الفن ومذاهبه في النثر العربي

شوقي ضيف

المقدمات

المقدمات مقدمة الطبعة الثالثة ... بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الثالثة: رجعت في هذه الطبعة أنظر في فصول هذا البحث أصلح فيها، وأنقح ما يحتاج إلى إصلاح وتنقيح، ورأيت أن أعيد كتابة الفصل الثاني من الكتاب الأول الخاص بالصنعة في النثر الإسلامي، حتى أضيف إليه زيادات عن الإسلام ومعانيه الروحية، والقرآن الكريم وهديه، وما كان له من آثار بعيدة في اللغة العربية، والحديث النبوي وتدوينه وروعة تعبيره. ومضيت أفصل القول في الخطابة بفروعها الثلاثة من سياسة، وحفلية، ودينية، ولاحظت أنه أتيح للخطابة الأخيرة خطباء مفوهون، نوعوا معانيها تنويعا واسعا، وعنوا بأساليبها عناية بعيدة، وقد هدتهم فطنهم إلى نمط جديد من الصيغ الصوتية، هو نمط الإزدواج، وما يطوى فيه من ترادف موسيقي، ودار هذا النمط على ألسنتهم، ولم يلبث الكتاب -وعلى رأسهم سالم، وعبد الحميد الكاتب- أن حاكوهم في هذا النمط الرائع. ورأيت أن أبسط الكلام في الفصل التالي الخاص بالصنعة في النثر العباسي. حتى أوضح كيف تطور المترجمون والمتكلمون -وخاصة المعتزلة- بهذا النثر، فإذا أسلوب مولد جديد ينشأ فيه، وهو أسلوب مبسط وسط بين لغة البدو الجافية، ولغة العامة المبتذلة، وفي الوقت نفسه يحتفظ بالجزالة والرصانة والرونق، مع مرونته وطواعيته لأداء معان، ومدلولات لم يكن للعربية بها عهد. وقد نهض بهذا الأسلوب نخبة من المترجمين في مقدمتهم ابن المقفع الذي طارت شهرته في أوائل العصر العباسي، لما أظهر من مهارة في صب خير ما كانت تحمله لغته الفارسية من ثقافات مختلفة في قوالب عربية أصيلة، لا يشوبها

أي ضرب من ضروب الرطانة الأعجمية، فالعربية -عنده- تحتفظ بمشخصاتها وأصولها، وأوضاعها في النحو والصرف، والاشتقاق والتركيب، بينما تتمثل معاني الثقافات الأجنبية تمثلا دقيقا في ألفاظ مألوفة بينة واضحة، مع حرصه على الدقة والإيجاز، ومع بعده عن التوعر والتعقيد، ومع النسج المحكم الدقيق. ووطد المتكلمون دعائم هذا الأسلوب العباسي المولد الجديد، بما ملكوا من أزمة العربية، وكنوز الفلسفة والثقافات الأجنبية، وقد أثاروا مباحث كثيرة في علم الكلام، وفي الطبيعة والأخلاق، ولم يكونوا يصنفون فحسب، بل كانوا أيضا يناظرون، ويجادلون الدهرية والزنادقة، والملحدين بهذا الأسلوب الجديد الذي يموج بالألفاظ الجزلة المونقة، والمعاني الغزيرة المرتبة في مقدمات منطقية دقيقة، ومقاييس عقلية سديدة. وكانوا يفحصون مواد تعبيرهم ويمنحنونها ويختبرونها، حتى يضعوا دقائق معانيهم في الألفاظ الطلية التي توائمها، ودفعهم ذلك إلى أن يسجلوا ملاحظات مختلفة، فهم على صحة مخارج الحروف وجمال الألفاظ، ووضوح المعاني ومواطن الإيجاز والإطناب، ومحاسن التعبير، وحاولوا الوقوف على ماسبقهم إليه اليونان، وغير اليونان من آراء وملاحظات في هذه الجوانب، وبذلك كانوا المؤسسين لأصول البلاغة العربية، وقد انتهى عندهم الأسلوب العباسي المولد إلى كل ما كان ينتظره من روعة، وجمال في اللفظ والمعنى. وكل ما زدته في هذه الطبعة أو صححته، أو نقحته إنما دفعني إليه تحري الدقة، ومن رأيي دائما أن يعيد المؤلف النظر في مؤلفاته حين يعدها للطبع من جديد. وبذلك تنمو الدراسة الأدبية، ويستوفي الدارس حقوقها بقدر ما يستطيع، فتكثر الفائدة منها ويزداد النفع. والله أسأل أن يلهمني السداد في القول، والإخلاص في الفكر والعمل، وهو حسبي ونعم الوكيل. القاهرة في 15 من يناير سنة 1960م. شوقي ضيف.

مقدمة الطبعة الأولى

مقدمة الطبعة الأولى: اتخذت في هذا الكتاب السيرة التي اتخذتها في كتاب "الفن ومذاهبه في الشعر العربي"، فقد درست هناك الشعر في عصوره المختلفة دراسة أتاحت لي أن أضع للفن فيه -أو بعبارة أخرى لصناعته- ثلاثة مذاهب، وهي: الصنعة والتصنيع والتصنع، ومذهب الصنعة هو المذهب الذي نجده في أقدم نماذج الشعر العربي، إذا كان أصحابه يخضعون لطائفة من الرسوم، والتقاليد في صنعه، وهي تقاليد ورسوم تجعل الإنسان يشعر بأن أدبنا العربي منذ أقدم العصور أدب تقليدي، إذ تتضح فيه عناصر التقليد اتضاحا تاما، غير أن هذه العناصر لا تطغى على عناصر التحول والتطور فيه، ومن أجل ذلك كنا لا نمضي في درس الشعر العربي بعد خروجه من البادية إلى المدن المتحضرة، حتى نرى مذهبًا جديدًا يخرج في صناعته، هو مذهب التصنع الذي كان يقوم على طرائف الزخرف المختلفة من بديع وغير بديع، ونتغلغل في العصر العباسي، فإذا الحضارة العربية تتعقد تعقدا شديدا، وهو تعقد لم يلبث بأن انتقل إلى الصناعة والفن في الشعر، فأهل لخروج مذهب جديد هو مذهب التصنع الذي كان يقوم على تصعيب طرق الأداء، وقد جمد الفن في الشعر العربي عند هذه المذاهب الثلاثة، ولم يتجاوزها إلى مذهب جديد. وهذه المذاهب التي فسرت بها الفن في الشعر العربي، ومراحله المتتابعة هي نفسها التي فسرت -على ضوئها- الفن في النثر العربي ومراحله بالمتعاقبة، فقد بدأت صناعة النثر في العصر الجاهلي بصورة فنية لا تأنق فيها، ولا تعقيد تبعا لحياة العرب البسيطة التي لم تكن تعتمد على تصعيب في الأداء، ولا على تنميق. وفزعت في وصف صورة النثر حينئذ إلى نصوص الشعر الجاهلي؛ لأنها أكثر صحة مما يضاف إلى هذا العصر من خطابة، وسجع كهان، ووجدت

في هذه النصوص ما يصور تصويرا تاما طبيعة النثر الجاهلي، وما كان يوفر له أصحابه من تحبير وتجويد. ويدور الزمن دورة، وإذا الإسلام يفتح صفحة مشرقة في تاريخ العرب، فقد أخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن دائرة الشعوب القبلية إلى دوائر الأمم المتحضرة. وقد رأيت النثر يستمر في أثناء العصر الإسلامي في الصورة التي رسمها العصر الجاهلي من حيث نسجه وصوغه، وإن اختلفت موضوعاته، وتشعبت معانيه، فقد اتسعت الخطابة اتساعا شديدا، وأخذ يظهر بجانبها نوع جديد من النثر، لم يكن للعرب عهد به، وهو الكتابة الفنية، أو ما يسميه بعض الباحثين باسم النثر الفني. واستوعبت -في دقة- نشأة هذا النوع، وأثبت أنه لم ينشأ بفضل العناصر التي تحدرت من أصول أجنبية، وإنما نشأ بفضل العرب أنفسهم، وفي ظل نظمهم السياسية الجديدة. وليس معنى ذلك أني أنكرت تأثير العناصر الأجنبية في هذا النوع، بل لقد أخذت تشارك فيه مع مرور الزمن، ولكنها مشاركة اتصلت بنموه وتطوره لا بوجوده ونشأته. وما زال هذا النوع يتطور في العصر الإسلامي حتى وصل إلى عبد الحميد الكاتب، فأعطاه صورته النهائية، وهي صورة اندمجت في صورة المذهب القديم: مذهب الصنعة والصانعين. وقد ذهبت إلى أن عبد الحميد كان يتصل بالثقافة الفارسية مباشرة، أما الثقافة اليونانية فاتصل بها عن طريق أستاذه سالم الذي كان يعرفها معرفة وثيقة. ويدور الزمن دورة أخرى، فإذا بنا نصل إلى العصر العباسي، ونلتقي بابن المقفع وسهل بن هارون والجاحظ، وأضربهم ممن كانوا يعنون بالكتابات الطويلة، أو بعبارة أخرى بالرسائل والكتب الأدبية، وقد حافظت هذه الجماعة على إطار النثر الذي تسلمته من عبد الحميد الكاتب، فلم تخرج به إلى مذهب جديد، بل عاشت في إطار مذهب الصنعة القديم، على الرغم من البون الشاسع بين ثقافتها، وثقافة أصحاب المذهب في العصور السابقة. وقد أوضحت منزلة ابن المقفع، وما استطاع أن ينهض به من الملاءمة بين العربية، وما نقل إليها

من كنوز الآداب الأجنبية، إذ استطاع أن يحتفظ لها بخصائصها وبأسلوبها الجزل الرصين. أما الجاحظ فعنيت ببيان فنه عناية واسعة، ودرست له "رسالة التربيع والتدوير" دراسة مفصلة، وذهبت في تعليل تكراره المسرف إلى أنه كان يملي كثيرا من كتبه، إذ أملى البيان والتبيين والحيوان والبخلاء، ورسالة التربيع والتدوير نفسها، ومن أجل ذلك اتسمت كتاباته -غالبًا- بمياسم كتب الإملاء والمحاضرة من حيث التكرار والاستطراد، وما يتصل بذلك أحيانا من خلل في البناء. ولما تركت هذه الجماعة من أصحاب الكتابات الطويلة في العصر العباسي إلى أصحاب الكتابات الرسمية القصيرة، أو بعبارة أخرى أصحاب الدواوين والكتابة الديوانية، وجدت هذه الجماعة الثانية تسعى إلى إحداث مذهب جديد، هو مذهب التصنيع، وهو مذهب كان يعبر تعبيرا دقيقا عن الحضارة العباسية، وما يطوي فيها من تأنق وتنميق. وما زالت مقدمات هذا المذهب تتراءى -من حين إلى حين- في الدواوين العباسية حتى إذا كان مطلع القرن الرابع للهجرة، وجدت السجع يعم في دواوين المقتدر. وما لبث ابن العميد وزير البويهيين أن وصل بهذا السجع إلى ما كان ينتظر له من ترصيع بطرائف البديع المعروفة من جناس وطباق وتصوير. وعللت لاكتمال المذهب عند ابن العميد بأنه كان يتقن فن التصوير، وعلم الحيل "الميكانيكا"، فذهب يحتال في نماذجه حيلا أدته إلى أن يوفر لها كل ما يستطيع من زخارف السجع والبديع. ووقفت بعد ذلك عند أنصار هذا المذهب من مثل الصاحب بن عباد، وأبي إسحاق الصابي والخوارزمي، وبديع الزمان، ولاحظت أن بذورا مكتنة لمذهب ثالث أخذت تظهر عند الأخيرين، وقد بدت في شكل أتم وأوضح عند قابوس بن وشمكير، وما هي إلا أن يدور الزمن دورة، فإذا هذا المذهب تتم له صورته عند أبي العلاء، ونقصد مذهب التصنع الذي كان يقوم على تصعيب رق الأداء، وتعقيدها ضروبا من التعقيد، وإن الإنسان ليشعر كأن التعقيد أصبح غاية في نفسه، ولنفسه! واستطردت من أبي العلاء إلى الحريري في آثاره والحصكفي في نماذجه،

وفسرت ما نهضا به من تعقيد في أدوات فنهما ووسائله. ويدور الزمن بعد ذلك في العصور الوسطى درة بل ما شاء من دورات، فلا يظهر مذهب جديد في صناعة النثر العربي وصياغته، بل يجمد الأدباء عند صورة المذهب الأخير، يمكثون في إطارها حائرين حتى العصر الحديث. وهذه هي المذاهب، أو المراحل التي مر بها الفن في النثر العربي، فقد بدأ بمرحلة الصنعة، ثم انتقل إلى مرحلة التصنيع، وما لبث أن انتهى إلى مرحلة التصنع، وتحجر في هذه المرحلة، فلم يستطع منها إفلاتا ولا خلاصا. وقد ذهبت أدرس هذا النثر في الأندلس ومصر، فتعقبت في الأقليمين نشأته، وتطوره، ومناهج، وأشهر أساتذته وأعلامه، وانهيت من هذا التعقب إلى أن الأندلس ومصر جميعا لم يستحدثا مذهبا يمكن أن نضمه إلى جملة المذاهب التي ظهرت في المشرق. وإن الباحث ليشعر كأنما كانت أصول المذاهب المشرقية، في صناعة الأدبي العربي: شعره ونثره أثبت وأصلب في تاريخ هذا الأدب من أن يصيبها أي إقليم من الأقاليم العربية بضرب واسع من ضروب التحريف والتغيير، وليس معنى ذلك أن مصر والأندلس لم تعبرا عن شخصيتها أي تعبير في أدبهما، بل لقد عبرتا ولكن في طاقة محدودة، وداخل المذاهب المشرقية الموضوعة. وسقت بعد ذلك خاتمة عرضت فيها بإيجاز لنهضة النثر المصري الحديث. وهذه الدراسة المتشعبة النثر العربي، وما مر به من أحداث في عصوره، وأقاليمه المختلفة جعلتني أرجع إلى كل ما استطعت من كتب الأدب والتاريخ والجغرافيا عند العرب، وكذلك رجعت إلى طائفة من كتب المستشرقين. وينبغي أن أشير هنا إلى صعوبة هذا البحث، وكثرة ما صادفني فيه من مشاكل، كما ينبغي أن أشير إلى أنه كانت غايتي الأساسية -منذ الخطوات الأولى فيه- أن أضع أمام القارئ الصور الدقيقة للنثر العربي في مختلف أطواره ومراحله، وهي صور حاولت أن أحتفظ لها بخصائصها، فلم أعتمد على حكاية إحساسي، وشعوري إزاء نماذجها؛ وأيضا فإنني لم أعتمد في مسألة على الفروض والأوهام، وإنما.

اعتمدت على النصوص الحسية نفسها، وكل ما أرجوه أن أكون قد عرفت -بعض التعريف- بالنثر العربي في مختلف مناهجه ومذاهبه، وهو تعريف قصدت به في هذا الكتاب- كما قصدت في كتاب "الفن ومذاهبه في الشعر العربي" -أن أحبب قراءة أدبنا إلى شباب العصر الحديث الذين يؤمنون بفكرة المذاهب، والمناهج وتطبيقها في الدراسات المختلفة، والله ولي التوفيق والتيسير. شوقي ضيف. القاهرة في 1 من أبريل سنة 1946م.

الكتاب الأول: مذهب الصنعة

الكتاب الأول: مذهب الصنعة الفصل الأول: الصنعة في النثر الجاهلي النثر الجاهلي: النثر، هو الكلام الذي لم ينظم في أوزان وقواف، وهو على ضربين: أما الضرب الأول فهو االنثر العادي يقال في لغة التخاطب، وليست لهذا الضرب الضرب قيمة أدبية، إلا ما يجرى فيه أحيانا من أمثال وحكم، وأما الضرب الثاني، فهو النثر الذي يرتفع فيه أصحابه إلى لغة فيها فن ومهارة وبلاغة، وهذا الضرب هو الذي يعنى النقاد في اللغات المختلفة ببحثه ودرسه، وبيان ما مر به من أحداث وأطوار، وما يمتاز به في كل طور من صفات وخصائص، وهو يتفرع إلى جدولين كبيرين، هما الخطابة والكتابة الفنية -ويسميها بعض الباحثين باسم النثر الفني- وهي تشمل القصص المكتوب، كما تشمل الرسائل الأدبية المحبرة، وقد تتسع فتشمل الكتابة التاريخية المنمقة. ومن يرجع إلى العصر الجاهلي، وأخباره يجد هذا الضرب الأخير من النثر يلعب دورا مهما في حياة العرب حينئذ، إذ كان عرب الجاهلية مشغوفين بالتاريخ والقصص عن فرسانهم ووقائعهم وملوكهم، يقطعون بذلك أوقات سمرهم في الليل وحول خيامهم، وقد دارت بينهم أطراف من أخبار الأمم المجاورة لهم ممتزجة بالخرافات والأساطير، ففي السيرة النبوية أن النضر بن الحارث المكي، كان يقص على قريش أحاديث عن أبطال الفرس أمثال رستم وإسفنديار1، وأكثر ما كان يستهويهم من القصص أحاديث قصاصهم عن

_ 1 السيرة النبوية لابن هشام "طبع الحلبي" 1/ 69.

أيامهم وحروبهم في الجاهلية، مما يصوره لنا كتاب شرح النقائض لأبي عبيدة، وكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، وقد تلاهما اللغويون والأدباء يعنون بتلك الأيام والحروب عناية واسعة1 على نحو ما هو معروف عن ابن عبد ربه في "العقد الفريد" وابن الأثير في الجزء الأول من كتابه "الكامل"، والميداني في الفصل التاسع والعشرين من كتابه "مجمع الأمثال". وينبغي أن لا نعلق أهمية تاريخية، أو أدبية على هذا القصص، فإن الرواة حرفوا فيه كثيرا قبل أن يأخذ شكله النهائي عند أبي عبيدة، وغيره من مؤلفي العصر العباسي، وتوضح ذلك توضيحا تاما قصة الزباء ملكة تدمر ببادية الشام في القرن الثالث الميلادي، وهي تلك القصة التي رويت في الكتب العربية عن هشام بن محمد الكلبي2، والتي تزعم أنها بنت عمرو بن الظرب العمليقي، وأن حروبا نشبت بينه وبين جذيمة الأبرش ملك الحيرة، وتنوخ انتهت بقتل عمرو، فاحتالت بنته الزباء على جذيمة، حتى قدم عليها فقتلته، وخلفه ابن أخته عمرو بن عدي، فاحتال بمساعدة أحد أتباعه -ويسمى قصيرًا- حتى انتقم منها في مدينتها التي بنتها على الفرات، بأن حمل إلى حصنها رجالا في جواليق أو صناديق، وفتحت له الحصن، وهي تظنه يحمل بعض عروض التجارة، وخرج الرجال من الجواليق، فقتلوها واستولوا على المدينة. وهي أسطورة لا تتفق في شيء ووثائق التاريخ الروماني الصحيحة عن الزباء، أو كما يسمونها زنبوبيا Zenobia زوج أذينة الذي قتل غدرا، وقد نشرت سلطانها على العراق والشام ومصر وآسيا الصغرى، وصارعت الرومان صراعا عنيفا، حتى تصدى لها "أورليان" وانتصر على جيوشها، وحاصر حاضرتها تدمر، وطال الحصار ويئست من النصر، فحاولت الفرار ولكن جنوده تعقبوها وأسرارها، وأخذها معه أسيرة إلى روما حيث قضيت بقية أيامها3.

_ 1 انظر الفن الأولى من المقالة الثالثة في الفهرست لابن النديم. 2 راجع الأغاني 16/ 70 وابن الأثير "طبعة ليدن" 1/ 247 وابن خلدون طبعة فاس 22/ 45. 3 انظر تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي "طبع بغداد - 1953" 3/ 99 وما بعدها.

وكأن لا علاقة بين شخصية زنوبيا التاريخية، وشخصية الزباء في القصة العربية، فقد غيرت في القصة جميع المعالم التاريخية، حتى مدينتها تدمر وضع القصاص مكانها مدينتين بنتهما على الفرات، وحتى اسمها وهو "زنوبيا" حرف إلى الزباء، وقد جلبوا جذيمة من الحيرة ليحل محل زوجها أذينه الذي قتل غدرًا. وإذا كنا لا نستطيع أن نعتمد على هذا القصص في حوادث التاريخ، فأولى لنا أن لا نعتمد عليه في وصف صورة النثر الجاهلي، وبيان خصائصه الفنية؛ لأنه لم يكتب في العصر الجاهلي، ولا في عصر قريب منه، وإنما كتب في العصر العباسي، ومن أجل ذلك كنا لا نستطيع أن نعتد -من الوجهة الأدبية- بما يروى عن هذا العصر من عناصر القصص والتاريخ؛ لأن الرواة حرفوا لفظه، بل لقد حرفوا معناه على نحو ما حرفوا قصة زنوبيا، أو بنت زباي وأخبارها، ولو أن العرب كتبوا تاريخهم، وقصصهم في العصر الجاهلي لاعتددنا بهذا اللون من نثرهم، ولكنهم لم يكتبوا منه شيئا. أما ما يروى عن هشام بن محمد الكلبي من أنه رأى في بيع الحيرة بعض مدونات استخراج منها أخبار العرب1، فإننا لا نستطيع الاعتماد على روايته؛ لأنه متهم في كثير مما يرويه2، وحتى لو صحت روايته، فأغلب الظن أن ما شاهده من تلك المدونات لم يكن مكتوبا بالعربية، إنما كان مكتوبا بالسريانية التي كانت شائعة في الحيرة قبل الإسلام3. والحق أنه لا يوجد تحت أيدينا دليل مادي على أن العرب تركوا في العصر الجاهلي مدونات تاريخينة أو أدبية، وليس معنى ذلك أن الخط العربي لم يكن قد نشأ، فالنقوش المكتشفة حديثا تؤكد أنه تم تكونه في الحجار منذ القرن السادس الميلادي، ومنها انتشر في بعض البيئات الصحراوية، وقد جاء الإسلام

_ 1 انظر الطبري "طبع ليدن": القسم الأول ص770. 2 أغاني "طبع دار الكتب المصرية" 10/ 40. 3 أصل الخط العربي الخليل نامي ص4.

وفي مكة سبعة عشر كاتبا1، وفي المدينة أحد عشر2، وكان بين البدو من يعرف الكتابة مثل أكثم بن صيفي3 حكيم وخطيبها، وكان ابن أخيه حنظلة بن الربيع من كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم4. ومن الشعراء المتبدين الذين اشتهروا بمعرفة الكتابة في هذا العصر المرقش الأكبر5 وهو من بكر، ولبيد6 بن ربيعة، وهو من بني عامر بن صعصعة. ولعل من الدليل على شيوع الكتابة بين البدو أننا نجد شعراءهم يصفون الأطلال كثيرا بنقوش الكتابة، يقول المرقش في فاتحة قصيدة له معروفة7: الدار قفر والرسوم كما ... رقش في ظهر الأديم قلم ويقول لبيد في مطلع معلقته: عفت الديار محلها فمقامها ... بمنى تأبد غولها ورجامها8 فمدافع الريان عري رسمها ... خلقا كما ضمن الوحي سلامها9 والوحي: الكتابة، والسلام: الحجارة البيض والعظام التي كانوا يكتبون عليها، وكانوا يكتبون أيضا في الأدم أولا الأديم الذي مر عند المرقش وهو الجلد المدبوغ، كما كانوا يكتبون في عسب النخل، ويستمر لبيد في معلقته، فيقول: وجلا السيول عن الطلول كأنها ... زبر تجد متونها أقلامها

_ 1 فتوح البلدان للبلاذري "طبعة أوربا" ص 471. 2 نفس المصدر ص 473. 3 مجمع الأمثال للميداني "طبعة المطبعة الخيرية" 2/ 87، وقارن بما جاء في عيون الأخبار لابن قتيبة "طبعة دار الكتب" 1/ 42. 4 الوزراء والكتاب للجهشياري "طبعة الحلبي ص 212". 5 الشعر والشعراء لابن قتيبة "طبع ليدن" ص 104. 6 أغاني "طبعة الساسي" 14/ 90. 7 المفضليات "طبعة لايل" ص 485. 8 عفت: أرست وامحت. تأبد: أقفر وتوحش. محلها ومقامها ومنى وغولها ورجامها: أسماء مواضع. 9 مدافع الريان: موضع. خلقا: بلي ودروسا. الرسم: آثار الديار.

والزبر: الكتب. ويقول الأخنس بن شهاب التغلبي1: لابنة حطان بن عوف منازل ... كما رقش العنوان في الرق كاتب الرق: الجلد الرقيق، ويقول سلامة بن جندل الفارس المعروف2: لمن طلل مثل الكتاب المنمق ... خلا عهده بين الصليب فمطرق وقد رد شعراء البادية هذه الصورة كثيرًا في شعرهم3. وما من ريب في أن ذلك يؤكد أن الكتابة كانت معروفة في العصر الجاهلي، ولكن هذه المعرفة شيء، وأن العرب أحدثوا بها آثار فنية مكتوبة شيء آخر، هم عرفوها، ولكنها معرفة محدودة، فلم يكتبوا بها كتبا ولا قصصًا ولا رسائل أدبية، وإنما كتبا بها بعض أغراضه تجارية وأخرى سياسية، ولذلك لم يكن غريبا أن تشيع في مكة؛ لأنها كانت مركزا تجاريا عظيما، ويحدثنا الجاحظ أنهم كانوا يكتبون بعض عهودهم السياسية، وكانوا يسمون تلك العهود المكتوبة "مهارق"4، وقد جاء ذكر هذه المهارق في معلقة الحارث بن حلزة مشيرا بها إلى ما كتب من عهود بين بكر وتغلب، إذ يقول: واذكروا حلف ذي المجاز وما قـ ... ـدم فيه العهود والكفلاء حذر الجور والتعدي وهل ينـ ... ـقض ما في المهارق الأهواء وإذا فالعرب استخدموا الكتابة في العصر الجاهلي لأغراض سياسية وتجارية، ولكنهم لم يخرجوا بها إلى أغراض أدبية خالصة تتيح لنا أن نزعم أنه وجد عندهم لون من ألوان الكتابة الفنية، ومن المؤكد أن الكتابة لم تكن حينئذ تؤدي بجانب أغراضها السياسية، والتجارية أغراضها أدبية، أو فنية من تجويد وتحبير، إذ لم تكن أكثر من كتابة ساذجة أدت أغراضها خاصة في عصرها، وانتهت بانتهاء هذا الغرض. ومما لا شك فيه أنه لا يوجد تحت أيدينا وثائق نستطيع أن ندعي بها أن

_ 1 المفضليات ص410. 2 المفضليات ص560. 3 المفضليات ص263، وص559، وما بعدها. 4 الحيوان للجاحظ "طبعة الحلبي" 1/ 69.

الحاهليين عرفوا الكتابة الفنية، إنما الذي نستطيع أن ندعيه لهم حقا -عن طريق الوثائق الصحيحة- هو الأمثال، فقط أكثروا من ضربها، وهناك كتب مشهورة تتخصص ببحثها، وبجانب الأمثال نعرف أنه كان لهم خطابة وخطب كثيرة، وقد أخذت الخطابة عندهم صورتهم: صورة اجتماعية عامة في منافراتهم ومفاخراتهم، ومجامعهم وأسواقهم وحروبهم، وصورة خاصة في سجع الكهان، وما كان ينزلق على ألسنتهم أثناء تكهنهم. وقد سلمت لنا طائفة واسعة من الأمثال تناقلتها أجيالهم، والأجيال التي تلتها في الإسلام مما أتاح لها أن تحتفظ بصورتها الجاهلية، ومعروف أن الأمثال لا تتغير بل تظل طويلا على هيئتها التي صيغت عليها، وأما الخطابة وسجع الكهان، فضاعت نصوصهما إلا قليلا جدًّا، إذ بقيت بعض قطع وبعض صيغ منثورة في ثنايا الكتب التاريخية والأدبية، وما دمنا بصدد درس النثر الجاهلي فلا بد من تعقب هذه الفروع الثلاثة من الأمثال والخطابة وسجع الكهان، لنرى -بمقدار ما تسعفنا النصوص- ما أتيح لكل منها من صناعة فنية، وبراعة أدبية.

الأمثال الجاهلية

2- الأمثال الجاهلية: خلف لنا عرب الجاهلية تراثا كبيرًا من الأمثال، وهي عبارات تضرب في حوادث مشبهة للحوادث الأصلية التي جاءت فيها، وقد عني علماء العصر العباسي بدراستها، وممن سبق إلى ذلك المفضل الضبي وأبو عبيدة، ثم خلف من بعدهما خلف أشهرهم أبو هلال العسكري في كتابه "جمهرة الأمثال"، والميداني في كتابة "مجمع الأمثال"، وهو يقول في مقدمته: إنه رجع في تأليفه إلى ما يربو على خمسين كتابا. وقد درج من ألفوا في الأمثال على أن يرتبوها حسب حروفها الأولى على نحو ما ترتب المعاجم ألفاظها، ولذلك نراهم يوزعونها عادة على تسعة وعشرين بابا بعدد أبواب الحروف الهجائية. ثم بعد هذا التوزيع يفسرونها، ويقصون أحيانا حوادثها التي جاءت فيها معتمدين -غالبا- على الظن والتخمين، مما جعل نيكسون يذهب إلى أن قيمة الأمثال محدودة بالنسبة إلى العصر الجاهلي1. وحقا ما يذهب إليه، فقد طال العهد بين العصر الجاهلي، وعصر هؤلاء المفسرين، وإنه لينبغي أن نثني على صنيعهم، ولكن مع شيء من الحذر في الأخذ بتفسيرهم وقصصهم، وما يحكونه من أخبار، ما دمنا نتهم القصص الجاهلي، وما نسب إلى عرب الجاهلية من أخبار وأحداث. ومعروف أن المثل لا يتغير، بل يجري كما جاء على الألسنة، وإن خالف النحو وقواعد التصريف، فقد جاء في أمثالهم: أعط القوس باريها2 بتسكين الياء في باريها، والأصل فتحها، وجاء أيضا في أمثالهم: "أجناؤها أبناؤها" جمع جان وبان، والقياس الصرفي: جناتها بناتها؛ لأن فاعلا لا يجمع على أفعال. وتقول: الصيف ضيعت اللبن3 بكسر التاء إذا خوطب بها المذكر والمؤنث والاثنان والجمع، ومعنى ذلك أن المثل لا يغير، وأنهم يستجيزون فيه ما لا يستجيزون في سائر الكلام. وينبغي أن نلاحظ أن بعض الأمثال مبهم غامض، لا يفهمه سامعه، أو قارئه إلا إذا رجع إلى كتب الأمثال يستعين بها في شرح المراد منه، من ذلك قول العرب: "بعين ما أرينك"، فإن معناه أسرع، وهو معنى لا يفهم من اللفظ بتاتا، وقد علق عليه أبو هلال العسكري بقوله: "هو من الكلام الذي قد عرف معناه سماعا من غير أن يدل عليه لفظه"4. ومن هذه الأمثال الغامضة ما اضطرب الشراح في تفسيره على نحو ما نجد في هذا المثل: "لا يعرف

_ 1 Nicholson, A Literaty History of the Arabs, 1930, p. 31. 2 أي استعن على عملك بأهل الحلق والمهارة. 3 يضرب هذا المثل في طلب الحلية بعد فوات أوانها. 4 جمرة الأمثال للعسكري على هامش مجمع الأمثال للميداني 1/ 168.

الهر من البر". فقد ذكر بعضهم أن الهر: السنور، والبر: الفأرة في لغة، وقال بعض علماء الكوفة معنى المثل: لا يعرف من بهر عليه "يكرهه" ممن يبره، وقال آخرون: الهر: دعاء الغنم، والبر: سوقها1. على أن هذه الأمثال الغامضة قلية، أما الكثرة فواضحة بينة. وقد أكثر العرب من صنع الأمثال، وضربها في جميع أحداثهم وشئون حياتهم، وكثيرا ما كانوا يستوقونها في خطابتهم، يقول الجاحظ: "كان الرجل من العرب يقف الموقف، فيرسل عدة أمثال سائرة، ولم يكن الناس جميعا ليتمثلوا بها إلا لما فيها من المرفق والانتفاع"2، فقد أودعها تجاربهم، فاتسمت بالقبول وشاعت بالتداول، على شاكلة قولهم: أي الرجل المهذب -إياك أعني واسمعي يا جارة3- تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها4 -رب عجلة تهب ريثا5- رمتني بدائها وانسلت -لا تعدم الحسناء ذاما6، لكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة -مقتل الرجل بين فكيه7- المقدرة تذهب الحفيظة8 -من سلك الجدد9 أمن العثار- أسمع من فرس في غلس10 -إذا فزع الفؤاد ذهب الرقاد- الحر حر وإن مسه الضر - إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه -أسمع جعجعة ولا أرى طحنا11- من أجدب انتجع 12 -ويل للشجي من الخلي13- من استرعى الذئب

_ 1 المزهر للسيوطي "طبعة الحلبي" 1/ 500. 2 البيان والتبيين للجاحظ "طبع مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر" 1/ 271. 3 يضرب في التعريض بالشيء يبديه الشخص، وهو يريد غيره. 4 لا تأكل بثدييها: أي بثمن لبن ثدييها. يضرب في صيانة الرجل الحر نفسه عن المكاسب الحسيسة. 5 الريث: البطء، أي رب عجلة تلقي صاحبها في بطء فتفوته حاجته. 6 الذام: العيب. 7 بين فكيه: أي في لسانه، وما يأتي به من الكلام. 8 الحفيظة: الغضب، يضرب في العفو عند المقدرة. 9 الجدد: الطريق الواضحة. 10 الغلس: الظلام. 11 الجعجعة: صوت الرحى، والطحن: الدقيق. 12 انتجع: طالب الكلأ في مواضعه. 13 الشجي: المهموم، والخلي: الخالي من الهموم.

ظلم -لا تلد الحية إلا حية- كل مجر في الخلاء يسر1 -قبل الرماد تملأ الكنائن2. وهناك جماعة اشتهرت في العصر الجاهلي بكثرة ما انزلق على ألسنتها من هذه الأمثال، ومن قدمائهم لقمان عاد؛ تلك القبيلة اليمنية البائدة التي كانت تسكن الأحقاف، فإننا نجد ذاكرة واضحة على ألسنة الشعراء3، يقول الجاحظ: "كانت العرب تعظم شأنه في النباهة والقدر، وفي العلم والحكم وفي اللسان والحلم"4. ويقول أيضا: "من القدماء ممن كان يذكر بالقدر والرياسة والبيان والخطابة، والحكمة والدهاء والنكراء لقمان"5. وهو غير لقمان الحكيم الذي جاء في القرآن الكريم6. ويذهب كاتب مادة لقمان في دائرة المعارف الإسلامية إلى أن شخصية لقمان مرث بثلاث مراحل: أ- مرحلة جاهلية، وفيها يتراءى لنا لقمان عاد المعمر صاحب قصة النسور، إذ يزعمون أنه عاش عمر سبعة نسور، كلما هلك نسر خلف من بعده نسر، وكان آخرها لبدًا الذي ذكره الشعراء كثيرا في أشعارهم7. ب- ومرحلة قرآنية، وفيها يتراءى لنا لقمان صاحب السورة الخاصة به. وقد ربط المفسرون بين لقمان هذا، وبين بلعام حكيم بني إسرائيل، فقالوا: إنه لقمان بن باعور بن ناحور بن تارخ، وهو نفس نسب بلعام8. ج- ثم مرحلة متأخرة، وهي مرحلة نسيج فيها حول لقمان قصص كثير على نحو ما نجد في كتاب "أمثال لقمان"، وهو مكتوب بأسلوب ركيك، يغلب عليه الابتذال.

_ 1 المجري: الذي يجري فرسه. يضرب مثلا الرجل يحمد بعض خلاله، ولا يشعر بفضائل غيره. 2 الكنائن: جمع كنانة، وهي جعبة السهام. 3 البيان والتبيين "طبعة الحلبي" 1/ 183 - 189، 3/ 304. 4 البيان والتبيين 1/ 184. 5 نص المصدر 1/ 365. 6 انظر البيان والتبيين 1/ 184، وراجع تفسير أبي حيان "طبع مطبعة السعادة" 7/ 186، وقصص الأنبياء للثعلبي "طبعة القاهرة" 340، وخزانة الأدب للبغدادي "طبع بولاق" 2/ 77. 7 انظر كتاب المعمرين للسجستاني "طبع مطبعة السعادة" ص3، وحياة الحيوان للدميري "طبع المطبعة الخيرية" 2/ 306. 8 راجع الثعلبي 340، وتفسير أبي حيان 7/ 186.

ولا نستطيع أن نسلم بما تقوله دائرة المعارف الإسلامية، إلا إذا سلمنا بأن لقمان عاد هو نفس لقمان المذكور في القرآن، وليس بين أيدينا ما يثبت ذلك، بل على العكس نرى علماء العرب يفرقون بينهما دائما، وقد روت كتب الأمثال عن الأول بعض أمثاله1، بينما روى الإمام مالك في كتابه "الموطأ" بعض أمثال لقمان الحكيم. وممن عرف بكثرة الحكم، والأمثال في الجاهلية أكثم بن صيفي التميمي2، ومما ينسب إليه من الحكم: تباعدوا في الديار تقاربوا في المودة -ليس من العدل سرعة العذل- لو أنصف المظلوم لم يبق فينا ملوم، ومن أشهر حكمائهم عامر بن الظرب3، وكان حكما للعرب تحتكم إليه4، وافتخر به ذو الإصبع العدواني في بعض شعره5، ولا يكاد يوجد في العصر الجاهلي سيد مشهور، أو خطيب معروف إلا وتضاف إليه جملة من الحكم والأمثال.

_ 1 انظر مجمع الأمثال للميدني 1/ 23، 56. 2 راجع مجمع الأمثال 2/ 145، وجمهرة الأمثال للعسكري على هامشه 1/ 120، وشرح ابن أبي الحديد على نهج البلاغة "طبع مطبعة دار الكتب العربية الكبرى" 4/ 155. 3 انظر مجمع الأمثال 1/ 211، 2/ 183. 4 البيان والتبيين 3/ 38. 5 أغاني "طبع دار الكتب" 3/ 90.

الصنعة في الأمثال الجاهلية

3- الصنعة في الأمثال الجاهلية: من ينعم النظر في الأمثال الجاهلية يجد طائفة منها توفر لها ضروب من القيم التصويرية والموسيقية، ففيها أحيانا تشبيه واستعارة وكناية وتمثيل، وفيها أحيانا أخرى صقل وسجع وتنميق، ونحن نصطلح على تسمية هذه القيم الفنية التي تقابلنا في نصوص الأدب الجاهلي نثره، وشعره باسم الصنعة، وقد تسربت إلى الأمثال بعض هذه القيم التي كانت تشيع في نثر الجاهليين وشعرهم، وليس معنى ذلك أنهم حققوا لأمثالهم جميعا ضروبا مختلفة من هذه القيم، فذلك إنما يظهر في القلة القليلة، أما الكثرة فمغسولة من كل فن وبيان، ومرجع ذلك

إلى أن الأمثال تجري في لغة التخاطب، وأحاديث الناس اليومية العادية، وقلما نمق أصحاب هذه الأحاديث لغتهم، أو حاولوا أن يوفروا لها ضروبا من الجمال الفني البديع، ومن ثم كان كثير من الأمثال الجاهلية يخلو خلوا تاما من المهارة البيانية، وقد مر بنا أن طائفة منها تخرج على الأصول الصرفية والنحوية، ومن أجل ذلك قالوا: إنه يجوز فيها من الحذف، والضرورات ما لا يجوز في سائر الكلام1. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا: إن الأصل في الأمثال أن لا تكون مصقولة، ولا مصنوعة؛ لأنها من لغة الشعب، وقلما نمق الشعب في لغته، غير أن كثيرا ما تصدر الأمثال عن الطبقة الراقية في الأمة: طبقة الشعراء والخطباء، فتحقق لها هذه الطبقة ضروبا من عنايتها العامة بفنها، وهذا هو مصدر الاختلاط في الحكم على الأمثال، فبينما نجد أمثالًا غير مصقولة نجد أخرى تفنن أصحابها في صوغها، وإخراجها في أسلوب بيلغ على شاكلة تلك الأمثال: أنقى من مرآة الغريبة -كالمستجير من الرمضاء2 بالنار- إن البغاث بأرضنا يستنسر3 -وراء الأكمة ما وراءها- حلب الدهر أشطره4 -يخبط خبط عشواء5- تطلب أثرا بعد عين6 -في الجريرة تشترك العشيرة7 عند الصباح يحمد القوم السري8- تحت الرغوة اللبن9 الصريح -هدنة على دخن10- حال الجريض دون القريض11 -رب صلف تحت الراعدة12- وقد يأتيك بالأخبار من لم تزود13 -استنوق الجمل14- كذى العريكوى

_ 1 المزهر للسيوطي 1/ 487. 2 الرمضاء: الأرض شديدة الحرارة. 3 البغاث: ضعاف الطير. يضرب مثلا للشخص يكون ضعيفا، ثم يقوى كالنسور في عالم الطير. 4 الأشطر: جمع شطر، وهي أخلاف الناقة. يضرب مثلا لمن عرك الدهر. 5 العشواء: الناقة ضعيفة البصر. يضرب مثلا في التعثر. 6 يضرب في فوت الحاجة. 7 الجريرة: الجناية. 8 السرى: السير ليلا. 9 الصريح: الخالص. 10 دخن: حقد. 11 الجريض: غصص الموت، والقريض الشعر. 12 الراعدة: السحابة، والصلف: قلة الخير والمطر. يضرب مثلا في البخل مع السعة. 13 تزود: تعطه الزاد. 14 استنوق: أصبح ناقة. يضرب مثلا لمن يظن أن فيه شجاعة ثم يظهر جبنه، وكذلك لمن يظن أن عنده رأيا، ويظهر عجزه.

غيره وهو راتع1 -لا تكن رطبا فتعصر ولا يابسا فتكسر- لا تكن كالعنز تبحث عن المدية -لو ذات سوار لطمتني2- المكثار كحاطب الليل3 -المنية ولا الدنية4. وما من ريب في أن هذه الأمثال تستحوذ على ضروب من الجمال الفني يرجع بعضها إلى اختيار ألفاظها، وصيغها ويرجع بعضا الآخر إلى ما تعتمد عليه من تصوير، أو سجع وتوفيق، وهذا هو معنى ما نذهب إليه من الأمثال الجاهلية تحتوي في بعض جوانبها آثارا من الصنعة، ولعل ذلك ما جعل الفارابي يقول: إنها من أبلغ الحكمة5، ويقول ابن المقفع إنها آنق للسمع6، بينما يقول النظام: إنها "نهاية البلاغة لما تشتمل عليه من حسن التشبيه، وجودة الكناية"7. وطبيعي أن تظهر الصنعة في بعض الأمثال الجاهلية، فقد كان العرب حينئذ مشغوفين بالبيان والبلاغة، وصور القرآن الكريم فيهم هذا الجانب، فقال جل شأنه: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} ، وقال: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} ، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . وفي جميع آثار نثرهم، وشعرهم نجد آثار هذه الرغبة الملحة في استمالتهم الأسماع بجمال منطقهم وخلابة ألسنتهم، وقد دفعتهم تلك الرغبة دفعا إلى تحسين كلامهم، وتحبير ألفاظهم حتى في أمثالهم، وهيأ لذلك أن كثيرا من بلغائهم، وفصحائهم أسهموا في صناعة هذه الأمثال، فكان طبيعيا أن تظهر فيها خصائصهم الفنية التي يستظهرونها في بيانهم، وتدبيج عباراتهم حين ينظمون، أو يخطبون.

_ 1 العر: الحرب، وكانوا يداوونه في إبلهم بالكي. 2 ذات السوار: المرأة. يضربه الرجل الشريف في ظلم الحسيس له. 3 المكثار: المكثر من الكلام، وشبه يحاطب الليل؛ لأنه ربما نهشته حية أو عقرب. 4 الدنية: العمل الدنيء. 5 المزهر 1/ 486. 6 الأدب الصغير بتحقيق أحمد زكي ص28. 7 مجمع الأمثال 1/ 5.

الخطابة الجاهلية

4- الخطابة الجاهلية: كان للخطابة في العصر الجاهلي شأن عظيم، إذ كانوا يستخدمونها في منافراتهم ومفاخراتهم1، وفي النصح والإرشاد2، وفي الحث على قتال الأعداء3، وفي الدعوة إلى السلم وحقن الدماء4، وفي مناسباتهم الاجتماعية المختلفة كالزواج، والإصهار إلى الأشراف5، وكانوا يخطبون في الأسواق والمحافل العظام، والوفادة على الملوك والأمراء، متحدثين عن مفاخر قبائلهم ومحامدها، ونحن نعرف قصة وفد تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان من قيام عطارد بين حاجب بن زرارة خطيبا بين يديه6، ويقول أوس بن حجر في رثاء فضالة بن كلدة7: أبا دليجة من يكفي العشيرة إذ ... أمسوا من الخطب في نار وبلبال أم من يكون خطيب القوم إذ حفلوا ... لدى الملوك ذوي أيد وأفضال8 ويقول فيه أيضا9: ألهفا على حسن آلائه ... على الحابر الحي والحارب10

_ 1 انظر البيان والتبيين في مواضع متفرقة مثل 1/ 109، 1/ 190، 2/ 272، والأغاني 15/ 51. 2 البيان والتبيين في موضع متفرقة مثل 1/ 401، والمزهر للسيوطي 1/ 501. 3 انظر الأمالي لأبي علي القالي 1/ 92 الأغاني "طبعة الساسي" 20/ 137. 4 البيان والتبيين 1/ 348. 5 انظر البيان والتبيين 2/ 77، وراجع 1/ 118، 1/ 134، 3/ 6. 6 تاريخ الطبري: القسم الأول ص 1711، والأغاني "طبع دار الكتب" 4/ 146، والبيان والتبيين 1/ 53. 7 نقد الشعر لقدامة "طبعة الجوائب" ص35، وديوان أوس "طبع فيينا" ص22. 8 أيد: قوة. 9 البيان والتبيين: 1/ 181. 10 الحارب: المحارب الغائم.

ورقبته جثمات الملو ... ك بين السرادق والحاجب1 ويكفي المقالة أهل الدحا ... ل غير معيب ولا عائب2 ورقبته: انتظاره إذن الملوك، وقد تجعله بين السرادق، والحاجب ليدل على مكانة من الملك. ودلائل مختلفة تدل على أن منزلة الخطيب في الجاهلية كانت فوق منزلة الشاعر، ويقول أبو عمرو بن العلاء: "كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم، ويفخم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم، ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم، فلما كثر الشعر والشعراء واتخذوا الشعر مكسبة، ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض الناس صار الخطيب عندهم فوق الشاعر"3، وتابعه الجاحظ يقول: "كان الشاعر أرفع قدرا من الخطيب، وهم إليه أحوج لرده مآثرهم عليهم، وتذكيرهم بأيامهم. فلما كثر الشعراء وكثر الشعر صار الخطيب أعظم قدرا من الشاعر"4. وواضح أن الجاحظ يجعل كثرة الشعر والشعراء وحدها هي السبب في تقدم الخطباء، أما أبو عمرو فيرد ذلك إلى أن هذه الكثرة استتبعت تحول الشعراء إلى التكسب بشعرهم، ومسارعتهم إلى الطعن في الأعراض، ونظن ظنا أن تفوق الخطيب على الشاعر في الجاهلية يرجع إلى طائفة متشابكة من الأسباب منها أن الخطابة كانت من لوازم سادتهم الذين يتكلمون باسمهم في المواسم والمحافل العظام، ومن أجل ذلك كانت تقترن بها الحكمة والشوق والرياسة5، كما تقترن بها الشجاعة، ويتضح ذلك في مراثيهم، ومدائحهم لسادتهم على نحو ما تقدم في رثاء أوس بن حجر لفضالة بن كلدة، ويقول الأعشى في مديح قوم6:

_ 1 جثمات الملوك: كبارهم وعظامهم. 2 الدحال: الدهاء والمراوغة. 3 البيان والتبيين 1/ 241. 4 نفس المصدر 4/ 83. 5 نفس المصدر 1/ 362، وفي مواضع متفرقة. 6 نفس المصدر 1/ 124، والصلاق: جهير الصوت.

فيهم الخصب والسماحة والنجـ ... ـدة جمعا والخاطب الصلاق ويقول زبان بن سيار الغزاري1: ولسنا كأقوام أجدوا رياسة ... يرى مالها ولا يحس فعالها يريغون في الخصب الأمور، ونفعهم ... قليل إذا الأموال طال هزالها2 وقلنا بلا عي وسسنا بطاقة ... إذا النار نار الحرب طال اشتعالها ويقول عامر المحربي3: أولئك قومي إن يلذ ببيوتهم ... أخو حدث يوما فلن يتهضما وكم فيهم من سيد ذي مهابة ... يهاب إذا مار رائد الحرب أضرما5 وهم يدعمون القول في كل موظن ... بكل خطيب يترك القوم كظما6 يقوم فلا يعيا الكلام خطيبنا ... إذا الكرب أنسى الحبس أن يتكلما ويضا إلى هذا السبب في تفوق الخطيب على الشاعر في الجاهلية اتساع وظيفته، إذ كان يفاخر وينافر عن قومه، فيشترك بذلك مع الشاعر كما يشترك معه في الحض على القتال، ثم ينفرد بمواقف خاصة به كالوفادة على الملوك، وكالنصح والإرشاد، وخطبهم في الإملاك والزواج مشهورة، ومن أهم المواقف التي كان ينفرد بها أنه كان يدعو إلى السلم، وأن تضع الحرب بين القبائل المتخاصمة أوزارها، أما الشاعر فلم يكن يدعو إلا إلى الأخذ بالثأر، وإشعال نار الحرب، ولعل ذلك ما جعل ربيعة بن مقروم الضبي يقول8: ومتى تقم عند اجتماع عشيرة ... خطباؤنا بين العشيرة يفصل ويقول أبو زبيد الطائي9: وخطيب إذا تمعرت الأو ... جه يوما في مأقط مشهود

_ 1 البيان والتبيين 1/ 4. 2 يريغون: يدبرون، والأموال هنا: الإبل 3 المفضليات، القصيدة، 91 البيت 18، وما بعده. 4 يتهضم: ينتقص. 5 أضرم النار: أشعلها، وكانوا إذا توقعوا حربا وأرادوا الإجماع، أوقدوا نارا على جبلهم. 6 كظما: جمع كاظم، وهو الساكت غيظا: 7 الجبس: اللئيم المنقطع. 8 أغاني "طبع الساسي" 19/ 93. 9 البيان والتبيين 1/ 176، وتمعرت الوجوه تغيرت واصفرت. والمأقط: موضع القتال.

ويقول بشر بن أبي خازم1: وكنا إذا قلنا: هوازن أقبلي ... إلى الرشد لم يأت السداد خطيبها وتتردد في كتاب البيان والتبيين للجاحظ وغيره من كتب الأدب أسماء طائفة كبيرة من خطباء الجاهلية الذين اشتهروا بالفصاحة، ووضوح الدلالة والبيان عما في أنفسهم، مما جعل الأسماع والقلوب تهش إليهم، ويعظم في الناس خطرهم، ويشيع في الآفاق ذكرهم، وكانوا ينتشرون في الجزيرة بمكة، والمدينة وما وراءهما من قبائل البادية، أما مكة فقد كانت بها دار الندوة، وهي أشبه بمجلس شيوخ مصغر، كان يجتمع فيها سادة العشائر القرشية يتشاورون في أمورهم، وفي أثناء ذلك يخطبون ويتحاورون2، ومن خطبائهم المفوهين عتبة بن ربيعة، وهو خطيب قريش يوم بدر، ومن خطبائها سهيل بن عمرو الأعلم، وهو الذي قال فيه عمر النبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله انزع ثنيتيه السفليين حتى يدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيبا أبدا، فقال الرسول عليه السلام: "لا أمثل فيمثل الله بي، وإن كنت نبيا، دعه يا عمر فعسى أن يقوم مقاما تحمده" 3. وقد أسلم وحسن إسلامه، وكانت له مواقف محمودة. ولقريش أيضا خطباء كان ينفر إليهم العرب أمثال هاشم وأمية4، ونفيل ابن عبد العزى جد عمر بن الخطاب، وإليه نفر عبد المطلب بن هاشم، وحرب بن أمية5. وأما المدينة فذكر الجاحظ من خطبائها قيس بن الشماس، وثابت ابنه خطيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وسعد بن الربيع، وهو الذي اعترضت ابنته الرسول صلوات الله عليه، فقال لها: "من أنت؟ فقالت: ابنة الخطيب النقيب الشهيد سعد بن الربيع" 6.

_ 1 المفضليات، القصيدة 96 البيت رقم 9. 2 السيرة النبوية "طبعة الحلبي" 2/ 124. 3 البيان والتبيين 1/ 317، والثنيتان: الأضراس في مقدم الفم. 4 شرح النقائض لأبي عبيدة "طبعة بيفن" 1/ 224. 5 تاريخ الطبري: القسم الأول ص 1091. 6 انظر البيان والتبيين 1/ 358-360.

وإذا تركنا مكة والمدينة إلى القبائل المنبطحة في البادية، وجدنا ممن اشتهروا فيها بالخطابة ابن عمار الطائي، وهو خطيب مذحج كلها1، وهانئ بن قبيصة خطيب شيبان يوم ذي قار2، وزهير بن جناب خطيب كلب وقضاعة3، وربيعة بن حذار خطيب بني أسد4، وإليه احتكم الزبرقان بن بدر والمخبل السعدي، وعبدة بن الطبيب وعمرو بن الأهتم أيهم أشعر5. ومن الخطباء المشهورين في القبائل أيضا عامر بن الظرب6 أحد حكام العرب في الجاهلية، ومن كانوا يقضون بينهم في خصوماتهم7. وممن اشتهر باللسن والخطابة، والشعر لبيد بن ربيعة العامري، ومن قوله8: وأخلف قسا ليتني ولو أنني ... وأعيي على لقمان حكم التدبر ومن قوله أيضا9: وأبيض يجتاب الحروق على الوجى ... خطيبا إذا التف المجامع فيصلا ومن خطبائهم هرم بن قطبة الفزاري10، وهو صاحب المنافرة المشهورة بين علقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل، وقد رآه عمر بن الخطاب يوما في المسجد، فقال له: "أرأيت لو تنافرا إليك -يعني علقمة وعامر- أيهما كنت تنفر: يا أمير المؤمنين لو قلت فيهما كلمة لأعدتها جذعة، فقال عمر: لهذا العقل تحاكمت إليك العرب"11. ومن الخطباء البلغاء عمرو بن كلثوم خطيب تغلب12. وهيذان بن شيخ

_ 1 البيان والتبيين 1/ 349. 2 أغاني "طبعة الساسي" 20/ 137. 3 نفس المصدر 21/ 65. 4 نفس المصدر 10/ 61، والبيان والتبيين 1/ 365. 5 أغاني 12/ 40، 21/ 113. 6 أغاني "طبعة دار الكتب" 3/ 90، وانظر السيرة النبوية 1/ 129، والبيان والتبيين 1/ 365، والمعمرين 44. 7 أغاني 3/ 90، والسيرة النبوية 1/ 128. 8 البيان والتبيين 1/ 189. 9 نفس المصدر 1/ 266، ويجتاب: يقطع، الحروق: الفلوات، الوجى: الحفد. 10 البيان والتبيين 1/ 365. 11 البيان والتبيين 1/ 237. 12 نفس المصدر 2/ 141.

الذي قال فيه الرسول عليه السلام: "رب خطيب من عبس" 1، والعشراء ابن جابر، وخويلد بن عمرو خطيب يوم الفجار2، وقيس بن خارجة بن سنان، ويقال: إنه خطب في حرب داحس والغبراء يوما إلى الليل3، وكل هؤلاء من غطفان. ومن الخطباء حنظلة بن ضرار خطيب بني ضبة، وقد طال عمره حتى أدرك يوم الجمل4. ولم تشتهر قبيلة بالخطابة كما اشتهرت إياد وتميم، ومن إياد قس بن ساعدة الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "رأيته بسوق عكاظ على جبل أحمر، وهو يخطب في الناس" 5. ومن خطباء تميم المفوهين ضمرة بن ضمرة6، وأكثم بن صيفي7 وقيس بن عاصم8، وعطارد بن حاجب بن زرارة خطب وفد تميم بين يدي الرسول، وعمرو بن الأهتم المنقري، ولم يكن في بادية العرب في زمانه أخطب منه9. وما من ريب في أن هذه الكثرة من الخطباء -ووراءهم كثير لم نذكرهم- تدل دلالة بينه على ما كنت عليه الخطابة من رقي وازدهار. وكان للخطباء حينئذ سنن خاصة في أداء خطابتهم، منها أنهم كانوا يخطبون على رواحلهم في المواسم العظام، والمجامع الكبار10, وكان من عادتهم لوث العمائم على رءوسهم، والإشارة في أثناء خطابتهم بالعصي والمخاطر والقنا والقضبان والقسي11. وفي ذلك يقول لبيد12: ما إن أهاب إذا السرادق غمه ... قرع القسي وأرعش الرعديد وقد حملت الشعوبية حملة شعواء على العرب لاتخاذهم في خطابتهم

_ 1 البيان والتبيين 1/ 273. 2 نفس المصدر 1/ 350-351. 3 نفس المصدر 1/ 16، وما بعدها. 4 نفس المصدر 1/ 341. 5 البيان والتبيين 1/ 308-309. 6 جمهرة الأمثال للعسكري 1/ 186. 7 البيان والتبيين 1/ 365، والأغاني "طبعة الساسي" 15/ 70. 8 البيان والتبيين 1/ 53. 9 البيان والتبيين 1/ 355. 10 نفس المصدر 3/ 7. 11 انظر أوائل الجزء الثالث من البيان والتبيين. 12 البيان والتبيين 1/ 372، 3/ 9. وغمه: علاه، وكثر فيه.

المخاصر والعصي، ووصل أيمانهم بالقضبان والقسي، ورد عليهم الجاحظ ردا طويلا مفحما في فاتحة الجزء الثالث من كتاب البيان والتبيين. وفي مواضع كثيرة من هذا الكتاب نرى العرب يمدحون جهارة الصوت وشدته، ويعيبون ضيقه، ودقته كمان يعيبون على الخطيب أن يعترضه البهر، والارتعاش والرعدة، أو يعتريه شيء من الحصر والعي، يقول أبو العيال الهذلي1: ولا حصر بخطبته ... إذا ما عزت الخطب وكان يكرهون أن يمس الخطيب ذقنه، وسباله وشواربه، يقول معن بن أوس المزني في بعض هجائه2: إذا اجتمع القبائل جئت ردفا ... وراء الماسحين لك السبالا فلا تعطي عصا الخطباء فيهم ... وقد تكفى المقادة والمقالا وإذا كانوا قد عاربو ذلك في الخطيب، فقد مدحوا فيه -على نحو ما يلاحظ ذلك الجاحظ في بيانه- شدة العارضة، وظهور الحجة، وثبات الجنان وكثرة الريق، والعلو على الخصوم في مضايق الكلام، ومآزق الخصام.

_ 1 البيان والتبيين 1/ 3. 2 نفس المصدر 1/ 372، والسبال: مقدم اللحية: وهو يهجو صاحبه بأنه ليس رئيسا، ولا خطيبا.

الصنعة في الخطابة الجاهلية

5- الصنعة في الخطابة الجاهلية: من الصفات التي تميز عرب الجاهلية أنهم كانوا يحبون البيان، والطلاقة والتحبير والبلاغة، ودفعهم ذلك إلى الاحتفال بخطابتهم احتفالا شديدا، لا من حيث الصقل، وتجديد الألفاظ فحسب، بل أيضا من حيث مخارج الكلم، ولعلهم من أجل ذلك كانوا يتزيدون في جهارة الأصوات، كما كانوا ينتحلون سعة الأشداق، وهدل الشفاه1، حتى إن فريقا منهم كانوا يتخللون كلامهم بألسنتهم تخلل البقرة الكلأ بلسانها2، ومن لم يصنع ذلك عمد

_ 1 البيان والتبيين 1/ 13-14. 2 البيان والتبيين 1/ 271.

إلى ضروب من التقعير والتمطيط والجهورة والتفخيم1. وليس بين أيدينا نصوص وثيقة نستطيع بها أن نحكم أحكاما دقيقة على خطابتهم وصناعتهم فيها، وحقا نجد بعض خطب مبثوثة في الطبري، والأغاني والأمالي والعقد الفريد، ولكن هذه الخطب جميعا ينبغي أن نتلقاها بشيء من الاحتراس، وخاصة ما رواه الكتاب الأخير من خطب طويلة لهم في وفودهم على كسرى وغير كسرى، فإن الانتحال ظاهر فيها، أما الخطب الأخرى، فأكبر الظن أن الرواة جمعوا بعض شظايا وقطع للقوم، وزادوا عليها من خيالهم، ومن ثم لا يصح الاستدلال بهذه الخطب جميعا على أنها تمثل الخطابة الجاهلية تمثيلا صحيحا، وهذا الجاحظ على كثرة ما روى في بيانه من خطب لم يستطع الاستشهاد للجاهليين، إلا بجمل وصيغ متفرقة لا تكون خطبة كاملة. ومهما يكن فنحن نؤمن بأن أكثر ما يروى من الخطابة الجاهلية لا يصح الاطمئنان إليه من الوجه التاريخية لطول المسافة بين روايته وكتابته، وإن كان ذلك لا يمنعنا من تسجيل بعض الظواهر، والخصائص لتلك الخطابة، فإن من يرجع إلى ما روي منها من كتب الأدب والتاريخ يلاحظ أن أغلب ما روي من خطب القوم روي مسجوعا، ويؤكد الجاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي روى خطبة قس بن ساعدة الإيادي في سوق عكاظ، ويقول: إنه إسناد تعجز عنه الأماني، وتنقطع دونه الآمال، ومع ذلك لم يستطع روايتها كاملة إنما روى أجزاء منها، هي قوله: "أيها الناس اسمعوا وعوا. من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت. آيات محكمات، مطر ونبات، وآباء وأمهات، وذاهب وآت، ضوء وظلام، وبر وآثام، لباس ومركب، ومطعم ومشرب، ونجوم تمور2، وبحور لا تغور، وسقف مرفوع، ومهاد موضوع، وليل داج، وسمات ذات أبراج، مالي أرى الناس بموتون ولا يرجعون، أرضوا فأقاموا، أم حبسوا فناموا".

_ 1 راجع البيان والتبيين في مواضع متفرقة وانظر 1/ 120، وما بعدها. 2 تمور: تذهب وتجيء.

وروى له الجاحظ أيضا قطعة من خطبة أخرى على هذا النحو: "يا معشر إياد، أين ثمود وعاد، وأين الآباء والأجداد، أين المعروف الذي لم يشكر، والظلم الذي لم ينكر"1. وواضح أن هذه القطع من خطابة قس بنيت على السجع، وقد روى الطبري كلمة لنفيل بن عبد العزوى في منافرة عبد المطلب بن هاشم، وحرب بن أمية، وهي مسجوعة2 كما روى أبو عبيدة في النقائض منافرة جرير بن عبد الله البجلي، وخالد بن أرطاة الكلبي إلى الأقرع بن حابس، وهي مسجوعة أيضا3، وبنيت على السجع كذلك منافرة علقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل4. ولم نسق ذلك لنسلم بصحة هذه المرويات من المنافرات وصحة صياغتها، ولكنا سقناه لتخلص منه إلى أنه ثبت عند من كانوا يروون المنافرات والخطب الجاهلية أنها كانت تعتمد اعتمادا شديدا على السجع، ويؤيد ذلك قول الجاحظ: إن "ضمرة بن ضمرة وهرم بن قطبة، والأقرع بن حابس ونفيل بن عبد العزى كانوا يحكمون وينفرون بالأسجاع، وكذلك ربيعة بن حذار"5، وقد اشتمل هذا النص على خطباء من تميم، وأسد وفزارة وقريش، وفي ذلك ما يدل على شيوع السجع في الخطابة الجاهلية. وما من شك في أن صناعة السجع تحتاج إلى قيم موسيقية كثيرة، حتى تتم معادلاته الصوتية وموازناته الإيقاعية، وكانوا يدمجون كثيرا من الصور والتشبيهات والاستعارات في هذا السجع، كما كانوا يدمجون كثيرا من التجويد والتحبير، ويشهد لهم الجاحظ بما كانوا يعانونه في خطبهم وخاصة الطويلة منها إذ يقول: "لم نرهم يستعملون مثل تدبيرهم في طوال القصائد، وفي صنعة طوال الخطب ... وكانوا إذا احتاجوا إلى الرأي في معاظم التدبير، ومهمات الأمور ميثوه6 في صدورهم، وقيدوه على أنفسهم، فإذا قومه

_ 1 انظر هذه القطع من خطابة قس في البيان والتبيين 1/ 308-309. 2 الطبري، القسم الأول ص1091. 3 النقائض لأبي عبيدة 1/ 141. 4 أغاني "طبعة الساسي" 15/ 15. 5 اليبان والتبيين 1/ 290. 6 ميثوه: ذللوه وأعدوه.

الثقات وأدخل الكير وقام على الخلاص أبرزوه محككا منقحا، ومصفى من الأدناس مهذبا"1، وقد عبر العرب أنفسهم في شعرهم بصور مختلفة عن مدى تجويدهم في خطابتهم، وانظر إلى لبيد يقول لهرم بن قطبة في حكومته بين علقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل2: إنك قد أوتيت حكما معجبا ... فطبق المفصل واغنم طيبا يقول له: احكم بين الرجلين بكلمة فصل تفصيل بها بين الحق، والباطل كما يفصل الجزار الحاذق مفصل العظمين. ويقول لبيد عن نفسه مدلا ببيانه وبراعته، وما أوتي من حسن الجدل والعلو على خصومه3: ومقام ضيق فرجته ... ببيان ولسان وجدل ويقول قيس بن عاصم المنقري التميمي واصفا ما فيه قومه من الخطابة والفصاحة، وإحسان هذا الجانب من البيان والبلاغة4: إني أمرؤ لا يعتري خلقي ... دنس يفنده ولا أفن5. من منقر في بيت مكرمة ... والأصل ينبت حوله الغصن خطباء حين يقوم قائلهم ... بيض الوجوه مصاقع لسن وعلى نحو ما وصفوا الخطيب بأنه مصقع، ولسن وصفوه بأنه مدره، يقول زهير بن أبي سلمى في مديح هرم بن سنان6: ومدره حرب جميعا يتقى به ... شديد الرجام باللسان وباليد وواضح أنه يشبه ما يلقيه من لسانه كلاما بما يلقيه من يده سهامًا.

_ 1 البيان والتبيين 2/ 14. 2 نفس المصدر 1/ 109. 3 البيان والتبيين 1/ 265. 4 البيان والتبيين 1/ 219. 5 يفند: ينقض ويضعف، والأفن: ضعف الرأي. 6 ديوان زهير "طبعة دار الكتب" ص 233. والمدره: الذي يدافع عن قومه، الرجام: المراماة في القتال.

وقد وصفوا اللسان بأنه عصب وقاطع وجارح، كما وصفوا الخطيب بأنه لوذعي، يقول شاعرهم1: هو الشجاع والخطيب اللوذعي ... والفارس الحازم والشهم الأبي ولعل من الطريف أننا نجدهم يصفون خطابهم بأنها كالوشي المنمق، ففيها تدبيح، وتزيين يشبه ما يجدونه في الثياب اليمانية الموشاة، يقول أبو قرد ودة الطائي في رثاء ابن عمار خطيب طيئ، وقد مات مقتولًا2: يا جفنة كإزاء الحوض قد هدموا ... ومنطقا مثل وشي اليمنة الحبرة3 ويقول فيه أيضًا: ومنطق خرق بالعواسل ... لذ كوشي اليمنة المراحل4 فأبو قردودة يحس في خطب ابن عمار ما يحسه في وشي الحلل المنمقة، وهو إحساس بالغ، عبر به هو وأضرابه عن عنايتهم بخطابتهم، ومقدار ما كانوا يحققون لها من مهارة وصنعة، وبلغ من جمال بعض خطبهم أن اقترحوا لها أسماء، وإن كانوا يحفظونها ويتوارثونها، لروعة بيانها وجودة فصاحتها وبلاغتها، يقول الجاحظ: "ومن خطب العرب العجوز، وهي خطبة لآل رقبة، ومتى تكلملوا فلا بد لهم منها، أو من بعضها ومنها العذراء، وهي خطبة قيس بن خارجة في حرب داحس والغبراء، سميت بذلك؛ لأنه كان أبا عذرها5. والحق أن خطباء العصر الجاهلي نهضوا بخطابتهم نهضة واسعة، ولذلك لم يكن غريبا أن يستمع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بعضهم وهو يخطب، فيقول: "إن من البيان لسحرا" 6. ولم يكن هذا البيان الساحر شيئا خاصا بهذا الخطيب، بل كان شيئا عاما بين الخطباء، إذ ذهبوا جميعا مذهب التجويد والتحبير، حتى يستميلوا الأسماع ويخلبوا الألباب.

_ 1 أغاني "طبعة دار الكتب" 11/ 150. 2 انظر في التبيين التاليين البيان والتبيين 1/ 349. 3 الإزاء في البيت: مصب الماء في الحوض، واليمنة: ضرب من برود اليمن. 4 العواسل: الرماح، المراحل: جمع مرحل، وهو ما نقش فيه تصاوير الرحال. 5 انظر البيان والتبيين 1/ 348. 6 نفس المصدر 1/ 53.

سجع الكهان

6- سجع الكهان: كانت عند العرب في العصر الجاهلي طائفة تدعي التنبؤ ومعرفة المغيبات، وأنها تنطق عن آلهتم بما سخر لها من الجن التي تسترق لها السمع، فتكشف لها الحجب، وما تأتي به ألواح الغد. وكانوا يسمونها الكهان، وواحدهم يمسي كاهنا، أما تابعه من الجن فيسمى رئيا، وكانوا يفزعون إليهم لاستشارتهم في الأمور الجلى كإعلان حرب1، أو قعود عن نصرة أحلاف2، أو كشف قتل إنسان أو ناقة3، أو خلال بنذر من النذور لأربابهم لا يستطيعون أداءه4. وقد يلجأون إليهم للحكم بينهم أو للمنافرة5، ممتثلين لأحكامهم فهي لا تنقض ولا ترد، وقد يطلبون إليهم تعبير رؤاهم وأحلامهم6، وهم بدورهم قد يتنبئون لأقوامهم بوقوع كارثة، أو حدوث غزو7. ولعل في ذلك كله ما يدل على أنهم كانوا يتمتعون بنفوذ واسع، ولم يكن لهذا النفوذ حدود قبلية، فكثيرا ما يسيطر الكاهن على مجموعة من القبائل بكهانته، فتصدر عن رأيه، وقد تتخطى شهرته إقليمه، فتقصده العرب من أقاليم نائية، ككثير من كهان اليمن، ولعلنا لا نبعد إذا قلنا: إن جمهور كهانهم كانوا يمنيين، وخاصة من يرجع بهم القصاص إلى الحقب الأولى من العصر الجاهلي، ومن أشهرهم سطيح الذئبي، وشق بن مصعب الأنماري، وإليهما

_ 1 أغاني "طبع دار الكتب" 9/ 84. 2 أغاني 11/ 140. 3 أغاني 11/ 118. 4 السيرة النبوية لابن هشام 1/ 162. 5 السيرة الحلبية "طبع بولاق" 1/ 5. 6 السيرة النبوية 1/ 15، وما بعدها. 7 الأمالي للقالي 1/ 126، وانظر السيرة النبوية 1/ 15، 1/ 43، 1/ 221 -222.

فزع نصر بن ربيعة ملك اليمن في تفسير رؤيا له1، وقد أخرجهما القصاص، ورواة الأخبار من عالم الواقع إلى عالم الخيال، فقالوا: إن سطيحا لم يكن فيه عظم سوى جمجمته، وإن وجهه كان في صدره ولم يكن له عتق، ولعله كان أحدب، أما شق فقالوا: إنه كان شق أو نصف إنسان له عين واحدة، ويد واحدة ورجل واحدة2. ومن كهانهم المشهورين المأمور الحارثي، وكان من فرسان مذجح، وكانت بأمره تتقدم وتتأخر3، وخنافر الحميري، وكان يزعم أنه دخل الإسلام بمشورة رئيه شصار4، وعوف بن ربيعة الأسدي، وهو الذي أشار على قومه بالثورة على حجر بن الحارث الكندي وقتله5، وسلمة الخزاعي الذي تنافر إليه هاشم بن عبد مناف، وأمية بن عبد شمس فنفر هاشما6، وسواد بن قارب الدوسي، وقد أدرك الإسلام7، وعزى سلمة وهو أكهنهم جميعا8، ووجد بجانب هؤلاء الكهنة بعض نسوة عرفن بالتكهن من مثل الشعثاء الكاهنة9، وزبراء10، وكاهنة ذي الخلصة11، والكاهنة السعدية12 والزرقاء13 بنت زهير، والغيطلة القرشية14. وروت كتب الأدب والتاريخ طائفة من أقوال هؤلاء الكهان، والكاهنات وخطابهم، وكلها تلتزم السجع، وما نشك في أن أكثر ما روي عنهم مصنوع، وإن من الخطأ أن يعتمد باحث على تلك المرويات، ويظنها صحيحة النسبة إلى من قيلت على ألسنتهم، لبسبب طبيعي، وهو أنها لم تكن مدونة ولا مكتوبة،

_ 1 الكامل لابن الأثير "طبع ليدن" 1/ 301، والسيرة النبوية 1/ 15. 2 انظر عجائب المخلوقات للقزويني "طبعة وستنفلد" 1/ 171. 3 الاشتقاق لابن دريد 269، وانظر الأمالي 1/ 276، واسمه فيه المأمون. 4 الأمالي 1/ 133. 5 أغاني 9/ 84. 6 السيرة الحلبية 1/ 5. 7 السيرة النبوية 1/ 223. 8 البيان والتبيين 1/ 358. 9 مجمع الأمثال للميداني 1/ 91. 10 الأمالي 1/ 126. 11 مجمع الأمثال 1/ 223. 12 نفس المصدر 2/ 54. 13 أغاني "طبعة دار الكتب" 13/ 81. 14 سيرة ابن هشام 1/ 221.

ومن مصعب أن نحتفظ بها ذاكرة الرواة نحو قرنين من الزمان أو أكثر، فلا تبدل فيها ولا تحرف، حتى يخرج العصر العباسي فيدونها اللغويين والأخباريون. على أننا نستطيع بعد أن نرفض ما يروى من أقوالهم، وخطبهم أن نعود فنظن ظنا أنهم كانوا يسجعون في خطابتهم، وإلا لما استقر عند جميع من نحلوهم بعض الأقوال، والخطب أنهم كانوا يعتمدون على السجع في كهانتهم، ومن ثم صاغوا ما نسبوه إليهم من كلام سجعا خالصا، ولعل هذا السجع في كلامهم هو الذي دفع بعض المشركين من قريش إلى الظن بأن ما يتلوه الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن، إنما هو من كلام الكهان، فقال جل وعز ينقض دعواهم الباطلة: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ} وقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} ، وقد جاء في الحديث النبوي أن الرسول صلوات الله عليه، قضى على رجل في جنين قتلت أمه بدية، فقال الرجل: "أأدى "أأغرم" من لا شرب ولا أكل، ولا صاح ولا استهل، أليس مثل ذلك يطل1؟ فقال رسول الله عليه السلام: "إنما هذا من إخوان الكهان، من أجل سجعه الذي سجع" 2، وفي رواية أنه قال له: أسجع كسجع الكهان3؟ وفي هذا الحديث أكبر الدلالة، وأعظمها على أن الكهان كانوا يستخدمون السجع في كهانتهم، ويقول الجاحظ: "كان حازي "كاهن" جهينة، وشق وسطيح وعزى سلمة، وأشباههم يتكهنون، ويحكمون بالأسجاع، ويروى من سجع عزى سلمة قوله4: "والأرض والسماء، والعقاب والصقعاء، واقعة ببقعاء، لقد نفر المجد بني العشراء، المجد والسناء"5.

_ 1 يطل: يهدر دمه. 2 صحيح مسلم "طبعة الآستانة" 5/ 111، وانظر موطأ مالك "طبع حجر بمصر" 2/ 192. 3 البيان والتبيين 1/ 287، وإعجازالقرآن الباقلاني "طبع مطبعة الإسلام" ص32. 4 البيان والتبيين 1/ 289-290. 5 الصقعاء: الشمس، بقعاء: ما أو موضع، نفرهم: حكم لهم بالغلبة، بنو العشراء: عشيرة من فزارة، السناء: الرفعة.

وإذا صحت هذه الكلمة لعزى سلمة، فإنها ترينا أن الكهان كانوا يعتمدون في كهانتهم على السجع، كما كانوا يعتمدون على مثل هذه الأقسام، والأيمان بالأرض والسماء، والطير والشمس، وما يتصل بذلك من القمر والنجوم، والكواكب، والأشجار والرياح، وكل ما يظنون أنه يحمل قوى خفية، وأيضا فإنهم كانوا يعتمدون على الإغراب في ألفاظهم للإيهام، والتأثير في نفوس السامعين. وهذه هي نفس السمات العامة التي يمكن أن نستنبطها من خلال النصوص الكثيرة التي رويت من سجعهم، ونحن نرى هذه السمات واضحة في هذه القطعة الصغيرة التي رواها الجاحظ لعزى سلمة، وهي سمات طبيعية، إذ كانوا يلجأون إلى الإيهام في أحاديثهم وأقوالهم، وكانوا يعتمدون في هذا الإيهام على الأقسام، واللفظ الغريب ليتيح لهم ذلك ما يريدون من الوهم في أساليبهم، ومعاني كلامهم. وأكبر الظن أنهم كانوا يبالغون في ذلك حتى تنبهم معانيهم وتغمض دلالاتهم، فيكثر عند السامعين الفهم، ويكثر الاحتمال والتأويل، ولعلنا لا نبعد إذا زعمنا أن الكهان كانوا يبنون سجعهم في كثير من جوانبه على الرمز، فإن كهانتهم كانت تقتضي أن يختاروا ألفاظا موهمة توعظ بما يريدون دون أن تفصح -في كثير من أحوالها- عن دلالة بينه، ومهما يكن فإن حرقة الكهان في هذا العصر أثمرت ضربا طريفا من السجع كان يتكئ على الأقسام، والأيمان الموهمة والألفاظ الغريبة. وأكبر الظن أن فيما قدمنا من حديث عن سجع الكهان، وخطابة الجاهليين وما كان من أمثالهم ما يدل دلالة صريحة على أن ما سلم لنا من بقايا نثرهم، إنما هو شظايا متناثرة من صناعة بليغة كانت تستفيد من أصحابها آمادا واسعة من التعب، والعناء والجهد، والنشاط.

الفصل الثاني: الصنعة في النثر الإسلامي

الفصل الثاني: الصنعة في النثر الإسلامي 1- الإسلام: يفتح الإسلام صفحة جديدة في تاريخ النثر العربي، هي صفحة دين قويم بعث به رسول عظيم، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وينقل العرب وغير العرب من حياة الفوضى، والهمجية والخرافة والوثنية، والعداوة والبغضاء إلى حياة مدنية، قوامها سعادة الجنس البشري وهناءته. ولا يمضي نحو عشرين سنة حتى يجمع محمد صلى الله عليه وسلم العرب على هذا الدين الحنيف، ويستأصل ما كان فيهم من جذور همجية، ووثنية وتفكك وتخاصم، فيصبحوا بنعمة الله أمة واحدة تتعاون على الخير والبر والتقوى، ويخروا إلى الأذقان سجدا خشوعا لربهم، ورهبة من عقابه ورغبة في رحمته التي وسعت كل شيء. لم يعد العرب قبائل متنابذة، كما كانوا في الجاهلية، يقتل بعضهم بعضا معظمين للدماء مفاخرين بالأحساب والأنساب، بل أصبحوا جماعة واحدة رحماء فيما بينهم، يسند قويهم ضعيفهم، لا يتحاربون ولا يتخاصمون، بل يتآزرون ويتعاونون، فلا نهب ولا سلب، ولا عصبية قبلية ولا دعوة جنسية، فالمسلمون جميعا من كل القبائل ومن عرب، وغير عرب إخوة لا فضل لغني على فقير، ولا لقوي على ضعيف، بل هم جمعيا سواء، ولا شريف على مشروف، ولا حر ولا عبد. كل منهم يرعى أخاه وحقوقه، وله حريته، ولكن بحيث لا تمس حرية الآخرين، فقد حدد الإسلام لهذه الحرية بتكاليفه الدينية بما حرم بن ضروب الإثم، ما ظهر منها وما بطن.

إنه دين سماوي، تعنو فيه الوجوه للحي القيوم الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى، ومد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات، فهو باعث كل حياة. قد أحاطت قدرته كما أحاط علمه بكل شيء، فهو القاهر فوق عباده: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ، وإنه ليعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، وقد أعذر رسوله الكريم وأنذر، في عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها، فإن وراء هذه الحياة حياة أخرى يحاسب فيها المرء على ما قدمت يداه، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، فإما الجنة والنعيم، وإما النار والجحيم، والله مع سلطانه وعدله رحيم، وعلى المسلم أن يصدع بأوامره ونواهيه في سره وعلنه، وأن يسير على هدى نبيه، وما شرعه للناس، وأن يأخذ بتعاليمه ووصاياه التي تحقق له السعادة في دنياه وأخراه. وفي هذا الدين الكريم عقائد تتصل بوحدانية الله، والإيمان برسله وكتبه واليوم الآخر، وأن وراء عالمنا نوعين من الأرواح، نوعا خيرا هو الملائكة، ونوعا شريرا هو الشيطان، وفي الدين أعمال تتصل بعبادة الله وطاعته، هي الصوم والصلاة والزكاة، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا، وإنه ليدعو من آمن به إلى سيرة مستقيمة، فلا بغي ولا عدوان ولا فحش، ولا قتل ولا نهب، ولا نميمة ولا غيبة ولا كبر ولا فخر، بل حياة طاهرة تقية، خلصت من كل الشوائب، وهي حياة وضع لها الدين نظاما اجتماعيا سديدا يكفل للجنس البشري ما يليق به من كمال، إنها رسالة جليلة، ورسالة لم يؤدها أي دين من الأديان على هذه الصورة المثالية، ومن ثم لم تؤثر في العرب وحدهم، بل أثرت في العالم جميعه، ودانت لها الأمم في مشارق الأرض، ومغاربها مقرة بجلالها وجمالها.

القرآن الكريم: كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، نزل به الروح الأمين على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم منجما مقسطا في ثلاث وعشرين سنة، حتى تستعد القوى البشرية لتلقي هذا الفيض الإلهي، وهو معجزة الإسلام الكبرى، إذ لم يبلغ أي كتاب ديني، أو دنيوي ما بلغه من روعة البيان والبلاغة، ومس المشاعر وأسر القلوب، سواء حين يتحدث عن عظمة الله وجلال، أو حين يشرع للناس ما به صلاح معاشهم، وآخرتهم أو يصور لهم الثواب والعقاب، والفردوس والجحيم، أو يقص عليهم من أنباء الرسل الأولين ما فيه عبرة، ومزدجر للمؤمنين. فقد نزل في أسلوب لا يبارى في قوة إقناعه وبلاغة تركيبه، حتى ليقول الوليد بن المغيرة أحد خصوم الرسول، وقد سمعه يتلو من آياته: "والله لقد سمعت من محمد كلاما، ما هو من كلام الإنس والجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق"1، ويلاحظ الوليد ملاحظة صادقة، هي أن القرآن لا يماثل كلام الإنس، ولا كلام الجن ويلاحظ الذي كان يجري على ألسنة كهانهم، فهو طراز وحده، له سحره البياني، بل له إعجازه الذي انقطعت آمال العرب دونه في محاكاته، أو الإتيان بشيء على مثاله في السيطرة على الألباب والقلوب، وقد تحداهم جل وعز أن يجمعوا أمرهم وكيدهم، فيأتوا بسورة من مثله أو بسور تحاكيه، فعجزوا وذلوا، يقول سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} ، ويقول تبارك وتعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . ويشرح ذلك الجاحظ فيقول: "بعث الله محمدا عليه الصلاة والسلام في زمن أكثر ما كانت العرب

_ 1 انظر تفسير الزمخشري في سورة المدثر، ومغدق: كثير المياه.

فيه شاعرا وخطيبا، وأحكم ما كانت لغة، وأشد ما كانت عدة، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته، دعاهم بالحجة، فلما قطع العذر وأزال الشبهة، وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى، والحمية دون الجهل والحيرة نصبوا له الحرب ونصب لهم ... وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن، ويدعهم صباح مساء إلى معارضته إن كان كاذبا بسورة واحدة، أو بآيات يسيرة، فكلما ازداد تحديا لهم بها، وتقريعا لهم بعجزهم عنها قالوا له: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا، قال: فهاتوا ولو مفتريات، فلم يرم ذلك خطيب، ولا طمع فيه شاعر، ولو طمع فيه لتكلفه، ولو تكلفه لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيد ويحامي عليه، ويكابر فيه، ويزعم أنه قد عارض وناقض، فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم، وسهولة ذلك عليهم، وكثرة شعرائهم وكثرة من هجاه منهم، وعارض الشعراء من أصحابه والخطباء من أمته؛ لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله، وأبلغ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعه عن بذل النفوس، والخروج عن الأوطان وإنفاق الأموال، وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في الرأي والفضل بطبقات، ولهم القصيد العجيب والرجز الفاخر، والخطب الطوال البليغة والقصائد الموجزة، ولهم الأسجاع واللفظ المنثور، ثم يتحدى به أقصاهم بعد أن ظهر عجز أدناهم، فمحال -أرشدك الله- أن يجتمع هؤلاء كلهم في الأمر الظاهر والخطاب المكشوف البين مع التقريع بالتقصير والتوقيف على العجز، وهم أشد الخلق أنفة، وأكثرهم مفاخرة والكلام سيد أعمالهم، وقد احتاجوا إليه، والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض، فكيف بالظاهر الجليل المنفعة، وكما أنه محال أن يطيقوه ثلاثا وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة، كذلك محال أن يتركوه وهم يعرفونه، ويجدون السبيل وهم يبذلون أكثر منه". وكان طبيعيا أن يستكين العرب أمام هذه الذروة الرفيعة من البلاغة والبيان، وهي ذروة ليس لها في اللغة العربية سابقة ولا لاحقة، ذروة جعلت العرب

حين يستمعون إلى آية تعنو وجوهم لربهم، ويخرون ركعا وسجدا مشدوهين بجماله مبهورين ببلاغته، وفي ذلك يقول جل وعز: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ويقول: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} . ولا يزال هذا الشعور الذي كان يختلج في قلوب العرب الأولين تخفق به القلوب في كل عصر لما يفتح من آفاق العالم العلوي، ولما يؤثر به في صميم الوجدان الروحي، وهو يمتاز بأسلوب خاص به ليس شعرا، ولا نثرا مسجوعا، وإنما هو نظم بديع، فصلت آياته بفواصل تنتهي بها، وتطمئن النفس إلى الوقوف عندها. وتتنوع الفواصل بين طوال، وقصار ومتوسطة بتنوع موضوعاته وتنوع المحاطبين، فقد كان يغلب عليه الإيجاز والإشارة في بدء الدعوة قبل الهجرة، حين كان يدعو إلى عبادة الله ونبذ الديانة الوثنية، والإيمان بالبعث والنشور، فلما انتقل الرسول عليه السلام إلى المدينة غلب عليه البسط، والإطناب لبيان نظم الشريعة، وما ينبغي أن يكون عليه نظام الحياة الاجتماعية، مما تقتضيه مصالح البشر في حياتهم على اختلاف الأزمنة والأمكنة. وقد أثر هذا الكتاب العظيم آثارا بعيدة في اللغة العربية، فقد حول أدبها من قصائد في الغزل والحماسة، والأخذ بالثأر والفخر ووصف الإبل، والخيل والسيوف والرماح، ومن حكم متناثرة لا ضابط لها ولا نظام، إلى أدب عالمي يخوض في مشاكل الحياة والجماعة، وينظم أمورها الدينية والدنيوية. فارتقى الأدب العربي رقيا لم يكن يحلم به العرب، واتسعت آفاقه. وعادة يشير مؤرخو هذا الأدب إلى بعض ألفاظه التي ابتدأها ابتداء مثل القرآن، والفرقان والكافر والمشرك والمنافق، والصوم والصلاة والزكاة، فمدلولات هذه الألفاظ لم تكن حتى كان، والحق أنه جميعه بألفاظه ومعانيه المختلفة يعد ابتداء، بما علم العرب من أسس الإسلام ومبادئه، وبما بين لهم من ماهية الحياة بعد الموت ومن البعث، والنشور ورسالة الرسل، وعبادة الله الواحد الأحد، وبما نظم لهم من حياتهم في الأسرة والجماعة تنظيما ماديا وأدبيا وعقليا وروحيا، تنظيما يكفل لهم الكمال

البشرى والسعادة في الدارين، وعلى نحو ما جمع العرب على دين واحد جمعهم على لهجة واحدة من لهجات اللغة العربية، هي لهجة قريش، وكانت قد سادت في الجاهلية على لهجات القبائل العدنانية الشمالية، فأتم لها هذه السيادة على لهجات القبائل اليمنية الجنوبية، وكانت هي التي حملها العرب معهم في فتوحاتهم، فانتشرت في العالم الإسلامي جميعه من الصين والهند إلى المحيط الأطلسي، وجبال البرانس، إذ كانت تلاوته قرضا مكتوبا على المسلمين، قال جل شأنه: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا} ، وقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} ، وبذلك كان للقرآن الكريم الفضل العظيم في حفظ اللغة العربية، وذيوعها وانتشارها في ملايين الناس مدى أجيال متعاقبة، بل مدى قرون مترادفة إلى اليوم. فالقرآن هو الذي حفظ اللغة العربية القرون المتطاولة السابقة، وقد حول العربي من إنسان جاهل يؤمن بالخرافات إلى إنسان محب للعلم مشغوف بالمعرفة، يطلبها أينما كانت، ولم يلبث أن فتح له الأرض، فدخلت إلى العربية أمم شاركت في لسانها وأدبها، وتعاونت في تلك النهضة الروحية والاجتماعية والأدبية والعلمية، ومن الحق أن كل ما كسبته لغتنا من آداب في الشعر والنثر، ومن علوم شرعية ولسانية وعقلية فلسفية، إنما كان بفضل القرآن، بل لقد تعدت آثاره لغته العربية إلى لغات الأمم الإسلامية التي لا تنطق بلغته، ولنتصور العرب لم يرسل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نزل فيهم الذكر الحكيم إذن لما فارقت لغتهم جزيرتهم، ولظلوا وثنيين في تنابذ وشقاق، وحروب طاحنة، بل لعل لغتهم كانت قد اندثرت كما اندثرت لغات قديمة كثيرة، فالقرآن هو الذي نفخ في روحها، وهو الذي أتاح لها الحياة على توالي القرون، وهو الذي نقلها من لغة بداوة إلى لغة مدنية، حتى أصبحت لغة عالمية لأمم كثيرة اتخذتها لسان ثقافتها وآدابها، ولا يوجد في تاريخ البشرية كتاب له هذه الآثار العظيمة في لغته، وتغيير أحوال من آمنوا به، بل هو يقف وحده في هذا الباب، إنه مفخرة العرب ومعجزة الإسلام، وآيته الباهرة.

الحديث النبوي: حديث الرسول صلوات الله عليه هو الأصل الثاني للإسلام، وهو يشمل كل ما جاء عنه من قول أو فعل أو تقرير، وقد يسمى ذلك السنة. وترجع أهميته إلى أنه يتمم القرآن في بيان أحكام الشريعة الإسلامية، فالصلاة مثلا ذكرت في القرآن مجملة، فبين الحديث كيفيتها وأوقاتها، وكذلك الشأن في الزكاة فإن الحديث هو الذي بين قواعدها التي بجب اتباعها في جمعها وتوزيعها. وهناك آيات في الذكر الحكيم يحتمل وجوها مختلفة من المعاني، والحديث هو الذي يشرح المراد منها، وهذا إلى كثير من شئون الدين التي يستقل الحديث ببيانها. ومنذ عصر الرسول يهتم المسلمون بالحديث عملا بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، فكانوا يأتمون به كما كانوا يأتمون بالقرآن الكريم وما شرع لهم، ويدل على ذلك أكبر الدلالة ما يروى من أن الرسول حين أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن سأله: بم تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد، قال: بسنة رسوله1. فرواية الحديث كانت معروفة في حياة الرسول، وكانت كل قبيلة تأخذ معها معلما يعلمها القرآن والسنة النبوية. وكثيرا ما كان يعقب الرسول على أحاديثه وخطبه بقوله: "ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب"2، ولما توفي الرسول، ودخل الموالي في الإسلام أخذوا يحاولون معرفة كل شأن من شئون الرسول، ليقتدوا به، ولم يكن العرب يقلون عنهم شغفا بتلك السيرة العاطرة. كل ذلك دفع المسلمين إلى رواية الحديث، غير أنه لم يدون بصفة عامة إلا على رأس المائة الأولى للهجرة، أما قبل ذلك فكان هناك من يدونونه ومن لا يدونونه، وترى عن الرسول أحاديث مختلفة يدعو بعضها إلى تدوينه،

_ 1 انظر مختلف جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر "الطبعة الأولى" ص126. 2 راجع مثلا خطبة حجة الوداع في البيان والتبيين 2/ 23.

ويدعو بعض آخر إلى عدم تدوينه1، ولعله كان يخشى إن دون أن يختلط بالقرآن، أو أن يشغل المسلمين عنه، وفي الوقت نفسه لم يجد مانعا في بعض الأحيان من أن تكتب عنه بعض الأحاديث التي تتعلق بالأحكام، وإذا انتقلنا إلى عصر الصحابة، وجدناهم يكرهون غالبا تدوين الحديث2. بينما يعنون بروايته، وأشار نفر منهم على عمر أن يدونه. فلبث شهرا يستخبر الله في ذلك، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له، فقال: إني كنت قد ذكرت لكم من كتاب السنن ما قد علمتم، ثم تذكرت، فإذا أناس من أهل الكتاب قلبكم قد كتبوا مع كتاب الله كتبا، فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدًا3، ومضى الصحابة لا يدونون الحديث تدوينا عاما مكتفين بروايته، وظلت هذه هي الفكرة الشائعة في عصر التابعين4، ولكن بمضي الزمن تزداد الرغبة في تدوينه، حتى إذا كان عهد عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى للهجرة رأيناه يأمر بتدوينه5، ولا مشاحة في أن أول من دونه تدوينا عاما هو ابن شهاب الزهري المتوفى سنة 123هـ، ومنذ هذا التاريخ أخذ تدوين الحديث يتسع، وأخذ يصنف ويبوب على الأحكام الفقهية، حتى يسهل الرجوع إليه في أمور الدين، على نحو ما نجد في كتاب "الموطأ" للإمام مالك إمام أهل المدينة المتوفى سنة 179 للهجرة، ولا نصل إلى أواسط القرن الثالث، حتى يضع فيه ابن حنبل مسنده الكبير، وتتلوه كتب الصحيح الستة، للبخاري ومسلم وأبي داود، والترمذي وابن ماجه والنسائي. ووضع حول الحديث منذ العصر الأول في روايته سياج محكم، حتى لا يدخل فيه الوضع والانتحال، وحتى تظل الثقة قائمة به، وخاصة؛ لأنه

_ 1 انظر تقييد العلم للخطيب البغدادي "طبعة يوسف العش" ص29، وما بعدها وص65 وما بعدها. 2 نفس المصدر ص36، وما بعدها. 3 نفس المصدر ص49، وما بعدها. 4 نفس المصدر ص45، وما بعدها وص99، وما بعدها. 5 الزرقاني على موطأ مالك "طبع المطبعة الخيرية" 1/ 10.

تأخر تدوينه تدوينا عاما. وقد كفل له من ذلك ما يملؤنا إعجابا بعلمائه ورواته، فقد اشترطوا شرواطا كثيرة في حملته، وأقاموا من أجله علما برأسه، يسمى مصطلح الحديث ميزوا فيه بين أنواع صحيحة وضعيفة، كما ألفوا كثيرا في رجاله ورواته، حتى يقفوا على درجة صدقهم، وقد أفردوا لضعيفه كما أفردوا لصحيحه مؤلفات كثيرة على نحو ما صنع ابن حبان وغيره، وكذلك أفردوا مؤلفات لموضوعاته، ومفترياته على نحو ما صنع السيوطي في كتابه "اللآلئ المصنوعة". وبذلك حافظ المسلمون على حديث الرسول صلوات الله عليه، وإن كانوا قد أجمعوا على أنه في جملته روي بالمعنى ولم يرو باللفظ، بسبب تأخر تدوينه، ولعل ذلك ما جعل علماء الكوفة والبصرة، وبغداد لا يحتجون به في إثبات لغة العرب والاستدلال على القواعد النحوية، واللغوية التي دونوها، فقد تداوله الأعاجم، والمولدون قبل تدوينه تدوينًا عامًّا. والذي لا شك فيه أنه عليه السلام لم يكن ينطق إلا عن ميراث حكمة، وأنه أوتي جوامع الكلم، وكان يكره الإغراب في اللفظ والتعسف والتكلف، ويكفي في بيان روعة تعبيره وبلاغة كلامه، وتراكيبه ما يقوله الجاحظ في كتابه البيان والتبيين من أنه "لم يتكلم إلا بكلام قد حف بالعصمة، وشيد بالتأييد ويسر بالتوفيق، وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام ... لم تسقط له كلمة، ولا ذلت به قدم ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم ولا أفحمه خطيب، بل يبذ الخطب الطوال بالكلم القصار ... ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلج1 إلا بالحق ولا يستعين بالخلابة ... ولم يسمع الناس بكلام قد أعم نفعا، ولا أقصد لفظا ولا أعدل وزنا، ولا أجمل مذهبا ولا أكرم مطلبا، ولا أحسن موقعا ولا أسهل مخرجا، ولا أفصح معنى ولا أبين في فحوى من كلامه

_ 1 الفلج: الفوز والظفر.

صلى الله عليه وسلم"1. وقد تداول العرب والمسلمون من كلماته الجامعة بعض أمثال لم يتقدمه فيها أحد، من ذلك قوله2: مات حتف أنفه3 -كل الصيد في جوف الفرا4- إذن لا ينتطح فيها عنزان - يا خيل الله اركبي- لا يلسع المؤمن من جحر مرتين -هدنه على دخن5 وجماعة على أقذاء- الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة6 -إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى7- إياكم وخضراء الدمن8 -الآن حمي الوطيس9. على أنه ينبغي أن نعرف أن الأمثال لم يعد لها منذ ظهور الإسلام خطورتها في تاريخ النثر العربي، فقد تغيرت الحياة العربية من قواعدها، ولم تعد تحتكرها الأمثال، إذ أخذ العرب يشغلون عنها بتلاوة القرآن ورواية الحديث، واتخذوا منهما وموعظتهم، وحتى الشعر كف كثيرون من شعرائهم عن نظمه10.

_ 1 البيان والتبيين 2/ 17. 2 نفس المصادر 2/ 15، وما بعدها والحيوان 1/ 335، وزهر الآداب للحصري "طبعة المطبعة الرحمانية" 1/ 23 ومجمع الأمثال للميداني 1/ 7، 1/ 21. 3 مات حتف أنفه: أي على فراشه من غير قتل في الوغى. 4 الفرا: حمار الوحش، يضرب مثلا في نفاسة الشيء أو الشخص. 5 دخن: حقد. 6 الراحلة: الصالحة؛ لأن ترحل. 7 المنبت: المسرع بناقته حتى عطبت فلم يقض حاجته ولا سفره، والظهر: الناقة التي يركبها. 8 الدمن: البعر المتلبد، وهو مثل يضرب تنفيرا من المرأة الحسناء تنشأ في منبت السوء. 9 الوطيس: التنور، يضرب مثلا على اشتداد الحرب. 10 أغاني "طبعة الساسي" 14/ 94.

الخطابة في صدر الإسلام

2- الخطابة في صدر الإسلام: الرسول صلى الله عليه وسلم أخطب العرب قاطبة، وقد كان يخطب في قريش كثيرا يدعوها إلى دينه الحنيف1، والدخول في طاعة الله ومحبته، ولما هاجر إلى المدينة أصبحت الخطابة فريضة مكتوبة في صلاة الجمعة والعيدين. وبذلك عرف العرب ضربا منظما من الخطابة الدينية لم يكونوا يعرفونه في الجاهلية، إذ كانت خطابتهم -كما أسلفنا- اجتماعية، وكانت تدور غالبا على المنافرات والمفاخرات، وقد دعا الإسلام إلى نبذ التفاخر، والتكاثر بالأحساب والإنسان، ومن ثم اختفى من حياتهم هذا اللون من الخطابة. وتحتفظ كتب الحديث الصحيحة2 بتقاليد الرسول صلوات الله عليه في خطابته سواء في صلاة الجمعة، أو صلاة العيدين، إذ كان يخطب في الصلاتين خطبتين يجلس بينهما، وكانتا تدوران على تبيين ما شرع الله لعبادة في شئون دينهم ودنياهم، وما ينبغي أن يسود مجتمعهم من مثالية خلقية رفيعة، ومن روابط اجتماعية وثيقة، وبجانب ذلك كان الرسول يخطب في الأحداث، وعند المناسبات. ومن المحقق أنه خلف تراثا ضخما من الخطب، غير أن ما احتفظت به كتب الأدب والتاريخ من ذلك قليل، ولا ترجع قلته إلى قصر خطبه، فقد كان يطيل خطبه أحيانا، وفي بعض المناسبات إلى ساعات3 يعظ الناس ويدعوهم إلى التفكر في الكون، وخالقه، ومدبره. وأكبر الظن أن خطبة أصابها ما أصاب خطب الجاهلية، فإنها لم تدون لحينها، وبعد العهد بين عصرها وعصر تدوينها، ومع ذلك فقد احتفظت ذاكرة الرواة ببقايا منها تحمل لنا خصائصها، من ذلك

_ 1 السيرة الحلبية 1/ 379. 2 انظر كتاب الجمعة في صحيحي البخاري، ومسلم والتنبيه للشيرازي "طبعة ليدن" ص40. 3 إعجاز القرآن للباقلاني ص64.

أنه خطب بعشر كلمات: حمد الله وأثنى عليه، ثم قال1: "أيها الناس! إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، إن المؤمنين بين مخافتين: بين عاجل قد مضى لا يدري ما الله صانع به، وبين آجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه. فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشيبة قبل الكبرة، ومن الحياة قبل الموت. فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار". والخطبة على قصرها توضح لنا كيف كان الرسول يعظ أصحابه، ويدفعهم دفعا إلى العمل الصالح، قبل أن يلبوا داعي الموت، فتبور تجارتهم، ويذهب هباء عملهم، وإنهم لمعروضون على ربهم، فموفون حسابهم، فأما من اتبع هدى الإسلام، فمصيره الجنة إلى وصفها القرآن الكريم فأسهب في وصفها، وأما من أعرض وتولى، ولم يذكر اسم ربه ولا صلى، ولا أخلص عمله لوجهه، فمصيره النار التي أطنب القرآن في بيان عذابها. ولم تكن خطبه مواعظ فحسب، بل كانت أيضا تشريعا، وتنظيما لحياة هذه الأمة التي أخرجت للناس في خير مثال تأمر بالمعروف، وتتناهى عن المنكر، ويتعاون أفرادها على البر والخير مما فيه صلاحهم وصلاح مجتمعهم، ولعل خير خطبة تشريعية تصور كيف كان ينظم هذا المجتمع الروحي، ويرسي قواعده خطبته في حجة الوداع، وهي تمضي على هذا النحو2: "الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. أوصيكم، عباد الله، بتقوى الله وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو

_ 1 انظر كتاب البيان والتبيين 1/ 302. 2 نفس المصدر 2/ 31، وانظر كتاب الجمعة في صحيح البخاري، والسيرة لابن هشام "طبعة الحلبي" 4/ 250، والعقد الفريد "طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر" 4/ 59.

خير، أما بعد، أيها الناس! اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا. أيها الناس! إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد". فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى الذي ائتمنه عليها، وإن ربا الجاهلية موضوع1، وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب -وإن دماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب- وإن مآثر الجاهلية موضوعة، غير السدانة2 والسقاية3. والعمد قود4، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر، وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية. أيها الناس! إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم. أيها الناس {إِنَّمَا النَّسِيءُ 5 زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} . إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. أيها الناس! إن لنسائكم علكيم حقا، ولكم عليهن حق. لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن أحدًا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم،

_ 1 موضوع: ساقط، ومحرم. 2 السدانة: خدمة الكعبة. 3 السقاية: سقاية قريش للحجاج. 4 العمد: القتل المتعمد، القود: قتل القاتل بقاتله. 5 النسيء: شهر المحرم كانوا يحرمونه عاما، وعاما يحلونه إذا أرادوا الإغارة، فيقولون: إنه بعد صفر ويؤجلونه.

ولا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن 1، وتهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضربا غير مبرح 2، فإن انتهين وأطعنكم فعلكيم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما النساء عندكم عوان 3، لا يملكن لأنفسهن شيئا، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله. فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيرا ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد". أيها الناس! إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئ مسلم مال أخيه إلا عن طيب نفس منه، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. فلا ترجعن بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله. ألا هل بغلت؟ اللهم اشهد، أيها الناس! إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير. وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. قالوا: نعم، قال: فليبلغ الشاهد الغائب. "أيها الناس! إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، فلا تجوز وصية لوارث في أكثر من الثلث، والوالد للفراش وللعاهر الحجر 4. من ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف 5 ولا عدل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته". وواضح أن الخطبة تبدأ بحمد الله، واستغفاره والتوبة إليه والاستعاذة من شرور النفس، وسيئات العمل ونقائصه، وتقترن بالشهادتين، وتوصية المسلمين بعبادة الله وطاعته، كما تقترن بكلمة "أما بعد". ويمضي الرسول عليه السلام

_ 1 تعضلوهن: تضيقوا عليهن. 2 الضرب غير المبرح: الضرب الخفيف. 3 عوان: جمع عانية، وهي الأسيرة أي هن عندكم بمنزلة الأسرى. 4 للفراش أي لصاحبه، فهو ينسب إليه، وللعاهر الحجر، أي رغم أنفها، أو لعله يشير إلى رجمها. 5 صرف: انصراف، عدل: عدول. أي لا يقبل منه شيء.

فيبين أن دماء المسلمين حرام كأموالهم، فلا قتل ولا نهب ولا سلب، فقد انتهى قتل النفس المحرمة، وانتهى قطع الطرق، وانتهت الخيانات بجميع ضروبها، فمن كانت عنده أمانة لا يخنها، بل فليؤدها مستوفاة إلى صاحبها، إنه مجتمع ديني جديد، تتوثق فيه الروابط، فلا ربا ولا أخذ بثأر، وقد تداعت مآثر الجاهلية سوى سدانة الكعبة وسقاية الحجيج، فهما مأثرتان ضروريتان للجماعة، وهما لذلك باقيتان، أما شريعة الأخذ بالثأر التي كانت قوام حياتهم في الجاهلية، فقد قضى عليها الإسلام، إذ جعل حق الدم للدولة، فالقاتل المتعمد تقتله الدولة بصاحبه، أما من قتل خطأ فديته مائة ناقة لا تزيد. ويخوفهم الرسول من الشيطان، وما يدعو إليه من الشرور فقد انتهت عبادته، ولكن لم تنته أطماعه في تضليل الناس عن الجادة. وأيضا فإنه انتهى عهد التلاعب في الدين، وفي الأشهر الحرم. ولا ينظم الرسول العلاقات بين الفرد، وجماعته الكبرى من الأمة فحسب، بل ينظمها أيضا بينه وبين جماعته الصغرى من الأسرة، فيدعو إلى رعاية حقوق المرأة، وأن يعاملها الرجل برفق ورحمة، وقد رفع الإسلام من شأنها، ووضعها في المكان اللائق بها، فكفل لها حرية التصرف في مالها كما كفل لها حق اختيار زوجها. ويدعو الرسول إلى دعم الروابط بين أفراد الأمة، فالمسلمون جميعا إخوة متساوون في الحقوق والواجبات، لا غني ولا فقير ولا أسود ولا أبيض، ولا عربي ولا عجمي، فالجميع سواء، ولا فضل إلا بالتقوى والعمل الصالح. ويشير إلى ما شرعه القرآن من نظام التوريث الجديد، ويقرر أن المورث لا يحق له أن يحرم ورثته من ماله، ويعطيه شيئا من الحرية، فيجعل له الحق أن يوصي لورثته ببعض ماله، ولكن على أن لا يزيد عن ثلثه، ويعرض لمشكلة كبرى من مشاكلهم، هي الأبناء غير الشرعيين الذين ولدوا في الجاهلية، فينسبهم إلى أصحاب الفراش، وكان من عادتهم أن ينسبوا إلى غير آبائهم، فقضى على تلك العادة السيئة حفظا للأنساب.

وعلى شاكلة الخطبتين السالفتين كانت خطابة الرسول، فهي إما موعظة حسنة وترغيب وترهيب، وبيان لمسئولية المسلم الخلقية وأنه محاسب بين يدي ربه عن كل ما قدم في حياته، وهو يضح ذلك أمام عينيه ليصلحه، ويقوم نفسه ويسمو به في مراقي الكمال، وإما تشريع وتنظيم لمجتمعه، وما ينبغي أن يسود فيه من عوامل الخير ودواعيه، فالمسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا، فلا بغي ولا عدوان، بل تآزر وتعاون في قيام هذا المجتمع السليم. ومن المحقق أن الرسول كان في خطابته -كما كان في حديثه- لا يستعين بخلابة ولا تزويق، وقد برئت ألفاظه من الإغراب والتعقيد والاستكراه، وهي مع ذلك ألفاظ جزلة لها بهاء ورونق، تعمر بها القلوب والصدور، وترتاح إليها الأسماع والأفئدة، فتجتمع لها النفوس المتباينة الأهواء، وتساق إليها بأزمتها، إذ تلتحم بمعانيهم وما تدعو إليه من سبيل الرشاد، وهي -بلا ريب- مثل أعلى في البراعة والدقة، ونقصد دقة الحس ولطف الشعور، ولعل مما يدل على ذلك قوله: "لا يقولن أحدكم: خبيث نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي"1، فقد كره أن يضيف المسلم الخبث إلى نفسه. ونؤمن بأن هذه العناية بحسن منطقه لم تكن نتاج تحبير، أو تكفير إنما طانت نتاج ما خوله الله من نعمته في بيانه الرائع. وليس في خطبتي الرسول السالفتين سجع، ومن المؤكد أنه لم يكن يستخدم السجع في خطابته، بل كان ينفر منه بسبب استخدام الكهان له في الجاهلية على نحو ما مر بنا في الفصل السابق، ولذلك صد عنه كما صد عنه خلفاؤه. روى الطبري أن عمر بن الخطاب، سأل صحارا العبدي البليغ المشهور عن مكران الفارسية أثناء غزو المسلمين لها، فقال صحار: "يا أمير المؤمنين! أرض سهلها جبال، وماؤها وشل2، وتمرها دقل3، وعدوها بطل، وخيرها قليل، وشرها طويل، والكثير بها قليل، إن كثر الجند بها جاعوا، إن قلوا بها

_ 1 الحيوان للجاحظ 1/ 335، ولقست النفس: غثت. 2 وشل: قليل. 3 دقل: أردأ التمر.

ضاعوا، فقال عمر: أسجاع أنت أم مخبر؟ فقال صحار: بل مخبر:1. وواضح أن عمر أنكر عليه استخدامه للسجع في كلامه. ويروي الرواة أن عبد الله بن الزبير تكلم بكلام مسجوع عند معاوية، فقال له: "تعلمت السجاعة عند الكبر"2، وفي أخبار معاوية أنه كتب إلى رجل كتابا، فأملى على كتابه: "لهو أهون علي من ذرة، أو كلب من كلام الحرة"، ثم استدرك قائلا لكاتبه: "امح من كلاب الحرة، واكتب من الكلاب"3. فالخلفاء كانوا يكرهون السجع لنهي الرسول، صلوات الله عليه عنه. وليس معنى ذلك أنه انمحى محوا من خطابة هذا العهد، فالجاحظ يقول: "كانت الخطباء تتكلم عند الخلفاء الراشدين، فتكون في تلك الخطب أسجاع كثيرة"4، ومن يرجع إلى حروب الردة يرى بعض المتنبئين مثل مسيلمة الكذاب يتكهنون، ويسجعون في كهانتهم، وكان مسيلمة خاصة "يسجع السجاعات، ويقولها مضاها للقرآن"5، ويقول الجاحظ: إنه "عدا على القرآن فسلبه، وأخذ بعضه وتعاطى أن يقارنه"6. وقد انتهت هذه الموجة من سجع المتنبئين بانتهاء حروب الردة، ولكن السجع بعامة لم ينته معها تماما، فقد ظلت الخطباء تسجع بين يدي الخلفاء على نحو ما يلاحظ الجاحظ. وإذا نظرنا فيما أثر من خطب عند أبي بكر الصديق، ومن تبعه من الخلفاء الراشدين، وجدناهم يقتدون بالرسول في خطابتهم، فهم لا يستخدمون السجع فيها، وهم يفتتحونها بحمد الله، وتمجيده والصلاة على رسوله ويوشونها بآيات من القرآن الكريم، وببعض أحاديث نبيه العظيم، مستمدين من هذين الينبوعين الغزيرين في وعظهم، وفيما يسوقونه من وصايا وتعاليم. وكان الصديق في الذروة

_ 1 الطبري، القسم الأول ص2707، وانظر البيان والتبيين 1/ 285. 2 البيان والتبيين 1/ 301، والعقد الفريد 4/ 368، والسجاعة: مصدر سجع. 3 رسائل الجاحظ "طبعة الساسي" ص 155. 4 البيان والتبيين 1/ 290. 5 الطبري، القسم الأول ص 1738، 1934. 6 الحيوان 4/ 89.

من البلاغة ومن البيان والفصاحة، ومن خطبة له1: "إلا إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك: ألا إن الفقراء هم المرحومون، ألا وإنكم اليوم على خلافة النبوة، ومفرق المحجة2، وإنكم سترون بعدي ملكا عضوضا3، وملكا عنودا4، وأمة شعاعا5، ودما مفاحا6، فإن كانت للباطل نزوة، ولأهل الحق جولة، يعفو لها الأثر، وتحيا بها الفتن، وتموت لها السنن، فالزموا المساجد واستثيروا القرآن واعتصموا بالطاعة، ولا تفرقوا الجماعة". وكان كثيرا، ما يخطب في الجيوش الخارجة إلى الغزو، فيوصيها ويوصي قادتها باتباع هدى الإسلام، وبالجهاد في سبيله وله وصية مشهورة يوصي فيها عمر حين استخلفه عند موته بتقوى الله، واتباع الحق حتى لا يلقي بيده إلى التهلكة7، وهو في كل ما أثر عنه يحسن اختيار لفظه، في أسلوب مرسل يشف عن دقة حسه، ومعرفته بمواضع الكلم، ولعل مما يدل على ذلك أنه مر برجل معه ثوب، فقال له: أتبيع الثوب؟ فقال: لا، عافاك الله، فقال أبو بكر: لقد علمتم لو كنتم تعلمون، قل: لا، وعافاك الله"8. وكان عمر بن الخطاب مثل صاحبه في الأفق الأعلى من روعة البيان والخطابة، وله خطب تدور في كتب الأدب والتاريخ نكتفي منها بهذه القطعة9: "اقدعوا10 هذه النفوس عن شهواتها، فإنها طلعة11، وإنكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية، وحادثوها بالذكر فإنها سريعة الدثور12، إن هذا

_ 1 البيان والتبيين 3/ 43، وانظر عيون الأخبار 2/ 233، والقعد الفريد 4/ 59، وما بعدها. 2 المحجة: الطريق. 3 عضوض: شديد فيه عسف. 4 عنود: طاغ. 5 شعاع: متفرقة. 6 مفاح: سائل مهراق. 7 انظر الوصية في البيان والتبيين2/ 45، والعقد الفريد 3/ 148، وراجع وصاياه الحربية لقواد جيوشه في عيون الأخبار لابن قتيبة 1/ 108، وما بعدها. 8 البيان والتبيين 1/ 261. 9 البيان والتبيين 3/ 138، وقارن 1/ 298. 10 اقدعوا: انهوا وكفوا. 11 طلعة: تتطلع إلى كل شيء. 12 الدثور: الدروس.

