع؛ فرجعت المصلحة فيه إلى حِفظ مقصود شرعي عُلِم كَوْنه مقصودًا بالنَّص أو بالإجماع، فليس هذا خارجًا مِن الأصول، لكنه لا يسمى "قياسًا" بل "مصلحة مرسلة"؛ إذ القياس إنما يكون على أصل مُعَيَّن، ولكن هذه المعاني لَمَّا كانت مقصودة عُرِفت بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال سُميت "مصلحة مرسلة". قال الغزالى: (وإذا فَسَّرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع، فلا وجه للخلاف ¬

_ (¬1) الإبهاج في شرح المنهاج (3/ 178 - 179).

فيها، بل نقطع بكونها حُجة. وحيث جاء خلاف فهو عند تَعارض مصلحتين ومقصودين، فيرجح الأقوى؛ ولذلك قطعنا بكون الإكراه مبيحًا لكلمة الكفر وللشرب؛ لأنَّ الحذر مِن سفك دم أشد مِن هذه الأمور، ولا يُباح به الزنا؛ لأنه في مثل محذور الإكراه) (¬1). وإلى كَوْنه لا يُستثنى مِن المناسب المرسل أشرتُ بقولي: (وليس مِن هذا) إلى آخِر الأبيات. الثاني: نشأ من تقييد هذه المسألة بالقيود الثلاثة مسائل فيها الخلاف: منها: "ضرب المتهم؛ لِيمر بالسرقة إنْ كان سرق" فيه مصلحة، قال به مالك، ونحن نمنع؛ لمعارضة هذه المصلحة لمصلحة المضروب؛ إذ قد يكون بريئًا. وترك الضرب في المُذْنِب أَهْوَن مِن ضرب البريء ولو لَزِمَ منه مصلحة عامة وهي أنْ لا يُفتح باب يَعْسُر معه انتزاع الأموال، فإنَّ الضرب فتح باب لتعذيب البريئين. ومنها: الزنديق [المُتستر] (¬2) إذا تاب، المصلحة في قتله وأنْ لا تُقبَل توبته. وبه قال مالك، لكن الأصح عندنا القبول؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمرت أنْ أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فإذَا قالوها، عصموا مني دماءهم وأموالهم" (¬3). وتأويله بغير الزنديق تأويل بلا دليل، ويعارض مصلحة قتله وعدم قبول توبته بِنفرة مَن يريد التوبة مِن الإسلام؛ لأنه يقول: لا يعصمني من القتل. و [ينتشر] (¬4) ذلك ¬

_ (¬1) المستصفى (1/ 179). (¬2) كذا في (ش)، لكن في (ص): المستسر. وفي (ق): المستستر. وفي (ت، س): المصر. وفي (ض): المسر. (¬3) صحيح البخاري (رقم: 25)، صحيح مسلم (رقم: 21). (¬4) في (س، ت): ينسدّ.

ويستعينون بالهرب وبالحرب. هذا ما نَص عليه الشافعي في "المختصر"، وقطع به العراقيون، وصححه المتأخرون. وخالف فيه بعض الأصحاب، ووافقهم الروياني. وقيل: لا تُقبل مِن المتناهين في الخبث، كدعاة الباطنية. قاله القفال. وقيل: إنْ أُخِذ لِيقتل فتاب، لا تُقبل توبته. وإنْ جاء تائبًا، قُبِلَت. قاله الأستاذ أبو إسحاق. وقيل: لا تُقبل إنْ تكررت رِدته. قاله أبو إسحاق المروزي. وفروع الباب كثيرة، والمدارك فيها شهيرة، وفي هذا القدر هنا كفاية. والله أعلم. ص: 838 - وَالْمُفْسِدُ اللَّازِمُ لِلْمُنَاسِب ... يَخْرُمُ غَيْرَ رَاجِحِ التَّنَاسُبِ الشرح: لَمَّا سبق أنَّ المناسب تثبت عِليته إذا اعتبره الشرع لا ما إذا ألغاه أو لم يعتبره ولم يَلْغِه، بينتُ هنا أنه هل تنخرم مناسبته بأنْ يشتمل على مفسدة معارِضة لِمَا فيه مِن المصلحة؛ أو لا؟ فقلتُ: إنها تنخرم في مَحَلَّين: أن تكون المفسدة راجحة على تلك المصلحة، أو مساوية. وهُما داخلان تحت قولي: (غَيْرَ رَاجِحِ التّنَاسُبِ). أي: أما إذا كانت المصلحة التي في "المناسب" راجحة على المفسدة، فلا خلاف أنها لا تنخرم، كما لو لم تكن مفسدة أصلًا. والانخرام بالمفسدة الراجحة والمساوِية هو ما اختاره ابن الحاجب والصفي الهندي من المذهبين في المسألة، وهو الراجح. والإمام الرازي وأتباعه - كالبيضاوي - رجحوا الثاني، وهو عدم انخرام المناسبة بذلك.

والمراد بالانخرام أن لا يُعمل بالوصف في التعليل، لا أنَّ المصلحة التي اشتمل عليها تزول بوجود المفسدة، فيكون تَخَلّف التعليل به لِمَانِع، لا لعدم المقتضِي. ومَن قال: (لا تنخرم) يقول: إنَّ هذا ليس بمانع. وإنما كان القول بالانخرام راجحًا؛ لأنَّ دَرْءَ الفاسد مُقَدَّم على جَلْب المصالح عند التعارُض. ويدل له أن العقلاء يعدُّون فِعل ما فيه مفسدة مُساوية لمصلحة عَبَثًا وسفهًا، كمَن سلك مَسْلكًا يُفَوِّت درهمًا ويُحَصِّل آخر مِثله أو أَقَل منه. قلت: قد سلك الفقهاء ذلك في مسائل ولم يعدُّوه عبثًا حتى يمتنع، فقالوا: إنَّ رهن الولي ونحوه شيئًا يساوي مائة على ثمن شيء يشتريه لموليه يساوي مائتين بمائة مؤجلة جائز؛ لأنَّ ذلك الرهن إذا تلف عند المرتهن والفرض أنه لا ضمان عليه فيه يسلم له الشيء المشترى بمائة وهو يساوى مائتين، فلم يَفُت على المولى شيء. فهذا عرَّض الرهن - الذي بمائة - للتلف بحصول مائة زائدة في المبيع، إلا أنْ يُجاب بأنَ المفسدة فيه ليست محُقَّقة، بخلاف مسألتنا. ومما رُتِّب على القول بخرم المناسبة بذلك لو كان للبلد الذي يقصده المسافر طريقان يقصر في أحدهما ولا يقصر في الآخَر، فسلك الأبعد لغير غرض، لم يَقْصر في أصح القولين؛ لأن المناسب - وهو السفر البعيد - عُورِض بمفسدة وهو العدول عن الأقرب لا لمعنى، بل كأنه حَصر قَصْده في أنْ يُفَوِّت ركعتين مِن الرباعية في مُدة ذلك. وفي معنى ذلك أنْ يدخل المسجد وقت الكراهة بقصد تحية المسجد، أو يقرأ آية سجدة في الصلاة ليسجد، أو نحو ذلك. واعلم أن اشتراط الترجيح في تحقيق المناسبة بتحقيق المانع المعارِض مع وجود المقتضِي فلا بُدَّ له مِن الاعتراف بالمناسبة، سواء أكانت المصلحة مرجوحة أو مساوية، وإلا لكان انتفاء الحكم لِانتفاء المناسبة، لا لِوجود المانع المعارِض. والله أعلم.

ص: 839 - وَالسَّادِسُ: الَّذِي يُسَمَّى "شَبَهَا" ... بَيْنَ مُنَاسِب وَطَرْب أَشْبَهَا 840 - مُعْتَبَرٌ إنْ فُقِدَ الْمُنَاسِبُ ... أَعْلَاهُ إنْ رُتبتِ الْمَرَاتِبُ 841 - هُوَ قِيَاسُ "غَلْبَةِ (¬1) الْأَشْبَاهِ" ... حُكْمًا وَوَصْفا، بَعْدهُ يُبَاهِي 842 - مَا كَانَ صُوريًّا، وَأَمَّا السَّابعُ ... فَ "الدَّوَرَانُ": الِاقْتِرَانُ الْوَاقِعُ 843 - لِلْحُكْمِ مَعْ وَصْفٍ، إذَا مَا يُوجَدُ ... يُوجَدُ، وَالْعَكْسُ، وَظَنّا يُوجِدُ الشرح: السادس مِن مسالك العلة: "الشَّبَه" بفتح الشين المعجمة والباء الموحدة، أصل معناه: المشبه. يقال: هذا شَبَه هذا وشِبْهه (بكسر الشين وسكون الباء) وشبيهه. كما تقول: مَثَله ومثْله ومَثِيله. وهو بهذا المعنى يُطلق على كل قياس؛ لأن الفرع لا بُدَّ أن يُشْبه الأصل. لكن غلب إطلاقه في الاصطلاح الأصولي على هذا النوع الآتي بيانه. لكن إنْ أُريدَ الذي دَلَّ على العلة فهو مصدر أو اسم مصدر، وإنْ أريد نفس العلة فهو وصف بمعنى المشبه. ولهم في تفسيره حينئذٍ عبارات: إحداها: أنه وَصْف يُشبه المناسب في إشعاره بالحكم لكن لا يساويه، بل دُونه، ويشبه الطردي في كونه لا يقتضي الحكم بمناسبة بينهما. ¬

_ (¬1) في (ت): غلبة. وفي (س): علبة. وفي سائر النُّسَخ: علة. وقد جَعَلْتُ اللام ساكنة؛ ليصح الوزن، وفي "تاج العروس من جواهر القاموس، 3/ 489": ("الغَلْب" بفَتْح فَسُكُون، ويُحرَّك وَهِيَ أَفْصَح).

فهو بين المناسب والطردي، وهو معنى قولي: (بَيْنَ مُنَاسبٍ وَطَرْدٍ). أي: طردي. وإنما حذفت الياء منه مسامحةً؛ لأنه مُقابِل للمناسب، فيُعْلَم أنه طَرْدي، لا طرد. فإنَّ معنى "الطرد" بدون "ياء" سيأتي تفسيره بِغَير الطردِي. وسيأتي أيضًا تفسير "الطردي". ومعنى قولي: (أَشْبَهَا) أي: أَشْبَه كُلًّا منهما. والحاصل أن "الشَّبَه" مَنزله بين منزلتين، فهو يشبه المناسب الذاتي من حيث التفات الشرع إليه، ويُشبه الوصف الطردي مِن حيث إنه غير مناسب. فهو يتميز عن "المناِسب" بأنه غير مناسب بالذات، وبأنَّ مناسبة المناسب عقلية وإنْ لم يَرِدْ شرْع، كالإسكار في التحريم، بخلاف الشَّبَه. ويتميز عن الطردي بأنَّ وجود الطردي كالعدم، بخلاف الشَّبَه، فإنه يُعتبر في بعض الأحكام. وسيتضح ذلك بالأمثلة. الثانية: وبها قال القاضي أبو بكر وقضية ما في "البرهان" لإمام الحرمين: أنَّ الوصف المقارِن للحكم إنْ ناسَبَه بالذات فهو "مناسب"، كالسكْر للتحريم، أو بِالتبع -أيْ بالالتزام- فهو "الشَّبَه"، كالطهارة لاشتراط النية، فإنَّ الطهارة من حيث هي لا تناسب اشتراط النية، إنما تناسبه مِن حيث إنها عبادة. فإن لم يناممبه مطلقًا فهو "الطرد"، وهو حُكم لا يعضده معنى ولا شَبَه، كقول بعضهم: الخل مائع لا تبنى القنطرة على جِنسه، فلا تُزال به النجاسة كالدهن. فكأنَّ عِلة إزالة النجاسة بالماء أنه تُبنى القنطرة على جِنسه. فالماء القليل وإنْ لم تُبْنَ عليه القنطرة لكن تُبْنَى على جنسه. ونحو ذلك: قول مَن يرى طهورية [المستعمل] (¬1): ما تُبنى القنطرة على جنسه فجازت الطهارة به؛ قياسًا على غير المستعمل. فبناء القنطرة في ذلك لا مناسبة فيه، ولا معنى له، بل ¬

_ (¬1) في (ت): المستعمل هنا.

أمر طردي. فحاصل تفسير القاضي للشَّبَه أنه وَصْف مُقارِن للحكم مُناِسبٌ له بالتَّبع. أو يقال: مُستلْزِم لِمَا يناسبه. هذا ما نُقل عن القاضي، لكن الذي في "مختصر التقريب والإرشاد" أنَّ "قياس الشَّبَه" هو: إلحاق فرع بأصل؛ لكثرة أشباهه للأصل في الأوصاف مِن غَيْر أنْ يُعتقد أنَّ الأوصاف التي شابَهَ الفرعُ فيها الأصلَ عِلةُ حُكمِ الأصل. الثالثة: أن الوصف الذي لا يناسب الحكم إنْ عُلِم اعتبار جنسه القريب في جنس الحكم القريب فهو "الشَّبه"؛ لأنه مِن حيث كونه غير مناسب يُظن عدم اعتباره، ومِن حيث إنه عُرِف تأثير جنسه القريب في الجنس القريب للحكم مع أنَّ غيره مِن الأوصاف ليس كذلك يُظَن أنه أَوْلَى بالاعتبار؛ فتَردَّد بين أن يكون معتبرًا أو لا. وإنْ لم يُعْلم اعتبار جنسه القريب في الجنس القريب للحكم فهو الطرد. مثال الشبه: إيجاب المهر بالخلوة على القول القديم للشافعي، فإنَّ الخلوة لا تناسب وجوب المهر؛ لأن وجوبه في مقابلة الوطء إلا أنَّ جنس هذا الوصف - وهو كون الخلوة مظنة الوطء - مُعتبَر في جنس الوجوب وهو الحكم بتحريم الخلوة بالأجنبية. الرابعة: أنَّ "الشبه" هو: الوصف الذي لا تظهر فيه المناسبة بعد البحث التام، ولكن أُلِفَ مِن الشرع الالتفات إليه في بعض الأحكام، فهو دُون المناسب وفوق الطردي؛ فلذلك سُمي "شبهًا"؛ لِشبهِهِ لكل منهما. وذلك كقول الشافعي في إزالة النجاسة: طهارة تُراد لأجل الصلاة، فلا تجوز بغير الماء، كطهارة الحدث. فإنَّ الجامع هو الطهارة، ومناسبتها لِتَعَيُّن الماء فيها بعد البحث التام غير ظاهرة. وبالنسبة إلى كون الشارع اعتبرها في بعض الأحكام -كمس المصحف والصلاة والطواف- يُوهِم اشتمالها على المناسب.

وهذا القول نقله الآمدي عن أكثر المحققين، وهو الأقرب إلى قواعد الأصول. وهذا قريب مِن العبارة الأُولى، بل العبارات كلها عند التأمل تكاد أن تتحد. وإنما قصدنا بذلك زيادة الإيضاح بتكرار معنى "الشَّبَه" بعبارات مختلفة. وقد قال إمام الحرمين: إنه لا يتحرر فيه عبارة مستمرة في صناعة الحدود. قولي: (مُعْتَبرٌ) إلى آخِره هو "خبر" المبتدأ وهو "الَّذِي يُسَمَّى". والغرض بذلك أنه إذا عُرف معنى "الشَّبه" فهل يجوز التعليل به؟ أولا؟ فيه مذاهب: أرجحها المنقول عن الشافعي: نعم، لكن بشرط أن لا يكون هناك وصف مناسب يُعَلَّل به. فقد قال القاضي في "التقريب": أجمع الناس على أنه لا يُصار إلى قياس الشَّبه مع إمكان قياس العِلة. فالخلاف إنما هو فيما تَعذَّر فيه قياس العلة ولم يوجد إلا الوصف الشبهي؛ فيكون علة. وكان قدماء أصحابنا يستعملونه في المناظرات. قال ابن السمعاني: (وقد أشار الشافعي إلى الاحتجاج به في مواضع مِن كُتبه، كقوله في إيجاب النية في الوضوء كالتيمم: طهارتان، فكيف تفترقان؟ ) (¬1). وغير ذلك. ودليل الاحتجاج به أنه يفيد ظن وجود العلة، أمَّا على القول بأن له مناسبة ما فظاهر، وأمَّا على الباقي فلأنه لا بُدَّ للحكم مِن علة؛ لأنه لا يُشرع إلا لحكمة، وتلك العلة إما هذا الوصف أو غيره، وا لأصل عدم غيره؛ فتعَيَّن. المذهب الثاني: وهو قول القاضي أبي بكر والصيرفي وأبي إسحاق المروزي والشيخ أبي إسحاق الشيرازي وأبي زيد الدبوسي وغيره مِن الحنفية: أنه ليس بحجة. لكنه عند القاضي ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة في أصول الفقه (2/ 165).

صالح لأنْ يُرَجَّح به كما ذكره في "باب ترجيح العلل" من "التقريب"، وقال: إن اعتبار الشَّبه يؤثَر عن الشافعي، ولا يكاد يصح عنه مع عُلو رُتْبَتِه في الأصول. وجنح الشيخ أبو إسحاق الشيرازي إلى حمل ما نُقل عن الشافعي مِن ذلك على الترجيح، وقال: إنما أراد الشافعي ترجيح إحدى العِلتين في الفرع؛ لكثرة الشَّبه. الثالث: أنَّ الشَّبه إنما يُحتج به في التعليل إذا كان في قياس فرع قد اجتذبه أصلان، فَيلْحَق بأحدهما [بِغَلَبَة] (¬1) الأشباه، ويسمونه "قياس [غَلَبَة] (¬2) الأَشْبَاه"، وهو ما يدل عليه نَص الشافعي في "الأُم" الآتي ذِكره بعد ذلك. لكن على القول الأول إنما يكون هذا أرجح أقسام الشَّبه، لا أنَّ اعتباره مُتَعَين. نعم، على القول بأنَّ الشَّبه حُجة خِلاف آخَر وهو أنَّ الشافعي يعتبر المشابهة في الحكم؛ ولهذا أَلحقَ العبد المقتول بسائر الأموال المملوكة في لزوم قيمته على القاتل بجامع أنَّ كلَّ واحدٍ منهما يُباع ويُشترى. ومن أمثلته: أنْ نقول في الترتيب في الوضوء: عبادة يُبْطِلها الحدَث؛ فكان الترتيب فيها مستحقًّا، أَصْلُه الصلاة. فالمشابهة في الحكم الذي هو البطلان بالحدَث، ولا تَعَلُّق له بالترتيب، وإنما هو مجرد شبه. ومنها: الأخ لا يستحق النفقة على أخيه؛ لأنه لا تحرم منكوحة أحدهما على الآخَر؛ فلا يستحق النفقة، كقرابة بَنِي العَم. واعتبر أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم بن عُليَّة المشابهة في الصورة دون الحكم، كقياس الخيل على البغال والحمير في سقوط الزكاة. وقياس الحنفية في حرمة اللحم، وكَرَدِّ وطء ¬

_ (¬1) في (ص، ق، ش): بعلة. (¬2) في (ص، ق، ض): (علة). وقد يمرر ذلك في مواضع تأتي، فَلَم أُنبِّه عليه.

الشبهة إلى النكاح في سقوط الحد ووجوب المهر؛ لشبهه بالوطء في النكاح في الأحكام. ويقتضى ذلك قتل الحر بالعبد كما يقول أبو حنيفة؛ ولهذا نقل عنه إمام الحرمين في "البرهان" كابن عُليَّة، وقال: إنه ألحقَ التشهد الثاني بالأول في عدم الوجوب، فقال: تشهُّد؛ فلا يجب، كالتشهد الأول. ونحو ذلك عن أحمد، إذ قال بوجوب الجلوس للتشهد الأول؛ لأنه أحد الجلوسين في تشهد الصلاة؛ فوجب، كالجلوس الأخير. وقال الإمام الرازي: (المعتبَر حصول المشابهة فيما يُظَن أنه مُستلزِم لِعِلَّة الحكم، أو أنه عِلة للحكم، سواء أكانت المشابهة في الصورة أو المعنى) (¬1). ثم الذين قالوا بِعِلية الشبه في الحكم وفي الصورة اختلفوا أَيُّهما أَوْلى؟ فقيل: الشبه في الحكم أَوْلى. وقيل: هو والصوري سواء. فيتلخص - عند عدم قياس العلة - في الشَّبه سبعة مذاهب: - البطلان مطلقًا. - اعتباره في الحكم ثُم في الصورة. - اعتباره فيهما سواء. - اعتباره في الحكم فقط. - في الصورة فقط. - فيما يُظَن استلزامه للعلة. - في قياس "غَلَبة الأشباه" فقط، وهو ظاهر نَص الشافعي. إذ قال في "الأم" في "باب ¬

_ (¬1) المحصول في أصول الفقه (5/ 279).

اجتهاد الحاكم" ما نَصه: والقياس قياسان، أحدهما: أن يكون في معنى الأصل، فذلك الذي لا يحل لأحد خِلافُه. ثم قياس الشبه أنْ يشبه الشيء بالشيء مِن الأصل، والشيء مِن الأصل غيره، فيشبه هذا بهذا الأصل، ويشبه غيره بالأصل غيره. قال الشافعي: (وموضع الصواب فيه عندنا - والله أعلم - أنْ ينظر، فأيهما كان أَوْلى بشبهِه صَيَّره إليه، إنْ أَشْبَه أحدهما في خصلتين والآخَر في خصلة، ألحَقَه بالذي هو أَشْبَه في خصلتين) (¬1). انتهى فلذلك أوجب الشافعي القيمة في قتل العبد بالغة ما بلغت؛ لأنه يشبه الأموال في أكثر الأحكام ويشبه الأحرار في قليلٍ منها؛ فوجب اعتبار الكثرة. وحينئذٍ فإذا رتبت أنواع الشَّبه عند القائل باعتباره مطلقًا، فأعلاها قياس غلبة الأشباه إذا كان في الحكم، ثم إذا كان في الصفة، ثم إذا كان في الصورة. وإلى ذلك أشرتُ بقولي في النَّظم بعد قِيَاس "غَلْتةِ الْأَشْبَاهِ": (حُكْمًا)، أي: فهو المقدَّم. وقولي: (وَوَصْفًا، بَعْدَهُ) أي: بعد الحكمي. وقولي: (يُبَاهِي) - جملة حالية، أي: حال كون هذا الذي يشابه في الوصف يباهي ما كان صوريًّا. نعم، الشافعي - كما سبق - لا يقول بالشَّبَه الصوري كما بيَّنه ابن برهان وغيره، وكذا نقله ابن السمعاني عن أصحابنا. ¬

_ (¬1) الأم (7/ 94).

تنبيهات أحدها: مما يدور بين أصلين فيكون من قياس غلبة الأشباه: الظهار، فإنه لفظ محرم معدود من الكبائر، لكنه دائر بين القذف والطلاق، فيتفرع من ذلك ما لو قال: (أنتِ علَيَّ كعين أمي). فإنْ أراد الكرامة فليس بظهار، أو الظهار فظهار على المذهب. أو أطلق فَعَلَى أيهما يُحْمَل؟ وجهان، أرجحهما: يُحمل على الكرامة. ويتجه أن حالة الإطلاق مترددة بين مشابهة الطلاق والقذف، فقضية مشابهته للطلاق أنْ يُحمل على الظهار؛ لأنه كان طلاقًا في الجاهلية. وقضية مشابهته للقذف أنْ يُحمل على الإكرام؛ وذلك لأنه لو قال: (عينك طالق)، طلقت. ولو قال: (زَنَتْ عَيْنك)، لم يكن قذفًا. ومنه: زكاة الفطر مترددة بين المؤنة والقُرْبة، ويبنى عليه فروع في بابها. ومنه: الكفارة مترددة بين العبادة والعقوبة. ومنه: الحوالة مترددة بين الاستيفاء والاعتياض. ومنه: المسابقة مترددة بين الإجارة والعارَّية. ومنه: اللعان متردد بين اليمين والشهادة، وينبني عليه لعان الذمي والرقيق. والصحيح الصحة فيهما. ومنه: الجنين يُشبه الجزء والمنفرد. فإذا قال: (بِعْتكها إلا حملها)، فعَلَى الأول باطل كما لو استثنى جزءًا، وعلى الثاني صحيح كما لو قال: (بِعْتُك الاثنين إلا هذا). الثاني: بَنَى القاضي قياس الشَّبه على أنَّ المصيب مِن المجتهدين واحد؟ أو الكل؟ فعَلَى الأول

يبطل قياس الشبه، وعلى الثاني صحيح؛ لأنَّ كل مجتهد مأمور باتِّباع ما غلب على ظنه. [فكان] (¬1) القاضي يقول: إنَّ رَدَّ قياس الشَّبه ليس قطعيًّا، بل بالظن. ولكن مقتضَى كلام إمام الحرمين أنه لا يوافقه على ذلك. نعم، في البناء على ذلك نَظَر ظاهر. الثالث: قال القاضي أبو حامد المروروذي في أصوله: إنَّا لا نعني بقياس الشبه أن يشبه الشيء بالشيء مِن وَجْه أو أكثر؛ لأنه ليس في العالم شيء إلا وهو يُشْبه شيئًا آخَر مِن وَجْه أو أكثر، لكن نعني أنه لا يوجد شيء أَشْبَهَ به منه. فلا يوجد شيء أَشْبَه مِن الوضوء بالتيمم؛ فَيُلْحَق به، وأكثرَ أصحابنا من الاحتجاج به. قال: لإفادته الظن كما في أصل قياس العِلة، فإنه إنما احْتُجَّ به لإفادته الظن. واعترض ذلك الأبياري بأنه قياس في الأصول؛ فلا يُسْمَع. وجوابه: أنه لم يحتج بنفس القياس، بل استند به إلى تكليف الشارع بما غلب على الظن كما في القياس ونحوه، فالمدار على الضرورة؛ لأنَّ النصوص لا تَفِي بالحادثات، وقياس العِلة قد لا لفي بغير المنصوص. الرابع: قال ابن الحاجب: (إنَّ عِليَّة الشَّبَه تثبت بجميع مسالك العِلة) (¬2). أي: مِن نَص أو إجماع أو غيرهما. أي: بأنْ يدل على اعتبار هذا الوصف في بعض ¬

_ (¬1) كذا في جميع النّسخ، ويحتمل: فكَأنَّ. (¬2) مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (2/ 1102).

الأحكام، فيكون ذلك مرشدًا إلى اعتباره في هذا الحكم. قال: (وفي إثباته بـ "تخريج المناط" - أيِ [المناسب] (¬1) - نَظَر) (¬2). قيل: والحقُّ أنه لا يثبت؛ لأنَّ المناسب قسيم الشَّبه، فكيف يثبت به؟ ! قلت: إنْ كان المراد - وهو الظاهر- بِـ "دلالة مسالك العلة" أنْ يدل على اعتبار ذلك الوصف في بعض الأحكام لا في ذلك الحكم كما قررناه، فالكل في ذلك سواء. ويظهر أن هذا إنما هو على تفسير الشَّبه بأنه الذي اعتُبر جنسه القريب في جنس الحكم كما سبق بيانه. وأما السابع مِن مسالك العلة: فهو "الدوران"، وسَّماه الآمدي وابن الحاجب "الطرد والعكس"؛ لكونه بمعناه كما ستعرفه. وهو: أنْ يوجَد الحكم - أيْ تَعَلُّقه - عند وجود وَصْف، وينعدم عند عدمه. ويُسمَّى ذلك الوصف حينئذٍ "مدارًا" والحكم "دائرًا". ثم إنَّ الدوران إما في محل واحد: كالإسكار في العصير، فإنَّ العصير قبل أنْ يوجد كان حلالًا، فلَّما حدث الإسكار حرم، فلمَّا زال الإسكار وصار خلًّا، صار حلالًا. وإما في محلَّين: كالطعم مع تحريم الربا، فإنه لما وجد الطعم في التفاح، كان رِبَوِيًّا، ولَمَّا لَمْ يوجد في الحرير -مثلًا- لم يكن ربويًّا. وإنما قلنا: (عند وجود وصف) ولم نَقُل: (بوجود)؛ لأنَّ الإمام فخر الدين في "الرسالة ¬

_ (¬1) في (ص، ق): لا لمناسب. (¬2) مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (2/ 1103).

البهائية" زَيَّفَ ذلك بأنَّ الباء تُشْعِر بالعِلية، فكيف يُستدل به على عِلية الوصف لثبوت الحكم؟ ولا قُلنا: (مع وجود)، لانتقاضِه [بالمتضايفين] (¬1)، فإنه يوجد أحدهما مع وجود الآخَر وينتفي [مع انتفائه] (¬2)، وليس أحدهما عِلة في الآخَر ولكني لَمَّا عبَّرتُ في النَّظم بـ "مَعْ" قيدتُه بقولي بعده: (إذَا مَا يُوجَدُ يُوجَدُ)، فيكون وجوده عِلة في وجوده بحسب حدوثه عند حدوثه وعدمه عند عدمه. وقولي: (وَظنًا يُوجِدُ) هو بكسر الجيم مضارع "أَوْجد". ومفعول "يوجِد" قولي قَبله: (ظَنًّا). والمراد أنَّ الدوران مفيد ظن العِلية، لا القطع. وهذا أرجَح المذاهب في المسألة، وهو ما عليه الأكثرون، كإمام الحرمين وغيره، وهو ما سلكه الجدليون، واختاره الإمام الرازي وأتباعه. وأصحابنا العراقيون مشغوفون بإثبات العِلل به حتى كاد القاضي أبو الطيب أنْ يَدَّعِي فيه القَطْع. الثاني: أنه يفيد القَطعْ بالعِلة. وعليه بعض المعتزلة، وربما قيل: لا دليل فَوْقه. قيل: ولَعل مَن ادَّعَى القَطعْ إنما هو مَن يشترط ظهور المناسبة في قياس العِلل مطلقًا ولا ¬

_ (¬1) جاء في (التعريفات، ص 279): (المتضايفان: هما المتقابلان الوجوديان اللذان يُعْقَل كل منهما بالقياس إلى الآخر، كالأبوة والبنوة؛ فإن الأبوة لا تُعْقَل إلا مع البنوة، وبالعكس). وفي (المعجم الوسيط، 1/ 547): ("الْإِضَافَة". . عِنْد الحكَمَاء: نِسْبَة بَين شَيْئَيْنِ، يَقْتَضِي وجودُ أَحدِهمَا وجودَ الآخَر، كالأبوة والبنوة، والأخوة، والصداقة. "التضايف": الْإِضَافَة بمعناها عِنْد الحكَمَاء، وَيُسمى مَا بَينهمَا تِلْكَ النِّسْبَة: "متضايفين"). (¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): بانتفائه.

يكتفي بالسبر ولا بالدوران بمجرده، وعلى ذلك جمهور أصحابنا. فإذا انضم الدوران إلى المناسبة، ارتقَى بهذه الزيادة إلى اليقين، وإلا فأيّ وَجْه لِتَخَيُّل القَطعْ في مُجَرد الدوران. الثالث: وعَلَيْه أكثر المعتزلة، وهو اختيار ابن السمعاني والغزالي والآمدي وابن الحاجب: أنه لا يفيد بمجرده ظنًّا ولا قطعًا. أيْ: لا يفيد ظن العِلية ولا القطع بها، لا أنه لا يفيد الحكم. بل قد يثبت الحكم بالدوران، بل وبالطرد وحده كما سيأتي في "باب الأدلة المختلف فيها" في الكلام على الاستدلال في التلازُم الذي أشار إليه ابن الحاجب. احتجَّ مَن قال بإفادته العِليَّة ظنًّا بأنَّ الحكم لا بُدَّ له مِن عِلة، وغير المدار ليس بعلة؛ لأنه إنْ كان موجودًا قَبْل الحكم، لَزِمَ تَخلُّف الحكم عن العِلة، وإنْ لم يكن موجودًا قبله، لم يكن عِلة لذلك الحكم إذ ذاك، والأصل بقاؤه على ما كان عليه مِن عدم عِليته؛ فيغلب على الظن أنَّ المدار هو العلة. وأما مَن أَبْطَله بأنَّ الطرد لا يؤثر والعكس لا يُشترط: فجوابه أنه يترتب على المجموع ما لا يكون عند الانفراد. وزاد في "جمع الجوامع" - هنا - أنه لا يلزم المستدِل نَفْي ما هو أَوْلى منه، وأنه إذا أَبْدَى المعترِض وصفًا آخَر، ترَجَّح جانب المستدِل بالتعدية. ولكن هذا - مع كونه مِن مباحث الجدل - لا [يختص] (¬1) بالوصف الذي أثبته المستدِل بالدوران. تنبيه: مما استُدِل على عِليته بالدوران طهارة الكلب عند المالكية، فقالوا: عِلة الطهارة الحياة، والكلب حَيٌّ. دليل كَوْن الحياة عِلةًا لدوران، أنَّ الشاة ما دامت حية طاهرة، فإذا زالت ¬

_ (¬1) في (ت): يحسن.

الحياة، نجست. فاعتُرض عليهم بأنَّ المذكَّى والمدبوغ طاهران ولا حياة فيهما. فأجابوا بأنَّ العِلل الشرعية يخلف بعضها بعضا، فخلف الحياة الذكاة والدباغ. فَرُدَّ عليهم بالسمك والجراد إذا ماتَا طاهران ولا تُحال طهارتهما على شيء آخَر يخلف الحياة. والله تعالى أعلم. ص: 844 - وَالثَّامِنُ: "الطَّرْدُ" بِأَنْ يُقَارِنَا ... وَصْفٌ لِحُكْمٍ، فَإذَا مَا قَارَنَا 845 - قَوَّى، وَلَيْسَ عِلَّةً لِلنَّاظِرِ ... يُفِيدُهُ أَصْلًا، وَلَا الْمُنَاظِرِ الشرح: مما ذكر مِن مسالك العلة - وهو الثامن منها - المسمَّى بـ "الطرد" وهو: مقارنة الحكم للوصف وليس مناسِبًا لا بالذات ولا بالتَّبع كما سبقت الإشارة إليه في كلام القاضي. وإنما لم أقيده في النَّظم بنفي المناسبة؛ لأنه معلوم مما سبق قبله في المناسب والشبه. مثاله: قول بعضهم في إزالة النجاسة بنحو الخل: مائع لا تُبْنَى القنطرة عليه؛ فلا تُزال به النجاسة، كالدهن. وقول بعضهم في عدم نقض الوضوء بمس الذكر: طويل ممشوق؛ فلا ينقض مَسه الوضوء، كالبوق. وقول بعضهم في طهارة الكلب: حيوان مألوف له شعر كالصوف؛ فكان كالخروف. واعْلَم أن المقارنة لها ثلاثة أحوال: إحداها: أنْ يُقارِن في جميع الصوَر. وبه يُشْعِر كلام "البديع" وغيره بتصوير الطرد به،

حيث قالوا: إنه وجود الحكم عند وجود الوصف. وعَليه جرى في "جمع الجوامع". والثانية: المقارنة فيما سوى صورة النزاع. وهو الذي عزاه في المحصول للأكثرين، وجرى عليه البيضاوي. فيثبت حينئذٍ الحكم في صورة النزاع؛ إلحاقًا للفَرد بالأَعَم الأغلب، فإنَّ الاستقراء يدل على إلحاق النادر بالغالب. ولكن هذا ضعيف؛ فقد يُمْنَع أنَّ كل نادر يلْحَق بالغالب؛ لِمَا يَرِد عليه مِن النقوض الكثيرة. وأيضا: فلا يَلْزَمُ مِن غَلبة الاقتران كَوْنُه عِلة للحكم. الثالثة: أنْ يقارِن في صورة واحدة. وهذا ضعيف جدًّا؛ لأن مَن يقول بالطرد فإنما مستنده غَلبة الظن عند التكرر، والفَرْض عَدَمه. فيثبت بذلك أنَّ الطرد لا يدل على عِلية الوصف مطلقًا. وهذا أرْجَح المذاهب فيه وإنْ حصل بالمقارنة تقوية ما، وهو ما عليه الجمهور كما قاله إمام الحرمين وغيره؛ فإنه لا يُفيد عِلمًا ولا ظنًّا، فهو تَحَكُّم. قال القاضي والأستاذ: مَن طرد عن غرر فجاهل، ومَن مارس الشريعة واستجازه فهازئ بالشريعة. قال: ومثَّل الحليمي فساد الوضع والمخيل والطرد: الأول بِمَن تنسم نسيمًا باردًا فقال: وراءه حريق، والثاني بمن رأى دخانًا فقال: وراءه حريق، والثالث بمن رأى غبارًا فقال: وراءه حريق. قال ابن السمعاني في "القواطع" وغيره مِن علمائنا: (قياس المعنى تحقيق، والشَّبه

تقريبٌ، والطرد تَحَكُّم) (¬1). الثاني: أنَّ الطرد حُجة مطلقًا، وتكفي المقارنة ولو في صورة واحدة كما سبق التعرض له. والثالث: إنْ قارن في غير صورة النزاع. وهو ما سبق نقله عن الإمام الرازي والبيضاوي. الربع: وهو قول الكرخي: أنه يفيد في المناظرة المناظِر، ولا يفيد المجتهد الناظر لنفسه. قال إمام الحرمين في "البرهان": (وقد ناقض؛ إذ المناظرة بحث عن المآخذ الصحيحة، فإذا كان مذهبه أنه لا يَصلح مَأْخَذًا فهذا مراد خصمه في الجدل، وليس في الجدل ما يُقْبَل مع الاعتراف بأنه باطل) (¬2). والله تعالى أعلم. ص: 846 - كَذَاكَ "تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ" التَّاسِعُ ... بِأَنْ يَدُلَّ ظَاهِرٌ مُتَابعُ 847 - لِمَا بِهِ قَدْ عَلَّلُوا، فَيُحْذَفَا ... خُصُوصُهُ، وَبِالْعُمُومِ يُكْتَفَى 848 - أَوْ يُحْذَفَ الْبَعْضُ مِنَ الْأَوْصَافِ ... وَبِالَّذِي [يَبْقَى] (¬3) [نِيَاطٌ] (¬4) كَافِي ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة في أصول الفقه (2/ 168). (¬2) البرهان (2/ 521). (¬3) في (ض، ت، س): بقي. (¬4) في (ت): مناط.

الشرح: "التنقيح" لغةً: التخليص والتهذيب، يقال: "نقحتُ العظم" إذا استخرجت مخه. و"المناط": مفعل مِن "نَاطَ نياطًا"، أيْ: عَلق. والمراد: أنَّ الحكم تَعَلَّق بذلك الوصف. فمعنى "تنقيح المناط": الاجتهاد في تحصيل المناط الذي ربط به الشارع الحكم. وهو ضربان: أحدهما وهو الأشهر: أنْ يَرِد وصف قد علق به حُكم لكن ظهر بالاجتهاد أن خصوص ذلك الوصف لا يَصْلُح للعِلية؛ فَيَتَعَيَّن أنْ يكون ما فيه من العموم هو العلة. فمثال ذلك: ما فعل مالك وأبو حنيفة في حديث المُجامِع في نهار رمضان، اجتهدَا فحذفَا خصوص الجماع، وأناطَا وجوب الكفارة بما فيه مِن عموم الإفطار، فإنه إذا بَطُل الخصوص، يبقى العموم. نعم، الإلغاء قد يكون بدليل وقد يكون بنفي الفارق وهو المسمَّى بـ "الإلغاء" الآتي بيانه بأنْ يقال: لا فارِق بين الأصل والفرع إلا ذلك الخصوص، وهو لا مدْخَل له في الحكم البَتَّة إجماعًا، كقياس الأَمَة على العبد في السراية، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أعتق شركًا له في عبد، قوّم عليه الباقي" (¬1). فيقال: لا فارق بين الأَمة والعبد إلا خصوص الذكورة وهو مُلْغًى بالإجماع؛ إذْ لا مدخل له فى العِلِّية. ¬

_ (¬1) مصنف عبد الرزاق (16712)، مسند أحمد (4901)، وغيرهما، بلفظ: (مَن أعتق شركا له في عبد، أقيم ما بقي في ماله). وفي: صحيح البخاري (2386)، صحيح مسلم (1501) واللفظ لمسلم: (مَن أعتق شركًا له في عَبْد فكان له مال يَبلغ ثَمَن العبد، قُوّم عليه قيمة العدل، فأعطَى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلَّا فَقَدْ عتق منه ما عتق).

وهذا الذي تسميه الحنفية بِـ "الاستدلال"، ويفرقون بينه وبين "القياس"، فيخصون "القياس" بما يكون فيه الإلحاق بِذِكر الجامع الذي لا يفيد إلا الظن، و"الاستدلال" بما يكون الإلحاق فيه بإلغاء الفارق الذي يفيد القَطْع، حتى أجروه مجرى القطعيات في النسخ به ونَسخه، فجوَّزوا الزيادة على النص به ولم يجوزوا نسخه بخبر الواحد. بل يقول بهذا أكثر منكري القياس أو منكره في نوع خاص كأبي حنيفة، فإنه ينكر القياس في الكفارة ومع ذلك يستعمل "تنقيح المناط" فيها؛ لأنه يسميه "استدلالًا" كما سبق. ولكن حاصله تأويل ظاهر بدليل. قال ابن التلمساني: واعتراف مُنكرُو القياس بهذا النوع بناء على مسألة أخرى وهي أن النَّص على التعليل هل هو نَص على التعميم؟ أو لا؟ فمَن قال: نعم، اعترف بهذا وأنكر القياس. والحقُّ أنَّ هذا كله اصطلاح، وإلا فالكل قياس، وكُل مِن النوعين قد يكون الجامع فيه قطعيًّا وظنيًّا. نعم، القطع في نوع "لا فارِق" أكثر. واعلم أنه قد يقال في هذا النوع من "تنقيح المناط": هذا الحكم لا بُدَّ له مِن عِلة؛ لِمَا سبق، وهي: - إما المشترك بين الأصل والفرع، كالرق في المثال السابق. - أو المختص بالأصل، كالذكورة. والثاني باطل؛ لأنَّ الفارق مُلْغى؛ فتعَيَّن الأول، فيَلْزَم ثبوت حُكم الأصل في الفرع؛ لثبوت عِلَّته فيه. ولا يكفي في إيراده: هذا الحكم لا بُدَّ له مِن مَحل، وهو إما المشترِك أو مُمَيِّز الأصل

عن الفرع، والثاني باطل؛ لأنَّ الفَرق مُلْغًى، فيلزم أنْ يكون محله المشترك؛ فيثبت الحكم في الفرع بالضرورة. كأنْ يقول الحنفي: وجوب كفارة الإفطار له محَل، وهو إما خصوص الوقاع أو مُطْلَق المفَطِّر، والأول باطل؛ لأنَّ خصوص الوقاع مُلْغًى (كخصوص القتل بالسيف لوجوب القصاص)؛ فَتَعَيَّن الثاني؛ فتجب الكفارة على مَن أَفْطَر بالأكل. فيُجاب بأنَّ الشارع رَتَّب على المركَّب؛ فلا يَلْزَم أنْ يثبت الحكم على الأَعَم. وحاصله أنه لم يَقُم دليل على إلغاء الخصوص، والفرض أنَّ له مناسبة في الحكم، فلا يُلغى. الضرب الثاني: أنْ يدل لفظ ظاهر على التعليل بمجموع أوصاف، فيُحذف بعضها عن درجة الاعتبار إما لأنه طردي أو لثبوت الحكم على بقية الأوصاف بدونه، ويُناط بالباقي. فهو بمنزلة لفظ عام أُخرج بعضه وبُيِّن المراد به بالاجتهاد. كَتَعَيُّن أوصاف في حديث الأعرابي: كَوْن المجامِع أعرابيًّا، وكونه زيدًا، وكون المجامَعة زوجة أو أَمة، أو في قُبُلها، وكَوْنه شَهْر تلك السَّنة. وَهِيَ كُلها مُلغاة؛ لأنها طَرْدِيَّة سِوَى الوقاع في نهار رمضان بجماع أفسد به آثمًا به لِذَاته. هذا على مذهبنا. وأبو حنيفة ومالك يَلْغِيَان مع ذلك كَوْنه وقاعًا، ومَنَعَا إفساد صوم رمضان. فإنْ قِيل: ما الفرق بين هذا وبين "السبر والتقسيم" وقد جعله الإمام منه؛ لكونه وُجِد منهما؟ قيل: لكن الفرق بينهما أن "السبر والتقسيم" لا بُدَّ فيه مِن تعيين الجامِع والاستدلال على العِلة، وأما هذا فلا يجب فيه تعيين العِلة، ولكن ضابطه أنه لا يحتاج إلى التعرض لِعِلة

جامعة، بل يتَعَرَّض للفارق، ويُعْلَم أنه لا فارق إلا كَذَا ولا مدْخَل له في التأثير كما سبق في "مَن أعتق شركًا له في عَبْد" (¬1). ونحوه: "أيما رجُل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه" (¬2)، فإنَّ المرأة كذلك. {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، والعبد في معنى الأَمَة. "مَن باع عبدًا وله مال، فماله للبائع إلا أنْ يشترط المبتاع" (¬3)، فالأَمة كالعبد. وحديث موت الفأرة في السمن (¬4)، فغيره مِن عسل ودهن كذلك. والله أعلم. ص: 849 - وَمَا بـ "تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ" يُعْرَفُ ... أَنْ تَثْبُتَ الْعِلَّةُ فِيمَا يُوصَفُ 850 - بِالْوَصْفِ مِنْ آحَادِهِ، كَمَا إذَا ... حُقِّقَ سِرْقَةٌ لِنَبْشٍ أُخِذَا الشرح: لَمَّا جرت عادة أهل الأصول والجدل إذا ذكروا "تنقيح المناط" أنْ يتعرضوا ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) سنن أبي داود (رقم: 3435)، سنن النسائي (رقم: 4636). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 3435). وفي: صحيح البخاري (رقم: 2250)، صحيح مسلم (رقم: 1543) بلفظ: (وَمَنْ ابْتَاعَ عَبْدًا قَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ إلا أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ). (¬4) صحيح البخاري (رقم: 233).

لتفسير ما يسمى "تحقيق المناط" و"تخريج المناط" وكنتُ قد قدمتُ في المسلك الخامس - وهو "المناسبة" - تفسير "تخريج المناط" وذكرتُ آنفًا "تنقيح المناط"، فلم يَبْقَ إلا "تحقيق المناط"، فبينتُه هنا. والحاصل في الفرق بين الأمور الثلاثة أن: "تخريج المناط": هو استخراج وصف مناسب يُحكم عليه بأنه عِلة ذلك الحكم. و"تنقيح المناط": أنْ يُنَقَّى مِن الأوصاف ما يَصْلح ويُلْغَى بالدليل ما لا يَصْلح. و"تحقيق المناط": أنْ تجيء إلى وصف دَلَّ على عِليته نَصٌّ أو إجماع أو غيرهما مِن الطُّرق ولكن يقع الاختلاف في وجوده في صورة النزاع، فتُحَقِّق وجودَه فيها. مثاله: أن نقول: أَخْذ المال خفْيَة هو عِلة للقطع، فَنُحَقِّق وجود ذلك في النباش المتنازَع فيه في أنه يُقْطَع كالسارق أو لا. ونحو ذلك: السكوت عِلة في البِكر للاكتفاء بسكوتها، فتُحَقِّق فيمن زالت بكارتها بغير نكاح. وهذا معنى قولي: (فِيمَا يُوصَفُ بِالْوَصْفِ مِنْ آحَادهِ). أي: مِن المحل المتنازع فيه مِن الآحاد الموجود فيها ذلك الوصف عنده ونُوزع في وجودها فيه. وقولي: (حُقِّقَ سِرْقَةٌ) أي: الأخذ خفْيَة؛ لأنه معنى السرقة. نعم، هل يُشترط القَطعْ بتحقيق المناط؟ أَم يُكتفَى بالظن فيه؟ أقوال حكاها ابن التلمساني، ثالثها: الفَرق بين أن تكون العلة وصفا شرعيًّا فيُكتفَى فيه بالظن، أو حقيقيًّا أو عرفيًّا فيُشترط القَطعْ بوجوده. قال: وهذا أَعْدَل الأقوال. ومناسبة التسمية في الثلاثة ظاهرة؛ لأنه أولًا استخرجها مِن منصوص في حُكم مِن غير نَص على عِلته، ثم جاء في أوصاف قد ذُكِرَت في التعليل فنَقَّح النَّص ونحوه في ذلك، وأخذ

منه ما يَصْلح عِلة وألْغَى غيرَه. ثُم لَمَّا نُوزع في كَوْن العِلة ليست في المحل المتنازَع فيه، بَيَّن أنها فيه وحَقَّق ذلك. والله أعلم. ص: 851 - وَالْعَاشِرُ: "الْإلْغَاءُ" فِيمَا يُفْرَقُ ... كَأَمَةٍ بِالْعَبْدِ حِينَ يُعْتَقُ 852 - بَعْضٌ لَهُ؛ فَتَحْصُلُ السِّرَايَه ... وَذَا و"طَرْدٌ، دَوَرَانُ" غَايَهْ 853 - لِذِي الثَّلاثِ شَبَة يُفِيدُ ... لِلظَّنّ في الْجُمْلَةِ، لَا يَزِيدُ الشرح: العاشر من المسالك: "الإلغاء"، والمراد به إلغاء الفارق بين الفرع والأصل فيما ذُكِر في الأصل ورُتِّب الحكم عليه. فهو بيان أنَّ الفرع لم يُفارِق الأصل إلا فيما لا تأثير له في الحكم؛ فَيَلْزَم اشتراكُهما في المؤثِّر فيه. فَيُعَيَّن هنا فارِق ويُنْفَى، وكذا يُعَيَّن بالتقسيم والسبر ويُنْفَى. وطريق نَفْيِه أنْ يُبين أنَّ ذلك أمر طردي لا تأثير له؛ فيجب إلغاؤه. فإنْ حصل ذلك عن دليل قاطع فالقياس قطعي، وإلا فظني. مثال القطعي: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبولن أحدكم في الماء الراكد" (¬1). فَصَب البول في الماء لا فارِق بَيْنه وبيْن البول في الماء، وكذا صَب غير البول مِن النجاسات. ¬

_ (¬1) سنن النسائي (221)، سنن ابن ماجه (344) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح النسائي: 221). وفي: صحيح البخاري (رقم: 236)، صحيح مسلم (رقم: 282) بلفظ: (لَا يَبُولَنَّ أحدكم في الْمَاءِ الدَّائِمِ ... ) الحديث.

ومثال المظنون: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أعتق شركًا له في عَبْد قُوم عليه" (¬1). فالأَمة كذلك بلا فارِق. وإنما لم يُجعل ذلك مِن المقطوع كالذي قَبله خلافًا لمن تَخيل ذلك؛ لأنَّ الاحتمال فيه قائم، كأنْ يلاحِظ الشرع في عِتق العبد أنْ يستقل بنفسه في الجهاد والجمعة وغيرهما مما لا مدْخَل فيه للمرأة. لكن الظن القوي فيه أنْ لا فَرْق؛ لأنَّ المقصود التخلص مِن موت الرق بحياة الحرية. والفرق بين هذا وبين "تنقيح المناط" أنَّ هذا لم يعتضد بظاهر في التعليل بمجموع أوصاف، و"تنقيح المناط" فيه ذلك. نعم، قد يكون السبر الدال على نَفْي الفارق قاطعًا، والفارق المحقَّق طَرْدًا مَحْضًا؛ فَيَبْلُغ نَفْي الفارق رُتبة المؤثِّر بدليل قاطع، ويترقى عن المؤثِّر بدليل ظاهر كما سبق. واعلم أنه قد سبق في "تنقيح المناط" بحث يتعلق بما ذُكر هنا، فلا حاجة إلى إعادته. وقولي: (وَذَا و"طَرْدٌ") إلى آخِره - أي: إنَّ هذه الطُّرق الثلاث من مسالك العلة (التي هي: طريق الإلغاء، وطريق الطرد، وطريق الدوران) حيث قيل: (إنها تفيد العِلية) فإنما تفيد شبهًا للعلة، لا [عِلَّة حقيقية] (¬2)؛ لِكَونها إنما غَلَّبْت ظن العِلية في الجملة، وليس فيها تعيين حِكمة لذلك كالوصف ولا جهة المصلحة فيه، بخلاف بقية المسالك. والله أعلم. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) كذا في (ص، ش)، لكن في (س، ت): عِلية حقيقة. وفي (ض): علية حقيقة. وفي (ق): علة حقيقة.

تذنيب في قوادح [العِلّة] (¬1): 854 - مِنْ ذَلِكَ: "النَّقْضُ"، وَذَا تَخَلُّفُ ... حُكْمٍ عَنِ الْعِلَّةِ حَيْثُ تُعْرَفُ 855 - وَمَانِعٌ سَمَّاهُ تَخْصِيصًا لَهَا ... وَ"الْكَسْرُ" إسْقَاط لِوَصْفٍ مُوِّهَا الشرح: قد يطرأ على مَن يُثبت عِلية الحكم اعتراض يَقدح في عِلية ما ادَّعاه عِلة، وذلك من أحد وجوه يُعبَّر عنهابِ "القوادِح"، وربما كانت قادحة لا في خصوص العلة؛ فلذلك ترجمها ابن الحاجب بِـ"الاعتراضات". وإنما تَرجمتُ عليها بِ "قَوادِح العِلة"؛ لأنها تَرجع إلى القَدْح في العِلة كما ستعرفه، ولأنَّ أَغْلبها مُوجَّه إلى العلة بالخصوص. قال ابن الحاجب: (وهي راجِعة إلى مَنعْ - أيْ في المقدمات - أو مُعارَضة) (¬2). أي: في الحكم. فمِن ذلك "النَّقْض"، والكلام فيه مِن مشكلات عِلم الأصول والجدل، فلنقتصر على ما يتبين به المقصود، وهو أنَّ الوصف المُدَّعَى عِلة يوجد في بعض الصوَر وَيتخلَّف عنه الحكم؛ فيكون ذلك قادحًا في عِليته على المختار المرجَّح. مثاله: أنْ يُقال في تعليل وجوب تبييت النية في الصوم الواجب: (صوم عَرِي أوَّلُه عن النية؛ فلا يَصِح، كالصلاة). فينقض العِلة - وهي العراء في أوله - بصوم التطوع، فإنه يصح مِن غير تبييت. ¬

_ (¬1) في (س، ت، ض): العِلية. (¬2) مختصر المنتهى مع شرحه (3/ 178).

ثُم تَخلُّف الحكم عن الوصف إما في وصف ثبتت عِليته بنص قطعي أو ظني أو باستنباط. والتخلُّف إما لمانع أو فَقْد شرط أو غيرهما. فهي تسعة؛ مِن ضرب ثلاثة في ثلاثة. فأَرجَح المذاهب فيه أنه قادح في الأحوال التسع. وهذا مذهب الشافعي وجميع أصحابه إلا القليل منهم كما قاله ابن السمعاني في "القواطع"، (قال: وهو قول كثير من المتكلمين. وقالوا: تخصيصها نَقْضٌ لها، ونقضُها يتضمن إبطالها) (¬1). وعلى هذا فالفَرق بين هذا وبين جواز تخصيص العموم ويبقى في الباقي حُجة على المرجَّح كما سبق - أنَّ العام يجوز إطلاقه على بعض ما تَناوَله، فإذا خُصَّ فلا محذور فيه. وأما العِلة فهي المقتضية للحُكم، فلا يتخفَف مقتضاها عنها، فَشُرِط فيها الاطِّراد. نعم، في "شفاء الغليل" للغزالي أنه لا يُعْلم للشافعي في ذلك نَص. وكأنه يريد صريحًا أو فيما اطَّلع عليه، وإلا فمناظرات الشافعي مع خصومه طافحة بذلك. وقد حفظ غيرُه عن الشافعي ذلك، بل جعلوا ذلك مِن مُرجِّحات مذهب الشافعي على غيره من المذاهب، وهو أنَّ عِلل مَذهبه لا يقع فيها نَقْض، بل هي سالمة منه. وأطال السبكي في "شرح المختصر" في نَصْر هذا القول وأطاب واستطرد إلى ما في مذهبنا مِن القواعد التي تستثنى منها، فذكرها وأحال بسطها على كتابه في القواعد، فليراجَع ما أشار إليه في ذلك منهما. والمذهب الثاني: أنَّ النقض لا يَقدح مطلقًا. وهو المنقول عن أكثر أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد، وشهرته عن الحنفية أكثر غير أنهم ما سمحوا بتسميته "نقضًا" وسموه "تخصيص العِلة". لكن ابن السمعاني قال: (إن هذا قول العراقيين منهم، وقال أبو زيد: إنه مذهب أبي ¬

_ (¬1) قوطع الأدلة (2/ 186).

حنيفة وأصحابه. وأما الخراسانيون منهم فقالوا بالقول الأول، حتى قال الماتريدي منهم: تخصيص العِلة باطل). قال: (ومَن قال بتخصيصها فقد وَصَفَ الله - عز وجل - بالسَّفَه والعبث) (¬1)؛ إذْ أيُّ فائدة في وجود العِلة ولا حُكم؟ ! والثالث: لا يقدح في المنصوصة مطلقًا في صورها الست، ويقدح في المستنبطة في صوَرها الثلاث. الرابع: عكْسه، وهو القدح في المنصوصة مطلقًا وعدم القدح في المستنبطة. كذا أَطلق حكايته ابن الحاجب، ولكن قَيده السبكي في شرحه بأنه لا يقدح في المستنبطة إذا كان بمانع أو عدم شرط، بدليل ما ذكره ابن الحاجب بعده وهو: الخامس: أنه لا يقدح في المستنبطة ولو بلا مانع أو عدم شرط، دُون المنصوصة. خلافًا لِمَا يُطْلقه كثيرٌ مِن شراح "المختصر"، فإنه يَلْزَم منه تكرار. والسادس: أنه إذا كان التخلُّف لمانع أو فَقْد شرط فلا يقدح مطلقًا، سواء في العلة المنصوصة والمستنبطة. واختاره البيضاوي والهندي. السابع: يقدح مطلقًا إلا أنْ يَرِد على سبيل الاستثناء ويعترض على جميع المذاهب كالعرايا. وحكاه في "جمع الجوامع" عن الإمام الرازي. ولكن الذي في "المحصول" أنه إنْ تَخلَّف لمانع فلا يقدح، وإلا قدح. ثم قال: (فإنْ كان واردًا على سبيل الاستثناء فقال قوم: لا يقدح، سواء أكانت العلة معلومة أو مظنونة. أمَّا المعلومة فلأَنَّا نَعلم أنَّ مَن لم يُقْدم على جناية، لم يؤاخَذ بضمانها. ثم ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة (2/ 186).

هذا لا ينتقض بضرب الدية على العاقلة؛ لخروج ذلك بالدليل. وأما المظنونة فكالتعليل بالطعم، فإنه لا ينتقض بمسألة العرايا، فإنها وَرَدَت على سبيل الاستثناء رخصةً). ثم قال: (واعْلم أنا [لا] (¬1) نَعلم ورود [التنصيص] (¬2) على سبيل الاستثناء إلا إذا كان لازمًا على جميع المذاهب، مثل مسألة العرايا، فإنها لازمة على جميع العِلل كالقوت والكيل والمال والطعم. وإنما قلنا: إنَّ الوارد على مورد الاستثناء لا يقدح في [العلة] (¬3) لأنَّ الإجماع لما انعقد على أنَّ حُرمة الربا لا تُعَلل إلا بأحد الأمور الأربعة فإنَّ مسألة العرايا واردة على أربعتها، فكانت واردة على علة قطعنا بصحتها. فالنقض لا يقدح في مثل هذه العلة. وأما أنه هل يجب الاحتراز عنه في اللفظ؟ فقد اختلفوا فيه، والأَوْلى الاحتراز منه) (¬4). انتهى ملخصًا. والثامن: إنْ كانت علة حظر، لم يَجُز تخصيصها، وإلا جاز. حكاه القاضي عن بعض المعتزلة. التاسع: يقدح في المنصوصة إلا إذا كان بظاهر عام، فإنه إذا كان بقاطع، لم يتخلَّف الحكم عنه. وإذا كان خاصًّا بمحل الحكم، لم يثبت التخلُّف، وهو خِلاف الفَرْض. وأما في المستنبطة فيجوز فيما إذا كان التخلف لماح أو انتفاء شرط، ويقدح فيما إذا كان التخلُّف دُونهما. وهو مختار ابن الحاجب. ¬

_ (¬1) في (ص، ق): إنما. (¬2) كذا في جميع النُّسخ. والذي في المحصول (5/ 258): النقض. الناشر: مؤسسة الرسالة. (¬3) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): العلية. (¬4) المحصول (5/ 256 - 258). طبعة: مؤسسة الرسالة.

والعاشر: إنْ كان التخلف لمانع أو فَقْد شرط أو في معرض الاستثناء أو كانت منصوصة بما لا يَقبل التأويل، لم يقدح، وإلا قدح. وهو رأي الآمدي. وإنما حكم على النص بقبول التأويل لأنَّ مراده به ما هو أعم مِن الصريح والظاهر. تنبيهات أحدها: قال إمام الحرمين في "البرهان" وابن الحاجب أنَّ الخلاف في هذه المسألة لفظي لا فائدة له؛ لاتفاق المجوِّز والمانع على أن اقتضاء العلة للحكم لا بُدَّ فيه مِن عدم التخصيص، وسلَّموا أنَّ المعلِّل لو ذكر القيد في ابتداء التعليل لاستقامت العلة. فرجع الخلاف إلى أن ذلك القيد العدمي هل يسمى جزء العلة؟ أو لا؟ لكن رد ذلك في "المحصول" (¬1) بأنَّا إذا فسرنا العلة بالداعِي أو الموجِب، لم يجعل العدم جزءًا مِن العلة، بل كاشفًا عن حدوث جزء العلة. ومَن جوَّز التخصيص لا يقول بذلك. وإنْ فسرنا العلة بالأمارة، ظهر الخلاف في المعنى أيضًا؛ لأنَّ مَن يثبت العلة بالمناسبة يبحث عن ذلك القيد العدمي، فإنْ وجد فيه مناسبة، صحح العلة وإلا أَبطلها. ومَن يجوِّز التخصيص لا يطلب المناسبة أصلًا مِن هذا القيد العدمي. وأما نَفْي الفائدة فمردود بأنَّ للخلاف فوائد: منها: جواز التعليل بِعِلتين، وقد سبق بيان ذلك. ومنها: انقطاع الخصم. وإذا ادَّعى بَعد ذلك أنه أراد بالعموم الخصوص وباللفظ المطلق ما وراء محل النقض، لا يُسْمَع دَعْواه؛ لأنه يُشبه الدعوى بعد الإقرار، فلا يُسمع إلا ممن له ¬

_ (¬1) المحصول في أصول الفقه (5/ 242)، الناشر: مؤسسة الرسالة.

قدرة على الإنشاء. والقائلون بجواز التخصيص يقبلون دعواه، لكن الإمام في "البرهان" قال: (إذا ذكر لفظًا مقتضاه عموم العلة فورد نقضٌ فقال: "أُخَصِّص لفظي"، نُظِر: فإنْ كان النقض مُبْطِلًا، لم يُقْبَل منه التخصيص. وإنْ كان غير مُبْطِل فمِن الجدليين مَن جعله منقطعًا؛ إذْ لَمْ يَفِ بظاهر لفظه). قال: (والمختار لا يكون منقطعًا، لكنه خالف الأحسن؛ إذْ كان ينبغي له أن يشير إليه فيقول: هذه [علته] (¬1) فيما لا يُسْتَثْنَى) (¬2). الثْاني: إذا اعتُرض بالنقض على المستدِل فلا بُدَّ له من الجواب عنه وإلا انقطع. فينبغي أن يذكر جوابه، وكذا فيما سيأتي مِن القوادح. فأما جواب النقض: - فإما يَمْنَع (¬3) وجود العلة في محل النقض؛ لأنه قيد مناسب أو مؤثِّر في العلة. كما لو قيل في الحلي: (مال مُعَد لاستعمال مباح؛ فلا زكاة فيه، كثياب البذلة). فإذا نُقِض بالمُعَد لاستعمال مُحَرَّم أو مكروه، فيجاب بإخلاله بقيد الإباحة. - وإما أنْ يجيب بمنع انتفاء الحكم عن الصورة المنقوض بها إذا لم يكن انتفاؤه مذهب المستدِل؛ لأنه إذا كان مذهبه فقط أو مذهبه ومذهب المعترِض، لم يتمكن مِن ذلك. - وإمَّا أنْ يذكر مانِعًا في صورة النّقض عند مَن يرى بأنَّ النقض لِمانِع غير قادح. فلو أراد المعترِض -لَمَّا مَنَع المستدِل وجود العلة في صورة النقض- أنْ يستدل على ¬

_ (¬1) في (س، ت، ض): علة. (¬2) البرهان في أصول الفقه (2/ 651). (¬3) يعني: المستدِل يمنع وجود العلة في محل النقض.

وجودها، لَمْ يُمَكَّن مِن ذلك عند الأكثر؛ لأنه انتقال. وثانيها: يُمَكَّن؛ لأنَّ فيه تحقيق اعتراضه بالنقض، فهو مِن تمامه. وثالثها وبه قال الآمدي: يُمَكَّن ما لم يكن للمعترِض دليل أَوْلى بالقدح مِن النقض. فإنْ أمكنه القدح بطريق آخَر هو أَفْضَى إلى المقصود فلا. ورابعها حكاه ابن الحاجب: يمكَّن ما لم يكن حُكمًا شرعيًّا. وحكاه أيضًا البروي تلميذ محمد بن يحيى في كتاب "المقترح" ولم يَحْكِ غيره. ومَثَّله بما لو علل الحنفي وجوب المضمضة في الغسل بأنه عضو يجب غسله عن الخبث؛ فيجب في الجنابة. فإذَا نُقِضَ بالعَيْن، فله المنع في أنَّ العَيْن يجب غسلها عن الخبث، فليس للمعترِض أنْ يثبت عِلية وجوب غسل العَيْن مِن الخبث؛ فإنه وَضْع للكلام في مسألة أخرى والاستدلال عليها مِن الابتداء. أما إذا كان المعلَّل به وصفًا حقيقيًّا، فله ذلك، كما لو عَلل الحنفي مسألة الأجرة بأنه عقد على منفعة؛ فلا يملك عوضه بنفس العقد، كالمضاربة. فإذا نُقِض بالنكاح [فمنعَ] (¬1) ورود النكاح على المنفعة، فله إثباته بالدليل. انتهى وجرى عليه شارحه أبو العز جد ابن دقيق العيد لأمه، قال: لأنَّ الأمر الحقيقي يمكن الاستدلال عليه؛ لِقُرْبِه، والأحكام الشرعية إذا كانت مختلفة فهي في مظنة تَشَعُّب الظنون. والوصف الحقيقي يكون في الغالب مِن جهة عدم تَصَوُّر حقيقته، فلو دل المستدِل على وجود العلة في محل التعليل بدليل موجود في محل النقض ثم منع بعد ذلك وجودها في صورة النقض فقال المعترِض: ينقض دليلك على العلة، لم يُسْمع منه عند الجدليين؛ لأنه انتقال مِن نقض العلة نفسها إلى نقض دليلها. ¬

_ (¬1) كذا في (س، ت)، لكن في (ق، ش): بمنع.

كقول الحنفي في التبييت: أتى بمسمَّى الصوم؛ فصحَّ، كما في النَّفل. واستدل على وجود العلة بالإمساك مع النية. فيقال: فتنتقض العلة بما لو نوى بعد الزوال. فيقول: لا نُسَلِّم وجود العلة فيه. فنقول: ينتقض دليلك الذي استدللت به على وجود العلة في محل التعليل. هذا هو الصواب، ولابن الحاجب احتمال بالجواز؛ لأنَّ المعترِض في مقام دَفْع العلة، فليكن له القدح فيها تارة وفي دليلها أخرى، ولا يكون انتقالًا ممنوعًا. الثالث: يجب على المستدِل المناظر -عند الأكثرين- الاحتراز مِن النقض إذا قُلنا: قادح. وكذا على الناظر، إلا فيما اشتهر مِن المستثنيات وصار كالمذكور. وقيل: يجب الاحتراز عنه مطلقًا. وقيل: إلا في المستثنيات مطلقًا. والله أعلم. وقولي: (وَ"الْكَسْرُ" إسْقَاطٌ لِوَصْفٍ مُوِّهَا) تمامه قولي بعده: ص: 856 - في عِلَّةٍ، أُبْدِلَ أَوْ لَمْ يُبْدَلِ ... وَ"عَدَمُ الْعَكْسِ" بِأَنْ لَا يَخْتَلِي 857 - حُكْمٌ لِفَقْدِ عِلَّةٍ إنْ عُلِمَا ... أَوْ ظُنَّ، وَالْإبْدَالُ أَوْلَى، فَاعْلَمَا 858 - وَقَدْحُ ذَا يُبْنَى عَلَى امْتِنَاعِ ... تَعَدُّدِ الْعِلَّةِ، لَا اجْتِمَاعِ الشرح: ومضمون ذلك نوعان من القوادح في العلة: الكسر، وعدم العكس. فأما "الكسر": فقال أكثر الأصوليين والجدليين: إنه إسقاط وصف من أوصاف العلة

المركَّبة وإخراجه مِن الاعتبار ببيان أنه لا أثر له. وقولي فيه: (أُبْدِلَ أَوْ لَمْ يُبْدَلِ) إشارة إلى أن له صورتين: إحداهما: أن يبدل ذلك الوصف الخاص الذي بُيِّن أنه لَغْو لا أثر له بوصف أَعَم منه، ثم ينقضه على المستدِل. كأنْ يقول شافعي في إثبات صلاة الخوف: صلاة يجب قضاؤها؛ فيجب أداؤها، كصلاة الأمن. فيقول المعترِض: خصوص كونها صلاة مُلغًى لا أثر له؛ لأنَّ الحج والصوم كذلك، فلم يَبْقَ إلا الوصف العام وهو كونها عبادة، فننقضه عليه بصوم الحائض، فإنه عبادة يجب قضاؤها ولا يجب أداؤها، بل يَحْرُم. والثانية: أنْ لا يبدله، فلا يبقى إلا: وجب قضاؤها، فلا يجب أداؤها. فيقال: ليس كل ما يجب قضاؤه يجب أداؤه؛ بدليل صوم الحائض. فقد أَعْرَض عن ذلك الوصف بالكُلية، وذكر صورة النقض. قال الشيخ أبو إسحاق في "الملخص": (وهو سؤال مليح، والاشتغال به ينتهي إلى بيان الفقه وتصحيح العلة. وقد اتفق أكثر أهل العلم على صحته وإفساد العلة به، ويسمونه "النقض" مِن طريق المعنى و"الإلزام" مِن طريق الفقه. وأنكر ذلك طائفة من الخراسانيين). انتهى ومن أمثلة ذلك -كما ذكره الشيخ أبو إسحاق وابن السمعاني وغيرهما ومثَّل به أيضًا الآمدي وابن الحاجب- أنْ يقول شافعي في بَيعْ ما لم يَرَه المشتري: مبيع مجهول الصفة عند العاقد؛ فلا يصح، كما لو قال: بِعتُك عبدًا. فيقول المعترِض: ينكسر بما إذا نكح امرأة لم يَرَهَا، فإنه يَصِح مع كونها مجهولة الصفة

عند العاقِد. فهذا كَسْر؛ لأنه نقض مِن جهة المعنى؛ إذِ النكاح في الجهالة كالبيع، بدليل أن الجهل بالعيْن في كل منهما يوجِب الفساد، فَوَصْف كَوْنه مبيعًا مُلْغًى، بدليل أن الرهن ونحوه كذلك. ويبقى عدم الرؤية، فينتقض بنكاح مَن لم يرها. وإنْ نزلته على الصورة الأُولى -وهي الإبدال بالأَعم- فنقول: عقد على ما لم يره العاقد؛ فينتقد بالنكاح. ومثاله أيضًا أنْ يقول شافعي في كفارة العمد: قتل مَن يُضْمن بِدِيَة أو قصاص بغير إذْن شرعي؛ فتجب كفارته، كالخطأ. فيُعترَض بأنَّ خصوص كونه يُضمن بالدية أو القصاص مُلْغًى؛ لأنها تجب على السيد في قتل عَبْده، فيبقى كونه آدميًّا أو يسقط القيد بالكُلية ويبقى ما عداه، وهو منقوض بالحربي والمرتد وقاطع الطريق والزاني المحصن. ومن أمثلة هذا أيضًا لو قال شافعي: صلاة الجمعة صلاة مفروضة؛ فَلَمْ تفتقر إقامتها لإذن السلطان، كالظهر. فيقول المعترِض: خصوص كونها مفروضة مُلْغًى؛ لأنَّ التطوع كذلك، فيبقى كونها صلاة مطلوبة، وهو منقوض بصلاة الاستسقاء. ومن استعمال ذلك في الجدال ما أورده الشيخ في "المهذب" في "باب الزكاة" فيما نتج مِن النصاب في أثناء الحول وماتت [الأُمَّات] (¬1) قبل الحول فتبقى الزكاة في النتاج عند حولان حول الأمَّات، خلافًا لأبي القاسم بن بشار الأنماطي، فقال أبو القاسم: لأنَّ السخال يجري في حول الأمهات بشرط أن تكون الأمهات نصابًا، وقد زال هذا الشرط؛ فوجب أن ينقطع الحول. ¬

_ (¬1) "الأُمَّهات" في الآدميات، و"الأُمَّات" في غَيْر الآدميات.

فقال الشيخ: (وما قاله أبو القاسم ينكسر بولد أُم الولد، فإنه ثبت له حق الحرية بثبوته للأم، ثم يسقط حق الأم بالموت ولا يسقط حق الولد) (¬1). انتهى وتقرير الكسر أن الأنماطي لما كان معنى دليله أن هذه السخال مال زكوي تابع للأُم، فيجب سقوط التبعية بموت الأُم، فَيَرِد الكسر بالإلغاء في وصف الزكوي: - إما بالإبدال كأولاد تبعت الأُم في حُكمها إلى آخِره، فينتقض بولد أم الولد. - وإما بلا إبدال فيبقى [بنعت] (¬2) الأمهات في حُكمها، فيسقط بموت الأمهات، فينتقض بولد أم الولد. هذا تمام تقرير الكسر، وقد وضح أنه نقض وارد على المعنى كما ذكره أستاذ أهل الجدل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وتبعه ابن السمعاني وغيره. تنبيهات الأول: تفسير البيضاوي "الكسر" بأنه "عدم تأثير أحد الجزئين ونَقْض الآخَر" كما سبق تمثيل ذلك بصلاة الخوف -راجع إلى تفسيرنا المذكور، خلافًا لمن زعم أنه غيره. الثاني: فسره ابن الحاجب -تبعًا للآمدي- بأنه: (وجود الحكمة المقصودة مع تَخَلُّف الحكم). ثم قال: (والمختار أنه لا يبطل، كقول الحنفي في العاصي بِسَفَره: مسافر؛ فيترخص، كغير العاصي؛ للمشقة فيهما. فيُعترَض بالصنعة الشاقة في الحضر) (¬3). كنحو الحمالين، فإنها ¬

_ (¬1) المهذب في الفقه الشافعي (1/ 144). (¬2) لَعَلَّها: تبعية. وبعض النسخ كأنها: تبعت. (¬3) مختصر منتهى السؤل والأمل (2/ 1050 - 1051).

موجودة ولا تَرَخُّص. ثم ساق ابن الحاجب دليل ذلك والاعتراض عليه والجواب. وأما تفسير "الكسر" الذي ذكرناه فسماه -تبعًا للآمدي- بـ "النقض المكسور"، وهو تسمية لا يعرفها الجدليون. وزعم أن هذا لا يقدح في العلية، فقال: (وفي النقض المكسور -وهو نقض بعض الأوصاف- المختار: لا يبطل. كقول الشافعي في بيع الغائب: مبيع مجهول الصفة) إلى آخِر ما سبق تقريره في هذا المثال. لكنه احتج على مختاره بما يقتضي أنه لا يخالف قول الأكثرين بأنَّ الكسر قادح، فقال: (لنا: إنَّ العلة المجموع، فلا نقض). أيْ: لأنه لم يتخلف الحكم عن المجموع، بل عن بعض الأوصاف. ثم قال: (فإن بيَّن -أيِ المستدِل- عدم تأثير كونه مبيعًا، كان -أيْ ذلك القيد- كالعدم، فيصح النقض، ولا يفيد مجرد ذِكره دَفْع النقض) (¬1). فيقال: الكسر إنما هو إذا بيَّن المستدِل إلغاء بعض الأوصاف كما قيدناه، فإذا لم يُبيِّن، فلا يُسمى "كسرًا"؛ لأنه لم يأت به على وجهه. ولا يختص هذا بالكسر، بل كل اعتراض لم يُؤتَ به على وَجْهِه كان غير مقبول. وإنما أَحْوَجَه أنْ يقول: (وإن بيَّن) كَوْنه لم يأتِ بذكر معنى "الكسر" على اصطلاحهم، فثبت بذلك أنه لا يخالف الأكثر إذا أُتِي بالكسر على الوجه الذي ذكروه. وأيضًا: فإذا رجع إلى النقض (والنقض قد سبق فيه المذاهب واختياره تفصيلًا فيه) فلا يَسَعه أنْ يطلق اختيار أنه غير قادح، فإنهما مِن هذه الجهة سواء. ¬

_ (¬1) مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (2/ 1053).

وأما قول الآمدي: (إنَّ الأكثرين على أنَّ الكسر ليس بقادح) فمردود بنقل الشيخ أبي إسحاق أنَّ الأكثرين على أنه قادح. وكذا قول الهندي: (إنَّ الكسر نقض يَرِد على بعض أوصاف العلة، وهو مردود عند الجماهير إلا إذا بيَّن الخصم إلغاء القيد) (¬1). فيقال له: إنما نسميه "كسرًا" إذا بيَّن كما سبق تقريره في كلام ابن الحاجب. وأما "عدم العكس" فالمراد به: أنْ لا ينتفي الحكم بانتفاء المدَّعَى أنه علة. فهو مقابل للطرد، وهو: أنْ يوجد بوجوده. فالعلة إنْ كانت مُطَّردة منعكسة فواضح، أو غير مُطَّردة فهو الاعتراض بالنقض، أو غير منعكسة فهو المراد هنا. وفي القدح به خلاف مُرتَّب على جواز تَعدُّد العلة ومنعه. فإنَّ الحكم إذا وُجِد والعِلة منتفية فقدْ يَكون لِعِلة أخرى. فمَن منع تَعدُّد العِلة جَعَل ذلك قادحًا؛ لانتفاء الحكم عند انتفاء دليله. ومَن أجاز، لا يجعله قادحًا. وإليه أشرتُ في النَّظم بقولي: (وَقَدْحُ ذَا) البيت. أي: إنَّ المانع مِن تَعدُّد العِلَل لا يريد به اجتماع أوصاف يكون مجموعها عِلة، بل يكون كُلٌّ علة بانفراده، وسبق الخلاف في ذلك مُبيَّنًا. وربما عُبِر عن الاعتراض بِـ "عدم العكس" بأنه هل يُشترط في العلة الانعكاس كما يشترط الاطِّراد؟ أو لا كما هو عبارة ابن الحاجب؟ فقد تَحرر مِن ذلك أن الذي يُعَد مِن القوادح "عدم العكس". فتسمية صاحب ¬

_ (¬1) نهاية الوصول (8/ 3427).

"المحصول" ذلك بِـ "العكس" -وعليها جَرَى في "جمع الجوامع"- فيها نظر، إلا أنْ يُؤَوَّل؛ ولذلك عَبَّرتُ عنه في النَّظم بقولي: (وَ"عَدَمُ الْعَكْسِ" بِأَنْ لَا يَخْتَلِي حُكْمٌ لخلو عِلته)، وهو بالخاء المعجمة من "الخلو". ومرادي أنْ لا ينتفي بانتفاء العلة؛ لأنَّ هذا معنى عدم الخلو مِن الحكم ووجود الخلو مِن العلة. قال الهندي: (ولا يقال: "أنْ لا ينتفي عند انتفاء علته"؛ لأنه يقتضي أنْ يكون قد خَلَا مِن العِلل كلها) (¬1). وهذا قادح قطعًا؛ لأنه لم يسلم له عِلة. واعْلَم أنه يدخل تحت قولنا: (أنْ لا ينتفي الحكم لانتفاء عِلته) صورتان: إحداهما: أن ينتفي في ذلك الأصل، مثل أن يقول شافعي في منع بيع الغائب: مبيع غير مرئي؛ فلا يصح، كبيع الطير في الهواء. فيُعترض عليه بأنَّ عدم الرؤية قد ينتفي بأنْ يكون رأَى الطير في الهواء ومع ذلك البيع باطل لِعِلة أخرى وهي عدم القُدرة عليه. فوُجِد حُكم الأصل المعَيَّن بشخصه لِعِلة غير المنتفية. الثانية: أن يوجد الحكم مع انتفاء الوصف في صورة أخرى، كما لو استدل حنفي على منع تقديم أذان الصبح بقوله: صلاة لا تقصر؛ فلا يُقَدَّم أذانها على وقتها، كالمغرب. فيقول الشافعي: قد انتفى الوصف في صورة أخرى مع وجود الحكم، كالظهر، فإنه يُقْصر ولا يُقَدَّم أذانه على وقته. ¬

_ (¬1) نهاية الوصول (8/ 3442).

وقد جمع البيضاوي "عدم التأثير" و"عدم العكس" في قادح واحد؛ لِتَقارُب معنييهما عنده؛ لأنَّ "عدم التأثير" أنْ [يبقى] (¬1) الحكم بعد انتفاء الوصف في ذلك الأصل، و"عدم العكس" أنْ يثبت الحكم في صورة أخرى بِعِلة أخرى، ومثّلَهما بالمثالين السابقين، فلَم يجعلهما معًا مِن "عدم العكس" كما ذكرناه. ولهذا تعقب الهندي مَن غاير بينهما، وقال: إنَّ كُلًّا منهما داخِل في مسمَّى "عدم العكس". ثم قال البيضاوي: (إنَّ الَأوَّل يَقْدَحُ إِنْ مَنَعْنَا تَعْلِيلَ الوَاحِدِ بِالشَّخْصِ بِعِلَّتَين، وإنَّ الثاني يقدح إنْ منعنا تَعْلِيلَ الوَاحِد بِالنَّوْعِ بعِلتَّين) (¬2). وهو ظاهر؛ لأنَّ الذي في أصل واحد تَعددت العِلة فيه في مُعَيَّن مُشَخَّص، والذي في صورة أخرى تَعددت العلة فيه في نوع؛ لأنَّ المنع في التقديم في الرباعية غير المنع في التقديم في غير الرباعية، ونوعهما واحد وهو منع التقديم على الوقت. وجعل ابن الحاجب الصورتين معًا مِن أقسام "عدم التأثير"، وسيأتي بيانه [هناك] (¬3)، وكأنَّ ذلك لأنَّ ادِّعَاء عدم الوصف المعلَّل به وأنَّ الحكم وُجِد -طريقُه أنَّ الوصف إذا أُلغِي بعدم تأثيره، كان عَدَمًا. واعلم أن قولنا: (ينتفي الحكم بانتفاء الوصف) [المراد] (¬4) انتفاء عِلمه أو الظن به كما أشار إليه ابن الحاجب وغيره، لا انتفاء نفس الحكم؛ لأنه لا يَلزم مِن انتفاء الدليل على ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (ت): ينفى. (¬2) منهاج الوصول (ص 216) بتحقيقي. (¬3) كذا في (ص، ق)، لكن في سائر النسخ: في مثال. (¬4) كذا في (ص، ق، ش). لكن في (ت): معناه.

الصانع انتفاؤه، بل انتفاء العلم به فقط. وهو معنى قولي في النَّظم: (إنْ عُلِمَا أَوْ ظُنَّ). أي: عُلم ذلك الانتفاء أو ظُن، لا انتفاء نفس الحكم. ثُمَّ إذا انتفى الحكم -أَيِ العِلم به أو الظن- فإما بأنْ لا يكون له حُكم أو بأنْ يكون بإبدال حُكم بضده. والثاني أبلغ، وإليه أشرتُ بقولي في النَّظم: (وَالْإبْدَالُ أَوْلَى)، وشاهده حديث: "أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فقالوا: نعم. قال: فكذلك إذا وضعها في حلال، يؤجَر" (¬1). فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ضد حُكم الوطء المباح -وهو الإثم- في الوطء الحرام الذي هو ضد الوطء المباح، [لافتراقهما] (¬2) في عِلة الحكم وهو كون هذا مباحًا وذلك حرامًا. ويدخل مثل هذا فيما يُسمى بـ "قياس العكس" كما سبق بيانه في تعريف القياس في باب الأدلة وأمثلة ذلك والاختلاف في كونه قياسًا أو مِن قبيل التلازم، فليراجَع. ومما يمثَّل به أيضًا أنْ يقول الحنفي في القتل بالمُثقل: لَمَّا لم يجب القتل بصغير المثقل، لَمْ يجب بكبيره؛ بدليل عكسه، فإنه لَمَّا وجب القصاص بكبير الجارح، وجب بصغيره. فالعكس بهذا المعنى لا يُشترط اتفاقًا؛ لجواز أنْ يوجب الشارع القصاص بكل جارح ويَخُص القصاص في المثقل بالكبير. تنبيه: قال إمام الحرمين في التدريس: إنَّ الذين يشترطون العكس في العلة اختلفوا: فمنهم مَن ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (رقم: 1006). (¬2) كذا في (ص) وهو الصواب، لكن في (ش، ت، س، ض): لاقترانهما.

