الفن ومذاهبه في الشعر العربي

شوقي ضيف

المقدمة

المقدمة مقدمة الطبعة الرابعة ... بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الرابعة: لقيتْ هذه الدراسة من تشجيع الباحثين المشكور ما دفعني إلى أن أنميها في طبعتها الثانية بما أضفتُ إليها من مواد جديدة، وهي مواد لا تغير شيئًا في النظرية التي قامت عليها، وهي أن شعرنا العربي تطور مع الزمن في مذاهب ثلاثة: مذاهب الصَّنعة والتصنيع والتصنُّع. بل هي تدعمها وتوثق مقدماتها ونتائجها. وبنفس هذه الغاية رجعتُ أنظر في فصول الكتاب حين أخذت في إعداده للطبع مرة رابعة أريد أن أستوفي معانيه وحقائق مذاهبه بقدر ما أستطيع، وأنا في أثناء ذلك تارة أنقِّح ما سبق أن كتبت، وتارة أضيف زيادات جديدة، كما أضيف بعض الأمثلة والشواهد لغرض تمام التوضيح وكمال البيان. ورأيت أن أعيد كتابة الفصل الثالث من الكتاب الأول الخاص بالصنعة والتصنيع وتقابلهما في القرنين الثاني والثالث للهجرة، حتي أبسط الحديث في العلاقات الجديدة المادية والمعنوية التي أثرت تأثيرًا واسعًا في الشعر العباسي وهي كثيرة: منها ما يتصل بالسياسة والدعوة العباسية، ومنها ما يتصل بالجنس ونزعاته. ومنها ما يتصل بالحضارة والتراث الثقافي الأجنبي الذي انتقل إلى العربية، ومنها ما يتصل باللغة وما جَدَّ فيها من أسلوب المولدين، وهو أسلوب مبسط شفاف ليس فيه إغراب ولا ابتذال، أسلوب يقوم على الألفاظ الواسطة التي لا تهبط إلى لغة الدهماء والعامة ولا ترتفع إلى لغة الإعراب الحوشيَّة، مع الجزالة والرصانة حينًا. وحينًا مع العذوبة والرشاقة والحلاوة. وهو أسلوب ينهض نهوضًا رائعًا بكل ما أتيح للعقل العباسي من ذخائر الفكر ولطائف الذهن

وبدائع الخيال والتصوير، مع تمثيل المجتمع بكل ما كان يخوض فيه. ومن أهم ما يميز هذا الأسلوب أنه لا تنقطع فيه الصلة بين القديم والجديد، فهو يحتفظ بخير ما في القديم من ألفاظ، وكل ما يدخله عليها إنما هو التهذيب والتصفية والترويق، وأيضًا فإنه يحتفظ بخير ما في القديم من معانٍ وصور، وهو يشفع ذلك بدقائق الفكر العباسي الجديد واستنباطاته الخفية ومحاسن خياله الحديث وتصويراته المونقة البارعة. وبذلك تطور الشعر في العصر العباسي تطورًا مثمرًا، تتوثق فيه العلل والأسباب بين القديم والجديد توثقًا نحسُّ فيه ضربًا من المحافظة المنتجة الحية، كما نحس فيه ضربًا من التحول مع العصر وكل ما يداخله من ألوان الحضارة والترف وآثار الثقافة والفكر العميق. وقد يتغلب عنصر التحول على عنصر المحافظة عند بعض الشعراء، وقد يشوبون ذلك بضرب من الثورة على القدماء؛ غير أن هذا لا يخرج بالشعر العباسي -حتي عند هؤلاء الثائرين- على أصوله التقليدية؛ فالقديم يزاوج فيه الجديد مزاوجة تتيح له الخلوص من العقم والجمود، كما تتيح له التطور الحي في التعبير والتفكير والتصوير. وقد حاولت في هذه الطبعة أن أوضح هذا التطور للشعر العباسي، ودرست أعلامه الأولين الذين مهدوه وثبتوه، وهم بشار وأبو نواس وأبو العتاهية ومسلم بن الوليد؛ حتي يستبين ازدهار مذهب الصنعة على أيديهم وما نشأ من مذهب التصنيع الجديد، ومن أجل ذلك كله أعدت كتابة فصل الصنعة والتصنيع، وكل ما زدته أو أضفته إنما هو في سبيل استكمال معاني هذه الدراسة الأدبية ومذاهبها الفنية. والله الهادي إلى سواء السبيل. القاهرة في 15 مارس سنة 1960 شوقي ضيف.

مقدمة الطبعة الأولى

مقدمة الطبعة الأولى: حاولت في هذا الكتاب أن أضع للشعر العربي مذاهب فنية تفسر تطوره في عصوره وأقاليمه المختلفة، وقد صادفني مشكلتان أساسيتان، وهما: كيف أرتب هذا الركام الهائل من الشعر والشعراء الذي يمتد من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث؟ ثم أي المصطلحات أتخذها للدلالة على مذاهب الشعراء ومناهجهم الفنية؟ ورأيت أن أنحاز عن هذا الخليط المضطرب من الألفاظ الغربية التي نقلها بعض نقادنا المحدثين من مثل "كلاسيك" و "رومانتيك" ونحوهما؛ فإن من الصعب أن نحمل أدبنا على مذاهب الأدب الغربي، وهو لا يمت إليه بوشائج تاريخية ولا فنية، وذهبت أبحث في الشعر العربي وموجاته المتعاقبة؛ فلم أجد فيه تجديدًا واسعًا، بل رأيته يستمر في أغلب جوانبه بصورة واحدة؛ فدائمًا مديح وهجاء وفخر ووصف وغزل. وجعلني ذلك ألتفت إلى حقيقة مهمة، وهي أن التطور في شعرنا العربي إنما كان في الصناعة نفسها، أي في الفن الخالص وما يرتبط به من مصطلحات وتقاليد. حينئذ رأيت أن أضع له مذاهب على أساس صناعته والفن فيه. ونظرت في النقد العربي القديم، فإذا النقاد يقسمون الشعراء قسمين كبيرين: قسمًا سموه أصحاب الطبع، وقسمًا سموه أصحاب الصنعة. أما الأولون فهم الذين يسيرون وفق عمود الشعر الموروث، فلا ينمقون ولا يتأنقون ولا يتكلفون ولا يُغْربون. وأما الأخيرون فهم الذين كانوا ينحرفون عن هذا العمود إلى التنميق والتأنق، أو إلى الإغراب والتكلف. ورأيت أن هذا التقسيم لا يقوم على أساس صحيح، وما الطبع والمطبوعون في الشعر والفن؟ إن كل شعر متأثر بجهد حاضر وموروث أكثر من تأثره بما يسميه نقادنا باسم الطبع.

وهل هناك شعر لا يعمد فيه صاحبه إلى بعض تقاليد في أساليبه وموضوعاته ومعانيه؟ إن من يرجع إلى العصر الجاهلي يجد الشعر خاضعًا لتقاليد ورسوم كثيرة يتوارثها الشعراء؛ سواء في ألفاظه ومعانيه، أم في أوزانه وقوافيه، بحيث لا يستطيع مطلقًا أن يذعن لفكرة الطبع وما يُطوى فيها من أن الشعر فطرة وإلهام؛ فقد كان الجاهليون يصنعون شعرهم صناعة ويعملونه عملًا، وهم في أثناء هذه الصناعة والعمل يخضعون لمصطلحات ورسوم كثيرة. ونحن لا ننكر أن الشعر في الأصل موهبة؛ غير أن هذه الموهبة لا تلبث أن تتحول عند صاحبها إلى ممارسة ودراسة طويلة لتقاليد ومصطلحات موروثة في تاريخ الفن، وهو يتقيد بهذه التقاليد والمصطلحات فيما يصنعه ويعمله تقيدًا شديدًا. وكان العرب القدماء أنفسهم يسمون شعرهم صناعة، ويصفونه بأوصاف الصناعات، وكذلك كان الشأن عند اليونان وعند الأمم الحديثة جميعًا؛ ومن أجل ذلك كان النقاد في الأمم الغربية يقرنون الشعر إلى النحت والتصوير والرقص والموسيقى؛ فمثله مثل هذه الأعمال الفنية يقوم على جهد وكدح. وهذا كله دفعني إلى أن أرفض فكرة تقسيم الشعراء إلى أصحاب طبع وأصحاب صنعة، حتى في العصر الجاهلي، إذ كان الشعراء جميعًا أصحاب صنعة وجهد وتكلف؛ فقد حدثنا الرواة أن منهم من كان ينظم القصيدة في حول كامل. وليس من شك في أن من يتابع الشاعر الجاهلي يحس إحساسًا واضحًا بأنه كان يقبل على صناعته إقبال الصانع على حرفته؛ فهو يوفر فيها رسومًا وتقاليد كثيرة، وهذا نفسه هو الذي جعلني أتخذ كلمة الصنعة التي استخدمها النقاد القدماء للدلالة على أول مذهب يقابلنا في الشعر العربي، واتخذت زهيرًا رمزًا لهذا المذهب، ووصفت فنه في شعره ووضحت ما يرتبط به في صناعته من قواعد وتقاليد. واستمرت صورة هذا المذهب عند زهير مسيطرة مع ضعف بهذه الصورة من الفن والصناعة الشعرَ الغنائِيَّ الخالص الذي كان يصحب بالعزف والضرب على الأدوات الموسيقية من العصر الجاهلي إلى العصر

العباسي، فإن أصحابه لا يخرون به -عادة- إلى زخرف وتنميق. ولما انتقلت إلى العصر العباسي وجدت صناعة الشعر التقليدي شعر المديح والهجاء ترقى وتتحضر؛ فقد دارت عجلة الزمن، وانتقل صانع الشعر من البادية إلى المدينة، ودخلت في الشعر العربي في أثناء ذلك عناصر جديدة من الحضارة والجنس والثقافة، وكان المذهب القديم مذهب زهير أو مذهب الصنعة والصانعين قائمًا؛ بينما ظهر بجانبه مذهب جديد كان يعتمد على الزخرف والزينة؛ فالشعر -في رأي أصحابه- حَلْيٌ وترصيع وبديع. ومَثَّلَ هذا المذهب الجيد في القرنين الثالث والثالث مسلم بن الوليد، ثم أبو تمام وابن المعتز؛ بينما مَثَّلَ المذهب القديم بشار وأبو نواس ثم البحتري وابن الرومي. ولما خرجت إلى القرن الرابع رأيت مذهبًا جديدًا يعم فن الشعر وصناعته، وهو مذهب كان يقوم على إعادة الصور المطروقة والمعاني الموروثة بأساليب من اللف والدوران وإتيان المعنى من بعيد، ثم يحاول الشاعر بعد ذلك أن يضيف تعقيدًا إلى أساليب الزخرفة والتنميق السابقة أو يضيف تعبيرات وتراكيب شاذة من نحو غريب، أو تشيع، أو تصوف، أو تفلسف، وما لبث أبو العلاء أن أوفى بهذا المذهب إلى غايته من التعقيد الشديد في لغته وأوزانه وما كان يتصنع له من لوازم مختلفة عرضنا لها في موضعها من هذا الكتاب. تردَّدتُ ماذا أسمي هذين المذهبين العباسيين بالقياس إلى مذهب الصنعة القديم؟ وأخيرًا رأيت أن أسميهما على التعاقب باسم مذهبي التَّصنيع والتصنُّع. والتصنيع في اللغة الزخرف والتنميق. أما التصنع فهو التطرف في التكلف وما ينطوي في ذلك من تعمّل وتعقيد، وكان قد بدا لي أن أسمي هذه المذاهب على الترتيب بأسماء الصنعة والزخرف والتعقيد؛ ولكني آثرت التسمية الأولى لأن تشابك الألفاظ فيها يدل على حقيقة دقيقة، وهي أن المذاهب الفنية في صناعة الشعر العربي لا يفترق بعضها عن بعض مفارق واسعة في المعاني والموضوعات والأوزان والقوافي؛ إنما تستقر مفارقها في الصياغة والأسلوب. هذه هي المراحل التي مر بها الفن أو مرت بها الصناعة في شعرنا العربي.

فقد بدأ بمذهب الصنعة، ثم انتقل إلى مذهب التصنيع، ثم انتهى أخيرًا إلى مذهب التصنع. وجَمد الشعراء عند هذه المذاهب ولم يتجاوزوها إلى مذهب جديد. وكأنما جفَّت منابع القوة الدافعة التي كانت تُحدث المذاهب في الشعر والفن. وبحثت هذه المذاهب في الأندلس ومصر؛ فإذا شخصية مصر أتم وضوحًا في تاريخ الشعر العربي من شخصية الأندلس على نحو ما سيراه القارئ في فصلها الخاص. وأنا لا أنكر أنه صادفني جوانبُ ماكرة خلال تأليف هذا الكتاب لاتساع الموضوع وتشعبه؛ فقد حاولت أن أرسم صورة واضحة لمذاهب الشعر العربي من أقدم عصوره إلى العصر الحديث، واضطرني ذلك إلى استخدام طائفة من المصطلحات اتخذتها لتؤدي وصف هذه المذاهب، وهي موضوعة في ثنايا الكتاب بين أقواس صغيرة. وهذه الدراسة المستفيضة لفن الشعر وصناعته عند العرب، ولما مر به من أطوار وأحداث في عصوره وأقاليمه المختلفة جعلتني أتصل بمراجع كثيرة من دواوين الشعراء وما كتبه نقاد العرب عن فن الشعر عندهم وصناعته، وكذلك رجعت إلى كل ما وجدته يتصل بالشعر والشعراء من كتب أدب عامة أو كتب تاريخية وجغرافية، ورجعت أيضًا إلى طائفة من كتب المستشرقين وكتب النقد الأدبي الحديثة عند الغربيين. وإني لأعترف بأن كتبنا القديمة غنية غنى وافرًا بالنصوص التي تفسر ظروف الحياة الفنية تفسيرًا وافيًا. وأنا لا أزعم أني كشفت عن جميع جوانب الفن والصناعة في مذاهب الشعر العربي ومناهجه؛ وإنما حاولت ذلك ودللت عليه، غير منكر ما قد يكون في هذا البحث الجديد من إثارة إبهام أو غموض. وعلى الله قصد السبيل. القاهرة في 17 من أبريل سنة 1943 شوقي ضيف

الكتاب الأول: الصنعة والتصنيع

الكتاب الأول: الصنعة والتصنيع الفصل الأول: الصنعة في الشعر القديم الشعر صناعة ... الكتاب الأول: الصنعة والتصنيع الفصل الأول: الصنعة في الشعر القديم الشعر صعب وطويل سلمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه زلت به إلى الحضيض قدمه ... يريد أن يعربه فيعجمه الحطيئة 1- الشعر صناعة: الشعر ليس عملًا سهلًا ساذجًا كما يعتقد كثير من الناس؛ بل هو عمل معقد غاية التعقيد، هو صناعة تجتمع لها في كل لغة طائفة من المصطلحات والتقاليد، ما يزال النقاد منذ أرسططاليس يحاولون أن يصفوها بما يقيمون عليها من مراصد ومقاييس، وقد يكون من الغريب أن نجعل الشعر صناعة، ولكنه الواقع، فكلمة شاعر عند اليونان القدماء معناها صانع1؛ ولذلك كنا نراهم يقرنون في أبحاثهم الشعر إلى الصناعات والفنون الجميلة من نحت وتصوير ورقص وموسيقى. وكلمة شاعر عندنا في اللغة العربية تقترب من معناها في اليونانية، فالشاعر معناها العالم والشعر معناه العلم2، والعلم -كما هو معروف- يدخل في باب الصنائع. وتناثر في أشعار العرب القدماء؛ ما يدل على أنهم كانوا يحسنون بأن الشعر ضرب من الصناعات؛ فقد جعلوه كبرود العَصْب3 وكالحلل والمعاطف والديباج والوَشْي وأشباه ذلك4. فهو -في رأيهم- يشبه صناعة الثياب، فيه الملون وغير الملون، فيه الوشي وغير الوشي، بل إننا لنراهم يسمونه صناعة، فقد رَوَى الجاحظ أن عمر بن الخطاب قال: "خير صناعات

_ 1 J.M.D Meikle John , English literature. P2. 2 انظر مادة شعر في لسان العرب. 3 برود العصب: برود يمانية. 4 البيان والتبيين: "طبعة مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر" 1/ 222.

العرب أبيات يقدمها الرجل بين يدي حاجته"1؛ فالشعر في رأي العرب -كما هو في رأي اليونان- صناعة، وهي صناعة معقدة تخضع لقواعد دقيقة صارمة في دقتها بحيث لا ينحرف عنها صناع الشعر إلا ليضيفوا إليها قواعد أخرى ما تزال تنمو مع نمو الشعر وتتطور مع تطوره.

_ 1 البيان والتبيين: 2/ 101.

صناعة الشعر الجاهلي

2- صناعة الشعر الجاهلي: من يرجع إلى صناعة الشعر العربي في أقدم "نماذجه" يرى صعوبة هذه الصناعة، وأنها ليس عملًا غُفْلًا؛ بل هي عمل موسوم بتقاليد ومصطلحات كثيرة. وتلك آثار الشعر الجاهلي تتوفر فيها قيود ومراسيم متنوعة، ولعل ذلك ما جعل "جويدي" يقول: "إن قصائد القرن السادس الميلادي الجديرة بالإعجاب تنبئ بأنها ثمرة صناعة طويلة"1؛ فإن ما فيها من كثرة القواعد والأصول في لغتها ونحوها وتراكيبها وأوزانها يجعل الباحث يؤمن بأنه لم تستوِ لها تلك الصورة الجاهلية إلا بعد جهود عنيفة بذلها الشعراء في صناعتها. وفي دراسة "موسيقى" الشعر الجاهلي ما يفسر بعض هذه الجهود، فالقصيدة تتألف من وحدات موسيقية يسمونها الأبيات، وهي تبلغ عادة أربعين بيتًا، وقد تزيد إلى مائة، وقد تنقص إلى عشرة، ويلتزم الشاعر في جميع هذه الأبيات وزنًا واحدًا يرتبط بنغماته وألحانه في "النموذج الفني" كله، كما يلتزم حرفًا واحدًا يتحد في نهاية هذه الأبيات يسمى الرَّويّ، ولا يكتفي بذلك بل ما يزال يوفر جهودًا ويلتزم أصولًا، من الصعب أن نلخص هنا جوانبها؛ فإن علمًا خاصًّا بل علمين يقومان على دراستها وبحث نُظمها، ونقصد علمي العروض والقافية. وهذه الجهود والأصول الصوتية الخاصة في "النماذج الجاهلية" ليست كل شيء في صناعتها؛ فهناك أصول أخرى تستمد من "التصوير" إذ الشعر الجاهلي -كما وصلتنا نماذجه- لا يعتمد أصحابه على "فن الموسيقى" فقط وما يحدثون

_ 1 Cuidi, L'araveie Anteislamique, p.41.

فيه من قواعد والتزامات دقيقة؛ بل هم يعتمدون على فن آخر، لعله أكثر تعقيدًا وهو "فن التصوير" ولعله ذلك ما جعل "جب" يقول: إن أدب العرب أدب رومانتيكي1؛ فهو في أقدم نماذجه يغلب عليه الخيال و"التصوير". ومن يرجع إلى نماذج امرئ القيس وهو من أقم الشعراء الجاهليين2 سيلاحظ أنه يُعْنَى بالتصوير في شعره كأنه "التصوير" غاية في نفسه؛ فالأفكار تتلاحق في صفوف من التشبيهات، حتى تستتم هذا الفن من "التصوير" وكأنما القصائد برود يمانية؛ ففيها ألوان نقوش ورسوم على صور وأشكال كثيرة. وغير امرئ القيس من الجاهليين مثله، يعنى بالتصوير في شرعه عناية بالغة، كأنه أصل مهم من أصول صناعتهم، ونحن نسوق لقارئ قطعة من مطولته في وصف فرسه ليرى دليل رأينا؛ إذ يقول: وقد أغتدي، والطيرُ في وُكُناتها ... بمنجردٍ قَيْد الأوابد هيكل3 مكر مفر مقبل مدبر معًا ... كجلمود صخر حطَّه السيل من عَلِ كُميتٍ يَزِلُّ اللِّبد عن حال مَتْنِهِ ... كما زلت الصفواء بالمتنزَّلِ4 على الذَّبْل جَيَّاشٍ، كأنَّ اهتزامه ... إذا جاش فيه حمية غَلْيُ مِرْجَلِ5 مِسَحٍّ إذا ما السابحاتُ على الوَنَى ... أَثَرْنَ الغُبار بالكديد الْمُركَّلِ6 يَزِلّ الغلام الخف عن صهواته ... ويلوي بأثواب العنيف المثَقَّلِ7

_ 1 تراث الإسلام ترجمة لجنة الجامعيين 1/ 154. 2 ولد امرؤ القيس حوالي عام 500م وتوفي حوالي عام 540م انظر ,Caussin Deperceval, Essai sur l;histoire des araves, 11, 303-322. 3 أغتدي: من الغدو وهو السير مع طلوع الشمس، وكناتها: أوكارها، المنجرد: الفرس قصير الشعر، وهو من صفات الخيل الكريمة، والأوابد: الوحوش النافرة، هيكل: ضخم. 4 كميت: أحمر اللون، يزل: يسقط، حال المتن: موضع اللبد من ظهر الفرس، والصفواء: الصخرة الملساء، والمتنزل: الموضع المنحدر. 5 الذبل: الضمور، جياش: شديد الاضطراب والحركة، والاهتزام: صوت جوفه عند الجري، الحمى: الغلي، المرجل: القدر. 6 مسح: كثير الجري، السابحات: الخيل السريعة، الونى: التعب، الكديد: الأرض الصلبة، المركل: الذي أثرت فيه الحوافر. يقول: إنه يسبقها حين تجري معه ولا يصيبه ما يصيبها من إعياء وتعب؛ بل يشتد جريه. 7 الخف: الخفيف، صهواته: موضع اللبد. ويلوي بأثواب العنيف المثقل: يريد أنه يكاد يصرعه ويسقطه هو الآخر.

درير كخُذروف الوليد أَمَرَّه ... تتابع كفيه بخيط موَصَّل1 له أَيْطَلَا ظَبْيٍ، وساقا نَعَامة ... وإرخاء سرحان، وتقريب تَتْفُلِ2 كأَنَّ على المتنين منه إذا انتحى ... مَدَاكَ عَرُوس أَوْ صَرايَة حَنْظَل3 كأنّ دماءَ الهاديات بِنَحْرِهِ ... عصارةُ حِنَّاءٍ بشَيْب مُرَجَّلِ4 فقد تراكمت التشبيهات في هذا الوصف وظهر فيها ضرب من التركيز والإيجاز، وارجع إلى قوله في البيت الأول: "قَيْد الأوابد" فقد كان القدماء يعجبون بهذه الكلمة إذ عبرت في إيجاز بالغ عن سرعة الفرس وحدته في الجري والنشاط؛ فهو قيد الأوابد كلما أرادها قَيَّدها، ولم تستطع إفلاتًا منه ولا فرارًا. وهذا الإيجاز البالغ يدل على مجهود عنيف كان يقوم به امرؤ القيس حتى يُلقي عن شعره كل إطناب فيه. ونحن لا نرتاب في أنه تعب تعبًا شديدًا قبل أن يجد هذه الكلمة الدقيقة التي تعبر عن تلك الصورة الواسعة. وحقًّا إن مثل تلك الكلمة لا يباع في الأسواق؛ بل لا بد للشاعر من مهارة خاصة حتى يستطيع أن يوفق إلى الكلمة التي ينشدها، وتلك مقدرة الشعراء الممتازين التي بها يتفاضلون. ويستمر امرؤ القيس في وصف هذا القيد؛ فإذا هو كالصخر في صلابته، وإذا شيء لا يستطيع أن يثب عليه لسرعته؛ بل كل شيء ينزلق عنه كما تنزلق الصخرة عن المطر أو كما ينزلق عنها من يريد شأوها. وهو يغلي ويجيش لازدياد عَدْوه وتوقد نشاطه. هو فرس سريع لا تقف سرعته عند حد معقول؛ فهو يصبُّ العَدْوَ صَبًّا، لا يثير نقعًا ولا غبارًا، وما أشبهه بالخروف في شدة دورانه وسرعة حركاته وهو يدور في يد الصبية دورانًا يُسْمَعُ له حفيف شديد.

_ 1 درير: سريع، وخذروف الوليد: دوارة يلعب بها الصبيان، أمره: دوره وحركه، خيط موصل: وصلت أجزاؤه بعضها ببعض. 2 أيطلا الظبي: خاصرتاه، وإرخاء السرحان: جري الذئب، والتتفل: الثعلب، وتقريبه: جريه قفزًا ووثبًا. 3 انتحى: جدّ في سيره، والمداك: حجر يسحق عليه الطيب، وجعله مداك عروس لأنها تستعمله كثيرًا، فيشتد بريقه ولمعانه، والصراية: الحنظلة الصفراء البراقة. 4 الهاديات: أوائل الوحش. شبه حمرة دم الوحش بصدر هذا الفرس بحمرة الخضاب على الشيب. مرجل. مسرح.

وامرؤ القيس لا يكتفي بهذه الأوصاف فنحن نراه يعود إلى تشبيه خاصرة الفرس بخاصرة الظبي، وساقه بساق النعامة، ثم لا ينسى أن يتحدث عن عَدْوِهِ وسرعة انطلاقه مرة أخرى؛ فهو كالذئب أو كالثعلب في الوثب السريع. ثم ينتقل فيقول: إنه مكتنز أملس كالحجر يُسْحَقُ عليه الطيب أو كالحنظلة في ملاستها وبريقها، وقد امتزجت دماء الصيد على صدره كأنها الحناء تمتزج بالشيب. ألا ترى إلى هذه الكثرة الغامرة من الصور والخيالات التي أحكمها امرؤ القيس في تصويره، وهي كثرة تجعلنا نؤمن بقول النقاد إنه قَرَّبَ مأخذ الكلام فقَيَّد الأوابد وأجاد الاستعارة والتشبيه1. وفي هذه المطولة وغيرها من شعر امرئ القيس أمثلة مختلفة للطباق والجناس، وهي -وإن كانت قليلة- تدل على أن الشاعر الجاهلي كان يستخدم من حين إلى حين بعض المحسنات المعنوية واللفظية التي عرفت في العصر العباسي، وأكْثَرَ الشعراء من استخدامها. وفي المفضليات قصيدة لعبد الله بن سلمة الغامدي يكثر فيها من زخرف الجناس كثرة مفرطة. ولعل في ذلك ما يدل على أن الفكرة التي تعودنا أن نفهم بها الشعر القديم والتي تذهب إلى أنه خال من الصنعة فكرة غير صحيحة؛ فإن هذا الشعر ينزع به صاحبه إلى ضرب من الجمال في التعبير؛ إذ يملؤه بالصور والتشبيهات، ويطلب أن يعجب به الناس من حوله وأن يقع منهم موقعًا حسنًا، موقع الثياب الملونة، أو الثياب اليمنية المنمَّقة. على أننا لا نصل إلى أواخر العصر الجاهلي، عند زهير وأضرابه، حتى نجدهم، -على نحو ما سنرى بعد قليل- يعقِّدون في هذا الجانب الفني من التصوير بما يودعون فيه من ضروب مهارة كثيرة.

_ 1العمدة لابن رشيق "طبعة أمين هندية" 1/ 60.

الصناعة الجاهلية مقيدة

3- الصناعة الجاهلية مقيدة: كان الشاعر الجاهلي يحاول أن يوفر في شعره كثيرًا من "القيم الصوتية

والتصويرية" وكان يلقى عناءً شديدًا في هذا التوفير؛ إذ نراه يتقيد بقيود كثيرة، لا تقف عند الموسيقى والتصوير؛ بل تتعدى ذلك إلى الموضوعات والألفاظ والمعاني، وقد عبَّر عن هذا الجانب في أشعاره يقول امرؤ القيس1: عُوجَا على الطلل الْمُحِيلِ لعلنا ... نبكي الديار كما بكى ابن خِذام2 ويقول زهير: ما أرانا نقول إلا مُعارا ... أو مُعادًا من لفظنا مَكْرورا ويقول عنترة: هل غادر الشعراء من مُتَرَنَّم ... أم هل عرفت الدار بعد توهُّمِ3 وما يقوله امرؤ القيس من أنه يريد أن يبكي كما بكى ابن خذام، وما يقوله زهير من أن الشعراء يبدئون ويعيدون في ألفاظهم، وما يقوله عنترة من أن نهج الشعراء في قصائدهم مطرد على وتيرة واحدة، كل ذلك دليل على أن الشاعر القديم كان يأخذ فنه بقيود ورسوم كثيرة في اللفظ والموضوع والنهج العام. ومن يرجع إلى طوال النماذج الجاهلية ويترك المقطعات القصيرة يلاحظ في وضوح أنها تأخذ نمطًا معينًا في التعبير والأداء، وكأنما العصر الجاهلي نفسه هو الذي أعدَّ "للقصيدة التقليدية" عند العرب قصيدة المدح والهجاء؛ فإن الشعراء كانوا يحرصون في كثير من مطولاتهم منذ العصر الجاهلي على أسلوب موروث فيها؛ إذ نراها تبتدئ عادة بوصف الأطلال وبكاء الدِّمَن، ثم تنتقل إلى وصف رحلات الشاعر في الصحراء، وحينئذ يصف ناقته التي تملأ حسه ونفسه وصفًا دقيقًا فيه حذق ومهارة، ثم يخرج من ذلك إلى الموضوع المعين من مدح أو هجاء أو غيرهما، واستقرت تلك "الطريقة التقليدية" في الشعر العربي، وثبتت أصولها في مطولاته الكبرى على مر العصور.

_ 1 العمدة لابن رشيق 1/ 54، وديوان امرئ القيس "طبع دار المعارف" ص114. 2 عوجا: اعطفا. المحيل: الذي أتى عليه حول. ابن خذام: شاعر قديم يقال إنه بكى الديار قبل امرئ القيس. 3 انظر مطلع معلقته. المترنم: الشيء يترنم به، يريد أن الشعراء لم يتركوا شيئًا إلا ترنموا به.

وهذا النمط المعين في صنع المطوَّلات القديمة يدل دلالة قاطعة على أن صناعة الشعر استوى لها حينذاك غير قليل من القيود والتقاليد؛ إذ نرى القصائد تتحد أنغامها، وكان عنترة يشكو من هذا الاتحاد، كما تتحد أساليبها ولغتها وتراكيبها، وكما تتحد معانيها وصورها وأخيلتها، وكان زهير يشكو أيضًا من ذلك؛ فما يقوله ابن خذام في بكاء الأطلال يأخذه عنه امرؤ القيس، وما يقوله امرؤ القيس يأخذه عنه بقية الشعراء، وإن جَدّ معنى في الطريق كوصف الأطلال عند طرفة1 بالوشم أخذه زهير2 وغير زهير. وهم كذلك في وصف الناقة يتداولون أوصافها، وإن حدث معنى في الطيق كوصف زهير ناقته بأنها نعامة أو حمار وحشي، تناوله بيد، ونسج على منواله النابغة وغير النابغة. وقد تتبع النقاد العباسيون هذ الجانب من صناعة الشعر العربي القديم، وهو جانب طريف يكشف لنا عن حقيقة الشعر الجاهلي وحقيقة صناعته، وأنها لم تكن مستودعًا للتجارب الفردية؛ بل كانت مقيدة بمصطلحات كثيرة لا في اللغة والنحو والعروض فقط، بل في الموضوع والمواد التي تكونه، وما يختاره الشاعر في صنع نماذجه من أدوات تصويرية أو أسلوبية أو معنوية.

_ 1 يقول في مطلع معلقته: لخولة أطلال ببرقة ثهمد ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد 2 يقول زهير في معلقته: ودار لها بالرقمتين كأنها ... مراجع وشم في نواشر معصم

الطبع والصنعة

4- الطبع والصنعة: هذه المصطلحات المختلفة التي كان يتقيد بها الشاعر الجاهلي تجعلنا نؤمن بأنه لم يكن حرًّا في صناعة شعره يصنعه كما يريد، فإن حريته كانت معطلة إلى حد ما؛ إذ كان يخضع لتقاليد تتناول ما يقوله وكيف يقوله، تتناول ما ينظم فيه والطريقة التي ينظمه بها، وبعبارة أخرى تتناول الموضوعات التي يعالجها وما يتخذه فيها من طرق فنية في التعبير والموسيقى والتصوير. وإذن

فالشعر الجاهلي ليس تعبيرًا فنيًّا حرًّا؛ بل هو تعبير فني مقيد، ليس تعبير الطبيعة والطبع، بل هو تعبير التكلف والصنعة، أما الفكرة التي تذهب عندنا إلى تقسيم الشعراء إلى أصحاب طبع وأصحاب صنعة، والتي نرى امتدادها في العصر الحديث1؛ فأكبر الظن أنها في حاجة إلى شيء من التصحيح؛ فإن أقدم آثار الشعر العربي ونماذجه لا تؤيد هذا التقسيم الذي لا يتفق وطبيعة الشعر العربي وحقائقه؛ فكله شعر مصنوع فيه أثر التكلف والصنعة، ولعل الجاحظ أول من أذاع هذه الفكرة ودعا إليها حين كان يعارض الشعوبية في بيانه؛ فادعى عليهم أنهم يقولون الشعر عن صناعة، أما العرب فيقولونه عن طبع وسجية؛ إذ يقول: "وكل شيء للعرب؛ فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام، وليس هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة ولا استعانة؛ وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخصام، أو حين يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة والمناقلة، أو عند صراخ أو في حرب؛ فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالًا2 وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا، ثم لا يقيِّده على نفسه ولا يُدَرِّسُه أحدًا من ولده"3. وليس من شك في أن الجاحظ بالغ في وصف الموهبة العربية والطبع العربي ليرد على الشعوبية؛ فإذا العرب يقولون بديهة وارتجالًا على خلاف غيرهم من الشعوب؛ فإنهم يقولون متكلفين، وأكبر الظن أنه لم يكن جادًّا حين ذهب هذا المذهب، إنما هو بصدد أن يفضل العرب على غير العرب، ولو ترك نفسه على طبيعتها في البحث والتحقيق لرأيناه يثبت للعرب صعوبة في القول، وبخاصة في صنع الشعر فهو نفسه يقول في البيان والتبيين: "من شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولًا كريتًا "كاملًا" وزمنًا طويلًا يردِّد فيها نظره

_ 1 انظر كتاب شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي لعباس محمود العقاد؛ فقد هاجم كثيرًا من الشعراء المحدثين وعلي رأسهم شوقي بحجة أنهم من شعراء الصنعة وليسوا من شعراء الطبع. 2 أرسالًا: أفواجًا. 3 البيان والتبيين 3/ 28.

ويجيل فيها عقله، ويقلب فيها رأيه، اتهامًا لعقله وتتبعًا على نفسه؛ فيجعل عقله زمامًا على رأيه، ورأيه عيارًا على شعره، إشفاقًا على أدبه، وإحرازًا لما خوله الله من نعمته، وكانوا يسمون تلك القصائد: الحوليات والمقلدات والمنقَّحات والمحكمات ليصير قائلها فحلًا خِنذيذا وشاعرًا مفلقًا"،1 ويقول أيضًا: "كان زهير بن أبي سُلْمى يسمِّي كبار قصائده الحوليات؛ ولذلك قال الحطيئة: خير الشعر الحولي المحكَّك، وقال الأصمعي: زهير بن أبي سلمى والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر، وكذلك كل من جَوَّدَ في جميع شعره ووقف عند كل بيت قاله، وأعاد فيه النظر، حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجودة. وكان يقال: لولا أن الشعر قد كان استعبدهم، واستفرغ مجهودهم، حتى أدخلهم في باب التكلف وأصحاب الصنعة، ومن يلتمس قهر الكلام واغتصاب الألفاظ لذهبوا مذهب المطبوعين الذين تأتيهم المعاني سهوًا ورَهْوًا، وتنثال عليهم الألفاظ انثيالًا"2. وإذن فالجاحظ ينقض دعواه بما يذكره من أنه وُجدتْ طائفة عند العرب كانت تكد طبعها في عمل الشعر وصنعه، وكانت تقابلها طائفة أخرى لا تبلغ من التكلف غايتها، وهي طائفة المطبوعين كما يسميهم الأصمعي، وعبر ابن قتيبة عن الطائفتين في صورة أوضح؛ إذ يقول: "ومن الشعراء المتكلف والمطبوع؛ فالمتكلف هو الذي قَوَّمَ شعره بالثقات، ونقحه بطول التفتيش، وأعاد فيه النظر، كزهير والحطيئة3". وهذا التقسيم من حيث هو صحيح؛ ولكن ينبغي أن نتلقاه بشيء من الحذر، فإن هؤلاء المطبوعين لم يكونوا يلغون التكلف إلغاء. كما أن هؤلاء المتكلفين لم يكونوا يلغون الطبع إلغاء؛ ولذلك كنا نرى أن نعمم التكلف في الشعر القديم ونجعله على درجات يبلغ أعلاها عند زهير وأصحابه الذين كانوا يعملون شعرهم عملًا، ويأخذونه بالتفكير الدقيق، والبحث والتحقيق.

_ 1 البيان والتبين 2/ 9. 2 البيان والتبين 2/ 13. 3 الشعر والشعراء لابن قتيبة "طبعة دي جويه" ص17.

الصنعة أول مذهب يقابلنا في الشعر العربي

5- الصنعة أول مذهب يقابلنا في الشعر العربي: أكبر الظن أننا لا نجدد حين نرفض الطبع في الشعر، وأن يقسَّم على أساسه؛ إنما ندعو إلى ذلك حتى يرسخ عندنا هذا المبدأ الذي يجعل الشعر صناعة وفنًّا تحاكَى فيه "المثل الفنية" الممتازة التي يحتوى كل مثال منها على صفات وخصائص تَعِبَ أصحابها في التعبير عنها. أما "المثل الفنية" المطلقة من غير قيود ولا حدود؛ فإنها لا توجد في الشعر ولا في أي ضرب من ضروب الفن. كل نموذج فني هو عمل متعدد الصفات قد شقى صاحبه في إخراجه، وبذل فيه كل ما يستطيعه من جهد. ونحن نصطلح على تسمية هذا الجهد في الشعر -مهما يكن ضعيفًا- باسم الصنعة، وقد وجدت هذه "الصنعة" أو وجد هذا الجهد في نماذج الشاعر الجاهلي؛ بحيث يمكن أن نقول: إن "الصنعة" أول مذهب يقابلنا في الشعر العربي؛ فهي توجد في جميع نماذجه القديمة، وإن كانت تتخذ شكلًا بسيطًا عند بعض الشعراء؛ بينما تتعقد تعقدًا شديدًا عند آخرين؛ ممن يريدون أن يستوعب فنهم مقدرات واسعة من الحذق والمهارة. ومن الخطأ أن نظن -كما يظن كثير من الناس- أن الحياة الأدبية في العصر الجاهلي كانت ساذجة بسيطة؛ فقد كانت معقدة ملتوية شديدة الالتواء، ولم تكن على هذا النحو من اليسر والسهولة الذي يجعل الشعراء يصدر عنهم شعرهم صدور الفطرة والسليقة، كما يصدر الضوء عن الشمس والشذى عن الزهرة؛ بل كانوا يتكلفون في شعرهم فنونًا من التكلف، إذا كانوا عُمَّالًا صناعًا يعملون شعرهم عملًا، ويصنعونه صناعة ويتعبون فيه أنفسهم تعبًا شديدًا. وكان كل شيء في العصر الجاهلي يعدُّ لظهور هذا التكلف في الشعر

أو ظهور "الصنعة"؛ فقد كان الشعراء أنفسهم يلتزمون لوازم كثيرة في صناعة شعرهم، كان الناس من حولهم يراقبونهم ويشجعونهم على التفوق والإجادة؛ وكأنما كان هناك ذوق عام يدعو الشعراء إلى التجويد والتحبير، يقول الجاحظ: "وهم يمدحون الحذق والرفق والتخلص إلى حبَّات القلوب وإلي إصابة عيون المعاني ويقولون: أصاب الهدف؛ إذا أصاب الحق في الجملة، ويقولون قَرْطَسَ فلان وأصاب القرطاس، إذا كان أجود إصابة من الأول، فإذا قالوا: رمى فأصاب الغُرَّةَ وأصاب عين القرطاس؛ فهو الذي ليس فوقه أحد، ومن ذلك قولهم: فلان يَفُلُّ الْحَزَّ ويصيب المفصل ويضع الهِناء مواضع النقب"1 ولعل ما يفسر ذلك أيضًا أنهم كانوا يسمون الشعراء بأسماء تصور مهاراتهم وإجادتهم؛ فربيعة بن عدي كان يسمَّى المهلهل؛ لأنه أول من هلهل الشعر وأرقَّه2 وكان طفيل الخيل يسمَّى المحبِّر لتزيينه شعره3، وكان النمر بن تولب يسمَّى في الجاهلية الكيس لحسن شعره4، وكذلك سُمِّيَ النابغة باسمه لنبوغه في شعره5، كما سمي المرقش باسمه لتحسينه شعره وتنميقه6، وسمي علقمة بالفحل7 لجودة أشعاره، وبجانب ذلك نجد أسماء أخرى مثل المثقب والمنخل والمتنخل والأفوه. وقد سموا القصائد بأسماء تصور هي الأخرى مبلغ تفوقهم وإجادتهم فسموها اليتيمة8 وسموها السموط9 وسموها الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات10. وكل ذلك يدل على أن الشعراء كانوا يمتحنون وسائلهم ويجربونها، وما يزالون يبحثون عن "الأدوات" التي تكفل لشعرهم التفوق والنجاح، حتى

_ 1 البيان والتبيين 1/ 147. وقولهم: فلان يفل الحز ويصيب المفصل أخذوه من صفة الجزار الحاذق فجعلوه مثل للمصيب الموجز، والهناء: القطران، كانوا يضعونه على النقب جمع نقبة وهي أول ما يبدو من الجرب في الإبل. 2 أغاني طبعة دار الكتب 5/ 57. 3 المفضليات "طبعة Lyall" 1/ 410. 4 الشعر والشعراء ص173. 5 العمدة لابن رشيق 1/ 137. 6 المفضليات 1/ 410، 1/ 485. 7 أغاني "طبعة ساسي" 21/ 112. 8 أغاني "طبعة دار الكتب" 13/ 102. 9 أغاني "ساسي" 21/ 112. 10 البيان والتبيين 2/ 9.

لنراهم يفخرون بإجادتهم ومهارتهم، يقول كعب بن زهير يخاطب الشماخ وأخاه مزرِّدًا1: فمن للقوافي شَانَها من يحوكها ... إذا ما ثوى كعب وفوَّز جَرْوَلُ2 كفيتك لا تلقى من الناس واحدًا ... تنخل منها مثلما نتنخَّلُ3 نُثقِّفها حتى تلين متونها ... فيقصر عنها كل ما يتمثَّلُ4 فكعب وجرول أي الْحُطَيئة ينتخلان شعرهما، ويأخذانه بالثقاف والتنقيح، ويجمعان له كل ما يمكن من وسائل التجويد والتحبير، وكذلك كان يصنع صنيعهما الشماخ ومزرد الذي رد على كعب يقول5: فإن تَخْشِبَا أخشب وإن تتنخَّلا ... وإن كنت أفتى منكما أتنخَّل6 وإن الباحث يشعر كأن هذا التنخل من عمل الشعراء جميعًا؛ فهم مشتركون في الإجادة، بل هم يجدون أي صعوبة في عملهم الفني، ولعل ذلك ما جعل الحطيئة يقول7: الشعر صعب وطويل سُلَّمه ... إذ ارتقى فيه الذي لا يعلمه زلَّت به إلى الحضيض قدمُه ... يريد أن يعربه فيُعْجِمه وليس من شك في أن الحطيئة والشعراء من حوله كانوا يلقون عنتًا شديدًا في رقي هذا السلم الذي كان يستلزم منهم جهدًا فنيًّا خاص. حتى يستطيعوا أن يبلوا الشأو الذي يريدونه.

_ 1 أغاني "دار الكتب" 2/ 165. 2 ثوى وفوز: مات. 3 تنخل: اختار. 4 نثقفها: نقوّمها كما تقوم السهام. 5 أغاني "دار الكتب" 2/ 166. 6 تخشبًا: تنظمًا بغير تكلف. 7 أغاني "دار الكتب" 2/ 196.

زهير ومذهب الصنعة

6- زهير ومذهب الصنعة: كان التكلف ظاهرة عامة في الشعر القديم، أو بعبارة أخري كانت "الصنعة" مذهبًا عامًّا بين الشعراء، ولعل خير شاعر يمثل هذا المذهب ويفسره

في العصر الجاهلي هو زهير صاحب الحوليات؛ فقد كان يأخذ شعره بالثِّقاف والتنقيح والصقل، وكأنه يفحص ويمتحن ويجرب كل قطعة من قطع نماذجه؛ فهو يعنى بتحضير مواده، وهو يتعب في هذا التحضير تعبًا شديدًا. ومن يتتبع القدماء في درسهم له يجدهم يلاحظون أنه خرج من بيت شعر، إذا كان زوج أمه أوسن بن حجر شاعرًا، وكذلك كانت أخته شاعرة، وكان ابنه كعب شاعرًا مشهورًا، وقد مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- بقصيدة معروفة، ولكعب أخ يسمى بجيرًا كان شاعرًا أيضًا1، وإذا استمررنا وجدنا لكعب أبناء وأحفادًا من الشعراء؛ فزهير شاعر خرج من بيت شعر. وإذا رجعنا إلى ترجمة الحطيئة في الأغاني وجدناه يقول لكعب: إنه لم يسبق من أهل بيتنا إلا أنا وأنت، وتتفق الروايات على أن الحطيئة كان راوية لزهير، وأن هُدْبة كان راوية للحطيئة، وأن جميلًا كان راوية لهدبة، وأن كثيِّرًا كان راوية لجميل2. وإذن فنحن أمام مدرسة في الشعر أستاذها زهير وتلامذتها جماعة، تارة يكونون من من أهل بيته، وتارة لا يكونون، وهي مدرسة "كانت تعتمد على الأناة والروية، وتقاوم الطبع والاندفاع في قول الشعر مع السجية؛ فكثر عندها التشبيه، والمجاز والاستعارة، واتكأت في وصفها على التصوير المادي، وأن يأخذ الشاعر نفسه بالتجويد والتصفية والتنقيح ثم التأليف"3. قد يقول قائل وأين امرؤ القيس وما موضعه من هذه المدرسة، وقد عرفناه يكثر من التشبيهات، كما نرى في معلقته؛ فهو إذن رأس المدرسة أو هو أحد أفرادها. والقياس منكسر فإن الطريقة البيانية عند امرئ القيس تعتمد -كما رأينا- على تراكم التشبيهات، وأن تخرج الأبيات في صفوف منها متلاحقة، وتلك مرتبة أولى من مراتب الطريقة البيانية، أما حين نتقدم عند زهير؛ فإننا نجد هذه الطريقة تنعقد وكأنها تغاير ما ألفناه عند امرئ القيس مغايرة تامة.

_ 1 أغاني "دار الكتب" 10/ 314. 2 أغاني "دار الكتب" 8/ 91. 3 انظر كتاب "في الأدب الجاهلي" لطه حسين ص286.

ولعل أول ما يسترعى الباحث في عمل زهير، أنه يُعْنَى بتحقيق صوره فهو لا يأتي بها متراكمة، كما كان يصنع امرؤ القيس؛ بل يعمد إلى تفصيلها وتمثيلها بجميع شعبها وتفاريعها، وكأنه يبحثها ويحققها. وانظر إلى قوله في وصف بعض النسوة1: تنازعها المها شَبَهًا ودُرُّ النـ ... ـحور وشاكهت فيها الظباء2 فما ما فُوَيْقَ العقد منها ... فمن أدماء مرتعها الخلاء3 وأما المقلتان فمن مَهاةٍ ... وللدُّرِّ الملاحة والصفاءُ فإنك تلاحظ أن زهيرًا لم يكتفِ بأن يشبه صاحبته بالظباء والمها والدر جملة بل رجع إلى تفصيل ذلك وتحقيقه؛ فجعل للظباء ما فويق العقد وجعل للمهاة عينيها وللدر الملاحة والصفاء. وهذا هو معنى ما نقوله من أن زهيرًا كان يحقق صورة، ولم يكن يعتمد في هذا التحقيق على اللغة وحدها؛ بل كان يعتمد قبل كل شيء على أن تكون الصورة واسعة هذه السعة التي تتضمن التفصيل والتفريغ وكأنه يريد أن يحملها أكثر طاقة ممكنة في التعبير والتمثيل. وكان لزهير مهارة خاصة في استخدام الألفاظ والعبارات المثيرة التي تجعل المنظر كأنه يتحرك تحت أعيننا، وانظر إلى قوله في وصف صيد وحكايته للغلام الذي أنبأه به4: إذا ما غدونا نبتغي الصيد مرةً ... متى نرهُ فإننا لا نخاتله5 فبينا نُبغِّي الصيد جاء غلامنا ... يدبُّ ويخفى شخصه ويضائله6 فقال: شياهٌ راتعات بقفرةٍ ... بمستأسد القُرْيان حُوّ مسايلُهْ7

_ 1 ديوان زهير "طبعة دار الكتب" ص61. 2 المها: بقر الوحش. شاكهت: شابهت. 3 أدماء: ظبية بيضاء. شبهها بالظباء في طول العنق. 4 ديوان زهير ص130. 5 غدونا: بكرنا. نبتغي: نطلب. نختاله: نمكر به ونصيده دون أن نجاهره. 6 نبغي: نبتغي. يدب: بمشي هونًا. يضائله: يصغره. 7 الشياه هنا: الأتن. المستأسد من النبت: الذي طال وتم. القريان: مجاري المياه. الحو: النبات الضارب إلى السواد.

ثلاثٌ كأقواس السَّرَاء ومِسْحَلٌ ... قد اخضرَّ من لَسِّ الغمير جحافله1 فإنك تلاحظ أن زهيرًا يستطيع أن يبث الحياة والحركة في تصويره بنفس صياغته وتعبيره، وارجع إلى البيت الثاني؛ فإنك تراه ينقل به المنظر نقلًا دقيقًا نتأثر به تأثرًا عميقًا، أليس زهير يعرف سر مهنته؟ إنه يعرف كيف يصور الحوادث الماضية؛ فإذا هي تمر أمام أبصارنا وكأننا نشاهدها، وهو لا يبتغي ذلك من تشبيهات متراكمة؛ إنما يبتغيه في طبيعة التعبير نفسه فيعبر بالفعل المضارع حتى يجعلنا نتمثل حوادثه الماضية. وانظر إلى معاني الأفعال وحكايتها للصورة، فغلامه يدبّ دبيبًا، وهو يخفي شخصه كأنه يتوارى عن الأعين، وانظر إلى الفعل الأخير "يضائله" فإنه يفيد معنى التدرج الذي يلازم صورة متحركة، وانظر بعد ذلك إلى البيت الأخير وهذا اللون الأخضر الذي علق بفم الوحش لكثرة ما أكل من النبات فإنك تجد مادة أخرى من مواد التصوير عند زهير إذ تراه لا يكتفي "بالتفصيل" ولا باستعمال "العبارات التي تجعل الأشياء كأنها منظورة" بل هو يضيف "التدبيج" أي لون موصوفاته إلى تصويره حتى يأخذ الشكل ويستتم الوصف. كان زهير يعنى بتصويره عناية شديدة وكان ما يزال يحتال على إحكامه تارة بتفصيله وتارة بتلوينه وأخرى باستخدام العبارات التي تعطيه قوة المنظور، وكأنه كان يعرف في دقة الكلمة التي تلائم وصفه معرفة الصانع الماهر الذي اطلع على كثير من أسرار فنه والأدوات التي يستخدمها في صناعته. ويستطيع القارئ أن يعود إلى مطولته فسيراها تصور مهارته في صنع صوره تصويرًا دقيقًا، وانظر إليها يستهلها بقوله: أمِنْ أمِّ أوفى دمنةٌ لم تكلَّمِ ... بِحَوْمَانةِ الدَّرَّاج فالْمُتَثَلَّمِ2

_ 1 السراء: شجر تتخذ منه القسي. شبهها بها في الضمور. المسحل: حمار الوحش. الغمير: نبت. لسه: أخذه بمقدم الفم. الجحافل. بمنزلة الشفاة للحمير والخيل والإبل. 2 أم أوفى: زوجة زهير الأولى وهي غير أم كعب وبجير. والدمنة: ما اسودّ من آثار الديار. والحومانة: الأرض الغليظة. والدراج والمتثلم: موضعان.

ديارٌ لَها بالرَّقمتين كأنها ... مراجعُ وَشْمٍ في نَواشر مِعْصَمِ1 بها العِينُ والآرامُ يمشين خِلْفَةً ... وأَطلاؤُها ينهضنَ من كل مَجْثمِ2 وقفتُ بها من بعد عشرين حجَّةً ... فَلأْيًا عرفت الدار بعد توهم3 أثافِيَّ سُفْعًا فِي معرَّس مِرْجَل ... ونُؤيًا كجذم الحوض لم يتثلَّم4 فلما عرفت الدار قلت لِرَبْعِها ... ألا انعم صباحًا أيها الرَّبع واسْلم وواضح في هذا المطلع الذي يصف فيه زهير الطلل أنه يعتمد في تصويره على التفاصيل وأن يعطي كل جزء حقه؛ فهو باحث محقق، وهو يطلب في شعره أن يكون أكثر بيانًا ودقة وتفصيلًا لما يتحدث عنه، ويحاول أن يصوره. فهو من الشعراء المصورين الذين يحاولون عرض المناظر أمامنا بكل أجزائها وتفاصيلها؛ ولذلك نراه يذكر في نموذجه حين يتحدث عن الأطلال الأثافِيّ والنؤى حتى تتم الصورة بجميع دقائقها. على أن مقدرته في "التصوير" تظهر في جانب آخر هو استخدام الألفاظ والعبارات التي تجعل المنظر بارزًا ناطقًا. وانظر في البيت الثالث إلى هذه الوحش التي اتخذت دارًا صاحبته مقامًا؛ فإنك تراها تمشي أمامك خلفه، أي في وجهات متضاده، وقد نهضت أطلاؤها الصغار وانتثرت هنا وهناك؛ فانظر كيف استعان على بث الحركة في المنظر باستخدامه لكلمة "خلفه" ثم انظر إلى تلك الأفعال المضارعة التي وضعتها اللغة للدلالة على الأحوال المنظورة؛ فإنه يأتي بها ليجعلنا نبصر حوادثه الماضية، وكأنها تجري تحت أعيننا. وانظر إلى البيت الرابع وما وضع فيه من تحديد "الزمان" حتى يؤثر في أنفسنا، ثم انظر إلى تلك التحية الهادئة في البيت الأخير، فإنك لا تشك في

_ 1 الرقمتان: موضعان متباعدان، يقول إنها تحل بهذين الموضعين، مراجع وشم: خطوط وشم، والنواشر: عصب الذراع وعروقه الباطنة، المعصم: موضع السوار. 2 العين: البقر، والآرام: الظباء البيض، خلفة: يخلف بعضها بعضًا، الأطلاء: جمع طلا وهو ولد الظبية والبقرة، المجثم: المريض. 3 الحجة: السنة. لأيًا: بعد جهد. 4 الأثافي: ثلاثة حجارة يوضع عليها القدر، سفعًا: سواد. المعرّس هنا: موضع المرجل، وأصل التعريس النزول في وقت السحر، والمرجل: القدر. والنؤى: حاجز في شكل الهلال من تراب يرفع حول البيت لئلا يدخله الماء. جذم الحوض: حرفة وأصله، لم يتثلم: لم يتهدم.

أن زهيرًا كان يعرف بسر مهنته معرفة دقيقة، واستمر في المطولة؛ فستراه يصور رحيل أحبائه تصويرًا رائعًا إذ يقول: تبصر خليلي هل ترى من ظعائنٍ ... تحمّلن بالعلياء من فوق جُرثم1 عَلَوْنَ بأنماط عتاق وكِلَّة ... وِرادٍ حواشيها مشاكهةِ الدّم2 وورَّكن في السوبان يعلون مَتْنه ... عليهن دَلُّ الناعم المتنعِّم3 وفيهن ملهى للصديق ومنظر ... أنيق لعين الناظر المتوسمِ4 بَكَرن بكورًا واستحرن بِسُحْرَةٍ ... فهنَّ لوادي الرَّسِّ كاليد للفم5 جَعَلْن القَنانَ عن يمين وحَزْنَهُ ... ومن بالقَنان من مُحِلٍّ ومحرمِ6 ظَهَرْنَ من السُّوبان ثم جَزَعنه ... على كل قَيْنِيٍّ قشيبٍ مفَأَّمِ7 كأن فُتاتَ العِهن في كل منزل ... نزلن به حَبُّ الفَنَا لم يحطم8 فلما وَرَدْنَ الماءَ زُرْقًا جِمامه ... وضعن عِصِيَّ الحاضر المتخيِّمِ9 وأنت ترى أن طرافة عرض الحوادث كأنها منظورة استقامت له مع الفعل الماضي؛ لأنه يعرف لغة حرفته معرفة جيدة؛ فهو يستعمل المضارع في تصويره، وإن استعمل الماضي جاء به دالا على الحركة فلا يقل جمالًا عن أخيه، وانظر تر الظعائن ما تزال سائرة من مكان إلى مكان، وهو يتبعها في هذا السير بالأفعال التي تدل عليه، وينتقل معها من العلياء إلى السوبان،

_ 1 الظعائن: النساء المرتحلات في الهوادج، العلياء: أرض مرتفعة في نجد. وجرثم: ماء لبني أسد أحلاف ذبيان. 2 الأنماط: ضرب من الثياب يفرشنه على الهوادج تحتهن. والكلة: الستر الرقيق، وراد: حمراء، مشاكهة: مشابهة. 3 ورك: ثنى رجله على الإبل، والسوبان: واد في ديار بني تميم أحلاف عبس. 4 المتوسم: المتفرس في الوجه. 5 استحرن: خرجن سحرًا. 6 القنان: جبل لبني أسد أحلاف ذبيان. الحزن: الأرض الصلبة. المحل: مستحل الدماء، المحرم: من بينهم وبينه ذمام، يريد العدو والصديق. 7 جزعته: قطعته. القيني: قتب طويل تحت الهودج. قشيب: جديد. مفأم: واسع. 8 العهن: الصوف، حب الفنا: عنب الثعلب الأحمر. 9 الجمام: مجتمع الماء. وضعن العصي: كناية عن الإقامة.

ومن السوبان إلى وادي الرس والقنان. وهو لا ينسى في أثناء ذلك أن يعطي كل مكان صورته بالتفصيل؛ فكم بالقنان ومن محل ومحرم، وها هو ذا الركب يسير عن يمينه، وانظر إليهن فعليهن السدول والأنماط الحمراء حمرة تشبه الدم، ومن ينسى هذه الصورة؟ لقد أعطاها زهير لون الدم وحرارته. وانظر إليهن في السوبان، وقد ظهرن وعليهن دلال الناعم المتنعم، بل انظر إليهن في وادي الرسِّ، وقد وصلن إليه وصول اليد للفم؛ فإنك ترى منظرًا عجبًا؛ إذ يجعلك تتخيل هذه القافلة وهي تسير في الصحراء سيرًا طبيعيًّا فيه أناة وفيه حركة وانتقال من مكان إلى آخر انتقالًا طبيعيًّا أشبه ما يكون بحركة اليد وهي تريد الوصول إلى الفم. وإذا أنعمت النظر في تلك الأبيات السابقة من المطولة وجدت زهيرًا قد استطاع أن يعطينا "أمكنة الصورة"، كما استطاع أن يعطينا "زمانها": "بعد عشرين حجة، بكرن بكورًا، واستحرن بسحرة"، وماذا ينقص الصورة بعد ذلك؟ لقد وعت "اللون" و"الزمان" و"المكان"؛ غير أن ذلك لا يحقق لزهير كلما يريده؛ فما تزال دقة التصوير تلزمه العناية بمواد أخرى؛ فنراه يلجأ للتفاصيل وذكر الجزئيات، فيقف عند فتات العهن المنثور من الهوادج، ويصوره كحبِّ الفنا أو عنب الثعلب؛ حتي يعطي للصورة "اللون" مرة أخرى، فاللون الأحمر لا يكفي، بلا لا بد من ألوان أخرى، ولا بد أن يتخلل ذلك ذكر التفاصيل التي يحسن أن تشتمل عليها الصور، وما أجمل البيت الأخير، وقد صور صواحبه ينتهين إلى المياه الزرقاء؛ وبذلك يضيف لونًا آخر إلى الصورة حتى تأخذ الشكل، وأخيرًا يذكر أنهن ألقين عصا الترحال في هذا المكان، وهنا نراه يذكر الخيام وأنها نُصبت حتى يعطي المنظر الشكل الأخير. وعلى هذا النمط ما يزال زهير يعنى بنماذجه عناية شديدة، وهو يوزع هذه العناية على كل جانب فيها، وحقًّا ما لاحظه السابقون من أنه كان يجهد نفسه في عمله حتى ليمكث في عمل القصيدة حولًا كاملًا، وما الحول إزاء العمل الفني الجيد؟ إن زهيرًا لم يكن يطلب أفقًا وسطًا؛ بل كان يريد أن يحلق في الأفق الأعلى؛ ولذلك كان يحقق لنماذجه وصوره كل ما يمكن من مهارة، وهي لا تقف

عند هذا الجانب التي وصفناها؛ بل تتعداها إلى جانب آخر مهم، وهو جانب "الإغراب في التصوير" على نحو ما نراه يصور الحرب في معلقته هذا التصوير الرائع: ومال الحرب إلا ما علمتم وذُقْتُم ... وما هو عنها بالحديث الْمُرَجَّمِ1 متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً ... وتَضْرَ إذا ضرَّيتموها فتضْرَمِ2 فتَعْرُكْكُم عَرْكَ الرَّحى بثِفالها ... وتلقحْ كشافًا ثم تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ3 فَتُغْلِلْ لكم مالًا تغلُّ لأَهلها ... قرىً بالعراق من قَفِيزٍ ودرهمِ4 فإن الصور تزدحم في تلك الأبيات، وليس هذا ما يلفتنا؛ إنما يلفتنا تلك الصور الغريبة التي صور فيها الحرب تطول حتى تنتج غلمان شؤم، بل هي تُغلّ لهم غلة ليست كغلة أهل العراق ففيها الموت والهلاك. وليس من شك في أنه تعب تعبًا شديدًا قبل أن يصل إلى تأليف هاتين الصورتين. وانظرْ إليه يخرج إلى تصوير آخر لعله أكثر تعقيدًا؛ إذ يقول في حروب القبائل التي لا تخمد نارها. رَعَوا ما رعوا من ظِمْئِهِمْ ثم أَوردوا ... غِمارًا تسيل بالرماح وبالدَّمِ5 فقضَّوا منايا بينهم ثم أَصدَرُوا ... إلى كَلَأٍ مُستَوبلٍ متوخَّمِ6 فقد عبر عن سلمهم وحربهم وما يبلون منها بتلك الصور من الإبل التي ترعى مراعي وبيلة؛ فإذا أرادت أن تشرب لم تجد إلا تلك المياه التي تسيل بالرماح والدم، وكل ذلك ليستهوي السامعين بما يذكر من صور غير مألوفة، وربما كان من أروع الأدلة على تكلف زهير، وأنه كان لا يترك جانبًا من

_ 1 المرجم: المظنون. 2 تضرى: تمرن وتعوّد على الفتك بالفريسة. تضرم: تشتعل. 3 تعرككم: تطحنكم. والباء في بثفالها بمعنى مع، أراد أنها طاحنة؛ لأن الثفال جلدة توضح تحت الرحى حين تطحن. تلقح كشافًا: أي على التوالي فهي دائمًا تلقح وتحمل. تتئم: تلد اثنين اثنين. 4 تغلل: تعطي الغلة. القفيز: مكيال. 5 الظمء: ما بين الوردين من زمن ترعى فيه الإبل. غمارًا: مياهًا كثيرة. 6 قضوا: أنفذوا. أصدروا: رجعوا. مستوبل متوخم: كريه غير مريء.

جوانب حرفته دون أن يغرب فيه ما يلاحظه القارئ في نماذجه من أنه إذا تحدث في موضوع مطروق كوصف الإبل أو وصف الأطلال عمد إلى الألفاظ الغريبة؛ فإذا كان الموضوع غير مطروق من مثل الحكم أو المدح لم يعنَ باللفظ الغريب كأنه يكتفي بغرابة المعاني الجديدة نفسها. وليس من شك في أن هذه العناية باللفظ الغريب في الموضوعات المطروقة تمثله لنا باحثًا عن كل ما يمكن من طرائف يضيفها إلى فنه؛ فإن عدم هذه الطرائف في المعاني والصور عمد إلى اللفظ نفسه فأغرب فيه محاولًا أن يستتم بذلك ما يريد من إغراب وإطراف وأخرى تلاحظ في مطولته، لم نتحدث عنها حتى الآن، وهي أنه قد استوى للقصيدة عنده من التنسيق ما لم يستو لها عند سابقيه، فإننا نجدها تبدأ بوصف الأطلال والديار، ثم ينتقل زهير إلى غرضه من المديح لهرم بن سنان وصاحبه، لحسن سعيهما في الصلح بين عبس وذبيان، ويتكلم في أثناء ذلك عن الحروب وسوء أثرها ثم يختمها بالحكم. وبذلك تأخذ القصيدة القديمة شكلها النهائي عند زهير؛ فيكون لها مقدمة وموضوع وخاتمة، ولا نعود نشعر بخنادق وممرات بين أبياتها؛ إذ لا نراها توزع على موضوعات ومناظر كثيرة كما هو الشأن في مطولتي امرئ القيس وطرفة، إنما نرى "التنسيق" الوثيق والربط المحكم، والحق أن زهيرًا استطاع أن يحقق لصنعة الشعر في العصور القديمة كل ما يمكن من تحبير وتجويد؛ فقد أصبح الشعر عنده حرفة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وماذا ينقصه كحرفة؟ إن زهيرًا يتكسَّب به، وهو من أجل ذلك يوفر له كل ما يستطيع من أسباب المهارة البيانية والجودة الفنية.

نمو مذهب الصنعة في العصر الإسلامي

7- نمو مذهب الصنعة في العصر الإسلامي: إذا تركنا زهيرًا والعصر الجاهلي وانتقلنا إلى العصر الإسلامي وجدنا مظاهر الصنعة والتكلف التي قابلتنا في العصر الجاهلي تنمو مع نمو الحياة العربية. ومن المحقق أن الشعراء الذين نبتوا في الجاهلية وعاشوا في صدر الإسلام لم يختلفوا في

صناعة شعرهم عن آبائهم الجاهليين إلا قليلًا. فقد ظلوا ينظمون شعرهم على الصورة الجاهلية، ولم يؤثر الإسلام فيهم تأثيرًا واسعًا، على نحو ما هو معروف عن الحطيئة وأضرابه، وحتى حسان بن ثابت لا نجد في نسيج شعره من أثر الإسلام خيوطًا كثيرة، ولذلك لم يخطئ ابن سلام حين قرن في كتابه "طبقات فحول الشعراء" هؤلاء المخضرمين الذين عاشوا في الجاهلية والإسلام إلى الجاهليين. وإذا مضينا في عصر بني أمية وجدنا تطورًا واسعًا يحدث في الشعر العربي، بتأثير الإسلام ومعانيه الروحية وبتأثير الفتوحات واختلاط العرب بأهل البلاد المفتوحة في خارج جزيرتهم وداخلها. وقد تحولوا يتحضرون ويمصرون الأمصار، ويتخذون القصور، ونهض لهم الموالي بحياتهم المادية في جميع شئونها لا في المدن الممصرة فحسب مثل البصرة والكوفة، بل أيضًا في مدن الحجاز مثل مكة والمدينة، وكان مما نهضوا لهم به نهضة واسعة فن الغناء، إذا استحدثوا فيه نظرية جديدة هي التي نقرؤها في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني حين يعيِّن الرَّقيم الموسيقي الخاص بالصوت أو الأغنية، فيقول مثلًا: الغناء لمعبد، ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى أو رمل بالسبَّابة في مجرى البنصر أو ثانٍ ثقيل بالوسطى والخنصر ونحو ذلك. وليس هذا كل ما جاء به الأجانب، فقد دخلوا أو دخلت كثرتهم في الدين الحنيف بكل ما ورثوه من الثقافة الهيلينية التي كانت منبثقة في العراق والشام ومصر، وهي مزيج من الثقافة اليونانية التي انتشرت في الشرق منذ فتوح الإسكندر وثقافة العصر الإسكندري، ثم ثقافات شرقية مختلفة، منها الدينية وغير الدينية، وكانت هناك مدارس تعنى بهذه الثقافة الهيلينية، كمدرسة جند يسابور وكانت قريبة من البصرة، ومثل مدارس حران والرها ونصيبين في شمالي العراق، ومدرستي قنسرين وأنطاكية في الشام ومدرسة الإسكندرية في مصر. وكانت توجد في بعض الأديرة مدارس صغيرة تعنى بتعليم الدين المسيحي وتتعرض لبعض مبادئ المنطق والفلسفة. ووقف العرب على كثير مما كان في هذه المدارس، وانتقل به إليهم كثير من الموالي. وكانت هناك قوة دافعة تدفع هؤلاء الذين

كانوا علي الفطرة للتزود بتلك الثقافات، وتذكر في هذا الصدد أسباب شخصية كشغف خالد بن يزيد بن معاوية بالكيمياء وطلبه من المترجمين ترجمة بعض آثار فيها، ومثل ترجمة ماسرجويه لكتاب أهرن في الطب من السريانية إلى العربية. والحق أن المسألة كانت أوسع من ذلك، فقد كان العرب ناشرين للدين الإسلامي واتصلوا بنصارى ويهود ومجوس وتناقشوا معهم، وسمعوا في أثناء مناقشاتهم آراء متأثرة بالفلسفة وغيرها من الثقافات الدخيلة؛ فأدركوا حاجتهم إلي الإحاطة بتلك الثقافات وما داخلها من أفكار فلسفية، وكان من آثار ذلك أن ظهرت عندهم مذاهب المرجئة والجبرية والقدرية وأخذوا يتعرفون علي طريقة استغلال الأجانب للأرض وكيف يعمون المباني وكيف يشقون الترع والقنوات وكيف يمدون الطرق والمسالك وكيف يضبطون الدواوين مما دفعهم إلى الوقوف على طائفة من العلوم النفعية، بجانب الفلسفة والعلوم الخالصة. ونحن إذا أخذنا نحلل ثقافة العرب في هذا العصر الأموي وجدناها تستمد من ثلاثة جداول مهمة: جدول جاهلي يتمثل في الشعر والأيام أو الحروب ومعرفة تقاليد الجاهليين، وجدول إسلامي يمثله الإسلام وتعاليمه الروحية، وجدول أجنبي يتمثل في معرفة الشئون الثقافية والسياسية والإدارية الأجنبية. وهذا كله معناه أن العرب أصبحوا في عصر جديد، يختلف عن العصر الجاهلي في كل شيء، في الدين السماوي القويم وفي الحاضرة والثقافة؛ فكان طبيعيًّا أن تتطور فنون شعرهم1، فظهر الشعر السياسي الذي يصور نظريات فرقهم في الخلافة، وهي فرق الخوارج والشيعة والزبيريين والأمويين، وظهرت النقائض تحت تأثير الحياة العقلية الجديدة وحاجة الجماعة العربية في البصرة والكوفة إلى فن شعري تقطع به فراغها في المدينتين، ويحقق لها ما تريد من اللهو والتسلية. وهذان النوعان اللذان يعدان تطورًا واضحًا لفني المديح والهجاء رافقهما تأثر عميق بمثالية الإسلام الخلقية والروحية؛ فكان الشعراء يمدحون الخلفاء

_ 1 انظر في هذا التطور كتابنا "التطور والتجديد في الشعرالأموى" طبع دار المعارف.

والولاة بالتقوى وإقامة حدود الشريعة ونشر العدل في الرعية، كما كانوا يهجون بالبدع في الدين والخروج على سننه وتعاليمه. وفرق بعيد بين الحماسة الجاهلية والحماسة الإسلامية فتلك كانت تقوم على شريعة الأخذ بالثأر وهذه كانت تقوم على الجهاد في سبيل الله وإيثار ما عنده على متاع الدنيا الزائل. وتطور الغزل تطورًا واسعًا. وأصبح له شعراؤه الذين يمضون فيه حياتهم، يتحدثون عن قصة الحب وحياته وموته وآلامه، وبذلك اختلف في جوهره عن النسيب الذي كان يوضع في مقدمات القصائد الجاهلية، وقد تأثر بنظرية الغناء التي وضعها الموالي في مكة والمدينة، كما تأثرت جوانب منه بما ملأ به الإسلام نفوس العرب في بوادي نجد والحجاز من نُبْل وتسام وطُهْر؛ فظهر الغزل العذري العفيف عند جميل وأضرابه، كما ظهر الغزل المادي في المدينة ومكة عند عمر بن أبي ربيعة وأمثاله. وحتى وصف الصحراء تحول به ذو الرمة إلى لوحات بديعة. وتعهد الرُّجَّاز فن الرجز، حتى أصبح لا يقل عن فن القصيدة أهمية؛ فالأرجوزة لم تعد أبياتًا معدودة تُنشد في الحروب أو في الحداء أو في أثناء أداء عمل من الأعمال؛ بل أصبحت تتناول كل ما تتناوله القصيدة من موضوعات وطالت طولًا مسرفًا. وفي الوقت نفسه ظهرت طلائع الخمرية عند بعض الْمجَّان في الكوفة وعند الوليد بن يزيد. غير أن هذه الضروب من التطور بالشعر وما داخلها من صور تجديد لم تنحرف بصناعته إلى مذهب جديد في صنع نماذجه؛ فقد ظل المذهب القديم "مذهب الصنعة" الذي رأيناه في العصر الجاهلي؛ ولكنه نما نموًّا واسعًا. فقد أقبل صُنَّاع الشعر يبالغون في الاهتمام بحرفتهم ويوفرون لها كل ما يمكن من تجويد وتحبير، وعبّروا عن ذلك تعبيرات مختلفة، يقول ذو الرمة1: وشعرٍ قد أرقتُ له طريفٍ ... أجَنِّبُه الْمُسَانِدَ والمحالا

_ 1 الموشح للمرزباني "طبع المطبعة السلفية" ص13. والمساند: من السناد، وهو اختلاف ما يراعى قبل الروي من الحركات والحروف، وهو من عيوب القافية.

ويقول عديّ بن الرقاع1: وقصيدة قد بتُّ أجمع بينها ... حتى أقَوِّمَ مَيْلَهَا وَسِنَادَهَا نظرَ المثقِّف في كعوب قناته ... حتى يُقِيمَ ثِقَافُه مُنْآدها2 ويقول سويد بن كراع العُكْليّ3: أبيت بأبواب القوافي كأنما ... أصادي بها سِرْبًا من الوحش نُزَّعا4 أكالئُها حتى أعَرَّسَ بعدما ... يكون سُحَيْرًا أو بُعَيْدُ فَأَهْجَعَا5 إذا خفتُ أن تُرْوَى عليَّ رَددتُها ... وراء التراقي خشية أن تطلعا وجشَّمني خوفُ ابن عَفَّان رَدَّها ... فَثَقَّفْتُهَا حولًا جريدًا ومَرْبعا6 وقد كان في نفسي عليها زيادةٌ ... فلم أرَ إلا أن أطيع وأسمعا وهذه الأبيات كلها تنطق بما كان يضعه الشاعر الإسلامي في نماذجه من جهد وتعب ومشقة؛ فهو يجنبها المساند والمحال، وهو يثقفها حولًا كاملًا حتى يقوّم ميلها وانحرافها، وهو يحس إزاء استنباط أفكارها ما يحسه الصائد تلقاء سرب من الوحش، وهو ما يزال يحكم فيها حتى يخرجها، وفي نفسه -كما يقول سويد- عليها زيادة. وليس من شك في أن هذا كله دليل على أن "مذهب الصنعة" أخذ ينمو في العصر الإسلامي؛ ولعل كُثَيِّرًا تلميذ مدرسة زهير خير من يفسر لنا هذا النمو؛ فقد كان يعجب كزهير بالصور البيانية، وكان يطلب فيها أن يقع على الغرائب والطرائف حتى يستولي على أذهان الناس وعقولهم، على نحو ما نرى في هذا البيت7: غُمْر الرداء إذا تبسم ضاحكًا ... غَلِقتْ لضحكته رقابُ المالِ

_ 1 الموشح ص13 والبيان والتبين 3/ 244. 2 المثقف: المقوم، من الثقاف، وهو آلة تسوى بها الرماح. منآدها: معوجها. 3 الشعر والشعراء لابن قتيبة ص17 والبيان والتبيين 2/ 12. 4 أصادي: أخاتل. نزعًا: تطلب مراعيها. 5 أكالئها: أردد نظري فيها. أعرس: من التعريس وهو النزول آخر الليل. 6 جريدًا: تامًّا. المربع: الموضع ينزلون به في الربيع، وهو يقصد الوقت. 7 الصناعتين "طبعة عيسى البابي الحلبي" ص354. غمر الرداء: كثير المعروف وغلق الرهن: استحقه المرتهن، وذلك إذا لم يفك في الوقت المشروط. والمعنى واضح.

فماذا يريد كُثَيِّر بغَمْر الرداء؟ وماذا يريد بغَلْق رقاب المال؟ يريد أن يقول إن صاحبه كريم فعطاؤه يصونه، كما يصونه كما يصون الثوب صاحبه، وهو يصنع لك فرحًا به مبتسمًا؛ فتغلق رقاب المال في أيدي أصحاب الحاجة كما يغلق الرهن في يد المرتهن. وما من شك في أن هذا كله تكلف في التعبير والتصوير يجعلنا نذكر صور الحرب القديمة عند زهير أستاذ المدرسة. وكثيِّر يصور لنا نمو مذهب الصنعة عنده من جانب آخر وهو جانب الموسيقى فقد كان يصعِّب على نفسه؛ إذ نراه يضيِّق الممرات التي يسلكها إلى شعره كما صنع في قصيدته. خليليَّ هذا رسم عَزَّةَ فاعْقِلا ... قَلُوصَيْكما ثم ابكيا حيث حلَّت1 فقد التزم اللام المشددة في القصيدة كلها؛ وبذلك كان من أوائل من وضعوا أسس الطريقة التي طبقها أبو العلاء في لزومياته. وإن الإنسان ليشعر في العصر الإسلامي كأن الشعراء جميعًا يصعبون على أنفسهم، ولعل من أهم الأسباب التي حفزتهم إلى ذلك ما قام بينهم من خصومات فنية استعرت نيرانها، وبخاصة في العراق حيث نشاهد معارك عنيفة بين الشعراء؛ لأن كل منهم يريد أن يشهد له أقرانه بالتفوق والسبق على نحو ما هو معروف في معارك النقائض التي أشرنا إليها، وهي نماذج تحمل غرضين: غرض التفوق الاجتماعي في الفخر والهجاء، وغرض التفوق الفني؛ ولذلك كان الشاعر يتقيد في رده على نموذج خصمه بما اقترحه من وزن وقافية حتى يثبت تفوقه عليه.

_ 1 القلوص من الإبل: الشابة.

الشعر التقليدي والغنائي

8- الشعر التقليدي والغنائي: هذه العناية البالغة بصناعة الشعر الإسلامي لا تقف عند "الشعر التقليدي" الذي فتحه شعراء العصر الجاهلي من أمثال زهير والنابغة والحطيئة، وتعهده شعراء العصر الإسلامي من أمثال جرير والفرزدق والأخطل، ونقصد شعر

المديح، وما نهج نهج نماذجه من الهجاء والرثاء والعتاب؛ بل إنها لتمتد إلى ضروب الشعر الأخرى، ونحن نريد أن نصطلح على تقسيم الشعر العربي إلى قسمين عامين: قسم كان يتخذ تقاليد خاصة في صناعته، وكانت له أهمية واسعة في العصور الوسطى، وهو هذا القسم الذي كان يتخذ حرفة للتكسب به والذي كان يجمع له الشعراء من أسباب الإجادة الفنية ما جعل الشعر العربي يتطور إلى مذاهبه الخاصة، وهو نماذج المديح وما يتصل بها؛ ولعل خير اسم يمكن أن نعطيه له هو اسم "الشعر التقليدي"؛ فقد كان يرتبط بتقاليد رسوم كثيرة. وكان يقابل هذا النوع نوع آخر من الشعر استمر يغنّى من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث؛ ولعل خير اسم يمكن أن نطلقه عليه هو اسم "الشعر الغنائي"، وهنا قد يحدث هذا الاصطلاح اضطرابًا؛ فقد نقل بعض نقادنا المحدثين تقسيم الغربيين شعرهم إلى قصصي وتمثيلي وغنائي ووضع الشعر العربي جملة في حيز القسم الأخير، ونحن لا ننكر هذا الصنيع من حيث هو؛ فالشعر العربي كله نشأ في ظروف غنائية، وهو -في أكثره- يصور شخصية الشاعر وأهواءه وميوله، وهو أيضًا يمثل حياة الفرد تمثيلًا قويًّا؛ ولهذا كله لا بأس من أن نجعله في حيز الشعر الغنائي الغربي. غير أنا نلاحظ أن هذا الشعر العربي الغنائي في نشأته وخصائصه أخذت تستقل منه فنون منذ أواخر العصر الجاهلي وتتطور تطورًا منفصلًا. لم تعد تقوم على أسس غنائية، كما كان الحال في أول نشأتها؛ فلم تعد تظهر فيها شخصية الفرد ظهورًا بينًا، ولم تعد تصور عواطفه وخواطره تصويرًا واضحًا، وهي كذلك لم تعد متصلة بالغناء؛ ولذلك كان يحسن بنا أن نميزها عن الشعر الغنائي العام، وأن نصطلح على تسميتها بالشعر التقليدي بينما نبقي اصطلاح "الشعر الغنائي" دالًّا على تلك المقطوعات القصيرة التي كانت تصاحب الغناء منذ العصر الإسلامي؛ بل العصر الجاهلي إلى العصر الحديث. وكانت هذه المقطوعات تشيع في الحجاز في أثناء العصر الإسلامي، وكانت تتخصص فيها طائفة من الشعراء على رأسها عمر بن أبي ربيعة والأحوص وأمثالهما؛ ممن كانوا يقدمون تلك المقطوعات.

للمغنين والمغنيات أمثال معبد ومالك وابن سُرَيْج وابن مُحرز وجميلة وسَلَّامة. وهي مقطوعات كانت تنظم في موضوع واحد لا تسبقه مقدمات ولا تلحقه خواتيم على نمط ما رأينا في مطولة زهير، وهي كذلك لا تكلف أصحابها كل هذا العناء الذي كان يعانيه زهير في حوله حين كان يصنع إحدى حولياته؛ إنما هي قطع غنائية يغني فيها الشعراء حُبَّهم وآمالهم وخواطرهم وعواطفهم الوجدانية، وقلما تجاوزت هذه القطع عشرة أبيات. وأعدَّ الغناء الذي صحبها لتحول واسع في أوزان الشعر العربي وموسيقاه في أثناء العصرين الإسلامي والعباسي، وسنعرض لذلك في الفصل التالي. على أن هناك وزنًا من الأوزان التي كانت مخصصة للغناء في العصر الجاهلي قد تحول في هذا العصر الإسلامي إلى الفروع الجديدة من الشعر التقليدي ونقصد وزن الرَّجز الذي كان يقترن في العصر الجاهلي بالسَّقْي من الآبار والسير وراء الإبل، كما كان يقترن بالحروب، وكان يتكون من مقطوعات قصيرة؛ فلما جاء العصر الإسلامي تحول عن مجرى الشعر العربي الغنائي العام إلى تلك الفروع التقليدية وأخذ أصحابه يستخدمونه في المديح والأغراض الأخرى للشعر التقليدي؛ فاتسعت أبياته وامتدت على نمط ما نعرف في قصائد جرير والأخطل، وقد حاولوا أن يوفروا له كل ما يمكن من وسائل التجويد الفني، وأهم شعرائه في هذا العصر العجَّاج وابنه رؤبة ثم حفيده عقبة. ونحن نشعر هنا بأنا إزاء بيت كبيت زهير يأخذ فيه الشاعر عن أبيه صناعته، ثم يلقنها ابنه من بعده، وليس من شك في أن هذا البيت قد حقق لنفسه كثيرًا من الخصائص الفنية. ومهما يكن فإن "مذهب الصنعة" استمر في العصر الإسلامي؛ ولكنه أخذ يتطور، وقد اتخذ الصُّنَّاع أمثلتهم في زهير ومدرسته، وخاصة صناع الشعر التقليدي وأضافوا تجديدًا في بعض الفنون كما أضافوا بعض التعقيد إلى حرفتهم على نمط ما رأينا عند كُثَيِّر بحيث نستطيع أن نعمِّم في هذا العصر كما عممنا في العصر الجاهلي فنزعم أن الشعراء جميعًا كانوا يتكلفون في صنع نماذجهم، إذا كانت تسير كثرتهم في الطريق الذي مَهَّدَه زهير وعَبَّده. ونحن نلتقي في هذا العصر

بكثير من تلاميذه فهم لا يقفون عند كثيِّر وأضرابه ممن تذكرهم الكتب القديمة كالأغاني وغيره؛ بل هم أوسع من ذلك دائرة؛ فإن مدرسة زهير لم تكن محدودة بحدود معينة ولم يكن لها جدران ونوافذ خاصة؛ بل كانت واسعة تشغل الجزيرة العربية كلها، وبذلك شرَّقَتْ وغرَّبت في سرعة شديدة، ولم تحددها آفاق وأمكنة معينة، ونهض بها كثير من الشعراء كلٌّ يحقق داخل إطاره الفني الخاص ما يمكنه من جوانب مهارة، ووجوه طرافة. وسنرى صناعة الشعر العربي تتطور تطورًا شديدًا في العصر العباسي وتحقق لنفسها من الرقي ما لم يكن يحلم به الشاعر الجاهلي أو الإسلامي؛ ولكن ذلك لا يجعلنا ننسى الحقيقة القائمة، وهي أن الشعر القديم نسيج محكم لصناعة مجهدة.

الفصل الثاني: الموسيقى والصنعة

الفصل الثاني: الموسيقى والصنعة الشعر العربي نشأ نشأة غنائية ... الفصل الثاني: الموسيقى والصنعة تغنَّ بالشِّعر إما كنت قائله ... إنَّ الغِنَاءَ لِهَذَا الشِّعْر مِضْمَار حسان بن ثابت 1- الشعر العربي نشأ نشأة غنائية: رأينا أن صناعة الشعر توفَّر لها في العصور القديمة من الخصائص والصفات والقيود والمصطلحات ما جعلنا نزعم أن الشعراء كانوا يتكلفون جميعًا في نماذجهم؛ فهم يصدرون في عملهم وحرفتهم عن جهد فني اصطلحنا على تسميته باسم "الصنعة" وقد رأينا آثار هذا الجهد في تصويرهم، وكان يرافقه جهد آخر في موسيقى شعرهم وما يوفرون لها من قيم صوتية كثيرة، وبخاصة في "الشعر الغنائي" فقد كان للغناء الذي صاحبه تأثير واسع في تغيير أوزان الشعر العربي وأوضاعها القديمة. وأكبر الظن أننا لا نأتي بجديد حين نزعم أن شعرنا العربي نشأ نشأة غنائية كغيره من أنواع الشعر الأخرى؛ فمن المعروف أن الموسيقى كانت ترتبط بالشعر منذ نشأته، نرى ذلك عند اليونان القدماء، فهوميروس كان يغني شعره على أداة موسيقية خاصة، ونرى ذلك عند الغربيين المحدثين؛ فقد كانت توجد في العصور الوسطى جماعات تؤلف الشعر وتغنيه وهي المعروفة باسم تروبادور "Troubadours" وكان عندنا في مصر إلى عهد قريب جماعات "الأدباتية" وهي جماعات تؤلف الشعر وتنشده على بعض الآلات الموسيقية، ولا يزال "الشاعر" معروفًا في الريف، وهو يلقي أشعار أبي زيد الهلالي وعنترة وغيرهما، مضيفًا إلى إنشاده الضرب على أداته الموسيقية المعروفة باسم "الرَّبابة".

وهذه الظاهرة نفسها تقترن بالشعر العربي ونشأته الأولى في العصر الجاهلي؛ فإن من يبحث في تاريخه يجده مشبهًا من بعض الوجوه لتاريخ الشعر اليوناني من حيث الغناء وما يتصل به من ضروب الرقص والموسيقى؛ فنحن نعرف أن الشعر القصصي عند اليونان القدماء كان يصحب إنشاده بالضرب على بعض الأدوات الموسيقية البسيطة، وسرعان ما تعقَّد هذا الجانب الموسيقي عندهم مع ظهور الشعر الغنائي؛ إذ وجدت الجوقة مع الشاعر ووجد الرقص وتعقدت الموسيقى ضروبًا من التعقيد. وهذا نفسه نجده ظواهره في الشعر الجاهلي القديم؛ فقد كان الشعراء يغنون أشعارهم، والأدلة على ذلك كثيرة؛ فالمهلهل أقدم شعراء العرب وأول من قصد القصائد، كان يغني شعره، ومما غنى فيه ورواه الرواة قصيدته1: طَفْلَةٌ ما ابنةُ المحلَّل بيضا ... ءُ لعوبٌ لذيذةٌ في العناقِ أما امرؤ القيس فقد ذكر إعجاب بعض النسوة بصوته؛ إذ يقول2: يَرِعْنَ إلى صوتي إذا ما سَمِعْنَه ... كما تَرْعَوِي عِيطٌ إلى صوت أَعْيَسَا ويقول أبو النجم في وصف قينة3: تَغَنَّى فَإنَّ اليوم يومٌ من الصِّبَا ... ببعض الذي غَنَّى امرؤ القيس أو عمرو ولعله يريد عمرو بن قميئة صاحب امرئ القيس. وروى صاحب الأغاني أن السُّلَيْكَ بن السُّلكة غنى بقوله4: يا صاحبيَّ ألا لا حَيَّ بالوادي ... سوى عبيدٍ وآمٍ بين أَذْواد وكان علقمة بن عبدة الفحل يغني ملوك الغساسنة أشعاره5 ويقول مُزرِّد

_ 1 أغاني "دار الكتب" 5/ 51. والطفلة: الرخصة الناعمة. وما زائدة. 2 الديوان ص106. يرعن: يملن. العيط: الإبل، الأعيس: البعير الأبيض في حمرة. 3 الشعر والشعراء ص42. 4 أغاني "ساسي" 18/ 134. وآم: إماء. أذواد: جمع ذود وهو من ثلاثة إبل إلى عشرة. 5.H.G. Farmer, History of Arabic Music, P. I8

ابن ضرار يتوعد خصومه1: فقد علموا في سالف الدهر أنني ... معَنٌّ إذا جَدَّ الْجِرَاءُ وَنَابلُ زعيمٌ لمن قاذفتُه بأوابدٍ ... يُغنِّي بها الساري وتُحْدَى الرَّواحلُ ويقول عنترة كما في بعض الروايات: "هل غادر الشعراء من مترنَّم"؛ فالشعراء ما يزالون يترنمون بأشعارهم، وكأنهم لم يتركوا -في رأي عنترة- موضعًا للترنم والغناء إلا وترنموا به وغنوا فيه. وأيضًا فنحن نعرف هذا الحداء الذي يذكره مزرد، والذي كان غناء شعبيًّا عامًّا يشدو به العرب في أسفارهم. ومهما يكن فإن الشعر ارتبط بالغناء في العصر الجاهلي، ولعلهم من أجل ذلك كانوا يعبرون عن نظمه وإلقائه بالإنشاد؛ بل إنا لنراهم يعبرون عنه بالتغني. وقد بقيت من هذا بقية في نصوص العصر الإسلامي، يقول ذو الرمة2: أحِبُّ المكان القفر من أجل أنني ... به أَتَغَنَّي باسْمها غير مُعْجِمِ وقال عمر بن الخطاب للنابغة الجعدي: "أسْمعنِي بعض ما عفا الله لك عنه من غنائك، يريد من شعرك"3، وفي أخبار جرير أن بعض بني كليب قالوا له: هذا غسان السليطي يتغنى بنا أي يهجونا فقال جرير4: غضبتم علينا أم تَغَنَّيْتُم بنا ... أنِ اخضرَّ من بطن التلاع غَمِيرهُا وليس من شك في أن هذه النصوص تشهد بأن الغناء والشعر كانا مرتبطين عند العرب في العصور القديمة. وهم يقصون عن ثعلب أن العرب كانت تعلِّم أولادها قول الشعر بوضع غير معقول يوضع على بعض أوزان الشعر كأنه على وزن "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل"5؛ فأساس الشعر عندهم كان تعلم الغناء وألحانه، وكما أن الموسِيقِيّ يبدأ ويستمر، كذلك كان الشاعر عندهم يبدأ

_ 1 المفضليات المجلد الأول ص178. ومعن: معترض في الخصومة. الجراء: الجري. نابل: حاذق في أموره. زعيم: كفيل. الأوابد: الغرائب من الكلام، وأراد ما يهجوهم به. 2 العمدة لابن رشيق 2/ 241. 3 العقد الفريد لابن عبد ربه 4/ 91. 4 لسان العرب مادة غنى. والتلاع: المرتفعات من الأرض. الغمير: نبات. 5 إعجاز القرآن للباقلاني ص53.

بألحان وترنيمات ثم يستمر. يقول حسان بن ثابت1: تغنَّ بالشعر إما كنت قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمار ونحن لا نتقدم إلى أواخر العصر الجاهلي حتى نجد شاعرًا مشهورًا يكثر من غناء شعره، وهو الأعشى الشاعر المعروف، وقد سُمِّي بصنَّاجة العرب، وأكبر الظن أنه كان يوقع غناءه على الآلة الموسيقية المعروفة باسم الصنج2. وأكْثَرَ الشاعر الجاهلي من ذكر الغناء والقيان والأدوات الموسيقية المختلفة؛ مما يدل على ارتباط ذلك كله بشعره. يقول علقمة بن عبدة الفحل في ميميته: قد أشهد الشربَ فيهم مِزْهَرٌ رَنَمٌ ... والقوم تَصْرَعُهُم صهباءُ خُرْطُومُ3 ويقول الأعشى في معلقته: ومستجيبٍ تَخال الصَّنْجَ يُسْمِعُهُ ... إذا تُرجِّع فيه القَيْنَةُ الفُضُلُ4 ويقول طرفة في معلقته: ندامايَ بيض كالنجوم وقينَةٌ ... تروح علينا بين بُرْد ومُجْسَد5 رحيبٌ قطابُ الجيب منها، رفيقةٌ ... بِجَسِّ الندامى، بضَّةُ الْمُتَجَرِّدِ6 إذا نحن قلنا اسمعينا انبرتْ لنا ... على رِسلها مطروفة لم تشدَّدِ7 إذا رجَّعَتْ في صوتها خلتَ صوتها ... تجاوبَ أظآرٍ على ربع رَدِي8 ونجد في ديوان الحماسة شاعرًا جاهليًّا يسمى سُلْمِيُّ بن ربيعة يذكر أن

_ 1 العمدة لابن رشيق 2/ 241. 2 أغاني "دار الكتب" 9/ 109، وانظر ترجمته في الشعر والشعراء وكذلك: NICHOLSON, A LITERARY HISTORY OF.THE ARABS, P. I33. 3 الشرب: الجماعة يشربون الخمر. المزهر: يشبه العود، ريم: حسن الصوت. الصهباء: الخمر. الخرطوم: أول ما يخرج ويصب من دن الخمر. 4 مستجيب: عود يستجيب إلى الصنج، وهو دوائر رقاق من نحاس يصفق بإحداهما على الأخرى. ترجع: تردد النغم. الفضل: التي تلبس ثوبًا واحدًا رقيقًا. 5 المجسد: ثوب مصبوغ بالزعفران. 6 قطاب الجيب: مخرج الرأس من الثوب. بضة: ناعمة. المتجرد: العاري من جسدها. 7 مطروفة: كأن عينها طرفت. تشدد: ترفع صوتها. 8 أظآر: نوق لها أولاد. الربع: ولد الناقة. ردي: هالك.

الحياة ليست إلا الشرب والعزف وما يتبعهما من نساء بيض يتبخترن في الثياب الأنيقة المزركشة، يقول: إن شِواءً ونشوةً ... وَخَبَبَ البازل الأمُون1 يجشمها المرء في الهوى ... مسافة الغائط البطين2 والبيض يرفلن كالدُّمى ... ففي الرَّيْطِ والْمُذْهَبِ المصُون3 والكُشْرُ والخفض آمنًا ... وشِرَع الْمِزْهَرُ الحنون4 من لذة العيش، والفتى ... للدهر، وللدهر ذو فنون5

_ 1 النشوة: السكر. الخبب: ضرب من السير. البازل: الناقة كاملة القوة. الأمون: الموثقة الخلق. 2 يجشمها المرء: يكلفها قطع المسافة الطويلة. في الهوى: فيما يهواه. الغائط: المطمئن من الأرض. البطين: الواسع. 3 البيض: النساء. يرفلن: يتبخترن. الريط: الملاءة الواسعة. المذهب المصون: الثياب الفاخرة المطرزة بالذهب. 4 الكثر: كثرة المال. الخفض: سعة العيش. شرع المزهر: أوتاره واحدها شرعة. 5 انظر التبريزي على الحماسة "طبع بولاق" 3/ 83.

تعقد الغناء الجاهلي

2- تعقد الغناء الجاهلي: كان الشعر الجاهلي يرتبط بالغناء، وكان الشاعر يغني أشعاره، ويظهر أن الغناء القديم لم يقف عند هذه الظاهرة البسيطة؛ فقد أخذ يتعقد وأخذت تظهر فيه الجوقات، ولعل ما يثبت ذلك من بعض الوجوه ما يرويه الطبري والأغاني من أن هندًا بنت عُتْبة وجماعة من نساء قريش كنَّ يضربن على الدفوف في غزوة أحد، وكانت هند تغني في أثناء هذا العزف بمقطوعات، منها قولها1: أن تُقبلوا نُعانقْ ... وَنفْرِش النَّمارقْ أو تُدْبِرُوا نفارقْ ... فراقَ غيرِ وامقْ

_ 1 أغاني "ساسي" 14/ 16 وانظر الطبرى "طبع أوربا" الجزء الثالث من المجلد الأول ص 1400.

الجوقات: وليس من شك في أننا نرى هنا مظهرًا للجوقة من بعض الوجوه؛ فشاعرة تُغني شعرها وجوقة تضرب على غنائها بالدفوف. وكما كان يحدث ذلك في حربهم كان يحدث في سلمهم؛ في أعيادهم وأعراسهم وحفلاتهم المختلفة. رَوَى الطبري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رجع إلى مكة ذات يوم؛ فسمع عزفًا بالدفوف والمزامير، فسأل عنه فعرف أنه عرس1، وذكر ابن رشيق أن القبيلة من العرب كانت ذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنَّأتها وصُنعت الأطعمة واجتمعت النساءُ يلعبن بالمزاهر2. القيان: ودخل هذه الجوقات العربية عنصرٌ أجنبي في أواخر العصر الجاهلي، حين اتصل العرب بغيرهم من الأمم الأجنبية، نقصد القيان اللائي شاع ذكرهن في الشعر القديم، ونحن نجدهن في كل مكان، نجدهن في الحيرة، وقد اشتهرت هناك بنت عَفْزر3، وكذلك خليدة وهريرة وهما قينتان لبشر بن عمرو بن مرثد، -وكانتا تغنيان النصب- قدم بهما إلى اليمامة لما طلبه النعمان4، ولعلهما هما اللتان يعنيهما بشر بقوله5: وتبيت داجنةٌ تجاوب مثلها ... خَوْدًا منعمَّة، وتضربُ مُعْتبا وهريرة هي صاحبة الأعشى التي ذكرها في مطولته6. وعرفت هذه القيان في بلاط الغساسنة7، كما عرفن في المدينة ومكة، أما المدينة فيذكر صاحب الأغاني من أهلها أمروا إحدى القيان أن تغني النابغة بشعر له فيه إقواء8، وأما مكة فقد كان بها قينتان لعبد الله بن جدعان جلبهما من بلاد

_ 1 الطبري الجزء الثالث من المجلد الأول، ص1116. 2 العمدة 1/ 37. 3 أغاني "طبع دار الكتب" 11/ 96. 4 أغاني "طبع دار الكتب" 9/ 113. 5 المفضليات المجلد الأول، ص554. 6 أغاني "دار الكتب" 9/ 113. 7 أغاني "ساسي" 16/ 14. 8 أغاني "طبع دار الكتب" 11/ 10.

الفرس، وكانتا تغنيان الناس1، وفي الأغاني: أنه لما نصح أبو سفيان لقريش أن يرجعوا في غزوة بدر قال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرى بدرًا فنقيم عليه ثلاثًا وننحر الجزر ونطعم الطعام ونُسقى الخمور وتَعزِفُ علينا القيان وتسمع بنا العرب2. وفي السيرة النبوية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر يوم فتح مكة بقتل شخص يسمى ابن خَطل كان مسلمًا ثم ارتدَّ وفر إلى مكة وكانت له قينتان تغنيانه بهجاء النبي، تسمَّى إحداهما فَرْتنى، وقد أمر النبي بقتلهما، ففرت إحداهما وقتلت الأخرى3. وفي أخبار امرئ القيس أنه لما طرده أبوه: "كان يسير مع جماعة من شذاذ العرب؛ فإذا صادف غديرًا أو روضة أو موضع صيد قام فذبح لمن معه في كل يوم وخرج إلى الصيد فتصيد، ثم عاد فأكل وأكلوا معه، وشرب الخمر، وسقاهم، وغنته قيانه"4. الرقص ليس من شك في أن هذه الموجة الواسعة من الجوقات والقينات هي التي مهدت لأن يتعقد الغناء على هذه الصورة التي يصفها إسحاق الموصلي إذا يقول: "وغناء العرب قديمًا على ثلاثة أوجه النصب والسناد والهزج؛ فأما النصب فغناء الركبان والفتيان وهو الذي يستعمل في المراثي، وكله يخرج من أصل الطويل في العروض؛ وأما السناد فالثقيل ذو الترجيع الكثير النغمات والنبرات؛ وأما الهزج فالخفيف الذي يرقص عليه ويُمْشَى بالدف والمزمار فَيُطرب ويستخف الحليم ... هذا كان غناء العرب قديمًا حتى جاء الله بالإسلام وفتحت العراق وجلب الغناء الرقيق من فارس والروم وتغنوا الغناء المجزأ المؤلف بالفارسية والرومية وغنوا جميعًا بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير"5، ونرى من هذا النص أن الغناء تعقد عند العرب في العصر الجاهلي؛ لا برقية إلى هذه الفنون التي ذكرها إسحاق فقط، بل أيضًا لما كان يقترن به من هذا الرقص الذي كان يَصْحَبُ

_ 1 أغاني دار الكتب 8/ 327. 2 أغاني دار الكتب 4/ 183. 3 السيرة النبوية لابن هشام "طبعة الحلبي" 4/ 52. 4 أغاني دار الكتب 9/ 87. 5 العمدة لابن رشيق 2/ 241.

الهزج ويُمْشَى عليه بالدف والمزمار، ألسنا نرى هنا الجوقة تامة؟ قد يظن أن الرقص يحتاج إلى حضارة ومدنية؛ ولكن تاريخه لا يشهد بذلك، فالرقص غريزة في الناس جميعًا، وقد وُجد عند جميع الشعوب، فهو لا يحتاج في نشأته إلى حضارة ومدنية، إنما هو حركات جسمية تحدث بصياح وضجيج وتصفيق بالأيدي وضرب بالأرجل. ومن يرجع إلى مدلول الكلمات التي عبر العرب بها عن الغناء يجد بعضها يدل على ضروب من الحركات الجسمية كما يدل على ضروب من الشعر؛ فالهزج الذي يذكره إسحق الموصلي يطلق على نوع من الغناء كما يطلق على نوع من الحركة الجسمية السريعة1. ومثله الرَّمَل وكانوا يطلقونه على من يهز منكبيه ويسرع في حركته، كما كانوا يطلقونه على الشعر الذي يوصف باضطراب البناء والنقصان2. وفي ذلك ما يدل على اقتران الغناء بالرقص من جهة، وما يدل على اقتران الرقص بالشعر من جهة أخرى.

_ 1 لسان العرب: مادة هزج. 2 لسان العرب: مادة رمل.

مظاهر الغناء والموسيقى في الشعر الجاهلي

3- مظاهر الغناء والموسيقى في الشعر الجاهلي: وُجِدَ الشعر العربي القديم في ظروف مقاربة للظروف التي وجد فيها الشعر الغنائي عند اليونان، فقد كان الشاعر يُغَنِّي شعره، وقد يوقِّع هذا الغناء على بعض الآلات الموسيقية، كما قد يُصْحَبُ غناؤه بجوقة ترقص وتعزف في أثنائه. ونحن لا نزعم أن صورة الشعر الغنائي اليوناني المعقدة قد استوت جميعها للشعر العربي إنما نزعم أنه وجد في صورة مقاربة لها، كما تشهد تلك النصوص الكثيرة السابقة؛ فهو شعر غنائي وجد في ظروف مقاربة لها، كما تشهد تلك النصوص الكثيرة السابقة، فهو شعر غنائي وجد في ظروف غنائية، ولكن ينبغي ألا ننسى ما قررناه في الفصل السابق من أن هذا الشعر الغنائي استقلت عنه فروع منذ أواخر العصر الجاهلي سميناها بالشعر التقليدي. على كل حال نَبَعَ الشعر العربي من منابع غنائية موسيقية، وقد بقيت فيه

مظاهر الغناء والموسيقى واضحة، لعل القافية أهم تلك المظاهر؛ فإنها واضحة الصلة بضربات المغنين وإيقاعات الراقصين. إنها بقية العزف القديم وإنها لتعيد للأذن تصفيق الأيدي وقرع الطبول ونقر الدفوف كما تعيد ذلك شاراتٌ أخرى للغناء نجدها في الشعر القديم منها هذا التصريع الذي نجده في مطالع القصائد، كقول امرئ القيس في مفتتح مطولته: قفا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ ... بِسِقْطِ اللِّوَى بين الدَّخول فَحَوْمَلِ1 وعاد إلى التصريع مرة أخرى فقال: أفاطمُ مهلًا بعض هذا التدللِ ... وإن كنتِ قد أزمعت صَرْمي فأجْمِلِي2 ثم صرع ثالثة فقال: ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انجلِ ... بصُبْح وما الإصباحُ منكَ بأَمْثَلِ وكأني بهذا التصريع كان يأتي به الشاعر حين ينتهي من غناء قطعة من قصيدته أو إنشادها، وينتقل إلى أخرى، وربما كان ذلك أحد الأسباب التي جعلتهم يفزعون إليه حين ينتقلون من موضوع إلى موضوع في النموذج الفني. واقرأ هذه القطعة من معلقة لبيد: عَفَتِ الدِّيارُ محلُّها فمُقامُها ... بمنىً تأبدَ غَولُهَا فَرِجَامُهَا3 فمدافعُ الرَّيَّان عُرِّيَ رسْمُهَا ... خَلقًا كما ضمن الوُحِيَّ سِلامها4 وجَلا السيُولُ عن الطلول كأنها ... زُبُرٌ تُجِدُّ مُتُونَها أقلامُها5 دِمَنٌ تجرَّمَ بعد عهد أنيسها ... حِجَجٌ خَلَوْنَ حلالها وحرامُها6

_ 1 السقط: متقطع الرمل. اللوى: حيث يلتوى يدق. الدخول وحومل: موضعان. 2 الصرم: القطيعة. 3 عفت: امحت ودرست، المحل: حيث يحل القوم من الديار، المقام: المجلس حيث يجتمع أبناء الحي. ومنى والغول والرجام: مواضع بحمى ضرية، وتأبد: توحش وأقفر. 4 مدافع الريان: المدافع: مجاري المياه، الريان: وادي بالحمى المذكور. الرسم: آثار الديار، خلقًا: بلى وعفاء. الوحي: الكتابة، والسلام: حجارة بيض رقيقة. 5 وجلا السيول عن الطلول: يريد أنها كشفت التراب عن الأطلال، والزبر: الكتب، تجد: تجدد. 6 الدمن: آثار الديار، تجرم: مضى، حجج: سنون، خلون: مضين، وحلالها وحرامها، يريد أشهرها الحرم وغير الحرم.

رُزِقَت مَرابيعَ النُجومِ وَصابَها ... وَدقُ الرَواعِدِ جَودُها فَرِهامُها1 مِن كُلِّ سارِيَةٍ وَغادٍ مُدجِنٍ ... وَعَشيَّةٍ مُتَجاوِبٍ إِرزامُها2 فَعَلا فُروعُ الأَيهُقانِ وَأَطفَلَت ... بِالجَهلَتَينِ ظِبائُها وَنَعامُها3 ونلاحظ أنه شاكل في أحوال كثيرة بين الكلمتين الأخيرتين في البيت كأنه يجعل له قافيتين "قافية داخلية" و "قافية خارجية". ولم يدفعه إلى ذلك إلا أنه يريد أن يرتفع بالصوت في مقطعين متقاربين، وهو لذلك يخرجه هذا الإخراج المنظم المقطع تقطيعًا صوتيًّا دقيقًا. وكثر هذا "التقطيع الصوتي" في الشعر القديم؛ فمن ذلك قول امرئ القيس يصف فرسه في معلقته: مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعًا ... كَجُلمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَيلُ مِن عَلِ ويقول طرفة في مطولته: بَطيء عَنِ الجُلَّى سَريعٍ إِلى الخَنا ... ذَليل بِإجماعِ الرِجالِ مُلَهَّدِ4 وروى قدامة في "نقد الشعر" كثيرًا من مثل هذه الأبيات التي تنثر في الشعر القديم نثرًا5، والتي لا شك في أن الغناء هو الذي دفع إلى صنعها حتى يوفروا للشعر قيمًا صوتية تساعد على تلحينه والترنم به. على أن موسيقى الشعر الجاهلي تأثرت بالغناء من طريق آخر هو طريق الرُّقُم الموسيقية "MUSICAL NOTES" ما حدث فيها من تعديل وتجزئة. وهو جانب يمكن أن يعتبر مقدمة لما سنراه يحدث في أثناء العصر الإسلامي في أوزان الشعر ورُقُمه الموسيقية من انحرافات، وقد يكون من الغريب أن نرى أبا العلاء يذهب إلى أن جمهور أشعار الجاهلية يأتي من الطويل والبسيط، وما يليهما من الوافر والكامل ثم يقول: "أما الأوزان القصار فإنما عرفت في العصر الإسلامي

_ 1 مرابيع النجوم: أوائل الأمطار، وصابها: مطرها وجادها، الودق: المطر. والجود: الغزير، والرهام: القليل والنزر. 2 السارية: السحابة تسير بالليل، والغادي: السحاب يسير بالغداة. ومدجن: مظلم، الإرزام: صوت الرعد. 3 الأيهقان: نبت، أطفلت: أصبحت ذات أطفال. الجلهتين: موضع. 4 الجلي: الأمر العظيم. الخنا: الفحش. ملهد: مدفوع. 5 نقد الشعر: لقدامة، طبع مصر ص24.