الحق ثقيل مريء1، وإن الباطل خفيف وبيء2، وترك الخطيئة خير من معالجة التوبة، ورب نظرة زرعت شهوة وشهوة، أورثت حزنا طويلًا". وله وصايا كثيرة يوصي فيها قواد الجيوش الفاتحة بجنودهم، وبمن يغزونهم من الأمم، ومن أروع وصاياه وصية للخليفة من بعده، ونسوق منها بعض نصائحه له، يقول3: "أوصيك بتقوى الله لا شريك له، وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيرًا: أن تعرف سابقتهم، وأوصيك بالأنصار خيرا، فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئتهم، وأوصيك بأهل الأمصار خيرا، فإنهم ردء4 العدو، وجباة الأموال والفيء5 لا تحمل فيئهم إلا عن فضل منهم، وأوصيك بأهل البادية خيرا. فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام: أن تأخذ من حواشي6 أموال أغنيائهم فترد على فقرائهم، وأوصيك بأهل الذمة7 خيرًا: أن تقاتل من ورائهم، ولا تكلفهم فوق طاقتهم، وأوصيك بتقوى الله وشدة الحذر منه، ومخافة مقته أن يطلع منك على ريبة. وأوصيك أن تخشى الله في الناس، ولا تخشى الناس في الله، وأوصيك بالعدل في الرعية والتفرغ لحوائجهم، وثغورهم8 ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم.. وآمرك أن تشتد في أمور الله وفي حدوده، ومعاصيه على قريب الناس وبعيدهم.. واجعل الناس سواء عندك لا تبالي على من وجب الحق، ولا تأخذك في الله لومة لائم، وإياك والأثرة والمحاباة فيما ولاك الله مما أفاء الله على المؤمنين، فتجور وتظلم، وتحرم نفسك من ذلك ما قد وسعه الله عليك".

_ 1 يقصد عمر أنه حميد العاقبة. 2 يقصد أنه وخيم العواقب. 3 البيان والتبيين 2/ 46، وانظر في وصاياه للجيوش عيون الأخبار 1/ 107. 4 ردء: معين أن يعينون على العدو. 5 الفيء: الغنيمة في الحرب، والخراج. 6 حواشي الأموال في البادية: صغار الإبل والغنم. 7 أهل الذمة: أهل الكتاب في البلاد المفتوحة. 8 الثغور: جمع ثغر، وهو هنا الخلة والحاجة.

والوصية طويلة، وهي أشبه بدستور قديم، يضمنه عمر مواد الحكم كما في شريعة الله وسنة رسوله، وهي تجري -شأنها شأن خطبه- في هذا الأسلوب الناصع البريء من الفضول ومن التكلف، والذي يملأ السمع بجزالته ورصانته وقوته، وكان خطيبا لا يبارى في مخارج كلامه، حتى قالوا: إنه كان يستطيع أن يخرج الضاد من أي شدقيه شاء1. ولم يكن عثمان يبلغ من الفصاحة والبيان مبلغ صاحبيه، ويروى أنه صعد المنبر ذات يوم، فأرتج عليه، فقال: "إن أبا بكر وعمر كان يعدان لهذا المقام مقالا، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام خطيب"2. وأما علي بن أبي طالب، فإنه لم يكن يقل عن أبي بكر وعمر شأوا في خطابته، وقد أثرت عنه خطب كثيرة، ولا نقصد الخطب التي يحتويها بين دفتيه كتاب "نهج البلاغة"، فأكثره مصنوع ومحمول عليه، وقد أشار إلى ذلك كثير من العلماء، واختلفوا هل هو من عمل الشريف المرتضى المتوفى سنة 436 للهجرة، أو هو من عمل أخيه الشريف الرضي المتوفى سنة 406 للهجرة، يقول ابن خلكان في ترجمة أولهما بكتابه وفيات الأعيان: "قد اختلفت الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، هل هو جمعه أم جمع أخيه الرضي، وقد قيل: إنه ليس من كلام علي، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه". ويردد هذا الكلام اليافعي في مرآة الجنان3، وابن العماد في شذرات الذهب4، ويؤكد الذهبي في ميزان الاعتدال أن الشريف المرتضى هو الذي وضعه5، ويذهب مذهبه ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان، يقول: "من طالع نهج البلاغة جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ففيه السب والصراح، والحط على السيدين:

_ 1 البيان والتبيين 1/ 62. 2 نفس المصدر 1/ 345، وانظر عيون الأخبار 2/ 235، والعقد الفريد 4/ 66، وزهر الآداب 1/ 36. 3 مرآة الجنان "طبعة حيدر آباد" 3/ 55. 4 شذرات الذهب "طبعة القاهرة" 3/ 257. 5 ميزان الاعتدال "طبعة لكهنو" 2/ 201.

أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنفس القرشيين الصحابة، وبنفس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين جزم بأن الكتاب أكثره باطل"1. ويذهب النجاشي المتوفى سنة 450 للهجرة في كتابه "الرجال" إلى أن مؤلف الكتاب هو الشريف الرضي2، وهذا هو الصحيح بشهادة الرضي نفسه، وشهادة شراح كتابه، فقد ذكر في الجزء الخامس المطبوع من تفسيره أنه هو الذي ألفه، ووسمه باسمه نهج البلاغة3، كما ذكر ذلك في كتابه "مجازات الآثار النبوية"4 ونجد ابن أبي الحديد المتوفى سنة 655 في شرحه للكتاب يعترف بأن خطبته من عمل الشريف الرضي، ويذهب ابن ميثم البحراني في شرحه عليه إلى أنه من تأليف الشريف. وإذن فالكتاب من عمل الشريف الرضي وصنعه، ويظهر أنه لم يؤلفه جميعا، فقد أضاف قبله كثير من أرباب الهوى، وفصحاء الشيعة خطبا، وأقوالا إلى علي بن أبي طالب، يدل على ذلك ما جاء في مروج الذهب للمسعودي إذ يقول: "الذي حفظ الناس عن علي من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيف وثمانون خطبة يوردها على البديهة، تداول الناس ذلك عنه قولا وعملا"5، وكأن الشريف الرضي وجد مادة صاغ منها كتابه، وهي مادة بنيت على السجع، وفي ذلك نفسه ما يدل على كذب نسبتها إلى علي، إذ ليس من الطبيعي أن يسجع علي في خطابته، بينما ينهى الرسول الكريم عن السجع، ويتحاماه أبو بكر وعمر وعثمان في خطابتهم. ومعنى هذا كله أنه لا يصح الاعتماد على هذا الكتاب في تصور خطابة علي، وأنه ينبغي الرجوع إلى المصادر الأولى، مثل البيان والتبيين للجاحظ، وقد روى

_ 1 لسان الميزان "طبعة حيدر آباد" 4/ 223. 2 كتاب الرجال "طبعة بومباي" ص192، 283. 3 الجزء الخامس من حقائق التنزيل للشريف الرضي "طبعة النجف" ص167. 4 مجازات الآثار النبوية "طبع بغداد" ص22، 41. 5 مروج الذهب "طبقة باريس" 4/ 441.

طرفا من خطبة وكلامه ومواعظه، وقد دفعته حروبه مع طلحة والزبير وعائشة، ثم مع معاوية إلى أن يكثر من دعوة جنوده إلى جهاد أعدائه، وتحميسهم للكفاح، والنضال في سبيل مبدئهم وفكرتهم1. ولعل في كل ما قدمنا مايدل على نهضة الخطابة في هذا العصر الأول من عصور الإسلام، إذ أتيح لها من نبوة الرسول، ورسالته وبيانه وبلاغته ما اتخذه خلفاؤه الراشدون لهم إماما، وفرق بعيد بين خطب هذا العصر، وخطب الجاهلية، فالأخيرة جمل وصيغ لا رابط بينها تأخذ في الأكثر شكل حكم متناثرة، يسردها الخطيب سردًا، أما في هذا العصر، فقد أصبح للخطبة غاية دينية واضحة تسمو بالعربي في مراقي الفلاح الروحي، وقد تخوض في تنظيمات حربية أو اجتماعية، وكل ذلك معناه أنها أصبحت ذات موضوع تدور عليه، وأنها رقيت رقيا بعيدا.

_ 1 انظر البيان والتبيين 2/ 53، وما بعدها، وراجع العقد الفريد 4/ 66، وما بعدها، والكامل للمبرد وعيون الأخبار والطبري في مواضع متفرقة.

الخطابة في العصر الأموي

3- الخطابة في العصر الأموي: ازدهرت الخطابة في هذا العصر، وقد عملت في هذا الازدهار، وهيأت له أسباب مختلفة، منها السياسي، ومنها الديني، ومنها القعلي، أما من حيث السياسة، فقد كثرت الأحزاب السياسية المعارضة لبني أمية، وكثر مشعلو الفتن والحروب الداخلية. ومعروف أ، الدولة الأموية قامت على أنقاض فتنة عثمان، وما انتهت إليه من حروب صفين بين علي ومعاوية، وبمجرد أن قبل علي التحكيم خرج عليه فريق من جيشه سمي الخوارج، وشهروا سيوفهم في وجهه، وعبثا حاول العودة بهم إلى صفوفه، فحاربهم وتصدى له أحدهم فقتله، وخلص

الأمر لمعاوية وخلفائه من بني أمية، فظل هؤلاء الخوارج ينازلونهم، ويعدون دار المسلمين دار حرب، فيجب أن يجاهدوهم، إذ جعلوا الخلافة في قريش، وهي ليست حقا من حقوقها وإنما هي حق لله، وينبغي أن يليها من يستحقها بمشورة المسلمين، وأن يكون خيرهم تقوى وزهدا وورعًا، ولو لم يكن قريشا، بل لو كان عبدا حبشيا. وقد تعددت فرقهم، وأهمها الأزارقة في فارس، والنجدات في اليمامة وحضرموت والبحرين، والصفرية في الموصل وشمالي العراق، والإباضية في اليمن وحضرموت. ولا نتقدم إلى عصر يزيد بن معاوية حتى يرسل شيعة علي إلى ابنه الحسين أن يفد عليهم في الكوفة لمبايعة، وإعلان الثورة على بني أمية وصاحبهم يزيد، وما يكاد يلم بالعراق حتى يقعدوا عن نصرته، فيسفك دمه، ويندمون على ما كان من تضييعه، ويتجهون إلى الدعوة السرية لأبناء علي، ومن حين إلى حين تنشب ثوراتهم، ولعل أهمها ثورة المختار الثقفي لعهد مصعب بن الزبير، ثم ثورة زيد بن علي بن الحسين لعهد هشام بن عبد الملك، وقضى الأمويون على الثورة الأخيرة بينما قضى مصعب على ثورة المختار، وكان هذا الحزب الشيعي يؤمن بأن الخلافة من حق أبناء علي فهم ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم لذلك ورثتها الشرعيون، وقد ذهبوا إلى أن إمامة علي نص عليها الرسول، ومن هنا تأتي عقيدة الوصية التي يدين بها الشيعة جميعا، كما يدينون يعقيدة المهدي، وهو الإمام المنتظر الذي يخلص العالم مما فيه من شرور، وأسباب مختلفة جعلت الفرس يدخلون في هذه العقيدة، إذ كانوا قبل الإسلام يؤمنون بتوارث الملك في أسرة بعينها، على هذا القياس يصبح أحق الأسر القرشية بالملك العربي بني هاشم، وأبناء علي خاصة، فهم أقرب الناس إلى الرسول، وأيضا فإن عليا كان يسوي بينهم، وبين العرب في الحقوق بينما كان يضطهدهم الأمويون وولاتهم، ولعل شيئا من تشيعهم يرجع إلى كرههم لمن غلبوهم على بلادهم، وكأنما رأوا فيه ضربا من المقاومة لهؤلاء الغالبين. وبجانب الحزبين السابقين، حزبي الشيعة والخوارج، توالت الثورات على

بني أمية، فثار عبد الله بن الزبير في الحجاز أثناء خلافة يزيد، واستقل بها نحو عشر سنوات، وتبعته العراق ومصر، إلا أن عبد الملك بن مروان استطاع القضاء عليه، وثار في العراق وإيران عبد الرحمن بن الأشعث، ودوخ الحجاج طويلًا قبل أن يقضي على ثورته. وفي أوائل القرن الثاني للهجرة ثار بالعراق أيضًا يزيد بن المهلب، وكان مصيره ابن الأشعث، ولا نصل إلى أواخر هذا العصر حتى يجمع أمرهم في خراسان، ويؤلفوا جيشا يقضون به على الدولة الأموية قضاءً مبرمًا. وهذه الأحزاب والثورات لم تكن تستعين في انتقاضها على الأمويين بالسيوف فحسب، بل كانت تستعين بالخطب والخطباء يدعون لها، ويحمسون الناس على الانفضاض عن بني أمية، ومن المهم أن نعرف أن السياسة على ألسنة هؤلاء الخطباء كانت تقترن بالدين لسبب بسيط، وهو أن الخليفة عند المسلمين يعد إمامهم الذي تنتظم به مصالحهم، وقواعد ملتهم على مقتضى الشريعة الإسلامية. وبجانب هذا السبب السياسي الذي دلع الخطابة، وسعر بها الفتن والثورات على الأمويين سبب ديني خالص، إذ أسست في كل بلد إسلامي مدرسة دينية تعلم الناس أصول دينهم وفروعه، وكان العلماء القائمون عليها كثيرًا ما يختلفون، فيتحاورون في وجهات نظرهم1. ولم تلبث أن انبثقت أبحاث كثيرة، ومناقشات طويلة في القدر، وإرادة الإنسان ومدى حريته، وفي الإيمان وهل من الضروري له أن يرافقه العمل، وفي صفات الله وهل هي عين الذات الإلهية، وسرعان ما ظهرت فرق الجبرية والقدرية والمرجئة، فكان ذلك باعثا على ظهور المناظرات، وهي فرع مهم من فروع الخطابة. وليس هذا فحسب ما أنتجه الدين في خطابة القوم، فدق بقي ركنان مهمان هما القصص والوعظ، إذ كانت هناك طائفة تعرف بالقصاص، تفسر

_ 1 ابن سعد ج7 ق2 ص5، والبيان والتبيين 1/ 243.

القرآن الكريم، وتمزج تفسيرها بقصص كثيرة تستمدها من موروثات أهل الكتب السماوية، وكانوا يستغلونه ميل الناس إلى الأخبار العجيبة، فيتزيدون في قصصهم، وكانت الأحزاب السياسية تتخذ نفرا منهم وسيلة للدعوة لها، ولتحميس جنودها حين تثور بالدولة1، وكان للأمويين في كل بلد قاص يقص على الناس في المسجد الجامع، ويدعو إلى طاعتهم2. واتسعت بجانب ذلك موجة الزهد والعبادة والنسك، وتبعها ظهور وعاظ كثيرين، تموج كتب الأدب بمواعظهم، وما كانوا يدعون إليه من الزهد في حطام الدنيا، ومجاهدة النفس حتى ترفض عرض الحياة، ومتعها الزائلة، وتطلب ما عند الله من ثواب الآخرة. ورافق هذا السبب الديني في ازدهار الخطابة سبب عقلي مرده إلى عناصر الثقافات الأجنبية التي أخذ يدعم بها العقل العربي منذ هذا العصر الأموي، مما فتق فيه قوة الجدل والحجاج. ومعروف أن الثقافة لهذا العصر لم يكن يضطلع بها العرب وحدهم، بل كان يشركهم فيها الموالي الذين اتخذوا العربية لسانهم، وقد أخذوا يزودونها بمعارفهم وثقافاتهم القديمة، وقد تعود مؤرخو الأدب العربي أن يقفوا في هذا الجانب من التزاوج بين العرب، والموالي في الفكر والثقافة عند العصر العباسي، عصر الترجمة المنظمة لما كان عند اليونان والفرس والهند، وينبغي أن نلاحظ أن هذا العصر الذي نظمت فيه الترجمة سبقه عصر، هو العصر الأموي، لم تكنتعرب فيه الكتب إلا نادرا، كما هو معروف عن خالد بن يزيد بن معاوية، وطلبه لما عند الأجانب من معارف، ولكن كان يعرف فيه لسان حملة هذه الكتب، وكانوا سيولا من شعوب الشرق الأوسط وأممه، دخلوا في الإسلام، ودخلت معهم ثقافتهم، وقد أقلبوا على الدراسات الدينية، والعقلية يسهمون فيها بالحظ الأوفر، فإذا قلنا: إنهم ارتقوا بالعقل العربي

_ 1 الطبري، القسم الثاني ص950، وابن الأثير "طبعة ليدن" 4/ 341. 2 خطط المقريزي 3/ 253، والولاة والقضاة الكندي "طبعة جيست" ص314؛ وقارن بالهامش في ص304.

وكل ما أنتجه في ذلك العصر من خطابة، وغير خطابة لم نكن مبالغين، فقد كثرت المعرفة، وتشعبت المعاني ودقت الفطن، ولم يعد لها حد تنتهي إليه، وانسابت تمن ذلك أسراب كثيرة في خطابتهم، فصاروا أقدر على البيان والتصرف في الألفاظ. ويخيل إلى من يقرأ في أخبار القوم أنهم أصبحوا جميعا خطباء، فهم يخطبون في نظرياتهم السياسية، وفي معتقداتهم الدينية، ويتناقشون فيها بكل مكان، في المسجد الجامع وفي الطرقات والأسواق، وفي السلم وحين يتحاربون، ومن ورائهم القصاص والوعاظ، وقد جعل ذلك الجاحظ ينبهر إنبهارًا شديدًا، فيخص العرب بالخطابة، ويرفعهم درجات فوق الفرس واليونان1، وقد يكون مصيبا فيما يختص بالفرس، أما اليونان فأكبر الظن أنه لم يقرأ شيئا واضحا عن خطابتهم، وإلا ما بالغ في رأيه وذهب هذا المذهب، فإن من المعروف أن الخطابة نهضت عند اليونان نهضة واسعة، إذ كانت لديهم مجالس شورية، وقضائية أعدت لازدهار الخطابة عندهم ازدهارا أتاح لأرسططاليس أن يكتب فيها، وفي أنواعها وأغراضها وأساليبها كتابا كبيرا، وأكبر الظن أن الجاحظ لم يعرف شيئا من ذلك كله، وهو كذلك لم يعرف شيئا عن خطباء اليونان المشهورين أمثال ديموستين وبركليس. ومهما يكن فقد ارتقت الخطابة رقيا بعيدا في العصر الأموي، ونشطت نشاطا لعل العرب لم يعرفوه في عصر من عصورهم الوسيطة، إذ اتخذوها أداتهم للظفر في آرائهم السياسية، والانتصار في مجادلاتهم المذهبية، وعولوا عليها في قصصهم ومواعظهم، وفي وفادتهم على الخلفاء والولاة. ومن ثم أينعت فيها فروع ثلاثة، هي الخطابة السياسية، وخطابة المحافل والخطابة الدينية، ونلم بكل فرع من هذه الفروع إلمامة قصيرة.

_ 1 البيان والتبيين 3/ 27، وما بعدها.

الخطابة السياسية: كان كل حزب من الأحزاب السياسية يتخذ الخطابة وسيلة إلى نقد خصومه، وبيان نظريته السياسية، واستمالة الناس إليها، وكذلك كال يصنع الثائرون على بني أمية من أمثال يزيد بن المهلب في تحريك الناس إلى الثورة عليهم، وكأنما قامت عندهم جميعا بما تقوم به الصحافة في عصرنا من الدعاية للآراء السياسية، فانبرى خطباء كل حزب يدعون إل نظرية حزبهم، وبيان أنهم على الحق وخصومهم على الباطل، فهم الجديرون بأن يعتنق الناس مبادئهم ويذودوا عنها ذيادًا. وكان الخوارج يصفون بني أمية بجورهم في الأحكام وتعطيلهم حدود الله، ويتناولونهم بألسنة حداد، وقد يضيفون إلى ذلك مواعظ تصور عمق تدينهم، وتمسكهم بالعروة الوثقى، ومن أشهر خطبائهم قطري بن الفجاءة، وتحتفظ كتب الأدب له بموعظة رائعة1، ومن خطبائهم أبو حمزة الخارجي، وقد روى الجاحظ خطبة طويلة ألقاها في أهل مكة2، وهو يفتتحها بالحدث عن رسول الله وهديه، واقتداء أبي بكر وعمر به، أما عثمان فعنده أنه أتى بما أحبط به الأوائل، وأما علي فلم يبلغ -في رأيه- من الحق قصدًا، ثم اقتص خلفاء بني أمية خليفة خليفة يثلبه، إلا عمر بن عبد العزيز فإنه أعرض منه، ونراه ينحى باللائمة على من يتشيعون لآل البيت، ثم يصف أصحابه، ونضالهم دون عقيدتهم وصفا رائعا، ومن خطباء الخوارج المشهورين زيد بن جندب خطيب الأزارقة3 وابن صديقه، وكان صفريا ناسكا، وشبيل بن عزره الضبعي، وعمران بن حطان، وحبيب بن حدرة الهلالي، والمقعطل وعبيدة بن هلال اليشكري4، ومنهم الضحاك بن قيس ونصر بن ملحان5، وعبد الله بن يحيى طالب

_ 1 البيان والتبيين 2/ 126، والعقد الفريد 4/ 141، وعيون الأخبار 2/ 250. 2 البيان والتبيين 2/ 122، وانظر العقد الفريد 4/ 144، والأغاني 20/ 104. 3 البيان والتبيين 1/ 42. 4 نفس المصدر 1/ 343-347. 5 انظر في هؤلاء الخطباء نفس المصدر 2/ 364، وما بعدها.

الحق1 والطرماح2، وغيرهم كثير. ولا يقل خطباء الشيعة كثرة عن خطباء الخوارج، ومن أشهرهم الحسين بن علي بن أبي طالب، وعلي بن الحسين وزيد بن علي، والمختار الثقفي وسليمان بن صرد، وعبد الله بن مطيع وعبيد الله المري، ومنهم بنو صوحان: صعصعة وزيد وسيحان، وكانوا يكثرون من القدح في بني أمية، وأنهم اغتصبوا الخلافة من أصحابها الشرعيين ورثة النبوة، وحملة الرسالة القدسية الهادية المهديين، والأئمة المنتظرين3. ولم تطل مدة عبد الله بن الزبير، ومع ذلك فقد ملأ دفاتر العلماء كلامًا4، وكان أخوه مصعب، وإليه على العرقا خطيبا مفوها، وله خطبة جعلها كلها آيات قرآنية5، وكان حول ابن الأشعث كثير من الخطباء6، وكان يزيد بن المهلب خطيبًا مفوهًا، وقد روى الجاحظ بعض خطبه7. وكان يقف في الصف المقابل من خطباء الأحزاب، والثورات خطباء بني أمية يدعون الناس إلى التمسك بحبل الجماعة، وتأييد الأمويين في حقوقهم التي اكتسبوها عن آبائهم، وتقديمهم لهم فروض الطاعة والولاء، وكثيرًا ما يخلطون ذلك بالترهيب والترغيب، وقد يشيرون إلى مقتل عثمان، وأن الأمويين أولياء دمه وورثة خلافته، ولهم مواعظ لا نشك في أنهم قالوها في صلاة الجمعة، والعيدين ككثير مما روي عن زياد والحجاج، وعن بعض خلفائهم وخاصة عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد المشهور، وأكثر خلفائهم كان خطيبًا، ولهم خطب تدور في كتب الأدب والتاريخ، ومن خطبائهم بجانب من قدمنا عتبة بن أبي سفيان، والي معاوية على مصر وعبيد الله بن زياد، وخالد بن عبد الله القسري، ويوسف

_ 1 الأغاني 20/ 98. 2 البيان والتبيين 1/ 46. 3 الطبري، القسم الثاني ص1961. 4 البيان والتبيين 1/ 314، وانظر خطبه في العقد الفريد 4/ 107. 5 البيان والتبيين 2/ 299، والعقد الفريد 4/ 135. 6 البيان والتبيين 1/ 48، وانظر 2/ 155. 7 البيان والتبيين 1/ 292، وانظر العقد الفريد 4/ 127.

ابن عمر الثقفي، وسعيد بن العاص وابنه عمرو الأشدق، ومن قوادهم الخطباء موسى بن نصير، وطارق بن زياد اللذان فتحا الأندلس، وقتيبة بن مسلم ونصر بن سيار، فاتح التركستان. وعلى هذا النحو كان لكل حزب خطباؤه الذين يذودون عنه، وينافحون عن مبادئه، ولم يكن هناك داع لفكرة، أو لنضال في حرب لا يقف في الناس خطيبًا، وقد بعث ذلك على نهضة الخطابة السياسية في هذا العصر نهضة واسعة، ولعل هذه النهضة هي التي جعلت المؤرخين حين يعرضون علينا الآراء السياسية، أو المذهبية لزعماء هذا العصر يعرضونها علينا في شكل خطب، على نحو ما نجد في الطبري وابن الأثير، فهم إذا أرادوا أن يعرضوا علينا رأيا للحسين بن علي، أو لحفيده زيد أو لأي داع شيعي أو خارجي، أو أي ثائر زبيري وغير زبيري، أو لأي وال أموي أو قائد يقود الجيوش عرضوه في صورة خطبة، فهم لا يقولون: إن فلانا كان يرى كذا أو كذا، وإنما يقولون خطب فلان فقال كذا وكذا، فهم لا يتصورون صاحب نحلة سياسية يعرض رأيه في شكل حديث، بل لا بد أن يعرضه في شكل خطبة يقرع بها الأسماع، ويجذب القلوب. خطابة المحافل: نمت الخطابة الحفلية في هذا العصر بحكم نمو السلطان العربي، فكانت الرجال والوفود تقدم على الخلفاء والولاة لأغراض مختلفة: للشكوى أو للاستمناح، أو للتهنئة أو للتعزية أو للموعظة، أو لغير ذلك من الأغراض، وقد روي في كتب الأدب كثير من أخباره هذه الوفادات، وممن قد على معاوية النخار بن أوس العذري1، وعمرو بن سعيد الأشدق2، وزرعة بن ضمرة، وهو الذي كان يقال فيه: "لولا غلو فيه ما كان كلامه إلا الذهب"، وكان ابنه النعمان من أخطب الناس، وقد وقع في يد الحجاج بعد قضائه على ثورة ابن الأشعث

_ 1 البيان والتبيين 1/ 237، 1/ 333. 2 نفس المصدر 1/ 315-316.

فتخلص منه بكلام لطيف1. وممن وفد على معاوية روح2 بن زنباع، وصحار العبدي، ويروى أن معاوية قال له: ما هذا الكلام الذي يظهر منك؟ قال: شيء تجيش به صدورنا، فتقذفه على ألسنتنا3، ومن الوافدين عليه سحبان وائل، وقد اشتهرت له خطبة خطب بها بين يديه، وكانت العرب تسميها الشوهاء من حسنها4، ومنهم الأحنف بن قيس سيد تميم، ومما نطق به في حضرته، معبرًا عن شكاة لقومه5: "إن دافة دفت6، ونازلة نزلت، ونائبة نابت، ونابتة نبتت7، كلهم به حاجة إلى معروف أمير المؤمنين وبره، فقال معاوية: حسبك يا أبا بحر، قد كفيت الشاهد والغائب". ولما فكر معاوية في جعل ابنه زيد وليا لعهده استقدم وفود العرب من الأمصار والبادية، فكانوا يخطبون بين يديه منوهين بيزيد، ومبايعين له، سياسة حكيمة منه، حتى يبرم الأمر من بعده لابنه8، ولما توفي وجلس ابنه يزيد مكانه دخل عليه عطاء بن أبي صيفي الثقفي، فخطب بين يديه بقوله9: "يا أمير المؤمنين أصبحت قد رزئت خليفة الله، وأعطيت خلافة الله، وقد قضى معاوية نحبه، فغفر الله ذنبه، وقد أعطيت بعده الرياسة، ووليت السياسة، فاحتسب عند الله أعظم الرزية، واشكره على أفضل العطية". وكان عبد الملك يجلس للوفود وخطبائها، وممن وفد عليه سعيد بن عمرو بن

_ 1 البيان والتبيين 1/ 354-355. 2 نفس المصدر 1/ 358. 3 البيان والتبيين 1/ 96، وقارن 4/ 46 والعقد الفريد 4/ 31. 4 نفس المصدر 1/ 348، وانظر زهر الآداب 4/ 33. 5 البيان والتبيين 2/ 88. 6 دافة دفت: نازلة شديدة نزلت فاستأصلت ما بأيديهم، ويمكن أن يكون ذلك استعارة لفقراء البادية الذين أجدبوا ونزلوا بهم. 7 النابتة هنا: الصغار الناشئون، أما النائية، فيمكن أن يراد بهم الأضياف ينوبون القوم، وينزلون بهم. 8 البيان والتبيين 1/ 300، وانظر العقد الفريد 4/ 369 حيث روى طرفا من تلك الخطب. 9 البيان والتبيين 2/ 191، وقارن بزهر الآداب 1/ 49.

سعيد1، والهيثم بن الأسود بن العريان، وقد سأله عبد الملك كيف تجدك؟ قال: "أجدني قد ابيض مني ما كنت أحب أن يسود، واسود مني ما كنت أحب أن يبيض، واشتد مني ما كنت أحب أن يلين، ولان مني ما كنت أحب أن يشتد"2، ولما توفي عبد الملك وجلس ابنه الوليد دخل عليه الناس، وهم لا يدرون أيهنئونه أم يعزونه، فأقبل غيلان بن سلمة الثقفي فسلم عليه، ثم قال3: "يا أمير المؤمنين! أصبحت قد رزئت خير الآباء، وسميت خير الأسماء، وأعطيت أفضل الأشياء، فعظم الله لكعلى الرزية الصبر، وأعطاك في ذلك نوافل الأجر، وأعطانك على حسن الولاية والشكر، ثم قضى لعبد الملك بخير القضية، وأنزله بأفضل المنازل المرضية، وأعانك من بعده على الرعية". ولم يكن يتولى الخلافة أموي إلا وتقدم الوفود عليه من الأمصار، ويقوم خطباؤها بين يديه مهنئين مبايعين ذاهبين في خطبهم كل مذهب، ومن حين إلى حين كانت تقدم هذه الوفود على الخليفة لترفع مظلمة لها، أو لتنال بعض الرفد والعطاء، ونجد الوعاظ كثيرًا ما يلمون بمجالس الخلفاء ويعظونهم، على نحو ما كان يعظ أبو حازم الأعرج سليمان بن عبد الملك4، ولما تولى عمر بن عبد العزيز كان يقدم عليه النساك، والزهاد لوعظه، لما اشتهر عنه من نسكه وعبادته، من مثل زياد بن أبي زياد، وكان يلزمه محمد بن كعب القرظي، وله أخبار معه ومواعظ5، وكان خالد بن صفوان يلزم هشام بن عبد الملك ويعظه6. وعلى نحو ما كانت تفد الوفود والوعاظ على الخلفاء كانت تفد على الولاة، وممن وفد على زياد وخطب بين يده في وفد من قومه عمران بن حطان7،

_ 1 البيان والتبيين 1/ 316. 2 نفس المصدر 1/ 399، 2/ 69. 3 البيان والتبيين 2/ 191-192. 4 البيان والتبيين 3/ 135. 5 نفس المصدر 2/ 34، 3/ 143، 3/ 170. وانظر عيون الأخبار لابن قتيبة 2/ 343، 2/ 370. 6 عيون الأخبار 1/ 341. 7 البيان والتبيين 1/ 118.

وكان الأحنف يفد على ابن الزبير كما كان يفد على معاوية، ويفد معه خطباء ومن قومه1، وكم من خطيب تخلص من عقاب الحجاج بحسن منطقه2، ولما دخل أيوب بن القرية عليه قال له: "ما أعددت لهذا الموقف؟ قال: ثلاثة حروف، كأنهن ركب وقوف: دنيا وآخرة ومعروف"، وقال له في بعض القول: "أقلني عثرتي وأسغني ريقي، فإنه لا بد للجواد من كبوة، وللسيف من نبوة، وللحليم من هفوة"3. وكان كثيرًا ما يستنطق الوافدين عليه4. ولما ولي عبد الله بن عمر بن عبد العزيز على العراق، كان يحضر مجلسه الوعاظ، ويعظونه5 كما كانوا يعظون أباه. ومما يدخل في هذا الضرب من خطابة المحافل خطابة الإملاك والتزويج6 وخطابة الصلح بين العشائر7، وما كان من منازعات، ومفاخرات في مجالس الخلفاء8، ويسوق الجاحظ في بيانه أخبارًا كثيرة عن هذه الصور من الخطابة وما كان يفترق به بعضها عن بعض9. الخطابة الدينية والوعظ والمناظرات: تمت هذه الخطابة في عصر بني أمية نموا واسعا، فقد كانت فريضة مكتوبة على المسلمين في صلاة الجماعة والعيدين، وكان الخلفاء والولاة يؤمون الناس في تلك الصلاة، ولذلك نقرأ لكثير منهم خطابات زاهدة، يحضون الناس فيها على الانصراف عن الدنيا، والتعلق بالآخرة، ويحثونهم على الخير والفضيلة

_ 1 البيان والتبيين 1/ 300. 2 نفس المصدر 1/ 259-260، والعقد الفريد 2/ 464. 3 البيان والتبيين 1/ 350، وزهر الآداب 4/ 49، وعيون الأخبار 1/ 102. 4 البيان والتبيين 2/ 164. 5 البيان والتبيين 1/ 24. 6 انظر البيان والتبيين 1/ 404، 4/ 73 العقد الفريد 4/ 149، وعيون الأخبار 4/ 72. 7 البيان والتبيين 3/ 135، وانظر 1/ 105، 1/ 173. 8 انظر البيان والتبيين 2/ 90-92، وانظر العقد الفريد 4/ 4 وما بعدها والنزاع والتخاصم بين بني أمية، وبني هاشم للمقريزي. 9 البيان والتبيين 1/ 116، 3/ 6.

والأعمال الصالحة، وأخطب الخلفاء في هذا الباب عمر بن عبد العزيز، وله خطب كثيرة، يدعو فيها الناس إلى طاعة الله والنفور من معصيته، وأن يفكروا في الموت وما بعده من البعث والحساب والجنة والنار، ولعل واليا لم يؤثر عنه من الخطب الدينية ما أثر عن الحجاج، وكان دائما يقول: "أيها الناس إن الكف عن محارم الله أيسر من الصبر على عذاب الله"1، وللولاة من قبله وبعده مواعظ ترويها كتب الأدب والتاريخ2. وإذا كان هذا اللون من الخطابة قد شاع على ألسنة الخلفاء الأمويين، وولاتهم فإن خصومهم من الخوارج والشيعة كانوا لا يقلون عنهم دعوة إلى التقوى والورع، بل لعلهم كانوا يتقدمونهم، إذ لم يكن بأيديهم شيء من الدنيا، وكانوا يمزجون خطابتهم السياسية بالدين، وقد يجعلونها دينية خالصة، على نحو ما صنع قطري بن الفجاءة في موعظته المشهورة3، وشداد بن أوس أحد شيعة علي في موعظته بين يدي معاوية، وقد طلب إليه أن يتنقص عليا4، وتدور في كتب الأدب كلمات كثيرة لزيد بن علي بن الحسين، هي من بقايا خطبه5، وكان ينازعه جعفر بن حسن بن الحسن بن علي في الإمامة، فكان الناس يجتمعون ليسمعوا مجاوباتهما، ومجادلاتهما في أيهما الأحق بها6. غير أن هؤلاء جميعا لم يتخصصوا بالخاطبة الدينية، ولم يعيشوا لها، وإنما الذي عاش لها هم القصاص والوعاظ، وقد نشأ القصص منذ عصر عمر بن الخطاب، فكان هناك قصاص يقصون في المساجد7، وآخرون يقصون في

_ 1 البيان والتبيين 1/ 387. 2 نفس المصدر 1/ 387 و2/ 143، والعقد الفريد 4/ 34 وما بعدها وعيون الأخبار 2/ 246، 1/ 251. 3 البيان والتبيين 2/ 126، وعيون الأخبار 2/ 250. 4 البيان والتبيين 4/ 69، وعيون الأخبار 1/ 55. 5 البيان والتبيين 1/ 353، وزهر الآداب 1/ 72. 6 البيان والتبيين 1/ 334، وانظر زهر الآداب 1/ 73. 7 طبقات ابن سعد 5/ 341.

مقدمة الجيوش الفاتحة1. واتسعت هذه الموجة اتساعا شديدا في عصر بني أمية، إذ استخدمها الدولة كما استخدمها خصومها في الدعوة السياسية، وقد أمر معاوية أن يكون ذلك مرتين في اليوم، مرة بعد صلاة الصبح، ومرة بعد صلاة المغرب2، وعين للقصاص مرتبات خاصة3. وكان للخوارج قصاص كثيرون، أشهرهم صالح بن مسرح، وإن يخلط مواعظه وقصصه بالدعوة إلى الجهاد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يزال يذم الدنيا والتعلق بها. وهؤلاء القصاص الرسميون كان يقابلهم قصاص من الناسكين العابدين من مثل الأسود بن سريع، وهو أول من قص بالبصرة4، ومثل زيد بن صوحان في الكوفة5، وعبيد بن عمير في المدينة6، وكان عبد الله بن عمر يحضر قصصه ووعظه، ومنهم إبراهيم التيمي وكان الناس ينتفضون أمامه انتفاض الطير7، وسعيد بن جبير، وكان يقص كل يوم مرتين بعد الفجر، وبعد العصر8، وذر بن عبد الله وكان من أبلغ الناس في القصص9، ومسلم بن جندب قاص مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم10، ومطرف بن عبد الله الشخير11، ويزيد بن أبان الرقاشي، وكان قاصا مجيدا، ومن قوله12: "ليتنا لم نخلق، وليتنا إذ خلقنا لم نعص، وليتنا إذ عصينا لم نمت، وليتنا إذ متنا لم نبعث، وليتنا إذ بعثنا لم نحاسب، وليتنا إذ حوسبنا لم نعذب، وليتنا إذ عذبنا لم نخلد".

_ 1 أسد الغابة 5/ 216. 2 الولاة والقضاة الكندي ص304 في الهامش، وخطط المقريزي "طبعة بولاق" 2/ 253. 3 الولاة والقضاة ص 317. 4 ابن سعد ج7 ق1 ص28. 5 ابن سعد 6/ 84. 6 ابن سعد 5/ 341، والبيان والتبيين 1/ 367. 7 طبقات ابن سعد 6/ 199. 8 ابن سعد 6/ 180. 9 انظر العقد الفريد 3/ 198، وعيون الأخبار 2/ 298. 10 البيان والتبيين 1/ 367. 11 نفس المصدر 1/ 367، وصفة الصفوة 3/ 144، وعيون الأخبار 2/ 289. 12 البيان والتبيين 1/ 262.

وهو عم الفضل بن عيسى القصاص المشهور1، ومن كبار القصاص مالك بن دينار، وكان يقول في قصصه: "ما أشهد فطام الكبير"2. ومن القصاص أيضا وهب3 بن منبه. وكن هؤلاء القصاص يمزجون قصصهم بالحديث عن الرسل والأنبياء والأمم الدائرة، كما كانوا يمزجونه بآي الذكر الحكيم، وأحاديث الرسول عليه السلام، وكان يجانبهم كثر من الزهاد الوعاظ مثل رجاء4 بن حيوة والأوزاعي5 في الشام، وسعيد6 بن المسيب وأبي حازم7 الأعرج سلمة بن دينار في المدينة، وعبد الله بن عمرو بن العاص في مصر8، وكان العراق يكتظ بهم، ومنهم ابن شيرمة9 وأيوب السختياني10 ومؤرق العجلي، وكان يقول: "ضاحك معترف بذنبه خير من باك مدل على ربه"11. ومنهم بكر بن عبد الله المزني القائل: "أطفئوا نار الغضب بذكر جنهم"12، والشعبي13 ومحمد بن واسع الأزدي، وكان يقول: "يعجبني أن يصبح الرجل، وليس له غداء، ويمسي وليس له عشاء، وهو مع ذلك راض عن الله"14، ومن الوعاظ المشهورين محمد بن كعب القرظي واعظ عمر بن عبد العزيز15، ومالك بن دينار16، والحسن البصري هو أكبر وعاظ العصر وقصاصيه، وكان الوعظ عليه أغلب، وله مواعظ كثيرة تدور في البيان والتبيين وعيون الأخبار، والعقد الفريد، وقد أفرد له ابن الجوزي

_ 1 البيان والتبيين 1/ 290، 306-308، وانظر الحيوان 7/ 204. 2 البيان والتبيين 1/ 120، وصفة الصفوة 3/ 197، وما بعدها. 3 انظر بعض قصصه الوعظي في عيون الأخبار 2/ 272-276، 2/ 28 -283، 2/ 328. 4 انظر صفة الصفوة 4/ 186. 5 صفة الصفوة 4/ 228. 6 صفة الصفوة 2/ 44. 7 عيون الأخبار 2/ 286، 2/ 330 والبيان والتبيين 3/ 143، والعقد الفريد 3/ 163. 8 عيون الأخبار 2/ 294. 9 البيان والتبيين 1/ 336، والعقد الفريد 3/ 150، 3/ 183. 10 انظر صفة الصفوة 3/ 212. 11 البيان والتبيين 2/ 198. 12 نفس المصدر 3/ 141. 13 البيان والتبيين 2/ 322، وصفة الصفوة 3/ 40. 14 العقد الفريد 3/ 170. 15 البيان والتبيين 3/ 143. 16 عيون الأخبار 1/ 54.

كتابا ساق فيه وعظا كثيرًا، وهو لا يبلغ من الثقة به مبلغ المصادر السابقة. ونراه في وعظه دائم التذكير بالبعث، ويوم الحساب مكثرا من الحض على التقوى والعمل الصالح الذي يبقى. وهو يعرض ذلك في صورة من الخوف الشديد، والخوف من الجحيم، حتى لكأنه يراها بين عينيه، وكأن الناس واقفون على شفيرها، وهو يدعوهم أن يبتعدوا عنها مخالفة أن يهووا فيها وهم لا يشعرون، وفي أثنار ذلك يحثهم على التحلي بالفضائل فاتحًا عليهم من جهة أبواب النار، ومن جهة ثانية أبواب الرجاء، بل أبواب المحبة الإلهية. ونراه يغترف في مواعظه اغترافا من القرآن الكريم وآيه، فهو المنبع الذي يستمد منه وعظه وخوفه ورجاءه، وحزنه العميق، ولعله من أجل ذلك كان يقول: "والله يا ابن آدم لئن قرأت القرآن ثم آمنت به ليطولن في الدنيا حزنك، وليشتدون في الدنيا خوفك، وليكثرن في الدنيا بكاؤك"1. وعلى هذا النهج نفسه نقرأ مواعظ الوعاظ من حوله التي تتناثر في الكتب الأدبية الآنفة الذكر، وكانوا كثيرا ما يلمون بمجالس الخلفاء والولاة، فيعظونهم ويبكونهم، ويحدثنا الرواة أن خالد بن صفوان، وشبيب بن شبية والفضل بن عيسى الرقاشي، وواصل بن عطاء تباروا في الوعظ بمجلس عبد الله بن عمر بن عبد العزيز حين ولي العراق، وكان ذلك في سنة 128 للهجرة، فبزهم واصل لطول خطبته؛ ولأنه جانب فيهخا الكلمات ذات الراء، للثغة كانت له فيها، فكان يتحاشاها في منطقه2. وخالد بن صفوان وشبيب بن شيبة هما اللذان يقول فيهما الجاحظ: "ما علمت أنه كان في الخطباء أحد كان أجود خطبا من خالد بن صفوان وشبيب بن شيبة، للذي يحفظه الناس، ويدور على ألسنتهم من كلامهم"3، ويقول في خالد: "ومن الخطباء المشهورين في العوام، والمقدمين في الخواص خالد بن صفوان.. ولكلامه كتاب يدور في أيدي الوراقين"4، وكان الفضل بن عيسى

_ 1 حلية الأولياء لأبي نعيم "طبعة الخانجي" 2/ 133. 2 البيان والتبيين 1/ 24. 3 نفس المصدر 1/ 317. 4 نفس المصدر 1/ 339-340.

الرقاشي من أخطب الناس وكان متكلما، وكان قاصا مجيدا، وكان يجلس إليه عمرو بن عبيد وكثير من الفقهاء1، ولم يكن عمرو بن عبيد يقل عنه بلاغة وبيانا، أما واصل فلم يكن أبين ولا أجود لسانا منه، وكان يلثغ في الراء، فرام إسقاطها من كلامه، فلم يزل يكابد ذلك يناضله ويساجله، حتى تخلص من تلك الهجنة، وانتظم له ما حاول، حتى في محاجة الخصوم، وفي الكلام البديه المرتجل، ويعلل الجاحظ لذلك بأنه "كان داعية مقالة ورئيس نحلة، وأنه يريد الاحتجاج على أرباب النحل وزعماء الملل، وأنه لا بد له من مقارعة الأبطال ومن الخطب الطوال، وأن البيان يحتاج إلى سهولة المخرج، وجهارة المنطق وتكميل الحروف وإقامة الوزن، وأن حاجة المنطق إلى الحلاوة والطلاوة كحاجته إلى الجزالة، والفخامة وأن ذلك من أكثر ما تستمال به القلوب، وتثنى به الأعناق، وتزين به المعاني"2، فما زال يمرن نفسه على نفادي الكلمات ذات الراء، حتى تأتي له ذلك، واتسق له ما أراد. ويقول الجاحظ: إن واصلا كان داعيه مقالة ورئيس نحلة، والمقالة التي يريدها هي مقالة الاعتزال، وهي نفسها النحلة، ويحدثنا صفوان الأنصاري في قصيدة مدحه بها، وأنشدها الجاحظ3 أنه كان له دعاة خطباء يطوفون بأركان الأرض حتى يبلغوا الصين شرقا وبلاد البربر غربا، ويشيد ببيانهم، وفصاحتهم وما أوتوا من اللسن وبراعة القول وقوة الحجة. ويلفتنا الجاحظ إلى ما كان ينهض به واصل من الاحتجاج على أرباب النحل وزعماء الملل، فقد كان يناظر أصحاب الديانات، وكان يناظر أصحاب النحل من جماعة المسلمين، ومن يقرأ في أخبار هذا العصر يعرف أن المناظرات كانت مشتعلة بين الفرق، اشتعلت أولًا بين الفرق السياسية، بين فرق الخوارج نفسها، ثم بينهم وبين الشيعة ومن يميلون إلى طاعة أولي الأمر من الأمويين، ثم اشتعلت بين أرباب الفرق الدينية التي كانت تبحث في العقيدة والإيمان

_ 1 البيان والتبيين 1/ 306. 2 نفس المصدر 1/ 14. 3 نفس المصدر 1/ 25.

وصفات الله. فكان هناك القدرية الذين قالوا بحرية الإرادة وعلى رأسهم الحسن البصري، وكان هناك الجبرية الذين يقولون بتعطيل إرادة الإنسان، وأنه مجبر لا حول له على ما يأتي من الأمر ولا قوة، وكان هناك المرجئة الذين يفصلون بين الإيمان والعمل، ولا يحكمون على مسلم في أعماله، بل يفوضون الحكم إلى ربهم، واحتدم الجدال بين هذه الفرق، كما احتدم بين الفقهاء في اجتهادهم، ومدى أخذهم بالقياس، فكان الفقهاء يتناقشون، وكان المتكلمون من أصحاب الفرق الدينية يتجادلون كما كان الخوارج، والشيعة والأمويون يتحاورون، كل يدافع عن رأيه، ويحاول أن يقنع به خصمه أو خصومه، وقد وصلتنا أخبار كثيرة عن تلك المحاورات، والمجادلات والمناقشات، فهم يروون أن الفقهاء كانوا يتناقشون في مجلس الشعبي1، وأن سليمان بن عبد الملك عقد مناظرة بين قتادة والزهري، فغلب الأول2 كما غلب إياس بن معاوية عبد الله بن شبرمة في مناظرة طويلة، تناولت اثنين وسبعين سؤالا3. وكثيرا ما كان الخوارج يتناظرون مع خصومهم في نظريتهم السياسية وأمور الدين4، وكذلك كان يصنع صنيعهم الشيعة، وخاصة مع المرجئة5، وكانت المناظرات بين المرجئة والجبرية والقدرية مشتعلة في مجالس الوعاظ، بل لقد وصل شررها إلى مجالس الخلفاء، إذ يروى أن عون بن عبد الله، وموسى بن كثير وعمر بن حمزة، وفدوا على عمر بن عبد العزيز وناظروه في الإرجاء6، كما يروى أنه ناظر غيلان، وصالح بن سويد في القدر7، وكذلك يروى أن الأوزاعي، وغيلان تناقشا فيه أيضًا أمام هشام بن عبد الملك8، وقد احتفظ المرتضى في أماليه بمناظرة واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد في مرتكب الكبيرة أمام الحسن البصري9، وكان

_ 1 البيان والتبيين 2/ 322. 2 البيان والتبيين 1/ 243. 3 ابن سعد ج7 ق2 ص5. 4 انظر مناظراتهم مع ابن عباس أول خروجهم، ومع ابن الزبير، ومع عمر بن عبد العزيز في العقد الفريد 2/ 388-403. 5 ابن سعد 6/ 192، والبيان والتبيين 3/ 350. 6 ابن سعد 6/ 218. 7 سرح العيون لابن نباتة ص184. 8 العقد الفريد 2/ 379. 9 أمالي المرتضى "طبعة الحلبي" 1/ 165.

الخوارج يكفرونه، بينما كان الحسن يدعوه مؤمنا فاسقا، وكان واصل يرى أنه في منزلة بين المنزلتين، وتناظر هو وعمرو بن عبيد في تلك المشكلة، واستطاع أن يقنعه بوجهة نظره. ومن يرجع إلى تلك المناظرة يلاحظ أنها تبدو في أولها تطبيقا لأشكال القياس المنطقي، وهي كذلك في أثنائها وفي خاتمتها تستعيت بالمنطق، ومما لا ريب فيه أن نفس الفكرة التي انتهى إليها واصل، وهي أن مرتكب الكبيرة في منزلة بين منزلتي المؤمن، والكافر فكرة دقيقة، لا يصل إليها إلا عقل دعم بالثقافة، وتعود النظر العميق، والنفوذ إلى دقائق الأفكار والمعاني. وطبيعي أن نجد الجاحظ مفتونا أمام قدرة هؤلاء الخطباء الدينيين، فقد أشاد بهم في كل موضع من كتابه البيان والتبيين، وتحدث عن تصرفهم في الألفاظ، والأساليب وكيف صفوها، وروقوها ونخلوها نخلا، حتى لا ينطقوا إلا بلب اللب، وإلا بما عليه حلاوة ورشاقة، وسهولة وعذوبه.

الصنعة في الخطابة الأموية

4- الصنعة في الخطابة الأموية: رأينا الخطابة تزدهر ازدهارا رائعا في العصر الأموي، وقد صاحب هذا الازدهار عناية واسعة من الخطباء على اختلاف أغراضهم بإحكام خطابتهم عن طريق البيان التام، والحجة البالغة والألفاظ المونقة، ولا غرابة في ذلك، فإنهم إنما كانوا يريدون بخطبهم في أكثر أحوالها إقناع الناس، وإسكات الخصوم واستمالة القلوب، حتى يصنع فيها صنيع الغيث في التربة الكريمة. وإذا رجعنا نتصفح آثار الخطباء السياسيين، وجدنا خطباء كل حزب يحاولون أن يحققوا لخطبهم كل ما يمكن من آلات البيان والبلاغة، كل بحسب

طاقته ومواهبه، ونعرض في إجمال لطائفة من هؤلاء الخطباء، هم زياد والحجاج من خطباء الحزب الأموي، وقطري بن الفجاءة من حزب الخوارج، والمختار الثقفي من حزب الشيعة، أما زياد فكان حسن الألفاظ جيد المعاني، كأنما أوتي فصل الخطاب، وفيه يقول الشعبي: "ما سمعت متكلما على منبر قط تكلم، فأحسن إلا أحببت أن يسكت خوفا أن يسيء إلا زيادا، فإنه كلما أكثر كان أجود كلاما"1، ولعل أشهر خطبة أثرت عنه هي خطبته الملقبة بالبتراء، وإنما سميت بذلك؛ "لأن خطباء السلف الطيب، وأهل البيان من التابعين بإحسان ما زالوا يسمون الخطبة التي لم يبتدئ صاحبها بالتحميد، ويستفتح كلامه بالتمجيد: البتراء، ويسمون التي لم توشح بالقرآن، وتزين بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: الشوهاء"2. ومن يرجع إلى هذه الخطبة3 يلاحظ أن زيادا عني بتأليفها عناية شديدة، فهي مقسمة إلى فقر، إذ يستهلها ببيان ما انغمس فيه أهل البصرة من الغي، والضلال والفسق والفساد متحرفين عن هدي الإسلام، والقرآن الكريم، ثم يبين لهم سياسته التي سيأخذهم بها، وأنها لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، ثم يأخذ في إنذارهم، وبيان العقوبات التي سينزلها على الجانبين منهم، ومن يعيثون فسادًا في الأرض، ويخرج من ذلك إلى بيان حق أئمتهم عليهم من الطاعة، ولزوم الجماعة، ويقول: إنهم يسوسونهم بسلطان يستمدونه من الله، فهم ساستهم المؤدبون، وكهفهم الذي إليه يأوون، ويختمها بالوعيد الشديد يشوبه بالترغيب. وبون بعيد بين هذه الخطبة وخطب الجاهليين، فقد كانت الأخيرة أمثالًا وحكما، ولما جاء الإسلام أصبح للخطابة موضوع ديني واضح، ثم أخذت تتسع منذ الرسول عليه السلام للأحداث، ولكنها لم تصبح خطابة زمنية على هذا النحو الذي نجده في "البتراء"، والذي أصبحت فيه الخطبة تعرض لسياسة الحكم

_ 1 البيان والتبيين 2/ 65. 2 نفس المصدر 2/ 6. 3 البيان والتبيين 2/ 62، وانظر عيون الأخبار 2/ 241، 243 حيث أوردها ابن قتيبة برواية أخرى، والعقد الفريد 4/ 110.

وتدعو لبني أمية، وتؤكد حقهم في الخلافة بمثل قوله: "أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل والإنصاف فيما ولينا"، وكأنه يقرر هنا نظرية التفويض الإلهي التي عرفها الفرس قبل الإسلام، فبنو أمية وولاتهم مثل زياد يسوسون الناس بتفويض من الله، وليس لهم أن يعارضوا، وأن ينقضوا هذا التفويض، أو تلك السياسة. والخطبة بدون شك صحيحه النسبة إلى زياد، فهي تصور سياسته التي تحدثنا عنها كتب التاريخ، والتي أجملها في قوله: "لين في غير ضعف وشدة في غير عنف"، ثم هي تصور شدته على الجانين والبغاة، ومن كانت تحدثهم نفوسهم بالخروج على بني أمية، وقد بناها جميعا من ألفاظ جزلة مختارة، ليس فيها غريب مستكره ولا ساقط رديء، وإنما فيها القوة والمتانة، وفيها ضروب من الصور البيانية، وبعبارة أخرى من التشبيهات والاستعارات، غير أنه لا يعمد فيها إلى السجع، آخذا بسنة الخلفاء الراشدين في خطابتهم، وهي محكمة التنسيق كل فقرة تسلم إلى أختها، والأفكار تتسلسل في نظام، مما يدل على أنه لم يكن ذا عقل فطري بسيط، فعقله مدعم بالفكر الجديد، وهو الفكر الذي أخذ يستسيغ ما لدى الأجانب من نظرية التفويض الإلهي وغيرها، ولكن دون أن يذوب فيهم، ودون أن ينسى شخصيته العربية، وأسلوب قومه المحكم القائم على استخدام اللفظ المصقول الرصين، الذي يروعنا برونقه، وسلاسة نظمه ووضوح دلالته. ولم يكن الحجاج يقل عن زياد بيانا، وإعرابا عما يختلج في صدره، ولعل أشهر خطبه تلك التي خطبها في الكوفة حين قدم على العراق واليا من قبل عبد الملك1، حدث معاصروه أنه دخل الكوفة فجأة حين انتشر النهار،

_

فبدأ بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر وهو ملثم بعمامة خز حمراء، حتى إذا اجتمع الناس في المسجد قام فكشف عن وجهه، ثم قال: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني1 أما والله إني لأحتمل الشر بحمله.. وإني لأرى رءوسا قد أينعت، وحان قطافها وإني لصاحبها، وإني لأنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى، ثم أخذ ينشد أبياتا تنذر بما سيأخذهم به من عنف، فهم كما يقول أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق، وقد نثر عبد الملك جعبة سهامه فوجده أمرها عودا، فرماهم به، ويردد وعيده لهم وتهديده من مثل قوله: "أما والله لألحونكم لحو العصا2، ولأعصبنكم عصب السلمة3، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل"4، وقوله: "أما لتستقيمن على طريق الحق أولاد عن لكل رجل منكم شغلا في جسده". والخطبة سياسة خالصة، فهي ذات موضوع زمني واضح، وهي تصور سياسة الحجاج التي اشتهر بها في كتب التاريخ، والتي كانت تقوم على العنف الشديد في غير لين، ولعل ذلك ما أراده الحسن البصري حين قال فيه، وفي زياد: "تشبه زياد بعمر بن الخطاب فأفرط، وتشبه الحجاج بزياد، فأهلك الناس"5. وعلى نحو ما تصور الخطبة سياسة الحجاج تصور فصاحته، وبلاغته وحفظه للشعر الغريب، إذ اتخذه مقدمة لكلامه، وكأنما يجعله فاتحة، موسيقية له، وهي فاتحة يتبدى فيها، ويطلب التشبه بالبدو لا في لغته فحسب،

_ 1 ابن جلا: كناية عن أنه لا يخفى مكانه، والثنايا: الشعاب في الجبال. 2 لحا العصا والشجرة لحوا قشرها. 3 السلمة: واحدة السلم، شجر ذو شوك، وكانوا يعصبون أغصانه، ويشدونها بعضها إلى بعض، ثم يخبطونها بالعصي، فيتناثر ورقها للماشية. 4 كانت الإبل الغريبة إذا وردت الماء على إبل أخرى ضربت لتبتعد عنها، حتى ترتوي. 5 البيان والتبيين 2/ 66.

بل أيضا ثيابه وملبسه1، حتى يغرب على السامعين ويروعهم، ولم يكتف بهذا الضرب من الإغراب، فقد عمد إلى طائفة من الصور الغريبة، وهي تتراكم في الخطبة تراكما شديدا، كما تتراكم في خطبه الأخرى2. ولعل مما يتصل بميله إلى الإغراب، والتهويل في منطقة ما رواه المبرد من أنه "كان إذا صعد المنبر تكلم رويدًا، فلا يكاد يسمع، ثم يتزيد في الكلام حتى يخرج يده من مطرفه3، ويزجر الزجرة، فيفزع بها أقصى من في المسجد"4، ومعنى ذلك أنه كان في مظهره أثناء خطابته، وفي صوته وفي لفظه، وما يحوي من شعر وصور نادرة يريد التهويل على السامعين، ويحاول أن يحكم صنعته في الخطابة من جميع أطرافها، حتى في إشارة اليد، وفي الهمس بصوته، والجهر به حتى يخلب القلوب، على أننا نلاحظ أنه كان يتحامى السجع مثله مثل زياد، لكنه بعد ذلك كان يعني باختيار ألفاظه، ملتمسا منها ما ليس متوعرا وحشيا، ولا ساقطا سوقيا، وهو حقا يعد في الذروة من البلاغة لعصره، حتى ليقول عنه مالك بن دينار: "ربما سمعت الحجاج يخطب، يذكر ما صنع به أهل العراق وما صنع بهم، فيقع في نفسي أنهم يظلمونه، وأنه صادق، لبيانه وحسن تخلصه بالحجاج"5. ومما لا شك فيه أنه يتفوق على زياد في ابتكار الصور والتشبيهات والاستعارات، ولكن زيادا يتفوق عليه في بناء خطبه وإحكام تأليفها، بحيث تتتابع في فقر وأجزاء متسلسلة، وليس معنى ذلك أن الحجاج لم يكن يطيل خطبه، فقد كان كثيرا ما يطنب في خطابته، ويسهب إسهابا شديدا، وخاصة في مواعظة الدينية6، وقد بقي له منها قطع تدور في كتب الأدب من مثل: "اللهم أرني الهدى هدى فأتبعه، وأرني الغي غيا فأجتنبه، ولا تكلني إلى نفسي فأضل ضلالا بعيدا"7، ومثل: "إنا والله ما خلقنا للفناء، وإنما خلقنا للبقاء،

_ 1 البيان والتبيين 2/ 308، وعيون الأخبار 2/ 243، وقارن 1/ 169. 2 انظر البيان والتبيين 2/ 138، والعقد الفريد 4/ 119، وما بعدها. 3 المطرف: الثوب. 4 الكامل للمبرد "طبعة رايت" ص173. 5 البيان والتبيين 1/ 394، 2/ 268. 6 نفس المصدر 2/ 298. 7 البيان والتبيين 2/ 137، والعقد الفريد 4/ 115.

وإنما ننقل من دار إلى دار"1، وكان الحسن البصري يقول فيه "يعظ عظة الأزارقة، ويبطش بطش الجبارين2"، ويروى أنه قال: "لقد وقذتني كلمة سمعتها من الحجاج، سمعته يقول على هذه الأعواد: إن امرأ ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لخليق أن تطول عليها حسرته"3. ومر بنا أنه كان للخوارج خطباء كثيرون مفوهون، وكانوا يعنون عناية شديدة بإعداد كلامهم، حتى يجذبوا القلوب إليهم، ولعل ذلك ما جعل عبيد الله بن زياد يقول فيهم: "إن كلامهم أسرع إلى القلوب من النار إلى الهشيم"، وروى المبرد أن عبد الملك بن مروان أتى رجل منهم، فجعل يبسط له من قولهم، ويزين له من من مذهبهم بلسان طلق وألفاظ مبينة ومعان واضحة، فقال عبد الملك: "لقد كاد يدفع في خاطري أن الجنة خلقت لهم، وأني أولى بالجهاد منهم، ثم رجعت إلى ما ثبت الله علي من الحجة وقرر في قلبي من الحق"4، وفي إحسانهم لخطابتهم يقول عبيدة بن هلال5: أدباء إما جئتهم خطباء ... ضمناء كل كتيبة جرار6 وكانوا يمزجون خطابتهم السياسية بالدعوة إلى الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، وما عند الله من الثواب، وقد يثنون على أبي بكر وعمر، ثم يقدحون في عثمان ومن جاءوا بعده، ويحثون على الجهاد، معلنين أنهم على الحق، أما جماعة المسلمين فاتبعت أهواءها وجارت عن الطريق القاصد. ومن خير ما يصور ذلك خطبة أبي حمزة الخارجي في مكة7، وفيها يصف شباب الخوارج هذا الوصف الرائع:

_ 1 البيان والتبيين 2/ 167، وعيون الأخبار 2/ 251. 2 البيان والتبيين 3/ 164. 3 البيان والتبيين 2/ 193، وقذتني: أفزعتني. 4 الكامل للمبرد ص573. 5 نفس المصدر ص701، وانظر البيان والتبيين 1/ 406، والحيوان للجاحظ 6/ 423. 6 ضمناء: كفلاء. 7 البيان والتبيين 2/ 122، وعيون الأخبار 2/ 249، والعقد الفريد 4/ 144، والأغاني 20/ 104.

"شباب والله مكتهلون في شبابهم غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أرجلهم، أنضاء عبادة وأطلاح سهر1، ينظر الله إليهم في جوف الليل منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مر أحدهم بآية من ذكر الجنة بكى شوقا إليها، وإذا مر بآية من ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم في أذنيه، موصول كلالهم بكلالهم: كلال الليل بكلال النهار.. حتى إذ رأوا السهام قد فوقت2، والرماح قد أشرعت والسيوف قد انتضيت، ووعدت الكتيبة بصواعق الموت، وبرقت استخفوا بوعيد الكتيبة لوعد الله، ومضى الشاب منهم قدما حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه، وتخضبت بالدماء محاسن وجهه، فأسرعت إليه سباع الأرض، وانحطلت عليه طير السماء، فكم من عين في منقار طائر طالما بكي صاحبها في جوف الليل من خوف الله، وكم من كف زالت عن معصمها طالما اعتمد عليها صاحبها في جوف الليل بالسجود لله". وواضح أن هذا الوصف يعتمد في جماله على صدق العاطفة وحرارتها، وقوة العقيدة ومتانتها، إذ يمثل صاحبه مدى إيمان الخوارج بمذهبهم، وكيف باعوا الحياة الدنيا بالآخرة، حتى أصبح الاستشهاد أمنيتهم والتهافت على نيران الموت طلبتهم، وهم لذلك يثورون ثورة جامحة، يقدسون فيها عقيدتهم، ويتفانون في سبيلها صادرين في ذلك عن روح تقوى مفرطة. ولعل ذلك ما جعلهم يكثرون من المواعظ الخالصة، وخير من يمثلهم في ذلك قطري بن الفجاءة، وله موعظة طويلة مشهورة، وكلام كثير محفوظ3، ونسوق قطعة من موعظته ندل بها على مبلغ تجويده وتحبيره، يقول4: "أما بعد فإني أحذركم الدنيا فإنها حلوة خضرة، حفت بالشهوات وراقت بالقليل وتحببت بالعاجلة وحليت بالآمال وتزينت بالغرور.. مع أن امرأ لم يكن منها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة، ولم يلق من سرائها بطنا إلا منحته

_ 1 أنضاء: مهزولون، أطلاح: مكدودون. 2 فوقت: جعلت لها الأفواق، وهي موضع الأوتار في السهام. 3 البيان والتبيين 1/ 341-342. 4 نفس المصدر 2/ 126، وعيون الأخبار 2/ 250، والعقد الفريد 4/ 141.

من ضرائها ظهرا، ولم تطله1 غيثة رخاء إلا هطلت عليه مزنة بلاء، وحرى إذا أصبحت له منتصرة، أن تمسي له خاذلة متنكرة، وإن جانب منها اعذوذب واحلولى، أمر عليه منها جانب وأوبى2، وإن آتت امرأ من غضارتها، ورفاهيتها نعما، أرهقته من نوائبها نقما، ولم يمس امرؤ منها في جناح أمن إلا أصبح منها على قوادم3 خوف.. لا خير في شيء من زادها إلا التقوى". والقطعة -مثلها مثل الموعظة جميعها- تمتاز بأنها تتصل بنفس صاحبها، وكأنه سكب فيها روحه، فهو يعبر عن تقوى صادقة تسيل من قبله ونفسه، وهو بعد ذلك دقيق في اختيار لفظه، يعنى برصفه عناية أوسع من عناية أبي حمزة الشاري، إذ تنقلب عنايته في أكثر الموعظة إلى ضرب من السجع الرشيق، وهذه العناية بالسجع إلى حد بعيد تضافرت معها عناية بالطباق والمقابلة، وعناية أخرى بالصور والرسوم المتحركة، وهو يشبه الحجاج في الجانب الأخير، غير أنه لا يكتفي به، بل يضيف إليه فنونا من المقابلات وضروبا من الإيقاعات الصوتية، حتى يبلغ ما يريد من التأثير في نفوس سامعيه. ولم يكن الشيعة أقل من الخوارج، وولاة بني أمية احتفالا بخطابتهم، ويؤثر عن علي بن الحسين أنه قال: "لو كان الناس يعرفون جملة الحال في فضل الاستبانة، وجملة الحال في صواب التبيين لأعربوا عن كل ما تخلج في صدورهم ولوجدوا من برد اليقين ما يغنيهم عن المنازعة إلى كل حال سوى حالهم، ولكنهم من بين مغمور بالجهل، ومفتون بالعجب، ومعدول بالهوى عن باب التثبت، ومصروف بسوء العادة عن فضل التعلم"4، وكان زيد ابنه جدلا لسنا يجتذب الناس بحلاوة لسانة، وسهولة منطقة وعذوبته5، مع قوة الحجج

_ 1 تطل: من الطل وهو المطر الخفيف. 2 أوبى: من الوباء. 3 القوادم: الريش في مقدمة الجناح. 4 البيان والتبيين 1/ 84، وزهر الآداب 1/ 59. 5 البيان والتبيين 1/ 58، وانظر زهر الآداب 1/ 72.

وكثرتها، ومع الجزالة والفخامة1، ومن خطباء الشيعة، وكبار دعاتهم في هذا العصر المختار الثقفي، وكان خارجيا، ثم صار زبيريا، ثم صار رافضيا2، وقد ثار في العراق ثورة عنيفة، غير أن مصعب بن الزبير قضى عليه في سنة 67 للهجرة، وكان يذهب في سيرته وخطابته مذهبا قريبا من مذهب الكهنة في الجاهلية، فكان يزعم لأصحابه أنه يوحي إليه، وكان يتخذ السجع دلالة على هذا الوحي، وفي ذلك يقول ابن قيس الرقيات: والذي نغص ابن دومة ما تو ... حي الشياطين والسيوف ظماء وكان يتخذ لأنصاره كرسيا قديم العهد غطاه بالديباج، وكان يقول لهم: "إن محله محل السكينة في بني إسرائيل"3، وروى المبرد كثيرا من شعوذته، وكيف كان يدعي أنه يلهم ضربا من السجع لأمور تكون ثم يحتال فيوقعها، فيقول للناس: هذا من عند الله عز وجل، ومن يرجع إلى سجعه يجده يعتمد فيه على الأقسام والإبهام، والإغراب على نحو ما كان يعتمد على ذلك الكهنة قديما من مثل قوله4: "أما ورب البحار، والنخيل والأشجار، والمهامة5، والقفار، والملائكة الأبرار، والمصطفين الأخيار، لأقتلن كل جبار، بكل لدن خطار6، أو مهند بتار7، في جموع من الأنصار، ليسوا بميل أغمار8، ولا بعزل9 أشرار. حتى إذا أقمت عمود الدين، ورأبت شعب10 صدع المسلمين،

_ 1 البيان والتبيين 1/ 309-310، 1/ 325، والعقد الفريد 4/ 32. 2 الكامل للبرد ص 596. 3 نفس المصدر والصفحة، وانظر الحيوان للجاحظ 2/ 271. 4 الطبري، القسم الثاني ص 536. 5 المهامة: الفيافي والقفار. 6 لدن: الرمح القاطع للينه وحدته، والخطار: الضارب. 7 مهند: السيف، بتار، قاطع. 8 ميل: جمع أميل وهو الجبان، أو من لا سلاح معه، الأغماز: جمع غمز، وهو ناقص التجربة. 9 عزل: جمع أعزل، وهو من ليس معه سلاح. 10 شعب: ثلمة، ورأب الصدع: أصلحه.

وشفيت غليل صدور المؤمنين، وأدركت بثأر النبيين، لم يكبر علي زوال الدنيا، ولم أحفل بالموت إذا أتى". وكان المختار يكثر من هذه الأسجاع، ويتشبه فيها بصنيع الكهان، وهذا هو لحثه الذي كان يردده في خطبه التي رواها له المؤرخون، وكان يوفر من غير شك في أثناء ذلك لكلامه ضروبا مختلفة من التكلف، حتى يحقق ما يريد من الإيهام البعيد. وإذا تركنا خطباء الأحزاب السياسية إلى خطباء المحافل، وجدناهم يحاولون جاهدين التأنق في خطابتهم1، وهذا طبيعي؛ لأن خطابتهم محدودة، إذ لا تتجاوز في كثير منها كلمات معدودة، وكانوا يلقونها بين أيدي الخلفاء والولاة، فكانوا يطلبون فيها أن تروعهم، وتستميل إليهم قلوبهم، ولعلهم من أجل ذلك كانوا يلتزمون فيها السجع، حتى يستموا لها كل حلية صوتية ممكنة، وأشهر خطباء المحافل في هذا العصر، كما أسلفنا، الأحنف بن قيس زعيم تميم البصرة، فقد كان يفد لقومه على معاوية، فيلقي إليه بحاجتهم في عبارات مسجعة منمقة على شاكلة قوله2: "يا أمير المؤمنين! أهل البصرة عدد يسير، وعظم كسير، مع تتابع من المحول، واتصال من الذحول3، فالمكثر فيها قد أطرق4، والمقل قد أملق5، وبلغ منه المخنق، فإن رأى أمير المؤمنين أن ينعش الفقير، ويجبر الكسير، ويسهل العسير، ويأمر بالعطاء، ليكشف البلاء، ويزيل اللأواء6، وإن السيد من يعم ولا يخص ويدعو الجفلى7، ولا يدعو النقرى8، وإن أحسن إليه شكر، وإن أسيء إليه غفر، ثم يكون من وراء

_ 1 البيان والتبيين 1/ 204، وما بعدها. 2 زهر الآداب للحصري "طبعة المطبعة الرحمانية" 1/ 46. 3 الذحول: الثارات، والمحلول: الجدب. 4 أطرق: ضعف وهزل. 5 أملق: افتقر. 6 اللأواء: الشدة. 7 الدعوة الجفلى: الدعوة العامة. 8 النقرى: الدعوة الخاصة، دعوة الأفراد.

ذلك لرعيته عمادا يدفع عنهم الملمات، ويكشف عنه المعضلات". وليس الأحنف وحده الذي كان يسجع بين خطباء المحافل، فقد كانت عامتهم تذهب هذا المذهب من التحبير وتنميق الكلام، واستمر ذلك سمتهم طوال عصر بني أمية كما كان سمة أعراف البادية غالبا حين ينزحون من باديتهم إلى المدن، فيتحدثون بين أيدي الخلفاء والولاة، وقد فتح الجاحظ لهم فصلا في بيانه استعرض فيه طائفة من أقوالهم1، وهي جماعة تدخل في هذا الأسلوب المسجع، وما يطوي فيه من جمال الصياغة، ويعبر الجاحظ عن انبهاره إزاء ما يروي من كلام هؤلاء الأعراب، فيقول: "ليس في الأرض كلام هو أمتع، ولا آنق ولا ألذ في الأسماع، ولا أشد اتصالا بالعقول السليمة، ولا أفتق للسان، ولا أجود تقويما للبيان، من طول استماع حديث الأعراب العقلاء الفصحاء"2، ويقال: إن خالد بن صفوان تكلم في صلح بكلام لم يسمع الناس قبله مثله، فإذا أعرابي في بت3، ما في رجليه حذاء، فأجابه بكلام أروع من كلامه وأعجب"4. وقد خطا خطباء القصص، والمواعظ بخطابتهم خطوات واسعة نحو الصقل والتجويد لأساليهم، وتلوين معانيهم وتنويعها وتفريغها فروعا كثيرة، ولم يكن الوعاظ يخطبون وقوفا إلا في صلاة الجماعة والعيدين، أما بعد ذلك فكان مثلهم مثل القصاص يخطبون غالبا، وهم جالسون وحولهم الناس يتحلقون، وهم يسوقون إليهم مواعظهم، فخطابتهم كخطابة القصاص كانت في الأغلب خطابة جالسة، أو قل: كانت أشبه بالمحاضرات والإملاءات، وليس هذا هو كل ما يفرق بين خطابتهم والخطابة السياسية، فهناك فرق آخر مهم يتصل بجمهور المستمعين إلى الطرفين، إذ كان خطباء السياسة يتجهون بخطابتهم إلى العرب وجيوشهم المقاتلة، أما خطباء الوعظ والقصص، فكانوا يخاطبون الهيئة الاجتماعية.

_ 1 البيان والتبيين 1/ 284، وما بعدها وانظر 1/ 297، وما بعدها، 1/ 408. 2 البيان والتبيين 1/ 145. 3 البت: كساء غليظ. 4 البيان والتبيين 1/ 173.

كلها على اختلاف طبقاتها من خاصة وعامة، ومن عرب وموال، ولذلك هبطوا بأساليبهم قليلا عن مستوى أساليب الخطابة السياسية، حتى تفهمهم جميع الطبقات، وحتى لا يرتفعوا بكلامهم عن فئات العامة، ومع هذا الهبوط لم يخرجوا إلى كلام السوقة، بل وازنوا موازنة دقيقة بين كلامهم، ومستوى الفصاحة، فأخلوه من الألفاظ الغريبة، وفي الوقت نفسه لم يسقطوا به إلى ألفاظ مبتذلة، وألجأهم ضيق معانيهم إلى التنويع فيها والتفريغ والتوليد، كما ألجأهم إلى ضروب من الترداد والتكرار والترادف، لم يلبثوا أن تحولوا بها إلى صورة من الأسلوب المزدوج، الذي يقف في منزلة وسطى بين أسلوب السجع، والأسلوب المرسل، ولا نغلو إذا قلنا: إنهم هم الذين هيئوا لبروز هذا الأسلوب الذي شاع فيما بعد بين الكتاب مثل عبد الحميد الكاتب، والجاحظ ومن جرى مجراهما، ونراهم يستخدمون ضروبا من التصوير، أو من التشبيهات والاستعارات، وهم يستلهمون في كثير من جوانبها آي الذكر الحكيم، كما يستلهمونها في أكثر معانيهم، وقد جعلهم حديثهم عن الثواب والعقاب والجنة، والنار والطاعة والعصيان والحياة والموت والإيمان، والكفر أن يقيموا كلامهم على الطباق والمقابلة، مثل قول الحسن البصري: "بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرها جميعا، وإذا رأيت الناس في الخير فنافسهم فيه، وإذا رأيتهم في الشر فلا تغبطهم به، الثواء ها هنا قليل، والبقاء هناك طويل، فخذوا صفاء الدنيا وذروا كدرها"1، وقوله: "إن خوفك حتى تلقى الأمن خير من أمنك حتى تلقى الخوف"2. والحسن البصري خير من يصور أسلوب الوعاظ المبني على الازدواج، واستخدام بعض الصور، وتلوين الكلام بألوان الطباق والمقابلة، مما يمثل تلك الصناعة المحكمة، ويغلب الحزن على مواعظه كما يغلب ترداد معنى الخوف والرجاء، ووصفه بعض معاصريه، فقال: "كان إذا أقبل، فكأنما أقبل من دفن حميمه، وكأن إذا جلس فكأنه أسير قد أمر بضرب عنقه، وكان إذا

_ 1 البيان والتبيين 3/ 132. 2 العقد الفريد 3/ 178، وانظر 3/ 214.

ذكرت النار عنده فكأنها لم تخلق إلا له"1. ويموج كتاب البيان والتبيين وكتاب عيون2 الأخبار، والعقد3 الفريد بمواعظه، ومواعظ معاصريه. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا: إن هؤلاء الوعاظ هم الذين ألانوا أساليب اللغة العربية، وحملوها من الطاقات ما تستطيع به التعبير عن المعاني الدقيقة، وكانت كثرتهم من الأجانب، وكانوا مثقفين ثقافة واسعة، وكانوا أصحاب فطن بارعة، ففتحوا أبوابا لا حصر لها من الجدال في مسائل الدين والعقيدة، وتحولوا بمعانيهم يفرعون فيها ويولدون، ويأتون بكل جديد مستطرف، وبديع مستحسن. وكان بين هؤلاء الوعاظ من بلغ من الحذق أن جعل مواعظه كلها سجعا خالصا كأسرة الرقاشيين، وهي أسرة فارسية كانت تحترف القصص في هذا العصر كما كانت تحترف السجع، ويقال: أنها كانت معروفة في أمتها بالخطابة، فلما دخلت في الإسلام قامت في لغتنا مقامها في لغتها الأصلية، وكأنما نزع أفرادها ذلك العرق القديم، ومنها يزيد بن أبان الرقاشي، وكان قاصا مجيدا، وكان يتكلم في مجلس الحسن البصري، وكان عابدا زاهدا، وهو عم الفضل بن عيسى الرقاشي، وفيه يقول الجاحظ: "كان الفضل سجاعا في قصصه.. وهو الذي يقول: سل الأرض فقل.. من شق أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك، فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا"4، وكان خالد بن صفوان التميمي يسجع كثيرا5 كما كان يسجع غيره من العرب، ومعنى ذلك أن الرقاشيين لم يستحدثوا السجع في وعظهم، وإنما نسجوا فيه على منوال بطائفة من فصحاء العرب، وبلغائهم. ومهما يكن فإن الخطباء الوعاظ، والقصاص نموا التحبير البياني، وكثيرا ما يقف الجاحظ في بيانه متعجبا من قدرتهم البلاغية، وقد تعجب طويلا

_ 1 البيان والتبيين 3/ 171. 2 انظر 2/ 344، وفي مواضع متفرقة. 3 انظر فهرس الأعلام الملحق بالكتاب. 4 انظر في الفضل وأسرته البيان والتبيين 1/ 306-308، وراجع زهر الآداب 3/ 220. 5 البيان والتبيين 2/ 93، 3/ 164.

من بلاغة واصل بن عطاء، وكيف استطاع أن ينزع الراء من خطبه للثغته فيها على نحو ما مر بنا غير هذا الموضع. ولم يكن واصل وحده هو الذي أحرز هذا المقدار من البلاغة والبيان، بل لقد أحرزه عامة القصاص والوعاظ، وقد تحولوا يعلمون شباب البصرة، والكوفة كيف يتفرقون في الخطابة، وكانوا يسألونهم أسئلة كثيرة عن أساليبها، وألفاظها وكيف ينبغ الخطيب، وما ينبغي أن يراعيه في هيئته وإشاراته ومنطقه، وكيف يقنع خصومه في الجدال ويسكتهم؟ ومتى يستحب الإيجاز في الخطبة؟ ومتى يستحب الإطناب؟ وكيف يلائم الخطيب بين ألفاظه ومعانيه؟ وكيف يوازن بين كلامه، وبين طبقات السامعين؟ وكيف يجعل لكل طبقة كلاما، ولكل حالة مقاما؟ وكيف يقنع خصومه في المناظرة ويلزمهم الحجة؟ وهيأ ذلك كله لاستنباط طائفة من الوصايا البلاغية نجدها منثورة في كتاب البيان والتبيين تجري على ألسنة هؤلاء الوعاظ، وخاصة من كانوا يقارعون الخصوم ويجادلونهم، ونقصد المتكلمين الذين تناقشوا في القدر والعقيدة طويلًا، والذين نصبوا أنفسهم للرد على خصوم الإسلام. ولعل مما يدل على صحة ما نزعم من ذلك أن أقدم النصوص التي تتصل بماهية البلاغة تضاف إلى واعظ من هؤلاء الوعاظ المتكلمين، وهو عمرو بن عبيد، فقد روى الجاحظ أنه قيل له: ما البلاغة؟ فقال لسائله1: "ما بلغ بك الجنة وعدل بك عن النار، وما بصرك مواقع رشدك وعواقب غيك، قال السائل: ليس هذا أريد.. قال عمرو: فكأنك إنما تريد تخير اللفظ في حسن إفهام؟ قال: نعم، قال: إنك إن أردت تقرير حجة الله في عقول المكلفين، وتخفيف المئوية على المستمعين، وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين، بالألفاظ الحسنة في الآذان، المقبولة عند الأذهان، رغبة في سرعة

_ 1 البيان والتبيين 1/ 114، وانظر العقد الفريد 2/ 260، وزهر الآداب 1/ 94.

استجابتهم، ونفي الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة، على الكتاب والسنة كنت قد أوتيت فصل الخطاب، واستحققت على الله جزيل الثواب". وعلى هذا النحو كان الشباب يتعلمون على هؤلاء الوعاظ، كيف يبلغون ما يريدون من حسن الإفهام ومن البيان والطلاقة، وكيف يحصلون ذلك ويميزونه مع جمال المخارج والسلامة من التكلف، وكان الوعاظ من جانبهم لا يزالون يقدمون لهم النصح والإرشاد، وقد يدعونهم إلى المناظرة بين أيديهم طلبا لترويضهم وتمرينهم، على نحو ما صنع الحسن البصري بواصل، وعمرو بن عبيد إذ دعاهما في مجلسه للمناظرة في مرتكب الكبيرة والوصف الذي يستحقه، حتى يحذقوا الجدال، ومناقشة الخصوم والاحتجاج عليهم، وإذا لم يدعوهم إلى الكلام بين أيديهم نثروا عليهم وصاياهم على نحو ما نجد في وصية شبيب بن شيبة، التي يذكر فيها أن الناس يعجبون بجودة الابتداء، أما هو فيعجب بجودة الخاتمة، ويقول: إذا ابتلي الخطيب بمقام لا بد له فيه من الإطالة، فإياه والإسهاب إلى درجة الخطل1، ويقول خالد بن صفوان: "اعلم -رحمك الله- أن البلاغة ليست بخفة اللسان وكثرة الهذيان، ولكنها بإصابة المعنى والقصد إلى الحجة"2. ولعل في كل ما قدمنا ما يصور كيف ارتقت الخطاية في بيئات الوعاظ والقصاص، فقد أخذوا يتدارسونها ويبحثون في أدواتها ووسائلها، وانبعثوا يخطبون في كل مناسبة ومقام، موازين بين معانيهم وألفاظهم، وبين كلامهم ومن يخاطبونهم به من العامة والخاصة، وكان خطباء السياسة من حولهم لا يزالون يجودون في خطابتهم، وكذلك كان شأن خطباء المحافل، حتى ليقولون إن شباب الكتاب في دواوين الخلفاء كانوا يحضرون -إذا قدمت الوفود- لاستماع بلاغة خطبائهم3. والحق أن هذه البيئات جميعا أتاحت للخطابة في هذا العصر ازدهارا عظيما، لعلها لم تعرفه في أي عصر من العصور الإسلامية الوسيطة، فقد تعانت جهود خطباء السياسة والمحافل، وتعاون معهم الوعاظ والمتكلمون على النهوض بها، بل لقد نفذ الأخيرون إلىوضع قواعد، وتعاليم فيها كانت مقدمة للأبحاث البلاغية التي عرفت في العصر العباسي.

_ 1 اليبان والتبيين 1/ 112. 2 العقد الفريد 2/ 261. 3 العقد الفريد 4/ 449.

الكتابة في صدر الإسلام

5- الكتابة في صدر الإسلام: اتخذ الإسلام الكتابة دعامة من دعائمه، فقال جل شأنه في أول آية نزلت على رسوله صلى الله عليه وسلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ، وأقسم سبحانه وتعالى بالقلم فقال جل وعز: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} كما أقسم بالكتاب فقال: {وَالطُّورِ، وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} . وجاءت في الذكر الحكيم كلمات اللوح والقرطاس والصحف من مثل: {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} ، ومثل: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} ، ومثل: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} . وشجع الرسول عليه السلام على تعلم الكتابة بطرق مختلفة، فمن ذلك أنه جعل فداء بعض أسرى قريش في بدر ممن تعلموا الكتابة أن يعلموها عشرة من صبيان المدينة1، وبجانب ذلك نرى الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بعض أصحابه إلى تعلم اللغات الأجنبية، ففي البخاري عن زيد بن ثابت: أتى بي النبي صلى الله عليه وسلم حين مقدمه المدينة، فقيل: هذا من بني النجار، وقد قرأ سبع عشرة سورة "من القرآن الكريم"، فقرأت عليه، فأعجبه ذلك، فقال: تعلم كتاب يهود، فإني ما آمنهم على كتابي، فقلت، فما مضى

_ 1 فجر الإسلام لأحمد أمين ص170.

لي نصف شهر حتى حدقته، فكنت أكتب له إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له"1. وقد حض القرآن على اتخاذ الكتابة في المعاملات، يقول جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} . وكان للرسول صلى الله عليه وسلم جماعة من الكتاب تخصصوا بكتابة الوحي، وكان على رأس هذه الجماعة عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وكانا إذا غابا كتب له أبي بن كعب وزيد بن ثابت، وكان يكتب له بين يديه في حوائجه خالد بن سعيد بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وكان المغيرة ابن شعبة والحصين بن نمير يكتبان ما بين الناس، وكان عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث، والعلاء بن عقبة الحضرمي يكتبان بين القوم في قبائلهم ومياههم، وكان حنظلة بن الربيع ابن أخي أكثم بن صيفي خليفة كل كاتب من كتاب الرسول إذا غاب عن عمله، فغلب عليه اسم الكاتب2. ونرى من ذلك أن الكتابة أخذت تستخدم استخداما واسعا لا في كتابة القرآن الكريم فحسب، بل في كتابة كثير من شئون المسلمين، وكان الرسول عليه السلام يكتب كثيرا من عهود الأمان ومن المعاهدات، كما كان يكاتب الأمراء، والملوك من العرب وغيرهم يدعوهم إلى الإسلام، وتزخر السيرة النبوية لابن هشام، وكتب الحديث والتاريخ بهذه الكتب، وقد جمعها محمد حميد الله الحيدر آبادي في كتابه النفيس "مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة"، وقدم لها بدراسة وقف فيها عند معيار الوضع والصحة، وما دخلها من الانتحال، وقد يكون من صحيحها الذي سلم على الزمن كتابه3 صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين، والأنصار واليهود ممن كانوا بالمدينة حين نزوله

_ 1 فجر الإسلام ص171. 2 انظر في ذلك الوزراء، والكتاب للجهشياري "طبعة الحلبي" ص 12. 3 انظر مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي، والخلافة الراشدة "طبع لجنة التأليف، والترجمة والنشر" ص1.

فيها، وكذلك معاهدته التي كتبها بينه وبين قريش عام الحديبية، وهي تمضي على هذه الصورة1: "هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو: اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعض. على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وأن بيننا عيبه مكفوفة 2، وأنه لا إسلال ولا إغلال 3. وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخله، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش، وعهدهم دخل فيه". وواضح أن الرسول عليه السلام لا يعنى في هذه المعاهدة بتحبير فني، بل هو يؤدي غرضا سياسيا في صورة موجزة، وكذلك كان شأنه في كتبه التي كان يرسلها إلى أمراء العرب، ونسوق لذلك مثل كتابه الذي أرسله إلى وائل بن حجر الحضرمي، وقومه إذ يقول عليه السلام4. "من محمد رسول الله إلى الأقيال العباهلة 5 من أهل حضرموت بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، في التيعة 6 شاة، والتيمة 7 لصاحبها، وفي السيوب 8 الخمس، لا خلاط 9، ولا وراط 10، ولا شناق 11، ولا شغار 12،

_ 1 نفس المصدر ص13 وراجع الطبري، القسم الأول ص1546. 2 العيبة: الحقيبة، والعيبة المكفوفة هنا يراد بها الذمة التي لا تنكث. 3 إسلال: سرقة، إغلال: خيانة. 4 انظر حميد الله ص128، والبيان والتبيين 2/ 27 والعقد 2/ 48. 5 الأقيال: ملوك الجنوب وأمراؤهم، العباهلة: العظام الثابت ملكهم. 6 التيعة: الأربعون من الغنم، وهو أقل ما يجب فيه الزكاة. 7 التيمة: الشاة الداجنة غير السائمة أو الراعية. 8 السيوب: جمع سيب، وهو المال المدفون أو المعدن. 9 الخلاط: أن تخلط الغنم، أو الإبل بغيرها لتمنع من الزكاة. 10 الواراط: أن توضع الغنم أو الإبل بعيدًا عن أعين من يجمعون الزكاة. 11 الشناق: الخلاط. 12 الشغار: زواج في الجاهلية أبطله الإسلام.

فمن أجبى1 فقد أربى2، وكل مسكر حرام". والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعمد في هذا الكتاب إلى تزويق، إنما يعمد إلى فكرته، وتبليغ دعوة الإسلام في غير إسهاب، وفي غير صنعة أو تكلف، فكان كما قال جل شأنه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} ، فكان يقصد إلى غرضه بالحروف القليلة والكلمات اليسيرة. وتبعه الخلفاء الراشدون يهتدون بهديه في كتابتهم، وما يعقدون من معاهدات3، فهم لا يقصدون إلى تنميق، إنما يقصدون إلى الإبلاغ أفكارهم في عبارات واضحة الدلالة، وليس من ريب في أننا لا نصل إلى عصر عمر حتى تكثر المكاتبات السياسية، فهو يكاتب قواده وولاته، وهم يكاتبونه كلما جدت مشكلة، وكان يكتف إليهم أحيانا في سياستهم لمن يحكمونهم، وكتابه إلى أبي موسى الأشعري في القضاء ذائع مشهور4. ونظن ظنا أن عمر وغيره من الخلفاء الراشدين، وولاتهم، وقوادهم، لم يقصدوا في كتابتهم إلى أي ضرب من ضروب التزين والتنسيق، فقد كان حسبهم أن يؤدوا أغراضهم في لغة جزلة متينة، وإن كان لك لم يمنع بعض المؤرخين، والأدباء أن يدخلوا الزينة والتنميق على بعض ما رووه لهم، من ذلك الكتاب الذي ينسب إلى عمرو بن العاص أنه أرسله إلى عمر في وصف مصر، والذي يقول فيه: "مصر تربة غبراء، وشجرة خضراء، طولها شهر وعرضها عشر" إلى آخر ما في هذا الكتاب من عبارات أنيقة5، فإنه واضح الانتحال على ابن العاص. وينبغي أن نعرف أن المكاتبات في صدر الإسلام لم تحفظ في سجلات خاصة، وكان ذلك سببا في أن تناولها غير مؤرخ وأديب بالتبديل والتحسين، ومن ثم كان الكتاب الواحد يروى رويات مختلفة باختلاف الكتب التي ترويه، وحسب ذوق الراوي وقدرته البيانية.

_ 1 أجبى: من الإجباء، وهو بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه. 2 أربى: من الربا. 3 انظر القسم الثاني من كتاب حميد الله. 4 البيان والتبيين 2/ 48، 293، وعيون الأخبار 1/ 66. 5 النجوم الزاهرة لابن تغري بردي "طبعة دار الكتب" 1/ 32.

الكتابة في العصر الأموي

6- الكتابة في العصر الأموي: وإذا انتقلنا إلى عصر بني أمية وجدنا الكتاب ترقى رقيا عظيما، فقد جد كثير من المشكلات، وتعقدت الحياة من الجميع أطرافها المادية والسياسية والعقلية، إذ تحضر العرب، وأخذوا يستعيرون كثيرًا من النظم الأجنبية، ومواد الثقافات لدى الأمم المفتوحة. ونستطيع أن نميز ثلاثة جداول مهمة كانت تمد الحياة العربية في العصر الأموي، وهي جدول جاهلي يتمثل في الشعر والأيام، وتقاليد الجاهليين، وأقبل كثير من العلماء على هذا الجدول يعبون منه، مما هيأ لتسجيل الحياة الجاهلية، وجدول إسلامي يتمثل في تاريخ الإسلام وخطوبه، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وغزاوته وأحاديثه، وسيرة الخلفاء الراشدين وفتوحاتهم، ثم ما كان من أحزاب سياسية، وما لكل حزب من آراء في السياسة والحكم، وجدول أجنبي يتمثل في معرفة شئون الأمم المفتوحة، ونظمها السياسية والاجتماعية والاستعارة منها حسب الحاجة، ولعل أول ما كان من هذه الاستعارة اتخاذ عمر لديون العطاء، أو ديوان الجيش1، وقد خلفه جيل كانت استعارته أقوى وأكبر، ونستطيع أن نرمز لصنيع هذا الجيل بما كان من اتخاذ، معاوية لدواوين الخراج والخاتم والرسل2، ثم بما كان من تأليف زياد بن أبيه لكتاب في

_ 1 الوزراء والكتاب للجهشياري "طبعة الحلبي" ص17. 2 نفس المصدر ص24.

المثالب1. وكلما مضينا في العصر اتسعت التأثرات، بما لدى الأجانب، فقد كان العرب ناشرين للدين الإسلامي، وقد اتصلوا بيهود ومجوس ونصارى، وحدثت بينهم وبين هؤلاء جميعا أحاديث ومناقشات، ومحاورات تسرب إليهم في أثنائها كثرير من الفكر الأجنبي، وخاصة من شعب الفكر اليوناني في الفلسفة والمنطق، وقد أخذوا يقفون على طرق استغلال الأرض، وغير ذلك من مسائل الحياة العملية، وعاشوا في القصور، وقام الأجانب على خدمتهم، وتهيئة حياتهم المادية، واطلعوا على نظم التعليم عندهم، وما أنشأوا من مدارس، وطلب خالد بن يزيد بن معاوية أن تترجم كتب في الكيمياء2، وأمر عمر بن عبد العزيز بترجمه كتيب في الطب3. ومعنى ذلك كله أن الكتابة نمت في العصر الأموي نموا واسعا، فقد عرف العرب فكرة الكتاب، وأنه صحف يجمع بعضها إلى بعض في موضوع من الموضوعات، وقد ألفوا فعلا كتبا كثيرة، بعضها ديني خالص يتصل بمسائل الفقه والتشريع الإسلامي، بمن ذلك أننا نجد الرواة ينسبون إلى هشام بن عروة بن الزبير أنه قال: "أحرق أبي يوم الحرة كتب فقه كانت له"4، ونعرف أنه موقعة الحرة كانت لعهد يزيد بن معاوية، وقد ترك زيد بن علي مؤسس مذهب اليزيدية مختصرًا في الفقه5، ومر بنا أن المحدثين طوال القرن الأول للهجرة كانوا يختلفون فيما بينهم، منهم من يكتفي برواية الحديث، ومنهم من يدونه، حتى إذا وصلنا إلى رأس المائة أمر عمر بن عبد العزيز بتدوينه تدوينا عاما، ومن أوائل من بادروا جمعه ابن شهاب الزهري6 المتوفى سنة 124 للهجرة. وقد نشطت الكتابة التاريخية، فكتب المؤرخون في معازي الرسول عليه

_ 1 الفهرست لابن النديم "طبعة مصر" ص131. 2 الفهرست ص338. 3 تاريخ الحكماء "مختصر الزوزني" طبع ليبزج ص324. 4 طبقات ابن سعد 5/ 133. 5 راجع كلمة فقه في دائرة المعارف الإسلامية. 6 الزرقاني على موطأ "طبع المطبعة الخيرية" 1/ 10.

السلام، وعلى رأسهم أبان بن عثمان1، وعرف بن الزبير، وهو أول من صنف في تلك المغازي2، ثم الزهري3، وكلهم من المدينة، وهذا طبيعي فهي دار النبوة، وبيت السيرة الذكية، وقد أخذ بعض هؤلاء المؤرخين يتحدثون عن الخلفاء الراشدين والأمويين. وبجانب مؤرخي السيرة النبوية نجد مؤرخين من اليمن يهتمون بتاريخ موطنهم، وفي مقدمتهم عبيد بن شرية الجرهمي الذي وفد على معاوية، وأدرك خلافة عبد الملك بن مروان، وهو صاحب "كتاب الملوك، وأخبار الماضين"4 ألفه لمعاية، وطبع حديثا في الهند باسم "أخبار عبيد بن شرية الجرهمي في أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها"، ومن يطلع عليه بجد الخرافة تغلب على أخباره، وتشتهر في هذا العصر بقصاصها مثل تميم الداري، وأشهرهم وهب بن منبه الذي توفي سنة 114 للهجرة، وقد كتب كثيرًا عن عرب الجنوب كما كتب عن مغازي الرسول، وأهم من ذلك أنه عني بجمع أخبار أهل الكتاب، وما يتصل بها من الإسرائيليات5، وهو مثل عبيد في ملء كتاباته التاريخية بالخرافات، كما يلاحظ ذلك كل من يقرأ في الكتاب المنسوب إليه المسمى "كتاب التيجان في ملوك حمير". ونحن لا نصل إلى أواخر هذا العصر حتى نجد العراق تعني بهذه المادة التاريخية جميعها، كما تعني بتاريخ القبائل الشمالية، وأنسابها وأيامها، وأيضا فإنها عنيت بتاريخ الأحداث في عصر علي بن أبي طالب، ثم في عصر بني أمية، وكان مما زاد في هذه العناية، وخاصة بتاريخ العرب في الجاهلية، وأيامهم وملوكهم وأمرائهم وشعرائهم، وخطبائهم قيام علم اللغة، وتوفر أصحابه على دراسة أحوال الجاهليين، ولا نلبث أن نجد مؤرخا كبيرا في أبو مخنف6 يعنى بتأليف

_ 1 انظر ترجمة أبان في دائرة المعارف الإسلامية، وطبقات ابن سعد 5/ 112. 2 كشف الظنون "الطبعة القديمة" 5/ 646. 3 انظر ترجمة الزهري في دائرة المعارف الإسلامية. 4 الفهرست ص132. 5 كشف الظنون 5/ 40. 6 راجع ترجمة أبي مخنف في معجم الأدباء "طبعة القاهرة" 7/ 41.

كتب كثيرة يقال: إنها بلغت اثنين وثلاثين كتابا، وأكثرهم يتحدث فيه عن أحداث القرن الأول للهجرة، واحتفظ الطبري بكثير مما كتبه في تلك الأحداث. ولعل من الطريف أن نلاحظ أن هذه النزعة لكتابه التاريخ عند العرب ظهرت في ظروف مشبهة لظهورها عند اليونان، فإن من المعروف أن اليونان لم يعنوا بكتابة تاريخهم إلا بعد حروبهم مع الأمم الأجنبية وفتوحهم، وينبغي أن نعرف أن هذا النثر التاريخي عند العرب نثر عربي خالص، فهم لم يستعيروه من الأجانب، بل مثلهم فيه مثل اليونان الأقدمين في نثرهم، ونشأته في حجورهم. وليس معنى ذلك أن الكتابة التاريخية عند العرب لم تتأثر بعناصر أجنبية في هذا العصر المبكر، بل لقد أخذت تتأثر بهذه العناصر، كما مر بنا عند وهب بن منبه وأضرابه ممن كانوا يتحدثون عن الملوك الأوائل، وعن قصص الأنبياء وأخبار شعوبهم، غير أن هذه العناصر لم توجد هذه الكتابة من عدم، بل لقد وقف تأثيرها عند تنميتها، والتطور بها مع الزمن، كان موضوعها في كثير من جوانبها عربيا خالصا يتصل بسيرة الرسول، وأحداث الإسلام أو يتصل بأيام العرب في الجاهلية وأخبار قبائلهم وملوكهم، وكلما تقدمنا في الزمن اتسعت هذه العناصر الأجنبية، فشملت تاريخ الفرس، وتاريخ الأمم المفتوحة. وإذا تركنا الكتابة التاريخية إلى الرسائل، وجدناها مثل الخطابة التي عاصرتها، فقد كانت هناك رسائل سياسية تصدر عن دواوين الخلفاء والولاة، أو عن خصومهم، ورسائل اجتماعية يتبادلها الناس في أمور حياتهم الشخصية، ورسائل دينية، منها ما يأخذ شكل الموعظة، ومنها ما يأخذ شكل الحوار والجدل، حين يتعرض شخص للرد على صاحب نحلة من النحل. وقد نهضت الرسائل السياسية في هذا العصر نهضة واسعة، وهي نهضة ترد إلى سببين: أما السبب الأول فهو كثيرا ممن كانوا يكتبونها يعدون في الذروة من الفصاحة، والبيان لهذا العصر أمثال زياد والحجاج، وقطري بن

الفجاءة والمختار الثقفي، وأما السبب الثاني فقيام ديوان الرسائل، وظهور طبقة من الكتاب المحترفين في هذا الديوان، لا في دواوين الخلفاء وحدهم، بل أيضا في دواوين الولاة، وكان قادة الجيوش أيضا يتخذونهم، ليراسلوا عنهم من يريدون مراسلته، ومعروف أن ديوان الخراج كان يقوم عليه في أول الأمر كتاب من الأجانب، يكتبون فيه بلغاتهم الأصلية، حتى إذا كان عصر عبد الملك نقل هذا الديوان إلى العربية، فأصبح الشأن فيه كالشأن في ديوان الرسائل يليه العرب، ولم يلبث الأجانب أن سعوا إلى تعلم العربية، وشاركوا في ديوان الرسائل نفسه. ويقدم لنا كتاب الوزراء، والكتاب للجهشياري أثباتا طويلة بأسماء من كانوا يلون الديوانين: ديوان الرسائل وديوان الخراج، وهي أثبات تدل دلالة قاطعة على أن من نهضوا بالكتابة السياسية في هذا العصر إنما هم العرب، وظلوا على ذلك طويلا، حتى أوشك القرن الأول للهجرة على الزوال، فشاركهم الأجانب مشاركة بدت قاصرة في أول الأمر، حتى إذا كان عصر هشام بن عبد الملك "104-124هـ"، وجدنا على ديوانه مولى كان يحسن اليونانية، وينقل عنها بعض رسائل وهو سالم، الذي تخرج على يديه عبد الحميد الكاتب الفارسي الأصل. ومعنى ذلك أن كتابة الرسائل السياسية الرسمية نشأت في حجر العرب، ونمت تحت أيديهم، فقد أخذت في الظهور منذ صدر الإسلام، ومنذ أن جدت تلك المشكلات التي اقتضت أن يكتب فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه، وبمضي الزمن أخذت مشاكل الدولة في التعقد، كما أخذ العقل العرب ينمو ويرقى، فنمت ورقيت معه تلك الصناعة، وتوفر عليها جماعة من بلغاء الخطباء، كما توفرت عليها جماعة من الكتاب المحترفين الذين توظفهم الدولة للعناية بها، وحقا يقال: إن العرب استعاروا نظم الدواوين من لدن الفرس1،

_ 1 الوزراء والكتاب للجهشياري ص2، وما بعدها.

ولكن الفرس مثلهم مثل غيرهم من الموالي لم يوجدوا لهم هذا الفن من كتابة الرسائل السياسية، إنما أوجدته حياتهم وضروراتها السياسية والإدارية، ومن هنا كنا نرفض رفضا باتا رأي بعض المستشرقين الذين يزعمون أن العرب استعاروا كتابتهم السياسية الفنية، أو نثرهم السياسي الفني من لدن الفرس1، فالعرب لم يستعيروا من الفرس، ولا من غيرهم نثرهم كما أنهم لم يستعيروا منهم، ولا من غيرهم شعرهم، وكل ما يمكن أن يلاحظ أنهم أخذوا مع الزمن يتأثرون في نثرهم وشعرهم جميعا بالأجانب من الفرس وغير الفرس، وتم ذلك بحكم التطور واشتراك هؤلاء الأجانب معهم في أدبهم، وما كان من نقل ثقافاتهم إلى العربية. ونحن لا نغلو الذي جعل بعض المعاصرين يذهب إلى أن العرب عرفوا الكتابة الفنية، أو النثر الفني منذ العصر الجاهلي2، فما تحت أيدينا من وثائق ونصوص حسية لا يؤيد ذلك إلا إذا اعتمدنا على الفرض والظن، والحق أن ما تحت أيدينا من النصوص الوثيقة يجعلنا نقف في مرحلة وسطى بين الرأيين، فلا نتأخر بنشأة الكتابة الفنية عند العرب إلى العصر العباسي عصر التأثر الواضح بالفرس، لا نتقدم بها إلى العصر الجاهلي، بل نضعها في مكانها الصحيح الذي تؤيده المستندات والوثائق، وهو العصر الإسلامي، حيث أخذت في الظهور منذ صدره، كما أخذت في النمو والازدهار كلما تقدمنا مع الزمن، وإذا كان للفرس أو لغيرهم من الموالي فيها من فضل، فهو فضل المشاركة في النمو بها، بالضبط على نحو ما صنعوا بالشعر في العصر العباسي، ولعل من المهم أن نعرف فأن العرب لم يأخذوا عن الفرس فلسفة، ولا نحتا ولا تصويرا، ولا شعرا ولا أي فن من الفنون. وعلى نحو ما نشأت الكتابة السياسية الرسمية، ونمت نشأت الكتابة الاجتماعية، أو الشخصية وأخذت في النمو منذ عصر الفتوح، فإن تفرق العرب في البلدان

_ 1 انظر النثر الفني لزكي مبارك 1/ 34، 1/ 43، وراجع بحثا لمرسيه نشره في: Revue Africaine, Nos. 330, 331 "ler., 2 me. trimestres, 1927". 2 النثر الفني 1/ 33-43.

الإسلامية دفعهم دفعا إلى أن يتكاتبوا في مهامهم، وشئونهم الشخصية وفي التهاني والتعزية وفي العظة والعبرة1، ومن غير شك كثر ذلك مع مر الزمن، وإن كانت الكتب الأدبية، والتاريخية لم تعن بتلك المكاتبات قدر عنايتها وبالوسائل السياسية؛ لأنها في الغالب لا يتعلق بها تاريخ، وأيضا فإن أصحابها لم يكونوا يقرءونها في الناس، ولا كانوا يسجلونها، ومع ذلك نجد آثارا منها، يرجع بعضها إلى صدر الإسلام، وبعض آخر يرجع إلى عصر بني أمية، وربما كان أبرز كتابها عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر. أما الكتابة الدينية، فقد أصابها ما أصاب الخطابة الدينية من الرقي والازدهار، لسبب بسيط، وهو أن كتابها كانوا هم أنفسهم الذين مرنوا على الخطابة والجدال، والحوار في المسائل الدينية والمذهبية، فأضفوا على كتابتهم نفس الصورة البيانية التي أضفوها على خطابتهم، مما نجده ماثلا في كتابات الحسن البصري، وغيلان الدمشقي وغيرهما من الوعاظ، وأصحاب النحل الذين نهضوا بتمرين اللغة العربية على كثير من المعاني الدقيقة موازيين بين معانيهم، وبين ألفاظهم، وما تحتاجه لتأثيرها على وجدان السامع، والقارئ من حلاوة وعذوبة.

_ 1 انظر رسالتين متبادلتين الصحابيين: أبي الدرداء، وسلمان الفارسي في العقد الفريد 3/ 150.

الصنعة في الكتابة الأموية

7- الصنعة في الكتابة الأموية: رأينا الكتابة في العصر الأموي تعالج موضوعات علمية وتاريخية، كما تعالج رسائل سياسية واجتماعية ودينية، وليس بين أيدينا وثائق صحيحة تصور كيف كانوا يعالجون مسائل العلم والتاريخ، وحقا مر بنا أنه طبع لعبيد بين شرية كتاب في أخبار اليمن كما طبع لوهب بن منبه كتابه التيجان في ملوك حمير. ولكن الكتابين جميعا مشكوك في صحة نسبتهما إليهما، وربما كان أصح منها وأونق ما احتفظ به الطبري في تاريخه الكبير. على أن من يرجع إلى ما رواه عن مؤرخي تلك الفترة يلاحظ أن الكتابة التاريخية كانت لا تزال في أول نشأتها، وأنها لم تتطور بالسرعة التي تطورت بها الرسائل السياسية والدينية. ومن يقرأ ما أثر من رسائل سياسية لهذا العصر يستطيع أن يلاحظ في وضوح، أنها كانت تجري أول الأمر في الصورة التي كانت تجري فيها لعهد صدر الإسلام، فكاتبها أو ممليها لا يتأنق فيها، ولا يقصد إلى تفنن أو زخرف فني خاص، إنما يقصد إلى أداء غرضه في عبارة جزلة مصقولة يغلب عليها الإيجاز. غير أننا لا نكاذ نتجاوز منتصف القرن الأول للهجرة، حتى تتكامل الرغبات للعناية بتلك الرسائل عناية توفر لها ضروبًا من التجويد والجمال الفني، وكأنما لم تعد الغاية أن تؤدي أغراضها فحسب، بل أضيف إلى ذلك غاية أخرى أن تروع القارئين، والسامعين بتحبيرها وتنميقها، وكأنها قطعة موسيقية أو لوحات تصويرية، ولم يقفوا بذلك عند ظاهرها، فقد أخذوا ينوعون في معانيها ويفرعون، ويطنبون صورا مختلفة من الإطناب، وسرعان ما نسمع أن عمرو بن نافع كتاب عبيد الله بن زياد، والي العراق "60-64هـ" كان يطيل في رسائله طولا شديدا1. وظاهرة الطول ظاهرة جديدة لم يكن يعرفها العرب في أدبهم إذ كانوا يوجزون قبل عصر عبيد الله بن زياد في شعرهم ونثرهم جميعا، أما منذ هذا العصر، فقد استمرت ظاهرة الإيجاز في الشعر، بينما حلت محلها ظاهرة معاكسة في النثر، وهي ظاهرة لا شك في أنها وليدة التطور العقلي الذي أصابه العرب، فإذا هم يستطيعون أن يبسطوا آراءهم السياسية، وأن يفضلوا في معانيها ضروبا مختلفة من التفصيل. وإذا مضينا إلى عصر الحجاج، وأغفلنا النظر عن طول الرسائل السياسية، وما يطوى فيه من صنعة في بسط التعبير ومده، ونظرنا في الصياغة والأسلوب

_ 1 تاريخ الطبري، القسم الثاني ص270.

لاحظنا أن بعض هذه الرسائل كان يعتمد على السجع، فكان الحجاج نفسه يسجع أحيانا كما كان يسجع بعض من يكاتبونه، ومن خير ما يصور ذلك رسالتان احتفظ بهما الجاحظ في بيانه، وهما يتبادلتان بينه، وبين قطري بن الفجاءة، وقد بنيتا على السجع الخالص1، وحقا نجد المختار الثقفي يسجع في رسائله2، ولكنه كان يبدوا شاذا بعض الشيء في هذا الاتجاه، أما في عصر الحجاج، فيظهر أن كثيرًا من الكتاب كان يبني كتابته عليه، ولعل مما يدل على ذلك أن نجد ابن الأشعث حين ثار على الحجاج، وأعد جيشا لحربه، يقول لكتابه ابن القرية: "إني أريد أن أكتب إلى الحجاج كتابا مسجعا أعرفه فيه سوء فعاله، وأبصره قبح سريرته"، ويصدع ابن القرية بأمره، ويرد عليه الحجاج برسالة مسجوعة أيضا3، وقد لا يسجع الكاتب، ولكنه لا يزال يفكر في طريقة يلفت بها القارئ والسامع، فقد حدثنا الرواة أن يزيد بن المهلب في أثناء بعض حروبه، فكر أن يكتب إلى الحجاج كتابًا، وكان يكتب له يحيى بن يعمر، وهو عربي، ومن أوائل من عنوا بوضع قواعد العربية4، فلما أمره يزيد بالكتابة إلى الحجاج، وأن يعلمه بما صنعوا في الحرب كتب إليه هذه الرسالة القصيرة5: "إنا لقينا العدو، فمنحنا الله أكتافهم، فقتلنا طائفة وأسرنا طائفة، ولحقت طائفة برءوس الجبال وعرائر6 الأودية وأهضام7 الغيطان، وبتنا بعرعرة8 الجبل، وبات العدو بحضيضه". ولما قرأ الحجاج الرسالة أعجب بها إعجابا شديدا، وأرسل إلى يحيى يطلبه على البريد، فما جاءه سأله: من أين لك هذه الفصاحة؟ وهي فصاحة

_ 1 البيان والتبيين 2/ 310. 2 انظر الطبري في سنة 66هـ. 3 الأخبار الطوال الدينوري "طبع ليدن" ص323. 4 أخبار النحويين البصريين للسيرافي "طبعة كرنكو" ص22. 5 البيان والتبيين 1/ 377. 6 عرائر الأودية: أسافلها. 7 أهضام الغيطان: مداخلها. 8 عرعرة الجبل: أعلاه.

كانت تعتمد على اللفظ الغريب، ونحن لا نثني على الإغراب في الألفاظ، ولكنا نستدل من هذه الرسالة الموجزة على أن الكتاب في عصر الحجاج، كانوا لايزالون يفكرون في صنعة أساليبهم، فتارة يعمدون فيها إلى السجع، وتارة يعمدون فيها إلى الإغراب اللفظي، فالكاتب لا يفكر في أداء معانيه فحسب، بل يفكر في تنميقها، وتزيينها بضروب من الحلية، كل حسب ذوقه، وكان يحيى بن يعمر لغويا، وكان ذوقه ذوق لغويين، فعمد إلى ألفاظ غير مألوفة كي يروع الحجاج، ويملك عليه لبه، ونفذ فعلا إلى ما أراده، إذ كان لحجاج يمل أحيانا إلى التفاصح بالغريب، على نحو ما مر بنا في خطبته بالكوفة اليت بدأها بأرجاز تزخر باللفظ الحوشي. ولم يكن الحجاج يعمد إلى السجع في كتبه وسائله دائما، بل لعل ذلك إنما كان في القلة وفي الحين بعد الحين، أما الكثرة فتخلو من السجع. وليس معنى هذا أنه كان يتخلص من محاولة التأنق والتنميق، فقد كان يسعى إلى تحقيق ذلك دائما، وكان يتخذ إليه الإغراب في اللفظ حينا، وحينا يتخذ ما سبق أن لاحظناه في خطابته من الصور والاستعارات الطريفة، ومن خير ما يصور ذلك عنده ما رواه الجاحظ في خاتمة بيانه من أنه كتب إلى عبد الملك بهذه الرسالة1: "أما بعد فإنا نخبر أمير المؤمنين أنه لم يصب أرضنا وابل2 منذ كتبت أخبره عن سقيا الله إيانا، إلا ما بل وجه الأرض من الطش، والرش والرذاذ3، حتى دقعت4 الأرض واقشعرت5 واغبرت6، وثارت في نواحيها أعاصير تذرو7 دقائق الأرض من ترابها، وأمسك الفلاحون بأيديهم من شدة الأرض واعتزازها8، وامتناعها، وأرضنا أرض سريع تغيرها، وشيك تنكرها، سيئ ظن

_ 1 البيان والتبيين 4/ 99. 2 وابل: مطر شديد. 3 الطش: المطر القليل: ونحوه الرش والرذاذ. 4 دقعت الأرض: أصبحت لا نبات فيها. 5 اقشعرت: تقبضت من الجدب. 6 اغبرت: من الغبار. 7 تذرو: تسفي وتحمل. 8 اعتزازها: امتناعها، أو لعله من العزاز، وهي الأرض الصلبة.