قال: لا بُد مِن عكس على العموم كما شرطنا الاطِّراد عمومًا. وقال الأستاذ أبو إسحاق: يُكتفى بالعكس ولو في صورة واحدة. قلتُ: ولكن الأول هو الأظهر. والله أعلم. ص: 859 - وَ"عَدَمُ التَّاْثِيرِ": كَوْنُ الْوَصْفِ ... غَيْرَ مُنَاسِبٍ؛ فَلَيْسَ يَكْفِي 860 - لِذَاكَ خُصَّ بِقِيَاسِ الْمَعْنَى ... وَمَا لَهُ اسْتِنْبَاطُ وَصْفٍ يُعْنَى 861 - عِنْدَ اخْتِلَافٍ، وَلَهُ أَقْسَامُ ... وَمُثُلٌ يُدْرَى بِهَا الْمَرَامُ الشرح: أيْ: ومن القوادح في العلة "عدم التأثير"، كأنْ يقول المعترِض: هذا الوصف الذي عُلِّل به غير مناسب للتعليل؛ لكونه طرديًّا، أو لاختلال شرط من شروط العِلة فيه؛ فلا يُكتفَى به في التعليل. ووجْه تسميته بذلك أن المراد بالتأثير هنا اقتضاؤه ذلك إما بمعنى المُعَرِّف أو المؤثِّر على ما سبق مِن الخلاف. فإذا لم يُفِد أثرًا، فلا تأثير له. وسبق أنَّ البيضاوي عرَّفه -تبعًا لإمامه- بثبوت الحكم بدون الوصف في ذلك الأصل بخصوصه، بخلاف "عدم العكس"، فإنه في صورة أخرى. لكن تعريفه بما ذكرناه أَعَم مِن هذا التفسير؛ لأنَّ تفسيرنا أنْ يوجد الوصف ولكنه غير مناسب، سواء وُجِد الحكم أو لم يوجد. مع أنَّ الحكم إذا وُجِد، قد لا يوجد معه الوصف. وينبني على التعريفين بيان ما يقدح فيه مِن العلل. فَعَلى تفسيرنا لا يكون قادحًا إلا في قياس المعنى دُون الشبه والطرد، وأنْ لا يكون إلا في العلة المستنبَطة المختلَف فيها دُون

المنصوصة أو المستنبطة المُجْمَع عليها. نعم، سيأتي في أقسامه ما له فائدة في الجملة، فلا يكون "عدم التأثير" في أصل الحكم فيه قادحًا. ويأتي بيان ذلك موضحًا، وإلى ذلك أشرتُ بقولي: (لَهُ أَقْسَامُ وَمُثُلٌ يُدْرَى بِهَا الْمَرَامُ)، أي: المقصود. وإنما لم أذكرها في النَّظم لقصد الاختصار. فأقسام "عدم التأثير" أربعة: - ما لا تأثير له أصلًا. - وما لا تأثير له في حُكم ذلك الأصل. - وما اشتمل على قيد لا تأثير له. - وما لا يظهر فيه شيء مِن ذلك ولكن لا يطرد في محل النزاع؛ فيُعْلَم مِن ذلك عدم تأثيره. ولكل قِسم اسم يُعْرَف به. فالأول: عدم التأثير في [ذات] (¬1) الوصف. أي: لا تأثير له أصلًا؛ بِكونه طَرْدِيَّا كما سبق في مثال: (الصبح صلاة لا تُقصر؛ فلا يُقَدَّم أذانها). ويرجع حاصله إلى المطالبة بصلاحية كَوْنه عِلة. الثاني: له تأثير لكن لا في [حُكم] (¬2) الأصل، كما سبق في مثال بيع الغائب: مبيع غير مرئي؛ فلا يصح، كالطير في الهواء. فيعارَض بأنَّ العلة العجز عن التسليم. ¬

_ (¬1) في (ص، ق): ذلك. (¬2) كذا في (ص، ق، س)، لكن في (ت): محل حكم.

وَيرجع حاصله إلى معارَضة بِعِلة أخرى. نعم، هذا المثال قرره القاضي أبو الطيب في "تعليقته" في الكلام على بيع الغائب بتقرير آخَر. فقال: لنا: أنه باع عَيْنًا لَمْ يَرَ منها شيئًا؛ فلا يصح، كما لو باع النوى في التمر. قال: فإنْ قيل: قولكم: "لم ير منها شيئًا" لا تأثير له في الأصل؛ لأنَّ بعض النوى إذا كان ظاهرًا نراه وبعضه غير ظاهر فإنَّ البيع لا يصح. فالجواب: أنه ليس مِن شرط التأثير أن يكون موجودًا في كل موضع، وإنما يكون وجود التأثير في موضع واحد، وتأثيره في بيع البطيخ واللوز، فإنه يرى بعضها ويكون بيعها صحيحًا. وقال الإمام في "البرهان": (عدم التأثير في الأصل هو تقييد عِلة الأصل بوصف لا أثَر لأجله في الأصل. كقول الشافعي في منع نكاح الأَمة الكتابية: أَمة كافرة؛ فلا تُنكح، كالأَمة المجوسية. فلا أثر للرق في الأصل). قال: (والمحققون على فساد العلة بذلك، وقيل بصحتها؛ إذْ للرق على الجملة أثر للمنع، وشبهه بالشاهد الثالث المستظهَر به. وهو ضعيف؛ إذِ الثالث متهيئ لوقوعه ركنًا عند تَعذُّر أحد الشاهدين، بخلاف الرق). ثم قال الإمام: (إنَّ ذلك الوصف إذا لم يكن له أثر ولا غرض فيه، فهو لَغْو، ولا تبطل العلة؛ لاستقلالها مع حذف القيد) (¬1). الثالث: أنْ يكون في جملة ما عُلِّل به قيد لا تأثير له في حُكم الأصل الذي قد عُلِّل به، ¬

_ (¬1) البرهان في أصول الفقه (2/ 663 - 666).

وهو على ثلاثة أقسام: أحدها: أنْ لا فائدة لِذِكره أصلًا، كقولهم في المرتدين: مشركون أتلفوا مالًا في دار الحرب، فلا ضمان عليهم، كالحربي. فقَيْد "دار الحرب" طَرْدي لا فائدة في ذِكره؛ فإنَّ مَن أَوْجَب الضمان أوجَبه مطلقًا، ومَن نفاه نفاه مطلقًا. فيرجع إلى ما رجع إليه القِسم الأول، وهو المطالبة بتأثير كَوْنه في دار الحرب. ثانيها: لا تأثير لذلك القيد، ولكن له فائدة في القياس، كما يقال في اشتراط العَدد في الحجر المُسْتَنْجَى به: عبادة متعلقة بالأحجار لم يتقدمها معصية؛ فاعتُبِر فيها العَدد، كرمي الجِمار. فقَيْد: "لم يتقدمها معصية" لا تأثير له، لكن لِذكره فائدة؛ إذْ لو حذفه لانتقضت عِلته بالرجم. وهذا أيضًا راجع للأول كالذي قبله. ثالثها: له فائدة لكن المعَلِّل لا يضطر إليه في ذلك القياس؛ ولهذا يُسمى "الحشو". كما لو قيل في أن الجمعة تصح بغير إذن الإمام: (صلاة مفروضة؛ فلم تفتقر إقامتها إلى إذنه، كالظهر). فذِكر الفَرْض لا فائدة فيه؛ لأنَّ النفل كذلك. وإنما ذكر لتقريب الفرع مِن الأصل وتقوية الشَّبه بينهما؛ إذ الفرض بالفرض أَشْبَه مِن غيره. الرابع: ما له تأثير لكن لا يطرد في ذلك الفرع ونحوه مِن محال النزاع. كقولنا في ولاية المرأة: زوَّجَت نفسها مِن غير كُفء؛ فلا يصح، كما لو زُوِّجَت مِن غير كُفء. فالتزويج مِن غير كفء -وإنْ ناسب البطلان- إلا أنه لا اطراد له في صورة النزاع التي هي تزويجها نفسها مطلقًا؛ فبَانَ أنَّ الوصف لا أثر له في الفرع المتنازَع فيه. وحاصل هذا أنه كالثاني مِن حيث إنَّ حُكم الفرع هنا مضاف إلى غير الوصف المذكور. كذا قاله ابن الحاجب في "مختصره" الصغير، وتبعه في "جمع الجوامع"، لكنه قال في الكبير: إنه كالثالث. وقيل: إنه الصواب.

واعْلَم أنَّ هذا القسم كيف كان مبني على قبول الفرض، مَن قبله رَدَّ هذا، ومَن منعه قَبِل هذا. كما لو قال المسئول عن [نفود] (¬1) عتق الراهن: (أفرض الكلام في المعسِر)، أو عن مَن زوجت نفسها: (أفرض فيمن [زوجت] (¬2) مِن غير كُفء). فإذا خَصَّ المستدِل تزويجها نفسها مِن غير الكُفء بالدليل، فقد فرض دليله في بعض صوَر النزاع. وحاصل الخلاف في الفرض مذاهب: أحدها: المنع. وبه قال ابن فورك بشرط أن يكون الدليل عامًّا لجميع مواقع النزاع؛ ليكون دفعًا لاعتراض الخصم مطابقًا للسؤال. الثاني: وبه قال الجمهور: الجواز؛ لأنه قد لا يساعده الدليل على الكل، أو يساعده غَيْر أنه لا يَقْدر على دَفْع كلام الخصم، بأنْ يكون كلامه في بعض الصوَر أشكل، فيستفيد بالفرض غرضًا صحيحًا. ولا يفسد بذلك جوابه؛ لأنَّ مَن سأل عن الكل فَقَدْ سأل عن البعض. الثالث: وبه قال ابن الحاجب: إنْ كان الوصف المجعول في الفرض طردًا فمردود، وإلا فمقبول. وقال ابن التلمساني: الوجه أنْ يقال: قد يستفاد بالفرض تضييق مجاري الاعتراض على الخصم -وهو مِن مقصود الجدل- أو وضوح التقرير. ولهذا المعنى عدل الخليل -عليه الصلاة والسلام- في تقرير الاستدلال على النمرود بالأثَر على المؤثِّر إلى الأوضح عند النمرود بقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ} [البقرة: 258] الآية. ¬

_ (¬1) في (ش): تفرد. وفي (ت): نفود. وسائر النسخ غير واضحة. (¬2) كذا في (س، ض، ش)، لكن في (ص، ق): زوجته.

والرابع: أنه يجوز بشرط البناء. أي: بناء ما خرج عن محل الفرض [على] (¬1) محل الفرض. ثُم اختُلف في طريق البناء، فقيل: يكفي أن يقول: ثبت الحكم في بعض الصوَر؛ فيَلزم القول بثبوته في الباقي؛ ضرورة أنْ لا قائل بالفَرْق. وقيل: لا يكفيه ذلك، بل يحتاج إلى رد ما خرج عن محل الفرض إلى محل الفرض بجامع صحيح كما هو قاعدة القياس. وقيل: إنْ كان الفرض في صورة السؤال فلا يحتاج إلى البناء. وإنْ عدل [في] (¬2) الفرض إلى غير محل السؤال فلا بُدَّ حينئذٍ من بناء السؤال على محل الفرض بطريق القياس. والله أعلم. ص: 862 - وَ"الْقَلْبُ": دَعْوَى مَا بِهِ اسْتُدِلَّا ... عَلَيْهِ أَوْ لنَا مَعًا قَدْ دَلَّا 863 - إمَّا بِتَصْحِيحِ مَقُولِ الْمُعْتَرِضْ ... أَوْ لَا، بَلِ الْإبْطَالُ فِيهِ يَعْتَرِضْ 864 - وَمنْهُ مَا "قَلْبَ الْمُسَاوِي" يُسْمَى ... يُنْفَى بِهِ مَعَ اسْتِوَاءٍ حُكْمَا الشرح: أي: مِن القوادح أيضًا "القَلْب"، وهو: - إمَّا الخاص بباب القياس، وهو الذي تعرَّض له البيضاوي وغيره هنا؛ لأنَّ كلامهم ¬

_ (¬1) كذا في (س)، لكن في سائر النُّسخ: إلى. (¬2) في (ص، ق): عن.

في القياس، فعرَّفوه بِـ "أنْ يربط المعترض خِلاف قول المستدل على عِلَّته التي ذكرها إلحاقًا بالأصل الذي جعله مَقِيسًا عليه". - وإمَّا الأَعَم مما يُعترض به على القياس وعلى غيره مِن الأدلة، وهو ما ذكرته في النَّظم: أنْ يدَّعي المعترِض أنَّ ما استدل به في المسألة على ذلك الوجه دليلٌ عليه لا في غير تلك المسألة ولا مِن غير ذلك الوجه. وذلك مفهوم من قولي: (مَا بِهِ اسْتُدِلَّا)، فيخرج عنه ما لو كان ذلك في مسألة أخرى أو في المسألة لكنِ من غير ذلك الوجه، كأنْ يكون للمستدل مِن طريق الحقيقة فيستدل به المعترِض مِن طريق المجاز. وهو ضربان؛ لأنَّ ما يأتي به المعترِض إما أن يكون دليلًا على المستدِل، لا لَهُ، وإما أنْ يدل لكل منهما، لا للمستدِل وحده. وهو معنى قولي: (عَلَيْهِ أَوْ لَنَا مَعًا). أي: أو يقول المعترِض: هذا دليل لي ولك، فهو لنا معًا. قال الآمدي: والأول قَلَّ ما يتفق له مثال في الأقيسة. ومثاله من النصوص: استدلال الحنفي في توريث الخال بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الخال وارث مَن لا وارث له" (¬1). فيقول المعترِض: هذا يدل عليك، لا لك؛ إذ معناه نَفْي توريث الخال بطريق المبالغة، أي: الخال لا يرث. كما يقال: الجوع زاد مَن لا زاد له، والصبر حيلة مَن لا حيلة له. أي: ليس الجوع زادًا ولا الصبر حيلةً. ثم ينقسم "القلب" مِن وَجْه آخَر إلى ثلاثة أقسام: ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (رقم: 2899)، سنن الترمذي (رقم: 2103) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح الترمذي: 2103).

أحدها: أن يدل على تصحيح مذهب المعترِض مِن غير تَعَرُّض لإبطال مذهب المستدِل. والثاني: أن يكون لإبطال قول المستدِل صريحًا. والثالث: أن يكون لإبطاله ضمنًا، لا صريحًا. فأما الأول: فكاستدلال الحنفية على اشتراط الصوم في صحة الاعتكاف بقولهم: الاعتكاف لبث مخصوص؛ فلا يكون مُجَرَّده قُربة، كالوقوف بعرفة، فإنه إنما صار قُربة بانضمام عبادة أخرى إليه وهو الإحرام. فيقول الشافعي: لبث مخصوص؛ فلا يشترط فيه الصوم، كالوقوف بعرفة. وأما الثاني: فكما يقولون: مسح الرأس ركن مِن أركان الوضوء؛ فلا يكفي فيه أَقل ما ينطلق عليه الاسم؛ قياسًا على الوجه. فيقول الشافعي: مسح الرأس ركن مِن أركان الوضوء؛ فلا يُقَدَّر بالربع، كالوجه. ففيه نفى مذهب المستدِل صريحًا، ولم يُثْبت مذهبه؛ لاحتمال أنْ يكون الحقُّ هو الاستيعاب كما هو قول مالك. وأما الثالث: فكقولهم في بيع الغائب: عقد معاوضة؛ فيصح مع عدم الرؤية للمعقود عليه، قياسًا على النكاح. فيقول الشافعي: عقد معاوضة؛ فلا يثبت فيه خيار الرؤية، كالنكاح. فثبوت خيار الرؤية لازِم لصحة بيع الغائب عندهم، وإذا انتفى اللازم، انتفى الملزوم. وهذان داخلان في قولي: (أَوْ لَا، بَلِ الْإبْطَالُ فِيهِ يَعْتَرِضْ)، فإنه يشمل الإبطال بالتصريح وبالتضمن. وقولي: (وَمِنْهُ مَا "قَلْبَ الْمُسَاوِي" يُسْمَى) هو بنَصب "قلب" مفعولا ثانيًا لِـ "يُسمى"، قُدِّم على العامل. والإشارة بذلك إلى أن مِن "القلب" نوعًا يسمى "قلب المساواة"، وهو أنْ

يَكون في الأصل قِسمان: أحدهما: مُنْتَفٍ في الفرع باتفاق الخصمين. والآخَر: متنازَع فيه بينهما. فإذا أراد أنْ يثبته في الفرع قياسًا على الأصل، فيقول المعترِض في التسوية بينهما في الفرع؛ بالقياس على الأصل. ويَلْزَم مِن وجود التسوية في الفرع عدمُ ثبوته فيه. وهو معنى قولي: (يُنْفَى بِهِ مَعَ اسْتِوَاءٍ حُكْمَا). وذلك كقولهم في نية الوضوء: طهارة بالماء؛ فلا يفتقر إلى النية، كإزالة النجاسة. تنبيهات الأول: "القلب" يتضمن أن دليل المستدِل صح ولكنه دليل عليه كما قررناه، لكن صحته إنما هي على تقدير التسليم، وهذا مأخوذ من تسمية "القلب" معارضة، فإنَّ المعارَضة لا تُفْسِد العلة، بل تمنع مِن التعلق بها إلى أنْ يثبت رجحانها مِن خارج. وفي قول: إنَّ "القلب" تسليم للصحة مطلقًا. وهذا مأخوذ مِن قول بعض أصحابنا: القلب شاهد زور، كما يشهد لك يشهد عليك. وهذا نظير قول ابن السمعاني في توجيه سؤال القلب: (إنه يُعَلق على العلة ضد ما عَلَّقه المستدل مِن الحكم، فلا يكون أحد الحكمين أَوْلى مِن الآخَر، ويبطل تعلقهما بها). كذا قرره السبكي، وأنَّ الأقوال مستخرجة مِن ذلك. لكن قال الإمام في "البرهان": (ذهب ذاهبون إلى رَدِّه؛ لكون ما جاء به القالب ليس مناقضًا لِما صرَّح به المعلِّل، بل هو كالمعارضة [الحائدة] (¬1). وذهب ذاهبون إلى قبوله؛ ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ت، ض)، وفي (ق، ش): الجائزة. وفي (س): الجامدة. وعبارته في (البرهان، 2/ 670): (فالقلب إذًا حائد عن مقصد المعلِّل ومحل العلة، وهو في حكم معارضة في غير محل التعليل).

[لكون] (¬1) العلة وقلبها يشتمل على حُكمين يستحيل الجمع بينهما، فهو مناقض للمقصود) (¬2). قال: ولا يمكن القالب أن يعتقد صحة قلبه لكون قياس [المعلل] (¬3) قلبًا له، بل هو عنده من باب معارضة الفاسد بالفاسد، بخلاف المعارضة، إذ قد تكون صحيحة؛ لترجيحها على قياس المعلل. نعم، نازعه بعضهم في ذلك، وقال: ربما كان القلب أرجح من قياس المعلل، فيكون صحيحا، فهو كالمعارضة. وقد أشار الإمام فيما بعد إلى ذلك. وقال النيلي في "جدله": (القسم الأول من "القلب" -وهو ما يدل على المستدِل لا لَهُ- مِن قبيل الاعتراضات، ولا يتجه في قبوله خلاف. وأما الثاني: وهو ما يدل على المستدِل مِن وَجْه آخَر -كمثال الاعتكاف ومسح الرأس وبيع الغائب- فاختلفوا فيه هل هو اعتراض؟ أو معارضة موجودة فيه؟ وذكر لهذا الخلاف فوائد، منها: إذا قيل: معارضة، جازت الزيادة في علته، كقوله في بيع الغائب: عقد معاوضة مقتضاه التأبيد؛ فلا ينعقد؛ قياسًا على خيار الرؤية، كالنكاح. وإنْ قيل: اعتراض، لَمْ تَجُز الزيادة). انتهى والفرق بين "المعارضة" و"الاعتراض" أنَّ "المعارضة" كدليل مستقل، فلا يتقدر بدليل المستدِل. و"الاعتراض" مَنعٌ، فتمتنع الزيادة عليه؛ لئلَّا يكون كذبًا على المستدِل؛ حيث يُقَوِّله ما لم يَقُل. ¬

_ (¬1) كذا في (ق) ويوافقه كلام الجويني في "البرهان"، لكن في (ص، س، ض): وثبوت. (¬2) البرهان (2/ 670). (¬3) كذا في (س، ت)، وفي سائر النسخ: العلل.

ومنها: إنْ قلنا: معارضة، جاز قَلْبه مِن المستدِل كما تُعارِض العلة كما سبق في مثال بيع الفضولي. ومَن قال: إنه اعتراض، لَمْ يُجِز ذلك؛ لأنه منع، والمنع لا يمنع. ومنها: إنْ قُلنا: معارضة، جاز أنْ يتأخر عن المعارضة؛ لأنه كالجزء منها. وإنْ قُلنا: اعتراض، لَمْ يَجُز، ووجب تقديمه عليها؛ لأنَّ المنع مُقَدَّم على المعارَضة. ومنها: إنْ قُلنا: معارضة، قَبِلْنا منه الترجيح. وإنْ قلنا: اعتراض، فلا؛ لأنَّ المعارضة تَقبل الترجيح كالدليل المبتدأ، والمنع لا يَقبل الترجيح. الثاني: أنَّ قلب المساواة قد اختلف في قبوله بالخصوص. فقال بقبوله الأكثرون، كالأستاذ وإمام الحرمين والشيخ أبي إسحاق. وقال بردِّه القاضي وابن السمعاني وطائفة ممن قبل أصل القلب لأنه لا يمكن التصريح فيه بحكم العلة، فإنَّ الحاصل في الأصل نَفْي وفي الفرع إثبات؛ ولهذا المستدِل يعتبر الوصفين في الأصل، والمعترِض لا [يعتبرهما] (¬1) بمقتضَى القلب. وُيرجِّح قول الأكثر أنَّ القياس على الأصل إنما هو عند عدم الاختلاف، وهو ثابت فيه، فلا يضر كونه في الأصل الصحة وفي الفرع عدمها؛ إذ هذا الاختلاف غير مناف لأصل الاستواء الذي جُعِل جامِعًا. هذا ما حرره شيخنا أبو عبد الله الزركشي في "شرح جمع الجوامع"، وهو نفيس؛ فلذلك اقتصرتُ على ذِكره. ¬

_ (¬1) في (ص): يعترضهما.

الثالث: جعل بعضهم مِن أقسام "القلب" ما يكون فيه تصحيح مذهب المعترِض مع إبطال مذهب المستدِل تصريحًا أو بغير تصريح. فالأول: كما يقال في بيع الفضولي: عقد في حق الغير بلا ولاية؛ فلا يصح، كالشراء له. فيقول المعترِض: تَصرُّف في مال الغير بلا ولاية؛ فيصح، كالشراء للغير، فإنه يصح للمشترِي وإنْ لم يصح لمن اشترى له. والثاني: كقول الحنفي في الصوم في الاعتكاف: لبث في محل مخصوص؛ فلا يكون قُربة بنفسه، كالوقوف بعرفة. وغرضه التعرض لاشتراط الصوم فيه، ولكن لم يتمكن مِن التصريح به؛ لأنه لا أصل له يقيسه عليه. فيقول الشافعي للمعترض: لبث في محل مخصوص؛ فلا يشترط فيه الصوم، كالوقوف بعرفة. فقد تَعرَّض للعلة بتصريحه بنقيض المقصود. نعم، قال إمام الحرمين في هذا المثال: إن الصوم عبادة مستقلة، فكونه شرطًا بعيد. وانتُقِد عليه بأنه لا بُعد؛ فإنَّ الإيمان عبادة في نفسه، وهو شرط في العبادات. والفرق بين هذين القِسمين والقِسمين السابقين مِن الثلاثة المذكورة قبل التنبيهات: أنَّ ذينك قصد فيهما إبطال مذهب المستدِل تصريحًا أو ضمنًا فقط، وهذان قصد فيهما تصحيح مذهب المعترِض ومعه إبطال مذهب المستدِل تصريحًا أو بلا تصريح كما هو ظاهر لمن تأمله؛ فلذلك جمع في "جمع الجوامع" الأقسام الأربعة كما ذكرناه. والله أعلم.

ص: 865 - وَ"الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ": أَنْ يُسَلَّمَا ... دَلِيلُهُ، وَمَا النِّزَاعُ انْعَدَمَا الشرح: أي: ومن القوادح "القول بالموجَب" بفتح الجيم، وهو تسليم الدليل (أي: مُقتضَى الدليل) مع بقاء النزاع. ولا يختص بالقياس كما يوهمه تفسير الإمام الرازي بأنه: "تسليم ما جعله المستدِل موجَب العِلة". فلذلك فسرته بهذا المعنى العام الذي يشمل القياس وغيره. وشاهِد ذلك مِن القرآن قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] جوابًا لقول عبد الله بن أبي سلول أو غيره {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8]. فإنه لَمَّا ذكر صفة -وهي العزة- وأثبت بها حُكمًا وهو الإخراج مِن المدينة، ردَّ عليه بأنَّ تلك الصفة ثابتة لكن لغير مَن أراد ثبوتها له، فإنها ثابتة لغيره، باقية على اقتضائها للحُكم وهو الإخراج، فالعزة موجودة لكن لا له، بل لله ولرسوله وللمؤمنين. ومن أمثلته أيضًا قول بعضهم: وإخوان حَسبْتُهُم درُوعا ... فكانُوها ولكن لِلأَعَادِي وخِلْتُهم سهامًا صائبات ... فكانُوها ولكن في فؤادِي وقالوا: قد صَفَتْ مِنَّا قلوب ... لقد صدقوا ولكن مِن ودادِي وقول الآخر: قلتُ: ثَقلتُ إذْ أتيتُ مرارا ... قال: ثقلتَ كاهلي بالأيادي وهو نوع مِن بديع الكلام.

ووروده في الأدلة على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يستنتج من الدليل ما يتوهم أنه محل النزاع أو ملازمه. مثل أنْ يقول في المثقل: قتل بما يَقْتل غالبًا؛ فلا ينافي وجوب القصاص، كالإحراق. فيقول المعترِض: عدم المنافاة ليس محل النزاع ولا يقتضيه، وأنا أقول بذلك أيضًا، ولا يكون ذلك دليلًا عَلَيَّ في محل النزاع الذي هو وجوب القصاص وهو ليس عدم المنافاة ولا ملازمه. الثاني: أنْ يستنتج منه إبطال ما يتوهم أنه مَأْخَذ مذهب الخصم. كقولنا في القتل بالمثقل أيضًا: التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص، كالتفاوت في المتوَسَّل إليه. فيقول الخصم: أنا أقول بموجَب ذلك وهو التفاوت في الوسيلة، ولكن لا يَلْزَم مِن ذلك وجوب القصاص الذي هو محل النزاع؛ إذ لا يَلزم مِن إبطال كَوْن التفاوت في الوسيلة مانعًا انتفاءُ كل مانع ووجود الشرائط، فيجوز أنْ لا يجب القصاص؛ لِمانع آخَر أو لِفوات شرط أو لِعدم المقتضِي. والصحيح أنَّ المعترض إذا قال: ليس هذا مَأْخَذِي، يُصَدَّق؛ لأنه أَعْرَف بمذهبه. وقيل: لا يُصَدق إلا ببيان مَأْخَذ آخَر؛ إذ ربما كان ذلك مأخذه ولكنه مُعانِد. ورُدَّ بأنه لو أوجبنا عليه ذِكر المأخذ فإنْ مَكَنَّا المستدِل من إبطاله، لَزِمَ قَلْبُ المستدِل معترِضًا والمعترض مستدِلًّا. وإنْ لم نمكنه فلا فائدة في إبداء المأخذ؛ لإمكان ادِّعائه ما لا

يَصْلُح؛ ترويجًا لكلامه. قال ابن الحاجب: (وأكثر القول بالموجَب هذا القِسم) (¬1). أي: الذي يستنتج فيه إبطال ما يتوهم أنه مأخذ الخصم ولم يكن كذلك. وإنما كان هذا أكثر لخفاء المآخِذ وقلَّة العارفين بها والمطَّلِعين على أسرارها، بخلاف محَالّ الخلاف، فإنَّ ذلك مشهور، فكَم مَن يَعرف محل الخلاف ولكن لا يَعْرف المأخذ. وهذان المثالان فيما إذا كان ذلك في جانب النفي، ولكن قد يكون ذلك في إثبات، نحو: الخيل يُسابَق عليها؛ فتجب فيها الزكاة، كالإبل. فنقول بالموجَب لكن زكاة التجارة، والنزاع في زكاة العين. ودليلكم إنما أنتج الزكاة في الجملة. فإنِ ادَّعى أنه إنما أراد زكاة العين، فليس هذا قولًا بالموجَب. فيقال: العبرة بدلالة اللفظ، لا بقرينته. كذا أجاب الهندي. ولكن قد يقال: إذا كانت اللام للعهد، فالعهد مُقَدَّم على الجنس والعموم. ثُم العلة ليست مناسبة لزكاة التجارة، إنما المناسب المقتضي هو النماء الحاصل. الثالث: أن يكون دليل المستدِل مقتصرًا فيه على المقدمة الكبرى مسكوتًا عن الصغرى. فيرد القول بالموجب من أجل حذفها. مثل أنْ يقول الشافعي في وجوب نية الوضوء: كُلما ثبت أنه قُربة، اشتُرِط فيه النية، كالصلاة. وَيسكت عن قوله: الوضوء قُربة. ¬

_ (¬1) مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (2/ 1166)، الناشر: دار ابن حزم.

فإذا اعتُرض بالقول بالموجب، يقال: هذا مُسلَّم، ولكن مِن أين يَلزم اشتراط النية في الوضوء؟ وإنما ورد هذا لكون الصغرى محذوفة. فلو ذُكِرَت، لَمْ يَتَوَجَّه له اعتراض بالقول بالموجَب، وإنما يَرِد الاعتراض بالمنع للصغرى، بأنْ يقال: لا نُسلِّم أن الوضوء قُربة. نعم، يُشترط في الصغرى أن تكون غير مشهورة. أما لو كانت مشهورة فإنها تكون كالمذكورة، فيُمنَع ولا يؤتَى بالقول بالموجَب. تنبيهات الأول: قال الجدليون: إنَّ في القول بالموجَب انقطاعًا لأحد المتناظرين؛ لأنَّ المستدِل إنْ أثبت ما ادَّعاه، انقطع المعترِض. وما قالوه صحيح في القِسمين الأولَين كما عُرف، وبعيد في القسم الثالث؛ لاختلاف المرادين؛ لأنَّ مُراد المستدِل أنَّ الصغرى وإنْ كانت محذوفة لفظًا فإنها مذكورة تقديرًا، والمجموع يفيد المطلوب. ومراد المعترض أن المذكور لمَّا كان الكبرى وحدها وهِيَ لا تفيد المطلوب، تَوَجَّه الاعتراض. الثاني: جواب القِسم الأول بأنه محل النزاع أو مُستلزِم لمحل النزاع. كما لو قال شافعي: لا يجوز قتل المسلم بالذمي؛ قياسًا على الحربي. فيقال بالموجَب؛ لأنه يجب قتله به. وقولكم: (لا يجوز) نفي للإباحة التي معناها استواء الطرفين، ونفيُها ليس نَفْيًا للوجوب ولا مُستلزِمًا له. فيقول الشافعي: المَعْنِي بِـ "لا يجوز" تحريمه، ويَلْزم مِن ثبوت التحريم نفيُ الوجوب؛ لاستحالة الجمع بين الوجوب والتحريم.

وعن الثاني: بأنْ يبين في المستنتج أنه المأخذ بالنقل عن أئمة المذهب. وعن الثالث: بأنَّ الحذف لإحدى المقدمتين سائغٌ عند العِلم بالمحذوف، والمحذوف مراد ومعلوم؛ فلا يضر حذفُه. والدليل هو المجموع، لا المذكور وحده. وكُتب الفقه مشحونة بذلك، بل لا يكاد يوجد ذِكر المقدمتين في قياس إلا نادرًا؛ قَصْدًا للاختصار [أو] (¬1) للاشتهار أو للقرينة. الثالث: كون القول بالموجَب قادحًا في العِلة ذكره الآمدي والهندي، ووجَّهوه بأنه إذا كان فيه تسليم موجَب ما ذكره المستدِل مِن الدليل وأنه لا يرفع الخلاف، عَلِمْنَا أنَّ ما ذكره ليس بدليل للحكم. ونازع القاضي تاج الدين السبكي في ذلك في "شرح المنهاج"، وقال: (إنَّ هذا يُخرج لفظ "القول بالموجَب" عن إجرائه على قضيته، بل الحق أنَّ القول بالموجَب تسليمٌ له، وهذا ما اقتضاه كلام الجدليين، وإليهم المرجع في ذلك. وحينئذٍ لا يتجه عَدُّه مِن مُبْطِلات العِلة) (¬2). انتهى وبذلك صرح أيضًا إمام الحرمين في "البرهان"، فقال: متى تحقق، انقطع المستدِل. وليس اعتراضًا في الحقيقة؛ لاتفاق الخصمين فيه على صحة العِلة. وقد سبق في التنبيه الأول أن الجدليين يقولون بأنَّ فيه انقطاعًا لأحد المتناظرين، فليراجَع. والله أعلم. ¬

_ (¬1) ليس في (س، ش، ت، ق). (¬2) الإبهاج في شرح المنهاج (3/ 132).

ص: 866 - وَ"الْقَدْحُ": أَنْ يُخْدَشَ في الْمُنَاسَبَهْ ... أَوْ كَوْنهِ أَفْضي إلَى مَا نَاسَبَهْ 867 - أَوْ في انْضِبَاطٍ أَوْ ظُهُورٍ يُدَّعَى ... جَوَابُ كُلٍّ بِبيانِ الْمُدَّعَى الشرح: مِن القوادح في العِلِّيَّة أيضًا ما اشتهر بِاسْم "القدح"، وذكرت منه أربعة أنواع: أحدها: القدح في مناسَبة الوصف للحكم المستدَل عليه؛ لِمَا يَلْزَم فيه مِن مفسدة راجحة على المصلحة التي مِن أَجْلها قُضِيَ عليه بالمناسبة أو مساوية لها؛ وذلك لِمَا سبق مِن أنَّ المناسبة تنخرم بالمعارضة. وإنما أُعِيد ذلك هنا لأجْل التقسيم وبيان أن ذلك من جملة القوادح الواردة على المستدِل حتى يحتاج للجواب عنها بما سيأتي. الثاني: القدح في صلاحية إفضاء الحكم إلى المقصود، وهو المصلحة المقصودة مِن شَرْع الحكم. كما لو عَلل المستدِل حُرمة المصاهرة على التأبيد في حق المحارم بالحاجة إلى ارتفاع الحجاب بين الرجال والنساء المؤدِّي إلى الفجور، فإذا تَأبَّد التحريم، انسَدَّ باب الطمع المفْضِي إلى مقدِّمات الهَمِّ والنظر المفْضِي إلى ذلك الفجور. فيقول المعترِض: بل سد باب النكاح أفْضَى إلى الفجور؛ لأنَّ النفس تميل إلى الممنوع، كما قال: والقلب يطلب من يجوز ويعتدي ... والنفس مائلة إلى الممنوع ولكل شيء تشتهيه طلاوة ... مدفوعة إلا عن المدفوع

الثالث: القدح في أنَّ الوصف منضبط، بل هو مضطرب، كالتعليل بالحكمة. كالمشقة في القَصْر، والزَّجْر في التعزير، والحرج في الفطر، فإنها لا تتميز، وتختلف بالأشخاص والأحوال والزمان؛ فلا يمكن تعيين القَدْر المقصود منها. الرابع: القدح في كون الوصف ظاهرًا، بل هو خفي. كالرضا في العقود، والقصد في الأفعال الدالة على الإزهاق في وجوب القصاص؛ فإنَّ الحكم الشرعي خفي، والخفي لا يُعَرِّف الخفي. قولي: (جَوَابُ كُلٍّ بِبَيَانِ الْمُدَّعَى) إشارة إلى أنَّ طريق المستدِل في دفع كل واحد مِن هذه الأربعة ببيان ما ادَّعاه في كل منها. فأما الأول: فجوابه ببيان ترجيح تلك المصلحة التي في العِلة على تلك المفسدة التي يُعترَض بها تفصيلًا وإجمالًا. وأما الثاني: فجوابه تبيين أنَّ التأبيد يمنع عادةً مِن ذلك بانسداد باب الطمع؛ فيصير بتطاوُل الأمر وتماديه كالطبيعي بحيث لا يبقى المَحل مُشْتَهى، كالأُمهات. وأما الثالث: فجوابه ببيان أنه منضبط: - إما بنفسه، كما تقول في المشقة والمضرة: إنه منضبط عُرفًا؛ بِناء على جواز التعليل بالحكمة إذا انضبطت، وقد سبق بيان ذلك. - وإما بوصفه، بأنْ تكون العلة هي الوصف المنضبط المشتمل على الحكمة، كالمشقة في السفر، والزجر بالحد في الزنا بمائة جلدة والقذف بثمانين، ونحو ذلك. وأما الرابع: فجوابه بأنْ يُبين ظهوره بصفة ظاهرة، كضبط "الرِّضَا" بما يدل عليه مِن الصّيَغ، وضبط "العَمْد" بفعل يدل عليه عادةً، كاستعمال الجارح والمثقل أو غير ذلك مما هو مبسوط في محله من الفقه. والله أعلم.

ص: 868 - وَ"الْفَرْقُ": رَاجِعٌ إلَى مُعَارَضهْ ... في الْأَصْلِ أَوْ في الْفَرْعِ فِيمَا عَارَضَهْ 869 - وَذَا بِإبْدَاءٍ لِمَعْنًى فَارِقِ ... بَيْنَهُمَا مُبَيِّنَ التَّفَارُقِ الشرح: أي: ومن القوادح أيضًا "الفرق"، وهو: إبداء المعترِض معنى يحصل به الفرق بين الأصل والفرع حتى لا يلحق به في حُكمه. وذلك بأحد طريقين: الأولى: أنْ يجعل المعترِض تَعَيُّن صورة الأصل المقِيس عليها هو العلة في الحكم. كقول شافعي في وجوب النية في الوضوء: طهارة عن حدث؛ فاعتُبرت فيه النية، كالتيمم. كما قال الشافعي - رضي الله عنه -: طهارتان، فأنَّى تفترقان؟ ! فيقول المعترِض بِالفَرْق: العِلة في الأصل كَوْن الطهارة بتراب، لا مُطلَق الطهارة. فذكر له خصوصية لا تعدوه، وهذا أَصْوب مِن قول بعضهم: إنَّ خصوصية كونها طهارة ضعيفة، فإنه يُرَدُّ بمشاركة وضوء دائم الحدث -كسلس البول والمذي- له في ذلك. وأيضًا: فضَعْف الطهارة ليس هو المقتضِي لوجوب النية؛ فإنَّ القائل بالنية في الوضوء يوجبها في هذا الوضوء وغيره. ونحو ذلك في قول الحنفي في التبييت: صوم عين؛ فيتأدَّى بالنية قبل الزوال، كالنفل. فيقال: صوم نفل؛ فيبنى على السهولة؛ فجازَ بِنِيَّة متأخرة، بخلاف الفرض. وبالجملة فهذا القسم راجع إلى مُعارَضة في الأصل، أي: معارَضة عِلة المستدِل فيه بعِلة أخرى، ولهذا بناه الجمهور -وجَرى عليه البيضاوي وغيرُه- على تعليل الحكم بِعِلَّتين فصاعدًا.

ووجه البناء: أنَّ المعترِض عارَضَ عِلة المستدِل بِعِلة أخرى. فمَن منع التعليل بعلتين، رآه اعتراضًا؛ لِما يَلزم منه مِن تَعدُّد العِلل، وهو ممتنع عنده. ومَن لم يمنع، لم يَره سؤالًا قادحًا؛ لجواز كون الحكم له علتان. قال ابن السبكي: (وعندي أنه يبنى قبل ذلك على جواز التعليل [بالعلة القاصرة] (¬1)، فإنْ منع، فالفَرْق مردود. وكأنهم سكتوا عن هذا البناء؛ لضعف القول بمنع القاصرة. ثم إذا جَوَّزناه، احتمل أنْ يمنع هذا؛ لتغايُرهما قصورًا وتَعَدِّيًا، واحتمل أن يكون جائزًا؛ إذْ لا تنافي بينهما، وهذا أرجَح. وهو مقتضى كلام ابن السمعاني وغيره) (¬2). الطريق الثاني: أن يجعل تَعَيُّن الفرع مانعًا مِن ثبوت حُكم الأصل فيه. كقولهم: يُقاد المسلم بالذمي، قياسًا على غير المسلم، بجامع القتل العمد المحض العدوان. فيقول المعترِض: إنَّ تَعَيُّن الفرع -وهو الإسلام- مانع مِن وجوب القصاص عليه. ولعله أيضًا مبني على جواز التعليل بالقاصرة، لكن بناه البيضاوي وغيره على أن النقض مع المانع هل يقدح؟ وقد سبقت المسألة. ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (س، ق): بالقاصرة. (¬2) الإبهاج في شرح المنهاج (3/ 135).

تنبيهات الأول: ذهب كثير من المتقدمين إلى أنه معارضة في الأصل والفرع معًا، حتى لو اقتصر على أحدهما لا يكون فرقًا. وذكر إمام الحرمين أنه وإن اشتمل على معارضة لكن ليس المقصود منه المعارضة، وإنما الغرض منه المناقضة للجمع. فالكلام في الفرق وراء المعارضة، وخاصته وسِره [فِقْه] (¬1) [يناقِض] (¬2) أصل الجَمْع. وقد رده مَن يقبل المعارضة. وبالجملة ففي قبوله مذهبان: أحدهما: أنه مردود، فلا يكون قادحًا. وعزاه ابن السمعاني للمحققين، وقال: إنه ليس مما تمس العلة التي نَصبها المعلِّل بوجه ما. ووجَّهه غيره بأنَّ الوصف الواقع فرقًا إنِ استقل بالمناسَبة فهو عِلة أخرى، ولا تناقض بينهما. وإنْ لم يستقل بل كان يُكمل المصلحة، فلا حاجة إلى هذه الزيادة، بل المستقل هو المعتبر. وأصحهما أنه مقبول؛ لأنه على أي وَجْه وَرَد يُوهن غرض المستدل مِن الجمع ويُبْطِل مقصوده. حتى إنَّ الشيخ أبا إسحاق ذكر في "الملخص" أنه أفقه شيء يجري في النظر، وبه يعرف فقه المسألة. ¬

_ (¬1) في (ق): فقد. (¬2) كذا في (ش)، لكن في (ت): تناقض.

وذكر إمام الحرمين أنه الذي عليه جماهير الفقهاء؛ لأنَّ شرط علة الخصم خلُوها مِن المعارِض. وزعم ابن السمعاني أنه عند المحققين أَضْعَف سؤال يُذكر، وليس مما تمس العلة التي نصبها العلل بوجه ما. وبالغ في الرد على الإمام. ولخص ذلك ابن السبكي في "شرح المختصر" بما فيه مقنع، فليراجَع منه. والحقُّ ما سبق أنه إذا كان معارَضة في الفرع فهو قادح؛ تفريعًا على سماع النقض وقَدْحه مطلقًا، وإنْ كان في الأصل فمبني على تَعدُّد العِلل. الثاني: اختُلف في أنه سؤال واحد؟ أو سؤالان؟ فقيل: واحد؛ لاتحاد المقصود منه وهو قطع الجمْع. فعَلَى هذا هو مقبول قطعًا. وقال ابن سريج: سؤالان؛ لاشتماله على معارضه عِلة الأصل بِعِلة، ثم على معارضة الفرع بِعلة مستنبطة في جانب الفرع. وحينئذٍ ففي قبوله خلاف، فالمنع؛ لجمعه بين أسئلة مختلفة المراتب، فإنه ينبغي أن يكون كل سؤال على حياله، والقبول وهو الأصح ولو كان فيه جمع سؤالين؛ لأنه اضبط للغرض وأَجْمَع لشعث الكلام. قال إمام الحرمين: (حاصل مذاهب الجدليين فيه ثلاثة: ردَّه؛ تفريعًا على رد المعارضة، وهو مذهب ساقط. وقول ابن سريج واختاره الأستاذ أبو إسحاق: أنه ليس سؤالًا، واحدًا، إنما هو معارضة معنى الأصل بمعنى، ومعارضة الفرع بِعلة مستقلة، ومعارضة العلة بِعلة [مقبول]) (¬1). ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق، ش، ض)، لكن في (س): مقبولة.

قال: (والثالث المختار أنه مقبول مطلقًا، هو ما ارتضاه كلُّ مَن ينتمي إلى التحقيق) (¬1). فعُلم أنَّ القائل بأنه سؤالان لم يَقبله على أنه فرق، بل معارضة. الثالث: إذا قلنا: قادح، فقيل: يجب على الفارق نفيه عن الفرع؛ لأنَّ قصده افتراق صورتين. وقيل: لا يجب. وقيل بالتفصيل بين أن يصرح في أفراد الفرق بالافتراق بين الأصل والفرع فلا بُد من نفيه عنه، وإنْ لم يصرح بل قصد المعارضة ودليله غير تام فلا. وقال المقترح: إنه أقرب إلى الصواب. هذا إذا كان المقيس عليه واحدًا، فإنْ تَعدَّد، فقيل بالمنع؛ لإفضائه للانتشار مع إمكان حصول المقصود بواحد منها. وهو المختار ولو جاز تَعدُّد العِلل. وقيل: يجوز؛ لِما فيه من تكثير الأدلة، وهو أقوى في إفادة الظن. نعم، إذا فرَّعنا على جواز التعدد إذا فرق المعترض بين أصل واحد وبين الفرع، هل يكفيه ذلك؟ الأصح كما قاله الهندي: نعم؛ لأنَّ غرض المستدِل الإلحاق بالأصول كلها وإلا لم يعدده. والثاني: يحتاج أن يفرق بين الفرع وبين كل واحد. وقال الهندي: (المختار إنْ كان غرض المستدل مِن الأقيسة المتعددة إثبات المطلوب بصفة الرجحان وغلبة الظن المخصوص، فالفرق المذكور قادح في غرضه ومُحَصِّل لغرض المعترِض. وإنْ كان غرضه إثبات أصل المطلوب أو إثباته برجحان فمهما بقي قياس واحد ¬

_ (¬1) البرهان في أصول الفقه (2/ 690 - 691).

أو التزمه سليمًا عن الفرق لم يقدح ذلك في غرضه، ولا يحصل به غرض المستدِل) (¬1). الرابع: قال الشيخ أبو محمد الجويني في كتاب "الفروق": (الفرق قسمان، أحدهما: بظاهر كتاب أو سُّنة، فيستغنى حينئذٍ عن المعنى، فلو كشف عن ذلك وفرق بالمعنى، كان زيادة بيان، وإنْ لم يوجد ذلك فلا يحتاج إليه. والثاني: الفرق بالمعنى إما فرق فصل أو فرق جمع) (¬2). ثم مثَّل الفرق بالنَّص بالفرق بين تحريم المخابرة وجواز المساقاة بما قال الشافعي من أنَّ الفرق بينهما أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن المخابرة وجوز المساقاة لأهل خيبر. قال: (ويمكن أن الإجارة أغنت عن المخابرة، وأما إجارة الأرض بما تقتضيه المساقاة فغير جائزة؛ فلهذا دعت الضرورة إلى المساقاة) (¬3). انتهى فعُلِم منه أنه يجوز الفرق بالنص وأنَّ الشافعي - رضي الله عنه - فرق به. والله تعالى أعلم. ص: 870 - ثُمَّ "فَسَادُ الْوَضْعِ": أَنْ يُبَيَّنَا ... أَنَّ الدَّلِيلَ لَيْسَ مِمَّا أُتْقِنَا 871 - بِوَضْعِهِ بِهَيْئةٍ صَالِحَةِ ... لِأَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْمُثْبَتِ 872 - كَالْأَخْذِ لِلتَّخْفِيفِ مِنْ تَغْلِيظِ ... وَوَاسعٍ مِنْ ضَيِّقٍ حَفِيظِ 873 - وَمنْهُ مَا الْجَامِعُ فِيهِ اعْتُبِرَا ... بِنَصٍّ أوْ إجْمَاعٍ أنْ قَدْ أَثَّرَا ¬

_ (¬1) نهاية الوصول (8/ 3484). (¬2) الجمع والفرق (1/ 42)، الناشر: دار الجيل. (¬3) الجمع والفرق (1/ 42)، الناشر: دار الجيل.

الشرح: أي: ومن القوادح "فساد الوضع"، أي: بيان أن الدليل موضوع على غير هيئته التي يجب اعتبارها في ترتيب الحكم عليه واستنتاجه منه، وهذا ليس خاصًّا بالعلة، بل ولا بالقياس؛ فلذلك قلتُ: (أَنْ يُبَيّنا أَنَّ الدَّلِيلَ لَيْسَ مِمَّا أُتْقِنَا) إلى آخره. أي: أُحْكِمَ. يقال: أتقن الشيء إتقانًا، أي: أَحْكَمَه. ورجل تِقْن -بكسر التاء وإسكان القاف- أي: حاذق. حتى يجري مثل ذلك في القياس المنطقي كما أشرنا إليه في المقدمة. والقصد هنا ما يتعلق بالقياس. وقولي: (كَالْأَخْذِ) إلى آخِره - مثالان لذلك: أحدهما: أنْ يؤخَذ التخفيف مِن محل التغليظ، كقول الحنفي: القتل العمد جناية عظيمة؛ فلا كفارة فيها، كسائر الكبائر مِن سُكْر وفِرار من الزحف ونحو ذلك. فيقول المعترِض: كَوْنه جناية عظيمة يناسب أنْ تجب الكفارة تغليظًا، لا تخفيفًا بإسقاطها. ثانيهما: أنْ يؤخذ التوسيع مِن التضييق، كقولهم في أنَّ الزكاة على التراخي: مال وجب لدفع الحاجة؛ فكان على التراخي، كالدية على العاقلة. فإنَّ كَوْنه لدفع الحاجة يناسب أنه على الفور، لا على التراخي. ونحو ذلك أن يؤخذ الإثبات مما يقتضي النفي، كأنْ يقال في المعاطاة في المحقرات: بيع لم يوجد فيه سوى الرضا؛ فوجب أن لا ينعقد، كما في غير المحقرات. فيُقال: حصول الرضا يناسب الانعقاد لا نَفْي الانعقاد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما البيع عن

تراض" (¬1). ومن "فساد الوضع" نوع آخَر وهو ما اقتصر عليه ابن الحاجب، وهو كون الجامع ثبت اعتباره بنَص أو إجماع في نقيض الحكم، كقول الحنفي في تنجيس سؤر السباع: سبع ذو ناب؛ فكان سؤره نجسًا، كالكلب. فيقول المعترِض: علقت على العلة نقيض مقتضاها؛ لأنَّ كَوْنه سبعًا عِلة للطهارة؛ بدليل: أنه - صلى الله عليه وسلم - دُعِي إلى دار قوم، فأجاب دُون دار آخَرين، فقال: "إن في دارهم كلبًا". فقيل له: وفي دار الذين أجبتهم هرة. فقال: "الهرة سبع" (¬2). فكان نَصًّا على أنَّ كونه سبعًا عِلةٌ للطهارة، فكيف يعلل به النجاسة؟ ! كذا مثَّل به الشيخ أبو إسحاق في "الملخص"، ومثَّله ابن الحاجب على وَفْق مذهب المالكية في مسح الرأس في الوضوء ثلاثًا، فقال: (مسح؛ فيُسَن فيه التكرار، كالاستطابة). أي: كالاستنجاء بالحجر؛ لأنَّ التثليث فيه عندهم سُنة، وهو وَجْه عندنا. قال: (فيرد أنَّ المسح معتبر في كراهة التكرار على الخف). ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه (رقم: 2185)، صحيح ابن حبان (4967) , وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (إرواء الغليل: 1283). (¬2) مسند أحمد (8324) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَأْتِي دَارَ قَوْمٍ مِنَ الْأنصَارِ وَدُونَهمْ دَارٌ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله، سُبْحَانَ الله! تَأْتِي دَارَ فُلَانٍ وَلَا تَأْتِي دَارَنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَأَنَّ فِي دَارِكُمْ كَلْبًا". قَالُوا: فَإِنَّ فِي دَارِهِمْ سِنَّوْرًا. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ السِّنَوْرَ سَبعٌ". وفيه أيضًا (9706) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الْهِرُّ سَبعٌ". وضعفه الشيخ الألباني أثناء كلامه في (سلسلة الأحاديث الضعيفة، حديث رقم: 1512)؛ فاللفظان من طريق عيسى بن المسيب، وقد ضَعَّفه جماعة من أئمة الحديث.

أي: فهو نقيض الحكم؛ إذْ لو كان المسح عليه لاستحباب التكرار، لَمَا علل به كراهة التكرار في الخف. وفيه نظر؛ لأنَّ [علة] (¬1) كراهة التكرار في الخف إنما هي الإتلاف، لا المسح. وأيضًا: فإنما كَوْنه عِلة لضد الحكم بالمناسبة، لا بالنَّص ولا بالإجماع. نعم، لم يمثل لصورة ثبوت الضد بالإجماع؛ ولذلك جعل الشيخ أبو إسحاق بدل الإجماع كَوْن الأصول تشهد لضد الحكم، وكذا إمام الحرمين كما مثَّلنا به في الكفارة في العمد، فرجع الكل إلى أمرين: أن يدل نَص على ترتيب ضد الحكم على ذلك الوصف، أو تدل الأصول بالمناسبة عليه. تنبيه: جواب هذا الاعتراض بتقرير المُدَّعَى، كأنْ يُقَرر في مثال التغليظ أنَّ للوصف جهتين، يناسب بإحداهما التغليظ وبالأخرى التخفيف، أو يبين أن الوصف ليس مُشْعرًا بنقيض الحكم المطلوب، أو يُسَلِّم ذلك ولكن يبين وجود مانع في أصل المعترِض. والله أعلم. ص: 874 - أَيْ في نَقِيضِ الْحُكْمِ، أَمَّا الْمُسْمَى ... "فَسَادَ الِاعْتِبَارِ" فَهْوَ عَمَّا 875 - مَا قَبْلَهُ؛ لِأنهُ مُخَالَفَهْ ... لِلنَّصِّ أَوْ إجْمَاعِهِمْ إذْ خَالَفَهْ الشرح: قولي: (أَيْ في نَقِيضِ الْحُكْمِ) متعلق بما قبله، أي: إنَّ [النص] (¬2) والإجماع أثَّر في نقيض الحكم، وقد سبق تقرير ذلك. ¬

_ (¬1) كذا في (س، ت)، وفي سائر النسخ: علية. (¬2) في (ت): للنص.

وقولي: (أَمَّا الْمُسْمَى) إلى أخِره فهو نوع آخَر مِن القوادح، وهو المسمى بِـ "فساد الاعتبار"، وهو كَوْن القياس مخالفًا للنص أو للإجماع، فإنَّ ذلك يدل على فساده كما سبق، سواء كان النص: - نَص القرآن، كما يقال في التبييت: صوم مفروض؛ فلا يصح بِنية من النهار، كالقضاء. فيقال: هذا فاسد الاعتبار؛ لمخالفة قوله تعالى: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} [الأحزاب: 35]، فإنه يدل على أنَّ كلَّ صائم يحصل له أجر عظيم، وذلك يَستلزم الصحة. - أو كان النص سُنَّة، كما يقال: لا يصح السلم في الحيوان؛ لأنه عقد مشتمل على غرر، فلا يصح، كالسلم في المختلط. فيُقال: هذا فاسد الاعتبار؛ لمخالفة ما في السُّنة أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في السلم (¬1). أما مخالفة الإجماع فكقول الحنفي: لا يجوز للرجل أن يُغسِّل امرأته؛ لأنه يَحْرُم النظر إليها، كالأجنبية. فيقال: هذا فاسد الاعتبار؛ لمخالفته الإجماع السكوتي، وهو أنَّ عليًّا غَسَّل فاطمة. وفي حُكم مخالفة النص والإجماع أن يكون إحدى مقدمات القياس هي المخالِفة للنص أو الإجماع، ويُدَّعَى دخوله في إطلاق مخالفة النص أو الإجماع كما اكتفيتُ بذلك في النَّظم. وفي معنى ذلك أن يكون الحكم مما لا يمكن إثباته بالقياس، كإلحاق المصرَّاة بغيرها مِن العيب في حُكم الردِّ وعدمه ووجوب بدل لبنها الموجود في الضرع؛ لأنَّ هذا القياس مخالف ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 2125) بلفظ: (من أَسْلَفَ في شَيْءٍ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلى أَجَلٍ مَعْلُومٍ)، صحيح مسلم (رقم: 1604). قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري، 4/ 428): ("السَّلَمُ" بِفَتْحَتَيْنِ: السَّلَفُ وَزْنًا وَمَعْنًى .. ، وَ"السَّلَمُ" شَرْعًا: بَيْعُ مَوْصُوفٍ فِي الذمَّةِ).

لصريح النَّص الوارد فيها، أو كان تركيبه مُشعرًا بنقيض الحكم المطلوب. وإنما سُمي هذا النوع بذلك لأنَّ اعتبارَ القياس مع النَّص أو الإجماع اعتبار له مع دليل أقوى منه، وهو اعتبار فاسد؛ لحديث معاذ، فإنه أخَّر الاجتهاد عن النص. فإنْ قيل: هذا النوع يؤول إلى الذي قبله؛ لأنَّ كُلًّا منهما اجتهاد في مقابلة النص، فما وَجْه تمييزه عنه؟ ولذلك جعلهما الشيخ أبو إسحاق واحدًا. فالجواب: أنَّ مِن أنواع فساد الاعتبار كَوْن تركيبه مُشْعِرًا بنقيض الحكم المطلوب، فهو أَعَم مِن فساد الوضع. فلذلك قال الجدليون في ترتيب الأسئلة: إنَّ فساد الاعتبار مقدَّم على فساد الوضع؛ لأنَّ فساد الاعتبار نَظَر في فساد القياس مِن حيث الجملة، وفساد الوضع أَخَص باعتبار لأنه يَستلزم عدم اعتبار القياس؛ لأنه قد يكون بالنظر إلى أمر خارج عنه. وممن قال: (إنَّ فساد الاعتبار أعم) الهندي، لكن هذا لا يتأتى على تفسيرهما بما سبق. نعم، للمستدل تقديم هذا السؤال على سؤال المنوعات؛ لأنه لَمَّا كان فاسد الاعتبار، أَغْنَى ذلك عن منع مقدماته، وله أنْ يؤخره؛ لأنَّ المستدِل يُطالَب أولًا بتصحيح مُقدِّمات ما ادَّعاه مِن صحة القياس، فإذا قام بذلك فإنْ أَمْكَن إثبات مقتضاه أثبت، وإلا رُدَّ؛ لعدم اعتباره. تنبيه: جواب هذا السؤال بأحد وجوه: منها: الطعن في النَّص الذي ادُّعِي أنَّ القياس على خِلافه، إما بمنع صحته؛ لضعف إسناده، أو منع دلالته، أو غير ذلك. ومنها: المعارَضة بنص آخَر؛ فيسلم القياس حينئذٍ.

ومنها: أنْ يُبين المستدِل رجحان قياسه على النَّص الذي ذُكِر أنه معارض بما ذكر في خبر الواحد. كقولنا في متروك التسمية: ذَبْح صَدَر مِن أَهله في محله؛ فيحل، كذبح ناسي التسمية. فيورد المعترِض: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، ويقول: قياسك فاسد الاعتبار؛ لمعارضة هذا النَّص. فيقول المستدِل: هذا محمول على تحريم مذبوح عَبَدة الأوثان، فإنَّ عدم ذِكر الله أمر غالب على أهل الشرك. فإذا انقدح هذا الاحتمال، صير إليه؛ بدليل الحديث الصحيح: "أنَّ قومًا قالوا: يا رسول الله، إن قومًا يأتوننا باللحم ما ندري أَذَكروا اسم الله عليه؟ أم لا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سموا عليه وكلوا" (¬1). ومنها: منع ظهور دلالته على ما يَلزم منه فساد القياس. ومنها: أنْ يُدَّعَى أن النَّص المعارَض به [مُؤَوَّل] (¬2) بدليل يرجحه على الظاهر. ومنها: أنْ يقول بموجَبه، أي: يُبْقِيه على ظاهره، وَيدَّعِي أنَّ مدلوله لا ينافي القياس. إلى غير ذلك من الطرق. ومما يمثَّل به في كثير مِن الأجوبة قياسنا المثقل على المحدد، فيعارَض بما رواه علي- كرم الله وجهه- من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا قود في النفس وغيرها إلا بحديدة" (¬3). فيطعن المستدِل في سنده بأنَّ في رواته مُعلَّى بن هلال، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي. ومُعلَّى قال ابن معين: (كان يضع الحديث). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 1952). (¬2) كذا في (ق)، لكن في سائر النسخ: ما دل. (¬3) سنن الدارقطني (3/ 87)، وفي إسناده معلى بن هلال، قال الدارقطني: (مُعلَّى بن هلال متروك).

ويمنع ظهوره في مقصدهم بأنْ يقول: مِن محتملاته الظاهرة أنه لا يمنع الاستيفاء إلا بحديدة كما ذهب إليه بعض العلماء وتأوله بأن لا قود يَعُم النفس وغيرها إلا بحديدة بخلاف المثقل، إذ ليس فيه من النكاية في الباطن ما في المحدد، فليس عمومه كعموم المحدد. ألا ترى أنَّ الضرب بِعَصا خفيفة لا يوجِب القصاص، والجرح اليسير يوجب؟ ويقول بموجَبه، وذلك إذا قتل بحديدة فلا يُقاد منه إلا بحديدة. ويعارضه بما في "الصحيحين" من أنَّ: "يهوديًّا رض رأس امرأة بين حجرين، فقتلها؛ فرضخ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه بين حجرين" (¬1). ويرجح قياسنا باعتضاده بالحديث وغير ذلك من المرجِّحات. والله أعلم. ص: 876 - وَ"الْمَنع" قَدْ يَكُونُ لِلْعِلِّيَّهْ ... وَطَلَبِ التَّصْحِيحِ بِالْجَلِيَّهْ 877 - أَوْ مَنْعُ كَوْنِ الْوَصْفِ فِيهَا يُعْتَبَرْ ... أَوْ كَوْنِ حُكْمِ الْأَصْلِ ثَابِتًا يُقَرْ الشرح: من القوادح: "المنع"، وهو: منع العِلية في الوصف الذي عَلَّل به المستدِل، والمطالبة بتصحيح ذلك. قال ابن الحاجب: (وهو مِن أعظم الأسئلة؛ لعمومه و [تَشعُّب] (¬2) مسالكه). أي: إنه يَعُم كل ما يُدَّعَى أنه عِلة، وطُرقه كثيرة مختلفة، ويقال له: "سؤال المطالبة". ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 2282)، صحيح مسلم (1672). (¬2) في (ص): تشعث. وفي (ق): تشعيث.

وحيث أُطلقت المطالبة فلا يقصد في العُرف سوى ذلك. ومتى أُريدَ غيره ذُكِر مُقَيَّدًا، فيقال: المطالبة بكذا. وفي قبوله خلاف، والأصح المختار قبوله، وإلا لأدَّى الحال إلى اللعب مِن التمسك بكل طرد من الأوصاف، كالطول والقصر، فإنَّ المستدِل يَأْمَن المنع ويتعلق بما شاء مِن الأوصاف. وقيل: لا يُقبل؛ لأنَّ القياس رَدُّ فرع إلى أصلٍ بجاِمع، وقد وُجِد، فَفِيمَ المنع؟ ورُدَّ بأنَّ ذلك [بظن] (¬1) الصحة، والوصف الطردي مظنون الفساد. وجواب سؤال المنع بأنْ يُثبت المستدِل عِلية الوصف بأحد الطُّرق المفيدة للعلة من إجماع أو نَص أو مناسبة أو سبر أو غير ذلك مما سبق. وقولي: (أَوْ مَنع) إلى آخِره -أي: إنَّ المنع إما أنْ يُطْلق أو يُقَيّد، كمنع كون الوصف الذي عَلل به المستدل معتبَرًا في ذلك الحكم بخصوصه، بل في أعم منه. كقولنا في إفساد الصوم بغير الجماع من أكل وشرب: لا تجب الكفارة؛ لأنها شُرعت زَجْرًا عن ارتكاب الجماع الذي هو محذور الصوم؛ فاختص به، كالحد. فيقول المعترِض: لا نُسَلم ذلك، بل شُرعت زجرًا عن مُطْلق محذور الإفطار، وذلك شامل للجماع وغيره. فيجيب المستدِل عن ذلك بأنَّ الشارع إنما رَتَّب الكفارة على خصوص الإفطار بالجماع، وليس غَيْرُه في معناه؛ فوجب أن تكون العلة هي الجماع فقط. وكأنَّ المعترِض يُنَقِّح المناط بحذف خصوص الجماع، فإنه لا أثر له، ويُبْقِي مُطْلَق ¬

_ (¬1) كذا في (ض)، لكن في (ص): يظن.

الإفطار؛ لأنه المناسب، فيحقق المستدِل المناط بأنَّ ذلك الوصف الذي طرحه المعترِض ملائم مؤثِّر؛ فلا يُطرح، فيُقدَّم برجحانه؛ لأنَّ التحقيق يرفع النزاع. ومن المقيد أيضًا أنْ يمنع كون حُكم الأصل ثابتًا. كما لو قال شافعي: الخل مائع لا يرفع الحدث؛ فلا يزيل حكم النجاسة، كالدهن. فيقول الحنفي: لا أُسَلم الحكم في الأصل؛ فإنَّ الدهن عندي مزيل لحكم النجاسة. وقد اختُلِف في سماع هذا الاعتراض، فنقل عن الشيخ أبي إسحاق أنه لا يُسْمَع ولا يجب على المستدِل ذِكر الدلالة على الحكم، بل له أنْ يقول: إنما قِستُ على أصلي. وهو بعيد؛ لأنَّ القياس على أصل غير ثابت حُكمه عند الخصم -لا بطريق الاعتبار ولا بطريق الدلالة على عِلته- لا ينتهض دليلًا على الخصم. نعم، يستقيم ذلك إذا فرّع على مذهب نفسه، لكن لا يتصور في ذلك منع ولا تسليم. كذا نقل ابن الحاجب وغيرُه ذلك عن الشيخ أبي إسحاق، والموجود في "الملخص" له سماع المنع في ذلك. ثم إذا قُلنا بسماعه، فهل ينقطع المستدِل بذلك؟ فيه مذاهب: أصحها: لا؛ لأنه منع مقدمة مِن [جملة] (¬1) مقدمات القياس، فليُمَكَّن من إثباته كسائر المقدمات. الثاني: نعم؛ لأنه انتقال مِن حُكم الفرع إلى حُكم الأصل. والثالث: إنْ كان جليًّا يَعرفه أكثر الفقهاء، انقطع، أو خفيًّا لا يَعرفه إلا الخواص فلا. وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق. ونقل ابن برهان في "الأوسط" عنه أنه استثنى مِن الجلي ما ¬

_ (¬1) كذا في (ت)، لكن ليس في (ص، ق، ش). وفي (س): جمل.

إذا تَقدم منه في صَدْر الاستدلال هذا الشرط بأنْ يقول: (إنْ سَلَّمْتَ وإلا نقلتُ الكلام إليه)، فلا يُعَد منقطعًا. والرابع: يتبع في ذلك عُرف المكان، فإنَّ للجدل عُرفًا ومراسم في كل مكان. فإنْ عَدَّ أهل المكان ذلك انقطاعًا، انقطع، وإلا فلا. ثم إذا قُلنا بأنَّ المنع يُسْمَع وعلق المستدِل إقامة الدليل عليه، فإذا أقام الدليل، فهل ينقطع المعترِض بمجرد الدلالة؛ لأنَّ اشتغاله بالاعتراض على دليل المنع خارج عن المقصود الأصلي؟ أو لا؟ المختار: أنه لا ينقطع، بل للمعترِض أنْ يعود ويعترض على دليل محل المنع، إذْ لا يَلزم مِن وجود صورته دليلُ صحته. وبالجملة فيتوجه للمعترِض سبعة منوع مُرَتَّبة: ثلاثة تتعلق بالأصل، وثلاثة بالعلة، وواحد بالفرع. بأنْ يقول أولًا: لا نُسَلِّم حُكم الأصل. سلَّمْنا، ولكن لا نُسَلِّم أنه مما يُقاس عليه. سلَّمْنا، ولكن لا نُسَلم أنه مُعَلَّل. سلَّمنا، ولكن لا نُسلم أن هذا الوصف [عِلته] (¬1)؛ لعدم ظهوره أو عدم انضباطه أو نحو ذلك. سلَّمنا، ولكن لا نُسلم وجُوده فيه. سلَّمنا، ولكن لا نُسلم أنه مُتَعَد. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، س، ت)، لكن في (ق، ش): علة.

سلمنا، ولكن لا نُسلم وجوده في الفرع. وسيأتي لنا خلاف في إيراد الاعتراضات هذه وغيرها والترتيب فيها. تنبيه: إذا توجه المنع على إثبات العلة بشيء مِن طُرقه فوَجْه تَوَجُّه الاعتراض فيما أثبت بطريق النص أن يَدَّعي المعترِض الإجمال في ذلك النص وأنه متردد بين أمرين، إذْ شَرْطه الظهور في المقصود، أو يَدَّعي أنه مُؤَوَّل بدليل آخَر، أو يَدعي القول فيه بالموجَب. ولا يلزم ما ذكره المستدِل. وإنْ كان النَّص مِن السُّنة فيورد الطعن في سندها ونحوه، حيث توجه له الطعن بأنَّ الحديث مرسَل أو موقوف أو في سنده مَن لا يُقْبَل أو أنَّ بعض شيوخه قال فيمن رواه عنه: لم يَرْوِه عني. وفي بقية الطُّرق ما سبق في الاعتراضات. والله أعلم. ص: 878 - كَذَا "اخْتِلَافُ الضَّابِطِ" الْمُعْتَبر ... نَفْيُ وُثُوقِ جَامِعٍ مُصَوَّرِ الشرح: من الاعتراضات أيضًا أن يقول المعترِض: إنَّ في قياسك اختلاف الضابط، (أي: بين الأصل والفرع)، فليس ضابط الأصل فيه هو ضابط الفرع، فلا وثوق بما ادَّعَيْته جامعًا بينهما. مثاله: قولنا في شهادة الزور بالقتل: تسببوا بالشهادة إلى القتل عمدًا، فعليهم القصاص، كالمُكْرَه.

فيقول المعترض: الضابط في الفرعِ الشهادةُ، وفي الأصلِ الإكراه؛ فلا يتحقق التساوي بينهما. وحاصل هذا السؤال يرجع إلى منع وجود عِلة الأصل في الفرع. وفي "شرح المقترح" لأبي العز حكاية قولين في قبوله، قال: ومدار الكلام فيه ينبني على شيء واحد، وهو أنَّ المعتبَر في القياس القَطعْ بالجامع؟ أو ظن وجود الجامع كاف؟ وينبني على ذلك القياس في الأسباب، فمَن اعتبر القَطعْ، منع القياس فيها؛ إذْ لا يُتصور عادةً القَطعْ بتساوي المصلحتين، فلا يتحقق جامِع بين الوصفين باعتبار يثبت حُكم السببية لكل واحد منهما. ومَن اكتفى بالظن، صحح ذلك؛ إذ يجوز تَساوي المصلحتين، فيتحقق الجامِع، ولا يمتنع القياس. تنبيه: إنما لم أذكر مِن القوادح ما ذكره ابن الحاجب وغيرُه: اختلاف جنس [المصلحة] (¬1)؛ اكتفاء باختلاف الضابط؛ لأنَّ تَعدُّد الضابط في الأصل والفرع تارةً يكون مع اتحاد المصلحة وتارةً يكون مع اختلافها، فإذا قدح مع الاتحاد فلأَنْ يقدح مع اختلاف الجنس في التأثير أَوْلى، فإنه يحصل جهتين في التفاوت: جهة في كمية المصلحة ومقدارها، وجهة في إفضاء ضابطها إليها؛ فالتساوي يكون أَبْعَد. وبالجملة فجواب اعتراض اختلاف الضابط أنْ يُبين أنَّ الجامع هو عموم ما اشترك فيه الضابطان، أو يُبين أنَّ إفضاء الضابط في الفرع إلى المقصود مثل إفضاء ضابط الأصل إليه أو أَرْجح. ¬

_ (¬1) في (ص): الوصفين.

أما لو بَيَّن إلغاء التفاوت في الصورتين فإنه لا يفيد، كما لو ألغى التفاوت بين قطع الأنملة إذا سرى إلى النفس وقطع الرقبة في وجوب القصاص بحفظ النسب وإنْ كان قطع الرقبة أشد إفضاءً. فإنما لم يُفدْه ذلك؛ لأنه لا يَلزم مِن إلغاء تَفاوُت القاتل إلغاء كل تفاوت. والله أعلم. ص: 879 - جَوَابُ كُلِّهَا بيانُ ضِدِّهِ ... بِحُجَّةٍ قَامَتْ لَهُ بِقَصْدِهِ الشرح: أي: كل ما ذكرناه من القوادح يكون جواب المستدِل فيه بإثبات ضد ما قاله المعترِض، ويقيم الدليل على ما يثبته مِن ذلك بحيث يحصل له قصده وينفي ما قاله المعترِض. وقد بينتُ في الشرح فيما سبق جواب كل واحد واحد على التفصيل. والجميع راجع إلى ما ذكرته هنا في النَّظم، فإنَّ كل واحد فيه إثبات ضد الاعتراض بشرط إقامة حجته عليه. والله أعلم. فائدة: 880 - مِنَ السُّؤَالَاتِ الَّتِي تَعُمُّ ... سُؤَالُ الِاسْتِفْسَارِ، ذَا أَهَمُّ 881 - بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ ذَا غَرَابَهْ ... أَوْ مُجْمَلًا؛ لِطَلَبِ الْإجَابَهْ الشرح: لَمَّا انتهى القول في السؤالات المتعلقة بالقياس وكان كثير منها يجري في غير القياس كما سبق، بيَّنا هنا أنَّ مِن الأسئلة التي هي عامة في القياس وغيره سؤال الاستفسار، وهو الذي

بدأ به ابن الحاجب الاعتراضات؛ لأنه المتقدم على كل اعتراض. وهو: طلب معنى اللفظ؛ إما لإجمال - كالقرء - أو غرابة. كما إذا قال في الكلب الذي لم يعلم: خِراش لم يُبْل؛ فلا يطلق فريسته، كالسيد. فَـ "الخراش" بكسر الخاء المعجمة وقبل الألف راء وبعدها شين معجمة هو الكلب. ومعنى (لم يبل): لم يختبر. قال الجوهري: (بلاه الله وأبلاه الله بلاء حسنًا، وابتلاه: اختبره) (¬1). والفريسة. الصيد، مِن "فرس الأسد فريسته": إذا دقَّ عنقها. ثم كَثُر حتى أُطلِق على كل قتل "فرسًا". والسيد: الذئب. وقولي: (لِطَلَبِ الْإجَابَهْ) أي: يدَّعي المعترِض ذلك؛ ليطلب إجابة المستدِل عنه. لكن "بيان كونه مجملًا أو غريبًا حتى يحتاج إلى التفسير" على المعترِض على الأصح؛ لأنَّ الأصل عدم الإجمال وعدم الغرابة، فيُبَيِّن أن اللفظ لمتعددٍ، ولا يُكَلَّف بيان التساوي لِغيره. فإنْ قال: (إنَّ الأصل عدم رجحان بعضها) فهو جيد، ويكون ذلك تبرعًا مِن المعترِض. نعم، "بيان أنه ليس بمجمل ولا غريب" على المستدِل؛ لأنَّ شرط الدلالة على المراد عدم إجماله أو غرابته، وبيان شَرْط الدليل على المستدِل. وجواب هذا الاعتراض بضد ما اذُعِي كما سبق في جواب الأسئلة المذكورة من قبل، وكما أشعر به قولي هنا: (لِطَلَبِ الْإجَابَهْ). فيقول المستدِل في جوابه: هذا ظاهر في مقصودي. ويبين ذلك: - إما بنقل مِن اللغة، كما إذا اعترضه في قوله: (الوضوء قُربة؛ فتجب فيه النية) بقوله: ¬

_ (¬1) الصحاح (6/ 2285).

الوضوء يُطلق على النظافة وعلى الأفعال المخصوصة، فما الذي تريد بالذي تجب فيه النية؟ فيقول: حقيقته الشرعية الأفعال المخصوصة. - أو مِن العُرف، كالدابة. - أو يقول: ظاهر بقرينة معه، مثل قوله: (قُرء تحرم فيه الصلاة؛ فيحرم الصوم). فقرينة تحريم الصلاة فيه تدل على أن المراد به الحيض. وفي الغرابة مثل: (ظلمة زوجت نفسها؛ فلا يصح). فالظُّلمة: المرأة؛ بدليل قوله: (زوجت نفسها). - أو بتفسير مقصوده، بأنْ يقول: مرادي المعنى الفلاني. لكن لا بُدَّ أنْ يفسره بما يحتمله اللفظ وإنْ بَعُد، كما يقول: (يخرج في الفطرة التَّور). ويفسره بالقطعة مِن الأقط. فلو قال المستدِل: (هو غير ظاهر في غير مرادي باتفاق مني ومنك؛ فيكون ظاهرًا في مرادي؛ لئلا يَلزم الإجمال). فمنهم مَن ردَّه؛ لرجوعه إلى قوله: (إنَّ الأصل عدم الإجمال) والفرض أنَّ المعترِض يُبين أنه مجمل. وأيضًا: فلا يَلزم مِن عدم ظهورِه في الآخَر ظهورُه في مقصوده؛ لجواز عدم الظهور فيهما جميعًا. وصَوَّبه بعضهم؛ دَفْعًا لمحذور الإجمال، وذلك حيث لا يكون اللفظ مشهورًا بالإجمال. أما إذا اشتهر بالإجمال - كالعين والقرء والجون - فلا يصح فيه دَعْوَى الظهور أصلًا. أما إذا فسره بما لا يحتمل، فلعب؛ فلا يُسمع؛ لأنَّ غايته أنه نطق بِلُغَةٍ غير معروفةٍ.

قال [الخوارزمي] (¬1): وهو الحقُّ. وقال [العَميدي] (¬2): لا يَلزمه التفسير أصلًا. لكن هذا كله إذا لم يكن اللفظ مشهورًا. فإنْ كان مشهورًا، فالجزم تبكيت المعترِض. وفي مِثْله يُقال: "مُر فتعَلَّم، ثُمَّ ارْجِع فَتكلم". تنبيهان الأول: الاستفسار: استفعال مِن "الفسر"، وهو لُغة: طلب الكشف والإظهار، ومنه "التفسير". ومن الغرابة خلط اصطلاح باصطلاح كما يقال في القياسات الفقهية لفظ "الدور" أو "التسلسل" أو "الهيولا" أو "المادة" أو "المبدأ" أو "الغاية". نحو أن يقال في شهود القتل إذا رجعوا: لا يجب القصاص؛ لأنَّ وجوب القصاص تَجَرَّد مبدؤه عن غاية مقصودة، فوجب أنْ لا يثبت. وكذا ما أشبه ذلك من اصطلاح المتكلمين، إلا أنْ يعلم مِن حال خصمه أنه يَعرف ذلك، فلا غرابة حينئذٍ. الثاني: إنما كان الاستفسار مقدم الاعتراضات؛ لأنه إذا لم يعرف مدلول اللفظ، استحال فيه تَوجُّه المنع أو المعارضة. وهُما مردُّ الاعتراضات كلها كما سيأتي. وكان الشيخ عماد الدين الإسنائي يقول: في عَدِّ "الاستفسار" من الاعتراضات نظر؛ ¬

_ (¬1) كذا في (ت)، لكن في (ص): الجوادي. في (ق، ش): الخوَّاري. (¬2) كذا في (ق)، لكن في (ت، ش، س): العبدي، وفي (ص): الهندي.

لأنه طليعة جيش الاعتراضات، لا منها؛ لأنها خدش كلام المستدِل، و"الاستفسار" ليس فيه خدش، بل تَعَرُّف للمراد وتَبَيُّن للمطلوب؛ لِيَتَوَجَّه عليه السؤال. وَيقْرُب مِن هذا حكاية الهندي عن بعض مُتأخِّري أهل الجدل أنه أنكر هذا السؤال. وهذا واضح؛ لأنَّ غايته استفهام، لا اعتراض. وقد نقل ابن الحاجب في "مختصره الكبير" عن القاضي أبي بكر أنه قال: ما ثبت فيه الاستبهام، جاز فيه الاستفهام. والله أعلم. ص: 882 - كَذَلِكَ "التَّقْسِيمُ": أنْ يُرَدَّدَا ... بَيْنَ الَّذِي مَمْنُوعُ بَعْضٍ عُدِّدَا 883 - جَوَابُهُ بِالْحَمْلِ لِلْمَذْكُورِ ... بِلُغَةٍ أَوْ عُرْفٍ اوْ ظُهُورِ الشرح: من الأسئلة العامة في الأدلة سؤال "التقسيم"، وهو كون لفظ المستدِل في دليله مترددًا بين معنيين فأكثر، المسلَّم منها لا يُحَصِّل المقصود، والممنوع هو المحصِّل له، لا إنْ كانا يحصلانه معًا أو لا يحصلانه معًا، فإنَّ التقسيم حينئذٍ لا معنى له؛ لأنَّ المقصود إما حاصل على التقديرين أو ليس بحاصل على التقديرين. نعم، لو كانَا يُحصِّلان المقصود لكن البعض يَرِد عليه من القوادح ما لا يَرِفى على الآخَر، كان ذلك من التقسيم؛ لأنَّ فيه غرضًا صالحًا. مثاله: أنْ يقال في ثبوت الملك في زمن خيار الشرط: وُجِد سبب الملك للمشترِي؛ فوجب أنْ يثبت. ويُبين وجود السبب بأنه بَيعْ صَدَر مِن أَهْله في محَله. فيعترَض بأنَّ السبب إما مُطْلق البيع أو البيع الذي لا شرط فيه، والأول ممنوع، والثاني

مُسلَّم لكنه مفقود في صورة النزاع؛ لأنه مشروط بالخيار. ومثاله في أكثر من اثنين: لو قيل: المرأة بالغة عاقلة؛ فيصح منها النكاح، كالرجُل. فيقول المعترِض: العاقلة إما بمعنى لها تجربة، أو لها حُسن رأي وتدبير، أو لها عقل غريزي. والأول والثاني ممنوعان، والثالث مُسلَّم لكن لا يكفي؛ لأنَّ الصغيرة لها عقل غريزي ولا يصح منها النكاح. واختُلف في قبول هذا السؤال، فقيل: إنَّ سؤال الاستفسار يُغْني عنه، فلا حاجة إليه. والمختار أنه يُقبل لكن بَعْد ما يُبَيِّن المعترِض محَل التردد. وقولي: (جَوَابُهُ) إلى آخِره - أيْ: جواب هذا الاعتراض أنْ يقول المستدِل: (لفظي الذي ذكرتُه محمول على المعنى الذي يؤدي للدلالة، والدال لي على حمله على ذلك اللغة أو العُرف الشرعي أو العُرف العام أو كونه مجازًا راجحًا بِعُرف الاستعمال). أو يقول: (أحد الاحتمالات - وهو ما يدل لي - ظاهر)؛ بسبب ما انضم إليه مِن القرينة في لفظ المستدِل إنْ كان هناك قرينة لفظية أو عقلية أو حالية بحيث لا يحتاج إلى إثباته لغةً ولا عُرفًا. وهو معنى قولي: (أوْ ظُهُورِ). تنبيه: لم أذكر في الاعتراضات ما أشار إليه ابن الحاجب من التركيب؛ لأنه قد تَقدم في شروط حُكم الأصل، وقد أحاله هو أيضًا على ما ذكره هناك. فسبق أنه راجع إلى منع حُكم الأصل أو منع العلة أو وجودها. ولذلك لم أذكر منها سؤال التعدية ولا سؤال تعدد الوضع؛ لرجوعها إلى المعارضة، فإنها معارضة خاصة.

ولم أذكر أيضًا سؤال اختلاف جنس المصلحة؛ لِمَا سبق آنفًا مِن الجواب عنه. وأما سؤال المعارضة فَلِمَا سبق أيضًا في شروط العلة مِن اشتراط عدم المعارِض المُنافي. فقول ابن الحاجب في الاعتراضات: (إنها خمسة وعشرون) قد عَلِمْتَ تَداخُلها مما سبق في تقريرها. والله أعلم. ص: 884 - وَالِاعْتِرَاضَاتُ الْجَمِيعُ رَاجِعَهْ ... لِلْمَنْعِ أَوْ مُعَارَضَاتٍ [وَاقِعَهْ] (¬1) الشرح: قال الجدليون: الاعتراضات راجِعة إما إلى مَنعْ في مقدمة من المقدمات أو معارَضة في الحكم، فمتى حصل الجواب عنهما فقد تم الدليل، ولم يَبْقَ للمعترِض مجال، فيكون ما سوى ذلك من الأسئلة باطلًا؛ فلا يُسْمَع. وقال بعض الجدليين وتبعهم ابن السبكي في "شرح المختصر": إنها كلها ترجع إلى المنع فقط؛ لأنَّ المعارَضة منع للعلة عن الجريان. نعم، قال بعضهم: إلا الاستفسار؛ لأنه طلب بيان المراد من اللفظ. قيل: بل يمكن رجوعه أيضًا إلى المنع؛ لأنَّ الكلام إذا كان مُجْمَلًا لا يحصل غرض المستدِل بتفسيره، فالمطالبة بتفسيره تستلزم منع تحقق الوصف ومنع لزوم الحكم عنه. ¬

_ (¬1) في (ن 1، ن 5): دافعة.

