الفوائد الجسام على قواعد ابن عبد السلام
سراج الدين البلقيني
الفَوَائِدُ الجِسَامُ عَلى قَواعِدِ ابنِ عَبْدِ السَّلامِ لشيخ الإسلام البلقيني سراج الدين عمر بن رسلان (724 - 805 هـ) وهي فوائدُ ونكاتٌ وتنبيهاتٌ، أَملاها البَلقينيُّ عَلى قواعدِ الأحكام، للإمام العِزِّ بنِ عَبدِ السَّلام نُشر لأوَّل مرة، عَن نسخةٍ وَحيدةٍ نَسَخَها وَقَرأها عَلَى البَلقيني تلميذه / تقي الدين يحيى بن شارح البخاري شمس الدين الكرماني (762 - 833 هـ) حققه وقدم له بدراسة مفصلة د. محمد يحيى بلال منيار عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بجامعة الطائف باحثٌ سابقٌ بمعلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية تقديم / د. علي أحمد الندوي الحائز على جائزة الملك فيصل العالمية خبير أول قسم الضوابط الفقهية بمعلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية إصدارات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بتمويل الإدارة العامة للأوقاف إدارة الشؤون الإسلامية دَولَة قَطَر
بسم الله الرحمن الرحيم
الفَوَائِدُ الجِسَامُ عَلى قَواعِدِ ابنِ عَبْدِ السَّلامِ
حقوق الطبع محفوظة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الطبعة الأولى 1434 - هـ- 2013 م
[مقدمة وزارة الأوقاف القطرية]
بسم الله الرحمن الرحيم مُقَدِّمة الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فإن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر -وقد وفقها الله لأن تضرب بسهم في نشر الكتب النافعة للأمة- لَتحمد الله سبحانه وتعالى على أن ما أصدرته قد نال الرضا والقبول من أهل العلم. والمتابع لحركة النشر العلمي لا يخفى عليه جهود دولة قطر في خدمة العلوم الشرعية، ورفد المكتبة الإسلامية بنفائس الكتب القديمة والمعاصرة وذلك منذ تسعة عقود، عندما وجه الشيخ عبد الله بن قاسم آل ثاني حاكم قطر آنذاك بطباعة كتابي (الفروع) و (تصحيح الفروع)، سنة 1345 هـ، وكان المؤسس الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني رحمه الله تعالى قد سن تلك السنة من قبل. وقد جاء مشروع إحياء التراث الإسلامي والنشر العلمي الذي بدأته الوزارة في السنوات الأخيرة امتدادًا لتلك الجهود، وسيرًا على تلك المحجة التي عُرفت بها دولة قطر. ومنذ انطلاقة هذا المشروع المبارك يسَّر الله جلَّ وعلا للوزارة إخراج مجموعة من أمهات كتب العلم والدراسات المعاصرة المتميزة في فنون مختلفة، تُطبع لأول مرة، نذكر منها: • في التفسير وعلوم القرآن: أصدرت الوزارة عدة كتب، منها: (فتح الرحمن في تفسير القرآن)
للعُليمي، و (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) لابن عطية في طبعته الثانية. وفي علم رسم المصحف أصدرت الوزارة: كتاب (مرسوم المصحف) للعُقيلي، و (الدرة الصقيلة في شرح أبيات العقيلة) لأبي بكر اللبيب. وفي علم القراءات أصدرت الوزارة كتاب: (البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة) لأبي حفص النشار، و (معاني الأحرف السبعة) لأبي الفضل الرازي. • وفي السنة النبوية وشروحها: أصدرت الوزارة عدة كتب، منها: (التقاسيم والأنواع) لابن حبان، و (مطالع الأنوار) لابن قرقول، و (التوضيح شرح الجامع الصحيح) لابن الملقن، و (حاشية مسند الإمام أحمد) للسندي، وشرحين لموطأ الإمام مالك؛ لكُلٍّ من (القنازعي)، و (البوني)، و (المخلصيات) لأبي طاهر المخلص، و (شرح مسند الإمام الشافعي) للرافعي، و (نخب الأفكار شرح معاني الآثار) للعيني، و (مصابيح الجامع) للدَّمَاميني. ومما تشرفت الوزارة بإصداره في تحقيق جديد متقن: (صحيح ابن خزيمة)، و (السنن الكبرى) للإمام النسائي، والمحقّقين على عدة نسخ خطية، و (جامع الأصول في أحاديث الرسول)، و (النهاية في غريب الحديث) لابن الأثير. • وفي الفقه وما يتصل به: أصدرت الوزارة عدة كتب في المذاهب الأربعة، منها: كتاب: (الأصل) لمحمد بن الحسن الشيباني (ت 189 هـ) كاملًا محققًا على أصول عدة، و (التبصرة) للخمي، و (نهاية المطلب في دراية المذهب) للإمام الجويني
بتحقيقه المتقن للأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب رحمه الله تعالى عضو لجنة إحياء التراث الإسلامي، و (حاشية الخلوتي). كما أصدرت الوزارة: (الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف) للإمام ابن المنذر بمراجعة دقيقة للشيخ الدكتور عبد الله الفقيه عضو لجنة إحياء التراث الإسلامي، و (بقية المتتبع لحل ألفاظ روض المربع) للعوفي الصالحي، و (منحة السلوك في شرح تحفة الملوك) للعيني. • وفي السيرة النبوية: أصدرت الوزارة الموسوعة الإسنادية: (جامع الآثار في السير ومولد المختار) لابن ناصر الدين الدمشقي، وغيرها. • وفي العقيدة والتوحيد: أصدرت الوزارة كتابًا نفيسًا لطيفًا هو: (الاعتقاد الخالص من الشك والانتقاد) لابن العطار تلميذ الإمام النووي رحمهما الله تعالى، كما أعادت نشر كتاب (الرد على الجهمية) للإمام أحمد رحمه الله تعالى، وغيرها من كتب عقيدة أهل السنة والجماعة. • وفي مجال الدراسات المعاصرة المتميزة: أصدرت: (القيمة الاقتصادية للزمن)، و (نوازل الإنجاب)، و (مجموعة القره داغي الاقتصادية)، و (التعامل مع غير المسلمين في العهد النبوي)، و (صكوك الإجارة)، و (الأحكام الفقهية المتعلقة بالتدخين)، و (التورق المصرفي)، و (حاجة العلوم الإسلامية إلى اللغة العربية)، و (روايات الجامع الصحيح ونسخه دراسة نظرية تطبيقية)، وغيرها. كما قامت الوزارة بشراء وتوزيع بعض الكتب المطبوعة لما لها من أهمية، مثل: (مسند الإمام أحمد)، و (صحيح الإمام مسلم)، و (الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي، و (الجامع لشعب الإيمان) للبيهقي، و (تاريخ
الخلفاء) للسيوطي، و (التاريخ الأندلسي) لعبد الرحمن علي الحجي، و (الإقناع في مسائل الإجماع) لابن القطان الفاسي، و (شرح العقيدة الطحاوية) لابن أبي العز الحنفي، و (قواعد الأحكام في إصلاح الأنام) للعز ابن عبد السلام. ومثل: (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) لأبي الحسن الندوي، و (الرسالة المحمدية) لسليمان الندوي، وغيرها. ويسرنا اليوم أن نقدم لإصدار جديد هو كتاب (الفوائد الجسام على قواعد ابن عبد السلام) لشيخ الإسلام البُلقيني، المتوفى سنة (805 هـ)، رحمه الله تعالى، والذي قيل فيه: إنه مجدد القرن التاسع، كما في (شذرات الذهب). وهذا الكتاب جليل القدر، عظيم المنزلة، إذ أنه فوائد وتعقبات أملاها البُلقيني على كتاب (قواعد الأحكام) للعز بن عبد السلام، المتوفى سنة (660 هـ)، رحمه الله تعالى، وأهميته غير خافية على أهل العلم. ومما يميز الكتاب أن الفوائد المذكورة ليست قاصرة على علم القواعد الفقهية، بل تشتمل على نكت في فنون عدة من فنون الشريعة، مع تنوع تلك الفوائد؛ فقد تكون تعقبات أو تحريرات أو استدلالات لقول المصنف، أو غير ذلك. وتتشرف الوزارة بإخراج هذا الكتاب لأول مرة، خدمة للمشتغلين بالقواعد الفقهية خاصة، وطلبة العلم عامة. والحمد لله على توفيقه، ونسأله المزيد من فضله. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. إدارة الشؤون الإسلامية
صورة ما كتبه بخطّه شيخ الإسلام البلقيني في آخر مخطوطة هذا الكتاب (من بداية قوله: حسبنا الله ...) لوحة 62 نهاية كتاب الفوائد الجسام، ثم تبدأ كتابة للبلقيني بخطه بقراءة الناسخ هذا الكتاب عليه، مع التعريف به
لوحة 63 تكملة كتابة البلقيني بخطه عن التعريف بتلميذه ناسخ هذه النسخة، ثم في الجانب الأيسر أورد الناسخ قصيدة البلقيني عن هذا الكتاب
نص البلقيني السابق (نهاية اللوحة 62 / ب واللوحة التالية لها) (حسبنا الله ونعم الوكيل. أما بعد حمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآل سيدنا محمد والتابعين. فقد قرأ عليّ الشيخ الفاضل جمال الفضلاء والمدرسين مفيد الفاضلين تقي الدين أَبو السعادات يحيى، ابن الشيخ الإمام العالم أحد الأعيان، ومَنْ يُشار إليه في ذلك الزمان: شمس الدين أبي عبد الله محمد، ابن الشيخ المرحوم جمال الدين يوسف الكرماني، منحنا الله تعالى وإياه في الدارين الأماني، قطعة كبيرة من (الفوائد الجسام على قواعد شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام)، فبحث في ذلك وحَقَّق، وغاص على المعاني ودَقَّق. وسمع عليّ (صحيح البخاري) ثلاث مرات بفواتات مذكورة في الطبقات، و (صحيح مسلم) بفوات أيضًا، و (سنن أبي داود) كاملًا، وكتاب (دلائل النبوة) للبيهقي بفوات مجلس واحد، وغير ذلك من الأربعين المخرّجة لي. وسمع من التفسير من (النهر) تصنيف شيخنا أثير الدين أبي حيان بقراءة الشيخ المرحوم نجم الدين الباهي الحنبلي. وحضر مجالس الإفتاء كثيرًا، وكم كَتَب في ذلك صغيرًا وكبيرًا، وأورد الأسئلة الحسان، فبان بذلك أنه من الأعيان. وقد أجزتُ له أن يروي عني جميع مصنفاتي، وما لي من إملاء،
وتأليف، ومنظوم ومنثور، وأن يفيد الطالبين، ويجيب السائلين بما ظهر من الأمر المستبين، ويراعي في ذلك كله الأمر المبين. ووصَّيتُه بتقوى الله وطاعته ومراقبته في سرّه وعلانيته، فإن من سَلَك السراط المستقيم، نجا، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]. وقد كَتَب من أجوبتي على الفتاوى جملةً صالحة. جعلنا الله وإياه ممن تكون بضاعته في الدارين رابحة. وحَضَر مجالس الوعظ، وكَتَب معها مجالس كثيرة، وقد قرأ منها ومن غيرها فوائد غزيرة. والله تعالى يحقق رجانا، ويجيب دُعانا، ويدفع عنا الأعدا، في جميع الأَبَدَا، ويجمع شملنا في الدارين بالمقصود، وأن يجعلنا من أهل الشهود، وأن يسلّمنا في الدنيا والآخرة، ويُسبغ علينا من نعمه الفاخرة. آمين. والحمد لله رب العالمين. اللهم صلِّ وسلِّم على سيدنا محمد وآل سيدنا محمد والتابعين، واجعلْنا -اللهُ تعالى- ممن صحِبتْهم في الأحوال السلامة، واكفنا شر الندامة، واجعلنا من الناجين في يوم القيامة. آمين. والحمد لله رب العالمين. قال ذلك، وكتبه الفقير إلى عفو ربه، عمر البلقيني، حامدًا ومصلِّيًا ومسلِّمًا. ومولدي ليلة الجمعة ثاني عشر شعبان المكرّم، سنة أربع وعشرين وسبع مئة. * * *
تقديم بقلم الأستاذ الجليل الدكتور علي أحمد الندوي
تقديم بقلم الأستاذ الجليل الدكتور علي أحمد الندوي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله النبي الكريم، سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذا الكتاب المسمى بـ (الفوائد الجسام على قواعد الأحكام) قد أملاه الإمام سراج الدين البلقيني على تلاميذه، وهو عبارة عن تعليقات سنحت بخاطره أثناء تدريسه، وقَصَد منها إتمامَ فائدة، أو توضيحَ مقصود، أو تنقيحَ رأي، أو إضافة قيد، في مناسبات مختلفة من الكتاب الجليل الذي ألّفه سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام. وبهذا يمثل هذا الكتاب نموذجًا فريدًا لاجتهادات إمامين في فهم بعض القضايا المتصلة بالتأصيل الفقهي. ومن المعهود المألوف في مجال العلم: وجودُ شروح أو تعليقات على متونٍ وكتبٍ، وذلك لكشف غامضٍ أو استدراك أمرٍ في الغالب، ولكن قلّما يتوافر عنصر القيمة المعنوية كما صادف ذلك في هذا الكتاب بمشاركة إمامين في مرتبة متقاربة؛ فكل منهما له علوُّ كعب، وشخصية متميزة، ومكانة اجتماعية في عصره. وإذا كان الإمام العز اشتهر بلقب (سلطان العلماء)، فالبلقيني عُرف بلقب (شيخ الإسلام) في عصره. ومن الجدير بأن أسجل كلمة ابن خلدون في شأنه، إذ يقول في معرض حديثه عن تاريخ الفقه:
(ثم انقرض فقه أهل السنة والجماعة من مصر بظهور دولة الرافضة، وتداول بها فقه أهل البيت ... ، إلى أن ذهبت دولة العبيديين من الرافضة ... ، فذهب منها فقه أهل البيت، وعاد فقه الجماعة إلى الظهور بينهم، ورجع إليهم فقهُ الشافعي ... فعاد إلى أحسن ما كان، ونَفَقَتْ سوقه ... ، إلى أن انتهى ذلك إلى شيخ الإسلام بمصر لهذا العهد، وهو سراج الدين البلقيني؛ فهو اليوم كبير الشافعية بمصر، لا، بل كبيرُ العلماء من أهل العصر) (¬1). وبهذا يكتسب هذا الكتاب أهمية بالغة؛ إذ هذه المزية المشار إليها في حد ذاتها، كَسَتْه حُلّةَ عزٍّ، وتَوَّجَتْه وسامَ شرفٍ، بغضّ النظر عن فحوى التعليقات وأهميتها العلمية. وقبل أن أنوِّه بما يتصل بـ (قواعد الأحكام) للإمام العز، وفوائد الإمام البلقيني، أود الإشارة إلى أن صلتي بهذا الكتاب (الفوائد الجسام للبلقيني) تعود إلى أبعد من ربع قرن، وذلك حين زيارتي المكتبة السليمانية بإصطنبول، فوقفتُ هناك على هذا الكتاب (الفوائد الجسام)، وتصفحتُه حينئذ تصفحًا عابرًا، وبقي في نفسي لهفٌ لمزيد من الغوص فيه، ثم مع تمادي الزمن أصبح التفكير فيه نسيًا منسيًا. ولكن قَدَّر اللهُ عزَّ وجلَّ أن ألتقي بالأخ الكريم الشيخ منصور العتيقي بالكويت، وذلك قبل سنوات، بمناسبة حضوري دورة مجمع الفقه الإسلامي الدولي، فإذا هو يزوّدني بنسخة مصورة من الكتاب مع رجاء وحفز إلى تحقيقه، وكان بي حَفِيًّا؛ ثم بفضل الله تعالى تحقق أخيرًا ما كنا نطمح ونصبو إليه على يد أخينا الدكتور الشيخ يحيى بلال، فهذا الكتاب المطبوع المحقق ثمرةُ جهده. ¬
وفي هذا العصر الذي شهد نهضةَ تأليف وتحقيق في الحقل المعرفي المتصل بالتقعيد الفقهي، يخرج هذا الكتاب إلى النور، فيثرى به رصيد العلم في هذا التخصص البارز. وعسى أن لا يكون من نافلة القول أن أُشيد بأصل الكتاب (قواعد الأحكام) بلفت الأنظار إلى أنه على الرغم من وفرة المؤلفات في موضوع القواعد، لا يكاد يوجد كتاب آخر يضارعه في كثير من مضامينه، وهو ينخرط في سِلك الكتب الأصيلة المبتكرة المتميزة برصانتها العلمية، وقد صاغه الفقيه المفكر العالم الرباني الإمام عز الدين بن عبد السلام، وناهيك به علمًا وفضلًا. هذا وأما التعليق عليه من قِبل الإمام البلقيني فهو لا يغضّ من مقام الأصل، بل يرفعه قدرًا بما فيه من توجيهات وتنبيهات. على أنه ليس بحتم أن يُسلَّم له كلُّ ما اقتَرَحه وأَورَدَه. وفي الواقع بذل المحقق الفاضل الدكتور يحيى بلال جهدًا كبيرًا في إبراز نماذج منتقاة من التعليقات، تُنوِّر بصيرة القارئ في معرفة طبيعة الكتاب. وربما عَكَّر صفوَ الكتاب ما اعتراه من غموض وتعقيد في مواضع منه؛ إذ الإملاءُ قد يفوته الصقل والتهذيب، وقد يكون الالتباس واقعًا من الناسخ، أو راجعًا لسبب آخر. وأسأل الله تعالى أن يتقبل هذا العمل، ويُثقل به موازين المؤلف والمحقق. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. كتبه علي أحمد الندوي يوم الجمعة 14/ 8 / 1432 هـ
مقدمة التحقيق يسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله الكريم سيدنا محمد وآل سيدنا محمد وصحبه والتابعين. وبعد، فإن (علم القواعد الفقهية) منذ أن برز في الحقبة الأخيرة على الساحة العلمية، إذ به يأخذ بمجامع القلوب، لِما فيه من صقل ملكة الفقه، وتدريبِ مداركه، وتفتيقِ آفاقه في الربط بين الصيغ القواعدية التي وصل إليها الفقهاء وبين الفروع الفقهية المخرّجة عليها، المنبثة في بطون ما لا يُحصى من الكتب. ومن هنا هفَتْ أنظار الدارسين إلى هذا العلم، وخصوصًا ممن كانوا في مراحل الدراسات العليا الجامعية (الماجستير والدكتوراه)، فنشطوا في العناية به من جوانب متعددة. ومن بين تلك الجوانب: الإقبال على تحقيق الكتب المؤلفة فيه التي كانت ما تزال قابعة في خزائن المخطوطات، فأدى ذلك إلى ازدهار حركة النشر لتلك الكتب حتى صار الواحد يرى الآن أمام عينيه ثروة طيبة من تلك الذخائر النفيسة المؤلفة في هذا العلم، قد خرجتْ مطبوعةً -في جملتها- بأحسن حُلّةٍ وإتقانٍ وعنايةٍ. ولكن بقيتْ من بين تلك الكتب، روائعُ ونوادرُ، كانت ما تزال تنتظر من يزيح عنها الأستار ويَعتني بإخراجها لروّاد العلم وأهله، ومنها هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ: (الفوائد الجسام على قواعد ابن عبد السلام)
للبلقيني، فإنه يُعدّ أحد تلك الروائع التي لها صلة بعلم (القواعد الفقهية)، وكان ما يزال بعيدًا عن الأنظار طوال هذا الوقت، فقُدِّر له أن يخرج إلى عالم المطبوعات في هذا الحين بتوفيق الله تعالى وفضله. إن مما يكشف عن قيمة كتاب (الفوائد الجسام) أنه تعليق على أحد أساطين الكتب القواعدية، وهو (قواعد الأحكام) لعبقري زمانه النابغة الفذ سلطان العلماء الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى، وجزاه عن العلم وأهله خير الجزاء. إن كتاب (قواعد الأحكام)، من الكتب الذهبية -في علم القواعد الفقهية- الممتعة المشبعة التي تأخذ بالألباب، والتي لم يُنسج على منوالها كتابٌ غيرُه في هذا العلم فـ (قد شاع اسمه كأنه عَلَمٌ في رأسه نارٌ، وجاء هذا الكتاب على وفق مطلوبه، كاملًا في أسلوبه، شاملًا للفضل بعيدِه وقريبِه) كما يقوله التاج السبكي عنه (¬1). وهو وإن اشتهر بأنه من كتب القواعد الفقهية، إلا أنه يعتبر أيضًا من كتب (قواعد المقاصد)، ويمكن أن يقال بتدقيق أكثر: إنه من كتب (تأصيل قواعد المقاصد) (¬2). ثم إنه ليس خاصًّا محصورًا في دائرة (القواعد الفقهية) أو (القواعد المقاصدية) كما قد يُظن به من خلال عنوانه، وإنما يشمل أنواعًا من التقعيد والتأصيل المتعلق بالأحكام الشرعية، فمثلًا يشتمل على: - قواعد شرعية عامة كبرى، مثل: (قاعدة النية)، و (قاعدة المصالح والمفاسد)، و (قاعدة حقائق التصرفات)، و (قاعدة ألفاظ التصرفات)، و (قاعدة الحقوق) ونحو ذلك من القواعد الكبرى العامة. ¬
- ومباحث لقواعد أصولية. -كما نجد فيه ضبطًا لبعض التقاسيم الشرعية. - وكذلك ضبطًا لبعض ما يتعلق بالترغيب والترهيب والرقائق، وغير ذلك من الجوانب القواعدية. . . وهكذا، فإن الكتاب يدور في مجمله في فلك (التقعيد والتأصيل) لكن من نواح وجوانب مختلفة، وربما لا تظهر بادئ ذي بدء هذه الجوانب التقعيدية المختلفة في الكتاب من خلال نظرةٍ عابرةٍ فيه؛ لأن مؤلفه الشيخ ابن عبد السلام لم يمشِ فيه على نمط تقليدي معيّن في ترتيب وتبويب وعرض مباحث القواعد التي تناولها، وإنما أَرسَل -رحمه اللهُ- سجيته حسبما فتح الله عليه من العلوم والمعارف المتعلقة بموضوع التقعيد. وبالجملة فهو كتابٌ موهوبٌ في التقعيد والتأصيل في جوانب مختلفة من العلوم الشرعية، خاصة فيما يتعلق بالمقصد الأسمى للشريعة، وهو إصلاحُ الأنام أو مراعاة مصالحهم (¬1). هذا ومما يكفي كتابَ (قواعد الأحكام) فخرًا وذكرًا، أنه كان يُعدّ -في نفس عصر مؤلفه- أحدَ الكتب التي اعتُبرت مرجعًا رئيسيًّا في بابها، لِما وصلت إليه من الذروة والسمو العلمي في موضوعاتها مع الندرة والابتكار (¬2). هذا الكتاب الرفيع الراقي، لم يكن من السهل أن يُدرك أحدٌ أنه يحتاج -في مواضع منه- إلى تعليق وتعقيب عليه إلا أن يتفطن لذلك شخص ضليع راسخ في العلم، بحيث ينفذ بثاقب نظره إلى المواضع التي تحتاج فيه إلى تحرير وتعليق، فيتمكن من إبداء ما حولها من النظر السديد بكل جدارةٍ ودقةٍ ¬
نظرٍ وإنصافٍ، مع الاحتفاظ بالتقدير والإجلال التام لصاحب الكتاب الأصل. فكان هذا العمل من نصيب شيخ الإسلام البلقيني المعروف بجلالة قدره الذي يعدّ (مفخرة القرن التاسع في الجمع بين علوم التفسير والحديث والأصول والفقه) (¬1)، بل إنه لُقّب بكونه من المجدّدين على رأس القرن التاسع (¬2)، فرأى هذا الشيخ أثناء قراءة كتاب (قواعد الأحكام) عليه، أن فيه مواضع تحتاج إلى نظر، فكان يُملي أثناء تلك القراءة ما يتبدى له من الفوائد والتعقيبات والنكات حول تلك المواضع، وكان أحدُ تلامذته في هذا الدرس -وهو تقي الدين يحيى بن محمد بن يوسف الكرماني (وهو ابن الكرماني المشهور شارح صحيح البخاري) - يقيّد ما يتلقاه شفهيًّا من شيخه البلقيني من هذه التعليقات، وهي التي جُمعت في هذا الكتاب المسمى بـ (الفوائد الجسام على قواعد ابن عبد السلام). والخلاصة أن هذا الكتاب (الفوائد الجسام) يكمُن جوهرُه وندرته العلمية، في أنه مساجلة علمية بين إمامين جليلين اجتمع أهل الشان على أنهما قد بلغا من المجد العلمي غايته ورفعته في عصرهما، وهما: سلطان العلماء العز بن عبد السلام، وشيخ الإسلام سراج الدين البلقيني رحمهما الله تعالى. وهي مساجلة علمية تتعلق بكتاب (قواعد الأحكام) الذي يُعدّ في حد ذاته أيضًا من الأصالة والجودة والابتكار العلمي فيما احتواه، بحيث ربما لا يضاهيه كتابٌ آخر في نفس موضوعه. وبهذا يمكن أن يقال: إن كتاب (الفوائد الجسام) يتبطن في داخله ثلاثة جوانب من الرفعة في آن واحد، وهي: ¬
1 - أنه تعليقٌ من عالمٍ جليلٍ مثل شيخ الإسلام البلقيني. 2 - وهو تعليقٌ على كلامِ عالمٍ عبقريٍّ مثل سلطان العلماء العز بن عبد السلام. 3 - وهو تعليقٌ حول كتابٍ فَذٍّ في بابه، ألا وهو كتاب (قواعد الأحكام) للشيخ ابن عبد السلام. وفيما يلي دراسة مفصلة عن هذا الكتاب، مع التعريف بمنهج خدمته وتحقيقه، وذلك في أربعة مباحث، على النحو التالي: المبحث الأول: التعريف بكتاب (الفوائد الجسام). المبحث الثاني: التعريف بابن عبد السلام، والبلقيني، والناسخ يحيى الكرماني. المبحث الثالث: وصف المخطوط. المبحث الرابع: عملي في خدمة الكتاب. وأسأل الله تعالى أن يتقبل هذا العمل، وأن يرزقنا به العلمَ النافع، والعملَ الصالح، وأن يجزيَ خيرَ الجزاء كلَّ من كان سببًا، أو مَدَّ يد العون والمساعدة بوقته وجهده في إخراج هذا الكتاب النادر. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، - صلى الله عليه وسلم -، وعلى آله وصحبه وأهل بيته أجمعين، والحمد لله رب العالمين. انتهيتُ من النظر فيه ليلة عرفة المباركة من عام 1432 هـ الموافق لنوفمبر من عام 2011 م كتبه محمد يحيى بلال منيار مكة المكرمة
القسم الدراسي وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: التعريف بكتاب (الفوائد الجسام). المبحث الثاني: التعريف بابن عبد السلام، والبلقيني، والناسخ يحيى الكرماني. المبحث الثالث: وصف المخطوط. المبحث الرابع: عملي في خدمة الكتاب. * * *
مقدمة التحقيق
المبحث الأول التعريف بكتاب (الفوائد الجسام) أولًا: تسمية الكتاب: نصَّ البلقيني نفسه على اسم كتابه هذا، في مقدمته للكتاب، حيث يقول: (فهذه فوائد جسام)، أمليتُها على (قواعد الشيخ الإمام عبد العزيز بن عبد السلام)، لمّا قُرئت عليّ من أوّلها إلى آخرها، وأبنتُ فيها التحقيق في مواردها ومصادرها. وسمّيتُها: (الفوائد الجسام على قواعد ابن عبد السلام)). وهكذا جاء الاسم أيضًا في صفحة الغلاف من المخطوط بخط تلميذ البلقيني ناسخ هذه النسخة وقارئها عليه (وهو تقي الدين يحيى الكرماني). ونصّ السخاوي في (الضوء اللامع) على هذا الاسم نفسه (الفوائد الجسام على قواعد ابن عبد السلام)، كما يأتي بعد قليل تحت عنوان (توثيق نسبة الكتاب). فهذه أدلة كافية في إثبات اسم الكتاب (¬1). ثانيًا: توثيق نسبة الكتاب للبلقيني: نص السخاوي في (الضوء اللامع) على نسبة هذا الكتاب بهذا الاسم للبلقيني، وقد ذَكَر ذلك في ترجمة ناسخ الكتاب نفسه (تقي الدين يحيى ¬
ثالثا: توثيق مضمون الكتاب للبلقيني
الكرماني) حيث أَثبَت له تتلمذه على البلقيني، وأنه قرأ هذا الكتاب على شيخه البلقيني. يقول السخاوي في ترجمة الناسخ: (يحيى بن محمد بن يوسف الكرماني ثم القاهري الشافعي ... ، وُلد في رجب سنة اثنتين وستين وسبعمئة بدرب شهدة الكاتبة من بغداد ... ، وقدم القاهرة على رأس القرن، فنزل تحت نظر السراج البلقيني في جامع الحاكم، ولازمه في قراءة (الفوائد الجسام على قواعد ابن عبد السلام) وغيرها. . .) (¬1). ثالثًا: توثيق مضمون الكتاب للبلقيني: إن الفقرة السابقة وهي (توثيق نسبة الكتاب للبلقيني) تتعلق بمجرد إثبات نسبة الكتاب للبلقيني، وأنه من تأليفه وليس من تأليف غيره. أما هذه الفقرة (توثيق مضمون الكتاب للبلقيني) فالمراد بها أن ما جاء من المضمون والمحتوى داخل الكتاب، هو من كلام البلقيني أيضًا، وذلك يُطَمْئِن القارئ أن الكتاب باسمه وفحواه موثوق النسبة للبلقيني. وقد تيسر الوقوف -أثناء خدمة الكتاب على بعض ما جاء فيه من كلام البلقيني، معزوًا إليه لدى بعض علماء الشافعية (وإن لم يُصرِّحوا بالعزو إلى هذا الكتاب نفسه)، مما يكفي في الجملة لتوثيق مضمون هذا الكتاب للبلقيني. فمن ذلك مثلًا: ما جاء في النص رقم 412 من هذا الكتاب: نقل البلقيني قول الشيخ ابن عبد السلام: (قَدَّ ملفوفًا بنصفين). ثم قال معلِّقًا عليه: ¬
رابعا: طبيعة الكتاب
(يقال: محل ما ذكره، ما إذا كان الملفوف قد عُهدت له حياةٌ في الدنيا. فأما لو قَدَّ ملفوفًا وُلد ولم يُعرف حياته، فالمصدَّق: الجاني قطعًا لأنه ليس معنا أصلٌ مستصحب حتى نقول: الأصل بقاء الحياة، فنصدِّق الولي بسبب ذلك على قول) انتهى كلام البلقيني. هذا المضمون عزاه الشربيني في (مغني المحتاج) 4: 38 إلى البلقيني بدون أن يعزوه إلى هذا الكتاب أو كتابٍ آخر من كتبه، ولا يضر ذلك، فإن المقصود هنا: أن مجرد عزو هذا المضمون إلى البلقيني يفيد في توثيق نسبته إليه من حيث الأصل، فيثبت به توثيق إجمالي لمحتوى هذا الكتاب إلى البلقيني. ومثال آخر: نقل البلقيني (في النص رقم 372 من هذا الكتاب) نصًّا للشيخ ابن عبد السلام يتعلق بـ (نكول المدّعي عن اليمين المردودة). ثم علّق البلقيني تعليقًا طويلًا عليه. ومضمون هذا التعليق، نقله الشهاب الرملي في (حاشيته على شرح روض الطالب) 4: 405 معزوًا للبلقيني، ولم يعزه أيضًا إلى هذا الكتاب أو غيره من كتب البلقيني، كما سبق نظيره في المثال المتقدم. وعلى غرار ما قيل هناك، يقال هنا أيضًا: إن هذا المثال مؤكدٌ آخر يفيد في توثيق نسبة أصل مضمون ومحتوى هذا الكتاب (الفوائد الجسام) للبلقيني، باعتبار أن مضامينه معزوة للبلقيني لدى علماء الشافعية. رابعًا: طبيعة الكتاب: هذا الكتاب ليس شرحًا من البلقيني لكتاب (قواعد الأحكام)، بل هو تعليقات على نصوصه حسب ما بدت الحاجة إلى تلك التعليقات (¬1). ¬
وعلى هذا، فالكتاب أشبه بما يسمى بالحواشي، ولهذا سَمَّى ناسخ المخطوط -في موضع من الكتاب- إحدى تعليقات البلقيني باسم (الحاشية) (¬1). ثم إن تلك التعليقات صدرت من البلقيني في صورة (أمالٍ) ألقاها حين قُرئ عليه كتاب (قواعد الأحكام)، فكان يُعلِّق ويُملي أثناء تلك القراءة ما يبدو له من التوضيحات أو التعقيبات أو المناقشات أو النكات أو الفوائد، في المواضع التي يرى أنها بحاجة إلى ذلك (¬2). ومما يدل على أن هذا الكتاب (أمالٍ) للبلقيني، أن هناك عبارة تتردّد في الكتاب بكثرة مضمّنةً بكلمة (شيخنا)، مثل: (قال شيخنا) أو (اختار شيخنا) أو (عند شيخنا) أو (خرّج شيخنا) أو (حجة شيخنا) أو (أنكر شيخنا) ونحو ذلك من العبارات التي تأتي مقترنة بكلمة (شيخنا) هذه. وكانت مثل هذه العبارات محيِّرة في بداية الأمر، لأنها تأتي في كلام البلقيني مربوطة في نفس السياق بحيث تبدو كأنها من كلام البلقيني، فكانت تثير غموضًا واستشكالًا عجيبًا، إذ مَنْ سيكون هذا (الشيخ) الذي يشير إليه البلقيني بكلمة (شيخنا)؟ وقد تبيّن جواب هذا الإشكال فيما بعدُ، وهو أن قائل هذه العبارات ليس هو البلقيني حتى يُستشكل المراد بمن يكون شيخه هذا؟ بل قائلُها هو ¬
خامسا: أسلوب الكتاب
ناسخ الكتاب، وهو تلميذ البلقيني، فيريد هذا الناسخ بكلمة (شيخنا): شيخه البلقيني الذي كان يُملي هذه التعليقات. وهذا ما يستفاد مما جاء في آخر المخطوط، حيث يقول هناك ناسخ المخطوط تلميذ البلقيني: (نجز تحرير هذه المسائل المُورَدة على قواعد الشيخ الإمام شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام، مما أملاه سيدنا وشيخنا شيخ الإسلام. . . عمر البلقيني. . .، على يد العبد الفقير يحيى بن محمد الكرماني. . .). فإذًا هي فوائد وتعليقات أملاها البلقيني -وليست من تأليفه-، وكان الناسخ (وهو تلميذه) يُقيِّد تلك الأمالي عنه، فكان يُحيلها وينسُبها إليه -في مواضع كثيرة- بقوله (قال شيخنا) مع الدعاء له في بعض المواضع بما سبقت الإشارة إليه. والخلاصة أن المقصود بكل ما سبق هو توجيه نظر القارئ الكريم إلى أن الكتاب (أمالٍ شفهية) للبلقيني، وليس (تأليفًا كتابيًّا) له. خامسًا: أسلوب الكتاب: ينتج عما سبق، من كون الكتاب (أمالي)، أنه لا يكون بمثابة (الكتاب التأليفي) في الأسلوب، بل سيكون مختلفًا بطبيعة الحال عنه؛ لأن المُملي حين يُملي شيئًا، يرتجل الكلام في الغالب، فقد تأتي كلمات غامضة في أثناء كلامه، أو كلمات تُستعمل في الأسلوب الدارج دون الأسلوب الكتابي، أو لا يكون الكلام متّسقًا أحيانًا مع الأساليب المتّبعة للكتابة -لأن المُملي ليس بصدد التدقيق والتفكير في كل كلمة يقولها لتكون موافقة لقواعد العربية، بل إنه يُرسل الكلام على السجية-، وهكذا أمور أخرى تجعل أسلوب العالم في إملائه مختلفًا في الجملة عن أسلوبه في الكتاب التأليفي؛ هذا فضلًا عن احتمال الخطأ من الناسخ المستملي في أثناء التدوين والتحرير.
ومما يتصل أيضًا باختلاف أسلوب الإملاء عن أسلوب التأليف -وتُلحظ آثاره في هذا الكتاب- أن المُملي قد يُلقي الكلام في صورة إشارات مختزلة سريعة، وهي إشارات مفهومة وواضحة لدى السامع المتلقِّي لها، لأن هذا السامع مستحضر لسياق الكلام (أو كما يقال: إنه يعيش مع المُملي في ذلك الجوّ الذي يُلقَى فيه الكلام) فالسامع الحاضر أمام المُملي يُدرك مراده مباشرة بدون عناء، بخلاف قارئ الكتاب الذي يأتي فيما بعدُ، فإنه بعيد عن ذلك الجوّ الذي أُلقي فيه هذا الكلام، فقد يصعب عليه فهم تلك الإشارات. وهناك إشكالات أخرى قد تعترض القراء الكرام في أسلوب الكتاب، وصعوبة فهمه في بعض المواضع، وليست تلك الإشكالات ناتجة إلا بسبب هذا (الأسلوب الإملائي) نفسه الذي صدر عليه الكتاب من صاحبه، فلا بد أن يتنبه القارئ لهذه (الطبيعة الإملائية) في هذا الكتاب، ويستحضرها إذا ما وَجَد شيئًا من هذا القبيل في الكتاب. ولا بأس من ضرب أمثلة لتوضيح ما سبق؛ ليأخذ القارئ فكرة عن طبيعة الكتاب قبل الدخول فيه. أ- فمن ذلك: النص رقم 470 من كلام الشيخ ابن عبد السلام، أورده البلقيني هكذا: (قوله (¬1) وأما ما يتقدم أحكامه على أسبابه فله أمثلة، فذكر تلف المبيع قبل القبض يفسخ بالتلف قبيل التلف وبقتل الخطأ كونه موجبًا للدية، وهي موروثة عنه بغير تملكها قبل الثالث إذا قال لغيره أعتق عبدك عني فأعتقه، فإنه يملكه قبيل الإعتاق الرابع إذا حكمنا بزوال ملك البائع في مدة الخيار فأعتق المشتري العبد المبيع فإنه يملكه بالإعتاق ملكًا مقدمًا على الإعتاق). انتهى. هكذا ساق البلقيني كلام العز بن عبد السلام، وقد أحببتُ أن أَضعه أمام ¬
القارئ كما جاء في المخطوط -صورة طبق الأصل-، ليَرَى القارئ في مثل هذا النص وطريقةِ إيراد البلقيني له، نموذجًا لِما أشرتُ إليه قبل قليل أن المُملي يُورد الكلام أحيانًا في صورة إشارات مختزلة تكون مفهومة لدى السامع الحاضر عندئذٍ، بخلاف القارئ الذي يأتي فيما بعدُ، فإنه يصعب عليه فهم تلك الإشارات إلا إذا رجع إلى أصل الكتاب. ففي هذه الفقرة، نرى أن الغموض يكتنف هذا النص بسبب كون البلقيني ساقه على الطريقة الإملائية. ولو كان ساقه كما أورده العز بن عبد السلام في أصل كتابه، لَمَا حصل هذا الغموض، فإن كلام الشيخ هناك واضح تماما فيما يتعلق بهذا النص. ولْنأتِ إلى توضيح هذا النص وفكّ غموضه، وهو أن البلقيني يريد أن يقول: (إن ما يتقدم أحكامه على أسبابه، له أمثلة، ذكرها الشيخ ابن عبد السلام، وهي: المثال الأول: (تلف المبيع قبل القبض)، وقال فيه: يُفسخ (أي: البيع) بالتلف قبيل التلف. المثال الثاني: مثّله الشيخ ابن عبد السلام بـ (قتل الخطأ) وذكر فيه أنه موجبٌ للدية وأنها موروثة عنه بغير تملّكها قبلُ. المثال الثالث: إذا قال لغيره: أَعتِقْ عبدك عني. فأعتَقه، فإنه يملكه قبيل الإعتاق. المثال الرابع: إذا حكمنا بزوال ملك البائع في مدة الخيار، فأعتَق المشتري العبد المبيع، فإنه يملكه بالإعتاق ملكًا مقدّمًا على الإعتاق). والآن أضع النص نفسه منسَّقًا بالتفقير وعلامات الترقيم، للمقارنة بينه وبين الصورة السابقة التي جاء عليها في أصل المخطوط؛ ليُعرف الجهد
المبذول في خدمة مثل هذه النصوص، وتقديمِها للقارئ بطريقة واضحة ميسّرة، وإليك النص منسَّقًا: (قوله: (وأما ما يتقدم أحكامه على أسبابه، فله أمثلة. فذَكَر: (تلف المبيع قبل القبض): يُفسخ بالتلف قبيل التلف (¬1). وبـ (قتل الخطأ): كونه موجبا للدية، وهي موروثة عنه بغير تملّكها قبلُ (¬2). الثالث: إذا قال لغيره: أَعتِقْ عبدك عني. فأعتَقه، فمانه يملكه قبيل الإعتاق. الرابع: إذا حكمنا بزوال ملك البائع في مدة الخيار، فأعتَق المشتري العبد المبيع، فإنه يملكه بالإعتاق ملكًا مقدّمًا على الإعتاق). انتهى. ب- مثال آخر: ومن أمثلة اختلاف أسلوب التأليف الإملائي عن التأليف الكتابي، ما قد يحدث فيه من التسامحات في مجيء الكلام على خلاف القواعد النحوية، كما جاء في قوله: (أن لحرمان الأجير ضررٌ بيّن). (النص رقم 528). فهكذا جاء الكلام برفع كلمة (ضررٌ بيّن) بالرفع، ومقتضى القاعدة النحوية أن يقال: (أن لحرمان الأجير ضررًا بيّنًا) كما هو معلوم. وربما يكون حصل هذا التسامح من الناسخ، فسرعةُ الكتابة لدى الإملاء قد لا تسمح المجال للتقيد بقواعد العربية أثناء الكتابة، وربما لا تتسنى فرصة المراجعة لاحقًا، فيبقى الكلام المكتوب كما هو. ¬
سادسا: منهح الكتاب
ج- مثال ثالث: ومن الأمثلة التي جاءت على أسلوب الأمالي في هذا الكتاب: أن البلقيني قد يعلّق على شيء من كلام الشيخ ابن عبد السلام، ثم ينتقل عنه إلى فقرة أخرى ويبدأ التعليق عليها بدون واوٍ استئنافية، بل يبدو في هذه الحالة وكأنه قطع كلامه السابق؛ لأنه انتهى مما يريده من التعليق عليه، وانتقل إلى ما بعده من الكلام مباشرة بدون داعٍ إلى واوٍ استئنافية (كما يحدث مثل ذلك أيضًا في أثناء الكلام الشفهي) (¬1). سادسًا: منهح الكتاب: 1 - المنهج العام الذي سار عليه البلقيني في الكتاب: 1 - يسوق البلقيني أولًا نص كلام الشيخ ابن عبد السلام من كتابه (قواعد الأحكام) بالمقدار الذي يرى أنه بحاجة للتعليق عليه بما يريده، فإذا انتهى من النقل، بدأ في التعليق عليه بقوله: (يقال عليه). هكذا سار البلقيني في منهجه العام في نقل نصوص كلام الشيخ ابن عبد السلام، ثم في التعليق عليها (¬2). 2 - لا يطيل البلقيني الكلام في تعقباته وتعليقاته على كلام الشيخ ابن عبد السلام، وإنما يأتي عادةً بكلام موجز مقنع. 3 - امتاز منهج البلقيني في نقله نصوص كلام الشيخ ابن عبد السلام، أنه حَرَص على ذكر عناوين فصول تلك النصوص حسب ما جاءت عند الشيخ ابن عبد السلام في كتابه (قواعد الأحكام)، فيقول البلقيني مثلًا: ¬
- (قوله في الفصل المعقود لِما تُعرف به المصالح والمفاسد) (النص رقم 4)، ثم ينقل نص كلام الشيخ. - (قوله في الفصل المعقود لتقسيم أكساب العباد) (النص رقم 5). - (قوله في الفصل المعقود عليه لبيان ما رُتِّب على الطاعات والمخالفات) (النص رقم 8). وهكذا يفعل في بقية النصوص، حيث يصرِّح فيها بعناوين فصولها التي جاءت في كتاب (قواعد الأحكام). 4 - وقد يحدّد البلقيني موضع النص من (الفصل)، كأن يكون في أول الفصل أو في موضع كذا من الفصل، كما في الأمثلة الآتية: - (قوله أول الفصل المعقود لبيان حقيقة المصالح والمفاسد) (النص رقم 6). - (قوله في الفصل المعقود عليه للوسائل إلى المصالح) (النص رقم 134) ثم قال بعده: (قوله في الفصل المذكور في أثناء القسم الثاني: ما هو وسيلة إلى وسيلة). (النص رقم 135). - (قوله في القاعدة التي لبيان الحقوق الخالصة والمركبة) (النص رقم 170) ثم قال بعده: (قوله في التقسيم الثالث من القاعدة: ما يتركّب من حقوق الله، وحقوق رسوله، وحقوق المكلَّف) (النص رقم 171). 5 - وعندما يريد البلقيني نقل الأمثلة من عند الشيخ ابن عبد السلام، ينقلها أيضًا بأرقامها كما جاءت عند الشيخ، فيقول البلقيني مثلًا: (قوله في المثال الثالث) أو (في أثناء المثال الثالث) وهكذا. 6 - وعندما تكثر النصوص التي ينقلها البلقيني من أحد الفصول، فإنه يكتفي بذكر (عنوان الفصل) في البداية مرة واحدة، ثم لا يكرره بعد ذلك في كل مرة، بل يستمر في نقل نصوص ذلك الفصل، نصًّا نصًّا، وينبّه في كل مرة
على أن تلك النصوص متعلقة بذلك الفصل، بقوله مثلًا: (قوله فيه أيضًا) (أي في ذلك الفصل) أو يقول: (قوله في الفصل المذكور)، فيربط بمثل هذه الإشارة الوجيزة جميع تلك النصوص بعنوان ذلك الفصل. فإذا انتهى من النصوص الخاصة بفصلٍ ما، وأراد أن يبتدئ بفصل آخر جديد، يأتي حينئذ بعنوان الفصل الجديد بقوله: (قوله في الفصل كذا). 2 - طريقة البلقيني في نقل نصوص الشيخ ابن عبد السلام: 1 - لم يلتزم البلقيني نقلها حرفيًّا كما هي عند الشيخ، بل قد توجد مغايرات بين ما ينقله وما هو موجود في المطبوع من (قواعد الأحكام)؛ وهي مغايرات غير مؤثرة، لأن مرجعها -حسب ما ظهر لي- إلى أن نسخة البلقيني نفسها من (قواعد الأحكام) مختلفة عن النسخة المطبوعة الموجودة بين أيدينا (¬1). وربما كان مرجع تلك المغايرات، إلى أن النقل الحرفي لكلام الشيخ ابن عبد السلام ليس مقصودًا للبلقيني أصلًا، وإنما مقصوده أن يشير إلى مضمون كلامه وفحواه، ليعلّق عليه بما يراه. ولهذا فإني اكتفيتُ في خدمتي للكتاب بمجرد عزو ما نقله البلقيني من نصوص الشيخ ابن عبد السلام، إلى مواضعها من كتابه (قواعد الأحكام) دون التدقيق في مقابلتها وإثبات (الفروق) بينها وبين ما هو موجود في المطبوع من (قواعد الأحكام)، إذ لا طائل منه للقارئ الكريم، بل إنه يُتعب القارئ -من دون فائدة- في تقليب النظر بين المتن والهامش لمجرد الوقوف على فروق الكلمات. 2 - وكما لم يلتزم البلقيني بنقل نصوص الشيخ ابن عبد السلام حرفيًّا، لم يلتزم كذلك بنقل عباراتها كاملة دائمًا، بل قد ينقلها مختصرة مع الإشارة ¬
إلى الاختصار بمثل قوله (انتهى ملخصًا)، أو بالإحالة إلى باقي الكلام بقوله (إلى آخره) ونحوه. 3 - وقد يختصر البلقيني النقلَ من دون إشارة إلى الاختصار. وهذا لا يُنتقد عليه لأنه منهج له، واصطلاح له، وهو منهج متبع في الجملة ولا ضير فيه. وقد رأيت في مثل حالات الاختصار هذه، أن أكتفي أيضًا بمجرد عزو النصوص إلى مواضعها من كتاب الشيخ ابن عبد السلام (قواعد الأحكام)، دون التقيد بالإشارة إلى كونها مختصرة. لكن هذا، إذا كان اختصارُ البلقيني وافيًا يكفي للقارئ أن يفهم به ما يأتي من كلام البلقيني على ذاك النص. أما إذا كان البلقيني نقل جزءًا من النص مثلًا، أو نقل النص بحيث يصعب على القارئ أن يفهم السياق الذي جاء فيه هذا النص، ويصعب عليه أيضًا أن يربط بعد ذلك بين النص وبين كلام البلقيني عليه، فحينئذ حَرَصتُ على أن أنقل للقارئ أصل كلام الشيخ ابن عبد السلام، في الهامش، بالقدر الذي يتمكن منه القارئ من فهم الموضوع الذي بين يديه. 4 - وقد ينقل البلقيني شيئًا من نص كلام الشيخ ويطوي باقيه، لكنه بعد ذلك لمّا يأتي للكلام على ذلك النص والتعليق عليه، يتطرق إلى ذلك الجزء -أيضًا- الذي طواه من أصل النص عند نقله له. وهذا يؤدي إلى تشويش عند القارئ؛ إذ إنه يجد أن البلقيني يتعرّض لشيء، لا يجده القارئ أمامه في أصل كلام الشيخ ابن عبد السلام الذي نقله البلقيني. ولهذا كان من الجدير في مثل هذه المواضع، أن أذكر في الهامش أصل كلام الشيخ كاملًا أمام القارئ، أو -على الأقل- الجزء الذي طواه البلقيني
منه، حتى يسهل ربط كلام البلقيني به. (مثاله: النص رقم 550، يُنظر فيه تعليق البلقيني على كلام الشيخ ابن عبد السلام في قياس المساقاة على الرضاع، فإن البلقيني علَّق هنا على شيء مما طواه من أصل كلام الشيخ ابن عبد السلام). 3 - طريقة البلقيني في تعليقاته على كلام الشيخ ابن عبد السلام: إن تعليقات البلقيني على نصوص الشيخ ابن عبد السلام تتنوع كما يلي: (أ): فمنها ما هو من قبيل التعقيب وإبداء النظر في كلام الشيخ ابن عبد السلام، والتنبيه على ما يُلحظ عليه من نظر ونقد، والاستدراك عليه. فمن ذلك مثلًا: النص رقم 93: فيه قول الشيخ ابن عبد السلام عن صلح الحديبية، أنه التُزم فيه إدخال الضَّيم على المسلمين وإعطاء الدنيّة في الدين دفعًا لمفسدة عظيمة، وهي قتل المؤمنين. فعقَّب عليه البلقيني بقوله: (لم يكن في صلح الحديبية إدخالُ ضيم ولا إعطاء دنيّة في نفس الأمر، ومن ثَمّ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، لعمر - رضي الله عنهما - ما قالا، حين قال: (فعلامَ نُعطي الدنيّة في ديننا)؟ وأيضًا فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تكون خُطّةٌ يعظّمون فيها حُرُمات الله، إلا أجبتُهم إليها) يقتضي أن كل ما أجابهم إليه، فيه تعظيم حُرُمات الله وإن كانوا مخطئين في اعتقادهم. فتأمله!). وفي النص رقم 148: قال الشيخ ابن عبد السلام: (لا يثاب الإنسان ولا يعاقَب إلا على كسبه أو اكتسابه). علّق عليه البلقيني قائلا: (قد يُستثنى منه: (الطفل، يحُجّ عنه وليُّه)؛ فإن المرأة لمّا رَفَعت الصبيَّ للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت: ألهذا حج؟ قال: (نعم، ولكِ أجرٌ): يقتضي أن الصبي يثاب ...). وفي النص رقم 156: ذكر الشيخ ابن عبد السلام أن المديون لو مات
وعليه دَيْنٌ لم يأثم بسببه ولا بمَطْله، فهل يؤخذ من حسناته في الآخرة بمقدار ما عليه من الدَّين؟ قلنا: نعم ... كما تؤخذ أمواله ومساكنه وعبيده وإماؤه في الدنيا. فانتقد البلقيني هذا الجواب من الشيخ وعقّب عليه بكلام جيد بقوله: (هذا الجواب ممنوع. والأرجح أنه لا يؤخذ في الآخرة من ثواب حسناته شيء، لعدم تعدّيه. وفي الحديث: (من أَخَذ أموال الناس يريد أداءها، أدَّى الله عنه). ثم قال البلقيني: (وما ذكره الشيخ رحمه الله من قياس الغائب على الشاهد، لا يصح؛ إذ لا يلزم من أخذ أمواله ومساكِنِه وعبيدِه في الدنيا، أن يؤخذ من ثواب حسناته في الآخرة، لأن الدنيا دار تكليف، والآخرةُ دارُ أجر على الطاعة أو المعصية، ولم يوجد منه معصية". وفي النص رقم 201: قال الشيخ ابن عبد السلام: (لو قَصَد الإنسانُ القربةَ بوسيلة ليست بقربة، لا يثاب على قصده دون فعله، كمن قَصَد نوم بعض الليل ليتقوّى به على قيام بقيته). فأبدى البلقيني نظرًا في كلام الشيخ هذا، وعقّب عليه -بالاستناد إلى حديث يخالف ظاهر كلام الشيخ- بقوله: (ظاهر هذا أنه لا يثاب على النوم المذكور، وهذا قد يُنازع فيه قولُ معاذ - رضي الله عنه -: (إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي). وفي النص رقم 202: ذكر الشيخ ابن عبد السلام الاختلاف في كون بعض الكفارات: هل هي جوابر أو زواجر؟ ثم رجَّح أن (الظاهر أنها جوابر لأنها عبادات وقُرُبات لا تصح إلا بالنيات، وليس التقرب إلى الله تعالى زاجرًا). وهذا الترجيح من الشيخ، لم يلق أيضًا قبولًا عند البلقيني، فعقّب عليه بالاستدلال بآية تخالف ما ارتآه الشيخ، فقال: (ما ذكره من أن الكفارات
جوابر لا زواجر، معلّلًا له بأنها عبادات، قد يردّه ظاهرُ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}، إلى قوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}، وهذا زجرٌ. ومن جملة ما تقدّم: الصيام). وفي النص رقم 298: قال الشيخ ابن عبد السلام: (ويجوز أن تكون هذه الأحكام كلها لا مصالحَ فيها ظاهرة ولا باطنة). فعلّق عليه البلقيني قائلًا: "الظاهر أن في مثل هذه الأحكام، حِكَمًا لم يُطْلِع عليها اللهُ عبادَه". (ب): وقد يتعقب البلقيني في تعليقاته: بعض أساليب التعبير عند الشيخ ابن عبد السلام. فمن أمثلة ذلك: أن الشيخ ابن عبد السلام ذكر في النص رقم 266 أنه (يستحب للتائب إذا ذَكَر ذنبه الذي تاب عنه، أن يجدّد الندمَ على فعله والعزمَ على ترك العود إلى مثله، وعلى هذا يُحمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مئة مرة) ... إلخ. ثم قال في النص (رقم 267): (فشتان بين من لا ينسى الصغير الحقير، وبين من ينسى عظيمَ ذنوبه، فلا تمرّ على بالِهِ احتقارًا لذنوبه). هذه هي عبارة الشيخ ابن عبد السلام، ويقصد بها بيان الفرق بين عظيمِ مقام النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره، فهو - صلى الله عليه وسلم - لا ينسى الصغيرَ الحقيرَ فيستغفر الله ويتوب إليه مئة مرة، وأما غيرُه فينسى عظيمَ ذنوبه، فلا تمرّ على باله احتقارًا لذنوبه. ومع أن هذا ما تمكّن منه الشيخ ابن عبد السلام من التعبير في هذا المقام، ونلحظ فيه مراعاته ما يليق بتعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن البلقيني علَّق
عليه بتعديل أسلوب تلك العبارة، بحيث صارت -فيما يبدو- أرفعَ مقامًا في حق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فقال البلقيني: (يقال عليه: صوابه: فشتان بين من يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم مئة مرة ولا ذنبَ له، إجلالًا لربه! وبين من ينسى عظائم ذنوبه فلا يمرّ على باله، احتقارًا لذنوبه!). وفي النص رقم 90 ذكر الشيخ ابن عبد السلام أنه لو أُكرِه بالقتل، على شهادة زورٍ لإحلال بُضع محرّم، لم تجز الشهادة). فعقّب عليه البلقيني بأن التعبير بـ (إحلال البُضع) لا يستقيم. وصوابه أن يقال: (الاستيلاء على بُضعٍ محرّم)، قال البلقيني: "لأن البُضع لا يحلّ بشهادة الزور". وفي النص رقم 122 قال الشيخ ابن عبد السلام: في تقرير المرتد ثلاثةَ أيام، قولان؛ أحدهما: أنه لا يقرَّر. والثاني: يقرَّر. فعقّب البلقيني على ذلك بأنه: لا يقال في مثل هذا: إنه تقرير، وإنما هو إمهال، فصواب العبارة: (وفي إمهال المرتد قولان: أحدهما: لا يمهَل، والثاني: يمهَل). فتأمله". وفي النص رقم 381 عبّر الشيخ ابن عبد السلام في حق الغريم المُعسر، بوصفه بـ: (المُعسر المجهول اليسار). فعلّق عليه البلقيني بقوله: صواب العبارة: (الرجل المجهول اليسار)، أو إسقاط لفظة (المعسر)، لأنه لا يصح في التركيب، وصفُ (المعسر) بـ (مجهول اليسار). وفي النص رقم 621 قال الشيخ بصدد كلامه عن كيفية ذكاة الحيوان المأكول في بعض الحالات: (لو سقط بعيرٌ في بئر يتعذر رفعه منها، وأمكن طعنه في بعض مَقاتله، حلّ بذلك).
فعقّب عليه البلقيني بأن قوله: (في بعض مَقاتله) ليس بجيد. والأحسن أن يقال: (في بعض أعضائه)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لو طَعنتَ بها في فخذه لأجزأ عنك). (ج): من تعليقات البلقيني، ما يجيب فيه عن إشكالات يثيرها الشيخ ابن عبد السلام. فمن أمثلة ذلك: النص رقم 424 استشكل فيه الشيخ ابن عبد السلام العمل بعموم حديث (دَعْ ما يَريبك إلى ما لا يَريبك)، وهو أنك إنْ حملتَه على (الواجبات) لصيغة الأمر، خرجتْ منه المندوبات. وإن حملتَه على (المندوبات)، كان تحكّمًا. وإن حملتَه عليهما، جمعتَ بين المجاز والحقيقة، أو بين المشتركات ... فأجاب عنه البلقيني بأن الحديث إذا حُمل على (الواجبات)، لا يلزم منه إلا خروج (المندوبات)، ولا محذور فيه. وإذا حُمل على (الندب) لا يكون تحكمًا، لأن ذلك تفريع على أن صيغة الفعل للندب، لأن القدر الزائد على (مطلق الطلب) -وهو الوجوب- مشكوكٌ فيه، فعلمنا بالتيقن، وهو (مجرد الطلب). (د): من أبرز وأكثر ما اشتملت عليه تعليقات البلقيني في هذا الكتاب: تعقباتُه على ما يتناوله الشيخ ابن عبد السلام من المسائل الفقهية، خصوصًا مسائل المذهب الشافعي. وفي بعض ذلك مناقشات وتحريرات قوية، وربما طويلة. فمن أمثلة ذلك: ما جاء في النص رقم 124 من قول الشيخ ابن عبد السلام عن مغزى أخذ الجزية ممن تؤخذ منهم: (ولا تؤخذ الجزية عوضًا عن تقريرهم على
الكفر، إذ ليس من إجلال الربّ أن تؤخذ الأعواض على سبِّه وشتمِه ونسبتِه إلى ما لا يليق بعظمته. ومن ذهب إلى ذلك فقد أبعد). علّق البلقيني على هذا قائلًا: (هذا يقتضي أن من العلماء مَن ذهب إلى ذلك، ولا أعلم من قال به. وإنما تؤخذ الجزية عن حقن دمائهم أو أجرة سكناهم في بلاد المسلمين، على الخلاف في ذلك. وأما على ما ذكره الشيخ، فلم يقل به أحد). وفي النص رقم 125 قال الشيخ ابن عبد السلام: (الغيبة مَفسدةٌ محرّمة، لكنها جائزة إذا تضمنت مصلحةً واجبة التحصيل أو جائزة التحصيل. ولها أحوال: أحدها: أن يشاوَر في مصاهرة إنسان، فيذكره بما يكره) (¬1) إلى أن قال: (فهذا جائز. والذي يظهر لي أنه واجب لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنصح لكل مسلم). يقول البلقيني تعليقًا عليه: (ما ذكره من الوجوب على ما ظهر له، جزم به النووي في (الأذكار) و (الرياض) وشرح مسلم. والصواب خلافه؛ لأنه يؤدي إلى أن لا يَرغب أحدٌ في المستشار فيه، ويؤدي ذلك إلى مفسدة أعظم مما يحصل في مصاهرته، كوقوعٍ في زنى ونحو ذلك. فالصواب: الجواز. وفي النص رقم 129 قال الشيخ ابن عبد السلام ضمن بيانه لحالات من يدّعي الإعسار: (الحالة الثانية: أن لا يُعرف له غنى ولا فقر. وفيه مذاهب: أحدها: لا يُحبس، لأن الأصل فقرُه) ثم قال: (والثاني: يُحبس، لأن الغالب في الناس أنهم يملكون ما فوق كفايتهم، والفقراء الذين لا يملكون ¬
ذلك: بالنسبة إلى هؤلاء، قليل. وهذا مشكل جدًّا إذا كان الحق غزيرًا كثيرًا كالألف والألفين، إذ ليست الغلبة متحققة في الغنى المتسع، فكيف يُحبس الغريم على عشرة آلاف، وليس الغالب في الناس من يملك عشرة آلاف) ثم قال: (ويحتمل أن يقال: إذا أَدَّى قدرًا يخرج به عن الغلبة، وجب إطلاقه. وهذا قريب. المذهب الثالث: إن لزمه الدين باختياره، فالقول قوله). علّق البلقيني على هذا قائلًا: (ما ذكره من هذه المذاهب، هي أوجه في مذهب الشافعي - رضي الله عنه -، ولكن إنما أوردها الأصحاب في (مَن القولُ قولُه). وهذا الوجه الثاني (¬1) صائر إلى أن القول قول غريم المفلس؛ لأنه يوافق الظاهر، وطردِ الباب طردًا واحدًا، فلا فرق بين اليسير والكثير. ولأن الأصل استحقاق المطالبة. والشيخ نَصَب الأوجه في حبسه معلِّلًا هذا الوجه بأن الغالب في الناس أنهم يملكون ما فوق كفايتهم، فجاء الإشكال الذي ذكره (¬2). وفي النص رقم 356 تطرّق الشيخ ابن عبد السلام لمسألة اشتراط الرشد في كل من المدّعي والمنكر. فعقّب البلقيني على ذلك ببيان اختلاف وجوه المذهب الشافعي في هذه المسألة، وما هو المعتمد والمصحح فيها عندهم. ثم تطرّق لمناقشة عبارةٍ لأبي إسحاق الشيرازي في كتابه (التنبيه) وهي ¬
قوله: (لا يصح الدعوى إلا من مطلق التصرف فيما يدّعيه)، وناقشها مناقشة طويلة، وذكر أنها لا تستقيم على إطلاقها هكذا من وجوه عدة، فذكر وجوهًا ونظائر فقهية ستة سُمعت فيها الدعوى -في المذهب- ممن لا يملك التصرف، خلافًا لما قاله الشيرازي. وبناء على هذه المناقشة الطويلة لعبارة الشيرازي المذكورة، انتهى البلقيني إلى أنه لا يستقيم أمرها، ولا يُعمل بمقتضاها، ولا يؤخذ منها بطلان دعوى السفيه؛ لأنه لا يُدرَى ما المراد بها. ولم يذكرها الشيرازي في (المهذّب)، ولا أحدٌ من الأصحاب، وليس لها مخرجٌ تصح به. ولم يذكر الشافعي - رضي الله عنه -، ولا أحدٌ من الأصحاب، اشتراطَ رُشد المدّعي. فقد نص الشافعي في كتبه كلها على نصوص كثيرة في الدعاوى، ليس في شيء منها إخراجُ السفيه من الدعوى، وكذلك جرى عليه الأصحاب. انتهى كلام البلقيني (¬1). ولعل مما يُلحق بهذا العنصر (أي: مناقشة البلقيني ما يعرضه الشيخ ابن عبد السلام من المسائل): أن الشيخ ابن عبد السلام يتطرق في بعض المسائل للمقارنة بين مذهب الإمام الشافعي ومذهبِ غيرِه من الأئمة، فيشعُر البلقيني أن تلك المواضع محتاجة إلى بيان دليل الإمام الشافعي؛ ليتبين للقارئ وجهُ ما ذهب إليه الشافعي، واختاره في تلك المسائل. ¬
فمن ذلك مثلًا: أن الشيخ ابن عبد السلام ذكر أمثلة لتعارض أصلٍ وظاهرٍ، ومنها: (المثال الرابع: إذا اختلف الزوجان في النفقة مع اجتماعهما وتلازمهما ومشاهدةِ ما ينقله الزوج إلى مسكنها من الأطعمة والأشربة). قال الشيح: (فالشافعي يجعل القولَ، قولَ المرأة، لأن الأصل عدم قبضها كسائر الديون. ومالكٌ يجعل القولَ، قولَ الزوج؛ لأنه الغالب في العادة، وقولُه ظاهرٌ) (ينظر النص رقم 408). فقد دافَع البلقيني في تعليقه على هذا المثال، عن مذهب الإمام الشافعي، وانتَصَر لما اختاره الإمام، بحديث هند المشهور - رضي الله عنهما -: (خذي من ماله بالمعروف ما يكفيكِ ويكفي بَنِيكِ). ووجه الاستدلال ما وضّحه البلقيني بقوله: (سواء قلنا: إن ذلك قضاء أو فتوى، لأنه إن كان قضاءً فواضحٌ. وإن كان فتوى فلو لم يكن القولُ قولَها، لقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: إن العادة والظاهر أن الأزواج يكفُون زوجاتهم وأولادَهم. ولم يسلّطها على الأخذ من ماله، ما يكفيها ويكفي بَنِيها ...). ومثال آخر: ذكر الشيخ ابن عبد السلام في فصل تعارض ظاهرين: (إذا تأمل الناسُ الهلال، فشهد برؤيته عدلان منهم، ولم يتفوّه غيرهما برؤيته، فقد اختلف العلماء فيه. فسمع الشافعي رحمه اللهُ شهادتهما لظهور صدقهما بما ثبت من عدالتهما الوازعة عن الكذب. ورأى بعض العلماء ردّ شهادتهما لأن العادة تكذِّبهما، فإن العادة أن الجمع الكثير إذا رأوا الهلال: شَهَّرُوه وتفوّهوا برؤيته. فإذا لم يتفوّه برؤيته إلا الشاهدان، دل الظاهر المستفاد من العادة على كذبهما أو على ضعف الظن المستفاد من قولهما) (ينظر النص رقم 416). فعلّق البلقيني على هذا ببيان دليل الإمام الشافعي، فقال: (دليل مذهب
الشافعي، حديث ابن عباس أن أعرابيًّا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني رأيت الهلال، فقال: (أتشهد أن لا إله إلا الله)؟ قال: نعم. قال: (أتشهد أن محمدًا رسول الله)؟ قال: نعم. قال: "فأذِّن في الناس يا بلال أن يصوموا غدًا". قال البلقيني: "فلو كان ما ذكره المخالف قادحًا، لَبيَّنه، ولَما أَمَر بالصيام". (هـ): من اللفتات المهمة في تعليقات البلقيني التي تُنبئ عن المنهج العلمي الدقيق: ما يتطرّق إليه -في بعض المواضع- من المقارنة بين نسخ كتاب (قواعد الأحكام). وهذه المقارنة من البلقيني، تدل على أنه كان مطّلعًا على نسخ أخرى من كتاب الشيخ ابن عبد السلام هذا، غير النسخة التي كان ينقل عنها نصوص عبارا ت الشيخ هنا في (الفوائد الجسام). ووجه الدقة في صنيع البلقيني هذا، أنه قد يجد استشكالًا في بعض عبارات الشيخ ابن عبد السلام من حيث الخطأ والصواب، أو من حيث وجود نقص فيها مما يتطلب إكمالها حتى يستقيم المعنى؛ فينبّه البلقيني على وجه الملاحظة في مثل هذه المواضع، لكنه لا يُحمّل تَبعتها على الشيخ ابن عبد السلام، بل ينبّه إلى أنه وُجد الأمر هكذا في بعض النسخ من كتاب الشيخ ابن عبد السلام (ومنها النسخة التي كان البلقيني يُورد منها نصوص الشيخ ابن عبد السلام)، لكن النسخ الأخرى من كتاب الشيخ، خالية من هذه الأخطاء، ولهذا فلا يتوجّه على الشيخ ابن عبد السلام بسبب ذلك، إيرادٌ. وقد وقفتُ عند البلقيني على مثالين من هذا القبيل: أحدهما: أنه نقل في النص رقم 521 عبارة الشيخ ابن عبد السلام هكذا: (التوكيل في البيع المطلق، فإنه يتقيد بثمن المثل وغالبِ نقد بلد البيع) (¬1). ¬
هكذا أورد البلقيني عبارة الشيخ ابن عبد السلام، ثم علّق عليه بقوله: (يقال عليه: تقييده بـ (نقد بلد البيع) في غير نسخة، ليس بجيد، لاقتضائه أنه لو قال له بمصر: وكّلتُك في بيع كذا، فباعه بمكة، أنه يتقيد بنقد مكة. وليس كذلك، بل ذلك يتقيد بنقد بلد الوكالة) هذا ما قاله البلقيني أولًا، لكنه لم يكتف بذلك بل عطف عليه بعد ذلك بقية الكلام عن هذا النص نفسه، فقال: (وفي نسخة: (نقد البلد)، وهي سالمة من الإيراد). انتهى كلام البلقيني. والمثال الثاني: ما نقله البلقيني في النص رقم 83 من قول الشيخ ابن عبد السلام: (المثال الثامن: إذا ملك نفقةَ زوجةٍ، وله زوجتان متساويتان، سوَّى بينهما. ويجوز أنْ يُقرع بينهما دفعا لمفسدة انكسار المحرومة منهما). عَقَّب البلقيني على هذا النص بقوله: (يقال عليه: لعله سقط بعد قوله: (سوَّى بينهما) شيءٌ، وصوابه: (أو يُخيّر. ويجوز أن يُقرع) إلى آخره. على أن ذلك ثابت في بعض النسخ). ومما كشفت عنه مقارنة البلقيني هذه: أن الطبعة المحققة من كتاب (قواعد الأحكام) الصادرة بتحقيق الأستاذين الفاضلين الدكتور نزيه حماد والدكتور عثمان ضميرية، جاء فيها هذان النصان بنفس الكيفية التي نبه البلقيني أنها محلُّ نظر وخطأ، ومع ذلك لا توجد في كلا النصين إشارة من المحققَيْن إلى أي اختلاف فيما بين أيديهم من النسخ السبع الخطية للكتاب، مما يدل أن تلك النسخ السبع عندهم، اتفقت على إيراد النصين بنفس تلك الكيفية الخاطئة (¬1)، وأنه لم يأتِ أيٌّ من هذين النصين في أي نسخة من ¬
النسخ السبع تلك، على الوجه الصواب الذي أورده البلقيني من النسخ الأخرى. وهذا يدل أن تلك النسخ الصائبة التي يشير إليها البلقيني، هي نسخ أخرى غير النسخ السبع التي اعتمدها محققا الطبعة المذكورة من (قواعد الأحكام)؛ وأن نُسخ البلقيني هذه عاليةُ الجودة، خصوصًا إذا نظرنا إلى أنها جاءت بصوابٍ لم يأتِ في النسخ السبع الخطية كلها المشار إليها (¬1). (و): بقي مما يتعلق بروائع منهج البلقيني وطريقته في هذه التعليقات، ما يقوم به من إضافات لفوائد ونكاتٍ قيّمة، ربما تُعدّ من قبيل (خبايا الزوايا) التي تزداد بها قيمةُ أماليه هذه. فمن أمثلة ذلك: النص رقم 169: ذكر فيه الشيخ ابن عبد السلام أن من المواطن التي يترجح فيها إبداء الصدقة وإظهارها على إخفائها أنه (إن كان ممن يُقتدَى به كان الإبداء أولى لِما فيه من سدّ خلّة الفقراء مع مصلحة الاقتداء). فأضاف البلقيني على ذلك مواضع أخرى لأولويّة إبداء الصدقة فيها، فقال: (ويكون الإبداء أولى إذا حثّ الإمام على الصدقة، لِما فيه من إظهار الامتثال. وقد أَقبَل النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيدٍ على النساء، فقال: (يا معشر النساء، تَصَدَّقْن ولو من حليّكنّ)، فجعلن يُلقِين في ثوب بلالٍ من أقرطتهن ¬
وخواتيمهن). ثم قال البلقيني: (ومن ذلك حثه على الصدقة في غير ما موطنٍ، كما في قصة سُلَيك، ونحو ذلك، تم تمثيل الأمر بإظهارها). ومن ذلك النص رقم 175: ذكر فيه الشيخ ابن عبد السلام أن من حقوق المكلفين بعضهم على بعض: إنظار الموسِر. فعلّق البلقيني على ذلك بتوضيح جميل لصورة من صور إنظار الموسِر، وهي: أن لا يكون عنده نقدٌ، وعنده عُرُوضٌ، فيُسعفه الدائن بالنظِرة ولا يتعسف عليه بحمله على بيع العُروض ليسدّد الدَّين عاجلًا، فربما يؤدّي هذا التعسف من الدائن إلى أن يبيع المدين تلك العُروض بثمن ناقص ليتمكن من سداد الدَّين، فيكون قد تضرر بذلك (¬1). وفي النص رقم 178: ذكر الشيخ ابن عبد السلام أنواعًا من مضامين القرآن الكريم. فعلّق البلقيني أن الشيخ (قد أَهمَل نوعًا حسنًا، وهو: (الوعد بثواب عاجل وثواب آجل معها)، كـ (الجهاد)، فثوابه العاجل: الغنيمة والسَّلَب بشرطه؛ وثوابه الآجل: ما أعدّه الله تعالى للمجاهد في الدار الآخرة مما نطق به الكتاب العزيز والسنة. وكـ (الإسلام)، فثوابه الآجل: ما وعد الله على الإسلام من الثواب الجزيل؛ وثوابه العاجل: أن العبد بالإسلام يدخل في عِداد من يجوز أن تُصرف إليه الزكوات والكفارات والضحايا والهدايا، وغير ذلك مما شُرط فيه الإسلام). وفي النص رقم 234: قال الشيخ ابن عبد السلام: (المفسدة المقتضية ¬
لجعل الربا من الكبائر، لم أقف فيها على ما يُعتمد على مثله، فإن كونه مطعوما أو قيمةً للأشياء أو مقدّرًا، لا يقتضي مفسدة عظيمة يكون من الكبائر لأجلها). فأبان البلقيني في تعليقه على هذا الكلام، ببيان نكتة تكشف عن مفسدة خفية خطيرة في الربا جعلتْه في تلك الدرجة من البشاعة والقبح في نظر الشارع؛ حتى عُدّ من كبائر الذنوب. يقول البلقيني: (بل المفسدة في الربا تعاطيه لمعصية تسري في أموال الناس غالبًا، ويشق الاحتراز منها لو وقعت. فعلّيّةُ انتشارها وعمومها [جُعلت] سببًا لجعلها من الكبائر. وقد (لَعَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكِلَ الربا ومُوكِلَه)، الحديث". انتهى كلام البلقيني. وفي النص رقم 280: ذكر الشيخ ضمن استحباب تقديم الأعضاء اليمنى على اليسرى، أن ذلك تكريم وتشريف لها، (ولذلك يُبدأ بها في الانتعال لأنه إكرام لها)، (لأن الانتعال بمثابة اللباس للقدم، فهو إكرامٌ لها، ولهذا يُبدأ فيه بالرِّجل اليمنى، كما يُبدأ في لباس البدن بالأعضاء اليُمنى). هذا كلامٌ قيّم من الشيخ ابن عبد السلام. ولكن علّق عليه البلقيني بإضافة لفتة جميلة إلى أدب الانتعال عند الخروج من المسجد، عندما يتعارض هذا الأدب، مع (أدب الخروج من المسجد بالرِّجل اليسرى). فكيف يمكن تطبيق هذين الأدبين في آنٍ واحدٍ -وهي صورة واقعية يومية- بحيث يتحقق مقصود الشارع فيهما معًا: بأن يُبتدأ بإخراج الرِّجل اليُسرى من المسجد، وفي نفس الوقت يُبدأ أيضًا بلُبس النعل في الرِّجل اليمنى؟ أفاد البلقيني إمكانية تطبيق ذلك بسهولة، فقال: (فإذا تعارض الخروجُ من المسجد، والانتعالُ: قَدَّم اليسرى في الخروج، ويضعُها على ظهر نعله؛ ثم يُخرِجُ اليمنى فيُنَعِّلها، ثم يُنَعّلُ اليسرى)!
وفي النص رقم 500: تطرّق الشيخ ابن عبد السلام لبيان معنى قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5]، وما سِرّ تقييده بقوله (إذا حسد). يقول الشيخ ابن عبد السلام: (فإن قيل: ما معنى قوله: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5]، فالجواب: أن الحسد الحكمي لا يضرّ المحسودَ لغفلة الحاسد عنه. والحسدُ الحقيقي هو الحاثّ على أذية المحسود. فقوله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ} صالحٌ للحسد الحكمي والحقيقي). هذا ما قاله الشيخ ابن عبد السلام. وأفاد البلقيني في التعليق عليه بيان نكتة أخرى لهذا القيد، فقال: (ولك في الجواب مسلكٌ آخر، وهو أن العُلقة بين الحاسد والمستعيذ، إنما تكون حال حسده الحقيقي، ولا عُلقةَ بينهما إذا خلا عن حسده الحقيقي بغفلة ونحوها وإن كان متعلقًا بالحسد الحكمي، فلذلك خَصّ الحالة التي تكون فيها العُلقة فيها). وفي النص رقم 614: أفاد الشيخ ابن عبد السلام حكمة منع المرأة من تزويجها بنفسها استثناءً من قاعدة (الأحرار المُطْلقون مستقلون بالتصرف في منافع أموالهم وأجسادهم)، فقال الشيح: (واستثني من ذلك: تزويج المرأة نفسها، لما في مباشرتها ذلك من المشقة والخجل والاستحياء). وعلّق عليه البلقيني بسطرين وجيزين، أبان فيهما عن لفتة أخرى لهذا الحكم التشريعي، فقال: (الأَولى في تعليل ذلك أن يقال: المرأة غالبًا سريعة الانخداع، فربما وَضعتْ نفسَها تحت من لا يكافئها). وهكذا نرى إضافات البلقيني في هذه التعليقات تنمّ عن مثل هذه الإفادات القيّمة. وعلى كل، ففي جملة تعليقات البلقيني في الكتاب كله، يحس القارئ أنه أمام عالم ضليع، آتاه الله فحولةً، وقوةَ شخصية، ودقةَ نظر، وعمقَ اطلاع
فيما يبديه من التعقب والنقد والتحرير والاستدراك، بحيث يمكن أن يقال في حق تعليقاته: إنها زادت كلام الشيخ ابن عبد السلام تمتينًا وتحريرًا. (ز): وأخيرًا، فمع ما سبق من روائع ما جادت به قريحة البلقيني من التعليقات، وقوة الأنظار، فقد بدت في بعض تعليقاته مسامحات فيما كان يَتَعَقَّب به على الشيخ ابن عبد السلام، خاصة إذا لوحظ أن الشيخ ابن عبد السلام ينطلق من جهة النظر المقاصدي، فيُبدي ما يراه مما ينبغي أن تكون عليه المسألة من حيث النظر المقاصدي لديه، وإن كان ذلك ربما يقع مخالفًا لما تقرر عند غيره من أهل العلم، لوجوهٍ أخرى عندهم. فيأتي البلقيني في بعض هذه المواضع، ويتعقّب الشيخَ فيها أو يناقشه ويردّه إلى ما هو معتمد لدى أولئك الآخرين، والحال أن الشيخ -فيما يظهر- لا يُنكِر ما يقوله الآخرون، ولا يُنكر أيضًا ما قد يكون مقرَّرًا بحسب ما في نفس الأمر في تلك المسائل، وإنما يُبدي ما يتراءى ويترجح لديه، من النظر المقاصدي فيها، فتظهَرُ مناقشة البلقيني في هذه المواضع، بعيدةً عن النظرة المقاصدية التي يريدها الشيخ ابن عبد السلام. والله أعلم. فمن ذلك مثلًا: النص رقم 132 المتعلق بضرب الصبيان للتأديب ضربًا غير مبرّح: انطلق الشيخ ابن عبد السلام في هذه المسألة من نظرة مقاصدية دقيقة، وخالفه البلقيني تبعًا لبعض علماء الشافعية لنظرة مقاصدية أخرى تختلف عن نظرة الشيخ. ولكن تبيّن بالبحث والمراجعة في كتب الشافعية، أن المختار عند محققيهم المتأخرين هو ما ارتآه الشيخ ابن عبد السلام في هذه المسألة، كما وضحته في التعليق على هذا النص. وكذلك التعليق على النص رقم 277 يبدو فيه أيضًا بعدٌ من البلقيني عن النظرة المقاصدية التي ينطلق منها الشيخ ابن عبد السلام.