أهلها عند قحوط المطر، حتى أرسل الله بالقبول1 يوم الجمعة، فأثارت زبرجا2 متقطعا متمصرا3، ثم أعقبته الشمال4 يوم السبت، فطحطحت5 عنه جهامه6. وألفت متقطعة، وجمعت متمصره، حتى انتضد7، فاستوى، وطما وطحا8، وكان9 جونا10 مرثعنا11 قريبا رواعده، ثم عادت عوائده بوابل منهمل منسجل12، يردف13 بعضه بعضًا، كلما أردف شؤبوت أردفته شآبيب14 بشدة وقعة في العراض15. وكتبت إلى أمير المؤمنين، وهي ترمي بمثل قطع القطن، قد ملأ اليباب16، وسد الشعاب17، وسقى منها كل ساق، فالحمد لله أنزل غيثه، ونشر رحمته من بعدها قنطوا18، وهو الولي الحميد. والسلام". وواضح أن هذه الرسالة ليست مسجوعة، ولكنها مع ذلك قد أحكمت صنعتها، سواء من حيث اختيار ألفاظها، والذهاب بها مذهب الغريب المقبول، أو من حيث دقتها في تصوير الجذب ثم نزول الغيث، وهو تصوير لا شك قد فكر فيه الحجاج طويلا، قبل أن يحكمه ويضبط التشبيهات، والاستعارات التي تمثله. وكأن شاعر يجمع أشتات خياله، ليؤلف هذه اللوحة البديعة. ولم تبلغ صنعة الرسائل هذا المبلغ من الإتقان عند الحجاج وحده، فقد كان يشركه في ذلك معاصروه من الولاة والقواد وكتابهما، بل من الخلفاء

_ 1 القبول: الريح الشرقية. 2 الزبرج: السحاب الرقيق الخفيف. 3 متمصرا: متقطعًا. 4 الشمال: الريح الشمالية. 5 طحطحت: فرقت وبددت. 6 الجهام: السحاب لا ماء فيه. 7 انتضد: تراكمت طبقاته بعضها فوق بعض. 8 طما: امتلأ وزخر، وطحا: انبسط وملأ الجو. 9 كان هنا بمعنى صار. 10 الجون: الأسود. 11 مرثعنا: مسترسلا سائلا. 12 منسجل: منصب. 13 يردف: يتبع. 14 الشآبيب: جمع شؤبوب، وهو الدفعة من المطر. 15 العراض: جمع عرض بضم العين، وهو الناحية. 16 اليباب: الخالي الذي لا شيء فيه. 17 الشعاب: المسالك والسبل. 18 قنطوا: يئسوا.

أنفسهم، فقد روى الجاحظ في بيانه رسالتين متبادلتين بين عبد الملك بن مروان، وعمرو بن سعيد بن العاص حين ثار عليه، وليستا مسجوعتين، ولكن أثر الصنعة والتأنق باد عليهما1، ومعنى ذلك كله أن الكتاب أصبحوا منذ هذه الحقبة من العصر يتفننون في رسائلهم، ويحاولون جاهدين أن تلمع عليها آثاره من الجمال الفني. وإذا مضينا إلى أوائل القرن الثاني للهجرة، وإلى عصر هشام بن عبد الملك "104-124هـ"، وجدنا على رأس ديوانه مولى له يسمى سالما2 ينهض بكتابة هذه الرسائل السياسية نهضة واسعة، وكان يعرف اليونانية، وترجم منها بعض رسائل لأرسطاطاليس3، وعده صاحب الفهرست أحد البلغاء العشرة الأوَل في تاريخ العرب وأدبهم4، ويقول: إن له رسائل تبلغ نحو مائة ورقة5، غير أن هذه الرسائل لم تصلنا، ولولا أن الطبري احتفظ لنا برسالة كتبها عن هشام إلى خالد القسري6 لم نكد نعرف شيئا واضحا عن فنه وبيانه، ومن يرجع إليها يلاحظ أنه عني بأسلوبه عناية تشبه عناية الوعاظ من أمثال الحسن البصري بأسلوبهم، وما كانوا يوفرون له من الازدواج والترادف الصوتي، وكان يتكئ على الحال اتكاء شديدًا في صياغته. وليس تحت أيدينا من النصوص ما نستطيع به أن نحكم على مدى التأثير اليوناني في كتابه سالم، وإن كان يظن أن هذا التأثير كان عميقًا، وقد تخرج عليه عبد الحميد أنه كتاب العصر وأشهرهم، وسنعرض له عما قليل، على أنه ينبغي أن نلاحظ هنا شيئا مهما، وهو أن التأثير الأجنبي في الكتابة العربية الفنية لم يدخل أول الأمر عن طريق الفهرس، وكاتبهم ابن المقفع، مما جعل بعض المستشرقين يزعم أنهم هم الذين أعاروا العرب هذا الفن النثري، بل لقد دخل كما نرى الآن عن طريق سالم الذي كان يحذق اليونانية، ولعل في ذلك ما يدل

_ 1 البيان والتبيين 4/ 87. 2 الوزراء والكتاب للجهشياري ص62. 3 الفهرست ص171. 4 الفهرست ص182. 5 الفهرست ص171. 6 الطبري، القسم الثاني ص 1642.

على ما نذهب إليه من أن الكتابة الرسمية الفنية عند العرب لم تأتهم من الخارج، فقد نشأت في حجورهم بحكم حياتهم الإسلامية والسياسية الجديدة ومشاكلها المختلفة، فالأجانب لم يبتكروها لهم، بل كل ما هنالك أنهم أسهموا معهم فيها، وتأخر هذا الإسهام إلى أن أظهر سالم وأشباهه. ولم تكن الرسائل السياسية وحدها هي التي يطرد لها النمو والازدهار، بل شاركتها في ذلك الرسائل الاجتماعية أو الشخصية، لسبب بسيط، وهو أن من كانوا يكتبونها كانوا يعيشون في تلك الحقب التي أخذ البلغاء يهتمون فيها بتنميق أساليبهم، وإبداعها ضروبا من البيان والفصاحة، ونسوق مثلا لها رسالة عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر إلى رجل من إخوانه1: "أما بعد فقد عاقني الشك في أمرك عن عزيمة الرأي فيك، ابتدأتني بلطف عن غير خبرة، ثم أعقبتني جفاء عن غير ذنب، فأطعمني أولك في إخائك، وأبأسني آخرك من وفائك، فلا أنا في اليوم مجمع لك اطراحًا، ولا أنا في غد وانتظاره منك على ثقة، فسبحان من لو شاء كشف بإيضاح الرأي في أمرك عن عزيمة فيك، فأقمنا على ائتلاف، أو افترقنا على اختلاف، والسلام". والرسالة على قصرها يتضح فيها جهد كتابها في تحبيرها، فقد بناها على الطباق والمقابلة بين المعاني والألفاظ، والتوازن بين العبارات والكلمات الفصيحة ذات المخارج الحسنة، وكان شرعا بينا وخطيبا لسنا، فأضفى من لسنه وبيانه على رسالته. وإذا تركنا الرسائل الاجتماعية الشخصية، والسياسية الرسمية إلى الرسائل الدينية والجدلية، وجدنا أصحابها هم أنفسهم أرباب البيان والبلاغة من الخطباء المفوهين أمثال الحسن البصري، وغيلان الدمشقي. وكانت هذه الرسائل تستخدم الأسلوب المزدوج الذي أخذ بأطراف من التصوير والطباق، والذي سبق أن لاحظناه في خطابة الحسن البصري

_ 1 البيان والتبيين 2/ 84-85، وزهر الآداب 1/ 78.

وأضرابه، ونسوق مثالين منه، أما أولهما فما كتب به الحسن إلى عمر بن عبد العزيز في صفة الإمام العادل، وهو يطرد على هذه الشاكلة1: "اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفه كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله، الرفيق بها، الذي يرتاد لها أطيب المراعي، ويذودها عن مراتع الهلكة ويحميها من السباع، ويكنفها من أذى الحر والقر2. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده، يسعى لهم صغارًا ويعلمهم كبارًا، يكتسب لهم في حياته، ويدخر لهم بعد مماته، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البرة بولدها، حملته كراها، ووضعته كراها، وربته طفلا، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة، وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتم بشكايته ... ". وتحمل هذه القطعة من الرسالة كل الخصائص التي سبق أن تحدثنا عنها في خطابة الحسن، ففيها الازدواج والترادف الصوتي والتكرار، وفيها التقابل والطباق والتشبيهات، وغير ذلك من حلي بيانية، وقد مضى الحسن يقتبس فيها من آي الذكر الحكيم ما يصور به فكره ويوشي به تعبيره، أما المثال الثاني فنسوقه من رسائل غيلان الدمشقي، إذ يقول3: "إن التراجع في المواعظ يوشك أن يذهب يومها، ويأتي يوم الصاخة4، كل الخلق يومئذ مصيخ5، يستمع ما يقال له ويقضى عليه "وخشعت الأصوات للرحمن، فلا تسمع إلا همسا"، فاصمت اليوم عما يصمتك يومئذ، وتعلم ذلك حتى تعلمه، وابتغه حتى تجده، وبادر قبل أن تفجأك دعوة

_ 1 العقد الفريد 1/ 34. 2 القر: البرد. 3 عيون الأخبار 2/ 245. 4 يوم الصاخة: يوم القيامة. 5 مصيخ: مرهف أذنه وسمعه.

الموت، فإنها عنيفة إلا بمن رحم الله، ويا رب متعبد لله بلسانه معاد له بفعله، ذلول في الانسياق إلا عذاب السعير في أمنية أضغاث1 أحلام يعبرها بالأماني والظنون، فاعرف نفسك". وهذه القطعة بدورها ترينا مدى احتفال الوعاظ برسائلهم، وما كانوا يؤدون فيها من ضروب الجمال الفني، ويقول صاحب الفهرست: إن رسائله كانت في ألفي ورقة2. ولا نرتاب في أن هذه الرسائل، وما يماثلها من مواعظ الحسن البصري، وأضرابه هي التي استعار منها سالم، وتلميذه عبد الحميد أسلوبهما الكتابي في الرسائل السياسية، فإننا نجدهما يكتبان من نفس النمط ونفس النموذج، وهو النموذج الذي شاع طوال القرن الثاني بين الكتاب العباسيين، وعلى رأسهم الجاحظ، ونقف قليلا لنتحدث عن عبد الحميد الكاتب في إيجاز.

_ 1 أضغاث: أخلاط. 2 الفهرست ص 171.

عبد الحميد الكاتب وخصائصه الفنية

8- عبد الحميد الكاتب، وخصائصه الفنية: هو، عبد الحميد بن يحيى مولى العلاء بن وهب القرشي، ويقول من كتبوا عنه: إنه يرجع إلى أصول فارسية1، وإنه كان من أهل الأنبار وسكن الرقة2، وكان في أول أمره يتنقل في البلدان معلما في الكتاتيب3، ثم التحق بديوان الرسائل في دمشق لعهد هشام بن عبد الملك، حيث خرجه ختنه سالم مولى مولى هشام، ورئيس هذا الديوان4. واتصل بمروان بن محمد، وكتب له أيام كان

_ 1 المسالك، والممالك للإصطخري "طبعة ليدن" ص 145. 2 وفيات الأعيان لابن خلكان "طبعة المطبعة الميمنية 12/ 307". 3 نفس المصدر 1/ 307، والفهرست 170. 4 وفيات الأعيان 1/ 307، والوزراء والكتاب ص62.

واليا، فلما صارت إليه الخلافة أقامه على ديوانه، فنهض بالعمل فيه خير نهوض. ولما دارت الدوائر على مروان، وانتصرت عليه الجيوش العباسية بقيادة أبي مسلم الخراساني في موقعه الزاب ظل مخلصا له وفيا، ففر معه إلى مصر حيث قتلا في موقعه بوصير1، ويروي المسعودي أن مروان قال له حين أيقن بزوال ملكه: قد احتجت أن تصير مع عدوي وتظهر الغدر بي، فإن إعجابهم بأدبك وحاجتهم إلى كتابتك يدعوانهم إل حسن الظن بك، فإن استطعت أن تنفعني حياتي صنعت، وإلا لم تعجز عن حفظ حرمي بعد وفاتي، فقال له عبد الحميد: إن الذي أشرت به علي أنفع الأمرين بك وأقبحهما بي، وما عندي إلا الصبر، حتى يفتح الله أو أقتل معك، وأنشد: أسر وفاء ثم أظهر غدرة ... فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره2 وفي ابن خلكان رواية أخرى تزعم أن عبد الحميد اختفى بعد مقتل مروان في الجزيرة، فوقف عليه السفاح، وعذبه حتى مات3، ويروي الجهشياري أنه اختفى عند ابن المقفع ففاجأهما الطلب، وأخذ عبد الحميد4، والصحيح ما ذكرناه أولا من أنه قتل في بوصير مع مروان. وعبد الحميد أبلغ كتاب الدواوين في العصر الأموي وأشهرهم، وقد ضربت ببلاغته الأمثال، فقيل: فتحت الرسائل بعبد الحميد، وختمت بابن العميد5، ويقول ابن النديم: "عنه أخذ المترسلون، ولطريقته لزموا، وهو الذي سهل سبيل البلاغة في الترسل"6، ويزعم المسعودي أنه أول من استخدم التحميدات

_ 1 وفيات الأعيان 1/ 307. 2 مروج الذهب للمسعودي "طبعة دار الرجاء" 3/ 178، والوزراء والكتاب ص79، وعيون الأخبار 1/ 26. 3 وفيات الأعيان، وانظر الوزراء والكتاب ص79. 4 الوزراء والكتاب ص80. 5 اليتيمة للثعالبي "طبعة الصاوي" 3/ 137. 6 الفهرست ص170.

في فصول الكتب1، والحق أنه القمة التي وصلت إليها الكتابة الفنية في العصر الأموي، إذ كان زعيم البلغاء في عصره غير مدافع، وقد بقيت منثورات من رسائله تشهد بفصاحته ولسنه، ومقدرته على التعبير والبيان مع الفخامة والطلاوة، من ذلك رسالة وجهها إلى عمال مروان بن محمد بالأمصار يأمرهم بمحاربة لعبة الشطرنج، ورسالة ثانية يصف فيها رحلة صيد وقد تأثر فيها تأثرا شديدا بوصف شعراء الجاهلية للصيد وكلابه وجوارحه، ورسالة ثالثة تقدم بها إلى الكتاب2، ضمنها وصايا مختلفة لهم، وهي تدل على نمو طبقتهم وأنهم أصبحوا يؤلفون جماعة بارزة في حياة الدولة، ووظائفها وأعمالها المتنوعة. ونراه يستهلها بأن صناعتهم أشرف الصناعات، إذ بهم ينتظم الملك وبتدبيرهم وسياستهم يستقيم الحكم، وينصحهم أن يتحلوا بخلال الخير وخصال الفضل، ويخوض فيما ينبغي أن يتقنوه من صنوف المعرفة والثقافة، يقول: "فنافسوا معشر الكتاب في صنوف العلم والأدب، وتفقهوا في الدين، وأبدءوا يعلم كتاب الله عز وجل والفرائض، ثم العربية فإنها ثقات ألسنتكم، وأجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم، وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم وأحاديثها، وسيرها، فإن ذلك معين على ما تسمون إليه بهممكم، ولا يضعفن نظركم في الحساب، فإنه قوام كتاب الخراج منكم". وفي ذلك الدلالة البينة على أن الكاتب في عصر عبد الحميد، كأن لا يستطيع أن يحسن وظيفة الكتابة إلا إذا ألم بالثقافة الإسلامية، وثقافة العرب الأدبية من خطابة وغير خطابة، ومن أيام وغير أيام، وأخبار الأمم الأجنبية ومعارفها، ولا بد أن يعرف الحساب، وأن يروي الأشعار ويقف على غريبها ومعانيها، فيفيد منها كما أفاد عبد الحميد نفسه في رسالة الصيد إذ نثر فيها كثيرًا من معاني الشعر القديم، فالكتابة لم تعد عملا سهلا بسيطا، بل أصبحت عملا معقدا، لا بد فيه من إعداد ومن تثقف تام بالقرآن الكريم، وأوامر الشريعة وبالأدب العربي

_ 1 مروج الذهب 3/ 178. 2 الوزراء والكتاب ص73، وما بعدها.

وكنوزه النثرية والشعرية والآداب الأجنبية، وليس هذا كل ما يلفتنا في الرسالة، فقد تحدث عبد الحميد طويلًا عما ينبغي أن يأخذ به الكاتب نفسه في سياسة الناس وتدبير شئونهم، كما تحدث عما يمكن أن نسميه آداب اللياقة بالقياس إلى الخلفاء، والرسالة في مجموعها تتصل مباشرة بما أثر من وصايا ملوك الفرس لكتابهم، مما رواه الجهشياري في مقدمة كتابه الوزراء والكتاب، ولذلك كنا نظن ظنا أن عبد الحميد يتأثر فيها بتلك الوصايا، ولعل هذا هو الذي جعل صاحب الصناعتين يزعم أنه "استخرج أمثلة الكتابة التي رسمها لمن بعده من اللسان الفارسي، فحولها إلى اللسان العربي"1، ونص الجاحظ في بيانه على أنه ترجم بعض كتب من الفارسية2، ولا بد أن تكون هذه الكتب متصلة بعمله من الكتابة الأدبية، وربما كان من أطراف ما نقرؤه في رسالته إلى الكتاب الآنفة الذكر أننا نراه يدعوهم إلى تأليف ما يشبه النقابة في عصرنا، فقد طلب إليهم أن يعطفوا على من ينبو به الزمان منهم، وأن يواسوه، حتى يرجع إليه حاله ويثوب أمره، والرسالة بذلك دستور واسع للكتاب يصور واجباتهم الخلقية والثقافية، وعلى هديها كتبت فيما بعد كتب أدب الكاتب، والكتاب لابن قتيبة والصولي وغيرهما. وربما كانت أهم رسالة سياسية وصلتنا عنه رسالته التي بعث بها عن مروان بن محمد إلى ابنه، وولي عهده عبد الله حين وجهه لمحاربة الضحاك بن قيس الشيباني الخارجي، الذي ثار في العراق، وامتدت ثورته إلى الموصل عام 128 للهجرة، وهي رسالة كبيرة، وكأن عبد الحميد أراد بها أن يضع دستورًا لتنظيم قواد الدولة لجيوشهم من الوجهتين: المادية والحربية، والرسالة تقع في نحو أربعين صحيفة، فهي أطول رسالة أثرت عن عصر بني أمية، إذ امتد فيها نفس عبد الحميد إلى كثرة واسعة من الصحف، فصل فيها الحديث عن آداب القادة وتصريفهم للمسائل الحربية، وأطال في بيان ذلك، حتى غدت

_ 1 الصناعتين لأبي هلال العسكري "طبعة الحلبي" ص 69. 2 البيان والتبيين 3/ 29.

الرسالة أشبه ما تكون بكتاب مستقل. وهذا الطول المسرف في الرسالة جعل خصائص عبد الحميد في فنه الكتابي تبدو واضحة تمام الوضوح، إذ نرى الخاصة من خصائصه تنبسط تحت عين القارئ انبساطا واسعا، وقد قسمها ثلاثة أقسام كبيرة قسم يصور القائد، وما ينبغي أن يكون عليه من آداب في سلوكه مع نفسه، ثم مع حاشيته ورؤساء جيشه، وأثر الثقافة الفارسية، وما عرف عن آداب الفرس في الملك والسياسة بين في هذا القسم، أما القسم الثاني فخاص بسياسة القائد لجيشه، وما ينبغي أن يتخذ فيه من شرطة وقضاة ورجال مال، وأما القسم الثالث فقد تحدث فيه عن التنظم الداخلي للجيش، وكيفية إعداده في وحدات كل وحدة مائة، وهو نفس النظام الحربي الذي كان متبعا عند البيزنطيين، مما يجعل طه حسين يظن أن عبد الحميد يتأثر في هذا النظام برسائل الحرب عند اليونان، وذهب يلتمس صلة عبد الحميد بالثقافة اليونانية في تقسيم كلامه عند اليونان، وذهب يلتمس صلة عبد الحميد بالثقافة اليونانية في تقسيم كلامه إلى فصول بحيث يؤدي كل فصل فكرة تامة، وهي خاصة في رأيه من خصائص النثر اليوناني القديم، وأيضًا فإنه وجده يستخدم الحال استخدامًا مسرفًا، على شاكلة استخدام اليونان له، يقول: "وهو لا يقتصد في استعمال الحال، وإنما هو يعتمد عليها في تحديد فكرته وتوضيحها، وتقييدها وتجميل الكلام، وإظهار الموسيقى"1. وأغلب الظن أن عبد الحميد في ذلك كله إنما كان يقلد أستاذه سالما في كتابته. فصلة سالم باليونانية مقررة، ومر بنا أنه كان يسرف في استخدام الحال كما تشهد بذلك إحدى رسائله، وقد أثرت عن ابنه عبد الله رسالة2 تسرف أيضا في استخدام الحال، وكأنها كانت لازمة من لوازم سالم، وتأثر به فيها تلميذان له، أحدهما من بيته وهو ابنه عبد الله وثانيهما من غير بيته، وهو عبد الحميد. أما مسألة تنظيم الجيوش إلى وحدات كل وحدة مائة، فلعل عبد الحميد عرفها كما عرفها معاصروه عن طريق ما كانت تتبعه الجيوش البيزنطية في عصره

_ 1 من حديث الشعر، والنثر لطه حسين ص40، وما بعدها. 2 الكامل للمبرد ص793.

في عصره من تنظيم حربي، وكانت الحرب قائمة بينهم، وبين العرب لا يهدأ أوارها. ونحن نقف في منزلة وسطى بين طه حسين، ومن كتبوا عن عبد الحميد من القدماء، فقد أجمعوا على أنه كان فارسيا، وأنه نقل عن الفرص بعض رسائل أدبية، وإذا فهو في نثره يتأثر الفرس تأثرا مباشرا لا شك فيه، أما تأثره باليونان فلعله جاءه عن طريق أستاذه سالم الذي كان يحذق اليونانية، وهي تظهر عنده في التزامه المنطق الدقيق في تقسيم كلامه إلى أجزاء متميزة وفقر متناسقة، لا يظهر فيها أي نبو، ولا يداخلها أدنى شيء من استطراد أو تشعث، وفي رأينا أن سالما هو الذي اتبع ذلك أولا في رسائله بحكم ثقافته اليونانية، ثم حاكاه تلميذه، كما حاكاه في لازمة الحال، وفي أسلوبه الموسيقي الذي يقوم على الازدواج والترادف الصوتي، وهو أسلوب سبق إليه الوعاظ من أمثال غيلان الدمشقي، والحسن البصري، ونقله عنهم سالم في كتاباته، وجاراه تلميذه عبد الحميد فيه، حتى أوفى به على غايته، فبهر معاصريه ومن خلفوهم، وانظر إليه يقول في مطلع هذه الرسالة السياسية الطويلة1: "اعلم أن للحكمة مسالك تفضي مضايق أوائلها بمن أمها سالكا، وركب أخطارها قاصدًا، إلى سعة عاقبها، وأمن سرحها2، وشرف عزها، وأنها لا تعار بسخف الخفية ولا تنشأ بتفريط الغفلة.. واعلم أن احتواءك على ذلك وسبقك إليه بإخلاص تقوى الله في جميع أمورك موثرا بها، وإضمار طاعته منطويا عليها، وإعظام ما أنعم الله به عليك شاكرًا له، مرتبطا فيه بحسن الحياطة له، والذب عنه من أن تدخلك منه سآمة ملال، أو غفلة ضياع أو سنة تهاون، أو جهالة معرفة، فإن ذلك أحق ما بدئ به ونظر فيه معتمدا عليه بالقوة والآلة والعدة، والانفراد به من الأصحاب والحامة، فتمسك به لاجئا إليه، واعتمد عليه مؤثرا له، والتجئ إلى كنفه متحيزا إليه، فإنه أبلغ ما طلب به رضا الله، وأنجحه مسألة، وأجزله ثوابا، وأعوده نفعا، وأعمه صلاحا".

_ 1 صبح الأعشى للقلقشندي 10/ 195، وما بعدها. 2 السرح: المال السائم.

وواضح أن عبد الحميد يعتمد على خاصة الترادف الموسيقي، فالفكرة تؤدي لا في عبارة واحدة، وإنما في عبارتين أو عبارات، حتى يكتسب الأسلوب ضربا من التوقع والتعادل الصوتي، فإذا العبارات تتلاحق متوازنة متعادلة تعادلا موسيقيا رائعًا، يرضي الآذان والشعور، وهو أثناء ذلك يعتمد على الحال اعتمادًا مسرفًا لا نعرفه عند الوعاظ، ولا عند من سبقوهم وعاصروهم من الخطباء، إنما نعرفه عند سالم وابنه عبد الله ثم عند صاحبنا، وكأنها أصبحت لازمة من لوازم تلك المدرسة. ويوشي عبد الحميد أسلوبه بحلية التصوير، وما يدمج فيه من استعارات، وبحلية الطباق والمقابلة، بالضبط على نحو ما كان يصنع الحسن البصري، وغيلان الدمشقي وأضرابهما في رسائلهم ومواعظهم، ومن رسائله الطريفة التي تصور مهارته البيانية تصويرا دقيقا رسالته للشخصية إلى أهله، وهو منهزم مع مروان يعزيهم عن نفسه1: "أما بعد فإن الله جعل الدنيا محفوظة بالكره والسرور، وجعل فيها أقسامًا مختلفة بين أهلها، فمن درت2 له بحلاوتها، وساعده الحظ فيها سكن إليها، ورضي بها، وأقام عليها، ومن قرصته بأظفارها، وعضته بأنيابها، وتوطأته بثقلها، قلاها3 نافرًا عنها، وذمها ساخطا عليها، وشكاها مستزيدا منها. وقد كانت الدنيا أذاقتنا من حلاوتها، وأرضعتنا من درها أفاويق4 استحليناها ثم شمست5 منا نافرة، وأعرضت عنا متنكرة، ورمحتنا6 مولية، فملح عذبها، وأمر حلوها، وخشن لينها، ففرقتنا عن الأوطان، وقطعتنا عن الإخوان. فدارنا نازحة، وطيرنا بارحة7، قد أخذت كل ما أعطت، وتباعدت مثلما تقربت، وأعقبت بالراحة نصبا8، وبالجدل9 هما، وبالأمن خوفا،

_ 1 الوزراء والكتاب للجهشياري ص72. 2 درت: من الدر، وهو اللبن. 3 قلاها: أبغضها. 4 أفاويق: ما يتجمع في الضرع من اللبن الذي يحلب. 5 شمست: من شمس الفرس إذا منع ظهره. 6 رمحتنا: من رمحه الفرس إذا رفسه. 7 الطير البارحة: التي تمر من اليمن إلى اليسار، وكان العرب يتشاءمون بها. 8 نصبا: تعبا. 9 الجذل: السرور.

وبالعز ذلا، وبالجيدة1 حاجة، والسراء ضراء، وبالحياة موتا، لا ترحم من استرحمها، سالكة بنا سبيل من لا أوبه له، منفيين عن الأولياء، مقطوعين عن الأحياء". وخصائص عبد الحميد جميعه واضحة في هذه الرسالة القصيرة: ففيها لازمة الحال، وفيها جودة التقسيم ودقة المنطق، وفيها الطباق ومقابلاته، والصور وألوانها وخاصة لون الاستعارة، وفيها الازدواج والترادف الموسيقي الذي يتيح لعباراته فنونا مختلفة من الإيقاعات، والموازنات الصوتية، وبذلك كنت تقرؤه، فيلذ عقلك لدقة معانيه، ويلذ شعورك لجمال تصويره، وجمال موسيقاه. ونحن لا نقول كما قال السابقون: إن الرسائل بدئت بعبد الحميد، فقد بدأت منذ فاتحة العصر الإسلامي، وقام عليها بلغاء كثيرون أتاحوا لها النماء وضروبا من الازدهار، ومن ثم كنا نرفض أوليته في الرسائل ديوانية وغير ديوانية، ولكنا بعد ذلك نثبت له أنه كان القمة التي وصلت إليها نهضة الكتابة في العصر الأموي، لما صارت إليه عنده من هذا اليسر، وتلك المرونة في أداء المعاني اليتكان يجتلبها من الأدب الفارسي، والتي كان يعبر عنها تعبيرا منطقيا دقيقا، لا استطراد فيه، ولا حشو ولا نبو بأي وجه من الوجوه، وأيضًا لما أتاح لها من هذا الأسلوب التصويري الموسيقي، فإذا الكتابة عند تروق العين، والأذن كما تروق العقل والقلب، ومن غير شك هيأت ذلك كله عنده بيئات الوعاظ، كما هيأ له أستاذه سالم، ولكن ذلك لا يضيره، فحسبه أنه كان يملك لغته ويصرفها في أداء معانيه كما يشاء، كما كان يملك أسلوبه وينظمه تنظيما تصويريا وموسيقيا بديعا، مما جعله ينفذ بصنعة الرسائل إلى كل ما كان يريده أصحابها من تنويع في معانيها على أساس من المنطق الدقيق، وجمال في أساليبها على أساس من التصوير الطريف، والإيقاع الصوتي الأنيق.

_ 1 الجدة: الميسرة.

الفصل الثالث: الصنعة في النثر العباسي

الفصل الثالث: الصنعة في النثر العباسي 1- النثر العباسي: خلفت الدولة العباسية دولة بني أمية، واتخذت بغداد حاضرة لها تاركة شئون الحكم للفرس الذين قضوا قضاء مبرمًا على الأمويين، وبذلك أصبحوا هم السادة الحقيقيين، فلم يعد العرب يتصدرون مكان السيادة، ولم تعد لهم أرستقراطيتهم، كما كان شأنهم في العصر الأموي، فقد أبعدوا غالبًا عن المناصب الكبرى في الإرادة والجيش، وأصبحوا لا يستطيعون الدخول على الخليفة، إلا إذا لهم الموالي من الفرس، أمثال البرامكة وبني سهل، ممن أمسكوا بزمام الأمور. وبذلك عمت الروح الفارسية في الحياة العباسية، حتى الخليفة نفسه لم يعد كأسلافه الأمويين يمثل شيخا كبيرًا من شيوخ القبائل العربية، بل أصبح خلفا لملوك الفرس الساسانيين، فله وزراؤه وحجابه وبلاطه، وله نفس التقاليد الفارسية في التشريفات، ويعيش معيشة مترفة، وإذا كان أبو جعفر المنصور عرف بالاعتدال في الاتصال بهذه الحياة الجديدة، فإن من خلفوه أقبلوا عليها إقبالا شديدا. وكان تقدم الفرس على العرب في شئون الحكم سببا في اصطدام هائل بين العرب والموالي، وسرعان ما ظهرت نزعة الشعوبية1، إذ أخذ جماعة من علماء العجم، وأدبائهم يطعنون في عرب الجاهلية لبعدهم عن أسباب الحضارة

_ 1 انظر الفصل الخاص بهذه النزعة في الجزء الأول من ضحى الإسلام.

والثقافة، وطعنوا عليهم أيضا في كل ما يتصل بهم من فضائل خلقية ومن خطابة، وغير خطابة منوهين بفضائل الفرس وغيرهم من شعوب الحضارات القديمة، وما اشتهرت به من عمارة وفنون وعلوم، واتخذ ذلك شكل نزاع ضخم، فألفت كتب كثيرة في مثالب العرب، وكتب أخرى كثيرة في فضائل الفرس وغيرهم، ومن أشهر هؤلاء الشعوبيين في العصر العباسي الأول أبو عبيدة معمر بن المثنى، وأصله من يهود فارس، وهو من أشهر العلماء في اللغة والأخبار، وكان يتعصب للفرس على العرب، فألف في فضائل الأولين كتابًا1، أما الأخيرون فألف كتابا في مثالبهم2، وشركه في كتابة المثالب والتأليف فيها الهيثم بن عدي3، وممن اشتهر بهذه النزعة سهل بن هرون، كاتب البرامكة ثم أخذ أصحاب خزانة الحكمة للمأمون، ومنهم علان الشعوبي وكان وراقا في خزانة المأمون، وقد جمع في كتابه "حلبة المثالب" جملة المطاعن على القبائل العربية في زمن الجاهلية4، ولم يقف أنصار العرب صامتين إزاء هذه النزعة، فقد أخذوا يردون على أصحابها، ومن أشهر من اضطلعوا بهذا الرد مدافعين عن العرب الجاحظ في فاتحة الجزء الثالث من البيان والتبيين، وصنع صنيعة ابن قتيبة في رسالة له سماها كتاب العرب5. ترجم الفرس كثيرًا من تراثهم إلى العربية6، ومن أشهر من قاموا بهذا الصنيع عبد الله بن المقفع وآل نوبخت7، وبخيل إلى الإنسان أنه لم يبق أثر في اللغة البهلوية إلا ترجم إلى العربية سواء تعلق بتاريخ الساسانيين أو بآدابهم، ومن ثم بالغ بعض المحدثين فيما كان للثقافة الفارسية من أثر في العقل العربي،

_ 1 الفهرست ص79-80، وراجع ترجمته في إنباه الرواة 3/ 276. 2 انظر طبقات النحويين، واللغويين للزبيدي "طبعة الخانجي" ص193. 3 الفهرست ص 145، ومعجم الأدباء 19/ 309. 4 الأغاني "طبع الساسي" 12/ 150، والفهرست 153. 5 انظر هذه الرسالة في كتاب رسائل البلغاء نشر كرد على. 6 انظر في ذلك الفصل الخاص بالثقافة الفارسية في الجزء الأول من ضحى الإسلام. 7 انظر في النقلة من الفارسية إلى العربية الفهرست 341، وما بعدها.

ومن الغلاة في ذلك إنيسترانسيف، فقد أكبر في كتابه "الأثر الإيراني في الأدب الإسلامي" من شأن هذه الثقافة، وتأثيرها في العرب معتمدًا في ذلك على ما يحصيه ابن النديم في فهرسته من أسماء الكتب الفارسية المترجمة، وهي كثيرة هناك كثرة غامرة، إلا أن هذه الكثرة يجب أن نحذرها، فالمسألة مسألة كيف لا كم، وربما كانت أهمية هذه الثقافة لا ترجع إلى ما ترجم للفرس أنفسهم، وإنما ترجع إلى ما ترجم إلى لغتهم عن غيرها، فقد كانت وسيطا مهما في نقل كثير من آداب الهند، ومعارفها مثل كتاب كليلة ودمنة الذي نقله ابن المقفع، وكذلك كانت وسيطا في نقل بعض الكتب اليونانية مثل منطق أرسطو الذي ترجمه عبد الله بن المقفع، أو ابنه1، على أنه ينبغي أن نشير إلى أنه دخل عن طريق الترجمة من الفارسية كثير من تعاليم الفرس الدينية القديمة عند زرادشت وماني ومزدك، بل ترجموا كتاب زرادشت المسمى أفستا كما ترجموا كتبا أخرى لماني ومزدك، مما كان سببا في ازدياد جماعة الزنادقة، وكانوا يتظاهرون بالإسلام، ويبطنون أديانهم المجوسية القديمة، وكانت عين الدولة يقظة، فأقام المهدي ديوانا خاصا بمحاكمتهم، وقتل ابن المقفع وكثيرون غيره. وقد انبرى علماء الكلام، وخاصة المعتزلة يردون على هؤلاء الزنادقة، وما زعموا من إثنينية ومذاهب دهرية. ولا تقل أهمية الثقافة الهندية2 عن الثقافة الفارسية، إذ ترجم العباسيون عنها كثيرا من الحكم والقصص، ومن الفلك والرياضة والطب، وقد ترجم إبراهيم الفزاري للمنصور كتاب الفلك الهندي المعروف باسم "السند هند" يعاونه في ذلك بعض علماء من الهنود، واجتلب يحيى بن خالد البرمكي مجموعة من أبطائهم إلى بغداد، وأمرهم بنقل بعض كتب الطب الهندية، ويظهر أنه كان هناك مترجمون كثيرون يحسنون النقل عن السنسكريتية، ومما نقلوه صحيفة في

_ 1 راجع التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية لعبد الرحمن بدوي ص101،وما بعدها. 2 انظر الفصل الخاص بهذه الثقافة في الجزء الأول من ضحى الإسلام.

البلاغة احتفظ بها الجاحظ في بيانه1، ومن المؤكد أن كثيرًا من تأملاتهم فيما بعد الطبيعة أخذ طريقه إلى العربية، وكان له صداه الواسع في الصوفية الإسلامية، وقد لعبت نظريتهم في التناسخ، وبعض مذاهبهم الدهرية مثل السمنية دورا هي الأخرى في نزعات الزندقة والإلحاد. على أن هاتين الثقافتين الهندية والفارسية لا تقاسان في أهميتهما إلى الثقافة اليونانية2 التي دخلت في العربية لهذا العصر، وكانت مبثوثة في مدارس جند يسابور والرها وحران ونصيبين، كما كانت مبثوبة في الكنائس الشرقية والغربية، وكان للسوريان الفضل الأول في نقل محتوياتها إلى العربية، وبدأ ذلك منذ عصر المنصور، إذ استدعى من جنديسابور أسرة بختيشوع، ليتولى بعض أطبائها علاجه، وجدت هذه الأسرة كما جد غيرها من السوريان في ترجمة الفلسفة اليونانية، وبلغت هذه الترجمة أوجها في عهد المأمون، فقد اتخذ في قصره خزانة الحكمة، وأخذ يضم إليها كنوز المعرفة العربية والأجنبية، وشجع على النقل والترجمة، وطلب من آسيا الصغرى، ومن بيزنطة نفسها المصنفات اليونانية، وفي عهده لمع اسم أبي يوسف يعقوب الكندي أول فلاسفة العرب المهمين، وأحد العقول الكبرى في تاريخ العالم. والذي لا ريب فيه أن هذه الثقافات الدخيلة التي نقلت إلى العربية، وسعت طاقتها، بما اكتسبت من المعاني العقلية والفلسفية، وقد أصبح النثر العربي نثر ثقافة متشعبة، تمدها روافد كبيرة من إيران الهند واليونان، وليس ذلك فحسب، فقد أخذت تدخل في هذا النثر طرائق النظر الأجنبية، وأساليب الأجانب في تفكيرهم، والذي لا ريب فيه أيضًا أنه قام على هذا العمل نخبة من رجال الفكر الذين يحسنون اللغتين المنقول المنقول عنها، والمنقول إليها فإذا هم يستخدمون أسلوبا مولدا جديدا يحتفظون فيه للعربية بصورتها النحوية والتركيبية، ونحن لا نستطيع أن نقف على مدى إحسانهم في هذا الأسلوب، إلا إذا لاحظنا أن

_ 1 البيان والتبيين 1/ 92، وانظر زهر الآداب 1/ 95. 2 انظر الفصل الخاص بهذه الثقافة في الجزء الأول من ضحى الإسلام.

لغتنا لم يصبها أثناء ذلك شيء من الفساد، فقد عمدوا إلى تخصيص بعض ألفاظها للدلالة على المصطلحات الفلسفية والعلمية الجديدة، وكان إذا اضطرهم معنى لفظ أجنبي إلى الاحتفاظ به عربوه، كما حدث في أسماء كثير من النباتات والأحجار، والعقاقير والأمراض، وبعض أسماء الآلات أو أسماء بعض العلوم، وكانوا كثيرا ما يضيفون صيغا جديدة، ولكنهم لم يبتعدوا بها عن تراكيب العربية، ومن يقرأ كتب ابن المقفع، وهو من أوائل المترجمين يرى كيف استطاع أن يضفي على أساليبه الطوابع العربية تامة كاملة. وبذلك اتسعت لغة الصحراء، وأصبحت لغة ثقافية ذات أسلوب مرن يستوعب كل ما لدى الأجانب من كنوز المعرفة، ومذاهب الفلسفة مما كان له أثره في الأدب نثره وشعره، كما كان له أثره في العلوم الإسلامية كعلم الكلام، والفقه، وحتى في علم اللغة نفسه، وما اتصل به من علم النحو، فقد وضع الخليل خطة أول معجم في العربية، وهو "معجم العين"، ورتبه على مخارج الحروف بالضبط كما يرتب الهنود حروف لغتهم، وكان يعرف علم الموسيقى، وعلى هديه أو باستيحائه وضع عروض الشعر وموازينه، ولا ننسى المنطق اليوناني فصلته بالنحو العربي مقررة، ومعنى ذلك العلوم المنقولة أثرت في تلك العلوم اللغوية، كما أثرت في جميع العلوم العربية الإسلامية الخالصة، وليس من باب الاتفاق أن يأخذ فقهاء العراق بالقياس، أو يسموا بأصحاب الرأي، وقد أخذ المؤرخون يكتبون في التاريخ على ضوء ما قرأوا عند الأمم الأجنبية من كتاباته، مما أتاح للطبري أن يكتب موسوعته التاريخية الكبرى. وعلى هذا النحو أصبح النثر في العصر العباسي متعدد الفروع، فهناك النثر العلمي، والنثر الفلسفي والنثر التاريخي، والنثر الأدبي الخالص، وكان في بعض صوره امتدادًا للقديم، وكان في بعضها الآخر مبتكرا لا عهد للعرب به، على شاكلة ما هو معروف في كتابات سهل بن هارون والجاحظ، وظلت الخطابة مزدهرة في أوائل هذا العصر، وإن كان قد أسرع الذبول إلى الخطابة الحفلية، إذ لم تعد القبائل تقدم بوفودها على الخلفاء، كما كان الشأن في عصر

بني أمية. أما الخطابة السياسية فظلت فترة نشيطة، بحكم دعوة بني العباس لأنفسهم، حتى إذا استقام لهم الأمر أصابها ما أصاب الخطابة الحفلية من الذبول، ومن خطبائهم المفوهين، أبو العباس السفاح، والمنصور، والمهدي والرشيد والمأمون1، ثم غلبت العجمه على خلفائهم، فلم يعودوا يخطبون في أيام الجمع، والأعياد إلا ما كان من الخليفة المهتدي2 "255-256 هـ"، وفي أخبار الرشيد أنه عهد إلى الأصمعي أن يحفظ ابنه الأمين خطبة يخطب بها الناس في يوم الجمعة3، أما خطابة الوعاظ فيظهر أنه ظل لها غير قليل من الازدهار، فقد كان خلفاء بني العباس يستنون بخلفاء بني أمية في استقبال كثيرين منهم، وكان المنصور خاصة يوسع لهم في مجالسه، وفي كتب الأدب أطراف من تلك المواعظ، ينسب بعضها إلى شبيب بن شيبة4، وبعض آخر ينسب إلى عمرو بن عبيد5، أو إلى الأوزاعي6 أو إلى غيرهم. وكان المهدي مثل أبيه يستدعي هؤلاء الوعاظ ويستمع إليهم، ويروى أن صالح بن عبد الجليل، وعظه يوما حتى سالت دموعه7، وكان الرشيد يقتدي به، فكان يعظه ابن السماك8 وغيره، وروى ابن قتيبة في عيون الأخبار، وابن عبد ربه في العقد الفريد كثيرا من كلام هؤلاء الوعاظ، وكان وراءهم كثير من القصاص الذين يقصون على الناس في المساجد الجامعة، ومن أشهرهم موسى ابن سيار الأسواري "وكان من أعاجيب الدنيا، كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية، وكان يجلس في المشهور به، فتقعد العرب عن يمينه، وتقعد الفرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله، يفسرها للعرب

_ 1 انظر في خطبهم عيون الأخبار 2/ 251، والعقد الفريد 4/ 97، وراجع البيان والتبيين 1/ 331. 2 مروج الذهب للمسعودي "طبعة باريس" 8/ 2. 3 الفرج بعد الشدة للتنوخي 2/ 20. 4 البيان والتبيين 2/ 198. 5 عيون الأخبار 2/ 337، والعقد الفريد 3/ 164، وزهر الآداب 1/ 94. 6 العقد الفريد 3/ 163، وعيون الأخبار 2/ 338. 7 عيون الأخبار 2/ 333، والعقد الفريد 3/ 158. 8 العقد الفريد 3/ 164.

بالعربية ثم يحول وجهه إلى الفرس فيفسرها لهم بالفارسية، فلا يدري بأي لسان هو أبين". ومنهم عمرو بن فائد الذي ظل يفسر القرآن الكريم للناس ستا وثلاثين سنة، وما ختمه حتى مات؛ لأنه كان حافظا للسير ولوجوه التأويلات، فكان ربما فسر آية واحدة في عدة أسابيع، ومنهم القاسم بن يحيى الضرير الذي لم يكن في القصاص مثله، ومنهم صالح المري وكان صحيح الكلام شديد التأثير في سامعيه1. واتسعت في هذا العصر المناظرات الكلامية، وحمل لواءها المعتزلة من أصحاب واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، ولم يكن همهم أن يردوا على مخالفيهم من الجهمية أصحاب جهم بن صفوان الذي كان يقول بالجبر، والمرجئة الذين قالوا بأنه لا يجوز تكفير المسلم، ولا الحكم على أعماله، حتى لوة ارتكب كبيرة. لم يكن همهم أن يردوا على هاتين الفرقتين فقط، بل انصرف همهم إلى الرد على الدهرية والزنادقة، ونراهم في عصر المأمون يدعون إلى أن القرآن ليس أزليًّا، إنما هو مخلوق، واستطاعوا أن يؤثروا في المأمون حتى اعتنق فكرتهم، وأعلنها عقيدة رسمية للدولة، وأخذ في امتحان من يؤمنون بها في آفاق دولته، على نحو ما كان يمتحن جده المهدي الناس في عقيدة المانوية، وتبعه المعتصم في تلك السيرة، حتى إذا ولي المتوكل ترك الناس وشأنهم. ولا نبالغ إذا قلنا: إن المتكلمين من معتزلة، وغير معتزلة نهضوا بالنثر العباسي نهضة رائعة، فقد كان المتكلم لا يحسن الكلام والاحتجاج لآرائه إلا إذا أخذ نفسه بثقافة فلسفية واسعة، يقول الجاحظ: "ولا يكون المتكلم جامعا لأقطار الكلام متمكنا في الصناعة، يصلح للرياسة، حتى يكون الذي يحسن من كلام الدين في وزن الذي يحسن من كلام الفلسفة، والعالم عندنا هو الذي يجمعهما"2، ولم يكونوا يتثقفون بالثقافة الفلسفية وحدها، بل كانوا يتثقفون أيضا بكل ضروب الثقافات التي عرفت لعصرهم، حتى يجمعوا "التدابير العجيبة، والعلوم الغريبة،

_ 1 انظر في هؤلاء القصاص البيان والتبيين 1/ 368، وما بعدها. 2 الحيوان 2/ 143.

وآثار القول الصحيحة، ومحمود الأذهان اللطيفة، والحكم الرفيعة، والمذاهب القويمة، والتجارب الحكيمة، والأخبار عن القرون الماضية، والبلاد النازحة والأمثال السائرة"1، ويعترف الجاحظ بقيمة ذلك كله فيقول: "ولولا ما أودعت لنا الأوائل في كتبها، وخلدت من عجيب حكمتها، ودونت من أنواع سيرها، حتى شاهدنا بها ما غاب عنا، وفتحنا بها كل مستغلق كان علينا، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم لقد خس حظنا من الحكمة، ولضعف سببنا إلى المعرفة، ولو لجأنا إلى قدر قوتنا ومبلغ خواطرنا، ومنتهى تجاربنا لما تدركه حواسنا، وتشاهده نفوسنا لقلت المعرفة، وسقطت الهمة وارتفعت العزيمة، وعاد الرأي عقيما، والخاطر فاسدا، ولكل الحد وتبلد العقل"2. والجاحظ المتكلم لا يعبر بهذا الكلام عن وجهة نظره وحده، وإنما يعبر عن وجهة نظر المتكلمين جميعا لعصره، فقد انكبوا على قراءة الكتب المترجمة من الفلسفة وغير الفلسفة، ففتقت عقولهم وفتحت لهم مسالك، وأبوابا من الفطن وقد أقبلوا في شوق شديد على التثقف بالإسلام وتعاليمه، وباللغة العربية وكنوزها النثرية والشعرية، ويكفي أن يقرأ الإنسان "البيان والتبيين" للجاحظ وكذلك "الحيوان" ليقف على مدى ثقافته العربية، وهي في الكتاب الأخير تعانقها ثقافة عامة واسعة. ولا نقرأ فيما خلفه هؤلاء المتكلمون حتى يبهرنا لسنهم، وقدرتهم على الحجاج والإقناع، وقد كانت المناظرة في موضوع من الموضوعات تنعقد أحيانا بين اثنين منهم، فتظل أياما لا في أصول الدين، ولا في الرد على الملحدين فحسب، بل في كل موضوع يمكن أن يفد إلى أذهانهم، وقد ملأ الجاحظ نحو مجلد من كتابه الحيوان بمناظرة انعقدت بين معبد، والنظام في الكلب والديك أيهما أفضل، وظل يورد أدلة كل منهما في صورة رائعة، وهي صورة تدل دلالة بينة على مدى ما أصابه هؤلاء المتكلمون من تنويع لأفكارهم، وتصحيح لمقدماتهم

_ 1 الحيوان 1/ 42. 2 الحيوان 1/ 85.

وتصريف لأساليبهم وألفاظهم، وإذا كانت القدرة البيانية بلغت باثنين منهم هذا المبلغ في مساوئ الديك ومحاسنه، ومنافع الكلب ومضاره، فما بالك بما كان يجري بينهم في مسائل الدين واستقصاء كل مسألة وجمع معانيها، وترتيب أفكارها وألفاظها؟ ومن يقرأ ما يرويه الجاحظ عن النظام في كتابه الحيوان يعجب أشد العجب من استنباطه للمعاني والأدلة، سواء تحدث في الحيوان، أو في الرد على الدهرية والمانوية، أو على خصومه من المتكلمين، أو في بيان نظرياته في الروح والحواس، والتولد والجسم والعرض، والخير والشر والاستطاعة والكمون، والتداخل والحركة والسكون، ويشيد به الجاحظ في غير موضع من حيوانه، ومن قوله فيه وفي المتكلمين: "إنه لولا مكان المتكلمين لهلكت العوام من جميع الأمم، ولولا مكان المعتزلة لهلكت العوام من جميع النحل.. ولولا أصحاب إبراهيم "النظام"، وإبراهيم لهلكت العوام من المعتزلة، فإنه قد أنهج لهم سبلًا، وفتق لهم أمورًا، واختصر لهم أبوابا، ظهرت فيها المنفعة، وشملتهم بها النعمة"1، وقال في موضع آخر: "كان إبراهيم مأمون اللسان قليل الزلل والزيغ.. وإنما كان عيبه الذي لا يفارقه.. جودة قياسه على العارض، والخاطر، والسابق الذي لا يوثق بمثله"2، فهو يأخذ عليه أنه كان لا يصحح مقدمات القياس.. وأكبر الظن أنه إنما كان يلجأ إلى ذلك حين تعوزه الحجة، فكان يراوغ ويعتل، حتى يشك خصمه وسامعيه، وكان يذهب هذا المذهب نفسه خاله أبو الهذيل العلاف، وكان يقول: خمسون شكا خير من يقين واحد3، أما النظام فكان يقول: لم يكن يقين قط حتى كان قبله شك، ولما قال أبو الجهم للمكي: أنا لا أكاد أشك قال المكي: وأنا لا أكاد أوقن، وكانوا يقولون: "العوام أقل شكوكا من الخواص؛ لأنهم لا يتوقفون في التصديق والتكذيب، ولا يرتابون بأنفسهم، فليس عندهم إلا الإقدام على التصديق المجرد، أو على التكذيب المجرد، وألغوا الحال الثالثة من الشك التي تشتمل على طبقاته"4.

_ 1 الحيوان 4/ 206. 2 الحيوان 2/ 229. 3 الحيوان 3/ 60. 4 الحيوان 6/ 25، وما بعدها.

لم يعد هناك شيء لا يقبل الشك، والجدل في هذه البيئة التي استطاعت حقا أن تمرن اللغة العربية على أداء معان لم تتعود أداءها، وإنك لتقرأ كلامها، فلا تشعر بأي تكلف أو شفقة، أو التواء أو عسر، فقد أصبحت اللغة طيعة على ألسنتهم، وأصبحت مرنة مرونة عجيبة، سواء تكلموا في مسائل فلسفية عويصة، أو في مسائل كلامية دقيقة، وتحس حقا كأنهم بحار تتدفق، فلا تعثر ولا توقف. وقد وقف الجاحظ في البيان والتبيين يشيد إشادة رائعة ببلاغتهم1، وعرض لأحدهم، وهو ثمامة بن أشرس فوصفه بقوله: "ما علمت أنه كان في زمانه قروي ولا بلدي كان بلغ من حسن الإفهام مع قلة عدد الحروف، ولا من سهولة المخرج مع السلامة من التكلف ما كان بلغه، وكان لفظه في وزن إشارته ومعناه في طبقة لفظه، ولم يكن لفظه إلى سمعك بأسرع من معناه إلى قلبك، وقال بعض الكتاب: معاني ثمامة الظاهرة في ألفاظه، الواضحة في مخارج كلامه، كما وصف الخريمي شعر نفسه في مديح أبي دلف، حيث يقول: له كلم فيك معقولة ... إزاء القلوب كركب وقوف"2 وهذا الوصف الذي وصف به الجاحظ ثمامة ينطبق على كل متكلم في عصره، فقد مرنوا على الجدال، ومكايلة الألفاظ وموازنة المعاني وعرضها، بخفيات حدودها ودقائقها، والحوار فيها والجدال، ومحاولة إقناع الخصوم وإسكاتهم وبلغوا من ذلك كل مبلغ، حتى سموا المتكلمين فهم أرباب الكلام، وأصحابه الذين يعرفون كيف ينصبون أنفسهم للدفاع عن آرائهم، وكيف يقدمون البراهين الواضحة، والحجج الصحيحة. واقرأ كتاب الحيوان للجاحظ، فلن تجد موضوعا إلا خاضوا فيه، واستخرجوا منه معانيه، حتى لتظن أنه لم يكن هناك أديب بارع إلا وتستهويه تلك الجماعة وتجذبه إلى ميادينها، ليبحث في الأسباب الكونية ومسبباتها، والعلل ومعلولاتها، ويدخل في صفوف هؤلاء الذين ملأوا قلوب الناس إعجابا بمناظراتهم ومجادلاتهم.

_ 1 البيان والتبيين 1/ 139. 2 البيان والتبيين 1/ 111.

التي اتسعت لكل جوانب المعرفة دينا وغير دين. وقد دعتهم رغبتهم في إحكامهم لمناظراتهم، ومناقشاتهم أن يبحثوا بحثا واسعا في بلاغة الكلام، وكيف يبلغ المتكلم بكلامه الكفاية وغاية الحاجة، بل كيف يروع السامعين ببيانه، وحلاوةو ألفاظه وحسن مخارج حروفه، حتى تسكن القلوب إليه وتثلج الصدور، ويزخر كتاب البيان والتبيين بوصاياهم التي كانوا يسوقونها إلى تلاميذهم في مجالسهم، وكثيرًا ما كانوا يدعون هؤلاء التلاميذ إلى المناظرة بين أيديهم، ليمرنوهم ويدربوهم، وليروا مقدار براعتهم، وهم أثناء ذلك يبدون ملاحظات مختلفة على إشارتهم وحركاتهم، وأصواتهم وعلى ألفاظهم وأقوالهم وأساليبهم، وعلى براهينهم وأدلتهم وأقيستهم، وعللهم وما يداخل ذلك كله من فلتات خطإ وسقطات وهم، وبذلك كانوا أول من وضع قواعد البيان العربي، وقد أخذوا أثناء هذا الوضع يحاولون الإطلاع على ما عند الأجانب من هذه القواعد، يقول الجاحظ في بيانه: "قيل للفارسي: ما البلاغة؟ قال معرفة الفصل من الوصل، وقيل لليوناني: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام واختيار الكلام، وقيل للرومي: ما البلاغة؟ قال: حسن الاقتضاب عند البداهة والغزارة يوم الإطالة، وقيل للهندي: ما البلاغة؟ قال: وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الإشارة، وقال بعض أهل الهند: جماع البلاغة البصر بالحجة والمعرفة بمواضع الفرصة، ثم قال: ومن البصر بالحجة والمعرفة بمواضع الفرصة أن تدع الإفصاح بها إلى الكناية عنها، إذا كان الإفصاح أوعر طريقة، وربما؟؟؟ الإضراب عنها صفحا أبلغ في الدرك وأحق بالظفر"1. ويقول الجاحظ: إن معمرا المتكلم قال لبهلة الهندي: ما البلاغة عند أهل الهند؟ قال بهلة: عندنا في ذلك صحيفة مكتوبة، ولكن لا أحسن ترجمتها، ولم أعالج هذه الصناعة فأثق من نفسي بالقيام بخصائصها، وتلخيص لطائف معانيها، ويلقى معمر بالصحيفة التراجمة فإذا فيها: "أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة، وذلك أن يكون الخطيب رابط الجأش ساكن الجوارح، قليل اللحظ، متخير اللفظ، لا يكلم سيد

_ 1 البيان والتبيين 1/ 88.

الأمة بكلام الأمة ولا الملوك بكلام السوقة، ويكون في قواه فضل التصرف في كل طبقة.. وممن قد تعود حذف فضول الكلام، وإسقاط مشتركات الألفاظ وقد نظر في صناعة المنطق على جهة الصناعة، والمبالغة لا على جهة الاعتراض والتصفح، وعلى وجه الاستطراف والتطرف.. ويكون لفظه مونقا، ولهول ذلك المقامات معاودا. ومدار الأمر على إفهام كل قوم بمقدار طاقتهم، وللحمل عليهم على أقدار منازلهم"1. ومعنى ذلك كله أن المتكلمين لم يكتفوا بملاحظاتهم الشخصية في بلاغة الكلام، بل طلبوا ما عند الأجانب، ويلح الجاحظ وغيره منهم على فكرة مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وهي صريحة في الصحيفة الهندية، وأغلب الظن أنها تسربت إليهم أيضا في بعض ما ترجم لأفلاطون من محاورات، أو لأرسطاطاليس من كلام في الخطابة، وربما سمعوها من المسيحيين السريان الذين كانوا يكثرون من جدالهم، ويحدثنا الجاحظ أن بشر بن المعتمر مر بإبراهيم بن جبلة، وهو يعلم بعض الفتيان الخطابة، فدفع إليه بصحيفة من تحبيره2، تجمع قواعد البلاغة، وكيف يحسن الخطيب في خطابته، متحاشيا التوعر وجالبا الألفاظ التي تروق السامع، وقد بنيت الصحيفة على فكرة مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وأن واجب الخطيب أن يلائم بين موضوعه ومعانيه، وبين ظروف السامعين، فإن إحراز المنفعة مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال، فلا يكلم الخاصة بكلام العامة ولا العامة بكلام الخاصة، بل يعرف أقدار المعاني ويوازن بينها أقدار المستمعين وأقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلامًا يلائمها، حتى تفهم عنه، وحتى يصل إلى ما يريد من استحالتها بلطف مداخله وعذوبة ألفاظه. ونفذوا في أثناء هذه الوصايا إلى وضع كثير من المصطلحات البيان العربي، ومن يرجع إلى الحيوان والبيان، والتبيين يجد اصطلاحات التشبيه، والحقيقة، والمجاز

_ 1 البيان والتبيين 1/ 92. 2 البيان والتبيين 1/ 135، وما بعدها.

والاستعارة والكناية والالتفات، وحسن الخروج والاعتراض، وتأكيد المدح بما يشبه الذم والإيجاز والإطناب والاقتباس، كل ذلك يدور فيهما، وقد وقف الجاحظ طويلا في فاتحة البيان عند فصاحة الألفاظ، وتنافر الحروف وصنوف اللثغة فيها، فإذا قلنا: إن هذه البيئة هي التي وضعت قواعد البلاغة، والفصاحة لم نكن مبالغين، وإذا قلنا أيضا: إن هذه البيئة هي التي أتاحت للغة العربية مرونة الأساليب على أداء المعاني الدقيقة لم نكن مغالين، بل إننا نقول: إنها هي التي وضعت نماذج التعبير العباسي البليغ، فقد كانت تنفي الألفاظ المتوعرة الوحشية عن كلامها، كما كانت تنفي الساقط السوقي، فاختارت بذلك لغة متوسطة تقوم على الألفاظ الرشيقة ذات المخارج السهلة، كما تقوم على ضرب من التلاؤم الموسيقي هو نفسه الذي لاحظناه قبلا عند أسلافها من وعاظ العصر الأموي، والذي يكسو الكلام كسوة الازدواج، والترادف الصوتي البديع. وكان كبار الأدباء في القرن الثاني جميعه يتخذون هذا الأسلوب الفصيح الوسط إمامهم ومثلهم، سواء أكانوا مترجمين مثل ابن المقفع، أم مدبجين لرسائل أدبية طريفة مثل سهل بن هرون، وقد بلغ القمة التي كانت تنتظره عند الجاحظ المتكلم، وهو أسلوب كان يوازن دقيقة بين طرافة المعاني، وإثارة الجمال في نفس القارئ والسامع، ولكن بدون كد ومجاهدة، ولذلك نسلك أصحابه في مذهب الصنعة، فهم لا يبالغون في تكلفهم، ولا يستدعون الألفاظ من بعيد، ولا يدققون فيها كل التدقيق، ولا يصفونها كل التصفية. وبينما كان هذا المذهب قائما عند المتكلمين، وكبار الأدباء، والمترجمين كانت طلائع مذهب ثان من التصنيع، والتجميل تأخذ طريقها في بيئة الكتاب الرسميين من أصحاب الدواوين، فقد أخذوا يهذبون لغة رسائلهم السياسية غاية التهذيب، وما زالوا يبالغون في أناقة تعبيرهم، ودقة أذواقهم، حتى انفصلوا انفصالا تماما عن أسلوب الازدواج إلى أسلوب كله قطع زخرفية أنيقة، أو بعبارة أخرى أسلوب كله سجع وتنميق، وسنعرض لهذا المذهب في موضع آخر، أما الآن فنعني بأهم من نموا مذهب الصنعة في العصر العباسي بتأثير الثقافات الأجنبية الدخيلة، وهم ابن المقفع وسهل بن هارون والجاحظ، وكان أولهم مترجما، أم سهل والجاحظ فكان أديبين يعنيان بكتابة الرسائل والكتب الأدبية، ولعلهما من أجل ذلك كانا يهتمان بفنهما تجويد أساليبهما أكثر من اهتمام ابن المقفع، إذ كان اهتمامه ينصب غالبا على ما يترجمه ونقل معانيه، لا على طريقة الأداء والتحبير فيه.

ابن المقفع: أصله وحياته وزندقته

2- ابن المقفع: أصله وحياته وزندقته: ابن المقفع فارسي الأصل، اسمه روزبه1 بن داذويه، كان أبوه من قرية تسمى جور2 من أعمال فارس على مقربة من شيزار، وانتقل إلى البصرة، والتحق بديوان الخراج لعهد الحجاج، فاحتجن "اختلس" مالا، فضربه الحجاج حتى تقفعت "يبست" يده، فلقب بالمقفع3، ولم يسلم، بل استمر مجوسيا مانويا، وعلى دينه نشأ ابنه روزبه، ويظهر أنه عني بتأديبه كما عني بتعليمه العربية، وساعده على ذلك أن ولاءهما كان في آل الأهتم، وهم يشتهرون بالفصاحة من قديم4. ولم يمض زمن كبير حتى ظهرت مخايل الفصاحة والبلاغة على ابن المقفع، فكتب لعمر بن هبيرة في دواوينه على كرمان5 بفارس، ثم كتب لابنه يزيد حين ولي العراق من قبل مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، كما كتب لأخيه داود6، وجعلته وظيفته تلك يفيد أموالًا، كان يبر بها طائفة من أصدقائه، يقول الجهشياري: "وكان سريا سخيا، يطعم الطعام، ويتسح على كل من احتاج إليه ... وكان يجري على جماعة من وجوه أهل البصرة والكوفة ما بين

_ 1 الفهرست ص172. 2 الوزراء والكتاب للجهشياري ص 109. 3 الفهرست ص 172. 4 البيان والتبيين 1/ 355. 5 الوزراء والكتاب ص 109. 6 الفهرست ص 172.

الخمسمائة إلى الألفين في كل شهر"1. ولما قامت الدولة العباسية كتب لعيسى بن علي عم المنصور2، وعلى يديه أعلن إسلامه، وتسمى باسم عبد الله، واكتنى بأبي محمد3، ويقال: إنه حين حاول إعلان إسلامه سأله عيسى أن يؤجل ذلك إلى الغد، حتى يكون ذلك في حفل يحضره القواد والرؤساء، ثم حضر طعام العشاء، فجلس يأكل ويزمزم على عادة المجوس، فقال له عيسى: أتصنع ذلك وأنت على عزم الإسلام؟ فقال: أكره أن أبيت على غير دين! وظل يعمل في خدمة عيسى حتى قتله سفيان بن معاوية والي البصرة من قبل المنصور، وهنا يختلف الباحثون في سبب قتله، فيزعم قوم أنه قتل لزندقته، ويؤكد الجهشياري، وكثير من المؤرخين أن السبب في قتله ما كان من تشدده في كتابه الأمان الذي كتبه لعبد الله بن علي أخي عيسى، وعم المنصور فإنه حين فشلت ثورته على ابن أخيه هرب منهزما من أبي مسلم الخراساني، وقصد أخويه عيسى وسليمان بالبصرة، فكاتبا المنصور في أن يؤمنه، ورضي بإعطائه الأمان، فأمر عيسى بن المقفع يعمل نسخة لهذا الأمان، فعملها ووكدها، واحترس من كل تأويل يجوز أن يقع عليه فيها.. وكان الذي شق على أبي جعفر ما جاء في أسفل الأمان من أنه إذا غدر بعمه عبد الله، فهو نفي من أبيه، ومولود لغير رشدة، وقد حل لجميع أمة محمد خلعه وحربه والبراءة منه، ولا بيعة له في رقاب المسلمين، ولا عهد ولا ذمة، وقد وجب عليهم الخروج من طاعته، وإعانة من ناوأه من جميع الخلق، وأنه إن فعل كان كافرًا بجميع الأديان، ونساؤه طوالق وعبيده أحرار، فغضب المنصور حين قرأ هذا الأمان وسأل عن كاتبه، فقيل له: ابن المقفع، فقال: أما أحد يكفينيه؟ وكتب فيه إلى سفيان بن معاوية، وتصادف أن كان يضطغن عليه، فاستغل الفرصة وطلبه، فلما قدم عليه أمر بتنور فسجر، ثم أخذ يقطعه عضوًا

_ 1 الوزراء والكاتب ص 109. 2 الفهرست ص 172، والوزراء والكاتب ص 103. 3 الفهرست ص 172.

عضوًا ويرمى به في التنور1، وأكبر الظن أن هذا هو السبب الصحيح في مقتل ابن المقفع، فالجاحظ يقول في بعض رسائله: إنه أغرى عبد الله بن علي بالمنصور ففطن له، وقتل2 ومن المحقق أن الجاحظ لا يريد بإغرائه سوى ما كان من كتابة أمانه على هذا النحو الذي ضيق فيه على المنصور، ويقول ابن خلكان: إن ذلك كان عام 142 أو 143 أو 145، ومعنى ذلك أنه لم يعش في الدولة العباسية إلا نحو عشر سنين. واشتهر ابن المقفع بأنه كان زنديقًا، وأنه إنما اتخذ الإسلام قناعًا لزندقته ومانويته، وممن أكد ذلك أبو الفرج الأصبهاني3، والبيروني4 وابن خلكان5 وصاحب خزانة الأدب6، ويقول المرتضى في أماليه: روي عن المهدي أنه قال: "ما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله ابن المقفع"7، ويقول المسعودي: "أمعن المهدي في قتل الملحدين لظهورهم في أيامه، وإعلانهم باعتقاداتهم في خلافته، لما انتشر من كتب ماني وابن ديصان، ومرقيون مما نقله عبد الله بن المقفع وغيره وترجم من الفارسية، والفهلوية إلى العربية"8، وفي الفهرست أنه ترجم كتابا في سيرة مزدك9، ويقال: إنه مر ببيت نار للمجوس بعد أن أسلم فلما رآه تمثل: يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدا وبك الفؤاد موكل إني لأمنحك الصدود وإنني ... قسما إليك مع الصدود لأميل10 ويقول بعض الرواة: إنه عارض القرآن بزعمه11، ونشر ميكائيل أنجلو جويدي سنة 1927 كتابا يسمى: "كتاب الرد على الزنديق اللعين ابن المقفع -

_ 1 الوزراء والكتاب ص103، وما بعدها. 2 ثلاث رسائل للجاحظ "طبعة فنكل" ص 47. 3 أغاني "طبعة الساسي" 18/ 200. 4 تحقيق ما للهند من مقولة "طبعة ليبزج" ص 76. 5 انظر ترجمته في وفيات الأعيان 1/ 150. 6 خزانة الأدب للبغدادي 3/ 495. 7 أمالي المرتضى 1/ 134. 8 مروج الذهب للمسعودي "طبعة مصر" 4/ 242. 9 الفهرست ص 172. 10 أمالي المرتضى 1/ 135. 11 إعجاز القرآن للباقلاني ص 18.

عليه لعنة الله- للقاسم بن إبراهيم عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم"، ونرى القاسم يندد -في مقدمة هذا الكتاب- بمذهب ماني وأتباعه، ويقول: إن ابن المقفع خلفه في إفكه وضلاله، "فوضع كتابا أعجمي البيان، حكم فيه لنفسه بكل زور وبهتان، فنال من عيب المرسلين، وافترى الكذب على رب العالمين، فرأينا من الحق أن نضع نقضه، بعد أن وضعنا من قول ماني بعضه". ثم يعرض القاسم فقرا من أقوال ابن المقفع ويرد عليها، وقد شك بعض الباحثين في هذا الكتاب، ونسبة ما فيه من آراء لابن المقفع1، غير أن ذلك لا ينقض زندقته فقد شهد بها معاصروه ومن جاءوا بعدهم، ويروى أنه لما قتل ابن أبي العوجاء لزندقته رثاه بقوله: رزئنا أبا عمرو ولا حي مثله ... فلله ريب الحادثات بمن وقع فإن تك قد فارقتنا وتركتنا ... ذوي خلة ما في انسداد لها طمع فقد جر نفعا فقدنا لك أننا ... أمنا على كل الرزايا من الجزع وقال أحمد بن يحيى ثعلب: البيت الأخير يدل على مذهبهم في أن الخير ممزوج بالشر والشر ممزوج بالخير2. وعلى الرغم من زندقة ابن المقفع، وتعصبه الشديد لفارسيته لم يفكر في الرجوع إلى لغته، بل اتخذ العربية مثله الأعلى، وكان ذكيا ذكاء شديدًا، ولكن ذكاءه أضله، وكان دقيق الحس، فقد دعاه عيسى بن علي للغداء معه يوما، فقال له: "أعز الله الأمير! لست يومي للكرام أكيلا، فقال له: ولم؟ قال: لأني مزكوم والزكمة قبيحة الجوار، مانعة من عشرة الأحرار"، وكتب إليه يحيى بن زياد الحارثي الزنديق يلتمس عقد الإخاء، والاجتماع على المودة والصفاء، فأخر جوابه، فكتب إليه كتابا آخر، يستريثه، فكتب إليه ابن المقفع: "إن الإخاء رق، فكرهت أن أملكك رقي قبل أن أعرف حسن ملكتك"3.

_ 1 ضحى الإسلام لأحمد أمين 1/ 225. 2 أمالي المرتضى 1/ 135. 3 انظر في هذا النص، وسابقه أمالي المرتضى 1/ 136.

صنعة ابن المقفع في كتبه ورسائله

3- صنعة ابن المقفع في كتبه ورسائله: رأينا ابن المقفع يعمل في دواوين الحكماء والأمراء، ولكن أهميته لا ترجع إلى أنه كان كاتبًا من كتاب الدواوين، وإنما ترجع إلى أنه كان مترجما عن البهلوية، إذ حاول أن ينقل إلى اللغة العربية خير ما عرفه في لغته الفارسية، سواء أكان ما عرفه فيها فارسيا خالصا، أم كان يونانيا أم كان هنديا. أما الفارسي الخالص فمنه ما يرد إلى تراث القوم الديني، وقد ترجم منه كتاب مزدك1، ومنه ما يرد إلى تراثهم التاريخي والأدبي، وهو تراث كان يدور في أغلبه حول البلاط الإيراني، وحولياته، وتقاليده، ومن هذا التراث ترجم كتاب "خد اي نامه" في سير ملوكهم، وقد اعتمد الفردوسي على هذا الكتاب في تأليف ملحمته "الشهنامة". وأيضا ترجم كتاب "آيبن نامة"، وهو في أنظمة الملك والدولة الساسانية، وقد بقيت منه مقتطفات كثيرة في عيون الأخبار لابن قتيبة تدل على أنه كان يعالج نظام القضاء وفنون الحرب ومكايدها، وترجم أيضا كتاب التاج في سيرة أنوشروان، ورسالة تنسر وكل هذه الكتب -على ما يظهر- كانت كتبا رسمية أصدرها البلاط الساساني. وترجم بجانبها بعض ما نقل إلى لغته من التراث اليوناني، إذ يقولون: إنه ترجم لأرسطو المقولات2، وبجانب ذلك نجده يترجم قصص كليلة ودمنة، وهي قصص ترجع إلى أصول هندية.. وقد عثر هرتل "hertel" على أحد أصول هذه القصص، وهو كتاب "ينج تانترا" الهندي كما عثر غيره على أصل آخر هو كتاب "هتو بادشا"، ووجد الباحثون في "المهابهارتا".

_ 1 انظر في الكتب الفارسية التي ترجمها ابن المقفع كتاب الفهرست ص 172. 2 الفهرست ص 348، وطبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة "طبع المطبعة الوهبية" 1/ 308.

بعض أصول منه1. ويرجح بعض الباحثين أن ابن المقفع زاد على الكتاب فصولا لم تكن في الأصل، وكذلك زاد بعض القصص، ويمكن أن تكون القصص المزيدة ليست من صنعه، فقد ترجم الكتاب بعده مرة أخرى، وزيدت فيه بعض زيادات2، ومن المحقق أنه لم يزد سوى ما سماه غرض الكتاب، أما ما يزعمه البيروني من أن زاد باب برزويه "قاصد تشكيك ضعفي العقائد في الدين وكسرهم للدعوة إلى مذهب المنانية، وإذا كان متهما فيما زاد لم يخل عن مثله فيما نقل"3، فغير صحيح، إذ كان هذا الفصل موجودا في الأصل الفارسي4. على أن ما قاله البيروني إلى أن الفرس استخدموا الكتاب بعد نقله، وقبل ترجمته إلى العربية في الدعوة لمذهب المانوية. وليس ذلك كل ما نقله ابن المقفع عن البهلوية، فله رسائل أخرى أشهرها الأدب الكبير والأدب الصغير، واليتيمة ورسالة الصحابة، ونراه يصرح في مقدمة الأدب الكبير بقوله: "منتهى علم عالمنا في هذا الزمان أن يأخذ من علمهم "يريد القدماء"، وغاية إحسان محسننا أن يقتدى بسيرتهم.. ومن ذلك بعض ما أنا كاتب في كتابي هذا من أبواب الأدب التي يحتاج إليها الناس"، وكثيرا ما يقول في هذا الكتاب: "احفظ قول الحكيم" أو"قالت الحكماء". ويقول في مقدمة الأدب الصغير: "وقد وضعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفا فيها عيون على عمارة القلوب، وصقالها وتجلية أبصارها، وإحياء للتفكير وإقامة للتدبير، ودليل على محامد الأمور ومكارم الأخلاق". فالكتابان بشهادته مترجمان، أو على الأقل تغلب الترجمة عليهما، وقد دار أولهما على السياسة والصداقة، ودار ثانيهما على الشيم والأخلاق، وتدخل في هذه المعاني القطع الباقية من اليتيمة، التي احتفظ بها ابن طيفور في كتابه المنظوم والمنثور، فالكتب الثلاثة في رأينا مترجمة على الأقل في أكثرها، وهي تصور ضربا من

_ 1 انظر مقدمة كليلة ودمنة لعبد الوهاب عزام "طبعة دار المعارف" ص 35، وما بعدها. 2 نفس المقدمة ص 42. 3 تحقيق ما للهند من مقولة للبيروني ص 76. 4 مقدمة كليلة ودمنة ص 44، وما بعدها.

الأدب الأخلاقي نما في بلاط الساسانيين، كان يروى عن بزرجمهر وغيره، وكان يراد به تثقيف الفرس بحكمة عملية خلقية تستمد من تجارب الحياة، وتكفل للإنسان عأن يعيش في العالم سعيدًا بعيدا عن المضار، وتدخل في هذا الضرب من الأدب الأخلاقي رسالة الصحابة، وهي لا تصل بتعليم الناس كيف يعيشون، وإنما تتصل بنظام الدولة، فالصحابة في هذه الرسالة، إنما يراد بهم صحابة الحكام والملوك، أو كما نقول الآن: حاشيتهم وجنودهم ورعيتهم، فهي تعرض لسياسة الدولة العامة، وقد يكون ابن المقفع زاد عليها تطبيقًا لأحوال الرعية الإسلامية والدولة العباسية، ولكنه على كل حال استمد في هذه الرسالة من أنظمة الملك الساسانية. وعلى هذا حمل ابن المقفع إلى العرب، والعربية أروع ما أنتجته العبقرية الإيرانية قبل الإسلام، مما كان له أثر كبير في الآداب العباسية، سواء منه ما اتصل بالأخلاق، وما اتصل بتاريخ الساسانيين، ومن سبقوهم من ملوك إيران، وكذلك ما اتصل بأنظمة ملكهم وحكمهم للرعية، ولم يكتف بذلك فقد نقل أيضا أجزاء من منطق أرسطو، كما نقل قصص كليلة ودمنة، وعنه نقلت إلى السريانية والعبرانية، واليونانية والفارسية الحديثة كما نقلت إلى اللغات الأوربية. والطريف أن حين قام بنقل هذا كله إلى لغتنا العربية لم تستعص عليه تلك اللغة، بل أظهرت من المرونة ما استطاعت به أن تحمل هذا التراث كله، ومن غير شك كانت كثرته إن لم يكن كله جديدة عليها، بمعانيها ومدلولاتها التي لم يكن يعرفها عرب الصحراء، ولا نريد أن نبالغ، فنقول: إن ابن المقفع أصاب التوفيق في كل ما ترجم، إذ يظهر أن ترجمته لمنطق أرسطو أو لأجزائه لم تكن موفقة كل التوفيق، ومن ثم حمل عليه الجاحظ في ترجمته لمعاني أرسطو1، ومن الحق أن ترجمة هذا المنطق لا تعد مقياسا عاما لترجمته، إذ كلنا نعرف صعوبة ترجمة الفلسفة، فما بالنا إذا كانت هذه الترجمة تصاغ لأول مرة، وعلى

_ 1 الحيوان 1/ 76.

كل حال إذا كان التوفيق قد أخطأه في ترجمة أرسطو، فإنه لزمه في ترجمة كليلة ودمنة، وما ترجمه من تراث الأدب الفارسي. وربما كانت حملة الجاحظ عليه في ترجمته لمنطق أرسطو، هي التي دفعت طه حسين إلى حملته على أساليب حملة عامة، فذهب يقول: إن "له عبارات من أجود ما نقرأ في العربية، وبنوع خاص في الأدب الكبير وفي كليلة ودمنة، ولكنه عندما يتناول المعاني الضيقة التي تحتاج إلى الدقة في التعبير يضعف، فيكلف نفسه مشقة ويكلف اللغة مشقة"، ويشبهه بالمستشرقين الذين يحسنون اللغة العربية فهما، وربما أعياهم الأداء فيها، وينصح لطلاب الأدب أن يحتاطوا عندما يريدون أن يتخذوا ابن المقفع نموذجا للتعبير والبلاغة، ويسوق دليلا على حكمه بعض أمثلة قليلة، نلاحظ في تضاعيفها اضطرابها في الضمائر، وكأنما فاته أن آثار ابن المقفع مضى عليها أكثر من ألف عام، قبل أن تطبع، كانت تتداولها فيها أيدي الناسخين الجانية، وأن ما لاحظه ربما رجعت آفاته إلى أصناف هؤلاء الناسخين. والحق أن طه حسين بالغ حين عده كأحد المستشرقين، وهو قد نشأ في بيئة عربية وفي آل الأهتم، وكان شاعرًا كما كان كاتبًا، وقد وجد في نفسه من قوة البيان ما جعله إمام المترجمين في عصره، وقد جعله صاحب الفهرست من البلغاء العشرة الذين قاموا على رأس أدباء العصر العباسي وكتابه1، وما زال القدماء يستشهدون بآرائه في الفصاحة والبلاغة، من ذلك قول الجاحظ في بيانه2: "لم يفسر البلاغة تفسير ابن المقفع أحد قط، سئل ما البلاغة؟ قال: البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة، فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون شعرا، ومنها ما يكون سجعا وخطبا، ومنها ما يكون رسائل، فعامة ما يكون من هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى أبلغ، والإيجاز هو البلاغة"2.

_ 1 الفهرست ص 182. 2 البيان والتبيين 1/ 115.

ويروي الجاحظ أن الكتاب الناشئين كانوا يدرسون آثاره ليتعلموا منها البيان، ويصقلوا عقولهم وألسنتهم1، وقد سخر مر السخرية من أحد هؤلاء الناشئين، إذ رآه يتعرض لقول ابن المقفع في كليلة ودمنة: "وكن كالنسر حوله الجيف، ولا تكن كالجيف حولها النسور"، ويقول: إنما كان ينبغي أن يقول بدلا من ذلك: "كن كالضرس حف بالتحف، ولا تكن كالهبرة2 تطيف بها الأكلة". قال الجاحظ: وأظنه أراد الضروس، فقال: الضرس، وهذا من الاعتراض عجب3. والحق أن ابن المقفع كان من البلاغة في الذروة، ويكفي أنه استطاع أن ينقل أهم ما عرفه في لغته من تراث عقلي، وتاريخي، وفلسفي، وأدبي إلى العربية مع الاحتفاظ لها بيكانها ومشخصاتها، ومن غير شك عانى في سبيل ذلك كثيرًا، فقد خرج بما كان يترجم، وينقل عن نطاق المعاني العربية السابقة إلى معان جديدة لم يسبق للغتنا أن أدتها، وهي معان كانت تزدحم عليه، وتتكاثر وتتنوع، ومع ذلك لم يستعص عليه التعبير عنه، وقد كانت حرية أن تحدث عنده اضطرابا في التراكيب، وأن تدخل في أساليبه صورا من الرطانة الأعجمية، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث، فقد ظلت العربية عنده محتفظة بأصولها الأولى، ومقوماتها الأساسية مع السلاسة والطلاوة، واقرأ له هذه الفقرة من كتاب الأدب الصغير4: "وسمعت العلماء قالوا: لا عقل كالتدبير ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق، ولا غنى كالرضا، وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل إلى تغييره، وأفضل البر الرحمة، ورأس المودة الاسترسال5، ورأس العقل المعرفة بما يكون، وما لا يكون، وطيب النفس حسن الانصراف عما لا سبيل إليه، وليس في الدنيا سرور يعدل صحبة الإخوان، ولا فيها غم يعدل فقدهم. لا يتم حسن الكلام إلا بحسن العمل كالمريض الذي قد علم دواء نفسه، فإذا هو

_ 1 ثلاث رسائل للجاحظ "نشر فينكل" ص 42. 2 الهبرة: القطعة من اللحم. 3 الحيوان 6/ 330. 4 انظر رسائل البلغاء لكرد على "الطبعة الثالثة" ص 35. 5 الاسترسال: الاسترسال: الائتناس والانبساط.

لم يتداو به يغنه علمه، والرجل ذو المروءة قد يكرم على غير مال كالأسد الذي يهاب، وإن كان عقيرًا1، والرجل الذي لا مروءة له، وإن كثر ماله كالكلب الذي يهون على الناس، وإن طوق وخلخل2، ليحسن تعاهدك نفسك بما تكون به للخير أهلا، فإنك إذا فعلت ذلك أتاك الخير يطلبك كما يطلب الماء السيل إلى الحدور". وذلك هو أسلوب ابن المقفع فيما بقي بين أيدينا من آثاره، وهو أسلوب واضح شفاف، ليس فيه تعقيد ولا إغراب، وإنما فيه الاسترسال العذب، وفيه الألفاظ القريبة، والعبارات المبسطة حسب الأغراض والمعاني التي كان ينقلها، وكان ينفر نفورًا شديدًا من الأغراب في اللفظ والتوعر فيه، وكان يقول بعض من حوله: إياك التتبع لوحشي الكلام طمعا في نيل البلاغة، فإن ذلك هو العي الأكبر"، كما كان يقول: "عليك بما سهل من الألفاظ مع التجنب لألفاظ السفلة"، وسئل ما البلاغة؟ فقال: "التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها"3. وابن المقفع بهذه الوصايا يضع بين أيدينا أسس أسلوبه، وهو أسلوب جديد لا شك أنه كان من أوائل من ثبتوا حدوده ورسومه، أسلوب يقوم على التوسط بين لغة الخاصة، وما قد يكون فيها من إغراب في اللفظ ولغة العامة، وما قد يكون فيها من ابتذال، أسلوب عباسي مولد، يلائم فيه ابن المقفع بين حاجات عصره الثقافية، وبين مقومات العربية وأصولها اللغوية والنحوية، وكان يدفعه هذا الأسلوب دفعا إلى أن يدرس الألفاظ، ويختبرها ويقارن بينها ويفاضل، حتى يظفر منها بما يستوفي معانيه من جهة، وما يتيح لها ضربا من البلاغة من جهة ثانية. وأكبر الظن أننا لا نسرف في القول حين نزعم أن ابن المقفع كان من أوائل من وطدوا هذا الأسلوب العباسي المولد، إن لم يكن أول من وطده وخاصة.

_ 1 عقيرًا: جريحًا. 2 طوق وخلخل: لبس الطوق والخلخال. 3 انظر في هذه النصوص أمالي المرتضى 1/ 137.

في ميدان الترجمة، وهذا أسلوب يقوم على السهولة والوضوح مع توفير الجزالة والرصانة، وكان يعمد فيه إلى الإيجاز، فالمعاني تؤدي بأقل الألفاظ دون أن تقصر عنها ودون أن تطول طولا يجحف بحقوقها، ولعل ذلك هو الذي جعله يعدل عن أسلوب السجع، وكذلك عن أسلوب الترادف الصوتي الذي سبق أن لاحظناه عند الوعاظ، وعند عبد الحميد الكاتب وأستاذه سالم، وليس معنى ذلك أنه لم يكن يهتم بالجمال المادي بتاتًا، وإنما معناه أنه كان مترجمًا، وكان يسعى إلى الدقة في الترجمة، فلم يتوسع في رصف الألفاظ وبسطها، حتى لا تخونه في أداء معانيه. لقد كانت غايته أن يوفق بين اللفظ الدال والمعنى المدلول، ومع ذلك لم ينس أبدا أن يكون لفظه جزلا رصينا مصقولا، وأن ينسقه في حركاته وأوضاعه تنسيقا مبينًا، لا يخفي أي شيء مما يحمله معنى أو صورة، وقد ظلت القرون التالية إلى قرننا الحاضر تتداول كثيرا مما ترجمه، وخاصة كليلة ودمنة والأدب الكبير، والأدب الصغير، وهذا الصمود للتداول الطويل مرجعه هذا التعاون الوثيق بين المعنى الحصيف، واللفظ الرشيق.

سهل بن هرون: أصله وحياته وثقافته

سهل بن هرون: أصله وحياته وثقافته ... 4- سهل بن هارون: أصله وحياته وثقافته إذا تركنا عصر ابن المقفع، وتقدمنا إلى عصر هارون الرشيد التقينا بسهل بن هارون، وهو فارسي من دستميسان1، كورة بين البصرة وواسط والأهواز، ويعين الحصري القرية التي ولد فيها، فيقول: إنها ميسان2، واختلف الرواة في اسم جده، فهو في الفهرست رامنوي أو راهبون، وهو في البيان والتبيين راهبوني3، وهو مثل ابن المقفع لا يعرف بالضبط متى كان مولده، أما وفاته فكانت في عام 215 للهجرة4، وقد ترك موطنه أول الأمر إلى البصرة حيث

_ 1 الفهرست "طبعة القاهرة" ص 174. 2 زهر الآداب 2/ 258. 3 البيان والتبيين 1/ 52. 4 معجم الأدباء "طبعة القاهرة" 11/ 267.

تخرج فيها، ثم انتقل إلى بغداد، فكتب ليحيى بن خالد البرمكي، وله أشعار في مديحه1، ويقال: إنه خلفه على الدواوين2، ويظهر أنه ظل يشتغل فيها لعهد الأمين3، ولما ولي المأمون الخلافة قدمه إليه الفضل بن سهل فأعجب به، وجعله خازنًا بدار الحكمة4، وظل بها إلى أن توفي. ودلائل كثيرة تدل على أنه كان مثقفا ثقافة ممتازة بجميع معارف عصره، وأنه كان أحد النقلة من لسانه الفارسي إلى العربية5، ولكن أهميته لا ترجع إلى ما ترجم، بل ترجع إلى ما صنف وألف، ومن أجل ذلك كان يختلف عن ابن المقفع، فابن المقفع أهميته الأولى في تاريخ النثر العربي، إنما ترجع إلى أنه كان مترجما، وأنه مرن أساليب العربية على حمل الثقافات الأجنبية، أما سهل فكان أديبا تبدو شخصيته فيها يؤلف، ويدبج، ويحبر. ويجمع من ترجموا لسهل على أنه كان شعوبي المذهب، شديد العصبية على العرب، ويقول صاحب الفهرست: إن له في ذلك كتبا كثيرة6، وعلى نحو ما اشتهر بالشعوبية اشتهر بالحكمة، حتى لقبوه "بزرجمهر الإسلام"7، ووصفه الجاحظ فقال: "كان سهل سهلا في نفسه، عتيق8 الوجه، حسن الشارة، بعيدا من الفدامة9، تقضي له بالحكمة قبل الخبرة، وبرقة الذهن قبل المخاطبة، وبدقة المذهب قبل الامتحان، وبالنبل قبل التكشف"10، ويلاحظ ابن النديم أن الجاحظ كان يفضله، ويصف براعته وفصاحته، ويحكى عنه في كتبه11، وقد صرح مرارا بأنه كان يلقاه12، وروى كثيرا من نوادره، فمن

_ 1 الحيوان 3/ 466، 5/ 603 والبيان والتبيين 3/ 352. 2 شرح قصيدة ابن عبدون لابن بدرون "طبعة دوزي" ص 243 وما بعدها. 3 البيان والتبيين 1/ 346. 4 معجم الأدباء 11/ 267. 5 البيان والتبيين 3/ 29. 6 الفهرست ص 174. 7 زهر الآداب 2/ 258 وسرح العيون "طبعة المطبعة الوطنية" ص 132. 8 عتيق الوجه: جميل. 9 الفدامة: العي. 10 البيان والتبيين: 1/ 89. 11 الفهرست ص 174. 12 البيان والتبيين 1/ 238 والحيوان 7/ 202.

ذلك أنه تندر على أحد جيرانه، وهو صغير يختلف إلى الكتاب، فقال: نبيت بغلك مبطونا فرغت له ... فهل تماثل أو نأتيك عوادا1 ويدل هذا على أنه كانت فيه نزعة إلى الفكاهة منذ حداثته، وتروي له في ذلك طرائف كثيرة، منها أن رجلًا لقيه فقال له: هب لي ما لا ضرر به عليك، فقال: وما هو يا أخي؟ قال: درهم، قال سهل: "لقد هونت الدرهم، وهو طائع الله في أرضه لا يعصي، وهو عشر العشرة، والعشرة عشر المائة، والمائة عشر الألف دية المسلم، ألا ترى إلى أين انتهى الدرهم الذي هونته؟ وهل بيوت المال إلا درهم على درهم"2، وقال دعبل الشاعر: "أقمنا عند سهل بن هارون، فلم نبرح، حتى كدنا نموت من الجوع، فلما اضطررناه، قال: يا غلام! ويلك غدنا! قال: فأتينا بقصعة "بصفحة" فيها مرق، فيه لحم ديك هرم، ليس قبلها ولا بعدها غيرها، لا تحز فيه السكين، ولا تؤثر فيه الأضراس، فاطلع في القصعة وقلب بصره فيها، ثم أخذ قطعة خبز يابس، فقلب جميع ما في القصعة، حتى فقد الرأس من الديك، فبقي مطرقا ساعة، ثم رفع رأسه إلى الغلام، فقال: أين الرأس؟ فقال: رميت به. قال سهل: ولم رميت به؟ قال: لم أظنك تأكله، قال: ولأي شيء ظننت أني لا آكله؟ فوالله إني لأمقت من يرمي بجليه، فكيف من يرمي برأسه؟ ثم قال له: لو لم أكره ما صنعت إلا للطيرة "التشاؤم"، والفأل لكرهته، الرأس رئيس، وفيه الحواس "الخمس"، ومنه يصبح الديك، ولولا صوته ما أريد، وفيه فرقة الذي يتبرك به، وعينه التي يضرب بها المثل، يقال: شراب كعين الديك "في الصفاء" ودماغه عجيب لوجع الكلية، ولم أر عظما قط أهش تحت الأسنان من عظم رأسه. فهلا إذ ظننت أني لا آكله ظننت أن العيال يأكلونه؟ وإن كان بلغ من نبلك أنك لا تأكله، فإن عندنا من يأكله، أما علمت أنه خير من طرف الجناح ومن الساق والعنق، انظر أين هو، قال:

_ 1 الحيوان 3/ 66. 2 سرح العيون ص 133.

والله ما أدري أين رميت به، قال: لكني أدري أنك رميت به في بطنك، والله حسيبك"1. ويروى أن أبا الهذيل العلاف المتكلم المعروف طلب إليه رقعة إلى الحسن بن سهل يوصيه به، فكتب له كتابا، وذعهب به إلى الحسن، فلما فضه أغرب في الضحك، إذ وجد فيه هذه الأبيات: إن الضمير -إذا سألتك حاجة ... لأبي الهذيل خلاف ما أبدي فامنحه روح اليأس ثم امدد له ... حبل الرجاء بمخلف الوعد حتى إذا طالت شقاوة جده ... وعنائه فاجبهه بالرد وإن استطعت له المضرة فاجتهد ... فيما يضر بأبلغ الجهد فلما راجعه أبو الهذيل قال له: أين عزب عنك الفهم؟ أما سمعت قولي: إن الضمير خلاف ما أبدي؟ فلو لم يكن ضميري الخير ما قلت هذا"2، وقالوا: إن المأمون انحرف عنه، فدخل عليها يومًا، وقال: يا أمير المؤمنين! إنك ظلمتني وظلمت فلانا الكاتب، فقال له: ويلك وكيف؟ قال: رفعته فوق قدره، ووضعتني دون قدري، إلا أنك له في ذلك أشد ظلما، قال: كيف؟ قال: لأنك أقمته مقام هزؤ وأقمتني مقام رحمة، فضحك المأمون، وقال له: قاتلك الله! ما أهجاك! "3. وقصوا عنه أنه خاطب بعض الأمراء، فقال له: كذبت، فقال: أيها الأمير! إن وجه الكذاب لا يقابلك -يعني الأمير بذلك- لأن وجه الإنسان لا يقابله4. وكل هذه الأحاديث والنوادر المروية عن سهل تدل على ذكائه، وفطنته وخفه روحه، وصدق الجاحظ إذ يقول: إنه كان سهلا في نفسه تحكم له برقة الذهن ودقته، فهو فكه، وهو لسن شديد العارضة، وفي لهجة لسانه وأسلوب منطقه ما يجعلنا نحس الصلة الشديدة بينه، وبين الجاحظ، إذ يعد امتدادا -من بعض الوجوه- لهذا اللسان ونموا لهذا القعل وما طوى فيه من حجاج وجدل.

_ 1 الحيوان 2/ 374 وانظر سرح العيون ص133. 2 سرح العيون ص 134. 3 نفس المصدر ص 134. 4 سرح العيون ص 134.

صنعة سهل في رسائله وكتبه

5- صنعه سهل في رسائله وكتبه: كان سهل خطيبا كاتبا شاعرا1 يقول الجاحظ: "ومن الخطباء الشعراء الذين جمعوا الشعر والخطب، والرسائل الطوال والقصار والكتب الكبار المجلدة، والسير الحسان المدونة، والأخبار المولدة سهل بن هارون بن راهبوني الكاتب، صاحب كتاب ثعالة وعفراء في معارضة كتاب كليلة ودمنة، وكتاب الإخوان2، وكتاب المسائل3، وكتاب المخزومي والهذلية، وغير ذلك من الكتب"4. ومن كتبه التي ذكرها ابن النديم كتاب النمر والثعلب، وكتاب الوامق والعذراء، وكتاب ندود وودود ولدود وكتاب الغزالين، وكتاب إلى عيسى بن أبان في القضاء، وكتاب تدبير الملك والسياسة5. ويدل الكتابان الأخيران على أنه عني -مثل ابن المقفع- بالكتابة في شئون الحكم والسياسة، ولعل أهم هذه الكتب جميعًا كتاب ثعالة وعفراء الذي ألفه فصولا في قصص الحيوان معارضة لكتاب كليلة ودمنة، ولم يصلنا هذا الكتاب إنما وصلتنا فقرة منه في كتاب زهر الآداب للحصري، وهي حكمة تمضي على هذا النمط: "اجعلوا أداء ما يجب عليكم من الحقوق مقدما قبل الذي تجودون به من تفضلكم، فإن تقديم النافلة مع الأبطال عن الفريضة مظاهر على وهن العقيدة وتقصير الروية، مصر بالتدبير مخل بالاختيار، وليس في نفع تحمد به عوض من

_ 1 انظر في أشعاره زهر الآداب 2/ 258-259 والبيان والتبيين 1/ 196، 3/ 352 والحيوان 3/ 466، 5/ 603-604. 2 في الفهرست: كتاب إسباسيوس في اتحاد الإخوان. 3 لعله كتاب الرسائل الذي ذكر في الفهرست. 4 البيان والتبيين 1/ 52. 5 انظر الفهرست ص 174.

فساد المروءة ولزوم النقيصة"، ويقول الحصري عقب هذه الفقرة: وكتابه هذا مملوء حكما وعلمًا1. ويكبر الجاحظ دائمًا من بلاغة سهل وفصاحته، ويظهر أنه أهم كاتب ظهر خلال القرن الثاني الهجري، يقول صاحب سرح اليعون: "انفرد سهل في زمانه بالبلاغة والحكمة، وصنف الكتب معارضا بها كتب الأوائل"2، ويقول الجاحظ: إنه كان في أول أمره إذا ألف كتابا طعن الناس عليه، فكان ينسب ما يؤلفه إلى من عرفوا بالتأليف مثل سهل، فيشيع الكتاب، ويحمله الناس مع الحمد والثناء3. وإذا ذهبنا نتعقب آثار سهل كي نحكم حكما دقيقا على صناعته، وفنه في كتبه ورسائله لم نجد إلا بقية ضئيلة من هذا المجهود الضخم الذي وصفه الجاحظ، وابن النديم وأمثالهما، ولولا أن الجاحظ احتفظ لنا في كتابي البخلاء، والبيان والتبيين بأطراف من عمله ما استطعنا أن نصدر حكما دقيقا على صياغته ولا على صنعته، ولعل أهم ما سجله الجاحظ له رسالته التي استفتح بها كتاب البخلاء، وفيها نرى سهلا يحتج للبخل احتجاجا فيه حوار الجاحظ وجدله، وفيه أيضا فصاحته ولسنه، بحيث يختلط الأمر على الناظر في هذه الرسالة، فيخيل إليه أنها ربما كانت من صنع الجاحظ، وإنما نحلها سهلا لمأرب في نفسه، ولكن هذا الظن ينمحي إذا قرأنا ما بقي من نثر سهل في مواطن أخرى، ومن يرجع إلى الرسالة يجدها تذم الرم وتزري به، بينما تمدح، البخل وتثني عليه، وهو ثناء أراد به التعصب على العرب، وذم صفة الكرم التي لهج شعراؤهم بذكرها، ومدح ما يضادها من الشح والبخل، ويقال: إنه أرسل بها إلى الحسن بن سهل ليكافئه عليها، فأجابه على ظهرها: "وصلت رسالتك، ووقفنا على نصيحتك! وقد جعلنا المكافأة عنها القبول منك، والتصدق لك والسلام"4. وقد توجه بالرسالة في مفتتحها إلى

_ 1 زهر الآداب 2/ 258. 2 سرح العيون ص 132. 3 التنبيه والإشراف للمسعودي "طبع ليدن" ص 76. 4 الفهرست ص 174.

بني عمه، ويقول القدماء: إنه يقصد بني عمه من آل راهبون، وأكبر الظن أنه يقصد بهم جماعة العرب لا آل راهبون كما ظن القدماء، وهو يستهلها على هذا النمط1: "بسم الله الرحمن الرحيم. أصلح الله أمركم، وجمع شملكم، وعلمكم الخير وجعلكم من أهله، قال الأحنف بن قيس: يا معشر بني تميم! لا تسرعوا إلى الفتنة، فإن أسرع الناس القتال أقلهم حياء من الفرار، وقد كانوا يقولون: إذا أرادت أن ترى العيوب جمة فتأمل عيابا، فإنه إنما يعيب بفضل ما فيه من العيب، وأول العيب أن تعيب ما ليس بعيب، وقبيح أن تنهي عن مرشد أو تغري بمشفق، وما أردنا بما قلنا إلا هدايتكم وتقويمكم، وإلا إصلاح فسادكم، وإبقاء النعمة عليكم، ولئن أخطأنا سبيل إرشادكم، فما أخطأنا سبيل حسن النية فيما بيننا وبينكم، ثم قد تعلمون أنا ما أوصيناكم إلا بما قد اخترناه لأنفسنا قبلكم، وشهرنا بهفي الآفاق دونكم. فما كان أحقكم في تقديم حرمتنا بكم أن تراعوا حق قصدنا بذلك إليكم، وتنبيهنا على ما أغلفنا من واجب حقكم، فلا العذر المبسوط بلغتم، ولا بواجب الحرمة قمتم". وأظن أن صنعة سهل قد استبانت لنا في هذه الأسطر القليلة، إذ نراه يعني في رسالته ببسط الأدلة، وكأنه يقدم حوارا عنيفا، فهو يدلي بأقيسة وقضايا، وآثار مروية، وليس هذا كل ما يميز صنعته التي نلمح فيها أثر المنطق وتعلم الجدل، بل يميزها شيء آخر أهم من ذلك، وهو ما يعمد إليه من بسط العبارة بسطا يظهر فيه التقطيع الصوتي والترادف الموسيقي، واستمر معه في الرسالة، فسترى هذا العنصر في فنه، وصياغته يتضح أكثر إذ يقول: "عبتموني حين ختمت على سد "سل" عظيم، وفيه شيء ثمين من فاكهة نفيسه، ومن رطبة غريبة، على عبد نهم، وصبى جشع، وأمة لكعاء، وزوجة

_ 1 انظر الرسالة بطولها في فاتحة كتاب البخلاء للجاحظ.

خرقاء، وليس من أصل الأدب، ولا في ترتيب الحكم، ولا في عادات القادة، ولا في تدبير السادة، أن يستوي في نفيس المأكول، وغريب المشروب، وثمين الملبوس، وخطير المركوب، والناعم من كل فن، واللباب من كل شكل، التابع والمتبوع، والسيد والمسود، كما لا تستوي مواضعهم في المجلس، ومواقع أسمائهم في العنوانات وما يستقبلون به من التحيات.. وعبتموني بخصف "إصلاح" النعال، وبتصدير القميص، وحين زعمت أن المخصوفة أبقى، وأوطأ وأرقى، وأنفى للكبر، وأشبه بالنسك، وأن الترقيع من الحزم، وأن الاجتماع مع الحفظ، وأن التفرق مع التضييع، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ولقد لفقت سعدى بنت عوف إزار طلحة، وهو جواد قريش، وهو طلحة الفياض". وما من ريبفي أن صوت سهل قد اتضح لنا الآن بجميع خصائصه، فهو يعمد إلى الجدل والدقة في الحوار كما يعمد إلى شيء طريف في أسلوبه، إذ نرى الألفاظ تنوازن لكن لا في شكل سجع، بل في شكل تقطيعات دقيقة، وكأني بسهل لم يكن يعمد إلى أداء أفكاره بلفظ فصيح فقط كما كان يصنع ابن المقفع، بل كان يعمد إلى ضروب من التوقيع الصوتي في اللفظ، حتى تستقيم لأسلوبه فنون من الجمال المادي الذي يخلب سامعيه، كي يؤثر في وجدانهم وعواطفهم، بجانب ما يؤثر به في عقولهم من حجاجه وجدله، والتماسه للبراهين، والأدلة على أفكاره. وهذا التقطيع الصوتي في أسلوب سهل اقترن به عنصر آخر في صنعته، هو عنصر الترادف الذي أشرنا إليه، وارجع إلى هذه القطعة التي رويناها له فسترى كل معنى لا يؤدى أداء واحدا في عبارة واحدة، بل يؤدي أداءين أو أكثر حتى يتم لسهل ما يريد من توقيع صوتي، وتعادل موسيقي بين ألفاظه وعباراته، وقد جره ذلك إلى ضروب من الترادف في تراكيبه، ولكنه ترادف طريف أو قل بعبارة أدق إنه ترادف فني، فقد كان سهل يريد أن يؤدي به خصائص فنية بجانب ما يؤدي من خصائص ذهنية، وعلى هذا النحو كانت تندمج في أساليبه

خصائص موسيقية في خصائص أخرى عقلية نلمحها في هذا الجدل، وهذا الحوار وما يبدو عليه من تلاوين عقلية أحدثتها الثقافة الفلسفية في تفكيره، وأدائه لمعانيه، وقد كان يعرف كيف يوازن بين هذه التلاوين العقلية، وما سبقها من تلاوين موسيقية، فتخرج أساليبه وقد التمعت عليها شيات من التأمل والعقل الدقيق، كما التفت عليها شيات أخرى من التوقيع، والترادف الموسيقي، وسنرى هذه الشيات جميعا تمتد تحت أعيننا في كل ما دبج الجاحظ، وحبره من كتب ورسائل، وإنه ليتأثر في هذه النزعة سهلا من طرف، وبيئة المتكلمين الذين نشأ فيهم من طرف آخر، وكأنما كان أسلوب العصر هو أسلوب الجدل الحوار، ولعل مما يشهد لذلك عند سهل ما يروى من أن شخصا مدح الذهب فأطنب، ثم قام النظام فذج الزجاج وأطنب، فاعترضهما سهل يفضل الزجاج على الذهب في رسالة طويلة لم يبق لنا منها إلا هذه اللمعة1: "الزجاج مجلو نوري، والذهب متاع سائر، والشراب في الزجاج أحسن منه في كل معدن، لا يفقد معه وجه النديم، ولا يثقل اليد، ولا يرتفع في السوم، واسم الذهب يتطير منه، ومن لؤمه سرعته إلى اللئام، وهو فاتن فإنك "غالب" لمن صانه، وهو أيضا من مصايد إبليس، ولذلك قالوا: أهلك الرجال الأحمران "الذهب والزعفران". والزجاج لا يحمل الوضر، ولا يداخله الغمر2، ومتى غسل بالماء وحده عاد جديدا، وهو أشبه شيء بالماء، وصفته عجيبة، وصناعته أعجب". ونحن لا نجد أي فارق بين هذه الطريقة في الحجاج، وبين طريقة الجاحظ في حجاجه، إذ كان يركب مثل هذا المركب في كل ما يكتب ويؤلف، كأنه يريد أن يغرب عن الناس دائما بتفكيره، فهو يخرج على مألوفهم ومعتادهم بآراء شاذة يسوقها في جدل عنيف، وقد رويت في البيان والتبيين لسهل قطعة في الخطابة والخطباء، وهي من هذا اللون، إذ نرى سهلا فيها يفضل الخطيب قبيح السمت على الخطيب حسن السمات على هذا النحو3:

_ 1 سرح العيون ص 135. 2 الغمر: الدسم، والوضر: وسخه. 3 انظر البيان والتبيين 1/ 89.

"لو أن رجلين خطبا أو تحدثا، أو احتجا أو وصفا، وكان أحدهما جميلا، بهيا، ذا لباس نبيلا، وذا حسب شريفا، وكان الآخر قليلا قميئا، وباذ الهيئة دميما، وخامل الذكر مجهولًا، ثم كان كلاهما في مقدار واحد من البلاغة، وفي وزن واحد من الصواب، لتصدع عنهما الجمع، وعامتهم تقضي للقليل الدسيم، على النبيل الجسيم، وللباذ الهيئة على ذي الهيئة، ولشغلهم التعجب منه عن مساواة صاحبه، ولصار التعجيب منه سببا للعجب به، ولكان الإكثار من شأنه علة للإكثار في مدحه؛ لأن النفوس كانت له أحقر، ومن بيانه أيأس، ومن حسده أبعد، فإذا هجموا منه على ما لم يحتسبوه، وظهر منه خلاف ما قدروه، تضاعف حسن كلامه في صدورهم، وكبر في عيونهم؛ لأن الشيء من غير معدنه أغرب، وكلما كان أغرب كان أبعد في الوهم، وكلما كان أبعد في الوهم كان أطراف، وكلما كان أطرف كان أعجب، وكلما كمان أعجب كان أبدع، وإنما ذلك كنوادر كلام الصبيان، وملح المجانين، فإن ضحك السامعين من ذلك أشد، وتعجبهم به أكثر، والناس موكلون بتعظيم الغريب، واستطراف البديع، وليس لهم في الموجود الراهن المقيم، وفيما تحت قدرتهم من الرأي، والهوى مثل الذي لهم في الغريب القليل، وفي النادر الشاذ، ولك ما كان في ملك غيرهم، وعلى ذلك زهد الجيران في عالمهم، والأصحاب في الفائدة من صاحبهم، وعلى هذا السبيل يستطرفون القادم عليهم، ويرحلون إلى النازح عنهم، ويتركون من هم أعم نفعا، وأكثر في وجوه العلم تصرفا، وأخف مئونة وأكثر فائدة، ولذلك قدم بعض الناس الخارجي على العريق1، والطارق على التليد، وكان يقول: إذ كان الخليفة بليغا والسيد خطيبا، فإنك تجد جمهور الناس وأكثر الخاصة فيهما على أمرين: إما رجلا يعطي كلاهما من التعظيم والتفضيل، والإكبار والتبجيل، وعلى قدر حالهما في نفسه، وموقعها من قلبه، وإما رجلا تعرض له التهمة لنفسه فيما، والخوف من أن يكون

_ 1 الخارجي: يخرج ويشرف بنفسه من غير أن يكون له قديم.

تعظيمه لهما، يوهمه من صواب قولهما، وبلاغة كلامهما ما ليس عندهما، حتى يفرط في الإشفاق، ويسرف في التهمة، فالأولى يزيد في حقهما الذي هلما في نفسه، والآخر ينقصهما من حقه لتهمته لنفسه، وإذا كان الحب يعمى عن المساوئ، فالبعض يعمى عن المحاسن، وليس يعرف حقائق مقادير المعاني ومحصول حدود لطائف الأمور إلا عالم حكيم، ومعتدل الأخلاط عليم، وإلا القوي المنة، والوثيق العقدة، والذي لا يميل مع ما يستميل الجمهور الأعظم والسواد الأكبر". وأنت ترى في هذه القطعة المجموعتين من التلاوين العقلية، والصوتية تلتقيان في أسلوب سهل في غير مشقة ولا تكلف، إذ تندمج في صياغته القدرة على التحليل والتعليل بالقدرة على صوغ اللفظ، وتحبيره والاتساع به حتى يؤدي ضروبا من التوقيع الصوتي والترادف الموسيقي، وما من شك في أن ذلك كله كان خطوة نحو أسلوب الجاحظ، الذي سنراه ينهض نهوضا واسعا بالطرفين من التلاوين العقلية والصوتية، ومهما يكن فقد كان سهل يوفر لألفاظه، ومعانيه عناية واسعة، وهي عناية جعلته أحد البلغاء عصره في صنع الرسائل الطويلة وتحبيرها، إذ كان ما يزال يحتال على الرسالة من رسائله بتلاوينه العقلية، وتحاسينه الصوتية، فإذا هي تستوي في صورة بديعة من الفن والصناعة، والجمال والطلاوة.

الجاحظ: نشأته وثقافته وحياته

6- الجاحظ: نشأته وثقافته وحياته: يوضح الجاحظ على رأس كتاب العصر العباسي غير مدافع ولا منازع، وهو يرجع -فيما يظهر- إلى أصل غير عربي1، وولد في البصرة حول عام 159هـ ونشأ فيها نشأة متواضعة، إذ يزعم الرواة أنه نشأ يبيع الخبز والسمك بسيحان2

_ 1 نزهة الألبا في طبقات الأدبا لابن الأنباري ص254، وانظر أمالي المرتضى 1/ 194 ومعجم الأدباء لياقوت 16/ 74. 2 معجم الأدباء 16/ 74.

أحد أنهار بلدته، وهذا هو كل ما لدينا عن نشأته وحداثته، على أننا لا نمضي معه في حياته حتى نراه يترك نهر سيحان إلى أنهار الثقافة في عصره، فهو يغدو على المربد يسمع من الأعراب الفصحاء، ويختلف إلى حلقات العلماء في المسجد الجامع، يأخذ عن علماء اللغة وغيرهم، وكانت أهم حلقة تعجبه حلقة المتكلمين، وأقبل على قراءة كل ما ترجم من الثقافات الأجنبية، ويقصون عن شغفه بالقراءة قصصًا كثيرة، فهم يقولون: إنه كان لا يقع في يده كتاب إلا ويقرأه من أوله إلى آخره1، ويروي صاحب الفهرست أنه كان يكتري دكاكين الوراقين، ويبيت فيها للقراءة والنظر2. وهذا العكوف على القراءة هو الذي جعل كتبه، ورسائله أشبه ما تكون بدوائر معارف، فليس هناك جدول من جداول الثقافة في عصره، إلا وتسربت منه فروع، ومنعطفات إلى كتابات وتأليفاته، وإن كتبه من هذه الناحية لتشبه تمام الشبه معارضنا الحديثة، فأنت منذ دخولك أنت منذ دخولك في فواتح هذه المعارض تلقى صناعات مختلفة من كل جنس، وكذلك أنت منذ دخولك في كتب الجاحظ تجده يعرض تحت بصرك جميع ألوان الثقافة التي عاصرته من هندية، وفارسية ويونانية وعربية، وهو يجمع ذلك في شكل مشعث، إذ بينما تراه بتحدث إليك عن حديث شريف أو آية قرآنية، إذ هو يتحدث عن حكمة يونانية، وبينما يحدثك عن زرادشت والمانوية، إذ هو يحدثك عن الإسلام والنبوة، وبينما يحدثك عن العرب، وشعرهم إذ هو يحدثك عن نظرية الكمون عند المعتزلة، أو عن نظريته في أن المعارف طباع، وحتى هو إن كتب في البيان عند العرب تجده يبحث لك عن رأي الهند واليونان والفرس في البلاغة. وكان الجاحظ من المعتزلة، وهو تلميذ النظام في اعتزاله3، وأشاد به مرارًا في حيوانه كما أشاد بغيره من المعتزلة أمثال بشر بن المعتمر، وثمامة بن الأشرس وأبي الهذيل العلاف وأضرابهم، وقد استطاع خلال اعتزاله أن ينفذ إلى تأليف

_ 1 أمالي المرتضى 1/ 194. 2 الفهرست ص 169، وانظر معجم الأدباء 16/ 75. 3 نزهة الألبا ص 254.