تنبيهان الأول: في ترتيب الاعتراضات: فهي إما أنْ تكون من جنس واحد (كالنقوض والمعارضات في الأصل والفرع) أو من أجناس مختلفة (كالمنع والمطالبة والنقض والمعارضة). فإنْ كانت مِن جنس واحد، جاز إيرادها معًا اتفاقًا، ولا يَلزم منه تَناقُض ولا انتقال مِن سؤال إلى آخَر. وإنْ كانت من أجناس: فإنْ كانت غير مُرتبة، فقدْ منع أهل سمرقند التعدد فيها؛ لِلْخَبْط اللازم منها والانتشار، وأوجبوا الاقتصار على سؤال واحد؛ حرصًا على الضبط. قالوا: ولا يَرِد علينا إذا كانت مِن جنس؛ فإنَّا جَوَّزنا تَعدُّدها وإنْ أَدَّت إلى النشر؛ لأنَّ النشر في المختلِفة أكثر منه في المتفقة. وجَوَّز الجمهور الجمع بينها، وهو الحقُّ. وإنْ كانت مترتبة طبعًا مثل حُكم الأصل ومنع العِلية، فإنْ منع الحكم بَعد ثبوته طبعًا فقدْ أساء. [فيقول] (¬1): لا نُسلِّم ثبوت الحكم في الأصل. ولئن سلَّمنا فلا نُسلِّم أن العلة فيه ما ذكرت. ففي الأخير تسليم للأول؛ فَيَتَعَيَّن الأخير للجواب؛ فلا يستحق ما قَبْله الجواب. ¬

_ (¬1) كذا في (ص)، لكن في (ش، ت): فنقول.

قال ابن الحاجب: (والمختار جوازه؛ لأنَّ التسليم ليس بتحقيقي، وإنما هو تقديري). قال الهندي: وهو الحق، وعليه العمل في المصنفات. وإذا كان كذلك، [فَتُرَتَّب] (¬1) الأسئلة، وإلا لكان إيرادها بلا ترتيب منعًا بعد تسليم. فإنك لو قلت: (لا نُسلم أن الأصل مُعلَّل بكذا)، فقدْ سلَّمتَ ضمنًا ثبوت الحكم، فكيف تمنعه بعد ذلك؟ ! وقد يقال: إذا كان التسليم تقديريًّا، فلا يضر ذلك. قال ابن السبكي في "شرح المختصر": (ولم لا يَرقى المستدِل؟ فيقول: "لا أُسلِّم أنَّ الأصل معلَّل بكذا، بل لا أُسلم ثبوت الحكم فيه" كما يقول: "لا أُسلِّم الحكم، وإنْ سلَّمته فلا أُسلِّم العِلة"، فيكون الأظهر تجويز ذلك) (¬2). نعم، إذا ثبت الترتُّب في إيرادها، فيقدم ما يتعلق بالأصل ثم بالعلة ثم بالفرع كما بيَّناه قريبًا. الثاني: في ضابط لأهل الجدل: وهو أن المنع في الدليل إما أن يكون لمقدمة من مقدماته قبل التمام أو بَعْده. والأول: إما أن يكون مجردًا عن المستند أو مع المستند وهو "المناقضة"، فهي منع مقدمة مِن الدليل سواء ذُكر معها مستند أو لا. قال الجدليون: ومستند المنع هو ما يكون المنع مَبنيًّا عليه، نحو: لا نُسلم كذا، أو: لِمَ لا يكون كذا؟ ولا نُسلم لزوم كذا، وإنما يَلْزَم هذا أنْ لو كان كذا. ثم إنِ احتيج لانتفاء المقدمة، فيسمى عندهم "الغصب"، أي: غصب منصب التعليل. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ت، س)، لكن في (ق): فتترتَّب. وفي (ض، ش): فلترتب (¬2) رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (4/ 479).

فهو أن يتصدى المعترِض لإقامة الدليل على فساد مقدمة من مقدمات الدليل. وهو غير مسموع عند النُظَّار؛ لاستلزامه الخبط في البحث. نعم، يتوجه ذلك مِن المعترِض بعد إقامة المستدِل الدليل على تلك المقدمة. وأما الثاني وهو المنع بعد تمامه: فإما أنْ يكون مع مَنعْ الدليل بناء على تخلُّف حُكمه، فيُسمى "النقض الإجمالي"؛ لأنَّ "النقض التفصيلي" هو تخلُّف الحكم عن الدليل للقدح في مقدمة مُعيَّنة من مقدماته، بخلاف الإجمالي، فإنه تخلُّف الحكم عن الدليل بالقدح في مقدمة من مقدماته لا عَلى التعيين. وإما أن يكون مع تسليم الدليل والاستدلال بما ينافي ثبوت المدلول، فهو "المعارضة"، فهي تسليم للدليل؛ فلا يُسْمع منه بَعْدها مَنْعٌ فضلًا عن سؤال الاستفسار. فيقول المعترِض: (ما ذكرتَ مِن الدليل وإنْ دلَّ على ما تَدَّعِيه فعندي ما ينفيه أو يدل على نقيضه). ويُثبته بطريقة، فهو ينقلب مُستدِلًّا؛ فلهذا لم يَقبله بعضهم؛ لِمَا فيه مِن انقلاب دست المناظرة، إذ يَصِير المستدِل مُعترِضًا والمعترض مستدِلًّا. لكن الصحيح القبول؛ لأنَّ ذلك بناءٌ بالعَرَض هدمٌ بالذات، فالمستدِل مُدَّعٍ بالذات مُعترِضٌ بالعَرَض، والمعترِضُ بالعكس، فصارا كالمتخالفين. مثاله: المسح ركن في الوضوء؛ فيُسن تثليثه، كالوجه. فيعارضه بأنه مسحٌ؛ فلا يُسَن تثليثه، كالمسح على الخفين. نعم، على المعَلِّل دَفْع الاعتراض عنه بدليل، ولا يكفيه المنع المُجَرَّد. فإنْ ذكر دليله ومنع ثانيًا فكما سبق، وهكذا حتى ينتهي الأمر إما إلى الإفحام أو الإلزام. فَـ "الإفحام" عندهم: انقطاع المستدِل بالمنع أو بالمعارَضة. و"الإلزام": انتهاء دليل المستدِل إلى مقدمات ضرورية أو يقينية مشهورة يَلزم المعترِض

الاعتراف بها، ولا يمكنه الجحد؛ فينقطع بذلك. فإذَن "الإلزام" مِن المستدِل للمعترِض، و"الإفحام" مِن المعترِض للمستدِل. والله أعلم. تنبيه: 885 - مِنَ الْقِيَاسِ مَا هُوَ "الْجَلِيُّ" ... [ذَا] (¬1) النَّفْيُ في فَارِقِهِ قَطْعِيُّ 886 - أَوْ ذُو احْتِمَالٍ ضَعْفُهُ قَوِيُّ ... فَغَيْرُ هَذَيْنِ هُوَ "الْخَفِيُّ" الشرح: ذكرت في هذا التنبيه تقسيمين للقياس: أحدهما: من حيث القوة والضعف. وثانيهما: من حيث المعنى المشترك بين الأصل والفرع. وأخرت التنبيه على التقسيمين عن تمهيد القياس وأنواعه وأنواع عِلله؛ لتوقُّف فَهْمها على ذلك. فالتقسيم الأول - وهو ما اشتمل عليه هذان البيتان - انقسام القياس إلى جَلِي وخَفِي. فالجلي: ما قُطِع بنَفْي الفارق فيه، كقياس الأَمة على العبد في سراية العتق في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أعتق شركًا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوم عليه قيمة عدل" (¬2). الحديث. فإنَّا نقطَع بعدم اعتبار الشارع الذكورة والأنوثة فيه. ونحوه: قياس الصبية على الصبي في حديث: "مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم على ¬

_ (¬1) في (ض، ص، ت): و. (¬2) سبق تخريجه.

تركها وهُم أبناء عشر" (¬1). فإنَّا نَقطع أيضًا بعدم اعتبار الشرع الذكورة والأنوثة فيه، ونَقطع بأنْ لا فارِق بينهما في الموضعين سوى ذلك. وكذا إذا لم يُقْطَع بنفي الفارق ولكن احتمال الفارق يكون ضعيفًا جدًّا، فإنه مُلْحَق بالقَطْع بنفيه. مثاله: إلحاق العمياء بالعوراء في حديث المنع من التضحية بالعوراء (¬2) مع أنه قد يُتخيَّل - على بُعْد - افتراقهما مِن حيث إنَّ العمياء تُرشد إلى مكان الرعي الجيد؛ فترعى؛ فتسمن، والعوراء توكل إلى نفسها وهي ناقصة عن البصيرة؛ فلا ترعى حق الرعي؛ فتكون مظنة للهزال. فغير هذين المذكورين في "الجلي" مِن الأقيسة يكون خَفيًّا. تنبيهات أحدها: أنَّ من الأصحاب مَن يقسم ذلك إلى ثلاثة أقسام: جلي، وواضح، وخفي. فالجلي ما ذُكِر. والخفي: قياس الشَّبه. والواضح: ما بينهما. ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد بن حنبل (رقم: 6756)، سنن أبي داود (494)، سنن الترمذي (407)، وغيرها. قال الألباني: حسن صحيح. (صحيح الترمذي: 407). (¬2) سنن أبي داود (رقم: 2802)، سنن الترمذي (رقم: 1497) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 2802).

وقيل: "الجلي" ما كان ثبوت الحكم في الفرع فيه أَوْلى مِن الأصل. و"الواضح": ما كان مساويًا لثبوته في الأصل، كالنبيذ مع الخمر. و"الخفي": ما كان دُونه، كقياس اللينوفر على الأرز بجامع الطعم وكونه ينبتُ في الماء. وقيل غير ذلك، وكُلها أمور اصطلاحية لا مشاححة فيها. الثاني: عبَّر الإمام في "المحصول" وأتباعه عن تقسيمه باعتبار القوة والضعف بأنه إما قطعي أو ظني. فالقطعي: ما تَوقَّف على العِلم بِعلة الحكم في الأصل، ثم العلم بحصول مِثلها في الفرع. فحينئذٍ يقع تَيَقُّن الإلحاق ولو كان نَفْس الحكم ظنيًّا. ألا ترى إلى قياس الضرب على التأفيف؟ فإنَّ الإلحاق فيه قطعي - لِمَا ذكرنا - والحكم ظني لأنه مستفاد من قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] ودلالة اللفظ ظنية كما تَقرر؛ لِمَا فيه من الاحتمالات المشهورة. فإنْ فقد أحد العِلمين السابقين، فالقياس ظني، كقياس التفاح على البُر في الربا، فإنَّ كَوْن العلة هي الطعم ليس بقطعي؛ لاحتمال أن تكون هي الكيل أو القوت. نعم، ثبوت الحكم في الفرع قد يكون أقوى مِن ثبوته في الأصل، كما في قياس الضرب على التأفيف، وما دُون القنطار على القنطار في قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]. وقد يكون مساويًا، كما سبق في قياس الأَمة على العبد في السراية، والصبيَّة على الصبي في الأمر بالصلاة لسبع. وهذان النوعان هُما المسمى بِـ "القياس في مَعْنى الأصل" كما سيأتي في النَّظم، وبِـ "القياس الجلي"؛ لوجود القَطْع فيهما بِنَفْي الفارق.

وقد يكون أَدْوَن، وذلك كسائر الأقيسة التي يتمسك بها الفقهاء في مباحثهم كما قاله الإمام الرازي. قال: (وأما مراتب التفاوت فهي بحسب مراتب الظنون، فلا تنحصر) (¬1). وهذا التقسيم واضح فيما إذا كان الحكم في القياس ظنيًّا. فإنْ كان قطعيًّا، قال الإمام: (فيستحيل أن يكون الحكم في الفرع أقوى منه؛ لأنه ليس فوق اليقين درجة) (¬2). واعترضه النقشواني بأنَّ اليقين قابل للاشتداد والضعف. وما اعترض به مَبْنِي على أنَّ [العلوم] (¬3) تتفاوت. واعْلَم أنه قد ظهر أنه لا منافاة بين كون القياس قطعيًّا ويين كون الحكم فيه ظنيًّا، خلافًا لمن وهم في ذلك. الثالث: قد سبق في تقسيم الألفاظ أن ما كان حُكم الفرع فيه أَولى مِن الأصل أو مساويًا فيه مذاهب: أحدها: أنه مفهوم موافقة، ويسمى "فحوى الخطاب" إنْ كان أَولى، و"لحنه" إنْ كان مساويًا، وهو على ما هو الغالب في كلام الأصوليين والفقهاء. ¬

_ (¬1) انظر: المحصول في أصول الفقه (5/ 124)، لكنه قال: (وأما مراتب التفاوت فهي بحسب مراتب الظنون، ولما كانت مراتب الظنون محصورة فكذا القول في مراتب هذا التفاوت). (¬2) المحصول في أصول الفقه (5/ 123). (¬3) في (ق، ص): المعلوم.

وأنَّ الشافعي - رضي الله عنه - وإمام الحرمين والإمام الرازي وجَمعًا يجعلونه من باب القياس. وقد نصب الإمام في "المحصول" وأتباعه أدلة ذلك هنا. والله أعلم. ص: 887 - وَمنْهُ مَا يُسْمَى "قِيَاسَ الْعِلَّةِ" ... أَيِ: الَّذِي فِيهِ صَرِيحًا أَتَتِ 888 - أَمَّا الَّذِي يُعْرَفُ بِـ "الدّلَالَةِ" ... أَيْ: بإضَافَةٍ لَهُ في الجمْلَةِ 889 - فَهْوَ بِلَازِمٍ لَهَا، فَالَاثَرِ ... فَمَا بِحُكْمٍ أَلْحَقُوا مُعْتَبَرِ 890 - وَالْجَمْعُ إنْ يَكُنْ بِنَفْيِ الْفَارِقِ ... "قِيَاسُ مَعْنَى الْأَصْلِ"، ذَا لِلْحَاذِقِ الشرح: هذا هو التقسيم الثاني للقياس باعتبار المعنى الجامع فيه، وهو انقسامه إلى: قياس عِلة، وقياس دلالة، وقياس في معنى الأصل. وذلك لأنه إما أن يكون بِذِكر الجامع أو بإلغاء الفارق. فإنْ كان بذكر الجامع، فذلك الجامع إنْ كان هو العلة فهو "قياس العلة". وهو معنى قولي: (الَّذِي فِيهِ صَرِيحًا أَتَتِ). وذلك كقولنا في القتل بالمثقل: قَتْل عمد عدوان؛ فيجب فيه القصاص، كالجارح. وإنْ لم يكن الجامع نفس العلة وإنما هو وصف لازِم للعلة أو أثَر مِن آثارها أو حُكم مِن أحكامها، فهو "قياس الدلالة". وإليه أشرت بقولي: (أَيْ: بإضَافَةٍ لَهُ). أي: بإضافة لفظ "قياس" إلى لفظ "دلالة"، فيقال: "قياس الدلالة". سُمي بذلك لكون المذكور في الجامع بينهما دليل العِلة، لا نَفْسها.

ومَثَّل ابن الحاجب ما يكون الجامع فيه [يلازِم العلة] (¬1) بقياس قَطْع الجماعة بالواحد على قَتْلهم بالواحد بواسطة اشتراكهما في وجوب الدية على الجميع، فإنَّ الجامع الذي هو وجوب الدية على الجماعة [يُلازِم] (¬2) العِلة في الأصل وهي "القتل العمد العدوان". ووجوب الدية عليهم إنما هو أحد مُوجَبَي العلة الذي هو وجوب الدية ليستدل به على مَوجَبها الآخَر وهو وجوب القصاص عليهم. والأَوْلى أنْ يجعل هذا مثالًا لكون الجامع حُكمًا مِن أحكام العلة، ويمثل للجامع بما يُلازِم العلة بقياس النبيذ على الخمر بجامع الرائحة الملازمة للسُّكْر. وأما مثال كون الجامع أثرًا مِن آثار العلة فكقولنا في المثقل: قَتْل أَثمِ به صاحبُه مِن حيث كونه قتلًا؛ فأوجَبَ القصاص، كالجارح. وأما إلغاء الفارق وهو المسمى بِـ "القياس في معنى الأصل" فقد سبق بيانه. فالحاذق يميز بين هذه الحقائق. والله أعلم. ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (ش، ت، س): ملازم للعلة. وفي (ض): بلازم للعلة. (¬2) في (س، ت، ض): ملازم.

خاتمة في الأدلة المختلف فيها

خاتمة في الأدلة المختلَف فيها 891 - مِنْ ذَاكَ: "الِاسْتِقْرَاءُ" في الْمَرْضِيِّ ... تَتَبُّعُ الْكُلِّيْ مِنَ [الْجُزْئِيِّ] (¬1) 892 - لِيَثْبُتَ الْحُكْمُ لِذَاكَ الْكُلِّي ... فَمَا يُرَى مُسْتَوْعِبًا لِلْكُلِّ 893 - لَا صُورَةِ النِّزَاعِ، ذُو [تَمَامِ] (¬2) ... وَذَا يُفِيدُ الْقَطْعَ في الْأَحْكَامِ 894 - وَمَا بِهِ تَتبُّعٌ لِلْأَكثَرِ ... فَنَاقِصٌ يُفِيدُ ظَنَّ الْمُكْثِرِ 895 - وَرُبَّمَا سُمِّيَ في الْمُغَلَّبِ ... إلْحَاقَ فَرْدٍ بِالْأَعَمِّ الْأَغْلَب الشرح: لما انتهى الكلام في الأدلة المتفق عليها وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، [تشوقت] (¬3) النفوس إلى بيان ما وراء المتفق عليه، وهو "الأدلة المختلف فيها"، فجعلت ذلك خاتمة للكلام في أدلة الفقه. فمن ذلك: "الاستقراء"، وهو: تَتَبُّع أمر [كُلى] (¬4) من جزئيات؛ ليثبت الحكم لذلك الكُلي. وهو نوعان: استقراء تام، واستقراء ناقص. فأما "التام" فهو إثبات حُكم في جزئي؛ لثبوته في الكُلي. نحو: "كل جسم متحيز"، فإنَّا ¬

_ (¬1) في (ق، ن 1، ن 2): جزئي. ويصح الوزن بضبط الشطر الثاني هكذا: تَتَبُّعُ الْكُلِّيِّ مِنْ جُزئِيِّ. (¬2) في (ت، س، ن 2): اتمام. (¬3) في (ت، ض): تشوفت. (¬4) في (ق): كل واحد.

استقرأنا جميع جزئيات الجسم فوجدناها منحصرة في الجماد والنبات والحيوان، وكُل مِن ذلك متحيز. فقد أفاد هذا الاستقراء الحكم يقينًا في كُلِّي وهو الجسم الذي هو مشترك بين الجزئيات. فكل جزئي من ذلك الكلي يُحكم عليه بما حُكم به على الكُلي إلا صورة النزاع؛ فيُستَدل بذلك على صورة النزاع، وهو مفيد للقطع، فإنه القياس المنطقي المفيد للقطع عند الأكثرين. قال الهندي: وهو حُجة بلا خلاف. وأما "الاستقراء الناقص": فهو الذي تُتُبِّع فيه أكثر الجزئيات؛ [لإثبات] (¬1) الحكم للكُلي المشترك بين جميع الجزئيات بشرط أنْ لا تتبين العلة المؤثرة في الحكم. ويسمى هذا عند الفقهاء بِـ "إلحاق الفرد بالَأعَم الأَغْلَب"، ويختلف فيه الظن باختلاف الجزئيات، فكلما كان الاستقراء في أكثر، كان أقوى ظنًّا. وقد اختُلف في هذا النوع، فاختار صاحب "الحاصل" والبيضاوي والهندي أنه حجة لكنه يفيد الظن، لا القطع؛ لاحتمال أن يكون ذلك الجزئي مخالفًا لباقي الجزئيات المستَقْرَأة. وقال الإمام الرازي: الأظهر أنه لا يفيد الظن إلا بدليل منفصل، ثم بتقدير الحصول يَكون حُجة. وبهذا يُعلم أنَّ الخلاف الواقع: في أنه يفيد الظن أوْ لا؟ [أن] (¬2) الظن المستفاد منه هل يكون حجة؟ ¬

_ (¬1) في (ق): فيثبت. (¬2) كذا في جميع النُّسخ، ولعلها: (لا أنَّ). وعبارة الزركشي في (البحر المحيط، 4/ 321): (وَاقْتَضَى كَلَامُهُ أَنَّ الخلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي أنَّهُ هَلْ يُفِيدُ الظَّنَّ؟ أَمْ لَا؟ لَا فِي أَنَّ الظَّنَّ المُسْتَفَادَ مِنْهُ هَلْ يَكُونُ حُجَّةً؟ أَمْ لَا؟ ).

نعم، لقائل أن يقول: الدليل المنفصل لا يُصَيِّر ما لا يفيد الظن مفيدًا للظن. فإنْ أراد بالدليل المنفصل ما يعضد الاستقراء فالمفيد حينئذٍ مجموع الاستقراء والدليل المنفصل، لا الاستقراء بالدليل المنفصل، وإنْ أراد بالدليل المنفصل ما يدل على أنه مفيد للظن أو أنه حُجه فسنذكره مِن بَعد ذِكر المثال. وقد مثَّله البيضاوي وغيره بقولنا: الوتر يُصَلَّى على الراحلة؛ لأنَّا استقرأنا الواجبات - القضاء والأداء من الظهر والعصر وغيرهما - فلم نَرَ شيئًا منها يُؤدَّى على الراحلة. والدليل على أنه يفيد الظن أنَّا إذا وجدنا صُوَرًا كثيرةً داخلةً تحت نوع واحد واشتركت في حُكم ولم نر شيئًا مما نعلم أنه منها خرج عن ذلك الحكم، أفادتنا هذه الكثرة قَطْعًا ظَنَّ الحكم بعدم الأداء على الراحلة في مثالنا هذا من صفات ذلك النوع وهو الصلاة الواجبة. ومنهم مَن استدل عليه بأن القياس التمثيلي حُجة عند القائلين بالقياس من الحكم الشرعي، وهو أَقَل مَرتبة مِن الاستقراء؛ لأنه "حُكم على جزئي؛ لِثبوته في جزئي آخَر"، والاستقراء "حُكم على كُلي؛ لِثبوته في أكثر الجزئيات"؛ فيكون أَوْلى من القياس التمثيلي. ولكن هذا مدخول؛ لأنه يُشترط في إلحاق الجزئي بالجزئي الآخَر أن يكون بالجامع الذي هو عِلة الحكم، وليس الأمر كذلك في الاستقراء، بل هو حُكم على الكل بمجرد ثبوته في أكثر جزئياته. ولا يمتنع عقلًا أن يكون بعض الأنواع مخالِفًا للنوع الآخَر في الحكم وإنْ انْدَرَجَا تحت جنس واحد. وإذا كان مفيدًا للظن، كان العمل به لازِمًا، وربما استُدل على ذلك بما رُوي من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نحن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر" (¬1) كما استدل به البيضاوي. لكنه حديث لا ¬

_ (¬1) جاء في البدر المنير (9/ 590): (هذا الحديث غريب، لا أعلم مَن خرجه من أصحاب الكتب المعتمدة ولا غيرها، وسُئل عنه حافظ زماننا جمال الدين المزي، فقال: لا أعرفه).=

يُعرف، قال السبكي: (سألت عنه شيخنا الحافظ الذهبي فلم يَعْرفه) (¬1). قلت: وكذا قال الحافظ المزي وغيره: إنه لا أصل له. لكن قال شيخنا بدر الدين الزركشي أنَّ شيخه الحافظ علاء الدين مغلطاي أفاده أنَّ الحافظ أبا طاهر إسماعيل بن علي بن إبراهيم بن أبي القاسم الجَنزوِي رواه في كتابه "إدارة الحكام" في قصة الكندي والحضرمي اللذين اختصما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصل حديثهما في "الصحيحين"، فقال المقضِي (¬2) عليه: قضيتَ عَلَيَّ والحقُّ لي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أقضي بالظاهر، والله يتولى السرائر". وله شواهد، منها حديث قوله - صلى الله عليه وسلم - في المتلاعنين: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن" (¬3). وهو في "الصحيح" (¬4). [و] (¬5) حديث أُم سلمة في "البخاري": "إنما أنا بَشر، وإنه يأتيني الخصم، فلَعَلَّ بعضكم أَبْلَغ مِن بعض، فأحسب أنه أَصْدَق؛ فأقضِي له بذلك. فمَن قضيتُ له بحق مُسْلم فإنما هي ¬

_ =وقال الإمام الشوكاني في (الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، ص 200): (حديث: "نحن نحكم بالظاهر" يحتج به أهل الأصول، ولا أصل له). (¬1) الإبهاج في شرح المنهاج (2/ 182). (¬2) قصة الحضرمي والكندي: صحيح مسلم (رقم: 139). (¬3) مسند أحمد (2131)، سنن أبي داود (2256)، وغيرهما. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف أبي داود: 2256). (¬4) صحيح البخاري (رقم: 4470) بلفظ: (لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن). (¬5) كذا في (ق) وهو الصواب، لكن في سائر النسخ: من.

قطعة مِن النار، فليأخذها أو فليتركها" (¬1). وحديث أبي سعيد في الصحيحين في الذُّهَيْبَة التي بعث بها عَلِي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقسمها بين أربعة نفر، وفيه: "إني لم أؤمر أنْ أُنقِّب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم" (¬2). وقول عمر فيما رواه البخاري: "إنَّ الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا" (¬3). وغير ذلك، وهو كثير، مما يدل على أن العمل بالظن واجب. تنبيه: ينشأ مما قررناه في "الاستقراء" أن القياسات المنطقية تدور على ذلك، فإنَّا إذا قُلنا: (العالم متغير، وكُل متغير حادث)، فكَوْن العالم متغيرًا إنما عُلم بالاستقراء التام؛ فلذلك أفاد القطع واليقين. وإذا قُلنا: (الوضوء وسيلة للعبادة، وكُل ما هو وسيلة للعبادة عبادة)، إنما أثبتنا المقدمة الثانية بالاستقراء، وهو ظني؛ لأنه من أكثر الجزئيات. وربما يندرج فيه أيضًا ما ذكره ابن الحاجب وغيره في الاستدلال من "قياس التلازم"، وهو تَلازُم بين "ثبوتين" أو "نفيين" أو "ثبوت ونفي" أو "نفي وثبوت"، كما نقول في المسلِم يجد الميتة: (إنْ كان مضطرًا أكل، إنْ لم يكن مضطرًا لم يأكل، إنْ كان مضطرًا لم يَحْرُم، إنْ لم يكن مضطرًا حرم). ثم المتلازمان إنْ كانا طَرْدَا وعَكْسًا كالجسم والتأليف، يجري فيهما الأولان وهو التلازم بين ثبوتين وبين نفيين طردًا وعكسًا، بمعنى أنَّ وجود كل منهما يَستلزم وجود الآخَر، ونَفْيَه يستلزم نَفْي الآخَر، فكُل ما كان جسمًا كان مؤلَّفًا، وكُل ما كان مؤلَّفًا كان جسمًا، وكُل ما لم ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 6762)، صحيح مسلم (1713). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 4094)، صحيح مسلم (رقم: 1064). (¬3) صحيح البخاري (رقم: 2498).

يكن مؤلفًا لم يكن جسمًا، وكُل ما لم يكن جسمًا لم يكن مؤلفًا. وإنْ كانا متلازمين طردًا فقط كالجسم والحدوث، جرى فيهما الأول طَرْدًا، ويجري فيهما التَّلازُم السلبي عَكْسًا. والمتنافيان فيهما التفصيل، فلا نُطَوِّل بذلك؛ إذِ المراد التنبيه على رجوع غالبها للاستقراء إما التام أو الناقص بحسب المحالّ، والله أعلم. ص: 896 - وَمنْهُ "الِاسْتِصْحَابُ" في أَصْلِ الْعَدَمْ ... [كَعَدَمِ] (¬1) التَّخْصِيصِ في اللَّفْظِ الْأَعَمْ 897 - وَعَدَمِ الرَّفْعِ لِنَصٍّ قُرِّرَا ... حَتَّى يُرَى الَّذِي لَهُ قَدْ غَيَّرَا 898 - وَرُبَّمَا يَكُونُ مَقْلُوبًا، كَمَا ... مِنْ ثَابِتٍ يَثْبُتُ مَا تَقَدَّمَا 899 - لِكَوْنِ الَاصْلِ ألهُ مَا غُيِّرَا ... فَرَاجِعٌ لِمُسْتَقِيمٍ قُرِّرَا الشرح: أي: ومن المختلف في كونه دليلاً مُغايِرًا للأصول الأربعة: "الاستصحاب"، فذهب أصحابنا قاطبة إلى الاحتجاج به. والمعنى: إذا كان حُكْمٌ موجودًا وهو محتمل أنْ يتغير، فالأصل بقاؤه وَنَفْي ما يُغَيِّرُه. وذلك كاستصحاب مُقْتَضَى العموم أو النَّص إلى أنْ يَرِد المخصِّص أو الناسخ. وهو معنى قولي: (حَتَّى يُرَى الَّذِي لَهُ قَدْ غَيَّرَا). أي: غَيَّر العام بتخصيصه أو المنصوص بنَسخه. ¬

_ (¬1) كذا في (ن 1، ن 2، ن 5)، وهو الموافق لِـ "النبذة الزكية" ولِشرح المؤلف. وفي سائر النُّسَخ: لعدم.

ومِن ذلك أيضًا استصحاب العَدَم الأصلي، وهو الذي عُرِف بالعقل انتفاؤه وأنَّ العَدَم الأصلي باقٍ على حالِه، كَـ: الأصل عدم وجوب صلاة سادسة وصوم شهر غَيْر رمضان. فلَمَّا لَمْ يَرِد السمع بذلك، حَكَم العقل بانتفائه؛ لِعَدَم المثبِت له. وأصحابنا مُطبقون على حُجية الاستصحاب في ذلك وإنْ وقع الخلاف فيه عند غيرنا كما سنذكره، لكن قد يطرق ذلك خلاف عندنا مما ذكره أصحابنا في الأفعال قبل ورود الشرع في فائدة الخلاف فيه أنَّ مَن حرم شيئًا أو أباحه فسُئل عن حُجته فقال: (طلبتُ دليلاً في الشرع فلم أَجَد فبقيتُ على حُكم العقل مِن تحريم أو إباحة)، هل يصح ذلك؟ أَمْ لا؟ ثم هل يلزم خصمه المحاجة بهذا القول؟ أَمْ لا؟ ومن أنواع "الاستصحاب" أيضًا استصحاب حُكم دَلَّ الشرع على ثبوته ودوامه؛ لوجود سببه، كالملك عند حصول السبب، وشغْل الذمة عن [فرض] (¬1) أو إتلاف. فهذا وإنْ لم يكن حُكمًا أصليًّا فهو حُكم دل الشرع على ثبوته ودوامه جميعًا. ولولا أن الشرع دلَّ على دوامه إلى أنْ يوجد السبب المُزِيل أو المُبرئ لَمَا زال استصحابه. ونُقل عن بعض المتكلمين نَفْي حُجية الاستصحاب مِن حيث هو. وعزاه الإمام أيضًا للحنفية، لكن الموجود في كتبهم قول ثالث في المسألة، وهو أنه حُجة في الدفع، لا في الرفع، أي: في "بقاء ما كان على ما كان" يَكون حُجة، وأما في رفع بإثبات شيء رافع لشيء يستدام حُكم ذلك الرافع فلا. وهذا كالمفقود، لا يورث؛ لبقاء ما كان على ما كان وهو حياته، ولا يرث؛ لأنه ليس مالكًا لمال مورثه حتى يستصحب ملكه. قيل: وهذا القول حسن، ينبغي أن يكون عندنا تخريج مثله مما لو بلغ مصلحًا لماله صالحًا في دِينه فإنه يرتفع الحجر عنه. فلو طرأ بعد أنْ كان رشيدًا تبذير، حُجر عليه، أو فسق ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ض، ش)، لكن في (ت، س): قرض.

فلا حجر به؛ لأنَّ الحجر كان ثابتًا، والأصل بقاؤه حتى يصلح دِينه وماله. وأما في الرشيد فقد ثبت الإطلاق، والأصل بقاؤه حتى يرتفع، فبتضييع المال يرتفع؛ لأنه مقصود الحجر، بخلاف الفسق؛ فإنه لا يتعلق بالمال. ونحوه: إذا ظهر لبنت تسع سنين لبن فارتضع منها صغير، حرم، ولا يحكم ببلوغها. قالوا: لأنَّ احتمال البلوغ قائم، والرضاع كالنَّسب، يكفي فيه الاحتمال. والمذهب وجوب فطرة العبد الغائب المنقطع الخبر، ولا يجوز إعتاقه عن الكفارة. تنبيهات الأول: قولي: (في أَصْلِ الْعَدَمْ) شامل للنفي الشرعي والعقلي. فالشرعي كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس فيما دُون خمسة أوسق صدقة" (¬1). والعقلي: كما سبق في نَفْي وجوب صلاة سادسة وشهر غير رمضان. وشامل أيضَّاَ الحكم المتكرر بتكرر سببه، فإنَّ الدليل لَمَّا قام على كَوْن تلك أسبابًا لتلك الأحكام، وجب استصحابها ما لم يمنع منه مانع. ويخرج عن هذا استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف، وهو أنْ يحصل الإجماع على حُكم في حال فيتغير تلك الحال ويقع الخلاف، فلا يُسْتَصحَب حال الإجماع في محل الخلاف. كقول الشافعية في الخارج مِن غَيْر السبيلين: الإجماع على أنه قَبْله متطهِّر، والأصل البقاء حتى يَثبت [تَعارُض] (¬2)، والأصل عَدَمه. هذا قول أكثر أصحابنا، منهم الغزالي، ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) كذا في (ت، س)، لكن في (ض، ص، ش): بعارض.

خلافًا لما نقله عنه ابن الحاجب. وذهب الأقَلُّون - منهم المزني وأبو ثور والصيرفي وابن سريج وابن خيران - إلى أنه حُجة، وهو مذهب داود، واختاره ابن الحاجب تبعًا للآمدي. قال أصحابنا: والقول به في موضع الخلاف يؤدي إلى التكافؤ؛ لأنه ما مِن أحد يستصحب حال الإجماع في موضع الخلاف إلا ولخصْمِه أنْ يستصحب حالة الإجماع في مقابِلِه. مثاله: لو قال في مسألة التيمم: (إذا رأى الماء في أثناء صلاته، لا تبطل؛ لأنَّا أجمعنا على صحة صلاته؛ فلا يبطل الإجماع إلا بدليل). فيقول الآخَر: (أجمعنا على اشتغال ذمته بفرض الصلاة؛ ولا يسقط إلا بدليل). ووَجْه خروج المسألة مِن قولي: (في أَصْلِ الْعَدَمْ) أن الحالة التي كان المُجْمَع عليه متصفًا بها وقت الإجماع ليست موجودة، فلم يستمر أصل العدم، بل حدث ما أَوْجَب المخالفة. الثاني: إطلاق الاحتجاج بالاستصحاب شامل لِمَا عارضه ظاهر أو لا، وهو أصح قَوْلَي الشافعي فيما تَعارَض فيه الأصل والظاهر، كطين الشوارع وثياب مدمني الخمر وأواني الكفار المتدينين بالنجاسة وثياب القصابين وأفواه الصبيان وغير ذلك. والقول الثاني: يُقدم الظاهر. لكن قال ابن عبد السلام في "القواعد": (إنَّ مدْرَك الخلاف ليس مِن حيث الاستصحاب، بل لمرجِّح مِن خارج ينضم إلى ذلك). ثُم: الأصح الأخذ بالأصل دائمًا. وقيل: غالبًا. والأول هو ما أَطلق الرافعي ترجيحه في "باب الاجتهاد" في الأواني، قال: (لأنَّ الأصل

أَصْدَق وأَضْبَط مِن الغالب الذي يختلف باختلاف الأزمان والأحوال، والنقل يعضده؛ فقد حمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أُمامة في الصلاة وكانت بحيث لا تحترز عن النجاسة) (¬1). انتهى وبالجملة فالتحقيق في مسألة تَعارُض الأصل والظاهر الأخذ بأقوى الظنين: فيترجح الأصل: - جَزْمًا إنْ عارضه احتمال مُجَرَّد، كاحتمال الحدث لمن تَيَقَّن الطهر بمجرد مضِي الزمان. - وعلى الأصح إنِ استند الاحتمال إلى سبب ضعيف عام، كثياب مُدمني الخمر وطين الشوراع. ويترجح الظاهر جزمًا إنِ استند إلى سبب منصوب شرعًا، كالشهادة، فإنها تُعارض كَوْن الأصل براءة الذمة. أما إذا كان السبب قويًّا خاصًّا كحيوان يبول في ماء كثير ثم يوجد متغيرًا والحال أنه رأي ظبية تبول فيه وكان بعيدًا عن الماء فلمَّا انتهى إليه وَجَده متغيرًا وشكَّ أنه تَغير بالبول أو بِغَيره، فإن الشافعي نَصَّ على أنه نجس، وتابعه الأصحاب؛ إعمالًا للسبب الظاهر. ومثله لو جرح صيدًا وغاب عنه فوجده ميتًا، حَلَّ أكله على المشهور. وكذا لو جرح رجُلاً ومات، فإنه يضمنه وإنْ جاز أنْ يموت بسببٍ آخَر سواه؛ لأنه قد وُجِد سبب يمكن الإحالة عليه. لكن يشْكل على ذلك ما لو جرح المحرم صيدًا فغاب ثم وجده ميتًا ولم يَدْرِ أماتَ بجراحته؟ أم بحادث؟ فهل يَلزمه جزاء كامل؟ أَم أرش الجرح فقط؟ ¬

_ (¬1) العزيز شرح الوجيز (1/ 75).

قولان، أظهرهما في "زوائد الروضة" الثاني، ونَصَّ عليه الشافعي في "الأُم". نعم، هذا على ما في شرح القفال على "التلخيص" وهو التفصيل بين أن يكون رأَى الماء قَبْل بول الظبية عن قُرب غَيْر متغيِّر، فإنْ لم يعهده أصلًا أو طال عَهْده به فهو طاهر؛ عملًا بالأصل. وذكر الجرجاني - المعروف بالختن (¬1) - مثله في "شرح التلخيص"، وقال: لأنَّ إحالته على السبب الظاهر قد ضعف بطول الزمان. الثالث: لا يُطالَب النافي للشيء بدليل إذا دَلَّ على ذلك النفي أمرٌ ضروري. أمَّا إذا لم يكن ضروريًا فالأكثر على أنه يُطالَب بدليل مطلقًا. وقيل: لا مطلقًا. ويعزى للظاهرية. لكن في "إحكام" ابن حزم أنه يجب عليه الدليل؛ لقوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة: 111]، {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169]. وثالثها: يجب في العقليات دُون الشرعيات. واستشكل الهندي جريان الأقوال على الإطلاق. وقولي: (وَرُبَّمَا يَكُونُ مَقْلُوبًا) إلى آخِره - أي: ما سبق هو في الاستصحاب المستقيم، وقد يكون الاستصحاب مقلوبًا، وهو انعطاف ما هو في الحال إلى ما قَبْله؛ لِكَون الأصل ¬

_ (¬1) قال الإمام الذهبي في (سير أعلام النبلاء، 16/ 563): (شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ أَبُو عَبْدِ الله مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ بنِ إِبْرَاهِيْمَ الإِسْتِرَابَاذِيُّ ثُمَّ الجرجَانِيُّ الشَّافِعِىُّ، المَعْرُوفُ بِالختنِ، كَانَ ختنَ الإِمَامِ أَبِيَ بَكْرٍ الإِسمَاعِيليِّ، مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشرَةَ وَثَلاَثِ مائَةٍ، كَانَ رَأْسًا فِي المَذْهَبِ، صَاحِبَ وَجهٍ).

عدم مخالفة السابق لِمَا هو في الحال. فالاستصحاب المستقيم: ثبوت أمر في الثاني؛ لثبوته في الأول. والمقلوب هو: ثبوته في الأول؛ لثبوته في الثاني. مثاله: لو قيل: هذا الكيل هل هو الذي كان يُكال به على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أو لا؟ فيقال: نعم؛ إذِ الأصل موافقة الماضي للحال. قال الشيخ تقي الدين السبكي: (لم يَقُل الأصحاب به إلا في مسألة واحدة، فيمن اشترى شيئًا فباعه أو وهبه لآخَر ثم قامت البيِّنة لغيرهما بالملك، فنزع مِن المشتري الثاني أو المتهب، كان للمشتري الأول أنْ يرجع بما أعطى من الثمن على بائعه؛ عملًا باستصحاب الملك الذي ثبت الآن لِمَا قَبْل ذلك؛ فإن البيِّنة لا توجد الملك، ولكن تظهره، فيجب أن يكون الملك سابقًا على إقامتها، ويقدر له لحظة لطيفة. ومن المحتمل انتقال الملك من المشتري إلى المدعي، ولكنهم استصحبوا مقلوبًا وهو عدم الانتقال منه) (¬1). واعتُرض على الشيخ بأنهم قالوا به في صوَر كثيرة غير هذه، منها: لو قذفه فزنَا المقذوف، سقط الحد عن القاذف. وقولي: (فَرَاجعٌ لِمُسْتَقِيمٍ) إشارة إلى أنَّ المقلوب يَعُود في المعنى للمستقيم؛ لأنَّ الاستصحاب المقلوب يقال فيه: لو لم يكن الحكم الثابت الآن ثابتًا مِن قَبْل لكان غير ثابت؛ إذ لا واسطة. وإنْ كان غير ثابت، قضي بالاستصحاب بأنه الآن غير ثابت، لكنه ثابت؛ فدَلَّ أنه كان ثابتًا أيضًا. وحاصله أن الأصل أنه لم يتغير مِن حالِه مِن قَبْل إلى حالِه الآن، فهو مِن قَبْل كما هو ¬

_ (¬1) الإبهاج (3/ 170).

الآن. والله أعلم. ص: 900 - وَمنْهُ "الِاسْتِحْسَانُ" عِنْدَ قَائِلِهْ ... أَبِي حَنِيفَةَ، انْمِ (¬1) مِنْ دَلَائِلِهْ 901 - هُوَ دَلِيلٌ مَا بِنَفْسِ الْمُجْتَهِدْ ... تَعْبيرُهُ يَقْصُرُ عَنْهُ إنْ وُجِدْ 902 - وَفي عِبَارةِ الْإمَامِ الشَّافِعِيْ ... تَلَفَّظٌ بِهِ بِمَعْنًى شَائِعِ الشرح: أي: ومنه "الاستحسان"، وهو استفعال مِن الحسْن، بمعنى: اعتقاد الشيء حسنًا. ومعناه في الاصطلاح عند القائلين به - وهُم أبو حنيفة وأصحابه - ما سنذكره، ويعدونه من الدلائل. وذلك معنى قولي: (انْمِ مِنْ دَلَائِلِهْ) أي: انْقل ذلك عنه. وقد نقله ابن الحاجب عن الحنابلة أيضًا، قال: (وأنكره غيرهم حتى قال الشافعي: "مَنِ اسْتَحْسَن فَقَدْ شَرَّع"). وهو بتشديد الراء أي: نَصب شرعًا على خِلاف ما أمر الله به ورسوله؛ لأنه - كما سيأتي - يؤول إلى قول الشيء بلا دليل. ويؤيد نقلَه عن الحنابلة ما ذكر أبو الخطاب أن أحمد قال: إن أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئًا خلاف القياس، قالوا: "نستحسن هذا وندع القياس". فيدعون ما يزعمون أنه الحقُّ بالاستحسان، وأنا أذهب إلى كل حديث جاء ولا أقيس عليه. ¬

_ (¬1) يعني: انقل ذلك عنه.

قال أبو الخطاب: وعندي أنه أنكر عليهم الاستحسان مِن غير دليل، فلو كان عن دليل، لم ينكره؛ لأنه حقٌ، وهو معنى قوله: "أنا أذهب إلى كل حديث" إلى آخِره. أي: أَترك القياس بالخبر، وهو الاستحسان بالدليل. وكان ينبغي لابن الحاجب نقله أيضًا عن المالكية، فقد قال القاضي عبد الوهاب أنَّ كتب أصحابهم مملوءة مِن ذِكره وإنْ لم يكن منصوصًا عن مالك. وممن نَصَّ على القول به ابن القاسم وأشهب وغيرهما. وقد اختُلف في تفسير "الاستحسان" الذي في جَعْله من الأدلة الخلاف. فالأشهر فيه ما اقتصرتُ عليه في النَّظم، وهو أنه: عبارة عن دليل ينقدح في نفس المجتهد تَقْصر عنه عبارته، فلا يَقْدِر أنْ يفوه به. وَرَدَّه ابن الحاجب بأنه إنْ لم يتحقق كَوْنه دليلًا فمردود اتفاقًا، وإنْ تحقق فمعتبَر اتفاقًا. قيل: وفيما قاله نظر؛ لأنه قد يقال على الشق الأول: لا معنى لكونه لم يتحقق؛ لأنَّ الفرض أنه عندهم دليل. وعلى الشق الثاني: لا نُسَلِّم أنَّ ما لا يمكن التعبير عنه مِن [الأدلة] (¬1) يُعْمَل به. وأما البيضاوي فَرَدَّه بأنه لا بُدَّ مِن ظهوره؛ ليتميز صحيحه عن فاسده؛ فإنَّ ما ينقدح في نفس المجتهد قد يكون وَهْمًا لا عِبرة به. قيل: وفيه أيضًا نظر؛ لأنَّ هذا إنما يقدح فيما يكون في المناظرة، وأما بالنسبة إلى عمل المجتهد به فإنه انقدح عنده أنه دليل؛ فعمل به وأفتى به وإنْ لم يَقْدر على التعبير عنه، فينبغي أنْ يقال في الرد: إنَّ المنقدح في نفس المجتهد إنما يمتاز عن غيره من الأدلة؛ لكونه لا يمكن التعبير عنه، ولكن ذلك لا يقد في كونه دليلًا، فيكون التمسك به وفاقًا، فأين الاستحسان ¬

_ (¬1) كذا في (ق، ش)، لكن في سائر النسخ: الاول.

المختلَف فيه؟ ! وقيل في تفسير "الاستحسان" أيضًا وهو عبارة الكرخي من الحنفية: إنه قَطْع المسألة عن نظائرها. أي: إنَّ المجتهد يَعْدل عن الحكم في مسألة بما حَكَم به في نظائرها إلى الحكم بخلافه؛ [لِوَجْه] (¬1) أقوى مِن الأول يقتضي العدول عنه. وذلك كتخصيص أبي حنيفة قول القائل: (مالي صدقة) بالمال الزكوي؛ لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]، فإن الدليل الدال على وجوب الوفاء بالنذر يقتضي وجوب التصدق بجميع أمواله؛ عملًا بعموم لفظ الناذر. لكن الدليل الخاص اقتضَى العدول عن هذا الحكم بالنسبة إلى غير الزكوي، وهو: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}. والجامع قرينة إضافة الصدقة إلى المال في الصورتين. ورُدَّ ذلك بأنه يَلزم أنَّ كلَّ تخصيصٍ استحسان، وهو وفاق، فأين محل الخلاف؟ ! وقال أبو الحسين: "الاستحسان": تَرْك وَجْه مِن وجوه الاجتهاد غَيْر شامل شمول الألفاظ؛ لِوَجْه أَقْوى منه وهو في حُكم الطارئ على الأول. واحترز بقوله: (غير شامل شمول الألفاظ) عن التخصيص، فإنَّ الوجه الأول فيه شامل شمول الألفاظ. وبقوله: (وهو في حكم الطارئ على الأول) عن تَرْك أَضْعَف القياسين للأقوى، فإنَّ أقوى القياسين ليس في حُكم الطارئ على الأضعف. [فإنْ] (¬2) فُرِض أنه طارئ [فذلك] (¬3) "الاستحسان". مثال ذلك: العنب ثبت تحريم بيعه بالزبيب، سواء كان على رأس الشجر أوْ لا؛ قياسًا ¬

_ (¬1) كذا في (س)، لكن في سائر النسخ: إلى وجه. (¬2) كذا في (ق)، لكن في (س، ص): فإنه. (¬3) كذا في (ق)، لكن في سائر النسخ: بذلك.

على الرطب. ثم إنِّ الشارع أَرْخَص في جواز بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر، فَقِسْنَا عليه العنب وتركنا القياس الأول؛ لكون الثاني أقوى. فلمَّا اجتمع في الثاني القوة والطريان، كان استحسانًا. ولكن هذا التفسير يقتضي أن يكون العدول عن حُكم القياس إلى النص الطارئ عليه "استحسانًا"، وليس كذلك عند القائلين به. وأيضًا فيرجع هذا التفسير إلى تخصيص العلة، وهو ما سبق أنه "النقض"، وليس ذلك مما ينفرد به الحنفية كما سبق بيانه في "باب القياس"، بل يقال: إنَّ حاصل ذلك - كما قاله الآمدي - "الرجوع عن حُكم دليل؛ لطريان دليل آخَر أقوى منه". وهو أَعَم مِن تخصيص العِلَّة. وقول رابع: أنه العدول عن حُكم الدليل إلى العادة؛ لمصلحة الناس، كدخول الحمام مِن غير تقدير الماء وشُرب الماء من السقاء. ورُدَّ بأن العادة إنْ ثبت جريانها بذلك في زمنه عليه السلام فهو ثابت بالسُّنة، أو في زمانهم مِن غير إنكار فهو إجماع، وإلا فهو مردود. وقد اختلف أصحابنا في قرض الخبز على وجهين: أحدهما: الجواز، وبه قال صاحب "الشامل" و"التتمة" والمستظهري؛ لإجماع أهل الأعصار على فِعله. الثاني: وهو الأصح عند صاحب "التهذيب": المنع. وما ذُكِر من الإجماع فليس هو إجماع أهل الحل والعقد، بل إجماع العامَّة، ولا اعتبار بهم. وفيما لو دفع ثوبًا إلى قصَّار ليقصره أو خياط ليخيطه أو جلس بين يدي حلاق ليحلق رأسه، والأصح المنصوص: لا أجرة مطلقًا.

وقيل: تجب أجرة المثل؛ للعادة. وقيل غير ذلك. فمَن اعتبر المسائل، وَجَد أنَّ ما أجمعوا عليه فَلَهُ مَأْخَذ، وما اختلفوا فيه فاختلافهم في مأخذه. وقيل في تفسيره أيضًا غير ذلك، وقد ظهر أنه لا يتحقق "استحسان" مختلف فيه. فإنْ تحقق استحسان مختلَف فيه فمَن قال به فَقَدْ شَرَّع كما قاله الشافعي فيما سبق نقله عنه. ويقال للقائلين به: إنْ عنيتم ما يستحسنه المجتهد بِعَقْله مِن غير دليل (كما حكاه بشر المريسي والشافعي عن أبي حنيفة وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: إنه الصحيح في النقل عنه) فأمر عظيم وقول في الشريعة بمجرد التشهي، وتفويض الأحكام إلى عقول ذوي الآراء، وقد قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]. ولكن أصحابه ينكرون هذا التفسير عنه. وإنْ عنيتم جواز لفظ "الاستحسان" فقط فلا إنكار في ذلك؛ فإن الله تعالى يقول: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]، وفي الحديث: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن" (¬1). فالكتاب والسُّنة مشحونان بنحو ذلك، لكنكم لا تقصدون هذا المعنى، فليس لكم أن تحتجوا بمثله على "الاستحسان" بالمعنى الذي تريدونه مما سبق. على أنَّ هذا الحديث رواه أحمد والدارمي عن ابن مسعود موقوفًا عليه، ومَن رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أخطأ، ورفعه من حديث أَنَس إسناده ساقط لا يُحتج به. وعلى تقدير صحته فالمراد ¬

_ (¬1) هو من قول ابن مسعود - رضي الله عنه - في: مسند الإمام أحمد بن حنبل (رقم: 3600)، المستدرك على الصحيحين (رقم: 4465)، وغيرهما. قال الحافظ ابن حجر في (الدراية في تخريج أحاديث الهداية، 2/ 187): (لم أَجِدهُ مَرْفُوعًا، وَأخرجه أَحْمد مَوْقُوفًا عَلَى ابْن مَسْعُود بِإسْنَاد حسن).

به إجماع الأُمة ورأيهم حُسْنه بالدليل الذي قام لهم. وقولي: (وَفي عِبَارَةِ الْإمَامِ الشَّافِعِيْ) إلى آخِره - إشارة إلى أن لفظ "الاستحسان" وقع في كلام الشافعي كثيرًا غَيْر مراد به المعنى الذي سبق، بل أصل معناه الشائع في اللغة المأخوذ مِن لفظ "الحسن". فمِن ذلك قول الشافعي - رضي الله عنه -: "مراسيل ابن المسيب عندنا حسنة". وقال: "أَسْتَحْسِن في المتعة أن تكون ثلاثين درهمًا"، و: "أَسْتَحْسِن أنْ تثبت الشفعة للشفيع إلى ثلاثة أيام"، و: "أستحسن أن يترك للمكاتب شيء مِن نجوم الكتابة"، و: "حسن أن يضع إصبعيه في صماخي أُذنيه إذا أذَّن". وقال الغزالي: استحسَن الشافعي التحليف على المصحف. وقال الرافعي في التغليظ على المعطل في اللعان: (أستحسن أن يحلف ويقال: قل بالله الذي خلقك ورزقك) (¬1). وقال القاضي الروياني فيما إذا امتنع المدِّعي من اليمين [المردودة] (¬2) وقال: "أمهلوني؛ لأسأل الفقهاء": اسْتَحْسَن قضاة بلدنا إمهاله يومًا. وقال أبو الفرج السرخسي في تقدير نفقة الخادم على الزوج المتوسط: استحسن الأصحاب أن يكون عليه مُد وسدس بتفاوت المراتب في حق الخادمة. فإنَّ الموسر عليه لها مُد وثلث، والمعسر مُد، فليتوسط في المتوسط كما تفاوتت المراتب في حق المخدومة. وقال الأصحاب: ليس لِوَلي المجنونة والصبية المراهقة إذا آلَى عنها الزوج وضربت المدة وانقضت أنْ يطالبه بالفيئة؛ لأنَّ ذلك لا يدخل في الولاية، وحسن أن يقول الحاكم للزوج ¬

_ (¬1) العزيز شرح الوجيز (9/ 403). (¬2) في (ق): المردوة عليه.

على سبيل النصيحة: اتق الله، فِئْ [إليها] (¬1) أو طَلِّقها. فإنْ قيل: فقد قال الشافعي وأصحابه بصريح "الاستحسان" في مواضع، فقال الشافعي في السارق إذا أخرج يده اليسرى بدل اليمنى: القياس أنْ تقطع يمناه، والاستحسان أنْ لا تقطع. وقال الأودني في اختلاف الأصحاب في مسألة الجارية المغنية تساوي ألفًا وبالغناء ألفين: كل هذا استحسان، والقياس الصحة. فنقل الأودني عن الأصحاب وغيره ذلك. قيل: أما الشافعي فإنه إنما قضى على مَن يحتج بالاستحسان بأنْ لا تقطع، فهو إلزام لقائله، لا قول به. وقول الأودني: (كل هذا استحسان) فإنه ردٌّ على مَن قال بخلاف الصحة في الحقيقة؛ ولذلك كان هو الأصح في المذهب. وقال الإمام: (إنه القياس السديد) (¬2). والأودني يقول: "إن الذي يقولونه استحسان؛ فَيُرَد"، وهُم قد يقولون: لَمْ نَقُلْه بالاستحسان كما فهمه الأودني عنا. وبالجملة فوقوع هذا اللفظ ليس بمستنكَر، إنما المستنكر إطلاقه بالمعنى الذي قصدوه. والله أعلم. ¬

_ (¬1) في (س، ت): لها. (¬2) نهاية المطلب (13/ 203).

ص: 903 - وَ"شَرْعُ مَنْ مَضَى وَلَمْ يُقَرَّرِ ... في شَرْعِنَا لَيْسَ بِذِي تَقَرُّرِ الشرح: مِن الأدلة المختلف فيها أنَّ ما ثبت في شرع مَن مَضَى من الأنبياء السابقين على بعثة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - هل يكون شرعًا لنا حتى يُستدل به في أحكام شرعنا إذا لم نجد دليلًا يُقَرره ولا وَرَدَ ما يَنْسخه؟ أو ليس بشرعٍ لنا حتى يأتي في شرعنا ما يقرر ذلك الحكم؟ قولان. وأصل الخلاف ما قال إمام الحرمين: إنه يجري مجرى التواريخ أنَّ نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - هل كان متعبدًا بشرع مَن قَبْله مِن الأنبياء قبل النبوة؟ وهل كان متعبدًا بذلك بعد النبوة؟ فأما الأُولى: فالمختار فيها عند ابن الحاجب والبيضاوي: نعم. قال ابن الحاجب: للأحاديث المتظافرة: "كان يخلو بغار حراء"، "كان يصلي"، "كان يطوف". قيل: لا يحفظ مِن ذلك إلا حديث أنه "كان يتحنث بغار حراء" (¬1). رواه البخاري. ثم اختُلف في تعيينه: فقيل: بشرع آدم. وقيل: نوح. وقيل: إبراهيم. وقيل: موسى. وقيل: عيسى. وقيل: ما ثبت أنه شرع، من غير تخصيص. ومقابِله ما نقله القاضي أبو بكر عن جمهور المتكلمين أنه لم يكن متعبدًا بشرع أحد ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 3)، صحيح مسلم (165).

أصلًا. ثم قيل: إنه ممتنع عقلًا؛ لِمَا فيه من التنفير عنه. وقيل: شرعًا. وعزاه القاضي عياض لحذاق أهل السنة؛ إذ لو كان كذلك لَنُقِل ولتداولته الألسنة. وثالث المذاهب: الوقف. وهو قول إمام الحرمين والغزالي والآمدي وابن الأنباري، وهو المختار. واعتمد القاضي أبو بكر في امتناع ذلك على أنه لو كان على مِلَّة، لاقتضى العُرف ذِكره لها لَمَّا بُعِث، ولتحدَّثوا بذلك في زمانه وفيما بَعده. لكن عارض ذلك إمام الحرمين بأنه لو لم يكن على دِين أصلًا، لَنُقِل؛ فإنَّ ذلك أبدع وأَبْعَد عن المعتاد مما ذكره القاضي. فقد تَعارَض الأمران. قال ابن الأنباري: وفيه نظر، فليس انصراف النفوس عن نَقْل كَوْنه ليس على دِين كانصرافها عن نَقْل دِينه الذي كان عليه. ثم قال إمام الحرمين: (الوجه أن يقال: انخرقت العادة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في أمور، منها انصراف همم الناس عن أمر دِينه والبحث عنه) (¬1). وأما الثانية: فإنْ قُلنا في الأُولى بالمنع فالمنع هنا أَوْلى. وإنْ قُلنا بالجواز فاختلفوا: فقال ابن الحاجب: (إن المختار أنه بعد المبعث متعبَّد بما لم يُنسخ) (¬2). ¬

_ (¬1) البرهان في أصول الفقه (1/ 335). (¬2) مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (3/ 267).

أي: مِن شرع مَن قَبْله بإيحاء الله تعالى له بذلك، على معنى أنه موافِق، لا متابع. قال إمام الحرمين: (وللشافعي مَيْل إلى هذا وبَنَى عليه أصلاً مِن أصوله في "كتاب الأطعمة"، وتابعه معظم أصحابه) (¬1). والأصل الذي في الأطعمة: إذا وجدنا حيوانًا لا يمكن معرفة حِلِّه بشيء مِن مَآخِذ شريعتنا وثبت تحريمه في شرع مَن قَبْلنا، فأظهر القولين أنه يُستصحب تحريمه. وهو قضية كلام عامة الأصحاب. ومقابلُه: ما قاله الأكثرون: إنه لم يكن متعبدًا بعد النبوة بشرع غيره أصلًا. فَعَلَى هذا يكون الراجح في مسألة أنَّ "شَرْع مَن قَبْلنا هل هو شَرْع لنا؟ " المنع إلا أنْ يُقَرَّر في شرعنا، وعليه جريتُ في النَّظم بقولي: (لَيْسَ بِذِي تَقَرُّرِ) في شرعنا، وهذه اللفظة هي المذكورة في البيت الذي بعده. ثم افترق القائلون بالمنع: فقالت المعتزلة: ذلك مستحيل عقلاً. وقال غيرهم: شرعًا. وهو اختيار القاضي والإمام الرازي والآمدي. تنبيهات الأول: استند القائلون بأنه كان متعبدًا بعد البعثة بشرع مَن قبله بظواهر، نحو قوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123]، وقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وغير ذلك مما يَكرر مثله كثيرًا. ¬

_ (¬1) البرهان في أصول الفقه (1/ 331).

وجوابه أن المراد: في العقائد التي لا خلاف بين الأنبياء فيها، ولكن سمى الموافقة "اتِّباعًا". واستدلوا أيضًا بنحو قوله في حديث الربيع بنت النضر لما كسرت ثنية غيرها فقال - صلى الله عليه وسلم -: "كتاب الله القصاص" (¬1). إشارة إلى قوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] في آية: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} [المائدة: 45] أي: على بني إسرائيل {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] الآية. وجوابه أن المراد بِـ "كتاب الله": حُكم الله، فيكون تقريرًا. أو أنَّ المُقَرِّر: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، ونحو ذلك. واستدلوا أيضًا بحديث رَجْم اليهوديين والأمر بإحضار التوراة، فلو لم يكن شرعًا له لَمَا طلب. وجوابه: أنه إنما أراد إقامة الحجة عليهم في إنكارهم أنَّ ذلك في التوراة وافتضاحهم بالكذب، لا أنه عَمل به. واستدلوا أيضًا بحديث: "مَن نام عن صلاة أو نسيها فليُصَلها إذا ذكرها" (¬2) وتلا: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] وهو لموسى، وسياقه يدل على الاستدلال به. والحديث في "الصحيحين"، ورواه مسلم أيضًا بلفظ: "فليُصلها إذا ذكرها" (¬3). فإن الله تعالى يقول: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 2556). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) صحيح مسلم (رقم: 680)، بلفظ: (مَن نَسِيَ الصَّلَاةَ فَلْيُصَلِّهَا إذا ذَكَرَهَا).

وجوابه إما أنَّ المراد: لتذكرني فيها، أو نحو ذلك. وذِكر الآية للتنبيه على أنَّ هذا الحكم لا يختلف في شرعه وشرع موسى عليهما الصلاة والسلام. واستُدل للمنع بأنه لم يذكر في حديث معاذ الذي فيه تصويبه، والإجماع على أن شريعته ناسخة لغيرها من الشرائع، وغير ذلك من الأدلة. ولذلك محل يُذكر فيه لسنا بصدده في هذا الكتاب. والله تعالى أعلم. ص: 904 - شَرْعًا لنَا، وَ"مَذْهَبُ الصَّحَابِيْ" ... لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى أَصْحَابِ 905 - تَصَرُّفٍ بِالِاجْتِهَادِ مُطْلَقَا ... وَالشَّافِعِيْ وَإنْ يَكُنْ قَدْ وَافَقَا 906 - مَذْهَبَ زيدٍ في فَرَائِضَ [يُرَى] (¬1) ... وَقَالَ: قَدْ قَبِلْتُ عَنْهُ الْأَكْثَرَ 907 - لَيْسَ لِكَوْيهِ دَلِيلاً وَجَدَا ... وَلَا لِكَوْنِهِ لِزَيْدٍ قَلَّدَا 908 - بَلْ لِتَوَافُقٍ في الِاجْتِهَادِ ... أَوْ [لِحَدِيثٍ] (¬2) صَحَّ بِالْإسْنَادِ 909 - "أَفْرَضُكُمْ زيدٌ"؛ فَكَانَ حُجَّهْ ... لِلشَّرْعِ لَا لِكَوْنِهِ الْمَحَجَّهْ الشرح: من الختلف فيه من الأدلة: "مذهب الصحابي"، أي: العالِم؛ لأنَّ العامِّي لا قول له. فتقييد بعض الحنابلة إياه بذلك للإيضاح؛ إذ لا حاجة إليه. والنظر في قول الصحابي في أمرين: ¬

_ (¬1) في (س، ت): ترى. (¬2) كذا في (ق، ش، ن)، ويوافق لفظ "النبذة". لكن في (ص، ض، ت، س): نحو نص.

في كونه حُجة شرعية أو لا. وفي أنه هل يجب تقليده في قوله؟ أو لا؟ فالأول: إنْ كان على صحابي آخَر فليس بحجة بالاتفاق كما حكاه ابن الحاجب وغيره. ولكن فيه نظر؛ فقد قال إمام الحرمين - بعد تقرير أنه إنما يكون حجة على قول مَن يراه إذا لم تختلف الصحابة ولكن نُقِل عن واحد منهم ولم يَظهر خِلافُه - إنَّ الشافعي قال في موضع: إذا [اختلف] (¬1) الصحابة، فالتمسك بقول الخلفاء أَوْلى. قال: (فهذا كالدليل على أنه لا يسقط الاحتجاج بأقوال الصحابة مِن أَجْل الاختلاف). انتهى. وفي "المحصول" في مسألة الاجماع السكوتي ما يُشْعِر بالخلاف في كونه حُجة على صحابي آخَر. وفي "اللمع" للشيخ أبي إسحاق: (إنَّ الصحابة إذا اختلفوا على قولين، ينبني على القولين في أنه حجة؟ أم لا؟ فإنْ قُلنا: ليس بحجة، لم يكن قول بعضهم حُجة على بعض، ولم يَجُز تقليد واحد منهما، بل يُرْجَع إلى الدليل. وإنْ قُلنا: إنه حُجة، فهما دليلان تَعارضَا، يرجح أحدهما على الآخَر بكثرة العدد مِن أحد الجانبين أو يكون فيه إمام) (¬2). انتهى وإنْ كان على غيْر الصحابي مِن المجتهدين من التابعين وغيرهم ففيه مذاهب: ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س، ت): اختلفت. (¬2) اللمع في أصول الفقه (ص 95).

أحدها: وهو الراجح وقول الشافعي في الجديد وأحمد في إحدى الروايتين وإليه ذهب الأشاعرة والمعتزلة والكرخي من الحنفية: أنه ليس بحجة مطلقًا. واختاره الإمام الرازي وأتباعه والآمدي وابن الحاجب وغيرهما. ولذلك أطلقتُ في النَّظم أنه ليس بحجة على مجتهد، أي: لا على صحابي ولا على غيره. وأما على غيْر مجتهد فذلك إنما هو مِن قبيل التقليد، وسيأتي بيانه. الثاني: أنه ليس بحجة إلا أن يكون في أمر تَعبُّدي لا مجال للقياس فيه. وادَّعَى الشيخ تقي الدين السبكي والشيخ صلاح الدين العلائي أن الشافعي يقول بذلك في الجديد؛ لأنه قال في كتاب "اختلاف الحديث": إنه رُوي عن علي - رضي الله عنه - أنه صلَّى في زلزلة ست ركعات، كل ركعة بست سجدات. ثم قال: (إنْ ثبت ذلك عن علي، قُلتُ به). لأنه لا مجال للقياس فيه؛ فالظاهر أنه فَعَله توقيفًا. وذكر الغزالي في "المستصفى" أن ذلك من تفاريع القديم مع نَقْله إياه عن "اختلاف الحديث". وانتُقِد عليه بأنَّ كتاب "اختلاف الحديث" من كُتب الشافعي الجديدة بمصر، رواه عنه الربيع بن سليمان. قلتُ: رد بعض العصريين ذلك بأن الظاهر أن العلائي والسبكي ومَن تبعهما إنما اعتمدوا في هذا نَقْل الغزالي ذلك في "المستصفى"، وقد استوعبتُ عِدة نُسخ من كتاب "اختلاف الحديث" فلم أَجِد فيه ذلك. نعم، في كتاب "اختلاف عِلي وابن مسعود" في "الصلاة في الزلزلة": قال الشافعي: (عباد، عن عاصم الأحول، عن قزعة، عن علي - رضي الله عنه - أنه صلى في زلزلة ست ركعات في أربع

سجدات، خمس ركعات وسجدتين في ركعة، وركعة وسجدتين في ركعة. ولسنا نقول بهذا، لا نُصلي في شيء من الآيات إلا في كسوف الشمس والقمر، ولو ثبت هذا الحديث عندنا عن علي لَقُلنا به. وهُم يثبتونه ولا يأخذون به، يقولون: يصلَّى ركعتين في الزلزلة، في كل ركعة ركعة) (¬1). ثم ذكر عدة أحاديث عن علي مختلفة في ذلك. انتهى ثم على تقدير صحته [عن الشافعي في "اختلاف الحديث"] (¬2) فقال السبكي: إن ذلك إذا كان مذكورًا في القديم والجديد فالظاهر أنه حُجة قديمًا وجديدًا؛ لأنه يفيد ظنًا لا مُعارِض له. قال شيخنا بدر الدين الزركشي: (هذا الذي قاله السبكي وتبعه ولده فيه يدل على أنهما لا نَقْل عندهما صريحًا فيه، ولكن قد جزم به ابن الصباغ في "كتاب الأيمان" من كتابه "الكامل" بالكاف، والإمام في "المحصول" في "باب الأخبار") (¬3). انتهى قلت: وبالجملة [فهذا] (¬4) ينبغي أنْ يخرج عن مسألة قول الصحابي؛ لأنه يصير بذلك في حكم المرفوع. وقد سبق أن الصحابي إذا قال ما لا يمكن أن يقوله عن اجتهاد بل عن توقيف أنه يكون مرفوعًا كما صرح به علماء الحديث والأصول كما بيَّناه في الكلام في الرواية؛ فلذلك لم أُقيِّد في النَّظم المسألة بذلك، فاعْلَمه. ¬

_ (¬1) الأم (7/ 168). (¬2) من (ق، ش). (¬3) تشنيف المسامع شرح جمع الجوامع (2/ 155). (¬4) كذا في (ق، ش)، لكن في سائر النسخ: فهل.

المذهب الثالث: أنه حجة مطلقًا تُقَدَّم على القياس؛ لحديث: "أصحابي كالنجوم" (¬1). ولكن قد سبق بيان ضعفه والجواب عنه بتقدير الصحة في باب الإجماع. وهو قول مالك وأكثر الحنفية، وهو المنقول عن القديم للشافعي. لكن للشافعي في الجديد أقوال أخرى، منها ما يوافق ذلك. فقال في "الرسالة": (إن الصحابة إذا تفرقوا، نصير إلى ما وافق الكتاب أو الإجماع أو كان أصح في القياس. وإذا قال الواحد منهم القول ولا يُحفظ عن غيره موافقة ولا مخالفة، صرنا إلى اتِّباع قول أحدهم إذا لم نجد كتابًا ولا سُنةً ولا إجماعًا ولا شيئًا نحكم له بحكمه) (¬2). وقال في اختلافه مع مالك مِن جملة "الأم": (ما كان الكتاب والسنة موجودين فالعُذر على مَن سمعهما مقطوع إلا باتِّباعهما. فإذا لم يكن ذلك، صرنا إلى أقاويل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو واحدهم، وكان قول الأئمة أبي بكر أو عُمر أو عثمان أحب إلينا إذا صرنا إلى التقليد، وذلك إذا لم نجد دلالة في الاختلاف تدل على أَقْرَب الاختلاف مِن الكتاب والسنة، فنتبع القول الذي معه الدلالة؛ لأنَّ قول الإمام مشهور بأنه يلزم الناس، ومَن لَزِمَ قولُه الناس كان أظهر ممن يُفتي الرجل أو النفر) (¬3) إلى آخِره. وغير ذلك من نصوص صريحة في أن قول الصحابي عنده حجة مقدمة على القياس على وَفْق ما قاله في القديم. ¬

_ (¬1) رواه ابن عبد البر في (جامع بيان العلم، 2/ 78)، وابن بطة في (الإبانة الكبرى، 2/ 564)، وقال الشيخ الألباني في (سلسلة الأحاديث الضعيفة، رقم: 58): (موضوع). (¬2) الرسالة (ص 596 - 598). (¬3) الأم (7/ 265).

ونَصه في القديم لَّمَا ذكر الصحابة - رضي الله عنه - قال: (وهُم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم أو استنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأَوْلى بنا مِن آرائنا عندنا لأنفسنا). إلى أن قال: (إنِ اجتمعوا، أخذنا باجتماعهم. وإنْ قال [واحدهم إنْ] (¬1) لم يخالفه غيره، أخذنا بقوله. فإنِ اختلفوا، أخذنا بقول بعضهم، ولم نخرج عن أقاويلهم). وله في نَص آخَر: (إنِ اختلفوا، نظرنا إلى الأكثر، فإنْ تكافئوا، نظرنا إلى أحسن أقاويلهم مخرجًا عندنا) (¬2). انتهى ويتفرع على هذا القول: إذا اختلف صحابيان، كانا كدليلين تَعارَضَا، فيرجح أحدهما بدليل كما أشار إليه الشافعي فيما نقلناه من النصوص. فخرج مِن ذلك قول رابع: إنه حجة إذا لم يخالفه غيره من الصحابة، وإلا فيؤخَذ بِقَول الأكثر أو غير ذلك مما سبق. والمذهب الخامس: إنه حجة لكن دُون القياس. أي: حتى يُقَدَّم القياس عليه عند التعارض. وعلى هذا فهل يخصَّص العموم به؟ وجهان حكاهما الرافعي في الأقضية بلا ترجيح. أما الجواز فلأنه حجة شرعية، وأما المنع فلأنه محجوج بالعموم، فقد كان الصحابة يتركون أقوالهم إذا سمعوا العموم. السادس: إنِ انتشر ولم يخالَف فهو حجة. ونقله الأصوليون عن القديم أيضًا، وكلام ابن الصباغ يُشْعِر بأنه في الجديد أيضًا؛ فإنه قال في "العدة": إنما احتج الشافعي بقول عثمان ¬

_ (¬1) كذا في (ص، س)، لكن في (ق): واحد و. (¬2) انظر: المدخل إلى السنن الكبرى (ص 110 - 111).

في الجديد في مسألة البراءة من العيوب لأنَّ مذهبه أنه إذا انتشر ولم يظهر له مخالِف، كان حجة. لكن إذا انتشر ولم يخالَف، دخل في قبيل الإجماع السكوتي، وقد سبق الخلاف فيه في "كتاب الإجماع"، فالحجية فيه، لا في مجرد قول الصحابي؛ ولهذا لو كان في غير عصر الصحابة، كان كذلك. ولهذا وَهَّموا صاحب "الحاصل" والبيضاوي في حكايته في هذه المسألة، وإنما حكاه الإمام في المسألة الآتية، وهي أنه هل يجوز لمجتهدٍ غيره أنْ يُقَلده؟ [أو] (¬1) لا؟ السابع: إنْ خالف القياس، كان حجة، وإلا فلا. قال ابن برهان في "الوجيز": هذا هو الحق البين، وإنَّ نصوص الشافعي تدل له. الثامن: حجة إنِ انضم إليه قياس التقريب. حكاه الماوردي قولًا للشافعي، فقال: إن قياس التقريب إذا اعتضد بقول الصحابي، كان أَوْلى مِن قياس التحقيق. قلت: فيه نظر؛ لأنَّ هذا في قياسين يطلب الترجيح فيهما، فيقال: يُقَدَّم قياس التقريب بانضمام قول الصحابي، لا أنَّ قول الصحابي وَحْده حينئذٍ هو الحجة، بل المجموع مُقدَّم على ما عارض مِن قياس آخَر. التاسع: حُجة إذا انضم إليه قياس مطلقًا. حكاه العلائي عن إشارة الشافعي في "الرسالة" الجديدة إليه. قلت: وفيه النظر السابق في الذي قبله. ونحوه ما حكاه ابن الصباغ عن بعض الأصحاب أن القياس الضعيف إذا اعتضد ¬

_ (¬1) في (ق): أم.

بقول الصحابي كان أَوْلَى من القياس القوي. فإنْ جعلنا القياس الضعيف أَعَم مِن قياس التقريب وغيره، كان قولًا آخَر مغايرًا لِمَا سبق. العاشر: قول الصحابي حُجة إذا كان مِن قول أبي بكر وعمر فقط. الحادي عشر: إذا كان مِن قول الخلفاء الأربعة. لكن هذا يحتمل عند القائل به أن يكون مِن قبيل الإجماع كما سبق في محله. الثاني عشر: قول الخلفاء الأربعة إلا عليًّا. وقد أُخذ هذا من قول الشافعي في "الرسالة" القديمة: (إنَّ الصحابة إذا اختلفوا وفي أحد الطرفين أبو بكر أو عمر أو عثمان، رجح) (¬1). ولم يذكر عليًّا. وقد حكى القفال في أول "شرح التلخيص" فيه لأصحابنا ثلاثة أَوْجُه: أنه إنما ترك عليًّا اختصارًا؛ لأنَّ حُكمه حُكمهم، أو اكتفاء بذكر الأكثر. واختاره ابن القاص، فقال: إن الشافعي قاله في الثلاثة نصًّا، وقلتُه في عِلي تخريجًا. ثانيها: أنه إنما لم يذكره لأنَّ الشافعي كان بعض المتعصبين عليه يرميه بالتشيع؛ فنفى الريبة عن نفسه بإسقاطه. وثالثها: وصححه القفال وجمعٌ: أنه أسقطه؛ لأنه ليس في قوله مِن القوة ما في قولهم، لكن لا لِنَقْص في قوته الاجتهادية - معاذ الله - بل لأنَّ الصحابة كانوا في زمن الخلفاء الثلاثة كثيرين، فكانوا يستشيرونهم، كما فعل أبو بكر في مسألة الجدة، وعمر في الطاعون، وغير ذلك؛ فكان قول كل منهم كقول أكثر الصحابة. ولَمَّا آلَ الأمر إلى عِلي، خرج إلى ¬

_ (¬1) المدخل إلى السنن الكبرى (ص 110).

الكوفة ومات خَلْقٌ من الصحابة؛ فلم يكن قوله كقولهم؛ لهذا المعنى، لا لنقصان فيه كرم الله وجهه ورضي عنه. الثاني عشر: إنْ كان الصحابي مَيّزَه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنَّص كزَيْد في الفرائض وعِلي في القضاء ونحو ذلك، فقوله حجة. الثالث عشر: أنه غير حجة، ولكن يَصلح للترجيح. الرابع عشر: لا يَصلح للترجيح إلا أنْ يكون أحد الأربعة. الخامس عشر: إنْ ميزه النَّص فيرجح به. وستأتي هذه الأقوال في "كتاب التراجيح". وأما الثاني: وهو أنه هل يُقَلَّد فيما قاله باجتهاده؟ وهو تفريع على أنَّ قوله ليس بحجة، فحينئذٍ هل يجوز لمجتهدٍ تقليده سواء صحابي آخَر أو غيره؟ سيأتي في "باب الاجتهاد" أن المجتهد لا يجوز له أن يقلد مجتهدًا، لكن في خصوص الصحابي ثلاثة أقوال للشافعي، ثالثها عن القديم: إنِ انتشر، جاز تقليده وإلا فلا. وقد سبق أنَّ هذا محل هذا القول، لا مسألة كَوْنه حُجة أوْ لا. على أن الحافظ صلاح الدين العلائي لَمَّا نقل أن الغزالي في "المستصفى" أَفْرَد هذه المسألة عن تلك وقال: (إنَّ قول الشافعي اختلف فيها، فقال في القديم: يجوز تقليده وإنْ لم ينتشر. ورجع في الجديد إلى أنه لا يقلِّد العالِمُ صحابيًّا. نقله المزني، وهو الصحيح المختار) (¬1). وقال المزني في "أدب القضاء": (إنه يشاور، ولا يشاور إذا نزلت به المشكلة إلا أمينًا ¬

_ (¬1) المستصفى (1/ 170).

عالمًا بالكتاب والسنة والآثار وأقاويل الناس ولسان العرب). ثم قال بعد ذلك: (فأما أنْ يقلده فلم يجعل الله ذلك لأحد بَعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬1). انتهى قال: (فأطلق اسم "التقليد" على الرجوع إلى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو حُجة قطعًا، وكذلك قوله في تقليد الصحابي لاسيما مع ما تكرر من قوله في غير موضع من النهي عن التقليد والمنع منه) (¬2). انتهى أما تقليد العوام لواحد من الصحابة ففيه خلاف حكاه إمام الحرمين، وقال: (إن المحققين على الامتناع) (¬3). وليس هذا لأنهم دُون المجتهدين غير الصحابة، فَهُم أَجَلّ قَدْرًا، بل لأنَّ مذاهبهم لا يُوثَق بها، فإنها لم تثبت حق الثبوت كما ثبتت مذاهب الأئمة الذين لهم أتْباع. وبهذا جزم ابن الصلاح في كتاب "الفتيا"، وزاد أنه لا يُقَلَّد التابعون أيضًا ولا غيرهم ممن لم يُدَوَّن مذهبهم، وإنَّ التقليد يتعيَّن للأئمة الأربعة دُون غيرهم؛ لأنَّ مذاهبهم قد انتشرت وانبسطت حتى ظهر منها تقييد مطلقها وتخصيص عامِّها. وأما غيرهم فنُقلت عنه الفتاوى مجردة، فَلَعَلَّ لها مكملًا أو مقيدًا أو مخصصًا لو انبسط كلام قائله، لَظَهر خلاف ما يبدو منه، بخلاف هؤلاء الأربعة، فامتناع التقليد إذَن لِتَعَذُّر نَقْل حقيقة مذاهبهم. وذهب غيرهم إلى أنهم يقلَّدون؛ لأنهم قد نالوا رُتبة الاجتهاد، وهُم بالصحبة يزدادون رفعة. قال بعض المتأخرين: هذا هو الصحيح، لكن الشرط أن يتحقق ثبوت مذهب مَن يُراد ¬

_ (¬1) مختصر المزني (ص 393)، طبعة: دار الكتب العلمية. (¬2) هذا كلام العلائي في كتابه "إجمال الإصابة في أقوال الصحابة، ص 44". (¬3) البرهان (2/ 744).

تقليده، بل لا خلاف بين الفريقين في الحقيقة؛ إذْ مَن يقول: (يقلَّدون) يقول: (إذا تحقق ثبوت مذهبه)، ومَن يمنع فذلك عند عدم تَحقُّقه. نعم، في "أوسط" ابن برهان ما يحقق الاختلاف مِن وَجْه آخَر، فإنه بنى تقليد الصحابة على جواز الانتقال في المذاهب، فمَن منعه، منع تقليدهم، لأنَّ فتاويهم لا يقْدر على استحضارها في كل واقعة. وما قاله حسن. وقولي: (وَالشَّافِعِيْ وَإنْ يَكُنْ قَدْ وَافَقَا) إلى آخِره - جواب عن سؤال مقدَّر، وهو أنه قد تَقرر أنَّ مذهب الشافعي الجديد أو الأرجح مِن أقواله في الجديد أن قول الصحابي غير حُجة وأنه لا يجوز للمجتهد أنْ يقلد المجتهد منهم، فكيف ذكر الشافعي في مواضع ما يخالف الأمرين؟ فمِن ذلك اتِّباعه لزيد بن ثابت - رضي الله عنه - في الفرائض عند اختلاف الصحابة - رضي الله عنه -، حتى أنه يتردد إذا ترددت الرواية عن زيد، وقال: (قُلْتُه؛ تقليدًا لزيد، وعنه قَبلْنا أكثر الفرائض). وجواب ذلك أن أصحابه اختلفوا في قوله هذا، فمنهم مَن قال: إنه أراد أنه وافق اجتهادُه اجتهادَه، فليس اتِّباعه في ذلك لكون قوله حجة ولا أنه قلَّده؛ لأنَّ مِن مذهبه امتناع الأمرين؛ ولهذا قال المزني في أول "مختصره": (مع [إعلامِه] (¬1) نَهْي الشافعي عن تقليده وتقليد غيره؛ لينظر فيه لِدِينه، ويحتاط لنفسه) (¬2). فمعنى قوله: (قبلنا أكثر الفرائض) أي: التي لا نَص فيه ولا إجماع، موافَقةً له في الاجتهاد؛ لأنَّ المجتهد ينظر في أقوال غيره من المجتهدين وفي حججهم، ثم يَقْبَل منها ما ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ش)، لكن في (ق، س، ت، ض): اعلامية. (¬2) مختصر المزني (ص 7)، ط: دار الكتب العلمية.

يؤديه إليه اجتهاده، لا تقليدًا لذلك المجتهد، بل نظرًا في حُجته كما [نظر هو] (¬1)، فهو مِن قبيل التوافق في الاجتهاد. وهذا الجواب يجري فيما سيأتي أيضًا مما يُوهم التقليد كما ستعرفه. ومنهم مَن قال: إنه تفريع على قول له آخَر أنَّ قول زَيْد في الفرائض حُجة، لا لكونه قول صحابي، بل لحديث: "أفرضكم زيد" (¬2). وقد رواه الحاكم من رواية ابن عمر وأنس بلفظ: "أَفْرَض أُمتي زيد بن ثابت" (¬3). وقال في حديث أنس: صحيح على شرط الشيخين. وكذلك رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث أنس بلفظ: "أَعْلم أُمتي بالفرائض زيد بن ثابت" (¬4). وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وإنْ كان ابن حزم ادَّعى أنه لا يصح، وغوَّش كثيرًا. فإذا كان الحديث صحيحًا فيكون الأخذ بقول زيد إنما هو للحديث، لا لكونه قول زيد. وهو معنى قولي: (فكَانَ حُجَّهْ لِلشَّرْعِ لَا لِكَوْنِهِ الْمَحَجَّهْ). أي: لا لكون قول زيد هو موضع الحجة في ذاته. ¬

_ (¬1) كذا في (ق)، لكن في (س): يظهر. (¬2) سنن الترمذي (رقم: 3790)، سنن ابن ماجه (رقم: 154)، صحيح ابن حبان (7131) وغيرها، بلفظ: (وأَفرضهم زيد بن ثابت). قال الألباني: صحيح. (صحيح الترمذي: 3790). (¬3) المستدرك على الصحيحين (رقم: 7962) بلفظ: (أَفْرَض أُمَّتِي زَيْدُ بْنُ ثَابِت). قال الحافظ ابن حجر في (التلخيص الحبير، ): (وَقَدْ أُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ، وَسَمَاعُ أَبِي قلَابَةَ مِنْ أَنسٍ صَحِيحٌ إلَّا أنَّهُ قِيلَ: لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ هَذَا. وَقَدْ ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ عَلَى أَبِي قِلَابَةَ فِي "الْعِلَلِ"). (¬4) مسند الإمام أحمد بن حنبل (رقم: 12927) بلفظ: (وأَعلمها بِالْفَرَائِضِ زَيْدُ بن ثَابِتٍ). وفي سنن ابن ماجه (155) بلفظ: (وأَعْلمهم بالفرائض). قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 126).