توضيح ذلك أن الشيخ ابن عبد السلام يقول في هذا الموضع: (أحكام الله تعالى كلها مصالح لعباده) (قواعد الأحكام 1: 297). وبناء عليه بدأ الشيخ يفصّل تلك الأحكام، سواء ما تعلق منها بالقلوب أو الأبدان أو الجوارح أو الحواس. . . إلخ. فمن ذلك أن الشيخ نبّه أن هناك أحكامًا تتعلّق بجارحتي (الأفواه والبطون) من الواجبات والمحرّمات والمندوبات والمستحبات. . . إلخ، ومبناها جميعًا على المصالح والمفاسد، فينبغي امتثال ما يُعتبر مصلحةً واجتناب ما يُعدّ مفسدةً. فمما ينبغي اجتنابه في حق هاتين الجارحتين لكونه محرَّمًا، فهو مفسدةٌ في حقهما: أنَّه "لا يجوز أن يُلقَى فيها ما يَحرُم أكله". (النص 277). فجاء البلقيني وتعقب على هذا بأنّه يجوز إلقاء ما لا يتحلل منه شيء إلى الجوف، كالزجاج! وكما يُلحظ فإنَّه تعقيب بعيدٌ عن النظرة المقاصدية التي يريدها الشيخ في هذا الموضع، إذ إن قصد الشيخ -كما وضحته قبل قليل- هو تقرير أحكام هاتين الجارحتين التي تظهر فيها آثار المصالح والمفاسد، ومن ثَمّ مثّل الشيخ لذلك ببعض الأمثلة، ومنها هذا المثال (لا يجوز إلقاء ما يحرُم أكله في الأفواه والبطون). وليس قصد الشيخ هنا: بيان ما في نفس الأمر مما يجوز أن يُلقى في الأفواه والبطون، وما لا يجوز؛ إذ محلّ ذلك في كتب الفقه والفتاوى. ولعله لا يُتصور أن مثل الشيخ ابن عبد السلام يغيب عنه -عند تقرير مثل هذه النظرة المقاصدية في أحكام هاتين الجارحتين- ما ذكره البلقيني من هذا الاستدراك بمسألة فرعية لو وقعت ولو صح التسليم بها، لكانت من النوادر أو
الفرضيات؟! فكيف تُستدرك عليه تلك المسألة الجزئية، في مقامٍ يقرر فيه الشيخ نظراتٍ كلية مقاصدية في الموضوع المشار إليه. وكما يُلحظ فإنَّه لا غبارَ على كلام الشيخ ابن عبد السلام إطلاقًا؛ ولهذا فإن استدراك البلقيني عليه وإن كان صحيحًا في حدّ ذاته، إلا أنَّه يظهر أنه بعيدٌ عن نظرة الشيخ المقاصدية. ومن ذلك ما في النص 91 ففيه يقول الشيخ ابن عبد السلام: (لو وَجَد المضطر إنسانًا ميتًا، أَكَل لحمَه). فتعقبه البلقيني بقوله: "محلُّ ذلك ما إذا لم يكن نبيًّا، فإن كان الإنسان الميتُ نبيًّا، فلا يجوز أكلُ لحمه". وماذا عسى أن يقول القارئ أمام مثل هذا التعقب الذي يُستغرب صدورُه من البلقيني! -رحمه الله-. ويُنظر ما وضّحتُه في التعليق على هذا النص في داخل الكتاب. ومما يمكن أن يُعدّ من قبيل مسامحات البلقيني في تعقباته على الشيخ ابن عبد السلام، ما يبدو في بعضها من التكلف في النقد والمؤاخذة بحيث لا يَرقَى نقدُه فيها إلى المقام العلمي لمثله. وربما يُلحظ في أمثال تلك التعقبات، أنها أشبهُ بمناقشات لفظية بعيدة عن السجية الطبيعية التي ينطلق منها الشيخ ابن عبد السلام. فمن ذلك مثلًا: النص رقم 248: ففيه يقول الشيخ عن العبادات التي لا تلتبس بالعادات مثل (التسبيح والتقديس والتهليل والتكبير) أنها (قربةٌ في أنفسها، متميزةٌ لله بصورتها، لا تفتقر إلى قصد تميّزها ولجعلها قربة، فلا حاجة في هذا النوع إلى نيةٍ تصرفه إلى الله تعالى). فتعقب البلقيني على ذلك فيما يتعلق بـ (التسبيح) أن فيه نظرا لأنه
يُستعمل في غير الله -سبحانه وتعالى-، كقول الشاعر (وهو الأعشى): (سبحان من علقمةَ الفاخر)، فاستعمَل مادة (التسبيح) لغير الله تعالى. فإذًا مقتضى ذلك -حسب ما يريد البلقيني- أنه لا بد من القصد والنية في لفظة (التسبيح). وهذا تسامح غريب من البلقيني، فإن من المعلوم أن التسبيح إذا أُطلق لا يراد به إلا تسبيح الله تعالى، وهو ما أراده الشيخ ابن عبد السلام. أما أن يقال: إنه قد يراد به تسبيح غير الله تعالى بناء على بيتِ شعرٍ لشاعرٍ جاهلي! فيبدو ذلك تكلفًا شديدًا! وهل يوجد اليوم من يقول عن شخص: (سُبحان فلان)؟ أو يقول عن شيء: (سبحان ذاك الشيء)؟! ثمَّ ناقش البلقيني الشيخَ ابن عبد السلام في لفظتي (التكبير) و (التقديس) أيضًا، مناقشة لفظية متكلفة. والخلاصة أن تعليق البلقيني على هذا النص كله، متكلف جدًّا، لا يعدو أن يكون مجرد نقاشات لفظية بعيدة عن السجية التي ينطلق منها الشيخ ابن عبد السلام في تقرير تلك الأحكام. ويمكن أن يقال للبلقيني في هذا المقام، نفسُ ما قاله هو للشيخ ابن عبد السلام -في موضع من الكتاب-: (إنه أعلى قدرًا، وأدقّ فكرًا من كلامه الذي أورده في هذا الموضع) (¬1). ومن شواهد مثل هذه التعليقات أيضًا المتكلَّفة: تعليقات البلقيني على النصوص من 282 - 289 فهي لا تخلو في الجملة من تكلفات ومناقشات لفظية. هذا وقد تقع مسامحات علمية أخرى من البلقيني -غير ما تقدم- مما لا تختص بتعقباته على الشيخ ابن عبد السلام. فمن ذلك مثلًا: ما جاء في تعليقه على النص رقم 50 حيث نَسَب فيه ¬
سابعا: مزايا الكتاب
تصحيحا للرافعي والنووي -شيخي المذهب- في مسألة المُحرِم الذي يضيق عليه وقت الوقوف بعرفة ولم يكن صلى العشاء، ولا يتسع الوقت الموجود لديه إلا لأداء فرض العشاء، فلو اشتغل بها لفاته الوقوف. هذه المسألة، نَسبَ البلقيني فيها للرافعي والنووي اتفاقهما على تصحيح أن هذا المُحرِم يُتمّ صلاته وإن فاته الوقوف بعرفة. وقد تبيّن بالرجوع لكتب الشيخين الرافعي والنووي، وكذلك كتب غيرهما من محققي الشافعية اللذين نقلوا المسألة عنهما: أن ما نَسبه البلقيني إليهما من اتفاقهما معًا على تصحيح هذا الوجه، ليس كذلك؛ بل هو صحيح بالنسبة للرافعي؛ أما النوويّ فتصحيحه يختلف عن تصحيح الرافعي (¬1). سابعًا: مزايا الكتاب: 1 - من أعظم مزايا الكتاب وخصائصه: أنَّه من الكتب الوحيدة -في حدود ما اطُّلع عليه إلى الآن- التي تعتبر تحشية وتعليقًا على قواعد ابن عبد السلام (¬2). 2 - من أهم مزايا الكتاب أنَّه يعدّ مرجعًا لتحرير مذهب الشافعية في المسائل الفقهية التي كان الشيخ ابن عبد السلام تطرّق لها، ومن ثَمّ علّق عليها البلقيني في مناقشاته لها. ¬
والشيخ ابن عبد السلام وإن كان من أجلة أئمة الشافعية، إلا أن البلقيني يُعدّ أيضًا من الأساطين الذين جاؤوا بعده، وكان ممن يُعوّل، عليه ويُرجَع إلى أقواله وتحريراته فيما يُعتمد في المذهب الشافعي، ولهذا نرى محققي علماء الشافعية المتأخرين كالشيوخ: زكريا الأنصاري، وابن حجر الهيتمي، والخطيب الشربيني، والشمس الرملي، وأمثالهم، يكثُر عندهم ورود اسم (البلقيني) مقرونًا مع أسماء أعلام آخرين من أهل المذهب، ممن يُعوّل عليهم في معرض الترجيح والتصويب والتحرير والتنقيح للمسائل الخلافية في المذهب. ولهذا فإن ما يحرّره البلقيني هنا على كلام الشيخ ابن عبد السلام فيما يتعلق بمسائل المذهب الشافعي، له وزنه وقيمته بالنظر إلى ما ذُكر من مكانة البلقيني في المذهب. ومما يتصل بهذه الميزة ويعزّزها أن الناسخ (وهو تلميذ البلقيني) يحكي في عدد من المسائل اختيارات شيخه البلقيني، فيقول مثلًا: (اختار شيخنا) أو (مختار شيخنا) وهكذا (¬1). ويلمح القارئ في بعض تلك المختارات البلقينية، نظرات مستجادة ولفتات بارعة في فقه النصوص وحِكَمها وأسرارها. - فمن ذلك مثلًا: أن الشيخ ابن عبد السلام جعل النهي عن بيع الغرر من أجل قاعدة اعتبار الرضا (النص 597). فكتب عليه الناسخ أن اختيار شيخه البلقيني: أن النهي عن بيع الغرر لقطع النزاع، لا لِما ذكره الشيخ ابن عبد السلام من قاعدة اعتبار الرضا. - وفي (النص 623) ذكر الشيخ ابن عبد السلام أن من قدر على استيفاء ¬
حق فله استيفاؤه، إلا القصاص فإنَّه لا يُستوفى إلا بحضرة الإمام لأنَّ الانفراد باستيفائه محركٌ للفتن. لكن الشيخ ابن عبد السلام استثنَى بعد ذلك صورة يجوز فيها استيفاء القصاص بدون حضرة الإمام، وهي أن المجني عليه، أو الوليّ المقتصّ: لو اقتص من الجاني على انفراده بحيث لا يُرى، فينبغي أن لا يُمنع منه، ولا سيّما إذا عجز عن إثباته. فكتب الناسخ على هذا نقلًا عن شيخه البلقيني: أنه اختار أنه يُمنع استيفاء القصاص مطلقًا إلا بحضرة الإمام سدًّا للباب، خشية زيادة التعذيب. 3 - مما يمكن أن يُدرج ضمن ميزات البلقيني في تعقباته على الشيخ ابن عبد السلام: تدقيقه النظرَ في استدلالات الشيخ بالنصوص، وخصوصًا ما يتعلق باستدلالاته بالأحاديث. أ- فمن ذلك مثلًا: أن الشيخ ابن عبد السلام ذكر أن كبائر الذنوب تتفاوت درجاتها، واستدل لذلك بحديث (إن من الكبائر أن يَشتم الرجلُ والدَيْه!) (النص رقم 13 من هذا الكتاب). ووجه استدلال الشيخ بهذا الحديث على ما يريده من تفاوت درجات الكبائر، ما وضّحه هو نفسه بعد إيراد الحديث، أنَّه: (جَعَل - صلى الله عليه وسلم - التسبب إلى سبّهما من الكبائر، وهذا تنبيه على أن مباشرة سبّهما أكبرُ من التسبب إليه). انتهى كلامه. لكن هذا الاستدلال من الشيخ، لا يخلو عن غموضٍ وبُعدٍ! وأسهلُ منه وأقربُ ما فعله البلقيني في تعليقه على كلام الشيخ، بأنّه كان الأولى بالشيخ أن يَستدل لهذا الغرض بحديث (قال رجل: يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: (أن تدعو لله ندًّا وهو خلقك). قال: ثم أيٌّ؟ قال:
(أن تقتل ولدك مخافة أن يَطعَم معك). قال: ثمَّ أيّ؟ قال: (أن تُزاني حليلة جارك). وكما نرى فإنَّه حديثٌ مباشرٌ واضحٌ في إثبات ما كان يريده الشيخ ابن عبد السلام، من تفاوت درجات الكبائر. ب- ومثالٌ آخر لتدقيق البلقيني النظر في استدلالات الشيخ ابن عبد السلام، ما يتعلق بالنص رقم 230. وتوضيحه أن الشيخ ذكر فيه أن الربّ سبحانه قد يَعذِرُ مَن اشتدّتْ شهوتُه، وغلبتْه نفسُه على المعصية، ما لا يَعذِرُ من خفّت شهوته، وضعُفت دواعيه بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: "ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة. . . شيخٌ زان، وسائل مستكبر، وملِكٌ كذّاب). ثمَّ أورد الشيخ ابن عبد السلام حديثًا آخر للاستشهاد على هذا المعنى، وهو حديث: (إن آخِرَ من يخرج من النار، يعاهد ربَّه إذا أعطاه سؤله، لا يسألُه غيرَه، فإذا سأله غيرَه، ذَكَّره بغَدره (¬1) إلى أن قال: (وربُّه يعذِرُه لأنه يرى ما لا صبرَ له عليه). استشهد الشيخ بهذا الحديث لتأييد ما ذكره من إعذار الله لمن تشتدّ الدواعي عنده لفعل أمرٍ من الأمور، بما لا يُعذِر من كان على خلاف ذلك، بأن كانت الدواعي عنده ضعيفةً خفيفةً. ووجه انطباق الحديث على هذا المعنى -في نظر الشيخ- هو ما وضّحه بقوله (فعَذَره لشدة الداعي إلى الغَدر) (¬2). ¬
ولكن كما يرى القارئ الكريم، فإن استدلال الشيخ بهذا الحديث على ما يريده، بعيدٌ. وهذا ما لحظه البلقيني فعقَّب عليه بقوله: (ما استدل به من قوله - صلى الله عليه وسلم - (وربُّه يعذِرُه): لا يتوجّه، من حيث إنه لا يصح الاستدلال بأمور الآخرة على أمور الدنيا) (¬1). 4 - يتحلى البلقيني -كعادة علماء السلف- بالإنصاف العلمي في تعليقاته. أ- فمن ذلك أن الشيخ ابن عبد السلام قد يذكر شيئًا بدون إيراد الأدلة، فيعقّب البلقيني على الشيخ برأيٍ مخالفٍ لكلامه، لكنه مع ذلك إن رأى أن هناك أدلة تؤيد كلام الشيخ، فإنَّه يذكرها، إنصافًا له، -رحمه الله-. فمثلًا: جاء في كلام الشيخ ابن عبد السلام في النص رقم 145 فيما يتعلق بما يؤجَر المكلف على قصده دون فعله، أنَّه: (إنْ كَذَبَ الظنُّ، بأن ثبت في الظاهر ما يخالف الباطن، أُثيب المكلف على قصد العمل بالحق، ولا يثاب على عمله لأنه خطأ، ولا ثواب على الخطأ). هذا ما قاله الشيخ بدون أن يورد له شيئًا من الأدلة، فعلّق عليه البلقيني بأن الرأي المختار، خلافُ ما ذكره الشيخ، لكنه أردف ذلك بذكر دليلٍ من النص الحديثي يؤيد ويشهد لرأي الشيخ، فقال: (. . . ولكن يشهد لِما قَعَّده الشيخ، قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن العاص: ¬
(اقضِ على أنك إن أَصَبتَ، كان لك عشرُ حسنات. وإن أخطأتَ، كان لك حسنةٌ واحدة)، الحديث. رواه الدارقطني وغيره. وله قصة). انتهى. ب- ومن إنصاف البلقيني، أنَّه قد يرى أن كلام الشيخ ليس بمسلَّم، فيتعقبه ويستدرك عليه! ثمَّ يرى أن تعقيبه هو نفسه، محلُّ نظرٍ أيضًا، فيُنصِف الشيخَ من نفسه، ويصرّح بكل إنصاف بذكر ما ظهر له من وجه النقد في كلامِ نفسِه! فمن ذلك مثلًا أن الشيخ ابن عبد السلام ذكر (في النص 71) (أن من وجد أموالًا مغصوبة، فإنْ عَرَف مالكيها فلْيَرُدّها. . . فإن يَئس من معرفتهم، صرفها في المصالح العامة). وقد استدل الشيخ لذلك بأدلةٍ من النصوص القرآنية والحديثية، إلا أنها لم تكن ناهضةً -في رأي البلقيني- لإثبات هذا المعنى، فتعقّب البلقيني استدلالاتِ الشيخ تلك، ذاكرًا حديثين آخرين يراهما أولى من أدلة الشيخ، ولكن ظهر للبلقيني أن أحد هذين الحديثين، ما يزال غيرَ تام في دلالته على المعنى المراد، بل هناك فرقٌ بينه وبين الموضوع محلّ البحث (وهو موضوع الغصب). فصرّح البلقيني بهذا الإحساس والخدش المتعلق بهذا الحديث، ولم يسكُت إيهامًا للقارئ بأن الحديث تمت به الحجة على الشيخ ابن عبد السلام، بل أردف ببيان محلّ النظر فيه، بما يجعله هو الآخَر غيرَ ناهضٍ للاستدلال به -في نظره- في محلّ البحث، وكان كل ذلك من البلقيني -رحمه الله- إنصافًا وانتصافًا من نفسه تجاه الشيخ ابن عبد السلام -رحمه الله-. 5 - من محاسن منهج البلقيني في هذا الكتاب: ما يسمى بـ (أخلاقيات النقد) تجاه الشيخ ابن عبد السلام -رحمه الله-. فنراه حين يتعقّب الشيخ ابن عبد السلام ويَنتقد عليه كلامه، يختار
ثامنا: مصادر البلقيني في الكتاب، وطريقته في العزو
الألفاظ والعبارات الرصينة اللائقة بمقام الشيخ، فيقول مثلًا: في كلام الشيخ نظر، أو ليس بجيد، أو ليس كذلك. . . . وهكذا إلخ. هذا من جهة، ثمَّ من جهة أخرى: يقتضي الالتزام بمنهج (أخلاقيات النقد)، أن يُقتصر فيه على القدر اللازم من النقد، كما ينبغي أن يُلتزم فيه بالموضوعية. وكل ذلك نلحظه ونستفيده من طريقة الإمام البلقيني في تعليقاته في هذا الكتاب. ثامنًا: مصادر البلقيني في الكتاب، وطريقته في العزو: 1 - الكتاب كما سبق مرارًا، أمالٍ من البلقيني، ولذا فلا ذكر فيه للمصادر إلا قليلًا. 2 - فالأحاديث لم يعزُها البلقيني إلى مصادرها إلا أحيانًا، وإلا فإنَّه يُطلق ذكر الحديث بدون عزوٍ. 3 - وجملة المصادر الحديثية التي سماها: سنن أبي داود، وسنن ابن ماجه، وسنن البيهقي، وسنن الدارقطني، و (مسند الفردوس) للديلمي، و (تاريخ أصبهان) لأبي نُعيم صاحب (حلية الأولياء) (¬1)، ومن كتب النووي: (الأذكار) و (رياض الصالحين) وشرح مسلم؛ وشرح (عمدة الأحكام) لابن دقيق العيد (¬2) (أورده البلقيني بقوله: القشيري شارح (العمدة)). ¬
4 - وأطلق العزو مرةً إلى الصحيح (في النص 391) والحديث المذكور هناك مخرج في الصحيحين كليهما. كما أطلق في موضعٍ واحد قوله: (الحديث الصحيح) وكان هذا الحديث مخرّجًا في صحيح مسلم (ينظر النص رقم 5). 5 - وأحيانًا يُطلق العزو إلى الحديث بقوله (كما جاءت به السنّة) مثل قوله في النص رقم 64 (وضابط التخيير في (المميّز): أن يكون بين ذَكَرٍ مؤخّر، وأنثى مقدّمة؛ كما جاءت به السنة). 6 - وتارة يورد مضمون الحديث بدون ذكر لفظه: - كما في قوله في النص رقم 5: (من ثواب المعرفة والإيمان: النظرُ إلى وجه الرحمن، والحديث الصحيح دالٌّ على أن ذلك أفضلُ ما أُوتُوا). - ومثل قوله في النص رقم 71) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جَعَل للملتقط: التملكَ، بعد مدة التعريف) (¬1). 7 - وقد يسوق ألفاظ الأحاديث، ولكنه يضمّنها في سياق الكلام، وهو أسلوب بديع. مثال ذلك قوله في النص رقم 26). . . . ففي مقام: (هل رضيتم) ونحوه، تكون المحبة أفضل، وفي نحو مقام (إن ربي قد غضب اليوم غضبًا) الحديث، تكون الهيبة والإجلال أفضل). 8 - وقد وقعت مسامحتان من البلقيني فيما يتعلق بعزو الأحاديث إلى مصادرها: المسامحة الأولى: في النص رقم 71 فقد ساق فيه حديثًا وعزاه لابن ¬
ماجه، لكن اللفظ الذي ساقه، ليس لابن ماجه، وإنما هو للترمذي. أما لفظ ابن ماجه فهو مختلف عنه كما وضحته في الهامش هناك. المسامحة الثانية: في النص رقم 171 فقد جاء فيه قول الشيخ ابن عبد السلام: (وصلاةُ الجماعة تزيد على صلاة المنفرد بخمس وعشرين درجة، أو بسبع وعشرين درجة، على ما جاءت به السنة). فعقَّب البلقيني على هذا بقوله (لم يجيء في حديثٍ أن صلاة الجماعة تفضُل صلاة الفذّ بخمس وعشرين). وهذا الإطلاق في نفي هذا اللفظ غيرُ صحيح، فقد ورد هذا اللفظ صريحًا في الصحيحين وغيرهما، كما وضحتُه في موضعه من الكتاب. 9 - أما المصادر الفقهية عند البلقيني، فهي تقتصر على مذهبه الشافعي، ومع هذا فما جاء تسميتها منها، هو أيضًا قليل جدًّا كما كان الحال في المصادر الحديثية. والسبب في ذلك هو ما تقدم من كون البلقيني بصدد الإملاء هنا، وليس هو بصدد التأليف، ومن المعلوم أن طبيعة كل منهما تختلف في التعامل مع المصادر. 10 - والمصادر الفقهية الشافعية التي جاءت تسميتها في الكتاب، هي: (منهاج الطالبين) و (روضة الطالبين) كلاهما للنووي، و (الرسالة) للشافعي، و (الأم) له، و (تتمة الإبانة) للمتولي، و (بحر المذهب) للرُّوياني، و (المختصر) للبويطي (¬1)، و (الحاوي الصغير) للقزويني، و (المهذب) و (التنبيه) كلاهما للشيرازي، وشرح (المهذب) للنووي (¬2)، والشرح الكبير والصغير كلاهما للرافعي (¬3)، و (نهاية المطلب) لإمام الحرمين الجويني. ¬
وورد -في بعض المواضع- اسم كتابين من مؤلفات البلقيني نفسه، وهما (تصحيح المنهاج)، و (التدريب) في فقه الشافعية. 11 - وقد كثُر عنده العزوُ إلى شيخي المذهب: الرافعي والنووي، لكنه -عادةً- يطلق العزو إليهما باسميهما دون تسمية كتبهما التي ينقل عنها. 12 - ويعزو البلقيني إلى نصوص الإمام الشافعي -رحمه الله- من دون ذكر للمصدر إلا في بعض المواضع (¬1). 13 - ويعزو في بعض المواضع إلى أئمة وعلماء المذهب الشافعي من غير ذكر كتبهم، مثل عزوه للجويني والغزالي (النص 332)، وللفُوراني (النص 353)، ولابن الرفعة (النص 356)، وللماوردي (النص 371)، ولصاحب (التقريب شرح مختصر المزني) (¬2) (النص 546). ويبدو أن مثل هذا العزو يُطلقه البلقيني بواسطة النقل عن شيخي المذهب الرافعي والنووي، وذلك لورود أسماء هؤلاء العلماء عند هذين الشيخين، كما ظهر من مراجعة بعض تلك المواضع. ومما يشير إلى هذا ما في (النص رقم 601)، ففيه تصريح بالعزو لـ (فتاوى البغوي) نقلا عن (روضة الطالبين) للنووي، وكذلك (النص رقم 628) فيه تصريح بالعزو لـ (التهذيب) للبغوي نقلًا عن (الشرح) و (الروضة). ¬
14 - هذا، وفيما عدا ما تقدم من المصادر الحديثية والفقهية: أ - فقد ورد في موضع واحد، اسم كتاب (الإنجاد في الجهاد) لابن أصبغ المالكي (النص رقم 468). ب- وأطلق البلقيني مرةً، عن الإقراع في الحضانة، أنَّه مجزوم به في التصانيف (النص رقم 64). ج - وأطلق في النص رقم 363 العزو إلى كتب الأصول (أي أصول الفقه). * * *
المبحث الثاني التعريف بابن عبد السلام، والبلقيني، والناسخ يحيى الكرماني
المبحث الثاني التعريف بابن عبد السلام، والبلقيني، والناسخ يحيى الكرماني أولًا: التعريف بابن عبد السلام (¬1): 1 - موجز عن سيرته: هو سلطان العلماء، العالم المجدِّد، شيخ الإسلام والمسلمين: عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم السُّلمي، المغربي أصلًا، الدمشقي مولدًا، ثمَّ المصري سكنًا ووفاةً، الشافعي مذهبًا، المشهور بعز الدين بن عبد السلام، الملقّب بسلطان العلماء. (والذي لقّبه به: تلميذه شيخ الإسلام ابن دقيق العيد). ولد سنة 577 بدمشق وتلقى العلم بها، فسمع الحديث من الحافظ أبي محمَّد القاسم بن الحافظ الكبير ابن عساكر صاحب (تاريخ دمشق)؛ وتفقه على الفقيه الشافعي فخر الدين بن عساكر (ابن أخي الحافظ ابن عساكر) ¬
وقاضي القضاة المعمّر جمال الدين الحرستاني (¬1)، وأخذ الأصول عن الإمام الأصولي سيف الدين الآمدي، أحد أذكياء العالم (¬2). وبرع الشيخ في الفقه والتفسير والعربية، وفاق الأقران في سائر العلوم المتداولة، فكان إمام عصره بلا مدافعة لا سيما في اطلاعه على حقائق الشريعة وأسرارها ومقاصدها، عديمَ النظير ورعًا وقيامًا في الحق وقمع الضلالات والبدع، وشجاعةً، وقوةَ جَنان، وطلاقةَ لسان، (مع البراعة في التصنيف واقتناص أبكار الأفكار) (¬3). وانتهت إليه رئاسة المذهب الشافعي. وشهرتُه تغني عن الإطناب في وصفه. وقد تخرّج به تلامذةٌ، منهم ثلاثةٌ وُصفوا بأنهم بلغوا رتبة الاجتهاد. وهم: 1 - شيخ الإسلام ابن دقيق العيد: محمَّد بن علي القشيري المنفلوطي، المولود سنة 625 والمتوفى سنة 702. ويكفيه فخرًا وشرفًا قول شيخه ابن عبد السلام عنه: ديارُ مصر تفتخر برجلين: ابن المُنيّر، وابن دقيق العيد. 2 - الإمام العلامة القرافي: أحمد بن إدريس الصنهاجي، صاحب ¬
(الفروق) المولود سنة 626 والمتوفى سنة 684 (¬1). انتهت إليه رياسة المالكية في عصره. كان الشيخ ابن عبد السلام أعظمَ شيوخ القرافي بالمشرق، وقد لازمه القرافي طويلًا (أكثر من عشرين عامًا). وكان القرافي عظيمَ الاعتداد به، يُفخِّم قدرَه جدًّا، ويذكره كثيرًا في كتبه. 3 - العلامة المفنّن أبو شامة: عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي الدمشقي. المولود سنة 599 والمتوفى سنة 665. له (كتاب الروضتين في أخبار الدولتين) (الصلاحية والنورية). و (المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز). وإبراز المعاني من حرز الأماني (في شرح الشاطبية). و (الباعث على إنكار البدع والحوادث). وغير ذلك. ومن كبار تلامذة الشيخ ابن عبد السلام: حافظ الوقت الحجة شيخ المحدثين شرف الدين الدمياطي: عبد المؤمن بن خلف، المولود سنة 613 والمتوفى سنة 705 عن نحو اثنتين وتسعين سنةً، ولم يخلّف في معناه مثله. قال المزي -وهو تلميذه-: ما رأيت أحفظ منه. وله مصنفات نفيسة، منها كتابه المشهور (المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح). وقد خَرَّج الدمياطي لشيخه ابن عبد السلام أربعين حديثًا. وكان الشيخ ابن عبد السلام مع هذه الجلالة التي حازها والعلوم التي حواها، يَنْظِم الأشعار السهلة، فمن ذلك ما أَنشده لنفسه في استغاثة دعائية: ¬
2 - براعته في التصنيف والتأليف
أُوجِّه وجهي نحوهم مستشفعًا ... إليهم بهم منهم، إذا الخطبُ أعياني فهُمُ كاشفو ضُرِّي وكربي وشدتي ... وهُمُ فارِجُو همّي وغمي وأحزاني وهُمُ واهِبُو الأبصار والسمع والنُّهَى ... وهُمُ عالِمُو سِرِّي وجهري وإعلاني وإنْ مُذنبٌ يومًا أَتَى متنصلًا ... ومعتذرًا، حَنَوْا عليه بغفران وإنْ سائلٌ يومًا أتاهم بفاقةٍ ... ومسكنةٍ، جادُوا عليه بإحسان فأصبحتُ ما إنْ لي إليك وسيلةٌ ... سوى فاقتي والذلِّ منّي وإذعاني وكان يكتب خطًّا حسنًا قويًّا. وكانت له يد طولى في تعبير الرؤيا. توفي الشيخ ابن عبد السلام بمصر سنة 660 بعد أن عاش ثلاثًا وثمانين سنةً، وحضر جنازتَه الخاصُّ والعامُّ، السلطانُ فمن دونه. 2 - براعته في التصنيف والتأليف: سبقت الإشارة إلى براعة الشيخ ابن عبد السلام في هذا الجانب. وفي الواقع فإن هذه البراعة حقيقةٌ ملموسةٌ في تصانيف الشيخ، وكتاباته: * فقد اختار الشيخ لكتاباته بعض الموضوعات العميقة الدقيقة وأعلاها مقاصد الشريعة وقواعدها التي لا تسهُل الكتابة فيها بجودة إلا لمن كان ذا ملَكة مقتدرة فيها محيطًا إحاطة جيدة بجوانبها، مثل (مجاز القرآن)، و (مشكل القرآن)، و (الإمام في بيان أدلة الأحكام) (في موضوع أصول الفقه)، و (مقاصد الصلاة) (¬1)، بالإضافة إلى كتابه الذي سارت بذكره الرُّكبان: (قواعد الأحكام). ¬
* ثمَّ إن الشيخ في كتاباته: صاحبُ ابتكار وإبداع، وصاحبُ ذوق وفقه ودراية، (هو فقيهُ النظر، له دُربة بأقوال الناس ومذاهب الأئمة من السلف وأرباب المقالات) (¬1). وبالجملة فالشيخ صاحبُ فكرٍ أصيل ناضجٍ، وصاحبُ فكر استقلاليٍّ بلغ الذروة في ذلك؛ حتى وُصف بصاحب (الفكر الاجتهادي). * ثمَّ إن من أخص وأبرز ميزات كتابات الشيخ ابن عبد السلام: أنه يمزج الفقه بالتربية والسلوك. فهو إلى جانب ضلاعته في فقه الأحكام: صاحبُ شفافية، وحِسّ باطني مُرهَف فيما يتعلق بتطبيق العلم في واقع حياة الشخص، والتفطن لدقائق الآداب الشرعية التي هي ثمرة العلم. إن من يقرأ للشيخ ابن عبد السلام يجد أن الشيخ يوقظ فيه ضميرَه الداخلي، وحِسَّه الإيماني (أو ما يسمى بلغة الفقهاء: الجانب الدِّياني) بحيث يحمل القارئَ على محاسبة النفس محاسبةً ذاتيةً تنطلق من الرقابة الداخلية تجاه أعماله وخطواته، وهي المعبَّر عنها في قول الله تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى ¬
3 - مكانة كتاب (قواعد الأحكام) للعز بن عبد السلام
نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14 - 15]؛ وهل هو صادقٌ فيما بينه وبين ربّه فيما يأتيه من العمل المطالَب به وما يَذَر من ذلك. والشيخ تارة ينبّه إلى ذلك بتنبيهات صريحة قوية، وتارة يقدِّمها بإشارات وتلميحات ذكية مؤثرة في أسلوب ناصحٍ مشوِّق؛ بحيث إن من كان حَيِّ القلب، يقِظَ الضمير، لا يملك إلا أن يستجيب للقيام والامتثال لما ينبهه الشيخ إليه. ويمكن أن يقال بلغة اليوم عما يتعلق بهذه السِّمة في كتابات الشيخ: إن ميزة الشيخ في تآليفه وكتاباته: أنَّه يربط الجانب التعليمي بالجانب التربوي. وهي ميزة برزت بصورة جلية قوية في كتابات بعض العلماء، منهم الشيخ ابن عبد السلام. 3 - مكانة كتاب (قواعد الأحكام) للعز بن عبد السلام: إن مؤلفات الشيخ ابن عبد السلام عديدة معروفة، لكن أشهر كتبه التي صارت عنوانًا على الشيخ -مثل القِلادة أحاطت بالجِيد- هو كتابه (قواعد الأحكام) (¬1). هذا الكتاب هو محلّ خدمة البلقيني في صورة الكتاب الذي بين أيدينا المسمى بـ (الفوائد الجسام). ولا داعي لبسط الكلام هنا عن ميزات كتاب (قواعد الأحكام) فقد كُتب عنه شيء كثيرٌ لا بأس به. لكن قد تجدر الإشارة هنا إلى بعض اللفتات عنه، وهي: 1 - أن هذا الكتاب بقي ممتدَّ الأثر فيما بعد، فقد كُتبت عليه ذيول منها: - كتابٌ لمحمد بن أحمد بن عثمان التونسي المالكي، ويُعرف بالوانّوغي ¬
(بتشديد النون المضمومة وسكون الواو وبعدها معجمة) المولود سنة 759 هـ والمتوفى سنة 819 هـ. قال السخاوي: له تأليف على قواعد ابن عبد السلام، زاد عليه فيه، وتَعَقَّب كثيرًا (¬1). - معيار أغوار الأفهام، في الكشف عن مناسبات الأحكام (أو: المعيار في المناسبات بين القواعد الفقهية): لعبد الله بن محمَّد بن أبي القاسم بن علي بن ثامر اليماني الزيدي المعروف بالنجري، المولود سنة 825 هـ والمتوفى سنة 877 هـ (¬2). قال الشوكاني: (جعله على نمط قواعد ابن عبد السلام. قال: وهو كتاب نفيس مفيد) (¬3). - ومنها كتاب البلقيني هذا الذي بين أيدينا، المسمى بـ (الفوائد الجسام)؛ فإنَّه نوعُ ذيلٍ أيضًا عليه، من جهة التعليق والتعقيب وبعض الإضافات، في المواضع التي رأى البلقيني أنها تحتاج إلى ذلك. 2 - أنه على الرغم من الكتابات العديدة التي تناولتْ كتابَ (قواعد الأحكام) من الجانب القواعدي والمقاصدي؛ فإن الكتاب ما يزال يتسع لعناصر أخرى في هذين الجانبين نفسهما -فضلًا عن جوانب أخرى أيضًا جاءت في الكتاب- تكشف عن مزيد من إمامة شخصية الشيخ ابن عبد السلام ونبوغه في فقه الشريعة وأسرارها. 3 - ثم بالرغم أيضًا مما أبرزه كتاب (قواعد الأحكام) من مكانة الشيخ ابن عبد السلام في فنّ القواعد والمقاصد؛ فإن شخصية الشيخ -عمومًا- ما تزال تحتاج لكشف جوانب أخرى لامعة فيه، وذلك من خلال جملة مؤلفاته. ولقد وقفتُ على بعض الكتابات المتميزة عن الشيخ، التي قد تكشف ¬
4 - نموذج من علومه ومعارفه
عن بعض تلك الجوانب الأخرى التي ربما لا يُتفطّن لها في شخصيته. فمن ذلك: - (الشيخ عز الدين بن عبد السلام، سلطان العلماء وبائع الأمراء) للدكتور علي محمَّد محمَّد الصلّابي، ضمن سلسلةٍ سماها بـ (فقهاء النهوض). - مقدمة الدكتور سيد رضوان الندوي لتحقيق كتاب (فوائد في مشكل القرآن) للعز بن عبد السلام. - مقدمة الأستاذ عمر حسن القِيّام لتحقيق كتاب (الفروق) للقرافي (طبع حديثًا بمؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1424). 4 - نموذج من علومه ومعارفه: الشيخ ابن عبد السلام، "هو من الذين قيل فيهم: (علمُهم أكثرُ من تصانيفهم). ومرتبتُه في العلوم الظاهرة مع السابقين في الرعيل الأول. وأما في علوم المعارف والعلمِ بالله وحضور هيبته واستيلاء جلالته وعظمته. . .، فهو مما هو معروف عند أهله"، كما قاله اليافعي (¬1). ولا يتسع المقام هنا لنقل أقوال الشيخ المختلفة التي تكشف عن عبقرياته في مختلف جوانب الشريعة وعلومها. وإنما يكفي نقلُ نص واحد يمثل نموذجًا لما حباه الله تعالى من الذهن النيّر الأخّاذ المحلّق في الآفاق، في معرفة حقائق الشريعة وأسرارها. جاء في (طبقات الشافعية) لابن السبكي، كلام للشيخ عز الدين بن عبد السلام، في بيان الجامعية المعنوية لكلمات الذكر المأثورة (سبحان الله ¬
والحمد لله والله أكبر ولا إله إلا الله) (¬1)، وكيف أن هذه الكلمات الأربع، اندرجت فيها أسماء الله الحسنى التسعة والتسعون! يُبيِّن الشيخ ذلك فيقول: (وأسماؤه (¬2) مندرجةٌ في أربع كلمات هن (الباقيات الصالحات): الكلمة الأولى: قول: سبحان الله. ومعناها في كلام العرب: التنزيه والسلب، فهي مشتملة على سلب النقص والعيب عن ذات الله وصفاته؛ فما كان من أسمائه سَلْبًا فهو مندرج تحت هذه الكلمة، كـ (القدوس) وهو الطاهر من كل عيب، و (السلام) وهو الذي سَلِم من كل آفة. الكلمة الثانية: قول: الحمد لله. وهي مشتملة على إثبات ضروب الكمال لذاته وصفاته؛ فما كان من أسمائه متضمنًا للإثبات، كـ (العلم) و (القدير) و (السميع) و (البصير) فهو مندرج تحت الكلمة الثانية. فقد نَفَينا بقولنا: (سبحان الله) كلَّ عيب عقلناه، وكلَّ نقص فهمناه، وأثبتنا بـ (الحمد لله) كلَّ كمال عرفناه، وكلَّ جلال أدركناه. ووراءَ ما نفيناه وأثبتناه، شأن عظيم قد غاب عنا وجهلناه، فنحققه من جهة الإجمال بقولنا: الله أكبر، وهي الكلمة الثالثة؛ بمعنى أنَّه أجلُّ مما نفيناه وأثبتناه؛ وذلك معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك). ¬
5 - جوانب مشرقة من سيرته ومناقبه
فما كان من أسمائه متضمنًا لمدحٍ فوق ما عرفناه وأدركناه، كـ (الأعلى) و (المتعالي) فهو مندرج تحت قولنا (الله أكبر). فإذا كان في الوجود مَنْ هذا شأنُه، نَفَينا أن يكون في الوجود مَنْ يشاكله أو يناظره، فحقَّقْنا ذلك بقولنا: لا إله إلا الله، وهي الكلمة الرابعة؛ فإن الألوهية ترجع إلى استحقاق العبودية، ولا يستحق العبودية إلا من اتصف بجميع ما ذكرناه. فما كان من أسمائه متضمنًا للجميع على الإجمال، كـ (الواحد) و (الأحد) و (ذي الجلال والإكرام) فهو مندرج تحت قولنا (لا إله إلا الله). وإنما استَحقَّ العبوديةَ لِما وَجَب له من أوصاف الجلال ونعوت الكمال الذي لا يصفه الواصفون ولا يعدّه العادّون: حُسنُك لا تنقضي عجائبُه ... كالبحر حدِّث عنه بلا حرجِ) ثمَّ قال الشيخ: (ولو أُدرجت (الباقيات الصالحات) في كلمةٍ منها على سبيل الإجمال، وهي (الحمد لله): لاندرجت فيها. . .؛ فإن الحمد هو الثناء، والثناء يكون بإثبات الكمال تارةً، وبسَلْب النقص أخرى؛ وتارة بالاعتراف بالعجز عن درك الإدراك؛ وتارةً بإثبات التفرد بالكمال. والتفردُ بالكمال من أعلى مراتب المدح والكمال. فقد اشتملت هذه الكلمة (¬1) على ما ذكرناه في (الباقيات الصالحات)؛ لأنَّ الألف واللام فيها: لاستغراق جنس المدحِ والحمدِ مما عَلِمْنا وجَهِلْناه. ولا خروج للمدح عن شيء مما ذكرناه. ولا يستحق الإلهيةَ إلا من اتصف بجميع ما قررناه) (¬2). 5 - جوانب مشرقة من سيرته ومناقبه: 1 - فمن ذلك أنَّه عَرَض عليه الملك الظاهر بيبرس بعد بنائه المدرسة ¬
الظاهرية، أن يتولى الشيخُ أمرَ التدريس فيها إضافةً إلى تدريسه في الصالحية، فأَبَى وقال: إن معي تدريس الصالحية، فلا أُضيِّق على غيري! وسأله الملك أن يَشترط في وقفها أن يكون التدريس لأولاده، فقال: إن في هذا البلد من هو أحق منهم، فقال: لا بد أن يكون لهم فيها وظيفةٌ بالشرط، ففكّر الشيخ وقال: إن كان لا بد فتكون الإمامة، فشَرَط لهم. وعَرَض عليه الظاهر بيبرس أيضًا، حين مرض الشيخ ابن عبد السلام وأحس بالموت، أن يُعيِّن الشيخ مناصبه -التي كان يتولّاها- لمن يريد من أولاده، فقال: ما فيهم من يصلُح! وهذه المدرسة الصالحية تصلُح للقاضي تاج الدين ابن بنت الأعز (وهو أحد تلاميذ الشيخ)، ففُوّضتْ إليه (¬1). 2 - وكان مع فقره كثير الصدقات. ولقد وقع مرةً بدمشق غلاءٌ كبير حتى صارت البساتين تباع بالثمن القليل، فأعطته زوجته مَصاغًا لها وقالت: اشتر لنا به بستانًا نَصِيفُ به، فأَخَذ ذلك المصاغ وباعه وتصدق بثمنه! فقالت: يا سيدي اشتريتَ لنا؟ قال: نعم بستانًا في الجنة! إني وجدتُ الناس في شدة، فتصدقتُ بثمنه. فقالت له: جزاك الله خيرًا. 3 - وأفتَى مرةً بشيء، ثمَّ ظهر له أنَّه خطأ، فنادى في مصر والقاهرة على نفسه: مَنْ أَفتَى له فلان (يعني نفسَه) بكذا فلا يَعمَلْ به، فإنَّه خطأ! 4 - ومن أدعيته التي تلهج بها الألسن على المنابر يوم الجمعة، قوله: ¬
(اللهم فانصر الحق وأظهر الصواب، وأَبْرِمْ لهذه الأمة أمرًا رشدًا، يُعَزّ فيه وليُّك ويُذَلُّ فيه عدوُّك، ويُعمَل فيه بطاعتك ويُنهَى فيه عن معصيتك) (¬1). وبالجملة فالشيخ ابن عبد السلام كان أحد العلماء الربانيين، وأحد الأفذاذ من (فقهاء النهوض) (¬2) الذين اختارهم الله تعالى لتجديد فقه الشريعة. وقد اتفقت الكلمة على جلالة قدره حتى وُصف بأنّه بلغ رتبة الاجتهاد. ولقد قيل في حقه: إنه سَبَق أئمة زمانه بدمشق، بل سَبَق كثيرًا من السابقين المتقدمين (¬3). ولعل خير ما توجزه سيرةُ الشيخ ابن عبد السلام، أنه هو (من كان عصرُه تأريخًا به) (¬4). رحم الله هذا الشيخ الجليل، فلقد قال فيه عارفُو قدرِه كلمةَ حقٍّ: (لم يَرَ مثلَ نفسه، ولا رأى -من رآه- مثلَه) (¬5). وهي كلمةٌ عالية لم تُقل على مرّ التاريخ إلا في حق أعلام أفذاذٍ. ¬
ثانيا: التعريف بالبلقيني
ثانيًا: التعريف بالبلقيني (¬1): 1 - اسمه، ولادته، دراسته وتفوقه العلمي: هو شيخ الإسلام الحافظ سراج الدين عمر بن رسلان البلقيني (¬2)، المصري، الشافعي، (مفخرةُ القرن التاسع في الجمع بين علوم التفسير والحديث والأصول والفقه) (¬3). ولد في بُلقِينة (من غربية مصر) سنة 724 ونشأ وتعلّم بها، ثمَّ قدم القاهرة مع والده، وله اثنتا عشرة سنة، فعَرَض محفوظاته على جماعة منهم العلامة تقي الدين السبكي، فبهرهم بذكائه، وكثرة محفوظه، وسرعة فهمه. وأجاز له من دمشق الحافظان المزي والذهبي وغيرهما. 2 - مكانته العلمية، وثناء الأعلام عليه: وهو ممن اشتهر اسمه، وعلا ذكره، واجتمع الطلبة للاشتغال عليه بكرة وعشيًّا، وصار إمامًا يشار إليه، ومرجعًا في الإشكالات والفتاوى، وأتته الفتاوى من أقطار بعيدة ورحل الناس إليه من الأقطار النائية، وكان يخضع له كلُّ من يجتمع به لكثرة استحضاره، وأنه طبقةٌ وحدَه فوق جميع الموجودين. وأثنى عليه علماء عصره، وعظّمه أجلّاء شيوخه كأبي حيان النحوي، فإنَّه كَتَب له في الإجازة ما لم يَكتُب لأحدٍ قبله، علمًا بأن سِنّ البلقيني إذ ذاك كان دون العشرين. وقد عُمّر البلقيني وتَفَرَّد، ولم يَبْقَ من يزاحمه. ¬
3 - أعلام من تلامذته
وكان في الجملة أحفظَ الناس لمذهب الشافعي لا سيما لنصوصه، مع معرفة تامة بالتفسير والحديث والأصلين والعربية. وكانت له اختياراتٌ يفتي بها. قال عنه سبط ابن العجمي: رأيته رجلًا فريدَ دهره، لم تَرَ عيناي أحفظ للفقه وأحاديث الأحكام منه ... قال ابن حجر: وشهد جمع جمٌّ بأنّه العالِم الذي على رأس القرن (¬1)، وممن رأيتُ خطَّه بذلك في حقه، شيخنا الحافظ أبو الفضل العراقي. وقال ابن حجر: انتهت إليه الرياسة في الفقه، والمشاركةُ في غيره. قال: وكانت آلة الاجتهاد في الشيخ كاملة ... 3 - أعلام من تلامذته: تخرج به الصدور البدور من الأئمة، مثل العلامة المصنِّف المحرِّر البدر الزركشي، والحافظ شيخ الإسلام الولي العراقي أحمد بن عبد الرحيم، والحافظ المحدِّث الرُّحلة البرهان سبط ابن العجمي الحلبي، وشيخ الإسلام السراج قارئ الهداية عمر بن علي الكناني، وخاتمة الحفاظ ابن حجر العسقلاني، والحافظ مفيد البلاد الحجازية وعالمها المتقي الفاسي محمد بن أحمد بن علي. 4 - من سيرته في الحياة: وكان كثير الصدقة، طارحًا للتكلف، ناصرًا للسنة، قامعًا لأهل البدعة، مبطلًا للمكوس والمظالم، معظَّمًا عند الملوك. وكان عظيم المروءة، جميل المودة، كثير الاحتمال، كثير المباسطة ¬
5 - مؤلفاته
لأصحابه والشفقةِ عليهم والتنويهِ بذكرهم، مع مهابته. وكان وقورًا حليمًا، ذا همة عالية في مساعدة أصحابه. وكان في صفاء الخاطر، وسلامة الصدر بمكانٍ، بحيث يُحكى عنه ما يفوق الوصف. 5 - مؤلفاته: من كتبه (محاسن الاصطلاح وتضمين كتاب ابن الصلاح)، و (التدريب) في فقه الشافعية (¬1)، و (تصحيح المنهاج)، وغير ذلك. ولم يكمُل من مصنفاته إلا القليل، لأنه كان يَشرَع في الشيء، فلسعة علمه يطول عليه الأمر، فيصنِّف منه قطعةً ثمَّ يتركه، حتى إنه كَتَب من شرح البخاري، على نحو عشرين حديثًا، مجلدين! ولو قُدر إكماله لبلغ مائتي مجلد! 6 - وفاته: تُوفي -رحمه الله- يوم الجمعة قبل صلاة العصر، العاشر من ذي القعدة سنة 805 هـ، ولم يخلف بعده مثله. * * * ثالثًا: التعريف بناسخ المخطوط: أ - ترجمة الناسخ (¬2): هو القاضي تقي الدين يحيى بن شمس الدين محمَّد بن يوسف السعيدي ¬
-نسبة إلى الصحابي الجليل سعيد بن زيد أحد العشرة المبشَّرين- الكرماني القاهري الشافعي. ووالده: شمس الدين محمَّد بن يوسف، هو العلامة المحدِّث الكرماني، العَلَم الشهير، صاحب الشرح المشهور على صحيح البخاري، المسمى بـ (الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري)، (وهو المتداول باسم: شرح الكرماني)، المولود سنة 719 هـ والمتوفى راجعًا من مكة بعد الحج سنة 786 هـ رحمه الله تعالى. وُلد المترجَم (المتقي يحيى) ببغداد -موطن آبائه- سنة 762 هـ بـ (دَرب شُهْدة الكاتبة)، ونشأ بها، وحفظ القرآن، وتلقّى العلم عن عددٍ من المشايخ، ولازم غيرَ واحد من أصحاب الفنون سيّما من كان يجتمع على أبيه، واستفاد منهم كثيرًا، ولكن جُلّ انتفاعه إنما كان بوالده، فإنَّه لازمه سفرًا وحضرًا وتنقّل معه في نحو خمسين مدينةً، حتى كان معه حين مجاورته بمكة سنَتَيْ خمس وست وسبعين وسبعمئة. ومما أخذه عن والده: الكتب الستة، سماعًا غير مرة، وكتبًا أخرى في التفسير والنحو والصرف والمنطق والفقه والأصول، وسمع عليه (الوجيز) للغزالي وشرحه (العزيز) للرافعي في نحو اثنتي عشرة سنة حين إلقاء أبيه الدروس ببعض مدارس بغداد. كما سمع المترجم على أبيه: بعضَ كُتُبِ أبيه، ومن أجلّها شرحه للبخاري (الكواكب الدراري)، سمعه منه مرارًا، بل قرأ عليه بعضَه (¬1). ¬
قَدِم المترجَم من بغداد إلى القاهرة على رأس سنة ثمانمئة، فنزل تحت نظر السراج البلقيني في جامع الحاكم، ولازمه في قراءة (الفوائد الجسام على قواعد ابن عبد السلام) (¬1) وغيرها. وكَتَب من فتاويه جملةً. وأذن له البلقيني في الإفتاء والتدريس وأَخَذ عن العراقي ألفيّته، وكذا أخذ عن ابن الملقن. ولما قدم المترجَم إلى القاهرة، أَحضَرَ معه شرح أبيه على البخاري، فابتهج الناس به، وأُعجِب به الفقهاء، وكُتبتْ منه نسخ عديدة، فاشتهر من حينئذ. ووُلِّي المترجَم نظر وقف الأسرى، ووكالة بيت المال، وقضاء العسكر بدمشق، وإفتاء دار العدل بها. وكان إمامًا لنائب الشام، الأمير المؤيد شيخ المحمودي. وعُرف تقي الدين هذا بالفضيلة. قال المقريزي: كان فاضلًا في عدة فنون. وذكر السخاوي: أنَّه جلس للإفادة من صِغَره في حياة أبيه. وقال ابن حجر -كما نقل السخاوي-: (وهو سريع الخط جيّده. لديه مسائل وفوائد وفضائل). واستجاز ابن حجر منه، لابنه محمَّد. وله شرح صحيح البخاري أيضًا (سوى شرح أبيه) سماه (مجمع البحرين وجواهر الحبرين) (¬2)، قال السخاوي: (انتزعه من شرح أبيه). وله شرح صحيح مسلم. واختصر (الروض الأنف)، وكذا (تحفة المودود) لابن القيم، سماه: (المقصود من تحفة المودود). وله مصنف في الطب، وغير ذلك نظمًا ونثرًا. ¬
ب- مشاركات الناسخ العلمية في هذا الكتاب
توفي سنة 833 شهيدًا بالطاعون، بدَرب شَهيدة بالقاهرة. قال السخاوي: (فوُلِد بدَرْب شُهْدة، ومات بدَرب شَهيدة، ودُفن بحوش سعيد السعداء. . . -رحمه الله- وإيّانا). ب- مشاركات الناسخ العلمية في هذا الكتاب: هذا العنوان، دعاني إليه، ما استوقفني في أثناء خدمة الكتاب من بعض العبارات التي يظهر من خلال أسلوبها ولهجتها أنها إضافاتٌ على كلام البلقيني من طرف غيره. فإذا كان الكتاب من إملاء البلقيني، فمن يكون يا ترى مصدر هذه الإضافات؟ هذا ما كان استوقفني، ثمَّ خطرتْ ببالي إجابةٌ عنه، وهو أنَّه يبدو أن هذه الإضافات: هي من طرف الناسخ الذي هو تلميذ البلقيني والمتلقّي عنه لهذا الكتاب، فكأنه كان ينقل كلام شيخه البلقيني، ثم يضيف إليه شيئًا من عنده، ولكن بما أنه لا يميز كلامه عن كلام شيخه البلقيني، ولا يخص نسبة ما ذكره إلى نفسه، فقد يُفهم أن الكلام كله للبلقيني، ولكن المتأمل في السياق يجد أن هناك شيئًا مضافًا من عند الناسخ على كلام البلقيني، فكأن الناسخ لم يقتصر هنا على مجرد نقل أو حكاية كلام شيخه البلقيني، بل يشارك هو أيضًا بنظراته ومرئياته، ويُضفي من طابَعه ورُوحه العلمية ما يتراءى له حول ما نقله من كلام شيخه. ومما جعل هذه الخاطرة تترجح عندي، ما رأينا في ترجمة الناسخ عن مكانته العلمية، فليس هو مجردَ ناسخٍ كاتبٍ، بل هو ناسخٌ عالمٌ جيّدُ العلم. فلا شك أن مثله لا يكاد يمرّ على معلومة علمية إلا ويدقّق فيها، ويُبدي ما عنده من الرأي حولها. إذًا فليس هذا الكتاب صادرًا عن البلقيني وحده، بل نجد فيه شيئًا من
(بصمات الناسخ) أيضًا، وهو ما قصدتُ إبرازه بهذا العنوان (مشاركات الناسخ العلمية). وعلى هذا فالكتاب، بالإضافة إلى ما سبق من كونه ثمرات فكر الشيخين ابن عبد السلام والبلقيني، تزداد قيمته العلمية بما انضم إليه من مشاركات علمية جيدة لهذا الناسخ العالم تقي الدين يحيى ابن العلامة الشمس الكرماني. وفيما يلي بعض الأمثلة، التي تشفع لي في صحة ما استظهرتُه: فمثلًا: جاء في النص 234 نقلُ البلقيني عن الشيخ ابن عبد السلام: أنه لم يقف على ما يُعتمد على مثله في المفسدة التي اقتضت جعل الربا من الذنوب الكبائر. فعلق عليه البلقيني بما ظهر له من تلك المفسدة التي كانت سببًا في كون الربا في نظر الشرع من الكبائر. وبعد هذا استأنف الناسخ الكلام في الموضوع نفسه كما يلي: (واختار شيخنا (أي: البلقيني) أن الذي يكون من الربا كبيرةً، إنما هو (ربا الفضل) لقوله في الحديث: (فمن زاد أو استزاد فقد أَربَى)، إذ في الحديث أنواعٌ من الربا، ولم يُخصّ بالذكر إلا (ربا الفضل). لكن ظاهر قوله: (لعن الله آكِلَ الربا ومُوكِلَه) يقتضي التعميم. انتهى). فمن الواضح من سياق هذه الفقرة، أنها مضافة من طرف الناسخ. والذي يؤكّد ذلك، ما علّقه على رأي شيخه في هذه المسألة، في آخر هذه الفقرة، حين قال: (لكن ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - (لعن الله آكِلَ الربا ومُوكِلَه) يقتضي التعميم). ويعني الناسخ بهذا: أنه لا فرقَ في كون الربا من الكبائر، بين أن يكون ربا الفضل أو ربا النساء، وأن ما ارتآه شيخه البلقيني من هذه
التفرقة وتخصيص الوعيد بربا الفضل فقط، يخالف تعميم وإطلاق نص كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن الواضح أن أسلوب هذا التعقيب (وهو قوله: (لكن ظاهر قوله ... " لا ينسجم أن يكون صادرًا من البلقيني، إذ كيف يصح أن يتعقب هو بنفسه على نفسه؟ وتعقيب الناسخ هذا على شيخه البلقيني، يدل على أنه يتمتع بتدقيق النظر وتمحيص الفكر فيما ينقله عن شيخه البلقيني من الآراء. مثال آخر مما يدل على مشاركة الناسخ العلمية: النص 265: جاء فيه قول الشيخ ابن عبد السلام أن التوبة لها أركان: الندم، والعزم، والإقلاع. هذا الرأي للشيخ ابن عبد السلام، علَّق عليه البلقيني كما نقله عنه تلميذه الناسخ، هكذا: قال الناسخ: (قال شيخنا (أي: البلقيني): الأقرب عندي أنَّه لا يعتبر في التوبة إلا الندم فقط، ويلزم منه الإقلاع والعزم أن لا يعود، وإلا فلا يكون ندمًا نافعًا، ومن ثَمَّ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الندم توبة) ... وهذا دقيق). انتهى. فكلمة: (وهذا دقيق) في آخر هذا التعليق، يُستشف من أسلوبها، أنها جاءت على لسان هذا الناسخ، ثناءً واستحسانًا منه على ما أبداه شيخه من الرأي في حقيقة التوبة والركن الأساسي فيها، وهو أنها ندمٌ! ومقصود البلقيني أنه عند ما يصدُق هذا الندم عند التائب في توبته، سيَتْبعه تلقائيًّا الإقلاعُ عن الذنب والعزمُ على عدم العود إليه، فإذًا لا حاجة -في نظر البلقيني- إلى إضافة تلك الأركان الثلاثة في ماهية (التوبة)، بل يكفي الاقتصار على أنها (ندمٌ). وعلى هذا، فتعقيب الناسخ على رأي شيخه هنا، أنَّه دقيق، هي مشاركة
علمية منه، تدل على مقدرته العلمية الجيدة التي تُمكّنه من المفاضلة بين الآراء العلمية واختيار بعضها على بعض. والله أعلم. ومما يشير إلى مشاركات الناسخ العلمية في الكتاب: النص رقم 606: فسياق التعبير فيه في التعليق على كلام الشيخ ابن عبد السلام، يشير إلى أنه مصوغ على لسان الناسخ. وكذلك النص رقم 601: جاء فيه قول الشيخ ابن عبد السلام: (من لا يملك تصرفًا، لا يملك الإذن فيه. ويستثنى من ذلك: المرأة، فإنها لا تملك النكاح، وتملك الإذن فيه). فقد نبه الناسخ في التعليق على هذا النص: أن شيخه البلقيني استثنى استثناءً آخرَ سوى الذي ذكره الشيخ ابن عبد السلام. ثم جاء بعد ذلك سياق الكلام هكذا: (ومن فروع المسألة ...) حيث نقل الناسخ استشهادًا بفرعٍ منقول من (الروضة) للنووي، يُعتبر نظيرًا للمسألة المستثناة التي ذكرها الشيخ ابن عبد السلام، مع مناقشة هذا الفرع. فسياق التعبير وأسلوبه في إيراد هذا الفرع النظير، يبدو أنه إضافة من الناسخ. والله أعلم. إن ما سبق من الأمثلة، يُعدّ نموذجًا لقسمٍ من مشاركات الناسخ، وهي التي تتمثل في مشاركاته العلمية في صلب نصوص الكتاب نفسها. وهناك نموذجٌ لقسمٍ آخر من مشاركاته العلمية، وهي التي تظهر فيما كان يكتبه من تعليقاتٍ جانبية -في هوامش المخطوط- على كلام شيخه البلقيني، والتي تنبئ أيضًا عن مقدرته العلمية الجيدة، واستيعابه لما يُورده شيخه من المضامين في هذا الكتاب، وإبداء ما يتراءى له حولها من الأنظار العلمية.
فمن ذلك مثلًا: جاء في النص رقم 246 قول الشيخ ابن عبد السلام: (لأن تطهير الحيوان بالذكاة كتطهير الأعضاء بالمياه). فعلّق عليه البلقيني بقوله: (يقال على هذا: فيه تجوّز من جهة أن النجاسة لم تَرِد على الحيوان المأكول إلا بعد موته من غير ذكاة. ولعله أراد أن الحيوان يَحرُم حتى يُذكَّى، فكأنه قال: (لأن تحليل الحيوان بالذكاة كتطهير الأعضاء بالماء). انتهى كلام البلقيني. وعلّق الناسخ -في هامش المخطوط- أمام كلام شيخه هذا، بتأييده بأنه هو المراد، ثمَّ أتى لذلك بنظير أورده البخاري في صحيحه من قول أبي الدرداء - رضي الله عنه - معلَّقًا -: (ذَبَح الخمرَ النِّينانُ والشمسُ). وهو تعليق يدلّ على دقة الفهم وسرعة البديهة لدى الناسخ، بحيث تمكّن من استحضار نظيرٍ -من صحيح البخاري- يؤيد ما قاله شيخه البلقيني في توجيه كلام الشيخ ابن عبد السلام. ولا يكفي في مثل هذا المقام أن يكون الشخص مجردَ حافظٍ للنصوص والروايات الحديثية فقط، ما لم يكن لديه بصيرة علمية جيدة، ووعيٌ دقيق في فقه تلك النصوص، تُمكّنه من إيرادها والاستدلال بها في مواضعها الصحيحة. ومن ذلك أيضًا: ما في النص رقم 139 الذي جاء فيه قول الشيخ ابن عبد السلام: (وذلك كمن يطأ جاريةً بالإباحة معتقدًا لمذهب عطاء، فيجب الإنكار عليه). والعبارة هكذا، محل إشكال كبير، كما لا يخفى! إذ كيف يباح وطء الجواري بالإباحة، على مذهب عطاء (وهو ابن أبي رباح)؟ ولاستبعاد هذا الإشكال، عَلَّق الناسخ في هامش المخطوط أمام هذه
العبارة، ببيان حقيقة مذهب هذا التابعي الجليل، فكَتَب هكذا: (ومذهبه أن إعارة الجواري للوطء جائز). وهو توضيحٌ في غاية السداد والإجادة، وحُسنُ تصرف من الناسخ، وإلا لكان يُظن بمثل هذا التابعي الجليل، ما ليس بمرادٍ له. ومثال ثالث من تعليقات الناسخ العلمية: جاء في النص رقم 311 قول الشيخ ابن عبد السلام: (وقد أَطلق بعض أصحاب الشافعي - رضي الله عنه -، أنَّه يُستحب الخروج من الخلاف حيث وقع ...). فعلّق الناسخ أمام هذا في -هامش المخطوط- ببيان المراد ببعض أصحاب الشافعي، فكَتَب: (هو ابن أبي هريرة (¬1)، أطلقه في تعليقه). ومن ذلك أيضًا: أنَّه جاء في كلام الشيخ ابن عبد السلام في النص رقم 430 كلمة (جمع الحاج). فرأى البلقيني أنها خطأ، وأن صوابها: (جميع الحاج). هذا ما رآه البلقيني فيما يتعلق بالصواب والخطأ في هذه الكلمة. ولكن الناسخ علّق -في الهامش- على كلام شيخه، بأن تخطئة شيخه لهذه الكلمة جاءت بناء على أنه رآها هكذا في النسخة التي كانت بيده من (قواعد الأحكام)؛ وإلا فإن الناسخ قد رآها في نسخة أخرى من (قواعد الأحكام) على الوجه الآخر الصواب الذي كان يريده شيخه البلقيني فيها، أي: بلفظ (جميع الحاج)، ولهذا يرتفع إيراد شيخه في تخطئة هذه الكلمة. هذه المشاركات العلمية للناسخ، سواء في صلب نصوص الكتاب، أو في هوامش المخطوط، تُعرِّفنا بما أشار البلقيني فيما كتبه عن تلميذه هذا في ¬
آخر النسخة المخطوطة، أنه كانت له مباحثات في أثناء قراءة هذا الكتاب عليه، وأنه غاص في ذلك، وحَقَّق، ودَقَّق (¬1). فكل ذلك يفيد أن الناسخ لم يكن مجرد قارئ، بل كان يباحث شيخه البلقيني، ويحقق معه ما يمليه عليه من مضامين هذا الكتاب، ومن ثَمّ كان يشارك بمرئياته ونظراته العلمية حسب ما تتبدّى له. وبالجملة، فالذي خَلَصتُ إليه من خلال العمل في هذا الكتاب، أن يقال -في نهاية هذا العنصر المتعلق بمشاركات الناسخ العلمية-: إن أصل مضامين الكتاب وإن كانت إملاءً من البلقيني -رحمه الله-، فمع ذلك يبدو أنَّه كان للناسخ أثرٌ ومشاركةٌ في استيعاب تلك المضامين من شيخه، ثمَّ في عرضها وصياغتها والتعبير عنها على الصورة التي بين أيدينا من هذا الكتاب. وبهذا لا حرج أن يقال: إن نِتاج مادة هذا الكتاب على الوجه الموجود بين أيدينا: لعله لم ينفرد به البلقيني، بل شاركه فيه، وشَدّ عضُدَه: تلميذُه الناسخ العالِم تقي الدين يحيى ابن العلامة شارح البخاري الشمس الكرماني. والله تعالى أعلم. ¬
المبحث الثالث وصف المخطوط
المبحث الثالث وصف المخطوط أ- قيمة النسخة المخطوطة المعتمدة في إخراج الكتاب: النسخة التي اعتُمد عليها في هذا العمل، هي نسخة وحيدة، لكنها نفيسة قيّمة، ذلك أنها: أولًا: مكتوبة بيد رجل عالمٍ ابنِ عالمٍ، ومع كونه كذلك فهو في الوقت نفسه تلميذٌ للبلقيني. ثانيًا: أنها نسخة مقروءة -في الجملة (¬1) - على البلقيني، بقراءة هذا التلميذ الناسخ نفسه، وهو ما صرّح به البلقيني، بل كتبه بخط يده في آخر النسخة، كما يلي: (أما بعد حمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد وآل سيدنا محمَّد والتابعين. فقد قرأ عليّ الشيخ الفاضل. . . تقي الدين أبو السعادات يحيى، ابن الشيخ الإمام العالم. . . شمس الدين أبي عبد الله محمَّد، ابن الشيخ المرحوم جمال الدين يوسف الكرماني ... ، قطعة كبيرة من (الفوائد الجسام على قواعد شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام)، فبحث في ذلك وحَقَّق، وغاص على المعاني ودَقَّق. . . قال ذلك، وكتبه الفقير إلى عفو ربه، عمر البلقيني ...). ¬
وجاء التصريح بهذا أيضًا في موضعين من هوامش النسخة: -فأحد الموضعين يقول فيه الناسخ: (بلغ كاتبه قراءة على مؤلفه شيخ الإسلام). (بداية الورقة 5 / ب من المخطوط). - أما الموضع الآخر فهو مكتوب بخط البلقيني نفسه، ونصه: (بلغ قراءة وتحقيقًا، وهذا الأصل بيد صاحبِه صاحبِنا الشيخ تقي الدين الكرماني، نفع الله تعالى به. وكتبه مؤلفه، لَطَف الله تعالى به). (نهاية الورقة [12 / أ] من المخطوط). وبالإضافة لما تقدم، يوجد أربعة عشر موضعًا في المخطوط، ثبتت فيها الإشارة لمجالس هذه القراءة، بكلمة (بلغ) (¬1). ثالثًا: أن الناسخ حين قرأ هذه النسخة على شيخه البلقيني، لم يكن مجرد قارئ لها، بل كان يباحث شيخه، ويشاركه الرأي في التحقيق والغوص ¬
على المضامين والمعاني. فإذًا لم تكن قراءته مجرد قراءة سَرد وعرضٍ، بل كانت قراءة تحقيق وتدقيق وتمحيص لما كان يمليه شيخه البلقيني. رابعًا: أن البلقيني أثبت خطَّه عليها في موضعٍ في أثناء النسخة، وكذلك في آخر النسخة. خامسًا: أن الناسخ أشار إلى وجود فروقٍ واختلافٍ في بعض الكلمات بين نسخته هذه وبين نسخة أخرى؛ مما يدلّ أنه اعتنى بتوثيق نسخته هذه ومقابلتها بتلك النسخة الأخرى. فمن ذلك: ما جاء في النص رقم 81 (اللوحة 12 / أمن المخطوط)، قول الشيخ ابن عبد السلام: (التضحية بالأينق أولى لِما فيها من تعميم الإقاتة والنفع). فكلمة (الإقاتة) جاءت هكذا في النص (مشتقة من مادة الاقتيات). لكن الناسخ وضع أمامها في الهامش كلمة (الإفادة) ووضع عليها حرف (خ)، يشير بذلك إلى أن كلمة (الإقاتة) وقعت في تلك النسخة الأخرى بلفظ (الإفادة). ومثال آخر: جاء في النص رقم 97 (اللوحة 14 / أمن المخطوط) قول الشيخ ابن عبد السلام: (فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة، درأنا المفسدة وإن فوّتْنا المصلحة) (¬1). فكلمة (وإن فوّتْنا المصلحة) كتب الناسخ أمامها في الهامش: (ولا نبالي بفوات المصلحة) ووضع عليها حرف (خ)، أي: فيكون سياق الكلام في ¬
النسخة الأخرى هذه التي أشار لها الناسخ بـ (خ) هكذا: (فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة، درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة) (¬1). ومثال ثالث: ما جاء في النص رقم 486 (اللوحة 51 / أمن المخطوط) من قول الشيخ ابن عبد السلام: (وأما التعبير بـ (لفظ الشرط) عن (أسباب الأسباب المحذوفة)، فله أمثلة ...). ففي أصل المخطوط وقع الكلام هكذا: (وأما التعبير بلفظ الشرط عن الأسباب المحذوفة) بدون كلمة (أسباب) المنكّرة. ولكن الناسخ وضع بعد كلمة (الشرط) وقبل كلمة (الأسباب)، علامةَ ¬
لَحَقٍ إلى جهة الهامش، ثمَّ كتب في الهامش كلمة (أسباب) المنكّرة، ووضع عليها حرف (خ)، إشارة إلى أن هذه الكلمة المنكّرة ثابتة هنا في هذا المكان في نسخة أخرى، فتصير العبارة على الصواب بتمامها هكذا: (وأما التعبير بـ (لفظ الشرط) عن (أسباب الأسباب المحذوفة) (¬1). ومما تجدر الإشارة إليه هنا: أنني كنتُ أحسب بادئ ذي بدء، أن هذه النسخة الأخرى التي يرجع إليها الناسخ ويقابِل بها؛ هي نسخة أخرى من نفس كتاب (الفوائد الجسام). هكذا حسبتُ وقدّرتُ، وعلى ذلك مشيتُ طوال العمل في الكتاب، إلى أن كنتُ قرب الانتهاء من العمل -وخصوصًا أثناء كتابة هذه المقدمة- إذ خطرت ببالي خاطرة أخرى صارت هي المعوَّل عليها، والفيصلَ في أمر هذه النسخة الأخرى. وهي أن هذه النسخة الأخرى ليست نسخةً ثانية من كتاب (الفوائد الجسام)؛ بل يظهر أنها نسخة من كتاب الشيخ ابن عبد السلام (قواعد الأحكام)، وأن الناسخ رجع إليها لمقابلة وتوثيق نصوص الشيخ ابن عبد السلام التي نقلها البلقيني، وعلّق عليها. والذي قوَّى هذا الاحتمال عندي، أنني رجعتُ إلى جميع تلك الكلمات التي أشار الناسخ فيها إلى وقوع الاختلاف فيها بين نسخته الحالية وبين النسخة الأخرى، فوجدتها كلها واقعة ومحصورة في نفس نصوص الشيخ ابن عبد السلام، وليس شيء منها من كلام البلقيني (سوى النص رقم 474، وهو أيضًا يرجع في الحقيقة إلى أصل نص كلام الشيخ). فكون الناسخ لم يشر إلى الخلاف في تلك الكلمات، إلا في عبارات ¬
الشيخ ابن عبد السلام فقط، ربما يرجّح القول بأن النسخة الأخرى، هي نسخة من كتاب (قواعد الأحكام) وليست من (الفوائد الجسام). ثمَّ مما جعلني أجزم بهذا الاحتمال ويستقر عليه رأيي، أنني وجدتُ دليلًا واضحًا عليه من كلام الناسخ نفسه، وذلك فيما جاء في النص رقم 430. ففي هذا النص نقل البلقيني قول الشيخ ابن عبد السلام: (فإن كانوا شرذمةً قليلةً، وجب القضاء. وإن كان جَمْع الحاجّ، لم يجب القضاء). انتهى. هكذا نقل البلقيني كلام الشيخ ابن عبد السلام، ثمَّ علّق عليه بتصحيح كلمة (جَمْع)، فقال: (صوابه: جميع، أو أكثرهم). ويقصد البلقيني أن كلمة (جَمْع الحاج) الواقعة في كلام الشيخ ابن عبد السلام، صوابها أن تكون: (جميع الحاج. . .). هذا ما قاله البلقيني، لكن عَلَّق عليه تلميذه الناسخ في هامش المخطوط بقوله: (أقول: كأن نسخة شيخنا كانت: (جَمْع). وأما النسخة التي رأيتُها، فهي (جميع)، فحينئذ السؤالُ ساقط). انتهى كلام الناسخ. فينظر، كيف أن الناسخ يقارن هنا بين نسختين في تصويب كلمة جاءت في لفظ كلام الشيخ ابن عبد السلام، وكيف استدرك على شيخه البلقيني بأن تلك الكلمة جاءت -في نسخة أخرى- على الصواب تمامًا حسب ما كان يريده شيخه فيها. ومن الواضح أن استدراك الناسخ هذا -على شيخه البلقيني- لا يصح، ولا يُثمر نتيجةً، إلا إذا كانت تلك النسخة الأخرى التي يقول عنها: إنه رأى فيها هذه الكلمة على الصواب، هي من نفس كتاب (قواعد الأحكام).
وبهذا يقال: إن النسخة الأخرى التي أشار إليها الناسخ: هي نسخة أخرى من كتاب (قواعد الأحكام) للشيخ ابن عبد السلام، وأن الناسخ قابل بها، ووثَّق بها نصوص كلام الشيخ ابن عبد السلام التي كان ينقلها البلقيني. ويُخلص مما تقدم إلى القول بأن هناك نسختين مبطّنتين من كتاب (قواعد الأحكام) ضمن كتابنا هذا (الفوائد الجسام): إحداهما: نسخة البلقيني من (قواعد الأحكام) التي كان ينقل منها نصوص الشيخ ابن عبد السلام، ثمَّ يعلّق عليها. والأخرى: نسخة الناسخ من نفس (قواعد الأحكام) أيضًا، التي كان يرجع إليها، ويقارن بها ما ثقله شيخه البلقيني من تلك النصوص، ويُثبت الاختلافات بينها وبين نسخة شيخه. وينبني على ما سبق نتيجة مهمة: وهي أن طبعة دار القلم المحققة من كتاب (قواعد الأحكام)، الصادرة بتحقيق الأستاذين الدكتور نزيه حماد والدكتور عثمان ضميرية، اعتمد فيها المحققان على سبع نسخ خطية للكتاب. ولكن ظهر لي أن نسختَيْ (قواعد الأحكام) هاتين (أي نسخة البلقيني، ونسخة الناسخ) المضمّنتين هنا في (الفوائد الجسام)، هما غير تلك النسخ السبع التي تم اعتمادها في تحقيق هذه الطبعة من (قواعد الأحكام). وللتدليل على هذا، أكتفي بذكر مثالين -يقاس عليهما غيرهما- يتضح بهما ما أريد أن أصل إليه من هذه النتيجة. فالمثال الأول: من النص رقم 81: وقع في هذا النص اختلاف في لفظ (الإقاتة) بين ما أثبته البلقيني من نص كلام الشيخ ابن عبد السلام من نسخة (قواعد الأحكام) التي عنده، وبين ما نبه إليه الناسخ من النسخة الأخرى
للكتاب نفسه. فاللفظ جاء هكذا (الإقاتة) عند البلقيني؛ أما في نسخة الناسخ، فهو: (الإفادة). وقد جاء هذا اللفظ في طبعة دار القلم من (قواعد الأحكام) حسب ما أثبته البلقيني، أي: بلفظ (الإقاتة)، ولم يُشر المحققان إلى ورود هذا اللفظ عندهم في أي نسخة من النسخ السبع التي بين أيديهم، بلفظ (الإفادة) (الذي جاء في نسخة الناسخ من (قواعد الأحكام)، مما يدل أن تلك النسخ السبع، كلها متفقة في هذا اللفظ حسب ما أثبته البلقيني؛ وأنه لا يوجد هذا اللفظ في أي منها، بلفظ (الإفادة) حسب ما جاء في نسخة الناسخ، وإلا لكان المحققان أشارا إلى ذلك حسب ما يحرصان عليه من التنبيه الدقيق على فروق النسخ. فيثبت بهذا المثال أن (نسخة الناسخ) من (قواعد الأحكام) هي غير النسخ السبع التي صدرت عليها طبعة دار القلم. أما المثال الثاني: فهو من النص رقم 430 الذي وقع فيه اختلاف بين نسخة البلقيني من (قواعد الأحكام) وبين نسخة الناسخ، في لفظ (جَمْع الحاج) و (جميع الحاج). فقد جاء في نسخة البلقيني على الصورة الأولى، بينما صرح تلميذه الناسخ في الاستدراك على شيخه أنه وجده في نسخة أخرى على الصورة الثانية. والأمر هنا فيما يتعلق بطبعة دار القلم من (قواعد الأحكام): على العكس من المثال الأول السابق؛ يعني أن هذا اللفظ وقع في هذه الطبعة، طبقًا لما أشار إليه الناسخ، أي: بلفظ (جميع الحاج)، وليس كما أثبته البلقيني بلفظ (جَمْع الحاج)؛ ولكن هنا أيضًا سكت المحققان عن الإشارة إلى أي اختلاف في هذا اللفظ فيما بين أيديهم من النسخ السبع للكتاب، مما يدلّ أن تلك النسخ السبع كلها متفقة في إيراد هذا اللفظ حسب ما أثبته
الناسخ، وأنه لم يأت في شيء منها حسب ما أثبته البلقيني، وإلا فلو كان ورد في شيء منها كما أورده البلقيني، لكان المحققان أشارا إلى ذلك في التنبيه على فروق النسخ. وثبت بهذا المثال الثاني: أن نسخة البلقيني من (قواعد الأحكام) هي أيضًا غير النسخ السبع التي رجع إليها محقِّقا هذا الكتاب. هذان مثالان للتدليل على ما أريد أن أصل إليه من هذه النتيجة، وهي أن نسختَيْ (قواعد الأحكام) هاتين (أي نسخة البلقيني ونسخة الناسخ) هما نسختان أخريان غير النسخ السبع الخطية المعتمدة في طبعة دار القلم. وهكذا وجدتُ الأمر فيما يتعلق بباقي النصوص أيضًا التي نبه الناسخ فيها إلى اختلافٍ بين ما يُثبته البلقيني من كلام الشيخ ابن عبد السلام، وبين ما يجده الناسخ في النسخة الأخرى. فلم أجد في تلك النصوص أيضًا -في طبعة دار القلم المحققة المشار إليها من (قواعد الأحكام) -، أيَّ تنبيه من طرف المحققين إلى فروق النسخ فيها، مما يدلّ أنه لا توجد عندهم في تلك النسخ السبع أيُّ اختلافات في تلك النصوص. وإلا فلو كانت تلك الاختلافات موجودة أمامهما، في أي نسخة من تلك النسخ السبع، لَمَا أغفلا الإشارة إليها، خصوصًا مع حرصهما على إثبات فروق النسخ بمنهجية دقيقة، ولو كان الفرق يتعلق باختلاف حرفٍ واحدٍ فقط. فيدل كل ذلك أن ما بين أيديهم من النسخ السبع لكتاب (قواعد الأحكام)، هي غير هاتين النسختين اللتين كَشَف عنهما كتابنا هذا (الفوائد الجسام) (¬1). ¬
ولا أريد بهذا، الاستدراك على هذين الأستاذين فيما يتعلق بأمر هاتين النسختين، خصوصًا مع ما بذلاه من جهد طيب مشكور في إخراج هذا الكتاب النفيس (قواعد الأحكام) وتحقيقه -لأول مرة- على تلك النسخ السبع الخطية بعناية فائقة، وإنما أردتُ مجرد توجيه النظر إلى قيمة كل من هاتين النسختين الإضافيتين. ولا يخفى أنهما نسختان عاليتان: فقد اعتَمَد على إحداهما العلامة البلقيني في نقل نصوص الشيخ ابن عبد السلام، ثم التعليقِ عليها في كتابه هذا (الفوائد الجسام). أما النسخة الثانية فقيمتها تظهر من جهة أن ناسخ (الفوائد الجسام) -وهو تلميذ البلقيني والمتلقي لهذا الكتاب عنه-، اعتمد عليها في توثيقِ تلك النصوص من كلام الشيخ ابن عبد السلام التي نقلها شيخه البلقيني، ومقابلتِها بما جاء فيها والإشارةِ لما وقع من اختلاف بينها وبين نسخة شيخه البلقيني. ¬
ومن الواضح أنه لم يمكن معرفةُ هاتين النسختين والوقوفُ عليهما إلا من خلال هذا الكتاب (الفوائد الجسام)، فلعل ذلك يكون داعيةً للبحث عنهما -أو ما يوافقهما من النسخ- لتُضافا إلى النسخ السبع السابقة، حين إخراج الطبعة القادمة من كتاب (قواعد الأحكام). سادسًا: أن الناسخ اعتنى بنَسْخ الكتاب وكتابته وفق منهج علمي دقيق (¬1). وفذلكة الكلام في مميزات هذه النسخة المخطوطة لكتاب (الفوائد الجسام): - أنها نسخة مكتوبة بيد رجلٍ عالمٍ -وليس هو مجرد ناسخ-، ثمَّ هو في الوقت نفسه تلميذ للبلقيني. - وهي نسخة مقروءة -في الجملة- بقراءة الناسخ نفسه على شيخه البلقيني. ولم تكن قراءته قراءة سَردٍ فقط، بل قراءة معايشة لمضامين الكتاب والمباحثة فيها مع شيخه. - وعلى النسخة خط البلقيني. - ثمَّ إن نصوص الشيخ ابن عبد السلام التي كانت محلَّ تعليق البلقيني، وكان البلقيني نقلها من نسخة عنده من (قواعد الأحكام)؛ وثَّقها الناسخ من نسخة أخرى من نفس كتاب (قواعد الأحكام). - وأخيرًا، هي نسخة مُتقنة دقيقة من حيث القواعد العلمية المطلوبة للنسخ والكتابة. فجملة تلك المميزات، تُضفي على هذه النسخة قيمة علمية رفيعة. ¬
ب- وصف المخطوط شكلا
ب- وصف المخطوط شكلًا: سبق أن النسخة التي اعتُمد عليها في هذا العمل، هي نسخة وحيدة لكنها نفيسة قيّمة، وفيما يلي وصفها: 1 - هي من محفوظات مكتبة أيا صوفيا السليمانية بتركيا، رقمها (1000)، عدد أوراقها: 64 ورقة، كل ورقة (مقسمة إلى قسمين: أ، ب)، وعدد الأسطر: ما بين 22 إلى 26 سطرًا. وخطها رقعة واضح. 2 - ويبدو من ورقة العنوان (الورقة 2) أن هذا الكتاب يقع ضمن مجموع يشتمل على كتب أخرى، وهي التي كُتبت أسماؤها في أعلى ورقة العنوان. 3 - وعلى ورقة العنوان (الورقة 2 في الجهة اليمنى) نص وقفية للكتاب من طرف السلطان العثماني محمود خان، رحمه الله تعالى. 4 - ثمَّ إن ورقة العنوان مليئة بفوائد مكتوبة بقلم الناسخ، وأكثرُها أبيات شعرية من الحِكم والمواعظ، أو أشعار في مدح أعلام علماء الشافعية أو مدح كتبهم، وهذه الأشعار منها ما هو من إنشاد شيخ الإسلام السراج البلقيني صاحب الكتاب نفسه، أو من إنشاد ولده الجلال البلقيني، كما صرّح الناسخ بكل ذلك. كما جاءت بعض الفوائد -بقلم الناسخ- في آخر المخطوط أيضًا. ولا بأس بنقل فائدتين من تلك الفوائد المشار إليها في أول المخطوط وآخِرِه. فإحداهما فائدة حديثية، جاءت في أول المخطوط، أسفل ورقة العنوان، كتبها الناسخ نقلًا عن شيخه الجلال البلقيني ولد شيخه السراج البلقيني، وهي: (حنظلة بن حِذْيَم بن حَنيفة بن حِذيَم، كلهم صحابيون (¬1). ولا يوجد ¬
غيره هكذا من الصحابة سوى في بيت الصديق: عبدُ الله بن أبي بكر بن أبي قحافة، كلهم صحابيون. وكذلك عبدُ الله -بن الزبير- بن أسماء (¬1) بنت أبي بكر بن أبي قحافة، واسمه: عثمان). انتهت الفائدة. أما الفائدة الأخرى فهي طويلة، جاءت في آخر المخطوط. وهي ضابط فقهي نقله الناسخ عن شيخه السراج البلقيني صاحب هذا الكتاب، فقال: (فائدة من شيخ الإسلام، أحيا اللهُ به من العلم ما دَرَس، وأَبقَى مُهجتَه وحَرَس: الشهور في الأبواب كلها بالأهلة، إلا في مسألتين: إحداهما: أقل مدة الحمل. والذي ذكره الفقهاء في أقل مدة الحمل أنه ستة أشهر، ولم يتعرضوا لكونها (هلالية) أو (عددية). والصواب أنها (عددية) لأن في حديث ابن مسعود في الصحيحين: صريح بأربعين يومًا للنطفة، وأربعين يومًا للعلقة، وأربعين يومًا للمضغة؛ الجملة: مئة وعشرون يومًا، هي أربعة أشهر (عددية)، والباقي من الستة لا يمكن أن يكون (هلاليًّا) ويكون الأول (عدديًّا)! للتبعيض الذي لم يَصِرْ إليه أحد من العلماء، فوجب أن تكون كلها (عددية). ولم أجد في ذلك تصريحًا في كتب الشافعية ولا في كتب الحنفية ولا في كتب الحنابلة. ووجدتُ في كلام القاضي عياض في (التنبيهات): التصريحَ بالمسألة، وحَكَى فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها عددية كلها ... وهو الذي قدّمناه؛ والثاني: يُغتفر نقصان. . . (¬2) والثالث: يُغتفر نقصان ستة أيام، وهو أبعدُها. ¬
ج - وصف المخطوط مضمونا
والمسألة الثانية: دَوْرُ المستحاضة: (عددي)، على ما فُصّل في كتاب الحيض). انتهت الفائدة بطولها. 5 - ومن أهم ما جاء في آخر المخطوط: كتابة طويلة بقلم البلقيني، نص فيها على: 1 - قراءة الناسخ -وهو تلميذه- لقطعة كبيرة من هذا الكتاب عليه، مع الثناء عليه بجودة التلقي في طلب العلم والتحقيق فيه. 2 - ما قرأه هذا التلميذ الناسخ، عليه من كتب الحديث الشريف. 3 - ثم إجازة البلقيني لتلميذه هذا، بجميع مصنفاته ومرويّاته. 6 - ثم بعد ذلك أورد الناسخ -في آخر المخطوط- قصيدة طويلة لشيخه البلقيني، نَظَمها في مدح كتاب (قواعد الأحكام) ومحتواه، وهي في أكثر من خمسين بيتًا. ج - وصف المخطوط مضمونًا: 1 - من أهم ما يقال في بداية هذا العنصر: أن هذه النسخة لكتاب (الفوائد الجسام) التي نسخها تلميذ البلقيني تقي الدين يحيى الكرماني، يمكن أن تُعتبر هي نسخةً وحيدةً بحسب ما وصل إلينا من نسخ هذا الكتاب، وإلا فيبدو أنها ليست وحيدة في حقيقة الأمر، بل توجد إشارات من الناسخ في داخل نسخته هذه إلى ما يُلوِّح بأنه كانت توجد بيده نسخة أخرى من هذا الكتاب غير نسخته هذه الخاصة به (¬1). والدليل على هذا أنني وجدتُ الناسخَ وَضَع حرف (خ) -التي هي علامةٌ للإشارة إلى نسخٍ أخرى- على بعض كلمات الكتاب: ¬
فمن ذلك أن البلقيني يُورِد نص كلام الشيخ ابن عبد السلام، بلفظ: (قوله)، ثم يسوق العبارة، ثم يعلّق عليها. هكذا يفعل البلقيني في جميع ما يسوقه من نصوص الشيخ ابن عبد السلام، فيسوقها مبتدئًا بكلمة (قوله). وقد وَضَع الناسخ علامة (خ) على كلمة (قوله)، في بداية النصين رقم 530 ورقم 601، وكأنها إشارة منه إلى أن إثبات كلمة (قوله) هنا، مستدرَكٌ من نسخة أخرى من كتاب (الفوائد الجسام)، وأنه ينبغي إثبات هذه اللفظة في هذين الموضعين كما هي عادة البلقيني في سائر الكتاب. وعلى هذا، فإن صح هذا التخمين والتقدير، فإن نسخة الناسخ هذه التي يتم إخراج هذا العمل وفقًا لها، يمكن أن تُعتبر نسخةً وحيدةً بحسب ما وصل إلينا من نسخ هذا الكتاب، وإلا فلا تكون وحيدةً بحسب الحقيقة والواقع، بل ربما كانت هناك نسخ أخرى لهذا الكتاب لم تصل إلينا. 2 - إن هذه النسخة للكتاب -مع كونها نسخة وحيدة- هي مُتقَنة النسخ، أبان فيها الناسخ عن مظاهر الدقة والاعتناء التي تتميز بها الكتابة العلمية عن الكتابة غير العلمية. أ- فمن أجود وأعلى ميزات الناسخ: عنايته بضبط الكلمات، سواء بالتشكيل بالحركات وهو الأغلب، أو بالضبط بالحروف وهو نادر. وكان الناسخ متيقظًا دقيقًا في الحرص على ضبط بعض الكلمات، بحيث إنه إن لم يضبطها لأدّى ذلك إلى اشتباهها على القارئ ووقوعِه -لا محالة- في خطأ قراءتها، فيتغير المعنى المقصود. - مثل: ضبط كلمة (قَتَل) في جملة (كما إذا قَتَل في قطعٍ لطريقٍ ...) في النص رقم 127، فقد حَرَص الناسخ على ضبطها بالبناء للمعلوم؛ لئلا تُقرأ بالمجهول (قُتل) فتكون خطأً. - ومثل ضبطه لجملة (الحر يَملِك) في النص رقم 130، فقد حَرَص
الناسخ فيها على ضبط كلمة (يَملِك) بفتح الياء وكسر اللام، لئلا تُقرأ -عن غير قصد- عند إهمال ضبطها: (يُملَك) بالبناء للمجهول، فتكون خطأً فادحًا. ومن أمثلة هذا التيقظ لدى الناسخ ودقته العلمية في ضبط الكلمات المشتبهة التي ربما يخطئ القارئ في قراءتها لو لم تُضبط، أو يُظن بأن الناسخ نفسه ربما يكون أخطأ في ضبط تلك الكلمة، وأن الصواب فيها خلاف ما ضبطها الناسخ: ما نراه في ضبط كلمة (المخبَرون) (النص رقم 399)، فقد دقَّق الناسخ في ضبط (الباء) هنا، فضبطها أولًا بوضع الفتحة عليها، ثم لم يكتف بذلك بل نص على ضبطها صريحا بالكلمات، فقال عقبها (بفتح الباء)، وما ذلك إلا لأن الكلمة محل اشتباه كبير في السياق؛ لأن تُقرأ بكسر الباء حسب المتبادر الذي تسبق إليه الألسنة لدى قراءتها من أول وهلة، فكان من دقة الناسخ وتيقظه: أن اعتنى بالضبط الحرفي الصريح؛ لئلا يظن القارئ عند الاكتفاء بوضع الفتحة على الباء فقط، أنه ربما كان ذلك سهوَ قلم من الناسخ، وأنه أخطأ في ذلك، وأن الصواب فيها كسر الباء! فلإزالة هذا الاشتباه والالتباس لدى القارئ، احتاط الناسخ فنصّ على الضبط صريحًا مع الضبط بالتشكيل؛ ليطمئن القارئ أن وضع الفتحة على الباء ليس خطًا وسهوًا من الناسخ، بل هو الصواب المتعين هنا. ب- ومن مظاهر الدقة لدى الناسخ فيما يتعلق بالضبط: عنايته باستعمال بعض علامات الضبط والتقييد التي تُتبع في الكتابة العلمية: - فمن ذلك: وضع علامة اللَّحق للكلمات التي تسقط من صلب المتن، فتحتاج إلى أن تُكتب في الهامش أمام اللحق. ومن التدقيق العلمي في كتابة هذه الكلمات في الهامش -وهو ما يفعله الناسخ- أن لا يُكتَفَى بمجرد كتابتها وإلحاقها في الهامش فقط، بل ينبغي أن توضع عليها علامة (صح) لإشعار القارئ بأن هذه الكلمة هي في موضعها الصحيح هنا، وليست مقحمة خطأً.