في أشعار المكيين والمدنيين من أمثال عمر بن أبي ربيعة، وكذلك عدي بن زيد في القدماء؛ لأنه كان من سكان المدر بالحيرة"1. وقد ذهب أبو العلاء إلى التعميم أكثر مما ينبغي؛ فإن الأوزان القصار عرفت في العصر الجاهلي لا عند سكان المدر فقط بل عند سكان الوبر أيضًا، وبخاصة في أبواب الرثاء والغزل والحماسة والحداء، أما الرثاء فقد شاع عند العرب القدماء نوع يشبه "التعديد" الذي نعرفه في مصر؛ إذ روى صاحب الأغاني أحاديث كثيرة عن الخنساء ونُواحها على أخويها وأنها كانت تخرج إلى عكاظ تندبهما، وذكر أن هندًا بنت عتبة كانت تحتذي على مثالها وتنوح أباها2 واقترن هذا النواح أو هذا "التعديد" بضرب من الشعر القصير، لعل خير ما يمثله قطعة أم السُّلَيك: وهي من مشطور المديد؛ إذ تقول3: طاف يبغي نجوةً ... من هلاك فهلكْ ليت شعري ضَلَّةً ... أيّ شيء قَتَلَكْ أمريضٌ لم تعد ... أم عدوّ خَتَلَكْ وتستمر القطعة على هذا النمط القصير. وأما الغزل فلعله أقرب موضوعات الشعر الجاهلي إلى الغناء والرقص عليه، وخير ما يمثله قطعة المنخَّل اليشكري، وهي من مرفَّل الكامل إذ يقول4: ولقد دخلت على الفتا ... ة الخدر في اليوم المطير الكاعب الحسناء تَرْ ... فل في الدِّمَقْسِ وفي الحرير وتمضي المقطوعة على هذه الشاكلة. وأما الحماسة؛ فقد عرفنا أنهم كانوا يغنون أشعارهم في الحرب ويوم الخصام، واقترن هذا الغناء بضرب من الأشعار القصيرة كقطعة الفِنْد الزِّمَّاني في حرب البسوس إن صح أنها له، وهي من الهزج، إذ يقول5: صفحنا عن بني ذُهْلٍ ... وقلنا القوم إخوانُ

_ 1 الفصول والغايات ص212. 2 أغاني "دار الكتب" 4/ 210. 3 التبريزي على الحماسة 2/ 191. 4 التبريزي 2/ 45. 5 التبريزي 1/ 11.

عسى الأيامُ أن يرجعْـ ... ـنَ قومًا كالذي كانوا وتستمر المقطوعة على هذا الطراز القصير. وأما الحداء فيظهر أنه كان غناء شعبيًّا عامًّا للعرب في العصر الجاهلي يغنون به إبلهم في مسيرهم ورحيلهم، واقترن به وزن خاص معروف هو وزن الرجز، ونحن نلاحظ أن هذا الوزن لم يكن خاصًّا بالحداء؛ بل كان يستخدم أيضًا في السَّقْي من الآبار، كما كان يستخدم في الحماسة والحروب، وجعله ذلك الاستخدام الواسع ينفصل من بقية الأوزان القديمة بضروب كثيرة من التجزئة والتعديل في صورة "رقيمه الموسيقى" لعل أهمها المشطور والمنهوك، أما المشطور فهو الذي بني على شطر واحد، وأما المنهوك فهو الذي ذهب منه أربعة أجزاء، ومن أمثلته قول دريد بن الصمة يوم هوازن1: يا ليتني فيها جذعْ ... أَخُبُّ فيها وأَضَعْ ولعل هذا الجانب من التعديل في الرجز وما أصابه من كثرة "التحريف" حتى خرج كثير من أمثلته عن أن يُضْبَطَ ويعيَّن بوزن خاص هو الذي دفع الخليل إلى أن يرفضه فلا يعده من الشعر2. وليس من شك في أنه شعر، وغاية ما في الأمر أنه كان يقترن بضروب كثيرة من الغناء في الحماسة والحروب والسقي من الآبار، كما كان يقترن بالْحُداء، فكثر الحذف فيه وكثرت التجزئة والاضطراب. ومهما يكن فإن الشعر الجاهلي نشأ في ظروف غنائية، وتركت هذه الظروف آثارًا مختلفة فيه، بعضها نراه في قوافيه وتقطيعاته وبعضها نراه في تلك الأوزان القصار التي أثرتْ عن العصر الجاهلي، والتي ليس من شك في أنها ظهرت تحت تأثير الغناء.

_ 1 أغاني "دار الكتب" 10/ 31. والجذع: الشاب من الإبل. والخبب والوضع: ضربان من السير. 2 انظر باب الرجز في العمدة لابن رشيق.

موجة الغناء بالحجاز في أثناء العصر الإسلامي

4- موجة الغناء بالحجاز في أثناء العصر الإسلامي: إذا تركنا العصر الجاهلي إلى العصر الإسلامي وجدنا موجة واسعة من الغناء والرقص كان لها تأثير شديد في نمو الشعر الغنائي الخالص ونمو مقطوعاته. وهي حال تعتبر في الواقع امتدادًا لما كان عليه القوم في العصر القديم؛ فلما جاء الإسلام نمتْ هذه الحال وبخاصة في الحجاز إذا عرف في هذا العصر بكثرة الغناء والمغنين، وكان أكثرهم من الموالي: من الفرس والروم وغيرهما، واشتهر منهم طويس وسائب خاثر ثم تبعهما ابن سريج وابن مسجح وابن محرز بمكة، ومعبد ومالك بالمدينة، أما المغنيات فقد امتلأت بهن المدينة؛ إذ نجد جميلة وسلامة القسسِّ وعزة الْمَيلاء وحَبابة وبلبلة ولذة العيش وسعيدة والزرقاء وعُقَيْلَة وخُلَيْدة والشماسيَّة وغيرهن كثير1. وكان المغنون من الأجانب يؤثرون في الغناء العربي بما يدخلونه من النغم الأجنبي الفارسي أو الرومي، كما حكى ذلك أبو الفرج عن ابن مسجح؛ إذ يقول عنه إنه "نقل غناء الفرس إلى غناء العرب ثم رحل إلى الشام وأخذ ألحان الروم والبَرْبَطِيَّة والأسطوخوسيَّة وانقلب إلى فارس فأخذ بها غناء كثيرًا وتعلم الضرب، ثم قدم إلى الحجاز وقد أخذ محاسن تلك النغم وألقى منها ما استقبحه من النبرات والنغم التي هي موجودة في نغم غناء الفرس والروم خارجة عن غناء العرب، وغنى ابن مسجح على هذ االمذهب"2. وحكى أبو الفرج هذا الصنيع أيضًا عن ابن محرز فقد شخص إلى فارس فتعلم ألحان الفرس وأخذ غناءهم، ثم صار إلى الشام فتعلم ألحان الروم وأخذ غناءهم وأسقط من ذلك ما لا يستحسن من نغم الفريقين وأخذ محاسنها فمزج بعضها ببضع وألف منها الأغاني التي صنعها في أشعار العرب3. وأدخل هؤلاء المغنون من الموالي في الغناء العربي آلات.

_ 1 أغاني "دار الكتب" 8/ 209. 2 أغاني "دار الكتب" 3/ 276. 3 أغاني "دار الكتب" 1/ 378.

جديدة للطرب لعل أهمها العود وقد يسمى البَرْبَط. ويروي أبو الفرج أن أعرابيًّا رآه في إحدى رحلاته إلى الشام؛ فعجب منه عجبًا شديدًا إذ قال: "رأيت ضاربًا خرج فجاء بخشبة عيناها في صدرها، فيها خيوط أربعة؛ فاستخرج من خلالها عودًا فوضعه خلف أذنه ثم عرك آذاناها وحركها بخشبة في يده، فنطقت وربِّ الكعبة، وإذا هي أحسن قينة رأيتها قط، وغنَّى حتى استخفني من مجلسي فوثبت فجلست بين يديه وقلت بأبي أنت وأمي ما هذه الدابة فلست أعرفها للأعراب وما أراها خلقت إلا قريبًا؟ فقال: هذا البربط، فقلت: بأبي أنت وأمي فما هذا الخيط الأسفل؟ قال: الزِّير، قلت: فالذي يليه، قال: المثنى، قلت: فالثالث؟ قال: المثلث، قلت: فالأعلى؟ قال: البَمَّ، قلت: آمنت بالله أولًا وبك ثانيًا وبالبرط ثالثًا وبالبَمّ رابعًا"1. ودخلت آلات موسيقية أخرى منها الطنبور وهو فارسي، وكذلك الناي، ومنها القانون وهو يوناني، إلى غير ذلك من آلات نقلها المغنون عن الفرس واليونان، وقد عرض لها المسعودي في كتابه مروج الذهب بالتفصيل2. وعُرف الغناء في العصر الإسلامي على ضروبه المختلفة؛ فعُرف الغناء العادي كما عرف الغناء المصحوب بجوقة تضرب على الآلات الموسيقية بينما يغني المغنون، روى أبو الفرج: "أن الناس اجتمعوا عند جميلة فضربت ستارًا وأجلست الجواري كلهن فضربْنَ وضربت، فضربن على خمسين وترًا فتزلزلت الدار، ثم غنت على عودها وهن يضربن على ضربها"3، وروى أبو الفرج أيضًا: أنها جعلت على رءوس جواريها شعورًا مُسدلة كالعناقيد إلى أعجازهن، وألبستهن أنواع الثياب المصبغة، ووضعت فوق الشعور التيجان وزينتهن بأنواع الحلي، ووجهت إلى عبد الله بن جعفر تستزيره؛ فلما جاء قامت على رأسه وقامت الجواري صفين ... ثم دعت لكل جارية بعود، وأمرتهن بالجلوس على كراسي

_ 1 أغاني "دار الكتب" 13/ 181. وواضح أن المثنى والمثلث والبم من أوتار العود. 2 مروج الذهب "طبعة أوروبا" 8/ 90. 3 أغاني "دار الكتب" 8/ 318.

صغار قد أُعدَّت لهن فضربن وغنت عليهن.... وغنى جواريها على غنائها"1 وليس ذلك كل ما أثر عن جميلة في هذا العصر؛ فنحن نرى عندها الغناء المصحوب بالرقص. روى أبو الفرج أنها: "جلست يومًا ولبست برنسًا طويلًا وألبست من كان عندها برانس دون ذلك ... ثم قامت ورقصت وضربت بالعود، وعلى رأسها البرنس الطويل وعلى عاتقها بردة يمانية، وعلى القوم أمثالها، وقام ابن سُرَيْج يرقص ومعبد والغَريض وابن عائشة ومالك، وفي يد كل منهم عود يضرب به على ضرب جميلة ورقصها؛ فغنت وغنى القوم على غنائها، ثم دعت بثياب مصبَّغة، ودعت للقوم بمثل ذلك فلبسوا، ثم ضربت بالعود، وتمشَّت وتمشى القوم خلفها، وغنت وغنوا بغنائها بصوت واحد"2.

_ 1 أغاني "دار الكتب" 8/ 227. 2 أغاني "دار الكتب" 8/ 226.

تأثير الغناء الإسلامي في موسيقى الشعر الغنائي

5- تأثير الغناء الإسلامي في موسيقى الشعر الغنائي: هذه الموجة العنيفة من الغناء والرقص في الحجاز في أثناء العصر الإسلامي هي التي أعدت لما نراه من تطور يحدث في موسيقى الشعر الغنائي؛ فقد قلَّ النظم على الأوزان الطويلة التي عُرفت في العصر الجاهلي من مثل البسيط والطويل والكامل، وحلَّت محلها أوزان أخرى كثر النظم فيها من مثل الوافر والمديد والسريع والخفيف والرمل والمتقارب والهزج، وقد يأتي الشعر على الأوزان الطويلة؛ ولكن بعد أن تحوَّر وتجزَّأ كهذا الغناء المجزأ الذي كان يصحبها والذي أشار إليه إسحاق في نصه السابق. ونحن نحس إزاء هذا التطور أن المغنين كانوا يلقون كثيرًا من العناء في إحكام أصواتهم ونغماتهم حتى يشاكلوا بينها وبين الأشعار التي يغنونها، وحتى لا يخرجوا بهذه الأشعار التي يلحنونها عن إيقاعاتها الموسيقية الخاصة، وأقبل الشعراء يحاولون التخفيف عنهم باقتراح أوزان لم تكن شائعة في الشعر القديم، أو كانت شائعة ولكنهم رأوا أن يعدلوا فيها حتى تتلائم وهذا الغناء الذي كانت

تدخل فيه نغمات أجنبية كثيرة، كما ذكر أبو الفرج "على نحو ما مر بنا" عن ابن مسجح وابن محرز. ولعل أهم شاعر قام بجهد وافر في هذا الجانب هو عمر بن أبي ربيعة؛ فقد عرف كيف يُلين الأوزان لهذا الغناء الجديد، ولعله من أجل ذلك كان أقرب شعراء الحجاز إلى ذوق المغنين؛ فقد كانوا يعجبون به وبأشعاره، وروى أبو الفرج كثيرًا من أصواتهم في مقطوعاته، فمن ذلك صوت ابن سُرَيْج وهو من مجزوء الخفيف1. قل لهندٍ وَتِرْبِهَا ... قبل شَحْطِ النَّوَى غَدَا إن تجودي فطالما ... بِتُّ ليلي مُسَهَّدَا ومن ذلك أيضًا صوته وهو من مجزوء الوافر2: أليستْ بالتي قالت ... لمولاة لها ظُهُرا أشيري بالسَّلام له ... إذا هو نحونا خَطَرَا ومن ذلك أيضًا صوت ابن محرز وهو من مجزوء الرَّمَل3: أصبح القلب مهيضًا ... راجع الحبَّ الغَرِيضا وأجدَّ الشوقَ وَهْنًا ... أن رأى برقًا وميضا وعلى هذه الشاكلة أخذ الشعراء الحجازيون من أمثال ابن أبي ربيعة ينظمون على هذه الأوزان القصيرة التي تتفق وألحان الغناء الجديد. ولعل من الطريف أن نجد في هذا العصر شاعرًا كأعشى همدان يلزم النَّصْبِيَّ المغني يؤلف له قطعًا من الشعر ليغنيها4. وكان المغنون كثيرًا ما يضطرون الشعراء إلى أن يؤلفوا لهم قطعًا من الأوزان القصيرة، كما صنع ابن عائشة بعروة أبن أذينة؛ إذ طلب إليه أن يصنع له قطعة من الهزج فصنع5:

_ 1 أغاني "دار الكتب" 1/ 59. 2 أغاني "دار الكتب" 1/ 92. 3 أغاني "دار الكتب" 1/ 178. مهيضًا: كسيرًا 4 أغاني "دار الكتب" 6/ 65. 5 أغاني "دار الكتب" 2/ 237.

سُلَيْمَى أزمعت بينًا ... فأين تقولها أينا1 وقد قالت لأترابٍ ... لها زُهرٍ تلاقينا تعاليْنَ فقد طاب ... لنا العيش تعالينا وكان بعض الشعراء يتعلمون صناعة الغناء حتى يستطيعوا أن يؤلفوا أشعارًا تتفق وألحان المغنين وأصواتهم، وممن عُرف بذلك ابن أذينة فقد كان يصوغ الألحان والغناء على شعره، وحكى له صاحب العقد الفريد صوتين مما يغنِّي فيه الحجازيون2. ولعل ذلك هو السبب في أن موسيقى شعره تمتاز بأنها مصفاة تصفية شديدة كما نرى في قطعته المشهورة3: إن التي زعمت فؤادك ملَّهَا ... خُلقتْ هواك كما خُلقْتَ هَوَىً لَهَا وكما أن الشعراء وجدوا الحاجة ماسة إلى تعلم الغناء، كذلك وجد المغنون نفس الحاجة إزاء تعلم الشعر فاصطنعته جماعة؛ منهم أبو سعيد مولى فائد وكان مغنيًا4 وشاعرًا، وكذلك سَلَّامَة القَسِّ، وكانت مغنية وشاعرة، ومن شعرها الذي غنت فيه قولها ترثي يزيد بن عبد الملك مولاها وتندبه وهو من مجزوء الرَّمَل5: قد لعمري بتُّ ليلي ... كأخي الداء الوجيع ونَجِيُّ الهم مني ... باتَ أَدْنَى من ضجيعي

_ 1 تقولها هنا: تظنها. 2 العقد الفريد "طبع المطابع الأزهرية" 4/ 96. 3 أغاني "ساسي" 21/ 109. 4 أغاني "دار الكتب" 4/ 330. 5 أغاني "دار الكتب" 8/ 333.

انتقال الغناء من الحجاز إلى الشام

6- انتقال الغناء من الحجاز إلى الشام: ووجود سلامة في بلاط يزيد يجعلنا نفكر في هذه الحال الجديدة، وهي انتقال الغناء من الحجاز إلى الشام في أواخر العصر الإسلامي؛ فنحن نجد في بلاط يزيد غير سلامة، حباية وابن سريج ومعبدًا ومالكًا وابن عائشة والبَيْذَق

والأنصاري وابن أبي لهب، كما يوجد في بلاط ابنة الوليد معبد وعَطَرَّد ومالك وابن عائشة ودحمان الأشقر وعمر الوادي وحكم الوادي ويونس الكاتب والهذلي والأبجر وأشعب بن جابر وأبو كامل الغزيل ويحيى قَيْل1، ونجد بجانب هؤلاء كثيرًا من المغنيات. وكان لهذا أثره في الشعر الشامي؛ فقد شاع الغناء والرقص والطرب وبخاصة في قصور الخلفاء، وأثَّر ذلك في الشعر وخاصة في عصر يزيد بن عبد الملك الذي قال عنه أبو حمزة الخارجي في خطبته إنه: "يشرب الخمر ويلبس الحلة قوِّمت بألف دينار ... حبابة عن يمينه وسلَّامة عن يساره تغنيانه؛ حتى إذا أخذ الشراب منه كل مأخذ قدَّ ثوبه ثم التفت إلى إحداهما فقال ألا أطير"2. وروى صاحب الأغاني أن معبدًا غناه صوتًا فاستخفه الطرب حتى وثب، وقال لجواريه: افعلن كما أفعل، وجعل يدور في الدار ويَدُرْنَ معه وهو يقول من الرَّجز: يا دار دوريني ... ياقَرْقَرُ امسكيني آليت منذُ حين ... حقًّا لتصرميني ولا تواصليني ... بالله فارحميني لم تذكري يميني! 3 وليس من شك في أن هذا "شعر إيقاعي" قيل في أثناء هذا الدوران والرقص. وصنيع الوليد بن يزيد في هذا الباب أوسع من صنيع أبيه، يقول عنه صاحب الأغاني: "وله أصوات صنعها مشهورة وقد كان يضرب بالعود ويوقع بالطبل ويمشى بالدفّ على مذهب أهل الحجاز"4. وهو إلى ذلك كان شاعرًا يحسن الشعر، وأكثر من نظمه على الأوزان القصيرة التي أشاعها الغناء.

_ 1 H.G. Farmer, History of Arabic Music,pp. 63, 64. 2 البيان والتبيين 2/ 123. 3 أغاني "دار الكتب" 1/ 68. 4 أغاني "دار الكتب" 9/ 274.

في هذه العصور؛ بل لقد كان أول من اقترح -فيما نعلم- وزن المجتث إذا غَنَّى في قوله1: إني سمعت بليلٍ ... وَرَا المصلَّى برنَّه إذا بنات هشامٍ ... يندبنَ وَالِدَهُنَّه يندبن قَرْمًا جليلًا ... قد كان يعضُدهنَّه ونرى من ذلك أن موجة الغناء والرقص في العصر الإسلامي أهَّلت لشيوع الأوزان القصيرة والبحور المجزوءة في شعر الحجازيين وشاركهم أهل الشام في هذا الصنيع.

_ 1 أغاني "دار الكتب" 7/ 17.

انتقال الغناء إلى العراق في العصر العباسي

7- انتقال الغناء إلى العراق في العصر العباسي: إذا تركنا العصر الإسلامي إلى العصر العباسي وجدنا الغناء وما يستتبعه من رقص وموسيقى يتحول من الشام إلى العراق مع الملك العربي والدولة العربية. وأعدَّت لهذا الانتقال أسباب مختلفة يرجع بعضها إلى اتصال أهل العراق بالبلاط الأموي؛ فقد كانوا يذهبون هناك ثم يعودون متأثرين بهذا الذوق الجديد، ويرجع بعضها الآخر إلى أسباب فارسية؛ فإن من المعروف أن الفرس مشغوفون بالملاهي والطرب1، ولكنهم لم يدخلوا في الحياة الإسلامية دخولًا واضحًا إلا في العصر العباسي. ونفس الكوفة والبصرة كانت المعيشة فيهما في أثناء العصر الإسلامي أقرب إلى البداوة، أما في العصر العباسي فتصبح الحياة فيهما حضرية مبالغة في الحضارة، وتنشأ بجانبهما بغداد ينشئها المنصور على طراز كأنه اشتُقَّ من الفرس؛ فالحياة فيها فارسية أو تكاد: الناس يحتفلون بالنيروز وأعياد الفرس، ويلبسون ملابسهم ويتعودون عاداتهم في مآكلهم ومشاربهم، والخلفاء يعيشون معيشة كسروية،

_ 1 مروج الذهب 2/ 157، وانظر 8/ 93.

يعيشون محجوبين عن العالم يخاطبون الناس من وراء حجاب، وقد أقبلوا على الغناء كما كان يقبل عليه ملوك الفرس1، وكما كان يقبل عليه يزيد وابنه الوليد من خلفاء بني أمية. والمهدي هو أول خليفة عباسي يحتفل بهذا الجانب؛ إذ كان يحب القيان وسماع الغناء2، ثم يأتي هارون الرشيد فيبالغ في ذلك ويجعل المغنين مراتب وطبقات على نحو ما وضعهم أردشير بن بابك3. وليس معنى ذلك أن العراق لم يكن به غناء في العصر الإسلامي؛ فقد كان به حُنَين الحيريّ4، ولكنه لم يخلف هناك مدرسة كالتي نجدها في مكة أو المدينة إنما يحدث الغناء في العراق حدوثًا أو يكاد في العصر العباسي على نحو ما نرى في كتاب الأغاني؛ إذ تتصل سلسلة المغنين ورُقُمهم الموسيقية بالحجاز مباشرة، وقد كثر المغنون والمغنيات في هذا العصر كثرة مفرطة، نجد من أشهرهم في زمن الرشيد إبراهيم الموصلي، وإسماعيل بن جامع، وفليح بن أبي العوراء، وهؤلاء الثلاثة هم الذين أمرهم الرشيد أن يختاروا له الأصوات المائة التي أدار أبو الفرج كتابه الأغاني عليها، وقد طلب إليهم أن يختاروا من هذه المائة عشرة ثم من تلك العشرة ثلاثة على نحو ما يفصله أبو الفرج في أول كتابه، واشتهر بجانب هؤلاء جماعة منهم زَلْزل، وكان له شهرة في الضرب على الوتر ولم يكن يغني؛ وإنما كان يضرب على ابن جامع وإبراهيم الموصلي أيضًا، ومنهم عَلَوَّية، وكان يقول فيه الواثق غناء علوية مثل نقر الطست يبقى ساعة في السمع بعد سكوته5، ومنهم إسحاق الموصلي وهو الذي هذب صناعة الغناء6. وكان يستطيع الضرب على العود المشوّش الأوتار فيوهم السامع أنه يضرب على عود صحيح7، وعَرف في مجلس المأمون خطأ في وتر بين ثمانين وترًا وعشرون جارية يغنين8. واشتهر

_ 1 مروج الذهب 8/ 95. 2 البيان والتبيين 3/ 370. 3 التاج للجاحظ 37. 4 أغاني "دار الكتب" 2/ 341. 5 أغاني "دار الكتب" 11/ 337. 6 أغاني "دار الكتب" 5/ 269. 7 نفس المصدر 5/ 284. 8 نفس المصدر 5/ 353.

من المغنيات جماعة منهن فريدة وبذل وذات الخال ومتيَّم وعريب ودنانير وغيرهن كثير. ومن يقرأ في كتاب الأغاني يخيل إليه أنه لم يكن في العصر العباسي إلا الغناء والمغنون والمغنيات، ولعل مما يدل على قيمة الغناء أن الجارية إذا كانت مغنية قُوِّمت تقويمًا ممتازًا؛ فهم يذكرون أن جارية عُرضت بثلاثمائة دينار؛ فلما علمها إبراهيم بن المهدي الغناء عُرض في ثمنها ثلاثة آلاف دينار1، وقد بيعت عريب المغنية بخمسة آلاف دينار2، وعلم دحمان جارية اشتراها بمائتي دينار فباعها بعشرة آلاف دينار3، واشترى الرشيد من إبراهيم الموصلي جارية بستة وثلاثين ألف دينار4، وكان في داره ثمانون جارية يعلمهن فن الغناء5. وأغدق الخلفاء والأمراء وكبار رجال الدولة العطايا على هؤلاء المغنين وأسرفوا في ذلك إسرافًا شديدًا، ويكفي أن نذكر ما يقال من أن إبراهيم صار إليه أربعة وعشرون ألف ألف درهم سوى أرزاقه الجارية وهي عشرة آلاف درهم في كل شهر. ولعل مما يدل على مبلغ ما وصلت إليه هذه الصناعة من قيمة في هذه العصور أننا نجد طائفة من الخلفاء تترك فيها أصواتًا ممن مثل الواثق والمنتصر والمعتز وابن المعتز، وقد فتح أبو الفرج في كتابه فصلًا يدرس فيه ما تركه أولًا الخلفاء من صنعة في الغناء7، وصنيع إبراهيم بن المهدي -وكان من كبار المغنين- في هذا الباب معروف، واشتهرت أخته عُلَيَّة بالغناء أيضًا، وتركت فيه أصواتًا كثيرة8. ونحن نجد الغناء في هذا العصر في كل مكان، نجده في قصور الخلفاء ودور الأمراء، كما نجده في الشوارع وعلى الجسور، ونجده في البَرِّ، كما نجده

_ 1 مروج الذهب 2/ 309، وانظر الأغاني "ساسي" 14/ 105. 2 أغاني "ساسي" 14/ 109. 3 أغاني "دار الكتب" 6/ 25. 4 أغاني "دار الكتب" 5/ 164. 5 أغاني "دار الكتب" 5/ 164. 6 نفس المصدر 5/ 163. 7 أغاني "دار الكتب" 9/ 250. 8 انظر ترجمتها في الجزء الخاص بأشعار أولاد الخلفاء من كتاب الأوراق للصولي.

في النَّهر. وأحسن المغنون صناعتهم إحسانًا بالغًا؛ حتى ليذكر الرواة أن مغنيًا هو مخارق غنَّى ذات يوم في متنزه، وقد سنحت ظباء فجاءت إعجابًا بغنائه، وتوسط دجلة يومًا وغنى فلم يبقَ أحد إلا بكى، وكان غناؤه يسر من جماله كل قلب1، ولعل ذلك يفسر انفعال الناس إزاء هذا الفن الذي أحكمه أصحابه؛ فهم يروون أن بعض من كانوا يحضرون المغنين كانوا ينطحون العمد من حسن ما يستمعون2؛ بل لقد كانوا يرمون بأنفسهم في الفرات من شدة الطرب لا يدرون3، وقد يمزقون أثوابهم ويعلقون نعالهم في آذانهم، لا يعرفون ما يصنعون4. ووُجدت في هذا العصر ضروب الغناء المختلفة التي سبق أن شاهدناها في العصر الإسلامي؛ فكان هناك الغناء العادي كما كان هناك الغناء المصحوب بجوقة والآخر الذي كان يُصْحَب بالرقص. روى صاحب الأغاني أنه اجتمع إبراهيم الموصلي وزلزل وبرصومًا بين يدي الرشيد فضرب زلزل وزمر برصوما وغنى إبراهيم5، كما روي أن أحمد بن صدقة "دخل على المأمون في يوم الشعانين6، وبين يديه عشرون وصيفة روميات مزنَّرات قد تزين بالديباج الرومي وعلقن في أعناقهن صلبان الذهب وفي أيديهن الخوص والزيتون فقال له المأمون: ويلك يا أحمد! قد قلت في هؤلاء أبياتًا، فغنني بها. فغناه ولم يزل يشرب وترقص الوصائف بين يديه أنواع الرقص"7. وكانت آلات الموسيقى في أغلب الأحيان أربعًا، كأن تكون العود والطنبور والمزمار والْجَنْك. ونما الرقص نموًّا عظيمًا حتى لنرى المسعودي يفرد له فصلًا في مروج الذهب، وفيه نراه يقيسه بمقاييس الغناء من خفيف ورمل وهزج ونحو ذلك8. ومهما يكن فقد ارتقى الغناء في العصر العباسي، وكثرت ملاهيه وتعددت نواديه، ومن النوادي المشهورة في هذا العصر نادى ابن رامين،

_ 1 محاضرات الأدباء 1/ 443. 2 أغاني "ساسي" 15/ 149. 3 العقد الفريد 4/ 124. 4 العقد الفريد 4/ 124. 5 أغاني "دار الكتب" 5/ 241. 6 الشعانين، عيد للنصارى. 7 أغاني "ساسي" 19/ 138. 8 مروج الذهب 8/ 100.

وممن كان يختلف إليه ابن المقفع ومعن بن زائدة ومحمد بن الأشعث وروح بن حاتم الباهلي1، وكذلك نادي القراطيسي "كان مألفًا للشعراء؛ فكان أبو نواس وأبو العتاهية ومسلم وطبقتهم يقصدون منزله ويجتمعون عنده فيقصفون ويدعو لهم القيان وغيرهم من الغلمان"2، وهنا نلاحظ أن الغناء اتصل مرة أخرى بالشعر العربي في العراق اتصالًّا وثيقًا. وسادت حياة الشعراء في هذا العصر على تآخي الفنين وتآلفهما؛ إذ كان يعيش أكثرهم معيشة فنية خالصة قوامها الخمر والغناء والمجنون.

_ 1 أغاني "ساسي" 13/ 126. 2 أغاني "ساسي" 20/ 88.

نمو مقطوعات الشعر الغنائي

8- نمو مقطوعات الشعر الغنائي: رأينا الغناء يزدهر في العصر العباسي، وقد اشتهر فيه كثيرون من أمثال إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق ومخارق وعَلَّوية، وأخذ يشاطر فيه أبناء الخلفاء من مثل إبراهيم بن المهدي وأخته عُلَيَّة. وكان المغنون المحترفون من جهة وأصحاب بيوت النخاسة من جهة ثانية يعنون جميعًا بتخريج جوارٍ مثقفات بهذا الفن الجديد الذي أقبلت عليه جميع الطبقات، وكان لذلك تأثير بعيد في الشعر والشعراء؛ فقد كان هؤلاء المغنون والمغنيات يغنون في الشعر الحديث: شعر بشار ومطيع بن إياس وأضرابهما، فينشرونه في العراق كما تنشره الجواري في البلاد العربية اللائي ينزلن بها. واندفع الشعراء ينظمون تلك المقطوعات، مثيرين فيها خواطر الحب وما يتصل به من لهو ومجون وعبث وخمر. واستمدوا فيها حقًّا من معاني القدماء؛ ولكنهم نوعوها وولدوا فيها توليدًا واسعًا. وكان من أهم بواعثهم على ذلك أنهم كانوا يقعون في حب كثيرات من الجواري؛ فكن يدفعنهم إلى النظم فيهن، وكن يُعِدْنه على أسماعهم بنغماتهن وأصواتهن الحلوة، فاسحاتٍ لهم في العبث والعشق والصبوة. وعلى هذه الشاكلة لم يعد شاعر العصر العباسي يتغزل في المرأة الحرة كما كان الشأن غالبًا عند شعراء العصر الأموي؛ فقد خرجت تلك المرأة من سوق الغزل

وحلَّ محلها الجواري والإماء، وكان ذلك سببًا في أن يخرج الشعراء عن دائرة العفة والطهر، أو قل عن دائرة الوقار والإجلال للمرأة إلى دائرة الإبحاية المسرفة والصراحة المكشوفة التي لا تعرف حياء ولا ما يشبه الحياء. وبذلك أصبحنا نفتقد في هذا العصر الشاعر العفيف؛ إلا ما كان من العباس بن الأحنف، وهو يعد شذوذًا على ذوق العصر وذوق إمائه وشعرائه. ولعلنا لا ندعو الحق إذا قلنا أن بشارًا في البصرة ومطيع بن إياس في الكوفة هما اللذان دفعا الشعراء في هذ الاتجاه الإباحي المفرط في إباحيته، وعبثًا حَمل الوعاظ ورجال الدين في البصرة على بشار؛ فقد انتهى قليلًا واضطر إلى مغادرة بلده ثم عاد إليها مع الثورة العباسية، فأمعن في هذا الشعر الإباحي، حتى اضطر المهدي أن ينهاه عنه، وديوانه يزخر بأمثلته، كما تزخر به ترجمته في الأغاني من مثل قوله1: لا خير في العيش إن دُمْنا كذا أبدًا ... لا نلتقي وسبيل الْمُلْتَقَى نَهَجُ2 قالوا حرامٌ تلاقينا فقلت لهم ... ما في التلاقي ولا في قُبْلَةٍ حَرَجُ وقوله3: فبتنا معًا لا يخلُصُ الماء بيننا ... إلى الصبح دوني حاجبٌ وستُور وله وراء ذلك مقطوعات وقصائد لا نستطيع أن نسوقها لما فيها من فحش داعر وفجر فاجر4، وكأنه كان من أهم من أتاحوا للغريزة النوعية أن تفصح عن نزواتها، وربما جاءه ذلك من فقده لبصره؛ فلم يكن يحس الحب إلا إحساسًا ماديًّا، عبر عنه تعبيرًا صريحًا في قوله5: أتتني الشمس زائرةً ... ولم تك تبرح الفلكا تقول وقد خلوتُ بها ... تحدَّث واكفني يدكا

_ 1 أغاني "طبعة دار الكتب" 3/ 200. 2 نهج: واضح. 3 المختار من شعر بشار للخالدين ص241. 4 أغاني "طبعة دار الكتب" 3/ 183. وانظر مختار الخالدين من ص201 -254 وكذلك ص106 5 المختار من شعر بشار ص64.

مطيع بن إياس: ربما كان مطيع بن إياس الكناني هو الذي بدأ السطر الأول في صفحة هذا الغزل المادي المكشوف بالكوفة، وهو مثل بشار من مخضرمي الدولتين: الأموية والعباسية "وكان ظريفًا خليعًا حلو العشرة مليح النادرة ماجنًا متَّهمًا في دينه بالزندقة، ومولده ومنشؤه الكوفة، وكان أبوه من أهل فلسطين الذين أمد بهم عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف في وقت قتاله ابن الزبير وابن الأشعث؛ فأقام بالكوفة وتزوج بها؛ فولد له مطيع1" ونظن ظنًّا أن أمه فارسية؛ إذ نرى فيه نزعة شديدة إلى المجون والاستهتار الخلقي منذ مطالع حياته، وهو في ذلك يختلف عن بشار، فقد استهل حياته جادًّا يختلف إلى المتكلمين، أما مطيع فلم يعرف الجِدَّ يومًا. وهو يختلف عنه أيضًا في أنه من أوائل من تغزلوا بالغلمان، إذ كان لا يتحرج من أي مأثم: وليس يُعْتِمُ إلا ... سكرانَ مع سكرانِ يسقيه كلُّ غلامٍ ... كأنه غُصْنُ بانِ من خندريسٍ عُقارٍ ... كحمرة الأرْجُوانِ2 وكان ينفق أيامه في الاجتماع بعصبته من الْمُجّانِ الزنادقة في الكوفة والبصرة من أمثال والبة بن الحباب ويحيى بن زياد الحارثي وعمارة بن حمزة والحمادين الثلاثة: حماد عجرد وحماد الراوية وحماد بن الزِّبْرِقَان وبشار بن برد وأبان اللاحقي3، ويقال إن حكما الوادي غَنَّى الوليد بن يزيد في خلالته قوله: إكليلها ألوان ... ووجهها فتَّانُ إذا مشت تثنَّت ... كأنها ثعبان. فأعجب إعجابًا شديدًا بالأغنية وسأله عن قائلها؛ فلما عرف أنه مطيع

_ 1أغاني "طبعة دار الكتب" 13/ 276. 2 أغاني 13/ 293. 3 أغاني 13/ 279، والحيوان 4/ 447، وأمالي المرتضي "طبعة الحلبي" 1/ 131.

أمر أن يُحْمَلَ له على البريد1، وظل ينادمه حتى توفِّي، فاتجه بشعره إلى الولاة. ويقال إنه رحل إلى السند يستميح واليها هشام بن عمرو2، وله شعر في وصف حيوانها3. ولما دعا لنفسه عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر في الأيام الأخيرة من دولة بني أمية نادمه ولم يفارقه حتى قضى عليه الأمويون4، ولعل ذلك ما جعل الخليفة المنصور يعطف عليه، ويقربه منه؛ غير أنه نقل إليه أنه يُغْوي ابنه جعفرًا ويفسده، فحبسه، ثم أخلى سبيله، وأقامه المهدي على صدقات البصرة5، ولا نراه يقتله في الزنادقة الذين قتلهم، وظل يعيش في خلافة الرشيد؛ إذ توفي سنة 170 للهجرة. وترجمته في الأغاني تصوِّر فُجْره، وكيف كان لا يفيق من مجون إلا إلى مجون، فهو غارق في اللذات وفي حب الجواري والإماء اللائي يراهن في دور النخاسة وخاصة دار "بربر"؛ غير آبه بشيء من التقاليد الاجتماعية التي تواضع عليه الناس في حياتهم المألوفة، ولا يترك جارية لصديق مثل حماد عجرد ويحيى بن زياد إلا ويفسدها عليه ودائمًا يجثو بين أيدي الجواري، يقدم إليهن حبه، وكان منهن من يتدللن؛ فلا يزال يستأنف معهن السعي والإلحاح حتى يقبلن عليه. وممن كان يكثر فيهن من الشعر مكنونة وريم وجوهر جارية بربر، ومن غزله في أولاهن، وكانت تُدلُّ عليه، فلا يكفّ عن تعلقه بها والتعرض لها6: يا رَبِّ إنك تعلم ... أني بمكنون مُغْرَمْ وأنني في هواها ... ألقى الهوان وأعظم إن الملولَ إذا ما ... ملَّ الوصال تجرَّم7 أولا فمالِيَ أجفَى ... من غير ذنبٍ وأحْرَم وكانت ريم جارية لبعض النخاسين ببغداد، وله فيها غزل كثير يصف فيه

_ 1 أغاني 13/ 277. 2 أغاني 13/ 290. 3 الحيوان 7/ 170. 4 أغاني 13/ 279. 5 أغاني 13/ 319، وانظر 13/ 287 وما بعدها. 6 أغاني 13/ 312. 7 تجرم عليه: ادعى عليه ذنبًا لم يفعله.

ما كانت تملؤه به من سرور وغبطة حين كان يشرب على غنائها مع رفاقه، كما يصف ولعه بها وهُيامه من مثل قوله1: أمسى مطيعٌ كَلِفَا ... صَبًّا حزينًا دَنِفَا2 يا ريمُ فاشْفِي كبدا ... حَرَّى وقلبا شُغِفَا3 ونَوِّلِينِي قُبْلَةً ... واحدةً ثُمَّ كَفَى وفي أخباره أنه كان يكثر من الاختلاف إلى "بربر" وجواريها، وكانت دارها مألفًا له ولأمثاله من شعراء الكوفة الماجنين، وكان يهوى من جواريها جوهر، ومما غُنِّي له فيها قوله4: وخافي الله يا بربر ... لقد أفسدت ذا العسكر إذا ما أقبلت جوهر ... يفوح المسك والعنبر وجوهرُ درَّة الغوا ... ص من يملكها يحبر5 لها ثغر حكى الدُّرَّ ... وعينا رشأ أحور6 وبيعت جوهر وفارقت الكوفة فبكاها بكاء مرًّا. والقطع الثلاث الأولي من وزن المجتث، وكأنه هو الذي أخذه عن الوليد بن يزيد وأشاعه بين شعراء العصر. وتشيع عنده الأوزان المجزوءة والخفيفة، وهو يتقدم بشارًا خطوة في هذا الاتجاه نحو تعميم الألحان اليسيرة والانفصال عن إطار الشعر القديم الذي يعني بضخامة الوزن وجزالة اللفظ؛ فألفاظه سهلة لينة تقترب من لغة الحديث العادي في كثير من صورها. وهو لا يقف بها عند مثل هذا القول الرقيق؛ إذ يعبر بها عن عبثه ومجونه. وتبعه شعراء الكوفة في هذا كله على نحو ما نجد عند والبة بن الحباب وخرِّيجه أبي نواس.

_ 1 أغاني 13/ 301. 2 كلفا: مغرمًا، دنفًا: مريضًا. 3 حرى: ظامئة. 4 أغاني 13/ 313. 5 يحبر: من الحبور وهو السرور. 6 الرشأ: الظبي، وأحور: من الحور، وهو شدة سواد العين وبياض بياضها.

العباس بن الأحنف: وكان يقابل هذا النوع من الشعر الغنائي المادي الصريح نوع آخر عَفٌّ مَثَّله العباس بن الأحنف، وهو عربي الأصل من بني حنيفة، ويشبه في العصر العباسي عمر بن أبي ربيعة في العصر الإسلامي؛ إذ خصص نفسه بغناء حبه منصرفًا عن قصائد المديح وما إليه، يقول عنه صاحب الأغاني: "كان شاعرًا غَزِلًا ظريفًا، لم يكن يتجاوز الغزل إلى مديح ولا هجاء، ولا يتصرف في شيء من هذه المعاني، وكان قصده الغزل وشغله النسيب1". ويقول الجاحظ: "لولا أن العباس بن الأحنف أحذق الناس وأشعرهم وأوسعهم كلامًا وخاطرًا ما قدر أن يكثر شعره في مذهب واحد لا يجاوزه؛ لأنه لا يهجو ولا يتكسب ولا يتصرف، ولا نعلم شاعرًا لزم فنًّا واحدًا لزومه فأحسن فيه وأكثر2". وكأني بالجاحظ نسي عمر بن أبي ربيعة وأضرابه من شعراء العصر الإسلامي!. وكان العباس شخصية ظريفة حقًّا في العصر العباسي إذ قصر نفسه على الغزل؛ ولكن دون تبذل أو تصريح بعهر وفحش، وترجم له صاحب الأغاني ترجمة واسعة روى له فيها كثيرًا من مقطوعاته الجيدة كقوله3: لا جزى الله دمع عيني خيرًا ... وجزى الله كل خيرٍ لساني نمَّ دمعي فليس يكتم شيئًا ... ورأيت اللسان ذا كتمان كنتُ مثلَ الكتاب أخفاه طَيٌّ ... فاستدلوا عليه بالعنوانِ وقوله4: قالت ظلوم سمية الظلم ... ما لي رأيتك ناحل الجسم يا من رمى قلبي فأقصده ... أنت العليم بموضع السَّهم وقوله5: ألا تعجبون كما أعجب ... حبيب يسيئ ولا يعتب وأبغي رضاه على سخطه ... فيأبى عليَّ ويستصعب

_ 1 أغاني "دار الكتب" 8/ 352. 2 أغاني "دار الكتب" 8/ 354. 3 المصدر نفسه 8/ 354. 4 المصدر نفسه 8/ 356. 5 المصدر نفسه 8/ 360.

فيا ليت حَظِّي إذا ما أسأ ... ت أنك ترضى ولا تغضب وقوله1: إن قال لم يفعل وإن سِيل لم ... يبذل وإن عوتب لم يعتب صبٌّ بعصياني ولو قال لي ... لا تشرب البارد لم أشرب إليك أشكو رب ما حل بي ... من صد هذا المذنب المغضب ويقول أيضًا2: نام من أهدى لي الأرقا ... مستريحًا زادني قلقَا لو يبيت الناس كلهم ... بسهادي بيض الحدقا كان لي قلب أعيش به ... فاصطَلَى بالحب فاحترقا أنا لم أرزق مودتكم ... إنما للعبد ما رُزِقَا وكل هذه المقطوعات من الأصوات والأدوار التي كانت تغنى في العصر العباسي. ومهما يكن فقد شاع هذا الشعر الغنائي بضربيه من الغزل المادي والعفيف، واستبق الشعراء فيه كل يحاول أن يأتي بالنادر الطريف. روى صاحب الأغاني"أنه اجتمع مسلم بن الوليد وأبو نواس وأبو الشِّيص ودعبل في مجلس، فقالوا: لينشد كل واحد منكم أجود ما قاله من الشعر؛ فأنشدهم أبو الشيص قوله: وقف الهوى بي حيث أنتِ فليس لي ... متأخرٌ عنه ولا متقدَّمُ أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبًّا لذكرك فليلمني اللوّمُ أشبهتِ أعدائي فصرت أحبُّهم ... إذا كان حظي منك حظي منهمُ وأهنتني فأهنتُ نفسي صاغرًا ... ما مَنْ يهون عليك ممن يُكْرَمُ فقال أبو نواس: أحسنت والله وجوَّدت. وفي رواية أخرى أنه قال: إني أرى نمطًا خُسْروانيًّا مذهبًا3" وما هذا النمط إلا ذلك الشعر الغنائي الذي أخذ الشعراء يستبقون في صناعته. وروى ابن رشيق: أن أبا العتاهية وأبا نواس والحسين بن الضحاك اجتمعوا يومًا فقال أبو نواس لينشد كل واحد قصيدة لنفسه في

_ 1 أغاني 8/ 365. 2 المصدر نفسه 8/ 366. 3 أغاني "ساسي" 15/ 105.

مراده من غير مدح ولا هجاء، فأنشد أبو العتاهية: يا إخوتي إن الهوى قاتلي ... فيسِّروا الأكفان من عاجل ولا تلوموا في اتباع الهوى ... فإنني في شُغُلٍ شاغلِ عيني على عُتْبَة مُنْهَلَّةٌ ... بدمعها المنسكبِ السائلِ فسلَّم له أبو نواس والحسين بن الضحاك وقالا له: أما مع سهولة هذه الألفاظ وملاحظة هذا القصد وحسن هذه الإشارات فلا ننشد شيئًا1" وعلى هذ النحو كان الشعراء يتنافسون في صناعة هذا النوع من الغزل الغنائي الذي نما تحت تأثير الغناء، واتسع نموه حتى اتخذه بعض الشعراء كالعباس بن الأحنف مذهبًا يقصرون عليه أنفسهم طوال حياتهم ولا ينصرفون إلى غيره من أنواع الشعر الرسمي التقليدي من مدح ونحوه؛ بل هم يعيشون في شعر الحياة الاجتماعية والنوادي الأدبية، وقد رقَّقوا أفكارهم، وهذَّبوا أساليبهم وأوزانهم، وحاولوا أن يبلغوا في ذلك كل مبلغ.

_ 1 العمدة لابن رشيق 1/ 82.

تأثير الغناء العباسي في موسيقى الشعر الغنائي

9- تأثير الغناء العباسي في موسيقى الشعر الغنائي: كان تأثير الغناء في موسيقى هذا الشعر الغنائي أوسع من تأثيره في معانيه؛ إذ كان المغنون يحرِّفون في الغناء القديم، ويدخلون فيه ألحانًا فارسية ورومية1، ولعل ذلك التحريف هو سبب الصراع، الذي نجده في كتاب الأغاني دائمًا بين أنصار الغناء القديم كإسحاق الموصلي، وأنصار الغناء الجديد كإبراهيم بن المهدي، وكان يذهب مذهبه مخارق وشارية وَريِّق، وكذلك علوية وغيرهم كثير2. واضطر هذا التحريف الشعراءَ، أن يجددوا مع المغنين في أوزانهم؛ إذ

_ 1 أغاني "دار الكتب" 5/ 279. 2 أغاني "دار الكتب" 10/ 69، وانظر: العقد الفريد.

العرب يمتاز غناؤها -كما يقول الجاحظ- بأنها "تقطع الألحان الموزونة على الأشعار الموزونة؛ فتضع موزونًا على موزون، والعجم تمطِّط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن، فتضع موزونًا على غير موزون"1، ومن ثم نستطيع أن نفهم الصلة بين العروض العربي والغناء العربي، فإن الأول فيما يظهر ألِّفَ على أساس رُقُمِ الغناء التي عرفت في العصر العباسي، ومما يؤيد ذلك ما يقوله أخوان الصفا من أن قوانين الموسيقى مماثلة لقوانين العروض2، وما قاله إسحاق سابقًا من أن النَّصْبَ يخرج كله من أصل الطويل في العروض، ونفس الخليل صاحب هذا العروض ألف في الأصوات كتابين3، ويقول ابن خلكان: إن معرفته بالإيقاع هي التي أحدثت له علم العروض4، ولعلنا من أجل ذلك كنا نجد كثيرًا من ألفاظه الاصطلاحية التي وضعها في العروض شائعة في الغناء من مثل السِّناد والنصب والثقيل والخفيف والهزج والرمل، وكتب أبو العلاء فصلًا عن الألحان في الغناء، فعرف بالثقيل الأول والثقيل الثاني وخفيف الثقيل والرمل وخفيف الرمل والهزج على نحو ما يعرِّف العروضيون بأوزانهم؛ إذ ضبط الثقيل الأول بثلاث نقرات متساويات الأوزان، وقاسه على مثال مفعولن؛ بينما قاس الثقيل الثاني بمفعولان، أما خفيفه فقياسه مفعولان بالسكون، والرمل قاسه على مثال "لان مفعو" أو كما يقول العروضيون فاعلاتن، أما الهزج فقاسه على مثال قال لي، أو كما يقول العروضيون فاعلن5. وهذا الفصل يوضح العلاقة التي كانت موجودة بين الغناء والعروض العربي، ونجد صاحب الأغاني يقول في أول كتابه: "إنه سيذكر اللحن وعروضه، فإن معرفة أعاريض الشعر توصل إلى معرفة تجزئته وقسمة ألحانه". ومهما يكن فقد كانت هناك علاقة واضحة في العصر العباسي بين الغناء وأوزان الشعر، ولعل أهم ما يلاحظ بصدد ذلك أن الشعراء نَحَّوا الأوزان الطويلة.

_ 1 البيان والتبيين 1/ 385. 2 إخوان الصفا "طبع مصر" 1/ 144. 3 معجم الأدباء "طبع أوروبا" 4/ 182. 4 ابن خلكان "طبع مصر" 1/ 172. 5 الفصول والغايات ص88.

المعقدة، وخصصوها بالشعر التقليدي: شعر المديح ونحوه، وكانت هذه الأوزان توجد في العصر الإسلامي مع الغناء، أما في هذا العصر فإنها تكاد تختفي إلا أن تجزَّأ أو يدخلها فنون من التحريفات والزحافات. ومن يدرس العروض الذي اكتشفه الخليل يحس مدى الصعوبات التي أحدثتها هذه الزحافات في دراسة الشعر العربي، وأكبر الظن أن الخليل عمد إليه عمدًا ليستطيع الشعراء أن يجدوا منها منفذًا إلى الملاءمة بين الأوزان القديمة ونغم الغناء الجديد. وإن كثيرًا من هذه الزحافات ليُحيل الوزن عن صورته القديمة، وغاية ما في الأمر أننا ألفنا أن نقول إن البحر حدث فيه زحاف ونحوه، وإنه لا يزال على حاله، ولم يخرج عن محيطه. ويستطيع الباحث أن يرجع إلى الرمل مثلًا، ووزنه فاعلاتن؛ فيدرك أنه حينما يلمُّ به الزحاف في الجزء الأول ويصبح فعلاتن، يتغير عن صورته الأولى ويصير سريعًا لسرعة حركاته. ومن المعروف أن الحركات القصيرة تجعل البحر سريعًا، بخلاف الطويلة فتجعله بطيئًا. وتلائم الأولى الموضوعات العتيقة؛ بينما تلائم الأخرى الهدوء والحزن وما إليها. وهذا التغيير الذي ألم بالرمل بسبب الزحاف نراه يلم أيضًا بسببه في الأوزان والبحور الأخرى، وهو جانب نرى أصوله في الشعر القديم؛ إلا أن العباسيين أكثروا منه كثرة مفرطة، فما يزالون يحرفون في الأوزان، حتى لينتهي بهم هذا التحريف إلى استحداث أوزان جديدة، ويقول أبو العلاء: إنهم استحدثوا في هذا العصر المقتضب والمضارع اللذين سجلهما الخليل وليس لهما أصل في الشعر القديم1، وهي ملاحظة جيدة، وسبق أن رأينا المجتث عند الوليد بن يزيد، وقد أكثر منه العباسيون؛ إذ نجده كثيرًا عند بشار ومطيع وأبي نواس وأبي العتاهية وأضرابهم، وأما المقتضب فهو عباسي، واستعمله الشعراء في ندرة، ومن أمثلته قول أبي نواس2:

_ 1 الفصول والغايات ص132. 2 معاهد التنصيص 1/ 30.

حامل الهوى تعب ... يستخفه الطَّرَب إن بكى يحقُّ له ... ليس ما به لَعِبُ تضحكين لاهية ... والمحب ينتحب كلما انقضى سبب ... منك جائني سبب تعجبين من سقمي ... صحتي هي العجب وأما المضارع فقد ذكر أبو العلاء أن منه عروض أبي العتاهية1: أيا عُتْبَ ما يضرُّ ... كِ أَنْ تُطْلِقِي صِفادي ومن أمثلته قول سعيد بن وهب2: لقد قلت حين قُرّ ... بت العيسُ يا نَوَارُ قفوا فاربعوا قليلًا ... فلم يربعوا وساروا وهناك وزن آخر استحدثه العباسيون وهو الخبب أو المتدارك، ومن أمثلته قول أبي العتاهية3: هَمُّ القاضي بيتٌ يُطْرِب ... قال القاضي لما طُولِب ما في الدنيا إلا مذنب ... هذا عذر القاضي واقلب ويظهر أن أبا العتاهية كان مشغوفًا بهذه الأوزان القصيرة؛ فقد عرف بأن له أشعارًا لا تدخل في العروض4، ولكن الرواة فيما يظهر أهملوها5. ويقول ابن قتيبة في ترجمته: "وكان لسرعته وسهولة الشعر عليه ربما قال شعرًا موزونًا يخرج به عن أعاريض الشعر وأوزان العرب، وقعد يومًا عند قَصَّار فسمع صوت مِدَقَّةٍ فحكى ذلك في ألفاظ شعره وهو عدة أبيات منها:

_ 1 الفصول والغايات ص132. والصفاد: القيد. 2 أغاني "ساسي" 21/ 69. والعيس: الإبل. أربعوا: أقيموا. 3 مروج الذهب 7/ 87. 4 أغاني "دار الكتب" 4/ 13. 5 وممن اشتهر بصياغة الشعر على أوزان جديدة أيضًا رزين بن زندورد مولى طيفور بن منصور الحميري خال المهدي؛ فأكثر شعره كان يخرج به عن العروض، وكان ينحو في ذلك نحو عبد الله بن هارون بن السميدع البصري مؤدب آل سليمان. انظر معجم الأدباء 11/ 138 وتاريخ بغداد 8/ 436 والأغاني "دار الكتب" 6/ 160.

للمنون دائرات يدرن صرفها ... هن ينتقيننا واحدًا فواحدا وقال أيضًا: عُتْبُ ما للخيال ... خبريني ومالي لا آراه أتاني ... زائرًا مذ ليالي لو رآني صديق ... رقَّ لي أو رثى لي أو يراني عدوي ... لانَ من سوء حالي"1 والمسألة لم تكن سهولة شعر وسرعته كما يقول ابن قتيبة، بل كانت هذا الغناء العباسي وما يستلزمه من أوزان وأنغام جديدة. ومهما يكن فإن الغناء نوَّع أوزان الشعر في العصر العباسي تنويعًا واسعًا؛ فبينما كان يقضي على بعض الأوزان الطويلة المعقدة -أو يكاد- كان يشيع الأوزان الأخرى التي تتلاءم معه من مثل المتقارب والرمل والهزج والخفيف؛ فإن أَلَمَّ بالأوزان الطويلة أخذ ينوع فيها بما يحدثه من مشطوراتها ومجزوءاتها، أو من اختلاف في ضروبها وأعاريضها. وقد فتح الخليل -كما قدمنا- أبواب الزحافات في العروض ليعدل الشعراء في إيقاعات الأوزان القديمة ونغماتها، وكأن هذه الزحافات خروق في الرُّقُم الموسيقية وضعها الخليل لينفذ منها الشعراء إلى التعديل في الأوزان التي كان يتطلبها الغناء العباسي. ونستطيع الآن أن نفهم لماذا أدخل الخليل دراسة الزحاف في العروض، ولماذا ترك دوائر مفتوحة، وجاء فيها بأوزان مهملة؛ فقد كان يشعر بحاجة الغناء إلى التجديد في أوزان الشعر، ولو أنه عاش إلى عهد أبي العتاهية لنبه على ما استحدث من أوزان هو وغيره من الشعراء. وأكبر الظن أن عروض الخليل لم تضبط كل ما عُرف في عصورها من أوزان في الشعر العباسي؛ بل إنا لنراها تقصِّر في ضبط بعض أوزان الشعر القديم؛ فهنالك قصائد أثرتْ عن العصر الجاهلي وهي خارجة عنها، يقول أبو العلاء: "وقصيدة عبيد: أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِه مَلْحُوبُ، وزنها مختلف، وليست موافقة

_ 1 الشعر والشعراء ص497.

لمذهب الخليل في العروض، وكذلك قصيدة عدِيّ بن زيد العبادي: قد حان أن تصحو لو تقصر ... وقد أتى لما عهدت عُصُرْ1 ومن ذلك قصيدة المرقش: هل بالديار أن تجيب صَمَم ... لو أن حيا ناطقًا كلَّم فإنها غير مستقيمة الوزن كما يلاحظ صاحب الصناعتين2. ومن ذلك نونية سُلْميّ بن ربيعة السابقة: إن شِواءً ونشوة ... وخَبَبَ البازل الأمون فقد لاحظ التبريزي أنها خارجة عن العروض التي وضعها الخليل3. وهناك قطع صغيرة منتشرة في كتب الأدب من الصعب أن تضبط على أوزان الخليل؛ ولكن مهما يكن فإن جهده في هذا الباب كان ممتازًا. وصنيع الغناء في أوزان الشعر العباسي يجعلنا نفكر فيما يمكن أن يكون قد صنعه في القوافي؛ إذ استحدث العباسيون المزدوج والمسمَّط4، أما المزدوج فلعل أول من استخدمه بشار بن برد5، وأخذ الشعراء يستخدمونه من حوله وبعده في الشعر التعليمي، كما نرى في قصيدة بشر بن المعتمر التي رواها الجاحظ له في كتابه الحيوان6، ولا نراه يشيع في الشعر الغنائي، وهو يتألف من شطرين على قافية ثم من شطرين آخرين وهكذا. وأما المسمَّط فيصاغ في أدوار متخالفة القوافي؛ غير أن كل دور يختم بشطر يتحد مع الدور الأول في قافيته. على أننا نجد في ديوان ابن المعتز منظومة على طراز الموشحات الأندلسية تمضي على هذا النحت: أيا الساقي إليك المشتكى ... قد دعوناك وإن لم تسمع ونديم همت في غُرَّتِهِ وبشرب الراح من راحته

_ 1 الفصول والغايات ص131. 2 الصناعتين "طبعة عيسى الحلبي" ص3. 3 التبريزي على الحماسة 3/ 83. 4 نقد النثر لقدامة ص64. 5 أغاني "طبع دار الكتب" 3/ 145. 6 الحيوان 6/ 455.

كلما استيقظ من سكرته جذب الزق إليه واتكى ... وسقاني أربعًا في أربع تستمر المنظومة على هذا النمط؛ غير أن هذه الموشحة منتحلة على ابن المعتز وهي لابن زهر الشاعر الأندلسي المشهور1، والشائع أن الموشحات فن أندلسي خالص2. ومما ينسب إلى هذا العصر ضرب يسمى المواليا، وهو شعر ينظم من بحر البسيط بعبارة عامية ملحونة وتقفَّى شطوره أربعة أربعة، ويقولون إن مولاة للبرامكة هي التي بدأت هذا الضرب3. وهو الذي يعرف عندنا الآن بالموّال. على أن هذه القصة يحوطها شيء من الغموض. ومهما يكن فإن الغناء العباسي لم يؤثر تأثيرًا واسعًا في القوافي، على نحو ما أثر في الأوزان؛ إذ يترك ذلك للأندلس، والغناء هناك وما نشأ معه من موشحات وأزجال.

_ 1 معجم الأدباء 7/ 22، وانظر المغرب في حل المغرب "الطبعة الثانية بدار المعارف" 1/ 272. 2 انظر هنا العصر العباسي الأول للمؤلف "دار المعارف" ص199. 3 الدمنهوري على الكافية ص36.

تأثير الغناء في موسيقى الشعر التقليدي

تأثير الغناء في موسيقى الشعر التقليدي ... 10- تأثير الغناء العباسي في موسيقى الشعر التقليدي: وتأثير الغناء العباسي لم يقف عند موسيقى الشعر الغنائي؛ بل تعداها إلى موسيقى الشعر التقليدي؛ فقد كان أكثر الشعراء العباسيين ينظم من النوعين جميعًا، فأحدث ذلك صلة واضحة بينهما، وأخذ كل منهما يتأثر بما يصيب الآخر في مناهجه وطرق صناعته، ولذلك كنا نجد في الشعر الغنائي كثيرًا من الأوزان الطويلة الشائعة في الشعر التقليدي، كما نجد في الشعر التقليدي كثيرًا من الأوزان القصيرة المجزوءة أو المولدة الشائعة في الشعر الغنائي، على نمط ما نجد في شعر مسلم بن الوليد زعيم الشعر التقليدي؛ فقد رُوي له في ديوانه قصيدتان من وزن مولَّد إحداهما1:

_ 1 ديوان مسلم "طبعة دار المعارف" ص194. المعمود الذي حطمه الشوق.

يا أيها المعمود ... قد شفك الصُّدودُ والأخرى1: نبا به الوساد ... وامتنع الرقاد وصنع سَلْم الخاسر أرجوزة على جزء واحد مدح بها موسى الهادي، ومما يقوله فيها: موسى المطر ... غيثٌ بكر عدل السير ... باقي الأثر وهي تمضي على هذا النمط، ويقول ابن رشيق إنه أول من ابتدع ذلك في الرجز2. وليس هذا كل ما صنع الغناء بالشعر التقليدي؛ فقد أثر فيه من جانب آخر هو جانب "الموسيقى الداخلية" وما يستتبعه ضبطها من عناية بفنون البديع الصوتية. ولعل أهم شاعر تقليدي نجده في هذا الجانب هو البحتري؛ فقد كان يعنى بالموسيقى الداخلية عناية شديدة، حتى ليروع النقاد روعة بالغة. وحقًّا إنه ملأ آذان عصره بألحان عذبة جميلة، وعبَّر المدى عن ذلك عبارات مختلفة؛ إذ يقول في كتابه "الموازنة بين الطائيين" عن شعره: "إنه صحيح السبك، حسن الديباج، ليس فيه سفساف ولا رديء ولا مطروح"3 ويقول عنه أيضًا: "إنه يؤثر صحة السبك وحسن العبارة وحلو اللفظ وكثرة الماء والرونق"4. ولكن ماذا يريد الآمدي بهذه الأوصاف؟ إنه لا يذكر إلا إشارات وتلميحات، وقد شكا عبد القاهر من مثل هذه العبارات وشيوعها في النقد؛ إذ يقول: "إنك لا ترى نوعًا من أنواع العلوم إلا وإذا تأملت كلام الأولين الذين علَّموا الناس وجدت العبارة فيه أكثر من الإشارة، والتصريح أغلب من التلويح، والأمر في علم الفصاحة بالضد من هذا، فإنك إذا قرأت ما قاله العلماء فيه وجدت جله أوكله رمزًا ووحيًا وكناية وتعريضًا وإيماءً إلى الغرض من وجه لا يفطن له إلا من غلغل الفكر، وأدق النظر، ومن يرجع من طبعه إلى ألمعية يقوى

_ 1 ديوان مسلم ص240. 2 انظر العمدة لابن رشيق "باب الرجز والقصيد". 3 الموازنة "طبع الجوانب" ص2. 4 الموازنة ص3.

معها على الغامض، ويصل بها إلى الخفي، حتى كأن بَسْلًا حرامًا أن تتجلى معانيهم سافرة الوجه لا نقاب لها، وبادية الصفحة لا حجاب دونها"1. وحقًّا أن كتب النقد والفصاحة عندنا مملوءة بكثير من هذه العبارات التي نجدها عند الآمدي، واليت تذهب إلى الرمز والتلويح والإشارة من طرف خفي، ويظهر أن هذا عيب يعم في النقد جميعه العربي والغربي؛ فنحن نجد "رتشاردز" يعقد فصلًا في كتابه "أصول النقد الأدبي" يبحث فيه لغة النقد، ويشكو من إبهامها وغموضها نفس هذه الشكوى التي نجدها عند عبد القاهر2. وإذن فينبغي أن نحترس من عبارات الآمدي وأمثالها، وإن كانت تلفتنا إلى أن جمال الشعر عند البحتري لا يستقر في وعاء فلسفي أو ثقافي؛ إنما يستقر في المادة والجسم وما به من سبك وخفة ورشاقة، ولكن هل نستطيع أن نقيس هذا الجانب الصوتي الداخلي ونحلله؟ وإذا استطعنا فبأي شيء نقيسه؟ هل يمكن أن نقيسه بالعروض؟ يقول النقاد: إن العروض إنما يقيس "الموسيقى الخارجية" للشعر، أما هذه "الموسيقى الداخلية" فإنه يفشل في قياسها لأنها "قيم صوتية خفية" لا يمكنه ضبطها، وأشار إلى ذلك "لامبورن" في كتابه "أسس النقد"؛ إذ يقول: "توجد موسيقى داخلية في الشعر وهو أوسع من الوزن والنظم المجردين"3. ويقول "سبنجارن" في كتابه: "النقد الخالق": "إن البيتين من الشعر المرسل قد يتطابقان في الوزن ولكن من لا يشعر باختلاف بينهما كاختلاف شعر بوب من نثر دي كوينسي؟ "4. وحقًّا أنه لا يوجد بيتان في الشعر من صوت متكافئ واحد قد يتفقان في رقيمهما الموسيقي؛ ولكنهما يختلفان بعد ذلك في قيمهما الصوتية الداخلية، فلكل بيت صوته الخاص الذي لا يتحد مع صوت بيت آخر والذي يفضي بنا دائمًا إلى هذا الجمال الموسيقي الغريب.

_ 1 دلائل الإعجاز ص320. 2 RICHARDS, PRINCIPLES OF LITERARY CITICISM, CHAP.III. 3 LAMBORN, RUDIMENTS OF CRITICISM, CHAP. II.. 4 SPINGARN, CRAITIVE CRITICISM,P.45.

العروض لا يستطيع أن يقيس هذه القيم الصوتية الداخلية في موسيقى الشعر، وإذن يحسن أن نبحث عن مقياس آخر، ولعل من أهم هذه المقاييس التي تقيس هذا الجانب ما اكتشفه عبد القاهر في دلائل الإعجاز من "قواعد النظم" وقواعد هذه "الموسيقى الداخلية" وقد اتخذ من البحتري وشعره دليله على هذه القواعد التي وضعها؛ إذ يقول: أعمد إلى قول البحتري: بلونا ضرائب من قد نرى ... فما إن رأينا لفتح ضريبا1 هو المرء أبدت له الحادثا ... ت عزمًا وشيكًا ورأيًا صليبا تنقَّل في خلق سؤدد ... سماحًا مرجَّى وبأسا مهيبا فكالسيف إن جئته صارخًا ... وكالبحر إن جئته مستثيبا فإذا رأيتها قد راقتك، وكثرت عندك، ووجدت لها اهتزازًا في نفسك؛ فعد فانظر في السبب، واستقص في النظر، فإنك تعلم ضرورة أن ليس إلا أنه قدم وأخر، وعرف ونكر وحذف وأضمر، وأعاد وكرر، وتوخى على الجملة وجهًا من الوجوه التي يقتضيها علم النحو؛ فأصاب في ذلك كله، ثم لطف موضع صوابه، وأتى مأتى يوجب الفضيلة"2. ويبدئ عبد القاهر ويعيد في هذا المقياس الذي اتخذه من النحو، ولكن فاته أن علم النحو لا يكشف "الموسيقى الخارجية" موسيقى العروض؛ فأولى به ألا يكشف "الموسيقى الداخلية" موسيقى النظم وهي لا ترتبط به ولا بقواعده، ولم ينفع عبد القاهر ما اعتمد عليه من فلسفة وتفكير دقيق في فهم العبارات والأساليب اللغوية؛ وبذلك فشل علم النحو عنده في تحليل هذا الجانب؛ لأنه الجزء الموسيقي الذي لا يتكرر، والذي كان من أجل ذلك لا يمكن ضبطه في نحو ولا عروض، وقارنْ بين قصيدتين من وزن واحد عند البحتري وأبي تمام بل قارن بين بيتين من قصيدة واحدة عند البحتري فستجد فروقًا وخلافات كثيرة.

_ 1 ضرائب: طبائع. ضريبًا: شبيهًا. 2 دلائل الإعجاز ص65.

ومهما يكن فإن تحليل الموسيقى الداخلية في الشعر لا يكشفه النحو ولا العروض، ولعل خيرًا من ذلك أن نرجع إلى ما لاحظه "لامبورون" في كتابه: "أسس النقد" من أن هذه الموسيقى يشخصها جانبان مهمان، هما اختيار الكلمات وترتيبها من جهة، ثم المشاكلة بين أصوات هذه الكلمات والمعاني التي تدل عليها من جهة أخرى، حتى تحدث هذه الصناعة الغريبة1. أما الجانب الأول وهو اختيار الكلمات وترتيبها؛ فقد اهتم به العباسيون اهتمامًا شديدًا وجعلوه محور الفصاحة والبلاغة كما نرى ذلك في كتابات الجاحظ؛ إذ يكثر من توصية الأدباء بتصفية أساليبهم واختيار ألفاظهم، وما يزال يرشدهم إلى مواقع الكلمات واستعمالها وما يحسن منها وما يستهجن2. ولعل من طريف صنيعه أنه وضع فاصلًا بين صناعة العباسيين ومن سبقهم من الأعراب، وأقام هذا الفاصل على الملاءمة الدقيقة بين الكلمات والحروف؛ إذ يقول: "ومن ألفاظ العرب ألفاظ تنافَرُ وإن كانت مجموعة في بيت شعر لم يستطع المنشد إنشادها إلا ببعض استكراه3". فالشعر القديم كما يلاحظ الجاحظ لا يبلغ من تنقيح ألفاظه وتصفيتها مبلغ الشعر العباسي الذي كان يعيش فيه والذي ألهمه هذا الحكم؛ ويحمد الجاحظ لحذَّاق الشعراء تخيرهم ألفاظهم وملاءمتهم بين كلماتهم حتى؛ لكأنها سُبكت سبكًا واحدًا4. وكان الناس من حول الجاحظ يعجبون مثله بهذا الجانب، يقول بعض الأدباء العباسيين: "أنذركم حُسْنَ الألفاظ وحلاوة مخارج الكلام، فإن المعنى إذا اكتسى لفظًا حسنًا، وأعاره البليغ مخرجًا سهلًا، ومنحه المتكلم دلًا متعشقًا، صار في قلبك أحلى، ولصدرك أملى، والمعاني إذا كسيت الألفاظ الكريمة، وألبست الأوصاف الرفيعة، وتحولت في العيون عن مقادير صورها، وأربت على حقائق أقدارها بقدر ما زينت وحسب ما زخرفت"5، ولعل هذا ما جعل الجاحظ يقول من بعض الوجوه أن البلاغة في الألفاظ لا في المعاني6؛ فقد بلغ الشعراء والأدباء من تصفية ألفاظهم.

_ 1 LAMBORN, RUDIMENTS OF CRITICISM, CHAP.III 2 البيان والتبيين 1/ 20. 3 البيان والتبيين 1/ 65. 4 البيان والتبيين 1/ 67. 5 البيان والتبيين 1/ 254. 6 الحيوان للجاحظ 3/ 131.

وإحكام تحبيرها ما جعل الناقد العباسي يحس أن المعاني إذا سُبكت سبكًا جيدًا تتحول عن مقادير صورها، وتُرْبى على حقائق أقدارها. والبحتري هو أبرع شاعر عباسي صور هذا الجانب وما بلغ الشعراء من إحسانه وتحبيره؛ فقد عرف بمهارة واسعة فيه، ويقول الباقلاني: "إنه كان يتتبع الألفاظ وينقدها نقدًا شديدا"1 ولا يزال يتتبعها وينقدها حتى يؤلف منها ألفاظًا عذبة جميلة يحس ابن الأثير إزاءها "كأنها نساء حسان عليهن غلائل مصبغات وقد تحلين بأصناف الحلي"2 فألفاظه عليها رشاقة وأناقة، ولها صوت جميل كوسوسة الحليّ، بل قد يكون لها خشخشة الحصى؛ ولكنه حصى هذا النوع الذي يقول فيه بعض الشعراء. يروع حَصاة حاليةَ العذارى ... فتلمس جانب العقد النَّظيم وأما الجانب الثاني وهو "المشاكلة بين اللفظ والمعنى"، فقد كان الأدباء والنقاد وعلي رأسهم الجاحظ يتواصون به كثيرًا3، وكان البحتري يستوفيه استيفاء غريبًا، حتى ليرتفع في بعض مقطوعاته إلى هذا الأفق الذي عرف به بعض الشعراء الغربيين من أمثال تنيسون وفرجيل. ويجد الباحث في كتاب: "أسس النقد" للامبورون بحثًا واسعًا في هذا الجانب إذ حلله تحليلًا دقيقًا؛ غير أنه تحليل خاص بموسيقى الشعر الانجليزي، وما تعتمد عليه من مقاطع وضغوط وحركات طويلة وقصيرة، ومن العسير أن نطبق ذلك على شعر البحتري، فإن الشعر العربي لا يعتمد كالشعر الانجليزي على المقاطع والضغوط والنبرات والحركات الطويلة والقصيرة، ومع ذلك نستطيع أن نلاحظ في وضوح أن البحتري كان يشاكل بين ألفاظه ومعانيه مشاكلة دقيقة، واقرأ له رثاءه للمتوكل إذ يقول: مَحَلٌّ عَلَى القاطولِ أخلق داثرُهُ ... وعادت صروف الدهر جيشًا تُغاورُه4

_ 1 إعجاز القرآن "طبع مطبعة الإسلام" ص106. 2 المثل السائر "طبعة بولاق" ص106. 3 البيان والتبيين 1/ 83، 88، 92، 114، 135 وما بعدها. 4 القاطول: موضع على دجلة كان به قصر المتوكل المسمى الجعفري. أخلق: بلي. الدائر: الدارس. صروف الدهر: نوازله. تغاوره: تحاربه.

كَأَنَّ الصَبا توفي نُذوراً إِذا اِنبَرَت ... تُراوِحُهُ أَذيالَها وَتُباكِرُه1 وَرُبَّ زَمانٍ ناعِمٍ ثَمَّ عَهدُهُ ... تَرِقُّ حَواشيهِ وَيونَقُ خَصرُه تَغَيَّرَ حُسنُ الجَعفَرِيِّ وَأُنسُهُ ... وَقُوِّضَ بادي الجَعفَرِيِّ وَحاضِرُه3 تَحَمَّلَ عَنهُ ساكِنوهُ فُجاءَةً ... فَعادَت سَواءً ضورُهُ وَمَقابِرُه4 فإنك تحس بالقوة والعنف في هذا الرثاء؛ إذ اختار البحتري ألفاظه من ذوات الحروف الضخمة أو من هذا النوع الذي كانوا يسمونه بالجزل؛ لأنه غاضب ثائر، وكأنه ينحت الألفاظ نحتًا ليعبر عن هذا الغضب وتلك الثورة التي أعلنها فيما بعد من القصيدة؛ إذ دعا إلى الانتقاض على من قتلوا المتوكل، وكان الخليفة الجديد هو الذي دبر هذه المؤامرة، وليس من شك في أن البحتري كتب هذه القطعة بمفتاح موسيقى محكم، فقد عبر بهذه الألفاظ الضخمة عن عاطفة الحزن الثائرة، حتى لكأن الألفاظ لها قعقعة السلاح ودوي الموقع التعسة الحزينة؛ ووفق في ربط القوافي بالهاء الساكنة، فجعل الصوت بعد انطلاقه على الكلمات والمقاطع ينخفض فجأة عند القافية، وكأنه لم تعد فيه بقية، ثم يعلو وينطلق في الاندفاع على البيت الثاني، وما يلبث أن ينخفض فجأة كرة أخرى، وهكذا لا يزال الصوت بين ارتفاع وانخفاض كأن الشاعر نائح، فهو يرتفع بالصوت، وما يلبث أن ينخفض به لشدة التأثر والتعب. وبذلك مثل البحتري زفرات الحزن تمثيلًا جيدًا، وندب المتوكل الخليفة المقتول على عرشه ندبًا خالدًا. واقرأ هذه الأبيات التي يقولها في وصف بركة. تنصبُّ فيها وفود الماء معجلة ... كالخيل خارجة من حبل مُجريها كأنما الفضَّة البيضاء سائلةً ... من السبائك تجري في مجاريها إذا علتها الصبا أبدت لها حبكًا ... مثل الجواشن مصقولًا حواشيها5

_ 1 تراوحه: تنتابه في الرواح "عشيًّا". تباكره: تهب عليه بكرة "صباحًا". 2 ناعم: ناعم أهله. حواشيه: جوانبه، ورقة حواشيه كناية عن سعادة أوقاته، والشجر الناضر: الجميل والمراد أن عهده جميل. 3 الجعفري: قصر المتوكل. قوض: تهدم. بادية: ظاهرة. حاضرة: داخلة. 4 سواء: متساوية. 5 الصبا: ريح خفيفة كالنسيم تهب من جهة الشرق. الحبك: الطرق في الرمل، الجواشن: الدروع.

فحاجب الشمس أحيانًا يضاحكها ... ورَيِّق الغيث أحيانًا يباكيه1 إذا النجوم تراءت في جوانبها ... ليلًا حَسِبْتَ سماء رُكِّبَتْ فيها فإنك تشعر أنه أودع هذه القطعة كل ما يمكن من حلية الصوت وزينته فالألفاظ تعبر بأنفسها عن معانيها، إذا عرف كيف يختارها وكيف يلائم بينها؛ حتى جعلنا نحسُّ هذه الحال منشدة اقتضائها لقوافيها. وهذا الجانب من جوانب إحكام القافية وقف عنده النقاد العباسيون كثيرًا، وألحوا على الشعراء أن تصير القوافي إلى قرارها بحيث تتصل بشكلها، وتأخذ حظها من الأماكن المقسومة لها2، حتى ليقول شبيب بن شيبة إن حظَّ جودة القافية وإن كانت كلمة واحدة أرفع من حظ سائر البيت3. وقد أقبل الشعراء يرصدون قوافيهم، ويرشحون لها على صور وهيئات مختلفة، ولعل في هذا ما يلفتنا إلى أن الترشيح والإرصاد وغيرهما من ألوان البديع الصوتية التي ترتبط بقوافي الشعر إنما نشأت تابعة لهذه العناية التي كَلِفَ بها الشعراء، إذا كانوا يلائمون ملاءمة شديدة بين الألفاظ والغناء، ولا يزالون بشعرهم حتى يحيلوه أنغامًا وأرقامًا موسيقية. وأيًّا كان البحتري كان يعرف كيف يلائم بين ألفاظه، وكيف يرشح لقوافيه، وكيف يهيئ لها مكانها، ويَصُفُّ الآذن للقائها، إذا كان شاعرًا ممتازًا في فن الصوت وإن استمر يستمده من القيثارة العتيقة، فيثارة الرعاة القدماء التي حكمها أصحاب الشعر الغنائي -كما رأينا- في كثير من صورها وجوانبها؛ ولكنه عرف كيف يستخرج من هذه القيثارة المحطمة أصواتًا جديدة معجبة، شأن الموسيقيين الممتازين. وكان يعرف في نفسه هذه الخاصة وكان تيَّاهًا بها مُدِلًا، حتى قالوا إنه كان إذا أنشد يتشادق ويتزاور في حركته مرة جانبًا ومرة القهقرى، ويهز رأسه مرة ومنكبه أخرى، ويشير بكمه، ويقف عند كل بيت، ويقول: أحسنت والله، ثم يقبل على المستمعين فيقول: ما لكم لا تقولون

_ 1 حاجب الشمس: قرنها عند طلوعها. ريق الغيث: أوله. 2 البيان والتبيين 1/ 138. 3 البيان والتبيين 1/ 112.

لي أحسنت، هذا والله ما لا يحسن أحد يقول مثله، وربما صنع ذلك أمام الخلفاء فضج المتوكل من صنيعه ذات يوم وأقبل على الصَّيمريّ فقال: أما تستمع ما يقول يا صيمري وكان ينشده قصيدته: عن أي ثغرٍ تبتسمْ ... وبأيّ طرف تحتكمْ فقال: بلى يا سيدي مُرنِي فيه بما أحببت، فقال: بحياتي اهجُه على هذا الروي الذي أنشدنيه1. ومهما يكن فإن البتحري استطاع أن يحول موسيقاه إلى ألحان وأرقام موسيقية خالصة واقرأ له هذه القطعة: لي حَبيبٌ قَد لَجَّ في الهَجرِ جِدَّا ... وَأَعادَ الصُدودَ مِنهُ وَأَبدى ذو فُنونٍ يُريكَ في كُلِّ يَومٍ ... خُلُقًا مِن جَفائِهِ مُستَجَدّا يَتَأَبّى مَنعًا وَيُنعِمُ إِسعا ... فًا وَيَدنو وَصلاً وَيَبعُدُ صَدّا أَغتَدي راضِيًا وَقَد بِتُّ غَضبا ... نَ وَأُمسي مَولَىً وَأُصبِحُ عَبدا وَبِنَفسي أَفدي عَلى كُلِّ حّالٍ ... شادِنًا لَو يُمَسُّ بِالحُسنِ أَعدى2 مَرَّ بي خالِيًا فَأَطمَعَ في الوَصـ ... ـلِ وَعَرَّضتُ بِالسَلامِ فَردّا وَثَنى خَدَّهُ إِلَيَّ عَلى خَو ... فٍ فَقَبَّلتُ جُلَّنارًا وَوَردا3 سَيِّدي أَنتَ ما تَعَرَّضتُ ظُلمًا ... فَأُجازى بِهِ وَما خُنتُ عَهدا رِقَّ لي مِن مَدامِعٍ لَيسَ تَرقا ... وَإِرثِ لي مِن جَوانِحٍ لَيسَ تَهدى أَتُراني مُستَبدِلاً بِكَ ما عِشـ ... ـتُ بَديلاً وَواجِدًا مِنكَ نِدّا حاشَ لِلَّهِ أَنتَ أَفتَنُ أَلحا ... ظًا وَأَحسَنُ شَكلاً وَأَحسَنُ قَدّا فقد كان صاحب الصناعتين يعجب بها إعجابًا شديدًا4، وحقًّا إن البحتري استوفى فيها كل ما يمكن من وسائل التفوق في فن الصوت، فأنت تراه يبدأ

_ 1 معاهد التنصيص 1/ 83. 2 الشادن: ولد الظبية تشبه به الفتاة الجميلة. 3 الجلنار: زهر الرمان الأحمر. 4 الصناعتين ص63.

فيوفق بين الشطرين في المطلع، ويجعلهما مصرعين هذا التصريع الذي كان يعجب به أصحاب البيان، ولا يكتفي بذلك بل نره يلائم بين الحروف في الشطرين؛ فقد تكررت الجيم في الشطر الأول كما تكررت الدال في الشطر الثاني فأحدث ذلك توافقًا صوتيًّا بين الكلمات، وما تلبث أن تراه في البيت الثالث يوفق بين الألفاظ توفيقًا دقيقًا؛ إذ جاء بكلمة "يتأبى" كأنها مشدودة إلى كلمة "ينعم" بواسطة هذا الرباط المحكم "منعًا". وهنا نحسن ما يصنعه التوافق الصوتي بين الحروف والكلمات من صلة في العبارات، ولا يزال البحتري يطلب هذا "التوافق الصوتي" حتى يأتي في الشطر الثاني بكلمتين ثم أخريين على نسقهما وحركاتهما، واستطاع أن يصل إلى ذلك بهذا "الطباق الصوتي" بين "يدنو ويبعد وصلًا وصدًا" وإن هذا ليلفتنا إلى الطباق العباسي يمكن أن نعتبر بعض جوانبه أيضًا لونًا صوتيًّا يأتي به الشاعر من أجل الموسيقى، ومثل الطباق في ذلك هذا التقسيم الذي نراه في البيت والذي كان يُعْرَف به البحتري. والحق أن صاحبنا كان يعرف سر مهنته معرفة دقيقة، وانظر إليه في البيت الرابع كيف حقق لنفسه موسيقاه بما أحدث فيه من الوصل والقرابة بين كلماته؛ فكل كلمة تقبل على أختها، تقبل "أمسى" على "أصبح"، و"مولى" على "عبدًا"، كأن الكلمات من أسرة واحدة، وليست هذه الأسرة إلا أسرة "الطباق الصوتي" وما تستبعه من تقسيم. وانظر في البيت الخامس إلى الكلمتين: بنفسي أفدي، ألا تحس أنهما متشابكتان كأنهما عقدتا الخناصر. وانظر في البيت السابع إلى الجلنار والورد تَرَ البحتري يلائم بين ألفاظه ويشاكل بين كلماته حتى يستوعب هذا اللون الذي كان يعجب به أصحاب البديع والذي سُمي بعدُ مراعاة النظير. وانظر إلى قوافي الأبيات كيف أُحْكم قرارها؛ فقد تتابعت منسقة تنسيقًا جيدًا وها هي "أبدا، صدا، عبدا، أعدى، فردا، وردا، عهدا، تهدا، ندا، قدا" فإنك تراها متحدة في عدد حروفها وحركاتها وسكناتها، وسَمَّى أصحاب البديع ذلك بعدُ بالتطريز، وهو وشي غريب، واستمع إلى هذا البيت: رِقَّ لي من مدامع ليس تَرْقَا ... وارث لي من جوانج ليس تهدا

فقد أقام الكلمات في الشطرين على صفين متقابلين وكأن كل كلمة في الشطر الأول تطلب قرينها في الشطر الثاني، وحاول ذلك ثانية في البيت الأخير: حاشَ لله أنت أفتن ألحا ... ظًا وأحلى شكلًا وأحسن قَدَّا ولكنه لم يبلغ من ذلك ما بلغه في البيت السابق، وهو وجه من وجوه التوافق الصوتي ويسميه أصحاب البديع باسم المماثلة. ومن يقرأ في شعر البحتري يجد أمثلة كثيرة للجوانب الموسيقية الأخرى التي ضبطها أصحاب البديع، من مثل التصدير والترصيع وغير ذلك مما يتصل بالصوت وتنظيمه تنظيمًا موسيقيًّا خاصًّا. ونحن لا نتصفح ديوان البحتري حتى نحس إحساسًا عميقًا بأن موسيقى الشعر العربي أصيبت بترف صوتي شديد؛ إذ استطاعت أن تنهض بقم فنية لم يكن يحلم بها الشعراء القدماء، شعراء البادية، والحق أن البحتري استطاع أن يستخرج من القيثارة القديمة للشعر كل ما يمكن من مهارة فنية للصوت والموسيقى، واقرأ له قصيدته السينية التي يصف فيها إيوان كسرى؛ فإنك ستُرَاعُ حين تراه لا يكتفي بالتوافق الصوتي بين بعض الكلمات أو بعض الحروف في بعض الأبيات؛ بل هو يعمم هذا التوافق في القصيدة كلها، واستمع إليه يستهلها بقوله: صُنتُ نَفسي عَمّا يُدَنِّسُ نَفسي ... وَتَرَفَّعتُ عَن جَدا كُلِّ جِبسِ1 وتماسكتُ حين زعزعني الدَّهـ ... ـرُ التماسًا منه لتعسي ونَكْسِي2 بُلَغٌ من صبابة العيش عندي ... طَفَّفَتَها الأيامُ تطفيفَ بخسِ3 وبعيدًا ما بَيْنَ واردِ رَفْهٍ ... عَلَلٍ شُرْبُهُ وواردِ خِمْسِ4

_ 1 الجدا: العطاء. الجبس: اللئيم. 2 النكس: الانقلاب على الرأس. 3 البلغ: جمع بلغة وهي ما يكفي من العيش. والصبابة: البقية، طففتها: نقصتها. البخس: الغبن. 4 الرفه من العيش: اللين. والعلل: الشرب تباعًا. الخمس: أن ترد الإبل الماء بعد ثلاثة أيام.

وقديمًا عهدتُني ذا هنَاتٍ ... آبياتٍ على الدنيَّاتِ شُمْسِ1 ولقد رابني نُبُوٌّ ابن عَمِّي ... بَعْدَ لينٍ من جانبيه وأُنْسِ2 وإذا ما جُفِيتُ كنتُ حريًّا ... أن أرى غير مصبح حيث أمسي حضرتْ رحلى الهموم فوجَّهْـ ... ـتُ إلى أبيضِ المدائن عَنْسِي3 أَتَسلّى عن الحظوظ وآسَى ... لمحلّ من آل ساسان دَرْسِ4 ذكَّرتنيهم الخطوبُ التوالي ... ولقد تُذكر الخطوب وتُنْسي وهم خافضون في ظلّ عالٍ ... مشرفٍ يحسر العيون ويخسي5 حِلَلٌ لم تكن كأطلال سُعْدَى ... في قفارٍ من البَسابس مُلْسِ6 ومساعٍ لولا المحاباة منِّي ... لم تطقها مسعاةُ عَنْسٍ وعَبْسِ7 فإنك لا شك وعيت ما في هذا الصوت من جمال وزينة، وإذا أخذت تحقق مرجع هذا الجمال ومرد هذه الزينة وجدتهما جميعًا يعودان إلى توافقات موسيقية. وركز البحتري هذه التوافقات في القافية؛ إذ اختار لنفسه قافية ثلاثية في القصيدة كلها حتى يطرزها بهذا التنميق والوشي البالغ. والإنسان لا يتابع البحتري في هذه القصيدة حتى يشعر في وضوح بأنه يسمع الصوت من جهة ويبصره من جهة أخرى؛ فهو مجسم في شكل رائع. وقد وصل صاحبنا إلى هذا التجسيم لا عن طريق القافية وحدها؛ بل عن طريق

_ 1 الهنات هنا: الخصال، الدنيات: الأشياء والأغراض الخسيسة، شمس: عنيدة. 2 رابني: أوقعني في الريب والشك، نبو: جفوة ونفور، ويقصد بابن عمه الخليفة المنتصر. 3 أبيض المدائن: يريد القصر الأبيض بالمدائن، وهو من صنع الأكاسرة، والعنس: الناقة القوية. 4 آسى: أحزن، وآل ساسان: هم حكام الفرس من الأكاسرة قبل الإسلام، درس: دارس وعاف. 5 خافض: راغد العيش رافهه، عال: قصر شاهق، ويقصد القصر الأبيض. مشرف: بالغ الارتفاع، يحسر العيون: يضعفها إذا نظرت إليه، لارتفاعه الشديد. يخسي: يؤذي ويؤلم. 6 حلل: جمع حلة، وهي الطائفة من بيوت القبيلة، البسابس: القفار، ملس: خالية. 7 مساع: مكارم وأعمال جليلة. لم تطقها: لم تستطعها، عنس: قبيلة يمنية، وعبس: قبيلة مضرية.

التوفيق في الملاءمة بينها أو بعبارة أدق بين الحرف الأخير منها وهو السين، وبين الكلمات الأخرى في أبيات القصيدة كلها؛ فكثير منها تكثر فيه السين، وأعد النظر في الأبيات السابقة وخاصة الأول منها والثاني والتاسع والثاني عشر والثالث عشر فإنك تراه يعرف كيف يأتي بكلمات من ذوات السين كي يلائم بينها وبين القافية؛ حتى ليشعر الإنسان كأن الكلمات تريد أن تتجاذب فبينهما صلة شديدة من الموسيقى. ولم يكتفِ البحتري بالإكثار من حرف السين في القصيدة، بل جنح إلى فكرة ربما كانت أكثر تعقيدًا من سابقتها، وهي فكرة الإكثار من حركات الكسر في الكلمات، وبذلك أوجد مجانسة واسعة بينها وبين القافية، كأن يقول في الأبيات السابقة. وقديمًا عهدتني ذا هنَاتٍ ... آبياتٍ على الدنيَّات شُمْسِ وواضح ما في هذا البيت من تقطيعات صوتية داخلية؛ ولكن الذي يهمنا الآن وما نلفت إليه هو أنه عمد إلى الكسرة فعممها في كثير من الكلمات؛ بحيث لا يصل الإنسان إلى القافية إلا ويحس بأن الكلمات تتجاذب تجاذبًا شديدًا، ولعل ذلك هو السبب في أنه أكثر في تلك القصيدة من صنع قوافي داخلية قبل القافية الخارجية على نمط ما نرى في قوله: وتماسكتُ حين زعزعني الدهـ ... ـر التماسًا منه لتَعْسِي ونَكْسِي وأكثرَ من هذه القوافي الداخلية في القصيدة لتتم له تقطيعات صوتية يستطيع بها أن يرتفع هذا الارتفاع الفني الذي جعل القدماء يقولون إن شعر البحتري به صناعة خفية، وليست هذه الصناعة الخفية إلا ما نصفه الآن من هذه المهارة الفائقة في استخدام فن الصوت في الشعر ومعرفة قيمه والاحتكام إليها في صناعته. ويتصل بهذه القوافي الداخلية ما نراه في "سينيته" من تقطيعات في الكلمات كأن يقول: وإذا ما جُفِيتُ كنت حريًّا ... أن أُرَى غَيْرَ مُصْبحٍ حيث أمسى فإنك تراه يوازن بين الكلمتين "غير مصبح" و"حيث أمسى" موازنة دقيقة فهو

يخرجهما متجاذبتين ولكن لا بواسطة السينات ولا بواسطة الكسرات وإنما بواسطة التجانس الصوتي فيها؛ فقد سبقت الأولى بغير والثانية بحيث، وهما متوافقتان في عدد الحروف والحركات والسكنات، ونفس الكلمتين مصبح وأمسى بينهما اتفاق في الموسيقى إذ هما يبدآن بضمة ثم سكون فكسر. ومن هذا النمط قوله: وهُمُ خافضون في ظلّ عالٍ ... مُشْرِفٍ يُحْسِرُ العيون ويُخْسِي فإنك تراه هنا يلائم ملاءمة أوضح من حيث التوافق الصوتي إذا عبَّر قبل يخسي بكلمة يحسر، وكأنه أراد أن يتقدمها برائد بديع من جنسها. والحق أن البحتري فكر طويلًا في الحركات والسكنات والحروف والكلمات في أثناء صناعته لتلك القصيدة. ولعل ذلك هو الذي جعله يصل إلى ملاءمة أخرى بين القافية وكلمات البيت؛ ولكن لا من حيث السينات أو الكسرات أو التقطيعات الصوتية؛ وإنما من حيث عدد الحروف، إذ يلاحظ من يتتبعه في هذه القصيدة أنه عني بالكلمات الثلاثية في صناعتها عناية وفرت كثيرًا من القيم الصوتية، كأنه يقول: وبعيدٌ من بين واردِ رَفْهٍ ... علل شبه ووارد خمس فإنك تحس في هذا البيت جمال الكسرات، وتحس شيئًا آخر وهو نوع من التوافق الصوتي بين آخر الشطر الأول وبين القافية، إذا اتحد معها في عدد الحروف والحركات والسكنات، وهو حقًّا لم يتحد في الحرف الأخير معها، فإن ذلك يخصصه الشعراء بمطالع قصائدهم إذ يصرِّعونها على نحو ما نرى في القصيدة نفسها؛ فالشطر الأول كأنه مسجوع مع الشطر الثاني، وما في هذا البيت الذي نحن بصدده ليس تصريعًا، ومع ذلك فهو ضرب دقيق من التوافق الصوتي، عممه البحتري في كثير من أبيات القصيدة على نحو ما نرى في الأبيات الثالث والسادس والثالث عشر من القطعة السابقة. ومن ينكر أن كلمة علل تلاءمت مع أخواتها في البيت بواسطة هذه الثلاثية المشتركة بينها وبين القافية؟ أرأيت إلى

أي حد استطاع البحتري أن يوفر كثيرًا من القيم الصوتية في القصيدة بطريقة قد تكون معقدة ولكنها في غاية الدقة؟ إذ أمكنه بملاءمات بين القافية وعدد حروفها ورويها وحركة رويّها وبين كلمات البيت أن ينهض بموسيقى بديعة. وهذه الملاءمة يوزعها البحتري على قصائده الأخرى في ديوانه؛ ولكنه لا يركزها في قصيدة كما ركزها في تلك القصيدة السينية فقد جمع لها كل ما يستطيعه من مهارة في استخدام فن الصوت وما وقف عليه من أسرار. وما من شك في أن ذلك كله نشأ عند البحتري متأثرًا بموسيقى الشعر الغنائي إذ كانت هذه الموسيقى تعتمد عليها في أصواتها وأرقامها؛ وكانت هي وما ترتبط به من غناء تعين عليه، وتدعو إلى العناية به والتجديد فيه.

الفصل الثالث: الصنعة والتصنيع

الفصل الثالث: الصنعة والتصنيع الشعر في القرنين الثاني والثالث وعلاقاته الجديدة ... الفصل الثالث: الصنع والتصنيع لِلَهِ ما راحَ في جَوانِحِهِ ... مِن لُؤلُؤٍ لا يُنامُ عَن طَلَبِه يَخرُجنَ مِن فيهِ لِلنَديِّ كَما ... يَخرُجُ ضَوءُ السِراجِ مِن لَهَبِه بشار 1- الشعر في القرنين الثاني والثالث وعلاقاته الجديدة: لا نكاد نمضي في القرن الثاني للهجرة حتى يقوم على صناعة الشعر أمشاجٌ من العرب والموالي الذين كانوا يعيشون في المراكز العقلية الكبرى وخاصة البصرة والكوفة؛ فكان طبيعيًّا أن تتطور صورته وأن تختلف عن صور الشعر القديم الذي كان يستمد من علاقات البادية وصلاتها الحسية والمعنوية، لسبب بسيط، وهو أن من ينظمونه يحيون في المدن، وتؤثِّر فيهم علاقات وصلات جديدة، بعضها سياسي، وبعضها حضري واجتماعي، وبعضها عقلي وثقافي، ونحن نسوق طائفة من هذه العلاقات والصلات الجديدة. الدعوة العباسية: أخذت هذه الدعوة في الظهور منذ أوصى أبو هاشم بن محمد بن الحنفية بالإمامة من بعده إلى محمد بن على بن عبد الله بن العباس؛ فتحولت إليه الفرقة المعروفة في تاريخ الشيعة باسم الكيسانية التي كانت تدين بإمامة ابن الحنفية، كما تحولت إليه فرقة أبي هاشم نفسه المسماة بالهاشمية، وأخذ على رأس المائة يدير من موطنه في الحميمة دعوة سرية للقضاء على بني أمية، وأرسل دعاته

في الآفاق وخاصة في الكوفة وخراسان، وما زال يوالي الدعوة، حتى توفِّي، فخلفه وصيُّه وابنه إبراهيم، ولما طلبه الأمويون وأيقن بالهلاك أوصى لأخيه أبي العباس السفاح، وبعد مغامرات ومخاطرات جَمَّة استطاعت الجيوش الخراسانية بقيادة قحطبة وابنه الحسن القضاء على الدولة الأموية، واتخذ السفاح الهاشمية بالقرب من الكوفة حاضرة له. ولم تطل مدته فخلفه أبو جعفر المنصور، ويُعَدُّ المؤسس الحقيقي للدولة العباسية، وقد ثار عليه عمه عبد الله؛ فقضى على ثورته أبو مسلم الخراساني ولم يلبث هو أن قضى على أبي مسلم إذ استدرجه إلى "المدائن" وقتله. وفي هذه الأثناء كان العلويون يرون العباسيين اغتصبوا دولتهم؛ إذ كانوا يظنون أن الخراسانيين يعملون من أجلهم وأن العباسيين صرفوهم عنهم بخبثهم ومكرهم، فثاروا أولًا في الحجاز بقيادة محمد بن عبد الله بن الحسن ثم ثاروا في البصرة بقيادة أخيه إبراهيم، واستطاع المنصور أن يقضي على الثورتين، جميعًا، ولما تم له الظفر بأعدائه فكر في أن يبتعد عن الكوفة مستقر الشيعة والعلويين؛ فاختار قرية صغيرة على الضفة اليسرى من دجلة تسمى "بغداد" لتكون حاضرة دولته وأقام فيها قصورًا لنفسه وحاشيته، كما أقام فيها دواوين دولته، واجتذب إليها التجار والعلماء. وبنى لجيشه معسكرًا على الضفة اليمنى، وأطلق عليها اسم دار السلام؛ ولكن اسمها القديم هو الذي ذاع وشاع. وعلي هذا النحو استقر العباسيون في بغداد، ولم تقم للشيعة قائمة بعد المنصور. وكذلك الشأن في الخوارج فإن حروب الأمويين طحنتهم، ولم نعد نسمع بثوراتهم في العراق إلا مشاغبات ضئيلة، سرعان ما تخمد، وانتقلوا بنشاطهم إلى بلاد المغرب حيث لا تزال لهم بقايا هناك إلى اليوم. وقد يكون السبب في ذلك أن العرب خوارجَ وغير خوارج في هذا العصر دحرتهم الجيوش الخراسانية فعادت فلولهم إلى الصحراء، ولم تعد الدولة العباسية تشهد في العراق معارضة سياسية على نحو ما كان الأمر في عصر بني أمية. وليس معنى ذلك أن الشيعة عدموا من يتشيع لهم من الشعراء. فقد كان هناك من يتشيعون لهم، غير أن كثيرين من شيعتهم لم يجدوا بأسًا في أن ينضووا تحت لواء العباسيين، فقد رجع الحق بهم إلى أهله

وورثته الشرعيين، وخير من يمثل ذلك السيد الحميري؛ فقد كان من غلاة الشيعة، وكان يجهر بتأييد العباسيين، ومدح السفاح حين دخل الكوفة فقال1: دونكموها يا بني هاشم ... فجددوا من عهدها الدَّارِسا دونكموها فالبسوا تاجها ... لا تعدموا منكم له لابِسَا وظلَّ يحطب في حبل الخلفاء العباسيين، وظلوا يقربونه ويُجزلون له في العطاء وهو لا ينسى عليًّا وفضائله مؤمنًا برجعة إمامه محمد بن الحنفية، ومن مستحسن شعره في آل الرسول صلوات الله عليه2: أتى حسنًا والحسينَ الرسولُ ... وقد برزا ضحوة يلعبانِ وضمهما ثم فدَّاهما ... وكان لديه بذاك المكان وطأطأ تحتهما عاتِقَيْه ... فنعم المطيَّةُ والراكبان ونلتقي في القرن الثاني بكثير من هؤلاء المتشيعين الذين يسرفون في مديح العباسيين مثل منصور النَّمري، وكان يكثر من رثاء العلويين وبكائهم، ومن جيد ما قاله فيهم3: آلُ الرسول ومن يحبُّهم ... يتطامنون مخافة القَتْل أَمِنَ النصارى واليهود وهم ... من أُمَّة التوحيد في أزلِ4 ولعل أهم شاعر أعلن عقيدته الشيعية وعاش يناضل في سبيلها هو دعبل الخزاعي، وكان يتأسى بالنمري في بكاء آل البيت ورثائهم، وامتاز بأنه كان يضيف إلى ذلك هجاء لاذعًا في العباسيين، وكأنه نظر إلى بيتي النمري السابقين حين قال5: أرى أمية معذورين إن قَتَلوا ... ولا أرى لبني العباس من عُذرِ قَتْلٌ وَأَسْرٌ وتحريقٌ ومنهبةٌ ... فعلَ الغزاة بأرض الروم والْخَزَرِ

_ 1 الأغاني "طبع دار الكتب" 9/ 240. 2 طبقات الشعراء لابن المعتز "طبع دار المعارف" ص35. 3 نفس المصدر ص247. 4 أزل: شدة وضيق. 5 أغاني "ساسي" 18/ 44.

وهو صاحب القصيدة التائية المشهورة1: مدارسُ آياتٍ خلتْ من تلاوةٍ ... ومنزل وحْيٍ مقفر العَرَصَاتِ ويقول ابن المعتز: إنها أشهر من الشمس. وكان هؤلاء الشعراء المتشيعون يعدون شذوذًا في تلك الحقب التي استقر فيها الأمر لبني العباس. ولعلهم من أجل ذلك كانوا يداجونهم ويمدحونهم حتى دعبل فإنه كان يكثر من مديح المأمون. وكان الشعراء عامة من حوله ومن قبله وبعده يُضفون عليهم مدائحهم، ووقف كثيرون منهم يدافعون عن حقهم في الخلافة أمام العلويين، وأنهم ورثتها الشرعيون بحكم مانزل به الوحي الكريم في مثل قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} وما جاء في فريضة الميراث من تقديم العم على أبناء البنات، ولعل أحدًا لم يبلغ من ذلك ما بلغه مروان بن أبي حفصة في مثل قوله للمهدي: يا ابنَ الذي وَرِثَ النبيَّ محمدًا ... دون الأقارب من ذوي الأرحام الوحي بين بني البنات وبينكم ... قَطع الخصام فلات حين خصام فارضوا بما قسم الإله لكم به ... ودعوا وراثة كلِّ أَصْيَد حَام2 أنَّى يكون وليس ذاك بكائن ... لبني البنات وراثةُ الأعمامِ فالعباسيون لا العلويون هم أصحاب الحق في ولاية المسلمين، وهو حق إلهي نص عليه القرآن الكريم. وكم من شاعر صور هذا الحق مضيفًا على العباسيين سيرة تقية عادلة؛ فهم ظل الله في أرضه يحكمون الناس بتفويضه وإرادته. الشعوبية خسر العرب بسقوط الدولة الأموية سيادتهم المطلقة التي كانت لهم في هذه الدولة؛ إذ كان السلطان عربيًّا خالصًا، ولم يعد لهم ولا لجزيرتهم أي شأن مهم في السياسية، فقد غلب الفرس على الدولة وأصبحوا هم السادة وأصحاب النفوذ في

_ 1 معجم الأدباء لياقوت "طبع مصر" 11/ 103. 2 الأصيد: السيد. والحامي: من يحمي ذويه.