مجموعة من الآراء تعصبت لها طائفة من المعتزلة سميت باسم الجاحظية1، ومهما يكن فقد كان الجاحظ من طائفة المعتزلة، وهي طائفة عرفت في هذا العصر بكثرة الجدل والحوار كما عرفت بسعة ثقافتها، واتصالها بجميع ألوان المعارف لعصرها، وخاصة المعارف اليونانية. ولم يشتهر المعتزلة في العصر العباسي بجدلهم وثقافتهم فقط، بل اشتهروا بشيء مهم أيضا، وهو فصاحتهم وبلاغتهم حتى ليقول الجاحظ: "إن كبار المتكلمين ورؤساء النظارين كانوا فوق أكثر الخطباء، وأبلغ من كثير من البلغاء"2. وقد وصفهم صاحب الانتصار فقال: "إن الكلام لهم دون سواهم"3، ويقول صاحب المقابسات: "إن طريقتهم مؤسسة على مكايلة اللفظ باللفظ، وموازنة الشيء بالشيء، والاعتماد على الجدل"4، ويظهر أيضا أنهم كانوا يعتمدون في جدلهم على الاستشهاد بالشعر، ويقول المرتضى عن أبي الهذيل العلاف: "كان يحفظ كثيرا من الشعر العربي ويستشهد به في مجالسه، قال المبرد: ما رأيت أفصح من أبي الهذيل والجاحظ، وكان أبو الهذيل أحسن مناظرة، شهدته في مجلس، وقد استشهد في جملة كلام بثلاثمائة بيت"5، وتوفي أبو الهذيل حوالي عام 232هـ. وربما كان من تأثيره ما نجده عند الجاحظ في كتبه من كثرة استشهاده بالشعر، وقد يكونان هما جميعا يتأثران بطريقة غيرهما من المعتزلة في هذا الاستشهاد، بمعنى أنه استقر قبلهما عند أبناء مذهبهما. ومهما يكن فقد لقف الجاحظ في بيئة المعتزلة الجدلة اللسنة فصاحته، وبيانه متأثرا بكتابات عصره، وخاصة كتابات سهل بن هارون الذي كان يشغف به، كما لاحظ ابن النديم في فهرسته، ونحن لا نصل إلى القرن الثالث حتى نجده وقد استوت له شهرة فائقة بين كتاب عصره، ولعل ذلك ما جعل المأمون يطلب

_ 1 انظر الفرق بين الفرق لأبي منصور البغدادي، طبع مطبعة المعارف ص 160 -162 حيث عرض للرد على الجاحظية وآرائها. 2 البيان والتبيين 1/ 39. 3 الانتصار لابن الخياط "طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر" ص 72. 4 المقابسات "طبع مصر" ص 223. 5 المنية والأمل ص 26.

إليه أن يكتب له رسالة في العباسية والاحتجاج لها، ويقال: إنه أقيم على ديوان الرسائل غير أنه لم يمكث فيه سوى ثلاثة أيام1، وكأنه لم يستطع الخضوع لنظم الدواوين، وما يقتضيه سير العمل فيها فوجدناه يهجرها إلى داره، وما عكف عليه من إدمان القراءة والتأليف، ويظهر أن كبراء الدولة كانوا يكفونه حاجته، فقد روى أن ابن الزيات أعطاه في كتاب الحيوان خمسة آلاف دينار، وأعطاه ابن أبي دؤاد في البيان والتبيين خسمة آلاف دينار ثانية، كما أعطاه إبراهيم بن العباس الصولي خمسة آلاف ثالثة في كتاب الزرع والنخل2، أما الفتح بن خاقان، وزير المتوكل الذي صنف له رسالته في فضائل الترك، فقد أجرى عليه راتبا شهريا كان يتقاضاه من خزانة الدولة3. وعلى هذا كان الجاحظ يتصل بكبار رجال الدولة العباسية، وكانوا يوادونه ويصادقونه، ويقال: إنه كان صديقا لابن الزيات مقربا منه، فلما قبض عليه وأودع في التنوير فر الجاحظ هاربا خوفا من أن يناله نفس عقابه، ولما قبض عليه، وقدم إلى ابن أبي دؤاد عدو ابن الزيات لقيه لقاء جافا، فاعترضه قائلا: "خفض عليك -أيدك الله! - فوالله لأن يكون لك الأمر علي خيرا من أن يكون لي عليك، ولأن أسيء وتحسن أحسن في الأحدوثة من أن أحسن وتسيء، ولأن تعفو عني في حال قدرتك أجمل بك من الانتقام مني، فعفا عنه"4، وعاد إلى البصرة يؤلف، ويكتب هذه المصنفات، والكتب التي كان يتعلق بها العامة والخاصة تعلقا شديدًا5، وربما كان من أسباب ذلك ما امتاز به من ميل إلى التندر، والدعابة حتى ليقول بن أبي دؤاد: "إني أثق بظرفه"6، ويصف من جاءوا بعده كتبه، فيقولون: إنها مكتوبة في ضروب من الجد والهزل7، ومن طرف الجاحظ في ذلك أنه قال عن نفسه: نسيت كنيتي

_ 1 معجم الأدباء 16/ 79. 2 انظر في ذلك نفس المصدر 16/ 106. 3 انظر معجم الأدباء 16/ 99. 4 أمالي المرتضى 1/ 95، "ومعجم الأدباء 16/ 79". 5 معجم الأدباء 16/ 98. 6 نزهة الأليا ص258. 7 معجم الأدباء 16/ 76.

ثلاثة أيام حتى أتيت أهلي فقلت لهم: بم أكنى؟ فقالوا: بأبي عثمان1، ويروى أنه حفظ رجلا أعجميا نسبا يدعيه لنفسه في العرب، فلما حفظه قال له: الآن لآتته علينا، فقال الرجل: سبحان الله! إن فعلت ذلك فأنا إذا دعي2، وهذا جانب واسع في الجاحظ، ومن خير ما يصوره كتاب البخلاء، وما رواه فيه من نوادرهم، وفكاهاتهم. والحق أن الجاحظ كان شخصية فكهة كما كان شخصية لسنة، وقد عني بتأليف الكتب والرسائل، وأكثر من ذلك، حتى قالوا: إنه ترك نيفا ومائة وسبعين كتابا، ومن يرجع إلى الثبت الطويل الذي كتبه في أول حيوانه عن مؤلفاته يندهش لكثرة ما ألف وكتب، ولعل ذلك هو أساس شهرته، فقد طار اسمه في الآفاق حتى في عصره وزمنه، قص الرواة أنه قيل لأبي هفان: لم لا تهجو الجاحظ وقد ندد بك وأخذ بمخنقك، فقال: أمثلي يخدع عن عقله، والله لو وضع رسالة في أرنبة أنفي لما أمست إلا بالصين شهرة، ولو قلت فيه ألف بيت لما طن منها بيت في ألف سنة3، ويروون أن أندلسيا قرأ في موطنه كتابيه "البيان والتبيين" و"التربيع والتدوير"، فهاجر إليه يريد لقاءه، ويزعمون أن هذا الأندلسي، قال في بعض حديثه كان طالب العلم بالمشرق يشرف عند ملوكنا بلقاء أبي عثمان4. ومن المحقق أن الجاحظ نال شهرة مدوية في عصره وبعد عصره، إذ نجد النقاد والأدباء يلهجون دائما بمدحه، والثناء عليه حتى ليقولون: إن كتبه رياض زاهرة ورسائل مثمرة5، وكان ابن العميد، يقول: إن الناس عيال عليه في البلاغة والفصاحة، واللسن والعارضة6، وكان يقول أيضا: إن كتب الجاحظ تعلم العقل أولا والأدب ثانيا7، ومع ذلك كان الجاحظ يشكو من حساده، وأنه كان في أوائل

_ 1 نزهة الألبا ص 255. 2 معجم الأدباء 16/ 94. 3 نفس المصدر 16/ 99. 4 نفس المصدر 16/ 104. 5 نفس المصدر 16/ 98. 6 معجم الأدباء 16/ 103. 7 وفيات الأعيان لابن خلكان 1/ 389.

حياته إذا أخرج كتابا معنونا باسمه نقموه عليه، وأظهروا له الازدراء، فكان كثيرا ما يؤلف كتبا، وينسبها إلى ابن المقفع والخليل والعتابي، وسلم صاحب بيت الحكمة، فيأتونه لكتابتها وروايتها عنه1!! وقد عاش الجاحظ نحو ستة وتسعين عاما، وتوفي سنة 255هـ2، وأكبر الظن أن هذه السن الطويلة هي التي ساعدته على كثرة التأليف، وأيضا فقد كان مشوه الخلق جاحظ العينين3، فانصرف عنه الناس وعني هو بصناعة الكتب، ومما ساعده على ذلك أنه مرض شطرا طويلا من حياته، فاضطر إلى ملازمة بيته وقطع فراغة بالكتابة والتأليف، وقد ألف أثناء هذا المرض أشهر كتبه، ونقصد كتاب الحيوان الذي شكا فيه من مرضه4، والذي قدمه لابن الزيات المتوفى عام 233 هـ، وإنه ليقول له متفكها في إحدى رسائله، وقد أشار عليه أن يجلد كتبه: "جعلت كتبي مصحفا مصحفا.. ورأيت أن أنظر فيها وأنا مستلق، ولا أنظر فيها وأنا منتصب، استظهارا على تعب البدن، إذ كانت الأسافل مثقلة بالأعالي، وإذا كان الانتصاب يسرع في إدخال الوهن على الأصلاب"5. ويظهر أن هذا المرض الذي شكا منه الجاحظ في رسالته، وحيوانه هو الفالج، ومن يرجع إلى الحصري في ذيل زهر الآداب يجده يؤكد أن الجاحظ ألف الحيوان وهو مفلوج6، وقد صرح الجاحظ في كتاب البخلاء بأنه ألفه، وهو مصاب بالفالج إذ يقول: "صحبني محفوظ النقاش من المسجد الجامع ليلًا، فلما صرت قرب منزله، وكان منزله أقرب إلى المسجد الجامع من منزلي سألني أن أبيت عنده، وقال: أين تذهب في هذا المطر والبرد ومنزلي منزلك، وأنت في ظلمة، وليس معك نار، وعندي لبأ لم ير الناس مثله، وتمر، ناهيك به جودة، لا تصلح إلا له، فملت معه، فأبطأ ساعة، ثم جاءني بجام لبأ وطبق تمر، فلما مددت يدي

_ 1 مجموعة رسائل الجاحظ "نشر لجنة التأليف والترجمة والنشر" ص 108. 2 أمالي المرتضى 1/ 199. 3 وفيات الأعيان 1/ 388. 4 انظر الحيوان 4/ 208. 5 مجموعة رسائل الجاحظ ص 74. 6 ذيل زهر الآداب للحصري "طبع الخانجي" ص 165.

قال: يا أبا عثمان! إنه لبأ وغلظه هو الليل وركوده، ثم ليلة مطر ورطوبة، وأنت رجل قد طعنت في السن، ولم تزل تشكو من الفالج طرفا"1. وكما أصيب الجاحظ بالفالج أصيب بالنقرس، ويظهر أن ذلك كان في أواخر حياته، قال المبرد: "دخلت على الجاحظ في آخر أيامه، فقلت له: كيف أنت، قال: كيف يكون من نصفه مفلوج لو خز بالمناشير ما شعر به، ونصفه الآخر منقرس لو طار الذباب بقربه لآلمة"2، ويقال: إن المتوكل وجه في طلبه سنة 247هـ يريد أن يحمل إليه فقال: وما يصنع أمير المؤمنين بامرئ ليس بطائل، ذي شق مائل ولعاب سائل، وعقل زائر ولون حائل"3. ويروون أن طبيبا عادة فقال له: "اصطلحت الأضداد على جسدي، إن أكلت باردًا أخذ برجلي، وإن أكلت حارا أخذ برأسي"4. وأخيرا وبعد مرض قاس طويل انهالت الكتب على الجاحظ يوما، وهو جالس بينها يقرأ فقضت عليه5، وهكذا ذهب الجاحظ ضحية آثر الأصدقاء وأعزهم لديه6.

_ 1 البخلاء "نشر وزارة التربية والتعليم" 2/ 45. 2 معجم الأدباء 16/ 113. 3 أمالي المرتضى 1/ 199. 4 أمالي المرتضى 1/ 199. 5 انظر تاريخ أبي الفداء في سنة 255هـ، وانظر أيضا شذرات الذهب لابن العماد "نشر مكتبة القدسي" 2/ 122. 6 الحيوان 1/ 38.

الصنعة الجاحظية

7- الصنعة الجاحظية: يمتاز الجاحظ بأنه لم يترك موضوعا عاما إلا وكتب فيه رسالة أو كتابا، وإن من يرجع إلى رسائله وكتبه يجده قد ألف في النبات، وفي الشجر، وفي الحيوان وفي الإنسان، وفي المعاد والمعاش وفي الجد والهزل وفي الترك والسودان، وفي المعلمين والقيان، وفي الحواري والغلمان وفي العشق، والنساء وفي النبيذ، وفي الشيعة والعباسية وفي الزيدية والرافضة وفي الرد على النصارى، وفي حجج النبوة ونظم القرآن، وفي البيان والتبيين، وفي حيل لصوص النهار وحيل سراق الليل، وفي البخلاء واحتجاج الأشحاء، وإن في هذا ما يدل على أن الجاحظ خطا بالكتابة الفنية عند العرب خطوة جديدة نحو التعبير عن جميع الموضوعات في خلابة، وبيان عذب، وكأني به لم يكن يفهم أن الكتابة الأدبية ألفاظ ترصف، وإنما كان يفهمها على أنها معان تنسق في موضوع خاص مما يتصل بالطبيعة أو بالإنسان. وكان لذلك صبغته الخاصة في كتابته، فإنها كتابة ذات موضوع قبل أن تكون ذات أسلوب، وليس معنى هذا أنه كان يهمل ألفاظه وتراكيبه، بل لقد كان يعني بهما عناية شديدة، وقد صرح بذلك غير مرة، فقال: إنه يعني بتأليف كتبه ويتأنق في ترصيفها1. ويقول: "لربما خرج الكتاب من تحت يدي محصفا كأنه متن حجر أملس بمعان لطيفة محكمة، وألفاظ شريفة فصيحة"2. ولكن عناية الجاحظ على هذا النحو بكتبه ورسائله وأسلوبه فيهما لم تكن تجعله يخرج إلى التماس الألفاظ من حيث هي ألفاظ، فقد كان يرى أن "شر البلغاء من هيأ رسم المعنى قبل أن يهيئ المعنى، عشقًا لذلك اللفظ، وشغفا بذلك الاسم حتى صار يجر إليه المعنى جرًّا، ويلزقه به إلزاقا، حتى كأن الله تعالى لم يخلق لذلك المعنى اسمًا غيره"3. فالجاحظ كان يكره العناية البالغة باللفظ تلك العناية التي تسوق صاحبها إلى حفظ أساليب محفوظة بذاتها يبني عليها معانيه، ويصوغ عليها أفكاره، فإن ذلك يقود الكاتب إلى أن يصبح عبدًا لمجموعة من الألفاظ يجر إليها المعاني، ويشدها شدًّا. وهذا هو الطابع العام للجاحظ في كتاباته، فهو يعني بألفاظه ومعانيه جميعا دون أن يجور أحد الفريقين على الآخر أو يحيف عليه، وقد دفعه ذلك إلى أن يعني بآرائه وأدلته وبراهينه، ومقدماته ونتائجه متأثرا في ذلك بما لقف من منطق وفلسفة، ومعرفة بالجدل والحوار اللذين كانا شائعين في بيئته، ونقصد بيئة المعتزلة،

_ 1 مجموعة رسائل الجاحظ ص 102. 2 نفس المصدر ص 109. 3 رسائل الجاحظ "طبع الساسي" ص 159.

وبجانب ذلك نجده يعني أيضا بألفاظه، وأساليبه عناية من شأنها أن تجعله يدقق في انتخاب ألفاظه، وأن يقطع عباراته تقطيعات صوتية طريفة، وهي تقطيعات انزلقت به إلى فنون من التكرار الموسيقي، كي تتم له الموازنة بين لفظه ومعناه، تلك الموازنة التي انتهت به إلى أن يعشق الأداء الدقيق لمعانيه، وأن يعشق معه الوصف الحسي الصحيح لما شاهد، مما آذن بظهور الواقعية في كتبه، وأيضا فإنه كان يرى أن يخرج دائما في رسائله، وكتاباته من باب إلى باب حتى لا يمل القارئ، مما طبع أعماله جميعا بطابع الاستطراد، وأكبر الظن أننا لا نبعد إذا قلنا: إن الصفات الفنية الأساسية في كتابات الجاحظ هي الواقعية، والاستطراد وضروب من التلوين الصوتي، وأخرى من التلوين العقلي بحيث لا تقرأ أي أثر من آثاره، إلا وتجد هذه العناصر الأربعة لصنعته ماثلة تحت عينيك إذ يسعى الجاحظ دائما إلى أن يروي لك الوقائع كما هي دون تمويه، كما يسعى إلى الاستطراد في تآليفه حتى لا يسأم القارئ، ولا يناله شيء من الكد والسوق العنيف، وأيضًا فإنه كان يشفع كتاباته دائمًا بتلوين صوتي أنيق، وتلوين عقلي بديع، وسنقف لنفصل هذه العناصر الأربعة لصنعة الجاحظ، وهي الواقعية والاستطراد، والتلوين الصوتي، والتلوين العقلي. الواقعية: من يتابع الجاحظ في صنعة كتبه، ورسائله يجده يشغف بحكاية الواقع، لا يتستر، ولا يتخفى، حتى إنه ليذكر السوءات، والعورات في غير مواربة ولا مداجاة، وكأنه كان يرى أن يذكر الحقائق عارية دون أن يسدل عليها أي ستر أو أي حجاب، ودافع مرارا عن هذا المنهج، وقال: إن من يعدل عنه لا بد أن يكون صاحب رياء ونفاق، وهو ليس من أهل الرياء والنفاق، بل هو من أهل الصراحة، أو هو بعبارة أدق من أصحاب منهج الواقعية "Realism" الذين لا يداجلون، ولا ينافقون بل يصفون الأشياء، كما هي في غير تحرج، ولا تأثم حتى إنهم لا يخجلون من وصف بعض النزعات الجنسية؛ لأنهم يريدون أن يصفوا

الحياة كما هي بدون تغيير، ولا تبديل إلا في حدود التعبير الفني. وهذه النغمة من الواقعية من آثار الجاحظ أثرت في كتاباته آثارًا مختلفة، ولعل أول هذه الآثار أننا نجده يعني بحكاية عصره، وتمثيله تمثيلا دقيقا بحيث تعد أعماله أهم مراجع تكشف لنا حقائق العصر الذي عاش فيه، إذ نراه يصور هذه الحقائق بكل ما فيها من طهر ووزر، ودين وزندقة، وجد ولهو، وبالغ في ذلك حتى إنه ليروي كلام المجانين الموسوسين، وكلام أهل الغفلة من النوكي والحمقى1، وإنه ليروي أيضا عن الغلمان، والصعاليك والزط واللصوص كما يروي عن الخلفاء والأمراء، والوزراء وقواد الدولة وكبار كتابها، وارجع إلى كتاب البخلاء، فإنك تراه يعرض عليك بخلاء عصره من مثل سهل بن هارون والكندي، وابن غزوان والحارثي، والحرامي في غير تصنع ولا مداراة، وفيم يتصنع الجاحظ ويداري؟ إنه يريد أن يجعل الأدب صورة من الواقع، وهو لذلك لا يستعين على كتابة بخلائه بالتاريخ، أو ذاكرة الماضي، إنما يستعين بمفكرة الحاضر والعصر الذي يعيش فيه، وقد عرف كيف ينقله إلينا بجميع طبقاته وأفراده، وملامحهم، وخصائصهم النفسية. وأثر ثان أثرته الواقعية في كتابات الجاحظ، وهو ما يلاحظ عليه من تدقيقه في ألفاظه، وانتخابها بحيث تلائم ما يصفه، أو يصوره حتى إنه ليحكي كلام المولدين، والعوام بما فيه من لحن، وخطأ لينقل إليك الواقع بكل ما فيه، يقول في البخلاء: "وإن وجدتم في هذا الكتاب لحنا، أو كلاما غير معرب أو لفظًا معدولا عن جهته، فاعلموا أنا إنما تركنا ذلك؛ لأن الإعراب يبغض هذا الباب ويخرجه من حده إلا أن أحكي كلاما من كلام متعاقلي البخلاء، وأشحاء العلماء كسهل بن هارون وأشباهه"2، فهو يحكي دائما أخباره، وحوادثه بلغتها الدقيقة، وأكبر الظن أن هذه النزعة فيه هي التي حملته على أن يلهج في كتبه، ورسائله كثيرًا بفكرة مطابقة الكلام لمقتضى الحال3، ومن قوله بصدد ذلك: "إن

_ 1 انظر البيان والتبيين 2/ 225، وكذلك 2/ 344. وأيضًا 4/ 5، وما بعدها. 2 البخلاء 1/ 78. 3 الحيوان 3/ 43، وانظر البيان والتبيين 1/ 138.

لكل معنى شريف أو وضيع، هزل أو جد، حرقة أو صناعة، ضربًا من اللفظ هو حقه، ونصيبه الذي لا ينبغي أن يجاوزه أو يقصر دونه"1، وفي هذا ما يدل على شدة عنايته بالملاءمة بين الألفاظ ومعانيها، ولعله من أجل ذلك كان يدعو إلى "النظر في مواقع الألفاظ، وأين استعملتها العرب"2. وأثر ثالث أثرت به الواقعية في كتابات الجاحظ وأعماله، وهو ما يمتاز به من عدم عنايته بالتشبيهات، والاستعارات إلا ما جاء عفو الخاطر، أو كان الغرض منه تمثيل الواقع، وهذا طبيعي عند الجاحظ؛ لأنه لم يكن يعمد إلى زينة لفظية عشقا للزينة من حيث هي على نحو ما سنعرف فيما بعد عند أصحاب مذهب التصنيع، فالكتابة عنده ليست زخرفا خالصًا يراد به إلى الوشي، والحلي، وما يندمج في ذلك من صور، وتشبيهات، واستعارات، بل هي معان تؤدى في دقة، تفسر الوقائع، والأحداث تفسيرًا لا تستره أسجاف الاستعارات والأخيلة، وليس معنى ذلك أن الجاحظ لم يكن دقيق التصوير، فإنه إنما عزف عن الأخيلة، لما تضع أمام القارئ من مبالغات، أما بعد ذلك، فإنه كان مصورًا عظيمًا، إذ كان يعرف كيف ينقل المشاهد بجميع تفاصيلها، ودقائقها تسعفه في ذلك قدرة غريبة على الملاحظة، وهي قدرة جعلته يحسن التصوير من جهة كما يحسن القصص من جهة أخرى، ويتضح ذلك من كتابه البخلاء حين يرسم جشع النهمين، وحركات أيديهم، وقسمات وجوههم، كما يتضح في كتاب الحيوان وما أودعه من قصص، ومن قصصه البارعة فيه التي تصور دقة تصويره ما حكاه عن عبد الله بن سوار القاضي، ووقاره في قصصه الديني ووعظه، وأنه كان لا يحرك أثناء كلامه رأسه ولا يديه حتى كأن كلامه يخرج من صدع صخرة، فألح الذباب عليه يومًا، وما زال به حتى أخرجه عن طبعه، فاستعان يتحرك أجفانه، ولم يجده ذلك نفعا فذبه عن وجهه بيديه، فابتعد عنه قليلا ثم عاد إليه، فدفعه بطرف كمه، وما زال يتابع ذلك، يقول3:

_ 1 رسائل الجاحظ "طبع الساسي" ص 159. 2 البيان والتبيين 1/ 20. 3 الحيوان 3/ 343.

"كان لنا بالبصرة قاض يقال له عبد الله بن سوار لم ير الناس حاكما قط، ولا زميتا1 ولا ركينا2، ولا وقورا حليما ضبط من نفسه، وملك من حركته مثل الذي ضبط وملك، كان يصلي الغداة في منزله، وهو قريب الدار من مسجده، فيأتي مجلسه، فيحتبي ولا يتكئ، فلا يزال منتصبا لا يتحرك له عضو، ولا يلتفت ولا يحل حبوته3، ولا يحول رجلا عن رجل، ولا يعتمد على أحد شقيه، حتى كأنه بناء مبني أو صخرة منصوبة، فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى صلاة الظهر، ثم يعود إلى مجلسه، فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى العصر، ثم يرجع إلى مجلسه، فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى صلاة المغرب ... كذلك كان شأنه فيطوال الأيام، وفي قصارها وفي صيفها وفي شتائها، وكان مع ذلك لا يحرك يده، ولا يشير برأسه، وليس إلا أن يتكلم فيوجز، ويبلغ بالكلام اليسير المعاني الكثيرة. فبينما هو كذلك ذات يوم وأصحابه حواليه، وفي السماطين4 بين يديه إذ سقط على أنفه ذباب فأطال المكث، ثم تحول إلى مؤق5 عينه، فرام الصبر في سقوطه على المؤق، وعلى عضه ونفاذ خرطومه كما رام الصبر على سقوطه على أنفه من غير أن يحرك أرنبته، أو يغضن وجهه، أو يذب بإصبعه، فلما طال ذلك عليه من الذباب وشغله، وأوجعه وأحرقه، وقصد إلى مكان لا يحتمل التغافل أطبق جفنه الأعلى على جفنه الأسفل، فلم ينهض "الذباب"، فدعاه ذلك إلى أن والى بين الإطباق والفتح، فتنحى ريثما سكن جفنه، ثم عاد إلى مؤقه بأشد من مرته الأولى، فغمس خرطومه في مكان كان قد أوهاه قبل ذلك، فكان احتماله له أضعف، وعجزه عن الصبر في الثانية أقوى، فحرك أجفانه، وزاد في شدة الحركة، وفي فتح العين وفي تتابع الفتح والإطباق، فتنحى عنه بقدر ما سكنت حركته، ثم عاد إلى موضعه، فما زال يلح عليه حتى استفرغ صبره وبلغ مجهوده، فلم يجد بدا من أن يذب عن عينيه بيده، ففعل، وعيون القوم إليه ترمقه، فتنحى عنه بقدر ما رد يده، وسكنت حركته، ثم عاد إلى موضعه، ثم ألجأه إلى أن ذب

_ 1 زميتا: وقورا. 2 ركينا: رزينا. 3 الحبوة: أن يجمع الرجل بين ظهره، وساقيه بعمامة ونحوها. 4 السماطين: مثنى سماط، وهو الصف. 5 المؤق: طرف العين مما يلي الأنف.

عن وجهه بطرف كمه، ثم ألجأه إلى أن تابع بين ذلك، وعلم أن فعله كله يعين من حضره من أمنائه وجلسائه. فلما نظروا إليه قال: أشهد أن الذباب ألج من الخنفساء، وأزهى من الغراب! وأستغفر الله! فما أكثر من أعجبته نفسه، فأراد الله عز وجل أن يعرفه من ضعفه ما كان عنه مستورا، وقد علمت أني عند الناس من أزمت1 الناس، فقد غلبني، وفضحني أضعف خلقه، ثم تلا قوله تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} . وواضح أن القصة تعتمد عل دقة التصوير، وهي دقة ترسم الواقع رسما أمينًا، بدون تهويل، أو مبالغة أو اعتماد على استعارات، وتشبيهات إلا ما يأتي عفوًا للإيضاح لا للتجميل والتزيين. الاستطراد: وإذا كانت الواقعية عنصرا أساسيا في أعمال الجاحظ، فإن هناك عنصرا آخر عم آثاره، وربما كان أهم من عنصر الواقعية، وهو عنصر الاستطراد إذ يلاحظ كل من يقرأ في الجاحظ حالًا من التشعث في التأليف، فهو دائما ينتقل من باب إلى باب، ومن خبر إلى خبر، ومن شعر إلى فلسفة ومن جد إلى هزل في تشعب هائل، حتى ليقول كارا دي فو: إن الموضوع عند الجاحظ ليس إلا وسيلة للاستطراد2، وقد أشار إلى هذا الاستطراد قديما المسعودي في كتابه مروج الذهب3، وقد كان الجاحظ يتخذه منهجا في تأليفه وخاصة في حيوانه وبيانه، واعترف به مرارا واحتج له، انظر إليه يقول في الحيوان: "قد عزمت -والله الموفق- أني أوشح هذا الكتاب، وأفصل أبوابه بنوادر من ضروب الشعر، وضروب الأحاديث ليخرج قارئ هذا الكتاب من باب إلى باب، ومن شكل إلى شكل، فإني رأيت الأسماع تمل الأصوات المطربة، والأغاني الحسنة والأوتار الفصيحة

_ 1 أزمت الناس: أشدهم وقارا وسكونا. 2 Carra de Vaux, Les Pensecurs De L'Islam Vol. I, p. 295. 3 مروج الذهب 4/ 136.

إذا طال ذلك عليها، وما ذلك إلا في طريق الراحلة التي إذا طالت أورثت الغفلة، وإذا كانت الأوائل قد سارت في صغار الكتب هذه السيرة كان هذا التدبير لما طال، وكثر أصلح"1، ويقول أيضا: "ولولا أني أتكل على أنك لا تمل باب القول في البعير حتى تخرج إلى الفيل، وفي الذرة حتى يخرج إلى البعوضة، وفي العقرب حتى تخرج إلى الحية، وفي الرجل حتى تخرج إلى المرأة، وفي الذبان والنحل حتى تخرج إلى الغربان والعقبان، وفي الكلب حتى تخرج إلى الديك، وفي الذئب حتى تخرج إلى السبع، وفي الظلف حتى تخرج إلى الحافر، وفي الحافر حتى تخرج إلى الخف، وفي الخف حتى تخرج إلى البرثن، وفي البرثن حتى تخرج إلى المخلب، وكذلك القول في الطير وعامة الأصناف، لرأيت أن جملة الكتاب، وإن كثر عدد ورقه، أن ذلك ليس مما يمل، ويعتد علي فيه بالإطالة؛ لأنه وإن كان كتابا واحدا فإنه كتب كثيرة، ولك مصحف منها فهو أم على حدة، فإن أراد قراءة الجميع لم يطل عليه الباب الأول، حتى يهجم على الثاني، ولا الثاني حتى يهجم على الثالث، فهو أبدًا مستفيد ومستطرف، وبعضه يكون جمامًا لبعض، ولا يزال نشاطه زائدا، ومتى خرج من آي القرآن صار إلى الأثر، ومتى خرج من أثر صار إلى خبر، ثم يخرج من الخبر إلى شعر، ومن الشعر إلى نوادر، ومن النوادر إلى حكم عقلية، ومقاييس سداد، ثم لا يترك هذا الباب، ولعله أن يكون أثقل والملال إليه أسرع، حتى يفضي به إلى مزح وفكاهة، وإلى سخف وخرافة، ولست أراه سخفًا إذا كنت إنما استعملت سيرة الحكماء، وآداب العلماء"2. وإذا فالجاحظ يعترف بأنه يستطرد، وبأنه يعمد إلى ذلك عمدا خشية ملل القارئ وسآمة السامع، واحتج لصنيعة بأن الأوائل قد سارت في كتبها هذه السيرة، إذ يقول: إنه إنما يستعمل سيرة الحكماء وآداب العلماء، ولسنا ندري أي حكماء، وعلماء يشير إليهم إلا أن يكون قد أشار بذلك إلى بعض ما ترجم للعرب من كتب الهند التي يشبه البيروني ما فيها "بصدف مخلوط بخزف، أو

_ 1 الحيوان 3/ 7. 2 الحيوان 1/ 93.

بدر ممزوج ببعر، أو بمهي مقطوب بحصى"1، وإن من يتصفح كتاب كليلة ودمنة يجد ظاهرة الاستطراد واضحة فيه، على أن هناك علة لاستطراد الجاحظ ذكرها صراحة في حيوانه إذ يقول: "قد صادف هذا الكتاب مني حالات تمنع من بلوغ الإرادة فيه: أو ذلك العلة الشديدة، والثانية قلة الأعوان، والثالثة طول الكتاب ... فإن وجدت فيه خللا من اضطراب لفظ، ومن سوء تأليف، أو من تقطيع نظام، ومن وقوع الشيء في غير موضعه، فلا تنكره بعد أن صورت لك حالي التي ابتدأت عليه كتابي"2، فهو يعترف بأن مرضه أدخل الخلل على تأليف حيوانه، ومر بنا أنه ألفه وهو مفلوج، وألف بعده كتاب البيان والتبيين3، فظهر فيه الخلل والاستطراد بأوسع مما ظهرا في كتاب الحيوان، لا لسبب إلا؛ لأن العلة طالت عليه، وكأن ما أمضه منها كان له أثره في بلبلة أفكاره واضطرابها، وحدوث كثير من النشاز فيها، فهو برم بمرضه قلق، وهو برم أيضا بما يعرض في بيانه لا يكاد يستقر عند موضوع يصفه، وإنه ليقول فيه: "كان التدبير في أسماء الخطباء وحالاتهم، وأوصافهم أن نذكر أسماء أهل الجاهلية على مراتبهم، وأسماء أهل الإسلام على منازلهم، ونجعل لكل قبيلة منهم خطباء ونقسم أمورهم بابا بابا على حدته، ولكني لما عجزت عن نظمه وتنضيده تكلفت ذكرهم في الجملة"4، فهو يقر بعجزه عن التنظيم، والتنسيق لما كان من مرضه، ولما كان أيضًا من قلة الأعوان كما يقول في الحيوان، ومن ثم كان من يقرأ في كتبه يخيل إليه أن لم يكن يعرف التركيز في تأليفه، إذ ما تزال الأفكار تندفع علينا من كل صوب في غير نظام ولا سياق مطرد، بل فكرة من هنا، وفكرة من هناك في صورة واضحة من التشعب والتشعث، وقد ساعده على ذلك ثقافته الواسعة بجميع معارف عصره من هندية، وفارسية ويونانية، وإسلامية وعربية، وإن الإنسان ليعجب إذ يقرأ الصفحة في حيوانه، فيجد هذه الثقافات

_ 1 تحقيق ما للهند من مقولة ص12. 2 الحيوان 4/ 208. 3 ذكر الجاحظ في البيان أنه ألفه بعد الحيوان. انظر البيان والتبيين 3/ 302. 4 البيان والتبيين 1/ 306.

كلها قد وضع بعضها بجانب بعض، وكأنه حين كان يكتب -بل حين كان يملي كما سنرى بعد قليل- كانت تنطلق إليه سيول المعرفة من كل واد، فيتركها تنزلق إلى آثاره بطبيعتها التي أطبقت بها عليه. التلوين الصوتي: هذا هو العنصر الثالث في كتابات الجاحظ، فنحن لا نقرأ له أي عبارات من تأليفه، حتى نجده يعني بأصواته عناية تفضي إلى ضروب مختلفة من الإيقاعات الصوتية، ولم يكن يستعين على تجميل هذه الإيقاعات بشيء من البديع وألوانه، بل كان يكتفي بها لتعبر عن كل ما يريد من جمال لأسلوبه وطلاوة، وليس معنى ذلك أنه كان يستخدم السجع، أو أسلوبا مقاربا منه، فإن السجع لم يكن يصلح له في تأليف كتبه، ورسائله الطويلة، لذلك عدل عنه إلى ضروب من الإيقاعات، وهي إيقاعات كان يستعين عليها بصور مختلفة من التكرار والترداد، واستمع إليه كيف يستهل حيوانه1: "جنبك الله الشبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعرفة نسبًا، وبين الصدق سببا، وحبب إليك التثبت، وزين في عينيك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعر قلبك عز الحق، وأودع صدرك برد اليقين، وطرد عنك ذل اليأس، وعرفك ما في الباطل من الذلة، وما في الجهل من القلة". وهذه هي النغمات الأولى في الكتاب، وعلى أساسها ينصب جميع النغم الذي نقرؤه فيه، إذ نرى الجاحظ يحاول دائما أن يجود لفظه، وهو لا يكتفي بذلك، بل يسعى دائما إلى إحداث ضروب من التوقيع، وهو توقيع كان يلتمسه من معادلة ألفاظه معادلة لا تنتهي إلى السجع، ولكنها تنتهي إلى هذا التوازن الصوتي الدقيق، فكل جملة تقابل أختها في موازين الجاحظ الموسيقية، ويه موازين تحقق لصيغة هذا اللون من الجمال الموسيقي الذي كان يسميه القدماء ازدواجا، ونسميه إيقاعا وتلوينا صوتيا بديعا، وهو تلوين كان يدفع الجاحظ دفعا

_ 1 الحيوان 1/ 3.

إلى ضروب من التكرار والترادف، واستمر مع الجاحظ في الحيوان، فستراه يقول بعد هذه النغمات الأولى من الكتاب بقليل1: "إن كل من التقط كتابًا جامعًا، وبابا من أمهات العلم مجموعا كان له غنمه، وعلى مؤلفه غرمه، وكان له نفعه، وعلى صاحبه كده، مع تعرضه لمطاعن البغاة، ولاعتراض المنافسين، ومع عرضه عقله المكدود على العقول الفارغة، ومعانيه على الجهابذة، وتحكيمه فيه المتأولين والحسدة.. وهذا كتاب نستوي في رغبة الأمم، وتتشابه فيه العرب والعجم، ويشتهيه الفتيان كما يشتهيه الشيوخ، ويشتهيه الفاتك، كما يشتهيه الناسك، ويشتهيه اللاعب ذو اللهو، كما يشتهيه المجد ذو الحزم، ويشتهيه الغفل، كمنا يشتهيه الأريب، ويشتهيه الغبي، كما يشتهيه الفطن". وهكذا ينطلق الجاحظ في كتاباته -على نحو ما نرى الآن في حيوانه- بهذا النفس الواسع المسترسل الذي لا يتعثر ولا يتلجلج، بل ينطلق في هذا الفيض العذب، وكأنما لا يعوقه في طريقة عائق لا من لفظ، ولا من تعبير، وانظر إليه يقول بعد ذلك في وصف الكتاب2: "الكتاب وعاء مليء علما، وظرف حشي ظرفا، وإناء شحن مزاحا وجدا، وإن شئت كان أبين من سحبان وائل، وإن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت ضحكت من نوادره، وإن شئت عجبت من غرائب فرائده، وإن شئت ألهتك طرائفه، وإن شئت أشجتك مواعظه، ومن لك بواعظ مله، وبزاجر مغر، وبناسك فاتك، وبناطق أخرس، وببارد حار، ومن لك بطبيب أعرابي، ومن لك برومي هندي، وبفارسي يوناني، وبقديم مولد، وبميت ممتع، ومن لك بشيء يجمع لك الأول الآخر، والناقص والوافر، والخفي والظاهر والشاهد والغالب، والرفيع الوضيع، والغث والسمين، والشكل وخلافه، والجنس وضده".

_ 1 الحيوان 1/ 10. 2 الحيوان 1/ 38، وما بعدها.

وعلى هذا النمط يسوق الجاحظ عباراته ومزاوجاته، وإن الإنسان ليخيل إليه كأنما سخرت له ألفاظ اللغة تسخيرًا، فهو يختار منها ما يشاء، ويهوى في غير عنت ولا تكلف، بل في مهارة وحذق، فإذا هو يصل إلى هذه الأصوات الفخمة، أو قل هذه المركبات الموسيقية، فالموسيقى أساسية في جواهر عباراته وأعراضها، وما يسمها في باطنها وظاهرها، وإذا أنت رجعت تحلل هذه المركبات، وجدتها تنحل إلى ظاهرتين أصيلتين في كل ما يؤلف، وهما: التقطيع الصوتي من طرف، والتكرار والترداد الموسيقي من طرف آخر، أما التقطيع فهو الذي يتيح له هذه المعادلات الصوتية التي تجعل العبارات تتعادل هذا التعادل الموسيقي البديع، وكأنما قد فصلت تفصيلا وقسمت تقسيما، وأما التكرار والترداد فقد كانا شائعين في بيئة المتكلمين بسبب محاضراتهم، ومناظراتهم، وأيضا فقد شاعا على نحو ما مر بنا في غير هذا الموضع عند وعاظ العصر الأموي، ومن خلفوهم في العصر العباسي، وعند عبد الحميد الكاتب، وسهل بن هارون، ولكن الشيء الذي يلفت حقا هو أن الجاحظ وسعهما إلى أبعد طاقة يمكن أن تحتملها الأساليب، وما من ريب في أن هذا التكرار يضفي على أسلوبه ضروبا من الجمال، إذ نراه يستعين به على ما يريد من تقطيعات، وتوقيعات صوتية، فإذا الفكرة لا تؤدي في عبارة واحدة، ولكن في عبارتين أو أكثر، لا لسبب إلا؛ لأن الجاحظ يريد لها أداء موسيقيا بجانب أدائها المعنوي. ومن يتابع درس الجاحظ يعرف أن هناك سببا مهما لتكراره في كتبه وترداده، وهو أنه لم يكن يكتب بل كان يملي، وقد ذكر ذلك صراحة في إحدى رسائله لابن الزيات، إذ قال له: "إن الوراق أصبح لا يخط سطرًا"1، ويذكر ياقوت أن هذا الوراق كان يسمى زكريا بن يحيى2، وإن في هذا ما يدل على أن الجاحظ لم يكن يكتب كتبه، ورسائله منذ ابن الزيات المتوفى عام 233هـ، بل كان يملي على شخص، أو أشخاص لما قدمنا من مرضه، وطبع هذا الإملاء كتبه بطابع المحاضرة، ومن ثم طبعها بطابع التكرار والترادف، كما طبعها

_ 1 مجموعة رسائل الجاحظ ص 77. 2 معجم الأدباء 16/ 106.

بطابع كتب الإملاءات من حيث الخلل، والاستطراد والإيجاز في بعض الأشياء المهمة، والإطناب والتفصيل في بعض الأشياء التافهة، ومهما يكن فقد كان الجاحظ يعني بأساليبه عناية توفر لها ضروبا من التقطيع الصوتي، وقد ذهب يستعين في ذلك بتكراره، وترداده حتى تستوفي أساليبه كل ما يمكن من هذا التلوين الصوتي، الذي يكسب تعبيره جمالًا خاصًّا يتفوق به على جميع الكتاب في عصره. التلوين العقل: ربما كان هذا العنصر أهم العناصر الأربعة التي تكون فن الجاحظ وصنعته، إذ كان يشفع كتابته دائما بضروب من التحاسين العقلية، وهي ليست تحاسين فنية في أصلها، إنما هي تحاسين منطقية وفلسفية، واستطاع الجاحظ في رسائله، وكتب أن يحولها إلى تحاسين فنية خالصة أو تكاد، إذ كان يدخلها في جميع أوعيته الصوتية، وطبيعي أن تظهر هذه التحاسين عند الجاحظ؛ لأنه كان متكلما، ووصف هو نفسه المتكلم لعصره فقال كما مر بنا في غير هذا الموضع: "لا يكون المتكلم جامعا لأقطار الكلام متمكنًا في الصناعة، يصلح للرياسة، حتى يكون الذي يحسن من كلام الدين في وزن الذي يحسن من كلام الفلسفة"، ولعل من الطريف أنه أضاف الفلسفة في حيوانه إلى بعض المتكلمين، فقال: "ورأيت ناسا من فلاسفة المتكلمين"1، وقد قال في الحيوان صراحة: إن هذا الكتاب "أخذ من طرف الفلسفة2، وإضافة الطرف إلى الفلسفة إحساس من الجاحظ بما تدخله فلسفة العقل على تعبير صاحبه من تحاسين وتلاوين، ولعل ذلك ما جعله يعد المذهب الكلامي من ألوان البديع3، وهو لا يريد بهذا المذهب إلا ما أدخله المتكلمون من طرق جدل، وحوار، وسفسطة وأدلة وبراهين ومقدمات وأقيسة، وانظر في الحوار الطويل الذي رواه في الحيوان عن النظام، ومعبد في تفضيل الكلب

_ 1 الحيوان 2/ 140. 2 الحيوان 1/ 11. 3 البديع لابن المعتز "طبع كراتشقوفسكي" ص53.

على الديك أو العكس تر حوارها يمتد في عشرات الصحف، وقد استعان كل منهما بما يمكن من براهين حسية وعقلية على التدليل لرأيه، وإن الإنسان ليخيل إليه كأن كلا منهما، قد استعار شخصية الحيوان الذي يدفع عنه، وهو لذلك يتسلح لخصمه بكل ما يستطيع العقل أن يسعفه به من براهين صحيحة، وغير صحيحة في افتنان، وبراعة يدلان على مبلغ ما فتقت الفلسفة من عقول المتكلمين، وألسنتهم. وقد تربى الجاحظ في هذه البيئة على يد أستاذه النظام، فأخرجه لسنًا جدلًا يعرف كيف يحاور ويداور، وكيف يستعين بالمنطق الصحيح، وكيف يستعين بالمنطق السقيم ليدعم رأيه، وينصر فكرته، وقد تشبث بطريقة الحوار والجدل وما يتعلق بهما من مغالطة وسفسطة، فتكلم كثيرا عن محاسن الأشياء، ثم عاد فتكلم عن مساويها، ولعل خير ما يفسر ذلك كتاب المحاسن، والأضداد الذي ينسب إليه، وقد لا يكون هذا الكتاب له، ولكن من يقرأ فيه يؤمن بأنه إما أن يكون من صنع الجاحظ نفسه، أو من صنع شخص استمده من مغالطات الجاحظ في كتبه. والجاحظ كما يعتمد على المغالطة أحيانا، نراه أيضا يعتمد على صحة الأدلة وصدق المقدمات أحيانا أخرى، بل إن هذا هو الغالب عليه، وقد تلوم في حيوانه من يعنون بصحة مقدماتهم1، وعاب النظام كما مر بنا بأنه لا يصحح الأصل الذي يبني عليه قياسه، وقد جعله ذلك يمتاز من كتاب عصره باستخدام المنطق استخداما واسعا في تضاعيف أسلوبه، فهو دائما يعرض أفكاره في صورة حجاج يقوم على براهين، وأدلة ومقدمات وأقيسة، ولا غرابة، فقد كان يعتد بذلك كلون عباسي بديع ينبغي أن يدخل في دوائر النثر، وأن تحلى نماذجه به حتى تنبسط الكتابة، ويتسع التعبير فيها اتساعا يرفده العقل الدقيق، والمنطق الوثيق، وإن الجاحظ ليتشبث بذلك في أبلغ صورة يمكن العقل أن يتصور بها عباسيا في القرنين الثاني، والثالث يريد أن يسيطر المنطق على كل ما يكتب، بل أيضا على كل ما يعمل

_ 1 الحيوان 3/ 379.

فقد روى الرواة أنه اجتمع مع يوحنا بن ماسويه على مائدة بعض الوزراء، وكان في جملة ما قدم مضيرة عقب سمك، فامتنع يوحنا من الجمع بينهما، فقال له الجاحظ: "أيها الشيخ لا يخلو أن يكون السمك من طبع اللبن أو مضادا له، فإن كان أحدهما ضد الآخر، فهو دواء له، وإن كانا من طبع واحد، فلنحسب أنا قد أكلنا من أحدهما إلى أن اكتفينا"، فقال يوحنا: والله ما لي خبرة بالكلام، ولكن كل يا أبا عثمان، وانظر ما يكون في غد، فأكل الجاحظ انتصارا لدعواه، ففلج في ليلته، فقال: هذه والله نتيجة القياس المحال"1، وإن هذه القصة لترمز إلى عنايته بالمنطق في كل ما يتصل به من قول وفعل، ونحن لا نبعد إذا قلنا: إنه أهم كاتب في العصر العباسي الأول حكم المنطق في كل ما يصنع، فقد كان يعتم عليه اعتمادا بالغا في جميع كتاباته، واقرأ له هذه القطعة التي يتحدث فيها عن الخير والشر، وأنهما ضروريان لصلاح الكون2: "اعلم أن المصلحة في أمر ابتداء الدنيا إلى القضاء مدتها امتزاج الخير بالشر، والضار بالنافع، والمكروه بالسار، والضعة بالرفعة، والكثرة بالقلة، ولو كان الشر صرفا هلك الخلق، أو كان الخير محضا سقطت المحنة، وتقطعت أسباب الفكرة، ومع عدم الفكرة يكون عدم الحكمة، ومتى ذهب التخيير ذهب التمييز، ولم يكن للعالم تثبت وتوقف وتعلم، ولم يكن علم، ولا يعرف باب تبين، ولا دفع مضرة، ولا اجتلاب منفعة، ولا صبر على مكروه، ولا شكر على محبوب، ولا تفاضل في بيان، ولا تنافس في درجة، وبطلت فرحة الظفر وعز الغلبة، ولم يكن على ظهرها محق يجد عز الحق، ومبطل يجد ذلة الباطل، وموقن يجد برد اليقين، وشاك يجد نقص الحيرة وكرب الوجوم، ولم تكن للنفوس آمال، ولم تتشعبها الأطماع، ومن لم يعرف كيف الطمع لم يعرف اليأس، ومن جهل اليأس، جهل الأمن، وعادت الحال من الملائكة الذين هم صفوة الخلق، ومن الإنس الذين فيهم الأنبياء والأولياء حال السبع والبهيمة، وإلى حال الغباوة

_ 1 عيون الأنبياء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة 1/ 181. 2 الحيوان 1/ 204.

والبلادة، وإلى حال النجوم في السخرة، فإنها أنقض من حال البهائم في الرتعة، ومن هذا الذي يسره أن يكون الشمس والقمر والنار، والثلج، أو برجا من البروج، أو قطعة من الغيم، أو يكون المجرة بأسرها، أو مكيالا من الماء، أو مقدارا من الهواء.. وأين تقع لذة البهيمة بالعلوفة، ولذة السبع بلطع الدم وأكل اللحم، من سرور الظفر بالأعداء، ومن انفتاح باب العلم بعد إدمان القرع؟ وأين ذلك من سرور السؤدد، ومن عز الرياسة؟ ولو استوت الأمور بطل التمييز، وإذا لم تكن كلفة لم تكن مثوبة.. ولو كان الأمر على ما يشتهيه الغرير والجاهل بعواقب الأمور لبطل النظر وما يشحذ عليه، وما يدعو إليه، ولتعطلت الأروح من معانيها والعقول من ثمارها، ولعدمت الأشياء حظوظها وحقوقها، فسبحان من جعل منافعها نعمة، ومضارها ترجع إلى أعظم المنافع، وقسمها بين ملذ ومؤلم، وبين مؤنس وموحش، وبين صغير حقير، وجليل كبير، وبين عدو يرصدك، وبين عقل يحرسك، وبين سالم يمنعك، وبين معين يعضدك، وجعل في الجميع تمام المصلحة، وباجتماعها تتم النعمة، وفي بطلان واحد منها بطلان الجميع، قياسا قائما وبرهانا واضحا، فإن الجميع إنما هو واحد ضم إلى واحد، وواحد ضم إليهما؛ ولأن الكل أبعاض؛ ولأن كل جثة فمن أجزاء، فإذا جوزت رفع واحد والآخر مثله في الوزن، وله مثل علته وحظه ونصيبه، فقد جوزت رفع الجميع؛ لأنه ليس الأول بأحق من الثاني في الوقت الذي رجوت فيه إبطال الأول، والثاني كذلك والثالث والرابع حتى تأتي على الكل، وتستفرغ الجميع". أرأيت إلى هذا الدفاع القوي عن ضرورة بقاء الشر في الكون؟ وإنه لدفاع يستمده الجاحظ من التفكير الدقيق في حقائق الكون، وهو تفكير يقوم على المنطق والاستدلال، والقياس كما يقوم على التأثر ببعض آراء المتكلمين الذين يرفضون الجبر، والتسخير في الحياة ويضعون مكانهما الاختيار، والتمكين، وهذا كله يبسط في ضروب من تلاوين الصوت وتحاسينه، وإنها لضروب تشيع في أسلوب منطقي منقطع القرين، ومن هذين المفتاحين؛ جمال الصوت وجمال المنطق، تسقط النغمات التي تميز الجاحظ في جميع فنه وصنعته، إذ ما يزال

يتداخل التفكير العقلي، وما يشفع به من قدرة على البرهان، والاستدلال مع التفكير الفني، وما يشفع به من قدرة على تقطيع الصوت، وما ينطوي في هذا التقطيع من تكرار وترداد، وبذلك يلتئم هذا الفن الجاحظي الذي يشبع فيه جمال العقل ما يشيع فيه جمال الصوت، وارجع إلى هذه النقطة الجميلة، فإنك ترى الجاحظ يحسن التدليل على فكرته التي يذهب فيها إلى أن العالم يتألف من الخير والشر جميعًا، بحيث إذا سقط الشر منه سقط الحائط الذي يؤلفه، وكذلك الشأن إن سقط الخير، وإن الجاحظ ليجعل القضية قضية العقل، فإن تغيير الكون عما هو، يجعلنا نفقد آلة التفكير، ومتى فقدناها أصبحنا لا نستطيع التأمل في علم، ولا الشعور بشيء ملذ أو مؤلم، إذ نصير كالحيوان في الرتعة، بل لقد نتحول إلى الجماد في السخرة: "ومن هذا الذي يسره أن يكون الشمس والقمر والنار، والثلج أو برجا من البروج، أو قطعة من الغيم؟ " إن الكون يجب أن يستمر كما هو: خير ونفع، وشر وضر، وإن كل جزء من أجزاء الخير، ومثله كل جزء من أجزاء الشر، يجب أن يظل كما هو؛ لأن العالم يتألف من جميع هذه الأجزاء وما الجميع؟ "إنما هو واحد ضم إلى واحد، وواحد ضم إليهما؛ ولأن الكل أبعاض؛ ولأن كل جثة فمن أجزاء، فإذا جوزت رفع واحد والآخر مثله في الوزن، وله مثل علته وحظه ونصيبه؛ فقد جوزت رفع الجميع؛ لأنه ليس الأول بأحق من الثاني في الوقت الذي رجوت فيه إبطال الأول، والثاني كذلك، والثالث، والرابع حتى تأتي على الكل وتستفرغ الجميع"، فأي عقل هذا الذي يكتب بتلك المقدرة على توليد الأفكار من جهة، والإدلاء بكل ما يمكن من حجج، وبراهين من جهة أخرى؟ إنه عقل الجاحظ، وهو العقل الذي جعل ابن العميد -كما مر بنا- يقول: "إن كتب الجاحظ تعلم العقل أولا والأدب ثانيا". فالعقل عند الجاحظ هو أساس صنعته الذي يستمد منه أدلته كما يستمد منه توليده للأفكار والمعاني، وأيضا فإنه يستمد منه قياسه ومقابلاته، وقد كان مشغوفا بالمقابلة في معانيه، وأفكاره شغفا شديدا، وإن الإنسان ليخيل إليه كأنما سخر العقل بجميع مقوماته للجاحظ، وهو يختار ما يشاء من هذه المقومات في رسائله وكتبه، ولعل ذلك

ما جعل المأمون يقول له، وقد قرأ كتبه في الإمامة: "قد كان بعض من نرتضي عقله، ونصدق خبره، خبرنا عن هذه الكتب بإحكام الصنعة، وكثرة الفائدة، فقلت له: قد تربي الصفة على العيان، فلما رأيتها رأيت العيان قد أربى على الصفة، فلما فليتها أربى الفلي على العيان كما أربى العيان على الصفة"1، ونحن مهما وصفنا من عقل الجاحظ، وما يشفع به كتابته من تلاوينه وتحاسينه، فإن ذلك لن يكون شيئا بجانب ما يحسه القارئ له حين يتصفح أعماله، ويقف على مدى استعانته بالعقل في تأليفها وصوغها، والحق أن هذا عمل أوسع من أن نحيط به في صفحات معدودة، وغاية ما يمكننا هو أن نجمل هذا الصنيع في أن الجاحظ كان يدمج إدماجا بديعا بين التلوين الصوتي، والتلوين العقلي في آثاره، فإذا هي تصور طرافة التفكير في أعلى صورة، كما تصور طرافة الصوت، وما ينساق مع هذه الطرافة من تكرار، وترداد كان يستعين بهما دائما على تدبيج أساليبه وتحبيرها، وإنهما ليتجليان دائما في كل ما يملى، ويكتب كما يتجلى جمال التفكير، وجمال التعبير.

_ 1 البيان والتبيين 3/ 374.

رسالة التربيع والتدوير

8- رسالة التربيع والتدوير: ونحن نقف عند رسالة للجاحظ تجمع بين دفتيها محاسن التفكير الدقيق، والتعبير الأنيق، وهي رسالة أنشأها في هجاء أحمد بن عبد الوهاب أحد أصحاب محمد بن عبد الملك الزيات1، وقد وصفه بأنه من بجيلة، ومن أصحاب صالح بن علي، وسليمان بن وهب، وندماء جعفر الخياط2، وقال: إنه من الرافضة المشبهة3، ونعته بأنه "يعد أسماء الكتب ولا يفهم معانيها، ويحسد العلماء من غير أن يتعلق فيهم بسبب، وليس

_ 1 أغاني "طبع الساسي" 21/ 32. 2 رسائل الجاحظ "طبع الساسي" ص 100. 3 رسائل الجاحظ ص142.

في يده من جميع الآداب إلا الانتحال لاسم الأدب1". وذكر أنه كان يخاشنه ويطاوله2، ومن أجل هذه المخاشنة والمطاولة، وما ركب فيه من الحسد ألف له هذه الرسالة يسأله فيها عن بعض معارف عصره المشكلة سواء في المنطق والفسلفة، أم في الكيمياء والصنعة، أم في الإنسان والحيوان، أم في تاريخ العرب وتاريخ غيرهم من الأمم، وهو ينهى هذه الأسئلة الكثيرة التي امتدت في خمسين صحيفة من القطع الكبير بقوله: "وقد سألتك، وإن كنت أعلم أنك لا تحسن من هذا قليلًا ولا كثيرًا، فإن أردت أن تعرف حق هذه المسائل وباطنها، وما فيها خرافة وما فيها محال، وما فيها صحيح وما فيها فاسد، فألزم نفسك قراءة كتبي ولزوم بابي3، وحقًا إن من يتصفح الرسالة يجد أن كثيرًا مما عرض له الجاحظ فيها ذكره في حويانه، ولعل في هذا ما يدل على أنها ألفت بعد كتاب الحيوان: أي في أوقات مرضه وعلته، ويشهد لذلك أننا نجده ينحي على أحمد بن عبد الوهاب باللائمة على ما يدعيه من علم بالحيوان، وأنه يعرف في الخفاش سبعين أعجوبة4، وأيضًا فقد تحدث فيها عن ابن الزيات الذي قدم له كتاب الحيوان بصيغة الماضي5، مما يدل على أن عهده كان قد انقضى حين كتابة هذه الرسالة، والمسألة لا تحتاج كل هذا الاستنتاج؛ لأن الرسالة مبنية على سنة الاستطراد التي عرفناها للجاحظ، والتي زعمنا أنها جاءت في الغالب نتيجة لعلته وعجزه عن ترتيب كتبه ورسائله التي ألفها حينئذ، وهو يستهلها على هذا النمط6: "كان أحمد بن عبد الوهاب مفرط القصر، ويدعي أنه مفرد الطول، وكان مربعًا وتحسبه لسعة جفرته7 واستفاضة خاصرته مدورًا، وكان جعد الأطراف قصير الأصابع، وهو في ذلك يدعي السباطة والرشاقة، وأنه عتيق الوجه،

_ 1 رسائل الجاحظ ص83. 2 نفس المصدر ص95. 3 نفس المصدر ص142. 4 نفس المصدر ص140. 5 نفس المصدر ص190. 6 ارجع إلى الرسالة بأكملها في نفس المصدر السابق، وفي طبعتها الأخيرة بتحقيق شارل بلات. 7 الجفرة: جوف الصدر.

أخمص1 البطن، معتدل القامة، تام العظم، وكان طويل الظهر، قصير عظم الفخذ، وهو مع قصر ساقه يدعي أنه طويل الباد2، رفيع العماد، عادي القامة، عظيم الهامة، قد أعطي البسيط في الجسم، والسعة في العلم، وكان كبير السن متقادم الميلاد، وهو يدعي أنه معتدل الشباب حديث الميلاد". ونحن منذ هذه السطور الأولى للرسالة نحسن أننا بإزاء فن جديد في الهجاء يستعين فيه صاحبه بضروب من المفارقات، فأحمد بن عبد الوهاب مفرط القصر، ويدعي أنه مفرط الطول، وهو مربع وتحسبه لسعة جوف صدره واستفاضة خاصرته مدورًا، ثم هو جعد الأطراف قصير الأصابع، ومع ذلك يدعي السباطة والرشاقة، وأيضًا فإنه طويل الظهر قصير عظم الفخذ، ويدعي أنه طويل الباد رفيع العماد، عادي القامة عظيم الهامة، وفي هذا كله مناقضات ومفارقات مختلفة، ومن هذه المناقضات، والمفارقات يستمد الجاحظ هجاءه لأحمد بن عبد الوهاب، وقد استطاع أن ينفذ من ذلك إلى تشويهه تشويهًا ربما كان يتفوق فيه على أصحاب فن التصوير الساخر "الكاريكاتوري" في العصر الحديث، إذ نراهم يشوهون الأجسام بطرق مختلفة، عمادها بعض الحقائق المادية فيها، وإنهم ليتعلقون بهذه الحقائق: يكبرونها، ويستمدون منها ما يشاءون من هزل وسخرية، وكذلك كان الجاحظ في تلك الرسالة هجاء ساخرًا يعتمد على جسم أحمد بن عبد الوهاب، وما يسمه من قصر، وتبعج ليستخرج ما يريد من هزله، فهو تارة صاحب أصابع قصيرة جعدة كأصابع الحيوان، وتارة هو طويل الظهر "قصير عظم الفخذ، وهو لا يكتفي بتشويه جسمه، بل نراه يعمد أيضًا إلى تشويه عقله بواسطة ما يعرض من أسئلة يهزأ به فيها، كما يهزأ بتفكيره، وكل ما يتصل به، وهو يستعين على ذلك كله بفكرة الطول، والقصر والتربيع، والتدوير يستمد منهما كل ما يمكن من مفارقات ومناقضات، فتارة يدعي له الطويل في الباطن، وتارة ثانية يصفة بالقصر، وتارة ثالثة ينفيهما عنه، ويدعي له التربيع والتدوير، ساخرًا من جمسه وشكله.

_ 1 أخمص: ضامر. 2 الباد: باطن الفخذ.

في هذا ما يجعلنا نفهم لماذا سميت الرسالة باسم رسالة التربيع والتدوير، فقد بناها الجاحظ على هذه الفكرة التي نؤمن بأنه استعارها من فكرة الأوساط اليونانية المعروفة في الأخلاق، لكن بعد أن حورها، وعدلها على هذا النحو، فإذا هي لا تثار في الأخلاق، وإنما تثار في الأجسام، وفي هجاء أحمد بن عبد الوهاب، وقد كان الجاحظ يعجب إعجابًا شديدًا بهذه الفكرة، وذكرها مرارًا في كتبه ورسائلة، بل ذكرها في هذه الرسالة نفسها، إذ يقول لابن عبد الوهاب: "اعلم أن الحسد اسم لما فضل عن المنافسة؛ كما أن الجبن اسم لما فضل عن التوقي، والبخل اسم لما قصر عن الاقتصاد، والسرف ما جاوز الجود، وأنت -جعلت فداك- لا تعرف هذا، ولو أدخلتك الكور1، ونفخت عليك إلى يوم ينفخ في الصور"، وما من ريب في أن الجاحظ عبر عن طرافة مدهشة، حين استطاع أن يستغل هذه النظرية اليونانية في تعبيره الفني هذا الاستغلال القيم، فإذا به يخرجها من دوائرها الفلسفية إلى دوائره هو الفنية، مستعينًا على ذلك بمجاميع من الأخطاء، وبما يمتاز به من مرونة في الجدل والحوار، والسفسطة وما يطوى في ذلك من ضروب تناقض وتقابل، واستمع إليه يعرض ابن عبد الوهاب على هذه الفكرة فيقول: "وبعد فأنت -أبقاك الله- في يدك قياس لا ينكسر، وجواب لا ينقطع، ولك حد لا يفل، وغرب لا ينثني، وهو قياسك الذي إليه تنسب، ومذهبك الذي إليه تذهب: أن تقول: وما علي أن يراني الناس عريضًا، وأكون في حكمهم غليظًا، وأنا لك مع طول الباد راكبًا طو الظهر جالسًا، ولكن بينهم فيك -إذا قمت- اختلاف، وعليك لهم -إذا اضطجعت- مسائل، ومن غريب ما أعطيت، وبديع ما أوتيت أنا لم نر مقدودًا واسع الجفرة غيرك، ولا رشيقًا مستفيض الحاضرة سواك، فأنت المدير، وأنت البسيط، وأنت الطويل، وأنت المتقارب، فيا شعرًا جمع الأعاريض، ويا شخصًا جمع

_ 1 الكور: مجمرة الحداد.

الاستدارة والطول! بل ما يهمك من أقاويلهم، ويتعاظمك من اختلافهم، والراسخون في العلم، والناطقون بالفهم يعلمون أن استفاضة عرضك قد أدخلت الضيم على ارتفاع سمكك، وأن ما ذهب منك عرضًا قد استغرق ما ذهب منك طولًا، ولئن اختلفوا في طولك لقد اتفقوا في عرضك، وإذ قد سلموا لك بالرغم شطرًا، ومنعوك بالظلم شطرًا، فقد حصلت ما سلموا، وأنت على دعواك فيما لم يسلموا! ولعمري إن العيون لتخطئ وإن الحواس لتكذب، وما الحكم القاطع إلا للذهن، وما الاستبانة الصحيحة إلا للعقل إذ كان زمامًا على الأعضاء، وعيارًا على الحواس.. ولم لم يكن فيك من العجب إلا أنك أول من تعبده الله بالصبر على خطأ الحس، وبالشكر على صواب الذهن، لقد كنت في طولك آية للسابلين، وفي عرضك مارًا للمضلين، وقد تظلم المربوع مثلي من الطويل مثل محمد، ومن القصير مثل أحمد ... والمربوع -بحمد الله- اعتدلت أجزاوه في الحقيقة كما اعتدلت في المنظر، فقد استغنى بعز الحقيقة عن الاعتذار، وبحكم الظاهر عن الاعتلال! وقد سمعنا من يذم الطوال كما سمعنا من يزري على القصار، ولم نسمع أحدًا ذم المربوع ولا أزرى عليه، ولا وقف عنده ولا شك فيه ... وبعد فما يحوجك إلى هذا، وما يدعوك إليه، وأشباهك من القصار كثيرًن ومن ينصرك منهم غير قليل، وقد رأيتك زمانًا تحتج بالنعمان بن المنذر وبضمرة.. وبرجال ناهيك بهم رجالًا، وبأعلام كفاك بهم أعلامًا، ورأيتك تقول: إن كان الفضل في النكاية وفي الشجة والصلابة، فصغار كل شيء أشد ضررًا وأدق مدخلًا، وأظهر قوة وجلدًا، كالحجارة أصلبها الحصى، وكالحيات أقتلها الأفعى، وقلت: إن كان الفضل في العدد فمنا يأجوج ومأجوج، ومنا الذر والفراش، ومن الدعاميص والبعوض والرمل، والتراب وقطر السحاب". وعلى هذا النحو يسوق الجاحظ حديثه في الرسالة متلاعبًا بفكرة الطول والقصر، وما ينبغي أن يكون من التوسط بين الطرفين، وإنه ليتسع بالحوار والجدل في ذلك اتساعًا شديدًا، فإذا هو يقف تارة في جانب القصر يحتج له، وتارة يقف في جانب الاعتدال، وقد يقف في جانب الطول، يدلي في كل

جانب بالحجج والبراهين كأنه يناقش مسألة علمية دقيقة هذه المناقشة دائمًا إلى فكرة التربيع، والأخذ به لا يخرج مهجوه عن حدود الاعتدال إلى حدود التقصير أو التبذير، وكأني بالجاحظ أحال أحمد بن عبد الوهاب إلى مشكلة من مشاكل الاعتزال، أو قل إلى مشكلة من مشاكل الفلسفة، إذ نراه يحقق فيه مسألة التوسط بين الطرفين تحقيقًا دقيقًا، وهو تحقيق يطوي كل ما يريد من سخرية به، وتهكم عليه إذ يتناوله مرة بالطول ومرة بالعرض، وهو في أثناء تناوله يمده تارة، ويقصره تارة أخرى، وتارة ثالثة يبعجه في مناظر تستخرد منا الضجم على ما يصنع بصاحبه من تشويه، وانظر إليه يحتج لطرفي الطول والقصر، فيقول: "وقلت: والناس وإن قالوا في الحسن: كأنه طاقة ريحان، وكأنه خوط1 بان، وكأنه قضيب خيزران، وكأنه غصن بان، وكأنه رمح رديني، وكأنه صفيحة يمانية، وكأنه سيف هندواني، وكأنها جان، وكأنها جدل عنان2، فقد قالوا: كانه المشتري3، وكأن وجهه دينار هرقلي، وما هو إلا البحر، وما هو إلا الغيث، وكأنه الشمس، وكأنها دارة القمر، وكأنها الزهرة، وكأنها درة، وكأنها غمامة، وكأنها مهاة، فقد تراهم وصفوا المستدير العريض بأكثر مما وصفوا به القضيف4 والطويل. وقلت: وجدنا الأفلاك وما فيها، والأرض وما عليها، على التدوير دون التطويل، وكذلك الورق والتمر والحب والثمر والشجر، وقلت: والرمح إن طال، فإن التدوير عليه أغلب؛ لأن التدوير قائم فيه موصولًا ومفصلًا؛ والطول لا يوجد فيه إلا موصولا، وكذلك الإنسان وجميع الحيوان، وقلت: ولا يوجد التربيع إلا في المصنوع دون المخلوق، وفيما كره على تركيبه دون ما خلي وسوم5 وطبيعته، وعلى أن كل مربع ففي جوفه مدور، فقد بان المدور بفضله، وشارك المطول في حصته، ومن العجب أنك تزعم أنك طويل في الحقيقة، ثم تحتج للاستدارة والعرض، فقد أضربت عما عند الله صفحًا، ولهجت بما عند الناس".

_ 1 الحوط: الغصن الناعم. البان: شجر. 2 جدل عنان: أي مفتولة فتل العنان، وهو زمام الدابة كناية عن أنها مجدولة الخلق طويلة. 3 المشتري: كوكب. 4 القضيف: الضامر. 5 سوم: ترك.

أرأيت إلى هذا الاحتجاج؟ إنه من أهم سمات الجاحظ في كل ما يؤلف، ويكتب ويملي إذ نرى عقله دائمًا مشغوفًا بالأدلة يسوقها على ما يقوله في هذا النحو البديع من الجدل والبحث، ألا تراه يحاول أن يتتبع الشعراء والأدباء في نعتهم للأشياء بالحسن، والجمال ليرى هل ما يضيفون إليه هاتين الصفتين من باب القصار، أو هو من باب الطوال، أو هو منهما جميعًا؟ والجاحظ لا يكتفي بذلك في احتجاجه وجدله، إذ نراه يعمد إلى المغالطة عن طريق الرمح؛ لأنه أجزاء موصول بعضها ببعض، وإذن فالتدوير عليه أغلب! ليس الرمح طويلًا، وإن تراءى ذلك في الظاهر، إنما هو مدور، أما ما قد يبدو من طوله فغير صحيح؛ لأنه يخالف الحقيقة التي تطوى وراءه، وكذلك قصر أحمد بن عبد الوهاب غير صحيح؛ لأنه يخالف الطول الذي يطوى خلفه، وينبغي أن لا نحكم بالظاهر، بل ينبغي أن نحكم بالباطن، وما وراء الظاهر! وإذا فليس بين أيدينا حقيقة يمكن أن نطمئن إليها، وكل آرائنا التي نكونها عن بعض الأشياء، وأنها طويلة أو قصيرة قابلة للنقض في رأي الجاحظ، كي يرضى ابن عبد الوهاب، ويمده بأسباب من الوقل للاحتجاج على طوله المستتر وراء قصره، وهذا هو معنى أنه يلهج بما عند الناس ويترك ما عند الله، وما من ريب في أن الجاحظ وصل إلى هذا كله عن طريق المغالطة، التي يسوقها في الرمح إذ يقول: إنه يبدو طويلًا، وهو في حقيقة الأمر قصير، أو هو كما يقول الجاحظ مدور، وذلك لسبب بسيط، وهو أنه يتألف من مدورات! وعلى هذا النحو ينتهي الجاحظ إلى أن كل مربع فهو في جوفه مدور، وأوضح أنه يعتمد في ذلك كله على السفسطة، وهو ينفذ منها إلى عرض صاحبه على فكرة القبح والحسن، فإذا هو يصفه بالقبح تارة، وما يلبث أن يصفه بالحسن تارة أخرى، وجاء في ذلك بطرف لا تحصى على شاكلة قوله: "ولو لم يكن لك إلا أنا لا نستطيع أن نقول في الجملة، وعند الوصف والمدحة: هو أحسن من القمر، وأضوأ من الشمس وأبهى من الغيث، وأنا لا نستطيع أن نقول في التفاريق: كأنه عنقه إبريق فضة، وكأن قدمه لسان حية، وكأن عينه

ماوية1، وكأن بطنه قبطية2، وكأن لسانه ورقة، وكأن أنفه حد سيف، وكأن حاجبة خط بقلم، وكأنه لونه الذهب، وكأن عوارضه البرد، وكأنه فاه خاتم؛ وكأن جبينه هلال ولهو أطهر من الماء، وأرق طباعًا من الهواء، ولهو أمضى من السيل، وأهدى من النجم، لكان في ذلك البرهان النير، والدليل البين، وكيف لا يكون كذلك وأنت الغاية في كل فضل، والنهاية في كل شكل، وأما قول الشاعر: يزيدك وجهه حسنًا ... إذا ما زدته نظرًا وقول الدمشقيين: "ما تأملنا قط تأليف مسجدنا، وتركيب محرابنا وقبة مصلانا إلا أثار لنا التأمل، واستخرج لنا التفرس غرائب حسن لم نعرفها، وعجائب صنعة لم نقف عليها، وما ندري أجوهر مقطعاته أكرم في الجواهر، أم تنضيد أجزائه في تنضيدات الأجزاء". فإن ذلك معنى مسروق مني في وصفك، ومأخوذ من كتبي في مدحك.. ومن يطمع في عيبك، بل من يطمع في قدرك، وكيف وقد أصبحت وما على ظهرها خود3 إلا وهي تتعثَّر باسمك، ولا قينة إلا وهي تغني بمدحك، ولا فتاة إلا وهي تشكو تباريح حبك، ولا محجوبة إلا وهي تثقب الخروق لممرك، ولا عجوز إلا وهي تدعو لك، ولا غيور إلا وقد شقى بك، فكم من كبد حرى منضجة ومصدوعة مفرثة4، وكم من حشا خافق وقلب هائم، وكم من عين ساهرة وأخرى جاهدة، وأخرى باكية، وكم من عبرى مولهة، وفتاة معذبة -قد أقرح قلبها الحزن، وأجهد عينها الكمد- قد استبدلت بالحلى العطلة، وبالأنس الوحشة، وبالتكحيل المرة5 فأصحبت والهة مبهوته، وهائمة مجهودة بعد طرف ناصع، وسن ضاحك، وشكل ساحر، وبعد أن كانت نارًا تتوقد، وشعلة تتوهج ... وما ندري في أي الحالين أجمل، وفي أي المنزلتين أنت أكمل: إذا فرقنانك أو إذا جمعناك، وإذا ذركرنا كلك، أو إذا تأملنا بعضك، فأما

_ 1 ماوية: مرآة. 2 قبطية: ثياب كذانت تصنع بمصر من نسيج الكتان الرفيع. 3 الحود: الشابة الجميلة. 4 مفرثة: مشقوقة. 5 المره: عدم التكحيل وتقرح الجفون.

كفك فهي التي لم تخلف إلا للتقبيل والتوقيع، وهي التي يحسن بحسنها كل ما اتصل بها، ويختال بها كل ما صار فيها، وكما أصبحنا وما ندري آلكأس في يدك أحسن، أم القلم، أم الرمح الذي تحمله، أم المخصرة، أم العنان الذي تمسكه، أم السوط الذي تعلقه؟ وكما أصحبنا وما ندري أي الأمور المتصلة برأسك أحسن، وأيها أجمل وأشكل، آللمة، أم خط اللحية، أم الإكليل، أم العصابة، أم التاج، أم العمامة، أم القناع، أم القلنسوة؟ فأما قدمك فهي التي يعلم الجاهل كما يعلم العامل، ويعلم البعيد الأقصى كما يعلم القريب الأدنى، أنها لم تخلق إلا لمنبر ثغر عظيم أو ركاب طرف كريم، وأما فوك فهو الذي لا ندري أي الذي تتفوه به أحسن، وأي الذي يبدو منه أجمل، آلحديث، أم الشعر، أم الاحتجاج، أم الأمر والنهي، أم التعليم والوصف؟.. وقد علمنا أن القمر هو الذي يضرب به الأمثال، ويشبه به أهل الجمال، وهو مع ذلك يبدو ضئيلًا نضوًا، ومعوجًا شختا1، وأنت أبدًا قمر بدر فخم غمر، ثم هو مع ذلك يحترق في السرار2، ويتشاءم به في المحاق، ويكون نحسًا كما يكون سعدًا، ويكون نفعًا، كما يكون ضرًا ... وأنت دائم اليمن ظاهر السعادة، ثابت الكمال، شائع النفع، تكسو من أعراه، وتكن من أشحبه، وعلى أنه قد محق حسنه المحاق، وشأنه الكلف3، وليس بذي توقد ولا اشتعال، ولا خالص البياض، ولا بمتلألئ، ويعلوه القيم، ويكسوه ظل الأرض، ثم لا يعتريه ذلك إلا عند كماله، وليلة فخره واحتفاله، وكثيرًا ما يعتريه الصغار من بخار البحار، وأنت ظاهر التمام، دائم الكمال، سليم الجوهر، كريم العنصر، ناري التوقد، هوائي الذهن، دري اللون، روحاني البدن، وعلى أن ضياءه مستعار من الشمس وضياءك عارية عند جميع الخلق ... فكم بين المعير والمستعير، والمتبين والمتحير، وبين العالم ومن لا حسن فيه، لا زالت الأرض بك مشرقة، والدنيا معمورة،

_ 1 شختا: ضامرًا، نضوا: مهزولا. 2 السرار: الليالي التي يختفي فيها القمر فلا يرى. 3 الكلف: ما يعتري القمر من حمرة الخسوف. والمحاق: آخر الشهر أو ثلاث ليال من آخره.

ومجالس الخير مأهولة ونسيم الهواء طيبًا، وتراب الأرض عبقًا". والحق أن الجاحظ بلغ من سخريته بابن عبد الوهاب ما لم يبلغه كاتب، ولا شتعر في اللغة العربية من سخريته بشخص من الأشخاص، والطريف أنه يصل إلى ذلك لا عن طريق السب، والشتم، والقذف، وإنما عن طريق ما يسوقه من تهكم وسخرية لاذعة بصاحبه، فإذا هو يحتكم معه إلى نظرية الأوساط اليونانية يستمد منها متناقضاته، كما يحتكم إلى قبحه، وما يضفيه عليه من هذا الحسن الحادث، ليستخرج كل ما يمكن من مفارقات فيه، وإنه يستعين على ذلك بضروب من الجدل والاحتجاج والحوار، كما يستعين عليه بضروب من السفسطة، والمغالظة، والمقابلة بين الحقائق بعضها وبعض، أو المقابلة بينه وبين أشياء أخرى على نحو ما يصنع به في هذه القطعة من المقابلة بينه، وبين القمر هذه المقابلة الساخرة الطريفة، التي يبعث فيها به ما شاء له هواه، وهو عبث يستخرجه من التناقض بين قبحه الحقيقي، وحسنه الذي ادعاه له، كما يستخرجه من قصره، وما ادعاه له من طول وتربيع، ومعنى ذلك أن الجاحظ بنى رسالته على فن المفارقة، هذا الفن الذي رشحت له نظرية الأوساط اليونانية عنده، وقد أخذ يضم إلى ذلك ضميمات أخرى من أسئلته الكثيرة، حتى تتم له سخريته من صاحبه، وغن هذه الأسئلة لتشغل الجزء الأكبر من رسالته، وانظر إليه يقول: "يا قعيد الفلك كيف أمسيت؟ ويا قوة الهيولا كيف أصبحت؟ حدثني كيف رأيت الطوفان، ومتى كان سيل العرم، ومذ كم مات عوج؟ ومتى تبلبلت الألسن؟ وما حبس غراب نوح؟ وكم لبثتم في السفينة؟ ومذ كم ظهرت الجبال ونضب الماء عن النجف؟ وأي هذه الأودية أقدم: أنهر بلخ أم النيل أم الفرات أم دجلة أم جيحان أم سيحان؟.. وخبرني عن هرمس أهو إدريس؟ وعن أرميا أهو الخضر؟ وعن يحيى بن زكريا أهو إيليا؟ وعن ذي القرنين أهو الإسكندر؟.. وخبرني عن قحطان ألعابر هو أم لإسماعيل؟ وعن قضاعة ألمعد بن عدنان أم لملك من حمير؟ وما القول في هاروت وماروت؟ وما عداوة بين الديك والغراب؟.. وخبرني عن بحار نيطس، وعن قبيس وعن الأصم وعن

المظلم وعن جبل الماس وعن قاف، وأين كنت عام الجحاف؟ وأين كان ملك الأزد من ملك الأشكان؟ وأين كانا من ملك بني ساسان؟ وأين كان أبرويز من أنوشروان؟ وخبرني عن الفراعنة أهم من نسل العمالقة؟ وعن العمالقة أهم من قوم عاد؟ ... وخبرني كيف كان أصل الماء في ابتدائه في أول ما أفرغ في إنائه، أكان بحرًا أجاجًا استحال عذبًا زلالا، أم كان زلالا عذبا استحال بحرًا؟ ... وكيف طمع -جعلت فداك- الدهري في مسألة البيضة والدجاجة مع تقادم ميلادك، ومرور الأشياء على بدنك وكيف كان بدء أمر البد في الهند، وعبادة الأصنام في الأمم؟ وخبرني عن عنقاء مغرب، وما أبوها وما أمها؟ وهل خلقت وحدها، أم من ذكر وأنثى؟ ولم جعلوها عقيما وجعلوها أنثى؟ ... وفيك أمران غريبان وشاهدان بديعان: جواز الكون والفساد عليك، وتعاور النقصان والزيادة إياك، جوهرك فلكي وتركيبك أرضي، ففيك طول البقاء، ومعك دليل الفناء، فأنت علة للمتضاد وسبب للمتنافي، جعلت فداك قد شاهدت الإنس مذ خلقوا، ورأيت لجن قبل أن يحتجوا ... وشهدت العلل وهي تولد، والأسباب وهي تصنع ... خبرني ما السحر، وما الطلسم؟ وما صداقة ما بين الخنفساء والعقرب؟ ولم ملح الحمض؟ ولم طوقت الحمامة؟ وما بدال السواد يصبغ، ولا ينصبغ والبياض ينصبغ، ولا يصبغ؟ وخبرني ما جرى بيك، وبين هرمس في طبيعة الفلك وعن سماعك من أفلاطون، وما دار في ذلك بينك وبين أرسطاطاليس.. وخبرني أني كان إقليدس من فيثاغورس؟ وأين تلامذته من تلامذته؟ ومن صاحب الشطرنج؟ ومن صاحب كليلة ودمنة؟ ولولا أنك -جعلت فداك- مسئول في كل زمان، والغاية في كل دهر لما أفردتك بهذا الكتاب، ولما أطمعت نفسي في الجواب، ولكنك قد كنت أذنت في مثلها لهرمس، ثم لأفلاطون ثم لأرسطاطاليس ثم أجبت معبدًا الجهني، وغيلان الدمشقي وعمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء وإبراهيم بن سيار "النظام"، وعلي بن خالد الأسواري، فتربية كفك والناشئ تحت جناحك أحق بذلك وأولى، وقد كان يجب أن تكون على ذلك أحرص وبه وأعنى.. وزعم بعض تلاميذك أنك تعلم لم كان الفرس لا طحال لها، ولم صار البعير لا مرارة له، ولم كانت السمكة لا رئة لها ... ولم قيل: أعق من ضب

وأبر من هرة، وهما جميعًا يأكلان أولادهما، ولم عال الذئب أولاد الضبع إذا قتلت أو ماتت؟ ولم نامت الأرنب مفتوحة العينين؟ ولم أكل الذئب صاحبه إذا رأى به دمًا؟.. ولم زعمت أن عمر نوح أطول الأعمار مع قولك: إن جميع الأنبياء قد حذرت من الدجال، وأن الدجال إنسان؟! ". ويحاول الجاحظ بهذه الأسئلة، وأمثالها أن يقمع مراء أحمد بن عبد الوهاب ويظهر جهله وتمويهه، وهو يخرجها هذا الإخراج الفكه الذي احتال عليه بمناقضاته، وخاصة بما كان من تربيع ابن عبد الوهاب وتدويره، وقبحه وجماله، وما من ريب في أنه بلغ من ذلك كل ما كان يريد من سخرية بصاحبه، ونحن لا نبعد إذا جعلنا الجاحظ إمام الهجائين في العصر العباسي، إذ استطاع أن يلعب لعبًا واسعًا بما كان من قصر مهجوه وضيق عقله، والطريف أنه أخرج ذلك كله مخرج الجدل والحوار، ومسح عليه بالسفسطة والمغالطة، وهذا اللسان الذي فتقته الفلسفة، وهذا البيان الذي شحذته الثقافة، وهو يعرض ذلك كله عرض محدث لبق، ما يزال يخرج من باب إلى باب ومن فكرة إلى فكرة، وهي طريقة عامة في كتابات الجاحظ بعد مرضه، إذ تبدو في شكل إملاءات ومحاضرات، وهي لذلك تتصف بالتكرار والترداد، والاستطراد كما تتصف بالسمات الأخرى، التي تميزه من تقطيع صوتي بديع، وتلوين عقلي طريف، وهو ينزلق إلى ذلك كله في الرسالة التي بين أيدينا -عن طريق فكرة الأوساط فإذا زاد الجسم طولًا، أو نقص قصرًا، أو اتسع عرضًا، أصابته مساوئ الإفراط والتفريط، واستطاع الجاحظ أن يمثل بصاحبه، وأن يشوهه ما استطاع من تمثيل وتشويه، ونراه يعرض ذلك كله في معارض بيانية ممتازة تجعلنا نؤمن بأنه تفوق في صنعته على جميع كتاب عصره، إذ كان يؤصلها على التلوين العقلي من طرف، والتلوين الصوتي من طرف آخر، فإذا أساليبه تنهض بهذه الثروة العقلية الباهرة، تلك الموسيقى الرصينة الرائعة، والحق أن الجاحظ استطاع أن يدمج إدماجًا حسنًا بين ثقافته، وأسلوبه، وأن يخرج من ذلك إلى هذه الصنعة الجاحظية البديعة التي تقوم على التجانس بين اللفظ الموسيقي الرشيق، والمعنى العقلي الدقيق، تجانسًا يمتع العقل والفكر، كما يمتع الحس والشعور.

الكتاب الثاني: مذهب التصنيع، مذهب التصنع

الكتاب الثاني: مذهب التصنيع، مذهب التصنع الفصل الأول: التصنيع والدواوين 1- التصنيع في الحياة العربية: لا نكاد نمضي في العصر العباسي، حتى نحس أن الحياة العربية تغير إطارها تغيرًا تامًا، بل لقد تهدم إطارها القديم وحل محله إطار جديد من الزخرف والتصنيع، فقد أخذ الناس يعيشون معيشة حضارية مترفة، لا تتصل بالبادية ولا بالحياة العربية القديمة، إنما تتصل بالأناقة والترف والزينة، وقد كانت بغداد حاضرة الخلافة العباسية أهم مدينة في العالم العربي، تعبر عن هذه الحياة الجديدة، وما يتصل بها من زخرف، وتصنيع إذ "كانت تسمى بحق مدينة القصور المشيدة بالمرمر، وكانت العمائر فيها مؤلفة من عدة طبقات، وكان تأثير الذوق الفارسي ظاهرًا جليًا في زخرفها، وكانت تعلق على النوافذ، والأبواب ستور مزركشة وحوائر مشجرة، أما الغرف فكانت مزدانة بالدواوين النفيسة، والمناضد الثمينة، والزهريات الخزفية، والمرصعات والمذهبات، وكانت قصور الخليفة تتألق بالجواهر البراقة"1، وقد وصف بعض العباسيين دارًا للواثق، فقال: "إنها كانت ملبسة الحيطان بالوشي المنسوج بالذهب". ويقول: "إنه رآه يجلس على سرير مرصع بالجواهر، وعليه ثياب منسوخة بالذهب، وإلى جانبه فريدة تغنيه، وعليها مثل ثيابه"2. ويرى عن الوزير أبي الحسن بن الفرات أنه أنفق على الدار التي كان ينزلها في وزارته الثانية ثلمثمائة دينار، وأنه أمر

_ 1 مختصر تاريخ العرب والتمدن الإسلامي لسيد أمير علي، ترجمة رياض رأفت ص384. 2 أغاني "طبع دار الكتب" 4/ 116".

بإصلاحها فبلغت النفقة خمسين ألف دينار1، ولعل مما يدل على ترف العباسيين من بعض الوجوه، ما يروى عن السيدة زبيدة زوج هارون الرشيد من أن الثوب من الوشي الذي كان يتخذ لها، كانت تبلغ نفقته خمسين ألف دينار2، ويتصل بذلك ما يروى أن من أم المقتدر كان يشترى لها ثياب دبيقية لتصنع منها نعالها، وكانت تطلى بالمسك، والعنبر، والمذاب وتجمد3، فإذا كان المسك والعنبر يجمدان في نعالها، فما بالنا بثيابها، وطعامها، وما كان يتخذ فيها! والحق أن الحياة العباسية كانت تقوم على الترف والزينة، وما يتصل بهما من تصنيع وزخرف، وقد ساعد الناس على ذلك ارتفاع مستوى المعيشة، وما كانوا عليه من بذخ وثراء، وربما كان مما يصور هذا الجانب من بعض الوجوه ما يروى من أن بعض العباسيين ورث عن مولى لأبيه، وابن عم له ماتا في يوم واحد ما قيمته أربعون ألف دينار، ويقولون: إنه عمر دارًا بألف واشترى جواري وآلات وفرشًا، وثيابًا بسبعة آلاف، وأعطى لتاجر ألفين يتجر له فيهما، وأودع في بطن الأرض عشرة آلاف للشدائد، وابتاع بالباقي ضيعة تغل في كل سنة ما يزيد على مقدار نفقته4، ومن يرجع إلى ما كتبه العباسيون عن عصرهم يجد صورًا مستفيضة، لترفهم، وحضارتهم، وتنميقهم، وإننا لنجد هذا التنميق في كل مكان، نجده في قصورهم، وحمامتاتهم إذ كانت تزين بالصور5 كما نجده في مساجدهم، وحتى الأبواب كانوا يزخرفونها، يقول آدم متز: إن أبواب الدور كانت تصنع من الخشب المحلى بالنقوش، وكانت تعلق البسط على الحيطان تتنافس بألوانها، وزركشتها6. ولعل من الطرف التي تعبر عن التصنيع في هذا العصر تعبيرًا دقيقًا، ما يروى عن المقتدر بالله وقصوره، وما كان فيها من بذخ إذ يقولون: إنه كان بقصره شجرة من الفضة زنتها خمسمائة

_ 1 كتاب الوزراء للهلال بن المحسن "طبع بيروت" ص179. 2 مروج الذهب للمسعودي "طبع دار الرجاء" 4/ 244. 3 نشوار المحاضرة "بتصحيح مرجليوث" 1/ 143. 4 الفرج بعد الشدة للتنوخي 2/ 17. 5 الحضارة الإسلامية لآدم ميتز "طبع لجنة التأليف" 2/ 162. 6 نفس المصدر 2/ 160.

ألف درهم، وكانت تقم وسط بركة مدورة صافية المياه، وكان لها ثمانية عشر غصنًا، على كل غصن الطيور، والعصافير من كل نوع مذهبة ومفضضة، وكان بها ورق مختلف الألوان، وكانت تتميل في أوقات لها، فيتحرك هذا الورق وتصفر الطيور وتهدر، ويبالغ المؤرخون فيما كان بقصور المقتدر من ستور الديباج المذهبة بالطرز الجليلة المصورة بالجامات، والفيلة والخيل، والجمال والسباع، ويقال: إنه كان بأحد قصوره بركة رصاص حولها بستان بميادين فيه نخل، قيل: إن عدده إربعمائة نخلة، وطول كل واحدة خمسة أذرع، قد لبس جميعها ساجًا منقوشًا من أصلها إلى حد الطلع بحلق من شبه مذهبة1. ووقف ابن خلدون في مقدمته عند ترف العباسيين، وأكبر من شأنه مستدلا بما كان من إعراس المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل، وما نثره أبوها من بنادق المسك، وفيها الرقاع بأسماء الضياع، والجواري التي وزعها على المدعوين، ونثر أيضًا كثيرًا من الدنانير، والدراهم ونوافج المسك، ثم يقول: إن المأمون أعطى بوران مهرًا لها ليلة زفافها: ألف حصاة من الياقوت، وبسط لها فرشا كان الحصير منها منسوجا بالذهب، مكللا بالدر والياقوت، ويفيض ابن خلدون فيما اتخذ بهذا العرس من أطعمة2، وإن في كتاب البخلاء للجاحظ ما يدل على مدى ترف العباسيين في أطعمتهم، وأوانيهم، وتأنقهم في ذلك، وكما تأنقوا في طعامهم تأنقوا في ثيابهم، وملابسهم، فكانوا يلبسون الثياب المصبغة، وخاصة في شرابهم3، وما من ريب في أن ما انتشر في هذا العصر من غناء وشراب، ولهو كان له أثره في هذا الذوق المترف الذي يميل إلى أن يسري التصنيع، والزخرف في جيمع جوانب الحياة من عمارة، أو أطعمة أو فرش، وطبيعي أن يسري هذا الذوق من حياة العباسيين الاجتماعية إلى حياتهم الأدبية؛ لأنه تعبير عصرهم الذي عاشوا فيه، وإن الإنسان ليخل له كأن الناس فرغوا للتنميق والتصنيع، فهم يصنعون وينمقون في دورهم، وفي ملابسهم وفي طعامهم، وفي كل ما يتصل بهم.

_ 1 انظر تاريخ الخطيب البغدادي "طبع مصر" 1/ 100. 2 مقدمة ابن خلدون "طبع المطبعة البهية" ص121. 3 انظر الفخري في الآدب السلطانية "طبع المطبعة الرحمانية" ص153.

التصنيع ودواوين الخلافة العباسية

2- التصنيع ودواوين الخلافة العباسية: ونحن لا نمضي في تتبع أصحاب الدواوين في الخلافة العباسية، حتى نجدهم منصرفين إلى العناية بكتابتهم، إذ كانت هذه العناية هي التي توفر لهم أسباب النجاح في حياتهم، ونحن نعرف ما كان من مشاركة البرامكة في الأدب، والعلم ومعرفتهم بالبيان والبلاغة، وسنرى أنه كان لهم الأثر الأول في الاتجاه إلى التصنيع في الكتابة، كان الفضل بن سهل يسمى ذا الرياستين لجمعه بين رياسة السيف، ورياسة القلم، وقد روى الرواة أن عمرو بن مسعدة وقع على رقعة رفعت إلى جعفر بن يحيى البرمكي، فأعجب بها جعفر، وضرب بيده على ظهره، وقال له: أي وزير في جلدك1، وقد وصل محمد بن عبد الملك الزيات إلى الوزارة عن طريق أدبه، وبيانه وما يحققه فيه من تنميق، وتصنيع. ويظهر أن جماعة كتاب الدواوين، كانت تأخذ نسها بثقافة واسعة، وقد رأينا في غير هذا الموضع كيف كان عبد الحميد الكاتب ينصح الكتاب بمعرفة كتاب الله، والفرائض، والثقافة العربية من الشعر وأيام العرب، وكذلك الثقافة الفارسية، وما يتصل بتاريخ الفرس، ويظهر أن هذا كله لم يكن يكتفي به كتاب الدواوين في العصر العباسي، إذ كانوا يأخذون أنفسهم بثقافة فلسفية واسعة، كما كانوا يأخذون أنفسهم بالثقافة الفارسية والهندية، ومن أجل ذلك نعى عليهم ابن قتيبة أنهم يمهلون النظر في اللغة بينما يشغفون "بالنظر في النجوم والمنطق والفسلفة"، والحديث عن "الكون والفساد، وسمع الكيان والكيفية والكمية

_ 1 ابن خلكان 1/ 390.

والجوهر والعرض، ورأس الخط النقطة لا تنقسم1"، إلى غير ذلك مما كانوا يتشدقون به مما عرفوه من الفلسفة، والثقافات الأجنبية. وهذا كله يدل على أن كتاب الدواوين كانوا يوسعون ثقافتهم ما استطاعوا، وغنوا خاصة بالثقافة الفلسفية، حتى يعمقوا أفكارهم، ويرتبوا معنيهم ترتيبًا دقيقًا، وهم كما عنوا بمعانيهم عنوا أيضًا بألفاظهم عناية قد تفوق عنايتهم بمعانيهم، حتى ليقول الجاحظ: "أما أنا فلم أر قط أمثل طريقة في البلاغة من الكتاب، فإنهم قد التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعرًا وحشيًا، ولا ساقطًا سوقيا"2. ويقول أيضًا: إن الكتاب لا يقفون إلا على الألفاظ المتخيرة، والمعاني المنتخبة وعلى المخارج السهلة، والديباجة الكريمة وعلى الطبع المتمكن، وعلى السبك الجيد، وعلى كل كلام له ماء ورونق: وعلى المعاني التي إذا صارت في الصدور عمرتها، وأصلحتها من الفساد القديم، وفتحت للسان باب البلاغة، ودلت الأقلام على مدافن الألفاظ، وأشارت إلى حسان المعاني3. وما من ريب في أن هذه شهادة قيمة من الجاحظ لطائفة الكتاب، وما كانوا يوفرون لألفاظهم من عناية، وإنها لعناية تستمر بهم، فإذا هم ينقلون حرفة الكتابة من أسلوبها القديم: أسلوب الصنعة إلى أسلوب جدي من التصنيع، وبعبارة أخرى من السجع البديع، وبدأت هذه العناية واضحة منذ عصر البرامكة، الذين روت كتب التاريخ عنهم ترفًا واسعًا، وكأن هذا الترف دفعهم هم والكتاب من حولهم إلى التأنق في حياتهم الاجتماعية، والتأنق أيضا في حياتهم الأدبية، وخير من يصور ذلك جعفر بين يحيى البرمكي صاحب الدواوين في عهد الرشيد، فقد أشاد السابقون ببلاغته، يقول الجهشياري: "كان جعفر بليغًا كاتبًا، وكان إذا وقع نسخت توقيعاته، وتدورست بلاغاته"4. ويقول ابن خلدون عنه: "وإن الناس كانوا يتنافسون في الحصول على توقيعاته

_ 1 انظر أدب الكاتب لابن قتيبة "طبع مطبعة الوطن" ص3. 2 البيان والتبيين 1/ 137. 3 البيان والتبيين 4/ 24. 4 الوزراء والكتاب ص204.

ليقفوا منها على أساليب البلاغة، وفنونها حتى قيل: إنها كانت تباع كل توقيع بدينار"1، ووصفه ثمامة بن أشرس فقال: "كان جعفر بن يحيى أنطق الناس، قد جمع الهدوء والتمهل، والجزالة والحلاوة، وإفهامًا يغنيه عن الإعادة، ولو كان في الأرض ناطق يستغنى بمنطقه عن الإشارة لاستغنى جعفر عن الإشارة، كما استغنى عن الإعادة"2، وفيه تقول عنان جارية الناطقي3: بديهته وفكرته سواء ... إذا التبست على الناس الأمور وقد كان جعفر يبالغ في تنميق عباراته، وهو تنميق كان يستمده من حياته التي بنيت بناء من التنميق، والتصنيع والزينة، حتى قالوا: إنه كان يتخذ في عصره مثلًا للتصنيع، والزخرف في ثيابه4، فكان طبيعيًا أن يسقط ذلك إلى أدبه وبيانه. ولعل أهم ما يلاحظ من ذلك أنه كان يلتزم السجع في كتبه وتوقيعاته، روى ابن خلكان أنه وقع إلى بعض عماله: "قد كثر شاكوك وقل شاكروك، فإما اعتدلت، وإما اعتزلت"5. وأكبر الظن أن جعفرًا كان يبني عباراته على السجع، وهذا أول مظهر من مظاهر مذهب التصنيع، ويبدو أن هذا الاتجاه في صناعة النثر لم يقتصر حينئذ على جعفر البرمكي، ودواوينه بل أخذ ينتشر وخاصة عند طلاب الحاجات الذين يرفعون ظلاماتهم، أويقدمون توسلاتهم، فقد روى الجاحظ أن ابن سيابة الشاعر كتب إلى يحيى بن خالد البرمكي برسالة بليغة كان عامة أهل بغداد يحفظونها، وهي رسالة بنيت كلها على السجع6، ومر بنا في الفصل الثاني من الكتاب الأول أن كثيرًا من الوعاظ كانوا يستخدمون السجع في أواخر عصر بني أمية، وقد استمر ذلك في العصر العباسي الأول، وفي عيون الأخبار لابن قتيبة نماذج من ذلك في مقاماتهم بين أيدي الخلفاء7.

_ 1 مقدمة ابن خلدون ص173. 2 البيان والتبيين 1/ 106. 3 الوزراء والكتاب ص204. 4 انظر دائرة المعارف الإسلامية المجلد الثالث ص495، وانظر أيضًا الوزراء والكتاب ص215. 5 وفيات الأعيان لابن خلكان 1/ 105. 6 البيان والتبيين 2/ 215. 7 عيون الأخبار 2/ 322-344.

وإذا فنحن لا نبعد إذا قلنا: إن عنصر السجع، وهو العنصر الأول في مذهب التصنيع أخذ يظهر منذ القرن الثاني الهجري، وإذا تركنا هذا القرن إلى القرن الثالث، وجدنا هذا العنصر يظهر في الرسائل السياسية، وعند كتابها، ولعل أقدم نموذج يصور ذلك وصية1 طاهر بن الحسين مؤسس الدولة الطاهرية، المتوفى سنة 207 للهجرة لابنه عبد الله، عندما عين واليًا على ديار ربيعة في سنة 206هـ. ويستمر السجع عند الكتاب، وعلى رأسهم عمرو بن مسعدة الصولي، الذي كان يلي شئون الدواوين لعهد المأمون، وكان جده صول من ملوك جرجان، وهو ترك2، وقد نشأ عمرو في دواوين البرامكة، وتربى على أساليبهم، ولذلك لم يكن غريبًا أن نجده يحتذي أحيانًا على أمثلتهم من السجع، والتنميق في عباراته، ولعله من أجل ذاك كان المأمون يعجب برسالاته3، وانظر إليه يكتب إلى الحسن بن سهل4: "أما بعد فإنك ممن إذا غرس سقى، وإذا أسس بنى، ليستتم تشييد أسه، ويجتني ثمار غرسه، وبناؤك عندي قد شارف الدروس، وغرسك مشف على اليبوس، فتدارك بناء ما أسست، وسقى ما غرست إن شاء الله". وهذه الرسالة القصيرة تدلنا على ضميمة أخرى، أخذت تضم إلى سجع أصحاب الدواوين في القرن الثالث، ونقصد ما يتشح به سجعهم من صور بيانيه، وضميمة ثانية تلاحظ عند عمرو، وهي سعة الحيلة في كتاباته مع الإيجاز الشديد، روى الرواة أن المأمون أمره أن يكتب لشخص كتابًا إلى بعض العمال بالوصيلة عليه، والاعتناء بأمره في سطر واحد، فكتب إليه5: "كتابي إليك كتاب واثق، بمن كتب إليه، معني بمن كتب له، ولن يضيع بين الثقة، والعناية حامله، والسلام": وما من ريب في أن هذا الكتاب -على قصره- يصور المهارة العقلية

_ 1 تاريخ الطبري 3/ 1046، والكامل لابن الأثير 6/ 268. 2 معجم الأدباء طبع مصر 1/ 165. 3 وفيات الأعيان 1/ 390. 4 معجم الأدباء 16/ 130. 5 وفيات الأعيان 1/ 390.

التي كان يحتاجها كاتب الديوان في العصر العباسي، فهو يحتال في كتاباته، وهل في هذا الخطاب سوى الاحتيال بصورة طريفة عن الفكرة، التي يريد الكاتب أن يؤديها؟ اتسع هذا الاحتيال، واتسع ما يطوى معه من عناية باللفظ، كلما تقدمنا مع الزمن في العصر العباسي، وممن اشتهر في هذا الجانب كاتب آخر من الصوليين كان يكتب للمتوكل، وهو إبراهيم بن العباس الصولي، وكان يشبه عمرو بن مسعدة في دقة التعبير، وحبكته وما يطوى في ذلك أحيانًا من سجع، وانظر إليه يكتب لابن الزيات مستعطفًا1: "كتبت وقد بلغت المدية المحز، وعدت الأيام على بعد عداوي بك عليها، وكان أسوأ الظن، وأكثر خوفي أن تسكن في وقت حركتها، وتكف عن أذاتها، فصرت أضر علي منها، كيف الصديق عن نصرتي خوفًا منك، وبادر إلي العدو تقربًا إليك". وأنت ترى عند إبراهيم عمق التفكير، وطرافته كما ترى تأنقه في لفظه، ويظهر أن ذلك كان سمة عامة بين الكتاب فهم جميعًا يبالغون في العناية بألفاظهم، ولكن ينبغي ألا يفهم من ذلك أنهم كانوا يعمدون إلى السجع دائمًا، إنما هذه رسائل أخترناها لهؤلاء الكتاب، ولهم رسائل أخرى لا سجع فيها، ومعنى ذلك أن الكتاب حتى منتصف القرن الثالث، كانوا يسجعون أحيانًا، وأحيانًا لا يسجعون، وقد استمر ذلك شأنهم حتى أواخر هذا القرن، ومن أبرعهم في هذا الجانب، أبو العباس بن ثوابة المتوفى عام 277 للهجرة، وهو من أصل نصراني2، وكان يسجع أيضًا في بعض رسائله3، وكان له أخ يسمى جعفر بن محمد بن ثوابه تولى ديوان الرسائل في عهد الوزير، عبيد الله بن سليمان، وتوفي عام 284هـ، وقد بقي أبناؤه يتوارثون من بعده ديوان الرسائل في بغداد حتى تسمله منهم أبو إسحاق الصابي عام 349 4، ومما لا شك فيه أن هذه الأسرة لعبت دورًا مهمًا في استخدام السجع والتزامه.

_ 1 معجم الأدباء 1/ 170. 2 نفس المصدر 4/ 144. 3 نفس المصدر 4/ 147. 4 معجم الأدباء 7/ 188.

وقد يكون من الطريف أن نلاحظ أن أهم الكتاب، الذين نموا السجع في القرنين الثاني والثالث كانوا من الأجانب، وعلى رأسهم أسرة البرامكة الفارسية، وأسرة الصوليين التركية، وأكبر الظن أن الجنس لم يكن له دخل في المسألة، فنحن نعرف كما مر بنا في القسم الأول من هذا الكتاب أن السجع قديم في اللغة العربية، وغاية ما هنالك أنه اختفى أول الأمر في الكتابة الديوانية، ثم أخذ يظهر فيها من حين إلى حين منذ القرن الثاني، على أننا لا نصل إلى أواخر القرن الثالث، حتى نجد دوافع كثيرة تدفع بعض الناس إلى التزامه في كتاباتهم، وكأنما حياتهم المليئة بالزخرف، والتصنيع هي التي دفعتهم إلى ذلك دفعًا، وممن كان يلتزم ذلك أبو العيناء المتوفى عام 282هـ، فقد كتب له أبو علي البصير رسالة جاء في آخرها: "وقد نفذت لي إليك رسالة العتاب، على مخرج ألفاظ الكتاب، وقد ملت إلى السجع على علمي بخساسة حظه، وركاكة معانيه ولفظه، إذ كنت تلوي به لسانك، وتثني إليه عنانك، قطعًا لحجتك، وإزاحة لعلتك"1، وبين أنه ينص على أن أبا العيناء، يلتزم السجع في رسائله كما ينص على أن السجع خسيس الحظ، ركيك اللفظ، وقد يكون في ذلك ما يدل على أنه لما يشع وينتشر. على أننا لا نصل إلى عصر المقتدر "295-320هـ"، حتى نجد السجع يصبح عامًا في كل ما يصدر عن دواوينه، فليس هناك وزير، ولا كاتب إلا وهو يتخذ السجع في صياغته، وارجع إلى كتاب تاريخ الوزراء للهلال بن المحسن؛ وهو الكتاب الذي يؤرخ هذه الحقبة من خلافة المقتدر، فستجد كل ما يصدر عن هذا العهد يصدر مسجعًا، سواء في ذلك ما يصدر عن كاتب الرسائل من آل ثوابة، وما يصدر عن الوزراء أمثال ابن الفرات، وهو أول وزراء المقتدر، ثم علي بن عيسى الذي كان يتداول معه الوزارة لهذا العهد، وقد روى له الهلال طائفة كبيرة من الكتب، والرسائل، وكلها مسجوعة2؛

_ 1 اختيار المنظوم والمنثور، ورقة 233. 2 انظر تاريخ الوزراء للهلال بن المحسن "طبع بيروت" ص336، 337، 339، 342، 344، وانظر أيضًا معجم الأدباء 7/ 1361.

وكذلك كان شأن الوزير الثالث في هذا العهد، وهو الخاقاني فقد كان صبا بالسجع مغرما به، وله في ذلك نوادر كثيرة، ومنها أن عام النيل تأخر في حمل غلة إليه، فكتب له: "احتمل الغلة، وأزح العلة، ولا تجلس متودعا في الكلة"، ثم التفت إلى الكاتب، وقل له: أفي النيل بق يحتاج إلى كلل؟ فقال: إي والله وأي بق من أجله يلزم الناس الكلل نهارًا وليلًا1، ووقع في كتاب إلى بعض عماله: "الزم -وفقك الله- المنهاج، واحذر عواقب الاعوجاج، واحتمل ما أمكن من الدجاج إن شاء الله"، فحمل العامل دجاجًا كثيرًا على سبيل الهدية، فقال: هذا دجاج وفرته بركة السجع2، وكما كان يسجع الوزراء لعهد المقتدر كان يسجع الكتاب في دواوينه، وعلى رأسهم محمد بن جعفر بن ثوابة، وقد احتفظ له ياقوت بمنشور وجهه عن الخليفة إلى العمال في الأقاليم المختلفة، وهو مسجوع كله3، ويظهر أن الولاة أخذوا يقلدون هؤلاء الكتاب والوزراء، وما كان من سجعهم، فقد روى الهلال أن أبا الحسن بن نيداد -وكان يتقلد كور الأهواز- كتب إلى علي بن عيسى كتابا سجع فيه سجعا زاد فيه فكتب إليه: "عولت بنا على كلام ألفته، وخطاب سجعته، أوجب صرفك عما توليته"4، وفي هذا كله أكبر الدلالة على أن السجع عم في الكتابة الديوانية منذ عصر المقتدر، وربما كان من الأدلة على ذلك أننا نجد الخليفة القاهر، الذي ولي الخلافة بعد المقتدر يطلب إلى بعض من يقفون على أخبار بني العباس أن يصفهم، ثم يقول له: "ولا تغيب عني شيئًَا، ولا تحسن القصة، ولا تسجع فيها"5. وكأن الخليفة مل كثرة ما يقرأ من السجع الخالص، فهو يطلب كتابًا لا سجع فيه ونرى من كل ما سبق أن السجع -وهو أحد الجوانب المهمة في التصنيع، وزخرف الأساليب- أخذ يظهر من حين منذ القرن الثاني، وما يزال ينمو ويتسع استخدامه في القرن الثالث، حتى إذا وصلنا إلى عصر المقتدر أصبح عامًا بين كل الكتاب في ديوانه الخلافة، فليس هناك شيء يكتب إلا ويصاغ في أسلوب السجع، وبذلك يتكامل أحد الجانبين الأسايين في مذهب التصنيع وهما: السجع والبديع، وسنرى -عما قليل- الكتاب له جميعًا الجانب الثاني: جانب البديع والترصيع.

_ 1 تاريخ الوزراء ص277. 2 نفس المصدر ص277. 3 معجم الأدباء 18/ 97. 4 تاريخ الوزراء ص335. 5 مروج الذهب للمسعودي 4/ 241.

التصنيع ودواوين الإمارات الفارسية

3- التصنيع ودواوين الإمارات الفارسية: إذا تركنا عصر المقتدر طلع علينا عصر جديد هو عصر الإمارات، التي تقسمت فيما بينهما إيران وخراسان، ونقصد إمارة السامانيين، الذين امتد نفوذهم في خراسان، وما روءا النهر من سنة 261هـ إلى سنة 389هـ، ثم إمارة البويهيين الذين بسطوا نفوذهم على الولايات الجنوبية الغربية من إيران، كما بسطوه على العراق، وبغداد نفسها إذ كانت الخليفة ألعوبة في أيديهم، وقد استمر سلطانهم من سنة 321هـ إ لى سنة 447هـ. وبجانب هاتين الإمارتين الكبيرتين كانت توجد إمارتان صغيرتان: إحداهما في خوارزم، والثانية في طبرستان، وجرجان حيث أسرة الزياريين، ثم تظهر الدولة الغزنوية في أواخر القرن الرابع، فتستولي على ما كان بيد السامانيين، والغزنويون يرجعون إلى أصل تركي بينما يرجع السامانيون، والبويهيون والزياريون إلى أصول فارسية، وأسس الغزنويون لهم أول الأمر إمارة في أفغانستان، ثم توسعوا فاستولوا على إمارة السامانيين. وقد هيأت هذه الإمارات، والدول المختلفة لحركة أدبية وعقلية واسعة، بحيث يمكن أن يعد هذا العصر -على الرغم مما كان فيه من انقسام الدولة العباسية على هذا النحو- أحفل العصور العربية بالنشاط الأدبي، والعلمي، والفلسفي. ويكفي أنه ظهر في هذا العصر أشهر فلاسفة الإسلام، وعلمائه من مثل ابن

سينا الذي خدم في بلاط السامانيين، والبيروني الذي خدم أولًا في بلاط ملوك خوارزم، ثم خدم في بلاط ملوك الدولة الغزنوية. على أن الجانب العقلي لا يهمنا، إنما يهمنا الجانتب الأدبي، وما لقي الأدب حينئذ من تشجيع ورواج، والغريب أن الحياة الأدبية ازدهرت في هذا العصر ازدهارًا لم تعرف في أي عصر سابق، إذ كان كل حاكم في إمارة من هذه الإمارات السابقة، يختار في حاشيته جماعة من الأدباء الممتازين لينافس بهم حكام الإمارات، والدول الأخرى، وبذلك ظهر في كل مركز من مراكز هذه الإمارات حركة أدبية، أو قل سوقًا أدبية، وساعد على ذلك أن هؤلاء الحكام استوزروا كبار الأدباء في أقاليمهم، ومن ثَمَّ أصبحنا نسمع في كل إمارة باسم أديب بل باسم أدباء ممتازين يلون شئونها، ويشرفون على مرافقها، فعند السامانيين نجد العميد والد ابن العميد الكاتب المشهور، كما نجد الإسكافي الكاتب المعروف، ونجد أيضا أسرة بني ميكال النيسابورية، وقد ولي كثير منها دواوين السامانيين، وعند البويهيين نجد ابن العميد كما نجد الصاحب بن عباد، وهما أهم كتاب العصر، وفي الدولة الزيارية نجد أميرًا من أمرائها يشتهر بالكتابة، وهو قابوس بن وشمكير، ولم يقف هذا الامتياز للأدباء، وصلتهم بالحكام عند أصحاب الإمارات الكبيرة، فقد كان بعض حكام البلدان الصغيرة يتخذون كتابًا مشهورين، مثل البستي كاتب أمير مدينة بست في أفغاسنتان، ثم كاتب الدولة الغرنوية، وإن الإنسان ليخل إليه أم كل حاكم في مدينة، أو مقاطعة بإيران لم يعد يشغله إلا أن يجمع حوله بطانة من الكتاب تعيش في بلاطه، ويكفي للدلالة على اعتداد الحكام بالكتاب أن نجدهم في بغداد يستخدمون على ديوان الرسائل كاتبًا صابئًا ليس من المسلمين، هو أبو إسحاق الصابي لما عرف من بلاغته، ومهارته البيانية، وما يدل على ما كان للكتابة الجيدة في هذا العصر من شأن حتى في السياسة نفسها، ما رواه صاحب اليتيمة من أن ابن العميد "كتب رسالة إلى ابن بلكا عند استعصائه على ركن الدولة وخروجه عليه، فلما قرأه ابن بلكا رجع وأناب، وقال: لقد ناب كتاب

ابن العميد عن الكتاب في عرك أديمي واستطلاحي، وردي إلى طاعة صاحبه"1. وهذه القصة تدل على قيمة الكتب المحبرة في القرن الرابع، وأنها كانت تقوم مقام الجيوش في الظفر بالأعداء، ولذلك اهتم كل أمير بوزرائه وكتابه، واهتم الوزراء والكتاب أنفسهم بصناعة كتبهم وتحبيرها، وإدخال كل ما يمكن من ضروب التصنيع، والتجميل عليها، وقد كانت حياتهم تؤهل لذلك، إذ كانت تقوم على التصنيع والتنميق، يقول بعض الشعراء في هجاء كتاب الدولة السامانية2: أكتاب ديوان الرسائل ما لكم ... تجملتم بل متم بالتجمل وكذلك كان كتاب الدول البويهية يتأنقون ويتصنعون في حياتهم، وكان الصاحب بن عباد خاصة يعجب بالخز، ويأمر بالاستكثار منه على خدمه وغلمانه، فكانوا يبدون في الخزوز الفاخرة الملونة3، وغير كتاب السامانيين والبويهيين كانوا يتأنقون تأنقهم، ولا غرابة فهم يعيشون في قصور هؤلاء الحكام، والأمراء معيشة مترفة تقوم على التصنيع والتنميق، ولذلك كان طبيعيًا أن يسقط هذا الجانب الذي يتصل بحياتهم إلى أدبهم وفنهم، بحيث أصبح التصنيع أساسيًا في كل ما تنتجه هذه القصور، ومن يعيشون فيها من هؤلاء الكتاب والأدباء. ومهما يكن، فإن الإمارات الفارسية هيأت لنهضة أدبية واسعة، وقد اقترنت هذه النهضة بمذهب التصنيع، ولعل من الطريف أن نذكر هنا أن كل إمارة من هذه الإمارات، اشتهرت بمراكز مختلفة للنهضة الأدبية، ففي الإمارة السامانية نجد نيسابور التي أخرجت الثعالبي، كما نجد بخارى العاصمة التي "كانت مثابة المجد، وكعبة الملك، ومجمع أفراد الزمان ومطلع نجوم أدباء الأرض، وموسم فضلاء العصر"4. وفي الإمارة البويهية نجد همذان التي أخرجت بديع الزمان،

_ 1 اليتيمة "طبعة الصاوي" 3/ 147. 2 اليتيمة 4/ 74. 3 اليتيمة 3/ 171. 4 اليتيمة 4/ 95.