وقد بدا من خلال تصفح المخطوط، أن الناسخ التزم بوضع هذه العلامة (صح) على جميع الكلمات الساقطة التي كان يضع لها لَحَقًا، ثم يكتبها أمام اللحق في الهامش، إلا في ثلاثة مواضع: فأول تلك المواضع: في النص رقم 142 (اللوحة 18 / ب) جاءت هنا آية {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. فهذه الآية سقط منها من بدايتها كلمة {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ}، ثم سقط من أثنائها كلمة {أَحْيَا} الثانية. فوضع الناسخ لكلتا الكلمتين، علامة لَحَق في داخل المتن، ثم كتبهما في الهامش، ولكن لم يضع عليهما علامة (صح). ولعل سبب ذلك واضح، وهو أنهما كلمتان من آية قرآنية، وهي لا يمكن أن تكون إلا هكذا، فلا داعي لعلامة (صح) هنا. وثاني تلك المواضع: في النص رقم 276 (اللوحة 31 / أ) جاء فيه قول البلقيني: (وحينئذ فمجموع نية المؤمن خيرٌ من مجموع فعل الكافر) وقد سقطت كلمة (فعل) من المتن، فوضع لها الناسخ لَحَقًا وكتبها في الهامش بدون علامة (صح). وثالث المواضع: في النص رقم 282 (اللوحة 31 / ب) جاء فيه قول البلقيني: (قد يجب النظر في المصحف للمصلي الذي لا يحفظ الفاتحة إذا أمكنه ذلك) وسقطت كلمة (الذي) منه من المتن، فوضع الناسخ عندها علامة اللحق، ثم كتبها في الهامش بدون علامة (صح). - وفي بعض المواضع لم يضع الناسخ علامة اللحق للكلمات الساقطة من المتن، بل أَكمل ذلك المقدار الساقط من النص، بكتابته مباشرةً ملاصقًا للكلمة التي سقط من عندها الكلام، ثم وضع في النهاية علامة (صح) (¬1). ¬
- ومن مظاهر استعمال الناسخ لعلامات الضبط: وضع حرف حاء مهملة صغيرة تحت بعض الكلمات التي تشتمل على هذا الحرف، وفيها احتمال الاشتباه أو الغلط في القراءة. ينظر مثلًا: اللوحة 50 / ب من المخطوط: عبارة (ويقترن الانعقاد والصحة بآخر حروفه)، فقد وضع الناسخ (ح) صغيرة تحت حاء (حروفه) لأنه بيَّن هناك في الهامش أن كلمة (حروفه) هذه نفسها، فيها وجه آخر وهي أنها تحتمل أن تكون (جزء منه)، فللتمييز بين الجيم من (جزء) وبين الحاء من (حروفه) وضع تلك الحاء الصغيرة تحت (حروفه) للتأكيد على أنها حاءٌ وليست جيمًا (¬1). ج- من مظاهر دقة الناسخ واتباعه للمنهج العلمي في النسخ: إثباته لـ (التعقيبة). والتعقيبة هي أن يكتب الناسخ في نهاية كل لوحة، الكلمةَ التي تبتدئ بها اللوحة التالية؛ لتنبيه القارئ إلى ربط الكلام في بداية اللوحة التالية بما سبق في اللوحة التي قبلها. وفائدة هذا تظهر فيما لو فُرض مثلًا أنه وُجد سقط أو طمس في نهايات لوحات المخطوط أو في بداياتها، أو حصل خلط في ترتيب أوراق المخطوط، فإن إثبات هذه التعقيبة ستدل القارئ على الكلمة الصحيحة التي يبتدئ بها كل لوحة من المخطوط، وبذلك يصل إلى بُغيته ¬
بدقة. وهذا ما يجعل أهميةً لـ (التعقيبة) بحيث يُستدل بوجودها لدى أي ناسخ من نساخ المخطوطات، على دقة المنهج العلمي لديه في فن النسخ. وقد اتّبع ناسخ (الفوائد الجسام) هذه الطريقة، فأَثبت التعقيبة في أسفل لوحات المخطوط، في نهاية الوجه (أ) من كل لوحة، فكان يُثبت هناك الكلمة التي يبتدئ بها الوجه (ب) من نفس اللوحة. وهكذا مَشَى في جميع لوحات المخطوط. د- ومن مظاهر دقة الناسخ: ما يتعلق بتصحيح الكلمات التي كُتبت خطأً، وتحتاج إلى تصحيح. فمن ذلك ما هو معروف من طريقة الضرب على الكلمة التي كُتبت خطأً في المتن، ثم كتابتها مرة أخرى صحيحة في الهامش. وهذا ما فعله الناسخ في بعض الكلمات كما في النص رقم 20 الذي جاء فيه قول الشيخ ابن عبد السلام: (وكذلك قراءة حمدلة الفاتحة في الصلاة، مساوية لقراءتها في غير الصلاة، مع أنها أفضل منها إذا قُرئت خارج الصلاة). فكلمة (مساوية) كانت كُتبت في داخل المتن: (مستوية) فضَرَب عليها الناسخ، ووَضَع عندها علامة لحق إلى جهة الهامش، ثم كتب الكلمة في الهامش صحيحة (مساوية) مع التصحيح عليها. وقد يكتفي بالضرب فقط على موضع الخطأ في الكتابة -دون إعادة كتابة الصواب في الهامش- إن كان ذلك كافيًا في إشعار القارئ، وتنبيهه لموضع الخطأ. ومن براعة الناسخ في هذا الصدد: ما فعله في قول البلقيني في النص رقم 119: (نعم يُعطَى اليقينَ فيما إذا خلّف زوجة حاملًا وأبوين، فإن للزوجة ثُمُنًا عائلًا، وللأبوين سُدسين عائلين، لأن لكلٍّ منهما ها هنا مقدارًا يرجع به على التركة، فأُعطِيَه عائلًا، لأنه لا يمكن أن يأخذ أقل منه على كل تقدير).
ففي هذه العبارة كان وقع خطأ في الكتابة في موضعين: - الخطأ الأول في كتابة كلمة (وأبوين)، حيث كُتبت بحرف (أو) هكذا: (أو أبوين). والصواب أنها بـ (الواو). فصحح الناسخ هذا الخطأ بتصرف قليل، بأنْ اكتفى بشطب همزة (أو) فقط، وتَرَك حرف (و) كما هو، بل زاد دقةً في التصحيح فوَضَع على هذه الواو - بعد أن شَطَب همزتها- فتحةً هكذا (وَ)؛ ليؤكد للقارئ بأن (الواو) هي الصواب، إذ إنها لو كانت (أوْ) لكانت (الواو) فيها ساكنة لا مفتوحة. فكون الناسخ يضع فتحةً هنا على الواو، هو تلميح ذكيٌّ منه للقارئ بأن الناسخ متنبه لما يفعله، وأن الهمزة في هذه الكلمة مشطوبة فعلًا، ولهذا صارت الواوُ بعدها مفتوحةً. وهكذا صارت كلمة (حاملًا أو أبوين) بعد هذا الشطب الدقيق، صحيحة هكذا: (حاملًا وأبوين). هذا ما يتعلق بالخطأ الأول في الكتابة في العبارة المذكورة. - أما الخطأ الثاني فيها في الكتابة، ففي كلمة (لأن لكلٍّ منهما)، حيث وقع خطأ في كتابتها هكذا (لأن لكلًا منهما) أي بنصب (كلًّا)، والصواب أنها مجرورة بحرف اللام الجارّة. فكان من فطنة الناسخ في تصحيح هذه الكلمة أنه لم يشطب عليها كلها، ولم يُعِدْ كتابتَها مرة أخرى في الهامش، بل شطب على الألِف (1) فقط من كلمة (كلا) ثم وضع كسرتين تحت اللام، فصارت هكذا (لكلٍا) (في الرسم) ولكنها تُقرأ: (لكلٍّ) (لأن الألف قد شُطبت). هـ - ومما يتعلق بتصحيح الكلمات، أنه قد يَزِلّ قلم الناسخ بكتابة كلمةٍ واحدةٍ مرتين، فيضرب على واحدة منها ويُبقي الثانية. مثال ذلك: حديث (إذا مرض العبد أو سافر، كَتَب الله له ما كان يعمل
صحيحًا مقيمًا) (في النص رقم 28)، فقد جاء نصه في داخل المتن مكتوبًا هكذا: (إذا مرض سافر العبد أو سافر، كَتَب الله له ... " فكُتبت كلمة (سافر) خطأً قبل كلمة (العبد)، والحال أنها موجودة في موضعها الصحيح بعد ذلك في السياق، فاكتفى الناسخ هنا بالضرب على الموضع الأول، وبذلك صار سياق الحديث صحيحًا. ويبدو من ملاحظة موضع هذه الكتابة في المخطوط: أن الناسخ كان سَبَق قلمه عند كتابة بداية الحديث، حيث كَتَبه خطأً هكذا: (إذا مرض سافر)، ثم تذكرّ مباشرةً أن كلمة (سافر) هنا خطأٌ، فضَرَب عليها فورًا، واستمرّ في إكمال كتابة باقي الحديث صحيحًا تامًّا. و- ومما لفت نظري من صنيع الناسخ في هذا الجانب المتعلق بتصحيح الكلمات: أنه في النص رقم 488 (اللوحة 51 / أ) جاءت كلمة: (والبرّ والفجور أوصاف) فجاءت كلمة (الفجور) مكتوبة في داخل المتن بالضمة على الجيم هكذا (الفجُور)، وكأنه لذلك تنبه الناسخ فأعاد كتابتها في الهامش بوضع الضمة على الراء هكذا: (الفجورُ). ولم يتبين لي سبب هذه الإعادة، إلا أن يكون الناسخ أراد تصحيح الخطأ الذي وقع في تشكيل حرف الجيم، وأن الصواب فيه وضع ذلك التشكيل على الراء. والله أعلم. 3 - ومن مظاهر دقة الناسخ في فن النسخ ومعرفته بقواعده العلمية: أنه في موضع من المخطوط، انتهى من كتابة فقرة، ثم بدأ بكتابة فقرة أخرى في السطر نفسه مع ترك فراغٍ بين الفقرتين. ولئلا يَظُن القارئ أن هذا الفراغ سَقَط فيه شيء من الكلام، جَعَل الناسخ فيه خطوطًا مائلة هكذا / / / / لسدّ ذلك الفراغ، وليُطَمْئِن القارئ أنه لا يوجد هنا سَقَطٌ، هانما الكلامُ متصلٌ بعضه ببعض. (ينظر لذلك في المخطوط: اللوحة 4 / ب في بدايتها).
وفَعَل هذا الشيء نفسه في اللوحة 12 / ب (عند عبارة: (كما يشير إليه قوله وفضيلةُ المهريّة تفوتُ بذبحها ... ". فقد جاءت صورة العبارة كما هي أمامك، أي: بوجود فراغ بين كلمة (قوله) وبين كلمة (وفضيلة)، مع أن الكلام في الواقع متصلٌ بعضه ببعض، أي: أن كلمة (وفضيلة) هي مقول كلمة (قوله)، فهنا أيضًا وضع الناسخ خطوطًا مائلة / / / / في موضع الفراغ، للإشارة إلى أن الكلام متصلٌ، ولا يوجد شيء ساقط منه. 4 - جرى الناسخ على عدم الاهتمام بتنقيط الكلمات الواضحة التي لا تُسبب صعوبة في القراءة. 5 - توجد مواضع قليلة في المخطوط، فيها طمس أو بياض، وبسبب ذلك جاء كلام البلقيني في هذه المواضع مبتورًا وناقصًا، ولم يمكن تدارك ذلك بسبب كون هذه النسخة هي الوحيدة التي كان عليها المعوّل في إخراج الكتاب، فلا توجد نسخة أخرى -أو مصدر آخر- يمكن أن يُسعِف في مثل هذه المواضع لإكمال الطمس. 6 - توجد للناسخ تعليقات علمية على هوامش المخطوط في بعض المواضع، وهي تشتمل على تعقيب من الناسخ مثلًا على كلام شيخه البلقيني، أو إبداء وجهة نظر تجاه ما قاله شيخه (¬1). 7 - يضع الناسخ حرف (ظ) على بعض الكلمات في هامش المخطوط، ويبدو أنه اختصار لكلمة (انظر)، إشارة من الناسخ للقارئ بأن يتثب من تلك الكلمة. ¬
[المبحث الرابع عملي في خدمة الكتاب]
[المبحث الرابع عملي في خدمة الكتاب] أولًا: ما يتعلق بخدمة النص في صلب المتن: 1 - لقد أخذتْ قراءةُ نصوص الكتاب وتقويمُها وإزالةُ ما يعتريها من غموض في الأسلوب أو تشويش في السياق، ثم وضعُ تلك النصوص في سياقها الصحيح، وربطُ بعضها ببعض (خصوصًا ربط تعليقات البلقيني بنصوص الشيخ ابن عبد السلام) بحيث يكون الكلام في جملته مفهومًا واضحًا مُريحًا للقارئ، كلُّ ذلك أخذ مني جهدًا ووقتًا لا بأس به. وإنه ليسرّني في هذا المقام أن أقول من دون أي غضاضة، تحدّثًا بنعمة الله تعالى، أنني بذلتُ جهدًا لا بأس به -بتوفيق الله تعالى وفضله- في إثبات نص الكتاب على أصح وأضبط وأقرب صورة أرادها المؤلف البلقيني -رحمه الله- (¬1). ¬
2 - ومما تسبب في صعوبة قراءة نصوص الكتاب: ما ذُكر أكثر من مرة، من أن نسخة الكتاب، هي نسخة وحيدة، لا ثاني لها، فكان يتعسر أو يتعذر في كثير من المواضع قراءة النصوص. بل إن بعض تلك النصوص أو الكلمات، ما كنتُ أصل إلى فكّ غموضها وقراءتها على الصواب إلا بعد جهد جهيد، ووقت طويل، وأحيانًا بعد بحث ومراجعة في عدد كبير من مصادر الفقه الشافعي. ومما أدَّى إلى صعوبة قراءة أمثال تلك الكلمات، أنها جاءت ضمن كلام البلقيني، وليست ضمن كلام الشيخ ابن عبد السلام، إذ لو كانت ضمن كلام ¬
الشيخ لكان سهُل حلّها بالرجوع إلى كتابه (قواعد الأحكام)، لكنها لما جاءت ضمن كلام البلقيني لم يكن هناك طريق لحلّها إلا بالتأمل فيها طويلًا، ثم بالبحث عن مظانها في جملة كبيرة من كتب الشافعية؛ وربما بقيتُ ساعاتٍ طويلة -وأحيانًا أكثر من يومين- مستغرقًا بالتفكير في حل مثل تلك الكلمات حتى أمكنني حلّ عدد منها، ومع ذلك فقد تعسّرت قراءة كلمات أخرى لم أتمكن من حلّها مع بذل ما أمكن من البحث والتفتيش والتأمل! وبقيتْ حسرةٌ عندي لعدم خدمة النص على وجهه في أمثال تلك المواضع!. • فمن أمثال تلك الكلمات الصعبة في القراءة: كلمة (هجما) (النص 133، وينظر في المخطوط: بداية اللوحة 18 / أ). • وفي النص 315 جاء قول البلقيني: (إذا أَخَّر السَّلِسُ والمستحاضةُ حتى جُنَّ، أو حاضت بعد مضي قدر الطهارة والصلاة، فإنه تلزم تلك الفريضة على المذهب ...) (نهاية اللوحة 34 / أمن المخطوط). فكلمة (جُنّ) في هذه العبارة صعُبت قراءتها، ولم أصل إلى إدراكها على الوجه الصحيح إلا بعد جهدٍ جهيد، ووقتٍ طويلٍ. والسبب أنها جاءت أولًا مرسومةً بقلم الناسخ على شكل (ص) (وبدون أيّ نقطة لكلا حرفي الجيم والنون)، فكان هذا الرسم وحده كافيًا في صعوبة تفهمها وقراءتها على الوجه الصحيح. ثم ازدادت الصعوبة ثانيًا من جهة أن موضوع الجنون هنا لا ينسجم مع ظاهر سياق المسألة التي هي في تأخير السَّلِس والمستحاضة للطهارة! فهذا مثال لكلمةٍ تعبتُ في تصحيحها، حيث بقيتُ في محاولة فكّها وقراءتها على وجهها الصحيح -عن طريق جمع شواهد المسألة من مظانها في عددٍ لا بأس به من كتب الشافعية- مدة ثلاث ساعات تقريبًا، حتى أمكنني بفضل الله تعالى وتوفيقه الوصولُ إلى صحة قراءتها على الوجه المطلوب.
3 - ثم من أسباب تلك الصعوبة في قراءة نصوص الكتاب: أن مضامين الكتاب عميقة، خصوصًا ما يتعلق بكلام البلقيني في مسائل الفقه الشافعي، وقد يكتفي البلقيني فيها بإشارات وإحالات سريعة على ما هو متقرر فيها في المذهب. ولهذا فعند ما كان يغمُض شيء من الكلام في أمثال هذه المواضع، كان الأمر يأخذ وقتًا لا بأس به في قراءة النص على الوجه المراد للبلقيني فيه. 4 - وبالإضافة إلى ما تقدم، فمما يقال أيضًا في أسباب صعوبة قراءة النصوص: ما تقدم -غير مرة- من أن أسلوب الكتاب إملائي، فكان يصعب التعامل معه، وفهم المراد من الكلام فيه، بخلاف ما لو كان الأسلوب كتابيًّا. 5 - وما سبق من الجهد المبذول في قراءة النص، ينضم إليه ما بذلتُه من جهد أيضًا في تنظيم مادة الكتاب وتنسيقها، والضبط والتشكيل، مع تقسيم النصوص إلى فقراتٍ وإثبات علامات الترقيم فيها بدقة وعناية، وغير ذلك من وجوه الخدمة الفنية، التي هي مطلوبة لتسهيل قراءة الكتاب وتمكين القارئ من فهمه فهمًا جيدًا حسب غرض مؤلفه، وإلا بقي الكتاب -بدون هذه الخدمات الفنية- مغلقًا في كثير من مواضعه. 6 - ومما يتعلق بالصعوبات التي وجدتُها في جانب الخدمة الفنية للكتاب: أن كلام البلقيني في بعض التعليقات، يتضمن عدة مقاطع وكلها جاءت سردًا في أصل المخطوط، ولكن كل مقطع يحتاج إلى أن يُفصل على حدة ويُميّز عن غيره بفقرة جديدة، ليسهُل على القارئ فهمُ مضمونه ثم الانتقال إلى المقطع التالي بعده. ولهذا تَطَلَّبتْ بعض النصوص عنايةً بالغة متأنية في قراءتها، وفهم مضامينها، حتى يمكن تنظيمها ببدء كل مقطع بفقرة جديدة، ووضع علامات الترقيم فيها حسب ما يقتضيه المعنى. 7 - عُنيت بالضبط والتشكيل، وخصوصًا فيما يتعلق بإبقاء الضبط الذي
جاء بقلم الناسخ في المخطوط، فقد حَرَصتُ على المحافظة عليه ونقله -أمام القارئ- كما هو في النسخة، مع التنبيه في الهامش أن الكلمة جاءت مشكولة هكذا في المخطوط، وذلك لتعريف القارئ بقيمة هذا الضبط، وأنه آتٍ من طرف الناسخ نفسه، مما يدل أنه رجلٌ عالمٌ لا مجردُ ناسخ؛ وأيضًا لأحافظ على أداء الأمانة كما هي بحيث يُنسب الفضل في ضبط تلك الكلمات للناسخ وليس لشخصي (¬1). 8 - وقد تكون كلمةٌ يوجد في ضبطها أكثرُ من وجه، ولكن الناسخ ضَبَطها بأحد وجوه الضبط فيها، فأُبقي ضبط الناسخ كما جاء بقلمه مع التعليق عليه في الهامش أنه أحد الوجوه في ضبط تلك الكلمة (¬2). 9 - بل لو كانت كلمةٌ، يوجد في ضبطها أكثرُ من وجه، وبعضُ تلك الوجوه أشهرُ في ضبط هذه الكلمة من غيرها، وكان الناسخ ضَبَط تلك الكلمة بالضبط غير المشهور فيها، فإنني أُبقيها أيضًا على هذا الوجه غير المشهور، ولا أغيّرها إلى الوجه المشهور (وهو ما ينصح به خبراء علم تحقيق النصوص ¬
ونشرها)، وإنما أعلّق في الهامش أن هذا الوجه هو أحد الوجوه في ضبط تلك الكلمة، كما وقع هذا مثلًا في ضبط كلمة (إنما لم يصلَّى على الشهداء) في النص رقم 581. 10 - المواضع التي وقع فيها طمس أو بياض في المخطوط، وُضع مكانها ثلاث نقاط بين قوسين هكذا (...) إشارة إلى أن هنا نقصًا في الكلام في أصل المخطوط، مع التنبيه في الهامش على ذلك. 11 - وكذلك فعلتُ الشيء نفسه في الكلمات التي صعُبتْ قراءتُها، ولم يمكن الوصول إلى إثباتها على وجه يُطمأنّ إليه أن هذا هو أقرب وأصح شيء فيها، فوضعتُ أيضًا مكان مثل تلك الكلمات، ثلاث نقاط بين قوسين (...)، مع إثبات صورة الكلمة في الهامش حسب ما ظهرت في المخطوط، رجاء أن يهتدي أحد من القراء الكرام إلى قراءتها على الصواب، فيفيدني بها، جزاه الله خيرًا. 12 - الكلمات التي يشير الناسخ أمامها في هوامش المخطوط، إلى وقوع اختلاف فيها، أو تلك التي يضع عليها علامة (ظ)، أُثبتها كما جاءت في صلب المتن في المخطوط، إلا إذا ترجّح ما في هامش المخطوط على ما في المتن، فيتم حينئذ اختيار ما في الهامش، مع التعليق على كل ذلك. 13 - فيما يتعلق بما ينقله البلقيني من نصوص كلام الشيخ ابن عبد السلام: التزمتُ وحَرَصتُ على أن أُبقي تلك النصوص كما أوردها البلقيني، وإن كنتُ أجد فيها اختلافًا في بعض الكلمات بين ما نقله البلقيني من عبارة الشيخ ابن عبد السلام، وبين ما هو موجود منها في المطبوع من (قواعد الأحكام)، وذلك لأنه سبق بيان أن هذا الاختلاف راجع إلى اختلاف نسخة البلقيني نفسها من (قواعد الأحكام) التي كان ينقل منها تلك النصوص، عن النسخة المطبوعة الموجودة بين أيدينا.
ولهذا فإني حافظتُ على نقل البلقيني لكلام الشيخ ابن عبد السلام كما جاء في المخطوط، تقديرًا لما أشرتُ إليه من اختلاف نسخة البلقيني من (قواعد الأحكام)، عن النسخة المطبوعة منه. ولم أعدِلْ عن ذلك إلا عند ما وجدتُ أن هناك خطأ واضحًا في شيء من الكلمات فيما نقله البلقيني، أو اضطرابًا واختلالًا بحيث لا يمكن أن يستقيم الكلام إذا ما تم إثباته بحرفيته الذي جاء في المخطوط، ففي مثل هذه المواضع أُصوِّب وأُعدِّل نص كلام الشيخ ابن عبد السلام حسب ما أجده في النسخة المطبوعة من (قواعد الأحكام) مع التعليق في الهامش إلى وجه هذا التصويب والتعديل (¬1). 14 - رقمتُ النصوص التي ينقلها البلقيني من كلام الشيخ ابن عبد السلام، ترقيمًا متسلسلًا من أول الكتاب إلى آخره، ليرتاح القارئ في الانتقال من نص إلى آخر، كما أن ذلك يفيد في الإحالة على النصوص بأرقامها. 15 - اقتضت بعض الأمور العلمية، إدخال بعض الزيادات بين حاصرتين [] على ما جاء في أصل المخطوط، فمن ذلك: أ- ما اقتضاه سياق الكلام في بعض المواضع من ضرورة زيادة كلمة، أو زيادة حرفٍ واحدٍ أحيانًا (¬2)، ليُقرأ الكلام ويُفهم على الوجه الصحيح الذي ¬
يريده البلقيني. ولو لم تُثبت هذه الزيادات لجاء الكلام مختلًا من حيث الأسلوب والتركيب، أو جاء مضطربًا غامضًا مشوشًا. ب- ومن ذلك إثبات (عناوين الفصول) بخط بارز غامق قبل بداية كل فصلٍ، وهي عناوين يذكرها البلقيني أصلًا عند ما ينقل نص كلام الشيخ ابن عبد السلام، حيث يقول مثلًا: (قوله في الفصل المعقود لكذا ...) فيذكر عنوان الفصل من عند الشيخ ابن عبد السلام، ثم ينقل نص كلامه. لكن هذه العناوين لم تأتِ في المخطوط قبل بداية كل فصل بصورة مستقلة، فأحببتُ أن أُبرزها بإثباتها بين حاصرتين [] لإراحة القارئ بأن يَعرف ¬
ثانيا: ما يتعلق بخدمة النص في الهوامش
من أول نظرة: موضوعَ الفصل، فيسهُل عليه فهمُ ما يريده البلقيني من التعليق عليه، وإلا فقد يتوه القارئ في ربط كلام البلقيني بموضوع الفصل، خصوصًا إذا طال (فصل من الفصول) وكثُرت النصوص التي نقلها البلقيني فيه. 16 - الكلمات والألفاظ التي كتبها الناسخ حسب الرسم القديم، غيّرتُها إلى الرسم الإملائي الحديث -وأكثرُ ما برز ذلك عند الناسخ، في طريقة كتابته للهمزات- دون الالتزام برسم الناسخ لها، لأن المقصود التسهيل على القارئ في قراءة الكتاب، وليس التعقيد والإغراب عليه (¬1). 17 - عزوتُ الآيات الكريمة في المتن نفسه مباشرة بين حاصرتين []. 18 - أثبتُّ أيضًا أرقام لوحات المخطوط، في أثناء النص المحقق، بين حاصرتين []. ثانيًا: ما يتعلق بخدمة النص في الهوامش: 1 - فيما يتعلق بعزو ما ينقله البلقيني من نصوص الشيخ ابن عبد السلام، اكتفيتُ بمجرد عزو كلام الشيخ ابن عبد السلام لمواضعه في أصل كتابه (قواعد الأحكام) (طبعة دار القلم، الصادرة بتحقيق الدكتور نزيه حماد والدكتور محمد عثمان ضميرية) دون التدقيق في مقابلته وإثبات الفروق بينه ¬
وبين ما جاء في المخطوط، لأن ذلك أمرٌ لا طائل منه للقارئ الكريم، بل إنه قد يُتعب القارئ -من دون فائدة- في تقليب النظر بين المتن والهامش لمجرد أن يقف على فروق الألفاظ والكلمات. ووقتُ القارئ الذي يتّجه لمثل هذا الكتاب، أثمنُ وأكرمُ من أن يُضيَّع ويُهدَر في مثل هذه الأمور التي لا يترتب عليها زيادةُ علمٍ (¬1). وينبغي هنا من باب الاعتراف بالفضل لأهله وتقديره، التنويه بالجهد الممتاز المبذول في تحقيق كتاب (قواعد الأحكام) (الطبعة المشار إليها، التي جرى العزو إليها في الهوامش). فقد أجاد المحققان الفاضلان في الاهتمام بإثبات فروق النسخ بمنهجية علمية مختارة. وهي فروق علمية دقيقة لا يستهان بها، أفادتني في الجملة في أثناء التحقيق عند ما كنت أجد أن ما ينقله البلقيني من نص كلام الشيخ ابن عبد السلام، يختلف عما هو موجود في المطبوع من كتابه (قواعد الأحكام)، وكانت تلك الفروق تهديني وتُطَمْئنني في مثل هذه المواضع إلى أن هذا ¬
الاختلاف هو بسبب اختلاف نُسخ كتاب (قواعد الأحكام)، وليس هو اختلاف صواب وخطأ. ولهذا اخترتُ في منهج العمل -كما سبق عرضه قبل قليل- أن لا أُثقل على القارئ وأَشغَله ببيان تلك الفروق، بل اكتفيتُ بعزو ما يورده البلقيني من نصوص الشيخ، إلى مواضعها في كتابه (قواعد الأحكام). 2 - ثم إذا كان كلام الشيخ ابن عبد السلام الذي ينقله البلقيني، كافيًا لفهم ما يعلّق البلقيني عليه، ولا يحتاج إلى أي زيادة أو توضيح، فإنني أكتفي في الهامش بعزوه فقط إلى موضعه من (قواعد الأحكام). 3 - أما إذا كان البلقيني نقل جزءًا من كلام الشيخ ابن عبد السلام وتَرَك باقيه، وأرى أن القارئ يحتاج إلى أن يقف على أصل كلام الشيخ ابن عبد السلام، لكي يسهل عليه فهمُ ما سيأتي في تعليق البلقيني عليه؛ فحينئذ أحرص على نقل كلام الشيخ بتمامه في الهامش، ليطّلع القارئ عليه أولًا كما هو، ثم ينتقل إلى قراءة تعليق البلقيني عليه؛ إذ لو لم يُفعل ذلك، لأدّى إلى تشويش القارئ، حيث إنه يجد أن البلقيني قد تطرّق إلى أمور تتعلق بكلام الشيخ ابن عبد السلام، مع أنها غير موجودة -أمام القارئ- فيما أَتى به البلقيني من كلام الشيخ ابن عبد السلام. 4 - حَرَصتُ قدر الإمكان على توضيح كلام البلقيني، وتقريبه للقارئ، في المواضع التي رأيتُ أن كلامه يشتمل على غموضٍ يصعب معه فهم القارئ للمراد منه، فكنتُ أعلّق في الهامش في مثل هذه المواضع بتوضيحه وتقريب غرضه. وأحيانًا كنتُ أستعين لتحقيق هذا الغرض، بنقل مضمون كلام البلقيني، من بعض كتب الشافعية. 5 - فيما يتعلق بتخريج الأحاديث: سلكتُ مسلك الاختصار الوافي بالغرض العلمي. واتّبعتُ في طريقة العزو -في الأغلب- ذكر اسم المصدر
الحديثي، ثم ذكر اسم الكتاب والباب (خصوصًا في الكتب الستة)، ثم رقم الجزء والصفحة ورقم الحديث. 6 - لم ألتزم بعزو جميع المادة العلمية إلى مصادرها -خصوصًا فيما يتعلق بالمسائل الفقهية- إلا في حدود المتيسر من ذلك، وفيما إذا كان البلقيني نَصَّ على اسم المصدر؛ إذ إن البحث عن كل معلومة في مصادرها -خصوصًا بدون معرفة اسم المصدر الذي ينقل عنه البلقيني- كان سيأخذ جهدًا ووقتًا طويلًا كما لا يخفى. 7 - التعليقات والفوائد التي كتبها ناسخ المخطوط (العالم تقي الدين يحيى ابن العلامة الشمس الكرماني) في هوامش المخطوط، نقلتُها أيضًا للقارئ في مواضعها (¬1). 8 - وأخيرًا، فلا غضاضة من الإشارة إلى أنني بالإضافة إلى ما بذلته من جهد علمي في خدمة الكتاب، لم أتوانَ أيضًا عن بذل الجهد في تنميق التنضيد الطباعي للكتاب، بحيث يجعل ذلك قارئ الكتاب يرتاح للنظر فيه، والقراءة فيه، والاستفادةِ منه. سبَحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وكتبه محمد يحيى بلال منيار مكة المكرمة 10/ 11 / 1431 هـ الموافق 18/ 10 / 2010 م ¬
نماذج من النسخة الوحيدة التي حقق عليها الكتاب
نماذج من النسخة الوحيدة التي حُقِّق عليها الكتاب
لوحة 2 عنوان الكتاب بقلم الناسخ مع تصريحه بأنه إملاء من البلقيني
لوحة 3 بداية الكتاب وفيه تصريح البلقيني باسم الكتاب وأنه إملاء منه
لوحة 12 فيها بأسفل الزاوية اليمنى كتابة بقلم البلقيني بقراءة ناسخ هذا الكتاب عليه، وأن القراءة كانت من هذه النسخة التي هي للناسخ نفسه
لوحة 28 فيها تعليق علمي من الناسخ في الهامش، يدل على مشاركته العلمية في الكتاب
لوحة 47 فيها رجوع الناسخ لنسخة أخرى من قواعد الأحكام، لمقابلة نصوص الشيخ ابن عبد السلام التي ينقلها البلقيني
الاصطلاحات المعتمدة في النص المحقق
الاصطلاحات المعتمدة في النص المحقق - كلمة (الشيخ): يقولها البلقيني، ويريد بها الشيخ ابن عبد السلام. - كلمة (شيخنا): يقولها الناسخ في أثناء النص المحقق، ويريد بها شيخه البلقيني صاحب هذه الأمالي. - الإحالة في الهوامش إلى (قواعد الأحكام)؛ يراد بها دائمًا: طبعة دار القلم الصادرة بتحقيق الأستاذين الدكتور نزيه حماد والدكتور عثمان ضميرية.
النص المحقق لكتاب (الفوائد الجسام على قواعد الأحكام)
الفوائد الجسام على قواعد ابن عبد السلام لشيخ الإسلام البلقيني سراج الدين عمر بن رسلان (724 - 805 هـ) وهي فوائد ونكات وتنبيهات، أملاها البلقيني على (قواعد الأحكام) للإمام العز بن عبد السلام ينشر لأول مرة، عن نسخة وحيدة نَسَخَها وقرأها على البلقيني تلميذه تقي الدين يحيى ابن شارح البخاري شمس الدين الكرماني 762 - 833 هـ حقَّقه وقَدَّم له بدراسة مفصلة د. محمد يحيى بلال منيار عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بجامعة الطائف باحث سابق بمعلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية تقديم د. علي أحمد الندوي الحائز على جائزة الملك فيصل العالمية خبير أول ورئيس قسم الضوابط الفقهية بمعلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية
[مقدمة البلقيني]
[مقدمة البلقيني] [3 / أ] بسم الله الرحمن الرحيم ربِّ يسِّر وأعِن قال شيخنا (¬1) الشيخ الإمام العلامة الحبر الخير الفهّامة، خاتم المجتهدين، مفسّر كلام رب العالمين، مبيّن أسرار حديث سيد الأولين والآخِرين، أبو محمد، شيخ الإسلام، مرشد الأنام، بركة الأيام، سراج الملّة والحق والدين، عمر البلقيني، أمتع الله الإسلام وأهله بوجوده: الحمد لله الذي ثَبَّت قواعد الشريعة، وشيَّد فوائدها الرفيعة، وسدَّد حصون فرائدها المنيعة، وأنار شُرُفات أسرارها بلمحات البروق السريعة، وجَعَل في ساقَة حفاظها من ينظر نظر رجال الطليعة (¬2)، وأبان بها جَلْب ¬
المصالح المطلوبة ودَرْء المفاسد الشنيعة، وفَتَح طرق الخيور النجيعة، وسَدَّ أبواب الشرور بسدّ الذريعة، وأقام في كل عصرٍ لهذه الأمة من يجدّد لها أمر الدين جميعَه، كما جاء في الخبر الحسن (¬1) عن الذي فَتَح الله به في كل مَضيقٍ وَسِيعَه، وأقامه في كل كربٍ شفيعَه، سيدَنا محمدًا الذي خصّه بالشرع العام ومَنَحه خِصْبَ المقام وربيعَه، - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه ومَنْ غَدَا إلى آخر الزمان تَبِيعَه. أما بعد، فهذه (فوائد جسام)، أمليتُها على (قواعد الشيخ الإمام عبد العزيز بن عبد السلام)، لمّا قُرئت عليّ من أوّلها إلى آخرها، وأَبَنْتُ فيها التحقيق في مواردها ومصادرها. وسمّيتُها: (الفوائد الجسام على قواعد ابن عبد السلام). ¬
[مقدمة الشيخ ابن عبد السلام لكتابه (قواعد الأحكام) وتعليق البلقيني عليها]
[مقدمة الشيخ ابن عبد السلام لكتابه (قواعد الأحكام) وتعليق البلقيني عليها] 1 - قال الشيخ الإمام أبو محمد ابن عبد السلام، سلطان علماء عصره، ووحيد دهره: (الحمد لله الذي خلق الإنس والجن، ليكلِّفهم أن يوحّدوه) (¬1). إنما لم يذكر الملائكة وإن كانوا من أشرف المكلّفين؛ لأنهم لا يعصون الله ما أَمَرهم ويَفعلون ما يأمرون، فلا يُتصور منهم مفسدةٌ أصلًا، والكتاب مبني على جلب المصالح ودرء المفاسد التي يمكن وقوعها. 2 - قوله: (ونهاهم عن كل شرٍّ محرَّمٍ أو مكروهٍ، وتوعّدهم بالعقاب على كل محظورٍ جليلِه وحقيرِه بقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] وبقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (¬2) [الأنبياء: 47]. يقتضي أن (المكروه) يسمى: (شرًّا)، وأنه يُتوعد عليه بالعقاب، وأنه يوزَن. وفي كل من هذه الأمور كلامٌ: أما كونه يسمّى: (شرًّا)، فقد يُمنع من جهة أن الشرَّ وصفُ ذمٍّ، والمكروه لا ذمَّ فيه (¬3)، وقد قال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} ¬
[الأنفال: 55]، وقال: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ} [الأنفال: 22]، وقال سبحانه وتعالى: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [ص: 55]، وقال بعد ذلك في الحكاية عن أهل النار: {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} [ص: 62]. وهذه الآيات دالة على ما قررناه، من أن الشرّ وصفُ ذمٍّ، والمكروه لا ذمّ فيه. وأما التوعد بالعقاب على المكروه، فهو خلاف الإجماع. وأما أنه يُوزَن، فممنوع، فإنه إنما يُوزَن السيئات، وفي (حديث البطاقة) (¬1) ¬
[فصل في بناء جلب مصالح الدارين ودرء مفاسدهما على الظنون]
وغيره، التصريحُ بذلك، وذلك (¬1) حديث: (أتدرون من المفلس؟). فإن قيل: يُحمل كلام الشيخ على (المحرّم) خاصة. قلنا: ظاهر كلامه خلاف ذلك، وكان ينبغي أن يصرِّح بما يقتضي تخصيص ذلك بـ (المحرّم). * * * [فصل في بناء جلب مصالح الدارين ودرء مفاسدهما على الظنون] 3 - قوله: (والاعتماد في جلب مصالح الدارين ودرء مفاسدهما، على ما يظهر في الظنون) (¬2). ينبّه فيه على أمور: أحدها: أن مرادَه: بالنسبة إلى الثواب والعقاب في حق بعض الأشخاص الذين لا يُقطع في حقهم بشيء. أما من قُطع له بشيء بخبر الصادق، فالاعتماد في ذلك بالنسبة إليه، على القطع. الثاني: أن مراده بذلك أيضًا: غيرُ العقائد. أما العقائد فالاعتماد فيها على القطع. ¬
[فصل فيما تعرف به المصالح والمفاسد]
الثالث: مراده في غير العقائد: بالنسبة إلى المشخّصات. أما بالنسبة إلى الكلّيات، فالمعتمد: القطع. الرابع: أن الظنون في المشخصات، إنما هي في طريق الحكم عليها، لا في نفس الحكم. أما الحكم نفسه فقطعي كما هو مقرر في كتب الأصول. * * * [فصل فيما تُعرف به المصالح والمفاسد] 4 - قوله في الفصل المعقود لِما تُعرف به المصالح والمفاسد: (معظم مصالح الدنيا ومفاسدها، معروف بالعقل، وكذلك معظم الشرائع، إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع، أن تحصيل المصالح المحضة ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره، محمودٌ حسنٌ؛ وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمودٌ حسنٌ) إلى آخره (¬1). كلامٌ ظاهره ممنوع، لموافقته مذهب المعتزلة في التقبيح والتحسين العقليَّين. وتأويلُه على مذهب أهل السنة ممكن، ولكن تَرْك ذكر ذلك أولى. * * * [فصل في تقسيم أكساب العباد] 5 - قوله في الفصل المعقود لتقسيم أكساب العباد: (ومن هذه الأكساب ما هو خير من الثواب، كالمعرفة والإيمان) (¬2). يقال عليه: من ثواب المعرفة والإيمان: النظرُ إلى وجه الرحمن، ¬
والحديث الصحيح دالٌّ على أن ذلك أفضلُ ما أُوتُوا (¬1) وقد صرَّح الشيخ بذلك في أواخر الكتاب (¬2). وقياس ما ذكره هنا: أن يُجعل عقاب الكفر بالله وإن عظُم إلى ما لا نهاية له، قليلًا بالنسبة إلى خطر الكفر بالله. وهو كذلك (¬3). ¬
[فصل في بيان حقيقة المصالح والمفاسد]
[فصل في بيان حقيقة المصالح والمفاسد] 6 - قوله أول الفصل المعقود لبيان حقيقة المصالح والمفاسد: (المصالح أربعة أنواع: 1 - اللذّات. 2 - وأسبابها. 3 - والأفراح. 4 - وأسبابها. والمفاسد أربعة أنواع: 1 - الآلام. 2 - وأسبابها. 3 - والعموم. 4 - وأسبابها) (¬1). يقال فيه: الفرق بين (اللذّات) و (الأفراح): أن اللذّات تقع على الجوارح أولًا ثم تفيض على القلب، والأفراح تقع على القلب أولًا ثم تفيض على الظواهر. و (الآلام) تقع على الجوارح أولًا ثم تفيض على القلب، و (الغموم) تقع على القلب أولًا ثم تفيض على الظاهر. 7 - قوله: (ومن أفضل لذّات الدنيا: لذّات المعارف) إلى آخره (¬2). مراده بذلك: بيان الواقع في الدنيا من اللذّات، وإلا فالمعارف ونحوها: من لذّات الآخرة أيضًا. ¬
[فصل في بيان ما رتب على الطاعات والمخالفات]
[فصل في بيان ما رُتِّب على الطاعات والمخالفات] 8 - قوله في الفصل المعقود عليه لبيان ما رُتِّب على الطاعات والمخالفات: (والطاعات ضربان: أحدهما: ما مصلحته في الآخرة، كالصوم والصلاة والنسك والاعتكاف. الضرب الثاني: ما مصلحته في الآخرة لباذلِيهِ، وفي الدنيا لآخِذيه، كالزكاة والصدقات والضحايا والهدايا والأوقاف) (¬1). هذا التقسيم الذي ذكره، إن كان المراد به: بيان ما رُتِّب على الطاعات مطلقا في الدنيا والآخرة، فلا يستقيم تمثيله في الضرب الأول بـ (الصوم والصلاة والنسك)، لأن هذه الطاعات مصلحة في الدنيا أيضًا في عصمة الدم، وقبول الرواية والشهادة، ونحو ذلك. وإن كان المراد: بيان ما رُتِّب على الطاعات والمخالفات بالنسبة إلى الثواب والمجازاة، ففيه نظر لِما ذكره في الضرب الثاني من تمثيله بـ (الزكاة) ونحوها، لِما مصلحتُه في الآخرة لباذليه، وفي الدنيا لآخذيه. ولو قال في التقسيم ضربان: أحدهما: بدني، والآخر: مالي؛ فالبدني تختص مصلحته بفاعليه غالبًا، وقد تتعدى لغيرهم كالإيمان، فإن مصلحته تتعدى للذرية بدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَأتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (¬2) ¬
[فصل فيما عرفت حكمه من المشروعات وما لم تعرف حكمته]
[الطور: 21]، وكالجهاد، فإن مصلحته تتعدى لغير فاعليه في صورة: ما إذا حصل بسببه غنيمة، أو مطلقًا: من جهة أن فاعله رفع المأثم عن الأمة مع الذبّ عنهم ونحو ذلك. والمالُ مصلحته في الدنيا والآخرة لباذليه، وفي الدنيا لآخذيه؛ لكان أولى (¬1). * * * [فصل فيما عُرفت حِكَمُه من المشروعات وما لم تُعرف حكمته] 9 - قوله في الفصل المعقود عليه لِما عُرفت حِكَمُه من المشروعات، وما لم تُعرف حكمته: (وفي التعبد من الطواعية والإذعان فيما لا يُعلم حِكَمُه ولا تُعرف علته، ما ليس فيما ظهرت علته وفُهمت حكمته، فإن مُلابِسَه قد يفعله لتحصيل حكمته وفائدته، والمتعبِّد لا يفعل ما تُعبِّد به إلا إجلالًا لربه، وانقيادًا إلى طاعته. انتهى) (¬2). لا شك أن معقول المعنى من حيث الجملة أفضل؛ لأن أكثر الشريعة معقول المعنى. وأما بالنظر إلى الجزئيات، فقد يكون التعبدي أفضلَ من معقول المعنى، كـ (الوضوء وغَسل النجاسة)، فإن الوضوء أفضل وإن كان تعبّدًا. وقد يكون معقول المعنى أفضلَ، كـ (الطواف والرمي)، فإن الطواف أفضل، وذلك باعتبار الأدلة والمتعلقات. فلا يُطلق القول بأفضلية أحدهما على الآخر (¬3). ¬
[فصل في تفاوت الأعمال بتفاوت المصالح والمفاسد]
[فصل في تفاوت الأعمال بتفاوت المصالح والمفاسد] 10 - قوله في الفصل المعقود لتفاوت الأعمال بتفاوت المصالح والمفاسد: (طلبُ الشرع لتحصيل أعلى الطاعات كطلبه لتحصيل أدناها في الحد والحقيقة) إلى آخره (¬1). إنما قَيَّد بالحد والحقيقة، لأنه قد يقع التفاوت بين طلبٍ وطلبٍ باعتبار التأكيد والحث، والوعد والوعيد. * * * [فصل فيما تميَّز به الصغائر من الكبائر] 11 - قوله في الفصل المعقود لِما تُميَّز به الصغائر من الكبائر: (وكذلك لو دلّ الكفارَ على عورة المسلمين مع علمه بأنهم يستأصلونهم بدلالته) إلى آخره (¬2). في تقييد ذلك بـ (العلم): نظرٌ. ولو حُمل (العلم) على (الظن)، كان فيه نظرٌ أيضًا. والذي يظهر أن مجرد دلالة الكفار على عورة المسلمين كبيرةٌ ولو مع التردد على السواء في أنهم يستأصلونهم بدلالته، وَيسْبُون حُرَمَهم، إلى غير ذلك مما ذكر. 12 - قوله فيه أيضًا: (وقد نص الشرع على أن شهادة الزور وأكل مال اليتيم من الكبائر. فإن وقعا في مالٍ خطير، فهذا ظاهر؛ وإن وقعا في مالٍ حقير كزبيبة أو تمرة، فهذا مشكل، فيجوز أن يُجعل من الكبائر فطامًا عن ¬
هذه المفاسد، كما جُعل شربُ قطرة من الخمر من جملة الكبائر وإن لم تتحقق المفسدة، ويجوز أن يُضبط ذلك المال بنصاب السرقة). انتهى (¬1). ينبغي أن يفرّق بين: (شهادةُ الزور كبيرةٌ وإن وقعت في مالٍ حقيرٍ)، (وأنّ أكل زبيبة أو تمرة من مالِ يتيمٍ، ليس كبيرةً). والفرقُ: عِظمُ الجرأة على شهادة الزور. 13 - قوله فيه أيضًا في تفاوت الكبائر: (وفي الوقوف على تساويها وتفاوتها عزةٌ (¬2)، والوقوف على التساوي أعز من الوقوف على التفاوت، ولا يمكن ضبط المصالح والمفاسد إلا بالتقريب. ولا يلزم من النص على كون الذنب كبيرةً أن يكون مساويًا لغيره من الكبائر، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (إن من الكبائر أن يَشتم الرجلُ والدَيْه!)، الحديث (¬3). انتهى ملخصًا (¬4). كان الأولى أن يستدلّ لهذا الغرض بحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال ¬
رجل: يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: (أن تدعو لله ندًّا وهو خلقك). قال: ثم أيٌّ؟ قال: (أن تقتل ولدك مخافة أن يَطعَم معك). قال: ثم أيٌّ؟ قال: (أن تُزاني حليلة جارك)، فأنزل الله تصديقها: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (¬1) [الفرقان: 68]. 14 - قوله في الفصل: (ولم أقف في عقوق الوالدين ولا فيما يختصان به من الحقوق، على ضابطٍ أعتمد عليه، فإن ما يحرم في حق الأجانب فهو حرام في حقهما؛ وما يجب للأجانب فهو واجب لهما. ولا يجب على الولد طاعتُهما في كل ما يأمران به، ولا في كل ما ينهيان عنه باتفاق العلماء. وقد حرُم الجهاد بغير إذنهما فيما يشقّ عليهما من توقع قتله، أو قطع عضو من أعضائه، ولشدة تفجعهما على ذلك. وقد أُلحق بذلك كلُّ سفرٍ يخافان فيه على نفسه، أو على عضو من أعضائه. وقد ساوى الوالدان: الرقيقَ في النفقة والكسوة والسكنى) (¬2). يقال على ما ذكره أولًا (¬3): يُضبط ذلك بوجوه: أحدها: أن يقال: ما عُدّ في العرف عقوقًا لهما، فهو عقوق. الثاني: أن يقال: كل ما يؤذيهما مما يُتأذّى به عادةً وتعدَّى به الولد، فهو عقوق. ¬
وأخرجتُ بقولي: (وتعدَّى به الولد): طلبَه حَبسَهما في دَينٍ له! فإن من يحبسه الله، لا يعدّه به عاقًّا لعدم تعدّيه (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وحيث منعْنا الولدَ السفرَ للجهاد ونحوه، فإنه مما تَعدَّى به. الثالث: أن يقال: كل ما تلحقهما به مشقة ظاهرة مما يصدر من الولد باختياره لا يَحتمل مثلَهما الوالدان مما ليس حقًّا له، فإنه يكون عقوقًا. وقوله: (ولا فيما يختصان به من الحقوق) إلى آخره: غيرُ مسلّم. أما ما يختصان به من الحقوق، فضابطه أنهما يختصان بحق إجلالهما الإجلالَ اللائقَ لهما، وخفض جناح الذلّ لهما من الرحمة. وقوله: (فإن ما يحرم في حق الأجانب فهو حرام في حقهما): مسلّم، ولكن يكون في حقهما كبيرةٌ، بخلاف الأجانب فإنه قد لا يكون كذلك. ولم يقل الشيخ: (فإن الذي يحرُم في حقهما، يحرم في حق الأجانب): فإنه يحرم في حقهما: (أُفّ)، ولا يحرم ذلك في حق الأجانب. وقوله: (وما يجب للأجانب فهو واجب لهما): هذا إن سُلِّم، لا يحصّل مقصودَه، وإنما يحصّل مقصودَه أن يقال: (وما يجب لهما يجب للأجانب). وهذا الكلام ممنوع، فإنه يجب لهما من النفقات وغيرها ما لم يجب للأجانب (¬1). ¬
وقول الشيخ: (ولا يجب على الولد طاعتُهما في كل ما يأمران به): مسلّم. لكن فيما يتعلق بحقوقهما: يجب على الولد طاعتهما، فإذا أمراه بالإقامة -مع إسلامهما- عن سفر الجهاد، وجب عليه ذلك؛ وإذا نهياه عنه حرُم عليه ذلك. وإذا خالف في ذلك أَمْرَهما أو نَهْيَهما، كان عاقًّا. وقوله: (وقد ساوى الوالدان: الرقيقَ في النفقة والسكنى): كلامٌ عجيبٌ! لأن ذلك واجبٌ لهما إكرامًا وإجلالًا؛ وواجبٌ للرقيق: للمِلْك القائم المقتضي للاستخدام، وعدم الاستقلال بالكسب. فكيف يُذكر هذا مع هذا؟! ولو سَمِع الوالدان بمثل هذا لأنكراه! وما كان يَرْضَى الشيخ الإمام من أولاده، أن يُذكر له ذلك! وذكرُ ذلك للوالد عقوقٌ له (¬1) (¬2). ¬
15 - تقوله فيه أيضًا: (وقد ضبط بعض العلماء، (الكبائر)، بأن قال: كل ذنب قُرن به وعيد أو لعن فهو من الكبائر. فتغييرُ منار الأرض كبيرة لاقتران اللعن به، وكذلك قتلُ المؤمن كبيرة لأنه اقترن به الوعيد واللعن) إلى آخره (¬1). تقييده بـ (المؤمن) في قوله: (قتل المؤمن كبيرة) إنما هو لأنه الذي ثبت على قتله اللعنُ والوعيدُ (الغضبُ والعذاب) في قوله تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا} إلى قوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]، وإلا فقتلُ الذمي ونحوه كبيرةٌ بالإجماع. 16 - قوله فيه أيضًا: (فما تقولون فيمن قَذَف محصَنًا قذفًا لا يسمعه إلا الله والحفظةُ مع أنه لم يواجِه به المقذوفَ ولم يغتبه به عند الناس، هل يكون قذفه موجِبًا للحدّ مع خلوّه من مفسدة الأذى؟ قلنا: الظاهر أنه ليس بكبيرة موجبة للحد لانتفاء المفسدة، ولا يعاقَب في الآخرة عقاب المجاهِر بذلك في وجه المقذوف أو في ملأ من الناس، بل يعاقَب عقاب الكاذبين غير المصرّين. وقد قال الشاعر: فإن الذي يؤذيك منه: سماعُه ... وإن الذي قالوا وراءك: لم يُقَلْ (¬2) ¬
[فصل في إتيان المفاسد ظنا أنها من المصالح]
شبّهه بالذي لم يُقَل، لانتفاء ضرره وأذيته). انتهى (¬1). يقال عليه: بل الظاهر أن القذف بحيث لا يسمعه إلا الله والحفظة، كبيرةٌ موجبةٌ للحدّ، فطامًا عن جنس هذه المفسدة، ولظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية [النور: 4]، فإن هذا رميٌ. وما استَشهَد به من البيت، لا يطابق المدّعَى، لأن قوله: (وإن الذي قالوا وراءك: لم يُقَلْ): أعم من قوله: (حيث لا سامع)، لصدقه على القول وراءه وهناك سامعٌ. * * * [فصل في إتيان المفاسد ظنًّا أنها من المصالح] 17 - قوله في الفصل المعقود لإتيان المفاسد ظنًّا أنها من المصالح: (فإن قيل: فما تقولون فيمن أَتَى بما هو مصلحة في ظنه، وهي مفسدة في نفس الأمر، كمن أَكل مالًا يعتقده لنفسه، أو وطيء جاريةً يظنها في ملكه، أو لبس ثوبًا يعتقده لنفسه، ثم بان أن وكيله أَخرج ذلك عن ملكه؟ قلنا: لا إثم عليه لظنّه. انتهى (¬2). المختار في صورة ما إذا وطئ جاريةً يظنها ملكه، أنه لا يجوز الإقدام على الوطْء إلا بالاجتهاد بأمارة تغلب على الظن أنها في ملكه، حتى لو وَكَّل في بيع أَمَته، وسلّمها للوكيل ليبيعها، ثم عادت إلى منزله، واحتُمل بيع الوكيل وعدمه، لا يجوز له الإقدام -بغير اجتهاد- على الوطْء. 18 - قوله فيه أيضًا (¬3): (فإن قيل: فما تقولون فيمن فَعَل فعلًا يظنه ¬
[فصل في بيان تفاوت رتب المصالح والمفاسد]
واجبًا وهو من المفاسد المحرّمة في نفس الأمر، كالحاكم إذا حَكَم بالحق بقاء على الحجة الشرعية، وكالمصلي يصلّي على ظن أنه متطهر، وكالشاهد يشهد بحقٍّ عَرَفه بناء على استصحاب بقائه، وظهر كذبُ الظن في ذلك كله؟ قلنا: فهذا خطأ معفو عنه، كالذي قبله، ولكن يثاب فاعلُه على قصده دون فعله، إلا من صلى محدِثًا فإنه يثاب على قصده وعلى كل فعلٍ أَتى به في صلاته مما لا يُشترط الطهارة فيه. انتهى) (¬1). ظاهر الأدلة يقتضي أنه يثاب على قصده وعلى جميع الأفعال في الصلاة وغيرها، حتى لو قَتَل مسلمًا في صف الكفار على زيّهم فإنه يثاب على قتله، لأنه قاتَلَ لتكون كلمةُ الله هي العليا، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من قاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيل الله) (¬2). * * * [فصل في بيان تفاوت رتب المصالح والمفاسد] 19 - قوله في فصل في بيان تفاوت رتب المصالح والمفاسد: (فإنه قد يؤجَر على أحد العملين المتماثلين، ما لا يؤجَر على نظيره، ولذلك أمثلة: أحدها: حج الفرض وعمرتُه، مساويان لحج النفل وعمرتِه من كل وجه) إلى آخر الأمثلة (¬3). يقال عليه: ليس ذلك مما يخفى حتى يضرب له الأمثال، وذلك كثير. ¬
ولعله إنما ذَكَر ذلك توطئة لِما سيَذكُره فيما إذا تفاوت العملان بالقلة والكثرة، مثل أن يزكّي بخمسة دراهم، ويتصدق بعشرة آلاف درهم، كما سيأتي (¬1). وقوله: (العملان المتماثلان) (¬2)، وكذا قوله في (صوم رمضان): (أنه مساوٍ لـ (صوم شعبان) (¬3): مراده: التماثل الصوري، والتساوي الصوري. 20 - قوله فيه أيضًا: (وكذلك قراءة حمدلة الفاتحة في الصلاة، مساويةٌ لقراءتها في غير الصلاة، مع أنها أفضل منها إذا قُرئت خارج الصلاة) (¬4). يقال عليه: الفاتحة كلها كذلك، فلا وجه لتخصيص ذلك بحمدلتها. 21 - قوله فيه أيضًا: (وكذلك الأذكار التي في القرآن، إذا قُصد بها القراءةُ: شُرطت فيها الطهارة من الجنابة، ولو قُصد بها الذكر كالبسملة على الطعام والشراب، والحمدلة عند الفراغ منهما، والتسبيحات المذكورة في القرآن، لم تُشترط فيها الطهارة من الجنابة مع تساوي هذه الأذكار من كل وجه). انتهى (¬5). يقال عليه: هذا ليس من الأمثلة السابقة في شيء، فإن كلامه في العملين المتماثلين، يُؤْجِر الله على أحدهما ما لا يُؤجِر على نظيره. واشتراط الطهارة من الجنابة في أحدهما دون الآخر، ليس من هذا القبيل. ¬
22 - قوله فيه أيضًا: (وكذلك ما فرضه الله تعالى من الزكوات، قد تساوي مصلحتُه مصلحةَ نظيره من الصدقات في سدّ الخلّات ودفع الحاجات، وله أمثلة: أحدها: إخراج درهمين متساويين، واحدُهما زكاةٌ، والآخر صدقة). انتهى (¬1). يقال عليه: قد تقدم ذلك في أول الفصل فلا وجه لإعادته. ولعله ذكره توطئة للأمثلة التي ذكرها بعد ذلك من مئال الشاتَيْن، والعُشرَيْن (¬2)، ونحوهما. 23 - قوله فيه أيضًا: (وإذا كانت الحسنة في ليلة القدر أفضل من ثلاثين ألف حسنة في غيرها مع أن تسبيحها كتسبيح غيرها، وصلاتَها كصلاة غيرها، وقراءتَها كقراءة غيرها، عُلم أن الله يتفضل على عباده في بعض الزمان بما لا يتفضل به في غيره) إلى آخره (¬3). يقال عليه: ما ذكره من أن الحسنة في ليلة القدر أفضل من ثلاثين ألف حسنة في غيرها، قد يوجَّه بأن ليلة القدر تعدل جميع رمضان؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدّم من ذنبه) (¬4)، مع قوله ¬
- صلى الله عليه وسلم -: (من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدّم من ذنبه) (¬1)، وحسناتُ رمضان جميعه: بثلاثين ألفًا، لأن كل يوم بعشرة، وعشرة في عشرة بمئة، ومئة في ثلاثين بثلاثة آلاف ومن ثَمّ ذهب الأوزاعي إلى أنه يجب في قضاء رمضان: ثلاثة آلاف يوم، وثلاثةُ آلاف في عشرة بثلاثين ألفًا، ومن ثَمّ كان صوم رمضان مع ست من شوال، يعدل صيام الدهر. 24 - قوله فيه أيضًا: (ومما يدل على أن الثواب ليس على قدر النَّصَب مطلقًا، قولُه - صلى الله عليه وسلم -: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول لا إله إلا الله؛ وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) (¬2)، وهو من المصالح العامة لكل مجتاز بالطريق بإزالة الشوك والأحجار والأقذار مع مشقة ذلك، وخفة النطق بكلمة الإيمان. انتهى (¬3). يقال عليه: لقائل أن يقول: بل (كلمة الإيمان) أثقل، لأن المراد: كلمة الإيمان بحقوقها ومقتضياتها. 25 - قوله: فإن قيل: بل تتفاوت (¬4) رُتب المعارف والأيمان كما تفاوتت ¬
رُتب العبادات بالفرض والنفل. قلنا: نعم، فإن الإيمان والتعرف الأول مفروض بالإجماع، واستحضارهما بعد ذلك نفلٌ لا يلزم تعاطيه) الى آخره (¬1). يقال عليه: لك أن تقول بأن الإيمان الثاني والتعرف الثاني يقعان واجبًا أيضًا، وذلك أن العبادات قسمان: أحدهما: ما نَدَب الشارع إلى إعادته، والثاني: ما لم يطلب إعادته. والثاني إذا وقع ثانيًا، فهو نفل. والأول إما أن يَطلب الشارع دوامه حكمًا أو لا. فإنْ طلب دوامه حكمًا؛ فكلما وقع، وقع واجبًا. وإن لم يطلب الشارع دوامه حكمًا كالصلاة، ففي وقوعه ثانيًا، الخلاف في الصلاة. 26 - قوله فيه أيضًا: (وكذلك رتبة المحبة الصادرة عن ملاحظة الإنعام والإفضال، منحطةٌ عن رتبة المحبة الصادرة عن ملاحظة الأغيار وصدورِ محبة الإجلال عن ملاحظة الكمال والجمال) إلى آخره (¬2). (¬3) (والتعظيم والمهابة أفضل من المحبة الصادرة عن معرفة الكمال ¬
والجمال، لِما في المحبة من اللذة بجمال المحبوب، بخلاف المعظِّم الهائب، فإن الهيبة والتعظيم يقتضيان التصاغر والإيحاش والانقباض، ولا حظَّ للنفس في ذلك) (¬1). يقال (¬2): لا ينبغي أن يُقصد بالمهابة والتعظيم، مطلقًا، بل يكون ذلك باعتبار المقامات، ففي مقام: (هل رضيتم) (¬3) ونحوه، تكون المحبة أفضل، وفي نحو مقام (إن ربي قد غضب اليوم غضبًا) الحديث (¬4)، تكون الهيبة والإجلال أفضل. 27 - قوله فيه أيضًا: (فإن قيل: هل يستوي الحاج عن نفسه، والمحجوجُ عنه، في مقاصد الحج؟ قلنا: يستويان في براءة الذمة، ولا يستويان في الأجر) إلى آخره (¬5). ¬
يقال عليه: ما ذكره في الحاج عن نفسه، والمحجوجِ عنه، من أنهما لا يستويان في الأجر، قد ينازَع فيه من حيث إن (المستطيع) في الآية، يتناول: المستطيع بنفسه، والمستطيع بغيره، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (حُجِّي عن أبيكِ) (¬1)، وظاهرُ ذلك تساويهما من كل وجه. وإخراجُ أحدهما من بعض الوجوه، يحتاج إلى دليل. 28 - قوله فيه أيضًا: (وهكذا الأبدال كلُّها، لا تساوي مبدلاتِها، فليس التيمم كالوضوء والغسلِ) إلى آخره (¬2). يقال عليه: لا يصدُق على الشيء كونُه (بدلًا)، إلا بعد العجز عن (المبدَل)، وحينئذ فهو يساويه في الأجر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا مرض العبد أو سافر، كَتَب الله له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا) (¬3). 29 - قوله فيه أيضًا: (فإن قيل: ما تقولون في من سَدَّ جَوْعَةَ مسكينٍ في عشرة أيام، هل يساوي أجرُه أجرَ من سَدَّ جَوْعَةَ عشرة مساكين، مع أن الغرض: سدُّ عشر جَوْعات، والكلُّ عباد الله، والغرضُ الإحسان إليهم. فأيُّ فرق بين تحصيل هذه المصالح في محل واحد أو في محالّ متعددة؟ قلنا: لا يستويان، لأن الجماعة يمكن أن يكون فيهم وليُّ الله أو أولياءُ له، فيكون إطعامهم أفضلَ من تكرير إطعامِ واحدٍ) إلى آخره (¬4). ¬
[فصل فيما يتفاوت أجزه بتفاوت تحمل مشقته]
يقال عليه: ما ذكره من التعليل، غير مناسب. والتعليل الصحيح أن يقال: لِما في سدّ جوعة عشرة مساكين من التعجيل والمسارعة إلى مصالح متعددة، بخلاف سدّ جوعة مسكينٍ في عشرة أيام. 30 - قوله بعد ذلك: (ولمثل هذا (¬1) أوجب الشافعي - رضي الله عنه -، صَرْفَ الزكاة إلى الأصناف، لِما فيه من دفع أنواع من المفاسد وجلبِ أنواعٍ من المصالح) إلى آخره (¬2). يقال عليه: لم يوجب الشافعي - رضي الله عنه - ذلك، لِما ذكره، بل لأجل أن صيغة مطلق الجمع يقتضي انحصار الاستحقاق في المذكورين، فلا يجوز الاقتصار على بعضهم عند الإمكان. * * * [فصل فيما يتفاوت أجزه بتفاوت تحمل مشقته] 31 - قوله في الفصل المعقود لِما يتفاوت أجرُه بتفاوت تحمل مشقته: (فإن قيل: ما ضابط الفعل الشاق الذي يؤجَر عليه أكثر مما يؤجر على الخفيف؟ قلت: إذا اتحد الفعلان في الشرف والشرائط والسنن والأركان، وكان أحدهما شاقًّا، فقد استويا في أجرَيْهما لتساويهما في جميع الوظائف، ¬
[فصل في تساوي العقوبات العاجلة مع تفاوت المفاسد]
وانفرد أحدهما في تحمل المشقة لأجل الله تعالى، فأُثيب على تحمل المشقة لا على عين المشاق) إلى آخر ما ذكره (¬1). يقال عليه: ما ذكره الشيخ من أن الثواب على تحمل المشقة لا على عين المشاق، ورَتَّب عليه ما ذكره من المسائل (¬2)، منازَعٌ فيه، ويردّه ظواهر الأدلة. * * * [فصل في تساوي العقوبات العاجلة مع تفاوت المفاسد] 32 - قوله في الفصل المعقود لتساوي العقوبات العاجلة مع تفاوت المفاسد: قد تتساوى العقوبات العاجلة مع تفاوت الزلات، مع أن الأغلب تفاوت العقوبات بتفاوت المخالفات، فإن من شرب قطرة من الخمر مقتصرا عليها يُحَدّ كما يُحَدّ من شرب ما أسكره وخَبَّل عقله، مع تفاوت المفسدتين. ولم تُجعل الوسائل إلى الزنى والسرقة والقتل، مثلَ الزنى والسرقة ¬
والقتل، في الزواجر. والفرق بينها وبين من شرب القطرة: خفةُ حد السُّكر، وثقل ما عداه من الحدود، مع أن التوسل إلى السرقة والقتل لا يحرِّك الداعية إليهما ولا يحث عليهما، بخلاف وسائل الزنى من النظر والمسّ وغيرها، فإنها تؤكد الحث عليه، والدعاء إليه) (¬1). يقال عليه: ليس شربُ قطرة من الخمر وسيلةً حتى يُطلب الفرق بينها وبين الوسائل إلى الزنى والقتل والسرقة. وما ذكره من الفرق لخفة حدّ السُّكر وثقل ما عداه، لا يتوجّه. ونظير القطرة من الخمر: إيلاج الحشفة ونزعها في الحال، فإنه يجب فيه الحد، كمن أَولَج جميع ذَكَره وأَنزَل. وكذلك سرقة ربع دينار، فإنه يُقطع فيه كما يُقطع في سرقة ألف دينار. وجراحةٌ خفيفة مع جراحة أعظم منها أو جراحات، فإنه يجب القصاص على الجارحين سواءً. 33 - قوله فيه أيضًا: (فإن قيل: هل يكون وزرُ من سَرَق ربع دينار كوزر من سَرَق ألف دينار، لاستوائهما في القطع؟ قلنا: بل يتفاوت وزرهما في الدار الآخرة بتفاوت مفسدتَيْ سرقتهما لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] إلى آخره (¬2). يقال فيه: ما ذكره من أن وزر مَن سَرَق ربع دينار، ووزر من سَرَق ألف دينار، يتفاوت بتفاوت مفسدتي سرقتهما، يتناول: أن وزر من سَرَق رُبع دينار لفقيرٍ، أعظمُ من وزر من سَرَق ألف دينار لغنيٍّ ذي مالٍ كثير لا يَعبأ بذلك، لاختلاف المفسدتين. وسيأتي في كلامه التصريح بما يوافق ذلك في المثال السابع عشر من الفصل المعقود للمصالح المجرّدة. 34 - قوله فيه أيضًا: (والقطع الواجب في ألفٍ، متعلقٌ بربع دينار من ¬
[فصل في تفاوت أجور الأعمال مع تساويها، باختلاف الأماكن والأزمان]
الألف) إلى أن قال: (فيكفِّر الحدّان ما يتعلق بربع الدينار من السرقتين، ويبقى الزائد إلى تمام الألف لا مقابلَ له ولا تكفيرَ) (¬1). يقال على ما ذكره من بقاء الزائد إلى تمام الألف، لا مقابلَ له ولا تكفيرَ: مخالفٌ لظواهر الأحاديث لجعل الحدود كفارات (¬2)، ونحو ذلك. * * * [فصل في تفاوت أجور الأعمال مع تساويها، باختلاف الأماكن والأزمان] 35 - قوله في الفصل المعقود لتفاوت أجور الأعمال مع تساويها، باختلاف الأماكن والأزمان: (فإن قيل: قد ذهب مالك إلى تفضيل المدينة على مكة، فما الدليل على تفضيل مكة عليها؟ قلنا: معنى ذلك أن الله تعالى يجُود على عباده في مكة بما لا يجُود بمثله في المدينة، وذلك من وجوه)، فذكرها (¬3). ¬
[فصل في انقسام جلب المصالح ودرء المفاسد إلى فروض كفايات وفروض أعيان]
يقال عليه: ما ذكره من الجواب، لا يطابق السؤال؛ لأن السؤال في (إقامة الدليل على أفضلية مكة) لا في (معنى الأفضلية)، فكان الصواب أن يقول: (الدليل على ذلك كذا)، ويذكره، ثم يقول: (ومعنى الأفضلية كذا). * * * [فصل في انقسام جلب المصالح ودرء المفاسد إلى فروض كفايات وفروض أعيان] 36 - قوله في الفصل المعقود لانقسام جلب المصالح ودرء المفاسد إلى فروض كفايات وفروض أعيان، وإلى الوسائل والمقاصد: (فإن قيل: لو صلَّى على الجنازة ثانيًا من لم يصلِّ عليها أولًا بعد إسقاط فرضها في الحكم، لكانت الصلاة الثانية فرضا عند أصحاب الشافعي - رضي الله عنه -، فكيف يُحكم بأنها فرضٌ مع سقوط الفرض بصلاة السابقين؟ وليس هذا كاللاحقين في الصلاة، فإن مصلحة الفرض لا تحصل إلا بالتحلل من الصلاة. فالجواب: أن جميع مصالح فروض الكفايات، إذا أُتِي بها، فقد دخلت في الوجود قطعًا. ومصلحةُ فرض الصلاة على الميت لم تدخل في الوجود قطعًا؛ لأن مقصودها الأعظم: إجابة الدعاء، وهو غيبٌ لا اطلاع لنا عليه، فمن الجائز أن لا يُقبل دعاء من تَقَدَّم بالصلاة، فتكون الصلاة الثانية محصلةً للمصلحة التي هي إجابة الدعاء) إلى آخره (¬1). يقال عليه: ما ذكره من الجواب عن الصلاة على الميت، ينتقض بمن ¬
[فصل في بيان رتب المفاسد]
صَلَّى على ميت بعد صلاة من يُقطع بإجابة دعائه، كمن (¬1) صَلَّى على ميت بعد صلاته - صلى الله وسلم عليه - عليه؛ وكمن صَلَّى بعد صلاة أربعين عليها، ورد في الحديث من إخباره - صلى الله عليه وسلم - أنهم يُشفّعون فيه (¬2). والأولى أن يقال: إن صلاة الجنازة من فروض الكفايات، وفرض الكفاية إذا قام به بعض الأمة، أَسقَط الحرج عن الباقين، ولم يُمنع غيرهم من الفعل، فإذا فَعَل غيرهم كان ممن توجّه إليه الفرض أولًا وإن سقط الحرج عنه بفعل غيره، فأثيب على ذلك ثواب فرض الكفاية، لأنه إنما عَمِل بالخطاب الأول، لا بخطاب جديد. * * * [فصل في بيان رُتب المفاسد] 37 - قوله في الفصل المعقود لبيان رُتب المفاسد: (ثم لا تزال مفاسد الصغائر تتناقص إلى أن تنتهي إلى مفسدة لو فاتت لانتهينا إلى أعلى رُتب المكروهات، وهي الضرب الثاني من رتب المفاسد) (¬3). ¬
[فصل في اجتماع المصالح المجردة عن المفاسد]
يقال عليه: في هذا نظر، لأنه قد تفُوت تلك المفسدة ولا كراهةَ، كالخلوة بالأجنبية مع امرأة أو نسوة. 38 - قوله فيه أيضًا: (وجَعَل الزنى بحليلة الجار تِلْوًا لقتل الأولاد (¬1)، لما في ذلك من مفاسد الزنى، كاختلاط المياه، واشتباه الأنساب، وحصول العار، وأذية الجار) إلى آخره (¬2). يقال عليه: الصواب أن يقال: وجَعَل الزنى بحليلة الجار تِلو (القتل مطلقا)، لئلا يلزم عليه أن يكون قتلُ غير الولد أخف من الزنى بحليلة الجار، وليس كذلك. وحينئذ، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ثم أن تَقتُل ولدك مخافة أن يَطعَم معك) يثبُت على (القتل المحرّم بأنواعه)، وخصّ (الولد) بالذكر لأنه أول رتبة من رُتب القتل المحرّم، يلي (الإشراك بالله). * * * [فصل في اجتماع المصالح المجرّدة عن المفاسد] 39 - قوله: (فصل في اجتماع المصالح المجرّدة عن المفاسد) (¬3). يقال عليه: لا يظهر من كلامه، هل هذا الفصل معقود لاجتماع المصالح المجرّدة عند الاجتماع والتزاحم، أم لا. وأمثلته مختلطة. ولعل مراده: ما تقدّم من المصالح خطابًا أو عملًا. ¬
40 - قوله في الفصل المذكور: (ولبيان الأفضل، وتقديم الفاضل على المفضول أمثلة: أحدها: تقديم العرفان بالله وصفاته، على الإيمان بذلك. ويقوم الاعتقاد في حق العامة مقام العرفان) إلى آخره (¬1). يقال عليه: جعلُه (تقديم العرفان بالله وصفاته) من أمثلة تقديم الفاضل على المفضول، لا يتوجّه؛ لأن تقديم العرفان بالله وصفاته، على الإيمان بذلك، من باب تقديم الشرط على المشروط. 41 - قوله فيه أيضًا: (ولفضل الإيمان، تأخرت الواجبات عن ابتداء الإسلام، ترغيبًا فيه، فإنها لو وجبت في الابتداء لنَفَرُوا من الإيمان) (¬2). يقال عليه: المختار أن هذه التكاليف إنما ترتّبت هذا الترتيب لعدم مقتضياتها وأسبابها دفعة واحدة أولَ الإسلام، ففُرض كلٌّ منها عند وجود ما يقتضيه. 42 - قوله فيه أيضًا: (الجهاد، لو وجب في الابتداء لأباد الكفرةُ أهلَ الإسلام لقلة المؤمنين وكثرة الكافرين) (¬3). يقال عليه: إنما تأخر لعدمِ مقتضيه، وهو بُدْأَة (¬4) الكافرين بظلم المؤمنين كما يشير إليه قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]، وإلا فـ {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249]. ¬
43 - قوله فيه أيضًا: (القصر على أربع نسوة لو ثبت في ابتداء الإسلام، لنَفَر الكفار من الدخول فيه) (¬1). يقال عليه: هذا لا يتوجّه، لأنه يقتضي أنه أبيح في صدر الإسلام، أن يُقَرَّ الكافر إذا أسلم، على أكثر من أربع نسوة، وأن للمسلمين الزيادةَ على أربع. وذلك لا يُعرف. 44 - قوله فيه أيضًا: (المثال الثاني من تقديم الفاضل على المفضول: تقديم بعض الفرائض على بعض، كتقديم الصلاة الوسطى على سائر الصلوات) (¬2). يقال عليه: ترجمة الفصل بـ (اجتماع المصالح المجرّدة)، لا يناسبها هذا المثال، بل هذا من التقديم المطلق. 45 - قوله فيه أيضًا في أثناء المثال الرابع: (ويبعد أن تكون صلاةُ الصبح أفضلَ من حجة مبرورة، وركعتا الفجر أفضلَ من حجة التطوع، وقد جَعَل النبي - صلى الله عليه وسلم - الجهاد تلو الإيمان، وجَعَل الحج في الرتبة الثالثة. فإن قُدِّمت الصلاة عليهما، كان ذلك مخالفًا لظاهر الحديث؛ وإن تأخرت عنهما، لم يستقم كون الصلاة أفضلَ الأعمال البدنية) (¬3). ¬
يقال عليه: لا بُعد في أن تكون صلاة الصبح أفضلَ من حجة مبرورة. وقد قَدَّم هو أنه لا بدعَ في أن الله تعالى يثيب على العمل اليسير أكثر مما يثيب على العمل الكثير، وأطال الكلام في ذلك في الفصول السابقة (¬1). وأما قوله: (فإن قُدِّمت الصلاة عليهما، كان مخالفًا لظاهر الحديث): ¬
يقال عليه: إنما حُوِّل ظاهر الحديث (¬1) بالدليل، وهو حديث ابن مسعود وغيره (¬2)). 46 - قوله فيه أيضًا: (المثال الخامس: تقديم المبدَلات على أبدالها، كتقديم الاستنجاء بالماء على الاستجمار بالأحجار) (¬3). يقال عليه: هذا عجيب! فإن كلًّا منهما أصلٌ في نفسه، وليس الاستجمار بدلًا عن الاستنجاء. 47 - قوله فيه أيضًا: (المثال السابع: تقديم الرواتب على بعضٍ، كتقديم الوتر وسنة الفجر على سائر الرواتب) إلى آخره (¬4). يقال عليه: هذا المثال لا يناسب الزحمة (¬5)، لأنه لا اجتماع ها هنا. ¬
48 - قوله فيه أيضًا: (المثال الثامن: تقديم إنقاذ الغرقى المعصومين على أداء الصلوات؛ لأن إنقاذ الغرقى المعصومين عند الله أفضل من أداء الصلوات. والجمع بين المصلحتين ممكن، بأن يُنقذ الغريق ثم يقضي الصلاة) (¬1). يقال عليه: لا تقديم في هذا المثال على المختار، بل يصلّي صلاة شدة الخوف إلحاقًا له بالأنواع المعروفة التي يصلَّى فيها صلاةُ شدة الخوف، كما هو مقرر في موضعه. 49 - قوله فيه أيضًا: (المثال الثاني عشر: إذا ضاق على المُحرِم وقتُ عشاء الآخرة بحيث لا يتسع إلا لأربع ركعاتٍ، فلو اشتغل بها لفاته إتيان عرفة للوقوف. فقد قيل: يَدَع الصلاة ويذهب إلى عرفة، لأن أداء فرض الحج أفضل من أداء فرض الصلاة) إلى آخره (¬2). يقال عليه: هذا التعليل لم نره في هذا الوجه لغير الشيخ. وعلة هذا الوجه: أن الحج في حق المُحرِم، كالشيء الحاصل؛ والفواتُ طارئٌ (¬3) عليه، فأشبه ما لو خاف هلاك مالٍ حاصلٍ لو لم يهرُب به. ولأن الضرر الذي يلحقه بفوات الحج لا ينقص عن ضرر الحبس أيامًا في حق المديون المعسر (¬4). ¬
50 - قوله في (المثال المذكور) (¬1): (والأصح أنه يجمع بين المصلحتين، فيصلي صلاة الخوف وهو ذاهب إلى عرفة) إلى آخره (¬2). ¬
يقال عليه: ما صححه هو خلاف ما صححه الرافعي والنووي وغيرهما، من أنه يُتِمّ صلاتَه وإن فاته الوقوف بعرفة (¬1). ولكن ما ذكره، هو ¬
المختار (¬1). ¬
51 - قوله في الفصل المذكور في (المثال الرابع عشر): (وإن مَلَك حيوانًا يؤكل، وحيوانًا لا يؤكل، ولم يجد إلا نفقة أحدهما، وتعذر بيعهما، احتمل أن يقدِّم نفقة ما لا يؤكل على نفقة ما يؤكل، ويذبح المأكول؛ واحتمل أن يسوّي بينهما. فإن كان المأكول يساوي ألفًا، وغيرُ المأكول يساوي درهمًا، ففي هذا نظر واحتمال) (¬1). يقال عليه: الأرجح أو الصواب، تقديم نفقة المأكول الذي يساوي ألفًا، على غير المأكول الذي يساوي درهمًا. 52 - قوله فيه أيضًا: (المثال الخامس عشر: إذا اجتمع مضطران)، إلى أن قال: (وَجَد ما يكفي ضرورة أحدهما، فإن تساويا في الضرورة أو القرابة والجوار والصلاح، احتمل أن يتخير بينهما؛ واحتمل أن يقسمه عليهما) (¬2). يقال عليه: احتمال التخيير متعين، واحتمال القسمة بعيد، لأن الصورة أنه لا يكفي إلا ضرورة أحدهما. وبقي احتمال ثالث لم يذكره، وهو: الإقراع، وهو قريب. 53 - قوله في المثال (¬3): (وإن كان أحدهما أولى، مثل أن كان والدًا، أو والدة، أو قريبًا، أو زوجة، أو وليًّا من أولياء الله تعالى، أو إمامًا مقسطًا، أو حَكَمًا عدلًا، قُدّم الفاضل على المفضول) (¬4). يقال عليه: ظاهره التقديم وجوبًا، وهو متوجّه فيما إذا كان والدًا أو ولدًا ¬
أو قريبًا. ويليه: التقديم وجوبًا فيما إذا كان زوجة؛ لأن نفقتها وإن كانت واجبة إلا أنها ترتّبت في ذمته. وششحب تقديم الفاضل في البواقي، والوجوب بعيد. 54 - قوله في المثال (¬1): (فإن قيل: لو وَجَد المكلف مضطرَّين متساويين ومعه رغيفٌ لو أَطعَمه لأحدهما لعاش يومًا، ولو أَطعَم كلَّ واحد منهما نصفَه لعاش نصف يوم، فهل يجوز أن يُطعمه لأحدهما أم يجب فضُّه عليهما؟ فالمختار أن تخصيص أحدهما غير جائز، لِما ذكرتُه من أن أحدهما قد يكون وليًّا لله، ولأن الله تعالى أمر بالعدل والإنصاف، والعدل: التسوية، فدفعُه لهما عدلٌ وإحسان مندرج في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (¬2) [النحل: 90]. يقال عليه: قوله في التعليل: (لِما ذكرتُه من أن أحدهما قد يكون وليًّا لله)، أولى منه أن يقول: (لأن تخصيص أحدهما يؤدي إلى إزهاق روح الآخر). وفي استدلاله بالآية نظر. وما ذكره من تفسير (العدل) بـ (التسوية) لا يقتضي التسوية فيما نحن فيه. 55 - قوله في المثال (¬3): (فإن الراجل يأخذ سهمًا لحاجته، والفارس يأخذ أحد الأسهم لحاجته، والسهم الثاني لفرسه، والسهم الثالث لسايس فرسه) (¬4). يقال عليه: كون السهم الثالث لسايِسِ فَرَسِه، يردّه ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: (للفرس سهمان) (¬5)، فيدخل في ذلك سايسُ الفرس وعلفُ الفرس وغير ذلك ¬
مما يحتاجه. على أن قوله في الحديث (سهمان لفرسه) (¬1): ظاهره غير مراد، والأسهم الثلاثة كلها للفارس، اثنان منها بسبب الفرس. 56 - قوله في المثال (¬2): (فإن قيل: هلا قدّر الشافعي نفقة الزوجات بالحاجات، كنفقة الآباء والأمهات والبنين والبنات! ولِم قدّرها بالأمداد؟ قلنا: لما كانت النفقة عوضًا عن البضع، قدّرها؛ لأن الأصل في الأعواض: التقدير) (¬3). يقال عليه: النفقة إنما هي عوضٌ عن الحبس، وعوضُ البضع إنما هو الصداق، وسيأتي في كلام الشيخ ما يوافق ذلك. 57 - قوله: (ولا فائدة في تقدير الحَبّ) (¬4) إلى أن قال: (والذي قاله ¬
الشافعي (¬1) مؤدٍّ إلى أن يموت كلُّ أحد ونفقة زوجته في ذمته، لأن المعاوضة عن الحَبّ الذي أوجبه بما يُطعم الرجلُ زوجته من الحَبّ واللحم (¬2) وغيرهما: ربا لا يصح في الشرع، فلا يجوز أن يكون عوضًا) إلى آخره (¬3). يقال عليه: ليس ما قاله الشافعي - رضي الله عنه - مؤدّيًا إلى ذلك، لأن إتلاف الزوجة للخبز واللحم وغيرهما منزّل في نظر الشرع منزلة المُسقِط لما في ذمة الزوج. 58 - قوله عقب ذلك: (وليس النفقة في مقابلة ملك البضع) (¬4). ظاهره أنه ردٌّ على ما تقدم. ولم يقل الشافعي ذلك ولا أحدٌ من أصحابه. 59 - قوله في المثال (¬5): (فإن قيل: إذا كان العدل في اللغة: التسوية، والقاضي يقبل قول المدَّعى عليه بيمينه، ولا يَقبل قول المدّعِي حتى ينكُل المدّعَى عليه، وكذلك وَظَّف البينة على المدّعِي. وهذا تفاوتٌ لا تسويةَ فيه؟ قلنا: معنى التسوية أن يسوِّي بين المدّعِيَين في العمل بالظاهر، كتوظيف البينة على المدّعين، والأيمانِ على المنكِرين، وردِّ الأيمان على المدّعين عند نكول المنكِرين). انتهى ملخصًا (¬6). ¬
يقال عليه: الأمر في ذلك أسهل من أن يُجعل سؤالًا. وهذا من الواضحات. وقد مرّ في تفسيره (العدل) بـ (التسوية)، كلامٌ، فليراجع (¬1). 60 - قوله في الفصل المذكور في (المثال السادس عشر): (من تقديم الفاضل على المفضول): (وقد قال الأصحاب: إذا اشترى عبدًا للإعتاق، فليشتر العبدَ الكَدُود (¬2) المجهود، فإن إعتاقه أفضل من إعتاق المرفَّه) إلى آخره (¬3). ¬
يقال عليه: هذا لا يناسب تقديم الفاضل على المفضول، ولا يصح الاستشهاد به لذلك. وقد يكون المرفَّه أفضلَ من المجهود بأن يكون وليًّا أو قريبًا ونحو ذلك. 61 - قوله في (المثال السابع عشر): (إذا وَجَد من يصول على بُضعٍ محرّمٍ، ومن يصول على عضوٍ محرّمٍ أو نفسٍ محرّمةٍ أو مالٍ محرّمٍ، فإن أمكن الجمع) إلى أن قال: وإن تعذر الجمع بينهما، قَدَّم الدفع عن النفس على الدفع عن العضو، وقَدَّم الدفع عن العضو على الدفع عن البُضع) (¬1). يقال عليه: إنما يتوجّه تقديم الدفع عن النفس على الدفع عن البُضع، إذا قلنا بوجوب الدفع عن النفس، وإلا فالدفع عن البضع مقدّم على الدفع عن النفس، لأنه واجب قطعًا. ويدخل في ذلك: نفسُ الدافع ونفسُ غيره. وفي نفسه قولان، وفي نفس غيره طريقان: أحدهما: كنفسه، والثاني: يجب الدفع قطعًا. 62 - قوله في المثال (¬2): (وقَدَّم الدفع عن المال الخطير على الدفع عن المال الحقير، إلا أن يكون صاحب الخطير غنيًّا، وصاحب الحقير فقيرًا لا مال له سواه، ففي هذا نظر وتأمل) (¬3). يقال عليه: الأرجح أنه يقدّم الدفع عن الحقير الذي للفقير، على الخطير الذي للغني. وقد مرّت الإشارة إليه في (فصل تساوي العقوبات العاجلة مع تفاوت المفاسد) فراجعه. 63 - قوله: (المثال الثامن عشر: يقدّم الدفع عن الإنسان، على الدفع ¬