البلاط العباسي، ومن المحقق أن الثور العباسية لم تكن ثورة على العروبة من حيث هي عروبة؛ وإنما كانت ثورة على الأسرة العربية الحاكمة التي لم تكن تعترف بمبدأ المساواة بين جميع المسلمين عربًا وغير عرب في الحقوق، خارجةً بذلك على نظرية الإسلام التي تنص على هدم العصبية القبلية والجنسية في مثل قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} و {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وقول رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- في خطبة حجة الوداع: "لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى" وقوله: "المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم ". وكان عليٌّ وسابقوه من الخلفاء الراشدين يأخذون بهذه النظرية المثالية، فلما انتهت مقاليد الحكم إلى بني أمية أخذ كثير من العرب يشعرون بالتفوق على الأعاجم الذين غلبوهم. وتملكهم الإحساس بالسيادة، فنظروا إلى غيرهم من الأمم نظرة السيد إلى المسود، وتبلور هذا الإحساس في الدولة وحكامها فلم يسووا بين الموالي المسلمين والعرب في الخراج وأرهقوهم بالضرائب، سوى ما كان من عمر بن عبد العزيز؛ إلا أن قصر عهده لم يتح الفرصة كاملة ليقف الموالي مع العرب على قدم المساواة، وسرعان ما أُسْدلت على سياسته الرشيدة ستور النسيان. وأخذت هذه المشكلة المساواة بين الموالي المسلمين والعرب تتبلور في سرعة، ومن غير شك كانت أهم سبب في اعتناقهم للتشيع، فإن عليًّا حين اتخذ الكوفة حاضرة لخلافته كان يسوِّى بينهم وبين العرب في الحقوق، فلما قُتل وأخذ الأمويون يقسون عليهم في المعاملة كانوا يذكرون أيامه ويبكون عهده ويتمنون أن لو رُدَّ الحكم إلى أحد أبنائه، لعله يعيد الأمر إلى نصابه، حتى إذا نظم العباسيون الدعوة لهم في خراسان انضموا إليها أفرادًا وجماعات، وكونوا هذا الجيش الضخم الذي قضى قضاءً مبرمًا على الدولة الأموية وجيوشها العربية. ومعنى ذلك أن الثورة العباسية الأعجمية لم تكن ثورة على العروبة من حيث هي، وإنما كانت ثورة من أجل تطبيق نظرية الإسلام في المساواة بين العرب والموالي؛ غير أن الظروف أدت إلى أن يكون الفرس في جانب العرب وفي جانب

وأن تعلو كفة الفرس وأن يشعروا شعورًا قويًّا بقوميتهم؛ إذ أصبح النفوذ في أغلبه لهم، واستطاعت أسرة من أسرهم، وهي أسرة البرامكة أن تحتفظ بالوزارة أعوامًا طويلة من القرن الثاني، وكان لها أثر عظيم في حياة الجماعة، إذا عملت على إشاعة التقاليد الفارسية في الحكم، وشجعت على نقل آداب قومهم إلى العربية. وخلفهم بنو سهل في عهد المأمون، وهم فرس أيضًا، ويمضي العصر العباسي إلى خلافة المعتصم فارسيًّا، حتى يُخرج هذا الخليفة أمر الجيش من أيدي الفرس؛ فجلب له جنودًا من الترك ويبني لهم سامرَّا "سُرَّ مَنْ رَأَى". على أن العنصر العربي ظل ممثلًا بقوة، في الخلفاء العباسيين وفي الدين الإسلامي واللغة العربية وفي بعض الأفراد من الوزراء والولاة والقواد أمثال يزيد بن حاتم المهلبي ومعن بن زائدة ويزيد بن مزيد وحُمَيد الطوسي وأبو دُلَف العجلي؛ ولكن مما لا شك فيه أن الأعاجم كانوا متفوقين طوال العصر العباسي الأول، فوقفوا من العرب نفس الموقف الذي كانوا يقفونه منهم في عصر بني أمية. وهنا نجد مشكلة المساواة بين الموالي والعرب تثار في نطاق واسع تحت اسم الشعوبية، وكان واضحًا أن الموالي يسبقون العرب في العلم، إذ كان منهم أكثر العلماء لا في العصر العباسي وحده، بل منذ العصر الأموي، وطبعًا كانوا يسقونهم في الزراعة والحرف المختلفة، وهم اليوم يسبقونهم في السياسة، وأخذت الدولة تفيد فائدة واسعة من النظم الساسانية القديمة، كما أخذت تنظم ترجمة الثقافات الأجنبية. وأصبحت كثرة الأدباء كتّابًا وشعراء من الموالي وخاصة الفرس؛ إذ كان ابن المقفع أكبر كتّاب عصره فارسيًّا، وكذلك كان بشار بن برد زعيم المجددين في الشعر. كذلك هَيَّأ لفتح هذا الباب الكبير: باب الشعوبية، وواضح من اسمها أنها تبحث في فضائل الشعوب وأيها يتقدم غيره من الأمم، وقد تحولوا بها من المساواة التي كانوا يريدونها بينهم وبين العرب إلى إثبات أنهم فوقهم وأفضل منهم، وانبرى لذلك جماعة من علمائهم جعلوا همهم الحط من شأن العرب في جاهليتهم بما كانوا فيه من البداوة والفظاظة ولبعدهم عن أسباب المدنية والحضارة، ووضعوا كثيرًا من الكتب في

مثالبهم، يذكرون فيها مثالب القبائل قبيلة قبيلة، واشتهر بالكتابة في هذه المثالب أبو عبيدة وعَلَّان الشعوبي والهيثم بن عديّ، وتعرضوا لفضائلهم ينقضونها على نحو ما نقض سهل بن هارون فضيلة الكرم في رسالته التي رواها الجاحظ في فاتحة بخلائه، ووضعوا عليهم كثيرًا من القصص وأنطقوهم أشعارًا لم ينظموها، وتعرضوا لأدواتهم وأسلحتهم في القتال ولما كانوا يأخذون به أنفسهم في الخطابة من الاعتماد على العصيّ والقسيّ. وَرَدّ عليهم الجاحظ في البيان والتبيين1 وابن قتيبة2 وغيرهما ردًّا مفحمًا. وكانت هذه الدعوة من غير شك سيئة لأنها تدعو إلى تفريق الجماعة الإسلامية وتثير الأحقاد والضغائن بين شعوبها؛ غير أن ثورة الفرس -فيما يظهر- كانت جامحة، وكان يمدها من اعتلوا منهم المناصب الكبرى في الدولة وخاصة البرامكة، فانقلبت تلك الدعوة إلى ما يشبه ثورة على العرب، وأُغْرِي شعراؤهم بإعلانها؛ فإذا بنا نجد بشارًا الذي كان يفخر في عصر بني أمية بمواليه القيسيين في مثل قوله: أمنتُ مضرة الفحشاء أني ... أرى قَيْسًا تضرُّ ولا تُضَارُ كأن الناس حين تغيب عنهم ... نبات الأرض أخطأه القِطَارُ4 وقوله5: إنني من بني عُقَيل بن كعب ... موضَع السيف من طُلَى الأعناق6 يتغيَّر على العرب وكأنما يشعر أن الحياة واتته وأنها استقامت على هواه؛ فيتبرأ من ولائهم ويرده عليهم، فولاؤه لربه يقول7: أصبحت مَوْلَى ذي الجلال وبعضهم ... مولى العُرَيب فخذ بفضلك فافْخَرِ

_ 1 انظر كتاب العصا في فاتحة الجزء الثالث من البيان والتبيين. 2 راجع كتاب العرب لابن قتيبة في رسائل البلغاء نشر محمد كرد علي. 3 أغاني "طبع دار الكتب" 3/ 139. وديوان بشار "طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر" 3/ 250. 4 القطار: المطر. 5 أغاني: 3/ 139. 6 الطلى: أصول الأعناق، واحدتها طلية. 7 أغاني 3/ 139.

مولاك أكرم من تميم كلها ... أهل الفعال1 ومن قريش الْمَشْعَرِ فارجع إلى مولاك غير مدافع ... سبحان مولاك الأجلِّ الأكبر ويفخر بقومه فخرًا عنيفًا، ويحاول الغض من العرب بكل ما وسعه، ومما يصور عنف ذلك عنده قصيدته2: هل من رسول مخبر ... عني جميع العرب بأنني ذو حسب ... عالي على ذي حسب جدي الذي أسمو به ... كسرى، وساسان أبي وقيصر خالي إذا ... عددت يومًا نسبي ومضى يتحدث عن أجداده من الفرس وأخواله من الروم وأنهم كانوا ملوكًا متوجين يتحلون بالجواهر ويلبسون الفراء الثمينة، وذكروا ما كانوا يضربونه حولهم من الحجابة، وكيف كان الوصفاء يسعون بين أيديهم بصحاف الذهب وأوانيه. وافتخر بأن الدولة العباسية قامت على حرابهم، وعدَّد كثيرًا من مظاهر الخشونة عند العرب، وهي شعوبية جامحة دفعته دفعًا إلى أن يهجو العرب بقصيدة أخرى أكثر مرارة3. ويُرْوَى أنه دخل على المهدي وقد عرف ثورته على العرب وشعوبيته فقال له: فيمن تعتد يا بشار؟ فرد عليه: أما اللسان والزي فعربيان وأما الأصل فعجمي كما قلت في شعري يا أمير المؤمنين: ونبئت قومًا بهم جِنَّةٌ ... يقولون من ذا وكنت العَلَم ألا أيها السائلي جاهدًا ... ليعرفني أنا أنف الكرم نمتْ في الكرام بنو عامر ... فروعي وأصلي قريش العجم وسأله المهدي: فمن أي العجم أصلك؟ فقال: من أكثرها في الفرسان، وأشدها على الأقران، أهل طخارستان4. ولا يغضب المهدي ولا يثور على

_ 1 الفعال: الفعل الجميل من الكرم ونحوه. 2 الديوان 1/ 377. 3 انظر الديوان 3/ 299. 4 أغاني "طبع دار الكتب" 3/ 138.

نحو ما غضب وثار هشام بن عبد الملك في العصر الأموي حين افتخر إسماعيل بن يسار النسائي في بعض مديحه له بآبائه الفرس1. ولم يكن إسماعيل يقصد إلى شعوبية ثائرة على العرب على نحو ما كان يقصد بشار. ومعنى ذلك أن تحولًا واضحًا حدث في الحياة، حتى أصبح الخلفاء يغضبون على هذه الشعوبية، وما يُطْوَى فيها من عصبية جنسية، وكان من أهم الأسباب في هذا الإغضاء أن العجم هم الذين دفعوهم إلى منصة الحكم. وإذا تركنا بشارًا إلى الجيل التالي المعاصر للبرامكة في زمان الرشيد وجدنا هذه الشعوبية تشتد، إذ ازداد تأثر الشعراء بالحضارة الفارسية المادية، ودفعهم ذلك إلى التمرد على التقاليد العربية والإسلامية، فخرجوا على عادات العرب الاجتماعية ونُظم الإسلام وقوانينه، ولعل أبا نواس خير من يمثل هذا الجيل، وأغلب الظن أن ثورته لم تكن ثورة جنسية؛ بل كانت ثورة حضارية من نوع خاص، ثورة الحضارة الفارسية وكل ما اتصل بها من خمر ومجون على العرب وحياتهم الإسلامية، وهو يثور في ضجيج وعجيج وصياح وهجوم حتى على الشعر وتقاليده، على نحو ما نرى في قوله2: قل لمن يبكي على رَسْم دَرَس ... واقفًا ما ضرَّ لو كان جلسْ تصف الرَّبع ومن كان به ... مثل سَلْمَى ولُبَيْنَى وخَنَسْ اترك الربع وسلمى جانبًا ... واصطبح كَرْخِيَّة3 مثل القَبَسْ وقوله4: عاج الشقي على رسم يسائله ... وعجت أسأل عن خمارة البلد5 يبكي على طلل الماضين من أسد ... لا دَرَّ دَرُّك قل لي من بنو أسد؟ ومن تميم ومن قيس ولَفُّهما؟ ... ليس الأعاريب عند الله من أحد

_ 1 أغاني "طبع دار الكتب" 4/ 422. 2 ديوان أبي نواس "طبعة آصاف" ص299. 3 كرخية: خمرة منسوبة إلى الكرخ، ناحية بغداد. 4 الديوان ص266. 5 عاج: وقف وعطف على المكان.

ولم تقف الشعوبية عند ذلك فقد كان الشعراء من العجم يتعصبون للوزراء منهم حين يَلون الحكم، وكان هؤلاء يغدقون عليهم في العطاء، كما كانوا يغدقون على الشعراء من العرب حين يمدحونهم، وقلما وجد في عصر الرشيد شاعر لم يمدح البرامكة، وتنبه زعماء العرب للفكرة؛ فكانوا يجزلون للشعراء في عطاياهم، ومدائح مروان بن أبي حفصة في معن بن زائدة مشهورة، وكذلك مدائح على بن جبلة في أبي دُلَف العجلي وحميد الطوسي. وقد جذبوا بنوالهم كثيرين من شعراء الفرس، ومدائح مسلم بن الوليد في يزيد بن مَزْيد تدور على كل لسان. وقلْ ذلك نفسه في الخلفاء، فقد كان بأيديهم خزائن الدولة، فملئوا منها حجور الشعراء، وكان ذلك باعثًا في تجويد الشعراء لمدائحهم ومراثيهم حتى أتوا فيها بالعجب العجاب. اللهو والمجون لعل مجتمعًا عربيًّا لم يعرف اللهو والمجون كما عرفها المجتمع العباسي في القرنين الثاني والثالث، فقد غرق الناس في الكوفة والبصرة وبغداد إلى آذانهم في الحضارة الفارسية المادية وما يُطْوَى فيها من غناء وخمر. وحقًّا بدأت طلائع ذلك في أواخر العصر الأموي حين ظهر الوليد بن يزيد وحين أخذت الكوفة تسرف على نفسها في اللهو وما يتبعه؛ لكن ذلك لا يقاس في شيء إلى ما كان في العصر العباسي الذي شعر فيه الفرس بحريتهم، حتى لتأخذ شكل ثورة عاصفة على جميع التقاليد العربية. ومضى أبناء هذه الثورة يعبُّون من كئوس اللهو والخمر حتى الثمالة، وانتشرت دورهما في كل مكان، ولم تكن تزخر بالخمر والغناء وحدهما، بل كانت تزخر أيضًا بالقيان والغلمان. وساعد في اتساع هذه الموجة شيئان: ظهور مذاهب شاكّة بلبلت الأفكار وعلى رأسها مذاهب الزنادقة والدهريين، ثم انتشار دور القيان، التي كانت تعرضهن للبيع، وكانت تثقفهن وتؤدبهن وتعلمهن الغناء، ومر بنا في الفصل السابق تفصيل الحديث عن هذه الحركة وأثرها في الشعر ومعانيه وأوزانه. وهي لم تقف

عند ذلك فإن أصحاب هذه الدور كانوا يتخذونهم لتسلية روادها وابتزاز أموالهم؛ فكانت مألفًا للشعراء يختلفون إليها، وكانوا ينظمون فيهن أشعارهم، وهن يغنينهم فيها؛ بينما هم يشربون ويقصفون، ومن غير شك كنَّ من أهم الأسباب في إذاعة الشعر العباسي الحديث عند مطيع بن إياس وبشار وأبي نواس وأضرابهم، إذ كنَّ يحملنه معهم حين يُبَعْنَ، فيدخلنَ به في دار الخلافة ودور الأشراف، كما ينقلنه إلى الأمصار الإسلامية اللائي يرحلن إليها. ويصور كتاب الأغاني هذ الجانب العابث من الحياة العباسية، جانب القيان وغنائهم والأغاني التي تغنوا بها وأخبارهن مع الشعراء الذين كانوا يختلفون إلى دورهن وما نشأ بينهم وبين هؤلاء القيان أو الجواري من حب، صوروه تصويرًا طريفًا في أشعار كنَّ يتغنين بها، وذاعت في كل مكان. وقلما يلمع شاعر إلا وله جارية أو جوارٍ يُذعن شعره، فلمطيع بن إياس جواريه، ولبشار جواريه الأخرى، واشتهر غير شاعر بجارية وقف عليها شعره، اشتهر أبو نواس بجنان، واشتهر أبو العتاهية بعُتْبَة والعباس بن الأحنف بفوز ومحمود الوراق بِسَكن وسعيد بن حميد بفضل. وكان مسلم بن الوليد يلقب بصريع الغواني. وطبيعي أن تكون حياة هؤلاء القيان والجواري حياة ماجنة، ليس فيها طهر إلا شذوذًا، وصور الجاحظ العلة في ذلك، فقال: "كيف تسلم القينة من الفتنة أو يمكنها أن تكون عفيفة؛ وإنما تكتسب الأهواء وتتعلم الألسن والأخلاق بالمنشأ، وهي إنما تنشأ من لدن مولدها إلى أوان وفاتها فيما يصد عن ذكر الله من لهو الحديث ... وبين الخلعاء والمجان ومن لا يسمع منه كلمة جِدّ، ولا يرجع منه إلى ثقة ولا دين ولا صيانة ولا مروءة، وتَروي الحاذقة منهم أربعة آلاف صوت "أغنية" فصاعدًا، يكون الصوت فيما بين البيتين إلى أربعة أبيات، وعدد ما يدخل في ذلك من الشعر، إذا ضُرب بعضه ببعض، عشرة آلاف بيت، ليس فيها ذكر الله إلا عن غفلة، ولا ترهيب من عقاب ولا ترغيب في ثواب، وإنما بنيت كلها على ذِكْر العشق والصبوة والشوق والغُلمة، ثم

لا تنفك من الدراسة لصنعتها منكبَّة عليها تأخذ من المطارحين الذين طرحهم كله تجميش1.." وهؤلاء الجواري كن يختلفن ما بين عَوَّادة وزامرة وصناجة ورقاصة وطنبورية ودفاقة. وكانت كثيرات منهن يحسنَّ الشعر كما يحسن الغناء. يقول أبو الفرج في دنانير جارية البرامكة: "كانت من أحسن الناس وجهًا وأظرفهم وأكملهم وأحسنهم أدبًا وأكثرهم رواية للغناء والشعر2" ويقول في متيَّم: "كانت صفرء مولدة من مولدات البصرة، وبها نشأت وتأدبت وغنت، وأخذت عن إسحاق الموصلي وعن أبيه من قبله، وكانت من أحسن الناس وجهًا وغناء وأدبًا، وكانت تقول الشعر ليس مما يستجاد؛ ولكنه يستحسن من مثلها3" ويقول في عَربب: "كانت مغنية محسنة وشاعرة صالحة الشعر، وكانت مليحة الخطّ والمذهب في الكلام ونهاية في الحسن والجمال والظرف وحسن الصورة وجودة الضرب واتقان الصنعة والمعرفة بالنغم والأوتار والرواية للشعر والأدب4". وكن يستخدمن معرفتهن بالشعر في اجتذاب الرجال إليهن بوسائل مختلفة؛ إذ كن يكتبن أبياتًا مثيرة على عصائبهن ومشادّ الطُّرَرِ والذوائب وعلى المناديل والوسائد والأسرة أو يكتبنها بالحناء على الأقدام5، ويروي بعض العباسيين أنه رأى عريب وعليها قميص موشح بالذهب مكتوب في وشاحة: وإني لأهواه مسيئًا ومحسنًا ... وأقضي على قلبي له بالذي يقضي فحتى متى روح الرضا لا ينالني ... وحتى متى أيام سخطك لا تمضي6 وترجم ابن المعتز في آخر طبقاته لطائفة منهن كن يحسن الشعر7، لعل أهمهن فضل عاشقة سعيد بن حُمَيد، وشعرها في الأغاني يصور عشقها له ومراحله8. وقد بعثت هؤلاء الجواري في الكوفة والبصرة وبغداد لهوًا واسعًا على نحو

_ 1 انظر ثلاث رسائل للجاحظ "نشر فنكل" ص72. 2 أغاني "طبعة الساسي" 16/ 130. 3 أغاني "طبعة دار الكتب" 7/ 253. 4 أغاني "طبعة الساسي" 18/ 175. 5 الموشي للوشاء "طبعة مصر" ص172 وما بعدها. 6 الموشي ص173. 7 انظر الطبقات ص421 وما بعدها. 8 أغاني "طبعة الساسي" 21/ 114.

ما مرَّ بنا في غير هذا الموضع عند مطيع بن إياس: طليعة اللهو الماجن في الكوفة وتبعته جماعته هناك من أمثال والبة والحمادين الثلاثة: حماد عجرد، وحماد بن الزِّبْرقان، وحماد الراوية. وكان بشار في البصرة لا يتغنى بالخمر فحسب؛ بل أكثر ما يتغنى به وصف ما يدور بين المرأة والرجل من علاقات حسية. ثم ظهر أبو نواس والحسين بن الضحاك الخليع وجيلهما فبلغوا من تصوير اللهو والمجون والشذوذ كل مبلغ، وكأن الحياة لم يعد فيها إلا العبث والفجور والاختلاف إلى الحانات ودور القيان، رَوَى الأغاني أنه اجتمع يومًا أبو نواس والحسين بن الضحاك وأبو العتاهية وهم مخمورون، فقالوا أين نجتمع؟ فقال القراطيسي: ألا قوموا بأجمعكم ... إلى بيت القراطيسي لقد هَيَّا لنا النزل ... غلام فاره طوسي وقد هَيَّا الزجاجات ... لنا من أرض بلقيس وقيناتٍ من الحور ... كأمثال الطواويس1 وكان بيت القراطيسي من بيوت القيان الكبيرة التي كان يجتمع فيها الشعراء، ومثله بيت ابن رامين2 وبيوت أخرى كثيرة كانت لياليها كأنها أعراس، يحتفل فيها الشعراء بحبهم وبمجونهم وإثمهم، فإن تركوها فإلى ليالي يحيونها في بيوت الأعيان والأشراف بين السماع والعزف والقصف والخمر والعواطف الشاذة وغير الشاذة، ومن خير ما يصور هذا المجتمع الماجن قصيدة أبي العتاهية3: لهفي على الزمن القصير ... بين الخورنق والسَّدير4 إذ نحن في غُرَف الجنا ... ن نعوم في بحر السُّرور في فتية ملكوا عِنا ... ن الدهر أمثالِ الصقور

_ 1 أغاني "طبعة الساسي "20/ 89. 2 أغاني "طبعة الساسي" 13/ 122. 3 أغاني "طبعة دار الكتاب" 4/ 60. 4 الخورنق والسدير: قصران تروى الأساطير أن النعمان الأكبر بناهما بالقرب من الكوفة.

يتعاورون مُدَامةً ... صَهباء من حَلَب العصير1 عذراء ربَّاها شعا ... ع الشمس في حَرِّ الهجير لم تُدْنَ من نارٍ ولم ... يعلق بها وضَرُ القُدور2 ومقرطقٍ يمشي أمام ... القوم كالرَّشَأ الغَريرِ بزجاجة تستخرج السِّـ ... ـرَّ الدفين من الضمير زهراءَ مثل الكوكب الـ ... ـدري في كف الْمُدير تدع الكريم وليس يَدْ ... رِي ما قبيلٌ من دَبِيرِ3 ومخصَّرات زُرْنَنَا ... بعد الهدوّ من الخدور4 ريَّا روادفهنَّ يلـ ... ـبَسْنَ الخواتم في الخصور5 غُرّ الوجوه محجبا ... ت قاصرات الطَّرف حُور6 متنعِّمات في النعـ ... ـيم مضمَّخاتٍ بالعبير7 يَرْفُلْنَ في حلل المحا ... سن والمجاسد والحرير8 ولم تكن حياة أبي العتاهية كلها لهوًا ومجونًا؛ فقد انصرف عن هذا العبث وتلك الخلاعة إلى الزهد. وربما كان أبو نواس أهم من حمل ذنوب عصره على ظهره؛ فقد عاش حياة متهتكة آثمة يندى لها جبين الأخلاق والآداب الاجتماعية، واشتهر بإجادته لفن الخمريات إذا نظم فيها أروع شعره، حتى عُدَّ شاعر الخمر في العربية، وهو حقًّا لا يبارَى في التغني بها، إذ كانت تملك عليه شغاف قلبه عي نحو ما نرى في قوله9: أثنِ على الخمر بآلائها ... وسَمِّها أحسن أسمائها

_ 1 يتعاورون: يتداولون. 2 الوضر: الأذى والدنس. 3 القبيل: ما قابلك، والدبير: ما خالفك، والعبارة كناية عن أنه لا يدري شيئًا. 4 مخصرات: دقيقات الخصور، والهدو: أوائل الليل. 5 ريّا: ممتلئة. 6 قاصرات الطرف: حابسات عيونهن عن النظر إلى الرجال. 7 مضمخات: مطيبات، والعبير: أخلاط من الطيب والزعفران. 8 المجاسد: جمع مجسد، وهو القميص الذي يلي البدن. 9 الديوان "طبعة آصاف" ص239.

فهي وثنه وصنمه، وذهب يعلن في جرأة أن هذا الصنم هو الذي ينبغي أن يقف به الشعراء ويطوفوا حوله، لا حول الأطلال والنساء والبدويات؛ فقد تغيرت الحياة وخَلَف تلك النساء جوارٍ حسان تشع منهن الفتنة والإغراء، ومن قوله في ذلك1: لا تَبْكِ ليلى ولا تَطْرَبْ إلى هند ... واشرب على الورد من حمراء كالوَرْد كأسًا إذا انحدرت في حَلْق شاربها ... أجْدَتْه حمرتها في العين والخد2 فالحمر ياقوتةٌ والكأسُ لؤلؤةٌ ... في كف جاريةٍ ممشوقة القَدِّ تسقيك من طَرْفها خمرًا ومن يدها ... خمرًا فمالك من سُكرين من بُدِّ ولا يزال يصف الخمر وسقاتها وندمانها وكئوسها ودناتها ومجالسها وما بها من أزهار وريحان وقيان وغلمان. وتحدث في غير خمرية إلى أصحاب حاناتها من اليهود والمجوس والنصارى، وأفاض في وصف خمر الأديرة ورهبانها وراهباتها، وكان يكثر من الإلمام بدير حَنَّة، وفيه يقول3: يا دير حَنَّةَ من ذات الأكَيْراح ... من يَصْحُ عنك فإني لست بالصاحي رأيت فيك ظباءً لا قرون لها ... يَلْعَبن منا بألبابٍ وأرواح ومما يميزه في خمرياته تنويعه في معانيها وإحكامه لتأليفها حتى لتبدو الوحدة العضوية تامة في كثير من مقطوعاتها، وفي أثناء ذلك يعبر عن شغفه بها وذكرياته لها على شاكلة قوله4: ودار نَدامى عطَّلوها وأدْلَجُوا ... بها أثرٌ منهم جديدٌ ودارسُ5 مساحبُ من جَرِّ الزِّقاق على الثَّرَى ... وأضغاثُ ريحان جَنِيٌ ويابس6 حبستُ بها صحبي فجددت عهدهم ... وإني على أمثال تلك لحابس أقمنا بها يومًا ويومًا وثالثًا ... ويومًا له يوم التَّرَحُّل خامس

_ 1 طبقات ابن المعتز ص73. 2 أجدته: أعطته. 3 الديارات النصرانية في الإسلام لحبيب زيات "طبع بيروت" ص22. 4 طبقات ابن المعتز ص206. 5 أدلجوا: ساروا الليل كله أو آخره. 6 الزقاق: جمع زق، وهو دن الخمر، أضغاث: أخلاط.

تُدار علينا الرَّاح في عَسْجَدِيَّةٍ ... حَبَتْهَا بألوانِ التصاوير فارسُ1 قراراتُها كسرى وفي جَنباتها ... مَهًا تَدَّريها بالقِسيِّ الفوارس فللخمر ما زُرَّتْ عليه جُيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس والذكرى تعبق بنفسه لتلك الدار فيصفها على طريقة وصف المحبين لأطلال محبوباتهم وما بقى من آثار ديارهن؛ فيقول إن ندامى انصرفوا عنها ولا يزال فيها من آثارهم أضغاث ريحان رطبة ويابسة، ولا يزال بها علامات جَرِّ الزقاق. وقد عاج بها مع صحبه فقضى حقها من الوقوف بها، بل من المكث خمسة أيام يقصف ويشرب وينتشي. ويصف الكأس التي كانوا يتداولونها ويقول إنها كأس ذهبية رُسمت عليها تصاوير فارسية، تمثِّل كسرى في صيده مع فوارسه. وكانوا يصبون فيها الخمر حتى تبلغ أطواق الثياب، ثم يضيفون الماء حتى يدور بالقلانس. وانظرْ إلى هذه الأبيات التي يقولها في إحدى خمرياته4: صفراءُ لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مَسَّها حَجَرٌ مَسَّتْه سَرَّاءُ رقَّتْ عن الماء حتى ما يلائمها ... لطافةً وجفا عن شكلها الماء فلو مزجت بها نورًا لمازجَها ... حتى تولَّد أنوار وأضواء دارت على فتية دان الزمان لهم ... فما يصيبهم إلا بما شاءوا فَقُل لمن يدَّعي في العلم فلسفةً ... حفظت شيئًا وغابت عنك أشياءُ فإنك تحس عمق لذة أبي نواس بالخمر، حتى لتصبح هذه اللذة فلسفة له في الحياة، بل إنه ليزعم لأصحاب الفلسفة الكلامية من أمثال النظَّام أنه ينقصهم جزء مهم من فلسفتهم، هو فلسفة الخمر أو هو فلسفة اللذة والنشوة بها. وذهب يُعْلِنُ هذه الفلسفة، ويعلن معها استخفافًا بالدين وعقائده التي تحرِّمها وتحرم معها جملة الآثام التي كان يرتكبها على نحو ما نرى في قوله5: وخذها إن أردت لذيذَ عيشٍ ... ولا تَعْدِلْ خليلي بالْمُدَامِ

_ 1 عسجدية: كأس ذهبية. 2 المها: البقر الوحشي. تدريها: تخاتلها. 3 الجيوب: أطواق القمصان والثياب. 4 الديوان ص234. 5 الديوان ص327.

وإن قالوا حرامٌ قل حرامٌ ... ولكن اللذاذةَ في الحرامِ وقوله1: الرَّاح شيء عجيبٌ أنت شاربها ... فاشرب وإن حَمَّلَتْك الراحُ أوزارا يا مَنْ يلوم على حمراءَ صافيةٍ ... صِرْ في الجنان ودعني أسكن النارا ودفعه ذلك إلى كثير من الإلحاد، يذيعه في خمرياته، متعابثًا متماجنًا، وأكثر هذا التباعث والتماجن إنما كان يأتيه في أثناء سكره وشربه، فهو ليس إلحادًا صادرًا من قلبه، وإنما هو عربدة وخلاعة، حتى لينكر البعث والنشور، في مثل قوله2: وملحة باللوم تحسب أنني ... بالجهل أوثر صحبة الشُّطَّار بكرت عليّ تلُومني فأجبتها ... إني لأعرف مذهب الأبرارِ فَدَعي الملام فقد أطعت غوايتي ... وصرفتُ معرفتي إلى الإنكار ورأيت إتياني اللذاذة والهوى ... وتعجُّلًا من طيب هذي الدار أحرى وأحزم من تنطُّر آجلٍ ... علمي به رَجْمٌ من الأخبار ما جاءنا أحد يخبر أنه ... في جنةٍ من مات أو في النار ولم يكن الحسين بن الضحاك يقل عنه خلاعة. وكان مثله يكثر من الغزل بالغلمان، ويظهر أنه كان من ذوق هذا العصر ومُجَّانِهِ الآثمين أن يكون الغلام ألثغ أغن الصوت، يتطيب، ويصفف شعره ويجعله كالعقرب على صُدغة، يقول الحسين في غلام3: بأبي ماجن السريـ ... ـرة يبدي تَعَفُّفًا حَفَّ أصداغه وَعَقْـ ... ـرَبها ثم صَفَّفَا وحَشا مَدْرَجَ القُصا ... ص بمسكٍ ورصَّفا ويَرْوي الأغاني للحسين كثيرًا من المقطوعات في وصف الغلمان، مما يدل

_ 1 الديوان ص283. 2 انظر الموشح للمرزباني ص278 وما بعدها، والوساطة بين المتنبي وخصومه "طبعة الحلبي" ص63 وما بعدها. 3 أغاني "طبعة دار الكتب" 7/ 180.

على أنه كان مولعًا بالشذوذ الجنسي، ومما روي له من ذلك قوله في غلام1: عالِمٌ بِحُبِّيهِ ... مُطْرِقٌ من التِّيهِ يوسفُ الجمال وفر ... عونُ في تعدِّيه لا وحقِّ ما أنا من ... عطفه أرجِّيه ما الحياة نافعة ... لي على تأبِّيه النعيم يشغله ... والجمال يطغيه فهو غير مكترثٍ ... للذي ألاقيه تائه تزهّده ... في رغبتي فيه والولع بالغلمان كان آفة هذا العصر، ومن يقرأ الأغاني يخيل إليه أن هذا الولع كان عامًّا بين الشعراء، وكان دور اللهو تعج بهم؛ فقلما توجد دار لهو دون أن يكون فيها ظبي غرير أو ظبية غريرة بل ظباء مختلفة، ولعلنا لا نغلو إذا زعمنا أن ما خلفه العصر العباسي من الغزل الشاذ بالغلمان يعدل ما خلفه من الغزل بالجواري والقيان. وكان الشعراء في هذا الغزل جميعه لا يعبرون غالبًا عن عواطف روحية؛ إنما يعبرون عن لذائذ حسية مسفَّة. وتعلَّق الحسين على شاكلة أبي نواس بالأديرة ووَصف قساوستها ورهبانها، ومن قوله في دير مُدْيان2: يا دَيْرَ مُديان لا عرِّيت من سكن ... هَيَّجت لي سقمًا يا دير مُدْيانا هل عند قَسّك من علم فيخبرنا ... أم كيف يُسعف وجه الصَّبر مَن بانا حُثَّ المدام فإن الكأس مترعةً ... مما يهيج دواعي الشوق أحيانًا وأكثر الشعراء من التغني بالأديرة وخمورها، حتى ليؤلف ذلك ديوانًا خضمًا من دواوين الشعر العباسي، ولعل ذلك ما جعل القدماء يكثرون من التأليف في هذا الموضوع، وربما كان أهم شاعر أكثر من النظم فيه في أثناء القرن الثالث الهجري هو ابن المعتز، فديوانه يطفح بالحديث عن الأديرة المطيرة ودير السوسي

_ 1 أغاني 7/ 185. 2 أغاني 7/ 193.

ودير عَبْدون، وفيه يقول1: سقَى الجزيرة ذات الظلّ والشجر ... وَدَيْر عبدون هَطَّالٌ من المطر يا طالما نبَّهتني للصَّبوح به ... في ظلمة الليل والعصفور لم يَطِر أصوات رهبانِ دَيْرٍ في صلاتهم ... سود المدارع نَعَّارين في السَّحَر ويظهر أن الرهبان كانوا يعنون بخمورهم؛ فتعلق بها الشعراء، وطلبوها من كل دَيْر، ووصفوا ما لذ لهم منها وطاب كشراب القربان الذي يقول فيه ابن المعتز2. أسكنوها في الدَّنِّ من عهد نوحٍ ... كظلام فيه نهارٌ حبيسُ من شراب القرْبان يوصى بها الشمـ ... ـاسُ خزَّان بيتها والقسوسُ والحق أن كثيرًا من الشعراء في القرنين الثاني والثالث أسرفوا على أنفسهم في اللذات، تدفعهم إلى ذلك الحضارة المادية التي عاشوها، وذهبوا يصورون ذلك في صراحة صريحة وإباحية سافرة، لا يردعهم خلق ولا دين، فخلفوا لنا دواوين ضخمة من أدب عار مكشوف، قلما عرف أصحابه شيئًا من الخجل والحياء. الزندقة والزهد: رأينا الفرس يسيطرون بحضارتهم المادية على حياة الشعر والشعراء؛ فإذا تلك الحياة تطبع بطوابع قوية من اللهو والمجون. وأخذوا ينقلون تراثهم الأدبي الفارسي بكل ما فيه من معتقدات دينية عرفت بين آبائهم، فنقلوا "الأفستا" كتاب داعيتهم زرادشت وما كان يذهب إليه من أن في العالم إلهين: إلَهًا للخير والنور هو أهورا مزدا، وإلَهًا للشر والظلمة هو دروج أهرمن. وكان هذا الكتاب يشتمل على صلوات ومواعظ. وظهر بعده ماني ومزج بين عقيدته والنصرانية ودعا إلى زهد شديد، وأخذ يفسر كتاب الأفستا تفسيرًا عقليًّا؛ فعدوه في أول الأمر مارقًا، وسموا أتباعه زنادقة أي ملحدين، ولم تلبث تعاليمه أن عمت في بلاد الفرس. ولم يستطع مزدك داعيتهم الثالث الذي ظهر في أواخر القرن الخامس الميلادي أن

_ 1 الديارات لحبيب زيات ص29. 2 الديارات ص41.

يكسر من تعاليم المانوية أو أن يخضد من شوكتها. وظل الإيرانيون بعد الإسلام يتعلقون بها؛ حتى إذا انتهينا إلى زمن العباسيين وجدناها لا تزال حية مزدهرة، ولا يزال كثير منهم ثنويًّا يؤمن بإلهي النور والظلمة. وكان نَفَرٌ منهم يعلن إسلامه في الظاهر ويضمر في الباطن تلك الزندقة أو تلك المانوية وما أذاعه ماني من عقائد وتعاليم، ويشرح الجاحظ طرفًا من هذه التعاليم فيقول1: "إن المنانيَّة تزعم أن العالم بما فيه من عشرة أجناس، خمسة منها خير ونور وخمسة منها شر وظلمة، وكلها حاسَّة وحارّة، وأن الإنسان مركب من جميعها على قدر ما يكون في كل إنسان من رجحان أجناس الخير على أجناس الشر ورجحان أجناس الشر على أجناس الخير، وأن الإنسان وإن كان ذا حواس خمسة فإن في كل حاسة متونًا من ضده من الأجناس الخمسة؛ فمتى نظر الإنسان نظرة رحمة فتلك النظرة من النور ومن الخير، ومتى نظر نظرة وعيد فتلك النظرة من الظلمة، وكذلك جميع الحواس. وإن حاسة السمع جنس على حدة وإن الذي في حاسة البصر من الخير والنور لا يعين الذي في حاسة السمع من الخير؛ ولكنه لا يضاده ولا يفاسده ولا يمنعه فهو لا يعينه لمكان الخلاف والجنس ولا يعين عليه لأنه ليس ضدًّا. وإن أجناس الشر خلاف لأجناس الشر ضد لأجناس الخير، وأجناس الخير يخالف بعضها بعضًا ولا يتضادُّ. وإن التعاون لا يقع بين مختلفها ولا بين متضادها؛ وإنما يقع بين متفقها". وكان ماني يحرم ذبح الحيوان، ودعا إلى الزهد في الحياة والتقشف، وفرض على أتباعه صلوات كانوا يستقبلون بها الشمس، فيدعون ويزمزمون. وكلمة زنديق أي مانويّ ليست عربية وإنما هي فارسية، عربت وأطلقت بنفس الاصطلاح الذي كانت تطلق به في بيئتها الأصلية أي على أصحاب ماني، وقد كثر هؤلاء الزنادقة منذ فاتحة العصر العباسي، حتى إذا كنا في عصر المهدي وجدنا موجتها تبلغ أقصى حدتها، حتى يضطر إلى اتخاذ ديوان للفحص عنهم والتنكيل بهم، وأكبر الظن أنه لم يجد فيهم خطرًا على الإسلام وحده،

_ 1 الحيوان 4/ 441.

بل رآهم أيضًا خطرًا على دولته، وكذلك شعر الخلفاء من بعده، وخاصة لتلك الثورات التي كانت تنشب ضدهم في إيران مثل ثورة المقنَّع الخراساني الذي كان يزعم أن الذات الإلهية تجسدت في أبي مسلم ثم حلَّت فيه، ومثل ثورة خليفته بابك الْخُرَّمي لعهد المأمون. ويجمل لنا المهدي تعاليمهم في وصيته لابنه الهادي إذ يقول له1: "يا بني إن صار لك الأمر فتجرد لهذه العصابة "الزنادقة"؛ فإنها فرقة تدعو الناس إلى ظاهر حسن كاجتناب الفواحش والزهد في الدنيا والعمل للآخرة، ثم تخرجهم إلى تحريم اللحم ومس الماء الطهور وترك قتل الهوامّ تحرجًا وتحوُّبًا، ثم تخرجهم من هذه إلى عبادة اثنين أحدهما النور والآخر الظلمة، ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات والاغتسال بالبول وسرقة الأطفال من الطرق لتنقذهم من ضلال الظلمة إلى هداية النور؛ فارفع فيها الخشب وجرد فيها السيف، وتقرب بأمرها إلى الله لا شريك له". ولم يُقم المهدي لهم ديوان الزنادقة فحسب؛ بل دعا أيضًا المتكلمين والمعتزلة للرد عليهم وتأليف الكتب في نقض عقيدتهم، ومن يقرأ الحيوان للجاحظ يرى إلى أي حد شغل المعتزلة من أمثال النظّام أنفسهم بمناظراتهم ودَحْض معتقداتهم؛ فهم وأمثالهم من الدهريين شغلهم الشاغل. ويسوق الجاحظ ثبتًا طريفًا يضم من كان يتزندق من الشعراء، وهم -حسب إحصائه- الْحَمَّادون الثلاثة: حماد عجرد حماد الراوية وحماد بن الزّبْرِقان ويونس بن أبي فروة وعلى بن الخليل ويزيد بن الفيض ويونس بن هارون وعمارة بن حمزة وجميل بن محفوظ ومطيع بن إياس وقاسم بن زنقطة ووالبة بن الحباب وأبان بن عبد الحميد2. ويَعجَبُ من زندقة أبان ويقول3: "أما اعتقاده فلا أدري ما أقول لك فيه؛ لأن الناس لم يؤتوا في اعتقادهم الخطأ المكشوفَ من جهة النظر، ولكن للناس تأسٍّ وعادات وتقليد للآباء

_ 1 الطبري "طبعة أوروبا" 3/ 588. 2 انظر الحيوان 4/ 446 وما بعدها، وقارن بأمالي المرتضي 1/ 131. 3 الحيوان 4/ 451.

والكبراء، ويعملون عن الهوى، وعلى ما يسبق إلى القلوب، ويستثقلون التحصيلَ ويهملون النظر، حتى يصيروا في حال متى عاودوه وأراده نظروا بأبصار كليلة وأذهان مدخولة ومع سوء عادة. والنفس لا تجيب هي مستكرهة، وكان يقال: العقل إذا أكره عمي. ومتى عمي الطبع وجَسا وغلظ وأهمل حتى يألف الجهل لم يكد الفهم ما عليه وله؛ فلهذا وأشباهه قاموا على الإلف والسابق إلى القلب". ويظهر أن أصحاب هذه الدعوة من الفرس كانوا لا يكتفون باعتناقها؛ فقد كانوا يدعون إليها مَنْ حولهم، ودخل في اعتقادهم غير عربي مثل مطيع بن إياس الكناني ووالبة بن الحباب الأسدي إن صحت عروبتهما؛ على أننا نلاحظ أن كثير ممن كانوا يتهمون بالزندقة في العصر إنما اتهموا بها من أجل فسقهم ومجونهم واستجابتهم لغرائزهم الشاذة، ونحن لا نستطيع أن نبرئ منها مطيعًا، فقد أحضرت ابنته إلى الرشيد للتحقيق معها في تهمة الزندقة، فأقرت بها، وقالت: "هذا دين علَّمنيه أبي". وهناك جماعة قتلوا بها، ونفس قتلهم يشهد شهادة قاطعة بزندقتهم؛ فقد قتل المهدي بشارًا، وإذا رجعنا إلى شعره وجدناه يشيد بعبادة النار في بيته المشهور1: الأرضُ مظلمةٌ والنَّارُ مشرقةٌ ... والنار معبودةٌ مذ كانت النارُ واستمد من ذلك دليلًا على أن إبليس خير من آدم؛ لأنه خلق من نار، أما آدم فخلق من طين، فقال2: إبليس أفضل من إبيكم آدم ... فتنبهوا يا معشر الفُجَّار النارُ عنصره وآدم طينةٌ ... والطين لا يسمو سُمُّو النارِ ولما كثر منه ذلك نادى واصل بن عطاء في الناس أن يقتلوه؛ ففرَّ إلى البصرة ولم يزل غائبها عنها حتى توفِّي واصل، بل حتى عمرو بن عبيد، وردَّ عليه صفوان الأنصاري بشعر مفحم3 غير أنه عاد إلى البصرة وعادت معه زندقته، حتى سفك

_ 1 البيان والتبيين 1/ 16. 2 رسالة الغفران "نشرة كامل كيلاني" 2/ 137. 3 البيان والتبيين 1/ 27 وما بعدها.

المهديُّ دمه. وممن قتله المهدي على الزندقة صالح بن عبد القُدُّوس الأزدي، وكان يعلن في البصرة مذهبه في الثنوية. ويقال أن أبا الهذيل العلاف المتكلم ناظره فقطعه، ثم قال له: على أي شيء تعزم يا صالح؟ فقال: أستخير الله وأومن بالاثنين. ولما علم بأن ديوان الزنادقة يرصده هرب إلى دمشق؛ فطلبه المهدي وزجَّ به في سجن تلك الفئة الباغية، حتى يحاكمَ، فقال في سجنه: خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى قُبِرْنَا ولم ندفن فنحن بمعزلٍ ... من الناس لا نُخْشَى فنُغْشى ولا نَغْشى وقيل: إنه صلى صلاة تامة الركوع والسجود؛ فقيل له: ما هذا ومذهبك معروف: قال سُنَّة البلد وعادة الجسد وسلامة الأهل والولد. وأحضر للمحاكمة بحضرة المهدي فنوظر فيها اتُّهم به من الزندقة؛ فأظهر التوبة، فقال له المهدي ألست القائل في حفظك ما أنت عليه: رُبَّ سرٍّ كتمتُه فكأني ... أخرسٌ أو ثَنَي لسَانِي خَبْلُ ولو أني أبديتُ للناس علمي ... لم يكن لي في غير حَبْسىَ أَكْلُ قال: فإني أتوب وأرجع، فقال له المهدي: هيهات! ألست القائل: والشيخُ لا يترك أخلاقه ... حَتى يُوَارَى في ثَرَى رَمْسه إذا ارعوى عاوده جهلُه ... كذي الضَّنا عاد إلى نُكْسِه ثم قُدِّم، فقتل وصُلب على الجسر ببغداد1. ووراء صالح وبشار شعراء كانوا زنادقة حقًّا، ولم يقتلوا، وكأن التهمة لم تثبت عليهم في جلاء لديوان الزنادقة والقائمين عليه. ومن كبار الزنادقة حماد عجرد، يقول أبو نواس: "كنت أتوهم أن حماد عجرد؛ إنما يرمى بالزندقة لمجونه في شعره، حتى حُبِسْتُ في حَبْس الزنادقة، فإذا حماد عجرد إمام من أئمتهم، وإذا له شعر مزاوج بيتين بيتين يقرءون به في صلاتهم2". وأبو نواس خير من يصور الصنف الثاني من الزنادقة التي كانت تلصق بهم هذه التهمة بسبب مجونهم، وبسبب ما قد يبدر على

_ 1 انظر في أخبار صالح أمالي المرتضي 1/ 144 وما بعدها، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي 9/ 303. 2 أغاني "طبعة دار الكتب" 14/ 324.

ألسنتهم في قصفهم وشربهم من أبيات مارقة على شاكلة قوله1 يا ناظرًا في الدين ما الأمر ... لا قدرٌ صحَّ ولا جَبْرُ ما صح عندي من جميع الذي ... تذكر إلا الموت والقَبْرُ ولكن هذا كان تعابثًا ومجانة، وكان القائمون على ديوان الزنادقة يميزون بينه وبين الزندقة الحقيقية؛ فيكتفون بحبس أبي نواس حين يأمرهم بعض الخلفاء أو بعض الوزراء تعذيرًا له، حتى يرتدّ عن غيّه. على أن هذا الجانب في حياة المجتمع العباسي وما انطوى فيه من زندقة ومجون ينبغي ألا يضع غشاوة على أعيننا فلا نرى هذا المجتمع على حقيقته. لقد كان فيه لهو وترف، وكان تحفة عقائد الزنادقة والدهريين؛ ولكن ذلك إنما كان يشيع في بعض البيئات وفي دور المجانة والخلاعة. أما بعد ذلك فقد كانت هناك كثرة من يتّبعون سبيل الرشاد، وكان هناك الزهاد والعباد من أمثال عمرو بن عبيد وموسي بن سيّار الأسواري وعمرو بن فائد والقاسم بن يحيى وصالح المرِّي، هؤلاء الذي ملئوا العراق بزهدهم ومواعظهم. وكان هناك تلاميذ أبي حنيفة وابن حنبل وأضرابهما من أصحاب الشريعة الإسلامية وحملة الحديث. وكان هناك المعتزلة الذين وهبوا أنفسهم للذود عن حياض الإسلام والرد على الملاحدة والزنادقة. وكان هناك رابعة العدوية وأمثالها من الزاهدات. فموجة الزهد لم تكن أقل حدة من موجة المجون، ويُظَنُّ أنه دخلتها عناصر أجنبية مختلفة من زهد الهنود، وزهد المسيحية ورهبانها، وحتى من زهد المانوية. ولعلنا لا نعجب بعد ذلك إذا رأينا بعض الشعراء الماجنين مثل أبي نواس تجري على ألسنتهم أشعار رقيقة في الزهد2. وكان صالح بن عبد القدوس على زندقته يكثر من الترغيب عن الدنيا والزهد فيها، ولا يني يذكر الموت والقبر3. وكان شعره كله أمثالًا وحكمًا،

_ 1 انظر الوساطة ص63، والموشح ص276. 2 انظر باب الزهد في ديوان أبي نواس. 3 طبقات الشعراء لابن المعتز ص91.

حتى قالوا إن ديوانه يشتمل على ألف مثل عربي وألف مثل أعجمي1، ويعجب ابن المعتزة مما يُرْوَى عنه من زندقته، ويَرْوي له بعض أشعاره زاهدة2 من مثل قوله: وليس بعجز المرء إخطاؤه الغنى ... ولا باحتيال أدرك المال كاسبه ولكنه قبضُ الإله وبَسْطُه ... فلا ذا يجاريه ولا ذا يغالبه إذا كمَّل الرحمن للمرء عقلَهُ ... فقد كملتْ أخلاقه ومناقبه وقوله في أصحاب القبور: ألا أحد يبكي لأهل محله ... مقيمين في الدنيا وقد فارقوا الدنيا كأنهم لم يعرفوا غير دارهم ... ولم يعرفوا غير التضايق والبلوى وقوله: فوحقِّ من سمك السماء بقدرة ... والأرض صيَّر للعباد مِهَادا إن المصرَّ على الذنوب لهالكٌ ... صَدَّقت قولي أو أردت عنادا وربما كان أكبر من تغنَّى بالمهد في هذا العصر أبو العتاهية، وقد بدأ حياته ماجنًا أشد ما يكون المجون، ثم حانت منه التفاتة فزهد في حطام الدنيا ولبس الصوف، وأخذ يتغنى بالموت والفناء وما ينتظر الناس من ظلمة القبر ووحشته على شاكلة قوله3: حتى متى أنت في لهو وفي لعب ... والموت نحوك يهوى فاغرًا فاه؟ ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... رب امرئ حتفه فيما تمناه تغترّ للجهل بالدنيا وزخرفها ... إن الشقيّ لمن غرته دنياه كأن حيًّا وقد طالت سلامته ... قد صار في سكرات الموت تغشاه نلهو وللموت مُمْسَانا وَمُصْبَحنا ... من لم يصبِّحه وجه الموت مسَّاه ولا يزال على هذا النحو يتحدث عن مصير الإنسان الذي ينتظره وأن من

_ 1 التحفة البهية 217. 2 طبقات الشعراء ص91 وما بعدها. 3 ديوان أبي العتاهية "طبعة بيروت سنة 1886" ص292.

الخير أن يقدِّم لهذا المصير العملَ الصالح، قبل أن تفيض روحه وينكشف عنه الغطاء. ونراه يكثر في أثناء ذلك من الابتهالات ومن الدعاء، منقبضًا عن الدنيا وملاذها وكل ما فيها من متاع؛ بل إنه ليقبِّح هذا المتاع وما يُطْوَى فيه من نعيم حتى ليقول1: رغيفُ خُبْزٍ يَابِسٍ ... تأكله في زاويَهْ وكوز ماء باردٍ ... تشربه من صافيهْ وغرفةٌ ضيِّقَةٌ ... نفسُك فيها خاليهْ خيرٌ من الساعات في ... ظلِّ القصور العاليهْ وكان يتَّهم بالزندقة وأن هذه الألحان يستمدها منها على نحو ما استمدها قبله صالح بن عبد القدوس. وكان وراءه ووراء صالح كثيرون زهدوا زهدًا إسلاميًّا خالصًا، ومن ثم لم يتهموا في زهدهم؛ لأنهم صدروا فيه عن عقيدة صحيحة مثل أبي محمد اليزيدي، وله أشعار كثيرة في الموعظة والحكمة،2 من مثل قوله3: إذا نكبات الدهر لم تعظِ الفتى ... وأفزع منها لم تعظه عواذله ومن لم يؤدبه أبوه وأمه ... تؤدبه روعات الرَّدَى وزلازله فدع عنك ما لا تستطيع ولا تُطِع ... هواك ولا يغلب بحقك باطله وممن كانوا يكثرون من أشعار الزهد محمود الوراق، وأكثر أشعاره أمثال وحكم ومواعظ وأدب4 على شاكلة قوله5: بكيت لقرب الأجل ... وبعد فوات الأمل ووافد شيب طَرَا ... بعَقْب شبابٍ رَحَلْ شبابٌ كأن لم يكن ... وشيبٌ كأن لم يزل

_ 1 الديوان ص304. 2 طبقات الشعراء لابن المعتز ص275. 3 معجم الأدباء لياقوت "طبعة مصر" 20/ 32. 4 ابن المعتز ص368. 5 انظر في هذه القطعة وتاليتها البيان والتبيين 3/ 198، وقارن بزهر الآداب 1/ 89، وعيون الأخبار 2/ 326.

طواك بشير البقاء ... وحلَّ بشير الأجل وقوله: رأيت صلاح المرء يصلح أهله ... ويعديهم داء الفساد إذ فسد يعظَّم في الدنيا بفضل صلاحِه ... ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد ومعنى هذا كله أن ألحان الزهد لم تكن تقل عن ألحان المجون إن لم تزد عليها، وغاية ما في الأمر أن الألحان الأخيرة هي التي كانت تذيع على ألسنة الجواري والمغنين، وقد نشروها في كل مكان.

العلاقات اللغوية

2- العلاقات اللغوية: إذا رجعنا إلى عصر بني أمية وجدنا الكوفة والبصرة أهم مصرين عربيين تصطدم فيهما اللغة العربية باللغات الأجنبية؛ فقد كان سكانها أخلاطًا من العرب والموالي فرسًا وغير فرس. وحقًّا كان هؤلاء الموالي يتعربون، ولكنهم كانوا يجدون عناءً شديدًا من نظام الإعراب والتصريف في العربية، ولعل ذلك ما جعل هاتين المدينتين تبادران إلى وضع قواعدهما، حتى لا يضل الموالي في شعابهما الوعثة. ولم يكن هذا كل ما عانوه؛ فقد كانوا يعانون أيضًا من لكناتهم وما يضطرون إليه من تكيف عضوي لمخارج الحروف ينجحون فيه أحيانًا، وأحيانًا يفشلون، فكان من الصعب عليهم مثلًا أن ينطقوا بحروف الإطباق التي لا يعرفونها في لغاتهم أو ينطقوا بالعين أو بالحاء، وكان ذلك يصيب ألسنتهم بضروب مختلفة من اللثغات. وكان ينزلق إلى العربية على ألسنتهم كثير من الألفاظ الدخيلة التي أخذت تعرّب، تارة عن النبطية التي كان يتحدث بها سكان السواد في العراق وتارة عن الفارسية التي كانت منتشرة بين سكان الكوفة والبصرة، ويعرض علينا الجاحظ في بيانه مدى تأثيرهما في عربية البلدتين.

ولغتهما اليومية1، ويقول: إن هذا التأثير نفذ إلى سكان المدينة في الحجاز2 ونحن لا ننسى الأجيال العربية الأخيرة في عصر بني أمية؛ فقد كان كثير منهم من أبناء الجواري الأجنبيات، وكانوا يتأثرون بأمهاتهم في نطقهم لبعض الحروف3 وأيضًا فإنه بمضي الزمن أخذ كثير من العرب ينشأ في المدن، منبتّ الصلة بالبادية، فضعفت السلائق اللغوية وأخذ يظهر اللحن بين فصحائهم؛ بل إننا نجد بعض من نشئوا في البادية يلحنون مع ما عرفوا به من فصاحة مثل الحجاج4، ولعل ذلك ما جعل خلفاء بني أمية يحرصون على تأديب أبنائهم، حتى لا يلحنوا في خطابتهم5. وإذا أخذنا ننظر في الشعراء الذين اشتهروا في البصرة والكوفة لعهد بني أمية وجدنا كل هذه الظواهر التي قدمناها بارزة في أخبارهم؛ فهذا يزيد بن مفرِّغ الذي عاصر زياد بن أبيه وابنه عبيد الله يحشو شعره بالألفاظ الفارسية6، وكان ينسب نفسه في حمير؛ غير أننا نظن ظنًّا أنه كان فارسيًّا، وظهر من بعده شاعر فارسي لا شك في فارسيته هو زياد الأعجم، كان جزل الشعر فصيح الألفاظ7، ومع ذلك كان يجد صعوبة في تكييف مخارج الحروف التي تخالف حروف لغته، فكان يبدل العين همزة والحاء هاء ويجعل السين شينًا والطاء تاء8 وينشد في قوله في المهلب بن أبي صفرة أو ابنه يزيد9: فتى زاده السلطان في الودِّ رفعةً ... إذا غيَّر السلطانُ كلَّ خليل

_ 1 البيان والتبيين 1/ 20 وما بعدها. 2 نفس المصدر 1/ 18 وما بعدها. 3 انظر البيان والتبيين 1/ 72، 2/ 210، وما بعدها حيث يروى أن عبيد الله بن زياد ابن أبيه كان يبدل الحاء هاء والقاف كافًا، ويعلل لذلك بأنه نشأ في حجر بعض العجم. 4 طبقات فحول الشعراء لابن سلام "طبعة دار المعارف" ص13، والبيان والتبيين 2/ 218. 5 عيون الأخبار 2/ 158، 167، وانظر البيان والتبيين وما يرويه من لحن الوليد بن عبد الملك 2/ 204 وما بعدها. 6 البيان والتبيين 1/ 143. 7 أغاني "طبعة الساسي" 14/ 99. 8 أغاني 14/ 99، والبيان والتبيين 1/ 71، والكامل للمبرد "طبعة رايت" ص366. 9 في الحيوان 7/ 151: أن البيت من قصيدة في يزيد، وفي الكامل ص366 أنه في المهلب أبيه.

فيقول: "زاده الشُّلتان"1. ولما تردد منه ذلك على سَمْع المهلب أهدى إليه غلامًا فصيحًا يكفيه مئونة إنشاده شعره. وهذا فيما يختص بالموالي، ما العرب فإننا نلتقي في أواخر العصر الأموي بشاعرين عربيين حضريين، لم ينشآ في البادية، وهما الطِّرِمّاح والكميت. ما الطرماح فيروون أنه كان يكتب ألفاظ النبط الآراميين ويدخلها في شعره2، وكان معلمًا يؤدب الصبيان فتعلق بأن يقدم لهم شعرًا مملوءًا بالألفاظ الغريبة؛ ولكن أنَّى له وهو ليس بدويًّا؟ لقد لجأ إلى طريقة سهلة: أن يسأل البدو ومن نشئوا في البادية عن بعض الألفاظ الآبدة ويسلكها في نظمه3، وكان يوفق أحيانًا في استخدامها وأحيانًا لا يوفق، ومن أجل ذلك رفض علماء اللغة الاحتجاج بشعره4. ولم يكن الكميت يشرك الطرماح في الظاهرة الأولى ظاهرة استعارة الألفاظ النبطية في شعره؛ ولكنه كان يشركه في الظاهرة الثانية؛ إذ كان يرجع إلى رؤبة الراجز البدوي، فيسأله عن الغريب من الكلم فيخبره به ويكتبه، ثم ينظمه في شعره5، وكذلك كان يرجع إلى جدَّتين له أدركتا الجاهلية؛ فكانتا تصفان له البادية وشئونها، وينقل وصفهما إلى أشعاره6. وبذلك كان مثلَ صاحبه لم يتغذ بلبان البادية مباشرة، فأخطأته الفطرة اللغوية في كثير من ألفاظه وأوصافه، وصوَّر ذلك ذو الرمة تصويرًا طريفًا حيت أنشده بعض قصائده وسأل رأيه، فقال له: "إنك لتقول قولًا ما يقدر إنسان أن يقول لك فيه أصبت ولا أخطأت، وذلك أنك تصف الشييء فلا تجيء به ولا تقع بعيدًا منه، بل تقع قريبًا" واعترف له الكميت بأن مرجع ذلك أنه لا يصف شيئًا رآه بعينه

_ 1 البيان والتبيين 1/ 71. 2 الموشح للمرزباني ص208. 3 الأغاني "طبعة دار الكتب" 12/ 36، والموشح209. 4 الموشح ص208، 209. 5 الأغاني 12/ 36، والموشح 192. 6 الأغاني "طبعة الساسي" 15/ 120.

وإنما يصف شيئًا وصف له1. وكذلك كان شأنه في استخدامه للغريب، ومن ثم رفض اللغويون الاستشهاد بأقواله وأشعاره2. ومعنى ما قدمنا أن عصر بني أمية يمدنا بأمثلة فردية لشعراء عاشوا في البصرة والكوفة وأخذت العربية على ألسنتهم تتأثر باللغات الأجنبية، وكان يتسع هذا التأثر عند الشعراء الموالي بسبب ما كانوا يرتضخون من لكنات لغاتهم وما كانوا يستعيرونه أحيانًا من ألفاظ تلك اللغات. وكان بعض الشعراء من العرب مثل الطرماح لا يرى بأسًا في أن يعرب بعض ألفاظ النبط الآراميين أو بعض الألفاظ الفارسية وأخذ هو وغيره من العرب المتحضرين يبتعدون عن السليقة العربية بحكم نشأتهم في الحاضرة وبعدهم عن ينابيع اللغة الحقيقية. وندخل في العصر العباسي؛ فإذا الشعراء جميعًا يتحضرون على شاكلة الطرماح والكميت، ولقد كانا هما وأضرابهما في العصر الأموى شذوذًا بين جرير والفرزدق والأخطل وذي الرمة وأمثالهم ممن ملئوا العراق بأشعارهم، صادرين فيها عن سليقة عربية سليمة وفطرة بدوية صحيحة. أما في العصر العباسي فقد تبدل الحال؛ إذ أصبحت الكثرة الكثيرة من الشعراء تنشأ في المدن لا في البادية كما كان الشأن في زمن الأمويين، وليس هذا فحسب فإن كفَّة الفرس رجحت على كفة العرب لا في شئون الدولة والسياسة فقط بل أيضًا في الشئون الأدبية والعقلية، وبُنيت بغداد على حدود بلادهم وزخرت بسيولهم، وأصبحنا في عصر جديد ليس للعرب فيه من سلطان ولا سيادة إلا سيادة الأسرة الحاكمة، أما بعد ذلك فكل شيء للفرس. غير أن هذا الانقلاب العنيف في الشئون السياسية لم يصب اللغة العربية بسوء؛ فإن الفرس لم يحاولوا استخدام لغتهم في شئون الدولة الرسمية وكان كثير منهم قد تعرَّب، بل قد تكن من العربية حتى اتخذها لسانه في التعبير عن مشاعره وأفكاره، وعدَّها مثله الأعلى في البيان والبلاغة. وظلت الأجيال التالية تشعر هذا الشعور بقوة، وكان من أهم ما دعمه أن العربية كانت لغة القرآن

_ 1 الأغاني 15/ 120. 2 الموشح 191، 192، 208، 209.

الكريم؛ فكان الخروج عليها يعد مروقًا من الإسلام ومحاولة لنقضه، وبذلك ظلت العربية شامخة في هذا المحيط الأعجمي حتى بين الزنادقة وأنصار الشعوبية؛ فإنهم لم يستطيعوا غضًّا منها، بل ظلوا يتخذونها هم ومن حَسُن إسلامهم مَثَلَهم اللغوي والأدبي الرفيع. وليس معنى هذا أن ما لاحظناه في العصر الأموي من دخول الكلمات الأجنبية إلى الشعر العربي انحسرت ظلاله، أو أن ضعف السليقة اللغوية انتهت آفاته، أو أن اللكنات الأجنبية انحازت لثغاتها عن الألسنة؛ فقد استمر ذلك كله بصورة أوسع من الصورة الأموية، لسبب بسيط، وهو أن أغلب الشعراء كانوا أجانب؛ فكان فيهم النبطي مثل أبي العتاهية والسِّندي مثل هارون مولى الأزد وأبي عطاء. أما الفرس فلا نستطيع إحصاءهم، وكان منهم بشار بن برد وأبان بن عبد الحميد وسلم الخاسر ومروان بن أبي حفصة وأبو يعقوب الخريمي ومسلم بن الوليد وغيرهم كثير. ولعل شيئًا لم يسترع الجاحظ في عصره كما استرعته اللكنات وما كانت تسبّبه من لثغات، وقد أفاض في وصف هذه اللثغات أوائلَ كتابه البيان والتبيين؛ فقال إنه كان هناك من يبدل الراء غينًا واللام ياء والزاي والثاء والشين سينًا والعين همزة والقاف كافًا والذل دالًا والجيم زايًا أو ذالًا. ويقول إن ذلك كله مصدره أن يدخل الرجل بعض حروف العجم في حروف العرب ويقول: إن واصل بن عطاء كان لا يستطيع أن ينطق الراء؛ فأخلى كلامه منه. ويزعم أن من أصوات اللغات الأجنبية ما لا يستطيع الخط العربي تصويره كلهجة خوزستان، ويقول: "قد يتكلم المغلاق الذي نشأ في سواد الكوفة العربية المعروفة ويكون لفظه متخيَّرًا فاخرًا ومعناه شريف كريمًا ويعلم مع ذلك السامع لكلامه ومخارج حروفه أنه نبطيّ، وكذلك إذ تكلم الخراساني على هذه الصفة فإنك تعلم -مع إعرابه وتخير ألفاظه في مخرج كلامه- أنه خراساني، وكذلك إن كان من كتَّاب الأهواز1" ولا بد أن أشياء من ذلك تؤثر في لهجات بعض

_ 1 البيان والتبيين 1/ 69.

الشعراء على نحو ما روي ذلك عن أبي عطاء السندي؛ إذ كان لا يكاد يفصح لارتضاخه لُكْنَةَ قومه من السند؛ حتى كان كلامه إذا نطق به لا يكاد يفهم وذلك أنه كان ينطق الحاء هاء والعين همزة والصاد سينًا والجيم زايًا ويرقق الظاء حتى تشبه الزاي1؛ مما اضطره إلى اتخاذ غلام ينشد شعره2: وأهم من ذلك أنهم أدخلوا في أشعارهم بعض ألفاظ من لغاتهم الأصلية، وحقًّا لم يتسع هذا الصنيع؛ ولكنا نجد عندهم أمثلة كثيرة لكلمات نبطية وفارسية كانوا يدخلونها في بعض ما ينظمون، من ذلك قول إبراهيم الموصلي يصف وداعه لخمَّار نبطي: فقال: إزْل بِشين حين ودعني ... وَقَدْ لعَمْرُكَ زُلْنَا عنه بالشِّيْنِ وإزل بشين: كلمة سريانية معناها امض بسلام3. ويقول إسحاق الموصلي في قصيدة له يذكر مجالس لهوه مع إسحاق بن إبراهيم المصعبي، وقد فرقت بينهما الأيام: فيا ليت شعري هل أروحنَّ مرة ... إليه فيلقاني كما كان يلقاني وهل أسمعنْ ذاك المزاح الذي به ... إذا جئته سلَّيْتُ همي وأحزاني إذا قال لي: "يا مردمي خر" وكرها ... عليّ وكناني مزاحًا بصفوان و"مردي خر" كلمة فارسية تفسيرها: يا رجل اشرب النبيذ4. ويقول والبة بن الحباب5: قد قابلتنا الكئوس ... ودابرتنا النحوس واليوم هرمزد روزٍ ... قد عظَّمتْه المجوس وهرمزد تعريب لأهورامزد إله النور عند الفرس، وروز معناها بالفارسية يوم، يقول: إن اليوم يوم هذا الإله وعيده، فلنطرب ونشرب. ولعل شاعرًا لم يكثر في شعره من الألفاظ الفارسية كما أكثر أبو نواس، وخاصة حين يتعابث مع

_ 1 أغاني "طبعة الساسي" 16/ 80، 84، والشعر والشعراء ص482. 2 أغاني 16/ 79، 83. 3 أغاني "طبعة دار الكتب" 5/ 176. 4 أغاني 5/ 337. 5 طبقات الشعراء لابن المعتز ص88.

بعض الغلمان من المجوس؛ فيقسم عليه بآلهته وكهنة النار وبكل ما يقدس من كواكب وبما يتلو من كتب زرادشت، وفي رواية حمزة الأصفهاني لديوانه كثير من ذلك مثل قوله: حماني وَصْلَ أبناء القسوسِ ... نجيبُ الفُرْس بهروز المجوسي من المتزمزمين لدى التغذّي ... يعذِّب مهجتي بين النفوس فقلت ونحن في وَجَلٍ شديد ... رضينا من وصالك بالخسيس بإسْفِهْر وناهيد وتير ... وحَقِّ الماهِ والمهر الرئيس وحرمة بَرْسمِ التقديس مما ... يُزَمْزِمُه هرابذ أسطنوسِ بما تتلون في البِستاق رمزًا ... كتاب زرذُّشٍ داعي المجوس لما كلَّمتني ورددت نفسي ... فإني من جفائك في رَسِيس والمتزمزمون: أصحاب الزمزمة، وهي الأدعية التي يتلوها المجوس على الطعام والشراب، وإسفهر: الفلك بالفارسية، وناهيد: الزهرة، وتير: عطارد، وماه: القمر، والمهر: الشمس، وبرسم: أعواد يتلون عليه سوارًا من كتبهم ويقدسونها، والهرابذ: كهنتهم، وأسطنوس: معبد نار من معابدهم. والبستاق هو كتاب زرذش أو زرادشت معرب عن اسمه الفارسي أفستا. ومن ذلك قوله: يا غاسل الطَّرْجهارِ ... للخندريس العُقارِ يا نرجسي وبَهارى ... بدِه مَرَايَكْ بارى والطرجهار: قدح شراب، ومعنى الشطر الأخير: أعطني مرة واحدة. ومما لا شك فيه أن الفارسية كانت منتشرة في أحاديث اللغة اليومية، وكان بين العرب كثيرون يتقنونها مثل العَتَّابي التغلبي، وكان منهم من يدخل بعض ألفاظها في شعره على جهة التظرف، يقول الجاحظ: "وقد يتملحّ الأعرابي بأن يدخل في شعره شيئًا من كلام الفارسية كقول العُمَّاني للرشيد في قصيدته التي مدحه فيها:

من يَلْقَه من بطل مُسْرَنْدِ ... في زَعْفَةٍ محكمةٍ بالسَّرْدِ1 تجول بين رأسه والكرد والكرد: العنق بالفارسية. ومنها يقول أيضًا: لما هوى بين غياض الأسد ... وصار في كف الهِزَبْرِ الوَرْدِ2 آلى يذوق الدهر آب سرد وآب سرد: الماء البارد بالفارسية. يقول الجاحظ: ومثل هذا موجود في شعر أبي العذافر الكندي وغيره.. وأسود بن أبي كريمة، ويسوق له قوله: لزم الغُرَّامُ ثوبي ... بُكْرَةً في يوم سَبْتِ فتمَايلتُ عليهم ... مثل زنجي بمَسْتِ قد حسا الدَّاذيّ صرفًا ... أو عقارًا با يِخَسْتِ3 والمست: السكر وإدمان الشراب، والداذي: ضرب من الشراب، والعقار: الخمر، وبا يخست: موطوءة بالأقدام. وتستمر المقطوعة على هذا النحو تختلط فيها الألفاظ العربية بالفارسية. ومن غير شك كان دخول هذه الكلمات الأعجمية في الشعر العباسي أوسع منه في الشعر الأموي؛ غير أن ذلك ظل في حدود ضيقة، وظل الشعراء يصنعونه على سبيل التظرف والتملح. وإذا كنّا لاحظنا قبلًا أن الكميت والطّرمّاح نقصتهما السليقة اللغوية فمن المحقق أن جمهور الشعراء في هذا العصر كانت تنقصه تلك السليقه مما هَيَّأ لظهور اللحن والخروج أحيانًا على القياس الصرفي. وكان علماء اللغة لهم بالمرصاد؛ فكلما انحرفوا دلوه على انحرافهم، ويفيض كتاب الموشح للمرزباني فيأخذ هؤلاء العلماء عليهم، وكانوا يرهبونهم رهبة شديدة، حتى كان فريق منهم يعرض عليهم أشعاره قبل إذاعتها4. وكان

_ 1 مسرند: يظفر بعدوه ويعلو عليه، زعفة: درع سابغة، السرد: سمر الزرد. 2 الهزبر: الأسد، والورد: القوي الجريء. 3 البيان والتبيين 1/ 141 وما بعدها. 4 الأغاني "طبعة دار الكتب" 10/ 81، 82 وانظر "طبعة الساسي" 13/ 22، 17/ 16.

فريق آخر يعتد بسلامة ذوقه، ويحمل عليهم ويهجوهم هجاء مرًّا1. والحق أن هؤلاء العلماء كا نوا حرَّاسًا أمناء على العربية، وضعوا قواعدها ودقائقها، وجمعوا شعرها الدقيق، واتخذوه مثلًا أعلى للفصاحة والبيان، وظلوا يذودون عنها ذيادًا قويًّا متعصبين للجاهليين تعصبًا شديدًا؛ فهم الشعراء حقًّا وغيرهم عالة عليهم، بل لقد أهدروا شاعرية معاصريهم ولم يجعلوا لشعرهم حرمة ولا فضلًا، إن قالوا حسنًا فقد سُبقوا إليه وإن قالوا قبيحًا فمن عندهم2، ومنعوا الاحتجاج بشعرهم فهم لا يحتجون في مسائلهم النحوية واللغوية إلا بعرب البادية. وارجع إلى كتاب سيبويه، عمدة النحو والنحاة، فستجده دائمًا ينقل عن فصحاء العرب ومن تُرْضَى عربيتهم ولا يسوق شاهدًا لشاعر محدث. وقد ظلوا يرحلون إليهم، ويأخذون عنهم شفاهًا شواهدَهم وأمثلتهم، وفي الوقت نفسه أخذ كثير من عرب البادية يرحلون إلى الكوفة والبصرة وبغداد ليعرضوا تجارتهم اللغوية التي كانوا يروجها العلماء، كما كان يروجها الخلفاء وكبار رجال الدولة. وبذلك ظلت النماذج البدوي حية في تلك الحقب التي تطور فيها الشعر في مدن العراق بتأثير العلاقات الاجتماعية والحضارية النامية؛ فقد نصب اللغويون تلك النماذج مثلًا أعلى للشعر الفصيح، وروَّجوا لها في البلاد ومجالس الوزراء. وبذلك أصبح هناك ضربان واضحان من الشعر: ضرب بدوي يتمسك بالتقاليد القديمة، وضرب حضاري ينفك قليلًا أو كثيرًا عن تلك التقاليد حتى يساير العصر. وأخذ أصحاب الضرب الأول يكثرون في شعرهم من الغريب؛ حتى يجد فيه اللغويون ما يسد حاجتهم في البحث والدراسة من الشواهد والأمثال، وكانوا يؤلفونه غالبًا من الرجز، على نحو ما هو معروف عن أبي نخيلة والعماني ورؤبة وابنه عقبة. وكانوا يُدِلُّون بنماذجهم تلك على شعراء المدن، فبعثوا فيهم

_ 1 أغاني "طبعة دار الكتب" 3/ 210، وديوان أبي نواس 175، 176. 2 أغاني "طبعة الساسي" 16/ 109.

نزعة إلى تقليدهم في ذلك الميدان حتى يثبتوا لهم وللغويين أنهم يتفقون عليهم، حتى في تلك الصناعة البدوية المسرفة في البداوة. روى صاحب الأغاني: "أن بشارًا دخل على عقبة بن سَلْم "والي البصرة" فأنشده بعض مدائحه فيه، وعنده عقبة بن رؤبة ينشده رجزًا يمدحه به؛ فسمعه بشار، وجعل يستحسن ما قاله إلى أن فرغ. فأقبل على بشار، فقال: هذا طراز لا تحسنه أنت يا أبا معاذ، فقال له بشار: أليّ يقال هذا؟ أنا والله أرجز منك ومن أبيك وجدك "يقصد العجاج" فقال له عقبة: أنا والله وأبي فتحنا للناس باب الغريب وباب الرجز، والله إني لخليق أن أسده عليهم، فقال بشار: ارحمهم رحمك الله، فقال عقبة: أتستخف بي يا أبا معاذ وأنا شاعر ابن شاعر ابن شاعر؟ فقال له بشار: فأنت إذن من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا، ثم خرج من عند عقبة "بن سلم" مغضبًا؛ فلما كان من غَدٍ غَدَا على عقبة، وعنده عقبة بن رؤبة، فأنشده أرجوزته التي يمدحه فيها: يا طللَ الحيّ بذات الصّمْدِ ... بالله خَبِّرْ كيف كنت بعدي ومضى يرجز ويتكلف للغريب يمزجه بشيء من الحاضرة ودقة الحس والفكر وجمال الصياغة. فطرب عقبة بن سلم وأجزل صلته وانكسر عقبة بن رؤبة انكسارًا شديدًا1، وليس بشار وحده الذي أثبت أنه يستطيع التفوق على شعراء البادية في أرجازهم الملوءة بالغريب؛ فقد تبعه أبو نواس يحاول أن يهزمهم هزيمة ساحقة في هذا الميدان، وكان أبو نخيلة قد سبقه إلى صنع أراجيز كثيرة في الطرد والقنص2، يصف فيها الصيد والكلاب والوحش وحيوان الصحراء على طريقة القدماء فصنع على مثال طردياته طرديات جديدة أظهر فيها براعة وتفوقًا منقطع النظير، حتى ليقول الجاحظ في تقديمه لطائفه منها: "وأنا كتبت لك رجز أبي نواس في هذا الباب لأنه كان عالِمًا راوية.. وصفات الكلاب مستقصاه في أراجيزه، هذا مع

_ 1 أغاني "طبعة دار الكتب" 3/ 174، وانظر طبقات الشعراء لابن المعتز ص25 وما بعدها. 2 طبقات الشعراء لابن المعتز ص66.

جودة الطبع وجودة السبك والحذق بالصنعة، وإن تأملت شعره فضلته؛ إلا أن تعترض عليك فيه العصبية أو ترى أن أهل البدو أبدًا أشعر وأن المولَّدين لا يقاربونهم في شيء، فإن اعترض هذا الباب عليك فإنك لا تبصر الحق من الباطل ما دمت مغلوبًا1" وعلى هذا النحو زَحَم شعراءُ البصرة والكوفة وبغداد شعراءَ البادية في نماذجهم من الأراجيز المحشوة بالألفاظ الغريبة وأثبتوا أنهم يبزونهم، حتى في تلك النماذج الخاصة. ولعل في هذا ما يدل -من بعض الوجوه- على مدى ما كان يأخذ به الشاعر الحضري في تلك الأزمان نفسه من التثقف ثقافة عميقة بالشعر العربي الموروث واللغة العربية الصحيحة، يأخذها عن أهلها بالْمَرْبَى فيهم، والرحلة إلى بواديهم، فهم يروون أن بشارًا كان يقول: "من أين يأتيني الخطأ، ولدت ههنا "في البصرة" ونشأت في حجور ثمانين شيخًا من فصحاء بني عُقَيل، ما فيهم أحد يعرف كلمة من الخطأ، وإن دخلت على نسائهم فنساؤهم أفصح منهم، وأيفعت فأبديت "دخلت البادية" إلى أن أدركت؛ فمن أين يأتيني الخطأ2" أما أبو نواس فقد خرج إلى البادية وأقام فيها حولًا كاملًا ليثقف اللغة من منابعها الحقيقية3. ويقول الجاحظ عنه: "ما رأيت أحدًا كان أعلم باللغة من أبي نواس ولا أفصح لهجة مع حلاوة ومجانبة لا استكراه"4، ويقولون: إنه "كان يحفظ دواوين ستين امرأة من العرب فضلًا عن الرجال5" وإنه حفظ سبعمائة أرجوزة غير ما حفظه من قصائد الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين وأوائل المحدثين6، وقال أبو عمرو الشيباني: "لولا ما أخذ فيه أبو نواس من الرفث لاحتججنا بشعره؛ لأنه محكم القول7". وأكبر الظن أن فيما قدمنا ما يدل على مبلغ ما كان يأخذ به بعض الشعراء.

_ 1 الحيوان 2/ 27 وما بعدها. 2 أغاني "طبعة دار الكتب" 3/ 149 وما بعدها. 3 أخبار أبي نواس لابن منظور "طبع مصر" ص12. 4 أخبار أبي نواس ص6. 5 طبقات الشعراء لابن المعتز ص194. 6 نفس المصدر ص201. 7 نفس المصدر ص202.

الحضريين العباسيين أنفسهم من التثقف باللغة والشعر القديم، حتى استحالت إليهم السليقة العربية ووقفوا على طريقة القوم في التعبير والصياغة وقوفًا دقيقًا. روى صاحب الأغاني أن بشارًا أنشد خلفًا الأحمر قصيدته. بَكِّرا صاحبيَّ قبل الْهَجِيرِ ... إن ذاك النجاحَ في التَّبْكير حتى فرغ منها؛ فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكان إن ذاك النجاح في التبكير "بَكِّرا فالنجاح في التبكير" كان أحسن، فقال له بشار: بَنَيْتُهَا أعرابيَّة وحشيَّة فقلت: إن ذاك النجاح كما يقول الأعراب البدويون، ولو قلت: "بَكِّرا فالنجاح في التبكير" كان هذا من كلام المولدين ولا يشبه ذلك الكلام ولا يدخل في معنى القصيدة، فقام خلف فقبَّل بين عينيه1". ولكن هل معنى ذلك حقًّا أن المولدين لم يتطوروا بأسلوبهم؟ الحق أنهم تطوروا به تطورًا واسعًا، حتى أصبح هناك في وضوح أسلوبان: أسلوب للقدماء، وأسلوب للمولَّدين العباسيين، ولسنا نقصد أن هؤلاء المولدين كان يجري على ألسنتهم شيء من اللحن في التصريف أو في الإعراب مما سجله المرزباني في الموشح نقلًا عن علماء اللغة من معاصريهم2 ومما جعل السيد الحميري يقول عن شعره:3 أحوك ولا أقْوِي ولست بلاحن ... وكم قائل للشعر يُقوِي ويَلْحَنُ وأيضًا لسنا نقصد ما كان يجري على ألسنتهم من تملح وتظرف بحشد بعض الألفاظ الفارسية في أشعارهم، وخاصة عند شعراء الجيل العباسي الثاني من مثل أبي نواس؛ وإنما نقصد أنهم على الرغم من تقيدهم بكثير من تقاليد القدماء ولا سيما في شعر المديح الرسمي وصناعة الأراجيز استطاعوا أن ينفذوا إلى لغة شفافة مبسَّطة تقف بين الإغراب والابتذال فهي لا ترتفع إلى عشر أمثال رؤبة وابنه عقبة وأبي نخيلة، وهي لا تسقط إلى كلام العامة، يدعمها ذوق سليم يعرف كيف يختار من العبارات أجملها صياغة وسبكًا، وكيف ينوع في معانيه، فلا يقف

_ 1 أغاني 3/ 190. 2 انظر على سبيل المثال ما كتبه عن أبي نواس. 3 الموشح ص14.

بها عند المعاني الموروثة بل يضيف معاني جديدة، وفي الوقت نفسه يولد من المعاني والصور القديمة ما يروع. وبذلك استقام هذا الأسلوب المولد الجديد الذي يأخذ من القديم، ويعرض ما يأخذ عرضًا خلّابًا، ولا ينسى حقوق عصره ولا ما بسط له من الفكر والخيال، وأيضًا فإنه لا ينسى حقوق هذا العصر في البعد عن الكلام الوحشي الغريب والكلام السوقي المبتذل؛ فهو أسلوب مرن، فيه سلاسة وسهولة ووضوح، وفيه رشاقة وعذوبة، أسلوب لا يتورع ولا يسلم إلى تعقيد يفسده ويهجنه، معانيه ظاهر مكشوفة وألفاظه لا تلطف عن العامة ولا تجفو عن الخاصة، مع أناقة التعبير ودقة الحس والذوق. وأخذ هذا الأسلوب المولد الجديد يفر سلطانه على الشعر والشعراء، ولم يستطع اللغويون أن يقفوا عائقًا دون هذا السلطان؛ فإنه على الرغم من معارضتهم له ذاع وانتشر، ولا نصل إلى القرن الثالث حتى يصبح المثل الرفيع الذي يحتذيه كل الشعراء.

العلاقات الثقافية

3- العلاقات الثقافية: رأينا في غير هذا الموضع أن العرب أخذوا منذ الفتوح الإسلامية يحاولون التعرف على ثقافات الأجانب ومعارفهم؛ إذ كانوا ناشرين للدين الإسلامي واصطدموا بيهود ونصارى ومجوس ودهرية يناقشونهم ويناظرونهم في مسائل الدين. ورأوا عندهم من أساليب النظر والاستدلال ما دفعهم إلى معرفة تلك الأساليب وما كانت تتأثر به من آراء فلسفية. وأيضًا فإن الموالي أقبلوا على الإسلام. وكانوا من أجناس مختلفة، منهم الفارس والهندي والشامي والمصري، والعراقي، وأخذوا ينشرون بين العرب ما عرفوا في لغاتهم الأصلية من ثقافات ومن معارف ونزعات. وكانت هناك مدارس ودوائر علمية في جند نيسابور وفي الرها ونصيبين وحران وفي قنسرين وأنطاكية وفي الإسكندرية، وتسرب كثير مما كان يدور في تلك المدارس إلى الأديرة.

فلما وضع العرب أيديهم على تلك البيئات كلها أخذ كثير مما فيها من ثقافة يتحول إليهم بحكم ما كان يقتضيه دفاعهم عن دينهم وبحكم ما أصاب حياتهم من تطور؛ فقد أصبحوا أصحاب دولة متحضرة، تحتاج إلى كثير من العلوم التطبيقية النفعية، وأخذت الأمم المجاورة لهم تدخل في دينهم وتدخل معها معارفها وكل ما ورثته من الثقافة الهيلينية التي انتشرت في الشرق منذ فتوح الإسكندر، وكان مزيجًا من فلسفة اليونان ومن ديانات الشرق وحكمته، ولا نصل إلى العصر العباسي، حتى تنظم الترجمة، ويقبل السريان على نقل كل ما شاع بينهم وفي مدارسهم بالعراق وجنديسابور من معرفة وعلم وفلسفة، كما يقبل الفرس والهنود أيضًا على نقل كثير من تراثهم. وعني المنصور بهذه الحركة من الترجمة؛ فجلب من جنديسابور آل بختيشوع الأطباء المشهورين، فشاركوا توًّا في الترجمة، ووفد عليه من الهند "منكه" وكان قيمًا بالحساب المعروف "بالسند هند" في حركات الفلك والنجوم؛ فأمره بتجرمته، وشاركه في هذه الترجمة إبراهيم الفزاري يعاونه جماعة من العلماء. وعهد المنصور أيضًا إلى أبي يحيى البطريق ترجمة أجزاء من كتب بقراط وجالينوس في الطب. ونحن لا ننسى رأس هؤلاء المترجمين جميعًا ابن المقفع الذي ترجم عن الفارسية بعض الكتب التاريخية والسياسية والأدبية، كما ترجم أجزاء من منطق أرسطوا وكتاب كليلة ودمنة الذي يرجع إلى أصول هندية. وأيضًا فإنه ترجم كتابًا من مزدك، أحد دعاة الفرس الدينيين، ويظهر أنه أدخل كثيرًا من تعاليم المجوسية، ومما لا ريب فيه أن كتاب زرادشت المسمى أفستا ترجم في أوائل هذا العصر، كما ترجمت كتب ماني؛ مما كان سببًا في ارتفاع موجة الزندقة، وكان هناك فرس كثيرون خلفوا ابن المقفع على ترجمة التراث الفارسي من أهمهم آل نوبخت. ونمضي إلى عصر الرشيد؛ فينشئ خزانة الحكمة وإدارة للترجمة يقيم يوحنا بن ماسويه أمينًا عليها ويرتب له كما يقول القفطي كُتَّابًا حاذقين يكتبون بين

يديه1، ومما ترجم في عصره كتاب المجسطي في الجغرافيا لبطليموس الإسكندري. ونشط البرامكة في تشجيع هذه الحركة؛ سواء عن لغتهم الفارسية أو عن اللغات الأخرى، ويقال: إن يحيى بن خالد جلب مجموعة من أطباء الهند وأمرهم بنقل بعض كتب قومهم في الطب2، ودخل من ثقافة الهند كثير من الأفكار إلى محيط العربية من ذلك صحيفة في البلاغة يحتفظ به الجاحظ في بيانه3، وأيضًا فقد خلت بعض مذاهبهم الدهرية مثل السُّمَنِيَّة4، كما دخل كثير من حكمهم ومن تأملاتهم الزاهدة المتصوفة، مما كان له أثره في الصوفية الإسلامية. وكلما مضينا في العصر وجدنا موجة هذه الترجمة تزداد حدة؛ فقد شجع المأمون عليها تشجيعًا واسعًا وأرسل في طلب الكتب من بلاد الروم، وجعل خزانة الحكمة مجمعًا لطائفة من كبار المترجمين أمثال سهل بن هارون ومحمد بن موسي الخوارزمي وسلم ويحيى بن منصور وبني شاكر: محمد وأحمد والحسن، وعهد بإدارة الترجمة إلى حنين بن إسحاق، ولم يلبث الكندي فيلسوف العرب الأول أن ظهر ثمرة لكل هذه الحركة المباركة. ومن المؤكد أن المسألة كانت أوسع من تلك الأخبار التي تساق لنا عن الخلفاء واهتمامهم بالترجمة؛ فقد كان هذا الاهتمام عامًّا بين أفراد المجتمعات في البصرة والكوفة وبغداد، بدليل أننا نجد العلوم الإسلامية توضع قواعدها وأصولها في هذا العصر وضعًا يدل على أن أصحابها كانوا يقفون على أساليب البحث عند اليونان وغيرهم. ويكفي أن نشير هنا إلى علم الكلام والموضوعات التي أثارها المتكلمون؛ مما حكاه لنا الجاحظ في كتابه الحيوان عن أبي الهذيل العلاف والنظَّام وأضرابهما؛ فإننا نرى أمامنا عقولًا كبيرة، اطلعت اطّلاعًا واسعًا على علوم الأوائل، واستطاعت أن تنفذ منها إلى فكر عربي متوهج بالثقافات المنقولة.

_ 1 أخبار الحكماء للقفطي "طبع مطبعة السعادة" ص248 وما بعدها، وانظر طبقات الأطباء والحكماء لابن جلجل "طبعة المعهد العلمي الفرنسي بالقاهرة" ص65. 2 البيان والتبيين 1/ 92. 3 البيان والتبيين 1/ 92. 4 أغاني 3/ 147.

ومسائلها المختلفة، وحتى علم اللغة والنحو لم يخلوا من أثر هذه الثقافات وطرائقها ومناهجها في النظر وبحث المشاكل، وصلة النحو بالمنطق اليوناني مقررة، وقد وضع الخليل معجمًا للعربية بترتيب مخارج الحروف متأثرًا بالهنود في ترتيب حروف لغتهم، وهيأته معرفته بعلم الموسيقى لوضع عروض الشعر العربي وأوزانه. وطبيعي أن يكون لهذه العلاقات الثقافية الجديدة التي عملت عملًا نافذًا في عقلية العباسيين أثرها الواسع في شعرائهم؛ فإنهم لم يكونوا بعيدين عنها، بل كانوا يتصلون بها اتصالًا وثيقًا. وإذا كنا لاحظنا قبلًا صلتهم بالزندقة الفارسية فإن صلتهم بالمحتويات الأخرى للثقافات الأجنبية لم تكن تقل عن صلته بالزندقة، ومر بنا أن ديوان صالح بن عبد القدوس كان يشتمل على ألف مثل للعرب وألف مثل للعجم، ونراهم يروون عن العَتَّابي التغلبي أنه كان يتقن الفارسية وأنه رحل إلى "مرو" فكتب كتب العجم، ولما سئل في ذلك قال: "وهل المعاني إلا في كتب العجم والبلاغة، اللغة لنا، والمعاني لهم1". ومن يرجع إلى ترجمته في كتاب الأغاني يجد له ضربًا من الشعر القصير الذي يشبه الأمثال كقوله في مديح عبد الله بن طاهر: ودُّك يكفينيك في حاجتي ... ورؤيتي كافية عن سؤالْ وكيف أخشى الفقر ما عشت لي ... وإنَّما كفاك لي بيتُ مال وقوله في مديح جعفر بن يحيى البرمكي3: ما زلت في غمرات الموت مطَّرَحًا ... قد ضاق عني فسيح الأرض من حيلي ولم تزل دائبًا تسعى بلطفك لي ... حتى اختلستَ حياتي من يدي أجلي وقوله4: هَيْبةُ الإخوان قاطعةٌ ... لأخي الحاجات عن طَلَبِهْ فإذا ما هبتَ ذا أملٍ ... مات ما أمَّلْتَ من سَبَبِه

_ 1 الجزء السادس من تاريخ بغداد لطيفور ص157 وما بعدها. 2 أغاني "طبعة دار الكتب" 13/ 117. 3 أغاني 13/ 119. 4 أغاني 13/ 116.

وأكبر الظن أن العَتَّابي كان يتأثر في هذه القطع القصيرة معاني فارسية، وكان يتأثر هذه المعاني أبناء الفرس أنفسهم، فهم أصحابها، وهي كنوز كانت ملقاة تحت أعينهم. ولعلنا لا نبعد إذا قلنا أن الهجاء القصير الذي شاع عند بشار بن برد وحماد عَجْرد وأضرابهما؛ إنما نشأ من هذا التأثر بمعاني الفرس وأمثالهم، وكان بشار خاصة يكثر من الأمثال والحكم في شعره. ويَدْخُلُ في هذا الجانب ما تسرب إلى الشعر من أخيلة فارسية، كقول بعض الشعراء1: لو لم تكن نِيَّة الجوزاء خدمَتَهُ ... لما رأيتَ عليها عقد مُنْتَطِقِ ويقال: إن شاعرًا قرأ قول كسرى في وصف النرجس أنه: "ياقوت أصفر بين در أبيض على زمرد أخضر" فقال وزاد عليه: وياقوتة صفراء في رأس دُرَّة ... مركَّبة في قائم من زَبَرْجَد كأن بقايا الطّلّ في جنباتها ... بقيَّةُ دمعٍ فوق خَدٍّ مورّد2 وعلى نحو ما كانت العلاقات قائمة بين الشعراء والثقافة الفارسية كذلك كانت قائمة بينهم وبين الثقافة الهندية؛ فقد كانوا يعرفون ما نقل عنها في الفلك وغير الفلك وقد تسرب إليهم كثير من آراء الهنود وأفكارهم وقصصهم كقصة بوذا الملك الذي هجر ملكه، وساح في الأرض عابدًا لربِّه؛ فقد اتخذ منه أبو العتاهية مثالًا للرجل الفاضل فقال3: يا من تشرّف بالدنيا وزينتها ... ليس التشرّف رَفْعَ الطين بالطين إذا أردت شريف الناس كلهم ... فانظر إلى ملكٍ في زي مسكينِ ونقل إليهم ما تزعمه الهند في علم الطبائع من أن الشيء إذا أفرط في البرد عاد حارًّا مؤذيًا، وعرف ذلك أبو نواس، فقال4: قل لزهير إِذَا حَدَا وَشَدَا ... أَقْلِلْ وَأَكْثِرْ فَأَنْتَ مهذارُ سَخُنْتَ من شدة البرودة حتَّـ ... ـى صرتَ عندي كأنك النار

_ 1 معاهد التنصيص 2/ 15. 2 زهر الآداب 2/ 209، وانظر 2/ 211. 3 ديوان أبي العتاهية ص274. 4 الشعر والشعراء ص506، وانظر عيون الأخبار 2/ 7.

لا يعجب السامعون من صفتي ... كذلك الثلج باردٌ حار ومما تأثر فيه ببعض آراء الهند قوله: تُخُيِّرَتْ والنجومُ وُقْفٌ ... لم يتمكن بها المدارُ وهو يشير بذلك إلى بعض ما نقل عنهم من أن: "الخمر تخيرت حين خلق الله الفلك، وأصحاب الحساب يذكرون أن الله تعالى حين خلق النجوم جعلها مجتمعة واقعة في برج، ثم سيَّرها من هناك، وأنها لا تزال جارية حتى تجتمع في ذلك البرج الذي ابتدأها منه، وإذا عادت إليه قامت القيامة وبطل العالم. والهند تقول إنه في زمان نوح اجتمعت في الحوت إلا يسيرًا منها فهلك الخلق بالطوفان، وبقي منهم بقدر ما بقي منها خارجًا عن الحوت1" وربما كان أهم ما أثرت به الهند في المجال الشعري العام ما انتشر في كتاب كليلة ودمنة من حكم، وقد نقل هذا الكتاب إلى العربية ابن المقفع ثم نظمه أبان بن عبد الحميد للبرامكة شعرًا، ويحتفظ كتاب الأوراق للصولي بقطع طويلة من هذا النظم الذي يستهله بقوله: هذا كتاب أدب ومحنه ... وهو الذي يدعي كليلة دمنه فيه دلالات وفيه رشد ... وهو كتاب وضعته الهند فوصفوا آداب كل عالم ... حكاية عن ألسن البهائم وإذا تركنا الثقافتين الهندية والفارسية إلى الثقافة اليونانية وجدنا علاقتها بالشعر والشعراء تفوق علاقتي تلك الثقافتين، وحقًّا أنهم لم يعرفوا شيئًا عن الشعر اليوناني؛ إذ اقتصرت معرفتهم بالثقافة اليونانية على الفلسفة والمنطق، ولكن هذه المعرفة أفادوا منها فوائد جُلّي؛ فقد دعم المنطق تفكيرهم ووسعت الفلسفة دوائره، فانصبغ عقل الشعراء بأصباغ من العمق والدقة والتحليل وطرافة التقسيم والبعد في الخيال والتجريد فيه وكان المتكلمون أهم من أذاع هذه الثقافة في محيط الشعر والشعراء؛ إذ كانوا يتأثرون بها تأثرًا واسعًا في جدالهم وأساليب استدلالهم، فأكبوا عليها يقرءونها، وينقلون مصطلحاتها، ويفسرون معانيها من مثل الطفرة.

_ 1 الشعر والشعراء ص504.

والحركة والسكون والتولد والكمون والجوهر والعرض والجوهر الفرد. وكان كثير من الشعراء يستمع إليهم؛ بل لقد وُسِمَ غير شاعر بالكلام والاعتزال، وأنه يستمد منها في موازنة الشيء بالشيء وفي الجدل والمغالطة، كما يستمد منهما في استنباط المعاني الخفية والأفكار الدقيقة، وقد بدأ بشار حياته متصلًا بالمتكلمين وبالمعتزلة منهم خاصة؛ إذ كان يصحب واصل بن عطاء1 وما زال قريبًا منه، حتى أظهر ثنويته وزندقته، ففسد ما بينهما ونادى واصل في الناس أن يقتلوه؛ ففرَّ في البصرة، وذهب يعلن أنه لا يؤمن بواصل ومذهبه في القدر؛ إنما يؤمن بالجبر وأن حرية الإنسان معطلة في الحياة، يقول: طُبِعَت على ما فِيّ غير مخيَّرٍ ... هوايَ ولو خُيِّرتُ كنت المهذَّبا أريد فلا أعطَى وأعطى ولم أرد ... وقصَّر علمي أن أنال المغيَّبا فأصْرَفُ عن قصدي وعلمي مقصِّرٌ ... وأمسي وما أعقبت إلا التعجبا وكان يكثر من الحجاج والجدال في ذلك ويقول: ما أومن إلا بالحِسِّ وما عاينته2. وتحول بهذا الجدال وما يطوى فيه من قدرة على الاستدلال إلى شعره ومعانيه؛ فكان يكثر فيه من استنباط الأدلة وحشد البراهين على شاكلة قوله3: إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي نصيح أو نصيحة حازم ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الحوافي قوة للقوادم4 وما خير كف أمسك الغُلُّ أختها ... وما خير سيفٍ لم يؤيد بقائم5 وقوله6: إذا كنت في كل الأمور معاتبًا ... صديقَك لم تلقَ الذي لا تعاتبه

_ 1 انظر الأغاني 3/ 152. 2 أغاني 3/ 227. 3 أغاني 3/ 157. 4 القوادم: الريش في أعلى الجناح، والخوافي: الريش الصغير الذي يخفى حين يضم الطائر جناحية. 5 الغل: الحديدة التي تجمع بين يد الأسير وعنقه، وقائم السيف: مقبضه. 6 أغاني 3/ 197.

فعش واحدًا أو صِلْ أخاك فإنه ... مقارفُ ذنبٍ مرّةً ومجانبه1 إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه وما نشك في أن كثرة هذه الأدلة في شعره جاءته من بيئة المتكلمين، وما كانت تعتمد عليه في جدالها من أقيسة المنطق والترتيب لمقدماتها الصحيحة واندفع يستنبط كثيرًا من دقائق المعاني ولطائف الفكر؛ كقوله في بعض ممدوحيه2: ليس يعطيك للرجاء ولا الخو ... ف ولكن يَلَذُّ طعم العطاءِ فإنك تراه يفكر تفكيرًا جديدًا؛ إذ يجعل العطاء بدون غاية خارجة عن نفسه، وهي فكرة لم تكن تقع في عقل الشاعر القديم؛ إنما تقع في عقل الشاعر العباسي الجديد الذي لا يزال يغرق في التفكير حتى يتصور الأشياء مجردة عن غاياتها، وإذا كان المتكلمون اشتهروا بمغالطاتهم أو بتأتِّيهم لتعليلاتهم، أو كما يقول البلاغيون بحسن التعليل؛ فإننا نجد من ذلك أصباغًا كثيرة في شعر بشار كتعليله لآفته بقوله3: عَميتُ جنينًا والذكاء من العَمى ... فجئت عجيب الظن للعلم موئلًا وقوله في جارية سوداء4: وغادة سوداء برّاقةٍ ... كالماء في طيب وفي لين كأنها صيغت لمن نالها ... من عنبر بالمسك معجون وقوله في بعض ممدوحيه -إن صح أنه له5: لمستُ بكفي كفَّه أبتغي الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يُعْدِي فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعداني فأتلفت ما عندي وتكثر هذه التعليلات في شعر بشار، كما تكثر معها الموازنة والتقسيمات والبعد في التأويل واستخراج المعاني، على شاكلة قوله6:

_ 1 مقارف: مرتكب. 2 أغاني 3/ 189. 3 أغاني 3/ 142. 4 أغاني 3/ 193. 5 أغاني 3/ 150. 6 البيان والتبيين 1/ 4.

وعِيّ الفعال كعيِّ المقالِ ... وفي الصمت عِيٌّ كعيّ الكَلِمْ وأنت تراه لا يخصص العيَّ بالكلام. بل يجعله في الفعال، بل هو يذهب إلى أبعد من ذلك، فيقيم في الصمت عِيًّا كعي الكلام؛ فإذا العي على أقسام: عي الصمت وعي الفعال وعي المقال. وأكبر الظن أن هذا التقسيم الطريف هو الذي ألهم الجاحظ رسالته في تفضيل الكلام على الصمت وخروجه عما ألفه الناس في أمثالهم. وإذا تركنا بشارًا وجيله إلى الجيل التالي الذي خلفه وجدنا أبا نواس الثائر على التقاليد والأوضاع خير من يمثله، وكان كثير الاختلاف إلى مجالس المتكلمين، ولاحظ الجاحظ في بيانه أنه استعار كثيرًا من ألفاظهم ومصطلحاتهم على وجه التظرف والتملح كقوله في جنان1: وذات خَدٍّ مورَّد ... قوهيَّةِ المتجرَّدْ2 تأمَّلُ العينُ منها ... محاسنًا ليس تنفد فبعضها قد "تناهى" ... وبعضها "يتولد" والحسن في كل عضوٍ ... منها معاد مردَّدْ وقوله: يا عاقدَ القلب عني ... هَلَّا تذكرت حَلّا تركت مني قليلًا ... من القليل أقلّا يكاد لا يتجزّا ... أقل في اللفظ من لا ويُرْوَى أن النظام سمع منه الأبيات الأخيرة فقال له: "أنت أشعر الناس في هذا المعنى، والجزء الذي لا يتجزأ مذ دهرنا الأطول نخوض فيه ما خرج فيه لنا من القول ما جمعته أنت فيه في بيت واحد3". ولم يكن أبو نواس ينهج نهج المتكلمين في ذكر مصطلحاتهم فحسب؛ بل كان ينهج نهجهم أيضًا في

_ 1 البيان والتبيين 1/ 141، وانظر أخبار أبي نواس ص13 حيث ساق ابن منظور له طائفة من معاني المتكلمين وألفاظهم. 2 قوهيّة: أراد بيضاء، والقوهي: ضرب من الثياب البيض. 3 أخبار أبي نواس ص13.

توليد المعاني واستنباط غرائبها، حتى قالوا: "مازالت المعاني مكنوزة في الأرض حتى جاء أبو نواس فاستخرجها1. ولم يكن يغرب في معانيه إغرابًا قريبًا، بل كان يبعد في إغرابه، حتى ليصوِّر الحسي بالمعنوي على شاكلة قوله في الخمر2: وقد خفيتْ من لطفها فكأنها ... بقايا يقينٍ كاد يذهبه الشك وقوله3: صَفتْ وصفت زجاجتها عليها ... كمعنى دقَّ في ذهنٍ لطيفِ وقوله4: فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البُرْءَ في السَّقَمِ قلما نجد بعد أبي نواس شاعرًا ممتازًا إلا وهو يلزم المتكلمين المعتزلة، وقد عُدّ أبو تمام منهم، وكان ابن الرومي ينزع منزعهم، ومعروف أن النظام من متقدميهم، وقد نال شهرة مدوية على رأس المائتين بقدرته على الجدال وغوصه على المعاني الدقيقة، ولم يكن متكلمًا يحسن الكلام فحسب، بل كان شاعرًا أيضًا، وكان يستقي شعره من الكلام والجدل، على شاكلة قوله5: مازلتُ آخذ روح الدَّن في لُطُفٍ ... أستبيح دمًا من غير مذبوحِ حتى انثنيت ولي روحان في جسدي ... والزِّقُّ مطَّرَحًا جسمٌ بلا روحِ وقوله6: توهمه طرفي فآلم خَدّه ... فكان مكان الهم من نظري أثرُ وصافحه قلبي فآلم كفه ... فمن صفح قلبي في أنامله عَقْرُ7 ومر بقلبي خاطرًا فجرحته ... ولم خلقًا قط يجرحه الفكر يمر فمن لينٍ وحسن تعطف ... يقال به سكر وليس به سكر

_ 1 أخبار أبي نواس ص64. 2 خزانة الأدب للحموي "طبع المطبعة الخيرية" ص183. 3 خزانة الأدب ص184. 4 الديوان ص324. 5 طبقات الشعراء لابن المعتز ص272. 6 أمالي المرتضي "طبعة الحلبي" 1/ 188. 7 العقر: الجرح.

وعلى هذا النحو لم يكن المتكلمون يؤثرون في الشعراء بما يفتقون من معانيهم الخاصة؛ بل كانوا يرددون على أسماعهم مثل هذه الأبيات التي يبدعون فيها ويغربون ويأتون بالنادر المستطرف من المعاني والصور. ولا نشك في أن الحسين ابن الضحاك كان يتأثر نزعتهم من الإغراق في الوهم والتجريد حين قال في بعض غزله1. إنَّ من لا أرى وليس يراني ... نصب عيني ممثل بالأماني بأبي مَنْ ضميره وضميري ... أبدًا بالمغيب ينتجيان نحن شخصان إن نظرتَ وروحا ... ن إذا ما اختبرت يمتزجان فإذا ما هممت بالأمر أوهَـ ... ـمَّ بشيء بدأته وبداني كان وفْقًا ما كان منه ومني ... فكأني حكيته وحكاني خطراتُ الجفون منا سواءٌ ... وسواءٌ تَحَرُّكُ الأبدان وهذا غزل جديد، لا يقوم على الحِسِّ؛ وإنما يقوم على الوهم والإغراق في الخيال. وليس هذا كل ما بعثه المتكلمون في الشعر والشعراء من جديد بفضل ما أذاعوا من دقائق الفكر والفلسفة، فإن جماعة منهم صنفت قصائد في مخالفيهم كقصيدة معدان الأعمى الشُّمَيْطي التي صنف فيها الرافضة والغالية من الشيعة2. ويلمع هنا اسم بشر بن المعتمر؛ إذ يقول المرتضى: إن له أشعارًا كثيرة يحتج فيها على أهل المقالات3، وروى له الجاحط في حيوانه شعرًا مزاوجًا في فضل على بن أبي طالب وتقدمه هو وأهل بيته على الخوارج يمضي على هذا النحو4: ما كان في أسلافهم أبو الحسن ... ولا ابن عَبَّاس ولا أهل السنن غُرُّ مصابيح الدُّجى مناجِبُ ... أولئك الأعلامُ لا الأعارب

_ 1 أغاني "طبعة دار الكتب" 7/ 187. 2 الحيوان 2/ 268. 3 أمالي المرتضي 1/ 187. 4 الحيوان 6/ 455.

وروى له أيضًا قصيدتين طويلتين في أصناف الحيوان وعجائب صنع الله في خلقه وما أودع هذا الخلق من حكمته1. ونجد الجاحظ يروي لكثيرين أشعارًا في هذا الباب مثل الحكم بن عمرو البهراني وقصيدته في غراب الخلق2، ومثل هارون مولى الأزد وشعره في الفيل3، وكان هنديًّا من أهل المولتان. وبذلك أعد المتكلمون -وعلي رأسهم المعتزلة من أمثال بشر- لشيوع الشعر التعليمي "Poesie Didactique" منذ أوائل العصر العباسي، ويظهر أن الشعراء كانوا يؤثرون فيه قالب المزدوج الذي نظم فيه بشر بعض أشعاره، وقد نظمت فيه مزدوجة طويلة في الفلك لمحمد بن إبراهيم الفزاري، ويقول ياقوت: "إنها تدخل مع تفسيرها في عشرة أجلاد، أولها: الحمد لله العلي الأعظم ... ذي الفضل والمجد الكبير الأكرم الواحد الفرد الجواد المنعم الخالق السبع العُلَى طباقًا ... والشمس يجلو ضوؤها الإغساقا والبدر يملا نوره الآفاقا وهي هكذا ثلاثة أقفال، ثلاثة أقفال4". ومر بنا أن أبان بن عبد الحميد صاغ للبرامكة كليلة ودمنة شعرًا، واختار لشعره هذا القالب؛ إلا أنه لم يجعله في ثلاثة أقفال، إنما جعله في قفلين قفلين على نمط المزدوج عند بشر، ويقول الجاحظ: إن بشرًا كان أبرع في ذلك وأقدر من أبان، وإنه لم يرد أحدًا يبلغ قوته على المخمس والمزدوج5. وعلى هذا الغرار نفسه نظم أبو العتاهية أرجوزته "ذات الأمثال" وقد بلغت أربعة آلاف بيت كلها أمثال وحكم على شاكلة قوله: حسبك مما تبتغيه القوت ... وما أكثر القوت لمن يموت لكل ما يؤذي وإن قل ألم ... ما أطول الليل على من لم يَنَمْ ما انتفع المرء بمثل عقله ... وخير ذخر المرء حسن فعله

_ 1 الحيوان: 6/ 283 وما بعدها. 2 الحيوان 6/ 80. 3 الحيوان 7/ 75، 115. 4 معجم ياقوت "طبعة مصر" 17/ 118. 5 أمالي المرتضى 1/ 187.

إن الشباب والفراغ والجِدَه ... مفسدة للمرء أي مفسده1 وأكبر الظن أن في ذلك كله ما يوضح أن العلاقة كانت وثيقة بين الشعر والثقافات الدخيلة؛ فقد تحول إلى جوانب منها ينظمها كالفلك، وأيضًا فإن الشعراء نظموا تاريخ الأمم الخالية2، ولا نشك في أن أرجوزة أبي العتاهية لم تكن أمثالها كلها من صُنعِه، وأنه استقاها من أمثال الفرس والهند واليونان أو على الأقل استقى كثيرًا من جوانبها. وكم تلقانا إشارات في كتب الأدب لما كانوا ينظمون من معاني اليونان3 وغيرهم4. ولا نبالغ إذا قلنا إن منهم من كان يحسن من التفلسف ما يحسنه من الشعر، ولسنا نقصد النظام وأضرابه من المتكلمين؛ وإنما نقصد الشعراء أنفسهم من مثل صالح بن عبد القدوس وأبي العتاهية، ومن لا يبلغ مبلغهما من التفلسف كان يأخذ بأطراف منه إن لم يكن مباشرة فعن طريق المتكلمين، كما رأينا عند بشار وأبي نواس.