ومنهم مَن قال: إنه قاله تفريعًا على القول بأن مذهب الصحابي حجة، ولكن الأرجح مقابِله كما دل عليه غير ذلك مِن نصوصه. ومنهم مَن قال: إنه إنما قال ذلك لأنه ترجح عنده مذهب زيد من وجهين: الحديث السابق، وما قاله القفال: إنه ما تكلم أحد مِن الصحابة في الفرائض إلا وقد وُجِد له قولٌ في بعض المسائل مَهْجُور باتفاق إلا زيدًا ليس في أقواله أبدًا قول هجره الناس. وذلك من مقتضيات الترجيح، كالعمومين إذا وردَا وقد خُصَّ أحدُهما بالاتفاق دُون الثاني، فإنَّ الثاني يكون أَوْلى. قال الرافعي: (وقد يُعترَض بأنَّ للكلام مجالًا في أنَّ الوجهين هل يوجِبان ترجيحًا؟ وبتقدير التسليم فالأخذ بما رجح عنده إنْ لم يكن بناءً على الدليل في كل مسألة، لَمْ يَخْرج عن كونه تقليدًا، كالمقلِّد يأخذ بِقَول مَن رجح عنده مِن المجتهدين. وإنْ كان بناءً على الدليل فهو اجتهاد وافَق اجتهادًا، فلا معنى للقول بأنه اختار مذهب زيد. ويجاب عنه بأن الشافعي لم يُخْلِ مسألة عن احتجاج واستشهاد، ولكنه استأنس بما رجح عنده مِن مذهب زيد، وربما ترك به القياس الجلي وعضد الخفي، كقول الواحد من الصحابة إذا انتشر ولم يُعْرَف له مخالِف. فباعتبار الاستئناس قِيل: إنه أخذ بمذهب زيد. وباعتبار الاحتجاج قيل: إنه لَمْ يقلِّد) (¬1). نعم، مال ابن الرفعة إلى أن الشافعي قلَّد زيدًا. قال الشيخ تقي الدين السبكي: (وليس بجيد؛ لأنَّ المراتب ثلاث: تقليد كتقليد العامي المجتهد، ولا يُظَن بالشافعي ذلك. وموافقة اجتهاده، فَقَوي اجتهاده بما وَرَدَ في زيد الذي قد وافقه، وذلك هو ما يُظَن ¬

_ (¬1) العزيز شرح الوجيز (6/ 444).

بالشافعي. وأنْ يقصر الدليل في بعض المسائل بحيث لو انفرد لم ينهض، فيعضده قول زيد؛ فينهض؛ لِمَا عَلِمَه مِن شهادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لزيد، فهذا قد يسمى تقليدًا، إذْ قد يُسمى الأخذ بقول الصحابي إذا عضده دليلٌ خفي "تقليدًا" كما قال الشافعي في البراءة من العيوب: قُلتُه تقليدًا لعثمان. ففي مذهب زيد أَوْلى؛ لِمَا وَرَدَ من الثناء عليه) (¬1). على أنَّ قوله في عثمان ذلك إنما هو لكونه انتشر ولم ينكره أحد؛ فيرجع للإجماع السكوتي. والله تعالى أعلم. ص: 915 - وَهَكَذَا "الْإلْهَامُ": أَيْ إيقَاعُ ... شَيءٍ بِقَلْبٍ مَا لَهُ انْدِفَاعُ 911 - لَهُ اطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ، وَالله ... يَخُصُّ مَنْ شَاءَ بِهِ أَعْطَاهُ 912 - وَلَيْسَ مَا يَحْصُلُ مِن ذَا الْمُلْهَمِ ... بِحُجَّةٍ عَلَى الَّذِي لَمْ يُلْهَمِ الشرح: أي: ومن الأدلة المختلَف فيها: "الإلهام"، وهو لُغةً: ما يلقى في الروع. كما يقال: ألهمه الله الصبر، ونحو ذلك. وأما المراد هنا فما سنذكره ولم يذكره أحد من أصحابنا في الأصول إلا ابن السمعاني في "القواطع" نقلًا عن أبي زيد الدبوسي، فإنه ذكره عقب ذِكره إبطال التقليد. وكأنَ الحنفية لَما توسعوا في "الاستحسان" وسبق عن بعضهم تفسيره بِـ "دليل ينقدح في نفس المجتهد تَقْصر عنه عبارتُه" وهذا قريب من معنى "الإلهام"؛ فاستطردوا في ¬

_ (¬1) رفع الحاجب (4/ 512).

ذكره؛ ولهذا قال أبو زيد: (الإلهام ما حرك القلب بعلم يدعوك إلى العمل به مِن غير استدلال بآية ولا نَظَر في حُجة). أما التعريف المذكور في النَّظم فهو ما ذكره ابن السبكي في "جمع الجوامع"، وهو أوضح في المعنى، فقال: ("الإلهام" إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر). و"إيقاع شيء في القلب" جنس يشمل الإلهام وغيره. و"يثلج له الصدر" أي: ينشرح ويطمئن، فَصْل يُخرج ما عداه. و"يثلج " بالثاء المثلثة والجيم واللام مضمومة مضارع "ثلج" بالفتح، أو مفتوحة مضارع "ثلج" بالكسر. على ما نقله أبو عمرو. والأول أشهر، وهو معنى قولي: (لَهُ اطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ). نعم، تَعرَّض بعض أصحابنا في الفقه لذلك، فذكره الماوردي والروياني في كتاب "أدب القضاء"، لكن عبارة الماوردي: (أبطل قوم وجوب النظر، وعوَّلوا على الإلهام). وأما الروياني فنقل الاحتجاج به عن بعض السلف. قيل: ولا يُعْرف ذلك في كلام السلف. قال أبو زيد: (الذي عليه جمهور العلماء أنه خيال لا يجوز العمل به إلا عند فقد الحجج كلها في باب ما أُبيح عمله بغير عِلم. وقال بعض الجبرية: إنه حجة، بمنزلة الوحي المسموع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واحتج بقوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] أي: عرَّفها بالإيقاع في القلب. وبقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] الآية، وشَرْح الصدر بنور العِلم، وضيقه بِظُلْمة الجهل. وقوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، أخبر بأنهم خُلقوا على الدِّين الحنيفي بلا صنيع منهم. وقال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]، أي: ألهمها؛

فالآدمي أَوْلى. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7] أي: ألهمناها. وقال عليه السلام: "كل مولود يولد على الفطرة" (¬1). وقال: "اتقوا فراسة المؤمن" (¬2). والفراسة شيء يقع في القلب بلا نظر في حجة. وقال عليه السلام لوابصة وقد سأله عن البر والإثم: "ضع يدك على صدرك، فما حاك في قلبك فَدَعْه وإنْ أفتاك الناس وأفتوك" (¬3)، وقال: "كان في الأمم محدثون، فإنْ يَكُن في هذه الأُمة منهم أَحَد فهو عُمَر" (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 1319)، وفي صحيح مسلم (رقم: 2568) بلفظ: (ما من مَوْلُودٍ إلا يُولَدُ على الْفِطْرَةِ). (¬2) سنن الترمذي (رقم: 3127)، المعجم الكبير للطبراني (7497)، وغيرهما. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف الترمذي: 3127). (¬3) لم أجده بهذا اللفظ، لكن نحوه في: مسند الإمام أحمد بن حنبل (رقم: 18035)، مسند أبي يعلى (1586)، وغيرهما، ولفظ أحمد: (يا وابصة، استفت قلبك واستفت نفسك - ثلاث مرات، البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس وتَردد في الصدر وإنْ أفتاك الناس وأفتوك). ومداره على الزبير أبي عبد السلام، عن أيوب بن عبد الله. ويظهر لي -الآن- ثلاث عِلَل: الأُولى. قال الإمام الدولابي (224 - 310 هـ) في (الكنى والأسماء، 2/ 871): (أبو عبد السلام الزبير .. ضعيف). الثانية: قال الحافظ ابن حجر في (تقريب التهذيب، ص 118): (أيوب بن عبد الله بن مكرز .. مستور). الثالثة: جاء في إسناد الإمام أحمد: (الزبير أبو عبد السلام، عن أيوب بن عبد الله بن مكرز ولم يسمعه منه، قال: حدثني جلساؤه ... ). قلتُ: فالعلة الثالثة جهالة الواسطة بينهما. (¬4) صحيح البخاري (3282)، صحيح مسلم (2398).

وعن أبي بكر: "أُلْقِي في روعي أن ذا بطن بنت خارجة جارية" (¬1). والإلقاء هو الإلهام). وأطال في ذلك، قال: (فثبت أنَّ الإلهام حقٌّ، وأنه وحي باطن، إلا أنَّ العبد إذا عصى ربه وعمل بهواه، حُرِم هذه الكرامة، واستولى عليه وحي الشيطان. وأما حُجة أهل السنة والجماعة في منع حجيته فقوله تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة: 111]، فألزمهم الكذب بعجزهم عن إظهار الحجة، وأنَّ الحجة الباطنة لا أثَر لها. وكذا: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117] فإنه صريح أن شهادة قلوبهم لا تنهض حُجة، وأن الحجة هي ما يمكن إظهاره من الدلائل الشرعية كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] (¬2). أي: لا يُعمل إلا بالدليل الظاهر. قال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، وقال تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ} [الغاشية: 17]، {أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27]، إلى غير ذلك من الأمر بالاستدلال، ولم يأمر بالرجوع إلى القلب. وفي السُّنة قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: "بم تحكم؟ " (¬3) الحديث، لم يذكر له إلهام القلب. ¬

_ (¬1) مصنف عبد الرزاق (16507) بنحوه، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 11728). قال الحافظ ابن الملقن في (البدر المنير، 7/ 143): (هذا الأثر صحيح). (¬2) تقويم الأدلة (ص 393 - 394). (¬3) سنن أبي داود (رقم: 3592) بلفظ: (كَيْفَ تَقْضِي؟ )، سنن الترمذي (رقم: 1327). قال الألباني: =

قال علماؤنا: ونقول لأهل الإلهام: ما قولكم في "الإلهام"؟ أهو حُجة عند موافقة الشرع؟ أو مطلقًا؟ فإنْ عَمَّموا حتى في مخالِف الشرع فقد خرقوا قواعد الإسلام، وإنْ خَصَّصوا بما يوافق الشرع فذلك متوقَف على النظر في دلائل الشرع. ثم الإلهام قد يكون من الله عز وجل وقد يكون من الشيطان وقد يكون مِن النفس، ولا حَقّ منها إلا ما كان مِن الله، فكيف يكون حُجة على الإطلاق؟ ! وأما الجواب عن حججهم فالمراد بإلهامها فجورها وتقواها: تعريفها طُرق العلم والحجج، وكذا كل ما ذكروه في الإنسان، فهذا هو المراد به. وأما الفطرة فهي أنَّ الآدمي يُخلق وعليه أمانة الله التي قَبِلها اَدم عليه السلام، فيكون على فطرة الدِّين. وأما الوحي للنحل ونحو ذلك فذلك تسخير لها وخَلْق لِمَا تفعل ونحو ذلك. وأما الفراسة فليست مما نحن فيه؛ لأنَّ المراد أنها قد تصيب؛ لكونها مِن الله، لا أنها دائمًا كذلك، فقد تكون من الشيطان أو من النفس). قال: (ونقول في التمييز بين الحق والباطل: إنَّ كل ما استقام على شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن في الكتاب والسُّنة ما يرده فهو مقبول، وما لا فمردود، ويكون من تسويلات النفس، على أنَّا لا ننكر ورود نور من الله تعالى كرامة للعبد وزيادة نظر له، وأما أنه يرجع إلى قلبه في جميع الأمور فَقَوْل لا نَعْرفه) (¬1). انتهى ¬

_ = ضعيف. (ضعيف أبي داود: 3592). (¬1) هذا كلام ابن السمعاني في كتابه (قواطع الأدلة في أصول الفقه، 2/ 352) بعد أنْ نقل كلام القاضي أبي زيد.

قال ابن السبكي في "شرح المختصر": (ومع كوننا لا ننكره فَلَسْنَا نزعم أنه حُجة شرعية، وإنما هو نور في القلب يخص الله به من يشاء من عباده، فإذا وافق الشرع، كان الحجة ذلك الشرع، لا ما قام في الذهن. ونقول: رُب صالح عالِم مطعمه حلال ومشربه حلال وملبسه حلال -يختصه الله بأنْ يلهمه الصواب، ولا يَحِل له في ظاهر الشرع الاحتجاج بذلك؛ لأنه ليس بمعصوم؛ فلا ثقة له بخواطره) (¬1). قولي: (وَلَيْسَ مَا يَحْصُلُ مِن ذَا الْمُلْهَمِ) البيت إشارة إلى ما قاله الإمام شهاب الدين السهروردي في بعض "أماليه": إن الإلهام علوم تحدث في النفوس المطمئنة الزكية. قال: وفي الحديث: "إن من أُمتي محدثين ومكلمين، وإن عمر منهم"، وقال تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8]، فأخبر أن النفوس ملهمة، والنفس الملهمة علومًا لدنيَّة هي التي تَبدلت صفتها واطمأنت بعد أن كانت أمَّارة. ثم نبه على أمر حسن يرتفع به الخلاف، فقال: وهذا النوع لا يتعلق به المصالح العامة من عالم الملك والشهادة، بل تختص فائدته بصاحبه دُون غيره؛ إذ لم يكن له ثمرة السراية إلى الغير على طريق العموم وإنْ كانت له فائدة تتعلق بالأغيار على وجه خاص. قال: وإنما لم يكن له ثمرة السراية إلى الغير على طريق العموم لكون محله النفس وقربها من الأرض والعالم السفلي، بخلاف المرتبة الأُولى وهي الوحي الذي قام به الملَك [المُلَقَّى] (¬2)؛ لأنَّ محله المجانس للروح [الروحاني] (¬3) العلوي. ¬

_ (¬1) رفع الحاجب (4/ 591). (¬2) أو: المُلْقِي. (¬3) كذا في (ق)، لكن في (ش): الهيجاني. وفي (ص، س، ت، ض): الريحاني.

تنبيهات الأول: رد الماوردي على مَن يقول بأنَّ الإلهام حُجة، فقال: (نقول له: لِمَ قلت ذلك؟ فإنِ استدل بغير الإلهام مِن الأدلة فَقَدْ ناقض، وإنِ استدل بالإلهام فَقَدِ استدل على الشيء بنفسه) (¬1). وحذف الروياني هذا الدليل. وبعْم ما فعل، لأنَّ القائل بالإلهام لا يمنع الاحتجاج بغيره مِن الأدلة، والقائل به إنما يقول ذلك، لا أنه يحصُر الدليل في الإلهام، فلا يقال له: ناقضت. الثاني: منهم مَن حمل قول الاحتجاج بالإلهام على أنَّ فيه تقوية لِمَا يَكون حُجة شرعية، لا أنه دليل مستقل كما يقال: الإجماع دليل، القياس دليل، إلى غير ذلك. وقد أفاد الماوردي والروياني أن مَن يقول: (إنَّ الإجماع يكون بغير سند) أنه اعتمد على التوقيف المجرد. الثالث: قد تَقدم أن النور المقذوف في القلب لا مانع منه، فكيف يناسب هذا ما قاله القوم: إنَّ الكرامة لا يظهرها صاحبها باختيار. وما ذكرتم فيه أنه يقصد إظهارها؟ وجوابه أن هذا قول لبعض الأئمة، وقد قال إمام الحرمين في "الشامل": إنه غير مَرْضِي عند المحصلين. بل قد يُظهرها اختيارًا، إما لبشارة أو نذارة أو تربية، فربما قصد الشيخ أنْ يُظهِر لمريده كرامة، تربيةً له، ليزيده فيه اعتقادًا يَحْمِله على الانقياد له، بِشَرْط أن لا يقارِن ذلك مُشَوِّش مِن رؤية النفْس أو نحو ذلك كما أشار إليه الشافعي - رضي الله عنه - بقوله: أود أنْ يشيع ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (16/ 54).

هذا العِلم في الناس ولا يُنْسَب إلَيَّ منه شيء. الرابع: يَقْرُب مِن الإلهام مَن رأى في منامه النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمره بشيء أو ينهاه عن شيء، ومَن رآه فقد رآه حقًّا. قال أصحابنا: لا يجوز اعتماده؛ لعدم ضبط الرائي؛ فإنَّ النائم لا ضبط له، وغاية الرائي أنه راوٍ. كذا جزم به القاضي حسين في "فتاويه" في الصوم، وقال: لو قال لنا قائل: "رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام وقال لي: غدًا من رمضان"، قُلنا له: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته" (¬1). وكذا جزم جهذا الحكم الرافعي في "كتاب النكاح" وغَيْرُ واحد، وعللوه بما ذكرناه. وفيه نظر؛ فإنَّ الصبي إذا تحمَّل وأدَّى بَعْد البلوغ ما ضَبَطَه، قُبِل وعُمِل بقوله. وغاية هذا النائم أنه قد لا يضبطه، فإذا ضبط وحَقَّق هذا، فلِمَ لا يُعمل به والكلام فيما ليس فيه مخالفة لِمَا وَرَد عنه في اليقظة ولا موافَقة؟ فإنَّ الموافِق لا يُحتاج إليه، والمخالِف مطرح بما في اليقظة كما أشار إليه القاضي الحسين فيما سبق. وعَلله الشيخ تقي الدين السبكي بأنَّ الذي أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ مَن رآه في النوم فقد رآه حقًّا، ولم يخبر بأنه يقول له أو يُكلمه. قال: والنائم ليس على يقين مِن كلامه؛ فمِن هنا كان غير حُجة. قال في "شرح المنهاج" في "باب الوصية": فنقول للنائم: الذي جاءت به الشريعة تصديقك في أنك رأيت، لا في أنك سمعت. فإنْ قال: لا أَمْتَرِي في سماع نفسي. قُلنا له: حُكم الله لا يُتَلَقَّى إلا مِن لفظٍ أو مِن استنباط، ولَسْتَ في شيء منهما، ولَسْنَا على قَطْع بأنَّ ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

سماعك [تلقي] (¬1) للخطاب مِن تلك الصورة الظاهرة التي لا يتمثل الشيطان بها. فإنْ [جاءك القَطْع] (¬2) بسماعه منها لا مِن غيرها، لم نجد إلى ذلك سبيلًا غير أَمْر أَوْقَعَه الله في قلبه، وليس ذلك إلا لبعض الآحاد، ثم ليس هذا الشرع الظاهر الذي أَلْزَم الله عباده به قاطبة. وفي كتاب "الجدل" للأستاذ أبي إسحاق أن بعض أصحابنا ذهب إلى العمل بمقتضى الرؤيا. قال: ولا بأس عندي بالذهاب إلى ذلك ما لم يخالِف شرعًا ظاهرًا. قال الشيخ تقي الدين السبكي: يحسُن العمل بذلك، ولكن لا سبيل إلى الإيجاب؛ لاحتياج ذلك إلى دليل ظاهر يدل عليه، وليس فيما ذكر ما يدل عليه. فائدة في أدلة مختلَف فيها لم نذكرها في النَّظم هنا: لِمَا سنذكره: منها: الأخذ بأقل ما قيل، وقد سبق ذِكره في "كتاب الإجماع". ومنها: المصالح المرسلة، وقد سبق بيانه في "باب القياس". ومنها أنَّ: الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار التحريم: أما الأول: فلقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، فإنه دليل على الإذن لهم فيما اختصهم به بقوله: {لَكُمْ}. وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، فإن الاستفهام للإنكار؛ فيكون حلالًا. وقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4، 5] فإنه دليل الاختصاص بهم، والطيبات هي المباحات. ¬

_ (¬1) في (ق) كأنها: يكفي. (¬2) في (ق، ش): حاول القطع. وفي (س، ت): قال أقطع.

وأما الثاني: فلقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا إضرار في الإسلام" (¬1). رواه ابن ماجه (¬2) من حديث ابن عباس وعبادة بن الصامت بدون قوله: "في الإسلام". وكذا رواه الحاكم من حديث أبي سعيد وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم. ورواه بهذه الزيادة أبو داود في " المراسيل" من حديث واسمع بن حبان (¬3)، ووصله الطبراني في "الأوسط" من روايته عن جابر (¬4). ورواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن ضار، أَضَر الله به، ومَن شاق، شق الله عليه" (¬5). ووَجْه الدلالة: عموم نَفْي، الضرر وهذا النفي ليس واردًا على الإمكان ولا على الوقوع قطعًا، بل على الجواز. فإذا انتفى الجواز، ثبت التحريم، وهو المدَّعَى. وإنما لم أذكر ذلك مِن الأدلة المختلَف فيها في النَّظم؛ لأنه حُكم بعد ورود الشرع بدليل شرعي، لا أنه نفسه دليل، غايته أنه قاعدة كلية. وسيأتي من قواعد الفقه أن "الضرر يُزال". و"القاعدة" هي: الأمر الكُلي المنطبق على جزئيات، لا أنها دليل. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سنن ابن ماجه (رقم: 2341)، المستدرك على الصحيحين (رقم: 2345) بلفظ: "لا ضرر ولا ضرار". وصححه الألباني في (إرواء الغليل، رقم: 896). (¬3) المراسيل (ص 294، رقم: 407). (¬4) المعجم الأوسط (رقم: 5193). وفي إسناده محمد بن إسحاق، قال الشيخ الألباني في (إرواء الغليل: 896): (هو ثقة، ولكنه مدلس، وقد عنعنه). (¬5) مسند أحمد (15793)، سنن أبي داود (رقم: 3635)، سنن الترمذي (رقم: 1940)، سنن ابن ماجه (رقم: 2342)، وغيرهم. قال الألباني: حسن. (صحيح أبي داود: 3635).

ومنها: "سد الذرائع": والقائل به المالكية. و"الذرائع" بالمعجمة: الوسائل. والمراد: سَد باب الوسائل المؤدِّية إلى محذور في الشرع. قال القرافي: (وليس كما يُظَن أنه خاص بالمالكية؛ فقد أجمعت الأُمة على أنَّ الذرائع على ثلاثة أقسام: أحدها: معتبَر إجماعًا، كحفر الاَبار في طُرق المسلمين، وإلقاء السم في أطعمتهم، ويسَب الأصنام عند مَن يُعْلَم مِن حاله أنه يَسب الله تعالى حينئذٍ. وثانيها: مُلغًى إجماعًا، كزراعة العنب، فإنه لا يُمْنَع خشية الخمر، والشركة في سُكنى الأدر خشية الزنَا. وثالثها: مختلَف فيه، كبيوع الآجال، اعتبرنا نحن الذريعة فيها، وخالفنا غيرنا). قال: فحاصل القضية أنَّا قُلنا بسد الذرائع أكثر مِن غيرنا، لا أنها خاصة بنا. ثم قال: (واعْلَم أن الذريعة كما يجب سَدُّها يجب فتحها، ويُكره ويندب ويباح، فإنَّ "الذريعة" هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرَّم محرَّمة فوسيلة الواجب واجبة، كالسعي للجمعة والحج. وموارد الأحكام على قسمين: "مقاصد"، وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها. و"وسائل" وهي الطُّرق المفْضِيَة إليها، وحُكمها حُكم ما أَفْضَت إليه من تحريم أو تحليل، غَيْر أنها أَخْفَض رُتبة من المقاصد في حُكمها، فالوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما يتوسط متوسطة. ويُنبِّه على اعتبار الوسائل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120]، فأثابهم على الظمأ والنصب وإنْ لم يكونَا مِن فِعلهم؛ لأنهما حصلَا لهم بسبب التوسل إلى الجهاد الذي هو وسيلة لإعزاز الدِّين وصون

المسلمين) (¬1). انتهى قلت: فبان بذلك أن سد الذرائع راجع إلى قاعدة مقدِّمة الواجب، فَلْيُكْتَفَى بما سبق في "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" مفصلًا. ومنها "دلالة الاقتران" غير حُجة، خلافًا لأبي يوسف والمزني، ترتب عليها الاستدلال على إيجاب الكتابة بقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]؛ لاقترانه بإيجاب الإيتاء. ونقل ذلك [مجلي] (¬2) عن صاحب "التقريب" فيما إذا طلب العبد الكتابة. ومَن لا يقول بدلالة الاقتران قال: لا تجب الكتابة. وهُم جادة الشافعية. وقال إمام الحرمين: لم أَرَ على مذهب الشافعي مسألة أصعب من مسألة الإيتاء. ومما يترتب على الخلاف أيضًا قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]، مشهور المذهب أنه يجب الإطعام ولا يجب الأكل. ومن ذلك حديث: "خَمْس مِن الفطرة" (¬3). فإنَّ بعضها واجب. ومنه أيضًا حديث: "حتيه، ثم اقرصيه، ثم اغسليه بالماء" (¬4). قال الشافعي: الماء مُتَعَين للإزالة. ولم يُبال باقترانه بما ليس بواجب وهو الحت والقرص. وقد سبقت المسألة في باب العموم، وذكرتُ أنَّ كثيرًا ما تذكر في باب الأدلة المختلَف فيها، وسبق فيها زيادة إيضاح، فليراجَع مِن ثَمَّ. ¬

_ (¬1) شرح تنقيح الفصول (ص 448 - 449). (¬2) في (ق): محكي. (¬3) صحيح البخاري (رقم: 5550)، صحيح مسلم (رقم: 257). (¬4) سبق تخريجه.

ومنها: الاستدلال بالتلازم: وقد سبقت الإشارة إليه في مواضع. وبالجملة فتترجم أنواع الأدلة المختلَف فيها بِـ "باب الاستدلال". وفيما ذكرناه من ذلك كفاية في هذا المختصر والله تعالى أعلم. تذنيب: 913 - قَدْ قُرِّرَتْ في فِقْهِنَا قَوَاعِدُ ... وَفي أُصُولهِ لَهَا شَوَاهِدُ 914 - مِنْهَا: "الْيَقِينُ الشَّكُّ لَا يَرْفَعُهُ" ... وَذَا في الِاسْتِصْحَابِ مَا يَنْفَعُهُ الشرح: لما كان مما يشبه الأدلة - وليست بأدلة - القواعد التي قد ثبت مضمونها بالدليل وصارت يُقْضَى بها في جزيئاتها كأنها دليل على ذلك الجزئي، ناسَبَ أن يُذكر هنا شيء مِن مهمات قواعد مذهب الشافعي التي صارت مشهورة متسعة الفروع، ولكنها في الحقيقة راجعة إلى قواعد في أصول الفقه، وذكرتها وأشرتُ إلى ما يرجع كل منها إليه مِن قواعد أصول الفقه باختصار، وهذا معنى قولي: (وَفي أُصُولِهِ لَهَا شَوَاهِدُ). وبالجملة فحق على مَن يروم أحكام عِلمٍ أن يضبط قواعده؛ لِيَرُد إليها منتشر فروعه وشوارده، ثم يؤكد بالاستكثار مِن حِفظ الفروع؛ ليرسخ في الذهن؛ فتثمر بفضلٍ غير مقطوع ولا ممنوع. قال إمام الحرمين في كتاب "المدارك": (الوجه لكل مُتَصَدٍّ للإقلال بأعباء الشريعة أن يجعل الإحاطة بالأصول سوقه الآكد، و [ينص] (¬1) مسائل الفقه عليها [نَص] (¬2) مَن يحاول ¬

_ (¬1) كذا في (ق، ش)، لكن في (س): يفض. وفي (ت): بعض. (¬2) كذا في (ق، ش)، لكن في (س، ت): فضَّ.

بإيرادها تهذيب الأصول، ولا ينزف حمام ذهنه في وضع الوقائع -مع العِلم بأنها لا تنحصر- مع الذهول عن الأصول). انتهى واعلم أن قواعد فقه مذهبنا كثيرةٌ جدًّا، غَيْر أنَّ القاضي الحسين لَمَّا بَلَغه حكاية أبي طاهر الدباس -إمام الحنفية بما وراء النهر- حيث رد جميع مذهب أبي حنيفة رحمه الله إلى سبع عشرة قاعدة وأنه كان يضنّ بتعليمها، رد القاضي مذهب الشافعي -رحمه الله- إلى أربع قواعد: "اليقين لا يُزال بالشك"، و"الضرر يُزال"، و"المشقة تجلب التيسير"، و"العادة محكمة". قال إمام الحرمين: في كون هذه الأربع دعائم الفقه نَظَر؛ فإنَّ غالبه لا يَرْجع إليها إلا بوسائط وتَكَلُّف. قال الحافظ العلائي: ورأيت فيما علقت بالقاهرة عن بعض الفضلاء أنه ضم إلى الأربع خامسة، وهي: " الأمور بمقاصدها"؛ لحديث: "إنما الأعمال [بالنيات] (¬1) " (¬2)، وقال: بُنِي الإسلام على خمس والفقه على خمس. وما قاله حسن؛ لأنَّ الشافعي قال: يدخل في هذا الحديث ثُلث العِلم. نعم، ردها بعضهم إلى بعض الأربع كما سنذكره في محله. وردَّ الإمام ابن عبد السلام الفقه كُله إلى اعتبار المصالح ودرء المفاسد، ولو ضايقه مضايق لقَال: وَرَدُّ الكل إلى اعتبار المصالح؛ فإنَّ دَرْء المفاسد مِن جُملتها. ولكن كل هذا فيه تَعَسُّف أو إجمال شديد، والقواعد وإنْ زادت على المائتين لكن هذه الخمس متسعة جدًّا؛ فلذلك أحببنا أن نذكر شيئًا من بيانها. ¬

_ (¬1) كذا في (ق، ش)، لكن في (ت): بالنية. وفي غيرهم: كثير. (¬2) سبق تخريجه.

الأُولى: "اليقين لا يُرْفَع بالشك": [بل] (¬1) الأمر فيما تُيُقِّنَ باقٍ على حاله؛ لحديث عبد الله بن زيد المازني شكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجُل يُخيل إليه أف يجد الشيء في الصلاة، قال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا" (¬2). أخرجاه، ولمسلم: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا فأشكل عليه أَخَرَج منه شيء؟ أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا" (¬3). فمَن شك في امرأة هل تَزوجها؟ أم لا؟ لم يكن له وطئها؛ استصحابًا لحكم التحريم إلى أنْ يتحقق تَزَوُّجه بها اتفاقًا. وكذا لو شك هل طَلَّق زوجته؟ أو لا؟ لا يقع عليه شيء، وله أنْ يطأ حتى يتحقق الطلاق؛ استصحابًا للنكاح. ولا تختص هذه القاعدة بالفقه، بل الأصل في كل حادث عَدَمه حتى يتحقق، كما نقول: الأصل انتفاء الأحكام عن المكلَّفين حتى يأتي ما يدل على خلاف ذلك، والأصل في الألفاظ أنها للحقيقة، وفي الأوامر للوجوب، والنواهي للتحريم، والأصل بقاء العموم حتى يتحقق ورود المخصِّص، وبقاء حُكم النَّص حتى يَرِد الناسخ، وغير ذلك مما لا حصر له. ولأجْل هذه القاعدة كان الاستصحاب حُجة، بل يكاد أنْ يكونَا مُتَّحِدَين؛ ولذلك قلتُ في النَّظم: (وَذَا في الِاسْتِصْحَابِ مَا يَنْفَعُهُ). ومما يبنى عليه أيضًا أنَّ المانع لا يطالَب بدليل؛ لأنه مُستنِد للاستصحاب، كما أن المدعَى عليه في باب الدعوى لا يطالَب بحجة، بل القول في الإنكار قوله بيمينه كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "البينة ¬

_ (¬1) كذا في (ت)، لكن في سائر النسخ: بل يبقى. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 137)، صحيح مسلم (رقم: 361). (¬3) صحيح مسلم (رقم: 362).

على المدَّعِي، واليمين على المدَّعَى عليه" (¬1). وفي رواية: "على مَن أنْكَر" (¬2). تنبيهات الأول: المراد هنا بِـ "الشك" [المعنى] (¬3) اللغوي فيه، وهو مطلق التردد، أَعَم مِن استواء الطرفين ومن رجحان أحدهما. وأما ما قاله الرافعي في يقين الحدث أنه يُرْفَع بِظَن الطهارة وتبعه عليه في "الحاوي الصغير" فوَهَّموه فيه؛ إذ لا فرق في ذا الباب بينهما، كما أن يقين الطهر لا يرتفع لا بِشَك ولا بِظن. نعم، إذا كان منشأ الظن الغلبة كما في ثياب مدمني الخمر وأوانيهم وثياب القصابين والصبيان الذين لا يتوَقون النجاسة وطين الشوارع الذي لا يتيقن نجاسته ومقبرة شك في نبشها وأواني الكفار المتدينين بالنجاسة ونحو ذلك، ففيه قولان للشافعي، وأصحهما تقديم الأصل. وُيعَبَّر عنهما بقولي: (تَعارُض الأصل والظاهر) ومرة بِـ "تَعارُض الأصل والغالب". ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (رقم: 1341)، سنن الدارقطني (4/ 157، 4/ 218)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح الترمذي: 1341). (¬2) السنن الكبرى للبيهقي (20990). قال الألباني في (إرواء الغليل: 2641): (هذا إسناد صحيح). وفي سنن الدارقطني (3/ 110 - 111، 4/ 218) والسنن الكبرى للبيهقي (16222) بلفظ: (البينة على مَن ادَّعَى واليمين على مَن أنكر إلا في القسامة). من طريق مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن جريج. قال الألباني في (إرواء الغليل: 2641): (الزنجى .. ضعيف، وابن جريج مدلس وقد عنعنه، وبالجملة فهذه الطرق واهية). (¬3) كذا في (ت)، لكن في سائر النسخ: بالمعنى.

والعبارتان بمعنى واحد، خلافًا لقول بعضهم: إنَّ الفرق بينهما أن الغالب ما يغلب على الظن مِن غير مشاهدة. قال: وهذا يُقدَّم الأصل فيه، و"الظاهر": ما يحصل بمشاهدة، كبول الظبية في ماء فيوجد متغيرًا، أو إنزال المرأة الماء بعدما اغتسلت وقضت شهوتها، فيقدَّم الظاهر. والراجح تسوية الظاهر والغالب؛ لأنَّ "الظاهر" هو ترجح وقوعه، فهو مُساوٍ للغالب. نعم، قد يقطع بتقديم الغالب على الأصل، كاستعمال السرقين في الفخار. قال الماوردي: فيحكم بنجاسته قطعًا. ومِثله الماء الهارب في الحمام؛ لاطراد العادة بالبول فيه. ومما يُقطع فيه بتقديم الظاهر أيضًا تقديم مَن قامت البينة بملكه على مَن المدَّعى به في يده، فإنَّ الأصل عدم الملك، والظاهر مِن اليد الملك. وقد يقطع بتقديم الأصل بأنْ تندر أسباب الظاهر، كمَن تيقن الطهارة وظن الحدث. وقد يرجح تقديم الأصل، وقد يرجح تقديم الظاهر، ومحل بسط ذلك الفقه. وإنما خُولِف الاستصحاب للأصل بقطع أو رجحان في ما خالف بمرجِّح مِن خارج، وكذلك القول فيما لو عُورِض أصل بأصل آخَر فرجح أحد الأصلين، فإنما يقع الترجيح بأمر خارجي، فهو وإن كان فيه قولان كما في تَعارُض الأصل والظاهر إلا أن أحدهما قد تَرجَّح مِن جهة أخرى. قال صاحب "الذخائر" في "باب زكاة الفطر": وعلى المجتهد ترجيح أحدهما بوجه من وجوه النظر، فلا يُظن أنَّ تَقابُل الأصلين يمنع المجتهد من إخراج الحكم، إذ لو كان كذلك لَخَلَت الواقعة عن حُكم الله تعالى، وهو لا يجوز. وقال الماوردي: إذا تَعارضَا، أخذ بالأحوط؛ ولهذا لو شك وهو في الجمعة هل خرج

الوقت؟ أو لا؟ أتم الجمعة على الصحيح، فإنَّ الأصل بقاء الوقت. ولو شك قبل الشروع فيها في بقاء الوقت، لم يجمع؛ لأنَّ الأصل وجوب الظهر. وقيل: يجوز؛ لأنَّ الأصل بقاء الوقت. وأمثلة هذا كثيرةٌ جدًّا. الثاني: قال إمام الحرمين في "البرهان" وفي باب "الشك في الطلاق" من "النهاية": (إنَّ ما اشتهر في قواعد الفقه أن "اليقين لا يُرفَع بالشك" فيه تَجَوُّز؛ إذِ اليقين لا يجتمع مع الشك، وإذا طرأ الشك فلا يقين. وإنْ أرادوا أنَّ اليقين السابق لا يُترك بالشك الطارئ فليس هذا على الإطلاق، بل إذا طرأ الشك لم يَخْلُ مِن ثلاثة أحوال) (¬1) إلى آخِر ما قال. وجواب ما أشار إليه مِن الإشكال أن اليقين كان أولًا، والمستمر بعد ذلك استصحاب حُكمه وليس بيقين، فيجوز أنْ يتعارض مع تَردُّد في حصول طارئ يَرفع الحكم المستصحَب. الثالث: استثنى ابن القاص في "التلخيص" من قاعدة "إنَّ اليقين لا يُرفَع بالشك" إحدى عشرة مسألة، وَرَدَّ عليه القفال الكل، ولكن الأرجح مع ابن القاص في كثير: أحدها: شك ماسح الخف هل انقضت مُدته؟ أو لا؟ فإنه يأخذ بالانقضاء وإنْ كان الأصل بقاؤها. ثانيها: شك هل مسح في الحضر؟ أو في السفر؟ يأخذ بأنه مسح في الحضر. وردَّه القفال بأنه لم يَزُل اليقين بالشك، بل لأنَّ الأصل غسل الرجلين، فلا يُعْدَل إلى ¬

_ (¬1) البرهان في أصول الفقه (2/ 737).

المسح إلا بيقين. والأرْجَح مع ابن القاص. ثالثها: أحرم المسافر بِنِيَّة القصر خَلْف مَن لا يدري أهو مسافر؟ أو مقيم؟ لا يقصر. ورُدَّ بأن ذلك إنما هو لأنَّ القصر رخصة ولم يتحقق شرطُه. رابعها: بالَ حيوان في ماءٍ كثيرٍ ووُجِد متغيرًا، فإنه نجس على النَّص مع أنَّ الأصل عدم التغيُّر. ورُدَّ بأن إحالة التغير على البول المتيقَّن أَوْلى مِن إحالته على طُول المكث، فإنه مظنون، فَقُدِّم الظاهر على الأصل. خامسها: المتحيرة يَلزمها الغسل عند كل صلاة تشك في انقطاع الدم قبلها مع أنَّ الأصل عدم انقطاعه. ورُدَّ بأن الأصل باقٍ في الذمة، فإذا شكت في الانقطاع، وجب الغسل. والأرجح قول ابن القاص، وهو قريب من صورة الشك في الحدث، لكن الأمر بالاحتياط هناك اقتضَى ذلك. سادسها: مَن شك في موضع النجاسة مِن الثوب، يغسله كله مع أنَّ الأصل -في غير ذلك الموضع مِن الثوب- الطهارة. ورُدَّ بأنه ممنوع من الصلاة، ولا يتحقق الطهارة إلا بغسل الجميع. سابعها وثامنها: شك مسافر أَوَصَل بَلَدَه؟ أم لا؟ أو: هل نوى الإقامة؟ أو لا؟ لم يترخص مع أن الأصل بقاء السفر وعدم وصوله. ورُذَ بأن الأصل الإتمام، والقصر رخصة، فلا يعْدل إلى الرخصة إلا بيقين. وحكى القفال في السابعة وجهًا بالجواز، ولم يذكره في الثامنة، وذكره الإمام نقلًا عن

حكاية الشيخ أبي علي. تاسعها: مَن به حدث دائم إذا توضأ ثم شك هل انقطع حدثه؟ أم لا؟ فصلى بطهارته، لم يصح مع أن الأصل الاستمرار. ورُدَّ بأن طهارته ضرورة، فإذا شك في الانقطاع فقد شك في السبب المُجَوِّز؛ فيرجع إلى الأصل. والأرجح مع ابن القاص. عاشرها: المتيمم إذا تَوهَّم الماء، بَطُل تيممه مع أن الأصل عدمه وإنْ بَانَ أنْ لا ماء. ورُدَّ بأن تَوهُّم الماء يوجِب الطلب، وذلك مُبْطل للتيمم. والأرجح مع ابن القاص؛ فإنَّ مجرد الوهم قد [أعملناه] (¬1) في إبطال المتيقن وهو الطهارة، ونحن إذا [ننظر] (¬2) للأصل الموجود أسقطناه بالشك. حادي عشرها: رمى صيدًا فجرحه ثم غاب فوجده ميتًا، وشَكَّ هل أصابه شيء آخَر مِن رمية؟ أو حجر؟ فإنه لا يحل، وكذا في إرسال الكلب. ورُدَّ بأنَّ فيه قولين، فإنْ أَجَزْنَا أَكْله فلا استثناء، وإنْ منعناه فالأصل التحريم وقد شككنا في الحل. وهذا ردٌّ جيدٌ، وقد رجح جَمعٌ الحل، وهو الأرجح دليلًا وإنْ صحح الجمهور التحريم. واعْلَم أنَّ الإمام والغزالي ذكرَا عن صاحب "التلخيص" أربعًا: الأُولى والسابعة والثامنة، وأخرى غير الأحد عشر، وهي: لو شكوا في انقضاء وقت الجمعة، صلوا الظهر ¬

_ (¬1) في (ق): أعلمناه. وفي (ص): أعلمنا. (¬2) في (ت): لم ننظر.

وإنْ كان الأصل بقاء الوقت. ولم يذكرها القفال؛ لأنها ليست في "التلخيص". ويمكن ردها على [طريقةٍ] (¬1)؛ لأنَّ الأصل وجوب الأربع ركعات؛ فلا يعْدل عن الركعتين إلَّا بيقين. هذا ما نقله شيخنا بدر الدين الزركشي عن شيخنا شيخ الإسلام أبي حفص البلقيني وأنَ النووي قال في "شرح المهذب": الظاهر قول ابن القاص في أكثر المسائل. وأنه ذكر ذلك في تسع مسائل، وسكت عن ثلاث، وهِي: مسألة الثوب المتنجس بعضه، ومسألة المصلِّي خلف مَن يشك في سفره، ومسألة الصيد. وهو معذور في مسألة الثوب، ولو صح استثناؤها، لَزم استثناء مَن نَسى صلاة مِن خمس ونحوها. ولا نفرق بِـ "أنَّا تَحققنا اشتغال ذمته بصلاة؛ فلا طريق للبراءة إلا أنْ يأتي بالخمس، بخلاف الثوب، فإنَّ له مندوحة أنْ يُصَلي في غيره "؛ لأنَّ الكلام فيما إذا أراد الصلاة فيه. وأما مسألة المسافر فهو معذور أيضًا؛ لأنه ليس معنا أصل مستصحب في هذه المسألة بخصوصها، وشرط القصر الجزم بنيته أو تعليقها مع عِلم سفر الإمام المبيح للقَصْر. وأما مسألة الصيد فعُذْره فيها واضح مِن جهة أنَ المبيح لم يتحقق، فصار كمَن وجد ذبيحة لا يدري هل هي من ذبيحة المسلمين؟ أو المجوس؟ أو لا يدري هل هو من مُذَكى؟ أو من ميت؟ أو لا يدري هل هو لبن معز؟ أو أتان؟ أو لا يدري أهو سم قاتل؟ أو غيره؟ فإنَّ النووي جزم بتحريم ذلك كله. واستثنى النووي في "شرح المهذب" زيادة على ذلك: الشك في مسح الرأس بعد الوضوء، والشك في أركان الصلاة بعد السلام، فإنه غير مؤثِّر فيهما على الأصح. ¬

_ (¬1) أو: طريقِهِ.

وفي الاستثناء نظر؛ لأنَّ العبادة مضت كاملة على غلبة ظن المكلَّف، فلا أثر لِمَا يحدث مِن الشك. قال شيخنا شيخ الإسلام البلقيني: ووَجْه استثناء النووي هاتين أنَّ ابن القاص قال في أول كلامه: "مَن شك في فِعل شيء أو تركه فالأصل أنه لم يفعله". ثم استثنى الأحد عشر ولم يَستثنِ هاتين الصورتين. نعم، يزاد على ما سبق مِن الصُّوَر: المقبرة إذا شك في نبشها، لا تصح الصلاة فيها مع أنَّ الأصل عدم النبش. والمرأة إذا جُومِعَت وقضت شهوتها واغتسلت ثم خرج منها مَني، تعيد الغسل مع أنَّ الأصل أنه لم يخالِط مَني الرجل شيء مِن مَنيِّها. ولو رأى مَنيًّا في ثوبه أو فرشه الذي ينام فيه غيره ولم يذكر احتلامًا، لَزِمَه الغسل على الأصح مع أنَّ الأصل عدم الحدث. وإذا نام غير مُمَكّن المقعدة، ينتقض وضوءه مع أنَّ الأصل عدم خروج الريح منه. والهرة إذا تَنَجَّس فَمُها ثم غابت واحتمل طهر فَمِها ثم لاقى فَمُها ماءً قليلًا، لا ينجس مع أنَّ الأصل بقاء نجاسة فَمِها. ولو وقعت نجاسة في ماء مشكوك في أنه قُلتان أو أقل، جَزَم جَمْعٌ بتنجسه. نعم، رجَّح النووي أنه طهور؛ فلا استثناء. ولو شك بعد فراغه مِن صوم يوم في الكفارة الواجب تتابعه هل نوى فيه؟ أم لا؟ لا يؤثِّر على الصحيح. نقله في "زوائد الروضة" عن الروياني مع أنَّ الأصل عدم النية، وقَضِيَّتُه طَرْد مِثله في الصلاة، لكن البغوي صرَّح بالتأثير فيها. ولو اقتدى بإمام فَسلَّم مِن صلاته ثم شك هل كان نوى الاقتداء؟ أو لا؟ فلا شيء

عليه، وصلاته صحيحة مع أنَّ الأصل عدم النية. ومَن عليه فائتة فَشَكَّ في قضائها، لا يَلْزَمه قضاؤها كما قاله ابن عبد السلام في "مختصر النهاية" في "باب سجود السهو" مع أنَّ الأصل بقاؤها. ومَن أكل مِن مال صديقه بغير إذنه وغلب على ظنه أنه لا يَكره ذلك، جاز مع أنَّ الأصل عدم رضاه. والمفقود مُدة يغلب موته فيها، يُحْكَم بموته ويُقسم ميراثه مع أنَّ الأصل الحياة. ولو قدَّ مَلْفُوفًا نِصفين، فمَن صحَّح أنَّ القول قول الولي، عمل بالشك وطرح الأصل وهو براءة الذمة، وهو مِن مشكلات الفقه. والجرح الذي يحتمل الزهوق يُحال الحكم عليه مع أنَّ الأصل عدم تأثيره. وحلف الوارث على دين مورثه بما يظن بخط مورثه أو نحوه. والشك في عدد غسلات الوضوء عند الشيخ أبي محمد لئلا يرتكب الزائد. وخالفه الأكثر. واقتصاص الوكيل في الغيبة مع احتمال العفو مع أنَّ الأصل بقاء الوكالة، لكن لخطره عُمِل بالشك على رأيٍ. وغير ذلك من الفروع. والله أعلم.

ص: 915 - وَ"ضَرَرٌ يُزَالُ"، وَ"الْمَشَقَّهْ ... تَجْلُبُ تَيْسِيرًا" يُرَاعِي حَقَّهْ 916 - كِلَاهُمَا في كَوْنِ عِلَّةٍ [يُرَى] (¬1) ... لِلدَّفْعِ أَوْ لِلرَّفْعِ فِيمَا قُرِّرَا الشرح: القاعدة الثانية: "الضرر يُزال": أي: يجب إزالة الضرر. ودليلها ما سبق من حديث: "لا ضرر ولا إضرار" (¬2)، وقد سبق قريبًا بيان مَن رواه، وذلك في أواخر الأدلة المختلَف فيها في أنَّ الأصل في المنافع الإباحة. ونزيد هنا أنَّ أبا داود قال: إنَّ الفقه كله يدور على خمسة أحاديث: "الأعمال بالنيات" (¬3)، و"الحلال بَيِّن والحرام بيِّن" (¬4)، و"مَن أَحْدَث في دِيننا ما ليس منه فهو رَدٌّ" (¬5)، و"مِن حُسْن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" (¬6)، وحديث: "لا ضرر ولا إضرار"، ويروى: ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ض، ت، ش، ن 5). لكن في (ن 1، ن 2، ن 3، ن 4): ترى. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) صحيح البخاري (رقم: 52)، صحيح مسلم (رقم: 1599). (¬5) شرح السنة للبغوي (1/ 211). وهو في: صحيح البخاري (2550)، صحيح مسلم (رقم: 1718) بلفظ: (مَن أَحْدَث في أَمْرِنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ). (¬6) سنن الترمذي (رقم: 2317)، سنن ابن ماجه (رقم: 3976)، صحيح ابن حبان (رقم: 229)، وغيرها. فال الألباني: صحيح. (صحيح الترمذي: 2317).

"ولا ضرار" (¬1). وعلى هذه فاختُلِف في وَجْه تَغايُر اللفظين، قيل: الضرر ما كان مِن فعل واحد، والضرار ما كان مِن فِعل اثنين كل منهما بالآخر وإنْ كان الثاني على وَجْه المجازاة كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، ولا تَخُن مَن خانك" (¬2). وقال بعضهم: يتضمن ذلك الندب إلى العفو والصفح عن المسيء. وقيل: الضرر ما تضرر به صاحبك وتنتفع به أنت، والضرار تضره مِن غير أنْ تنتفع به. وقيل: الضرر هو الاسم، والضرار هو المصدر، فيكون نهيًا عن الفعل الذي هو المصدر وعن إيصال الضرار -الذي هو الاسم- إليه. وقيل غير ذلك. وهذه القاعدة فيها من الفقه ما لا حصر له، ولعلها تتضمن شطره، فإن الأحكام إما لجلب المنافع أو لدفع المضار، فيدخل فيها دَفْع [الضروريات] (¬3) الخمس التي هي: حفظ الذَين والنفس والنَّسب والمال والعِرض كما سبق شرح ذلك في "باب القياس" في الكلام على "المناسِب"، وهي المرعيات في كل مِلة المشار إليها بقوله تعالى: {عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] الآية. فالشرك مضرة في الدِّين، فيُزال بقتال المشركين والمحاربين والمرتدين؛ حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فلا يبقى إلا مُسْلم أو مسالم بهدنة أو جزية. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سنن أبي داود (رقم: 3535)، سنن الترمذي (رقم: 1264) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح الترمذي: 1264). (¬3) في (ق): الضرورات.

ومن حِفظ الدِّين تقرير مباني الإسلام وأسراره المزيلة ضرر الغفلة والقسوة عن الشهوات الحسية والرعونات النفسية. ومنه: إيجاب تبليغ الرواة ما يرونه مِن دلائل الدِّين كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "نضر الله امرءًا سمع مقالتي فأداها كما سمعها، فَرُب حامل فقه إلى مَن هو أفقه منه " (¬1). ومنه: إزالة ضرر الشُّبَه والشكوك بإقامة حجج الدِّين. ومن ذلك تمهيد الطرائق الموصلة إلى رضا الله سبحانه وتعالى، والسلامة من الآفات القَلْبِية، وغير ذلك مما لا يخفَى. وحِفظ الأموال بدفع المضرة بالسرقة بالقطع والعقوبات في خلاص الحقوق، والتغريم للمتلفات حِفظ للأموال. ومن ذلك الحجر على الصبي والمجنون والسفيه والمفلس والمريض فيما زاد على الثلث وحجر العبيد، وسائر أنواع الحجْر التي أُنهيت في الفقه إلى نحو خمسين نوعًا. ودفع ضرر الأنساب بحد الزاني رجمًا وجَلدًا، وبالعِدد والاستبراء واللعان، وتحريم [خفي] (¬2) البهتان؛ ولذا يُدفع بالإقرار بالنسب وبدعواه. وضرر النفس بالقصاص فيه وفي سائر ما دُون النفْس؛ لأنها قد تؤدي إلى تلف النفس، وكذا الضمان بالدِّية، ونحو ذلك. ومضرة زوال العقل يُزال بتحريم المسكر والحد. والصيال. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (16784)، سنن ابن ماجه (231)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 189). (¬2) كذا في (ص)، لكن في (ش): حفي. وفي (ق): حقي. وفي (س، ت): حق.

وأما الخصومات في ذلك كله فيُزال بإقامة إمام مقسط يفصلها وحُكام وقضاة، فيعتمد الحق في الدعاوَى والبينات والإقرار. قال بعضهم: فهذه القاعدة ترجع إلى تحصيل المقاصد وتقريرها بدفع المفاسد أو تحقيقها. تنبيه: مما يدخل في هذه القاعدة، قاعدة أن "الضرر لا يزال بالضرر"؛ لأنَّ فيها ارتكاب ضرر وإنْ زال ضرر آخَر، فلا تجب العمارة على الشريك (في الجديد)، وإذا وقع على جريحين وقد سبقت، وإذا وقع في نار ولم يمكنه الخلاص إلا بأنْ يرمي نفسه في ما يموت فيه، وقطع السلعة التي يخاف منها، ووجوب القصاص على المكره على القتل. ولو باعه شيئًا وسلمه إلى المشتري فرهنه ثم أفلس فليس للبائع الرجوع في عَيْن ماله؛ لأنَّ في ذلك إضرارا بالمرتهن. ولو اشترى أرضًا فغرس فيها أو بَنى ثم أفلس فليس للبائع الرجوع فيها، ويبقى البناء والغراس للمفلس في الأظهر؛ لأنه ينقص قيمتها ويضر بالمفلس والغرماء. ولو كانت المرأة ضيقة المحل والزوج كبير الآلة لا يمكنه وطئها إلا بإفضائها، لم يُمَكَّن مِن الوطء. نعم، إطلاق القاعدة ليس بجيد، قال الشيخ زين الدين ابن الكتناني: لا بُدَّ من النظر لأخفهما وأغلظهما. وشاهد ذلك مصالحة النبي - صلى الله عليه وسلم - المشركين في الحديبية وشَرَط فيها أنَّ مَن جاء مِن أهل مكة مُسلمًا، رده إليهم، ومَن راح من المسلمين إليهم لا يردونه. فهذا وإنْ كان فيه إدخال ضَيْم على المسلمين وإعطاء الدنية في الدِّين؛ ولذلك استشكله عمر - رضي الله عنه - حتى يعرف جوابه، وهو احتمال أَخَف المفاسد، لِدَفْع أَشَدها.

وحديث الأعرابي الذي بال في المسجد وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُزْرِمُوه" (¬1)، فإنه لو أُزْعِج لانتشرت النجاسة؛ فتكثر المفسدة. وغير ذلك. وفروعها كثير: ، منها: أخذ الأب الصغير الذي في حضانة أمه إذا سافر مقيمًا في بلد مع الأمن. ولو كان له على شخص دَيْن ومعه قَدْره فقط فإنه يؤخَذ منه وإنْ تَضَرَّر المديون. ولو كان له عشر دار لا يصلح للسكني والباقي لِآخِر وطلب صاحب الأكثر القسمة، أُجِيبَ -في الأصح- وإنْ كان فيه ضرر شريكه. ومن هذا أيضًا ثبوت الشفعة في الشقص، وتنفيذ تَصرُّف المشتري موقوفًا على إسقاط الشفعة. ومن قاعدة "إزالة الضر" أيضًا: الضرورات تبيح المحظورات" بشرط عدم نقصانها عنها. ومن ثَمَّ جاز -بل وجب- أكل الميتة عند المخمصة، وكذلك إساغة اللقمة بالخمر، وأخذ مال الممتنع من أداء الدَّيْن بغير إذنه ولو بكسر بابه، وقتل المحرِم الصيد دَفْعًا إذا صال عليه، فإنه لا يضمن. وإذا عَمَّ الحرام قطرًا بحيث لا يوجد الحلال إلا نادرًا فإنه يستعمل ما يحتاج إليه، ولا يقتصر على الضروري. قال إمام الحرمين: يقتصر على قَدْر الحاجة دُون أكل الطيبات ونحوه مما هو كالتتمات. ولو عَمَّت البَلْوَى بذَرق الطيور وتَعذَّر الاحتراز منه، عُفِي عنه كطين الشوارع، وتصح الصلاة معه. وفي "النكت في الخلاف" للشيخ أبي إسحاق: يُعْفَى عن ذرق الطيور في المساجد. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 5679)، صحيح مسلم (رقم: 285). والمعني: لَا تَقْطَعُوا عَلَيْهِ بَوْلَهُ.

وحكى عنه الرافعي في "الشرح الصغير" أنه يُعفى عن ذرق العصفور. فَقَيَّد بالعصفور وأَطْلَق في العفو؛ فشمل المساجد وغيرها. ومِن ذلك أيضًا العفو عن أثر الاستنجاء وسلس البول وسائر ما يُعفَى عنه من النجاسات. ولو وَلَّى الإمام غَيْرَ أَهْل، نفذ قضاؤه؛ للضرورة. وألحقه الغزالي وغيره بقاضي أهل البغي. ونازع فيه ابن الكتناني بأنَّ قاضي أهل البغي يُفصل فيه بين الأهل وغيره، قال: وليس هذا مما عَمَّت به البلوى حتى ينفذه، ألا ترى أن بيع المعاطاة قد غلب في هذا الزمان ولو رُفع إلى حاكم لم يَجُز له تصحيحه؟ لأنَّ ما خالف قواعد الشرع لا أثر فيه للضرورة. القاعدة الثالثة: "المشقة تجلب التيسير": ودليلها قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، إشارة إلى ما خفف عن هذه الأُمة مِن المشدد على غيرهم من الإصر ونحوه، وما لهم من تخفيفات أخرى؛ دَفْعًا للمشقة كما قال تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66]، وكذا تخفيف الخمسين صلاة في الإسراء إلى خمس صلوات، وغير ذلك مما لا ينحصر. وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185] الآية، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، وقال تعالى في صِفة نبينا - صلى الله عليه وسلم -: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [الأعراف: 157] الآية، وقال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقال تعالى في دعائهم: {وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} [البقرة: 286] الآية، وغير ذلك. وترجم البخاري "باب الدين يُسْر" وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَحَبُّ الدِّين إلى الله الحنيفية

السَّمْحَة" (¬1). فأشار بالسماحة إلى تيسير الأمر على المسامح. والحديث الذي علَّقه هو ما استدل به القاضي الحسين للقاعدة، وقد رواه عبد بن حميد في مسنده- بإسناد حَسَن- عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "قيل: يا رسول الله، أي الأديان أَحَب إلى الله عز وجل؟ قال: الحنيفية السمحة" (¬2) ورواه أحمد أيضًا. قال الحافظ العلائي: وروي أيضًا مِن حديث جابر بلفظ: "بُعثتُ بالحنيفية السمحة" (¬3)، وفي سند كل منهما مقال. قال: وأَجْوَد منهما ما رويناه في "فوائد أبي عمرو بن منده" بسند صحيح عن أُبي بن كعب: "أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ الدِّين عند الله الحنيفية السمحة، لا اليهودية، ولا النصرانية". قال: (وهذا مما نُسخ لفظُه وبَقي معناه). انتهى وفي "مستدرك الحاكم" عن أُبي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ عليه: {لَمْ يَكُنِ} [البينة: 1] [الببينة: 1]، وقرأ ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (1/ 23). (¬2) مسند عبد بن حميد (ص 199، رقم: 569))، مسند أحمد (رقم: 2107)، الأدب المفرد (ص 108، رقم: 287)، المعجم الكبير للطبراني (11/ 227). قال الألباني: حسن لغيره. (صحيح الأدب المفرد، ص 122). (¬3) تاريخ بغداد (7/ 209). قال الألباني في (السلسلة الصحيحة: ): (أما حديثا جابر وحبيب بن أبي ثابت فهُما ضعيفان، وكنت خرجتهما وكشفت عن علتهما في "غاية المرام، رقم 8 "). وهو من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - في: مسند أحمد (22345)، المعجم الكبير للطبراني (8/ 222) وغيرهما. وأورده الألباني في (السلسلة الصحيحة، برقم: 2924) حيث ضعَّف إسناده لكنه قَوَّاه بشواهده.

فيها: "إن ذات الدين عند الله الحنيفية، لا اليهودية ولا النصرانية، ومن يعجل خيرًا فلن يُلْقَى" (¬1). وقال: صحيح الإسناد. وروى الحديث المعلق في "البخاري" ابن أبي شيبة أيضًا، ووصله البخاري في كتاب "الأدب الفرد". وذكر البخاري في الترجمة السابقة بسنده حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الدِّين يُسْر، ولن يُشاد الدِّين إلا غلبه، فسددوا وقاربوا" (¬2). الحديث، ورواه مسلم أيضًا. و"يُشاد" -بضم أوله على البناء للمفعول- معناه: يغالب. فيكون "الدِّين" مرفوعًا نائب الفاعل. قال صاحب "المطالع": إنه عند الأكثر. وأما النووي فقال: إن الأكثر في ضبط بلادنا نَصب "الدين". أي: على إضمار الفاعل في "يُشاد"، للعِلم به. هذا كله على رواية الجمهور، أما على رواية ابن السكن: "ولن يشاد أحد الدين إلا غلبه " فـ "أحد" فاعل، و" الدين " مفعول. ويدخل تحت هذه القاعدة أنواع في الفقه: منها في العبادات: التيمم عند مشقة استعماله على حسب تفاصيله، والقعود في الصلاة عند مشقة القيام وفي النافلة مطلقًا. وقَصْر الصلاة في السفر والجمع بين الصلاتين، ونحو ذلك. ومن ذلك رُخَص السفر، قال النووي إنها ثمانية، ثلاثة تختص بالطويل: قصر الصلاة، ¬

_ (¬1) المستدرك على الصحيحين (رقم: 3962)، لفظ الحاكم: (وَمَنْ يَعْمَلْ خَيْرًا فَلَنْ يُكْفَرَهُ). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 39).

والفطر في رمضان، ومسح الخف ثلاثة أيام. واثنان لا يختصان بالطويل: ترك الجمعة، وأكل الميتة عند الاضطرار. وثلاثة فيها خلاف: الجمع بين الصلاتين والأصح اختصاصه بالطويل، والتنفل على الدابة، وإسقاط الفرض في التيمم. والأصح فيهما عدم الاختصاص بالطويل. نعم، عَدُّه أكل الميتة مِن رُخص السفر إنما هو بحسب الغالب، وإلا فقد يكون ذلك في الحَضر. نعم، زاد ابن الوكيل رُخصة تاسعة صرح بها الغزالي، وهي: مَن له نسوة وأراد سفرًا فإنه يقرع بينهن، ويأخذ منهن مَن خرجت لها القرعة، ولا يَلْزَمه القضاء لضراتها إذا رجع. وأصح الوجهين عند الغزالي أنَ ذلك يختص بالطويل، وقال الإمام: الوجه عندي القَطع به. وأصحهما عند البغوي والمتولي والأكثرين: لا يختص. وحكى جَمعٌ من العراقيين عن الشافعي أنه قال: إنه لا فرق في ذلك بين الطويل والقصير. ومَن قال بالأول، أَوَّل النص بأنه أراد بِ "القصير" قَدْر مسافة القصر، وبِـ "الطويل" ما فوقها. وإليه ميل ابن الصباغ. وسبق للرخص تقسيم آخَر باعتبار أنها إما واجبة أو مندوبة أو مباحة أو خلاف الأَوْلى. ومن التخفيفات أيضًا أعذار الجمعة والجماعات، وتعجيل الزكوات، وتوسيع القضاء حيث فات المقضِي بِعُذْر. والتخفيفات في العبادات لا تكاد تنحصر. ومنها في المعاملات: ما أُبيح مِن العذر الممنوع، كبيع البيض في قشره والرمان والبطيخ

وغير ذلك، وأنموذج المتماثل، والاكتفاء [بالتأبير] (¬1) وفي بدوّ الصلاح بالبعض، واشتراط الحمل، ومشروعية الخيار بالمجلس والشرط، ومشروعية الإجارة والمزارعة والمساقاة والقراض والحوالة والسلم، وغير ذلك. وتجويز الشركة والوكالة والعرية ونحو ذلك. ومنها في المناكحات: عقد النكاح على مَن لم يرها، ومشروعية الطلاق والخلع وملك المال فيه، والرجعة في الرجعية في زمن العدة، والتخلص في الظهار والأيمان بالكفارة وغير ذلك، وتقرير أنكحة الكفار والتشطير. ومنها في الجنايات: تخيير المستحق في وجوب القصاص بينه وبين العفو مجانًا وعلى الدِّية، وغير ذلك. وأما في كتاب الأقضية: فإسقاط الإثم عند الخطأ، والاعتماد في العدالة على التزكية ونحو ذلك، وهو كثير. ومن التخفيفات المطلقة: فروض الكفايات وسُننها، والعمل بالظنون؛ لِمَشقة الاطلاع على اليقين، إلى غير ذلك. وقبول الجزية، ونحو ذلك. وقولي: (كِلَاهُمَا في كَوْنِ عِلَّةٍ يُرَى) إلى آخره -إشارة إلى أن هاتين القاعدتين ترجعان مِن قواعد أصول الفقه إلى ما سبق من أن الأحكام مُعلَّلة بدفع المفاسد والمضار الدينية والدنيوية، وأنَّ العلة في ذلك إما أن تكون دافعة للضرر والمشقة أو رافعة لذلك، وقد بسطناه في "باب القياس". والله أعلم. ¬

_ (¬1) في (ص، ش): بالتأثير.

ص: 917 - وَعَادَةٌ ذَاتُ رِضًى مُحَكَّمَهْ ... مِنْ وَصْفٍ الْعُرْفُ اقْتَضَى وَأَحْكَمَهْ الشرح: القاعدة الرابعة: إنَّ "العَادَة مُعَكَّمَة": أى: معمول بها شرعًا. قال القاضي حسين: لحديث: "ما رآه المؤمنون حَسنًا فهو عند الله حَسَن" (¬1). قال الحافظ العلائي: لم أجده مرفوعًا في شيء من كتب الحديث أصلًا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث عنه وكثرة الكشف والسؤال، وإنما هو من قول ابن مسعود موقوفًا عليه. ولكن للقاعدة أدلة أخرى، منها قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199]. قال ابن السمعاني: (المراد به ما يعرفه الناس ويتعارفونه فيما بينهم) (¬2). وكذا قال ابن عطية: (إنَّ معناه كل ما عرفته النفوس مما لا تَرُده الشريعة) (¬3). ¬

_ (¬1) مسند أبي داود الطيالسي (246)، مسند البزار (5/ 212، رقم: 1816)، المعجم الكبير للطبراني (9/ 112، رقم: 8583)، وغيرها، من قول ابن مسعود - رضي الله عنه -. وهو في: مسند أحمد (رقم: 3600)، المستدرك على الصحيحين (رقم: 4465) وغيرهما بلفظ: (المسلمون). قال الحافظ ابن حجر في (الدراية في تخريج أحاديث الهداية، 2/ 187): (لم أَجِدهُ مَرْفُوعًا، وَأخرجه أَحْمد مَوْقُوفًا عَلَى ابْن مَسْعُود بِإِسْنَاد حسن). (¬2) قواطع الأدلة في أصول الفقه (1/ 29). (¬3) المحرر الوجيز (2/ 491).

وقال ابن ظفر في "الينبوع": العُرف ما عرفه العقلاء بأنه حسن وأَقَرَّهم الشارع عليه. وكُل ما تكرر من لفظ "المعروف" في القرآن نحو: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] فالمراد به ما يتعارفه الناس في مثل ذلك الأمر. ومنها قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38]، فإنَّ هذا رد على مَن قال: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7]. فرد عليهم بأن هذه عادة الرسل المتقدمين قبله، وهذا [مقتضَى] (¬1) اعتبار العادة. وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 58] الآية، فأمر بالاستئذان في الأوقات التي جرت العادة فيها بالابتذال ووضع الثياب، فابْتُنِيَ الحكم الشرعي على ما كانوا يعتادونه. ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - لهند امرأة أبي سفيان: "خُذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف" (¬2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لحمنة بنت جحش "تحيضي في عِلم الله ستًّا أو سبعًا كما تحيض النساء وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن" (¬3). رواه الترمذي وصححه، وكذا الحاكم في "المستدرك". وكذلك حديث أم سلمة: أنَّ امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن ¬

_ (¬1) في (ق، ش): يقتضي. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 5049)، بلفظ: (خُذِي ما يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ)، صحيح مسلم (رقم: 1714) بلفظ: (خُذِي من مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ ما يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ). (¬3) مصنف عبد الرزاق (1174)، سنن الترمذي (رقم: 128)، المستدرك على الصحيحين (رقم: 615)، وغيرها. قال الألباني: حسن. (صحيح الترمذي: 128).

من الشهر قبل أن يصيبها ذلك، فلتترك الصلاة" (¬1). الحديث لرواه أبو داود والنسائي، وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحهما". ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن عمل عملًا ليس عليه أَمْرنا فهو رَدٌّ" (¬2). أخرجه مسلم بهذا اللفظ، فإنه دليل على اعتبار ما المسلمون عليه، إما من جهة الأمر الشرعي أو من جهة العادة المستقرة؛ لشمول قوله: "ليس عليه أمرنا" ذلك. ومنها حديث: "المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة" (¬3). رواه أبو داود والنسائي، وإسناده صحيح. وذلك أن أهل المدينة لما كانوا أهل نخيل وزرع اعتُبرت عادتهم في مقدار الكيل، وأهل مكة أهل تجارة اعتُبرت عادتهم في الوزن. والمراد: اعتبار ذلك فيما يتقدر شرعًا، كنُصُب الزكوات ومقدار الديات وزكاة الفطر والكفارات. ومنها حديث حرام بن محيصة الأنصاري عن البراء: "أنَّ ناقة للبراء دخلت حائطًا؛ فأفسدت فيه؛ فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل" (¬4). رواه أبو داود، وصححه جماعة، وقال ابن عبد البر: وهو مشهور، حدَّث ¬

_ (¬1) سنن النسائي (رقم: 208، 355) وغيره. قال الألباني: صحيح. (صحيح النسائي: 208، 353). وفي: مسند أحمد (26759)، سنن أبي داود (رقم: 274) بلفظ: (لِتَنْظُرْ عِدَّةَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ التي كانت تَحِيضُهُنَّ ... )، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 274). (¬2) صحيح مسلم (رقم: 1718). (¬3) سنن النسائي (رقم: 2520)، سنن أبي داود (رقم: 3340). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 3340). (¬4) سنن أبي داود (رقم: 3569). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 3569).

به الأئمة الثقات. وهو أَدَل شيء على اعتبار العادة في الأحكام الشرعية؛ إذْ بَنَى النبي - صلى الله عليه وسلم - التضمين على ما جَرَتْ به عادتهم. قيل: وينبني على هذه القاعدة التي تقررت بالدليل أنواع في الفقه: من ذلك ما اعتمده الشافعي - رضي الله عنه - في أَقَل سن الحيض للمرأة، وكذا نحو معرفة الصغر والكبر في ضبة الذهب والفضة في الإناء، وتَغيُّر الماء بما يخالطه من طاهر يستغنى عنه في القليل منه الذي لا يضر والكثير الذي يضر، وكثافة الشعر وخفته في غسل الوجه في الوضوء، ونادر الأعذار الذي تُقْضَى فيه الصلاة بالتيمم وغالبه الذي لا يُقضَى فيه، وقُرب المنزل وبُعده في الخروج من المعتكف لقضاء الحاجة ونحوه، وطول السهو في [الفصل] (¬1) وقِصره، وكثرة الفعل والكلام في الصلاة وقِلَّته، ومشقة الاحتراز من النجاسة وسهولته، وقوة الخف وضعفه، وتكلب الجوارح، وما يُعد ساترًا وطيبًا للمحرم، وما يُعد فصلًا بين الإيجاب والقبول، و [ثمن] (¬2) المِثْل، وكفء النكاح، وقَدْر الثواب الذي يجب -على رأيٍ- في الهبة إذا قُلنا: يقتضي مطلقها الثواب إذا كانت من الأدنى للأعلى أو للمساوي، وحفظ الماشية والزرع، ومقادير الحيض والنفاس، وأكثر مُدة الحمل، وسن اليأس، ومهر المثل، وضابط كل فِعل رُتِّبَ عليه الحكم ولا ضابط له في الشرع ولا اللغة: كالإحياء، والحرز في السرقة، ومدة الإعراض عن المعدن والتحجير في الموات، والصيال، والإذْن في الضيافات، والتبسط في الغنيمة، والأكل من بيت الصديق، وما يُعد قبضًا وإيداعًا وإعطاءً وهديةً وغصبًا، والمعروف في المعاشرة، وانتفاع المستأجرين، والتصرف المشعر بالملك فيما في يده، والتجارة في القراض، والعمل في المساقاة، والصغار في الذمي، ونقض العهد، والموجب ¬

_ (¬1) في (ق): الصلاة. (¬2) كذا في (ق، ش)، لكن في سائر النسخ: مهر.

لِلّوث. ومن ذلك أيضًا الرجوع للعادة في تخصيص عين أو فعل أو مقدار يُحمل اللفظ عليه، كالألفاظ في الأيمان والأوقاف والوصايا والأقارير و [التعويضات] (¬1) وإطلاق الدينار والدرهم والصاع والوسق والقُلَّة والأوقية، وإطلاق النقود في الحمل على الغالب، وصحة المعاطاة بما يعُدُّه الناس بيعًا على رأي من يراه بيعًا، وهو كثير لا ينحصر. وقولي: (ذَاتُ رِضًى) أي: تكون تلك العادة مرضية في الشرع ليس فيه ما ينافيها، بل في الشرع ما يدل على الرجوع إليها كما بيناه. وقولي: (مِنْ وَصْفٍ الْعُرْفُ اقْتَضَى وَأَحْكَمَهْ) إشارة إلى مأخذها وموضعها من أصول الفقه، وذلك في قولهم: الوصف المعلَّل به قد يكون عُرْفِيًا، أي: من مقتضيات العُرْف. وفي "باب التخصيص" سبق بيان تخصيص العموم بالعادة مبسوطًا. والله أعلم. ص: 918 - خَامِسَةٌ زِيدَتْ هِيَ: الْأُمُورُ ... عَلَى مَقَاصِدَ لَهَا تَدُورُ 919 - وَ [أَخْذُهَا] (¬2) قِيلَ: مِنَ التَّحْكِيمِ ... لِعَادَةٍ؛ فَلَا تَزِدْ تَتْمِيمِي الشرح: القاعدة الخامسة: وهي التي زِيدَت على الأربعة السابقة التي ذكرها القاضي حسين كما سبق نقل الحافظ ¬

_ (¬1) في (ق، ش): التفويضات. (¬2) كذا في (ص، ق، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4). لكن في سائر النُّسَخ: واحدها.

العلائي عن بعض الفضلاء زيادتها، وهي: "إدارة الأمور في الأحكام على قصدها". ودليلها: حديث عمر - رضي الله عنه - في الصحيحين وغيرهما: "الأعمال بالنيات" (¬1)، وربما أُخِذت من قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، وقوله تعالى: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 20]. ومن هذه المادة أحاديث "تبتغي بها وَجْه الله" وذلك في غير ما موضع. ولهذا قالوا في حديث: "الأعمال بالنية" (¬2) الذي أجمعوا على صحته وتَلَقِّيه بالقبول: إنه من الأحاديث التي عليها مدار الإسلام. قال أبو داود: (كتبتُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة ألف حديث، انتخبتُ منها ما تضمنه هذا الكتاب -أيْ كتابه في "السنن"- وهو أربعة آلاف وثمانمائة حديث، ويكفي الإنسان لِدِينه من ذلك أربعة: حديث: "الأعمال بالنية"، و"مِن حُسْن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، و"لا يكون المرء مؤمنًا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه" (¬3)، و"الحلال بَيِّن والحرام بَيِّن") (¬4). انتهى وحديث النية أعظمها وأعمها، لأنَّ أفعال العقلاء إذا كانت معتبرة فإنما تكون عن قصد. وأيضا: فذهب كثير من العلماء إلى أن أول الواجبات على المكلَّف القصد إلى النظر ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) صحيح البخاري (13)، صحيح مسلم (45)، ولفظ البخاري: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". (¬4) طبقات الحنابلة (1/ 161).

الموصل إلى معرفة الله تعالى، فالقصد سابق دائمًا. وقد قال الشافعي رحمه الله: إنه يدخل فيه سبعون بابًا من الفقه. أي: أنواعًا، أو مبالغةً باعتبار أنه داخل في أكثر الفقه. وسواء في اعتبار القصد في الأفعال المسلم والكافر، إلا أن المسلم يختص بقصد التقرب إلى الله تعالى، فلا تصح هذه النية من الكافر، بخلاف نية الاستثناء والنية في الكنايات ونحو ذلك. والكلام في الحديث مبسوط جدًّا، لكن ليس ذلك موضعه. نعم، نشير إلى بعض شيء من ذلك: فمنه أنهم اختلفوا في تقرير معناه: فقيل: هو مِن دلالة المقتضَى، لا بُدَّ فيه من تقدير لصحة الكلام. وهؤلاء اختلفوا، فقيل: يُقدَّر "صحة الأعمال بالنيات" أو: "اعتبارها" أو نحو ذلك. وقيل: يُقدَّر "كمال الأعمال بالنيات". وقال كثير من المحققين: ليس من دلالة المقتضَى، ولا حاجة إلى تقدير شيء أصلًا؛ لأنَّ الحقيقة الشرعية تنتفي بانتفاء ركنها أو شرطها، فإذا لم يكن العمل بنية فهو صورة عمل، لا عمل شرعي، فَصَحَّ النفي، فلا حاجة لتقدير. وبالجملة فَمِمَّا تدخل فيه النية العبادات بأجمعها: الوضوء -[عندنا] (¬1) - والتيمم والغسل والصلاة فرضها ونفلها عَيْنها وكِفايتها. والزكاة والصيام والاعتكاف والحج والعمرة والأضحية والهدى والنذور والكفارات. ومن ذلك أيضًا قصد السوم في الماشية، وقصد التجارة في ملك التاجر بالمعاوضات، ¬

_ (¬1) من (ق، ش).

وقصد إصلاح الحلي الزكوي عند الانكسار، وغير ذلك مما لا ينحصر. ويدخل أيضًا في الجهاد والعتق والتدبير والكتابة، بمعنى أن حصول الثواب في هذه الأربعة يتوقف على قصد التقرب إلى الله تعالى. وكذا قصد الحكم بين المتلاعنين والمتخاصمين، وإقامة الحدود على الجناة، وسائر ما يتعاطاه الحكام وأولياء الأمر. وكذلك تَحمُّل الشهادات وأداؤها. بل يسري هذا إلى سائر المباحات إذا قصد بها التَّقَوِّي على العبادة أو التوصل إليها، كالأكل والنوم واكتساب المال وغير ذلك، وكذلك النكاح والوطء فيه وفي الأَمة إذا قصد به الإعفاف أو تحصيل الولد الصالح وتكثير الأُمَّة. نعم، يخرج من الأعمال ما هو مُتوجِّه بذاته، كأعمال القلوب وكثير من الأذكار، كالأذان ونحوه. وكذلك التروك المجردة، كترك الزنا وشرب الخمر ونحو ذلك، فلا يحتاج في وجودها لِنِيَّة، بل يحتاج إلى النية لِتَرَتُّب الثواب عليها إذا قصد به وَجْه الله تعالى. وقد اختُلف في النية إذا اعتُبرت لصحة الفعل: هل تكون من قبيل الشروط؟ أو الأركان؟ والخلاف فيه مبسوط في الفقه. وأما القصود فتدخل في غير العبادات وما يحصل به عبادة؛ لتمييز المقصود من المحتملات، كالكنايات في العقود وفي الطلاق والعتاق، والإحياء للموات وتمليك اللقطات، وفيما يحتمل من الأيمان والإقرار، وغير ذلك مما لا ينحصر. نعم، مما ينبغي ذكره من مهمات أحكامها مواضع: أحدها: أن النية شرعت في فعل العبادة إما لتمييز العبادات عن العادات وما يلحق بها من تمييز جنس من العبادة عن جنس، وإما لتمييز رُتَب العبادات. فالأول: كالوضوء والغسل يقع تبردًا أو تنظفًا أو على سبيل الاتفاق، ويقع تَعبُّدًا؛ فيحتاج إلى نية مُمَيِّزة. وإخراج المال إنفاقًا أو صدقةً أو هبةً أو نحو ذلك، ويكون زكاة؛ فلا

بُدَّ من نية تميزها عن غيرها. وترك المفطرات يكون لفقدها وللتداوي أو اتفاقًا، ويكون صومًا شرعيًّا؛ فلا بُدَّ من نية تميزه. وزيارة البيت تكون بحج أو عمرة أو للتبرك أو يقع اتفاقًا؛ فيحتاج لنية تميز ذلك. ونحوه الطواف حول البيت والمكث بأرض عرفة ونحو ذلك. والجلوس في المسجد يكون اتفاقًا واستراحةً واعتكافًا، فيميز. وأما تمييز الرتب -أيْ في النوع الواحد- فتمييز الفرض عن النفل ورتب الفرائض بالتعيين، والنوافل كذلك؛ لتفاوتها في الأحكام والثواب وموافقة موضوعها الشرعي. نعم، ربما ينوي الشيء ويقع خِلافُه، كَنِية الفرضية في صلاة الصبي المكتوبة وكَنِية مَن يعيد الصلاة في جماعة الفرض، فإنَّ فَرْضه الأُولى، وكنية الجمعة قبل سلام الإمام مع أنها لا تقع إلا ظهرًا، وكترتيب الحج والعمرة فيما تقدم وهو فرض الإسلام ثم القضاء ثم النذر ثم التطوع أو عن استئجار له، فلا يقع إلا على هذا الترتيب وإنْ نوى غيره. وربما وقع القصد مخُيَّرًا فيه، كقصد المؤدِّي مالًا لمن له عليه دَين أو لمن له عليه دَيْن برهن وبغيره، فيُعتبر قَصْد المؤدِّي، والقول فيما قصد قولُه. الثاني: من شروط النية: الجزم بها في المنْوِي، وقد تصح مع التردد: - إما اعتمادًا على أصلٍ، كَنية الحائض صوم الغد اعتمادًا على جريان عادتها بانقطاع حيضها قبل الفجر، وكَنِية الصوم في ليلة الرؤية في آخِر رمضان إنْ كان الغد من رمضان؛ لبقاء الأصل. وكذا لو نوى مَن نذر أن يصوم يوم يَقدم زيد، فغلب على ظنه أنه يقدم في الغد بطريقٍ، فَنَوى ليلة ذلك اليوم، وقَدم كما ظن.

- وإما أن ذلك مفتقر للضرورة، كمن نَسِيَ صلاة مَن خَمس ولم يَعرف عَيْنها، فيَلزمه أن يصلي الخمس وينوي في كل واحدة أنها فَرْضُه مع عدم تَحقُّق ذلك. وكذا مَن اشتبه عليه ماء طهور بماء ورد، يتوضأ بكل منهما مع عدم جزمه بأن ما يأتي به وضوء شرعي بالطهور. والمصلِّي على موتى مسلمين مختلطين بكفار، إذا صلَّى على واحد واحد، ينوي الصلاة عليه بِقَيْد أن يكون مسلمًا. وكذا لو صلى خلف مسافر يشك في نية القصر، بل ويُغتفر تعليقُه بكونه إنْ قصر قصر، وإنْ أتم أتم. ومَن اشتبه عليه مذي ومَني وقُلنا: يخير -وهو ما رجحوه - فينوي الوضوء إنْ توضأ والغسل إنِ اغتسل وهو لا يتحقق أنه الواجب عليه. وفي غير ذلك وهو كثير. الثالث: كما تكون النية للتصحيح تكون للإفساد حيث نَوَى قَطْع ذلك المنْوِي بعد الشروع فيه، وذلك في الصلاة ونحوها [الإيمان] (¬1) يبطلان بنية الخروج والتردد في أن يخرج منه، أما الحج والعمرة فلا يبطلان بذلك قَطْعًا، وكذا الوضوء في أثنائه. نعم، فيما بعد الفراغ منه وَجْه أنه يبطل بقصد إبطاله. وأما الاعتكاف والصوم فلا يبطلان بقصد الخروج منهما على الأصح في "الشرح" و"الروضة". لكن نَصَّ الشافعي في الصوم على الإبطال، وكذا نقله ابن كج في "التجريد" عن رواية الربيع، ورجحه جماعة من الأصحاب، منهم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي. وقولي: (وَ [أَخْذُهَا] قِيلَ: مِنَ التَّحْكِيمِ لِعَادَةٍ) إشارة إلى هذه القاعدة، قال بعضهم: إنها مأخوذة من قاعدة "تحكيم العادة" السابق ذِكرها. وجعلوا ذلك عُذر القاضي حسين في عدم ذِكرها. ¬

_ (¬1) في جميع النُّسخ: الايمان.