عن الحيوان المحترم. ولك أن تجعل هذا كله من باب تحمل أخف المفسدتين دفعًا لأعظمهما) (¬1). يقال عليه: الأولى أن يقال: من باب تقديم أهم المصلحتين، لأن العبارة الأُولى إنما تقال في مفسدتين تتعلقان بذات المتحمل، كقطع السلعة إذا كان الخطر في تركها أو في قطعها أكثر، فذلك من باب تحمل أخف المفسدتين. 64 - قوله في الفصل المذكور في أثناء (المثال الثالث والعشرين): (وإذا استوى النساء في درجات الحضانة، فقد يُقرَع بينهن، وقد يُتخيَّر (¬2)، والقرعة أولى) (¬3). يقال عليه: الإقراع هو المجزوم به في التصانيف. وقوله: (وقد يُتخيَّر) بالبناء للمفعول: إن كان المراد: القاضي يَتخيَّر، فلا معنى له. وإن كان المراد أن الطفل يَتخيّر إذا كان مميزًا، فله وجهٌ وإن لم يذكروه. وضابط التخيير في (المميّز): أن يكون بين ذَكَرٍ مؤخّر، وأنثى مقدّمة؛ كما جاءت به السنة (¬4) فافهمه صاغيًا له. ¬
وقد وقع وهم في بعض نسخ (الروضة) وفي (المنهاج) (¬1). قال شيخ الإسلام (¬2) فائدة: الذي وقع في بعض نسخ (الروضة) هو: (أنه أَثبَت التخيير بين الأب مع الأخت أو مع الخالة، إذا قدّمناه عليهما). وهذا وهم. وصوابه: (إذا قدّمناهما عليه). وكذا وقع في بعض نسخ (الروضة) (¬3). والذي في (المنهاج): (أنه أَثبَت التخيير بين أب وأختٍ أو خالةٍ في الأصح) (¬4). وليس هذا بالأصح. ولا يثبت التخيير بين الأب والأخت، ولا ¬
بين الأب والخالة، لأنه مقدّم عليهما قبل التمييز، وإنما يُقطع ببقاء حق الأب في التقديم (¬1). انتهت. نقلتُه (¬2) من خطه، أبقى الله حياته للمسلمين. فتأمل هذا الضابط، وراجع الكتب، تَعرف الخطأ من الصواب. 65 - قوله في المثال المذكور (¬3): (وكذلك يقدّم الأب على سائر العصبات في ولاية المال والنكاح) (¬4). يقال عليه: لا مدخل للعصوبة في ولاية المال، خلافًا لما يُفهِمه كلامه. وقوله: (والنكاح): قد تقدم قبل هذا بأسطر (¬5)، فلا حاجة إلى إعادته. 66 - قوله في المثال (¬6): (ويقدّم الجدّ على الأوصياء) (¬7). يقال عليه: هذا غير صحيح، لأن الصحيح أنه لا يجوز نصبُ وصيٍّ -والجدُّ حيٌّ- بصفة الولاية. فإن أُوِّل في كلامه على معنى: (أنه يقدَّم الجدّ ¬
[فصل في بيان تنفيذ تصرف البغاة وأئمة الجور لما وافق الحق، للضرورة العامة]
على نصب وصيٍّ)، فالعبارة لا تعطيه، لأن ذلك لا يقال إلا في متصف بأنه وصيٌّ، فيقدّم الجدّ عليه. 67 - قوله في المثال (¬1): (والوصي تُشترط فيه العدالة) (¬2). ثم قال: (وأما الإمامة العظمى ففي اشتراط العدالة فيها اختلافٌ) إلى أن قال: (ولما كان تصرف القضاة أعمّ من تصرف الأوصياء، وأخصّ من تصرف الأئمة: اختُلف في إلحاقهم بالأئمة) إلى آخره (¬3). يقال عليه: ما ذكره في القضاة: مراده إذا طرأ الفسق على القاضي. وإن كان مراده: الفسقَ المقارن، ففيه كلام الغزالي المعروف، والردُّ عليه، وذلك إذا ولّاه سلطانٌ له شوكة. فتأمله. * * * [فصل في بيان تنفيذ تصرف البغاة وأئمة الجور لِما وافق الحقَّ، للضرورة العامة] 68 - قوله في الفصل المعقود لبيان تنفيذ تصرف البغاة وأئمة الجور لِما وافق الحقَّ، للضرورة العامة: (وإنما نفذت تصرفاتهم وتوليتهم لضرورة الرعايا. وإذا نفذ ذلك مع ندرة البغي، فأولى أن ينفذ تصرف الولاة مع غلبة الفجور)، إلى أن قال: ¬
[فصل في تقيد العزل بالأصلح للمسلمين فالأصلح]
(وأما أخذُهم الزكوات، فإن صرفوها في مصرفها أجزأت، لِما ذكرناه. وإن صرفوها في غير مصارفها لم يبرأ الأغنياء منها على المختار) إلى آخره (¬1). يقال عليه: الأحسن في التعليل أن يقال: (أجزأت لأنها وقعت الموقع). والمختار فيما إذا لم يصرفوها في مصارفها، تفصيل، وهو أنه إن قلنا بوجوب دفعها إلى الإمام الجائر، فإنه يَبرأ الغني قطعًا، لأنه فَعَل الواجب؛ وإلا فإن أُجبر على دفعها، فالتردد. والأرجح عدم الإجزاء. وإن لم يُجبَر على دفعها إلى الإمام الجائر، فدَفَعها إليه وصَرَفها في غير مصارفها، فلا يبرأ قطعًا. * * * [فصل في تقيّد العزل بالأصلح للمسلمين فالأصلح] 69 - قوله في الفصل المعقود لتقيّد العزل بالأصلح للمسلمين فالأصلح: (إذا أراد الإمام عَزْل الحاكم، فإن رابَه منه شيء، عَزَله، لِما في إبقاء المُريب من المفسدة إذ لا نُصحَ (¬2) في تقرير المُريب على ولاية عامة ولا خاصة) (¬3). يقال عليه: المختار في العزل بالريبة، تفصيل، وهو: أنه لا يخلو: إما أن يكون الإمام الذي يَعزل بالريبة، هو الذي باشر ولايتَه بعد استيفاء شروطها، فلا يجوز له عزله لمجرد الريبة، وإلا جاز. ¬
لا يقال: عمر - رضي الله عنه - كان يعزل بمجرد الشكوى ونحو ذلك. لأنا نقول: إن ذلك كان معروفًا من مذهبه - رضي الله عنه -، وخولف فيه. وسيأتي (¬1) في قصة خالد - رضي الله عنه - ما يشهد له (¬2). ¬
70 - قوله فيه أيضًا: (الحال الثانية: أن يَعزله بمن هو أفضل منه، فينفذ عزله تقديمًا للأصلح على الصالح، لِما فيه من تحصيل المصلحة الراجحة للمسلمين. الحال الثالثة: أن يَعزله بمن يساويه. فقد أجاز بعضهم ذلك) إلى أن قال: (وقال آخرون: لا يجوز) (¬1). يقال عليه: ما ذكره في الحالتين معًا من الجواز، مقيد بما إذا كان في العزل مصلحةٌ لتسكين فتنة ونحو ذلك، وإلا فلا يجوز. لكن لو وقع العزل، نَفَذ في الأصح. ¬
[فصل في تصرف الآحاد في الأموال العامة عند جور الأئمة]
[فصل في تصرف الآحاد في الأموال العامة عند جور الأئمة] 71 - قوله في الفصل المعقود لتصرف الآحاد في الأموال العامة عند جور الأئمة: (وإن وَجَد (¬1) أموالًا مغصوبة، فإن عَرَف مالكيها فلْيَرُدّها). إلى أن قال: (فإن يَئس من معرفتهم، صرفها في المصالح العامة، أَولاها فأَولاها. وإنما قلنا ذلك، لأن الله تعالى قال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، وهذا برٌّ وتقوى. وقال - صلى الله عليه وسلم -: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) (¬2). وقال - عليه السلام -: (كل معروف صدقة) (¬3). وإذا جَوَّز - صلى الله عليه وسلم - لهندٍ أن تأخذ من مال زوجها أبي سفيان، صخر بن حرب، رضي الله عنهما يكفيها وولدها بالمعروف (¬4)، مع كون المصلحة خاصة؛ فلأن يجوز ذلك في المصالح العامة أولى) إلى آخره (¬5). يقال فيه: كان الأولى أن يَستدل الشيخ على مدّعاه بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جَعَل للملتقط: التملكَ، بعد مدة التعريف، لغلبة الظن بعدم ظهور ¬
المالك (¬1)؛ إلا أنه قد يُفرَّق بين اللقطة وبين هذا، بأنه يجوز، بخلاف اللقطة. ¬
[قاعدة في تعذر العدالة في الولاية العامة والخاصة]
ويُستدل لذلك أيضًا، بأنه جَعَل مالَ من لا وارث له، للمسلمين من أهل بلده. وفي ابن ماجه وغيره، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَعطَى مالَ رجلٍ مات ولا وارث له، رجلًا من أهل بلده (¬1) مع أنه لا يخلو عن ابن عم وإن بعُد. فما نحن فيه أولى. وما ذكره الشيخ من الاستدلال بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، لا يتم. فتأمله. ولا حجة في حديث هندٍ؛ لأن ذلك من باب الظفر، وليس ذلك نظير ما نحن فيه. * * * [قاعدة في تعذر العدالة في الولاية العامة والخاصة] 72 - قوله في (القاعدة المقعّدة في تعذر العدالة في الولاية العامة والخاصة): (المثال الثاني: الحكام إذا تفاوتوا في الفسوق، قدَّمنا أقلّهم فسوقًا) (¬2). ¬
[فصل في تقديم المفضول، على الفاضل بالزمان، عند اتساع وقت الفاضل]
يقال عليه: لا توقّف في منع ذلك. ولا ينعقد الحكم بقول الفساق. * * * [فصل في تقديم المفضول، على الفاضل بالزمان، عند اتساع وقت الفاضل] 73 - قوله في الفصل المعقود لتقديم المفضول، على الفاضل بالزمان، عند اتساع وقت الفاضل: (كتقديم الأذان والإقامة والسنن الرواتب على الفرائض في أوائل الأوقات] (¬1). يقال عليه: ما مَثَّل به من الأوَّلَيْن وما بعده، لتقديم الفاضل على المفضول، لا يصح، وإنما ذلك من باب السنن المتقدمة لا من باب تقديم المفضول. والمثال الصحيح لذلك: تقديم صلاة الكسوفين على صاحبة الوقت، إذا خيف الفوتُ، واتسع وقتُ الحاضرة، ونحو ذلك. 74 - قوله فيه أيضًا: (ومثلُ ذلك: تقديم المفضول الذي يخاف فوته، على الفاضل الذي لا يخشى فوته، كتقديم حمدلة العاطس وتَسْميته (¬2) ¬
[فصل في تساوي المصالح مع تعذر جمعها]
في أثناء الأذان، وفي أثناء قراءة القرآن) إلى آخره (¬1). يقال عليه: تمثيله المفضول الذي يخاف فوته، بحمدلة العاطس وتسميته، فيه نظر. والظاهر أنه إنما يُشرع تسميت العاطس ونحوه في أثناء الأذان والقراءة، لأنه كلام يسير فلا يضرّ تخلّله. 75 - قوله فيه أيضًا: (وإن وقع الأذان في الصلاة، فإن كان المصلي في الفاتحة، لم يُجبه؛ لئلا ينقطع ولاء الفاتحة؛ وإن كان في غير الفاتحة ففي إجابته قولان) إلى آخره (¬2). يقال عليه: محلّهما (¬3) في غير الحيعلتين. أما إذا تلفظ بالحيعلتين فتبطل قطعًا؛ لأنه نداء. * * * [فصل في تساوي المصالح مع تعذر جمعها] 76 - قوله في الفصل المعقود لتساوي المصالح مع تعذر جمعها: (وقد نُقرع بين المتساويين، ولذلك أمثلة: أحدها: إذا رأينا صائلًا يصول على نَفْسَيْ مسلمين متساويين، وعجزنا عن دفعه عنهما، فإنا نتخير) (¬4). يقال عليه: مراده بقوله: (صائلًا): الجنس، إذ لا يُتصور ما ذكره إلا في ¬
صائلين؛ لأنه إذا كان الصائل واحدًا وأمكن دفعه، اندفع عنهما معًا. وإمكانُ دفعه عن أحدهما دون الآخر مُحالٌ. وفي المثال الثاني ما يوضح ما قلناه (¬1)، لأنه قال: (ولو وجدنا من يَقصد غلامًا باللواط، وامرأةً بالزنى، ففي هذا نظر وتأمل؛ فيجوز أن يُبدأ بدفع الزاني) إلى أن قال: (ويجوز أن يُبدأ بدفع اللائط). فظهر من ذلك أن مراده: تعدد الصائل. والأرجح تقديم دفع قاصد الزنى لِما يترتب على الزنى من اختلاط الأنساب، بخلاف اللواط، وستأتي الإشارة إلى ذلك. 77 - وقوله في المثال الثاني (¬2): (فيجوز أن يُبدأ بدفع الزاني لأن مفسدة الزنى لا يتحقق مثلُها في اللواط، ولأن العلماء اتفقوا على حد الزنى واختلفوا في حد اللائط. ويجوز أن يُبدأ بدفع اللواط (¬3) لأن جنسه لم يُحلّل قط، ولما فيه من إذلال الذكور) إلى آخره (¬4). يقال فيه: الأرجح: الأول، لأن مفسدة الزنى أعظم من مفسدة اللواط (¬5). فإن قيل: بل مفسدة اللواط أعظم، ومن ثَمّ ذهب جمعٌ من العلماء إلى ¬
أنه يُرجم الفاعل والمفعول به، أُحصِنا أو لم يُحصَنا. قلنا: معارَضٌ بما ذهب إليه جمعٌ من أنه لا حدَّ فيه، وأنه يُعزّر فاعلُه. 78 - قوله فيه أيضًا (¬1): (المثال الثالث: إذا رأينا من يصول على مالَيْن متساويين لمسلمَيْن معصومين متساويين، تخيّرنا) (¬2). يقال عليه: ما ذكره مقيد بما إذا كان المسلمان متساويين في الغِنى والفقر؛ فإن كان أحدهما فقيرًا، والآخر غنيًّا، قُدم دفع من يصول على مال الفقير. وقد مرّ ما يوضحه. وهو أيضًا داخل في قول الشيخ: (متساويين)، يعني من جميع الوجوه، لكن لا بأس بالتنبيه عليه. 79 - قوله فيه أيضًا: (المثال الرابع: إذا حجر الحاكمٍ على المفلس، وجبت التسوية بين الديون بالمحاصّة؛ فإن كان الدين مئةً، ومالُه عشرةً، سُوِّي بين الغرماء بإيصال كل منهم إلى عُشر دينه) (¬3). يقال عليه: ما ذكره، إن كان المراد به: التساوي الصوري، فمسلّم؛ وإن كان مراده: التساوي الشرعي، فلا حاجة لقوله: (سُوِّي بين الغرماء بإيصال كل واحدٍ إلى عُشر دينه)، بل لو تفاوتت الديون، وُزِّع عليهم بحسب ذلك، فكان الأولى أن يقول (¬4): (سُوِّي بين الغرماء بإيصال كل منهم إلى ما يخصه بحسب دَيْنه). ¬
80 - قوله فيه أيضًا: (المثال السادس: إذا حضر فقيران متساويان، تخيّر في الدفع إلى أيهما شاء وفي الفضّ عليهما) (¬1). يقال عليه: صورة ذلك أن يكون في صدقة التطوع أو في الزكاة، والفقراء غير محصورين. 81 - قوله فيه أيضًا: (المثال السابع: ووقع في الفتاوى: فيمن كانت عنده مَهْريّة (¬2) تساوي ألفًا، وعشرةُ أينُق تساوي ألفًا، فالتضحية بأيهما أفضل؟ فكان الجواب: أن التضحية بالأينق أولى لِما فيها من تعميم الإقاتة (¬3) والنفع. وفضيلةُ المَهْريّة تفوت بذبحها) (¬4). يقال عليه: غُلُوّ (¬5) المَهْريّة، إن كان لطِيب لحمها، فهي أولى قطعًا، ¬
نص عليه الشافعي - رضي الله عنه -، وفرّق بينه وبين العتق (¬1) بأن النظر هنا إلى طيب اللحم، وهناك إلى التعدد. وإن كان غُلُوّها لصفة أخرى، كشدة الجري وما أشبهها، وهو المراد كما يشير إليه قوله: (وفضيلةُ المَهريّة تفوت بذبحها)، فالأينق أفضل. 82 - قوله في المثال المذكور: (وكذلك لو أراد أن يشتري حصانًا يساوي ألفًا، بألفٍ، ويذبحه ويتصدق بلحمه؛ وأن يشتري بألفٍ: ألفَ شاة، ويتصدق بلحمها؛ فلا شك أن التصدق بلحوم الشياه أفضل لكثرة ما يحصّله من المقاصد) إلى آخره (¬2). يقال عليه: قد ينازَع في هذا من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (دمُ عفراء أحب إلى الله من دم سوداوين) (¬3)، فلم ينظر إلى التعدد (¬4). ¬
[فصل في الإقراع عند تساوي الحقوق]
83 - قوله: (المثال الثامن: إذا ملك نفقة زوجةٍ، وله زوجتان متساويتان، سوَّى بينهما. ويجوز أن يُقرع بينهما دفعا لمفسدة انكسار المحرومة منهما) (¬1). يقال عليه: لعله سقط بعد قوله: (سوَّى بينهما) شيءٌ، وصوابه: (أو يُخيّر. ويجوز أن يُقرع) إلى آخره (¬2). على أن ذلك ثابت في بعض النسخ (¬3). * * * [فصل في الإقراع عند تساوي الحقوق] 84 - قوله في الفصل المعقود للإقراع عند تساوي الحقوق: (فمن ذلك: الإقراع بين الخلفاء عند تساويهم في مقاصد الخلافة. ومن ذلك: الإقراع بين الأئمة) إلى آخره (¬4). يقال عليه: كان الأولى أن يقول: (فمن ذلك الإقراع بين الصالحين للخلافة أو الصالحين للإمامة)، لأنهم قبل الإقراع، لم يقم بواحدٍ منهم وصفُ الخلافة والإمامة. ¬
وأما قوله بعد ذلك في الفصل المذكور: (ولو تساوى اثنان يصلحان للإمامة أو للولاية أو للأحكام، احتمل أن يقرع بينهما، واحتمل أن يخيّر بينهما من يفوّض إليهما) (¬1): فمراده: إذا أريد استنابة واحدٍ منهما. والمسألة السابقة، مراده: الإقراع عند التزاحم ابتداء. 85 - قوله في الفصل أيضًا: (فإن من يتولى الأمر في ذلك، إذا قُدِّم بغير قرعة، أدّى ذلك إلى مقته وبغضه، وإلى أن يحسُد المتأخرُ المتقدمَ، فشُرعت القرعة دفعا لهذا الفساد والعناد) (¬2). يقال عليه: يشير بالفساد إلى ما قدَّمه (¬3)، ويدخل فيه الحسد، والحسد لا يندفع بالقرعة. 86 - قوله فيه أيضًا: (ولا يمكن مثل ذلك في تعارض البينتين، فإن القرعة لا ترجّح الثقة بإحدى الشهادتين) (¬4). يقال عليه: إلا أنها قاطعة للنزاع. ¬
[فصل فيما لا يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساده أو بإفساد بعضه]
[فصل فيما لا يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساده أو بإفساد بعضه] 87 - قوله في الفصل المعقود لِما لا يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساده، أو بإفساد بعضه، أو بإفساد صفة من صفاته: (فأما ما لا يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساده، فكإفساد الأطعمة والأشربة والأدوية لأجل الشفاء والاغتذاء لإبقاء (¬1) المكلفين لعبادة رب العالمين) (¬2). يقال عليه: قيد (المكلفين) لا حاجة إليه، فغيرُهم كذلك. 88 - قوله فيه أيضًا: (وأما ما لا يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساد بعضه، فكقطع اليد المتأكّلة، حفظًا للروح) (¬3). يزاد عليه: (أو حفظًا لبقية العضو أن يُتأكّل لو تُرك). * * * [فصل في اجتماع المفاسد المجردة عن المصالح] 89 - قوله في الفصل المعقود لاجتماع المفاسد المجردة عن المصالح: (ولاجتماع المفاسد أمثلة: أحدها: أن يُكرَهَ على القتل (¬4) بحيث إنه لو امتَنَع منه، قُتل؛ فيلزمه أن يدرأ مفسدة القتل، بالصبر على القتل؛ لأن صبره ¬
على القتل أقل مفسدة من إقدامه عليه. وإن قدر على دفع المُكرِه بسبب من الأسباب، لزمه ذلك لقدرته على درء المفسدتين) (¬1). يقال عليه: إنما يتوجّه اللزوم إذا قلنا: إنه يجب الدفع عن النفس، وقد تقدّم ما فيه، فراجعه (¬2). 90 - قوله فيه أيضًا: (وكذلك لو أُكرِه بالقتل، على شهادة زورٍ أو على حكمٍ بباطل؛ فإن كان المُكرَه على الشهادة به أو على الحكم به قتلًا أو قطعَ عضوٍ أو إحلالَ بُضع محرّم، لم تجز الشهادة ولا الحكم) إلى آخره (¬3). يقال عليه: التعبير بـ (إحلال البُضع) لا يستقيم. وصوابه: (أو الاستيلاء على بُضعٍ محرّم) لأن البُضع لا يحلّ بشهادة الزور. 91 - قوله فيه أيضًا: (المثال الثالث: لو وَجَد المضطر إنسانًا ميتًا، أَكَل لحمه) (¬4). يقال عليه: محل ذلك ما إذا لم يكن نبيًّا، فإن كان الإنسان الميتُ نبيًّا، فلا يجوز أكلُ لحمه (¬5). 92 - قوله فيه أيضًا في (المثال الرابع): (ولا يجوز التداوي ¬
بالخمر على الأصح إلا إذا علم أن الشفاء يحصل بها ولم يجدوا (¬1) دواءً غيرها) (¬2). يقال فيه: المختار أن الله تعالى سَلَب الخمرَ منفعتَها حين حرّمها (¬3). ¬
93 - قوله في المثال أيضًا (¬1): فإن قيل: لِم التُزم في صلح الحديبية إدخال الضيم على المسلمين، وإعطاء الدنيّة في الدين؟ قلنا: التُزم ذلك دفعًا لمفسدة عظيمة، وهي قتل المؤمنين) إلى آخره (¬2). يقال عليه: لم يكن في صلح الحديبية إدخال ضيم ولا إعطاء دنيّة في نفس الأمر، ومن ثَمّ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، لعمر - رضي الله عنهما - ما قالا، حين قال: (فعلامَ نُعطي الدنيّة في ديننا) (¬3) وأيضًا فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تكون خُطّةٌ ¬
يعظّمون فيها حُرُمات الله، إلا أجبتُهم إليها) (¬1) يقتضي أن كل ما أجابهم إليه، فيه تعظيم حُرُمات الله وإن كانوا مخطئين في اعتقادهم. فتأمله! والله الموفق. 94 - قوله فيه أيضًا (¬2): (ولتساوي المفاسد أمثلة: أحدها: إذا وقع رجلٌ ¬
على طفل بين الأطفال، إن أقام على أحدهم، قَتَله؛ وان انتقل إلى آخر من جيرانه، قتَله. فقد قيل: ليس في هذه المسألة حكم شرعي) إلى آخره (¬1). يقال عليه: هذا يردّه قول الشافعي - رضي الله عنه - في آخر خطبة (الرسالة): (فليست تَنزل بأحدٍ من أهل دين الله نازلةٌ، إلا وفي كتاب الله تعالى الدليلُ على سبيل الهدى فيها) (¬2). 95 - وأما قول الشيخ بعد ذلك (¬3): (فلو كان بعضهم (¬4) مسلمًا، وبعضهم كافرًا، فهل يلزمه (¬5) الانتقال إلى الكافر لأن قتله أخف مفسدة من قتل الطفل المحكوم بإسلامه؟ فالأظهر عندي أنه يلزمه ذلك، لأنا نجوّز قتل أولاد الكفار عند التترس) إلى آخره (¬6). فيقال عليه: المختار تعيّن الإقامة على الذي وقع عليه؛ لأن ابتداء المفسدة -وهو الوقوع- كان بغير اختياره. 96 - قوله فيه أيضًا: (المثال السابع: لو وَجَد كافرين قويَّيْن أَيِّدَيْن في حال المبارزة، تخيّر في قتل أيهما شاء، إلا أن يكون أحدهما أعرفَ بمكايد الحروب والقتال وأضرَّ على أهل الإسلام، فإنه يقدّم قتله) إلى أن قال: (بل لو كان ضعيفًا وهو أعرف بمكايد الحروب والقتال، قدّم قتله على قتل القويّ) (¬7). ¬
[فصل في اجتماع المصالح مع المفاسد]
يقال عليه: المختار أن قتل القوي أولى من قتل الضعيف العارف بمكايد الحروب، مختلف في جواز قتله (¬1)، بخلاف القوي فإنه لا خلاف في جواز قتله. * * * [فصل في اجتماع المصالح مع المفاسد] 97 - قوله في الفصل المعقود لاجتماع المصالح مع المفاسد: (إذا اجتمعت مصالح ومفاسد؛ فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد، فَعَلْنا)، إلى أن قال: (فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة، دَرَأْنا المفسدة وإن فوّتْنا المصلحة (¬2)، قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، حرَّمهما لأن مفسدتهما أكبر) إلى آخره (¬3). يقال عليه: ظاهر ما أورده من الأمثلة بعد ذلك من التلفظ بكلمة الكفر، والأفعال المُكَفِّرة (¬4)، والماء المشمّس، وغيرها: أن كلامه في (المركّب)، يعني: الشيء الواحد يكون فيه مصلحة من وجه ومفسدة من وجه. ¬
فإن كان كلامه في الأعم منه ومن غيره، (كما إذا أمكن تحصيلُ مصلحة الصلاة مثلًا، ودفعُ من يصول على بُضعٍ محرّم)، فلا يتم له الاستدلال بالآية، أعني قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}، لأن الأخص لا دلالة له على الأعم، إذ المدّعَى عامٌ، والدليل خاصٌ. 98 - قوله فيه أيضًا: (المثال الأول: التلفظ بكلمة الكفر مَفسدة محرّمة، لكنه جائز بالحكاية والإكراه) (¬1). يقال عليه: إنما يُتصور وجود المصلحة في الحكاية إذا اقتَرَن بها غرضٌ شرعي من شهادةٍ أو تجديدٍ، ونحوهما. 99 - قوله فيه في أثناء (المثال الثالث): (إذ لا يجوز للإنسان قتلُ نفسه بالإكراه) (¬2). يقال عليه: يستثنى من ذلك ما إذا أكرهه على قتل نفسه بشيءٍ أعظم في التعذيب من قتله هو نفسَه، فإن الأصح جواز قتل نفسه بالإكراه. وفي (مسألة ركّاب السفينة) الآتية بعد ذلك، ما يشير إليه. 100 - قوله: (ولو وقع بركبان السفينة نارٌ لا يرجى الخلاص منها، فعجزوا عن الصبر على تحملها مع العلم بأنه لا نجاة لهم من آلامها إلا بإلقاء أنفسهم في الماء المُغرق؛ فالأصح أنه لا يلزمهم الصبر على ألم النار إذا استوت مدتا الحياة في الإحراق والإغراق) (¬3). ¬
يقال عليه: قوله: (بركبان السفينة): تمثيل، وإلا فلو وقع لهم ذلك في بيتٍ ونحوه، كان الأمر كذلك. 101 - قوله فيه أيضًا: (القسم الثالث (¬1): ما لا يترتب مسبّبه إلا نادرًا) (¬2)، إلى أن قال: (وهذا كـ (الماء المشمّس في الأواني المعدنية في البلاد الحارة)، فإنه يكره استعماله) ثم قال: (ومن وَقَف الكراهةَ فيه على قصد استعماله، فقد غلط، لأن ما يؤثر بطبعه الذي جبله الله عليه، لا يقف تأثيره على قصد القاصدين) (¬3). يقال عليه: المراد بقوله: (على قصد استعماله): (على قصد تشميسه). والمعنى: على قصد استعماله مشمَّسًا. وقوله: (فقد غلط)؛ يقال عليه: من أورد هذا من العراقيين، أراد به: ما شأنه أن يُقصد بالتشميس، ليخرج (متشمَّس البِرَك والأنهار) إلا أنه اعتبر القصد. على أنه لو اعتبر القصد، لم يكن غلطًا؛ لأن المجازاة لا تقع إلا على المقصود، ويجوز أن الله تعالى رَتَّب المحذور في ذلك على القصد. 102 - قوله فيه أيضًا (المثال السابع: الصلاة إلى غير القبلة مَفسدة محرَّمة، فإن تعذر استقبال القبلة بصَلبٍ أو عجز أو إكراه، وجبت الصلاة ¬
على الأصح إلى الجهة التي حُول وجهُه إليها لئلا تفُوت مقاصد الصلاة وسائرُ شرائطها لفوات شرطٍ) إلى آخره (¬1). يقال عليه: ظاهر كلامه أن (حُوِّل) مبني لما لم يسمّ فاعله، وحينئذ فالصواب: أنه إذا حُول المصلوب عن القبلة إلى جهة المشرق مثلًا، وقدر على التوجه إلى جهة المغرب، جاز له ذلك. وليس هذا كالمتنفل يصلي إلى جهة مقصده لا يجوز له التوجه إلى غيره؛ لأن ذلك بدلٌ عن القبلة في حقه بوضع الشرع، بخلاف المصلوب الموجّه لغير القبلة، فليست الجهة التي وُجِّه إليها بدلًا عن القبلة في حقه. وحينئذ فينبغي أن نقرأ (حَوَّل) على البناء للفاعل. وهذا فرع حسن، فتأمله. واعلم أنه لو قدر المصلوب الموجَّه إلى غير القبلة، على الالتفات بوجهه إلى القبلة أو ببعض بدنه، وجب عليه ذلك؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أَمرتُكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم) (¬2). 103 - قوله فيه أيضًا في (المثال التاسع): (نبش الأموات (¬3). ولو ابتلعوا جواهر مغصوبة، شُقّت أجوافهم؛ فإن كانت الجواهر لمستقلٍّ، فأولى أن لا يستخرجها إلى أن تتجرد عظامهم عن لحومهم حفظًا لحرمتهم. وإن كانت ¬
لغير مستقلٍّ كالمحجور عليه وأموالِ المصالح والأوقاف العامة، وجب استخراجها حفظًا على المحجور عليه) إلى آخره (¬1). يقال عليه: ينبغي أن يكون محل الوجوب فيما إذا كانت لغير مستقلٍّ، كما (¬2) إذا خيف الضياع أو النقص بالتعييب ونحوه، وإلا فكالمستقل. وفي نص الشافعي - رضي الله عنه - ما يشهد له. ووقع استفتاء في امرأة أَبرَأَت زوجَها من صداقها في مرض موتها، ولها أولاد صغار لا تُتصور منهم الإجازة، فكان الجواب: أنه لا يجب على الحاكم نزع حصة الأولاد من الصَّداق إذا لم يَخش الضياع؛ لأن الزوج إما وليّ للأولاد إن كانوا منه وهو بصفة الولاية، وإما لا ولاية له عليهم ولكن المال محفوظ في ذمته، فيُترك إلى بلوغ الأولاد ليجيزوا أو يردّوا. 104 - قوله في المثال المذكور: (وإذا اختلطت قتلى الكافرين بقتلى المسلمين، وجب تغسيل الجميع)، إلى أن قال: (ولا يصلّي على الجميع، بل ينوي الصلاة على المسلمين خاصة) (¬3). يزاد عليه: أو يصلّي على الجميع واحدًا بعد واحدٍ ناويًا الصلاة عليه إن كان مسلمًا ويقول: اللهم اغفر له إن كان مسلمًا. 105 - قوله في الفصل المذكور: (المثال الحادي عشر: قتل الصيد الوحشي المأكول بغير الذبح، مَفسدة محرّمة) إلى آخره (¬4). يقال عليه: مراده بذلك في غير حالة الصيد. 106 - قوله: (المثال الثاني عشر: ذبحُ صيد الحرم، أو الصيدُ ¬
في الإحرام، مَفسدة محرّمة، لكنه جائز في حال الضرورة تقديما لحرمة الإنسان على حرمة الحيوان. وهذا من باب تقديم حق العبد على حق الربّ) (¬1). يقال عليه: صوابه: تقديمًا لحرمة الإنسان على حرمة الحرم والإحرام، لأن الحيوان المأكول لا حُرمة له في غير الحرم وحالة الإحرام. وقوله: (وهذا من باب تقديم حق العبد على حق الربّ): يقال عليه: إبقاء مهجة العبد في حالة الاضطرار بذبح هذا الحيوان في الحرم أو الإحرام، من حق الربّ - سبحانه وتعالى - أيضًا، فليس هذا المثال من هذا الباب. 107 - قوله: (المثال الثالث عشر: ترك الصلوات وصوم رمضان، وتأخير الزكوات وحقوق الناس الواجبات، من غير عذر شرعي، مَفسدة محرّمة، لكنه جائز بالإكراه) إلى آخره (¬2). يقال عليه: المراد بالإكراه: الإكراه على ترك الأفعال الظاهرة، وإلا فلا يتصور الإكراه على ترك إجراء الأركان على القلب. وما ذكره في الإكراه على الصوم، بناء على ما رجحه الرافعي -رحمه الله-، من أنه لو أُكره حتى أَكَل، أَفطَر (¬3). أما إذا قلنا بأنه لا يُفطر -وهو الذي صححه النواوي (¬4) - فلا يأتي ما ذكره الشيخ. 108 - قوله: (المثال السابع عشر: الحَجر على المرء المستقل في ¬
تصرفه في منافع نفسه، مَفسدة، لكنه ثبت على النساء في النكاح دفعا لمشقة مباشرته عنهن، فإن المرأة تستحي ويشتد خجلها من العقد على نفسها أو على غيرها) إلى آخره (¬1). يقال عليه: المشهور في تعليل عدم مباشرة المرأة لعقد النكاح: كثرة انخداعها. ويجوز أن تكون العلة مركبة من ذلك ومما ذكره الشيخ. 109 - قوله في (المثال التاسع عشر): (وكذلك الحجر على السفيه ثابت لمصلحته) إلى أن قال: (لكنه تجوز وصيته لأنها مصلحة في حقه لا تعارضها مَفسدة. وكذلك وصيةُ الصبي المميز، على القول المختار) (¬2). يقال عليه: ما اختاره الشيخ، خلاف ما رجّحوه. والأصح عدم الصحة. 110 - قوله: (المثال العشرون: الحجر على العبيد مَفسدةٌ في حقهم، مصلحةٌ في حق السادة، لشرف الحرية) (¬3). يقال عليه: الأولى أن يقال: مصلحةٌ في حق السادة، لحقهم في الرقبة. 111 - قوله: (المثال الحادي والعشرون: بيع العبد في جنايته، مَفسدة في حق السيد؛ مصلحةٌ في حق المجنيّ عليه. وقد خالف فيها بعض أهل الظاهر. وخلافهم ظاهر) (¬4). يقال عليه: قوله: (وخلافهم ظاهر) يُشعر بميله لما قالوه أن حق السيد في الملك، كيف يقدَّم عليه حق المجني عليه، ولم تكن من السيد جناية ولا إعانة عليها؟ ويقال لهم في الجواب: أجمعنا نحن وأنتم على أن العبد إذا قَتَل عمدًا ¬
من يُقتَل به، فإنه يجب القصاص تقديمًا لحق المجني عليه، فلذلك يقدَّم في جناية الخطأ، إذ العبدُ لا تَعقل عنه عاقلة، على ما هو مقرر في بابه. 112 - قوله في (المثال الثاني والعشرون): (ويجوز التقاط الأموال لمصالح أربابها) إلى أن قال: (وهذا من المصالح المباحة إلا في حق المجانين والأيتام والأموال العامة لأهل الإسلام) (¬1). يقال فيه: المراد: فإن كان ذلك في حق المجانين والأيتام والأموال العامة، وجب. ومحله: إذا خشي الضياع، وإلا فلا يجب. 113 - قوله: (المثال الثالث والعشرون: إتلاف مال الغير مَفسدة في حقه، مضمون ببدله، إلا في مال البغاة والصوّال) إلى آخره (¬2). يقال عليه: كلامه في البغاة شامل لما يُتلفه الباغي على العادل، وعكسه. وهو كذلك. وأما الصوّال فمراده أن ما يُتلفه المَصُول عليه، على الصائل، لا يضمنه. ولا يصح إرادة عكسه. وحينئذ فيقال على عبارته: إن كان المراد: عدم الضمان من الطرفين، وَرَدَ: ما يتلفه الصائل على المصول عليه. وإن أراد: من طرف واحد، وَرَدَ: أن الحكم في البغاة سواء في الطرفين. ولكن الشيخ أحال ذلك على ما هو مقرر في أبوابه. 114 - قوله: (المثال الخامس والعشرون: قتل المسلم مَفسدة محرّمة، لكنه يجوز بالزنى بعد الإحصان، وبقطع الطريق والبغي والصِّيال) (¬3). يقال عليه: قتل المسلم يجوز بأمور أخرى غير الأربع التي ذكرها، فلا معنى لتخصيصه بها. فيجوز قتله قصاصًا أيضًا، وبترك الصلاة، وبتترس ¬
الكفار به إذا خيف الاصطلام، ونحو ذلك. ولو اقتصر على الثلاثة المذكورة في الحديث، لكان أولى، وهي: (الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارقُ للجماعة) (¬1). ويدخل فيه أشياء كثيرة، فتأمله. 115 - قوله: (المثال السادس والعشرون: تغريم عاقلة الحاكم الديةَ فيما يخطئ به الحاكم في معرض الأحكام ومصالح الإسلام، مَضَرّةٌ على عاقلته، فتجب في بيت المال دون العاقلة، على قولٍ) إلى آخره (¬2). يقال فيه: هذا القول الذي ذكره، هو المختار الراجح دليلًا. 116 - قوله: (المثال السابع والعشرون: تصحيح ولاية الفاسق مَفسدةٌ) إلى أن قال: (لكن صححناها في حق الإمام الفاسق والحاكم الفاسق) إلى آخره (¬3). يقال عليه: محل ذلك في (الحاكم)، ما إذا ولّاه ذو شوكة، أو طرأ الفسق وقلنا: لا ينعزل به. وقد مرّ فيه كلام أبسط من هذا، فراجعه (¬4). 117 - قوله: (المثال التاسع والعشرون: نكاح الأحرار، الإماءَ، مَفسدة محرّمة، لِما فيه من تعريض الأولاد للإرقاق، لكنه جاز عند خوف العَنَت وفقد الطَّول) (¬5) إلى آخره (¬6). يقال فيه: ما ذكره من أن العلة: تعريض الأولاد للإرقاق، هو المشهور. ¬
وعليه قيل: لو كان مجبوبًا جاز أن يتزوج الأمة، إذ لا يلحقه الولد، فالمعنى منتفٍ. والأرجح عدم الجواز في المجبوب، لظاهر القرآن. وقولُهم: إن العلة إرقاق الولد، ممنوع. 118 - قوله في المثال المذكور: (فإن قيل: كيف يحرُم تحصيل مصلحة ناجزة محققة، لتوقع مَفسدة متوهمة؟ قلنا: لمّا غلب وقوع هذه المفسدة، جَعَل الشرع المتوقَّعَ كالمحقَّق، فإن العلوق غالبٌ كثيرٌ؛ والشرع قد يحتاط لِما يكثُر وقوعه، احتياطَه لِما تحقق وقوعه. ألا ترى أن من أثبت أن أباه مات، فإنه يلزمه حصر الورثة فيه) إلى آخره (¬1). يقال عليه: التزامه حصرَ الوراثة فيه، ليس لِما ذكره من إنزال المتوقع منزلة المحقق، بل للشك في الاستحقاق. 119 - قوله في المثال أيضًا (¬2): (فإن قيل: لو طلَب هذا الابن من التركة درهمًا واحدًا، وهي عشرة آلاف، فهل يُدفع إليه شيء قبل إثبات الحصر أم لا؟ قلنا: نعم، يُدفع إليه ما يُقطع بأنه يستحقه إذا كان عدد الورثة لا ينتهي إلى مثل عدد التركة في العادة) إلى آخره (¬3). يقال عليه: ما جَزَم به من أنه يُدفع إليه ما يُقطع بأنه يستحقه، يردّه ما صححوه فيما إذا خلّف ابنًا وزوجةً حاملًا، من أنه لا يُعطَى شيئًا أصلًا. ولو كان كما ذكره الشيخ لأُعطِي اليقينَ، كما هو أحد الأوجه. نعم يُعطَى اليقينَ، فيما إذا خلّف زوجةً حاملًا وأبوين، فإن للزوجة ثُمُنًا عائلًا، وللأبوين سُدسين عائلين، لأن لكلٍّ منهما ها هنا مقدارًا يرجع به على التركة، فأُعطِيَه عائلًا؛ لأنه لا يمكن أن يأخذ أقل منه على كل تقدير. ¬
وقد يتيقن ما يُصرف لبعض الورثة دون بعض، كما إذا كان هناك زوجةٌ حاملٌ وبنتان أو أمٌّ معهن، فإنه تُعطَى الزوجةُ الثُمنَ كاملًا، لأنها تستحقه على كل تقدير. وكذلك تُعطَى الأمُّ السُدسَ كاملًا لأنها تستحقه على كل تقديره ولكن اليقين في جميع الورثة مخصوص بصورة العول. 120 - قوله: (المثال الثلاثون: تزوُّج الضرّات بعقد أو عقود، مَفسدةٌ، لِما فيه من الإضرار بالزوجات، لكنه جاز أن تُضَرّ كلُّ (¬1) واحدة منهن بثلاث، نظرًا لمصالح الرجال وتحصيلًا لمقاصد النكاح. وحرُمت الزيادة على الأربع، نظرًا للنساء ودفعًا لمضارّ جور الرجال على الأزواج. كما جاز كَسْر المرأة بثلاث طلقات ولم تجُز الزيادة عليها، نظرًا لمصالح النساء، وزجرًا للرجال عن تكثير مفسدة الطلاق) (¬2). يقال عليه: التمثيل بالضرّات على الوجه المذكور، فيه نظر؛ لأن هذا ليس من قبيل الأمثلة المركبة التي فيها مَفسدةٌ من وجه، ومصلحةٌ من وجه. وما ذكره في الطلاق الثلاث، يقال عليه: قد يكون الطلاق مصلحةً للمرأة من جهة ما يحصل لها منه من الضرر، ومصلحةً للرجل وإراحته من شرها، ولهما إذا حصل الشِّقاق بينهما فعَيَّن الحاكمُ الحَكَمَيْن (¬3). ¬
وأما منعُ الزيادة على الثلاث، فقد يكون نظرًا لهما؛ أما للرجال: فلأنه يُوقِع عليها ما يحرّمها عليه بحيث تيأس من الرجعة. ويكون نظرًا للمرأة على وجهٍ آخر، لأن ذلك الرجل الذي طَلَّق زوجته ئم راجع، ثم طَلَّق ثم راجع، ثم طَلَّق ثم راجع -قبل مشروعية الثلاث- وقال: لا أَدَعُكِ مطلَّقةً ولا معلَّقةً، شَرَع الله الطلاق من ذلك اليوم، وارتفعت الزيادة على الثلاث، واستأنف الناسُ الطلاق الئلاث من ذلك اليوم، مَن كان طَلَّق، ومن لم يطلِّق (¬1). وهذا في حق الحُرّ. وأما من فيه رِقٌّ فلا يملك إلا طلقتين. 121 - قوله: (المثال الحادي والثلاثون: التقرير على الأنكحة الفاسدة مَفسدةٌ إلا في تقرير الكفار على الأنكحة الفاسدة إذا أسلموا، فإنه واجب؛ لأنا لو أفسدناها لَزَهِد الكفار في الإسلام) (¬2) إلى أن قال: (ولذلك لا يُقتص منهم بمن قَتَلوه من المسلمين، ولا يُغرّمون لِما أَتلفوه على المسلمين) إلى آخره (¬3). يقال عليه: عدم تضمين الأنفس والأموال بعد الإسلام، مختص بالحربيين. والحكمُ الأول لا فرق فيه بين الحربيين وغيرهم. 122 - قوله: (المثال الثاني والثلاثون: التقرير على الكفر مَفسدة كبيرة، ¬
لأنه أعظم المفاسد. وفي تقرير المرتد ثلاثةَ أيام، قولان، أحدهما: أنه لا يقرَّر) (¬1) إلى أن قال: (والثاني: يقرَّر) (¬2). يقال عليه: لا يقال في مثل هذا: إنه تقرير، وإنما هو إمهال، فصواب العبارة: (وفي إمهال المرتد قولان: أحدهما: لا يمهَل، والثاني: يمهَل). فتأمله. 123 - قوله في المثال المذكور: (فإن قيل: لِمَ قرّرتم الكوافر على كفرهن على الدوام؟ قلنا: لأنهن قد صرن مالًا من أموال المسلمين، مع قرب رجوعهن إلى الإسلام) (¬3). يقال عليه: ما ذكره في علة تقرير الكوافر على كفرهن على الدوام، من أنهن قد صرن مالًا للمسلمين، لا يمشي في نساءٍ قُرِّرن بالجزية ابتداءً حيث جوّزناه، أو قُرِّرن تبعًا لمن قَرَّرْنا بالجزية. فإن قيل: في قول الشيخ: (لأنهن قد صرن مالًا من أموال المسلمين) إرشاد إلى الكلام في المسبيّات خاصة. قلنا: فكان ينبغي أن يذكر الحكم في غيرهن. والصواب في التعليل: أنهن إنما قُرِّرن إذا كنّ مسبيّات، لعدم قتالهن؛ فإن لم يكنّ مسبيّات فلبذلهنّ الجزية إن قُرِّرن بها أو تبعًا لمن قُرِّر بالجزية. 124 - قوله: (المثال الخامس والثلاثون: التقرير بالجزية. وهو مختص ¬
بأهل الكتابين والمجوس) إلى أن قال: (ولا تؤخذ الجزية عوضًا عن تقريرهم على الكفر، إذ ليس من إجلال الربّ أن تؤخذ الأعواض على سبِّه وشتمِه ونسبتِه إلى ما لا يليق بعظمته. ومن ذهب إلى ذلك فقد أبعد) (¬1). يقال عليه: هذا يقتضي أن من العلماء مَن ذهب إلى ذلك، ولا أعلم من قال به. وإنما تؤخذ الجزية عن حقن دمائهم، أو أجرة سكناهم في بلاد المسلمين، على الخلاف في ذلك. وأما على ما ذكره الشيخ، فلم يقل به أحد. 125 - قوله في الفصل المذكور: (الغيبة مَفسدةٌ محرّمة، لكنها جائزة إذا تضمنت مصلحةً واجبة التحصيل، أو جائزة التحصيل. ولها أحوال: أحدها: أن يشاوَر في مصاهرة إنسان، فيذكره بما يكره) (¬2) إلى أن قال: (فهذا جائز. والذي يظهر لي أنه واجب لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنصح لكل مسلم) (¬3). يقال عليه: ما ذكره من الوجوب على ما ظهر له، جزم به النووي في (الأذكار) و (الرياض) وشرح مسلم (¬4). والصواب خلافه؛ لأنه يؤدي إلى أن ¬
لا يَرغب أحدٌ في المستشار فيه، ويؤدي ذلك إلى مفسدة أعظم مما يحصل في مصاهرته، كوقوعٍ في زنا ونحو ذلك. فالصواب: الجواز. 126 - قوله: (المثال الحادي والخمسون: قطع أعضاء الجاني حفظًا لأعضاء الناس. المثال الثاني والخمسون: جَرح الجاني حفظًا للسلامة من الجِراح. المثال الثالث والخمسون: قتل الجاني مَفسدةٌ بتفويت حياته، لكنه جاز لِما فيه من حفظ حياة الناس على العموم) (¬1). يقال عليه: ما ذكره في هذه الأمثلة، مراده به: أن هذا هو السبب في مشروعية ذلك قبل النظر إلى وقوع مقتضِيهِ من شخصٍ بعينه. فأما إذا وقع من خص، فالحكم في مشروعية ذلك في حقه، امتناعُ غيره من الإقدام على فعله، مع زيادة معاملته بمثل صنيعه بالاقتصاص منه. فليُتأمل. 127 - قوله: (المثال الثاني والستون: الحبس. وهو مَفسدةٌ في حق المحبوس، لكنه جاز لمصالح تَرجُحُ على مفسدته، وهي أنواع: منها حبس الجاني عند كَيبة المستحِق، حفظًا لمحل القصاص) (¬2). يزاد عليه: (وكذا عند صباه، وجنونه). وكمحلّه في الغَيبة: ما إذا كان غير مفقود (¬3). فإن كان المستحِق مفقودًا، فإنه لا يُحبس إلا إذا مضت مدة يغلب على الظن أنه لا يعيش فوقها، فينتقل القصاص إلى وارثه. ¬
ومحلُّه في الغَيبة والصبا والجنون (¬1): ما إذا وقعت الجناية في غير قطع الطريق؛ فإن وقعت في قطع الطريق، كما إذا قَتَل (¬2) في قطعٍ لطريقٍ (¬3)، وكان المستحِق صبيًّا أو مجنونًا أو غائبا، فإنه يُقتل (¬4) حالًا، ولا يُنتظَر به البلوغ والإفاقة والحضور (¬5)، لأن قُصاراه أن يعفو المستحِق، وهو لا أثر لعفوه في دفع العقوبة، لتحتّمها. فليُتأمل. 128 - قوله في المثال المذكور: (فإن قيل: لِم تحبسون مدّعِي الإعسار بالحق مع أن الأصل عدم الغنى؟ قلنا: له أحوال: أحدها: أن يُعرف له مال (¬6) بمقدار الحق أو أكثر منه، فنحبسه بناء على الأصل) (¬7) إلى أن قال: (فإن قيل: إذا طالت المدة وكان ضعيفًا عن الكسب، فالظاهر أنه ينفق ما عهدناه على نفسه وعلى عياله، فإذا مضت مدةٌ يستوعب (¬8) نفقتُها الغنى الذي ¬
عهدناه، فينبغي أن لا يُحبس، لمعارضة هذا الظاهر لاستمرار غناه؟ قلتُ: جواب هذا السؤال مشكل جدًّا) إلى آخره (¬1). يقال عليه: لا إشكال في الجواب الأول. فإن ادَّعَى الإنفاقَ، كان القولُ قولَه لأنه وافق الظاهرَ، فلا إشكال. وإن لم يدَّعِ الإنفاق بل ادّعى الإعسار فقط، ولم يدّعِ أنه أنفقه في مدة ضَعفه، فالقول قول خصمه لموافقة الظاهر بما عُرف له من المال. لا يقال: دعوى الإعسار مع ضَعفه وطولِ المدة، تكفي في أن بكون القولُ قولَه؛ لأن القاضي لا يحكم له بما لم يدَّعِه. فتأمله. 129 - قوله: (الحالة الثانية (¬2): أن لا يُعرف له غنى ولا فقر. وفيه مذاهب: أحدها: لا يُحبس، لأن الأصل فقرُه) (¬3) ثم قال: (والثاني: يُحبس، لأن الغالب في الناس أنهم يملكون ما فوق كفايتهم، والفقراء الذين لا يملكون ذلك: بالنسبة إلى هؤلاء، قليل. وهذا مشكل جدًّا إذا كان الحق غزيرًا كثيرًا كالألف والألفين، إذ ليست الغلبة متحققة في الغنى المتسع، فكيف يُحبس الغريم على عشرة آلاف، وليس الغالب في الناس من يملك عشرة آلاف) ثم قال: (ويحتمل أن يقال: إذا أَدَّى قدرًا يخرج به عن الغلبة، وجب إطلاقه. وهذا قريب. المذهب الثالث: إن لزمه الدين باختياره، فالقول قوله) (¬4) إلى آخره (¬5). يقال عليه: ما ذكره من هذه المذاهب، هي أوجه في مذهب الشافعي - رضي الله عنه -، ولكن إنما أوردها الأصحاب في (مَن القولُ قولُه). ¬
وهذا الوجه الثاني (¬1) صائر إلى أن القول قول غريم المفلس؛ لأنه يوافق الظاهر، وطردِ الباب طردًا واحدًا، فلا فرق بين اليسير والكثير. ولأن الأصل استحقاق المطالبة. والشيخ نَصَب الأوجه في حبسه معلِّلًا هذا الوجه، بأن الغالب في الناس أنهم يملكون ما فوق كفايتهم، فجاء الإشكال الذي ذكره. 130 - قوله: (الحالة الثالثة من أحوال مدعي الإعسار: أن يُعهد له مالٌ ناقصٌ عن مقدار الحق الذي يلزمه، فيُحبس عليه. وفي حبسه على ما وراءه: الخلاف المذكور في الحالة الثانية إن كان المدَّعَى به نزرًا يسيرًا. وإن كان كثيرا ففيه مذهبان: أحدهما: يُطلَق للأصل. والثاني: يُفرّق بين ما التزمه وبين ما لزمه بغير اختياره. ولا يجيء المذهب الثالث، إذ لا غلبة) (¬2). يقال عليه: إنما انتَفَى (¬3) لأجل تعليله بالغلبة. وقد تقدم أن العلة الصحيحة في المذهب الثاني: إنما هي كون الظاهر أن الحرّ يَملِك (¬4). 131 - قوله في (المثال الثالث والستون): (وكذلك لا يُشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن يكون المأمور والمنهي عاصيين، بل يُشترط فيه أن يكون أحدهما ملابسًا لمفسدة واجبة الدفع، والآخرُ تاركًا لمصلحة واجبة التحصيل. ولذلك أمثلة: أحدها: أمر الجاهل بمعروف لا يَعرف (¬5) إيجابه) (¬6). ¬
يقال عليه: في التمثيل بأمر الجاهل بمعروفٍ لا يَعرف إيجابه، نظر؛ لأنه لم يتلبس بمنكر، إلا أن يقال: إنه متلبس ولكنه معذور لجهله. 132 - قوله في (المثال الثالث والستون): (المثال الرابع: ضرب الصبيان على ترك الصلاة والصيام وغير ذلك من المصالح. فإن قيل: إذا كان الصبي لا يصلحه إلا الضرب المبرّح، فهل يجوز ضربه تحصيلًا لمصلحة تأديبِهِ؟ قلنا: لا يجوز ذلك، بل لا يجوز أن يضرب ضربًا غير مبرّح) إلى آخره (¬1). يقال عليه: المختار أن يضرب ضربًا غير مبرّح وإن لم يَنجَع، كحد الخمر في العبد، فإنه يُضرب عشرين وإن لم يَنزجر مثلُه بذلك. وهذا ظاهر القرآن في الزوجات (¬2)، خلافًا لمن ذهب إلى أنه لا يضرب إلا أن يَنجَع (¬3). ¬
133 - قوله فيه أيضًا: (المثال الثامن: لو وَكَّل وكيلًا في بيع جارية، فباعها، فأراد الموكِّل وَطْأها ظنًّا أن الوكيل لم يبعها، فأخبره المشتري أنه اشتراها، فلم يصدّقه؛ فللمشتري أن يدفعه عنها ولو بالقتل (¬1) -مع أنه لا إثم عليه- (¬2) إلى آخره (¬3). يقال عليه: نفي الإثم عن المالك في الوَطي، صريح في أنه لا يحرُم عليه وَطْيُ الجارية إذا أخبره المشتري، ولم يصدّقه، وإنما للمشتري أن يَدفعه عنها. والصواب: التحريم، لقوة هذه القرينة المقتضية لعدم الإقدام. وقد تقدم في أوائل الكتاب في (الفصل المعقود لإتيان المفاسد ظنًّا أنها من المصالح): التنبيهُ على صورةٍ أخف حالًا من هذه، وأن الاختيار فيها عدم جواز الإقدام على الوَطْي هَجْمًا، فليراجع (¬4). * * * ¬
[فصل في الوسائل إلى المصالح]
[فصل في الوسائل إلى المصالح] 134 - قوله في الفصل المعقود عليه للوسائل إلى المصالح (¬1): (مثال الجمع بين الأمر بمعروفين فما زاد، أن تَرَى جماعةً قد تركوا الصلاة المفروضة حتى ضاق الوقت بغير عذر، فتقول لهم بكلمة واحدة: صلُّوا) إلى آخره (¬2). ¬
يقال عليه: لقائل أن يقول: بل قوله للجماعة: صلُّوا، (معروفٌ واحد)، فليُتأمل. 135 - قوله في الفصل المذكور في أثناء (القسم الثاني: ما هو وسيلة إلى وسيلة): (فالولاية العظمى أفضل) ثم قال: (وتليها ولاية القضاء) (¬1). يقال عليه: إنما يلي الولاية العظمى ... (¬2): العامة، ثم يليها: القضاء. وقد يُفهم ذلك من قول الشيخ: (لعموم جلبها المنافع ودرئها المفاسد)، فهذه العلة تشمل الولاية العامة في الرتبة الأولى وفي الرتبة الثانية، ولكن في فهمه منه عُسرٌ، فمن ثَمَّ وقع التنبيه عليه. 136 - قوله في (القسم الثاني أيضًا): (فمن نسي صلاة من صلاتين مكتوبتين، لزمه قضاؤهما) (¬3) إلى أن قال: (فإنْ ذَكَر في الثانية أن الأولى هي المفروضة، سقط وجوبها بسقوط المتوسَّل إليه. وهل تبطل أو تبقى نفلًا؟ فيه خلاف) (¬4) إلى آخره (¬5). يقال عليه: الخلاف في بطلان الثانية، أو بقائها نفلًا، محله ما لم تكن الثانية مُعادةً؛ فإن كانت الثانية مُعادةً بوقوعها في جماعة، فإنها تبقى نفلًا بلا خلاف. 137 - قوله في (القسم المذكور): (وقد استثني من سقوط الوسائل سقوط المقاصد: أن الناسك الذي لا شعر على رأسه مأمور بإمرار الموسى ¬
[فصل في الوسائل إلى المفاسد]
على رأسه، مع أن إمرار الموسى على رأسه وسيلة إلى إزالة الشعر، فيما ظهر لنا) (¬1). يقال عليه: هذا الكلام فيه نظر، إذ لو كان الاستثناء الذي ذكره، على بابه، كان إمرار الموسى على من لا شعرَ على رأسه، واجبًا، والفرض أنه مستحب. * * * [فصل في الوسائل إلى المفاسد] 138 - قوله في الفصل المعقود للوسائل إلى المفاسد (¬2): (فمن أَتَى شيئًا مختلفًا في تحريمه معتقدا تحريمه، وجب الإنكار عليه لانتهاكه الحرمة) (¬3). يقال عليه: محل هذا أن يكون المنكِر معتقدًا تحريم ما يُنكره، فلا يجب على الشافعي أن ينكر على الحنفي أكلَ الضبّ ومتروكِ التسمية؛ ولا على الحنفي أن ينكر على الشافعي (¬4) الوطءَ في نكاح بلا وليّ، وإن كان المنكَر عليه معتقِدًا تحريمه (¬5). ¬
فإن كان مختلفًا فيه، والمنكَر عليه يعتقد حِلَّه، والمنكِر يعتقد تحريمه؛ فإن كان دليل معتقِد الحِلّ قويًّا، فلا يُنكِر عليه معتقِد التحريم. وإن كان ضعيفًا، أَنكَر عليه معتقِد التحريم. 139 - قوله فيه أيضًا: (وذلك كمن يطأ جاريةً بالإباحة معتقدًا لمذهب عطاء (¬1)، فيجب الإنكار عليه) (¬2). يقال عليه: محل وجوب الإنكار، في غير المجتهد. أما إذا كان مجتهدًا كعطاء، فإنه لا يجب الإنكار (¬3). 140 - قوله فيه أيضًا: (وقد تجوز المعاونة على الإثم والعدوان، لا من جهة كونها معصية، بل من جهة كونها وسيلة إلى مصلحة، وله أمثلة)، فذَكَر: ¬
بَذْل المال في فك الأسرى، وأنه حرام على آخِذِيه، مباح بل مندوب لباذِلِيه. وبَذْل المال للمُصادِر؛ دفعًا عن النفس (¬1). وبَذْل المال من المرأة دفعًا للغاصب عن الزنى بها (¬2). ويقال فيه: كان ينبغي أن يذكر من أمثلة ذلك: التقرير بالجزية، فإن فيه إعانة على أعظم المعاصي الذي هو الكفر بالله - سبحانه وتعالى -. وقوله في مثال (فك الأسرى): أنه (مباح بل مندوب لباذليه)، يزاد عليه: بل واجب إذا تعيّن طريقًا. وهو قد صَرَّح بالوجوب في المثالين الآخرين. 141 - قوله في مثال (بذل المال للمُصادِر) (¬3): (ومنها: أن يريد الظالم قتل إنسان مصادرةً على ماله، ويغلب على ظنه أنه يقتله إن لم يدفع إليه ماله، فإنه يجب عليه بذل ماله فكاكًا لنفسه) (¬4). يقال فيه: مراده: ما إذا تحقق قتلَ نفسه ما لم يَدفع المال، وإلا فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من قُتل دون ماله فهو شهيد) (¬5). والمختار عدم وجوب دفع المال في هذا المثال، لظاهر الحديث. * * * ¬
[فصل في اختلاف الآثام باختلاف المفاسد]
[فصل في اختلاف الآثام باختلاف المفاسد] 142 - قوله في الفصل المعقود لاختلاف الآثام باختلاف المفاسد: (وليس من قَتَل فاسقًا ظالمًا من فساق المسلمين، بمثابة من قَتَل إمامًا عادلًا أو حاكمًا مقسطًا أو واليًا منصفًا، لِما فَوَّته على المسلمين من العدل والإقساط والإنصاف. وعلى هذا حَمَل بعضهم قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (¬1) [المائدة: 32]). يقال عليه: ما ذكره الشيخ من الحمل، ضعيف. وإنما كان الواحد كالجمع هنا، لأن كل إنسان يُدلي بما يُدلي به الآخر من الكرامة على الله - عزَّ وجلَّ -، وثبوتِ الحرمة. وذُكر ذلك تعظيمًا لقتل النفس، لأن المتعرِّض لقتل النفس، إذا تَصَوَّر قَتْلَها بصورة قتل الناس جميعًا، عظُم ذلك عليه. وتبيّن بذلك أنه إنما شَبَّه الواحد بالجمع، لأن جهة الجميع واحدة، فإذا انتَهَك حرمة واحد، فقد انتَهَك حرمة الجميع. 143 - قوله فيه أيضًا: (وكذلك جناية الإنسان على أعضاء نفسه، يتفاوت إثمها بتفاوت منافع ما جَنَى عليه) إلى أن قال: (وليس لأحد أن يُتلف ذلك من نفسه، لأن الحق في ذلك كله مشترك بين ربّه وبينه) (¬2). يقال عليه: بل الحق متمحض في ذلك لربّه، وأما حق نفسه فإنه ساقط بإقدامه على ذلك. وإنما يكون الحق مشتركًا بينه وبين ربّه، إذا فَعَل به ذلك غيرَه. فليُتأمل. ¬
144 - قوله فيه أيضًا: (وكذلك قلع العين أشد إثمًا من صَلْم الأذنين (¬1). وكذلك قطع الرِّجلين أعظم وزرًا مَن قطع أصابعهما) إلى آخره (¬2). يقال فيه: قطع الرّجلين أعظم وزرًا من قطع اليدين؛ لأن المصالح الفائتة بقطع الرّجلين أعظم وأكثر. 145 - قوله فيه أيضًا (¬3): (وكذلك تختلف الأجور باختلاف رتب المصالح. فإذا تحققت الأسباب والشرائط والأركان في الباطن؛ فإن ثبت في الظاهر ما يوافق الباطن) (¬4) إلى أن قال: (وإن كذب الظن، بأن ثبت في الظاهر ما يخالف الباطن، أُثيب المكلف على قصد العمل بالحق، ولا يثاب على عمله لأنه خطأ) (¬5). يقال عليه: المختار أنه يثاب على عمله أيضًا، لظاهر قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] إلى غير ذلك من الأدلة. وحكمُ الخطأ مرفوع وإن بان أنه خطأ. ولكن يشهد لِما قَعَّده الشيخ، قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن ¬
العاص: (اقضِ على أنك إن أَصَبتَ، كان لك عشرُ حسنات. وإن أخطأتَ، كان لك حسنةٌ واحدة)، الحديث. رواه الدارقطني وغيره. وله قصة (¬1). 146 - وقوله فيما قَعَّده (¬2): (ولذلك أمثلة: أحدها: ما يَنتفع به الإنسان من المآكل والمشارب) إلى أن قال: (فإن صَدَق ظنُّه، فقد حصلت المصلحة المقصودة من إباحة ذلك. وإن كَذَب ظنُّه، لزمه ضمان ما انتَفَع به من ذلك أو تلِف عنده) (¬3). يقال عليه: هذا المثال لا يطابق ما قَعَّده من أنه يثاب على قصده، لا على عمله. فليُتأمل. 147 - قوله في الأمثلة المذكورة: (المثال الرابع: إذا اعتكف المكلف في مكان يظنه مسجدًا؛ فإن كان مسجدًا في الباطن أثيب على قصده واعتكافه لأنه هَمَّ بحسنةٍ وعَمِلَها. وإن لم يكن مسجدًا في الباطن، أثيب على قصده دون اعتكافه، لأن اعتكافه إفسادٌ لمنافع لا يستحقها وتلزمه أجرتها) (¬4). يقال فيه: ها هنا مسألة حسنة، وهي: ما لو اعتكف في المسجد على ظنّ ¬
[فصل فيما يتعلق به الثواب والعقاب من الأفعال]
أنه متطهر ثم بان جُنُبًا، فالظاهر أنه يلزمه الأجرة إذا قلنا: يَلزَم فيما إذا شَغَل المسجدَ ونحوها فيما لم تُبْنَ له المساجد (¬1)، لأنه بَانَ أنه شَغَل بقعةً من المسجد بما لا يليق بها. * * * [فصل فيما يتعلق به الثواب والعقاب من الأفعال] 148 - قوله في الفصل المعقود لِما يتعلق به الثواب والعقاب من الأفعال: (لا يثاب الإنسان ولا يعاقَب إلا على كسبه أو اكتسابه) إلى آخره (¬2). يقال فيه: قد يُستثنى منه: (الطفل، يحُجّ عنه وليُّه)؛ فإن المرأة لمّا رَفَعت الصبيَّ للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت: ألهذا حج؟ قال: (نعم، ولكِ أجرٌ) (¬3) يقتضي أن الصبي يثاب (¬4)، إلا أن (¬5) يقال: فعلُ الوليّ قائم مقام فعله. 149 - قوله فيه أيضًا: (ولأن الغرض بالتكاليف تعظيمُ الإله بطاعته ¬
واجتناب معصيته وذلك يختص بفاعِلِيه) إلى أن قال: (فلذلك لا تجوز الاستنابة في المعاصي والمخالفات) (¬1). يقال عليه: يستثنى من الاستنابة في المعاصي: التوكيلُ في الظِّهار على رأي، والتوكيلُ في طلاق امرأته بدعيًّا حيث صححناه. 150 - قوله فيه أيضًا: (وقد ظَنّ بعض الجهلة أن المصاب مأجور على مصيبته. وهذا خطأ صريح، فإن المصائب ليست من كسبه) إلى آخره (¬2). يقال عليه: ما ذهب إليه من أن المصاب لا يُؤجر على المصيبة، يردّه نص الشافعي - رضي الله عنه - (¬3) في (الأم) في (باب طلاق السكران)، وهو قوله - رضي الله عنه -: (فإن قال قائل: فهذا (¬4) مغلوب على عقله، والمريض والمجنون مغلوب على عقله؟ قيل: المريض مأجور ويكفَّر عنه بالمرض، مرفوعٌ عنه القلم إذا ذهب عقله؛ وهذا آثمٌ مضروب على السُّكر غيرُ مرفوع عنه القلم، فكيف يقاس من عليه العقاب بمن له الثواب؟). هذا نصُّه. وأيضًا، فلا بُدّ من النظر إلى ثلاثة أمور: ¬
[فصل فيما يثاب عليه العالم والحاكم وما لا يثابان عليه]
أحدها: وهي التسليم لِما يصيبه قبل أن يصيبه، فهذا مأجور عليه. والثاني: نفس المصيبة إذا نزلت به، فيؤجر عليها أيضًا لظواهر الأحاديث. لا يقال: ليست من كسبه؛ لأنا نقول: التسليم لها قبل ورودها، نُزلت منزلة كسبه، لتسليمه (¬1) لها ورضاه بها إذا وقعت. والثالث: الصبر، وهو مأجور عليه باتفاق. 151 - قوله فيه أيضًا: (ولو أَلقَى على إنسان حجرًا، ثم مات المُلقِي (¬2) قبل وصول الحجر إلى المُلقَى عليه، فهلك بذلك الحجر بعد موت المُلقِي، فإنه يأثم إثم القاتلين العامدين ويجب عليه ما يجب عليهم) (¬3). يقال عليه: في هذا نظر من حيث إن القصاص لا يجب إلا بالزهوق، وإنما حصل بعد موت الجاني. وإذا كان الإلقاء خطأً فلا يجب على العاقلة، لأن الشرط: كونُها عاقلةً من الفعل إلى الزهوق؛ وحين الزهوق لم تكن عاقلةً، لموت الجاني قبله. فليُتأمل. * * * [فصل فيما يثاب عليه العالم والحاكم وما لا يثابان عليه] 152 - قوله في الفصل المعقود لِما يثاب عليه العالم والحاكم، وما لا يثابان عليه: ¬
[فصل في تفضيل الحكام على المفتين]
(فإن عزما على أن يعملا بما أُمرا به في الفتيا والحكم، أُثيبا على عزمهما. فإن أمضيا ما عزما عليه، أُثيبا على عزمهما وفعلهما؛ وإن رجعا عما عزما عليه، أُثيبا على عزمهما، وأَثِما برجوعهما) (¬1). يقال عليه: الرجوع الذي ذكره؛ إن كان المراد به: العزم على عدم العمل، ففي التأثيم بالعزم خلافٌ، صرَّح به المتولي في (التتمة) (¬2) في (باب زكاة التجارة). والأصح من الخلاف: أنه لا يأثم بالعزم ما لم يتلبس بالمعصية. * * * [فصل في تفضيل الحكام على المفتين] 153 - قوله في الفصل المعقود لتفضيل الحكام على المفتين: (وتصدّي الحكام للحكم أفضل من تصدّي المفتي للفتيا) (¬3). يقال عليه: في هذا نظر، فإن متعلَّق الفتيا أعمّ. 154 - قوله فيه أيضًا: (فإذا أَمَر الإمام بالجهاد كان متسبِّبا إلى تحصيل ¬
مصالحه، بأمره الأجناد بمباشرة القتال. ولمُباشِر القتال أجرٌ أفضل من أجر الإمام، لأن الإمام متوسِّل إلى مصالح الجهاد، والمُقاتل مباشِرٌ. لكن الظاهر أن أجر الإمام أفضل من أجر الواحد من المجاهدين؛ فإذا كانوا ألفًا كان لكل واحدٍ منهم أجرُ مباشرته على حسب ما باشر، وللإمام أجرُ تسبّبه إلى قتال الألف) إلى آخره (¬1). يقال عليه: ما ذكره من أن أجر الإمام -والحالةُ هذه- أقل من أجور المباشرين للقتال: فيه نظر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من دعا إلى هدى، كان له مثلُ أجر من عَمِل به، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا) (¬2)، وهذا يقتضي أن يكون أجرُ الإمام للتسبب إلى جهادِ ألفٍ: كأجر الألف المباشرين للجهاد. وهذا هو الأرجح. ¬
155 - قوله فيه أيضًا (¬1): (فإن قيل: إذا جار الأئمة والحكام وعَدَلُوا، فهل يقوم عدلُهم بجورهم؟ فالجواب: أن ما فوَّتوه من الأموال مضمون عليهم في الدنيا؛ فإن أدَّوه، برئت ذممهم وبقوا في عهدة إثم الحيلولة. وإن لم يؤدّوه، أُخذ في الآخرة من حسناتهم؛ فإن فَنِيت حسناتهم، طُرح عليهم من سيئات مَنْ ظلموه، ثم طُرحوا في الجحيم) (¬2). يقال عليه: هذا الجواب غير مطابق للسؤال. وينبغي أن يجاب بأنه إن رَبَا العدل على الجور، قام العدل بالجور حكمًا للأغلب، لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. وإن رَبَا الجور على العدل، فلا. 156 - قوله فيه أيضًا: (فإن قيل: لو مات المكلف وعليه دَيْنٌ لم يأثم بسببه ولا بمَطْله، فهل يؤخذ من حسناته في الآخرة بمقدار ما عليه من الدَّين؟ قلنا: نعم) إلى أن قال: (كما تؤخذ أمواله ومساكنه وعبيده وإماؤه في الدنيا) (¬3). يقال عليه: هذا الجواب ممنوع. والأرجح أنه لا يؤخذ في الآخرة من ثواب حسناته شيء، لعدم تعدّيه. وفي الحديث: (من أَخَذ أموال الناس يريد أداءها، أدَّى الله عنه) (¬4). ¬
[فصل فيما يثاب عليه الشهود وما لا يثابون عليه]
وما ذكره الشيخ -رحمه الله- من قياس الغائب على الشاهد، لا يصح؛ إذ لا يلزم من أخذ أمواله ومساكنه وعبيده في الدنيا، أن يؤخذ من ثواب حسناته في الآخرة، لأن الدنيا في ار تكليف، والآخرةُ دارُ أجر على الطاعة أو المعصية، ولم يوجد منه معصية. * * * [فصل فيما يُثاب عليه الشهود وما لا يثابون عليه] 157 - قوله في الفصل المعقود لِما يُثاب عليه الشهود وما لا يثابون عليه: (فإن قيل: إذا جوّزتم أخذ الأجرة على تحمل الشهادة، فهل يجوز أخذها على تحمل الشهادات التي يبعُد تذكُّرُها ومعرفةُ الخصمين فيها؟ قلنا: لا يجوز ذلك، لأن باذل الأجرة إنما يبذلها على تقدير الانتفاع بها عند الحاجة إليها) (¬1). يقال عليه: عدم جواز أخذ الأجرة في الصورة المذكورة، فيه نظر. والأرجح جواز الأخذ. 158 - قوله: (لأن باذل الأجرة إنما يبذلها) إلى آخره (¬2). يقال عليه: بل يبذلها على التحمل الذي يحتمل أن يَنتفع به عند الحاجة، واحتمال النفع ممكن، ولا نظرَ إلى ما يمنع النفع وإنْ غَلَب. وقد يَنتفع ¬
[فصل في بيان الإخلاص والرياء والتسميع]
بالتحمل في الحال ولو يكون الدَّين مؤجلًا على رأيٍ، أو لغرض التسجيل على رأي آخر. 159 - وقوله بعد ذلك: (فيصير -يعني: الشاهد- آخِذًا للأجرة على شهاد لا يحلّ له أداؤها) (¬1). يقال عليه: هذا غير محقق. وليس ذلك من الاستئجار على المعاصي. * * * [فصل في بيان الإخلاص والرياء والتسميع] 160 - قوله في الفصل المعقود لبيان الإخلاص والرياء والتسميع، جوابًا عن حقيقة الإخلاص: (أما الإخلاص فهو أن يفعل الطاعة خالصة لله وحده، لا يريد بها ثعظيما من الناس ولا توقيرًا ولا جلبَ نفعٍ ديني ولا دفعَ ضرّ دنيوي) (¬2). يقال عليه: الأولى أن يقال: الإخلاص هو أن يخصّ الله وحده بعبادته. ولا حاجة لقوله بعد ذلك: (ولا يريد تعظيمًا) إلى آخره، لأنه إذا أراد ذلك، لم يخص الله تعالى بعبادته. 161 - قوله فيه أيضًا: (وله رُتب، منها: أن يفعلها -يعني: الطاعةَ- خوفًا) (¬3) إلى أن قال: (ومنها: أن يفعلها تعظيمًا لله ومهابة وانقيادًا وإجابةً، ولا يخطر له غرض من الأغراض، بل يعبُد مولاه كأنه يراه) (¬4). ¬
[فصل في بيان الإعانة علي الأديان]
يقال عليه: هذا مقام الإحسان. وهو غير مقام الإخلاص. فليُتأمل (¬1). * * * [فصل في بيان الإعانة علي الأديان] 162 - قوله: فصل في بيان الإعانة على الأديان: وطاعةُ الربّ ليست شركًا في عبادة الديّان وطاعة الرحمن) (¬2). يقال فيه: دين الحق واحدٌ، وإنما جَمَع هنا (¬3) باعتبار أنواعه، وفَعَل ذلك طلبًا للسجع بين (الأديان) و (الدّيّان). وكان الأولى غيرُ ذلك. 163 - قوله في الفصل المذكور: فإن قيل: هل يكون انتظارُ الإمام: المسبوقَ، ليدركه في الركوع، إشراكًا في العبادة أم لا؟ قلت: قد ظن بعض العلماء ذلك. وليس كما ظَنَّ. بل جمعٌ بين قُربتين، لِما فيه من الإعانة على إدراك الركوع، وهو قُربة أخرى) إلى آخره (¬4). يقال فيه: ما ذكره في مسألة المسبوق، من أن بعض العلماء ظَنّ أن ذلك إشراكٌ، مرادٌ بمن ذهب إلى ذلك من العلماء: أن فيه تشريكًا في العبادة ينافي ¬
الإخلاص. والأولى: يُعلّل هذا الوجه بأن المصلي يُقبِل على ربه، فلا يناسب أن يَشغَل قلبه بانتظار أحد. 164 - وما ذكره بعد ذلك في الردّ على من ظَنّ أن ذلك إشراكًا، من قوله: (والإعانة على الطاعات والقُرُبات من أفضل الوسائل عند الله) إلى قوله: (فالإعانة على معرفة الله تعالى ومعرفةِ ذاته وصفاتِه، أفضلُ الطاعات. وكذلك الإعانةُ على معرفة شرعه. وكذلك المعونةُ بالفتاوى والتعليم والتفهيم) (¬1). يقال عليه: هذه الأمثلة لا تُلاقي أمثلة المسبوق بوجهٍ؛ لأن هذه الإعانات، طَلَبها الشارع، وأجمع العلماء عليها. وأيضًا فإن مسألة المسبوق، إنما قيل فيها بكراهة الانتظار، لتلبّسه بالعبادة. وليست الإعانة على التعليم والتفهيم والفرائض وغير ذلك، بهذه المثابة؛ لأن المُعين على ذلك ليس ملتبسًا بشيء من العبادات حال الإعانة على شيء من ذلك. والإعانة في الأمثلة التي ذكرها الشيخ، لم يختلف المسلمون في شرعيتها واستحبابها. فليُتأمل ذلك. 165 - وأما قوله بعد ذلك: (ولو كانت الإعانة على الطاعة والخير رياءً وشركًا؛ لكان تبليغُ الرسالة وتعليمُ العلم والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر، رياءً وشركًا. وهذا ما لا يقوله أحد) (¬2). فهذا كلام ساقط لا حاجة إلى إيراده. 166 - وقوله بعد ذلك: (ولا وجه لكراهة ذلك -يعني: الانتظار في ¬
[فصل في تفاوت فضائل الإسرار والإعلان بالطاعات]
الصلاة-. ومن أبطل الصلاة به فقد أَبعد غاية الإبعاد. وليت شعري! ماذا يقول في الانتظار المشروع في صلاة الخوف بالنص من الشارع؟) (¬1). والشيخ أعلى قدرًا وأدقّ فكرًا من كلامه الذي أورده في هذا الفصل. 167 - قوله: (فإن قيل: في الانتظار في الركوع تفويتٌ لقراءة الفاتحة وتطويلِ القيام، فكيف يكون إعانة على الطاعة وهو مسقطٌ لطاعتين: قراءةِ الفاتحة، وطولِ القيام؛ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن ترك بعض العبادة لا ينافي إخلاص باقيها، فإنّ (قاصِرَ الصلاة) مطيع لله مخلص مع تفويته شطر الصلاة) (¬2). يقال فيه: كان ينبغي أن يتمِّم كلامه قبل ذكر (قصر المسافر) بأن يقول: (وقد يترتب على بعضها من الثواب ما يترتب على كلها) حتى ينطبق عليه ذكرُ (قصر الصلاة في السفر). * * * [فصل في تفاوت فضائل الإسرار والإعلان بالطاعات] 168 - قوله في الفصل المعقود لتفاوت فضائل الإسرار والإعلان بالطاعات: ¬
(الضرب الثاني: ما يكون إسراره خيرًا من إعلانه، كإسرار القراءة في الصلاة) (¬1). يقال فيه: كان ينبغي أن يذكر (الإسرار بالصوم)، فإنه من قبيل ما شُرع إسراره. 169 - قوله فيه أيضًا: (الضرب الثالث: ما يُخفَى تارةً ويُظهَر أخرى، كالصدقات) إلى أن قال: (وإن كان ممن يُقتدَى به كان الإبداء أولى لِما فيه من سدّ خلّة الفقراء مع مصلحة الاقتداء) (¬2). يقال فيه: ويكون الإبداء أولى إذا حثّ الإمام على الصدقة، لِما فيه من إظهار الامتثال. وقد أَقبَل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عيدٍ على النساء، فقال: (يا معشر النساء، تَصَدَّقْن ولو من حليّكنّ)، فجعلن يُلقِين في ثوب بلالٍ من أقرطتهن وخواتيمهن (¬3). ¬
ومن ذلك حثه على الصدقة في غير ما موطنٍ، كما في قصة سُلَيك، ونحو ذلك، تم تمثيل الأمر بإظهارها (¬1). ¬
[قاعدة في بيان الحقوق الخالصة والمركبة]
فهذا، إظهار الصدقة فيه خيرٌ من إخفائها، لِما فيه من الامتثال. * * * [قاعدة في بيان الحقوق الخالصة والمركبة] 170 - قوله في (القاعدة التي لبيان الحقوق الخالصة والمركبة): (وحقوق الله تعالى ثلاثة أقسام: أحدها: ما هو خالص له، كالمعارف والأحوال المبنيّة عليها، والإيمان بما يجب الإيمان به كالإيمان بإرسال الرسل) إلى آخره (¬1). يقال عليه: الإيمان بإرسال الرسل، من قبيل المركّب، لِما فيه من حق الرسول بالتصديق له. وسيأتي ذلك في كلامه. ولعله لم يذكر تصديق الرسول؛ لأنه عامٌّ في كل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الله تعالى. 171 - قوله في (التقسيم الثالث من القاعدة: ما يتركّب من حقوق الله، وحقوق رسوله، وحقوق المكلَّف): (فإن قيل: هل الأذان أفضل من الإمامة لاشتماله على هذه الفوائد؟ (يعني: حقّ الله وهو التكبير والتوحيد، وحقّ الرسول عليه الصلاة والسلام وهو الشهادة، وحق المؤمنين وهو الإعلام). قلنا: ذهب بعضهم إلى أنه أفضل لهذه الفوائد). ثم قال: (ومنهم من فَضَّل الأمامة لتسبّب الإمام إلى إفادة فضل الجماعة لنفسه وللحاضرين. وصلاةُ الجماعة تزيد على صلاة المنفرد بخمس وعشرين درجة، أو بسبع وعشرين درجة، على ما جاءت به السنة) (¬2). يقال عليه: لم يجئ في حديثٍ أن صلاة الجماعة تفضُل صلاة الفذّ بخمس وعشرين درجة (¬3). والذي ورد في الحديث: إما فضلها بخمس ¬
وعشرين ضِعفًا، وإما بسبع وعشرين درجة (¬1). والأجوبة عن ذلك معروفة، ومنها أن ذلك تفاوتُ ما بين (الدرجة) و (الضِّعف). ¬
172 - قوله في (القسم المذكور): (المثال الثاني: الصلاة. وفيها الحقوق الأربعة: أما حق الله، فالنيات) إلى أن قال: (وأما حق المكلف على نفسه، فكدعائه في الفاتحة بالهداية والإعانة على العبادة، وكدعاء القنوت) إلى أن قال: (وأما حق العباد، فكالدعاء بالهداية والإعانة على العبادة في الفاتحة، وكذلك دعاء القنوت) (¬1). يقال فيه: المراد أن الحق الأول (¬2) خاص بالمكلف نفسه، والحقّ الثاني (¬3) عامٌّ له ولغيره. وقوله: (والإعانة على العبادة) عطف على (الهداية)؛ وفيه شيء، لأنه ليس في الفاتحة دعاء بالإعانة على العبادة، وإنما فيها: الدعاء بالهداية، إلا أن يقال: إن قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] خبرٌ، معناه: الطلب. 173 - قوله فيه أيضًا: (المثال الثالث: الجهاد. وفيه الحقوق الثلاثة: أما حق الله فكمحو الكفر) ثم قال: (وأما حق المسلمين، فالذبّ عن أنفسهم وأموالهم) ثم قال: (وأما حقه على نفسه فكدفعهم (¬4) عن نفسه ومالِهِ) (¬5). يقال عليه: في الجهاد أيضًا: حق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وذلك في السهم المختص به - صلى الله عليه وسلم - من الغنيمة، فكان ينبغي أن يقول: (وفيه الحقوق الأربعة)، ¬
ثم يذكر حق الرسول عليه الصلاة والسلام (¬1). وقد مرّ أن تصديقه حق له في كل ما جاء به. 174 - قوله في أثناء (القسم الثاني) (¬2): (ولحقوق بعض المكلفين على بعضٍ، أمثلة كثيرة)، ثم ذكر خطبة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وفيها: إن الله قد كلّفني أن أصرف عنه الدعاء) إلى أن قال: (ومعنى صرف الدعاء عن الله تعالى أن يُنصِف (يعني: الإمام الأعظم) المظلومين من الظالمين، ولا يُحوِجهم أن يَسألوا الله ذلك. وكذلك أن يدفع حاجات الناس وضروراتهم بحيث لا يُحوجهم أن يطلبوا ذلك من رب العالمين) (¬3). يقال عليه: هذا غير ممكن، لأنه لا يمكن الإمام أن يستوعب ¬
حوائج الخلق أجمعين، أعني: الدنيوية، بحيث لا يحتاجون أن يطلبوها من الله تعالى، فلا قدرة لأحد على ذلك. 175 - قوله بعد ذلك: (ومن أمثلة حقوق بعض المكلفين على بعض: أن يُنظَر الموسِر) (¬1). يقال عليه: معنى إنظار الموسِر: أن لا يكون عنده نقدٌ، وعنده عُرُوضٌ، فيُسعِفُه بالنظِرة إلى بيعها، ولا يَعْسِفُه ببيعها عاجلًا بحيث ينقص قيمتها ونحو ذلك. وعلى هذا حُمل قوله في الحديث: (كنتُ أُنظِر الموسِر وأتجاوز عن المعسر) (¬2). 176 - قوله في (القسم المذكور): (ولا يؤخِّر حقوق الناس إلا لعذر شرعي أو طبعي. مثال ذلك: أن تُؤخَّر الزكاة) إلى أن قال: (وكذلك الشهادةُ على الشهادة) (¬3). يقال عليه: (الشهادةُ على الشهادة) لا تُناظِر مسائل الفصل؛ لأن مسائل الفصل: (واجبٌ يجوز تأخيره بعذر شرعي أو طبعي؛ ولو فُعل من غير ¬
تأخير، وقع الموقعَ)، ولا كذلك: (الشهادةُ على الشهادة)، لأنها لا تجب بل لا تُقبل إلا عند تعذر أو تعسر الأصل بموتٍ أو عمى أو مرضٍ يشق معه حضورُه، أو غيبة لمسافة العدوى على الأصح (¬1). فلا يناظِر ذلك تأخير الزكاة، والدَّينِ، ونحو ذلك. 177 - قوله بعد ذلك: (وكذلك (يعني: ما يجوز تأخيره من الحقوق): دفع الأمانات إلى أربابها مع الاشتغال بالأكل أو الشرب أو صلاة النافلة أو الاستحمام) (¬2). ¬
يقال عليه: ينبغي أن يقيّده في الأكل، بأكل لُقَمٍ يكسر بها سَورة (¬1) الجوع. وفي صلاة النافلة، أن لا يزيد على ركعتين إذا نوى نفلًا مطلقًا. ولو قيل: بشرط أن لا يزيد على ركعةٍ، لكان حسنًا. وقوله: (مع الاشتغال بكذا وكذا)، يُخرج ابتداءَ فعلِه للنافلة ونحوها. ولا توقّف في منع ذلك. أما في الأكل والشرب المحتاج إليهما، فلا يُمنع الابتداء كالدوام. 178 - قوله بعد ذلك: (وقد يظن بعض الجهلة الأغبياء أن الإيجاز والاختصار أولى من الإسهاب والإكثار، وهو مخطئ في ظنه) (¬2) إلى أن قال: (وقد نظرتُ في القرآن فوجدتُه ينقسم إلى أقسام)، فذَكَر: (الثناء، ¬