_ 1 انظر في هذه المزدوجة الأغاني 4/ 36. والحدة: الغنى. 2 الحيوان 6/ 149. 3 الأغاني 4/ 43 وما بعدها؛ حيث روى أبو الفرج مرثية لأبي العتاهية استمدها من أقوال الفلاسفة حين حضر واتابوت الإسكندر المقدوني وقد هيئ ليدفن. وانظر البيان والتبيين 1/ 407. 4 انظر على سبيل المثال عيون الأخبار3/ 6 حيث يروي حكمة هندية نظمها العتابي. وراجع زهر الآداب 1/ 90 حيث يذكر عن محمود الوراق أنه كان كثيرًا ما ينقل أخبار الماضين وحكم المتقدمين فيحلي بها نظامه ويزين بها كلامه.

ازدهار مذهب الصنعة

4- ازدهار مذهب الصنعة: لعل فيما قدمنا من حديث عن الشعر العربي في القرنين الثاني والثالث وعلاقاته الجديدة ما يوضح أن تأثيرات واسعة أخذت تؤثر في صورته؛ فقد كان أكثر من ينظمونه من الأجانب وخاصة من الفرس، وكانوا متحضرين تحضرًا أقبلوا فيه على كثير من فنون اللهو والمجون كما كانوا مثقفين ثقافة واسعة نوَّعت أفكارهم وخواطرهم وأججت عقولهم وأذهانهم، فانطلقوا يعبرون بالشعر عما أصابوا من كنوز المعرفة، ويصورون ما يجول في نفوسهم من نزعات

وأحاسيس؛ فإذا بنا إزاء عصر جديد، وهو عصر لا ينقطع فيه الصلة بين ماضي الشعر وحاضره، فقد وضع الشاعر العباسي نُصْبَ عينيه نموذج الشعر القديم وحول كل ما يتضمنه هذا النموذج من معانٍ وصور إلى عصره، وأضاف إليها حشودًا من معانٍ وصور جديدة وألف من ذلك كله نموذجه الحديث. وتختلف صلة هذا النموذج بالنموذج القديم سعة وضيقًا، فهو في المديح والشعر الرسمي أقرب إلى القديم منه في شعر الغزل والخمر والمجون، وبذلك يستمر فيه أو بعبارة أدق في مدائحه الحديث عن الأطلال ووصف الصحراء وما يتصل بها من رحلة وصيد، وحتى هو في الموضوعات ذات الصبغة الجديدة كالخمريات يستمد مما قاله القدماء. ومعنى ذلك أن الشعراء كانوا يجددون؛ ولكن مع ضرب من التوازن، فهم لا ينسون القديم، بل هم يعكفون عليه محاولين أن يستنفدوا دِنانه، وكأنه يشبه -عندهم- الخمر المعتقة التي كانوا يشغفون بها. ويخيَّل إلى الإنسان كأنما أحال الشاعر العباسي الشعر القديم إلى ما يشبه تلك الجذاذات التي يجمعها العلماء حين يريدون أن يبحثوا موضوعًا ويستقصوه استقصاء، ومن الحق أن استقصاءهم كان عميقًا؛ فهو استقصاء فيه جِدّ وصرامة، وفيه غير قليل من المصاعب والمتاعب، فهم لا ينظمون الشعر إلا بعد أن يحفظوا آلاف القصائد ومئات الأراجيز وإلا بعد أن يستظهروا ذخائر الشعراء الجاهليين والإسلاميين. ومن غير شك يرجع الفضل في ذلك إلى اللغويين الذين جمعوا لهم مادة الشعر القديم ووضعوها تحت أعينهم مفسّرة مشروحة. وقد أشاعوا بينهم تلك العقيدة التي ثبتت في الأذهان تفوق الشعر الجاهلي وأنه مثل أعلى خليق بالشاعر العباسي أن يجاريه. وتبعهم الشعراء يدرسون هذا الشعر ويحاولون بكل ما يستطيعون أن يحاكوه، وكأنما رأوا حيوية كامنة في روحه تجعله خليقًا بالبقاء والمحاكاة، وأثبتوا في مهارة أنهم جديرون بالقيام على تراثه النفيس واستغلاله واستنفاد طاقاته. وتوضح لنا كتب السرقات مدى هذا الاستنفاد والاستغلال، وكلما مضينا في العصر أضافت الأجيال إلى هذا التراث أعمال المحدثين ممن سبقوهم.

وأشعارهم، وأكبَّ الشعراء عليهم بحثًا ودرسًا وتعمقًا واستقصاء؛ وبذلك اتصلت الأسباب وتوثقت بين قديم الشعر العربي وحديثه، واحتفظ بكل مادته ومشخصاتها على مر العصور وتعاقب الدهور. وليس معنى ذلك أن الشعر العربي لم يتطور في العصر العباسي تطورًا واسعًا، ولكن معناه أن الشعراء كانوا في أثناء تطورهم به ينسقون بين سَدَى الماضي ولُحْمة الواقع ونغمات الغابر وألحان الحاضر. ونستطيع أن نستعرض فنون الشعر، فنًّا فنًّا فسنراها جميعًا تتطور، وإن كان التطور يختلف كثرة وقلة؛ فهو في المديح والشعر الرسمي محدود، إذ نجد الشاعر يحافظ غالبًا على التقاليد الفنية الموروثة، ولكنه مع ذلك يلوِّن في معانيه تلوينًا واسعًا بفضل ثقافته وما أتاحت له من قدرة على توليد المعاني والغوص على الأفكار والأحاسيس الدقيقة من مثل قول بشار في عمر بن العلاء1: دعاني إلى عُمَرٍ جودُهُ ... وقول العشيرة بحر خِضَم ولولا الذي ذكروا لم أكن ... لأمدح ريحانة قبل شم فتى لا ينام على دِمْنَةٍ ... ولا يشرب الماء إلا بدم2 إذا نَبَّهَتْكَ حروب العُداة ... فنَبِّهْ لها عُمْرًا ثُمَّ نَمْ وقل علي بن جبلة في أبي دُلَف العِجْلي3: كل من في الأرض من عَرَبٍ ... بين باديه إلى حَضَرِهْ مستعير منك مكرمةً ... يكتسيها يوم مُفتَخَرِه إنما الدنيا أبو دُلَفٍ ... بين مغزاه ومحتضره فإذا ولَّى أبو دلفٍ ... ولَّت الدنيا على أَثَرِهْ وتفيض كتب الأدب والنقد بمثل هذه المعاني الرائعة. وكذلك كان شأنهم في الرثاء؛ إذ أدخلوا فيه كثيرًا من خيوط الحكمة والعظة التي قرءوها،

_ 1 طبقات الشعراء ص25، والأغاني 3/ 193. 2 الدمنة: الحقد. 3 طبقات الشعراء ص172.

كما أدخلوا كثيرًا من أحاسيسهم النفسية الباطنة على شاكلة مرثية أبي العتاهية لأحد أصدقائه المسمى علي بن ثابت، وفيه يقول1: وقد كنت أغدو إلى قصره ... فقد صرت أغدو إلى قبره أخٌ طالما سرَّني ذكره ... فقد صر أشجى لدى ذكره فتى لم يملّ النّدَى ساعة ... على عسره كان أو يسره فصار عليٌّ إلى ربه ... وكان عليٌّ فتى دهره أتته المنية مغتالة ... رويدًا تخلل من ستره فلم تغن أجناده حوله ... ولا المسرعون إلى نصره وخَلَّى القصور إلى شادها ... وحلَّ من القبر في قعره أشدُّ الجماعة وَجْدًا به ... أشد الجماعة في طَمْرِه وتحولوا بالهجاء من نقائضه الطويلة المعروفة عند جرير والفرزدق التي تزخر بالأنساب والأيام إلى ضرب قصير يشبه الأمثال الفارسية التي تنسب إلى بزرجمهر وأضرابه؛ فأصبح كلمات قليلة حادة، تشبه السهام السريعة النافذة، وكل شاعر يبحث عن سهم مُصْمٍ يرسله إلى خصمه يريد ألا يُبْقي عليه ولا يذر، ولعل ذلك ما جعلهم يعمدون فيه إلى القذف في الأعراض والرمي بالزندقة والإلحاد، حتى بين الزنادقة أنفسهم، مثل بشار وحماد عجرد، وقد استطار الهجاء بينهما، وفي بشار يقول حماد2: نهاره أخبث من ليله ... ويومه أخبث من أمسه وليس بالمقلع عن غَيِّه ... حتى يُوَارَى في ثرى رمسه وكان يكثر من هجائه بالعمى على شاكلة قوله3: ويا أقبح من قرد ... إذا ما عمي القرد ويغضب بشار ويثور، فيرميه بالزندقة وعبادة إلهي النور والظلمة على شاكلة قوله4: يا ابن نهيا رأس عليَّ ثقيلُ ... واحتمال الرأسين خطبٌ جليلُ

_ 1 ديوان أبي العتاهية ص124. 2 أغاني "طبعة الساسي" 13/ 74. 3 طبقات الشعراء ص67. 4 أمال المرتضى 1/ 133.

فادْعُ غيري إلى عبادة رَبَّيْـ ... ـن فإني بواحد مشغولُ وما زال هذا الضرب القصير من الهجاء اللاذع ينمو حتى تحول عند ابن الرومي إلى ما يشبه الصور الساخرة "الكاريكاتورية" وسنعرض لذلك عنده في الفصل التالي. ومر بنا أنهم أثاروا في هذا العصر دعوة الشعوبية، ومن خلال تطور فن الفخر القديم؛ فلم يعد فخرًا في حدود العصبيات القبلية فحسب، بل أخذ يجول في حدود العصبيات الجنسية، على نحو ما أسلفنا عند بشار. وليس معنى ذلك أن الفخر القبلي اختفى فقد ظلت منه أسراب، ودخل فيها الموالي أيضًا، فافتخروا باليمنية والمضرية ولاء، على نحو ما نجد عند بشار في افتخاره بمضر، وكان أبو نواس يكثر من افتخاره باليمنية مواليه1، ومثله هارون مولى الأزد الذي كان يرد على الكميت، ويفخر بقحطان2. وتطور الغزل تطورًا قويًّا، ولا نقصد ما ظهر فيه من الغزل بالغلمان وآثامه؛ وإنما نقصد الغزل الطبيعي، فإن المرأة الحرة الكريمة لم تعد موضوعه، وإنما أصبح موضوعه الإماء والجواري ممن كانت تزخر بهن دور الرقيق ومجالس الشعراء وقصور الأشراف والخلفاء، وقد أذاعوا فيه ضروبًا من الحرية والصراحة المكشوفة كما أذاعوا فيه إغراء شديدًا ودعوة إلى التهتك والخلاقة وانتهاز الفرص واللذات، من مثل قول بشار3: لا يُؤْيِسَنَّك من مُخبَّأةٍ ... قولٌ تغلِّظه وإن قَبُحَا عُسْرُ النساءِ إلى مياسرةٍ ... والصعب يمكن بعدما جَمَحا ومن الحق أنهم بجانب ذلك استغلوا الغزل العذري العفيف الذي شاع في نجد وبوادي الحجاز أيام الأمويين، واشتهر بالضرب على مثاله العباس بن الأحنف، وحتى الشعراء الماجنون من أمثال بشار وأبي نواس ومطيع بن إياس كانوا ينظمون

_ 1 انظر طبقات الشعراء ص195 وما بعدها، والديوان ص155 وما بعدها. 2 الحيوان 7/ 75. 3 طبقات الشعراء ص25، والأغاني 3/ 209، 221.

منه أحيانًا ما يعجب ويروع وهم يروون أن الذي بعث أبا نواس على صحبة والبة وأرغبه فيه بيتان سمعهما منه، هما: ولها ولا ذنبٌ لها ... حُبٌّ كأطراف الرماح في القلب يجرح دائمًا ... فالقلب مجروح النواحي1 ويمتلئ الأغاني بآلاف المقطوعات الغزلية والتي نظمها هؤلاء الشعراء وأمثالها، وكثير منها يتسم بدقة الذوق ورقة الشعور ولطف الإحساس. واستوت للخمرية صورتها في هذا العصر، وحقًّا نجد منها نماذج عند الوليد بن يزيد؛ ولكن هذا العصر هو الذي انتهى بها إلى شكلها النهائي؛ سواء من حيث القصر أو من حيث التنويع في معانيها وأخيلتها، ويكفي أنه أنتج أبا نواس أكبر من تغنوا بالخمر وكئوسها وسُاقتها وأديرتها، وكان طبيعيًّا أن تحدث الخمر وما يتصل بها من مجون رد فعل في العصر؛ فإذا شعر الزهد يدور على الألسنة في مقطوعات قصيرة تنفر من المتاع بزخارف الحياة، وتتحدث عن الموت ومصير الإنسان حديثًا يهز النفوس على نحو ما قدمنا في غير هذا الموضع. وهذه كلها تجديدات من حيث المضمون، أما من حيث الشكل والصيغة فقد مر بنا في الفصل السابق ما استحدثوه من أوزان بتأثير الغناء والموسيقى، وكانوا من أجلهما يؤثرون الأوزان المجزوءة، وشاع ذلك في الغزل والخمر، وعرفوا المخمس والمزدوج، واختار أصحاب الشعر التعليمي القالب الأخير لشعرهم، وكأنما أغراهم به وفرة الموسيقى فيه؛ حتى تتلافى ما في معانيهم من جفاف المعرفة والحكمة. ومن المؤكد أن الشعراء عانوا كثيرًا في صياغاتهم، حتى وصلوا إلى أسلوبهم الذي يسمى بأسلوب المولدين، وهو أسلوب ناصع شفاف، لا يُعْنَى بالثروة اللغوية من حيث هي؛ وإنما يعنى قبلها بثروة الفكر وباستثارة الوجدان، حتى يعرض المعاني النادرة والأحاسيس الدقيقة. وهو أسلوب ليس فيه ركاكة ولا ابتذال، ومع ذلك فهو أسلوب مبسط استطاعوا بذوقهم الحضري الرقيق أن يحدثوه،

_ 1طبقات الشعراء ص208.

فإذا لغته أشد ما تكون نقاء، وإذا هذا النقاء يُخْفَى عنا جهدهم في صنعة وما عانوه من تصيُّد صيغه الصوتية لمعانيهم وأحاسيسهم واختيار أثوابه وأبراده الوضَّاحة لأفكارهم ودقائقها الخفية. والحق أنهم كدحوا طويلًا في معانيهم وصياغاتهم وأخيلتهم وصورهم، حتى يحققوا ما يريدون من تفوق وبراعة، وقد أكبّوا على ينابيع اللغة العذبة ينهلون منها ويستمدون أساليبهم، وقد تَنِدّ فيها بعض ألفاظهم الأعجمية؛ ولكن ذلك يأتي في الندرة وعلى سبيل التظرف والتملح. أما بعد ذلك فهم يتمسكون بالصياغة العربية النقية، ويستخدمون كل وسائلهم في صوغ أساليب تموج بالحيوية والفكر العميق والحس الدقيق في نظام موسيقي رشيق. ولم ينسوا أبدًا أن روعة الصياغة لا تقل عن روعة الفكر والحس جمالًا، وكلنا نعرف قصة غضب بشار على تلميذه سلم الخاسر حين صاغ بيتًا له صياغة جديدة أجمل من صياغته؛ فقد قال بشار: مَنْ راقب الناسَ لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللَّهِجُ ولم يكن يسمعه منه سلم، حتى أعجب بمعناه وأخذ يفكر في صياغته صيغة جديدة أعذب وأرشق، وما زال يفكر حتى قال: من راقب الناس مات غَمًّا ... وفاز باللذة الجسور ونقل البيت إلى بشار، فحَنِقَ على سلم حنقًا شديدًا1، ولم يكن مصدر هذا الحنق سوى تلك الكسوة اللفظية البديعة التي كسا بها سلم معناه. وكان الشعراء يجتمعون دائمًا لينشد كل منهم خير ما نظم، متنافسين في ذلك متسابقين، وكلما ألَمَّ منهم شاعر بمعنى غريب تداولوه، ونسوق لذلك مثالًا، وهو ما يُرْوَى من أن أبا نواس استمع إلى خمرية للحسين بن الضحاك يقول فيها: كأنما نُصْبَ كأسه قَمَرٌ ... يَكْرَعُ في بعض أنجم الفَلكِ فنعر "صاح" نعرة منكرة، فقال له الحسين: مالك قد رعتني؟ قال: هذا المعنى

_ 1 طبقات الشعراء ص100، وانظر الأغاني 3/ 199، 200.

أنا أحق به منك، وسترى لمن يُرْوَى ثم أنشد بعد أيامٍ خمريةً، يقول فيها: إذا عَبَّ فيها شاربُ القومِ خِلْتَهُ ... يقبِّل في داجٍ من الليل كوكبا1 وعلى هذا النحو كانوا لا يزالون يجهدون أنفسهم في صناعتهم سواء في معانيها وصورها وفي ألفاظها وصياغاتها، وكان كل منهم ينفس على صاحبه ما يصل إليه من جديد في المعنى أو في الصورة ومن طريف في الصياغة والعبارة، وحقًّا كانوا أجانب في الغالب؛ ولكنهم حذقوا العربية وتحولوا يصوغون منها عقودًا ولآلئ بديعة، وكانوا يعرفون ذلك في أنفسهم وعملهم؛ فقد سأل سائل بشارًا ما صناعتك؟ فأجاب أثقب اللؤلؤ2، ونظم ذلك شعرًا، فقال يصف نفسه3: لله ما راحَ في جوانحه ... من لؤلؤٍ لا ينام عن طَلَبه يخرجْنَ من فيه في النَّدِيِّ كما ... يخرج ضوء السراج من لهبه ولعل في ذلك ما يصور -من بعض الوجوه- ما انتهت إليه صنعة الشعر في هذا العصر من رقي وازدهار؛ فقد ارتقى الشعراء به من وجوه كثيرة، من حيث المعاني وما أثاروا من غرائبها، ومن حيث الأحاسيس وما بعثوا من طرائفها، ومن حيث الصياغات وما نسقوا من فرائدها. وسنرى بعد قليل أن ضروب إحسانهم لذلك كله انتهت بهم إلى مذهب جديد هو مذهب التصنيع، ولكن هذا المذهب لم يظهر توًّا، بل أخذ يُعِدّ له جيلان، جيل بشار، وجيل أبي نواس وأبي العتاهية، ونحن نقف عند صنعتهم قليلًا، لنرى مبلغ مهارتهم وحذقهم.

_ 1 زهر الآداب 2/ 114. 2 أغاني 3/ 159. 3 عيون الأخبار 2/ 182.

بشار وصنعته في شعره

5- بشار وصنعته في شعره: هو بشَّار بن برد، كان أبوه من سبي المهلَّب بن أبي صفرة حين كان واليًا على خُرَاسان من سنة 79 إلى 82 وَفَدَ على البصرة مع بعض الأسرى وأقام بها مع

زوجه، وربما كانت رومية، وقد وُلد لهما بشار في العقد الأخير من القرن الأول للهجرة أعمى لا يبصر1، وحددت هذه الآفة حياته؛ إذ جعلته يتجه إلى مجالس العلماء والأدباء، وكان ذكيًّا؛ فأخذ يتعلم العربية، وساعده على ذلك مرباه في بني عقيل؛ إذ وهبته امرأة المهلب لإحدي صديقاتها منهم2 وأيضًا فإنه حين أيفع تبدى حتى أدرك كما مر بنا في غير هذا الموضع، ويقال إن أباه طيَّانًا يضرب اللبن3 وكان له أخوان احترفا مهنة الجزارة. ولما استيقظت في بشار مواهبه الشعرية أخذ يغدو على المربد؛ فيستمع للفرزدق وجرير وأضرابهما، وتعرض لجرير يريد أن يرد عليه حتى يشتهر؛ ولكنه لم يأبه له. وظل يعنى بهذا الفن فن الهجاء، حتى يقال إنه كان سبب حتفه5. ولا نشك أنه منذ نشأته كان يقصد سراة البصرة بمديحه، حتى يجلب لنفسه بعض المال. وأخذ يخالط علماء الكلام؛ فكان يصحب واصل بن عطاء مؤسس مذهب المعتزلة، وأعدَّه ذلك لأن يتصل بآراء الزنادقة التي كان يرد عليها واصل وغيره من المتكلمين، كما أعدَّه لأن يعرف شيئًا من منطق اليونان وفلسفتهم؛ مما تسرب إلى تلك الجماعة، ولا نصل إلى سنة 126 للهجرة حتى يفسد ما بينه وبين واصل لما أظهره من زندقة سبق أن عرضنا لها، وأباح واصل دمه؛ ففر من البصرة ووفد على حران فمدح سليمان بن هشام بن عبد الملك، وتحول إلى واسط حين ولي العراق يزيد بن عمر بن هبيرة؛ فلزمه وقدم له مدائح يتضح فيها تعصبه لقيس لأن الأمير كان قيسيًّا وكان هو ولاؤه أيضًا لقيس المضرية، وكذلك كان الخليفة مروان بن محمد مضري النزعة، فلجج في هذا الباب طويلًا. وتطورت الظروف، وتوفي واصل وقامت الدولة العباسية على رماح الخراسانيين؛ غير أنه لم يعد إلى البصرة إلا بعد وفاة عمرو بن عبيد خليفة واصل سنة 144 للهجرة6، وقد عاد ثائرًا، شاعرًا كأن الدنيا أقبلت عليه،

_

واشتعلت الجذوة التي كانت خامدة في نفسه جذوة الشعوبية، ونسب نفسه في ملوك الفرس الأولين1. ونراه مترددًا إزاء الخلفاء العباسيين؛ لما قدَّم سابقًا من شعره في يزيد بن عمر بن هبيرة ومروان بن محمد. ولعل ذلك ما جعله يحس بشيء غير قليل من الفرح حينما نشبت ثورة إبراهيم بن عبد الله على المنصور في البصرة سنة 145 للهجرة؛ فأسرع يمدحه بميمية فضَّلها الأصمعي على ميميتي جرير والفرزدق، ولما أخفقت الثورة أنكرها بشار، وحذف منها أبياتًا، وأظهر أنها قالها في عدو المنصور أبي مسلم، وكان أولها. أبا جعفر ما طول عيش بدائم ... ولا سالم عما قليل بسالم فقال: "أبا مسلم" بدلًا من "أبا جعفر"2، ونراه يكثر من وفادته على خالد ابن برمك في أثناء ولايته على فارس، فيقر به منه ويبذل له أموالًا كثيرة3، وكذلك كان يصنع ممتدحوه من ولاة البصرة وعلي رأسهم عقبة بن سلم الهنائي. ولما علا نجم خالد وابنه يحيى في عصر المهدي رأيناه يفد على الخليفة يمدحه؛ فيقر به منه ويحضره مجالسه، ويعلم بما في شعره من الرفث في الغزل وأنه يصرح فيه بأشياء تفسد الشباب، فينهاه عن ذلك، ويشكو في شعره من هذا النهي كثيرًا. ولا تلبث الأخبار أن تتواتر على سمع المهدي بزندقته، فيأمر بقتله، يقول ابن المعتز: "وقيل: بل قيل للمهدي إنه يهجوك فقتله، والذي صح من الأخبار في قتل بشار أنه كان يمدح المهدي، والمهدي ينعم عليه، فرمي بالزندقة، فقتله، قيل: ضربه سبعين سوطًا فمات، وقيل بل ضرب عنقه. وكانت وفاته سنة سبع وقيل ثمانٍ وستين ومائة4". وواضح أن عوامل متشابكة أثرت في شخصية بشار الأدبية؛ فقد كان مولى، وكان يحس بعمق أنه قن ابن قن وأنه من أسرة فقيرة متخلفة في المجتمع، فانطوى على مرارة ولَّدت فيه ميلا قويًّا إلى العُدوان، وقد ورث عن جنسه الفارسي مزاجًا حادًا واندفاعًا شديدًا نحو المتع الحسية

_

وضاعف ذلك عنده أنه كان مكفوفًا؛ فعدت وسيلته إلى الجمال والإحساس به حسية: سمعية ولمسية، وغزله من هذه الناحية يصور أثار فقده لبصره وما تتركه حواس السمع واللمس والشم من آثار في نفوس المكفوفين. واندمج في هذه المكونات الشخصية والجنسية مكوِّن البيئة وما كانت تكتظ به من دور الرقيق والجواري والإماء. ِ كل ذلك دفعه لصراحة صريحة في غزله وخمره، وهي صراحة وجد فيها رجال الدين من وعاظ البصرة خطرًا على المجتمع؛ فقاوموه مقاومة عنيفة1 وبلغ من شدة هذا الخطر أن تدخل المهدي وحاول أن يرده عن هذا الطريق2 ولكن الموجة كانت حادة، ودخل فيها جمهور الشعراء لا في البصرة وحدها، بل في الكوفة أيضًا وفي بغداد، وكان الجواري وغناؤهن من أهم ما يروج لها، إذ اتَحْنَ لهذا الشعر الماجن الجديد انتشارًا واسعًا، وكن يبعن وينتقلن من العراق إلى الحواضر العربية؛ فكن يحملنه في حقائبهن ويذعنه في كل مكان. واشتركت الثقافات الأجنبية والعربية في تكوين شخصية بشار؛ فقد كان يجالس المتكلمين كما قدمنا، كما كان يجالس من يعرفون زندقة الفرس ودهرية الهند وآراءهم في التناسخ، ويجمع ذلك كله قول صاحب الأغاني: "كان بالبصرة ستة من أصحاب الكلام: عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وبشار الأعمى وصالح بن عبد القدوس وعبد الكريم بن أبي العوجاء ورجل من الأزد -يعني جرير بن حازم- فكانوا يجتمعون في منزل الأزدي ويختصمون عنده، فأما عمرو وواصل فصارا إلى الاعتزال. وأما بشار فبقي متحيرًا مخلَّطًا، وأما الأزدي فمالَ إلى قول السُّمَنِيَّة وهو مذهب من مذاهب الهند الدهرية يقول أصحابه "بتناسخ الأرواح"3 وأكبر الظن أن بشارًا لم يظل متحيرًا طويلًا؛ فقد اعتنق الزندقة4 كما اعتنقها صالح وابن أبي العوجاء وقتلوا بها جميعًا لعهد المهدي. والمهم أن بشارًا كان واقفًا على معارف عصره وثقافته الدخيلة وكان لها تأثير واسع فيه، حتى آمن بما يقول به المانوية والمزدكية. وربما كان أهم ثقافة أثرت في شعره هي الثقافة

_

العربية التي هيأته للتفوق في فن الشعر، وساعدته في ذلك نشأته اللغوية، واختلافه إلى المربد، وأيضًا خروجه إلى البادية حتى يأخذ اللغة من ينابيعها الأصلية. وبذلك تحولت إليه السليقة اللغوية العربية تحولًا لفت إليه الأنظار، حتى كان لا يقول ما يُسْتَكْره في شعره1؛ بل حتى كان يميز تمييزًا دقيقًا بين جيد الشعر ورديئه وصحيحه ومنحوله2: وكثير في حياة بشار يملأ نفوسنا عليه ازدراء؛ فنحن نزدري فجره وتهتكه وفسقه وزندقته وشعوبيته، وقد لقي عند المهدي جزاءه وإن جاء متأخرًا. غير أننا إذا تركنا هذه الجوانب السيئة في حياته إلى شعره وجدنا معاصريه ومن جاءوا بعدهم يجمعون على أنه هو الذي نهج للعباسيين طريقتهم الجديدة، وهي طريقة كانت تعتمد اعتمادًا شديدًا على الأصول التقليدية للشعر القديم، حتى لتبدو فيه نزعة محافظة وخاصة في مدائحه، فإن الإطار فيها لا يختلف عن الإطار القديم إلا قليلًا؛ إذ يستوفي فيها قيم التعبير الجزلة وكل ما تقتضيه الجزالة من رصانة وقوة في البناء، ومعنى ذلك أن بشارًا الفارسي الجنس قد أثر فيه مرباه العربي حتى أصبح عربيًّا خالصًا في أسلوبه وتعبيره. ولا يعني ذلك أنه كان غائبًا في مديحه عن عصره؛ فهو يزاوج بين الماضي والحاضر: يصف الأطلال والصحراء ولكن بذوق حضري جديد فيه رقة، وفيه دقة في استنباط المعاني وتوليدها. إنه ربيب بيئة المتكلمين، وقد أخذ عنهم قدرتهم في بسط الأدلة وتفصيل الأفكار وتفريعها وتشعيب المعاني وتشقيقها، كما أخذ عن الفرس أمثالهم وحكمهم، وتحول إلى معاني الشعر الجاهلي يستخرج منها ما لا يحصى من خواطر، ويستطيع أن يتبين ذلك كل من يقرأ مديحه؛ فنسيجه العام قديم، ولكن خيوطًا كثيرة جديدة تلمع في هذا النسيج، حتى في نماذجه الموغلة في التشبه بالبدو، ونقصد الأراجيز، مثل أرجوزته التي سبق أن تحدثنا عنها والتي نظمها تحديًّا لعقبة بن رؤبة إذ نراه يقول في تشبيهها3: صدت بخد وجلت عن خد ... ثم انثنت كالنَّفَسِ الْمُرْتَد

_ 1 أغاني 3/ 149 2 أغاني 3/ 143 3 أغاني3/ 175، وديوان بشار "طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر" 2/ 218.

ويُدخل في نسيجها بعض الحكمة؛ فيقول: الحر يلحى والعصا للعبد ... وليس لملحف مثل الرد1 وصاحب كالدُّمَّل الممد ... حملته في رقعة من جلدي وينتقل إلى المديح فيصف ممدوحه بالشجاعة والكرم على طريقة العرب ويقول في تضاعيف ذلك ما كان مني لك غيرُ الوُدِّ ... في ثناء مثل ريحِ الوردِ وبمثل هذه الخيوط الجديدة يختلف مديح بشار عن المديح القديم؛ فالقصيدة في الظاهر توغل في التمسك بإطار القدماء ومعانيهم، وفيها مع ذلك كثير من عقل بشار وذوقه وبراعته في التصوير ويضرب القدماء لتلك البراعة مثالًا: أنه ما زال يدبر في نفسه بيت امرئ القيس في وصف العقاب: كأن قلوب الطير رطبًا ويابسًا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي2 حتى قال في المديح: كأن مُثارَ النقعِ فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه3 وإذا تركنا مديحه إلى فخره وجدنا فيه نفس متانة البناء ونفس الصياغة الباهرة التي تميز بها شعراء العرب السابقين من أمثال زهير والنابغة وجرير، وإنه ليضيف إلى معانيه مبالغة تزيدها جمالًا على شاكلة قوله مفتخرًا بقيس مواليه في ميميته المشهورة4: إذا ما غضبنا غضبة مُضَريَّةً ... هتكنا حجابَ الشمسِ أو تمطر الدَّما وكنا نتمنى أن لو ظل يفتخر بالعرب وأن لا ينقلب مع الثورة العباسية يفتخر بآبائه من الفرس؛ حتى لا يؤذينا في فخره بشعوبيته، وكان حريًا به أن يظل مؤمنًا بالعرب الذين أورثوه هذا الفن الجميل. وتطور الهجاء عنده على هدي الأمثال الفارسية القصيرة، إذا استطاع هو وصاحبه حماد عجرد أن يحدثا فيه هذا النمط القصير الذي سبق أن عرضنا

_

له، وقلنا إنه كان يقوم على القذف في الأعراض والاتهام بالزندقة والإلحاد، مع أنهما كانا جميعًا زنديقينِ ملحدين، ويصور بشار هجاءه فيقول: تزل القوافي عن لساني كأنها ... حمات الأفاعي ريقُهن قضاءُ1 ويقول الجاحظ في المفاضلة بينه وبين خصمه: "وما كان ينبغي لبشار أن يناظر حمادًا من جهة الشعر وما يتعلق بالشعر؛ لأن حمادًا في الحضيض وبشار مع العيُّوق2، وليس في الأرض مولَّد قروي يعد شعره في المحدث إلا وبشار أشعر منه"3. وإذا تحولنا إلى الغزل عند بشار وجدناه فيه يعكف على نماذج القدماء شأنه في كل شعره؛ فهو يقرأ الغزل الجاهلي ويقرأ غزل عصر بني أمية عند عمر بن أبي ربيعة وأضرابه من أهل مكة والمدينة وعند جميل بثينة وأضرابه من شعراء نجد وبوادي الحجاز، وبذلك يعرف معرفة دقيقة شعر الأطلال والوصف الحسي للمرأة عند الجاهليين، كما يعرف شعر عمر وأمثاله مما يصور قصة الحب ووقائعه وحياته وموته وما يُشْفَعُ به من بعض الحرية، كما يعرف شعر العُذْريين وما يكسوه من عفه وطهر، ويحول كل ذلك إلى غزله. ولا يقف عنده، بل يضيف إليه إثمه ومجونه، وكل ما رفدته بيئته به من أسباب العبث التي زخر بها جو المجتمع العباسي وما أذاعه فيه الإماء والجواري من مجون. وكان بشار لا يأبَه للقيم الخلقية والدينية، وكان ضريرًا، فاعتمد على حاستي السمع واللَّمس في غزله، ولعل من الطريف أنه يصرح بذلك في مثل قوله4: يا قوم أذْني لبعض الحي عاشقةٌ ... والأُذْنُ تعشقُ قبل العينِ أحيانا ولا يصبح الغزل عنده في أكثر جوانبه حسيًّا فحسب، بل يصبح ضربًا من نداء الغريزة النوعية بصورة ليس فيها أدني احتشام؛ بل فيها غير قليل من العدوان على المجتمع وآدابه. ولا نبالغ إذا قلنا إنه هو الذي دفع الشعراء من بعده إلى التمادي في تصوير المتاع الحسي، حتى الشاذ منه على نحو ما هو معروف عند أبي نُواس. وحقًّا قد نقرأ عنده غزلًا يحتفظ فيه بكرامته وكرامة المرأة

_ 1 الديوان 1/ 129، والحيوان 4/ 261، والحمات: أنياب الأفعى 2 العيوق: نجم أحمر في طرف المجرة، يضرب به المثل في العلو. 3 الحيوان 4/ 453. 4 طبقات الشعراء، ص29.

من مثل قوله1: لم يطل ليلي ولكن لم أنم ... ونفى عني الكَرَى طيف ألم نَفِّسي عني قليلًا واعلمي ... أنني يا عَبدَ من لحم ودم إن في بُرديَّ جِسْمًا ناحلًا ... لو توكأتِ عليه لانهدم ولكن كثرة الغزل المادي الصريح عنده طغت على مثل هذه الأبيات التي كان يشكو فيها الصبابة وتباريح الحب. وينبغي أن نعرف أنه مع ماديته في غزله كان لا يزال يستقي من غزل القدماء ومعانيه، ولا يزال يتتبع حتى صورهم فيصوغها صياغة جديدة تلائم رقة عصره؛ فقد روى الرواة أنه أنشد قول كثير: ألا إنما ليلى عصا خيزرانة ... إذا غمزوها بالأكفِّ تلينُ فقال: والله لو زعم أنها عصا مخ أو عصا زبد، لقد كان جعلها جافية خشنة بعد أن جعلها عصا، ألا قال: ودعجاء المحاجر من معدٍّ ... كأن حديثها ثمرَ الجنانِ إذا قامت لمشيتها تثَنَّتْ ... كأن عظامَها من خيزَرانِ2 ومعنى ذلك أن بشارًا كان يستغل صور الغزل القديم، وكان يستغل أيضًا معانيه، ومن خير ما يصور ذلك وقوفه عند طول الليل والسهاد فيه الذي طالما ذكره الجاهليون والإسلاميون؛ فقد عرضه في معارض مختلفة، تارة يقول3: النَّجْمُ في كَبِدِ السَّمَاءِ كأنَّهُ ... أعمى تحيَّرَ ما لديهِ قائدُ ويقول تارة ثانية4: خليليَّ ما بال الدُّجى ليس يبرحُ ... وما بال ضوءِ الصبحِ لا يتوضحُ أضلَّ الصباحُ المستنيرُ طريقَهُ ... أم الدهر ليلٌ كلُّه ليس يبرحُ ويقول تارة ثالثة5: كأن جفونَه سملت بشوك ... فليس لنومه فيها قرار

_ 1 أغاني 3/ 150، وما بعدها. 2 أغاني 3/ 154. 3 انظر التبيان شرح ديوان أبي الطيب المتنبي للعُكْبَري، طبعة الحلبي، 2/ 72. 4 الديوان 2/ 104. 5 الديوان 3/ 249.

أقولُ وليلتي تزدادُ طولًا ... أما لليل بعدهم نهارُ جفَّت عيني عن التغميضِ حتى ... كأن جفونَها عنها قصارُ وعلى هذه الشاكلة لا يزال يدير المعاني القديمة في ذهنه ويولد منها ويستخرج طرائف رائعة، وعلي الرغم من أنه كان مكفوفًا كان يحسن الوصف حتى ليقول الأصمعي: "إنه ما نظر إلى الدنيا قط، وكان يشبه الأشياء بعضها ببعض في شعره، فيأتي بما لا يقدر البصراء أن يأتوا بمثله"1 ومن وصفه البديع لإحدى المغنيات قوله2: وصفراءُ مثل الخيزرانة لم تعشْ ... ببؤس ولم تركب مطية راعِ تصلِّي لها آذاننا وعيوننا ... إذا ما التقينا والقلوبُ دواعِ جرى اللؤلؤ المكنون فوق لسانِها ... لزوَّارها من مزهرٍ ويَرَاعِ3 إذا قلدت أطرافها العود زلزلت ... قلوبًا دعاها للوساوسِ داعِ كأنهم في جنة قد تلاحقت ... محاسنُها من روضةٍ ويفاعِ4 يروحون من تغريدِها وحديثِها ... نشاوى وما تسقيهم بصواعِ5 لعوبٌ بألباب الرجال وإن دَنَتْ ... أطيع التُّقى والغيُّ غيرُ مُطاعِ وفي كل مكان من غزله نجد أثر الحضارة في رقة حِسِّه؛ سواء حين يصف حنينه وحرمانه وصدود محبوباته أو حين يصور لقاءه لهن ووداعهن أو ذكرياته معهن على شاكلة قوله6: لقد كان ما بيني زمانًا وبينها ... كما بين ريحِ المسكِ والعنبرِ الوردِ وقوله7: عندها الصبر عن لقائي وعندي ... زفرات يأكلن قلب الجليدِ ولعل في كل ما قدمنا ما يوضح كيف كانت صنعة بشار في شعره تقوم على

_ 1 أغاني 3/ 142. 2 أمالي المرتضى 2/ 139. 3 "يراع" هنا: مزمار 4 اليفاع: المرتفع من الأرض. 5 "الصواع" هنا: الجام يشرب فيه. 6 أمالي المرتضى 2/ 64، والديوان 2/ 314. 7 الديوان 2/ 272.

الموازنة الدقيقة بين العناصر التقليدية في الشعر العربي والعناصر التقليدية المستمدة من الحضارة والثقافة المعاصرة. وثَبَّتَ بشار هذه الطريقة؛ بحيث أصبحت منهجًا عامًّا للشعراء من بعده، وبحيث عدَّ بحق زعيم المجددين؛ فهو الذي نهج لهم هذا النهج من التطور بالشعر العربي تطورًا لا تنقطع الصلة فيه بين حاضره وماضيه.

صنعة أبي نواس

6- صَنْعَةُ أبي نُوَاسٍ: اسمه الحسن بن هانئ، ولد بالأهواز سنة تسع وثلاثين ومائة، وكان أبوه مولى1 لآل الحكم بن الجراح من بني سعد، العشيرة اليمنيين، قدم إلى هذه البلدة مع جند مروان بن محمد، وتزوج بها جارية فارسية أهوازية تدعى جلبان، كانت تغسل الصوف، وأولدها عدة، منهم أبو نُواس الذي تلقن الفارسية عنها وحذقها. ومات هانئ وابنه صغير؛ فانتقلت أمه إلى البصرة، وهو ابن ست سنين، فأسلمته إلى الكتاب، ولم يلبث أن اختلف إلى دروس العلماء حين شبَّ عن الطوق، ويظهر أن رقة حال أمه اضطرتها إلى أن تلحقه بعطار، فمكث عنده مدة، وملكَتُه الشعرية تتفتَّح في نفسه، وتصادف أنَّ عاملَ الأهوازِ دعا هذا العطار إليه، فصحب معه الغلام، وكان والبة بن الحباب يزور هذا العامل لقرابة بينهما، فتعرف على أبي نواس، وكان وضيئًا صبيحًا، وأعجب كل منهما بصاحبه، وأسلم أبو نُواس إليه قِيَادَهُ، فاصطحبه معه إلى الكوفة حيث غمسه في كل ما كان ينغمس فيه مع رفاقه أمثال مطيع بن إياس؛ فخرج ماجنًا على طريقتهم، وهي طريقة لم تكن تخلو من شذوذ2. ويعود إلى البصرة ويلزم خلفًا الأحمرَ ويحمل عنه علمًا كثيرًا وأدبًا واسعًا، ويتعلق بجنان جارية

_ 1 طبقات الشعراء، لابن المعتز، ص194. 2 العمدة، لابن رشيق، 1/ 43، وتاريخ بغداد 7/ 440 والديوان 31، 32.

الثَّقَفِيين، فتَزْوَّر عنه؛ لسوء سلوكه، وينظم فيها كثيرًا من غزله، وتجذبه بغداد فيتحول إليها ويقدمه إسحاق الموصلي إلى الرشيد، ولا يلبث أن يغضب عليه فيسجن، لما يلجِّج فيه من عصبية مسرفة لمواليه القحطانيين1 ويطرق باب البرامكة في أثناء ذلك، فيحول بينه وبينهم أبان بن عبد الحميد، ويدخلان في معركة هجاء عنيفة، كان أبو نواس هو الذي يكثر فيها من السهام2، ويظهر أن أبواب الفضل بن يحيى البرمكي فُتِحَت له؛ بينما ظل جعفر أخوه منقبضًا عنه، فهجاه بينما مدح الفضل مدائح رائعة. ولما أوقع الرشيد به وبأخيه وأبيهما سنة 187 للهجرة حزن أبو نواس، ورحل إلى مصر لغرض الترويح عن نفسه، فمدح والي الخراج بها الخصيب بن عبد الحميد وكان فارسيًّا. ولم يَطِبْ له المقام وحنَّ إلى بغداد، فقدم عليها بعد وفاة الرشيد، واستقبله الأمين استقبالًا حافلًا، ونادمه، فلاكته الألسنة، ويقال: إن المأمون حين خلع أخاه ووجه بطاهر بن الحسين لمحاربته كان يكتب كتبًا تقرأ على المنابر بخراسان يذكر فيها عيوبه وكان مما عابه به أن قال: "إنه استخلص رجلًا شاعرًا ماجنًا كافرًا يقال له: الحسن بن هانئ واستخلصه؛ ليشرب معه الخمر ويرتكب المآثم، ويهتك المحارم"3. ويقال: إن الأمين حبس أبا نواس زمنًا؛ لخلاعته، ويقال: بل حبسه الفضل بن الربيع وزيره، وفي أشعاره ما يدل على هذا الحبس4، على أن الأجل لم يطل به؛ فقد توفي قبل دخول المأمون بغداد، وتختلف الروايات في سنة وفاته، هل كانت سنة 195 أو سنة 199 كما تختلف في سببها5. وتدل نصوص مختلفة على أن أبا نواس في أثناء مكثه في الكوفة والبصرة كان

_ 1 انظر في ذلك: طبقات الشعراء، ص195- 200 وأخبار أبي نواس، ص155 وما بعدها. 2 طبقات الشعراء، ص202، 241. والأغاني، طبعة الساسي، 20/ 73، والحيوان 4/ 448، والديوان ص180. 3 زهر الآداب 2/ 111. 4 زهر الآداب 2/ 111، 112. 5 أخبار أبي نواس، ص97، وانظر: طبقات الشعراء، ص194.

يختلف إلى حلقات اللُّغويين وخاصة حلقة خلف1، وهو الذي دفعه إلى حفظ مئات الأراجيز، ويقال: إنه خرج إلى البادية سنةً؛ لينهل من ينابيع اللغة الأصلية. ولم يختلف أبو نواس إلى حلقات اللغويين وحدهم بل اختلف أيضًا إلى حلقت الفقهاء والمحدثين2 والمتكلمين، حتى قالوا: إنه بدأ حياته متكلمًا ثم نظم الشعر3، ومر بنا في غير هذا الموضع كيف كان يجلب إلى شعره ألفاظ المتكلمين ومصطلحاتهم. ولعلنا بذلك كله نستطيع أن نعرف مكونات شخصيته الأدبية، وهي تقترب من مكونات بشار؛ فقد ألَمَّ بثقافات عصره إلمامًا واسعًا وورِثَ عن الفرس حدَّة مزاجهم وأخذت البيئة الماجنة تؤجج هذه الحدة، بكل ما أخذه عن والبة وأضرابه، حتى لنجده يخطو في الفسق والمجون خطوات بالقياس إلى بشار؛ إذ أخذ يتغنى بالغِلمان، وكأنما لم تكفِهِ الجواري، وإن كان ابن المعتز يلاحظ أنه كان يكثر من ذلك تمويهًا وخداعًا عن فسقه الحقيقي بالجواري والإماء4، وربما كان لِمَ اتُّهِمَ به من شذوذ أثر في ذلك؛ فاندفع يعلن على رءوس الأشهاد كذب ما يقال عنه، ومن ثم قد يكون من الخطأ أن نبالغ في تصوير هذه الوصمة عند أبي نواس وأن نبحث نفسيته على أساسها. علي أن من الممكن أن تكون مجاهرة أبي نواس بغلامياته ضربًا من التظرف والدعابة كان يسوقه في مجالس جماعته الماجنة من أمثال الخاركي وأبي يعقوب التمار وأبي هفان والحسين بن الضحاك الخليع5 ويشهد معاصروه بأنه كان ظريفًا يخلب الناس بظرفه وكثرة ملحه6، وهو في ذلك يختلف عن بشار؛ فبشار في مزاحه جد وصرامة، أما أبو نواس فليس فيه من الجد والصرامة شيء

_ 1 طبقات الشعراء، ص194، ومن قول أبي نواس في رثائه: كنا متى ما ندن مني نغترف ... رواية لا تجتني من الصحف 2 طبقات الشعراء، ص201. 3 نفس المصدر، ص272. 4 طبقات الشعراء، ص309. 5 انظر تراجمهم في "طبقات الشعراء" وصلتهم بأبي نواس. 6 طبقات الشعراء، ص195.

وكان يشعر بذلك في نفسه؛ بل كان يتخذ إليه كل وسيلة حتى ليقول1: أتتبَّعُ الظرفاءَ أكتب عنهمُ ... كيما أحدِّث من أحبُّ فيضحكا وجعله هذا الجانب قريبًا إلى أهل عصره من خلفاء ووزراء فكانوا يرسلون في طلبه إلى مجالسهم فيفاكههم ويسوق لهم نوادر تضحكهم، ولعل ذلك ما جعله يتحول في بعض القصص إلى شخصية مضحكة، وهي وظيفة كان يقوم بها أبو دُلامة معاصره؛ لكن لا شك أن الناس في بغداد كانوا يتناقلون عنه نوادر كثيرة أعدت لنمو شخصيته القصصية المضحكة مع مر الزمن، ومما يدخل في هذا الباب ورواه الجاحظ عنه أن مجنونًا موسوسًا يسمى أبا الحاسب كان يهذي بأنه سيصير ملكًا وأنه أُلْهِمَ ما يحدث في الدنيا من الملاحم؛ فكان أبو نواس يقول أشعارًا على لسانه، وما يزال يوردها على سمعه له حتى يحفظها، وكان يتحدث فيها عما سيقع عبثًا ودعابة، ويروي الجاحظ من تلك الأشعار2. ومثل هذه الشخصية ينبغي أن نتأنى في الحكم عليها، وأن لا نظن أن كل ما تنظمه يصور نفسيتها أو وقائعها؛ فكثير منه نظم تظرفًا ودعابة وعبثًا، ونستطيع أن نضع في هذا الجانب من التعابث أطرافًا مما في شعره من شعوبية وزندقة وخروج على الإسلام من مثل قوله السابق3: يا ناظرًا في الدين ما الأمر؟ ... لا قدرٌ صحَّ ولا جَبْرُ ما صح عندي من جميع الذي ... تذكرُ إلا الموت والقبر وقوله4: يا أحمد المترجى في كل نائبة ... قم سيِّدي نعصِ جبار السماوات ومثل هذا كثير في ديوانه، ولا نشك في أنه كان ينظمه أثناء معاقرته للخمر هزلا وفكاهة. وأيضًا لا بد أن نلاحظ شيئًا آخر هو كثرة ما حمل عليه من شعر الخمر والمجون، يقول ابن المعتز: "إن العامة الحمقى قد لهجت بأن

_ 1 الحيوان للجاحظ، 4/ 75. 2 البيان والتبيين، 2/ 228. 3 انظر: الوساطة، ص63. والموشح، ص277. 4 الديوان ص250.

تنسب كل شعر في المجون إلى أبي نواس وكذلك تصنع في أمر مجنون بني عامر، كل شعر فيه ذكر ليلى تنسبه إلى المجنون"1. ولا نبالغ إذا قلنا أن دواوين الحسين بن الضحاك الخليع ونظرائه من المجان تلك التي فقدت قد دخلت في ديوان أبي نواس. لذلك يكون من الخطأ أن نحمل عليه كل ما جاء في ديوانه وإن كنا بعد ذلك لا ننفي عنه جملة خمرياته وغزلياته العابثة فكثير منها روي عند الجاحظ وابن المعتز وأضرابهما من النقاد الأثبات، ومن المؤكد أنه كان ماجنًا عابثًا على فكاهة فيه. وأقوى ما تتجلى ملكة الشعر عنده في خمرياته، وكان يحتذي فيها على مثال الوليد بن يزيد2، وقد استشهدنا فيما أسلفنا بمثل منها عنده، وطرائفها عند أبي نواس أكثر من أن تستقصى؛ إذ كان يعرف كيف يولد في المعاني وكيف يستخرج دفائنها ودقائقها، كما كان يعرف كيف يأتي بالصور النادرة من مثل قوله3: وكئوس كأنههن نجوم ... جارياتٌ بروجها أيدينا طالعاتٌ مع السقاة علينا ... فإذا ما غربن يغربن فينا وقوله4: وكأسٍ كمصباحِ السماءِ شربتُها ... على قبلةٍ أو موعدٍ بلقاءِ أتت دونها الأيام حتى كأنها ... تساقط نور من فتوق سماء وهو على هذه الشاكلة في غزله أيضًا؛ إذ كان يعرف كيف ينوع في معانيه، وكيف يستمد من أوعية القديم في الحنين والصد والإعراض والدلال ما تتلألأ فيه خواطره وتتألق فيه أحاسيسه. وكان ينحو في غزله منحى سهلًا؛ حتى لتصبح بعض غزلياته أسلس على اللسان من الماء العذب، من مثل قوله الذي مر بنا 5:" حاملُ الهوى تعبُ ... يستخفُّهُ الطَّربُ إن بكى يحق له ... ليس ما به لَعِبُ وهو في غزله بالغلمان ينحو كثيرًا منحى التعابث والهزل، ولعل ذلك

_ 1 طبقات الشعراء، ص89. 2 أغاني، طبعة دار الكتب، 7/ 20. 3 الديوان، ص339. 4 الديوان، ص63. 5 معاهد التنصيص والديوان، ص361.

ما جعله يحشد فيه كثيرًا من ألفاظ العامة، وخاصة إذا كان الغلام أعجميًّا؛ فإنه يستحلفه بآلهة العجم وبكتبهم المقدسة وما يؤلهون من كواكب ويقدسون من كهنة النار، ويسوق له في أثناء ذلك كلمات أعجمية كثيرة. وكان في هجائه كغزله بالغلمان يتعابث ويتماجن، وأحيانًا يجد، فيَرْمي بالزندقة ويقذف في الأعراض على شاكلة بشار. وهجاؤه الأول أخف، ومن أمثلته هجاؤه لإسماعيل بن نيبخت، وكان يرتعي على مائدته؛ ولكنه لم يسلم من عبثه، فقال فيه1: خبز إسماعيل كالوشـ ... ي إذا ما شُقَّ يُرفا وقال أيضًا2: على خبزِ إسماعيلَ واقيةُ البخل ... وقد حلَّ في دارِ الأمانِ من الأكلِ وما خبزُه إلا كآوى يرى ابنها ... ولم تر آوى في الحزن ولا السهلِ وما خبزه إلا كعنقاء مغربِ ... تصوَّرُ في بُسُط الملوك وفي المثل يحدَّث عنها الناس من غير رؤيةٍ ... سوى صورة ما إن تمر ولا تحلي وكان يتوقر في مديحه وشعره الرسمي، ويختار له إطارًا جزلًا قويًّا متينًا، يقدم له بوصف الصحراء على طريقة القدماء، وقد وصف في قصيدته التي مدح به الخصيب رحلته من بغداد إلى الفسطاط، وهي التي يقول فيها3: فما جازه جودٌ ولا حلَّ دونه ... ولكن يصير الجودُ حيثُ يصيرُ وكان يجنح في مديحه إلى المبالغة والإسراف على نفسه في الارتفاع بالممدوحين عن البشر؛ حتى ليقول في الرشيد4: وأَخَفْتَ أهلَ الشِّركِ حتَّى إنَّه ... لتخافُكَ النُّطَفُ التي لم تُخْلَقُ ويقول في الأمين -إن صح أنه له- مستغلًا طريقة المتكلمين5: ألا يا خيرَ منْ رأتِ العيونُ ... نظيرُك لا يحسُّ ولا يكونُ

_ 1 الديوان ص172. 2 الحيوان 3/ 129، والديوان 171، وأخبار أبي نواس 127. 3 الديوان ص98. 4 الديوان ص62. 5 الديوان ص116، ونسب ابن المعتز الأبيات للنظام. انظر: طبقات الشعراء، ص272.

وفضلك لا يحدُّ ولا يُجَارى ... ولا تحوي حيازَتَهُ الظنونُ خُلِقتَ بلا مشاكلةٍ لشيء ... فأنت الفوقُ والثَّقلانِ دونُ ويقول في الفضل بين يحيى البرمكي1: أوحده اللهُ فما مثلُه ... لطالبِ ذاك ولا ناشدِ وليس على اللهِ بمستنكرٍ ... أن يجمعَ العالَمَ في واحدِ وبذلك كان من أوائل من أعدوا لاتساع المبالغة في المديح العباسي، ومضى الشعراء من بعده يبالغون حتى رفعوا ممدوحيهم إلى مرتبة الآلهة. وربما كان -مما يتصل بهذا الفن التقليدي- فن المديح عنده، استخدامه للرجز، وخاصة في طردياته، وهو فيها يتفوق تفوقًا منقطع النظير، وقد أشاد بها الجاحظ إشادة رائعة على ما مر في غير هذا الموضع؛ وبينما نراه يعنى بصناعته اللفظية في المديح والرثاء نراه يفرط في السهولة حين يتغزل، وكان ينظم كثيرًافي أوزان المجتث والمقتضب والمتدارك وما يشاكلها من البحور المجزوءة، معبرًا عن أحاسيس الحب، وملائمًا بينها وبين الغناء الذي عاصره، وله شعر في الزهديات ربما نظمه مجاراة لأبي العتاهية وأمثاله ممن كان تروج أشعارهم في العامة، أما الزعم بأنه كفَّ في آخر حياته عن الملاذ فهو زعم باطل2، إنما تلك كانت لحظات صحو تعتريه من حين إلى حين. ومن بديع ما نظمه في هذه اللحظات قوله3: يا رب وجهٌ في الترابِ عتيقُ ... ويا رب حسن في الترابِ رفيقُ فقل لقريبِ الدارِ إنك راحلٌ ... إلى منزلٍ نائي المحلِّ سحيقِ وما الناس إلا هالكٌ وابن هالكِ ... وذو نسبٍ في الهالكينَ عريق إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشَّفَتْ ... له عن عدوٍ في ثيابِ صديقِ وواضح مما قدمنا أن صنعة الشعر عند أبي نواس كانت تعتمد اعتمادًا شديدًا على الإطار القديم في المديح والرثاء وما يشبهما؛ بينما كانت تنفك من هذا الإطار

_ 1الحيوان 3/ 63 وما بعدها. 2 انظر في ذلك: طبقات الشعراء ص194. 3 الديوان 192.

أحيانًا في الغزل والخمريات، وقد تظل له قوة البناء فيهما، وتظل له روعة التصوير ودقة العاطفة، وقد يهبط وخاصة حين يتعابث ويهزل إلى لغة العامة وإلى أسلوب ليس فيه شيء من قوة، كان يعمد فيه إلى اللحن أحيانًا1. ولعل ذلك ما جعل بعض القدماء يقول عنه، وهو قول صحيح: "إنه كان لا يقوم على شعره ويقوله على السكر كثيرًا، فشعره متفاوت؛ لذلك يوجد فيه ما هو في الثريَّا جودة وحسنًا وقوة وما هو في الحضيض ضعفًا وركاكة"2. على أنه ينبغي أن لا ننسى أن شعرًا كثيرًا منتحلًا أضيف إليه، حتى لنجد موشحة مبثوثة بين أشعاره في ديوانه3، والمشهور أن الموشحات ظهرت بعده بقرن على الأقل، ولم تظهر في الشرق؛ وإنما ظهرت في الأندلس وظلت هناك طويلًا قبل أن تنتشر في العالم العربي. ولعل في ذلك ما يدل على أن العصور التالية لعصر أبي نواس ظلت تضيف إليه كثيرًا من الأشعار، ولم تتورع أن تضيف إليه بعض الموشحات، وكان أهم باب نفذوا منه إلى ذلك باب المجون والأدب المكشوف.

_ 1انظر ترجمته في: الموشح للمرزباني. 2 طبقات الشعراء، ص195. 3 الديوان ص346.

صنعة أبي العتاهية

7- صَنْعَةُ أبي العَتاهِيَةِ: هو إسماعيل بن القاسم، كان أبه من موالي بني عنزة، وكانت أمه بنت زياد المحاربي أحد موالي بني زهرة، وقد وُلد لهما سنة 130 للهجرة في قرية عين التمر بالقرب من الأنبار غربي الكوفة، ويظن أن القاسم كان نبطيًّا، وقد كان يحترف الحجامة، وانتقل -على ما يظهر- بأسرته إلى الكوفة فنشأ بها أبو العتاهية. ولما ترعرع احترف مع أخيه زيد بيع الخزف، ولم تلبث مواهبه الشعرية أن استيقظت في نفسه؛ فكان ينشد من يشترون منه

الجرار شعره؛ فيعجبون به وينقشونه على جرارهم1. ولم يطل به الأمر حتى انصرف عن بيع الخزف، ولزم المخنثين من شباب الكوفة، ولبس ملابسهم2 وانتظم في سلك الْمُجَّان من أمثال مطيع بن إياس. وتعرَّف في أثناء ذلك على إبراهيم الموصلي مغني المهدي والرشيد فيما بعد، واتفقا على الرحيل إلى بغداد؛ غير أن الأبواب فيها لم تفتح له؛ فعاد أدراجه إلى الحيرة3، وتعلق فيها بجارية لبني معن بن زائدة كانت نائحة ولها حسنٌ وجمال، ولكن مواليها حالوا بينها وبينه4. وأخذ شعره فيها يذيع، فاستدعاه الموصلي ووصله بالمهدي فمدحه ونال جوائزه السنية. حدث أن رأى جارية من جواري القصر هي عُتبَة، وكانت من جواري رائطة بنت السفَّاح زوج المهدي، فوقعت في قلبه وأخذ يتغزل فيها غزلًا كثيرًا، وبلغ المهدي ذلك فغضب لتعرضه لحرمه وأمر بحبسه، وشفع فيه خاله يزيد بن منصور حتى خلصه؛ فعاد إلى مثل حاله معها، فتدخلت رائطة، وأثارت حفيظة المهدي عليه؛ فأحضره وضربه بالسياط في الدواوين بين يديه؛ غير أنه عاد فرقَّ له، ووعده أن يستوهبها من مولاتها ويدفعها إليه. وعلمت بذلك عتبة، وكانت تزدريه على نحو ما كانت تزدري جنان أبي نواس؛ فاسترحمت المهدي واستجارت به، وقالت إنه غير عاشق، وإنما يريد الذِّكر والشهرة بتغنيه فيَّ وامتحِنْهُ بمال ذي خطر، فإنه سيلهيه عني ويشغله عن ذكري، فأمر له المهدي بمائة ألف، ولم يسمِّ دراهم ولا دنانير، وأعطاه صكًّا بذلك؛ فكان كلما حاول أن يصرف الصك قدمه له الموظفون بالدواوين دراهم، فكان يأباها. وظل شهرًا مطالبًا بالدنانير، ونسي عتبة وذكرها، فأشرفت عليه يومًا وقالت: "يا صفيق الوجه لو كنت عاشقًا لشغلك العشق عن المفاضلة بين الدراهم والدنانير، وبلغ كلامها المهدي؛ فعلم أنها كانت أعرف بقصة الرجل، فأمسك عن أمره5. غير أنه ظل يقرِّبه منه، وتبعه الهادي والرشيد يسيران معه نفس السيرة، ويقال إنه

_ 1 انظر: الأغاني، طبعة دار الكتب، 4/ 9 وقد ترجم له أبو الفرج ترجمة ضافية في هذا الجزء. 2 أغاني 4/ 7. 3 أغاني 4/ 4. 4 أغاني 4/ 24. 5 طبقات الشعراء: لابن المعتز، ص230. وانظر: زهر الآداب 2/ 35.

لم يكن يفارق الرشيد في سفر ولا في حضر1. ولا نمضي طويلًا في عصر الرشيد، حتى نرى أبا العتاهية يتنسك ويلبس الصوف والزهد ويترك حضور المنادمة والقول في الغزل، ويُحْضره الرشيد ويأمره أن يعود إلى ما كان عليه، فيمتنع، فيضربه ستين سوطًا ويأمر بحبسه، وينظم أشعارًا كثيرة يستعطفه، وتُنْقَل إلى الرشيد، وكان مما نظمه قوله2: أما واللهِ أنَّ الظُّلمَ لومٌ ... وما زالَ المسيءُ هو الظَّلومُ إلى ديانِ يومِ الدِّينِ نمضي ... وعند اللهِ تجتمعُ الخصومُ فعطف عليه الرشيد وأطلق سراحه، وتصادف أن انقبض عن الدنيا وغشيته سحابة من الحزن بعد فتكه بالبرامكة؛ فكان يستريح إلى أشعار أبي العتاهية الجديدة في الزهد، ويفسح له في مجالسه ونزهاته. ولما تحولت مقاليد الأمور إلى المأمون كان يقربه منه ويصله3، ويستحسن شعره، إلى أن توفي سنة عشر ومائتين وقيل بل سنة إحدى عشرة وقيل بل ثلاث عشرة. وواضح أن انقلابًا حدث في حياة أبي العتاهية؛ فتحول مما كان يأخذ فيه مع شعراء بغداد لعصره من لهوٍ ومجون إلى زهد في الدنيا ومتاعها الزائل، وكاد يقصر شعره على ذلك. ولم يلبث معاصروه أن تساءلوا هل هذا الزهد مردُّهُ إلى تقوى حقيقية، أو مردُّه إلى زندقة ومانوية فهو يستمد فيه من ماني، والزنادقة على شاكلة صالح بن عبد القدوس وأضرابه ممكن كانوا ينزعون في زهدهم منزعًا مانويًّا. وتعرض له حموديه صاحب الزنادقة يريد أن يثبت التهمة عليه؛ فقعد حجَّامًا في الطريق، يحجم الفقراء والمساكين4 وحامت حوله شبه كثيرة، وقيل: إنه يقنت للقمر ويبتهل له ابتهال المانوية5، وشنع عليه واعظ كبير من وعاظ بغداد، هو منصور بن عمار؛ فقال إنه زنديق6 وقال كثيرون: إنه لا يؤمن بالبعث7. ويقول ابن المعتز في

_ 1 أغاني 4/ 63. 2 أغاني 4/ 51. 3 أغاني 4/ 53 وما بعدها. 4 أغاني 4/ 7. 5 أغاني 4/ 35. 6 أغاني 4/ 34، 51. 7 أغاني 4/ 2.

ترجمته: "إنه يرمى بالزندقة مع كثرة أشعاره في الزهد والمواعظ، وذكر الموت والحشر والنار والجنة1، والذي يصح لي أنه كان ثنويًّا"، ويقول في ترجمته ابنه العتاهية: "كان أبوه خبيث الدين، يذهب مذهب الثَّنويَّة؛ إلا أنه كان ناسك الظاهر"2. وفي الأغاني أنه كان ينظم شعرًا يدل على توحيده لنفي تهمة الزندقة عنه، من مثل قوله3: ألا إننا كلنا بائدُ ... وأي بني آدمَ خالد وبدؤهم كان من ربهم ... وكلٌّ إلى ربِّه عائدُ فيا عجبًا كيف يعصى الإلـ ... ـه أم كيف يَجْحَدُهُ الجاحدُ وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ ... تدلُّ على أنَّه واحدُ ولو أننا وصلتنا أشعاره كاملة لأمكن الحكم عليه حكمًا دقيقًا؛ غير أن ما طبع من شعره ونشر باسم "الأنوار الزاهية في ديون أبي العتاهية" إنما هو اختيارات فقيه أندلسي، اختارها بذوقه الديني السليم، ولعل ذلك ما يجعلها تتضارب مع ما يقال عن الشاعر من أن شعره إنما هو في ذكر الموت والفناء دون ذكر النشور والمعاد4، فالمعاد والنشور مبثوثان في اختيارات الفقيه؛ بحيث يمكن أن يقال إن هذه التهمة غير صحيحة. وإن كنا في الوقت نفسه نشك في أن تكون صورة هذه المختارات ضابطة لحقيقة زهدياته؛ فقد يكون الفقيه اختار من ديوانه تلك الأشعار التي كان ينظمها تغطية وتعمية لحقيقة أمره. ولا يشك من يقرؤها في أن فكرة الموت ومصير الإنسان في حياته كانت هي شغله الأول؛ فقد دار عليها أكثر تلك الزهديات، وفي الأغاني نص مهم عن أحمد بن حرب، يقول فيه: "كان مذهب أبي العتاهية القول بالتوحيد وأن الله خلق جوهرين متضادين لا من شيء، ثم إنه بنى العالم هذه البنية منهما، وكان يزعم أن الله سيرد كل شيء إلى الجوهرين المتضادين قبل أن تفنى الأعيان جميعًا، وكان مجبرًا "5. وكأنه حاول بذلك أن يوفق بين نظرية الإسلام والتوحيد ونظرية المانوية في أن

_ 1 طبقات الشعراء، ص228. 2 طبقات الشعراء، ص364. 3 أغاني 4/ 35. والديوان ص69. 4 أغاني 4/ 2. 5 أغاني 4/ 5.

هناك إلهين: إلَهًا للنور والخير وإلَهًا للظُّلمة والشر، وللخير أجناسه وللشر أجناسه، وقد بنى منهما العالم. ونجد في شعره القليل الذي وصلنا ما يؤكد أنه كان حقًّا يرى هذه النظرية، ويعتقدها من مثل قوله1: الخيرُ والشرُ هما أزواجُ ... لذا نتاجٌ ولذا نتاجُ لكلِّ إنسانٍ طبيعتانِ ... خيرٍ وشرٍّ وهما ضدانِ والخيرُ والشرُ إذا ما عُدَّا ... بينهما بونٌ بعيدٌ جدّا فهو في زهده كان يتصل بالمانوية كما شهد معاصروه وكما تشهد أشعاره، وقد مر بنا أن مثال الزاهد عنده هو نفس مثاله عند الهنود، وهو بوذا الذي فرَّ عن ملكه وساح مسكينًا يفكر في ملكوت السماوات والأرض. فزهد أبي العتاهية لم يكن زهدًا إسلاميًّا خالصًا؛ بل كانت تشوبُه عناصر أجنبية. وإذا رجعنا إلى شعره الذي روته المنتخبات المنشورة له باسم "الأنوار الزاهية في ديوان أبي العتاهية" وما روته له كتب الأدب من مثل الأغاني وجدنا أشعاره تمثل حياته وما حدث بها من انقلاب؛ إذ يتراءى لنا في مرحلتين واضحتين تمام الوضوح: مرحلة أولي نراه فيه على شاكلة الشعراء المعاصرين له الذين يُجْرُون شعرهم في تصوير اللهو والمجون ومجالس الأنس والطَّرب. ولا نجد في أخباره أنه تبدَّى أو دخل في البادية، كما صنع بشار وأبو نواس ولا أنه لزم كبار اللُّغويين أمثال خلف الأحمر، وكأنه استقى شعره من القطع العباسية الجديدة التي كان يغني فيها المغنون، ولم يحاول التزود تزودًا واسعًا بالتراث القديم؛ ولذلك قلما نجد عنده ضخامة البناء وما يُطْوى فيها من أسلوب جزل رصين، وهو من هذه الناحية يقترب اقترابًا شديدًا من اللغة اليومية التي عاصرها، حتى في مديحه وشعره الرسمي الذي كان يَلْقَى به الخلفاء، وخير ما يمثله قصيدته اللَّامية في المهدي، وهي التي يستهلها بقوله2: ألا ما لسيِّدتي ما لها ... أدلًا فأحمل إدلالها

_ 1 أغاني 4/ 37. والديوان ص346. 2 أغاني 4/ 33. والديوان ص309.

وإلا ففيم تجنَّت وما ... جنيت سقى الله أطلالها ويستمر في هذا الأسلوب السهل العذب حتى ينتقل إلى المديح فيقول: أتته الخلافةُ منقادةً ... إليه تجرر أذيالها ولم تك تصلح إلا له ... ولم يكن يصلح إلا لها ولو رامها أحدٌ غيرُهُ ... لزلزلت الأرضُ زلزالها ولو لم تطعه بناتُ القلوبِ ... لما قبل اللهُ أعمالَها وإن الخليفةَ من بغض لا ... إليه ليُبْغِضُ من قالها وواضح أنه يختار لمديحه أسلوبًا خفيفًا قريبًا إلى النفوس، وهو في ذلك يخطو بعد بشار خطوة؛ فقد كان بشار يحافظ في مدائحه على الأسلوب الجزل القويّ، وكذلك كان يصنع أبو نواس غالبًا، أما أبو العتاهية فالتزم هذا الأسلوب اليسير لا في غزلياته، كما كان أبو نواس بل أيضًا في مدائحه، وهي سهولة تقترن بموسيقى صافية حلوة يبدو الشعر فيها كأنه أنغام خالصة. وتبلغ هذه السهولة الغاية في غزله؛ حتى ليقول ابن المعتز: "إن غزله لين جدًّا مُشَاكل لكلام النساء" وكأن ملازمته للمخنثين في مطلع حياته وتعرفه على لغتهم هما اللذان أتاحا له هذه السهولة المفرطة التي تلقانا في مثل قوله1: كأنها من حسنها درةٌ ... أخرجها اليمُّ إلى الساحلِ كأن في فيها وفي طرفها ... سواحرَ أقبلن من بابلِ لم يبقِ مني حبُّها ما خلا ... حشاشة في بدنِ ناحلِ يا من رأى قبلي قتيلًا بكى ... من شدة الوجد على القاتل والرقة واضحة في هذه الأبيات، وهي تقع من القلوب موقع الزُّلال البارد من الظمآن، وكأنها الماء السلسبيل وانتقل أبو العتاهية بهذا الأسلوب السهل الممعن في سهولته إلى الدور الثاني من حياته دور الزهد والدعوة إلى الانصراف عن الدنيا ومتاعها، والتفكير

_ 1 أغاني 4/ 45.

في الموت وظلمة القبر ووحشته، ويسود زهدياته في أثناء ذلك تشاؤم أسود حزين؛ فالحياة ليس فيها إلا الألم وإلا الموت وغصصه، وأولى بالإنسان فيها أن لا يفرح بمتعها، بل أولى به أن يبكي على نفسه، يقول1: لدواعي الخيرِ والشـ ... ـرِ دنوٌ ونزوحُ سيصيرُ المرءُ يومًا ... جسدًا ما فيه روحُ بين عيني كلِّ حي ... عَلَمُ الموتِ يلوحُ كلُّنا في غفلةٍ والْـ ... موتُ يغدو ويروحُ نُحْ على نفسِكَ يا مسكين ... إن كنت تنوحُ لتموتنَّ وإن عُمِّـ ... رَت ما عُمِّرَ نوحُ ويقال: إن الملاحين غنَّوا الرشيد هذه المقطوعة في إحدى نزهاته بدجلة؛ فلما سمعها جعل يبكي وينتحب2. وفي هذا الخبر ما يدل على قرب شعره من روح الشعب؛ إذ لم يكن المغنون وحدهم الذين يغنون به، بل كان أفراد الشعب من ملاحين وغيرهم يتغنون فيه، مما يدل على أنه كان له صدى عميق في نفوس الطبقة العامة التي لم تكن تعرف الترف ولا حياة الدعة واللهو تلك التي عاشها الأمراء العباسيون والأشراف الذين نعموا بملذات الحياة، كما عاشها الشعراء الماجنون في نوادي بغداد. ولم يكن هذا الشعر الزاهد قريبًا منها في معانيه فحسب؛ بل كان قريبًا منها في ألفاظه، بل لعلنا لا نبعد إذا قلنا إنه كان من نفس ألفاظها اليومية ويتحول كثير منه إلى ما يشبه وعظ الوعاظ ممن كانوا يعظون الناس في المسجد الجامع، فيضعون الموت تحت أعينهم للعبرة والعظة3، ولعل ذلك ما يجعل الاستفهام والأمر والتعجب يشيع في تلك الزهديات. على أن مسحة مهمة تعلوها هي مسحة الكآبة والبرم بالحياة، وهي ليست مسحة إسلامية؛ فالإسلام لا يشوِّه الحياة ولا يبغضها إلى الناس، بل يدعوهم إلى العمل الصالح، أما

_ 1 أغاني 4/ 103. والديوان ص66. 2 أغاني 4/ 104. 3 انظر: القصيدة الطويلة التي يصف فيها بالتفصيل مشهد الموت والغسل والدفن من ص293 إلى 295 في الديوان

أبو العتاهية فيصورها في سواد خانق، وهو سود جاءه فيما نظن من قراءاته في المانوية واختلاطه بأصحابها، إن لم يكن من اعتناقه لها؛ ولكن على أساس فلسفته التي قدمناها من التوفيق بينها وبين الإسلام؛ بحيث آمن بربه وأقرَّ بالثواب والعقاب في الدار الآخرة، كما يشهد بذلك كثير من أشعاره. ومما لا ريب فيه أنه كان يكثر من قراءة المترجمات، وخاصة في باب الحكم والموت، فقد قالوا: "إنه نظم في بعض مراثيه قول بعض الفلاسفة لما حضروا موت الإسكندر: الإسكندر كان أمس أنطق منه اليوم وهو اليوم أوعظ منه أمس"؛ فقال في رثاء على بن ثابت: وكانت في حياتك لي عظات ... وأنت اليوم أوعظ منك حيَّا1 ومرت بنا مرثية أخرى له في علي، وقد جعله تصويره لآلام الحياة والموت يجيد في هذا الموضوع، وكان كثيرًا ما ينقل حكم الأوائل من فرس وغير فرس إلى شعره، ولعل ذلك ما أتاح له أن ينظم مزدوجته "ذات الأمثال" التي امتدت إلى أربعة آلاف بيت، ويقول الجاحظ تعليقًا على قوله: "أسرع في نقص أمرئ تمامه"، ذهب إلى كلام الأول: "كل ما أقام شخص، وكلما ازداد نقص، ولو كان الناس يميتهم الداء، إذن لأعاشهم الدواء"2. وأظن أن فيما أسلفنا ما يدل في وضوح على صنعة أبي العتاهية، وهي صنعة كانت تقوم على السهولة المفرطة في اختيار الألفاظ والعبارات؛ حتى لتقترب من لغة الناس اليومية، بل حتى ليصيبها أحيانًا ضرب من الابتذال، ومن أجل ذلك كان الأصمعي يقول: "شعر أبي العتاهية كساحة الملوك يقع فيها الجوهر والذهب والتراب والخزف والنوى"3، ويقول أبو الفرج: إنه كثير الساقط المرذول4 على أننا نلاحظ أنه لم يدخل في شعره ألفاظًا أعجمية؛ إنما هو القرب فقط من كلام العامة، وكان يتخذ ذلك مذهبًا في صنعة شعره، حتى يكون أكثر تداولًا

_ 1 البيان والتَّبَيُّن1/ 40. وانظر 3/ 257. والأغاني 4/ 44. 2 البيان والتَّبَيُّن1/ 154. 3 أغاني 4/ 40. 4 أغاني 4/ 2.

ومع ذلك لم يخرج عن الفصحى، وظلت عنايته بالمعاني تحول بين شعره وبين السقوط. والذي لا شك فيه أنه بسَّط لغة الشعر لا في مجال اللهو والغزل والخمر كما صنع بشار أحيانًا وأبو نواس غالبًا؛ بل أيضًا في مجال الزهد والمديح، فحتى المديح لم يقف عائقًا في سبيل هذا الأسلوب المبسط السهل، إذا انفك عن كثير من تقاليده القديمة من حيث مقدماته في وصف الصحراء والرحلة على النوق، وكذلك من حيث لغته الضخمة الجزلة وما كان يشوبها من الغريب عند بشار وأضرابه. وأدته هذه السهولة وما يدمج فيها من تبسيط إلى اختيار الأوزان الخفيفة والمجزوءة يصوغ منها شعره؛ بل لقد اندفع يجدد في الأوزان على نحو ما مر بنا في الفصل السابق مُظْهِرًا براعة فائقة.

ظهور مذهب التصنيع

8- ظهورُ مذهبِ التَّصنيعِ: كان ذوق التصنيع أو الزخرف والزينة يعم في كثير من جوانب الحياة العباسية؛ فقد كانت قصور الخلفاء والأمراء وكثير من القواد والوزراء والأشراف تكتظ بالستور والبُسط المعلَّقة على الحوائط والنوافذ متنافسة بألوانها الزاهية وما عليها من التصاوير المذهبة، وكانت الحيطان والسقوف والأبواب تُذَهَّبُ وتفضض، كما كانت الغرف والأبهاء تزدان بالأثاث النفيس والفرش الأنيقة. ويصف أحمد بن حرب المعروف بأبي هفان مجلسًا للأمين؛ فيقول: إنه دعا الشعراء، فدخلوا إليه في إيوان "بَهْو" فائح فاسح يسافر فيه البصر، جعل كالبيضة بياضًا، ثم ذُهِّب بالإبريز المخالف بينه باللازورد ذي أبواب عظام ومصاريع غلاظ تتلألأ فيها مسامير الذهب، قد قمعت رءوسها بالجوهر النفيس، وقد فرش بفُرش كأنها صبغ الدم، منقَّش بتصاوير الذهب وتماثيل العِقْيَان، ونضِّد فيه العنبر والكافور وعجين المسك، والتزايين"1 ويصف آخر دارًا للواثق فيقول:

_ 1طبقات الشعراء ص209.

"إنها كانت مُلْبَسة الحيطان بالوشي المنسوج بالذهب، وإنه رآه يجلس على سرير مرصع بالجواهر، وعليه ثياب منسوجة بالذهب، وإلى جانبه فريدة تغنيه وعليها مثل ثيابه"1. وكانت دور كثير من الوزراء لا تقل عن دور الخلفاء أناقة مثل دور البرامكة وبني سهل، وكذلك كانت دور الأمراء والأشراف والموظفين الكبار؛ ممن كانت تغدق عليهم الدولة. وعلي نحو ما تأنقوا في قصورهم وفُرشهم تأنقوا في أطعمتهم؛ فاحتفلوا بموائدهم، ويعرض علينا الجاحظ في كتابه البخلاء أطرافًا من مآكلهم ومشاربهم، كما يعرض علينا ذلك أبو الفرج الأصبهاني في كتابه الأغاني، وقد عرفوا آنية الصيني المنقوشة، ومر بنا وصف أبي نواس لكأس مذهبة، نقش عليها منظر صيد لكسرى وفوارسه. ولم يكن تأنقهم في ثيابهم أقل من تأنقهم في طعامهم وشرابهم، وكان لكل طائفة زيّ. فللقضاة زيّ ولأصحابهم زيّ وللشُّرط زي وللكتَّاب زيّ2. وبالغ النساء في أزيائهن وفي زينتهن وخاصة الجواري من فارسيات وروميات؛ فكن يصبغن شفاههن وخدودهن، ويُسْدِلن شعورهن على وجوههن بصور مختلفة، تثير الإغراء والفتنة. ولم يكن الشعراء يعيشون بعيدًا عن هذا الجو من التصنيع والزخرف والزينة؛ فقد كانوا ينادمون الخلفاء والوزراء وكبار رجال الدولة ويختلطون بالجواري والإماء، وانصبَّ في حجورهم كثير من الأموال التي جعلتهم يعيشون في ترف ونعيم بالغ، بل يحققون كل ما يريدون من تصنيع وتنميق في حياتهم. وفي أخبارهم ما يدل على الأموال الطائلة التي كانوا يحصلون عليها، يقول ابن رشيق: "وأما المجددون في التكسب بالشعر والحظوة عند الملوك؛ فمنهم: سلم الخاسر، مات عن مائة ألف دينار ولم يترك وارثًا، وقال فيه أبو العتاهية: تعال له يا سلم بن عمرو ... أذلَّ الحِرْصُ أعناقَ الرِّجالِ وكان صديقه جدًّا؛ فقال سلم: ويلي جمع القناطير من الذهب ونسبني إلى ما ترون من الحرص. ومروان بن أبي حفصة أعطى مائة ألف دينار غير

_ 1 أغاني "طبعة دار الكتب" 4/ 116. 2 البيان والتَّبَيُّن3/ 114.

مرة. وكان أبو نواس محظوظًا لا يدري ما وصل إليه؛ لكنه كان متلافًا سمحًا، وكان يتساجل في الإنفاق هو وعباس بن الأحنف وصريع الغواني "مسلم بن الوليد"، وكان البحتري مليئًا قد فاض كسبه، وكان يركب في موكب من عبيده"1 وعلى هذه الشاكلة توفرت الأموال لدى الشعراء، وعاشوا في عالم مترف زاخر بالحلى والزينة، يقول الجاحظ: "وكانت الشعراء تلبس الوَشْي والمقطَّعات والأَرْدية السود وكل ثوب مشهَّر"، ويقول: إنهم كانوا يتندرون على من يتزيَّا بزي الماضين2، ويقول صاحب الأغاني عن سلم الخاسر: كان يأتي باب المهدي على البرذون "الفرس المطهم" قيمته عشرة آلاف درهم، والسرج واللجام المقذوذين "المزينين" ولباسه الخزُّ والوشي وما أشبه ذلك من الثياب الغالية الأثمان ورائحة المسك والطيب والغالية تفوح منه"3. وكان غير سلم يصنع تصنيعه في حياته وثيابه وطيبه. وأخذ هذا التصنيع والتنميق يتسرب من حياة الشعراء العامة إلى حياتهم الفنية الخاصة، وهي حال طبيعية توجد دائمًا في الصنائع حين يعمُّ الترف؛ فإذا هي تتحول إلى زخارف دقيقة. وليس الشعر وحده الذي أخذ يسود فيه هذا التصنيع فقد كان يشيع في فن العمارة وبناء المساجد والقصور، كما كان يشيع في التصوير الذي كان يستخدم زينة وزخرفًا للكتب والقصص؛ فلا عجب أن ينتقل إلى الشعر والشعراء، وأن ينمو مع الزمن حتى تصبح القصيدة كأنها واجهة لمسجد مزخرف بديع، قد تألَّق في وشي مرصَّع كثير. ولعل أقدم النصوص التي تشير إلى نشأة مذهب التصنيع وأول من اعتنقوه ما نجده عند الجاحظ إذا يقول: "ومن الخطباء الشعراء ممن كان يجمع الخطابة والشعر الجيد والرسائل الفاخرة مع البيان الحسن كلثوم بن عمرو العتَّابي وكنيته أبو عمرو، وعلى ألفاظه وحذوه ومثاله في البديع يقول جميع من يتكلف مثل

_ 1 العمدة، لابن رشيق "طبعة أمين هندية" 2/ 150. 2 البيان والتَّبَيُّن 3/ 115. 3 أغاني "طبعة ساسي" 21/ 78.

ذلك من شعراء الْمُوَلَّدين كنحو منصور النَّمري ومسلم بن الوليد الأنصاري وأشباههما، وكان العتَّابي يحتذي حذو بشار في البديع، ولم يكن في المولدين أصوب بديعًا من بشار وابن هَرْمة"1. وتختلط في هذا النص أسماء عربية هي العتابي والنمري وابن هرمة بأسماء فارسية هي بشار ومسلم بن الوليد، ما يجعلنا نتردد في قبول الرأي القائل بأن البديع، أو كما اقترحنا له اسم "التصنيع" نشأ في الأدب العربي من طريق الفرس الذين يعرفون بميلهم إلى التعبير باللون2. كل ما يمكن أن يقال: إنهم أعانوا في هذا المذهب؛ ولكنهم لم يخترعوه ولم يبتكروه من تلقاء أنفسهم؛ إنما هو مذهب عباسي تعاونت فيه طوائف الشعراء من العرب مع طوائف الشعراء من الفرس. على أن العباسيين كانوا يردونه إلى أصول عربية خالصة؛ فالجاحظ يقرر في بيانه أن "البديع أمر خاص بالعرب مقصور عليهم، ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة وأربت على كل لسان"3 ويقول ابن المعتز في مقدمة كتابه البديع: "قد قدمنا في أبواب كتابنا هذا بعض ما وجدنا في القرآن واللغة وأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكلام الصحابة والأعراب وغيرهم وأشعار المتقدمين من الكلام الذي سماه المحدثون البديع ليعلم أن بشارًا ومسلمًا وأبا نواس من تقيَّلهم "أشبههم" وسلك سبيلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن؛ ولكنه كثر في أشعارهم، فعرف في زمانهم حتى سُمِّي بهذا الاسم فأعرب عنه ودلَّ عليه. ثم إن حبيب بن أوس الطائي -أبا تمام- من بعدهم شُغِفَ به حتى غلب عليه وفرَّع فيه وأكثر منه؛ وإنما كان يقول الشاعر من هذا الفن البيتَ والبيتين في القصيدة، وربما قُرئت من شعر أحدهم قصائدُ من غير أن يوجد فيها بيت بديع، وكان يستحسن ذلك منهم إذا أتى نادرًا ويزداد حظوة بين الكلام المرسل، وقد كان بعض العلماء يشبه الطائي في البديع بصالح بن عبد القدوس في الأمثال، ويقول: "لو أن صالِحًا نثر أمثاله في شعره وجعل بينها فصولًا من كلام لسبق أهل زمانه وغلب

_ 1 البيان والتَّبَيُّن 1/ 51. 2 النثر الفني، لزكي مبارك 1/ 44. 3 البيان والتَّبَيُّن 4/ 55.

على مد ميدانه. وهذا أعدل كلام سمعته في هذا المعنى"1. ويمضي ابن المعتز في كتابه؛ فيستشهد لكل لون من ألوان البديع بأمثلة؛ مما جاء عن العرب قبل العصر العباسي وظهوره، ومما جاء في الذكر الحكيم وأحاديث النبي الكريم. فالبديع لم ينشأ لأول مرة في العصر العباسي؛ بل له مقدمات واضحة في الأدب العربي، وقد رأينا أن نسمِّي هذا المذهب الذي كمل نضجه عند العباسيين باسم التصنيع؛ لأن كلمة البديع معناها الطريف ولا تعطي معنى الزخرف والزينة بخلاف كلمة التصنيع التي تدل بمعناها على التأنق والتنميق. وسنرى عندما نتعمق في بحث هذا المذهب أنه لم يقف عند الألوان التي اصطلح عليها أصحاب البديع؛ بل تعدَّاها إلى ألوان أخرى استمدها من الثقافة والفكر العباسي العميق وما وعى من الفلسفة. ونعود إلى مناقشة الجاحظ وابن المعتز في نشأة المذهب، أما الجاحظ فاتسع به وسلك فيه ابن هرمة وبشار والنمري والعتَّابي. وقال في بعض كلامه إن الرعي -معاصر الفرزدق- كثير البديع في شعره2؛ فهو ليس مذهبًا عباسيًّا إنما هو مذهب قديم. وأكبر الظن أن مرجع ذلك عنده أنه كان يعني بكلم البديع التشبيهات والاستعارات الطريفة. وكان ابن المعتز أكثر دقة منه حين لاحظ أن البديع بمعناه الاصطلاحي المحدث؛ إنما كثر عند بشار ومسلم وأبي نواس، وهو يعود فيذكر أن أبا تمام أول من جعله وكده من صناعة الشعر وعمله. فالأولون لهم الكثرة من ألوان هذا المذهب التي كانت تأتي في ندرة عند القدماء، وأول من جعله مذهبًا أبو تمام. وإذ أخذنا نستعرض آراء النقاد السابقين وجدناهم يلاحظون أن بشارًا زعيمُ المحدثين، يقول صاحب الأغاني عنه: "ومحله في الشعر وتقدمه طبقات المحدثين

_ 1 انظر كتاب البديع" نشر كراتشقوفسكي"ص1. 2 البيان والتَّبَيُّن4/ 56

فيه بإجماع الرواة ورياسته عليهم من غير اختلاف في ذلك"1، ويسميه الحصري قائد المحدثين2، ويقول ابن خَلَّاد الشاعر في شطر بيت له: والآخرون يقودهم بشار"3، وأوضحنا في غير هذا الموضع قيادة بشار ورياسته للمحدثين، ورجعناها إلى تجديدات واسعة في موضوعات الشعر مع موازنة دقيقة بين هذه التجديدات والعناصر التقليدية الموروثة، وكان أول من ثَبَّت أسلوب المولدين العباسيين الذي يعتمد على استنباط المعاني الدقيقة، مستمدًّا من الثقافة الحديثة، كما يعتمد على تبسيط الأسلوب ومرونته وسهولته، وخاصة في شعر اللهو والغزل. ولعلنا لا نبعد إذا قلنا: إن بشارًا لم يفرغ للتصنيع في فنه والتنميق في شعره، وإن كنا نلاحظ عنده خيوطًا منه بحكم ذوقه العباسي الذي كان يعنى بالتأنق. ومعنى هذا أن من يريدون أن يجدوا عنده أمثلة للجناس والطباق وما إليهما من ألوان البديع لا يعدمون ذلك بل يلقونه كثيرًا؛ غير أنه لم يكن يرى أن يكون الشعر حُلى بديعية، ومن أجل ذلك سلكناه في جماعة الصانعين الذين لا يبعدون في التكلُّف للبديع وزخارفه. وكان كثيرًا ما يترك نفسه على سجيتها، ولذلك لاحظ القدماء أن له شعرًا غثًّا4 وأنه يأتي بالهجين المتفاوت5، وأنه كثير التخليط في شعره، وأشعاره مختلفة لا يشبه بعضها بعضًا6. وإن كنا لا نغلو غلوهم؛ إذ لا شك أنه أكبر شاعر نلقاه في مفتتح هذا العصر، وقد جدد كثيرًا في فنون الشعر ومعانيه وأساليبه. ومَثَلُ أبي نواس مِثْلُ بشار نجد عنده ضروبًا مختلفة من التجديد، وقد استطاع أن يصل بفن الخمرية إلى الذُّروة، ومرَّن كثيرًا في أسلوب المولَّدين الجديد وخاصة في باب الغزل والخمر والمجون، وجاء بكثير من المعاني والصور الطريفة، وعنى بزخرف البديع في بعض شعره، ولكنه لم يتخذه مذهبًا يطبقه.

_ 1 أغاني "طبعة دار الكتب" 3/ 125. 2 زهر الآداب على هامش العقد 2/ 21. 3 اليتيمة للثعالبي "طبعة بيروت" 3/ 388. 4 أغاني "طبعة دار الكتب" 3/ 179. 5 أغاني 3/ 162. 6 أغاني 3/ 155.

على أبياته بيتًا بيتًا؛ إذ كان كثيرًا ما ينظم الشعر عفو الخاطر؛ ولذلك تفاوت شعره قوة وضعفًا ونفاسة وغثاثة، وهو بذلك كله كصاحبه بشار من ذوق الصانعين الذين لا يجهدون أنفسهم في صنع الشعر وتحقيق كل ما يمكن من زخارف البديع. ونحن بذلك نتفق مع ابن المعتز في أن أبا نواس وبشارًا جميعًا لم يتخذا التصنيع والبديع مذهبًا، ونطلق هذا الحكم معه على شعراء القرن الثاني من أمثال النميري والعتابي؛ فالبديع أو التصنيع عندهم جميعًا لم يكن مذهبًا يعيشون فيه؛ غير أننا نستثني مسلم بن الوليد، مخالفين في ذلك ابن المعتز حين نظمه مع بشار وأبي نواس؛ فهو أول من عاش لهذا المذهب ينمِّيه، وتناوله منه أبو تمام فبلغ به الغاية، ولسنا أول من يقول ذلك فقد سبقنا كثير من النقاد القدماء إليه، يقول ابن قتيبة: "هو أول من ألطف في المعاني ورقق في القول وعليه يعوِّل الطائي في ذلك"1، ويقول أبو الفرج الأصبهاني: "وهو فيما زعموا أول من قال الشعر المعروف بالبديع، وهو لقَّب هذا الجنس البديع واللطيف، وتبعه فيه جماعة، أشهرهم فيه أبو تمام الطائي"، وينقل عن القاسم بن مهرويه قوله: أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد جاء بهذا الذي سمَّاه الناس بالبديع2، ويقول ابن رشيق: "هو أول من تكلف البديع من المولدين وأخذ نفسه بالصنعة -البديع- وأكثر منها، ولم يكن في الأشعار المحدثة قبل صريع الغواني إلا النُّبَذ اليسيرة"3. ويردِّد صاحب معاهد التنصيص ما قاله أبو الفرج فيقول: "هو فيما زعموا أول من قال الشعر المعروف بالبديع، وهو لقَّب هذا الجنس بالبديع واللطيف، وتبعه فيه جماعة، أشهرهم أبو تمام الطائي"4. فمسلم هو صاحب هذا المذهب الجديد من التصنيع وهو الذي اقترح له اسمه البديع؛ على أن اعتناقه له لا يعني أنه قضى على المذهب القديم مذهب

_ 1 الشعر والشعراء ص528. 2 انظر: ترجمة مسلم بن الوليد في الأغاني الملحقة بديوانه، نشر سامي الدهان "طبع دار المعارف" ص364 وما بعدها. 3 العمدة 1/ 85. 4 معاهدة التنصيص 1/ 20.

الصنعة؛ فقد مضى الشعراء في القرن الثالث يقفون في صفين متقابلين، منهم من يفهم الشعر على أنه تصنيع وزخرف وتنميق مثل أبي تمام وابن المعتز، ومنهم من لا يبعد في فهمه كل هذا البعد، مثل البحتري وابن الرومي، وإن كنا نلاحظ عندهما وعند أمثالهما من أصحاب مذهب الصنعة في القرن الثالث أنهم كانوا يستخدمون زخارف التصنيع في صورة أقوى وأوضح منها عند أسلافهم في القرن الثاني، ومِن ثَمَّ أخذ مذهبهم في التعقد. ولعل في ذلك ما جعلنا نؤمن بأن إيجاد الحواجز والفوارق المطلقة بين المذاهب الفنية أمر عسير؛ إذ ما تزال تتداخل وتتشابك على هيئات مختلفة، وهذا شيء طبيعي فإن الشعراء حينئذ كانوا يلتقون كثيرًا في مجالس الخلفاء والوزراء والنوادي الأدبية العامة، وكانوا دائمًا يعلقون على ما يسمعون من شعر باستحساناتهم، وبذلك تبادلوا التأثر بعضهم ببعض، ونسوق لذلك مثلًا: نادي القراطيسي الذي مرت الإشارة إليه وكان مألفًا للشعراء؛ فكان أبو نواس وأبو العتاهية ومسلم وطبقتهم يقصدون منزله، ويجتمعون عنده ويقصفون ويدعو لهم القيان وغيرهن من الغلمان"1 ولا تخلو ترجمة شاعر عباسي في الأغاني من وصف هذه الاجتماعات وما كان يحدث فيها بين الشعراء ومن مطارحات ونوادر أدبية، وكل منهم يسأل صاحبه عن أجود شعره. وعلى شاكلة اجتماع مسلم بأبي نواس وأبي العتاهية ظل أصحاب التصنيع والصنعة يجتمعون في بغداد، وهيأ هذا الاجتماع لشيء من التداخل بين المذهبين العامين في حرفة الشعر حينئذ، وأصبحنا نجد عند الصانعين محسنات المصنِّعين وزخارفهم؛ ولكنهم لا يستخدمونها مذهبًا، بل تسقط في نماذجهم وقصائدهم من حين إلى حين. وهذا هو فرق ما بين العملين والمذهبين، يوجد اختلاط؛ ولكن لا يوجد اتحاد، ويوجد عند الصانعين حليات التصنيع من حين إلى حين ولكن لا يوجد استمرار التطبيق.

_ 1 أغاني "طبعة الساسي" 20/ 88.

التصنيع في شعر مسلم ونماذجه

9- التَّصنيعُ في شعرِ مسلمٍ ونماذجُه: ولد مسلم بن الوليد في الكوفة حوالي سنة 140 للهجرة، وكان أبوه من موالي الأنصار؛ إذ كان مولى لأسعد بن زُرَارَة الخزرجي1، وأغلب الظن أنه كان فارسيًّا، ويقال إنه كان حائكًا، وعني على ما يظهر بتربية أبنائه وتوجيههم إلى حلقات الدرس والأدب في بلدتهم، ونبغ له ابنان هما سليمان ومسلم، ويظهر أن سليمان كان أكبرهما وكان مكفوفًا، ويقال إنه كان يلزم بشار بن برد، ولذلك أتهم بالزندقة2. ونراه هو وأخاه في بغداد لعهد الرشيد، يطرقان أبواب البرامكة وكبار رجال الدولة وقادتها العظام من مثل يزيد بن مزيد ومحمد بن منصور بن زياد3؛ فكانوا يبرونهما ويجزلون لهما في العطاء، ولم يعرف مسلم بزندقة كما عرف أخوه؛ وإنما عرف بإقباله على اللهو والطرب؛ فكان يجتمع بأبي نواس وطبقته مثل أبي الشيِّص4، ويقبل معهم على الخمر والمجون، ويقال إنه كان إذا كسب مالًا جمع أصحابه في بيته يأكل معهم ويشرب؛ حتى إذا لم يبق من كسبه سوى قوت شهر ظهر في الناس. واختياره منزله للهوه وطربه يدل على أنه كان فيه شيء من التوقر، وهو على كل حال لم يهبط إلى عبث أبي نواس والحسين بن الضحاك الخليع وأضرابهما؛ فقد كان يعرف لنفسه حقها من الكرامة، وكان يحتفظ بغير قليل من الوقار. وكان فيه فضل من حياء. ولعل ذلك ما صرفه أول الأمر عن الخلفاء؛ فكان يمدح من دونهم ولا يطمع في مديحهم. وما زال هذا شأنه حتى اشتهر في الأوساط الأدبية ومدح منصور بن يزيد الحميري؛ فوصل بينه وبين هارون الرشيد، وأصبح من شعرائه، ويقال إنه

_ 1 انظر: ترجمته في الأغاني الملحقة بديوانه "نشر سامي الدهان" ص364 وما بعدها. وتاريخ بغداد: للخطيب البغدادي 13/ 96. 2 الحيوان: للجاحظ 4/ 195. ومعجم الأدباء: لياقوت "طبعة مصر" 11/ 255. 3 الديوان ص365. 4 طبقات الشعراء، ص72/ 207.

لما أنشده لاميته المشهورة فيه وبلغ قوله: هل العيش إلا أن تروح مع الصبا ... وتغدو صريعَ الكأسِ والأعين النُّجل قال له: أنت صريع الغواني؛ فسمِّى بذلك حتى صار لا يُعْرف إلا به1. وتدلنا أخباره على أن الرشيد كان يعجب به، وفي رأينا أن مصدر هذا الإعجاب لم يكن مديحه له فحسب؛ فقد وجده يشيد بقائده يزيد بن مزيد الشيباني حين قضى على ثورة الخوارج في عهده وكان ذلك سنة تسع وسبعين ومائة، وبلغ من هذه الإشادة كل مبلغ؛ حتى جعله عز الخلافة. إذا الخلافةُ عدَّت كنتَ أنت لها ... عزًّا وكان بنو العباس حكامًا2 بل جعله سداد الملك العباسي وصمام أمانه في حروب الخوارج وعلى حافات الثغور، يقول3: لولا يزيدُ لأضحى الملك مطرحًا ... أو مائل السمك أو مسترخي الطُّول4 نابُ الإمامِ الذي يفترُّ عنه إذا ... ما افترَّت الحربُ على أنيابها العصل5 وصادف ذلك هوى في نفس الرشيد؛ لأنه كان قد أخذ يفكر -على ما يظهر- في إعلاء كِفَّة العرب في شئون الحكم ومقاليده، وكان يرى الشعراء مزدحمين على أبواب يحيى البرمكي وولديه الفضل وجعفر وغيرهم من الفرس؛ فكان ذلك يقضَّ مضجعه، ويتساءل بينه وبين نفسه أين العرب؟! وكيف أرفع منهم أمام هؤلاء الذين استبدوا بي وملأ لهم الشعراء طرقات بغداد ثناء؛ فلما نظم مسلم مدائحه في يزيد نفَّس عن نفسه ووجد لها روحًا على قلبه. ويروي الرواة أنه أرسل يومًا إلى يزيد؛ فأتاه لابسًا سلاحه مستعدًّا لأمر إن أراده؛ فلما رآه ضحك وقال له: يا يزيد أخبرني من الذي يقول فيك: تراه في الأمن في درع مضاعفة ... لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل لله من هاشم في أرضه جبل ... وأنت وابنك رُكْنَا ذلك الجبل

_ 1 طبقات الشعراء، ص235 2 الديوان ص67. 3 الديوان ص7. 4 مطرحًا: مخذولًا. وقد شبه في الشطر الثاني الملك بخيمة، لولا يزيد لَمَالَ عمودُها واسترخت حبالها. 5 يفتر عنه هنا: يكشر، والعصل: المعوجة، وهي أشد بأسًا من المستقيمة.

فقال له: لا أعرفه؛ فعجب الرشيد، وقال له: سوءة لك من سيد قوم يمدح بمثل هذا الشعر ولا يعرف قائله، وقد بلغ أمير المؤمنين؛ فرواه، ووصل قائله، وهو مسلم بن الوليد، وانصرف يزيد فدعا به ووصله1، وتوالت عليه عطاياه، ووالى مسلم مدائحه الرائعة فيه. وجذبه غير واحد من رجالات العرب فكان يقلدهم مدائحه، مثل داود بن زيد المهلبي وزيد بن مسلم الحنفي والحسن بن عمران الطائي ومنصور بن يزيد الحميري وابنه محمد. وظل وفيًّا للبرامكة؛ ولكن يزيد بن مزيد غلب عليهم كما غلب معه هؤلاء العرب الخلص. ونراه يمدح الأمين، حتى إذا تحوَّلت أزمة الخلافة إلى أخيه المأمون لزم الفضل بن سهل وزيره، وكانت قد تقدمت به السن، فعطف عليه الفضل وولاه بريد جرجان وقيل مظالمها، ولم يلبث هناك أن لبَّي نداء ربه سنة ثمانٍ ومائتين. وأكثر شعر مسلم في مديح من سميناهم وله غزليات وخمريات قليلة، وهاجى ابن قنبر الشاعر، ولكن لا على طريقة الهجاء عند حماد عجرد وبشار، ولكن على طريقة الشعراء الأمويين، وما زال به حتى أفحمه وكف عن مناقضته2. ويقال إنه هجا يزيد بن مزيد، وربما ند ذلك منه حين تأخر عن عطائه، ووصل ذلك إلى مسامع الرشيد؛ فأحضره وهدده وقال له: "لئن بلغني أنك هجوته لأنزعن لسانك من فيك" فانتهى ولم يَعُدْ، ونعِم بعطاياه وعطايا الخليفة معًا، حتى إذا توفي رثاه رثاء حارًا. ومسلم في شعره يعتمد اعتمادًا شديدًا على الإطار التقليدي، وما يرتبط به من جزالة الأسلوب ومتانته ورصانته ونصاعته وقوته، حتى في غزله وخمرياته؛ فإنه لا يهبط أبدا على نحو ما يهبط أبو نواس وأبو العتاهية إلى الأساليب اليومية، وحقًا مر بنا في الفصل السابق أن له قصيدتين من وزن مولد، ولعله جارى فيهما أصحاب مذهب الصنعة وتجديداتهم في البحور الشعرية، وهما على كل حال شذوذ في عمله، أما بعدهما فشعره يغلب أن يكون من الأوزان الطويلة حتى تتلاءم

_ 1 انظر ترجمته في الأغاني الملحقة بالديوان ص367 2 انظر الأغاني "طبعة الساسي" 13/ 8- 11. وراجع ترجمته فيه المحلقة بالديوان.

مع ما يريد من جرس قوي، ومن ضخامة البناء في اللفظ والتعبير. وهو من هذه الناحية يعدُّ في طليعة من دفعوا الشعراء العباسيين إلى التمسك بالأسلوب الجزل المصقول؛ بل لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنه فعلًا أول من دفع الشعراء في هذا الاتجاه؛ فقد كان الشعر العربي عند أبي نواس وأبي العتاهية على وشك أن يزايل هذا الأسلوب إلى الأسلوب الشعبي اليومي، فأمسك به مسلم دون هذه الغاية وردَّه في قوة إلى جزالته القديمة وجعلها مقومًا أساسيًّا من مقوماته، بل جعلها المقوم الأساسي الأول بين هذه المقومات. وعمَّ هذا الذوق لا عند خلفائه من أصحاب مذهب التصنيع مثل أبي تمام بل أيضًا عند أصحاب مذهب الصنعة وكبارهم خاصة، مثل البحتري. ولا تظن أن هذا الأسلوب الجزل القوي لم يكن يكلف مسلمًا مشقة؛ بل لقد كان يكلفه عناء أي عناء في اصطفاء اللفظ والملاءمة بين اللفظة واللفظة في الجرس، حتى يتم له ما يريد من ضخامة البناء وروعته. وهو بناء يقام على أعمدة هي الأبيات، وكل بيت كسابقه في الضبط والإحكام، وكل قصيدة بل كل مقطوعة كمثيلتها في هذا النمط الذي لا يتفاوت نسيجه، ومن أجل ذلك يختلف اختلافًا بينًا عن أبي نواس وأبي العتاهية، فشعرهما فيه القوي والضعيف، وفيه المتين والمهلهل، لسبب بسيط وهو أنهما من ذوق أصحاب الصنعة، لا يبعدان حين النظم في التكلف، بل كثيرًا ما يقولان الشعر بديهة وارتجالًا في غير تَروٍّ، أما مسلم فصاحب رَويَّة، لا يرتجل ولا يقول الشعر عفوًا؛ فالشعر عنده صناعة مجهدة، لا بد فيها من التريث والتمهل، ولا بد فيها من الصقل والتجويد، ولعل ذلك ما جعل ديوانه صغيرًا بالقياس إلى دواوين معاصريه من أمثال بشار وأبي نواس. وهذا البناء الضخم عنده لا تكفي ضخامته وحدها في رأيه؛ فلا بد أن يضاف إليه الزخرف الجديد الذي كان يأتي على قلة في الشعر القديم، وأكثر منه بشار وخلفاؤه؛ ولكنهم لم يتخذوه مذهبا، أما مسلم فقد رأي أن يطبقه على شعره، واقرأ له القصيدة الأولى في ديوانه وهي في مديح يزيد بن مزيد، فستراه يستهل غزلها على هذا النحو:

أجْرِرْتُ حبلَ خليع في الصبا غزلِ ... وشمرت همم العذال في العذلِ1 هاج البكاءُ على العينِ الطموحِ هوى ... مفرقٌ بين توديعٍ ومُحْتَمَلِ2 كيف السُّلوُّ لقلب راح مختبلًا ... يهذي بصاحب قلب غير مختبلِ والجهد واضح في الأبيات سواء من حيث اختيار الألفاظ، أو من حيث إضافة زخارف الجناس والطباق؛ فهو يجانس بين العذال والعذل، وهو يطابق بين المختبل وغير المختبل، وفي البيت الثاني طباق دقيق بين الهوى المقسم بين التوديع والاحتمال أو الارتحال، فإن التوديع يتضمن الإقامة القليلة، وهو عكس الارتحال. ونمضي معه إلى المديح فنراه كله على هذا الطراز. يغشى الوغى وشهابُ الموتِ في يديه ... يرمي الفوارسَ والأبطال بالشعل3 يفترُّ عند افترار الحرب مبتسمًا ... إذا تغيَّر وجه الفارسِ البطلِ موف على مهجٍ، في يوم ذي رَهَجٍ ... كأنه أجلٌ يسعى إلى أملِ4 ينالُ بالرفق ما يعيا الرجال به ... كالموت مستعجلًا يأتي على مهلِ لا يرحلُ الناسُ إلا نحو حجرتِه ... كالبيتِ يفضي إلى ملتقى السُّبلِ يقْرِي المنيةَ أرواح الكُمَاةِ كما ... يقري الضيوف شحوم الكوم والبزلِ5 يكسو السيوفَ دماءَ الناكثين به ... ويجعل الهامَ تيجانَ القنا الذُّبُلِ6 قد عوَّد الطيرَ عادات وثِقْن بها ... فهن يتبعنه في كل مرتحلِ وأنت تراه يعتمد على النحت وقوة البناء، كما يعتمد على الزخرف والتصنيع؛ حتى يصبغ هذا الديباج أو النسيج المتين بالألوان والأطياف. وانظر في البيت الأول فإنك تراه يستعير الشهاب للسيف، ويجعله شهاب الموت، وهو شهاب تسقط منه على الفوارس الأعداء الشعل فتحرقهم حرقًا لا يبقى ولا يذر. وحاول

_ 1 أجررت حبل خليع: من قول العرب: أجررت البعير حبله إذا تركته يصنع ما يشاء. 2 محتَمَل: ارتحال، من احتمل القوم أي ارتحلوا. 3 الوغى: الحرب. 4 الرَّهَج: غبار الحرب. 5 يقري: يطعم. الكوم من الإبل: ضخمة الأسنمة، واحدتها كوماء. والبزل: جمع بازل وهو المسن الذي أكمل تسعة أعوام. 6 الهام: الرءوس، الذيل: الرقيقة القاتلة، والكماة: جمع كَمِي وهو الشجاع.