قالوا: لأنَّ العادة حاكمة بأنَّ غير المنْوِي مِن غُسلٍ وصلاةٍ وكتابةٍ - مثلًا - لا يُسمى في العادة غسلًا ولا قربةً ولا عقدًا. ولا يخفَى ما في ذلك من نظر؛ فلذلك عبرتُ بقولي: (قِيلَ)؛ إيماءً إلى عدم ارتضاء ذلك. وقيل: مِن قاعدة "الضرر يزال"؛ لأنَّ مَن تَوَجَّه عليه شيء بدليلٍ إذا تركه أو فَعَله لا بقصد امتثال الأمر، حصل له الضرر بما ترتب عليه من الذم، فَيُزال بالنية. ولا يخفَى ما في الآخر مِن النظر، بل لو أخذت من قاعدة "اليقين لا يُرفع بالشك" كان أَقرب؛ لأنَ الأصل عدم ذلك الشيء، فلا يصار إلى جَعْله مُعتبرًا إلا بواسطة ترجيح المتردد فيه بقصد أنْ يخالِف الأصل. الرابع: قواعد فقهنا كثيرة تزيد على المائتين، لكن ليس شيء منها في العموم كهذه الخمس كما سبق، فلا ينبغي أن يذكر في أصول الفقه زيادة على ذلك؛ لأنَّ ذلك محله الفقه. وهذا معنى قولي: (فَلَا تَزِدْ تَتْمِيمِي) أي: لا تَزِد على تتميمي قواعد القاضي الأربعة بهذه الخامسة، بل اقتصر على الخمس. والله أعلم.

الباب الثالث في "تَعارُض الأدلة وحُكمه"

الباب الثالث في تعارض الأدلة وحكمه

الباب الثالث في تَعَارُض الأدلة وحُكمه 925 - أَدِلَّةٌ لِلْفِقْهِ قَدْ تُعَارَضُ ... لِأَنَّهَا ظَنِّيَّةٌ، فَالْعَارِضُ 921 - مِنْ ذَاكَ إنْ أَمْكَنَ فِيهِ الْجَمْعُ ... وَلَوْ بِوَجْهٍ لَيْسَ فِيهِ دَفْعُ 922 - فَبِهِمَا يُعْمَلُ كالَّذِي مَضَى ... مِنَ الْعُمُومِ إذْ يُخَصُّ بِاقْتِضَا 923 - وَكَالْمُقَيَّدِ الَّذِي لِلْمُطْلَقِ ... مُقَيِّدٌ، وَظَاهِرٌ لَمْ يُطْلَقِ 924 - يُعْدَلُ لِلتَّأوِيلِ عَنْهُ لِلَّذِي ... دَلَّ، وَمَنْسُوخٌ بِنَاسخٍ خُذِ الشرح: لما انتهى الكلام في مباحث أدلة الفقه المتفق عليها والمختلَف فيها، كانت ربما تَعارض منها دليلان باقتضاء حُكمين متضادين، فاحتِيج إلى معرفة التعادل والتراجيح وحُكم كل منهما، وذلك إنما يقوم به مَن هو أَهْل لذلك، وهو المجتهد. فلذلك قدم الآمدي وابن الحاجب وجمعٌ باب الاجتهاد على هذا، لكن الإمام في "المحصول" وأتباعه قدَّموا التعادل والتراجيح على الاجتهاد؛ لأنه المقصود، وذاك مِن باب ما يتوقف عليه المقصود. وإنما جاز دخول التعارض في أدلة الفقه لكونها ظنية؛ إذِ القاطعان لا يتعارضان كما سيأتي، وكذا القاطع والظني، إذْ لا ظن مع القطع بخلافِه. فما يقع التعارض فيه إما أن يمكن فيه الجمع ولو بوجه ما، وإما أن لا يمكن فيه الجمع أصلًا. فما أمكن فيه الجمع يُجْمَع ويُعْمَل بالدليلين، وذلك في صوَر:

منها ما سبق من تخصيص العام بالخاص على تفاصيله السابقة، وكذا تقييد المطلق بما ورد من المقيد، وحمل الظاهر المحتمِل لمعنى مرجوح على المرجوح حيث دل دليل على منع العمل به، وهو "التأويل". وكذلك إذا تأخر المعارِض فإنه يكون ناسخًا، فَقَدْ عُمل بالدليلين كُل منهما في وقت، بالمنسوخ أولًا ثم بالناسخ بعد ذلك. وقولي: (كَالَّذِي مَضَى) بيان؛ لأنَّ الجمع بين الدليلين لا ينحصر في ذلك، فقد يقع الجمع بين الدليلين بغير ذلك أيضًا؛ لأنَّ العمل بالدليلين أَوْلى من إلغاء أحدهما على كل حال. وذلك كما في حديث: "أيما إهاب دبغ فقدْ طهر" (¬1) مع حديث: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا بعصب" (¬2). فيُحمل الثاني على ما لم يدبغ. وسواء أكان الدليلان معًا من الكتاب أو من السُّنة أو واحد من الكتاب وآخَر من السُّنَّة. وستأتي مذاهب أخرى فيما إذا تَعارض كتاب مع سنة، وسبق من هذا النوع في باب التخصيص والنَّسخ ما يُغني عن إعادته. والله أعلم. ص: 925 - أَمَّا إذَا لَمْ يَكُ جَمْعٌ مُمْكِنُ ... وَثَمَّ رُجْحَانٌ، إلَيْهِ يُرْكَنُ 926 - وَحَيْثُ لَا تَرْجِيحَ فَالْمُجْتَهِدُ ... مُخَيَّرٌ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يُوجَدُ 927 - مِنَ التَّعَارُضِ الَّذِي قَدْ ذُكِرَا ... في قَاطِعَيْنِ، بَلْ وَلَا قَطْعٌ يُرَى ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سنن أبي داود (رقم: 4128)، سنن الترمذي (رقم: 1729) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 4128).

928 - مُقَابِلًا لِلظَّنِّ، كَالْقَطْعِيِّ ... مِنْ مُجْمَعٍ مَعْ غَيْرِهِ الظَّنِّيِّ الشرح: أي: أما إذا لم يمكن الجمع بين الدليلين المتعارضين فذلك محل التعادل والتراجيح. فَـ "التعادل": تَساوي الدليلين المتعارضين بحيث لا يكون في أحدهما ما يرجحه على الآخر. و"الترجيح": تقوية إحدى الأمارتين على الأخرى؛ فيُعْلَم الأقوى، فيُعمل به. وقد قدمت في النَّظم ما فيه الترجيح على التعادل؛ لأنَّ الكلام في تفاصيله يأتي من بَعْد، بخلاف التعادل، فإنَّ الذي فيه ما ذكرته هنا. فقولي: (وَثَمَّ رُجْحَانٌ) أي: وكان هناك رجحان. فـ "ثَمَّ " إشارة للمكان، كما في قوله تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} [الشعراء: 64]. وقولي: (إلَيْهِ يُرْكَنُ) هو جواب الشرط، وهو إذا لم يمكن جمع. وكان الأصل: "فإلَيْهِ يُرْكَنُ" أي: يُعتمد ويُعمل به، ولكن حذفت "الفاء"؛ للضرورة، كما في قول الشاعر: (مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ، اللهُ يَشْكُرُهَا). أي: فالله يشكرها. واعْلَم أن العمل بالراجح فيما له مُرجِّح هو قول الأكثر، سواء كان المرجح معلومًا أو مظنونًا. حتى أن المنكرين للقياس عملوا بالترجيح في ظواهر الأخبار. وخالف القاضي أبو بكر في جواز العمل بالمرجح بالمظنون، قال: وإنما أَقبل الترجيح بالمقطوع به، كتقديم النص على القياس، لا بالأوصاف ولا الأحوال ولا كثرة الأدلة؛ لأنَّ الأصل أنْ لا يُتبع شيء مِن [الظنون] (¬1)؛ لأنه عُرضة الغلط والخطأ. ¬

_ (¬1) كذا في (س، ص)، لكن في (ق): المظنون.

[خالفنا هذا في] (¬1) الظنون المستقلة؛ لإجماع الصحابة عليها. أما الترجيح بالظنون فَعَمَل بالظن الذي لا يستقل بنفسه دليلًا، فيبقى على الأصل في عدم اتِّباعه. وأجيب بأن الإجماع منعقد فيه أيضًا. وخالف أبو عبد الله البصري في العمل بأصل الترجيح، وقال: لا يُعمل به، بل عند التعارض يَلزم التخيير أو الوقف. قال إمام الحرمين: (كذا حكاه القاضي عن البصري هذا الملقَّب بِـ "جعل" (¬2)، ولم أره في شيء من مصنفاته مع بحثي عنها) (¬3). وقال غيره: إنْ صح عنه فهو مسبوق بإجماع الصحابة والأُمة مِن بَعدهم، فلا يُلتفت إلى هذا القول. وكذلك لا التفات إلى مَن منع الترجيح فيه عملًا بمثله في الشهادات، والفرق أن في الشهادات نوعًا مِن التعبد لا يوجد في غيرها. وقولي: (وَحَيْثُ لَا تَرْجِيحَ) المراد به حالة التعادل، فالتعادل بين القاطعين أو الترجيح - ممتنعٌ، سواء كانا عقليين أو نقليين. وإليه أشرت بقولي: (وَلَيْسَ شَيْءٌ) إلى آخره. أي: لا يقع تَعارض بين ما ذكر، فالتعادل فيه والترجيح مختصان بالدلائل الظنية؛ إذْ لو فُرِض تَعارض بين قطعيين لأنَّ مقتضاهما ¬

_ (¬1) كذا في (ص، ض)، لكن في (س، ت): خالصا ولأن. وفي (ش): خالفنا ذلك في. وفي (ق): خالصًا وذلك في. (¬2) هو الحسين بن علي بن إبراهيم الكاغدي البصري (توفي 399 هـ)، كان فقيهًا حنفيًّا متكلمًا. (¬3) البرهان في أصول الفقه (2/ 741).

متناقضان، فيلزم اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما، وترجيح أحدهما محُال؛ لأنَّ الرأي السديد في العلوم أنها لا تتفاوت إلا بحسب كون بعضها أَجْلَى أو أَقرب حصولًا أو أشد استغناء عن التأمل. قيل: فَعَلَى مقتضَى هذا قد يدخل الترجيح بالنسبة إلى الأذهان؛ لأنه المقصود وإنْ كان لا يدخل بالنسبة إلى ما في نفس الأمر. وكذلك لا تَعارض بين قاطع وظني؛ لِمَا قدمناه من استحالة وجود ظن في مقابلة تيقُّن خِلافه, فالقاطع هو المعمول به، وذاك لَغْو. وكذلك لا يتعارض حُكم مجمع عليه مع حكم آخر ليس مجمعًا عليه، وهو معنى قولي: (كَالْقَطْعِيِّ مِنْ مُجْمَعٍ)، أي: عليه. فحذفت صِلَته؛ للعِلم بها. وقولي: (مَعْ غَيْرِهِ الظَّنِّيِّ) أي: مع غير المجمع عليه الذي هو ظني، فَـ "الظني" بَدَل مِن "غيره"؛ لأنَّ المعرفة تبدل من النكرة وغير نكرة؛ لأنها لتوغلها في الإبهام لا تتعرف بالإضافة، فيكون على حد قوله تعالى: {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى: 52 - 53]. ولا يعرب صفة؛ لأنَّ النكرة لا تُوصَف بالمعرفة، إلا أن يقال: المحلَّى بِـ "أل" وإنْ كان معرفة لفظًا ثمنه نكرة معنًى، بدليل وَصْفه بالجملة وهي نكرة، كما في قوله: (ولقد أَمُرُّ على اللئيم يَسبُّني). فأما حالة التعادل وهي التي لا ترجيح فيها فالكلام فيها في أمرين: أحدهما: في محله. والثاني: في حُكمه. فأما الأول (ولم أذكره في النَّظم؛ لِقلة جدواه في الفقه) فالتعادل إما في الأذهان وإما في نفس الأمر.

فإنْ كان باعتبار ما في الأذهان فصحيح، وأما في نفس الأمر فمنعه الكرخي، وهو قول الإِمام أحمد وجمعٍ من فقهائنا؛ لأنه يقتضي التخييرَ بين الحكمين، والإجماعُ على بطلانه. وهل منعوه شرعا؟ أو عقلاً؟ فيه نظر. وجَوَّزه الباقون، وذلك بأنْ يُنصب علامتان متساويتان في اقتضاء الظنين. هذا على المشهور في النقل، ولكن كلام الغزالي يدل على أن مَن قال: (المصيب واحد) لم يُجَوِّز تَعادُل الأمارتين، وأنَّ الخلاف إنما هو بين المصوبة لكل مجتهد. وعبارته: (إذا تعارض دليلان عند المجتهد، فالمصوبة يقولون: هذا لِعَجْزه، وإلا فليس في أدلة الشرع تَعارض) (¬1). انتهى واختار الإِمام الرازي في المسألة تفصيلًا، وهو أن تعادل الأمارتين في حكمين متنافيين والفعل واحد -ككون الفعل واجبًا وحراما- جائزٌ في الجملة، غير واقع شرعًا. أي: غير جائز الوقوع شرعًا كما يظهر لمن تَأمل كلامه أنَّ هذا مراده. وأنَّ تَعادلهما في فِعلين متنافيين والحكم واحد جائز، كوجوب التوجه إلى جهتين قد غلب على الظن أنهما جِهَتَا القِبلة. احتج مَن منع تَعادل الأمارتين في نفس الأمر مطلقًا بأنه لو وقع: - فإما أن يُعمل بهما، وهو جَمع بين المتنافيين. - أو لا يُعمل بواحد منهما، فيكون وَضْعُهما عبثًا، وهو محُال على الله تعالى. - أو يُعمل بأحدهما على التعيين، وهو ترجيح من غير مرجِّح. - أو لا على التعيين، بل على التخيير. والتخيير بين المباح وغيره يقتضي ترجيح أمارة ¬

_ (¬1) المستصفى (ص 364).

الإباحة بعينها؛ لأنه لَمَّا جاز له الفعل والترك، كان هذا معنى الإباحة، فيكون ترجيحًا لإحدى الأمارتين بعينها. وجوابه بأن ذلك لا يقتضي الإباحة، بل هو تخيير العمل بأي الأمارتين شاء، لا عمل بأي [الفعلين] (¬1) شاء؛ بدليل أنه لو كانت إحداهما تقتضي تحريمه لا ولمال: هو مُخَيَّر بين فِعله مع كونه حرامًا وبين غيره. فإذا عمل بأحدهما، وجب عليه أن يعتقد بطلان الآخر، بخلاف الإباحة، فإنه لا يعتقد فيها فساد ما لم يُفعل. ونحوه في الشرع التخيير بين أن يصلي المسافر قصرًا أو إتمامًا؛ فإنه إذا جاز له ترك الركعتين عند اختيار القصر، لا يُقال: يلزم أنَّ فِعل الركعتين مباح. نعم، في ذلك كله نظر لا نُطَول به. واحتج مَن جوَّز تَعادل الأمارتين في نفس الأمر بالقياس على جواز تعادلهما في الذهن، وبأنه لا يَلزم مِن فَرْضه مُحال. وقد أجيب عن ذلك وعن تفصيل الإِمام بما يطول ذكره. نعم، قال ابن عبد السلام في قواعده: (لا يُتصور في الظنون تَعارض كما لا يُتصور في العلوم. إنما يقع التعارض بين أسباب الظنون، فإذا تعارضت فإنْ حصل الشك، لم يحكم بشيء، فإنْ وُجد ظن في أحد الطرفين، حَكَمنا به؛ لأنَّ ذهاب مقابِلِه يدل على ضعفه. وإنْ كان كل منهما مكذبًا للآخَر، تَساقَطَا، كتعارض الخبرين والشهادتين. وإنْ لم يُكذب كل واحد منهما صاحبه، عُمِل به على حسب الإمكان، كدابَّة عليها راكبان، يُحكَم بها لهما؛ لأنَّ كُلًّا مِن اليدين لا تُكذب الأخرى) (¬2). انتهى ¬

_ (¬1) كذا في (ق)، لكن في (ت): العلتين. (¬2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/ 119).

وهو نفيس؛ لأنَّ الظن هو الطرف الأرجح، فلو عُورِض بِطَرف آخَر راجح، لَزِمَ أن يكون كل منهما راجحًا مرجوحًا، وهو محُال. أما الثاني: وهو حُكم التعادل حيث جَوَّزنا وقوعه ووقع ففيه مذاهب: أحدها (وهو الأرجح): التخيير، وهو معنى قولي: (فَالْمُجْتَهِدُ مُخَيَّرٌ). وبه قال القاضي أبو بكر وأبو علي وابنه أبو هاشم. ومن هنا جاز للعامي أن يستفتي مَن شاء مِن المفتيين ويعمل بقوله كما سيأتي. الثاني: أنهما يتساقطان، ويجب الرجوع إلى غيرهما، وهو البراءة الأصلية. وإليه ذهب كثير من الفقهاء، ويؤيده ما رجحه أصحابنا في مسألة تَعارض البَيِّنتين، لكن لا يَلزم منه محذور، وهذا يَلزم منه تعطيل الأحكام. الثالث: الوقف، وذلك كتعارض البَيِّنتين (على قَولٍ). الرابع: إنْ وقع التعادل في الواجبات فالتخيير، إذ لا يمتنع التخيير فيها في الشرع، كمن ملك مائتين من الإبل يُخيَّر بين إخراج أربع حقاق أو خمس بنات لبون. وإنْ وقع بين حُكمين متناقضين كإباحة وتحريم، فحُكمه التساقط والرجوع إلى البراءة الأصلية. نعم، في جريان قول الوقف في عمل نفسه بعيد جدًّا كما قاله الهندي؛ إذِ الوقف فيه لا إلى غاية تنتظر؛ إذْ لا يُرجَى [منه ظهور الرجحان] (¬1)، بخلاف التعادل الذهني، فإنه لا يَبعُد الوقف إلى أنْ يظهر المُرَجِّح. والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) في (ق): فيه ظهور المرجحات.

ص: 929 - وَلَيْسَ في الْكِتَابِ تَقْدِيمٌ عَلَى ... سنَّةٍ؛ اذْ كِلَاهُمَا قَدْ نُزِّلَا 930 - إلَّا بِخَارِجٍ، [كَذِي] (¬1) آحَادِ ... فَمُتَوَاتِرٌ عَلَيْهِ بَادِي الشرح: أي: إذا تَقرر أن الدليلين المتعارضين إذا وُجد في أحدهما مرجِّح، يجب العمل به وإلا تَعادَلَا؛ لاستوائهما، سواء أكانا من الكتاب أو السُّنة أو أحدهما من الكتاب أو من السُّنة أو غير ذلك. ولا يكون ما في الكتاب راجحًا على ما في السُّنة (على الراجح)؛ لأنَّ كُلًّا مِن الكتاب والسُّنة وَحْي مِن الله تعالى وإنِ افترقَا مِن حيث إنَّ القرآن نزل للإعجاز به كما سبق في بحث الكتاب، والسُّنة نزلت لا لقصد الإعجاز وإنْ كان فيها أسباب الإعجاز، وأما في الحقيقة فهُمَا سواء. نعم، يقع ترجيح الكتاب على سُنة الآحاد بأمر خارج عن ذاتهما، وهو كون سند القرآن متواترًا [يقينيًّا] (¬2)، وسند الآحاد ظنيًّا، بل ولو كانت السُّنة متواترة قُدمت على الآحاد. وهو معنى قولي: (فَمُتَوَاتِرٌ عَلَيْه بَادِي)، أي: ظاهر راجح. وقيل: يُقدم الكتاب مِن حيث هو على السُّنة؛ لحديث معاذ: "بِمَ تَقْضِي؟ قال: بكتاب الله. قال: ثم ماذا؟ قال: بِسُنة رسول الله" (¬3). وقيل: تُقدم السُّنة؛ لأنها بيان؛ لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ¬

_ (¬1) كذا في (ق، ش، ن). وفي سائر النُّسَخ: لذا. (¬2) كذا في (ق، س، ت)، لكن في (ص، ش): يقينا. (¬3) سبق تخريجه.

[النحل: 44]. وأجاب إمام الحرمين بأن الكلام ليس في السُّنة المبيِّنة، بل في السنة المعارضة. أما المتواتران مِن السنة إذا تَعارضَا فلا خلاف في التساوي، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في البحر: "الحِل ميتته" (¬1)، فإنه عام في ميتة البحر مطلقًا، سواء خنزير البحر وغيره، [وقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ}] (¬2) فإنه يقتضي تحريم كل لحم، سواء خنزير [البحر] (¬3) وغيره؛ فَتَعارض عموم الكتاب وعموم السُّنة في خنزير البحر، فقُدمت السُّنة على رأي مَن قال: حلال، والكتاب على رأي مَن قال: حرام. ومنهم مَن قال: يُنظَر، فإنْ أَمكن الجمع ولو مِن وَجْه، جمعنا، وإلا قضينا بالتعادل، فيقال حينئذ: يُقدم الكتاب إنْ كانت السنة آحادًا. وقد سبق مباحث في "باب العموم والنسخ" لا حاجة لإعادتها هنا. وكذا سبق فيما إذا كان كل منهما أَعَم مِن الآخَر مِن وَجْه وأَخَص مِن وَجْه، فليراجَع. والله أعلم. ص: 931 - وَفي تَعَارُضِ مَقُولِ الْمُجْتَهِدْ ... يُقْضَى بِآخِرٍ وَتَرْجِيحٍ وُجِدْ الشرح: أي: ما سبق في تَعارض الأمارتين بالنسبة إلى المجتهد يجري في تَعارض قولين فصاعدًا ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) من (ق) وليست في سائر النُّسخ، والكلام لا يستقيم بها ولا بدونها، والصواب عبارة الزركشي في (تشنيف المسامع، 3/ 494): (مع قوله: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ}). (¬3) في (ق): البر.

لمجتهد بالنسبة إلى المقلِّد. فإنْ كان أحد القولين أو الأقوال متأخرًا وعُلِم تَأخُّره فهو قول المجتهد الذي يُقْضَى بكونه مذهبه، ويكون الأول مرجوعًا عنه؛ ولهذا لا يُعْمل إلا يقول الشافعي الجديد الذي هو بمصر، ورواه عنه الربيع في "الأم" والبويطي والمزني وجمعٌ كثيرٌ، لا بالقديم الذي في بغداد وصنف فيه كتاب "الحجة"، ورواه عنه أحمد وأبو ثور والكرابيسي والزعفراني، فلا يُعمل به سوى مواضع فإنه يُفْتَى بها على القديم؛ لقوته وإنْ كان في غالبها نظر؛ لكونها منصوصة في الجديد أيضًا، فتُنسَب إليه. وقد أُفْرِدَت بالتصنيف، ومحل بيانها كُتب الفقه. نعم، ذهب بعض الأصحاب إلى أن المجتهد إذا كان له قولان -قديم وجديد- لابُدَّ أنَّ ينص على الرجوع عن القديم. فإنْ لم ينص على ذلك فلا يكون رجوعًا. حكاه الرافعي في "باب صلاة الجماعة". فإنْ لم يُعلم المتأخر فيُحكَى عنه القولان ولا يُحكم عليه بالرجوع عن أحدهما بِعَيْنه. ثم مَن كان أهلًا للترجيح من أصحابه له طلب الأرجح بما يظهر له من قواعده. أما إذا نَص على القولين فصاعدًا في موضع واحد: - فإما أنْ يعقب أحدهما بما يُشْعِر برجحانه، كقوله: (وهذا أَشبه)، ولو بالتفريع عليه، فيكون ذلك هو قوله. - وإما أنْ لا يذكر ما يُشعر بترجيح، فيكون ذلك دليلًا على تَوقُّفه في المسألة؛ لعدم ترجيح أحد الحكمين. ثم قوله مثلًا: (فيها قولان) أو: (أقوال) يحتمل أن يريد على سبيل التجويز والاحتمال، ويحتمل أن يريد فيها مذهبان لمجتهدين أو أكثر. وعلى كل حال لا يُنسب إليه شيء من القولين أو الأقوال. كذا قاله الإمام في "المحصول" وأتباعه.

وقال الآمدي: (يجب اعتقاد نِسبة أحدهما إليه وإنْ كُنا لا نَعلمه) (¬1). فلا ننسب إليه شيئًا منها؛ لذلك. وفي رأي ثالث نقله إمام الحرمين عن القاضي: إنَّا نتخير في العمل بأحدهما. قال: (وهذا بناه القاضي على اعتقاده أن مذهب الشافعي تصويب المجتهدين، لكن الصحيح من مذهبه أنَّ المصيب واحد؟ فلا يمكن فيه القول بالتخيير) (¬2). وأيضًا: فقد يكون القولان بتحريم وإباحة ويستحيل التخيير بينهما. واعلم أن هذين الحالين وقعَا للشافعي رحمه الله، أعني ذِكره قولين في موضعين. وذكره القولين في موضع واحد مِن غير تنبيه على ما يُشعر بقوله بأحدهما، لكن هذا الثاني قليل. قال الشيخ أبو إسحاق: (إن القاضي أبا حامد [المروروذي] (¬3) قال: إنه ليس للشافعي مِثل ذلك إلا في بضعة عشر موضعًا، ستة عشر أو سبعة عشر) (¬4). وهو دليل على علُو شأنه. وأما وقوع الحالة الأُولى منه فدليل على صرف عُمره في النظر والآخِذ وأنه ولاجٌ في الدقائق وعلى دِينه؛ لإظهار الشيء يلوح له غير مُبالٍ با صدر منه أولًا ولا واقف عند كلام غبي ينسبه للتناقض في المقال. أما فائدة ذِكر القولين مِن غير ترجيح فالتنبيه على أن ما سواهما لا يؤخَذ به، وأن الجواب منحصر فيما ذكر، فيُطلَب الترجيح فيه. ¬

_ (¬1) الأحكام في أصول الأحكام (4/ 207). (¬2) التلخيص (3/ 418 - 419). (¬3) كذا في (ق، ش)، لكن في سائر النسخ: المروزي. (¬4) شرح اللمع (2/ 1079).

وقد وقع مثل ذلك لعمر - رضي الله عنه - في الشورى حيث قصر الخلافة على ستة. أي: فلا يكون [استحقاقها] (¬1) لغيرهم. فإنْ قيل: فقولهم: (للشافعي قولان) لا معنى له؛ لأنَّ الغرض أنه متوقِّف غير حاكم بشيء. قيل: هو في الحقيقة كذلك، وإنما نِسبتهما له باعتبار أنه ذكرهما أو تَردد فيهما. أشار إلى ذلك إمام الحرمين. واعلم أن قولي: (يُقْضَى بِآخِرٍ وَتَرْجِيحٍ) معناه: أنه يقضَى بالآخِر فيما عُلم تَأخُّره، وبالترجيح فيما أشار فيه ذلك المجتهد إلى ترجيح كما بيناه. وإذا لم يكن شيء من ذلك فالوقف. وهذا مفهوم من قولي: (يُقْضَى بِآخِرٍ وَتَرْجِيحٍ)، أي: فلا يُقْضَى بغيرهما، بل يوقف. تنبيهان الأول: مما عُد من الترجيح في القولين للشافعي إذا لم يذكر ترجيحًا: أنْ يكون أحدهما مخالفًا لأبي حنيفة، فيكون هو الراجح كما قاله الشيخ أبو حامد؛ لأنَّ المخالفة تقتضي اطِّلاعه على دليل أقوى مما قال به أبو حنيفة. وعَكَس القفالُ، فقال: الموافِق مُقَدَّم. وصححه النووي في "شرح المهذب" و "الروضة"، لكنه بِناء على طريقةٍ في الترجيح في المذهب بالكثرة كالرواية" ولكنها ضعيفة؛ فإنَّ الكثرة إنما يظهر تأثيرها في النقل، وأما في الاجتهاد فالمعتبَر قوة الدليل، وحينئذٍ فالراجح خِلاف القولين (¬2) معًا، وأنَّ الترجيح إنما هو بقوة النظر. ¬

_ (¬1) كذا في (ق، ش)، لكن في (ت): الحق فيها. وفي سائر النسخ: استحق فيها. (¬2) يعني: خلاف قول أبي حامد وقول القفال.

نعم، قال بعضهم: تصوير هذا النوع يحتاج إلى نظر، فإنَّ أحد القولين فيه إما أن يكون قبل الآخَر فالعمل بالمتأخِّر؛ لأنه كالجديد بالنسبة إلى القديم، أوْ لا، كما إذا قالهما معًا أو لم يُعْلَم المتأخِّر فالتعليل بأنه ما خالف إلا لاطِّلاعه على دليل أقوى - يقتضي تقديم الموافقة. قلتُ: لا يلزم ذلك؛ لأنَّ المراد: لم يعْدل عن قوله إلا لدليل أقوى؛ فلا يُشْعِر بتقديم موافقته، وحينئذٍ فلا حاجة للنظر في البضعة عشر قولًا للشافعي هل فيها موافقة أبي حنيفة؟ أو مخالفته؟ على الرأيين السابقين. فاعْلَمه. الثاني: قد يكون القول للمجتهد ليس بنصه عليه، بل بنصه على ذلك في نظيره، فيُسمَّى "القول المُخَرَّج"؛ لأنه لازِم قوله. ولكن الصحيح أن لازِم المذهب ليس مَذهبًا؛ فلذلك قال الشيخ أبو إسحاق: إنه لا يخرج عن تلك المسألة إلى الأخرى ويُجعل على قولين. قال: (إلا إذا لم يحتمل، كقوله: "تثبت الشفعة في الشقص من الدار"، فيُقال قولُه في الحانوت) (¬1). كذلك قال الرافعي، والمعروف في المذهب خِلاف ما قاله. لكن إذا قلنا بجواز التخريج فهل يُنسب إليه المخرج؟ وجهان، أصحهما: المنع؟ بناءً على ما سبق من كون [المُرَجح] (¬2) أنَّ لازِم المذهب ليس مذهبًا؛ لأنه ربما يذكر فرقًا ظاهرًا. ولعل مراد الشيخ أبي إسحاق ذلك؛ فإنه جازِمٌ في ["المهذب"] (¬3) في غالب الأبواب بذكر التخريج وبيان طُرق الأصحاب فيه. فلذلك قال الرافعي: (الأَوْلى أنْ يقال: "هذا قياس قوله"، أو: "قياس أَصْله"، ولا ¬

_ (¬1) انظر: شرح اللمع (2/ 1084). (¬2) كذا في (ق)، لكن في سائر النسخ: الترجيح. (¬3) كذا في (ق، ش)، وفي سائر النسخ: المذهب.

يقال: "هو قوله") (¬1). ومن هذا تنشأ طُرق الأصحاب في إثبات الخلاف أوْ لا، ومن ظهور الفرق فيما فيه [التخريج] (¬2) ونحو ذلك. والله أعلم. ص 932 - وَأَوَّلٌ تَرْجِيحُهُ بِسَنَدِ ... عَالٍ وَفِقْهِ أَوْ بِنَحْوِ الْمُسْنِدِ 933 - أَوْ لُغَةٍ وَوَرَعٍ وَفِطْنَةِ ... وَضَبْطِهِ، وَبِانْتِفَاءِ الْبِدْعَة الشرح: المراد بِـ "الأول": خبر الآحاد. ويقع الترجيح فيه من وجوه: الأول: بأحوال الراوي وذلك من جهات: إحداها: بِعلُو الإسناد، والمراد به قِلة عدد الطبقات إلى منتهاه، فيرجح على ما كان أكثر؛ لِقِفَة احتمال الخطأ بِقلة الوسائط؛ ولهذا رغب الحفاظ في علو السند ولم يزالوا يتفاخرون به. مثاله: قول حنفي في أن الإقامة مثنى: إن عامرًا الأحول روى عن مكحول أن أبا محيريز حدَّثه عن أبي محذورة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علَّمه الأذان وعلَّمه الإقامة" وفيه أنها: "مثنى مثنى" (¬3). ¬

_ (¬1) العزيز شرح الوجيز (12/ 423). (¬2) في (ق): الترجيح. (¬3) مسند أحمد (15418، 27293) بإسناد حسن، سنن الدارمي (1196)، صحيح ابن خزيمة (377)، سنن الدارقطني (1/ 237)، سنن البيهقي الكبرى (1822)، وغيرها.

فيقول الشافعي: روى أنها فرادي -بخلاف الأذان- خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس: "أُمِر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة" (¬1). فخالد وعامر متعاصران، ففي حديثنا اثنان وحديثهم ثلاثة. وربما يدخل في العلو كثرة الرواة في الطبقة الواحدة؛ لقوة الوثوق بما توافقدا في روايته؛ فلذلك استغنيت في النَّظم بذكره. والخلاف في المسألة نقله ابن الحاجب عن الكرخي من الحنفية، ونقله صاحب "الميزان" من الحنفية عن أكثر أصحابهم كما في الشهادة، ولأنَّ خبر الواحد يحتمل أن يكون متأخرًا، فيكون ناسخًا؛ فلا معنى للترجيح بالكثرة. ونقل إمام الحرمين فيه الخلاف أيضًا عن بعض المعتزلة. ولَنَا: ما سبق، وبأنَّ الفرق بينه وبين الشهادة ظاهر؛ فإنَّ الشهادة مستندة إلى توقيفات تَعبُّدية؛ ولذلك لا يُعتبر بغير لفظ الشهادة، حتى لو أتى العدد الكثير بلفظ الإخبار، لم يُقبل، ولو شهد ألف امرأة وعبد على باقة بقل، رُدُّوا. ومثال ذلك: قول الشافعي في "الرسالة": (إن الأخذ بحديث عبادة في الربا أَولى من حديث أسامة؛ لأنَّ مع عبادة: عمر وعثمان وأبا سعيد وأبا هريرة - رضي الله عنهم -، والخمسة أَوْلى من واحد) (¬2). انتهى ومثاله أيضًا رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام من ركوع أو رَفْع منه. فروى إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام ثم لا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 578)، صحيح مسلم (رقم: 378). (¬2) الرسالة (ص 280 - 281).

يعود" (¬1) وروى ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - "كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع" (¬2). ورواه أيضًا كابن عمر: وائل بن حجر وأبو حميد الساعدي في عشرة من الصحابة، منهم: أبو قتادة وأبو أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة. ورواه أيضًا أبو بكر وعمر وعلي وأنس وجابر وابن الزبير وأبو هريرة، وجمعٌ بلغوا ثلاثًا وأربعين صحابيًّا، وقد أفرده البخاري بالتصنيف. الثانية: الترجيح بفقه الراوي، سواء أكانت الرواية بالمعنى أو باللفظ، خلافًا لمن قال: إذا كانت باللفظ فلا ترجيح بذلك. لنا: أنَّ الفقيه يميز بين ما يجوز وما لا يجوز، فيبحث عّمَا لا يجوز إجراؤه على ظاهره؛ ليبين ما يزول به إشكاله. الثالثة: بعلم النحو تصريفًا وإعرابًا؛ لأنَّ العالم بذلك يتحفظ عن مواقع الزلل، فالوثوق بروايته أقوى من غيره. قال الإِمام: (ويمكن أن يقال: هو مرجوح؛ لأنه قد يعتمد على معرفته، فلا يبالغ في الحفظ، بخلاف الجاهل بها، فإنه يخاف؛ فيبالغ في الحفظ) (¬3). وهذا معنى قولي: (وَفِقْهِ أَوْ بِنَحْوِ)، وهُما بترك التنوين؛ للإضافة. و "المسنِد" بكسر النون، أي: الراوي. ¬

_ (¬1) شرح معاني الآثار (1/ 224) بلفظ: (كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي أَوَّلِ تَكْبِيرَةٍ، ثُمَّ لا يَعُودُ). (¬2) صحيح البخاري (702)، صحيح مسلم (390). (¬3) المحصول في أصول الفقه (5/ 555).

الرابعة: عِلم الراوي باللغة؛ لِمَا قُلناه في علم النحو. الخامسة والسادسة: الورع والفطنة و [الضبط] (¬1)؛ لأنها أوصاف تُغَلِّب على الظن الصدق؛ ولذلك رجح أصحابنا رواية مالك وسفيان عن أبي حازم حديث: "زوجتكها بما معك من القرآن" (¬2) على رواية عبد العزيز بن أبي حازم وزائدة عن أبي حازم بلفظ: "ملكتكها" (¬3)؛ لأنَّ مالكًا وسفيان أعلم منهما وأوثق وأضبط. وسواء في ذلك أيضًا أن تكون روايته باللفظ أو بالمعنى كما سبق في فقهه. السابعة: حُسن اعتقاد الراوي بانتفاء أن يكون مبتدعًا. كذا قطعوا به. لكن إذا كان مِن بدعته اعتقاد كون الكذب كُفرًا، يحتمل أن لا ترجيح بانتفائها؛ لأنَّ ظن صِدقه أَغلب. مثال الأول: رواية إبراهيم بن أبي يحيى (وهو مبتدع، قال البخاري: كان يرى القدر، وكان جهميًّا) بسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَن صام الدهر كله فقد وهب نفسه لله" (¬4). فيقدَّم على روايته -وإنْ كان ثقة كما قال الشافعي وابن [الأصبهاني] (¬5) وابن عقدة وابن عدي- روايةُ: "لا صام مَن صام الدهر، صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر" (¬6) ورواية: "نهى ¬

_ (¬1) في (ق): الضبط لشدة يقظته. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 4741). (¬3) صحيح البخاري (رقم: 4799). (¬4) ميزان الاعتدال (1/ 186). ذكره الإِمام الذهبي بإسناده في ترجمة إبراهيم بن أبي يحيى، وقد جرحه كثيرٌ من أئمة الجرح والتعديل. (¬5) في (ض): الأصفهاني. (¬6) صحيح البخاري (رقم: 1878).

عن صيام الدهر" (¬1)؛ لسلامة راويهما من البدعة. والله أعلم. ص: 934 - وَشُهْرَةٍ بِالْعَدْلِ، وَالتَّزْكيَةِ ... [بِالِاخْتِبَارِ] (¬2)، وَالَّذِي بِكَثْرَةِ 935 - مِنَ الْمُزَكينَ، وَ [بِالتَّصْرِيحِ] (¬3) ... وَحِفْظِ مَرْوِيٍّ لَهُ صَحِيحِ الشرح: الجهة الثامنة للترجيح في الراوى: أن يكون مشهورًا بالعدالة بحيث لا يحتاج إلى تزكية، كما سبق في باب "الرواية" أن الأئمة لا يحتاجون إلى تزكية، ونحوهم مَن اشتهرت عدالته وصلاحه، فيقدَّم كلٌّ مِن هؤلاء على مَن عدالته بالتعديل. التاسعة: كونه مُزكّى بالاختبار والممارسة، فيقدَّم على مَن عُرفت عدالته بالتزكية؛ لأنَّ الخبر ليس كالمعاينة. العاشرة: أن يترجح بكثرة المُزكِّين له؛ ولهذا قدَّمنا حديث بسرة بنت صفوان: "مَن ¬

_ (¬1) تهذيب الآثار للطبري - مسند عمر بن الخطاب (ص 315، رقم: 507) السفر الأول، من طريق زمعة بن صالح، عن حبيبة بنت عمرو، عن أم كلثوم. قال الحافظ ابن حجر في (تقريب التهذيب، ص 217): (زمعة بن صالح .. ضعيف). وحبيبة لم أعثر لها على ترجمة؛ فالإسناد ضعيف. لكن في: صحيح البخاري (رقم: 1876)، صحيح مسلم (رقم: 1159) بلفظ: (لَا صَامَ من صَامَ الْأَبَدَ). (¬2) في (ص، ت، ن 1، ن 5): بالاختيار. (¬3) في (ض، ت، س، ن 2): بالصريح.

مَسَّ ذكَره فليتوضأ" (¬1) على حديث طلق أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرجُل يمس ذكره، قال: "لا بأس؟ إنما هو كبعض جسدك" (¬2). الحادية عشر: أن تكون تزكيته بالصريح من ألفاظ التزكية، فيقدَّم على مَن تزكيته بالحكم بشهادته أو العمل بروايته. نعم، الحكم بشهادته أرجَح مِن العمل بروايته. الثانية عشر: حفظ [المَرْوِي] (¬3)، وذلك بأنْ يحكي لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، والآخَر لا يصرح بأنَّ ذلك صيغة لفظه - صلى الله عليه وسلم -، كحديث أبي محذورة: "لقنني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأذان تسع عشرة كلمة" (¬4). وروى عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأذان بلا ترجيع، لا يحكى لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي معنى ذلك أن يكون تعويله في الرواية على حِفظه، لا على الكتابة، فإنه يَصْدُق أنه رُجح بحفظه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) صحيح ابن حبان (1121) بلفظ: (لا بأس به؛ إنه لَبَعْض جسدك). قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 1118). (¬3) في (س، ت): الراوي. (¬4) مسند أحمد (27293)، سنن ابن ماجه (709)، صحيح ابن حبان (1681)، وغيرها. قال الألباني: حسن صحيح. (التعليقات الحسان: 1679).

ص: 936 - وَ: [بِسَبَبٍ] (¬1) يُذْكَرُ، وَالسَّمَاعِ ... بِلَا حِجَابٍ، وَبِصَحْبٍ رَاعِ 937 - أَكْبَرَهُمْ، لَا ذَكَرًا وَلَوْ رَوَى ... حُكْمًا لِمِثْلِهِ، وَ [حُرُّامَا] (¬2) [غَوَى] (¬3) 938 - وَمُتَأَخِّرٍ بِإسْلَامٍ، وَمَن ... يَعْرَى عَنِ التَّدْلِيسِ فِيمَا قَدْ [يُظَنْ] (¬4) 939 - وَغَيْرَ ذِي اسْمَيْنِ، وَمَنْ في الْوَقْعَةِ ... مُبَاشِرًا، وَصَاحِبِ الْقَضِيَّةِ الشرح: الثالثة عشر: الترجيح بِـ "ذِكر الراوي سبب الحديث" على "رواية مَن لم يذكر السبب فيه"؛ لأنَّ اعتناءه بذكر سببه دليلٌ على كمال ضبطه. الرابعة عشر: يقدَّم "مَن روى بلا حجاب بينه وبين مَن روى عنه" على "مَن روى وبينهما حجاب"، كرواية القاسم عن عائشة "أن بريرة عتقت وكان زوجها عبدًا" (¬5) (فيما رواه مسلم) على رواية أنه "كان حُرًّا" (¬6) وهو الأسود عن عائشة، فإن القاسم رواه عنها ¬

_ (¬1) هكذا تكُون "و" حرف زائد في أول البيت، وهو ما يُعْرَف بِـ "الخزم"، فتبدأ التفعيلة بعد الواو الزائدة؛ ليصح الوزن. لكن في (ن): (سبب). وبذلك يصح الوزن بدخول "و" في التفعيلة، ويحتمل أن يكون المؤلِّف أرادها هكذا: (وَبِسَبَبْ يُذْكَرُ)، وبذلك تدخل الواو في التفعيلة ويصح الوزن أيضًا. (¬2) كذا في (ق، ش، ن). لكن في (ص، ض، س): حولفا. وفي (ت): خولفا. (¬3) كذا في (ق، ش، ن). لكن في (ض، ص، ت، س): عوى. (¬4) في (ق، ن): فطن. (¬5) صحيح مسلم (رقم: 1504). (¬6) سنن أبي داود (2235)، سنن الترمذي (1155)، وغيرهما. قال الألباني: (شاذ بلفظ: "حُرًّا"، =

شفاها؛ لأنه محرمها، بخلاف الأسود. الخامسة عشر: رواية أكابر الصحابة تُقدم على رواية الأصاغر منهم؛ وذلك لقرب الأكابر من مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم -. والمراد بالأكابر: رؤساء الصحابة، لا بالسن. وفي رواية عن أحمد أنه لا ترجيح بذلك. ولكن الصحيح أنه يُقَدم الأكبر فالأكبر، فيقدَّم الخلفاء الأربعة على غيرهم؛ فلذلك كان عِلي يُحلف الرواة ويقبل رواية الصديق مِن غير تحليف. وهذا معنى قولي: (وَبِصَحْبٍ رَاعِ أَكْبَرَهُمْ)، أي: وفي رواية الصحابة راعِ في الترجيح الأكبر فالأكبر. وقولي: (لَا ذَكَرًا) إشارة إلى أن بعضهم رجَّح يكون الراوي ذكرًا أو بكونه حُرًّا، وجرى عليه في "جمع الجوامع"، وهو خلاف الصواب، والصواب -كما قاله الأستاذ- أنه لا ترجيح بالذكورة. وقال ابن السمعاني: (إنه ظاهر المذهب) (¬1). ولم يذكر الترجيح به إلا احتمالًا له. بل حكى إلْكِيَا الطبري الاتفاق على عدم الترجيح به؛ لأنَّ المدار على الحفظ والإتقان، سواء في الرجل أو في المرأة. وأما الشهادة في جعل الشارع شهادة الرجل بشهادة امرأتين فَلأَمر آخَر، وهو مزيد الاحتياط فيها؛ فلذلك شُرِط فيها شروط لا تجري في الرواية, كالعدد والذكورة في بعض المشهود به وهو ما لا يُقْبَل فيه إلا الرجال. وهذا معنى قولي: "لَا ذَكَرًا" عطفًا على مفعول "رَاعِ"، أي: راعِ أكبر الصحابة في تقديمه على مَن دونه، ولا تُراعِ "الذكر مِن حيث هو" بتقديمه على الراوي "الأنثى مِن حيث هو". ¬

_ =والمحفوظ: "عَبْدًا"). (صحيح الترمذي: 1155). (¬1) قواطع الأدلة في أصول الفقه (1/ 409).

وقولي: (وَلَوْ رَوَى حُكْمًا لِمِثْلِهِ) أي: لا تراعيه ولو روى حُكمًا لا يختص بالإناث، خلافًا لقولٍ مُفَصَّلٍ أنه إنْ روى حُكم الإناث، قُدِّمت الأنثى عليه. وإنْ روى حُكمًا لا يتعلق بالإناث، يُراعَى في ترجيحه على رواية الأنثى ذلك. وقولي: (وَحُرًّا) عطف أيضًا على (ذَكَرًا)، أي: على ما هو الصواب، خلافًا لمن رجح بالحرية كما وقع في "جمع الجوامع" أيضًا؛ لأنَّ الحرية لا تأثير لها في قوة الظن. السادسة عشر: أن يكون الراوي متأخِّر الإِسلام، فيقدَّم على رواية مَن كان إسلامه متقدِّمًا؛ لأنَّ متأخِّره يحفظ آخِر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا لَمَّا روى جرير البجلي: "رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال ثم توضأ ومسح على خفيه" (¬1)، قال إبراهيم النخعي: كان يعجبهم هذا الحديث؛ لأنَّ إسلامَ جرير كان بعد نزول المائدة. أخرجه "الصحيحان". وهذا رأي الجمهور وإنْ جزم ابن الحاجب والهندي بأن رواية متقدِّم الإِسلام أَرجَح من رواية متأخِّره؛ لزيادة أصالته في الإِسلام وتَحَرُّزه فيه. على أنَّ الهندي قد ناقض هذا في الكلام على الترجيح بأمر خارج، فجزم بأن متأخِّر الإِسلام يُقدَّم مطلقًا. واعلَم أن في معنى تَأخُّر الإِسلام تأخُّر الصحبة؛ ولذلك قدَّموا خبر أبي هريرة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سلم من اثنتين" (¬2)، وقدموا رواية ابن عباس في التشهد على رواية ابن مسعود. ونقل ابن السمعاني عن الحنفية أنه لا يُقدَّم بهذا؛ لأنَّ المتقدم قد دامت صحبته إلى حالة وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يكون للمتأخِّر ترجيح عليه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) صحيح ابن حبان (رقم: 2249)، قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 2246). وفي صحيح البخاري (رقم: 682) بلفظ: (انْصَرَفَ من اثْنَتَيْنِ)، وفي صحيح مسلم (رقم: 573) بلفظ: (فَسَلَّمَ في رَكْعَتَيْنِ).

قال: (وما قُلناه أَوْلى؛ لأنَّ سماع المتأخر تحقق تأخُّره، وسماع المتقدم يحتمل المتقدم والتأخر. فما تأخر سماعه يَتعيَّن أن يكون أَوْلى؛ ولهذا قال ابن عباس: كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث) (¬1). انتهى السابعة عشر: رواية مَن لا يدلس مقدَّمة على رواية المدلس تدليسًا لا يمنع قبوله، أما [التدليس] (¬2) بما يمنع فمردود مِن الأصل. الثامنة عشر: ترجيح رواية مَن اشتهر باسْم واحد على رواية مَن اشتهر باسْمَين؛ لاحتمال أنه مجروح بأحدهما. التاسعة عشر: رواية مَن باشر الواقعة تُقدَّم على رواية مَن لم يباشرها؛ لأنه أَعْرَف بذلك، ولهذا قدَّم الشافعي رواية أبي رافع في نكاح النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة حلالًا (¬3) على رواية ابن عباس أنه "كان مُحْرِمًا" (¬4). العشرون: رواية صاحب القصة مقدَّمة على رواية غيره، كرواية ميمونة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو حلال" (¬5). رواه مسلم، والله أعلم. ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة في أصول الفقه (1/ 406). (¬2) كذا في (ص)، لكن في (ق): المدلس. (¬3) مسند أحمد (27241)، سنن الترمذي (رقم: 841)، وغيرهما. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف الترمذي: 841). (¬4) صحيح البخاري (رقم: 1740)، صحيح مسلم (رقم: 1410). وفي صحيح البخاري (رقم: 4011): (عن ابن عَبَّاسٍ قال: تَزَوَّجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مَيْمُونَةَ وهو مُحْرِمٌ، وَبَنَى بها وهو حَلَالٌ). (¬5) صحيح مسلم (رقم: 1141).

ص: 940 - وَعَدَمُ الْإنْكَارِ مِنْ شَيْخٍ، وَمَا ... مِنَ الصَّحِيحَيْنِ يَكُونُ ارْتَسَمَا 941 - فَفِي الْبُخَارِيِّ، فَمُسْلِمٍ، فَمَا ... شَرْطَهُمَا حَوَى، فَمِنْ غَيْرِهِمَا الشرح: الحادية والعشرون: رواية "مَن لم ينكر شيخُه -الذي رواه عنه- روايتَه" مقدَّمة على رواية "مَن أنكره الشيخ"، كإنكار أبي معبد ما حدَّث به عمرو بن دينار من حديث ابن عباس أنه: "كان يعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتكبير" (¬1). وهذا في الجاحد للرواية. أمَّا مَن شك فلا يظهر أنها مرجوحة؛ لاحتمال النسيان، فقد كان مَن شك يُحدِّث بَعد ذلك عمَّن روى عنه ذلك، كما فعل سهيل في حديث القضاء باليمين مع الشاهد (¬2). الثانية والعشرون: ما أخرجه الصحيحان مُقدَّم على الصحيح في غيرهما؛ لأنهما أصح كتاب بعد القرآن. وأما قول الشافعي مِثل ذلك في "الموطأ" فإنما قاله قَبل وجودهما؛ لأنَّ أول مَن صنَّف في الصحيح: البخاري، ثم مسلم. ويقال فيما اتفقا عليه: "متفق عليه". أي: اتفق البخاري ومسلم عليه، لا اتفاق الأُمة، إلا أنَّ اتفاق الأُمَّة لازِم له؛ لاتفاق الأُمة على تَلَقِّيهما بالقبول. وكذا ما انفرد به أحدهما، حتى قال ابن الصلاح تبعا للأستاذ أبي إسحاق: إنَّ ما فيهما ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (806) بلفظ: (كنت أعرف انقضاء صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتكبير)، صحيح مسلم (رقم: 583) بلفظ: (كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتكبير). (¬2) سنن أبي داود (رقم: 3610)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 20431). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 3610).

مقطوع بصحته. وخالفه النووي؛ لأنَّ خبر الآحاد لا يُقْطَع بصحته، فإن المحققين والأكثرين قالوا: لا يفيد إلا الظن، ولا يَلْزَم مِن اتفاق الأُمة على العمل [بها] (¬1) إجماعُهم على أنه مقطوع بصحته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم بَعد ما اتفقا عليه في الصحة ما انفرد به البخاري؛ لأنه شَرط ما لم يشرطه مسلم ولا غيرُه. نعم، خالف بعض شيوخ المغرب، ففضل "صحيح مسلم" عليه، وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: (ما تحت أديم السماء أصح منه). وأُوِّل بكونه لم يمازج ما فيه مِن الأحاديث الصحيحة بكلام صحابي ولا بحديث مُعلَّق، ونحو ذلك، وإلا فلا يمكن إطلاق ذلك. فإنْ قيل: لِمَ لا قُدِّم على المتفق عليه في "الصحيحين" اتفاق الكتب الستة كما زعم ذلك بعضهم؟ قلتُ: لأنَّ ما اتفقا عليه يَلزم أنْ يقولوا كلهم بصحته؛ لأنَّ شرطهما لا يخالف فيه بقية الستة، فهو كالمتفق عليه مِن الكل. ثم بعد ذلك يرجح ما كان على شرطهما، ثم ما كان على شرط البخاري، ثم ما هو على شرط مسلم، كما [يفصل] (¬2) ذلك الحاكم في "مستدركه" وإنْ كان فيه تساهل وعليه انتقادات. ¬

_ (¬1) في (ق): بهما. (¬2) في (ت): يفعل.

ثم بعد ذلك كله ما هو صحيح (¬1) لا على شرطهما ولا على شرط أحدهما، وهو معنى قولي: (فَمِنْ غَيْرهِمَا). والله تعالى أعلم. ص: 942 - وَالْقَوْلُ، فَالْفِعْلُ، فَأَنْ يُقَرَّرَا ... وَذُو فَصَاحَةٍ، وَزَائِدًا يُرَى 943 - أَلْغِ بِهِ التَّرْجِيحَ فِيمَا قَدْ عُنِي ... وَالْقُرَشِيُّ لَفْظُهُ وَالْمَدَنِي 944 - وَمُشْعِرٌ بِرِفْعَةِ النَّبِيِّ ... صَلَّى عَلَيْهِ اللهُ مِنْ صَفِيِّ الشرح: ما سبق من الترجيحات إنما هو بحسب الراوي، أما بحسب المتن فمِن جهات أيضًا: إحداها: القول مُقدَّم على الفعل، فما كان مِن لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَرجح مما نُقل عن فِعله؛ لصراحة القول؛ ولهذا اتُّفِق على دلالة القول، بخلاف دلالة الفعل. الثانية: الفعل مقدَّم على التقرير؛ لأنَّ التقرير يَطْرقه مِن الاحتمال ما ليس في الفعل الوجودي؛ ولذلك كان في دلالة التقرير على التشريع اختلاف. الثالثة: ما كان فصيحًا مُقدَّم على ما لم يستكمل شروط الفصاحة، وهي كما ذكر البيانيون سلامة "المفرد" مِن تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس. وفي "المركب" سلامته من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد مع فصاحتها. ومعنى ذلك كله موضح في محله. نعم، من الناس مَن قال: اللفظ المروي إذا كان فيه ركاكة، لا يقبل. ¬

_ (¬1) يعني: يرجح ما هو صحيح.

ولكن الحق القبول إذا صح السند، ويُحمَل على أن الراوي رواه بلفظ نفْسه. أما عند عدم صحة السند فتكون الركة علامة على أنه موضوع كما ذكره المحدِّثون. وأما ما كان زائد الفصاحة فلا يرجح على غيره؛ فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ينطق بالفصيح وبالأفصح، فلا فَرق في ثبوتهما عنه، والكلام فيما سوى ذلك، لا سيما إذا خاطب مَن لا يعرف غير تلك اللغة التي ليست بأفصح؛ لقصد إفهامهم. وهذا معنى قولي: (وَزَائِدًا يُرَى ألْغِ بِهِ التَّرْجِيحَ فِيَما قَدْ عُنِي). فَـ "زائدًا" مفعول مقدم. وإنما قلت: "وَزَائِدًا" ولم أَقُل: "أفصح" كالبيضاوي؛ لأنَّ الأفصح يكون في كلمة واحدة لُغتان إحداهما أفصح، بخلاف زائد الفصاحة، فإنه يكون في كلمات منها الفصيح والأفصح، ولكن الأفصح فيه أكثر. وينبغي أن يجري ذلك في البليغ، فلا يرَجح على الفصيح. و"البلاغة" كما قال البيانيون: مُطابَقة الكلام لمقتضَى الحال. وهو مشروح في محله. الرابعة: ما كان بِلُغَة قريش مقدَّم على غير لُغتها؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - سيد قريش. وفي معناه أن يكون بلغة الحجاز، فيقدَّم على لغة غيرهم. الخامسة: يقدَّم المدني على المكِّي؛ لتأخره عنه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - هاجر للمدينة ومكث عشر سنين. وقد اختُلف في معنى "المكي" و "المدني" في القرآن: فقيل: ما بعد الهجرة مدني ولو كان في سفر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة في الطريق أو في نفس مكة أو نحو ذلك. وقيل: المدني ما كان بالمدينة فقط. والأرجح: الأول؛ لِمَا قدَّمنا مِن كونه متأخِّرًا.

السادسة: يقدَّم ما كان مُشْعِرًا بِرِفْعَة النبي - صلى الله عليه وسلم -صَفِي الله مِن خَلْقه- وعلُوِّ شأنه؛ لإشعاره بتأخُّر ذلك؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتجدد له زيادات في علُو الشأن، فهو مُحَقَّق التأخُّر عمَّا ليس فيه ذلك؛ لكونه محتمل المتقدم والتأخر. والله تعالى أعلم. ص: 945 - وَمِنْ مُرَجِّحَاتِ مَتْنٍ مُطْلَقَا ... مَا فِيهِ ذِكْرُ عِلَّةٍ تَحَقَّقَا 946 - أَوْ تَكُ قُدِّمَتْ عَلَى حُكْمٍ لَهَا ... أَوْ كَانْ لِلتَّهْدِيدِ أَمْرُهُ انْتَهَى 947 - أَوْ فِيهِ تَأْكِيدٌ، وَمَا تَعْمِيمُه ... مُطْلَقًا، ايْ: عَلَى الَّذِي عُمُومُه 948 - في سَبَبٍ لِغَيْرِ ذَاكَ السَّبَبِ ... وَالشَّرْطُ صَاحِبُ الْعُمُومِ أَوْجِبِ 949 - رُجْحَانَهُ عَلَى مُنكَّرٍ نُفِي ... وَذَا عَلَى [الْبَاقِي] (¬1) إذَا مَا [يَقْتَفِي] (¬2) الشرح: أي: ومِن المرجحات في المتن مطلقًا (أيْ: في متن القرآن أو السُّنة) أمور: أحدها: أن يذكر في الحكم تعليله، فيقدَّم على ما لم يذكر فيه العلة؛ لإشعاره بالاعتناء به والاهتمام، كحديث: "مَن بَدَّل دِينه فاقتلوه" (¬3) أَشْعر بترتيب القتل على الردَّة بأنها عِلته؛ فيقدَّم على حديث النهي عن قتل النساء (¬4) الذي لم يذكر فيه عِلة النهي عن ذلك، فليكن حمله على الحربيات. ¬

_ (¬1) في (ت، ش): النافي. (¬2) في (ق، ن 2): ينتفي. في سائر النُّسَخ: يقتفي. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) صحيح البخاري (رقم: 2852)، صحيح مسلم (رقم: 1744).

وفي معنى ذلك أن يذكر لكل منهما عِلة، لكن عِلة أحدهما أظهر في المناسبة؛ فيقدَّم. الثاني: ما قُدِّمت فيه العلة على الحكم أَرْجح من عكسه. وقد سبق في "باب القياس" في الإيماء أن الإِمام في "المحصول" قال ذلك، وسبق بيانه موضَّحًا، فراجِعه. الثالث: يقدَّم ما فيه تهديد على ما لا تهديد فيه، كحديث: "مَن صام يوم الشك فقد عَصَى أبا القاسم" (¬1) مقدَّم على أحاديث الترغيب في صيام النفل. الرابع: ما فيه تأكيد مقدَّم على ما لا تأكيد فيه، كحديث: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وَليها فنكاحها باطل باطل باطل" (¬2) مع حديث: "والأيم أَحَق بنفسها مِن وليها" (¬3)، فإنه -ولو سُلِّم دلالته للحنفية على مطلوبهم أنها تُزوج نفسها- كان هذا مقدَّمًا عليه. وفي معنى ذلك ما لو تأكد حُكم أحدهما بدلالة سياق؛ فيقدَّم على ما ليس كذلك. الخامس: يقدَّم العام الذي "لم يَرِد على سبب خاص" على الذي "وَرَدَ على السبب الخاص" في غير صورة السبب؛ لأنَّ الأول أقوى في العموم، حتى قال مَن قال: إن العبرة بخصوص السبب، لا بعموم اللفظ كما سبق؛ فلذلك قال إمام الحرمين: إنَّا ولو قُلنا بعمومه لكنه ضعيف. ولذلك رجحنا "مَن بدل دينه فاقتلوه" على حديث: "نَهى عن قتل النساء"؛ لأنه وَرَد ¬

_ (¬1) من قول عمار بن ياسر - رضي الله عنه -: صحيح البخاري (2/ 674)، وفي سنن ابن ماجه (رقم: 1645)، سنن أبي داود (رقم: 2334) بلفظ: (من صَامَ هذا الْيَوْمَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ). وفي سنن الترمذي (رقم: 686) بلفظ: (من صَامَ الْيَوْمَ الذي يَشُكُّ فيه الناس فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ) وغيرها. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 2334، صحيح الترمذي: 686). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) صحيح مسلم (رقم: 1421).

على قتل نساء أهل الحرب، فاختص بذلك، لا مِن حيث إنَّ العبرة بخصوص السبب، بل للجمع بين الدليلين. أما إذا تَعارض الدليلان في صورة السبب فيقدَّم العام في السبب؛ لأنه إما خاص به على رأيٍ أو واجب الدخول على الرأي الآخَر؛ ولذلك لا يجوز إخراجه وتخصيصه من العموم. وممن أشار إلى هذا التفصيل ابن الحاجب، وصرح به سليم الرازي في "التقريب"، وكذا غيره من أصحابنا كشارح "لمع" الشيخ أبي إسحاق. ولم يقف الهندي على النقل؛ فذكر ذلك بحثًا. السادس: ما كان مِن صيغ العموم متضمنًا لشرط كـ "أيّ" و "مَن" راجح على ما كان غير ذلك كالنكرة المنفية؛ لدلالة الأول على كون ذلك عِلة للحكم، وهو أدل على المقصود مما لا عِلة فيه، إذْ لو ألغينا العام الشرطي كان إلغاءً للعلة، بخلاف العام غير الشرطي لا يَلزم منه إلغاء العلة. كذا قطع بهذا المرجح ابن الحاجب وغيره، ويؤيده ما في "المحصول" مِن أنَّ عموم الأول بالوضع والثاني بالقرينة. نعم، جزم الهندي هنا بأن النكرة المنفية مقدَّمة على غيرها مِن أنواع العموم، لكنه لم يُوَجِّهه. وكأنَّ وَجْهه أنَّ طروق التخصيص إليه بعيدٌ؛ لِبُعْد أنْ يقال في "لا رجُل في الدار": إنَّ فيها فلانًا. نعم، إمام الحرمين قال في "البرهان": إنه لا فرق بين العموم الشرطي والنكرة المنفية في معنى العموم، وإنه يقْطَع بأنَّ العرب وضعتهما [لِذلك] (¬1). السابع: العام بِكَوْنه نَكرة مَنْفِيَّة مقدَّم على باقي صِيَغ العموم؛ لأنه أَقْوَى منها؛ ولهذا قيل: إنَّ دلالة العموم في النكرة المنفية بالوضع. واتفقوا على أنَّ [الباقي] (¬2) بالقرينة. والله ¬

_ (¬1) كذا في (س، ش، ت)، لكن في (ص، ق، ض): كذلك. (¬2) كذا في (ق)، لكن في سائر النسخ: الثاني.

تعالى أعلم. ص: 950 - وَهَكَذَا الْجَمْعُ الَّذِي تَعَرَّفَا ... يَرْجَحُ "مَا" وَ "مَنْ" عَلَى مَا عُرِفَا 951 - وَرَجِّحِ الْكُلَّ (¬1) عَلَى ذِي الْجِنْسِ ... إذَا احْتِمَالُ الْعَهْدِ فِيهِ يَرْسِيْ 952 - كَذَا الَّذِي تَخْصِيصُهُ أَقلُّ ... وَالِاقْتِضَاءَ حَيْثُما يَدُلُّ الشرح: أي: الثامن مِن المرجحات في المتن مطلقًا (وهو وما بَعده مِن الترجيح في باقي صيغ العموم) أنْ يكون العام جمعًا مُعرَّفًا بِـ "أل" أو بالإضافة مُرجَّح على العموم في "مَا" و "مَن" على ما [عُرف] (¬2) في باب العموم. والمراد هنا بِـ "مَن" و "مَا" غير الشرطيتين، فقد سبق أن أدوات الشرط كلها العموم فيها مقدَّم على سائر صيغ العموم. وإنما رجحنا الجمع المعرَّف على "مَن" و "ما" غَيْر الشرطيتين لعدم إمكان حمل الجمع على واحد، و "مَن" و "ما" يمكن العمل فيهما على واحد. ولا يخفَى ما في هذا الفرق مِن النظر. التاسع: الكُل (أي: مِن الجمع المعرَّف و "مَن" و "ما") راجح على اسم الجنس المعرف بِـ "أل"؛ لأنها لا تحتمل العهد أو تحتمله على بُعد، بخلاف اسم الجنس المحلَّى بِـ "أل"، فإنه محتمل للعهد احتمالًا قريبًا. ¬

_ (¬1) يمكن أيضًا ضبطه هكذا: وَرَجَحَ الْكُلُّ. (¬2) كذا في (ق، ش)، لكن في سائر النسخ: بان.

وهو معنى قولي: (إذَا احْتِمَالُ الْعَهْدِ فِيهِ يَرْسِيْ)، أي: يوجد ويثبت. بل قال كثيرٌ: إنه لا عموم فيه. وقد سبق بيانه. العاشر: يُقدم ما كان مِن العام قد طَرقه التخصيص أَقَل على ما عارضه مِن العام الذي طَرقه التخصيص أكثر؛ لِمَا لا يخفَى مِن ضَعْفه بالتخصيص. فكلما ازداد التخصيص ازداد الضعف. وقد عُلم مما اقتصرتُ عليه أنَّ العام الذي لم يُخص مُقدَّم على العام الذي طَرَقه التخصيص. وإنما لم أذكر هذه الصورة صريحًا في النَّظم لأمرين: أحدهما: أن الراجح في العام الذي خُص أنه مجَاز في الاقتصار عليه أو مطلقًا، وما لَمْ يُخَص لا خلاف أنه حقيقة وأنه يُحتج به. وقد عُلم أن الحقيقة مقدَّمة على المجاز قطعًا. ثانيهما: أن بعضهم نازع في أرجحية ما لم يُخص على ما خُص مِن حيث إنَّ الغالب في العمومات التخصيص، فكون الشيء مِن الغالب أقوى مِن كونه على خلاف الغالب. فالنفس تطمئن إلى العام المخصَّص باعتبار عدم انتظاره تخصيصًا آخَر بَعد هذا التخصيص، بخلاف ما لم يُخص أصلًا. وقد عَلَّله الهندي بأمر آخَر وهو أن الخاص راجح مِن حيث كونه خاصًّا بالنسبة إلى ذلك العام الذي لم يدخله التخصيص، والخاص أَولى مِن العام؛ فكان ما دخله التخصيص أَولى. والله أعلم. وقولي: (وَالِاقْتِضَاءَ حَيْثُمَا يَدُلُّ) هو وما بعده في قولي: ص: 953 - رَجِّحْ عَلَى الْإيمَاءِ وَالْإشَارَهْ ... هُمَا عَلَى مَفْهُومَيِ الْعِبَارَهْ 954 - قَدِّمْ، وَمَا مَفْهُومُهُ مُوَافَقَهْ ... عَلَى الَّذِي خَالَفَهُ وَشَاقَقَهْ

الشرح: إشارة إلى مرجحات أخرى من جهة دلالة الألفاظ: الأول: ما دلالته من حيث الاقتضاء مُرجحة على ما دلالته من حيث الإيماء والإشارة. وهذه الأقسام كلها سبق بيان حقيقتها في الكلام على تقسيم دلالة الكلام على ما يقصد منه، وذلك في باب اللغات. وإنما كانت دلالة الاقتضاء مقدمة على دلالة الإشارة لترجيحها بقصد المتكلم، وعلى دلالة الإيماء لِتَوقُّف صِدق المتكلم أو صحة الملفوظ به، بخلاف الإيماء. الثاني: دلالة الإيماء ودلالة الإشارة مقدَّمان على المفهومين: مفهوم المخالفة، لِمَا فيه من الاختلاف، ومفهوم الموافقة؛ لجواز أن لا يكون المسكوت أَوْلى أو مساويًا. وإلى ذلك أشرت بقولي: (هُمَا) إلى آخِره، فـ "هُمَا" مبتدأ، و "قَدِّمْ" فِعل أمر، والجملة خبر عن المبتدأ. الثالث: ما دل بمفهوم الموافقة يُقدَّم على ما كان بمفهوم المخالفة؛ لأنَّ الموافقة باتفاق في دلالتها على المسكوت وإنِ اختُلف في جِهته هل هو بالمفهوم؟ أو بالقياس؟ أو مجاز بالقرينة؟ أو منقول عُرفي؛ كما سبق بيانه في المفاهيم وغيره. نعم، اختار الهندي أن مفهوم المخالفة أَرجَح من الموافقة؛ لأنَّ فائدته تأسيس، والموافقة تأكيد. والله تعالى أعلم. ص: 955 - كَذَا عَلَى الْأَصْلِ يُبَدَّى النَّاقِلُ ... وَمُثْبِتٌ نَافٍ لَهُ مُقَابِلُ 956 - وَلَوْ يَكُونُ ذَاكَ في الطَّلَاقِ ... وَهَكَذَا إنْ كانَ في العَتَاقِ الشرح: هذه مُرجحات أخرى باعتبار المدلول:

أحدها: أن يكون أحدهما مُقرِّرًا لحكم الأصل والآخَر ناقلًا، فالناقل مُقدَّم عند الجمهور؛ لأنه يُفيد حُكمًا شرعيًّا ليس موجودًا في الآخَر، كحديث: "مَن مَس ذَكره فليتوضأ" مع حديث: "هل هو إلا بضعة منك؟ " (¬1). والمخالِف في ذلك الإِمام الرازي وأتباعه كالبيضاوي، فقالوا بترجيح المقرِّر؛ لأنَّ الحمْل على ما لا يُستفاد إلا مِن الشرع أَوْلى مما يُستفاد من العقل. قيل: والتحقيق في المسألة تفصيل، وهو أنه يرجح المقرِّر فيما إذا تَقرر حُكم الناقل مُدة في الشرع عند المجتهد وعمل بموجبه ثم نُقِل له المقرِّر وجهِل التاريخ؛ لأنه حينئذٍ عمل بالخبرين: الناقل في زمان والمقرِّر بعد ذلك. فأما إنْ كان الثابت [بمقتضَى] (¬2) البراءة الأصلية ونُقِل الخبران فإنهما يتعارضان هنا ويرجع إلى البراءة الأصلية. بل عبد الجبار يقول: إنَّ تقديم الناقل أو المقرِّر -على الاختلاف- ليس من باب الترجيح، بل مِن باب النَّسخ. لكنه ضعيف؛ لأنه لا يتوقف [رَفْعُه] (¬3) على ما يُرفَع به الحكم الشرعي. ثانيها: يقدَّم المُثْبَت على ما يقابله مِن المَنْفِي عند الفقهاء؛ لأنَّ مع المثبِت زيادة عِلم، ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) في (ق): يقتضي. (¬3) في (ص، س، ت): فيه.

[لحديث] (¬1) بلال (¬2) وأسامة (¬3) في الصلاة في الكعبة. وقال قوم: يقدَّم النافي؛ لاعتضاده بالأصل. وقال القاضي عبد الجبار: يتساويان؛ لتقابل المرجحين. وفي قول رابع: يفصل بين أن يكون ذلك في طلاق أو عتاق فيقدَّم فيهما النافي، لا في غيرهما فإنه يقدَّم المُثْبِت. وقيل بالعكس، أي: إنه يقدَّم المثبِت في الطلاق والعتاق دُون غيرهما. أشار إليهما ابن الحاجب. وفي قول خامس يؤخَذ مِن كلام "المستصفى": إنهما لا يتعارضان؛ لامتناع التعارض بين الفعلين؛ لاحتمال وقوعهما في حالَين، فلا يكون بينهما تَعارُض. نعم، موضوع هذه المسألة أن يكون الإثبات والنفي شرعيين، فأمَّا إذا كان النفي باعتبار الأصل فهو مسألة الناقل والمقرِّر السابقة. قولي: (وَلَوْ يَكُونُ ذَاكَ في الطَّلَاقِ) إلى آخِره -إشارة إلى بعض الأقوال السابقة. والله أعلم. ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، ولعلها: كحديث. (¬2) صحيح البخاري (رقم: 483)، صحيح مسلم (رقم: 1329)، ولفظ البخاري: (عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ الكَعْبَةَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلاَل وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ .. ، فَسَأَلْتُ بِلاَلًا حِينَ خَرَجَ: مَا صَنَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَمِينهِ وَثَلاَثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ - وَكَانَ البَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَةِ أَعْمِدَةٍ - ثُمَ صَلَّى). (¬3) صحيح مسلم (رقم: 1330) عن أسامة بن زيد: "أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ، دَعَا في نَوَاحِيهِ كُلِّهَا، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ حَتَّى خَرَجَ".

ص: 957 - وَالنَّهْيُ رَاجِحٌ عَلَى أَمْرٍ، وَذَا ... عَلَى إبَاحَةٍ، كحَظْرٍ، فَانْبِذَا 958 - وَخَبَرٌ عَلَى الَّذِي أَمْرًا يُرَى ... [أَوْ] (¬1) نَهْيًا اللَّذَيْنِ فِيهِ ذُكِرَا 959 - كَذَا وُجُوبٌ أَوْ كَرَاهَةٌ عَلَى ... نَدْبٍ، وَهُوْ عَلَى مُبَاحٍ اعْتَلَا 960 - وَالنَّافِ لِلْحَدِّ وَمَا قَدْ عُقِلَا ... مَعْنَاهُ، وَالْوَضْعِيُّ في الْحُكْمِ عَلَى الشرح: ثالث المرجحات مِن جهة المدلول أنْ يكون نهيًا ومُعارِضُه أمر، فيرجح الخبر الذي فيه النهي على ما فيه الأمر؛ لأنَّ طلب الترك فيه أشد مِن طلب الفعل في الأمر؛ ولهذا قال كثيرٌ ممن قال: (الأمر لا يفيد التكرار): إنَّ النهي يفيده. الرابع: يرجح أيضًا الأصل على الإباحة, فالأمر أَوْلى؛ لأنه أَحْوَط؛ ولأن فيه حمل كلام الشارع على الأمر التكليفي، فإنَّ المباح لا تكليف فيه. وقيل: المُبِيح أَوْلى. ورجحه الهندي؛ لأنه لو رجح الأمر لَزِم مِن ذلك تعطيل المباح بالكُلية، وترجيح المبِيح فيه تأويل للأمر بِصَرْفِه عن ظاهره، والتأويل أَوْلى مِن التعطيل. الخامس: ما فيه حظر راجح على الإباحة. وهو معنى قولي: (كَحَظْرٍ)، أي: رجح الأمر على الإباحة كما أن الحظر يرجح على الإباحة، فانبذ الحظر، أي: اطرحه. وإنما رجح الحظر على الإباحة للاحتياط. وقيل عكسه؛ لأنهما حُكمان شرعيان. ¬

_ (¬1) في (ت، س): و.

وفي ثالث: مستويان. حكاه الهندي عن أبي هاشم وابن أبيان، ورجحه الغزالي في "المستصفى". السادس والسابع: "ما فيه خبر" راجح على "ما فيه أمر أو نهي"؛ لدلالة الخبر على الثبوت و [التحقق] (¬1). وأيضًا: فلو عُطِّل، لَزِمَ الخُلْف في الخبر. وبهذا يُعْلَم أنَّ الكلام في خبر بمعناه، لا الخبر الذي بمعنى الأمر أو النهي، فإنهما كالأمرين أو كالنهيين. الثامن: أمر الوجوب راجح على أمر الندب؛ للاحتياط في العمل به. التاسع: ما فيه كراهة مُقدَّم على أمر الندب؛ لما ذكرناه. العاشر: أمر الندب راجح على ما فيه إباحة. وهو معنى قولي: (اعْتَلَا)، أي: رجح على المباح. فـ "هو" مبتدأ مضموم الهاء مسكن الواو لُغة في "هو"، و"اعْتَلَا" خبره، و (عَلَى مُبَاحٍ) متعلق بـ "اعْتَلَا". نعم، نازع الهندي في ذلك، فقال: (ويمكن أن ترجح الإباحة بكونه متأيدًا بالأصل في جانب الفعل والترك، وبكونه أعم وأسهل مِن حيث كونه مُفَوّضًا إلى خِيرة المكلَّف، ومن حيث إنه لا إجمال في الصيغة الدالة عليه، بخلاف الندب، فإنه يَثبُت بصيغة الأمر وفيها الاحتمال) (¬2). الحادى عشر: ما تضمن نفي الحد راجح على ما تضمن إيجابه؛ لأنَّ الحدود تُدرأ بالشبهات. قال الآمدى: ولأن الخطأ في نفي العقوبة أَوْلى مِن الخطأ في تحقيقها على ما قال ¬

_ (¬1) في (ق): التحقيق. (¬2) انظر: نهاية الوصول (8/ 3732).

عليه السلام: "لأنْ تُخطِئ في العفو خير مِن أنْ تخطئ في العقوبة" (¬1). وقيل: هما سواء. ورجحه الغزالي؛ لأنَّ الشبهة لا تؤثر في ثبوت مشروعيته؛ بدليل أنه يثبت بخبر الواحد والقياس مع قيام الاحتمال. فالحدّ [إنما تؤثِّر] (¬2) في إسقاطه الشبهة إذا كانت في نفس الفعل أو بالاختلاف في حُكمه كأنْ يبيحه قوم ويحظره آخرون، كالوطء في نكاح بلا ولي أو بلا شهود. وليس الخلاف لفظيًّا كما قد يُتوَهَّم مِن أنَّ قول التساوي يؤول إلى تقديم النافي، فإنهما يتعارضان؛ فيتساقطان ويرجع إلى غيرهما. فإنْ كان هناك دليل شرعي، حُكم به وإلا بَقي الأمر على الأصل؛ فيلزم نَفْي الحد. بل الخلاف معنوي على الصواب؛ فإنَّ الأول ينفي الحد بالحكم الشرعي، والآخَر يقول بالنفي؛ استصحابًا للأصل. الثاني عشر: ما تَضمن حُكمًا معقول المعنى أرجح مما تضمن حُكمًا غير معقول المعنى؛ لأنَّ انقياد المكلَّف له أكثر؛ فيكون أسرع إلى القبول وأَفْضَى إلى الوقوع؛ ولهذا كان شَرْع المعقول أَغْلب مِن غيره، حتى قيل: لا حُكم إلا وهو معقول، حتى في ضرب الدية على العاقلة ونحوه مما يُظن أنه ليس بمعقول. ولأنَّ المعقول أكثر فائدة؛ لأنه يُلْحَق به بِالعِلة بطريق القياس. الثالث عشر: ما كان مِن المخاطَب به بطريق الوضع مقدَّم على ما هو مِن الخطاب ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (رقم: 1424)، المستدرك على الصحيحين (رقم: 8163)، وغيرهما، بلفظ: (فإنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ في الْعَفْوِ خَيْرٌ من أَنْ يُخْطِئَ في الْعُقُوبَةِ). قال الألباني: ضعيف. (ضعيف الترمذي: 1424). (¬2) كذا في (ق، ش)، لكن في سائر النسخ: المأثور.

التكليفي؛ لأنَّ الوضعي لا يتوقف على ما يتوقف عليه التكليفي مِن أهلية المخاطَب وفَهْمه وتَمَكُّنه مِن الفعل؛ فكان أَوْلى. وقيل بالعكس. حكاه الهندي؛ لأنه مقصود بالذات، ولأنه الأكثر من الأحكام؛ فكان أَوْلى. والله تعالى أعلم. ص: 961 - مَا هُوَ تَكْلِيفِي، كذَا مُوَافِقُ ... دَلِيلٍ أَوْ مُرْسَلِ مَنْ يُوَافِقُ 962 - أَوِ الصَّحَابِيِّ أَوِ الْمَدِينَةِ ... أَوْ أَكْثَرَ، وَالشَّافِعِي في فِرْقَةِ 963 - رَجَّحَ في فَرَائِضٍ مَا وَافَقَا ... زَيْدًا، وَبَعْدَ معَاذًا طَابَقَا 964 - ثُمَّ عَلِيًّا، وَالَّذِي مِنْ غَيْرِهَا ... هُوَ مُعَاذٌ، فَعَلِيٌّ انْتَهَى الشرح: [قولي: (مَا هُوَ تَكْلِيفِي) من تتمة ما سبق. وما بَعده فإشارة إلى مُرجِّحات أخرى تكون مِن خارج عن الدليل المعارِض لآخَر] (¬1). أحدها: أن يكون موافقًا لدليل آخَر من كتاب أو سُّنة أو إجماع أو قياس، فيرجح على ما لم يوافق؛ لأنَّ تقديم ما لم يوافق تَركٌ لشيئين: الدليل، وما عضده. وتقديم الموافق تَركٌ لدليل ¬

_ (¬1) كذا في (ق)، لكن في (ش): (مُرجِّحات أخرى تكون مِن خارج عن الدليل المعارِض لآخَر، أحدها قولي: ما هو تكليفي. من تتمة ما سبق. وما بَعده فإشارة). وفي سائر النسخ: (مُرجِّحات أخرى تكون مِن خارج عن الدليل المعارِض لآخَر، أحدها قولي: ما هو تكليفي. رسمه ما سبق. وما بَعده كإشارة).

واحد. ولهذا قدَّمنا حديث عائشة في صلاة الفجر بغَلس (¬1) على حديث [نافع] (¬2) في الإسفار (¬3)؛ لموافقته قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238]؛ لأنَّ من المحافظة الإتيان بالمحافَظ عليه المؤقَّت أَول وقته. الثاني: ما وافق مرسلًا (ولو قلنا: إنَّ المرسل غير حُجة) مُرجَّح على ما لم يوافق ذلك؛ لأنَّ التعاضد أقوى في النفس، حتى إنَّ كثيرًا من العلماء قد جعله دليلًا، فهو إما دليل أو في معنى الدليل، فلا يفوت موافقته. ومن ثَم عمل الشافعي بالمرسَل إذا عضده مرسَل آخَر مِن غيْر طريقِه كما سبق. وإلى ذلك أشرت بقولي: (مُرْسَلِ مَنْ يُوَافِقُ)، أي: يوافق بمرسله ذلك الدليل. وألحق الغزالي بذلك ما إذا عضده خبر مردود عند المستدِل لكن قد قال به بعض العلماء. قال: فهذا مرجح، لكن بشرط أن لا يكون قاطعًا ببطلان مذهب القائلين به، بل يرى ذلك في محل الاجتهاد. الثالث: يرجح ما وافق مِن الدليلين قول الصحابي على ما لم يوافق؛ لِمَا ذكرناه في المرسل. هذا إذا لم ينتشر ويسكت الباقون عليه وإلا فهو إجماع سكوتي يُقدَّم قطعًا. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (553)، صحيح مسلم (645)، ولفظ البخاري: (عن عائشة، قَالَتْ: "كُنَّ نِسَاءُ المُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - صَلاَةَ الفَجْرِ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، ثُمّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ حِينَ يَقْضِينَ الصَّلاَةَ، لاَ يَعْرِفُهُنَّ أحَدٌ مِنَ الغَلَسِ"). (¬2) كذا في جميع النسخ، والصواب: (رافع) كما في رفع الحاجب (4/ 630)، تشنيف المسامع (3/ 532). (¬3) سنن الترمذي (154)، سنن النسائي (548)، وغيرهما, ولفظ الترمذي: (عَنْ رَافِعِ بْنِ خديج، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلأَجْرِ").

وقيل: لا ترجيح يقول الصحابي؛ لعدم حجيته. وثالثها: إنْ شهد له الشرع بمزية كما سيأتي فهو حُجة، وإلا فلا. الرابع: يرجح ما وافق عمل أهل المدينة. وإليه أشرتُ بقولي: (أَوِ الْمَدِينَةِ) فهو على حذف مضاف؛ لأنَّ عمل أهل المدينة وإن لم يكن حجة فَمُقَوٍّ؛ لِمَا ذكرناه من التقوية أيضًا؛ ولذلك قدمنا رواية إفراد الإقامة على رواية أبي محذورة في تعلُّمه الإقامة سبع عشرة كلمة (¬1). على أنه قد صح عن أبي محذورة وأولاده دوام إفراد الإقامة، وهو مُضَعِّف لرواية شَفْعها كما قاله البيهقي، قال: (أو يدل على أن الأمر صار إلى إفرادها). وذكر إلْكِيَا الطبري هذا الترجيح بالنسبة إلى الرواية, فقال: حديث ينقل بمكة وآخَر ينقل بالمدينة تُقدَّم رواية المدينة مِن حيث إنَّ الهجرة تراخت وإنِ اتفقت له غزوات إلى مكة. الخامس: يُقدَّم ما وافق عمل الأكثر لكن بشرط أن لا يكون المعارِض له يخفَى مِثله عليهم. وإنما قُدم الموافق للأكثر لأنَّ الأكثر يُوفَّق للصواب ما لا يوفَّق له الأقل. هذا قول الأكثرين. ومنع جمعٌ -كالغزالي- الترجيح بذلك، قال: لعدم الحجية في قول الأكثر، ولو ساغ الترجيح يقول بعض المجتهدين لَانْسَدَّ باب الاجتهاد على البعض الآخَر. قيل: والتحقيق أن مقابِل قول الأكثر إنْ كان قول شذوذ، فَيُرَجَّح به؛ لأنه إما إجماع على رأيٍ، وإما حُجة على رأيٍ آخر، وإما مُقَوٍّ وعاضد على رأي مَن قال ليس بحجة. وإنْ لم يكن مقابِلهم شذوذ فلا ترجيح به؛ لاحتمال أن الصواب مع الأقل. قولي: (وَالشَّافِعِي في فِرْقَةٍ رَجَّحَ) إشارة إلى مواضع، كالتفصيل للقول الثالث في موافِق ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (192) وغيره، ولفظ الترمذي: (عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ "أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَّمَهُ الأَذَانَ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً، وَالإِقَامَةَ سَبع عَشْرَةَ كَلِمَةً").