والأحكام ومواقعها، ومَدْح فاعلي الطاعات ترغيبًا، وذمّ فاعلي المخالفات تنفيرًا، والوعد والوعيد الآجلان، والوعيد والوعد العاجلان، والأمثال المرغّبة في الخير، والأمثال المنفّرة عن الشر، والقصص، والمنّة علينا بما خلقه لأجلنا) (¬1). وقد أَهمَل نوعًا حسنًا، وهو: (الوعد بثواب عاجل وثواب آجل معها)، كـ (الجهاد)، فثوابه العاجل: الغنيمة والسَّلَب بشرطه؛ وثوابه الآجل: ما أعدّه الله تعالى للمجاهد في الدار الآخرة مما نطق به الكتاب العزيز والسنة. وكـ (الإسلام)، فثوابه الآجل: ما وعد الله على الإسلام من الثواب الجزيل؛ وثوابه العاجل: أن العبد بالإسلام يدخل في عِداد من يجوز أن تُصرف إليه الزكوات والكفارات والضحايا والهدايا، وغير ذلك مما شُرط فيه الإسلام. 179 - قوله في (المثال الثالث) من الامتنان مما خلقه لأجلنا، وهو النوع العاشر (¬2): (وكل شيء ذَكَره (¬3) تمنّنًا علينا، كان مقتضيًا لأمرين: أحدهما: شكرُه على ذلك. والثاني: إباحته لنا) (¬4). ¬
يزاد عليه: (وقد يخلقه للاعتبار فقط (¬1)، وهو من أجلنا أيضًا). 180 - قوله في (المثال المذكور) (¬2): (ومِن مدْح الإله نفسَه ما لا يخرج مخرج المدح، بل يخرج مخرج تأكيد الأحكام، كقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحجرات: 18]، ذَكَر ذلك ترغيبًا في الطاعات، وتنفيرًا من المعاصي والمخالفات) إلى أن قال: (وإنما يتحقق الترغيب والترهيب بصفة السمع، والبصر، والعلم، والقدرة، والإرادة، دون الحياة والكلام؛ فإنهما لا يُذكران إلا تمدحًا. أما الحياة ففي مثل قوله: {هُوَ الْحَيُّ} [غافر: 65])، إلى أن قال: (وأما الكلام ففي مثل قوله: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 76]، يريد بمن يأمر بالعدل: نفسَه سبحانه وتعالى) (¬3). يقال عليه: ما ذكره من أن الترغيب والترهيب لا يتحققان في الكلام والحياة، فيه نظر. فقد ذُكرت (صفة الحياة) في معرض الترغيب، وذلك في قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58]، ذُكر ترغيبًا في التوكل على الله، وتنفيرًا من التوكل على مخلوقٍ لا ثقةَ بحياته يومًا واحدًا. وذُكر (الكلام) أيضًا، في معرض الترهيب، وذلك في قوله تعالى: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 174]، ونحو ذلك. فتأمله. والله أعلم. ¬
181 - وقوله بعد ذلك في آخر المثال: (فمعظم حقوق العباد ترجع إلى الدماء والأموال والأعراض) (¬1). يقال عليه: إن كان المراد: (الحقوق المحرّمة)، فكلها لا تخرج عن هذه الثلاثة. فقوله: (معظم الحقوق) لا مفهوم له. 182 - قوله بعد ذلك قبيل الفصل المعقود لانقسام الحقوق إلى التفاوت والتساوي: (والحقوق كلها ضربان: أحدهما: مقاصد. والثاني: وسائل، ووسائلُ وسائل. وهذه الحقوق منقسمة إلى ما له سبب، وإلى ما ليس له سبب. فأما ما لا سبب له: فكالمعارف، والحج والاعتكاف، والطواف) إلى قوله: (فإن قيل: هلّا كان دخول أشهر الحج سببًا لوجوبه، كما كان دخول وقت الصلاة سببًا لوجوبها؟ قلنا: قد يجب الحج قبل دخول وقته على من بعُدت داره. وفي هذا بحثٌ) (¬2). يقال عليه: الجمعة كالحج فيما ذكره: قد تجب قبل دخول وقتها على من بعُدت داره. وفي إخراج الحج عن ما له سبب، نظر. وقد أشار إليه بقوله: (فيه بحثٌ). وقوله: (والطواف): إن كان أراد به: (الواجب)، فكالحج. وما ذكره في (المعارف)، يقال عليه: بل سببها الموجِب، هو البلوغ. وكلام الشيخ رحمه الله يحتاج إلى نظر وتأمل. * * * ¬
[فصل في انقسام الحقوق إلى المتفاوت والمتساوي]
[فصل في انقسام الحقوق إلى المتفاوت والمتساوي] 183 - قوله في الفصل المعقود لانقسام الحقوق إلى المتفاوت والمتساوي: (الفصل الأول: في تقديم حقوق الله تعالى بعضها على بعض عند تعذر جمعها، وعند تيسّره لتفاوت مصالحها. وله أمثلة، منها: تقديم الصلوات المفروضات على الصلوات المنذورات) (¬1). يقال عليه: قوله: (في تقديم حقوق الله): مراده به: الأعم من التقديم الفَضلي والتقديم الفِعلي. ولو أراد التقديم الفَضلي فقط، لم يكن لقوله: (عند تعذر جمعها) معنى. ولو أراد التقديم الفِعلي فقط، لم يناسب تمثيلُه بعد ذلك بتقديم النوافل المؤقتة التي شُرعت فيها الجماعة، على الرواتب، إلى غير ذلك مما في هذا المعنى من الأمثلة التي ذكرها، كتقديم الوتر وركعتي الفجر على غيرهما، وتقديمِ الوتر على ركعتي الفجر، والإفرادِ على القِرَان، ونحو ذلك. فأما المثال الذي بَدَأ به من تقديم الصلوات المفروضات على المندوبات، فهو من التقديم الفضلي، وإلا ففائتة الظهر التي قبلها مثلًا: مقدّمةٌ عليها في الفعل. 184 - قوله: (ومنها: تأخير الظهر للإبراد) (¬2). ¬
يقال عليه: في التمثيل بتأخير الظهر للإبراد، غموض. ومراده أن تأخير الظهر للإبراد مقدّمٌ في الفضل على تقديم الصلاة أول الوقت. ويحتمل أن يكون مراده أن مصلحة المتعبِّد في التأخير للإبراد، قُدِّمت على مصلحة العبادة في التقديم أول الوقت. وأما تمثيله بعد ذلك بـ (تقديم الزكوات على صدقة النافلة، والصوم الواجب على المندوب، وفرض الحج والعمرة على مندوبَيْهما) (¬1) فكلها من التقديم الفضلي. 185 - قوله: (ومنها: رمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس) (¬2): فمعناه أن تأخيره إلى هذا الوقت أفضل وإن كان يدخل وقته بانتصاف ليلة النحر. 186 - قوله: (ومنها: تأخير العشاء، على قول) (¬3). يعني: أنه مقدم على التقديم أول الوقت. 187 - وقوله: (وفي تقديم ترتيب أركان الصلاة على الاقتداء في حق المزحوم، قولان) (¬4). يعني: بشرطه المعروف في باب المزحوم (¬5). والمراد بـ (الاقتداء): متابعة الإمام. 188 - ومنها قوله بعد ذلك: (ومنها: أن من أراد التبرع بماء الطهارة ¬
على أفضل القُرُبات) إلى أن قال: (وفي تقديم غَسل الميت على غَسل النجاسة (¬1). فإن أصح الوجهين اللذين ذَكَرهما: تقديم غَسل الميت. 189 - قوله: (وفي غُسل الحيض والجنابة أوجه (¬2)، ثالثها: التسوية بينهما. فإن طَلَب أحدهما القسمة، والآخرُ القرعة، ففي مَنْ يُجاب: وجهان) (¬3). يقال فيه: الأصح من الأوجه الثلاثة: تقديم غُسل الحيض. ومعنى التسوية بين الحيض والجنابة: أن يُقسم الماء بينهما، إذا أوجبنا استعمال الناقص، وهو المذهب. ويحتمل أن يكون معنى التسوية: أن يُقرَع بينهما. والأصح فيما إذا طَلَب أحدهما: القسمة، والآخرُ: الإقراع، أنه يُقرَع إن لم نوجب استعمال الناقص. فإن فرَّعْنا على المذهب، أجيب طالب القسمة. 190 - قوله في الفصل المذكور أيضًا: (الفصل الثاني: فيما يتساوى من حقوق الرب فيتخير فيه العبد، وله أمثلة، منها: أنه إذا كان عليه صوم أيام من رمضانين فأكثر، فإنه يتخير بينهما) (¬4). ¬
يقال فيه: الظاهر في هذه الصورة أنه يقدّم الأسبق فالأسبق. ويشهد له ما صححوه فيما إذا أخّر قضاء رمضان حتى دخل رمضانُ آخَرُ، من تكرر المُدّ بتكرير السنين (¬1). والظاهر أيضًا فيما إذا كان عليه صلاتان منذورتان أو صومان منذوران وترتّبا في النذر، أنه يقدّم الأول بسبقه واشتغال الذمة به أولًا (¬2). وما ذكره من التخيير فيما لو اجتمع عليه زكاةُ إبلٍ وبقر وغنم وذهب وفضة (¬3)، محلّه ما لم يدْعُ ضرورة الفقر إلى النقد حالًا، فإن دعت إلى النقد حالًا فهو المقدّم. وما ذكره فيما إذا لزمه (¬4) حِججٌ أو عُمَر بنذرٍ واحدٍ، لا يظهر تصويره (¬5). ¬
فإن كانت الصورة أن يقول: (لله عليّ أحجُّ ثلاث حِجج، أو أعتمرُ ثلاث عُمَرٍ)، فما وجه التخيير؟ لأن كل سنة لا تسع إلا حجة. وفي (العُمَر) (¬1) لا يظهر وجه التخيير أيضًا. وأما إذا كانت بنذور مختلفة كأن يقول: (إن قدم زيد فلله علي أن أحج حجة، وإن قدم عمرو فالله عليّ أن أحج حجة، وإن شفى الله مريضي فلله عليّ أن أحج حجة)، فالظاهر عدم التخيير، وإنه يقدّم الحج أو العمرة على النذر الأول لسبقه، واشتغال الذمة به أولًا. 191 - قوله في الفصل المذكور أيضًا: (الفصل الثالث: فيما اختُلف في تفاوته وتساويه من حقوق الإله، للاختلاف في تساوي مصلحته وتفاوتها. وله أمثلة، منها: أن العاري هل يصلي قاعدا موميًا بالركوع والسجود محافظةً على ستر العورة، أو يصلي قائما مُتِمًّا لركوعه وسجوده) إلى قوله: (أو يتخير بينهما لاستوائهما. فيه خلاف، والمختار إتمام الركوع والسجود والقيام) (¬2). يقال فيه: ما ذكر من أنه المختار، هو الأصح. 192 - وقوله بعد ذلك: (ومنها إذا كان معه ثوبٌ طاهرٌ وهو في مكان نجس، فهل يبسط ثوبه ويصلي عليه توقيًا للنجاسة، أو يصلي بثوبه على النجاسة توقيا للعُري، أو يتخير. فيه الأوجه الثلاثة) (¬3). يقال فيه: الأصح: الأول، وهو أن يبسط ثوبه ويصلي عليه توقيًا للنجاسة. ¬
193 - قوله في الفصل المذكور: (الفصل الخامس: فيما يتساوى من حقوق العباد، فيتخير المكلف فيه جمعًا بين المصلحتين ودفعًا للضرورتين. وله أمثلة)، إلى قوله: (ومنها التسوية بين الزوجات في القَسْم والنفقات) (¬1). يقال فيه: ما ذكره من التسوية بين الزوجات في النفقات، مرادُه أنه لا يَنقُص واحدةً (¬2) عن النفقة اللائقة بحاله وبحال كل واحدة منهن، وإلا يُمنع من أن يخُصّ واحدةً بأكثر من النفقة اللائقة، ويقتصرَ في واحدة على النفقة اللائقة. 194 - وقوله بعد ذلك: (وكذلك التسوية بين البائع والمشتري في الإجبار على قبض العوضين) (¬3). محلُّه أن يكون الثمن معيّنًا. 195 - قوله في الفصل المذكور أيضًا: (الفصل السابع: فيما يُقدّم من حقوق العباد على حق الرب رفقًا بهم في دنياهم. وله أمثلة)، إلى قوله: (ومنها: ترك الصلاة والصيام وكلِّ حق يجب لله على الفور، بالإلجاء والإكراه) (¬4). ¬
يقال عليه: ما ذكره من ترك الصلاة بالإكراه، مرادُه ترك الأفعال الظاهرة، وإلا فالإكراه على إجراء الأركان على قلبه غير ممكن. وما ذكره من ترك الصوم بالإكراه، جارٍ على أحد القولين الصائر إلى أنه لا يُفطر بالإكراه، وهو الذي صححه النواوي (¬1) وهو المذهب. 196 - قوله في الفصل المذكور: (الفصل الثامن: فيما اختُلف فيه من تقديم حقوق الله على حقوق عباده. وله أمثلة، أحدها: إذا مات وعليه ديون وزكوات، فإن كانت نُصُب الزكوات باقية قُدّمت الزكوات؛ لأن تعلقها بالنُصُب يُشبه تعلق الديون بالرهون) (¬2). يقال عليه: هذا أحد الأقوال. والأصح أنها تتعلق بالمال تعلق الشركة. 197 - وقوله: (وإن كانت تالفة (¬3)، فمن العلماء من قَدَّم الديون)، إلى قوله: (ومنهم من قَدَّم الزكوات نظرًا إلى رجحان المصلحة في حقوق الله، وهذا هو المختار لوجهين: أحدهما: قوله عليه الصلاة والسلام: (فدَيْن الله أحق بالقضاء) (¬4). يقال عليه: ما استدل به لِما اختاره من الحديث المذكور، ذكره ¬
للاستدلال جمعٌ من الأصحاب وغيرهم. ومن نَصَر غير ما اختاره، أجاب بأن معنى الحديث. . . (¬1). 198 - قوله في الفصل الثامن أيضًا: (المثال الثاني: اجتماع الحج والديون على الميت، فمنهم من يقدِّم الحج)، إلى أن قال: (ومنهم من يقدِّم الدَّين، ومنهم من يسوِّي بينهما إن وجد من يحج بالحِصّة) (¬2). يقال فيه: الأصح: الأول، تقديم الحج. 199 - وقوله: (المثال الثالث: إذا اجتمع عليه سراية العتق مع الديون، ففيه الأقوال (¬3). والمختار تقديم سراية العتق لِما ذكرناه في اجتماع الديون والزكوات) (¬4). يقال عليه: ما ذكره من جريان الأقوال في الصورة المذكورة، لا يصح، بناءً على أن السراية تحصل بنفس الإعتاق؛ لأن محل الأقوال: أن يجتمع ذلك في الشركة. وإذا كانت السراية بنفس الإعتاق، صار الكلُّ دَينَ آدمي، فلا معنى لجريان الأقوال. نعم إذا قلنا: إن السراية لا تحصل إلا بأداء القيمة، فإذا أَعتَق أحد الشريكين نصيبه ثم مات، واجتمع ذلك مع الديون، فلا يبعد جريان الأقوال. * * * ¬
[فصل فيما يثاب عليه من الطاعات]
[فصل فيما يثاب عليه من الطاعات] 200 - قوله في الفصل المعقود لِما يثاب عليه من الطاعات: (الواجبات أقسام، أحدها: ما تميّز لله بصورته، فهذا يثاب عليه مهما قَصَد إليه وإن لم يَنْوِ به القربة) (¬1). يقال فيه: قصدُ الفعل فيما تميَّز إلى الله بصورته دون قصد القربة، تغيير الصور (¬2). والظاهر أنه يلزم من قصد فعله نيةُ القربة، ومن ثَمَّ كان الأصح أنه لا يُشترط الإضافة إلى الله تعالى؛ لأن العبادات لا تكون إلا لله تعالى، فليُتأمل. 201 - قوله في القسم الثالث من الفصل المذكور: (وكذلك لا يثاب على ترك العصيان إلا إذا قَصَد بذلك طاعة الدّيّان، فحينئذ يثاب عليه. بل لو قَصَد الإنسانُ القربةَ بوسيلة ليست بقربة، لا يثاب على قصده دون فعله (¬3)، كمن قَصَد نوم بعض الليل ليتقوّى به على قيام بقيته) (¬4). يقال عليه: ظاهر هذا أنه لا يثاب على النوم المذكور، وهذا قد يُنارع فيه قولُ معاذ - رضي الله عنه -: (إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي (¬5). * * * [قاعدة في الجوابر والزواجر] 202 - قوله في القاعدة التي في الجوابر والزواجر: (وقد اختُلف في بعض الكفارات: هل هي جوابر أو زواجر، فمنهم من ¬
جعلها زواجرَ عن العصيان؛ لأن تفويت الأموال وتحميل المشاق رادعٌ زاجرٌ عن الإثم والعدوان. والظاهر أنها جوابر؛ لأنها عبادات وقُرُبات لا تصح إلا بالنيات، وليس التقرب إلى الله تعالى زاجرًا) (¬1). وما ذكره من أن الكفارات جوابر لا زواجر، معلّلًا له بأنها عبادات، قد يردّه ظاهرُ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} إلى قوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95]، وهذا زجرٌ. ومن جملة ما تقدّم: الصيام. فإن قيل: إنما حكى الشيخ الخلاف في بعض الكفارات، وهذا يقتضي أن بعضها زواجر، ومنه ما ذُكر في الآية. قلنا: لكنه أَخَذ الدليل عامًّا، فاقتضى أن [هذه] الكفارة عنده من قبيل الجوابر لا من قبيل الزواجر. 203 - قوله فيها أيضًا: (فأما الجوابر المتعلقة بالعبادات، فمنها جبير الطهارة بالماء، بالطهارة بالتراب) (¬2). يقال عليه في تسمية هذا (جابر) تطويل! هذا بدل. وقد تكرر من الشيخ في هذه القاعدة أمثلة من الأبدال يسميها (جوابر)، فلعل هذا اصطلاح له. ولك أن تحمل كلامه هنا على ما إذا كان التراب معملًا (¬3) كما في الجبيرة ونحوها. 204 - قوله: (ومنها جبر ما فات بالسهو من ترتيب الصلاة) (¬4). قال شيخنا: هذا غير صحيح، فالترتيب الفائت لا يُجبر بسجود السهو ¬
لأنه ركن، والأركان لا تُجبر وإنما يجب تداركها. وإنما الذي يُجبر، الزيادة الحاصلة بتدارك ركن، كما في ترك سجدة واثنتين وثلاث إلى سبع، على ما هو مقرر في موضعه. وكان الأولى أن يقول: (ومنها جبر ما فات من الأبعاض، بالسهو). 205 - قوله: (ومنها جبر القبلة بصوب السفر) (¬1). هذا أيضًا بدل. 206 - قوله: (ومنها جبر الصوم في حق الشيخ الكبير، بمُدّ من الطعام) (¬2). هذا بدل. 207 - قوله: (وكذلك جبر الحامل والمُرضع، بالفدية لِما فاتهما من أداء الصيام) (¬3). ما ذكره في المُرضع والحامل، و (¬4) محله إذا أوجبنا الفدية مع القضاء. 208 - قوله فيه أيضًا: (كما يُجبر ربُّ الدَّين على أخذ مالِ اعترف (¬5) بأنه حرام، وفي هذا أيضًا بُعد وإشكال) (¬6). ¬
صورته: أن لا يوافقه المديون على أنه حرام. ومعنى (الجبر) أن يقال لربّ الدَّين: إما أن تأخذ وإما أن تُبرئ. ولا بُعد ولا إشكال، لأنه لا يسري قولُ ربّ الدَّين: إنه حرام، في حق المديون. 209 - قوله فيه أيضًا: (الحالة الثانية من (تعذُّر ردّ الأعيان): أن تكون العين من ذوات القِيم كالشاة والبعير) (¬1). وهذا بعيد. [وقوله]: (يُجبر (¬2) كل واحد بما يماثله في القيمة (¬3). قال الشيح: فالأصح ردّ المثل من حيث الصورة. 210 - قوله: (وقال بعض العلماء: يُجبر كل شيء بمثله من حيث الخِلقة وإن تفاوتت أوصافه. وهذا إن شَرَط التساوي في المالية فقريب. كان ¬
لم يَشترط ذلك فقد أَبعد عن الحق، فإنّ جَبْره بأكثر من قيمته ظلمٌ لغاصبه؛ وجَبْره بدون قيمته ظلمٌ لمالكه بما نقص من ماليّته) (¬1). فيَقبل (¬2) هذا القائل بما ذكره الشيخ، أن نقول: يُضمن كل بمثله من حيث الصورة بشرط التساوي في المالية، أو الزيادة على قيمة المُتلَف بدليل الغرض (¬3). 211 - قوله فيه أيضًا: (وقد ذَكَر بعض الأصحاب أن الشريك إذا هَدم الجدار، أُجبر على إعادته) (¬4). إذ [يتحقق] المثلُ من حيث الصورة. وشاهدُهُ الغرض (¬5). 212 - قوله فيه أيضًا في المنافع المحرمة: (كمنافع الملاهي والفروج المحرَّمة واللمس والمسّ والقُبَل والضمّ المحرَّم، فلا جبير لهذه المنافع احتقارًا لها)، إلى أن قال: (فإن استوفاها بغير حق ولا مطاوعة من ذي المنفعة فلا يُجبر شيء منها، إلا مهر المَزْنيّ بها كُرهًا أو بشبهة. ولا يُجبر مثل ذلك في اللواط لأنه لم يَتقوَّم قطّ، فأشبه القُبَل) (¬6). ¬
ما ذكره: في لواط الغلام (¬1). أما لو وَطِئ جارية في دُبُرها، فإن ذلك يُجبر بمثلٍ لمثلٍ. ولك أن تقول: وفي الأنثى في دُبُرها، لا يسمى لواطًا. فلا حاجة لذلك، ولكن لا بأس بالتنبيه عليه. 213 - قوله في الضرب الثاني: أن تكون المنفعة مباحة متقومة: (وأما الأبضاع، فإنها تُجبر في العقود الفاسدة والصحيحة وفي وَطْيِ الشبهة ووَطْيِ (¬2) الإكراه، بمهور الأمثال) (¬3). محله في الصحيحة: أن يكون المسمى فاسدًا، أما إذا كان صحيحًا فإنه يُضمن بالمسمّى. 214 - قوله فيه أيضًا: (ولا يُضمن الأبضاع إلا بعقد صحيح أو فاسد) (¬4). محله أن يكون عقد النكاح صحيحًا، وعقدُ الصداق فاسدًا. فإن كان عقد النكاح هو الفاسدَ فإنه لا ضمان قطعًا إلا أن يستوفي المنفعة فيَضمن. 215 - قوله فيه أيضًا: (والفرق بين منافع الأبضاع وسائر المنافع الفائتة تحت الأيدي العادِيَة (¬5): أن القليل من المنافع تُضمن (¬6) بقليل الأجر ¬
وحقيرها، وضمانُ الأبضاع (¬1) بمهور الأمثال) (¬2). فائدة: يفرّق بين منافع الأبضاع وسائر المنافع الفائتة تحت الأيدي العادِيَة بفرقٍ آخر حسن، وهو أن الأنفس لا تَتَشوّف إلى جبير منافع الأبضاع الفائتة إلا بالعقد عليها، ولم تَجْرِ عادةٌ بخلاف ذلك، بخلاف سائر المنافع فإن العادة جارية بتشوّف ملّاكها إلى ما يحصل منها، فجُبِرت. 216 - قوله فيه أيضًا: (. . . (¬3) (دية المسلم والمجوسية لنصفه) (¬4). 217 - قوله في النوع الثاني: (ما يقع زاجرًا من الفصل المذكور كالكفارات الزاجرة عن إفساد الصوم وإفساد الحج وإفساد الاعتكاف؛ والظِّهار) (¬5). ¬
ما ذكره الشيخ من أن إفساد الاعتكاف يُزجَر عنه بالكفارة، سَبَق قلمُه (¬1)، وليس في إفساد الاعتكاف كفارة. وقوله: (والظهار): عطفٌ على (إفساد). التقدير (¬2): (وكالكفارات الزاجرة عن الظهار). 218 - وقوله فيه أيضًا: (الضرب الثاني: ما لا يجب (¬3) زاجرها على فاعلها). يوضح الشيخ مراده بقوله: يجب الحد على القاذف والقطع على السارق، وأنه مجاز (¬4). والتحقيق أنه حقيقة، والواجب على الأئمة إنما هو الاستيفاء، وسيأتي لذلك مزيد بيان (¬5). 219 - قوله فيه أيضًا: (فإن كانت الجنايات على حقوق الناس، لم يجُز للأئمة إسقاطها إذا طلبها مستحقُّها) (¬6). ¬
ما ذكره فيما إذا كانت (. . . (¬1) لجناياتٍ على حقوق الناس من أنه لا يجوز للأئمة إسقاطها، فيه وجه مرجّح (¬2). 220 - قوله فيه أيضًا في المثال الثاني من الضرب الثالث: (فإن رجعوا، أي: البغاة، إلى الطاعة كَفَفْنا عن قتلهم وقتالهم، وهذا زجر عن مفسدة لا إثم فيها) (¬3). ما ذكره من أنه لا إثم في مفسدة البغي، محله إذا قَوِيتْ شبهتهم، فإن ضعُفت وهم معترفون بضعفها، فهم آثمون. 221 - قوله في المثال التاسع منه: (قتال أهل الكتاب إلى أن يُسلموا أو يؤدّوا الجزية) (¬4). مراده بذلك أن يعتقدوا عقد الجزية. وكأنه فَعَل ذلك وفاقًا لقوله تعالى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29]. 222 - قوله في المثال الرابع عشر منه أيضًا (¬5): (وأما الزواجر عما ¬
تصرّم من الجرائم التي لا تسقط عقوبتها إلا باستيفائها أو بعفو مستحقها، ويجب إعلام مستحقها بأسبابها (¬1)، فلها أمثلة) إلى أن قال: (المثال الثاني: القصاص في النفوس والأطراف، ويجب على الجاني إعلام مستحقه به ليستوفيه أو يعفو عنه، وإن وقع ذلك عند الحاكم فينبغي أن يخرّج على الخلاف في وجوب الإعلام) (¬2). يقال فيه: قد ذكروا من الأعذار المرخّصة في ترك الجماعة: عقوبةٌ (¬3) يُرجى تركها إن تغيَّب زمانًا (¬4)، وهذا قد ينافي وجوب الإعلام. ويُجمع بينهما وجوب أن يُعلمه لوكيله مع التغيب رجاء العفو. هذا ما يتعلق بالجاني. وأما الحاكم إذا وقع عنده ذلك؛ فالمختار أنه لا يجب الإعلام على الحاكم جزمًا، ولا يخرج عن الخلاف. ¬
والفرق بينه وبين القذف، أن القذف انتُهك فيه عِرض المقذوف عند الحاكم، بخلاف الاعتراف بقبَل ونحوه. 223 - قوله فيه أيضًا: (المثال الثالث: إذا سرَق مال إنسان سرقة موجبة للقطع، لم يجب عليه الإعلام بالسرقة) إلى قوله: (وإن كان المسروق باقيًا يردّه، أو وَكَّل من يردّه من غير اعتراف بسرقته، ولا يوكِّل مع القدرة على الردّ بنفسه، إذ ليس له دفع المغصوب إلى غير مالكه إلا إلى الحاكم وأمثاله) (¬1). يقال عليه: له دفع المغصوب إلى عبده مع القدرة على الردّ ليسلّمه لمالكه؛ لأن يَدَ عبده كيده. وفي منع التوكيل مع القدرة نظر. انتهى. 224 - قوله فيه أيضًا: (المثال الرابع: حد قطع الطريق، إن محّضناه حقًّا لله تعالى فهو كحد السرقة) إلى قوله: (وإن جعلنا فيه مع تحتمه حقًّا للآدمي، وجب إعلامه به) (¬2). يقال عليه: ما ذكره في حد قطع الطريق، محله أن يكون قتلًا. وقوله: (وإن محّضناه حقا لله تعالى) هو طريقة. والطريقة المعتمدة في التغلب، ما هو قبل القصاص وقبل الحد (¬3). ولك أن تقول: يجب إعلامه وإن محّضناه حقًّا لله تعالى، لأن للآدمي ¬
فيه حقًّا منتظَرًا من جهة أنه لو تاب قبل القدرة سقط ما يتعلق بحق الله تعالى، وبقي ما يتعلق بحق الآدمي. 225 - قوله بعد ذلك: وأما الشهود على هذه الجرائم، فإنْ تعلق بها حقوق العباد لزمهم أن يشهدوا بها وأن يُعرِّفوا بها أربابها) (¬1). يقال عليه: المختار أنه لا يجب على الشهود أن يُعرِّفوا بها أربابها. 226 - قوله بعد ذلك: (فإن قيل: إذا علم الشهود أن الزاني قد تاب من الزنى وصلَحت حالُه بحيث يجوز تزكيته، فهل لهم أن يشهدوا عليه بالزنى بعد ذلك؟ قلنا: إن أسقطنا الحد بالتوبة لم تجُز الشهادة؛ وأن بَقَّينا الحد مع التوبة جازت الشهادة) (¬2). يقال عليه: ما أجاب به من أنا إذا أسقطنا الحد بالتوبة لم تجُز الشهادة، يُستثنى منه فرع حسن، وهو: ما إذا قذفه قاذفٌ، وآل الأمر إلى أن يستوفى منه حد القذف، فإنه تجوز الشهادة بزناه وإن أسقطنا الحد بالتوبة؛ لأنه يُشترط في المقذوف أن يكون عفيفا عن وطء يُحدّ به، فلو لم يجُز للشهود ذلك والحالةُ هذه، أدّى ذلك إلى استيفاء حدٍّ لا يُستوفَى لفقد شرطه. 227 - قوله بعد ذلك: (فإن قيل: ما معنى قول الفقهاء: وجب عليه التعزير والحد والقصاص؟ قلنا: هو مجاز عن وجوب تمكينه من استيفاء العقوبات) (¬3). يقال عليه: بل هو حقيقة، وفُرِّق بين الحد وبين استيفائه بما تقدم. ¬
228 - قوله بعد ذلك: (فأما أمانات الرب فكاستئمانه أمانات الآباء والأوصياء على أموال اليتامى) (¬1). يقال عليه: أمانات الأوصياء، باستئمان الموصِي لا باستئمان الرب. انتهى. 229 - قوله في الضرب الثاني من الحقوق بعد ضروب تقدمت في الفصل: (وقد يعذر الربُّ من اشتدّت شهوته وغلبتْه نفسُه على المعصية، ما لا يعذر من خفيت شهوته) (¬2). يقال عليه: لا يقال مثله إلا بتوقيف، ولكن شدة الشهوة تفيد تخفيفا. ولو عُدَّت، ما أقيم على موجب المعصية، فتأمله؛ ولكنْ مُرادُه (¬3) أنه معذور من حيث الداعي لا من حيث المعصية، كما سنبينه بعد. 230 - قوله بعد ذلك: (وفي الحديث الصحيح: (إن آخِر من يخرج من النار، يعاهد ربَّه إذا أعطاه سؤله، لا يسألُه) إلى أن قال: (وربُّه يعذِرُه) (¬4). يقال عليه: ما استدل به من قوله - صلى الله عليه وسلم - (وربُّه يَعْذِرُه): لا يتوجّه، من حيث إنه لا يصح الاستدلال بأمور الآخرة على أمور الدنيا. 231 - قوله بعد ذلك: (فإن قيل: كيف زُجر الحنفي بالحد عن شرب النبيذ مع إباحته؟ قلنا: ليس بمباح له وإنما هو مخطئ بشربه) (¬5). ¬
يقال عليه: ما أجاب به من كون النبيذ ليس بمباح للحنفي، فيه نظر؛ لأن الحكم في حق كل مجتهد ما غَلَب على ظنه وإن كان خطأً في نفس الأمر. وإنما الجواب الصحيح: أنا زَجَرْنا بالحد لدفعه إلى حاكم يعتقد التحريم ويقيم الحد. أو: لمّا رُفع إليه صار بينه وبينه عُلقة توجب أن يحكم عليه بمقتضى اعتقاده. انتهى. 232 - قوله بعد ذلك: (فإن قيل: كيف تُقطع يدٌ ديتُها خمسون من الإبل أو خمس مئة دينار، برُبع دينار أو بعشرة دراهم؟ قلنا: ليس الزجر عما أخذه، وإنما الزجر عن تكرير ما لا يتناهى من [السرقة] (¬1) المفوّتة للأموال الكثيرة التي لا ضابط لها. ولو شَرَط الشرع في نصاب السرقة مالًا خطيرًا، لضاعت أموال الفقراء) (¬2). يقال عليه: مما شرطه الشارع في نصاب السرقة، ربع دينار مفوِّتٍ لما دونه من أموال الفقراء كثمن دينار ونحوه. وقد أجاب القاضي عبد الوهاب عن هذا السؤال بأن اليد لمّا كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت (¬3). وللناس أجوبة عن هذا السؤال غير ما ذكره الشيخ، ليس هذا موضع بسطها. انتهى. 233 - قوله بعد ذلك: (ولم أقف على المفسدة المقتضية لرجم الثيب الزاني، وقد قيل فيها ما لا أرتضيه) (¬4). ¬
يقال عليه: المفسدة المقتضية لرجم الثيب الزاني: مفسدة اختلاط الأنساب التي لو تُركت، أدّت إلى انتشار عظيم، فناسب إعدامَ نفسه، وجُعل بالرجم لأنه لما كان ضرر هذه المفسدة لا يختص بواحد بل تعمّ، ناسب أن يُقتل، أن يستفيد كل أحد (¬1)، وهو الرجم. ولم يُقتل البكر تخفيفا عليه لأنه لم يُجعل له رتبة الكمال. انتهى. 234 - قوله بعد ذلك: (وكذلك المفسدة المقتضية لجعل الربا من الكبائر، لم أقف فيها على ما يُعتمد على مثله، فإن كونه مطعومًا أو قيمةً للأشياء أو مقدّرًا، لا يقتضي مفسدة عظيمة يكون من الكبائر لأجلها) (¬2). يقال عليه: بل المفسدة في الربا تعاطيه لمعصية تسري في أموال الناس غالبًا ويشق الاحتراز منها لو وقعت. فعلّيّةُ انتشارها وعمومها [جُعلت] (¬3) سببًا لجعلها من الكبائر. وقد (لَعَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكِلَ الربا ومُوكِلَه)، الحديث (¬4). واختار شيخنا أن الذي يكون من الربا كبيرةً، إنما هو (ربا الفضل) لقوله في الحديث: (فمن زاد أو استزاد فقد أَربَى) (¬5)، إذ في الحديث أنواعٌ من ¬
[فصل فيما تشترط فيه المماثلة من الزواجر وما لا تشترط]
الربا، ولم يُخصّ بالذكر إلا (ربا الفضل). لكن ظاهر قوله: "لعن الله آكِلَ الربا ومُوكِلَه" (¬1) يقتضي التعميم. انتهى. * * * [فصل فيما تُشترط فيه المماثلة من الزواجر وما لا تُشترط] 235 - قوله في الفصل المعقود: ما اشتُرط فيه التماثل، في (المثال الثالث): (التساوي في العقول: إذا أوجبنا القصاص فيها لو اعتُبر فيها التساوي، لسقط القصاص، ولا وقوف لنا على تساوي العقول) (¬2). قال - رضي الله عنه - (¬3): نص الشافعي - رضي الله عنه - على أنه لا قصاص في العقل، فتعذّر (¬4) المماثلة فيه. انتهى. * * * [فصل في بيان متعلقات حقوق الله تعالى] 236 - قوله في الفصل المعقود لبيان متعلقات حقوق الله تعالى: (وأول واجب بعد النظر: معرفةُ الله تعالى ومعرفة صفاته، وهي شرط في جميع عباداته وطاعاته) (¬5). ¬
قال - رضي الله عنه -: يستثنى منه المميّز، فإن عبادته صحيحة من غير أن يُشترط فيها المعرفة، بل غير المميّز يصح منه الحج، ولا يُتصور في حقه المعرفة. 237 - قوله بعد ذلك: "وهي القلب) (¬1)، إذا صَلَحت بالمعارف ومحاسن الأقوال والأعمال، صَلَح الجسد كله بالطاعة والإذعان) (¬2). يقال عليه: الإذعان من الأفعال القلبية، ولعل الشيخ أراد الانقياد الظاهر. 238 - قوله بعد ذلك: (والأعمال (¬3) نافعة بجلبها لمصالح الدارين أو إحداهما، وبدرئها لمفاسد الدارين أو إحداهما). يقال عليه: الطاعات نافعة لمصالح الدارين، أو لمصالح الدنيا فقط من المنافق ونحوه، ولا يُتصور كونها نافعة كلها لمصالح الآخرة دون الدنيا، فلا يناسب قولُه: (أو أحدهما) (¬4). 239 - قوله بعد ذلك: (والأحوال الناشئة عن المعارف) (¬5). ¬
المراد بالأحوال: ما ستعرفه في النوع الرابع والعشرين من الخوف والرجاء والتوكل والمحبة والمهابة إلى غير ذلك. 240 - قوله (¬1) في النوع الرابع والعشرين منه: (فالخوف حاثّ على ترك المعاصي والمخالفات، والرجاء حاثّ على الإكثار من المندوبات وعلى كثير من الواجبات) (¬2). يقال عليه: بل هو حاثّ على كل الواجبات. انتهى. 241 - قوله في (النوع الخامس والعشرون) (¬3): (القصود والنيات: يجب على المكلف أن يعزم على الطاعات قبل وجوبها، ووجود أسبابها) (¬4). يقال عليه: يكفي في ذلك عزمُه على امتثال أوامر الله تعالى في كل طائفة، ولا يجب على المكلف أن يُقدِم -قبل وجوب الظهر مثلًا- على فعلها إذا دخل وقتها ووُجدت شرائطها، وكذا القول في كل طاعة. إنما الواجب العزم على أن يكون ممتثلًا، كما قدّمناه. ¬
242 - قوله بعد ذلك: (فإذا حضرتْ العبادات، وجبتْ فيها المقصود إلى اكتسابها والنيةُ بالتقرب إلى الله تعالى) (¬1). أراد بـ "التقرب": الإضافة إلى الله تعالى، والأصح أنها لا تُشترط. 243 - قوله بعد ذلك: (الإيمان ينقسم إلى حقيقي وحكمي، فالإيمان الحكمي شرطٌ في العبادات من أولها إلى آخرها) (¬2). ما ذكره من شرطية الإيمان الحكمي من أول العبادات إلى آخرها، أراد به: بالنسبة إلى المستفيد به نفسه؛ وإلا فالصبي المسلم تبعًا لأحد أصوله، ليس الإيمان الحكمي في حق الأصل شرطًا في عبادات الصبي، ولا عدمُه مُخلًا بها. 244 - قوله بعد ذلك: (وكذلك إخلاص العبادات شرط في أولها) (¬3). يقال فيه: قَلَّ من تعرّض لهذا، والظاهر خلافه. ومعنى إخلاص العبادة أن يمحّضها لله لا يُشركه غيرَه فيها. 245 - قوله بعد ذلك: (والغرض من النيات تمييز العبادات عن العادات، أو تمييز رُتب العبادات) (¬4). يقال فيه: لو قال: (أو تمييز العبادات بعضها من [بعض] (¬5)، لكان ¬
أولى، اشتمل (الإحرامَ بالحج والإحرامَ بالعمرة) (¬1). وقد جَعَل الشيخ (الإحرامَ بالحج والعمرة)، من قبيل ما شُرعت فيه النية لتمييز رُتب العبادات. وفيه نظر، وسيأتي. 246 - قوله في المثال الخامس من النوع (¬2): (لأن تطهير الحيوان بالذكاة كتطهير الأعضاء بالمياه) (¬3). يقال على هذا: فيه تجوّز من جهة أن النجاسة لم تَرِد على الحيوان المأكول إلا بعد موته من غير ذكاة. ولعله أراد أن الحيوان يَحرُم حتى يُذكَّى، فكأنه قال: (لأن تحليل الحيوان بالذكاة كتطهير الأعضاء بالماء) (¬4). ¬
247 - قوله في المثال السادس من النوع: (وإن نوى العيدَ أو الكسوفَ أو الاستسقاءَ، فلا بد من إضافتها إلى أسبابها لتمييز رُتبها عن رُتب الرواتب) (¬1). يقال فيه: ما ذكره من أنه لا بد من إضافة العيد والكسوف والاستسقاء إلى أسبابها، إن كان مرادُه: أنه لا بد من تعيين (العيد) بـ: (الفطر والأضحى)، و (الكسوف): (كسوف الشمس والقمر) كما هو ظاهر كلامه، ففيه نظر، لأن كلًّا من العيدين مُمَيَّزين (¬2) منه، وكلٌّ من الكسوفين مُمَيَّزين به كذلك (¬3). وقد بيّن الشيخ رحمه الله ذلك في العيدين كما سيأتي قريبًا، وإن ظهرت (¬4). وإذا أراد بإضافته الاستسقاء إلى سببه، فإن أراد بـ (السبب): (غورَ ماء العيون وانقطاع ماء السماء) فينوي: (صلاة الاستسقاء لانقطاع ماء السماء أو لغور ماء العيون)، فهو بعيد جدًّا، بل لا تُعيّن له. 248 - قوله في المثال المذكور: (والإجلال والخوف والرجاء والتوكل والحياء والمحبة والمهابة، فهذه متعلقة بالله عزَّ وجلَّ، قربةٌ في أنفسها، متميزةٌ لله ¬
بصورتها، لا تفتقر إلى قصد تميّزها ولجعلها قربة، فلا حاجة في هذا النوع إلى نيةٍ تصرفه إلى الله تعالى. وكذلك التسبيح والتقديس والتهليل والتكبير) (¬1). يقال عليه: ما ذكره من (التسبيح)، فيه نظر، لاستعماله في غير الله سبحانه وتعالى كقوله (سبحان مِنْ علقمةَ الفاخرِ) (¬2). وينبغي في (التكبير) تفصيل، وهو أن يقال: إن قَدَّم اسم الجلالة كـ (الله أكبر)، فالأمر كما ذَكر الشيخ، وإلا كقوله: (الأكبرُ اللهُ) ولا بد من نية الذكر عند قوله (الأكبر) (¬3). وكذلك (التقديس) أيضًا ينبغي فيه تفصيل، وهو أنه بنحو اسمه: ¬
(القدوس)، والأمر كما ذكر الشيخ. وإن كان بنحو (قدَّستُ الله) فلا بد من نية (¬1) لأنه يقال: (قَدَّس الله روح فلان) ونحو ذلك، فيُستعمل في غير الله تعالى (¬2). 249 - قوله في المثال أيضًا: (وكذلك نقول في المعاملات: إن امتاز المقصود عن غيره فلا حاجة فيه إلى ما يميزه، فمن استاجر عمامةً أو ثوبًا أو قدّومًا أو سيفًا أو بساطًا، لم يحتج إلى ذكر منفعته؛ لأن صورته منصرفة إلى منفعته، متميّزة لها) (¬3). يقال عليه: ما ذكره الشيخ في (العمامة)، من أنه لا يحتاج إلى ذكر منفعتها، فيه نظر. والأقرب أنه لا بد من ذكر منفعتها؛ لأنها تُستعمل في التعميم والشدّ والاتّزار. وكذا ما ذكره في (البساط)، فإنه قد يُستعمل في غير الفرس بأن يوضع تحت إكاف دابة، أو سَرْجها، أو رَحْل بعير، فالأقرب تعيّن منفعته. وما ذكره من القاعدة مسلّمٌ، ولكن في هذين المثالين نظر. فإن قلتَ: و (القدّوم) يستعمل بحَدِّه وبرأسه للدّقّ ونحوه، فينبغي أن يعيّن منفعته أيضًا. قلنا: الضابطة أن كل ما كانت منفعته المقصودة أكثر من غيرها وهو مميَّز ¬
بصورته، فلا حاجة لذكر منفعته، كالقدّوم، فإن منفعته المقصودة: استعماله بحدّه، وهي أكثر من استعماله برأسه. أما استعماله برأسه أقل. . . (¬1) وأخفّ. 250 - قوله بعد ذلك: (وكذلك كل من جاز له الشراء لنفسه ولغيره فإنه لا ينصرف لغيره إلا بنية تميّزه عن غيره لنفسه) (¬2). محلُّ ذلك أن يشتري في الذمة كما سيبينه. فإن اشترى بعين مال الموكل، وقع الشراء له وإن نوى نفسَه، نُصّ عليه. انتهى. 251 - قوله بعد ذلك: (كالوصيّ الوكيل، فإنه يملك الشراء لنفسه ولموكله ويتيمه) (¬3). يقال فيه: الأحسن أن يقال: (ومحجوره) (¬4) ليشمل السفيه. 252 - قوله بعد ذلك في الضرب الثاني: (وأما الصلاة فإنما وجبت النية فيها لوجوب ترتيبها، وإذا بطل أوّلها بطل ما ابتُني عليه، فلم تجب النية فيها لتميّزها عن العادة، وإنما وجبت لتميّز رُتب العبادة، فإن مرتبة التكبير في النافلة المطلقة دون مرتبته في النوافل الراتبة) (¬5). يقال عليه: (فإن مرتبة التكبير) إلى آخره، كلام لا يظهر، فإن كلامه في النية، والتكبيرُ غير النية، والمقصود نية الصلاة، لا نية التكبير. * * * ¬
[فصل في وقت النية المشروطة في العبادات]
[فصل في وقت النية المشروطة في العبادات] 253 - قوله في فصل في وقت النية المشروطة في العبادات: (وليس قول الشافعي: (مع التكبير لا قبله ولا بعده) نصًّا في بسطه النية على التكبير؛ لأن اسم الشيء يُطلق على ابتدائه وعلى انتهائه) (¬1). يقال عليه: ما ذكره من أن اسم الشيء يُطلق [على] ابتدائه وانتهائه، ذلك في الفعل، بدليل ما لو حلف: لا يصلّي، فإنه يحنث بالتحريم. أما الاسم، أي تسمية الفعل (صلاة) فلا يُطلق بها على مجموع الأجزاء. * * * [فصل في قطع النية في أثناء العبادة] 254 - قوله في فصل في قطع النية في أثناء العبادة: (إذا قَطَع نية العبادة في أثناء الصلاة، بطلت صلاته لانقطاع النية المستصحبة) (¬2). يقال عليه: ما ذكره من بطلان الصلاة بنية قطع العبادة، يشمل نية القطع بطريق اللازم، كما إذا ارتدّ أو نوى الردّة في أثناء صلاته فإنها تبطل، لكن محلّه في البالغ. أما الصبي يرتدّ في أثناء صلاته فإنها لا تبطل كما حكاه الرُّوياني عن (. . . (¬3) لعدم صحة ردّته، ثم قال (¬4): وعندي تبطل وإن ¬
لم نصحِّح ردّته لِما في الردّة من نية قطع العبادة، وهو لو نوى قطع العبادة في أثناء صلاته بَطَل (¬1). يراجع الفرع من (البحر) (¬2). انتهى. 255 - قوله بعد ذلك: (فإن فعل في حال شكه ركنًا لا يزاد مثله في الصلاة، كالركوع والسجود، بطلت صلاته، لأنه زاد فيها متعمدًا ركنًا لا يُعتدّ به، لفوات النية الحكمية فيه، فصار كلما لو تَعمَّد زيادته من غير نسيان) (¬3). ما ذكره الشيخ من التعليل، هو طريقة الإمام ومن تبعه، وليس ذلك بمعتمد عند العراقيين. والمعتمد عندهم أنه يُعدّ متلاعبًا، وحقه التوقف إلى التذكر، وعلى هذا: فلا فرق بين الفعل والقول وهو الأصح، وردُّوه عن النص (¬4). 256 - قوله بعد ذلك: (فإن قصُر زمان الشك، لم تبطل صلاته، كما لا تبطل بالكلام القليل والفعل اليسير في حال النسيان) (¬5). ما ذكره من التشبيه، لا يناظر مثلُه (قِصَر زمان الشك)؛ لأن المأتيّ به في زمن الشك، فَعَله متعمدًا. ¬
257 - قوله بعد ذلك: (فإن قيل: هل تصح العبادة بنية تقع في أثنائها؟ قلنا: نعم، وله صور: إحداها: أن ينوي المتنفل ركعة واحدة، ثم ينوي أن يزيد عليها ركعة أو أكثر، فتصح الركعة الأَوَّلةُ (¬1) بالنية الأولى، وتصح الثانية بالنية الثانية) (¬2). خرّج شيخنا وجهين فيما إذا نوى المتنفل عددًا، ثم نوى أن يزيد عليه ركعة أو أكثر، هل يصح الزائد تنزيلًا لنيته منزلة النية المقارِنة لأول العبادة تقديرًا، أو هي نية مبتدأة في أثناء العبادة تحقيقًا وتقديرًا، وصحّت لاستمرار حكم العبادة. ويظهر أثر الوجهين فيما لو نوى عددًا قبل وقت الكراهة، ثم زاد قبل فراغه ركعة أو أكثر بعد دخول وقت الكراهة. فإن نزّلنا هذه النية منزلة المقارِنة للنية الأولى، صحّحنا، وإلا أبطلنا نية الزائد لوقوعها في وقت الكراهة. ويظهر أثرهما أيضًا فيما لو نوى ماسحُ الخُفّ عددًا يسع ما بقي من مدّته فقط، ثم نوى عددًا آخر لا يمكن فعله إلا بعد انقضاء مدته: إنْ نَزَّلْنا نية الزائد منزلة المقارِن، جاء فيه الوجهان فيما لو لم يبق من مدة الماسح إلا ما يسع ركعة، فافتتح ركعتين، وإلا بطلت نية الزائد قطعًا. والوجهان خرّجهما شيخنا من الوجهين فيما لو أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج، ثم أراد إدخال الحج عليها في أشهره ليكون قارنًا: أحدهما: لا يجوز، تنزيلًا لنية الحج منزلة المقارنة للنية الأولى، أعني: نيةَ العمرة الواقعة في غير أشهر الحج. والثاني: يجوز، تنزيلًا لهذه النية منزلة المبتدأة، وهي واقعة في شهر الحج. وللمسألة التفاتٌ إلى ما لو آجَر المالك العين المستأجرة من المستأجر ¬
مدة أخرى قبل فراغ المدة الأولى. وفي ذلك كله بسطٌ ليس هذا موضعه. انتهى. 258 - قوله بعد ذلك: (الصورة الثانية: إذا نوى الاقتصار في الصلاة على الأركان والشرائط، ثم نوى التطويل المشروع والسنن المشروعة. فإن ذلك يجزئه) (¬1). قال شيخنا: لا يصح التمثيل بهذه الصورة لما قَعَّده؛ لأن نية الصلاة شاملة لِما يقع فيها من قِصَرٍ وطُولٍ، وليست نية الاقتصار على الأركان والشرائط نية مغيّرة حتى تؤثر في قطعها نيةُ التطويل، وليس التطويل عبادة مستقلة حتى يقال فيه مثل ذلك. وكذلك قوله (¬2) فيما (لو نوى التسليم بعد انقضاء التشهد، ثم بَدَا له أن يطوّل في الأدعية والأركان) (¬3)؛ لأن العبادة واحدة، ونية الصلاة شاملة لذلك جميعه. انتهى. 259 - قوله بعد ذلك: (الصورة الرابعة: إذا اقترن بصلاة القاصر، ما يوجب الإتمام، أو طرأ عليها ما يوجب إتمامها وهو لا يشعر بذلك، ثم شعر به في أثناء صلاته، فإنه يُتم الصلاة بالنية الثانية. وقد قال بعض أصحابنا: تُجزيه النية الأولى، وجَعَل القصر معلّقًا على شرط أن لا يطرأ ما يوجب الإتمام، وهذا لا يصح في حق من لا يشعر بهذا الحكم ولم يخطر بباله) (¬4). ما ذكره من قوله: (وهو لا يشعر بذلك)، إنما يصح كونه قيدًا فيما إذا اقترن بصلاة القاصر ما يوجب الإتمام وما لا يصح كونه قيدًا فيما إذا طرأ ¬
عليها ما يوجب الإتمام، إذ لا فرق بين شعوره وعدمه، بخلاف الأُولى فإنه لا بدّ فيها من عدم شعوره، إذ لو شعر بما يوجب الإتمام مَنْ نَوَى القصر، فإنه لا يصح نيته (¬1). وما ذكره من الخلاف أنه يُتم الصلاة بالنية الثانية أو تُجزيه بالنية الأولى، قال شيخنا (¬2): لا أعرفه، والوجه أنه إذا لزم الإتمامُ، لا حاجة فيه إلى نية قطعًا. ولعل الشيخ (¬3) أخذ الخلاف مما لو لزم إتمام الجمعة ظهرًا، فإنه لا يحتاج إلى نية الظهر على الأصح. ولا يصح الأخذ لقيام الفرق بين الجمعة ومسألتنا، وهو أن (الجمعة مع الظهر) جنسان بناء على استقلالهما، فأمكن مجيءُ وجهٍ بأنه لا بد من إحداث نية. وقوله: (وهذا لا يصح في حق من لا يشعر بهذا الحكم، ولم يخطر بباله)، كلام لا يظهر منه المقصود. 260 - قوله بعد ذلك: (فإن قيل: النية قصدٌ، ولا بدّ للقصد من مقصود مكتَسَب يتعلق به القصد، فأيّ كسبٍ مقصودٍ للإمام إذا نَوَى الإمامة، فإن صلاته مع القوم لا تزيد على صلاته وحده. وكذلك إذا أحرم الناسك بالعمرة والحج مع اتّحاد الفعل، بخلاف ما لو أَدخَل الحجَّ على العمرة، فإن أفعال الحج تزيد على أفعال العمرة، وقد قال الشافعي - رضي الله عنه -: لو أَدخَل العمرة على الحج [لم يصح] على قولٍ، إذ لا مَنْويّ. فهذه المسائل مشكلة) (¬4). ¬
فائدة: قال شيخنا: لا إشكال في شيء من هذه المسائل. والنيةُ إنما تعلقت بمقصودٍ مكتسبٍ حكمًا؛ لأن صيرورته (¬1) قارنًا نَزَّله الشارع منزلة المكتسَب لكونه إنما حصل بنيته. وكذلك انعقاد الإحرام بمجرد النية من غير قولٍ ولا فعلٍ صيرورته مُحرِمًا، يُنزَّى منزلة المكتسَب لحصوله بنيته وسببه. وكذا القول فيما أَشبَه ذلك، ولا إشكال. 261 - قوله بعد ذلك: (ومن المشكل قول الشافعي رحمهما الله تعالى: إن الحج والعمرة ينعقدان بمجرد نية الإحرام من غير قولٍ ولا فعلٍ. فإنْ أريد بالإحرام: أفعالُ الحج، لم يصح؛ لأنه لم يتلبّس بشيء منها في وقت النية، ولأن محضورات الحج (¬2) لا تَتَقدَّم عليه، كما لا تَتَقدَّم محظورات (¬3) العبادات عليها. ¬
وإنْ أريد به الانكفاف عن محظورات الإحرام، لم يصح، لأنه لو نَوَى الإحرام مع ملابسته لمحضوراته (¬1) سوى الجماع، لَصحّ إحرامه. ولو كان الكفُّ عنها هو الإحرامَ، لَمَا صحّ مع ملابستها، كما لا يصح الصيام مع ملابسة الأكل والشرب. وإن كان الإحرامُ هو الكفَّ عن الجماع، لَمَا صحّ إحرام من يَجهل وجوب الكفّ عن الجماع)، إلى آخره (¬2). يقال عليه: قد مرّ جواب هذا (¬3). وقوله: (فإنْ أريد بالإحرام: أفعالُ الحج)، يُشعر أن أحدًا قال: إن ذلك هو الإحرام. وكذا قوله: (وإنْ أريد به الانكفاف عن محظورات الإحرام)، وكذا قوله: (وإن كان الإحرامُ هو الكفَّ عن الجماع)؛ لم يقل بشيء من هذا أحدٌ. والإحرام صفةٌ حاصلة للداخل في حج أو عمرة بنية معتبرة، نُزِّلتْ منزلة الفعل المكتسَب لحصوله بنيته، إذ لولا النية لم يَصِر مُحرِمًا، فهو الذي حصَّل لنفسه هذه الصفة بنيته. فهذا واضح لا خفاء به. وقوله عقب قوله: (وإنْ أريد بالإحرام: أفعالُ الحج): (ولأن محضورات الحج (¬4) لا تَتَقدَّم عليه) إلى آخره: لا تظهر مطابقته لِما قبله. * * * ¬
[فصل تردد النية مع ترجح أحد الطرفين]
[فصل تردّد النية مع ترجّح أحد الطرفين] 262 - قوله في فصل تردّد النية مع ترجّح أحد الطرفين: (النية قصدٌ، فلا يُتصور توجّهُه إلا إلى معلوم أو مظنون، فلا تتعلق بمشكوكٍ فيه) (¬1). يقال فيه: يُستثنى منه أن يكون الشك في الآلة، كما إذا اشتبه عليه ماءٌ بماءِ وَرْدٍ (¬2)، وقلنا: يتوضأ بكل منهما. ويُستثنى أيضًا، بما إذا توضأ للاحتياط. * * * [فصل في تفريق النيات على الطاعات] 263 - قوله: (فصل في تفريق النيات على الطاعات: فلو فَرَّق النية على أحد جُزأَيْ الجملة في القراءة، مثل أن قال: (بسم الله) (¬3) أو قال: (الذين آمنوا)، فالذي أراه أنه لا يثاب على ذلك، ولا يثاب إلا إذا فَرَّق النية على الجُمل المفيدة) (¬4). يقال عليه: لا يجتمع هذا مع ما قدَّمه قبل ذلك بأوراقٍ، من أنّ قراءة القرآن لا تحتاج إلى نية، من أنها (¬5) متميزة فيه بصورتها. 264 - قوله بعد ذلك: (الضرب الثاني: ما يغلب عليه كونه ذكرًا ليس بقرآن، كقوله: (بسم الله والحمد لله ولا إله إلا الله ولا قوة إلا بالله)، فهذا ¬
لا يحرُم على الجُنب قراءتُه إلا أن ينوي به القراءة، فيخرج عن الغلبة لغلبة الذكر عليه) (¬1). يقال عليه: صوابه: (فيخرج عن الغلبة لنية القراءة). انتهى. 265 - قوله: (النوع السادس والعشرون من أعمال القلوب: التوبة، ولها أركان: الندم، والعزم، والإقلاع) (¬2). قال شيخنا: الأقرب عندي أنه لا يعتبر في التوبة إلا الندم فقط، ويلزم منه الإقلاع والعزم أن لا يعود، وإلا فلا يكون ندمًا نافعًا، ومن ثَمَّ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الندم توبة) (¬3). ولا حاجة إلى تأويله بالـ (مُعْظَم) على حدّ قوله: (الحج عرفة) (¬4). وهذا دقيق. 266 - قوله بعد ذلك: (ويستحب للتائب إذا ذَكَر ذنبه الذي تاب عنه، أن يجدّد الندمَ على فعله والعزمَ على ترك العود إلى مثله، وعلى هذا يُحمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مئة مرة) (¬5)، لا يعني بذلك أنه ¬
يُذنب في كل يوم مِئة مرة، بل معناه تجديد التوبة وتكريرها عن ذنب واحد صغير) (¬1). ما ذكره الشيخ في تقديره: (إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مِئة مرة)، لا يليق بمقام النبوة، لأن من جَوَّز عليهم الصغائر سهوًا، لا يقول: إنها وقعت! والذي ينبغي في تقرير ذلك أن يقال: إنه - صلى الله عليه وسلم - لا يزال في تَرَقٍّ، فكلما تَرَقَّى إلى مقامٍ، استغفَر الله تعالى من ذلك المقام الذي دونه. 267 - وقوله بعد ذلك: (فشتان بين من لا ينسى الصغير الحقير، وبين من ينسى عظيمَ ذنوبه، فلا تمرّ على بالِهِ احتقارًا لذنوبه) (¬2). يقال عليه: صوابه: فشتان بين من يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم مئة مرة ولا ذنبَ له، إجلالًا لربه! وبين من ينسى عظائم ذنوبه فلا يُمرّ على باله، احتقارًا لذنوبه!. 268 - قوله بعد ذلك: (فإن قيل: كيف يُتصور التوبة مع ملاحظة توحيد الله بإيجاد الأفعال خيرها وشرّها، مع أن الندم على فعل الأغيار لا يُتصور؟ قلنا: من رأى للآدمي كسبًا، خصَّص الندم والعزم بكسبه دون صنع ربه. ومن لا يرى بالكسب، خَصَّص التوبة بحال الغفلة عن التوحيد، وهذا مشكل من جهة أنه يتوب عما يظنه فعلًا له وليس بفعلِ له في نفس الأمر؟) (¬3). ¬
يقال عليه: ليس هذا بمشكل، وغايته أن يكون العبد. . . (¬1) فنقول: إنه مجبول على المعصية، ومع ذلك فالله تعالى أوجب التوبة منها عليه، وعِدَتُه عليها: أن يُثيب، لا يُسأل عما يفعل. وقوله في السؤال: (مع أن الندم على فعل الأغيار (¬2) لا يُتصور): لا يليق بالمقام ذكرُ الأغيار. والأولى أن يقول: لأن الندم على فقره (¬3) لا يُتصور. 269 - قوله بعد ذلك في النوع التاسع والعشرين: (ومنها: الحب في الله والبغض في الله؛ كحب الأنبياء والأولياء، وبُغض العصاة والأشقياء) (¬4). يقال فيه: (وبغض العصاة): فيه تجوز، والمبغوض فعل العصاة لا ذواتهم. 270 - قوله بعد ذلك: (ومنها أن يقدِّر إذا عَبَدَ اللهَ (¬5)، كأنه يراه، لتقع العبادة على أكمل الأحوال، فإن عَجَز عن ذلك فلْيقدِّر أن الله ناظرٌ إليه (¬6). وقوله: (فإن عَجَز): يحتمل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الإحسان أن تعبد اللهَ كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) (¬7). معناه: فإن عَجَزتَ عن رؤيته فإنه يراك. ¬
ويحتمل أن يعلّق على الحقيقة، لأن ذلك لم يقع في الدنيا لغير النبي صلى الله عليه وسلم (¬1). فإن قيل: فكيف ساغ دخول (إنْ)، وهي لا تدخل إلا على المشكوك؟ قلنا: قد يستعملها العرب في المحقَّق (¬2). * * * ¬
[فصل ما يتعلق به الأحكام من الجوارح]
[فصل ما يتعلق به الأحكام من الجوارح] 271 - قوله في فصل ما يتعلق به الأحكام من الجوارح: (فأما اللسان فيتعلق به من الواجبات والمندوبات والمحرّمات والمكروهات، ما لا يتعلق بغيره من الجوارح والأركان، بل يتعلق به من ذلك ما لا يتعلق بالجَنان) (¬1). يقال عليه: كل عمل يتعلق بالجَنان، من حيث القصدُ إليه والعرض عليه، مما سيذكره الشيخ آخِر كلامه. ومراد الشيخ إثبات ما يختص بكل عضو من الأفعال الظاهرة. 272 - وقوله عقب ذلك: (كالإكراه على الكبائر كلها، والصغائر بأسرها) (¬2). يقال فيه: الإكراه لا يختص باللسان، بل يكون بالكتابة والإشارة من القادر وغيره، ولكن هُما ناشئان عن اللسان قائمان مقام نطقه. 273 - قوله بعد ذلك: (والكفر، وشهادة الزور) (¬3). يقال عليه: الكفر بالقول هو المختص باللسان، وبالفعل لا يختص به كإلقاء المصحف في القاذورات، والسجود للصنم، ونحو ذلك. 274 - قوله بعد ذلك: (وكذلك يتعلق به الإيمان بالله) (¬4). مراده: إظهار الإيمان، وإلا فالإيمان الذي هو التصديق، لا يتعلق إلا بالجَنان. ¬
وكذا قوله: (وتصديق من يجب تصديقه) (¬1). مراده: إظهار تصديق من يجب تصديقه. 275 - قوله بعد ذلك: (وتعلم العلوم الشرعية، والعبادات المَرضيّة، والفتاوى والأحكام، وزجر المفسدين، وإرشاد الضالّين) (¬2). يقال فيه: كلٌّ من هذه الأمور تكون بالكتابة أيضًا، ولا تختص باللسان. 276 - قوله بعد ذلك: (وأما قوله - عليه السلام -: (نية المؤمن خيرٌ من عمله) (¬3)، ففيه وجهان: أحدهما: أن أجر النية المجردة عن العمل خير من العمل المجرد عن النية. الوجه الثاني: ما رُوي أنه - عليه السلام - وَعَد على حفر بئرٍ بأجر، فنَوى عثمان - رضي الله عنه - أن يحفرها، فسَبَقه إلى حفرها يهودي، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (نية المؤمن خيرٌ من عمله)، أي: نيةُ عثمان خيرٌ من حفر اليهودي) (¬4). يقال عليه: هذا الحديث أخرجه صاحب (مسند الفردوس) بسند ضعيف (¬5). ¬
وفيه وجه آخر غير ما ذكره الشيخ، وهو أن جملة (نية المؤمن): الإيمان الذي نشأ عنه النطق باللسان، وحينئذ فمجموع نية المؤمن خيرٌ من مجموع فعل الكافر، لاشتمالها على الإيمان الذي هو التصديق. 277 - قوله بعد ذلك: (وأما الأفواه والبطون لا يجوز أن يُلقَى فيها ما يحرُم أكلُه) (¬1). يقال عليه: بل يجوز إذا لم يتحلل منه شيءٌ إلى الجوف كالزجاج ونحوه (¬2). ¬
278 - قوله بعد ذلك: (وردّ المغصوبات واجب على الفور، ولا يتقاعد فساد الطعام عن عَفَن الساجة (¬1) المغصوبة في البناء، إذ لا يجب نزعها مع إمكانه بسبب عَفَنها) (¬2). قال شيخنا: فرقٌ بين (الساجة) و (الطعام)، وهو أنه يلزم من نزع الساجة، إفسادُ ما حولها من البناء، ولا كذلك الطعام. 279 - قوله بعد ذلك: (ولم يقدِّم الشرع مسح يُمنى الأذنين على يُسراهما، إذ لا فضلَ) (¬3). يقال فيه: الأذنان والخدّان يطهُران دفعةً واحدةً، فإن كان أقطعَ، قَدَّم اليمين، كذا نقله الرافعي عن أبي المحاسن الرُّوياني (¬4). 280 - قوله بعد ذلك: (ولا شك أن مقابلة الشريف بالشريف حسنة في العقول، ولذلك يُبدأ بها في الانتعال لأنه إكرام لها) (¬5). ¬
يقال فيه: فإذا تعارض الخروج من المسجد والانتعال، قَدَّم اليسرى في الخروج ويضعها على ظهر نعله، ثم يُخرج اليمنى فيُنعلها، ثم يُنَعِّل (¬1) اليسرى). 281 - قوله بعد ذلك: (والطِّيرة: أن يرى أو يسمع ما يدل على الشر، فيخافه ويَرهبه، وذلك سوء ظنٍّ بالله) (¬2). يقال عليه: إنما نُهي عنه زجرًا عما كانوا يعتقدونه من تأثيرها من حيث النفع أو دفع الضر، لا أنها من باب سوء الظن بالله، وإلا فقد عَدَل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سلوك وادٍ، ورأى به قبيلته بنو مُحرق (¬3). ¬
[فصل فيما يتعلق به الأحكام من الحواس]
281 - قوله بعد ذلك في الأظفار: (وتحريم قَلْمها على المُحرِمين، وترك قَلْمها في عشر ذي الحجة للمُضَحِّين (¬1). يقال فيه: لا يتقدر ذلك بعشر ذي الحجة، بل الحكم كذلك في أيام التشريق حتى يُضحِّي. * * * [فصل فيما يتعلق به الأحكام من الحَواسِّ] 282 - قوله في فصل: فيما يتعلق به الأحكام من الحَواسِّ (¬2): (وأما الاستحباب، فكالنظر إلى الكعبة، وفي المصاحف، وكتب العلم للقراءة، وإلى الخاطِبين (¬3)، وإلى المخاطَبين السائلين والمجيبين) (¬4). ¬
يقال فيه: قد يجب النظر في المصحف للمصلي الذي لا يحفظ الفاتحة إذا أمكنه ذلك، وكذلك يجب النظر فيه لتعلمها إذا تعيّن طريقًا، وكذلك يجب النظر في كتب العلم إذا تعين ذلك طريقًا إلى ما لا بدّ منه. وما ذكره من استحباب النظر إلى الخاطِبين من الخُطب المشروعات، فيه نظر، فالاستحباب يحتاج إلى دليل. وكذلك النظر إلى المخاطَبين السائلين والمُجيبين. 283 - قوله عقب ذلك: (وإلى المصنوعات كلها للتفكر في القدرة ونفوذ الإرادة وبديع الحكمة) (¬1). يقال فيه: ما ذكره من استحباب النظر إلى المصنوعات للتفكر، إنْ أخذه من قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185]، فالنظر فيها بمعنى التفكر والتأمل. وكذلك هو في قوله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101]، أي: تأمّلوا. 284 - قوله بعد ذلك في (حاسة السمع): (وأما التحريم فكاستماع كلمات الكفر) (¬2). قال شيخنا: المختار أنه لا يحرُم استماع كلمات الكفر من أهل الذمة ولا غيرهم من الكافرين. 285 - قوله بعد ذلك في (حاسة الشمّ): (أما الإيجاب فكإيجاب ما يجب على الحاكم شمّه، أو على الشهود بأمره إياهم) (¬3). يقال فيه: ما ذكره من إيجاب شمّ ما يجب شمّه مما تختلف فيه الخصوم، له طرقٌ: المتعين: القطعُ بأنه لا يجب ولو تعين ذلك طريقًا إلى ¬
قطع النزاع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (شاهداك، أو يمينُه) (¬1)، ولم يذكر سوى ذلك، فإيجاب غيره يحتاج إلى دليل. 286 - قوله بعد ذلك: (وتحريم اشتمام طيب النساء الأجنبيات الحِسان) (¬2). يقال فيه: تقييده (الأجنبيات) بـ (الحِسان)، يقتضي أن غير الحِسان لا يحرُم شمُّ طيبهنّ. والذي يظهر خلافُه، لأنه داعٍ (¬3) محرِّكٌ للشهوة، و (ما من ساقطة، إلا ولها لاقطةٌ). 287 - قوله بعد ذلك: (ولو شمَّ طيبًا لا يملكه، كشمّ الإمام الطيبَ الذي يختص بالمسلمين، إذا لم يتصرف في جِرْمه فلا بأس به. وقد تورّع عنه بعض الأكابر) (¬4). أشار ببعض الأكابر إلى (عمر بن عبد العزيز) (¬5). ¬
[فصل فيما يتعلق بالأزمان من الطاعات]
288 - قوله بعد ذلك: (ومما لا أعدُّه ورعًا، أكلُ طعامٍ حلالٍ محضٍ حَمَله ظالمٌ) (¬1). أشار بالتورع عن أكل الطعام الحلال الذي حمله ظالمٌ، إلى (ذي النُّون المصري). وقصته مشهورة (¬2). 289 - قوله بعد ذلك في (الذوق): (وكذلك يجب على الحاكم الذوقُ) (¬3). ما ذكره من (وجوب الذوق): المعتدُّ خلافُه، وقد تقدم في الشمّ أيضًا. * * * [فصل فيما يتعلق بالأزمان من الطاعات] 290 - قوله في الفصل المعقود لِما يتعلق بالأزمان (¬4) من الطاعات، في النوع السابع منه: (وهو موقّت عند بعضهم بـ (شوال، وذي القَعدة، وذي الحجّة" (¬5). ¬
[فصل في تنويع العبادات البدنية]
يقال فيه: (ذو الحجة): عند من يجعله بكماله أشهر الحج وقتًا للإحرام بالحج (¬1). إنما ينعقد الإحرام بالحج في (شوال وذي القعدة وعشرٍ أو تسعٍ من ذي الحجة) على الخلاف فيه، وإنما المراد بجعل (ذي الحجة) وقتًا للحج عند من يقول به، لزوم الدم بتأخير طواف الإفاضة عنه. 291 - قوله بعد ذلك في النوع الثامن، في العمرة: (ولا وقتَ لها، خلافًا لبعض العلماء) (¬2). يقال فيه: يستثنى العاكف بمِنَى للرمي، فإنه لا يصح إحرامه بالعمرة في أيام مِنَى لا شتغاله بالرمي، نُص عليه. * * * [فصل في تنويع العبادات البدنية] 292 - قوله بعد ذلك في النوع الخامس، في فصل في تنويع العبادات البدنية: (وإن قرأ آيات الصفات، تأمَّل تلك الصفة، فإن كانت مشعِرة بالتوكل فلْيعزم عليه) (¬3). ¬
يقال فيه: والأحسن أن يقال: (فلْيتوكل) لنظائره التي ذكرها، وإلا فما الفرق بينه وبين نظائره، حيث قال فيه: (فليعزم)، بخلاف نظائره. 293 - قوله بعد ذلك: (النوع السادس: إسقاط الحقوق: كالإعتاق في الكفارات، والإبراءِ من الذنوب، والعفوِ عن الإساءة) (¬1). يقال فيه: محل ما ذكره من الإعتاق: الصادرُ من المسلم في الكفارات (¬2)، فإن له جهتين: فمن حيث كونه (إسقاطًا) لِما في الذمة، أشبهُ بأداء الديون. ومن حيث كونه (إعتاقًا) من المسلم، يراه (¬3) المسلم عبادة. فلا يأتي ما ذكره الشيخ في إعتاق الكافر عن الكفارات. وكذا القول في الإبراء، والعفو. 294 - قوله بعد ذلك: (والعفو عن حد القذف أفضل من العفو عن التعزير) (¬4). يقال فيه: محل الجزم بذلك، إذا قلنا: ليس للإمام التعزير إذا عفا مستحقُّه. أما إذا قلنا: له التعزير إذا عفا مستحق التعزير، وهو الأصح، فيحتمل ما ذكره الشيخ. ويحتمل أن العفو عن التعزير أفضل من العفو عن حد القذف، لأن الحدّ له ضابط يُرجع إليه، بخلاف التعزير فقد ينتهي إلى حبس طويل ¬
ونحوه، لرجوعه إلى رأي الإمام ولا سيّما إن كان مالكيًا يرى التعزير بالأشياء الشديدة ولو أتتْ على نفسه. 295 - قوله بعد ذلك: (والإبراء من الدينار أفضل من الإبراء من الدرهم) (¬1). يقال فيه: محل ذلك، ما إذا كان المُبرَى (¬2) عن الدينار والدرهم واحدًا، فإن الدينار أفضل في حقه. فإن اختَلَف (¬3)، بأن أُبرِئ ملكٌ عظيمٌ عن دينار، وفقيرٌ عن درهم، فإبراء الفقير عن الدرهم أفضل من إبراء الملك العظيم أو الغني عن الدينار. قد مرّ نظير ذلك في تفاوت إثم المسروق ونحوه. 296 - قوله بعد ذلك: (وكذلك مسح الخِفاف والعصائب والعمائم والجبائر يُعتبر مما لا تظهر حِكمته، فإن الحَدَث لم يؤثر فيها) (¬4). يقال عليه: لمّا أَنزَلها الشارع منزلة مُبدَلاتها للضرورة والحاجة، قامت مقامها، وهذا ظاهر لا خفاء به. 297 - قوله بعد ذلك: (وكذلك الوضوء بلَمس النساء، ومسِّ الفروج) (¬5). أي مما لا تظهر حكمته. يقال عليه: لك أن تقول: إن الحكمة فيه نص (اللمس). المسُّ مظنةٌ ¬
للالتذاذ، والالتذاذ مظنة لخروج ما يحصل للرجل بملاعبة أهله (¬1)، فوجب الوضوء لذلك. 298 - قوله بعد ذلك: (ويجوز أن تكون هذه الأحكام كلها لا مصالحَ فيها ظاهرة ولا باطنة) (¬2). يقال فيه: الظاهر أن في مثل هذه الأحكام، حِكَمًا لم يُطْلِع عليها الله عبادَه. 299 - قوله بعد ذلك: (فأما الأداء، فما فُعل في وقته المقدّر شرعًا) (¬3). يقال فيه: لا بدّ أن يقول: (ما فُعل في وقته المقدّر له شرعًا أولًا) ليُخرج (الإعادة). ثم إنه لم يتعرض لـ (الإعادة) في تقسيمه، وكان من حقه التعرض لذلك. 300 - قوله بعد ذلك في (الموسّع زمانه): (فكالظهر ونحوها، فإن المصلي مخير بين أن يقدّمها في أوائل أوقاتها، وبين أن يوسّطها أو يؤخّرها بحيث يقع التحلل منها قبل انقضاء وقتها) (¬4). يقال عليه: يَرِد على هذا، لو شَرع في الوقت، ومَدَّ، حتى خرج الوقت، فإنه يجوز على الصحيح، فلم يقع التحلل قبل انقضاء وقتها. 301 - قوله بعد ذلك: (وأذانُ كل صلاة موقّت بوقتها، إلا الصبح فإنه يقدَّم على وقتها ليتأهّب الناس بالطهارات وقضاء الحاجات) (¬5). ¬
يقال فيه: الأولى أن يعلّل لعدم أذان الصبح، بما ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (ليَرجِعَ قائمَكم، ويوقِظ نائمَكم)، وقد تَرجم البيهقي على ذلك: (باب ذكر المعاني التي يؤذِّن لها بلالٌ بليلٍ)، فذكره (¬1). 302 - قوله بعد ذلك: (المثال الثاني: يُخيّر المتوضئ بين المرّة والمرّتين والثلاث، وكذلك التخيير في غَسل النجاسات) (¬2). يقال فيه: حقيقة (التخيير): أن يُخيّر الشارعُ المكلفَ من أمور على السواء من غير أن يجب واحدٌ منها بفضيلة في نفسه أو غير ذلك، كما في كفارة اليمين وغيرها. والشيخ أَخَذ (التخيير) في هذا الفصل بإزاء ما للمكلف أن يفعله، وما له أن ينتقل إلى غيره بمقتضى الأدلة؛ وقد يكون أحد الأمرين أو الأمور أفضل، وقد لا يكون. وأمثلته في هذا الفصل، أكثرها جارٍ على ذلك، وبعضها (تخييرٌ) حقيقة. فتأمل الأمثلة، ورُدَّ كلًّا لِما يناسبه. ¬
303 - قوله بعد ذلك في (المثال السابع): (والقصر أفضل، أي من الإتمام. والصوم فيما دون ثلاثة أيام أفضل) (¬1). يقال فيه: ما ذكره من أفضلية الصوم فيما دون ثلاثة أيام وفيما بعدها على الأصح، فحكمه فيمن لا يتضرر بالصوم، أما من يتضرر به فالفطر في حقه أفضل. 304 - قوله بعد ذلك: (فإنّ جمع التقديم بعرفة أولى، وجَمْع التأخير بمزدلفة أفضل، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَعَل ذلك) (¬2). يقال فيه: إنما جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة تقديمًا لأنه كان نازلًا، وإنما جمع بمزدلفة تأخيرًا لأنه كان سائرًا وقت الأُولى. فهو غير (مسألة الجمع في السفر)، ولا اختصاص لذلك بعرفة ولا بمزدلفة حتى يُستثنى. 305 - قوله بعد ذلك: (المثال الثامن والعشرون: يُخيّر من ثبت له فسخُ عقدٍ، بين الفسخ والإمضاء. وفعلُه ما هو الأغبط للمفسوخ عليه، أفضل) (¬3). يقال عليه: ما ادّعاه الشيخ من أن فعل ما هو الأغبط للمفسوخ عليه، أفضل، لا يحتاج إلى دليل. ¬
وكذا ما ذكره في المثال الذي بعده من (أنّ عفو الشفيع أفضل من الأخذ)، المختارُ تفصيلٌ: وهو أنه إن خاف ضرر المشاركة، فالأخذ أفضل، وإلا فالعفو. 306 - قوله بعد ذلك: (فإن قيل: لِمَ اعتُبرت المساكن بحال النساء، والنفقاتُ والكسوة (¬1) بحال الرجال؟ قلنا: المرأة تتعيّر بالمسكن الخسيس الذي لا يناسب حالَها لأنه مشاهَدٌ، بخلاف الكسوة والطعام فإنهما لا يشاهَدان في أغلب الأحوال، فكان ضررها بالمسكن الخسيس أعظم) (¬2). يقال فيه: ما ذكره الشيخ من اعتبار الكسوة بحال النساء (¬3)، هو الأصح. ولنا طريقة، أنه تُعتبر حالُ الزوجين. وما ذكره من اعتبار المسكن بحالها، فيه طريقة أيضًا، أنه تُعتبر بحال الزوجين. ¬
وقول الشيخ في الكسوة والطعام، أنهما لا يشاهَدان في أغلب الأحوال، إلى آخره، مُسلَّمٌ في الطعام. وأما الكسوة فمشاهَدٌ (¬1) كثيرًا كالمسكن أو أكثر. ولك أن تُؤوِّل كلام الشيخ. 307 - قوله بعد ذلك في الذي يجب على الفور: (كزكاة المعشرات عند التنقية والجفاف) (¬2). يقال فيه: زكاة المعشّرات تجب عند بدوّ صلاح الثمر واشتداد الحَبّ، وإنما الذي يتوقف على التنقية والجفاف، وجوبُ الإخراج. وفرقٌ بين (الوجوب) و (وجوب الإخراج). 308 - قوله بعد ذلك: (فإن قيل: هلّا وجب الحج على الفور؟ قلنا: لكن المقصود منه: ثواب الآخرة، وهو متراخٍ) (¬3). يقال فيه: ما ذكره من الحكمة من وجوب الحج على التراخي، يَنتقض بالصوم، فإن المقصود الأعظم منه ثواب الآخرة، وهو على الفور. ويَنتقض أيضًا بالصلاة التي ليس لها إلا وقتٌ واحدٌ كالمغرب. 309 - قوله بعد ذلك: (فإن قيل: لِمَ كرّرتم الحدّ إذا تخلل بين السرقتين؟ (¬4) قلنا: لمّا علمنا أن الحد الأول لم يزجره حين أَقدَم على الجريمة ثانيا، جدَّدنا عليه الحدّ إصلاحًا له بالزجر) (¬5). ما ذكره الشيخ من تكرير الحدّ، فيه نظر؛ لأن الحدود يُتبقى عليها ولو ¬
لم ينزجر من أُقيمت عليه. والأَولى أن يقال: لأن الجريمة الأُولى قد أُخذ موجَبُها، فلو لم يكن في الثانية شيء لكانت لا تُقابَل بها. 310 - قوله بعد ذلك: (وكذلك تدخل (ديات الأطراف) في (دية النفس) إذا فاتت قبل الاندمال؛ لأن الجراحات قد صارت قتلًا. ولو قتله أجنبي لزمه ديةُ نفسه، ووجب ديةُ الأطراف على قاطعها. ولو قتله قاطع الأطراف فقد نصّ الشافعي على التداخل. وفيه إشكال من جهة أن السِّراية قد انقطعت بالقتل، فأَشبَه ما لو انقطعت بالاندمال. وقد خالف ابنُ سُريج الشافعيَّ، في ذلك، وهو متجه) (¬1). يقال عليه: بل المتجه ما نَصّ عليه الشافعي - رضي الله عنه -؛ لأن الحال فيهما واحد، لم ينقطع حكم الجراحات الأولى لقيام سببها، بخلاف الاندمال، ولأن الحق المجروح مضمون بالدية على الجارح المذكور فلا يتجدد لجِراحِه ضمانٌ. والصورة: إذا اتحد وَصْفا: الجرح والقتل في العمد والخطأ؛ فإن أخطأ فالأصح لا تدخل. ويشهد للنص، أن لو تبرع في المرض المخُوف تبرعًا (¬2) منجَزًا، ثم سقط من سطح، فإنه يعتبر تبرعه من الثلُث نظرًا إلى السبب الظاهر الذي كان يستمر لولا حصول الحادث. ولو سقط من سطح هناك، حسبت (¬3) الديات كلها على الخاطئ، لأنه لم يتَّحد الحال في جاني النفس وجاني الجراحات. 311 - قوله بعد ذلك: (وقد أَطلق بعض (¬4) أصحاب الشافعي - رضي الله عنه - (¬5)، ¬
أنه يُستحب الخروج من الخلاف حيث وقع، أفضل من التورط فيه (¬1). وليس الأمر كما أطلقه، بل الخلاف على أقسام: الأول: أن يكون الخلاف في التحريم والجواز، فالخروج من الخلاف بالاجتناب أفضل. الثاني: أن يكون الخلاف في الاستحباب والإيجاب، فالفعل أفضل. الثالث: أن يكون الخلاف في الشرعية، فالفعل أفضل، كقراءة البسملة في الفاتحة) (¬2). اختار شيخنا - رضي الله عنه -، أنه لا يُستحب الخروج من الخلاف إلا إذا قَوِي مُدرَكَه، سواء كان في التحريم والجواز، أو في الاستحباب والإيجاب، أو في غير ذلك. وأما إذا ضعُف المُدرَك فلا يُستحب الخروج من الخلاف مطلقًا. 312 - قوله بعد ذلك: (وأما ما يدخله الشرط من العبادات، فالنذر قابل للتعليق على الشرائط مع اختلاف أنواع المنذورات) (¬3). ¬
يقال فيه: مراده بالشرط هنا: (التعليق) على حدّ قول الشيخ في الفدية (¬1): (باب الشرط في الطلاق). ففيه تجوّز. وقد فرَّق الأصحاب بين (التعليق) و (الشرط)، ومن ثَمّ قال في (الوسيط): إن الطلاق لا يقبل الشرط. ومراده أن يقول: طلَّقتُ بشرط كذا. وحينئذ فالفرق بين (التعليق) و (الشرط): أن التعليق: ترتيب أمر لم يوجد بـ (إنْ) أو إحدى أخواتها، كـ (إن دخلتِ الدار فأنتِ طالق). والشرط: التزام أمر لم يوجد في أمرٍ وُجد، على وجه مخصوص، كـ (طلّقتُ بشرط كذا). وأبواب الشريعة أربعة أقسام: ما يقبل الشرط والتعليق. وما لا يقبلها. وما يقبل الشرط دون التعليق. وعكسه. وليس هذا موضع بيانها. وقوله: (فالنذر قابل للتعليق على الشرط): أراد بالشرط: (الصفات). 313 - قوله بعد ذلك: (ولو شَرَط المُحرم، التحللَ، ففي صحة الشرط خلاف) (¬2). يقال فيه: لا يناظر ما ذكره. والذي يناظره: (إن كان زيدٌ مُحرمًا، فقد أحرمتُ). 314 - قوله بعد ذلك: (وأما ما لا يقبل التعليق على الشرط، فكالصوم والصلاة الواجبَين بأصل الشرع) (¬3). ¬
[فصل فيما يفوت من المصالح]
يقال فيه: أراد بالشرط: (الصفة). ويستثنى من الصلاة، ما لو جَهِل حالَ إمامه، فقال: (إنْ قَصَر، قَصَرتُ، وإلا أتممتُ). وجاء: إذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار، وصُلِّي على واحدٍ واحدٍ، فإنه يقول: (أصلّي عليه إن كان مسلمًا). ويستثنى من الصوم، ما إذا نوى ليلة الثلاثين من رمضان، صومَ غدٍ إن كان من رمضان. 315 - قوله بعد ذلك: (ومن الطاعات ما يعتبر بوقت فعله، لا بوقت وجوبه، كطهارة الصلاة) (¬1). يقال فيه: يستثنى من طهارة الصلاة، ما لو وَهَب الماء في الوقت، أو باعه فيه، فإنه يَقضي ما دام الماء باقيًا. فقد اعتبرناه بوقت وجوبه. وكذلك الطهارة التي لا تتقدم على الوقت، في صورة: ما إذا أَخَّر السَّلِسُ والمستحاضةُ حتى جُنَّ، أو حاضت بعد مضي قدر الطهارة والصلاة، فإنه تلزم تلك الفريضة على المذهب. فقد اعتبرنا وقت وجوبها لا وقت فعلها، إلا أن هذا لا يقع الفعل فيه إلا بعد انقضاء المانع الحادث. * * * [فصل فيما يفوت من المصالح] 316 - قوله في فصل ما يفوت من المصالح: (والنسيان غالب على الإنسان) (¬2). يقال فيه: ما ذكره من أن النسيان غالب على الإنسان، ممنوع، بل ¬
النسيان من الأعذار النادرة في نظر العلماء، كما صرّحوا به في تفريعات كثيرة. فمن نسي الماء في رحله وتيمم، فإنه يَقضِي، لأن النسيان نادر، أو لأنه مقصّر بالنسيان. ولو كان غالبًا لم يكن مقصّرًا. وفي بعض النسخ: (والنسيان غالبٌ للإنسان). 317 - قوله بعد ذلك فيما لا يقبل التدارك: (وإسكانِ (¬1) من يجب إسكانه من الزوجات والآباء والأمهات. . . (¬2) لا يقبل التدارك) (¬3). يقال فيه: ما ذكره من الإسكان صحيح، لأنه إمتاعٌ فيسقط بالفوات. 318 - قوله بعد ذلك: (وإن كان مما يقبل التدارك من حقوق الله تعالى أو حقوق عباده، كالصلاة والزكاة والديون ونفقات الزوجات، وجب تداركه على الفور إن كان واجبًا على الفور. وإن كان على التراخي فهو باقٍ على تراخيه) (¬4). ما ذكره في (الواجب على الفور) أنه يجب قضاؤه على الفور، محلُّه حيث كان عاصيًا بالفوات. ¬
[فصل في مناسبة العلل لأحكامها]