وأصبهان التي أخرجت الصاحب بن عباد، والتي يقول فيها صاحب اليتيمة: "لم تزل أصبهان مخصوصة من بين البلدان بإخرادج فضلاء الأدباء، وفحولة الكتاب والشعراء"1، كما نجد الري دار عضد الدولة البويهي، ومستقر ابن العميد. وأخرجت خوارزم لهذا العصر أبا بكر الخورزمي الكاتب المشهور، كما أخرجت طبرستان قابوس بن وشمكير، ولعل من الطريف أن الثعالبي في اليتيمة لم يبن كلامه على أدباء هذه العصر حسب الإمارات، بل بناه حسب المدن والبلدان، على أن هذا لا يجعلنا ننسى ما كان من تشجيع الأمراء، والحكام للحركات الأدبية في هذه المراكز، وخاصة بني بويه، إذ كان كثير منهم أدباء، وقد فتح لهم الثعالبي في يتيمته فصولًا لاستعراض هذا الجانب فيهم2. والحق أن أمراء الدول الإيرانية عامة شجعوا -بكل وسيلة تمكنهم- الأدباء والكتاب، ومن الظواهر المهمة التي اقترنت بهاذا العصر أننا نجد الأدباء ينتقلون من بلاط إلى بلاط يرفعون كتبهم، ومؤلفاتهم إلى الملوك والأمراء، على نحو ما لاحظ براون في كتابه "تاريخ الفرس الأدبي"، إذ ذكر في الثعالبي ألف كتاب "لطائف المعارف" للصاحب بن عباد "والمبهج" و"التمثل والمحاضرة" لشمس المعالي قابوس بن وشمكير، و"سحر البلاغة" و"فقه اللغة" للأمير أبي الفضل الميكالي، و"النهاية في الكناية" و"نثر النظم" و"اللطائف والظرائف" لمأمون بن مأمون أمير خوارزم3. وهؤلاء الأمراء والملوك لم يكرموا فقط من كانوا يرحلون إليهم، بل كانوا يكرمون أيضًا أبناء أقاليمهم من فقهاء، وشعراء وأدباء، ولغويين وفلاسفة، ولذلك كنت تجد حول قصر طائفة من الشعراء والأدباء والعلماء، ولعل مما يدل على مدى حرص هؤلاء الأمراء على العلماء، والأدباء ما رواه براون عن السلطان محمود الغزنوي، من أنه علم أن في بلاط ملك خوارزم طائفة من العلماء، والفلاسفة مثل ابن سينا، والبيروني وأبي سهل المسيحي، وأبي الخير الحسن بن الخمار وأبي نصر بن العراق، فكتب إليه أن يبعثهم حتى يشرفوا بحضرته، ويفيد هو من ثقافتهم ومهارتهم،

_ 1 اليتيمة 3/ 267. 2 اليتيمة 2/ 195 وما بعدها. 3 E. C. Browne, A Litreary History of pcrsia, 1928 vol ll, p. 101.

وقد لبى الدعوة البيروني والخمار والعراق، ورفضها ابن سينا وأبو سهل المسيحي. وغير محمود الغزنوي من ملوك السامانيين الذين سبقوا دولته، وملوك البويهيين والزياريين، والخوارزميين كانوا يعنون هذه العناية بحشد العلماء والأدباء في بلاطهم وحو قصورهم، وكان ذلك كله مبعث نهضة أدبية لا نغلو إذا قلنا: إنها -من وجهة الكتابة والصناعة الديوانية- تعلو على كل نهضة سبقتها في هذا الجانب، وتتفوق على كل حركة تقدمتها، إذ أترف الذوق الكتابي لهذا العصر بسبب ترف الملوك، والأمراء الذين كانوا يقومون عليه، وأصبحنا نجد أساس البلاغة أن تكون حلية وزينة، فهي تستخدم استخدامًا زخرفيًا، تستخدم كأجاة من أدوات الترف والزينة، وكل أمير يفخر بما حصل عليه من هذه الأدوات والطرف الزخرفية، وبذلك يصل مذهب التصنيع إلى الغاية التي كان يرنو إليها منذ القرن الثاني، وهي غاية كلها زخرف وتصنيع، وسنقف قليلًا عند أهم كاتب أثر في هذا الجانب، وهو ابن العميد كاتب البويهيين، فهو يعتر أستاذ المذهب الذي خطا به نحو هذه الغاية من التجميل والزينة، وعلى مثاله كان يحتذي الكتاب في عصره، وبعد عصره.

ابن العميد: حياته وثقافته

4- ابن العميد: حياته وثقافته هو، أبو الفضل محمد بن الحسين، وهو فارسي من مدينة قم1، وهي مدينة شيعية، ولذلك لا نعجب إذا رأيناه شيعيًا على مذهب الإمامية، وقد نشأ في بيت أدب وكتابة، إذ كان أبوه كاتبًا لما كان بين كاكي، ولما قتله السامانيون في بعض مواقعهم معه، أخذوا كاتبه أبا عبد الله الحسين بن محمد، المعروف بكلة، والد صاحب الترجمة أسيرًا معهم، ثم أفرجوا عنه وأكرموه، ورتبوه في الدار

_ 1 انظر فيها معجم البلدان لياقوت.

السلطانية، وسرعان ما تقلد ديوان الرسائل للملك نوح بن نصر، ولقب الشيخ كالعادة فيمن يلي ذلك الديوان كما لقب بالعميد، ويقول أبو إسحاق الصابي في كتابه التاجي: إن رسائل العميد لا تقصر في البلاغة عن رسائل ابنه أبي الفضل ابن العميد1، ويظهر أن العميد لم يأخذ ابنه معه إلى بلاط السامانيين، بل تركه في رحال البوهيين، ويقول صاحب اليتيمة: "ولم يزل أبو الفضل في حياة أبيه، وبعد وفاته بالري وكور الحبل، وفارس يتدرج إلى المعالي، ويزداد على الأيام فضلًا، وبراعة حتى بلغ ما بلغ، واستقر في الذروة العليا من وزارة ركن الدولة ورياسة الجبل"2، وكان تقلده هذه الوزارة عام 328 هـ، وظل يتلقدها إلى وفاته عام 360هـ. ولسنا نعرف شيئًا ذا قيمة عن أساتذة ابن العميد سوى ما عرفناه عن أبيه، ثم ما ذكره صاحب الفهرست، عن أستاذ له يسمى محمد بن علي بن سعيد المعروف باسم سمكة3، وقد سماه صاحب اليتيمة ابن سمكة4، ويقول صاحب الفهرست: إن له كتابًا في أخبار العباسيين5، على كل حال ليس بين أيدينا ما يدل دلالة واضحة على المنابع الثقافية، التي نهل منها ابن العميد، غير أننا لا نتابعه في آثاره، وفي حياته أثناء وزارته حتى نجده يلم بجميع ضروب الثقافة لعصره، ولعله من أجل ذلك سمي باسم الجاحظ الثاني6، وألمع مسكويه قيم دار كتبه في كتابه "تجارب الأمم" إلى ثقافته فقال: إنه "أكتب أهل عصره وأجمعهم لآلات الكتابة حفظا للغة والغريب، وتوسعا في النحو والعروض، واهتداء إلى الاشتقاق والاستعارت، وحفظًا للدواوين من شعراء الجاهلية والإسلام، فأما القرآن وحفظ مشكله ومتشابهه، والمعرفة باختلاف فقهاء الأمصار، فكان منه في أرفع درجة وأعلى رتبة"، ويقول

_ 1 اليتيمة طبع الصاوي 3/ 138. 2 اليتيمة 3/ 139. 3 الفهرست لابن النديم "طبع مصر" ص200. 4 اليتيمة 3/ 143. 5 الفهرست ص200. 6 وفيات الأعيان 2/ 57.

مسكويه: "أما المنطق وعلوم الفسلفة والإلهيات منها خاصة، فما جسر أحد في زمانه أن يدعيها بحضرته إلا أن يكون مستفيدًا، أو قاصدًا قصد التعلم". ويروي مسكويه أن أبا الحسن العماري الفيلسوف الينسابوري قصد إليه، وقرأ عليه عدة كتب مستغلقة من كتب الفسلفة، وليس هذا كل ما ذكره مسكويه عن ثقافة ابن العميد، بل إنه يقول أيضًا: "كان ابن العميد يختص بغرائب من العلوم الغامضة، التي لا يدعها أحد كعلوم الحيل "الميكانيكا"، التي يحتاج فيها أواخر علوم الهندسة والطبيعة، والحركات الغريبة، وجر الثقيل، ومعرفة مركز الأثقال، وإخراج كثير مما امتنع على القدماء من القوة إلى الفعل"1. وأكبر الظن أن هذا الاتساع في الثقافة الفلسفية، وما يتصل بها من علوم الطبيعة والهندسة، والحيل هي التي جعلت الرازي يتقدم إليه بتفسيره للمقالة العاشرة في أصول الهندسة من كتاب إقليدس بعد أن نسقها وجودها2، وأكبر الشعراء في ابن العميد هذا الجانب، كما أكبروا فيه بلاغته وفصاحته، وقد عبر عن ذلك المتنبي تعبيرًا بديعًا في قصيدته الرائية، والدالية، ومن قوله الأولى: من مبلغ الأعراب أني بعدهم ... شاهدت رسطاليس والإسكندرا وسمعت بطليموس دارس كتبه ... متملكًا مبتديًا، متحضرا ولقيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا ويقول في الثانية: عربي لسانه، فلسفي رأيه، فارسية أعياده ... خلق الله أفصح الناس طرا في بلاد أعرابه أكراده وهذا كله يؤكد أن ابن العميد أتاح لنفسه ثقافة واسعة، وكما عمل علي تثقيف نفسه عمل أيضًا كل ما يستطيع في خدمة ركن الدولة، ثم ابنه عضد الدولة، كان يقود الجيوش بنفسه، واستطاع بمقدرته أن ينشر نفوذ عضد الدولة على بغداد والعراق، وقد خرج في أواخر حياته على رأس جيش لقتال الزعيم الكردي حسنويه، ولكنه توفي في الطريق في صفر عام 360هـ3، وقد نيف عمره على ستين سنة"4.

_ 1 انظر في هذه النصوص فصلًا طويلًا كتبه مسكويه عن ابين العميد في كتابه تجارب الأمم، الجزء الثاني من ص271-282. 2 الفهرست ص372. 3 انظر ترجمة ابن العميد في دائرة المعارف الإسلامية المترجمة، المجلد الأول ص244. 4 تاريخ ابن الأثير "طبع أوربا" 8/ 446.

تصنيع ابن العميد

5- تصنيع ابن العميد: وهذا الوزير المثقف ثقافة واسعة يعد أستاذ عصره في فن التصنيع، وقد أقر له ببراعته وفصاحته، وامتيازه في كتابته كل من تصدوا لترجمته، يقول صاحب اليتيمة: "هو عين المشرق ولسان الجبل، وعماد ملك آل بويه، وصدر وزرائهم، وأوحد العصر في الكتابة، وجميع أدوات الرياسة، وآلات الوزارة، والضرب في الآداب بالسهام الفائزة، والأخذ من العلوم بالأطراف القوية، يدعى الجاحظ الأخير، والأستاذ والرئيس، ويضرب به المثل في البلاغة، وينتهى إليه في الإشارة بالفصاحة والبراعة، مع حسن الترسل، وجزالة الألفاظ وسلاستها، إلى براعة المعاني ونفاستها، وما أحسن وأصدق ما قال له الصاحب، وقد سأله عن بغداد عند منصرفه عنها: بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد، وكان يقال: بدئت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد"1، وفي هذه الفقرة ما يدل دلالة واضحة على مدى ما وصل إليه ابن العميد في عصرها من مكانة أدبية ممتازة، وهي مكانة لم يأخذها عن طريق مركزه السياسي، وإنما أخذها عن طريق فنه الخالص إن كان ينحو بحوصا بديعًا من التصنيع، والزخرف في كتابه، وقد مر بنا في غير هذا الموضع أن الكتاب اصطلحوا منذ عصر المقتدر على أن يعمموا السجع في كل ما يكتبون، واستمر ذلك من بعدهم،

_ 1 اليتيمة 3/ 137.

وكان ابن العميد يسجع في كتابته، ولكن ليس هذا ما يلفتنا عنده، إنما الذي يلفتنا حقًا هو أن مذهب التصنيع تماثل على يديه في الصورة التي كانت تنتظره منذ القرن الثاني، ونقصد صورة السجع من جهة، والاحتكام إلى البديع فيما ينشئ الكاتب من جهة أخرى، ومن أجل ذلك إذا قلنا: إن ابن العميد هو أستاذ مذهب التصنيع بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة لم نبعد؛ لأنه أول كاتب -فيما نعرف- احتكم إلى السجع في كتابته، كما احتكم إلى البديع من جناس وطباق وتصوير، وقد هيأه لذلك أنه كان ذا عين تصويريه، بل لقد كان ذا شغف بفن التصوير نفسه، يقول مسكويه: "لقد رأيته يتناول في مجلسه الذي يخلو فيه بثقاته، وأهل أنسته التفاحة وما يجري مجراها، فيعبث بها ساعة ثم يدحرجها، وعليها صورة وجه، وقد خطها بظفره، لو تعمد لها غيره بالآلات المعدة، وفي الأيام الكثيرة ما استوفى دقائقها، ولا تأتي له مثلها"، ولا شك في أن هذه النزعة التصويرية فيها كان لها أثر مهم في نثره، إذ جعلته نثرًا مصورًا يهتم صاحبه يصنع الصور والرسوم في كتاباته، كما جعلته يهتم بألوان البديع الأخرى من طباق وجناس وغيرهما، وكأنه كان يحس بأن هذه الألوان الرسام، وانظر إليه يكتب إلى ابن بلكا عند استعصائه على ركن الدولة، فيستهل رسالته على هذا النمط1: "كتابي، وأنا متأرجح بين طمع فيك، ويأس منك، وإقبال عليك، وإعراض عنك، فإنك تدل بسابق حرمة، وتمت بسالف خدمة، أيسرهما يوجب حقًا ورعاية، ويقتضي محافظة وعناية، ثم تشفعهما بحديث غلول2 وخيانة، وتتبعهما بآنف3 خلاف، ومعصية وأدنى ذلك يحبط أعمالك، ويمحق كل ما يرعى لك. لا جرم أني وقفت بين ميل إليك، وميل عليك أقدم رجلًا لصدك، وأؤخر أخرى عن قصدك، وأبسط يدًا لاصطلامك4 واجتياجك، وأثنى

_ 1 اليتيمة 3/ 145. 2 غلول: خيانة. 3 آنف: أشد. 4 الاصطلام: الاستئصال.

ثانية لاستبقائك واصطلاحك، وأتوقف عن امتثال بعض المأمور فيك، ضنًا بالنعمة عندك ومنافسة في الصنيعة لديك، وتأميلًا لفيئتك1 وانصرافك، ورجاء لمراجعتك وانعطافك، فقد يغرب العقل ثم يؤوب، ويعزب اللب ثم يثوب، ويذهب الحزم ثم يعود، ويفسد العزم ثم يصلح، ويضاع الرأي ثم يستدرك، ويسكر المرء ثم يصحو، ويكدر الماء ثم يصفو، وكل ضيقة فإلى رخاء، وكل غمرة فإلى انجلاء، وكما أنك أتيت من إساءتك، لما لم تحسبه أولياؤك فلا بدع أن تأتي من إحسانك بما لا ترتقبه أعداؤك، وكما استمرت بك الغفلة حتى ركبت ما ركبت، واخترت ما اخترت، فلا عجب أن تنتبه انتباهة تبصر فيها قبح ما صنعت، وسوء ما آثرت، وسأقيم على رسمي في الإبقاء، والمماطلة ما صلح، وعلى الاستيناء2 والمطاولة ما أمكن، طمعًا في إنابتك وتحكيمًا لحسن الظن بك، فلست أعدم فيما أظاهره من إعذار، وأرادفه من إنذار، احتجاجًا عليك، واستدراجًا لك، فإن يشأ الله يرشدك، ويأخذ بك إلى حظك ويسد دك". والرسالة كلها تمضي على هذا النحو من السجع والعناية بالبديع، فكلها تحف من السجع وطرف من الجناس والطباق والتصوير، فهي وشي خالص، هي بدجيع وتطريز وترصيع، إذ ما يزال ابن العميد يدمدج وشي السجع في وشي البديع من التوصير، والطباق والجناس، فإذا أساليبه وكأنها ثروة زخرفية هائلة، وهل هناك عبارة في هذه القطعة لم تحل بلون من ألوان البديع، وهو يضع هذه الألوان الرائعة على ألفاظه المسجعة، فإذا هي تختال في هذه المقدرة البديعة من الزخرف والتصنيع، وأكبر الظن أن ابن العميد قد تأثر في صناعته بصناعة السجاد في إقليمه، فهو يعاني في كل لفظة ما يعانيه صانع السجاد في كل خيط، ثم هو بعد ذلك يعني بالوشي الذي تعبر عنه ألفاظه، كما يعني صانع السجاد بالوشي الذي تعبر عنه خيوطه، وعلى هذا النمط تحولت صناعة الكتابة عند ابن العميد إلى تطريز خالص، وهو يختال على هذا التطريز

_ 1 الفيئة: الرجوع. 2 الاستيناء: التأني.

بحيل كثيرة، ولم لا؟ ألم يتعلم فن الحيل؟ وإذا فلماذا لا يشفع فنه بكل ما يمكنه من حيل، وقد استطاع أن يصل عن هذه الحيل إلى بدع طريف في سجعه، وذلك أنه كان يعمد إلى تقصير عباراته، وهذا التقصير، أو هذا القصر من أهم الفروق بين سجعه وسجع أصحاب الدواوين من قبله، وقد نظر فرأى نفسه يضطر في أحوال كثيرة إلى عبارات طويلة، فكيف يوفق بين رغبته في القصر، وبين طول هذه العبارات؟ لقد فكر طويلًا في هذه الصعوبة، وسرعان ما هداه تفكيره إلى حيلة طريفة: هي أن يوازن بين كل لفظة، وقرينتها في العبارتين والمتجاورتين، وبذلك يرفع ما قد يحسه القارئ، أو السامع من بعد الزمن في موسيقى الجملتين، وكأني بابن العميد كان يعرف معرفة دقيقة أنه كلما طال الزمن الذي تنتظره الأذن في سماع العبارات المسجوعة نقص التلاؤم الموسيقى. وهو لذلك يعمد كما ترى في أول القطعة إلى السجع القصير، الذي لا يأخذ من قارئه زمنًا طويلًا، ولكن استمر في القراءة تره يضطر إلى الطول في عباراته، فماذا يصنع إزاء هذه الطول الذي يثقل على أذن سامعه؟ لقد وصل إلى حيلة طريفة من الموازنة بين العبارتين المتجاورتين موازنة تجعل ألفاظهما، وكأنها جميعًا قد نغمت وسجعت على نحو ما نرى في مثل قوله: "فإنك تدلي بسابق حرمة، وتمت بسالفه خدمة"، وقوله: "وأبسط يدًا لاصطلامك واجتياحك، وأثنى ثانية لاستبقائك، واستصلاحك"، وما من ريب في أنها حيلة لطيفة تلك التي احتال بها ابن العميد على مثل هذه العبارات، فإذا هي تصبح وكأنها قصيرة لما تكامل فيها من حلاوة الموسيقى، وما تلك الحلاوة إلا ما يتخذه من المعادلة بين ألفاظ عباراته، معادلات تجعل فيها هذا الائتلاف الموسيقي الطريف، فكل كلمة تتعادل مع قرينة لها في الكلمة الأخرى، وكأنما تطلبها لتعزف معها هذا العزف البجيع الذي تمتاز به موسيقى ابن العميد، ولعل في هذا ما يشهد بأن ابن العميد كان يصنع في سجعه إلى أقصى حدود التصنيع التي يستطيعها، وهو يحتال على ذلك بوشي البديع من جهة، كما يحتال عليه بقصر الزمن في سجعه من جهة أخرى، فإن طال زمن العبارتين المسجوعتين قصره بهذه الحيلة

من أحداث المعادلات، والموازنات بين ألفاظ العبارتين، حتى لا تخرج الأذن من ألفاظ العبارة الأولى، إلا وتحس براحة صوتية إزاء كل كلمة من كلمات العبارة الثانية؛ لأنها تماثل قرينة لها في العبارة السابقة من الوجهة الصوتية تمام التماثل. وهذه هي صورة التصنيع في الكتابة الديوانية عند ابن العميد، فهو يعمد إلى زخرف البديع يوشي به لفظه، وهو دائمًا -كما تصوره يتيمة الثعالبي- يتخذ لفظًا مرصعًا بالسجع، وإنه ليحتال في تحسين سجعه، والإكثار من وشي بديعه حيلًا مختلفة، أما سجعه فكان يحتال عليه بالقصر، فإن كان طويلًا قصره بما مرن عليه من المعادلة بين ألفاظه، حتى لكأنها تتشابك تشابك توقيعات الراقصين، وأما بديعة فإنه كان يكثر منه، وكان ما يزال يحتال على اللفظة حتى يحملها وشي الطباق من جهة، ووشي التصوير، أو الجناس من جهة أخرى. ومن أجل هذه الحيل كلها، وما اقترن بها من مهارة، وتفنن كان ابن العميد زعيم مذهب التصنيع في عصره غير مدافع، ولا منازع، ومع ذلك فسنقف عند الصاحب بن عباد تلميذه، وخريجه لنرى هل استطاع أن يضيف من جديد إلى تصنيع أستاذه.

الصاحب بن عباد وتصنيعه

6- الصاحب بن عباد وتصنيعه: هو كافي الكفاة إسماعيل بن عباد، ولد في إصطخر، وقيل في الطالقان بين قزوين وأبهر سنة 324 أو 326هـ، وكان أبوه كاتب ركن الدولة، وعضد الدولة البهويهيين، وكان شيعيًا غير غال، وتوفي في السنة التي توفي فيها ابنه. وابن عباد هو الوزير الثاني الذي لمع اسمه في بلاط البويهيين، وقد درس على أبيه، وأخذ عنه مذهبه الديني والسياسي، وأخذ الأدب عن أحمد بن فارس اللغوي المعروف، وأكمل دراسته ببغداد، ولما عاد إلى وطنه في الري خدم في دواوين أبي الفضل بن العميد، ويظهر أنه أعجب به فقر به منه، وما لبث أن اختاره ليكون مربيًا لمؤيد الدولة، أخى عضد الدولة، وكانت إقامة مؤيد الدولة بأصبهان، فأقام معه فيها، ولقب بالصاحب لصحبته له صغيرًا. ولما تقلد شئون الدولة بعد أخيه عضد الدولة، اتخذ الصاحب وزيرًا له، واستمر على وزارته حتى توفي، فوزر من بعده لأخيه فخر الدولة، وظل في الوزارة حتى وافته منيته عام 385 هـ، وقد قضى في الوزارة نحو ثمانية عشر عامًا1، ويقال: إن أباه ألف كتابًا نصر فيه الاعتزال، وكان محدثًا روى عنه ابنه وغيره2، ويظهر أن ابن عباد ورث هذه الجوانب في أبيه، فقد نشأ على الاعتزال3 كما نشأ على التشيع ومحبة العلم، ويقال: إنه خرج يومًا -وهو وزير- متطلسًا متحنكًا بزي أهل العلم لرواية الحديث وإملائه على الناس، وكما كان يولع بالحديث كان يولع باللغة، وقد ألف فيها كتاب المحيط في سبع مجلدت، وله كتاب الإمامة يذكر فيه فضائل علي بن أبي طالب، وأيضًا رسالة صغيرة في الكشف عن مساوئ المتنبي4. وما من ريب في أنه لو لم يشغل بالوزارة، ولا الكتابة لكان علالمًا ممتازًا من علماء عصره، ولعله من أجل ذلك كان يشجع على التأليف، كما كان يؤشجع على الشعر، وكان يعجب بالكتابة الرفيعة، ومدحه مكاتبة الشريف الرضي، وأبو إسحاق الصابي، "واحتف به من بحوم الأرض، وأفراد العصر وأبناء الفضل، وفرسان الشعر من يربى عددهم على شعراء الرشيد، ولا يقصرون عنهم في الأخذ برقاب القواف، وملك رق المعاني"5، وحدث ابن بابك، قال: "سمعت الصاحب يقول: مدحت بمائة ألف قصيدة شعر، عربية وفارسية، وقد أنفقت أموالي على الشعراء والأدباء، والزوار والقصاد"6. وكان ينافسه في هذه الحركة -على ما يظهر- سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة البويهي، الذي فتح الثعالبي في يتيمته فصلًا لمداحه من الشعراء، وقد أنشأ دارًا للعلم

_ 1 معجم الأدباء "طبع مصر" 6/ 171. 2 نفس المصدر 6/ 172. 3 اليتيمة 3/ 179، ومعجم الأدباء 6/ 174. 4 وفيات الأعيان لابن خلكان 1/ 75. 5 اليتيمة 3/ 169. 6 معجم الأدباء 6/ 263.

في الكرخ ببغداد، كل ذلك منافسة لإسماعيل بن عباد1، ويقول ابن خلكان عن تلقبه بلقب الصاحب: وهو "أول من لقب بذلك اللقب من الوزراء؛ لأنه كان يصحب أبا الفضل بن العميد، وذكر الصابي في كتاب التاجي أنه إنما قيل له الصاحب؛ لأنه صحب مؤيد الدولة ابن بويه منذ الصبا وسماه الصاحب، فاستمر عليه هذ اللقب واشتهر به"2. وقد كان الصاحب معجبًا بفنه تياهًا به، واستغل فيه هذا الجانب خصمه أبو حيان التوحيدي، فثلبه أقبح ثلب3، ومن ثلبه له ما يقصه من أن رجلًا من أهل الشام "ورد إليه، فكان فيما استخبره عنه: رسائل من تقرأ عندكم؟ فقال: رسائل ابن عبد كان، قال: ومن؟ قال: رسائل الصابي، وغمزه أحد جلسائه ليقول رسائل الصاحب، فلم يفطن الرجل، ورآه الصاحب، فقال: تغمز حمارًا لا يحس"4. ويقول التوحيدي أيضًا: إنه كان في مجلسه شخص يسمى أبا طالب العلوي، "وكان إذا سمع منه كلامًا يسجع فيه، وخبرًا ينمقه؛ ويرويه، يبلق عينيه، وينشر منخريه، ويري أنه غشي عليه حتى يرش على وجهه ماء الورد، فإذا أفاق قيل: ما أصابك، ما عراك، ما الذي نالك وتغشاك؟ فيقول: ما زال كلام مولاي يروقني، ويونقني حتى فارقني لبي، وزايلني عقلي، وتراخت مفاصلي وتخاذلت عرى قلبي، وذهل ذهني وحيل بيني وبين رشدي، فيتهلل وجه ابن عباد عند ذلك وينتفش"5، ويظهر أنه كان يسجع في حديثه وكلامه، ويقص الرواة طرفًا له في ذلك كثيرة6. يقول أبو حيان: "وكان كلفه بالسجع في الكلام والقول، عند الجد والهزل، يزيد على كلف كل من رأيناه في هذه البلاد، قلت لابن المسيبي: أين يبلغ ابن عباد في عشقه للسجع؟ قال: يبلغ به ذلك لو أنه رأى سجعة تنحل بموقعها عروة

_ 1 Nicholson, ;it Hist. of Aeabs,p. 267. 2 وفيات الأعيان 1/ 75. 3 معجم الأدباء 6/ 176. 4 معجم الأدباء 6/ 258. 5 معجم الأدباء 6/ 237. 6 نفس المصدر 6/ 213.

الملك، ويضطرب بها حبل الدولة، ويحتاج من أجلها إلى غرم ثقيل، وكلفة صعبة وتجشم أمور، وركوب أهوال لما كان يخف عليه أن يفرج عنها ويخليها، بل يأتي بها ويستعملها، ولا يعبأ بجميع ما وصفت من عاقبتها1"، وكانوا يزعمون أن سجعة اضطرته إلى عزل قاضي مدينة قم: فإن قال يوما: أيها القاضي بقم، ثم حاول أن يكمل السجع فأعنته ذلك فقال: قد عزلناك، فقم. ويبدو أن إغرامه بالسجع على هذا النحو كان قديما فيه، فقد روى الرواة عن ابن العميد أنه قال: "خرج ابن عباد عن عندنا من الري متوجهًا إلى أصفهان وطريقة رامين، فجازوها إلى قرية غامرة، وماء ملح لا لشيء إلا ليكتب إلينا: كتابي هذا من النوبهار، يوم السبت في نصف النهار"2. ولعل أول ما يلاحظ في سجع الصاحب، أنه يمتاز بالخفة والعذوبة فهو في لفظة أكثر صفاء، وأكثر تنغيما من معاصريه من كتاب الدواوين، واستمع إلى هذه الرسالة القصيرة، التي كتب بها إلى أحد القضاة، وقد وفد عليه في الري3: "تحدثت الركاب بسير "أروى" ... إلى بلد حططت به خيامي فكدت أطير من شوق إليها ... بقادمة كقادمة الحمام أفحق ما قيل من أمر القادم؟ أم ظن كأماني الحالم؟ لا والله! بل هو درك العيان، وإنه ونيل المنى سيان، فمرحبًا أيها القاضي براحلتك ورحلتك، بل أهلًا بك وبكافة أهلك، ويا سرعة ما فاح نسيم مسراك، ووجدنا ريح يوسف من رياك، فحث المطي تزل غلتي برؤياك، وتزح علتي بلقياك، ونص على يوم الوصول نجعله عيدًا مشرفًا، ونتخذه موسمًا ومعرفًا، ورد الغلام، أسرع من رجع الكلام فقد أمرته أن يطير على جناح نسر، وأن يترك الصبا في عقال وأسر: سقى الله دارات مررت بأرضها ... فأدنتك نحوي يا زياد بن عامر أصائل قرب أرتجي أن أنالها ... بلقياك قد زحزحن الهواجر"

_ 1 معجم الأدباء 6/ 207. 2 معجم الأدباء 6/ 220. 3 اليتيمة 3/ 228.

أرأيت إلى هذه الرسالة القصيرة، وما فيها من عذوبة اللفظ، وجمال النغم؟ إن الصاحب حقًا أستاذ ماهر من أساتذة فن التصنيع في القرن الرابع، وإنه ليتخذ في هذا الفن جميع المفاتيح الموسيقية التي عثر عليها ابن العميد، فهو من جهة يعني بقصر سجعاته، فإن طالت عادل بين ألفاظها معادلات تخرج بها من شذوذ الطول إلى ما يشبه القصر، ثم هو من جهة أخرى يعني بألوان البديع يحلي بها جيد أساليبه، وقد كان يعنى عناية خاصة بلوني التصوير والجناس، ولعل ميله إلى الجناس هو الذي جعله يكثر في رقع رسائله من الجناس الناقص، أما ميله إلى التصوير، فقد جعله يبرع في أوصاف الطبيعة، حتى لتتحول جوانب من رسائلة إلى ما يشبه الشعر المنظوم كقوله في رسالة له: "كتابي هذا، وقد أرخى الليل سدوله، وسحب الظالم ذيوله"1، وقوله في أخرى يصف مجلس أنس: "قد قابلتني شقائق كالزنوج تجارحت فسالت دماؤها، وضعفت فبقي ذماؤها، وسامتتني أشجار كأن الحوار أعارتها أثوابها، وكستها أبرادها، وحضرتني نازنجات ككرات من سفن ذهبت، أو ثدي أبكار خلقت"2، وهذا جانب واضح في تصنيعه، وقد استطاع به أن يطرف قراءه، وساميعه بضر من الشعر المنثور الذي تمتلئ سجعاته بالرشاقة، والخفة. وقد كان بهذا التصنيع، وما يندمج فيه من وشي السجع، والترصيع يأخذ مكانته في عصره، وهي مكانة جعلت أصحاب الإمارات الفارسية يحسدون أصحاب الري، والجبل من البويهيين عليه، ويتمنون أن لو صار إليهم، روى الثعالبي أن نوح بن منصور صاحب خراسان الساماني، أرسل إليه رقعة يريده فيها على الإنحياز إلى حضرته، ليلقي إليه مقاليد مملكته، ويعتمد لوزارته، فاعتذر له بأنه لا يستطيع الانتقال إليه لكثرة حاشيته وأثقاله، وما لديه من كتب تحتاج في نقلها إلى أربعمائة بعير3، وقد قالوا: إنه لما توفي لقي من الإعظام، والإكبار

_ 1 اليتيمة 3/ 227. 2 اليتيمة 3/ 223. وخلقت: من الخلوق، وهو ضرب من الطيب. 3 اليتيمة 3/ 173، وانظر معجم الأدباء 6/ 259.

ما لم يلقه أحد من وزراء عصره، فقد سار فخر الدولة في جنازته، وقام الناس بأجمعهم فقبلوا الأرض بين يديه، وخرقوا ثيابهم ولطموا وجوههم، وبلغوا في البكاء، والنحيب عليه جهدهم1، وقد رثاه الشعراء -على نحو ما يروى العتبي- رثاء حارًا2، والحق أن الصاحب بن عباد كان أحد أساتذة البلاغة في عصره، وبلغ بمذهب التصنيع مبلغًا عظيمًا من الزخرف، والتنميق، وما يتصل بذلك من الزركشة، والتطريز.

_ 1 معجم الأدباء 6/ 259. 2 انظر اليميني للعتبي في شرح المنيني 1/ 202.

تصنيع أبي إسحاق الصابي

7- تصنيع أبي إسحاق الصابي: هو، إبراهيم بن هلال الحراني الصابي، الذي اشتهر بالبيان والبلاغة لهذا العصر. ولد سنة 313 هـ، ولاه الوزير المهلبي ديوان الرسائل ببغداد عام 349هـ1، فخدم بذلك الخلفاء كما خدم الأمراء من بني بويه الذين استولوا على بغداد منذ عام 334هـ، ويحكى أن مولاه عز الدولة البويهي عرض عليه الوزارة إن أسلم فامتنع2، ويقول الرواة: إنه كان حسن العشرة للمسلمين حتى قالوا: إنه كان يصوم شهر رمضان مساعدة وموافقة لهم، وقالوا: إنه كان يحفظ القرآن حفظًا يدور على لسانه، وبرهان ذلك واضح في رسائله3، وقد استمر على ديوان الرسائل حتى عام 367هـ، إذ "ورد عضد الدولة إلى بغداد، وكان نقم عليه أشياء مكتوباته عن الخليفة وعز الدولة فحبسه، فسئل فيه، وعرف بفضله، وقيل له: مثل مولانا لا ينقم على مثله ما كان منه، فإنه كان في خدمة قوم لا يمكنه إلا المبالغة في نصحهم، ولو أمره مولانا بمثل ذلك -إذا استخدمه- في أبيه ما أمكنه المخالفة، فقال عضد

_ 1 معجم الأدباء 2/ 62. 2 اليتيمة 2/ 219، ومعجم الأدباء 2/ 21. 3 اليتيمة 2/ 219.

الدولة: قد سوغته نفسه، فإ ن عمل كتابًا في مآثرنا وتاريخنا وأطلقته، فشرع في محبسه في كتاب: "التاجي في أخبار بني بويه"، وقيل: إن بعض أصدقائه دخل عليه الحبس، وهو في تبييض وتسويد في هذا الكتاب، فسأله عما يعمله، فقال: أباطيل أنمقها، وأكاذيب ألفقها، فخرج الرجل، وأنهى ذلك إلى عضد الدولة، فأمر بإلقائه تحت أرجل الفيلة، فأكب أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، ونصر بن هاورن على الأرض يقبلانها، ويشفعان إليه في أمره، حتى أمر باستحيائه، وأخذ أمواله واستصفائه، وتخليد السجن بدمائه، فبقي في السجن بضع سنين إلى أن تخلص منه"1 عام 371هـ2، وتوفي عضد الدولة سنة 372، فعاد إلى العمل في الدواوين، حتى توفي عام 384. وقد اتصل الصابي في مطلع حياته بالثقافة الفلسفية، فهم يرون أنه بدأ أمره بدراسة الطب، ثم انصرف عنه إلى الأدب والكتابة3، ويقول القفطي: إنه كان عالمًا بالهندسة والرياضيات4، وهو إلى ذلك كان مثقفًا ثقافة واسعة باللغة، والشعر قديمه وحديثه، واستطاع أن يحقق لنفسه قدرة بيانية جعلته يرتفع على أقرانه من المسلمين إلى رياسة ديوان الرسائل، ولعل مما يدل على قدرته في هذا الجانب أننا نرى كبار الأدباء في عصره يعظمونه، ويجلونه، يقول ياقوت: "كان بينه وبين الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد مراسلات، ومواصلات ومتاحفات، وكذلك بينه وبين الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين الموسوي مودة ومكاتبات، مع اختلاف الملل، وتباين النحل، وإنما كان ينظمهم سلك الأدب مع تبدد الدين والنسب"5، ويقول صاحب اليتيمة: إن شعراء العراق مدحوه في جملة الرؤساء6، وهم يروون عن الصاحب أنه كان يقول: "ما بقي من أوطاري وأغراضي إلا أن أملك العراق، وأتصدر ببغداد، وأستكتب أبا إسحاق الصابي، ويكتب عني، وأغير عليه"7، وكل ذلك

_ 1 معجم الأدباء 2/ 21. 2 نفس المصدر 2/ 35. 3 نفس المصدر 2/ 55. 4 أخبار الحكماء ص54. 5 معجم الأدباء 2/ 23. 6 اليتيمة 2/ 218. 7 معجم الأدباء 6/ 306.

لما كان من براعته ومهارته في البيان والبلاغة، وقد كان يعرف ذلك من نفسه وفنه، فعبر عنه أجمل تعبير إذ يقول1: وقد علم السلطان أن أمينه ... وكاتبه الكافي السديد الموفق فيمناي يمناه ولفظي لفظه ... وعيني له عين بها الدهر يرمق ولي فقر تضحى الملوك فقيرة ... إليها لدى أحداثها حين تطرق والحق أن الصابي كان علمًا من أعلام البلاغة في عصره، ومن يرجع إلى رسائله يجده يعنى عناية شديدة بانتخاب ألفاظه، وصقل عباراته وتنقيح سجعاته، وكان ما يزال في تسويد، وتبييض وتنميق حتى تخرج الرسالة مرصعة بكل ما يمكن من حلي ووشي، ولم يكن يأتي بحلي ووشي جديدين، بل كان يخضع في ذلك لما اصطلح عليه أصحاب مذهب التصنيع من السجع، والتصوير والتجنيس، وألوان البديع، وإن كان لم يغرق في استخدام هذه الألوان إغراق الصاحب، ولا إغراق ابن العميد، إذ كان عمه الأول التسجيع، والعناية به حتى يحصل من ذلك على طرف بديعة، وانظر إليه يقول من رسالة كتبها عن معز الدولة بعد ظفره ببعض أعدائه2. "وكان الغامط لإنعامنا، الجاحد لإحساننا، المتردي من ذروة طاعتنا، الهاوي في هوة معصيتنا، الخالع ربقة ذمتنا، النازع جنة3 مشايعتنا ... ونحن نحمل أمره على ظاهره، ونظن غائبه مثل حاضره، وباطنه مثل عالنه، حتى جذبنا بضبعه4 من المسقط المنحط، إلى المرفع المشتط، وانتهينا في الإناقة5 بقدره، والإشارة بذكره، والتفخيم لأمره، والتقديم لقومه، إلى الغاية التي لا تسمح بها نفس باذل، ولا تسمو إليها همة آمل، فلما عز بعد الذلة، وكثر بعد القلة، وبعد صيته بعد الخمول، وطلع سعده بعد الأفول، وجمت

_ 1 رسائل الصابي "طبع بعبدا بلبنان" 1/ 8. 2 رسائل الصابي 1/ 33. 3 الجنة: ما استترت به، والربقة: العروة. 4 جذب بضبعه: نعشه ونوه به. 5 الإناقة: الارتفاع.

عنده الأمول، ووطئت عقبة الرجال1، وتضرمت بجسده جوانح الأكفاء، وتقطعت بمنافسته أنفاس النظراء، نزت به بطنته2، وأدركته شقوته، ونزغ له شيطانه، وامتدت في الغي أشطانه3، فنصب أشراكه وحبائله، وأعمل مكايده، ومخاتله". وأول ما نلاحظ على هذه القطعة أن الصابي عني بتقصير سجعه، فإن هو أطاله نغم العبارتين تنعيما يجعلك تظن أنهما قصيرتان، فالألفاظ تتعادل وتتوازن على نحو ما مر بنا عند أستاذ المذهب ابن العميد، وملاحظة ثانية هي أنه يعنى بالتصير كما يعنى قليا بالجناس، وهذه هي صورة كتابة الصابي، فهو يشغف بحلية السجع؛ وهو يوفر لها ضروبًا مختلفة من النغم، وإن هذا التوفير ليتمادى به، فإذا هو يعني بالمقابلة الدقيقة بين أول العبارتين حتى تتشابه السجعتان في أطرافهما: في أولهما وآخرهما، وهو لا يعمم ذلك في رسائله، ولكنه يجنح إليه كثيرًا على نحو ما نرى في نفس هذه القطعة، وكل ذلك ليستتم ما يريد من صوت وموسيقي، واستمع إليه بكتب إلى عضد الدولة يهنئه بسنة جديدة على هذه المشاركة4: "أسأل الله تعالى مبتهلًا لديه، مادًا يدي إليه، أن يحيل على مولانا. هذه السنة وما يتلوها من أخواتها بالصالحات الباقيات، وبالزائدات الغامرات، ليكون كل دهر يستقبله، وأمد يستأنفه، موفيًا على المتقدم له، قاصرًا عن المتأخر عنه، ويوفيه من العمر أطوله وأبعده؛ ومن العيش أعذبه وأرغده، عزيزًا منصورًا، محميًا موفورًا، باسطًا يده فلا يقبضها إلا على نواصي أعداء وحساد، ساميًا طرفه، فلا يغضه إلت على لذة غمض ورقاد، مستريحة ركابه فلا يعملها إلا لاستضافة عز وملك فائزة قداحة، فلا يجيلها إلا لحيازة مال وملك، حتى ينال أقصى ما تتوجه إليه أمنيته جامحًا، وتسموى إليه همته طامحًا".

_ 1 وطئت عقبه الرجال: كثرت أتباعه. 2 البطنة: الامتلاء من الطعام. 3 أشطانه: حباله. 4 اليتيمة 2/ 222.

وأنت تراه يعني عناية شديجة بهذا الجانب الموسيقي من تصنيعه، فما يزال يقابل ويعادل، ويدقق في مقابلاته، ومعادلاته حتى تخرج عباراته متساوية في أصواتها تمام المساوة، وكأنه لا يؤلف نثرًا، وإنما يؤلف شعرًا، والواقع أن ابن العميد وتلاميذه من أمثال الصابي، وابن عباد رفعوا الحواجز التي كانت تفصل بين أسلوب الشعر، وأسلوب النثر، أو قل على الأقل: إنهم رفعوا كثيرًا من هذه الحواجز، فقد أحالوا نثرهم إلى موسيقى خالصة، فكله ألحان وأنغام، وما الفارق الذي يفرق بين مثل هذا السجع، والشعر؟ إنه يعتمد مثله على الموسيقى فكله حلى وتنميق وتصنيع، وهو من أجل ذلك لا يشبه النثر، الذي كنا نألفه قبل ذلك عند كتاب الدواوين في القرنين الثاني والثالث، وإنه يشبه الشعر، ففيه جميع شياته من موسيقى وبديع، ولكنه مع ذلك نثر؛ لأنه لا يجري في موسيقاه على أوزان الخليل، ومن ثم كنا لا نستطيع أن نسميه شعرًا، ونحن أيضًا لا نستطيع أن نسميه نثرًا خالصًا، وهو في الواقع شيء بين الشعر والنثر، ولذلك كان النقاد يسمونه شعرًا منثورًا، وتفنن ابن العميد، وتلاميذه بصور مختلفة في إنتاج هذ الضرب من الشعر المنثور، وذهبوا يحققون له كل ما يمكن من زخرف وتصنيع، ومهما يكن فإن الصابي كان علمًا من أعلام البيان في عصره، وقد أقر له معاصروه، ومن جاءوا بعدهم بذلك، يقول الثعالبي: "إنه أوحد العراق في البلاغة، ومن به تثنى الخناصر في الكتابة، وتتفق الشهادات له ببلوغ الغاية في البراعة والصناعة"1. ويقول ياقوت: إنهن "أوحد الدنيا في إنشاء الرسائل"2. ويقول ابن الأثير: "كيف أضع من الصابي، وعلم الكتابة قد رفعه، وهو إمام هذا الفن والواحد فيه"3، ولما توفي رثاه الشريف الرضي بقصيدة طنانة مطلعها4: أرأيت من حملوا على الأعواد ... أرأيت كيف خبا ضياء النادي وما من ريب في أن هذا كله يدل على ما كان للصابي من منزلة رفيعة بين معاصريه، ومن جاءوا على إثرهم إذ كان أستاذًا ماهرًا في فن التصنيع لعصره، وكان وما يزال يتفنن في رسائله حتى يخرجها في صورة بديعة من الزخرف، والتنميق.

_ 1 اليتيمة 2/ 218. 2 معجم الأدباء 2/ 20. 3 المثل السائر لابن الأثير ص148. 4 اليتيمة 2/ 281.

التصنيع عام بين كتاب الدواوين

8- التصنيع عام بين كتاب الدواوين: إذا تركنا الصابي والصاحب إلى من عاصروهما من كتاب الدواوين، وجدناهم جميعًا يذهبون هذا المذهب من التصنيع للسجع، والبديع، ومن ينظر في كتاب اليتيمة للثعالبي، وما عرض فيه من كتاب الدواوين يعرف أنهم كانوا جميعًا، يلتزمون هذا المذهب في صنعة نثرهم، إذ كان بدعًا عامًا بينهم، وكان كل منهم يحاول أن يكون له شأن أي شأن في هذا البدع الجديد، ويتضح من اليتيمة أن أشهر الكتاب الذين عاشوا في هذا العصر، وكانوا متدادًا لهذا المذهب هم: عبد العزيز بن يوسف، وأبو العباس الضبي، وعلي بن محمد الإسكافي، وأبو الفتح البستي، إذ كانوا جميعًا يعنون برسائلهم عناية شديدة. أما عبد العزيز بن يوسف، فقد تقلد ديوان الرسائل لعضد الدولة، وتقلد الوزارة للبويهيين عدة مرات، وفيه يقول صاحب اليتيمة: "أحد صدور المشرق، وفرسان المنطق، وأفراد الكرم الكبار، والآثار والأخبار، وأعيان الممدوحين المقدمين في الآداب، والكتابة البراعة والكفاية، وجميع أدوات الرياسة"1، ساق الثعالبي جملة من نثره، وهي جميعها موشحة بألوان التصنيع، وأصباغه كقوله يصف رسالة كتبها إليه أبو إسحاق الصابي: "علمت كيف تنتظم فرق البلاغة، وتتلاقى طرق الخطابة، وتتراءى أشخاص البيان، وتمايل أعطاف الحسن والإحسان، وقرأت لفظًا جليًا، حوى معنى خفيًا، وفصولًا

_ 1 اليتيمة 2/ 287.

متباينة، كساها الائتلاف صور المشاكلة، ومنحها الامتزاج صيغة المضارعة. ولحمة الموافقة، فصارت لدلالة الأول منها على الثاني، وتعلق العجز بالهادي فيها أولاد أرحام مبرورة، وذوات قربى موصوله، تتعاطف عيونها، وتتناصف أبكارها وعونها"1. وأما أبو العباس الضبي، فهو خليفة الصاحب بن عباد وتلميذه، وفيه يقول الثعالبي: "هو جذوة من نار الصاحب أبي القاسم، ونهر من بحره، وخليفته النائب منابه في حياته، القائم مقامه بعد وفاته، وكان الصاحب استصحبه منذ الصبا، واجتمع فيه الرأي والهوى، فاصطنعه لنفسه، وأدبه بآدابه، وقدمه بفضل الاختصاص على سائر صنائعه وندمائه، وخرج منه صدرًا يملأ الصدوركمالًا، ويجري في طريقه ترسمًا وترسلًا، وفي ذرى المعالي توقلًا2 ... وقد كانت بلاغة العصر بعد الصاحب، والصابي بقيت متماسكة بأبي العباس، فأشرفت على التهافت بموته، وكادت تشيب بعده لمم الأقلام، وتجف غدر محاسن الكلام3، وقد روى الثعالبي له غررًا من رسائله، كقوله في صدر أحد كتبه: "قد أتاني كتاب شيخ الدولتين، فكان في الحسن روضة حزن، بل جنة عدن في شرح النفس، وبسط الأنس، بل برد الأكباد والقلوب، وقميص يوسف في أجفان يعقوب"4. وأما علي بن محمد الإسكافي، فكان كاتب الدولة السامانية ووزيرها، وفيه يقول الثعالبي: "هو لسان خراسان وغرتها، وعينها وواحدها، وأوحدها في الكتابة والبلاغة، ومن لم تخرج مثله من البراعة والصناعة، وكان تأدب بنيسابور عند مؤدب بها، يعرف بالحسن بن المهرجان، من أعرف المؤدبين بأسرار التأديب والتدريس، وأعلمهم وأدراهم بطرق التدريج في التخريج، ثم حرر مديدة في بعض الدواوين، فخرج منقطع القرين"5، ثم يقول

_ 1 اليتيمة 2/ 295، وعونها: جمع عوان، وهي الثيب. 2 التوقل: الصعود في الجبل. 3 اليتيمة 3/ 261. 4 اليتيمة 2/ 262. 5 اليتيمة 4/ 90.

الثعالبي: "إنه كان أكتب الناس في السلطانيات، فإذا تعاطى الإخوانيات كان قاصر السعي، قصير الباع"1، وقد لاحظ ابن الأثير نفس هذه الملاحظة على الصابي2، ويروي الثعالبي طائفة من نثر الإسكافي، وهي كلها تنهج نهج التصنيع، وما يطوى فيه من سجع وبديع، ويختم الحديث عنه بقوله: "إنه لما انتقل إلى جوار ربه غدت لفراقه الكتابة شعثاء، والبلاغة غبراء، وأكبر فضلاء الحضرة رزيته، وأكثروا مرثبته، وفيه يقول بعض الشعراء: ألم تر ديوان الرسائل عطلت ... لفقدانه أقلامه ودفاتره كثغر مضى حاميه ليس يسره ... سواه وكالكسر الذي عز جابره ليبك عليه خطه وبيانه ... فذامات واشيه وذامات ساحره"3 وأما أبو الفتح البستي فكان -في أول أمره- كاتبًا لباي توز أمير مدينة بست، وهي من مدن أفغانستان، فلما استولى عليها الأمير سبكتكين ألحقه بخدمته، "وصار من بعد ينظم بأقلامه منثور الآثار عن حسامه، وينسج بعباراته، وشائع فتوحه ومقاماته، هلم جرًّا، إلى زمان السلطان يمين الدولة، وأمين الملة "محمود بن سبكتكين"، فقد كتب له عدة فتوح إلى أن زخزحه القضاء عن خدمته، ونبذه إلى ديار الترك من غير قصده وإرادته"4، واشتهر البستي بكثرة الجناس في كلامه، يقول العتبي: "هو صاحب التجنيس"5، ويقول الثعالبي: "هو صاحب الطريقة الأنيقة في التجنيس الأسيس"، البديع التأسيس، وكان يسميه المتشابه، ويأتي فيه بكل طريقة لطيفة"6. ولم يروا الثعالبي شيئًا من رسائله، وإنما اكتفي ببعض ما في كتبه من أمثال وحكمة، كقوله: "عادات السادات، سادات العادات، من سعادة جدك،

_ 1 اليتيمة 4/ 92. 2 المثل السائر ص148. 3 اليتيمة 4/ 94. 4 انظر تاريخ اليميني للعتبي مع شرح المنيني 1/ 71. 5 نفس المصدر 1/ 67. 6 اليتيمة 4/ 284.

وقوفك عند حدك، الدعة رائد الضعة، إذا ما بقى قاتك، فلا تأس على ما فاتك، الخلاف غلاف الشر، عسى تحظى في غدك برغدك"، وهي كلها أمثال مسجعة نمقت بوشي التجنيس، وكأنما كان يعمد البستي إلى هذا الوشي عمدًا، كي يتفوق على معاصريه في استخراج كل ما يمكن من بدائعه وطرائفه، وأكبر الظن أننا لا نغلو بعد ذلك، إذا قلنا: إن الكتابة الديوانية، قد تحولت على أيدي هؤلاء الكتاب، وأضرابهم إلى تحف فنية خالصة.

الفصل الثاني: التصنيع والتصنع

الفصل الثاني: التصنيع والتصنع 1- اشتداد موجة التصنيع: رأينا -في الفصل السابق- كتاب الدواوين في القرن الرابع للهجرة، وكل منهم يحاول أن يبلغ من تصنيعه، وتجميله لأساليبه ما لم يبلغه كتاب آخر من كتاب الحكام، والأمراء المجاورين له، إذ كان هؤلاء الأمراء، والحكام يعتدون بالكتابة المصنعة، التي شاعت في تلك العصور، وكان كل منهم يحاول أن يكون في بلاطكه، ودواوينه أهم كاتب في عصره، حتى تشتهر دولته بتلك الطرف الزخرفية، التي يخرجها هذا الكاتب، وما من ريب في أن هذه الحال دفعت الكتاب إلى أن يصلوا بنثرهم، وتنميقه إلى مرتبة تكاد ترفع الحواجز بينه وبين الشعر، فهو نثر منظوم أو هو شعر منثور، وماذا يفصل بينه وبين الشعر؟ إنه يعتمد على الموسيقى: موسيقى السجع، كما يعتمد على زخرف البديع، وإنهم ليبالغون في ذلك حتى تتحول رسائلهم إلى ما يشبه الوشي الخالص؛ فهي حلى وتنميق، وبديع وترصيع. وإن الإنسان ليخيل إليه، كأنما تحولت صناعة النثر في تلك العصور عن طبيعتها الأولى تحولًا تاًما، إذ أصبحت أشبه ما تكون بصناعة أدوات الترف، والزينة فهي تحف تنمق في أروع صورة للتنميق، وكل كاتب يتوفر على إحداث هذه التحف توفرًا يتيح له أن يشارك في آيايتها، وبدائعها، وإنه ليعنت نفسه في سبيل ذلك إعناتًا بعيدًا، ونحن -في الواقع- لا نكاد نتصور الآن ما كان يحدث في تلك العصور في أثناء صناعة هذه التحف، والطرف لبعد العهد

بيننا وبينها؛ ولأننا أصبحنا عجلين في إحداث النماذج الفنية، وما تحتوي عليه من زخارف دقيقة، بل لقد أصبحنا ننفر من التصنيع، وما يطوى فيه من سجع وبديع، ومن يقرأ في آثار القرن الرابع يحس أن هذا المذهب من التصنيع، لم يقف عند كتاب الدواوين، بل لقد أخذ ينتشر بين غيرهم من كتاب الرسائل الشخصية، وعلى رأسهم أبو بكر الخوارزمي، وبديع الزمان الهمذاني، فقد تركا مجموعتين كبيرتين من الرسائل، ذهبًا فيهما هذا المذهب من السجع، والبديع أو من التصنيع والترصيع، ولم يكن الخوارزمي، وبديع الزمان هما اللذين يذهبان هذا المذهب فقط، بل كان يذهبه جميع الكتاب من حولهما. يقول الخوارزمي في كتاب إلى أبي محمد العلوي: "قرأت الفصل المسجع فشغلني الاقتباس منه، عن الجواب عنه"، وهو يتقدم ذلك بوصف هذا الفصل فيقول: "ورد كتاب السيد، فرتع الطرف منه بروضة ممطورة، وحلة منثورة، ولآلئ فرائد منثورة"1، وهكذا كانت كتابة الأدباء في هذا العصر، قد كانوا دائمًا ينمقون كتبهم، ويزخرفونها حتى تصبح كأنها الرياض المنمقة، والحلل المنشرة. والحق أن موجة التصنيع في القرن الرابع، كانت حادة حدة شديدة، فلم يسلم منها أحد إلا في القليل الأقل، حتى كتاب التاريخ أنفسهم رأينا بينهم من يختار لنفسه هذا الأسلوب الجديد من التصنيع، وبدأ هذه الحركة الصابي في كتابه "التاجي في أخبار بني بويه"، ثم تبعه المؤلفون في التاريخ أمثال العتبي في كتابه "اليميني" نسبة إلى محمود بن سبكتكين الغزنوي، إذ لقبه الخليفة "يمين الدولة وأمين الملة"، وهو كتاب في تاريخ سبكتكين، وابنه محمود، وقد نال شهرة كبيرة في عصره، وبعد عصره، يقول السبكي: "كان أهل خوارزم، وما والاها يعتنون بهذا الكتاب، ويضبطون ألفاظه أشد من اعتناء أهل بلادنا بمقامات الحريري"2، وما من شك في أن الصابي من جانب، والعتبي من جانب آخر

_ 1 انظر رسائل أبي بكر الخوارزمي "طبع الجوائب" ص37. 2 طبقات الشافعية 4/ 13.

كانا سببًا في شيوع السجع، والتصنيع في الكتابة التاريخية عند العماد الاصبهاني، ومن لف لفه، وقد كان اللثعالبي أيضًا أثره في هذا الجانب، فقد قدم للأدباء من كتاب، وشعراء في يتيمته بمقدمات مسجوعة، اعتمد فيها على زخرف البديع. على أننا نلاحظ أن هؤلاء الكتاب جميعًا من أصحاب مذهب التصنيع والسجع، والبديع أخذت تظهر على أسلات أقلامهم شيات مذهب آخر هو مذهب التصنع، إذ نراهم يعمدون إلى تعقيد أساليبهم الزخرفية، أو إلى اتخاذ فنون جديدة في نثرهم، لا تمت إلى التجميل، والتصنيع بصلة، إنما تمت إلى التحذلق والتكلف، ويظهر أنه كان لكتاب الرسائل الشخصية الأثر الأول في هذا الجانب، فإن موضوع رسائلهم عادة تهنئة، أو عتاب أو رثاء، أو اعتذار أو استمناح، وهي موضوعات محدودة بطبيعتها، فماذا يصنع الكاتب المصنع الذي يريد أن يثبت براعته، وتفوقه؟ هل يقتصر على سطور معدودة؟ إن الاقتصار على سطور قليلة لا يعطي فرصة لبيان مهارة الكاتب، وإذن فلا بد له من أن يطيل، ولكن كيف يطيل، ومعانيه محدودة؟ لم يجد سبيلًا إلى ذلك إلا أن يمد معانيه بكل وسيلة ممكنة، ولم ير مانعًا أثناء هذا الامتداد عن اللجوء إلى المبالغات، والتهويلات، والاعتداد بكثيرة العبارات، حتى ليخيل إلى الإنسان، وهو يقرأ رسالة للخوارزمي، أو للبديع أنه يقرأ في أساليب كتبت لتحفظ لا لتعبر عن معنى، فالمعاني فقدت قيمتها، ولم يعد لها أهمية، إنما الأهمية كلها للألفاظ، وما تطرز به من وشي وحلي، وحتى المقامات التي ابتكرها بديع الزمان تسمها هذه المياسم، فهي لا تعبر عن قصص كما يفهم منها، وإنما تعبر عن عبارات مرصوصة، يمكن للأديب أن يستخدمها في أعماله. والحق أننا لا نمضي في قراءة الخوارزمي، وبديع الزمان، وهما أهم المصنعين بين كتاب الرسائل الشخصية لتلك الصعور، حتى نحس بأن تألف الرسائل أصبح لا يقصد به إلى التعبير عن معان خاصة، إنما يقصد به إلى التعبير عن غايات تعليمية، فهي رسائل يقرؤها المؤدبون ليحفظوها، ويحوكوا على مثالها لأنفسهم

آثارًا تشبها، وقد أعدت هذه الحال إلى ظهور فكرة الأساليب المحفوظة، التي تورث وتكرر وترد دبين الكتاب، على أننا لا نترك الخوارزمي، وبديع الزمان إلى قابوس بن وشمكير صاحب طبرستان، وجرجان حتى نجده يحقق ضروبًا من التعقيد لزخرف التصنيع، لم تكن معروفة من قبله، وهي ضروب تجعله أقرب كتاب عصره إلى ذوق التصنع، والمتصنعين، ونحن نقف عند هؤلاء الثلاثة: الخوارزمي، وبديع الزمان وقابوس لنفسر نمو مذهب التصنيع من جهة، وتحول الكتاب قليلا قليلًا إلى مذهب التصنيع من جهة أخرى، حتى تنكشف لنا هذه الدورة في تاريخ النثر العربي، وما يتصل بها من فن، وصناعة انكشافًا تامًا.

أبو بكر الخوارزمي وتصنعه

2- أبو بكر الخوارزمي، وتصنعه: كان أبو بكر كاتبًا كبيرًا، كما كان شاعرًا كبيرًا أيضًا، وهو ابن أخت محمد بن جرير الطبري، صاحب التاريخ المعروف1، وأصله من طبرستان، ومولده ومنشؤه خوارزم2، وإليها ينسب، وقد "فارقها في ريعان عمره وحداثة سنه، وهو قوي المعرفة، قويم الأدب، نافذ القريحة، حسن الشعر، ولم يزل يتقلب في البلاد، ويدخل العراق والشام، ويأخذ عن العلماء، ويقتبس من الشعراء، ويستفيد من الفضلاء، حتى تخرج وخرج فرد الدهر في الأدب والشعر، ولقي سيف الدولة وخدمه، واستفاد من يمن حضرته، ومضى على غدوائه في الاضطراب والاغتراب، وشرق بعد أن غرب، وورد بخارى.... ووافى نيسابور ... ثم قصد سجستان.. ثم إنه عاود نيسابور، وأقام بها إلى أن وفق التوفيق كله بقصد حضرة الصاحب بن عباد بأصبهان، ولقائه بمدحه، فأنجحت سفرته، وربحت تجارته، وسعد جده بخدمته، ومداخلته، والحصول في جملة

_ 1 وفيات الأعيان 1/ 523. 2 اليتيمة للثعالبي "طبع الصاوي" 4/ 192.

ندمائه المختصين به، فلم يخل من طل إحسانه ووابله، وغامر إنعامه ونائله، وتزود من كتابه إلى حضرة عضد الدولة بشيراز ما كان سببًا لارتياشه ويساره، فإنه وجد فيها قبولًا حسنًا، واستفاد منها مالًا كثيرًا، ولما انقلب عنها بالغنيمة الباردة إلى نيسابور استوطها، واقتنى بها ضياعًا وعقارًا، ودرت عليه أخلاف الدنيا من جميع الجهات، وحين عاود شيراز ورد منها عللًا بعد نهل، فأجرى له عند انصرافه رسم يصل إليه في كل سنة بنيسابور مع المال، الذي كان يحمل من فارس إلى خراسان، ولم يزل بحسن حال ... يقيم للأدب سوقًا، ويعيده غضا وريقًا، ويدرس ويملي، ويشعر ويروي، ويقسم أيامه بين مجالس الدروس ومجالس الأنس، وكان يتعصب لآل بويه تعصبًا شديدًا، ويغض من سلطان خراسان، ويطلق لسانه بما لا يقدر عليه"1، وتعصب الخوارزمي للبويهيين طبيعي لما ذكره الثعالبي من تكريمهم له وبذلهم، على أن ذلك كان سببًا في أخذه، وحبسه واستخراج بعض المال منه إلا أنه احتال يومًا، وهرب إلى حضرة الصاحب متنكرًا، واستمر عنده حتى تولى الوزارة في خراسان صديقه أبو الحسن المزني، "فاستدعاه وأكرم مورده ومصدره، وكتب إلى نيسابور في رد ما أخذ منه عليه، ففعل، وزادت حالته، وثبت قدمه، ونظر إليه ولاة الأمر بنيسابور بعين الحشمة، والاحتشام، والإكرام والإعظام، فارتفع مقداره، وطاب عيشه"2، ويظهر أنه كانت بنيسابور جماعة مستوحشة منه جدًا، فاستغلوا الفرصة حين وفد بديع الزمان على بلدتهم في أخريات أيام الخوارزمي، وعقدوا مناظرات بينهما، وأعانوا البديع عليه3، ولم يحل الحول حتى توفي، وكانت وفاته سنة 383 هـ، ومولده سنة 323 هـ4. ويبالغ بديع الزمان في وصف هزيمته للخوارزمي حين دعى لمناظرته. على أنه ينبغي أن نتلقى هذه المبالغة بشيء من الاحتياط؛ لأن البديع هو الذي رواها

_ 1 اليتيمة 4/ 195. 2 اليتيمة 4/ 196. 3 اليتيمة 4/ 196. 4 اليتمية 4/ 196 وانظر وفيات الأعيان 1/ 523.

في رسائله من جهه1؛ ولأن الخوارزمي كان له خصوم في نيسابور، وقفوا ضده فيها من جهة أخرى، ولعل صاحب اليتيمة كان دقيقًا في حكمه حين قال في ترجمة بديع الزمان: "ثم شجر بينه، وبين أبي بكر الخوارزمي ما كان سببًا لهبوب ريح الهمذاني، وعلو أمره، وقرب نجحه، وبعد صيته، إذ لم يكن في الحسبان والحساب أن أحدًا من الأدباء والكتاب، والشعراء ينبري لمباراته، ويجترئ على مجاراته، فلما تصدى الهمذاني لمساجلته، وتعرض للتحكك به، وجرت بينهما مكاتبات، ومقامات، ومناظرات ومناضلات، وأفضى السنان إلى العنان، وقرع النبع بالنبع2، وغلب هذا قوم، وذاك آخرون، وجرى من الترجيح بينهما ما يجري بين الخصمين المتحاكمين، والقرنين المتصاولين، طار ذكر الهمذاني في الآفاق، وارتفع مقداره عند الملوك والرؤساء، وظهرت أمارات الإقبال على أموره، وأدر له أخلاف الرزق، وأجاب الخوارزمي داعي ربه، فخلا الجو للهمذاني، وتصرفت به أحوال جميلة"3، فصاحب اليتيمة يرى أن نجاح البديع في هذه المناظرات، لم يجئ من أنه انتصر على الخوارزمي، وإنما جاء من أنه استطاع أن يثبت له، وسرعان ما أتى الحادث المفاجئ، فتوفي الخوارزمي، وخلا الجو للبديع. ومهما يكن، فقد كان الخوارزمي من كبار الأدباء في عصره، روى ابن خلكان أنه استأذن على الصاحب في أرجان، وهو لا يعرفه، فقال لحاجبه: قل لهذا المستأذن قد ألزمت نفسي أن لا يدخل على أحد من الأدباء، إلا من يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب، فخرج إليه الحاجب وأعلمه بذلك، فقال له أبو بكر الخوارزمي: ارجع إليه، وقل له هذا القدر من شعر الرجال، أم من شعر النساء؟ فدخل الحاجب، فأعلم الصاحب بما قال، فقال الصاحب: هذا يكون أبا بكر الخوارزمي4، والحق أن أبا بكر كان أستاذًا كبيرًا في

_ 1 انظر هذه المناظرات في رسائل بديع الزمان "طبع بيروت سنة 1921 " ص 28، وما بعدها. 2 النبع: شجر للقسي والسهام. 3 اليتيمة 4/ 241. 4 وفيات الأعيان 1/ 523.

عصره، ولعله من أجل ذلك أسند إليه منصب تخريج التلاميذ في نيسابور1، ويظهر أنه كان متشيعًا غالبًا في تشيعه، ففي رسائله رسالة شيعية صب فيها جام غضبه على الخلفاء من الأمويين والعباسيين2، وإن من يرجع إلى رسائله يجدها تستحوذ على خصائص مذهب التصنيع لعصره في صورة بالغة من السجع، والبديع، وانظر إليه يكتب إلى أبي علي البلعمي لما طال عتبه، وكثرت رقاعه3: "الكريم -أيد الله تعالى الشيخ- إذا قدر، غفر، وإذا أوثق أطلق، وإذا أسر أعتق، ولقد هربت من الشيخ إليه، وتسلحت بعفوه عليه، وألقيت ربقة حياتي ومماتي بيديه، فليذقني حلاوة رضاه عني، كما أذاقني مرارة انتقامه مني، ولتلح على حالي غرة عفوه، كما لاحت عليها مواسم غضبه، وسطوه، وليعلم أن الحر كريم الظفر إذا نال أقال، وأن العبد لئيم الظفر، إذا نال استطال، وليغتنم التجاوز عن عثرات الأحرار، ولينتهز فرص الأقدار، وليحمد الله تعالى الذي أقامه مقام من يرجى، ويخشى، وركب نصابه في رتبة شاب الزمان ومجدها فتي، وأخلق العالم وذكرها طري، فجعله في الميلاد كريمها، وسليلها، وفي الرتبة قدوتها وجليلها، وليعتقد أنه قد هابه من استتر، ولم يذنب إليه من اعتذر، وأن من رد عليه عذره، فقد خرج إلى الشجاعة بعد الجبن، وأخرج ذنبه إلى صحو اليقين من سترة الظن، وفق الله تعالى الشيخ لما يحفظ عليه قلوب أوليائه، وعصمه بما يزيد به في جماجم أعدائه، وليس بين الموالات والمعاداة، إلا لقية بشعة، أو لفظة قذعة". وأنت ترى في هذه الرسالة، أن الخوارزمي يعتمد على السجع اعتمادا يشبه ما رأيناه سابقًا عند ابن العميد، والصاحب، فهو ينتخب لفظه كما ينتخب أسجاعه، وهو يعني بالسجع القصير، حتى لا يطول الزمان على الأذن، فتخرج من الجو

_ 1 في رسائل الخوارزمي ما يدل على كثرة تلاميذه، فهو يراسلهم، ويوصي بهم الأمراء والرؤساء، انظر الرسائل "طبع الجوائب" ص10، 12، 37، 50، 75، 94، 98، 119، 124، 155، 159، 180. 2 رسائل الخوارزمي ص130. 3 رسائل الخوارزمي ص96.

الموسيقي الذي يريده الكاتب، وقد يأتي بالسجع الطويل، ولكنه يحدث فيه من المعادلات الداخلية ما يعود به قصيرًا، كقوله: "وليعلم أن الحر كريم الظفر إذا نال أقال، وأن العبد لئيم الظفر، إذا نال استطال"، فإن هاتين السجعتين طويلتان في الظاهر؛ ولكنك إذا تأملتهما وجدتهما تنحلان إلى أربع سجعات، ففيهما سجعتان داخليتان، وكان يلجأ إلى ذلك كثيرًا في رسائله، وهو لا يلجأ إلى السجع وحده، كما نرى في تلك الرسالة، بل نراه يلجأ إلى ألوان البديع وخاصة لون التصوير، ولون الطباق حتى يرصع سجعه ترصيعًا، وكان يعنى أيضًا بلون الجناس، ولكنها عناية أقل من عنايته بالطباق، ومن أمثلة جناسه قوله في مطلع إحدى رسائله: "وعد الشيخ يكتب على الجلمد، إذا كتب وعد غيره على الجمد، ولكن صاحب الحاجة سيئ النظر بالأيام، مريض الثقة بالأنام"1، وقوله في أخرى: "ورد على خبر وفاة فلان، فدارت بي الأرض حيرة، وأظلمت في عيني الدنيا حسرة، وملك الوله والوهل قلبي وساوس وفكرة، وتذكرت ما كان يجمعني، وأباه من سكرى الشباب، والشراب"2، وعلى هذا النحو كان الخوارزمي يعتمد في تصنيعه على ما عرف عند ابن العميد، وتلامذته من سجع وبديع، وإنه ليحاول أن يبلغ من ذلك أوسع درجة ممكنة من الحلية، فهو يقصر سجعه، وهو يخلع عليه ضروبًا من الرشاقة بفضل ما يلجأ إليه من الصور والجناس والطباق، وكل ذلك ليجلب أبدع ما يمكن من طرف، وتحف في هذا الباب، وإن الإنسان ليحس عنده حقًا بأن التصنيع قد وصل إلى غايته من التجميل، فكل عبارة كأنها زخرف مستقل بما تحمل من وشي البديع وزينته، وإنه ليتطرف في ذلك تطرفًا ينتهي به إلى ظهور بعض سمات التصنع في كتابته.

_ 1 رسائل الخوارزمي ص12، والجلمد: الصخر، والجمد: الثلج. 2 نفس المصدر ص15.

التصنع وتصنيع الخوارزمي

التصنع وتصنيع الخوارزمي ... 3- التصنيع وتصنيع الخوارزمي: كانت صناعة الخوارزمي في رسائلة تقوم على التصنيع، وما يطوى فيه من سجع وبديع، على أن من يتأمل في هذه الصناعة يحس تسرب ضروب من الصنيع إليها، إذ كان الخوارزمي يعمد إلى ضروب من التهويلات والمبالغات، وكأنما قصر الموضوعات، التي كان يعالجها هو الذي أداه إلى هذه الصورة من التعبير، وانظر إليه يكتب إلى أحد تلاميذه، فيصف أيامه الماضية معه على هذا النحو1: "كانت أرق من حاشية البرد، ومن طلوع السعد، وأحلى من إنجاز الوعد، وأعذب من القند2، بل من النقد، وأعبق من الورد، وما أردت إلا ورد الخد، بل من المسك والند، وأطيب من القرب بعد البعد، ومن الوصل في إثر الصد، بل كانت أرق من نسيم الزهر، في السحر، ومن قضاء الوطر، على الخطر، بل كانت أقصر من ليل السكارى، أو نهار الحيارى". وأنت ترى أساس هذه التعبيرات كلها أنه يهول، ويبالغ في وصف الأيام الماضية، وما كان من حسنها وجمالها، ولكن انظر كيف أطال في نعته لها، وهي إطالة مقصودة، إذ كان يقصد بها إلى بيان مهارته في صوغ هذه الأسجاع التي تتقابل تقابلًا بديعًا على النحو، فإذا هي تتألف من أسجاع دالية أول الأمر، حتى إذا أثبت تفوقه في استخدام الدال، وأسجاعها انتقل إلى الراء يحوك منها ما يريد من سجع، وهو يوشي هذا السجع كله بالجناس، والطباق، والتصوير. ونحن نتساءل: ما هذه الأوصاف كلها التي "يرصها الكاتب رصًا"؟ والحق أن هذا "الرص"، وما يتبعه من تراكم العبارات أصبح أصلًا من أصول صناعة

_ 1 رسائل الخوارزمي ص11. 2 القند: عسل قصب السكر.

الخوارزمي في رسائله، وإنا لنلمح فيه جانبًا من جوانب التصنع، وهل التصنع إلا الخروج عن الطرق الطبيعية في التعبير الفني، إما بمثل هذا التراكم للعبارات، أو بما قد يحدث من تعقيد في زخرف السجع والبديع، أو بما قد ينجم من اجتلاب ألفاظ العلوم ومصطلحاتها، ومهما يكن فنحن نقع عند الخوارزمي على هذه الحال الجديدة، التي أخذت تظهر في مذهب التصنيع، ونقصد هذه العبارات المرصوفة، التي يتراكم بعضها على بعض، والتي يحس الإنسان أنها لا تؤدي شيئًا أسجعا، وضروب من بديع، واستمع إليه يصف قصيدة بعث له بها أحد تلاميذه1: "وصلت القصيدة الغراء، الزهراء، فكانت أرق من الماء، بل من الهواء، وألذ من الصهباء، وأسر من اللقاء بين الأحباء، ومن هجوم السراء، غب الضراب، وأعذب من مغازلة النساء، ومن مجالسة الندماء، ومن مساعدة القضاء، ومن معاقرة الشراب على الغناء، ومن استماع فوائد الحكماء، وخطب البلغاء، وقلائد الشعراء، ومن أخذ جوائز الأمراء، وتحصيل مراتب الخلفاء، فكانت معانيها أبدع من الوفاء، وأعز من السخاء، وأغرب من النصفة في الأصدقاء، ومن الأمانة في الشركاء، بل أغرب من المغرب العنقاء، وألفاظها أحسن من البدر في الظلماء، وأطيب من وصال الحسناء، ومن الشماتة بالأعداء". أرأيت إلى هذه المبالغات، والتهويلات و"رص" العبارات؟ إنه الأسلوب الجديد، أسلوب الرسائل الشخصية عند الأستاذ الأديب أبي بكر الخوارزمي، الذي اشتهر بالبلاغة والبيان في عصره، لما كان يسوق في رسائله من مثل هذه العبارات المرصوصة، التي تدل على التصرف والمبالغة، كما تدل على ضرب من الإفراط في استخدام الجمل، والتراكيب المسجوعة، وأكبر الظن أنه كان يعمد إلى ذلك عمدًا، حتى يجمع لتلاميذه في رسائله جميع صور التعبير، التي يمكن أن يستخدموها في فكرة من الأفكار، وكأنه كان يحس أن مهمته ليست هي

_ 1 رسائل الخوارزمي ص37.

أن يعبر عن معان، بل هي أن يعبر عن أساليب يحفظها الطلاب، وما من شك في أن هذا كان أحد الأسباب في شيوع العبارات المحفوظة في اللغة العربية، إذ نجدها تميل منذ الخوارزمي إلى الاحتفاظ بصيغ خاصة من التعبيرات، يرددها الأدباء في كتاباتهم. وليس هذا كل ما يلاحظ على تصنيع الخوارزمي، وتطرفه فيه، بل إننا نلاحظ عليه أشياء أخرى، لعل في مقدمتها أنه يكثر من الإشارات التاريخية1، كما يكثر من ذكر الشعر، وهي حال أوسع من أن ندل عليها، وأيضًا فإنه كان يكثر من نثر الشعر، وإدماجه في كتابته، بل إنه ليعترف بأنه يكثر من إغارته على الكتاب، الذين سبقوه إذ يقول صراحة: "ما زلت أسرق من هذا كلمة، وأنظر من ذاك فقره، وأستعير من هناك نادرة وثيقة، أغصب الأحياء على بيانهم، وأنبش الموتى من أكفانهم"2، ونراه في مقدمة إحدى رسائله يقول: "كتابي وأنا في سلامة إلا من الحر الذي يذيب دماغ الضب، ويشبه قلب الصب، وهذا سرقته، من رسائل الوزير الجليل ابن عباد، وليس بأول غارة الكردي على الحاجي، ولا بأول أخذ الطرار، ما التجار"3، ولعل هذه السرقة وأمثالها هي التي جعلته يصف أسلوبه بأنه "سجع ملزق، وكلام ملفق"4. والحق أننا نجد عند الخوارزمي ميلا واضحًا إلى الحذلقة في التعبير، وإنها لحذلقة تؤديه أحيانًا إلى أن تصنع لبعض ألفاظ من النجو، إذ يقول لصديق له: "وكيف صرت المستثنى، وقعدت على طريق إلا"5، وقد نحس هذه الحذلقة نفسها في رسائل التصنيع كقوله في إحدى رسائله: "لقد أراحني الشيخ ببره، لا بل أتعبني بشكره، وفزعني بصادق قيامه لا بل شغلني بتعديد إحسانه وإنعامه، وخفف ظهري من ثقل المحن، لا بل أثقله بأعباء المنن، وأحياني بحقيق الرجاء، لا بل أماتني بقرط الحياء"6، وعلى

_ 1 رسائل الخوارزمي ص35، 97. 2 رسائل الخوارزمي ص36. 3 نفس المصدر ص79. 4 نفس المصدر ص34. 5 نفس المصدر ص26. 6 نفس المصدر ص106.

هذا النحو نحس دائمًا بضروب من التصنع تتسرب إلى صناعة الخوارزمي، وهي صناعة كانت تقوم على التصنيع، ولكنها أخذت تظهر فيها بعض شيات التصنيع وسماته، مما يدل على أننا وصلنا من التصنيع إلى هذه المنطقة، التي يختلط فيها المذهب بمقدمات مذهب آخر، وهي مقدمات ما تزال تتسع، حتى ينفذ منها الأدباء إلى إحداث المذهب الجديد، ونحن لا نصل إلى أواخر القرن الرابع حتى نجد الرغبات تتكامل للخروج، ومن مذهب التصنيع القديم إلى مذهب جديد من التصنع، وهو مذهب كان يقوم على التعقيد في الأسلوب، والأداء، وما من ريب في أن الخوارزمي عن شيء من هذه الرغبات مع أن فنه عامة يندمج في مذهب التصنيع.

بديع الزمان وتصنيعه

4- بديع الزمان وتصنيعه: هو، أبو الفضل أحمد بن الحسين، ويعرف باسم بديع الزمان، أصل من همذان وإليها ينسب، وقد تركه عام 380هـ، وعمره نحو اثنتين وعشرين سنة، ويظهر أنه لم يكن معجبًا بها، فقد جاء في إحدى رسائله لأستاذه أحمد بن فارس اللغوي المعروف، الذي "أخذ عنه جميع ما عنده، واستنفذ علمه"1، قوله2: لا تلمني على ركاكة عقلي ... إن تيقنت أنني همذاني وقد روى له ابن خلكان -مع شيء من الشك- بيتين يذم فيهما همذان، وأهلها ذمًا قبيحًا على هذا النحو3: همذان لي بلد أقول بفضله ... لكنه من أقبح البلدان صبيانه في القبح مثل شيوخه ... وشيوخه في العقل كالصبيان

_ 1 اليتيمة 4/ 241. 2 رسائل بديع الزمان "طبع بيروت سة 1921" ص419. 3 وفيات الأعيان 1/ 39.

وقد يكون في هذا الشعر -إذا صحت نسبته إليه- ما يعلل لمفارقته بلده في مقتبل حياته، وقد تركها إلى حضرة الصاحب بن عباد زعيم أدباء عصره حينئذ، فتزود من ثماره وحسن آثاره1، ونراه يترك الصاحب إلى جرجان إذ "أقام بها مدة على مداخلة الإسماعيلية، والتعيش في أكنافهم، والاقتباس من أنوارهم، ثم قصد نيسابور فوافاها في سنة 382هـ، ونشر بها بزه، وأظهر طرزه، وأملى أربعمائة مقامة! نحلها أبا الفتح الإسكندري في الكدية وغيرها"2. على أنه لا يستمر طويلًا في نيسابور، إذ نراه يرحل عنه متجولًا في خراسان، وسجستان وغزنة وما حواليه، ويقول الثعالبي: أنه "لم يبق من بلدة في ذه الأنحاء إلا دخلها، وجنى وجبى ثمارته، واستفاد خيرها وميرتها، ولا ملك ولا أمير لا وزير، ولا رئيس إلا استمطر بنوئه، وسرى في ضوئه، ففاز برغائب العم، وحصل على غرائب القسم، وألقى عصاه بهراة، واتخذها دار قراره، ومجمع أسبابه، واقتنى ضياعًا فاخرة، وعاش عيشة راضية، وحين بلغ أشده، وأربى على الاربعين ناداه الله فلباه، وفارق دنياه سة 398 هـ"3. واشتهر بديع الزمان بحافظة قوية قوة شديدة، يقول صاحب اليتيمة: "إنه كان صاحب عجائب، وبدائع وغرائب، فمنها أنه كان ينشد القصيدة التي لم يسمعها قط وهي أكثر من خمسين بيتًا، فيحفظها كلها، ويؤديه من أولها إلى آخرها، لا يخرم حرفًا، ولا يخل بمعنى، وينظر في الأربعة والخمسة أوراق من كتاب لم يعرفه، ولم يره نظرة واحدة خفيفة، ثم يهذها عن ظهر قلبه هذا، ويسردها سردًا"4، وكما اشتهر بديع الزمان بحافظته اشتهر بسعة ارتجاله"5، وكان يعرف الفارسية، ويترجم بعض أشعارها إلى العربية، ويقال: إن الصاحب بن عباد اختبر مهارته في هذا الجانب6، ويقول صاحب اليتيمة:

_ 1 اليتيمة 4/ 241. 2 اليتيمة 4/ 241. 3 اليتيمة 4/ 242. 4 اليتيمة 4/ 240. 5 اليتيمة 4/ 240. 6 Browne, Lit Hist ofpersia. vol ll, p. 112.

إنه "كان يترجم ما يقترح عليه من الأبيات الفارسية المشتملة على المعاني الغربية بالأبيان العربية، فيجمع فيها بين الإبداع، والإسراع"1. وليس هناك كاتب في القرن الرابع نال من التمجيد، والثناء ما ناله بديع الزمان، وحتى اسمه لا يعرفه الناس، وإنما يعرفونه بلقبه الذي أطلقه عليه معاصروه، وإنه ليفصح عن مدى إعجابهم به، يقول الثعالبي: "هو معجزة همذان، ونادرة الفلك، وبكر عطارد، وفرد الدهر، وغرة العصر، ومن لم يبلق نظيره في ذكاء القريحة، وسرعة الخاطر، وشرف الطبع، وصفاء الذهن، وقوة النفس، ومن لم يدرك قرينه في طرف النثر وملحه وغرره، ولم ير ولم يرو أن أحدًا بلغ مبلغه من لب الأدب وسره، وجاء مثل إعجازه، وسحره"2، ويقول الحصري وقد ذكر اسمه "البديع": "هذا اسم وافق مسماه، ولفظ طابق معناه، كلامه غض المكاسر، أنيق الجواهر، يكاد الهواء يسرقه لطفًا، والهوى يعشقه ظرفا"3، وكان الحصري يتعصب له على الخوارزمي، وبلغ من تعصبه أنه لم يرو للخوارزمي شيئًا في كتابه، بينما أكثر من روايته عن البديع، إذ كان يعجب به، وبمقدرته على التجويد، والتحبير إعجابًا شديدًا، وقد ترك بيدع الزمان مجموعة كبيرة من الرسائل نيف على مائتين وثلاثين، وأكثرها في علاقاته الشخصية، وبعضها في مسائل أدبية، وقد تحدث في الرسائل رقم 167 عن انتشار التشيع، ومن يتصفح هذه الرسائل يحس فيها أثر الاحتفال والجهد الشديد، واستمع إليه في هذه الرسالة القصيرة4: "يعز علي -أطال الله بقاء الرئيس- أن ينوب في خدمته قلمي عن قدمي، ويسعد برؤيته رسولي، دون وصولي، ويرد مشرعة الأنس به كتابي، قبل ركابي، ولكن ما الحيلة والعوائق جمة: وعلي أن اسعى وليـ ... ـس علي إدراك النجاح

_ 1 اليتيمة 4/ 241. 2 اليتيمة 4/ 240. 3 زهر الآداب للحصري 1/ 307. 4 رسائل بديع الزمان ص 103.

وقد حضرت داره، وقبلت جداره، وما بي حب الجدران، ولكن شغفًا بالقطان، ولا عشق الحيطان، ولكن شوقًا إلى السكان". وأكبر الظن أنه استقرت في نفسك الآن صورة من تصنيع البديع، فهو يعتند في تصنيعه على السجع القصير، وإنه ليبعد في ذلك، فإذا سجعاته لا تتألف من عبارات، وإنما تتألف من ألفاظ وكلمات، فـ"قلمي" تتبعها "عن قدمي" و"رسولي" يليها "دون وصولي"، و"كتابي" تجيء في إثرها "قبل ركابي"، وما من شك في أنه بلغ من ذلك مبلغًا لم يصل إليه ابن العميد، ولا من تبعوه في مذهب التصنيع، وهو ضيف إلى ذلك كل ما يمكنه من ترصيع بالبديع، وكان يعتمد -في أغلب الأمر- على الجناس، بينما كان يعتمد الخوارزمي في الأكثر على الطباق، وهما يشتركان بعد ذلك في العناية بالتصوير، على أن البديع كان يهتم بلون لم يأبه له الخوارزمي، وهو "مراعاة النظير" بين ألفاظه وكلماته، وكان يبالغ في ذلك حتى يضم اللفق إلى لفقه، والشكل إلى شكله، كقوله في تهنئة بمولود: "حبذا الأصل وفرعه، وبورك الغيث وصوبه، وأينع الروض ونوره، وحبذا سماء أطلعت فرقدًا، وغالبة أبرزت أسدًا"1، فإنه حين ذكر الأصل، وفرغه استطرد إلى ذكر الغيث وصوبه، والروض ونوره أو زهره، والسماء وفرقدها، والغابة وأسدها، ومن ذلك قوله في إحدى رسائله: "وردت من ذلك السلطان حضرته، التي هي كعبة المحتاج لا كعبة الحجاج، ومشعر الكرام، لا مشعر الحرام، ومنى الضيف، لا منى الخيف وقبلة الصلات، لا قبلة الصلاة"2، فإنه حين ذكر الكعبة، والحجاج ذكر المشعر الحرام، ومنى الخيف وقبلة الصلاة، وكل ذلك ليجانس، ويناظر بين ألفاظه وكلماته. على أن هناك ظاهرة تختص بها رسائل بديع الزمان، ولا توجد في رسائل الخوارزمي، وهي ظاهرة القصص، وهي أوسع من أن نمثل لها بأمثلة؛ لأنها تنتشر في جميع رسائله، ومهما يكن فقد كان بديع الزمان معجبًا بمذهب التصنيع، وكان يسعى دائمًا إلى تطبيقه في رسائله، وكتاباته وإنه ليغالي في هذا التطبيق، فإذا هو يحاول أن يقصر عبارات سجعه تقصيرًا شديدًا، كما يحاول أن يفرط في استخدام ألوان البديع إفراطًا بعيدًا.

_ 1 رسائل بديع الزمان ص515. 2 رسائل بديع الزمان ص151.

التصنع وتصنيع بديع الزمان

التصنع وتصنيع بديع الزمان ... 5- التصنيع وتصنيع بديع الزمان: رأينا بديع الزمان يعني في رسائل بتطبيق أساليب التصنيع عناية واسعة، وقد أفرط في ذلك إفراطًا أتاح لضروب من التصنع أن تتسرب إلى كتاباته، ولعل في مقدمة هذه الضروب ما نحسه عنده من مبالغات، وتهويلات تشبه تهويلات الخوارزمي، ومبالغاته، بل لعل الخوارزمي لم يفرط إفراطه، على أن هذا ليس هو الجانب الأهم في تصنيع البديع، بل هناك جوانب كثيرة نحسها لأول مرة عنده، وإنها لتجعله قريبًا من ذوق أصحاب التصنع، إذ كان يحاول دائمًا أن يأتي بجديد في فنه، وأدته هذه المحاولة إلى فنون من التصنع، لا عهد لأصحاب التصنع بها، واستمع إلى هذه الرسالة، التي كتبها يصف نهب اللصوص له في أثناء رحيله من جرجان إلى نيسابور1: "كتابي، وأنا أحمد الله إلى الشيخ، وأذم الدهر فما ترك لي فضة إلا فضها، ولا ذهبًا إلا ذهب به، ولا علفًا إلا علقه، ولا عقارًا إلا عقره، ولا ضيعة إلا أضاعها، ولا مالًا إلا مال إليه، ولا حالا إلا حال عليه، ولا فرسًا إلا افترسه، ولا سبدًا إلا استبد به، ولا لبدًا إلا لبد2 فيه، ولا بزة إلا بزها، ولا عارية إلا ارتجعها، ولا وديعة إلا انتزعها، ولا خلعة إلا خلعها، وأنا داخل نيسابور، ولا حلية إلا الجلدة، ولا بردة إلا القشرة". ألا تشرع بأن البديع في هذه الرسالة، قد تجاوز الطرق الطبيعية في الزخرفة

_ 1 الرسائل ص104. 2 السبد واللبد من قولهم: ما له سيد ولا لبد، أي لا قليل ولا كثير.

بزينة الجناس، إذ أعنت نفسه هذا العنت في طلبه، فكل عبارة تخرج محملة به، وهذا هو معنى ما نقوله من أن الإفراط في استخدام ألوان التصنيع، يقود الكاتب إلى فنون من التصنع، والتكلف الشديد، ولم يكن الخوارزمي، ولا غير الخوارزمي من أصحاب مذهب التصنيع، يضيقون على أنفسهم كل هذا الضيق، فإذا هم لا يصنعون عبارة، إلا ويوشونها بزخرف من زخارف البديع، ولكن ما لبديع الزمان، وللخوارزمي، وأصحابه؟ إنه يريد أن يتفوق عليهم، وهو لذلك يعمد إلى إعنات نفسه في صناعته، حتى يقع عمله من أهل عصره موقعًا غريبًا، وكأنما الإغراب أصبح هو البدع الجديد، ولذلك نراه يلجأ إلى مثل هذه الجناسات، التي نراها في القطعة السابقة، وانظر إليه يقول في إحدى رسائله مفضلًا العرب على العجم1: "العرب أوفى وأوفر، وأوقى وأوقر، وأنكى وأنكر، وأعلى وأعلم، وأحلى وأحلم، وأقوى وأقوم، وأبلى وأبلغ، وأشجى وأشجع، وأسمى وأسمح، وأعطى وأعطف، وألطى وألطف، وأحصى وأحصف، وأنقى وآنق، ولا ينكر ذلك إلا وقح وتح، ولا يجحده إلا نغل نغر"2. أرأيت إلى هذه الكثرة من الجناس الناقص؟ أنها دليل آخر على ما نذهب إليه، من أن زخرف الجناس عند البديع أخذ يفقد بعض قيمته القديمة؛ لأن الكاتب يجعلنا نشرف على ضرب من التصنع في استخدامه، ومع أنه زخرف حقًا، ولكنا نحس أن طاقته القديمة فقدت بعض مميزاتها، وما كان يسمها من حسن وجمال، والحق أن التطرف في استخدام أدوات التصنع على هذا النحو، ينتهي صاحبه إلى الخروج إلى مذهب التصنع، والبديع لم يكن من أصحاب هذا المذهب، ولكنه كان مغاليًا في تصنيعه مغالاة جعلته يدنوم من ذوق أصحاب التصنع، الذين يصعبون في تعبيرهم كما سنرى فيما بعد، وقد كانوا

_ 1 الرسائل ص279. 2 ألطى: أثقل على العدو. وتح: تافه، نغل: فاسد، نغر غاضب.

يلتمسون هذا التصعيب -من بعض الوجوه- في تعقيد زخرف التصنيع على نحو ما نرى الآن عند البديع، على أنه ينبغي أن نعرف أن البديع لم يكن يكثر من ذلك؛ لأنه لم يكن يتخذه مذهبًا، ولكنا على كل حال نجده عنده، وكأنه تعبير عن هذا التحول الذي أخذ يظهر قليلًا قليلًا في ميادين التصنيع، وهو تحول كان يراد به الانتقال إلى المذهب الجديد، مذهب التصنع. وليس كل ما نجده عند البديع من الشعور بهذا التحول، هو استخدامه للجناس على هذا النحو، فنحن نجد عنده مظاهر أخرى، لعل من أهمها جنوحه للغريب في نثره، كأن الغريب غاية يسعى إليها الكاتب ليحقق ضربًا من الجمال في صناعته، وأكبر الظن أنه كان للجناس، واهتمامه به أثر في استخدامه لهذا الغريب، وبجانب هذه الظاهرة التي تدل على التصنع والتكلف؛ لأن استخدام الغريب لا يعد جمالا في ذاته، نجد عنده ظاهرة أخرى، وهي كثرة الأمثال في نثره، وأيضًا فقد كان يكثر من اقتباس القرآن الكريم في كتابته، ولا يقف البديع عند ذلك، بل نراه يكثر من تضمين العشر، وانظر إلى هذه الرسالة التي أرسل بها إلى الخوارزمي أول قدمه إلى نيسابور1: "أنا لقرب الأستاذ -أطال الله بقاءه- "كما طرب النشوان مالت به الحمر"، ومن الارتياح للقائه، "كا انتفض العصفور بلله القطر"، ومن الامتزاج بولائه "كما التقت الصهباء والبارد العذب"، ومن الابتهاج بمرآه، "كما اهتز تحت البارح2 الغصن الرطب"، فكيف نشاط الأستاذ لصديق طوى إليه ما بين قصبي العراق وخراسان، بل ما بين عتبتي نيسابور وجرجان، وكيف اهتزازه لضيف في ردة جمال، وجلدة حمال. رث الشمائل منهج الأثواب ... بكرت عليه مغيرة الأغراب3 وهو -أيده الله- ولي إنعامه، بإنفاذ غلامه إلى مستقري، لأفضى إليه بسي، إن شاء الله تعالى".

_ 1 رسائل بديع الزمان ص128. 2 البارح: الريح الحارة في الصيف. 3 منهج: بالي.

وواضح أن البديع استعان أربع مرات في أوائل رسالته بهذه الشطور من الشعر، التي وضعناها بين أقواس، وما من ريب في أنه جاء بها ليدل الخوارزمي على مهارته، وهذا هو نفسه ما يجعلنا نشعر بأن البديع كان يستظهر شارات من الصنع في عمله، وهي شارات تضطره إلى الجناس المسرف، أو الجناس المعقد، كما تضطره إلى استخدام الغريب، وأيضًا فإنها تضطره إلى هذا التضمين لشطور الشعر في كلامه. والواقع أننا نحس في هذه الظواهر كلها أثرًا من التصنع، الذي أخذ القرن الرابع يعد لظهوره، ويهيئ لخروجه بما كان يصنعه البديع، والخوارزمي في آثارهما، وقد كان البديع أقرب من الخوارزمي إلى ذوق التصنع، ولعل ذلك ما جعله يميل إلى اللعب، والعبث في صناعته، فقد روى الثعالبي في يتميته أنه "كان يكتب الكتاب المقترح عليه، فيبتدئ بآخر سطر منه، ثم هلم جرًا إلى الأول"1، وقد روى بديع الزمان نفسه في رسائله صورًا كثيرة من هذا اللعب، إذ نراه يدل على الخوارزمي بأنه يستطيع أن يقترح عليه أربعمائة صنف في الترسل، ثم يستطرد، فيصف بعض هذه الأصناف، فيقول: إنه يستطيع أن يكتب كتابًا يقرأ منه جوابه، أو كتابًا يقرأ من آخر إلى أوله، أو كتابًا إذا قرئ من أوله إلى آخره كان كتابًا، فإن عكست سطوره مخالفة كان جوابًا، أو كتابًا لا يوجد فيه حرف منفصل من راء يتقدم الكملة، أو دال ينفصل عنها، أو كتابا خاليا من الألف واللام، أو كتابا خاليا من الحروف العواطل، أو كتابا أول سطوره كلها ميم وآخرها جيم، أو كتابًا إذا قرئ معرجًا وسرد معرجا كان شعرًا، أو كتابًا إذا فسر على وجه كان مدحًا، وإذا فسر على وجه كان قدحًا2. ولعل من الطريف أن الخوارزمي حين سمع من بديع الزمان هذه الأصناف

_ 1اليتيمة 4/ 240، ونجد في معجم الأدباء أديبًا معاصرًا للبديع يسمى الصخري، يحاول أن يقلده في هذا الجانب، انظر معجم الأدباء "طبع مصر" 5/ 21. 2 رسائل بديع الزمان ص74.

الجديدة في الكتابة قال: إنها شعبذة، وحقا ما يقوله الخوارزمي: فإنها لا تفصح عن جمال، وإنما تفصح عن لعب، والخوارزمي لم يكن يفهم هذا اللعب؛ لأنه ليس من قبيل زخرف التصنيع الذي يعهده، غير أننا لا نمضي عند بديع الزمان حتى نحس تحولًا في هذا الزخرف، وهو تحولا لا يتصل به مباشرة، إنما يتصل بطرق أدائه، فإذا هذه الطرق تصعب هذا التصعيب، الذي يحس فيه الخوارزمي ضربًا من ضروب الشعبذة، ورد البديع عليه حين أنكر منه ذلك بقوله: "إنك لا تحسن من الكتابة إلا هذه الطريقة الساذجة، وهذا النوع الواحد المتداول بكل قلم، المتناول بكل يد وفم"1، ويقص علينا بديع الزمان أنه قرأ على الخوارزمي، ومن حضروا مناظرتهما كتابًا منكوسا، ثم سرده معكوسًا، وقال: "إن الجماعة، بهتت العيون زرقت2، وفي إعجاب هذه الجماعة بشعبذته ما يدل على أننا أصبحنا على وشك الانتقال إلى مرحلة التصنع، إذ أخذ الناس يعجبون بالطرق الغريبة في التعبير، كأن الإغراب من حيث هو شيء له جلاله، وخطره في صناعة الرسائل، وحقًا إن البديع لم يتحول في عمله كله إلى هذه الوجهة، ولكننا نجد عنده بعض عناصرها وبعض مقدماتها، بحيث لا نبعد إذا قلنا: إنه كان من أهم من رشحوا لمذهب التصنع، وظهوره.

_ 1 رسائل بديع الزمان ص76. 2 الرسائل ص78، وزرقت: انقلبت، وظهر بياضها عجبًا، وحيرة.

مقامات البديع وما فيها من تصنع

6- مقامات البديع، وما فيها من تصنع: ونحن نعرض لضرب جديد من الكتابة ابتكره بديع الزمان، لنرى ما فيه من تصنع، وهو ما اشتهر به مقاماته، وهي نوع من القصص القصيرة تحفل بالحركة التمثيلية، وفيها تدور المحاورة بين شخصين سمي أحدهما عيسى بن هشام والآخر أبا الفتح الإسكندري، وهو من الآدباء السيارين أو المكذبين السائلين، يطوف من مكان إلى مكان يستجدي الناس بفصاحته وبيانه، يتقابل دائمًا هذا الشخص المسمى بأبي الفتح الإسكندري، مع راو له يحكي أخباره، وهو عيسى بن هشام، ويقول بديع الزمان -كما مر بنا-: إنه أصنع أربعمائة قصة من هذا النوع، أو كما يسميها هو مقامة1، غير أنه لم يصلنا منمها إلا نيف وخمسون فقط، وأكبر الظن أن بديع الزمان كان بصدد الافتخار، والتزيد في عمله، ولذلك ينبغي أن لا نفهم العدد الذي ذكره بمعناه الحرفي. ويقف الباحثون عند كلمة مقامات، التي أطلقها البديع على قصصه، ويتساءلون عن المعاني، التي جاءت فيها قبله2، وإن من يرجع إلى الشعر الجاهلي يجدها تستعمل فيه بمعنى المجالس، يقول زهير بن أبي سلمى في بعض شعره3: وفيهم مقامات حسان وجوهها ... وأندية ينتابها القول والفعل وإن جئتهم ألفيت حول بيوتهم ... مجالس قد يشفى بأحلامها الجهل ثم توسع العرب في معنى الكلمة، فأصبحوا يطلقونها على خطبهم، وأحاديثهم التي يقولونها في مجالسهم، وقد يفهم بيت زهير على هذا المعنى، واستمرت الكلمة تدل على المعنيين، حتى عصر بديع الزمان نفسه، إذ نجده يستخدمها في رسائله بمعنى المجالس 4، كما استخدمها الثعالبي بنفس المعنى5، وفي أخبار البديع أنه كان يختم مقامه، أو مجلسه في نيسابور بقصة من هذه القصص، ولعله من أجل ذلك اختار لهم اسم المقامات.

_ 1 الرسائل ص390، 516، وانظر اليتيمة 4/ 241. 2 انظر دائرة المعارف الإسلامية في ترجمة بديع الزمان، وفي كلمة مقامة أيضًا. 3 ديوان زهير "طبع دار الكتب" ص113. وانظر ديوان لبيد "طبع بريل" ص39، والمفضليات "طبعة لايل" ص122، والحماسة "طبع أوربا ص95. 4 رسائل بديع الزمان ص106. 5 انظر ما نقله ياقوت عن الثعالبي في معجم الأدباء "طبع مصر" 2/ 166.

وذكر الحصري أن بديع الزمان ألف هذه المقامات معارضة لابن دريد، المتوفى عام321هـ، إذ يقول: إن البديع "لما رأى أبا بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي أغرب بأربعين حديثا، وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره، وانتخابها من معادة من فكره، وأبداها للأبصار والبصائر، وأهداها إلى الأفكار والضمائر، في معارض حوشية، وألفاظ عنجهية، فجاء أكثرها ينبو عن قبول الطابع، ولا ترفع له حجب الأسماع ... عراضة بأربعمائة مقامة في الكدية تذوب ظرفًا، وتقطر حسنًا"1، على أنه ينبغي أن نلاحظ أحاديث ابن دريد تخالف مقامات الهمذاني في موضوعها، إذ إن ما رواه له القالي في كتابه الأمالي، منها يدور غالبًا حول حكايات عربية قديمة، للتاريخ والحب فيها نصيب، بينما أقاصيص بديع العزمان تدور على التسول، والكدية ومع ذلك فالعلاقة بين العملين واضحة أولًا من حيث الاسم، فإن من معاني كملة مقامة التي اختارها بديع الزمان لقصصه "حديثًا"، وتجمع على أحاديث، وهو نفس الاسم الذي اقترحه ابن دريد لأقاصيصه، وثانيًا من حيث الغاية، فأحاديث ابن دريد، ومقامات بديع الزامان ألفتا لغاية واحدة، هي تعليم الناشئة اللغة. والمقامات تصور حياة الأدباء السيارين، الذين كانوا يسمون باسم الساسانيين نسبة إلى ساسان، وهو شخص فارسي قديم يقال: إن أباه حرمه من الملك، فهام على وجهه محترفًا للكدية، ومن يقرأ في اليتيمة يجد طائفة الساسانيين هذه تحتل حيزًا في الحياة الأدبية للقرن الرابع الهجري، وهي تشبه تمام الشبه طائفة "الأدباتية"، التي اشتهرت عندنا بمصر في القرن التاسع عشر الميلادي، إذ كانوا يتخذون الأدب، والشعر، وما يتصل بهما من فصاحة وبلاغة وسيلة إلى كسب المال وابتزازه، ومن يرجع إلى بخلاء الجاحظ، يجده يعرض لهذه الطائفة وحيلها2. وقد تحدث عنها البيهقي في القرن الرابع3، وإذا استمررنا في هذا القرن إلى عصر بديع الزمان، وجدنا هذه الطائفة تتضح شخصيتها في الحياة الاجتماعية بأوسع

_ 1 زهر الآداب للحصري 1/ 307. 2 البخلاء 1/ 86. 3 المحاسن والمساوئ للبيهقي طبع أوربا ص622.

مما كانت عليه قبل ذلك، اشتهر من شعرائها حينئذ الأحنف العكبري، وأبو دلف الخزرجي، أما الأحنف، فيقول عنه صاحب اليتيمة: إنه "شاعر المكدين وظريفهم، ومليح الجملة، والتفصيل منهم"، وروى له بعقب ذلك قصيدة دالية طويلة عرض فيها لحرفة الكدية عرضًا واسعًا1، وأما أبو دلف، فيقول فيه صاحب اليتيمة: "شاعر كثير الملح الطرف، مشحوذ المدية في الكدية، خنق التسعين في الإطراب والاغتراب، وركوب الأسفار الصعاب، وضرب صفحة المحراب بالجراب، في خدمة العلوم والآداب, وكان ينتاب حضرة الصاحب ويكثر المقام عنده، ولما أتحفه بقصيدته التي عارض بها دالية الأحنف العكبري في المناكاة، وذكر المكدين، والتنبيه على فنون حرفهم، وأنواع رسومهم.. اهتز ونشط لها، وتبجح بها، وتحفظها كلها وأجزل صلته عليها"2، وهي قصيدة طويلة رواها صاحب اليتيمة، وفيها ذكر الأحنف الألفاظ الاصطلاحية لأهل الكدية، وما كانوا يتخذونه في مناكاتهم أي كلامهم، الذي يتكدون به من مصطلحات خاصة، كما ذكر حيلهم، وتفننهم في هذه الحيل على صور شتى3، وعرض بديع الزمان في مقاماته لكثير من هذه الحيل4، كما سمى مقامة له باسم المقامة الساسانية نسبة إلى هذه الطائقة، وما لنا نذهب بعيدًا، وقد كان البديع نفسه راوية لأبي دلف5، فقد نسب إلى أبي الفتح الإسكندري بطل مقاماته هذه الأبيات6: ويحك هذا الزمان زور ... فلا يغرنك الغرور زوق ومخرق وكل وأطبق ... واسرق وطلبق لمن يزور ولا تلتزم حالة ولكن ... در بالليالي كما تدور وهي من شعر أبي دلف7، وكل ذلك يؤكد الصلة، ويوثقها بين بديع

_ 1 اليتيمة 3/ 104. 2 اليتيمة 3/ 321. 3 اليتيمة 3/ 324. 4 انظر المقامة الرصافية في مجموع مقاماته، وهي تعتبر من بعض الوجوه نثرًا لقصيدة أبي دلف المذكورة. 5 اليتيمة 3/ 323. 6 انظر المقامة الأولى من مقاماته، وهي المقامة القريضية. 7 اليتيمة 3/ 323.

الزمان في مقاماته، وبين أهل الكدية في زمنه، ومهما يكن فقد استطاع بديع الزمان أن ينفذ من نمو هذه الطائفة في عصره، وما اشتهرت به من حيلها إلى صنع مقاماته، ويسوق البديع هذه المقامات في شكل قصص درامية صغيرة، يمكن أن تعتبر المقامات كلها قصة واحدة، تعبر عن أطوار مستقلة من حياة بطلها أبي الفتح الإسكندري، أو قل: إنها تعبر عن حوادث مستقلة من أيامه. صيغت في أسلوب قصصي يشيع فيه الحوار، وفيها نرى أبا الفتح يحتال على الناس بطرق مختلفة من بلاغته، ليبتز أموالهم، وفي أغلب أمره يلتقي به عيسى بن هشام، فيعجب بفصاحته، ويكشف اللثام عن وجهه، وفي كل مرة لا يخطئه، فهو دائمًا أبو الفتح الإسكندري! ... وما من ريب في أن هذه الصورة تخرج في كثير من جوانبها بالمقامات عن أسلوب القصص المشوق إلى أسلوب السرد، وإن كنا لا نعدم فيها القصص الدرامية الطريفة. وكان هم بديع الزمان الأول، أن يجمع في كل مقامة من مقاماته طائفة من الأساليب البلاغية المصنعة، التي تعتمد على السجع والبديع، وإنه ليسرف في تجميل كل مقامة بأوسع طاقة ممكنة من الزخرف والزينة والتنميق، ومن ثم انصرف عن الموضوع إلى الأسلوب، وذهب يجمله ويرصعه فنونًا من التجميل والترصيع، فالترصيع والتجميل هما غايته من عمله، حتى تستوي له طرف إنشائية بليغة تروع معاصريه، وقد كان القدماء أنفسهم يعرفون ذلك، يقول ابن الطقطقي: "إن المقامات لا يستفاد منها سوى التمرن على الإنشاء، والوقوف على مذاهب النظم والنثر"1، وإن من يتابع البديع في مقاماته يحس حقًا أنه ألفها لغرض التمرن على الكتابة والإنشاء، فإنه يعني دائمًا بالوصف، ولا يصف شيئًا إلا راكم فيه العبارات "ورصها رصًا"، ليختار منها الكاتب ما يريد، وانظر إليه يصف الخمر على لسان ربة حانة فيقول2: "هذه خمر كأنما اعتصرها من خدي، أجداد جدي، وسربلوها من القار

_ 1 الفخري في الآداب السلطانية "طبع المطبعة الرحمانية" ص10. 2 انظر في ذلك المقامة الخمرية.

بمثل هجري وصدي، وديعة الدهور، وخبيئة جيب السرور، وما زالت تتوارثها الأخيار، ويأخذ منها الليل والنهار، حتى لم يبق إلا أرج وشعاع، ووهج لذاع. ريحانة النفس وضرة الشمس، فتاة البرق1، عجوز الملق، كاللهب في العروق، وكبرد النسيم في الحلوق، مصباح الفكر، وترياق سم الدهر، مثلها عزر الميت، فانشر ودووي الأكمه فأبصر". ألا تحس بأن بديع الزمان يحاول هنا أن يجمع أكثر ما يمكنه من أوصاف الخمر، ليسلكها في عقد مقاماته، وهو ينظر إلى كل عبارة، كأنها جوهرة يريد أن يضعها في هذا العقد، حتى تتلألأ بقوة أوسع من قوة جارتها، وما يزال يحتال على هذه الجواهر، يضمها بعضها إلى بعض، حتى ينال استحسان سامعيه في نيسابور موطن الخوارزمي، وموطن فصاحته، وما اشتهر به من بلاغته، وكأنه يريد أن يصرف تلاميذه عنه بما يروعهم به من هذه الأساليب المصنعة، التي تتراكم في مقاماته تراكمًا، وانظر إليه يقول في المقامة الأسدية: "اتفقت لي حاجة بحمص، فشحذت إليها الحرص، في صحبة أفراد كنجوم الليل، أحلاس2 لظهور الخيل، وأخذنا الطريق ننهب مسافته، ونستأصل شأفته، ولم نزل نفري3 أسنمة النجاد، بتلك الجياد، حتى صرن كالعصي، ورجعن كالقسي وتاح4 لنا واد في سفح جبل، ذي ألاء وأثل5، كالعذارى يسرحن الضفائر، وينشرن الغدائر، ومالت الهاجرة بنا إليها، ونزلنا نغور ونغور6، وربطنا الأفراس بالأمراس7، وملنا مع النعاس، فما راعنا إلا صهيل الخيل، ونظرت إلى فرسي، وقد أرهف أذنيه، وطمح بعينيه، يجذ قوى الحبل بمشافره، ويخد خد الأرض بحوافره، ثم اضطربت الخيل فتقطعت الحبال، وأخذت نحو الجبال، وطار لك واحد منها إلى سلاحه، فإذا السبع

_ 1 البرق: التزيين: يريد أن الخمر كالفتاة في زيتها، ثم هي كالعجوز في تملقها وتوددها. 2 أحلاس: جمع حس، وهو الملازم. 3 نفري: نقطع، والنجاد: جمع نجد، وهو ما ارتفع من الأرض. 4 تاح: عرض. 5 ألاء وأثل: من أشجار البادية. 6 نغور: تهبط في الأودية، نغور: ننام. 7 الأمراس: الحبال.