الصحابي، وهو إنْ مَيَّزَه الشرع، رجح بموافقته وإلا فلا، وذلك كموافقة زيد في الفرائض؛ لحديث: "أفرضكم زيد" (¬1). وقد سبق في الكلام على مذهب الصحابي في "باب الأدلة المختلف فيها". فرجح الشافعي -في فرقة- موافق الصحابي فيها. قال الشافعي فيما حكاه إمام الحرمين: (وإذا كان نَصان أحدهما أعم، أُخذ بالأخص. فالنص على أن زيدًا أفرض أخص من النص على أن معاذًا أعلم بالحلال والحرام، فيرجح قول زيد في الفرائض على قول معاذ، ومعاذ عَلَى عَلِي، وعَلِي عَلَى غيره؛ لأنه جاء: "أفرضكم زيد، وأَعْلَمكم بالحلال والحرام معاذ، وأقضاكم علي" (¬2). والقضاء أعم من الكل، فالشهادة لزيد أخص من الجميع، وبَعْده معاذ، وبعدهما علي، فهي ثلاث مراتب) (¬3). قال إمام الحرمين: (فإنِ اعتضد يقول الشيخين فهي مرتبة رابعة أعم من الشهادة لِعِلي؛ لاحتمال أن تكون الإشارة بذلك إلى الخلافة، و [بذل الطاعة] (¬4) لهما). قال: (ثم قال الشافعي: قول علِي في القضاء يقول زيد في الفرائض) (¬5). والحاصل كما أشرتُ إليه في النَّظم أنه في الفرائض [مقدم] (¬6). وقال: (ثم معاذ، ثم علِي) (¬7). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) انظر: البرهان في أصول الفقه (2/ 836). (¬4) كذا في (ق، ش)، لكن في (ت، ض): يدل الظاهر. (¬5) انظر: البرهان في أصول الفقه (2/ 836). (¬6) في (ق): يقدم زيد. (¬7) انظر: البرهان في أصول الفقه (2/ 836).

وأما غير الفرائض فيرجح معاذ، ثم عَلِي؛ عملًا بالأخص فالأخص كما سبق. وقيل: يرجح يقول أبي بكر وعمر؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما قال: "أفرضكم"، وقال: "أقضاكم"، والخطاب شفاهي يحتمل أنْ لا يكون في المخاطَبِين حينئذٍ أبو بكر وعُمر. وقيل: يرجح يقول أحدهما إلا أن يعارضه زيد في الفرائض أو معاذ في الحلال والحرام. وقيل غير ذلك. والراجح ما سبق، والله تعالى أعلم. ص: 965 - وَالنَّصُّ الِاجْمَاعُ عَلَيْهِ قُدِّمَا ... وَمِنْ صَحَابَةٍ عَلَى غَيْرٍ سَمَا 966 - قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ ... ثَانِيهُمَا لَمْ يَنْعَقِدْ إذْ عَنَّا 967 - وَالْكُلُّ رَاجِحٌ عَلَى مَا خَالَفَا ... فِيهِ الْعَوَامُ، وَانْقِرَاضًا سَالِفَا 968 - قَدِّمْ عَلَى غَيْرٍ، وَمَا قَدِ انْتَفَى ... تَقَدُّمُ الْخِلَافِ فِيهِ مُقْتَفَى الشرح: لَمَّا انتهى الكلام في ترجيح المتون وهي نصوص الكتاب والسُّنة، انتقلتُ إلى الترجيح في الإجماعات. فذكرت أنَّ الإجماع دائمًا يقدَّم على النص ولو متواترًا؛ لأنَّ دلالته فيها احتمالات كثيرة، كالنسخ وغيره، ولا احتمال في الإجماع. أما إذا نُقل إجماعان فالمعمول به منهما هو السابق، فيقدم إجماع الصحابة على إجماع التابعين. وإجماع التابعين على مَن بَعدهم، وهلُمَّ جرا، لا سيما مع أن السابق دائما أقرب إلى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - المشهود لهم بالخيرية في قوله: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم" (¬1). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

وإلى ذلك الإشارة بقولي: (وَمنْ صَحَابَةٍ عَلَى غَيْرِ)، وهي صورة يقاس عليها ما بعدها، لا الانحصار فيها. فإنْ فُرِض في عصر واحد إجماعان فالثاني باطل؛ لأنَّ كل مَن اجتهد مِن المتأخِّر فقوله باطل؛ لمخالفته الإجماع السابق. فإنْ كان أحد الإجماعين مختلَفًا فيه والآخَر مُتفَقًا عليه فالمتفق عليه مقدَّم، وذلك في صُوَر أشرتُ إلى بعضها في النَّظم: أحدها: إجماع الكل مِن المجتهدين والعوام يُقدَّم على ما فيه إجماع المجتهدين دُون العوام. وقد سبق الكلام في اعتبار العوام في الإجماع وعدم اعتبارهم. وثانيها: ما انقرض فيه عصر المجمعين يقدَّم على ما لم ينقرض؛ لَما سبق مِن الخلاف في اشتراط انقراض العصر. وثالثها: الإجماع الذي لم يسبقه اختلاف - مقدَّم على إجماع سبق فيه اختلاف ثم وقع الإجماع. وفي قول: إنَّ المسبوق بخلاف أَرْجح؛ لأنهم اطَّلعوا على المأْخَذ، واختاروا مَأْخَذ ما أجمعوا فيه؛ فكان أقوى. وقيل: هما سواء؛ لأنَّ في كل مُرجِّحًا. وقِس على ذلك ما سبق من الإجماعات المختلَف فيها. واعلم أن ابن الحاجب ثم الهندي قالا: إنَّ هذه المسألة لا تُتصوَّر في الإجماعين القاطعين؛ لأنه لا ترجيح بين القاطعين، ولأنه لا يُتصوَّر التعارض بينهما، وإنما يُتصوَّر في الظنيين. وضُعِّف قولهما ذلك بأنهما إنْ أرادا تَعارُض الإجماعين في نفس الأمر فمستحيل، سواء كانا ظنيين أو قطعيين. وإنْ أرادا فيما يغلب على الظن فظن تَعارُض الإجماعين ممكن، سواء كانا ظنيين أو قطعيين. والله أعلم.

ص: 969 - وَفي الْقِيَاسِ مَا دَلِيلُ أَصْلِهِ ... أَقْوَى، وَمَا بِسَنَنٍ في شَكْلِهِ 970 - أَيْ: فَرْعُهُ مِنْ جِنْسِ أَصْلِهِ، كَذَا ... قَطْعٌ بِعِلَّةٍ لَهُ إذْ يُحْتَذَى 971 - أَوْ ظَنُّهَا الْغَالِبُ، أَوْ مَسْلَكُهَا ... أَقْوَى، وَذَاتُ الْأَصْلِ في مُدْرَكهَا (¬1) 972 - عَنْ ذَاتِ أَصْلَيْنِ لَهَا نُزُولُ ... كذَاكَ حُكْمِيٌّ لَهُ قَبُولُ 973 - يُقَدَّمُ الذَّاتِيْ عَلَيْهِ، وَرَجَحْ ... أَقَلُّ أَوْصَافًا، وَهَكَذَا وَضَحْ الشرح: لما فرغت من مرجحات المتون والإجماعات، شرعتُ في ذِكر مرجحات الأقيسة، وهو الغرض الأعظم من باب التراجيح، وفيه اتساع مجال الاجتهاد. وعبَّر ابن الحاجب عن الأول بالمنقول وعن هذا بالمعقول، وذكر أن الترجيح في القياس يكون من أربعة أَوْجُه. فقال: (المعقولان -أَيْ إذا تعارضَا- فَهُما إما قياسان أو استدلالان). قال: (فالأول: أصله وفرعه ومدلوله وخارج). ثم ذكر الأربعة. ¬

_ (¬1) جاء في "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، 1/ 192": (مَدَارِكُ الشَّرْعِ: مَوَاضِعُ طَلَبِ الْأَحْكَامِ وَهِيَ حَيْثُ يُسْتَدَلُّ بِالنُّصُوصِ وَالِاجْتِهَادُ مِنْ مَدَارِك الشَّرْعِ. وَالْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ فِي الْوَاحِدِ: "مَدْرَكٌ" بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَلَيْسَ لِتَخْرِيجِهِ وَجْهٌ، وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى طَرْدِ الْبَابِ، فَيمالُ: "مُفْعَلٌ" بِضَمِّ الْميمِ مِنْ "فَعَلَ"، وَاسْتُثْنِيَتْ كَلِمَاتٌ مَسْمُوعَةٌ خَرَجَتْ عَن الْقِيَاسِ .. وَلَمْ يَذْكُرُوا "الْمُدْرَكَ" فِيمَا خَرَجَ عَن الْقِيَاسِ؛ فَالْوَجْهُ الْأَخْذُ بِالْأُصُولِ الْقِيَاسِيَّةِ حَتَّى يَصِحَّ سَمَاعٌ).

فيما يرجع إلى الأصل: أنْ يكون دليل أصله أقوى: وتحته صور: أحدها: أن يكون قطعيًّا، فيقدَّم على ما دليل أَصْله ظني. كقولنا في لعان الأخرس: إنَّ ما صَحَّ مِن الناطق صح من الأخرس، كاليمين. فإنه أرجح من قياسهم على شهادته؛ تعليلًا بأنه يفتقر إلى لفظ الشهادة؛ لأنَّ اليمين تصح من الأخرس بالإجماع، والإجماع قطعي. وأما جواز شهادته ففيه خلاف بين الفقهاء. وثانيها: بقوة دليله؛ لأنه أغلب على الظن. وثالثها: بكونه لم يُنسخ باتفاق. فإنَّ ما قيل بأنه منسوخ وإنْ كان القول به ضعيفًا ليس كالمتفق على أنه لم يُنسخ. ورابعها: أن يقوم دليل خاص على تعليله وجواز القياس عليه، فأنه أَبْعَد عن التعبد. وخامسها: أن يكون دليل أحدهما منطوقًا والآخَر مفهومًا، أو يكون دليل أحدهما عامًّا لم يُخص والآخَر عام قد خُص. الثاني: أن يترجح أحد القياسين بكونه على سَنَن القياس دُون الآخَر. والمراد بذلك هنا: أن يكون فرعه مِن جنس أصله كما صرح بذلك القاضي أبو الطيب والماوردي والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن السمعاني وغيرهم. وذلك كقياس ما دُون أرش الموضحة في تَحمُّل العاقلة إياه، فهو أَوْلَى من قياسهم ذلك على غرامات الأموال في إسقاط التحمل؛ لأنَّ الموضحة من جنس ما اختُلف فيه، فكان على سَنَنه؛ إذِ الجنس بالجنس أَشْبَه، كما يقال: قياس الطهارة على الطهارة أَوْلى مِن قياسها على ستر العورة. وإنما تعرضتُ لشرح ذلك في النَّظم لِمَا سبق أن مِن شرط حُكم الأصل في القياس أن

لا يكون معدولًا به عن سَنَن القياس. وإذا لم يصح القياس فكيف يقع التعارض؟ فَبَيّنْتُ أن ذلك المشروط هناك ليس هو المراد هنا. وقد يُراد هنا أيضًا أنْ يكون أحدهما على سَنَن القياس باتفاق، والآخَر على رأيٍ، فيرجح الذي باتفاق. وكذا أنْ يكون أحدهما على سَنَن القياس قطعًا والآخَر ظنًّا، فيرجح ما كان قطعًا. الثاني من مجال الترجيح: أن يكون باعتبار العِلة، وذلك من وجوه: أحدها: أن يكون مسلكها أقوى وقد سبق ترتيب مسالك العلة، أيْ: طُرُقها الدالة على العِلية، وهي: الإجماع، فالنص، فالظهور، إلى آخِر ما ذكرناه. كذا نقل في "المحصول"، ثم قال: ويمكن أن يُقدَّم النص على الإجماع؛ لأنَّ الإجماع فرع عن النص يتوقف ثبوته على الأدلة القطعية، والأصل تقديم الفرع على عِلته. وعلى ذلك جرى صاحب "الحاصل"، ثم البيضاوي. نعم، إذا استوى النص والإجماع في القَطْع متنًا ودلالةً، كان ما دليله الإجماع راجحًا؛ لما ذكرناه. ودُونهما إذا كانا ظنيين بأنْ كان أحدهما نصًّا ظنيًّا والآخَر إجماعًا ظنيًّا، رجح أيضًا ما كان دليله الإجماع؛ لِمَا سبق من قبول النص النسخ أو التخصيص. قال الصفي الهندي: (هذا صحيح بشرط التساوي في الدلالة، فإنِ اختلفا فالحق أنه يتبع فيه الاجتهاد، فما يكون إفادته للظن أكثر فهو أَوْلى. فإنَّ الإجماع وإن لم يَقبل النسخ والتخصيص لكن قد تَضْعُف دلالته على المطلوب بالنسبة إلى الدلالة القطعية، فقد ينجبر النقص بالزيادة، وقد لا ينجبر؛ فَيُتبع فيه الاجتهاد) (¬1). ¬

_ (¬1) نهاية الوصول (8/ 3776).

وثانيها: أن تكون العلة مقطوعًا بوجودها في أحد القياسين، فيرجح على ما ليس كذلك؛ لأنه أغلب على الظن بصحة القياس. وفي معنى كون إحداهما مجُمعًا على وجودها كَوْن وجودها أَغْلَب على الظن منها في القياس الآخَر وإنْ كان الظن في الموضعين موجودًا. فالتي هي فيه أغلب أرجح. وسنذكر من ذلك طائفة قريبًا كما فعل ابن الحاجب وغيره مما تُقَرَّر به القاعدة. وتقدم المنصوصة على المستنبطة، كما في التعليل في بيع الرطب بالتمر بأنه جنس رِبوي بيع بعضه ببعض على صفة يتفاضلان فيها في حال الكمال والادخار، فأَشبه الحنطة بالدقيق مع تعليلهم بوجود التماثل في الحال؛ لأنَّ عِلتنا منصوص عليها في حديث: "أينقص الرطب إذا يبس؟ " (¬1)، فقدمت على المستنبطة. ثالثها: أن تكون العلة ذات أصل واحد، فترجح على على ذات أصلين فأكثر، خلافًا لقول مَن قال: (إنَّ ما كَثُرَت أصوله أَوْلى). كما قاله ابن السمعاني، وخلافًا لقول بعض أصحابنا: إنهما سواء. وقال الغزالي في "المستصفى": (إن كان طريق الاستنباط مخُتلفًا فما كثرت أصوله أَوْلى، وإنْ كان متساويًا فهو ضعيف، ولا يبعد أن يقوى ظن مجتهد فيه وتكون كثرة الأصول ككثرة الرواة للخبر. مثاله: إذا تنازعا في أن يد [السوم لم] (¬2) [توجب] (¬3) الضمان، فقال الشافعي: إنَّ عِلته ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) كذا في (ق، ش)، لكن في (ص، ض): السيد لم. وفي (س، ت): المستام. (¬3) كذا في (س، ت)، وفي (ص، ش): يوجب.

أنه أخذ لغرض نفسه مِن غير استحقاق و [عداه] (¬1) إلى المستعير. وقال الخصم: بل عِلته أنه أخذ ليتملك. فيشهد لِعلة الشافعي يد الغصب ويد المستعير من الغاصب، ولا يشهد لِعلة أبي حنيفة إلا يد السوم. ولا يبعد أن يغلب رجحان عِلة الشافعي عند مجتهد ويكون كل أصل كأنه شاهد آخَر. وكذلك علة الربا بالطعم يشهد له الملح، وإذا عُلِّل بالقوت، لم يشهد له ذلك. فلا يبعد أن يكون مِن المرجحات) (¬2). فحصل في المسألة أربعة مذاهب. والرابع من مُرجحات القياس باعتبار العلة: أنْ يكون الوصف المعلَّل به في أحد القياسين ذاتيًّا وفي الآخَر حُكميًّا أو اعتباريًّا أو حِكمةً مجردة إنْ عَلَّلْنا بها. فيُقَدم الذاتي؛ لأنها ألزم. وقيل: التعليل بالحكمي أرجَح. وصححه ابن السمعاني، قال: لأنَّ الحكم بالحكم أَشْبَه به؛ فيكون الدليل عليه أَوْلى. ونحوه في "المستصفى"، وقال: (إذا كان إحدى العِلتين حُكمًا ككونه حرامًا أو نَجِسًا والآخَر حِسيًّا ككونه [قوتًا] (¬3) أو مُسْكرًا، [إن] (¬4) رَد الحكم إلى الحكم أَوْلى، حتى إنَّ تعليل الحكم بالرق والحرية أَوْلى مِن تعليله بالتمييز والعقل، وتعليله بالتكليف أَوْلى مِن تعليله ¬

_ (¬1) في (ت، س): عزاه. (¬2) المستصفى (1/ 381). (¬3) كذا في (س)، لكن في سائر النسخ: قويا. (¬4) كذا في جميع النُّسخ، لكن عبارة الغزالي في (المستصفى، 1/ 380): زعموا أن.

بالإنسانية. وهذا مِن المرجِّحات الضعيفة) (¬1). انتهى الخامس: إذا كانت إحدى العلتين أقَل أوصافًا والأخرى أكثر أوصافا فالقليلة أَوْلى؛ لأنها أَسْلَم. وقيل: الكثيرة أَوْلى؛ لأنها أكثر شبهًا بالأصل. والله أعلم. وقولي: (وَهَكَذَا وَضَحْ) تتمته قولي بعده: ص: 974 - مَا بِاحْتِيَاطٍ كانَ في فَرْضٍ، وَمَا ... في أَصْلِهَا الْعُمُومُ، أَوْ مَا أُبْرِمَا 975 - إجْمَاعُ تَعْلِيلٍ، كَذَا الْمُوَافَقَهْ ... [لِعِدَّةِ] (¬2) الْأُصُولِ فِيمَا وَافَقَهْ الشرح: وهو بيان مرجحات أخرى للقياس من جهة العلة أيضًا. منها: أن تكون إحدى العلتين تقتضي احتياطًا في الفرض، فتكون أرجح مما لا يقتضي ذلك؛ لأنها أكثر شَبهًا بالأصل. كذا قاله ابن السمعاني في "القواطع"، لكنه عبر بِـ "الغرض" بالغين المعجمة، ونقله ابن السبكي بِـ "الفاء" وجريتُ عليه في النَّظم؛ لكونه أوضح في المقصود. ومنها: أن تكون إحداهما تقتضي عمومًا في الحكم والأخرى تقتضي خصوصًا. وذلك كتعليل الربا بالطعم يقتضي العموم في الكثير وفي قليل لا يكال، بخلاف التعليل ¬

_ (¬1) المستصفى (1/ 380). (¬2) في (ش، ن 1، ن 3، ن 4، ن 5): لعدد.

بالكيل، فإنه مقصور على ما يمكن كيله، ولا يجري في القليل الذي لا يكال. ومنها: أن تكون إحدى العلتين مأخوذة من أصل وقع الإجماع فيه على أن حُكمه مُعلَّل والأخرى مِن أصل مختلَف في تعليل حُكمه، فالأُولى مقدَّمة. ومنها: أن تكون العلة في إحدى القياسين موافِقة للأصول الممهدة في الشريعة، فيكون أرجح مما ليس كذلك؛ لشهادة كل مِن تلك الأصول [لاعتبار] (¬1) تلك العلة. والله أعلم. ص: 976 - وَسَبَقَ التَّرْتِيبُ في الْمَسَالِكِ ... وَسَائِرُ الْأنوَاعِ ذَا لِلسَّالِك 977 - يُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّحِيحِ ... يُغْنِي تَتبُّعٌ عَنِ التَّصْرِيحِ 978 - وَلَيْسَ في الْمُرَجِّحَاتِ حَصْرُ ... [غَلَبَةُ] (¬2) الظَّنِّ عَلَيْهَا الْأَمْرُ الشرح: هذه الأبيات فيها الاعتذار عن إسقاط كثير من المرجحات التي ذكرها ابن الحاجب والبيضاوي وصاحب "جمع الجوامع" وغيرهم هنا؛ لأنه مستفاد إما من أمر كُلي مذكور هنا أو من السابق في باب الأقيسة في [تراجيحها] (¬3) أو في غير ذلك، كل شيء في بابه، فقد سبق كثير من المرجحات في أبوابها، كترتيب المفاهيم وتقديم الحقيقة الشرعية ثم العرفية ثم اللغوية، وفي تَعارض ما يُخِل بالفهم، كالمجاز مقدم على الاشتراك، ونحو ذلك، و [كتعارض] (¬4) القول والفعل السابق في "كتاب السُّنة"، وكدخول "الفاء" في كلام الشارع ¬

_ (¬1) في (ق): باعتبار. (¬2) في (ت، س، ش): وغلبة. وبها ينكسر الوزن مع فتح اللام، ويصح الوزن هكذا: وَغَلْبَةُ. (¬3) كذا في (ق)، لكن في سائر النسخ: تراجعها. وفي هامش (س): تراجِمها. (¬4) كذا في (س، ت)، لكن في سائر النسخ: إلى تعارض.

أو الراوي الفقيه أو غيره، وسبق في مسالك العلة، وكترتيب أنواع المناِسب السابق في فصل "المناسب"، وغير ذلك. وإلى ذلك أشرفُ بقولي: يُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّحِيحِ ... يُغْنِي تَتبُّعٌ عَنِ التَّصْرِيحِ أي: يغني عن التصريح بها هنا تَتَبُّعها. نعم، ذكر ابن الحاجب وصاحب "جمع الجوامع" منها طائفة هنا لا بأس بالتعرض لها هنا. منها: تقديم قياس المعنى على قياس الدلالة، وهو راجع إلى تقديم المناسب على الشبه. وتقديم غير المركَّب مِن العلل على المركب؛ للاختلاف فيه كما سبق. والتعليل بالوصف العُرفي على الشرعي؛ لأنَّ العُرفي مناسب والشرعي أَمارة. والوجودي على العدمي، كالطعم في الربا في السفرجل مع قولهم: (ليس بمكيل ولا موزون). هذا في العلة الوجودية للحُكم الوجودي أو العَدَميين، أما إذا كانت العلة وجودية والحكم عدمي أو بالعكس فقال الإِمام الرازي وأتباعه: إنه مرجوح بالنسبة إلى ما إذا كانا عدميين؛ للمشابهة بين العلة والمعلول. وتقديم العلة بمعنى الباعث على العلة بمعنى الأمارة. كذا قاله ابن الحاجب. واعتُرض عليه بأن العلة دائما إما بمعنى الباعث أو الأمارة على الرأيين فيها، أمَّا انقسامها للأمرين فلم يَقُل به أحد. وكأنَّ مراد ابن الحاجب بذلك أنَّ ذات التأثير والتخيل أرجح مِن التي لا يظهر لها [مَعْنى] (¬1). ¬

_ (¬1) كذا في (ق، ش، تشنيف المسامع 3/ 549)، لكن في (س، رفع الحاجب 4/ 640) معنى فقهي. وفي =

ومنهم مَن أجاب عنه بغير ذلك. وكذلك تُقدَّم المطردة المنعكسة على التي لا تنعكس؛ لأنَّ الأُولى أغلب على الظن. وتُقَدَّم أيضًا المطردة فقط على المنعكسة فقط؛ لأنَّ اعتبار الاطراد مُتفَق عليه. وتقدم المتعدية على القاصرة. ومنهم مَن قال بعكسه، كالأستاذ. وقال القاضي: هما سواء. واختاره ابن السمعاني. وحكى إمام الحرمين الأقوال الثلاثة، وهي عندنا لا تقع؛ لأنه مِن باب اجتماع علتين [لِحُكم] (¬1)، ومَن قال: (يجوز تَعَدُّد العِلَل) فلا معارضة؛ فلا ترجيح، ومَن منع هُم الذين اختلفوا. وكذا يُقدَّم مِن العلل ما كان أكثر فروعًا، ومَن رجح المتعدية يرجح بذلك، ومَن لا فلا. نعم، لو كانت قليلة الفروع لها نظائر فهل يرجح بذلك؟ فيه نظر، وقد عقد الإِمام لها مسألة. أما الترتيب في التعاريف فقد سبق أول المقدمة، فيقدم التعريف بالذاتي على التعريف بالعرضي والأعرف عند السامع وغير ذلك. وقولي: (وَلَيْسَ في الْمُرَجِّحَاتِ حَصْرُ) إشارة إلى أن باب الترجيح متسع، وليس للمرجحات حصر يطمع فيها، وإنما مدارها على غَلَبة الظن، فما يكون من الحكم فيه الظن أغلب يكون مُقدَّمًا على ما ليس كذلك. والله أعلم. ¬

_ = سائر النُّسخ: معنى قياسهم. (¬1) كذا في (ق)، لكن في سائر النسخ: بحكم.

الباب الرابع في " المستفيد " (وهو المجتهد) و" مُقَلِّده "

الباب الرابع في " المستفيد " (وهو المجتهد) و" مقلده "

الباب الرابع في " المستفيد " (وهو المجتهد) و" مُقَلِّده " هذا آخِر أنواع أصول الفقه الثلاثة بالمعنى اللقبي، وهو "حال المستفيد"، وهو: - إما المجتهِد، وهو المستفيد مِن أدلة الفقه. - وإما المستفيد منه، وهُم المقلِّدون. فالكلام فيه في أمرين: الاجتهاد، والتقليد. ص: 979 - "الِاجْتِهَادُ": الْبَذْلُ في تَحْصِيلِ ظَنْ ... حُكْمٍ؛ لِوُسْعٍ مِنْ فَقِيهٍ قَدْ فَطَنْ الشرح: "الاجتهاد": افتعال مِن "الجُهد" بالضم وهو الطاقة، سُمي بذلك لاستفراغ القوة والطاقة في تحصيل المطلوب، فهو بذل الوسع فيما فيه كُلفة. وهو في الاصطلاح: بذل الومح من الفقيه في تحصيل ظن بحكم شرعي. ومعنى "بذل الوسع": استفراغ القوة بحيث تحس النفْس بالعجز عن زيادة، وهو جنس. وكَوْن ذلك مِن الفقيه قَيْدٌ مخُرج للمقلِّد. والمراد: ذو الفقه. وقد سبق أول الكتاب تفسيره.

وقولنا: (لتحصيل ظن) احتراز مِن القَطْع، فإنه لا اجتهاد في القطعيات. وقولنا: (بحكم شرعي) مخُرج للحسيات والعقليات ونحو ذلك. كذا قيد ابن الحاجب وغيره الحكم بالشرعي، ولم أُقيده في النَّظم تبعًا لِ "جمع الجوامع"؛ للاستغناء عنه بذكر الفقيه؛ فإنه لا يتكلم إلا في الحكم الشرعي. نعم، أورد عليه اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا يسمى في العُرف "فقيهًا"؛ [لعدم] (¬1) الإذن فيه، إلا أنْ يقال: المراد بِالْحَدِّ اجتهاد الفقيه، لا مُطْلَق الاجتهاد. وقال الماوردي: بذل المجهود في طلب المقصود. واعلم أن ابن أبي هريرة حكى عن الشافعي أنَّ الاجتهاد هو القياس. وليس كذلك؛ فإنه إنما قال في "الرسالة": معنى الاجتهاد معنى القياس. أي: إنَّ كُلًّا منهما موصل لحكم غير منصوص. قلتُ: وأَحسن مِن هذا أن الشافعي - رضي الله عنه - إنما قصد تفسير حديث معاذ: "أجتهد رأيي" (¬2)، فإنَّ المراد بذلك القياس؛ ولهذا ينصبونه من أدلة القياس، لا أنْ يكون ذلك تفسيرًا للاجتهاد مِن حيث هو. والله أعلم. ص: 980 - ثُمَّ "الْفَقِيهُ": الْبَالِغُ الَّذِي لَهْ ... عَقْلٌ، وَذَا مَلكَةٌ مَعْقُولَه 981 - بِهَا الْعُلُومَ مُدْرِكٌ صَاحِبُهَا ... "فَقِيهُ نَفْسٍ" فَسَّرُوهُ إذْ بَهَا ¬

_ (¬1) في (ق، ش): ولعدم. (¬2) سبق تخريجه.

982 - بِأَنَّهُ [الْعَارِفُ] (¬1) بِالدَّلِيلِ ... عَقْلِيِّهِ بِالْحَقِّ في التَّأْصِيلِ 983 - كَذَا بِتَكْلِيفٍ بِهِ ذُو دَرَجَهْ ... وُسْطَى بِمَا مِنَ الْعُلُومِ أُدْرِجَهْ 984 - مِنْ لُغَةٍ وَعَرَبِيَّةٍ، كذَا ... بَلَاغَةٌ مَعَ أُصُولٍ تُحْتَذَى 985 - وَمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ ... مِنْ آيِ قُرْآنٍ لَهُ [إحْكَامُ] (¬2) 986 - وَالسُّنَّةِ الْغَرَّا وَإنْ لَمْ يَكُنِ ... حَافِظَ مَتْنٍ مِنْهُمَا مُبَيَّنِ 987 - هَذَا الَّذِي لَهُ يَصِيرُ مَلَكَهْ ... لِكَوْنِهِ مَارَسَهُ وَعَلَكَهْ الشرح: لما وقع في تعريف "الاجتهاد" أنه مِن فقيه وسبق أول الكتاب معنى "الفقه"، بينتُ هنا ما يُشترط في الفقيه زيادة على اتصافه بالفقه مما لا يتحقق كونه متصفًا به إلا بتلك الشروط. فمنها: أن يكون بالغًا؛ لأنَّ الصبي ليس بكامل آلة العِلم حتى يتصف بمعرفة الفقه على وَجْهها، ولذلك كان البلوغ مناط التكليف، ومَن دُونه مرفوع عنه القلم؛ لهذا المعنى. ومنها: أن يكون عاقلًا؛ لأنَّ مَن لا عقل له، لا يُدرك عِلمًا، لا فِقهًا ولا غيره. ثُم استطردتُ في تعريف العقل، وإنما ذكرته هنا وإنْ سبق أول المقدمة أنَّ من شروط التكليف العقل؛ لشدة تَعلُّقه بِدرك العلوم التي يُحتاج إليها في الاجتهاد، حتى قيل: إنه نفس العلم. كما سيأتي. فالعقل مَلكَة يدرك بها العلوم. والمراد بالملكة: هيئة راسخة في النفْس. فقولي: (مَعْقُولَهْ) صفة لِ " مَلَكَة ". أي: مفهومة. ¬

_ (¬1) في (ص، ض، ت): الفارق. (¬2) كذا في (س، ش، ن 1، ن 2). لكن في (ن 5): أحكام. وفي سائر النُّسَخ: أحكام.

وقولي: (بِهَا) متعلق بِ "مُدْرك". و"الْعُلُومَ" مفعول مقدَّم، والتقدير: "مدرك صاحبها بها العلوم". وهو معنى مَن فسر العقل بأنه قوة طبيعية يفصل بها بين حقائق [المعلومات] (¬1). وقيل: بل العقل نفس العلم. وهو قول الأشعري، وحكاه الأستاذ أبو إسحاق عن أهل الحق، وأنهم قالوا بِترادُف العِلم والعقل وإنِ اختلف الناس في العقول لكثرة العلوم وقِلَّتها. وقيل: العقل بعض العلوم الضرورية. وهو قول القاضي أبي بكر، وبه قال جمعٌ مِن أصحابنا كابن الصباغ وسليم الرازي. فخرجت العلوم الكَسْبِيَّة؛ لأنَّ العاقل يتصف بكونه عاقلًا مع انتفاء العلوم النظرية. وإنما قالوا: (بعض العلوم الضرورية) لأنه لو كان جميعها لَوَجَب أنْ يكون الفاقد لِلعِلم بالمدركات -لِعَدم الإدراك [المعلّق] (¬2) عليها- غيرَ عاقل. قال القاضي عبد الوهاب: فقلتُ للقاضي أبي بكر: أفتخص هذا النوع من الضرورة بوصف؟ فقال: يمكن أن يقال: ما صح معه الاستنباط. ونقل القشيري عنه في "المرشد" أنه قال: لا أُنكر ورود العقل في اللغة بمعنى العِلم، فإنهم يقولون: عقله وعلمه بمعنى. ولكن غرضي أن أُبَيِّن العقل الذي رُبِط به التكليف. قلت: قال الماوردي في كتاب "أدب الدنيا والدين" بعد أن حكى أقوالًا في تعريفه -أحدها: إنه جوهر لطيف يفصل به بين حقائق المعلومات، وهؤلاء اختلفوا في محله: هل هو القلب؟ أو الرأس؟ وثانيها: العقل هو المدرك للأشياء على ما هي عليه مِن حقائق المعنى. وثالثها قول المتكلمين: هو جملة العلوم الضرورية- ما نَصه: ¬

_ (¬1) كذا في (ق، ش)، لكن في سائر النسخ: العلوم. (¬2) في (ق): المتعلق.

(وقال آخرون وهو الصحيح: إنَّ العقل هو الِعلم بالمدْركات الضرورية) (¬1). انتهى والكلام فيه متسع لا نُطَوِّل به، ففيما قُلناه كفاية. وقولي: (فَقِيهُ نَفْسٍ) إشارة إلى أن الفقيه الذي اتصف بهذه الأوصاف وبصفة الفقه حتى صار بذلك مجتهدًا ليس المراد به أن يحفظ الفقه، بل يكون فقيه النفس، أي: له قدرة على استخراج أحكام الفقه مِن أدلتها كما يُفْهم ذلك مِن تفسير "الفقه" في أول الكتاب بأنه "العِلم بالأحكام الشرعية الفرعية المكتسب من أدلتها التفصيلية"، فَتَضمَّن ذلك أنه لا بُدَّ أن يكون عنده سجية وقوة يَقْتدِر بها على التصرف بالجمع والتفريق والترتيب والتصحيح والإفساد، فإنَّ ذاك ملاك صنعة الفقه. فلذلك قال الأستاذ أبو إسحاق: إنَّ مَن اتصف بالبلادة والعجز عن التصرف لم يكن مِن أهل الاجتهاد. وما أحسن قول الغزالي: إذا لم يتكلم الفقيه في مسألة لم يسمعها ككلامه في مسألة سمعها، فليس بفقيه. حكاه الهمداني في "طبقات الحنفية". واعلم أن التعبير بِ "فقيه النفس" ربما يُفْهَم منه الإشعار بأنَّ مُنكر القياس لا يُعَد مجتهدًا ولا يُعتبر وفاقه أو خِلافُه في الإجماع. وهو ما عليه القاضي وإمام الحرمين، وقالا: إنهم في الشرح كمنكري البداية في العقول. ولكن ظاهر كلام أصحابنا في الفروع أنهم مجتهدون ومُعْتَدٌّ بخلافهم ووفاقهم؛ ولهذا يذكر الشيخ أبو حامد والماوردي والقاضي أبو الطيب وغيرهم خِلافَهم في كتب الفقه، ويُحاججونهم. وثالثها: إن أنكروا القياس الجِلي لم يُعتد بهم، وإلا اعْتُد. وهو ظاهر كلام ابن الصلاح وغيره، وهو المختار. ¬

_ (¬1) أدب الدنيا والدين (ص 6 - 7)، ط: دار الكتب العلمية.

وقال الأبياري في "شرح البرهان": إن كانت المسألة مما يتعلق بالآثار والتوقيف واللفظ اللغوي وليس للقياس فيها مجال فلا يصح أن ينعقد الإجماع دُونهم إلا على قول مَن يرى أنَّ الاجتهاد قضية واحدة لا تتجزأ. فإنْ قُلنا بالتجزيء فلا يمتنع أن يقع النظر في نوع هُم فيه محققون. وقولي: (وفَسَّرُوهُ إذْ بَهَا) هو بفتح الباء مِن "بَها"، وهو فِعل ماضٍ من "البهاء" وهو العُلو. أي: فسروا فقيه النفس عندما يكون بهيًّا عالي المرتبة بذلك بأنه العارف بالدليل العقلي في الأحكام، وهو البراءة الأصلية كما قاله الإمام والغزالي، والعارف بأنه مكلَّف به حتى يَرِد دليل ناقل عنه مِن نَص أو إجماع أو غيرهما. قال الهندي: (ولم يذكرا فيه القياس، فإنْ كان ذلك لِتفرُّعه عن الكتاب والسُّنة فينبغي أن لا يذكر الإجماع و [العقلي] (¬1) -وهو البراءة الأصلية- وإنْ كان لأنه ليس بمدْرَك فيشكل عليهما أنه حُجة كغيره مِن الحجج. فينبغي أن يكون المجتهد عارفًا به أيضًا وبأنواعه وأقسامه وشرائطه المعتبرة وطُرق عِليته) (¬2). قلت: وذلك أن الفقه لما كان معرفة الحكم الشرعي مِن دليله التفصيلي وكان ذلك الدليل التفصيلي لا يخرج عن هذين الدليلين: العقلي، وما يأتي من النقل مُزِيلًا له كما سيأتي تفصيله مِن بَعْد، اعتُبِر ذلك في فقيه النفس. وقولي: (بِالْحَقِّ في التَّأْصِيلِ) إشارة إلى أن العقل هو ما سبق في تفسيره، فإنه هو الحق في تأصيله، [أيْ] (¬3): جعله أصلًا من أصول الفقه لا أن المراد بالعقلي ما يُحَسِّنه العقل أو ¬

_ (¬1) كذا في (ق)، لكن في سائر النسخ: العقل. (¬2) نهاية الوصول (8/ 3828). (¬3) كذا في (ش، س)، لكن في سائر النسخ: ان.

يُقَبِّحه، فإنَّ ذلك إنما هو رأي المعتزلة. وقد سبق أنه باطل لا يعتبر في الفقه ولا في غيره عند أهل السُّنة. وقولي: (ذُو دَرَجَهْ وُسْطَى) إلى آخره -بيان أن فقيه النفس يُعتبر فيه معرفة الأدلة الرافعة للدليل العقلي الذي بَيَّنا أنه البراءة الأصلية، وذلك ما يَرِد من الكتاب والسُّنة وغيرهما مما يتفرع عنهما وما يتوقف الاستدلال بذلك عليه. وأشرتُ بقولي: (وُسْطَى) أنه لا يُشترط أن يكون المجتهد عالي الدرجة في هذه الأمور، فإنها أمور واسعة لا يتسلط على مِثله غالبًا إلا مِثل الخليل والأصمعي وسيبويه والكسائي. أما الاستيعاب فلا يمكن كما قال الشافعي: إنه لا يحيط بها إلا نبي. وذلك أنه كله وسيلة إلى العمل من استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية كما عُلِم ذلك من تفسير "الفقه"، فيكون في الدرجة الوسطى من معرفة لغة العرب؛ لأنَّ الكتاب والسُّنة عربيان. وقولي: (وَعَرَبِيَّةٍ) من عطف العام على الخاص؛ لأنَّ العربية تشمل اللغة والنحو والتصريف ونحو ذلك. وقولي: (كَذَا بَلَاغَةٌ) أي: كذلك عِلم البلاغة، وهو المعاني والبيان والبديع، لأنه وإن كان داخلًا في عِلم العربية إلا [أني] (¬1) أردتُ [التصريح] (¬2) به؛ لئلَّا يُظَن خروجه عنها. وإنما اعتبر ذلك؛ لأنَّ الكتاب والسُّنة في الذروة العُليا من الاعجاز، [فلا بُدَّ] (¬3) من معرفة طُرق الاعجاز وأساليبه ومواقعه؛ ليتمكن من [الاستنباط] (¬4). فيكفي معرفة أوضاع ¬

_ (¬1) كذا في (ت)، لكن في سائر النسخ: ان. (¬2) كذا في (ق)، لكن في (ش): التعريف. وفي سائر النسخ: النوع. (¬3) كذا في (ق، ش)، لكن في سائر النسخ: فذلك. (¬4) في (ق): الاستنباط ونحو ذلك.

العرب بحيث يميِّز العبارة الصحيحة من الفاسدة والراجحة من المرجوحة، فإنه يجب حَمْل كلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - على ما هو الراجح وإنْ جاز غيره في كلام العرب. لكن قال الأستاذ: إن الحروف التي تختلف عليها المعاني يجب فيها التبحُّر و [الكلام] (¬1)، وإنما [التوسط] (¬2) فيما عداها. قال: وأما اللغة فيجب فيها الزيادة على التوسط؛ حتى لا يشذ عنه المستعمل في الكلام في غالب اللغة. وقولي: (مَعَ أُصُولٍ تُحْتَذَى) أي: يعتبر في فقيه النفس أيضًا أن يكون عارفًا بالأصول، والمراد: أصول الفقه. أي: الدرجة الوسطى من ذلك أيضًا؛ لأنَّ به يعرف كيفية الاستنباط. وقولي: (وَمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ) أي: يعتبر في فقيه النفس معرفة نفس الأدلة التي يستخرج منها أحكام الفقه. وقد سبق أن أدلة الفقه: الكتاب والسُّنة وما تفرع عنهما. وليس المراد أن يعرف سائر آيات القرآن وأحاديث السُّنة، وإنما المراد معرفة ما يتعلق بالأحكام منهما، وقد ذكروا أن الآيات خمسمائة آية، وكأنهم أرادوا ما هو مقصود به الأحكام بدلالة المطابقة، أما بدلالة الالتزام فغالب القرآن -بل كله- لا يخلو شيء منه عن حُكم يستنبط منه. قالوا: ولا يُشترط حِفظها، بل يشترط أن يكون عارفًا بمواضعها حتى يَطلب منها الآية التي يحتاج إليها عند حدوث الواقعة. وكذلك لا بُدَّ أن يعرف أحاديث الأحكام، أي: يعرف مواضعها وإنْ لم يكن حافظًا لمتونها كما قُلنا في آي القرآن. ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، وعبارة الزركشي في (تشنيف المسامع، 4/ 569): (فأما الحروف التي يختلف عليها المعاني فيجب فيه التبحر والكمال، ويُكتفَى بالتوسط فيما عداها). (¬2) في (ت): هو التوسط.

قال الشيخ تقي الدين السبكي: (هو مَن تكون هذه العلوم مَلَكَة له وأحاط بمعظم قواعد الشرح ومارسها بحيث اكتسب قوة يَفهم بها مقصود الشارع) (¬1). وهذا معنى قولي: (هَذَا الَّذِي لَهُ يَصِيرُ مَلَكَهْ) إلى آخره. والله أعلم. ص: 988 - أَمَّا الَّذِي يَكُونُ في إيقَاعِ ... لِلاجْتِهَادِ لَا بِوَصْفٍ دَاعِ 989 - فَعِلْمُهُ مَوَاقِعَ الْإجْمَاعِ ... خَشْيَةَ أَنْ يَخْرِقَ بِالنِّزَاعِ الشرح: ما سبق فيما يُعتبر في المجتهد هو فيه مِن حيث هو، أما عند وقوع الاجتهاد في مسألة فَلَهُ شروط أخرى زيادة على ذلك، وهو معنى قولي: (لَا بِوَصْفٍ دَاعِ). أي: ليست صفة مشترطة في المجتهد كما في الصفات التي سبق اعتبارها فيه؛ ولذلك جعلها الغزالي متممة للاجتهاد ولم يُدْرِجها في شروطه الأصلية. وصرح الشيخ تقي الدين السبكي بأنها شروط لإيقاع الاجتهاد واستعماله، لا صفة راجعة إليه. فمنها: أنْ يَعْرف مواقع الإجماع؛ حتى لا يفتي بخلافه فيكون خارقًا له بمنازعته فيما أجمعوا عليه. وينبغي أن يعرف أيضًا كلام الصحابة وفتاويهم؛ ليعتمد الأقوى، لاسيما إذا قُلنا: إنَّ قولهم حُجة مطلقًا أو حيث مَيَّز الشرح بعضهم كما سبق. ¬

_ (¬1) انظر: الإبهاج في شرح المنهاج (1/ 8).

ولا يَلزمه ذلك إلا في الموضع الذي يفتي فيه، لا أنه يَعرف جميع مواقع الإجماعات في ذلك وفي غيره. والله تعالى أعلم. ص: 990 - كَذَاكَ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ ... وَسَبَبِ النُّزُولِ في الرُّسُوخِ 991 - وَمُتَوَاتِرٍ وَآحَادٍ وَمَا ... يَصِحُّ أَوْ يَضْعُفُ مِمَّا قُدِّمَا 992 - وَحَالِ رَاوٍ لِحَدِيثٍ أَوْ أَثَرْ ... وَمَا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ مِنْ سِيَرْ 993 - نَعَمْ، بِوَقْتِنَا الرُّجُوعُ كَافِي ... فِيهِ لِأَهْلِ فَنِّهِ الْمُوَافِي الشرح: أي: ومما يُعتبر أيضًا في إيقاع الاجتهاد أن يعرف الناسخ والمنسوخ فيما يستدل به على تلك الواقعة التي يفتي فيها مِن آية أو حديث؛ حتى لا يستدل به إنْ كان منسوخًا. ولا يُشترط أن يَعرف جميع الناسخ والمنسوخ في سائر المواضع كما سبق نظيره في الإجماعات. ومنه أيضًا: أنْ يعرف أسباب النزول في الآيات وأسباب قوله - صلى الله عليه وسلم - الأحاديث؛ ليعرف المراد من ذلك وما يتعلق به من تخصيص أو تعميم. ومنه: أن يعرف أيضًا شرط المتواتر والآحاد؛ ليقدِّم ما يجب تقديمه عند التعارض. ومنه: أنْ يعرف الصحيح من الحديث والضعيف سندًا ومتنًا؛ ليطرح الضعيف حيث لا يكون في فضائل الأعمال، ويطرح الموضوع ونحوه مطلقًا. ومنه: أن يعرف حال الرواة في القوة والضعف؛ ليعلم ما ينجبر من الضعف بطريق آخَر وما لا ينجبر. وقولي: (نَعَمْ، بِوَقْتِنَا) إلى آخِره -الإشارة به إلى ما قاله الشيخ أبو إسحاق والغزالي

وغيرهما: إنه يكفي التعويل في هذه الأمور كلها في هذه الأزمان على كلام أئمة الحديث كأحمد والبخاري ومسلم وأبي داود والدارقطني ونحوهم؛ لأنهم أهل المعرفة بذلك، فجاز الأخذ بقولهم كما نأخذ بقول المقَوِّمين في القِيَم، لاسيما إذا قُلنا بقول ابن الصلاح ومَن تبعه أنَّ التصحيح في زماننا فيما يُروى في الأجزاء الحديثية ونحو ذلك لا يمكن وإنْ خالفه النووي وقال: (إنه ممكن) كما سبق في محله. والله أعلم. ص: 994 - وَلَيْسَ عِلْمُهُ الْكَلَامَ شَرْطَا ... وَلَا تَفَارِيعٌ لِفِقْهٍ ضَبْطَا 995 - وَلَا ذُكُورَةٌ وَلَا حُرِّيَّهْ ... وَلَا عَدَالَةٌ مَعَ السَّجِيَّهْ 996 - وَينْبَغِي الْبَحْثُ عَنِ الْمُعَارِضِ ... وَعَنْ قَرِينَةٍ لِلَفْظٍ عَارِضِ الشرح: هذه أمور أخرى ربما يُتوهم أنها شروط في المجتهد ولكنها ليست بشرط. منها: معرفته عِلم الكلام، أي: عِلم أصول الدِّين. كذا قاله الأصوليون، ولكن قال الرافعي: (إن الأصحاب عدوا مِن شروط الاجتهاد معرفة أصول العقائد) (¬1). والجمع بين الكلامين ما أشار إليه الغزالي حيث قال: (وعندي أنه يكفي اعتقاد جازم، ولا يُشترط معرفتها على طريق المتكلمين وبأداتهم التي يُحررونها) (¬2). انتهى على أنَّ بعض المتأخرين قال: إنه لم يجد في كلام الأصحاب ذِكر اشتراط ذلك. ¬

_ (¬1) العزيز شرح الوجيز (12/ 417). (¬2) المستصفى (1/ 343).

ومنها: معرفة تفاريع الفقه لا يشترط؛ لأنَّ المجتهد هو الذي يُولدها ويتصرف فيها. فلو كان ذلك شرطًا فيه، لَلَزِمَ الدَّوْرُ؛ لأنها نتيجة الاجتهاد؛ فلا يكون الاجتهاد نتيجتها. والخلاف في ذلك منقول عن الأستاذ أبي إسحاق، فَشَرَطَ في المجتهد معْرفة الفقه. قيل: ولَعَلَّه أراد ممارسته. وإليه مال الغزالي، فقال: (إنما يحصل الاجتهاد في زماننا بممارسة الفقه، فهو طريق تحصيل الدُّرْبة في هذا الزمان، ولم يكن الطريق في زمن الصحابة ذلك) (¬1). ومنها: لا يُشترط في المجتهد أن يكون ذَكرًا ولا حُرًّا ولا عَدْلًا، بل يجوز أن يكون امرأةً ورقيقًا وفاسقًا. نعم، لا يُستفتَى الفاسق ولا يُعمل بِقَوله، بخلاف المرأة والرقيق. فالعدالة شرط في المفتي، لا في المجتهد؛ لأنَّ المفتي أَخَص، فشروطه أغلظ. أما مستور العدالة فيجوز فتواه محلى أصح الوجهين في "شرح المهذب"؛ لأنَّ العدالة الباطنة تَعْسر معرفتها محلى غير القضاة. والخلاف فيه كالخلاف في صحة النكاح بحضور المستورين. أما الحاكم فأَخَص في [المرتبة] (¬2) مِن المفتي، فيُشترط فيه زيادة محلى شروط المفتي: الحرية والذكورة؛ لِما تَضمنه الحكم مِن الإلزام. و[لذلك] (¬3) يشترط أيضًا عدم الاتهام كما فُصِّل في الفقه، وأنه إنما يحكم حيث يشهد. قال الغزالي: هي شرط في اعتماد قوله، أما هو فيجتهد لنفسه ويعمل باجتهاده. ¬

_ (¬1) المستصفى (ص 344). (¬2) كذا في (ق، ش)، لكن في (ت، ض): الرتبة. (¬3) في (ت): كذلك.

وقيل: يُشترط في المجتهد العدالة حتى إذا أداه اجتهاده إلى حُكم لا يأخذ به مَن علم صِدقه بقرائن. [وقد] (¬1) حكى الروياني وجهين في أنه هل تجوز مباحثة الفاسق؟ وقد سبقت المسألة في كتاب الإجماع. وقال السمعاني: (يشترط أن لا يكون المجتهد متساهلًا في أمر الدِّين، فإنه إذا كان كذلك فهو لا يستقصي في النظر والدلائل؛ فلا يصل إلى المقصود). قال: (فما ذكره الأصحاب مِن أنه لا يُشترط العدالة يجوز أن يكون مرادهم ما وراء ذلك) (¬2). وقولي: (وَينْبَغِي الْبَحْثُ عَنِ الْمُعَارِضِ) أي: يُشترط في المجتهد أن يبحث عن مُعارِض ذلك الحكم أو الدليل. كذا في "المحصول" وغره هنا، وقد سبق منهم في "باب التخصيص" أنه يجوز التمسك بالعام قبل البحث عن المخصِّص، وسبق أنه يتعدى إلى كل معارِض كالبحث عن الناسخ وعن المجاز وكُل معارِض. وجوابه: أنَّ ذاك في جواز التمسك بالظاهر المجرد عن القرائن، والكلام هنا في اشتراط معرفة المعارِض بَعد ثبوته عنده بقرينة دَلَّت عليه، فيبحث عن تحقيقه. وفي معنى البحث عن المعارِض البحث عن اللفظ هل معه قرينة تُخرجه عن ظاهره؟ فإذا لم نجد قرينة، عُمِل بالظاهر. ولكن هذا في الحقيقة مِن البحث عن المعارِض؛ فلذلك اكتفيتُ به في النَّظم وإنْ كان في "جمع الجوامع" ذكر الأمرين معًا. والله أعلم. ¬

_ (¬1) في (ق، ش): بل. (¬2) قواطع الأدلة في أصول الفقه (2/ 307).

ص: 997 - وَدُونَ ذَا: مُجْتَهِدٌ في الْمَذْهَبِ ... ذُو قُدْرَةِ التَّخْرِيجِ لِلْمُسْتَوْجِبِ 998 - مِنَ الْوُجُوهِ، أَيْ: عَلَى نُصُوصِ ... إمَامِهِ، وَدُونَ ذَا التَّنْصِيصِ 999 - مُجْتَهِدُ الْفُتْيَا الَّذِي تَبَحَّرَا ... حَتَّى عَلَى التَّرْجِيحِ فِيهِ قَدَرَا الشرح: أي ما سبق من الشروط في الاجتهاد إنما ذلك في المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الشرح، وقد انقطع الآن، وسيأتي في "باب التقليد" ما في ذلك من الخلاف. وأما مجتهد المذهب وهو مَن ينتحل مذهب إمام من الأئمة فلا يُعتبر فيه إلا ما سنذكره، وهو أن يعرف قواعد ذلك الذهب وأصوله ونصوص صاحب المذهب بحيث لا يشذ عنه شيء من ذلك. فإذا سُئل عن حادثة فإنْ عرف نَصًّا لصاحب الذهب فيها، أجاب به، وإلا اجتهد فيها على مذهبه وخَرَّجها على أصوله. قال ابن أبي الدم: (وهذا أيضًا منقطع في زماننا). فهذه المرتبة دُون مرتبة الاجتهاد المطلق. ومرتبة ثالثة دُون الثانية وهي مَرتبة مجتهد الفتيا، أي: الذي يسوغ له الفتيا على مذهب إمامه الذي هو مُقَلده، فلا يُشترط فيه ما يُشترط في مجتهد المذهب، بل يُعتبر فيه أن يكون متبحرًا في الذهب متمكِّنًا مِن ترجيح قولٍ علَى قولٍ. وهذا أدنى المراتب، ولم يَبْقَ بعده إلا العامي ومَن في معناه. والله تعالى أعلم.

ص: 1000 - وَجَائِزٌ تَجَزُّؤُ اجْتِهَادِ ... بِحَسَبِ الْوَقْتِ وَالِاسْتِعْدَادِ الشرح: أي: هل يجوز أنْ ينال امرؤ مَنْصب الاجتهاد في بعض المسائل دُون بعض فيحصل له [شيئًا] (¬1) هو مناط الاجتهاد فيها؟ الأكثرون على أن ذلك جائز؛ إذْ لو لم يتجزأ لَزِمَ أن يكون عالِمًا بجميع الجزئيات وهو محُال. وقد سُئل كل مِن الأئمة الأربعة عن مسائل فأجاب بأنه لا يَدري كما ذكرنا ذلك عن مالك في أول الكتاب في تعريف "الفقه". وأجيب عن قول الأئمة ذلك بأنَّ العلم بجميع المآخِذ لا يوجِب العلم بجميع الأحكام، بل قد يجهل البعض؛ لِتَعارض الأدلة فيه، وبالعجز عن [المبالغة] (¬2) في الحال إما لمانع يُشَوِّش الفِكر أو نحو ذلك. وأما النافي لجواز التجزؤ فاستدل بأنَّ كل ما يُفْرض أن يكون قد جَهِله يجوز تَعلُّقه بما يُفرض أنه يجتهد فيه. وأجيب: بأنَّ الفَرْض أنَّ ما يحتاج إليه في تلك المسألة كُله موجود في ظنه. وليس في كلام ابن الحاجب ترجيح [شيء] (¬3) من الأمرين إذْ ذكر استدلال كل منهما وأجاب عنه. واعلم أن عبارة الرافعي في المسألة: (يجوز أن يكون للعالم منصب الاجتهاد في باب دُون باب، فالناظر في مسألة "المشتركة" يكفيه مَعرفة أصول الفرائض، ولا يضره أن لا ¬

_ (¬1) كذا في (ص، س، ت)، لكن في (ق، ش): ما. (¬2) كذا في جميع النسخ، وعبارة السبكي في (رفع الحاجب، 4/ 532): (المبالغة في النظر). (¬3) في (ق، ش): لشيء.

يَعرف الأخبار الواردة في تحريم المسْكِر مَثلًا) (¬1). انتهى وهو يُفهم أن الخلاف في المسألة فيما إذ عرف بابًا دُون باب، أما مسألة دُون مسألة فلا يتجزأ قَطْعًا؛ لشدة ارتباط مسائل الباب بعضها ببعض وتَباعُد ارتباط مسائل بابَيْن مختلفين. وقد يقال: الظاهر أن الخلاف جارٍ مطلقًا، إلا أنه لَمَّا كان في البابين أقوى مِن الباب الواحد تَعَرَّض الرافعي لذلك فيه. تنبيه: قال بعض علمائنا: الاجتهاد على ثلاثة أقسام: فرض عين، وفرض كفاية، ومندوب. الأول ضربان: اجتهاده في حَق نفسه عند نزول الحادثة به، واجتهاده فيما تَعَيَّن عليه الحكم فيه. فإنْ ضاق فرض الحادثة، كان على الفور، وإلا فَعَلَى التراخي. والثاني ضربان أيضًا: أحدهما: إذا نزلت نازلة والمفتون متعددون فسُئلوا عنها، فإنْ أجاب واحد، سقط الفرض عن الباقين وإلا أَثِمَ الكل. نعم، يشْكل هنا شيء وهو أن أصحابنا حكوا وجهين فيما إذا كان هناك مُفْتٍ غير الذي سُئل الإفتاء في مسألة، هل يأثم بالرد؟ أوْ لا؟ أصحهما: لا. وحكوا وجهين فيما إذا كان في الواقعة شهود يحصل الغرضُ ببعضهم، أصحهما: وجوب الإجابة عند طلب الأداء منه، فَيَتَعَيَّن الفَرْض بالطلب. قلتُ: ولَعَلَّ الفَرق أنَّ الفتوى تحتاج إلى نظر وفِكر، والمشَوِّشات كثيرة، بخلاف الشهود، فإنه لا يُحتاج فيهم إلى ذلك، وأمر الافتاء عظيم. ¬

_ (¬1) العزيز شرح الوجيز (12/ 417).

قال النووي في "شرح المهذب": (روينا عن السلف وفضلاء الخلف في التوقف عن الفتيا أشياء كثيرة، منها: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسأل أحدهم عن المسألة فيَرُدها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع للأول. وفي رواية: ولا يستفتى عن شيء إلا وَدَّ أنَّ أخاه كَفاه. وعن عطاء بن السائب: أدركتُ أقوامًا يُسأل أحدهم عن الشيء فيتكلم فيه وهو يرْعَد). ثانيهما: إنْ تَردد الحكم بين قاضيين مشتركين في النظر، فيكون فَرْض الاجتهاد مشتركًا بينهما. فأيهما تَفَرَّد بالحكم فيه، سقط فَرْضُه عنهما. والثالث أيضًا ضربان: ما يجتهد فيه العالم مِن غير النوازل؛ لِيَعلم حُكمه قبل أن يقع، وما يُسأل فيه عن حُكم حادثة قبل نزولها. والله أعلم. فروع: 1001 - يَجُوزُ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَجْتَهِدَا ... وَهْوَ مُصِيبٌ، لَيْسَ يُخْطِي أَبَدَا 1052 - وَوَاقِعٌ هَذَا كَمَا قَدْ أُثِرَا ... وَغَيْرِهِ في عَصْرِهِ مِنْ أُمَرَا 1503 - وَغَيْرِهِمْ في بُعْدٍ اوْ في قُرْبِ ... وَرُوِيَ الْكَثِيرُ مِنْ ذَا الضَّرْبِ الشرح: هذه فروع مَبنية على ما سبق في معنى الاجتهاد وشروطه. أحدها: هل كان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - متعبدًا بالاجتهاد؟ والكلام فيه في أمرين: أحدهما: هل يجوز ذلك؟ أو لا؟ والثاني: هل وقع؟ أو لا؟ الأول: فيه مذاهب:

أصحها وهو قول الجمهور وعليه الشافعي وأكثر الأصحاب وأحمد والقاضي أبو يوسف وعبد الجبار وأبو الحسين: الجواز. وهو مقتضَى كلام الإمام الرازي وأتباعه كالبيضاوي. قال ابن الحاجب: إنه المختار. وقال الواحدي في "البسيط": إنه مذهب الشافعي. وعداه إلى سائر الأنبياء. قال: ولا حُجة للمانع في قوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى} [يونس: 15]؛ فإنَّ القياسَ على النصوص بالوحي اتِّباعٌ للوحي. الثاني: وهو قول أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم: امتناع ذلك. وظاهره أنه امتناع شرعي. وشذ قوم فقالوا: يمتنع عقلًا. وحكاه القاضي كما في "التلخيص" لإمام الحرمين. والثالث: حكاه في "المحصول": إنه يجوز فيما يتعلق بالحروب دُون غيرها. الرابع: ونقله في "المحصول" أيضًا عن أكثر المحققين: التوقف في الأقوال الثلاثة. دليل المرجَّح: قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، وهو مِن أعظم الناس بصيرة، بل هو سيد أُولي الأبصار؛ فيكون مأمورًا بالقياس. وأيضًا: فالعمل بالاجتهاد أَشَق على النفس لأجْل بذل الوسع؛ فيكون أكثر ثوابًا، فلا يكون ذلك حاصلًا لبعض الأُمة وهو - صلى الله عليه وسلم - لا يحصل له. ولا حُجة للمانع في نحو: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4 - 3]؛ لأنه إذا كان مأمورًا به، لم يكن هوى ولم يخرج عن كونه وَحيًا. وسبق عن الواحدي أنه قال: لا حُجة للمانع في: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى} [يونس: 15]. وأما تأخيره في الوقائع الجواب أو الحكم انتظارًا للوحي فلا دليل فيه أيضًا على المنع؛ لجواز أن يكون ذلك حتى ييأس مِن النص المغْني عن الاجتهاد لا لامتناع الاجتهاد، أو حتى يجد نضًّا يقيس عليه، أو أنَّ الأمر فيه فسحة وغيره أَهم منه، أو نحو ذلك.

الثاني: وهو الوقوع: فيه أيضًا مذاهب: أصحها: أنه وقع. واختاره الآمدي وابن الحاجب، وهو مقتفَى كلام الإمام الرازي وأتباعه في الاستدلال بالوقائع. وقولي: (وَهْوَ مُصِيبٌ، لَيْسَ يُخْطِي أَبَدَا) إشارة إلى أن مَن يقول بأنه - صلى الله عليه وسلم - يجوز أن يتعبد بالاجتهاد قال أكثرهم: إذا اجتهد، يكون دائمًا مصيبًا، وليس كغيره في أنه تارةً يصيب في نفس الأمر وتارةً يخطئ، بل اجتهاده لا يخطئ أبدًا؛ لِعصمته. وقال قوم: يجوز أن يخطئ ولكن لا يُقَر عليه. وإليه يشير قول ابن الحاجب: (لا يُقر على خطأ). لكن الحق الذي نعتقده أنه لا يقع خطأ ألبَتَّة، فإنَّ كَوْنه يقع خطأ يُضاد منصب النبوة أيضًا، ويكون بعض المجتهدين -وهو المصِيب- أَكْمَل في حال إصابته مِن النبي، وهو محُال. تنبيهات الأول: قال الغزالي: يجوز القياس على الفرع الذي قاسه النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى كل فرع أجمعت الأُمَّة على إلحاقه بأصل. قال: لأنه صار أصلًا بالنص أو بالإجماع، فلا ينظر إلى مَآخِذهم. وقد سبق بيان ذلك أول أركان القياس. الثاني: نبينا - صلى الله عليه وسلم - يتصرف بالفتيا والتبليغ والقضاء والإمامة. وزعم القرافي أن محل الخلاف السابق في الفتاوى وأنَّ القضاء يجوز الاجتهاد فيه بلا نزاع.

ومثاله في القضاء ما رواه أبو داود من حديث أبي (¬1) سلمة: "أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلان يختصمان في مواريث وأشياء قد درست، فقال: إني إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علَيَّ فيه" (¬2). وله - صلى الله عليه وسلم - أيضًا (مع منصب النبوة الذي أوتيه حين نزلت: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] الآية ومنصب الرسالة الذي أوتيه بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 4 - 3] ومع التصرفات السابقة) منصب الإمامة العظمى التي هي الرئاسة التامة والزعامة العامة الشاملة للخاصة والعامة بتدبير مصالح الخلائق وضبطها بدرء المفاسد وجلب المصالح إلى غير ذلك. وهذا أَعَم مِن منصب الحاكم؛ لأن الحاكم مِن حيث هو حاكم ليس له إلا فَصْل الخصومات وإنشاء الإلزام بما يَحكم به. وأَعَم مِن منصب الفتوى؛ فإنها مجرد الإخبار عن حُكم الله تعالى، وأما الرسالة والنبوة مِن حيث هُما فلا يستلزمان ذلك؛ لأنَّ النبوة [وَحْي بخاصة المُوحَى] (¬3) إليه، والرسالة تبليغ عن الله تعالى، فهي مناصب جمعها النبي - صلى الله عليه وسلم -، آثارها مختلفة. فإقامة الحدود وترتيب الجيوش وغير ذلك مِن منصب الإمامة، وليس لأحد بعده إلا لمن يكون إمامًا. والحكم والإلزام وفسخ العقود ونحو ذلك مِن منصب القضاء، وتبليغه الأحكام وغيرها من منصب الرسالة. والإخبار بأنَّ ذلك حُكم الله تعالى مِن منصب الفتيا الذي هو مِن جملة الرسالة، وما بَيْنه وبين ربه من أنواع العبادات لاسيما الخاصة به مِن ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، والصواب كما في كتب الحديث: أُم. (¬2) سنن أبي داود (رقم: 3585). قال الألباني: ضعيف. (ضعيف أبي داود: 3585). (¬3) كذا في (ق، ش، ض)، لكن في (ص): وحي بخاصة الوحي. وفي (س، ت): وهي بخاصة الوحي.

منصب النبوة. فإذا تَصرف وعُلِم مِن أي المناصب هو فأمره واضح، وإنْ شك فيطلب الترجيح بدليل مِن خارج. وقد وقع الخلاف بين الأئمة في أمور؛ لما ذكرناه مِن التردد: منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أَحْيَا أَرْضًا مَيته فَهِيَ له" (¬1). قال أبو حنيفة: هذا تَصرُّف منه بالإمامة؛ فلا يجوز لأحد أنْ يُحصي بدون إذْن الإمام. وقال الشافعي: بالفتوى؛ لأنه الأغلب مِن تصرفاته؛ فلا يتوقف الإحياء على إذْن الإمام. ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم - لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان: "خُذي مِن ماله ما يكفيك ويكفي ولدك بالمعروف" (¬2). قال الشافعي: هذا تَصرف بالفتيا، فمَن ظفر بجنس حَقِّه أو بغير جنسه عند التعذر، جاز أن يستوفي منه حَقَّه. وقال مالك: هو تَصرف بالقضاء. وجعل بعضهم هذا أصلًا للقضاء على الغائب. وضُعِّف بأنَّ أبا سفيان كان حاضرًا في البلد غير ممتنع مِن الحضور. واستنبط القاضي حسين مِن كونه قضاء أنه يجوز أن يسمع لأحد الخصمين دُون الآخَر. ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (رقم: 3073)، سنن الترمذي (رقم: 1378) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 3073). (¬2) سبق تخريجه.

واستنبط الرافعي مِن كونه فتيا أنَّ المرأة يجوز أن تخرج لتستفتي. وفيه نظر؛ لأنها خرجت عام الفتح متقدمة على سائر النساء لما نزل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} [الممتحنة: 12]، ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن قتل قتيلًا فله سلبه" (¬1). قيل: تَصرف بالإمامة؛ فلا يختص قاتل بسلب إلا بإذْن الإمام. وقال الشافعي: تَصرف بالفتيا. الثالث: من أمثلة اجتهاده - صلى الله عليه وسلم -: حديث جابر في مسلم: "لو أني استقبلتُ مِن أمري ما استدبرت لم أسق الهدى" (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم - لما قالت أخت النضر: ما كان ضَرك لو مَنَنْتَ وربما ... مَنَّ الفتى وهو المغِيظُ المحنقُ "لو سمعت ذلك قبل أنْ أقتله ما قتلتُه" (¬3). وغير ذلك. واستُدل له أيضًا بنحو: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] الآية، وبقوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، أي: بما أراكَه الله. أي: جعله لك رأيًا. وغير ذلك. وقولي: (وَغَيْرهِ في عَصْرِهِ) إلى آخِره -انتقال إلى مسألة اجتهاد غَيْر النبي - صلى الله عليه وسلم - في عصره. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 2973) بلفظ: (مَن قتَلَ قَتِيلًا له عليه بَيِّنة فَلَهُ سَلَبُهُ). (¬2) صحيح مسلم (رقم: 1218). (¬3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 309). ونقله السبكي في (طبقات الشافعية الكبرى، 1/ 252) ثم قال: (وفي كتاب الزبير بن بكار في النسب أن بعض أهل العلم ذكر أنَّ هذه الأبيات مصنوعة).

والكلام فيها أيضًا في أمرين: في الجواز، وفي الوقوع. أما الأول ففيه مذاهب: أحدها: الجواز مطلقًا. وهو قول الأكثرين، منهم الإمام الرازي وأتباعه، واختاره ابن الحاجب وغيره. الثاني: المنع مطلقًا وإنْ كان النَّص لا يُضاد الاجتهاد، إنما المضاد له القول بخلافه مِن غَيْر أنْ يُؤَوَّل بدليل. الثالث: إنْ وَرَدَ الإذن بذلك، جاز وإلا فلا. والربا: إنْ ورَدَ إذْن صريح أو سكوت، جاز وإلا فلا. والخامس: يجوز للغائبين عنه - صلى الله عليه وسلم - (لِتَعَذُّر سؤاله) دُون الحاضرين (لإمكانه)، فهو قدرة على النص. والغائب لو أخَّر الحادثة إلى لقائه لَفاتَت المصلحة. بل حكى الأستاذ أبو منصور الإجماع على الجواز للغائب. والسادس: إنْ كان الغائب قاضيًا كعَلي ومعاذ حين بعثهما إلى اليمن، جاز له، بخلاف الحاضر والغائب إذا لم يكن قاضيًا. حكاه الغزالي والآمدي. قال الإمام: وهذه المسألة قليلة الفائدة في الفقه. واعترضه الشيخ صدر الدين ابن الوكيل بأن في الفقه ما ينبني عليها، كما لو شك في نجاسة أحد الإناءين ومعه طهور بيقين غيرهما، ففي جواز الاجتهاد وجهان، أصحهما: نعم. وهو قول من يُجَوِّز الاجتهاد في زمنه. وكذلك إذا غاب عن القِبلة فإنه لا يعتمد على خبر مَن أخبره عن عِلم ولا عن اجتهاد إلا إذا لم يَقْدر على معرفة القِبلة يقينًا. وكذلك حكى الأصحاب وجهين في المصلِّي إذا استقبل حجر الكعبة وحده، وقالوا

الأصح: المنع؛ لأنَّ كونه مِن البيت غير مقطوع به، وإنما هو مجتهد فيه، فلا يجوز العدول عن اليقين إليه. قيل: وفي تفريع ذلك نظر. وأما الثاني: وهو الوقوع ففيه أيضًا مذاهب: أحدها وهو الأرجح: أنه وقع. وإليه الإشارة بقولي: (وَرُوِيَ الْكَثِيرُ مِنْ ذَا الضَّرْبِ). ففي حديث معاذ أنه قال: "أجتهد رأي" (¬1). وصَوَّبه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلو لم يَجُز لَمَا صَوَّبَه. هذا في الغائب. وأيضًا فموافقات عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كلها شاهدة بذلك، و [هذه] (¬2) في الحاضرين. ومن ذلك أيضًا قول الصديق - رضي الله عنه - لأبي قتادة حين قَتل رجلًا مِن المشركين فأخذ غَيْرُه سَلبَه: "لاها الله (¬3)، إذًا لا تَعْمد إلى أسَد مِن أُسْد اللهِ يقاتِل عن الله ورسوله فيعطيك سَلبَه". فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صَدَق" (¬4). فالصديق - رضي الله عنه - إنما قال ذلك اجتهادًا وإلا لَأَسْنَدَه إلى النص؛ لأنه أَدْعَى إلى الانقياد، وقرره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. فماذا جاز في الحاضر ففي الغائب أَوْلى. ومَن منع هذا قال: هذه أخبار آحاد، والمسألة علمية. نعم، زَعْم القاضي -ثُم إمام الحرمين ثُم الغزالي- أنَّ "حديث معاذ مشهور قَبِلَتْهُ ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) كذا في (ق، ص)، لكن في (س): هذا. (¬3) قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري شرح صحيح البخاري، 8/ 37): (فَأَمَّا "لَاهَا الله" فَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: "هَا" لِلتنْبِيهِ، وَقَدْ يُقْسَمُ بِهَا، يُقَالُ: "لَاهَا الله مَا فعلت كَذَا"). (¬4) صحيح البخاري (رقم: 2973، 4566)، صحيح مسلم (رقم: 1751).

الأُمَّة" لا يخلو من نظر كما ذكرناه في "باب القياس"، فراجعه. والمذهب الثاني: مَنعْ أنه وقع؛ إذ لو وقع لاشتهر. وجوابه ما سبق. والثالث: أنه لم يقع في الحضور. وسبق رَدُّه. والرابع: الوقف. واختاره البيضاوي ونَسَبَه للأكثرين. والخامس: الوقف في حق الحاضرين، وأما الغائبون فالظاهر وقوع تَعبُّدهم به ولا قَطْع. وبالجملة فالأدلة متعارضة في هذه المسألة، والأرجح الوقوع كما بيناه. والله أعلم. ص: 1004 - ثُمَّ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ في الْعَقليْ ... قَطْعًا، وَمَنْ يُخْطِئُ في ذَا الْأَصْلِ 1005 فَمُنْكِرُ الْإسْلَامِ مِنْهُمْ كَافِرُ وَغَيْرُهُ عَاصٍ إذَا يُجَاوِرُ الشرح: هذه المسألة من أحكام الاجتهاد في أنَّ كل مجتهد مُصِيب؟ أو المصيب واحد فقط؟ ولهما قسمان: أحدهما: أن يكون حُكمًا عقليًّا. والثاني: أنْ لا يكون عقليًّا. فأما الأول: وهو الأمور العقلية فالمصيب فيها واحد قطعًا؛ لأنه لا سبيل إلى أنَّ كُلًّا من نقيضين أو ضدين حَقٌّ، بل أحدهما فقط، والآخَر باطل. ومَن لم يصادف ذلك الواحد في

الواقع فهو ضال آثم وإنْ بالغ في النظر. وسواء أكان مدْرك ذلك [عقلًا] (¬1) محضًا (كحدث العالم ووجود الصانع) أو شرعيًّا مستندًا إلى ثبوت أمر عقلي (كعذاب القبر والصراط والميزان). وهذا معنى قولي: (في الْعَقليْ قَطْعًا)، أي: في الأمر العقلي، ولكن خففت "ياء" النسب منه؛ لضرورة النَّظم. وقولي: (وَمَنْ يُخْطِئُ في ذَا الْأَصْلِ) أي: في هذا الأصل الذي قررناه وهو أن المصيب واحد في العقليات، فيخطئ فيه بعدم إصابة ذلك الواحد. فلا يخلو إما أن يكون ذلك في إنكار الإسلام (كاليهود والنصارى) إذا قال: أدَّاني اجتهادي إلى إنكاره، فهذا ضال كافر عاصٍ لله ولرسوله. وإن كان في غير ذلك من العقائد الدينية الزائدة على أصل الاسلام فهذا عاص. ومن هذا تفرقت المبتدعة فِرَقًا مقابِلة لِطريق السُّنة، وفيهم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تفترق أُمتي على ثلاث وسبعين فِرقة، فرقة ناجية والباقي في النار" (¬2). وجَرَى الخلاف بين العلماء في تكفير المبتدعة، والأكثر على أنه لا يكفر أحد مِن أهل القِبلة. هذا الذي قررناه هو مذهب الحق. ونُقل عن الجاحظ والعنبري أن المخطئ في العقليات لا يأثم في خَطَئِه. ثم منهم مَن ¬

_ (¬1) في (س، ت): عقليا. (¬2) المعجم الكبير (18/ 51، رقم: 91) بلفظ: (كَيْفَ أَنْتَ يَا عَوْف إِذَا افْتَرَقَتْ هَذ الأُمَّةُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَاحِدَةٌ فِي الجنَّةِ، وَسَائِرُهُنَّ فِي النَّارِ؟ ). وفي سنن ابن ماجه (رقم: 3992) بلفظ: (لتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي على ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَاحِدَةٌ في الجْنَّةِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ في النَّارِ). وفي غيرهما بألفاظ أخرى. قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 3241).

أطلق النقل عنهما بما يشمل الكفار وغيرهم، ومنهم مَن قال: إنهما قالا ذلك بشرط إسلام المجتهد. وهذا هو اللائق بهما. وفي "مختصر التقريب" للقاضي أن ذلك أشهر الروايتين عن [العنبري] (¬1). ونقل ابن قتيبة عنه أنه سئل عن أهل القدر وأهل الجبر فقال: إنَّ كُلًّا منهما مصيب؛ لأنَّ هؤلاء قوم عظَّموا الله، وهؤلاء قوم نَزَّهوا الله. وقال إلْكِيَا: إنَّ العنبري كان يذهب إلى أنَّ المصيب في العقليات واحد، ولكن ما تعلق بتصديق الرسل وإثبات حدث العالم وإثبات الصانع فالمخطئ فيه غير معذور، وأما ما يتعلق بالقدر والجبر وإثبات الجهة ونفيها فالمخطئ فيه معذور وإنْ كان مبطلًا في اعتقاده بعد الموافقة في تصديق الرسل والتزام الملة. وبَنَى على ذلك أن الخلق ما كُلِّفُوا إلا اعتقاد تعظيم الله وتنزيهه مِن وجه؛ ولذلك لم تبحث الصحابة - رضي الله عنهم - عن معنى الألفاظ الموهمة للتشبيه؛ عِلْمًا منهم بأنَّ اعتقادها لا يَجُر حرجا. واعْلَم أنه يلتحق بهذا القسم ما لم يكن عقليًّا ولكن دليله قاطع، فإن المصيب فيها واحد بالإجماع كما سأذكره مِن بَعد وإنْ لم أصرح بالمسألة في النَّظم؛ لاندراجها في العقلي؛ لأنَّا قد قلنا: إنَّ العقلي أَعَم مِن أنْ يكون محضًا أو شرعيًّا مستندًا إلى أصلٍ دليله [العقل] (¬2). فغاية الذي لا يكون عقليًّا وفِيه قاطع أنْ يعود إلى شرعي مستنِد لأصلٍ ثابتٍ بالعقل. قولي: (إذَا يُجَاوِرُ) أي: يجاور العدول عن الحق. والله أعلم. ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: القشيري. (¬2) كذا في (ص، ق، ض)، لكن في (س، ت، ش): العقلي.

ص: 1556 - وَغَيْرُ عَقليٍّ كَذَاكَ وَاحِدُ ... وَمُخْطِئٌ لِلْإثْمِ فِيهِ فَاقِدُ 1557 - بَلْ ذَالَهُ أَجْرٌ عَلَى نِيَّتهِ ... مَا لَمْ يَكُنْ مُقَصِّرًا بِنَعْتِهِ الشرح: هذا هو القسم الثاني، أي: غير العقلي، وهي المسائل التي ليست أصلًا من أصول الشرح المجمَع عليها وليس فيها دليلٌ قاطعٌ. فهذا فيه مذاهب: أحدها: وبه قال الأشعري والقاضي أبو بكر وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وابن سريج: أنَّ كل مجتهد مصيب. ثم اختلفوا، فقال الأشعري والقاضي: حُكم الله تاج لِظَن المجتهد، فكُل ما ظنه هو حُكم الله في حَقِّه. وقال الثلاثة الآخرون على ما هو الأَشْهَر عن ابن سريج: إنَّ في كلِّ حادثةٍ ما لو حَكم الله لم يحكم إلا به. وربما عبَّروا عن ذلك بانَّ المجتهد في ذلك مخطئ في الانتهاء، لا في الابتداء. الثاني: قول الجمهور وهو الراجح: المصيب واحد. وقال ابن السمعاني في "القواطع": (إنه ظاهر مذهب الشافعي، ومَن حَكى عنه غيره فقد أخطأ) (¬1). ولله تعالى في كل واقعة حُكم سابق على اجتهاد المجتهدين وفِكر الناظرين. ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة في أصول الفقه (2/ 310).

ثم اختلف هؤلاء: أيجعل عليه دليل؟ أَم هو كدفين يصيبه مَن شاء الله ويخطِئه مَن شاءه؟ والصحيح أن عليه أمارة. ثم اختلف القائلون بأنَّ عليه أمارة أنَّ المجتهد هل هو مكلَّف بإصابة الحق؟ أو لا؛ لأنَّ ذلك ليس في وسعه؟ الصحيح الأول. ثم اختلفوا أيضًا في ما إذا أخطأ الحقَّ، هل يأثم؟ والصحيح: لا يأثم، بل له أجر على ما قال - صلى الله عليه وسلم -. ثم الأجر هو على بذل الوسع (على المختار)، لا على نفس الخطأ؛ لعدم مناسبته؛ ولأنه ليس مِن صنيعه. أما إذا أصاب فله أجران: - أحدهما على بذله الوسع، وهذا كما في المخطئ. - والثاني: يحتمل أن يقال: على نفس الصواب؛ لأنه وإنْ لم يكن مِن [صنيعه] (¬1) لكنه مِن آثار [صنيعه] (¬2). ويحتمل أن ذلك لكونه سَن سنُّة حسنة يقتدي بها مَن يَتبعه مِن المقلِّدين. ومن هنا يقال: المخطئ لا يُؤجَر على اتِّباع المقلِّدين له، بخلاف المصيب؛ لأنَّ مُقلِّد المصيب قد اهتدى به؛ لأنه صادف الهدى، وهو كما قال: "ولأنْ يهدي بك الله واحدًا خير لك مِن حمر النعم" (¬3). ¬

_ (¬1) كذا في (ق، ص، ش)، لكن في (ت، س): صنعه. (¬2) كذا في (ق)، لكن في (ص، س، ت، ش): صنعه. (¬3) صحيح البخاري (1077)، صحيح مسلم (1872).

بخلاف المخطئ؛ فإنَّ مقلِّده لم يحصل على شيء، غاية الأمر سقوط الحق عنه باعتبار ظنه، أما حصول ثواب زائد ففيه نظر. واعلم أنه مما استُدل به على أنه ليس كلُّ مجتهدٍ مصيبًا أنه إنْ كان القائل بذلك مصيبًا فقد صحت مقالته هذه؛ لمطابقة خبره مُخْبره. وإنْ كان مخطئا فقد اختلت كلية دعواه به نفسه، فليس كلُّ مجُتهدٍ مصيبًا. تنبيهان الأول: سبق أنه يلحق بالقسم الأول في أنَّ المصيب واحد إذا كان هناك قاطع قطعًا، وأَغْربَ مَن حَكى فيه الخلاف السابق فيما لا قاطع فيه. نعم، إذا أخطأه، يُنْظَر: فإنْ كان لم يقصر وبذل المجهود في طَلَبه ولكن تَعذَّر عليه الوصول إليه، هل يأثم؟ فيه مذهبان: أصحهما: المنع. ومقابِله هو قول مَن يقول فيما لا قاطع فيه: (يأثم)، وقول بعض مَن قال هناك: (لا يأثم). فلذلك كان القول هنا بأنه يأثم أقوى مِن القول هناك بأنه يأثم. وقال الغزالي: (النص -قبل أنْ يبلغ المجتهد- ليس حُكمًا في حقه؛ فليس مخطئًا حقيقة؛ ولهذا لا نقول في أهل قُباء في صلاتهم لبيت المقدس قَبل أنْ يبلغهم الخبر بتحويل القبلة: إنهم مخطئون؛ إذْ ذاك ليس حُكمًا في حقهم قبل بلوغه؛ لعدم تقصيرهم). ثم قال الغزالي: (وإذا ثبت هذا في مسألة فيها نَص، فالتي لا نَص فيها كيف يُتصور

خطأ المجتهد فيها؟ ! ) (¬1). أما المقصِّر في اجتهاده [فآثِم] (¬2) مطلقًا، سواء فيما فيه قاطع وغيره. وقال ابن الحاجب: آثم مخطئ. فإنْ أرادبِ "مخطئ" الخطأ في الحكم، فلَسْنَا على يقين مِن ذلك؛ إذ يحتمل أنه أصاب. وإنْ أراد في نفس الاجتهاد، فليس الكلام فيه. الثاني: قال ابن عبد السلام: مَن قال: "كل مجتهد مصيب" شرط فيه أن لا يكون مذهب الخصم مستندًا إلى دليل ينقض الحكم [المسند] (¬3) إليه. والله أعلم. ص: 1558 - فَآثِمٌ، وَالِاجْتِهَادُ يَمْتَنِعْ ... نَقْضٌ لِحُكْمِهِ، وَلَكِنْ يَرْتَفِعْ 1059 - إنْ خَالَفَ النَّصَّ أَوِ الْجَلِيَّا ... مِنْ ظَاهِرٍ وَلَوْ قِيَاسًا هَيَّا 1510 - وَنَحْوُ ذَا أَنْ يَحْكُمَ الْمُقَلِّدُ ... بِغَيْرِ نَصِّ مَنْ لَهُ يُقَلِّدُ الشرح: قولي: (فآثم) من تتمة الذي قبله، وقد سبق شرحه. وقولي: (والاجتهاد يمتنع) فالإشارة به إلى حكم الاجتهاد في نقضه والنقض به. وحاصله أنه يمتنع نقض حكم الاجتهاد بتغيره باجتهاد آخَر، سواء أكان من المجتهد ¬

_ (¬1) المستصفى (1/ 353). (¬2) كذا في (ق، ش)، لكن في سائر النسخ: يأثم. (¬3) في (ف، ش، ض): المستند.