وما ذكره من أن (قضاء الواجب على التراخي) باقٍ على تراخيه، ينتقض بالحج إذا فسد بالجماع، فإنه قضاء يجب على الفور. * * * [فصل في مناسبة العلل لأحكامها] 319 - قوله في فصل في مناسبة العلل لأحكامها: (إذ كيف يناسِب خروجُ المنيّ من الفرج، أو إيلاجُ أحد الفرجَين في الآخر، أو خروجُ الحيض أو النفاس: لغسل جميع البدن. وكذلك لا مناسبة بين المسّ واللمس وخروجِ الخارج من أحد السبيلين: لإيجاب تطهير الأعضاء الأربعة مع العفو عن النجاسة محل الخروج. ولا للمسح على العمائم والعصائب والجبائر والخِفاف. وكذلك لا مناسبة لأسباب الحدث الأصغر والأكبر: لإيجاب مسح الوجه واليدين بالتراب، بل ذلك تعبدٌ من رب الأرباب ومالك الرقاب) (¬1). يقال فيه: خروج المني مناسب لغَسل جميع البدن، وكان القياس في الحدث الأصغر، تعميمَ كل البدن، بناء على أن الحدث عمّ جميع البدن، فلما خُفِّف إلى غَسل الأعضاء الأربعة، كان فيها مناسبة من جهة أن للبدن أعالي وأسافل وأواسط، فوجب شيء من أعلاه وهو (الوجه والرأس)، وشيء من أسفلَ وهو (الرِّجلين)، وشيء من أوسطه وهو (اليدين) (¬2). ¬
[فصل فيما يتدارك إذا فات بعذر]
وقد تقدم الكلام في المسح على العمائم ونحوها، من أنها نُزّلت منزلة مُبدلاتها. وفي اختصاص مسح الوجه واليدين بالتراب مناسبة، من جهة أن الرِّجلين ملازمان للتراب غالبا -والرأس مستور عنه- فلا يناسب مسحهما بالتراب إذا كان يتراكم عليهما فتجتمع الأوساخ، بخلاف الوجه واليدين. * * * [فصل فيما يُتدارك إذا فات بعذر] 320 - قوله بعد ذلك في فصل ما يُتدارك إذا فات: (الضابط أن اختلال الشرائط والأركان إذا وقع لضرورة أو حاجة، فإن لم يختص وجوبه بالصلاة، كـ (السَّتر)، فإنْ كان في قوم يعمّهم العُري، فلا قضاء عليه لِما فيه من المشقة) (¬1). يقال فيه: إنما ذَكر (الأركان) توطئة لقوله بعدُ: (فإنْ أمرناه باتمام الركوع والسجود ولم يَقضِ على الأصح) إلى آخره (¬2). وإلا فاختلال الركن مُبطل موجب للقضاء. وما ذكره في (الستر) من أنه إن كان في قوم يعمّهم العري، فلا قضاء، طريقةٌ. 321 - قوله في الفصل المذكور: (وقال أهل الظاهر وبعض العلماء: مَن تعمَّد ترك الصلاة أو الصيام، لم يلزمه القضاء، لأن القضاء وَرَدَ في ¬
الناسي والنائم، وهما معذوران، وليس المتعمد في معنى المعذور. ولِما قالوه، وجهٌ حسن)، إلى آخره (¬1). يقال عليه: ما ذكره عن أهل الظاهر وغيرهم وقوله (¬2)، يلزم عليه: أنه إذا أَفسَد الحج عمدًا بالجماع، لا يقضيه؛ هو خلاف الإجماع (¬3). ويَرِد عليه أيضًا، ما رواه أَبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (من ذَرَعه القيءُ فلا قضاء عليه، ومن استقاء عامدًا فلْيَقضِ). رواه أَبو داود وغيره بإسناد صحيح (¬4). ¬
وقول الشيخ في تقرير القول المذكور (¬1): (أن الصلاة ليست عقوبة من العقوبات حتى يقال: إذا وجبت على المعذور، فوجوبها على هذا (¬2) أولى، لأن الصلاة إكرام من الله تعالى للعبيد)، إلى قوله: (فلا يستقيم مع هذا أن يقال: إذا أُكرم المعذور بالمجالسة والتقريب، كان العاصي الذي لا عذر له أولى بالإكرام والتقريب!) (¬3). يقال عليه: ليس هذا من باب الإكرام للمتعمِّد التركَ (¬4)، بل هذا من باب استيفاء ما في ذمته من العبادة، وهو مَلُومٌ بالترك. ونظيره: إيجاب جزاء الصيد على المتعمِّد مع قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95]، وقد تقدم نظير هذا في الكفارات. * * * ¬
[فصل في بيان تخفيفات الشرع]
[فصل في بيان تخفيفات الشرع] 322 - قوله أول الفصل المعقود لبيان تخفيفات الشرع: (وهي أنواع، منها: (تخفيف الإسقاط) كإسقاط الجُمعات والصوم والحج والعمرة بأعذار معروفات) (¬1). يقال فيه: إسقاط الجُمعات والصوم ممكن. وأما إسقاط الحج والعمرة بالعذر فلا يتصور. فإن أريد بالعذر: (عدم الاستطاعة ونحوها) فلا وجوب، حتى يقال بالسقوط. فليتأمل! * * * [فصل في المشاقّ الموجبة للتخفيفات الشرعية] 323 - قوله في الفصل المعقود للمشاقّ الموجبة للتخفيفات الشرعية: (المشاقّ ضربان: أحدهما: مشقة لا تنفك العبادة عنها، كمشقة الوضوء والغسل في شدة السَّبَرات) (¬2). يُنبّه فيه على أن (السَّبَرات) بفتح السين المهملة والباء الموحّدة، هي جمع (سَبْرة) بفتحٍ وسكون الباء، مثل (تَمْرة، وتَمَرات). والسَّبْرة: شدة البرد (¬3). ¬
ومقصود الشيخ اتباع لفظ الحديث، فإنه ورد في الحديث ذكرُ (إسباغ الوضوء في السَّبَرات) (¬1). 324 - قوله فيه أيضًا في أثناء النوع الثالث: مشاقّ واقعة بين هاتين المشقتين، أعني: المشقة العظيمة التي مثَّلَها بالخوف على النفوس والأطراف؛ والمشقة الخفيفة التي مَثَّلها بأدنى وجع في أصبع: (وقد تتوسّط مشاقُّ بين الرتبتين بحيث لا تدنُو من إحداهما، فقد يُتوقف فيها، وقد يُرجح بعضها بأمر خارج عنها، وذلك كابتلاع الريق في الصوم، وابتلاع غبار الطريق)، إلى آخره (¬2). يقال فيه: الذي يظهر أن ابتلاع الريق من المشاق التي لا تنفك العبادة عنها. 325 - قوله بعد ذلك: (ولا تختص المشاق بالعبادات، بل تجري في المعاملات، مثاله: الغرر في البيوع، وهو أيضًا ثلاثة أقسام: أحدها: يعسُر اجتنابه، كبيع الفستق والبُندق والرمان والبطيخ في قشوره، فيُعفى عنه. القسم الثاني: ما لا يعسر اجتنابه، فلا يُعفى عنه. القسم الثالث: ما يقع بين الرتبتين، وفيه اختلاف)، إلى آخره (¬3). يقال فيه: أَهمَل قسمًا رابعًا، وهو ما يتعذر اجتنابه، كرؤية أُسّ الجدار ¬
وأصل الشجرة وما جرى مجراهما، فيُعفى عنه قطعًا، ولكنه يوجد العفو عنه -من العفو عما يعسر اجتنابه- من باب أولى. 326 - قوله: (فأما الصلاة، فيَنتَقل فيها القائم إلى القعود، بالمرض الذي يشوِّش عليه)، إلى قوله: (واشتُرط في الانتقال من القعود إلى الاضطجاع، عذرٌ أشقُّ من عذر الانتقال من القيام إلى القعود، لأن الاضطجاع منافٍ لتعظيم العبادات ولاسيما والمصلّي مناجٍ لربه، وقد قال سبحانه وتعالى: "أنا جليس من ذكرني" (¬1). يقال عليه: ما ذكره من أنه يشترط في الانتقال من القعود إلى الاضطجاع، عذرٌ أشقُّ من عذر الانتقال من القيام إلى القعود، ممنوع، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفرِّق بين الاستطاعتين في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبٍ) (¬2). فمن عجَز عن القعود لصداعٍ برأسه، لا يشترط أن يكون ذلك في حقه أشقَّ من كَسْر الرِّجل المانعِ من القيام، بل لو كان الصداع المانعُ من القعود أخفَّ من كَسْر الرِّجل المانعِ من القيام، جاز له أن يَنتقل إلى الاضطجاع. ¬
وقوله: (لأن الاضطجاع منافٍ لتعظيم العبادات). قلت: لكنه بإذن الشرع ليس بمنافٍ. قوله: (وقد قال الله سبحانه وتعالى: (أنا جليس من ذكرني). قلنا: وقد قال الله سبحانه وتعالى يمدح عباده: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191]. ولولا الإذنُ لَمَا كان لنا أن نفعل ذلك. وكذلك نداءُ الملك العظيم من الآدميّين باسمه، منافٍ للتعظيم عادةً. ولمّا أَذن الله سبحانه وتعالى لعباده أن ينادُوه ويدعُوه باسمه في قوله: (يا الله)، كان لهم ذلك، ولو لم يَأذن فيه سبحان وتعالى اجتَرَأ أحدٌ على ذلك. 327 - قوله بعد ذلك: (وأما الصوم فالأعذار فيه خفيفة، كالسفر، والمرض الذي يشُقّ الصوم معه كمشقة الصوم على المسافر) (¬1). يقال عليه: مفسدة (¬2) المرض بأن يشُقّ الصوم معه كمشقة الصوم على المسافر: ما بَيَّن (¬3)؛ لكن على ما سيذكره في ضوابط مشاقّ العبادات، من أنّ مشقة كل عبادة تُضبط بأدنى المشاق المعتبرة في تلك العبادة. وسيأتي ما فيه. ¬
ثم إنه لا يعتبر في الفطر بالسفر وجودُ المشقة، حتى يعتبر المرض (¬1) بها، ولكن السفر لمّا كان مظِنةً لمشقةٍ، طُرد الباب فيه طردًا واحدًا. والأصح في المرض المبيح للفطر ما ذكره الأصحاب في المرض المبيح للتيمم. 328 - قوله بعد ذلك: (ويدل على إباحة التيمم): يريد: التيمم في صورٍ ذكرها، وهي أن يقال: (الشَّين إذا كان في عضوٍ باطنٍ لم يكن عذرًا، وإن كان في ظاهرٍ ففيه خلاف. والمختار الإباحة بهذه الأعذار، فنقول: جَوّز الشافعي - رضي الله عنه - فيها التيمم بمشاق خفيفة دون هذه المشاق، أحدها (¬2): إذا بيع الماء منه بأكثر من ثمن المثل، بشيء حقيرٍ يسيرٍ، فإنه لا يلزمه شراؤه. ولا شك أن ضرر الغَبْن بدانقٍ دون ضرر المشقة بظهور الشَّين وإبطاء البُرء وشدة الضَّنَى) (¬3). يقال عليه: لما كان ضرر الغَبْن بدانقٍ يعم المكلفين، اعتُبر كون غيره: من المشاق الخاصة، كظهور الشَّين؛ لأن الشارع إنما يخاطب العموم بالأمر الذي لا يشُقّ أصلًا، لعموم ضرره لو وقع. وكذا القول في باقي الصور. ¬
329 - قوله بعد ذلك: (ونظير هذا التشديد (¬1) ما ذكره الشافعي ومالك في أن التحلل من الحج مختص بحصر العدوّ، وقد خُولفا في ذلك، لأن الآية دالة على جواز الخروج من الحج بالأعذار) (¬2). يقال فيه: لقائلٍ أن يقول محتجًا لمالك والشافعي رحمهما الله تعالى: أن الآية نزلت في حصر الأعداء، والأصل بقاء العبادة: على (¬3) أنه لا يجوز الخروج منها. وجوازُ التحلل بحصر الأعذار (¬4) يحتاج إلى دليل. وليس هذا من باب قصر العامّ على سببه، بل من باب الاحتياط للعبادات. 330 - قوله بعد ذلك: (فإن قيل: إن قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 96] الآية، نزلت في الحديبية، ولم يكن إحصارَ عذرٍ، وإنما كان إحصارَ عدوٍّ. قلنا: إذا دلّت على إحصار العذر كانت دلالتها على إحصار الأعداء أولى، ¬
فنزلت لتدلّ على إحصار العذر بمنطوقها، وعلى إحصار العدو بمفهومها، فتناولت الأمرين جميعًا) (¬1). يقال عليه: محل ما ذكره، إذا قلنا: إن الإحصار موضوع لحصر الأعذار. أما إذا قلنا: إنه موضوع لحصر الأعذار وحصر الأعداء، فالآية دالة على إحصار العدوّ بمنطوقها، وهذا أرجح، لأن الحصر بالأعداء محلّ السبب، فلا بدّ أن تتناوله الآية بمنطوقها، إذ محلُّ السبب داخلٌ اتفاقًا. 331 - قوله بعد ذلك: (والذي ذَكَر مالك والشافعي، لا نظير له في الشريعة السمحة، الذي (¬2) قال الله تعالى فيها: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬3) [الحج: 78]). يقال عليه: لو كان الحصر بالأعذار معتبرًا، لَما قال - صلى الله عليه وسلم - لضُباعة: (واشترطي أن مَحِلّي حيث حبَستَني) (¬4)، إذ لو كان معتبرًا ما احتيج إلى اشتراطه. ¬
فإن قيل: فائدة اشتراطه عدم وجوب الهدي. قلنا: لو كان كذلك، لبَيَّنه - صلى الله عليه وسلم -. فإن قيل: الآية دلّت على وجوب الهدي على المُحصَر، فلم يُحتج إلى بيان. قلنا: ليس في الآية ولا في الحديث ما يدل على سقوط الهدي بالشرط. 332 - قوله بعد ذلك في ضبط الطلب في التيمم: (قالوا: بل يطلبه من مكانٍ لو استغاث منه برفقته، لَأَغاثُوه، مع ما هم عليه من أشغالهم) (¬1). يقال فيه: هذا طريق الإمام، والغزالي، وهي خلاف نصه في البويطي. 333 - قوله بعد ذلك: (والأولى في ضوابط مشاقّ العبادات، أن تُضبط مشقة كل عبادة بأدنى المشاق المعتبرة في تلك العبادة، فإن كانت مثلَها أو أزيدَ، ثبتت الرخصة بينهما، ولن يُعلم التماثل إلا بالزيادة، إذ ليس في قدرة البشر، الوقوفُ على تساوي المشاق)، إلى أن قال: (مثال ذلك: أن التأذي بالقمل مبيحٌ للحلق في حق الناسك، فينبغي أن يُعتبر تأذّيه بالأمراض بمثل مشقة القمل) (¬2). يقال فيه: حاصل ما ذكره، أنه إذا كان هناك مشقةٌ معتبرة بنصٍّ من الشارع، فيُعتبر غيرها من المشاقّ بها؛ فإن ساواها أو زاد عليها، اعتُبر، وإن كان دونها فلا. وردّه شيخنا - رضي الله عنه - بأن ظاهر الآية يقتضي اعتبار مطلق الأذى لا بقيد كونه مثل أذى القَمْل؛ فلو كان دونه اعتُبر، لظاهر الآية. ¬
334 - قوله بعد ذلك: (ومنها التأذي بالرياح الباردة في الليلة المُظلمة) (¬1). يقال فيه: قيد (المُظلمة) غير معتبر، ولا فرق بين الظُّلمة وغيرها فيما ذكره. 335 - قوله بعد ذلك: (ولا يُنهَى الحاكمُ الغضبانُ عن الحكم بما هو معلوم له، إذ لا حاجة به إلى النظر فيه. مثاله: أن يدّعي إنسان على إنسان بدرهم معلوم، فينكره، فلا يُكره للحاكم الحكمُ بينهما مع غضبه، إذ لا يحتاج الحاكم في هذه المسألة إلى نظر واعتبار) (¬2). قال شيخنا (¬3): فيما ذكره الشيخ نظر، والأقرب كراهة الحكم في حال الغضب مطلقًا، لأنه قد يؤدّيه الغضب فيما هو معلوم له، أن يَحكم على غير المحكوم عليه. والشيخ أَخَذ في ذلك النظر الاجتهادي فقال ما قال. ونحن نقول: المعتبر كون الغضب مظِنة لعدم الضبط مطلقًا. 336 - قوله بعد ذلك: (لو أَسلَم في شيء وَصَفه بصفات، لكل واحدٍ منها (¬4) رُتبٌ عالية ورُتبٌ دانية ومتوسطة، فإنه يُحمل على أدناهن. فهلّا قلتم بالحمل ها هنا على أدنى رُتب المشاقّ لعُسر ضبط رُتب المشاق الزائدة على أدناهنّ. ¬
[فصل في الاحتياط لجلب المصالح]
قلنا: لا يجوز تفويت مصالح العبادات مع عظمها وشرفها بمثل هذه المشاق مع خفّتها) (¬1). يقال عليه: الأولى أن يقال في الجواب: التكاليف في أنفسها شاقّة، لاشتقاقها من الكلفة، فلو اعتُبرتْ أدنى المشاق، تعطّلت التكاليف. . . (¬2) يعكر على الأصل بالبطلان. * * * [فصل في الاحتياط لجلب المصالح] 337 - قوله في فصل في الاحتياط لجلب المصالح: (وإن شَكَّ، أَطَلَّق واحدةً أو اثنتين، فإن أراد إبقاء النكاح مع الورع، فيُطلِّق طلقةً على نفي الطلقة الثانية (¬3)، بأن يقول: إن لم [أكن] طلّقتها (¬4) فهي طالق، حتى لا تقع عليه طلقتان) (¬5). ما ذكره الشيخ لا يتعيّن طريقًا في بقاء النكاح مع الورع، لأن له طريقًا آخر، وهو أن يُراجع. فإن قيل: فائدة ما ذكره الشيخ، في المحلِّل. قلنا: ولا يتعين ذلك، لأن له حينئذ أن يطلِّق بكلمة الثلاث. 338 - قوله بعد ذلك: (وللاحتياط لتحصيل مصلحة الواجب أمثلة: ¬
أحدها: أن من نسي صلاةً من خمسٍ لا يَعرف عينَها، فإنه يلزمه البناء على اليقين احتياطًا لتحصيل مصلحة الواجب) (¬1)، إلى غير ذلك من الأمثلة. يقال عليه: ما ذكره من الأمثلة، فيه نظر؛ لأنه ليس له إلا جهة واحدة وهو الإيجاب. وما دارت فيه المصلحة بين الإيجاب والندب، وليس له جهة إلا الإيجاب، إلا ما سننبّه عليه (¬2). 339 - قوله بعد ذلك: (وكذلك لو تعارضت شهادتان في كفر الميت وإسلامه، فإنا نغسله ونكفّنه) (¬3). ¬
يقال عليه: هذا مطابق للقاعدة التي ذكرها، فإن المصلحة فيه دائرةٌ بين الإيجاب والندب. 340 - قوله بعد ذلك في المثال الخامس: (أن من لزمتْه زكاةٌ من زكاتَيْن لا يَعرف عينَها، مثل أن لزمتْه زكاةٌ لا يدري، أبقرةٌ هي، أمْ بعيرٌ، أمْ دينارٌ، أمْ درهمٌ، أمْ حنطةٌ، أمْ شعيرٌ؛ فإنه يأتي بالزكاتين ليَخرج عما وجب عليه. وفي هذا نظر، فإن الأصل عدم كل واحدة منهما، بخلاف نسيان صلاةٍ من خمسٍ، فإن الأصل في كل واحدة منهن الوجوب) (¬1). يقال عليه: ما استشكله الشيخ من وجوب الزكاتين، إن كانت صورة المسألة: أن يكون عنده نصابان من الصنفين، أَخرَج عن أحدهما ثم نسي عينَه، فهي مسألة (صلاةٍ من خمسٍ)، لأن الأصل في كل واحدةٍ من الزكاتين، الوجوبُ. وإن كانت الصورة: أن عنده نصاب (¬2) من صنفٍ وجبت فيه الزكاة، ثم تلف بعد التمكن، ولم يَعلم أكان حنطةً أم شعيرًا مثلًا، فإنه يلزمه الزكاتان، لأنه لا طريق إلى براءة ذمته إلا بذلك. وهذا كمن نسي صلاةً من خمسٍ جُنّ في ثلاثٍ منها، أو حاضت فيها (¬3)، ولم يعلم عين الصلوات التي وقع فيها الجنون أو الحيض، من غيرها؛ فإنه يلزمه الخمسُ وإن كان الأصل عدمَ الوجوب في صلوات منها، لأنه لا طريق إلى براءة الذمة إلا بذلك. 341 - قوله في المثال السابع: (إذا شَكَّت المرأة، هل الواجب عليها ¬
عدّةُ وفاةٍ أو عدّةُ طلاق، فإنه يلزمها الإتيان بالعدّتين لتخرُج عما عليها بيقين) (¬1). يقال عليه: صوابه: يلزمها الإتيان بأطول العدّتين، يعني: إنْ كانت عدّةُ الوفاة أطولَ من عدّة الطلاق فهي الواجبة، هالا فالأقراء هي الواجبة. والصورة أنه ليس هناك حملٌ. 342 - قوله في المثال الثامن: (إذا مات زوج الأَمة وسيدها، وشَكَّتْ في السابق منهما، فإنه يلزمها الاستبراء وعدّة الوفاة، لتبرأ بيقين (¬2). يقال عليه: مسألة (ما إذا مات زوج الأمة وسيدها)، طويلة الذيل. وصورتها: أن يكون بين المدّتين أكثر من شهرين وخمس ليالٍ، أو حصل التحلل. والشيخ أحال الكلام على موضعها، فليُنظر منه. 343 - (. . . (¬3)). ما ذكره من قضاء يومين بستة أيام: كذا ذكره الأصحاب أو أكثرهم. ¬
واستدرك عليهم الدارمي (¬1)، بما أشار إليه صاحب (الروضة) وبيّنه في (شرح المهذب) (¬2)، بأنه يمكن قضاء يومين فصاعدًا، إلى آخر السابع بزيادة يوم واحد على الضِّعف. وضابطه أن تَعرف ما عليها من صومٍ، فتصوم يومًا وتفطر يومًا إلى أن تستوفيه، ثم تترك الصوم ثمانية عشر يومًا من أول صيامها، فتصوم يومًا وتفطر يومًا قدر ما صامت وأفطرت من أول المدّة، وتصوم يومًا آخر فيما بين آخِر فطرها بعد صيامها الأول والسادس عشر منه، وإذا كان عليها يومًا (¬3) فتأتي بخمسة. وأقل مدة يحصل فيها هذه الخمسةُ، تسعة عشر يومًا، وليس هذا موضع بسطه. وقد ذَكَر هذا صاحب (الحاوي الصغير) (¬4) أيضًا. وجواب ما ذكره الشيخ من الإشكال (¬5)، أن العادة إنما لم يُنظر لغالبها ¬
في حق المتحيرة، لجواز أن يكون حيضُها جاوز بخلاف العادات لها، لتبرَأ ذمتُها بيقين، والحمل على غالب العادات لا يُحتمل به ذلك. (. . .) (¬1). 344 - قوله: (درءًا لمفسدة أخذ الزائد بالأصلي) (¬2). ولك أن تُؤوِّل كلام الشيخ على التقابل، أي: دفعًا لتقابل الزائد بالأصلي. 345 - (. . . (¬3)). ¬
إنما يحسن هذا الجواب: أن لو كانت الأركان وسائر الشرائط معتبرةً مع فقدان ذلك الشرط، كما في فاقد الماء والتراب وفاقد السترة، ومن لا يتمكن من القبلة ولا من الركوع ولا من السجود. أما إذا كانت الأركان وسائر الشرائط لا يُعتبر شيء منها مع فقدان ذلك الشرط، كما في الطُّهر من الحيضة، فلا يحسن ذلك. والأحسن في الجواب أن يقال: إنما قدّمنا الاحتياط، لتحصيل مصلحة العبادة، والشكُّ في الشرط لا ينافي ما ذكرناه من الاحتياط. وأما درء مفسدة الحيض فلا يمكن إعمالها بالنسبة إلى العبادات، وإنما يُعمل بها في الوَطْي ونحوه، إذ لا يتعلق بالذمة، بخلاف العبادة. فإن قيل: العبادة لَمْ يتحقق وجوبها؟ قلنا: ولَمْ يتحقق سقوطها، فاحتطنا لذلك. 346 - (. . . (¬1)). ما ذكره في غير الأزواج مسلَّم. وما ذكره في الأزواج ¬
[فصل فيما يقتضيه النهي من الفساد]
والزوجات، ممنوع، فإن الأزواج والزوجات بينهما عذرًا (¬1) فيُتوقف، ويُدفع ما عداه إذا ثبت الانحصار بالنسبة إلى غير الزوجين. * * * [فصل فيما يقتضيه النهي من الفساد] 347 - قوله في فصل ما يقتضيه النهي من الفساد: (المثال الثاني: الصلاة في الدار المغصوبة، ليس النهي عنها لعينها، وإنما المراد بالنهي ما اقترن بها من الغصب، فالنهي يتعلق بالصلاة من جهة اللفظ، وبالغصب من جهة المعنى) (¬2). قال (¬3) - رضي الله عنه -: حاصل كلامه أنه: يُنهَى عن الشيء، والمراد: النهي عن غيره لقيام المعنى. * * * [فصل في بناء جلب المصالح ودرء المفاسد على الظنون] 348 - قوله في فصل في بناء جلب المصالح ودرء المفاسد على الظنون: (فإن الاستبراء بقُرءٍ واحدٍ) (¬4). فيه تجوّزٌ، وصوابه: فإن الاستبراء بحيضة. ¬
349 - قوله: (بخلاف فوات حقٍّ واحدٍ على شخصٍ واحدٍ في المحاكمات) (¬1). يقال: توقّع تكرره في كل واحد، يؤدي إلى كثرته وعمومه. 350 - قوله: (وقد يُشترط رؤية الفعل والفاعل) (¬2). يقال فيه: إنما تُشترط في الزنى رؤيةُ فرجه، لا رؤية كله. 351 - (. . . (¬3)). يقال فيه: اختار شيخنا جريان الخلاف مطلقًا، سواء كان مستندُ علمه خبرَ التواتر أم لا، طردًا للباب، إلا إذا كان المتواتر لا ينكره أحد وحصل تعليقٌ عليه (¬4)، كـ (إن كانت بغدادُ موجودةً، فزوجتي طالق أو فعبدي حرّ)، واتصل التعليق بالقاضي، فإنه حينئذ يَحكم بطلاق الزوجة وعتق العبد، وإن لم يَرَ (بغداد). ¬
352 - قوله بعد ذلك: (ومن الأمثلة: ما يُشترط فيه العلم تارة والظن أخرى: فكأداء الشهادة على من لا يُعرف إلا بعينه، وكتحديد العقار ببلدِهِ ومكانِه، وغير ذلك) (¬1). يقال فيه: ما ذكره الشيخ من هذه الأمثلة، فيه نظر، والأقربُ أنه لا يشترط العلم، وأنه يكفي غلبةُ الظن، إذ العلمُ الذي هو الاعتقاد الجازم، بعيدٌ. 353 - قوله: (وكالشهادة بالعُسرة، فإنها شهادة بنفي الغِنَى، ولا مستند له إلا الظن، وكذلك الشهادة بالتعديل، فإنها مبنية على النفي والإثبات) (¬2). يقال فيه: الوجه الصائر إلى أنه لا بدّ في شهادة الإعسار من ثلاثة -كما هو ظاهر الحديث (¬3) -، طرده شيخنا - رضي الله عنه - في كل ما كان كالإعسار مما يَخفَى، كالتعديل ونحوه. قال: وبه صرَّح الفُوراني (¬4) في التعديل. ¬
ومن نَصَر المذهب، أجاب بأن الحديث محمولٌ على الاستظهار استحبابًا، بالقياس على الأموال، لأن القياس يعيِّن أحد المحملَيْن. 354 - قوله في المثال الثالث منه: (ما يصلَّى عليه وفيه (¬1): لو شُرط فيه يقين الطهارة، لفاتت المصالح التي لأجلها وجبت الطهارة) (¬2). يقال عليه: الأحسن في هذا المثال الثالث، أن يقال: ما يصلَّى عليه [وفيه] (¬3): لو شُرط يقين الطهارة، لشَقَّ ذلك، لأن يقين الطهارة ممكن بالغَسل في ماء كثير، ومثل ذلك لا يؤدّي إلى فوات المصالح التي لألجها وجبت الطهارة. 355 - قوله بعد ذلك في المثال السابع: (حقوق الأموات المختصة بأهل الإسلام، فإنا لا نقطع موت أحد منهم على الإسلام إلا في حق من لا يَعمل كالأطفال والمجانين) (¬4). يقال عليه: الأطفال والمجانين محكومٌ بإسلامهم تبعًا، وإذا كان لا يُقطع بإيمان المتبوع فلا يُقطع بإيمان التابع، فاستثناءُ الشيخ، (الأطفالَ والمجانين)، بعيد. 356 - قوله: (وكذلك لا يُقطع برُشد المدّعي والمنكرين) (¬5). ¬
يقتضي أنه يُشترط في كلٍّ من المدّعي والمنكر، كونه رشيدًا. وهي طريقة القاضي حسين (¬1) نقلها عنه ابن الرِّفعة (¬2) وجرى عليها الشيخ في (التنبيه) (¬3) والأصح المجزوم به في (الشرحين) و (الروضة) خلافُه (¬4). فلن تصح دعوى السفيه، فإذا آَل الأمر إلى قبض مالٍ، قبضه الولي. وأنكر شيخنا (¬5) ما ذُكر عن القاضي (¬6) وقال: ما ذكره الشيخ (¬7) في ¬
(التنبيه) من قوله: (لا يصح الدعوى إلا من مطلق التصرف فيما يدّعيه)، لا يستقيم (¬1) من وجوه: أحدها: أن العبد يدّعي على سيده العتق، ولا تصرف له فيه. فإن قيل: العتق، يُشهد فيه بالحسبة، وما شُهد فيه بالحسبة لا تُسمع فيه دعوى الحسبة عند القفال (¬2) خلافًا للقاضي حسين؟. قلنا: محل خلاف القفال وفتواه: ما إذا كان هنا أيُّ بينة تشهد، فإن شهادتها مُغنيةٌ عن سماع الدعوى. فأما إن لم يكن هناك بينة فإنه تُسمع ¬
الدعوى بلا خلاف. وحينئذ فالعبد يدّعي العتق ولا يتصرف فيه. فقد سُمعت الدعوى من غير مطلق التصرف فيما يدّعيه. الوجه الثاني: الزوجة تدّعي النكاح على زوجها، وليست مُطلَقَة التصرف فيما تدّعيه؛ لأنها إن كانت مُجبَرةً، فالعقد عليها يتولّاه المُجبَر بغير إذنها. وإن كانت غيرَ مُجبَرة، فالعقد عليها يتولاه غير الولي بإذنها المعتبر. وعلى كلٍّ من الحالين، فهي غير مُطْلَقَة التصرف في النكاح، وقد سُمعت دعواها مع اقترانها بحق من حقوق النكاح قطعًا، وكذا إن تمحّضت دعوى الزوجية على الأصح. الوجه الثالث: الوكيل بمجرد الدعوى: ليس مطلَقَ التصرف فيما يدّعيه، وتُسمع دعواه اتفاقًا. الوجه الرابع: دعوى المحجور عليه بالفلَس: لا يملك التصرف فيما يدّعيه، وتصح دعواه بلا خلاف. الوجه الخامس: دعوى المستولدة: الاستيلادَ؛ والعبدِ: التدبيرَ، مسموعةٌ على السيد على المذهب. وليسا بمطلَقَيْ التصرف فيما يدّعيانه. الوجه السادس: دعوى النسب صحيحة بالاتفاق، وليس للمدّعي به مطلق التصرف فيما يدّعيه. فإن قيل: تصرُّفه: أنّ له أنْ يستلحقه. قلنا: لا تصرف في ذلك، لأن التصرف: ما يملكه ويملك تركَه، والاستلحاق واجب عليه عند ظهور مقتضيه، فليس من التصرف المملوك المخيَّر فيه. وظهر بذلك أن هذه العبارة التي وقعت في (التنبيه)، لا يستقيم أمرها، ولا يُعمل بمقتضاها. وإذا كانت كذلك فلا يؤخذ منها (بطلان دعوى السفيه)، لأنه لا يُدرَى
ما المراد بها. ولم يذكرها الشيخ (¬1) في (المهذّب)، ولا أحد من الأصحاب، وليس لها مخرج تصح به. ولم يذكر الشافعي - رضي الله عنه -، ولا أحد من الأصحاب، اشتراطَ رُشد المدّعي. فقد نص الشافعي في كتبه كلها على نصوص كثيرة في الدعاوى، ليس في شيء منها إخراجُ السفيه من الدعوى، وكذلك جرى عليه الأصحاب. وقد أجمع العلماء القائلون بالقضاء باليمين المردودة، واليمين مع الشاهد، على أنه يحلف عند نكولى المدَّعى عليه، وعلى أنه يحلف مع شاهد. فثبت بذلك أن الحالف -وكُلُّ من صح حلفُه-، صحت دعواه، كالرشيد. فإن قيل: الرشيد يصح قبضه فصحت دعواه، والسفيه لا يصح قبضه فلا تصح دعواه. قلنا: هذا كلام فاسد، لأن السفيه يصح قبضه بإذن الولي، ولئن قلنا: لا يصح قبضه، فالولي يَقبض له. فإن قيل: فكيف يكون غيرَ القابض؟ (¬2) قلنا: الوكيل في الدعوى وإثبات الحق، لا يستوفيه. فيكون هو المدّعي (¬3)، والوكيل هو القابض، أو من يأذن له الموكِّل في الاستيفاء (¬4). ¬
ونحن نقول في مقابلة هذا: كيف يكون المدّعي، غيرَ الحالف (¬1)؟ فإن قيل: لاختلاف المُدرَك. قلنا: وكذلك يكون المدّعي غيرَ القابض، لاختلاف المُدرَك. انتهى. 357 - قوله: (وما ذكرتموه من إجماع المسلمين على جواز معاملة المجهولِين، وقبول هداياهم، وأكل ضيافاتهم، وأَخْذ صدقاتهم، وتنفيذ إعتاقهم، مع أن الغالب على الناس فسادُ الدين: مشكل على الشافعي رحمه الله. قلت: الجواب عن هذا عَسِرٌ، والآيةُ لا تدل على مذهب الشافعي، فإن قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] لا دلالة فيه على أن المراد بالرشد: إصلاح المال والدِّين) (¬2). يقال عليه: لا عُسر في الجواب بفضل الله؛ لأن الحَجْر المُثبَت على شخصٍ معيّن، لا يرتفع إلا بظهور الطريق التي ترفعه، لأن الحكم له أو عليه يقتضي ذلك. وأما ما استند إليه من إجماع المسلمين على الوجه الذي ذكره، فلا يُستشكل به ذلك، لأن هذا ليس فيه حكمٌ على معيّن، وإنما فيه إجراءُ الأمور على مقتضى الظاهر. وسدادُ التصرف وإن كان له أسباب قبل إبرامه يخفى، فإن من ذَكَر تجوَّز أن يكون تصرُّفُه صدر في حياة أبيه الذي هو وليٌّ عليه، وأقرّه الأب على ذلك، وهذا مقتضى مفاسد الحَجْر (¬3). ¬
ويحتمل أن يكون ذلك المُعامَل مات أبوه قبل بلوغه واتصل حاله (¬1) بمن رَشَّده. ويحتمل بقاء الحجر فيهما. فكان الاحتمال بذلك ضعيفًا لا يقاوِم الاحتمالين الأوَّلَين واستمرارَ التصرف. فلذلك جرى الناس على هذا الحكم للمعيَّن أو عليه، في الواقعة المعيّنة المقتضية لثبوت الحَجر، على المحتاجة إلى ارتفاع الحَجر. وأما الآية فوجه الاحتجاج بها، أن {رُشْدًا} نكرة في سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط، في نظر الشافعي، تعمّ، فلا يكون مطلقًا. فلذلك اعتَبر الشافعي (الصلاح في المال والدين)، لأنه مقتضى العموم. فإن قيل: إذا ادُّعِي على ظاهر التصرف من غير ثبوت رُشده، هل تُسمع الدعوى عليه فيما لا يُقبل إقرار السفيه به؟ قلنا: نعم، لظهور الحال وقوة الاحتمال. فإن قال: (أنا سفيه، وإنما وليِّي أعطاني هذا، ليختبرني)، فلا يُحكم عليه حتى ينكشف الحال. وأما تعجُّبُه مما قال الإمام (¬2) فهو بتأويلٍ يرجع إلى ما قال الناس، وذلك أن قوله: (إذا بلغ الصبي ولم يوجد منه ما يخالف الرشد)، يعني: بلغ رشيدًا ¬
إلا أنه بلغ ولم يظهر رشدٌ ولا سَفَهٌ. أو يؤوَّل قوله: (انفكّ الحَجر) (¬1) أي: حَجْرُ الصبي، وبقي حَجر غيره على الشك. 358 - قوله: (والذي أختاره، أن الصبي الحديث العهدَ بالبلوغ، لا ينفكّ حَجره، إلى أن ينتهي إلى حدٍّ يغلب فيه الرشد على الناس، وهذا ظاهر في رشد التصرفات. وأقصى ما يقال على الرشد في الدين: أن الظاهر من المسلمين إذا طالت أعمارهم أنهم لا يَخْلَون من وقتٍ يتوبون فيه إلى الله، ويُنيبون إليه، ولا سيما في وقت الشدائد والأمراض، وإذا صحّت توبتهم؛ خرجوا عن حيّز الفاسقين، وحصلوا على صلاح المال والدين) (¬2). ما اختاره الشيخ، لا يحصل به ضبط (الرشد) لاختلاف أحوال الناس فيه. ويقال له: ما استشكَلتَ به المذهبَ من إجماع المسلمين على جواز معاملة المجهولين، إلى آخره: مطلقٌ؛ أو مقيدٌ بانتهاء المجهولين إلى حدّ يغلب فيه الرشد على الناس؟ إن كان مطلقًا، فكيف اختار خلاف الإجماع؟ وإن كان مقيدًا بما ذَكر، فالواقع يردّه. وأيضًا، فقول الشيخ خارجٌ عن قول من اعتَبر خمسًا وعشرين سنةً، وعن قول (¬3) من اعتَبر الولادة في النساء. 359 - قوله في الاجتهاد في الأوقات: (ويشترك فيه الأعمى والبصير) (¬4). ¬
يزاد عليه فيه قولٌ: أنه يختص في البصير، نَصّ عليه الشافعي في (الأم). 360 - قوله في المثال التاسع عشر، في أثناء القسم الثامن: (وإذا اجتهد المجتهد فله أحوال: إحداها (¬1): أن يؤدّيه اجتهاده إلى العلم بمطلوبه)، إلى آخره (¬2). يقال فيه: الاجتهاد اصطلاحًا: عبارة عن النظر في الدليل، كما سنذكره بعدُ، وذلك غير مؤدٍّ إلى العلم قطعًا، إنما يكون مؤدّيًا إلى الظن، فلا يحسن في التقسيم أن يقال: (أحدها: أن يؤدّيه اجتهاده إلى العلم بمطلوبه)، إلا أن يريد: (الاجتهاد اللغوي) الذي هو بذل المجهود في طلب المقصود. وليس الكلام فيه، إنما الكلام في (الاجتهاد) الذي هو النظر في الدليل، وحينئذ (فالظفر بالنص أو الإجماع أو القياس الجليّ) (¬3)، لا يسمّى اجتهادًا، ومن ثَمّ يقولون: (لا إنكار في مسائل الاجتهاد) ونحو ذلك. وكذلك (الظفر بالطاهر من الأواني والثياب قطعًا) (¬4)، إن تُصوِّر: لا يسمى اجتهادًا. ¬
361 - قوله في القسم المذكور: (وكذلك الظفر بعين الكعبة، والظفرُ بجهتها بالدلالات القاطعة عليها من الكواكب وغيرها)، إلى آخره (¬1). يقال عليه: إن أراد: (معاينة عينها)، فهذا لا يسمى اجتهادًا، وإن أراد: (إصابة العين من بُعدٍ)، فالقطع بعيدٌ، لعدم الدليل القاطع. 362 - قوله بعد ذلك: (الحالة الثانية (¬2): أن يتبيّن للمجتهد، أنه أخطأ مطلوبَه، وله حالان: إحداهما (¬3) أن يتبيّن خطأَه (¬4) بالاجتهاد الظني: فإن كان في غير الأحكام، كالعبادات والمعاملات، فالورع: العملُ بالاجتهاد الثاني إن كان فيه احتياط للعبادات والمعاملات) (¬5). يقال عليه: مراده أن يتبيّن ظنًّا. ومراده بـ (الأحكام): (الأقضية). وكان الأولى، التعبيرُ (¬6) بـ (نحو ذلك)، لئلا يُلتبس. وقوله: (فالورع: العملُ بالاجتهاد الثاني إن كان فيه احتياط للعبادات والمعاملات): عسِرُ التصوير، لأنه إذا اجتَهد في (القبلة) مثلًا، وأدّاه اجتهاده إلى جهةٍ، فصلَّى إليها الظهر، ثم اجتهد ثانيًا، فتبيّن أنه أخطأ مطلوبَه، وقلنا: يعيد ¬
الظهر إلى الجهة الثانية، فلا يقال مِن هذا: إنه عمل بالثاني، لأن (¬1) الاجتهاد لا يُنقض -لو شكًّا (¬2) - بالاجتهاد. وإن كان المراد: أنه اجتهد، وأدّاه اجتهاده إلى جهةٍ عَلِمَه يصلّي (¬3) إليها حتى لا يَجتهد ثانيًا، وتغير اجتهاده، فلا يمكن أن يقال: يصلي الصلاة إلى الجهتين، ولا أن يعمل بالثاني. وليس العمل بالثاني حينئذ، احتياطٌ. ولعله احتَرز بقوله: (إن كان فيه احتياطٌ)، عما إذا تغير اجتهاده في الأواني. والكلام في أحكام الشرع فيه، معروف في موضعه. انتهى. 363 - قوله في الحالة الثانية (¬4)، في تيقن الخطأ: (وإن كان خطؤه في النجاسات، بأنْ تبيّن أنه اغتَسل أو توضأ بماء نجس، فإنه يلزمه الإعادة)، إلى آخره (¬5). يقال عليه: لا يُتصور جعلُه قسيمًا، بل هو قسم منها، أعني: (إزالة النجاسة) (¬6). ¬
أما ما يغيّر النجاسة فهي من الأحكام على طريقة؛ وإعلام بالحكم على طريقة. والكلام في ذلك معروف في كتب الأصول. 364 - قوله: (فإن أخطأ الجهة ففي الإعادة قولان)، إلى آخره (¬1). ما ذكره من مأخذ القولين، لا يظهر مأخذهما، أنه يؤمر مثله في القضاء أو بعذر؟. 365 - قوله: (وإن أخطأ في التقويم، بأن اطّلع على صفة نفيسة تقتضي زيادة كبيرةً، أو على صفة خسيسة تقتضي نقصًا كبيرًا من القيمة، بطل التقويم؛ لأن الخطا والعمد سِيّان في تفويت الأموال) (¬2). يقال عليه: ما ذكره من بطلان التقويم، محلُّه ما لم يكن هناك حكمُ قاضٍ به، فإن كان هناك حكمُ حاكمٍ، فإنه لا يَبطل قطعًا لِما فيه من نقض الاجتهاد بالاجتهاد. والأحسن أن يقال في تعليل البطلان: (لأنه لا عبرة بالظن البيّن خطؤه). 366 - قوله: (الحالة الثانية (¬3): أن يتحيّر في مياه الأواني، فإنْ أمكن أن يحصل من مجموعها قُلّتان، بأن يكون معه إناء يصبّ الجميع فيه، لزمه ذلك. ¬
وإن تعذّر ذلك، فمذهب الشافعي أنه يصبّ الجميع. وفي إلزامه بالصبّ إشكال) (¬1). يقال عليه: جواب هذا الإشكال، أنه مفقود في الأوانى، بخلاف ما إذا حال بينه وبين الماء سبُعٌ ونحو ذلك. فلذلك أُلزم بالصبّ في مسألة الأواني. 367 - قوله: (السابعة: إذا تحيّر الأسير في معرفة شهر رمضان، فهذا مشكل، إذ لا يمكن أن يصوم الدهرَ ليَخرُج عما عليه بيقين، لوجهين: أحدهما: ما في ذلك من المشقة القادحة. والثاني: تعذّرُ جزم النية في كل يوم يصومه) (¬2). يقال عليه: الظاهر في الأسير إذا تحيّر، أن يصبر إلى أن يَتَيقّن، ولو أدَّى ذلك إلى صبر سنةٍ، إلا في حق من لا يَعرف الليل من النهار كالمحبوس في مطمورة ونحوها، فإنه يصوم كيف اتّفق، ويَقضي. 368 - قوله: (فإن قيل: كيف صحّت صلاة المستحاضة وصومها مع عدم جزم النية، للتردّد في الوجوب)، إلى آخره (¬3). يقال عليه: عدم جزم النية في هذه المسألة وأنظارها، مغتفر للضرورة، وذلك هو الجواب عن مسألة المستحاضة وصومها. وما ذكره الشيخ في الجواب، من: (أيام الطهر أغلبُ من أيام الحيض) ¬
إلى آخره (¬1)، لا يدفع عدم الجزم بالنية، فلا يَرِد ما ذكره في الأسير من: أنّ أيام الفطر أغلبُ، لأن الضرورة مراعاةٌ في الجميع. 369 - وقوله: (ولا يستقيم هذا الجواب على أصل الشافعي - رضي الله عنه -)، إلى آخره (¬2). قد بُيّن جواب إشكاله قبلُ بأوراق، فليُراجَع. 370 - قوله: (إذا اشتبه عليه ماءٌ وبولٌ، فاجتهد فيهما، فإنْ أدّاه اجتهاده إلى اليقين، بَنَى عليه. وإنْ لم يُفِدْه إلا الظن، فالأصح أنه لا يَبني. والفرق بينه وبين الاجتهاد في المياه، أن الأصل في المياه: الطهارة)، إلى آخره (¬3). ينبغي أن يكون الأصح، أنه يبني عليه. وما ذكره من الفرق غيرُ متّجه، لأنه بعد ورود النجاسة على أحدهما، زال الأصل فيه، ولا فرق بين إناء نجس، وإناء متنجس. ¬
وقولهم: (من شروط الاجتهاد: أن يكون لكلٍّ منهما أصلٌ في التطهير): ممنوع، لِما ذكرناه. وما ذكرناه هو الأصح عند شيخنا. 371 - قوله بعد ذلك: (الضرب الثاني: في الدعوى النافية لثبوت الحق من أصله: وهي خبرٌ مجردٌ لا طلبَ فيها) (¬1). يقال عليه: محله ما لم يكن (¬2) الدعوى لطلب قطع النزاع على ما ذكره الماوردي. قلت: فخبرٌ مجرد، يلي (¬3) فيها طلب قطع النزاع. 372 - قوله: (الرابعة: أن ينكُل المدّعِي عن اليمين المردودة، فيَصرف الخصمين (¬4) لعدم الحجة، ويَمنعهما من الاختصام، لأن أحدهما كاذب، فيكون منعهما من باب النهي عن المنكر (¬5). ما ذكره فيما (أن يمتنع المدّعي من اليمين المردودة): محلّه ما إذا امتنع من الحلف، وكان حلِفُه يُثبِت له حقًّا يأخذه من المدّعَى عليه. فأما لو كان حلفُه يُسقِط عنه حقًّا للمدّعَى عليه، كما لو ادَّعَى على شخص ألفًا من ثمن مبيع، فقال: قد أَقبضتُه له، فأنكر البائع، فالقول قوله ¬
بيمينه في عدم القبض. فإنْ حَلَف: استَحقَّها؛ وإن نَكَل، وحَلَف المشتري، انقطعت الخصومة. وإن نَكَل المشتري أيضًا، وهو المدّعِي للقبض -والحالةُ كما ذكرنا- فقضية ما في (الشرح) و (الروضة) في (كتاب الشركة) (¬1) أن المذهب الصحيح: أن المشتري يُلزَم بالألف، وأن ابن القطان (¬2) حكى وجها بالمنع، لئلا يؤدي إلى القضاء بالنكول. قال الرافعي: والمذهب خلافه، فليس هذا حكمًا بالنكول، وإنما هو مؤاخذة له بإقراره بلزوم المال بالشِّرَى (¬3) ابتداء. وليس ذلك في مسألة الشريكين في العبد، يبيعه أحدُهما من الآخر، ثم يُجعل النزاع في قبض ثمنه. وعلى قياس ذلك، لو ادَّعَى عليه دَينًا، فقال: أَقبضتُه، أو أَبرَأَني منه، فأَنكَر ونَكَل عن اليمين، وردَّها على مدّعِي القضاء أو الإبراء، فنَكَل عن اليمين، أنه يطالَب بالدَّين. ويمكن أخذ ذلك مما ذكره صاحب (الروضة) في امتناع المدّعي من الحلف من جهة أنه إذا نَكَل عند ردّ اليمين عليه، لا يستفيد بذلك مقتضى دعواه، فلا تأخير ذلك (¬4)؛ لا يستفيد المشتري، ومدّعِي الإبراء ونحوُه به، ما ادّعاه من الأداء والإبراء، فيلزمه المال، وقد اتضح ذلك (... (¬5)). ¬
وكذلك لو كان حلفُه يُسقِط عنه حقًّا، إما للمدَّعَى عليه أو لله، كما لو وَلَدَتْ فطلَّقها، ثم ادّعت تقدم الطلاق، فقال: لا أدري، فإنه لا يُقنَع منه. فإن حَلَف أن الطلاق لم يتقدم (¬1)، انقطعت الخصومة. وإن نَكَل، حَلَفتْ هي، ولا عدّة عليها، فإن نَكَلتْ فعليها العدّة (¬2). وفي (الشرح) و (الروضة) في (كتاب العِدد): (قال الأصحاب: وليس ¬
هذا قضاء بالنكول، بل الأصل بقاء النكاح وآثاره، فيُعمل بهذا الأصل ما لم يظهر دافع). انتهى (¬1). ويحتمل أن يجري فيه الوجه الذي حكيناه عن ابن القطان في الفرع المذكور في (الشركة). ويحتمل الفرق: بأن (العدّة) حقٌّ لله تعالى، فلا يسقُط بنكولها. وهذا أظهر. 373 - قوله في توجيه القول الثاني من القولين في أن الحلف بعد النكول يُنزّل منزلة البيّنة أو الإقرار: (أنه يُنزّل منزلة الإقرار، فيكون مقصورًا على المتداعيَيْن) (¬2). يقال عليه: لا حاجة للتشبيه عليه في الإقرار، لأن الإقرار لا يكون إلا كذلك، وكان الأليق به أن يُذكر في القول الأول (وهو أنه يُنزّل منزلة البينة، والأصح أنها بينة قاصرة على الخصم)، كما سيذكره. 374 - قوله: (وإن عَلِم أو غلب على ظنه أنّ خصمه يحلف كاذبًا، فالذي أراه أنه يجب الحلف دفعًا لمفسدة كذب خصمه) (¬3). ¬
يقال عليه: لم يتعين ذلك طريقًا لدفع مفسدة خصمه، لاندفاعها بأن يَهَبه المال المدَّعَى به. وتوقّف شيخنا أولًا في (الحالة الثانية) (¬1)، ثم اختار أن كلام الإمام (¬2) على عمومه من أنّه (لا تجب اليمين قط). واستَدَلّ لذلك بأن الله تعالى جَعَل لكل من المتداعيَين أن يشهد أربع شهادات مع القطع بكذب أحدهما، فلو كانت اليمين تجب دفعا لمفسدة كذب الخصم، لَمَا أباح له القدوم في اللعان حيث لا ولدَ إذا علم أنها لا تَفضَح قومها، وتُقدِم على اللعان. وأوضح من هذا، جواز الاستسلام إذا قصده مسلمٌ بالقتل. فلو كان دفعُ مفسدة الخصم يجب، لَمَا جاز الاستسلام. ¬
فإن قيل: فيؤدّي ذلك إلى الوَطْي المحرّم في مسألة البُضع؟ قلنا: لم يتحقق ذلك، لأنه قد لا يَحلِف وينفذ بِرّ حلفه، فقد لا يَطَأ. وأيضًا، فإنا نقول: لو دعاها إلى فراشه، والحالة هذه، لكان عليها الهربُ، كما في حالة الطلاق الثلاث. 375 - قوله: (ولذلك يجب حفظ الوديعة من الظَّلَمة بالأيمان الحانثة) (¬1). يقال عليه: هذا ممنوع، لأنه لا يجب الدفع عن المال. وكذا لا تجب اليمين فيمن ادُّعي عليه قتلٌ أو قطعٌ كالزنى، أنه لا يجب الدفع عن النفس. وكذا لا يجب على المرأة في دعوى النكاح كاذبًا لِما قدّمناه. وكذا في دعوى الرّقّ كاذبًا، لا تجب اليمين، لأن المدّعي قد لا يحلف اليمين المردودة. كذا قاله شيخنا (¬2)، خلافًا لما ذكره الشيخ عز الدين في المسائل كلها (¬3). 376 - قوله: (المثال الرابع: أن يُدَّعَى عليه بحد القذف، فلا يحل له النكول، كيلا يكون عونًا على جَلدِهِ وإسقاطِ عدالته والعزلِ عن ولايته) (¬4). يقال عليه: نكولُ القاذف وردّ اليمين وإنْ أَوجَب الحدَّ، لا يُسقِط عدالة القاذف ولا يؤثر في ولايته، سواء قلنا: اليمين المردودة كالإقرار، أو ¬
كالبينة، لأن ذلك من الأمور التقديرية، فلا يؤثر في إسقاط عدالته ولا سلب (¬1) ولايته. ويؤيّده أنه لو ادّعى على قاذفه، فادّعى عدم إحصانه، فأنكر، فقال: حلِّفُوه أنه لم يَزْنِ، فنكل وردَّ اليمين، فحلف القاذفُ اليمين المردودة، فإنه يسقط حدّ القذف، ولا يُحَدّ المقذوف حدَّ الزنى. 377 - قوله: (المثال الخامس: أن يُدَّعَى على الولي المُجبِر أنه زَوَّج ابنته، فلا يحل له النكول) (¬2). قال شيخنا: في هذا المثال والذي قبله: لا يجب اليمين، لأن المدّعي قد لا يحلف اليمين المردودة، وكذا في الدعوى على الولي المُجبِر وما بعده. وحجة شيخنا في ذلك، ما سبق من جواز الاستسلام المدلول عليه بقوله تعالى في قصة ابنَيْ آدم: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} [المائدة: 28] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كُن عبدَ الله المقتول، ولا تكن عبدَ الله القاتل" (¬3). قال الشيخ (¬4): الذي يظهر من الآية والحديث، عدم وجوب الدفع بما يؤدي إلى قتلٍ ونحوه، بدليل قولِهِ: {لَأَقْتُلَنَّكَ}، وقولِهِ: "ولا تكن عبدَ الله ¬
القاتل". أما وجوب الدفع بالشيء الخفيف كـ (اليمين) في الأمثلة المتقدمة، فلا يبعد وجوبه لوجوب. . . (¬1) لمن قدَر عليه. وأيضًا فالمودَع، وولي اليتيم، حيث تُشرَع اليمين في حقه: مأموران بالحفظ، قد تعيّن الحلف طريقًا إليه. فلم يعرّج (¬2) على شيء منه، واستمرّ على إطلاق كلام الإمام (¬3) وأنه لا يجب اليمين في حالٍ أبدًا. وزاد (¬4) في (ولي اليتيم): لو وجبت اليمين في حقه للحفظ، لوجبت بلا خلاف، كيف وحلِف الوليّ وجهٌ ضعيف. وقال في (مسألة البُضع): ليس وجوب الدفع عنه لمُدرَك: أنه دفعٌ عن مجرم، إذ لو كان كذلك لوجب فيه وفي النفس والمال، وإنما المُدرَك في وجوب الدفع عن البُضع: ما فيه من مفسدة اختلاط الأنساب وضياع الأحساب وارتكاب العار. وما ذكره من الأمثلة في (الحالة الثانية) من المثال المذكور: من ادّعاء الزوجة البينونة، وادّعاء (¬5) الأمة الإعتاق، وادّعاء العبد ذلك، وادّعاء الجاني عفوَ الوليّ، وادّعاء القاذف العفو (¬6)، فلا يخفى ما على ذلك كله من المناقشات، وتُعرف مما تقدم. ¬
378 - وقوله في أثناء مثال القذف: (ولو نكل الوليُّ عن أيمان القسامة (¬1): فإن أوجبنا بها القصاص، وجبت اليمين، وإلا فلا) (¬2). يُعلم المراد منه، لأنه إذا أوجبنا بها القصاص على القديم (¬3). 379 - وقوله في أثنائه أيضًا: (وقد جوّز الشافعي - رضي الله عنه - لمن باع عبدًا كما ملَكَه، إذا خاصمه المشتري في قِدم عيبٍ يمكن حدوثه، أن يحلف أنه باعه وما به عيبٌ) (¬4). يقال فيه: هذا الفرع نص عليه الشافعي - رضي الله عنه - في (الأم) في (أبواب الشاهد مع اليمين) في مناظرته مع محمد بن الحسن (¬5). 380 - وقوله في أثنائه أيضًا: (فإن قيل: هل يجوز للمدّعِي أن يطالِب المدَّعى عليه باليمين مع علمه بكذبه فيها وفجوره) إلى قوله: (قلنا: نعم، يجوز ذلك)، ثم ذَكَر له وجهين: أحدهما: لو لم يجز لبطلت فائدة الأيمان، وضاعت الحقوق. والثاني: لو حرُم، لم يجز للحاكم أن يأذن له في تحليف خصمه لاعترافه بكذبه). انتهى ملخصًا (¬6). ويزاد على ذلك، أنه مُستَدَلٌّ لجواز ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ليس لك إلا ¬
[فصل فيما يجب على الغريم إذا دعي إلي الحاكم]
ذلك)، جوابًا لقوله: (يا رسول الله، إنه فاجرٌ لا يبالي) (¬1). فلو كان لا يجوز له طلبُ اليمين والحالةُ هذه، لقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلا يجوز لك استيفاء اليمين مع علمك بفجوره) ولذلك (¬2) قال له: (ليس لك إلا ذاك). * * * [فصل فيما يجب على الغريم إذا دُعِي إلي الحاكم] 381 - قوله في الفصل المعقود فيما يجب على الغريم إذا دُعِي إلى الحاكم: (وإن جَهِل عُسرتَه فينبغي أن يخرّج جواز إحضاره إلى الحاكم على الخلاف في حبس المعسِر المجهول اليسار) (¬3). يقال عليه: صواب العبارة: (الرجل المجهول اليسار)، أو إسقاط لفظة (المعسر)، لأنه لا يصح في التركيب، وصفُ (المعسر) بـ (مجهول اليسار). 382 - قوله بعد ذلك: (الحالة الثانية: أن يتوقف القيام بالحق على حكم الحاكم) إلى قوله: (وكذلك القسمة التي تتوقف على الحكم، يتخيّر فيها ¬
المدّعَى عليه بين أن يملِّك حصته لغيره، وبين الحضور عند الحاكم، وليس له الامتناع) (¬1). يقال عليه: ما ذكره في صورة القسمة، من تخيير المدّعَى عليه من أن يملِّك حصته لغيره وبين الحضور، محله: ما لم يؤدِّ تمليكُ ذلك الغير إلى سوء ضرر المشاركة؛ فإن أدّى إليه، تعيّن الحضور عند الحاكم أو تمليك الخصم نفذ (¬2). 383 - وقوله بعد ذلك: (وأما النفقات، فإن كانت للأقارب وجبت الإجابة إلى الحضور عند الحاكم ليقدّرها) (¬3). يقال عليه: نفقة الأقارب مقدّرة بالكتاب، لا تفتقر إلى تقدير. ولا يصح حمل كلام الشيخ على ما وقع للغزالي ومَنْ معه، مِن أنها لا تصير دَينًا إلا بفرض قاضٍ. فليُتأمل. 384 - قوله في الفصل المذكور: (فائدة: إن قيل: كيف جعلتم القول، قولَ المدّعَى عليه، ولم تجعلوا القول قول المدّعِي مع أن كذب كل واحد منهما ممكن. قلنا: جعلنا القولَ، قولَه، لظهور صدقه، فإن الأصل براءة ذمته) (¬4). يقال عليه: قد تعرّض الشيخ رحمه الله لهذا السؤال وجوابِه في أثناء كلام في أوائل الكتاب، وهو متعقَّب بشيء مرَّ هناك، فليراجَع. وكذلك السؤال الذي يعقبه: (المتعلق بأمر الحكام بالعدل، وهو التسوية بين المستحقين) وجوابُه، قد سبقا، وسبق عليهما تعقب (¬5). ¬
385 - قوله بعد ذلك: (فإن قيل: لِمَ جعلتم القول، قول بعض المدّعين مع يمينه أبدًا (¬1). قلنا: إنما فعلنا ذلك) (¬2)، إلى قوله: (المثال الثاني: قذفُ الرجل زوجتَه، فإنّ صدقه فيه ظاهر، لأن الغالب في الزوج نفيُ الفواحش عن امرأته)، ثم قال: (فإذا تمّ لعانُه، فقد اختلف العلماء في حدّ المرأة بهذه الحجة، فذهب قوم إلى أنها لا تُحدّ، لضَعْف هذه الحجة. ورأى الشافعي رحمه الله أنها تُحدّ عملًا بقوله عزَّ وجلَّ: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 8] حملًا لـ (العذاب) على (الجَلد) المذكور في قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ} (¬3) [النور: 2]. يقال عليه: إنما ذَكَر (الجَلْد) خاصة، لأنه المذكور في الآية، ولكن اللعان لدفع الجَلْد، الذي هو أعم من الجَلْد والرجم (¬4). 386 - قوله بعد ذلك: (الحالة الثانية: أن يكون أمينًا من قِبل الشرع، ¬
[فصل فيما يقدح في الظنون من التهم وما لا يقدح فيها]
كالوصيّ يدّعي ردّ المال على اليتيم. وكذلك من كانت عنده أمانةٌ شرعية، فادَّعَى ردَّها على مالكها الذي لم يأتمنه عليها، فلا يُقبل قوله في ذلك لتيسّر الإشهاد على الردّ) (¬1). يقال عليه: ما ذكره من التعليل بتيسّر الإشهاد، فيه نظر. والتعليل المعتمد أنه إذا ادَّعَى الردَّ على غير من ائتمنه، فلم يعترف بأمانته. * * * [فصل فيما يَقدح في الظنون من التّهم وما لا يقدح فيها] 387 - قوله: (فصل فيما يَقدح في الظنون من التّهم، وما لا يقدح فيها: التُّهم ثلاثة أضرب، أحدها: تهمة قوية كحكم الحاكم لنفسه، وشهادة الشاهد لنفسه، فهذه تهمة موجبة لردّ الحكم والشهادة) (¬2). يقال فيه: الظن هو الطرف الراجح، ومع قوة التهمة قد لا يبقى راجحا، وفي تسميته حينئذ: (ظنًّا)، تجوّزٌ. وصورة الحكم لنفسه: أن يقرّ لشخص بشيء، أو يشهد عليه شاهدان فيلزمه الحبس ونحوه. أما إذا قضى لنفسه بعلمه، فهو مدّعٍ. وحقيقة شهادة الشاهد لنفسه، أنه مدّعٍ، وفي إطلاق (الشهادة) و (الظن) على ذلك، تجوّزٌ لا يخفى. 388 - قوله فيه أيضًا: (الضرب الثالث: تهمة مختلف في ردّ الشهادة والحكم بها، ولها رتب. إحداها: تهمة قوية، وهي شهادة الوالد لأولاده وأحفاده أو لآبائه وأجداده، فالأصح أنها موجبة للردّ) (¬3). ¬
يقال عليه: يستثنى من ردّ شهادة الوالد لولده، والولد لوالده: ما إذا كان متعلَّق الشهادة عمومًا لا يختص بالمشهود له. فما صرَّح به الماوردي مستدلًا له بشهادة الحسن والحسين - رضي الله عنهما - في (... (¬1)). ومن ثَمّ لو ادَّعى وكيلُ بيت المال، بشيء لبيت المال، فيشهد به ابناه أو أبواه، قُبل ذلك، لأن متعلق الشهادة عمومٌ، فضعُفت التهمة جدًّا. ويستثنى من ذلك أيضًا: ما إذا كانت الشهادة تتضمن إثبات حق لوالده أو وولده، على الأصح. فمن ذلك: ما إذا كان عبدٌ في يد زيد، ادّعى مدّعٍ أنه اشتراه من عمرو، بعد ما اشتراه عمرو من زيد صاحب اليد، وقَبَضه، وطالَبَه بالتسليم، وأنكر زيد جميع ذلك، فشهد ابناه للمدّعِي بما يقوله. قال الرافعي: حكى القاضي أَبو سعيد (¬2) فيه قولين: أحدهما: ردّ شهادتهما لتضمنها إثبات الملك لأبيهما. وأصحهما: القبول، لأن المقصود بالشهادة في الحال: المدّعي، وهو أجنبي عنهما. ويستثنى أيضًا: ما إذا تساوى الوازعان (¬3)، كما لو شهد ابنان (¬4) أن أباهما قد قَذَف ضرّة أمهما، فإن الأصح من القولين، القبول. وحجة مُقابِلهِ: ¬
أن شهادتهما تجرّ نفعًا إلى أبيهما، لأن قبولها مُخرِجٌ الأبَ إلى اللعان، وهو سبب الفرقة. ويجريان فيما لو شهدا أنه لو طلَّق ضرة أمهما، أو خالعها. ومن تساوي الوازِعَين: ما إذا شهد لابنه على ابنه الآخر. 389 - قوله: (الخامسة: تهمة الحاكم في إقراره بالحكم. وهي موجبة للردّ عند مالك رحمه الله، وغير موجبة له عند الشافعي رحمه الله، لأن من مَلَك الإنشاء، مَلَك الإقرار. والحاكم مالكٌ لإنشاء الحكم، فمَلَك الإقرار به. وقول مالك متّجه إذا مَنَعْنا الحكم بالعلم (¬1). يقال عليه: لم يظهر اتجاه قول مالك إذا منعنا القضاء بالعلم، لأن إقرار القاضي عن حكمه في محل ولايته، إخبارٌ عن حكمٍ بالحجة التي قامت عنده، فنُزِّل ذلك منزلة إنشائه. 390 - قوله بعد ذلك: (لأن داعي الطبع أقوى من داعي الشرع، ويدل على ذلك ردُّ شهادة أعدل النفس لنفسه، وردُّ حكم أقسط الحكام لنفسه) (¬2). يقال عليه: يستثنى من ذلك: الأنبياء، لعدم التهمة للعصمة. 391 - قوله بعد ذلك: (فإن قيل: لِم رجعتم في الجرح والتعديل إلى علم الحاكم. قلنا: لو لم نرجع إليه في التفسيق، لنفّذنا حكمه بشهادة من أقرّ أنه لا يصلح للشهادة) (¬3). يقال عليه: الأحسن في الجواب عن الرجوع إلى علم الحاكم في الجرح، أن يقال: لو لم نرجع إلى علمه، للزم أن نحكم بخلاف علمه، وهو باطل قطعا إلا على وجه لا يُعبأ به. ¬
ووجّه شيخنا بأن علم الحاكم في نظر صاحب الوجه مُلغًى طردًا وعكسًا. واستدل له بما في الصحيح من أنّ عيسى - عليه السلام - رأى رجلًا سرق، فقال له عيسى: سرقتَ، فقال: كلا والذي لا إله إلا هو. فقال عيسى: آمنتُ بالله وكذَّبتُ عيني (¬1) قال شيخنا: هو كناية عن عدم القضاء بالعلم، أي: لا أرتِّب عليه حكمًا ظاهرًا. انتهى. 392 - قوله: (والفرق بين العدول، والأئمة والأوصياء والحكام، أنا لو اعتبرنا ذلك في الأوصياء والأئمة والحكام، لأدّى ذلك إلى ضرر عظيم (¬2). يقال عليه: محلّ ما ذكره في الأوصياء والحكام، فيما يتعلق بالوصايا والأحكام. أما لو شهد الوصي والقاضي بشيء بعد مدة يغلب فيها على الظن تغير الحال، فإنه لابدّ من. . . (¬3) على ما عليه. . . (¬4)، ولا اعتبار حينئذ بمحض وصية الوصي، ولا بمنصب القاضي، لرجوع كل منهما شاهدًا. ويحتمل أن يجب في الوصي دون القاضي. 393 - قوله: (والأصح أنهم لا يكفَّرون ببدعهم) (¬5). يقال عليه: إلا في مسائل، منها: القول بخلق القرآن. 394 - قوله: (وإنما رُدّت شهادة الخطابية لأنهم يشهدون بناء على إخبار بعضهم بعضًا) (¬6). محل ردّ شهادة الخطابية، ما لم يبيّن مستند شهادته. فإن قال: (سمعتُ ¬
إقراره بكذا)، (سَمِع (¬1) أحدٌ كذا)، ونحو ذلك، فإنها تُقبل لانتفاء المعنى المقتضي لردّ شهادتهم. 395 - قوله: (قلنا: ليس قذفُه وهو صادقٌ، كبيرةً موجبةً لردّ شهادته، بل ذلك من الصغائر التي لا تخرم الشهادات) (¬2). يقال عليه: ما ذكره من أن القذف صادقًا ليس بكبيرة، ممنوع. والصواب أن القذف كبيرةٌ مطلقا، كيف! وقد عدّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قذفَ المحصَنات، ولم يقيِّد بشيء (¬3). فلا فرق بين كونه صادقًا أو كاذبًا، لأنه مع صدقه كاذبٌ في حكم الله، بدليل قوله: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 12]. وهذا هو الأولى في الجواب، مما ذكره الشيخ في الجواب عن السؤال الذي بعدُ [عند] (¬4) قوله: (قلنا: الكذب للحاجة جائز في الشرع، كما يجوز كذب الرجل لزوجته، وفي الإصلاح بين الخصمين) (¬5): ¬
يقال فيه (¬1): الأحسن أن يقال: لأنه كاذبٌ في حكم الله، بدليل قوله: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} يعني: في حكم الله. فقوله (¬2): (إذا كان صادقًا) وأنا كاذب في قذفي، معناه: في حكم الله تعالى، انتَفَى العارُ بذلك عمن قَذَفه (¬3). 396 - قوله: (الثالثة: عوده إلى الولايات التي تُشترط فيها العدالة، كنظره في أموال أولاده، وإنكاحه لمَوليّاته) (¬4). ¬
الأصح عدم عودته إلى الولايات التي تُشترط فيها العدالة، إلا الأب والجد فقط. 397 - قوله: (فإن قيل: ما تقولون فيمن له حقٌّ على إنسان، فاستعان على أخذه ببعض الولاة والقضاة، فساعداه عليه بغير حجة شرعية، فهل يجوز له أن يستعين بالوالي أو القاضي على ذلك مع كون الوالي والقاضي آثِمَيْن في أخذهما الحق بغير حجة شرعية، أم لا؟ قلت: أما القاضي والوالي فآثمان) (¬1). يقال عليه: [قوله]: (أما القاضي والوالي فآثمان): لا حاجة إليه لذكره في السؤال. وأما الرُّتب التي ذكرها (¬2)، فمختار شيخنا (¬3): تأثيم المستعين في جميعها، فضلا عن الوجوب الذي ذكره، لحمله الوالي والقاضي وغيرهما والآحاد (¬4) على المعصية. ولا نظر إلى كون (مفسدة الغصب والزنى) أشد من (مفسدة معصية الوالي والقاضي)، لأنا وإن أوجبنا ارتكاب أخف المفسدتين، أو دفع ¬
أشدهما، فذاك إذا كانت (¬1) المفسدتان متعلقتين بالمرتكب نفسه، أو بالدافع نفسه، وليس ذلك موجودًا في أمثلة الشيخ. ولو تعين الدفع بذلك طريقًا إلى خلاص الجارية ونحوها (¬2)، فلا يجب، بل لا يجوز، لحمل الغير على معصية، لأنه حينئذ عاجزٌ شرعًا، والعجز الشرعي كالعجز الحسي. فادّعاء الجواز بعيد. وأبعدُ منه: ادّعاء الوجوب. انتهى. 398 - قوله بعد ذلك: (بل لو تعذرت العدالة في جميع الناس، لَمَا جاز تعطيل المصالح المذكورة، بل قدَّمْنا أمثلَ الفَسَقة فأمثلَهم، وأصلحَهم للقيام بذلك فأصلحَهم) (¬3). يقال عليه: قوله: (لَمَا جاز تعطيل المصالح المذكورة) إلى آخره، يستثنى من ذلك: القضاء بالفسقة عند تعذر العدالة، بل يتوقف القاضي ولا يجوز له أن يحكم بشهادة فاسق في قتلٍ ولا قطعٍ ولا إلزام مالٍ ونحو ذلك. 399 - قوله: (وإن اختَلف تاريخ الإقرار، فإن كان الإقرار بشيئين مختلفين، لم يُحكم بالشهادة إذْ لم يقم في كل واحد من الإقرارين إلا شاهد واحدٌ. وإن كان الإقرار بشيء واحد، فالأصح ثبوت المقَرّ به. وفيه إشكال من جهة أن الشهادتين لم تتواردا على إقرارٍ واحدٍ) (¬4). ما وَجَّه (¬5) به الإشكالَ من جهة أن الشهادتين لم تتواردا على إقرار واحد (¬6): ¬
يقال عليه: بل هما متواردان على إقرارٍ واحدٍ، لإجماع الناس على اتحاد الخبر وإن تعدّد زمن الإخبار به، وتعدّد المخبَرون -بفتح الباء- (¬1). والإقرارُ خبر من الأخبار، فليكن كذلك. 400 - قوله: (فائدة: ليس قول الحاكم: (ثبت عندي كذا)، حكمًا به إلا أن يقول الحاكم: (إذا أطلقتُ لفظ (الثبوت) فإنما أعني به: الحكم بالحق الذي ثبت عندي) (¬2). ما استثناه الشيخ، من جعل (الثبوت) حكمًا إذا قال الحاكم: (إذا أطلقتُ لفظ (الثبوت)، فإنما أعني به: الحكم): لا يُستثنى. والصواب خلافه، لأن الحاكم وإن قال ذلك، فقد لا يعتدّ (¬3) ثبوته عند الحكم، وليس ذلك مما يُكتفى فيه بالكناية. ¬
ولو فتحنا هذا الباب لقلنا: إذا قال الحاكم: (إذا أطلقتُ لفظ (العلم) أو (الظن)، فإني أقول: علمتُ أو ظننتُ أن هذا لفلان، فإنما أعني به الحكم)، فإذا وقع ذلك منه، يكون حكمًا. ولا قائل به. ومن المنقول أنه لو قال: (إذا حلفتُ بالحرام، فإنما أنوي به الطلاق)، فحلف به، فإنا لا نجعله ناويًا بمجرد ما ذَكَر لنا فيما سَبَق من كلامه. 401 - قوله: (ولا وقفة عندي في نقض حكم من يَحكُم بأن (الأثبات) حكمٌ، لمخالفته القاعدة المجمع عليها) (¬1). يقال عليه: بل لا وقفة في عدم النقض، لأن اللفظة عند القائل بأن (الثبوت) حكمٌ، غيرُ محتملة، بل هي صريحة عنده لا تحتمل غير الحكم، وهذا كما لو قال القائل: (حلالُ الله عليّ حرام) عند من يجعله صريحًا. 402 - قوله: (ومنها شهادة أربع نسوة بما يخفى غالبًا على الرجال المعدّلين) (¬2). يقال عليه: زيادة (المعدّلين) فيما يخفى على الرجال: لا حاجة إليها. والمقصود أن تخفى غالبًا على الرجال مطلقًا. وإنما زادها الشيخ لأجل السجع (¬3). ¬
403 - قوله: (وأما يمين المدَّعَى عليه، وأيمان لعان النساء، فدافعة للمدّعَى به، غير موجِبة له) (¬1). يقال عليه: يمين المدّعى عليه، دافعة لِما يحتمل ثبوته، وأيمان اللعان دافعة لِما ثبت من الحد بلعان الزوج، وينبغي أن تُقيّد (النساء) في كلام الشيخ بـ (الأزواج). 404 - قوله: (ومنها: دلالة الاستطراق على اشتراك أهل المحلة فيما يَستطرقون فيه، إذا كان منسدًّا من أحد طرفَيْه) (¬2). يُستثنى من الخلاف فيما ذكره الشيخ في السكة المنسدّة (¬3): أن لا يكون بها مسجدٌ أو بئرٌ مُسبَلَة قديمين، فإن كان فلا دلالة. وإن كانا حادِثَيْن فحكمُ من يَستَطرق إليهما من غير أهل السكة، حكمُ من أَحدَثَهما من أهل السكة، ينزّل منزلته. 405 - قوله: (ثم شكّ في أداء ذلك) أي: صلاةٍ أو طهارةٍ (أو في ركن من أركانه أو من شرائطه، فإنه يلزمه القيام به) (¬4). ¬
محل ما ذكره في الشك في الأركان والشروط، أن يكون قبل السلام، فإن شكّ بعد الفراغ فهو غير مؤثر على الصحيح. 406 - قوله (¬1): (طين الشوارع في البلدان، في نجاسته قولان) (¬2). محل ما ذكره: في طين الشوارع الذي يَغلب على الظن اختلاطه بالنجاسة، وتيَقَّنتَ بنجاسته، فيُعفَى عن قليله على ما هو مقرر في موضعه (¬3). فأما غير المستثنى وغيرُ الذي يغلب على الظن اختلاطه، فلا بأس به. ¬
407 - قوله: (المقبرة القديمة المشكوك في نبشها، في تحريم الصلاة فيها قولان) (¬1). يقال عليه: القولان في المقبرة: في بطلان الصلاة، وهو مراده بالتحريم (¬2)، ومحلُّه حيث لا حائل. فإن كان ثَمَّ حائل فالقطع بالصحة. فكان الأولى التعبير بـ (البطلان)، لأنه لا يلزم من التحريم: عدم الصحة. والقولان أيضًا في (المثال الثالث)، في البطلان أيضًا (¬3). 408 - قوله: (المثال الرابع: إذا اختلف الزوجان في النفقة مع اجتماعهما وتلازمهما ومشاهدةِ ما ينقله الزوج إلى مسكنها من الأطعمة والأشربة) (¬4). ¬
يقال عليه: لا تقييد للخلاف باجتماعهما وملازمتهما ومشاهدةِ ما ينقل الزوجُ. وقصدُ الشيخ بذلك، التهويلُ على مذهب الشافعي في ذلك (¬1). ومذهبُه هو الحق، إن سأَلتَه لقال (¬2): لأن الزوجة لمّا ادّعت عدم الإنفاق، وادّعى الزوج الإنفاق؛ كان القولُ قولَ الزوجة، لأنها مدّعَى عليها (¬3). ويدل له من حيث الخصوص، قوله - صلى الله عليه وسلم - لهند: (خذي من ماله بالمعروف ما يكفيكِ ويكفي بَنِيكِ) (¬4)، سواء قلنا: إن ذلك قضاء أو فتوى، لأنه إن كان قضاءً فواضحٌ. وإن كان فتوى فلو لم يكن القولُ قولَها، لقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: إن العادة والظاهر أن الأزواج يكفُون زوجاتهم وأولادَهم. ولم يسلّطها على الأخذ من ماله، ما يكفيها ويكفي بَنِيها. ولم يختلف المذهب في هذا الأصل إلا فيما إذا كانت (¬5) عبدًا نفيسًا وعبدًا خسيسًا فجاءا بمالٍ، وادّعى الخسيس أنهما سواء فيه، وادّعى النفيس أنه على حسب قيمتهما. ¬
وفيه وجهان: أصحهما أنهما سواء لظاهر اليد، وإنهما سواء (¬1). والثاني أن القولَ قولُ النفيس، للقرينة. 409 - قوله: (والفرق بين النفقة وسائر الديون، أن العادة الغالبة مُثيرةٌ للظن بصدق الزوج، بخلاف الاستصحاب في الديون) (¬2). يستثنى من سائر الديون، ما إذا جرتْ عادة بلد بقبض الصداقات (¬3) قبل الدخول، فادّعت بعد الدخول أنها لم تقبض، فقال القاضي (¬4) النقلُ عن مالكٍ: القولُ قول الزوج (¬5)، لأن العادة الغالبة مثيرة الظن بصدقه. ¬
410 - قوله بعد ذلك: (ولو حصل له معارضٌ كالشاهد واليمين، لأسقطناه، مع أن الظن المستفاد من الشاهد واليمين أضعف من الظن المستفاد من العادة المطّردة) (¬1). يقال عليه: الشاهد واليمين حجة شرعية، فلا يسمَّى معارضًا. وجعلُه الظن المستفاد من الشاهد واليمين، أضعفَ من النظر (¬2) المستفاد من العادة المطّردة، ضعيفٌ جدًّا. وكيف يقال مثل هذا! وقد صحت الأخبار بحجية الشاهد واليمين، ولم يصح لنا في حجية العادة المطّردة خبرٌ. وأيضًا في أن الحجازيين (¬3) اتفقوا على حجية الشاهد واليمين، واختلفوا في حجية العادة المطّردة. ولا يليق أن يتفقوا على حجية الأضعف، ويختلفوا في حجية الأقوى. 411 - قوله في المثال الخامس، فيما إذا ادُّعي شلل عضو المجني عليه (¬4). ¬
[فصل في تعارض أصلين]
تفصيل ذلك: أنه إذا أَنكَر أصل السلامة، في عضوٍ ظاهرٍ، ففيه طريقان، المذهب: القطع بأن القول قولُ المجنيّ عليه. وقيل: قولان. وإن لم ينكر أصل السلامة، وادعى حدوث النقص، فقولان، أصحهما: أن القول قولُ المجني عليه. وإن كان قد أَنكَر أصل السلامة، وادّعى حدوث النقص في عضوٍ باطنٍ، فالقولان، والأصح أن القول قولُ المجني عليه. * * * [فصل في تعارض أصلين] 412 - قوله في فصل تعارض أصلين: (قَدَّ ملفوفًا بنصفين) إلى آخره (¬1). يقال: محل ما ذكره، ما إذا كان الملفوف قد عُهدت له حياةٌ في الدنيا. فأما لو قَدَّ ملفوفًا وُلد ولم يُعرف حياته، فالمصدَّق: الجاني قطعًا، لأنه ليس معنا أصل مستصحب حتى نقول: الأصل بقاء الحياة، فنصدِّق الولي بسبب ذلك على قول (¬2). ¬
413 - قوله بعد ذلك: (وعلى قولٍ: القول قول الولي) (¬1). فالواجب: الدية دون القصاص. وقيل: هو على الخلاف في استحقاق القود بالقسامة. وحكى الرافعي والنووي في إجراء القسامة في القصاص وجهين، فليراجع ذلك من موضعه. والأرجح عند شيخنا - رضي الله عنه -: القصاص كما بيّنه في (تصحيح المنهاج)، فليراجع منه. وحيث قلنا: القول قول الولي، فلا بد من خمسين يمينًا، خلافًا لابن الصباغ حيث قال: يحلف يمينًا واحدة. 414 - قوله بعد ذلك، في المثال الثاني: (إذا غاب العبد وانقطعت أخباره، ففي وجوب فطرته قولان) (¬2). يقال عليه: محل ذلك ما لم تَمض مدةٌ لايغلب على الظن أنه لا يعيش فوقها. وإن مضت فالقطع بعدم وجوب فطرته. وكذا القول في إجزائه عن الكفارة. 415 - قوله بعد ذلك: (فإذا كان الزوج جنديًّا، فادّعى أنه شريك المرأة في مَغازلها وخفافها ومقانعها، وادّعت المرأة أنها شريكتُه في خيله وسلاحه وأقبيته ومناطقه وجُنّته كخوذته وزرّديته (¬3). يقال عليه: إذا اختلفا في متاع البيت، فما كان في يده فالقول قوله فيه، وما كان في يدها فالقول قولها فيه، وما كان في يدهما فهو محل الخلاف. * * * ¬
[فصل في تعارض ظاهرين]
[فصل في تعارض ظاهرين] 416 - قوله في فصل تعارض ظاهرين (¬1): (إذا تأمل الناسُ الهلال، فشهد برؤيته عدلان منهم، ولم يتفوّه غيرهما برؤيته، فقد اختلف العلماء فيه) (¬2). يقال عليه: دليل مذهب الشافعي، حديث ابن عباس أن أعرابيًّا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني رأيت الهلال، فقال: (أتشهد أن لا إله إلا الله)؟ قال: نعم. قال: (أتشهد أن محمدًا رسول الله)؛ قال: نعم. قال: (فأذِّن في الناس يا بلال أن يصوموا غدًا) (¬3). فلو كان ما ذكره المخالف قادحًا، لَبَيَّنه، ولَما أَمَر بالصيام. ¬
417 - قوله في (المثال الرابع: من اشتبه عليه إناء طاهر بإناء نجس، أو ثوبٌ طاهر بنجس، فأراد استعمال أحدهما بناءً على الاستصحاب، لم يجز، فإنا لا نحكم بالظن المستفاد من الاستصحاب حتى نضمّ إليه الظن المستفاد من الاجتهاد) (¬1). يقال عليه: شرط العمل بالاستصحاب: في معيَّن. وليس ذلك بموجود في الإناءين، فليس ذلك من القاعدة التي قررها. 418 - قوله بعد ذلك: (فإن قيل: هل يُبنى إنكار المنكر على الظنون كغيره؟ فإنا لو رأينا إنسانا يسلُب ثياب إنسان، لوجب علينا الانكار عليه بناء على الظن) (¬2). يقال عليه: إنما يجب الإنكار في هذا المثال بقرينةٍ تُغلّب على الظن كون السالب متعديا، كاستغاثة المسلوب ونحو ذلك، وإلا فلا إنكار، كما يرشد إليه المثال الثاني (¬3). والأحسن أن يقال في المثال الثالث: (لو رأيناه يقتل إنسانًا يزعم أنه كافر حربي) إلى آخره (¬4): لأن الدار دالةٌ على عدم الحرابة، ليدخل الذمي ونحوه. ¬
419 - قوله بعد ذلك: (كما عُذِر موسى - عليه السلام - في إنكاره على الخضر، خَرْقَ السفينة وقَتْلَ الغلام) (¬1). يقال عليه: بل لموسى، الإنكارُ بمقتضى الظاهر وإن عَلِم المصالح المذكورة؛ لأنه الذي كُلِّف به، ولم يكلَّف بعمل بما عليه في الباطن، والظاهرُ على خلافه. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (لولا اللعان، لكان لي ولها شأن) (¬2). 420 - قوله بعد ذلك: (ومنها: لو هرب مِن الإمام مَنْ تَحتَّم قتلُه، فأَمَر الإمامُ مَنْ يلحقه ليقتله، فاستغاث بنا لِنَمْنَعَه من قتله، فإن إغاثته واجبة علينا) (¬3). ¬
يقال عليه: هذا المثال لا يطابق قتل الغلام في قصة الخضر؛ لأن هنا ظاهرًا تَرتَّب عليه الحكم، ولكنه خفي على المنكِر. ومثله: من رأيناه يقتل شخصًا يزعم أنه قاتلُ أبيه. والذي يطابق قَتْلَ الغلام: ما لو اطلع وليٌّ، على كفر شخصٍ ظاهرِ الإسلام، فإنا لا نبيح له قَتْله؛ ولو قَتَلَه، قتَلْناه به. 421 - قوله بعد ذلك: (فإن قيل: كيف جوّز الشارع اللعان من الجانبين، مع العلم بأن أحدهما كاذب؟ قلنا: إنما جوَّز ذلك، لأن مع كل واحد منهما ظاهرًا يقتضي تصديقَه) (¬1). يقال عليه: لم يجوّز الشارع اللعان ابتداءً من الجانبين، وإنما شَرَع أولًا لعان الزوج لدرء حدّ القذف عنه، أو لنفي الولد؛ وبلعانه وجب عليها حد القذف، فشَرَع لها اللعان لدرء الحد. وهذا ظاهر من قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8]. 422 - قوله (فيما لو قال رجل: إن كان هذا الطائر غرابًا، فامرأتي طالق أو عبدي حر، ولم يُعلم حال الطائر؛ فإنا نقرّ كل واحد منهما على ما كان عليه قبل التعليق) (¬2). ¬
يُستثنى منه، ما إذا قال أحد الشريكين في عبدٍ: (إن كان غرابًا، فنصيبي حر)، وقال الآخر: (إن لم يكن غرابًا، فنصيبي)، وهما موسِران، فإنا نحكم بعتق العبد، ويُوقف العزم إلى البيان تفريعًا على السراية بنص (¬1) اللعان. 423 - قوله بعد ذلك: (وقد كثر في كلام العلماء (¬2) أن يقولوا: وجب بيقين فلا يبرأ منه إلا بيقين) (¬3). يقال عليه: قولهم: (وجب بيقين): اليقين حقيقة كون الصلاة والصوم ونحوهما في الذمة بيقين. و (اليقين) الثاني يُؤوّل على معنى: تيقن ما وجب على المكلف الإتيانُ به، والطريق إليه لا يشترط فيها اليقين. 424 - قوله بعد ذلك: (في العمل بعموم هذا الحديث: أي (دَعْ ما يَريبك إلى ما لا يَريبك) (¬4) إشكال، لأنك إنْ حملتَه على (الواجبات) لصيغة ¬
الأمر، خرجتْ منه المندوبات. وإن حملتَه على (المندوبات)، كان تحكّمًا. وإن حملتَه عليهما، جمعتَ بين المجاز والحقيقة، أو بين المشتركات. فالحمل على (الواجبات) أولى) (¬1). يقال عليه: ما ذَكَر من الإشكال إذا حُمل على (الواجبات)، لا يلزم منه إلا خروج (المندوبات)، ولا محذور فيه. وإذا حُمل على (الندب) لا يكون تحكمًا، لأن ذلك تفريع على أن صيغة الفعل للندب؛ لأن القدر الزائد على (مطلق الطلب) -وهو الوجوب- مشكوكٌ فيه، فعَمِلْنا (¬2) بالتيقن، وهو (مجرد الطلب). 425 - قوله بعد ذلك: (ولو شك الإمام في أعداد الركعات، فسبَّح به الجماعة تنبيهًا له، فإن كانوا عددًا تحيل العادة وقوع النسيان من جميعهم، بَنى الإمام على قولهم) (¬3). ما ذكره خلاف ما رجّحوه. والأصح من الأوجه: أنه لا يَبني على قولهم، وإنما يرجع إلى يقين نفسه. ¬
[فصل في حكم كذب الظنون]
426 - قوله بعد ذلك: (وأما الحديث (¬1)، فإن التقدير فيه: إياكم واتّباعَ بعض الظن) (¬2). حَمَل شيخنا (الظن) في الحديث على الإخبار بما لا يقتضيه، بدليل قوله: (فإن الظن أكذبُ الحديث). * * * [فصل في حكم كذب الظنون] 427 - قوله في فصل في حكم كذب الظنون: (وله أمثلة، ومنها: أنه إذا ظَنّ المتيمم فَقْد الماء، فصلَّى بالتيمم، ثم ظهر أن في بعض قماشه ماءً، أو وَجد بئرًا حيث يلزمه الطلب، لزمتْه إعادة الصلاة) (¬3). محل ما ذكره، حيث كان مقصّرًا بأن نسيه في قماشه، أو أَضلَّه فيه، أو كانت البئر ظاهرة مكشوفة. فإن كان غيرَ مقصّر، فإن أَضَلَّ رَحْله في الرِّحال، أو كانت البئر مغطاة. . . (¬4) لا يُهتدى إليه، لم يلزمه الإعادة. 428 - قوله: (ومنها: لو صلى بما يظن طهارته، ثم بان أنه نجسٌ، لزمتْه الإعادة) (¬5). ¬