في البيت الثاني أن يأتي بلون آخر هو لون الجناس؛ فجانس بين يفتر وافترار، وأدخل في ذلك ضربًا من المشاكلة، فيزيد يفتر متبسمًا وتفتر الحرب عن أنيابها القاتلة الغلاظ. ولم يكتف بذلك في البيت؛ فقد أضاف فيه لونًا جديدًا هو لون الطباق؛ فطابق بين تغير الوجه وعبوسه وابتسام يزيد، وكل ذلك ليحقق لنموذجه ما يستطيع من زخارف الفن الجديدة. أما البيت الثالث فكان يعجب به إعجابًا شديدًا؛ لتألق لون الجناس فيه بين مهج ورهج، ثم بين أجل وأمل، ويروى أنه اجتمع بأبي العتاهية فقال له: والله لو كنت أرضى أن أقول مثل قولك: الحمدُ والنعمةُ لك ... والملكُ لا شريكَ لك لَبَّيك إن الملكَ لك لقلت في اليوم عشرة آلاف بيت؛ ولكني أقول: موفٍ على مُهَجٍ في يوم ذي رَهَجٍ ... كأنه أجل يسعى إلى أمل1 فهو يحس إحساسًا دقيقًا بأنه يتناول حرفته بطريقة أخرى ليست هي طريقة الصانعين من أمثال أبي العتاهية؛ وإنما هي طريقة المصنعين التي ابتدأها والتي تجعل الشعر نحتًا وصقلًا وزخرفة وتنميقًا. وننتقل مع مسلم إلى بيته الرابع فنرى فيه طباقًا واضحًا بين الاستعجال والمهل وطباقًا دقيقًا بين النيل أو الأخذ بالرفق والأخذ مع الإعياء. ويصوغ في البيت الخامس صياغة جديدة بيت زهير في مديح هرم بن سنان2: قد جعل المبتغون الخير في هرم ... والسائلون إلى أبوابه طرقا ويستمر فيتحدث عن قِرَى يزيد وضيافته وكرمه، ويجنح إلى المشاكلة؛ فيزيد له ضربان من القرى: ضرب في السلم كقرى الأجواد، وضرب آخر في الحرب؛ إذ يقري الموت أرواح الشجعان. ونراه في البيت السابع يُطْرِف قارئه بصورة بارعة؛ إذ جعل يزيد يكسو السيوف بدماء أعدائه ويتوِّج القنا والرماح برءوسهم. وينتهي مسلم أخيرًا إلى فكرة عربية.

_ 1 أغاني "طبعة دار الكتب" 4/ 27. 2 ديوان زهير "طبعة دار الكتب" ص49.

قديمة طالما رددها الشعراء من عهد بشر بن أبي خازم والنابغة، وهي فكرة الطير تتبع الممدوح في حِلِّه وترحاله لما تصيب من جثث أعدائه، ويحور مسلم الفكرة هذا التحوير الطريف؛ إذ يجعل الطير تتعود من صاحبه عادة تثق به فيها، وهي لذلك ما تزال تتبعه وتلاحقه من موضع إلى موضع. ولعلك لاحظت في أثناء قراءة أبياته السالفة دقة تفكيره، وهي دقة كانت تفتح له أبوابًا من المعاني الخفية، التي تروِّع السامع بغرابتها وطرافتها من مثل قوله في الغزل1: إن كنت تسقين غير الراح فاسقيني ... كأسًا ألذُّ بها من فيكِ تشفيني عيناك راحي، وريحاني حديثُك لي ... ولونُ خدَّيك لونُ الورد يكفيني وقوله2: يا واشيًا حسنت فينا إساءته ... نجي حذارك إنساني من الغرق3 وقوله في الخمر4: شققنا لها في الدَّنِّ عينًا فأسبلت ... كألسنةِ الحيَّات خافت من القتلِ5 وقوله في الساقي6: يسقيك بالألحاظِ كأسَ صبابةٍ ... ويديرها من كفِّه جِرْيالا7 وقوله في المديح8: فإن أَغْش قومًا بعدهم أو أَزُرْهم ... فكالوحشِ يدنيها من الأنس المحلُ9 ويستمر مسلم في الديوان كله على هذا النمط؛ فزخارف الفكر واللفظ ما تزال تتلاحق وينضم بعضها إلى بعض لتكون هذا الحلي البديع، وهو حلي يتداخل في بناء متماسك، يرفعه مسلم كما يرفع المثَّالون تماثيلهم؛ فكل جانب يفتقر إلى جهود واسعة وإلى مثابرة وصبر، وحقًا هو صاحب هذا المذهب من

_ 1 الديوان ص343. 2 الديوان ص328. 3 إنسان العين: سوادها. 4 طبقات الشعراء، ص239. وانظر الديوان ص38. 5 أسبلت: سالت. 6 الديوان ص204. 7 الجريال: الخمر. 8 الديوان ص333. 9 المحل: الجدب.

التصنيع؛ فقد عاش ينميه، وحقق لنفسه منه نماذج بديعة، جعلت الشعراء من بعده تهوى أفئدتهم إلى محاكاته وتقليده؛ حتى أصحاب مذهب الصنعة أخذوا من بعض الوجوه يحاكونه ويقلدونه؛ لأنه البدع الجديد الذي كان يروع أوساط الأدباء والمثقفين. وليس معنى ذلك أن مذهب الصنعة انتهى وانقضى؛ فقد ظل المذهبان يتقابلان طوال القرن الثالث، ومَثَّل البحتري وابن الرومي مذهب الصنعة؛ غير أنهما عقَّدا فيه وفي أدواته بما استمدا من تلك الزخارف ووشيها الرائع. وأما مذهب التصنيع فمثَّله أبوتمام وابن المعتز، وقد عقَّدا فيه وفي زخارفه تعقيدًا شديدًا، يستوفي كل ما كان يحلم من تأنق وتنميق.

الفصل الرابع: التعقيد في الصنعة

الفصل الرابع: التعقيد في الصنعة البحتري: نشأته وحياته وصنعته ... الفصل الرابع: التعقيدُ في الصَّنعةِ وبديع كأنه الزهر الضا ... حك في رونق الربيع الجديد ومعانٍ لو فصَّلتها القوافي ... هجنت شعر جرول ولبيد حزن مستعمل الكلام اختيارًا ... وتجنين ظلمةَ التعقيدِ وركين اللفظِ القريبِ فأدركن ... به غاية المرام البعيد البحتري 1- البحتري نشأته وحياته وصنعته: هو أبو عبادة الوليد بن عبيد، غلب عليه اسم البحتري نسبة إلى عشيرته الطائية بُحْتُر، وقد وُلد بمنبج قريبًا من حلب سنة 204 للهجرة، وقيل بل بقرية تجاورها. ولا نعرف شيئًا واضحًا عن نشأته الأولى، وفي أخباره ما يدل على أن ملكته الأدبية تفتحت في سن مبكرة، وحدث أن التقى بأبي تمام في حمص، فأعجب كل منهما بصاحبه، ويقال إن أبا تمام سنَّ له -بوصية- كيف ينظم الشعر وكيف يحسنه1، كما يقال إنه كتب إلى أشراف -معرة النعمان- يوصيهم به فأغدقوا عليه من أموالهم2. وليس بين أيدينا شعر يصور هذه المرحلة من حياته، فأقدم أشعاره يتصل بالفترة التالية، وهي فترة نجده فيها يمدح أبا سعيد الثغري وغيره من الشخصيات الطائية الممتازة مثل بني حميد. وقدم إلى بغداد لعهد الخليفة الواثق، فامتدح وزيره ابن الزيات، وأخذ يتصل منذ هذا التاريخ بكبار رجال الدولة العباسية.

_ 1 زهر الآداب للحصري 1/ 208. وانظر الأغاني "طبعة الساسي" 18/ 168. 2 أغاني 18/ 169.

ولا نكاد نمضي في عصر المتوكل حتى يصبح شاعر البلاط الرسمي، ونراه يكثر من مديحه، ومديح وزيره الفتح بن خاقان، وقد قدم إليه فيما يقال كتابه"الحماسة" الذي صنعه محاكاة لحماسة أبي تمام. وهو يدل على ثقافته الواسعة بالشعر القديم وأنه كان يضع أبا تمام نصب عينيه؛ فهو يحاكيه حتى في التأليف، أما في الشعر فكان يستظهر قصائده وينقل معانيها إلى أشعاره، ولاحظ القدماء ذلك فوقفوا كثيرًا عند سرقاته منه، وأفردوها بالتأليف. وهو يسجل لنا الأحداث لعهد المتوكل من مثل ثورة أرمينية كما يسجل أعمال هذا الخليفة من مثل تشييده لبعض القصور. وذكر في رثائه أنه حضر مصرعه ومصرع وزِيرِهِ1 الفتح. وفارق بغداد إلى المدائن؛ فوصف إيوان كسرى متحسرا على أيام الفرس، وكأنه يأسى لما صارت إليه الأمور حين أمسك الترك بزمام الحكم. ويظهر أنه ولَّى وجهه نحو موطنه "منبج"؛ غير أنه لم يلبث أن عاد إلى بغداد فمدح المنتصر، وعاد له مركزه في البلاد لعهد خلفائه: المستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد. وعلى هذا النحو ظل أكثر من أربعين عامًا الشاعر الرسمي للخلفاء العباسيين يدوِّن أعمالهم وما يشيدونه من قصور، كما يدون حروبهم مع الثائرين عليهم في الداخل من مثل الزنج في ثورتهم المشهورة لعهد الموفق، وكذلك حروبهم في الخارج. وله قصيدة يصور فيها تصويرًا رائعًا أسطول أحمد بن دينار الذي غزا به بلاد الروم2. وجعلته مكانته في البلاط العباسي يتصل بالوزراء وكبار رجال الدولة ويمدحهم، وديوانه من هذه الناحية سجلٌ حافل بأسمائهم وأسماء كثير من أعيان بغداد وعلمائها من مثل المبرد وابن خرداذبه وعلي بن المنجم. وهذه الصلة المستمرة بالخلفاء والوزراء والموظفين الكبار والأسر الغنية في بغداد ملأت حجره بالأموال حتى يقال إنه كان يمشي في موكب من عبيده، وكانت له ضياع كثيرة، وفي ديوانه شكوى دائمة من عمال الخراج، ونراه يتوسل إليهم كي يخففوا عنه ما يطالبونه به أو يسقطوه إسقاطًا. وكان فيه حرص

_ 1 الديوان "طبعة القسطنطينية" 1/ 28. 2 الديوان 1/ 257.

شديد، ويؤثر عنه أنه كان يتخذ طريقة غريبة في ابتزاز الأموال من أصدقائه؛ إذ كان له عبد يسمى نسيمًا يبيعه لهم، وسرعان ما ينشئ قصائد يظهر فيها الندم على بيعه؛ فكانوا يردونه إليه1. ولم يكتف بشراء الضياع في العراق؛ فقد كانت له ضياع في بلدته منبج. ونراه يَحِنُّ إليها في أواخر حياته، فيرحل إليها، ويقال بل لقد اضطر إلى هذا الرحيل؛ إذ قال في بعض شعره واصفًا الدنيا: تراها عيانًا وهي صنعةُ واحدٍ ... فتحسبها صنعى حكيم وأخرق فتشنع عليه بعض أعدائه بأنه ثنوي، وكانت العامة غالبة حينئذ على بغداد فخاف على نفسه، وخرج إلى بَلَدِهِ2؛ غير أن المقام فيها لم يَطُلْ به إذ وافته منيَّتُه سنة 284 للهجرة. والبحتري بدون شك من أكبر الشعراء الذين ظهروا في القرن الثالث الهجري وهو يجيد إجادة بديعة في مدائحه واعتذاراته، كما يجيد في غزله، واشتهر بأنه أحب في مطالع حياته امرأة تسمَّى علوة من قرية بجوار حلب تسمى بطياس، وله فيها غزل كثير؛ إذ كان دائم الصبابة بها، وظلت لا تغيب عن ذاكرته مددًا متطاولة، وإن كنا نجد في ديوانه قصيدة يهجوها بها3؛ غير أن هذا الهجاء كان سحابة عارضة، فقد رجع يتغنى بها طويلًا، وتلك طريقة تكثر عنده؛ فقد هجا غير ممدوح، وهي سُنة معروفة عند بعض الشعراء، يهجون أحيانًا ممدوحيهم ليخيفوهم ويجزلوا لهم في العطاء. ولم يكن بارعًا في الهجاء، فهجاؤه ضعيف، ويقال إنه أمر ابنه أن يحرق أشعاره فيه حين حضرته الوفاة4، ولم يكن يخشى أحدًا كما كان يخشى كبار الهجائين في عصره من أمثال دعبل وابن الرومي، وكان الأخير خاصة يتعرض له فيلوذ بالصمت، وربما كان أروع موضوع عنده هو الوصف فقد كان يجيد وصف القصور والبرك

_ 1 أغاني "طبعة الساسي" 18/ 171. 2 أمالي المرتضي 2/ 299 وانظر الموشح ص342. 3 الديوان 2/ 109. 4 أغاني "ساسي" 18/ 167.

والحيوان من أَسَد وغير أسد، وقصيدته في وصف إيوان كسرى من دُرره، وكذلك قصيدته في وصف أسطول ابن دينار. وعلي الرغم من لقائه لأبي تمام وروايته لشعره نجده يقف في الصف المقابل له في صناعة الشعر وفهمه؛ فقد كان يقف في صف الصانعين الذين التقينا بهم في القرن الثاني من أمثال بشار وأبي نواس؛ بينما كان أبو تمام يقف في صف الصانعين من أمثال مسلم بن الوليد، بل لقد بلغ عنده مذهب التصنيع غايته من التنميق العقلي والتأنق اللفظي، وكأن البحتري لم يستطع أن ينهض بما أداه أبو تمام للشعر من تصنيع وزخرف، ولعل ذلك يرجع في بعض أسبابه إلى أنه نشأ نشأة بسيطة في عشيرة بحتر الطائية؛ فلم يتثقف بالثقافات الفلسفية وغير الفلسفية التي عاصرته، وظل ذوقه في جملته لا يأبَه للتنميق المسرف، كما ظل يفهم الشعر على أنه طبع وموهبة، وعبر الآمدي في كتابه الموازنة الذي عقده للمقارنة بينه وبين أبي تمام عن ذلك بقوله: "إنه أعرابي الشعر مطبوع، وعلى مذهب الأوائل وما فارق عمود الشعر المعروف"1 وقال: إنه نشأ في البادية؛ فهو ليس مثل أبي تمام الذي نشأ في دمشق، وعاش في المدن2. وهي مقارنة طريفة أقامها الناقد بين شاعر بدوي وشاعر حضري لا عهد له بالبادية ولا صلة، وقد مثَّل كل منهما طريقة في صناعة الشعر وحرفته؛ فأما أبو تمام فحضري مثقف ثقافة واسعة، وهو لذلك يأخذ تصنيع مسلم ويعقده تعقيدًا شديدًا، أما البحتري فشاعر بدوي، وهو لذلك لا يستطيع أن ينهض بم ينهض به أبو تمام من التعبير عن الرقي العقلي الذي صادف العقل الحضري وصناعة الشعر الحضرية. ومعنى ذلك أن البحتري اتصل بأبي تمام، وعرف المناهج الجديدة؛ ولكنه لم يستطع أن يجاريه في صناعته؛ فهو أعرابي من أهل البادية، ومثله لا يستطيع أن ينتقل دفعة واحدة من القديم إلى الجديد، فوقف تأثره بأبي تمام عند الجوانب.

_ 1 الموازنة بين الطائِيَّينِ ص2. 2 الموازنة ص12.

الظاهرة، ولم يستطع أن يتغلغل إلى أعماق شعره، ولذلك قالوا: إنه حافظ على الأساليب الموروثة، أو كما قال الآمدي على عمود الشعر العربي؛ فصناعته أقرب ما تكون إلى صناعة البادية، ليس فيها تجديد ولا خروج على التقاليد، ومن أين يجيئه ذلك وهو ليس من أهل المدن ولا من ثقافتهم وعقليتهم؟ من أجل ذلك كله اعتبر النقاد البحتري مصورًا للمذهب القديم؛ ولكن ينبغي أن نحترس من هذا الرأي، فقد تحضر البحتري، وغيَّر كنيته إذ كان يكنى أبا عبادة، ولما دخل العراق تكنى أبا الحسن ليزيل العنجهية والأعرابية، ويساوي في مذاهبه أهل الحاضرة1، وهو كذلك في شعره وصناعته قد حاول أن يغيِّر فيها وأن يبدل، كما غير في كنيته وبدَّل، حتى يساوي في مذاهب صناعته أهل الحاضرة، ولعله من أجل ذلك اتصل بأبي تمام حتى يعرف مذاهب الحاضرة في حرفة الشعر، ويحاكي نماذجها، وإذن فينبغي أن نتلقى كلام الآمدي بشيء من الاحتراس؛ فليس البحتري بدويًّا خالصًا ولا أعرابيًّا خالصًا. هو بدوي أعرابي؛ ولكنه يأخذ بحظ من الحضارة، فقد تحضر وتحضرت صناعته معه، وحاول أن يخرج نماذج تَنْفُق في سوق الحاضرة، وتتصف بصفة الجمال الحضري المعروف لعهدها. وإن من الخطأ أن نقطع بأن البحتري على مذهب الأوائل، ولم يفارق عمود الشعر المعروف، إلا إذا خصصنا هذا الكلام بعض التخصيص؛ فقد كان يحافظ على الأساليب الموروثة، ولكن ليس معنى ذلك أنه يمكن إخراجه من دائرة العباسيين إلى دائرة القدماء، فكلمة الأوائل تحتاج شيئًامن التحقيق، وأكبر الظن أن الآمدي كان مسرفًا فيها بعض الشيء. على أن هناك جماعة من النقاد سلكته في طائفة المصنعين من أمثال مسلم وأبي تمام. يقول ابن رشيق عنه وعن أبي تمام: "وقد كانا يطلبان الصنعة ويولعان بها؛ فأما حبيب فيذهب إلى عزوبة اللفظ وما يملأ الأسماع منه مع التصنيع المحكم طوعًا وكرهًا، يأتي للأشياء من بعد ويطلبها بكلفة ويأخذها بقوة؛ وأما

_ 1 الموازنة ص12.

البحتري؛ فكان أملح صنعة وأحسن مذهبًا في الكلام، ويسلك منه دماثة وسهولة مع إحكام الصنعة وقرب المأخذ، لا يظهر عليه كلفة ولا مشقة"1. ونحن لا نغلو غلو ابن رشيق فنسلكه مع أبي تمام في طائفة واحدة، كما لا نغلو غلو الآمدي فنخرجه من دائرة الشعراء العباسيين إلى دائرة الأوائل فهو بدوي كما لاحظ؛ ولكنه تحضر، وتحضرت معه صناعته، وخلع عليها ألوانًا من الجمال الحضري الذي تلقفه من أبي تمام وغير أبي تمام، وإن لم يستطع أن يجاريه وأن يأتي بنماذج على غرار نماذجه، وهذا نفسه ما يلاحظه ابن رشيق؛ إذ يقول إنه كان يطلب الصنعة ويولع بها، وكلمة الصنعة عنده تعني البديع، وهذا الجمال الحضري الحديث؛ فالبحتري كان يحتفل بهذا البديع أو بهذه الألوان من الجمال الحضري، وهو لذلك ينفصل قليلًا عن منهج الصانعين في القرن الثاني أو هو يعقِّد في هذا المنهج؛ إذ كان يدخل فيه وسائل حديثة من وسائل المصنعين بخلاف أسلافه في القرن الثاني؛ إذ كانوا لا يهتمون بألوان البديع إلا في حدود التشبيه والاستعارة، وقلما عنوا بالجناس والطباق وما يضرب إليهما؛ أما البحتري فقد طلب هذه الألوان وجعلها -إلى حد ما- من أصول صناعته ومواد حرفته، وخاصة لون الطباق الذي شغف به كما يقول الباقلاني2

_ 1 العمدة 1/ 84. 2 إعجاز القرآن ص53.

الخلاف بين البحتري وأصحاب التصنيع

2- الخلافُ بينَ البحتريِّ وأصحابِ التَّصنيعِ: كان البحتري يستخدم أحيانًا بعض أدوات التصنيع ولكن في يسر وسهولة ودون أن يعقد فيها كما نرى عند جماعة المصنعين، فهو من أصحاب الصنعة وهو لذلك لا يستطيع أن ينهض بشعره إلى الغاية التي حققها أصحاب التصنيع، فقد كانوا لا يكتفون -على نحو ما سنرى عند أبي تمام- باستخدام أدوات هذا التصنيع استخدامًا ساذجًا؛ بل هم يحققون لها صورًا غريبة من التعقيد؛ وهم

لا يكتفون أيضًا بذلك؛ إذ نراهم يدخلون ألوانًا ثقافية قاتمة، سرعان ما تتحول عنده إلى ألوان فنية زاهية. لم يعد التصنيع في القرن الثالث على الصورة التي خلَّفها مسلم، ونحن نجد تصنيعه يتسرب إلى أصحاب الصنعة ويسقط إليهم دون تجديد فيه أو تعقيد؛ فهم يستخدمون -كما يستخدم البحتري- التصوير والجناس والطباق؛ ولكنه استخدام ساذج يخالف ما سنجده عند أبي تمام. ويتبين ذلك في وضوح إذ قارنا بين أهم لون كان يستخدمه البحتري وهو لون الطباق وبين نفس هذا اللون عند أبي تمام، واقرأ هذه الأبيات التي تذيع سر المهنة عند البحتري. مني وصلٌ ومنك هجرٌ ... وفي ذلُّ وفيك كِبر وما سواءٌ إذا التقينا ... سهل على خلَّة ووعر قد كنت حرًّا وأنت عبدٌ ... فصرت عبدًا وأنت حرُّ برَّح بي حبك المعنَّى ... وغرني منك ما يغرُّ أنت نعيمي وأنت بؤسي ... وقد يسوء الذي يسرُّ فإنك تجد فيها هذا الطباق الذي عرف به البحتري؛ ولكنه طباق ساذج لا تعقيد فيه ولا تعب ولا عناء ولا مشقة، طباق ضحل بسيط، هو أشبه ما يكون بتداعي المعاني، فلا خيال ولا عمق ولا فكرة؛ إنما وصل وهجر، وذلٌّ وكبر، وسهل ووعر، وعبد وحر، ونعيم وبؤس، وإساءة وسرور، ولكن هل تحس في هذه المعاني المتقابلة شيئًامن اللذة سوى ما فيها من تقطيع صوتي يدفعها عن السقوط؟ ونفس بناء هذه الأبيات ليس فيه مشقة ولا صعوبة، فالبحتري لم يكن يعرف -كما يعرف المصنعون- أن الشعر نحت وصقل وألوان معقدة؛ إذ كان يقف عند ظاهر هذا العمل فينقل الشكل، وقلما نفذ إلى الباطن وما يتغلغل فيه من تفكير بعيد، وما يستغرقه من خيال معقد وصور مركبة، لم يكن البحتري ليستطيع التعمق في فهم المذهب الجديد، فهو بدوي، وهو لذلك لا يحسن فهم أدوات الصناعة كما يفهمها صناع المدن في القرن الثالث، فإن

استعمل أداة منها استعملها استعمالًا ساذجًا لا صعوبة فيه ولا تركيب، كما نرى في هذا الطباق؛ فإنه لم يكد يخرج به إلى صورة معقدة؛ إذ هو يفهم الطباق هذا الفهم البسيط الذي لا يضيف إلى الشعر جمالًا عقليًّا خاصًّا، ولكن انظر إلى استخدام هذا الطباق عند أبي تمام، فإنك تراه يستخرج منه أصباغًا تحيِّر وتعجب، واقرأ لأبي تمام هذا البيت الذي يصف فيه بعيره وما أصابه من نحول وسقم لكثرة أسفاره؛ إذ يقول: رعته الفيافي بعد ما كان حِقْبَةً ... رعاها وماءُ الرَّوضِ ينهلُّ ساكبُهْ فإنك تحس غرابة في الأداة، وكأنها تخالف مخالفة تامة تلك الأداة من الطباق التي رأيناها عند البحتري؛ ذلك أن أبا تمام لا يلجأ إلى المطابقة والمقابلة بين الأشياء، كما توحي الذاكرة بل هو يعود إلى عقله وفلسفته فيعمل فكره، ويُكدُّ ذهنه، حتى يستخرج هذه الصورة الغريبة من التضاد؛ فإذا بعيره يَرعى ويُرعى، يرعى الفيافي، وهو رعي غريب استحوذ على جهد عنيف من الشاعر، حتى استطاع أن يستخرج هذه الصورة المتناقضة أو المتضادة، والتي يحسُّ الإنسان بإزائها إحساسًا واضحًا أنها من نوع آخر غير طباق البحتري؛ فطباقه ليس فيه فلسفة وليس فيه عمق وليس فيه تفكير بعيد؛ هو طباق ساذج لا صعوبة فيه ولا تعقيد، هو طباق الذاكرة إن صح هذا التعبير؛ فهو يذكر الوصل فيأتي الهجر، وهو يذكر الذل فيأتي الكبر، وهو يذكر السهل فيأتي الوعر. وعلي هذا النظام ما يزال يصوغ طباقه فلا تحس فيه جمالًا إلا حين يخرج به إلى الملاءمة بين الأصوات؛ غير أننا إذا رجعنا إلى أبي تمام رأينا صبغًا حديثًا من الطباق على هذا النحو الذي رأينا فيه دابته تَرعى وتُرعى رعيًا غريبًا، وهي طباق فلسفي إن صح هذا التعبير، بل لقد كان أبو تمام -كما سنرى- يفصله عن الطباق القديم ويسميه: نوافر الأضداد، وقد استخرج هذه النوافر من ثقافته الفلسفية، وذهب يستخدمها استخدامًا فنيًّا واسعًا في شعره. كان أبو تمام يستخدم الطباق استخدامًا فلسفيا، وهذا ما يفرق بين طباقه وطباق البحتري، بل هو نفسه الذي يفرق بين مواد الصناعة عند كل منهما.

فأبو تمام يدخل الفلسفة في العمل الفني على أنها شيء أساسي؛ فالشعر لا يخاطب الشعور فقط بل هو يخاطب العقل قبل كل شيء، وهو لذلك قد يعدل في أدوات التصنيع التي يستخدمها غيره، وهو تعديل يرضينا ويرضي عقولنا، ومن لا يروعه هذا الطباق الفلسفي الذي يقيمه أبو تمام على قانون الأضداد المعروف في الفلسفة؛ فإذا هو لا يعتمد على العبث اللفظي ولا على هذه المعاني التي تتوالي في الذهن حين نذكر الليل فيأتي النهار أو الضوء فيأتي الظلام أو غير ذلك من مقابلات تخرج من وعاء الذاكرة، بل هو يعقد هذا الطباق ويجعله عملًا عقليًّا واسعًا؛ ففيه خيال وفيه تناقض وتضاد، وفيه هذه الدابة التي لا تزال تَرعى وتُرعى، ترعى الفيافي وترعاها الفيافي!

البحتري لا يستخدم الثقافة الحديثة

3- البحتريُّ لا يستخدمُ الثقافةَ الحديثةَ: لم يكن البحتري يعتمد في شعره على فلسفة وثقافة يعقدان في أدواته، وكان يعرف ذلك من نفسه، كما كان يعرفه معاصروه، وتلوَّموه من أجله فرد عليهم بقوله: كلفتمونا حدودَ منطقِكُم ... والشعرُ يغني عن صدقِهِ كذبُهْ ولم يكن ذو القروحِ يلهجُ بالـ ... منطق ما نوعه وما سببُهْ والشعرُ لَمْحٌ تكفي إشارتُه ... وليس بالهذرِ طوِّلت خطبُهْ ولكن أحقًّا ما يقول البحتري من أن الشعر لا يحتاج فلسفة ولا منطقًا؟ إن وقائع الفن المادية في العصر العباسي لا تتفق وهذا القول؛ فقد دخلت الفلسفة والمنطق في صناعة الشعر وعقَّدا في وسائله وأدواته هذا التعقيد الذي رأينا وجها من وجوهه عند أبي تمام، ولا ينفع البحتري استشهاده بامرئ القيس، حقًّا أن امرأ القيس لم يكن يعرف فلسفة ولا منطقًا، ولكن هل يمكن تطبيق ذلك على العصر العباسي؟ إن امرأ القيس تثقف بالثقافة التي عاصرته، وهي لم تشفع

بشيء من الفلسفة والمنطق إلا في الحدود الساذجة، أما لو أنه كان في عصر البحتري لما رضي لنفسه أن ينفصل عن عصره وأن يقيم حواجز وحدودًا بينه وبين الثقافة الحديثة. ونفس البحتري يناقض هذا الرأي في عمله؛ إذ يحاول استيعاب الوسائل الحديثة في صناعته من الطباق والجناس والتصوير؛ إلا أنه لا يستطيع أن يستخدم الأداة العقلية الخالصة، أداة المنطق والفلسفة؛ لأنه ليس من أهل المنطق ولا من أهل الفلسفة، وهو بذلك ينحاز عن شعراء عصره؛ ويقول النقاد إنه لم يفارق عمود الشعر، فلم تكن هناك ثقافة ولا فلسفة تضطره إلى هذه المفارقة. ودائمًا نجد شيئًا من المنطق ينقص البحتري في فنه؛ وانظر في صياغته ونقصد الصياغة الذهنية؛ فإنك تراه لا يعنى بتنسيق أفكاره وترتيب معانيه ترتيبًا منطقيًّا دقيقًا. وبونٌ بعيد جدًّا بينه وبين شاعر كأبي تمام في هذا الجانب؛ فإنك تحس عند الأخير بوحدة القصيدة واضحة كما تحس بتسلسل الأفكار، أما عند البحتري فإنك ترى دائمًا خنادق وممرات بين أبياته. وتتبع الباقلاني عنده هذه الظاهرة في قصيدته. أهلًا بذلك الخيالِ المقبلِ ... فعل الذي نهواه أو لم يفعل ولاحظ أن التسلسل المنطقي فيها مضطرب، وأن التفكير فيها غير منتظم1 وذكر غيره من النقاد أن البحتري لا يحسن الخروج من موضوع إلى موضوع في الشعر، وإنه يجنح دائمًا إلى ما يسميه ابن رشيق طفرًا وانقطاعًا2. وهذا كله جاء البحتري من أنه لم يكن متفلسفًا ولم يكن من رجال الفكر العميق؛ ولذلك لم يحسن تنسيق شعره من جهة، كما أنه لم يستطع التعديل في أدوات صناعته من جهة أخرى. وليس معنى ذلك أنه لم يكن يستخدم أدوات التصنيع؛ بل كان يستخدمها؛ ولكنها ظلت عنده كأنها من طراز مخالف لما نراه عند أبي تمام؛ فقد كان بدويًّا أعرابيًّا ولذلك ظل منحرفًا عن مذهب المصنعين، وظلت أدوات الصناعة عنده ساذجة بسيطة يستخدمها، ولكنه لا يستطيع أن

_ 1 إعجاز القرآن ص105، 106، 108. 2 العمدة 1/ 159.

يعقدها ولا أن يولد منها أدوات أخرى؛ إذ لم يكن عقله يسعفه، واقرأ له هذين البيتين اللذين كانا يروعان السابقين بتقسيمه فيهما؛ إذ يقول: ذاك وادي الأراك فاحبس قليلًا ... مقصِرًا من صبابةٍ أو مُطيلا قِفْ مشوقًا، أو مُسْعدًا، أو حزينًا ... أو معينًا، أو عاذرًا، أو عذولا فإنك إذا نَحَّيتَ جمال الأصوات الذي عرضت فيه الأفكار وجدت البحتري لا يحسن التقسيم؛ لأن التقسيم عمل عقلي يحتاج إلى منطق وهو لم يكن من رجال العقل ولا من رجال المنطق؛ فنحن نراه يقسم من يناديه قسمه متداخلة غير معقولة، إذ يجعله إما مشوقًا أو مسعدًا أو حزينًا أو معينًا أو عاذرًا أو عذولًا، وهي صفات متداخلة، ولكن البحتري يعتذر بأنه ليس من أهل المنطق، فالشعر شيء والمنطق شيء آخر، وكأنه يريد أن يقول: إن الشعر ابن أبولو لا ابن منيرفا. ولكن غاب عنه ما حدث بين الشعر والمنطق أو الفلسفة من تزاوج في العصر العباسي، وأنه انعدمت بينهما الحدود والحواجز، وما تقدم الزمن إذن؟ وما فائدة الرقي العقلي الذي أصابه العباسيون؟ إن واجب الشاعر أن يلم بالثقافة الحديثة، وأن يلم بالفلسفة بنوع خاص، وأن يتخذ ذلك مادة أساسية في صنع قصائده ونماذجه. والبحتري لا يصور لنا ذلك؛ فهو من جماعة الصانعين الذين لا يسرفون على أنفسهم في استعمال أدوات الصناعة وتعقيدها؛ إنما يصوره أبو تمام الذي كان يفهم أن الشعر تطور في العصر العباسي، وأنه لم يعد ضرورة كما كان في العصور القديمة؛ فقد ظهر النثر وزاحمه، وأصبح لونا من ألوان الترف لا تخاطب به العامة، وإنما تخاطب به الخاصة وخاصة الخاصة من أصحاب الفلسفة والمعاني كما يقول الآمدي1. ومهما يكن فإن عقل البحتري لم يكن من عقل أبي تمام، لا في الدرجة ولا في النوع، بل هو من جنس مخالف. كان أبو تمام من أهل المدن، وكان مثقفًا ثقافة عميقة، وقد أدخل هذه الثقافة في صناعة شعره ومواد قصائده، أما

_ 1 الموازنة بين الطائِيَّينِ للآمدي ص2.

البحتري فكان أعرابيًّا، ولم يكن يأخذ بحظ واسع من الثقافة؛ فلم يصب أدوات الفن عنده ما أصابها من تعقيد وتركيب عند أبي تمام، على نحو ما سنعرف في الفصل التالي. حقًّا إن البحتري أحسن على نحو ما مر بنا في الفصل الثاني جانبَ الموسيقى الداخلية في الشعر وما تستتبعه من المشاكلة بين الألفاظ والمعاني والتوافق الصوتي بين الحروف والحركات والكلمات، وكأني به كان يوفر وقته جميعه للصوت، وهذا جل ما يعتمد عليه في شعره من جو، فهو يطلق الموسيقى ويدعها تؤثر في أعصابنا كما يريد ويشتهي، أما جو أبي تمام فجو غامض مبهم يطلق فيه الموسيقى وهي لا تبلغ سمت موسيقى البحتري؛ غير أنه لا يعتمد عليها فقط، بل نراه يضيف إليها ألوان البديع ويعقد فيها، ولا يكتفي بذلك بل ما يزال يضيف إليها ألوانًا ثقافية قاتمة، تؤثر في الحس وأعصاب الفكر. وحاول البحتري في كثير من جوانب فنه أن يقلِّد أبا تمام في تصنيعه وعبر عن ذلك الجانب في صناعة الشعر وإعجابه به؛ إذ يقول: وبديع كأنه الزهرُ الضا ... حكُ في رونقِ الربيعِ الجديدِ ومعانٍِ لو فصلتها القوافي ... هجَّنت شعر جرولٍ ولبيدِ حزن مستعمل الكلام اختيارًا ... وتجنَّبْن ظلمةَ التعقيدِ وركبنَ اللَّفظَ القريبَ فأدرك ... نَ به غاية المرام البعيد ولكنه ظل مقصرًا في استخدام هذا البديع؛ فعدل في أكثر أحواله إلى الصوت والصنعة في الموسيقى؛ لأنها الجانب القديم الذي يستطيع أن ينميه دون حاجة إلى ثقافة أو فلسفة. أما ألوان البديع فكانت شيئًاجديدًا لا يحسنه من الشعراء إلا من عاشوا في الحضارة، وأخذوا أنفسهم بحظ من الثقافة والعقل العميق على نحو ما سنرى عند أبي تمام. ومهما يكن فإن البحتري لم تكن عنده أسباب تؤهله لاستخدام التصنيع وأدواته على نحو ما انتهت إليه عند جماعة المصنعين؛ فهو بدوي أعرابي رحل إلى المدينة وتحضر، ولكن هذا التحضر لم يتغلغل في عقله ولم ينفذ إلى أعماق نفسه؛ فلم يستطع أن يستخدم الثقافة في عمله، كما أنه لم يستطع التعقيد في أدوات حرفته.

ابن الرومي أصله وحياته وصنعته

4- ابنُ الرُّومي، أصلُهُ وحياتُهُ وصنعتُهُ: لعله يحسن بنا أن نبحث عن شاعر آخر من جماعة الصانعين قد تثقف بالثقافة الحديثة لنرى ما أصاب منهجهم عنده من تعقيد في أثناء القرن الثالث للهجرة، ولعل خير شاعر نجده في هذا الجانب هو ابن الرومي الذي كان يتعاطى علم الفلسفة1، واسمه علي بن العباس بن جريج، ويتضح من اسم جده أنه ليس عربي الأصل، بل هو رومي، وكانت أمه فارسية، وافتخر بذلك كثيرًا في شعره من مثل قوله: كيف أغضي على الدنيَّة والفُر ... س خئولي، والرُّوم هم أعمامي وقد ولد في بغداد سنة 221 للهجرة، ولم تكد تتقدم به الأيام حتى توفي أبوه فكفلته أمه وأخٌ أكبر منه. ونراه يتجه إلى الثقافة المعاصرة له وإلى الشعر ورواية القديم والحديث منه، ولم يلبث أن جرى على لسانه، فتهادته النوادي والمحافل في بغداد، كما تهاداه الوزراء وكبار رجال الدولة؛ فمدحهم ونال عطاءهم، وابتسمت له الحياة قليلًا غير أنها سرعان ما عبست له، فماتت أمه ومات أخوه، وتزوج وأنجب أطفالًا إلا أن القدر أخذ يعصف بهم واحدًا وراء الآخر وماتت زوجته. ولم يكن هذا كل ما هناك؛ فقد كان فيه ضيقُ خلقٍ، وكان فيه اختلال في أعصابه، لعله كان ثمن نبوغه؛ فلم يشعر بشيء من الفرحة بالحياة، بل شعر كأنها كأس مر يتجرعه، فانقلب ساخطًا على كل ما حوله، حتى على من أكرموه وفسحوا له في مجالسهم وأغدقوا عليه من أموالهم، فهجاهم، ونفروا منه، فاحتجبوا عنه، وانقلب المستقبل الباسم الذي كان ينتظره إلى مستقبل

_ 1 رسالة الغفران "طبعة كامل الكيلاني" 2/ 74.

تعسٍ بائسٍ، كله حرمان. ونحن لا نقرأ في مختارات ديوانه التي نشرها كامل كيلاني حتى نحس برمه بالناس، وهو برم جعله يتألم ألَمًا شديدًا من فساد زمانه وأهله1، وتحوَّل يسلقهم بلسانه، ولم ينجُ منهم أحد، وربما كان المعتز أهم الخلفاء الذي تعرض لهم بالهجاء الحاد2، وكانت فيه نزعة شيعية3، ولعل هذا كان أحد الأسباب في هجائه اللاذع للمعتز وغيره من العباسيين. وهو لا يقف في هجائه عند حد، حتى النساء؛ فإنه على الرغم من غزله الكثير بهن يحكم عليهن أحكامًا قاسية لا تخلو من تشاؤم مرير4. وزاد في تشاؤمه وتعاسته وبرمه بالناس -نساء ورجالًا- أنه كان نَهِمًا بالحياة وملاذها، وكان يرى الشعراء من حوله أمثال البحتري ينعمون بخيراتها وطيباتها؛ بينما هو لا يصيبه منها إلا الإملاق والضنا. ويظهر أنه كان معتل الجسد مع اعتلال أعصابه؛ فتعاون هذا كله على أن يحس فاجعته وأن تتعمق فؤاده؛ إذ يطلب البهجة والمسرة والحياة السعيدة فلا يجد إلا الشقاء والخِذْلان، حتى في جسده وصحته. والغريب أن أحدًا من معاصريه لم يتقدم إلى إنقاذه، وهو يعد مسئولًا عن ذلك إلى حد كبير، فإنه لم يهيئ لهم الفرصة؛ إذ كان يزْوَرَّ عنهم بل كان يسلِّط عليهم سياط هجائه، وظل على ذلك إلى آخر حياته. وهناك قصة تزعم أن وزير المعتضد القاسمَ بن عبيد الله دسَّ له السم في بعض الطعام5، وكان ذلك سبب وفاته سنة 283 للهجرة. وأغلب الظن أنها قصة غير صحيحة وأنه مات ميتة طبيعية؛ نتيجة لأمراضه وعلله التي قضت عليه أخيرًا. وإذا تركنا حياته إلى صنعة شعره وجدنا عباسًا العقاد يتشبث بروميته، أو بعبارة أدق بيونانيته، ويقول: "إنها لَوَّنت شعره ألوانًا خاصة أفردته عن شعراء العرب"6

_ 1 مروج الذهب للمسعودي 8/ 320. 2 مختار الديوان 28، ورقم 480. 3 مختار الديوان 243. 4 مختار الديوان رقم 30. 5 انظر: ترجمته في ابن خلكان. 6 انظر: "مقدمة العقال" للمختار من ديوان ابن الرومي"نشر كامل كيلاني".

وقد وقف عند هذا الجانب في كتابه عنه؛ ولكن مع شيء من التحفظ والاحتياط. والحق أن الوراثة عند ابن الرومي ليست كل شيء في شعره؛ إذ ينبغي أن نضيف إليها الثقافة اليونانية الإسلامية التي كان يتثقفها الشعراء في القرن الثالث؛ فعند ابن الرومي يونانيةٌ أصيلة ويونانية مكتسبة لعلها أهم من يونانيته الأصيلة، وهناك أيضًا ثقافة إسلامية عربية مكتسبة، وإذن ففي شعر ابن الرومي عناصر ثلاثة تؤثر فيه لا عنصر واحد. وهذه العناصر الثلاثة يضاف إليها عنصر رابع، وهو عنصر شخصي خاص بمزاج ابن الرومي، وكان له تأثير مهم في شعره؛ إذ كان حاد المزاج معتل الطبع ما يزال يتطير ويتشاءم ويبالغ في ذلك مبالغة شديدة حتى ليقول الزبيدي: "إنه كان لا يدع التطير والتفاؤل في جميع حركاته وتصرفه"1 وكان يحتج لذلك بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يحب الفأل ويكره الطِّيَرة وأن عليًّا كان لا يغزو غزاة والقمر في برج العقرب، ويقول إن الطيرة موجودة في الطباع قائمة فيها2. ويقص الرواة في طيرته أقاصيص غريبة؛ فمن ذلك ما رواه الحصري عن علي بن إبراهيم كاتب مسروق البلخي؛ إذ قال: "كنت بدار مسروق جالسًا، فإذا حجارة سقطت بالقرب مني، فبادرت هاربًا، وأمرت الغلام بالصعود إلى السطح والنظر إلى كل ناحية من أين تأتينا الحجارة، فقال: امرأة من دار ابن الرومي الشاعر قد تشوَّفت، وقالت: اتقوا الله فينا، واسقونا جرة ماء وإلا هلكنا؛ فقد مات من عندنا عطشًا. فتقدَّمت إلى امرأة عندنا ذات عقل ومعرفة أن تصعد إليها وتخاطبها، ففعلت، وبادرت بالجرة، واتبعتها شيئًامن المأكول، ثم عادت إلي، فقالت: ذكرت المرأة أن الباب عليها مقفل في ثلاث ليال؛ بسبب طيرة ابن الرومي، وذلك أنه يلبس ثيابه كل يوم ويتعوذ، ثم يصير إلى الباب والمفتاح معه، فيضع عينه على ثقب في خشب الباب، فتقع.

_ 1 طبقات النَّحويين، للزبيدي "طبعة الخانجي" ص126. 2 زهر الآداب 2/ 171.

عينه على جار له كان نازلًا بإزائه، وكان أحدب، يقعد كل يوم على بابه فإذا نظر إليه رجع وخلع ثيابه، وقال لا يفتح أحد الباب"1 وروى ابن رشيق "أن أحد إخوانه من الأمراء افتقده فأُعْلِمَ بحاله من الطيرة؛ فبعث إليه خادمًا اسمه إقبال ليتفاءل به، فلما أخذ أهبته للركوب قال للخادم: انصرف إلى مولاك، فأنت ناقص ومنكوس، اسمك: لا بقاء"2 وروى صاحب معاهد التنصيص أن بعض أصحابه أرسل إليه يومًا بغلام حسن الصورة اسمه حسن، فطرق الباب عليه، قال: من؟ قال: حسن، فتفاءل به وخرج، وإذا على داره حانوت خياط قد صلب درفتين كهيئة اللام ألف، ورأى تحتها نَوىَ تمرٍ، فتطيَّر، وقال بأن هذا يشير بأن: لا تمر، ورجع ولم يذهب معه. "وكان الأخفش علي بن سليمان النَّحْوي قد تولَّع به؛ فكان يقرع عليه الباب إذا أصبح، فإذا قال: من القارع؟ قال: مرَّة بن حنظلة، ونحو ذلك من الأسماء التي يتطير بذكرها، فيحبس نفسه في بيته ولا يخرج يومه أجمع"3 وليس من ريب في أن هذا المزاج المعتل الحاد كان يؤثر في شعره بجانب أصله وثقافته، وطبيعي وقد امتلأ حقدًا على معاصريه من الحدب وأشباههم؛ فكلهم أحدب في رأيه، أن يكون الهجاء أهم موضوعات شعره. وكان لديه قدرة بارعة على تصوير الأحاسيس، فصور الطبيعة ومباهجها في الربيع وغير الربيع تصويرًا رائعًا، كما صور الأطعمة تصويرًا يتناسب مع شرهه لها، وكان لا يترك منظرًا في الطريق من مناظرها دون أن يرسمه بريشته على نحو ما صنع في تصويره لمنظر الخباز وهو يدحو الرقاق4. وتتضح في غزله العاطفة الرقيقة، وهو يبدع في كثير منه إبداعًا منقطع النظير، وله قصيدة طويلة وصف في مطلعها المرأة بطريقة مبتكرة؛ إذ نقل في وصفها صورة البستان بفواكهه وثماره ومطلعها: أجْنَتْ لك الوَجْد أغصانٌ وكثبانُ ... فيهنَّ نوعان: تفاحٌ ورمانُ

_ 1 زهر الآداب 2/ 177. 2 العمدة، لابن رشيق 1/ 40. 3 معاهد التنصيص. 4 مختار الديوان، رقم 332.

وتتجمع عاطفته وبراعته في التصوير حين يصف بعض المغنيات، وقصيدته في وحيد المغنية إحدى درره. وطبيعي والقدر يلاحقه في خطف أبنائه ويجرعه غصص الألم أن يجيد في فن الرثاء، ومرثيته لابنه محمد من فرائد الشعر العربي، وله في رثاء البصرة حين غلب الزنج عليها وفتكوا بنسائها وأطفالها قصيدة بديعة. وهو بحق من أوائل من نظموا في المناظرات الشعرية كما في مناظرته بين النرجس والورد، والقلم والسيف، وكان ينظم في مدح الشيء وذمه، فيمدح الحقد في قصيدة ويذمه في أخرى، ولعله في ذلك كان يتأثر بالأدب الفارسي. وفي شعره نزعة شعبية واضحة إذ كان يصف المطاعم وحياة الناس في بغداد وما يطعمونه ويلبسونه حتى الأَرْدية المرقَّعة، ويعرض علينا صور طبقاتهم الدنيا من خبَّازين وحمَّالين وشوَّائين وشحَّاذين. ومن هنا كانت تكثر في شعره ألفاظ العامة، فهو ليس شاعر الملوك والقصور من مثل البحتري، وإنما هو شاعر شعبي، يعرض علينا بغداد في حياتها المتواضعة وصورها الشعبية. وكل ذلك من آثار حياته التي عاشها؛ فهي حياة بائسة في أكثر جوانبها، حياة لا تعرف البهجة ولا التأنق في المعاش، ولعل ذلك ما جعله يقف بشعره عند ذوق الصانعين؛ فهو لا ينمق فيه، بل يترك نفسه على سجيتها ليصور أحاسيسه وعواطفه الصادقة. وكان فكره الدقيق وما انطبع في عقله من طوابع الثقافة والفلسفة حريًا به أن يصبح من أصحاب مذهب التصنيع، ومن ينظر إلى هذا الجانب عنده يخيل إليه كأنه من طراز أبي تمام، وخاصة حين يقرأ له بعض أبيات مفردة أو قطعًا قصيرة مما تناقلته عنه كتب الأدب؛ ولكن من يقرأ قصائده يعرف أنه ليس من أصحاب هذا المذهب، مذهب التصنيع؛ إذ لم يكن يُعْنى بالزخرف لا في شعره ولا في حياته إلا قليلًا، وكأنه كان يأتي بما يأتي به من هذا الزخرف أحيانًا مجاراة للعصر، وحقًا شغف شغفًا شديدًا بالتصوير، ولكن هذا الشغف لا يخرجه من دائرة الصانعين، كما لا تخرجه من دائرتهم ثقافته الفلسفية، وما يمتاز به من فكر عميق.

ابن الرومي يستخدم الثقافة الحديثة

5- ابنُ الرُّومي يستخدمُ الثقافةَ الحديثةَ: لم يكن ابن الرومي يذهب مذهب البحتري في أن الشعر لا يحتاج إلى فلسفة ومنطق؛ بل كان يرى أنهما أصلان مهمان في حرفته؛ فهو يعتمد عليهما في تفكيره، وهو يستخدمها في صياغته، حتى لتتخذ أبياته في كثير من نماذجه شكل أقيسة دقيقة؛ فهو يقدم لها بمقدمات ويخرج منها بنتائج، وكأنه رجل من رجال المنطق، بل هو رجل من رجال الفكر الحديث، وهو لذلك يأبى إلا أن يخرج نماذجه إخراجًا حديثًا، فيه فكر، وفيه فلسفة، وفيه منطق، وفيه تلك الصفات العقلية الجديدة التي يمتاز بها شعراء العصر العباسي من أسلافهم القدماء، واقرأ له هذه الأبيات. لما تؤذنُ الدنيا به من صُرُوفها ... يكون بكاءُ الطفلِ ساعةَ يولدُ وإلا فما يُبْكيه منها وإنها ... لأفسحُ مما كان فيه وأرغدُ إذا أبصرَ الدنيا استهلَّ كأنَّه ... بما سوف يلقى من أذاها مهدَّدُ وللنفس أحوالٌ تظل كأنها ... تشاهدُ فيها كل غيب سيشهدُ فإنك تحس فيها أثر المنطق واضحًا، وهذا أهم ما يفرق بينه وبين البحتري في صناعته إذا كان للمنطق تأثير واضح في صياغة شعره وتنسيق أفكاره. ويمكننا أن نخلص ذلك في جانبين: الجانب الأول ما يمتاز به شعر ابن الرومي من الوضوح الذي جعله يستقصي أطراف الفكرة حتى تتضح من جميع جوانبها؛ فهو رجل منطق، ورجال المنطق يعشقون البيان الواضح، ولعله من أجل ذلك كان شعره يمتاز بالطول فهو يستقصي ويتعمق في عرض أفكاره، حتى تبرز بروزًا دقيقًا. أما الجانب الثاني فهو ما يمتاز به شعره من التنسيق الشديد والربط الوثيق بين أفكاره. يقول عباس العقاد: "العلامات البارزة في قصائد ابن الرومي هي طول نفسه وشدة استقصائه للمعنى واسترساله فيه، وبهذا الاسترسال خرج.

عن سنة النَّظَّامين الذين جعلوا البيت وحدة النظم، وجعلوا القصيدة أبياتًا متفرقة يضمها سمط واحد قلَّ أن يطَّرد فيه المعنى إلى عدة أبيات، وقل أن يتوالى فيه النَّسق تواليًا يستعصي على التقديم والتأخير والتبديل والتحوير؛ فخالف ابن الرومي هذه السُّنَّة وجعل القصيدة كلامًا واحدًا لا يتم إلا بتمام المعنى الذي أراده على النحو الذي نحاه؛ فقصائده موضوعات كاملة تقبل العناوين، وتنحصر فيها الأغراض ولا تنتهي حتى ينتهي مؤدَّاها، وتفرغ جميع جوانبها وأطرافها، ولو فسد في سبيل ذلك اللفظ والفصاحة، ولا ريب أن هذا الاستقصاء كان سببًا من أسباب الإطالة؛ ولكنه لم يكن كل السبب؛ لأن ابن الرومي كان يطيل القصائد حفاوة بالممدوحين وإكبارًا لشأنهم وإظهارًا لعنايته بإرضائهم"1 ونحن إذا سلمنا للعقاد بأن المديح كان سببًا من أسباب الإطالة عند ابن الرومي؛ فإننا نتردد في أن نسلِّم بأن الاستقصاء هو الآخر كان سببًا فيها؛ لأنه ليس شيئًا خارجًا عنها، بل هو نفس ظاهرة الإطالة، فابن الرومي يطيل، وبعبارة أخرى يستقصي المعاني والأفكار؛ على أن السبب الآخر الذي ذكره العقاد وهو المديح لا يطرد في جميع قصائد ابن الرومي؛ لأنها لم تُبْنَ كلها على المديح. وأكبر الظن أن السبب الأهم هو ما قلناه من أن ابن الرومي كان يستخدم الصياغة المنطقية، في قصائده، فشغف بهذا الطول الذي هو من أخص صفات من يريدون التعبير المنطقي الواضح. ومهما يكن فإن ثقافة ابن الرومي قد أحدثت في شعره هذا النوع الغريب من الطول في نماذجه؛ فإن الشعر عنده لم يعد تعبير العاطفة فقط، بل أصبح تعبير العقل قبل أن يكون تعبير العاطفة، وبذلك عمَّه غير قليل من التحليل والتفصيل، والبحث والتحقيق. لم يعد الشعر عملًا عاطفيًّا خالصًا، بل أصحب عملًا عقليًّا، له خصائص الأعمال العقلية وصفاتها، وبذلك أصبح في كثير من جوانبه -كما تصوِّره قصائد ابن الرومي- يشبه الأعمال النثرية في وضوحه من جهة، وفي عدم اهتمام الشاعر بالعبارة في سبيل الوضوح من جهة أخرى؛ وبذلك أصبحت القصائد تشبه إلى

_ 1ابن الرومي: لعباس العقاد، ص308.

حد ما رسائل الكتاب1 وماذا يفصل الشعر من النثر؟ لقد أصبح الشعر كالنثر يعتمد على المنطق والوضوح ومن ثم كان ابن الرومي من أوائل العباسيين الذين أعدوا لهذا الممر الذي يصل بين الشعر والنثر. حقًّا كان الكُتَّاب من قبله ينثرون معاني الشعر وبخاصة في عصر عبد الحميد2؛ ولكن تَطَوَّر النثر بعد ذلك، وأصبح أداة عقلية تعبر عن الثقافة والفلسفة، وانفصل مجراه عن مجرى الشعر، ولا نصل إلى ابن الرومي حتى نجد المجريين يتصلان مرة أخرى إلا أن الشعر في هذه المرة هو الذي ينزع إلى هذا الاتصال. ونحن لا نَبْعُد إذا قلنا إن ابن الرومي كان ممن أهَّلوا لهذه الحركة الواسعة من نظم النثر وحَلِّ الشعر فقد انتفت بينهما الفواصل إلا ما كان من الرُّقم الموسيقية التي يتقيد بها الشعر ولكن هذه الرقم لا تستطيع أن تعوق هذه الحركة الواسعة.

_ 1 من حديث الشعر والنثر، ص266. 2 نفس المصدر ص101.

التصوير في شعر ابن الرومي

6- التَّصويرُ في شعرِ ابنِ الرُّومي: ما كان ابن الرومي يعتمد في شعره على الثقافة الحديثة وخاصة المنطق، كان يعتمد على فن مهم هو فن التصوير، إذا كان لديه قدرة غريبة على ملاحظة دقائق الأشياء وتصويرها تصويرًا بارعًا، واستعان في ذلك بأداتين وجدهما عند أبي تمام وهما: التشخيص والتجسيم. أما التشخيص: فقد استخدمه استخدامًا واسعًا في شعر الطبيعة؛ إذ كان يحس -كما يقول العقاد- بأن الطبيعة ذاتٌ ناطقة وأشخاص متحركة فهو يعيش مع كل نسمة فيها وكل حركة وكل خفقة وكل همسة1، وكأنها تستغويه وتستهويه: ورياض تخايل الأرض فيها ... خيلاء الفتاة في الأبراد

_ 1 ابن الرومي: للعقاد، ص283. وانظر مقدمته لمختار الديوان.

منظرٌ معجبٌ، تحيَّة أنف ... ريحها ريحُ طيب الأولادِ فهي تدلُّ على إدلال الفتاة الحسنة، وهو يحنُّ إليها حنانًا غريبًا، يحس فيه برائحة ذكية، رائحة الأولاد النجباء وما يشعر به الآباء نحوهم من عطف وحنو ومحبة؛ بل إنها لتتصبَّاه إذ تتبرَّج له: تبرَّجت بعد حياءٍ وخفرٍ ... تبرجَ الأنثى تصدَّت للذَّكَر وهذه الطبيعة المتبرجة مكث ابن الرومي يجري لاهثًا وراءها، وقد ملكت عليه حواسه، وملأت عليه قلبه؛ فهو مفتون بها، يفكر خلالها، ويُغرق بصره في ألوانها، ويغمر أشعاره بآثار لمسها وشمِّها، وكأنه لا يعيش في حدود نفسه؛ وإنما يعيش فيما حوله من الطبيعة الفاتنة. وهو جانب رائع في شعر ابن الرومي، يجعلنا نذكر شعراء الطبيعة عند الغربيين، ونقصد شعراء الحركة الرومانسية من أمثال وردزورث في إنجلترا ولامارتين في فرنسا؛ إذ نجد الشعراء يُهرعون إلى الطبيعة وواقع حياتهم يصفونهما منحرفين عن المدرسة الكلاسيكية التي عمت في القرنين السابع عشر والثامن عشر والتي كانت تتقيد بالأوضاع اليونانية واللاتينية، وقلما عدلت إلى شعر الطبيعة. وكذلك كان العباسيون قبل ابن الرومي يتأثرون بالقديم وقلما يلجئون إلى تصوير الطبيعة التي عاشوا فيها، وقد أقبل ابن الرومي يصورها تصوير العاشق المفتون على نمط يشبه -من بعض الوجوه- عمل أصحاب الحركة الرومانسية في أوربا. وقَرَن العقاد -مع شيء من الاحتياط- هذا الجانب في شعر ابن الرومي بيونانيته1. وإذا رجعنا إلى حقائق الظاهرة في الشعر الغربي الحديث وجدنا شعر الطبيعة عند الكلاسيكيين ولكن في صورة محدودة؛ فقد كان شعر الطبيعة حينئذ يشبه قناة ضيقة محدودة قد غصَّت بأعشاب كثيرة من الأوضاع اليونانية واللاتينية، فلما جاء القرن التاسع عشر فاضت القناة، واتسع

_ 1 ابن الرومي: للعقاد، ص282.

المجرى، وكادت تفقد الصلة بين شعر الطبيعة القديم والجديد، على أن نفس الآثار اليونانية ليس فيها ما يدل على شيوع هذا الضرب من شعر الطبيعة عند اليونان القدماء. هم ألَّهوا الطبيعة وملئوها بالآلهة، ولكنهم لم يعبروا عن شعورهم نحوها كما يعبر شعراء الحركة الرومانسية وكما يعبر ابن الرومي. وليس معنى ذلك أنهم أهملوها كل الإهمال، ولكن معناه أنهم لم يصفوها بهذا الاتساع والعمق والهيام المعروف عند أصحاب الرومانسية، ولعل ذلك ما جعل شيلر يقول: "إن اليونانيين كانوا يتأملون الطبيعة بعقولهم لا بعواطفهم فلم يرد لهم عندهم أي ذكر يشعرنا صريح حبهم إياها وإعجابههم بها"1، ويقول همبولت: "إن تصوير الطبيعة لذاتها وفي مختلف مظاهرها كان بعيدًا عن أفكار اليونانيين، ويصرح بأن المنظر الطبيعي يشغل الجزء الظهري من صورتهم بينما تشغل الجزء المهم منها شئون الناس وأعمالهم وأفكارهم"2. شعر الطبيعة في الواقع شعر حديث، وليست له صلة قوية بالأدب اليوناني القديم، ونفس أوربا حين كانت تعيش في العصور الكلاسيكية لم يزدهر هذا الضرب من الشعر عندها؛ لأنه لا يتصل بتقليد القدماء، أما قبل ذلك حين كانت لا تتقيد تقيدًا شديدًا بتقليدهم أي في القرن السادس عشر؛ فإننا نجد هذا الضرب من الشعر، كما نجد الأغاني الشعبية، فلما جاء مالرب"malherbe" ثم بوالو وراسين أصبح الشعر مقيدًا، ولم يعد يعنى بالحديث عن الطبيعة؛ فلما ظهرت الحركة الرومانسية وتحلل الشعر من قيوده الكثيرة اتصل مرة أخرى بالطبيعة وحياة الناس اليومية3، وقد حاول "ورد زورث" على ما هو معروف أن يستعمل اللغة الدارجة في أغانيه المسماه باسم"bllads" على كل حال يرينا تطور الشعر في أوربا في أثناء العصور الحديثة أن شعر الطبيعة إنما يشيع حين يصبح

_ 1 كتاب: ما خلفته اليونان، طبع لجنة التأليف والطب والنشر، ص168. 2 نفس المصدر ص168. 3 انظر في حركة الرومانسية ومنابعها وثورة أصحابها على أوضاع الكلاسيكية كتاب: Paul Van Tieghem, le Mouvement Romantique

الشعر شعبيًّا أو يكاد، وينفصل عن القدماء من يونان وغير يونان. وهذا نفسه ما نلاحظه عند العرب فقد نما شعر الطبيعة واتسعت أبوابه حين قرب الشعر من التعبير عن الحوادث اليومية وأصبح أدنى إلى الواقع الحسي، واقع الجماعة، على نحو ما نعرف في تاريخ الشعر الأندلسي؛ إذ ظهرت هناك الموشحات والأزجال وظهر معهما شعر الطبيعة. ونفس ابن الرومي صاحب شعر الطبيعة في القرن الثالث كان ينزل بأسلوبه إلى درجة دانية من الأساليب اليومية حتى ليحس الإنسان عنده بضروب من الإسفاف، وكان هو نفسه يعرف ذلك فقال يصف شعره، وقد عابه بعض من عاصروه: قولا لمن عاب شعرَ مادحِه ... أما ترى كيف رُكِّب الشجرُ ركِّب فيه اللِّحاء والـ ... خشبُ اليابسُ والشوكُ بينه الثمرُ فشعره فيه اللحاء وفيه الخشب، وفيه الورد وفيه الشوك، فيه المتين المصقول وغير المتين المصقول. وهذا هو ما يدفع ابن الرومي عن مدرسة المصنعين؛ فقد كان لا يعنى بتجميل شعره، وأن يخرج في زخارف التصنيع المختلفة، وهو مع ذلك قد يأتي بهذه الزخارف، ولكن دون أن يتخذها مذهبًا؛ إذ تأتي عابرة. ولم يكن ابن الرومي من ذوق المصنعين، ومع ذلك فقد كان يستعير منهم أدواتهم، كما نرى الآن في شعر الطبيعة فقد اعتمد عنده على التشخيص الذي فتحه أبو تمام في الشعر العربي على نحو ما سنعرف في الفصل التالي. وقد استعار ابن الرومي هذه الأداة واستخدمها استخدامًا واسعًا في شعره، وهو استخدام لا يرجع إلى يونانيته -كما ظن بعض النقاد- وإنما يرجع إلى مزاجه فقد كان شديد الحس مرهف الشعور، فأغرم بالطبيعة وظل مشغوفًا بها، فهي تهيج روحه ومشاعره. واستعار ابن الرومي أداة أخرى من أدوات التصوير عند أبي تمام، وهي أداة التجسيم، واستخدمها في شعره استخدامًا واسعًا على نحو ما رأينا في صنيعه بأداة التشخيص. وانظر إليه يجسِّم هنوات صاحبه القاسم بن عبيد الله فيجري بينه وبينها هذا الحوار الغريب:

كشفتْ منك حاجتي هنوات ... غُطِّيت بُرهةً بحسن اللقاءِ1 تركتني ولم أكن سيِّئَ الظ ... ـن أسيءُ الظنون بالأصدقاء قلت لما بدت لعيني شُنعًا ... ربَّ شوهاءَ في حشا حسناءِ2 ليتني ما هتكتُ عنكن سترًا ... فثويتنَّ تحت ذاك الغطاء قلن لولا انكشافُنا ما تجلَّت ... عنك ظلماءُ شبهةٍ قتماء3 قلت أعجب بكن من كاسفاتٍ ... كاشفاتٍ غواشيَ الظلماء4 قد أفدتني مع الخبر بالصا ... حب أن رب كاسف مستضاء قلن اعجبْ بمهتد يتمنَّى ... أنه لم يزل على عمياء كنت في شبهة فزالت بنا عنـ ... ـك فأوسعتنا من الإزراء وتمنيتَ أن تكون على الحيـ ... ـرة تحت العماية الطخياء5 قلت تالله ليس مثلي من ودّ ... ضلالًا وحيرةً باهتداء غير أني وددت ستر صديقي ... بدلًا باستفادة الأنباء قلن هذا هوى فعرِّج على الحـ ... ق وخلِّ الهوى لقلبٍ هواء6 ليس في الحق أن تودَّ لخلّ ... أنه الدهر كامنُ الأدواء بل من الحقِّ أن تنقر عنهـ ... ن وإلا فأنت كالبُعَدَاء7 إنَّ بحث الطبيب عن داء ذي الد ... اء لأسُّ الشفاء قبل الشفاءِ دونك الكشف والعتاب فقوِّم ... بهما كل خلَّة عوجاء وإذا ما بدا لك العُرُّ يومًا ... فتتبَّع نقابَه بالهناء8 قلت في ذاك موتكنَّ وما المو ... ت بمستعذب لدى الأحياء قلن ما الموتُ بالكريه إذا كا ... ن بحقٍّ فلا تزدْ في الْمِراء9

_ 1 هنوات: جمع هنة، وهي الشيء الصغير. 2شوهاء: قبيحة. 3 قتماء: سوداء. 4 كاسفات: محتجبات. 5 الطخياء: شديدة الظلمة. 6 هواء: فارغ. 7 تنقر: تبحث 8 العر: الجرب. النقاب: جمع نقبة. وهي قرحة الجرب. والهناء: القطران وكانوا يداوون به الجرب في أول ظهوره. 9 المراء: اللجاج والجدال

وقد استطاع ابن الرومي في هذه الأبيات لا أن يجسم الهنوات فقط، بل أن يقيم بينه وبينها هذا الحوار الغريب. ومهما يكن فقد كان ابن الرومي يكثر من استخدام أداة التجسيم في شعره، كما كان يكثر من استخدام أداة التشخيص وأكبر الظن أنه اندفع إلى ذلك تحت تأثير حساسيته الخاصة فمثله ممن يتطير ويتشاءم ويكبر التوافه لا بد أن يلتزم ذلك في تصويره ومعانيه؛ فهو كثير الخيال والأحلام، يتصور الخيال والحلم حقيقة فينفعل ويعظم انفعاله. ويكبر تصوره ويتضخم، فإذا المعاني والأشياء تتجسم أمامه وتشخص، وإذا لها كل ما للأحياء من خواص وصفات، فهي تعقل عقلها، وهي تحس إحساسها وهي تشعر شعورها، ولعل هذا هو ما جعله يستعير من أبي تمام هاتين الأداتين من التجسيم والتعقيد وإن كان أبو تمام يستعلي عليه بما يستعين به من الغموض والدقة والتعقيد في التصوير. وهذا هو ما يفرق دائمًا بين الصانعين والمصنعين في القرن الثالث، فإن الأولين يستخدمون أدوات الأخيرين، ولكن دون أن يعقدوا فيها، أو يغيروا في صورها وأشكالها. وكما حدث ذلك عند ابن الرومي في استخدام ألوان التصنيع حدث كذلك في استخدامه لألون الثقافة القاتمة فإنها لم تتحول عنده إلى ألوان فنية زاهية. والحق أن أصحاب الصنعة كانوا من ذوق آخر فهم لا يهتمون باستخدام أدوات التصنيع دائمًا، وهم حين يستخدمونها لا يكثرون منها ولا يعقدون فيها ولا يضيفون إليها ألوانًا جديدة من ثقافة أو فلسفة على نحو ما سنرى عند أبي تمام.

الهجاء الساخر

7- الهجاءُ السَّاخِرُ: لعل من أهم الجوانب التي تلفت النظر في شعر ابن الرومي جانب الهجاء؛ فقد أعده مزاجه الحاد وقدرته البارعه في لمح الدقائق والعيوب الجسمية لضرب من الهجاء يمكن أن نسميه "الهجاء الساخر"؛ إذ كان يعبث بمهجويه عبثًا.

لاذعًا يشبه عبث أصحاب الصور "الكاريكاتورية"؛ فهو يقف عند نواحي الضعف ويكبرها ويظهرها في أوسع صورة لها، حتى ليثير الضحك والإشفاق على من يتناوله منهم؛ إذ يصنع بهم صنيع أصحاب الصور "الكاريكاتورية" فهم يضعون رأسًا كبيرًا على جسم صغير، أو يخالفون في أعضاء الجسم فيركبونها عليه تارة بالطول وتارة بالعرض، وهو تركيب مضحك في كل صوره وهيئاته، وكذلك كان ابن الرومي يتناول من يهجوه فيشوهه تشويهًا غريبًا، مستخدمًا ما يمتاز به من بعض النقائص الجسدية، وانظر إليه يقول في الأحدب الذي كان يتطير به: قصُرت أخادعُه وغاب قذالُهُ ... فكأنَّه متربِّص أن يُصفعا1 وكأنما صفعت قفاه مرَّة ... وأحسَّ ثانيةً لها فتجمَّعا ويقول في بعض مهجويه: وجهكَ يا عمرو فيه طولُ ... وفي وجوهِ الكلابِ طولُ والكلبُ وافٍ وفيك غدرٌ ... ففيك عن قدره سُفُولُ وقد يحامي عن المواشي ... وما تحامي ولا تصولُ وأنت من أهلِ بيتِ سوءٍ ... قصتُهم قصةٌ تطولُ وجوههم للوري عظاتٌ ... لكن أقفاءهم طبولُ مستفعلن فاعلن فعولُ ... مستفعلن فاعلن فعولُ بيتٌ كمعناك ليس فيه ... معنى سوى أنه فضولُ وعلي نحو ما كان يلتقط العيوب الجسدية كان يلتقط العيوب الصوتية والمعنوية، يقول في مغنٍّ قبيح الصوت: وتحسب العين فكيه إذا اختلفا ... عند التنغُّم فكَّي بغلِ طحَّانِ ويقول في بخيل يسمى عيسى:

_ 1 الأخادع: جمع أخدع، وهو عرق في العنق، ويقصد صفحة العنق، القذال: القفا.

جوانب أخرى في صناعة ابن الرومي

جوانب أخرى في صناعة ابن الرومي ... 8- جوانبُ أخرى من صناعةِ ابنِ الروميّ: كان ابن الرومي من أصحاب مذهب الصنعة؛ ولكن عقله كان أميل إلى التجديد فاستحدث هذا الضرب السابق من الهجاء، كما اتخذ لنفسه التعبير بالتشخيص

والتجسيم. ولم يقف عند ذلك فنحن نجده يعنى بجوانب أخرى في صناعته، ولعل من أهم هذه الجوانب ما يلاحظ عليه من استخدام لوني الطباق والجناس، وهو يشبه البحتري في هذا الجانب؛ إلا أن البحتري كان يكثر من الطباق؛ بينما كان ابن الرومي يكثر من الجناس، وارجعْ إلى أبياته السابقة التي جسم فيها هنوات القاسم بن عبيد الله فإنك تجده يقول فيها: قلت لما بدت لعينيَّ شُنعًا ... ربَّ شوهاءَ في حشا حسناءِ قلن لولا انكشافُنا ما تجلَّت ... عنك ظلماءُ شبهةٍ قتماء قلت أعجب بكن من كاسفاتٍ ... كاشفاتٍ غواشيَ الظلماءِ فهو يطابق بين كلمتي شوهاء وحسناء، وهو يجانس بين كلمتي كاسفات وكاشفات؛ إلا أنه يلاحظ أن ابن الرومي لم يكن يكثر من هذين اللونين؛ فهو ليس من أصحاب التصنيع إنما هي أشياء تسقط في بعض شعره، وقد لا تسقط؛ إذ هي لا تأتي عنده كمذهب، إنما تأتي كما تأتي عند البحتري على أنها أدوات مستحدثة لا بأس من استخدامها، ولكن الشاعر لا يتقيد بها، بل هو يستخدمها في الحين بعد الحين، وقد يكثر من استخدامها في بعض نماذجه، وقد يعود إلى نفسه فلا يستخدمها في النماذج الأخرى. على أن ابن الرومي كان يهتم بجانب آخر في صناعته، وهو جانب القافية؛ فقد كان يطلب شواذها ولا يترك حرفًا شاردًا من حروفها؛ إلا ويؤلف عليه قصيدة أو قصائد مختلفة، وليس ذلك كل ما يلفتنا في صناعة قوافيه؛ إنما تلفتنا جوانب أخرى أشار إليها القدماء، يقول ابن رشيق: "كان ابن الرومي يلتزم حركة ما قبل الروي في المطلق والمقيد في أكثر شعره اقتدارًا"1، فمن ذلك في الروي المطلق: لم يسترحْ من له عينٌ مؤرقةٌ ... وكيف يعرف طعمَ الرَّاحةِ الأرِِقُ فقد مضى في هذه المقطوعة يلتزم كسرة قبل الروي وهو هنا مطلق،

_ 1 العمدة: لابن رشيق 1/ 102

ويماثله في المقيَّد قصيدته: أبَينَ ضلوعي جمرةٌ تتوقَّد ... على ما مضى أم حسرةٌ تتجددُ فقد التزم الفتحة قبل الرَّوي. وعلى هذا النمط نجد ابن الرومي يصعِّب على نفسه في قوافيه وحركاتها؛ بل إنه يصعِّب على نفسه في حروفها أيضًا، يقول ابن رشيق: "وكان ابن الرومي خاصة من بين الشعراء يلتزم ما لا يلزم في القافية حتى إنه لا يعاقب بين الواو والياء في أكثر شعره قدرة على الشعر واتساعًا فيه"1؛ فمن ذلك مطولته: شابَ رأسي ولاتَ حين مشيبِ ... وعجيبُ الزمانِ غيرِ عجيبِ فقد التزم فيها الياء قبل الرَّوِيِّ كما التزم الواو في مقطوعته السابقة: وجهُك يا عمرو فيه طولُ ... وفي وجوهِ الكلابِ طولُ ويقول صاحب سرِّ الفصاحة: "إنه قد يلتزم الحرف وحركته قبل الروى، وذلك كثير في شعره"2، ونحن نجد في ديوانه مطولة يبدؤها على هذا النمط: صبرًا على أشياءَ كلِّفتُها ... أعقبتها الدَّنَّ وسُلِّفتُهَا وقد مضى يلتزم فيها الفاء قبل الروى، وكأنه كان يرى أن الروي في هذه المطولة هو الفاء لا الهاء ولا التاء. وأكبر الظن أن هذا الجانب عند ابن الرومي لم يكن يأتي به ليدل على مقدرة فنية؛ وإنما كان يأتي به مزاجه الحاد، كأنه كان يرى لشدة حسِّهِ أن الفاء هي الروي فالتاء والهاء ضميران. وهو كذلك يرى أن المعاقبة بين الواو والياء تُخرج الشعر عن قوافيه أيضًا فهو يستريح أكثر لالتزام الحركة السابقة للروي، ومن أجل ذلك كله كان يُصَعِّب على نفسه في قوافيه، وهو تصعيب يأتي من مزاجه الحاد وإحساسه المرهف. ومهما يكن فإن ابن الرومي لم يستطع أن ينتقل بصناعته من دائرة الصانعين

_ 1 العمدة 1/ 106. 2 سر الفصاحة "طبعة الخانجي" ص172.

إلى دائرة المصنِّعين؛ لأنه كان يفهم الشعر بصورة أقرب من الصورة التي علقت بأذهان أصحاب التصنيع؛ فلم يكن يعتقد مثلهم بأن الشعر جهود عنيفة يبذلها الشعراء في استحداث تلك الزخارف الدقيقة التي شغف بها أبو تمام وأمثاله. ليس الشعر زخرفًا وتصنيعًا؛ بل هو تعبير، ومن الممكن أن يضاف إلى هذا التعبير شيء من الحلي والوشي المرصَّع، ولكن في خفة، وبدون أن يتعمد ذلك الشاعر تعمدًا يخرج به عن غرضه الأساسي من التعبير عن خواطره إلى التعبير عن ألوان التصنيع الأنيقة. ومن هنا كانت جماعة الصانعين تستعير أدوات التصنيع في بعض الأحيان، ولكن دون أن تستمرَّ في ذلك، ودون أن تتخذها مذهبًا في صناعتها، قد تطبقها ولكنها لا تستمر في التطبيق. وربما أخفقت في هذا التطبيق، كما أخفق البحتري في كثير من طباقه، وكما أخفق ابن الرومي أحيانًا في استخدامه للفلسفة كزخرف جميل؛ فقد رأيناه يقف في هذا الجانب عند استعارة الصياغة المنطقية؛ بينما رأينا أبا تمام يستخدم الفلسفة فيعقد بها في طباقه، ويستخرج هذا اللون الجديد من نوافر الأضداد الذي سبق أن وصفناه. ونحن نلاحظ من طرف آخر أن طائفة الصانعين كانت تختلف فيما تستعيره من أدوات المصنعين ووسائلهم؛ فقد كان البحتري يستعير أدوات الطباق والجناس؛ بينما كان ابن الرومي يوسع هذه الاستعارة إلى أدوات من الثقافة والمنطق والتشخيص والتجسيم. ونفس الأدوات التي اتفقا في استعارتها اختلفا في استخدامها؛ فقد كان البحتري يعجب بالطباق أكثر مما يعجب بالجناس؛ بينما كان ابن الرومي يعجب بالجناس أكثر مما يعجب بالطباق. ونفس الجناس اختلفا في استخدامه؛ فبينما كان البحتري يستخدم الجناس الكامل كان ابن الرومي يكثر من استخدام جناس الاشتقاق. وليس هذا كل ما بينهما من خلاف؛ فقد اختلفا في صنعة الأسلوب نفسه؛ إذ كان البحتري يعنى بصفاء تعبيره حتى يحدث فيه صناعته الصوتية الخاصة. وكل ذلك دليل على أن جماعة الصانعين في القرن الثالث كانت تستعير من جماعة المصنعين بعض أدوات التصنيع غير أنها لم تكن تطبقها في نماذجها

جميعًا؛ إذ كانت تستخدمها من حين إلى حين؛ ولكن دون أن تفهم أن الشعر زخرف خالص ووشي وتنميق. لم تكن جماعة الصانعين تشقُّ على نفسها في فَهم صناعة الشعر بل كانت تفهمها فهمًا بسيطًا، أو على الأقل لم تكن تفهمها فهمًا معقدًا تعقيدًا شديدًا كما هو الشأن عند جماعة المصنعين، وهي لذلك لا تعقِّد في زخرفها ولا تحاول أن تستخرج من الثقافة والفلسفة زخرفًا جديدًا على نحو ما سنرى عند أبي تمام؛ إنما هي تقف عند الزخرف القديم زخرف مسلم، ومع ذلك فهي لا تستخدمه استخدامًا واسعًا؛ إنما هو استخدام يأتي من حين إلى حين. وليس من شك في أن هذا الاستخدام يدل دلالة واضحة على أن موجة التصنيع في هذا القرن كانت عنيفة، وسنتعقبها في الفصل التالي ونرى ما أصابها من حِدَّة.

الفصل الخامس: التعقيد في التصنيع

الفصل الخامس: التعقيد في التصنيع أبو تمام أصله وحياته وثقافته ... الفصل الخامس: التعقيدُ في التصنيعِ خذها مثقفة القوافي ربها ... لسوابغ النعماء غير كنود حذاء تملأ كل أذن حكمة ... وبلاغة وتدر كل وريد كالدر والمرجان ألف نظمه ... بالشذر في عنق الكعاب الرود كشقيقة البرد المنمنم وشيه ... في أرض مهرة أو بلاد تزيد أبو تمام 1- أبو تمام أصلُهُ وحياتُهُ وثقافتُهُ: لعل أهم شاعر يمثل مذهب التصنيع في القرن الثالث الهجري هو أبو تمام؛ فقد انتهى المذهب عنده إلى الغاية التي كان يرنو إليها شعراء العصر العباسي من الزخرف والتنميق. وهو حبيب بن أوس الطائي، وشك بعض القدماء في طائيته، وقالوا إن أباه كان خَمَّارًا نصرانيًّا من دمشق يدعى تدوس؛ فحرَّفه أبو تمام إلى أوس وانتسب في طيئ1، وظن مرجليوث أن هذا الاسم اختصار لتيودوس2 وتبعه طه حسين؛ فقال إنه اسم يوناني واستظهر أن يكون أبو تمام طائيًّا بالولاء3.ومن يقرأ شعره وفخره العارم بطيِّئ لا يشك في أنه طائي صليبة وأنه من صميم طيئ لا دعيّ فيها ولا من مواليها. وقد ولد أبو تمام بقرية جاسم على الطريق بين دمشق وطبريَّة، واختلف في السنة التي ولد فيها، فقيل: سنة 172، وقيل: سنة 182 أو 188 أو 190 ونشأ في دمشق؛ حيث بدأ حياته بحياكة الثياب، ويظهر أنه أخذ يختلف في أثناء ذلك إلى حلقات العلم والأدب، ولم تلبث مواهبه الأدبية أن استيقظت في نفسه

_ 1انظر أخبار أبي تمام للصولي "طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر" ص246. وراجع ترجمته في ابن خلِّكان "طبع المطبعة الميمنية" 1/ 121. 2 راجع ترجمته في دائرة المعارف الإسلامية. 3 انظر محاضرته عنه في كتابه "من حديث الشعر والنثر".

فانتقل من حياكة الثياب إلى حياكة الشعر ونسجه، وترك دمشق إلى حمص، ومدح بني عبد الكريم الطائيين وغيرهم من سراتها اليمنيين، وتعرض لخصومهم يهجوهم. ونراه يرحل إلى مصر، وينزل في الفسطاط، ويعيش من السقاية بمسجدها الجامع الكبير، ويرتوي ما في هذا المسجد من حلقات العلم والدرس، ويساجل الشعراء المصريين، ويمدح عَيَّاش بن لهيعة عامل الخراج، ويهجوه حين لا يجد عنده ما يؤمله. وفي كتاب الولاة والقضاة للكندي أشعار له نظمها بين سنتي 211و 214 وهي تشير إلى الفترة التي قضاها بمصر، وهي فترة لم يلق فيها ما كان يرجوه من نجاح مادي؛ غير أنها كانت عظيمة الأثر في شعره، لما تمثله من المعارف والثقافات، ولما دار بينه وبين الشعراء المصريين من منافسات، ورجع إلى موطنه دمشق يمدح، ويهجو من يمدحهم؛ لأنهم لا يعرفون له قدره. وحاول المثول بين يدي المأمون في إحدى زياراته للشام، ولكن الأبواب أوصدت في وجهه، فتحول إلى الموصل وتنقل بينه وبين وطنه ويظهر أنه زار أرمينية فمدح واليها خالد بن يزيد الشيباني، وأجزل له في العطاء. ويتوفَّى المأمون سنة 218 للهجرة، فيولِّي وجه نحو بغداد، وتقبل عليه الدنيا؛ إذ يقربه المعتصم، ويصبح أكبر شاعر يتغنى بأعماله وأحداث خلافته من مثل فتح عمورية والقضاء على ثورة بابك الخرَّمي وقتل الأفشين. ويتهاداه رجال الدولة الممتازين من مثل محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم والواثق، وأحمد بن أبي دؤاد القاضي وغيرهما من كبار القواد والعُمَّال أمثال أبي سعيد محمد بن يوسف الثغري، وأبي دلف العجلي، وجعفر الخياط ومالك بن طَوق، والحسن بن رجاء، والحسن بن وهب. ونال حظوة الواثق بعد المعتصم، ونراه يرحل إلى خراسان -وربما كان ذلك عقب نزوله بغداد- ليمدح عبد الله بن طاهر حين استقل بها، وفي أثناء رجوعه مرَّ بهمذان، فأكرمه أبو الوفاء بن سلمة، وحبسه الثلج هناك مدة طويلة، فانكب على خزانة كتبه، ولم يلبث أن فكر في تأليف مجاميع من الشعر، فألف خمسة كتب أهمها الحماسة التي دَوَّت شهرتها. وعاد إلى بغداد وتتوثق الصلة بينه وبين الحسن بن وهب كاتب

ابن الزيات؛ فيولِّيهِ على بريد الموصل غير أن حياته لم تَطُلْ به فقد لبَّى داعي ربه سريعًا، واختلف القدماء في سنة وفاته، كما اختلفوا في سنة ولادته، والراجح أنها سنة 231. وكان أبو تمام يأخذ نفسه بثقافة واسعة حتى قالوا إنه عالم1 وقالوا إن شعره يعجب أصحاب الفلسفة والمعاني2، ويظهر أنه كان يحذق علم الكلام وأصوله وفروعه، كما كان يحذق كثيرًا من الثقافات الفلسفية والتاريخية والإسلامية واللُّغَويَّة؛ حتى العقائد والنِّحَل المختلفة على نحو ما نرى في قوله: فلو صح قول الجعفريةِ في الذي ... تنص من الإلهام خِِلناك مُلهما يقول التبريزي: "الجعفرية قوم من الشيعة يغلون في جعفر بن محمد ويزعمون أنه يلهم الأشياء ويعلمها، وكذلك يعتقدون في أئمتهم الإلهام وأنهم يطلعون على الغيب"3. وفي شعره ألفاظ كثيرة تدل على ثقافاته المتنوعة، فمن ذلك قوله: كم في النَّدى لك والمعروف من بدعٍ ... إذا تُصُفِّحت اختيرت على السُّننِ فقد ذكر البدع والسنن، وهما من ألفاظ الفقهاء، ومن ذلك قوله في الخمر: خرقاءُ يلعب بالعقول حبابُها ... كتلاعبِ الأفعالِ بالأسماءِ فقد تكلَّف لذكر الأفعال والأسماء كأنه من أصحاب النحو، ومن ذلك قوله: صاغَهُم ذو الجلال من جَوْهرِ المجْـ ... ـدِ وصاغ الأنام من عَرَضِهِ يقول التبريزي: "هذا مأخوذ من الجوهر والعرض اللذين وضعهما المتكلمون؛ لأن الجوهر عندهم أثبت من العرض"4. ومن ذلك قوله: لن ينال العلا خصوصًا من الفتـ ... يان من لم يكن نداه عمومًا فقد ذكر الخصوص والعموم، وهما من ألفاظ المناطقة. ومن ذلك قوله: هب من له شيءٌ يريدُ حجابه ... ما بالُ لا شيء عليه حجابُ

_ 1 الموازنة بين الطائِيَّينِ ص11. 2 الموازنة ص2. 3 ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي "طبع دار المعارف" 3/ 242. 4 نفس المصدر 2/ 317.

فقد عبَّر عن العدم بكلمة لا شيء، وهي من كلام الفلاسفة. وكان كثيرًا ما يتكلف لإشارات تاريخية كقوله يدعو مالك بن طوق التغلبي إلى الصفح عن قوم تألَّبوا عليه: لك في رسولِ اللهِ أعظمُ أسوةٍ ... وأجلُّها في سنةٍ وكتابِ أعطى المؤلَّفة القلوبِ رضاهم ... كرمًا ورد أخايذَ الأحزاب وهو يشير بذلك إلى ما حدث بعد موقعة حنين من تألف الرسول قلوب جماعة من قريش وغيرهم بما أعطاهم من الغنائم، وكأنه رد إليهم ما سبق أن أخذه في بعض حروبه منهم. ونراه يقول في الأفشين وإيقاعه ببابك: ما نال ما قد نال فرعون ولا ... هامان في الدنيا ولا قارونُ بل كان كالضحَّاك في سَطَواتِهِ ... بالعالمينَ وأنت أفريدون والضحاك وأفريدون من ملوك الفرس الأسطوريين. وكان أبو تمام يضيف إلى هذه الثقافة الواسعة ثقافة فنية لا تقل عنها اتساعا، كما تشهد بذلك مصنفاته الكثيرة التي اختارها من الشعر القديم والحديث، وقد طبع منها ديوان الحماسة بشرح التبريزي والمرزوقي.

ذكاء أبي تمام وتصنيعه

2- ذكاءُ أبي تمامٍ وتصنيعُهُ: وكان ينهض بهذه الثقافة العميقة ذكاء نادر، ويقص القدماء من أخباره في هذا الجانب قصصًا كثيرًا؛ فمن ذلك أنه امتدح أحمد بن المعتصم بقصيدة سينية؛ فلما انتهى منها إلى قوله: إقدامُ عمروٍ في سماحةِ حاتمِ ... في حِلمِ أحنفَ في ذكاءِ إياس1

_ 1 عمرو هو عمرو بن معد يكرب الفارس المشهور. وأحنف هو أحنف بن قيس زعيم تميم البصرة في العصر الأموي وكان يشتهر بحلمه. وإياس هو إياس بن معاوية قاضي البصرة حينئذٍ وكان يشتهر بذكائه.

قال له الكندي الفيلسوف، وكان حاضرًا: الأمير فوق ما وصفت، فأطرق قليلًا، ثم رفع رأسه وأنشد: لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلًا شرودًا في النَّدى والباسِ فالله قد ضرب الأقلَّ لنورِه ... مثلًا من المشكاة والنِّبْرَاس1 فعجبوا من سرعة فطنته2: وهذا الذكاء الحاد استخدمه أبو تمام استخدامًا واسعًا في تمثل الشعر الذي سبقه من قديم وحديث؛ فقد وعى وعيًا دقيقًا صورة الشعر العربي بجميع خطوطها وألوانها وكل ما يجري فيها من أضواء وظلال، وانتحى ناحية مسلم بن الوليد في تصنيعه؛ إذ كان ذوقه ذوق متحضرين يغرم بالتصنيع والزينة حتى في ثيابه ومطعمه3، بل لقد كان ذوقه ذوق نحات أصيل، فهو يقيم قصائده وكأنه يرفع تماثيل باذخة. ولذلك لا نعجب حين نجده يتمسك بالأسلوب الجزل الرصين؛ فهو الذي يلائم ما يريد من ضخامة البناء ومتانته وقوته، وقد تحولت عنده معاني الشعر إلى ما يشبه جذاذات العلماء، فهو يتناولها ممن سبقوه ويخرجها إخراجًا جديدًا يستعين فيه بدقة فكره وروعة خياله، مضيفًا إليها كثيرًا من دقائق ذهنه وبدائع ملكاته. ونحس كأن الشعر أصبح تنميقًا وزخرفًا خالصًا؛ فكل بيت في القصيدة إنما هو وحدة من وحدات هذا التنميق والزخرف، وهو ليس زخرفًا لفظيًّا فحسب، بل هو زخرف لفظي ومعنوي يروعنا فيه ظاهره وباطنه وما يودعه من خفيَّات المعاني وبراعات اللفظ. وبذلك انتهى مذهب التصنيع إلى غايته، وهو يقف فيه علمًا شامِخًا لا تتطاول إليه الأعناق، فكل من قلدوه من بعده كانوا يقعون دونه على السفح، ولعل ذلك ما عدل بالبحتري وابن الرومي عن الدخول معه في هذا المذهب العَسِر الذي صعَّب مسالكه ودروبه على

_ 1 يشير إلى الآية الكريمة: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} . انظر [سورة النور رقم: 35] . 2 أخبار أبي تمام للصولي ص231 وأمال المرتضي 1/ 289. 3 طبقات الأدباء لابن الأنباري ص213.

الشعراء، وقد عدل عنه المتنبي في القرن الرابع عدولًا لعله أشد من عدول البحتري وابن الرومي، وذهب يفسح في شعره للحكمة والشكوى من الزمن؛ ولكن لا تظن أنه ينفصل في ذلك عن أبي تمام؛ فربما كان هو الذي ألهمه هذا الاتجاه؛ إذ نراه كثيرًا ما يشكو في مطالع قصائده من الدهر وما يصيبه به من الأحداث والكوارث، إلا أنه لا يأتي بذلك منفصلًا عن الحب وشجونه كما يصنع المتنبي بل هو يمزج شكواه بحبه وبكائه ودموعه، وهي شكوى تختلط بغير قليل من الشعور بالكرامة والطموح الذي لا يُحَدُّ على نحو ما نجد في قصيدته: أأيامنا ما كنتِ إلا مواهبًا ... وكنت بإسعاف الحبيب حبائبا فإنه بعد حديثه عن حبه وصبابته يصور مغامراته في سبيل المجد ورحلاته التي طوَّف فيها مشارق العالم العربي ومغاربه وما صادفه من خطوب لم تكَفْكِف من عزمه، ولا خضدت من غرب همته، ويسوق في تضاعيف ذلك بعض الحكم من مثل قوله: وقد يكهَمُ السيفُ المسمَّى منيةً ... وقد يرجع المرءُ المظفرُ خائبًا1 فآفةُ ذا أن لا يصادف مضربًا ... وآفةُ ذا أن لا يصادف ضاربًا ودائمًا لا يتخاذل ولا يلين أمام حوادث الدهر، بل يغالبها مغالبة على شاكلة ما نجد عند المتنبي، وبذلك كله كان يقف في مفرق طريقين: طريق الزخرف والتصنيع، وطريق المتنبي من شكوى الزمن فيها قوة وطموح. ومعنى ذلك أن التنميق والزخرف عند أبي تمام لا يحجبان عنا مشاعره وأحاسيسه بل هما جزء لا يتجزأ من هذه المشاعر والأحاسيس. ونحن لا نقرأ فيه حتى نحس أثر عنائه وأنه كان يجهد نفسه في صنع شعره إجهادًا شديدًا، وقد روى ابن رشيق في هذا الصدد عن بعض أصحابه أنه قال: "استأذنت على أبي تمام، فدخلت في بيت مصهرج قد غسل بالماء، فوجدته يتقلب يمينًا وشمالًا، فقلت: لقد

_ 1 السيف الكهام: الذي لا يقطع.

بلغ بك الحرُّ مبلغًا شديدًا، قال: لا، ولكن غيره، ومكث كذلك ساعة. ثم قام كأنما أطلق من عقال؛ فقال: الآن أردت، ثم استمدَّ وكتب شيئًا لا أعرفه، ثم قال: تدري ما كنت فيه منذ الآن؟ قلت: كلا. قال: قول أبي نواس "كالدهر فيه شراسة وليان" أردت معناه فشمس عليَّ. حتى أمكن الله منه فصنعت: شرست بل لنت؛ بل قانيت ذاك بذا ... فأنت لا شك فيك السهلُ والجبلُ1 قال ابن رشيق: ولعمري لو سكت هذا الحاكي لنمَّ هذا البيت بما كان داخل البيت لأن الكلفة فيه ظاهرة والتعمل بَيِّن2. ويروي ابن المعتز عن محمد بن قدامة أنه قال: "دخلت على حبيب بن أوس بقزوين وحواليه من الدفاتر ما غرق فيه فما يكاد يُرَى فوقفت ساعة لا يعلم بمكاني لما هو فيه، ثم رفع رأسه فنظر إلى وسلم على؛ فقلت له: يا أبا تمام إنك لتنظر في الكتب كثيرًا وتُدْمِن الدرس فما أصبرك عليها، فقال: والله ما لي إلف غيرها ولا لذة سواها وإني لخليق إن اتفقَّدها أن أحسن، وإذا بِحُزْمتين: واحد عن يمينه وواحدة عن شماله، وهو منهمك ينظر فيهما ويميزهما من دون سائر الكتب، فقلت: فما هذا الذي أرى عنايتك به أوكد من غيره؟ قال: أما التي عن يميني فاللَّات. وأما التي عن يساري فالعُزَّى، أَعْبُدُهما منذ عشرين سنة؛ فإذا عن يمينه شعر مسلم بن الوليد صريع الغواني، وعن يساره شعر أبي نواس"3. ويقول ابن المعتز: إن له ستمائة قصيدة وثمانمائة مقطوعة، وأكثر ما له جيد، والرديء الذي له إنما هو شيء يستغلق لفظه فقط فأما أن يكون في شعره شيء يخلو من المعاني اللطيفة والمحاسن والبدع الكثيرة فلا، وقد أنصف بالبحتري لما سئل عنه وعن نفسه فقال: "جيده خير من جيدي ورديئي خير من رديئه، وذلك لأن البحتري لا يكاد يغلظ لفظه؛ إنما ألفاظه كالعسل حلاوة، فإما أن يشقَّ غبار الطائي في

_ 1 شرست: من الشراسة ضد اللين، قانيت: خالطت. 2 العمدة: لابن رشيق "طبعة أمين هندية" 1/ 139. 3 طبقات الشعراء، لابن المعتز ص214.

الحذق بالمعاني والمحاسن فهيهات، بل يغرق في بحره؛ على أن للبحتري المعاني الغزيرة ولكن أكثرها مأخوذ من أبي تمام ومسروق من شعره"1 وهذا الإحسان الرائع الذي وصفه ابن المعتز إنما كان نتيجة ما يبذله من جهد لاحَظَهُ معاصروه، ويروي الصُّولي أن إسحاق الموصلي سمعه ينشد بعض أشعاره فقال له: "إنك تتكئ على نفسك"2 وينسب إلى الكندي الفيلسوف أنه قال: "هذا الفتى يموت قريبًا؛ لأن ذكاءه ينحت عمره كما يأكل السيف الصَّقيل غمده"3 وفي رواية أخرى أنه قال: "هذا الفتى يموت شابًا؛ فقيل له: ومن أين حكمت عليه بذلك؟ فقال: رأيت من الحدة والذكاء والفطنة مع لطافة الحس وجودة الخاطر ما علمت أن النفس الروحانية تأكل جسده كما يأكل السيف غمده"4. وهناك أسطورة تزعم أن الدم ظهر في عينيه من شدة التفكير. فتنبأ له الناس بالموت5. والحق أن من يقرأ في شعر أبي تمام يحس إحساسًا واضحًا بأنه كان يشقى في بنائه واستنباط معانيه كما يشقى صيادو اللؤلؤ فهو يتنفس فيه الدم، وكان يشعر بذلك في دقة؛ فأكثر من وصف أشعاره بالإغراب والغرابة على شاكلة قوله: خذها مغرِّبةً في الأرض آنسةً ... بكل فهمٍ غريبٍ حين تغتربُ وقوله: يغدون مغترباتٍ في البلاد فما ... يزلن يؤنسن في الآفاق مغتربا فهو يطلب الإغراب في فنه، حتى يسبغ على شعره كل ما يمكن من آيات الفتنة والروعة، وقد عاش لصناعته ينمِّيها ويخلع عليها كل ما يمكن من وسائل الزخرف والتصنيع، وما زال بها حتى جعلها تنميقًا وزينة خالصة؛ فهي حَلْيٌ أنيق ووشي مرصع كثير، وصوَّر ذلك في بعض شعره، فقال:

_ 1 طبقات الشعراء، ص286. 2 أخبار أبي تمام للصولي ص221. 3 هبة الأيام فيما يتعلق بأبي تمام للبديعي ص26. 4 هبة الأيام ص40. 5 معاهد التنصيص 1/ 15.

خذها مثقفةَ القوافي، ربها ... لسوابغ النَّعماء غير كنودِ1 حذَّاء تملأ كلَّ أذن حكمةً ... وبلاغةً وتُدِرُّ كل وريد2ِ كالدر والمرجان ألِّف نظمُهُ ... بالشَّذر في عنق الكعاب الرُّود3 كشقيقة البرد المنمنم وَشْيُهُ ... في أرض مهرة أو بلاد تزيد4 فأشعاره كالقلائد يصوغها الصائغ الحاذق؛ ففي كل شق منها درٌّ ومرجان وشذور من الذهب، بل هي كبرود أرض مهرة وتزيد، التي نمنمها الوشي ونَمَّقها النقش.

_ 1 مثقفة: مقومة، كَنُود: ناكر للمعروف. 2 حذاء: سريعة السير والذيوع، وإدرار الوريد: كناية عن الذبح، يقول: إنها تقتل من يحسدها. 3 الشذر: قطع الذهب التي تستدير حول الأحجار الكريمة في العقد. الرود: الناعمة. 4 شقيقة البرد: ما يشق ويفصل من الثياب، والبرد: الثوب، والمنمنم: المنمق، وأرض مهرة في جنوبي جزيرة العرب يصنع بها العصب، وبنو تزيد من قضاعة، وإليهم تنسب البرود التزيدية.

استخدام أبي تمام لألوان التصنيع القديمة

3- استخدامُ أبي تمامٍ لألوانِ التصنيعِ القديمةِ: كان أبو تمام يستخدم في صناعة هذا النسيج المنمق وشي التصنيع القديم الذي قابلنا عند مسلم، ونقصد تلك الألوان من المحسنات التي تسمى بالطباق والجناس والمشاكلة والتصوير، والتي يقوم في نفوس كثير من الناس أنها كل ما كان يعتمد عليه الشاعر العباسي من وشي في تطريز شعره وتنميقه، وسنرى أبا تمام يضيف إليها وشيًا آخر من الثقافة والفلسفة، لعله أروع من هذا الوشي المعروف؛ على أنه يحسن بنا أن نتساءل هل كان أبو تمام يستخدم الوشي القديم بنفس الصورة التي تركها مسلم، أم هو حرَّف فيه وعدَّل في كثير من جوانبه؟ ولعل أول ما يلاحظ على أبي تمام في هذا الجانب أنه كان يتفوق على أستاذه في الإكثار من هذا الوشي وألوانه، ولاحظ ذلك القدماء، يقول الباقلاني:

"وربما أسرف أبو تمام في الْمُطابق والْمُجانس ووجوه البديع من الاستعارة حتى استثقل نظمه واستُوخم رصفه"1. وانظر إلى مطلع القصيدة الأولى في ديوانه؛ إذ يقول في مديح خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني وقد عزم المعتصم أن يولِّيه الحرمين ثم رجع عن عزمه: يا موضعَ الشدِّ نية الوجناء ... ومصارعَ الأدلاجِ والإسراءِ2 أَقْرِ السلامَ معرفًا ومحصبًا ... من خالد المعروف والهيجاءِ3 سيلٌ طمى لو لم يذده ذائد ... لتبطَّحت أولاه بالبطحاء وغدت بطن مِنًى مُنى من سيبه ... وغدت حرى منه طهور حراء5 وتعرَّفت عرفاتُ زاخرة ولم ... يخصص كداء منه بالإكداء6 ولطابَ مرتَبَعٌ بطيبة واكتست ... بُرْدَين بُرد ثري وبرد ثراء7 لا يُحْرَمُ الحرمان خيرًا إنهم ... حُرِموا به نوءًا من الأنواء8 فإنك تلاحظ لون الجناس واضحًا في هذه الأبيات التي يمدح بها خالد بن يزيد الشيباني، وكان واليًا على الثغور، ثم غضب عليه المعتصم وأراد نفيه،

_ 1 إعجاز القرآن ص53. 2 موضع: من أوضع البعير، إذا حمله الراكب على السير السريع. الشدنيه: الناقة الأصيلة. الوجناء: الضخمة. الإدلاج: سير الليل كله، الإسراء: سير جزء منه. 3 أَقْرِ: مخفف أقرئ أي أبلِغ. المعرف: موضع الوقوف بعرفة. المحصب: موضع رمي الجمار. الهيجاء: الحرب. وأضاف خالدًا إلى المعروف والهيجاء؛ لشهرته بهما كما يقال زيد الخيل. 4 السيل: معروف خالد أو خالد نفسه. طما: ارتفع. البطحاء: بطن مكة. تبطحت: انبسطت. أولاه: نعمه. لو لم يذده ذائد: لو لم يَعُقْهُ عائق. وهو يشير إلى توسط ابن أبي دؤاد عند المعتصم لخالد حتى لا يوليه الحرمين ويبقيه في أرمينية والثغور. 5 السيب: العطاء. حِرَاء: جبل بمكة. حرا: فناء. يريد أنه لو تولى مكة لغدا حراء منه أفنية للناس الذين يقصدونه لعطائه، وإذن كانوا يحلون فيه ويقيمون. 6 تعرفت: عرفت. زاخره: عطاءه. الزاخر: الكثير. كداء: جبل بمكة. الإكداء: قلة الخير. 7 طيبة: المدينة. المرتبع: منزل القوم في الربيع. الثرى يقصد به التراب الندى أو الرطب. ويقصد ببرد الثرى النبات الندي لا المطر. الثراء: كثرة المال. 8 لا يحرم الحرمان خيرًا: يدعو لأهل الحرمين أن لا يمنعوا الخير بعد أن حرموا من جود خالد. النوء: المطر والغيث، ويقصد غيث كرمه.

فرغب خالد أن يكونه خروجه إلى مكة، ثم شفع فيه ابن أبي دؤاد فاستقر على حاله. وهنا استغلَّ أبو تمام الموقف فجاء يقرئ السلام أهل مكة من خالد المعروف بفعل الجميل وشجاعة الحروب. ثم استمر يجانس بين يذود وذائد، وبطحاء وتبطحت، ومِنًى ومُنًى، وحرا وحراء، وتعرَّفت وعرفات، وكداء وإكداء. وطيبة وطابت، والحرمان ويحرم. وليس من شك في أن هذه مهارة فائقة من أبي تمام حين استغل تلك الأماكن في جناسه، وقد أكثر منه كثرة مفرطة؛ ولكن ليس هذا كل ما يلفتنا في جناس أبي تمام بالقياس إلى مسلم أستاذه؛ إنما يلفتنا ما فيه من "تصوير" يلتفُّ على هذا الجناس ويحتضنه، فيعطيه شيات أخرى، كأنها ليست هي التي نعرفها له، واقرأ له هذه الأبيات في مطلع إحدى قصائده لابن الزيات. متى أنت عن ذُهلية الحي ذاهلُ ... وقلبُك منه مدَّة الدهر آهلُ1 تطلُّ الطلولُ الدمعَ في كل موقفٍ ... وتمثلُ بالصبر الديار المواثل2 دوارسُ لم يجفُ الربيع ربوعها ... ولا مرَّ في أغفالها وهو غافل3 فقد سحبت فيه السحائب ذيلها ... وقد أخملت بالنور منها الخمائلُ4 تعفين من زاد العُفاةِ إذا انتحى ... على الحي صرفُ الأزمة المتحامل5 لهم سلفٌ سُمْرُ العوالي وسامرٌ ... وفيهم جمالٌ لا يغيضُ وجاملُ6

_ 1ذهلية الحي: من قبيلة ذهل. آهل: معمور. وهو في البيت يستبعد سلوه عن صاحبته، ويقول على سبيل الإنكار: متى تسلو عنها وصدرك أبدًا آهل بها؟ 2 تطل: تسقط ما يشبه الطل من الدموع. تمثل بالصبر: تعاقبه حتى تجعله مثله ونكالًا. المواثل: الدوارس. 3 يقول: إن الربيع لا يجفوها ولا يغفل عن سقياها. 4 النور: الزهر. الخمائل: الرياض والطنافس من القطيفة. أخملت: من الخمل، وهو أهداب القطيفة ونحوها. 5 العفاة: السائلون. تعفين: خلون صرف الدهر، حدثانه ونوائبه. الأزمة: السنة المجدبة. يقول: خلت هذه الديار من معروف أهلها وكرمهم الذي كان السائلون ينالونه في السنوات المجدبة. 6 السلف هنا: القوم المتقدمون للقافلة وكانوا يقدمون أمامهم فرسانهم. السامر: القوم يتحدثون في الليالي المقمرة. الجامل: القطيع من الإبل برعاته وأربابه، والحي العظيم.