في فروة الموت، قد طلع من غابه، منتفخًا في إهابه، كاشرًا عن أنيابه، بطرف قد ملئ صلفا، وأنف قد حشي وصدر لا يبرحه القلب، ولا يسكنه الرعب، وقلنا: خطب مليم، وحادث مهم، وتبادر إليه من سرعان الرفقة فتى: أخضر الجلدة في بيت العرب ... يملأ الدلوا إلى عقد الكرب1 بقلب ساقه قدر، وسيف كله أثر، وملكته سوره الأسد، فخانته أرض قدمه، حتى سقط ليده وفمه، وتجاوز الأسد مصرعه، إلى من كان معه، ودعا الحين2 أخاه، بمثل ما دعاه، فصار إليه، وعقل الرعب يديه، فأخذ أرضه، وافترش الليث صدره، ولكني رميته بعمامتي، وشغلت فمه، حتى حقنت دمه، وقام الفتى فوجأ3 بطنه، حتى هلك الفتى من خوفه، والأسد للوجأة في جوفه". وأنت ترى أن بديع الزمان يعني عناية واضحة برصف أسجاعه مضيفًا عليها ألوانا من البديع، وخاصة من الجناس والتصوير، إذ كان يهتم بما اهتمامًا واسعًا، كما كان يهتم بشيء آخر، وهو كثيرة حشده للغريب في مقاماته على نحو ما نرى في المقامة النهدية، وارجع إلى المقامة الحمدانية، فستراه هناك يصف فرسًا، فيعنت نفسه في الإتيان باللفظ الغريب، حتى إذ استوفى من ذلك ما يريد، عاد فشرح لفظه كأنه أستاذ من أساتذة اللغة، لا أديب ينشئ قصة، وهذا نفسه احد الأدلة على أنه لم يرد بكثير من مقاماته إلى غاية قصصية خالصة، إنما أراد بها إلى غاية تعليمية، وقد أدته هذه الغاية إلى أن يكثر من الأساليب المصنعة، كما أدته إلى أن يكثر من اللفظ الغريب، وقد تلوم من أجلهما الجاحظ، وحل عليه حملة شعواء في مقاماة سماها المقامة الجاحظية، وفيها يقول عنه: إنه "قليل الاستعارات، قريب العبارات، منقاد لعريان

_ 1 أخضر هنا: أسمر. والسمرة هي اللون الخاص بالعرب. الكرب: قطعة حبل تربط في الخشبتين المعترضتين في فم الدلو: والشطر مثل يضرب للمغلوب في أي شيء. 2 الحين: الموت. 3 رجأ بطنه: شقها.

الكلام يستعمله، نفور من معتاصه يهمله، فهل سمعتم له لفظة مصنوعة، أو كلمن غير مسموعة"، ونحن لا نلوم البديع على اهتمامه بالاستعارات؛ لأنها كانت إحدى زخارف مذهب التصنيع، ولكن نلومه على اهتمامه بالكلمات المعتاصة الغريبة غير المسموعة، فإن إغراب الكلمات من حيث هو لا يمكن أن تعتبر زخرفًا، أو تجميلًا وتصنيعًا، بل إنه يعتبر عيبًا، وآفة حين يحتكم إليه الكاتب في فنه، وما الجمال الذي يستهويه فيه؟ إنه يخلو من كل جمال، وإنه لدليل على أن وسائل الأداء في النثر أخذت تتعقد منذ البديع، إذ يجنح الكاتب إلى وسائل لا تتصل بالفن، وإنما تتصل بالإغراب من حيث هو، ومن أجل ذلك كنا نزعن أن بديع الزمان -على الرغم من أنه علم من أعلام فن التصنيع- أخذ التصنع يتسرب إلى آثاره، ونماذجه في رسائله ومقاماته، وهل أدل على ذلك من أنه كان يتخذ اللفظ الغريب كطرفة فنية، يعيب بها الجاحظ وغيره من سابقيه، وحقًا إنه لم يطبق ذلك على كل مقاماته، ولا علي كل جوانبها، ولكنه على كل حال عني به فيها، كما عني به في رسائله. وبجانب عنايته باللفظ الغريب في المقامات، نجده يعنى بما سبق أن عرضنا له من كثرة تضمين الشعر، وكثرة الاقتباس من القرآن الكريم، وحشد بعض الأمثال. وكل هذه المظاهر سنراه واضحة عند أصحاب مذهب التصنع، وأيضًا فإنه كان يعنى في المقامات بتعقيد أداة التصنيع، التي كان يعجب بها، وهي أداة الجناس، وربما كانت أحد الأسباب التي جعلته يعنى بالغريب فإن المعجم العادي، قد لا يعطيه الكلمة التي يريدها، فيبحث عنها في المعجم الغريب، وحينئذ لا يهمه إبهامها، ولا اعتياصها كقوله: "أميس ميس الرجلة، على شاطئ الدجلة"1، فإن مجانسته لكلمة الدجلة هي التي اضطرته إلى كلمة الرجلة، وهي جمع رجل، وهو جمع شاذ، لكنه عدل إليه من أجل جناسه، ومثل ذلك أيضًا قوله: "فأخذه الجف، وملكته

_ 1 مقامات بديع الزمان "الطبعة الثانية بيروت" ص101.

الأكف"1، والجف: "العدد الكثير من الناس، ومثله قوله: "الإكراه مرة بالمرة، ومرة بالدرة"2، والمرة هنا العقل، وقد استخدمها لغرض الجناس بينها وبين الدرة، وعلى هذا النحو كانت تضطره المجانسة أحيانًا إلا ما يركب من لفظه الغريب، وليس ذلك كل ما يلاحظ في جناسه، فإننا نلاحظ عليه أيضًا الإفراط فيه، حتى ليعدل كثيرًا إلى الجناس الناقص من جهة، كما يعدل إلى الجناس المعكوس من جهة أخرى، على نحو ما نرى في مثل قوله: "ولكني أبو العجائب عاينتها وعانيتها، وأم الكبائر قايستها، وقاسيته"3، فقد قلب عاينتها، فخرجت له عانيتها، وقلب قايستها فخرجت له قاسيتها، ومن ذلك قوله: "بينما أنا أسير في بلاد تميم مرتحلًا نجيبة، وقائدًا جنيبة"4، فقد قلب نجيبة، فخرجت له جنيبة، ومن ذلك قوله: "أعاني الفقر، وأماني القفر"5، فقد قلب الفقر، فخرجت له القفر، ومثل ذلك أيضًا قوله: "يزهى بحليته، ويباهي بحليته"6، فقد قلب حليته فخرجت له لحيته. وما من ريب في أن هذه الجوانب كلها عند البديع، هي التي تجعلنا نزعم أنه كان مقدمة من مقدمات مذهب التصنع، وليس معنى ذلك أنه يخرج عن مذهب التصنيع وإطاره، بل هو أحد أساتذته في عصره، حتى لتشبه المقامة من مقاماته واجهة أحد المساجد المزخرفة لعهده، لكثرة ما شغل فيه بالتنميق والتصنيع والترصيع، وغاية ما في الأمر أنه وجد في هذه المرحلة التي أخذت تتحول فيها صناعة النصر العربي من مذهب التصنيع إلى مذهب التصنع، فتسربت شيات، وسمات من ذلك إلى عمله، وإنها لشيات وسمات تدل على أننا أصبحنا على وشك التلاقي بمذهب التصنع، وكبار أنصاره وأصحابه.

_ 1 المقامات ص106. 2 مقامات بديع الزمان ص129. والدرة: العصا. 3 نفس المصدر ص26. 4 نفس المصدر ص43. 5 نفس المصدر ص53. وأماني: أداري من فزعي. 6 نفس المصدر ص193.

قابوس بن وشمكير وتصنعه

7- قابوس بن وشمكير وتصنعه: هو، أمير من أمراء الأسرة الزيارية، التي كانت تحكم طبرستان وجرجان، وهما ولايتان تقعان في الجنوب والجنوب الشرقي لبحر طبرستان، أو كما يسمى الآن بحر الحزر، والزياريون ينحدرون من بيت عظيم من بيوت الفرس، إذ يقال: إنهم ينتسبون إلى ملك ساساني هو قباذ1، وقد ولي قابوس الحكم عام 367هـ2، ولقبه خليفة بغداد -على عادته في تلقيب حكام الولايات الفارسية ألقابًا مختلفة- بلقب شمس المعالي3، واستهدف في أوائل حكمه لغارات كثيرة، من بني بويه، وما زالوا به حتى فر من إمارته عام 371 هـ إلى السامانيين، حيث عاش مكرمًا حتى عام 388، وهو العام الذي توفي فيه فخر الدولة البويهي، وفيه استرد ملكه4، على أن جنده وقواده حاصروه في أواخر حياته، لما كان فيه من بطش شديد، واضطروه إلى التنازل عن ملكه لابنه منوجهر، يقول العتبي: "قد كان قابوس على ما خص به من المناقب، والرأي البصير بالعواقب، والمجد المنيف على النجم الثاقب، مر السياسة، لا تستساغ كأسه، ولا تؤمن بحال سطوته وبأسه، يقابل زلة القدم بإراقة الدم.. وما زالت هذه حاله حتى استوحشت النفوس منه، وتآمر أعيان العسكر على خلعه"5، فخلعوه، واضطر ابنه أن ينزل على إرادتهم، وأن يخلع أباه، بل لقد حبسه في إحدى القلاع بجرجان، واستمر بها حتى اغتيل عام 403هـ6. وكان قابوس واسع المروءة، عالي النفس، بعيد الهمة، لا يحب الملق

_ 1 Browne, Lit Hist.of persia, ll, pp. 91 103. 2 معجم الأدباء 16/ 220. 3 نفس المصدر 16/ 220. 4 نفس المصدر 16/ 227. 5 اليميني للعتبي من شرح المنيني 2/ 172. 6 نفس المصدر 2/ 175، ومعجم الأدباء 16/ 221.

ولا المداهنة، حتى قالوا: إنه كان يأبى أن يستمع إلى مدائح الشعراء له، مع عطفه عليهم، وبذله لهم الجوائز والمكافآت1، وقد زاره البيروني وقدم له كتابه "الآثار الباقية"، كما قدم له الثعالبي "كتابي المبهج" و"التمثل والمحاضرة". ومعنى ذلك أنه كان يشجع الأدباء والعلماء، وكان أديبًا ممتازًا نال حظًا واسعًا من ثقافة عصره، وخاصة الفسلفة وعلم الفلك والنجوم2، يقول الثعالبي: "جمع الله له إلى عزة الملك بسطه العلم"3، ويقول العتبي: "لم يسمع في شيوخ الملوك بأبرع منه في الآداب والحكم"4، وقد مدحه أحد الشعرء مستغلًا لقبه "شمس الدولة"، فقال5: لله شمسان تذكير لخيرهما ... وللمؤنثة النقصان ملتزم أزرى بتلك سنًا من غير معرفة ... فيها وزين هذا العلم والكرم يا أيها الملك الميمون طائره ... وخير من في الورى يمشي به القدم لو كنت من قبل ترعانا وتكنفنا ... لما تهدي إلينا الشيب والهرم واشتهر قابوس ببيانه وفصاحته، يقول الثعالبي: "إني أتوج هذا الكتاب بلمع من ثمار بلاغته"6، ويقول العتبي: "إن رسائله موجودة في البلاد، عند الأفراد لكني أكتفي منها بلمعة من بوارق بيانه، وزهرة من حدائق إحسانه"7، وقد جمع اليزدادي في عصر قريب من عصر قابوس هذه الرسائل، وسماها كمال البلاغة، فاستخرج منها أربعة عشر نوعًا في طريقة التسجيع، واستخدام القرائن واللوازم المتصلة بالسجعات، وإن نظرة في هذا الكتاب تجعل القارش يحس مدى التعقيدات، التي كان يتخذها قابوس في حرفته، ولسنا ندري من أين جاءته هذه التعقيدات، إلا أن يكون للفراغ الذي

_ 1 معجم الأدباء 16/ 229. 2 انظر بكتاب براون السابق 2/ 103. 3 اليتيمة 4/ 56. 4 اليميني مع شرح المنيني 2/ 17. 5 اليتيمة 4/ 47 واليميني 1/ 115. 6 اليتيمة 4/ 56. 7 اليميني 2/ 17.

أصابه، وهو معزول عن حكمة أثر في ذلك، وهو فراغ طال طولا شديدًا، نحو ثمانية عشر عامًا لم يكن له فيها أي عمل، فماذ يصنع؟ وكيف يمضي أوقات فراغه؟ هل يعمد إلى اللهو؟ كلا فإن العتبي يقول: "إنه فطم نفسه عن رضاع الملاهي"1، إذا فكيف يصنع بهذا الفراغ الهائل الذي امتد أيامًا، بل أسابيع وشهورًا، بل أعوامًا، بل ثمانية عشر عامًا؟ لقد اتجه إلى الأدب يقطع به هذا الفراغ، فهو يتخذه لهوه، أو قل: يتخذه لعبته، وقد تحولت عنده هذه اللعبة إلى ما يشبه لعبة الشطرنج، التي كانت شائعة في عصره. فهو يمضي فيه الساعات الطوال، بل قل: الأشهر الطوال والسنين الطوال، يعبث به ويلعب بأسجاعه، ويحاول أن يصل في أثناء هذا العبث، واللعب إلى ما لم يصل إليه أي كاتب في عصره، أليس هو الأمير ابن الأمراء الذي كان آرباوه يجلسون على أسرة من ذهب2؟ إنه ليصنع -على طريقة كتاب عصره- فيحسن التصنيع، ولكنه يرى ذلك شيئًا عاديًا بالقياس إليه، وهو لا يعطيه ما يريده من تفوق عليهم، لذك نراه يجنح إلى فنون من التعقيد في أداء تصنيعه، وهي فنون تنتقل به، وبعمله إلى مذهب جديد هو مذهب التصنع، وهو مذهب جره إليه إغرامه بالإغراب في استخدام أدوات التصنيع، واستمع إليه يكتب إلى خاله الإصبهبذ، وهو أحد قائدين أيداه في العودة إلى ملكه، إلا أنه عاد فأخلد في أحد الحصول إلى جانب المجانبة3، فكتب إليه بهذه الرسالة4: "الإنسان خلق ألوفًا، وطبع عطوفا، فما للإصبهبذ سيدي لا يحنى عوده، ولا يرجى عوده، ولا يخال لفيئته مخيلة، ولا يحال تنكره بحيلة، أمن صخر تدمر قلبه فليس يلينه العتاب، أم من الحديد جانبه، فلا يميله الإعتاب، أم من صفاقة دهر مجن نبوه، فقد نبا عنه غرب كل حجاج، أم من قساوته مزاج إبائه، فقد أبى على كل علاج، ما هذا الاختيار الذي يعد الوهم فهمًا،

_ 1 اليميني 2/ 16. 2 معجم الأدباء 16/ 219. 3 اليميني 2/ 14. 4 انظر كمال البلاغة، وهو يتضمن رسائل شمس المعالي قابوس بن وشمكير "طبع المطعبة السلفية" ص53.

وهذا التمييز الذي يحسب الخير شيرًا؟ وما هذا الرأي الذي يزين له قبح العقوق، ويمقت إليه رعاية الحقوق؟ وما هذا الإعراض الذي صار ضربة لازب، والنيسان الذي أنساه كل واجب؟ أين الطبع الذي هو للصدود صدود، وللتألف ألوف ودود؟ وأين الخلق الذي هو في وجه الدنيا البشاشة والبشر، وفي مبسمها الثنايا الغر؟ وأين الحياء الذي يجلي بمحاسنه الكرم، وتحلى بمحاسنه الشيم؟ كيف يزهد فيمن ملك عنان الدهر فهو طوع قياده، وتبع مراده، ينظر أمره ليمتثل، ويرقب نهيه فيعتزل. وكيف يعرض عمن تعرض رفاهة العيش بإعراضه، وتنقبض الأرزاق بانقباضه، ومن أضاء نجم الإقبال إذا أقبل، وأهل هلال الحد إذا تهلل؟ وكيف يزهى على من تحقر في عينه الدنيا، ويرى تحته السماء العليا، قد ركب عنق الفلك، واستوى على ذات الحبك، فتبرجت له البروج، وتكوكبت لعبادته الكواكب، واستجارت بعزته المجرة، وأثرت بمآثره أوضاح الثريا؟ بل كيف يهون من لو شاء عقد الهواء، وجستم الهباء، وفصل تراكيب السماء، وألف بين الناء والماء، وأكمد ضياء الشمس والقمر، وكفاهما عناء السير والسفر، وسد مناخر الرياح الزعازع، وطبق أجفان البروق اللوامع، وقطع ألسنة الرعود بسيف الوعيد، ونظم صوب الغمام نظم الفريد، ورفع عن الأرض سطورة الزلازل، وقضى بما يراه على القضاء النازل، وعرض الشيطان بمعرض الإنسان، وكحل الحور العين بصور الغيلان، وأنبت العشب على البحار، وألبس الليل ضوء النهار؟ ولم لا يعلم أن مهاجرة من هذه قدرته ضلال، ومباينة من هذه صفته خبال، وأن من له هذه المعجزات يشترى رضاه بالنفس والحياة، ومن أتى بهذه الآيات يبتغي هواه بالصوم والصلاة؟ ... وليس إلحاحي على سيدي مستعيدًا وصاله، ومستصلحًا خصاله، وعدى عليه هذه العجائب، ووثوبي لاستمالة من جانب إلى جانب؛ لأني كنت ممن يرغب في راغب عن وصلته، أو ينزع إلى نازع عن خلته، أو يؤثل حالًا عند من ينحت أثلته، أو يقبل بوجهه على من لا يجعله قبلته، فإنى لو عملت أن الأرض لا تسف تراب قدمي لجنبتها جنبي، وأن السماء لا تتوق إلى تقبيل

هامتي لقلبت عن ذكرها قلبي، لكني أكره أن يعرى نحره من قلائد الحمد، ويجتنب جبينه إكليل المجد.. ولا يعجبني أن يكسو ضوء مكارمه كلف الخمول، ويأذن لطوالع معاليه بالأفول، فإن فضل سيدي الحمود على الوقود، والعدم على الوجود، ونزل من شاهق إلى خفض، ومن حالق إلى أرض وهاجر بهجره، وأصر على صرمه، ومال إلى الملال، ولم يصل نار الوصال، حللت عنه معقود خنصري، وشغلت عن الشغل به خاطري، بل محوت ذكره عن صفحة فؤادي، واعتددت وده فيما سال به الوادي: ففي الناس إن رثت حبالك واصل ... وفي الأرض عن دار القلى متحول" وأنت ترى شيات التصنع واضحة في هذه الرسالة، لا بما يعمد إليه قابوس من مبالغات وصور غريبة فحسب، بل بما يعمد إليه من استخدام الجناس استخدامًا معقدًا، وإنه لتقعيد يبدو في جميع جوانب الرسالة، وانظر إليه في مستهلها يجانس بين عوجه، وعوده، وهو جناس نراه في جميع رسائله، إذ يعمد إلى المغايرة في بعض الحركات، أو بعض الحروف، فاذا هو يقع على مثل هذا الجناس الذي يمكن أن نسميه جناس الخط، وقد يكون لجمال خطه أثر فيه، يقول العتبي: "أما خطه فسمه إن شئت وشيًا محبوكًا، أو تبرًا مسبوكًا، أو درًا مفصلًا، أو سحرًا محصلًا، وكان إسماعيل بن عباد "الصاحب"، إذا قرأ خطه يقول: هذا خط قابوس، أم جناح طاووس"1. وأفرط في استخدام هذا الجناس الخطي، إذ تعود أن يعيد الكلمة، التي كتبها بشكل جميل مرة أخرى مع إعطائها حركة جديدة، أو مع تبديل بعض حروفها، فإذا هو يكثر من هذا الجناس في رسائله إكثارًا، واستمر في قراءة الرسالة، فسترى هذه السجعة، "ولا يخال لفيئته مخيلة، ولا يحال تنكره بحيلة". وواضح أنه جانس هنا جناسًا خطيًا بين يخال، ويحال كما جانس نفس الجناس بين مخيلة ومحيلة، وليس ذلك كل ما عني به، فقد عني بشيء.

_ 1 اليميني مع شرح المنيني 2/ 26.

آخر لعله أكثر من ذلك تعقيدًا، وهو أنه جانس بين أول كلمة في السجعة الأولى، وآخرها أي بين يخال ومخيلة، وكذلك صنع بالسجعة الثانية إذ جانس بين يحال وبحيلة، وإن في ذلك ما يجعلنا نخس أن يصعب على نفسه الممرات، التي يسلكها إلى نهاية قرائنه وأسجاعه، فهو يبدأ عبارته بكلمة، ثم يطلب الطجناس بينها، وبين آخر كلمة فيها، وهو يتخذ ذلك مصرًا عليه، إذ نراه يعدل إليه مرارًا في هذه الرسالة، وفي رسائله الأخرى، وتأمل هذه السجعة الطويلة في الرسالة: "أم من صفاقة الدهر مجن نبوه، فقد نبا عنه غرب كل حجاج، أم من قساوته مزاج إبائه، فقد أبى على كل علاج"، فإنك تراه يسجع العبارتين تسجيعًا داخليًا، فإذا هما تنحلان إلى أربع سجعات لا إلى سجعتين كما يبدو في الظاهر، ولكن ليس هذا ما يلفتنا عند قابوس، إنما يلفتنا أنه أنهى السجعة الداخلية الأولى بكلمة اشتق منها أخرى في مطلع الجملة التالية لها، وكذلك صنع السجعة الداخلية الثانية، أرأيت إلى الممرات كيف تعقد، وتصعب بطرق شتى؟ واستمر في الرسالة فستراه يأتي بطريقة ثالثة؛ إذ يجانس ببين كلمة في داخل العبارة، وبين نهايتها كقوله: "أضاء نجم الإقبال إذا أقبل، وأهل هلال المجد إذا تهلل"، ولا تظن أن هذه طرفة بل هي عقدة، فقد أصبح الفن في رأي قابوس عقدًا خالصة، وهو لذلك يعقد عباراته هذا التعقيد، الذي يصعب فيه الممرات إليها على نحو ما مر أمثلة، وكما نرى في هذه العبارات بالرسالة نفسها "تبرجت له الروج، وتكوكبت لعبادته الكواكب، واستجارت بعزته المجرة، وأثرت بمآثره أوضاح الثريا"، وما من ريب في أن هذه الجناسات تحمل أوسع سمات للتصنع، إذ نراه يلزق الجناس بكلامه تلزيقًا، وإن الإنسان ليشعر، كأنما فقد الجناس بهجته القديمة من الزخزف والتصنيع، فقد تحول إلى صورة جديدة؛ لأنها لا تحوي حسنًا ولا جمالًا، وهل هناك حسن أو جمال في قوله: "كنت ممن يرغب في راغب عن وصلته، أو ينزع إلى نازع عن خلته"، أو قوله: "يؤثل حالا عند من ينحت أثلته،

أو يقبل بوجهه على من لا يجعله قبلته"، أو قوله: "هاجر يهجره، وأصر على صرمه، ومال إلى الملال، ولم يصل نار الوصال". وما نار الوصال هذه التي يريده أن يصلاها؟ إنها صورة غريبة، بل هي صورة شاذة نابية، ولكن قابوس لا يعني بما فيها من شذوذ، ونبو ما دامت تحقق ما يريد من جناس بين كلمة الوصال وكلمة أخرى، إلا فلتكن هذه الكلمة أي لفظة، ولتحو أي صورة، فإن ذلك لا يهم قابوس، ما دام يحقق له غاياته من جناساته. وأكبر الظن أننا لا نبعد -بعد ذلك- إذا قلنا: إن صناعة قابوس كانت تقوم على التصنع، وما يطوى فيه من تعقيد وتعمل، إذ نراه يتعمل في حركات الكلمة، أو في حروفها ليحدث بعض جناسات بينها وبين غيرها، ثم هو لا يكتفي بذلك إذ نراه يعدل إلى تصعيب ممراته ليحدث جناساته اللفظية المقعدة، وكأنما كانت غاياته دائمًا هي التعصيب والتعقيد، وإنه ليركب إليهما طرقًا وعرة.

ذيوع التصنع وإنتشاره

8- ذيوع التصنع وانتشاره: رأينا زخرف الجنتاس عند قابوس يتعقد تعقدًا شديدًا، ومن قبله رأينا الخوارزمي، وبديع الزمان يعقدان في فنهما ألوانًا من التعقيد، مما دفعنا إلى القول بأن عناصر من التصنع، أخذت تتسرب إلى آثار أصحاب مذهب التصنيع، وإن الإنسان ليخيل إليه، كأن كل شيء في الفن يريد أن يتعقد، ويتصعب، وليس هذا شيئًا غريبًا في تاريخ الحضارات، ولا في تاريخ الآداب في الأمم المختلفة، بل هو الشيء الطبيعي، إذ نرى الأمم حينما ترقى عقليا وحضاريًا تتحول من الأحوال الطبيعية في التعبير إلى أحوال جديدة، كلها تعقيد وتصعيب في الأداء والأسلوب، وقد حدث ذلك قديمًا عند اليوانان في القرنين الرابع، والخامس

للميلاد، إذ نرى شعراء الإسكندرية يحولون نماذجهم إلى مجاميع من التعقيدات، وكذلك كان الشأن عند العرب في أواخر القرن الرابع للهجرة، إذ نراهم ينالون قبل هذا التاريخ كل ما كانوا يصبون إليه من ترف عقلي وحضاري، حتى إذا بشموا رأيناهم يتحولون إلى تعقيدات مختلفة في حياتهم من جهة، وفي أدبهم من جهة أخرى، ولعل من أروع ما يصور ذلك الجانب في حياتهم ما يروى عن الوزير المهلبي، المتوفى عام 352هـ، من أنه كان "إذا أراد أكل شيء بملعقة كالأرز، واللبن وقف من جانبه الأيمن غلام معه نحو ثلاثين ملعقة زجاجًا مجرودًا، فيأخذ منه ملعقة يأكل بها من ذلك اللون لقمة واحدة، ثم يدفعها إلى غلام آخر قام في الجانب الأيسر، ثم يأخذ أخرى فيفعل بها فعل الأولى، حتى ينال الكفاية، لئلًا يعيد الملعقة إلى فيه دفعة ثانية"1، وحقًا إن الوزير المهلبي سبق ظهور مذهب التصنع في النثر بنحو نصف قرن، ولكنه على كل حال يرمز إلى لهذا الميل الجديد في الحضارة العربية، وأنها أخذت تتعقد على نحو تعقيد المهلبي لوسيلة طعامه، فإذا هو لا يأكل بمعلقة واحدة، وإنما يأكل بملاعق مختلفة! وهذا التعقيد في الحضارة العربية أخذ يتسرب إلى الكتابة الفنية أول الأمر في شيء من الاستحياء، فإن الخوارزمي يفزع إلى مبالغاته، وتهويلاته كما يفزع إلى الإفراط في استخدام ألوان البديع، علة يشفي غلة من غلل التعقيد. ثم يأتي من بعده بديع الزمان، فيتقدم خطوات في هذه الطريق، فإذا هو يعقد بعض وسائل التصنيع، وخاصة وسيلة الجناس، وإنه ليلجأ إلى وسيلة جديدة غير مفهومة هي اللفظ الغريب، وهو لا يكتفي بذلك، بل نراه يعمد إلى ما سماه الخوارزمي شعبذة، إذ كان يحاول أن يكتب كتابًا يقرأ من آخره إلى أوله، أو كتابًا لا يوجد فيه حرف منفصل مثل الراء، أو كتابًا خاليًا من الألف واللام، أو خاليًا من الحروف العواطل، أو أول سطوره كله ميم وآخرها جيم، إلى غير ذلك من ألاعيب كان يسوقها ليدل على مهارته، ومع ذلك فقد كان

_ 1 معجم الأدباء 13/ 103.

بديع الزمان من أصحاب مذهب التصنيع، إذ كان يعمد إلى هذه الجوانب في القلة، ولم يكن يعممها في آثاره، بل هي تظهر في حين إلى حين، دالة على أننا أصبحنا داخل مرحلة التحول إلى المذهب الجديد، مذهب التصنع والتعقيد. ونحن لا نترك البديع إلى قابوس، حتى نجده يخطو خطوة جديدة نحو مذهب التصنع، إذ نراه يعمد إلى التعقيد في كل ما يكتب، وقد اختار زخرف الجناس ليحدث فيه كل ما يستطيعه من هذا التعقيد، وما يطوي فيه من تصعيب، كان التصعيب شيء يقصد لذاته، وهذا هو الذي دفعنا إلى أن نسلكه في أصحاب التصنع، إذ كان يعنى في فنه بالتعقيد عناية جعلت هذا الفن أشبه ما يكون بالتمارين الهندسية، وإنها لتمارين يجد فيها كل ما يريد من متعة بالفن، فالفن عنده ليس إلا التصعيب والتعقيد، وقد أخذ هذا الذوق ينتشر في الفن منذ قابوس ورسائله، بل نحن نغلو إذا نسبنا إلى قابوس ابتكاره، فقد كان شعورًا عامًا في الحضارة العربية نفسها والحياة الفنية معها، وآية ذلك أننا لا نكاد نعثر على مجموعة من رسائل كاتب في هذا العصر، حتى نجد بها شيات من هذا التصنع، وقد استمر ذلك دأب الكتاب، حتى نفذ من بينهم بديع الزمان إلى كثير من سمات المذهب، ثم جاء قابوس فأضاف سمات أخرى، كما أضاف غيرهما من الكتاب بعض شارات وشيات، ومن يرجع إلى اليتيمة يجد صناعة الألغاز تدخل في النثر الكتابي1، وهي ضرب من ضروب التعقيد؛ كما يجد أداءة الجناس التي أخذت تتعقد تخصص له بعض الكتب، تتحدث عن أنواعها وأجناسها2، وأيضًا فإنهم كانوا يكثرون من ترصيع رسائلهم بالشعر، والأمثال والغريب؛ وكل ذلك كان دليلًا على وشك جموج الحياة الفنية في النثر العربي، وأنه أصبح لا مفر من أن يصل إلى حال غريبة من التعقيد. ونحن لا نترك القرن الرابع قرن بديع الزمان، وقابوس وأضرابهما إلى القرن الخامس، حتى نجد هذا المذهب يعم في جميع كتابات الأدباء، فقد أصبح

_ 1 اليتيمة 4/ 353. 2 اليتيمة 4/ 396.

هو البدع الجديد الذي يسعى إليه الكتاب، كي يطرفوا قراءهم بما يستحدثون من عقده، وقد بدأ هذا السعي أبو العلاء المعري بدءًا عنيفًا في آثاره، إذ كان يفهم الفن على أنه عقد خالصة، ثم جاء من بعده الحريري والحصكفي، فأضافا إلى ورق اللعب في قصة هذه العقد أوراقًا، وأدخلًا في أشكالها الهندسية أشكالًا، وسنفسر ذلك في الفصل التالي تفسيرًا دقيقًا.

الفصل الثالث: التصنع والتعقيد

الفصل الثالث: التصنع والتعقيد 1- أبو العلاء: حياته، وذكاؤه، وثقافته هو، أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي، المعروف باسم المعري والملقب بأبي العلاء، وقد ولد في "معرة النعمان" سنة ثلاثة وستين وثلثمائة1، والمعرة مدينة كبيرة بين حلب وحماة، وهو ينحدر من أسرة اشتهرت بالعلم، والشعر والقضاء، عرض ياقوت2 وابن العديم3 لهذه الأسرة، وتحدثا عن هذه الجوانب فيها، ويقول الرواة: إنه لم يبلغ الرابعة من عمره، حتى اعتل علة الجدري التي فقد فيها بصره، وقد ذكره ذلك في إحدى رسائله4، كما ذكر أنه لا يعرف من الألوان إلا الأحمر؛ لأنه ألبس في الجدري ثوبا مصبوغًا بالعصفر5. وقد أقبل أبو العلاء منذ نشأته على التعلم، والإلمام بالمعارف المختلفة، وقد أشاد ابن العديم بهذه الناحية فيه6، ويقول القفطي: "لما كبر أبو العلاء، ووصل إلى سن الطلب أخذ العربية عن قوم من بلده كبني كوثر، أو من يجري مجراهم من أصحاب ابن خاليوه وطبقته، وقيد اللغة عن أصحاب ابن خالويه أيضًا، وطمحت نفسه إلى الاستكثار من ذلك، فرحل إلى طرابلس الشام، وكانت بها خزائن كتب قد وقفها ذوو اليسار من أهله، فاجتاز باللاذقية، ونزل دير الفاروس، وكان به راهب يشدو شيئًا من علوم الأوائل، فسمع منه أبو العلاء كلامًا من أقوال الفلاسفة حصل به شكوك، فعلق بخاطره ما حصل به بعض

_ 1 معجم الأدباء "طبع مصر" 3/ 108. 2 نفس المصدر 3/ 108، وما بعدها. 3 تعريف القدماء بأبي العلاء "طبع دار الكتب" ص511. 4 معجم الأدباء 3/ 183. 5 بغية الوعاة للسيوطي "طبع مطبعة السعادة" ص136. 6 تعريف القدماء بأبي العلاء ص 514.

الانحلال ... حتى فاه به في أول عمره، وأودعه أشعارًا له ثم ارعوى، ورجع واستغفر واعتذر! "1، وتصوير القفطي لشكوك أبي العلاء في باكورة حياته، وتعليله لها بلقائه لراهب دير الفاروس، يغلب أن يكون قد أملاه عليه الخيال. وقد رحل أبو العلاء أيضًا إلى بغداد، وكانت سنه إذ ذاك نحو سبعة وثلاثين؛ ولم يرحل إليها طلبا للدرس على بعض الأساتذة هناك، وإنما رحل إليها طلبًا للاطلاع على بعض الكتب؛ وصرح بذلك في إحدى رسائله، إذ يقول: "منذ فارقت العشرين من العمر، ما حدثت نفسي باجتداء علم من عراق ولا شآم.... والذي أقدمني تلك البلاد -يريد العراق- مكان دار الكتب فيها"2، ومدح أبو العلاء بغداد بكثرة ما فيها من علم، إذ يقول في إحدى رسائله: "وجدت العلم ببغداد أكثر من الحصى عند جمرة العقبة"3، ويظهر أنه لم يطل مقامه بها، فقد رجع منها بعد قليل إلى موطنه، حيث اعتزل الناس عزلته المعروفة، التي استمرت نحو خمسين عامًا، وأخذ نفسه في هذه العزلة بقوانين صارمة في حياته، إذ عاش معيشة نباتية تعتمد على تحريم أكل اللحم والسمك وما يشتق منهما، ورد العرب هذه النباتية فيه إلى مذهب البراهمة! 4، ومهما يكن مرجعها، فإنها تدل عى أنه كان يأخذ نفسه بحياة زاهدة، أما ما يزعمه ناصر خسرو، من أنه كان واسع الثراء عنده كثير من العبيد5، فلا يقوم عليه دليل؛ لأنه يخالف كل ما جاء عنه، يقول القفطي: "كأن لأبي العلاء وقف يشاركه فيه غيره من قومه، وكانت له نفس تشرف عن تحمل المنن، فمشى حاله في قدر الموجود، فاقتضى ذلك خشن الملبوس والمأكل، والزهد في ملاذ الدنيا، وكان الذي يحصل له في السنة مقدار ثلاثين دينارًا، قدر منها لمن يخدمه النصف، وأبقى النصف الآخر لمؤونته، فكان أكله العدس، إذا أكل مطبوخًا، وحلاوته التين، ولباسه خشن الثياب من القطن،

_ 1 تعريف القدماء ص31. 2 رسائل أبي العلاء "طبع مرجليوث" ص32. 3 رسائل أبي العلاء ص 30. 4 انظر نزهة الألبا في طبقات الأدبا لابن الأنباري ص427، ولسان الميزان لابن حجر 1/ 204، وتاريخ أبي الفداء في حوادث 449. 5 الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجرة لآدم ميتز "طبع لجنة التألف" 2/ 110.

وفرشه من لباد في الشتاء، وحصيره من البردي في الصيف، وترك ما سوى ذلك"1، ويقول أبو العلاء في إحدى رسائله إلى داعي الدعاة: "إن الذي لي في السنة نيف وعشرون دينارًا، فإذا أخذ خادمي بعض ما يجب، بقي لي ما لا يعجب، فاقتصرت على فول وبلسن، وما لا يعذب على الألسن"2، وكل ذلك ينقض كلام ناصر خسرو، كما ينقض ما زعمه نيكلسون من أن تلامذته الكثيرين الذين اجتذبتهم شهرته، كانوا يمدونه بشيء من المال3. ظل أبو العلاء من عام 400هـ إلى عام 449، يأخذ نفسه بهذه الحياة الزاهدة الخشنة، على أن هذا لا يهمنا إنما يهمنا ما اتصف به من ذكاء، وثقافة كان لهما أثرهما في صناعته لنثره، أما ذكاؤه فإنهم يقولون: "إنه كان آية في الذكاء المفرط، عجبًا في الحافظة"4، ويزعمون أنه استمع إلى حديث بالأذربية5، وآخر بالفارسية فحفظهما6، ويقولون: إنه كان يحفظ المحكم والمخصص7، وإنه "لما ذهب إلى بغداد طلب أن تعرض عليه الكتب، التي في خزائنها، فأدخل إليها، وجعل لا يقرأ عليه كتاب إلا حفظ منه جميع ما يقرأ عليه"8، ويبالغ الرواة في وصف ذكائه، فيقولون: إنه كان يلعب بالنرد والشطرنج9، وما من ريب في أن أبا العلاء كان ذكيًا ذكاء شديدًا، كما قوى الحافظة قوة شديدة أيضًا، وقد كان -إلى ذلك- مثقفًا ثقافة واسعة جدًا، ومن يرجع إلى اللزوميات، والفصول والغايات يجد أبا العلاء يستغل هذه الثقافة استغلالًا واسعا، ففي كل جانب من الكتابين إشارات إلى معتقدات عصره، ومعارفه وكل ما اتصل به من ثقافة؟. على أن هناك جانبا في هذه الثقافة، هو الذي ينبغي أن نقف عنده؛ لأنه أثر في كتبه ونثره آثارًا خاصة، وهو جانب اللغة والتثقف

_ 1 تعريف القدماء ص31. 2 معجم الأدباء 3/ 189. 3 انظر ترجمة أبي العلاء في دائرة المعارف الإسلامية. 4 تعريف القدماء ص285. 5 نفس المصدر ص14. 6 نفس المصدر ص224. 7 النور السافر للعيدروسي "طبع بغداد" ص441. 8 تعريف القدماء ص224. 9 نفس المصدر ص4.

بها أوسع ما يمكن من التثقيف، يقول تلميذه التبريزي: "ما أعرف أن العرب نطقت بكلمة، ولم يعرفها المعري"1، ويقول ابن فضل الله العمري: "كان أبو العلاء مطلعًا على العلوم لا يخلو في علم من الأخذ بطرف، متبحرًا في اللغة، متسع النطاق في العربية"2، ويقول البغدادي، إنه "كان عالمًا باللغة حافظًا لها"3، ويقول ابن الجوزي: إنه "سمع اللغة، وأملى فيها كتبًا، وله بها معرفة تامة"4، ويقول الذهبي: إنه "كان عجبًا في الاطلاع الباهر على اللغة، وشواهدها "5، ويقول له داعي الدعاة في إحدى رسائله: "إنه جعل مواده كلها منصبة إلى أحكام اللغة العربية والتقعر فيها، واستيفاء أقسام ألفاظها ومعانيها"6، وهذه كلها نصوص تشهد بثقافته الواسعة في اللغة، إذ لم تكن هناك شاذة، إلا وهو يعرفها ويعرف شواهدها من الشعر العربي قديمه وحديثه. وأكبر الظن أن هذا الجانب في أبي العلاء، هو الذي جعل التلاميذ يقبلون عليه من جميع الآفاق7، وقد عقد لهم ابن العديم فصلا ذكر فيه مشاهيرهم8، ويقول ابن فضل الله العمري: "أخذ عن أبي العلاء خلق لا يعلمهم إلا الله عز وجل، كلهم قضاة وأئمة وخطباء، وأهل تبحر وديانات ... وكان له أربعة من الكتاب المجودين يكتبون عنه ما يكتبه إلى الناس، وما يمليه من النظم والنثر، والتصانيف، والإجازات والسماع لمن يسمع منه ويستجيزه، وغير هؤلاء من الكتاب الذين يغيبون ويحضرون، منهم جماعة من بني أبي هاشم"9. ويظهر أن هؤلاء الكتاب لم يكونوا يتقاضون شيئًا على كتابتهم، فأبو العلاء يقول عن أحدهم إنه "أفنى فيه زمنه، ولم يأخذ عما صنع ثمنه"10. وعلى هذا النحو كان أبو العلاء يملأ فراغه الطويل في عزلته، التي امتدت نحو خمسين عامًا بالبحث، والدرس مع تلاميذه كما كان يملؤه بكتابة آثار فنية من شعر ونثر، وقد ذهب يغرب في هذه الكتابة أوسع ما يكون الإغراب، بل لقد ذب يعقد فيها أوسع ما يكون التعقيد، وكأنه كان يتخذ التعقيد غاية في نفسه ولنفسه، فهو يسرف أشد ما يكون الإسراف، وسنقف لتفسير ذلك في آثاره النثرية تفسيرًا واضحًا.

_ 1 أبو العلاء، وما إليه للراجكوتي ص53. 2 تعريف القدماء ص268. 3 تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 4/ 240. 4 تعريف القدماء ص18. 5 تعريف القدماء ص190. 6 معجم الأدباء 3/ 177. 7 تعريف القدماء ص208. 8 نفس المصدر ص517. 9 نفس المصدر ص223. 10 معجم الأدباء 3/ 145.

أبو العلاء وتعقيده

2- أبو العلاء وتعقيده: تناول أبو العلاء كتابة النثر من الأدباء، والكتب الذين سبقوه وعاصروه، فعقدها تعقيدًا شديدًا، وهو تعقيد أتاحه له فراغه الطويل، الذي أمضاه في عزلته عن الناس، وربما كان لضيقه بالحياة وبرمه بها أثر في هذا التعقيد، فقد انقلب هذا الضيق من حياته إلى فنه، فإذا هو يعقده على الناس، حتى ينفس بتعقيده عن ضيقه، وأيضًا فإن فقده لبصره، وإحساسه العميق بهذا الجانب جعله يطلب التفوق على معاصريه، وقد ذهب يحاول هذا التفوف عن طريق تعقيد فنه تعقيدًا لم يكن يستطيعه إلا صانع ماهر، انبسط له ما انبسط لأبي العلاء من الزمن الطويل، إذ أقام في عزلته أو في محسبه نحو خمسين عامًا، فماذ يصنع في هذا الحبس الطويل، وكيف يمضي فراغه فيه؟ لا بد أن يفزع إلى ضروب من العبث في فنه، وإنها لضروب تؤديه إلى تعقيد هذا الفن عقدًا مختلفة، وهي عقد يلتمسها تارة في استخدامه الغريب، وأوابد الكلام والأمثال، والإشارات التاريخية، وتارة أخرى يلتمسها في تصعيب ممراته إلى أسجاعه، إذ نراه يعنى بالتزام ما لا يلزم فيها، فإذا هو يبني أسجاعه لا على حرف واحد، بل على حرفين أو أكثر، وهو لا يكتفي بذلك، بل نراه يعدل في أحوال كثيرة إلى المجانسة، وهو يستعين على هذه المجانسة باللفظ الغريب، الذي كان يشغف به شغفًا شديدًا، بحيث لا نغلو إذا قلنا: إن أهم ما يميز أبا العلاء في جميع نماذجه النثرية، أنه كان يطلب الغريب من حيث هو، كأن الإعراب زينة ينبغي أن يتحلى

بها جيد أعماله، واقرأ هذه الرسالة التي كتب بها إلى عبد السلام بن الحسين، صاحب خزانة الكتب ببغداد بعد رجوعه منها1: "أطال الهل بقاء سيدي الشيخ إلى أن تنقل عريًا، وتنطق العرب بمكبر الثريا2، وأدام عزه إلى أن يصبح إراب3، وهو باز في الجو أو غراب، كم أكتب فلا يصل، وأنا من ذلك متنصل: يا حبذا جبل الريان من جبل ... وحبذا ساكن الريان من كانا وحبذا نفحات من يمانية ... تأتيك من قبل الريان أحيانا ما عنيت بالريان، إلا منزله حيث كان، ولا بساكنه، إلا شخصه حيث حل من أماكنه ... وأسفى لفراق سيدي الشيخ -أدام الله عزه- أسف ساق حر، ساقه الطرب إلى الحر، توارى بالوريقة، من حر الوديقة، كأنه قينة وراء ستر، أو كبير حجب من الهتر، في عنقه طوق، كرب يفصمه الشوق، لو قدر لانتزعه باليد من المقلد، أسفًا على إلف غادره للكمد4.. أي حلف أرسله فهلك نوح5، فالحمائم عليه تنوح، يسمعك بالفناء، أصناف الغناء، ويظهر في الغصون، خبي الوجد المصون، إن سلك طريقة الغريض، ترك المشتاق بالجريض، ويجيء بالبدي؛ إن جاء بلحن معبدي6 يدعو نوادب، إلى الكلف أو ادب، ويحهن ثاكلات، لسن على الأول بمتكلات، شجب قعيدهن إثر ود7، فورثن بكاءه جدًا بعد جد، عمرك لقد أسفرن، والعيون

_ 1 رسائل أبي العلاء "طبع مرجليوث" ص46. 2 كلمة عريا: كلمة غامضة، ولعلها اسم موضع أما مكبر الثريا، فيلاحظ أن العرب لم تنطق بالثريا إلا مصغرة. 3 إراب نبع من الصحراء انظر معجم البلدان لياقوت "طبع مطبعة السعادة" 1/ 167. 4 ساق حر: ذكر الحمام. الوريقة: الشجرة المورقة. الوديقة. الهاجرة الهتر: ما يهذي به العجوز. 5 يريد أي أليف قديم ذهب من عهد نوح إذ أرسله فهلك. 6 الغريض ومعبد: مغنيان مشهوران. والجريض: الغصة وفي أمثالهم: حال الجريض دون القريض يضرب الأمر حال دونه عائق والبدي: المبتكر. 7 صنم من أصنام العرب في الجالية، وقد ذكر في القرآن الكريم، شجب: صاح وهو يريد أن أباهن صاح على ود.

ما زرفن، لا أدري والأمر أدب، أغناء ذلك أم ندب، كل خضباء1 كخطيب في الغصن الرطيب، قد التثمت بقار، في المناقر، ووطئت في الدم بالقدم، وأضرم نارها الفؤاد، فالقلادة حمم، والثوب رماد، بل أسف ورقاء لاح لهال نجم الخرقاء، وكانت يمانية الدار، فهبط بها بعض الأقدار، أرضًا تهمة، لامرذة ولا مرهمة، فلما بصرت بسهيل، ذكرها أيام أهيل، عهدتهم في بلاد القرظ2، كلهم بها ليس بفظ، فضاق بغرامها الجيد، فهي تهتف وتجيد تخفف بخروج الأصوات، ما تجده من كرب الأموات، ظنت أن لا مناص، من ضنك الأقفاص، فهي تود أن الله مسخها زرقاء نهار مترنمة، أو ورقاء3 يل مهينمة، لتفوز بالخلاص، من بعض الخصاص، ومستقري معمرة النعمان والفتنة عندنا صماء، طعان بالمران، ورماء إنما يجيء الضيف وقد سل السيف، ولو قدرت لم أقدح إلا بمرخ"4، ولا سكنت بلدًا غير الكرخ، ولكن نضوى5 معقول، فرحم الله لبيدًا حيث يقول: لما رأى لبد النسور تطايرت ... رفع القوادم كالفقير الأعزل6 وأنا أهدي إلى سيدي الشيخ -جمل الله الدنيا ببقائه- وإلى جماعة أصدقائه، وغلمانه سلامًا يؤنس موحش الإمرات، ويتصل من الشام إلى الصراة إذا مر بموقدي نار غضوية حسبوا غضاها7 قطرًا، لتركه الهواء عطرًا"؟

_ 1 الأدب: المبهم. الخضباء من الحمام، هي التي يكون في لونها خطوط. 2 بلاد القرظ: بلاد اليمن. وسهيل وأهيل: نجمان ومرذة: يسقط عليها الرذاذ، وهو المطر الضعيف، ومرهمة: من أرهمت السماء أتت بالمطر الدائم. 3 ورقاء الليل: الذئبة. وزرقاء النهار: الهرة. 4 المرخ: شجر يتخذ منه الزناد الذي يقتدح به. والمران: رماح صلبة لدنة. 5 النضو: البعير المهزول من كثرة الأسفار. 6 لبد: نسر لقمان، ويضرب به المثل في طول السلامة. القوادم: أربع ريشات في مقدم الجناح. الفقير: المكسور فقار الظهر. الأعزل من الخيل: المائل الذنب في أحد الجانبين؟ 7 الغضا: شجر معروف، والصراة: موضع. والإمرات: الإمارات.

وأنت ترى هذه الرسالة، وقد غلا فيها أبو العلاء في استخدام اللفظ الغريب، وكان يفزع دائمًا إلى ذلك في آثاره، ورسائله، كأن اللفظ الغريب من حيث هو غاية ينبغي أن يطلبها الكاتب في نماذجه، وأعماله، وإن أبا العلاء ليبلغ من ذلك في بعض آثاره أن تصبح، وكأنها متن من المتون اللغوية، فهي تجمع كل ما يستطيعه من ألفاظ لغوية غريبة مغرقة في الإغراب، وإنه ليطلب أبعد الكلمات إغرابًا مما عثر عليه في الشعر القديم؛ وليس يهمه بعد ذلك أن تكون الكلمة سجلت في المعاجم اللغوية، بل إن عدم تسجيلها يدفعه إلى أن يسجلها هو في أعماله، ومن هناك كانت قراءة هذه الأعمال من أصعب الأشياء، وخاصة، حين تريد أن تقف وقوفًا دقيقًا على معانيه، ولعله من أجل ذلك عني بشرح آثاره، وتفسيرها من لزوميات وغير لزوميات في الشعر، ومن رسالة الغفران إلى الفصول والغايات في النثر، وإذا فالإغراب هو العقدة الأولى في آثار أبي العلاء. وحقًا إنه تتخذ السجع والبديع في عمله عن نحو ما مر بنا عند ابن العميد وتلامذته، ولكنه يعقدهما جميعًا لا بالتزام حرفين، أو أكثر في أواخر سجعاته، فهذا شيء محتمل، إنما بهذا اللفظ الغريب. أرأيت إلى ما أصاب النثر العربي عند أبي العلاء، لقد أصبح يقصد به إحداث طرائف لغوية، وهي طرائف لا تعتمد على زخرف ولا على تنميق، فهذا عهد مضى وانقضى، إنما تعتمد على الإبهام والغموض، أو بعبارة أخرى على الإغراب؛ وهذه العقد اللغوية التي يذيعها أبو العلاء في أعماله، وليس معنى ذلك أنه لم يكن يعتمد على أصول فن التصنيع، بل لقد كان يعتمد عليها كما نرى في هذه الرسالة، ولكنا نحس أن تلك الأصول فارقت صورتها القديمة، إذا تحولت إلى صورة جديدة من الإبعاد في اللفظ الغريب، وما من ريب في أن هذا كان تحولًا من مذهب التصنيع، إلى مذهب جديد هو مذهب التصنع، إذ نرى الكاتب يتعمد أن يخرج أساليبه موشاة بطرائف جديدة لا صلة بينها، وبين التنميق والتصنيع، وإنها لطرائف يؤصلها أبو العلاء على استخدام أكثر ما يمكن من الألفاظ الغريبة المهجورة، كما يؤصلها على اللف والدوران وبسط الأساليب,

حتى تتسع لأكثر ما يمكن من هذه الألفاظ، وماذا في رسالة أبي العلاء التي قرأناها الآن من معان، سوى أنه أراد أن يصف شوقه إلى صاحبه، فذهب يبالغ ويلف ويدور على هذا النحو، فإذا هو يصور أسفه على فراقه بأسف ساق حر ينوح على إلف غادره، وإنه ليطيل في هذا المعنى ويبعد، حتى يأتي بكل ما يستطيع من لفظ غريب. وإذا كانت هذه الطرفة من إغراب اللفظ لا تروقك عند أبي العلاء، فلا تظن أنه لا يستطيع أن يأتيك بطرفة أخرى، فهو صاحب الطرف الحديثة في فن النثر، يأتي باللفظ الغريب، ويأتي بما يشبه هذا اللفظ أحيانًا أخرى، لكن أي شيء يشبه ذلك اللفظ؟ لقد فكر أبو العلاء وقدر، فإذا هو يقع على طرفة جديدة لم يسبقه أحد إليها، أو على الأقل لم يتصنع لها أحد، كما تصنع هو لها في آثاره، ونقصد طرفة المصطلحات العلمية، وخاصة مصطلحات علوم اللغة، فقد أكثر من تصنعه لها في أعماله من رسائل وغير رسائل، واسمتع إليه يقول في إحدى رسائله1: "حرس الله سيدنا حتى تدغم الطاء في الهاء، فتلك حراسة بغير انتهاء، وذلك أن هذين ضدان، وعلى التضاد متباعدان، رخو وشديد، وهاو وذو تصعيد، وهما في الجهر والهمس، بمنزلة غد وأمس، وجعل الله رتبته التي كالفعل والمبتدأ، نظير الفعل فإنها لا تنخفض أبدًا، فقد جعلني إن حضرت عرف شاني، وإن غبت لا يجهل مكاني، كيا في النداء، والمحذوف من الابتداء إذ قلت: زيد أقبل، والإبل والإبل، بعد ما كنت كهاء الوقف، إن ألقيت فبواجب، وإن ذكرت فغير لازب، إني وإن غدوت في زمن كثير الدد "الهلو واللعب"، كهاء العدد لزمت المذكر، فأتت بالمنكر؛ مع ألف يراني في الأًل، كألف الوصل، يذكرني لغير الثناء، ويطرحني عند الاستغناء، وحال كالهمزة تبدل العين، وتجعل بين بين، وتكون تارة حرف لين، وتارة مثل الصامت الرصين،

_ 1 رسائل أبي العلاء ص14.

فهي لا تثبت على طريقة، ولا تدرك لها صورة في الحقيقة، ونوائب ألحقت الكبير بالصغير، كأنها ترخيم التصيغير، ردت المستحلس إلى حليس، وقابوس إلى قبيس، لأمد صوتي بتلك الآلاء؛ مد الكوفي صوته في هؤلاء، وأخفف عن سيدنا الرئيس الحبر، تخفيف المدني ما قدر عليه من النبر، إن كاتبت فلا ملتمس جواب، وإن أسهبت في الشكر فلا طالب ثواب، حسبي ما لدي من أياديه، وما غمر من فضل السيد الأكبر أبيه، أدام الله لهما القدرة ما دام الضرب الأول من الطويل صحيحًا، والمنسرح خفيفًا سريحًا، وقبض الله يمين عدوهما عن كل معن "معروف"، قبض العروض من أول وزن". وإن الإنسان ليذهل حين يقرأ هذه الصورة من الصياغة عند أبي العلاء، كأنهما ضاقت جميع صور التعبير عن أن تؤدي المعاني التي تجول في نفسه، فهو يبحث عنها في طوايا علوم النحو، والتجويد والقراءات، والعروض على هذا النمط من التعقيد الجديد، الذي يضيفه إلى آثاره، وينثره في جميع أطرافها نثرًا، وقد كنا نفهم -إلى حد ما- أن يتصنع أبو العلاء في أعماله للفظ الغريب، فاللفظ الغريب يدخل على كل حال في نطاق التعبير الأدبي، أما الآن فقد خرج عن هذا النطاق إلى نطاق جديد لا جمال فيه، ولا فن إلا إذا كنا من ذوق أبي العلاء، وكنا نريد أن نتعب الناس في فهم ما نقول، ولن نتعبهم هذه المرة عن طريق كثرة رجوعهم إلى المعاجم اللغوية، بل سنتعبهم عن طريق رجوعهم إلى المصطلحات الخاصة بالعلوم العربية، كي يفهموا ما يقرءون. وما للقراء، وهذا العناء كله؟ إنهم يريدون أن يصلوا إلى المعاني التي يقرءونها في صورة سريعة، أو على الأقل لا تبعد بهم كل هذا البعد، ولا تغرب بهم كل هذا الإغراب، ولكن أبا العلاء لا يفكر في شيء من ذلك كله، فقد جاء في مرحلة جديدة من مراحل النثر العربي، وهي مرحلة كانت تفترق افتراقًا شديدًا مما سبقها من مراحل، إذ كان أصحابها ما يزالون يصعبون نثرهم ضروبًا من التصعيب، وقد ذهب أبو العلاء في آثاره يعرض عليهم بعض ما استطاع أن يصل إليه من هذه الضروب، كي يفظر بتفوقه عليهم، واستعلاء آثاره على آثارهم، وأنه ليهدف إلى ذلك عن طريق اللفظ الغريب من جهة، وحشد المصطلحات العلمية من جهة أخرى.

التعقيد في رسالة الغفران

3- التعقيد في رسالة الغفران: ونحن نقف قليلًا عند رسالة مهمة لأبي العلاء، وهي رسالة الغفران التي تمتد إلى نحو مائتي صحيفة من القطع الكبير، وقد كتبها إلى علي بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح ردًا على رسالة كتبها إليه، ويظهر أن أبا العلاء كان يعجب بابن القارح، وأنه كان ينفق وهواه في بعض الآراء، التي تتصل بالأديان والنحل، إذ امتلأت الرسالة بسخرية لاذعة من المعتقدات، حتى قال الذهبي: إن بها مزدكة واستخفافًا1، ولسنا نستطيع أن نزعم ما زعمه الذهبي من أن أبا العلاء كان مزدكيًا على مذهب مزدك، وأكبر الظن أن الذهبي لم يحقق هذه الكلمة حين أضافها إلى أبي العلاء، إنما أراد بها أن يصفه بالزندقة لما في رسالته من تهكم على بعض المعتقدات، ولما فيها أيضًا من دفاع واضح عن الشعراء الذين عرفوا بالزندقة، إذ يزعم أبو العلاء دائمًا أن الله غفر لهم، وسميت الرسالة باسم رسالة الغفران من أجل ذلك. والرسالة تنقسم إلى قسمين عامين: قسم يعتبر مقدمة، وفيه نجد أبا العلاء يستطرد من وصفه لكلمات ابن القارح في رسالته إليه بأنها تشبه أشجار الجنة إلى وصف الجنة نفسها، وما بها من نعيم، في أثناء ذلك يعرض لندماء ابن القارح من علماء اللغة، ويتراءى له أن يجعله يتنزه في الجنة، قيلقي طائفة من شعراء الجاهلية، ثم يعن له أن يرجع به إلى يوم الموقف، فيرده إليه ليصف ما هنالك من أهوال، ويمر به على الصراط، حتى يصل إلى الجنة فيحاور رضوان محاروة

_ 1 تعريف القدماء بأبي العلاء ص189.

طريفة، إذ يسأله: هل معك من جواز؟ فيقول: لا، فيقول رضوان: لا سبيل لك أن الدخول بغير جواز، ويرى ابن القارح إبراهيم بن محمد صلوات الله عليه، فيتشبث به وهو يدخل الجنة، فيجذبه معه، ويدخل ابن القارح الجنة، ويلتقي مرة أخرى بالشعراء ويحاورهم ويشترك معهم في مأدبة وغناء وقصف، ثم يركب بعض دواب الجنة، ويسير فيصل إلى مدائن غريبة، ويطلع فيرى طائفة من الجن، فيسألهم عن الأشعار التي تنسب في العربية إليهم، ثم يرخي من عنان دابته حتى يصل إلى أقصى الجنة، حيث يلتقي بالحطيئة والخنساء، وهي تنظر إلى أخيها صخر في الجحيم، وينظر كما تنظر الخنساء، فيجد إبليس وبشارًا، وبعض شعراء الجاهلية، ويحاورهم جميعًا ثم يعود، فيلتقي ببعض الحيات التي ظلمت في الدنيا، ثم كوفئت في الآخرة بدخول الفردوس، ويمر في جنة الرجاز، وأخيرًا يقبل على كأس من كؤوس الجنة، التي لا تنزف عقلًا. وهذا هو القسم الأول من الرسالة، وهو يعطيها، لونًا مدرسيًا، إذ قصد فيه أبو العلاء -من خلال حوار ابن القارح مع الشعراء- أن يظهر علمه بأشعارهم، وما فيها من مسائل عويصة في لفظها ونحوها ووزنها، وينتقل من هذا القسم إلى القسم الثاني، وهو خاص بالرد على سؤال ابن القارح عن الزنادقة والزندقة، وتعرض في أثناء هذا القسم لكثير من النحل في عصره، ومن ثم كان هذا القسم في الرسالة ذا قيمة خاصة، على أن أهمية الرسالة إنما ترجع إلى القسم الأول منها، إذ قرنها الباحثون بسبه إلى "الكوميديا الإلهية" لدانتي1، محاولين النفوذ إلى بيان تأثره بها ومدى هذا التأثر، وهو تأثر تقوم عليه أدلة كثيرة، وبذلك لم يصنع أبو العلاء للعرب "كوميديا إلهية" فحسب، بل أثر بها أيضًا أثرًا عميقًا في الآداب العالمية، ولسنا نريد الآن أن نتحدث عن هذا الجانب في رسالته، إنما نريد أن نتحدث عنه صياغته فيها وطريقته في التعبير، ولعل من المهم أن نعرف أن أبا العلاء لم يجئ في هذه

_ 1 انظر ترجمة أبي العلاء في دائرة المعارف الإسلامية.

الرسالة بصياغة جديدة غير الصياغة التي رأيناها آنفًا، ونراه يعني فيها بالتزام ما لا يلزم في قرائن سجعه، كما يعني اللفظ الغريب، وإنه ليعني عناية خاصة بالجناس، ولكن دائمًا في ثنايا ألفاظه الغريبة، بل المهجورة أحيانًا، وهو يحشد مع ذلك كثيرًا من الإشارات التاريخية، واستمع إليه يصف أنهار الجنة، فيقول: "إنها الراح الدائمة، لا الذميمة ولا الذائمة"، ويستطرد من ذلك إلى وصف الشعراء للخمر، ثم يقول1: "كم على تلك الأنهار من آنية زبرجد محفور، وياقوت خلق على خلق الفور "الظباء" من أصفر، وأحمر وأزرق، يخال إن لمس أحرق، كما قال الصنوبري: تخليه ساطعًا وهجه ... فتأبى الدنو إلى وهجه وفي تلك الأنهار أوزان على هيئة الطير السابحة، والغانية عن الماء السائحة، فمنها ما هو على صور الكراكي، وأخر تشاكل المكاكي، وعلى خلق طواويس وبط، فبعض في الجارية وبعض في الشط، ينبع من أفواهها شراب، كأنه من الرقة سراب، لوجرع جرعة منه الحكمي "أبو نواس" لحكم بأنه الفوز القدمي، وشهد له كل وصاف للخمر، من محدث في الزمن وعتيق في الأمر، أن أصناف الأشربة المنسوبة إلى الدار الفانية، كخمرعانة وأذرعات، وهي مظنة للنعات وغزة وبيت راس، والفلسطية ذوات الأحراس، وما جلب من بصرى في الوسوق، تبغى به المرابحة عند سوق، وما ذخره ابن بجرة بوج "الطائف"، واعتمد به أوقات الحج، قبل أن تحرم على الناس القهوات، وتحظر لخوف الله الشهوات، قال أبو ذؤيب: ولو أن ما عند ابن بجرة عندها ... من الخمر لم تبلل لهاتي بناطل2 وما اعتصر بصرخد، أو أرض شام، لكل ملك غير عبام "أحمق"،

_ 1 رسالة الغفران "طبعة أمين هندية" ص11. 2 اللهاة: أقصى سقف الحلق. والناطل: الجرعة من الخمر.

وما تردد ذكره من كميت بابل وصريفين، واتخذ للأشراف المنيفين، وما عمل من أجناس المسكرات، مفوقات للشارب، وموكرات "مثقلات"، كالجعة والبتع والمزر، والسكركة ذات الوزر1، وما ولد من النخيل، لكريم يغترف أو بخيل، وما صنع في أيام آدم وشيث، إلى يوم المبعث من معجل أو مكيث.... ويعارض تلك المدامة أنهار من عسل مصفى، ما كسبته النحل الغادية إلى الأنوار، ولا هو في موم "شمع" متوار، ولكن قال له العزيز القادر كن فكان، وبكرمه أعطى الإمكان، واهًا لذلك عسلًا لم يكن بالنار مبسلًا، لو جعله الشارب المحرور غذاءه طول الأبد، ما قدر له عارض موم "الجدري" ولا لبس ثوب المحموم ... فليت شعري عن النمر بن تولب العكلي، هو يقدر له أن يذوق ذلك الأري، فيعلم أن شهد الفانية إذا قيس إليه وجد يشاكه الشرى2، وهو لما وصف أم حصن، وما رزقته في الدعة والمن، ذكر حواري بسمن وعسلًا مصفى، فرحمه الخالق متوفى، فقد كان أسلم وروى حديثًا منفردًا، وحسبنا بن للكلم مسردًا، قال المسكين النمر: ألم بصحبتي وهم هجوع ... خيال طارق من أم حصن لها من تشتهي عسلًا مصفى ... إذا شاءت وحواري بسمن وهو أدام الهل تمكينه يعرف حكاية خلف الأحمر مع أصاحبه في هذين البيتين، ومعناها أنه قال لهم: لو كان موضع أم حصن أم حفص ما كان يقول في البيت الثاني؟ فسكتوا، فقال حواري بلمص يعني الفالوذج". وهنا نجد أبا العلاء يغير قافية البيت الأول من أم حصن إلى أم جزء، ويأتي بقافية في البيت الثاني على نسقها، ثم يستمر فيصنع ذلك بكلمات أخرى على سائر حروف المعجم عدا حرف الطاء، وما من شك في أن هذا التصنيع يدل على حال هي حال الاستطراد، وهي تعم في الرسالة كلها، وكان يريد

_ 1 أنواع خمور. 2 الشرى: الحنظل، والأرى: العسل.

بها أن يدل على مقدرته في رواية الشعر الغريب، وما يتصل به من أصحابه، وإنه ليقف عند كثير من صعوباته، وكما كان يعني بالوقوف عند الشعر الغريب، كان هو نفسه يلتزم الإغراب في كثير من ألفاظ رسالته على عادته في كل ما يكتب، وهو يضيف إلى ذلك حقًا زخرف السجع، كما يضيف زخرف البديع، وخاصة زخرف الجناس، ولكن الإنسان يحس كأن هذه الزخارف، تأتي عنده تابعة للفظ الغريب فهو الأساس، أو هو الخيط الذي تنسج عليه هذه الزخارف، أو هذا الوشي، وما يطوي فيه من تنميق، وقد عبر هو عن ذلك خير تعبير إذ يقول في إحدى رسائله: "قد كان فيمن مضى قوم جعلوا الرسائل، كالوسائل، تزينوا بالسجع، تزين المحول بالرجع، ما رقوا في درجته، ولا وضعوا قدمًا على محجته، لكنهم يعاينوا، فما تباينوا، وتناضلوا، فلم يتفاضلوا، ولو طمعوا في الوصول، إلى مثل هذه الفصول، لاختاروا الرتب "الشدة" على الرتب، ورضوا اعتساف السبيل، وارتعاء الوبيل"1، فانظر أين يضع أبو العلاء سا بقيه من أصحاب مذهب التصنيع! هو يعترف لهم بالسجع، فذلك شيء لا يستطيع أن يدفعه، ولكنه يدعي عليهم بعد ذلك أنهم قصروا عن معرفة طرقه الصحيحة؛ لأنهم لم يرقوا في درجة مذهبه، ولا وضوعوا قدمًا على محجته، وحقًا ما يقوله أبو العلاء، من أنهم لو طلب إليهم أن يكتبوا على نسق كتابته، لاختاروا عليها شظف العيش، واعتساف السبيل وارتعاء الوبيل؛ لأنهم كانوا يفهمون الفن في صورة أخرى تباين الصورة، التي علقت بنفس أبي العلاء. إن الفن كان عندهم زخرفًا وتصنيعًا، أما عند أبي العلاء، فقد تقدم الزمن وتطور الفن، وأصبح الفنان يأبى أن يخرج نثره في زخرف، وزينة فقط، بل لا بد أن يخرجه في كلف وعقد، ولا بد له أن يبلغ من ذلك كل مبلغ ممكن، ومن اجل ذلك كان طبيعيًا أن يلوم أبو العلاء الكتاب الذين سبقوه في فن الكتابة؛ لأنهم لم يكونوا من مذهبه ولا من ذوقه، لم يكونوا يعقدون فهم على هذا النحو الذي

_ 1 رسائل أبي العلاء ص6، والوبيل: المرعى الوخيم.

تبدو فيه الآثار الفنية، وكأنها متون صعبة يراد بها إلى إظهار المهارة اللغوية، وإنها لمهارة يبث أبو العلاء بين طياتها كثيرًا من الأمثال والإشارات التاريخية والأدبية، حتى ليضطر أثناء ذلك إلى كثير من الاستطراد في كتاباته، بل لقد اضطر إلى شيء أهم من ذلك لم نتعوده من قبل، وهو شرحه لكثير من آثاره النثرية، وما من شك في أنه عمد إلى هذا الشرح؛ لأنه يعرف أن آثاره لا تفهم إلا مع التفسير البين لكثرة ما يحشد فيها من ألفاظ عويصة. ومهما يكن، فإن اللغة هي أهم الجوانب التي استمد منها أبو العلاء أكثر عقده في صناعة نثره، وقد أضاف إليها عقدًا أخرى اتصل بها من كثرة الأمثال والإشارات التاريخية، والاستشهاد بالشعر الغريب خاصة، وإذا نظرت بعد ذلك في سجعه برسالة الغفران، وجدته يلتزم في أكثر جوانبه أن تكون نهاية السجعة لا حرفًا بل حرفين أو أكثر، كما يلتزم -غالبًا- الجناس في عباراته، ولكنا نحن إزاء استخدامه لهذا اللون من ألوان البديع، أنه فارق بعض ألوانه البهيجة التي كنا نعرفها عند أصحاب مذهب التصنيع، وما ذلك إلا؛ لأن أبا العلاء يعتمد في جناسه كثيرًا على الإغراب في الألفاظ، ومن ثم كنا نشعر إزاء كثير من جناساته، أنها جناسات لغوية أكثر منها فنية، فهي إلى اللغة والإغراب اللغوي أقرب منها إلى الفن الخالص، والحق أنا أبا العلاء عمد في فنه إلى التعقيد من حيث هو، ولذلك إذا ذهبنا إلى أنه زعيم مذهب التصنع لعصره، لم نكن مبالغين، ولا مغالين.

التعقيد في الفصول والغايات

4- التعقيد في الفصول والغايات: لعل أهم كتاب عقده أبو العلاء، وصعبه هو كتاب الفصول والغايات، وهو كتاب قصد به إلى تمجيد الله1، ومع ذلك فقد كان سببًا في حملة شعواء عليه، إذ ذهب خصومه إلى أنه ألفه معارضة للقرآن، ويظهر أنهم واجهوا أبا العلاء بهذه التهمة منذ أخرج الكتاب، يقول ناصر خسرو الذي زار المعرة عام 438هـ: "وضع أبو العلاء كتابصا سماه الفصول والغايات ذكر به كليمات مرموزة، وأمثالا في لفظ فصيح عجيب بحيث لا يقف الناس إلا على قليل منه ويفهمه من يقرؤه عليه، وقد اتهموه بقولهم: إنك وضعت هذا الكتاب معارضة للقرآن"2، وقد استمرت هذه التهمة عالقة بأذهان الناس، يقول الباخرزي: "أبو العلاء ضرير، ما له في أنواع الأدب ضريب، وإنما تحدثت الألسن بإساءته لكتابه، الذي زعموا أنه عارض به القرآن، وعنونه بالفصول والغايات في محاذاة السور والآيات، وأظهر من نفسه تلك الجناية، وجذ تلك الهوسات كما يجذ العير الصليانة"3، ويقول ابن الجوزي: "رأيت للمعري كتابًا سماه الفصول والغايات، يعارض به السور والآيات، وهو كلام في نهاية الركة"4. وإذا فتهمة أبي العلاء بأنه عارض القرآن بكتاب الفصول والغايات، تهمة قديمة وجدت في عصره، واستمرت من بعده، وقد أضاف الرواة إلى هذه التهمة أن بعض الأدباء قال له: إن كتاب الفصول والغايات جيد، إلا أنه ليس عليه طلاوة القرآن، فقال: حتى تصقله الألسن في المحاريب أربعمائة سنة، وعند ذلك انظروا كيف يكون5، وأكثر الظن أن هذه الرواية لفقت على أبي العلاء، كما لفقت عليه فكرة معارضة القرآن بالكتاب، ولعل مما يشهد لذلك أن نجد تلميذه ابن سنان الخفاجي يردها ردًا عنيفًا إذ يقول: "وهذا الكتاب إذا تأمله العاقل علم أنه بعيد عن المعارضة، وهو بمعزل عن التشبيه بنظم القرآن العزيز والمناقضة"6، ومن يرجع إلى الكتاب يرفض رفضًا باتًا، ما ادعاه خصومه عليه فيه من هذه المعارضة المزعومة، إذ كله تسبيح وتمجيد في الله، وانظر إليه يقول: "علم ربنا

_ 1 معجم الأدباء 3/ 146. 2 سفر نامه لناصر خسرو "الترجمة العربية"، طبع لجنة التأليف والترجمة ص11. 3 دمية القصر للباخرزي "طبع حلب" ص50، والصليانة: نبث ضعيف، والعير: حمار الوحش: 4 تعريف القدماء بأبي العلاء ص21. 5 تعريف القدماء ص426. 6 تعريف القدماء ص426.

ما علم، أني ألفت الكم، آمل رضا المسلم، وأتقي سخطه المؤلم، فهب لي ما أبلغ به رضاك من الكلم والمعاني الغراب"1، وتسيطر على الكتاب كله روح التقوى، والزهد، والخوف العظيم من ربه، وقد انتشرت هذه الروح في جميع صفحات الكتاب، كقوله في بعض الفصول: "إن كان الدمع يطفئ غضبك فهب لي عينين، كأنهما غمامتا شتى تبلان الصباح والمساء"2، ويقول في مكان آخر: ليت أعظمي تحولت عيدان أراك يتفلفل بها المتعبدون لله بالعشي، والأبكار، وليت أدمي جعل منه ذات طراق يمسح عليها المسافرون في سبيل الله أوقات الصلوات، أو صنع منه شعيب يحمل فيها الماء، حتى تعد في الشنان الباليات، وليت شعري عشب عبث به ركاب الناسكين، على أصل بذلك إلى الفلاح3، وانظر إليه يقول في موضوع آخر4: "لو نقلت مياه اللجج على منكبي في قداف، وأفرغته على مناكب الجبال وجررت كثبان الأرض، وصرائمها في جر أو مشآة، فألقيتها في الخضر الدائمات، حفدًا لله كنت أحد العجزة المقصرين5، ولو أذن لي وأيدت، فابتنيت مراهص من الثرى الأسفل إلى الثريا وحضار، ومن الوتد المتخذ من عود، إلى ساحة وتد السعود6، لم أؤد ما يوجبه جلال الله، فكيف وأنا أقصر الصلاة، وأداني بين الركعات". وأنت تحس هنا بروح رجل مؤمن مبالغ في إيمانه يخاف ربه ويخشاه، وإنه لتيصور نفسه يأتي بالمعجزات في طاعة الله، فلا ترفعه هذه المعجزات -إن استطاع أن يقوم بها- عن الشعور بأنه أحد العجزة المقصرين، وإنه ليحس

_ 1 الفصول والغايات "طبعة محمود زناتي" 1/ 62. 2 نفس المصدر 1/ 259 شتى: من الشتاء تبلان: تسحان من الوبل، وهو المطر الغزير. 3 نفس المصدر 1/ 390. يتفلفل: يستاك. ذوات الطرق: النعال. الشعيب: القربة من أديمين. 4 نفس المصدر 1/ 59. 5 القذاف: الجرة. الجر: الزبيل. المشآة: زبيل من أدم. الخضر: اللجج. الحفد: الخدمة. 6 المراهص: المراتب. وتد السعود: سعد الأخبية: نجوم معروفة.

إحساسًا عميقًا بأنه مهما صنع من آيات، فلن يؤدي ما يوجبه جلال الله، وعلى هذا النحو يمضي أبو العلاء في كتابه يستشعر العجز، والضعف أمام ربه معددًا لنعمه ومآثره، مصورًا لإرادته وقدرته، وقد جعله هذا الجانب يقف عند طائفة من المستحيلات في وقائعنا المادية، فيظهر كيف أن قدرة الله التي تسع كل شيء، تستطيع أن تحولها من باب المستحيلات إلى باب الممكنات، كقوله في بعض فصوله1: "يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه، ويسمع الأصوات بيده، وتكون بنانه مجاري دمعه، ويجد الطعم بأذنه، ويشم الروائح بمنكبه، ويمشي إلى الغرض على هامته، وأن يقرن بين النير وسنير، حتى يريا كفرسي رهان، وينزل الوعل الزعل من النيق، ومجاوره السوذنيق2، حتى يشد فيه الغرض، وتكرب عليه الأرض، وذلك من القدرة يسير، سبحانك ملك الملوك، وعظيم الضعفاء". ونرى من ذلك أن الفصول، والغايات لم يقصد بها إلى إلحاد ولا إلى زندقة، ولا إلى معارضة للقرآن ومناقضة، ومن أين تأتيها هذا، وهي تنساق كلها في التمجيد والتحميد، والثناء على الله، ولعله من أجل ذلك قال ابن سنان الخفاجي: إن العاقل إذا تأملها علم أنها بعيدة عن المعارضة، وقد يكون السبب في أن الناس واجهوا أبا العلاء بهذه التهمة، أنهم رأوه يسمى كتابه باسم "الفصول والغايات في محاذاة السور والآيات"، فظنوا أنه يقصد بذلك إلى المعارضة في الأسلوب، وهو إنما يقصد إلى أن هذه الفصول محاذية للقرآن من حيث ما فيها من تسبيح، وحمد وتمجيد وثناء على الله سبحانه وتعالى، وقد يكون من أسباب هذه التهمة، ما في الكتاب من بعض أقسام تشبه أقسام القرآن3، كقوله في بعض فصوله4:

_ 1 الفصول والغايات 1/ 31. 2 النير: جبل بأعلى نجد. سنير: جبل بين حمص وبعلبك. السوذنيق: الصقر أو الشاهين. 3 معجم الأدباء 3/ 140. 4 الفصول والغايات ص253.

"أقسم بخالق الخيل، والعيس الواجفة بالرحيل، تطلب مواطن حليل1، والريح الهابة بليل بين الشرط ومطابع سهيل، إن الكافر لطويل الويل، وإن العمر لمكفوف الذيل، شعر النابغة وهذيل، وغناء الطائر على الغيل، شهادة بالعظمة لمقيم الميل، فانعش سائلك بالنيل، وليكن لفظك بغير هيل2، وإياك ومدارج السيل، وعليك التوبة من قبيل، تنج، وما إخالك بناج". ومع ذلك فلم تأت هذه الصورة من الأقسام في الكتاب كثيرًا، ولعل مما يتصل بها ما يلاحظ على لكتاب أحيانًا من النسج على أساليب مشبهة للقرآن الكريم، وقد لاحظ القدماء ذلك في قوله3: "أذلت العائذة أباها، وأصاب الوحدة ورباها، والله بكرمه اجتباها، أولاها الشرف بما حباها، أرسل الشمال وصباها، ولا يخفا عقباها". وربما كان من الأساليب التي تدخل في ذلك، ما يلاحظ عليه أحيانًا من استخدام صورة الفواصل في بعض جوانب من كتابه، كقوله4: "إن الله إذا أذن أروى الشعب من القعب، فسبحان مروي الهائمين، والحليب، يطلب من ذوات الصليب، وربك رازق الممترين5، هل تقدر على التحجيب، لأسد الحجيب، وإذا شاء الله وسمت أنوف الأعزاء. من الرتب، ركوب القتب، والله منعم الحافضين6، ذهبت شعوب، وفي يدها لعوب، ولك للمنية أكيل، إلا ملك الملوك ومذل المتكبرين. يذهب الحلب، ويبقى القلب، وكل محدث من الذاهبين7، يقع الشبب في السبب، وكذلك

_ 1 العين الواجفة: الإبل المسرعة. الرحيل: موضع بين مكة والكوفة. حليل: شخص كانت إليه سدانة الكعبة. 2 الشرط: واحد الشرطين، وهما نجمان من برج الحمل. الغيل: الماء يجري على وجه الأرض الميل: العوج. النيل: العطاء. الهيل: ضد الكيل. 3 معجم الأدباء 3/ 140، والعائذة: حديثة النتاج. 4 الفصول والغايات 1/ 227. 5 القعب: قدح صغير. الهائم: العطشان ذوات الصليب: النوق. 6 التحجيب: سمكة حول الحاجب، الحجيب: الأجمة. الرتب: غلظ العيش القتب: الرحل. 7 شعوب: المنية لعوب: امرأة. الحلب: الليف. القلب: قلب النخلة.

غاية المطلقين، شكا الطلب، داء في الخلب، وربك شافي المشتفين1، قد تقف الطراب، على رءوس الظراب ترمق آثار المتحملين2، ولو شاء الله جعل جناحًا كالحضر، وأبا مهدية مثل قباث"3. ولكن هل ظهور هذه الأساليب، وما يطوي فيها من صور مشبهة لعبض صورة القرآن الكريم في أساليبه، تجعلنا ننطلق إلى اتهام أبي العلاء بمعارضة القرآن الكريم، أو ينبغي أن نتريث وأن لا نحكم هذا الحكم إلا إذا دعمناه بأدلة أشد من ذلك وضوحًا؟ والحق أن تهمة أبي العلاء لا تثبت بمثل هذه الصورة، وخاصة أن أبا العلاء لم يشعها في فصوله وغاياته، بل لقد جاء بها في القليل النادر جدًا، ومن يدري؟ ربما قلد أبو العلاء أساليب القرآن الكريم في بعض جوانب من كتابه، ولكنه لم يرد تقليده إلى المعارضة والتحدي، وإنما أراد مطلق التقليد الخالي من أي غرض من أغراض الإلحاد، وقد يكون من الأدلة على ذلك أن الكتاب كله ينساق في موجة عظيمة من تحميد الله وتمجيده، وأيضا فإننا إذا تركنا هذه الجوانب القليلة في الكتاب، ونظرنا في أساليبه نظرة عامة، وجدنا أبا العلاء يختار لنفسه فيه أسلوبًا معقدًا تعقيدًا شديدًا، وهو تعقيد يقوم على استخدام اللفظ الغريب، وما يطوي فيه من أمثال، وكلمات رمزية، وإن ذلك ليباعد الكتاب جملة عن أسلوب الذكر الحكيم، ويجعله أسلوبا من طراز آخر هو طراز مذهب التصنع، وما انتهى إليه هذا المذهب عند أبي العلاء من عقد، وكلف كثيرة. ولعل أول ما يلاحظ من عقد أبي العلاء، وكلفه في هذا الكتاب أنه قسمه على حروف المعجم عدا حرف الألف، فخرج له من ذلك ثمانية وعشرون فصلًا، وجعل كل فصل كالهمزة مثلًا ينقسم إلى فقرات، وكل فقرة تختتم

_ 1 الشبب: الثور الوحشي. الطلب: الذي يطلب النساء. الخلب: غشاء القلب. 2 الظراب: الحبال الصغار. المتحملين: المسافرين. 3 جناح: بيت لأبي مهدية الأعرابي، الذي يروي عنه أبو عبيدة. الحضر: حصن الملك يسمى الساطرون. قباث: ملك ملوك الفرس يسمى قباذ.

بغاية هي الفصل، الهمزة غاياته كلها الهمزة، وأبو العلاء لا يكتفي بذلك، بل يلتزم حرفًا قبل جميع غاياته هو الألف، ولا تظن أنه يصنع هنا ما صنعه في ديوان اللزوميات من التزام حرف قبل الروي، وتوحيده في المقطوعة التي ينظمها، فهناك كان يستطيع أن يغير الحرف كما يريد، أما هنا فهو يعينه بحرف الألف، ففصل الهمزة مثلًا تختتم فقراته كلها بجملة فيها ألف وهمزة، وكذلك فصل الباء والتاء والثاء وهلم جرًا، وانظر في الفقرة السابقة التي عرضناها عليك، فغايتها قباث، وهي مختومة بثاء بعد الألف، وكذلك جميع فقرات فصل الثاء تختتم على هذا النحو، فإذا رجعت إلى الكتاب وجدتها تتوالى هكذا: وراث، أحداث، حثاث، جثجاث ... ويستمر على هذا النمط حتى يختتم الفصل. وليست هذه العقدة هي كل ما فزع إليه أبو العلاء في فصوله وغاياته، فهناك عقد كثيرة كان يلجأ إليها، لعل من أهمها أنه كان يلتزم داخل فقره كثيرًا أن تتوالى السجعات، وقد اشتركت نهايتها في حرفين أو أكثر، على أن هذه العقدة سبق أن لاحظناها عنده في رسالة الغفران، وربما كانت أهم عقدة استمد منها أبو العلاء كل ما يريد من تعقيد في أسلوبه، وتصعيب هي عقدة اللغة، ولعل القارئ لاحظ ذلك في ما رويناه حتى الآن من الكتاب، ولذلك عمدنا في الهوامش إلى تفسير بعض الألفاظ، وحقًا ما قاله ناصر خسرو من أن هذا الكتاب أودع كلمات مرموزة، وأمثالًا وأنه لا يفهمه إلا من قرأه على أبي العلاء نفسه، وقد قالوا: إنه فسره بكتاب يسمى السادن1، ومن يرجع إلى القسم الذي نشر من الكتاب يجد أنه يصحب بتفسير، فالفقرة تكتب ثم يلحقها التفسير، فإذا انتهى التفسير جاءت كلمة "رجع" للدلالة على الرجوع إلى أصل الكتاب وفقره، وأكبر الظن أن هذا التفسير من صنع أبي العلاء، وقد يكون هو نفسه كتاب السادن الذي شرح به الكتاب، ألحقه به أحد تلاميذه، أو ألحقه به شخص متأخر.

_ 1 تعريف القدماء ص39.

هذا الزخرف قبله، ولكن الإنسان يحس عند أبي العلاء، أنه فارق طاقته القديمة من الحلية والزينة إلى طاقة جدية من الإغراب، والتعمق في تصعيب الأداء، وإنه ليلتزم ذلك دائمًا في كل ما يكتب، وهل هناك أثر نثري لأبي العلاء لم يبنه على اللفظ الغريب، وهذا الجناس المعقد، وما يطوي فيهما من التزام حرفين في روي سجعه غالبًا، ثم يأتي بعد ذلك ما يستخدمه من أمثال، وما يحشده من إشارات تاريخية، وهذا كله كان يلتزمه في آثاره، بحيث لا تكاد تخلو صحيفة من أعماله، إلا وقد انبسطت عليها عقد اللفظ الغريب، أو قل اللفظ المهجور، كما انسبطت عليها زخارف الجناس المعقد، وما يندمج في هذا الجناس من أمثال وإشارات. وبجانب هذه العقد الدائمة التي ينمق بها فنه تنميقًا نجده يقترح عقدًا أخرى لم يكن يستعملها دائمًا، ولكنه كان يستعملها على كل حال، وقد عرضنا لها في بيان تعقيده لرسائله، ونقصد ما كان يتصنع له في كتاباته من ذكره لمصطلحات العلوم بطرق وصور مختلفة، وقد غالى في هذا الجانب في أثناء صناعته للفصول والغايات غلوًا بعيدًا، إذ نراه يحاول أن يرد كثيرًا من أفكاره إلى علل أصحاب النحو والعروض ومصطلحاتهما، كأنما أعياه التفكير المستقيم الصحيح، فهو يفزع إلى النحو والصرف، وما يتصل بهما يحاول أن يفسر آراءه، ومشاكله كقوله1: "لا أختار شبه الظالمين، فإن الشيئين يتشابهان، فينقلهما التشابه إلى الاتفاق كإن المكسورة المشددة أشبهت الأفعال، فجاء بعدها اسمان آخرهما كالفاعل وأولهما كالمفعول، وكذلك ما قاربهما من الأدوات، لا تجعلني رب معتلا كواو يقوم، ولا مبدلًا كواو موقن تبدل من الياء، ولا أحب أن أكون زائدًا مع الاستغناء كواو جدول وعجوز، فأما واو عمرو فأعوذ بك رب الأشياء، إنما هي صورة لا جرس لها، ولا غناء مشبهها لا يحسب من النسمات". وبين أن هذه الفقرة لا يستطيع تان يفهمها، إلا من درس النحو الاشتقاق

_ 1 الفصول والغايات 1/ 142.

وعرف ما يقوله النحويون عن إن، وأنها تشبه الأفعال لبنائها من ثلاثة أحرف، ثم ما يقولونه في الصرف عن الإعلال والإبدال، وما يقولونه، عن وزن الأسماء وحروف الزيادة، وكأنما سدت أمامه جميع طرق التعبير، فهو يلجأ إلى هذه الأشياء يحاول أن يفتح بها الأبواب المنسدة، وأنها لتنفتح على هذه الكلف، التي لم يكن يعرفها النثر على هذا النحو قبل أبي العلاء، ولكن ما لأبي العلاء والكتاب من قبله؟ إنه يريد أن يتفوق عليهم، وهو يجد هذا التفوق في مثل هذه الصور، التي لم يكن يلجأ إليها الكتاب السباقون، لأنهم كانوا يفهمون الفن في كتابتهم بصورة أخرى، كانوا يفهمونه على أنه تنميق وزخرف، أما عند أبي العلاء، فقد تطور الزمن وأصبح الفن يفهم على أنه قبل كل شيء عقد وكلف، واستمع إليه يقول في فقرة أخرى1: "ألتفت إلى ذنوبي فأجدها متتابعة كحركات الفاصلة الكبرى، واستقبل جرائم تترى، طوالًا كقصائد الكميت الأسدي، مختلفة النظم كقصيدتي عبيد وعدي، وأجدني ركيكًا في الدين، ركاكة أشعار المولدين سبقتهم الفصاحة، وسبقوا أهل الصنعة! وأعمالي في الخير قصار، كثلاثة أوزان رفضها المتجزلون في قديم الأزمان، ولا بد للوتد من حذ، والسبب من جذ2، ورب فرح، طوى طي المنسرح3، فارحمني رب إذ صرت في الحافرة، كالمتقارب وحيدًا في الدائرة، وهجرني العالم هجر النون العجمات"4. أرأيت كيف ينجح أبو العلاء إلى علم العروض يستمد من مصطلحاته، ما يغرب به على الناس في نسيج فصوله وغاياته؟! ولا يكتفي بذلك، بل نراه

_ 1 نفس المصدر 1/ 131. 2 الوتد: جزء التفعيلة المكون من حرفين بعدهما أو بينهما ساكن، والحذ: القطع، وهو حذف وتد من التفعيلة كحذف علن من متفاعلن في الكامل. والسبب: جزء التفعلية المكون من حرف متحرك بعده ساكن، أو متحرك مثله، والجذ: القطع، وقصد حذف السبب مثل تن في فاعلاتن. 3 الطي: حذف الرابع الساكن من مستفعلن في المنسرح، فتصبح مستعلن. 4 النون: الحوت. العجمات: مجامع الرمل.

يشير إلى قصائد الكميت وما اشتهرت به من طول، كما يشير إلى قصيدين لعبيد وعدي عرفنا باضطراب الوزن، وهما على الترتيب "أقفر من أهله ملحوب" و"قد حان أن تصحو لو تقصر"، كما يشير إلى الأوزان الثلاثة التي استحدثها الشعراء، ولم يستخدمها القدماء وهي المجتث والمقتضب والمضارع، أما الدائرة التي يشير إليها، فهي إحدى دوائر الخليل واضع علم العروض، إذ جعل كل مجموعة من أوزان الشعر في دائرة، وأفراد المتقارب بدائرة على حدة. ولكن أين نحن الآن؟ لقد فارق النثر طبيعته، وأصبحنا نقرأ في الصحيفة منه بل في الفقرة، فإذا بنا نضطر إلى أن نعرض لأشياء لا تتصل بدوائر الفن من حيث هو، وإنما تتصل بعلوم اللغة، وهذا هو معنى ما نذهب إليه من أن أبا العلاء عقد لغته في نثره تعقيدًا شديدًا، فقد أخذ النثر يستحيل عنده إلى هذه الصورة المعقدة الملتوية، فإذا صاحبه يلجأ إلى مصطلحات من العلوم يسلكها في عمله، وإنا لنعجب الآن كيف غلا أبو العلاء في تعقيد فنه كل هذا الغلو، ولكن هذا العجب يزيله من نفوسنا، أن نعرف أن الفن في النثر العربي تطور أخيرًا إلى هذه الصور من التصعيب في الأداء، وكأنما جفت المنابع التي تؤهل له صورة صحيحة من الزخرف، إذ انتقل إلى هذه الصورة المعقدة من استخدام مصطلحات العلوم، فإن تركها أبو العلاء فإلى الألفاظ المهجورة، والأمثال والإشارات المرموزة. ويستخدم أبو العلاء الجناس، ولكنا نحس عنده أنه فارق صورته القديمة إلى صورة هندسية جديدة، إذ أصبح عقدًا خالصة، أو ما يشبه العقد الخالصة، لا لسبب إلا؛ لأنه كان يطلبه دائمًا في اللفظ الغريب المتعمق في الإغراب، كأنما الإغراب شيء يقصد لذاته، واسمتع إلى هذه الفقرة القصيرة1. "بل يا جفن، وابل يا جسم، وأبلي يا نفس، يبل من المرض الدين، ليس يبل عند الله أبل، فاطو صديقك على بلته ولا تثقن بلابس حبلات". هل يقع في ذهنك أنك تقرأ الآن نثرًا كالنثر المألوف لك؟ طبعًا لا، فإن

_ 1 الفصول والغايات 1/ 146.

هذا نثر جديد من صنع أبي العلاء، وإن الإنسان ليحس إزاءه، كأنه يقرأ مادة من مواد لسان العرب، قد مثل لها ابن منظور بأمثلة مختلفة باختلاف استخدام الكلمة، ولكن فكر قليلًا فسترى أن أبا العلاء لم يعمد إلى هذا اللعب إلا؛ لأنه يريد أن يعرض عليك أوسع صور للجناس في هذه العبارات، وإنه ليذهب بعيدًا في الإتيان بجناساته، إذ يبدأ بكلمة "بل"، وهي من وبل يبل أي يسقط ويهطل، ثم يثني بكلمة "ابل"، وهي بلي يبلى، ويثلث بكلمة "وأبلى"، وهي من أبل الوحش إذ اجتزأ بالكلأ عن الماء يريد: "امتنعي عن المحارم أيتها النفس، ويستمر أبو العلاء، فيأتي بكلمة "يبل"، وهي بمعنى يبرأ ويصح، ثم يأتي بكلمة "يبل"، وهي يظفر، أما الأبل فهو الخبيث، وأما قوله: "اطو صديقك على بلته"، فمثل يضرب في السقاء يطوى وهو مبتل، فإن بلله أبقى له، وقد ختم الفقرة بكلمة "حبلات"، وهي ضرب من الحلي، وواضح ما في ذلك كله من العنت في الإغراب، والتعقيد الشديد. والحق أن أبا العلاء يعتبر في نثره مرحلة قائمة بنفسها في تاريخ لغتنا العربية، فقد أخذ هذه اللغة من أيدي سابقيه، فلم يقف بها عند الصورة التي تركوها، بل خرج بها إلى مذهب التصنع الجديد، ولكنه حين خرج إلى هذا المذهب أوغل فيه إيغالًا لم يوغله أحد من قبله، بحيث يمكن أن يقال: إن المذهب ابتدأ به وانتهى بها أيضًا، فقد عقد لغة نثره تعقيدًا لم يقع في وهم أحد لا من سابقيه، ولا من معاصريه، حتى لتتحول جوانب من أعماله إلى ما يشبه الألغاز والأحاجي، وما من شك في أن معرفته الواسعة باللغة، وألفاظها المستعملة والمهجورة ساعدته على كل ما يطمح إليه في هذا الصدد، وإنها لمساعدة تخرج بجوانب كثيرة من آثاره إلى ما يشبه المعاجم، فهي متون لغوية قبل أن تكون متونًا أدبية أريد بها إلى اللغة قبل أن يراد بها إلى الفن، وذهب أبو العلاء يعقد هذه المتون، ويصعبها بلك ما يستطيع من أدوات ووسائل، وهل هناك أداة أو وسيلة لا يحسنها أبو العلاء؟ إن اللغة مسخرة له، وهذه ألفاظها المهجورة يستطيع أن يتخذ منها ما يريد من مواد لبناء نماذجه، وإنه ليغرب في هذه المواد ما شاء له هواه حتى يقع

على كل ما يمكن من طرائف الفن في رأيه، أو قل طرائف التعقيد والتصعيب، وهل هناك طرفة من كلفة، أو عقدة لا توجد في عمله؟ أتريد الجناس المعقد أو تريد الأمثال المبهمة، أو تريد الإشارات المرموزة، أو تريد مصطلحات العلوم؟ إن كل ذلك تجده مجموعا في عمله، على نحو لم نألفه من قبله ولا من بعده، فقد عجز من جاءوا بعد أبي العلاء عن أن يحملوا عنه مذهب التصنع، كما تركه في هذه العقد، والمنحنيات الكثيرة، وسنقف عند كاتبين جاءا على أثره، وهما الحريري والحصكفي لنتبين صورة المذهب بعد أبي العلاء تبينًا دقيقًا.

الحريري وتعقيده

5- الحريري وتعقيده: هو، القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري، ولد بضاحية من ضواحي البصرة تسمى المشان1 عام 446هـ، وتوفي في عام 516هـ2، ولما شب ذهب إلى البصرة حيث "سمع الحديث، وقرأ الأدب واللغة"3. وسرعان ما أصبح بفضل فطنته، وذكائه صاحب الخبر في ديوانه الخلافة، وهي وظيفة تشبه وظيفة "مصلحة الاستعلامات" في العصر الحديث4، واستمرت هذه الوظيفة في أولاءده إلى آخر المقتفوي نحو سنة 556هـ، إذ زار العماد الأصبهاني البصرة، ورأى أولاده يقومون عليها5، وكان الحريري يسكن في البصرة بمحلة بن حرام6، وكان قبيحًا دميم الحلقة قذرا في لبسته، وهيئته مبتلى بنتف لحيته7. ومن الطرف التي تروى بصدد ذلك "أن رجلا قصده ليقرأ

_ 1 معجم الأدباء طبع مصر 16/ 261. 2 نفس المصدر 16/ 261. 3 المنتظم لابن الجوزي 9/ 241. 4 انظر تاريخ الطبري القسم الثالث ص 1260. 5 انظر الخريدة للعماد الأصبهاني "قسم العراق -تحقيق محمد بهجة الأثري" 4/ 2/ 601. 6 معجم الأدباء 16/ 261، والخريدة 4/ 2/ 601. 7 معجم الأدباء 16/ 262.

عليه، فاستدل على مسجده الذي يقرأ فيه، فلما أراد الدخول، رأى شخصًا دميم الخلقة، فاحتقره، وقال: لعله ليس هو هذا، فرجع، ثم قال في نفسه: لعله يكون هذا ثم استبعد أن يكون هو، والشيخ يلحظه، فلما تكرر هذا منه، تفرس الشيخ فيه ذلك، فلما كان في المرة الأخيرة، قال له: ارحل، فأنا من تطلب أكبر من قرد محنك"1، وربما كان هذا القبح هو الذي ولد فيه ميله إلى الدعابة في أعماله، وآثاره. وكان مما خفف قبح الحريرة، أنه كان ذكيًا ذكاء شديدًا يقول ابن الجوزي: "إنه فاق أهل زمانه بالذكاء والفطنة"2، ويقول العماد الأصبهاني: "طلعت ذكاء ذكائه في المغرب والمشرق، وامتلأ ببضائع فوائده، ونواصع فرائده حقائب المشئم والمعرق"3، ويقول ياقوت: "كان غاية في الذكاء والفطنة"4، واستغل هذا الذكاء في جانبين، أما الجانب الأول، فالأدب شعره ونثره، وقد ترك في هذا الجانب مجموعة من الشعر، كما ترك مجموعة من الرسائل، وأيضًا فإنه ترك أهم مجوعة ألفت في المقامات، وأما الجانب الثاني فهو جانب التأليف في النحو، إذ نراه يترك -كما يقول ياقوت- كتاب "ملحة الإعراب"، وهي قصيدة في النحو، كما يترك كتاب شرح ملحة الإعراب، وأيضًا فله كتاب "درة الغواص في أوهام الخواص"، وهو معروف. على أن الحريري إنما اشتهر بجانبه الأول، إذ يعتبر أهم كاتب ظهر في المشرق بعد أبي العلاء، وقد نال شهرة مدوية في عصره وبعد عصره، لما كان يقوم به من عناية بآثاره عناية تحيلها إلى ضروب خالصة من الزخرف، والوشي الأنيق حتي ليقول العماد الأصبهاني: إن "وشي بلاغة الحريري ذهبي الطراز، سحباني الإعجاز قسي الإسهاب والإيجاز، ومتى قد رقس على ترصيع كلمه، وتصريع حكمه، حريري الوشي، عراقي الوشم، لؤلؤي النظم، كلامه يتيمة

_ 1 طبقات الأدباء لابن الأنباري ص456. 2 المنتظم: القسم الثاني من المجلد السابع ورقة 487. 3 الحريدة 4/ 2/ 600. 4 معجم الأدباء 16/ 262.

البحر، وتميمة النحر"1، ولكن لا تظن من وصف العماد أن الحريري كان من ذوق أصحاب التصنيع، فقد انتهى هعذا المذهب في المشرق، وانتهى أنصاره وحل محله مذهب جديد هو مذهب التصنع، وهو مذهب كان يعتمد على التلفيق، والتعقيد، وإحالة الزخرف القديم إلى أشكال هندسية جديدة، وقد تشبث أصحابه بزخرف الجناس، واستخرجوا منه كل ما يمكن من عبث، وعقد على صور مختلفة. والحريري لم يكن يشذ على هذا المذهب الجديد، بل كان ينساق فيه، وفيما اقترحه أبو العلاء من تصعيب، وعرف القدماء ذلك، فقالوا: إنه يستعير منه بعض صوره2، ولكن ليس هذا هو الجانب المهم، فقد استعار منه كثيرًا من عقده التي بثها في أعماله وخاصة عقدة الجناس، إذ ذهب يستعين بها في تعقيد فنه تعقيدًا شديدًا، وإن من يرجع إلى ما اقتبسه العماد الأصبهاني في خريدته، وياقوت في معجمه من رسائله يجد ظاهرة التعقيد واضحة فيها، وقد رويا له جميعًا رسالتين غريبتين بنهاهما جميعًا على حرف واحد، أما الأولى فبناها على حرف السين، ولذلك سميت بالرسالة السينية، أما الثانية فبناها على حرف الشين، ولذلك سميت بالرسالة الشينية، وكتب الأولى على لسان بعض أصدقائه يعاب صديقًا له أخل به في دعوة دعا إليها، وهو يستهلها على هذا النمط3. "باسم القدوس أستفتح، وبإسعاده أستنجح، سجية سيدنا سيف السلطان سدة سيدنا الإسفهسلار، السيد النفيس سيد الرؤساء حرست نفسه، واستنارت شمسه وبسق غرسه، واتسق أنسه، استمالة الجليس، ومساهمة الأنيس، ومواساة السحيق والنسيب، ومساعدة الكسير والسليب، والسيادة تستدعي استدامة السنن، والاستحفاظ بالرسم الحسن، وسمعت بالأمس

_ 1 الخريدة 4/ 2/ 600. 2 نقد مقامات الحريري لابن الخشاب طبع المطبعة الحسينية ص8. 3 الخريدة: 4/ 2/ 616، وانظر معجم الأدباء 16/ 276.

تدارس الألسن سلافة خندريسه، في سلسال كئوسه، ومحاسن مجلس مسرته، وإحسان سمعة سيادته، فاستسلفت الاستدعاء، وتوسمت السراء، وسوفت نفسي بالاحتساء، ومؤانسة الجلساء، وجلست أستقري السبل، وأستطلع الرسل، وأستبعد تناسي اسمي، وأسامر الوساوس لاستحالة رسمي1 ... وحسبنا السلام وسلامه على رسول الإسلام". أرأيت إلى هذه المقدرة الجديدة عند الحريري؟ لقد حكاها العماد في شيء من الدهشة، والإعجاب وحق له فقد كان ذلك ذوق عصره، بل لقد كان ذوق الكتاب منذ أبي العلاء، فهم يبحثون عن كل صعوبة في الأداء يجتذبونها إلى آثارهم، ونماذجهم كي يدلوا على مهارتهم وبلاغتهم، ولكن أي مهارة، وبلاغة هذه؟ لقد أصبحت النماذج الأدبية أشبه ما تكون بعمل عمال المطابع، إذ يرصون الكلمات بعضها بجانب بعض، فتتكون صناديق من الكلمات، ولكن لا يتكون شعور ولا إحساس، وأي إحساس وشعور في مثل هذه الرسالة، التي شغل فيها الحريري بأن يجمع ألفاظًا من ذوات السين، ويرصها على هذا النمط، فإذا بنا نقرأ سينيات، لا أفكارًا ولا شعورًا، وإنما كلمات بنيت بناء من حرف السين! وما من ريب في أنه كان يريد بذلك، أن يدل على مدى تفوقه على معاصريه في استخدام طرق مذهب التصنعه، وإنه ليبحث عن طرق جديدة، فإذا هو يهتدي بعد البحث إلى هذه الفكرة البديعة، وهي أن يؤلف رسالة سينية، وأخرى شينية ليثبت مقدرته وبراعته، وانظر إليه كيف يسوق رسالته الشينية، التي كتب بها إلى طلحة بن محمد النعماني الشاعر لما قصده في البصرة يمدحه، ويشكره، ويتأسف على فراقه2: "شغفي بالشيخ شمس الشعراء ريش معاشه، وفشا رياشه3 وأشرق شهابه، واعشوشبت شعابه4، يشاكل شغف المنتشي بالنشوة، والمرتشي بالرشوة، والشادن

_ 1 استحالة رسمي: يقصد تغير المعتاد. 2 الحريدة 4/ 2/ 619، ومعجم الأدباء 16/ 278. 3 الرياش: الثياب الفاخرة. ريش: زين. 4 اعشوشبت شعابه: كثر عشب نواحيه.

بشرح الشباب، والعطشان بشبم الشراب، وشكري لتجشمه ومشقته، وشواهد شفقته، يشابه شكر الناشد للمنشد، والمسترشد للمرشد، والمستبشر للمبشر، والمستجيش1 للجيش المشمر، وشعاري إنشاده شعره، وإشجاء المكاشر والمكاشح بنشره، وشغلي إشاعة وشائعه، وتشييد شوافعه2، والإشادة بشذوره وشفوفه، والمشورة بتشفيعه وتشريفه، وأشهد شهادة تشده المقشر المكاشف3، والمشنع الكاشف لإنشاده يدهش الشائب والناشي، ويلاشي شعر الناشي4 ولمشافهته تباشير الرشد، واشتيار الشهد5، ولمشاحنته تشقي المشاحن، وتنشر المشاين، ولمشاغبته تشظي الأشطان6، وتشيط الشيطان، فشرفًا للشيخ شرفًا، وشغفًا بشنشنته شغفًا: فأشعاره مشهورة ومشاعره ... وعشرته مشكورة وعشائره7 شأي الشعراء المشمعلين شعره ... فشانيه مشجو الحشا ومشاغره وشوه ترقيش المرقش رقشه ... فأشياعه يشكونه ومعاشره وأشهد شهادة شاهد الأشياء، ومشبع الأحشاء، ليشعلن شواظ اشتياقي شحطه، وليشعثن شمل نشاطي نشطه، فناشدت الشيخ أيشعر باستيحاشي لشسوعه، واجهاشي لتشييعه، ووشتايتي بنشيده الموشي، وتشكلي شخصه بالإشراق والعشي، حاشاه تعتشيه8 شبهة وتغشاه، فليستشف شرح شجوي بشطيرنه، وليرشحني لمشاركة شجونه ... عاش منتعش الحشاشة، مستشري9 البشاشة، مشحوذ الشفار، منتشر الشرار، شتامًا للأشرار، شحاذًا بالأشعار، يشرخ ويحوش، فينتفش المنقوش ... "

_ 1 المستجيش: مجمع الجيش. 2 شوافعه: شفاعاته، وشائعه: طرائقه. 3 المقشر: المجرح. الكاشف: المعلن ما عنده. 4 الناشي الأولى بمعنى الصغير، والثانية إشارة إلى شاعر عباسي يسمى الناشئ. 5 اشتيار: جني. 6 تشظى: تفرق. الأشطان الحبال. 7 شأي: سبق. المشمعل: الفائق. مشاغر: معادي. 8 تعتشيه: تقصده. 9 مستشري: قوي.

ونحن لا نشك في أن الحريري استحوذ على إعجاب معاصريه بهذه الطرفة الغريبة، كما استحوذ على هذا الإعجاب بطرفته السابقة، وهل يستطيع أحد أن يجري على هذه السنة الحريرية، فإذا هو يؤلف رسالة من حرف واحد؟ وإن نفسه ليمتد على هذا النحو الذي نجده في تلك الرسالة الشينية، وليس كل ما في هذه الرسالة من تعقيد، هو هذا الإغراب في بنائها على حرف واحد، فهناك عقد أخرى خلف هذه العقدة، لا بد أن القارئ لاحظها، ولعل في رأس هذه العقد التزامه ما لا يلزم في نهاية أسجاعه، إذ كان يتقيد غالبًا بحرفين أو أكثر، وأيضًا فإنه عنى بالجناس على جميع صوره، إذ نراه يحشد جناس الاشتقاق بكثرة، كما يحشد الجناس الناقص بوفرة، وإنه ليعدل في أثناء ذلك إلى ضروب من اللفظ الغريب، كما نرى في الكلمات التي ختم بها الرسالة: يشرخ ويحوش ويقنفش، ومعانيها على الترتيب: يعلو ويظفر ويجمع. وأكبر الظن أننا قد تعرفنا الآن على فن الحريري، وهو فن يندمج في مذهب التصنع، وما اقترحه له أبو العلاء من عقد مختلفة، وإن الحريري ليحاول أن يأتي ببعض عقد جديدة، فإذا هو يقع على هذه الفكرة، وهي أن يبني كلمات رسالته من حرف واحد، ولكن لا تظن أن هذا هو كل ما عند الحريري، فإن رسائله لم تستوعب جميع ألوان مهارته في هذا الجانب، إنما الذي استوعب مهارته حقًا هو مقاماته.

التعقيد في مقامات الحريري

6- التعقيد في مقامات الحريري: تعد مقامات الحريري أهم نموذج أدبي ظهر في العصر العباسي بعد نمادج أبي العلاء، وقد أخذ الناس يشيدون بها منذ ظهورها، وعبروا عن هذه الإشادة، بعبارات مختلفة، لعل من أطرفها ما جاء عن الزمخشري، وكان يعيش في عصر الحريري تقريبًا، إذ يقول1:

_ 1 النجوم الزاهرة لابن تغري بردي "طبع دار الكتب" 5/ 225.

أقسم بالله وآياته ... ومشعر الحج وميقاته إن الحريري حري بأن ... نكتب بالتبر مقاماته أما ياقوت، فيقول: إن الحريري "أبر بكتاب المقامات على الأوائل، وأعجز الأواخر"1، ويقول أيضًا: لقد وافق كتاب المقامات "للحريري" من السعد ما لم يوافق مثله كتاب؛ فإنه جمع بين حقيقة الجودة والبلاغة، واتسعت له الألفاظ وانقادت له البراعة ... حتى لو ادعى بها الإعجاز لما وجد من يدفع في صدره، ولا من يرد قوله ولا يأتي بما يقاربها فضلًا عن أن يأتي بمثلها، وقد رزقت -مع ذلك- من الشهرة وبعد الصيت، والاتفاق على استحسانها من الموافق والمخالف ما استحقت وأكثر "2، ويقول ابن خلكان: إن الحريري "رزق الحظوة التامة بعمل المقامات"3، وبينما يشيد هؤلاء بعمل الحريري في مقاماته نجد آخرين يحطون من هذا العمل، وعلى رأسهم ابن الطقطقي؛ إذ زعم أن المقامات البديعية، والحريرية تصغر الهمة؛ لأنها بنيت على السؤال والاستجداء والتحيل القبيح4، والطريف أن الحريري أشار في مقدمة مقاماته إلى أن سيغض منها بعض الناس، إذ يقول: "إني وإن أغمض لي الفطن المتغابي، ونصح عني المحب المحابي، لا أكاد أخلص من غمر جاهل، أو ذي غمر "حقد" متجاهل، يضع معنى لهذا الوضع، ويندد بأنه من مناهي الشرع، ومن نقد الأشياء بعين المعقول، وأنعم النظر في مباني الأصول، نظم هذه المقامات، في سلك الإفادات، وسلكها مسلك الموضوعات، عن العجماوات والجمادات، ولم يسمع بمن نبا سمعه عن تلك الحكايات"5، واوضح أن الحريري يحتج على صواب عمله بكتاب كليلة ودمنة، وأمثاله من القصص التي بنيت على الحيوان، فإن أحدًا لم يذمها لما فيها من حكم وآداب، ولكن هل يفهم من ذلك أنه قصد إلى بث

_ 1 معجم الأدباء 16/ 262. 2 نفس المصدر 16/ 267. 3 وفيات الأعيان "طبع المطبعة الميمنية" 1/ 419. 4 الفخري في الآداب السلطانية ص10. 5 مقامات الحريري مع شرح الشريشي "الطعبة الثانية ببولاق" 1/ 18.

معان أخلاقية في مقاماته؟ إن من يقرأها قلما يرى شيئًا من ذلك، إلا في المقامة الدمشقية والمقامة الساوية، ويظهر أنه كان مشغولًا عن هذه المعاني بتدبيج أساليبه، وتحبيرها. وتبلغ عدة مقاماته خمسين، وهي كمقامات البديع، كلها حكايات درامية تفيض بالحركة التمثيلية، وإن كان الحريري لم يقصد بها إلى القصص من حيث هو، وإنما قصد بها إلى تعليم الناشئة الأساليب الأدبية، وقد بناها على الرواية إذ يروي الحارث بن همام أحاديثها، ويقول ابن خكان: إنه عنى بهذا الحارث نفسه أخذًا من قوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم حارث وكلكم همام"، والحارث: الكاسب، والهمام: كثير الاهتمام1، أما الأديب المتسول الذي تروى عنه المقامات، والذي يقابل عند الحريري أبا الفتح الإسكندري عند بديع الزمان، فهو أبو زيد السروجي، وهو من أهل الكدية الذين احترفوا التسول متخذين وسيلتهم إلى ذلك الحلب بصوغ اللسان، وسحر البيان، وصور الحريري في المقامة الساسانية دواعي هذا التسول، ودوافعه، ويزعم ياقوت2 وكذلك ابن خلكان3 أن شخصيتة أبي زيد شخصية حقيقة، ولكن الباحثين المحدثين يتهمون ذلك ويردونه4؛ لأنه لا مبرر له، وما أبو زيد إلا كأبي الفتح الإسكندري صاحب بديع الزمان، بل كأي بطل لقصة أخرى، ليس من الضروري أن يكونوا معبرًا عن حقيقة خلفه. والمعروف أن الحريري استهل كتابة مقاماته بالمقامة الثامنة والأربعين، وهي المسماة باسم المقامة الحرامية، ثم أخذ في كتابة بقية المقامات5، وقد بدأ في هذا العمل عام 495هـ، انتهى منه عام 504هـ6، وأقر في مقدمتها بأن الذي أشار عليه بكتابتها شخص "إشارته حكم، وطاعته غنم"7، وهو

_ 1 وفيات الأعيان 1/ 420. 2 معجم الأدباء 16/ 263، وكذلك ص 272. 3 وفيات الأعيان 1/ 419. 4 انظر في دائرة المعارف الإسلامية ترجمة الحريري، ومادة مقامه. 5 معجم الأدباء 16/ 263. 6 معجم الأدباء 16/ 283. 7 مقامات الحريري مع شرح الشريشي 1/ 11.

السياسي الفارسي المشهور أنو شروان بن خالد1، الذي كان وزيرًا تحت إمرة الخليفة المسترشد بالله، والسلطان مسعود السلجوقي2، ورأى ابن خلكان على نسخة من المقامات، كتبها الحريري نفسه أنه صنفها لوزير آخر للمسترشد يسمى ابن صدقة3، فشك في الرواية الأولى، التي تذهب إلى أن أنوشروان بن خالد هو الذي أشار عليه بها، ولكن من يدري؟ ربما كانت المسألة لا تزيد على أن الحريري كتب نسخة، وأهداها إلى ابن صدقة! ويقال: إن الحريري كتب خطه على سبعمائة نسخة من مقاماته قرئت عليه4، وأكبر الظن أن اهتمامه بها على هذا النحو، هو الذي حال بينها وبين البتر والحذف، والتغيير، ولذلك كانت مقاماته من هذه الوجهة، أتم وأطرف من مقامات البديع التي تبدو مبتورة في كثيرة من الأحيان. ولعل أهم جانب تفترق به مقامات الحريري من مقامات بديع الزمان، هو أنها كتبت في ظلال مذهب التصنع وعقده، بينما كتبت مقامات البديع في ظلال مذهب التصنيع وزخرفه، وليس معن ذلك أن الحريري لم يبن مقاماته على السجع، ولا على وشي البديع، بل لقد بناها على أساس هذه المواد، ولكنه أخرجها في صورة جديدة هي صورة مذهب التصنع، وما يمتاز به من تصعيب الأداء، إما بجلب أشياء غريبة عن دوائر الفن من حيث هو، وإما بتعقيد ما يندمج في هذه الدوائر من جناس، وغير جناس، وإما باستحداث طرق جديدة كالطريقة التي قابلتنا في رسائله، إذ وجدناه يبني بعضها على حرف واحد، ومن يرجع إلى مقدمة مقامات الحريري يجده يقول فيها: إنها تحتوي على "ما وشحتها به من الآيات، ومحاسن الكنايات، ورصعته فيها من الأمثال العربية، واللطائف الأدبية، والأحاجي النحوية، والفتاوى اللغوية، والرسائل المبتكرة، والخطب المحبرة"5. وهذا نفسه الذي يجعلنا نقول: إن الحريري عقد أسلوب الكتابة

_ 1 معجم الأدباء 16/ 263، ووفيات الأعيان 1/ 420. 2 Nicholson, Lit Hist. of Arabs. 3 وفيات الأعيان 1/ 420. 4 معجم الأدباء 16/ 267. 5 مقامات الحريري مع شرح الشريشي 1/ 13.