الأول أو من غيره. قال ابن الحاجب: (باتفاق). لِمَا يلزم على نقضه مِن التسلسل، إذ لو جاز النقض لجاز نقض النقض، وهكذا؛ فتفوت مصلحة نَصْب الحاكم وهي قَطْع المنازعة؛ لعدم الوثوق حينئذٍ بالحكم. وهو معنى قول الفقهاء في الفروع: لا يُنقض الاجتهاد بالاجتهاد. نعم، إذا خالف الحكم الناشئ عن الاجتهاد قاطعًا مِن نَص كتاب أو سنة متواترة أو إجماع، قال أصحابنا: أو ظنًّا محُكمًا بخبر الواحد أو القياس الجلي أو مفهوم الموافقة بالأَوْلى. وهو معنى قولي: (مِنْ ظَاهِرٍ وَلَوْ قِيَاسًا هَيَّا) أي: هيأه المجتهد وأَحْكَم نَظْمه. فحذفت " الهمزة " من آخِره؛ للضرورة. فإذا كان كذلك، ارتفع حُكم الاجتهاد. وبعضهم يُعبر عن ذلك بِ "نقضه" وهو مجَاز؛ لأنه قد تبيَّن أنْ لا حُكم، بل ولا ارتفاع؛ لأنه فرَعْ الثبوت، إلا أنْ يراد ارتفاع ظن الحكم. ونحوه في الفروع أن يحكم بِبَيِّنة الخارج، فإذا أقام الداخل بَيِّنة، غيّر ذلك الحكم وحكم للداخل؛ لأنَّ الظن فيه أرجح. نعم، في النقض به خلاف: فمَن نفى قال: لأنَّ الاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد. ومَن نقض قال: لأنه راجح لو كان موجودًا [وإلا] (¬1) لَمَا كان يحكم به. فما قدمناه من الأصل يُفرع عليه ذلك. ومن ذلك ما وقع للصحابة - رضي الله عنهم - في قولهم بخلاف ما كانوا يقولون به أولًا. فروي عن عمر أنه كان يفاضل بين الأصابع في الدية؛ لتفاوت منافعها، فنقض حُكمه ¬

_ (¬1) كذا في (ق)، لكن في سائر النسخ: اولا.

لما روي له الخبر في التسوية. وأنَّ عَلِيًّا نقض قضاء شريح بأنَّ شهادة المولى لا تقبل؛ بالقياس الجلي، وهو أن ابن العم تُقبل شهادته، وهو أقرب من المولى. وغير ذلك، وهذا بخلاف القسم السابق الذي لا نقض فيه. نعم، قد يتردد شيء بين القسمين، فيتردد النظر فيها: هل ينقض؟ أو لا؟ كما في القضاء بصحة نكاح امرأة المفقود، وقضاء الحنفي ببطلان خيار المجلس والعرايا، وذكاة الجنين، والمثقل، والمسلم بالكافر وغير ذلك من الصور المذكورة في الفقه. وضبط الغزالي ما يُنقض به وما لا يُنقض، فقال: إذا لم ينقدح في نفسه إمكان الصواب انقداحًا له وَقْع ما، فله النقض، وذلك في النصوص لِصحة موردها وصراحة لفظها أو بُعْدها عن قبول التأويل، وفي الأقيسة لوضوحها وموافقتها للأصول. وإذا لم يكن كذلك وتَفاوَت النظران، فلا نقض. ويختلف الحال في ذلك بالمجتهدين وآحاد الأدلة. تنبيهان الأول: محل كون النص يُبْطل حُكم الاجتهاد السابق ما إذا كان موجودًا قبل الاجتهاد ولكن لم يظهر إلا بَعْده. فإنْ كان النص حادثًا بعد الاجتهاد ويُتصور هذا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - فالحكم بالاجتهاد السابق نافذ. قاله الماوردي في "باب التيمم" من "الحاوي". ونحوه في الفروع: أنْ يباع مال اليتيم -مثلًا- بقيمته؛ للحاجة، ويحكَم بصحة البيع، ثم تغلو الأسعار بعد ذلك؛ فتصير قيمته أكثر، فلا اعتبار بما عرض. والأول صحيح لا يُنقض. وكذا لو أوجر الوقف بأجرة مثله ثم حصلت زيادة برغبة راغب أو نحوها. الثاني: قال الشيخ عز الدين ابن عبد السلام في "القواعد": (لو اجتهد ثُم بان خِلاف ظنه، فإنْ تَبين بظن يساويه أو ترجَّح عليه أدنى رجحان: فإنْ تَعلق به حُكم، لم يُنقض، وبَنَى

على اجتهاده الثاني فيما عدا الأحكام المبنية على الاجتهاد الأول. وإنْ لم يتعلق به حُكم، بَنَى على ما أدى إليه اجتهاده ثانيًا إلا أن يستوي الظنان، فيجب التوقف -على الأصح) (¬1). قولي: (وَنَحْوُ ذَا أَنْ يَحْكُمَ الْمُقَلِّدُ) البيت -المراد به أنَّ ما سبق في الاجتهاد يأتي نظيره في المقلِّد، فليس للمقلد أنْ يحكم بخلاف مذهب إمامه كما أن المجتهد ليس له أن يحكم بغير اجتهاده، سواء [حكم] (¬2) بخلاف ما أدى إليه اجتهاده أو لم يجتهد أصلًا. فإذا حَكم المقلِّد بخلاف قول إمامه، انبنى على أنه هل يجوز له تقليد غيره؟ فإنْ منعنا فينقض، درإنْ جوزنا فلا. كذا قاله ابن الحاجب وغيره. لكن قال الغزالي: إنَّا إذا منعنا مَن قَلَّد إمامًا أنْ يُقَلِّد غيره وفَعل وحَكم بقوله، فينبغي أنْ لا ينفذ قضاؤه؛ لأنه في ظنه أن إمامه أرجح. ونقله عنه الرافعي، إلا أنه حذف لفظة: "ينبغي"؛ فأَوْهَم أنه منقول، لا بحث. ثم اختصره النووي في "الروضة"، فحذف التعليل؛ فأَوْهَم أنَّ المسألة فيمن قلد غير إمامه سواء أكان لدليل ساقه بحيث ظن أنَّ الحقَّ مع غيره في تلك المسألة أوْ لا بل لمجرد صده عن إمامه. وإنما هي في الثاني؛ لأنَّ الأول لا يقال فيه: إنَّ في ظنه أن إمامه أرجح. فبحذف التعليل أَوْهَم التعليل. وجرى على ذلك في "جمع الجوامع" بزيادة التصريح بكونه غير مقلد؛ فصار واهمًا ثلاثة أوهام. تنبيه: إذا قلنا بنقض الاجتهاد، فالنظر فيه حينئذٍ في أمرين: ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/ 68). (¬2) من (س، ت).

أحدهما: فيما يتعلق بنفسه. والثاني: فيما يتعلق بغيره. أما الأول: فإذا أدى اجتهاده إلى حُكم في حق نفسه ثم تَغير اجتهاده كما إذا أدى اجتهاده إلى صحة النكاح بلا ولي ثم تغير فرأى أنه باطل، فالمختار عند ابن الحاجب التحريم مطلقًا. وحكاه الرافعي عن الغزالي ولم ينقل غيره. الثاني: أنه إنْ لم يتصل به حُكم، حرم، وإنِ اتصل، لم يحرم؛ لئلَّا يَلزم نقض الاجتهاد بالاجتهاد. وهو ما جزم به البيضاوي والهندي. أما لو نكحها مجتهد حنفي بغير ولي ثم زوَّجها وليها ثانيًا بشافعي، فقال القاضي أبو بكر: إن ذلك مما تمسك به القائلون بأنَّ المصيب واحد. قال: فالمرأة مترددة بين دعواهما، وهُما مجتهدان. قال: فيقال في جواب ذلك: إنَّ الأمر موقوف حتى يُرفع الأمر إلى القاضي، فينزلهما على اعتقاد نفسه، فيكون حُكم الله تعالى هو الوقف حتى يُرفع للقاضي. قال: ومنهم مَن قال: تُسَلم المرأة إلى الزوج الأول؛ فإنه نكحها نكاحًا يعتقد صحته، وهو السابق به، فلا يَبْعُد أن يكون هذا هو الحكم. قال إمام الحرمين في "التلخيص": (والذي عندنا أنه يجتهد فيها المجتهد، وما أدى إليه اجتهاده فهو حُكم الله مِن وقف أو تقديم أو غيرهما) (¬1). وذكر البيضاوي -تبعًا لإمامه- فيما إذا كان الزوجان مجتهدين فخاطبها الزوج بلفظة وأدَّى اجتهاده إلى أنها كناية وقال: "لم أَنْوِ"، وهي أدَّى اجتهادها إلى صراحتها، فلا حاجة ¬

_ (¬1) التلخيص في أصول الفقه (3/ 350).

للنية. فللزوج طلب الاستمتاع، ولها الامتناع. فطريق قطع النزاع الترافع إلى قاضٍ يحكم باجتهاده لأحدهما أو إلى حكم بينهما كذلك. فإنْ كان النزاع فيما يمكن فيه الصلح كالحقوق المالية، فيكون له طريق آخَر وهو الصلح. وقد تَعرَّض القاضي لهذا [الفرع] (¬1)، وأجاب فيه بما سبق في الذي قبله. وأما الثاني (وهو ما يتعلق بغيره): فإذا أفتى المجتهدُ عاميًّا باجتهاده ثم تَغير اجتهاده، فهو كما سبق فيما يتعلق بنفسه. وقال الهندي: (إن اتصل به حُكم قبل تَغير اجتهاده فكما سبق في المجتهد فيما يتعلق بنفسه، وإن لم يتصل به فاختلفوا، والأَولى القول بالتحريم كما في المجتهد في حق نفسه. ومنهم مَن لم يوجبه؛ لأنه يؤدي إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد. وهو ضعيف؛ لأنَّ زوال ذلك الحكم ليس بطريق النقض، بل [لزوال] (¬2) شَرْطه وهو بقاء المحكوم عليه) (¬3). إذا علمتَ ذلك فيَلزم المفتي إعلام المستفتي بما يتغير فيه اجتهاده؛ ليَكُف. قال في "الروضة": (إنْ كان ذلك قَبْل العمل أو بَعده حيث يجب النقض) (¬4). ونقل ابن السمعاني في "القواطع" أنه إنْ كان عمل به، لم يلزمه إعلامه، وإنْ لم يكن عمل به، فينبغى أنْ يُعَرفه إنْ تَمَكَّن منه؛ لأنَّ العامي إنما يعمل به لأنه قول المفتي، ومعلوم ¬

_ (¬1) كذا في (ق، ش)، لكن في سائر النسخ: النوع. (¬2) في (ص): بزوال. (¬3) نهاية الوصول (8/ 3880). (¬4) روضة الطالبين (11/ 107).

أنه في تلك الحالة ليس قوله. نعم، لا يخفَى أن ذلك إنما هو فيما إذا لم يكن ما أفتاه به على خلاف دليل قاطع، وإلا فيجب إعلامه ونقضه كما صرح به الصيمري وغيره. فرع: لو عمل بفتواه في إتلاف ثم بَانَ أنه أخطأ فإنْ لم يخالِف القاطع، لم يضمن؛ لأنه معذور. وإنْ خالف القاطع فيضمن. وأما ما نقله النووي عن الأستاذ أبي إسحاق أنه إنْ كان أهلًا للفتوى، ضمن وإلا فلا؛ لأنَّ المستفتي حينئذٍ مُقصِّر. ولكن لا يحتاج لهذا القيد هنا؛ لأنَّ الكلام في المجتهد. ثم قال النووي: (ينبغي أن يتخرج على قَوْلَي الضمان بالغرور، أو يُقْطَع بعدم الضمان مطلقًا؛ إذْ لم يوجد منه إتلاف ولا ألجأ إليه بالتزام) (¬1). انتهى وهو ظاهر. والله أعلم. ص: 1011 - وَهَكَذَا التَّفْوِيضُ جَائِزٌ، كَمَا ... يُقَالُ لِلنَّبِيِّ: في ذَاكَ احْكُمَا 1012 - بِمَا تَشَا، فَهْوَ صَوَابٌ، وَكَذَا ... مُجْتَهِدٌ في ذَلِكَ الْحُكْمِ خُذَا 1013 - لَكِنْ يَصِيرُ مُدْرَكًا شرْعِيَّا ... وَلَمْ يَقَعْ فِيمَا رَأَوْا مَرْضِيَّا الشرح: اعْلَم أن طريق معرفة الأحكام الشرعية إما التبليغ عن الله -عز وجل- ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (11/ 107 - 108).

بإخبار رسله عنه بها، وهو ما سبق من كتاب الله- عز وجل- وسُنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما تَفرع عن ذلك من إجماع وقياس وغيرهما من الاستدلالات وطُرقها بالاجتهاد ولو من النبي كما سبق آنفًا. وإما أن يكون طريق معرفة الحكم التفويض إلى رأْي نبي أو عالم. فيجوز أن يقال لنبي أو لمجتهد غير نبي: (احْكُم بما شئت، فهو صواب). فيصير حُكمه من جملة المدارك الشرعية. فإذا قال: (هذا حلال)، عرفنا أنَّ الله تعالى في الأزل حَكم بحله، أو حرام أو نحو ذلك، لا أنه ينشئ الحكم؛ لأنَّ ذلك من خصائص الربوبية. ومَن يرى الحسن والقُبح العقليين فإنما يقول: إنَّ ذلك تابع لِمَا يحكم به عقله. فهو غير التفويض. قال ابن الحاجب في مسألة التفويض: (وتَردد الشافعي) (¬1). أي: في جوازه كما قاله إمام الحرمين. وقال الجمهور: في وقوعه، ولكنه قاطع بجوازه. والمنع إنما هو منقول عن جمهور المعتزلة. وفي قول ثالث: إن ذلك يجوز في النبي دُون العالم. واختاره ابن السمعاني، قال: (وذى الشافعي في "الرسالة" ما يدل عليه) (¬2). ثم اختُلف في وقوعه، فقال ابن الحاجب: (المختار أنه لم يقع) (¬3). ونقل من أدلة القائلين بالوقوع قوله تعالى: {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93]؛ لأنه لا يمكن أن يُحرم على نفسه إلا بتفويض الله تعالى الأمر إليه، لا أنه بإبلاغه ¬

_ (¬1) مختصر منتهى السؤل والأمل في علمى الأصول والجدل (2/ 1236). (¬2) قواطع الأدلة (2/ 338). (¬3) مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (2/ 1237).

ذلك الحكم؛ لأنَّ المحرِّم يكون حينئذٍ هو الله تعالى. قلتُ: وعلى كل حال فالمحرِّم هو الله تعالى، فالاحتمال قائم؛ فلا دليل فيه لذلك. وبنحو ذلك أجاب ابن الحاجب. ونقل أيضًا مِن أدلتهم قول العباس: "إلا الإذخر؛ فإنه لِقِيَنهم ولبيوتهم". فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله عقبه: "إلا الإذخر" (¬1). فأجاب ابن الحاجب عنه بأنه إما بأنَّ الأذخر ليس من الخلاء في قوله: "ولا يُخْتَلى خلاه"، فدليله الاستصحاب، وصح استثناؤه تقريرًا لفهم العباس ذلك. أو ذلك من قبيل النسخ، أو نحو ذلك. وبنحو: "لولا أنْ أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك" (¬2). أو نحو ذلك، وهو كثير. وبحديث الحج: "أَلِعَامِنا هذا؟ أَم للأبد؟ "، وفيه: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو قُلتُها لَوَجَبَت" (¬3). ونحو ذلك. وأجاب عنه وأطال. وإنما لم يذكر ابن الحاجب وغيره المسألة إلا هنا -كما تبعتهم في ذلك- للاختلاف في أصل الجواز، وذكرها البيضاوي في "باب الأدلة المختلف فيها" بناء على الجواز، بل على الوقوع إذا قُلنا: وقع. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (112)، صحيح مسلم (1355). (¬2) صحيح البخاري (847)، صحيح مسلم (253). (¬3) في صحيح مسلم (1216) بلفظ: (فَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جعشمٍ: يَا رَسُولَ الله، أَلِعَامِنَا هَذَا؟ أَمْ لِأَبَدٍ؟ فَقَالَ: "لِأَبَدٍ"). وفي صحيح مسلم (رقم: 1337) بلفظ: (فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: لَوْ قُلْتُ: "نَعَمْ" لَوَجَبَتْ، وَلمَا اسْتَطَعْتُمْ).

و [مما يُشْبه] (¬1) المسألة وليس مِن ذلك: تخيير الشارع بين أمرين كالكفارة المخيرة، قد يتوهم أنه مِن التفويض، وليس كذلك، بل الحكم هناك أحد المخير فيه لا بعينه، فإنَّ التردد في المحكوم به. وأما التفويض ففي إثبات الحكم. ومَن يمنع هناك يسوي بينهما. وقد سبقت المسألة. والله أعلم. ¬

_ (¬1) كذا في (ق، ش)، لكن في سائر النسخ: ما فيه.

التقليد 1014 - وَالرَّسْمُ [لِلتَّقْلِيدِ] (¬1): أَخْذُ مَذْهَبِ ... لِلْغَيْرِ دُونَ الْعِلْمِ بِالْمُسْتَوْجِبِ الشرح: لما [فُرغ] (¬2) من "الاجتهاد" ومباحثه شرعتُ في مقابِله وهو "التقليد" وأحكامه. وعرفت "التقليد" بأنه: أَخْذ مذهب الغير مِن غير أنْ يعلم دليله المستوجب له. أي: الذي اقتضاه وأوجب القول به. فَ "أَخْذ" جنس، والمراد به: اعتقاد ذلك ولو لم يَعمل به لِفِسق أو لِغَيْره. وقولنا: (مذهب) يشمل ما كان قولًا له أو فعلًا. فهو أحسن من التعبير بِ "أخذ القول"؛ لقصوره كما تَعقبه إمام الحرمين على مَن يُعبِّر بذلك، إلا أن يراد بالقول: الرأي؛ فيكون شاملًا. ونسبة المذهب إلى "الغير" يخرج به ما كان معلومًا بالضرورة لا يختص به ذلك المجتهد، أو كان مِن أقواله وأفعاله التي ليس له فيها اجتهاد، فإنها لا تُسمى "مَذْهَبه". وقولنا: (بدون معرفة دليله) يشمل المجتهد إذا لم يجتهد ولا عَرف الدليل وجَوَّزْنَا له التقليد، فإنه حينئذٍ كالعامي في أَخْذِه بِقَول الغير مِن غير معرفة دليله، فيخرج عنه المجتهد إذا عَرف الدليل ووافق اجتهاده اجتهاد آخَر، فلا يُسمى "تقليدًا". كما يقال: أخذ الشافعي بمذهب مالك في كذا، وأخذ أحمد بمذهب الشافعي في كذا. ¬

_ (¬1) كذا في (س، ش، ن 1، ن 2، ن 5). لكن في (ن 3، ن 4، ق): في التقليد. وفي سائر النُّسَخ: والتقليد. (¬2) في (ق، ش): فرغت.

وإنما خرج ذلك لأنه وإنْ صَدَق عليه أنه "أَخْذ بِقَول الغير" لكنه مع معرفة دليله حق المعرفة، فما أَخَذ حقيقةً إلا مِن الدليل، لا مِن المجتهد؛ فيكون إطلاق الأخذ بمذهبه فيه تَجَوُّز. وعبَّر الآمدي وابن الحاجب بقولهما: (بغير حُجة). وهو يقتضي أنَّ أَخْذ القول ممن قوله حُجة لا يُسمى "تقليدًا"، فالتّلقِّي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يسمى "تقليدًا" وإنْ كان يقع إطلاق هذا اللفظ كثيرًا. وبَقي النظر في أمور، منها: رجوع القاضي إلى قول البيِّنة -أَظْهَر الاحتمالين فيه أنه لا يسمى "تقليدًا"؛ لأنه حُجة شرعية وَجَب العمل بها. وخالف في ذلك ابن القاص وشُراحه -كالقفال- فجعلوه من التقليد. ومنها: الرجوع إلى خبر الواحد في حكاية حديث أو إجماع أو في إخبار عن نجاسة إناء أو دخول وقت أو عن القِبلة -لا يسمى "تقليدًا" كما جزم به الرافعي في "باب استقبال القبلة". ولكن صرح ابن القاص في "التلخيص" بأنه يسمى "تقليدًا"، وتبعه شُراحه على ذلك كالقفال وغيره أيضًا، وحكاهما ابن السمعاني وجهين. ولهذا قال ابن الصلاح: (إنَّ التقليد قبول قول مَن يَجوز عليه [الاحتراز عن] (¬1) الخطأ بغير الحجة على ما قُبِل قَوْلُه فيه) (¬2). ليخرج أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - والإجماع. واحترز بالباقي ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، وعبارة ابن الصلاح في فتاويه (1/ 85): (حد التَّقْلِيد فِي اختيارنا وتحريرنا: قبُول قَول من يجوز عَلَيْهِ الْإِصْرَار على الْخَطَأ بِغَيْر حُجَّة على عَيْن مَا قُبِل قَوْله فِيهِ). الناشر: دار المعرفة، تحقيق: د. عبد المعطي أمين، ط: الأولى / 1406 هـ-1986 م. (¬2) أدب المفتي والمستفتي (1/ 158).

عن قبول قول القاضي [البينة] (¬1) ونحو ذلك. ومَن تَتبَع تصرفات الفقهاء في باب القِبلة ومواقيت الصلاة عَلِم أنَّ ما قاله الرافعي هو الأرجح. تنبيه: هذا المذكور هنا في التقليد لا ينافي ما سبق في تقسيم العِلم أنَّ الجزم إذا كان مطابقًا [لا] (¬2) لِمُوجِب يسمى "تقليدًا" كما قاله الإمام الرازي؛ لأنه إذا لم يكن لموجِب فهو معنى قولنا هنا: (مِن غَيْر معرفة دليله)؛ لأنه حيننذٍ لم يأخذه من دليل. لكن الذي هنا أَعَم مما هناك، فإنه أعم مِن أنْ يكون مجزومًا به أوْ لا. ولا شك أنَّ الأَخَص يُسمى بِاسْم الأعم، بخلاف العكس، فَتَأَمَّله. والله أعلم. ص: 1015 - وَيَلْزَمُ الْفَاقِدَ لِلْأَهْلِيَّهْ ... لِلاجْتِهَادِ في سِوَى أَصْلِيَّهْ 1016 - وَالْأَهْلُ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّقْلِيدِ ... وَمَا تَكَرَّرْ وَاجِبُ التَّجْدِيدِ 1017 - فِيهِ إذا دَاعِي رُجُوعِهِ وُجِدْ ... وَمُقْتَضِى الرُّجْحَانِ لِلْمَاضِي فُقِدْ 1018 - فَسَائِل أُفْتِيَ [لَا مِنْ] (¬3) مُجْمَعِ ... أَوْ نَصٍّ اوْ مَيْتٍ - يُعِيدُ مَا رُعِيْ ¬

_ (¬1) كذا في (ق، ش)، لكن في سائر النسخ: التقليد. (¬2) من (ت). (¬3) كذا في (ن 2) وفي الشرح مِن (ق)، وهو الموافق لشرح المؤلِّف، حيث قال: ("لا من مجمع" أي: لا إذا كان المفتي أفتاه مِن حيث كَوْن الحكم مجمعًا عليه). لكن في سائر النُّسَخ: لأمر.

الشرح: إذا عرفت حقيقة التقليد تَوَجَّه النظر إلى مَن يلزمه التقليد ومَن يمتنع عليه. فما يُجتهد فيه إما من أحكام أصول الدِّين وإما من فروع الدين. فالثاني الذي ليس من أحكام أصول الدين، وهو ما أشرتُ إليه بقولي: (في سِوَى أَصْلِيَّهْ)، أي: في سوى أمور مِن الأصول الدينية إذا فقدَ فيه المكلَّف أهلية الاجتهاد بفوات شيء مما سبق اعتباره فيه، لَزِمَه أن يقلِّد؛ لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، ولأنه لا يكلَّف بما لا يَقْدر عليه؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وهذا معنى قولي: (لِلاجْتِهَادِ). وسواء فيمن يجب التقليد عليه في هذه الحالة مَن كان عاميًّا صرفًا أو عالِمَّا يَتسامى عن رتبة العوام. والمخالِف في القسم الأول معتزلة بغداد، قالوا: يجب على العامي الوقوف على طريق الحكم، وليس له أنْ يراجع العالم إلا لتنبيهه على الطريق. وقال الجبائي: يجوز له التقليد في المسائل الاجتهادية دون ما يكون من معلومات الدِّين، كالعبادات الخمس. وأما القسم الثاني فيقلد فيه العالم في غير ما هو عالم فيه (على المختار). وخالف في ذلك قوم، حتى إنَّ ابن حزم كان يدَّعِي الإجماع على منع التقليد، وحكى من كلام مالك والشافعي وغيرهما ذلك، قال: ولم يزل الشافعي ينهى عن التقليد. أي: كما نقل المزني أول "مختصره" إذ قال: مع إعلاميه نهيَه عن تقليده وتقليد غيره. لكن قال الصيدلاني وغيره: إن ذلك محمول على مَن يكون مجتهدًا، فأمَّا مَن قَصُر عن رُتبة الاجتهاد فليس له إلا التقليد. قيل: ويعارض ما قاله ابن حزم بِقَول القاضي أبي بكر: إنه ليس في الشريعة تقليد، فإنَّ

حقيقة "التقليد" قبول القول مِن غير حُجة ودليل، فكما أن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقبول لقيام المعجزة الدالة على صِدقه فكذلك خبر الآحاد والأقيسة وأقوال المفتين [و] (¬1) الحكام مقبولة بالإجماع؛ لقيام الدليل الشرعي على وجوب العمل بها. فإذا كانت أقوال المفتين الظنية كخبر الآحاد في وجوب العمل بها بالإجماع، فأين التقليد؟ ! قلتُ: قد تَقدم في معنى "التقليد" ما يُخرج نحو ذلك (على المرجَّح)، فراجِعه، فالخلاف حينئذ راجع للفظ. وبالجملة فالقائل بأنه لا يجوز للعالم التقليد يوجِب عليه تَعَرُّف الحكم مِن دليل؛ لأنَّ له صلاحية المعرفة، بخلاف العامي. وفي قول ثالث: إنَّ العالم لا يَلزمه التقليد لمجتهد إلا أنْ يُبين له صحة اجتهاده. ولا يخفَى ضَعف ذلك فإن ذلك مِن أين يَعْلَمه إذا كان عاجزًا عن الاجتهاد؟ ! فإنْ فُرِضت قدرته، حَرُم عليه التقليد كما سيأتي. وهو قولي: (وَالْأَهْلُ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّقْلِيدِ). وحاصل المسألة: أنَّ مَن بَلغ رُتبة الاجتهاد، امتنع عليه التقليد فيما عَرف فيه الحكم باجتهاده ووضح له وَجْه الصواب بمقتضَى ظنه، وهذا باتفاق. فإنْ لم يكن قد اجتهد في تلك الجزئية ولكنه قادر على الاجتهاد فيها، فقال الجمهور: يمتنع عليه التقليد فيها مطلقًا. وقيل: يجوز مطلقًا. وبه قال سفيان الثوري وأحمد وإسحاق. وقيل: يجوز للقاضي دُون غيره. وقيل: يجوز إنْ كان المجتهد الذي يريد تقليده فيها أَعلَم منه دُون مَن كان دُونه أو ¬

_ (¬1) في (ق): من.

مساويًا له. وهو قول محمد بن الحسن. وقيل: يجوز فيما يفوت وقته لو اشتغل بالاجتهاد فيه دُون ما لا يفوت. وبه قال ابن سريج. وقيل: يجوز فيما يختص به دُون ما يفتِي به غيْرَه. وحكى ابن الحاجب قولًا سابعًا وعزاه إلى الشافعي أنه لا يقلِّد إلا صحابيًّا يكون أَرجح مِن غيره من بقية الأصحاب، فإنِ استووا، تَخَيَّر. ويُعزى هذا للقديم. قال الهندي: وقضيته أنه لا يجوز للصحابة تقليد بعضهم بعضًا. وأما التقليد في أصول الدِّين الخارج من مفهوم قولي: (سِوَى أَصْلِيَّهْ) أي: فإنَّ الأصلية في التقليد فيها نزاع. والمراد بقواعد أصول الدين: ما يبحث فيها عن ذات الله تعالى وما يجب له وما يمتنع، وما تضمن ذلك مِن أحوال المبدأ والمعاد. وهو المسمَّى بِ "عِلم الكلام"، إما لأنَّ مسألة الكلام أول مسألة دارت فيه أو أصعب أو غير ذلك مما قُرر في موضعه. وقد اختُلف في التقليد فيه على أقوال: أحدها: وبه قال الجمهور: الامتناع؛ للإجماع على وجوب المعرفة، ولقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، فأمر بالعلم بالوحدانية، والتقليد لا يفيد العلم؛ ولهذا ذم التقليد بقوله تعالى في الإنكار عليهم قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] وحث على السؤال بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

الثاني: الجواز. وبه قال [عبيد] (¬1) الله بن الحسين [والعَنْبَرِي] (¬2) وغيرهما، ويُعزى للحشوية؛ لإجماع السلف على قبول الشهادتين مِن غير أن يقال لقائلهما: هل نَظَرت؟ الثالث: أنه يجب التقليد، وقالوا: إن النظر فيه حرام، إما لأنَّ المطلوب فيه العِلم وهُم لا يرون أن النظر يفيد العلم، وإما لأنَّ النظر قد يُورث شُبهة، فيكون ذلك سببًا للضلال على الرأيين المشهورين. وربما تُوُهِّم أن المنع من النظر فيه مذهب الشافعي وغيره من السلف؛ لِنَهْيهم عن علم الكلام والاشتغال به. لكنه محمول على مِن خِيفَ أنْ يَزِلَّ فيه حيث لا يكون له قدم صِدق في مسالك التحقيق؛ فيقع في شك أو ريبة، أما مَن له قوة وقدم صدق فلا؛ ولهذا قطع أصحابه بأنه من فروض الكفايات، وكيف يمنع منه وهو الموصل إلى معرفة الله عز وجل وصفاته العليَّة ومعرفة الرسل والفرق بين الصادق والمُتَنبِّئ؟ ! وقد بسط الحليمي الكلام على وجوب تعلُّمه؛ إعدادًا لأعداء الله تعالى ومناظرتهم ودحض شُبههم الباطلة، حتى قيل: إنه من فروض الأعيان. وحتى قيل: إن الأشعري قال: لا يصح إيمان المقلِّد، وإنه يقول بتكفير العوام. لكن أنكره الأستاذ ابن القشيري على مَن حكاه عنه، وقال: إنه كذب وزور من تلبيسات الكرامية على العوام؛ إذْ يقولون: "الإيمان الإقرار"، والأشعري يقول: " التصديق "، والعوام يصدقون الله تعالى في أخباره. قال الأستاذ أبو منصور: أجمع أصحابنا على أن العوام مؤمنون عارفون بالله وأنهم حشو الجنة؛ للأخبار والإجماع فيه؛ لأنَّ فِطرهم جُبِلت على توحيد الصانع وقدَمه وحدوث الموجودات وإنْ عجزوا عن التعبير عنه على اصطلاح المتكلمين، والعِلم بالعبارة عِلم زائد ¬

_ (¬1) في (ق، ص): عبد. (¬2) كذا في جميع النُّسخ، وأظن الصواب: (العنبري) بدون الواو؛ فالعنبري هو عبيد الله بن الحسين.

لا يَلْزَمهم. وكذا نقل إلْكِيَا في تعليقه إجماع الأصحاب على أنهم مؤمنون، وإنما الخلاف في أنهم عارفون بالأدلة، قَصُرت عباراتهم عن أدائها؟ أو غير عارفين بها؛ لأنَّ الله تعالى لم يوجب عليهم إلا هذا القَدْر؛ فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكتفي من الأعراب بالتصديق مع العِلم بقصورهم عن معرفة النظر والأدلة، ففي مسلم عن معاوية بن الحكم في الأَمة السوداء التي أراد عتقها وسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: "ائتني بها". فجاءت، فقال: "أين الله؟ " قالت: في السماء. قال: "مَن أنا؟ " قالت: أنت رسول الله. قال: "أَعْتِقها؛ فإنها مؤمنة" (¬1). فهذا دليل على الاكتفاء بالشهادتين في صحة الإيمان وإنْ لم يكن عن نظر واستدلال. قال النووي: (هذا هو الصحيح الذي عليه الجمهور). وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمرتُ أنْ أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" (¬2)، ولم يَقُل: حتى يستدلوا أو ينظروا. وكذلك قال الشيخ عز الدين في "قواعده" وقد ذكر ما يجب من معرفة الله: (اعتقاد ذلك واجب في حق العامة وهو قائم مقام العِلم في حق الخاصة؛ لِمَا في تكليفهم ذلك مِن المشقة الظاهرة العام) (¬3). وقال صاحب "الصحائف": (مَن اعتقد أركان الدين تقليدًا فإنِ اعتقد مع ذلك جواز شبهة فهو كافر، ومَن لم يعتقد ذلك فاختلفوا فيه: فقيل: مؤمن وإنْ كان عاصيًا بترك النظر والاستدلال المؤدِّي إلى معرفة أدلة قواعد ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 201).

الدين، وهو مذهب الأئمة الأربعة والأوزاعي والثوري وكثير من المتكلمين. وقيل: لا يستحق اسم المؤمن إلا بعد عرفان الأدلة، وهو مذهب الأشعري). انتهى وقال ابن السبكي في "جمع الجوامع": (والتحقيق أن التقليد إنْ كان أَخْذا لقول الغير بغير حُجة مع احتمال شك أو وَهْم فلا يكفي، وإن كان جزمًا فيكفي، خلافا لأبي هاشم) (¬1). انتهى وهو تحقيق المناط مِن الخلاف وجمع بين الأقوال السابقة. وذلك لأنَّ التقليد كما سبق نوعان: - نوع فيه جزم، وهو ما سبق في تقسيم العلم. - ونوع لا يشترط فيه جزم، بل أَعَم، وهو المذكور هنا، وهو أعم مِن الذي قَبْله كما سبق. نعم، أبو هاشم -من المعتزلة- يخالف فيه وإنْ كان فيه جزم، وعنده أنَّ مَن لا يَعرف الله بالدليل فهو كافر. فإنْ قيل: كيف يحصل الجزم -على قول الجمهور- مع عدم معرفة الدليل. قيل: قد يقع ذلك لمقدمات ضرورية على تَألُّف صحيح أَوْجَبت العِلم بالنتيجة وإن لم يكن مستحضِرًا لكل مقدمة على الوجه المقرَّر في موضعه. وعلى هذا يتضح كَوْن الصحابة لم يُنقل عنهم اعتناء بهذه القوانين مع الاتفاق على أنهم أقوى الخَلْق بعد النبيين إيمانًا. وبالجملة فالمسألة طويلة الذيل، وفيما ذكرناه كفاية. ¬

_ (¬1) جمع الجوامع (ص 124).

وقولي: (وَمَا تَكَرَّرْ) إلى آخِره - إشارة إلى مسألتين مُفرَّعتين على ما سبق: إحداهما أن الأهْل إذا كان ممنوعًا من التقليد فاجتهد ثم تَكررت الواقعة، فهل يعمل باجتهاده الأول؟ أو يجب عليه تجديد الاجتهاد؛ لأنه إذا لم يُجدد، أَشْبَه اتِّباعه اجتهاده الأول التقليد وهو ممنوع منه؟ وللمسألة أحوال؛ لأنه إما أن يتجدد له ما يقتضي رجوعه عن ما ظهر له بالاجتهاد الأول أو لا. وكُل منهما إما مع كونه ذاكِرًا لدليل ذلك الماضي أو لا. فالأول من الأربعة: أنْ يتجدد له ما يقتضي الرجوع ولكنه ذاكِر لدليل الأول، فإنْ كان راجحًا على ما يقتضي الرجوع عَمل بالأول ولا يُعيد الاجتهاد، وإلَّا أعاد. ثانيها: أن لا يكون ذاكرًا لدليل الأول، فيجب أنْ يُعيد الاجتهاد قطعًا عند أصحابنا؛ لأنه لا ثقة ببقاء الظن وإنْ كان الأصوليون حَكوا فيه قولًا بالمنع؛ بناءً على أن الظن السابق قوي؛ فيُعمل به؛ لأنَّ الأصل عدم رجحان غَيْره عليه. ثالثها: أن لا يتجدد له ما يقتضي رجوعه وهو ذاكِر للدليل الأول، فلا يَلزمه أنْ يُعيد الاجتهاد قَطعًا. رابعها: أن لا يتجدد ما يقتضي الرجوع ولا هو ذاكر للدليل الأول، فهذا يَلزمه أنْ يعيد الاجتهاد ثانيًا. فإنْ وافق مقتضاه الأول فظاهر، وإنْ خالفه، عمل بالثاني. وكُل ذلك خارج مِن النَّظم. أما المسألة الأُولى فمِن قولي: (وَمُقْتَضِي الرُّجْحَانِ لِلْمَاضِي فُقِدْ)، فإنها جملة حالية قَيْد، [فإنَّ] (¬1) مع الرجحان لا إعادة، ومع عدمه يُعيد. ¬

_ (¬1) في (ق): ثان.

وأما الثانية فمِن ذلك أيضًا، لأنه إذا وُجِد المقتضِي للرجوع وليس ذاكِرًا للدليل، فلا يعرف رجحانه. وأما الثالثة فلأنه إذا لم يتجدد ما يقتضي الرجوع فلم يفقد رجحان الأول. وأما الرابعة فمِن مفهوم كون المقتضِي للرجحان مفقودًا، فيجب عليه إعادة الاجتهاد. المسألة الثانية: أن السائل المستفتي إذا أفتاه المفتي بحكم ثم تجددت له الواقعة وقلنا: إنَّ المجتهد يُعيد اجتهاده، يجب على السائل أْن يعيد السؤال، لأنه قد يتغير نَظر المفتي. هذا أصح الوجهين عند أصحابنا، وقطع به القاضي أَبو الطيب في "تعليقه". لكن محل الخلاف إذا عرف المستفتي أنَّ جواب المفتي مستنِد إلى الرأي - كالقياس - أو شَكَّ في ذلك والفَرْض أن المقلَّد حَي، فإنْ عرف استناد الجواب إلى نَص أو إجماع فلا حاجة إلى إعادة السؤال ثانيًا قَطْعًا كما ذكره الرافعي، قال: (وكذا لو كان المقلَّد مَيتا وجَوَّزْنا تقليد الميت) (¬1). أي: فلا يعيد السؤال فيه أيضًا قطعًا. ونظير المسألة إذا عُدل الشاهد ثم شهد في واقعة أخرى، قال أصحابنا: إنْ لم يَطُل الزمان، حُكِم بشهادته ولا يُطْلَب تعديله. وإنْ طال فوجهان، أصحهما: يُطلب تعديله؛ لأنَّ طول الزمان يُغَيِّر الأحوال. وإلى أصل هذه المسألة أشرتُ بقولي: (فَسَائِلٌ أُفْتِيَ)، فعطفته بِـ "الفاء" إشارة إلى أنَّها مُرَتَبة على ما قبلها. وبقولي: ([لَا مِنْ] مُجْمَعِ) أي: لا إذا كان المفتي أفتاه مِن حيث كَوْن الحكم مجمعًا عليه ¬

_ (¬1) العزيز شرح الوجيز (12/ 425).

أو مأخوذًا مِن نَص أو مأخوذًا مِن مَيت، فإنَّ السائل حينئذٍ لا يعيد، وإنَّما يعيد في غير الثلاثة ما [راعى] (¬1) مِن السؤال الذي كان سأله أولًا حتَّى أُفْتِي بذلك. والله أعلم. ص: 1019 - وَجَائِرٌ تَقْلِيدُ مَفْضُولٍ إذًا ... لَمْ يَعْتَقِدْهُ هَكَذَا، فَلْيَنْبِذَا الشرح: أي: إذا جَوَّزنا التقليد للعامي فكان المجتهدون متعددين، جاز له أن يقلد مَن شاء إذا استووا. فإنْ كان بعضهم أفضل فهل يجوز تقليد المفضول؛ فيه أقوال: الأرجح عند ابن الحاجب: نعم؛ للقطع بأنَّ المفضول كان يفتي مع وجود الفاضل مع الاشتهار والتكرار ولم ينكره أحد؛ فكان إجماعًا على جواز استفتائه مع القدرة على الفاضل. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم" (¬2)، وفيهم الأفضل مِن غَيره. وأيضا: فالعامي لا يمكنه الترجيح؛ لقصوره، ولو كُلِّف بذلك لَكان تكليفًا بضرب مِن الاجتهاد. لكن زَيَّف هذا ابن الحاجب بأنَّ ذلك يظهر بالتسامع ورجوع العلماء إليه وغيره، ككثرة المستفتين وتقديم العلماء له ونحو ذلك. الثاني: وبه قال أحمد وابن سريج: أن الفاضل مُتَعَيِّن. واختاره القاضي أَبو حامد المَرُّوذِي والقاضي الحسين وابن السمعاني. والثالث: يجوز لمن يعتقده فاضلًا أو مساويًا. وهذا أرجح، وهو المختار، فلذلك جريتُ عليه في النَّظم حيث قلت: (إذَا لَمْ يَعْتَقِدْهُ هَكَذَا)، أي: لم يعتقده مفضولًا، وتحته أمران، ¬

_ (¬1) كذا في (س، ت)، وفي سائر النسخ: رعى. (¬2) سبق تخريجه.

وَوَجْهُه أنَّه إذا اعتقده مفضولا فقوله عنده مرجوح، وليس مِن القواعد أنْ يُعْدَل عن الراجح إلى المرجوح. نعم، إذا لم يعتقده مرجوحًا واعتقده راجحًا، ففي الرافعي نقلًا عن الغزالي أنَّه لا يجوز تقليد غيره. وإنْ قلنا: لا يجب البحث عن الأَعْلَم إذا لم يعتقد أحدهم بزيادة عِلم. قال النووي رحمه الله: (وهذا وإنْ كان ظاهرًا ففيه نَظر؛ لِمَا ذكرناه مِن سؤال آحاد الصحابة مع وجود أفاضلهم) (¬1). فرع: إذا رَجُح أحدهم مِن حيث العِلم والآخَر مِن حيث الورع، فالمقدَّم الراجح عِلمًا؛ لأنه لا تَعَلُّق لمسائل الاجتهاد بالورع؛ ولهذا يُقَدَّم في الإمامة في الصلاة؛ ولأنَّ الظن الحاصل بِقَوْله أكثر. وقيل: يُقَدَّم الأورع. قيل: ويحتمل التساوي، فيتخير المقلد. والله أعلم. ص: 1020 - وَجَوَّزُوا التَّقْلِيدَ لِلْمَيْتِ وَمَنْ ... قَدْ عُرِفَتْ أَهْلِيَّةٌ لَهُ إذَنْ الشرح" [اشتمل البيت على مسألتين: ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (11/ 104).

الأُولى: تقليد الميت، وهو في النَّظْم] (¬1) "الميْت" بسكون الياء؛ تخفيفًا. واختُلف في المحذوف من المدغم في مثل ذلك أهو الأول؟ أو الثاني؟ فأكثر أهل اللغة على الثاني. هذا في "الميت" بمعنى الذي خرجت روحه. أما "الميت" المراد به المطلق على مَن قارب الموت أو نحو ذلك فلا يُقال إلَّا بالتشديد على الأرجح. وقيل: مخُفف أيضًا. وحاصل ما في تقليد الميت مذاهب: أحدها: يجوز تقليده مطلقًا. وبه قال الجمهور، وفيه يقول الشَّافعي: المذاهب لا تموت بموت أربابها. لا يجوز تقليد الميت مطلقًا. وعزاه الغزالي في "المنخول" لإجماع الأصوليين، واختاره الإمام الرازي، بل مَن يتأمل كلام "المحصول" يخرج له منه أن الإمام يمنع التقليد مطلقًا. الثالث: التفصيل بين أن يكون ثَمَّ حَي مجتهِد أوْ لا، فيجوز تقليد الميت في الثاني دُون الأول. لكن إذا قُلنا: يُقَلَّد الميت مطلقًا وكان الحي المجتهِد دُون الميت فيحتمل أنْ يقلد الميت؛ لأرجحيته، ويحتمل أنْ يقلد الحي؛ لحياته. ويحتمل - وهو الأظهر - الاستواء؛ لِتَعارض المرجحَيْن. الرِّابع: حكاه الهندي: التفصيل بين أن يكون الحاكي عن الميت أَهلًا للمناظرة وهو مجتهِد في مذهب الميت فيجوز، أوْ لا فلا. ¬

_ (¬1) كذا في (من)، وليس في (ض، ص، س، ت)، لكن في (ق) هكذا: مسألتين الأولى اشتمل البيت على تقليد الميت وهو في النظم.

فإنْ كان ذلك لتحقيق مذهب الميت وعدم تحقيقه فليس محل النزاع إلَّا فيما ثبت أنَّه مذهب الميت بالطريق الصحيح. الثانية: مَن عُرِفَت أهليته، جاز تقليده واستفتاؤه؛ ليعمل بفتواه. ومعرفة أهليته إما بأنْ يكون قد شاع ذلك وذاع مِن غير نكير، وإمَّا بأنْ يَغْلب على الظن أهليته باشتهاره بذلك أو برؤيته منتصبًا للفتوى والناس مُسْتَفْتون مُعَظِّمون له. فإذا لم يَعرف المستفتي أهلية مَن يستفتيه ولا حاله في العدالة فالمختار أنَّه لا يجوز له استفتاؤه، بل ينبغي أنْ يُقْطَع فيه بالمنع، فقد قال الهندي: إنَّ الخلاف فيه في غاية البُعد؛ لأنَّ العلماء وإنِ اختلفوا في قبول رواية المجهول وشهادته فلوجود ما يقتضي امتناع فِسْقه ظاهرًا وهو الإسلام الوازع عن الفِسْق والمعاصي، وأما مجهول الحال في الفتوى فليس فيه ما يقتضي حصول العِلم ظاهرًا، لاسيما العِلم المُنتهِي به إلى رُتبة الإفتاء. وأيضًا: فالأصل العامِّيَّة، والعالِمِيَّة على خِلاف الأصل. وأيضًا: فالأغلب العوام، والعلماء قليل. وإنَّما يظهر ذلك لو وقع التردد في عدالته فقط، فيتجه حينئذ الخلاف. قلتُ: ولهذا أوجبوا على المستفتي والمقلِّد البحث عن عِلمه بسؤال الناس. وقيل: يكتفي بالاستفاضة بين الناس. وهو الراجح في "الروضة"، ونقله عن الأصحاب. وأما "العدالة" ففيها احتمالان للغزالي، أَشْبَههما الاكتفاء بظاهر الحال؛ لأنَّ الغالب من حال العلماء العدالة. قال النووي رحمه الله: (وهذان الاحتمالان وجهان ذكرهما غيره، وهُما في "المستور"، وهو الذي

ظاهِرُه العدالة ولم يُخْتبر باطِنُه) (¬1). ثم فَرَّع الغزالي على وجوب الاختبار احتمالين في أنَّه يفتقر إلى [عدم] (¬2) التواتر؟ أو يكفي إخبار عدل أو عدلين؟ أصحهما الثاني. قال النووي رحمه الله رحمه الله: (والمنقول خِلافهما، فالذي قاله الأصحاب الاكتفاء باستفاضة أهليته، وقيل: لا تكفي لا الاستفاضة ولا التواتر، بل إنما يُعتمد قوله أنَّه أَهْلٌ للفتوى؛ لأنَّ الاستفاضة قد يقع فيها تلبيس، والتواتر لا بُدَّ أنْ يستند إلى محسوس. وقال الشيخ أَبو [إسحاق] (¬3): يقبل في معرفة أهليته عدل واحد). قال النووي رحمه الله رحمه الله: (وهذا محمول على مَن عنده معرفة يتميز بها الملتبس من غيره. ولا يُقبل في ذلك خبر آحاد العامة؛ لكثرة ما يتطرق إليه مِن التلبيس في ذلك) (¬4). وقولي: (إذَنْ) أي: مَن عُرفت أهليته، يجوز تقليده حينئذٍ. فرعان: الأول: للعامي سؤال المفتي عن مَأْخَذه استرشادًا وَيلزم العالم حينئذٍ أنْ يذكر له الدليل إنْ كان مقطوعًا به، لا الظني؛ لافتقاره إلى ما يَقْصُر فَهْم العامي عنه. من كان أهلًا للفتوى وهو قاضٍ فهو كغيره في جواز إفتائه واستفتائه (على الصحيح). ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (11/ 103). (¬2) كذا في جميع النُّسخ، والصواب: عَدَد. كما في تشنيف المسامع (4/ 613)، البحر المحيط (4/ 589)، روضة الطالبين (11/ 103). (¬3) كذا في (ق، من)، لكن في سائر النسخ: الحسن. (¬4) روضة الطالبين (11/ 104).

وقيل: إنما يفتي في العبادات ونحوها مما لا يتعلق بالأحكام، وأما الأحكام ففيها وجهان. وقال ابن المنذر: يُكره فتواه في الأحكام، دُون غيرها. والله أعلم. ص: 1021 - وَجَائِزٌ إِفْتَاءُ قَادِرٍ عَلَى ... تَفْرِيعِ فِقْهٍ مَعَ تَرْجِيحٍ عَلَا 1022 - مِنْ مَذْهَبِ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي اطَّلَعْ ... عَلَى مَآخِذٍ لَهُ فِيمَا صَنَعْ 103 - مُعْتَقِدًا، وَجَائِز أَنْ يُخْلَى ... وَقْتٌ عَنِ الْمُجْتَهِدِينَ أَصْلَا الشرح: أي: وكما يجوز إفتاء المجتهد يجوز أن يفتي بمذهب المجتهد مَن عَرف مذهبه وقام بتفريع الفقه على أصوله وقَدر على الترجيح في مذهب ذلك المجتهد، فإنه يصير حينئذ كإفتاء المجتهد بنفسه؛ فلذلك كانت هذه المسألة كالتفريع على ما سبق. فالمجتهد [المقدَّم] (¬1) في مذهب إمامه - وهو مَن استقل بتقرير مذهبه وَيعرف مَآخِذه مِن أدلته التفصيلية بحيث لو انفرد لَقَرَّرَه كذلك - فهذا يُفتي بذلك؛ لِعِلمه بالمآخِذ. وهؤلاء أصحاب الوجوه. ودُونهم في المرتبة أن يكون فقيه النفْس، حافظًا للمذهب، قادرًا على التفريع والترجيح. فهل له الإفتاء بذلك؟ فيه أقوال، أصحها: يجوز، والثاني: المنع، والثالث: عند عدم المجتهد. ودُونهم مَن يحفظ وليس قادرًا على التفريع والترجيح، فقيل: يجوز له الإفتاء؛ لأنه ناقِل. وينبغي أن يكون هذا راجحًا؛ لمحل الضرورة، لاسيما في هذه الأزمان. ¬

_ (¬1) في (ت، س): المتقدم.

ودُونهم في المرتبة العامي إذا عَرف حُكم حادثة بدليلٍ، فهذا ليس له الفتيا به. وقيل: يجوز. وقيل: إنْ كان نقليًّا جاز، وإلَّا فلا. وقيل: إنْ كان دليلها مِن الكتاب أو مِن السُّنة، جاز، وإلَّا فلا. قولي: (وَجَائِزٌ أَنْ يُخْلَى) إلى آخِره هو بضم أول "يُخلى" مَبنيًّا للمفعول، و"وَقْتٌ" نائب الفاعل. ووَجْه ارتباطه بما قَبْله أن رُتبة الفتوى إذا كانت في الأصل للمجتهد إما مطلقًا أو في مذهب، فكيف جاز إفتاء غيره ممن ذكرتم؟ فيقال: لأنه يجوز خلُو الزمان عن المجتهد، فلو لَمْ يُفْتِ مَن ذَكَرْنا، لَزِمَ تعطيل الأحكام. والحاصل أن المختار عند الأكثرين أنَّه يجوز خلُو عصر مِن الأعصار عن المجتهد المطلق والمجتهد المذهبي؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله لا يقبض العِلم انتزاعًا" (¬1) الحديث. والمخالف في ذلك بعض الحنابلة زعموا أنَّه لا يخلو زمان من المجتهد ولو مُقيَّدًا بمذهب؛ لحديث: "لا تزال طائفة مِن أمتي ظاهرين على الحقِّ حتَّى يأتي أَمْر الله" (¬2). وأجيب: بأنه لا يدل على نَفْي الجواز، بل إنما يدل على نَفْي الوقوع. قيل: وقد اختار الشيخ تقى الدين ابن دقيق العيد في "شرح العنوان" مذهب الحنابلة، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (رقم: 100)، صحيح مسلم (رقم: 2673). (¬2) صحيح البخاري (رقم: 6881) بلفظ: (لَا تزال طَائِفَةٌ من أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ الله)، صحيح مسلم (رقم: 1920) بلفظ: (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ من أُمَّتِي ظَاهِرِينَ على الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ من خَذَلَهُم حتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ الله).

وكذا في أول"شرح الإلمام"، بل أشار إلى ذلك أيضًا إمام الحرمين في "باب الإجماع" [من] (¬1) "البرهان"، وكذا ابن برهان في "الأوسط". لكن كلامهم يحتمل الحمْل على عمارة الوجود بالعلماء، لا على خصوص المجتهدين. والله أعلم. ص: 1024 - وَمَنْ مِنَ الْعَوَامِ كَانَ عَمِلَا ... بِمَا لَهُ مُجْتَهِدٌ قَدْ حَصَّلَا 1025 - لَيْسَ لَهُ عَنْهُ رُجُوعٌ، وَيَجِبْ ... لِلْعَاجِزِ الْتِزَامُ مَذْهَبٍ نُصِبْ 1526 - مُعَيَّنًا يَعْتَقِدُ الرُّجْحَانَا ... فِيهِ، كَذَا مُسَاوِيًا إنْ كَانَا الشرح: لَمَّا انتهى الكلام في الدخول في تقليد العاجز مجتهدًا، شرعتُ في أحكام الخروج عن التقليد، وختمتُ بذلك مسائل الفصل الخاتم للأرجوزة، وذلك في مسائل: إحداها: إذا أجاب المجتهد مَن استفتاه مِن العوام في الحادثة بجواب، فإنْ عمل به المستفتي فليس له الرجوع عنه إلى فتوى غيره في تلك الحادثة بِعَيْنها بالإجماع. نقله ابن الحاجب والهندي وغيرهما. وإنْ لم يَعمل به فقيل: يَلْزَمه أنْ يعمل؛ لأنه في حَقه كالدليل بالنسبة إلى المجتهد. وقيل: لا يَلزمه إلَّا بالتزامه. قاله ابن السمعاني. ¬

_ (¬1) في (ص، س، ت، ض): في.

قال: (ويجوز أنْ يقال: يَلْزَمه إذا أَخَذ في العمل به. وقيل: يَلزمه إذا وقع في نفسه صحته وحقيقته). قال: (وهذا أَوْلَى الأَوْجُه) (¬1). قال ابن الصلاح: (ولم أجد هذا لغيره، وقد حكى هو بَعْد ذلك عن بعض الأصوليين أنَّه إذا أفتاه بما هو مختلَف فيه، خَيَّره بين أنْ يَقبل منه أو مِن غَيْره). قال ابن الصلاح: (والذي تقتضيه القواعد أنَّه إنْ لم يجد سواه، تَعَيَّن عليه الأخذ بِفُتياه، ولا يتوقف ذلك على التزامه ولا سكون نفسه إلى صحته. وإنْ وَجَدَ: فإنْ استبان أنَّ الذي أفتاه هو الأَعْلَم الأَوثَق، لَزِمَه؛ بِناءً على تقليد الأفضل. وإنْ لَمْ يَسْتَبِن، لَمْ يَلْزَمه) (¬2). وقال النووي رحمه الله في "الروضة": (المختار ما نقله الخطيب وغيره: إنْ لم يكن هناك مُفتٍ آخَر، لَزِمَه بمجرد فتواه وإنْ لم تَسْكُن نفسه. وإنْ كان هناك آخَر، لَمْ يَلْزَمه بمجرد إفتائه؛ إذْ له أن يسأل غيره، وحينئذٍ فقد يخالفه، فيجيء فيه الخلاف السابق في اختلاف المفتيين) (¬3). وقد ذكرت في النَّظم مسألة "إذا عمل"، وفُهِم منه أنَّه إذا لم يَعمل، لا يَلْزمه التقيد بما أفتاه به إنْ كان هناك آخَر، بل يتخير. وهو ما نقلناه أنَّه المختار كما قاله النووي رحمه الله. فأما إنْ لم يكن غيره، فَيَتَعَيَّن؛ لِمَا سبق مِن أنَّ العامي يَتَعَيَّن عليه التقليد والاستفتاء. فَاعْلَمه. ¬

_ (¬1) قواطع الأدلة (2/ 358). (¬2) فتاوى ابن الصلاح (1/ 90). الناشر: مكتبة العلوم والحكم، عالم الكتب - بيروت، ط: الأولى - 1407 هـ، المحقق: د. موفق عبد الله. (¬3) روضة الطالبين (11/ 118).

المسألة الثانية: يجوز أنْ يقلد غيره في حادثة أخرى، ولا يتعين عليه إذا أفتاه فأخذ بقوله في مسألة أنْ يأخذ بِقَوله في كل شيء. هذا هو المختار في "مختصر ابن الحاجب" وغيره. وقيل: ليس له أنْ يقلد غيره في غير ذلك أيضًا. وقيل: يجوز في عصر الصحابة والتابعين، ولا يجوز في عصر غيرهم مِن الأعصار التي تَقررت فيها المذاهب. الثالثة: هل يجب على العامي العاجز عن الاجتهاد أن ينتحل مذهبًا معيَّنًا من المذاهب التي قد تَقررت، لا يخرج عنه في سائر الأحكام، بل يكون مقلدًا لذلك الإمام دائمًا؟ فيه وجهان، حكاهما ابن برهان: أحدهما: لا. فَعَلَى هذا: هل له تقليد مَن شاء؟ أو يبحث عن أشد المذاهب؟ فيه وجهان كالبحث عن الأهلية. الثاني: وبه قطع إلْكِيَا أنَّه يجب عليه. فَعَلَى هذا يَلزمه أنْ يختار مذهبًا يقلده في كل شيء، وليس له التمذهب بمجرد التشهي. قال النووي رحمه الله: (هذا كلام الأصحاب، والذي يقتضيه الدليل أنَّه لا يَلزمه التمذهب بمذهب، بل يستفتي مَن شاء، لكن مِن غَيْر تَلَقُّط لِلرُّخَص، وَلَعَلَّ مَن منعه لَمْ يثق بعدم تَلَقُّطه) (¬1). وقال الهندي: (يجري في هذه المسألة الخلاف السابق في التي قبلها بالترتيب. فإنْ قُلنا: لا ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (11/ 117).

يجب تقليده، فلا يجب هنا التزام تقليده مِن باب أَوْلى. وإنْ قُلنا هناك: يجب، فَهُنا وجهان) (¬1). نعم، ينبغي للمقلد أنْ يسعى في اعتقاد أنَّه أَرْجح مِن حيث [الجملة] (¬2) وإنْ لم يجب عليه البحث، وهذا معنى قولي: (يَعْتَقِدُ الرُّجْحَانَا فِيهِ، كَذَا مُسَاويًا) أي: كذا إذا اعتقده مساويًا، فَعُلِم مِن ذلك أنَّه إذا اعتقده مرجوحًا، لا يَلْزَمه تقليده دائمًا، وأما في بعض المسائل فقد سبق في مسألة استفتاء المفضول مع وجود الفاضل. تنبيه: العامي إذا أفتاه المفتي في حادثة بِحُكم، هل يسمَّى مقلِّدًا؟ أوْ لا؟ ذهب معظم الأصوليين إلى أنَّه مقلِّد؛ لانطباق تعريف "التقليد" عليه. وذهب القاضي في "مختصر التقريب" إلى أن المختار أنَّه ليس بتقليد أصلًا، فإنَّ قول العالم حُجة في حق المستفتي، نَصبَه الربُّ عَلَمًا في حق العامِّي وأَوجَب عليه العمل به كما أَوْجَب على المجتهد العمل باجتهاده؛ وخرج مِن هذا أنَّه لا يُتصوَّر تقليد مباح لا في الأصول ولا في الفروع. ثم قال القاضي: (إنه لو جاز تسمية هذا "تقليدًا" لَجاز أنْ يُسمَّى التمسك بالنصوص وغيرها من الدلائل "تقليدًا"). قلتُ: وقد سبق الخلاف في ذلك، والله أعلم. ¬

_ (¬1) نهاية الوصول (8/ 3920). (¬2) في (ق): الحكم.

ص: 1027 - وَلَيْسَ جَائِزًا تَتبُّعُ الرُّخَصْ ... فَإنَّهُ كَلَعِبٍ؛ إذْ لَمْ يُخَصْ الشرح: هذا كالتفريع على ما قَبله، يجوز أنْ يخرج عنه إذَا لم يكن في خروجه تَتبعُ لِرُخَص المذاهب. أما جواز خروجه فهو الأصح في الرافعي، لكن بناء على أنَّه لا يجب عليه التزام مذهب مُعَيَّن. وقد سبق أن النووي رحمه الله قال: (إنه مقتضَى الدليل وإنْ كان على خِلاف كلام الأصحاب). وقيل: لا يجوز الخروج؛ لأنه لَمَّا التزمه صار لازمًا كما لو التزمه في جزئية. وقيل: إنه كالعامِّي يعمل في كل مسألةٍ بِقَول [إمامٍ] (¬1). فكل مسألةٍ عمل فيها بقول إمامٍ ليس له تقليد غيره فيها، بخلاف ما لم يعمل فيها. وأما تَتَبُّعُّ الرخص فممتنع على كلِّ حالٍ، وهو أن يختار مِن كل مذهب أَهْوَنه عليه. ونُقِل عن أبي إسحاق المروزي جوازه. لكن الذي في "فتاوى الحناطي" عنه أنَّه قال: مَن تَتبَع الرُّخَص، فسق. وأنَّ ابن أبي هريرة قال: لا يفسق. وكذا حكاه الرافعي عنه في "كتاب القضاء". قال الشيخ نجم الدين البالسي: تفسيقه مع القول بأنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيب مُشْكل. فإنْ قُلنا: "المصيب واحد" ففيه نَظَر من حيث إنَّ اختياره للأَهْوَن يُشْعِر بانحلال وتَساهُل، لكنه ¬

_ (¬1) في (ت، س): إمامه.

مُعارَض بأنَّ العدالة ثابتة، فأَخْذه بالأَهْوَن يحتمل أنْ يكون للتساهل ولخِلافِه، والتفسيق مع الشك ممنوع. قيلْ طرف التساهل أَرْجَح، وخِلافُه بعيد؛ لأنَّ التتبُّع يُشْعِر إشعارًا بيِّنًا بالتساهل. [فائدة] (¬1): قال بعض [المحتاطين] (¬2): مَن بُلي بوسواس أو شَكّ أو قنوط أو يأس فالأَوْلَى أَخْذه بالأَخَف والترخُّص؛ لئلَّا يزداد ما به؛ فيخرج عن الشرع. ومَن كان قليل الدِّين كثير التساهل، أَخَذ بالأَثقل والعزيمة؛ لئلَّا [يزداد] (¬3) ما به؛ فيخرج إلى الإباحة. والله تعالى أعلم. ص: 1028 - تَمَّ بِحَمْدِ اللهِ مَا نَظَمْتُهُ ... أَرْجُو بِهِ النَّفْعَ كَمَا قَصَدْتُهُ 1029 - تَاسِعَ عَشْرٍ حِجَّةٍ مِنْ سَنَةِ ... ثَمَانِ عَشْرٍ وَثَمَانِمِائَةِ 1030 - وَإنْ عَلَى الْأَلْفِ رَبَتْ قَلِيلَا ... فَسَمِّهَا أَلْفِيَّةً تَقْلِيلَا 1031 - فَالْحَمْدُ للهِ عَلَى التَّمَامِ ... مَعْ أَفْضَلِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ 1032 - عَلَى النَّبِيْ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ ... وَالتَّابِعِينَ مِنْ جَمِيعِ حِزْبِه قال المؤلف رحمه الله: فرعٌ مِن تسويد هذا الشرح مؤلفه - فقير رحمة ربه - محمد بن عبد ¬

_ (¬1) من (ق). (¬2) في (من): المناظرين. (¬3) في (ق): يزاد.

الدائم البرماوي، ثالث عشر شعبان المكرم، سنة ثمان وعشرين وثمانمائة. قال: ثم فُرغ مِن تحريره وقراءته بمكة المشرفة في الخامس والعشرين من ذي القعدة، سنة تسع وعشرين وثمانمائة، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وصلواته على محمد خير خلقه وآله وصحبه أجمعين (¬1). ¬

_ (¬1) كتب ناسخ (ق) في آخِرها: (نجِز تمام هذا الجزء المبارك من "الفوائد السنية في شرح الألفية" في أصول الفقه من تأليف سيدنا ومولانا العبد الفقير إلى الله تعالى الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام مفتي الأنام وجلة العلماء الأعلام، أمتع الله تعالى بوجوده الإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد البرماوي الشَّافعي النعيمي العسقلاني، أحسن الله تعالى إليه ورحمه. بلغه على يد الفقير إلى الله تعالى أقل عباد الله وأحوجهم إلى رحمته وعفوه وغفرانه محمد بن أيبك بن عبد الله الشهير بالعنبري، غفر الله له ولوالديه ولإخوته ولجميع المسلمين أجمعين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا، والحمد لله رب العالمين. ووافق الفراغ من كتابته نهار الاثنين ثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام، سنة ثلاثين وثمانمائة، أحسن الله تعالى العاقبة، ثم الصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين). وكتب ناسخ (ت): (كتبه أحمد بن محمد بن حسين - عفا الله عنه - عام 869). وكتب ناسخ (من): (ثم نجِز كتابته ونقله على يد فقير عفو الله تعالى عبد الله بن محمد بن عبد الله ابن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن أحمد قاسم السبتي شهرة المالكي مذهبًا الأشعري اعتقادًا القادري طريقةً الصفدي مولدًا ومنشأ في سادس عشر جمادى الآخرة عام خمس وتسعمائة هجرية على صاحبها من الله أفضل الصلاة والسلام وهو ثاني أمشير وسابع وعشرين يَنير وكانون الثاني .. والحمد للهِ وحده وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله العلي العظيم. الحمد لله قُوبِل على أصله المنقول منه مسودة المُصَنِّف على قَدْر الطاقة - على يد كاتب هذه الأحرف ابن محمد السبتي غفر الله له ولوالديه ولمشايخه ولجميع المسلمين، فَصَحَّ ووافق بتاريخ =

أحمد بن محمد بن حسين علي عفا الله عنه: 899. ¬

_ = مستهل الحرام عام خمس وتسعمائة بمدينة صفد المحروسة والناس في وَجَلٍ وخوف مما حصل فيها من نائب الصالحي قصروة ... والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، حسبنا الله ونعم الوكيل). وكتب ناسخ (ض): (ثم فرعٌ من كتابة هذا الجزء المبارك كاتبه يوسف بن حصر البحيري عفا الله عنه وعن والديه وعن جميع المسلمين .. وختم له وللمسلمين بخير، آمين، في سادس شهر رجب .. سنة ست وثمانين وثمانمائة، أحسن الله عاقبته في خير وعافية ... اللهم صَلّ على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم كلما ذكره الذاكرون وكلما غفل عن ذكره الغافلون، والحمد لله وحده).

تراجم الأعلام

تراجم الأعلام تنبيه: إذا ذكرت الجزء ورقم الصفحة ولم أذكر اسم المصدر، فإنما أقصد "الأعلام" للزركلي، وذلك للاختصار، وفي "الأعلام" ذكْر مصادر الترجمة تفصيلًا (¬1). 1 - ابن أبي هريرة: الحسن بن الحسين أَبو علي، أحد أئمة الشَّافعية بالعراق، ت: 345 هـ. (الأعلام، 2/ 188). 2 - ابن البارزي: هبة الله بن عبد الرَّحِيم، قاضي حماة، كَانَ إِمَامًا عَارِفًا بِالمْذهبِ الشَّافعي، ت: 738 هـ، له: شرح "الحْاوِي" في فقه الشَّافعية و"التمييز". (طبقات الشَّافعية الكبرى 10/ 388، الأعلام 8/ 73). 3 - ابن التِّلِمْسَاني؛ عبد الله بن محمد الفهري، شافعي، ت: 644 هـ، له في أصول الفقه: شرح "المعالم" للرازي. (الأعلام، 4/ 125). 4 - ابن الجواليقي: موهوب بن أحمد، أَبو منصور، عالم بالأدب واللغة، ت: 540 هـ، له: شرح أدب الكاتب. (الأعلام، 7/ 335). 5 - ابن الحاجب أَبو عمرو: عثمان بن عمر، من أئمة المالكية، ت: 646 هـ، له في أصول الفقه: "المنتهى" ومختصره. (الأعلام، 4/ 211). 6 - ابن الخشاب: عبد الله بن أحمد، أَبو محمد، أعلم معاصريه بالعربية، ت: 567 هـ، له: المرتجل في شرح الجمل للزجاجي. (الأعلام، 4/ 67). 7 - ابن الرفعة: نجم الدين أحمد بن محمد بن علي، أَبو العباس، من كبار فقهاء الشَّافعية، ت: 715 هـ، له: كفاية النبيه في شرح التنبيه للشيرازي، "المطلب" في شرح "الوسيط". (الأعلام، 1/ 222). 8 - ابن الزبعرى: عبد الله بن الزبعري بن قيس السهمي القرشي، شاعر قريش في الجاهلية، أَسْلَم بعد فتح مكة، ت: 15 هـ. (الإصابة في تمييز الصحابة، 4/ 87). ¬

_ (¬1) لم أقصد بهذا الفهرس حصر جميع الأعلام الواردة في الكتاب؛ ومن أسباب ذلك وجود أعلام مشهورة لا تحتاج إلى ترجمة. وقولي في ذِكر المؤلفات: "له" لا أقصد به حصر مؤلفات المترجَم له.

9 - ابن الزُّبَير الغرناطي: أحمد بن إبراهيم بن الزُّبَير الثقفي الغرناطي، أَبو جعفر، محدث مؤرخ، من أبناء العرب الداخلين إلى الأندلس، انتهت إليه الرئاسة بها في العربية ورواية الحديث والتفسير والأصول، وَبِه تخرج الْعَلامَة أَبُو حَيَّان، ت: 708 هـ. (الأعلام، 1/ 86). 10 - ابن الزَّمْلَكَاني: محمد بن علي بن عبد الواحد، كمال الدين، انتهت إليه رئاسة الشَّافعية في عصره، ت: 727 هـ. (الأعلام، 6/ 284). 11 - ابن الساعاتي: أحمد بن علي، مظفرُ الدين، من علماء الحنفية، ت: 694 هـ، له: "بديع النظام الجامع بين كتابَي البزدوي والإحكام" في أصول الفقه. (الأعلام، 1/ 175). 12 - ابن السمعاني أَبو المظفر: منصور بن محمد، من كبار علماء الشَّافعية، ت: 489 هـ، له في أصول الفقه: القواطع. (7/ 303). 13 - ابن الصباغ: عبد السيد بن محمد أَبو نصر، شافعي، ت: 477 هـ، له في أصول الفقه: العدة. (4/ 10). 14 - ابن الصلاح: عثمان بن عبد الرحمن أَبو عمرو، من أئمة الحديث والفقه، ت: 643 هـ، له: معرفة أنواع علم الحديث، شرح "الوسيط" في فقه الشَّافعية، طبقات الفقهاء الشَّافعية. (4/ 208). 15 - ابن العارض: الحسين بن عيسى، قدري معتزلي، له: "النكت" في أصول الفقه. (الإبهاج للسبكي، 2/ 168). 16 - ابن القاص: أَحْمد بن أبي أَحْمد الطَّبَرِيّ أَبُو الْعَبَّاس، أحد أَئِمَّة الشَّافعية، ت: 335 هـ، له: "التلخيص" في الفقه، مصنَّف في أصول الفقه. (طبقات الشَّافعية الكبرى، 3/ 59). 17 - ابن القطاع: علي بن جعفر بن علي، أَبو القاسم، عالم بالأدب واللغة، ت: 515 هـ، له: كتاب الأفعال، أبنية الأسماء. (الأعلام، 4/ 269). 18 - ابن القطان: أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد، أَبُو الحسَيْن، من كبراء الشَّافعيين وَله مصنفات فِي أصُول الْفِقْه وفروعه، ت: 359 هـ. (طبقات الشَّافعية لابن قاضي شهبة

1/ 125، الأعلام 1/ 209). 19 - ابن اللبان: محمد بن أحمد بن عبد المؤمن، شمس الدين، مفسر، من علماء العربية، ت: 749 هـ، وَاخْتصرَ "الرَّوْضَة"، وَبَوَّبَ "الْأُم" ورتبها على المْسَائِل والأَبواب. (الأعلام، 5/ 327). 20 - ابن المرحل: محمد بن عمر بن مكي، أَبو عبد الله صدر الدين المعروف بِ "ابن الوكيل"، من فقهاء الشَّافعية، ت: 716 هـ، له: "الأشباه والنظائر" في فقه الشَّافعية. (الأعلام، 6/ 314). 21 - ابن المطهر الرافضي: الحسن (ويقال: الحسين) بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي، مِن أئمة فِرقة الشيعة الرافضة الضالة، ت: 726 هـ. (2/ 227). 22 - ابن المنيِّر: القاضي ناصر الدّين أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن منصور، أَبو العباس، المالكيّ، قاضي الإسكندرية وعالمها، ت: 683 هـ، له: الانتصاف من "الكشاف" للزمخشري، مناسبات تراجم البُخَارِيّ. (الأعلام، 1/ 220). 23 - ابن إياز: جمال الدين حسين بن بدر بن أياز، أَبو محمد، عالم بالنحو، ت: 681 هـ، له: المحصول في شرح الفصول. (الأعلام، 2/ 234). 24 - ابن برجان: عبد السلام بن عبد الرحمن، أَبو الحكم، متصوف، ت: 536 هـ، له: "الإرشاد" في تفسير القرآن. (الأعلام، 4/ 6). 25 - ابن بَرْهان: أَبو الفتح أحمد بن علي، شافعي، ت: 518 هـ، له في أصول الفقه: الوجيز، الأوسط. (الأعلام، 1/ 173). 26 - ابن جِنِّي: عثمان بن جني أَبو الفتح، من أئمة النحو، ت: 392 هـ، له: الخصائص، المقتضب من كلام العرب. (4/ 203). 27 - ابن حامد: الحسن بْن حامد بْن علي بْن مروان، أَبُو عبد الله البغدادي، 28 - ابن حمدان: نجم الدّين أَبو عبد الله أحمد بن حمدان بن شبيب، الحنبلي الفقيه الأصولي القاضي، وانتهت إِلَيْهِ معرفة المذهب، ت: ، له: "الوافي" فِي أصول الفقه. (ذيل طبقات الحنابلة 4/ 268، الأعلام 1/ 119).

29 - ابن خويز منداد البصري: محمد بن أحمد بن عبد الله، أَبو عبد الله، تفقه على الأبهري، وله كتاب كبير في الخلاف وكتاب في أصول الفقه. (الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب 2/ 229، شجرة النور الزكية في طبقات المالكية 1/ 154). 30 - ابن خيران أَبو علي: الحسين بن صالح، من أئمة الشَّافعية، ت: 320 هـ. (الأعلام، 3/ 272). 31 - ابن داود الظاهري: محمد بن داود بن علي بن خلف الظاهري، وهو ابن داود إمام المذهب أهل الظاهر، ت: 297 هـ، له: الوصول إلى معرفة الأصول. (الأعلام، 6/ 120). 32 - ابن درستويه: عبد الله بن جعفر، أَبُو محمد، من علماء اللغة، ت: 347 هـ، له: "أخبار النحويين". (الأعلام، 4/ 76). 33 - ابن دقيق العيد: تقي الدين القشيري محمد بن علي، من كبار أئمة الشَّافعية، ت: 702 هـ، له: شرح عنوان الْوُصُول إِلَى علم الْأُصُول، إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام. (6/ 283). 34 - ابن رشد الحفيد: محمد بن أحمد بن محمد، الفيلسوف، من أهل قرطبة وقاضي الجماعة، ت: 595 هـ، له: "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" في الفقه، و"مختصر المستصفى" في الأصول. (الأعلام، 5/ 318). 35 - ابن سراقة: محمد بن يحيى بن سراقة، أَبو الحسن، صنف كُتبًا في فقه الشَّافعية والفرائض ورجال الحديث، ت: نحو 410 هـ. (الأعلام، 7/ 136). 36 - ابن سريج أَبو العباس: أحمد بن عمر بن سريج البغدادي، فقيه الشَّافعية في عصره، ت: 306 هـ. (1/ 185). 37 - ابن سيده أَبو الحسن: علي بن إسماعيل، من أئمة اللغة، ت: 458 هـ، له في اللغة: المحكم والمحيط الأعظم، المخصص. (4/ 263). 38 - ابن سينا: الحسين بن عبد الله بن سينا، أَبو علي، شيخ الفلاسفة، ضالٌّ مُضِل؛ يأخذ

عن الملاحدة، صاحب التصانيف في الطب والفلسفة والمنطق، ت: 428 هـ، له: "القانون" في الطب، "الشفاء". (الأعلام، 2/ 241). 39 - ابن عبدان: عبد الله بن عبدان، أَبو الفضل، فقيه شافعيّ، كان شيخ همذان ومفتيها، ت: 433 هـ، له: "شرائط الأحكام". (الأعلام، 4/ 95). 40 - ابن عصفور: علي بن مؤمن أَبو الحسن، ت: 669 هـ، حامل لواء العربية بالأندلس في عصره، له: المقرب، المقنع، الممتع. (5/ 27). 41 - ابن عقيل: علي بْن مُحَمَّد بْن عقيل، أَبُو الوفاء، من كبار علماء الحنابلة، ت: 513 هـ، له في أصول الفقه: الواضح. (الأعلام، 4/ 313). 42 - ابن عُلَيَّة: إبراهيم بن إسماعيل بن مقسم الجَهْمي، شيطان خبيث ضال مُضِل، مخالف لأهل السُّنة والجماعة، ت: 218 هـ، أمَّا والده فهو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم من أكابر حفاظ الحديث الثقات. (1/ 32، 1/ 307). 43 - ابن فارس: أحمد بن فارس القزويني الرازيّ أَبو الحسين، من أئمة اللغة والأدب، ت: 395 هـ، من كتبه: مقاييس اللغة، المجمل. (الأعلام، 1/ 193). 44 - ابن فورك: محمد بن الحسن، من فقهاء الشَّافعية، ت: 406 هـ. (6/ 83). 45 - ابن كج: يوسف بن أحمد، أَبو القاسم، من أئمة الشَّافعية أصحاب الوجوه في المذهب، ت: 405 هـ. (الأعلام، 8/ 214). 46 - ابن مالك: جمال الدين محمد بن عبد الله، من كبار أئمة العربية، ت: 672 هـ، له: الألفية في النحو، شرح "الكافية الشافية" وشرحها، تسهيل الفوائد. (6/ 233). 47 - ابن مالك: محمد بن محمد بن عبد الله بن مالك الطائي، أَبو عبد الله، بدر الدين، ت: 5686، والده جمال الدين ابن مالك ناظم الألفية المشهورة في النحو، له: شرح الألفية. (الأعلام، 7/ 13). 48 - أَبو إسحاق الأَسْفَرَايِيني (الإسْفَرَايِيني): إبراهيم بن محمد، شافعي، شيخ خراسان في زمانه، ت: 418 هـ، له تعليقة في أصول الفقه، شرح ترتيب المذهب في الأصول. (الأعلام، 1/ 61).

49 - أَبو إسحاق الشيرازي: إبراهيم بن علي، من أئمة الشَّافعية، ت: 476 هـ، له في أصول الفقه: اللمع وشرحها، والتبصرة. (الأعلام، 1/ 51). 50 - أَبو إسحاق المَرْوَزِي: إبراهيم بن أحمد، إمام الشَّافعية بالعراق، ت: 340 هـ، له: الفصول في معرفة الأصول. (الأعلام، 1/ 28). 51 - أَبو الحسن الأشعري: علي بن إسماعيل، ت: 324 هـ، إمام فِرقة الأشاعرة، نشأ في فِرقة المعتزلة الضالة أربعين عامًا، ثم رجع في آخِر أمره وصرح في كتابه "الإبانة" بأنه يقول بيقال به الإمام أحمد بن حنبل، له: "الإبانة عن أصول الديانة"، "مقالات الإسلاميين". (4/ 263). 52 - أَبو الحسن السخاوي: عَليِّ بن محمد بن عبد الصمد الشَّافعيّ، أَبو الحسن، علم الدين، عالم بالقراآت والأصول واللغة والتفسير، ت: 643 هـ، له: جمال القرء وكمال الإقراء، شرح الشاطبية. (الأعلام، 4/ 332). 53 - أَبو الحسن السهيلي: عَليّ بن أَحْمد، فِي حُدُود الأربعمائة، له: "أدب الجدل" وَفِيه غرائب من أصُول الْفِقْه. (طبقات الشَّافعية الكبرى، 5/ 246). 54 - أَبو الحسن الطَّبري: علي بن محمد، المعروف بـ "إلْكِيا الهراسي"، شافعي مفسر، ت: 504 هـ، له: أحكام القرآن. (4/ 329). 55 - أَبو الحسين البصري: محمد بن علي الطيب، أحد أئمة فِرقة المعتزلة الضالة، ت: 436 هـ، له في أصول الفقه: المعتمد. (الأعلام، 6/ 275). 56 - أَبو الحسين الخَيَّاط: عبد الرحيم بن محمد، مِن شيوخ فِرقة المعتزلة الضالة ببغداد، ت: نحو 305 هـ. 57 - أَبو الخطاب الحنبلي: محفوظ بن أحمد الكلوذاني، إمام الحنابلة في عصره، ت: 515 هـ، له في الأصول: التمهيد. (5/ 291). 58 - أَبو الطيب الطَّبري القاضي: طاهر بن عبد الله بن طاهر، ت: 450 هـ، من أعيان الشَّافعية، له: شرح مختصر المزني. (3/ 222). 59 - أَبو العباس بن القاص: أحمد بن أحمد الطَّبري، شيخ الشَّافعية في طبرستان، ت:

335 هـ. 60 - أَبو الفرج: القاضي أَبو الفرج عمر بن محمد الليثي، من علماء المالكية، ت: 331 هـ، له: "الحاوي" في مذهب مالك، و"اللمع" في أصول الفقه. (شجرة النور الزكية، 1/ 118). 61 - أَبو القاسم بن يوسف: محمد بن يوسف بن محمد الحسني، أَبو القاسم السمرقندي، فقيه حنفي، عالم بالتفسير والحديث، ت: 556 هـ، له: جامع الفتاوى، مآل الفتاوى، الفقه النافع. (الأعلام، 7/ 149). 62 - أَبو الهذيل: محمد بن محمد بن الهذيل، أَبو الهذيل العلاف، من أئمة المعتزلة، ت: 235 هـ. (الأعلام، 7/ 131). 63 - أَبو الوليد الباجي: سليمان بن خلف، فقيه مالكي كبير، ت: 474 هـ، له في أصول الفقه: إحكام الفصول في أحكام الأصول، الإشارة. (الأعلام، 3/ 125). 64 - أَبو بكر الرازي الجصاص: أحمد بن علي، انتهت إليه رئاسة الحنفية، ت: 370 هـ، له: الفصول في الأصول. (الأعلام، 2/ 120). 65 - أَبو بكر الصَّيْرَفِي: محمد بن عبد الله، من كبار أئمة الشَّافعية، ت: 330 هـ، له: البيان في دلائل الإعلام على أصول الإحكام. (6/ 224). 66 - أَبو بكر بن البَاقِلاني القاضي: محمد بن الطيب، ت: 403 هـ، له: "التقريب والإرشاد" ومختصره. (الأعلام 6/ 176). 67 - أَبو بكر بن الدقاق: محمد بن محمد بن جعفر، شافعي، له كتاب في أصول الفقه، ت: 392 هـ. (طبقات الشَّافعية لابن قاضي شهبة، 1/ 167). 68 - أَبو بكر بن العربي: محمد بن عبد الله المعافري، من كبار أئمة المالكية، ت: 453 هـ، له: أحكام القرآن، عارضة الأحوذي في شرح سُنن التِّرمِذي. وله في الأصول: "المحصول". (6/ 230). 69 - أَبو بكر بن داود: محمد بن داود بن علي الظاهري، ابن داود الظاهري، ت: 5297، له: الوصول "إلى معرفة الأصول". (الأعلام، 6/ 120).