يقال عليه: في الإعادة قولان، فيما إذا صلى فريضةً على ظن دخول وقتها ثم اختَلَف ظنه. وهي غير مسألة: (ما إذا اجتَهد الأسير وصام شهرًا باجتهادٍ، فوقع قبل رمضان). وفيها قولان، سيذكرهما (¬1). 429 - قوله بعد ذلك: (ومنها: إذا عجَّل الزكاةَ على ظن بقاء الفقر (¬2) إلى الحول، فأَخلَف ظنُّه باستغناء الفقير) (¬3). يقال عليه: لا يشترط في تعجيل الزكاة: ظنُّ المُخرِج بقاءَ الفقر ونحوه إلى الحول، حتى يقول الشيخ ما قال. وشرطية بقاء القابض أهلًا للوجوب إلى آخر الحول، من حكمة (¬4) الشرع. وما ذكره من جواز الرجوع باطنًا، إن كان مع شرط الاسترداد، أو قال المالك: هذه زكاتي المعجلة، وعلم القابض ذلك؛ فله الرجوع ظاهرًا وباطنًا. وإن كان لا مع شيء من ذلك؛ فما ذكره الشيخ، له وجه ظاهر، وإن لم يصرِّحوا به. 430 - قوله: (فإن كانوا شرذمةً قليلةً، وجب القضاء. وإن كان جَمْع (¬5) الحاجّ، لم يجب القضاء) (¬6). ¬
صوابه: جميع، أو أكثرهم (¬1). 431 - قوله بعد ذلك: (وغَلِط القاضي (¬2) في ذلك، فأَلحَق العقدَ بالدَّين) (¬3). يقال عليه: ما ذكره القاضي ليس بغلط، بل له وجه، وذلك أنه إذا أُنزِل الظن منزلة الشرط. 432 - قوله بعد ذلك: (ولو مات الإمام، فتَصرَّف الحكام بعده على ظنّ أنه حيٌّ، نفذ تصرفهم، لأن الإمام استنابهم عن المسلمين دون نفسه) (¬4). يقال فيه: ظاهر كلامه أن الحكام ينعزلون بموت الإمام، وليس كذلك، ¬
[فصل في بيان مصالح المعاملات والتصرفات]
فلا ينعزلون بموته، ولا يشترط في صحة تصرفاتهم بقاء حياته، حتى يقول ما قال. 433 - قوله بعد ذلك: (ولو أَنفَق عليها ظانًّا بقاء زوجيتها، فكَذَب ظنُّه، بأن طلَّقها وكيله فعلمت ذلك، أو فَسخَت النكاح في غيبته، أو ارتدّت، أو بغير ذلك من الأسباب، رجع بما أَنفَق) (¬1). يستثنى من ذلك، ما إذا تبيّن أنه نكحها نكاحًا فاسدًا، فإنه لا يرجع بما أنفقه، لأنها محبوسة بحقه. * * * [فصل في بيان مصالح المعاملات والتصرفات] 434 - قوله في فصل في بيان مصالح المعاملات والتصرفات: (اعلم أن الله خَلَق الخلق وأَحوج بعضَهم إلى بعض ليقوم كلٌّ بمصالح غيره) (¬2). قال شيخنا: في (تاريخ أصبهان) للحافظ أبي نُعيم، أن عليًّا - عليه السلام - (¬3) قال: اللهم لا تُحوجني إلى أحد من خلقك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقل ذلك، فإنه لا بد من الحاجة إلى الناس، ولكن قل: اللهم لا تُحوجني إلى أحد من شرار خلقك) (¬4). ¬
435 - قوله: (أما احتياج الأصاغر إلى الأكابر، فأنواع. أحدها: الاحتياج إلى الإمام الأعظم، ثم إلى الولاة) (¬1). يقال عليه: كان ينبغي أن يذكر أولًا، الاحتياج إلى العلماء، فإن الخلافة وما بعدها، لا تقوم بشيء من ذلك إلا بالعلم. 436 - قوله بعد ذلك: (فالضرورات: كالمآكل) ثم قال: (والمناكح) (¬2). يقال عليه: جَعْلُه (المناكح) من الضرورات، إن كان باعتبار دوام الناس، فمسلّمٌ. وإن كان باعتبار أنه لا بد منه في قيام البنْية -وهو الظاهر من مراده- فممنوع، لقيام البِنْية بدونه. 437 - قوله: (فهلّا كانت قسمة القضاء والقدر كذلك؟ (¬3) فالجواب من وجهين. أحدهما: أن قسمة القدر لو كانت كقسمة الشرع، لأدَّى ذلك إلى أن يعجز الناس عن قيام كل واحد منهم بما ذكرناه من المصالح المذكورة، وأدَّى ذلك إلى هلاك العالَم. الوجه الثاني: أن الغرض بقسمة القدر، أن ينظُر الغنيُّ إلى مَن دونه امتحانًا لشكره، وينظُر الفقيرُ إلى من فوقه اختبارًا لصبره. وقد نص الشافعي - رضي الله عنه - على هذا (¬4) بقوله: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [الفرفان: 20]. والغرضُ من القسمة الشرعية) إلى آخره (¬5). ¬
[فصل في بيان أقسام العبادات والمعاملات]
يقال عليه: قسمة القضاء والقدر للابتلاء والاختبار، فكانت على ما تقتضيه الحكمة الإلهية، بخلاف القِسَم العامة في الدنيا، فإنها قسمة تكليفية، فكانت على حسب الحاجات الظاهرة. وهذا جوابٌ ثالثٌ حسنٌ. * * * [فصل في بيان أقسام العبادات والمعاملات] 438 - قوله في فصل في بيان أقسام العبادات والمعاملات: (ورَغِب الأنبياءُ والأولياء في الاقتصار على الكفاف من الأغراض الدنيوية) (¬1). مراده بـ (الأغراض الدنيوية) هنا: ما هو على صورة الأغراض الدنيوية، وإلا فالأنبياء منزّهون عن الأغراض الدنيوية، وإنما يقع صورتها منهم على سبيل التشريع. 439 - قوله بعد ذلك: (وقد يكلّف بالطاعة ولا يثيب عليها، كما كَلَّف الملائكة المقرّبين. ولا اعتراض على رب العالمين) (¬2). يقال عليه: ما ذكره من عدم إثابة الملائكة المقرّبين على الطاعة، ممنوع. والصواب أنهم مثابون. وثوابُهُم: قُربُهم من حضرته، وسماع خطابه، والاغتذاء بتسبيحه وتحميده وتهليله وتمجيده، ونحو ذلك. 440 - قوله: (وقد شاهدنا ما يُبتلَى به مَن لا ذنبَ له، ولا تكليفَ عليه، كالبهائم والصبيان والمجانين من الآلام والأوصاب، مع أنا نعلم أن الرب لا ينتفع بذلك، ولا يتضرر بفقده. فإن قال بعض الأشقياء: إنما فَعَل ذلك ¬
ليُثيبهم عليه. قلنا له؛ قد ضللتَ عن سواء السبيل! أما كان في قدرة رب العالمين أن يُحسن إليهم إلا عوضًا عن تعذيبهم؟! (¬1). يقال: لا توقف في إثابة الصبيان والمجانين على البلايا، والأحاديث صريحة في ذلك. ولعل الشيخ إنما أنكر الحصر في الإثابة. وهذه الأمثلة التي أوردها الشيخ على لسان بعض الأشقياء، هنا، مما لا طائل تحته، ولا يَظُنّ أحد اعتقاده (¬2). 441 - قوله: (إنما نُصبت الأسباب الشرعية لجلب المصالح ودرء المفاسد في حق بعض المكلفين دون بعض) (¬3). يقال عليه: هذا ممنوع. والأرجح أن ذلك في حق كل المكلفين. والذين عَلِم الله أنهم لا يأتمرون، لا ينعقد ذلك في حقهم. ولا بِدعَ في أن يكون الأمر على حقيقته في حقهم ولا سيما إذا جوّزنا التكليف بالمحال كما هو مذهب الأشعري. 442 - قوله بعد ذلك: (وكالاستئجار للأذان بالحج أو بالعمرة أو بتعليم القرآن؛ وكالاستئجار بالحج أو بالعمرة على الصيام؛ وكالاستئجار على بناء المساجد، بالحج) (¬4). يقال عليه: صورة الاستئجار بالحج أو بالعمرة، عن الصيام: أن يموت ¬
رجل عليه صيام، فلوليّه أن يصوم، وله أن يُنيب بأجرة وبغيرها، تفريعًا على القديم. ومَنَع شيخنا جواز إنابة الولي غيرَه أن يصوم، وقال: لم يتعرض له الشافعي ولا الأكثرون؛ لأن صوم الولي عن مَوْليّه خارجٌ عن القياس، فلْيُقتصر به على مورد النص. وقد أشار إلى ذلك الإمام القُشيري شارح (العمدة) (¬1). انتهى. 443 - قوله: (وأما الصلاة على الأموات ففائدتها للمصلِّي والمصلَّى عليه، آجلة) (¬2). يقال عليه: وفائدة الصلاة للمصلّي والمصلَّى عليه، عاجلة أيضًا. فأما المصلّي فإنه يُسقِط الفرض عن غيره وعن نفسه. وأما المصلَّى عليه فلِما حصل له من النفع بالصلاة عليه، وهو عاجل؛ لأن هذا أول يومٍ من أيام آخرته عند من يجعل (البرزخ) من الآخرة. 444 - قوله: (فإن كانت في الحضانة، فمصلحتها للمحضون في العاجل، وللحاضن في الآجل) (¬3). يقال عليه: وللحاضن منفعته أيضًا في العاجل (¬4) وهو انتفاعها بكون الولد عندها، يُسكِّن ما تجده من ألم فراقه، وانتفاعها بأجرةٍ إن كانت، ونحو ذلك. * * * ¬
[قاعدة في بيان حقائق التصرفات]
[قاعدة في بيان حقائق التصرفات] [الباب الأول في نقل الحق من مستحقّ إلى مستحق] 445 - قوله: (النوع السادس: القرض، وهو بذل عينٍ في مقابلة دَينٍ) (¬1). يقال عليه: القرض عقد إرفاق ليس من موضوعه المقابلة، ومن ثَمّ لا يشترط فيه القبول. وقد أوضح الشيخ ذلك بعدُ [في] قوله (¬2): (والأصح أن القرض إذنٌ في الإتلاف بشرط الضمان، فلا يفتقر إلى القبول) (¬3). * * * [الباب الثاني في إسقاط الحقوق من غير نقل] 446 - قوله: (الباب الثاني في إسقاط الحقوق. وهي ضربان: أحدهما: إسقاط بغير عوض. فمنه: إبراءٌ يُسقط الدَّين عن الذمة) (¬4). يقال عليه: الأصح أن الإبراء تمليكٌ. وفي (الروضة) في (الرجعة): المختار أنه لا يُطلَق ترجيحٌ، بل يختلف الراجح بحسب المَحالّ (¬5). 447 - قوله بعد ذلك: (وكذلك إسقاط حق النكاح والاستمتاع، بالطلاق) (¬6). ¬
يقال عليه: فيه تجوّز، والتحقيق أن حق النكاح والاستمتاع انتهى بالطلاق، كما في الحَدَث بالنسبة إلى الطهارة، ومن ثَمّ كان تعبيرُ مَن عَبَّر بـ (أسباب الحدث) أولى من تعبير مَن عَبَّر بـ (النواقض). وكذلك القول في (الإعتاق) (¬1). 448 - قوله قبل هذه الحاشية (¬2): (وكذلك اللعان، يُسقط حد القذف عن الزوج) (¬3). يقال عليه: الصواب أنه كالبينة كاشفًا أنه لم يجب (...) (¬4) أصلًا. ¬
449 - قوله: (الضرب الثاني: الإسقاط بالأعواض، كإسقاط حق الزوج من البضع بالخلع أو بالطلاق على مالٍ) (¬1). يقال عليه: ذكر الخلع في (باب النقل) (¬2) أولى من ذكره في (باب الإسقاط). ولو اعتبرنا ذلك، لأَورَدْنا (البيع) في (باب الإسقاط) (¬3)؛ لأن البائع، بالبيع أَسقَط حقه من العين المبيعة، والمشتري أَسقَط حقه من الثمن، وهو خَلَفٌ. وكذا (الصلح)، ذكرُه في (باب النقل) أليق (¬4)، لأنه بيع، وكان الشيخ اعتبر صورة (الإسقاط). 450 - قوله بعد ذلك: (وأما مقابلة الإسقاط بالإسقاط عند تساوي الديون في باب التقاصّ، فلا نقلَ فيه من الجانبين ولا من أحدهما، وإنما هو سقوطٌ في مقابلة سقوط) (¬5). يقال عليه: الأحسن أن يقال: (وأما مقابلة الساقط بالساقط)، لأنه إذا لم يشترط (¬6) الرضا في التقاص من الجانبين، فهو سقوط في مقابلة سقوط؛ فلا بد أن يوجد في الزحمة، القدرُ المشترك بين الإسقاط والسقوط. وأَهمَل في التقاصّ قسمًا ثالثًا، وهو (إسقاط في مقابلة سقوط) إذا ¬
شَرَطنا الرضا من أحد الجانبين، فتمامه أن يقول: وإنما هو سقوط في مقابلة سقوط، أو إسقاط في مقابلة إسقاط، أو إسقاط في مقابلة سقوط. 451 - قوله بعد ذلك: (ولا يقابَل إسقاطُ حدّ القذف بشيء من الأعواض على الأصح) (¬1). يقال عليه: الوجهان في إسقاط حق الشفعة، ومقاعد الأسواق، والرد بالعيب أيضًا. والمخالف في ذلك هو الأستاذ أبو إسحاق (¬2) حكى الإمام (¬3) عنه في (النهاية) أنه قال: (خالفتُ أصحابي في ثلاث: يقولون: لا يوجد العوض عن حد القذف. وأنا أقول: يوجد. ويقولون: لا يوجد عن حق الشفعة. وأنا أقول: يوجد. ويقولون: لا يوجد عن مقاعد الأسواق. وأنا أقول: يوجد). وتَرَك (الرد بالعيب)، وهو يقول فيه: يوجد (¬4). ذَكَر الإمام ذلك في آخر كتاب الشفعة (¬5). * * * ¬
[الباب الثالث في القبض]
[الباب الثالث في القبض] 452 - قوله (في الباب الثالث، في القبض): (ومنها: قبض المضطر من طعام الأجانب، ما يَدفع به ضرورته. وكذلك سرقة أموال أهل الحرب) (¬1). يقال عليه: لا يختص ما ذكره بسرقة أموال أهل الحرب، بل أنواع القسمة كلها كذلك. 453 - قوله في (الضرب الثاني) منه: إما يتوقف جواز قبضه على إذن مستحقه كقبض المبيع) (¬2). يقال عليه: محل ما ذكره في قبض المبيع، ما إذا كان الثمن حالًّا ولم يوفّره المشتري. أما إذا وفَّر الثمن إذ كان مؤجلًا، فإن المشتري يستقلّ به ولا يحتاج إلى إذن المستحق. * * * [الباب الرابع في الإقباض] 454 - قوله في (الضرب الثاني من الباب الرابع): ما جرت العادة بنقله من غير كيل ولا وزن، كالمتاع والنحاس ونحوها، فقبضُه بنقله إلى مكان لا يختص ببائعه) (¬3). يقال عليه: تمامه: (أو في مكان مختص ببائعه بإذنه، فيكون مُقِرًّا للبقعة). كذا قالوه. واختار شيخنا أنه قبضٌ وإن لم يأذن البائع، ويكون المشتري غاصبًا. * * * ¬
[الباب الخامس في التزام الحقوق بغير قبول]
[الباب الخامس في التزام الحقوق بغير قبول] 455 - قوله بعد ذلك: (الباب الخامس في التزام) (¬1)، فذَكَر نذر الذمة والأعيان، وضمان الديون، وضمان الدَّرَك، وضمان الوجه، وضمان إحضار ما يجب إحضاره (¬2). قال شيخنا سلّمه الله تعالى: أَهمَل من أنواع الالتزام، (الأضحية) عند من فَرَّق بين النذر والالتزام، فقال (¬3): هي سنة لا تجب إلا بنذر أو التزام. فعلى هذا لو قال: (التزمتُ أضحية هذه الشاة)، لزمتْ. * * * [فصل في تصرف الولاة] 456 - قوله بعد ذلك في فصل في تصرف الولاة: (يشترط في الأنكحة، ما لا يشترط في سائر العقود) من الشهود وغير ذلك (¬4). يقال عليه: مثلُ النكاح في اشتراط الإشهاد: (الإمامة العظمى) على وجه. * * * ¬
[فصل فيما يسري من التصرفات]
[فصل فيما يسري من التصرفات] 457 - قوله بعد ذلك في فصل فيما يسري من التصرفات: (وله أمثلة: أحدها: أن يُعتق من عبدِه جزءًا معيّنًا أو شائعًا، فيسري) (¬1). يقال عليه: محل ما ذكره أن لا يكون سائره مرهونًا ولا جانيًا. وصورة تعلق الجناية ببعض العبد: أن يكون بين اثنين، فتعدَّى أحدهما نصيبه (¬2)، ثم يشتريه شريكه الآخر قبل ... (¬3) أخذ نصيبه، فتكون الجناية متعلقة ببعضه دون بعض. 458 - قوله بعد ذلك: (ولا يسري العتق من شخصِ إلى آخَر، إلا إعتاق الأَمَة فإنه يسري إلى جنينها) (¬4). يقال عليه: وتقع السراية في الحج، والظهار، والإيلاء، والأوقاف (¬5). وصورته (¬6) أن يُرِقّ الإمام بعض الأسير. ففيه أوجه: أحدها: أنه يَرِقّ كلُّه. وأمثلة الباقي (¬7) لا تخفى. * * * ¬
[قاعدة في ألفاظ التصرف]
[قاعدة في ألفاظ التصرف] 459 - قوله: (قاعدة في ألفاظ التصرف: لا يتعين للعقود لفظٌ إلا النكاح، فإنه يتعين له لفظ (التزويج) أو (الإنكاح) (¬1). تمامه أن يقول: فإنه يتعين له لفظ (التزوج) أو (الإنكاح، والنكاح)، وذلك أن يقول الولي: زوّجتُك، فيقول: تزوجتُ (¬2). أو: أنكحتُ، فيقول: نكحتُ. 460 - قوله: (والنكاح مؤجّلٌ بموت أقصر الزوجين عمرًا) إلى آخره (¬3). فيه تجوّزٌ. ولم يكن في عقد النكاح تأجيل أصلًا. 461 - قوله بعد ذلك: (ويجب طرد ما قال في بيع الجواري بغير ذكر شروط النكاح) (¬4). يقال عليه: هذا ممنوع، لأن المقصود الأعظم في البيع: ملك الرقبة، والبُضع مُغْمَرٌ (¬5) في ذلك. 462 - قوله بعد ذلك: (وللحاكم ثلاثة أحوال: إحداهنّ: أن يقول بأدنى رتب الأسباب، فيُحرِّم بـ (المصّة والمصّتين) كمالكٍ) إلى آخره (¬6). ¬
يقال فيه: هذه الأحوال تحتمل أن تُعتبر في الشاهد أيضًا، كما قالوه في (الشهادة بالتنجيس): من أنه إذا كان فقيهًا موافقًا، اعتمده. وتحتمل الفرق، بأن الشاهد قد يشهد بخلاف معتقده، بخلاف إخباره بتنجيس الماء. 463 - قوله فيما لو شهد بانحصار الإرث في إنسان: (فإن كان الحاكم ممن يقول بتوريث ذوي الأرحام) (¬1). يقال عليه: تمامه: (وبالرّدّ ولو على الزوجين، قَبِلَها). وكذا قوله: (وإن كان الحاكم لا يُورِّث بالرَّحِم) (¬2): تمامه: (ولا بالرّدّ، لم يَقبل الشهادة). 464 - (... (¬3)). أجاب شيخنا أمتع الله ببقائه، بأن وقوع أسباب الملك المختلف فيها، نادرٌ، فحُمل الأمر فيه على الأعم الأغلب. ¬
وما وقع في كلام الشيخ (¬1): (إجراء من غلبة ذلك) (¬2). 465 - قوله بعد ذلك: (واستفسار الشاهد عما شهِد به، كما يُستفسر المقِرّ عما أقرّ به) (¬3). ما ذكره من الخلاف في قبول الشهادة بالمجهول وإلزام الشاهد بتفسيره، لا يُعرف. وإنما الخلاف في قبولها بالمجهول وإلزام المشهود عليه بتفسير ما أجمله الشاهد. وصوابه: إذا كانت الشهادة على إقراره بالمجهول، فهو كما لو أَقرَّ. 466 - قوله: (وإن لم يفسِّر الشاهدُ، ألزمنا المشهودَ عليه بتفسير ما أجمله الشاهد) (¬4). يقال عليه: ما ذكره بعيد جدًّا. ويُفرَّق بين إلزامه بتفسير ما أجمله هو، وبين إلزامه بتفسير ما أجمله الشاهد، أن المفسّر يعلم ما أَقَرّ به فأُلزم بتفسيره، بخلاف المشهود عليه فإنه يُنكر ما أجمله الشاهد من أصله. فلو شهد الشاهد أنه أقرّ بشيء، ألزمناه بتفسيره قطعًا. * * * ¬
[قاعدة لبيان الوقت الذي تثبت فيه أحكام الأسباب]
[قاعدة لبيان الوقت الذي تثبت فيه أحكام الأسباب] 467 - قوله بعد ذلك في (القاعدة التي لبيان الوقت الذي تثبت فيه أحكام الأسباب): (فأما الأفعال فتقترن أحكامها بها) (¬1). يقال عليه: ما ذكره من أن الأفعال تقترن أحكامها بها، فيه تجوّز. والأرجح أنها كالأقوال. والأصح أن أحكامها تقترن بآخر حرف من حروفها. وقيل: يقع عقبها من غير تخلل زمان، كما سيأتي. وتخيّلُ مثل ذلك في الأفعال غير بعيد، لأن لها بدءًا وواسطة ومنتهى، فيكون الأصح اقترانُ أحكامها بآخر جزء منها كالأقوال. والخلاف راجع إلى أن العلة مع المعلول؟ أو تقع عقبها؟ 468 - قوله بعد ذلك: (المثال الثاني: قتلُ الكفار، فإنه يقترن به استحقاق الأسلاب) (¬2). يقال عليه: لا يكفي في استحقاق الأسلاب، مجرّد القتل، بل لا بد مع ذلك من كون القاتل، له بينة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من قَتَل قتيلًا، له عليه بينة، فله سَلَبه) (¬3). لا يقال: البينة كاشفةٌ أنه استَحق بالقتل. لأنها لو كانت كاشفة هنا لأَدَّى ذلك إلى تحريم الغنيمة التي هي من أجلّ الحلال إذا لم تكن بينةٌ!؟ ¬
قال شيخنا أدام الله النفع بفوائده: وإلى هذا أشار ابن أصبغ (¬1) المالكية في كتابه (الإنجاد (¬2) في الجهاد). 469 - قوله: إما تعلّق عليه طلاق أو عتاق، كالأكل والشرب، فإن أحكامه تترتب عليه مقرونةً به) (¬3). ¬
يقال عليه: هذا ممنوع. والصواب: وقوعه عقبه. ويؤيده أنه إذا قال لغير المدخول بها: إذا طلقتُكِ فأنتِ طالق. ثم قال لها: أنتِ طالق. فإنه لا تقع عليها إلا الطلقة لوفاق الوجهين. أما من قال بالترتيب: فظاهر. وأما من قال بالمعية فمعناه: (إذا صرتِ مطلقةً)، وكما صارت مطلقةً، بانت. وفيه قولٌ حكاه الحنّاطي (¬1) أنه تقع طلقتان. 470 - قوله: (وأما ما يتقدم أحكامه على أسبابه (¬2)، فله أمثلة. فذَكَر: (تلف المبيع قبل القبضر): يُفسخ بالتلف قبيل التلف (¬3). وبـ (قتل الخطأ) (¬4): كونه موجبا للدية وهي موروثة عنه بغير تملّكها قبلُ. ¬
الثالث: إذا قال لغيره: أعتق عبدك عني. فأعتَقه، فإنه يملكه قبيل الإعتاق. الرابع: إذا حكمنا بزوال ملك البائع في مدة الخيار، فأعتَق المشتري العبد المبيع، فإنه يملكه بالإعتاق ملكًا مقدّمًا على الإعتاق) (¬1). يقال عليه: ما ذكره من الأمثلة، أحاله شيخنا، وأجاب عن (الأول): بأن التلف ليس سببًا للانفساخ، وإنما سبب الانفساخ كونه من ضمان البائع. ومعناه: الانفساخ عند تعذر تسليم المبيع لتلفه أو تعيُّبه (¬2). قال: ولو كان التلف سببًا للانفساخ، لا يُفسخ به بعد القبض. وإذا كان سبب الانفساخ هو الضمان، لم يتقدم الحكم على سببه، لأن الضمان حصل بالعقد، وهو مقدم. وأجاب عن الدية، بأن سبب الدية إنما هو الجرح المفضي إلى الزهوق، وهو مقدم عند من أوجبها للقتيل في آخر جزء من أجزاء حياته، وليس السبب نفسَ القتل. وأما من نظر إلى أن ذلك كشبكة نَصبها فتَعقَّل (¬3) بها صيدٌ بعد موته، فلا تفريع عليه. وأجاب عن الثالث، بأن أصح الأوجه أنه يملكه عقب لفظة (الإعتاق)، ¬
ثم يعتق عليه. وليس العتق سببًا للملك المتقدّم عليه، حتى يتم مراده (¬1)، وإنما سببُ الملك: إعتاق ذلك الغير، وهو مقدم على الملك. فإنْ أَوَّلتَ (العتق) في قوله: (فإنه يملكه قبيل عتقه)، وقلتَ: صوابه: (فإنه يملكه عقيب إعتاقه بعد قول ذلك الغير: أعتقتُ)، لم يكن واحدًا من الأوجه، إلا إن كان المراد به: الوجه الصائر أنه يملكه بالاستدعاء. وعلى هذا فالسبب مقدم على الحكم. وأجاب عن الرابع، بأن الإعتاق ليس سببًا للملك المتقدم عليه تقديرًا، حتى يكون من قاعدة (ما يتقدم (¬2) أسبابه من الأحكام)، وإنما الخيار سبب لتصرف كل من المتبايعين. وعن ضرورة التصرف: كونه من مملوك، فقُدّر الملك متقدمًا عليه. قال شيخنا: وليس لنا حكم يتقدم على سببه إلا ما كان ذا سببين، فإنه يجوز تقديمه على أحدهما، أحدهما لا عليهما. انتهى. 471 - قوله بعد ذلك: (وأما ما يستقلّ به المتكلم، فكالإبراء، وطلاق الثلاث، والطلاق قبل الدخول) (¬3). يقال عليه: لم يظهر لتقييده (الطلاق الثلاث) ولا بكونه (قبل الدخول) معنى. والطلاق يستقل به الزوج مطلقًا، كيف كان. 472 - قوله بعد ذلك: (والإبراء بالميم من: (أبرأتُك من درهم) (¬4). ¬
يقال عليه: الصواب في الإبراء، اقتران حكمه بالكاف من (أبرأتُك) لا بالميم من (درهم)، لأن قوله: (من درهم) ليس شرطًا في الصحة، بل تكفي نيته مع (أبرأتُك). 473 - قوله بعد ذلك: (ويدل على الاقتران، أن من سمع حرفًا من آخر حروف الكلمة، فإنه يحكم على مُطْلِقِها بموجبها عند آخر حرف من حروفها (¬1). يقال عليه: الأحسن في الاستدلال أن يقال: اقتران (¬2) هذه الأحكام بآخر حرف، هو الحقيقة، لأن حقيقة كونه آمرًا أو ناهيًا: حال تلبسه بلفظ الأمر والنهي ونحو ذلك. ووقوعُ الحكم عقب هذه الألفاظ مجازٌ، لأن اسم الفاعل لمن قام به الفعل في الماضي: مجازٌ. وإذا دار الأمر بين اقتران الحكم بالحقيقة وبين اقترانه بالمجاز، كان اقترانه بالحقيقة أولى. ولعل ذلك هو مراد الشيخ. انتهى. 474 - قوله بعد ذلك: (وأما ما تتعجل أحكامه وتتأخر بعض أحكامه عن آخر حروفه، فله أمثلة: البيعُ، ويقترن الانعقاد والصحة بآخر حروفه) (¬3). يقال عليه: صواب العبارة: (وأما ما تتعجل بعض أحكامه). وما ذكره من أن الانعقاد والصحة في البيع مثلًا، يقترنان بآخر ¬
حروفه (¬1)، مسلّم في الانعقاد. وأما الصحة فالصواب اقترانها بكل اللفظ من قوله: (بعتُ) ونحو ذلك، حتى لو لم يكن أهلًا عند النطق بالتاء، أو كان أهلًا عند النطق بالتاء، فإنه لا يصح. 475 - قوله بعد ذلك: (وفي اقتران الملك به أقوال، (أي بآخر حرف): أحدها: يقترن به. والثاني: يتراخى إلى لزومه. والثالث: موقوف) (¬2). يقال عليه: صوابه: (وفي اقتران الملك وعدم اقترانه)، حتى تأتي الأقوال الثلاثة، وهي الأقوال في الملك له في زمن الخيار. 476 - قوله بعد ذلك: (الرهن، ويقترن انعقاده بآخر حروفه على الأصح، ويتراخى لزومه إلى إقباضه) (¬3). صوابه: ويبرأ من لزومه إلى قبضه، كالهبة. 477 - قوله بعد ذلك في أقوال (الوصية): (وللشافعي قولان آخران: أحدهما: يحصل الملك بموت الموصِي، فيقع بين الإيجاب والقبول) (¬4). يقال عليه: القول الصائر إلى أنه يملك بالموت، لا يفتقر الحال فيه إلى قبول، فلا معنى لقوله: (فيقع بين الإيجاب والقبول). ¬
478 - قوله: (ملك الصيد بالحيازة) (¬1). تمامه: (وللملك أسباب أُخر) ونحو ذلك في الأمثلة بعده. وكثير من الأمثلة ينازَع فيه. 479 - قوله: (أهلية الإمامة والقضاء موجبة لتولية الإمامة والقضاء) (¬2). يقال فيه: موجبة لقبول الشهادة، وولاية النكاح، وأمور كثيرة غير ذلك أيضًا. 480 - قوله بعد ذلك: (وأما التفسيق، فإن وقع الجماع في المسجد، كان فسقا) (¬3). يقال عليه: في كون الجماع في المسجد كبيرةً، نظرٌ، والظاهر أنه ليس بكبيرة (¬4). 481 - قوله: (وإن وقع أي الجماع في وقت ملابسة الحاجة (¬5)، فليس ¬
بمفسِّق، لأجل الاختلاف في إباحة ذلك. وإن وقع وراء ذلك ففيه وقفة) (¬1). يقال: لا وقفة في أن الجماع ليس بكبيرة في حق المعتكف مطلقًا. 482 - قوله: (وكذلك إلحاق النسب إذا وقع بالشبهة في العزبات الخليّات) (¬2). يقال عليه: الإلحاق يحصل في الزوجات بالإمكان، ولا يشترط تحقق الوطي. وتقييده (الإلحاق في وطي الشبهة) بـ (العزبات الخليات): لا يتقيد ذلك؛ بل ذوات الأزواج كذلك أيضًا، حيث يُعرَضْنَ على القائف. 483 - قوله بعد ذلك: (الردّة تمنع صحة النكاح ابتداءً ودوامًا) (¬3). يقال عليه: لم يذكر مما يقتصر للردّة ابتداء ودوامًا إلا النكاح، ولذلك ¬
صور كثيرة لا تخفى. ولعله إنما اقتَصَر على النكاح لِما فيه من التفاصيل المذكورة، وهي كونها قبل الدخول أو بعده، دامت حتى انقضت العدة أو انقضت (¬1)، ونحو ذلك. 484 - قوله: (المثال الثاني: العدة تمنع ابتداء النكاح ولا تمنع الدوام) (¬2). يقال عليه: محله ما لم يكن (¬3) آيلةً إلى عدّته، فإن كانت آيلة إلى عدّته لم تمنع ابتداء النكاح على الأصح. وصورته: حَبَلت بشبهة قبل الطلاق أو بعده، فله أن يعقد عليها زمن الحمل على الأصح. 485 - قوله: (وأما التعبير بـ (لفظ الشرط) عن (الأسباب) فله أمثلة: أحدها: قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (¬4) [البقرة: 194]). يقال عليه: في تسمية هذه: (أسباب): تجوّز، لأن الأسباب اللغوية لا تتخلّف (¬5) عن مسبباتها، والاعتداء الثاني قد يتخلف عن الأوّل (¬6)، إذ [التقديرُ] (¬7): (فمن اعتَدَى عليكم فأردتم مقابلته، فاعتَدُوا عليه بمثل ما اعتَدَى عليكم). ¬
والاعتداء الثاني مجازٌ، حَسَّنه المقابلةُ، على حدّ: {... تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]. 486 - قوله بعد ذلك: (وأما التعبير بـ (لفظ الشرط) عن (أسباب الأسباب المحذوفة) (¬1)، فله أمثلة: أحدها: قوله: (فمن كان منكم مريضًا أو على سفرٍ، فأفطَر، فعليه صوم عدّةٍ من أيامٍ أُخَر) (¬2). يقال عليه: في هذا المثال أيضًا تجوّز على ما قدَّره، لأن الصوم قد يتخلّف، بأن لا يعيش بعد رمضان، أو يعيش ولا يتمكن. قال شيخنا: والأولى أن يكون المحذوف في الآية؛ (فأفطَر وعاش بعد الشهر وتمكّن، فعليه صوم عدةٍ من أيامٍ أُخر). * * * ¬
[قاعدة في بيان الشبهات المأمور باجتنابها]
[قاعدة في بيان الشبهات المأمور باجتنابها] 487 - قوله بعد ذلك في (القاعدة التي في بيان الشبهات): (فالمملوك: ما ثبتت له أحكام الملك، والحرُّ: من ثبتت له أحكام الحرية، والرقيق: من ثبتت له أحكام الرّقّ، والوقف: ما ثبتت له أحكام الوقف، بخلاف المسلم والكافر، والبَرّ والفاجر) (¬1). يقال عليه: مراده بذلك أن هذه أوصاف خاصة ليست قائمة بالمحل، بخلاف (المسلم)، وما ذكره بعده. ولم يُرد بذلك أن حدود (المملوك) وما ذكر بعده (¬2). والأحسن أن يقال في حدودها، أن: المملوك: ما ثبت عليه سائر التصرفات الشرعية. فإن تخلَّف بعضها فلمانعٍ، كالمستولدة (¬3) والمرهون. والحر: من لا رِقّ عليه، والرقيق: بخلافه. والوقف (¬4). 488 - قوله عقب ذلك: (والبِرُّ والفجور أوصافٌ حقيقية قائمة بالمحل، وإطلاقُ أسمائها على النائم والمجنون والغافلِ عنها، إنما هو من مجاز تسمية الشيء بما كان عليه) (¬5). ¬
يقال عليه: الأولى أن يقال: مجاز من تسمية الشئ باستمرار حكمه، تجوّزًا من أن يقال في (المؤمن): (باعتبار ما كان عليه). 489 - قوله بعد ذلك: (والإيمانِ بذلك (¬1)، فإنه أحسنُ ما كُلِّفه الإنسان، وهو أفضل من ثمراته التي هي خلود الجِنان) (¬2). قَيَّد (الثمرات) بذلك، ليخرج (النظر إلى وجه الله الكريم)، فإنه من ثمرات الإيمان، وهو أفضل من الإيمان، كما تقدم في كلامه (¬3). 490 - قوله: (الضرب الثاني: ما هو قبيح في ذاته، وجزاؤه مثلُه في القبح) (¬4). يقال عليه: لا ينبغي إطلاق مثله، لأن جزاءه من فعل الله تعالى، وهو في هذا المقام من أحسن الحَسَن. ومرادُه أنه مثلُه من حيث الصورة. 491 - قوله بعد ذلك: (القسم الثاني: تحريم قتل المسلمين، وهو مماثلٌ في ذاته لقتل الكافرين والمسلمين المحاربين، ولكنه حرُم لقبح ثمراته (¬5). ¬
يقال عليه: هذا منه بناء على ما ذهب إليه من أن الذوات من حيث هي، لا تفاوت بينها، إنما يقع التفاوت باعتبار متعلقاتها. وقد مرّت قاعدة ذلك في أوائل الكتاب، وعليها من التعقيب ما يغني عن إعادته هنا (¬1). 492 - قوله: (وقد يجمع الفعلُ الواحد مفاسدَ كثيرة، مثاله: إذا زنى المعتمر بأمه في جوف الكعبة وهما صائمان في شهر رمضان) (¬2). يقال فيه: إنما خَصَّ المعتمر، لأنه ذَكَر في وجوه التغليظ: (كونه في شهر رمضان). ولا يصح أن يكون مُحرِمًا في شهر رمضان بغير العمرة (¬3). 493 - قوله: (فإنه يثاب على تسبّبه إلى تغيير كل واحدة من هذه المفاسد بكلمته، كما يثاب عليها إذا تسبّب إلى إزالة كل واحدة منهن على حِدَتها) (¬4). يقال عليه: لكن ثواب التسبب إلى إزالة كل واحدة على حِدَتها، أشقُّ، فينبغي أن يكون أراد: لا يكون ثواب الأخف مماثلًا لثواب الأثقل أو زائدًا عليه إلا بدليل. وقد مرّت القاعدة فيها من التعقب (¬5). ¬
494 - قوله: (... (¬1)). يقال عليه: حملُ الحديث على ما ذكره الشيخ، فيه بعدٌ من جهة تخصيصه بـ (المجتهد). والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما خاطب بذلك العموم. والأرجح حملُ الحديث على (... (¬2) بنفس (... (¬3)، من تيقّن الحلّ وعدمه والشك في أحدهما، وهذا حملٌ لكل أحد. فمن أَقدَم على أكل مالٍ تيَقَّن كونه لغيره، فهو (الحرام البيّن). ومن أَقدَم على أكل مالٍ تَيَقَّن كونه له، وأنه حلال، فهو من (الحلال البيّن). و (المشتبه) هو الذي لا يحصل فيه يقين واحد من الأمرين، كأكل مَنْ أكثرُ مالِهِ حرامٌ، ونحو ذلك. ¬
[فصل في التقدير على خلاف التحقيق]
495 - قوله بعد ذلك: (ولو اختلطت حمامة مباحة بحمامة مملوكة، لكان (¬1) كاختلاط الأختين) (¬2). يقال عليه: صوابه: (كان كاختلاط أخته بالأجنبية). 496 - قوله بعد ذلك: (فإن المشترَك حرُم تحريم الوسائل) (¬3). الصواب: أنه يحرم تحريم المقاصد، لأن الزائد على نصيبه كالمنفرد من مال الغير. 497 - قوله في (وطء الشبهة): (قلنا: لا يوصف بشيء من الأحكام الخمسة) (¬4). يقال فيه: الأرجح أن وطء الشبهة يوصف بالتحليل. * * * [فصل في التقدير على خلاف التحقيق] 498 - قوله: (فصل في التقدير على خلاف التحقيق. التقدير: إعطاء المعدوم حكم الموجود) (¬5). يقال فيه: يستعملون (التقدير) بمعنى التحقيق في الضمنيات، كما في قوله: (أعتق عبدك على كذا)، ونظائره المقدمة في القاعدة المعقودة لبيان الوقت التي بُنيت فيه أحكام الأسباب. ¬
وليس هذا التقدير من إعطاء المعدوم حكم الموجود، والأمرُ عكسُه. 499 - قوله بعد ذلك في (المثال السابع): (وأما نبوة الأنبياء، فمن جَعَل (النبي) بمعنى: المُنبئ عن الله، فإنه يقدّرها في حال سكوت النبي عن الإنباء، ويحققها في حال ملابسته للإنباء. ومن جَعَل (النبي) بمعنى: المُنْبَأ المُخْبَر، كانت النبوة عبارةً عن تعلق إنباء الله به) (¬1). يقال عليه: الصواب: الإمساك عن الخوض في ذلك. والذي يجب اعتقاده أن النبي لا يزال باقيًا على نبوّته، لأن الغفلة مستحيلة عليه، ولم يَبْقَ إلا حالين: النوم، والموت. وللأنبياء فيهما ما ليس لغيرهم. 500 - قوله بعد ذلك: (فإن قيل: ما معنى قوله: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}؟ [الفلق: 5] فالجواب: أن الحسد الحكمي لا يضرّ المحسودَ لغفلة الحاسد عنه. والحسدُ الحقيقي هو الحاثّ على أذية المحسود. فقوله -سبحانه وتعالى-: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ} صالح للحسد الحكمي والحقيقي) (¬2). يقال فيه: ولك في الجواب مسلكٌ آخر، وهو أن العُلقة بين الحاسد والمستعيذ، إنما تكون حال حسده الحقيقي، ولا عُلقةَ بينهما إذا خلا عن حسده الحقيقي بغفلة ونحوها وإن كان متعلقًا بالحسد الحكمي، فلذلك خَصّ الحالة التي تكون فيها العُلقة فيها. 501 - قوله: (المثال الثاني عشر: الذمم، وهي تقدير أمر في الإنسان يصلح للالتزام والإلزام من غير تحقق له) (¬3). ¬
يقال عليه: الأحسن أن يقال: (الذمة) بالإفراد، ليُطابِق قوله: (وهي تقدير أمر). ووراء ذلك أن الذي اختاره شيخنا أن (الذمة) من الأمور التحقيقية، وهي صفة كمال الإنسان، صالحة للإلزام أو الالتزام. فخرج (الصبي والمجنون)، فالواجب بإتلافهما: في مالهما لا في ذمتهما. وخرج (العبد)، فلا ذمة له في الحال على الأصح. وقولنا: (تعلق بذمة العبد كذا)، معناه: يُتبَع به إذا عَتَق. وخرج (الميت) لأنه خرج بموته عن صفة الكمال. وخرج (المفلس) على رأيٍ، لنقص تصرفه، فكان عند هذا القائل، خرج عن صفة الكمال بهذا الحجر الخاص. وأما (الديون)، فمحلها: الذمة، وقد بيّنّا أنها أمر تحقيقي، والديون لا (... (¬1) لحقيقته بمعنى القدر اللازم للذمة المذكورة، ويظهر ذلك بالتسليم. 502 - قوله بعد ذلك: (وكذلك لو حَفَر بئرًا في محلّ عُدوانٍ (¬2)، فوقع فيها إنسان بعد موته، وجب ضمانه. فإن كانت له تركةٌ، صُرفت في ذلك) (¬3). يقال عليه: محل ما ذكره، أن لا تكون عاقلةٌ، ولم يكن في بيت المال شيءٌ. فإن كانت عاقلةٌ، أو لم تكن وكان في بيت المال شيءٌ، فإن ضمان ذلك على العاقلة أو في بيت المال، على ما هو مقرر في موضعه. ¬
وحيث وجب الضمان في التركة لفقد العاقلة أو بيت المال، فإنه يجب في التركة حالًا، وفي وجهٍ مؤجلًا في ثلاث سنين كالعاقلة. وليس لنا موضع يستمر فيه المؤجّل على تأجيله بعد الموت إلا الديةُ على رأيٍ. 503 - قوله: (وأما السلَم فمقابلةُ معدوم بموجود إن كان رأسُ السلَم عينًا، أو بدَين يُقبض في المجلس إن كان رأسُ السلَم دَينًا (¬1). جعلُه (السلَم) إذا كان رأسُ المال دينًا يُقبض في المجلس، من مقابلة المعدوم بالموجود، تنزيلًا لما يقبض في المجلس منزلة الموجود. وهذا يخالف قوله قبل ذلك: (وقد يقابَل الدَّين بالدَّين، ثم يقع التقابض في المجلس وكلاهما عند العقد معدوم) (¬2)، فلم ينزل ما يُقبض في المجلس منزلة الموجود. 504 - قوله: (وأما القرض فمقابلةُ معدوم بموجود) (¬3). يقال عليه: ويكون القرض: مقابلةَ معدوم بمعدوم -على ما ذكره الشيخ (¬4) في (المهذب)، والدارمي- من أنه يجوز أن يقع القرض دَينًا في الذمة، ثم يُقبض. وصورتُه: أن يقول: أقرضتُك كذا في ذمتي، ثم يُقبِضه إياه. انتهى. 505 - قوله بعد ذلك: (فإن المستحقين الموجودين وقت الوقف، إذا ¬
انقرضوا، صارت الغلّات والمنافع المعدومة مستحقة بالوقف إلى يوم القيامة) (¬1). يقال عليه: المنافع مستحقة، والوقف إلى يوم القيامة من حين صدور الوقف، ولا ينعقد ذلك بأن يكون بعد انقراض المستحقين الموجودين. 506 - قوله بعد ذلك: فيصح (¬2) الوصية بالموجود والمعدوم للموجودين والمعدومين) (¬3). يقال عليه: لا يصح للمعدومين بحالٍ على الصحيح. 507 - قوله بعد ذلك: (وأما النكاح، فإن كان تفويضًا كان ذلك تمليكًا لمنافع البُضع، وإباحةُ لأمر معدوم) (¬4). يقال عليه: ما ذكره في التفويض من كونه (إباحةً)، ممنوع. والصواب أنه في مقابلة ما يُفرَض من مهر أو مسمى. وكون النكاح إباحةً، من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -. 508 - قوله (وكذلك ما يجب من النفقة والكسوة، كله معدوم مقدّر في ذمته) (¬5). يقال عليه: النفقة إنما تجب يومًا بيوم، بطلوع فجر ذلك اليوم، فهي حال وجوبها موجودة غير مقدّرة. ¬
509 - قوله: (فإن قيل: إذا كان المضمون مئتين، فهل يثبُت في ذمة الضامن مئتان، فيصير للمالك أربع مئة، فيزكّيها بعشرة دراهم؟) (¬1). يقال عليه: هذا السؤال ليس بذاك القائم. وجوابه: أن المضمون له، يَستحق في ذمة كل منهما مئتين على البدل. وما اختاره الشيخ، يردّه قولهم: إن الضمان ضم ذمة إلى ذمة. وتسميةُ هذا بـ (ضمان الذمة) كافٍ في ذلك. وفي حديث أبي قتادة ما يشهد له (¬2). ولا يُظن بأحدٍ تخيلُ زكاةٍ: أربعمئة (¬3). 510 - قوله بعد ذلك: (وأما الصلح فلا يخرج عن كونه بيعا، أو إجارة، أو إبراءً، أو هبة) (¬4). يقال عليه: ويكون الصلح عاريةً كما زاده بعضهم، وجعالةً، وسلَمًا، ومعاوضةً غير محضة، وقُربةً كما زاده شيخنا (¬5) أدام الله النفع به، في (تدريبه) (¬6). ¬
[قاعدة فيما يقبل من التأويل وما لا يقبل]
511 - قوله بعد ذلك: (والعجب ممن يعتقد أن المعاوضة على المعدوم على خلاف الأصل) (¬1). يقال عليه: لم يتوارد كلام هذا المعتقد مع كلام الشيخ على شيء واحد، لأن من يعتقد أن المعاوضة على المعدوم على خلاف الأصل -من أنه معدوم لا يمكن أن يكون موجودًا- كالمنفعة في الإجارة، فلا بِدعَ من أن يقال: (الإجارة على خلاف الأصل)، لأن الأصل الذي صحت به الشريعة، ورودُ المعاوضة على معدوم يمكن وجوده حالًا. * * * [قاعدة فيما يقبل من التأويل وما لا يقبل] 512 - قوله في أول القاعدة (فيما يُقبل من التأويل): (من ذَكر لفظًا ظاهرًا في الدلالة على شيء نواه، ثم تأوّله) (¬2). وفي بعض النسخ: (على شيء تأوّله) بإسقاط (ثم). وعلى هذه النسخة لا يحتاج إلى التأويل. 513 - قوله: (كإقرار المرأة بنفي الرجعة) (¬3). يقال عليه: ليس في إقرار المرأة بنفي الرجعة ثم اعترافِها بها، تأويلٌ، بل هذا كمن قال: (لا شيء لزيد عندي)، ثم أقر بذلك الشيء. وصورة المسألة حيث تُصدَّق المرأةُ في الرجعة (¬4). ¬
[فصل فيما أثبت على خلاف الظاهر]
514 - قوله بعد ذلك: (وإقرارِ المشتري في الخصام بأن المبيع مِلكُ البائع) (¬1). يقال فيه: صورة إقرار المشتري في الخصام، أن يشتري شيئًا، ثم يدّعيه إنسان، فيقول المشتري: إنه ملكُه وملكُ بائعه، فيقيم المدّعي بينةً بأنه ملكُه، فيأخذه، فإن المشتري يرجع بالثمن على بائعه، على ما هو مقرر في موضعه. وليس رجوعه على بائعه بالثمن، لِما ذكره الشيخ من المدرك، بل (¬2)، لأن الفائدة في الخصومة ذلك. ولو كان مستند ذلك ظنّه من غير معارضٍ، لم يرجع بالثمن على بائعه لاعترافه بأنه مظلوم في الباطن. 515 - قوله: (مثل أن ينوي بالطلاق والعتاق: الأمرَ بالأكل والشرب، فلا يُقبل منه ظاهرًا ولا باطنًا) (¬3). اختار شيخنا سلمه الله تعالى، أنه يُقبل باطنا فيما إذا نَوَى بالطلاق والعتاق: الأكلَ والشربَ ونحوهما. * * * [فصل فيما أثبت على خلاف الظاهر] 516 - قوله في فصل فيما أُثبت على خلاف الظاهر: (المثال السادس: لو وَطِيَ أمتَه ثم استبرأَها بقُرء، ثم أتت بولدٍ لتسعة أشهر من حين الوطي، فإنه لا يُلحق به عند الشافعي. وهذا مشكل من جهة أن الأمة فراشٌ حقيقي) (¬4). ¬
يقال عليه: جواب هذا الإشكال، أن الفراش زال بالاستبراء. لا يقال: فلو استبرَأَ زوجته بعد وَطْيها، فإنه لا يزول فراشها بالاستبراء؟ لأن الولد يُلحق في الزوجة بالإمكان، ولا يشترط الوطي. 517 - قوله: (فائدة: قد يظن بعض الأغبياء أن الولد لا يُلحق إلا لستة أشهر. وهو خطأ، لأن الولد يُلحق بدون ذلك فيما لو جُني على الحامل، فأجهَضَتْ (¬1)، فإن الولد يُلحق بأبويه، وكذلك يَلزَم أباه مؤنةُ تكفينه وتجهيزه) (¬2). يقال عليه: لا يُظن بأحدٍ ذلك، فمرادهم بـ (الولد): (الكامل) كما ذكره آخِرًا (¬3). وكلامهم صالح لذلك في أبواب الفقه من الرجعة والعدة وغيرهما. 518 - قوله: (المثال السابع: إذا قال: له عليّ مالٌ عظيم، فإن الشافعي يَقبل تفسيره بأقل متمول. وهذا خلاف ظاهر اللفظ. وعَلَّل الشافعي مذهبه بأن (العظيم) لا ضابط له) (¬4). يقال عليه: إنما قَبِل الشافعي، التفسيرَ بأقل متموّل، لِما ذكره من قاعدته في (المختصر) (¬5) وغيره، من قوله - رضي الله عنه -: (أصل ما أبني عليه ¬
الإقرار، أني لا أُلزِم الناس إلا باليقين، وأطرح الشك، ولا أستعمل الأغلب) (¬1). 519 - قوله: (المثال الثامن: إذا قال لرجل: أنت أزنى الناس، أو قال له: أنت أزنى من زيد، فظاهر هذا اللفظ أن زناه أكثر من زنى زيد، وأكثر من زنى سائر الناس. وقال الشافعي: لا حدّ عليه حتى يقول: أنت أزنى زناة الناس، أو: فلان زانٍ وأنت أزنى منه. وفي هذا بعدٌ) (¬2). يقال عليه: إنما فرَّق الشافعي بين: (أنت أزنى الناس، وأنت أزنى من زيد)، وبين: (أنت أزنى زناة الناس، أو فلان زانٍ وأنت أزنى منه) من جهة أنه، في الثاني: أَثبَت الزنى للمفضَّل عليه، فكان إثباته للمفضَّل صريحا لصراحته في المفضَّل عليه. [و] في المثال الأول (¬3): لم يصرِّح في المفضَّل عليه بشيء، لأن صيغة (أفعل) لا تقتضي التشريك، فلا يلزم أن يكون المفضَّل عليه زانيًا. وإذا لم يثبت صريحًا في المفضَّل عليه، لم يثبت في المفضَّل. ¬
[فصل في تنزيل دلالة العادات وقرائن الأحوال منزلة صريح المقال]
520 - قوله: (المثال العاشر: إذا قال لامرأته: (إذا رأيتِ الهلال فأنت طالق)، فرآه غيرها، طلُقت عند الشافعي حملًا للرؤية على العرفان. وهذا على خلاف الوضع وعرف الاستعمال. وخالفه أبو حنيفة في ذلك. واستدل الشافعي بصحة قول الناس: رأينا الهلال، وإن لم يروا كلُّهم) (¬1). يقال عليه: ما ذكره ليس بماسٍّ لمُدرك الشافعي، وذلك أن مُدرك الشافعي في رؤية الهلال، أن الشارع يَصرف فيها بالعلم، فكان الحمل على المعهود الشرعي أولى، وهو المعيّن، ومن ثَمَّ جرى وجهان في: (إن رأيتِ الدم فأنت طالق)، فعلمتْ به ولم تَرَه، لأن الشارع لم يتصرف في ذلك. وأصلُ تقديم الشرعي على اللغوي، قوله تعالى لنوح - عليه السلام - لمّا تعلّق بمقتضى اللغة في قوله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45]، ذَكَر الله تعالى له: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46]، يعني: أن أهلك الشرعيين هم الذين على دينك، بدليل: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46]. * * * [فصل في تنزيل دلالة العادات وقرائن الأحوال منزلة صريح المقال] 521 - قوله: في فصل تنزيل دلالة العادات: (التوكيل في البيع المطلق، فإنه يتقيد بثمن المثل وغالبِ نقد بلد البيع) (¬2). يقال عليه: تقييده بـ (نقد بلد البيع) في غير نسخة، ليس بجيد (¬3)، ¬
لاقتضائه أنه لو قال له بمصر: وكّلتُك في بيع كذا، فباعه بمكة، أنه يتقيد بنقد مكة. وليس كذلك، بل ذلك يتقيد بنقد بلد الوكالة. وفي نسخة: (نقد البلد)، وهي سالمة من الإيراد (¬1). ويؤيد ما ذكرناه، قوله (¬2): (فكأنه قال للوكيل: بعْ هذا بثمن مثله من نقد هذا البلد إن كان له نقدٌ واحد، أو: من غالب نقد البلد (¬3) إن كان له نقود). 522 - [قوله] (¬4): (ويدل على هذا، أن الرجل لو قال لوكيله: بعْ داري هذه. فباعها بجَوزة) إلى آخره (¬5). يقال عليه: الأحسن أن يقال: ويدل على هذا، أنه لو قال لوكيله: بعْ هذا، فباعه بأقل من قيمته بقدرٍ لا يتسامح بمثله، فإن العقلاء قاطعون بتقصيره، وأن هذا غير مراد. وما مَثَّل به الشيخ من البيع بجوزة وغيرها، لا يصلح أن يكون دليلًا، لأنه لا يُعلم منه الحال بما فوق الجوزة، أو التمرة، في بيع ما يساوي ألفًا، بخمس مئة أو ست مئة أو ثمان مئة. 523 - قوله: (إذا قال مَن هو من أشراف الناس وأفضلهم لوكيله: ¬
وكلتُك في تزويج ابنتي. فزوَّجَها بعبد فاسق مشوّه الخلق، على نصف درهم، فإن أهل العرف يقطعون بأن ذلك غير مرادٍ باللفظ) (¬1). الأحسن أن يقال: (فزوّجها بمن لا يليق بها بدون مهر المثل، فإن أهل العلم يقطعون بتقصيره، وأن ذلك غير ذلك). وما مَثَّل به من (عبد فاسق مشوّه الخلق، على نصف درهم) لا يُعلم منه حال ما فوق ذلك مما هو غير لائق بها. 524 - قوله: (ولو قال لامرأته: إن أعطيتِني ألفًا فأنتِ طالق. فإن الإعطاء يتقيد بالفور) (¬2). يقال عليه: إنما يتقيد هذا بالفور في تعليقٍ فيه شوبُ معاوضة، فمن حيث كونه معاوضة اعتُبر فيه الفور، ولا دلالة للعرف على شيء من ذلك، فليُتأمل هذا المثال، فإنه ليس من قاعدة الفصل، ولا فروع القاعدة. نعم قوله: (إن شئتِ فأنتِ طالق) من فروع القاعدة. 525 - قوله: (ولهذه القاعدة امتنعت مسألة (مدّ عجوة)، ومسألة المراطلة، وكذلك أخذ الشقص بما يخصه من الثمن، بناء على هذه القاعدة) (¬3). يقال عليه: إنما استوت قاعدة (مد عجوة) لأن التوزيع يقتضي الجهل، لأن الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة. 526 - قوله: (وجاز لمن (¬4) اشترى عبدين بثمن (¬5)، أن يوزِّع الثمن على ¬
قيمتهما، ثم يُخبر أنه اشتَرَى كل واحد بما يقتضيه التوزيع على القيمة) (¬1). يقال عليه: الصواب، أن ذلك لا يجوز في بيع مرابحة (¬2)، بل يُخبر أن ثمنه كذا، بمقتضى التوزيع عليه وعلى رقيقه. 527 - قوله في (المثال السابع): (توزيع القيمة على الأعيان المبيعة في الصفقة الواحدة، وعلى المنافع المختلفة المستحقة بإجارة واحدة) إلى آخره (¬3). يقال عليه: التوزيع في صور هذا المثال، ليس شيء (¬4) منها من الأمور المعدّدة، وإنما بيعُ الجملة المشتركة يوزَّع الثمنُ فيه على الحصص بقضية التعاقد (¬5)، بعد ذلك يقع التوزيع في صورة تفريق الصفقة على نسبة القيم بمقتضى التفاوت لا بمقتضى العادة. 528 - قوله: (فإذا مات الأجير في أثناء الحج، فهلّا سقط جميع أجرته، لأنه لم يحصِّل شيئًا من مقصود المحجوج عنه) إلى آخره (¬6). يقال: إنما وزعنا في الحج، مراعاة لأخف الضررين. ¬
بيانه أن لحرمان الأجير ضررٌ بيّنٌ (¬1)؛ وإلزامُ المستأجر من غير حصول مقصودٍ، ضررٌ؛ فراعيناه، لأنه حصل له في مقابلة ما مضى من أعمال الحج أجرٌ، وذلك أخف من حرمان الأجير، لأنه ضررٌ لا في مقابلة شيء. وهذا بخلاف الجعالة. ولم يذكر الشيخ الأصح، وهو توزيع الأجرة على ما مضى من السَّير ونقص أعمال الحج. 529 - قوله: (إن كان الطعام قليلًا مشفُوهًا) (¬2). يقال فيه: في الحديث: (إذا صَنَع لأحدكم خادمُه طعامًا، فلْيُقعِدْه معه، فإن كان مشفُوهًا فلْيَضَع في يده منه أُكلةً أو أُكلتين) (¬3). المشفُوه: القليل. وأصله: الماء الذي كثرت عليه الشفاه حتى قَلَّ. وقيل: أراد: فإن كان مكثورًا عليه، أي: كثُرتْ أكَلَتُه. 530 - قوله (¬4): (إذا أراد مَن لا حاجة له: الدخولَ إلى دُور القضاة والولاة للتنزه، الأظهر جوازه لجريان العادة بمثله) (¬5). ¬
اختار (¬1) شيخنا: بمنع الدخول للتنزه، لاطراد أن القضاة والولاة يبادرن (¬2) لذلك. 531 - قوله: (المثال الثامن: استصناع الصنّاع الذين جرت عادتهم بأنهم لا يعملون إلا بأجرة) إلى آخره (¬3). ما صححه من استحقاقهم الأجر، هو وجة حسن، ولكن الأصح عند جمع من الأصحاب أنهم لا يستحقون شيئًا. وما ذكره الشيخ من استحقاق ما جرت به العادة، وغايَرَ بينه وبين أجرة المثل (¬4)، لم يقل به أحد من الأصحاب في التفريع على هذا الوجه. والكل يقولون -في التفريع على هذا الوجه- أنهم يستحقون أجرة المثل. والذي جرت به العادة هو أجرة المثل كما (¬5) نقول في (مهر المثل): إنه القدر الذي يُرغب به في نكاح أمثال المرأة. وكذلك نقول في (قيمة المثل) في بناء (¬6) القدر الذي تنتهي إليه الرغبات، وذلك هو العرف. وحينئذ فالواجب للصناع المذكورين على هذا الوجه: أجرة المثل، ولا ¬
تُستحق زيادة على أجرة المثل، لا يختلف الأصحاب بل ولا العلماء في ذلك. ولعل الشيخ رأى كلام أبي إسحاق (¬1) في المسابقة عند فساد عقد المسابقة، وهو: أن المستحق ما يُعقد عليه المسابقة غالبًا إلا أن الفرق بينهما، أن مسألة أبي إسحاق ليس فيها منفعةٌ تحصل لمن تلزمه الأجرة، بخلاف مسائل الصناع. وقول الشيخ: (وقد قيل بمثل هذا في هبة الثواب) (¬2). يقال عليه: ذاك المذكور في الهبة ضعيفٌ مفرّع على ضعيف. والفرق بين الهبة وبين ما نحن فيه، أن هنا: ملاحظة العوضية، فعند عدم التسمية يُرجع إلى مقابلة ما فات من المنفعة التي للصانع، وهو أجرة المثل. وأما الهبة فلا يُلحظ فيها العوضية، لأن ملك المتّهِب يَبين (¬3) بالقبض بالإذن، من غير أن يملك الواهب في مقابلة ذلك: (الموهوبَ) عوضًا، وإنما المرجع إلى العادة، فلمّا تمحّضت العادة، قال بعض الأصحاب: يجب ما يُعدّ ثوابًا لمثله في العادة. ويدل لعدم ملاحظة العوضية في الهبة، أن المتّهِب لا يُجبَر على الثواب قطعا، بخلاف ما يتعلق بالصناع، فإنه يُجبَر المالك على دفع الأجرة قطعًا، وذلك مقتضى المعاوضة، ولم تتمحض فيه العادة، فوجب أجرة المثل على ما نفرّع عليه قطعًا. ¬
[فصل في حمل الأحكام على ظنون مستفادة من العادات]
وقضية ملاحظة العوضية: الرجوع بالمثل (¬1)، وقضية كلام الشيخ أنهم لو كانوا يعتادون أخذ عوضٍ، أن يجب ذلك العوض، وهذا مخالف للقواعد. 532 - قوله بعد ذلك: (ولا يجوز الدخول في الكنائس بغير إذن) (¬2). يستثنى منه: ما إذا كانت الكنائس بطريق المارّة. 533 - قوله: المثال الثاني والعشرون: (الاعتماد في كون الركاز جاهليًّا أو غير جاهلي، على العلامات المختصة) (¬3). يقال عليه: ليس هذا المثال، من فروع القاعدة، ولكن لمّا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وفي الركاز الخُمس) (¬4)، كان الركاز هو الجاهلي، ولا سبيل إلى العلم بكونه جاهليًّا إلا بالعلامات المختصة به، ولا تحكيم للعرف في ذلك، ولا اطّراد له به. 534 - قوله: (فما وُجدتْ عليه علامات الإسلام، كان لُقطةً واجبة التعريف) (¬5). يقال فيه: محل كونه (لُقَطة)، أن لا يكون مُحرَزًا، فإن كان مُحرَزًا فهو مالٌ ضائع. * * * [فصل في حمل الأحكام على ظنون مستفادة من العادات] 535 - قوله في فصل في حمل الأحكام على ظنون مستفادة من العادات: ¬
قوله: (المثال الثالث: الدخول إلى الأزقة والدروب المشتركة، جائز للإذن العرفي، فلو منعه بعض المستحقين امتنع الدخول، وإن كان فيهم يتيم أو مجنون ففي هذا نظر (¬1). يقال فيه: المختار: القطع بالدخول وإن كان فيهم يتيم أو مجنون، لإجماع الناس على ذلك في الأمصار والأعصار من غير استفصال. وقد أَتَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سُباطةَ قومٍ فبال قائمًا (¬2)، وهناك من ينظُر إليه (¬3)، فلو كان ذلك مقيدًا بأن لا يكون فيها مِلكٌ ليتيم ونحوه لبيّنه - صلى الله عليه وسلم -، وإلا كان تأخيرًا للبيان عن وقت الحاجة. وليس هذا من ترك الاستفصال في وقائع الأحوال، لأن الواقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلٌ، والفعل لا عموم له، بل من جهة أن ذلك يحضره من ينظر الفعلَ: مقامُ تشريع، فلو كان يتقيد بشيء لَبَيّنه. والجريُ على الإطلاق في ذلك، هو الذي درج عليه السلف والخلف. 536 - قوله: (المثال الثامن: سكوت الأبكار إذا استُؤذنّ) (¬4). يقال عليه: هذا المثال ليس من فروع قاعدة الفصل، لأن الحكم لله (¬5)، ¬
مستفاد من نص الشارع، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (والبِكر تُستأمَر، وإذنُها صُماتُها) (¬1). نعم، ما ذكره (¬2): حكمةُ الدليل، لا دليل الحكم. 537 - قوله في (المثال السابع) قبل ما تقدَّم (¬3): (ووطيُ المشتري الجاريةَ المبيعة بحضرة البائع، فإنه ينزّل منزلة الإمضاء)، إلى أن قال: (فإن الغالب من المسلم، أنه لا يُقدِم على الفجور مع إمكان الوطي الحلال) (¬4). يقال عليه: الأصح أنه لا ينزّل منزلة الإمضاء إذا كان الخيار لهما، بل يبقى خيار البائع. وقوله في التعليل: (فإن الغالب أن المسلم لا يُقدِم على الفجور)، ليس بجيد، لأن التبايع يكون بين كافرين، ومسلمٍ وكافرٍ أيضًا. وإنما العلة أن العقد جائز بالنسبة إلى البائع، فما ولي (¬5) منه على رفع العقد، عُمل به. 538 - قوله: (المثال الحادي عشر: الاعتماد على قول المقوّمين ¬
العارفين بالصفات النفيسة الموجبة لارتفاع القيمة، وبالصفات الخسيسة الموجبة لانحطاط القيمة) (¬1). يقال عليه: المثال الحادي عشر، تجميع صورة ليس من فروع قاعدة الفصل، لأن اعتماد قول المقوّمين ليس لِما ذُكر، بل لأن ذلك بينة شرعية يجب العمل بها. وكذلك: الاعتمادُ على قول الخارصين والقائفين، ليس لِما ذَكَر (¬2)، بل لأنهما حجتان شرعيتان. ولو كان لِما ذَكَره، اختص ذلك بالمقوّمين والقائفين والخارصين لجريانه في كل بينة دل الشرع على قبولها (¬3). نعم لقائل يقول: العلة في قبول الشرع شهادةَ البينات (¬4): غلبةُ أمانتهم. 539 - قوله: (المثال الثاني عشر: اعتماد المنتسب على مَيل طبعه إلى أحد المتداعيين في الأنساب، وهذا من أضعف الظنون) (¬5). يقال فيه: مَيل طبع المنتسب قويٌّ في نفسه، وإنما كان ضعيفًا بالنسبة إلى ما فوقه (¬6) من القيافة ونحوها. ¬
540 - قوله: (الثالث عشر: الاعتماد على كيل الكايلين، ووزن الوازنين) (¬1). يقال عليه: في هذا المثال نظر (¬2)، لأن الإصابة محققة في ذلك بما لها (¬3). 541 - قوله: (المثال الرابع عشر: الاعتماد في دفع اللقطة على وصف من يصف وِكاءَها (¬4) وعِفاصها وقدرَها، لظهور دلالته على صدقه) (¬5). يقال عليه: الاعتماد في دفع اللقطة على ما ذَكَر، دليلُه: الحديث الصحيح (¬6)، والحكمة فيه ما ذكره، وحينئذ فليس ذلك من دلالة العادات. 542 - قوله: (المثال الثامن عشر: سماع الشهادة بالإقرار مع إهمال الشاهد ذكرَ أهلية المقِرّ للإقرار، لغلبة الرشد والاختيار على المقِرِّين) (¬7). يقال عليه: ما ذكره من غلبة الرشد على المقرِّين والمتصرفين، يخالفه كلام قدَّمه: (لأن الغالب عدم الرشد) بالتفسير الذي ذكره الشافعي - رضي الله عنه - (¬8). 543 - قوله: (الأبواب المشروعة في الدروب المنسدّة، دالة على الاشتراك في الدروب إلى حدّ كل بابٍ منها) (¬9). ¬
[فصل في الحمل على الغالب والأغلب في العادات]
محل ما ذكره، أن لا يكون هناك مسجد ولا بئر مسبَّل، كما مرّ. 544 - قوله بعد ذلك: (والإقرار مقدم على البينة) (¬1). صورة تقديم الإقرار على البينة، أن يقيم البينة على شيء أنه مَلَكه، ثم يقرّ به لزيد. أو: تقوم بينة على إقراره أنه مِلكُ زيد. 545 - قوله بعد ذلك: (فائدة: اليد عبارة عن القرب والاتصال) (¬2). يقال عليه: اليد الشرعية حقيقة في الاستيلاء، لا القرب والاتصال. وأما تقدُّم إحدى اليدين على الأخرى لقوة استيلائها، كما في الراكب والسائق أو القائد ... (¬3). * * * [فصل في الحمل على الغالب والأغلب في العادات] 546 - قوله: (فصل في الحمل على الغالب والأغلب: من ملَك خمسًا من الإبل، فإنه تلزمه شاة من غالب شياه البلد) (¬4). يقال عليه: الأصح: لا يتعين غالب غنم البلد. ونقل صاحب (التقريب) فيه نصوصًا (¬5). وأما غنم البلد فإنها تتعين، ولا يُعدَل إلى مثلها أو خيرٍ منها. * * * ¬
[قاعدة كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل]
[قاعدة كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل] 547 - قوله: (قاعدة: كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل) (¬1). فإنه لفوات ركنٍ أو شرطٍ، وإلا فالبيع في زمن الخيار متقاعد عن مقصوده. 548 - قوله: (وجُعل أجل النكاح مقدّرًا بعُمر أقصر الزوجين عُمُرًا) (¬2). يقال عليه: لا يقال ذلك، لأنه ينفي بعض (¬3) إعادة بعد الموت، ولأن الأجل لم يُنظر فيه إليه. وتقديرُه بـ (عمر أقصر الزوجين عُمُرًا): من ضرورة الواقع. ¬
549 - قوله بعد ذلك: (بتعليم ما معك من القرآن، أو تلقين ما معك من القرآن) (¬1). يقال عليه: في تقدير التلقين نظرٌ، لأنه لا يلزم منه الحفظ الذي هو المقصود. 550 - قوله: (وكذلك جُوِّزت المساقاة على ثمر مجهول) (¬2). يقال عليه: ما ذكره من كون الثمر في المساقاة مجهولًا، فيه نظر، لأنه معلوم بالجزئية كالثلث والربع. وما ذكره من كون العمل معلومًا، فيه نظر أيضًا، إذ لو كان معلومًا لصحّت الإجارة عليه، والحكمُ عدم صحتها، وذلك بأن يلزم ذمتَه بالإجارة ما يلزم المُساقي. ¬
المعلَّقُ (¬1) عليه في الآية: الإرضاعُ، لا: الرضاعُ، وحينئذ فلا يتم الاستدلال على ما قصده من الآية. 551 - قوله: (وإن استوى الأمران، ففي هذا احتمال من جهة أن النظر لا يحلّ إلا عند غلبة الظن بالسبب المجوِّز) (¬2). اختار شيخنا سلمه الله تعالى، فيما إذا استوى الأمران: جواز النظر، لأن الشارع أَذِن فيه عند قصد النكاح، والشخص لا يَقصد غالبا نكاحَ من يَعلم أنه لا يُجاب إليها أو يغلب على ظنه أنه لا يُجاب إليها، ويَقصد نكاحَ من يَعلم أو يغلب على ظنه أنه يُجاب إليها. وكذا من يستوي عنده حالتَيْ الإجابة والمنع. 552 - قوله: (كالوقف على الفقراء أو الغزاة والحجّاج (¬3)، ولمعدومٍ ¬
مبهم: كالوقف على أولاد الأولاد بعد الأولاد؛ وكالوقف [على] من سيوجد (¬1) من الفقراء والمساكين إلى يوم الدين) (¬2). الوقف على الفقراء والغزاة، تمليك لـ (موجودٍ مُبهم) وهم الموجودون حال الوقف؛ و (معدومٍ مُبهم) وهم مَن بعدهم. فهو تمليكٌ لموجودٍ مُبهم؛ ومعدومٍ مُبهم. في كون (¬3) (أولاد الأولاد) من (المعدوم المبهم): نظر، لأنهم معيّنون بنوع معيّن، وليسوا كجهة الفقراء. والأحسن أن يمثّل (المعدوم المبهم) بـ (الوقف على الفقراء)، فإنه يتناول المعدومين حال الوقف كما مرّ. 553 - قوله: (وكالوقف على من سيوجد من الفقراء والمساكين) (¬4). الوقف على من سيوجد من الفقراء والمساكين، من أمثلة (منقطع الأول)، والمذهب فيه البطلان. 554 - قوله: (وكذلك إخراج المنافع إلى غير مالكٍ كالوقف على بناء القناطر والمساجد) (¬5). الوقف على بناء القناطر والمساجد، ليس من إخراج المنافع إلى غير ¬
مالكٍ، لأن المالك ها هنا: جهةُ الإسلام. قال شيخنا سلمه الله تعالى: وهو من أمثلة (منقطع الأول). 555 - قوله: (فائدة: إذا مات الموجِب بين الإيجاب والقبول، بطل إيجابه، بخلاف الوصية إذ لا يتم مقصودها (¬1) إلا كذلك، بخلاف سائر العقود) (¬2). يقال عليه: ليس تراخي القبول عن الإيجاب لِما ذكره الشيخ، بل لأن الموت شرطٌ في صحة القبول، ولا عبرة بالقبول قبل موت الموصي. 556 - قوله: (وجاز فيها (¬3) الوقف فيما زاد على الثلث على الأصح، مع أن الشافعي - رضي الله عنه - لا يرى وقف العقود) (¬4). يقال عليه: ليس من وقف العقود، لأن العقد قد تم بإيجاب الموصِي في حياته وقبولِ الموصَى له بعد وفاته، وإنما ذاك شرطٌ في النفاذ والإلزام. 557 - قوله في (النوع الثاني): (فلو لزمتْ من جانب الوكيل لأَدَّى إلى أن يزهد الوكلاء في الوكالة خوفًا من لزومها) (¬5). يقال عليه: والموكِّل أيضًا كذلك. 558 - قوله في (الموكّل): (ولو لزمتْ من جانب الموكِّل، لتَضَرَّر، لأنه قد يحتاج إلى الانتفاع بما وَكَّل به) إلى آخره (¬6). ¬
[قاعدة فيما يوجب الضمان والقصاص]
يقال عليه: لا يلزم مما ذُكر، لأن ذلك يرتفع بتصرف الموكِّل من أكل وشرب ولُبس وهبة وبيع، وغير ذلك. 559 - قوله: (وأما العواري، فلو لزمتْ، لزهد الناس فيها) (¬1). يستثنى من عدم اللزوم: ما إذا أعار لدفن ميتٍ. وما إذا أعاره ما فيه سماعُه (¬2). وما إذا أعار جدارًا لوضع الجذوع، فوُضعت، فإنه لا يرجع ما دامت الجذوع عليه، عند العراقيين. والأصح أنه يرجع. وفائدته: البقاء بأجرة المثل، أو القلع وضمان أرش النقص (¬3). 560 - قوله: (وكذلك الوصيّ، إذا لم يجد حاكمًا يوثَق به، فينبغي أن لا ينفُذ عزلُه نفسَه) (¬4). يقال عليه: الوصي، ليس أمرُه عامًّا، فلا ينزَّل منزلة الإمام أو القاضي، بل ينفُذ عزلُه نفسَه. ومن سَلَّم المال لغير مستحق التسليم، كان ضامنًا. * * * [قاعدة فيما يوجب الضمان والقصاص] 561 - قوله في القاعدة لِما يوجب الضمان والقصاص: (يجب الضمان بأربعة أشياء: اليد، والمباشرة، والسبب (¬5)، والشرط) (¬6). ¬
يقال عليه: أَهمَل خامسًا، وهو ضمان العقد. والفرق بين (ضمان العقد) و (ضمان اليد): أن ضمان العقد يُضمن بما تواضع عليه المتعاقدان، وضمان اليد يُضمن بالبدل الشرعي من مثلٍ أو قيمةٍ. 562 - قوله: (وتلزمه قيمته حال ولادته، وهذا مخالف للقواعد في كون المُتلَف إنما يُضمَن بقيمته حال إتلافه دون ما قبلها وما بعدها. وإنما خرج هذا عن القاعدة، إذ لا قيمة له يوم الإحبال، فإنه نطفة مذِرة) إلى أن قال: (فلذلك قُدر الإتلاف متأخرًا إلى حين الوضع وكأنه رقيقٌ فُوِّتتْ حريته حال الوضع، ولهذا جُعل الولد تابعًا لأمّه في الملك) (¬1). يقال عليه: لم تظهر ملاقاة هذا الكلام لِما قصده الشيخ. وإنما قُوِّم عند خروجه؛ لأن ذلك أوّل حالٍ يمكن التقويم فيه، ولهذا لو خرج ميتًا بلا حياته، لم يلزم فيه شيء، لأنه لا يمكن تقويمه ميتًا. 563 - قوله: (إذ لا يَحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث (¬2) اتبع الشيخُ في هذا: الحديثَ؛ وإلا فقتلُ المسلم يحلّ بغير هذه الثلاث، كقتله بترك الصلاة كسلًا، وقتله في المحاربين، لأن الحد مغلَّب فيها بالنسبة إلى القتل. 564 - قوله: (فائدة: إذا شهد اثنان بالزُّور على تصرفٍ، ثم رجعا، فإن كان ذلك التصرف مما لا يمكن تداركه كالوقف والعتاق، لزمهما الضمان. ¬
[قاعدة فيمن تجب طاعته، ومن تجوز، ومن لا تجوز]
وإن كان مما يمكن تداركه كالأملاك والأقارير، وجب الضمان على الأصح. فإن تمكّن الموقوف عليه من الوقف) إلى آخره (¬1). ما ذكره من قوله: (فإن تمكن) إلى آخره، مردود، لأن بعد وقوع الحد، قد لزم المشهودُ به، فلزم الراجعَ الغرمُ، للحيلولة التي لا تُستدرك لها. وما ذكره لا يصلح أن يكون مستدركًا. ولعل الشيخ أخذ ذلك من (مسألة: الزوجة تُقرّ لواحدٍ، ثم لآخر بالزوجية)، فإنها تُسلَّم للأول، فإذا مات الأول أو أبانها وانقضت العدة في الحالين، سُلِّمت للثاني. ولكن الفرق بينهما أن ها هنا صدر حكمٌ لا سبيل إلى رفعه، وهنا صُوِّر إقرارٌ زال حكمه بزوال ما تعلق بالمقَرّ له. ولا يَرِد: (المستولدة، إذا شهدوا بعتقها في حياة سيدهم، ثم رجعوا، فغرّمهم السيد، ثم مات السيد، فإنهم يستردّون ما غرموه) -على ما بحثه في (الكفاية) (¬2) -، إن سُلِّم الفرق، وهو أن الذي جرى بعد موت السيد يوافق للشهادة (¬3) للمحكوم بها، والسيد يعترف به. * * * [قاعدة فيمن تجب طاعته، ومن تجوز، ومن لا تجوز] 565 - قوله: (ولا طاعة لأحد في معصية الله تعالى لِما فيها من المفسدة المُوبقة في الدارين أو أحدِهما) (¬4). ¬
[قاعدة في الشبهات الدارئة للحدود]
مراده بـ (أحدهما): الآخرة، إذ لا يتصور أن تكون مُوبقة في الدنيا دون الآخرة. وكان الأحسن أن يقول: (في الدارين أو في الآخِرة (¬1). 566 - قوله: (فإن كان المذهب الذي أراد الانتقالَ إليه مما يُنقَض فيه الحكم، فليس له الانتقال) إلى آخره (¬2). يقال: وهذا ظاهر متّجه إذا قلنا: كل مجتهد مصيب، فيه نظر. والظاهر خلافه لِما تقدم من أن يعتدّ (¬3) بما يجده من نفسه، والظن المستفاد من أدلة الشرع أقوى مما يستفيد من غيره. * * * [قاعدة في الشبهات الدارئة للحدود] 567 - قوله: (وأما الشبهة الثانية فدرأت الحدّ، لأن ما فيها من ملكه يقتضي الإباحة، وما فيها من ملك غيره يقتضي التحريم) إلى آخره (¬4). ما ذكره من: أن ما فيها من ملكه يقتضي الإباحة، إنْ أراد: أنه يقتضي الإباحة في حال الاشتراك فممنوع. وإن أراد: أنه يقتضي الإباحة إذا حُمل ملكه جمليها فمسلّم. والظاهر أن مراده: الأول. ويناقضه قوله بعدُ في (مسألة الرغيف): أنه يأثم بأكل نصيبه، ولكن ليس مثل أنه يأكل نصيب شريكه (¬5). ¬
واختار شيخنا سلمه الله تعالى (¬1)، أنه لا يأثم بأكل نصيب نفسه في (مسألة الرغيف)، وإن أثم بوطي نصيبه، لأنه لا يمكن تمييز نصيبه من الجارية أصلًا، بخلاف نصيبه من الرغيف، وصارت صرفة (¬2) الجارية المشتركة كالمشتركة في استحقاق الدم إذا قَتَل أحدُ الشركاء بغير إذن الباقين (¬3)، فإنه لا يقال: ما فيه من نصيبه يقتضي الإباحة، لأنه لا يمكن التمييز فيه بوجه. وقد تقدم من الشيخ (¬4) الإشارة إلى ما بيّنه هنا على وجه يفهم غير مراده، فليراجع. وقوله: (بل يأثم إثم الوسائل) (¬5)، يعني: في نصيب نفسه كلامٌ يصح مثله في نصيب شريكه. 568 - قوله: (وإنما الشبهة: التعارض بين أدلة التحريم والتحليل) إلى آخره (¬6). ما ذكره من أن الشبهة: التعارض بين أدلة التحريم والتحليل، فيه نظر، ¬
[قاعدة في المستثنيات من القواعد الشرعية]
لأن التعارض يقتضي الوقف لا اتباعَ أحد المتعارضَيْن. والصواب أن يقال: الشبهة اختلاف العلماء مع تقارب الأدلة. * * * [قاعدة في المستثنيات من القواعد الشرعية] 569 - قوله: (تغيُّرُ أحد أوصاف الماء بشيء طاهر، سالبٌ لطهوريته. استُثني من ذلك ما يشقّ حفظ الماء منه) (¬1). يقال عليه: ليس التغير بما شَقَّ حفظُ الماء منه، داخلًا في (قاعدة المتغير بشيءٍ سالب للطهورية) حتى يستثنى منه، وذلك أن النصوص الواردة لاستعمال الماء، تُخرج التغير بنحو الزعفران تغيرًا كثيرًا يزيل اسم الماء؛ ولا تُخرج المتغير بطول المكث، وبالطُّحلب، وبما في مقرّه وممرّه، لبقاء اسم الماء. فالمدار على الاسم وعدمه. ويدل لما قلناه، أن السيد لو أَمَر عبده بإحضار ماءٍ، فأَحضر ماءً متغيرًا بالطُّحلب، أو بما [في] مقرّه وممرّه، أو بالمكث؛ فإنه يُعد ممتثلًا. ولو أحضر ماءً متغيرًا كثيرًا بزعفران مثلًا، لا يُعد ممتثلًا، لعدم الاسم. ومن ثَمَّ لو حلف: لا يشرب ماءً، حنث بالأول دون الثاني. 575 - قوله: (استُثني من ذلك غُسالة النجاسة ما دامت على المحل) (¬2). ¬
محل ما ذكره في غسالة النجاسة، ما لم يتغير (¬1) بما على المحل، فإن تغيرت به فهي نجسة. 571 - قوله: (ولو قيل: إنما طهر الجسد من الحدث بالمقدار الذي لاقاه من الماء دون ما وراء ذلك) إلى آخره (¬2). لا يَرِدُ، لأن الاستعمال مغيرٌ مؤثرٌ سَلْبَ الطهورية في الماء القليل، ولا فرق في هذا بين الملاصق للجسد وغيره، ألا ترى أن التراب يثبت له حكم الاستعمال سواء ما التصق بالعين (¬3) وما تناثر منه. وفي المتناثر وجهٌ لا يأتي هنا؛ لأن المائع ليس له قوة الجامد في كونه حاجزًا. ويدل لهذا المعنى أن الاستعمال لو كان في ماء كثير، فإنه لا يسلُب الطهورية بلا خلاف، وصار الاستعمال في سلبه للطهورية كالنجاسة التي لا يُعفَى عنها في سلبها الطهارة، إلا القليل بمجرد الوقوع. ولو كانت في الكثير، ولا تغيّر بطريق الحق (¬4) ولا بطريق التقدير، فإنها لا تؤثر بلا خلاف. ويلزم على تقدير الفرض على ما ذكره: أنه لو كثُر الماء وكثُر المغتسلون فيه، وكان الملاقي لهم -لو قُدِّر مخالفًا- تَغَيَّر، فإنه يؤثر، وهو خلاف الاتفاق. ¬
572 - قوله: (والخنزير أسوأ حالًا منه لوجوب قتله بكل حال) (¬1). يقال: الأصح استحباب قتل الخنزير (¬2). استُشكل تعليل الأَسْوئيّة بـ (قتله) (¬3)، لأن الفواسق الخمس يُقتلن وهنّ طاهرات. 573 - قوله: (وإذا كانت الجراحة نضّاخة بالدم بحيث لا ينقطع، فحكمها حكم دم الاستحاضة) (¬4). يقال: قوله في (الجراحة النضاخة: حكمها حكم دم الاستحاضة)، مراده بالنسبة إلى العفو، وإلا فدمُ الاستحاضة حدثٌ، وهذا ليس بحدث. ودم الاستحاضة لا تصلّي صاحبتُه إلا فرضًا ونوافل، والجراحة النضاخة ليست كذلك. 574 - قوله: (فنظرُ كل من الزوجين إلى صاحبه للحاجة وغيرها) (¬5). وفي كون الأصل: (ستر العورات)، حتى يُستثنى منه، نظرٌ (¬6). ¬
575 - قوله: (وجُعل صَوْبُ السفر بدلًا من القبلة لأنه هو الذي مسّت الحاجة إليه، كما جُعلت جهة محاربة الكفار بدلًا من القبلة) (¬1). يقال: جهة محاربة الكفار مختلطة، وقد تكون في صوب القبلة كما قيل في قوله تعالى: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239]، قال ابن عباس: مستقبِلِي القبلة وغير مستقبِلِيها (¬2). وقد يلجأ المحارب إلى غير جهة المحاربة بأن يولّي فارًّا، وقد يحتاج في الآنِ الواحد إلى استقبال جهات. فليست له جهة مستقرة كصوب السفر حتى تُجعل بدلًا عن القبلة. 576 - قوله: (واستُثني من ذلك: الفاتحةُ وقيامُها في حق المسبوق جبرًا لهما بشرف الاقتداء) (¬3). الأحسن أن يقال: جبرًا لهما بشرف الاقتداء وإدراك الركعة، أو جبرًا لهما بإدراك الركعة، وإلا فمجرد الاقتداء ليس كافيًا في ذلك. 577 - قوله: (ولو قرأ المسبوق بعض الفاتحة، فركع الإمام قبل إتمامها، فالمختار إلحاقه بالمسبوق بجميع قراءة القيام) (¬4). أصح الأوجه أنه إن لم يشتغل بالافتتاح والتعوذ، تَرَك قراءته وركع، وهو مدركٌ للركعة، وإلا لزمه قراءةٌ بقدره. ¬
578 - قوله: (السادس عشر: مساوقة المأموم الإمامَ في أركان الصلاة جائزة) (¬1). يقال عليه: المساوقة: مجيءُ واحدٍ بعد واحد (¬2). مقصودُ الشيخ بها: بحثُ (¬3) (المقارنة)، وهو تابع للغزالي وغيره في استعمال (المساوقة) بمعنى (المقارنة) (¬4). وهو قاعدة شيخنا (¬5). فالصواب أن يقال: مقارنة المأموم الإمامَ، إلى آخره. ¬
579 - قوله: (السابع عشر: مخالفة المؤتم الإمامَ بالمسابقة إلى الأركان، إنْ كثرت أفسدت الصلاة) (¬1). يقال: الأَولى حذف قوله: (وإن (¬2) كثرت أفسدت)، والاقتصارُ على التفصيل بعده (¬3)، لاقتضائها أنه إذا سَبَق إلى الأركان، واجتمع مع الإمام في كل ركنٍ، أنها مبطلٌ (¬4)، وليس كذلك كما بيّنه بعدُ. فالأحسن أن يقال: (مخالفة المؤتم الإمام بالمسابقة عمدًا إلى الأركان: إن سَبَق بركنين، بطلت) إلى آخره. 580 - قوله: (وفي الانتظار في صلاة ذات الرقاع، تقديمًا لمصالح الجهاد على مصالح الاقتداء. وعلى التحقيق: هذا جمعٌ بين مصالح الاقتداء ومصالح الجهاد، فإن الحراسة والانتظار ضربٌ من الجهاد) (¬5). قال شيخنا سلّمه الله تعالى: التحقيق أن ذلك تقديم لحفظ المسلمين، وحصول الجماعة لهم. ¬
وما قال الشيخ (¬1) من أن الحراسة ضربٌ من الجهاد، ممنوع (¬2). 581 - قوله: (ولا يصلَّى على الشهداء، فإنهم قد غُفرت لهم الزلات، لأن أول قطرة تقطر من دم الشهيد، يُكفّر بها كل ذنب إلا الدَّين) (¬3). فقال شيخنا أدام الله به النفع للمسلمين: إنما لم يصلَّى (¬4) على الشهداء، لأن الصلاة على الميت تابعة لغَسله، والشهيد لا يُغسل فلا يصلَّى عليه. 582 - قوله: (فإن قيل: لِمَ تَرَك - صلى الله عليه وسلم - الصلاة على المَدين مع افتقاره ¬