في مقاماته، فهو يعترف منذ السطور الأولى فيها بأنه سيوشحها بالآيات القرآنية، وكان هذا التوشيح إحدى سمات أصحاب التصنع، وهو لا شك مقصد جميل في ذاته، ولكنه يقترن بأشياء أخرى تتصل بتصعيب الأداء وتعقيده، ولعل أول ما يلاحظ من ذلك هو الكنايات، التي يشير إليها الحريري، وإنها لتحيل كثيرًا من جوانب مقاماته إلى ما يشبه الألغاز، وارجع إلى المقامة التاسعة عشرة الملقبة بالمقامة النصيبية تجده يكثر من الكنايات على النحو مبعد في الإغراب، إذ يكنى عن الموت بأبي يحيى، وعن الجوع بأبي عمرة، وعن الخوان بأبي جامع، وعن الخبز الحواري بأبي نعيم، وعن الجدي بأبي حبيب، وعن الخل بأبي ثقيف، وعن الملح بأبي عون، وعن البقل بأبي جميل، وعن السكباج بأم القرى، وعن الهريسة بأم جابر، وعن الفالوذج بأبي العلاء، وعن الطست والإبريق بالمرجفين، وهو حقًا لا يكثر في مقاماته الأخرى من هذه الكنايات، ولكنها على كل حال موجودة في جوانب كثيرة منها، وهو كما يوشح مقاماته بهذه الكنايات، كي يعقد أسلوبها، نراه يرصعها -كما يقول في المقدمة- بالأمثال على نحو ما نجد في المقامة الوبرية، وقد قال: إنه وضع في المقامة الحجرية بضعة عشر مثلًا1، وكما عني بالأمثال عني بالحكم على نحو ما نجد في المقامة القهقرية، أما الأحاجي النحوية، فقد خصص لها المقامة المسماة بالمقامة النحوية، إذ عرض فيها طائفة من أحاجي النحو ومشاكله، وكما عني بأن يخصص للنحو مقامة، كذلك عني بأن يخصص للفقه مقامة سماها المقامة الطيبية ذكره فيها مائة مسألة فقهية. أرأيت كيف تطور الفن في النثر العربي، وأنه أصبح يعتمد على أشياء لم نكن نألفها عند التاب قديمًا؟ فإذا الحريري يسلكط في مقاماته مسائل النحو والفقه، كما يسلك فيها الكنايات والأمثال، وكل ذلك ليقدم لمعاصريه طرائفه الجديدة، وهو لا يقف عند ذلك، إذ نراه يعمد -كما يقول في مقدمته- إلى

_ 1 مقامات الحريري مع شرح الشريشي 3/ 378.

الفتاوى اللغوية من ذكر بعض الاشتقاقات والأبنية الغريبة، ولعل ذلك ما جعل ابن خلكان يقول: إنها "اشتملت على كثير من كلام العرب من لغاتها"1، وشكا الشريشي شارحها في مقدمته من هذا الجانب فيها وصعوبته، وما من ريب في أن ذلك يدلنا على أن الحريري كان يبحث عن وسائل جديدة، يوشى بها عمله، ولكنه حين اتجه هذا الاتجاه ضل سبيله، فوقع في هذه الطرق الغريبة من التصنع لشوارد اللغة، أو شوارد الأمثال، أو مسائل النحو، أو مسائل الفقه أو غرائب الكنايات، كأن اللغة العربية قد أجدبت، ولم تعد تستطيع أن تقدم من زخارف التعبير سو هذه الطرق الملتوية المعقدة، التي لا تتصل بالفن ولا بأي زخرف من زخارفه، إلا إذا جلعنا التعقيد من حيث هو زخرفًا وفنا يقصد لذاته. ويشير الحريري -في مقدمة مقاماته- إلى رسائل مبتكرة وخطب محبرة، وإذا ذهبنا نبحث عن هذه الرسائل، والخطب لنرى ما فيه من طرافة يدل بها الحريري، وجدنا هذه الطرافة تستقر في صور معقدة بل قل: في صور ملتوية، إذ مضى يؤلف رسالة على هذا النمط2: "أخلاق سيدنا تحب، وبعقوته يلب3، وقر به تحف، ونأيه تلف، وخلته نسب، وقطيعته نصب، وغربه ذلق4، وشهبه تأتلق، وظلفه5 زان، وقويم نهجه بان، وذهنه قلب وجرب، ونعته شرق وغرب ... معاظم شرفه تأتلف، وشؤبوب حبائه يكف6، ونائل يديه فاض، وشح قلبه غاض، وخلف7 سخائه، يحتلب، وذهب عيابه يحترب8، من لف لفه فلج وغلب، وتاجر بابه جلب وخلب". والرسالة تمضي على هذا النحو الذي نرى فيه كل كلمة تتألف من حروف

_ 1 وفيات الأعيان 1/ 419. 2 انظر الرسالة بأكملها في المقامة المسماة بالرقطاء. 3 العقوة: الفناء، يلب: يقام. 4 الغرب: حد السيف، ذلق: حاد. 5 الظلف: العفاف. 6 الحباء: العطاء. يكف: يسيل. 7 الحلف: الضرع. 8 العياب: الحقائب. يحترب: يستلب.

منقوطة، وغير منقوطة بحيث لا تتوالى بل دائمًا تتفاصل هذا التفاصل، الذي يجعل الطرف ينتقل بين حرف منقوط، وغير منقوط، أرأيت إلى هذا البدع الجديد بدع الحريري؟ وإنه لبدع يبرهن به على مقدرته، ومهارته في صوغ الكلام، ولكن أي صوغ؟ طبعًا هذا الصوغ المعقد في الأداء، فإذا هو لا يستقيم في كتابته، بل يعوج هذا الاعوجاج الذي يتيح له مثل هذه الصعوبات والتعقيدات، وقد ألف خطبة -في المقامة المسماة بالواسطية- من كلمات لا تشتمل على أي حرف منقوط، وقدمها بقوله: إنها "لم تفتق رتق سمع، ولا خطب بمثلها في جمع"، وليست هذه هي كل طرائف الحريري، فقد كان ما يزال يبحث عن طرائف جديدة، يظهر بها مهارته في تعقيد أدائه بالقياس إلى من سبقوه وعاصروه، وذهب يحاول غريبة، هي أن يأتي بالجملة ثم يعكسها في الجملة التالية، وسمي ذلك في المقامة المغربية ما لا يستحيل بالانعكاس، ومثل له بقوله: "لم أخا مل، كبر جاء أجر ربك من يرب1 إذا برينم، سكت كل من نم لك تكس2، بكل مؤمل إذا لم وملك بذل".؟ وهذه آخر صورة، وصل إليها التعقيد عند الحريري، فقد ذهب يقلب تعبيراته هذا القلب لتطرد له صورة من الألفاظ المتعاكسة في عباراته، وكأن ذلك هو ما يحرص عليه الفن في أساليبه! ولكن أي أساليب؟ أنها طبعًا أساليب التصنع، وما يطوى فيه من تعقيد، وتصعيب في طرق الأداء على هذه الهيئة، فإذا الكاتب يفر من الأداء المستقيم إلى الأداء الملتوي، لا ليدل على شيء سوى مهارته في اللعب والعبث بالألفاظ، وأنه لعبث ينتهي به إلى هذه الصورة الهندسية، التي لا تحوي فنا ولا جمالًا، وإنما تحوي تعقيدًا، كأنما التعقيد غاية ينبغي أن يطلبها الكاتب في آثاره وأعماله، ونحن في الواقع نبحث عبثًا إذا حاولنا أن نجد كاتبًا مهمًا بعد أبي العلاء، لا يركب مثل هذه الطرق الملتوية في تعبيره الفني، إذ كانت هي المقاييس التي تقاس بها مقدرة الكاتب وبراعته، وليس معنى ذلك

_ 1 يرب: يصون الصنيعة. 2 تكس: تكن كيسًا.

أننا ننكر جمال مقامات الحريري، وتوفيقه في كثير من جوانبها، وإنما نريد أن نلاحظ هذه الملاحظة، وهي أن خير نموذج أدبي قدمته لنا العصور التالية بعد أبي العلاء، لم يستطع صاحبه أن ينفذ به إلى إعجاب الناس من حوله دون أن يضع لهم فيه ضروبًا من التعقيد، والتصعيب في الأداء بجانب ما فيه من سجع رشيق وترصيع وبديع، فقد مسح عليه لا بالتزامه ما لا يلزم في نهاية سجعاته، بل باستخدامه الواسع للكنايات، والأمثال، والمسائل النحوية، والفقهية والشعبذة برسالة رقطاء، وخطبة من ذوات الحروف المهملة، وما يتصل بذلك من استخدام ما لا يستحيل بالانعكاس، فإن هذه الجوانب كلها سقطت إلى عمله عن طريق مذهب التصنع، الذي كان يعجب به وبأصحابه، ومن الخطأ أن نبحث في هذه العصور عن كاتب لا يستخدم مثل هذه العقد والطرق الملتوية في فنه، فقد كان ذلك الذوق العام للناس، وكان الكاتب ما يزال يحتال على إرضاء هذا الذوق بصور وطرق مختلفة، وما من شك في أن الحريري كان يعرف ذلك معرفة دقيقة، ومن أجله ذهب يغرب على الناس في مقاماته بهذه المواد التي قدمناها حتى يظفر بإعجابهم، وقد استمرت به رغبته تلك، حتى استطاع أن يستحدث هذه الطرفة الغريبة، طرفة ما لا يستحيل بالانعكاس، وهي طرفة تعبر أبلغ تعبير، عما انتهى إليه الفن لعصر الحريري من تصعيب وتعقيد.

الحصكفي وتعقيده

7- الحصكفي وتعقيده: وإذا كنا قد القينا في القرن الخامس بالحريري، فإننا نلتقي في القرن السادس بالحصكفي، وهو يحيى بن سلامة خطيب ميافارقين "نشأ بحصن "كسيفا"، وقدم بغداد، واشتغل بالأدب على الخطيب، أبي زكريا البريزي، وأتقنه حتى مهر فيه ... ثم رحل عن بغداد راجعًا إلى بلاده، ونزل ميافارقين واستوطنها، وتولى بها الخطابة ... وكان يتشيع، وهو في شعره ظاهر، وتوفي سنة 551هـ، وكانت ولادته في حدود سنة ستين وأربعمائة"1، وتلمذة الحصكفي للتبريزي، تجعلنا نلاحظ أنه اتصل بمدرسة أبي العلاء، فقد كان التبريزي تلميذًا لأبي العلاء، وعنه لقف الأدب الحصكفي، ومعنى ذلك أنه تلميذ غير مباشر لأبي العلاء، ولذلك لم يكن غريبًا أن يتأثر به في كل ما كتب، فهو يستن بسننه، إذ يعني بتعقيد آثاره، وهو تعقيد كان يعتبر الدليل الأول في تلك العصور على مهارة الكاتب، وبلاغته. ومن يقرأ ما كتبه العماد الأصبهاني عنه في الخريدة، يجده يشيد به وبطريقته الفنية إشادة عظيمة، إذ يقول في مقدمة ترجمته: "علامة الزمان في علمه، ومعري العصر في نثره ونظمه، بل فضل المعري بفضله وفهمه، وبذ الحريري برقة طبعه، وقوة سجعه، وجودة شعره، وغزارة أدبه، وانفراده، بأسلوبه في الشعر ومذهبه. له الترصيع البديع، والتجنيس النفيس، والتطبيق والتحقيق، واللفظ الجزل الدقيق، والمعنى السهل العميق، والتقسيم المستقيم، والفضل السائر المقيم، والمذهب المذهب، والقول المهذب، والفهم الشهم، والفكر البكر، والقافية الشافية، كأنها العافية، والمعيشة الصافية، والروي الروي، والزند الوري والخاطر الجري، الجامع في الوزن، بين در الحزن ودر المزن، تود الشعرى لو أنها شعار شعره، والنثرة أنها نثار نثره، والزهرة أنها كوكب سمائه، والمشتري أنه مشتري ثنائه، غنيت الغانيات عن قلائدهن بفرائده، وأحبت الخصور أن توشح عوض مناطقها بدر منطقه، وحسدت عيون الغواني عيون معانيه، غبطت أحداق الحسان أحداث محاسنه، وحدائق قوافيه ما فارق ميافارقين، بل كان منزله محط رحال المسترشدين"2، وفي دار الكتب قطعة مخطوطة من نثر الحصكفي وشعره، ومن ينظر فيها يحس العلاقة الوثيقة بينه، وبين أبي العلاء، ويهمنا هنا أن نعرض لنثره وهو ينساق جملة في جريقة أبي العلاء، وحتى ما عند أبي العلاء من تشاؤم نجده عند الحصكفي، وقد أهل له تشيعه، كما أهلت له

_ 1 وفيات الأعيان 20/ 237 ونظر معجم الأدباء 20/ 18. 2 الخريدة: "قسم شعراء الشام، طبع المجمع العلمي العربي بدمشق" 2/ 472.

وظيفة الخطابة، وما تجر إليه من وعظ ديني، ومع ذلك فله شعر في الخمر، وربما صنعه من باب التقليد، ومن شعره الطريف قصيدة كتب به إلى كمال الدين الشهرزوري بالموصل، بدأها بقوله: أداروا الهوى صرفا فغادرهم صرعى ... فلما صحوا من سكرهم شربوا الدمعا وأول رسالة تلقانا من مجموعة الحصكفي، المخطوطة رسالة سماها الكدرية أرسلها إلى أصدقائه بآمد، وقد كتبها على لسان قطاتين تتناجيان، وفيها إغراب أبي العلاء وبعد إشارته، وله رسالة طويلة كتبها على لسان قصار، وصياد لمداعبة بعض أصدقائه، ويقول العماد: إنها "مقامة مصنوعة مجنسة"1. ولعل أهم ما يلاحظ في كتابة الحصكفي أنها مليئة بالجناس، وهو لا يكتفي بالجناس الطبيعي، بل يجنح إلى الجناس الصناعي الملفق الذي تستخدم فيه الصور المعقدة، واستمع إليه في إحدى رسائله2: "النفس بعقود التذرع حالية، ولقعود التعذر حايلة، ومن الودائع المعجزة مالية، وإلى الدواعي المزعجة مايلة، وفي بحار الحمدراسية، وإلى رحاب المدح سارية، تجمح إلى مواصلة القمر، وتحجم عن مصاولة القرم، لتكف بأظفار الأمل، وتفك من أظفار الألم، فهل كامل يعني، ومالك يعين، ومقتصد يدني ومتصدق يدين، فالرغبة إلى الشهب، من الغربة في الشبه، رغبة من قصد بالإلهام، مواقع السحاب إلهام". أرأيت إلى هذه العبارات، التي تتتابع في إحدى رسائل الحصكفي على هذا النحو، فإذا كل كلمة في السجعة الأولى تعود في السجعة الثانية، ولكن مع شيء من القلب، والعكس في هيئتها وصورتها، فإذا "عقود" في السجعة الأولى تصبح "قعود" في السجعة الثانية، وإذا "التذرع" تصبح "التعذر"، و"حالية" تصبح "حايلة"، وهكذا السجعات التالية تشتق كل كلمة في العبارة التالية من

_ 1 الخريدة "قسم شعراء الشام" 2/ 515. 2 انظر رسائل الحصكفي "نسخة مخطوطة بدار الكتب" ورقة 19، وانظر الخريدة "قسم شعراء الشام" 2/ 497.

كلمة في العبارة السابقة، وهذه هي مهارة الحصكفي، التي أشاد بها العماد الأصبهاني، فهو يستطيع أن يعقد كتابته على هذا النحو، فإذا هي تتحول إلى لعب، وهي لعب كانت تستهوي الأدباء في عصر الحصكفي استهواء شديدًا، ولعل ذلك ما جعله يكثر من الجناسات على اختلاف ألوانها في كتبه، كقوله من رسالة أخرى1: "فآنس أجمالًا تزم، وأحمالا تضم، وأحوالا تهول، وأهوالا تحول، وأوجالا تصول، وأصوالا تجول، وسمع تنادر القطان بمفارقة الأوطان، وتثويب الداع، بوشك الوداع، وللحداة زجل، وعلى القوم عجل، وقد بنيت القباب، وحثت الركاب، وفي الخدور أشباه البدور، وتحت الأكلة، أمثال الأهلة، وأيدي النوى لاعبة، وغربانه ناعبة، والحي قد طرق، والصواع قد سرق، وضمن مؤذن العير، لمن جاء به حمل بعير؛ يا له من عامري، يئس من عام ري". وأنت ترى في هذه القطعة ضروب الجناس المختلفة من ناقص، ومعكوس ومقطوع، وموصول، وكل ذلك كان يأتي به الحصكفي ليثبت تفوقه، ومهارته، وأنه يستطيع أن يستخرد كل ما يمكن من عقد التصنع وصعوباته، وكان الناس من حوله يعجبون بهذا التصنع إعجابًا شديدًا، ويظهر أنه كان يتأثر بالحريري كما كان يتأثر بالمعري، إذ نراه يقلده في صنع رسالة سينية2 كسينيته، التي مرت بنا، وأيضًا فإنه صنع رسالة ألفها من الحروف المهملة3 على نحو ما أشرنا إليه عند الحريري في خطبته، التي ألفها من حروف غير منقوطة، وليس ذلك كل ما نلاحظ عند الحصكفي من تأثر بالحريري، فإن في رسالته رسالة فقهية4، قلد فيها المقامة الفقهية عند الحريري، وهي التي تسمى المقامة الطبية، وبجانب ذلك نجده يؤلف مقامة كبيرة، وقد افتخر بأنه ذكر فيها مائة وأربعين كلمة غريبة5، وما من ريب في أن ذلك كله يدل على مدى ما كان يحاوله الحصكفي من تعقيد في رسائله وآثاره، هو تعقيد دفعه إلى أن يجمع كل هذه الظروف في أعماله، حتى يقع من معاصريه موقعًا بديعًا.

_ 1 رسائل الحصكفي ورقة 21، والخريدة "قسم شعراء الشام" 2/ 498. 2 رسائل الحصكفي ورقة 65. 3 رسائل الحصكفي ورقة 73. 4 نفس المصدر ورقة 50. 5 نفس المصدر ورقة 107، وما بعدها.

التعقيد ظاهرة عامة

8- التعقيد ظاهرة عامة: رأينا الحريري، والحصكفي يعقدان كتابتهما ما استطاعا من تعقيد، ولم يكن هذا دأبهما وحدهما، بل كان دأب جميع الكتاب الذين خلفوا أبا العلاء في المشرق، إذ انتهت الأعمال الأدبية إلى بث صور التعقيد، التي اقترحها. ولم يعد هناك إلا أن يضيف الكتاب صورًا مماثلة علها تثبت تفوقهم، ومهارتهم، ونحن نقف عند صدر رسالة، كتب بها أديب من غزنة أشاد به ياقوت في معجمة، وهو عطاء بن يعقوب بن ناكل، وكان ينظم بالفارسية والعربية، ويقول ياقوت في وصف بلاغته: "تشرئب إلى قلائده أجياد الأنام، وتتباهى برسائله مواقع الأقلام، ولم يزل منذ شب إلى أن اشتعل الشيب برأسه، ورسب قذى العمر في آخر كأسه، بين اقتباس يصطاد به وحوش الشوارد، وإقباس ينثر منه لآلئ القلائد ... وقد سافر كلامه من غزنة إلى العراق، ومن ثم إلى سائر الآفاق.. وكيف لا وما من كلمة من كلماته، إلا وحقها أن تملك بالأنفس وتقتني، وتباع بالأنفس وتشترى"1. ويستطرد ياقوت من ذلك إلى إعطاء نموذج من نثره، فإذا هو صدر كتاب صدر منه إلى بعض الصدور، وهو يمضي على هذا النمط"2: "أطال الله بقاء الشيخ في عز مرفوع كاسم كان، وأخواتها إلى فلك الأفلاك، منصوب كاسم إن وذواتها إلى سمك السماك موصوف بصفة النماء، موصول بصلة البقاء، مقصور على قضية المراد، ممدود إلى يوم التناد، معرف به مضاف

_ 1 معجم الأدباء 12/ 171. 2 نفس المصدر 12/ 172.

إليه، مفعول له موقوف عليه، صحيح سالم من حروف العلة، غير معتل ولا مهموز همز المذلة، يثنى ويجمع دائمًا جميع السلامة والكثرة، لا جمع التكسير والقلة، ساكن لا تغيره يد الحركة مبني على اليمن والبركة، مضاعف مكرر على تناوب الأحوال، وزائد غير ناقص على تعاقب الأحوال. مبتدأ به خبره الزيادة، فاعل مفعوله الكرامة، مستقبله خير من ماضيه حالًا، وغده أكثر من يومه وأمسه جلالًا، له الاسم المتمكن من إعراب الأماني، والفعل المضارع للسيف اليماني، لازم لربعه لا يتعدى، ولا ينصرف عنه إلى العدا، ولا يدخله الكسر والتنوين أبدًا، يقرأ باب التعجب من يراه منصوبا على الحال أعلى ذراه، متحركًا بالدولة والتمكين، منصرفًا إلى ربوة ذات قرار ومعين". وفي هذه القطعة ما يدل دلالة واضحة، على مدى ما وصل إليه الكتاب من تعقيد لكتابتهم بمصطلحات العلوم، يدخلونها في آثارهم على نحو ما أدخل عطاء بن يعقوب مصطلحات النحو في هذه القطعة، وكانوا إذا تركوا مثل هذه العقد، التي يستعيرونها من العلوم، ذهبوا يعقدون وسائل الفن القديمة على نحو ما رأينا من تعقيد الجناس عند الحصكفي، وقد عمت هذه الروح في العراق وخراسان والشام، وكما عمت في هذه الأقاليم، عمت في الأقاليم الأخرى، فقد روى ياقوت رسالة كان يرويها الحافظ، السلفي، المشهور عن أديب يمني، هو ابن قم الزبيدي، المتوفى عام 581هـ، وكان من المبرزين في النظم والنثر والكتابة1، والرسالة تمضي على هذا النحو2: "كتب عبد حضرة السلطان الأجل، ومولاي ربيع المجدبين وقريع المتأدبين، جلوة الملتبس، وجذوة المقتبس، شهاب المجد الثاقب، ونقيب ذوي الرشد والمناقب، أطال الله بقاءه، وأدام علوه وارتقاءه، ما قدمت العارية للمستعير، ولزمت الياء للتصغير، وجعل رتبته عالية المقام، كحرف الاستفهام، وكالمبتدأ إن تأخر في البنية، فإنه مقدم في النية، ولا زالت حضرته من الحادثات حمى، وللوفود

_ 1 معجم الأدباء 10/ 130. 2 نفس المصدر 10/ 132.

مزدحمًا وملتزمًا، حتى يكون في العلا، بمنزلة حرف الاستعلا، وهو من حروف اللين في حصون، وما جاورها من الإمالة مصون، ولا زال عدوه كالألف، حالها، يختلف، تسقط في صلة الكلام، ولا سيما مع اللام، فإنه -أدام الله علوه- أحسن إلى ابتداء، ونشر علي من فضله رداء أراد أن يخفى، وكيف يخفى؟ لأن من شرف الإحسان، سقوط ذكره عن اللسان، كالمفعول رفع رفع الفاعل والكامل، لما حذف من الكلام ذكر الفاعل....". وواضح ما في هذه القطعة من رسالة ابن قم من تعمل لإدخال النحو ومصطلحاته في أساليب الرسائل وألفاظها، فإذا هي تغدو، وكأنها متن من متون النحو لا نموذج من نماذج الفن، وإذا كان ابن قم يتعمل هذا التعمل في كتابته باليمن، فإن كتاب الأقاليم الأخري أيضًا، كانوا يأتون بمثل هذه الصعوبات، والعقد في كتابتهم، وقد يتخففون من مصطلحات العلوم، ولكنهم يفرطون في استحدام الوسائل الأخرى من الأمثال واللفظ الغريب، أو من تعقيد السجع والجناس، وسنتعقب في القسم التالي من هذا الكتاب المذاهب الفنية في الأندلس، ومصر، وسيرى القارئ أنه منذ القرن الخامس الهجري، أخذ الكتاب في هذين الإقليمين يصدرون في أعمالهم عن هذا الذوق العام، الذي نشره المشرق ذوق التصنع والتعقيد، إذا اندفع الكتاب في هذه الموجة من القرن الخامس للهجرة إلى العصر الحديث، وكأنما أجدب معين الفكر العربي، أو قل: لقد أجدب معين الحضارة العربية، فلم يعد يظهر من جديد إلا هذه الضروب من التعقيد والتصعيب، وإن الإ نسان ليشعر كأن الحياة العربية، قد أصيبت بعطل شديد، وإنه عطل يتسع فإذا مصانع النثر لا تستطيع أن تخرد ضربًا جديدًا أو مذهبا حديثًا، إلا هذه الطرق الملتوية المحملة بالتصنع لمصطلحات العلوم، والتكلف لأشياء شاذة كالأمثال، والإشارات التاريخية والأدبية، وهذا كله كان يأتي تابعًا لأسجاع معقدة، سيطر عليها الجناس المعكوس، وما يطوى فيه من تصعيب في طرق الأداء، وقد جمدت العصور التالية عند هذا الأسلوب، ولم تستطع أن تنحرف عنه إلى منهج جديد، أو أسلوب حديث.

الكتاب الثالث: المذاهب الفنية في الأندلس ومصر

الكتاب الثالث: المذاهب الفنية في الأندلس ومصر الفصل الأول: الأندلس والمذاهب الفنية 1- الأندلس: تقع الأندلس في الطرف الجنوبي الغربي من أوربًا، وهي تؤلف شبه جزيرة كبيرة تفصلها عن بلاد الغال، في الشمال سلسلة جبال البرانس، كما يفصلها عن أفريقيا في الجنوب زقاق ضيق هو مضيق جبل طارق، بينما يقع في غربيها هذا المحيط الواسع، الذي كان في العصور القديمة والوسطى يشبه صحراء مائية لا نهاية لها، ونقصد المحيط الأطلسي، الذي سماه العرب باسم بحر الظلمات، أما في شرقيها، فيقع بحر الروم الذي كان صلتها بالمدنيات الفينيقية، واليونانية والرومانية ثم العربية، وقد سكن الأندلس -أول الأمر- أقوام من البسك والسلت والجلالقة، وأتى عليها حين من الدهر، وهي منعزلة عن الحضارات القديمة، ولكن سرعان ما أتاها قبس من هذه الحضارات، عن طريق الفينيقيين، واليونانيين الذين استعمروا بعض جهاتها، ولما نشب الصراع بين روما وقرطاجنة الفينيقية، وانتصرت الأولى على الأخيرة استولت على ممتلكاتها، وضمت الأندلس -فيما ضمت- بين جناحيها وسمتها إسبانيا اسمها المعروف الآن، ومنذ ذلك الوقت أصبحت إسبانيا ولاية رومانية، ونشرت روما بها المسيحية، كما نشرت بها لغتها اللاتينية، وكان ذلك سبببًا في أن ساهمت الأندلس -من بعض الوجوه- في التراث اللاتيني، القديم، غير أن موجات القبائل الجرمانية لم تلبث أن اندفعت إلى الأندلس، إذ أغار عليها قبائل القندال، وأسسوا بها دولة أقاموها على نهر الوادي الكبير سموها باسم دولة القندال، ومن اسم هذه الدولة اشتقت كلمة القندالس، التي حورها العرب إلى كملة أندلس، وأطلقوها على تلك البلاد

جميعًا، وأقبلت بعد القندال موجة جديدة جرمانية هي موجة القوط، وتم لها الغلب على الموجة القديمة موجة القندال، وحكمت البلاد من القرن الخامس الميلادي، حتى فتحها موسى بن نصير في أواخر القرن السابع "عام 92هـ". وكان جيش موسى مؤلفًا من العرب والبربر، إلا أن البربر كانوا أكثر نفرًا، ولما سمع العرب، والبربر جميعًا بخصب الأندلس، وما فيها من كنوز، ومعادن أكثروا من الرحلة إليها، وقد رحلوا ومعهم خصوماتهم التي نعرفها بين القيسية واليمنية، وأضافوا إليها خصومات أخرى، كانت تنشأ دائمًا بين العرب والبربر، وليست هذه الخصومات هي كل ما في الأندلس، فقد كانت هناك خصومات أخرى دائمة بين الجيوش النازحة من العرب، والبربر وبين سكان البلد الأصليين، ومن المعروف أن العرب تسامحوا في إسبانيا مع سكانها، وكان من نتيجة هذا التسامح أن ظل للمسيحيين هناك نظام خاص في تقاضيهم ومعاملاتهم، وبذلك كان لهم برزوهم في الهيئة الاجتماعية، بل لقد كانت بعض البلاد -وخاصة الشمالية- مسيحية خاصلة، مما ساعد على قيام الفتن الدائمة بين المسيحيين والمسلمين، وكان كثير من الشبان المسيحيين يستشهدون في سبيل دينهم بصور فدائية مختلفة، كأن يذهبوا إلى المسجد الجامع، فيسبوا الدين الإسلامي! وقد عرض "دوزي" في كتابه "تاريخ مسلمي إسبانيا" لهذه الظاهرة. وقد كانت الأندلس في العهد الأموي يحكمها ولاة مختلفون، حتى إذا قامت الدولة العباسية، رأينا عبد الرحمن الداخل يفر إليه، ويؤسس بها دولة أموية تعتبر امتدادًا لدولة الأمويين في المشرق، تلك الدولة التي قوضها العباسيون، وقد سمى أبو جعفر المنصور عبد الرحمن باسم صقر قريش، وهو جدير بهذه التسمية، فقد استطاع أن يقيم لنفسه هناك دولة استمرت في أبنائه، وأحفاده من عام 138هـ إلى عام 422هـ، وكان عهد عبد الرحمن الناصر "300-350هـ"، من أزهى عهود هذه الدولة، وكذلك عهد ابنه الحكم "350-366هـ"، وعهد الوزير المشهور: المنصور بن أبي عامر المتوفى عام 392هـ، ولكنا لا نترك هذه العهود كلها إلى القرن الخامس، حتى تضعف الدولة وتختل،

فيقوم نظام جديد هو نظام ملوك الطوائف، وفيه تنقسم الأندلس الكبيرة إلى أندلسيات صغيرة، ففي كل بلد كبير تظهر دولة مثل دولة المعتمد بن عباد في إشبيلية، وابن الأفطس في بطليوس، وذي النون بطليطلة، وقد أدى ضغط المسيحيين في الشمال على هذه الأندلسيات، أو هذه الدويلات أن تفزع إلى دولة المرابطين في المغرب، فتلبيها وتحتل البلاد للدفاع عن المسلمين هناك، ثم تدخل الأندلس في حوزة دول الموحدين، ويظهر بنو هود في أوائل القرن السابع الهجري، ثم بنو الأحمر ملوك غرناطة، وتستمر هذه الدولة الصغيرة في معارك مع المسيحيين، حتى تخر جميع الأعلام التي تبقت للعرب في الدروب الباقية من الأندلس، ويضطر من بقي إلى مغادرة البلاد بعد هذه الحقب المتطاولة، التي قضاها العرب هناك، حيث أقاموا حضارة عظيمة لا تزال آثارها في مباني غرناطة، وغيرها من المدن الكبيرة.

شخصية الأندلس

2- شخصية الأندلس: تبدو الأندلس من الوجهة الجغرافية وحدة متجانسة، ولكن من ينعم النظر يجد أن هذه الوحدة تطوي في داخلها وحدات متباينة، لكل وحدة مشخصاتها الجغرافية المستقلة: هناك وحدة على ساحل بحر الروم تتأثر بجوه ومناخه، وأخرى على ساحل المحيط تتأثر بجو ومناخ آخر، وثالثة تتوسط الوحدتين، وهي هضبة مرتفعة تتخللها سلاسل من الجبال، كما تتخللها طائفة من الأنهار يصب بعضها في المحيط، وبعضها في البحر المتوسط، وهذه الشخصية الجغرافية للأندلس كان لها تأثير واضح في شخصيتها السياسية، فإن انقسام البلاد على هذا النحو إلى وحدات متباينة أنتج فيها -مع مرور الزمن- فكرة الاستقلال المحلي، فكل إقليم يحس أنه مباين للآخر، وأنه في حاجة إلى الاستقلال السياسي على نحو ما هو مستقل استقلالا جغرافيًا، وساعد على نمو هذا الشعور في نفوس

الأندلسيين أنهم كانوا من أجناس مختلفة، ففيهم بسك وسلت وجلالقة، وقندال وقوط وفينيقيون، ورومانيون وعرب وبربر، وهذا الخليط المتباين من شأنه أن لا يمتزج وأن يظل فيل خلل يدعوا الناس للثورة والفتن وسفك الدماء، ويكاد الإنسان يؤمن بأنه لم تخل بقعة في الأندلس في أثناء الحكم العربي من دم مسفوح. وليس كل ما يميز الحكم العربي في الأندلس كثرة الفتن والثورات، فهناك مميزات أخرى طريفة، لعل من أهمها قوة رجال الدين، إذ كانوا يقومون من الأمراء مقام المعارضة، وكانوا كثيرًا ما ينقدون ما يقررونه هم، ومجلس وزرائهم من ضرائب فادحة، وكانوا يستشارون في شئون الحكم عامة، فإذا جاء أمير وحاول أن يقلل من نفوذهم ثاروا عليه على نحم ما كان من ثورتهم عام 206 على الحكم الأول، ولما ثار رجال الدين حينئذ ثار معهم أهل قرطبة. ومعنى ذلك أن الشعب في الأندلس، كان يحاول أن يدافع عن حقوقه، وأن يعلن هذه الحقوق في شكل ثورة إن لم يستجب إليها الحكام استجابة سليمة، وأوضح ذلك صاحب نفح الطيب، إذ يقول: "الأغلب عند الأندلسيين إقامة الحدود، وإنكار التهاون بتعطيلها، وقيام العامة في ذلك وإنكاره إن تهاون فيه أصحاب السلطان، وقد يلج السلطان في شيء من ذلك ولا ينكره، فيدخلون عليه قصره المشيد، ولا يعبأون بخيله ورجله حتى يخرجوه من بلدهم، وهذا كثير في أخبارهم، وأما الرجم بالحرج للقضاة، والولاة للأعمال إذا لم يعدلوا فكل يوم"1. وبجانب ذلك نجد للأندلس العربية شخصية اجتماعية تميزها -إلى حد ما - عن شخصية المشرق، ويبدو ذلك في جانبين، أما أولهما فكثرة الغناء والجوقات التي أهلت لظهور الموشحات والأزجال هناك، وأما ثانيهما فمساهمة المرأة في الحياة الأدبية مساهمة، تجعلنا نذكر سيدات فرنسا من صواحب المنتديات "الصالونات" في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وكلنا نعرف أخبار ولادة بنت المستكفي مع ابن زيدون، وغيره من أدباء الأندلس، على أن هذا ليس معناه

_ 1 نفح الطيب "طبع بولاق" 1/ 103.

انفصال الأندلس انفصالًا تامًا من المشرق في حياتها الاجتماعية، فقد كانت تتصل بها، وكانت تأخذ منه كثيرًا حتى في غنائها، إذ نجد زرياب تلميذ إسحاق الموصلي يبدأ حركة الغناء هناك، ويقولون: إنه نقل إلى الأندلسيين -مع غنائه- كثيرًا من آداب المشارقة في طعامهم، وثيابهم وأدوات زينهم1، ومما لا ريب فيه أن ذلك يوضح صلة ما بين الأندلسيين والمشارقة، ولكن على كل حال كانت لهم حياتهم الاجتماعية الخاصة. وإذا كانت الشخصية الاجتماعية للأندلس تتميز من الشخصية الاجتماعية المشرق، فإن شخصيها العلمية على الضد من ذلك، إذ كان الأندلسيون يعتمدون في هذا الجانب اعتمادًا شديدًا على ما يأتيهم من المشرق، ونحن نعرف أن الكثرة من أهل الأندلس في القرون الأولى للفتح العربي، كانوا نصارى، وكانوا يتكلمون اللاتينية العامية في حياتهم اليومية، ويصطنعون اللاتينية الممتازة في كتاباتهم، وخاصة في وما يتصل بها، ولكن هذه اللاتينية الممتازة، لم يتسرب منها شيء واضح للغة العربية في الأندلس، على أننا لا نصل إلى القرن الرابع، حتى نجد أهل الأندلس يهجرون اللاتينية، ويتخذون اللغة العربية مكانها، حتى في طقوسهم الدينية2، ومهما يكن فإن عرب الأندلس لم يفيدوا شيئًا واضحًا في حياتهم العلمية، عن طريق الأندلس نفسها بل جل ما أفادوه أتاهم من المشرق، إذ نقلوا الثروة العلمية المشرقية إلى بلادهم بكل ما فيها من فقه، ودين ولغة ونحو، وفلسفة وطب، وساعدهم في ذلك الخلفاء الأمويون، وعلى رأسهم عبد الرحمن الناصر، وابنه الحكم الذي يقال: أنه كان يمتلك مكتبة تضم مائة ألف مجلد. ولما سمع المشارقة بتشجيع الدولة الأموية في الأندلس للعم، أخذوا يفدون هناك زرافات ووحدانا ابتغاء المجد والشهرة العلمية، وكان الأندلسيون أنفسهم يستبقون الرحلة إلى المشرق للتزود من ثقافته، ومنابعه العقلية، وعقد صاحب

_ 1 انظر ترجمته في نفح الطيب 2/ 749، وانظر أيضًا في ذلك كتاب: R Dozy, Histoire des Musulmans d Espagne, l. 2 Nicholson Lit Hist. of Aeabs, p 415.

نفخ الطيب فصولًا طويلة استعرض فيها من رحلوا من الأندس إلى المشرق، ومن المشرق إلى الأندلس، ومن هذه الفصول نتبين الصلة الشديدة بين الجانبين. ومن يتابع الحركة العلمية في الأندلس، يجد أن الأندلس كانت في القرون الأولى للفتح الإسلامي بطيئة في تلقي الحياة العقلية، وعنيت في أول الأمر بالعلوم الدينية واللغوية، أما العلوم الفلسفية، فكانت تنفر منها، لما فيها من زندقة، وكان ملوكهم كثيرًا ما يأمرون بإحراقها إذا وجدوها، "وبذلك تقرب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه"1، ولعل ذلك هو سبب بطء ظهور المتفلسفة هناك، فإن أول فيلسوف أندلسي، هو ابن باجة المتوفى عام 533هـ، وكان بطء تناولهم الفلسفة، وما يتصل به من منطق أثر في أن عقولهم لم تصطبغ بالصبغة العلمية، التي تؤهلهم لوضع دراسات نظرية كبيرة، ولعل ذلك نفسه كان أحد الأسباب، التي من أجلها لم تظهر عندهم دراسات أدبية جيدة. وإذا كانت الأندلس لم تتميز في شخصيتها العلمية بصفات واضحة تفصلها من المشرق، بل كانت تؤسس على الأصول المشرقية حركتها العلمية، فإنها كذلك في شخصيتها الأدبية، كانت تؤصل حركتها الفنية على الأصول المشرقية، حتى ليقول صاحب الذخيرة في مقدمته لهذا الكتاب، الذي عني فيه بدراسة أدباء الأندلس في القرن الخامس للهجرة: "إن أهل هذا الأفق أبوا إلا متابعة أهل المشرق، يرجعون أخبارهم المعتادة رجوع الحديؤث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طن بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثوا على هذا صنمًا، وتلوا ذلك كتابًا محكمًا"، وقد كتب ابن شهيد رسالة التوابع والزوابع وعرض فيها لشياطين الشعراء، والكتاب الذين أجازوه، وكلهم من شعراء المشرق وكتابه2، وكانوا لا يزالون يرددون، حتى عصر ابن خلدون في القرن

_ 1 نفح الطيب 1/ 104. 2 انظر الرسالة بأكملها في الذخيرة "نشر كلية الآداب بجامعة القاهرة" 1/ 210.

الثامن للهجرة أن "أصول علم الأدب وأركانه أربعة دواوين، وهي أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي"1، وإن الإنسان ليخيل إليه كأنما أحست قوافل العرب في الأندلس، أنها افتقدت حياتها وأصولها جميعًا في أثناء سفرها من المشرق، فرجعت تستعيد هذه الحياة من شعره ونثره، وساع على ذلك كثرة الرحلات العلمية من الأندلس إلى المشرق وبالعكس، كما ساعد عليه رحلتهم السنوية إلى مكة والمدينة للحج، وكل ذلك جعل الأندلس تندمج في الكتلة العربية، إذ كانت طوابع الحياة الأدبية فيها، من الوجهة العامة، هي نفس طوابع المشرق، وإن ظهر اختلاف ففي الفروع لا في الأصول، فإن الأصول كانت أقوى، وأعمق من أن تتأثر بالفوارق الإقليمية.

_ 1 مقدمة ابن خلدون "طبع المطبعة البهية" ص408.

النثر الأندلسي

3- النثر الأندلسي: رأينا الأندلس تندفع نحو تقليد المشرق في عمله وأدبه، وكان هذا الاندفاع طابع الأقاليم العربية عامة، فهي جميعًا تتجه نحو الأم، نحو بغداد، تتغذى منها، وتستمد صفاتها وخصائصها، ومهما غربت وأبعدت عن بغداد، فالخصائص الكبرى للأدب العربي في كل إقليم من أقاليمه واحدة، وكأنما اللغة العربية لا تعرف الاعتداد بالمكان، ولا تعتد به بل قل هي تعرفه، وتعتد به، ولكنها لا تقيم وزنًا كبيرًا لهذه المعرفة، ولا لهذا الاعتداد، بل إنها لتقسوا على الأقاليم التي تدخلها، فإذا أبناؤها لا يتصلون به إلا اتصالا بعيدًا، أما اتصالهم القريب، فإنما هو بالنماذج الأدبية الممتازة، التي اصطنعتها العربية لنفسها في بغداد

واالمشرق، ومن أجل ذلك كنا لا نجد فروقًا جوهرية بين نماذجها في العراق، وفي بلد كالشام ومصر، وحتى الأندلس لا نحس فيها أننا بدلنا بجو المشرق العام جوًّا يختلف عنه تمام الاختلاف، ونحن لا ننكر أثر الإقليمية من حيث هو، فدائمًا توجد في كل إقليم صفات تميز أدبه بعض التميز من أدب الأقاليم الأخرى، ولكن ينبغي أن لا ننزلق من ذلك إلى القطع بأن الأقايم العربية أوجدت لأنفسها آدابًا متخالفة بتخالفها، فإن ذلك إنما ينزلق إليه من لم يقرأ شيئًا في آداب هذه الأقاليم، فتراه يعتمد في حكمه على الحدس، والتخمين كأننا بإزاء مسألة ميتافيزيقية، أما الذين يكفون عقولهم عن مثل هذه الفروض لاجئين إلى الحقائق الحسية الصحيحة، يستمدون منها أحكامهم، وآراءهم فإنهم يعرفون أن جملة النماذج، التي كونها الأدب العربي في أي إقليم من أقاليمه، لا تخلتف اختلافات واسعة عن النماذج الأساسية لهذا الأدب، التي كونها في المشرق. على أنه ينبغي أن نلاحظ ظاهرتين مهمتين تتصلان بالنثر الأندلسي، أما الظاهرة الأولى، فهي أن هذا النثر لا يظهر فيه كاتب كبير قبل القرن الرابع للهجرة، وذلك لسبب بسيط، وهو أن الشخصية الأدبية للأندلس لم تتكامل إلا في هذا القرن، وكان الناس قبل ذلك يكتبون نثرًا، ولكن أحدًا منهم لم يستطع أن يرتفع بنثره إلى درجة تجعله يقف في صفوف كتاب العصر العباسي الممتازين. والحق أن الأندلس تبدأ نهضتها الأدبية منذ القرن الرابع، وعهد عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم، ذلك العهد الذي ألف فيه كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه، وأملي فيه كتاب الأمالي، أملاه أبو علي القالي في قرطبة، ومنذ ذلك العهد المزدهر أخذت الأندلس تشعر بشخصيتها، وتحاول أن تصور هذه الشخصية في آثارها، ونماذجها الأدبية، وهذه هي الظاهرة الأولى، أما الظاهرة الثانية فهي أن الأندلسيين لم يستحدثوا لأنفسهم مذهبًا جديدًا في تاريخ النثر العربي، يمكن أن نضيفه إلى المذاهب الثلاثة السابقة، التي كونها هذا النثر في المشرق، فقد وقفوا عند المحاكاة، وهي محاكاة اضطرتهم إلى ضروب من الخلط، إذ ترى الكاتب الواحد يجمع في نماذجه بين المذاهب الثلاثة، التي رأيناها في المشرق،

فتارة يصنع لنفسه نموذجًا من ذوق أصحاب الصنعة، وتارة يعدل عن ذلك إلى ذوق أصحاب التصنيع، وتارة ثالثة يعدل إلى ذو أصحاب التصنع، وقد فتنت كثرتهم بالسجع، ولكنها لم تفتن بالبديع، الذي كان يصحبه عند أصحاب التصنيع، بل فتنت -إلى حد ما- بالغريب الذي رأيناه عند أصحاب التصنع، كما فتنوا بالأمثال، وربما كان لكتاب الأمالي للقالي أثر مهم في ذلك، فقد بناه صاحبه على هذين الجانبين، ونحن نقف عند أهم كتاب ظهر في العصر الأموي، لنرى ما وصل إليه النثر الأندلسي في هذا العصر من رقي وازدهار، وهو ابن شهيد الكاتب المشهور. ابن شُهَيْد: هو، أحمد بن عبد الملك ... بن شهيد الأشجعي القوطي، ولد بقرطبة عام 382هـ، وتوفي عام 426هـ1، وهو من بيت أدب ومجد، كان جده وزير عبد الرحمن الناصر2 وأديبًا من أكبر الأدباء في عصره، وورث عنه حفيده أدبه، كما ورث عنه صلته الحسنة بالأمويين، وإن لم يستوزروه لثقل كان في سمعه. ويظهر أنه ورث عن آبائه مالًا كثيرًا بعثره في اللهو، والخلاعة حتى ليقول أبو حيان: "إن البطالة غلبت عليه، فلم يحفل في آثارهم بضياع دين، ولا مروءة"3. وهذا الشخص المترف الذي ساق حياته في اللهو، والخلاعة كان مثقفًا ثقافة واسعة بمعارف عصره، فقد ذكر في إحدى رسائله أنه درس ضروب العلم المختلفة من أدب، وخبر وفقه وطب وصنعة وحكمة4، ويقول ياقوت: "كان له من علم الطب نصيب وافر"5. على أن الجانب الذي تميز به، إنما هو جانب الأدب، فقد كان شاعرًا كبيرًا كما كان كاتبًا كبيرًا أيضًا، ويدل ما روي عنه من آثار أن نثره كان أكبر من شعره، وقد شهد له النقاد

_ 1 انظر ترجمته في المغرب "طبع دار المعارف"، وما بهامشها من مراجع 1/ 78. 2 نفح الطيب 1/ 179. 3 الذخيرة 1/ 161. 4 الذخيرة 1/ 186. 5 معجم الأدباء 3/ 323.

بمقدرته فيه وتفوقه، كتب عنه الثعالبي فقال: "إن نثره في غاية الملاحة"1، وقال أبو حيان: "كان أبو عامر بن شهيد يبلغ المعنى، ولا يطيل سفر الكلام، وإذا تاملته ولسنه، وكيف يجر في البلاغة رسنه، قلت: عبد الحميد في أوانه، والجاحظ في زمانه ... وكان في تنميق الهزل، والنادرة الحارة أقدر منه على سائر ذلك.. وله رسائل كثيرة في أنواع التعريض والأهزال، قصار وطوال، برز فيها شأوه، وبقاها في الناس خالد بعده"2. وقدم له صاحب الذخيرة بقوله: "كان أبو عامر شيخ الحضرة العظمى وفتاها، ومبدأ الغاية القصوى ومنتهاها، وينبوع آياتها، ومادة حياتها، وحقيقة ذاتها، وابن ساستها وأساتها، ومعنى أسماته ومسمياتها، نادرة الفلك الدوار، وأعجوبة الليل والنهار، إن هزل فسجع الحمام، أو جد فزئير الأسد الضرغام، نظم كما اتسق الدر على النحور، ونثر كما خلط المسك بالكافور، إلى نوادر كأطراف القنا الأملود، تشق القلوب قبل الجلود، وجواب يجري مجرى النفس، ويسبق رجع الطرف المختلس"3، ومن قول صاحب المطمح فيه: "عالم بأقسام البلاغة ومعانيها، حائز قصب السبق فيها، لا يشبه أحد من أهل زمانه، ولا ينسق ما نسق من در البيان وجمانه، توغل في شعاب البلاغة وطرقها، وأخذ على متعاطيها ما بين مغربها ومشرقها، لا يقاومه عمرو بن بحر، ولا تراه يغترف إلا من بحر"4. ونرى من هذه النصوص المختلفة أن النقاد، كانوا يكبرون من شأن ابن شهيد ومنزلته الأدبية، وقد قرنوه إلى الجاحظ لهزل كان فيه، وميل إلى الفكاهة، وأكبر الظن أنه يتأثر في هذا الجانب بديع الزمان، فقد ذكره في رسائله5، وكتب رسالة في الحلواء ذهب فيها مذهبه في المقامة المضيرية، وحكى في التوابع والزوابع ما وصف به بديع الزمان الماء، ثم أتى بأوصاف أخرى للماء يريد بها أن يثبت براعته6

_ 1 اليتيمة 2/ 43. 2 الذخيرة 1/ 160. 3 الذخيرة 1/ 160. 4 مطمح الأنفس لابن خاقان "طبع مطبعة الجوائب" ص16. 5 الذخيرة 1/ 203. 6 الذخيرة 1/ 246.

وأهم أثر تركه ابن شهيد هو رسالة التوابع والزوابع، والتابع الجن والزوبعة الشيطان، وسماها بهذا الاسم؛ لأنه بناها على شيطان تراءى له في وقت أرتج عليه فيه، وهو ينظم شعرا فأجازه، ولما تعارفا طلب إليه ابن شهيد أن يلقى به شياطين الشعراء والكتاب الذين غبروا، فأجاب طلبته، وحمله على جناحه إلى وادي الجن، حيث التقى بكثير من شياطين الشعراء الجاهليين والإسلاميين والعباسيين، كما التقى بطائفة من شياطين كتاب المشرق، وتدور القصة في الرسالة على أنه يلقى التابع للشاعر المشهور، فينشده شعرًا لصاحبه، ثم ينشده ابن شهيد بعض شعره، فيعجب به، ويجيزه آية على قدرته البلاغية، وكذلك يلقى توابع الكتاب أمثال عبد الحميد، والجاحظ وبديع الزمان، فيعرض عليهم رسالته في وصف البرد والنار والحطب، كما يعرض عليهم رسالته في الحلواء. وايضًا فإنه يعرض عليهم صفته لثعلب ولبرغوث، ويستحسنون ما يعرض ويجيزونه. ووقف تابع الجاحظ عند سجعه، وقال له: إن كلامك نظم لا نثر فزعم أن تلك صفة أهل بلده، وأنهم يعجبون بالسجع وطابعه، وهكذا تنفض جموع الجن، وهي تشهد بأنه شاعر بديع، وكاتب بليغ. والرسالة تفيض بروح الفكاهة، كأن نراه يعرض لبركة ماء بإحدى جوانب وادي الجن، ومن حواليها طائفة من حمر الجن، وبغالها وتتقدم له بغلة شهباء عليها جلها، وبرقعها فتنشده بعض الشعر، وأخيرًا تقول له: "أما تعرفني أبا عامر؟ قلت: لو كانت ثم علامة، فأماطت لثامها فإذا هي بغلة أبي عيسى، والخال على خدها، فتباكينا طويلًا، وأخذنا في ذكر أيامنا". وما من شك في أن هذا الجانب في التوابع والزوابع يكسبها خفة ورشاقة، ومن يرجع إليه يجد ابن شهيد لا يستخدم فيها دائمًا أسلوب السجع، بل تارة يسجع وتارة لا يسجع، وهذا هو معنى قولنا: إن الكاتب الكبير في الأندلس، لم يكن يخضع في صنع نماذجه لمذهب معين من مذاهب المشرق، بل هو -على نحو ما نرى الآن عند ابن شهيد- كان يتقلب بين المذاهب والمناهج المختلفة، ومع ذلك فلا تظن أن ابن شهيد حين يستخدم السجع كان يستخدم البديع، الذي هو الشق الثاني لمذهب التصنيع،

فإنه لم يكن تتصور هذا المذهب بكافة تفاصيله، كما تركه أصحابه، وليس معنى ذلك أنه لم يقرأ لهم ما يفهم به هذا المذهب، بل لقد قرأ لهم كثيرًا، وخاصة الصابي، وبديع الزمان1! وأيضًا ينبغي أن لا تظن أن ابن شهيد لم يخرج في جوانب من رسائله إلى مذهب التصنع، بل خرج إلى هذا المذهب في كثير من جوانبها؛ إذ نراه يعنى باستخدام الغريب، واعترف بذلك في إحدى رسائله2، وكان إلى ذلك يكثر من الأمثال3، كما كان يكثر من المبالغات والتهويلات4، والاقتباس من القرآن الكريم5، إلا أنه لم يعن بتعقيدات زخارف البديع جملة، بل إن لم يعن بهذه الزخارف نفسها، كما تركها أصحاب مذهب التصنيع، ومع ذلك فقد كان ذوقه أقرب ما يكون إلى ذوقهم، وتطرق من هذا الذوق إلى العناية، بالفكاهة في آثاره على نحو ما نجد عند بديع الزمان في مقاماته، وكما أطرف في رسالة التوابع والزوابع أطرف أيضًا في رسالة أخرى، تسمى حانوت عطار، ويظهر أنه كان يميل إلى الإغراب في الموضوع، ولعل ذلك ما جعله يقف عند وصف ثعلب برغوث، وبعوضة، ومهما يكن فقد كان ابن شهيد أكبر أديب في عصره، ولكنه لم يستطع المخالفة على مذاهب المشرق ومناهجه، بل ذهب يقلد هذه المذاهب، والمناهج في غير نظام، ولا نسق معين.

_ 1 الذخيرة، 1/ 203، وكذلك 1/ 207. 2 الذخيرة 1/ 200. 3 الذخيرة 1/ 193، وما بعدها. 4 الذخيرة 1/ 171. 5 الذخيرة 1/ 191، وكذلك 1/ 211.

ملوك الطوائف ونهضة النثر الأندلسي

4- ملوك الطوائف، ونهضة النثر الأندلسي: إذا تركنا عصر الأمراء الأمويين، وانتقلنا إلى عصر ملوك الطوائف، وجدنا الأندلس تنهض نهضة واسعة في أدبها من شعر ونثر، وكأنما انقسامها إلى وحدات صغيرة أهلا لنشاط أدبي واسع، إذ أصبح لكل وحدة صغيرة، أو بعبارة أخرى، لكل مدينة، حكم مستقل، وسعى كل حاكم -بسبب ما بينه وبين الحكام الآخرين من تنافس- إلى تشجيع الحركة العليمية والأدبية في وطنه، ومقر حكمه وملكه، وبذلك أضفى انقسام الأندلس إلى دويلات على العلم والأدب تقدمًا ورقيًا عظميًا، وإن الأندلس في ذلك لتشبه إيران في القرن الرابع الهجري، حين توزعتها دول وإمارات مختلفة، فقد لاحظنا في غير هذا الموضع أن هذا التوزع، وما صحبه من قيام مدن، ومراكز كثيرة أهل لنهضة أدبية رائعة، وكذلك الشأن في الأندلس في أثناء القرن الخامس للهجرة، فإن انقسامها إلى أندلسيات متعددة، جعل مراكز النشاط الأدبي فيها تتعدد أيضًا، وكان كل حاكم أو أمير يعنى بأن يكون في بلاطه أهم كاتب في إقليمه، ومن ثم أصبحت كل مدينة تشتهر بكاتب مهم، إن لم يكن بطائفة من الكتاب، وتعقب صاحب الذخيرة هذه الظاهرة، فعرض لكتاب كل مدينة عرضًا مفصلًا، ومن يرجع إليه في كتابه المذكور، يلاحظ أن الكتاب كلهم غمرهم ذوق السجع، فهم جميعًا يسجعون، وكان الكتاب في العصر الأموي يتخففون من السجع أحيانًا، كما رأينا عند ابن شهيد، أما في هذا العصر فإنه يلتزمونه التزامًا، بل قد يجد الإنسان في عصر الأمويين كاتبًا لا يسجع مطلقًا، وإنما يزواج مثل ابن برد الأكبر، أما في هذا العصر، فإن الكتاب جميعًا يسجعون، ومن أبرعهم في ذلك ابن برد الأصغر حفيد ابن برد الأكبر، وقد روى له صاحب الذخيرة مجموعة كبيرة، من رسائله، كما روى له مناظره بين السلف والقلم، ومن يقرأ المناظرة والرسائل لا يحس جديدًا، فقد جمدت الأندلس عند صياغة المشارقة، ولم تستطع أن تضيف إليها من جديد، وهل يستطيع الغنسان أن يجد في الذخيرة لهذا العهد اتجاهًا جديدًا، أو لونًا جديدًا؟ إنه ليس هناك إلا التقليد والمحاكاة وأن يحتذى الكاتب على نموذج مشرقي، فإذا هو يصنع رسائل كرسائل المشارقة، أو يصنع مقامة كمقاماتهم على نحو مقامة أبي حفص عمر بن الشهيد، التي رواها صاحب الذخيرة، ونحن نلاحظ عند هؤلاء الكتاب عامة أنهم لم يعنوا بالبديع، لكنهم استمروا -كما رأينا عند ابن شهيد- يعنون بالغريب، وبالأمثال والاقتباس

من القرآن، كما عنوا كثيرًا بحل الشعر وتضمينه، وليس معنى ذلك أنهم عقدوا نثرهم على نحو ما رأينا عند أبي العلاء وأصحابه، فإن حياتهم التي كانت تقوم على الفتن من جهة، وعلى الحروب من المسيحيين من جهة أخرى، لم تتح لهم الفرصة للتأني والتمهل، فلم يطبع أدبهم بطابع التعقيد، وإن كان ذلك يظهر فيه من حين إلى حين، ونحن نقف عند أهم كاتب ظهر في هذا العهد، وهو ابن زيدون، لنطلع على الصورة الفنية للكتابة حينئذ. ابن زيدون: هو، أحمد بن عبد الله ... بن زيدون المخزومي القرطبي1، ولد بقرطبة عام 394 للهجرة، وتوفي بإشبيلية عام 463 2، وكان من أبناء وجوه الفقهاء بقرطبة3، ولما قامت الفتن في أواخر حكم الأمويين أسهم فيها، إذ كان هواه مع الثائرين، ومن أجل ذلك قربه أبو الحزم جهور أمير قرطبة، إلا أن هذه المكانة لم تدم له طويلًا إذ نسبت إليه مؤامرة على السطان، وتصادف أن كان هناك أديبة شاعرة يتعلق بها ابن زيدون، وهي ولادة بنت المستكفي، ولهما مطارحات ومجالس محفوظة4، وكان ينافسه فيها ابن عبدوس، فاصطدم كل منهما بالآخر، وكان ابن زيدون كاتبًا، فكتب رسالة هزلية طويلة على لسان ولادة إلى ابن عبدوس، يزعم فيها أنه أرسل لها سيدة تمدحه لها، وتحاول أن تعقد الصلة بينه وبينها، فنهرتها نهرًا شديدًا، ولم تكتف بذلك، بل كتبت له هذه الرسالة، وكلها تهكم به وسخرية، ولم يرد ابن عبدوس على خصمه برسالة أخرى، بل دبر له مؤامرة واسعة النطاق، جعلت أبا الحزم بن جهور يحبسه، وقد كتب إليه ابن زيدون من السجن برسالة طويلة، تسمى الرسالة الجدية يستعطفه بها، وكذلك استعطفه برسائل، وقصائد أخرى إلا أنه لم يرق له، وأخيرًا يعفو عنه مستجيبًا فيه لشفاعة ابن أبي الوليد، ولما ولي بعده سنة 435 اتخذه سفيرًا بينه وبين رؤساء الأندلس

_ 1 انظر في ابن زيدون كتابنا عنه في سلسلة نوابغ الفكر العربي "طبع دار المعارف". 2 وفيات الأعيان 1/ 44. 3 الذخيرة 1/ 290، ووفيات الأعيان 1/ 43. 4 الذخيرة 1/ 376.

غير أن الأمور لم تلبث أن فسدت بينهما، ففر ابن زيدون على وجهه إلى إشبيلية عام 441 1، فلقيه أميرها المعتضد لقاء حسنًا، واصطنعه لنفسه، كما اصطنعه ابنه المعتمد من بعده، واستطاع المعتمد بفضل مشورته أن يستولي على قرطبة، وما زال يرعاه خير رعاية، حتى إذا كان عام 463 أرسله إلى إشبيلية في مهمة إلا أن القدر عاجله، ويقولون: إن أهل قرطبة حزنوا لوفاته حزنًا شديدًا. وهذا كله يرينا أن حياة ابن زيدون، كانت مليئة بمتاعب ومصاعب جمة، ومع ذلك فهو يوضع على رأس شعراء، وكتاب عصر ملوك الطوائف، يقول صاحب الذخيرة فيه: "كان أبو الوليد زيدون غاية منثور ومنظوم، وخاتمة شعراء بني مخزوم، أحد من جر الأيام جرًا، وفات الأنام طرًا، وصرف السلطان نفعًا وضرًا، ووسع البيان نظمًا ونثرًا، إلى أدب ليس للبحر تدفقه، ولا للبدر تألقه، وشعر ليس للسحر بيانه، ولا للنجوم الزهر اقترانه، وحظ من النثر غريب المباني شعري الألفاظ والمعاني"2، ويقول أيضًا: "فأما سعة ذرعه وتدفق طبعه، وغزارة بيانه، ورقة حاشية لسانه، فالصبح الذي لا ينكر ولا يرد، والرمل الذي لا يحصر ولا يعد"3، ولعل أطرف ما ترك ابن زيدون من آثاره الكتابية، هو الرسالة الجدية ثم الرسالة الهزلية؛ أما الرسالة الجدية التي كتبها في الاستعطاف، فهي تبدأ على هذا النمط: "يا مولاي وسيدي الذي ودادي له، واعتمادي عليه، واعتدادي به، وامتدادي منه، أبقاك الله ماضي حد العزم واري زند الأمل، ثابت عهد النعمة، إن سلبتني -أعزك الله- لباس نعمائك، وعطلتني من حلي إيناسك، وأظمأتني إلى برود إسعافك، ونفضت بي كف حياطتك، وغضضت عني طرف حمايتك: بعد أن نظر الأعمى إلى تأميلي لك، وسمع الأصم ثنائي عليك4

_ 1 الذخيرة 1/ 291، وفيات الأعيان 1/ 43. 2 الذخيرة 1/ 289. 3 الذخيرة 1/ 292. 4 يشير إلى قول المتنبي: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم

وأحس الجماد استحمادي إليك، فلا غرو قد يغص بالماء شاربه، ويقتل الدواء المستشفى به، ويؤتى الحذر من مأمنه1، وتكون منية المتمني في أمنيته، والحين قد يسبق جهد الحريص2: كل المصائب قد تمر على الفتى ... وتهون غير شماتة الحساد وإني لأتجلد وأرى الشامتين أني لريب الدهر لا أتضعضع3، فأقول: هل أنا إلا يد أدماها سوارها4، وجبين عضه إكليله ومشرفي ألصقه بالأرض صاقله، وسمهري عرضه على النار مثقفه، وعبد ذهب به سيده مذهب الذي يقول5: فقسا ليزدجروا ومن يك حازمًا ... فليقس أحيانًا على من يرحم هذا العتب محمود عواقبه، وهذه النبوة غمرة ثم تنجلي6، وهذه النكبة سحابة صيف عن قليل تقشع7، ولن يريبني من سيدي أن أبطأ سيبه، أو تأخر -غير ضنين- غناؤه، فأبطأ الدلاء فيضًا أملؤها8، وأثقل السحائب مشيًا أحفلها، وأنفع الحيا9 ما صادف جدبًا، وألذ الشراب ما أصاب غليلًا، ومع اليوم غد، ولكل أجل كتاب". وأكبر الظن أن خصائص ابن زيدون اتضحت لنا الآن، فهو يعني عناية شديدة بحل الشعر في كلامه، كما يعني بالأمثال وحشدها، حتى لتغدو

_ 1 هذ المثل مقتبس من بيت لعدي بن زيد العبادي. 2 مثل قديم. والحين: الموت. 3 مأخوذ من قول أبي ذؤيب: وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع 4 مأخوذ من قول المتنبي: بنو كعب وما أثرت فيهم ... يد لم يدمها إلا السوار. 5 هو أبو تمام: 6 مأخوذ من قول بعضهم: وما هي إلا غمرة ثم تنجلي ... سريعًا وإلا نبوة تتصرم. 7 مثل قديم. وتقشع: تقلع. 8 مثل أيضا. 9 الحيا: المطر. أحفلها: أملؤها.

رسالته في حاجة إلى الشرح؛ لأن كثيرًا من عباراتها أمثال مرموزة، وأبيات منثورة وشطور من الشعر مرصوفة، وهذا نفسه هو الذي يجعلنا نقول: إن ذوق ابن زيدون في نثره كان قريبًا من ذوق أصحاب التصنع في المشرق، وحقًا هو لم يستخدم البديع، ولا ما يتصل به من تعقيد بعض زخارفه، ولكنه استخدم لغة بهمة بعض الشيء، وإذا استمررنا معه في الرسالة، وجدناه يلجأ إلى شيء أكثر صعوبة، وهو ذكر كثير من وقائع القرآن الكر يم، وحوادث الإسلام الحنيف. وراع هذا الجانب في الرسالة القدماء؛ لأنهم عثروا به على مادة غنية للشرح والتفسير، واستمع إليه يصور لابن جهور، أنه لم يرتكب جرمًا كبيرًا، فيستهدف لما مضى من جنايات وأحدث في الديانات، وعلى هذا النحو: "قد بلغ السيل الزبى1، ونالني ما حسبي به وكفى، وما أراني إلا أمرت بالسجود لآدم، فأبيت واستكبرت، وقال لي نوح: اركب معنا، فقلت: "سآوي إلى جبل يعصمني من الماء"، وأمرت ببناء الصرح لعلي طلع إلى إله موسى، وعكفت على العجل، واعتديت في السبت، وتعاطيت فعقرت، وشربت من النهر الذي ابتلي به جيوش طالوت، وقدت الفيل لأبرهة، وعاهدت قريشا على ما في الصحيفة، وتأولت في بيعة العقبة، ونفرت إلى العير ببدر، وانخذلت بثلث الناس يوم أحد، وتخلفت عن صلاة العصر في بني قريظة، وجئت بالإفك على عائشة الصديقية، وأنفت من إمارة أسامة، وزعمت أن بيعة أبي بكر كانت فلتة". وترك ابن زيدون هنا السجع؛ لأنه لا يستقيم، وما يريد أن يروى من هذه الأحداث، وهي أحداث لا يفهمها إلا من قرأ سير الأنبياء، والسيرة النبوية خاصة، ولا بد له بعد ذلك أن يقرأ شيئًا عن حياة المسلمين بعد الإسلام، ونحن نراه في الرسالة ينتقل بعد ذلك إلى تملق ابن جهور مع شيء من الزهور والخيلاء، وقد

_ 1 مثل يضرب حين يتفاقم الأمر: الزبى: جمع زبية. وهي الحفرة في المكان المرتفع.

امتد به نفسه طويلًا، فأكثر من الحكم والأمثال، كما أكثر من تضمين الشعر وجله في نثره، وكذلك أكثر من اقتباس آي الذكر الحكيم، وما من ريب في أن هذه صورة أخرى من صور التصنع، وهي صورة لا تبلغ ما بلغه المذهب في المشرق من تعقيد عند أبي العلاء وأصحابه، ولكنها على كل حال تأخذ من التصنع بأطراف قوية، وتذهب هذا المذهب نفسه الرسالة الهزلية، إذ نراه يسخر من ابن عبدوس متطرقًا في أثناء سخريته إلى ذلك كثير من الأمثال، وحوادث التاريخ وأعلامه، واستطاع في أثناء ذلك أن ينفذ إلى التأثر بالجاحظ في رسالة التربيع والتدوير، وانظر إليه يقول في بعض جوانبها عن السيدة، التي أرسلها ابن عبدوس: إنها زعمت لولادة: "أن بطليموس سوى الاضطرلاب بتدبيرك، وصورة الكرة على تقديرك، وأبقراط علم العلل والأمراض بلطف حسك، وجالينوس عرف طبائع الحشائش بدقة حدسك، وكلاهما قلدك في العلاج، وسألك عن المزاج، واستوصفك تركب الأعضاء، واستشارك في الدواء والداء، وأنك نهجت لأبي معشر طريق القضاء، وأظهرت جابر بن حيان على سر الكيمياء، وأعطيت النظام أصلًا أدرك به الحقائق، وجعلت للكندي رسمًا استخرج به الدقائق، وأن صناعة الألحان اختراعك، وتأليف الأوتار والأنغام توليدك وابتداعك، وأن عبد الحميد بن يحيى باري أقلامك، وسهل بن هارون مدون كلامك، وعمرو بن بحر مستمليك، ومالك بن أنس مستفتيك، وأنك الذي أقام البراهين، ووضع القوانين، وحد الماهية، وبين الكيفية والكمية". والحق أنك مهما قرأت في آثار الأندلسيين، فستراهم يرجعون دائمًا إلى أصول مشرقية يقلدونها، ويستمدون منها، إما في تنسيق الموضوع على نحو ما استفاد ابن زيدون من الجاحظ في رسالته الهزلية، وإما في العناصر التي يؤلفون منها نماذجهم على نحو ما رأيناه في الرسالة الجدية، إذ ذهب يستعين فيها بشعر لأبي ذؤيب، والمتنبي وغيرهما ينثره في أثنائها، وكما ذهب يستعين بأمثال قديمة. وهو ضيف إلى ذلك آيات من القرآن الكريم ألفاظًا يجمل بها عمله، وأيضًا فإنه يتصنع لذكر كثير من حوادث الديانات، وخاصة حوادث الإسلام كما يتصنع لكثير من أعلام التاريخ، وهذا هو الجديد الذي كان يأتي به ابن زيدون لبيان تفوقه وبراعته، وهي أشياء كلها ترد إلى المشرق، وليس للأندلس فيها إلا فضل النموذج، الذي يجمعها بعضها إلى بعض، فإذا هي تستوي في صورة أدبية خاصة، ومع ذلك فليس من شك في أن ابن زيدون يوضع في الطبقة الأولى من كتاب الأندلس، وأدبائها على مر العصور!

جمود النثر الأندلسي

5- جمود النثر الأندلسي: يذهب عصر ملوك الطوائف، وندخل منذ عام 484 للهجرة في عصر جديد هو عصر سلطان المغاربة، إذ فزع الأندلسيون في حروبهم مع المسيحيين إلى يوسف بن تاشفين، صاحب دولة المرابطين لينصرهم عليهم، فيذهب إليهم يرد عنهم كيد أعدائهم، ولكنه لا يتركهم، بل يدخلهم في حوزته، واستمرت الأندلس تابعة لدولته، حتى استولت عليها دولة الموحدين، وقد اشتهرت الدولة الأولى دولة المرابطين بالتعصب في مسائل الدين، وأصبح للفقهاء في عصرها شأن كبير، إذ كان لهم أثر واسع في دخول البلاد في هذا الحكم الجديد، وكان المرابطون لذلك يعتدون بهم، فهم عدتهم وعتادهم، ومن أجل ذلك سلموا لهم شئون الدولة، فاضطهدوا المتفلسفة، ورموهم بالزندقة وتعقبوهم في كل مكان. أما دولة الموحدين، فكان حكامها أوسع عقولًا وتفكيرًا، وقد اشتهر من بينهم أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن "558-580هـ" بمحبة الفلسفة وأصحابها، وممن ظهر في عصر هذه الدولة ابن باجة، وابن رشد وابن طفيل، ونستمر حتى نلتقي في القرن السابع ببني هود، وكذلك ببني الأحمر أصحاب غرناطة. واستطاعت الأندلس أن تتقدم في الحركة العقلية في أثناء تلك العصور،

ولكنها لم تستطع أن تتقدم في الحركة الأدبية، إذ استعلى الفقهاء أول الأمر في الحكومة، وأصبح الحكام يتخذون منهم كتابهم، فطبعوا النثر بطابعهم العلمي الجامد، وكانوا يسجعون في كتابتهم، ويحلون سجعهم بالتصنع لبعض المصطلحات العلمية، التي عرفوها في دراستهم، وهم من هذه الوجهة أقرب إلى ذوق أصحاب التصنع في المشرق من كتاب عصر ملوك الطوائف، ولعل مما يتصل بذلك أنهم تصنعوا في كتابتهم للبديع، وما يتصل به من طباق وجناس، وأخذوا يعممون السجع في الكتابة التاريخية، وخاصة تلك التي تتصل بالترجمة للأدباء، على نحو ما نجد في "الذخيرة" لابن بسام و"قلائد العقيان" و"مطمح الأنفس" لابن خاقان، وقد جنح لسان الدين بن الخطيب، إلى السجع في بعض جوانب من كتبه، وكذلك صنع المقري في "نفح الطيب" و"أزهار الرياض"، وكل هذه الأعمال يحس الإنسان فيها بضروب مختلفة من التلفيق، والتصنع واللف والدوران حول المعاني، والصور التي يجترها الأدباء اجترارًا، وقد سرت حينئذ ظاهرة مهمة، وهي التعبير بالأساليب المحفوظة، التي لا تفصح عن فكرة محدودة، وارجع إلى الذخيرة أو إلى مطمح الأنفس إلى قلائد العقيان، فسترى هناك مقدمات يقدم بها الأدباء لا تعبر عن معان واضحة، وإنما تعبر عن صور جامدة متبلورة، وهذا هو معنى ما نقوله من جمود النثر الأندلسي، وابحث ما شئت في هذه العصور، فلن تجد جديدًا ولا ما يشبه الجديد، إنما تجد أدبًا مكررًا معادًا، قد كررت أساليبه وأعيدت عباراته مئات المرات بل آلاف المرات، ولا جديد فيه إلا ما يتصنع له الكاتب من مصطلح علمي، أو لون بديعي، أو إشارة إلى مثل، أو استخدام لغريب، أو نحو ذلك مما كان يعد آية في هذه العصور على بلاغة الكاتب، ومهارتها الفنية، ونحن نقف قليلًا عند أهم كاتب ظهر في الأندلس لهذه العهود، ونقصد لسان الدين بن الخطيب لتنكشف لنا صورة الكتابة الفنية حينئذ انكشافًا تامًا.

لسان الدين بن الخطيب: هو، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد الغرناطي، ولد عام 713 للهجرة، وهو من بيت عرف قديما ببني الوزير، وحديثًا ببني الخطيب1، وهو بيت اشتهر بالعلم والفقه والأدب والطب، وقد روى صاحب نفح الطيب لأبيه شعرًا منه قوله2: الطب والشعر والكتابه ... سماتنا في بني النجابه وقد نسج لسان الدين على منوال أبيه، فكان "نفيس العدوتين، ورئيس الدولتين، بالإطلاع على العلوم العقلية، والإمتاع بالفهوم النقلية"3، وقد ذكره ابن خلدون، وهو معاصر له فقال: "قرأ وتأدب على مشيخة غرناطة، واختص بصحبة الحكيم المشهور يحيى بن هذيل، وأخذ عنه العلوم الفلسفية، وبرز في الطب، وانتحل الأدب، وأخذ عن أشياخه، وامتلأ حوض السلطان من نظمه ونثره مع انتقاء الجيد منه، ونبغ في الشعر والترسل بحيث لا يجارى فيهما، وامتدح السطان أبا الحجاج من ملوك بني الأحمر لعصره، وملأ الدنيا بمدائحه، وانتشرت في الآفاق، فرقاه السلطان إلى خدمته، وأثبته في ديوان الكتابة ببابه مرءوسًا بأبي الحسن بن الجياب شيخ العدوتين في النظم، والنثر وسائر العلوم الأدبية"4، فلما توفي ابن الجياب ورث رتبته من بعده5، وثم توفي أبو الحجاج فازدادت منزلته عند ابنه أبي عبد الله إلى أن نشبت ثورة أبعدت السلطان، عن عرشه، وقبض فيها على ابن الخطيب وصودرت أملاكه، ولكنه تخلص من ذلك بشفاعة السلطان أبي سالم المريني، صاحب المغرب ولحق بسيده أبي عبد الله هناك وصحبه في غربته، ولما رجع أبو عبد الله أخيرًا إلى عرشه في غرناطة، استدعاه وألقى إليه بمقاليد الملك والسياسة "وانفرد بالحل

_ 1 نفح الطيب 3/ 3. 2 نفس المصدر 3/ 7. 3 نفح الطيب 3/ 334. 4 تاريخ ابن خلدون 7/ 332. 5 نفس المصدر 7/ 333.

والعقد، وانصرفت إليه الوجوه، وعلقت عليه الآمال، وغشي بابه الخاصة والكافة، وغصت به بطانة السلطان وحاشيته، فتوافقوا على السعاية فيه"1، وأحس لسان الدين بذلك، ففر إلى أبي فارس المريني وكان قد ملك تلمسان فأكرمه2، إلا أن رجال حاشيته سرعان ما أوغروا صدره عليه، إذ اتهموه بالزندقة، فألقى به في غياهب السجون ودس إليه من قتله عام 776، وبذلك انتهت حياته هذه النهاية الدامية. وقد كان لسان الدين أبرع كاتب أخرجته الأندلس في عصورها الأخيرة، حتى قيل: إنه كاتب الأرض إلى يوم العرض، وخصص له المقري مجلدين من نفح الطيب عرض فيهما عرضًا واسعًا لأساتذته، وحياته السياسية والأدبية. وإذا كان السان الدين لم ينجح في حياته السياسية، فقد نحج نجاحًا عظيما في حياته الأدبية، وهي حياة كانت منوعة، إذ لم يقف كتابته عند الرسائل الديوانية أو الشخصية، بل كتب كتبًا كبيرة في التاريخ والتصوف، والموسيقى والفقه والطب، وقد نهج لسان الدين في هذه الكتب نهج السجع، وإن كان لا يلتزمه دائمًا على نحو ما نعرف في كتابه "الإحاطة في أخبار غرناطة"، وهو مطبوع فإنه قلما يسجع فيه، ومن يرجع إلى رسائله يجدها تمتاز بالإطناب المسرف، وما يطوى في هذا الإطناب عادة من لف ودوران يجعلنا نذكر أصحاب التصنع في لمشرق، وإنه ليتسع بإطنابه حتى يفقد قارئه نشاطه؛ لأن منظر المعاني ينبسط أمام بصره انبساطًا يخرجها من حيز التنوع إلى حيز الاستمرار والإملال، وتنبه لذلك بعض السابقين فقال: "هو كاتب مترسل بليغ لولا ما في إنشائه من الإكثار، الذي لا يخلو من عثار، والإطناب، الذي يفضي إلى الاجتناب، والإسهاب، الذي يقد الإهاب"3، وليست ظاهرة الإطناب هي كل ما اقترضه في سجعه برسائله من أصحاب التصنع من المشارقة، بل تقترن بها ظاهرة أخرى معروفة لديهم، وهي ظاهرة التصنع لمصطلحات العلوم

_ 1 تاريخ ابن خلدون 7/ 335. 2 أزهار الرياض "طبع لجنة التأليف" 1/ 193. 3 نفح الطيب 3/ 335.

وخاصة العلوم اللغوية، وحقًا إن ابن الخطيب لا يكثر منها، ولكنها موجودة -على كل حال- في نثره ورسائله، ونحن ننقل إلى القارئ صدر رسالة كتب بها عن سلطانه إلى خليفة الموحدين بالأندلس، وهي رسالة طويلة تقع في نحو عشرين صحيفة من القطع الكبير، وهو يستهلها على هذا النمط1: "الخلافة التي ارتفع عن عقائد فضلها الأصيل القواعد الخلاف، واستقلت مباني فخرها الشائع، وعزها الذائع، على ما أسسه الأخلاف، ووجب لحقها الجازم وفرضها اللازم، الاعتراف، ووسعت الآملين لها الجوانب الرحيبة والأكناف، فامتزاجنا بعلائها المنيف، وولائها الشريف، كما امتزج الماء والسلاف، وثناؤنا على مجدها الكريم، وفضلها العميم، كما تأرجت الرياض الأفواف، لما زارها الغمام الوكاف، ودعاؤنا بطول بقائها، واتصال علائها، يسمو به إلى قرع أبواب السموات العلا الاستشراف، وحرصنا على توفية حقوقها العظيمة وفواضلها العميمة، لا تحصره الحدود، ولا تدركه الأوصاف، وإن عذر في التقصير عن نيل ذلك المرام الكبير، الحق والإنصاف". واستمر لسان الدين في هذه المقدمة طويلًا، ونحن نكتفي بهذه القطعة منها؛ لأننا نستطيع أن نتبين فيها الصفات لبعض مصطلحات العلوم، إذ تصنع لألفاظ القواعد، والمباني والجزم والحدود، وليس ذلك كل ما تميزه في هذه القطعة، فهناك جانب لعله أهم، وأدخل في باب التصنع، وذلك أنه بنى سجعاته في هذه القطعة كلها على الفاء، ولكن تأمل في القطعة، فإنك تراه استخرج من كل سجعة سجعتين داخليتين، وما من شك في أن هذا ضرب جديد من التصعيب، وصل إليه لسان الدين؛ لأنه يريد أن يثبت تفوقه في عصره، فإذا هو لا يسجع سجعًا بسيطًا على طريقة الكتاب الأندلسيين من قبله، وإنما يسجع هذا السجع المركب إن صح هذا التعبير، واستمر معه في الرسالة فستراه يصف حصار

_ 1 انظر الرسالة بأكملها في صبح الأعشى 6/ 536، وما بعدها.

سلطانه لقرطبة على هذا النحو: "ثم تأهبنا لغزو أم القرى الكافرة، وخزائن المزاين الوافرة، وربة الشهرة السافرة والأنباء المسافرة، قرطبة، وما أدراك ما هيه، ذات الأرجاء الحلية الكاسية، والأطواد الراسخة، والمباني المباهية، والزهراء الزاهية، والمحاسن غير المتناهية، حيث هالة بدر السماء، قد استدارت من السور المشيد البناء ونهر المجرة، من نهرها الفياض، المسلول حسامه من غمود الغياض، قد لصق بها جارًا، وذلك الدولاب، المعتدل الانقلاب، قد استقام مدارًا، ورجع الحنين اشتياقًا إلى الحبيب الأول وادكارًا، حيث الطود كالتاج، يزدان بلجين العذب المجاج، فيزرى بتاج كسرى ودارا، حيث قسي الجسور المديرة، كأنها عوج المطي الغريرة، تعبر النهر قطارًا، حيث آثار العامري المجاهد، تعبق بين تلك المعاهد شذى معطارًا، حيث كرائم السحائب، تزور عرائس الرياض الحبائب، فتحمل لها من الدر نثار، حيث شمول الشمال تدار على الأدواح، بالغدو والرواح، فترى الغصون سكارى، وما هي بسكارى، حيث أيدي الافتتاح، تفتض من شقائق البطاح، أبكارًا، حيث ثغور الأقاح الباسم، تقبلها بالسحر زوار النواسم، فتخفق قلوب النجوم الغيارى، حيث المصلى العتيق قد رحب مجالًا وطال منارًا، وأزرى ببلاط الوليد احتقارًا، حيث الظهور المثارة بسلاح الفلاح تجب عن مثل أسنمة المهارى، والطبون كأنها -لتدميث الغمائم- بطون العذارى". وأنت ترى لسان الدين في هذه القطعة، يلتزم لازمة السجع المركب التي لاحظناها في القطعة السابقة، وقد ظهرت هنا عليه آثار التكلف بأوسع مما ظهرت في القطعة السالفة؛ لأنه كان هناك بادئًا للرسالة، أما هنا فقد طال به النفس، فظهرت علامات التعب عليه، وكلمة التعب لا تكفي، فإن ما أداه في هذه القطعة لا تنهض به هذه الكلمة، وإنما تنهض به كلمة أخرى كالتصعيب أو التعقيد، والحق أن لسان الدين كان يسعى حثيثًا في أعماله إلى التمسك بأهداب مذهب التصنع، الذي شاعر في المشرق، وقد ذهب يقترح على الكتاب هذا

السجع المركب ليدل على مبلغ تفننه وجودة ترسله، وإنه ليضيف إلى ذلك تكلفًا واسعًا، لألوان البديع وزخارفه، وخاصة السجع والجناس: وكانت يشغف -كما نرى في هذه القطعة- بالجناس الناقص، ولكن لا تظن أن هذا هو منهج لسان الدين الدائم، فقد كان الكاتب الأندلسي يتنقل بين المفاهيم المختلفة للمشارقة، ومن أجل ذلك كنت ترى عند لسان الدين رسائل كهذه الرسالة تندمج في ذوق أصحاب التصنع، وما تلبث أن ترى له رسائل أخرى تندمج في ذوق أصحاب التصنيع، وقد ينفر من الذوقين جميعًا، كما نرى في كتابه "الإحاطة"، وإذا فابن الخطيب لا يرتبط بمذهب معين من مذاهب المشرق، بل هو يتنقل بين هذه المذاهب، وإن كان أقرب مذهب إلى ذوقه وذوق عصره هو مذهب أصحاب التصنع، ولكن ذلك لا يمنع أن نجد عنده نماذج يحاكي بها أصحاب الصنعة والتصنيع، وهذا شيء لا يختص بلسان الدين ولا بنماذجه، بل هو عام في الأندلس لعصره وقبل عصره، فدائمًا نجد الكاتب الواحد تتوزعه مذاهب المشرق المختلفة، وغاية ما في الأمر أن الأندلسيين، كان يغلب عليهم في العصر الأموي ذوق أصحاب الصنعة، بينما كان يغلب عليهم في عصر ملوك الطوائف ذوق أصحاب التصنيع، أما بعد ذلك فقد غلب عليهم ذوق أصحاب التصنع، ومع ذلك فقد درسنا ابن شيهد، فوجدناه يتوزعه المذهبان الأولان، بينما كان ابن زيدون في عصر ساد فيه ذوق التصنيع، ومع ذلك، فقد رأيناه في بعض رسائله، ينحو نحو أصحاب التصنع من بعض الوجوه، وهذا لسان الدين ذوقه وذوق عصره تصنع، واندمج في التصنع، ومع ذلك فله رسائل تخلو من هذا التصنع، بل قد تخلو من التصنع والتصنيع جميعًا، وهذا نفسه هو ما نريد أن نصل إليه، وهو أن الكتاب في الأندلس، كانوا يخلطون في محاكاة المذاهب المشرقية ونماذجها، فلم يتقيد أحد منهم بمذهب معين من جهة، ولم يدرسوا مذاهب المشرق دراسة علمية منظمة من جهة أخرى، بحيث تتيح لهم هذه الدراسة أن يبتكروا مذهبًا أو يستحدثوا اتجاهًا، فقد كانوا جميعًا يعيشون في إطار المذاهب المشرقية معيشة، تجلعنا نزعم أن أصول هذه المذاهب، كانت أثبت وأروع في تاريخ النثر العربي من أن يصيبها الأقاليم المختلفة بتبديل، أو تغيير.

الفصل الثاني: مصر والمذاهب الفنية

الفصل الثاني: مصر والمذاهب الفنية 1- مصر: تمتد مصر على ضفاف النيل من مشارف أسوان إلى تخوم بحر الروم، مطلة عليها من الغرب الصحراء الغربية، ومن الشرق الصحراء الشرقية، وقد استطاعت أن تنهض نهضة واسعة في العالم القديم، بل لقد استطاعت أن تلعب أقدم دور في تأسيس الحضارة الإنسانية، وهو دور لا تزال أهراماته وصروح آثاره ماثلة تحت أعيننا تعبر أروع تبعير عن مدى ما بلغته مصر من مدنية، وقد أخذت تنشر هذه المدنية في الأمم المجاورة، متخذة ضمها إلى ممتلكاتها سبيلها إلى ذلك، فضمت في أطوار مختلفة الشام، وأجزاء من بابل وآشور، وتمضي أحقاب متطاولة ولمصر المكانة الأولة بين الأمم القديمة، ثم يدور الزمن دورة، فيعزوها الرعاة الهكسوس، ولكن سرعان ما تعود إلى نفسها فتطردهم منها، وتخرج مرة أخرى إلى آسيا، فتستولي على بعض أجزائها، ولكن الزمن يدور دورة، بل دورات فإذا مصر يغير عليها الحيثيون ثم الأشوريون ثم الفرس، وتستمر تابعة لهم منذ عام 525 ق. م، حتى يخرجهم منها الإسكندر المقدوني عام 333 ق. م، وبذلك تنتقل إلى حكم الإغريق، ويختط بها الإسكندر مدينة الإسكندرية، كما يختط بها بطليموس أحد قواد الإسكندر، دولة كبيرة استطاعت أن تنهض بها نهضة واسعة، وهي دولة البطالسة التي أقامت في الإسكندرية دارًا كبيرة للكتب، كما أقامت دارًا أخرى سمتها دار المتحف، وكانت جامعة كبيرة أضاءت منها أنوار الثقافة اليونانية، وخاصة بعد أن استولى الرومان على أثينا، فإن كثيرًا من أساتذتها فروا، ومعهم ما تبقى من مصابيح تلك الثقافة إلى

الإسكدرية، وقد رجعت هذه المصابيح تضيء متوهجة بمصر طوال عصر البطالسة، وبعد البطالسة، فإن جامعة الإسكندرية، ظلت قائمة في عهد الرومان الذين استولوا على مصر منذ عام 31م، ونحن نعرف أن روما لم تحاول أن تبعث في مصر نهضة ثقافية، إذ كانت تتخذها مخازن لما يلزمها من قمح، وكم أثارت فيها من حروب، وسفكت من دماء وأزهقت من أرواح! وتدور عجلة الزمن دورة، فإذا عمر بن العاص يأتي على جيش عربي كبير عام 640م، متخذًا طريقه تلك الدروب، والمسالك التي كانت تشق طور سيناء إلى مصر، ويتعقب الروم في غير موقع، ويستطيع -بما أوتي من قوة- أن يطردهم منها، وبذلك تدخل في مصر عصر جديد هو عصر الإسلام والعروبة؛ وهو عصر امتاز منذ أوائله بالعدل، وأن يكون الناس سواسية أمام حاكمهم، فلا يضطهد أحد في نفسه ولا في ماله ولا في دينه، وقد أخذ المصريون يدخلون في دين الله أفواجًا، وهاجر إليهم كثير من قبائل العرب، ونزلوا ريف مصر، فكان ذلك عاملًا من عوامل الاندماج بين المصريين والعرب، على أنه ينبغي أن لا يفهم من ذلك أن المصرين تقبلوا الحكم العربي، وخضعوا له خضوعًا، بل كانوا كثيرًا ما يثورون1، وخاصة من أجل الضرائب التي كانوا يؤدونها، ولولا أن موجة الإسلام كانت حادة ما استطاع العرب أن يستمروا بمصر، فإن المصريين نزعوا عن دينهم، أو قل نزعت كثرتهم عن دينها إلى الدين الجديد، وحتى من بقي منهم على دينه أخذ يهجر لغته القبطية، وما كان يعرف من اليونانية إلى اللغة العربية بحيث لا نصل إلى القرن الرابع، حتى نجد أسقف أشمون يشكو من انعدام اللسانين، القبطي واليوناني في قبط مصر2، وما من ريب في أن ذلك يؤكد اندفاع مصر اندفاعًا شديدًا نحو التعريب، واتخاذ العربية لسانًا لها، فقد نزعت عنها ثيابها اللغوية القديمة، واتخذت مكانها ثيابًا عربية جديدة.

_ 1 Stanley, Lane -poole, AHistory of Egypt in Midle Ages, pp. 28, 23. 2 انظر كتاب سير البطاركة لساويرس "طبع بيروت" ص6، وهو مؤلف بعد عام 400 هـ بقليل.

شخصية مصر

2- شخصية مصر: من يبحث في مختلف عصورها يجدها أشبه ما تكون بمعبد كبير، أغلقت أبوابه على طائفة من الرسوم، والطقوس لا تتغير، ولا تتبدل، بل دائمًا تظل كما هي في كل حكم وفي كل عصر، وهذا المعبد الكبير أتيحت له أسباب طبيعية جعلته يعيش معيشة مستقلة في عاداته وتقاليده، ونقصد بتلك الأسباب ما قام على أسواره من الصحراء الشرقية والغربية، فإنهما عزلتاه عن الاختلاط والانسياج في الأمم الأخرى، وحقًا قد تمر بهذا المعبد العظيم عاصفة هوجاء، فتفتح أبوابه ويدخل جيش فاتح على رأسه قائد مظفر، ولكن سرعان ما يذوب هذا الجيش، ويفنى في أبناء المعبد وطقوسهم وعاداتهم، وفي هذا المعبد يجري نهر النيل نافثًا لعابه من حوض إلى حوض في أوان "يدر حلابه، ويكثر فيه ذبابه"، وحول هذا النهر يعيش المصريون، عن عصر الفراعين إلى العصر الحديث "يحرثون بطون الأرض، ويبذرون بها الحب، يرجون بذلك النماء من الرب"، وقد ظلوا يومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام وجيلًا بعد جيل يعملون على وتيرة واحدة، ينقلون الماء من هنا إلى هناك بهذه الأواني من الطوابير، وما يتصلى بها، يبعثون الحياة في وديان مصر، وأحواضها "فبينما مصر لؤلؤة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضرة، فإذا هي ديباجة رقشاء"، وهكذا مصر دائمًا: كتاب أحكمت سطوره ونقوشه منذ أقدم الأزمنة، وما تزال هذه السطور والنقوش واضحة غير مطموسة، فالناس يعيشون كما كان يعيش آباؤهم، وأسلافهم يربضون في وديان النيل في تلك المياة المشبعة بالطمي، يديرون آلات لا تكاد تخلتف في عن آلات أجدادهم، وإنهم ليحيون بطرق لا تختلف أيضًا كثيرًا عن طرق أسلافهم، ومن ثم كانت مصر بلدًا محافظًا، يحتفظ بشخصيته ومقوماتها على مر العصور، وقد كان لذلك أثر جليل.

في تاريخ مصر، فإنها استطاعت أن تحتمل الفتوح المختلفة، وأن تصمد لها دون أن يطمس شيء مهم من معالمها لما لديها من امتناع عن التحول، وقدرة على الإساغة والهضم، فإذا هي تهضم ما يدخل إليها من عناصر أجنبية، هضمت قديمًا الرعاة الهكسوس، وما دخلها من عناصر الأشوريين، والحيثيين والفرس واليونان والرومان، بل لقد هضمت عناصر العرب أنفهسم مع اتساع تأثيرهم فيها من الوجهتين الدينية واللغوية. وهذه المحافظة في مصر وما يطوي فيها من مقدرة على الاستمرار، ليس معناها أن مصر تستعصي على العناصر الثقافية عند الأمم الأجنبية، فكثيرًا ما تقبلت قديمًا وحديثًا هذه العناصر، وحاولت أن تهضمها، وتعيدها في صورة جديدة تلائمها، ولعل أوضح ما يفسر ذلك ما كان من استقبالها في الإسكندرية للثقافة اليونانية، فقد استطاعت أن تسوعبها، وأن تنفذ من ذلك الاستيعاب إلى مذهب جديد في الفلسفة هو مذهب الأفلاطونية الحديثة، وهو مذهب يعتمد على العناصر اليونانية من جهة، والعناصر المصرية، وما يتصل بها من معتقدات من جهة أخرى، ولم تحاول مصر الاتصال بثقافة اليونان الذين فتحوها فقط، بل نراها تحاول الاتصال بثقافات أخرى لم يكن لأهلها نفوذ سياسي بها، ولعل خير مثال لذلك اتصالها بالثقافة السريانية في أثناء الحكم الروماني، وخاصة فيما يتصل بدارسة الطب، يقول بتلر: "قد كان ثمة اتصال خاص بين لغة السريان ودراسة الطب، وإنه لا يبعد أن أعظم كتب الطبي في القرنين السادس والسابع كانت باللغة السريانية، ولا شك أن تلك اللغة كانت ذائعة بين الناس، وأن آدابها كانت دائمًا تدرس في الإسكندرية، حتى قبل أن تفد جموع العلماء إلى مصر من سوريا عند غزو الفرس لها"1، ومن هذه اللغة ترجم لعمر بن عبد العزيز كتاب أهرون القس في الطب2، ولم تنس مصر لغتها القبطية، فقد كانت تتخذها في طقوسها الدينية، كما كتبت

_ 1 فتح العرب لمصر "الترجمة العربية" "طبع لجنة التأليف" ص84. 2 تاريخ الحكماء "مختصر الزوزني" طبع ليبزج ص324.

بها بعض كتابات تاريخية1. على أنه ينبغي أن نعرف أن جامعة الإسكندرية اليونانية، هجرها أساتذتها إلى مدرسة أنطاكية في عهد عمر بن عبد العزيز، ولذلك لا نسمع بعد عصره عن خليفة، أو أمير يطلب علماء الإسكندرية، على نحو ما طلب خالد بن يزيد بن معاوية جماعة منهم، لترجمة ما عندهم من كتب في الكيمياء2، ومع ذلك فإغلاق هذه الجامعة إنما اقتصر تأثيره على الجانب الإغريقي، أما الجانب السرياني، وما يتصل به من الطب، فقد استمر في مصر، إذ كان العلماء السريان منبثين في الأديرة، فكان يقصد الطلاب إليهم، وكان الطب يتوارث فيهم، ولذلك ظلت مصر تشتهر بأطبائها، حتى عصر متأخر، وممن اشتهروا فيه سعيد بن توفيل النصراني، طبيب ابن طولوا3، وسعيد بن البطريق: "وكان طبيبًا نصرانيًا من أطباء فسطاط مصر، وقد عين بطريركًا على الإسكندرية سنة 328هـ، وله كتب في الطب والجدل"4. ومهما يكن فقد استمرت بمصر بقايا من التراث اليوناني، حتى بعد إغلاق جامعة الإسكندرية، إذ ظلت بها رواسب من علم إقليدس في الفلك، ومن علم الكيمياء، ومن الأفلاطونية الحديثة، وما يتصل بها من غنوسطية، ودراسات لاهوتية، وما من ريب في أن الحركة الصوفية، التي ظهرت بمصر في القرن الثالث، وعلى رأسها ذو النون المصري الإخميمي، كانت تتأثر تأثرًا مباشرًا بما بقى من هذه الجامعة، وخاصة إذا عرفنا أن أول انبعاث لهذه الحركة، كان في الإسكندرية عام 200هـ5، وأيضًا فهم يقولون: إن ذا النون المصري، كان عالمًا في الكيمياء، وقد ردوا كثيرًا من آرائه إلى مذهب الأفلاطونية الحديثة، وكما تأثر التصوف بالأفلاطونية، والغنوسطية الإسكندرية تأثر كذلك التشيع بهما في العصر الفاطمي، ولعله من أجل ذلك، كان الفاطميون يدعون إلى التثقف بالثقافة الفلسفية،

_ 1 فتح العرب لمصر ص85. 2 الفهرست لابن النديم "طبع مصر" ص 337، 507. 3 النجوم الزاهرة طبع دار الكتب 3/ 17. 4 طبقات الأطباء 2/ 86. 5 الولاة والقضاة للكندي ص160 وانظر أيضًا ص440.

إذا كانت هذه الثقافةى فعلًا مؤثرة آثارًا عميقة في عقيدتهم الشيعية. وقد سارعت مصر بعد إسلامها إلى العناية بالدراسات الدينية، من تفسير وحديث، وفقه وقراءات، كما سارعت إلى العناية بالعلوم اللغوية من نحو وعروض ولغة وأدب، فكان منها اللغويون والنحويون، كما كان منها الفقهاء والمحدثون والقراء، وأيضًا كان منها المؤرخون، الذين أرخوا لفتوحها، وكان جامع عمرو بن العاص هو الجامعة الكبرى، التي تدرس فيها العلوم الإسلامية، وهي دراسة كانت تنساق نحو تقليد بغداد في علمها، وما وصلت إليه في الدراسات المختلفة، ومصر من هذه الوجهة تشبه الأندلس تمام الشبه، فكما أن الأندلس قلدت المشرق في علومه الدينية واللغوية، أو قل بعبارة أدق أنها نقلت هذه العلوم منه، كذلك مصر فإنها اعتمدت على النقل أكثر مما اعتمدت على الابتكار، ولم يكن هذا شأنها فقط في العلوم الدينية واللغوية، بل كان شأنها أيضًا في حركتها الأدبية، فإنها كانت تصوغ نماذجها على مثال النماذج البغدادية، إذ كان الأدباء يعجبون في مختلف الأقاليم العربية بهذه النماذج، وهو إعجاب طبع أدبهم من شعر، ونثر بطابع أصيل من التقليد، وسنرى هذا الطابع يستمر في جميع ما أنتجت مصر، من نثر في أثناء عصورها الوسيطة، ومن ثم لم تستطع أن ترفد مجرى النثر العربي العام بجدول جديد تتميز مياهه من مياه المجرى العام، فليس هناك مذهب جديد، وإنما الذي هناك دائًما هو التقليد، والمحاكاة على نحو ما رأينا في الأندلس، وكان ذلك سمة الأقاليم جميعًا، فهي تقرأ نماذج المشرق التي صنعت داخل مذاهب الصنعة، والتصنيع والتصنع، ثم تحاول أن تصوغ نماذج مشابهة لتلك التي تقرؤها، ذاهبة أحيانًا مذهب أهل الصنعة، وأحيانًا أخرى مذهب أهل التصنيع، أو التصنع في غير نسق ولا نظام مطرد، وإن الإنسان ليعجب إذ يرى هذه المذاهب، التي صنعها المشرق تكتسح أمامها جميع الحدود القومية في الأقاليم العريبة، دون أن يعترضها حاجز، أو يقف أمامها عائق، ومن العبث حقًا أن نبحث عن مذهب جديد يحدثه أي إقليم، وكأنما ضاقت أبواب التجديد أمام الأدباء، فهم يولون وجوههم دائمًا شطر بغداد يتعبدون أمثلتها، ويحتذون على ما أخرجته من نماذج في الشعر والنثر.

النثر المصري

3- النثر المصري: إذا أخذنا نبحث عن وثائق الكتابة الأدبية في مصر في أثناء الفترة الأولى، ونقصد فترة الولاة من عمرو بن العاص إلى أحمد بن طولون، لم نكد نتبين شيئًا واضحًا، وليس معنى ذلك أنه لم يكن في مصر كتابة ولا كتاب، فالمقريزي يقول: "لما كانت مصر إمارة كان بها ديوان البريد، ويقال لمتوليه: صاحب البريد.. وهو الذي يطالع بأخبار مصر، كما كان لبعض أمراء مصر كتاب ينشئون عنهم الكتب والرسائل"1. وبجانب ديوان البريد الذي يشير إليه المقريزي كان بمصر ديوان للخراج، وكانوا يكتبون فيه أولًا باليونانية، ثم كتبوا فيه منذ عهد عبد الملك أو ابنه الوليد بالعربية، ومن يستعرض ما جاء في كتاب الوزراء والكتاب للجهيشاري، عن دواوين مصر وكتابها في العصر الأموي، وأوئل العصر العباسي يلاحظ أن الكتاب الرسميين، الذي يتصلون بديوان البريد، وديوان الخراج كانوا غالبًا من غير المصريين، فهو يروي أن عبد العزيز بن مروان والي مصر، كان يكتب له يناس بن خمايا من أهل الرها2، كما يروي أن سليمان بن عبد الملك، ولي رجلا من موالي معاوية الخراج بمصر3. هذا في العصر الأموي، أما في العصر العباسي، فيروي الجهشياري أن هارون الرشيد ولى على مصر عمر بن مهران كاتب الخيزران، فأخذ معه رجلًا استكتبه على الديوان4، وكذلك يروي أن الخصيب استكتب جابر بن داود جد البلاذري

_ 1 خطط المقريزي طبع بولاق 2/ 226. 2 الوزراء والكتاب للجهشياري ص34. 3 نفس المصدر ص51. 4 الوزراء والكتاب ص217.

المؤرخ المشهور1، وهو فارسي الأصل، ولما ولي عبد الله بن طاهر مصر في عصر المأمون، اصطحب معه إسحاق بن أبي ربعي ليكون كاتبه، وفيه يقول بعض الشعراء2: أرى كاتبًا جاه الكتابة بين ... عليه وتأديب العراق منير له حركات قد تشاهد أنه ... عليم بتقسيط الخراج بصير وقد سقنا ذلك لندل على أن مصر لم تستفد كثيرًا في عهد الولاة، من حيث النشاط الأدبي في باب الكتابة الرسمية، إذ كانت تستورد دواوينها من الخارج، ومن أجل ذلك لم يكن لها نشاط واضح في هذا الجانب، إلا ما رواه المقريزي من أنه كان لبعض أمرائها كتاب، ينشئون عنهم بعض الرسائل، ومن هؤلاء الكتاب عبد الله بن صالح، كاتب الليث بن سعد3، ولعل مما يتصل بذلك ما يقال: من أنه كان لعبد الحميد الكاتب عقب يسكنون مصر، منذ قتل في موقعة الزاب، وكانوا يكتبون لأمرائها4، على أنه ليس عندنا نصوص لهذه الطائفة من كتاب الأمراء، ولا للطائفة الأخرى من كتاب الولاة، ومن ثم كنا لا نبعد إذا قلنا: إن مصر لم تستولها صورة واضحة من الكتابة الفنية في عصر الولاة، غير أننا لا نصل إلى عصر ابن طولون، الذي استقل بها، وأسس فيها دولة كان لها شأن مهم في القرن الثالث للهجرة، حتى نجد مصر تبدأ عصرًا جديدًا في تاريخ النثر الأدبي، وذلك لسبب بسيط، وهو أن ابن طولون اتخذ لنفسه ديوان رسائل، وبذلك وجدت الوسيلة لنشوء حركة أدبية، تماثل ما نشأن في دمشق، وبغداد حول دواوين الرسائل، يقول صاحب صبح الأعشى: "لم يكن لديوان الإنشاء بالديار المصرية في مدة نواب الخلفاء، صرف عناية تقاصرًا عن التشبه بديوان الخلافة، إذ كانت الخلافة يومئذ في غاية العز ورفعة السلطان، ونيابة مصر بل سائل النيابات مضمحلة في جانبها، والولايات الصادرة

_ 1 الوزراء والكتاب ص256، والفهرست ص164. 2 النجوم الزاهرة 2/ 193. 3 الوزراء والكتاب ص54. 4 نفس المصدر ص82.

عن النواب في نياياتهم متصاغرة متضائلة بالنسبة إلى ما يصدر من أبواب الخلافة من الولايات، فلذلك لم يقع مما كتب منها ما تتوافر الدواعي على نقله، وتنصرف الهمم لتدوينه، مع تطاول الأيام وتوالي الليالي ... ولما أخذ أحمد بن طولون في تدبير الملك، وإقامة السلطنة بالديار المصرية، وشمخ بها سلطانه، وارتفع بها شأنه، أخذ في ترتيب ديوان الإنشاء "ديون الرسائل" لما يحتاج إليه في المكاتبات والولايات، فاستكتب ابن عبد كان، فأقام منار ديوان الإنشاء ورفع مقداره"1، ولم يكتف ابن طولون بابن عبد كان، فقد جاء بجماعة من كتاب العراق تعاونه مثل أبي عبد الله الواسطي2، ويعقوب بن إسحاق3، وأحمد بن أيمن، وكان يكتب في حداثته للعباس بن خالد البرمكي4، وضم إلى هؤلاء الكتاب آخرين من كتاب مصر، وعلى رأسهم الحسن بن محمد بن أبي المهاجر، وإخوته علي وأبو القاسم وأبو عيسى، وكلهم من عقب عبد الحميد الكاتب5. وبذلك كله نهض ابن طولون بديوان الرسائل في مصر نهضة عظيمة، وهي نهضة جعلت بعض كتاب العراق، يهاجر إلى مصر طلبًا للتوظف في هذا الديوان، على نحو ما يحدثنا ياقوت عن إسحاق بن نصير6 الكاتب البغدادي، فقد قدم على ابن عبد كان رئيس الديوان، والتمس منه التصرف ولم يزل معه إلا أن توفي، فاستخلفه مكانه خمارويه، وأجرى عليه أربعمائة دينار في الشهر، ثم رفعها إلى ألف دينار7، ويذهب عصر الطولونيين، وتدخل مصر مرة أخرى في عصرة الولاة، فيضعف بها ديوان الإنشاء، ويستمر على ضعفه في عصر الإخشيديين، إذ لا نجد لمصر -على عهدهم- كاتبا مشهورًا يمكن أن نقرنه إلى ابن عبد، كان الذي كان يباهي به ابن طولون كُتَّاب بغداد

_ 1 صبح الأعشى "طبع دار الكتب" 11/ 28. 2 المكافأة لأحمد بن يوسف طبعة "وزارة التربية والتعليم" ص20. 3 المكافأة ص56. 4 نفس المصدر ص91، 167. 5 الوزراء والكتاب ص82. 6 هكذا في ياقوت، وفي صبح الأعشى، وحسن المحاضرة والنجوم الزاهرة: نصر. 7 انظر معجم الأدباء 6/ 85.

والعراق، ونحن نقف عند هذا الكاتب وقفة قصيرة، لنطلع على ما كانت تخرجه مصر في عهده من نماذج الكتابة الفنية. ابن عبد كان: هو، أحمد بن محمد بن مودود1، وقد نال شهرة واسعة في عصره وبعد عصره، ولكن كتاب التراجم لم يهتموا به، وأغلب الظن أن ابن طولون اصطحبه معه من بغداد، فاسمه يدل على أنه فارسي، إذ الألف والنون تأتي في الفارسية القديمة للنسبة، بينما تأتي الكاف للتصغير، وإذًا فعبد كان تقابل في العربية عبيدي، وقد أحضره ابن طولون إلى مصر وبقي به حتى وفاته، ويظهر أنه توفي بعد سيده، إذ تتفق المصادر القديمة، على أن إسحاق بن نصير تولى ديوان الرسائل من بعده لخمارويه بن أحمد بن طولون2، وعرف ابن عبد كان بجودة أدبه وفنه، قال صاحب الفهرست: "كان بليغًا مترسلًا فصيحًا، وله ديوان رسائل كبير"3، ويقول ياقوت: "كان بليغًا أبو جعفر محمد بن عبد الله بن عبد كان على المكاتبات، والرسائل منذ أيام أحمد بن طولون، ومكاتباته وأجوبته موجودة"4، وقد أشاد به صاحب صبح الأعشى في غير موضع من كتابه، ومما قال فيه: إن أهل بغداد كانوا يحسدون أهل مصر على طبطب المحرر وابن عبد كان، ويقولون: "بمصر كاتب ومحرر ليس لأمير المؤمنين بمدينة السلام مثلهما"5. ومر بنا في غير هذا الموضع أن الصاحب بن عباد، سأل رجلًا من أهل الشام: رسائل من تقرأ عندكم؟ فقال: رسائل ابن عبد كان، قالي: ومن؟ قال: رسائل الصابي، وفي اقتران ابن عبد كان، وهو من كتاب القرن الثالث، بالصابي، وهو من كتاب القرن الرابع قرن

_ 1 صبح الأعشى 1/ 95. 2 صبح الأعشى 1/ 95 والنجوم الزاهرة 7/ 336 وحسن المحاضرة للسيوطي "طبع مطبعة الموسوعات" 2/ 146. 3 الفهرست لابن النديم ص197. 4 معجم الأدباء 6/ 85. 5 صبح الأعشى 3/ 17.

التصنيع ما يجعلنا نقف -من بعض الوجوه- على مبلغ مكانته الأدبية، على أن للمسألة وجهًا آخر، وهو أن الناس في النصف الثاني من القرن الرابع، كانوا يعتدون بابن عبد كان، ورسائله مع أننا نعرف أنهم لم يكونوا لغير السجع والبديع في تلك العصور، وفي ذلك ما يجعلنا نحسن شيئًا من الصلة بين آثار ابن عبد كان، وآثار أصحاب التصنيع من أمثال الصابي، والمسألة لا تحتاج كل هذا الاستنتاج، فإن من يرجع إلى رسالته، التي كتبها عن ابن طولون إلى ابنه العباس، وكان قد شغب عليه بالإسكندرية أثناء رحلة له بالشام، وهي الرسالة التي احتفظت له به المصادر القديمة، يجده فيها يعني بالسجع عناية شديدة، وحقًا قد يتخفف منه، ولكنه يلتزمه في أكثر جوانب الرسالة، مما يجعلنا نؤمن بأنه كان يعتمد عليه اعتمادًا دقيقًا في صنع رسائله، وانظر إليه كيف يستهل تلك الرسالة1: "من أحمد بن طولون، مولى أمير المؤمنين إلى الظالم لنفسه، العاصي لربه، الملم بذنبه، المفسد لكسبه، العادي لطوره، الجاهل لقدره، الناكص على عقبه، المركوس في فتنته، المبخوس من حظ دنيا وآخرته، سلام على كل منيب ومستجيب، نائب من قريب، قبل الأخذ بالكظم، وحلول الفوت والندم.. أما بعد فإن مثلك مثل البقرة تثير المدية بقرنيها، والنحلة يكون حتفها في جناحيها، وسلتعم هبلتك الهوابل -أيها الأحمق الجاهل، الذي ثنى على الغي عطفه، واغتر بضجاج المواكب خلفه- أي مورد هلكة بإذن الله، توردت إذ على الله عز وجل تمردت وشردت، فإن تبارك وتعالى قد ضرب لك في كتابه مثلًا: {قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} ، وإنا كنا نقربك إلينا، وننسبك إلى بيوتنا، طمعًا في إنابتك، وتأميلًا لفيئك، فلما طال في الغي انهماكك، وفي غمرة الجهل ارتباكك، ولم نر الموعظة تلين

_ 1 صبح الأعشى 7/ 5.