70 - أَبو ثور: إبراهيم بن خالد، صاحب الإمام الشَّافعي، ت: 240 هـ. (1/ 37). 71 - أَبو جعفر الدِّينَوَري ابن قتيبة (الدَّيْنَوَري): أحمد بن عبد الله، كان يحفظ كتب أبيه في غريب القرآن والحديث والأدب، ت: 322 هـ. (1/ 156). 72 - أَبو حاتم القزويني: مَحْمُود بن الحْسن، أحد أَئِمَّة الشَّافعية أَصْحَاب الْوُجُوه، ت: 445 هـ، له: تَجْرِيد التَّجْرِيد. (طبقات الشَّافعية الكبرى، 5/ 312). 73 - أَبو حامد الإِسْفَرَايِيني (الأَسْفَرَايِيني): أحمد بن محمد، وُلِد في "أسفرايين" بَلْدَة قريبة من نيسابور، انتهت إليه رئاسة الشَّافعية، ت: 456 هـ، له كتاب في أصول الفقه. (الأعلام، 1/ 211). 74 - أَبو حامد المَرْوَرُّذي (المَرُّوذِي). أحمد بن بشر بن عامر، أحد أئمة الشَّافعية، ت: 362 هـ. ("طبقات الشَّافعيين" لابن كثير، ص 277). 75 - أَبو حيان: محمد بن يوسف الأندلسي، من علماء العربية والتفسير، ت: 745 هـ، له: ارتشاف الضرب من لسان العرب، شرح التسهيل لابن مالك. (الأعلام، 7/ 151). 76 - أَبو خازم: عبد الحميد بن عبد العزيز، القاضي، من الحنفية، ت: 292 هـ، له: أدب القاضي. (الأعلام، 3/ 287). 77 - أَبو زيد الدبوسي: عبد الله بن عمر بن عيسى، من أئمة الحنفية الأصوليين، ت: 430 هـ، له في أصول الفقه: تقويم الأدلة، . (الأعلام، 4/ 159). 78 - أَبو زيد المروزي: محمد بن أحمد بن عبد الله الفاشاني، كان حافظًا لمذهب الشَّافعي، ت: 371 هـ. (شذرات الذهب في أخبار من ذهب، 3/ 76). 79 - أَبو سعيد الإصْطَخْري: الحسن بن أحمد، أحد أئمة الشَّافعية، ت: 328 هـ. (الأعلام، 2/ 179). 80 - أَبو سعيد البردعي: أحمد بن الحسين، كان شيخ الحنفية ببغداد، ت: 317 هـ، له: مسائل الخلاف. (الأعلام، 1/ 114). 81 - أَبو شامة: عبد الرحمن بن إسماعيل، أَبو القاسم، شهاب الدين، مؤرخ، محدث، ت:

665 هـ، له: "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، "المحقق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم -". (الأعلام، 3/ 29). 82 - أَبو عبد الله الصيمري: الحسين بن علي بن محمد، القاضي، كان شيخ الحنفية ببغداد، ت: 436 هـ، له: مناقب الإمام أبي حنيفة. (الأعلام، 2/ 245). 83 - أَبو عبيد: القاسم بن سلاَّم، من كبار العلماء بالحديث واللغة والفقه، ت: 224 هـ، له: فضائل القرآن، غريب الحديث. (5/ 176). 84 - أَبو عبيدة النَّحْوِي: معمر بن المثنى، من علماء اللغة، ت: 209 هـ. (7/ 272). 85 - أَبو على السنجي: الحسين بن شعيب بن محمد، فقيه مرو في عصره، كان شافعيًّا، ت: 427 هـ، له: شرح الفروع لابن الحداد، شرح التلخيص لابن القاص. (الأعلام، 2/ 239). 86 - أَبو علي الطَّبري: الحسن (أو: الْحُسَيْن) بن الْقَاسِم، لَهُ الْوُجُوه المشْهُورَة فى المُذْهَب الشَّافعي، وصنف فى أصُول الْفِقْه وفى الجدل، وصنف "المُحَرر" وَهُوَ أول كتاب صُنف فى الخْلاف المُجَرّد، ت: 350 هـ. (طبقات الشَّافعية الكبرى 3/ 280، الأعلام 2/ 210). 87 - أَبو علي الفارسي: الحسن بن أحمد بن عبد الغفار، أحد الأئمة في علم العربية، ت: 377 هـ، له: الإيضاح، جواهر النحو. (الأعلام، 2/ 179). 88 - أَبو علي الفارسي: الحسن بن أحمد، ت: 377 هـ، أحد الأئمة في علم العربية، له: الإيضاح، جواهر النحو. (2/ 180). 89 - أَبو عمر الزاهد: محمد بن عبد الواحد، أحد أئمة اللغة، تلميذ ثعلب، ت: 345 هـ. (6/ 245). 90 - أَبو منصور البغدادي: عبد القاهر بن طاهر بن محمد، من أئمة الأصول، ت: 429 هـ، له: "التحصيل" في أصول الفقه، الفرق بين الفرق. (الأعلام، 4/ 48). 91 - أَبو منصور الماتريدي: محمد بن محمد بن محمود، من أئمة علماء الكلام، ت: 333 هـ، له في أصول الفقه: مآخذ الشرائع. (الأعلام، 7/ 19).

92 - أَبو منصور: عبد القاهر بن طَاهِر بْن مُحَمَّد، الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ، من أئمة الشَّافعية الأصوليين، ت: 429 هـ، له: "الصِّفَات والتحصيل" فِي أصُول الْفِقْه. (طبقات الشَّافعية لابن قاضي شهبة، 1/ 211). 93 - أَبو نصر العراقي: أَحْمد بن عَمْرو بن مُحَمَّد، كان أحد أئمة أصحاب أبي حنيفة في الفقه، وكان على قضاء سمرقند مدة، ت: 396 هـ. (الجواهر المضية في طبقات الحنفية، 1/ 87). 94 - أَبو نصر القُشَيْري: عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن، لَازمَ إِمَام الحرَمَيْنِ، فَأَحكم المَذْهَبَ وَالأُصُوْل وَالخلَافَ، ت: 514 هـ، له: المقامات والآداب. (الأعلام، 3/ 346). 95 - أَبو هاشم الجُبائي: عبد السلام بن محمد، من شيوخ فِرقة المعتزلة الضالة، هو ابن أبي علي الجُبَّائي، ت: 321 هـ، له: "العدة" في أصول الفقه. (الأعلام، 4/ 7). 96 - أَبو يعلى ابن الفراء: مُحَمَّد بْن الحسين بْن مُحَمَّد بْن الفراء، شيخ الحنابلة وعالم عصره في الأصول والفروع، ت: 458 هـ، له في أصول الفقه: العدة، الكفاية في أصول الفقه. (الأعلام، 6/ 99). 97 - الأَبياري: علي بن إِسْمَاعِيل بن عَطِيَّة، من كبار علماء المالكية، ت: 616 هـ، له في الأصول: التحقيق والبيان شرح البرهان. (تاريخ الإسلام، 44/ 305). 98 - الأردبيلي: فرج بن مُحَمَّد بن أبي الْفرج، نور الدّين الأردبيلي، ت: 749 هـ، شرح "منهاج الْبَيْضَاوِيّ " فِي أصُول الْفِقْه. (طبقات الشَّافعية الكبرى 10/ 380). 99 - الأُرْموَي تاج الدين: مُحَمَّد بن الْحُسَيْن، شافعي، ت: 653 هـ، له في أصول الفقه: الحاصل من المحصول. 10 - الأُرْمَوي سراج الدين أَبو الثناء: محمود بن أبي بكر، شافعي، ت: 682 هـ، له في أصول الفقه: التحصيل من المحصول. 101 - الإسْنَوي (الأَسْنوي أو الإسنائي): محمد بن الحسن بن علي، عماد الدين، من الشَّافعية، أخوه جمال الدين الإسنوي، ت: 764 هـ، له: "المعتبر في علم النظر" في

الجدل. (الأعلام، 6/ 87). 102 - الإسْنَوي (الأَسْنوي): جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن، من كبار أئمة الشَّافعية، ت: 772 هـ، له: نهاية السول شرح منهاج الوصول، التمهيد في تخريج الفروع على الأصول. (الأعلام، 3/ 344). 103 - الأَصْفَهاني (الإصْفَهاني - الأَصْبَهَاني): شمس الدين محمد بن محمود، شافعي، ت: 688 هـ، له في أصول الفقه: الكاشف شرح المحصول. (الأعلام، 7/ 87). 104 - إمام الحنابلة فِي زمانه ومدرسهم ومفتيهم، ت: 403 هـ، لَهُ: شرح الخرقي وشرح أصول الدين وأصول الفقه. (الأعلام، 2/ 187). 105 - الآمِدِي: سيف الدين علي بن محمد، شافعي، ت: 631 هـ، له في أصول الفقه: الإحكام في أصول الأحكام، منتهى السول. 106 - الإيجي: عضد الدّين عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفّار، قاضي قضاة المشرق، وشيخ العلماء الشَّافعية بتلك البلاد، ت: 756 هـ، له: شرح "مختصر ابن الحاجب" في الأصول، "المواقف" في علم الكلام. (طبقات الشَّافعية الكبرى، 10/ 46). 107 - بدر الدين ابن جماعة: القاضي بدر الدين محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الشَّافعيّ، أَبو عبد الله، من العلماء بالحديث، ت: 733 هـ، له: المنهل الرويّ في الحديث النبوي، (الأعلام، 5/ 297). 108 - البزدوي: علي بن محمد بن الحسين، أَبو الحسن، فخر الإسلام، فقيه أصولي من أكابر الحنفية، ت: 482 هـ، له: "كنز الوصول" في أصول الفقه، المبسوط. (الأعلام، 4/ 328). 109 - البزدوي: محمد بن محمد بن الحسين، أَبو اليسر، صدر الإسلام، انتهت إليه رياسة الحنفية في ما وراء النهر، ت: 493 هـ، أخوه فخر الإسلام البزدوي. (الأعلام، 7/ 22). 110 - بشر المَرِّيسِي: بشر بن غياث، من كبار فرقة المعتزلة وأئمة الضلال، ت: 218 هـ. (الأعلام، 2/ 55).

111 - البَغَوِي: الحسين بن مسعود، من أئمة الشَّافعية، له: "شرح السُّنة"، "التهذيب" في فقه الشَّافعية، "لباب التَّأويلِ في معالم التنزيل" تفسير، ت: 510 هـ. (2/ 259). 112 - البلخي: زَكَرِيَّا بن أَحْمد، أَبو يحيى، ولي قضاء دمشق أيام المقتدر، وكان من كبار الشَّافعية وأصحاب الوجوه، ت: 330 هـ. (طبقات الشَّافعية، 1/ 110). 113 - البلقيني: سراج الدين عمر بن رسلان، من كبار أئمة الشَّافعية، ت: 805 هـ. (5/ 46). 114 - البَنْدَنِيجي: الحسن بن عبد الله بن يحيى، أَبو علي القاضى، من أعيان الشَّافعية، ت: 425 هـ، له في الفقه: الذخيرة. (الأعلام، 2/ 196). 115 - البُوشَنْجِي: إسماعيل بن عبد الواحد، أَبو سعد، كان شافعيًّا عالمًا بالمذهب، ت: 5536، له: "المستدرك" نقل عنه الرافعي في مواضع. (طبقات الشَّافعية الكبرى، 7/ 48). 116 - البُوَيْطي: يوسف بن يحيى أَبو يعقوب، صاحب الإمام الشَّافعي، ت: 231 هـ. (الأعلام، 8/ 257). 117 - البَيضاوي: القاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر بن محمد، من علماء الشَّافعية، ت: 685 هـ، له: منهاج الوصول إلى علم الأصول، تفسير البيضاوي، "الغاية القصوى في دراية الفتوى" في فقه الشَّافعية. (الأعلام، 4/ 110). 118 - البيضاوي: محمد بن أحمد بن العباس، أَبو بكر، فقيه من كبار الشَّافعية، ت: 498 هـ، له: "التبصرة" مختصر في الفقه، وشرحه "التذكرة". (الأعلام، 5/ 315). 119 - التبريزي: أمين الدين مظفر بن أبي الخير، ت: 621 هـ، من فقهاء الشَّافعية، له: تنقيح محصول ابن الخطيب. (7/ 257). 120 - ثعلب: أحمد بن يحيى أَبو العباس، إمام الكوفيين في النحو واللغة، ت: 291 هـ. (الأعلام، 1/ 267). 121 - الجاحظ: عمرو بن بحر، أَبو عثمان، أحد رءوس فِرقة المعتزلة الضالة، ت: 255 هـ. (5/ 74).

122 - الجاربردي: فخر الدين أحمد بن الحسن، شافعي، ت: 746 هـ، له: السراج الوهاج شرح منهال البيضاوي. (1/ 111). 123 - الجُبَّائي أَبو علي: محمد بن عبد الوهاب، من أئمة فِرقة المعتزلة الضالة، ت: 303 هـ. 124 - الجُرْجاني أَبو العباس: أحمد بن محمد بن أحمد، أَبو العباس الجرجاني، قاضي البصرة وشيخ الشَّافعية بها في عصره، ت: ، له "التحرير" في فروع الشَّافعية. (الأعلام، 1/ 214). 125 - الجُرْجَاني أَبو عبد الله الحنفي: محمد بن يحيى بن مهدي أَبو عبد الله، الجرجاني، فقيه من أعلام الحنفية، ت: 397 هـ، له: ترجيح مذهب أبي حنيفة. (الأعلام، 7/ 136). 126 - الجُرْجَاني أَبُو عَبْدِ الله: شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ أَبُو عَبْدِ الله مُحَمَّدُ بن الحَسَنِ بنِ إِبْرَاهِيْمَ الإِسْتِرَابَاذِيُّ ثُمَّ الجرجَانِيُّ الشَّافِعِيُّ، المَعْرُوفُ بِالخَتنِ، كَانَ ختنَ الإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ الإِسمَاعِيِليِّ، كَانَ رَأسًا فِي المَذْهَبِ، صَاحِبَ وَجهٍ، ت: 386 هـ، له: شرح "التلخيص" لابن القاص، (سير أعلام النبلاء، 16/ 563). 127 - الجَرْمي: صالح بن إسحاق، عالم بالنحو واللغة، له كتاب: غريب سيبويه، ت: 225 هـ. (3/ 189). 128 - الجصاص: أحمد بن علي الرَّازي، أَبو بكر، انتهت إليه رئاسة الحنفية، ت: 370 هـ، له: أحكام القرآن. (الأعلام، 1/ 171). 129 - الجوهري: إسماعيل بن حمَّاد، من كبار أئمة اللغة، ت: 393 هـ، له في اللغة: الصحاح. (1/ 313). 130 - الجويني: إمام الحَرَمَيْن أَبو المعالي عبد الملك بن عبد الله، من أئمة الشَّافعية، ت: 478 هـ، له في أصول الفقه: البرهان، الورقات. له في الفقه: نهاية المطلب. 131 - الحسن بن عرفة: أَبو علي العبديّ، ت: 257 هـ، من رجال الحديث. كان مسند زمانه. (2/ 199). 132 - الحليمي: الحسين بن الحسن بن محمد، أَبو عبد الله، أحد فقهاء الشَّافعية، ت: 403

هـ، له: شعب الإيمان. (الأعلام، 2/ 235). 133 - الخبازي: عمر بن محمد بن عمر الخبازي، أَبو محمد، جلال الدين: فقيه حنفي، ت: 691 هـ، له: "المغني" في أصول الفقه. (الأعلام، 5/ 63). 134 - الخُسْرَوْشاهي: عبد الحميد بن عِيسَى شمس الدين الشَّافعى أَبو محمد، من كبار فقهاء الشَّافعية، ت: 652 هـ. (الأعلام). 135 - الخطابي: حمد بن محمد بن إبراهيم البستيّ، أَبو سليمان، فقيه محدّث، ت: 388 هـ، له "معالم السنن" في شرح"سنن أبي داود"، و"إصلاح غلط المحدثين"، "شرح البخاري". (الأعلام، 2/ 273). 136 - الخطيب البغدادي؛ أحمد بن علي بن ثابت، أحد الحفاظ المؤرخين، ت: 463 هـ، له: تاريخ بغداد، الرحلة في طلب الحديث. (1/ 172). 137 - الخَطِيبي: محمد بن مظفر الدين، شمس الدين، ت: 745 هـ، له: شرح"المصابيح" للبغوي، وشرح "مختصر المنتهى" لابْن الحاجِب. (طبقات الشَّافعية 3/ 66، الأعلام 7/ 105). 138 - خفاف بن ندبة: خفاف بن عمير بن الحارث، شاعر، أسلم وشهد فتح مكة، ت: نحو 20 هـ. (2/ 309). 139 - الخوارزمي: محمود بن محمد بن العباس بن أرسلان، أَبو محمد، مظهر الدين، فقيه شافعيّ مؤرخ. من أهل خوارزم، وصنف "الكافي في النظم الشافي"، ت: 568 هـ. (الأعلام، 7/ 181). 140 - الخونجي القاضي أفضل الدين: محمد بن ناماور بن عبد الملك، ت: 646 هـ، عالم بالحكمة والمنطق. (7/ 122). 141 - الرازي فخر الدين: محمد بن عمر، شافعي، ت: 606 هـ، له في أصول الفقه: المحصول، المنتخب، المعالم. (6/ 313). 142 - الرافعي: عبد الكريم بن محمد أَبو القاسم القزويني، من كبار أئمة الشَّافعية، ت: 623 هـ، له في الفقه: المحرر، شرح الوجيز. (4/ 55).

143 - الرَّاغِب الأَصْفَهَاني: الحسين بن محمد بن المفضل، أَبو القاسم الأصفهاني (أو الأصبهاني)، ت: 502 هـ، له: المفردات في غريب القرآن، جامع التفاسير. (الأعلام، 2/ 255). 144 - الروياني: عبد الواحد بن إسماعيل، من كبار فقهاء الشَّافعية، ت: 502 هـ، له في الفقه: بحر المذهب. (4/ 175). 145 - الزنجاني: محمود بن أحمد بن محمود، أَبو المناقب، شهاب الدين الزنجاني، لغويّ، من فقهاء الشَّافعية، ت: 656 هـ، له: تخريج الفروع على الأصول. (الأعلام، 7/ 161). 146 - الزنجاني: محمود بن أحمد بن محمود، أَبو المناقب، شهاب الدين الزنجاني، لغويّ، من فقهاء الشَّافعية، ت: 656 هـ، له: تخريج الفروع على الأصول. (الأعلام، 7/ 161). 147 - الساجي: زكريا بن يحيى بن عبد الرحمن الضبيّ البصري، محدث البصرة في عصره، ت: 307 هـ، له: أصول الفقه، اختلاف الفقهاء، كتاب في علل الحديث. (طبقات الشَّافعية الكبرى 3/ 299، الأعلام 3/ 47). 148 - السبكي تاج الدين: عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي، من أئمة الشَّافعية، ت: 771 هـ، له في أصول الفقه: جمع الجوامع، رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، الإبهاج شرح منهاج البيضاوي. (4/ 184). 149 - السبكي تقي الدين: علي بن عبد الكافي، أَبو الحسن، من كبار أئمة الشَّافعية، ت: 756 هـ، له في أصول الفقه: "الإبهاج" وأتمه ابنه تاج الدين السبكي. (4/ 302). 150 - السرخسي: محمد بن أحمد بن سهل، أَبو بكر، شمس الأئمة، قاض، من كبار الأحناف، مجتهد، ت: 483 هـ، له: "المبسوط" في الفقه، "الأصول" في أصول الفقه. (الأعلام، 5/ 315). 151 - السروجي: أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني، أَبو العباس، شمس الدين، من علماء الحنفية، ت: 710 هـ، له في الفقه: الغاية شرح الهداية. (الأعلام، 1/ 86).

152 - السَّعْد التفتَازاني: مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني، سعد الدين، من أئمة العربية والبيان والمنطق، ت: 793 هـ، له في الأصول: حاشية على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب، التلويح إلى كشف غوامض التنقيح. (الأعلام، 7/ 219). 153 - السُّهْرَوَرْدي: أبو الفتوح يحيى بن حَبش، شافعي، قُتِل لفساد عقيدته سَنَة 587 هـ، له في الأصول: التنقيحات. (الأعلام، 8/ 140). 154 - سليم الرازي: سليم بن أيوب، أَبو الفتح، أحد أئمة الشَّافعية، كان فقيهًا أصوليًّا، ت: 447 هـ. (الأعلام، 3/ 116). 155 - السمرقندي: محمد بن أحمد، أَبو بكر علاء الدين السمرقندي: فقيه، من كبار الحنفية، ت: 540 هـ، له: تحفة الفقهاء، ميزان الأصول في نتائج العقول، "اللباب" في أصول الفقه. (الأعلام 5/ 317، هدية العارفين 2/ 90). 156 - السهيلي: عبد الرحمن بن عبد الله، عالم باللغة والسِّير، ت: 581 هـ، له: "الروض الأنف" في السيرة النبويّة، نتائج الفكر. (الأعلام، 3/ 313). 157 - سيبويه: عمرو بن عثمان بن قنبر، إمام النُّحَاة، ت: 180 هـ، له في النحو: "الكتاب". (5/ 81). 158 - السيرافي: الحسن بن عبد الله بن المرزبان، ت: 368 هـ، من علماء النحو، له: شرح كتاب سيبويه. (2/ 195). 159 - شريح الروياني: شريح بن عبد الكريم بن أحمد الروياني. أَبو نصر، فقيه شافعيّ، ت: 505 هـ، له: "روضة الأحكام وزينة الحكام" في أدب القضاء. (الأعلام، 3/ 161). 160 - الشريف المُرْتَضَى: علي بن الحسين، ت: 436 هـ، مِن فِرقة الشيعة الرافضة الضالة. (تاريخ الإسلام، 29/ 434). 161 - صفي الدين الهندي: محمد بن عبد الرحيم الأرموي، من علماء الشَّافعية، ت: 715 هـ، له في أصول الفقه: نهاية الوصول إلى علم الأصول. 162 - صلاح الدين العلائي: خليل بن كيكلدي بن عبد الله، من علماء الشَّافعية، محدث

حافظ فقيه، ت: 761 هـ، له: المجموع المذهب في قواعد المذهب، جامع التحصيل في أحكام المراسيل، تَنْقِيح الفهوم فِي صِيغ الْعُمُوم. (الأعلام 2/ 321، طبقات الشَّافعية الكبرى 10/ 35). 163 - الصيدلاني: مُحَمَّد بن دَاوُد بن مُحَمَّد الدَّاودي، أَبُو بكر، شَارح "مُخْتَصر المُزنيّ"، من علماء الشَّافعية، ت: (طبقات الشَّافعية الكبرى، 4/ 148). 164 - ضرار بن عمرو: من كبار المعتزلة، ت: نحو 195 هـ. (الأعلام، 3/ 215). 165 - الطَّرَسُوسِي: القاضي نجم الدين إبراهيم بن علي، من شيوخ الحنفية، ت: 758 هـ، له: "ذخيرة الناظر في الأشباه والنظائر" في فقه الحنفية. (الأعلام، 1/ 51). 166 - الطُّرْطُوشي: شَيْخُ المَالِكِيَّة، أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بن الوَلِيْدِ، ت: 250 هـ، له: "العمد" في الأصول، الحوادث والبدع. (الأعلام، 7/ 133). 167 - العالمي: محمد بن عبد الحميد الأسمندي السمرقندي، أَبو الفتح، علاء الدين، فقيه أصولي، من كبار الحنفية، ت: 552 هـ، له: "بذل النظر" في أصول الفقه. (الأعلام، 6/ 187). 168 - العبادي: محمد بن أحمد، فقيه شافعي، ت: 458 هـ، له: طبقات الشَّافعيين. (5/ 314). 169 - عبد الجبار القاضي: عبد الجبار بن أحمد الهمذاني، كان شيخ فِرقة المعتزلة في عصره، (3/ 273). 170 - عبد العزيز البخاري: عبد العزيز بن أحمد بن محمد، عَلَاء الدِّين البُخَاري، فقيه حنفي من علماء الأصول، ت: 730 هـ، له: كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، شرح المنتخب الحسامي. (الأعلام، 4/ 13). 171 - عبد الوهاب القاضي: عبد الوهاب بن علي البغدادي، أَبو محمد، من كبار أئمة المالكية، ت: 422 هـ، له: "التلقين" في فقه المالكية. (4/ 183). 172 - العبري: برهان الدين عبد الله (أو عبيد الله) بن محمد الفرغاني، شرح مصنفات البيضاوي، ت: 743 هـ، له: شرح منهاج البيضاوي. (4/ 126).

173 - عثمان البَتِّي: عثمان بن مسلم، من فقهاء البصرة، رأى أَنس بن مَالك رضي الله عنه، (سير أعلام النبلاء، 6/ 148). 174 - العجلي: أسعد بن محمود بن خلف، منتخب الدين، أَبو الفتوح، كان شيخ الشَّافعية بأصبهان، ت: 600 هـ، له: شرح مشكلات"الوسيط" و"الوجيز" للغزالي في فقه الشَّافعية. (الأعلام، 1/ 301). 175 - العراقي الحافظ: زين الدين عبد الرحيم بن الحسين، أَبو الفضل، من كبار حفاظ الحديث، ت: 806 هـ، له: ألفية في أصول الفقه "نظم النجم الوهاج"، ألفية في مصطلح الحديث وشرحها "فتح المغيث". (3/ 433). 176 - عز الدين ابن عبد السلام: عبد العزيز بن عبد السلام، الملقب بسلطان العلماء، من كبار أئمة الشَّافعية، ت: 660 هـ، له: قواعد الأحكام. (4/ 21). 177 - العسكري: الحسن بن عبد الله بن سهل العَسْكَري، أَبو هلال، لُغوي عالم بالأدب، ت: بعد 395 هـ، له: "الفروق" في اللغة، جمهرة الأمثال. (الأعلام، 2/ 196). 178 - علاء الدين الباجي: علي بن محمد أَبو الحسن، من أئمة الشَّافعية، ت: 714 هـ، له: غاية السول في علم الأصول. الأعلام (4/ 334). 179 - علاء الدين القونوي: علي بن إسماعيل بن يوسف القونوي، أَبو الحسن، علاء الدين، فقيه من الشَّافعية، ت: 729 هـ، له: شرح الحاوي الصغير. (الأعلام، 4/ 264). 180 - علي بن عيسى الرَّبَعي: عالم بالعربية، له في النحو: "البديع"، ت: 420 هـ. (الأعلام، 4/ 318). 181 - عمر بن خلف الصقلي: عمر بن خلف بن مكي الصقلي، أَبو حفص، قاض لغويّ محدث أندلسي، ت: 501 هـ، له: تثقيف اللسان. (الأعلام، 5/ 46). 182 - العمراني: يحيى بن سالم، أَبو الحسين العمراني، كان شيخ الشَّافعية في بلاد اليمن، ت: 558 هـ، له "البيان" في فروع الشَّافعية. (الأعلام، 8/ 146). 183 - العنبري: عبيد الله بن الحسن بن الحصين، من فقهاء أهل البصرة، ت: 168 هـ (4/ 192).

184 - عيسى بن أبان بن صدقة: من كبار فقهاء الحنفية، ت: 221 هـ، له في أصول الفقه: إثبات القياس، اجتهاد الرأي. (5/ 100). 185 - الغزالي أَبو حامد: محمد بن محمد الطوسي، من علماء الشَّافعية، ت: 505 هـ، له في الأصول: المستصفى، المنخول. (7/ 22). 186 - الفَرَّاء: يحيى بن زياد، إمام الكوفيين في النحو واللغة، له: "معاني القرآن"، "مشكل اللغة"، ت: 207 هـ. (8/ 145). 187 - الفُوراني: عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد، أَبو القاسم، كَانَ إِمَامًا حَافِظًا للْمَذْهَب الشَّافعي، من كبار تلامذة أبي بكر الْقفال، من علماء الأصول والفروع. ت: 461 هـ، له: "الإبانة عن أحكام فروع الديانة" في فقه الشَّافعية. (طبقات الشَّافعية الكبرى 5/ 110، الأعلام 3/ 362). 188 - القاساني (القاشاني) أَبو بكر: محمد بن إسحاق، كان أولًا داوُديًّا، ثم انتقل إلى مذهب الشَّافعي وصار رأسا فيه، له: الرد على داود في إبطال القياس، إثبات القياس. (الفهرست لابن النديم، 1/ 300). 189 - القاضي أَبو منصور: أَبُو مَنْصُور ابْن الصّباغ: أَحْمد بن مُحَمَّد بْن مُحَمَّد القاضي، ابْن أخي الشَّيْخ أبي نصر ابْن الصّباغ وَزوج ابْنَته، من فقهاء الشَّافعية، ت: 494 هـ. (طبقات الشَّافعية الكبرى، 4/ 86). 190 - القاضي حسين: حسين بن محمد بن أحمد المروروذي القاضي، من كبار فقهاء الشَّافعية، كان صاحب وجوه غريبة في المذهب. له (التعليقة) في الفقه، ت: 462 هـ. (الأعلام، 2/ 254). 191 - القاضي عياض: عياض بن موسى، من كبار أئمة المالكية وعالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته، ت: 544 هـ، له: إكمال المعلم (شرح صحيح مسلم). (5/ 99). 192 - القرافي أَبو العباس: شهاب الدين أحمد بن إدريس، من كبار أئمة المالكية، ت: 684 هـ، له في أصول الفقه: نفائس الأصول شرح المحصول، شرح تنقيح الفصول

الفروق. (1/ 94). 193 - القزويني: محمد بن عبد الرحمن بن عمر، أَبو المعالي، جلال الدين القزويني الشَّافعيّ، المعروف بخطيب دمشق، قاض، من أدباء الفقهاء، ت: 739 هـ، له: "تلخيص المفتاح" في المعاني والبيان، "الإيضاح" في شرح التلخيص. (الأعلام، 6/ 192). 194 - القزويني: نجم الدين عبد الغفار بن عبد الكريم، من فقهاء الشَّافعية، ت: 665 هـ، من كُتبه: "الحاوي الصغير" في فروع الشَّافعية. (الأعلام، 4/ 31). 195 - قُطْرُب: محمد بن المستَنِير بن أحمد، تلميذ سيبويه، عالم باللغة، كان يذهب إلى مذهب المعتزلة المبتدعة الضالة، ت: 256 هـ. (الأعلام، 7/ 95). 196 - القفال الشاشي: محمد بن علي بن إسماعيل، أَبو بكر، من أكابر علماء عصره بالفقه والحديث واللغة والأدب، وعنه انتشر مذهب الشَّافعيّ في بلاده، ت: 365 هـ، له: أصول الفقه، شرح "الرسالة" للشافعي. (الأعلام، 6/ 274). 197 - القفال الشاشي: محمد بن علي بن إسماعيل، ت: 365 هـ، من أكابر علماء عصره بالفقه والحديث واللغة، وعنه انتشر مذهب الشَّافعيّ في بلاده، له: أصول الفقه، شرح رسالة الشَّافعي. (6/ 274). 198 - القيرواني: عبد الرحمن بن محمد بن رشيق، مِن علماء المالكية، ت: 380 هـ، له: المستوعب لزيادات مسائل المبسوط مما ليس في المدونة. (3/ 352). 199 - الكتاني (الكتناني): زين الدين عمر بن أبي الحرم، فقيه أصولي، من علماء الشَّافعية، ت: 738 هـ، كتب حواشي على "روضة الطالبين" للنووي. (طبقات الشَّافعية الكبرى 10/ 378). 200 - الكرابيسي: الحسين بن علي بن يزيد، أَبو عليّ الكرابيسي، فقيه من أصحاب الإمام الشَّافعيّ. له تصانيف كثيرة في أصول الفقه وفروعه والجرح والتعديل، وكان متكلما، عارفا بالحديث، نسبته إلى الكرابيس (وهي الثياب الغليظة) كان يبيعها، ت: 345 أو 348 هـ. (الأعلام، 2/ 244).

201 - الكرخي أَبو الحسن: عبيد الله بن الحسين، انتهت إليه رئاسة الحنفية بالعراق، ت: 340 هـ، له رسالة في أصول الفقه. (4/ 193). 202 - الكسائي أَبو الحسن: علي بن حمزة، إمام في اللغة والنحو والقراءات، ت: 189 هـ. (4/ 283). 203 - الكعبي: عبد الله بن أحمد البلخي، أحد أئمة فِرقة المعتزلة المبتدعة، ت: 319 هـ. (4/ 65). 204 - اللخمي: علي بن محمد الربعي، أَبو الحسن، فقيه مالكي، ت: 478 هـ، له: تعليق كبير على "المدونة" في فقه المالكية سماه "التبصرة". (الأعلام، 4/ 328). 205 - المازري: محمد بن علي بن عمر التَّمِيمي، من فقهاء المالكية، ت: 536 هـ، له: إيضاح المحصول في الأصول، المعلم بفوائد "صحيح مسلم". (6/ 277). 206 - المازني: بكر بن محمد بن حبيب، ت: 249 هـ، أحد الأئمة في النحو من أهل البصرة، له: التصريف. (2/ 69). 207 - الماوردي أَبو الحسن: علي بن محمد حبيب، ت: 450 هـ، من كبار علماء الشَّافعية، له: الحاوي الكبير في فقه الشَّافعية، الأحكام السلطانية، تفسير "النكت والعيون". (4/ 327). 208 - المبَرَّد: محمد بن يزيد أَبو العباس، إمام العربية ببغداد في زمنه، ت: 286 هـ، له: طبقات النحاة البصريين. (7/ 144). 209 - المتولي: عبد الرحمن بن مأمون النيسابورىّ أَبو سعد، من علماء الشَّافعية، ت: 478 هـ. (3/ 323). 210 - مجلي: القاضي مُجَلِّي بن جُميع، أَبُو المُعَالِي، من فقهاء الشَّافعية، ت: 550 هـ، له: "الذخائر" في فقه الشَّافعية. (الأعلام، 5/ 280). 211 - المحاملي أَبو الحسن: أحمد بن محمد، ت: 415 هـ، له: "التجريد"، "المقنع" في فقه الشَّافعية. (1/ 211). 212 - محمد بن نصر المروزي: إمام في الفقه والحديث، ت: 294 هـ، له: تعظيم قدر

الصلاة. (7/ 125). 213 - محمود بن علي الحمصي، من الشيعة الإمامية، له في أصول فقه الشيعة: المصادر. (البحر المحيط للزركشي، 1/ 6). 214 - المِزِّي أَبو الحجاج: جمال الدين يوسف بن عبد الرحمن، محدث الديار الشامية في عصره، ت: 742 هـ، له: تهذيب الكمال في أسماء الرجال. (8/ 236). 215 - المزني: إسماعيل بن يحيى، صاحب الإمام الشَّافعي، ت: 264 هـ. (1/ 329). 216 - المطرزي: ناصر بن عبد السيد، أَبو الفتح، برهان الدين الخوارزمي المطرزي، أديب، عالم باللغة، من فقهاء الحنفية، كان رأسا في الاعتزال، ت: 610 هـ، له: "المغرب في ترتيب المعرب". (الأعلام، 7/ 348). 217 - المعافى بن زكريا النهرواني: المعافي بن زكريا بن يحيى النهرواني، أَبُو الفَرَج، قاض، من الأدباء الفقهاء، ت: 390 هـ. (الأعلام، 7/ 260). 218 - المقترح: مظفر بن عبد الله بن علي، أَبو الفتح، تقيّ الدين، فقيه شافعيّ مصري، وهو جد القاضي ابن دقيق العيد لأمه، ت: 612 هـ، له: شرح "المقترح" في المصطلح، عُرِف بِـ "المقترح" لأنه كان يحفظه. (الأعلام، 7/ 256). 219 - الميداني: أحمد بن محمد بن أحمد، كان بارعًا في العربية والأصول، ت: 518 هـ، له: نزهة الطرف في علم الصرف. (1/ 214). 220 - النحاس أَبو جعفر: أحمد بن محمد بن إسماعيل، من علماء النحو والتفسير، له: معاني القرآن، شرح أبيات سيبويه، ت: 338 هـ. (1/ 208). 221 - النقشواني: أحمد بن أبي بكر، له في أصول الفقه: تلخيص المحصول تلخيص لتهذيب الأصول مخطوط. 222 - النَّظَّام: إبراهيم بن سيار، من أئمة فِرْقَة المعتزلة، ت: 231 هـ، قال السمعاني في (الأنساب، 5/ 507): (ما في القدرية أَجْمَع منه لأنواع الكفر .. كان أَفْسَق خَلْق الله). 223 - النَيلي: إِبْرَاهِيم بن الْحُسَيْن بن عبيد الله، تَقِيّ الدّين النيلي، ت: ، له: "التحفة الشافية

في شرح الكافية "شَرَح"الكافية" لابن الحاجب. (بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، 1/ 410). 224 - النووي رحمه الله: محيى الدين يحيى بن شرف، أَبو زكريا، ت: 676 هـ، له: شرح صحيح مسلم، المجموع شرح المهذب. (8/ 149). 225 - الهروي: عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري، ت: 481 هـ، شيخ خراسان في عصره، من كبار الحنابلة، له: ذم الكلام وأهله.

المراجع

«المراجع»

التفسير وعلوم القرآن

التفسير وعلوم القرآن 1 - الإتقان في علوم القرآن، تأليف: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، ط: دار الفكر - لبنان، تحقيق: سعيد المندوب، الطبعة: الأولى 1416/ هـ - 1996 م. 2 - أحكام القرآن، تأليف: عماد الدين بن محمد الطَّبري إلكيا الهراسي، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الأولى 1403/ هـ - 1983 م. 3 - تأليف: أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص، تحقيق: محمد الصادق قمحاوي، ط: دار إحياء التراث العربي - بيروت، 1405 هـ. 4 - البرهان في علوم القرآن، تأليف: محمد بن بهادر الزركشي -، تحقيق: محمد إبراهيم، ط: دار المعرفة - بيروت - 1391 هـ. 5 - تفسير ابن أبي حاتم، ط: نزار الباز - السعودية. 6 - تفسير البحر المحيط، تأليف: أبي حيان محمد بن يوسف الأندلسي، ط: دار الكتب العلمية - بيروت/ 1422 هـ - 2001 م، الطبعة: الأولى، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود مع مجموعة. 7 - تفسير القرآن، تأليف: عبد الرزاق بن همام الصنعاني، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، تحقيق: د. محمود عبده. 8 - التفسير الكبير (مفاتيح الغيب)، تأليف: فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشَّافعي، دار الكتب العلمية - بيروت - 1421 هـ - 2000 م. 9 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تأليف: أبي جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطَّبري، ط: دار الفكر - بيروت، 1405 هـ. 10 - دلائل الإعجاز، تأليف: عبد القاهر الجرجاني، ط: دار الكتاب العربي - بيروت، تحقيق: د. محمد التنجي، الطبعة: الأولى/ 1415 هـ - 1995 م. 11 - الكشاف عن حقائق التنزيل، تأليف: أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، ط: دار إحياء التراث العربي - بيروت، تحقيق: عبد الرزاق المهدي. 12 - مجاز القرآن، تأليف: العز بن عبد السلام، ط: مؤسسة الفرقان - لندن، تحقيق: د. مصطفى محمد الذهبي، 1419 هـ - 1999 م. 13 - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تأليف: أبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية

الحديث

الأندلسي -، ط: دار الكتب العلمية - لبنان، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي، الطبعة: الأولى / 1413 هـ - 1993 م. 14 - منهج الراغب الأصفهاني في التفسير مع تحقيق مقدمته وتفسيره لسورتي الفاتحة والبقرة، تأليف: أبي القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهانى، ط: كلية الآداب - جامعة طنطا، تحقيق: محمد عبد العزيز بسيوني/ 1420 هـ - 1999 م. 15 - الناسخ والمنسوخ، تأليف: أبي جعفر أحمد بن محمد النحاس، ط: مكتبة الفلاح - الكويت، تحقيق: د. محمد عبد السلام، الطبعة: الأولى/ 1408 هـ. 16 - النكت والعيون، تأليف: علي بن محمد الماوردي، ط: دار الكتب العلمية - بيروت. 17 - الوسيط في تفسير القرآن المجيد، تأليف: أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي عوض، الطبعة: الأولى 1415 هـ - 1994 م. الحديث 18 - الترغيب والترهيب، تأليف: عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، ط: مكتبة المعارف - الرياض، تحقيق: مشهور حسن آل سلمان، الطبعة: الثانية/ 1424 هـ. 19 - تهذيب الآثار (مسند عمر بن الخطاب)، تأليف: أبي جعفر محمد بن جرير الطَّبري، ط: مطبعة المدني - القاهرة، تحقيق: محمود محمد شاكر. 20 - سنن ابن ماجة، تأليف: محمد بن يزيد أبي عبد الله القزويني، دار الفكر - بيروت، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. 21 - سنن أبي داود، تأليف: سليمان بن الأشعث أبي داود السجستاني الأزدي، ط: دار الفكر، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد. 22 - سنن البيهقي الكبرى، تأليف: أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبي بكر البيهقي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، ط: مكتبة دار الباز - مكة، 1414 - 1994 م. 23 - سنن التِّرمِذي، المؤلف: محمد بن عيسى أَبو عيسى التِّرمِذي، تحقيق: أحمد شاكر. 24 - سنن الدَّارَقُطني، تأليف: علي بن عمر أبي الحسن الدَّارَقُطني البغدادي، ط: دار المعرفة - بيروت - 1386 هـ - 1966 م، تحقيق: السيد عبد الله هاشم.

25 - سنن الدَّارَقُطني، تأليف: أبي الحسن الدَّارَقُطني، ط: مؤسسة الرسالة. 26 - سنن الدارمي، تأليف: عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ط: دار الكتاب العربي - بيروت - 1407 هـ، الطبعة: الأولى، تحقيق: فواز أحمد، خالد السبع العلمي. 27 - السنن الكبرى، تأليف: أحمد بن شعيب أبي عبد الرحمن النَّسائي، دار الكتب العلمية - بيروت، تحقيق: د. عبد الغفار سليمان، سيد كسروي حسن، 1411 هـ - 1991 م. 28 - شرح معاني الآثار، تأليف: أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، تحقيق: محمد زهري النجار، الطبعة: الأولى - 1399 هـ. 29 - شعب الإيمان، تأليف: أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق: محمد السعيد بسيوني، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، ط. الأولى / 1410 هـ. 30 - صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، تأليف: محمد بن حبان بن أحمد أبي حاتم التميمي البستي، ط: مؤسسة الرسالة - بيروت -1414 هـ - 1993 م، الطبعة: الثانية، تحقيق: شعيب الأرنؤوط. 31 - صحيح ابن خزيمة، تأليف: محمد بن إسحاق بن خزيمة، ط: المكتب الإسلامي - بيروت/ 1390 هـ - 1970 م، تحقيق: د. محمد مصطفى الأعظمي. 32 - صحيح البخاري، تأليف: محمد بن إسماعيل البخاري، ط: دار ابن كثير، اليمامة - بيروت - 1407 هـ - 1987 م، الطبعة: الثالثة، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا. 33 - صحيح مسلم، تأليف: مسلم بن الحجاج، ط: دار إحياء التراث العربي - بيروت، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. 34 - المدخل إلى السنن الكبرى، تأليف: أحمد بن الحسين البيهقي أبي بكر، ط: دار الخلفاء - الكويت، تحقيق: د. محمد ضياء، الطبعة: 1404 هـ. 35 - المراسيل، تأليف: أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، ط: مؤسسة الرسالة - بيروت، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، الطبعة: الأولى/ 1408 هـ. 36 - المستدرك على الصحيحين، تأليف: محمد بن عبد الله أبي عبد الله الحاكم النيسابوري، دار الكتب العلمية - بيروت - 1411 هـ - 1990 م، تحقيق: مصطفى عبد القادر. 37 - مسند أبي حنيفة، تأليف: أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني أبي نعيم، ط: مكتبة الكوثر -

الرياض - 1415 هـ، الطبعة: الأولى، تحقيق: نظر محمد الفاريابي. 38 - مسند أبي يعلى، تأليف: أحمد بن علي أبي يعلى الموصلي، ط: دار المأمون للتراث - دمشق - 1404 هـ - 1984 م، الطبعة: الأولى، تحقيق: حسين سليم أسد. 39 - مسند الإمام أحمد بن حنبل الميمنية، تصوير: مؤسسة قرطبة - مصر. 40 - مسند البزار - البحر الزخار، تأليف: أبي بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار، ط: مؤسسة علوم القرآن، مكتبة العلوم والحكم - بيروت، المدينة، تحقيق: د. محفوظ الرحمن زين الله، الطبعة: الأولى / 1409 هـ. 41 - مسند الشَّافعي، تأليف: أبي عبد الله محمد بن إدريس الشَّافعي، ط: دار الكتب العلمية - بيروت. 42 - مسند الشهاب، تأليف: أبي عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي، ط: مؤسسة الرسالة - بيروت، تحقيق: حمدي عبد المجيد، الطبعة: الثانية / 1407 هـ - 1986 م. 43 - مصنف ابن أبي شيبة، تأليف: أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، ط: دار التاج - بيروت، تحقيق: كمال يوسف الحوت، الطبعة: الأولى/ 1459 هـ. وأيضًا ط: شركة دار القبلة، تحقيق محمد عوَّامة، الطبعة: الأولى/ 1427 هـ - 2006 م. وأيضًا ط: مكتبة الرشد، تحقيق حمد الجمعة ومحمد اللحيدان، الطبعة: الأولى/ 1425 هـ - 2004 م. 44 - مصنف عبد الرزاق، تأليف: أبي بكر ابن همام الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي. 45 - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، تأليف: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ط: دار العاصمة / دار الغيث - السعودية، تحقيق: د. سعد الشتري، الطبعة: الأولى/ 1419 هـ. 46 - المعجم الأوسط، تأليف: أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، ط: دار الحرمين - القاهرة - 1415، تحقيق: طارق بن عوض الله، عبد المحسن بن إبراهيم. 47 - المعجم الصغير، تأليف: سليمان بن أحمد بن أيوب أبي القاسم الطبراني، ط: المكتب الإسلامي - بيروت، دار عمار - عمان، الطبعة: الأولى/ 1405 هـ - 1985 م، تحقيق: محمد شكور. 48 - المعجم الكبير، تأليف: سليمان بن أحمد أبي القاسم الطبراني، ط: مكتبة الزهراء - الموصل - 1404 هـ - 1983 م، الطبعة: الثانية، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد.

شروح الحديث وعلومه والتحقيق والتخريج والعلل

49 - معرفة السنن والآثار عن الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشَّافعي، تأليف: أبي بكر أحمد ابن الحسين البيهقي، دار الكتب العلمية - بيروت، تحقيق: سيد كسروي. 50 - المنتخب من مسند عبد بن حميد، تأليف: أبي محمد عبد بن حميد بن نصر، ط: مكتبة السنة - القاهرة، تحقيق: صبحي السامرائي، محمود خليل، الطبعة: الأولى / 1408 هـ - 1988 م. 51 - الموطأ، تأليف: أبي عبد الله مالك بن أَنس، ط: دار إحياء التراث العربي - مصر -، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. شروح الحديث وعلومه والتحقيق والتخريج والعلل 52 - إتحاف المهرة، تأليف: أحمد بن علي ابن حجر رحمه الله العسقلاني، ط: مجمع الملك فهدلم مركز خدمة السنة - المدينة المنورة، تحقيق: د. زهير الناصر، الطبعة: الأولى/ 1415 هـ - 1994 م. 53 - اختلاف الحديث، تأليف: محمد بن إدريس الشَّافعي، ط: مؤسسة الكتب الثقافية - بيروت، تحقيق: عامر أحمد حيدر، الطبعة: الأولى/ 1405 هـ - 1985 م. 54 - اختلاف الحديث، تأليف: محمد بن إدريس الشَّافعي، مطبوع مع كتاب الأم، ط: دار الوفاء، تحقيق: د. رفعت فوزي، الطبعة: الأولى - 1422 هـ - 2001 م. 55 - الأدب المفرد، تأليف: محمد بن إسماعيل البخاري، ط: دار البشائر الإسلامية - بيروت، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة: الثالثة 1409/ هـ - 1989 م. 56 - الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة، تأليف: ملا علي القاري، ط: مؤسسة الرسالة - 1391 هـ تحقيق: محمد الصباغ. 57 - الاقتراح في بيان الاصطلاح، تأليف: تقي الدين ابن دقيق العيد، ط: دار الكتب العلمية - بيروت / 1406 هـ - 1986 م. 58 - الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع، تأليف: القاضي عياض بن موسى اليحصبي، ط: دار التر اثلم المكتبة العتيقة - القاهرة / تونس -1379 هـ - 1970 م، الطبعة: الأولى، تحقيق: السيد أحمد صقر. 59 - البدر المنيِّر في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير، تأليف: سراج الدين ابن الملقن، ط: دار الهجرة، تحقيق: مصطفى أبي الغيط، الطبعة الأولى - 2054 م. 60 - بُغْيَة الْمُلْتَمِس فِي سُبَاعِيَّاتِ حَدِيثِ الإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنس، تأليف: أبي سعيد خليل ابن

كيكلدي العلائي، ط: عالم الكتب - بيروت، تحقيق: حمدي عبد الجيد السلفي، الطبعة: الأولى/ 1405 هـ - 1985 م. 61 - تحفة الأحوذي بشرح جامع التِّرمِذي، تأليف: محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري أبي العلا، دار الكتب العلمية - بيروت. 62 - تخريج أحاديث الإحياء، بهامش إحياء علوم الدين، تأليف: أبي الفضل زين الدين عبد الرحيم العراقي، ط: دار الشعب. 63 - تذكرة السامع والمتكلم، تأليف: بدر الدين محمد بن إبراهيم ابن جماعة، ط: دار البشائر الإسلامية - بيروت، تحقيق: محمد مهدي، ط: الثالثة / 1433 هـ - 2012 م. 64 - تذكرة المحتاج إلى أحاديث المنهاج، تأليف: سراج الدين ابن الملقن، ط: المكتب الإسلامي - بيروت، تحقيق: حمدي عبد المجيد، الطبعة: الأولى/ 1994 م. 65 - التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، المؤلف: أحمد بن علي بن حجر أَبو الفضل العسقلاني، تحقيق: السيد عبد الله هاشم، ط: المدينة المنورة، 1964 م. 66 - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، تأليف: أبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر، ط: وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية - المغرب/ 1387 هـ، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي، محمد عبد الكبير. 67 - الدراية في تخريج أحاديث الهداية، تأليف: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ط: دار المعرفة - بيروت، تحقيق: السيد عبد الله اليماني. 68 - شرح الإلمام بأحاديث الأحكام، تأليف: تقي الدين ابن دقيق العيد، ط: دار النوادر، تحقيق: محمد خلوف، الطبعة: الثانية/ 1430 هـ - 2009 م. وأيضًا طبعة: دار أطلس، تحقيق: عبد العزيز محمد، الطبعة: الأولى / 1418 هـ - 1997 م. 69 - شرح السنة، تأليف: الحسين بن مسعود البغوي، ط: المكتب الإسلامي - دمشق/ بيروت، تحقيق: شعيب الأرناؤوط - محمد زهير الشاويش، الطبعة: الثانية / 1407 هـ - 1983 م. 70 - شرف أصحاب الحديث، تأليف: أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، ط: دار إحياء السنة - أنقرة، تحقيق: د. محمد سعيد خطي. 71 - العلل الواردة في الأحاديث النبوية، تأليف: أبي الحسن الدَّارَقُطني، ط: دار طيبة -

علم أصول الفقه وقواعده

الرياض، تحقيق: د. محفوظ الرحمن زين الله، الطبعة: الأولى/ 1405 هـ - 1985 م. 72 - غريب الحديث، تأليف: أبي عبيد القاسم بن سلام الهروي، ط: دار الكتاب العربي - بيروت، تحقيق: د. محمد عبد المعيد، الطبعة: الأولى / 1396 هـ. 73 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري، المؤلف: أحمد بن علي بن حجر، تحقيق: محب الدين الخطيب، ط: دار المعرفة - بيروت. 74 - الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، تأليف: محمد بن علي الشوكاني، ط: المكتب الإسلامي - بيروت، تحقيق: عبد الرحمن يحيى المعلمي، الطبعة: الثالثة / 1407 هـ. 75 - الكفاية في علم الرواية، تأليف: أبي بكر الخطيب البغدادي، تحقيق: إبراهيم المدني، ط: المكتبة العلمية - المدينة المنورة. 76 - المدخل إلى كتاب الإكليل، تأليف: أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم، ط: دار الدعوة - الإسكندرية، تحقيق: د. فؤاد عبد المنعم. 77 - معرفة علوم الحديث، تأليف: أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، ط: دار الكتب العلمية - بيروت 1397 هـ - 1977 م، الطبعة: الثانية، تحقيق: السيد معظم حسين. 78 - المقاصد الحسنة، ط: دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة: الأولى / 1405 هـ ـ -1985 م، تحقيق: محمد عثمان الخشت. 79 - مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، تأليف: أبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن الصلاح، ط: دار الفكر المعاصر - بيروت، الطبعة: 1397 هـ - 1977 م، تحقيق: نور الدين عتر. 80 - المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، المؤلف: أَبو زكريا يحيى بن شرف النووي رحمه الله، ط: دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة: الثانية/ 1392 هـ. 81 - النكت على كتاب ابن الصلاح، تأليف: أحمد بن حجر العسقلاني، ط: دار الراية - الرياض، الطبعة: الثالثة - 1415 هـ. علم أصول الفقه وقواعده 82 - الإبهاج في شرح المنهاج، تأليف: علي بن عبد الكافي السبكي وولده تاج الدين، ط: دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث - دبي، تحقيق: د. أحمد جمال الزمزمي، نور الدين صغيري، الطبعة: الأولى / 1424 هـ - 2004 م. وأيضا: ط. دار الكتب العلمية -

بيروت، الطبعة: الأولى - 1404 هـ. 83 - إجمال الإصابة في أقوال الصحابة، تأليف: خليل بن كيكلدي العلائي، ط: جمعية إحياء التراث الإسلامي - الكويت، تحقيق: د. محمد سليمان الأشقر، الطبعة: الأولى/ 1407 م. 84 - إحكام الفصول في أحكام الأصول، تأليف: أبي الوليد سليمان الباجي، ط: دار الغرب الإسلامي، تحقيق: د. عبد المجيد تركي، الطبعة: الثانية / 1415 هـ - 1995 م. 85 - الإحكام في أصول الأحكام، تأليف: علي بن محمد الآمدي، ط: دار الكتاب العربي - بيروت، تحقيق: سيد الجميلي، الطبعة: الأولى - 1404 هـ. 86 - الإحكام في أصول الأحكام، تأليف: علي بن أحمد بن حزم الأندلسي -، ط: دار الحديث - القاهرة، الطبعة: الأولى / 1404 هـ. 87 - أصول السرخسي، تأليف: أبي بكر محمد بن أبي سهل السرخسي -، تحقيق: د. رفيق العجم، ط: دار المعرفة - بيروت، الطبعة: الأولى/ 1418 هـ. 88 - أنوار البروق في أنواء الفروق، تأليف: أحمد بن إدريس القرافي، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، تحقيق: خليل المنصور، الطبعة: الأولى / 1418 هـ - 1998 م. 89 - إيضاح المحصول من برهان الأصول، تأليف: أبي عبد الله محمد بن علي المازري، ط: دار الغرب الإسلامي، تحقيق: د. عمار الطالبي. 90 - البحر المحيط، تأليف: بدر الدين الزركشي -، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، تحقيق: د. محمد تامر، الطبعة: الأولى/ 1421 هـ - 2000 م. 91 - البحر المحيط، تأليف: بدر الدين الزركشي -، ط: دار الصفوة، تحقيق: عبد القادر العاني، د. عمر سليمان الأشقر، الطبعة: الثانية / 1413 هـ - 1992 م. 92 - بديع النظام الجامع بين أصول البزدوي والإحكام (نهاية الأصول)، تأليف: مظفر الدين أحمد بن علي الساعاتي، دكتوراة للباحث: سعد السلمي - جامعة أم القرى. 93 - البرهان، تأليف: إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، ط: الوفاء - مصر -، الطبعة: الرابعة / 1418 هـ، تحقيق: د. عبد العظيم محمود الديب. 94 - بيان معاني البديع، تأليف: أبي الثناء شمس الدين محمود بن عبد الرحمن الأصفهاني، دكتوراة مقدمة من الطالب: صبغة الله غلام، جامعة أم القرى / 1410 هـ.

95 - التحبير شرح التحرير، تأليف: علاء الدين المرداوي، تحقيق: د. عبد الرحمن الجبرين وآخرين، ط: مكتبة الرشد - الرياض، 2000 م. 96 - التحقيق والبيان في شرح البرهان، تأليف: علي بن إسماعيل الأبياري، ط: وزارة الأوقاف - قطر، تحقيق: علي بن عبد الرحمن، الطبعة: الأولى / 1433 هـ - 2013 م. 97 - تخريج الفروع على الأصول، تأليف: شهاب الدين محمود الزنجاني، ط: مؤسسة الرسالة، تحقيق: د. محمد أديب صالح، الطبعة: الرابعة 1402/ هـ - 1982 م. 98 - تشنيف المسامع، تأليف: بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي، ط: مكتب قرطبة، تحقيق: سيد عبد العزيز ومحمد ربيع، الطبعة: الثانية - 2006 م. 99 - التقريب والإرشاد (الصغير)، تأليف: القاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني، تحقيق: د. عبد الحميد أَبو زنيد، ط: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى / 1418 هـ - 1998 م. 100 - تقويم الأدلة، تأليف: أبي زيد الدبوسي، تحقيق: خليل محيى الدين، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، 2001 م. 101 - التلخيص في أصول الفقه، تأليف: أبي المعالي عبد الملك بن يوسف الجويني، تحقيق: محمد حسن، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، 2003 م. 102 - التمهيد في أصول الفقه، تأليف: أبي الخطاب الكلوذاني، تحقيق: د. مفيد محمد أبي عمشة، ط: مركز البحث العلمي، جامعة أم القرى، الطبعة: الأولى/ 1985 م. 103 - جمع الجوامع، تأليف: تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي، ط: داِر الكتب العلمية - بيروت، تحقيق: عبد المنعم خليل، الطبعة: الثانية / 1424 هـ - 2003 م. 104 - حاشية العطار على شرح جلال الدين المحلي على (جمع الجوامع)، تأليف: حسن بن محمد بن محمد العطار، ط: دار الكتب العلمية - بيروت. 105 - الحاصل من المحصول، تأليف: تاج الدين محمد بن الحسين الأرموي، ط: جامعة قاريونس - بنغازي، تحقيق: عبد السلام أبي ناجي، الطبعة: 1994 م. 106 - الرسالة، تأليف: الإمام محمد بن إدريس الشَّافعي، المحقق: أحمد شاكر، ط: مكتبة الحلبي - مصر، الطبعة: الأولى، 1358 هـ 1940/ م. وأيضا: ط. دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: 1940 م.

157 - رفع الحاجب شرح مختصر ابن الحاجب، تأليف: تاج الدين السبكي، تحقيق: علي عوض وعادل عبد الموجود، ط: عالم الكتب - بيروت، 1999 م. 108 - شرح "المعالم" في أصول الفقه، تأليف: ابن التلمساني عبد الله بن محمد شرف الدين، ط: عالم الكتب، الطبعة: الأولى/ 1419 هـ - 1999 م. 109 - شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي لابن الحاجب، تأليف: عضد الملة عبد الرحمن ابن أحمد الإيجي، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، تحقيق: فادي نصيف وطارق يحيى، الطبعة الأولى/ 1421 هـ - 2000 م. 110 - شرح اللمع، تأليف: أبي إسحاق إبراهيم الشيرازي، ط: دار الغرب الإسلامي، تحقيق: عبد المجيد تركي، الطبعة: الأولى 1458/ هـ - 1988 م. 111 - شرح تنقيح الفصول، للإمام شهاب الدين القرافي، تحقيق: محمد عبد الرحمن الشاغول، ط: المكتبة الأزهرية للتراث - القاهرة، الطبعة: 2005 م. 112 - شرح مختصر الروضة، تأليف: سليمان بن عبد القوي نجم الدين الطوفي، ط: مؤسسة الرسالة، تحقيق: عبد الله التركي، الطبعة: الأولى 1407/ هـ - 1987 م. 113 - العقد المنظوم في الخصوص والعموم، تأليف: شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، ط: المكتبة المكية - دار الكتبي، تحقيق: أحمد عبد الله، الطبعة: الأولى/ 1220 هـ - 1999 م. 114 - الفصول في الأصول، تأليف: أحمد بن علي الجصاص، ط: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - الكويت، تحقيق: د. عجيل جاسم، ط: الأولى - 1405 هـ. 115 - قواطع الأدلة، تأليف: أبي المظفر منصور بن محمد السمعاني، تحقيق: محمد حسن، دار الكتب العلمية - بيروت، 1997 م. 116 - قواعد الأحكام، تأليف: العز بن عبد السلام، ط: دار الكتب العلمية - بيروت. 117 - الكاشف عن المحصول في علم الأصول، تأليف: أبي عبد الله محمد بن محمود الأصفهاني، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الأولى / 1419 هـ - 1998 م. 118 - كشف الأسرار شرح المنار، تأليف: حافظ الدين النسفي، ط: دار الكتب العلمية - بيروت. (119) اللمع، تأليف: أبي إسحاق الشيرازي، ط: مصطفى البابي الحلبي - مصر، 1957 م.

120 - المجموع الذهب في قواعد المذهب، تأليف: أبي سعيد خليل بن كيكلدي العلائي، ماجستير للباحث: إبراهيم جالو، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، تحقيق الجزء المتبقي من الصحة والفساد إلى فائدة في الكلام عن الخنثى، 1414 هـ. 121 - المحصول في علم الأصول، تأليف: محمد بن عمر بن الحسين الرازي، تحقيق: طه جابر فياض العلواني، ط: جامعة الإمام محمد بن سعود - الرياض، الطبعة الأولى، 1400 هـ. 122 - المحقق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول، تأليف: أبي شامة المقدسي، ط: الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة، تحقيق: د. محمود صالح، الطبعة: الأولى/ 1432 هـ - 2011 م. 123 - مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل، تأليف: أبي عمرو عثمان بن علي ابن الحاجب، ط: دار ابن حزم - الشركة الجزائرية اللبنانية، تحقيق: د. نذير حمادو، الطبعة: الأولى/ 2000 م. 124 - المستصفى في علم الأصول، تأليف: محمد بن محمد الغزالي أبي حامد، دار الكتب العلمية - بيروت - 1413 هـ، الطبعة: الأولى، تحقيق: محمد عبد السلام. 125 - المسودة، تأليف: آل تيمية، ط: مطبعة المدني، مصر. 126 - المعالم، تأليف: فخر الدين الرازي، ط: دار عالم المعرفة، تحقيق: أحمد عوض وعادل عبد الموجود، طبعة/ 1414 هـ. 127 - المعتمد، تأليف: أبي الحسين البصر - ي، ط: المعهد العلمي الفرنسي - للدراسات العربية بدمشق، 1385 هـ. وأيضا: ط. دار الكتب العلمية - بيروت، 1983 م، تحقيق: خليل الميس. 128 - المنخول من تعليقات الأصول، تأليف: أبي حامد الغزالي، ط: دار الفكر - دمشق. 129 - منع الموانع عن جمع الجوامع، تأليف: تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي، ط: دار البشائر الإسلامية، تحقيق: د. سعيد الحميري، الطبعة: الأولى/ 1425 هـ - 1999 م. 130 - ميزان الأصول في نتائج العقول، تأليف: علاء الدين أبي بكر محمد بن أحمد السمرقندي، ط: دار التراث - مصر، 1997 م. 131 - نفائس الأصول شرح المحصول، تأليف: أحمد بن إدريس القرافي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، 2000 م. 132 - نهاية الوصول إلى علم الأصول، تأليف: صفي الدين محمد بن عبد الرحيم الأرموي

فقه وغيره

الهندي، تحقيق: د. صالح اليوسف - د. سعد بن سالم، ط: نزار مصطفى الباز، 1999 م. 133 - الوصول إلى الأصول، تأليف: أحمد بن علي بن برهان البغدادي، ط: دار المعارف - الرياض، تحقيق: عبد الحميد أبي زنيد، الطبعة: الأولى/ 1984 م. فقه وغيره 134 - الإبانة عن شريعة الفرق الناجية ومجانبة الفرق المذمومة (الإبانة الكبرى)، تأليف: عبد الله ابن محمد بن بطة العكبري، ط: دار الراية، جزء بتحقيق: رضا نعسان، الطبعة: الأولى / 1409 هـ - 1988 م. 135 - إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، تأليف: تقي الدين ابن دقيق العيد، ط: مطبعة السنة المحمدية، تحقيق: محمد الفقي - أحمد شاكر، ط: 1372 هـ - 1953 م. 136 - الاختيار لتعليل المختار، تأليف: عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي، ط: مطبعة الحلبي - القاهرة، تعليق: محمود أبو دقيقة، 1356 هـ - 1937 م. 137 - الاصطلام في الخلاف بين الإمامين الشافعي وأبي حنيفة، تأليف: أبي المظفر منصور بن محمد السمعاني، ط: دار المنار بالقاهرة، تحقيق: د. نايف نافع، الطبعة: الأولى/ 1412 هـ - 1992 م. 138 - الأم، تأليف: محمد بن إدريس الشافعي، ط: دار المعرفة - بيروت - 1393، الطبعة: الثانية. وأيضًا ط: دار الوفاء - المنصورة، تحقيق: د. رفعت فوزي، الطبعة: الأولى/ 1422 هـ. 139 - الإمام في أحاديث الأحكام، مخطوط محفوظ بالمكتبة الأزهرية (رقم: 2871، 2128). 140 - بحر المذهب، تأليف: أبي المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، تحقيق: طارق فتحي، الطبعة: الأولى/ 2009 م. 141 - التجريد، تأليف: أبي الحسين أحمد بن محمد القدوري، ط: دار السلام، تحقيق: محمد سراج - علي جمعة، الطبعة: الأولى/ 1425 هـ - 2004 م. 142 - تحرير لغات التنبيه، تأليف: أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، تحقيق: أحمد فريد، الطبعة/ 2010 م. 143 - تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج، تأليف: أبي حفص عمر بن علي بن أحمد ابن الملقن، ط: دار حراء - مكة، تحقيق: عبد الله بن سعاف، الطبعة: الأولى/ 1406 هـ.

144 - التعريفات، تأليف: علي بن محمد الجرجاني، تحقيق: إبراهيم الإبياري، ط: دار الكتاب العربي - بيروت، 1405 هـ. 145 - جامع بيان العلم وفضله، تأليف: يوسف بن عبد البر النمري، ط: دار الكتب العلمية - بيروت - 1398 هـ. 146 - الجمع والفرق، تأليف: أبي محمد عبد الله بن محمد الجويني، ط: دار الجيل، الطبعة: الأولى/ 1424 هـ. 147 - الحاوي الكبير، تأليف: علي بن محمد الماوردي، دار الكتب العلمية - بيروت، ط: الأولى/ 1419 هـ. 148 - خلاصة الأحكام في مهمات السنن وقواعد الإسلام، تأليف: يحيى بن شرف النووي، ط: مؤسسة الرسالة - بيروت، تحقيق: حسين الجمل، الطبعة: الأولى / 1418 هـ - 1997 م. 149 - روضة الطالبين وعمدة المفتين، تأليف: أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود، علي عوض، ط: دار الكتب العلمية، بيروت. 150 - شرح التلقين، تأليف: أبي عبد الله محمد بن علي المازري، ط: دار الغرب الإسلامي، تحقيق: محمد المختار السلامي، الطبعة: الأولى/ 2008 م. 151 - العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير، تأليف: أبي القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، تحقيق: علي عوض - عادل عبد الموجود، الطبعة: الأولى / 1417 هـ - 1997 م. 152 - فتاوى ابن الصلاح، تأليف: أبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوي، ط: مكتبة العلوم والحكم، عالم الكتب - بيروت، تحقيق: د. موفق عبد الله، الطبعة: الأولى/ 1407 هـ. وأيضا ط: دار المعرفة، تحقيق: د. عبد المعطي أمين، ط: الأولى/ 1406 هـ - 1986 م. 153 - مجموع الفتاوي، تأليف: الإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، جَمَعه: عبد الرحمن محمد قاسم. 154 - المجموع شرح المهذب، تأليف: أبي زكريا محي الدين بن شرف النووي، ط: مكتبة الإرشاد، تحقيق: محمد نجيب المطيعي.

التراجم والجرح والتعديل والتاريخ

155 - المحلى، تأليف: أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، ط: دار الآفاق الجديدة - بيروت، تحقيق: لجنة إحياء التراث العربي. 156 - مختصر - المزني، تأليف: أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، تحقيق: محمد عبد القادر، الطبعة: الأولى / 1419 هـ - 1998 م. وأيضا ط: دار المعرفة - بيروت، الطبعة: الثانية/ 1393 هـ. 157 - مختصر خلافيات البيهقي، تأليف: أحمد بن فرج اللخمي، ط: مكتبة الرشد - الرياض، تحقيق: د. ذياب عبد الكريم، الطبعة: الأولى / 1417 هـ - 1997 م. 158 - المستدرك على مجموع الفتاوى، تأليف: تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، ط: محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، الطبعة: الأولى/ 1418 هـ. 159 - المهذب في فقه الإمام الشافعي، تأليف: أبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي، ط: دار الفكر - بيروت. 160 - نهاية المطلب في دراية المذهب، تأليف: عبد الملك بن عبد الله الجويني، تحقيق: عبد العظيم الديب، ط: دار المنهاج، الطبعة: الأولى - 1428 هـ. 161 - الوسيط في المذهب، تأليف: أبي حامد الغزالي، تحقيق: أحمد محمود إبراهيم، محمد محمد تامر، ط: دار السلام - القاهرة، الطبعة: الأولى - 1417 هـ. التراجم والجرح والتعديل والتاريخ 162 - الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير، تأليف: الحافظ أبي عبد الله الحسين بن إبراهيم الجورقاني، ط: دار الصميعي، الطبعة الرابعة - 2002 م. 163 - الإصابة في تمييز الصحابة، تأليف: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ط: دار الجيل - بيروت، تحقيق: علي محمد، الطبعة: الأولى / 1412 هـ - 1992 م. 164 - الأعلام (قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين)، تأليف: خير الدين الزركلي، ط: دار العلم للملايين، الطبعة: الخامسة - 1985 م. 165 - إنباء الغمر بأبناء العمر، تأليف: أحمد بن حجر العسقلاتي، ط: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - مصر، تحقيق: حسن حبشي، 1998 م. 166 - الأنساب، تأليف: أبي سعيد عبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني، ط: دار

الفكر - بيروت - تحقيق: عبد الله عمر البارودي، الطبعة: الأولى -1998 م. 167 - البدر الطالع بمحاسن مَن بعد القرن السابع، تأليف: العلامة محمد بن علي الشوكاني، ط: دار المعرفة - بيروت. 168 - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، تأليف: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، ط: المكتبة العصرية - لبنان/ صيدا، تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم. 169 - تاريخ الإسلام، تأليف: شمس الدين الذهبي، ط: دار الكتاب العربي - بيروت، المحقق: عمر عبد السلام التدمري، الطبعة: الثانية / 1413 هـ - 1993 م. 170 - تاريخ بغداد، تأليف: أبي بكر الخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية - بيروت. 171 - تاريخ مدينة دمشق، تأليف: ابن عساكر أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله، ط: دار الفكر -بيروت - 1995 م، تحقيق: عمر بن غرامة. وأيضًا طبعة: دار إحياء السنة - أنقرة، تحقيق: د. محمد سعيد خطي. 172 - تقريب التهذيب، تأليف: ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محمد عوامة، ط: دار الرشد - سوريا، 1986 م. 173 - تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التاريخ والسير، تأليف: جمال الدين عبد الرحمن ابن الجوزي، ط: شركة دار الأرقم - بيروت، الطبعة: الأولى / 1997 م. 174 - تهذيب الأسماء واللغات، تأليف: أبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي، ط: إدارة الطباعة المنيرية (يطلب من: دار الكتب العلمية - بيروت). 175 - الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر، تأليف: محمد بن عبد الرحمن السخاوي، ط: دار ابن حزم، تحقيق: إبراهيم باجس، الطبعة: الأولى/ 1419 هـ - 1999 م. 176 - سير أعلام النبلاء، تأليف: أبي عبد الله الذهبي، ط: مؤسسة الرسالة - بيروت، تحقيق: شعيب الأرناؤوط والعرقسوسي، الطبعة: التاسعة - 1413 هـ. 177 - السيرة النبوية لابن هشام، تأليف: عبد الملك بن هشام بن أيوب، ط: دار الجيلى - بيروت - 1411، الطبعة: الأولى، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد. 178 - الضعفاء الكبير، تأليف: أبي جعفر محمد بن عمرو العقيلي، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي، الطبعة: الأولى / 1404 هـ - 1984 م.

179 - الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، تأليف: شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي، ط: منشورات دار مكتبة الحياة - بيروت. 180 - طبقات الشافعية الكبرى، تأليف: تاج الدين بن علي بن عبد الكافي السبكي، ط: هجر - 1413 هـ، الطبعة: الثانية، تحقيق: د. محمود الطناحي د. عبد الفتاح محمد. 181 - طبقات الحنابلة، تأليف: محمد بن أبي يعلى الفراء، ط: دار المعرفة - بيروت، تحقيق: الفقي. 182 - العواصم من القواصم، تأليف: القاضي أبي بكر بن العربي، ط: دار التراث -مصر -، تحقيق: د. عمار طالبي. 183 - الفهرست، تأليف: أبي الفرج محمد بن إسحاق النديم، ط: دار المعرفة - بيروت، 1978 م. 184 - الكامل في الضعفاء، تأليف: عبد الله بن عدي الجرجاني، تحقيق: يحيى مختار غزاوي، ط: دار الفكر - بيروت، 1988 م. 185 - الكنى والأسماء، تأليف: أبي بشر -محمد بن أحمد بن حماد الدولابي، ط: دار ابن حزم - بيروت، تحقيق: نظر محمد الفاريابي، الطبعة: الأولى/ 1421 هـ - 2000 م. 186 - لسان الميزان، تأليف: أحمد بن حجر العسقلاني، ط: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت، تحقيق: دائرة المعارف النظامية - الهند، الطبعة: الثالثة / 1406 هـ - 1986 م. 187 - المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين، تأليف: محمد بن حبان بن أبي حاتم البستي، ط: دار الوعي -حلب - 1396 هـ، ط: الأولى، تحقيق: محمود زايد. 188 - معجم الأدباء -إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، تأليف: أبي عبد الله ياقوت الحموي، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الأولى/ 1411 هـ. 189 - معجم الصحابة، تأليف: أبي الحسين عبد الباقي بن قانع، ط: مكتبة الغرباء الأثرية - المدينة المنورة، تحقيق: صلاح بن سالم، الطبعة: الأولى/ 1418 هـ. 190 - معرفة الصحابة، تأليف: أبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني، ط: دار الوطن - الرياض، الطبعة: الأولى/ 1419 هـ - 1998 م. 191 - معرفة الصحابة، تأليف: أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن مَنْدَه، ط: جامعة الإمارات العربية، تحقيق: عامر حسن، الطبعة: الأولى/ 1426 هـ - 2005 م. 192 - منازل الأئمة الأربعة، تأليف: يحيى بن إبراهيم السَّلمَاسي، ط: مكتبة الملك فهد الوطنية،

اللغة وعلومها

تحقيق: محمود بن عبد الرحمن قدح، الطبعة: الأولى/ 1422 هـ - 2002 م. 193 - مناقب الشافعي تأليف: الفخر الرازي، تحقيق: د. أحمد السقا، ط: مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة، الطبعة: الأولى - 1406 هـ. 194 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال، تأليف: شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، تحقيق: علي معوض وعادل عبد الموجود، الطبعة: الأولى/ 1995 م. 195 - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تأليف: أبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد ابن خلكان، تحقيق: إحسان عباس، ط: دار صادر - بيروت. اللغة وعلومها 196 - ألفية ابن مالك، تأليف: محمد بن عبد الله ابن مالك الطائي، ط: دار المنهاج بالرياض، تحقيق: سليمان العُيُوني. 197 - الإيضاح في شرح المفصل، تأليف: أبي عمرو عثمان بن عمر ابن الحاجب، ط: وزارة الأوقاف والشئون الدينية - العراق، تحقيق: د. موسى بناي العليلي، الطبعة: 1402 هـ - 1983 م. وأيضًا طبعة: دار سعد الدين - دمشق، الطبعة: الأولى / 1425 هـ - 2005 م. 198 - تاج العروس من جواهر القاموس، تأليف: محمد مرتضى - الحسيني الزبيدي، ط: دار الهداية، تحقيق: مجموعة من المحققين. 199 - تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، تأليف: أبي عبد الله جمال الدين محمد بن مالك، ط: دار الكتاب العربي، تحقيق: محمد بركات، الطبعة: 1387 هـ - 1967 م. 200 - تهذيب اللغة، تأليف: أبي منصور محمد بن أحمد بن طلحة الأزهري، ط: دار إحياء التراث العربي - بيروت، تحقيق: محمد عوض، الطبعة: الأولى/ 2001 م. 201 - جمهرة اللغة، تأليف: أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي، ط: دار العلم للملايين - بيروت - 1987 م، الطبعة: الأولى، تحقيق: رمزي منير بعلبكي. 202 - الخصائص، تأليف: أبي الفتح عثمان ابن جني، ط: عالم الكتب - بيروت، تحقيق: محمد علي النجار. 203 - درة الغواص في أوهام الخواص، تأليف: القاسم بن علي الحريري، ط: مؤسسة الكتب

الثقافية - بيروت، تحقيق: عرفات مطرجي، الطبعة: الأولى/ 1418 هـ - 1998 م. 204 - شرح التسهيل، تأليف: أبي عبد الله جمال الدين محمد بن مالك، ط: دار هجر، تحقيق: د. عبد الرحمن السيد ود. محمد بدوي، الطبعة: الأولى/ 1410 هـ - 1990 م. 205 - شرح الكافية الشافية، تأليف: جمال الدين ابن مالك محمد بن عبد الله، ط: دار المأمون للتراث، تحقيق: عبد المنعم هريدي. 206 - شرح جمل الزجاجي، تأليف: ابن عصفور الإشبيلي، تحقيق: د. صاحب أبو جناح. 207 - الصاحبي في فقه اللغة، تأليف: أبي الحسين أحمد بن فارس، ط: المكتبة السلفية، 1910 م. 208 - الصحاح في اللغة، تأليف: إسماعيل بن حماد الجوهري، ط: دار العلم للملايين، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة: الرابعة/ 1990 م. 209 - الفروق اللغوية، تأليف: أبي هلال الحسن بن عبد الله العسكري، ط: دار العلم والثقافة - القاهرة، تحقيق: محمد إبراهيم سليم، الطبعة: الأولى/ 1997 م. 215 - الكتاب، تأليف: أبي البشر -عمرو بن عثمان بن قنبر سيبويه، ط: دار الجيل - بيروت، تحقيق: عبد السلام هارون، الطبعة: الأولى. 211 - لسان العرب، تأليف: محمد بن مكرم بن منظور، ط: دار صادر - بيروت، الطبعة: الأولى. 212 - المحكم والمحيط الأعظم، تأليف: أبي الحسن علي بن إسماعيل بن سِيدَهْ المرسي، دار الكتب العلمية - بيروت - 2000 م، تحقيق: عبد الحميد هنداوي. 213 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، تأليف: أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي، ط: المكتبة العلمية - بيروت. 214 - المعجم الوسيط، تأليف: لجنة من كبار اللغويين بمجمع اللغة العربية، ط: دار الشروق الدولية، من إصدار: مَجْمَع اللغة العربية - مصر. 215 - مفتاح العلوم، تأليف: يوسف بن أبي بكر السكاكي، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، تحقيق: نعيم زرزور، الطبعة: الثانية/ 1407 هـ - 1987 م. 216 - المفصل في صنعة الإعراب، تأليف: أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، ط: مكتبة الهلال - بيروت، تحقيق: د. علي بو ملحم، الطبعة: الأولى/ 1993 م. 217 - مقاييس اللغة، تأليف: أبي الحسين أحمد بن فارس، ط: دار الجيل - بيروت - لبنان -

بعض كتب الشيخ الألباني

1420 هـ - 1999 م، الطبعة: الثانية، تحقيق: عبد السلام محمد هارون. بعض كتب الشيخ الألباني 218 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، تأليف: محمد ناصر الدين الألباني، ط: المكتب الإسلامي، الطبعة: الأولى/ 1399 هـ - 1979 م. 219 - تخريج أحاديث مشكلة الفقر، تأليف: محمد ناصر الدين الألباني، ط: المكتب الإسلامي - بيروت/ دمشق، الطبعة: الأولى/ 1405 هـ - 1984 م. 220 - سلسلة الأحاديث الصحيحة، تأليف: ناصر الدين الألباني، ط: مكتبة المعارف، الرياض. 221 - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، تأليف: محمد ناصر الدين الألباني، ط: مكتبة المعا رف، الرياض. 222 - صحيح ابن ماجه، تأليف: محمد ناصر الدين الألباني، ط: مكتبة المعارف - الرياض، الطبعة: الأولى / 1417 هـ - 1997 م. 223 - صحيح الأدب الفرد، تأليف: محمد ناصر الدين الألباني، ط: مكتبة الدليل، الطبعة: الرابعة / 1418 هـ - 1997 م. 224 - صحيح الجامع الصغير، تأليف: محمد ناصر الدين الألباني، ط: المكتب الإسلامي، الطبعة: الثالثة / 1408 هـ - 1988 م. 225 - صحيح السيرة النبوية، تأليف: محمد ناصر الدين الألباني، ط: المكتبة الإسلامية - عمان - الأردن، الطبعة: الأوسط. 226 - صحيح النسائي، تأليف: محمد ناصر الدين الألباني، ط: مكتبة المعارف - الرياض، الطبعة: الأولى / 1417 هـ - 1997 م. 227 - صحيح سنن أبي داود - الكتاب الكبير، تأليف: الشيخ الألباني، ط: دار غراس - الكويت، الطبعة: الأولى/ 1423 هـ - 2002 م. 228 - صحيح سنن الترمذي، تأليف: محمد ناصر الدين الألباني، ط: مكتبة المعارف - الرياض، الطبعة الأولى/ 1420 هـ - 2000 م. 229 - ضعيف أبي داود "الكتاب الأُم"، تأليف: الشيخ الألباني، ط: دار المعارف، الطبعة الأولى / 1419 هـ - 1998 م.

كتب متنوعة

230 - غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام، تأليف: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ط: المكتب الإسلامي، الطبعة: الثالثة / 1408 هـ - 1988 م. 231 - مشكاة المصابيح، تأليف: محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي، تحقيق: الألباني، ط: المكتب الإسلامي، بيروت، 1985 م. كتب متنوعة 232 - أبكار الأفكار، تأليف: سيف الدين الآمدي، ط: دار الوثائق القومية، تحقيق: أحمد محمد المهدي، الطبعة: الثانية/ 1424 هـ - 2004 م. 233 - إحياء علوم الدِّين، تأليف: أبي حامد محمد الغزالي، ط: دار المعرفة - بيروت، الطبعة الأولى / 1402 هـ - 1982 م. 234 - أدب الدنيا والدين، تأليف: علي بن محمد بن حبيب الماوردي، ط: دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الأولى / 1407 هـ - 1987 م. 235 - الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار، تأليف: الإمام النووي، ط: دار الكتب العربي - بيروت، 1404 هـ - 1984 م. 236 - أمالي ابن الحاجب، تأليف: أبي عمرو عثمان ابن الحاجب، ط: دار الجيل، تحقيق: د. فخر قدارة، 1409 هـ. 237 - التذكار في أفضل الأذكار، تأليف: أبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، ط: مكتبة دار البيان، تحقيق: بشير عيون، الطبعة: الثالثة/ 1407 هـ. 238 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، تأليف: أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، ط: دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة: الرابعة - 1405 هـ. 239 - الذريعة إلى مكارم الشريعة، تأليف: الراغب الأصفهانى أبي القاسم الحسين بن محمد، ط: دار السلام، تحقيق: د. أبو اليزيد أبو زيد، الطبعة: الأولى/ 1428 هـ - 2007 م. 240 - الشريعة، تأليف: أبي بكر محمد بن الحسين الآجري، ط: دار الوطن - الرياض، تحقيق: د. عبد الله عمر، الطبعة: الثانية/ 1420 هـ - 1999 م. 241 - الفلك الدائر على المثل السائر، تأليف: ابن أبي الحديد، ط: دار نهضة مصر - القاهرة، تحقيق: د. أحمد الحوفي، د. بدوي طبانة. مطبوع مع المثل السائر.

إضافة إلى ما حققناه من الكتب الأصولية وهى

242 - المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تأليف: ضياء الدين بن الأثير، ط: دار نهضة مصر - القاهرة، تحقيق: د. أحمد الحوفي، د. بدوي طبانة. 243 - معجم البلدان، تأليف: أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي، ط: دار الفكر - بيروت. 244 - مقامات الحريري، تأليف: أبي محمد القاسم بن علي الحريري، ط: دار الطباعة الملكية بباريس، 1822 م. إضافة إلى ما حققناه من الكتب الأصولية وهى 245 - شرح النجم الوهاج في نظم المنهاج، تأليف: أبي زرعة ولي الدين أحمد بن عبد الرحيم العراقي، تحقيق: عبد الله رمضان موسى، ط: مكتبة التوعية الإسلامية -الهرم - مصر -، الطبعة: الأولى/ 1434 هـ - 2013 م. 246 - التحرير لما في منهاج الوصول من المنقول والمعقول، تأليف: أبي زرعة ولي الدين أحمد بن عبد الرحيم العراقي، تحقيق: عبد الله رمضان موسى، ط: مكتبة التوعية الإسلامية -الهرم - مصر، الطبعة: الأولى/ 1434 هـ - 2013 م. 247 - النجم الوهاج في نظم المنهاج (ألفية للحافظ زين الدين العراقي في أصول الفقه)، ومعه: "منهاج الوصول إلى علم الأصول" للقاضي البيضاوي، تحقيق: عبد الله رمضان موسى، ط: مكتبة التوعية الإسلامية للتحقيق والنشر والبحث العلمي - الهرم - مصر -، الطبعة: الأولى / 1434 هـ - 2013 م. 248 - النبذة الزكية في القواعد الأصلية، ومعها نَظْمها: النبذة الألفية في الأصول الفقهية، كلاهما لشمس الدين محمد بن عبد الدائم البرماوي، تحقيق: عبد الله رمضان موسى، ط: مكتبة التوعية الإسلامية للتحقيق والنشر - والبحث العلمي - الهرم - مصر، الطبعة: الأولى / 1435 هـ - 2014 م.

§1/1