فإنك تحس إحساسًا واضحًا بجمال هذا اللون من الجناس الذي كان يتكئ عليه أبو تمام في صنع نماذجه؛ ولكن احذر أن تظن أن هذا الجمال شيء مستقر في الجناس وحده إنما هو مستقر أيضًا فيما يدور فيه من أوعية "التصوير" التي ترى فيها الطلول تطل الدمع والربيع لا يجفو الربوع ولا يمر بها غافلًا، ثم تلك السحائب التي تجرر أذيالها وتلك الخمائل التي أخملت النور. وفي هذا ما يجعلنا نلتفت إلى جانب مهم في استخدام ألوان التصنيع، ذلك أنها تستخدم على طريقتين: الطريقة الأولى أن تأتي متعاقبة لا يتعلق بعضها ببعض، كما نجد ذلك عند مسلم في كثير من أحواله، وكما نجد عند جماعة الصانعين في القرن الثالث من أمثال البحتري. أما الطريقة الثانية: فتمتزج فيها هذه الألوان، ويمر بعضها في بعض فتتغير شياتها وهيئاتها، كما نجد عند أبي تمام في أكثر أحواله. هناك إذن طريقتان في استخدام ألوان التصنيع، طريقة تستخدم فيها استخدامًا بسيطًا، وطريقة تعقد فيها تعقيدًا شديدًا؛ فاللون دائمًا يَتَّشح بألوان أخرى قد تطوقه أو تنطقه أو تقع في ذروته أوفي حاشيته، وهي في كل منظر من مناظرها تنتهي به إلى ما يشبه أن يكون لونًا جديدًا. ونحن ينبغي أن نميز تميزًا واضحًا بين هذين الصنيعين فنسمي ألوان التصنيع حين تأتي متتابعة دون أن تلتقي أو تتحد باسم: ألوان تصنيع مختلطة، أما حين تلتقي وتتحد ويدور بعضها في أوعية بعض فإننا نسميها باسم: ألوان تصنيع ممتزجة؛ فاللون لا يستمر بصورته الأولى بل يأخذ صورة جديدة يتجاذبها لونان أو أكثر. أما في مجموعة الألوان المختلطة فكل لون يحتفظ بصورته ولا يخرج إلى هيئة جديدة. ولعل أهم لون استعان به أبو تمام على هذا المزج والاتحاد هو لون التصوير؛ فقد كان يمزجه -كما رأينا- بالجناس، وكان يمزجه أيضًا بالطباق والمشاكلة، واقرأ هذا البيت: كل يومٍ له وكل أوانٍ ... خلقٌ ضاحكٌ ومالٌ كئيبُ فإنك ترى فيه طباقًا بين الضحك والكآبة؛ ولكنه ليس طباقًا خالصًا؛ ففيه شِيات لون آخر هو لون التصوير، وكأنما الكلمتان تتكافآن في النسبة إلى

اللونين. لم يعد الطباق شيئًامنفصلًا يحتفظ بهيئته الخاصة؛ بل هو يمتزج بلون آخر وكأنه يحيله عن لونه القديم، واقرأ هذا البيت: ألبست فوق بياض مجدك نعمةً ... بيضاءَ تُسرع في سوادِ الحاسدِ فإنك ترى فيه طباقًا بين البياض والسواد؛ ولكنه ليس طباقًا خالصًا فقد انغمس في لون آخر هو لون التصوير، إذا عبر عن غيظ الحاسد بالسواد ووصف نعمة صاحبه بالبياض. ولم يكتفِ بذلك، بل جعل هذا البياض يسرع في السواد وينتشر فيه، وانظر إلى هذا البيت: وأحسنُ من نورٍ تفتِّحُهُ الصَّبا ... بياض العطايا في سواد المطالبِ فقد استخدم الطباق حقًّا؛ ولكنه لم يكتفِ به. بل أضاف إليه التصوير والحركة. وعلي هذه الشاكلة نجد اللون عند أبي تمام يتعلق به لون آخر فيغيِّر في شياته وصفاته، وانظر إليه يصنع نفس هذا الصنيع بالمشاكلة إذ يقول: أظن الدَّمعَ في خديَّ سيبقى ... رسومًا من بكائي في الرُّسومِ فقد استعان على المشاكلة بهذا التصوير الغريب الذي يلتفُّ عليها؛ إذ جعل آثار الدمع في خده تشبه آثار ديار المحبوبة. وليس من شك في أن هذه طرافة في التصوير، وكان يستعين بهذه الطرافة دائمًا على لون المشاكلة حتى يعطيه هيئات جديدة، وانظر إليه يصف صواحبه: لآلئٌ كالنجومِ الزهرِ قد لبستْ ... أبشارُها صدفَ الإحصانِ لا الصَّدفا فهن لآلئ إلا أنهن متسربلات بصدف العفاف والطهر، وليس من شك في أنه صدف غريب غرابة وشي الخدود في قوله: وثنوا على وشي الخدود صيانةً ... وشيَ البرودِ بِمُسْجَفٍ وممهَّدِ فقد عبَّر عن زينة الخدود وما بها من حمرة وتلوين بهذا الوشي الغريب. وعلى هذا النمط يستمر أبو تمام يغمر اللون من الجناس أو الطباق أو المشاكلة في أصباغ لون التصوير؛ بل إن هذه الألوان جميعًا ليمر بعضها في أوعية بعض فإذا هي تتجلى في هيئات وشيات جديدة.

التصوير في شعر أبي تمام

4- التصويرُ في شعرِ أبي تمامٍ: لعل أهم جوانب التصنيع القديم التي كان يستخدمها أبو تمام جانبُ التصوير الذي رأيناه يمتزج بالجناس والطباق والمشاكلة؛ فقد كان أبو تمام يشغف به شغفًا شديدًا، واستطاع أن يحلِّلَهُ إلى أصباغه المختلفة، وأن يستخدمها استخدامًا واسعًا في شعره؛ بحيث لا نجمع طائفة من صوره حتى تخرج لنا منها أصباغ تحكي أصباغ الطَّيف وهي أصباغ لا تتقيد بعدد ولا بوضع ولا بشكل خاص، ومع ذلك فنحن نستطيع أن نلاحظ في وضوح أنه كان يعتمد على صبغ التدبيج؛ حتى يعطي لصوره ألوانًا حسية ملموسة، كما نرى في مثل قوله: كأن سوادَ الليلِ ثم أخضرارَهُ ... طيالسةٌ سودٌ لها كُففٌ خضرُ1 وقوله في عتاب صديق: لا تبعدن أبدًا وإن تبعدْ فما ... أخلاقُك الخضرُ الرُّبى بأباعدِ وإن الإنسان ليخيل إليه كأن أبا تمام استوعب جميع صور التدبيج في شعره، وكان ما يزال يحكم في صوره حتى يقول: وصلتْ دموعًا بالنجيع فخدُّها ... في مثل حاشية الرِّداء المعلَمِ2 فالدموع اختلطت بالدم وسالت على خدها حتى أصبح كأنه حاشية لرداء مخطط، أرأيت إلى هذه الصورة؟ إن أبا تمام يعتمد في ضبطها على التفصيل في التدبيج، وهو كثيرًا ما كان يلجأ إليه كأن يقول: نضا ضوءُها صبغ الدُّجنةِ فانطوى ... لبهجتها ثوبُ الظلامِ المجزَّعِ3

_ 1 طيالسة: جمع طيلسان، وهو ثوب فارسي. الكفف: الحواشي. 2 النجيع: الدم. 3 نضا: خلع. المجزع: المختلط سواده ببياضه.

وأي طرافة وبراعة في التدبيج تبلغ هذا التصوير وما به من خيال وتلوين؛ فتلك صاحبته تخلع صبغ الليل بنورها، وهو صبغ تجري فيه خطوط من البياض والسواد، وانظر إلى قوله: خضبتْ خدَّها إلى لؤلؤ العقـ ... ـدِ دمًا أن رأتْ شواتي خضيبا1 يقول: إن صاحبته قد خضبت خدها بالدمع إذا رأته قد اشتعل رأسه شيبًا؛ ولكنه لم يكتفِ بهذا التصوير والتدبيج، وكأني به أراد أن يجعلنا نشاهد منظر هذه الدموع وهي تتساقط؛ فأضاف الوضع وقال: إلى لؤلؤ العقد، وبذلك جعلنا نرى الصورة رؤية كأنها حقيقية فالدموع تتناثر على لؤلؤ العقد وتختلط بحباته وألوانه. والحق أن أبا تمام كان يحسن هذا الصِّبْغ في تصويره إحسانًا شديدًا، وهو إحسان ينسينا مسلم بن الوليد؛ بل هو ينسينا ابن الرومي، وكان يعنى بالتصوير في شعره؛ إلا أنها عناية يقلد فيها أبا تمام أستاذه في هذا الفن، وكان يستعير منه هذا الصبغ من التدبيج، كما كان يستعير منه صبغين آخرين، هما: التجسيم والتشخيص. أما التجسيم فقد ملأ به أبو تمام شعره؛ إذ نراه يجسِّم المعاني في صور مادية حسية حتى تثبت في نفوسنا كأن يقول: راحتْ غواني الحيّ عنك غوانيا ... يلبسن نأيًا تارةً وصدودا أحلى الرجال من النساء مواقعًا ... من كان أشبههم بهن خدودا فقد جسَّم النأي والصدود في هذه الثياب الغريبة غرابة ثوب الزمن في قوله لبعض ممدوحيه: ومن زمنٍ ألبستنيه كأنَّهُ ... إذا ذُكرتْ أيامُهُ زمنُ الوردِ وهي كله أثواب غريبة غرابة ذلك الشُّنُف من مآثر ممدوحه إذ يقول: حتى لو أن الليالي صوِّرت لغدت ... أفعاله الغرُّ في آذانها شُنُفا2 وصاغ أبو تمام من هذا التجسيم وشيًا كثيرًا في أشعاره بل صاغ بدعًا وخيالًا رائعًا على شاكلة قوله:

_ 1 الشواة: جلدة الرأس. خضيبًا: مصبوغة بالحناء من أجل الشيب. 2 الشنف: القرط.

وركب يساقون الرِّكابِ زُجاجةً ... من السَّيرِ لم تقصد لها كف قاطبِ1 فقد أكلوا منها الغوارب بالسُّرى ... وصارت لها أشباحهم كالغوارب2 وكان الشعراء منذ الجاهلية يتحدثون كثيرًا، عما تصنعه كثرة السُّرى بإبلهم من هزال ونحول حتى ليقولون إن سنامها تآكل. ولم يكد يلمُّ أبو تمام بهذا المعنى حتى أخرجه في تلك الصورة الخيالية المبعدة في الخيال؛ فإذا الراكبون يسقون إبلهم خمرًا من السير لم تمزج بماء، وفي أثناء ذلك تذوب أسنمتها ويصيبهم من الضمور ما يجعل الناظر من بعيد، يظنهم أسنمتها الحقيقية، ويمضي في القصيدة يمدح أبا دُلف العجلي؛ فيقول مضيفًا وشيًا واضحًا من التشخيص: تكاد مغانيه تهشُّ عراصُها ... فتركب من شوقٍ إلى كل راكبِ يرى أقبحَ الأشياءِ أوبةَ آملٍ ... كستة يدُ المأمول حُلَّة خائبِ فالمغاني تهش سرورًا للنازلين؛ بل لكأنها تريد أن تقصد العُفاة لا أن تنتظرهم حتى يقصدوها. أما هو فلا يرى قبحًا أقبح من ثياب الخيبة والفشل. والقصيدة جميعها صور من هذا الطراز. ولا يزال يفتنُّ بهذا الخيال الرائع، الذي نتنقل في مباهجه وخاصة حين يصور الطبيعة، وقصيدته: رقَّتْ حواشي الدهرِ فهي تَمَرْمرُ ... وغدا الثَّرى في حليه يتكسَّرُ3 من فرائده في وصف الربيع، وقد جعله فاتحتها. وواضح أنه في المطلع يمثل الدهر في تلك الحواشي الزاهية المشرقة التي يتمايل فيها الثرى وكأنه عروس تتثنى في حليها وتتكَسَّر في زينتها. ويستمر فيتصور الربيع مجمعًا للشتاء والصيف؛ فمن هذين الضدين اللذين يتمثلان في طقسه وفيما أنبته الشتاء وأخرجه من نوره يتألف منظره البهيج، وما يزال حتى يقول: وندًى إذا ادَّهنَتْ به لِمَمُ الثَّرى ... خلت السَّحاب أتاه وهو مُغَدَّرُ4

_ 1 القاطب: مازج الخمر بالماء. 2 الغوارب: الأسنمة، والسرى: السير ليلًا. 3 تمرمر: تتمايل لينًا ونعمة، يتكسر: يتثنى. 4 اللمم: جمع لمة وهي الشعر المجاور شحمة الأذن. مغدر: ذو غدائر.

فهو يتصور الندى بكرياته اللؤلؤية طيبًا سقط من غدائر السحاب وشعره المسترسل على لمم الثرى ولحاه من العشب والأشجار. ونمضي معه فيقول: من كل زاهرة ترقرقُ بالندى ... فكأنها عينٌ إليك تحدرُ1 تبدو ويحجبها الجميمُ كأنها ... عذراءُ تبدو تارةً وتخفَّرُ2 حتى غدت وهداتها ونجادها ... فئتين في حُلَلِ الربيعِ تبخترُ3 وليس من شك في أن هذا تشخيص رائع. وقد ذهب أبو تمام يعمم هذا التشخيص في جميع صوره وأفكاره، ولم يقف به عند هذا الجانب من شعر الطبيعة؛ بل نشره في جميع جوانب شعره. على أن هذا الصنيع كان محور حملة، شديدة عليه، حملها النقاد المحافظون من أمثال الآمدي، وقد فتح فصلًا في كتابه "الموازنة" استعرض فيه طائفة من أبيات هذا الصِّبغ وصفها بالقبح؛ غير أن القبح عند الآمدي لا يعني قبح الصورة؛ إنما يعني -كما يقول- خروج أبي تمام على تقاليد العرب في استخدام الاستعارة؛ إذ هم يستخدمونها "فيما يقارب المشبه ويدانيه أو يشبهه في بعض أحواله أو يكون سببًا من أسبابه فتكون اللفظة المستعارة حينئذ لائقة بالشيء الذي استعيرت له وملائمة لمعناه"4. وهنا يظهر التحكم في الفن والفنانين؛ فمن قال: إن الشاعر أو الفنان ينبغي أن لا يخرج دائمًا على التقاليد؟ إن من حق الفنان أن يجدِّد وأن يقترح من الأدوات ما يريد. ولعل التبريزي كان أكثر دقة من الآمدي حين قال إن أبا تمام له مذهب خاص في الاستعارة. وما دامت المسألة مسألة مذهب؛ فقد كان يَحْسُن بالآمدي وأمثاله من النقاد المحافظين أن يخضعوا لهذا المذهب الجديد، وأن يعرفوا أن هذا نوع آخر في الاستعارة ليس هو الاستعارة المألوفة، ومن الممكن أن يأتي ناقد ويسميه اسمًا جديدًا لا يتصل بالاستعارة، وهم أنفسهم قد سموه الاستعارة المكنية على نحو

_ 1 زاهرة: زهرة. ترقرق بالندى: يضطرب فيها. تحدر، يريد تحدر الدمع وهي ناظرة إليك. 2 الحميم: نبات كثيف. تخفر: تستحي فتختفي. 3 الوهدات: السهول المنبطحة. النجاد: التلال. 4 الموازنة بين الطائيينِ ص107.

ما نعرف في كتب البلاغة العربية؛ ولكنهم عادوا فاحتكموا إلى التشبيه في بيان هذه الاستعارة، وبذلك لم ينفع الاسم المقترح وعاد الخلط والإبهام. وإنه ليحسن أن نفصل هذا الصِّبغ من التصوير عن الاستعارة ونصنع صنيع أصحاب البلاغة من الغربيين؛ إذ سموه باسم التشخيص1 "personification" وفضلوه عن المجاز "metaphor" وكان يسميه أرسططاليس قوة وضع الأشياء تحت العين2؛ إذن كنا لا نقع في عيب أبي تمام ولومه على أساس تصور القدماء ونقَّادهم لهذا الجانب من التصوير. وإنه لينبغي أن نعرف أن أبا تمام لم يحدث هذا الصبغ في اللغة العربية إحداثًا؛ فمن قبله نجد له أمثلة منتشرة في النصوص القديمة، وذكر ابن المعتز في كتابة البديع طرفًا3 منها، من ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} وقوله عز وجل: {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} ، وجاء في الشعر الجاهلي، يقول امرؤ القيس في وصف الليل: فقلتُ له لما تمطَّى بصلبه ... وأردف أعجازًا وناءَ بكَلكَلِ4 ويقول طفيل: وجعلت كورى فوق ناجية ... يقتات لحم سنامها الرَّحل5 ويقول لبيد: وغداة ريحٍ قد كشفت وقرَّة ... إذا أصبحت بيدِ الشمالِ زمامُها6

_ 1 J.F. Genung, the Working Principles of Rhetoric, p.84. 2 انظر الفقرة الحادية عشرة في كتاب "العبارة من مؤلف الخطابة" لأرسططاليس في مجموعة W.D.Ross, the Works of Aristotle,vol, m1. 3 انظر كتاب البديع طبع كراتشقوفسكي ص3 وما بعدها. 4 تمطى: امتد. صلبه: ظهره. الأعجاز: جمع عجز، وهو مؤخر الحيوان. ناء بكلكل: نهض بصدره. 5 الكور: الرَّحل. الناجية: الناقة القوية السريعة. 6 القرة: ما يصيب الإنسان من القرِّ وهو البرد. الشمال: الريح. يريد أنه كف أذى الريح والبرد بتوزيع الطعام على الفقراء.

ولكن أبا تمام أكثر منه واتخذه مذهبًا له يغمر فيه أبياته، فما تزال تتألق في صبغ عجيب والحق أن الآمدي لم يكن موفقًا هو وأضرابه من النقاد المحافظين حين وضعوا لصبغ التشخيص قاعدة وأخذوا يناقشون أبا تمام على أساسها، على أن هناك جانبًا في تصوير أبي تمام خلطوا بينه وبين صبغ التشخيص ونقصد جانب: الإغراب في التصوير، إذا كان يغرب أحيانًا فيأتي بصورة غير مألوفة كهذا البيت يقوله في بعض ممدوحيه: كأنني حين جرَّدتُ الرجاء لهُ ... غضًّا صببتُ به ماءً على الزمنِ فقد كان الآمدي يستقبح منه أن جعل الزمان كأنه صبَّ عليه ماء؛ وهي ليست صورة قبيحة، هي غريبة ولكن غرابتها لا تنفي تعبيرها عن فكرته وما احتوته من جمال، ومن ذلك قوله: حتى إذا اسودَّ الزمان توضَّحوا ... فيهِ فغودر وهو فيهم أبلقُ1 فقد كان الآمدي ينكر هذه الصورة التي جعل فيها الزمان أبلق، كما كان ينكر كبد المعروف في قوله: لدى ملكٍ من أيكةِ الجودِ لم يزلْ ... على كبد المعروف من فعله بردُ وأنكر إنكارًا شديدًا أن يجعل للشتاء أخدعًا في قوله يصور انتصار أبي سعيد الثغري في بعض معاركه مع الروم وقد تراكمت الثلوج: فضربتَ الشتاءَ في أخدعيهِ ... ضربةً غادرته قودًا رَكُوبا2 والبيت بدون شك طريف؛ إذ جعل أبو تمام الشتاء بوعوثه ثلوجه فرسًا جامِحًا، وجعل انتصار أبي سعيد فيه كأنه ضربة سدِّدت إليه، فقضت على جموحه وشراسته وجعلته سهل القيادة ذلولًا. ولكن الآمدي لا يعجب بالبيت؛ لأن فيه الاستعارة المكنية التي يرى فيها خروجًا على عمود الشعر العربي، وإذا رجعنا إلى البيت في الديوان وجدنا معه أبياتًا رائعة تكمل صور هذا الانتصار الذي رفع به

_ 1 توضحوا: بانوا. والقود: الذلول 2 الأخدع: عرق في صفحة العنق،

أبو سعيد رأس الدولة العباسية في صراعها مع دولة الروم الشرقية، وهي تجري على هذا النمط البديع. لقد انصعت والشتاء له وجـ ... ـه يراه الرجال جهمًا قطوبا1 طاعنًا منحر الشمال متيحًا ... لبلاد العدو موتًا جنوبا في ليالٍ تكاد تبقى بخد الشـ ... مس من ريحها البليل شحوبا فضربت الشتاء في أخدعيه ... ضربة غادرته قودًا ركوبا لو أصخنا من بعدها لسمعنا ... لقلوب الأيام منك وجيبا2 وهي قطعة بديعة، تصور أعداء أبي سعيد في الشمال ومعهم الثلوج، وهو يقتحم عليهم من الجنوب معاقلهم فيحطمها حطمًا. والحق أن هذه الصورة جميعًا التي وقف عندها الآمدي3 ليست قبيحة؛ إنما كل ما يمكن أن يقال إن طائفة منها غير مألوفة، وأن أبا تمام قد ينسيه تعمقه في مذهبه وشغفه بالصور والتصوير ما قد يكون في بعض رسومه من صور غريبة؛ وهي إن دلت على شيء؛ فإنها تدل على أنه كان يعجب إعجابًا شديدًا بما يتخذه في حرفته من أدوات فنية جديدة، وهي جميعها أدوات كان يريد بها أن يزخرف الفن ويزينه؛ غير أنه كان يقع من حين إلى حين على زخرف غريب غير مألوف فيتشبث به خصومه ويبالغون في الإزراء عليه. ومن المحقق أنه كان في جوانب كثيرة من هذه الصور الغريبة يحاول أن يجدد وأن يلائم بين العصر وأفكار الشعر كما نرى في مثل قوله: سلوتُ إن كنتُ أدري ما تقول إذن ... جعلت أنملة الأحزانِ في أذني فتلك أنملة غريبة غرابة تلك الصورة؛ إذ يقول: أتاني من الرُّكبان ظنٌّ ظننته ... لففتُ له رأسي حياءً من المجدِ

_ 1 انصعت: رجعت مسرعًا، والجهم القطوب: العبوس. 2 أصخنا: أصغينا. الوجيب: الخفقان والارتجاف. 3 الموازنة ص107 وما بعدها.

فهذا الغطاء لوجهه من الخجل غريب! ولكن من يقول بأن الشاعر ينبغي أن يقف دائمًا عند الذوق القديم ولا يكون رائدًا لبدع جديد. ومهما يكن فقد كان أبو تمام يحاول أن يبتكر في الصور وأن يغرب فيها، وما فائدة الرقي العقلي الحديث الذي أصابه الشاعر العباسي في القرن الثالث إن لم يستوعب في شعره مثل هذه الصورة الجديدة، ولعل ذلك أهم ما يفرق بين فنه في التصوير وفن أستاذه مسلم، كما يفرق بين فنه وفن ابن الرومي؛ فإن التصوير لم يستغرقهما على نحو استغراقه لأبي تمام، وإن الإنسان ليخيل إليه كأنما أصبح الشعر عنده ضربًا من لوحات الرسامين؛ فهو معني فيه دائمًا بالتصوير، مشغوف بكل خيال نادر طريف.

استخدام أبي تمام لالوان تصنيع جديدة

5- استخدامُ أبي تمامٍ لألوانِ تصنيعٍ جديدةٍ: وأبو تمام لا يقف بفنه عند هذه الألوان القديمة من التصنيع التي يبتهج بها الحس؛ بل نراه ينفذ إلى ألوان جديدة يبتهج بها العقل، وهي ألوان قاتمة، كانت تتسرب إليه من الفلسفة والثقافة العميقة. وفي هذه الألوان القاتمة الجديدة تستقر مهارته إذا قسناه بغيره من الشعراء الذين سبقوه أو عاصروه؛ فقد استطاع أن يستوعب الفلسفة والثقافة وأن يحولهما إلى فن وشعر؛ إذ تتعلق بهما ألوان التصنيع السابقة، أو بعبارة أدق يتعلقان هما بتلك الألوان؛ فإذا كل لون منها يعبر عن فكر عميق؛ فالطباق والجناس والتصوير والمشاكلة، كل ذلك يزدوج بالفلسفة وألوان الثقافة القاتمة، فيجلِّله الغموض في كثير من جوانبه وأجزائه ولكن أي غموض؟ إنه الغموض الفني الذي يشبه تنفس الفجر، فالأفكار والصور وكل ما يعتمد عليه أبو تمام من ألوان يلتف في ثياب من هذا الغموض، بل في ألوان قاتمة من هذه الظلال التي لا تحجب النور ولكن ترسله بقدر، فيضفي على كلما يمسه حسنًا وجمالًا. وقد وقف العباسيون طويلًا عند هذا الجانب من الغموض الفني عند

أبي تمام وتحدثوا عما فيه من صعوبة والتواء ولم يتحدثوا عما فيه من بدع وجمال. يقول الآمدي عنه: "إنه ينسب إلى غموض المعاني ودقتها وكثرة ما يورده مما يحتاج إلى استنباط وشرح واستخراج"1. يروي الرواة أن أعرابيا سمع قصيدته: "طلل الجميع لقد عفوت حميدًا"1؛ فقال: إن في هذه القصيدة أشياء أفهمها وأشياء لا أفهمها؛ فإما أن يكون قائلها أشعر الناس، وإما أن يكون جميع الناس أشعر منه2. وليس من شك في أن هذا الأعرابي كان صاحب حس مرهف دقيق، ويقص الآمدي أن ابن الأعرابي اللغوي المعروف سمع شعره فقال: "إن كان هذا شعرًا فكلام العرب باطل"3. ولعل من الطريف أن أبا العميثل سمعه ينشد إحدى قصائده فقال له: لماذا لا تقول ما يفهم؛ فأجابه على البديهة، وأنت لماذا لا تفهم ما يقال4، وكأني بأبي تمام يعلن عن اتجاه جديد في الشعر العربي فقد تطور هذا الشعر وتطور معه صاحبه، ولم يعد عملا شعبيًّا بل أصبح عملًا عقليًّا راقيًا؛ فالشاعر ليس من واجبه أن ينزل إلى الجمهور بل يجب على الجمهور أن يصعد إليه. وهذه الفكرة فكرة ارتفاع الشعر عن الجمهور نراها عند أبي تمام لأول مرة في تاريخ الشعر العربي، وهي إحدى الأفكار المهمة التي تثار في النقد الحديث فهل يحسن بالشاعر أن يسير وراء الجمهور أو يحسن به أن يصعد بالجمهور إلى آفاقه العليا من الفلسفة والثقافة والعمق والدقة؟ إن الشعر يكون في أول أمره شعبيًا ثم يظهر النثر ويرقى الفكر ويصبح ترفًا؛ فلا يكون لعامة الناس إنما يكون لخاصتهم من المثقفين ثقافة عميقة. وهذا ما حدث في العصر العباسي عند أبي تمام؛ فقد أصبح الشعر ترفًا وأصبح الشاعر لا يقصد إليه إلا ليرضي الطبقة المثقفة الممتازة، لا ليعبر عن شعور الجمهور كما كان الشأن في القديم. وإذن فليس من حق ناقد غير مثقف بالثقافة الحديثة أن يطلب إلى أبي تمام النزول من هذا الأفق الذي اختاره لنفسه. ليس ذلك من حق أبي العميثل ولا من حق اللغويين أمثال ابن الأعرابي؛ إنما هو من حق المثقفين في عصره بالثقافة الحديثة الذين

_ 1 الموازنة: للآمدي ص2. 2 أخبار أبي تمام: للصولي ص245. 3 الموازنة: للآمدي ص4. 4 معاهد التنصيص 1/ 15

يسميهم الآمدي أصحاب المعاني والفلسفة، وهل يجوز في هذا العصر الذي نعيش فيه أن نحكِّم في شاعر مثقف بالثقافة الحديثة ناقدًا لم يتثقف بهذه الثقافة ولم يأخذ بحظ منها، كما هو الشأن عند أبي العميثل وابن الأعرابي بالقياس إلى أبي تمام؟ إننا لا نشك في أن مثل هذا الناقد لا يصلح للحكم على شاعر يختلف عنه في المزاج والثقافة. ونحن لا نصل إلى القرن الثالث حتى يختل التوازن بين النقاد والشعراء؛ فقد كان أكثر النقاد من الرواة واللغويين الذين لا يتصلون بالثقافة الحديثة، فكرهوا الحديث على هذا الأساس وأحبوا ما اتصل بعمود الشعر العربي وآثروه على ما يتصل بعمود الفلسفة والثقافة الحديثة، ونحن لا نستجيب لحكم هذه الطائفة على أبي تمام بل نحن نقف مع أنصاره من أصحاب المعاني والفلسفة؛ فإن من يطلب اللذة العقلية في الفن لا بد أن يعجب بهذا الشاعر المتفلسف الذي ما يزال يستهدف للخواطر الباطنة والمعاني العويصة؛ فإذا هو يتعثر في بعض الأساليب والتراكيب، وإذ هو ينحرف عن عمود الشعر المألوف ولكنه انحراف محبب إلى نفوسنا رغم لوم اللائمين ونقد الناقدين. ومهما يكن فإن شعر أبي تمام يستحوذ على صعوبات كثيرة؛ إذ نراه يمتلئ بكثير من الأسرار الغامضة التي تجعل الإنسان يخرج عن نطاق نفسه ويسير مع الشاعر كما يريد له في هذا العالم الحالم. أما ما فيه من صعوبة والتواء فذلك طبيعي عند شاعر كان يعتمد في شعره على الفلسفة والفكر الدقيق، وهل يمكن لشاعر يلعب العمق والخفاء في شعره وتلعب الفلسفة والثقافة في فنه أن يعبر تعبيرًا مألوفًا؟ إنه يبحث ويجرِّب، وكل عبارة عنده إنما هي بحث وتجربة، وقد يخطئ أحيانًا إنه يبتكر أفكارًا وصورًا جديدة؛ ولكنه يحس دائمًا أن اللغة لا تستطيع أن تؤدي ما يريد، وما اللغة؟ إنها ليست إلا رموزًا غامضة، وإن نظرية اللغة لتحتل حيزًا واسعًا في دراسات النقد الحديث، وقد كتب "ريتشاردز" و"أوجدن" كتابًا قيمًا في هذه النظرية سَمَّياه معنى المعنى"the Meaning of Meaning"

ونحن نرى هذا الكتاب يقرر منذ الفصل الأول أن الكلمات ليست إلا رموزًا نؤدي بها ما في أنفسنا، وهي رموز ناقصة لا يستطيع الإنسان أن يضبط مدلولاتها أو يحددها إلا ما اتصل منها بالأعلام وأسماء الأماكن، أما ما يتصل منها بالمعنويات والعواطف؛ فإنه غير مضبوط ولا محدود. ويعرض الكتاب لقوة الكلمات في الرمز وما يسودها من غموض وإبهام وما قام به الفلاسفة والسوفسطائيون من ضبط مدلولاتها وما صنعه أرسططاليس في منطقه من ذلك الضبط. ويتحدث الكتاب عن أهمية الشروح والتفاسير في فهم الشعر وأنها دليل على أن معانيه وضعت في رموز. وما يزال الكتاب يبحث بحثًا واسعًا طريفًا في صعوبة اللغة وصعوبة التعبير بها وما يكتنف الألفاظ من تحوير في استعمالاتها المختلفة عند الأدباء؛ بحيث يمكن أن يقال إن للكلمات وظيفة لغوية أو معجمية، ولكن هذه الوظيفة تضاف إليها وظائف أخرى حسب رغبات الأدباء والشعراء وما يريدونه في عباراتهم بتلك الرموز القاصرة، ومن أجل ذلك كانوا يحرفون في مدلولاتها تحريفًا واسعًا حتى يستطيعوا أن يعبروا عن المعاني التي تختلج في نفوسهم، وهي معانٍ أوسع من تلك الأدوات اللغوية التي اصطلحنا عليها؛ بل هي أصعب من أن تؤديها، ولذلك كان من حقهم أن يحوروا فيها حسب إرادتهم الفنية. والكتاب يفيض بأبحاث واسعة في صعوبة اللغة والتعبير الفني. وإنما سقنا هذا الكلام أمام جانب الغموض والمعاني العويصة في شعر أبي تمام لأن هذا الجانب آثار ضجة واسعة حول شعره وفنه في النقد العباسي، وهي ضجة تشبه من بعض الوجوه تلك الضجة التي شبَّت في فرنسا حول مذهب الرمزيين حين تفرغ عن مذهب البرناسيين"les parnassiens"، فكما كان هؤلاء يعنون بالموسيقى والجمال المادي ويعيبون على الرمزيين غموضهم، كذلك كان كثير من النقاد والأدباء في العراق ينحرفون عن أبي تمام وغموضه في فنه، ويظهرون ميلًا إلى الجمال الصوتي عند البحتري وأمثاله، وكما كان الرمزيون حديث الحي اللاتيني والمنتديات الأدبية في أواخر القرن التاسع عشر، كذلك كان أبو تمام وفنه حديث المنتديات في بغداد ومجالس الأمراء والوزراء.

وقد أحدث هذا الصراع في فرنسا بين الرمزيين وغيرهم موجة واسعة من النقد، وظهرت كتب وأشعار تنعي طريقتهم، كما نجد عند فكير "Vicaire" الشاعر الفرنسي الريفي1 وغيره. وحدث مثل ذلك في العراق إزاء أبي تمام؛ إذ نرى ابن المعتز الشاعر يكتب رسالة في مساويه2، واتسعت هذه الموجة من النقد في فرنسا، ولا تزال آثارها إلى اليوم، كما اتسعت في العصر العباسي عند العرب، ووجد لها أنصار ومعارضون كثيرون، وكتبت حولها كتب متعددة؛ فكتب الصولي وكتب الآمدي وكتب غيرهما. وكان ذلك حريًا أن ينقل الشعر العربي نقلة واسعة؛ غير أن خصوم أبي تمام ظلوا يزعمون أنه لا يضيف جديدًا إلى الفن إلا صعوبة وعسرًا في التعبير، وتلوَّموه من أجل ذلك كثيرًا ولم يلتفتوا إلى أنه كان يحوِّل في مجرى الشعر العربي وفي منابعه؛ فليست المسألة مسألة صعوبة أو غرابة في التعبير والتصوير كما ظن الآمدي وأمثاله؛ إنما هي مسألة اتجاه جديد في الشعر. ونفس أنصار أبي تمام لم يستطيعوا وصف فنه على نحو ما نجد في النقد الفرنسي الحديث إزاء الرمزيين، ولذلك ظلت مدرستهم قائمة في فرنسا، وتعدد أفرادها من أمثال "Verlaine" ومالارمية "Mallarme" كما تعدد تلامذتها، أما أبو تمام فلم ينهض به أحد إلا نهوضًا قاصرًا على نحو ما رأينا عند البحتري من جهة، وعلى نحو ما سنرى عند ابن المعتز من جهة أخرى. ومن عيب النقد العربي أنه لم يكن يتصور فكرة المذاهب والمدارس كما نتصورها في عصرنا الحديث؛ ولذلك كنا نجد دائمًا عند أصحابه خلطًا في فهم المذاهب والاتجاهات الفنية، وكان من الصعب أن ينجح اتجاه فني جديد، وأكبر الظن أن ذلك كان من أهم الأسباب التي حالت دون التجديد الواسع في الشعر العربي؛ فهذا أبو تمام يدخل الغموض والدقة والفلسفة في الفن، فلا يناقشه النقاد في أصول هذا العمل؛ إنما يناقشونه في أسلوب ملتوٍ أو عبارة غريبة وصورة غير

_ 1 D.mornet, Histoire de la Lit- terature et de la Pensee Fran,caise Contemporaine, p. i98. 2 الموشح للمرزباني ص307.

مألوفة، يناقشونه في ظاهر العمل ويتركون باطنه، وما ينساب فيه من تلك الينابيع الفلسفية والثقافية التي تلون شعره بألوان خاصة. على أن وقوف النقاد العباسيين عند جانب الصعوبة والالتواء في هذا الغموض الفني جعلهم لا يتلفتون إلى جانب الجمال فيه؛ إذ كان أبو تمام يستخدم الثقافة والفلسفة في شعره استخدامًا فنيًّا واسعًا. يحاول بهما أن يحدث لنفسه أسلوبًا متموِّجًا بالفكر زاهيًا بالعقل شديد الحركة والحياة. ومن الصعب أن نفسر ما في هذا الأسلوب من تموج عقلي؛ فإن أبا تمام لا يقف به عند جانب معين من ديوانه أو أبياته، فهو ينشره فيها جميعًا كما ينشر الربيع خضرته على جميع النباتات والأشجار، ونحن لا نبالغ إذا قلنا إن شعر أبي تمام خير مثل تصوِّر ربيع الفكر العربي ومقدرته على الازدهار والإثمار، وكما أن الربيع لا يحجز بقطع خاصة من الرياض، كذلك هذا الضرب من التلوين العقلي عند أبي تمام وما يصحبه من ضباب وغموض، فإنه يعم به جميع أشعاره حتى ليخيل إلى الإنسان كأنما فارق التفكير الفني عند العرب هيئاته القديمة المعروفة إلى هيئات جديدة، ما يزال يغيِّر فيها هذا التلوين العقلي الواسع الذي يثبته أبو تمام في جميع أطراف أسلوبه. ونحن لا ننكر أن هذا الجانب وما صحبه من غموض أحدث كثيرًا من العقد في رُقَع النسيج العام لشعر أبي تمام؛ ولكنها عقد زاهية تدخل في مواد النسيج فتكسبه عمقًا وبعدًا في الفكر والخيال. وقد أحدثت هذه العقد مظهرين عامين في شعره لا نشك في طرافتهما ولا في جمالهما، أما أولهما: فدقة التفكير وعمق التصوير، وقد راح ينشرهما في كل شقٍّ من شعره كأن يقول في وصف روض: ومعرَّس للغيث تخفق فوقه ... رايات كل دجنة وطفاء1

_ 1 المعرس: المنزل ينزل به المرتحلون في آخر الليل. الدجنة هنا: السحابة المظلمة. وطفاء: ذات أهداف، ويقصد بها خيوط المطر، ويريد بالرايات البرق.

نشرت حدائقه فصرن مآلفًا ... لطرائف الأنواءِ والأنداءِ1 فسقاه مسك الطلِّ كافور الندى ... وانحلَّ فيه خيطُ كل سماءِ فقد عبَّر عن السحب التي يتلألأ البرق في أطرافها بالرايات المطرزة التي تخفق بالريح؛ ولكن ليس هذا ما يلفتنا في الأبيات إنما يلفتنا الشطر الأول من البيت الثالث؛ فقد أبعد على نفسه فيه؛ إذ ذهب يقول: إن مسك الطل يسقي الروض كافور الندى، وهي صورة معقدة، فماذا يريد أبو تمام بمسك الطلِّ؟ وماذا يريد بكافور الندى؟ أما مسك الطل فإنه يريد به الرائحة العطرية التي تعبق من الروض إثر الطل والمطر الخفيف، وأما كافور الندى فإنه ذلك الرشاش الذي تعقد قطراته بيضاء على أوراق الروض كالكافور، وليس من شك في أن هذه صورة مركبة؛ ولكنها تعبق بالمسك والطيب، وهذا التلوين العقلي الغريب الذي يتضوع به ديوان أبي تمام كما يتضوع الزهر بشذاه. ويقول النقاد من أمثال الآمدي إن شعر أبي تمام غامض، ولكن أي غموض؟ إنه غموض أوقات السحر التي كان يعجب بها أبو تمام؛ وإنه لتنحلّ فيها خيوط من الضياء على حد تعبيره، وهل هناك أجمل من تصويره لسقوط المطر بتلك الخيوط التي تنحل في الروض؟! إنه تصوير طريف قلما يقع في ذهن شاعر إلا هذا الذي يستوعب الثقافة والفلسفة وتتحولان عنده إلى طرائف من العمق في التفكير والتصوير. وكان يقابل هذا المظهر من دقة التفكير وبعد التصوير مظهر آخر من الغموض الزاهي انتشر في شعره، ونقصد ما نجده في أبياته من وفرة الاحتمالات؛ إذ يكثر فيها التأويل والشرح لما تمتاز به من عمق وإغراق في التفكير والخيال، وتتعدد الشروح والتأويلات، وتخرج من ذلك صور وتفسيرات على وجوه شتى. وقد عُني القدماء بهذا الجانب من الغموض عند أبي تمام، وكتب المرزوقي فيه بحثًا طريفًا سماه: المشكل، عرض فيه للمشكل من أبياته، وراح يذكر ما يمكن أن توجَّه به من تأويلات طريفة؛ فمن ذلك قوله:

_ 1الأنواء: الأمطار.

ولهتْ فأظلمَ كلُّ شيء دونها ... وأنارَ منها كلُّ شيءٍ مظلمِ يقول المرزوقي: "لما جزعت لفراقها اشتد جزعها علىَّ فأظلم كل شيء في عيني سواها ومن دونها، وبان لي ووضح من مكتوم أمرها ومكنون ودها لي ما كان مغيبًا عني ومظلمًا علي. ويجوز أن يكون المعنى: ارتاعت لما أحست بالفراق وتولَّهت فألقت قناعها فأظلم كل شيء دونها لسواد شعرها فأنار كل شيء مظلم من بياض وجهها، والأول أوضح وأجود"1، ويقول التبريزي: "وقد يؤدي لفظ الطائي معنى آخر وهو أن الأشياء أظلمت دونها أي غيرها. وقوله: وأنار منها كل شيء مظلم، أي: من حسنها تضيء الأشياء المظلمة"2 وهذه الوفرة من الاحتمالات كما تأتى من دقة المعنى وبُعده تأتي أيضًا من ثقافته، ولعل ما يوضح ذلك من بعض الوجوه قوله: طال إنكاري البياض ولو عمِّـ ... ـرت شيئًا أنكرت لونَ السوادِ يقول المرزوقي: "يحتمل هذا البيت وجوهًا: أحدها: ما قاله الأعرابي لما استُوصف حاله؛ فقال كنت أنكر الشعرة البيضاء فقد صرت الآن أنكر الشعرة السوداء، والثاني: إن عمِّرت شيئًاأسودَّ من لوني وجلدي ما كان مبيضًا فأنكرته، وهذا كما قال العُريان بن الهيثم لما سأله عبد الملك عن حاله فقال أبيض مني ما كنت أحب أن يسود وأسودَّ مني ما كنت أحب أن يبيض ... في كلام طويل، ثم قال العريان. وكنت شبابي أبيض اللون زاهرًا ... فصرت بُعيدَ الشيبِ أسود حالكا والثالث: إن عمِّرت شيئًا أنست بالبياض وسكنت إليه حتى أكون منكرًا للسواد إنكاري الساعة للبياض"3. والحق أن شعر أبي تمام شعر شخص مثقف ثقافة واسعة ما يزال يتسرب منها ظلال من الغموض ولكنها ظلال زاهية؛ إذ كان أبو تمام يخرج ما فيها من

_ 1 المشكل: للمرزوقي "مصورة" بمكتبة جامعة القاهرة ص41. 2 التبريزي على أبي تمام 3/ 248. 3 المشكل للمرزوقي ص21. وانظر البيان والتَّبَيُّن1/ 399، والتبريزي 1/ 360.

قتمة ويحولها إلى ما يشبه الألوان الزاهية. ليس غموض أبي تمام غموضًا مجلَّلًا بالسواد، بل لقد كان يزيل ما فيه من سواد؛ فإذا هو يتشح بألوان فنية زاهية على تلك الشاكلة التي نرى فيها السحاب القاتم يصبغ بحمرة الشفق فتلتمع ألوان زاهية في كُفَفِه وحواشيه.

المزج بين ألوان التصنيع القديمة والجديدة

6- المزجُ بين ألوانِ التصنيعِ القديمةِ والجديدةِ: كان أبو تمام يعتمد في شعره على الغموض وإن تغشاه سحب زاهية من الفلسفة والثقافة، وإن الإنسان ليشعر شعورًا واضحًا في أثناء قراءة ديوانه بأن الحواجز التي كانت تفصل بين الشعر العربي من جهة وبين الثقافة والفلسفة من جهة أخرى قد رفعت، ولم يعد هناك ما يعوق التزاوج والاتصال الشديد بين التفكير الفني والتفكير الفلسفي والثقافي. وإن الإنسان ليحار إزاء هذه الموهبة النادرة في المزج بين التفكير الثقافي والتفكير الفني؛ فكل منهما يغمس في ليقة الآخر ويصبغ بأصباغه؛ فيتغير عن شِياته المعروفة وهيئاته المألوفة. ونحن نستطيع أن نلاحظ هذا الصنيع الغريب من المزج والاتحاد في جانبين متقابلين، إذ نرى الأفكار الدقيقة تدور في وعاء التصوير فيحدث ضرب من الرمز البديع كما نرى الطباق يدور في وعاء الفلسفة فيحدث ضرب من الطباق الفلسفي الطريف. الرَّمْزُ: أما الرمز فولَّده تفكيره العميق؛ إذ كان يلتفُّ لون التصوير على هذا الجانب العقلي في شعره، أو بعبارة أدق الجانب الفلسفي، فتحدث تلك الرمزية الواسعة التي يلاحظها كل من يقرأ في أشعاره. وكان يستعين على أحكامها بصبغين مهمين من أصباغ التصوير، وهما: التجسيم والتدبيج؛ إذ نراه يجسم معانيه العميقة في صور حسية لا يلبث أن يدبجها بألوان مادية. وانظر إلى قوله في بعض ممدوحيه: أبديت لي عن جلدة الماء الذي ... قد كنت أعهده كثيرَ الطُّحْلُبِ

ووردتَّ بي بحبوحة الوادي ولو ... خلَّيتني لوقفت عند الْمِذنَبِ1 يقول له: إنك صفَّيت لي العطاء وكنت أراه من غيرك كدرًا وعسرًا؛ ولكن انظر كيف رمز لهذه الفكرة، فإنك تراه يبدأ فيجعل للماء جلدة، كما قالوا: جلدة السماء وأديم الأرض، ثم يستمر فيعبر عن الكدر والعسر بركوب الطحلب للماء، ويصور نفسه مع ممدوحه في بحبوحة الوادي وقطع الرياض؛ بينما غيره يقف به عند المذنب فلا يُنيله إلا الوَشل القليل. وعم هذا التجسيم في شعر أبي تمام بحيث لا تخلو منه صفحة من صفحات ديوانه كأن يقول لابن أبي دؤاد: يا أبا عبد الله أوْرَيتَ زندًا ... في يدي كان دائمَ الإصلادِ2 أنت جبت الظلام عن سبل الآمال ... إذ ضلَّ كلُّ هاد وحادِ فقد عبر عن نُجْح مطلبه عنده وإخفاقه عند غيره بهذا الزناد الذي أوراه في يده، واستمر فقال: إنه كشف الظلام عن طريق الآمال؛ بينما ضل الحداة والروَّاد هذه الطرق. وكما كان أبو تمام يستخدم التجسيم للرمز عن أفكاره البعيدة كان يستخدم التدبيج، ومرت بنا في الفصل الأول من هذا الكتاب صور منه عند زهير؛ إذ ذكر في معلقته الأنماط والسدول الحمراء، كما ذكر المياه الزرقاء وفتات العهن الذي يشبه حَبَّ الفنا، وهي جميعها صور كان زهير يعطيها الألوان الحسية حتى تثبت في نفوسنا؛ غير أنها كانت تستعمل عنده في حال ساذجة، فهي لا تعبر عن فكر إنما تعبر عن حس وواقع، أما عند أبي تمام فإنها تتحول لتعبر عن فكر بعيد على نمط ما نراه يقول في رثاء ابن حميد الطوسي وقد قتل في الحرب: تردَّى ثيابَ الموتِ حمرًا فما دجى ... لها الليلُ إلا وهي من سندسٍ خضرِ3 فقد جنح في التدبيج يستمد منه ما يريد من الرمز عن أفكاره، ألا تراه

_ 1 بحبوحة الوادي: أواسطه. المذنب: الساقية. 2 أورى الزند: أظهر ناره. الإصلاد: أن لا يوري الزند نارًا. 3 دجى: أظلم.

يعبر عن قتل ابن حُمَيد بتلك الثياب الحمراء التي غرقت في أصباغ الدم؛ حتى إذا دجى الليل وأظلم القبر أبدله منها ثيابًا سندسية خضراء ليعبر عن رضوان ربه. واقرأ هذا البيت يقوله في الحرب أيضًا حين فتح العرب لعمورية: إن الحمامين من بيضٍ ومن سمر ... دلوا الحياتينِ من ماءٍ ومن عشبِ فقد جعل للحِمام أو للموت لونين يختلفان باختلاف السمرة والبياض في ألوان القنا والسيوف، واستمر فعبر عن الحياة بلونين يقابلان هذين اللونين السابقين، وهما لونا الماء والعشب، وكل ذلك ليرمز عن أسباب الحياة والموت، وانظر إليه يقول في انتصار بعض القواد على بابك بأذربيجان: جلوتَ الدُّجى عن أذربيجان بعدما ... تردَّت بلون كالغمامة أربدِ1 وكانت وليس الصبح فيها بأبيض ... فأمست وليس الليلُ فيها بأسودِ فإنك تراه يعتمد على التدبيج في التعبير عن أحوال أذربيجان الكئيبة والسعيدة، وانظر إليه يقول: أما وأبى الرَّجاء لقد ركبنا ... مطايا الدهر من بيضٍ وسودِ فقد استخدم التدبيج للرمز عن حوادث الدهر: النحس منها والسعيد بتصويره لتلك المطايا من بيض وسود. وعلى هذا النمط نرى كثيرًا من جوانب ديوان أبي تمام يذهب هذا المذهب الرمزي في التعبير عن المعاني والأفكار بالصور والأخيلة الحسية والألوان المادية. وكما كان أبو تمام يستخدم التصوير في التعبير عن أفكاره العميقة، كذلك كان يستخدم الطباق والجناس والمشاكلة. ونحن نلاحظ من طرف آخر أن ألوان التصنيع القديمة كانت تمر في ظلال الثقافة والفلسفة؛ فإذا هي تتحول عن شياتها وهيئاتها، وكما أن اللون يتحول عن شكله حين يمر في ضوء صناعي أحمر أو أزرق أو أخضر، كذلك اللون من التصوير والجناس والمشاكلة والطباق عند أبي تمام حين يمر في فلسفته وثقافته العميقة. ولعل خير لون قديم يفسر ذلك هو لون الطباق؛ فقد مر في أصباغ قاتمة من الفلسفة أحالته إلى لون

_ 1 أربد: قاتم.

جديد مخالف للطباق المألوف، واقرأ هذا البيت: هي البدرُ يغنيها تودُّد وجهِهَا ... إلى كلِّ من لاقت وإن لم تودَّدِ فإنك ترى طباقًا فلسفيًّا جديدًا ما يزال أبو تمام يستخرج منه صورًا نادرة، وانظر إلى صاحبته فهي تودُّ من لا تود، وهو يثبت هذا التضاد الغريب بتلك المفارقة الطريفة؛ فوجهها يتودد بسحره وجماله، وإن رفضت هي هذا التودد وأظهرت الإباء والامتناع، أرأيت إلى هذا الطباق؟ أنه من نوع آخر غير طباق الذاكرة الذي رأيناه عند البحتري والذي يعتمد على العبث اللفظي حين نذكر الوصل فيأتي الهجر، والليل فيأتي النهار. نَوافِرُ الأَضْدَادِ: لم يكن أبو تمام يستخدم الطباق استخدامًا ساذجًا بسيطًا؛ بل كان يستخدمه استخدامًا معقدًا؛ إذ يلوِّنه بأصباغ فلسفية قاتمة ما تزال تغير في إطاره بل في داخله تغيرات تنفذ به إلى لون جديد مخالف للطباق؛ فإذا هو من طراز آخر غير معروف، طراز فلسفي إن صح هذا التعبير، ففيه تناقض وفيه تضاد وفيه هذه الصور الغريبة. وكان أبو تمام يستخدمه قاصدًا إليه عامدًا، وكان يسميه: نوافر الأضداد، يقول في مديح ابن أبي دؤاد: قد غرستم غرس المودة والشَّحْـ ... ـناءِ في قلب كل قارٍ وبادي1 أبغضوا عزَّكم وودوا نداكم ... فقروكم من بغْضَة ووِدادِ2 لا عدمتم غريب مجدٍ رَبقتم ... في عراه نوافر الأضداد"3 قال المرزوقي: "يعني بنوافر الأضداد: ما قاله في البيت الثاني: الناس يحسدونهم لشرفهم ويحبونهم لجودهم"4؛ فهم يأتون بوصفين متضادين ويجمعون بين متناقضين. وتعلقت هذه النوافر من الأضداد بعُرى تفكير أبي تمام وتصويره، ولم

_ 1القاري: نازل القرى. 2 قروكم: أطعموكم. 3ربقتم: شددتم. 4 التبريزي على أبي تمام 1/ 371.

تَخْلُ منها صفحة من صفحات ديوانه، ويظهر أنه لم يكن يأتي بها عن فلسفة فقط؛ بل كان يأتي بها أيضًا عن مزاج، ولعله من أجل ذلك كان يعجب بجهم بن صفوان؛ فقد ذكره مرارًا كثيرة في شعره. وكان جهم معروفًا بالتناقض في فكرته عن عمل الإنسان، إذ يمنع أن يكون له اختيار وقدرة على ما أُمر به فهو مجبرٌ ومع ذلك يجعله مكلفًا يعاقب على ما يفعل، وأشار أبو تمام إلى ذلك في قوله لبعض ممدوحيه: عمريٌّ عظم الدينِ جَهميُّ النَّدى ... ينفي القُوى ويثبِّت التكليفا يقول التبريزي: "أي هو في دينه وعفَّته مثل عمرو بن عبيد وعلى مذهبه، وفي جوده وسخائه على مذهب جهم بن صفوان؛ لأنه ينفي أن يكون للعبد قدرة على ما هو مأمور به ومع ذلك يجعله مكلفًا أي هو مجبر على البذل فلا يمكنه تركه"1. وانظر كيف استغل هذا المذهب من الجبر استغلالًا فنيًّا واتخذه ليعبر عن فكرة عنده تعبيرًا من طراز غير مألوف. وأراد مرة أخرى أن يصف الخمر وأن يُغرب في وصفه فلم يجد إلا مذهب جهم وإلا عقدة أخرى من عقده، فذهب يقول: جهميةُ الأوصاف إلا أنهم ... قد لقبوها جوهر الأشياءِ فهي جهمية أي ليس لها اسم ومع ذلك تلقب بجوهر الأشياء، وأصل الفكرة أن جهم بن صفوان "كان يمتنع من أن يسمي الله باسم، ويعتقد أن الاسم إنما يطلق على الجواهر والأعراض، فيقول أبو تمام رقَّت هذه الخمرة حتى كادت تخرج من أن تكون عَرَضًا أو جوهرًا وأن تسمى شيئًا إلا أنها لفخامة شأنها لقبت جوهر الأشياء"2؛ فهي مسماة وغير مسماة في الوقت نفسه. وكان أبو تمام يرى هذه الأضداد مظهرًا من المظاهر الأساسية في الحياة، يقول في بعض أشعاره: فلأذربيجان اختيالٌ بعدما ... كانت معرَّس نكبة ونكالِ سَمُجت ونبَّهنا على استسماجها ... ما حولها من نضرةٍ وجمالِ

_ 1 التبريزي 2/ 387. 2 التبريزي 1/ 34 وما بعدها.

ومن يدرس أبا تمام يرى هذه الأضداد متصلة بأخلاقه فهو تارة كريم جدًّا وتارة بخيل جدًّا، وهو تارة متدين مسرف في تدينه وتارة ملحد مسرف في إلحاده. يقول صاحب مروج الذهب: "كان أبو تمام ماجنًا خليعًا في بعض أحواله، وربما أداه ذلك إلى ترك موجبات فرضه تماجنًا لا اعتقادًا. قال المبرد وهو مع هذا الذي يقول: وأحقُّ الأنام أن يقضي الدَّيـ ... ـن امرؤٌ كان للإله غريما وهذا قول مباين لهذا الفعل1. وبينما نرى في ديوانه وصفًا لحِجَّة حجَّها، إذا بهم يروون أنه ظهر منه في أثناء زيارته لابن رجاء بفارس ما جعل هذا الوالي يرتاب في قيامه بفروض الدين فسأله عن ذلك؛ فأبدى أنه يشك في قيمة أداء هذه الفروض2. وكل ذلك يدل على أن عقل أبي تمام كان مفعمًا بنوافر الأضداد، وقد راح يستخدمها في أبياته استخدامًا فنيًّا واسعًا؛ فإذا هي تتحول إلى لون زاهٍ من ألوان الفن الزاهية. واقرأ هذا البيت يقول في بعض ممدوحيه: صيغت له شيمةٌ غرَّاء من ذهب ... لكنها أهلكُ الأشياءِ للذَّهبِ فستجدك أما تفكير جديد، شيء يهلك نفسه، بل هو ذهب يهلك نفسه هذا الإهلاك الغريب الذي يستخرجه أبو تمام من نوافر الأضداد؛ فإذا هو يعبر عن ممدوحه بصورة متضادة، صورة ذهبية تروع السامعين لغرابتها وما بها من لمعان الذهب، بل من لمعان الفلسفة والفن، وانظر إلى قوله: بيضاء تَسري في الظلام فيَكتسي ... نورًا وتسرُبُ في الضياءِ فيُظْلِمِ أرأيت إلى هذا التضاد وهذا الضياء المظلم؟ إن حقائق الأشياء تتغير في شعر أبي تمام على هذه الصورة التي نرى فيها الضياء المظلم وإنه لضياء عجيب لا يستطيع شيء أن يعبر عن فتنته؛ إلا أن يعود أبي تمام فيأتي بصورة أخرى ولكنها متعاكسة، صورة ظلال مشرقة؛ إذ يقول:

_ 1مروج الذهب للمسعودي "طبع أوربا" 7/ 351. 2 دائرة المعارف الإسلامية، المجلد الأول ص320.

أصل كبرد العَصبِ نيطَ إلى ضُحى ... عبقٍ بريحان الرياض مطيَّبِ1 وظلالُهنَّ المشرقاتُ بخرَّد ... بيضٍ كواعبَ غامضاتِ الأكعُبِ فهو يتصور الظلال مشرقة إشراق الشمس، وهو يتصور الضياء مظلمًا ظلام الليل، وهو على هذه الشاكلة يشوِّه في الطبيعة تشويهًا يزينها؛ فإذا الظلال مشرقة، وإذا الأضواء مظلمة، بل إن جوانب اليوم نفسه ليحل بعضها مكان بعض في ارتباك طريف؛ فالصبح كأنه مغرب على نحو ما نرى في وصف أخلاق الحسن بن وهب: متعت كما متع الضحى في حادثٍ ... داجٍ كأن الصبحَ منه مغربُ2 والليالي كأنها أسحار، يقول في بعض ممدوحيه: أيامنا مصقولة أطرافُها ... بك والليالي كلُّها أسحارُ والأسحار كأنها ضحى، يقول في وصف الربيع: لما بكت مُقَلُ السحابِ حيًا ... ضحكت حواشي خدِّه التَّربِ فكأنه صبحٌ تبسم عن ... سحر ضئيل في ضُحى شحِبِ بل أنوار الشمس مختلطة بأزهار الرُّبى كأنها أضواء القمر: يا صاحبيَّ تقصَّيا نظريكما ... تريا وجوهَ الأرضِ كيف تصوَّرُ تريا نهارًا مشمسًا قد شابَهُ ... زهرُ الرُّبى، فكأنما هو مقمرُ وعلى هذا النمط تمتزج أصباغ الطباق عند أبي تمام بهذه الأصباغ الفلسفية الغريبة من نوافر الأضداد؛ فإذا بها تخرجنا من أوقاتنا التي تقيدنا، وتطلقنا من عقال أمكنتنا، وتجعلنا نتحرر في داخلنا من كل ما يتعلق بنا. ولعل هذا هو معنى ما يقولونه من أن الشاعر الممتاز له جو غريب ينقلنا من عالمنا الذي نعيش فيه إلى عالم آخر طليق من الوهم، عالم ينشر فيه أبو تمام من عبق هذه الأضداد ما يؤثر به على أعصابنا وحواسنا تأثيرا يخلد في أذهاننا، فإذا الظلال

_ 1 أصل: جمع أصيل. العصب: ثوب يماني منقوش. نيط: علق. 2 متع الضحى: بلغ آخر غايته.

أضواء، وإذا الأضواء ظلال، وإذا الليالي أسحار، وإذا الأسحار ضحى، وإذا الصبح مغرب والنهار المشمس ليل مقمر، بل إذا الصحو يمطر والمطر يصحو: مطرٌ يذوبُ الصحوُ منه وبعده ... صحو يكاد من النضارة يُمطرُ أرأيت إلى هذه الصورة الغريبة من المطر الذي يذوب منه الصحو، والصحو الذي يذوب منه المطر؟ ثم أرأيت إلى هذه النضارة الخاصة التي توشك أن تجعل الصحو يمطر؟ إنها نضارة غريبة يعرف عقل أبي تمام كيف يحيلها إلى هذه الصورة من الحياة والمطر. وإن كنت تعجب من هذه النضارة الممطرة؛ فارجع إلى شعره تجد نضرة أخرى شاحبة ولكن لا تقل عنها غرابة؛ إذ يقول: رب خفضٍ تحت السُّرى وغناءٍ ... من عناءٍ ونضرةٍ من شُحُوب1ِ فالنضرة قد تكون زاهية، وقد تكون باهتة، ويستخرج أبو تمام من أحوالها صورًا متضادة؛ فإذا هو يؤثِّر في مشاعرنا وينفخ في أرواحنا وعقولنا بهذا البوق الغريب من نوافر الأضداد. وإنا لنتبين من خلال هذا الصنيع كيف كان يملك أبو تمام ناصية الفن والفلسفة جميعًا؛ فهو يعرف كيف يستخدم الفلسفة في شعره استخدامًا فنيًّا؛ إذ يمزج بينها وبين ألوان التصنيع القديمة التي تركها أستاذه مسلم فتخرج له ألوان تصنيع جديدة. الأَقْيَسةُ الفَنِّيَّةِ: ولعل مما يتصل بذلك ما نراه عنده من استخدام الأقيسة المنطقية؛ فقد كان يستغلها استغلالًا فنيًّا إذ ما يزال بها حتى يغير شياتها المنطقية ويحدث لها شيات جديدة من الشعر والفن. إنها لم تعد أقيسة منطقية بالمعنى القديم بل أصبحت أقيسة فنية، يمتزج فيها القياس المنطقي بالموسيقى والشعر والتصوير. وانظر إلى هذا القياس الطريف يقوله في الرثاء: إن ريبَ الزمانِ يحسن أن يهـ ... دي الرَّزايا إلى ذوي الأحسابِ.

_ 1الخفض: سعة العيش. السرى: السير ليلًا.

فلهذا يجفُّ بعد اخضرارٍ ... قبل روض الوهاد روض الرَّوابي ويقول في تحبب الرحلة ومفارقة الأوطان: وطول مقام المرء في الحي مخلقٌ ... لديباجتيه فاغترب تتجدد1 فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد2 وانظر إليه يخاطب صاحبته وهي تلومه على الارتحال، وما يلقى فيه من أهوال: أعاذلتي ما أخشنَ الليل مركبًا ... وأخشن منه في الملمَّات راكبهْ ألم تعلمي أن الزّماع على السُّرى ... أخو النُّجْح عند النائبات وصاحبهْ3 ذريني وأهوال الزمان أُفانها ... فأهوالُه العُظمى تليها رغائبهْ4 دعيني على أخلاقي الصمِّ للتي ... هو الوفر أو سِربٌ ترنّ نوادبه5 فإن الحسام الهندواني إنما ... خشونتُه ما لم تفلَّل مضاربه6 وعلى هذه الشاكلة كان يعرف كيف يقنع بقياسه في أحرج المواقف، وليس هناك موقف أحرج من الشيب حين تشتعل به الرأس، وقد استطاع أن يخلص من هذا الموقف مصورًا أسى صاحبته عليه، ضاربًا لها أقيسته الفنية الطريفة، يقول: يومي من الدَّهرِ مثل الدهر مشتهرٌ ... عزمًا وحزمًا وساعي منه كالحقبِ فأصغري أن شيبًا لاح بي حدثًا ... وأكبري أنني في المهد لم أشِبِ فلا يؤرقك إيْماضُ القتير به ... فإن ذاك ابتسام الرأي في الأدب7

_ 1 مخلق: من أخلق إذا بلى، ويريد بالديباجتين: الوجه والمنزلة الأدبية. 2 سرمد: دائم. 3 الزماع: العزم، والسرى: السير ليلًا. 4 ذريني: اتركيني، أفانها: من الإفناء أي أفنيها وتفنيني. 5 الصم: القوية الصلبة، الوفر: المال، السرب: الجماعة من النساء والظباء، ترن نوادبه: تندبه. 6 الهندواني: نسبة إلى الهند. ويريد بالبيت أنه ينبغي أن يتجشم المشاق وهو شاب قبل أن تهده السنون فينبو نبو السيف المفلل. 7 القتير: الشيب. إِيْمَاض: الْتِمَاع.

لا تنكري منه تخديدًا تجلَّله ... فالسيفُ لا يُزدرى أن كان ذا شطبِ1 وعلى هذا النمط يستمر أبو تمام يستخرج من الفلسفة والثقافة زخرفًا جديدًا يضيفه إلى الزخرف القديم، وإن الإنسان ليخيل إليه كأنما رسخت الثقافة والفلسفة في ذهنه وتحولتا هناك إلى ما يشبه صندوق الألوان عند الرسامين. وقد أخذ يحكم استخدام تلك الألوان في شعره، كما أخذ يحكم استخدامه لألوان التصنيع القديمة: تارة بما يستخرجه من أصباغها على نحو ما رأينا عنده في لون التصوير وأصباغه من تدبيج وتجسيم وتشخيص، وتارة بإضافته اللون إلى لون آخر على نحو ما رأينا عنده في الطباق والجناس حين كانا يمران في وعاء التصوير. وأخيرًا هو يبتكر ألوانًا جديدة يستنبطها من الثقافة والفلسفة ثم يمزج بينها وبين ألوان التصنيع القديمة، فتتغير شياتها وهيئاتها على نحو ما رأينا في حواشي الطباق حين طرزها بنوافر الأضداد. وحقًا إن أبا تمام كان أستاذًا ماهرًا في فن مزج الألوان ومعرفة خباياها وأسرارها؛ إذ نراه يغمس البيت في لون كالجناس، ثم يعود فيغمسه في لون آخر كالتصوير، ثم يعود مرة ثالثة فيغمسه في طباق أو مشاكلة، ولا يكتفي بذلك، بل نراه يعود فيغمسه في لون قاتم بل في لون زاهٍ من الفلسفة والثقافة فإذا البيت يختال في ألوان وأصباغ ثرية منوعة اختيال الطاوس في ألوانه وأصباغه.

_ 1التخديد: تجعدات الوجه، وشطب السيف: الطرائق التي فيه.

قصيدة عمورية

7- قَصِيدةُ عموريةَ: لعل أروع نموذج في شعر أبي تمام يمثل هذا المزج الواسع بين ألوان التصنيع العقلية وألوان التصنيع الحسية هو قصيدة عمورية؛ فقد تجلت فيها مقدرة أبي تمام في المزج بين الألوان الثقافية القاتمة والألوان الفنية الزاهية، إذ تدور مجموعة الألوان الأولى في أوعية المجموعة الثانية، فإذا هي تتحول إلى ألوان فنية جديدة.

وكأنما أبو تمام شاعر الألوان والأضواء في اللغة العربية وهي ألوان وأضواء قاتمة. بل هو شاعر الرسم والزخرف والتنميق؛ فقصائده حَلي ووشي وأناقة خالصة. ولكن لا تظن أنه شاعر حسِّي، أو أن زخرفَهِ مادة وحس فقط؛ بل إن زخرفَهُ -قبل كل شيء- فكر وفلسفة وعقل وكشف عن حقائق الحياة في أعماقها وأغوارها. كان أبو تمام يزاوج بين العقل والحس، وكان يعبر تعبيرًا زخرفيًّا، ولكنه تعبير يفضي بالإنسان إلى فكر عميق ظهر في شكل زخرف أنيق. وإن الباحث ليعجب كيف استطاع أبو تمام أن ينهض بفنه إلى هذا المدى من التعبير عن الفكر والزخرف جميعًا، بل إننا لا ندقق في التعبير، فليس هناك من فارق عنده بين الفكر والزخرف، إن الفكر نفسه يصبح زخرفًا يزخرف به نماذجه. وانظر إليه يستهل قصيدة عمورية على هذا النمط: السيفُ أصدقُ إنباءً من الكتبِ ... في حدِّهِ الحدُّ بين الجدِّ واللعبِ بيضُ الصفائحِ لا سودُ الصحائف في ... متونهنَّ جلاءُ الشكِ والرِّيب1ِ فإنك تراه يؤمن بتفوق السيف على الكتب، ألم تقل الكتب ويقل معها المنجمون إن المعتصم لا يفتح عمورية في الوقت الذي اختاره لمهاجمتها؛ ولكنه لا يستمع لقولهم وهاجمها وينتهي هجومه بفتحه العظيم؟ ويأتي أبو تمام فيتحدث عن علم التنجيم هذا الحديث الساخر الذي يفضل فيه السيف على الكتب والقوة على العقل، ويستمر فيهزأ بما يذكره المنجمون من أيام السعد والنحس. وما يذهبون إليه من تقسيم الأبراج إلى ثابتة ومنقلبة وتحكيمها في طوالع الناس والأحداث، وهنا نتبين أثر ثقافته الفارسية، وهو يعرضها هذا العرض الطريف؛ إذ تدور في أوعية الطباق والجناس والتصوير. وظهرت في هذه القصيدة آثار أخرى مختلفة للثقافات الإسلامية والعربية واليونانية، ونحن ننقل قطعة منها لنقف على المزج الغريب بين الثقافات المختلفة من جهة وبين ألوان الشعر العربي من جهة أخرى. يقول في وصف يوم الموقعة

_ 1 الصفائح: جمع صفيحة، وهي السيف العريض.

يا يوم وقعة عمورية انصرفت ... منك المنى حفَّلًا معسولة الحلبِ1 أبقيت جد بني الإسلام في صعد ... والمشركين ودار الشرك في صبب2ِ أمّ لهم لو رجوا أن تُفتدى جعلوا ... فداءها كل أمّ برة وأبِ وبرزة الوجه قد أعيت رياضتها ... كسرى وصدَّت صدودًا عن أبي كربِ3 من عهد إسكندر أو قبل ذلك قد ... شابت نواصي الليالي وهي لم تشبِ بكرٌ فما افترعتها كفُّ حادثة ... ولا ترقَّت إليها همة النُّوب4 حتى إذا مخض الله السنين لها ... مخض البخيلة كانت زبدة الحقب5 أتتهم الكربة السوداء سادرةً ... منها وكان اسمها فرَّاجة الكربِ 6 جرى له الفألُ نحسًا يوم أنقرة ... إذ غودرت وحشة الساحات والرُّحبِ لما رأت أختها بالأمس قد خربت ... كان الخراب لها أعدى من الجرب كم بين حيطانها من فارس بطلٍ ... قاني الذوائب من آني دم سرب7 بسنَّة السيف والحناء من دمه ... لا سنة الدين والإسلام مختضبِ8 لقد تركت أمير المؤمنين بها ... للنار يومًا ذليل الصَّخرِ والخشب9 غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحى ... يشلُّه وسطها صُبحٌ من اللهبِ10 حتى كأنَّ جلابيب الدُّجى رغبت ... عن لونها أو كأن الشمسَ لم تَغِبِ ضوء من النارِ والظلماء عاكفة ... وظلمة من دخانٍ في ضحى شَحِبِ فالشمسُ طالعةٌ من ذا وقد أفلت ... والشمس واجبةٌ في ذا ولم تَجِبِ11

_ 1 الحفل: جمع حافل، وهي الناقة التي حفل ضرعها باللبن. الحلب: ما يحلب منه. معسولة: يخالطها العسل. 2 الجد: الحظ. الصبب: الانحدار. 3 البرزة: الحسنة الوجه الجميلة، وكسرى: ملك فارسي، وأبو كرب: ملك يمني. 4 افترعتها: افتضتها 5 المخض: رج اللبن لتستخرج زبدته، وعادة يكون مخض البخيلة أشد. 6 الكربة السوداء: المصيبة العظيمة، سادرة: مظلمة، أو سادلة. 7 قاني الذوائب: أحمر الضفائر، آني: حار، سرب: سائل. 8 ليس خضابهم بالحناء كما في سنة الإسلام؛ وإنما هو خضاب بدمائهم. 9 عبّر عما فعلته النار بعمورية بذلة الصخر والخشب. 10 غادرت: ركت، البهيم: الليل لا ضوء فيه. يشله: يطرده. 11 واجبة: غاربة، وأفلت: غربت

تصرّح الدّهر تصريح الغمامِ لها ... عن يومِ هيجاءَ منها طاهرٍ جنبِ1 لم تطلع الشمس فيه يوم ذاك على ... بانٍ بأهلٍ ولم تغرب على عَزَبِ2 ما ربعُ ميّةَ معمورًا يطيفُ به ... غيلانُ أبهى ربًى من ربعها الخربِ3 ولا الخدود وقد أدمين من خجلٍ ... أشهى إلى ناظر من خدّها التّرب4 سماجةٌ غنيت منا العيون بها ... عن كل حسن بدا أو منظر عجب5 وحسن منقلبٍ تبدو عواقبُهُ ... جاءت بشاشتُه عن سوءِ منقلبِ وعلى هذه الشاكلة يستمر أبو تمام في هذه القصيدة فيجعلك تحس باستعلائه على الشعراء؛ إذ يمزج بين الثقافات وألوان الشعر مزجًا طريفًا، فأنت تراه في البيت الأول يعمد إلى عنصر قديم هو عنصر الحلب، فيحوره تحويرًا جديدًا إذ يضيف إليه العسل فيعطيه طعمًا طريفًا. وتراه يخرج من ذلك إلى الحديث عن الصراع بين الإسلام والمسيحية وهو في أثناء ذلك يغمس الشعر في الطباق بين الصَّعَد والصَّبَب، ثم لا يلبث أن يخرج إلى وعاء التشخيص يعبر به عن عزة عمورية وما دهاها، تلك السيدة الفاتنة التي كانت تُدلُّ على الملوك والأكاسرة، حتى آتاها المعتصم فأقبلت عليه طائعة ذليلة. وهنا نراه يعرض التاريخ عرضًا غريبًا، عرضًا فنيًّا إن صح هذا التعبير؛ فها هما كسرى وأبو كرب يأتيان في الشعر عاشقين مدلهين، وهو تاريخ؛ ولكنه تاريخ فني وهو تاريخ قصد به إلى الفن. وهذا هو معنى ما قلناه كثيرًا من أن أبا تمام كان يحول الثقافة إلى بدع من الشعر والفن، حتى التاريخ يتحول بطريقة غريبة إلى لون من ألوان الفن. وقد جاء بالإسكندر ليدل على ثبات عمورية وقدمها، وهنا نحس أثر الثقافة اليونانية في هذا القدم والثبات الذي يقصد إليه، ونحن نحسها دائمًا في صياغته العقلية وما أشرنا إليه من استخدامه لنوافر الأضداد التي نشرها في جميع أشعاره. وما يزال أبو تمام يلائم بين هذه الثقافات وعناصرها من فارسية وعربية وإسلامية ويونانية،

_ 1 تصرح: تكشف، الهيجاء: الحرب، طاهر جنب: يعني بالطهر جهاد العدو، وبالجنابة ما كان فيه من سبي. 2 بانٍ بأهل: متزوج. ولم تغرب على عزب: أي من المسلمين. 3 غيلان هو ذو الرمة، ومية: محبوبته. 4 الترب: المعفر بالتراب. 5 سماجة: قبح، غنيت: استغنت.

وهو يغمر ذلك كله في ألوان تصنيعه من جناس وطباق وتشخيص؛ فهذه نواصي الليالي قد شابت، ولا تزال عمورية تكسوها غفلات الزمان شبابًا وفتنة. ونستمر حتى نجد تلك الصورة التي يصور فيها الأجيال تمخض عمورية مخض البخيلة حتى كانت زبدة الدهور. وهي صورة قد تكون غير مألوفة، ولكن أذواقنا لا ترفضها، وكان أبو تمام كثيرًا ما يعرض مثل هذه الصورة بحكم تصنيعه وتعمقه في مذهبه. ونراه بعد ذلك يستخدم نوافر الأضداد؛ فهذه عمورية كانت تفرج الكرب. وهي اليوم تسببها، وهو عنصر فلسفي أو يوناني، ولعلك تعجب إذ تراه يلائم بينه وبين عناصر الفأل والنحس والجرب، وهي عناصر عربية؛ ولكن أبا تمام كان يعرف كيف يوحِّد بين عناصر الثقافات المختلفة في عصره، ويكون منها هذا الزخرف الفني الغريب الذي ما يزال يرصع به قصائده على أشكال وصور شتى. وإذا مضينا في القطعة وجدناه يعنى بالتدبيج؛ إذ يقف عند الدم السرب، وحينئذ يعمد إلى المقابلة؛ فهذا الخضاب على الرءوس ليس خضاب سُنَّة؛ وإنما هو خضاب سيوف، وأنت ترى في ذكر السنة هنا شيئًا من العناصر الإسلامية. ثم يتحدث عن اليوم الذي حرقت فيه عمورية، فيصفه بأنه يوم ذليل الصخر والخشب، وهي ذلة غريبة؛ فكيف يذل الصخر والخشب؟ ولكنه عنصر عربي يستغله في التعبير عما أصابها من ذلة وهوان؛ إذ يرى العرب يقولون: فلان أذل من الوتد. ونراه يستمر في الحديث فيصف النار وهي مشتعلة في عمورية آناء الليل. وحينئذ يلعب بالنار والظلماء؛ فهو ينظر ولكن ماذا ينظر؟ إنه في ضحى بل هو في صبح. فليس حوله إلا النور وإلا تباشير الصباح وقد خيل إليه كأن جلابيب الدجى رغبت عن لونها. وما أجمل تلك الصورة التي جعلها ترسخ في أذهاننا بقوله: أو كأن الشمس لم تغب! وهنا تطل علينا من بين أبياته ثقافته الدينية؛ إذ يستغل قصة يوشع التي تذهب إلى أن الشمس تأخرت من أجله عن مغربها. فكأن هذا يوم يوشع! إنه يوم المعجزة الكبرى في تاريخ العرب. يوم عمورية. وإنه ليعجب حين يذكر نهار

هذا اليوم وليله، أما نهاره فظلمة من دخان في ضحى قاتم. بل في ضحى شاحب. وأما ليله فضوء من النار في ظلام عاكف، وإنه لتعلوه الحيرة، فالشمس طالعة وقد رآها غاربة، والشمس يراها غاربة وهي غير غاربة، أرأيت إلى وصف هذا الحريق وما استخدم فيه أبو تمام من ألوان التجسيم والطباق ونوافر الأضداد؟ إن أبا تمام كان يُحكم استخدام الألوان في فنه إحكامًا شديدًا فإذا هو يستخرج منها هذا الزخرف النادر. ونراه يتحدث بعد ذلك عن هذا اليوم الطاهر الْجُنُب وما فيه من الزواج والعزوبة، وهي فكرة كانت تروق الجيش الظافر الذي اقتسم السَّبْي، وقد استخدم فيها التعبير بنوافر الأضداد ليكسبها ضربًا من الروعة الفنية. وأخيرًا يعرض علينا هذه الصور الغريبة التي مزجها بعناصر قديمة؛ فهذه عمورية على ما بها من الجرب وعلى ما أصاب خدها من نمش النار وتشويه الدخان أحب في عينه من ربع ميَّة في عين ذي الرمة الذي عاش يتعبد جمالها ويتغنى بوصفها، أرأيت كيف يتحول تاريخ الأدب إلى عجب من الفن والتصوير؟ ثم أرأيت إلى هذه السماجة التي تصبح باستخدام نوافر الأضداد أجمل من كل جميل وأبدع من كل بديع؟ إن أبا تمام كان يعرف كيف يحول الثقافة وألوانها القاتمة إلى فن وألوان زاهية. وإن الإنسان ليدهش حين يراه يلائم بين الفكر الحديث والعناصر العربية القديمة ويستغل تلك العناصر لتعبر عن ثقافته وفكره الحديث، واستمر في القصيدة فسترى الدلاء والأوتاد والطُّنُب تأتي لتعبر عن أروع الأفكار، كأن يقول هذا البيت الذي سبق أن عرضنا لما فيه من رمز. إن الحِمامين من بيضٍ ومن سمرٍ ... دلوا الحياتين من ماءٍ ومن عشبِ فانظر أين وضع الدلاء ليعبر عن فكرة فلسفية دقيقة، ثم اقرأ قوله: حتى تركت عمودَ الشركِ منقعرًا ... ولم تعرج على الأوتادِ والطّنب فقد عبر عن أخذ المعتصم لعمورية دون ما حولها من القرى والمدن الصغيرة هذا التعبير الرمزي الطريف بقطعه للعمود والأس من أصله دون ما حوله من

أوتاد الخيمة، أرأيت كيف يمكن استغلال العناصر البدوية القديمة في الرمز والتعبير عن الأفكار الحديثة؟ لقد كان أبو تمام زعيم المجددين في عصره، ولكن لم يكن يعتمد في تجديده على رفض العناصر القديمة؛ بل كان يستعين بها في فنه، كما كان يستعين بكل ما يمكن من العناصر الحديثة، فلسفة وغير فلسفة. والحق أن قصيدة عمورية ترينا كيف تطورت قصيدة المديح في العصر العباسي، فقد أخذت تستوعب عناصر الثقافات المختلفة من عربية وإسلامية وفارسية ويونانية وتحولها إلى زخرف عقلي جديد، وسيطر عليها التعبير بهذا اللون الفلسفي من نوافر الأضداد، وهي مع ذلك ما تزال تغمر أبياتها بالزخرف الحسي الذي تركه مسلم؛ فإذا هي تزهى بثروة زخرفية رائعة؛ ففي كل جانب منها لون أو زخرف، فيه جمال وفيه فن، وفيه فلسفة وثقافة على ضروب وصور مختلفة.

ابن المعتز نشأته وحياته وتصنيعه

8- ابنُ الْمُعْتَزِ، نشأَتُهُ وحَيَاتُهُ وتصنيعُهُ: إذا تركنا أبا تمام إلى غيره من شعراء التصنيع في القرن الثالث وجدناهم لا ينهضون بتلك الثروة الزخرفية التي خلفها في صحائف ديوانه؛ فقد انحازت كثرتهم عن هذا الطريق الوعر الذي اتخذه من المزاوجة بين العقل ومحسنات اللفظ، ولذلك لم يعد يظهر ما يشبه نوافر الأضداد. فقد وقف الشعراء غالبًا عند الزخرف الحسي، زخرف الجناس والطباق والتصوير. ولعل خير شاعر نجده في هذا الجانب هو عبد الله ابن الخليفة المعتز بالله "252- 255هـ"، وقد ولد في عام 247 للهجرة ونُشِّئ في الحلية والزينة، وعاش معيشة مترفة ناعمة، وأكبَّ منذ حداثته على الأدب واللغة يأخذهما عن أعلام عصره مثل: المبرد وثعلب وأحمد بن سعيد الدمشقي. ويظهر أنه لم يُعْنَ بالثقافات الأجنبية إلا قليلًا، وقد ذكر لنا مواد ثقافته في شعر يخاطب به مؤدبه

ابن سعيد؛ إذ يقول1: أصبحتَ يابن سعيدٍ حُزتَ مكرمةً ... عنها يقصر من يحفى وينتعلُ سربلتني حكمةً قد هذبت شيمي ... وأججت غرب ذهني فهو مشتعل أكون إن شئت قُسًّا في خطابته ... أو حارثًا وهو يوم الفخر مرتجل وإن أشأ فكزيدٍ في فرائضه ... أو مثل نعمان ما ضاقت بي الحيل أو الخليل عروضيًّا أخا فطن ... أو الكسائي نحويًّا له علل تغلي بداهة ذهني في مركَّبها ... كمثل ما عرفت آبائي الأول وفي فمي صارم ما سلَّه أحدٌ ... من غمده فدرى ما العيش والجذل عقباك شكرٌ طويل لا نفاد له ... تبقى معالمه ما أطَّت الإبل2 فهو يقول: إنه تلقَّن عن أبي سعيد ما به يكون خطيبًا كقس إياد، وشاعرًا كالحارث بن حلِّزة، وماهرًا في علم الميراث كزيد بن ثابت، وفي علم الفقه كأبي حنيفة، وبارعًا في العروض كالخليل، وفي النحو كالكسائي. ولا نراه يذكر في أثناء ذلك ثقافة بالفلسفة، حقًّا ذكر كلمة الحكمة؛ ولكنه فسَّرها بهذه المعارف السابقة، ونحن لا نجزم بأنه لم يكن يلم بشيء من الفلسفة، ففي شعره بعض إشارات لها 3، وأيضًا فإنه يشير إلى الفلك والتنجيم4 وروى له الصولي في كتابه "الأوراق" فصولًا من النثر أخرجها مخرج الحكمة، وتعلق بفن الشعر التعليمي "POESIE DIDCTIQUE" الذي يذهب فيه الشعراء مذهب التعليم؛ ففي ديوانه مزدوجة ألفها في تاريخ الخليفة المعتضد. وقد ترك كثيرًا من المؤلفات في الأدب والشعر لعل أهمها كتابه: طبقات الشعراء المحدثين وكتاب البديع. ويظهر من مجموع أخباره أنه لم يكن ينغمس في مؤامرات البلاط العباسي، وأنه اختار لنفسه عيشه المرفه الناعم مصاحبًا للأدباء والعلماء، ولو أنه مضى على ذلك لكان خيرًا له؛ غير أن النفس أمَّارة بالسوء، لذلك نراه حين يتوفى الخليفة

_ 1 معجم الأدباء 1/ 133 2 أطت الإبل: أنت تعبًا أو حنينًا. 3 ديوان ابن المعتز "طبعة القاهرة" 2/ 56. 4 الديوان 1/ 25، 2/ 177، 120.

المكتفي ويتولّى المقتدر سنة 295 للهجرة وتصبح أمه بمن حولها من النساء والخصيان هي التي تدير دفّة الحكم ترنو عينه إلى الخلافة، ويدبر مؤامرة مع بعض الرؤساء والكتاب في ربيع الأول سنة 296، فيخلع المقتدر ويتولى باسم المرتضي؛ غير أن ذلك لم يدم له سوى يوم وليلة، إذ تغلب على حزبه أصحاب المقتدر وأعادوه إلى كرسي الخلافة، واختفى ابن المعتز عند ابن الجصَّاص، غير أن أنصار المقتدر عرفوا مخبأه، فأخذوه وقتلوه في أول ربيع الثاني. وإذا أخذنا نبحث في شعره وجدناه يدور حول ما كان ينعم به من رَافِهِ العيش، وعني خاصة بالغزل والخمريات ومجالس الشراب، ولم ينس خصوم أسرته من العلويين، فوجَّه إليهم تهديدات شديدة اللهجة، لكن ذلك يأتي عارضًا في شعره، ومثله مثل المزدوجة التاريخية. وله منظومة في ذم الصبوح، وهي أقرب إلى الهزل منها إلى الجد. وبونٌ بعيد بين نسيج الصياغة عنده وعند أبي تمام، وإن كان يطالعنا أحيانًا بشعر جزل رصين، ولكنا نحكم بالكثرة من عمله، وقد دافع عنه أبو الفرج الأصبهاني فقال: "وشعره وإن كان فيه رقة الملوكية وغزل الظرفاء وهلهلة المحدثين فإن فيه أشياء كثيرة تجري في أسلوب المجيدين ولا تقصُر عن مدى السابقين، وأشياء ظريفة من أشعار الملوك في جنس ما هم بسبيله، ليس عليه أن يتشبَّه فيها بفحول الجاهلية؛ فليس يمكن واصفًا لصبوح في مجلس شكل ظريف بين ندامى وقيان، وعلى ميادين من النَّور والبنفسج والنرجس ومنضود من أمثال ذلك، وفاخر الفرش ومختار الآلات ورقة الخدم أن يعدل بذلك عما يشبهه من الكلام السَّبْط السهل الرقيق الذي يفهمه كل من حضر إلى جَعْد الكلام ووحشيه وإلى وصف البيد والمهامه والظبي والظليم والناقة والجمل والديار والقفار والمنازل الخالية المهجورة، ولا إذا عدل عن ذلك، وأحسن قيل له مسيء ولا أن يغمط حقُّه كله إذا أحسن الكثير وتوسَّط في البعض وقصَّر في اليسير، وينسب إلى التقصير في الجميع، لنشر المقابح وطيِّ المحاسن؛ فلو شاء أن يفعل هذا كل

أحد بمن تقدم لوجد مساغًا"1. ونحن لا نشارك في الحملة على ابن المعتز؛ بل نحن نضعه في موضوعه الصحيح، فقد كان شاعرًا محسنًا؛ غير أنه كان أميرًا مترفًا، ولم يُتِحْ له ترفه أن يتعمق الثقافة والفلسفة على نحو ما تعمقهما أبو تمام، وهو كذلك لم يتعمق وسائل التصنيع الحديثة، فإنه لم يعرف العمق في شيء؛ إنما عرف اللهو والنعيم، وعبر عن ذلك أجمل تعبير بقوله: شربنا بالكبيرِ وبالصغيرِ ... ولم نحفِل بأحداث الدهورِ لقد ركضتْ بنا خيلُ الملاهي ... وقد طِرنا بأجنحة السرورِ فحياته كانت مترفة ترفًا خالصًا، ومثل هذه الحياة لا تؤهل لتفكير عميق ولا لتعقيد في التفكير؛ إذ تقوم على الأشياء القريبة، وقلما تعب صاحبها في حياته العقلية والمادية. وليس معنى ذلك أن ابن المعتز كان من ذوق الصانعين؛ فقد كان من ذوق المصنِّعين، فالتصنيع والزخرف أساسيان في حياته، وهما كذلك أساسيان في فنه. ويحدثنا صاحب الأغاني أنه بدت فيه منذ نشأته نزعة إلى الغناء والموسيقى ضاعفت حسه بالجمال كما ضاعفها ترفه ونعيمه، وذكر له كتبًا في الغناء2، كما ذكر له أدوارًا غنَّى فيها. وليس من شك في أن من يعيش مثل هذه المعيشة لا يمكن أن يكون ذوقه بسيطًا، فالترف لا يتيح بساطة في الحياة؛ بل هو يتيح ضربًا معقدًا من التصنيع في شئونها. والحق أن التصنيع كان مادة أصلية في حياته، وسرى منها إلى فنه؛ فهو يعيش في شعره كما يعيش في حياته معيشة تعتمد على التأنق والتنميق. كان ابن المعتز شاعرًا مصنعًا من أصحاب مذهب التصنيع، وكان يعجب بهذا المذهب إعجابًا شديدًا دعاه إلى أن يكتب في أدواته وزخرفه كتابه "البديع" وهو يشهد له بأنه كان فنانًا عالِمًا يحسن وضع المصطلحات الفنية، ولكن ينبغي

_ 1 أغاني "طبعة دار الكتب" 10/ 274. 2 أغاني 10/ 276.

أن نعود فنقيِّد هذا الكلام؛ ذلك أن ابن المعتز لم يتعمق في فهم جوانب التصنيع وزخرفه عند أبي تمام، فهِمَ الزخرف الحسي: زخرف الجناس والطباق والتصوير والمشاكلة، ولكنه لم يفهم الزخرف العقلي، ولذلك لم يسقط في كتابه أي تعريف بلون من ألوانه سوى ما سماه بالمذهب الكلامي. وقد نقله عن الجاحظ دون فهم واضح له، وعابه بما فيه من تكلف1 ولو أن ابن المعتز كان متعمقًا في فهم وسائل التصنيع وزخارفه، كما انتهت إليه عند أبي تمام لأغنانا عن بيانها ووصفها. ولعلنا لا نبعد إذا قلنا: إن ابن المعتز هو الذي انحاز بالبديع العربي إلى الزخرف المادي، وجعله لا يهتم اهتمامًا واسعًا بالزخرف العقلي أو المعنوي الذي رأيناه عند أبي تمام؛ إذ لم يعرض في كتابه لدرس ألوان التصنيع القاتمة عنده، تلك التي كان يستنبطها من الفلسفة والثقافة ويحولها إلى ألوان زاهية مضيئة. كان ابن المعتز مختلفًا في ثقافته، وهو كذلك كان متخلفًا في فهم التصنيع الجديد الذي أحدثه أبو تمام، ومن ثَمَّ لم يستطع تفسيره في كتابه عن البديع، كما أنه لم يستطع تطبيقه في ديوانه؛ فقد وقف بعمله عند الزخارف الحسية. واضطرب في موقفه من أبي تمام اضطرابًا شديدًا، فهو تارة يرفعه إلى الأفق الأعلى كما مرّ بنا في حديثنا عنه حين وازن بينه وبين البحتري، وتارة يتلومه لإسرافه في البديع، وقد ألف في محاسنه ومساويه رسالة احتفظ بها صاحب الموشح، ومن يرجع إليها يجد أنه إنما يعيب عليه بُعْده في التفكير وإغراقه في التصوير2. وكانت هذه الرسالة إحدى الدعائم التي استند إليها خصوم أبي تمام في الحملة عليه من أمثال الآمدي. ورد عليهم أنصار أبي تمام من أمثال الصولي والمرزوقي. وعلي هذا النحو لم يستطع ابن المعتز أن يفهم تصنيع أبي تمام حق الفهم، مع أن ذوقه فعلًا كان من ذوق المصنعين، ولكن حائلًا حال بينه وبين تغلغله فيه، وهو أنه كان أميرًا مترفًا من أبناء القصور الذين لا يتعمقون في الفَهم فوقف بتصنيعه عند الجانب الحسي، وعني خاصة بجانب التصوير وما يتصل بها من تشبيهات وأخيلة.

_ 1 كتاب البديع ص53. 2 الموشح ص307.

تصوير ابن المعتز

9- تَصْويرُ ابنِ الْمُعْتزِ: كان ابنُ المعتز يعنى بزخرف التصوير في شعره عناية شديدة، ولكن أي تصوير؟ إنه ليس هذا التصوير الفلسفي الذي يمزج بنوافر الأضداد، وهو أيضًا ليس التصوير الحسي الذي يحلله أبو تمام إلى أصباغه التي تحدثنا عنها من تجسيم وتدبيج وتشخيص؛ إنما هو تصوير من نوع آخر لا يحتاج تأملًا عميقًا، أو هو بعبارة أدق صبغ آخر من أصباغ التصوير؛ ولكنه ليس صبغًا معقدًا ولا مركبًا، ونقصد: صبغ التشبيه، فقد شغف به شغفًا شديدًا كاد لا يبقى فيه بقية لزخرف آخر من زخارف المدرسة. وكان لذلك الزخرف عنده طرافة خاصة، فإنه استطاع أن يحول هذا الصبغ المحدود إلى صبغ له طاقة واسعة، بل لقد خرج عن نطاقه القديم وأصبح صبغًا مستقلًا له أوضاعه التي لا تحصى، وفي هذا الوعاء من أوعية التصوير يظهر تصنيعه ويظهر أيضًا تفوقه على شعراء عصره؛ فقد اختص بصبغ واحد من أصباغ لون واحد من ألوان التصنيع، ولكن عرف كيف يحوله إلى صبغ واسع ويستخرج منه ما لا يحصى من صور وأوضاع. وكان النقاد القدماء يعرفون له هذا الجانب. يقول ابن رشيق: "إن ابن المعتز يغلب عليه التشبيه"1، ويقول صاحب معاهد التنصيص: "هو أشعر الناس في الأوصاف والتشبيهات"1، وامتلأت كتب النقد والبلاغة بأوصافه، وأشاد به عبد القاهر الجرجاني في غير موضع من كتاباته.

_ 1 العمدة: لابن رشيق 1/ 194. 2 معاهد التنصيص 1/ 146.

وطبيعي أن يعدل ابن المعتز بتصنيعه إلى التشبيه؛ لأنه لا يحتاج بعدًا في الخيال ولا عمقًا في التصوير، وكأني به قال: دَعْني أبدِّل قيثارتي بلوحة الألوان، ولكنه حين انتقل هذه النقلة لم يحسن استخدام جميع الألوان التي تركها أبو تمام، بل لم يحسن استخدام لون التصوير نفسه؛ فقد انحاز إلى صبغ واحد من أصباغه وهو صبغ التشبيه، وترك الأصباغ الأخرى من تدبيج وتجسيم وتشخيص؛ غير أن من الحق أن نحمد لابن المعتز صنيعه بهذا الصبغ، فقد حوَّله إلى صبغ واسع وراح يستخرج منه أوضاعًا لا تحصى يزيِّن بها شعره ويجمله وهنا يأتي تصنيعه، فصبغ التشبيه أصبح عنده صبغًا ثريًّا بأوضاعه المتضاربة. وليس من شك في أن هذه مقدرة ممتازة، تلك التي استطاع بها ابن المعتز أن يحول صبغ التشبيه إلى ما يشبه اللون الأخضر مثلًا في الطبيعة؛ فإذا هو على ضروب وأوضاع مختلفة، وإذا لكل ضرب ووضع روعة فاتنة. وإنها لمهارة تلك التي يستطيع صاحبها أن يؤلف لوحة من لون واحد فإذا هو زاهٍ أو باهت في بعض الجوانب، وإذ هو يتراوح بين هذين الصبغين إلى ما لا يحصى من أصباغ في الجوانب الأخرى. وحقًا أن ابن المعتز أظهر مهارة واسعة في هذا الصبغ من أصباغ التصوير؛ إذ عرف كيف يحول صبغًا محدودًا إلى صبغ واسع، ثم أخذ يستخرج منه أوضاعًا مختلفة حتى لا يحس قارئه بتكرار في المنظر؛ فهو لون واحد، بل هو صبغ واحد، ولكن الشاعر المصنِّع بارع؛ إذ يجعلنا نخطئ في الحس والتقدير، ونظن أننا نرى لونًا واسعًا له أوضاعه الكثيرة التي تنقلنا من عالمنا الحسي إلى عالم خيالي واهم. واقرأ هذه الأبيات إذ يقول في النرجس: كأن أحداقَهَا في حسنِ صورتِهَا ... مداهنُ التبرِ في أوراقِ كافورِ أو يقول فيه: كأن عيونَ النرجسِ الغضِّ حولها ... مداهنُ درٍّ حشوهن عقيقُ أو يقول في النارنج: وأشجارُ نارنج كأن ثمارَهَا ... حقاقُ عقيقٍ قد مُلئن من الدرِّ

أو يقول في الآذريون: كأنَّ آذريونها ... والشمسُ فيه كاليه مداهنٌ من ذهبٍ ... فيها بقايا غاليه أو يقول في الهلال: انظرْ إليه كزورقٍ من فضَّة ... قد أثقلته حمولةٌ من عنبرِ ويقول فيه: انظرْ إلى حسنِ هلالٍ بدا ... يهتكُ من أنوارِه الحِندِسا كمنجلٍ قد صيغَ من فضةٍ ... يحصدُ من زهر الدجى نرجِسا أو يقول في قمر مشرق نصفه: "كأنه مجرفة العطر"؛ فقد استطاع ابن المعتز بهذه الأوضاع من التشبيه ونظائرها أن يطوف بنا في قصور من الوهم والخيال تحكي قصور ألف ليلة وليلة. وفي هذه القصور الخيالية يعيش من يقرأ في ديوان ابن المعتز؛ فإذا هو يرى مداهن من تبر، كما يرى كثيرًا من أواني الذهب والفضة المرصَّعة بأنواع الجواهر واللآلئ. إن التشبيه صبغ واحد ولكن ابن المعتز عرف كيف يحلِّله وكيف يستخرج منه أوضاعًا لا تحصى. وهذا هو سبب ما نزعمه من أنه شاعر مصنِّع؛ بل هو شاعر يعقد في التصنيع، فقد أخذ صبغًا واحدًا من أصباغه وذهب يعقده ويستنبط منه ما لا يحصى من أوضاع رائعة، وهل هناك أروع من هذا الهلال الذي يشبه منجلًا من فضة؟ لقد وصف فيكتور هيجو الهلال بأنه منجل ذهب"UNE FAUCILLE D;OR" فراعَ أصحاب الأدب الفرنسي؛ ولكن ابن المعتز لا يقف عند هذه الصورة العامة بل هو يضيف إليها بقية غريبة فإذا السماء حقل من نرجس لا من نجوم، وإذا هذا المنجل يحصد نرجسها بأضوائه وأنواره، وارجع إلى الصورة الأخرى التي صوَّر فيها ابن المعتز الهلال بزورق من فضة؛ فقد أضاف إلى الصورة البصرية التي نتخيلها في الزورق صورة عطرية، إن الصبغ واحد هو التشبيه ولكن ابن المعتز عرف كيف يستخرج منه أوضاعًا وأشكالًا كثيرة، فإذا لكل وضع بهجته ولكل شكل مسرته.

الإفراط في الصور والتشبيهات

10- الإفْرَاطُ في الصُّورِ والتشبيهاتِ: ذهب ابن المعتز يكثر من أوضاع هذه الصور والتشبيهات في شعره، ويفرط فيها إفراطًا شديدًا، حتى لتظهر في قصائده على هيئة صفوف متلاحقة؛ ففي كل جانب منها صورة أوتشبيه، وهي صور وتشبيهات ما يزال ابن المعتز يحاول أن يحدث بها طرافة في شعره؛ فهي كل ما يقدمه للفن من زينة وجمال. لم يضع ابن المعتز همَّه في إحداث تنويع واسع في زخرف شعره؛ فقد رفض الزخرف العقلي أو بعبارة أدق لم يستطع أن يستخدمه، وهو كذلك لم يستطع أن يستخدم جميع أوعية الزخرف الحسي؛ فقد انحاز إلى التشبيه، وذهب يطرز به قصائده، ويوشي به أبياته. وأظهر في براعة لم تُتَحْ لشاعر من قبله، وهل هناك أبرع من هذا التشبيه؛ إذ يقول: ريمٌ يتيهُ بحسنِ صورتِهِ ... عبثَ الفؤادِ بلحظ مقلتِهِ وكأنَّ عقرب صُدغه وقفت ... لما دنت من نارِ وجنتهِ فهذه صورة رائعة روعة شديدة لما أشاعه فيها جمال وبعث من نار، هي نار الوجنات أو هي نار الفن، وما أشبهها بهذه القطع من الشمس التي كان يلقيها الساقي في أقداح جماعته؛ إذ يقول: وكأن كفيه تقسم في ... أقداحنا قطعًا من الشمسِ كان ابن المعتز بارعًا في صنع الصور والتشبيهات، وهي براعة نرى آثارها في كل مكان من ديوانه، ومن الصعب أن نجمعها في حيز محدود في صحيفة أو صحف، ومع ذلك فمن المحقق أنه كلما جمع ناقد منها طائفة خرجت إليه أصباغ تحكي أصباغ الطيف أصباغ للون واحد؛ ولكنه لون معقد يعقده ابن المعتز، ويستخرج منه أوضاعًا متضاربة يشيع فيها النور والجمال والحياة، وانظر إلى قوله: وزوبعةٍ من بناتِ الرياحِ ... تريك على الأرض شيئًا عجب

تضمُّ الطريد إلى نحرها ... كضمّ المحبة من لا يحبّ أرأيت إلى هذه الصورة؟ إنها صورة خيالية رائعة لا بد لها من خيال فنان حتى يعرضها على أنظارنا؛ فإذا هذا العناق الغريب. وانظر إلى قوله: ودنا إليَّ الفرقدان كما دنت ... زرقاءُ تنظر في نقابٍ أسود فإنك ترى ابن المعتز يعرف كيف يطرف قارئه بالصور الغريبة وإنها لصور نادرة. هي ليست صورًا جامدة من تلك التي تواضع عليها الشعراء وأصبحت متحجرة في اللغة، إذا فقدت نضرتها وبهجتها؛ بل هي حية ناضرة وكأنما نقشت رسومها بالأمس، نقشها شاعر كان صبًّا ببعث الحياة والحركة في صوره حتى ليحس من يقرأ في ديوانه كأنه يعيش في دار من دور الصور المتحركة، فما يزال يرى مناظر وأشكالًا من شخوص ووجوه. وهي وجوه مستعارة، ولكنها تعبر عن روعة الفن بأجمل مما تعبر عنه الوجوه الحقيقية. وانظر إلى صورة الليل وهذا الوجه الحبشي. قد أغتدي والليلُ في إهابه ... كالحبشي مالَ عن أصحابِهِ والصبحُ قد كشَّف عن أنيابِهِ ... كأنه يضحك من ذهابِه فإنك ما تلبث أن تستغرق في الضحك من هذا الحبشي أو هذا الوجه المستعار؛ بل إنه لوجه حقيقي يعبر عن حقيقة مظلمة وراءه، ولكن سرعان ما يخلفه وجه آخر ضاحك، وهو وجه الصباح الجميل. وعلى هذا النمط ما نزال نرى في شعر ابن المعتز صورًا متحركة قد أعطاها أوضاعًا تؤكد حقيقتها وتجعلنا كأننا نلمسها ونشاهدها، وهل هناك صورة تثبت في الذهن كهذه الصورة التي أخرج فيها الصبح بعد المشتري: والصبح يتلو المشتري فكأنه ... عريانُ يمشي في الدجى بسراج إنها صورة عارية، وقد يؤذينا هذا العري؛ ولكنا لا نرتاب في أنه يثبت الصورة في عقولنا، ومن ينسى هذا الصبح الذي ذكره ابن المعتز؟ من ينسى هذا العريان وسراجه الذي كان يحمله في الدجى فيكشف عن نيته ويفصح عن

عزيمته؟ وانظر إليه يعود إلى تصوير الصبح فيقول: كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى ... نُطير غرابًا ذا قوادم جونِ فقد جسم اختلاط الظلام بالضياء في ذلك الغراب صاحب القوادم البيضاء وليس من شك في أنها صورة طريفة، وكأني به أراد أن يحكمها أحكامًا، فقال: وكابدنا السُّرى حتى رأينا ... غراب الليل مقصوصَ الجناحِ فأنت تراه يجنح في هذا البيت إلى التفصيل في صورة الغراب بأكثر مما صنع في البيت السابق؛ إذ عبر عن القِصَر الذي يصيب أطراف الليل بهذا القصِّ الغريب لجناح الغراب، وكل ذلك ليضبط الصورة ضبطًا دقيقًا. ومهما يكن فإن ابن المعتز كان يحسن استخدام صبغ التشبيه إحسانًا شديدًا؛ فإذا هو يستخرج منه تلك الصور والأوضاع الكثيرة التي تروعنا روعة هذه المياه التي رآها في ربع صاحبته، فحكى صورتها في قوله: وماءٍ دارسِ الآثار خالٍ ... كدمعٍ حارَ في جفنٍ كحيلِ وحقًّا إن الإنسان ليذهب إزاء هذه الروعة في التصوير؛ حتى ليتمنى أن لو صار إليه شيء من إحساس ابن المعتز حين تمثل هذه الصور، وانظر إليه يصف الرياض في منظومته "ذم الصّبوح"؛ إذ يقول: ألا ترى البستان كيف نوَّرا ... ونشر المنثورَ زهرًا أصفرا وضحك الوردُ إلى الشقائق ... واعتنق القطرَ اعتناقَ وامقٍ في روضة كحلل العروس ... وخرَّم كهامة الطاوس وياسمين في ذرى الأغصان ... منتظم كقطع العِقْيَانِ والسَّرو مثل قضب الزبرجدِ ... قد استمد العيش من ترب ند على رياض وثرى ثري ... وجدول كالمبردِ المجلي وأخرج الخشخاش جيبًا وفتقْ ... كأنه مصاحفٌ بيضُ الورق أو مثل أقداحٍ من البلور ... تخالها تجسَّمت من نور وبعضها عُريانُ من أثوابه ... قد خجل البائس من أصحابِه تبصِرُه بعد انتشار الوردِ ... مثل الدبابيس بأيدي الْجُندِ

والسوسنُ الأبيضُ منشور الحلل ... كقطنٍ قد مسه بعض البلل وقد بدت منه ثمار الكَنْكَرِ ... كأنه جماجمٌ من عنبرِ وحلق البهارِ بين الآسِ ... جمجمةٌ كهامةِ الشَّمَّاس وجلَّنارٌ كاحمرارِ الخدِّ ... أو مثل أعرافِ ديوكِ الهندِ فإنك تعجب من تلك الأوضاع الكثيرة التي استخرجها من صبغ التشبيه وراح يطرز بها هذا الوصف البديع للرياض، وما يجري فيها من تلك الصور المختلفة التي يغرق فيها البصر؛ فهنا صفرة عسجدية، وهناك خضرة زبرجدية، وثَمَّ حمرة وردية. وليس من شك في أن قارئ ابن المعتز إذا كان مرهف الحس إرهافه، علاه ذهول وحيرة إزاء تلك الصور والأوضاع لصبغ التشبيه التي يعرضها علينا في تلك الأشكال والطرائف النادرة. وإن الإنسان ليفكر حقًّا في هذه القدرة على التصوير، هي لا تقف عند وصف الطبيعة والرياض، بل تتعداها إلى كل شيء يلتقطه خيال ابن المعتز، وانظر إليه يصف سباق الخيل: خرجن وبعضهن قريبُ بعضٍ ... سوى فوت العذارِ أو العنانِ ترى ذا السَّبق والمسبوقَ منها ... كما بسطت أناملها اليدان فإنك تراه يحكم الصورة إحكامًا طريفًا. وانظر إليه يقول في مقلة البازي: ومقلةٍ تصدقُهُ إذا رمقْ ... كأنها نرجسةٌ بلا ورقْ فليس من شك في أنك تعجب بهذه الصورة النادرة التي عمد فيها ابن المعتز إلى التفصيل، وانظر إليه يقول في أذن كلب الصيد: وأذنٍ ساقطةِ الأرجاءِ ... كوردة السوسنةِ الشَّهلاءِ وعلى هذا النمط ما يزال ابن المعتز يستخرج من صبغ التشبيه صورًا وأشكالًا لا تحصى؛ حتى ليشعر من يقرأ ديوانه أنه يعيش في تلك الرياض من البنفسج التي وصفها في قوله: كنّ سماءنا لما تجلَّت ... خلال نجومها عند الصباحِ

رياضُ بنفسج خَضِلٍ نداهُ ... تفتَّح نورُه بين الأقاحي وهي رياض ذات صبغ واحد؛ ولكن كأنما هذا الصبغ قد جمع من كل ربيع، ففيه تنوع واسع لا يمكن شيء أن يحكيه إلا أن يعود الإنسان إلى ديوان ابن المعتز، ويرى كيف استخدم صبغ التشبيه، واستطاع أن يخالف بين أشكاله وأوضاعه، كما يخالف أصحاب فن التجميل بين صور الشعر الأسود مثلا ورسومه، فإذا هم يستخرجون منه أشكالًا وأوضاعًا كثيرة، بما يسدلونه على الجبهة، أو بما يرفعونه إلى الرأس، أو بتقسيمه أقسامًا متساوية، أو غير متساوية. والحق أن أصحاب التصنيع، في القرن الثالث استطاعوا أن يرتفعوا إلى مراقي القمة في الزخرف والتنميق. وهل نسينا ذلك الزخرف العقلي الذي أحدثه أبو تمام وما استطاع أن يشفعه به من تنويع في الزخرف الحسي؟ وهذا ابن المعتز يأخذ زخرف التشبيه وينوع فيه تنويعًا واسعًا يقصر التعبير عن تصويره. إن التشبيه لون مفرد بل هو صبغ من أصباغ لون مفرد، هو لون التصوير، وهو صبغ حسي لم يشفع بثقافة عميقة ولا بفلسفة، ومع ذلك استطاع ابن المعتز أن يستخرج منه أوضاعًا وأشكالًا كثيرة؛ بحيث لا نجمع طائفة منها حتى تخرج لنا هذه اللوحات الفنية المحيِّرة، وكأن الإنسان يعيش في متحف للصور والرسوم، ولكن أي صور ورسوم؟ إنها صور ورسوم ما تزال تعزف عزفًا غريبًا! وارجع إلى أبي تمام فسترى هذه الصور والرسوم تعي الموسيقى، كما تعي الفلسفة والثقافة، وكل ذلك يتنقل فيه الفكر كما يتنقل بين قطع الرياض في الطبيعة. على أن هذه الروعة في التصنيع وما صحبها من بهجة في التلوين والتصوير سرعان ما تنحسر ظلالها عن الشعر العربي في القرون التالية.