إليها (¬1)؟ قلنا: تركها تنفيرًا من الديون لِما في العجز عن أدائها من مضرة أربابها، ولأن المَدين إذا حَدَّث كذب، وإذا وعد أخلف) (¬2). الأحسن أن يقال؛ تركها تنفيرًا عن التكاسل عن أداء الديون. (ولأن المدين إذا حدَّث كذب) (¬3): لا يناسب المقام ولا الدليل الذي ذكره، لأن الحديث في الدَّين العام، والمقام أعم منه. 583 - قوله في (المثال السادس والعشرون): (إذا قلنا: يملك الفقراء الزكاة بحول الحول، فنفقة نصيبهم على المزكِّي، وهذا مستثنى من إيجاب نفقة المِلك على المالك) (¬4). يقال: إنما كانت نفقة الفقراء على المزكي لعدم استقرار ملك نصيبهم، بل إن له أن يعطي من غيره، وإنهم ممنوعون من التصرف. فالملك في الحقيقة إنما هو للمالك، ولكن للفقراء عُلقة المِلك. ويظهر أثر العلقة فيما إذا لم يُخرج من النصاب شيئًا من السنة الأولى، فإنه لا تجب [في] السنة الثانية مما نقص بذلك، زكاةٌ (¬5). ¬
584 - قوله: (وإنما استُثني ذلك لعُسر إحضار المقوِّمين إلى أهل البوادي) (¬1). يؤخذ منه: الفرق بين ذلك وبين الخَرْص (¬2)، لأن الحوائط غالبَّا تَجاور البُلدان. 585 - قوله في (المثال الثلاثون): (لا يثبت شيء من الشهور إلا بشاهدين عدلين، وتثبت أوقات الصلاة بخبر العدل الواحد) إلى قوله: (فيصير كالإخبار عن الشرعيات) (¬3). يقال: قوله: (كالإخبار عن الشرعيات)، يقتضي ظاهرُه أنه يُسلك بذلك مسلك الرواية، وهو وجهٌ. والأرجح أنه يُسلك به مسلك الشهادة. 586 - قوله: في (المثال الحادي والثلاثون): (لا تصح النيابة في شيء من العبادات كالعرفان والإيمان والصلاة) (¬4). ¬
يقال عليه: العرفان والإيمان لا يتصور فيها النيابة حتى يقال: لا تصح، لأنه يقال: (يصح كذا) أو (لا يصح) إلا فيما يمكن أن يقع وأن لا يقع (¬1). 587 - قوله: (من نوى التنفل بعبادة من العبادات، لم ينقلب تنفله فرضًا إلا في النسكين) (¬2). يُزاد على حَصْرِهِ: التشهد الأخير، بنية الأول. والجلوس بين السجدتين، بنية جلسة الاستراحة. وغَسل اللمعة المُغفَلة في الأولى، بنية النفل في الثانية. 588 - قوله: (وأما الاعتكاف، فيُخرَج منه تارة بانتهاء مدته كالصوم، وتارة بالخروج من المسجد بغير عذر؛ بخلاف الحج فإنه يُخرَج منه وخروجين: أحدهما: بالتحلل الأول، والثاني: بالتحلل الثاني) (¬3). أَثبَت شيخنا -سلمه الله تعالى- للحج ثلاث تحللات (¬4)، وذلك أن حَلْق ¬
غيرِ شعر الرأس، يُحلّ بعد حلق الرأس أو سقوطِهِ عمن لا شعر على رأسه، فهذا هو التحلل الأول. فإذا أَتَى بآخَرَ من الاثنين الآخَرَيْن، وهما: الطواف ورمي جمرة العقبة، حلّ به ما عدا (...) (¬1) الصيد ... (¬2)، فهذا هو التحلل الثاني. فإذا فَعَل الثالث، حلّ به سائر الجهات. 589 - قوله في (المثال الثالث والأربعون): (من نذر جنسًا لم يبرأ من نذره بجنس آخر وإن كان أفضل من المنذور. فمن نذر التصدق بدرهم، لم يبرأ منه بدينار) (¬3). يقال: أَهمَل: ما إذا نذر الصلاة أو الاعتكاف في مسجد المدينة أو بيت المقدس، فإنه يقوم مقامها: مكةُ. وإن نذر ذلك بمسجد الأقصى، قام مسجدُ المدينة مقامه، ولا عكس. 590 - قوله: (فإن قيل: هل يستقل أحد بالتملك والتمليك؟ وهل يقوم أحدٌ مقام اثنين أم لا؟ قلنا: نعم) (¬4). يقال: لا عبرة ... (¬5) رِضًا لنائبه ولا يرضاه؛ فإذا حصل الرضا من مستنيبه، تصرَّف الحاكم، رَضِي النائبُ النائب أو أَبَى (¬6). 591 - قوله في تملك مال ابنه لنفسه: (وإذا فَعَل ذلك، فهل ¬
يفتقر إلى إيجاب وقبول؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، ليأتي بصورة العقد. والثاني: لا، لتحقق الرضا) (¬1). يقال: وذا ما ذكره الشيخ من الوجهين. أوفيه، وجهان آخران: أحدهما: الاكتفاء بالإيجاب. والثاني: الاكتفاء بالنية من غير احتياج إلى إيجاب وقبول (¬2). 592 - قوله: (وإن زَوَّج الجدُّ بنت ابنه، بابن ابنه، ففيه خلاف، مأخذُه أن تولّي الأب لطرفي البيع كان لكثرة وقوعه أو لقوة الولاية) (¬3). يقال عليه: بل مدرك الخلاف عندي: أن النكاح دخله ضرب من التعبد. فمن راعى التعبد، اعتَبر موجِبًا وقابلًا، فمَنَع تولّي الطرفين في تزويج بنت ابنه بابن ابنه الآخر. ومن لم يراعِهِ، جَوَّز ذلك بالقياس على الأب. 593 - قوله: (استقلال الشفيع يأخذ الشقص المشفوع) (¬4). مراده: أن الشفيع قام مقام نفسه ومقام المشتري في الشقص المشفوع، فكان مستقلًا بالتملك والتمليك في الشقص المشفوع. قال شيخنا سلمه الله تعالى: وفيه نظر من جهة أن ذلك تملّكٌ قهري، والتملك القهري لا يراعى فيه تمليك وتملّك، كالإرث. 594 - قوله: (الخامس: استقلال الملتقط بتملك اللقطة، إقامةً له مقام مقرض ومقترض) (¬5). ¬
ما ذكره من إقامة الملتقط مقام مقرض ومقترض، إن أراد: (في الحال)، ففيه نظر، لأن ذلك تمليك شرعي. وإن أراد: (في المآل عند ظهور المالك)، على معنى: أنا نتبين عند ظهور الملك، أنه كان قائمًا مقام مقرض ومقترض، فمسلَّم. 595 - قوله: (السادس: استقلال القاتل بتملك سلَب القتيل، واستقلال السارق بتملك ما يسرقه من دار الحرب) إلى آخره (¬1). دخول السلَب في ملك القاتل، قهريٌّ، وكذا الحكم في الأمثلة المتبقية (¬2)، وذلك تمليك شرعي كالإرث، فلم يقم أحد ممن ذُكر مقام مملِّك ومتملك. 596 - قوله: (فمن أَبرَأ مما لا يَعلم جنسَه أو قدرَه، برئ المُبرَأ من القدر المعلوم منه، ولا يبرأ من المجهول على الأصح. ومن برَّأَه من المجهول كان هذا عنده مستثنى من قاعدة اعتبار الرضا) (¬3). ما ذكره من أن هذا مستثنى من قاعدة اعتبار الرضا عند من بَرَّأَه من المجهول، فيه نظر، لأن الظاهر أن المُبرِئ رضي بأن يُبرئه من أعلى ما يمكن أن يكون في ذمته ووَطَّن نفسه عليه. وليس هذا مستثنى من قاعدة اعتبار الرضا عند من برَّأَه بالمجهول. 597 - قوله: (ولأجل قاعدة اعتبار الرضا، نهى الشرع عن بيع الغرر، لأن الغرر ما جهِلتَه وانطوَى عنك أمره) (¬4). ¬
اختار شيخنا - رضي الله عنه - (¬1)، أن النهي عن بيع الغرر، لقطع النزاع، لا لما ذكره الشيخ (¬2) من قاعدة اعتبار الرضا. 598 - قوله: (المثال الخامس: لا يدخل في البيع إلا ما تناوله الاسم. وقد اختلف في الاستثناء من هذه القاعدة، ولذلك أمثلة: أحدها ثياب العبد، للعرف في ذلك. وهذا لا يصح، لأن العرف دلّ على إطلاقه والمسامحة به لا على تمليكه) (¬3). قوله: (لأن العرف دلّ على إطلاقه) إلى آخره، فيه نظر، إذ لو كان كذلك، لصح رجوعه قبل القبض وبعده إذا باع العبدُ من طفله، أو قبل القبض إذا كان البائع أجنبيًّا. والفرض أنه لا يصح الرجوع بحال. 599 - قوله: (المثال السابع: إذا باع عينَيْن، ثم وَجد بأحدهما عيبًا، فأراد أن يُفردها بالرّدَ قبل تَلَف إحداهما) إلى قوله: (ويردّ بدل قيمة اللبن صاعًا من تمرٍ) إلى آخره (¬4). قوله: (يردّ قيمة اللبن) كذا في بعض النسخ. وصوابه: (ويردّ بدل اللبن) بإسقاط (قيمة)، لأن الشارع جعل الصاع في مقابلة اللبن، لا في مقابلة قيمته. 600 - قوله: (ومنها: التوثق بالحَجْر على البائع إذا أوجبنا البداية بتسليم الثمن على المشتري. وهذا حَجْرٌ بعيد) (¬5). يقال: قوله: ومنها: التوثق بالحجْر على البائع أي في الثمن، إذا أوجبنا ¬
البداءة بتسليم الثمن على المشتري، وسلَّمه، فإنه يُحجر على البائع في الثمن حتى يسلّم العين المبيعة للمشتري. وهذه الصورة عكس (الحجْر الغريب) من جهة أنه يُحجر على المشتري، إلا أنه في الحجْر الغريب يُحجر عليه في جميع أحواله (¬1) حتى يسلِّم الثمن. وفي الصورة التي ذكرها الشيخ، يُحجر على باقي الثمن. 601 - قوله (¬2): (من لا يملك تصرفًا، لا يملك الإذن فيه. ويستثنى من ذلك: المرأة، فإنها لا تملك النكاح، وتملك الإذن فيه) إلى آخِر المثال الثالث عشر (¬3). محل ما ذكره أن لا يكون ما يتملكه تابعًا لما يملكه، فإن كان تابعًا لقوله: (وكذلك في بيع ما أملكه وما سأملكه) فإنه يصح. واستثنى شيخنا سلمه الله تعالى أيضًا: أمين الحكم بنَصْب الحاكم على الأيتام، فإنه يصح وإن لم يكن حينئذ أيتامٌ موجودون، لأن ذلك مراعى فيه للجهة. ومن فروع المسألة: ما في (الروضة) عن (فتاوى البغوي) (¬4) أن التي ¬
يُعتبر إذنها في تزويجها، إذا قالت لوليها وهي في نكاح أو عدّة: (أذنتُ لك في تزويجي إذا فارقني زوجي أو انقضت عدّتي) (¬1). والأصح أنه لا يصح، خلافًا لما وقع في (الروضة) في كتاب النكاح، فإنه قال بعد ما تقدم: (فإنه ينبغي أن يصح الإذن، كما لو قال الولي للوكيل: زوِّج بنتي إذا فارقها زوجها أو انقضت عدّتها). ثم قال: (وفي هذا التوكيل وجه ضعيف: أنه باطل، وقد سبق في الوكالة). والذي سبق في الوكالة أن الأصح: الصحة. 602 - قوله في (المثال الثاني عشر): (لا يجوز توكيل الإنسان ولا إذنُه فيما سيملكه، إذ لا ينعقد إذنه فيما لا سلطان له عليه إلا في المضاربة، فإن إذن المالك في بيع ما سيملكه من العُروض، نافذ) إلى آخره (¬2). يقال: يستثنى مع ما ذكره: توكيل المُحرِم حلالًا في التزويج. وكذا إذا وكَّل الوليّ امرأةً لتوكِّل رجلًا عنه في تزويج ابنته. وكذا توكيل المشتري: البائعَ؛ أو المسلِمُ: المسلَم إليه في أن يوكّل من يقبض عنه. وكذا التوكيل في الطلاق إذا قلنا: يمتنع في المسألة السُّريجية. وكذا توكيل المستحق في استيفاء القصاص من الأطراف. وكذا توكيل من ليس بوكيل في المباشرة: أن يوكِّل في كذا، بشيء معين. 603 - قوله: (ومن لا يملك الإنشاء، لا يملك الإقرار بما لا يملكه من ¬
الإنشاءات. وقد استثني منه: المرأة، فإنها لا تملك إنشاء النكاح، وتملك الإقرار به) إلى آخره (¬1). يستثنى من قاعدة: أن (من لا يملك الإنشاء، لا يملك الإقرار) مسائل، منها: الإقرار بالنسب. ومنها: إقرار المفلس ببيع الأعيان. ومنها: إقرار الأعمى بالبيع. ومنها: إقرار الوارث بدَينٍ على مورّثه. ومنها: إقرار المريض لوارثه (¬2) أنه قد كان وهبه. 604 - قوله: (الخامس عشر: إيجار المأجور (¬3) بعد قبضه جائز، مع أن المنافع لم تُقبض) إلى آخره (¬4). قوله: (إيجار المأجور بعد قبضه جائز) أي: من غير المؤجِر (¬5). أما من المؤجِر فيجوز بعد قبضه، وكذا قبل قبضه على الأصح. ويصح إيجار المأجور من المؤجِر قبل قبضه على الأصح، فما الفرق؟ قلنا: الفرق أن القبض الحقيقي في البيع ممكن فاعتُبر، وليس ممكنًا في المأجور لأن العقد حقيقة واردٌ على المنافع، ولا يمكن القبض الحقيقي فيها. 605 - قوله: (ولو استأجرها ذرّية مستأجريها (¬6) بأجرة مجهولة، لم يجز ¬
على الأصح، إذ يجوز للمصالح العامة ما لا يجوز للخاصة. وقال ابن سُريج؛ ما يؤخذ منهم ثمنٌ. وهو أيضًا خارج عن القياس. ولكن الذي ذكره الشافعي أبعد من القياس، لأن الجهالة واقعة في العوض والمعوّض) (¬1). ما ذكره الشافعي - رضي الله عنه -، يفقهه عند قرب القياس مما ذكره ابن سريج، لأن ابن سريج أَلزَم بها مجهولًا مستمرًا أبدًا في مقابلة رقبة مملوكة، ولا نظير له. والشافعي جَعَل أجرةً مستمرة أبدًا في مقابلة مأجور، وهذا معروف مألوف. 606 - قوله: (وفي مذهب الشافعي إشكال من جهة حكمه بالوقف على أرباب الأيدي بمجرد الرواية من غير بينة قامت على ذلك) إلى آخره (¬2). هذا الإشكال أورده شيخنا (¬3) سلمه الله تعالى في (تصحيح المنهاج) من غير أن يقف على كلام أحد، وأجاب عنه بأن المجتهد إذا ثبت (¬4) عنده خبر في قضية مختصة، رتّب الحكم على ما ثبت عنده اعتقادًا وعملًا، فيُلزِم المحكومَ عليه بمقتضاه. ومن ذلك أنه ثبت عند المجتهدين قوله - صلى الله عليه وسلم -: (نحن معاشر الأنبياء، لا نورَث، ما تركناه صدقة) (¬5)، فرتّب عليه مقتضاه اعتقادًا. ¬
وقد رتَّب عليه الصدّيق مقتضاه عملًا بمقتضى الخلافة، وجرى عليه عمر في خلافته عملًا، وجرى على ذلك المجتهدون اعتقادًا. 607 - قوله: (وقد أجاز بعض العلماء الإجارة على الغد، وعلى الحول القابل، لأن المنافع لا تكون في حال العقد إلا مَعْرُوفة (¬1)، فلا فرق بين المنافع المتعقّبة للعقد وبين المنافع المستقبلة. والشافعي - رضي الله عنه - يجعل المنافع المستقبلة في العقد المتحد، تابعةً لما يَتعقب العقد من المنافع) (¬2). يقال: ليست المنافع مستقبلة (¬3) في نظر الشافعي تابعةً لما يتعقب العقد من المنافع، حتى يلزم ما ذكر، وإنما العقد في نظر الشافعي واردٌ على المنافع كلها دفعة واحدة، ولكن يَعتبر (¬4) اتصالها بالعقد لينزل العقد على شيء (¬5) موجود. ويوضحه أنه إذا قال: (وقفتُ على من سيولَد لي)، فالمذهب بطلانه لعدم موجود ينزل عليه الوقف في الحال. ولو (وَقَف على أولاده)، دخَّلْتَ (¬6) مَنْ سيولد. والوقف يتناول الموجودين والمعدومين دفعة واحدة. ¬
608 - قوله: (فلو شَرَط المستأجر على الأجير أن يستوعب النهار بالعمل من غير أكل وشرب يقطع المنفعة، لزمه ذلك) (¬1). توقّف شيخنا سلمه الله تعالى فيما إذا كان عدمُ شرط الأكل والشرب يضُرّ بالأجير ضررًا ظاهرًا. ومال (¬2) إلى البطلان حينئذ. 609 - قوله: (ويجوز أن تكون مخالطة المحجور عليهم، ومخالطة المطلِّقين (¬3)، من باب المعاوضة، فيكون ما يأكله كلٌّ منهم من نصيب غيره، في مقابلة ما بذله من نصيب نفسه) (¬4). يقال: ما جوّزه الشيخ من جعله من باب المعاوضات، بعيد جدًّا، لأنه يلزم عليه محذورات لا ضرورة لى ارتكابها. والذي يتعين فيه أن يكون: من باب الإباحات. 610 - قوله: (وأجمع آية في القرآن لحث على المصالح كلها وللزجر عن المفاسد بأسرها، قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} النحل: 90] للعموم والاستغراق) (¬5). يقال: قوله: (وأجمع آية في القرآن هي). أجمعُ آية في لك: قوله -سبحانه وتعالى-: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)} [الزلزلة: 7، 8] ومن ثَمَّ قال - صلى الله عليه وسلم - حين سُئل ¬
عن الحُمُر: (ما أُنزل عليّ فيها شيءٌ إلا هذه الآية الفاذّة الجامعة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}) (¬1). 611 - قوله في المثال الثاني والعشرين: (الكتابة، وجَعَل المعاملةَ الواقعة بينه وبين السيد، كالمعاملة الواقعة بين السيد وبين الأجنبي، تحصيلًا لمصالح العتق. ولكن مذهب الشافعي -رحمه الله- مشكل من جهة أنه شَرَط في الكتابة: التنجيمَ بنجمين) إلى آخره (¬2). جواب ما ذكره من إشكال المذهب، أن الشافعي - رضي الله عنه - ينظر في العقود إلى ما يقتضيه الوضع اللغوي، كما أَخَذ من (موضوع السَّلَم): (اعتبار قبض رأس المال في المجلس). كذلك (الكتابة)، فإن معناها: (الجمع والضمّ). وسُمِّي هذا العقد (كتابةً) لجمع النجوم وضم بعضها إلى بعض. وأقلُّ جمعٍ يحصِّل المقصود هنا: نجمان. فاعتبرهما (¬3). واستأنَس في ذلك بآثار (¬4) مذكورة في موضعها. 612 - قوله: وتُقدَّم البنات على الأخوات، لأنهن بَضعة من الأموات، لكن خولف القياس فيما إذا مات عن مئة وخمسين درهمًا وعن مئة بنتٍ وأختٍ واحدة من أبويه، فإن الأخت تفوز بالثلث، وهو أضعاف ما يحصل لكل واحدة من البنات مع قربهن، إذ يحصل لكل بنتٍ: درهمٌ (¬5)، ويحصل ¬
للأخت خمسون درهما مع كون البنت بَضعةً للميت، والأخت بَضعة من الجد، مع بُعده. وهذا موغل في البعد عن القياس) (¬1). يقال: ليس فيما ذكره مخالفة القياس، لأن أصحاب الفروض مقدّمون. وكونُ الأخت فازت بالثلث في هذه المسألة، ونقصت كلُّ بنت عنها نقصًا كثيرًا: فلعارضٍ. وبدليل ما لو كان للميت بنتان ومئة أخت، فلهما الثلثان، ولهن الثلث. 613 - قوله: (ولهذا جَعَل الشافعي - رضي الله عنه -، الأخ في باب الولاء مقدّمًا على الجد على قولٍ، لكونه بَضعةً من المُدْلَى به. ولولا إجماع الصحابة على أن الأخ لا يقدّم على الجد في الإرث، لقال بتقديم الأخ، كما قال به في باب الولاء) (¬2). يقال: لولا إجماع الصحابة، ما قال الشافعي بتقديم الأخ في الإرث أبدًا، لمُدرَكٍ خَفِيَ على الشيخ (¬3)، وهو أن الجد في الإرث صاحبُ فرضٍ، فلو قُدّم الأخ عليه لزم تقديم العاصب على ذي الفرض. ولا كذلك في الولاء، لأنه لا يورَث فيه إلا بالتعصيب، فلا يلزم من تقديم الأخ على الجدّ فيه، ما لزم في الإرث. 614 - قوله: (واستثني من ذلك (¬4): تزويج المرأة نفسها، لما في مباشرتها ذلك من المشقة والخجل والاستحياء) (¬5). ¬
الأَولى في تعليل ذلك أن يقال: المرأة غالبًا سريعة الانخداع، فربما وَضَعتْ نفسَها تحت من لا يكافئها. 615 - قوله: (ولو قال: إن أعطيتِني ألفًا، فأنتِ طالق. فأعطتْه ألفًا، فإنها تطلق. وهذا مشكل) إلى آخره (¬1). جواب هذا الإشكال أن الإعطاء في عرف الشرع، مقتضاه التمليك، وفي الهبات شواهد كثيرة بذلك من لفظة النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإقباض، للعرف الشرعي، ويُحمل على التمليك، ويقوم فيه الفعل مقام القول للضرورة، كما لو غصب حربي حربيةً، أو اعتقد ذلك نكاحًا. ومسألة الخلع مما استشهد به الأصحاب لمسألة المعاطاة. 616 - قوله: (ولو قال: إن أعطيتِني ألفًا، فأنتِ طالق. فأعطتْه ألفًا من غير النقد الغالب، وقع الطلاق، ووجب الإبدال بألفٍ من الغالب. وهذا في غاية الإشكال) إلى آخره (¬2). يقال عليه: جواب هذا الإشكال أن هذا تعليق فيه شَوْبُ معاوضة، فمن حيث النظر إلى التعليق يقع بأي ألفٍ كان، ومن حيث النظر إلى المعاوضة وجب الإبدال بالغالب. ونظير المسألة: ما نَصّ عليه الشافعي - رضي الله عنه -، وذكره الأصحاب من أنه لو ¬
قال: إن أعطيتِني عبدًا فأنتِ طالق. فأعطته عبدًا أيّ عبدٍ كان، وهي تملكه، طلُقت. ويرجع بمهر المثل عليها. وفيه الإشكال الذي ذكره (¬1). وجوابُه ما قلناه، أن من حيث النظر إلى التعليق يقع الطلاق بأي عبدٍ كان، ومن حيث النظر إلى المعاوضة يرجع إلى مهر المثل لجهالة العوض. 617 - قوله: (الرابعة: ما يتلفه العبيد على السادة، فإنهم لا يضمنونه مع تحريم إتلافه. وفي هذا إشكال) (¬2). جواب هذا الإشكال: أن ما ثبت على العبد بالبينة أو بتصديق السيد، يتعلق برقبته. والسيد ها هنا معترف، لأنه مدّعٍ. والتعلقُ بالرقبة -والمستحق هو السيد- متعذر، فلزم من ذلك عدم الضمان. 618 - قوله: (وأما ما يتلفه العبد على غير سيده، فإنه يتعلق برقبته، خلافًا لأهل الظاهر. وهذا مشكل من جهة أن السيد لم يتلف شيئًا، ولا تَسبَّب إلى إتلاف) (¬3). جواب هذا الإشكال، أن حق التلف عليه ناجزٌ، وتعلّقُه بالذمة يؤدي إلى تأخيره والتعرض لفواته، ولم يراعَ في ذلك حق السيد كما في جناية البهيمة. 619 - قوله: (الخامسة: أن الإمام والحاكم إذا أتلفا شيئًا من النفوس ¬
أو الأموال في تصرفهما للمصالح، فإنه يجب على بيت المال دون الحاكم والإمام ودون عواقلهما، على قولٍ للشافعي) (¬1). يقال: نَصَّ الشافعي أن ذلك إنما يجب على عاقلة الإمام قولًا واحدًا. وحَكَى (¬2) وجوبَه في بيت المال عن المشرقيين (¬3). فإثبات القولين في هذه المسألة طريقة ضعيفة. 620 - قوله: (الثلاثون: الذكاة، وهي واجبة في الحيوان المأكول، تقليلًا لما فيه من الدم النجس) إلى آخره (¬4). فقال شيخنا: إنما تجب الذكاة ... (¬5) لِما كانت الجاهلية عليه من إباحة المنخنقة والموقوذة والمتردّية ونحوها، لا لِما ذكره الشيخ؛ بدليل أنه لو ذَبَح الذابح ثم مَنَع خروجَ الدم، فإنه يحلّ. والدم قبل خروجه لا يوصف بنجاسة ولا بطهارة، حتى يقال: (تقليلًا لما فيه من الدم النجس). 621 - قوله: (وأمكن طعنه في بعض مَقاتله، حلّ بذلك (¬6). وهذا ¬
وأمثاله داخل في قول الشافعي: بُنيت الأصول على أن الأشياء إذا ضاقت اتسعت. يريد بالأصول: قواعد الشريعة. وبالاتساع: الترخيص) (¬1). قوله: (في بعض مَقاتله) ليس بجيد. والأحسن أن يقال: (في بعض أعضائه)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لو طَعنتَ بها في فخذه لأجزأ عنك) (¬2). 622 - قوله في الحادي والثلاثين: (ولو وقع ذلك في قَسْم الغنائم، وعَسُر إبطالها لكثرتهم، لم يُحكم ببطلانها، وعُوِّض من وقع المستحق في نصيبه، من سهم المصالح العامة؛ لِما في نقض القسمة مع كثرة الجند من العُسر) (¬3). يقال عليه: ليس المُدرَك ما ذكر من العُسر؛ وإنما المُدرَك في قسمة الغنيمة أنها إلى رأي الإمام، فله أن يقسم بغير اختيار الغانمين ويقرر لكل طائفة شيئًا، وذلك خارج عن قواعد القَسْم. ومن ثَمَّ لا يُنقض القَسْم ولو كان الجند قليلًا، ويعوِّض من وقع المستحق في نصيبه. 623 - قوله بعد ذلك: (ولو انفرد -يريد: المجني عليه أو الولي ¬
المقتص -بحيث لا يُرى- أي: يقتصّ من الجاني على انفراده بحيث لا يُرى -، فينبغي أن لا يُمنع) (¬1). اختار شيخنا سلمه الله تعالى أنه يُمنع مطلقًا إلا بحضرة الإمام، سدًّا للباب، خشية زيادة التعذيب. 624 - قوله: (الحال الثالثة: أن يكون متفاحش الخَلق في الطول والعرض وعِظَم البطن وفخامة الأعضاء، فيستحب أن لا ينقص عن مقدار تكون نسبته إلى بَدَنِهِ كنسبة المُدّ والصاع إلى بدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬2). اختار شيخنا سلمه الله تعالى أنه يستحب أن لا يزيد على الصاع مطلقًا ولو كان متفاحش الخَلق، لظاهر قول جابر: (كان يكفي من هو أوفى منك شَعَرًا وخيرًا منك) (¬3) يريد: النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. وهذا مشعر إشعارًا ظاهرًا بأن هذا الترتيب في الغُسل لا يزيد عليه في حق كل أحد. 625 - قوله: (ومنها الاقتصاد في قيام الليل، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
عن السَّرَف فيه، وقال: (خذوا من العمل ما تطيقون، فوالله لا يَسْأم الله حتى تَسْأموا) (¬1). يقال: في رواية: (لا يملّ الله حتى تملّوا (¬2)). وحقيقة (السآمة) و (الملال) مستحيلة على الله تعالى، والمراد: لازم لازم (¬3) هذا الفعل. والذي حَسَّن تلك المقابلة (¬4)، على حد قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]. وليس من هذا القبيل: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54] لقوله - صلى الله عليه وسلم - في دعائه: (وامكُر لي ولا تمكُر عليّ) (¬5). ¬
626 - قوله: (وكذلك رجم الزاني، لا يُضرب بحصيات ولا بصخرات، وإنما يُضرب بحجر لطيف يُرجم بمثله في العادة) (¬1). اختار شيخنا نفع الله المسلمين بعلومه، في رمي الزاني، أنه يُرمَى بالخفيف والثقيل على حسب ما هي (¬2) مما يجده الرامي، لظواهر الأحاديث في ذلك. وفي بعضها: فرميناه بجلاميد الحَرَّة (¬3). وفي بعضها: أن ماعزًا لم يمت حتى رماه عمر بن الخطاب بلَحْي بعير، فأمَّ رأسَه فقتله (¬4) وفي بعضها: فرماه بوظيف حمارٍ، فصرعه (¬5). و (الوظيف): مستدق الذراع والساق. 627 - قوله: (ومنها الجهر بالكلام، لا يخافِت به بحيث لا يسمعه ¬
حاضرُوه، ولا يرفعه فوق حد أسماعهم، لأن رفعه فوق حدّ أسماعهم فضولٌ) (¬1). يقال: الأحسن أن يقال: (ومنها: صفة الكلام)، لأنه أخذ بعده في تقسيم الأعم. 628 - قوله: (ومنها إمكان السير إلى الحج والعمرة، لا يراد به شدة الإسراع المُنضية (¬2) للأجساد، ولا التباطؤ الخارج عن المعتاد (¬3). قوله: (إمكان السير إلى الحج والعمرة) يعني بالنسبة إلى استقرار الحج في الذمة. والمعتمد في كلامه: يستقر إذا مضى بعد تمكنه ما يسع المسير إلى عرفة، ثم إلى مزدلفة والإقامة بها ساعةً بعد النصف الثاني من ليلة النحر، ثم إلى منى لرمي جمرة العقبة، ثم إلى مكة، ومضى زمن يسع الطواف والسعي. ووقع في (الشرح) و (الروضة) عن (التهذيب) (¬4) كلام عليه تعقبات، ¬
يظهر مما ذكرتُه، فليراجع (¬1). 629 - قوله: (ولذلك شُرع رفع الصوت في الأذان لكثرة السامعين، وخفضُه في الإقامة لقلّة الحاضرين) (¬2). الأحسن أن يقال: شُرع رفع الصوت في الأذان لغَيبة السامعين، وخفضه في الإقامة لحضور السامعين؛ حتى لو كان الغائبون السامعون قليلين، استُحب رفع الصوت. ولو كان الحاضرون السامعون للإقامة كثيرين، استُحب خفض الصوت بقدر ما يسمعون. وهذا يحقق ما قلناه من اعتبار الغَيبة والحضور. 630 - قوله: (السبب الثاني: معرفة جَماله، وعنها تنشأ محبة الجَمال، وينبغي أن تكون كل من المحبَّتَيْن أفضلَ من كل محبةٍ، إذ لا إفضالَ كإفضاله، ولا جَمالَ كجَماله) (¬3) إلى أن قال: (والتعظيم والإجلال أفضل من الأقسام الثلاثة) (¬4). ¬
يقال عليه: والتعظيم والإجلال أفضل من الكل، يقتضي أن (مقام الجلال) أفضل من (مقام الجمال). والذي اختاره شيخنا نفع الله بعلومه، خلافه، وهو أن (مقام الجمال) أفضل لأنه مقام أهل الجنة في الجنة لقوله: (أُحِلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعدها أبدًا) (¬1). وأيضًا فإن (مقام الجمال) هو مقام نبينا - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء، و (مقام الجلال) هو مقام موسى - صلى الله عليه وسلم - حين تجلَّى ربّه للجبل فجعله دكًّا. ومقام نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل. 631 - قوله: (لَمَا أَهْمَل الأنبياء أن يفعلوه) إلى آخره (¬2). ¬
الأولى أن يقال: لَمَا أَهمَل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بيانه للناس؛ لأن العلم بشرائع غيره في ذلك على التفصيل: متعذرٌ الآن. 632 - قوله: (القسم الرابع: من غلب عليه التعظيم والإجلال، فهذا أفضل من الأقسام الثلاثة) (¬1). يقال: قد مرّ إقامة الدليل على أن (مقام الجمال) أفضل من (مقام الجلال) (¬2). قال شيخنا - رضي الله عنه -: وأفضل أقسام المحبة عندي أن يُحبّ اللهَ لكونه هو المتفرد بالإلهية، قال: وبه يشعر قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165]. 633 - قوله: (فإن قيل: أيّما أفضل؟ أحال الأغنياء أم حال الفقراء؟ فالجواب: أن الناس أقسام، أحدهم: من يستقيم مع الغِنَى وتفسُد أحواله بالفقر، فلا خلاف أن غِنَى هذا خيرٌ له من فقره) إلى آخر الأقسام التي تتعلق بالفقر والغِنَى (¬3). يقال: اختار شيخنا سلمه الله تعالى: أن الفقير الصابر أفضل، لأمور، منها: أنه - صلى الله عليه وسلم - عُرضت عليه مفاتيح ذخاير الأرض، فلم يقبلها، واختار الآخرة (¬4). ¬
والفقرُ الذي استعاذ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الفقرُ الاضطراري. والفقرُ الذي اختاره: فقرٌ اختياري (¬1). وكلام الشيخ (¬2) في هذا الفصل لا يناسب مقامه. فليتأمل. 634 - قوله: (ومن غلبت عليه محبة الإجلال فهو أفضل ممن غلبت عليه محبة الإنعام والإفضال) (¬3). [يقال عليه: محبة الإنعام والإفضال] (¬4) أفضلُ ممن غلبت عليه محبة الإجلال. وقد مرّ الاستدلال بذلك قريبًا. والله أعلم بالصواب. والحمد لله وحده، وصلاته على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن بعده. * * * ¬
[خاتمه الكتاب]
[خاتمه الكتاب] نجز تحرير هذه المسائل المُورَدة على قواعد الشيخ الإمام شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام، مما أملاه سيدنا وشيخنا شيخ الإسلام مرشد المسلمين هادي الطالبين سراج الملة والدين، عمر البلقيني، أدام الله وجوده لإصلاح الوجود، على يد العبد الفقير يحيى بن محمد الكرماني، بالقاهرة، بحارة بهاء الدين، بمدرسة شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني، أسبغ الله ظلاله، وذلك في أواسط شهر رمضان سنة ثلاث وثمان مئة. * * *
ملحق 1: كتابة للبلقيني بخط يده، في آخر المخطوط
ملحق 1: كتابة للبلقيني بخط يده، في آخر المخطوط بعد ختم الكتاب مباشرةً، جاءت كتابةٌ طويلة للبلقيني بخطه، تنص على قراءة الناسخ يحيى الكرماني (وهو تلميذه) هذا الكتاب عليه، مع تعريف البلقيني بهذا التلميذ، وثنائه عليه، وإجازته له بمرويّاته. وهي كما يلي (¬1): (حسبنا الله ونعم الوكيل. أما بعد حمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآل سيدنا محمد والتابعين. فقد قرأ عليّ الشيخ الفاضل جمال الفضلاء والمدرسين مفيد الفاضلين تقي الدين أبو السعادات يحيى، ابن الشيخ الإمام العالم أحد الأعيان، ومَنْ يُشار إليه في ذلك الزمان: شمس الدين أبي عبد الله محمد، ابن الشيخ المرحوم جمال الدين يوسف الكرماني، منحنا الله تعالى وإياه في الدارين الأماني، قطعة كبيرة من (الفوائد الجسام على قواعد شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام)، فبحث في ذلك وحَقَّق، وغاص على المعاني ودَقَّق. وسمع عليّ (صحيح البخاري) ثلاث مرات بفواتات مذكورة في الطبقات، و (صحيح مسلم) بفوات أيضًا، و (سنن أبي داود) كاملًا، وكتاب ¬
(دلائل النبوة) للبيهقي بفوات مجلس واحد، وغير ذلك من الأربعين المخرّجة لي. وسمع من التفسير من (النهر) تصنيف شيخنا أثير الدين أبي حيان بقراءة الشيخ المرحوم نجم الدين الباهي الحنبلي (¬1). وحضر مجالس الإفتاء كثيرًا، وكم كَتَب في ذلك صغيرًا وكبيرًا، وأورد الأسئلة (¬2) الحسان، فبان بذلك أنه من الأعيان. وقد أجزتُ له أن يروي عني جميع مصنفاتي وما في من إملاء، وتأليف، ومنظوم ومنثور، وأن يفيد الطالبين، ويجيب السائلين بما ظهر من الأمر المستبين، ويراعي في ذلك كله الأمر المبين. ووصَّيتُه بتقوى الله وطاعته ومراقبته في سرّه وعلانيته، فإن من سَلَك السراط (¬3) المستقيم، نجا، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]. ¬
وقد كَتَب من أجوبتي على الفتاوى جملةً صالحة. جعلنا الله وإياه ممن تكون بضاعته في الدارين رابحة. وحَضَر مجالس الوعظ، وكَتَب معها مجالس كثيرة، وقد قرأ منها ومن غيرها فوائد غزيرة. والله تعالى يحقق رجانا، ويجيب دُعانا، ويدفع عنا الأعدا، في جميع الأَبَدَا (¬1)، ويجمع شملنا في الدارين بالمقصود، وأن يجعلنا من أهل الشهود، وأن يسلّمنا في الدنيا والآخرة، ويُسبغ علينا من نعمه الفاخرة. آمين. والحمد لله رب العالمين. اللهم صلِّ وسلِّم على سيدنا محمد وآل سيدنا محمد والتابعين، واجعلْنا -اللهُ تعالى- ممن صحِبتْهم في الأحوال السلامة، واكفنا شر الندامة، واجعلنا من الناجين في يوم القيامة. آمين. والحمد لله رب العالمين. قال ذلك، وكتبه الفقير إلى عفو ربه، عمر البلقيني، حامدًا ومصلّيًا ومسلِّمًا. ومولدي ليلة الجمعة ثاني عشر شعبان المكرّم، سنة أربع وعشرين وسبع مئة (¬2). * * * ¬
ملحق 2: قصيدة للبلقيني تتعلق بهذا الكتاب
ملحق 2: قصيدة للبلقيني تتعلق بهذا الكتاب أورد الناسخ (يحيى الكرماني) -في آخر المخطوط- قصيدة لشيخه البلقيني، نَظَمها البلقيني فيما يتعلق بكتابه هذا (الفوائد الجسام) بعد أن انتهى منه، وهي في أكثر من خمسين بيتًا. قال الناسخ: (الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد الأولين والآخِرين، محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعدُ: فهذه قصيدة نَظَمها شيخنا شيخ الإسلام سراج الملة والدين، عمر البلقيني -حَرَس الله مُهجتَه، وأَبقَى بَهجتَه، ونَصَر اللهُ به الدينَ وملّتَه- عند قراءة هذه (الفوائد) المُورَدَة على (القواعد) بعد ختمها، وهي: ألا حَدِّثاني عن قواعدِ شِرْعةٍ ... وما قد حوى منها دلائلَ حُجة فإن جِماعَ الخير: جلبُ مصالح ... ودرءٌ لإفسادٍ يكون لحكمة فأعمالُنا نرجو من الله مِنّةً ... تَقَبلَها مِنّا، فيا طِيبَ مِنّة فإنّا تمسّكنا بشرعٍ مطهر ... وإن كتابَ الله أصلٌ لبُغية وفيه بيان الدين في كل حالةٍ ... كذا السنة البيضا ثبتُ طريقة ¬
وإجماعُ أهل العلم إذ هو حجةٌ ... كذاك قياسُ الفرع جاء بسَويّة وأحكامُ دينِ الله بانَتْ بفضلِهِ ... وأسبابُها جاءت لتعريف علة فأَسعَدَ ربُّ الخلق تابعَ أمرِهِ ... وأَشقَى شقيا كان من أصلِ فِطْرةِ وأَجْرَى مجاري الخير في كل وجهةٍ ... وإن جِنان الخُلد بالكُره حُفّتِ ثم قال البلقيني بعد أبيات: وداوِ من الأدواء ما كان مُحْظَرًا ... بقاعدةٍ جَلَتْ لتخفيف كُلفة فخرقُ سَفِينٍ كان دفعًا لغاصبٍ ... وفي الكهف يتلوها بإيضاح قصة وما كان إرخاصًا فخذه بشرطِهِ ... وفي عزمات العزم، خذها بعزمة وراعِ جماعَ الخير في كل مقصدٍ ... وعند ظهور الآي: خذها بقوة إذا نسمةُ الأسحار هَبَّت، فقُم بها ... تجدْ راحةً تأتي برَوْحٍ ونسمة وما جاء في الدنيا بلاءً وشدةً ... وتنكيدَ أحوال يكون بحسرة فعُقباه في الأخرى سرورٌ وراحةٌ ... على غُرُفات الأمن فوق الأسرّة فيا أيها المكسورُ، فَأبْشِرْ بنصرةٍ (¬1) ... على قلبك المكسور جبرًا لكسرةِ ثم خَلَص البلقيني بعد أبيات أخرى إلى مدح الشيخ ابن عبد السلام فقال: وقد قام بالتقعيد قبلُ عالمٌ ... قواعدُهُ فيها بيانُ المَحَجّة إمامٌ أَتَى للناس في قرن سادسٍ ... من الهجرةِ الغَرّا، أفضلِ هجرة فأكرِمْ بعز الدينِ، شيخِ زمانِهِ ... بعبدِ السلامِ الأصيل يُدلي بنسبة (¬2) ¬
لقد كان في التأصيل أصلًا موثَّقًا ... مفنّنة فيه يطيب لوصلِهِ وقد كان في التقعيد يَبْني قواعدًا ... مؤسسة بالخير في طيب قِعدة وأبدَعَ فيما قد أَتَى من قواعد ... وأَملَى قرنًا في ذاك تمهيدَ فكرة وما القصدُ إلا الحق في كل حالةٍ ... وأعمالُنا صحَّتْ لصحة نية فَرَعْيًا لشيخ العصر سلطان وقته ... لقد كان ذا علمٍ حقيقٍ وهيبة وقد كان قوّامًا بإنكار منكرٍ ... وكم قام في أمرٍ عضيلٍ بقومة وما زال في الدنيا يُعادي ملوكها ... ويقصد نصرَ الله بذلًا لمهجة ثم ختم البلقيني قصيدته بالدعاء للشيخ ابن عبد السلام بقوله: فيا ربِّ أنزِله قصورًا ورفعةً ... تكرِّمْهُ يا ربِّ من طيب رفعة وغُفرًا لنا يا رب فضلًا يعمّنا ... كذاك لأهلينا جزاء لغُرفة (¬1) كذاك لمن قد جا، يَقرَا قواعدًا ... فأَكمَلَها بحثًا وكتْبًا لتُكتَبِ وسامعِها كلًّا وبعضًا برغبةٍ ... أجزتُ له الإملاء بحُسن روية ........................ ... ........................... وبعدُ، صلاةُ الله ثم سلامُه ... على أحمد المختار خيرِ البريّة وآلٍ له والصحبِ مع تَبعٍ أَتَوْا ... يَقْفُون آثارًا على حُسن سيرة ............................ ... ........................... تمت بحمد الله تعالى ¬
فهرس المصادر والمراجع
4 - فهرس المصادر والمراجع - إبراز المعاني من حرز الأماني: لأبي شامة، عبد الرحمن بن إسماعيل (599 - 665). تحقيق إبراهيم عطوة عوض. مصطفى الحلبي، مصر. - أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، شخصيته وعصره: لعلي محمد الصلّابي. سلسلة عصر الخلفاء الراشدين، نشر بتاريخ 1422/ 2001 (منشور في برنامج المكتبة الشاملة). - إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر: للبنّا، أحمد بن محمد البنّا الدمياطي (ت 1117). تحقيق شعبان محمد إسماعيل، عالم الكتب، بيروت؛ مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، الطبعة الأولى 1407/ 1987. - الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان: لابن بلبان، علاء الدين علي بن بلبان (675 - 739). تحقيق شعيب الأرنؤوط. مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية 1414/ 1993. - الإحكام في أصول الأحكام: للآمدي، علي بن محمد (551 - 631) تحقيق سيد الجميلي. دار الكتاب العربي، بيروت 1404. - أحكام القرآن؛ للجصاص، أحمد بن علي الرازي (305 - 370). تحقيق محمد الصادق قمحاوي. دار إحياء التراث العربي، بيروت 1405. - أحكام القرآن: للشافعي، محمد بن إدريس (150 - 204). تحقيق عبد الغني عبد الخالق. دار الكتب العلمية، بيروت 1400. - الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار: للنووي، يحيى بن شرف (631 - 676). دار الكتاب العربي، بيروت 1404/ 1984. - الأربعون في الجهاد: لابن عساكر، علي بن الحسن بن هبة الله (499 - 571). تحقيق عبد الله بن يوسف. دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت، الطبعة الأولى 1404. - أساس البلاغة: للزمخشري، محمود بن عمر (467 - 538). دار الفكر، بيروت 1399/ 1979.
- أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب: للحوت، محمد بن محمد بن درويش البيروتي (1203 - 1277). تحقيق مصطفى عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1418/ 1997. - أسنى المطالب في شرح روض الطالب: لزكريا الأنصاري، زكريا بن محمد (823 - 926). تحقيق محمد محمد تامر. دار الكتب العلمية، بيروت 1422/ 2001، تصويرًا عن طبعة الميمنية، القاهرة 1313. ومعه: حاشية الرملي عليه. - الأشباه والنظائر: للسبكي، تاج الدين عبد الوهاب بن علي (727 - 771). دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1411/ 1991. - الأشباه والنظائر: للسيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر (849 - 911). دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1403. - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: للشنقيطي، محمد الأمين بن محمد بن المختار الجكني (1325 - 1393). دار الفكر، بيروت 1415/ 1995. - إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين: لأبي بكر (المشهور بالبكري) بن محمد شطا الدمياطي (ت بعد 1302). دار الفكر، بيروت. وبهامشه: فتح المعين، للمليباري. - الاعتصام: للشاطبي، إبراهيم بن موسى (ت 790). المكتبة التجارية الكبرى، مصر 1332/ 1913. - الأعلام: للزِّرِكلي، خير الدين بن محمود (1310 - 1396). دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة 1980. - الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: للشِّربيني، محمد الخطيب بن أحمد (ت 977). دار الفكر، بيروت 1415. - الأم: للشافعي، محمد بن إدريس (150 - 204). دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية 1393. - إنباء الغُمر بأبناء العُمر: لابن حجر، أحمد بن علي (773 - 852). تحقيق محمد عبد المعيد خان. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية 1406/ 1986، تصويرًا عن طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد، الهند. - إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون. ينظر: السيرة الحلبية.
- إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون: لإسماعيل باشا بن محمد أمين البغدادي (ت 1339). مطبوع مع كشف الظنون. "البحر الزخار" (المعروف بمسند البزار). ينظر: مسند البزار. - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: للكاساني أو الكاشاني (بالسين أو الشين)، أبي بكر بن مسعود (ت 587). دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية 1982. - البداية والنهاية: لابن كثير، إسماعيل بن عمر (701 - 774). مكتبة المعارف، بيروت. - البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع: للشوكاني، محمد بن علي (1173 - 1250). دار المعرفة، بيروت. - البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير: لابن الملقن، عمر بن علي (723 - 804). تحقيق مصطفى أبو الغيط، عبد الله بن سليمان، ياسر بن كمال. دار الهجرة للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى 1425/ 2004. - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة: للسيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر (849 - 911). تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. المكتبة العصرية، لبنان، تصويرًا عن طبعة عيسى البابي الحلبي، مصر، الطبعة الأولى 1384. - بلوغ المرام من أدلة الأحكام: لابن حجر، أحمد بن علي (773 - 852). مطبوع مع شرحه سبل السلام للصنعاني، بتحقيق محمد عبد العزيز الخولي. دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الرابعة 1379. - تاج العروس من جواهر القاموس، للزَّبيدي محمد (الملقب بمرتضى) بن محمد (1145 - 1205). تحقيق مجموعة من المحققين بوزارة الإرشاد والأنباء بالكويت. طُبع بمطبعة حكومة الكويت في 40 جزءًا. طُبع الجزء الأول سنة 1385 ثم تتابعت طباعة بقية الأجزاء إلى سنة 1422. - التاج والإكليل لمختصر خليل: للموّاق، محمد بن يوسف العبدري الغرناطي (ت 897). دار الفكر، بيروت 1398. - تاريخ ابن كثير. ينظر: البداية والنهاية. - تاريخ أصبهان: لأبي نُعيم، أحمد بن عبد الله (336 - 435). تحقيق سيد كسروي حسن. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1410/ 1990.
- تاريخ الطبري (تاريخ الأمم والملوك): لمحمد بن جرير الطبري (224 - 310). في ار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1407. - التحرير والتنوير من التفسير: لابن عاشور، محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (1296 - 1393). مؤسسة التاريخ العربي، بيروت 1420. - تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: للمباركفوري، محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم (1283 - 1353). دار الكتب العلمية، بيروت. - تحفة المحتاج بشرح المنهاج: لابن حجر الهيتمي، أحمد بن محمد (909 - 974). المطبعة الميمنية، مصر 1315. ومعه: حاشية الشرواني (عبد الحميد المكي الشرواني المتوفى 1301 هـ) وحاشية ابن قاسم العبادي (أحمد بن قاسم العبادي المتوفى 994 هـ). - تخريج أحاديث إحياء علوم الدين، للعراقي. ينظر: المغني عن حمل الأسفار في الأسفار. - تذكرة الحفاظ: للذهبي. ينظر: طبقات الحفاظ. - التذكرة في الأحاديث المشتهرة (أو: اللآلئ المنثورة في الأحاديث المشهورة): للزركشي، بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله (745 - 794). تحقيق مصطفى عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1406/ 1986. - تغليق التعليق: لابن حجر، أحمد بن علي (773 - 852). تحقيق سعيد عبد الرحمن القزقي. المكتب الإسلامي ببيروت، ودار عمار بالأردن، الطبعة الأولى 1405. - تفسير ابن عاشور = التحرير والتنوير. - تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم): لابن كثير، إسماعيل بن عمر (701 - 774). دار الفكر، بيروت 1401. - تفسير البغوي (معالم التنزيل): للبغوي، الحسين بن مسعود (436 - 516). حققه وخرج أحاديثه: محمد عبد الله النمر، عثمان جمعة ضميرية، سليمان مسلم الحرش. دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الرابعة 1417/ 1997. - تفسير الرازي (مفاتيح الغيب): للفخر الرازي، محمد بن عمر (544 - 606). دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1421/ 2000.
- تفسير الشوكاني (فتح القدير الجامع بين فَنِّيْ الرواية والدراية من علم التفسير): لمحمد بن علي الشوكاني (1173 - 1250) دار الفكر، بيروت. - تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن): لمحمد بن جرير الطبري (224 - 310). دار الفكر، بيروت 1405. - تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن): لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي (ت 671). دار إحياء التراث العربي، بيروت 1405/ 1985. - التقييد والإيضاح لما أُطلق وأُغلق من كتاب ابن الصلاح: للعراقي، زين الدين عبد الرحيم بن الحسين (725 - 806). تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان. دار الفكر، بيروت، الطبعة: الأولى 1389/ 1970. - التكملة لكتاب الصلة: لابن الأبّار القضاعي، محمد بن عبد الله (595 - 658). تحقيق عبد السلام الهراس. دار الفكر للطباعة، لبنان 1415/ 1995. - التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: لابن حجر، أحمد بن علي (773 - 852). تحقيق السيد عبد الله هاشم اليماني المدني. شركة الطباعة الفنية، القاهرة 1964/ 1384. - التنبيه: للشيرازي، إبراهيم بن علي (393 - 476). تحقيق عماد الدين أحمد حيدر. عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى 1403. - تهذيب الأسماء واللغات: للنووي، يحيى بن شرف (631 - 676). دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 1996. - تهذيب الكمال في أسماء الرجال: للمزّي، يوسف بن عبد الرحمن (654 - 742). تحقيق بشار عواد معروف. مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1400/ 1980. - توضيح المشتبه: لابن ناصر الدين الدمشقي، محمد بن عبد الله (777 - 842). تحقيق محمد نعيم العرقسوسي. مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1993. - ثبت البلوي: لأبي جعفر أحمد بن علي البلوي الوادي آشي (836 - 938). تحقيق عبد الله العمراني. دار الغرب الإسلامي، بيروت 1403. - جامع البيان عن تأويل آي القرآن: للطبري= تفسير الطبري. - جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم: لابن رجب، عبد
الرحمن بن أحمد (736 - 795). تحقيق شعيب الأرناؤوط، إبراهيم باجس. مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة السابعة 1417/ 1997. - الجمع بين الصحيحين: للحميدي، محمد بن فُتُوح الأندلسي (وُلد قبل سنة 420، وتوفي سنة 488). تحقيق علي حسين البواب. دار ابن حزم، لبنان 1423. - حاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب (التجريد لنفع العبيد): للبجيرمي، سليمان بن محمد بن عمر البجيرمي (1131 - 1221). المكتبة الإسلامية، ديار بكر، تركيا. وهذه الحاشية من جَمْع عثمان بن سليمان السويفي الشافعي تلميذ البجيرمي، جَمَعها من نسخة شيخه من (المنهج)، وهو الذي سماها بـ (التجريد لنفع العبيد). - حاشية الجمل على شرح منهج الطلاب (فتوحات الوهاب بتوضيح شرح منهج الطلاب): لسليمان بن عمر الجمل (ت 1204). دار الفكر، بيروت. - حاشية الرملي على أسنى المطالب: للرملي، الشهاب أحمد بن حمزة (ت 957). مطبوعة بهامش أسنى المطالب. - حاشية الشرواني وابن قاسم العبادي على تحفة المحتاج. ينظر: تحفة المحتاج. - الحاوي: للماوردي، علي بن محمد بن حبيب (364 - 455) تحقيق علي محمد معوض، عادل أحمد عبد الموجود. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1419/ 1999. - حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة: للسيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر (849 - 911) [معلومات النشر تحتاج إلى مراجعة لأنها ليست موجودة في الشاملة]. - حلية الأولياء وزينة الأصفياء: لأبي نُعيم الأصبهاني، أحمد بن عبد الله (336 - 430). دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الرابعة 1405، تصويرًا عن طبعة السعادة والخانجي، بمصر 1357. - خالد بن الوليد: لصادق إبراهيم عرجون (1321 - 1401). مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، الطبعة الثانية 1378/ 1967. - خزانة الأدب ولُب لباب لسان العرب: للبغدادي، عبد القادر بن عمر (1030 - 1093). تحقيق محمد نبيل طريفي، إميل بديع اليعقوب. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1998.
- دراسات الكاشف للذهبي: لمحمد عوّامة. دار قرطبة ببيروت، دار المنهاج بجدة، دار اليسر بالمدينة المنورة. الطبعة الثانية 1430/ 2009. - دراسة نقدية في المرويات الواردة في شخصية عمر بن الخطاب وسياسته الإدارية - رضي الله عنه -: لعبد السلام بن محسن آل عيسى. نشر عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، الطبعة الأولى 1423 هـ 2002 / م. - الدر المنثور في التفسير بالمأثور: للسيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر (849 - 911). دار الفكر، بيروت 1993. - الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة: لابن حجر، أحمد بن علي (773 - 852). تحقيق محمد عبد المعيد خان. دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الهند، الطبعة الثانية 1392/ 1972. - دور اللهجة في التقعيد النحوي، دراسة إحصائية تحليلية في ضوء همع الهوامع للسيوطي: للدكتور علاء إسماعيل الحمزاوي. منشور في برنامج المكتبة الشاملة، الإصدار الرابع. - الذخيرة: للقرافي، أحمد بن إدريس (626 - 684). تحقيق محمد حجي. دار الغرب، بيروت 1994. - رجال الفكر والدعوة في الإسلام: للسيد أبي الحسن علي الحسني الندوي (1333 - 1420). اعتنى به: سيد عبد المساجد الغوري. دار ابن كثير، دمشق، الطبعة الثانية 1425/ 2004. - الرسالة: للشافعي، محمد بن إدريس (150 - 204). تحقيق أحمد محمد شاكر. مصطفى الحلبي، القاهرة، الطبعة الأولى 1358/ 1939. - الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المصنفة: للكتاني، محمد بن جعفر (1274 - 1345). تحقيق محمد المنتصر الكتاني. دار البشائر الإسلامية، بيروت 1406. - الرفع والتكميل في الجرح والتعديل: للكنوي، محمد عبد الحي (1264 - 1304). تحقيق عبد الفتاح أبو غدة. مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، الطبعة الثالثة 1407. - الروض الأنف والمَشْرَع الرّوَى، في شرح ما اشتمل عليه حديثُ السيرة واحتوى: للسهيلي، عبد الرحمن بن عبد الله (508 - 581). نشر طه عبد الرؤوف سعد. دار المعرفة، بيروت 1398.
- الروض المُربع شرح زاد المستقنع: للبُهوتي، منصور بن يونس (1000 - 1051). مكتبة الرياض الحديثة، الرياض 1390. - روضة الطالبين وعمدة المفتين: للنووي، يحيى بن شرف (631 - 676). المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية 1405. - رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين: للنووي، يحيى بن شرف (631 - 676). دار الفكر، بيروت، الطبعة الثالثة 1421/ 2000. - الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: للأزهري، أبي منصور محمد بن أحمد (282 - 370). تحقيق محمد جبر الألفي. وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الكويت، الطبعة الأولى 1399. - الزهد: لأحمد بن حنبل (164 - 241). دار الريان للتراث، القاهرة 1408. - السلوك لمعرفة دول الملوك: للمقريزي، أحمد بن علي (766 - 845). تحقيق محمد عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1418/ 1997. - سنن ابن ماجَهْ: لمحمد بن يزيد ابن ماجَهْ (209 - 273). تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي. دار الفكر، بيروت، تصويرًا عن طبعة عيسى الحلبي، القاهرة 1374. - سنن أبي داود: لسليمان بن الأشعث السجستاني (202 - 275). تحقيق وترقيم: محمد محيي الدين عبد الحميد. دار الفكر. - سنن البيهقي (السنن الكبرى): لأحمد بن الحسين (384 - 458). تحقيق محمد عبد القادر عطا. مكتبة دار الباز، مكة المكرمة 1414/ 1994. - سنن الترمذي: لمحمد بن عيسى (209 - 279). تحقيق أحمد محمد شاكر وآخرين. دار إحياء التراث العربي، بيروت. - سنن الدارقطني: لعلي بن عمر (306 - 385). بعناية السيد عبد الله هاشم يماني المدني. دار المعرفة ببيروت، تصويرًا عن طبعة دار المحاسن بمصر 1386/ 1966. - سنن الدَّارميُّ: لعبد الله بن عبد الرحمن (181 - 255). تحقيق فواز أحمد زمرلي، خالد السبع العلمي. دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1407. - سنن النَّسائيِّ (وهي السنن الصغرى المسماة: المجتبى من السنن): لأحمد بن علي بن شعيب (215 - 303). ترقيم عبد الفتاح أبو غدة. مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب 1406.
- سنن النَّسائيُّ الكبرى: لأحمد بن علي بن شعيب (215 - 303). تحقيق عبد الغفار سليمان البنداري، سيد كسروي حسن. دار الكتب العلمية، بيروت 1411. - السنن الكبرى للبيهقي. ينظر: سنن البيهقي. - السنن الكبرى للنسائي. ينظر: سنن النَّسائيّ الكبرى. - سير أعلام النبلاء: للذهبي، محمد بن أحمد (673 - 748). تحقيق شعيب الأرناؤوط، محمد نعيم العرقسوسي. مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة التاسعة 1413. - سيرة ابن هشام. ينظر: السيرة النبوية لابن هشام. - السيرة الحلبية (إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون): للحلبي، نور الدين علي بن برهان الدين إبراهيم (975 - 1044). دار المعرفة، بيروت 1400. والمراد بـ (الأمين المأمون) هو النبي - صلى الله عليه وسلم -. - سيرة عمر بن عبد العزيز: لابن عبد الحكم، عبد الله بن عبد الحكم (150 - 214). تحقيق أحمد عبيد. عالم الكتب، بيروت، لبنان، الطبعة السادسة 1404/ 1984. - السيرة النبوية: لابن هشام، عبد الملك بن هشام (ت 213). تحقيق طه عبد الرءوف سعد. دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى 1411. - شذرات الذهب في أخبار من ذهب: لابن العماد، عبد الحي بن أحمد (1032 - 1089). تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، محمود الأرناؤوط. دار ابن كثير، دمشق، الطبعة الأولى 1406. - شرح صحيح مسلم: للنووي (المنهاج شرح صحيح مسلم ابن الحجاج) ليحيى بن شرف النووي أو النواوي (631 - 676). دار إحياء التراث العربي، بيروت 1392. - الشرح الكبير للرافعي. ينظر: العزيز شرح الوجيز. - شرح معاني الآثار: للطحاوي، أبو جعفر أحمد بن محمد (239 - 311). تحقيق محمد زهري النجار. دار الكتب العلمية، بيروت 1399، تصويرًا عن طبعة الأنوار المحمدية بالقاهرة 1388. - شعب الإيمان: للبيهقي، أحمد بن الحسين (384 - 458). تحقيق محمد السعيد بسيوني زغلول. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1410.
- الشيخ عز الدين بن عبد السلام، سلطان العلماء وبائع الأمراء: لعلي محمد محمد الصَّلَّابيَّ. منشور في برنامج المكتبة الشاملة. - صبح الأعشى في كتابة الإنشا: للقلقشندي، أحمد بن علي الفزاري (756 - 821). تحقيق: عبد القادر زكار. وزارة الثقافة، دمشق 1981. - صحيح ابن حبان. ينظر: الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان. - صحيح ابن خزيمة (¬1): لمحمد بن إسحاق (223 - 311). تحقيق محمد مصطفى الأعظمي. المكتب الإسلامي، بيروت 1390/ 1970. - صحيح البخاري (الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسننه وأيامه): لمحمد بن إسماعيل البخاري (194 - 256). تحقيق مصطفى ديب البغا. دار ابن كثير، دار اليمامة، الطبعة الثالثة، بيروت 1407/ 1987. - صحيح مسلم (المسند الصحيح المختصر من السنن، بنقل العدل عن العدل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -): لمسلم بن الحجاج (204 - 261). ترقيم وعناية محمد فؤاد عبد الباقي. دار إحياء التراث العربي، بيروت، تصويرًا عن طبعة عيسى الحلبي، القاهرة 1374. - الضوء اللامع لأهل القرن التاسع: للسخاوي، محمد بن عبد الرحمن (831 - 952). دار مكتبة الحياة، بيروت. - طبقات ابن سعد (الطبقات الكبرى): لمحمد بن سعد (168 - 230). دار صادر، بيروت 1376. - طبقات الحفاظ (المشهور باسم: تذكرة الحفاظ) للذهبي، محمد بن أحمد (673 - 748). دار الكتب العلمية، بيروت، تصويرًا عن طبعة حسام الدين القدسي، دمشق 1347. - طبقات الشافعية: لابن قاضي شهبة، أبي بكر بن أحمد (779 - 851). تحقيق عبد العليم خان. عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى 1407 تصويرًا عن طبعة حيدر آباد الدَّكَّن، الهند 1400. ¬
- طبقات الشافعية الكبرى: للسبكي، تاج الدين عبد الوهاب بن علي (727 - 771). تحقيق محمود الطناحي، عبد الفتاح الحلو. دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الثانية 1413. - طبقات الفقهاء: للشيرازي، إبراهيم بن علي (393 - 476). تحقيق خليل الميس. دار القلم، بيروت. - طبقات الفقهاء الشافعية: لابن الصلاح، عثمان بن عبد الرحمن (577 - 643). تحقيق محيي الدين علي نجيب. دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولى 1992. - طرح التثريب في شرح التقريب: للعراقي، زين الدين عبد الرحيم بن الحسين (725 - 806) وتكملة ابنه أبي زرعة أحمد بن عبد الرحيم (762 - 826). دار الكتب العلمية، بيروت 2000، تصويرًا عن طبعة جمعية النشر الأزهرية بمصر. - العز بن عبد السلام: للزحيلي، محمد. سلسلة أعلام المسلمين، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى 1412/ 1992. - العزيز في شرح الوجيز (المعروف بالشرح الكبير): للرافعي، عبد الكريم بن محمد القزويني (557 - 623). دار الفكر. تصويرًا عن الطبعة المنيرية بهامش (المجموع) للنووي. - العِقد (¬1): لابن عبد ربه، أحمد بن محمد (246 - 328). دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة 1420/ 1999. - عمدة القاري في شرح البخاري: للعيني، بدر الدين محمود بن أحمد (762 - 855). دار إحياء التراث العربي، بيروت؛ تصويرًا عن الطبعة المنيرية، القاهرة 1348. - غريب الحديث: لابن قتيبة، عبد الله بن مسلم (213 - 276). تحقيق عبد الله الجبوري. مطبعة العاني، بغداد 1397. - الفائق (في غريب الحديث): للزمخشري، محمود بن عمر (467 - 538). تحقيق علي محمد البجاوي، محمد أبو الفضل إبراهيم. دار المعرفة، لبنان. ¬
- الفتاوى الفقهية: لابن حجر الهيتمي، أحمد بن محمد (909 - 974). دار الفكر، بيروت. - فتح الباري بشرح صحيح البخاري: لابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي (773 - 852). إشراف عبد العزيز بن باز، وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، دار المعرفة، بيروت 1379 تصويرًا عن طبعة مكتبة الرياض الحديثة، البطحاء، الرياض، المملكة العربية السعودية. - فتح العزيز شرح الوجيز: للرافعي = العزيز شرح الوجيز. - فتح القدير: للشوكاني = تفسير الشوكاني. - فتح المعين بشرح قرة العين بمهمات الدين: لزين الدين بن عبد العزيز المليباري (872 - 928). مطبوع بهامش: إعانة الطالبين. - فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب: لزكريا الأنصاري، زكريا بن محمد (823 - 926). دار الكتب العلمية، بيروت 1418. - الفجر الساطع على الصحيح الجامع (شرح صحيح البخاري): لمحمد الفضيل الشبيهي الإدريسي الزرهوني. وهو شرح صحيح البخاري من باب المبعث إلى نهاية كتاب اللباس. أطروحة دكتوراه بالمغرب. تحقيق فؤاد ريشة. (مدرج ضمن برنامج المكتبة الشاملة). - الفردوس بمأثور الخطاب: للديلمي، شيرويه بن شهردار (445 - 509). تحقيق محمد السعيد بن بسيوني زغلول. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1406/ 1986. - الفروق: للقرافي، أحمد بن إدريس (626 - 684). تحقيق عمر حسن القِيّام. مؤسسة الرسالة ناشرون، دمشق، الطبعة الأولى 1424/ 2003. - فوائد في مشكل القرآن: لعز الدين عبد العزيز بن عبد السلام (577 - 660). تحقيق سيد رضوان علي الندوي. دار الشروق، جدة، الطبعة الثانية 1402/ 1982. - الفواكه الدَّوَاني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني: للنفراوي، أحمد بن غانم أو غنيم (1044 - 1126). دار الفكر، بيروت 1415. - فيض القدير بشرح الجامع الصغير: للمناوي، محمد عبد الرؤوف بن علي (952 - 1031). المكتبة التجارية الكبرى، مصر 1356.
- قواعد الأحكام في إصلاح الأنام (القواعد الكبرى): لعزّ الدين عبد العزيز بن عبد السلام (577 - 660). تحقيق نزيه حماد، عثمان ضميرية. دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى 1421/ 2000. - كشاف القناع عن متن الإقناع: للبهوتي، منصور بن يونس (1000 - 1051). تحقيق هلال مصيلحي، مصطفى هلال. دار الفكر، بيروت 1402 تصويرًا عن طبعة مكتبة النصر الحديثة، الرياض. - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: لحاجي خليفة، مصطفى بن عبد الله كاتب جلبي (1017 - 1067). دار الكتب العلمية، بيروت 1413/ 1992 تصويرًا عن طبعة إصطنبول 1360/ 1941. ومعه: إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون: لإسماعيل باشا البغدادي. - كفاية الأخيار في حلّ غاية الاختصار: للتقي الحِصني، أبي بكر بن محمد (752 - 829). تحقيق: علي عبد الحميد بلطجي، محمد وهبي سليمان. دار الخير، دمشق، الطبعة الأولى 1994. - لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ: لابن فهد، تقي الدين محمد بن محمد (787 - 871). مطبوع مع تذكرة الحفاظ للذهبي. - لسان العرب: لابن منظور، محمد بن مُكَرَّم (630 - 711). دار صادر، بيروت 1374/ 1955. - المبسوط: للسرخسي، أبي بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل (ت 483). دار المعرفة، بيروت 1406. - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: لله يثمي، علي بن أبي بكر (735 - 807). دار الريان للتراث بالقاهرة، ودار الكتاب العربي ببيروت 1407. - المجموع شرح المهذب: للنووي، يحيى بن شرف (631 - 676). دار الفكر، بيروت 1997، تصويرًا عن طبعة المنيرية، القاهرة. - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية. تحقيق عبد الرحمن بن محمد بن قاسم. مكتبة ابن تيمية، الطبعة الثانية. - المحلَّى شرح المجلّى: لابن حزم، علي بن أحمد (384 - 456). دار الآفاق الجديدة، بيروت.
- مختار الصحاح: للرازي، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر (ت بعد 666). تحقيق محمود خاطر، حمزة فتح الله. مكتبة لبنان ناشرون، بيروت 1415/ 1995. - المدهش: لابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي (510 - 597). تحقيق مروان قباني. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية 1405/ 1985. - مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان: لليافعي، عبد الله بن أسعد (698 - 768). دار الكتاب الإسلامي، القاهرة 1413/ 1993. - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: للملا علىِ القاري، علي بن سلطان محمد القاري. تحقيق جمال عيتاني. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1422/ 2001. - "المستدرك" على الصحيحين: للحاكم، أبي عبد الله محمد بن عبد الله (321 - 405). تحقيق مصطفى عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1411/ 1990. - المسند: لأحمد بن محمد بن حنبل (164 - 241). مؤسسة قرطبة، مصر. - مسند البزار (البحر الزخار): لأحمد بن عمرو البزار (ت 292). تحقيق محفوظ الرحمن زين الله. مؤسسة علوم القرآن ببيروت، مكتبة العلوم والحكم بالمدينة المنورة. الطبعة الأولى 1409. - مسند الشافعي: لمحمد بن إدريس (150 - 204). دار الكتب العلمية، بيروت. - المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم: لأبي نُعيم الأصبهاني، أحمد بن عبد الله (336 - 430). تحقيق: محمد حسن الشافعي. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1417/ 1996. - مشاهير أعلام المسلمين: جمع وإعداد علي بن نايف الشحود. منشور ضمن برنامج المكتبة الشاملة. - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير: للفيّومي، أحمد بن محمد بن علي (ت نحو 775). المكتبة العلمية، بيروت. - المصنف: لعبد الرزاق بن همام الصنعاني (126 - 211). تحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي. المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية 1403. - المصنف في الأحاديث والآثار: لابن أبي شيبة أبي بكر عبد الله بن محمد (159 -
235). تحقيق كمال يوسف الحوت. مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى 1409. - مطالب أولي النهي في شرح غاية المنتهى: للرُّحيباني، مصطفى بن سعد السيوطي الرُّحيباني الدمشقي (1160 - 1243). المكتب الإسلامي، دمشق 1961. - معالم التنزيل (المعروف بتفسير البغوي). ينظر: تفسير البغوي. - المعجم الأوسط: للطبراني، سليمان بن أحمد (260 - 360). تحقيق طارق عوض الله، عبد المحسن إبراهيم الحسيني. دار الحرمين، القاهرة 1415. - معجم البلدان: لياقوت بن عبد الله الحموي (574 - 626). دار الفكر، بيروت. - المعجم الكبير: للطبراني، سليمان بن أحمد (260 - 360). تحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي. مكتبة الزهراء، الموصل، الطبعة الثانية 1404/ 1983. - معجم مقاييس اللغة: لابن فارس، أحمد بن فارس (329 - 395). تحقيق عبد السلام محمد هارون. دار الجيل، بيروت، الطبعة الثانية 1420/ 1999، تصويرًا عن طبعة مصطفى الحلبي، القاهرة 1392. - معجم المؤلفين: لعمر رضا كحالة. مكتبة المثنى ببيروت، ودار إحياء التراث العربي ببيروت. - المعجم الوسيط: تأليف لجنة بإشراف مجمع اللغة العربية بالقاهرة: إبراهيم مصطفى، أحمد الزيات، حامد عبد القادر، محمد النجار. - المُغْرِب في ترتيب المُعْرِب: للمطرّزي، أبي الفتح ناصر الدين بن عبد السيد (538 - 610). تحقيق محمود فاخوري، عبد الحميد مختار. مكتبة أسامة بن زيد، حلب، الطبعة الأولى 1979. - المغني عن حمل الأسفار، بتخريج ما في الإحياء من الأخبار: للعراقي، زين الدين عبد الرحيم بن الحسين (725 - 806). تحقيق أشرف عبد المقصود. مكتبة طبرية، الرياض، الطبعة الأولى 1415/ 1995. - مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، للشربيني، محمد الخطيب بن أحمد (ت 977). دار الفكر، بيروت. - المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة: للسخاوي،
محمد بن عبد الرحمن (831 - 902). تحقيق محمد عثمان الخشت. دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1405/ 1985. - مقاصد الشريعة: لعياض بن نامي السلمي (دروس الأكاديمية الإسلامية المفتوحة، منشورة في برنامج المكتبة الشاملة). - المنار المنيف في الصحيح والضعيف: لابن القيّم، محمد بن أبي بكر (691 - 751). تحقيق عبد الفتاح أبو غدة. مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، الطبعة الثانية 1403. - المنتخب من كتاب السياق لتاريخ نيسابور، للصَّريفيني، الحافظ تقي الدين أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الصَّريفيني (582 - 641). تحقيق خالد حيدر. دار الفكر، بيروت 1414. - المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج. ينظر: شرح صحيح مسلم للنووي. - منهاج الطالبين وعمدة المفتين: للنووي، يحيى بن شرف (631 - 676). دار المعرفة، بيروت. وطبعة دار المنهاج، جدة 1426 بعناية محمد محمد طاهر شعبان. - منهج الطلاب (وهو مختصر منهاج الطالبين للنووي): لزكريا الأنصاري، زكريا بن محمد (823 - 926). مطبوع مع شرحه (فتح الوهاب) السابق الذكر. - مواهب الجليل لشرح مختصر خليل: للحطاب، محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعيني (902 - 954). دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية 1398. - الموجز في مراجع التراجم والبلدان والمصنفات وتعريفات العلوم: للطناحي، محمود محمد (1353 - 1419). مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الأولى 1406/ 1985. - الموطأ: لمالك بن أنس (93 - 179). تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. دار إحياء التراث العربي، مصر. - المهذَّب: للشيرازي، إبراهيم بن علي (393 - 476). دار الفكر، بيروت. - النحو الوافي: لعباس حسن (ت 1398). دار المعارف، الطبعة الخامسة عشرة. - الموافقات: للشاطبي، إبراهيم بن موسى (ت 790). دراسة وتحقيق مشهور بن حسن آل سلمان، وتقديم بكر أبو زيد. دار ابن عفان، الطبعة الأولى 1417/ 1997.
- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: لابن تغْري برْدي، يوسف بن تغْري برْدي (813 - 874). وزارة الثقافة والإرشاد القومي، مصر. - نصب الراية لأحاديث الهداية: للزيلعي عبد الله بن يوسف (ت 762). بعناية محمد يوسف البنوري. دار الحديث، مصر 1357 بإشراف المجلس العلمي بدابهيل. ومصوَّرة مؤسسة الريان ببيروت 1418 لهذه الطبعة، بعناية الشيخ محمد عوامة وتصحيحه وترقيمه وفهرسته. - النهاية في غريب الحديث والأثر: لابن الأثير، مجد الدين المبارك بن محمد الجزري (544 - 606). تحقيق طاهر الزواوي، محمود الطناحي. المكتبة العلمية، بيروت 1399/ 1979 تصويرًا عن طبعة القاهرة 1383. - نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: للرملي، شمس الدين محمد بن أحمد، المعروف بالرملي الصغير (919 - 1004). دار الفكر، بيروت 1404/ 1984. - نهاية المطلب في دراية المذهب: للجويني، إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله (419 - 478). - الوسيط: للغزالي، محمد بن محمد بن محمد (450 - 505). تحقيق أحمد محمود إبراهيم، محمد محمد تامر. دار السلام، القاهرة، الطبعة الأولى 1417. - وفاء الوفا، بأخبار دار المصطفى: للسمهودي، نور الدين علي بن عبد الله (844 - 911). تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الرابعة 1404، تصويرًا عن طبعة المكتبة العلمية بالمدينة المنورة للنمنكاني 1374. - الوافي بالوفيات، للصَّفَدي، صلاح الدين خليل بن أيبك (696 - 764). تحقيق أحمد الأرناؤوط، وتركي مصطفى. دار إحياء التراث، بيروت 1420/ 2000. - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: لابن خلّكان، شمس الدين أحمد بن محمد (608 - 681). تحقيق إحسان عباس. دار الثقافة، لبنان. * * *