كبدك، ولا التذكير يقيم أودك، لم تكن لهذه النسبة أهلًا، ولا لإضافتك إلينا موضعًا ومحلًا.. واعلم أن البلاء -بإذن الله- قد أظلك، والمكروه -إن شاء الله - قد أحاط بك، والعساكر -بحمد الله- قد أتتك كالسيل في الليل، تؤذنك بحرب وويل، فإنا نقسم، ونرجو أن لا نجور ونظلم، أن لا نثني عنك عنانًا، ولا نؤثر على شأنك شأنًا، فلا تتوقل ذروة جبل، ولا تلج بطن واد إلا تبعناك بحول الله وقوته فيهما، وطلبناك حيث أممت منهما، منفقين فيك كل ما خطير، ومستصغرين بسببك كل خطب جليل، حتى تستمر من طعم العيش ما استحليت، وتستدفع من البلايا ما استدعيت، حين لا دافع بحول الله عنك، ولا مزحزح لنا عن ساحتك، وتعرف من قدر الرخاء ما جهلت، وتود أنك هبلت، ولم تكن بالمعصية عجلت، ولا رأي من أضلك من غواتك قبلت، فحينئذ يتفرى لك الليل عن صبحه، ويسفر لك الحق عن محضه، فتنظر بعينين لا غشاوة عليهما، وتسمع بأذنين لا وقر فيهما، وتعلم أنك كنت متمسكًا بحبائل غرور، متماديًا في مقابح أمور، من عقوق لا ينام طالبه، وبغي لا ينجو هاربه، وغدر لا ينتعش صريعه، وكفران لا يودى قتيله، وتقف على سوء رويتك، وعظم جريرتك، في تركك قبول الأمان إذ هو لك مبذول، وأنت عليه محمول، وإن السيف عنك مغمود، وباب التوبة إليك مفتوح، وتتلهف والتلهف غير نافعك، إلا أن تكون أجبت إليه مسرعًا، وانقدت إليه منتصحًا". وأنت ترى ابن عبد كان في هذه القطعة، يعني بموازنة عباراته موازنة تخرج به إلى السجع، فإن تركه فإلى الازدواج، وهذا يدل على أنه كانت تتأصل عنده رغبة في إحكام عباراته، وتنسيقها تنسيقًا بديعًا، وهو تنسيق كان يعتمد دائمًا على الملاءمات الصوتية، وكأنما كان أساس الكابة الفنية في رأي ابن عبد كان، هو الموسيقي وإحسانها، وقد طبعت هذه الموسيقى أسلوبه بطابع خاص من الترادف، حتى يلاحم بين أصواته من جهة، وحتى يحدث ما يريد من سجع وازدواج من جهة أخرى، وليس ذلك كل ما يميز صناعة ابن عبد كان، فهناك

جانب تظهر بعض شياته في تلك القطعة، وهو جانب التصوير، والحق أن ابن عبد كان من أهم الكتاب الذين ظهروا في القرن الثالث لا في مصر وحدها، بل أيضًا في بغداد نفسها، وهو حقًا ليس مصريًا وإنها هو بغدادي، ولكن مصر هي التي ظفرت به، وقد استطاع أن يحقق لها كثيرًا من أحلامها في منافستها لبغداد على عهد ابن طولون، وليس كل ما يذكر لابن عبد كان في هذا الباب هو صورة كتابته، وما بها من فن وجمال، بل إن هناك وجهًا آخر لعمله، وهو أنه وضع الكتاب في مصر رسوم الكتب، وبماذا تنتهي وكيف تعنون1. على أنه ينبغي أن نلاحظ أن ظهوره بمصر كان طفرة، وربما كان اعتباره تتميما لحلقة بغدادية أدق من اعتباره ابتداء لحلقة مصرية، فإن مصر تراجعت بعده، فلم تستطع أن تخرج كاتبًا ممتازًا في عصر الولاة بعد الطولونيين ولا في عصر الإخشيديين، وكأنها أبقت الكاتب الممتاز لعصر الفاطميين.

_ 1 انظر صبح الأعشى 8/ 160، وما بعدها.

الفاطميون ونهضة النثر المصري

4- الفاطميون، ونهضة النثر المصري: ما نكاد نشرف على النصف الثاني من القرن الرابع، حتى تبدأ مصر صفحة جديدة، وهي صفحة زاهية من جميع جوانبها السياسة، والاجتماعية والفنية، فقد دخلها الفاطميون فاتحين عام 354هـ، وأسسوا فيها إمبراطورية عظيمة دانت لها شعوب أفريقيا الشمالية، وبلاد الشام والعرب وخطب باسمهم في العراق وبغداد نفسها1، وحتى بلوخستان كانت تخضع لهم، فابن حوقل يقول: إن أهلها كانوا يرسلون للخليفة الفاطمي بأموال، وذخائر كثيرة2، ويقول ناصر خسرو الذي زار مصر عام 439 للهجرة: إنه رأى بالقاهرة طائفة من أبناء الملوك والأمراء

_ 1 انظر النجوم الزاهرة 5/ 4، وما بعدها. 2 المسالك والممالك لابن حوقل "طبعة ليدن" ص222.

الذين جاءوا من أطراف العالم مثل أبناء ملوك جورجيا، وملوك الديلم، وأبناء خاقان تركستان1، وأكبر الظن أن هؤلاء الأبناء، كانوا بعوثًا لبلادهم تريد أن تنهل من منابع الثقافة الشيعية بمصر، وكل ذلك يؤكد عظم المكانة التي احتلتها مصر في العصر الفاطمي، وهي مكانة أهل لها نظام الدعاة الذي أقاموه، فقد كان لهم دعاة منبثون في كل صقع، وفي كل ناحية يدعون لهم، يقول المعز في كتابه أرسله إلى أحد قواد القرامطة: "ما من جزيرة في الأرض، ولا إقليم إلا ولنا فيه حجج ودعاة يدعون إلينا: يدلون علينا، ويأخذون بيعتنا، ويذكرون رجعتنا، وينشرون علمنا، وينذرون بأسنا، ويبشرون بأيامنا، بتصاريف اللغات، واختلاف الألسن"2. استطاع الفاطميون أن يرتفعوا بالقاهرة في عصرهم إلى مرتبة لا تقل عن مرتبة بغداد في أيام مجدها الأولى، فقد بنوا فيها القصور الفخمة، والمساجد الضخمة وزركشوا هذه القصور، والمساجد بضروب مختلفة من الزخرف لا نبعد إذا قلنا: إنها كانت منتزعة من حياتهم، التي كانت تقوم على التأنق، وهو تأنق ساعد عليه ثراء مصر، الذي يبالغ المؤخون في وصفه، ولعل مما يدل عليه من بعض الوجوه، ما يقوله ابن ميسر من أن خراج دمياط، وتنيس والأشمونين كان يزيد على مائتي ألف دينار في العام3، ويقول ناصر خسرو: إنه رأى بالقاهرة رباطًا يحصل منه كل شهر ألف دينار، وأن بالقاهرة مائتي رباط أكبر منه أو مثله4، ويظهر أن هذا الثراء كان يعم الشعب وخلفاءه ووزراءه، يقول ناصر خسرو: "رأيت في مدينة مصر نصرانيًا من سراتها قيل: أن مراكبه وأمواله وأملاكه لا يمكن أن تعد، محدث في سنه ما إن كان النيل ناقصًا وكانت الغلة عزيزة، فأرسل الوزير إلى هذا النصراني، وقال: ليست السنة رخاء،

_ 1 سفرنامه لناصر خسرو "الطبعة العربية" طبع لجنة التأليف ص53. 2 الاتعاظ للمقريزي "طبعة بونتز" ص139. 3 أخبار مصر لابن ميسر "طبع أوربا" ص46. 4 سفرنامه ص63.

والسلطان مشفق على الرعية، فأعط ما استطعت من الغلة إما نقدًا وإما قرضًا، قال النصراني: أسعد الله السلطان الوزير، إن لدي من الغلة ما يمكنني من إطعام أهل مصر الخبزست سنوات، وكل ما يستطيع الحكم يدرك، كم ينبغي أن يكون لهذا الثري لتبلغ غلته هذا المقدار، وأي سلام كانت فيه الرعية، وأي عدل كان للسلطان بحيث يكون شعور الناس، وأموالهم بهذا القدر"1. ويتكلم ناصر خسرو عن قصر الخليفة، فيقول: إن قصره به نحو ثلاثين ألفًا من الخدم والجواري، وإنه رأى يوم فتح الخليج -وكان أحد الأعياد في العصر الفاطمي- سرادقًا نصب للسلطان على رأس الخليج، وكان هذا السرادق من الديباج الرومي، موشي كله بالذهب، ومكلل بالجوهر، وهو من الكبر بحيث يتسع ظله لمائة فارس، وأمام هذا السرادق خيمة من أبي قلمون، وسرادق آخر كبير، ويسير في ركاب السلطان عشرة آلاف فارس، على خيولهم سروج مذهبه، وأطواق وألجمة مرصعة، وجميع لبد السروج من الديباج الرومي، وأبي قلمون، وكذلك كانت تسير إبل كثيرة عليها هوادج مزينة، وبغال عمارياتها "هوادجها" مرصعة بالذهب، والجوهر وموشاة باللؤلؤ2، ويستطرد ناصر خسروا إلى وصف مائدة رآها للمستنصر يوم العيد فيقول: إنه رأى في هذه المائدة شجرة أعدت للزينة تشبه شجرة الترنج، كل غصونها وأوراقها، وثمارها مصنوعة من السكر، ومن تحتها ألف صورة وتمثال مصنوعة كلها من السكر أيضًا3، ومن يرجع إلى ما روي عن ثورة الأتراك في عصر المستنصر، أثناء المجاعة العامة بمصر يرى مبلغ ما كان في دور الفاطميين من بذخ، وترف يقصر عنهما الوصف، فقد هجم الأتراك في ثورتهم على قصر المستنصر، ونهبوا ما فيه من مجاميع التحف والطرف وباعوه بأبخس الأثمان، فمن ذلك سبحة من الأحجار الكريمة، قومت بثمانين ألف دينار، وصندوق من الجوهر قوم بثلاثمائة ألف دينار، وأربع عشرة كيلة من

_ 1 سفرنامه ص62. 2 سفرنامه ص52. 3 سفرنامه ص64.

الجواهر، وكثير من أواني الذهب والفضة، وأربعمائة صندوق من القطع الذهبية، وحصيرة منسوجة بالذهب زنتها ثمانية عشر رطلًا وشطرنج رقعته، من الحرير، وقطعة من الذهب والفضة والعاج والأبنوس المحلي بالأحجار الكريمة، وطاووس من الذهب رصع بالجواهر، وكانت عيناه ياقوتتين وريشه من الزجاج المموه بالذهب، وديك من الذهب مرصع باللؤلؤ، ومنضدة قوائمها من العقيق ... ومضرب للخليفة الظاهر كان منسوجًا بالذهب، ومضرب آخر للوزير اليازوري كلفه ثلاثين ألف دينار، إذ اشتغل في صنعه مائة وخمسون فنانًا مدة تسع سنوات، وما لا يحصى من الطيب والعطور والثياب1، وبجانب ذلك نجد المقريزي، يقول: إن بنتًا للمعز تركت بعد موتها ألف ألف دينار وسبعمائة ألف2، ويقول صاحب النجوم الزاهرة: إن ابنة للحاكم تركت نيفًا وثمانين زيرًا صينيًا مملوءة مسكًا، ووجد لها جوهر نفيس من جملته قطعة ياقوت زنتها عشرة مثاقيل، وكان إقطاعها في السنة خمسين ألف دينار3، وإذا تركنا قصر الخلفاء إلى الوزراء، وجدنا ابن منجب يقول: إن إقطاع يعقوب بن كلس أول وزرائهم، كان مائة ألف دينار في العام، وقد خلف بعد موته من الجواهر ما قيمته أربعمائة ألف دينار، ومن البز "الثياب والسلاح" ما قيمته خمسمائة ألف دينار4، وقد ترك الأفضل بن بدر الجمالي، الذي قتله الخليفة الآمر ستمائة ألف ألف دينار عينًا ومائتين وخمسين إردبًا دراهم نقد مصر وخمسة وسبعين ألف ثوب أطلس5، وهذه كلها صور تشبه أن تكون أقاصيص، ولذلك اتهمها بعض الباحثين، ولكن اتهامه لا دليل عليه، فقد أجمع المؤرخون على صدقها وتوثيقها. ونحن إنما سقنا هذا الوصف الطويل لثراء الفاطميين، لننفذ منه إلى أنهم أوتوا مادة كفيلة بإحداث نهضة واسعة في مصر سواء في عقلها، أو في أدبها وفنها.

_ 1 خطط المقريزي 1/ 415 وما بعدها. 2 الخطط 1/ 415. 3 النجوم الزاهرة 4/ 192. 4 الإشارة إلى من نال الوزارة لابن منجب ص23. 5 وفيات الأعيان لابن خلكان 1/ 222.

أما من حيث العقل، وما يصل به من الحركات العلمية، فإن مصر شهدت في العصر الفاطمي نهضة علمية واسعة، إذ شجع الفاطميون على الدراسة والثقافة، وأكبر الدلالة على ذلك، أنهم عملوا على تأسيس أكبر جامعة في الشرق، وهي جامعة الأزهر، ذلك المسجد الذي بناه جوهر الصقلي، وسماه بالأزهر تيمنًا باسم فاطمة الزهراء، ويرجع الفضل في تحويل هذا المسجد إلى دار كبيرة للدرس، والتثقيف إلى وزير الفاطميين، الأول يعقوب بن كلس، فهو الذي حوله إلى جامعة تدرس فيها العلوم الدينية والمدنية1، وكان بيته يعتبر ناديًا "صالونًا" كبيرًا في عصره، فقد "رتب لنفسه مجلسًا في كل ليلة جمعة، يقرأ فيه مصنفاته على الناس، ويحضره القضاء، والفقهاء والقراء والنحاة ... وأصحاب الحديث، فإذا فرغ من مجلسه قام الشعراء ينشدونه المدائح، وكان في داره قوم يكتبون القرآن الكريم، وآخرون يكتبون كتب الحديث، والفقه، والأدب حتى الطب"2، وتبع الوزارء يعقوب بن كلس، يعنون بتشجيع الحركة العلمية، وبني الحاكم دارًا عظيمة للكتب سماها دار العلم "وحمل إليها الكتب من خزائن القصور المعمورة، ودخل سائر الناس إليها يقرءون، وينسخون وأقيم لها خزانون وبوابون، ورتب فيها قوم يدرسون للناس العلوم"3. ولعل من الطريف أن الفاطميين -مع أنهم كانوا مقيدين بنحلة خاصة، فيها تحجر عقلي واسع- كانوا في الوقت نفسه يدعون لدراسة الفلسفة، والتعمق فيها، حتى ليقول المقريزي: "إن من جملة المعرفة عندهم أن الفلاسفة أنبياء حكمة الخاصة"4، ولعل سبب دعوتهم إلى التفلسف، أنهم كانوا يؤولون الديانات والشرائع تأويلًا يؤدي إلى تبديلها، فاحتاجوا إلى اللسان الجدل المزود بالفسلفة حتى يحسن ذلك، ومهما يكن، فإن مصر ظفرت في العصر الفاطمي نهضة عليمة واسعة، ولعل مما يدل على ذلك ما رواه المقدسي، الذي رواها في أواخر

_ 1 Margoliuth Cairo Jerusalem and Damascus, p. 40ط 2 وفيات الأعيان 2/ 334. 3 خطط المقريزي 1/ 458. 4 خطط المقريزي 1/ 395.

القرن الرابع للهجرة من أنه رأى في المسجد الجامع بها مائة مجلس وعشرة1، ويقول ناصر خسرو: إن من رآهم في مسجد الفسطاط، لا يقلون في أي وقت عن خمسة آلاف من طلاب العلم والغرباء، والكتاب الذين يحررون الصكوك والعقود2. وهذه النهضة العلمية كان يؤازرها نهضة أدبية واسعة أيضًا، فقد كان الفاطميون يرون من الضروري لدعوتهم أن يكون حولهم مجموعة نفيسة من الشعراء، والكتاب تنافح عن مذهبهم، وقد أتوا من المغرب، وفي ركابهم ابن هانئ الأندلسي يريدون أن يفخروا به، ويشعره على المشرق، كما قال المعز أول خلفائهم بمصر3، وهو فخر لم يقفوا به عند ابن هانئ، فقد عرفوا كيف يذيعون في مصر نشاطًا واسعًا في الشعر، وصنعه بفضل جوائزهم ومكافآتهم، وقد خصص العماد الأصبهاني مجلدًا كبيرًا في خريدته، وصف فيه آثار الشعراء الفاطميين، وما كان من نماذجهم، وبإزاء هؤلاء الشعراء، وجدت طوائف من الكتاب الممتازين استخدمهم الفاطميون في دواوينهم، وعني الفاطميون بديوان الرسائل خاصة وسموها ديوان الإنشاء4، وتكثر الإشارة في الكتب التاريخية، عمن كتبوا في هذا الديوان، وهناك نص طويل تتناقله هذه الكتب، يصف سلسل رؤساء الكتاب في ديوان الإنشاء الفاطمي، نجده في صبح الأعشى، وفي النجوم الزاهرة وحسن المحاضرة، وجاء في الكتاب الأول على هذ النحو: "لما ولي الفاطميون الديار المصرية صرفوا مزيد عنايتهم لديوان الإنشاء وكتابه، فارتفع بهم قدره، وشاع في الآفاق ذكره، وولي ديوان الإنشاء عنهم جماعة من أفاضل الكتاب وبلغائهم، ما بين مسلم وذمي، فكتب للعزيز بالله ابن المعز أبو المنصور ابن نسطوروس النصراني، ثم كتب بعده لابنه الحاكم، ومات في أيامه، فكتب للحاكم القاضي أبو الطاهر النهوكي، ثم كتب بعده لابنه الظاهر، وكتب للمستنصر القاضي ولي الدين بن خيران

_ 1 أحسن التقاسيم "طبع أوربا" ص205. 2 سفرنامه ص59. 3 وفيات الأعيان 2/ 5. 4 انظر مفاتيح العلوم للخوارزمي "طبع فان فلوتن" ص78 وكذلك كتاب تاريخ الوزراء للهلال بن المحسن ص151.

ثم ولي الدولة موسى بن الحسن قبل انتقاله إلى الوزارة، وأبو سعيد العميدي، وكتب للآمر والحافظ الشيخ الأجل، أبو الحسن علي بن أبي أسامة الحلبي إلى أن توفي سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، فكتب ولده الأجل أبو المكاروم إلى أن توفي في أيام الحافظ، وكان يكتب بين يديهما الشيخ الأمين تاج الرياسة، أبو القاسم علي بن سليمان بن منجب، المعروف بابن الصيرفي، والقاضي كافي الكفاة محمود بن القاضي، الموفق أسعد بن قادوس، وابن أبي الدم اليهودي، ثم كتب بعد الشيخ أبي المكارم بن أبي أسامة المتقدم ذكره، القاضي الموفق بن الحلال أيام الحافظ، وإلى آخر أيام العاضد، وبه تخرج القاضي الفاضل البيساني، ثم أشرك العاضد مع الموفق ابن الخلال في ديوان الإنشاء، القاضي جلال الملك محمودًا الأنصاري "وهو ابن قادوس السابق"، ثم كتب القاضي الفاضل بين يدي الموفق بن الخلال قرب وفاته في سنة ست وستين وخمسمائة في وزارة الملك الناصر، صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكتب في إنشائه عدة سجلات ومكاتبات عن العائد آخر خلفائهم"1، وهذا النص الطويل له طرافته من حيث، إنه يذكر أن الفاطميين لم يفرقوا بين مسلم، وذمي في وظائف ديوان الإنشاء، وما من ريب في أن ذلك يدل على أنهم، كانوا يطلبون لهذا الديوان من تفوق في تحبير الكلام، وصوغه دون تفريف بن من هو من دينهم، ومن هو من غير دينهم، ومن هو من نحلتهم، ومن هو من غير نحلتهم، فالبليغ التام يتولى هذا الديوان بغض النظر عن دينه ومذهبه، فالبلاغة هي مقياسه، وهي موضع تقديمه، ولعل مما يدل على مدى تقدير الفاطميين للكاتب الممتاز في تلك العهود، ما يرويه ياقوت عنهم من أنهم جعلوا راتب صاحب ديوان الإنشاء ثلاثة آلاف دينار في الشهر، غير رسوم يتناولها عن السجلات، والعهود وكتب التلقيدات2، وبينما يروي ناصر خسرو، أن راتب قاضي القضاة كان ألف دينار فقط"3. على أنه ينبغي أن نلاحظ، أن النص الطويل السابق لكتاب دواوين الإنشاء

_ 1 انظر صبح الأعشى 1/ 69 والنجوم الزاهرة 7/ 337 وحسن المحاضرة 2/ 146. 2 معجم الأدباء 4/ 5. 3 سفرنامه ص65.

في العصر الفاطمي إنما عرض لرؤسائهم فقط، ومن يرجع إلى كتب التراجم ليبحث هؤلاء الرؤساء يجدها لا تهتم بهم في الغالب، وخاصة بالمتقدمين منهم، وكتب القلقشندي بتفصيل، وإسهاب عن دواوين الإنشاء في مصر، ومع ذلك لم يعرف تعريفًا واضحًا بهؤلاء الكتاب، وأيضًا فإنه لم يعن بحكاية آثارهم إذا نحن استثنينا قطعًا منثورة فيه عن ابن الصيرفي، وابن قادوس، والموفق ابن الخلال1، ومع ذلك فإن ما رواه عن هؤلاء الثلاثة، لا يفسر فنهم تفسيرًا كاملًا، وهل نستطيع أن نحكم برسائل عارضة على فن كاتب، إن لم تكن تلك الرسائل من أمهات رسائله، ويتصل بذلك أن هؤلاء الثلاثة جميعًا، إنما كانوا في أواخر العصر الفاطمي، فما شأن سابقيهم؟ وأي آثار تركوها؟ والحق أن المؤرخين خاصموا كتاب الفاطميين، ولم يصفوهم وصفًا واضحًا، بسبب ما كانت عليه دولتهم من تشيع، وكان ينبغي أن يفصل هؤلاء المؤرخون بين بغضم للفاطميين، وتشيعهم وبين تقديرهم لآثار من نشأوا في ظلال دواوينهم، وإن الإنسان ليعجب حقًا، إذ يرى نهضة الكتابة في العصر الفاطمي، لا تكاد تبين إلا من خلال السطور، ومن أجل ذلك لم يتبين مؤرخو الأدب مدى ما كان في هذا العصر من حركة أدبية مزدهرة! وإن من يقرأ في معجم الأدباء لياقوت، يجده يذكر أن ابن خيران، المتوفى عام 432هـ، أرسل بمجموع رسائله إلى بغداد، ليعرض على الشريف المرتضى، كي يودعه في دار العلم هناك2. ويذكر عن العميدي، الذي رأس ديوان الإنشاء بعد أن خيران أنه له كتابًا في تنقيح البلاغة يقع في عشر مجلدات، وأن له كتابًا يسمى الإرشاد إلى حل المنظوم والهداية إلى نظم المنثور، وكتابا آخر يسمى انتزاعات القرآن، وإن في هذين الكتابين، ما يدل على ميل العميد إلى نثر الشعر في رسائله، واقتباسه الكثير من القرآن الكريم، وهما صفتان استمرتا في النثر المصري من بعده، روى له ياقوت

_ 1 انظر في رسائل ابن الصيرفي، وابن قادوس صبح الأعشى 8/ 324 وما بعدها، وانظر في رسائل ابن الخلال صبح الأعشى 10/ 310 وكذلك 10/ 318. 2 معجم الأدباء 4/ 5.

شعرًا واضحًا فيه أثر الجناس1، ولسنا ندري هل كان يستخدمه في نثره أو لم يكن يستخدمه، لهذه السدود التي أقامها المؤرخون بينننا، وبين آثار العصر الفاطمي، وأيضًا ليس لدينا نصوص واضحة، عمن ولوا الديوان بعده في عصر المستنصر، فقد توفي العميد عام 433هـ، وخلفه أبو الطاهر النهركي، وليس تحت أيدينا له رسائل نتعرف منها على فنه، إنما الذي تحت أيدينا حقًا هو مجموعة من رسائل كاتب آخر لعهد المستنصر، ولم يكن من رؤساء ديوان الإنشاء، ولكنه كان من كتابه الكثيرين، وهو ابن الشخباء المتوفى عام 382 هـ، وربما كان أهم كاتب فاطمي احتفظت لنا المصادر بصورة واضحة من عمله، ونستمر بعد ابن الشخباء، فنلتقي بابن الصيرفي الذي خدم في الديوان من عام 485هـ إلى عام 531هـ، ويقول ياقوت: إن له رسائل تزيد على أربع مجلدات، ولكن هذه المجلدات فقدت، وما بقي من نثره لا يصوره تصويرًا واضحًا، وكذلك الشأن في ابن قادوس، الذي خدم من بعده في ديوان الإنشاء على الرغم من أن القاضي الفاضل، كان يسميه صاحب البلاغتين، ولعل ما رواه صبح الأعشى عن الموفق بن الخلال، يفصح بعض الشيء عن فنه، ففي رسالة له تصنع واضح لاصطلاحات النحو، إذ يقول في بعض جوانبها2: "وراقب الله فيما ألقاه إليك، فقد فوض إليك مقاليد البسط والقبض، والرفع والخفض، والولاية والعزل، والقطع والوصل، والتولية والتصريف، والصرف والإمضاء والوقف، والغض والتنبيه، والإخمال والتنويه، والإعزاز والإذلال، والإساة والإجمال، والإبداء والإعادة، والنقص والزيادة، والإنعام والإرغام، وكل ما تحدثه تصاريف الأيام". وإن مما لا شك فيه أن كتابة الرسائل بلغت في العصر الفاطمي مبلغًا عظيمًا من الرقي والاكتمال، بدت لها أوائل هذه العصر نزعة إلى السجع، فإن من يرجع إلى الكتاب، الذي كتبه المعز لأحد قواد القرامطة -وهو كتاب

_ 1 انظر ترجمة العميدي في معجم الأدباء 17/ 212. 2 صبح الأعشى 10/ 316.

طويل -يجد أكثره بني على السجع"1، وقد روى صاحب صبح الأعشى عن العزيز نزار كتابًا فيه سجع كثير2، وإذا تركنا القرن الرابع إلى القرن الخامس، وجدنا صاحب النجوم الزاهرة يروي كتابًا صدر عن الخلافة الفاطمية، بني كله على السجع مع أنه طويل3. ونستمر حتى نلتقي بابن الشخباء، ثم ابن الصيرفي، ثم ابن قادوس والموفق بن الخلال، وكل هؤلاء بنيت كتابتهم على السجع والتصنع فيه ضروبًا من التصنع، وربما كان ابن الشخباء كاتب عصر المستنصر خير من يعبر عن ازدهار النهضة الفنية للنثر الفاطمي، فقد بقيت لنا من أعماله طائفة صالحة تفسر طابع فنه، بل طابع عسره في الكتابة، ولذلك سنقف عنده وقفة قصيرة. ابن أبي الشخباء: هو، الحسن بن عبد الصمد بن أبي الشخباء العسقلاني "من البلغاء الأفراد، وأبهر نجوم تلك البلاد، طلوعًا من ثنايا الأدب، واجتناء لخبايا لسان العرب، فقد كاشف حقائقها، واستخرج دقائقها، وأحرز مسبوقها وسابقها، وكانت وفاته -رحمه الله- مقتولًا بخزانة البنود -وهي سجن بمصر- سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة"4، ويقول ياقوت: كان ابن الشخباء "يلقب بالمجيد ذي الفضيلتين "الشعر والنثر"، أحد البلغاء، الفصحاء، الشعراء، له رسائل مدونة مشهورة، قيل: إن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني منها استمد، وبه اعتد ... كتب في ديوان الرسائل للمستنصر صاحب مصر؛ لأن في رسائله جوابات إلى البساسيري إلا أن أكثر رسائله إخوانيات، وما كتبه عن نفسه إلى أصدقائه ووزراء أمراء زمانه"5، وذكره العماد الأصبهاني في الخريدة، فقال: "المجيد كنعته قادر على ابتداع الكلام

_ 1 الاتعاظ للمقريزي 133-143. 2 صبح الأعشى 6/ 434. 3 النجوم الزاهرة 4/ 249. 4 الذخيرة: القسم الرابع من نسخة فوتوغرافية بمكتة جامعة القاهرة ورقة 183. 5 معجم الأدباء "طبع مصر" 9/ 152.

ونحته، له الخطب البديعة، والملح الصنعية"1، ويقول عنه ابن خلكان: "الشيخ المجيد أبو علي الحسين بن عبد الصمد بن الشخباء العسقلاني، صاحب الخطب المشهورة والرسائل المحبرة، كان في فرسان النثر، وله فيه اليد الطولى"، ويقال: "إن القاضي الفاضل -رحمه الله- كان جل اعتماده على حفظ كلامه، وأنه كان يستحضر أكثره"2. وواضح من هذه النصوص أن من كتبوا، عن ابن أبي الشخباء أشادوا ببلاغته، كما أشاروا إلى القاضي الفاضل، كان يحتذى على أمثلته، وينهل من معين صياغته، ولو بقيت رسائل إلى عصرنا لأمكن تتبع هذا الحكم، وبيان الصلة بين الأديبين الكبيرين: أديب العصر الفاطمي وأديب العصر الأيوبي، ولكن رسائله فقدت، ومع ذلك بقيت منها بقية في الذخيرة لابن بسام، ومعجم الأدباء لياقوت، وهي حقًا تؤكد الصلة بين عملي الرجلين، وانظر إلى ابن الشخباء يقول من رسالة، يهنئ فيها بهزيمة أتسز بن أوق الغزي الذي خرج في الشام، وقد كتب بها سنة تسع وستين وأربعمائة3: "قد ارتفع الخلاف بين الكافة أن الله ذخر للدولة الفاطمية -ثبت الله أركانها- من الحضرة العلية المنصورة الجيوشية -خلد الله سلطانها- من حمى سوادها، ونصر أعلامها، وضم نشرها، وحفظ سريرها ومنبرها، بعد أن كان الأعداء -الذين ارتضعوا در إنعامها، وتوسموا بشرف أيامها، فطردت يد الاصطناع إملاقهم، وأثقلت قلائد الإحسان أعناقهم -خفروا ذمم الولاء، وكفروا سوابغ الآلاء، ففجأتهم الحوادث من كل طريق، ونعب بهم غراب الشتات، والتفريق واستباحتهم يد الشدائد، وأتى الله بنيانهم من القواعد، ولم تزل النفوس منذ طرق "أتسز" اللعين هذه البلاد، وأنجم فيها أنجم الفساد، وتعدى حدود الله وكلماته، وتعرض لمساخطته، ونقماته، عالمة بأن إملاء الحضرة العلية -مد الله ظلها على الكافة-لم يكن عن استعمال رخصة في هذه الحال، ولا سكون إلى عوارض من الإغفال والإهمال، بل هو

_ 1 الخريدة: الجزء الحاص بشعراء مصر وفلسطين ورقة 14. 2 وفيات الأعيان لابن خلكان 1/ 133. 3 معجم الأدباء 9/ 164.

أمر ركب فيه متن التدبير، وجرت بمثله المقادير، واتبع فيه قوله تعالى: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} ، في حين خدعته المطامع المردية، إلى الأعمال القاهرة، مؤملا انفصام عروة الله المتينة، وأفول ما توقد من شجرة مباركة زيتونة ... والله المحمود على منح من هذه النعمة، والمسئول أن يشد ببقاء الحضرة العلية قواعد الإسلام، ويسم بمحامدها أغفال الأيام، ويستخدم لها السيوف والأقلام، حتى لا يبقى على وجه الأرض مفحص قطاة، إلا وقد دوخها سنابك خيولها، ولا مسقط نواة إلا وقد ركزت فيه صدور رماحها ونصولها، فقد دفعت ... خطبًا جسيمًا، واستحلقت من السياسة أمرًا عقيمًا، وأعادت شمل الأمة ملمومًا نظيمًا، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وكان فضل الله عظيمًا". وأنت ترى من هذه القطعة أن ابن الشخباء، يعنى بالتشخيص، والتصوير كما يعنى بالاقتباس من القرآن الكريم، وهذان عنصران أساسيان في فن القاضي الفاضل، وهو كما يعنى بذلك يعنى أيضًا بأن يضم كل لفظة إلى أختها، وكل صورة إلى شاكلتها، فإذا ذكر مفحص القطاة مثلًا ذكر السنابك والخيول، وإذا ذكر مسقط النواة ركز فيه الرماح والنصول، وسنرى القاضي الفاضل يبالغ في استخدام هذا العنصر من مراعاة النظير، وليس ذلك كل ما نجده عند ابن الشخباء من عنصر استمد منها القاضي الفاضل، فهناك عناصر أخرى، منها تصنعه لمصطلحات العلم، كقوله في مطلع رسالة لبعض الوزراء، وقد بلغه أن شخصًا هجاه عنده: "لو لم تقض الشريعة -أطال الله بقاء سيدنا- برفض المقالة، عارية من البرهان والدلالة، لكان ذلك في الغريزة راتًبا، وفي حكم العقول واجبًا"1، فقد تصنع هنا لذكر المقالة والبرهان، والواجب وحكم العقول والدلالة، وكل ذلك يسوقه في خفة تجعلنا لا نلحظه، ومن أمثلة ذلك أيضًا، أنه استهل رسالة للأفضل بن بدر الجمالي، بقوله: "خلد الله أيام الحضرة الأفضلية ما فضلت الأسماء حروفًا، وتقدمت واو العطف معطوفًا، ولزمت

_ 1 الذخيرة: القسم الرابع ورقة 183.

الأفعال اشتقاقًا وتصريفًا"1، وكما كان ابن الشخباء يتصنع لمصطلحات العلم، كذلك كان يتصع للإتيان بجناس متكلف، شبيه بجناسات أصحاب التصنع، كقوله من رسالة إلى من يسمى صارم الدولة بن معروف2: "جاءته مناقب الحضرة العلية فتم بها مناقب تميم، وحكم لآل القعقاع أمر حكيم، ونصر لواء بني نصر، وأبدرت أهلة بني بدر، ونبه منبه هوازن، وظهرت مزينة ومازن، وضحك لعبس عابس الدهر، وراحت الكملة كاملة الفخر، وزادت مغايظ الأزد، وقشرت قشير عن بلوغ المجد، وأغمدت سيوف بني غامد، وصارت همدان كالجمر الهامد، ومذحج كالعنس مذللة، وحمير بالراية الحمراء متظللة، وطوت طيئ عملها استخذاء وغضت جفنة جفونها استيحاء، فحرس الله محاسن الحضرة السامية، التي جباه الأنام بها موسومة، وتمم نعمها التي هي بينها، وبين الناس مقسومة". أرأيت إلى هذه المبالغة في استخدام الجناس، والاحتيال عليه بذكر هذه القبائل الكثيرة؟ وأكبر الظن أن القارئ، قد أحس هنا روح أصحاب التصنع، ولكن لا تظن أن ابن الشخباء، كان يعمم لك في رسائله، بل هو يظهر فيه من حين إلى حين، وهذه سنة الكتاب في الأقاليم المختلفة، فهم لا يستمرون عند مذهب معين من مذاهب المشرق، بل هم دائمًا يتقلبون بين المذاهب، والأذواق المختلفة، فبينما ترى الكاتب يكتب رسالة من ذوق أصحاب التصنع، إذا هو يكتب أخرى من ذوق أصحاب التصنيع، أو من ذوق أصحاب الصنعة، وهذا هو معنى ما نذهب إليه من أن الأقاليم العربية، لم تستحدث مذهبًا جديدًا في تاريخ الأدب العربي لا نثره ولا شعره، فقد وقفت عند صورة المذاهب الثلاثة من الصنعة، والتصنيع والتصنع، وكل ما أضافته إلى هذه المذاهب هو التنقل بينتها في غير نظام، وهذه الظاهرة كما تتصل بابن الشخباء، تتصل بجميع كتاب العصر الفاطمي المتأخر، فليس بينهم من استطاع أن يبتكر مذهبًا جديدًا أو طريقة جديدة إنما، دائمًا الجمود عند المذاهب المسبوقة، والطرق الموروثة.

_ 1 الذخيرة ورقة 189. 2 معجم الأدباء 9/ 175.

ومهما يكن، فقد كان ابن الشخباء من كبار الكتاب في العصر الفاطمي، وهو من هذه الناحية يعتبر سجلًا طريفًا لتطور الكتابة في هذا العصر، فإن ما بقي من كتبه، ورسائله يدل على خطأ من يذهبون إلى أن القاضي الفاضل، هو أول كاتب كبير يظهر في مصر، ويبالغ بعض مؤرخي الأدب في ذلك، فينسبون إليه ما يسمى طريقة القاضي الفاضل، وحقًا إن القاضي الفاضل كان أكبر شخصية ظهرت في الكتابة بعد العصر الفاطمي، ولكن ينبغي أن لا نبالغ في ذلك مبالغة تؤدينا إلى أن نرى العصر الفاطمي بالتأخر في الكتابة، فإن القاضي الفاضل نفسه تخرج في هذا العصر، ولو لم يأت أسد الدين شيركوه، وابن أخيه صلاح الدين إلى مصر لكان القاضي الفاضل من كتاب العصر الفاطمي، بل لقد تم تكون القاضي الفاضل في هذا العصر نفسه، وكان من كتاب دواوينه، بل لقد كان يقلد تقليدًا في هذا العصر نفسه، وكان من كتاب دواوينه، بل لقد كان يقلد تقليدًا شديدًا آثار كتابه من أمثال ابن الشخباء وغيره، وسنرى أنه لا يكاد يأتي بجديد في استخدام العناصر الفنية، بالقياس إلى صناعة ابن الشخباء، إنما كل ما هنالك أنه اتسع بها ووسع طاقتها، واستطاع أن ينفذ بها إلى كل ما أراد من تجويد وتحبير.

الأيوبيون ونهضة النثر في عصرهم

5- الأيوبيون، ونهضة النثر في عصرهم: لا نكاد نتقدم في النصف الثاني من القرن السادس الهجري، حتى يقوم الخلاف العنيف بين شاور وضرغام وزيري العاضد، وسرعان ما تتأجج نيران الحروب بينهما، فيستعين شاور بنور الدين صاحب حلب، وهو أكبر شخصية حينئذ كانت تعني بحرب الصليبيين، ودفع موجاتهم إلى البحر المتوسط وما وراءه، وحدث أن ضرغامًا استعان بهم ضد خصمه، فخشي نور الدين أن يستولي الصليبيون على مصر، وأن يندفعوا منها إلى الاستيلاء على العالم العربي، لذلك أرسل إلى شاور بنجدة كبيرة، على رأسها أحد قواده، وهو أسد الدين

شيركوه، وجاء أسد الدين إلى مصر، ومعه ابن أخيه صلاح الدين، فهزم الصليبيين، ورد الأمر إلى شاور إلا أنه قتل، فحل محله أسد الدين في وزارة العاضد، ولكن الموت عاجله، حينئذ نرى صلاح الدين يتولى الوزارة مكان عمه، وينبهم الموقف فالخليفة شيعي، ووزيرها سني، وهو يتبعه من جهة، كما يتبع نور الدين من جهة أخرى، ويرسل نور الدين إلى صلاح الدين أن ينقل الخطبة في المسجد الجامع إلى الخليفة العباسي، ويقضي على نظام الحكم الشيعي، فيصدع صلاح الدين بالأمر، وينفذ مشيئة نور الدين، ثم تخدم الظروف صلاح الدين، فإذا نور الدين يتوفى بعد قليل، فيستقل هو بمصر، بل نراه يذهب إلى الشام، فيستولي على ممتلكات نور الدين، حتى يوحد العالم الإسلامي أمام الصليبيين، ويستمر فيستولي على أجزاء من الموصل، كما يستولي على بلاد العرب، ويؤسس في مصر دولة عظيمة هي الدولة الأيوبية، التي كان أصحابها يلقبون أنفسهم بالملوك. كانت الدولة الأيوبية دولة سنية، لذلك أخذت تناهض التشيع الفاطمي، ومظاهره في مصر، واتخذت لذلك طريقة منظمة هي إنشاء المدارس، والمعاهد السنية، وقد بدأ صلاح الدين هذه الحركة، فأنشأ طائفة من المدارس كي يدعم الدعوة السنية، يقول ابن خلكان: "لما ملك السلطان صلاح الدين الديار المصرية، لم يكن بها شيء من المدارس، فإن الدولة المصرية، كان مذهبها مذهب الإمامية، فلم يكونوا يقولون بهذه الأشياء، فعمل في القرافة الصغرى المدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي رضي الله عنه، وبنى مدرسة بالقاهرة في جوار المشهد المنسوب إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما، وجعل عليها وقفًا كبيرًا، وجعل دار سعيد السعداء خادم الفاطميين خانقاه، ووقف عليها وقفًا طويلًا، وجعل دار عباس المذكور في ترجمة الظافر العبيدي، والعادل ابن السلار مدرسة للحنفية، وعليها وقف جيد كبير أيضًا، والمدرسة التي بمصر المعروفة بزين التجار وقفًا على الشافعية، وقفها جيد أيضًا"1، وكما عني صلاح الدين بمحاربة التشيع في مصر، عني أيضًا بمحاربة التفلسف عناية

_ 1 وفيات الأعيان 2/ 402.

شديدة، يقول القاضي ابن شداد في سيرته: "كان مبغضًا لكتب الفلاسفة أرباب المنطق ومن يعاند الشريعة، ولما بلغه عن السهروردي ما بلغه أمر ولده الملك الظاهر بقتله"1، وأكبر الظن أن لصلاح الدين يدًا في ضعف الحركة الفلسفية بمصر منذ عصره، فقد تبعه العلماء يعنون بالدراسات الدينية، والتاريخية واللغوية، مهملين للدرسات الفلسفية، واستمر ذلك طوال العصر الأيوبي وعصر المماليك أيضًا، يقول بهاء الدين السبكي، وهو من علماء عصر المماليك: "إن أهل مصر صرفوا همهم إلى علوم اللغة، والنحو والفقه، والحديث وتفسير القرآن بخلاف أهل المشرق، الذين استوفوا هممهم الشامخة في تحصيل العلوم العقيلة والمنطق"2، ومعنى ذلك أن مصر استمرت مطبوعة بالطابع، الذي كان أراده لها صلاح الدين، حتى عصر المماليك وبعد عصرهم أيضا، وكأنما إعجاب المصريين بصلاح الدين، وحروبه الصليبية جعلهم يقتدون بسيرته في حياته العقلية. ومن يرجع إلى سيرة مدلوك الدولة الأيوبية بعد صلاح الدين، يجدهم يهتمون اهتمامًا بالغًا بالدراسات السنية، وخاصة دراسة الحديث، ومما يروى بصدد ذلك أن ابنه العزيز الذي خلفه على مصر، سمع الحديث من الحافظ السلفي، والفقيه أبي طاهر بن عوف الزهري، وأبي محمد بن بري النحوي وغيرهم3، وكان عمه العادل الذي ولي مصر بعده معنيًا بأرباب السنة، صنف له فخر لدين الرازي كتاب تأسيس التقديس، وذكر اسمه في خطبته، وسيره إليه من بلاد خراسان4، وكان الكامل ابنه يحب العلماء، والأماثل ويلقي عليهم المشكلات5، وكان محبًا للحديث وأهله، حريصًا على حفظه ونقله، وللعلم عنده شرف، خرج له أبو القاسم بن الصفراوي أربعين حديثًا، وسمعها جماعة ويقولون: إن ابن بري وغيره أجازوا له رواية الحديث6، وقد بنى مدرسة عرفت باسم دار الحديث الكاملية، وهي ثاني دارع عملت للحديث، أما أول

_ 1 النجوم الزاهرة 6/ 9. 2 عروس الأفراح للسبكي 1/ 5. 3 النجوم الزاهرة 6/ 127. 4 النجوم الزاهرة 6/ 163. 5 نفس المصدر 6/ 227. 6 النجوم الزاهرة 6/ 228.

دار فهي الدار التي أسسها نور الدين بدمشق1، نستمر حتى نلتقي بالملك الصالح، نجم الدين أيوب فنراه يبني المدرسة الصالحية، وكانت تدرس فيها المذاهب الأربعة2، وما من ريب أن في ذلك كله يدل عن أن الأيوبيين بعثوا في مصر اهتمامًا واسعًا بالدراسات الدينية. وإذ تركنا الدرسات الدينية إلى الكتابة الأدبية، وجدنا الأيوبيين يجنون في عصرهم ثمار النهضة الفنية، التي رأيناها في العصر الفاطمي، وقد ظفروا فيما ظفروا من هذه الثمار بالقاضي الفاضل، أحد كتاب دواوين العصر الفاطمي، وقربه منه صلاح الدين، واتخذه وزيره وكاتبه، وكنا أبلغ كتاب عصره، فدفع الصعر الأيوبي كله من ورائه في دوائر نماذجه، وما أتاحه لهذه النماذج من صفات أدبيه، وأعانته في ذلك شخصية كبيرة أتت من المشرق، هي شخصية عماد الدين الأصبهاني، الذي نشأ بأصبهان، ثم قدم بغداد وتخرج في المدرسة النظامية، ولما تخرج فيها خدم الوزير، يحيى بن هبيرة ببغداد، ثم انتقل إلى دمشق وسلطانها يومئذ نور الدين، فألحقه بديوان الإنشاء، وتعرف أثناء ذلك بصلاح الدين، وقامت بينهما مودة وثيقة، ولما أنشأ نور الدين المدرسة النورية في دمشق أسندها إليه، واستمر في هذا العمل حتى توفي نور الدين، فانتقل إلى صلاح الدين وتعلق به، ومدحه كثيرًا كما مدح القاضي الفاضل، رجاء أن ينظمه في سلك سلطانه، وعمل القاضي الفاضل على ذلك، فقربه من صلاح الدين، وأصبح الكاتب الثاني في الدولة الصلاحية بعد القاضي الفاضل، وكان العماد أديبًا كبيرًا، وله ديوان شعر ورسائل كثيرة، كما أن له الكتاب المشهور: "الفيح القسي في الفتح القدسي"، يصف فيه فتح بيت المقدس على يد صلاح الدين، وأيضًا له الخريدة، وهو ينهج في كتاباته نهج أصحاب التصنع في عصره، وقد كان القاضي الفاضل يذهب غالبًا هذا المذهب مستنا في ذلك بكتاب العصر الفاطمي، وعلى رأسهم ابن الشخباء، فتآلف الكاتبان فنيًا كما تآلفا اجتماعيًا، ولعل مما يثبت عناية بالتصنيع ما يروى من أن

_ 1 النجوم الزاهرة 6/ 229. 2 حسن المحاضرة 2/ 156.

العماد لقي القاضي الفاضل يومًا وهو راكب على فرس، فقال له: سر فلا كبا بك الفرس، فقال له القاضي الفاضل توًّا: دام علا العماد1، وأكبر الظن أن القارئ لا يزال يذكر ما مر بنا عند الحريري، مما كان يسميه "ما لا يستحيل بالانعكاس"، وكان الحريري يأتي به ليدل على مقدرته البالغة، وها نحن الآن في مصر بعد الحريري بنحو نصف قرن، نقرأ في آثار مشاهير الكتاب، فإذا هم يتجهون نفس الوجهة من الإطراف بغرائب العبارات، وهو إطراف لا يأتي من المعنى، وإنما يأتي من الشكل الخارجي، إذ يستطيع الأديب أن يستخدم عقدة من عقد التعبير، وهو غالبًا لا يأتي بعقد جديدة، وإنما يستخدم بعض العقد السابقة، فإذا القاضي والعماد جميعًا يعمدان في جملتين إلى استخدام "ما لا يستحيل بالانكاس"، فيهما حتى يدلًا على مقدرتهما وبراعتهما، وأنهما يستطيعان أن يأتيا بعبارات تقرأ طردًا وعكسًا، والغريب أن العماد مع أنه جاء من المشرق موطن التصنع، لم يستطع أن يتفوق على القاضي الفاضل، الذي تخرج في ديوان الفاطميين، وهذا نفسه دليل واضح على أن هذا الديوان ارتقت فيه الكتابة في العصر المتأخر رقيًا، لا يقل عن رقيها في المشرق. ومهما يكن فإن القاضي الفاضل كان أستاذ عصره غير منازع، وشهد له ابن خلكان بذلك، إذ وازن بين كتبه في فتح بيت المقدس وما كتبه العماد وغيره، فقال: "إنه رئيس هذا الفن، وإذا شرع في شيء من هذا الباب، لا يستطيع أحد أن يجاريه ولا يباريه"2، ومن أجل ذلك سنقف عنده لنتبين نهضة الكتابة الفنية في العصر الأيوبي، وما امتازت به من خصائص أدبية، وهي خصائص استمرت تخضع لها الأجيال التالية خضوعًا شديدًا. القاضي الفاضل: هو، عبد الرحيم البيساني، ولد في عسقلان، فهو عسقلاني الأصل كابن الشخباء؛ وولي أبوه قضاه بيسان من قبل الفاطميين، فنسب هو إليها، ولما

_ 1 معجم الأدباء 19/ 18 وفيات الأعيان 2/ 75. 2 وفيات الأعيان 2/ 395.

شب أرسل إلى ديوان الإنشاء في القاهرة لتخرج فيه، فحضرر إلى مصر في عهد الحافظ1 "524-544هـ"، وتتلمذ على أشهر الكتاب، وكان الموفق ابن الخلال حينئذ رئيس ديوان الإنشاء، وكان معه ابن قادوس الأديب المشهور، فلزمهما، ويقول الرواة: إنه لم مثل بين يدي الموفق سأله: ماذا أعددت لفن الكتابة؟ فأجابه: إني أحفظ القرآن الكريم وديوان الحماسة، فأمره أن يحل شعر الحماسة كله 2، ثم ما زال به يدربه على الكتابة حتى نبغ فيها، ولكنه لم يستمر مع الموفق، بل ذهب إلى قاضي الإسكندرية المسمى بابن حديد، فكتب عنه كتبًا حبرها تحبيرًا ممتازًا، ويقال إن الوزير: العادل ابن رزيك "556-558هـ" اطلع على بعضها: فأعجب بها، وطلبه ليسلكه في كتاب ديوانه، فعاد إلى القاهرة، ومكث في ديوان الإنشاء حتى وفد أسد الدين شيركوه، فقربه منه واتخذه كاتبه، ولما توفي استخدمه صلاح الدين. ويظهر أنه أخلص لهذه الأسرة منذ قدومها، فإننا نجد صلاح الدين يتخذه وزيره، ومشيره كما يتخذه كاتبه، وروي عنه أنه قال: "والله ما ملكت البلاد بسيوفكم ولا برماحكم، ولكن بقلم القاضي الفاضل"، ويقول ابن فضل الله العمري: "كان القاضي الفاضل هو الدولة الصلاحية كان كاتبها ووزيرها، وصاحبها ومشيرها، والحاكم في كلها، والمجهز لبعوثها، ومع هذا كله كان لا يزال منكدًا مبتلى بضنا قلبه وجسمه، ومرض همه وسقمه ... ولهذا كان لا يتكلف مع السلطان سفرًا في كل مرة، وكان العماد ينوب عنه"3، وذكر القاضي نفسه علته في أحد خطاباته فقال: "والمملوك في حال تسطير هذه الخدمة جامع بين مرضى قلب وجسد، ووجع أطراف وعليل كبد"4، وكنا كان القاضي عليلا كان -على ما يظهر- تزور عنه العين،

_ 1 تختلف الروايات في الخليفة، الذي جاء القاضي الفاضل في عصره إلى مصر هل هو الحافظ أو هو ابنه الظافر، ورجحنا الأولى؛ لأنها هي التي تتلاءم مع تاريخ القاضي الفاضل، انظر ابن خلكان 2/ 408. 2 وفيات الأعيان 2/ 408. 3 مسالك الأبصار: نسخة خطية بدار الكتب منقولة عن نسخة فوتوغرافية بها، الجزء السابع، ورقة 656. 4 النجوم الزاهرة 6/ 128.

قال الأسعد: بن مماني: "كان القاضي الفاضل دميم الخلقة، وكان له حدبة ظاهرة خلف ظهره وكان يسترها بالطيلسان، حتى لا تظهر للناس"1. وهذا الرجل العليل القبيح بلغ من فن الكتابة، وتجويده ما لم يبلغه أحد في عصره، يقول العماد الأصبهاني في حقه: "رب القلم والبيان، واللسن واللسان، والقريحة الوقادة والبصيرة النقادة، والبديهة المعجزة، والبديعة المطرزة، والفضل الذي ما سمع في الأوائل، ممن لو عاش في زمانه لتعلق بغباره، أو جرى في مضماره، فهو كالشريعة المحمدية التي نسخت الشرائع، ورسخت بها الصنائع، يخترع الأفكار، ويفترع الأبكار، ويطلع الأنوار، ويبدع الأزهار"2. ويقول النويري: "إلى القاضي الفاضل انتهت صناعة الإنشاء ووقفت، وبفضله أقرت أبناء البيان واعترفت، من بحر علمه رويت ذوو الفضائل واغترفت، وأمام فضله ألقت البلاغة عصاها، وبين يديه استقرت به نواها، فهو كاتب الشرق والغرب في زمانه وعصره، وناشر ألوية الفضل في مصره وغيره مصره، ورافع علم البيان لا محالة، والفاضل بغير إطالة"3، وقد أشاد به وبفنه كل من تعرضوا لترجمته، كما أشار كثير منهم -وعلى رأسهم العماد الأصبهاني- إلى أنه صاحب طريقة، أو كما يقول العماد: شريعة جديدة، ولكن ينبغي أن لا نظن من ذلك أن القاضي الفاضل ابتكر مذهبًا جديدًا، في تاريخ النثر العربي، إنما كل ما هناك أنه قلد أصحاب التصنع فأحسن التقليد، ومن المهم أن نعرف أن الكتاب في الأقالبيم المختلفة، منذ القرن السادس أخذوا يغمرون بذوق التصنع في الكثير الأكثر، وقلما تركوا هذا الذوق إلى ذوق التصنيع، وبدأت هذه المرجة في مصر لا بالقاضي الفاضل، ولكن بابن الشخباء الذي عرضنا له في العصر الفاطمي، والقاضي الفاضل نفسه حين كان يكتب في العصر الفاطمي، كان يكت بهذا الذوق، وانظر إليه يستهل رسالة كتب بها عن العاضد آخر الخلفاء الفاطميين4:

_ 1 بدائع الزهور لابن إياس "طبع بولاق" 1/ 75. 2 وفيات الأعيان 1/ 284. 3 نهاية الأرب "طبع دار الكتب" 8/ 1. 4 صبح الأعشى "طبع دار الكتب" 7/ 79.

"كتابنا -أطال الله بقاء المليك- عن مودة ظاهرة الأسباب، متظاهرة الأنساب، ضافية جلباب الشباب، وعوائد عوراف لا يتنكر معروفها، ووفود فوائد لا يتصدع تأليفها، ومساعي مساعد لا ينقض معروفها، ولا ينقض مسوفها1، وسعادة بالخلافة التي عذق2، به أمرها، وأوضح سرها، وملأ سرائرها وسريرها، وأطلع شمسها وقمرها". وهذه الصورة من التعبير، وما يطوى فيها من تشخيص وجناس، وإمعان في هذا الجناس هي الصورة العامة لكتابة القاضي الفاضل؛ ومن يرجع إلى بقية هذه الرسالة في صبح الأعشى، يجد فيها ما اشتهر به من اقتباسه لآي الذكر الحكيم، كما يجد اهتمامه البالغ بالتنظير، بحيث لا نغلوا إذا قلنا: إن فن القاضي الفاضل استوى له نهائيًا في العصر الفاطمي، ونحن نعرض على القارئ قطعًا من رسالة تعبر أشهر ما دبجه -وهي رسالته عن صلاح الدين إلى الخليفة ببغداد، يزف إليه البشرى بفتح بيت المقدس- حتى يطلع على خصائصه الأدبية في أروع أثر أدبي عني به وبتدبيجه، وهو يستهلها على هذا النمط3: أدام الله الديوان العزيز النبوي الناصري، ولا زال مظافر الحد بكل جاحد غني التوفيق، عن رأي كل رائد، موقوف المساعي على اقتناء مطلقات المحامد، مستيقظ النصر والسيف في جفنه راقد، وارد الجود والسحاب على الأرض غير وارد، متعدد مساعي الفضل وإن كان لا يلقى إلا بشكر واحد، ماضي حكم القوم بعزم لا يمضي إلا بنسل غوي وريش راشد، ولا زالت غيوث فضله إلى الأولياء أنواء إلى المرابع، وأنوارًا إلى المساجد، وبعوث رعبه إلى الأعداء خيلًا إلى المراقب، وخيالا إلى المراقد". وأنت ترى القاضي الفاضل في هذه القطعة الصغيرة عني -كما عني في مستهل الرسالة العاضدية- بألوان البديع وخاصة لون الجناس، وذهب يطيل في عباراته، حتى يحقق ما يريد من جناس وتنظير وتشخيص، وما من شك في

_ 1 مسوفها: مؤجلها. 2 عذق به: اختص. 3 صبح الأعشى 6/ 496 وابن خلكان 20/ 392.

أننا نحس في كل ذلك ذوق أصحاب التصنع، إذ نراه يحاول أن يمرن أسلوبه على أن يحمل أوسع ما يمكن، من جناسات منقوصة، وغير منقوصة، واستمر في الرسالة، فستراه يقول عن صلاح الدين، وفتحه لبيت المقدس إنه: "فاز من بين المقدس بذكر لا يزال الليل به سميرًا، والنهار به بصيرًا والشرق يهتدي بأنواره، بل إن أبدي نورًا من ذاته هتف به الغرب بأن واره؛ فإنه نور لا تكنه أغساق السدف، وذكر لا تواريه أوراق الصحف، وكتاب الخادم هذا، وقد أظفر الله بالعدو الذي تشظت قناته شفقًا، وطارت فرقه فرقًا.... وعثرت قدمه وكانت الأرض لها حليفة، وغضت عينه وكانت عيون السيوف دونها كسيفة، ونام جفن سيفه، وكانت يقظته تريق نطف الكرى من الجفون، وجدعت أنوف رماحه وطالما كانت شامخة بالمنى أو راعفة بالمنون، وأضحت الأرض المقدسة الطاهرة وكانت الطامث، والرب المعبود الواحد، وكان عندهم الثالث، فبيوت الشرك مهدومة، ونيوب الفكر مهتومة، وقد ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وبدل الله مكان السيئة الحسنة، ونقل بيت عبادته من أصحاب المشأمة إلى أصحاب الميمنة". وواضح أن سمات القاضي الفاضل، التي رأيناها منذ مطلع الرسالة لا تزال هي نفسها، فهو يعمم في جميع جوانبها ميله الشديد إلى التشخيص، كما يعمم ميله إلى ألوان البديع وخاصة لون الجناس، وكان ما يزال يستخدمه في جميع أشكاله من تامة وغير تامة، واستهدفت في أثناء ذلك؛ لأن يوري بين كلمة "بأنواره" وكلمة "بأن واره"، وقاده استهدافه لهذا النوع من الجناس إلى أن يستخدم التورية كثيرًا في نثره، وقد نسب القدماء إليه استخدامه هذا اللون لأول مرة في تاريخ أدب مصر الإسلامية1، ولكن من يقرأ شعر الشريف العقيلي في المغرب2، والخريدة3 يجد أن هذا اللون عرف في مصر منذ أوائل القرن

_ 1 خزانة الأدب للحموي "طبع المطبعة الخيرية" ص241. 2 المغرب لابن سعيد "طبع جامعة القاهرة" ص207، 244. 3 الخريدة: قسم شعراء مصر. "طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر" 2/ 63.

الخامس، وكل ما يمكن أن يضاف إلى القاضي الفاضل، أنه ربما كان من أوائل من نقلوه من الشعر إلى النثر، ومهما يكن فقد كان القاضي الفاضل، يعنى بأن تضم كتبه عناصر مذهب التصنع، وخاصة عنصر الجناس والتشخيص، وتضمين الشعر ثم عنصر الاقتباس من آي القرآن الكريم، على نحو ما نجد في القطعة السابقة، إذ نظم في عبارته قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} ، وكذلك قال: "وبدل الله مكان السيئة الحسنة" وقال: "من أصحاب المشأمة إلى أصحاب الميمنة"، وفي هاتين العبارتين ألفاظ من القرآن الكريم. ومع ذلك فعناصره الفنية التي يستخدمها لم نتبينها كلها حتى الآن، فهناك عنصر مهم كان يستخدمه في كتابته، وهو عنصر التصنع لمصطلحات العلوم، واستمر في الرسالة الآنفة فستراه يقول: "كان يبدل المذابح منائر والكنائس مساجد، ويبوئ بعد أهل الصلبان أهل القرآن للذب عن دين الله مقاعد، ويقر عينه وعيون أهل الإسلام أن تعلق النصر منه، ومن عساكره بجار ومجرور، وأن ظفر بكل سور ما كان يخاف زلزاله، وزياله إلى يوم النفخ في الصور". ولا شك أن القارئ قد لاحظ ما نريد أن نشير إليه، وهو أن القاضي الفاضل تصنع هنا لذكر الجار والمجرور، وراعى النظير، فذكر كلمة "تعلق" وكل ذلك ليستتم ما يدل به على براعته في فنه، وهو حقًا لم يكن يكثير من التصنع لمصطلحات العلوم، ولكنه يظهر على كل حال في رسائله، واستمع إليه يقول من رسائله أخرى1: "سلام الله الأطيب، وبركاته التي يستدرها الحضر والغيب، وزكواته التي ترفع أولياءه إلى الدرج، ونعمه التي لم تجعل على أهل طاعته في الدين من حرج، على مولانا سيد الخلق، وساد الخرق، ومسدد أهل الحق، وواحد الدهر الذي لا يثنى، وإليه القلوب تشنى، ولا يقبل الله جميعًا لا يكون لولاته

_ 1 صبح الأعشى 6/ 515.

جمع سلامة لا جمع تكسير، ولا استقبال قبلة ممن لا تكون بحته في قلبه تقيم، واسمه في عمله إلى الله يسير". وقد بدت هنا رغبة القاضي في التصنع لمصطلحات النحو، بأكثر مما بدت في رسالة فتح القدس، فهناك كان يتخفف، أما هنا فإنه يطيل في تصنعه لمصطلحات النحو، إطالة تجعل الإنسان يلاحظها، إذ نراه يذكر الواحد والمثنى ثم الجمع، ولا يكتفي بذلك، بل يقف ليذكر جمع السلام وجمع التكسير، وأكبر الظن أن فن القاضي الفاضل قد أتضح لنا الآن، فهو لا يعدو في عناصره الأساسية، ما سبق أن رأيناه عند ابن الشخباء، وهذا نفسه هو ما يجعلنا نؤمن بأن القاضي الفاضل، لم يأت بطريقة جديدة تخالف الطرق الموروثة، بل لقد كان يعيش -كغيره من أدباء عصره- في الإطار الفني العام لمذاهب المشرق، وكان يعجب خاصة بمذهب التصنع، وما وصل إليه ابن الشخباء مواطنه في استخدامه، فذهب يتعلق بطرائفه من مصطلحات العلوم، والمصطلحات الأخرى من التشخيص، ومراعاة النظير وألوان البديع من طباق وغيره، وتعلق بالجناس خاصة على سنة أصحاب التصنع، فاستخرد منه غرائب كثيرة، كقوله في إحدى رسائله1: "الحمد لله الذي صدقه وعده، وأورثه الأرض وحده، وجدد علاه، وأعلى جده، وأسعد نجمه، وأنجم سعده، ووعده نجحه، وأنجح وعده، وأورده وصفه، وأصفى ورده". وفي هذه القطعة ما يدل على مدى احتفال القاضي الفاضل باستخراج كل ما يمكن من أشكال الجناس الهندسية، ولعل القارئ يلاظ أنه تفد عليه الآن صور الجناس المعقدة، التي مرت بنا عند الحريري، والحصكفي خاصة، إذ كان يعجب بهذا الضرب من الجناس المقلوب، ونما هذا الذوق في الأقاليم المختلفة، وكان القاضي الفاضل داعيته في مصر، إذ كان ينحو بأسلوبه

_ 1 صبح الأعشى 6/ 511

جملة نحو أصحاب التصنع، وليس معنى ذلك أن أسلوبه كان ضعيفًا، أو رديئًا فقد كان لديه من البراعة الفنية، ما جعله ينهض بصعوبات التصنع دون أن يستشعر الإنسان ما فيها من أثقال، ولكنا لا نستمر بعده، حتى نحس أنها أصبحت أثقالًا غليظة، وقد ذكرنا أنه عني في كتابته بالتورية، وساق صاحب خزانة الأدب من أمثلتها قوله1: "في يوم شديد المطر والبرد، والخادم في رأس جبل يتلقى الرحمة غضة قبل أن يبتذلها الناس، ويصافح الرياح عاصفة قبل أن تقتسهما الأنفاس"، ويتلقى الرعد بالرعدة، وإذا السماء انشقت استصحاها المملوك بالسجدة". فقد ورى تورية واضحة في كلمتي "وإذا السماء انشقت" و"السجدة"، ولكن يظهر أن القاضي لم يكن يكثير من ذلك في رسائله، ونحن لا نستيطع أن نزعم بأن هذا العمل مذهب جديد للقاضي الفاضل، فهو ليس أكثر من لون من ألوان البديع، وجده مستخدمًا قبله عند الشعراء الفاطميين، فأدخله في نثره، ومن يدري؟ ربما سبق بمن استخدمه قبله من الكتاب في العصر الفاطمي نفسه. ومهما يكن فإن القاضي الفاضل، كان أبلغ كتاب العصر الأيوبي، وقد ظلت المصطلحات، التي يستخدمها في فنه أساسية عند جميع الكتاب المصريين من بعده، حتى ليقول النويري: إن كل فاضل بعد الفاضل فضلة"2، ولم يكن هذا إحساس النويري وحده، بل كان إحساس جميع الكتاب بعده، فقد اتخذوا آثاره مثلهم الأعلى الذي يتحذونه ويقلدونه، ومن أجل ذلك كنا لا نخطئ إذا قلنا: إن العصور التي تلته في مصر، كان أصحابها يصوغون دائمًا على مثاله، وينسجون على منواله.

_ 1 خزانة الأدب ص243. 2 نهاية الأرب للنويري 8/ 2.

المماليك وإمتداد النهضة في عهدهم

المماليك وإمتداد النهضة في عهدهم ... 6- مماليك، وامتداد النهضة في عهدهم: تطلق كملة مماليك على ضرب من الرقيق، كان يؤسر في الحروب أو يباع في الأسواق، وأول من استخدم هؤلاء المماليك في شئون الحكم والسياسة المعتصم الخليفة العباسي، فقد جلب منهم جماعة كبيرة استخدمها في حروبه، وكان يجلبهم من شباب أواسط آسيا الأشداء، ونحن نعرف قصة هؤلاء المماليك الأتراك في الدولة العباسية، إذ سرعان ما انتقل إليهم تصريف الأمور، وأصبحوا هم الحاكمين بأمرهم، أما الخليفة فكان يحكم حكمًا اسميًا، وكان صلاح الدين ومولاه نور الدين، يستعينان في حروبهما ضد الصليبيين بقبيل من هؤلاء الأتراك: ولما جاء الصالح أيوب جمع حوله جيشًا كبيرًا منهم، وبنى لهم قلعة في جزيرة الروضة، لذلك سموا المماليك البحرية، وسرعان ما أصبحوا هم المتحكمين في كل أمور الدولة، كما أصبح لهم سلطان كبير، فقتلوا "توران شاه" آخر الملوك الأيوبيين، وولوا عليهم "شجرة الدر" زوج أبيه، فتزوجها أيبك التركماني، وأدار هو دفة الأمور بنفسه، ولكنها اختلفت معه فقتلته، فتولى ابنه، وفي عهده قتلها المماليك انتقامًا، ثم عزل، وتولى الحكم من بعده قطز، وفي عهده قتلها المماليك انتقامًا، ثم عزل، وتولى الحكم من بعده قطز، وفي عهده هزمت جيوشه، وعلى رأسها الظاهر بيبرس جيوش هولاكو التتري، وكان ذلك سببًا في التماع اسم الظاهر، فولي الحكم، وفي عهده انتقلت الخلافة العباسية من بغداد إلى القاهرة عام 656 للهجرة، وخلفه سلاطين أشهرهم قلاوون وابنه الناصر، ويظل الحكم في تلك الأسرة، حتى يسلبه منها برقوق زعيم المماليك الجراكسة، الذين جلبهم آل قلاوون وأسكنوهم بروج القلعة، ولذلك سموا المماليك البرجية، ويخلف برقوق سلاطين مختلفون، منهم السلطان "شيخ" الملقب بالمؤيد، وما تزال مصر في أيدي المماليك البرجية، حتى يفتحها العثمانيون في عام 923 للهجرة.

وكانت مصر في عهد المماليك، تعتبر زعيمة العالم الإسلامي، إذ وقفت دون موجه التتار، التي اكتسحت شرق هذا العالم حتى الشام، كما وقفت دون موجة الصليبيين وردتهم عن بلاد الإسلام، وقد انتقل إليها الخليفة العباسي، وفي هذا الانتقال ما يرمز إلى أهميتها في تلك العصور، إذ أصبحت موئل الإسلام من طرف، كما أصبحت موئل العلم والأدب من طرف آخر، فقد هاجر إليها العلماء، والأدباء من كل صوب، حتى ينعموا بما فيها من حياة آمنة مرفهة، ويظهر أن مصر كانت على جانب عظيم من الرخا، واليسر في هذا العصر المملوكي، ولذلك كثرت فيها العمارة، حتى قالوا: إنه "بني في أيام الملك الظاهر ما لم يبن في أيام الخلفاء المصريين، ولا ملوك بني أيوب من الأبنية والرباع والخانات، والقواسير والدور والمساجد والحمامات"1، وكذلك اشتهر عصر الناصر بن قلاوون بكثرة العمائر في مصر والشام، وفي هذا ما يدل -من بعض الوجوه- على ثروة مصر في هذا الحين، ولعل مما يدل على ذلك أيضًا ما يقال من أن الناصر حج ذات مرة، فكانت تمد له مائدة في طريقه وسط حديقة مصنوعة، وعليها الفاكهة والزهور، وكان هذا المنظر يبهر الناس في صحراء بلاد العرب، وقد قالوا: إن إحدى زوجاته أنفقت في حجها مائة ألف دينار، كما قالوا: إنه أنفق في زواج كل بنت من بناته ثمانمائة ألف دينار2، وما من ريب في أن ذلك يدل بعض الدلالة على ما بلغته في عصر المماليك، من ترف وثراء. ولعل من الغريب أن المماليك -على الرغم من أنهم كانوا من الرقيق- عنوا بالحركة العلمية، على نحو ما صنع سادتهم من الأيوبيين، فبنوا المدارس وأغدقوا عليها الأموال، وكان أول من استن هذه السنة الظاهر بيبرس، فقد أنشأ مدرسة كبيرة هي المدرسة الظاهرية، وكان لها أربعن إيوانات لتدرس الفقه الشافعي، والحنفي وتدريس الحديث، وقراءات القرآن، كما كان بها مكتبة

_ 1 النجوم الزاهرة 7/ 196. 2 تاريخ دولة المماليك في مصر تأليف، وليم موير وترجمة محمود عابدين وسليم حسن ص90.

تشتمل على أمهات الكتب في سائر العلوم1، وقد احتذى الظاهر المنصور قلاوون، فبنى مدرسة كبيرة سميت المدرسة المنصورية، وكان يدرس فيها الفقه على المذاهب الأربعة، كما كان يدرس فيها التفسير والحديث، وأيضًا كان يدرس فيها الطب2، ثم جاء الناصر ابن قلاوون، فأنشأ مدرسة عظيمة ورتب فيها دروسًا للمذاهب الأربعة، ويقول المقريزي: إنه أدرك هذه المدرسة3، وبنى السلطان حسن من بعده مدرسة كبيرة، يقول المقريزي عنها: إنه لا يعرف ببلاد الإسلام معبد من معابد المسلمين، يحكي هذه المدرسة في كبر قالبها، وحسن هندامها وضخامه شكلها، ويقول: إن العمارة استمرت فيها مدة ثلاث سنين لا تنقطع، وإنه كان يصرف على عمارتها يوميًا عرشون ألف درهم، وكان يدرس فيها الفقه على المذاهب الأربعة4، ثم جاء المماليك البرجية، وعلى رأسهم برقوق، الذي أنشأ مدرسة لدرس المذاهب الأربعة، ودرس التفسير والحديث، وقراءت القرآن5، وتبعه الملك المؤيد شيخ فابتنى هو الآخر مدرسة كبيرة6، وكل ذلك يدل على مبلغ عناية المماليك بالحركة العلمية، وتشجيع العلماء، وقد عرف المؤيد شيخ من بينهم بأنه كان شعرًا وموسيقيًا7، ويقول السيوطي نقلًا عن ابن حجر: إنه "كان معه إجازة بصحيح البخاري من شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني، فكانت لا تفارقه سفرًا ولا حضرًا"8. وإذا كان المماليك عنوا بالحركة العلمية، فإنهم عنوا كذلك بالحركة الأدبية، وقد كان لديوان الإنشاء عندهم منزلة كبيرة، وكان لا يوظف فيه إلا من اشتهر بالبلاغة، وأوتي أسرار البيان والفصاحة، وكثيرًا ما ارتقى كاتب

_ 1 خطط المقريزي 2/ 378 وحسن المحاضرة 2/ 160 والنجوم الزاهرة 7/ 120. 2 خطط المقريزي 2/ 379 وحسن المحاضرة 2/ 160. 3 خطط المقريزي 2/ 382 وحسن المحاضرة 2/ 160. 4 حسن المحاضرة 2/ 162. 5 حسن المحاضرة 2/ 163. 6 حسن المحاضرة 2/ 163. 7 تاريخ دولة المماليك لموير ص 132. 8 حسن المحاضرة 2/ 89.

الإنشاء عندهم إلى مرتبة الوزارة، وقد كتبت في هذا العصر أكبر الموسوعات الأدبية من مثل مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري، و"صبح الأعشى في صناعة دواوين الإنشاء" للقلقشندي، و"نهاية الأرب" للنويري، و"الخطط" و"السلوك" للمقريزي، ولولا هذه الكتب ما استطعنا اليوم أن نؤرخ للحركات الأدبية في مصر أثناء العصور الوسطى، ويظهر أن القوم اتجهوا هذا الاتجاه في التأليف مخافة ضياغ العلم، إذ فقد كثير من الكتب حتى عصرهم، فرأوا أن يكتبوا موسوعات تغني عن الكتب المختصة بكل عهد وكل عصر، ومن أهم كتب التاريخ الكبيرة في هذه العصر، كتاب النجوم الزاهرة لابن تغري بردي، وعقد الجمان للعيني. وأكثر كتابات هذا العصر ينتشر فيها السجع، ومن الكتب التاريخية التي بنيت على السجع بناء كتاب "عجائب المقدور في نوائب تيمور" لابن عرب شاه، واستمرت كتابات الرسائل في هذا العصر، مطبوعة بالطابع الذي رأيناه عند القاضي الفاضل، من ميل إلى استخدام ألوان البديع من جناس وطباق، وتصوير ثم الاقتراض من ألفاظ العلوم ومصطلحاتها، ومن أشهر كتاب هذا العصر ابن فضل الله العمري، وابن نباتة، ومحيي الدين بن عبد الظاهر، وهو أشهر الثلاثة، وكتاباتهم جميعًا تمتاز باستخدام فنون البديع وألفاظ العلوم، وعنوا عناية خاصة بلون التورية، كقول ابن نباتة من توقيع لشخص بنظر مدرسة1: "وكيف لا وهو نعم الناظر والإنسان، وفي مصالح القول، والعمل ذو اليدين واللسان، وذو العزائم الذي تقيدت في حبه الرتب، ومن وجد الإحسان". فقد ورى في الناظر والإنسان تورية واضحة، ولم يكتف بذلك، بل رأيناه يعمد إلى الاقتضاب في آخر العبارة، أو ما كانوا يسمونه حيئنذ بالاكتفاء، إذ ختم عبارته بقوله: "ومن وجد الإحسان"، وقطع وهو يريد الشطر المشهور، "ومن وجد الإحسان قيدا تقيدًا"، وهذا الاكتفاء إنما جاء من استخدام

_ 1 صبح الأعشى 1/ 304.

أساليب القرآن الكريم؛ لأن فيها حذفًا كثيرًا، فذهبوا يتأثرونها في هذا الجانب، ولا تظن أن الاكتفاء ظهر لأول مرة في تلك العصور، فهو قديم إذ نجده في العصر الفاطمي، عند ابن قادوس1، كما نجده من بعده في العصر الأيوبي2، ونستمر فنجده في هذا العصر عند ابن نباتة وغيره، وإنه لينبغي أن نقف وقفة قصيرة عند أشهر كتاب هذا العصر، وهو محيي الدين بن عبد الظاهر حتى تتراءى لنا طبيعة الكتابة في العصر المملوكي، وما تتسم به من شارات أدبية فنية. محيي الدين بن عبد الظاهر: عاش محيي الدين في القرن السابع الهجري، إذ توفي عام 692 للهجرة3، وقد ولي ديوان الإنشان في عهد بيبرس، وقلاوون وابنه الملك الأشرف خليل4، وكان له فضل كبير في وضع مصطلحات ديوان الإنشاء لهذه العصور، وقد استمر الكتاب من بعده يلتزمون هذه المصطلحات، وإن في هذا الالتزام ما يدل على قيمته لدى معاصريه، فقد كانوا جميعًا يشيدون به، يقول النويري: "كان محيي الدين أجل كتاب العصر، وفضلاء المصر وأكبار أعيان الدول، والذي افتخر بوجوده أبناء عصره على الأول، له من النظم الفائق ما راق صناعةً وحسنًا، ومن النثر الرائق ما فاق بلاغة ومعنى، فقصائده مدونة مشهورة، ورسائله بأيدي الفضلاء ودفاترهم مسطورة، وكلامه كاد يكون لأهل هذه الصناعة وعليهم حجة، وطريقه في البلاغة أسهل طرق، وفي الفصاحة أوضح محجة"5، وإذ رجعنا نبحث هذه الطريقة التي يشير إليها النويري، وجدناه هي الطريقة الفاضلية نفسها6، فمحيي الدين يستخدم البديع، ويتصنع لاصطلاحات العلوم، ويكثر من الاقتباس لآي الذكر الحكيم،

_ 1 انظر الخريدة 1/ 230. 2 خزانة الأدب للحموي ص126. 3 بدائع الزهور 1/ 125. وانظر فوات الوفيات 1/ 271. 4 انظر بدائع الزهور 1/ 110 وكذلك 1/ 118، 1/ 125. 5 نهاية الأرب 8/ 301. 6 فوات الوفيات 1/ 271.

كما يكثر من تضمين الشعر، ونحن نسوق قطعة من كتاب تعزية كتب به عن المنصور قلاوون إلى صاحب اليمن، يخبره بوفاة ابنه علاء الدين علي، وكان قلاوون عهد له في الأمر من بعده، ثم أدركته الوفاة1: "المملوك يخدم خدمة لا يذود المواصلة بها حادث، ولا يؤخرها عن وقتها أمر كارث، ولا تنقصها عن تحسينها، وترتيبها بواعث الاختلاف ولا اختلاف البواعث، ويطلع العلم الكريم على ورود مثال كريم، يتضمن ما كان حدث من رزء تلافاه الله يتناسيه، وتوافى هو والصبر فتولى التسليم بتبيين عاسيه2، وتمرين قاسيه، فشكرنا الله على ما أعطى وحمدناه على أخذ، ما قلنا: هذا جزع قد انتبه، إلا قلنا: هذا تثبت قد انتبذ، ولا توهمنا أن فلذة كبد قد اختطفت إلا وشاهدنا حولنا من ذريتنا والحمد لله فلذ، وأحسنا الاحتساب، ودخلت الملائكة علينا من كل باب، ووفانا الله أجر الصابرين بغير حساب.. وبكتاب الله وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم عندنا حسن اقتداء، نضرب به عن كل رثاء صفحًا، وما كنا مع الله -والمنة لله- نعطي لمن يؤنب ويؤبن أذنا. ولنا بحمد الله ذرية درية3، وعقود ... والشكر لله كلها درية: إذا سيد منهم خلا قام سيد ... قؤول لما قال الكرام فعول ما منهم إلا من نظر سعده، ومن سعده ينتظر، ومن يحسن أن يكون المبتدأ، وأن تسد حاله بكفالته وكفايته مسد الخبر "والشمس طالعة إن غيب القمر" لا سيما من الدين به، إذ هو صلاحه أعرف، من قيل لبناء ملك هذا عليه قد وهي قيل: هذا خير منه من أعلى بناء سعد أشرف.. والرغبة إلى الله تعالى في أن يجعل تلك المصيبة للرزايا خاتمة، وكما لم يجعلها للظهور قاصمة، فلا يجعلها لعرا الشكر فاصمة، وأن يجعلها بعد حمل هذا الهم

_ 1 صبح الأعشى 7/ 357. ونهاية الأرب 8/ 107. 2 من عسى الليل: اشتدت ظلمته. 3 درية: نسبة إلى الدر وهو اللبن، يريد أنه أشبه أباه وأمه في الأخلاق والصفات.

وفصاله على عليه فاطمة، وأن يحبب إلينا كل ما يلهي عن الأمول والأولاد من عزو وجهاد، وأن لا تقصف أرواحنا إلا في فود أو في فؤاد، ولا تجز غير شعور ملوك التتار تتوج بها رءوس الروماح، ويصعد بها على قمم الصعاد1، ولا شغل الله لب المولى بفادحة، ولا خاطرة بسانحة من الحزن ولا بارحة، ولا أسمعه بغير المسرات من هواتف الإبهاج صادحة". وأكبر الظن أنه قد اتضحت للقارئ طريقة محيي الدين، وهي طريقة تقوم على التصنع، وهو تصنع ينتهي به إلى أن يكثر من الجناس المعكوس، وهو لا يكتفي بهذا الجناس وما فيه من مشقة، بل نراه يذهب مذهبًا بعيدًا في استخدام التورية، وقد كان يستهدف لها في جميع كتاباته، إذ كانت أهم لون شغف به الكتاب في عصره، وكانوا يدلون بها على مهارة الكاتب وبراعته، وقد ورى محيي الدين في هذه القطعة مرتين مرة في قوله: "ومن قيل لبناء مالك هذا عليه وقد وهي، قيل: هذا خير منه ومن أعلى بناء سعد أشرف"، فإن كلمة أشرف هنا لا يريد بها معنى الصفة، وإنما يريد به الإشارة إلى ولي العهد الجديد لقلاوون، بعد وفاة علي الملقب بعلاء الدين، وهو الملك الأشرف خليل، ونستمر فنجده يوري مرة أخرى في قوله: "وأن يجعلها بعد حمل هذا الهم، وفصاله على عليه فاطمة" فقد جاء بفاطمة مع علي وهو يريد هنا الصفة، وواضح أنه ذكر هنا الفصال حين ذكر الحمل كما ذكر فاطمة حين ذكر عليًّا، وهو ما يسمى عند أصحاب البديع بمراعاة النظير، وليس هذا كل ما في القطعة من تصنع، ففيها اقتباس واسع من آي الذكر الحكيم، وفيه أيضًا تضمين للشعر، تارة يضمن بيتًا، وتارة يضمن شطرًا في مثل قوله: "والشمس طالعة إن غيب القمر"، أيضًا في القطعة تصنع للذكر المبتدأ والخبر، أرأيت كيف تؤلف الرسائل عند أشهر كتاب العصر المملوكي؟ إنها تؤلف من ألواب البديع، واصطلاحات العلوم وتضمين الأبيات والأشعار، والاقتباس من آي الذكر

_ 1 الصعاد: جمع صعدة، وهي القناة التي تنبت مستوية، فلا تحتاج إلى تثقيف.

الحكيم، وقد أصبحت هذه الأشياء تلصق إلصاقًا وتلفق تلفيقًا، فليس هناك كاتب ممتاز لهذا العصر، إلا وهو يسعى إلى جلب هذه الفنون في نثره يقتسرها اقتسارًا، وقد يعتسفها اعتسافًا، وانظر كيف يجتلب محيي الدين التورية اجتلابًا في أثناء عهد المنصور قلاوون لابنه الملك الأشرف خليل، إذ يقول1: "كم جلا بهي جبينه من بهيم، وكم غدا الملك بحسن روائه ويمن آرائه يهيم، وكم أبرأ مورده العذب هيم عطاش، ولا ينكر الخليل إذا قيل عنه إبراهيم". فقد ورى في إبراهيم، وأهل لتوريته بذكر الخليل، وهو لا يريد إبراهيم حقًا إنما يريد أنه "إبراهيم" فسهل الهمزة لتتم له التورية، ومن يرجع إلى رسائله المنثورة في صبح الأعشى، يجد كثيرًا من تورياته، فمن ذلك قوله في كتاب يصف به فتوح قلاوون في الشام2: كم شكت منه حماة تنبى بنكرها عن قلة الإنصاف، وكم خافته معرة، وما من معرة خاف، ما زالت أيدي الممالك تمتد إلى الله بالدعاء، تشكو من جور جواره تلك الحصون والصياصي، وتبكي بمد مع نهرها من تأثير آثاره مع عصيانها، وناهيك بمدمع العاصي". فقد ورى في كلمة معرة، كما ورى في كلمة العاصي، إذ يريد بها النهر المعروف في الشام لا الصفة، ومثل ذلك قوله في كتاب لأحد ملوك الفرنج: "وكيف فارقنا بلادك، وما بقيت فيها ماشية إلا وهي لدينا ماشية، ولا جارية إلا وهي في ملكنا جارية"3، فقد ورى تورية واضحة في ماشية وجارية، ومن ذلك أنه استهدف للقب قلاوون، وهو المنصور ولقب الخليفة العباسي في عهده، وهو الحاكم فقال في كتاب له: "وكيف لا والمنصور هو الحاكم"4، ومن ذلك قوله في نسخة توقيع برياسة اليهود5:

_ 1 صبح الأعشى 10/ 168. 2 نفس المصدر 7/ 355. 3 صبح الأعشى 8/ 300. 4 نفس المصدر 10/ 117. 5 نفس المصدر 11/ 387.

"وليتق الله فيما يذره ويأتيه، ويحسن في اجتلاب القلوب واختلابها تأتيه، وإياه والتيه، حتى لا يقال: كأنه بعد لم يخرج من التيه.. وجماعة القرائين، فانصب لأمرهم من لم يتوله حيةن يتوله ... والجزية فيه لدمائكم وأولادكم عطية، وعلى دفاعها لا دافعها وصمة.. ومن قصد منها خلاصة، فقل له في الملأ ماذا خلاصه". وواضح أنه ورى في التيه الثانية، فلم يرد بها الصفة، وإنما أشار بها إلى التيه الذي ضل فيه اليهود قديمًا مع موسى، واستمر فورى في توله الثانية كما ورى في كلمة خلاصه الثانية، وهي مركبة من "خلا" وكلمة "صه" بمعنى أسكت، وهذا كله كان يعتبر منتهى ما وصل إليه الفن، في عصر محيي الدين من مهارة وبراعة، وهي براعة لفظية على نحو ما نرى في هذه الأمثلة، وإذا تركت هذه التورية لم تجد إلا صورًا متكلفة، وجناسًا معكوسًا ولن تجد وراء ذلك إلا تكلفًا لمراعاة النظير، وتضمينًا للشعر وآي الذكر الحكيم، وإن سألت عن جديد، فلن تجد إلا التصنع لمصطلحات العلوم، وخاصة علم النحو، كقوله في رسالة لوزير بتقليد الوزارة في أثناء كلامه عما نيط به: "وإليه أمر قوانينها ودواوينها وكتابها وحسابها، وإليه التولية والصرف، وإلى تقدمه البدل، والنعت والتوكيد والعطف"1، ويقول في مطلع إحدى رسائله: "نحمده على نعمه التي جنمعت إلى الزهر الثمر، وداركت بالبحر وباركت في النهر، وأجملت المبتدأ وأحسنت الخبر"2. وهناك رسالة ذكرها له القلقشندي، وقد بناها كلها على التصنع لاصطلاحات النحو، وهو يستهلها على هذا النمط3: "حرس الله نعمة مولاي! ولا زال كليم السعد من اسمه، وفعله وحرف قلمه يأتلف، ومنادى جوده لا يرخم وأحمد عيشه لا ينصرف ... ولا عدمت نحاة الجود من نواله كل موزون ومعدود، ومن فضله وظله كل مقصود وممدود،

_ 1 صبح الأعشى 11/ 273. 2 نفس المصدر 10/ 173. 3 نفس المصدر 1/ 176.

ولا خاطبت الأيام ملتمسه إلا بلام التوكيد، ولا عدوه إلا بلام الجحود، هذه المفاوضة إليه -أعزه الله- تفهمه أنا بلغنا أن فلانًا، أضمر سيدنا له فعلًا غدا به منتصبًا للمكايد، ومعتلا وليس موصولًا كالذي بصلة وعائد، ما ذاك إلا؛ لأن معرفتها دخلت التنكير، وقدر لها من الاحتمالات أسوأ التقدير، ونعوت صحبته تكررت، فجارز قطعها بسب ذلك التكرير ... وكان الظن أن الأشغال التي جمعت له لا تكون جمع تكسير بل جمع سلامة، وآية لا تكلف تعليما على وصول؛ لأنه في الديوان كالحرف لا يخبر به ولا عنه، والحرف ليست له علامة، وحاش الله أن يصبح معرب إحسانه مبنيا". وتمضي الرسالة على هذا النمط من التصنع لمصطلحات النحو، وكأن الكاتب يريد أن يسلك كل ما يعرف من هذه المصطلحات في كتابه، ونعجب نحن الآن من هذا التصنع الثقيل، ولكنه كان بدعة العصور الوسطى، وإنه ليطوي في داخله مدى ما أصاب الكتابة من جمود، وتبلور في هذه العصور، فإذا الكتاب لا يعنون بأساليبهم إلا هذه العناية، التي تجعلهم يسلكون اصطلاحات العلوم في كتاباتهم، فإن تركوا ذلك فإلى الاقتباس من آي الذرك الحكيم، وتضمين الأشعار والأمثال، وهم دائمًا يوشون كلامهم بفنون البديع، وخاصة فن التورية، ومن العبث أن نبحث بعد ذلك عن شيء طريف، يمكن أن نضيفه إلى عصر المماليك، فقد كان كتابه مقلدين تقليدًا شديدًا لفن القاضي الفاضل، وما سبف أن رأينا عنده من تصنع وتعقيد، ولم يستطيعوا أن يستحدثوا من جديد، سوى أن يغرقوا إلى آذانهم في هذه الأشكال البديعية والعلمية، ومن الحق أن نلاحظ أن البديع، لم يعد يؤدي عندهم معنى التحسين في صورة طبيعية، فقد خرجوا به عن طاقته، التي كنا نألفه وأصبح عندهم تلفيفًا وتلزيقًا، فالكاتب يتصيد في رسالته تورية، أو جناسًا معكوسًا أو اصطلاحًا علميًا، ليدل على مهارته، ومما لا ريب فيه أن ذلك كان يفتن الأدباء حينئذ، وهي فتنة جعلت النثر العربي عملًا لفظيًا يعين فيه بالزخرف والتنميق، لا بالمعاني ولا ما يتصل بالمعاني من فكر دقيق، وهذا كل ما عند القوم: تصنع وتلفيق

وتلزيق، وما نصل إلى أواخر هذا العصر، حتى نحسن بأن الأساليب في النثر قد تجمدت وتبلورت، أم هي تريد أن تتجمد، وتتبلور إلا أن تصيبها رجفة شديدة تغير أوضاعها، ولكن مصر لم يتح لها شيء من ذلك، إنما أتيح لها ظلام مطبق، فقد فتحها العثمانيون واستقروا فيها بعد أن قوضوا الحكم المملوكي، وأدالوا منه، فاستولى على الكتابة الفنية جمود شديد؛ وأصبحنا لا نكاد نجد كاتبًا مهمًا، يمكن أن نقرنه حتى إلى كتاب المماليك.

العصر العثماني والعقم والجمود

7- العصر العثماني، والعقم، والجمود: كان من سوء حظ مصر، أن اشتبك المماليك في حروب مع الدولة العثمانية، وانتهى الأمر بدخول سليم الأول مصر فاتحًا عام 923هـ "1517م". وبذلك أصبحت مصر جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، ولم يعد لها نفوذ في سوريا وبلاد العرب؛ بل أصبحت ولاية من ولايات الإمبراطورية العثمانية، واستمر شأنها كذلك حتى غزاها نابليون عام 1798 للميلاد، وما من ريب في أن هذا الطور من حياة مصر، يعتبر أسوأ الأطوار التي مرت بها، فقد عمها ظلام كئيب وانتشر فيه جوخانق، إذ أصبحت ولاية عثمانية بسيطة؛ بعد أن كانت دولة كبيرة، ومن شأن مصر أنها لا تستطيع أن تتنفس، وتزدهر فيها الحضارة إلا إذا كانت أمة مستقلة ذات شأن في التاريخ والسياسة، أما إذا أصبحت مغلوبة على أمرها، فإن أداة العقل والفن فيها تتعطل:" وماذا تنتظر من شعب يفقد السيادة على جيرانه، بل على نفسه؟ لا شك أنه يكتئب، وينكمش منزويًا في جدر وطنه باكيًا نفسه وتاريخه، ولعل ذلك ما جعل المصريين يرثون المماليك رثاء حارًّا1، بل لقد رثوا وطنهم مرًا2، وحق لهم، فقد بطش بهم

_ 1 بدائع الزهور لابن إياس 3/ 111. 2 نفس المصدر 3/ 128.

العثمانيون، وأخرجوهم من عز إلى ذل، لا من حيث السياسة فقط، بل أيضًا من حيث العلم والفن؛ إذ أخذ سليم الأول معه كثيرًا من العلماء والأدباء والمهندسين، وأصحاب الحرف وأدوات الترف1، ولماذا يبقى هؤلاء في مصر؟ لقد انتهى عصر المماليك، ولم تعد هناك حاجة ولا لصناعة، فليذهب أربابهما إلى القسطنطينية، وليذهب معهم العلماء ورجال الفكر، ولتذهب الكتب والمجلدات، التي تعتز بها مصر أيضًا، حتى تفقد مصر كل ما لها من سيادة عقلية، وفينة بجانب ما فقدته من سيادتها السياسية. لم تعد مصر بلدًا عظيمًا، كما كان شأنها في عصر المماليك، إذ كانت بها الخلافة، وكانت لها السيادة على جيرانها، وكان لها في داخلها نشاط عقلي وفني واسع، أما في هذا العصر فقد أصبحت ولاية عثمانية، يقيم فيها وال تركي، وهذا الوالي له ديوان، ولكن اللغة الرسمية في هذا الديون هي التركية، التي يتخاطبون بها مع الباب العالي، ومعنى ذلك أن الدواوين التي كانت تخرج كبار الكتاب في العصور السابقة قد أغلقت أبوابها، فلم يعد هناك مجال، لأن يظهر مثل ابن الشخباء، أو القاضي الفاضل، أو محيي الدين بن عبد الظاهر. واقرأ في الآثار الكتابية أثناء العصر العثماني، فستجد هذه الآثار أضعف، وأقل من أن تقرن إلى أي عصر من العصور السابقة، وبون بعيد جدًا بين كتاب مثل "بدائع الزهور" في التاريخ، وكتاب آخر مماثل له في عصر المماليك، فأنت لا تجد عند المقريزي، ولا ابن تغرين بردي ركاكة، ولا أخطاء ولا أخرى لغوية، كما لا تجد ألفاظًا تركية، أما عند ابن إياس، فإنك تجد ضعف التأليف عامة، فالأسلوب واه، والأخطاء النحوية كثيرة والألفاظ التركية منتشرة. وإذا تركت هذا الجانب من الكتابة التاريخية إلى الكتابة الفنية، وجدتها تلفيقًا خالصًا من أساليب السابقين، وهو تلفيق لبس فيه جديد إلا التصنع الشديد لألوان البديع، ومصطلحات العلوم، وقد كانت هذه الأشياء توجد في عصر

_ 1 ابن إياس 3/ 147.

المماليك فتقبل؛ لأن الأسلوب كان جزلا رصينًا فيستطيع القيام بها، أما في هذا العصر فالأسلوب واه ضعيف لا يكاد يقوم، ولعل ذلك ما جعل الشهاب الخفاجي، يقول في مقدمة كتابه "ريحانة الألباء": "إن الأدب في هذه الأعصار، قد هبت على رياضه ريح ذات إعصار، حتى أخلقت عرى المحامد، واسترخى في جريه عنان القصائد، وتقلصت أذيال الظلال، وخطب البلاء على منابر الأطلال، وعفا رسم الكرام، فعليه مني السلام"1، وامض في ريحانة الألباء، فستجد صاحبها يتصنع لمصطلحات النحو، كما يتصنع لألوان البديع، وما نزال في أساليب غثة، حتى نوفي على آخر الكتاب، فإذا صاحبه يؤلف مقامات كلها مأخوذة من مقامات الحريري بألفاظها، ومعانيها وأساليبها، ونحن لا نتلومه، كما تلوم هو سري الدين بن الصائغ "لمكاتبات معسولة الألفاظ مدنسة المعاني، جربت بينه وبين ابن نجيم، وأكثرها من رسالة ابن زيدون منحولة المباني"2، فإن هذه كانت طاقة العصر، إذ لم يعد هناك مجال للتجديد والابتكار، فالقوم يعيشون على التقليد، واجترار أعمال السابقين، فإن هم تركوا هذا الاجترار، والتقليد لم نكد نجد لهم شيئًا قيما يمكن أن نعنى به، فقد جمدت الكتابة الفنية بمصر جمودًا، بل قل لقد تحجرت تحجرًا، إذ أجدبت الحياة الفنية، وأصبحت مواتًا خالصًا، أو ما يشبه الموات، ولم يعد من الممكن أن تعود لها النضرة، أو تدب فيها الحركة، إلا إذا تضافرت جهود هائلة، تخرج من عالمها الكئيب المظلم إلى عالم جديد مشرق، فيه نور، وفيه حياة، وفيه بعث وأمل، وابتسام.

_ 1 ريحانة الألباء طبع الآستانة ص4. 2 ريحانة الألباء ص281.

خاتمة

خاتمة: 1- الصورة العامة للبحث: رأينا النثر العربي في العصر الجاهلي محدود الموضوعات، فهو لا يتجاوز الخطابة والأمثال وسجع الكهان، وقد وفر له أصحابه حينئذ ضروبًا من الجهد الفني، اصطلحنا على تسميتها باسم الصنعة، ولما خرجنا من الجاهلية إلى الإسلام، وجدنا سجع الكهان يختفي أو يكاد، بينما تتسع الخطابة، وتتنوع تحت تأثير الحوادث الدينية والسياسية، وقد أخذ يظهر بجانب الخطابة نوع جديد لم يكن العرب يعهدونه في العصر الجاهلي، وهو الكتابة الفنية، وتتبعنا نشأة هذا النوع، ووضحنا كيف أن الحياة العربية نفسها، وما أحدث الإسلام فيها من انقلاب هي التي هيأت لظهوره وتطوره، وبينا كيف أن العناصر الأجنبية، أخذت تؤثر فيه، وما زال ينمو ويرقى، حتى تمت له صورته النهائية في دواوين هشام بن عبد الملك، تلك الصورة التي عبر عنها -فيما بعد- عبد الحمد الكتاب أجمل تعبير. ولما انتقلنا إلى العصر العباسي، وجدنا طائفة من الأدباء تعنى بالكتابة الطويلة، أو بعبارة أخرى بالكتب، وبدأت هذه العناية أولًا عن طريق الترجمة على نحو ما كان من ابن المقفع، وترجمته لبعض الكتب الفارسية، ثم أخذ الأدباء بعده يحدثون ما يشبه هذه الكتب، فظهرت الرسائل الطويلة عند سهل بن هارون والجاحظ، ولاحظنا أن هؤلاء الأدباء أصحاب الكتابات الطويلة، كان شأنهم شأن كتاب الدواوين في العصر الأموي، فهل يخضعون في نماذجهم لطاقة محدودة من الفن، هي طاقة الصنعة، والتكلف المحدود. ونحن لا نترك هذه الطائفة في العصر العباسي إلى كتاب الدواوين، حتى

نجدهم يعنون بحرفة الكتابة عناية بالغة، وهي عناية كانت تقوم على الزخرف والتنميق، حتى تتحول كتبهم السياسية إلى وشى وحلي خالصين، وما زالت هذه العناية تكامل، حتى كان مذهب التصنيع، وهو مذهب كان يعتمد على السجع من جهة والبديع من جهة أخرى، وأستاذ هذا المذهب -غير مدافع- هو ابن العميد، فهو الذي وسع -لأول مرة- طاقة الزخرف في تعبير النثر وتحبيره، وخلفته جماعة أوفت بهذا المذهب إلى الغاية، التي كانت تنتظره فإذا كتبابتهم زركشة خالصة، وما يطوى في هذه الزركشة من تطريز بالسجع وترصيع بالبديع. ونستمر حتى أواخر القرن الرابع، فإذا الحضارة العربية تتحول إلى فنون من التعقيد في جميع جوانبها، ولم يشذ النثر على هذه الحال، فقد رأيناه يتعقد تعقدا أتاح لظهور مذهب جديد في النثر العربي، وهو مذهب التصنع، وهو مذهب كان يقوم على تصعيب طرق الأداء، وتعقيدها ضروبًا مختلفة من التعقيد، وحقق أبو العلاء لهذا المذهب كل ما يمكن من تصور التصعيب، وتبعه الكتاب من أمثال الحريري، والحصكفي يحاولون -بكل ما في وسعهم من جهد - أن يضيفوا عقدًا جديدة إلى عقد أبي العلاء، كأنما التعقيد غاية في ذاته! واستمر هذا المذهب مسيطرًا في المشرق، فلم يخرج بعده مذهب جديد، وإن الإنسان ليخيل إليه، كأنما تعطلت الأداء العباسية، التي كانت تخرج المذاهب، فلم يعد هناك إلا الجمود والتحجر الشديد. وهذه هي موجات الفن، أو الصناعة في تاريخ نثرنا العربي، وقد ذهبت أتتبع هذه الموجات في أهم الأقاليم العربية، وأقصد الأندلس ومصر فوجدتهما تعيشان على تقليد المشرق، دون أن تحاول إحداهما أن تحدث توجيهًا جديدًا، فقد كان التقليد يعم الأقاليم المختلفة، وهو تقليد قام على محاكاة النماذج المشرقية في صور من الاضطراب والاختلاط، إذ ترى الكتاب يجمعون في نماذجهم بين صور المذاهب المختلفة، وقلما وجدنا من يعيش في مذهب واحد. وليس معنى ذلك أن مصر، والأندلس لم تعبرا عن شخيتهما في أدبهما، بل لقد عبرتا عنها من حين إلي حين، ولكن في شكل شاحب ضئيل.

النثر المصري الحديث

2- النثر المصري الحديث: استطاعت مصر في العصر الحديث، أن تنهض نهضة واسعة في النثر العربي، وقد بدأت هذه النهضة في القرن التاسع عشر، منذ أرسلت البعوث إلى أوربا، فإن هذه البعوث لما رجعت، أخذت تفكر في إدخال بعض ما تعرفت عليه من الآداب الأوربية، فظهرت فكرة الترجمة، وبدأت هذه الترجمة مقيدة، على نحو ما نعرف عند رفاعة الطهطاوي في ترجمته "تليماك"، فإن من يرجع إلى هذه الترجمة يجدها مقيدة بالسجع المتكرر القوافي، كما يجدها مقيدة بالبديع، وهو أسلوب لا يختلف كثيرًا عما ألفناه في العصر الأيوبي، وما بعده من أساليب. ولكنا لا نتقدم إلى النصف الثاني من القرن الماضي، حتى نجد تحولًا واسعًا يحدث في النثر المصري وصياغته، إذ مل الكتاب زي السجع والبديع، وهو ملل يرجع في الواقع -إلى أن الذين تعلموا في أوربا، ثم عادوا وأرادوا أن يعبروا في لغتهم عما تعلموه، وجدوا هذه اللغة لا تستطيع أن تؤدي ما في نفوسهم، وعقولهم من معان بسبب ما صارت إليه من التحجر في أساليب السجع والبديع، حينئذ فكرت هذه الجماعة أن تهجر هذا الزي القديم، إلى زي أكثر ملاءمة لمعانيها، وما تريد التعبير عنه، وساعدها على ذلك أن مطبعة بولاق، أخذت تخرج كتبًا لأعلام العباسيين الأول من مثل كتاب كليلة ودمنة، وليس فيها سجع ولا بديع، وبالغ نفر من هذه الجماعة، فدعوا إلى نبذ اللغة العربية جملة، وأن يستخدم المصريون مكانها اللغة العامية على نحو ما نعرف عند عثمان جلال. وسرعان ما اصطدمت هذه الجماعة المجددة، التي تعلمت في أوربا بجماعة محافظة لم تذهب إلى أوربا، بل اكتفت بما تعلمته في الأزهر، وبما عرفته من صياغة السجع والبديع الشائعة، فنفرت من آراء الجماعة الأولى بدعوتها خروجًا على التقاليد، وانتهاكًا لحرماتها المقدسة.

وفي أثناء ذلك تقد على مصر جموع من الشام، إما فرارًا من الحكم العثماني وما كان ينطوي فيه من ظلم، وإما ابتغاء للنجاح الأدبي في مصر، وكانت هذه الجموع تتأثر بالآداب الأوربية أوسع مما تتأثر بها مصر، وذهب فريق منها إلى أمريكا، وأنشأوا صحفًا ومجلات هناك، وهم جماعة أدباء المهاجر الأمريكي، الذين امتازوا بثورة واسعة على اللغة العربية وأصولها. ونرى من ذلك أن مصر كان بها في أواخر القرن التاسع عشر أربع طوائف، وهي طائفة الأزهريين المحافظين، ثم طائفة المجددين المعتدلين اللذين يريدون أن يعبروا بالعربية، دون استخدام سجع وبديع، وطائفة المفرطين في التجديد الذين يدعون إلى استخدام اللغة العامية، ثم طائفة الشاميين، وكانت في صف الطائفة الثانية، وما تزال المعارك تشتد بين الطائفة الأولى، والطوائف الأخرى حتى تنتصر طائفة المجديدين المعتدلين، فيعدل المصريون في كتابتهم إلى التعبير بعبارة عربية صحيحة، لا تعتمد على زينة من سجع وبديع، وإنما تعتمد على المعاني، ودقتها على نحو ما نرى في ترجمات، فتحي زغلول، وكتب قاسم أمين. وهكذا أتيح لمصر أن تخرج من هذه المعارك، التي أقامت فيها لأواخر القرن التاسع عشر حول صياغة النثر بظفر محقق، إذ اعتمدت على اللغة العربية الصحيحة الحرة الحالية من قيود السجع، والبديع واتخذتها للسانها في كتابتها. أما العامية، فسرعان ما خرجت من بيئة الأدب، والأدباء إلى بيئة الفكاهة وصحافتها الهزلية، فظلت تعيش فيها حتى عصرنا الحاضر، وأما كتابة السجع والبديع، فقد انحازت عن الكتابات الأدبية، وإن ظلت تظهر -من آن إلى آخر- على نحو ما نعرف في "حديث عيسى بن هشام"، ولكن الناس ينصرفون عنها تدريجًا، ليمكن أن يقال: إنه لا يوجد في عصرنا الحاضر من يتشيع لهذه الصياغة، أو يعني بها عناية لها قيمة في أعماله وآثاره، وربما كانت الصحف من أهم الأسباب، التي أعدت لموت البديع والسجع، فإن كتاب الصحف مضطرون اضطرارًا إلى أن يخاطبوا أوسع مجموعة، وهذا لا يستقيم لهم مع اللغة المقيدة؛ لأن الذي يفهمها قليلون، من أجل ذلك عمد أدباء الصحف إلى هجر هذه اللغة المنمقة، واعتبروها لغة بالية، بل قل: لغة ميتة، لا تصلح لحديث ولا لكتابة، إذ أريد بالكتابة أن يفهما الناس. نحن لا نبعد إذا قلنا: إن هذه الجماعة من أدبائنا المحدثين هي التي قضت نهائيا على السجع، وأزيائه من بديع وغير بديع، فتحت أيديها ثم هذا التحول نهائيا، وأصبح الناس لا يكادون يلتفتون إلى من يفزع إلى أساليب البديع والترصيع، إذ يعتبرونه منفصلًا عنهم، وقلما فكروا فيه أو شعروا به.

بين القديم والجديد

3- بين القديم والجديد: من يتابع نهضة النثر المصري بعد القرن التاسع عشر، يلاحظ أن الصراع بين المحافظين والمجددين يستمر، ولكن دائمًا ترجح كفة المجددين، وأتاحت لهم الثورة المصرية، التي قامت عام 1919م أن ينتصروا انتصارًا مؤزرًا على إخوانهم من المحافظين، فقد ثار الناس على قديمهم في السياسة، وثار الأدباء عى قديمهم في الأدب، وأصبحت لا تجد صوتًا يرتفع بالنصرة لفكرة السجع، فضلا عن فكرة البديع، وأعدت هذه الحال لنضهة واسعة في النثر المصري الحديث، فإن من يرجع إلى مكتبتنا الحاضرة، يشرف على اتساع ما احتوته من ترجمات عن الآداب الأوروبية، وكذلك ما احتوته من أعمال أدبية، صنعتها طائفة من كتابنا وأدبائنا على غرار ما يصنع الأوروبيون أعمالهم الأدبية، وآثارهم الفنية، ومعنى ذلك أن مصر الآن تعيش في عصر، يعتمد على النقل الواسع من أوروبا، كما يعتمد على إحداث نماذج أدبية ممتازة في عالم المقالة، والقصة والمسرحية. وقد أخذ الأوروبيون أنفسهم، يتصلون بما يصدره أدباء مصر من قصص، فترجموه إلى لغاتهم المختلفة، وبذلك كادت الدورة بين مصر وأوروبا أن تتم، فمصر تأخذ الآن وتعطي. وهذا المركز الممتاز للنثر المصري الحديث، جعل مصر تتزعم البلاد العربية

في الحركات الأدبية، فهي الآن تقوم منها مقام الدفة، والمجداف في السفينة، فهي التى توجه، وهي التي تثير وتدفع، ولا يقتصر الأمر على النثر الأدبي الخالص من القصص وما يتصل به، بل إنه يتجاوز ذلك إلى البحوث الأدبية وما تخرجه مصر في النقد الأدبي، بل حتى ما تخرجه من مجلات وصحف، فصحفها وآثارها تقرأ في الشام والعراق وغيرهما من البلدان العربية، وكان يحسن -بجانب ذلك- أن تهتم مصر بما تنتجه هذه البلدان، ولكن هذا الاهتمام الآن قاصر، فأنت لا تكاد تجد شيئًا عندنا لمجموعة أدباء العراق، والشام وهم كثيرون، وبينهم الممتازون الذين يحسن أن تقرأ آثارهم، ومع ذلك فقلما تجد من يعنى بهم بيننا، وكأنما شغل المصريين استيراد النماذج الأوربية، وألهاهم ذلك عن الاهتمام بنماذج إخوانهم في البلدان العربية. ومهما يكن، فإن مصر تنبعث في الآن نهضة أدبية واسعة، وإنها لأوسع من أن نعرض لها في هذه الخاتمة القصيرة بشيء من الاستيعاب والتفصيل. على أنه ينبغي أن نلاحظ أن هذه النهضة، يطبعها طابع من السرعة في الإنتاج الأدبي، وخاصة عند كتاب الصحف المحترفين، وقد أثرت -إلى حد ما- هذه السرعة على الصياغة الفنية للنثر المصري، إذ باعدت بين صناعته "وبين ما كنا نألفه قديمًا من التحبير والتجويد، وحقًا إن كتاب مصر وفقوا في إبعاد السجع والبديع عن النثر، ولكن بعضًا منهم تطرفوا في عدم العناية بأساليبهم، وتنقيح عباراتهم، ولذلك كنت تعثر في آثار هذه الطائفة على أساليب، ثم تصقل ولم تجود، وأيضًا قد تعثر على أساليب كثيرة، نقلت نقلًا من اللغات الأوروبية. ومن المحقق أن هذه السرعة ترجع -في أغلب جوانبها- إلى العامل التجاري، فالأديب يخرج الأثر الأدبي، ثم يرى أنه لو تأنى ما استطاع أن يظفر بريح آخر إلا بعد مدد طويلة، فهو يعدل عن التأني والتمهل، ويتعجل في إصدار آثاره، غير مهتم بالتجويد الواسع، وقد يكون من دوافع ذلك أن الجمهور القارئ لا يعرف التجويد الفني منه إلا الأقلون عددًا، فيعتمد بعض الكتاب على ذلك، ويخرجون آثارهم من قصص وغير

قصص من غير تحبير أو افتنان في التحبير، وبون بعيد جدًا بين الطبقة، التي كان يخرج لها أدباء العرب في العصور السابقة أعمالهم، وبين الطبقة الحاضرة التي تخرج لها الآن لك النماذج، فالطبقة الأولى كانت محدودة بالخيفة، أو الأمير وحاشيته وما حوله من أدباء ممتازين، وعلماء وفلاسفة. من أجل ذلك كان الكاتب يجود آثاره منتهى ما يمكن من تجويد، أما في هذا العصر فالطبقة التي يوجه لها الكتاب أعمالهم طبقة واسعة من الجمهور، وأكثر هذه الطبقة حظه من الثقافة العامة -فضلًا عن الثقافة الأدبية- ضئيل ومحدود، ولذلك كان يقبل كل ما يقدم له، وترى طائفة من الكتاب في الجمهور هذه الخاصة فلا تتريث، بل تتعجل، وتدفعها هذه العجلة إلى إهمال أساليبها، إهمالًا من شأنه أن يسقط في أثنائه كثير من العيوب، التي نبغي أن لا تعتور الأثر الأدبي الممتاز، وإنا لنأمل أن تكون هذه الدراسة للنثر العربي، ومذاهبه في مختلف عصوره، وأقاليمه فاتحة لعناية كتابنا بأعمال أسلافهم وتراث آبائهم، وأن يدفعهم ذلك إلى الصقل، والتحبير حتى يحققوا لآثارهم، ما يريدون لها من البقاء والخلود.

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات: مقدمة الطبعة الثالثة 5-6 مقدمة الطبعة الأولى 7-11 الكتاب الأول: مذهب الصنعة 13-188 الفصل الأول: الصنعة في النثر الجاهلي 15-41 1 النثر الجاهلي 15 2 الأمثال الجاهلية 20 3 الصنعة في الأمثال الجاهلية 24 4 الخطابة الجاهلية 27 5 الصنعة في الخطابة الجاهلية 33 6 سجع الكهان 38 الفصل الثاني: الصنعة في النثر الإسلامي 42-120 1 الإسلام: القرآن الكريم، الحديث النبوي 42 2 الخطابة في صدر الإسلام. 52 3 الخطابة في العصري الأموي: الخطابة السياسية، خطابة المحافل، الخطابة الدينية، والوعظ والمناظرت 63 4 الصنعة في الخطابة الأموية 80 5 الكتابة في صدر الإسلام 95 6 الكتابة في العصر الأموي 99 7 الصنعة في الكتابة الأموية 105 8 عبد الحميد الكاتب وخصائصه الفنية 113 الفصل الثالث: الصنعة في النثر العباسي 121-188 1 النثر العباسي 121 2 ابن المقفع: أصله وحياته وزندقته 134 3 صنعة ابن المقفع في كتبه ورسائله 138

4 سهل بن هارون: أصله وحياته وثقافته 144 5 صنعة سهل في رسائله وكتبه 148 6 الجاحظ: نشأته وثقافته وحياته 154 7 الصنعة الجاحظية: الواقعية، الاستطراد، والتلوين الصوتي، والتلوين العقلي 160 8 رسالة التربيع والتدوير 177 الكتاب الثاني: أ- مذهب التصنيع 189-310 ب- مذهب التصنع الفصل الأول: التصنيع والدواوين 191-225 1 التصنيع في الحياة العربية 191 2 التصنيع ودواوين الخلافة العباسية 194 3 التصنيع ودواوين الإمارات الفارسية 201 4 ابن العميد: حياته وثقافته 205 5 تصنيع ابن العميد 208 6 الصاحب بن عباد وتصنيعه 212 7 تصنيع أبي إسحاق الصابي 217 8 التصنيع عام بين كتاب الدواوين 222 الفصل الثاني: التصنيع والتصنع 227-264 1 اشتداد موجة التصنيع 227 2 أبو بكر الخوارزمي وتصنيعه 230 3 التصنيع وتصنيع الخوارزمي 235 4 بديع الزمان وتصنيعه 238 5 التصنع وتصنيع بديع الزمان 242 6 مقامات البديع وما فيها من تصنع 246 7 قابوس بن وشمكير وتصنيعه 255 8 ذيوع التصنع وانتشاره 261 الفصل الثالث: التصنع والتعقيد 265-310 1 أبو العلاء: حياته وذكاؤه وثقافته 265

2 أبو العلاء وتعقيده 269 3 التعقيد في رسالة الغفران 275 4 التعقيد في الفصول والغايات 280 5 الحريري وتعقيده 292 6 التعقيد في مقامات الحريري 297 7 الحصكفي وتعقيده 304 8 التعقيد ظاهرة عامة 308 الكتاب الثالث: المذاهب الفنية في الأندلس ومصر 311-388 الفصل الأول: الأندلس والمذاهب الفنية 313-337 1 الأندلس 313 2 شخصية الأندلس 315 3 النثر الأندلسي: ابن شهيد 319 4 ملوك الطوائف، ونهضة النثر الأندلسي: ابن زيدون 324 5 جمود النثر الأندلسي: لسان الدين بن الخطيب 331 الفصل الثاني: مصر والمذاهب الفنية 339-388 1 مصر 339 2 شخصية مصر 341 3 النثر المصري: ابن عبد كان 345 4 الفاطميون ونهضة النثر المصري: ابن أبي الشخباء 351 5 الأيوبيون ونهضة النثر في عصرهم: القاضي الفاضل 364 6 المماليك وامتداد النهضة في عهدهم: محيي الدين بن عبد الظاهر 376 7 العصر العثماني والعقم والجمود 386 خاتمة 389-395 1 الصورة العامة للبحث 389 2 النثر المصري الحديث 391 3 بين القديم والجديد 393

§1/1