الكتاب الثاني: مذهب التصنع

الكتاب الثاني: مذهب التصنع الفصل الأول: التصنع التصنع في الحضارة العربية ... الكتاب الثاني: مذهب التصنع الفصل الأول: التَّصَنُّعُ "نظرنا في الشعر القديم والحديث فوجدنا المعاني تقلب، ويؤخذ بعضها من بعض". الجاحظ 1- التَّصنعُ في الحضارةِ العربيةِ: لا يمضي من يدرس الشعر العربي بعد القرن الثالث حتى يحس بظاهرة واضحة تمتد في هذا الشعر وتسيطر عليه، وهي ظاهرة التصنع والتكلف الشديد، والشعر العربي لا يحيل بهذه الظاهرة، بل هو يرينا تطور الفن مع تطور الحضارات وما يصيب الناس من ترف عقلي يؤدي بهم إلى ألوان من التعقيد في صنع النماذج الفنية. نرى ذلك في القديم والحديث، نراه عند اليونان في الإسكندرية في أثناء القرنين الرابع والخامس الميلادي؛ إذ أصبح الشعر مجموعة من التعقيدات والشكليات مستجيبًا لما أصاب الحضارة اليونانية من هرم وشيخوخة، ونراه عند الغربيين المحدثين؛ ففي أواخر القرن التاسع عشر تتعقد الحضارة الغربية، ويترف العقل الغربي، ويظهر المذهب الرمزي وما يطوى فيه من فنون تكلف وتعقيد. وهذا نفسه هو ما نحسه إزاء الشعر العربي والحضارة العربية بعد القرن الثالث للهجرة، إذ نرى هذه الحضارة تعقم ولا تأتي بجديد إلا اهتمامًا بالشكليات وتعقيدًا في شئون الحياة؛ فالدولة تضعف ولكن تكثر الألقاب، ألقاب الملوك والأمراء وكبار أصحاب المناصب1، وهي كثرة لا تدل على نمو سياسي؛ إنما تدل على أن الناس أصبحوا يعنون بالشكل أكثر مما يعنون بالحقيقة نفسها. وأنت

_ 1 الحضارة الإسلامية في القرن الرابع: لآدم ميتز 1/ 231.

مهما بحثت في هذه العصور فلن تجد إلا تصنعًا شديدًا في جميع شئون الحياة؛ إذ يعيش الناس معيشة كلها تكلف وتصنع وتحذلق على ضروب وفنون مختلفة، فقد أترفت الحضارة العربية وأترف الفكر العربي، ولم يعد هناك إلا التصنع والتكلف في شئون الحياة، حتى لنجد لعضد الدولة بشيراز قصرًا مؤلفًا من ثلاثمائة وستين حجرة ليجلس كل يوم في واحدة إلى الحول1. أرأيت إلى هذا الترف وهذا التعقيد في الحياة؟ بل إنا لنراهم يعقدون الموت نفسه؛ فقد كفِّن تميم بن المعز عام 375هـ في ستين ثوبًا2. وكأنما الحضارة العربية لم تعد تجد الوسائل الطبيعية لتعبيرها فأخذت تبحث عن الوسائل الجديدة من التكلف، وهي وسائل لا تضيف جمالًا، إنما تضيف تعقيدًا إن كان التعقيد شيئًا يطلب لذاته. ولعل مما يصور هذا التعقيد بصورة أوضح ما يروى عن الوزير ابن الفرات في مآدبه من أنه "كان يدعو إليها في كل يوم تسعة من الكتَّاب الذي اختص بهم، وكان منهم أربعة نصارى؛ فكانوا يقعدون من جانبيه، وبين يديه، ويقدم إلى كل واحد منهم طبق فيه أصناف الفاكهة الموجودة في الوقت من خير شيء، ثم يجعل في الوسط طبق كبير يشتمل على جميع الأصناف، وكل طبق فيه سكين يقطع بها صاحبها ما يحتاج إلى قطعه من سفرجل وخوخ وكمثرى، ومعه طست زجاج يرمى فيه بالثُّفل، فإذا بلغوا من ذلك حاجتهم واستوفوا كفايتهم رفعت الأطباق وقدمت الطسوت والأباريق؛ فغسلوا أيديهم وأحضرت المائدة مغشاة بدبيقي فوق مكبة خيازر، ومن تحتها سفرة أدم فاضلة عليها، وحواليها مناديل. فإذا وضعت رفعت المكبة والأغشية وأخذ القوم في الأكل، وأبو الحسن بن الفرت يحدثهم ويؤانسهم ويباسطهم فلا يزال على ذلك والألوان توضع وترفع أكثر من ساعتين، ثم ينهضون إلى مجلس في جانب المجلس الذي كانوا فيه، ويغسلون أيديهم، والفرَّاشون يصبون الماء عليهم، والخدم وقوفٌ على أيديهم المناديل الدبيقية ورطليَّات ماء الورد لمسح أيديهم وصبِّه على وجوههم"3.

_ 1 الحضارة الإسلامية 2/ 178. 2 وفَيَات الأعيان: لابن خلكان 1/ 195. 3 الحضارة الإسلامية 2/ 195.

وهذه صورة بالغة في التكلف، وهي خير من يصور الحضارة العربية في هذه العصور وكيف أنها أخذت تصعِّب في طرق أدائها، فألوان الطعام لا توضع دفعة واحدة، بل ما يزال يوضع اللون بعد اللون، وإلا ففيم تقدم الزمن ورقي الحضارة؟! ونحن نعرف أن الطريقة الأولى هي التي كانت شائعة في فرنسا في أثناء القرن الثامن عشر، ثم حلت محلها الطريقة الروسية التي تشبه طريقة ابن الفرات وعمت في أوربا جميعها1: وليس من شك في أن هذا يدل -من بعض الوجوه- على ما أصاب العقل العربي من تصنع في الأداء ينحاز به عن الطرق الطبيعية في التعبير، سواء تعبير المعيشة أم تعبير التفكير. ولعل من الطُّرف التي تصور لك تصويرًا أوسع من طريقة ابن الفرات في مآدبه ما انتهى إليه المهلَّبي الوزير المعروف من تصنعه في تناول طعامه فهم يذكرون أنه "كان إذا أراد أكل شيء بملعقة كالأرز واللبن وقف من جانبه الأيمن غلام معه نحو ثلاثين ملعقة زجاجًا مجرودًا، فيأخذ منه ملعقة يأكل بها في ذلك اللون لقمة واحدة، ثم يدفعها إلى غلام آخر قام من الجانب الأيسر، ثم يأخذ أخرى فيفعل بها فعل الأولى، حتى ينال الكفاية، لئلا يعيد الملعقة إلى فيه دفعة ثانية"2 وهذا الصنيع المعقد يدل على ما انتهت إليه الحضارة العربية -في هذه العصور- من تجديد، وهو تجديد لا يتناول موادها والتنويع فيها؛ إنما يتناول وسائلها والتصعيب في طرق أدائها وما قد يكلف به الناس من التعلق بأشياء غريبة؛ فهم يغربون في حياتهم وتفكيرهم إغراب المهلبي بملاعقه، وكانت تكفيه ملعقة واحدة يتناول بها ما يريد؛ ولكنه كان يريد شيئًا آخر؛ غير تناول الطعام، وما الفرق بينه وبين بقية الناس إن أكل على طريقتهم بملعقة واحدة؟! إنه ينبغي أن يختلف عنهم وإلا ففيم وزارته؟ وفيم رقيّه عمن حوله؟ لذلك كنا نراه يشفع طعامه بشيء غريب هو هذه الملاعق التي يعقده بها؛ ولكنه تعقيد لا يضيف طرافة، إنما يضيف تصنعًا إن كان التصنع شيئًا طريفًا في ذاته.

_ 1 الحضارة الإسلامية 2/ 196. 2 معجم الأدباء 5/ 153.

التصنع في الحياة الفنية

2- التَّصنعُ في الحياةِ الفنيةِ: غمر العقل العربي في أثناء هذه العصور بهذا الذوق من التصنع؛ فعمد إلى وسائل يصعب بها تناوله للآراء والأفكار على نحو ما كان المهلبي يصعب على نفسه في تناوله لطعامه بملاعقه. وعمّت هذه الروح في صنع النماذج الفنية؛ فالتجأ كثير من الأدباء إلى تعقيد التعبير فنونًا من التعقيد، ولعل مما يصور ذلك ما يُروى من مهارة بديع الزمان وأنه كان يستطيع أن يكتب كتابًا يقرأ فيه جوابه، أو كتابًا يقرأ من آخره إلى أوله، أو كتابًا إذا قرئ من أوله إلى آخره كان كتابًا، فإن عكست سطوره مخالفة كان جوابًا، أو كتابًا لا يوجد فيه حرف منفصل من راء يتقدم الكلمة، ودال ينفصل عنها، أو خاليًا من الألف واللام، أومن الحروف العواطل أو أول سطوره كلها ميم وآخرها جيم، أو كتابًا إذا قرئ معرجًا وسُرد معرجًا كان شعرًا، أو إذا فسِّر على وجه كان مدحًا وإذا فسر على وجه كان ذمًّا1. ويظهر أن ذلك كان يعدّ عند كتاب العصر وشعرائه الأفق الأعلى في البلاغة والفصاحة، فانطلق الشعراء ينظمون قصائد كل ألفاظها من الحروف المعجمة أو من الحروف المهملة أو من الحروف المهموزة أو مما لا تنطبق معه الشفتان2؛ وكأن الشعر يستحيل إلى عمل لغوي، فإذا الشعراء يصنعون صنيع عمال المطابع إذ "يرصُّون" الحروف بعضها إلى بعض فتكون صناديق من الحروف، ولكن لا تتكون أبيات من الشعر إلا إذا أردنا بهذا الشعر الإفصاح عن صعوبات في التعبير وطرق الأداء. ونحن ينبغي أن نعرف أن الشعراء كانوا يعجبون بهذه التعقيدات إعجابًا شديدًا؛ فالثعالبي يذكر لنا أن الصاحب

_ 1 رسائل بديع الزمان "طبع اليسوعيين" ص74. 2 معاهد التنصيص 2/ 102.

ابن عباد صنع قصيدة معرَّاة من الألف التي هي أكثر الحروف دخولًا في المنظوم والمنثور فتداولها الرواة وعجبوا منها؛ فصنع الصاحب قصائد كل منها خالية من حرف من حروف الهجاء1 وحتى موسيقى الشعر والنثر لم تسلم من هذا التكلف والتعقيد في الأداء، فنحن نجد المعري في لزومياته وفصوله وغاياته يتقيد في قوافيه وأسجاعه بحرفين أو ثلاثة، كأن الوسيلة الواحدة لا تكفي للتعبير في الأدب بل يحسن أن تتعدد كما تعددت ملاعق المهلبي. ولم يصنع المعرى ذلك بمجموعة صغيرة من القصائد والرسائل، بل طبقه في ديوان ضخم من الشعر، وكتاب ضخم أيضًا من النثر. ولعل مما يتصل بهذه الجوانب من التصعيب في الأداء ما شاع في هذه العصور من الألغاز والأحاجي؛ وقد روى صاحب اليتيمة طرفًا من هذا الجانب عند بديع الزمان2 وابن العميد3. ويقول صاحب سر الفصاحة: "وقد كان شيخنا أبو العلاء يستحسن هذا الفن ويستعمله في شعره كثيرًا ومنه قوله: وجبتُ سرابيًّا كأن إكامَهُ ... جوارٍ ولكن ما لهنَّ نهود4 تمجَّس حرباءُ الهجير وحوله ... رواهبُ خيطٍ والنهارُ يهودُ5 فألغز بقوله جوارٍ عن الجواري من النساء وهو يريد كأنهن يجرين في السراب، وبقوله نهود عن نهود الجواري وهو يريد بنهود: نهوض، أي كأنهن يجرين في السراب وما لهن على الحقيقة نهوض. وأراد بقوله تمجس الحرباء: أي صار لاستقباله الشمس كالمجوس التي تعبدها وتسجد لها، وجعل النعام الرواهب لسوادها، ويهود: يرجع، وهو يلغز بذلك عن اليهود لما ذكر المجوس والرواهب، وكذلك قوله: إذا صدق الجدُّ افترى العمّ للفتى ... مكارم لا تُكري وإن كذب الخال6

_ 1 اليتيمة: للثعالبي "طبع الصاوي" 3/ 375. 2 اليتيمة 4/ 284. 3 اليتيمة 3/ 161. 4 جبت: قطعت. سرابيًا: قفرًا يلمع فيه السراب. الإكام: جمع أكمة، وهي التل. 5 الحرباء: دويبة تتلون ألوانًا مع الشمس وتدور معها. 6 تكرى: تنقص وتزيد، من الأضداد.

لأنه يريد بالجد الحظ، وبالعم: الجماعة من الناس وبالخال المخيلة، وقد ألغز بذلك عن العم والجد والخال من النسب"1. وليس من شك في أن مثل هذه الألغاز لا تضيف طرافة إلى الشعر؛ إلا أن يقصد به إلى التعقيد وأن يتخذ هذا التعقيد إحدى غاياته. وكأني بالحضارة العربية ضلت طريقها الطبيعي في التعبير، فذهبت تستعين بألوان الطعام يوضع بعضها وراء بعض، أو بالملاعق تتعدد في أثناء تناول الطعام، أو بهذه الوسائل الملتوية في التعبير الفني، وكأنها تبحث عن طريق جديد تعبر به؛ غير أنها لم تقع إلا على هذه الضروب من التكلف والتصنع فتشبثت بها، وقد خيل إليها أنها تستطيع أن تطرف بها حياة الناس وأفكارهم، ومن المهم أن نعرف أن الناس كانوا يطلبون هذه الضروب من الشعراء لأن حياتهم هم أنفسهم تعقدت وأصبحوا لا يعجبون إلا بما يتمشى مع حياتهم. واستجاب لهم الشعراء؛ فكل يحاول بدوره أن يعقِّد الفن وأن يقع في هذا التعقيد على طرفة جديدة يطرفهم بها حتى ينال إعجابهم واستحسانهم.

_ 1 سر الفصاحة ص215.

التصنع في ألوان التصنيع الحسية

3- التَّصنُّع في ألوانِ التصنيعِ الحسيةِ: سرت هذه الظاهرة من التصنع في جميع جوانب الفن حتى في ألوان التصنيع الحسية نفسها التي رأيناها عند جماعة المصنعين؛ فقد استخدمها الشعراء ولكن في هذا التعقيد الذي يعدُّ سمة القرن الرابع وما جاء بعده من قرون، ففقدت جمالها وتنوعها، ولم نعد نجد لها هذه الألوان والأصباغ الثرية التي كنا نراها عند أبي تمام، ولا هذه الأوضاع المنوعة التي مرت بنا عند ابن المعتز لصبغ التشبيه، تلك الأوضاع التي أحالها خياله إلى أشعة فضية غريبة. وليس معنى ذلك أن الشعراء هجروا وسائل التصنيع التي رأيناها في القرن

الثالث، والتي تعد نوعًا من الرومانسية في الشعر العربي؛ وإنما معناه أن الشعراء لم يعودوا يحسنون استخدامها كما كان الشأن عند أبي تمام وابن المعتز؛ هم يستخدمونها ولكن استخدامهم لها معقد تعقيد هذه الحضارة التي عاشوا فيها، وهو تعقيد لا يضيف إلى الألوان جمالًا كهذا الجمال الذي رأيناه عند أبي تمام إنما هو تعقيد يأتي لذاته؛ فلا يضيف طرافة للون بل قد يزيل منه بعض أصباغه ويحيله لونًا باهتًا لا دفء فيه ولا حرارة. واقرأ هذا الطباق للمتنبي. لمن تطلبُ الدُّنيا إذا لم ترِدْ بها ... سرورَ محبٍّ أو إساءة مجرمِ فإنك تحس كأنك لا ترى هذا الطباق الذي أقامه بين السرور والإساءة والحب والإجرام؛ لأن الكلمات لا تتقابل؛ فليست كلمة الإساءة عكس كلمة السرور، ولا كلمة الإجرام عكس كلمة الحب، إنما عكس السرور الحزن كما أن عكس الحب البغض. ولكننا ننسى؛ فقد تركنا القرن الثالث ودخلنا في القرن الرابع، وهو قرن لا يستطيع أن يجاري النهضة العربية التي رأيناها في القرن الثالث، بل هو يتخلف كما تتخلف هذه المقابلات عند المتنبي أو هذه الطباقات التي يحسن أن نعطيها وصفًا جديدًا يميزها، نسميها طباقات غير دقيقة بل نسميها: طباقات باهتة، فالكلمات لا تتطابق ويحس الإنسان كأن اللون غائب منه لا يراه، فهو لون باهت لي كلون الطباق الزاهي الذي رأيناه عند أبي تمام، بل إن الإنسان يخيَّل إليه أنه لون آخر، فقد انحسرت عنه بعض أصباغه، وغدا لا يتَّشح بهذه الأصباغ الثرية التي كنا نراها في القرن الثالث. لم يعد القرن الرابع يحسن استخدام وسائل التصنيع إلا أن يتولاها بشيء من التكلف يحيلها عن أصباغها كما نرى في هذا الطباق، ويتولاها بشيء من التعقيد في الأداء كهذا الجناس لبعض شعراء اليتيمة: إن أسيافنا القصار الدوامي ... صيّرت ملكنا طويلَ الدوامِ نحن قومٌ لنا سدادُ أمورٍ ... واصطلامُ الأعداء من وسطِ لامِ2

_ 1 التبيان "العكبري على المتنبي" "طبعة الحلبي" 4/ 141. 2 اصطلام: اجتثاث. لام: مخفف لَأم جمع لَأْمَةٍ، وهي الدرع.

واقتسام الأموال من وقت سامٍ ... واقتحامُ الأهوالِ من وقت حامِ فإنك تراه يجانس بين الدوامي والدوام، وهو جناس طبيعي يشبه ما كنا نجده في القرن الثالث، ولكن انظر إلى تجديده في هذا اللون بعد ذلك؛ إذ تراه يجانس بين: اصطلام، وكلمتي: وسط لام، كما يجانس بين: واقتسام، وكلمتي: وقت سام، وكذلك بين: واقتحام، وكلمتي: وقت حام. أرأيت إلى هذا التجديد في الجناس؟ إنه كملاعق المهلَّبي لا يضيف طرافة إنما يضيف تعقيدًا وتلفيقًا غريبًا يخرج به الجناس عن صورته الأصلية الموسيقية إلى نوع من العبث واللعب بالألفاظ والكلمات. وليس لنا أن نزري على عمل الشعراء وطريقة استخدامهم لهذه الألوان؛ فذلك أسلوب العصر، إذ كان يعجب بالتعقيد في كل شيء، وتبعه الشعراء يعقدون في وسائلهم وطرق استخدامها، ولكنهم حينما عدلوا إلى ذلك التعقيد لم يستطيعوا أن يستخرجوا منه صورًا وأشكالًا طريفة؛ إنما هي صور وأشكال غريبة، فإذا اللون يتعقد تعقدًا داخليًّا لا يضيف إليه حسنًا أو جمالًا، وإنما يضيف إليه إغرابًا، إن كان الإغراب يعتبر بدعًا في ذاته، يطلبه الشعراء في نماذجهم وآثارهم. وإذا تركنا الطباق والجناس إلى أصباغ التصوير التي كان يستخدمها شعراء القرن الثالث وجدناها يصيبها من التحول ما أصاب هذين اللونين؛ فقد عزف الشعراء عن التشخيص والتجسيم إلا في القليل النادر، أما التشبيهات والاستعارات فقد أكثروا منها، ولكنه إكثار من جنس إكثارهم من الطباق والجناس، إكثار نزع بهذه الأصباغ إلى صور جديدة، وكأنها فارقت أصباغها، واقرأ هذا البيت للوأواء الدمشقي إذ يقول1: فأمطرتْ لؤلؤًا من نرجسٍ وسقتْ ... وردًا وعضَّت على العنَّابِ بالبردِ فإنك تراه يملأ بيته بالاستعارات؛ إذ استعار اللؤلؤ للدمع والنرجس للعين

_ 1 معاهد التنصيص 1/ 168.

والورد للخد والعنَّاب للأصابع، والبَرَد للأسنان، ولكن كأن هذه الاستعارات لا تثير فينا شيئًا من اللذة الفنية التي كنا نشعر بها في أثناء القرنين الثاني والثالث، وانظر إلى أصل هذا البيت عند أبي نواس1. يا قمرًا أبرزَهُ مأتمٌ ... يندبُ شجوًا بين أترابِ يبكي فيُذرى الدرّ من نرجس ... ويلطمُ الوردُ بعنَّابِ فإنك ترى الوأواء يأخذ ناحية التشبيه من أبي نواس دون أن يأخذ معها ما فيها من حياة وحركة، وبذلك غدا التشبيه كأنه جامد؛ فالشاعر لا يشيع فيه شيئًامن الحركة، إنما شيء واحد هو الذي يهتم به، وهو هذا الركام من الصور التي لا نحس فيها شعورًا، فقد تحجَّرت في التاريخ وأصبحت تراثًا محفوظًا في الفن. ولا بد للشاعر إذا كان يريد أن يستخدمها من أن يعيد لها حياتها وشعورها، أما أن يأتي بها على هذا النظام فإننا نحس بثقل التعبير وأنه لا يكاد ينهض بما يحمله، وكأني بهذه الصورة المحفوظة من اللؤلؤ والنرجس والعناب والبرد والورد إذا وضعناها متلاصقة على هذا النحو تعبر تعبيرًا أوسع من المعنى الذي أراده الشاعر، وماذا يريد أن يقول؟ إنه يقول: إن صاحبته بكت وعضت أناملها. ولكنه أبى إلا أن يشق على نفسه في تعبيره حتى يرضي ذوق عصره من تصنعه وتكلفه فجعل البكاء أمطارًا والدموع لؤلؤًا والعين نرجسًا والخد وردًا والبنان عنابًا والأسنان بردًا، وما فائدة الزمن؟ وما الرقي الذي أصابه الشعر في القرن الرابع إن لم يجنح الشاعر إلى مثل هذا التعقيد في صوره؟ وإنه لرقي معكوس أن يشق الشاعر على نفسه في التعبير على هذا النمط؛ فإذا بالبيت لا يعبر إلا عن تعقيد في التصوير والخيال، ولكنا لا نجد فيه حواشي من الفكر تزخرف صوره إلا كما نرى في قول المتنبي2: بدت قمرًا ومالت خوطَ بانٍ ... وفاحت عنبرًا ورنتْ غزالا

_ 1 أخبار أبي نواس، ص190. يذري: ينثر. 2 التبيان 3/ 224. والخوط: القضيب، والبان: شجر يشبِّه الشعراء قدودَ النساءِ بقضبانه.

فإنك تحس كأن الشاعر لا يريد أن يعبر عن صوره فقط؛ وإنما يريد قبل كل شيء أن يعقِّد في هذه الصور، فتراه يأتي بالقمر وخوط البان والعنبر والغزال، أما حبه وأما أفكاره نحو صاحبته فكأني بها لا تعنيه، ولقد كان حريًّا بالمتنبي أن يصف لنا اللذة والرغبة والحيرة والانفعالات التي يسببها الحب، ثم يتركنا نرسم الجمال نحن لأنفسنا رسمًا خياليًّا، لا هذا الرسم الذي يتحكم فيه، والذي لا يعطينا حسه إلا عن طريق هذا التركيب والتعقيد في جلب صوره ووضعها متعاقبة بهذا الشكل الذي قد يحوي شعورًا، ولكنه شعور بغير لذة. وهذا هو معنى ما نذهب إليه من أن ألوان التصنيع تستخدم في هذا القرن، ولكن يحس الإنسان كأنها لم تعد تعبر عن أصباغها، بل كأنها أصبحت شيئًاقديمًا مألوفًا؛ فقد فقدت جمالها وزينتها، وتحولت عن ألوانها وأصباغها إلى ألوان وأصباغ باهتة، فليس هناك تصنيع ولا بديع رائع. بل إن كلمة البديع ومعناها الحديث تفقد معناها في هذه العصور فلا تعود تدل على الطريف المبتكر بل نراها تدل على غير الطريف من المكرر، يقول ابن رشيق: "والإبداع إتيان الشاعر بالمعنى المستطرف والذي لم تَجْرِ العادة بمثله، ثم لزمته هذه التسمية حتى قيل له بديع، وإن كثر وتكرّر1. ونحن لا ننفي اهتمام الشعراء المتأخرين بالبديع سواء منهم من كان في المشرق أو في المغرب أو في مصر أوفي الأندلس فقد قصر الشعراء -في هذه العصور- عنايتهم على هذا البديع حتى لنرى صفي الدين الحلي يذكر في بديعيته أنها ثمرة سبعين كتابًا في هذا الفن2، وقد تلتها بديعيات كثيرة، ولكن هذا لا ينقض كلامنا؛ فقد تحوّلت ألوان التصنيع عن أصباغها، ولم يعد لها هذه الطرافة التي كنا نجدها عند الشعراء المصنعين في القرن الثالث. وكل ما يمكن أن يضاف إلى هؤلاء الشعراء المتأخرين من ابتكار هو لون التورية الذي استحدثوه؛ ولكن ألوانهم جميعًا لم تكن زاهية ولم يكن بها هذا التنويع والثراء في الأصباغ كما

_ 1 العمدة: لابن رشيق 1/ 177. 2 خزانة الأدب للحموي ص27.

رأيناها في القرن الثالث، وكأني بهذه الألوان أصبحت مجرد زينة لا تحوي عقلًا ولا فكرًا. على أنها زينة متكررة ليس لها هذه الطرافة التي كنا نجدها في ألوان أبي تمام. وقد مر بنا أنها لم تكن ألوانًا حسية فحسب؛ فقد كان يجاور الألوان الحسية ألوان قاتمة أشد غرابة وطرافة، وهي الألوان العقلية التي كان يأتي بها من الثقافة والفلسفة ويحولها -كما مر بنا- إلى ضروب من الرمز ونوافر الأضداد والأقيسة الفنية.

ألوان التصنيع العقلية لا تستوعب ولا تتحول إلى فن

4- ألوانُ التصنيعِ العقليةِ لا تستوعَبُ ولا تتحولُ إلى فنٍ: إذا رجعنا إلى استخدام الشعراء في هذه العصور لتلك الألوان العقلية القاتمة التي خلَّفها أبو تمام في صناعة الشعر وجدناهم يقصِّرون فيها تقصيرًا شديدًا، فإن شاعرًا لم يستطع أن يلائم بين عناصر الثقافات في قصيدة له على نحو ما رأينا في قصيدة عمورية؛ بل إننا لا نجد شاعرًا يستطيع أن ينهض بأصباغ الثقافة والفلسفة، كما تركها أبو تمام، ومن العبث أن نبحث عن شاعر بعده نوَّع بثقافته في أصباغ التصنيع وألوانه العقلية. كانت الثقافة تتحول إلى عجب من الفن عند أبي تمام، وكذلك كانت الفلسفة؛ غير أننا لا نتركه إلى القرن الرابع والقرون التالية حتى نحس كأنما انطمرت مناجم الثقافة والفلسفة، فلم يعد هناك نشاط عقلي واسع، ولم تعد الفلسفة تقوم من القصيدة مقام الظلال من الصورة، ولم تعد تدخل فيها على هذا النحو الغريب الذي كنا نجده عند أبي تمام؛ إذ نرى بعض ظلالها تتحول إلى ألوان مشرقة في شعره كلون نوافر الأضداد، وقد استخرج منه بدعًا كثيرًا. ونحن لا نرتاب في أن القرن الرابع أوغَل في الفلسفة بأكثر مما أوغل القرن الثالث، فقد أخذ الشعراء يتصنعون لحكم أرسطو وأمثاله ينقلونها إلى الشعر كما سنرى عند المتنبي، بل نحن نجد في أواخر هذا القرن شاعرًا متفلسفًا هو المعري، وإذن فالفلسفة لم تنحسر ظلالها عن الشعر في هذا القرن، ولكن ليس

هذا ما ننكره؛ إنما ننكر أنها تعمقت التفكير الفني كما تعمقته عند أبي تمام، وننكر أيضًا أن أحدًا من الشعراء استغلَّ منها جانبًا عقّده واستخرج منه أصباغ زينة وتجميل، كما رأينا عند أبي تمام. على أننا لا نكاد نترك القرن الرابع وأوائل الخامس حتى يهجر الشعراء الفلسفة ويصبح الأدب أدب ألفاظ وحس فقط، لا أدب أفكار وثقافة فالشعراء لايحاولون أن يوازنوا بين حسن التفكير وحسن التعبير، وأن يأتوا بالمحسنات البديعية مقرونة بالأفكار الفلسفية كما هو الشأن عند أبي تمام. وهو نوع من إجداب الحضارة العربية والعقل العربي؛ فقد أخذت هذه الحضارة وهذا العقل ينفصلان عن الفلسفة والتفكير الفلسفي، حتى لنجد المتأخرين يسمون علوم الفلسفة علومًا مهجورة. يقول الذهبي في ترجمة ابن رشد التي أوردها رينان في كتابه "ابن رشد ومبادئه": "ونسب إليه كثرة الاشتغال بالعلوم المهجورة من علوم الأوائل"1، ويقول السيوطي في "بغية الوعاة" عن حسن بن علي القطان: "وكان فاضلًا عالِمًا باللغة والأدب والطب وعلوم الأوائل المهجورة"2. انحازت الفلسفة عن التفكير الفني إلا ما كان من المنطق ودراسته؛ فقد كان يعنى به المثقفون عامة، وقد وضع فيه الأبهري كتابه إيساغوجي في القرن السابع، كما وضع بعده بقليل نجم الدين القزويني كتابه "الشمسية في القواعد المنطقية"، ووضعت على هذين الكتابين شروح وتعليقات كثيرة، ولكن نمو المنطق لم يُفِدْ الفن العربي كثيرًا؛ لأن المنطق يقوم على التحديد والفصل بين الأشياء، ولا يترك في العقول انعكاسًا لهذا الغموض الذي يحسه الفنان في داخله وطوية نفسه، وبذلك استمر الشعر العربي بعد القرن الثالث شعر المنطق المحسوس والوعي الظاهر المكشوف. على كل حال لم يعتنق الشعراء التفكير الفلسفي، ولذلك قلما نجد بينهم من

_ 1 انظر الطبعة الرابعة بباريس ص457، س4- س3 من أسفل. 2 بغية الوعاة "طبعة القاهرة" ص224.

يقبل على صنع فنه كما يقبل أصحاب التفكير الفلسفي على عملهم، فيعتنقه على أنه مذهب أو طريقة مرسومة، ونفس المعري وهو أقرب الشعراء في هذه العصور إلى الذوق الفلسفي نجده يكتب مقدمة للزوميات؛ وذلك يؤذن بأنه سيرسم لنا مذهبًا معينًا فيها، ولكن ما نلبث أن نراه يرسم هذا المذهب ويحدده بوجوه من التعقيد في القافية وكأنه لا يحس بأنه صاحب منهج فكري. وهذا نفسه يلفتنا إلى ضروب من الخلاف بين الشعراء الغربيين المحدثين وبين شعراء العرب السابقين؛ إذ نرى كثيرًا من الأولين يكتبون مقدمات لدواوينهم، يقررون فيها مناهج مذهبية في عمل الشعر وصناعته، أما العرب فقلما كتب منهم شاعر مقدمة نحا بها هذا النحو، وهو معنى ما نقوله من أنهم لم يتخذوا الشعر مذهبًا أو كالمذهب لعدم عمق تفكيرهم الفلسفي وانحصار آماده في حدود ضيقة، وهذا نفسه أحد الأسباب التي لم تنوع مذاهب الشعر في الأدب العربي على نحو ما نرى في الأدب الغربي؛ فقلما نجد شاعرًا يحس كأنه صاحب منهج أو مذهب جديد. وكانت هذه الموجة الهنيئة من التفكير الفلسفي التي رأيناها عند أبي تمام خليقة بأن تنبعث من ورائها موجات فلسفية على ألوان كثيرة في الشعر العربي، ولكن الشعراء انحازوا عن العمق ولم يلامسوا الفلسفة إلا من الظاهر؛ إذ نراهم يستخدمون بعض الأمثال أو بعض العبارات كما سنرى عند المتنبي؛ غير أن ذهنهم بقي محافظًا في حدود التفكير القديم، وإن الإنسان ليخيل إليه كأنما كان الفكر العربي يقتبس من فلسفة اليونان في شيء من الحذر. والحق أن التفكير الفلسفي لم ينوع في أصباغ الشعر العربي لهذه العصور؛ بل نحن نرى هذا الشعر لا يستطيع أن يحافظ على ما تركه له أبو تمام من أصباغ فلسفية، ولذلك لم يحدث فيه تغيير واسع في أصباغه العقلية، بل لعل هذا نفسه كان من أهم الأسباب التي جعلته ينحرف عن الغموض والرمز. وكان فن أبي تمام خليقًا بأن يبعث في الأدب العربي نزعة رمزية واسعة، ولكن شيئًا من ذلك لم يتحقق، قد يمكن أن نلاحظ طرفًا من آثار هذه النزعة في البيئات المذهبية.

عند المتشيعة والمتصوفة، ولكنها لم تعم في الشعر العربي، وبذلك لم تحدث فيه حركة واسعة جديدة. على كل حال أخذ العرب يبتعدون عن التفكير الفلسفي رويدًا رويدًا حتى لنجد ابن الأثير في القرن السابع يهاجم فكرة التثقف بالثقافة اليونانية1 وكأنما أصبحت بدعًا غير مألوف. ونحن نلاحظ مرة أخرى أن العرب كانوا يتثقفون أيضًا في هذه العصور بثقافة علمية واسعة؛ ولكن هذه الثقافة مثلها مثل الفلسفة لم يستطيعوا أن يستوعبوها، أو يحولوها إلى فن، أو يحولوا عقولهم إلى علم، بل ظلوا يستخدمونها في الشعر كما يستخدمون الفلسفة، يستخدمونها من الظاهر؛ إذ يتصنعون لاصطلاحاتها تصنعًا واسعا، حتى يلاحظ ذلك الناقد المعاصر في القرن الخامس؛ إذ نرى ابن سنان الخفاجي ينعي هذه الطريقة على معاصريه2. ولكنا لا نتقدم بعد ذلك حتى نجد ابن الأثير يدافع عنها؛ إذ يقول: "صناعة المنظوم والمنثور مستمدة من كل علم وكل صناعة؛ لأنها موضوعة على الغرض في كل معنى، وهذا لا ضابط يضبطه، ولا حاصر يحصره، فإذا أخذ مؤلف الشعر أو الكلام المنثور في صوغ معنى من المعاني، وأداه ذلك إلى استعمال معنى فقهي أو نحوي أو حسابي أو غير ذلك؛ فليس له أن يتركه ويحيد عنده؛ لأنهم من مقتضيات ذلك المعنى الذي قصده"3. ويقول الأرّجاني4: أنا أفقهُ الشعراءِ غيرَ مدافعٍ ... في العصرِ، لا بل أشعرُ الفقهاءِ وتصوِّر لنا اليتيمة الشعراء مفتونين باصطلاحات العلوم ومسائلها يقتبسونها في أشعارهم، وأحدث ذلك فيضانًا من المصطلحات العلمية غمر الشعر العربي لهذه العصور، وسنعرض لذلك في الفصل الرابع من هذا الكتاب؛ ولكنا نلاحظ منذ الآن أن الشعراء أسرفوا على أنفسهم في جلب هذه المصطلحات التي لم تفد الشعر جمالًا ولا تفكيرًا.

_ 1 المثل السائر ص186. 2 سر الفصاحة ص159. 3 المثل السائر ص463. 4 معاهد التنصيص 2/ 5.

ونحن نعترف بأن الثقافة العلمية ضرورية للشاعر حتى يعرف أنه ليست هناك مباينة بين العلوم المبنية على الحقيقة وبين الشعر القائم على الخيال، وحتى يقرب الشعراء المسافة بين العلم والشعر، فينزعوا بشعرهم منزعًا علميًّا، يتخذونه مذهبًا أو كالمذهب، ويدققون في التعبير ويحققون في التفكير صنيع العلماء أصحاب المذاهب، أما إذا كان الشاعر لا يستوعب الثقافة العلمية إلا على هذا النحو الذي نجده عند شعراء القرن الرابع وما جاء بعده من قرون فإننا نردّه عن هذا الطريق مخالفين ابن الأثير ومن كانوا يعجبون بهذه الثرثرة التي لا تدل على شيء أكثر من الشاعر يعرف اسمها يلوكها ولا يفهمها وعلومًا يحفظها ولا يتعمقها. ونحن نعود فنقول: إن العلم كان مِثْلُه في التفكير الفني مثل الفلسفة؛ فإنه لم يعمِّقه ولم يفتح فيه أفاقًا جديدة في التعبير والتصوير، وكان حريًّا أن يبعث في الأدب العربي مذهبًا يشبه مذهب "الريالزم" الذي شاع عند الغربيين مع النمو العلمي الواسع في القرن التاسع عشر؛ إذ دفعهم إلى اتجاه في التحقيق والملاءمة بين الواقع وحكايته أنتج هذا المذهب الفني الجديد؛ ولكن علم الشاعر العربي في العصور الوسطى استمر بعيدا عن أدبه وفنه، ولم يتسرب منه شيء إلى آثاره ونماذجه. ولعل من أكبر الدلالة على ذلك ما نراه عند الشعراء من إغرامهم بلون المبالغة، وهو لون يخالف تمام المخالفة طبيعة العقل العلمي الذي يميل إلى التحقق والتدقيق وألا تتجاوز ألفاظه ما يريد التعبير عنه، فالشعر كالعلوم الرياضية حقائق ودقة في التفكير وانحيازًا عن المبالغة وتوفيقًا بين الخيال والعقل والتصور والواقع. ومن الغريب أن هذا اللون عم حتى نجد كتب النقد والبلاغة تشيد به جميعًا، ولعله أهم لون أضافه القرن الرابع إلى الشعر، وسنرى المتنبي يستخدمه استخدامًا واسعًا في الفصل التالي؛ ولكن ينبغي أن نذكر دائمًا ما يحمله هذا اللون من الإفصاح عن الحواجز التي كانت قائمة في هذه العصور بين العلم والتفكير الفني؛ فالشاعر يخرج إلى شعوذات في الخيال والتفكير والتصور والتعبير، كأن يقول المتنبي1:

_ 1 التبيان 4/ 186.

كفى بجسمي نحولًا أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني أو يقول الوأواء1: ولو نصبت رحى بإزاء دمعي ... لكانت من تحدُّرِه تدورُ أو يقول أبو عثمان الخالدي2: وأنحلَني بالهجرِ حتى لو أنني ... قذى بين جفني أرمدٍ ما توجَّعا أو يقول الْخُبْزُأرْزي3: ذُبتُ من الشوقِ فلو زجّ بي ... في مقلةِ النائمِ لم ينتبِهِ وكان لي فيما مضى خاتمٌ ... فالآن لو شئت تمنطقتُ به ونحن لا نرتاب في أن الشعر حين يفضي إلى هذا النوع من المبالغة لا يعبر عن إحساس أو وجدان؛ إنما يعبر عن نوع من السقوط الفني. إذ يذهب الشعراء بعيدًا في تصوراتهم وأفكارهم وكأنهم يجنحون إلى كل إفراط في الشعر، ولكننا ننسى، فقد تركنا القرن الثالث إلى قرون التصنع التي لا بد أن ينحاز شعراؤها إلى كل ما يضيف صعوبة أو غرابة في التعبير.

_ 1 معاهد التنصيص 1/ 258 2 معاهد التنصيص 1/ 260 3 العمدة 2/ 51، 52.

جمود الشعر العربي

5- جمودُ الشِّعرِ العَرَبي: لا نصل إلى القرن الرابع حتى نحس بأن الشعر العربي جامد لا يتحول عن الموضوعات والمعاني القديمة. وأكبر الظن أن من أهم أسباب هذا الجمود ما أشرنا إليه من أن العرب لم ينحو في شعرهم نحوًا فلسفيًّا أو علميًّا. ولعل من أهم الأسباب في ذلك أيضًا أنهم لم يطلعوا على شيء من الأدب اليوناني فاستمروا يعيشون في شعرهم معيشة داخلية فيها نوع من القصور الذاتي، وقد خيل إليهم أنهم ليسوا في حاجة إلى مدد من الخارج فحسبهم ما في شعرهم من جمال.

على أن هذا الجمال سرعان ما أصابه الجمود في القرن الرابع وما جاء بعده من قرون؛ إذ ضل الشعراء طريقهم إلى تنويع أفكارهم إلا أن يلجئوا إلى ألوان غريبة كالمبالغة، أو يستعيروا بعض الألفاظ من الثقافات، أما أن ينوعوا في موضوعاتهم ومعانيهم فذلك شيء قلما دار في أذهانهم. ولعل من أسباب ذلك أيضًا ما شاع في بيئات النقاد من أن الأسلوب هو كل شيء في الأدب، وهي فكرة نراها في النقد من قديم؛ نراها عند الجاحظ، قد أسقط المعاني، ولم يجعل لها فضلًا، وعوَّل على الألفاظ قائلًا: "إن المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي؛ وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وفي صحة الطبع وجودة السبك"1 وثار عليه ابن قتيبة، وقال: "إن البلاغة تكون في المعاني كما تكون في الألفاظ"2؛ ولكن النقاد انحازوا في الغالب إلى الجاحظ، يقول صاحب الصناعتين: "المعاني مشتركة بين العقلاء؛ فربما وقع المعنى الجيد للسوقي والنبطي والزنجي، وإنما يتفاضل الناس في الألفاظ ورصفها وتأليفها ونظمها"3، ويقول الآمدي: "وليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن التأتي وقرب المأخذ واختيار الكلام ووضع الألفاظ في مواضعها. فإن اتفق مع هذا معنى لطيف أو حكمة غريبة أو أدب حسن فذلك زائد في بهاء الكلام وإن لم يتفق فقد قام الكلام بنفسه واستغنى عما سواه"4. ويقول ابن خلدون في القرن الثامن: "إن صناعة الكلام نظمًا ونثرًا؛ إنما هي في الألفاظ لا في المعاني"5. وليس من شك في أن شيوع هذه الآراء جعل الشعراء لا يبحثون عن موضوعات جديدة، وبذلك انصب عملهم على التحوير في المعاني القديمة فنشأ هذا البحث الواسع الذي نجده في كتب النقد العربي، ونعني بحث السرقات. ونحن نجد النقاد في هذه العصور يحسون بأن هذا الجانب ضروري في الشعر، يقول

_ 1 الحيوان "طبعة الحلبي" 3/ 130. 2 الشعر والشعراء ص7. 3 الصناعتين "طبعة عيسى الحلبي" ص196. 4 الموازنة ص211. 5 المقدمة ص425.

صاحب الصناعتين: "ليس لأحد من أصناف القائلين غنى عن تداول المعاني ممن تقدمهم، والصب على قوالب من سبقهم"1. ويقول صاحب الوساطة: "السرقة داء قديم وعيب عتيق، وما زال الشاعر يستعين بخاطر الآخر ويستمد من قريحته، ويعتمد على معناه ولفظه، وكان أكثره ظاهرًا ... ثم تسبب المحدثون إلى إخفائه بالنقل والقلب وتغيير المنهاج والترتيب، وتكلفوا جبر ما فيه من النقيصة بالزيادة والتأكيد، والتعريض في حال والتصريح في أخرى، والاحتجاج والتعليل؛ فصار أحدهم إذا أخذ معنى أضاف إليه من هذه الأمور ما لا يقصر معه عن اختراعه وإبداع مثله ... ومتى أنصفت علمت أن أهل عصرنا ثم العصر الذي بعدنا أقرب فيه إلى المعذرة وأبعد من المذمة؛ لأن من تقدمنا قد استغرق المعاني، وسبق إليها، وأتى على معظمها، وإنما نحصل على بقايا، إما أن تكون تركت رغبة عنها أو استهانة بها أو لبعد مطلبها واعتياص مرامها وتعذر الوصول إليها، ومتى أجهد أحدنا نفسه، وأعمل فكره، وأتعب خاطره وذهنه في تحصيل معنى يظنه غريبًا مبتدعًا، ونظم بيت يحسبه فردًا مخترعًا، ثم تصفح عنه الدواوين لم يخط أن يجده بعينه أو يجد له مثالًا يغض من حسنه"2. والقاضي الجرجاني من نقاد القرن الرابع وشعرائه، ونراه يشهد بأن السرقات أصبحت ضرورة من ضرورات عصره في صنع الشعر ونماذجه، وهو يلاحظ أنها قديمة في الفن العربي، وهي ملاحظة صحيحة فنحن نجدها شائعة بين النقاد الأولين عند حماد الراوية وغيره. قال مروان بن أبي حفصة: "دخلت أنا وطريح بن إسماعيل الثقفي والحسين بن مطير الأسدي في جماعة من الشعراء على الوليد بن يزيد، وهو في فرش قد غاب فيها، وإذا رجل عنده كلما أنشد شاعر شعرًا وقف الوليد بن يزيد على بيت بيت من شعره، وقال هذا أخذه من موضع كذا وكذا، وهذا المعنى نقله من موضع كذا وكذا من شعر فلان؛ حتى أتى على أكثر الشعر، فقلت من هذا؟ قالوا حماد الراوية"3.

_ 1 الصناعتين ص196. 2 الوساطة بين المتنبي وخصومه "طبعة عيسى الحلبي" ص214. 3 أغاني "دار الكتب" 6/ 71.

فالشعراء يسرقون من قديم. يقول الجاحظ: "نظرنا في الشعر القديم والحديث فوجدنا المعاني تقلب ويؤخذ بعضها من بعض"1. ويقول أيضًا: "ولا يعلم في الأرض شاعر تقدم في تشبيه مصيب تام، أو في معنى غريب عجيب، أو في معنى شريف كريم، أو في بديع مخترع، إلا وكل من جاء من الشعراء من بعده أو معه إن هو لم يَعْدُ على لفظه فيسرق بعضه أو يدعيه بأسره فإنه لا يدع أن يستعين بالمعنى، ويجعل نفسه شريكًا فيه"2. وإذن فالسرقة قديمة في الشعر العربي؛ غير أنه يلاحظ أنها أصبحت شيئًا أساسيًّا في القرن الرابع فقد اهتم بها النقاد وفتحوا لها دراسات واسعة في كتبهم كما نجد في الصناعتين والوساطة والموازنة، وألِّفت فيها كتب خاصة، ألَّف مهلهل بن يموت كتابًا في سرقات أبي نواس، كما ألف كل من ابن أبي طاهر وابن عمار كتابًا في سرقات أبي تمام3. وعمت هذه الدراسة وشاعت في كتب النقد والبلاغة؛ لأنها كانت أهم جانب في صناعة النماذج الفنية. وليس من شك في أن هذا الصنيع إنما يعني الجمود والتحجر، فقد ارتبط الشعراء بمجموعة من الأفكار والمعاني والأخيلة وسجنوا شعرهم وأنفسهم فيها، وبذلك انحصروا داخل آماد ضيقة من التقليد والتلفيق.

_ 1 معاهد التنصيص 2/ 122. 2 الحيوان 3/ 311. 3 الوساطة ص209.

التحوير

6- التَّحْوِيرُ: يقسم نقاد العرب السرقات إلى قسمين: مستحبة ومنكرة؛ فالمستحبة هي التي يعمد فيها الشاعر إلى إضافة أشياء جديدة في الصور أو العبارة، وأما المنكرة فهي التي لا يستطيع فيها أن يضيف إليهما شيئًامن ذلك1. وهذا التقسيم لا يوضِّح

_ 1 الصناعتين "ص196، 299 وما بعدها"، وانظر في الوساطة، باب السرقات.

-في رأينا- هذا الجانب من جوانب حرفة الشعر، بل لعله يضيف إليه غموضًا وإبهامًا؛ فقد اضطرب النقاد في بحث هذه الوسيلة ووقفوا يسمونها سرقة وغصبًا ونحو ذلك من أسماء لا تعبر تعبيرًا واضحًا عن حقيقتها، ومن أجل ذلك كنت أوثر أن ننحي التسمية القديمة ونضع مكانها اسم "التحوير"؛ إذ يأخذ الشاعر معنى مسبوقًا أو مطروقًا فيديره في ذهنه، وما يزال به يحور فيه حتى يظهر في هيئة جديدة كأنها تخالف الهيئة القديمة. وليس الشعر بدعًا في هذه الظاهرة، بل لعلها أكثر وضوحًا في فن الرسم؛ إذ يعالج الرسامون موضوعات مشتركة، كل يرسمها رسمه الخاص الذي يعبر عن أسلوبه بما يختاره من وضع، وما يراه من طريقة في التلوين والتظليل وحشد الأجزاء في الصورة، أو نشر ضباب وغموض فيها، بحيث نرى المنظر في لمحة بدون حشده في أي جزء أو أي تفصيل، وبحيث يكون لكل رسام طريقته الخاصة ونماذجه الخاصة. والشعراء يعالجون موضوعات مشتركة ويعالجون أيضًا خواطر مشتركة؛ ولكنهم حين يعالجون هذه الخواطر يعمدون إلى التحوير فيها تحويرًا يغير من هيئتها القديمة، ويعطيها وضعًا جديدًا ولونًا جديدًا، ويخطئ من يتلومهم في ذلك ما داموا يخرجون أفكارهم إخراجًا تظهر فيه شخصياتهم؛ فكل منهم له طريقته في التلوين والتظليل، وكل منهم له أوضاعه ونماذجه، مثلهم في ذلك مثل المرايا تختلف فيها صور الأشياء باختلاف أنواعها، فالشكل في المرآة المحدبة غيره في المستوية، والخاطرة عند شاعر غيرها عند زميله لاختلافهما في مرايا الذهن والخيال، أو لاختلافهما في الوضوح والغموض، إذ الخواطر كأصحابها قد ترى غامضة في شكل أشباح بعيدة، وقد تقترب وتتضح على درجات مختلفة. ومن الواجب أن نعرف دائمًا أن العبرة في الفن بجمال الإخراج وجمال الأوضاع والهيئات، لا بالإبداع المطلق فقد يبعد تحقيقه، وما لنا نذهب بعيدًا. ورب فكرة موروثة تفوق فكرة مبتكرة، فالابتكار من حيث هو ليس صفة فنية بديعة، إنما البدع هو إخراج الفكرة في وضع جديد يلفت

الأنظار، بل ربما لم يظهر بدع الشاعر إلا حينما يتناول خاطرة موروثة أو مطروقة؛ فإذا هو يستخرج منها العجب لجودة إخراجها، وحسن عرضها. وإذن ينبغي أن ننفي عن هذا الجانب من العمل الفني ما علق به من أوهام بعض النقاد الذين لم يتصوروه على حقيقته، وأن نقرر أنه جانب أساسي في الفن؛ إذ يعدل الشعراء إلى التحوير في المعاني القديمة تحويرًا يجعلنا ننسى الأصل. والأدب الغربي يصور هذا الجانب بأوضح مما يصوره الأدب العربي، فإن تعدد أنواع الشعر عند الغربيين من قصصي إلى غنائي وتمثيلي أتاح لهذا الجانب تنوعًا لم يُتِحْ له في الشعر العربي؛ إذ نرى الشارع القصصي يعرض أسطورة، ثم يأتي الشاعر الغنائي فيحولها إلى مقطوعة غنائية، ثم يأتي الشاعر التمثيلي فيحولها إلى رواية تمثيلية، وبذلك يأخذ الموضوع بواسطة هذا التحوير الفني شكلًا جديدًا في كل نوع من أنواع الفن، فالأسطورة توجد في الشعر القصصي عند هوميروس، ثم يأخذها سوفوكليس وأوريبيديس، ويحولانها إلى راوية تمثيلية كل يعرضها بطريقته الخاصة. ونفس اتساع الأنواع يعطي فرصة أوسع عندهم في هذا التحوير، فالشعر التمثيلي يتيح للشعراء من التحوير ما لا يتيحه الشعر الغنائي، ولذلك كنت ترى "أندروماك" عند "أوريبيديس" غيرها عند "راسين" فإذا عرضت لموضوع تناولته أنواع الشعر المختلفة هناك وجدت التحوير أوسع وأعظم. وانظر إلى إيفيجيني"IPHIGENIE" تجدها في أسطورة "أجا ممنون"، ثم يأخذها "أوريبيديس" فيحولها إلى رواية تمثيلية، ثم يتناولها "راسين" فيكتب فيها رواية أخرى، وكذلك يصنع صنيعه "جيته". وهذا التحوير الواسع الذي نلاحظه عند الغربيين لم يوجد عند العرب؛ لأن شعرهم انحاز إلى نوع واحد هو الشعر الغنائي لا يتجاوزه، ولذلك ظل التحوير عندهم محدودًا في آماد ضيقة؛ فهو لا يظهر إلا في الصورة والفكرة المحصورة. على أن هذا التحوير الضيق يمكن أن يقسم إلى قسمين متمايزين: قسم تظهر فيه أصالة الشاعر، إذ يعدِّل في العناصر القديمة تعديلا يجعلنا نراها، وكأنما تغيرت وجوهها وصورها، وقسم آخر يحس الإنسان إزاءه كأن الشاعر لا يصنع

شيئًا أكثر من التلفيق؛ فهو يحاول أن يحاكي الأصل محاكاة تامة، بل لعله لا يستطيع أن يصل إلى عرضه بصورته القديمة، إنما يعرضه في صورة ملفقة، شوهت أجزاؤها، وخلطت جوانبها خلطًا قبيحًا. التَّحْويرُ الفَنِّيُّ: هناك نوعان من التحوير إذن نجدهما في الشعر العربي، نوع يمكن أن نُبقي له الاسم العام ونضيف إليه وصفًا يميزه فنسميه باسم "التحوير الفني" ونوع آخر يمكن أن نسميه باسم: التحوير الملفق، أو باسم: التلفيق؛ إذ يجمع الشاعر خواطر مضطربة يأخذها من هنا وهناك ويعرضها عرضًا مشوهًا، لا تلبث أن تقتحمه أذهاننا وتزدريه عقولنا. أما النوع الأول فكان يشيع في القرنين الثاني والثالث، ونحن نذكر بالإعجاب ما قام به أبو تمام في هذا الباب، واقرأ هذا البيت لزهير الذي مر بنا في غير هذا الموضع: أثافيّ سُفْعًا في معرَّس مرجلٍ ... ونُؤيًا كجذمِ الحوضِ لم يتثلَّمِ ثم انظر ما انتهت إليه هذه الأثافي وهذا النؤي عند أبي تمام؛ إذ يقول: أثافٍ كالخدود لطمن حُزْنًا ... ونؤيٌ مثلما انفصمَ السِّوارُ فإنك لا شك تُراع روعة شديدة فهو لا يسرق بل هو يحور تحويرًا يجعلك تنسى الأصل، وكأنه خلق الصورة خلق وابتكرها ابتكارا، واقرأ هذا البيت الذي سبق أن أنشدناه لطفيل: وجعلت كُوري فوق ناجيةٍ ... يقتاتُ لحمَ سنامِها الرَّحلُ ثم اقرأ ما انتهى إليه عند أبي تمام؛ إذ يقول: رعته الفيافي بعد ما كان حقبةً ... رعاها وماءُ الرَّوضِ ينهلُّ ساكبُهْ فليس من شك في أن هذه الصورة للبعير يرعى ويُرعى رعيًا غريبًا تستولي على أذهاننا، وتجعلنا نؤمن بمقدرة العقل الإنساني على التجديد والابتكار، ومن يستطيع أن يدعي على أبي تمام بأن هذه الصورة قديمة؟! لقد أضاف إليها فلسفة

وبدعًا من نوافر أضداده وأخرجها في صورة جديدة، يكاد الإنسان ينسى أصلها، ولا يذكر بذورها التي تفرعت منها؛ فقد غيرتها المدنية والحضارة، وحورتها الفلسفة والثقافة. كان الشعراء يستمدون من القدماء في القرنين الثاني والثالث، ولكنهم استطاعوا بمواهبهم الفنية أن يغيروا في صور ما استمدوه وكأنهم حرفوه عن أوضاعه، فغدا يختال في شكل حضري مونق، كهذه الأثافي التي تشبه -بما عليها من حمرة في سواد- الخدود وقد اضطرب فيها اللونان، ولا تنسى النَّؤْي فإنه استحال إلى سوار غريب طال عليه العهد بصاحبته، وتكسر في غير موضع منه؛ ولكنه لا يزال كأنما تركته بالأمس. وقد رجع أو تمام فوصف هذا النؤي مرة أخرى وصفًا معجبًا؛ إذ يقول: والنؤيُ أهمِدَ شطره فكأنَّه ... تحتَ الحوادثِ حاجبٌ مقرونُ وارجع إلى صورة هذه الدابة التي كانت ترعى في الصحراء، وقد أصبحت ترعاها هذه الصحراء رعيًا لا يستطيع ذهن أن يجمع في لفظ ما يعبر به عن جمال هذا التصوير وما يطوي من الإبداع في العرض، فبعيره لا يذوب سنامه فقط بل هو يرعى ويُرعى رعيًا غريبًا، وأي فنان يرى هذه الصورة ولا يقيدها في لوحته أو على تمثاله أوفي قصيدته؟ لتكن الفكرة في أصلها قديمة ولكن قد استوى لها من ذهن أبي تمام وفلسفته ما أكسبها شيئًامن الإنسانية فإذا هي تخرج من الصحراء والفيافي إلى محيط أوسع من الفكر والفلسفة والخيال والعمق. واترك أصحاب التصنيع إلى غيرهم من الصانعين كالبحتري فإنك ستذكر ما كان يضيفه إلى خواطره من تحوير في الأصوات، يلذُّنا، ويمتعنا متعة تخلق في أذهاننا هذا الجو الموسيقى الخاص به، والذي تنطق فيه مزاميره؛ فإذا هي تؤثر في أعصابنا تأثيرًا حادًّا، ونحسن كأننا نحلم حلمًا سارًّا في جو موسيقي، لا عهد لنا بسحره وفتنته. كان التحوير عند هؤلاء الشعراء عملًا فنيًّا طريفًا؛ غير أنا لا نتقدم إلى

القرن الرابع حتى نحس بتحول في هذا التحوير؛ إذ يصبح نوعًا من التلفيق، فالشعراء لا يضيفون إلى الأفكار عناصر جديدة من زخرف أو حضارة أو ثقافة، وبذلك أصبحت تشبه "الصور الفوتوغرافية" فهي تحافظ على الأصل بأشكاله وأوضاعه، وهذا كل ما تستطيع آلة المصوَّر أن تقدمه، ومع ذلك فلا بد لها من صلاحية في استعمالها واستخدامها؛ ولكن ليس للمصور عمل في صوره، إنما هي أشياء آلية، هي آلة تُخرج، وعليه أن يرصد ما تخرج. التَّلْفيقُ: ومهما يكن فقد أصبح مثل الشاعر العربي بعد القرن الثالث غالبًا مثل المصور "الفوتوغرافي"؛ إذ لم يعد رسامًا يحوِّر في الخواطر تحويرًا يظهر شخصيته وأسلوبه وما يستخدمه من ألوان وأصباغ، بل أخذ يلفق أفكاره وألفاظه، وأصبح هذا التلفيق أكثر ما بيده من صناعته، ودخله من طرق كثيرة، وكلما سلك طريقًا أمعن فيه واستخرج منه كل ما يمكن أن يكون به من ذهب أو خزف؛ فظهر الاقتباس1 وظهر التضمين2 وحلَّ الأدباء الشعر ونظموا النثر3، وهي اتجاهات لا تفصح عن مقدرات فنية، إنما تفصح عن تلفيق غريب، وانظر إلى هذا البيت للمتنبي: أعدى الزمانَ سخاؤه فسخا به ... ولقد يكونُ به الزمانُ بخيلا ثم انظر إلى أصله عند أبي تمام: هيهات أن يأتي الزمان بمثلِهِ ... إن الزمانَ بمثله لبخيلُ فإنك تحس أن المتنبي لم يصطنع شيئًاأكثر من التشويه؛ فبيت أبي تمام أجود سبكًا وأجمل لفظًا؛ ولكنه تعثر الحضارة العربية، بل هو تعثر الفن العربي؛ إذ لم يحدث فيه جديد واسع إلا هذا التقليد الذي كاد يقضي على الابتكار والأصالة في الشعر والشعراء، ولعل النقل والنقض أهم وسيلتين كان يلجأ إليهما الشعراء

_ 1 اليتيمة 2/ 189. 2 اليتيمة 4/ 199 3 انظر كتاب "نثر النظم وحلّ العقد" للثعالبي، وانظر: حل الصاحب وغيره نظم المتنبي في اليتيمة 1/ 101.

في عمل هذا التلفيق. أما النقل فهو أن ينقل الشاعر المعنى من موضوع إلى موضوع كقول المتنبي1: والطَّعنُ شزرٌ والأرض واجفةٌ ... كأنما في فؤادها وَهَلُ2 قد صبغت خدَّها الدماءُ كما ... يصبغ خدَّ الخريدةِ الخجلُ والخيلُ تبكي جلودها عرقًا ... بأدمعٍ ما تسحُّها مقلُ فقد نقل المتنبي أفكار الغزل وصوره إلى الحرب؛ ولكن بدا عليها التلفيق في وضوح، ومن يستطيع أن يفهم هذا البكاء من جلود الخيل أو يقرن البكاء إلى العرق؟ إن تكلفًا يؤذي أذواقنا ينفذ إلينا من هذا الشعر. وعلى هذه الشاكلة تذهب غالبًا الصور الأخرى من النقل. أما النقض فهو أن يعمد الشاعر إلى فكرة قديمة فينقضها كقول أبي الشيص: أجدُ الملامةَ في هواك لذيذةً ... حبًّا لذكرك فليلمني اللُّوَّمُ فقد نقض المتنبي هذه الفكرة وعكسها؛ إذ يقول: أأحبه وأحب فيه ملامةً ... إن الملامةَ فيه من أعدائِهِ3 وعلى هذا النمط أخذ الشعراء يلفقون قصائدهم من الأفكار الموروثة والخواطر المطروقة. وفي هذا التلفيق تستقر المحاولات الأخرى التي كان يحاول بها الشعراء في هذه العصور أن يجددوا في الشعر باستعاراتهم لمراسيم الرسائل في نحو ما سنفصله في الفصل الثالث من هذا الكتاب. ومهما يكن فإن الناقد لا يحس إزاء شعراء القرن الرابع وما بعده من قرون بالإعجاب الذي كان يحسه إزاء أسلافهم من شعراء القرنين الثاني والثالث؛ فقد شمل الحياة الفنية غير قليل من الركود والجمود؛ فالماء ساكن وليس عليه أمواج ولا رياح. وكأني بالحضارة العربية قد ضلت طريقها؛ فوقفت عند تقليد الأوضاع القديمة، وقلما ظهر جديد في الشعر والفن إلا هذا التلفيق الواسع للماضي وأفكاره وصوره.

_ 1 التبيان 3/ 214. 2 شزر: شديد. واجفة: مضطربة. الوهل: الفزع 3 الوساطة ص206.

وعلى هذا النحو تصبح صفة التلفيق أهم شيء يميز التفكير الفني، وقلما دخل جديد في الفن إلا تحويرًا من نوع هذا التلفيق الذي رأيناه في الشعر، وقلما أضيفت طرافة عقلية إلى الفن إلا ما قد يأتي به الشعراء من التصنع للثقافة أو محاولة هذا التعقيد الذي رأيناه -في أول هذا الفصل- عند الصاحب في قصائده، والثعالبي في رسائله، والمعري في لزومياته. وسنحاول في الفصول التالية أن نبسط ما أجملناه في هذا الفصل من وجوه ذلك التصنع؛ سواء ما كان من تصنع الشعراء للثقافة أم من تلفيقهم للخواطر والأفكار، أم من تعقيدهم للألفاظ والقوافي. وقد اخترنا المتنبي ومهيار والمعري لندرسهم دراسة مفصلة، حتى نطَّلع من خلال قصائدهم على ما أصاب الشعر من فنون هذا التصنع، ولعلهم أكثر الشعراء الذين حاولوا التجديد بعد القرن الثالث، ولذلك كان الباحث يجد عندهم مادة وافرة لدراسة مذهب التصنع في الشعر العربي وبيان طرائفه ونماذجه.

الفصل الثاني: الثقافة والتصنع

الفصل الثاني: الثقافة والتصنع المتنبي نشأته وحياته وثقافته ... الفصل الثاني: الثَّقَافَةُ والتَّصْنِيعُ أنامُ ملءَ جفوني عن شواردها ... ويسهر الخلق جراها ويختصم المتنبي 1- المتنبي نشأتُهُ وحياتُهُ وثقافتُهُ: رأينا الشعر العربي في القرن الرابع وما بعده يصيبه تصنع شديد؛ فقد أخذ الشعراء يبدئون ويعيدون في الخواطر الموروثة والأفكار المطروقة، وكأنما سدَّت أمامهم جميع الطرق التي يمكن أن يجتازوها إلى مراحل فنية جديدة، فراحوا يعقدون في وسائل التصنيع القديمة أو يستعينون بوسائل من التكلف للثقافة، ولكن هذه الوسائل قلما أحدثت في الفن طرافة. هي أوانٍ جديدة، ولكن ليس فيها نقش ولا زخرفة ولا ما يضفي على الشعر جمالًا، ولعل أهم شاعر يصور لنا تعلق الشعراء بها في القرن الرابع هو المتنبي، أشهر شعراء عصره؛ فقد كان يشغف باستعارتها في شعره يحاول أن يغرب بها على سامعيه، وأن يأتي لهم بشوارد يتجادلون فيها ويختصمون. وهو أحمد بن الحسين الْجُعفي نسبة إلى عشيرة جعفي اليمنية، ولد بالكوفة سنة 303 للهجرة بِحَارة بني كندة لأسرة متواضعة، ولحظ أبوه فيه مخايل الذكاء؛ فألحقه بإحدى المدارس العلوية1، وبذلك اتصل مباشرة بتعاليم الشيعة. وحدث أن نهب القرامطة الكوفة سنة 312 فانتقل به أبوه إلى بادية السماوة بين العراق وتدمر وظل بها عامين2 أتاحا له أن ينهل من ينابيع

_ 1 خزانة الأدب: للبغدادي 1/ 382. 2 الصبح المنبي للبديعي ص6 وانظر أنساب السمعاني ص506ب.

اللغة الأصيلة، ويعود إلى الكوفة مع أبيه، وقد تفتحت ملكته الشعرية، ورأى أن يتجه إلى المديح، لعله يحظى بما كان يحظى به المادحون من أموال؛ فمدح أبا الفضل الكوفي، ولزمه، وكان من المتفلسفة، فدرس الفلسفة عليه1، ويظهر أنه كان في أبي الفضل نزعة قرمطية، لقنها المتنبي، ولقنه الآراء الفلسفية؛ مما كان له أثر واسع في تصوره للحياة؛ إذ بدت فيه منذ حداثته نزعة شديدة إلى التشاؤم والثورة على الدهر والناس. على أنه لم يلبث أن ترك الكوفة إلى بغداد سنة 316 فامتدح بها محمد بن عبيد الله العلوي، وفي ذلك ما يدل على اتصاله بالشيعة، كما امتدح متصوفًا يسمى هرون بن علي الأوارجي. كان له شأن في قصة الحلاج2 واتصاله به ومديحه يدل على أنه لقنه مبادئ المتصوفة. ونراه يرتحل إلى الشام فيمدح بعض شيوخ البدو وبعض الأشراف في طرابلس واللاذقية. وتظهر بين البدو حركة للقرامطة، فينضم إليها، ويأمل أن يحقق أحلامه السياسية، ويستجيب كثير من البدو إليه، وسرعان ما انقلب يدعو إلى نفسه حانقًا على ما صارت إليه الأمور في البلاد العربية؛ إذ أصبح زمام الحكم بيد الأعاجم، ولم يعد للعرب نفوذ ولا سلطان، يقول: وإنما الناسُ بالملوكِ وما ... تفلحُ عُرْبٌ ملوكها عجمُ غير أن ثورته لم تنجح، فقد قضى عليها لؤلؤ والي حمص، من قبل الإخشيدين وزجَّ به في السجن حوالي سنة 322 وظل فيه نحو عامين، ثم رُدَّت إليه حريته وإلى هذه الثورة يرجع لقبه المتنبي الذي اشتهر به3؛ ولكن هل تنبأ حقيقة؟ أكبر الظن أن هذه القصة وما اتصل بها من نثر يقال: إنه حاكى به القرآن4 منتحلة عليه، وكأن من انتحلوها أرادوا أن يفسروا بها لقبه ويقول ابن جني: إنه لقب بذلك لقوله: ما مقامي بأرض نَخْلة إلا ... كمقامِ المسيحِ بين اليهودِ

_ 1 خزانة الأدب 382. 2 L. MASSIGNON, AL HALLAJ, MRTYR MYSTIQUE DE L;ISLAM, P. 240. 3 الصبح المنبي ص25، وتاريخ بغداد 4/ 104 وأنساب السمعاني ص506ب. 4 تاريخ بغداد 4/ 104.

أنا من أمةٍ تداركها اللـ ... ـهُ غريبٌ كصالحِ في ثمودِ فهو لم يتنبأ؛ وإنما خلع عليه اللقب لتشبهه بالأنبياء في هذين البيتين1، وربما لقب بذلك لفطنته في الشعر ونبوغه2. وشعره في هذه الفترة الأولى من حياته يزهر بالفخر والاعتداد بالنفس اعتدادًا مفرطًا؛ فهو يرفع نفسه على الناس من حوله ويزدريهم ويحقد عليهم حقدًا شديدًا، بل إنه ليحقد على الزمن، وتتسع المبالغة عنده، ونظن ظنًّا أنها جاءته من عقائد الشيعة في أئمتهم وما كانوا يخلعونه عليهم من صفات إلهية، وقد تحول بها إلى فخره وحديثه عن نفسه، ومديحه وحديثه عن غيره، وكأنه يظن ممدوحيه أنصاف آلهة. ويخرج من السجن وقد آمن بأن سلطانه الذي ينبغي أن يفرضه على الناس هو الشعر؛ فعاد إليه، وتجول في بلاد الشام يمدح الولاة والعمال، وسرعان ما تعرف على بدر بن عمار والي دمشق، ووجد عنده ما كان يأمله من عطاء، كما وجد فيه الأمير العربي الذي يبحث عنه، فخصه بخير مدائحه في تلك الحقبة. ومدح كثيرين غيره ونال جوائزهم، وشعره في هذه الفترة كسابقتها يملؤه بالمبالغة والفخر المسرف بنفسه. والأصل أن الشاعر حين يمدح لا يفكر إلا في ممدوحيه، أما المتنبي فكانت تشغله نفسه وكان دائم الذكر لها ولم يحسه من ثورة على الناس ونظاميهم السياسي والاجتماعي. ومن ثم جعل مدائحه شركة بينه وبين ممدوحيه، وهو يضع فيها نفسه أولًا، ولعل ذلك ما جعله ينصرف غالبًا عن الغزل والنسيب يقدم بهما قصائده، فهو يعيش في نفسه، ومثله لا يحس الحب، إنما يحس آماله ومطامحه وما يجيش في صدره من ثورة على الزمن والمجتمع. وكل ذلك يضعه في مستهل قصائده مقدمة تميز بها من بين شعراء العربية. وقدمنا في غير هذا الموضع أن أبا تمام كان ينزع هذا المنزع في بعض مدائحه، ولكنه كان يخلط شكواه بالحب، أما المتنبي فجعل شكواه خاصة بنفسه وبأفكاره عن المجتمع وأخلاق الناس مضيفًا إليها ضربًا واسعًا من التشاؤم.

_ 1 اليتيمة للثعالبي 1/ 8. 2 العمدة لابن رشيق 1/ 45.

ويلمع أمام عينيه أمير عربي شيعي كان يحارب الروم حربًا عنيفة باعثًا في حاضرته حلب نهضة أدبية وعلمية رائعة، هو سيف الدولة، فتطمح نفسه إلى الانتظام في سلك شعرائه، ويلقاه سنة 337 للهجرة فيجد عنده كل ما كان يأمله، فقد وفر له المال، كما وفر له كرامته؛ إذ رضي منه أن ينشده شعره وهو جالس توقيرًا له. ورأى فيه المتنبي رمز دولة العرب المفقودة؛ فقد كان عربيًّا من تغلب بين ولاة كثرتهم من الأعاجم، وكان في الوقت نفسه الدرع الذي يحمي البلاد العربية ضد دولة الروم الشرقية، وانتصر عليها انتصارات عظيمة في غير معركة حربية؛ فوجد فيه مثله الأعلى الذي طالما حلم به؛ كما وجد في حروبه وانتصاراته ضد الروم والبدو الموضوع الذي يشغل به قصائده، فلم تعد كلامًا يقال، وإنما أصبحت ملاحم رائعة. ومن الحق أنه كان يستشعر معاني العروبة إلى أقصى حد، وكل ذلك جعل سيف الدولة يملأ الفراغ الذي كان يحسه في داخله منذ مطالع حياته، ومن هنا تختفي في مدائحه حينئذ ثورته على الناس والزمان، وكأنما غاضت في نفسه. وعاش نحو تسع سنوات في هذا الحلم يحظى بمنزلة رفيعة من سيف الدولة، وينعم بلقاء من جذبهم إليه من الفلاسفة والعلماء مثل الفارابي وابن جني، ولا نشك في أنه أفاد من محاضرات الأول في الفلسفة، وقد انعقدت صلة متينة بينه وبين الثاني فروى عنه ديوانه وشرحه شرحًا مشهورًا إعجابًا به وافتتانًا بفنه. ومدائحه لسيف الدولة تعد في الذروة لا من شعره وحده، بل من الشعر العربي عامة؛ فقد صور فيها وقائعه وحروبه تصويرًا تشيع فيه البهجة بالنصر والاعتزاز بالعرب والعروبة، ونحس كأن نفسه لانت. وفرق بعيد بين هذه القصائد وقصائده السالفة بل قصيدته الأولى التي أعدها للقاء سيف الدولة: وفاؤكما كالرَّبع أشجاه طاسمه ... بأن تُسْعدا والدمعُ أشفاه ساجِمُهْ1 فإن فيها شيئًا من القلق النفسي، يصوره ما في هذا المطلع من تعقيد، ولعله أراد به أن يغرب على من في حاشية سيف الدولة أمثال ابن جني

_ 1 أشجاه: أحزنه، طاسمه: دارسه. بأن تسعدا: بالمساعدة في البكاء. يقول لصاحبيه: ابكيا معي بدمع ساجم فإنه أشفى للغليل، كما أن الربع أشجى للمحب إذا درس.

وابن خالويه، وقد مضى يكثر من الألفاظ الغريبة والأساليب العويصة، والمعاني غير المألوفة حتى يلفت العلماء والفلاسفة أمثال الفارابي. وفعلًا حظي بإعجابهم جميعًا. وردت إليه نفسه بعد ذلك؛ فلم يعد يعنى بالألفاظ الغريبة والمعاني البعيدة؛ إنما عني بالموضوع نفسه، فإذا هو يؤلف ملاحمه التي خلدت اسمه واسم سيف الدولة جميعًا، ويظهر أن غروره المسرف الذي كان يصوره في شعره السالف لم يزايله في سلوكه وإن زايله في أشعاره فحقد عليه كثير من الملتفين حول الأمير، وكان من بينهم من ينفس عليه مكانته منه وعطاياه الجزيلة، وعلى رأسهم أبو فراس الحمداني الشاعر المعروف ابن عم سيف الدولة وأحد أبطال معاركه الحربية. وكانت تحدث مشادات بينه وبينهم1. فتغير سيف الدولة عليه، وأحس ذلك فمسح الحزن على أشعاره، وكان ينتهز فرصة الرثاء حين يتوفى بعض أقرباء الأمير ليعبر عما في نفسه من حزن وأسى؛ ولكن في كبت، وعاتب سيف الدولة حين فاض به الكيل بقصيدته: واحرَّ قلباه ممن قلبُه شَبِمُ ... ومن بجسمي وحالي عنده سقم2 وهي تصور مأساته في أميره فهو يستمع إلى ما يقوله الحساد والخصوم ويصدقهم فيما يقولون. ويعاوده تشاؤمه القديم وحقده على الزمن والأحياء، ويضطر اضطرارًا. وقد أحس الخطر على حياته أن يفر مع أسرته خفية من حلب إلى دمشق سنة 346. وولى وجهه نحو الفسطاط وكافور، وهو يشعر في أعماقه أنه طرد من فردوسه الأرضي، وأنه بذلك يهدر مسئوليته الأدبية؛ فقد ترك أميرًا عربيًّا إلى أمير حبشي، وهو الذي طالما تغني بأمجاد العرب الماضية مؤملًا أن تعود إليهم مقاليد الحكم، ويقال إن كافورًا وعده بولاية صيدا 3؛ غير أن هذا لا يشفع له فيما انتهى إليه أمره من مديحه. وإن كان حقًّا لم يخلص في هذا المديح

_ 1 انظر في ابن خلكان ما يرويه من مشادة وقعت بين المتنبي وابن خالويه. 2 شبم: بارد، يقول: واحر قلبي واحتراقه ممن قلبه عنِّي بارد لا يعنى بي ولا يقبل علي، ومن بجسمي وحالي من إعراضه سقم يؤلمني ويؤذيني. 3 الصبح المنبي 1/ 115.

وطبيعي أن لا يخلص فيه وهو يشعر في قرارة نفسه بالنفاق وأنه غير صادق فيما يقول. ومن أهم ما يميز المتنبي أنه لا يستطيع أن يخفي ما يضطرب في دخائل نفسه. ولم يكن يؤذيه في كافور أنه حبشي فحسب؛ بل كان يؤذيه منه أيضًا أنه كان يماطله فيما مناه به من بعض الولايات. وعلى نحو ما وجد عنده من مكر به كان هو الآخر يقابل مكره بمكر فني؛ فكان يسوق إليه كثيرًا من الأبيات الموجهة التي يمكن أن تحمل على الذم والمدح1. ووجد في مصر مولى آخر للإخشيد لم يكن حبشيًّا، وإنما كان روميًّا هو فاتك، وكان الإخشيد أقطعه الفيوم، حتى لا ينفس على كافور ما صيّره إليه من وصايته على ابنه وإدارته لشئون الدولة. ومدحه المتنبي دون أن يراه ليؤذي كافورًا، ولذلك نشعر في مديحه له بالفتور وأن الحيوية التي عهدناها تنقصه. وحاول أن يَفِدَ عليه، ولكن كافورًا منعه. ويموت فاتك سنة 350 فيرثيه رثاء مؤثرًا كيدًا لخصمه وكأنه يريد بهذا الرثاء أن ينتقم منه، ولا يلبث أن يهجو كافورًا ويفر في عيد الأضحى تحت جنح الليل. وشعره في كافور مدحًا وهجاء يفيض بالثورة على الزمن والتشاؤم الشديد، وقد ظل يذكر فردوسه المفقود ويحن إلى سيف الدولة، وربما فكر في العودة إلى رحابه؛ غير أن كرامته أبت عليه أن يعود إليه كسيرًا مهزومًا؛ فاتجه إلى الكوفة مسقط رأسه، وتحول عنها إلى بغداد، وحاول الوزير المهلبي أن يجذبه إليه، ولكن من كانوا حوله من العلماء والأدباء تعرضوا له يُزْرون على شعره، فانقبض عنه، ولم يمدحه. وكان سيف الدولة كاتبه ليعود إليه، فوقع ذلك من نفسه موقعًا حسنًا وبلغه أن أخته الكبرى توفيت فرثاها رثاءً حارًّا. ويظهر أنه كان على وشك الرجوع؛ غير أنه رأى أن يذهب إلى فارس وعضد الدولة ووزيره ابن العميد، لعله يحظى عندهما بما فاته عند كافور، فذهب إليهما، وقدم لهما مدائحه، وأعطياه نائلًا غمرًا، ونراه يؤثر العودة إلى العراق، ولعله كان ينوي الذهاب إلى سيف الدولة؛ غير أنه لا يصل إلى دير العاقول بجوار النهروان حتى يخرج عليه بعض قطاع الطرق، ويقاتلهم، ويُقتل هو وابنه وغلامه مفلح في أواخر رمضان سنة 354.

_ 1 الصبح المنبي ص125.

وشعره منذ خروجه من لدن سيف الدولة شركه بين وبين ممدوحيه؛ فهو يتغنى فيه بنفسه وبهمومه ونوائب الزمن وأحداثه وهو فيها جميعًا يعرف كيف يروغ عن الموضوع، فيتحدث عن تجاربه وشكواه أو يصف شعب بوّان. وقد يبالغ على نحو ما نجد في مديحه لعضد الدولة، ولكن لا نحس عنده صدقًا ولا عاطفة، وبذلك تظل قصائده في سيف الدولة هي القطع المتوهجة من شعره. وواضح مما قدمنا أن شعر المتنبي يتطابق مع حياته، ونراه فيه يمثل ثقافته، وهي ثقافة واسعة يمتزج فيها التشيع والتصوف والفلسفة، وأتيح له ذلك كما أسلفنا منذ نشأته؛ إذ نشأ في الكوفة وتربى في مدرسة للعلويين ودرس الفلسفة على أبي الفضل الكوفي والتصوف على الأوارجي. ويظهر أنه كان مطلعًا على كثير من النِّحل والعقائد كما يدل على ذلك مثل قوله: تمتَّع من سهادٍ أو رقادٍ ... ولا تأمل كَرىً تحت الرِّجامِ فإن لثالثِ الحالين معنىً ... سوى معنى انتباهك والمنام2 وهو يشير بثالث الحالين إلى التناسخ الذي لا يقع فيه -كما يقول من يؤمنون به- موت ولا نوم، وكما كان يعرف التناسخ وما إليه من مذاهب هندية دهرية كان يعرف المجوسية ومعتقداتها، كقوله في هجاء ابن كيغلغ: يا أختَ معتنقِ الفوارسِ في الوغى ... لأخوك ثَمَّ أرق منك وأرحمُ يرنو إليك مع العفافِ وعنده ... أن المجوسَ تصيبُ فيما تحكمُ يقول العُكْبَرِيّ: على هذا البيت بقوله: "إن المجوس يحلون تزوج الأخوات فأخوها من حسنها يرى أن المجوس أصابوا في حكمهم3. ويقول في بعض ممدوحيه: وكم لظلامِ الليل عندي من يدٍ ... تخبِّر أن المناويةَ تكذبُ ويعلق العُكْبَري على هذا البيت بقوله: "المانوية قوم ينسبون إلى ماني وكان يقول الخير من النور والشر من الظلمة فرد عليه المتنبي؛ فقال: كم نعمة

_ 1 الرجام: القبور. 2 يريد بثالث الحالين: الموت. 3 شرح العُكْبَري على المتنبي "طبعة الحلبي" 4/ 122.

لظلام الليل عندي تبين أن المانوية الذين نسبوا الشر إلى الظلام كاذبون"1، ونراه يشير في بعض هجائه لكافور إلى القائلين بالدهر والتعطل والقدم؛ إذ يقول: ألا فتى يورد الهنديّ هامتَه ... كيما تزول شكوك الناس والتهمِ فإنه حجةٌ يؤذي القلوب بها ... من دينه الدَّهرُ والتعطيلُ والقدمُ والحق أن ثقافته العقلية كانت واسعة، وسنراه بعد قليل يحشد منها محصولًا كبيرًا في شعره، وكذلك كانت ثقافته اللغوية والنحوية، يقول صاحب معاهد التنصيص: "لقد كان المتنبي من المكثرين من نقل اللغة والمطلعين على غريبها وحوشيّها، ولا يسأل عن شيء إلا ويستشهد فيه بكلام العرب من النظم والنثر؛ حتى قيل إن الشيخ أبا على الفارسي قال له يومًا: كم لنا من الجموع على وزن فِعْلى؟ فقال المتنبي في الحال: حِجْلى وظِرْبى، قال الشيخ أبو على: فطالعت في كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهذين الجمعين ثالثًا فلم أجد2. ويذكر البديعي: "أنه لما وقع الجدل بين أبي الطيب اللغوي وابن خالويه في حضرة سيف الدولة طلب إليه أن يشترك في الجدل؛ فناصر أبا الطيب وأتى من الحجج ما أعانه"3. ويقال إنه لما رحل إلى بغداد ناظر الحاتمي في اللغة4، كما يروى أن ابن العميد قرأ عليه بعض الكتب اللغوية5. وهذه المعرفة باللغة ومسائلها كان يؤازرها معرفة -لعلها أوسع- بالنحو ومشاكله، وكان يتصنع له كثيرًا في ألفاظه، كقوله: إذا كان ما تنويهِ فعلًا مضارعًا ... مضى قبل أن تُلقى عليه الجوازمُ ويحس قارئ ديوانه أنه لم يكد يترك شاذة نحوية إلا وتكلفها في قصائده ونماذجه، وكان يجنح إلى المذهب الكوفي ويعمم شوارده في شعره. وهذه الكوفية لا نثبتها له من تلقاء أنفسنا، فمن قبلنا يقول العُكْبَري في التعليق على قوله:

_ 1 العُكْبَري 1/ 187. 2 معاهد التنصيص 1/ 11. 3 الصبح المنبي ص25. 4 الصبح المنبي ص79. 5 خزانة الأدب للبغدادي 1/ 380.

إلى واحدِ الدنيا إلى ابن محمّدٍ ... شجاعِ الذي لله ثم له الفضلُ "شجاع بدل من ابن وحذف منه التنوين على مذهبه"1. ويفسر العُكْبَري هذا المذهب في التعليق على قوله: وحمدانُ حمدونٌ وحمدونُ حارثٌ ... وحارثُ لقمانٌ ولقمانُ راشدُ إذ يقول: "ترك صرف حمدون وحارث ضرورة وهو جائز عندنا غير جائز عند بعض البصريين"2. وفصل ابن الأنباري في كتابه "الإنصاف" القول في هذه المسألة والخلاف فيها بين البصريين والكوفيين3. وهذا الجانب عنده هو الذي أولى شعره عناية خاصة من الشراح والمفسرين؛ فقد وجدوا أنفسهم إزاء شاعر من طراز جديد؛ إذ كان الشعراء قد اتبعوا مذهب البصرة وقلما لجئوا إلى شذوذات الكوفة ومسوغاتها في التعبير.

_ 1 العُكْبَري 3/ 184. 2 العكبري 1/ 277 3 الإنصاف"طبعة أوربا" ص205.

تصنع المتنبي للثقافات المختلفة

2- تصنُّعُ المتنبي للثقافاتِ المختلفةِ: كان المتنبي مثقفًا ثقافة واسعة بكل ما عرف لعصره من معارف وآراء، وقد اتجه بشعره إلى أن يستوعب أساليب هذه المعارف والآراء، وأن يمثِّل عناصرها المتنوعة حتى ينال إعجاب العلماء والمثقفين لعصره، وهذا هو كل ما أصابته حرفة الشعر من تطور في صياغتها عند المتنبي؛ فإن القصيدة لم تعد تعبر فقط عن خواطر وجدانية بل أصبحت تعبر أيضًا عن ثقافة، حتى تظفر بالنجاح في بيئات العلماء والمثقفين. وإن الإنسان ليخيل إليه أنه لم يكن هناك تعبير غريب أو أسلوب غير مألوف في بيئة مثقفة إلا وتكلّفه المتنبي في شعره؛ فمن ذلك ما لاحظه صاحب الصناعتين من أنه يجمع "الدنيا" على "دنا" صنيع أصحاب الأدوار والتناسخ1، كما في قوله: تتقاصرُ الأفهامُ عن إدراكِهِ ... مثل الذي الأفلاكُ فيه والدُّنا

_ 1 الصناعتين ص364.

فقد كثّر من الدنيا على طريقة القائلين بالتناسخ وأن الإنسان له دُنًا مختلفة، ولسنا نؤمن بأنه كان يقول ذلك عن عقيدة إنما هو أسلوب التصنع في القرن الرابع؛ إذ كان الشعراء يحاولون أن يجددوا في المعاني والأساليب فيجدوا السبل كأنها سدت عليهم، فنراهم يلجئون إلى بعض الصيغ يقترضونها من البيئات المذهبية، يحاولون أن يضيفوا بها إلى شعرهم مقدرة فنية غريبة، وهي مقدرة كان يعجب بها الشعراء في هذه العصور، ويعدونها آية مهارتهم وبراعتهم. قَرْمَطِيّةُ المتنبي وأثرُها في شِعْرِهِ: يذهب "ماسينيون" القرمطية أثرت في أسلوب المتنبي وصياغته، وإليها يرد كثيرًا من الظواهر الفنية في شعره؛ إذ يحس أثرها في ترفعه وما يشعر به الإنسان عنده من مرارة. وهو يلاحظ أنه كان من شعراء البلاط؛ ولكن قرمطيته جعلته لا يتغزل في الغلمان، ولا يصف جمال الجسد الإنساني، كما ابتعد عن الزهد فهو لا يتخذ طريق أبي نواس ولا طريق أبي العتاهية. وقد زعم أن القسم الأول من القصيدة عند المتنبي الذي يملؤه بخواطره وأفكاره الثائرة ليس إلا استجابة لقرمطيته، كما نرى عند إخوان الصفا وثورتهم ضد السماء والطبيعة والناموس والحكومة ثم ضرورة الطعام والشراب، وإذن المتنبي -في رأيه- يثور في شعره على الدهر ونواميس المادة ثورة قرمطية1. ولاحظ "ماسينيون" أيضًا أن المتنبي يستعمل بعض الألفاظ التي نجدها عند الإسماعيلية في إخوان الصفا من مثل: قدّس الله روحه، والفلك الدوَّار، وكذلك الثقلان بمعنى: القرآن والعترة؛ إذ يقول في كافور: فما لك تختار القِسيَ وإنما ... عن السعدِ يرمي دونَك الثقلانِ ويلاحظ أيضًا أنه توجد في الديوان كلمات أخرى من مثل المهدي والقائم والخلف؛ ولكن شراح المتنبي لم يلتفتوا إلى هذا الجانب، وهو يضرب مثلًا لذلك أن المتنبي رأي أن الشمس لا يصح أن توضع تحت مرتبة الهلال إذ يقول:

_ 1 MASSIGNON, MUTANABBI DEVANT IE SIECLE ISMAELIEN DE I;ISLAM, P.12.

وما التأنيثُ لاسمِ الشمسِ عيبٌ ... ولا التذكيرُ فخرٌ للهلالِ وهو يشير بذلك -في رأي ماسينيون- إلى الخلاف القديم بين الشيعيين في تفضيل الميم يعني محمدًا على العين يعني عليًّا1؛ ولكن الشراح لم يلتفتوا إلى شيء من هذا كله2. وفي رأيي أن كل هذه الصلة التي عقدها "ماسينيون" بين المتنبي والقرامطة غير صحيحة في جملتها وتفاصيلها؛ فالمتنبي لم يكن يومًا قرمطيًّا ولا متأثرًا بالقرامطة ومن التكلف الواضح حمل البيتين على ما أرادهما له من معنى.

_ 1 في علم الفلك عند الشيعيين الشمس: محمد، والقمر: على، والزهراء: فاطمة، والفرقدان: الحسن والحسين. 2 MASSIGNON, MUTANABBI DEVANT IE SIECLE ISMAELIEN DE I;ISLAM, P.7.

تصنع المتنبي لمصطلحات التصوف وأفكاره

3- تصنُّعُ المتنبي لمصطلحاتِ التَّصوفِ وأفكارِهِ: ليس من شك في أن ماسينيون كان بارعًا في محاولته تصوير أثر القرمطية والتشيع في عبارة المتنبي وأسلوبه وأفكاره، ونحن نظن ظنًّا أن المتنبي لم يكن قرمطيًّا ولا شيعيًّا، وإن تأثر بهما في جوانب مختلفة من شعره وأكبر الظن أنه كان للتصوف أثر في شعره أوسع من أثر التشيع، ومن يقرأ في ديوانه يجده يستوعب حيزًا واسعًا من خواطره وأفكاره. واقرأ هذه الأبيات التي يقولها في بعض ممدوحيه: ذا السراجُ المنيرُ هذا النَّقيُّ الـ ... نجيب هذا بقيةُ الأبدالِ1 فخذ ماءَ رجلِه وانضحا في الـ ... مُدُنِ تأمنْ بوائقَ الزلزالِ2 وامسحا ثوبَه البقيرَ على دائكما ... تشفيا من الأعلالِ3 فإنك تحس بأنك إزاء شاعر صوفي يصوغ معانيه صياغة صوفية؛ أليس يمدح صاحبه، كما يمدح الصوفية أقطابهم فيجعله بقية الأبدال؟ يقول ابن خلدون: "إن الصوفية قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد القطب كما قاله الشيعة في النُّقَباء"4 ويقول العكبري: "الأبدال سموا أبدالًا؛ لأنهم أبدال الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-

_ 1 النقي الجيب: الطاهر، الأبدال: عباد الصوفية. 2 بوائق: دواهي. 3 البقير: ثوب بدون أكمام من ثياب الصوفية. 4 المقدمة ص332.

في إجابة دعواتهم ونصحهم للخلق، وقيل إذا مات أحدهم أبدل الله مكانه آخر؛ فهم لا ينقضون حتى تقوم الساعة، ويقال هم أربعون رجلًا في أقطار الأرض"1. وليس كل ما في الأبيات من أثر التصوف هو أنه استعار لفظة الأبدال من الصوفية؛ بل إننا نراه يتحدث عن ممدوحه كأنه يتحدث عن رجل مبارك من رجالهم، بل إنه يتحدث حديث المشعوذين منهم، وإلا فما هذا الماء الذي يمنع الزلزال ويشفي الأعلال؟! وفي كل مكان من شعره نجد أثر هذه الشعوذة وما يتبعها من أفكار الصوفية ومعانيهم. والحق أن المتنبي كان ينزع بشعره منزعًا صوفيًّا يحاول به أن يجدد في فنه؛ ولكن تجديد غريب؛ إذ ما يزال يتصنع لأفكار المتصوفة من حلول وغير حلول يطرز بها أشعاره وقصائده، واقرأ هذا البيت: تجلّى لنا فأضأنا بِهِ ... كأنّا نجومٌ لقينا سُعودا ألا تراه يتصنع هنا لفكرة التجلي التي يؤمن بها الصوفية؟ ومن يرجع إلى رسالة القشيري ثم يعود إلى ديوان المتنبي يجده يستعمل كثيرًا من اصطلاحات القوم وألفاظهم، وفي كل مكان من ديوانه نراه يلجأ إلى هذا البِدْع الجديد فهو يستعير اصطلاح الحال2 في مثل قوله: وحالاتُ الزمانِ عليك شتّى ... وحالُك واحدٌ في كلِّ حالِ واصطلاح الخواطر في مثل قوله: عليمٌ بأسرارِ الدياناتِ واللغى ... له خطراتٌ تفضح الناسَ والكُتُبا واصطلاح الباطن والظاهر في مثل قوله: فإذا احتجبتَ فأنت غيرُ محجبٍ ... وإذا بطنتَ فأنت عينُ الظّاهرِ واصطلاح الحضور والغيبة في مثل قوله: فدتك نفوسُ الحاسدين فإنها ... معذبةٌ في حضرةٍ ومغيبِ

_ 1 التبيان 3/ 196. 2 انظر في هذا الاصطلاح وما بعده الرسالة القشيرية.

واصطلاح الزمان في مثل قوله: نحن من ضايقَ الزمان له فيـ ... ـك وخانته قربَكَ الأَيَّامُ وقال الصاحب بن عباد معلقًا على هذا البيت الأخير: "إنه لو وقع في عبارات الجنيد والشبلي لتنازعته المتصوفة دهرًا بعيدًا"1. ومثله الأبيات التي سبقته وكثير من أبيات أخرى أخرجها المتبني إخراجًا صوفيًّا وهي منتشرة في ديوانه واقرأ له هذا البيت: كبُرَ العيانُ علي حتى إنه ... صار اليقينُ من العيانِ توهُّما فستراه يبالغ حتى يصل إلى مذهب الغلاة من أهل التصوف الذين يذهبون إلى أنه ليس في العالم إلا الله وأن ما عداه خيال لا حقيقة2، وكذلك اليقين في رأي المتنبي. ولعل أهم قصيدة في ديوانه تصور هذا الجانب قصيدة الأوراجي التي سبقت الإشارة إليها؛ إذ "هي القصيدة الوحيدة التي يعمد فيها الشاعر إلى المذهب الرمزي ليرضي ممدوحه الذي كان يذهب مذهب التصوف، وهي من هذه الجهة قيمة؛ لأنها تُبِين عن علم المتنبي في الخامسة والعشرين من عمره بمذاهب المتصوفة في الكلام ومنهجهم في الرمز والإيماء، ولأنها تظهر لنا الشاعر الفتى وقد ملك ناصية الفن حقًّا، واستطاع أن يصرِّفه كما يشاء ويهوى، دون أن يجد منه مقاومة وامتناعًا ولأنها بعد هذا وذاك تكشف لنا عن براعة المتنبي لا في هذا النحو من التكلف الفني الذي كان مألوفًا في ذلك العصر والذي كان يعتمد قبل كل شيء على أوجه البديع! بل في تكلف آخر لم يكن مألوفًا إلا عند المتصوفة والباطنية الذين يقصدون بالألفاظ والمعاني غير ما يفهم منها أصحاب الظاهر من عامة الناس وخاصتهم"3. والحق أن هذه القصيدة تجعلنا نطلع على جانب مهم في تعبير المتنبي هو

_ 1 اليتيمة 1/ 145 2 تاريخ الفلسفة في الإسلام ص73. 3 مع المتنبي ص209.

الجانب الرمزي الذي كان يستعيره من بيئة المتصوفة، واقرأ له هذين البيتين في القصيدة؛ إذ يقول: لا تكثُرُ الأَمواتُ كثرةَ قلّةٍ ... إلا إذا شقيت بك الأحياءُ والقلبُ ينشقُّ عمَّا تحتَهُ ... حتى تحُلَّ به لك الشَّحْنَاءُ فستراهما يحملان في أيديهما دليل هذه الرمزية، وإلا فماذا يريد المتنبي بكثرة القلة؟ وكيف تشقى بصاحبه الأحياء؟ وما هذا الانشقاق الذي يصيب به القلوب؟ وما هذه الشحناء التي تحل بها؟ لقد اضطرب شراح المتنبي في تفسير البيتين اضطرابًا واسعًا1، والمسألة أقرب مما تصوروا، ومفتاحها أنه كان يعمد في هذه القصيدة إلى المذهب الرمزي ليرضي ممدوحه الصوفي فهو هنا يرمز على طريقة الصوفية في عباراتهم التي لا تفهم، وواضح أن المتنبي يرمز إلى الحلول في كثرة القلة. ولعل مما يصور هذه الرمزية أيضًا ما لاحظه "ماسينيون" في بيت الشمس والهلال السابق وما لاحظه أيضًا في قوله: أُحادٌ أَم سُداسٌ في أُحادِ ... لُيَيلَتُنا المَنوطَةُ بِالتَّنادِ فقد فسر هذا البيت بالبيت الذي يليه: كأن بناتِ نعشٍ في دجاها ... خرائدُ سافراتٌ في حِدَادِ إذ جعل العدد رمزًا لبنات نعش في البيت الثاني3. ومهما يكن فقد كان المتنبي يستعين بالأسلوب الرمزي في شعره وكان يستعيره من المتصوفة والمتشيعة جميعًا، وإن الإنسان لا يكاد يقرأ في هذه القصيدة التي نحن بصددها حتى يحس إحساسًا واضحًا بأنه يقرأ لشاعر من طراز مخالف للمألوف من الشعراء، وانظر كيف بدأ القصيدة:

_ 1 التبيان 1/ 27. 2 المنوطة: المعلقة. يوم التناد: يوم القيامة. ويفصل شراح المتنبي بين البيتين، ويقولون: أحاد أراد آحاد، ومعنى الشطر الأول أواحدة أم ست في واحدة وأراد ليالي الأسبوع، وجعلها اسْمًا لليالي الدهر كلها؛ لأن كل أسبوع بعده أسبوع آخر إلى آخر الدهر؛ فكأنه يقول: هذه الليلة واحدة أم ليالي الدهر جميعها جمعت في هذه الليلة الواحدة حتى طالت فامتدت إلى يوم القيامة. 3 "مع المتنبي" ص145.

أمِنَ ازديارَكِ في الدُّجى الرُّقباءُ ... إذ حيثُ كنتِ من الظلامِ ضياءُ فإنك تراه ينأى بجانبه عن ذكر الأطلال والديار إلى مخاطبة صاحبته مباشرة، كما قد يفعل الصوفية في غزلهم، ولعله من أجل ذلك لم يسمِّ صاحبته على طريقتهم واكتفى بأن جعلها ضياء لا يحل في ظلام إلا وينيره. ونحن نجد الشعراء يشبهون صواحبهم بالشمس والقمر ويجعلونهن نورًا وضياءً؛ ولكن العبارة في البيت ونظامها وما فيها من الجمع بين الظرفين "إذ حيث" تدل على تكلف الشاعر وأنه يريد أن يعبر عن معنى غير طبيعي، معنى يأتي به من بيئة الصوفيين ليستولي به على عقل ممدوحه وكان صوفيًّا، وانظر إلى ما يعقب به على هذا البيت؛ إذ يقول: قلقُ المليحةِ -وهي مسكٌ- هتكها ... ومسيرُها في الليلِ وهي ذُكاءُ1 أسفي على أسفى الذي دَلَّهتني ... عن علمِه فبه عليّ خفاءُ وشكيَّتي فقدُ السَّقامِ لأنَّهُ ... قد كان لَمَّا كان لي أعضاءُ فإنك تلاحظ كأن شاعرًا من شعراء الصوفية هو الذي يؤلف هذه الأبيات؛ فقد تغلغلت فيها الأفكار الصوفية إذ بدأ فعبر بالقلق عن السير، وهو تعبير وجداني، ثم استمر يظهر تدلهه وحيرته في حبه وما أصابه من نحول وهزال على نحو ما يظهر العشاق من الصوفيين المدلهين. وكثيرًا ما يعمد إلى ذلك المتنبي حتى في أشعاره الأخرى التي لم يمدح بها أحدًا من المتصوفة، وهل تدلهه في حبه ودعواه السقم والنحول في شعره إلا أثر من آثار هذه الصوفية المصطنعة، وأنه يستطيع أن يجاري المتصوفة وغيرهم من البيئات في أفكارهم وأساليبهم الخاصة.

_ 1 هتكها: هتك لها. وذكاء: الشمس. وخبر مسيرها محذوف، تقديره: هتك لها.

تصنع المتنبي للعبارة الصرفية وشاراتها

تصنع المتنبي للعبارة الصرفية وشاراتها ... 4- تصنُّعُ المتنبي للعبارةِ الصوفيةِ وشاراتِهَا: وهذه الصوفية يمكن أن يُلحظ تأثيرها في شعر المتنبي من جهة أخرى غير جهة الرمزية والأفكار والمعاني؛ إذ نرى في شعره تأثرًا آخر لا يأتي من أنه يستعير

أفكار المتصوفة ومعانيهم؛ إنما يأتي من استعارته لطريقتهم في التعبير وما يتصل بها من ظروفها وأحوالها الخاصة، فإن المتنبي حين عدل بشعره إلى العبارة الصوفية كان قد أسلم هذا الشعر إلى صعوبات في التركيب، وهي صعوبات كانت تميز أساليب المتصوفة في هذه العصور؛ لأن اللغة لم تكن قد اتسعت بعد لأداء أفكارهم ومعانيهم. ومن أجل ذلك كنا نجد عند المتنبي كل ما يميز تعبير المتصوفة من انحرافات والتواءات كأن يكثر من الضمائر أو من أسماء الإشارة أو من حروف النداء أو من التصغير فيبعث في التعبير حالًا غريبة من التعقيد. وقد يكون من الغريب أن نربط بين هذه الأشياء والتصوف؛ ولكنها الحقيقة الواقعة، وقد لاحظها القدماء في بعض الأبيات: لاحظها صاحب اليتيمة1 في قوله يصف فرسًا: وتسعدني في غمرةٍ بعد غمرةٍ ... سبوحٌ لها منها عليها شواهدُ2 وقوله: ولولا أنني في غير نومٍ ... لبِتُّ أظنني منِّي خيالا وقوله: ولكنك الدُّنيا إليَّ حبيبةً ... فما عنك لي إلا إليك ذهابُ وواضح ما في هذه الأبيات من كثرة الضمائر، وهي كثرة تأتي في أساليب المتصوفة لاعتمادهم في أشعارهم على فكرة الحلول وما يتفرع عنها من الملابسة والتجريد، حتى يستطيع الشاعر أن يستخرج من الفرس شواهد تشهد لها عليها، وحتى يستطيع أن يتصور من نفسه خيالًا لحقيقته، وحتى يملأ صاحبه عليه الدنيا، فما له ذهاب ولا منصرف إلا إليه. وهذه الضمائر التي نلاحظها في تلك الأبيات نلاحظ مثلها أسماء للإشارة كثيرة في أبيات أخرى، كقوله في قصيدة الأوراجي السابقة:

_ 1 اليتيمة 1/ 145. 2 الغمرة: الشدة. السبوح: الفرس شديدة الجري.

لو لم تكنْ من ذا الوَرَى اللَّذْ منك هُوْ ... عقمتْ بمولد نسلها حواءُ فقد جاء في البيت: بذا واللذ، كما جاء: بهو، وأخرج التعبير على هذا النحو الملتف؛ لأنه يريد أن يعبر عن فكرة صوفية، هي فكرة الحلول؛ فهو يريد أن يقول: إن ممدوحه من الورى والورى منه، كما يقول أصحاب الحلول في الذات العليَّة، ومن ذلك قوله في ممدوح آخر: وبه يُضَنُّ على البريةِ لا بها ... وعليهِ منها لا عليها يُوسَى1 فهو يقارن بين ممدوحه وبين الورى ويتصوره تصور الصوفية لله، وهو لذلك يقع في الضمائر الكثيرة، كما يقع في أسماء الإشارة هي الأخرى على نحو ما نرى في مثل قوله: يا أيها الملكُ المصفَّى جوهرًا ... من ذاتِ ذي الملكوت أسْمَى من سما فليس من شك أن "ذات ذي" هنا غريبة، ولكننا ننسى؛ فالمتنبي يتصنع لتعبيرات صوفية. ولعل القارئ لاحظ هذا النداء الذي بدأ به البيت وقد أكثر منه في شعره كثرة مفرطة كقوله: هذى برزت لنا فهجت رَسِيسًا ... ثم انثنيتِ وما شفيتِ نَسِيسًا2 وهو بيت يشعر الإنسان إزاءه كأنه صوفي لهذا البروز، ثم هذا الانثناء؛ ولكن الغريب فيه هو هذا النداء باسم الإشارة، ثم ما أغرب به على قارئه من حذف حرف النداء، واقرأ هذا البيت: إِذا عَذَلوا فيها أَجَبتُ بِأَنَّةٍ ... حُبَيِّبَتا قَلبًا فُؤادا هَيا جُمْلُ فإنك ترى اختلاطًا في الشطر الثاني، وليس لهذا الاختلاط من مصدر سوى أن المتنبي أكثر من النداء إذ أصل التعبير: يا حبيبتي يا قلبي يا فؤادي يا جمل. وهو إكثار أوقعه فيه تصنعه لأساليب المتصوفة التي تعتمد على ألفاظ الكشف والمشاهدة، وبذلك تقترب من الأساليب الشفوية، ولعلنا بذلك نستطيع أن نعلل لكثرة

_ 1 يوسي: من أسى عليه إذا حزن. 2 الرسيس: مس الحمى، أراد ما ثبت من الهوى. النسيس: بقية النفس

أسماء الإشارة في ديوان المتنبي؛ فقد ذكر صاحب الوساطة أن ما بشعره من هذه الأسماء يربي على ما يوجد في مجموعة من الدواوين القديمة1 وكان الأقرب أن يكثر ذلك في القديم ويقلّ في الحديث لانفصال الشعر عن الأسلوب الشفوي، ولأنه أصبح يكتب كما يكتب النثر، والمتنبي نفسه يقول في بعض أشعاره: وأخلاقُ كافورٍ -إذا شئت مدحَهُ ... وإن لم أشأ- تملى علي وأكتُبُ فهو يسمي النَّظم كتابة، ولذلك كان من المحتم أن تكون به سمات الأسلوب الكتابي فكيف جاءت هذه الكثرة من أسماء الإشارة؟ جاءته -كما قلنا- من هذا التصنع لعبارات المتصوفة التي تعتمد على الكشف والمخاطبة في الحضرة، كما جاءته لنفس السبب هذه الكثرة من حروف النداء، وكما جاءته هذه الضمائر الكثيرة من حروف النداء، وكما جاءته هذه الضمائر الكثيرة في شعره؛ إذ كان يحاول أن يعبر تعبيرات صوفية تصور الحلول والتجريد والملابسة وما يتبع ذلك من الكشف والمشاهدة، وكان التعبير عن هذه الأفكار لا يزال -كما أسلفنا- حديثًا في اللغة لم تلن له ولم تمرن عليه؛ فكانت تظهر هذه الانحرافات والصعوبات في الأسلوب. ولكن إذا أمكن أن نعلل لهذه الجوانب المختلفة في أسلوبه باصطناع عبارات المتصوفة؛ فكيف يمكن أن نعلل بنفس العلة لاستعماله التصغير في أشعاره وإكثاره منه على نحو ما رأينا في بيت النداء السابق. إِذا عَذَلوا فيها أَجَبتُ بِأَنَّةٍ ... حُبَيِّبَتا قَلبًا فُؤادًا هَيا جُملُ فنحن نراه يصغر: حبيبته، تصغير تعظيم، ومن ذلك قوله الآنف الذكر: أُحادٌ أَم سُداسٌ في أُحادِ ... لُيَيلَتُنا المَنوطَةُ بِالتَّنادِ فقد صغر ليلة أيضًا تصغير تعظيم، ويكاد الإنسان لا يجد شاذة من شواذ التصغير إلا ولها أمثلة في شعره؛ فهو يصغر فعل التعجب كقوله: أَيا ما أُحَيسِنَها مُقلَةً ... وَلَولا المَلاحَةُ لَم أَعجَبِ ويصغر اسم الإشارة في قوله:

_ 1 الوساطة ص97.

أَذا الغُصنُ أَم ذا الدعصِ أَم أَنتِ فِتنَةٌ ... وَذَيّا الَّذي قَبَّلتُهُ البَرقُ أَم ثَغْرُ وعلى هذا النمط ما يزال يكثر من التصغير في ديوانه؛ ولكن كيف نربط بين التصغير وأسلوب المتصوفة؟ إن الربط بينهما يكاد يكون غير واضح، وقد يكون أقرب من ذلك ما علل به العقاد هذه الظاهرة، إذا ذهب إلى أنها نتيجة غرور المتنبي وازدرائه للأشياء أو هي متصلة بمبالغته فهو يبالغ للتحقير1؛ غير أن هذا التعليل لا يثبت في نفس الظاهرة؛ إذ نرى المتنبي لا يقف بتصغيره عند التحقير؛ بل يذهب به إلى التعظيم كما يذهب به إلى التحقير، على نحو ما رأينا في تصغيره لحبيبته ولليلته في البيتين الأولين. والحق أن تعليل العقاد لا يطَّرِد في أمثلة الظاهرة، ولذلك كان لا يَصْلُح تفسيرًا لها، وكنا نرى أن من الأقرب أن نعلل لها بتصنع المتنبي لأساليب المتصوفة؛ إذ نراها تقترن بظواهر أخرى من شارات عباراتهم التي اقترضها منهم: كظاهرة أسماء الإشارة في البيت الأخير. ونحن نجد شاعرًا صوفيًّا متأخرًا يصطنع هذا الأسلوب من التصغير في شعره وهو ابن الفارض، وكان يكثر منه كثرة مفرطة كما نرى في قصيدته اليائية2 التي يقول فيها: يا أُهَيْلَ الوُدِّ أنّى تُنْكِرُو ... نيَ كَهْلًا بعدَ عِرفاني فُتَيّ واستمر يصغر على هذا النحو الذي نراه في كلمة: فتي، وقد يبدو أن هذه مقدمة لا تسوّغ نتيجتها؛ إذ المعقول أن يكون ابن الفارض تأثر أسلوب المتنبي؛ لأنهم متأخر عنه، على أن ذلك هو ما نريد أن نثبته؛ فقد اعتبر أسلوب المتنبي أسلوبًا صوفيًّا وأخذ يقلده المتصوفة وكأنهم أحسوا أن التصغير إحدى شارات هذا الأسلوب ومميزاته. ولعل القارئ يعجب إذا قررنا أن المتنبي هو خير شاعر يصور لنا أساليب المتصوفة في القرن الرابع، وأنه يبلغ من ذلك ما لا يبلغه الحلّاج والشِّبلي والْجُنَيد

_ 1 مطالعات في الكتب والحياة ص124. 2 انظر: ديوان ابن الفارض "طبع المطبعة الخيرية" ص24.

وغيرهم من متصوفة هذا القرن، وقد يكون من الغريب أن نذهب هذا المذهب؛ بينما نعترف بأن المتنبي لم يكن متصوفًا ولكنها الحقيقة الواقعة، فإن من يحاكون شيئًايبلغون في محاكاته ما قد يقصر عنه أصحاب هذا الشيء أنفسهم، ولذلك كان الممثل يضيف طعمًا جديدًا إلى "الدراما" التي يمثلها، ويعطينا متعة غير المتعة التي نحسها حين قراءتها منفردين؛ لأنه يصور كل ما يمكن من حركات تصحب العبارات تصويرًا يؤثر في نفوسنا تأثيرًا بعيدًا. والمتنبي لم يكن متصوفًا؛ إنما كان ممثلًا للتصوف يقترح عباراته في الشعر، وما يزال يطلب جميع شاراتها وحركاتها، وما يمكن أن تخرج فيه من ظروف مختلفة تكثر فيها الضمائر أو تكثر فيها أدوات النداء أو تكثر أسماء الإشارة، وربما التقط في أثناء ذلك تعبيرًا فيه تصغير، فأحس أن هذه سمة صوفية، وأخذ يقلدها ويعممها في تراكيبه وعباراته، وبذلك جمع في أساليبه كل ما يمكن من خصائص التعبير الصوفي وهيئاته، وبلغ من تمثيله ما لم يبلغه أصحابه الأصليون. يقول الجاحظ: "إنا نجد الحاكية من الناس يحكي ألفاظ سكان اليمن مع مخارج كلامهم لا يغادر من ذلك شيئًا، وكذلك تكون حكايته للخرساني والأهوازي والزنجي والسندي والحبشي وغير ذلك، نعم حتى تجده كأنه أطبع منهم؛ فأما إذا حكى كلام الفأفاء فكأنما قد جُمعت كل طُرْفة في كل فأفاء في الأرض في لسان واحد. ولقد كان أبو دَبّوبة الزنجي مولى آل زياد يقف بباب الكرخ بحضرة المكارين فينهق فلا يبقى حمار مريض ولا هرم حسير ولا متعب بَهير إلا نهق، وقبل ذلك تسمع نهيق الحمار على الحقيقة فلا تنبعث لذلك ولا يتحرك منها متحرك، حتى كان أبو دَبُّوبة يحركه، وكأنه قد جمع جميع الصور التي تجمع نهيق الحمار فجعلها في نهيق واحد، وكذلك في نباح الكلاب"1. وعلى هذا النحو الذي نراه عند أبي دبوبة كان المتنبي يحكي أساليب المتصوفة فيجمع كل الطرف والصور التي تمثل هذه الأساليب، وكان يبلغ من ذلك ما لا يبلغه المتصوفة من أنفسهم؛ بحيث لا نرانا نبعد إذا قلنا إن أهم شاعر يمثل

_ 1 البيان والتبيين 1/ 69 وما بعدها.

عبارات المتصوفة ويصور أساليبهم -في أثناء القرن الرابع- هو المتنبي؛ لأنه كان يحكي بعباراته كل صيغهم، ويصور في أساليبه كل صورهم وشاراتهم، حتى ليحار الباحث ويظن أن المتنبي كان صوفيًّا، وهو ظن واهم؛ فلو أنه كان صوفيًّا ما بلغ هذا المبلغ من التقليد والمحاكاة والتمثيل، إنما كان متصنعًا لهذا التصوف، وكان لا يترك مظهرًا من مظاهره ولا إيماءة من إيماءاته إلا ويسلكها في عباراته ويجمعها في أساليبه. على أن هذا الالتجاء لأساليب المتصوفة وما سبقه من التجائه لأساليب المتشيعة بعث فيها حالًا من الغلو والمبالغة في مدح أصحابه؛ حتى ليخيل إلى الإنسان -في كثير من الأحيان- أنه يقرأ مدحًا لإمام من أئمة المتشيعة أو المتصوفة؛ إذ كان يذهب مذهبهم في المبالغة، فيخرج إلى ضروب غريبة من الغلو والإفراط، واقرأ هذه الأبيات التي يقولها في بعض ممدوحيه: لَو كانَ ذو القَرنَينِ أَعمَلَ رَأيَهُ ... لَمّا أَتى الظُّلُماتِ صِرنَ شُموسا أَو كانَ صادَفَ رَأسَ عازَرَ سَيفُهُ ... في يَومِ مَعرَكَةٍ لَأَعيا عيسى أَو كانَ لُجُّ البَحرِ مِثلَ يَمينِهِ ... ما انشَقَّ حَتّى جازَ فيهِ موسى أَو كانَ لِلنيرانِ ضَوءُ جَبينِهِ ... عُبِدَت فَصارَ العالَمونَ مَجُوسا فإننا إن لم نعرف من قيلت فيه هذه الأبيات رجحنا أنه بديل من أبدال الصوفية أو نقيب من نقباء الشيعة. وحقًا أن هذه المبالغة أخذت تقل مضاعفاتها كلما تقدم به الزمن؛ ولكنها استمرت معه حتى نراه يقول لعضد الدولة: النَّاسُ كالعابدين آلهةً ... وعبدُهُ كالموحِّدِ الله وهذه المبالغة الغريبة التي نجدها عند المتنبي يمكن أن يعلل لها من جانب آخر، هو ما شاع في بيئة الأدباء والنقاد من الدعوة للمبالغة والغلو كما نرى عند قدامة1 غير أنه يلاحظ أن شاعرًا لم يبلغ من ذلك ما بلغه المتنبي؛ إذ كانت تُذْكي هذه الروح عنده بواعث من التشيع والتصوف. وعمم المتنبي هذه

_ 1 نقد الشعر "طبع القاهرة" ص35.

المبالغة في شعره ولم يقف بها عند موضوع خاص، فنحن نراها تتسرب من المدح إلى الموضوعات الأخرى من غزل وغير غزل، وكأنها لون جديد يريد أن يوشِّي به شعره، وأن يطرز به قصائده؛ بل إنه ليبدي إزاء استعماله نوعًا من الإصرار الحماسي، حتى ليحس الإنسان عنده في كثير من الأحيان بضرب من السقوط؛ فإن الشعر إذا أفرط فيه الشاعر إفراطًا شديدًا إلى درجة الغلو والمغالاة سقط إلى مستوى دون مستوى طبيعته الحقيقية، وانظر إلى قوله: لَو كانَ عِلمُكَ بِالإِلَهِ مُقَسَّمًا ... في الناسِ ما بَعَثَ الإِلَهُ رَسولا أو كان لفظُك فيهمُ ما أنزل الـ ... ـتوارةَ والفرقانَ والإنجيلا فإن الإنسان يحس كأن المعاني أعيته فذهب إلى استصغار أمور الأنبياء، وكان يستطيع أن يبلغ من وصف ممدوحه ما يريد، دون أن يكلف نفسه هذا العناء من المقارنة والمفاضلة بينه وبين الأنبياء، وليس من شك في أن الشعر حين يخرج عن حدود الاعتدال والقصد في التفكير لا يكون فيه وجدان إلا وجدانًا صناعيًّا ما يزال المتنبي يتعب في إخراجه وتصويره، وحقًا ما يقوله ابن الرومي. وإذا امرئٍ مدحَ امرأً لنوالِهِ ... وأطالَ فيهِ فقد أرادَ هِجَاءَهُ لو لم يقدِّر فيه بُعْدَ المُسْتقَى ... عند الورودِ لَمَا أطال رِشَاءَهُ والمتنبي لم يكن يطيل قصائده؛ ولكنه كان يطيل أفكاره طولًا من نوع آخر، هو هذه المبالغة التي تستقر دائمًا في صياغة شعره وتستوعب مجهودًا واسعًا في التفكير والتصوير، وهو مجهود شاق؛ غير أنه لا يرضي النقاد؛ إذ يكشف لهم سر صاحبه، وأنه يرْكَبُ طرقًا ملتوية من التصنع في فنه، ولكننا ننسى فنحن في القرن الرابع قرن التصنع، ومن الخطأ أن نطلب إلى شاعر في هذا القرن أن يخرج على ذوق معاصريه وما كان يعجبهم من الإغراب في التعبير والأفكار، وكأنما لم يبقَ لهم إلا أن يتصنعوا هذه الوجوه من التصنع لمبالغات شاذة، أو عبارات مذهبية أو ثقافية منحرفة، وهي حال يمكن أن تعد تفسيرًا لما أصاب الشعر -في هذه العصور- من جمود، أي يحس الشعراء بأنهم يبدئون ويعيدون في

أساليب موروثة؛ فتحاول طائفة منهم أن تجدد في وسائل التعبير، ولكنها تضل الطريق؛ إذ تتخذ هذا التجديد من استخدام مبالغة، أو عبارة شيعية، أو أخرى صوفية، وبذلك دار الشعراء حول أنفسهم، ولم يستطيعوا أن يجددوا تجديدًا فيه زخرف وجمال إلا قليلًا.

تصنع المتنبي للأفكار والصيغ الفلسفية

5- تصنُّعُ المتنبي للأفكارِ والصيغِ الفلسفيةِ: من أهم الوسائل التي كان يستخدمها المتنبي وغيره من الشعراء في هذه العصور وسيلة الفلسفة والثقافة اليونانية؛ فقد كان يحاول أن يستوعب الأفكار والصيغ الفلسفية في قصائده ونماذجه حتى يتخلص قليلًا من صيغ الفن الثابتة وقوالبه العتيقة، وإن الإنسان ليحس دائمًا عند المتنبي أنه كان يبحث عن صيغ جديدة للتعبير، ولكنه لم يكتفِ بأن يخضع هذا البحث لتجاربه الخاصة في التعبير عن وجدانه وأفكاره؛ إذ ذهب يقترض طائفة من الصيغ المذهبية أو الفلسفية، وبذلك انصب كثير من تجديده على تغييره في القيود ووجوه التكلف. وقد تكون القيود القديمة جميلة؛ فهي قيود فنية، أما القيود التي جاء بها المتنبي فلم تكن فنية، بل كانت شيعية أو صوفية أو فلسفية. على أنه لم يستطع أن يجري في هذا الجانب الثقافي على الدرب الذي مهده أبو تمام فقد رأيناه يستخدم الثقافة والفلسفة استخدامًا فنيًّا غريبًا على نحو ما رأينا في وصفه لعمورية، وكما رأينا في استخدامه لنوفر الأضداد، الذي أحاله عن حقيقته الفلسفية وجعله وسيلة رائعة من وسائل الزينة في صناعته. أما المتنبي فقد نقل كثيرًا من الأفكار والعبارات الفلسفية إلى الشعر؛ ولكنه لم يحولها عن حقيقتها، فالباحث يحس دائمًا بمكانها وأنها مجتلبة اجتلبها الشاعر ليدل على ثقافته وليحقق لنفسه ما يريد من الجديد في صناعته. ولعل أول ما يقابلنا من ذلك حكمه الكثيرة التي شاعت في شعره، وعرف بها عند القدماء والمحدثين؛ فهم يذكرون أن الصاحب بن عبّاد ألف رسالة لفخر الدولة ابن بُويه، جمع فيها من شعر أبي الطيب زهاء ثلاثمائة وسبعين بيتًا تجري

مجرى الأمثال، قال في مقدمتها: "وهذا الشعر مع تميُّزه وبراعته وتبريزه في صناعته له في الأمثال خصوصًا مذهب يسبق به أمثاله"1، وهذا المذهب الذي يشير إليه الصاحب في عمل حِكَمِه وصياغة أمثاله هو الذي يلفتنا من قوله؛ فالصاحب يحس بأن المتنبي له مذهب خاص في صناعة الحكم والأمثال، وهذا المذهب ليس شيئًا خاصًّا بطريقة الصناعة، وإنما هو قائم في الصناعة كلها، فمِنْ قبلِهِ لم يكن الشعراء يعدلون بشعرهم إلى كثرة الحكم والأمثال التي نجدها عنده على غير الإلف والعادة؛ إذ يعتمد عليها في عمله اعتماد أصحاب المذاهب -كما لاحظ الصاحب- ولم يكن المتنبي يأتي بهذه الحكم والأمثال من تجاربه الخاصة فحسب، بل كان أيضًا يقترض أطرافًا منها من الفلسفة، وتنبَّه لذلك معاصروه، فكتب الحاتمي رسالة يبين فيها كيف استغل صاحبنا حكم أرسطو وكيف صاغها شعرًا، فمن ذلك قوله: يُرادُ مِنَ القَلبِ نِسيانُكُم ... وَتَأبى الطِباعُ عَلى الناقِلِ وأصله عند أرسطو طاليس: "روم نقل الطباع من رديء الأطماع شديد الامتناع"2 ومن ذلك قوله: لَعَلَّ عُتْبَكَ مَحمودٌ عَواقِبُهُ ... فَرُبَّما صَحَّتِ الأَجسامُ بِالعِلَلِ وأصله عند أرسططاليس: "قد يفسد العضو لصلاح أعضاء، كالكي والفَصْد اللَّذين يفسدان الأعضاء لصلاح غيرها3، ومن ذلك قوله: وَمَن يُنفِقِ السَّاعاتِ في جَمْعِ مالِهِ ... مخافةَ فَقْرٍ فَالَّذي فَعل الفقرُ وأصله عند أرسططاليس: "من أفنى مدته في جمع المال خوف العدم فقد أسلم نفسه للعدم"4. وعلى هذه الشاكلة أخذ الحاتمي يحقق ترجمة هذه الحكم اليونانية إلى الشعر العربي عند المتنبي حتى بلغ بها نحو مائة وعشرين حكمة. ومن يقرأ في ديوان المتنبي يحس إحساسًا واضحًا بأن الشعر كان يعتمد

_ 1 "ذكرى أبي الطيب" لعبد الوهاب عزام ص417. 2 الرسالة الحاتمية من مجموعة التحفة البهية ص145. 3 نفس المصدر ص147 4 نفس المصدر ص150.

عنده على العقل المتفلسف والصياغة الفلسفية، وقد ذهب يستخدم هذه الحكم، مضيفًا إليها ضروبًا من القافية المنطقية الدقيقة حتى ينال ما يريده من الدوي العالي: وتركك في الدنيا دويًّا كأنما ... تداولُ سَمْع المرء أنْمُلُهُ العشرُ لقد كان هذا التصنع للفلسفة والمنطق يحدث له ذلك الدَّوي والضجيج الذي يريده، وبدأ -كما رأينا- فطرز شعره بأمثال الفلسفة اليونانية، ثم أخذ ينشر أسماء أصحابها في شعره من مثل أرسططاليس وبطليموس والإسكندر الأفروديسي على نحو ما يلقانا في رائيته التي مدح بها ابن العميد. كما أخذ يستعير ألفاظها واصطلاحاتها، كأن يستعير الحركة والسكون في قوله: تناهى سكونُ الحسنِ في حركاتها ... وليس لراءٍ وجهها لم يَمُتْ عُذْرُ أو يستعير كلمة القياس الفاسد في قوله: بشر تصوَّر غايةً في آية ... تنفي الظنونَ وتفسد التقييسا أو يشير إلى بعض أفكار المتفلسفة وآرائهم في مثل قوله: تخالف الناسُ حتى لا اتفاقَ لهم ... إلا عَلَى شجبٍ والخلفُ في الشَّجَبِ1 فقيل تخلدُ نفس المرءِ باقيةً ... وقيل تَشْرك جسم المرءِ في العطَبِ وكأنه كان يشك في الروح وخلودها. ونراه يقول: وَتَرى الفُتُوَّةَ وَالمُرُوَّةَ وَالأُبُـ ... وَةَ فِيَّ كُلُّ مَليحَةٍ ضَرّاتِها هُنَّ الثَلاثُ المانِعاتي لَذَّتي ... في خَلوَتي لا الخَوفُ مِن تَبِعاتِها يقول العُكْبَري في التعليق على هذين البيتين: إنه يشير بذلك إلى قول المتفلسفة: "إن النفوس تركت الشهوات البهيمية طبعًا لا خوفًا"2، وقد نراه يعتد بمذهب السوفسطائية في مثل قوله: هَوِّن عَلى بَصَرٍ ما شَقَّ مَنظَرُهُ ... فَإِنَّما يَقَظاتُ العَينِ كَالْحُلمِ فإن السوفسطائيين لا يؤمنون بوجود المحسوسات، وذهب صاحب "سرح العيون" إلى أنه كان على مذهب الهوائية أو المادية لقوله: تَبخَلُ أَيدينا بِأَرْوَاحِنا ... عَلى زَمانٍ هِيَ مِن كَسْبِهِ

_ 1 الشجب: الهلاك والموت. 2 التبيان 2/ 228.

فَهَذِهِ الأَرواحُ مِن جَوِّهِ ... وَهَذِهِ الأَجسامُ مِن تُربِهِ وحاول صاحب خزانة الأدب أن يتهمه في عقيدته لبعض هذه الأبيات التي ذكرناها2، وينبغي أن نعرف أن هذه الأفكار لم تكن تأتي في شعره عن عقيدة أو مذهب؛ إنما كانت تسرب إليه من ثقافته الفلسفية، فهو ليس شاكًّا وليس على مذهب الهوائية إنما هو شاعر من شعراء القرن الرابع الذين كانوا يتصنعون للأفكار الفلسفية. ومن الواجب أن نفصل بين المتنبي والفلسفة مرة أخرى؛ فقد غلا بعض النقاد المحدثين، وذهب إلى أنه كان فيلسوفًا لا يقل عن الفلاسفة المحدثين، بل لقد سبق "نيتشه" إلى كثير من أفكاره وآرائه وأخذ يقارن بينه وبين "دارون" في بحثه وطريقته3. وأكبر الظن أن هذا إسراف من العقاد ومن يذهب هذا المذهب في المقارنة بين أشخاص عاشوا في بيئات مختلفة وكانوا من أجناس مختلفة. ونحن لا ننكر أن هناك جانبًا من الفكر مشتركًا بين الناس جميعًا، ولولاه ما تفاهموا، ولا قامت دراسة المنطق، ولكن هذا الجانب يحسن أن لا نبالغ في تصوره وأن لا نضعه كأساس أو أصل للمقارنة في النقد، واتخاذه دليلًا على ما نذهب إليه من آراء وأحكام، وبخاصة إذا كانت هذه الآراء والأحكام تستمد من فكرة طائرة عند شاعر. وحقًا لو أن المتنبي فيلسوف لأمكن أن تقوم هذه المقارنة مع شيء من الاحتياط، أما أن نستنتج فلسفته من فكرة طائرة نتخذها مذهبًا له أو كالمذهب، ثم نقارن بينه وبين فيلسوف غربي على أساسها؛ فإننا نكون مبالغين مفرطين في المبالغة، إذن لكان الشعراء السابقون جميعًا فلاسفة وفلاسفة عصريين. ولسنا نرتاب في أن مثل هذه الافتراضات والمقارنات توقع في شيء من التحكم، وقد حمل عليها بلاشير في بحثه على المتنبي وهو محق فيما لاحظه عليها من إسراف4. ومهما يكن فإن المتنبي لم يكن فيلسوفًا؛ وإنما كان مثقفًا بالثقافة الفلسفية التي عاصرته وقد أخذ يتصنع لها في شعره يستعير حكمها وبعض أفكارها، وما يطوى فيها من أقيسة منطقية وقوالب فلسفية حتى يعجب المثقفين من حوله؛ إذ كانت هذه الأشياء التي تجلب من الفلسفة تعتبر بدعًا طريفًا في هذه العصور.

_ 1 سرح العيون: لابن نباتة المصري ص17. 2 خزانة الأدب: للبغدادي 1/ 380. 3 مطالعات في الكتب والحياة: العقاد ص144-174. 4 R. BLACHERE, ABOU T-TAYYIB AL MOTANABBI PP-311,319.

المركب الفني الفلسفي في شعر المتنبي

6- المركَّبُ الفَنِّي الفلسفي في شعر المتنبي: هذه الاستعارة الحسية التي كان يستعيرها المتنبي من الفلسفة من السهل أن يلاحظها كل باحث، وليست هي الشيء الذي نريد أن نقف عنده من تصنع المتنبي للفلسفة؛ إنما نريد أن نعرف أثر هذه الفلسفة في صياغته، نريد أن نعرف ما حدث من تغيير في باطن عباراته تحت تأثير الفكر الفلسفي، أو بعبارة أخرى نريد أن نعرف المركب الفني الفلسفي في شعره. وهذا المركب يحاول الباحثون أن يتعرفوا عليه من معرفة الأفكار المستعارة؛ غير أننا نرى أن هذه الوسيلة قاصرة، فإذا حاول باحث أن يتعرف على الحياة العقلية في العصر العباسي مثلًا؛ مما ترجم العرب كانت هذه المحاولة غير مجدية كثيرًا؛ لأنه لا يتبين هذه الحياة في اقتراح عربي أو صورة عربية؛ وإنما يتبينها في صورة أجنبية مترجمة، وكان عليه أن يتبينها في صورة التفكير العربي من داخله وما أصابه من تطور، فإنه من الممكن أن لا يكون العقل العربي أفاد كثيرًا مما ترجم، ولعل ترجماته لم تغير كثيرًا في أصول فكره وقواعد عقله. وهذا هو الذي جعلنا نقف في الفصل الثالث من الكتاب الأول من هذا البحث لنسأل إلى أي حد تطور فكر صانع الشعر في العصر العباسي، ولم نحاول أن نتبين ذلك من الترجمة للثقافات الأجنبية فقط، بل حاولنا أن نعرف ما أصاب العقل العربي من تطور في داخله، حتى إذا وصلنا إلى أبي تمام أحسسنا بأنه ليس رائدنا أن نعرف أثر الثقافة الفلسفية عنده من عبارات الفلاسفة وأفكارهم التي استعارها، بل طلبنا ذلك في استخدامه لبعض الألوان الفلسفية "كلون نوافر الأضداد" وقد أحاله لونًا فنيًّا جميلًا، وهنا تبينّا جانبًا من قابلية العقلية العربية للتفكير اليوناني، أو بعبارة أدق، عقلية أبي تمام، وما أصاب هذا التفكير عندها من تحول؛ فهي تقبله

وتتفاعل معه؛ بل هي تحوله عن طبيعته الفلسفية إلى طبيعة فنية ما يزال الشاعر يستخرج منها ألوانًا تحيِّر وتعجب. وهذا الاتجاه في البحث هو الذي نريد أن نعرف على ضوء التصنع الفلسفي عند المتنبي وإلى أي حد استطاع الفكر العربي -في القرن الرابع- أن يمتزج بالفكر اليوناني، ومن يرى هذا الجهد الذي كان يقوم به المتنبي من نقل الحكم اليونانية إلى الشعر العربي لا يشك في أن هذا الشعر أخذ يتأثر بالصورة اليونانية، ولسنا نقصد صورة النحو اليوناني أو البلاغة اليونانية أو الأخيلة اليونانية، إنما نقصد صورة التفكير اليوناني؛ فقد نفذ إلى الشعر وتشبث كثير من الشعراء به. على أنه يحسن بنا أن لا نبالغ، فإن المتنبي يرينا حقًّا قابلية العقلية العربية للتفكير اليوناني، ولكنها قابلية من نوع آخر مغاير للنوع الذي رأيناه عند أبي تمام، قابلية ليس فيها البهجة التي لاحظناها عنده في نوافر الأضداد إنما هي قابلية من طراز آخر، قابلية معقدة -إن صح هذا التعبير- فالفلسفة لا تتحول إلى بدع من الفن؛ إنما تؤثر تأثيرًا قاتِمًا في الصياغة، ويمكن أن نلخص هذا التأثير في كلمة "القوالب الفلسفية" فقد أخذ الشعراء يقترضون هذه القوالب، وهذا أكثر ما عندهم من تجديد فلسفي في الشعر. وهو تجديد غريب لا ينوع في التفكير الفني إنما ينوع فقط في أساليبه ويصيبها بهذا التعقيد الذي تعرف به القوالب الفلسفية وما يتبعه من اللف والدوران وتداخل الأفكار تداخلا لا عهد للغة العربية به قبل المتنبي إلا في القليل النادر، أما هو فوسَّع هذا الجانب وحرص عليه حرصًا شديدًا؛ لأنه كان يودعه جانبًا من سر تفوقه وسر تصنعه؛ إذ كان يحتال احتيالًا شديدًا على شارات التعبير الفلسفي وسماته يدخلها في نماذجه، كما نرى في مثل قوله: الجيشُ جيشُك غير أنك جيشه ... في قلبِِهِ ويمينه وشمالِهِ وليس في البيت غرابة ولا تعقيد، ولذلك يبدو يسيرًا سهل الفهم، ولكن إذا أمعنا النظر وجدنا فيه شيئًا يشبه أن يكون تعقيدًا؛ إذ يجعل المتنبي ممدوحه

جيشًا، ويجعل الجيش جيشه، وفي الوقت نفسه يجعله جيش الجيش؛ فهو جيش دائر على نفسه، أو هي فكرة فيها دور -كما يقول أصحاب الفلسفة- وليس من شك في أن المتنبي عمد إليها عمدًا وتصنع لها تصنعًا، وما الفرق بينه وبين غيره من شعراء عصره ممن لم يتثقفوا ثقافة فلسفية إن لم يأت بمثل هذه العبارات المتداخلة؟ وانظر إلى قوله: فتىً يشتهي طول البلادِ ووقته ... تضيق به أوقاتُهُ والمقاصدُ فإنك تراه لا يزال يتعمَّل للأسلوب الفلسفي في تفكيره وصياغته؛ وإلا فما هذا الوقت الذي تضيق به أوقات ممدوحه؟ إنه وقت غريب لعله أشد غرابة من الجيش السابق الذي يدور على نفسه، فقد جعل المتنبي الأوقات تضيق به، أو بعبارة أخرى ما زال يتصنع حتى جعل الجزء أوسع من الكل؛ فالأوقات تضيق بالوقت ضيقًا غريبًا، ولكن ما هي ميزة المتنبي إن لم يغرب على الناس بمثل هذه العبارات التي قد يحسون فيها خللًا؛ ولكنه خلل محبوب في رأيه؛ لأنه خلل فلسفي، ما يزال به حتى يشوش على الناس أفكارهم، وحتى يحدث من الارتباك والاضطراب بين المثقفين ما يستطيع أن يثبت به مهارته وتفوقه، فإذا هو يخرج هذا الجيش الدائر على نفسه، وإذا هو يحيل الجزء أكبر من الكل، حتى يجعل لنفسه من شعره أبواقًا وطبولًا، أو بوقات وطبولًا على حد تعبيره، تعلن عن براعته وحذقه وإجادته، وانظر إلى قوله: وَلَكَ الزَمانُ مِنَ الزَمانِ وِقايَةٌ ... وَلَكَ الحِمامُ مِنَ الحِمامِ فِداءُ فإنك تحس بلعب التعبير الفلسفي؛ فالزمان يقي من الزمان وقاية غير مفهومة، والحِمام يفدي من الحِمام فداء غير مفهوم أيضًا، ولكنها الفلسفة التي تعلق بها المتنبي ما تزال تخرج له من الزمان زمانًا يماثله ومن الحمام حمامًا يشاكله، وعلى هذا النحو نراه يقول بيته: أَسَفي عَلى أَسَفي الَّذي دَلَّهتِني ... عَن عِلمِهِ فَبِهِ عَلَيَّ خَفاءُ فإنه يأسف على أسفه أسفًا غير مفهوم، فالأسف يركب أسفًا مثله، كهذا

الزمان الذي يقي منه زمان مثله، وهذا الحمام الذي يفدي منه حمام مثله، وما يزال هذا القانون من التوليد يلعب في فكر المتنبي وشعره حتى نراه يقول: نِقَمٌ عَلى نِقَمِ الزَمانِ يَصُبُّها ... نِعَمٌ عَلى النِّعَمِ الَّتي لا تُجْحَدُ فالنقم على نوعين والنعم على نوعين، وكل شيء يمكن أن يستخرج منه شيء آخر يماثله، ويتحد معه، فيقوم دونه، أو يصبُّ عليه، أو يركِّبه ركوبًا غريبًا. وعلى هذا النمط ما تزال أساليبه تتشابك وتتداخل تداخلًا غير مألوف، تداخلًا يوقعه في مثل هذه الأساليب المنحرفة، أو في مثل قوله: إِلى كَم ذا التَخَلُّفُ وَالتَّواني ... وَكَم هَذا التَّمادي في التَّمادي فالتمادي يتداخل في التمادي هذا التداخل الغريب حتى يقلد المتنبي الفلاسفة في أساليبهم الملتوية، وما الفرق بين الشعر والفلسفة؟ لئن كانت الفلسفة طرافة أو كان فيها فنون من الطرافة، فإن من الواجب أن تدخل هذه الفنون إلى دوائر الشعر؛ غير أننا نلاحظ أن المتنبي إنما نظر إلى هذه الفنون من ظاهرها، فجاء يستوعب في شعره صيغها وقوالبها، ولم يستطع استخدامها استخدامًا فنيًّا على نحو ما رأينا عند أبي تمام؛ بل لقد كان يفهم هذا الاستخدام في حدود أخرى، هي أن ينقل التعبير الفلسفي إلى قصائده ونماذجه فإذا الجيش يدور هذا الدوران الذي لا تألفه العقول البسيطة، بل لا بد له من عقل متفلسف حتى يفهم فكرة الدور وأنه جيش دائر في هذه الحلقة الفلسفية التي كان يعجب بها المتنبي-فيم يظهر- إعجابًا شديدًا. وعلى هذا النحو تضيق الأوقات بالوقت، بل ما تزال الأفكار تتوالد، فكل فكرة لها خيالها، بل لقد كان يرى خيال خيالها على حد قوله: إِنَّ الْمُعيدَ لَنا المَنامُ خَيالَهُ ... كانَت إِعادَتُهُ خَيالَ خَيالِهِ فهو يحفظ العهد ويذكر حبيبه دائمًا، وما يزال خياله يَفِد عليه حتى إذا نام رأى خيال هذا الخيال، بل إنه ليرى خيال هذا الخيال الثاني في يقظته، وبخاصة خيال خيالِ أفكاره الذي ما يزال يلح عليه حتى يأتي له بهذه العبارات الفلسفية.

المعقدة، وهي عبارات كان يتعب في الحصول عليها تعبًا شديدًا، أما قوله المعروف: أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها ... وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ فلعله كان يداعب به من حوله من الأدباء والنقاد، أما حقيقة الأمر فإنه هو الذي كان يؤرقه السهر في تجويدها، وما كان مثله لينام وهو يحلم بتعبير فلسفي، يحقق له ما لا يبلغ الزمن من نفسه على حدِّ تعبيره: أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني ... ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ وقد شكا في شعره كثيرًا من سهاده وسهره؛ إذ يقول: كَأَنَّ الجُفونَ عَلى مُقلَتي ... ثِيابٌ شُقِقنَ عَلى ثاكِلِ فهو يطلب النوم والنوم يتأبى عليه، ولعله هو الذي كان يتأبى على النوم لانشغاله عنه بلفظه أو فكرة، وقد ذكر في شعره أن للأفكار نارًا تتوقد: أُشفِقُ عِندَ اِتِّقادِ فِكرَتِهِ ... عَلَيهِ مِنها أَخافُ يَشتَعِلُ فهو يشعر شعورًا واضحًا بأن الأفكار قد تشعل صاحبها، ومن يدري فربما مرت به لحظة خيل إليه فيه أنه يشتعل بهذا الثقاب من الفلسفة التي أشعلت كل شيء في شعره. وليس من شك في أنه ثقاب محبب إلى نفوسنا؛ غير أن المتنبي لم يحدث به ولا بنيرانه طرافة واسعة في شعره كما رأينا عند أبي تمام. وكأني بالمتنبي يلفتنا إلى شيء مهم في العقلية العربية وقابليتها للتفكير اليوناني في أثناء القرن الرابع؛ فإنها تخلفت في كثير من جوانبها عن هذا التفكير وبخاصة في هذا الجانب الفني من الشعر الذي نقرأه عند المتنبي وأضرابه؛ إذ نرى الفلسفة لا تحدث طرافة ولا تنوعًا في الأفكار إلا آمادًا ضيقة، إنما ينصب تأثيرها على جانب شكلي، جانب العبارات والأساليب، حتى ليحس الإنسان بأن الدفعة الهنيئة الطليقة التي مرت بنا عند أبي تمام حيث كانت الفلسفة تستخدم استخدامًا فنيًّا خاصًّا كأنها لون زاهٍ هذه الدفعة يصيبها غير قليل من الجمود والركود، وكأن الشعراء لا يتعمقون التفكير اليوناني، وكأن هذا التفكير لا يتعمق عقولهم،

فلا نراه يتحول عندهم إلى بدع وطرافة في التفكير، وأيضًا فنحن لا نراه يحدث تنوعًا واسعًا في الخواطر والمعاني، وكأن الفلسفة اليونانية تنحرف عن التفكير الفني، أو كأنها لا تمتزج بهذا التفكير امتزاجًا من شأنه أن يغير صورته وأوضاعه؛ وإنما أكثر ما تحدثه في هذا الجانب ينصب على تأثير شكلي في القوالب والعبارات، كقول المتنبي: قَد كانَ يَمنَعُني الحَياءُ مِنَ البُكا ... فَاليَومَ يَمنَعُهُ البُكا أَن يَمنَعا فالحياء يمنع البكاء والبكاء يمنع الحياء، وهذا كل ما يأتي به المتنبي من طرافة في التفكير يجلبها من الفلسفة؛ ولكن هذه الطرافة ليست شيئًا أكثر من اللف والدوران في التعبير. وعلى هذا النمط نرى المتنبي تنغمس عباراته في أصباغ الفلسفة، ولكنه انغماس شكلي إذ يحاول أن يحقق لنفسه أوصاف قوالبها وخواص تراكيبها، أما بعد ذلك فإنها لا تتفاعل مع تفكيره، ولا تنقله من حيز إلى حيز، أو من عالم إلى عالم. بل ما يزال متصلًا في أفكاره ومعانيه بالماضي، لا يستطيع فصم علاقته به. وإن الإنسان ليكاد يؤمن بأن التفكير اليوناني لم يحدث رجفة واسعة عند المتنبي وأضرابه ممن نحس عندهم بأن الفنانين ما يزالون يفكرون تفكيرًا أقرب إلى الأسلوب القديم. وحقًّا أن الفلسفة اليونانية ترجمت واستوعبها العرب، وكان منهم متفلسفة، ولكن يحسن دائمًا أن نميز بين هذه الموجة والتأثر العام في التفكير الفني؛ إذ نشعر بأن الفلسفة تختلط بهذا التفكير، ولكنها قلما تمتزج به أو تتحد معه، بل يستمر بينهما خطوط فاصلة؛ إلا أن تجلب بعض شاراتها وسماتها، كما نرى عند المتنبي. ولكنها لا تتغلغل إلى باطن الشعر وباطن صياغته إلا قليلًا، وحتى المعري مع أنه نقل التفكير الوجداني إلى تفكير يشبه التفكير الفلسفي لم يستطع أن يحافظ على "الصياغة الباطنة" للأسلوب الفلسفي، بل لقد ضلت منه في الطريق. ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا إن مياه التفكير اليوناني دخلت النهر العربي؛ ولكنها استمرت في كثير من جوانبه تجرى مع مياهه جنبًا إلى جنب وقلما اختلطت بها. قد تختلط في بعض المناطق، ولكنها سرعان ما تعود إلى الانفصال.

تصنع المتنبي للغريب من اللغة والأساليب الشاذة

7- تصنُّعُ المتنبي للغريبِ من اللُّغةِ والأساليبِ الشَّاذَّةِ: لم يكن المتنبي يقصر تصنعه الثقافي على طائفة خاصة من المثقفين؛ فهو يرضي أصحاب الفلسفة والتصوف والتشيع، كما يرضي أصحاب الغريب من اللغة والأساليب الشاذة من النحو، واقرأ قصيدته: ألا كلُّ ماشية الخيزلي ... فِدَا كل ماشية الهيدبي1 فإنك تراه يخرجه إخراجًا لغويًّا؛ إذ يحشد فيها الألفاظ الغريبة حشدًا، وكأنه ليس له وجهة إلا أن يعبر تعبيرًا لغويًّا غريبًا، حتى ينال إعجاب اللُّغويين من أصحاب الغريب، وكان القدماء يعرفون له هذه الرغبة من إظهار علمه وفضله، يقول الصاحب بن عباد عنه: "ومن أهم ما يتعاطاه التفاصح بالألفاظ النافرة والكلمات الشاذة، حتى كأنه وليد خباء وغذيُّ لبن لم يَطَأَ الْحَضَر، ولم يعرف الْمَدَر"2 ويعلل الصاحب لهذه الحال بأنه كان يقصد إلى التبدي في لفظه. والحق أنه لم يكن يقصد إلى التبدي فحسب؛ إنما كان يريد أن يحقق لنفسه التفوق في أوساط اللُّغويين من أصحاب الغريب، وأشار إلى ذلك العُكْبَري؛ إذ رآه يستخدم كلمة "تفاوح" في إحدى مدائحه لكافور، وهي لفظة فصيحة إلا أنها غريبة، فعلق عليها بأنه كان يأتي بهذه اللفظة وأمثالها لمن يكون بالمكان من العلماء والأدباء3. كان المتنبي يصنع الشعر -كما يقول العُكْبَري- للفضلاء والعلماء

_ 1 الخيزلى: مشية فيها استرخاء. الهيدبى: مشية فيها سرعة. يقول: فدتك امرأة تمشي الخيزلى كل ناقة تمشي الهيدبى. 2 اليتيمة للثعالبي 1/ 134. 3 التبيان "العكبري على المتنبي" 2/ 21.

لا لكافور وأمثاله من الممدوحين، ولذلك كنا نراه يحاول الإغراب بشعره وأساليبه، وكان يطلب هذا الإغراب ويحققه لنفسه في صور مختلفة من التفلسف والتصوف والتشيع. وأخيرًا في تلك الصور الغريبة من الألفاظ اللغوية النادر التي يريد أن يروع بها أساتذة اللغة والغريب؛ فإذا هو يأتيهم بمثل "تفاوح" السابقة أو بمثل "جفخت" في قوله: جَفَخَت وَهُم لا يَجفَخونَ بِها بِهِم ... شِيَمٌ عَلى الحَسَبِ الأَغَرِّ دَلائِلُ1 فقد كان يستطيع أن يضع مكانها فخرت؛ ولكنه كان يريد الإعراب في اللفظ، حتى يثبت مهارته وتفوقه في اللغة. ولعله من أجل ذلك كان يصوغ الأراجيز يحاكي بها رؤبة والعجاج وأبا النجم وأضرابهم، وما يزال يكثر فيها من الغريب كثرة مفرطة. ولم يقف عند هذا الجانب بل طلب الشواذ في الحروف وبناء الأسماء وكأنه لم يترك لغة شاذة في حرف أو اسم إلا جلبها في شعره. وقد يكون من الطريف أن نتعقبه في شوارده اللُّغوية؛ فمن ذلك استعماله للكيذبان بدلًا من الكذاب والتَّوْراب بدلًا من التراب؛ ومن ذلك أن يجمع كوبًا على أكوب، وبوقًا على بوقات، ودارًا على أدؤر، وأرضًا على أروض، وعينًا على أعيان، وأخًا على إخاء ومن ذلك أن يأتي "بربَّتَما" بدلًا من "ربما" و"أيما" بدلًا من "إما" و"أولاك" بدلًا من "أولئك"، و"اللذ" بدلًا من "الذي" و"هنَّك" بدلًا من "إنك" و"هلمِّنَّا" بدلًا من "هلموا" إلى غير ذلك من لغات شاذة، ولولا خوف الإملال لأكثرنا من إحصاء هذه اللغات وعرضناها في أشعاره، ولكنها كثيرة في ديوانه، ويمكن الرجوع إليها، وهي أكثر من أن ندلَّ عليها. على أن هذا التصنع اللُّغوي يلفتنا إلى تصنع آخر لعله أكثر تعقيدًا، وهو تصنع للأساليب الشاذة؛ فقد كان عالِمًا بالنحو ومشاكله، وكان كوفي المذهب، فنقل كثيرًا من التراكيب الشاذة التي روتها الكوفة وخالفت بها على البصرة، واعتمدها في صنع قصائده ونماذجه، وكان ذلك يعد غريبًا على الناس في

_ 1 جفخت: فخرت.

عصره؛ إذ كانوا قد هجروا النحو الكوفي إلى النحو البصري، ولعله من أجل ذلك شغف العلماء -كما أسلفنا- بشعره وشرحوه مرارًا. ونحن نسوق جانبًا من هذه التراكيب الكوفية الشاذة عنده، يقول ابن الأنباري: "ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز ترخيم الاسم الثلاثي إذا كان وسطه متحركًا، وذلك نحو قولهم في عنق: "يا عن". وفي حجر: "ياحج". وفي كتف: "ياكت". وذهب بعضهم إلى أن التخريم يجوز في الأسماء على الإطلاق، وذهب البصريون إلى أن ترخيم ما كان على ثلاثة أحرف لا يجوز بحال"1 ويقول المتنبي: أَجِدَّكَ ما تَنفَكُّ عانٍ تَفُكُّهُ ... عُمَ اِبنَ سُلَيمانَ وَمالٌ تُقَسِّمُ فيرخِّم كلمة عمر ويجعلها "عم" بل هو يرخم في غير النداء كقوله: مَهلاً أَلا لِلَّهِ ما صَنَعَ القَنا ... في عَمرو حابِ وَضَبَّةَ الأَغتامِ3 يريد عمرو بن حابس. ويقول ابن الأنباري: "ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف وحرف الخفض لضرورة الشعر، وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز بغير الظرف وحرف الجر"4 ويقول المتنبي: حَمَلتُ إِلَيهِ مِن ثنائي حَديقَةً ... سَقاها الحِجى سَقيَ الرِياضَ السَحائِبِ فيفصل بين السقي والسحائب بالمفعول على رأي الكوفيين، ويقول ابن الأنباري: "ذهب الكوفيون إلى أنَّ "أنْ" الخفيفة تعمل في الفعل المضارع النصب مع الحذف من غير بدل وذهب البصريون إلى أنها لا تعمل مع الحذف من غير بدل"5 ويقول المتنبي: وَتَوَقَّدَت أَنفاسُنا حَتّى لَقَد ... أَشفَقتُ تَحتَرِقَ العَواذِلُ بَينَنا

_ 1 الإنصاف "طبعة أوربا" ص156. 2 أجدك: أهذا دائمًا بجد منك. العاني: الأسير. 3 عمرو حاب: عمرو بن حابس وهي قبيلة. الأغتام: الجهال الأغبياء. 4 الإنصاف ص178 5 الإنصاف ص232

فينصب تحترق من غير "أن". ويقول ابن الأنباري: "ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز أن يستعمل ما أفعله في التعجب من البياض والسواد خاصة من بين سائر الألوان نحو أن تقول: هذا الثوب ما أبيضه، وهذا الشعر ما أسوده؛ وذهب البصريون إلى أن ذلك لا يجوز فيهما كغيرهما من سائر الألوان"1، ومعروف أن حكم التفضيل كالتعجب في هذا الباب، ويقول المتنبي: ابْعَدْ بَعِدتَ بَياضًا لا بَياضَ لَهُ ... لَأَنتَ أَسوَدُ في عَيني مِنَ الظُلَمِ وعلى هذا النحو يستطيع الباحث أن يجد كثيرًا من الصيغ الكوفية الشاذة في ديوان المتنبي؛ بل إنه ليجد في هذا الديوان شذوذًا أوسع من شذوذ النحو الكوفي حتى لكأنه مستودع للتراكيب الشاذة في اللغة؛ إذ كان المتنبي يطلب كل غريبة أو شاذة في التعبير، من ذلك أن نراه يتصنع لاستخدام لغة "أكلوني البراغيث" في مثل قوله: نَفديكَ مِن سَيلٍ إِذا سُئِلَ النَّدى ... هَولٍ إِذا اختَلَطا دَمٌ وَمَسيحُ فإنه أتى بألف الاثنين مع ذكر الفاعل. ومن ذلك أن يرى بعض العرب لا يحرصون على التفريق بين المذكر والمؤنث في الأفعال والمشتقات3، فيقلدهم في هذا الصنيع كقوله: مُخلىً لَهُ المَرجُ مَنصوبًا بِصارِخَةٍ ... لَهُ المَنابِرُ مَشهودًا بِها الْجُمَعُ إذ كان القياس أن يقول منصوبة ومشهودة؛ ولكنه عدل إلى التذكير وهو يصنع ذلك كثيرًا. ومن ذلك أن يجزم المضارع مع حذف "لام" الأمر في قوله: جَزى عَرَبًا أَمسَت بِبُلبَيسَ رَبُّها ... بِمَسْعَاتِها تَقْرَر بِذاكَ عُيونُها ومن ذلك أن يستعمل ليس استعمال الحروف كقوله: بَقائي شَاءَ لَيسَ هُمُ ارتِحالًا ... وَحُسنَ الصَبرِ زَمّوا لا الجِمالا وليس من شك أن المتنبي كان يعمد إلى هذه الشواذ عمدًا، يقول ابن جني: "إن كان في بعض ألفاظه تعسف عن القصد في صناعة الإعراب من

_ 1 الإنصاف ص68. 2 المسيح: العرق يمسح عن الجسد. يقول: إن ممدوحه عند العطاء سيل لسائليه وفي الحرب هول لأعدائه. 3 الإنصاف ص323.

التمسك بأهداف شاذ أو حَمْل على نادر فعن غير جهل كان منه ولا قصور عن اختيار الوجه الأعرف له"1. ولكن ابن جني يترك الظاهرة من غير تعليل، وتعليلها ما كررناه كثيرًا من أن المتنبي كان يتصنع لمثل هذه الأشياء في شعره، حتى يستحوذ على إعجاب المثقفين من حوله. ولعل القارئ لاحظ أن هذه هي المرة الأولى التي نصادف فيها شاعرًا عباسيًّا يتصنع في شعره تصنعًا نحويًّا؛ فمن قبله لم يكن الشعراء يكلفون أنفسهم الوقوف على المذاهب النحوية ومعرفة ما بينها من خلاف، ولم يكونوا يتعمقون دراسة النحو على هذه الصورة التي رأيناها عند المتنبي، وإن هم تعمقوا في ذلك فإنهم ما كانوا يتصنعون له في شعرهم، أما المتنبي فإنه كان يحرص على التصنع له، حتى يستولي على أذهان اللغويين والنحويين فإذا هو يفجؤهم بمثل قوله السابق: نَحنُ مَن ضايَقَ الزَمانُ لَهُ فيـ ... كَ وَخانَتهُ قُربَكَ الأَيّامُ وإذا هم مضطربون في التأويل والتفسير؛ فكيف عدّى الفعل "ضايق" باللام، وهو متعدٍ من غير لام، وما هذا الارتباك الغريب في تعبيره الذي يحسه الإنسان ولا يستطيع وصفه؟ إنه الارتباك يريده المتنبي إرادة؛ فإذا هو يفصل الفعل من المفعول ويعدِّيه باللام حتى يحدث ما يريد من خلل وتشويش، وأصل التعبير: نحن من ضايقه الزمان فيك. وكأن المتنبي لا يرى طرافة في تعبيره فيعمد إلى هذه الطرافة النحوية، ويخرجه هذا الإخراج المشوش حتى يحدث له الضجيج النحوي الذي كان يريده.

_ 1 "ذكرى أبي الطيب" ص358.

تعقيد المتنبي للموسيقى الإيقاعية في الشعر

8- تعقيدُ المتنبي للموسيقى الإيقاعيةِ في الشِّعْرِ: هذا الجانب من الانحراف في أسلوب المتنبي يجعلنا نلتفت إلى ظاهرة مهمة حدثت في الحركة الإيقاعية لموسيقى الشعر في أثناء هذه العصور؛ فقد رأينا شعراء

القرنين الثاني والثالث يصفُّون شعرهم تصفية شديدة حتى يحدثوا به نوعًا من الاتساع في التعبير، وحتى يشاكلوا بين الأصوات ومعانيها مشاكلة دقيقة، واتخذنا البحتري رمزًا لهذه العناية البالغة بتجاوب النبرات في الشعر، وكيف أنه أحدث في الموسيقى مرونة غريبة بملاءمته الدقيقة بين الكلمات والحركات والسكنات ملاءمة نُظِّمت في نسق فني بديع؛ ولكنا لا نصل إلى القرن الرابع حتى تحتبس هذه الموسيقى الإيقاعية للشعر في صناديق من التعقيدات في القافية على نحو ما سنرى عند المعري، أو في النغمات الداخلية نفسها كما نرى الآن عند المتنبي؛ إذ اعتمد على هذه الشواذ النحوية يحدث بها ما يريد من الخلل والتشويش في موسيقى الشعر وإيقاعاته. ولعل في هذا ما يكشف مرة أخرى عما أصاب الفن العربي في هذه العصور من تعقيدات غريبة؛ فقد رأينا الشعراء في الفصل السابق يعقدون في الألوان القديمة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يضيفوا جديدًا، أو يحللوا لونًا إلى أصباغه؛ إلا ما جاءهم من التعقيد في الوسائل، وكأن الحياة العربية كلها تصبح مجموعة من التعقيدات، فيعقد المهلبي في وسائل طعامه وملاعقه كما يعقد الشعراء في الجناسات والاستعارات، وكما يعقد المتنبي الآن في نبرات الشعر ونغماته. وهذا الخلل الموسيقى عند المتنبي يجعلنا نذكر خللًا مماثلًا من بعض الوجوه في الموسيقى الحديثة؛ إذ نرى الفنون تتعقد ويظهر المذهب الرمزي في الشعر والتصوير، كما تظهر طائفة من الموسيقيين على رأسها رافل "ravel" تحاول أن تبعث حركة جديدة في فنها وكأنما يعجزها التجديد الصريح المستقيم، فتلجأ إلى إحداث نغمات شاذة في "الرُّقُم الموسيقية" تخالف مألوف "البسيكولوجي" والعادة، حتى تستحوذ على إعجاب الناس بالخروج على الطرق الموروثة. وهو خروج كخروج المتنبي يحدثه الموسيقيون في السمع بصنع نغمات غير مألوفة، نغمات ناشزة، يقصدون إليها قصدا ويعمدون إليها عمدًا. وكان المتنبي يحدث في موسيقى شعره ما يماثل هذه النغمات الناشزة من بعض الوجوه؛ إذ ملأه بفنون من الانحرافات والشذوذات، وقد فتح ابن هشام في كتابه المغني فصلًا استعرض فيه

طرفًا من صيغها وصورها، وانظر إلى قوله الذي سبق أن أنشدناه: وَفاؤُكُما كَالرِّبعِ أَشجاهُ طاسِمُه ... بِأَن تُسعِدا وَالدَمعُ أَشفاهُ ساجِمُه فقد قدم في البيت وأخَّر حتى أحدث الخلل المقصود، وإنه لخلل غريب يكشف جانبًا من المهنة عند شعراء القرن الرابع؛ إذ كانوا يلجئون إلى مثل هذا الارتباك في ترتيب ألفاظ البيت فيحدثون هذا الخلل الذي يمكن أن نسمي موسيقاه باسم "الموسيقى ذات النشاز" وانظر إلى هذا البيت المذكور آنفًا: قَلَقُ المَليحَةِ وَهيَ مِسكٌ هَتكُها ... وَمَسيرُها في اللَّيلِ وَهيَ ذُكاءُ فقد أحدث المتنبي ارتباكًا موسيقيًّا في الشطرين، ويظهر ذلك من الرجوع إلى النحو، فإن الشطر الأول يتكون هكذا: مبتدأ- حال- خبر، أما الشطر الثاني فيتكون هكذا: مبتدأ- ظرف- حال، وحذف الخبر للعلم به، أي أن مسيرها في الليل هتك لها. أرأيت كيف استطاع المتنبي بثقافته النحوية أن يحدث هذه الموسيقى الجديدة الغريبة؟ إن هذا هو بدع القرن الرابع إذ يعمد الشعراء إلى التعقيد في شعرهم فنونًا من التعقيدات، وهي تعقيدات لا تلائم أذواقنا؛ ولكنها كانت تلائم أذواق الفنانين في هذه العصور. والحق أننا لا نصل إلى المتنبي حتى نحس بتصنع شديد في الشعر يتناول تعبيراته كما يتناول توقيعاته، فما يزال الشاعر يعدل إلى انحرافات موسيقية أو ثقافية، وما من شك في أننا لا نعجب بهذه الحال التي صار إليها الشعر. وليس معنى ذلك أننا نمنع الشاعر من البحث عن وسائل جديدة في التعبير والتوقيع بل نحن نرى ذلك ضروريًّا للإفصاح عن حوادثنا الوجدانية التي تتطور وتتغير وتتحول دائمًا وهي في كل حال من تطورها وتغيرها وتحولها محتاجة إلى وسائل جديدة في التعبير عن هذه الأوضاع المختلفة، وكان المتنبي يجدد في هذه الوسائل؛ ولكنه لم يعتمد في ذلك على الأساليب الفنية نفسها بل راح يقترض من بيئته المتشيعة والمتصوفة والمتفلسفة أفكارًا وألفاظًا لا عهد للشعر ولا للفن بها، وليست مما تلائم طبيعته، بل لقد بالغ فذهب إلى بيئة اللُّغويين والنحويين يستمد منها

صورًا من الألفاظ ليحدث بها شيئًا من الخلل والارتباك في موسيقاه. وهذه كل وسائله الجديدة، وهي وسائل قد تفصح عن ثقافة؛ ولكنها لا تفصح عن طرافة في التفكير الفني نفسه ولا عن تنويع في آفاقه وآماده، وحقًا إنه عنى بشيء من الوسائل القديمة، وسائل الاستعارة والمشاكلة والجناس والطباق؛ ولكنها كانت تأتي عنده نادرة فإن استعملها أضاف إليها هذا التعقيد الذي يحيلها عن أصباغها، كما رأينا في الفصل السابق؛ إذ عرضنا لاستخدامه الطباق والاستعارة، ورأينا كأن هذه الألوان القديمة تفارق أصباغها عند شعراء هذه العصور، ولذلك انحاز المتنبي عن هذه الوسائل التي تجمدت في تاريخ الفن إلى وسائله الثقافية الجديدة. وفي هذه الوسائل تستقر مهارته في صنع القصيدة العربية، وهي مهارة تدل على أن آماد الشعر الفسيحة أخذت تضيق منذ القرن الرابع؛ فلم يعدل الشعراء إلى تنويع في التفكير الوجداني؛ إنما عدلوا إلى هذا التصنع الثقافي يؤدون به إيماءة مذهبية أو شارة فلسفية أو شاذة موسيقية.

حكم عام على تصنع المتنبي وشعره

9- حكمٌ عامٌ عَلَى تصنُّعِ المتنبي وشعْرِهِ: لعلنا نغلو إذا قلنا: إن المتنبي استطاع مع كل ما رأيناه عنده من ضروب تصنع مختلفة أن يحلق في أسمى أفق للشعر العربي، إذا كان لشعره -ولا يزال- حيوية وطلاوة وروعة تأخذ بالألباب على الرغم من هذا التصنع للإيماءات المذهبية والشواذ الموسيقية والشوارد النحوية؛ فقد كان لديه من المهارة الفنية ما يستطيع أن يخفي به سمات هذا التصنع وما ينطوي فيه من تكلف شديد؛ حتى ظن اليازجي في الفصل البديع الذي عقب به على ديوانه أن ما عند المتنبي من معجمات مستغلقة إنما يقتصر على القسم الأول من شعره الذي نظمه في الحداثة. وهذا وهم من اليازجي ومن لفَّ لفَّه فقد استمرت هذه المستغلقات في شعره حتى التنفسات الأخيرة من حياته، وغاية ما في الأمر أن مقدرة المتنبي على صوغ العبارة ونمو المقدرة على طول الزمن هو الذي يخفي على النقاد هذه الجوانب

من التصنع التي وقفنا عندها حتى ليخيَّل إليهم وقد رأوها متجلية في شعره الذي نظمه في الشباب وقبل أن تكتمل له مهارته الفنية أنها انقطعت بعد ذلك، وهي لم تنقطع يومًا لسبب بسيط هو أن المتنبي كان يأتي بهذه المستغلقات عامدًا؛ إذ كان يتخذها مذهبًا له في صناعة شعره طوال حياته. على أنه ينبغي أن نشير -من طرف آخر- إلى أن اليازجي لم يكن يريد مستغلقات المتنبي ما وصفناه من ضروب تصنعه المختلفة؛ فإنه لم يحاول أن يدرسه دراسة منظمة يعرضه في أثنائها على ثقافات عصره ويرى مدى تأثره بها في الصياغة؛ فشيء من ذلك لم يفكر فيه اليازجي؛ إنما أراد ما في شعر حداثته من تكلف والتواء. وهي سمة تكاد توجد عند جميع الشعراء في الأدوار الأولى من حياتهم فإنهم يبدءون مقلدين متكلفين، وما يزال الشاعر يتقلب في هذا الدور حتى يتبين نفسه فيستقل عن سابقيه ويستحدث لنفسه مذهبًا جديدًا، ومع ذلك فإن مذهب المتنبي في التصنع بدا فيه منذ الأدوار الأولى من حياته الفنية، ولذلك أشرنا إلى رأي اليازجي مخافة أن يقرأه بعض المحدثين فيظن أن المتنبي إنما كان يلتزم ما أشرنا إليه من تصنع في أوائل حياته الفنية فقط؛ بينما هو في الواقع شيء عام في هذه الحياة، يبدأ معه في حداثته ويستمر معه في هرمه وشيخوخته. وقد يكون من الغريب حقًّا أن المتنبي استطاع أن يضع هذه الأشياء في شعره دون أن تلتفت إليها جمهرة النقاد سوى ما كان من الثعالبي في يتيمته، وقد عرض لها عرضًا عامًّا، ينقصه التنظيم، تنظيم المادة وتنظيم الفكرة، والخروج من ذلك إلى بيان طريقة المتنبي في صناعة شعره. وأكبر الظن أن كثيرًا من النقاد المحدثين إنما خفيت عليهم هذه المواد من التصنع بفضل ما أشاعه المتنبي في شعره من حيوية وجمال، مردهما -في رأينا- إلى خمسة جوانب، ونحن نقف قليلًا لتفسير هذه الجوانب حتى يستطيع القارئ أن يحكم حكمًا دقيقًا على شعره وما يستوعبه من تصنع في طرف وضروب جمال في طرف آخر. أما الجانب الأول فهو غزله في شعره بالأعرابيات؛ إذ يشعر قارئ ديوانه بأن الشاعر يجذبه من حياته المتحضرة المعقدة وما فيها من تكلف إلى البداوة والبساطة

وأحضان الطبيعة، وأيضًا فإن العناصر البدوية في الشعر العربي تكسبه ضربًا من الجلال والروعة، وقد يكون مرجع ذلك إلى أن هذه العناصر البدوية تجعلنا نذكر الحجاز وما به من أماكن مقدسة، ولذلك كثر حشد أماكنه في شعر الشيعة والمتصوفة، وسنرى مهيارًا في الفصل التالي يُعْنَى بهذا الجانب عناية واسعة في غزلياته، ومهما يكن فقد عنى المتنبي في غزله بالبدويات وفضَّلهن على قريناتهن من أهل الحضر، وعبَّر عن ذلك أجمل تعبير؛ إذ يقول: مَنِ الجَآذِرُ في زِيِّ الأَعاريبِ ... حُمر الحُلى وَالمَطايا وَالْجَلابيبِ1 إن كنتَ تسأل شكًّا في معارفها ... فمنْ بلاكَ بتسهيدٍ وتعذيبِ كَم زَورَةٍ لَكَ في الأَعرابِ خافِيَةٍ ... أَدهى وَقَد رَقَدوا مِن زَورَةِ الذيبِ أَزورُهُم وَسَوادُ اللَيلِ يَشفَعُ لي ... وَأَنثَني وَبَياضُ الصُبحِ يُغري بي قَد وافَقوا الوَحشَ في سُكنى مَراتِعِها ... وَخالَفوها بِتَقويضٍ وَتَطنيبِ2 جِيرانُها وَهُمُ شَرُّ الجِوارِ لَها ... وَصَحْبُها وَهُمُ شَرُّ الأَصاحيبِ فُؤادُ كُلِّ مُحِبٍّ في بُيوتِهِمِ ... وَمالُ كُلِّ أَخيذِ المالِ مَحروبِ3 ما أَوجُهُ الحَضَرِ المُستَحسَناتُ بِهِ ... كَأَوجُهِ البَدَوِيّاتِ الرَعابيبِ4 حُسنُ الحَضارَةِ مَجلوبٌ بِتَطرِيَةٍ ... وَفي البَداوَةِ حُسنٌ غَيرُ مَجْلوبِ أَفدي ظِباءَ فَلاةٍ ماعَرَفنَ بِها ... مَضغَ الكَلامِ وَلا صَبغَ الحَواجيبِ وقد استخرج المتنبي كثيرًا من نغم هذا اللحن ونشره في جميع أطراف ديوانه، وليس من شك في أنه نغم محبب إلى كثير من النفوس التي تميل إلى البساطة والتي لا تعرف مضغ الكلام ولا تعجب بصبغ الحواجيب. هذا أحد الجوانب الخمسة التي تجعلنا نعجب بشعر المتنبي، أما الجانب الثاني فهو ضرب من التشاؤم يبدو في ديوانه، وقد جعله برمًا بالدهر ساخطًا على الناس حتى لكأنَّه ثائر على الدُّنيا. وهي ثورة يرجعها ماسينيون -على

_ 1 الجآذر: جمع جؤذر، وهو ولد البقرة الوحشية. والاستعارة واضحة. 2 التقويض: رفع الخيام، والتطنيب: نصبها. 3 المحروب: الذي ذهب ماله. 4 الرعابيب: جمع رعبوب، وهي المرأة البيضاء الممتلئة.

نحو ما مر بنا- إلى قرمطيته؛ فقد كان القرامطة ثائرين على الدهر والناس ونواميس المادة وفي رأينا أنها ثورة نابعة من نفسه كأن يقول: صَحِبَ النُّاسُ قَبْلَنا ذا الزَمانا ... وَعَناهُم مِن شَأنِهِ ما عَنَانا وَتَوَلَّوا بِغُصَّةٍ كُلُّهُم مِنـ ... ـهُ وَإِن سَرَّ بَعضهُم أَحيانا أو يقول: رماني الدَّهرُ بالأَرْزَاءِ حتَّى ... كأني في غشاءٍ من نبالِ فصرتُ إذا ما أصابتني سهامٌ ... تكسَّرَتِ النِّصالُ على النِّصالِ أو يقول: فَلَمّا صارَ وُدُّ الناسِ خِبًّا ... جَزَيتُ عَلى اِبتِسامٍ بِاِبتِسامِ وَصِرتُ أَشُكُّ فيمَن أَصطَفيهِ ... لِعِلمي أَنَّهُ بَعضُ الأَنامِ وعلى هذا النمط نراه ساخطا في ديوانه على الدهر والناس ومجتمعهم الفاسد سخطًا شديدًا. والإنسان لا يقرأ فيه وفي أبي العلاء حتى يشعر بالصلة الواضحة بين الشاعرين في تشاؤمهما. وكأني بأبي العلاء لم يصنع أكثر من تنميته لهذا الجانب الذي وجده عند أستاذه المتنبي. واقرأ هذا البيت: وَما الدَّهرُ أَهلٌ أَن تُؤَمَّلَ عِندَهُ ... حَياةٌ وَأَنْ يُشتاقَ فيهِ إِلى النَّسلِ فإنك ترى فيه جانبًا من منهج أبي العلاء في حياته؛ إذ حرَّم على نفسه الزواج كما حرم عليها طلب النوال من الخلفاء والأمراء، ومعروف أنه أشاع هذا النهج من التشاؤم في لزومياته. على أنه ينبغي أن نعرف أن المتنبي لم يكن يائسا في تشاؤمه على نحو يأس أبي العلاء؛ إنما هو يتشاءم تشاؤم المحروم الذي يحس بلذائذ ومسرات في الحياة لا يستطيع أن ينالها، ولعله من أجل ذلك كان يعلن عشقه للدنيا وعتبه عليها فهي صادَّة عنه مدلَّة عليه، يقول: ومن لم يعشقِ الدُّنيا قديْمًا ... ولكن لا سبيلَ إلى الوصالِ ويقول: وَلَذيذُ الْحَياةِ أَنفَسُ في النَفـ ... سِ وَأَشهى مِن أَن يُمَلَّ وَأَحلى

وَإِذا الشَيخُ قالَ أُفٍّ فَما مَـ ... لَّ حَياةً وَإِنَّما الضَعف مَلّا ويقول: أَرى كُلَّنا يَبغي الحَياةَ لِنَفسِهِ ... حَريصاً عَلَيها مُستَهاماً بِها صَبّا فَحُبُّ الجَبانِ النَّفسَ أَورَدَهُ التُّقى ... وَحُبُّ الشُّجاعِ النَفسَ أَورَدَهُ الحَرْبا وواضح ما في البيتين الأخيرين من احتكام للقياس، وكان المتنبي يعنى في شعره بأقيسة المنطق، وأكثر من هذه الأقيسة في ديوانه كثرة مفرطة، وهي تعطي شعره ضرب من الحدة في التعبير والإحكام في التفكير. ومهما يكن فإن المتنبي لم يكن متشائمًا على هذا النحو الذي نجده عند أبي العلاء؛ إذ لم يكن يرفض الدنيا إنما كان يشعر إزاءها بالحرمان الشديد، ومع ذلك فليس من شك في أنه هو الذي أهَّل لكل ما نجد عند أبي العلاء من تشاؤم ونقد للحياة الاجتماعية، وحتى مشكلة الحياة والموت التي وقف عندها أبو العلاء كثيرًا في لزومياته نجدها عند المتنبي أيضًا؛ إذ يقول: نَحنُ بَنو المَوتى فَما بالُنا ... نَعافُ ما لا بُدَّ مِن شُربِهِ تَبخَلُ أَيدينا بِأَرواحِنا ... عَلى زَمانٍ هِيَ مِن كَسبِهِ فَهَذِهِ الأَرواحُ مِن جَوِّهِ ... وَهَذِهِ الأَجسامُ مِن تُربِهِ لَو فَكَّرَ العاشِقُ في مُنتَهى ... حُسنِ الَّذي يَسبيهِ لَم يَسبِهِ لَم يُرَ قَرنُ الشَمسِ في شَرقِهِ ... فَشَكَّتِ الأَنفُسُ في غَربِهِ يَموتُ راعي الضَأنِ في جَهلِهِ ... مَوتَةَ جالينوسَ في طِبِّهِ وَرُبَّما زادَ عَلى عُمرِهِ ... وَزادَ في الأَمنِ عَلى سِربِهِ1 وهذا الجانب من التشاؤم والتفكير في حقائق الحياة انطوى في جانب ثالث كان القدماء يعجبون به إعجابًا شديدًا، وهو جانب الحكم والأمثال، وقد ساق منها العُكْبَري في القسم الأول من شرحه على المتنبي نماذج كثيرة قدم لها بقوله: "وقد أجمع الحذاق بمعرفة الشعر والنقاد أن لأبي الطيب نوادر لم تأت في شعر غيره وهي مما تخرق العقول، منها قوله:

_ 1 السرب هنا: النفس.

وَما الحُسنُ في وَجهِ الفَتى شَرَفًا لَهُ ... إِذا لَم يَكُن في فِعلِهِ وَالخَلائِقِ وقوله: أَتى الزَمانَ بَنوهُ في شَبيبَتِهِ ... فَسَرَّهُم وَأَتَيناهُ عَلى الهَرَمِ وقوله أيضًا: وَلَم أَرَ في عُيوبِ النَّاسِ شَيئًا ... كَنَقصِ القادِرينَ عَلى التَّمامِ واستمر العُكْبَري يحشد حكمًا وأمثالًا كثيرة، وعقب على حشده بقوله: "فهذا الذي لم يأت شاعر بمثله؛ ولكن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، ويؤتي الحكمة من يشاء"1 ومعروف أن المتنبي استعان -كما مر بنا- في صناعة هذه الحكم بما قرأه في عصره من حكم نسبت إلى أرسططاليس. ومهما يكن فقد رفع هذا الجانب كثيرًا من شعر المتنبي إذ عالج أطرافًا من علل الإنسانية مبينًا لأدوائها كما أدلى بكثير من الآراء التي تزيد من خبرتنا بالإنسان وطباعه والحياة وتصاريفها، وتعينه في ذلك عين واعية بصيرة. وليس ذلك كل ما يرفع من المتنبي في ديوانه؛ فهناك جانب رابع لا يقل أهمية في رأينا عن الجوانب السابقة، وهو تغنِّيه بالبطولة؛ إذ كان سيف الدولة أمير حلب هذه الولاية الصغيرة يقف في عصر المتنبي درعًا للأمة العربية يحميها من دولة الروم الشرقية؛ فمجَّد المتنبي هذه البطولة فيه، وتغنَّى بها غناءًا حارًّا حتى ليتفوق على أقرانه من الشعراء الذين مدحوا قادة العرب وأبطالهم تفوقًا بينًا، ومرجع ذلك -في رأينا- إلى سببين: أما السبب الأول فواضح، وهو موقف سيف الدولة من الروم وحمايته للعرب، وكان المتنبي يشعر بعروبته شعورًا عميقًا، وأما السبب الثاني فيرجع إلى أن المتنبي نشأ ثائرًا، يريد أن يرد للعرب دولتهم المفقودة، وحمل السيف، وسله، ولم يكتب النجاح لثورته؛ غير أن نفسه ظلت تموج بالثورة ومنازلة الأعداء وأيضًا فإن المتنبي كان فارسًا يمجد الفروسية وبذلك اجتمعت له عناصر مادية ونفسية كثيرة جعلت وصفه لحرب سيف الدولة شعلًا من الحماسة القوية كأن يقول:

_ 1 التبيان 1/ 161.

لَهُ عَسكَرا خَيلٍ وَطَيرٍ إِذا رَمى ... بِها عَسكَرًا لَم يَبقَ إِلّا جَماجِمُه فَقَد مَلَّ ضَوءُ الصُبحِ مِمّا تُغِيرُهُ ... وَمَلَّ سَوادُ اللَيلِ مِمّا تُزاحِمُه وَمَلَّ القَنا مِمّا تَدُقُّ صُدورَهُ ... وَمَلَّ حَديدُ الهِندِ مِمّا تُلاطِمُه سَحابٌ مِنَ العِقبانِ يَزحَفُ تَحتَها ... سَحابٌ إِذا اِستَسقَت سَقَتها صَوارِمُه ومن أروع ما يصور احتدام مشاعر العروبة في نفسه قوله مخاطبًا سيف الدولة وقد انتصر على الروم في درب القلة: لَقيتُ بِدَربِ القُلَّةِ الفَجرُ لَقيَةً ... شَفَت كَمَدي وَاللَّيلُ فيهِ قَتيلُ فقد جعل انتصاره يشفي غيظ نفسه، وتصور فترة الخمود السابقة لهذا الانتصار ليلًا ثقيلًا، وهو ليل لم يلبث أن طعنه سيف الدولة طعنة نجلاء، فتبلج الظفر ونشر نور الفرحة في النفوس. وعلى هذا النمط اندفع المتنبي في شعره يتغنى ببطولة سيف الدولة، وهو غناء لا شك في أن كل نفس عربية تجد فيه صورة روحها وقوميتها وكل ما تعتز به من فتوة وقوة ضد أعدائها الذين تنازلهم وتمحقهم محقًا. وانطوى في هذا الغناء جانب خامس، وهو تعبير المتنبي عن طموحه واعتداده بنفسه وترفعه عن كل من حوله كأن يقول: يُحاذِرُني حَتفي كَأَنِّيَ حَتفُهُ ... وَتَنكُزُني الأَفعى فَيَقتُلُها سُمّي1 كَأَنّي دَحَوتُ الأَرضَ مِن خِبرَتي بِها ... كَأَنّي بَنى الإِسكَندَرُ السَدَّ مِن عَزمي2 أو يقول: وَفي الناسِ مَن يَرضى بِمَيسورِ عَيشِهِ ... وَمَركوبُهُ رِجلاهُ وَالثَوبُ جِلدُهُ وَلَكِنَّ قَلبًا بَينَ جَنبَيَّ مالَهُ ... مَدىً يَنتَهي بي في مُرادٍ أَحُدُّهُ أو يقول: إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ ... فَلا تَقنَعْ بِما دونَ النُّجُومِ فَطَعمُ المَوتِ في أَمرٍ حقيرٍ ... كَطَعمِ المَوتِ في أَمرٍ عَظيمِ وليس من شك في أن المتنبي كان موفقًا حين وضع هذه النغمة في شعره،

_ 1 تنكز: تلسع. 2 دحا: بسط.

لسبب طبيعي وهو أن كل عربي ينطوي عليها، ينطوي على الثقة بالنفس التي لا حد لها وما يتصل بها من الأنفة والإباء والشعور بالكرامة ومن أجلها كان شعر المتنبي يلتصق بنفوس العرب على مدار الزمن ويشغفون به شغفًا شديدًا؛ ولكن هذا كله ينبغي أن لا ينسينا ما قلناه، فقد كان المتنبي شاعرًا ماهرًا، واستطاع بمهارته أن يخفي حقيقة فنه وصناعته عن كثير من المستمعين والنظارة، وأعانه في ذلك أنه كان صاحب صوت ضخم لا يرتفع به حتى يحدث جلبة شديدة. وهذا نفسه ما ضلل النقاد قديْمًا وحديثًا في فهمه؛ فقد تابعوه في وصفه للأعرابيات وتشاؤمه وحكمه وتمجيده للبطولة العربية وفخره وطموحه إلى المعالي وترفعه عن الدنايا ونسوا نسيانًا تامًّا أنه شاعر متصنع يحترف التصنع في شعره للثقافات المختلفة؛ إذ يحاول أن ينقل إيماءة شيعية أو صوفية، وشارة فلسفية أو منطقية، وشاذة لغوية أو نحوية. وشاردة تركيبية أو موسيقية، وبذلك كان قطبًا كبيرًا في مذهب التصنع، بل لقد كان المفتاح الذي أخذت تتساقط منه نغمات هذا المذهب في قصائد الشعراء ونماذجهم.

شعراء اليتيمة وتصنعهم

10- شعراءُ اليتيمةِ وتصنُّعُهِم: وإذا تركنا المتنبي إلى غيره من شعراء اليتيمة الذين عاصروه أو جاءوا من بعده وجدناهم يذهبون مذهبه في هذا التصنع الثقافي، وهو تصنع لا يضيف طرافة فنية إلا هذا النسق من حشد الأسماء والمصطلحات في عبارات الشعر وأساليبه، وكأنما عجز الشعراء في هذه العصور عن التجديد المستقيم فلجئوا إلى هذه الطرق الملتوية كما نجد عند القاضي التنوخي1 والبُستي2 والصاحب بن عباد3 وأضرابهم، وإن الإنسان ليشفق على هؤلاء الشعراء الذين يطمحون إلى التجديد فيضلون السبيل، بل هي الحضارة العربية التي ضلت سبيلها، فلم تعد تستطيع التعبير عن الوجدان، إلا هذا التعبير المعقد الذي تثقله مصطلحات

_ 1 اليتيمة: للثعالبي 2/ 310. 2 يتيمة 4/ 294. 3 يتيمة 3/ 231.

الثقافات المختلفة وما يمكن أن يسقط من آرائها. وهي آراء قلما تُستَوعب وتتحول إلى فن كما كان الشأن عند أبي تمام حين رأيناه يحول الألوان القاتمة التي يستعيرها من الثقافة والفلسفة إلى فن؛ فالتاريخ يتحول إلى فن، وكذلك الفلسفة تتحول إلى فن، وكل نبع ثقافي يتحول إلى نبع فني تضيء مياهه بألوان جديدة، هي ألوان الوادي العربي الذي تتحول إليه والذي يحيلها إلى بدع من الزخرف والتصنيع. ونحن لا نتقدم بعد أبي تمام حتى يتسع مجرى الثقافة العربية لكثرة ما دخل فيه من جداول الثقافات الأجنبية وخاصة الجداول اليونانية؛ ولكن أحدًا من الشعراء لا يستطيع أن يستغل الموارد الأجنبية كما كان يستغلها أبو تمام فهي لا تستنفد، ولا تستوعب، ولا تتحول إلى تراث عربي، بل تبقى على حالها، وكل ما هناك أنها تستعار كما رأينا عند المتنبي، حين كان يستعير من الثقافات المختلفة، ومع ذلك فربما كان المتنبي خير الشعراء الذين جاءوا بعد أبي تمام في استغلال الثقافات استغلالًا فنيًّا؛ فقد استطاع أن ينقل جانبًا من حكم أرسططاليس يفسر الحياة ومشاكلها وخاصة ما اتصل بالناس وطبائعهم؛ مما أعطى لشعره مسحة من الروعة، وهو كذلك حين ينقل عن التصوف أو التشيع كان يريد أن يحول هذه التعبيرات المذهبية إلى تعبيرات فنية، وكأني به كان يريد أن يستوعب في شعره كل ثقافة وكل فلسفة. والحق أن المتنبي خير شاعر في القرن الرابع نهض بأعباء التصنع الثقافي؛ إذ كان يوازن بينه وبين التعبير الفني، فلم يسقط عنده الشعر العربي، بل استمر له كثير من الروعة؛ غير أنا لا نتركه إلى معاصريه ومن جاءوا بعده حتى نجدهم يتخلفون عنه، فإن أحدًا منهم لم يستطع أن يستوعب جانبًا من الحكمة ويحوله إلى شعر على نمط ما رأينا عنده، إلا ما كان من المعرِّي وتفكيره الفلسفي، وسنعرض له في فصل خاص، أما الشعراء الآخرون فقد اقتصر تجديدهم على نقل المصطلحات الخاصة بالثقافات، دون أن تتحول عندهم إلى جمال أو ما يشبه أن يكون جمالًا. على كل حال لم يستطع شعراء اليتيمة أن يستغلوا هذا الجانب من التصنع

الثقافي استغلالًا قيمًا إلا ما نراه عندهم من نقل المصطلحات، وكذلك كان من شأنهم في استغلال ألوان التصنيع الحسية؛ فقد استحالت عندهم إلى ألوان باهتة، ليس لها الجمال والتعبير الزخرفي الذي رأيناه في القرن الثالث. لم تعد ألوانًا زاهية؛ إنما أصبحت ألوانًا من طراز آخر، لم تعد وشيًا وتصنيعًا؛ بل أصبحت تكلفًا وتصنعًا، كما رأينا في الفصل السابق عند المتنبي والوأواء الدمشقي وغيرهما حين كانوا يستخدمون الطباق والجناس والتصوير، وكأنما أصبحت هذه الأشياء جامدة متحجرة في تاريخ اللغة والفن، فشاعر من الشعراء لا يستطيع أن ينوع في أصباغها بهذه الصورة من الثروة الزخرفية التي تركها ابن المعتز وأبو تمام. وحقًّا أن الشعراء أكثروا من استخدام ألوان التصنيع، حتى ليوشك بعضهم أن يتخصص بلون من ألوانها، كما نجد عند البُستي الذي يقول فيه الثعالبي: "إنه صاحب الطريقة الأنيقة في التجنيس الأسيس، البديع التأسيس، وكان يسميه المتشابه، ويأتي فيه بكل طريفة لطيفة"1 ومن الحق أن البستي عجز عن استخدام هذا اللون استخدامًا فنيًّا على نحو ما رأينا عند أبي تمام إذ كان يمزجه بالتصوير، بل كان يمزجه بالعقل والفكر الدقيق. واقرأ للبستي هذا الجناس2: لم ترَ عيني مثله كاتبًا ... لكلِّ شيءٍ شاءَ وشَّاء يبدِعُ في الكُتْب وفي غيرها ... بدائعًا إن شاء إنشاءَ فإنك تراه يجانس بين الكلمات جناسًا شكليًّا لا عقل فيه ولا فكر ولا خيال ولا تصوير. وقد استخدم الشعراء كثيرًا من ألوان التصنيع، ولكن على هذه الطريقة التي نراها عند البستي حيث لا يشفع اللون بفكر يغيِّر في شِياته، بل هو لا يشفع بالألوان الأخرى من التصنيع الحسي كما رأينا عند أبي تمام، حين كان يمزج بين الألوان الحسية مزجًا دقيقًا، ومع ذلك فقد وضع الشعراء همهم في التعبير بهذه الألوان واستمرَّ ذلك أغلب ما يوفر له الشعراء من جهدهم في العصور الوسطى، لا عند شعراء اليتيمة فقط، بل أيضًا عند من جاءوا بعدهم في مصر والأندلس.

_ 1 يتيمة 4/ 284. 2 يتيمة 4/ 291

فَقَدَتْ ألوان التصنيع الحسية -عند شعراء اليتيمة ومن جاء بعدهم- قيمتها كزينة وزخرف؛ فقد استحالت إلى تكلف وتصنع خالص. على أنه كان ينجم بين الشعراء أحيانًا من يرفض الإغراق في التصنع ويعنى بصفاء تعبيره كأبي فراس الحمداني والشريف الرضي، ولا بد أن نخص كلا منهما بكلمة قصيرة لما حازا من شهرة. أَبُو فِرَاسٍ الْحَمْدَاني: هو الحارث بين سعيد بن حمدان، ولد سنة 320 للهجرة، وكان أبوه حينئذٍ واليًا على الموصل، أما أمه فكانت رومية، ولم تكد الحياة تتقدم به حتى قُتل أبوه غدرًا؛ فكفلته أمه، ورعاه ختنه وابن عمه سيف الدولة؛ فلما استقل بحلب كان ساعده الأيمن فعيَّنه واليًا على مَنْبَج وحرَّان وأعمالهما. وما زال ينازل الروم معه حتى أصابوا منه غرَّة سنة 351 فأسروه وظل في أسرهم أربع سنوات كان يكاتب في أثنائها ابن عمه ليفدِيه، وهو يتراخي في فدائه، حتى لا يفك عنه أسره دون بقية الأسرى من المسلمين الذين وقعوا في قبضة الروم، وظل سيف الدولة يتحين الفرص حتى كانت سنة 355 فافتداه هو وغيره منهم. وسرعان ما توفِّي سيف الدولة فحدَّثت أبا فراس نفسُه بالثورة على ابنه أبي المعالي؛ لكن جنده تغلبوا عليه وقتلوه سنة 357. نحن إذن بإزاء بطل من أبطال الحمدانيين، وقد استيقظت فيه شاعريته منذ مطالع شبابه، واتجه بها إلى الغزل والفخر بأسرته والاعتداد بشجاعته وغنائه في الحروب هو وآله، وقراعهم لكتائب الروم وغير الروم على شاكلة قصيدته المشهورة: سَيَذكُرُني قَومي إِذا جَدَّ جِدُّهُم ... وَفي اللَيلَةِ الظَلماءِ يُفتَقَدُ البَدرُ وفخره يمتلئ بالحيوية؛ لأنه يصوِّر فيه واقعًا لا وهمًا من أوهام الخيال. وجرَّته شيعيته -والحمدانيون جميعًا شيعة- إلى نظم قصائد في آل البيت يتعرض فيها أحيانًا لخصومهم العباسيين. وخير أشعاره جميعًا رومِيَّاته التي نظمها في أسْرِهِ والتي كان يرسل بها إلى سيف الدولة معاتبًا لتقاعسه عن فدائه، وهي تكتظ بالحنين إلى الأهل والشكوى من الدهر والرفاق، ومن روائعها قصيدته التي

يخاطب فيها أمه1 والأخرى التى يرئيها بها رثاء حارا2. وهو بارع في تصوير أحاسيسه ومشاعره، سواء تحدث إلى ابن عمه وهو في أسره3 أو خاطب حمامة تنوح4، أو صور ليلة من ليالى حبه5. غير أن شعره في جملته لا يصعد إلى الأفق الذى يحلق فيه المتنبى، لسبب بسيط وهو أنه أمير مترف، يتناول شعره كما يتناول حياته في يسر وسهولة. الشريف الرضى: هو محمد بن الحسين الموسوى، ولد ببغداد سنة 359 للهجرة، وكان أبوه نقيب العلويين وعسى بتخريجه على كبار الأساتذة في عصره من أمثال ابن جنى، الذى لا نشك في أنه دفعه دفعًا إلى حفظ شعر المتنبى ومحاكاته؛ إذ كان يعجب به إعجابًا شديدًا. وكان الرضى شاعرًا بارعًا كما كان عالمًا بارعًا، وله مؤلفات كثيرة في تفسير القرآن الكريم وغيره. ولما توفى أبوه عينه بهاء الدولة البويهى نقيبًا للأشراف العلويين سنة 397 ثم خلع عليه لقبى الرضى والشريف، وظل موقرا مهيب الجانب إلى أن توفي سنة 406. وهو في شعره يكثر من مديح الخلفاء العباسين لعصره وأمراء بنى بويه ووزرائهم؛ إلا أنه يتوقر في مديحه ولا يسف إلى مغالاة أو غلو، بل يحتفظ بكرامته، وهى كرامة ترد إلى طيب محتده ومكانته في بيته وعصره، وكل من يقرأ ديوانه يحس الصلة واضحة بينه وبين المتنبي؛ فقد كان يحتذي شعره احتذاء، ولعل ذلك ما جعله يكثر من الفخر والاعتداد بنفسه، كما أكثر من نقد الأخلاق وأحوال المجتمع والناس من مثل قوله: وخلائق الدنيا خلائق مومس ... للمنع آونة وللإعطاء طورًا تبادلك الصفاء وتارة ... تلقاك تنكرها من البغضاء

_ 1 انظر ديوان أبي فراس "نشر سامي الدهان-طبعة المعهد الفرنسي بدمشق" 3/ 330. 2 الديوان 2/ 215. 3 راجع الروميات في الديوان. 4 الديوان 3/ 325. 5 الديوان 3/ 39.

واستمر يشكو من الدهر كأن يقول: فأينَ من الدَّهرِ استماعُ ظلامتي ... إذا نظرتْ أيامُهُ في المظالمِ ولم أدرِ أنَّ الدَّهرَ يخفضُ أهلِهُ ... إذا سكنت فيهم نفوسُ الضَّرَاغِمِ وهي شكوى ترددت كثيرًا في هذا العصر عند الشريف وغيره من الشعراء؛ فقد كان هناك من الكآبة في الحياة الإسلامية العامة؛ بسبب ما أصابها من اضطراب سياسي واجتماعي، ما جعل الشعراء يرددون هذا اللحن، وكان الشريف من أكثر الشعراء ترديدًا له متأسيًا -كما قلنا- في صنيعه بالمتنبي، وأكثرَ مثلَهُ من الحِكَم في شعره كقوله: إذا أنت فتَّشْتَ القلوبَ وجدتَهَا ... قلوبُ الأعادي في جسومِ الأصادقِ وأيضًا فقد قلَّده في غزله بالأعرابيات وما ينطوي معها من ذكر العِيس والبِيد كقوله: وعْجنا العيسَ توسعنا حَنِينًا ... تُغَنِّينا ونوسعها بكاء وقوله: حَيِّيا دون الكثيبِ ... مرتَعَ الظَّبي الرَّبيب ولهذه الغزليات حيز واسع في ديوانه، وهو يطبعها بطوابع من العفة والطهر، ودائمًا يردد ذكر مواضع نجد والحجاز فمعشوقاته دائمًا حجازيات. وله في ذلك قطع رائعة مثل مقطوعته المشهورة. يا ظبية َالبانِ ترعَى في خمائله ... ليهْنِك اليوم أن القلب مَرعَاك وتوسع في هذا الموضوع كما توسع في الحكم؛ غير أنه ينبغي إذا ذكرنا المتنبي معه أن نضعه في مرتبة متخلفة عنه؛ إذ يتفوق المتنبي عليه في جمال التعبير وقوته. وعلى كل حال كان الشريف يحاكي المتنبي ويلفِّق كثيرًا من معانيه وحكمه في نماذجه؛ وقد عم التلفيق من حوله في هذه العصور؛ إذ نرى الشعراء يلفقون نماذجهم من الخواطر الموروثة والأفكار المطروقة. ولعل مهيار خير شاعر يصور هذا الجانب في الشعر العربي؛ إذ لم يكن يستعين على شعره بثقافة ولا فلسفة، وكان أجنبيًّا عن اللغة، وحاول أن يطيل في قصائده، فظهر تلفيقه مكشوفًا، ولذلك سنقف عنده في الفصل التالي حتى نتمثل هذا الجانب الفني من صناعة الشعر العربي تمثلًا واضحًا.

الفصل الثالث: التصنع والتلفيق

الفصل الثالث: التصنع والتلفيق ميهار أصله وتشيعه ومزاجه ... الفصل الثالث: التَّصَنُّعُ والتَّلْفيقُ في كلِّ نادٍ نازحٌ غائبُ ... لها حديث بكم حاضرُ تعرِضُ أيَّام التهاني بها ... ما تعرِضُ المعشوقةُ العاطر تميس منها بين أيّامكم ... خاطرة يتبعها الخاطرُ لثَّمَها التحصينُ عن غيركم ... وهي على أبوابِكُم سافرُ مهيار 1- مهيار، أصلُه وتشيُّعُهُ ومِزَاجُهُ: قلنا في آخر الفصل السابق: إن الشعر العربي انتهى إلى ظاهرة عامة من التَّلفيق في خواطره وصنع عباراته وأساليبه، ولعل خير شاعر يفسر هذا الجانب هو مهيار بن مرزويه الدَّيلمي الفارسي الأصل، ولد في بغداد على ما يظهر حول سنة 360 للهجرة ونشأ مجوسيًّا على دين آبائه، وعني أبوه بتعليمه العربية؛ فلما شبَّ التحق كاتبًا بالدواوين. ولزم الشريف الرضي، وأسلم على يديه سنة 394 وعليه تخرج في الشعر1، وهو فيه تلميذ له حقًّا؛ سواء في مدائحه أو في غزله الحجازي أو البدوي، وإن كنا نلاحظ عنده أنه شديد الزُّلْفى وأنه لا يكاد يترك أميرًا بويهيًّا ولا خليفة ولا وزيرًا ولا عينًا من أعيان بلدته إلا ويمدحه. وليس في ديوانه أثر واضح لفارسيته سوى شعوبية تتردد في تضاعيفه، وقد ذكر في مديحه لفخر الملك نار السَّذق، وهو عيد مجوسي للنار، فقال: وكل نار على العشَّاقِ مضرمةٌ ... من نَارِ قلْبي أو من ليلةِ السَّذقِ

_ 1 وفَيَاتُ الأعيان: لابن خلِّكَان 2/ 149.

وما زال ببغداد حتى توفي سنة 428. ويقول أبو الفرج الجوزي إنه لما أسلم صار رافضيًّا غاليًا، يذكر الصحابة بما لا يصلح، وينقل أن شخصًا قال له: يا مهيار، انتقلت بإسلامك في النار من زاوية إلى زاوية، قال وكيف ذاك؟ قال لأنك كنت مجوسيًّا فأسلمت فصرت تسب الصحابة1. ونرى من ذلك أن مهيار كان أجنبيًّا عن اللغة، وسنرى أنه كان لذلك تأثير واسع في صناعة الشعر عنده؛ إذ كان يضل -في أحوال كثيرة- التعبير عن المعاني الدقيقة، فيسقط إلى ألوان من الإسفاف تذيع سر المهنة عنده، ولذلك كان لا يحسن التعبير الحاد عما في نفسه. وليس من شك في أن هذا الجانب يعد عنده موضع طرافة بالقياس إلى غيره من شعراء الفرس الأولين كبشار وأبي نواس؛ فقد نشئوا نشأة عربية وتثقفوا باللغة تثقفًا، جعلهم ينسلخون عن وراثاتهم وسلائقهم اللُّغوية الخاصة، أما مهيار فقد سلمت له نشأة فارسية أو قل مجوسية؛ ولذلك كانت قصائده تمتلئ بنوافذ يشرف منها الإنسان على فارس، ولولا أنه أخذ نفسه بالأسلوب العربي وتخرج على يد شاعر عربي أصيل؛ وهو الشريف الرضي؛ لكان لفارسيته وأجنبيته عن اللغة العربية أثر أوسع مما نرى الآن في ديوانه. وكان يشعر بهذا الجانب شعورًا متأصلًا في أعماق نفسه، ولعل ذلك ما جعله يقول في وصف أشعاره: حلىً من المعدنِ الصريحِ إذا ... غشَّ تجارُ الأشعارِ ما جلَبوا تشكرُها الفرسُ في مديحك للـ ... معنى وتَرضى لسانها العَرَبُ فمهيار كان يشعر شعورًا عميقًا بفارسيته، وكان يرى أن لهذه الفارسية سمات خاصة في شعره، وهو يرجع هذه السمات إلى ما يسميه المعنى؛ ولكن كلمة المعنى واسعة، ولعل خيرًا من ذلك أن نسميها الروح الفارسية؛ فليس في معاني مهيار ما يمكن أن نسميه فارسيًّا. على أن هناك جانبًا مهمًّا كان يؤثر في شعر مهيار تأثيرًا واسعًا وهو ما يمتاز به من مزاج خاص، وهو مزاج فيه رقة وحدَّة في الحس، وقد نَمَّاه ما انتهت إليه الحضارة العربية من ترف شديد حتى لينقلب إلى ضرب غريب من الدماثة والليونة ما يزال ينتشر في جميع أطراف شعره.

_ 1 انظر: ترجمة مهيار في مقدمة ديوانه "طبع دار الكتب". وراجع فيه: تاريخ بغداد 13/ 276. ودمية القصر: للياخرزي 96.

تلفيق مهيار لنماذجه

2- تَلْفِيقُ مِهْيَار لنماذِجِهِ: كان مهيار أجنبيًّا عن اللغة؛ ولكن هذا الجانب لم يعطنا ثروة فكرية واسعة في شعره بل كان شأنه شأن غيره يلفق قصائده على طريقة الشعراء الذين عاصروه وجاءوا من بعده، وهو تلفيق لا يعتمد عنده على الثقافة كما رأينا عند المتنبي؛ إنما هو تلفيق داخلي إن صح هذا التعبير، إذ نرى الشعراء عاجزين عن التجديد إلا في حدود ما سبقهم من أفكار وخواطر، وهم لذلك ما يزالون يتناقلونها فيما بينهم، حتى يحدثوا لأنفسهم تلك النماذج التي كانوا يسمونها قصائد، ومن السهل أن يقرأ الإنسان لأي شاعر في تلك العصور ويرد ما يقرؤه إلى من سبقه من الشعراء، وحقًّا قد يستعين بعضهم على إخفاء هذا الجانب عنده بما يحققه لنفسه من الأسلوب العربي الأصيل كما نجد عند الشريف الرضي؛ ولكنا لا ننتقل إلى تلميذه مهيار حتى يكشف لنا كشفًا واضحًا عن تلك المهارة الحديثة في الفن العربي، وذلك أنه كان يعمد إلى تطويل نماذجه، فانبسطت الأبيات واتضح التلفيق، وانظر إلى هذه الفكرة عند المتنبي: أَثافٍ بِها ما بِالفُؤادِ مِنَ الصَّلى ... وَرَسمٌ كَجِسمي ناحِلٌ مُتَهَدِّمُ1 وهي فكرة أخذها عن أبي تمام؛ ولكنه أبقى لها حدة الأسلوب العربي إذ أخرجها في بيت واحد دون أن يتكلف التطويل؛ غير أننا لا نصل إلى مهيار حتى نراه يعرضها في أبيات كثيرة، وما فائدة الزمن وما فائدة التطور الذي أصاب الشعر العربي بعد القرن الثالث، إن لم يلفق الشاعر من البيت الواحد القديم أبياتًا كثيرة حديثة، وانظر كيف تحولت هذه الفكرة عند مهيار إلى تلك الأبيات:

_ 1 الصلى: الاحتراق.

هل عند هذا الطَّلَلِ الماحِلِ ... من جَلَدٍ يُجِدي على سائلِ أصمُّ، بل يسمعُ؛ لكنَّهُ ... من البلى في شُغُلٍ شاغلِ وقفتُ فيه شبحًا ماثلًا ... مرتفدًا من شبحٍ ماثِلِ ولا ترى أعجبَ من ناحلٍ ... يشكو ضنا الجسمِ إلى ناحلِ لهفَكِ يا دارُ ولهفي على ... قَطينِك المحتمِل الزَّائلِ2 قلبيَ للأَحْزانِ بعد النَّوى ... وأنتِ للسَّافي وللنَّاخلِ3 مثلُكِ في السُّقمِ ولي فضلةٌ ... بالعقلِ والبَلوى على العَاقِلِ فإنك ترى أن أساس الفكرة في هذه الأبيات هو أنه رسم يبكي رسْمًا، وهي فكرة المتنبي بل هي فكرة أبي تمام من قبله، وكل ما جاء به مهيار من جديد أنه عمد إلى التطويل والتفصيل؛ ولكن ألا يشعر القارئ على الرغم مما وفِّق إليه مهيار من إحكام الصوت في هذه القطعة أن الأبيات لا تبلغ من التأثير ما يريده لها مهيار؛ فقد تقاربت الأفكار وأصبح الأسلوب هادئًا ليس فيه عنف العاطفة ولا حدة التعبير الأصيل في الشعر، أصبح كأنه أسلوب نثر؛ فهو يعتمد على المقارنة والتفصيل. وهو يعتمد أيضًا على شيء آخر يفسده، وهو ما فيه من تكرار للألفاظ، وهو تكرار لم نتعوَّده في الشعر قبل القرن الرابع؛ إذ يدنو به إلى حال من الابتذال، قد لا تبدو واضحة في تلك القطعة، ولكن ارجع إلى ديوان مهيار، فستراها منتشرة هناك، وستراها تصيب شعره بضروب من الركاكة والإسفاف، وهل تستريح الأذن في تلك القطعة نفسها إلى كلمة "الفضلة" أو كلمة "البلوى" ومثلهما كثير في شعر مهيار؛ إذ كان يدخل فيه كلمات كثيرة غير شعرية، حتى ليصبح أصلًا في قصائده أن تنتشر في نسيجها تلك الرقع التي لا تكسبها جمالًا إلا جمالًا غير شعري، وانظر إلى فكرة ضلال القلب وراء الحبيب، وهي فكرة معروفة من قبله، وقد أعجب بها مهيار، وذهب يلفق منها أبياتًا كثيرة في ديوانه كأنه يقول:

_ 1 مرتفدًا: طالبًا للرفد وهو العطاء. 2 القطين: السكان. المحتمل: الراحل. 3 السافي والناخل: الرياح.

نشدتُكِ يا بانةَ الأَجْرعِ ... متى رفعَ الحيُّ من لَعْلَعِ1 وهل مرَّ قلبيَ في التابعيـ ... ن أم خارَ ضعفًا فلم يَتْبَعِ لقد كان يُطمُعني في المُقام ... ونيّتُهُ نيَّةُ الْمُزْمعِ وسِرْنا جميعًا وراء الْحُمُول ... ولكن رجعتُ ولم يرجِعِ فأنّتُهُ لكِ بين القلوبِ ... إذا اشتبهت أنَّةُ الموجَعِ وشكوى تدلُّ على سُقْمِهِ ... فإن أنتِ لم تُبصري فاسمعي فقد أطال مهيار الفكرة ودار حولها هذا الدوران الذي يبعدها عن طبيعة الأفكار الغنائية؛ ولكن ما للأفكار الغنائية ومهيار؟ إنه يريد أن يجدد فلا يجد عنده ثروة فكرية يستعين بها على ما يريد، وإذن يعمد إلى تطويل الأفكار القديمة وبسطها كل البسط؛ غير أنه حين صنع ذلك ضل منه أسلوب الشعر الغنائي في الطريق، فقد طالت الأفكار، ولم يعد لها شيء من اللذع والحدة. وما أشبه أسلوب مهيار بالسهل المنبسط الذي لا تجد فيه سوى نبات واحد فإذا بك تملُّه وتسأمه لما فيه من تكْرار وعدم تنوع. وحقًّا أن أسلوب مهيار أسلوب منبسط فلا نتوء فيه لفكرة أو صورة غير هذا التفصيل الممل الذي ينفِّر الإنسان من متابعته والنظر طويلًا في ديوانه؛ إلا أن يكون باحثًا يحترف البحث؛ فلا يهمه أن يقرأ شعرًا تتقد فيه العاطفة، ويلذع فيه الأسلوب، وهل يجد الإنسان شيئًا من اللذع أو الحدة أو الطرافة في تلك الأبيات وخاصة البيتين الأخيرين؟ وهل كلمة "إذا اشتبهت" كلمة شعرية؟ وهل نستريح إلى التعبير عن الارتحال بالارتفاع كما يقول في البيت الأول؟ وهل نستريح لكلمة النية؟ ألا نحس في ذلك كله بضروب من خبو العاطفة وضعف الأسلوب. والحق أن مهيار لم يكن يعرف العبارة الحادة في الشعر العربي معرفة دقيقة؛ لأنه أجنبي دخيل على اللغة، وهو لم ينزح إلى البادية كما نزح إليها أبو نواس، ولا تعلَّم الفصاحة من شيوخ بني عقيل كما تعلمها بشار؛ فلم تتعمق فيه السليقة

_ 1 الأجرع: رملة طيبة المنبت. لعلع: جبل.

العربية، وصار إذا أراد التعبير عن فكرة جاءها من بعيد وبعد لفٍّ طويل؛ فانكشفت عيوبه في التلفيق. على أنه يحسن بنا أن نشير إلى أن مهيار استحوذ على إعجاب كثير ممن عاصروه وجاءوا من بعده واستمر ذلك إلى عصرنا الحديث، وأكبر الظن أنه يحسن أن لا يسرف المعجبون به على أنفسهم، فيتخذوه مثلًا من أمثلة البلاغة العربية؛ لأنه يضل التعبير العربي الدقيق، واقرأ له هذه القطعة. يالُواة الديون هل في قضايا الـ ... حسن أن يَمْطُلَ الغنيُّ الفقيرا لي فيكم عهدٌ أُغيرَ عليهِ ... يومَ سلعٍ ولا أسمِّي المغيرا1 احذروا العارَ فيهِ، والعارُ أن يمـ ... سي ذمامي في رعيهِ مخفورا أو فردُّوا على حيرانَ أعْشَى ... ناظرًا فقد أخذتموه بَصِيرا أنا ذاك اعتبدتُ قلبي وانفقـ ... تُ دموعي عليكُمُ تبْذِيرا فاحفظوا في الإسارِ قَلْبًا تمنَّى ... شَغَفًا أن يموتَ فيكم أَسِيرا وقتيلًا لكم ولا يشتكِيكُمْ ... هل رأيتم قبلي قتيلًا شكورا ولعل القارئ شعر بغرابة هذه العهود التي يغار عليها وتسلب؛ فنحن نعرف أن العهود تنقض، أما أن يغار عليها وتسلب فهذا تعبير جديد غير مألوف؛ ولكن مهيار يريد التجديد في التعبير، بل هو فارسي قد ينسى الكلمة الأصيلة في اللغة. وانظر بعد ذلك فسترى التلفيق واضحًا، إذ يعمد إلى التفصيل في أفكاره والاتساع في عباراته، ولذلك كان يكثر عنده الحشو والإسهاب الممل؛ وما هذا العار الذي يذكره مجملًا ثم يفصله؟ وانظر إلى البيت الرابع وما فيه من تقديم الصفات على الموصوف. وليس ذلك كل شيء فيه بل انظر إلى القافية كيف اجتلبت لتكميل البيت، لقد اجتلبت هي وما دخلت فيه من تعبير كما اجتلبت قافية البيت الثاني وتعبيرها. والحق أن هذه الأبيات وألفاظها جميعًا مجتلبة، أو هي بعبارة أدق ملفقة أريد بها أن تحدث نموذجًا

_ 1 سلع: جبل في المدينة.

من الشعر؛ وإلا فما هذه العبارات في الأبيات التالية من مثل: إنفاق الدموع تبذيرًا، وموت قلبه فيهم أسيرا؟! ونحن لا نرتاب في أن كثيرًا مما يؤذينا في هذه القطعة وأمثالها في ديوان مهيار إنما يرجع إلى أنه لم تكن له سليقة عربية إذ تعلم اللغة من الكتب؛ ولذلك لم يكن يعرف كيف ينظم السلك العربي، وكيف يرتب فرائده، وأين يضع الكبرى، وأين يضع الصغرى، ومن ثم انتشر عنده التلفيق على حين ينطوي عند غيره من الشعراء، ولا يظهر واضحًا بتلك الصورة الواسعة التي نراها عند مهيار. واقرأ هذه الأبيات: مَن دلَّ رباتِ العيونِ النُّجُلِ ... أن القلوبَ غرضٌ للمُقَلِ فما رمت سوداءُ منها أسوَدًا ... فغيرُ أن يجرَحَ إن لم يقتلِ باعَ رخيصًا لبَّهُ يوم اللِّوى ... موكل أحشاءَه بالكلَلِ حكمُ هوىً مسلَّط إذا جنى ... لم يعتذر وإن قضى لم يعدل دَمِي وقد حُرِّم إلا بدمٍ ... على اللِّوى لِمْ حلَّ يا ذاتَ الحُلى سيقتْ لبلبالِكِ بابليَّة ... مالكِ يا خالقةَ السِّحرِ ولي زعمتِ لا يُبلِي هواك جسدي ... بَلَى وحبِّيك بلَى لقد بَلِي فإنك تحس إحساسًا واضحًا بأن مهيار يلفق القصائد تلفيقًا؛ فهو يجمع لها الألفاظ والأفكار من هنا وهناك؛ وإلا ففيم هذا الاستفهام الذي بدأ به هذه الأبيات؟ وفيم هذه السهام المكسرة في القلوب إن لم تعرف العيون مكان الرمية؟! إن كل ما هنالك أنه جاء بالمقل والعيون النجل. أما البيت الثاني ففيه سواد وفيه تكلف متعب في التعبير وخاصة في شطره الأخير. وانظر إلى البيت الثالث وهذا الانتقال من القتل إلى البيع، ثم انظر بعد ذلك إلى التكلف في الجناس بين موكل وكلل، وهو جناس باهت لا نشعر إزاءه بطرافة فنية لا من جهة صوتية ولا من أي جهة مادية أخرى. وانظر إلى جناسه بعد ذلك بين: حل وذات الحلى، ثم بين: بلبال وبابلية، ثم بين: بلَى وبلِي في البيت الأخير. إننا لا نستطيع أن نفهم أن هذه الجناسات هي نفس الجناسات التي كنا نعجب

بها عند شعراء القرن الثالث، إنها جناسات باهتة لا نحس إزاءها بأنها تعبر عن جمال وفن كما كان ذلك الشأن في القديم. على أن هذا الجانب الباهت في شعر مهيار يعم في جميع جوانب قصائده ونماذجه؛ بحيث يمكن أن نقول إنها قصائد أو نماذج باهتة، فليس فيها ما يسر العين والأذن فضلًا عما يسر العقل والذهن إلا قليلًا. واقرأ في مهيار طويلًا ثم سلْ نفسك ماذا حصلت عليه فستجدك قلما تحصل على شيء رائع من فن أو شعر؛ بل أنا أومن بأنك لن تستطيع أن تديم النظر فيه طويلا، فسيفجؤك ملل وسأم يحولان بينك وبين الاستمرار في القراءة، فقد أصبح الشعر تلفيقًا خالصًا سواء في صوره أم في ألوانه أم في أفكاره، وهو تلفيق كان مهيار يعتمد على دفع المشقة فيه بالتقليد، ولكن أي تقليد؟! إنه هذا التقليد الذي لا يشعُّ إلا مللًا وسأمًا غريبين، وكأنما أجدب التفكير الفني، ولم يعد من الممكن أن يتحول إلى التصنيع القديم وما كان فيه من زخرف حسي وعقلي.

تطويل مهيار لقصائده

3- تطويلُ مِهْيَار لقَصَائِدِهِ: لم يقف مهيار بتلفيقه عند تطويل الأفكار المطروقة والخواطر الموروثة في أسلوبه المنبسط؛ بل راح يحاول تحقيق ذلك من طرق أخرى، هي إدخال مراسيم الرسائل في قصائده، حتى يستطيع أن يطيل فيها طولًا شديدًا. وإن الإنسان ليشعر شعورًا واضحًا إزاء كثير من نماذجه بأنها قد ألفت كما تؤلف الرسائل؛ فهي تبدأ في العنوان بتلك الكلمة: "وكتب إلى ... "، وينتقل الإنسان من هذا العنوان إلى القصيدة فإذا هي قد ألفت على نمط أسلوب الرسائل وما تعارف عليه أصحابها من ولعهم بما يسمَّى: براعة الاستهلال، وكان السابقون يعرفون لمهيار إحسانه في هذا الجانب. يقول ابن حجَّة الحموي: "ومن ألطف البراعات وأحسنها براعة مهيار الدَّيلمي؛ فإنه بلغه أنه

وُشِيَ به إلى ممدوحه فتنصل من ذلك بألطف عذر، وأبرزه في معرض التغزل والنسيب؛ فقال: أما وهواها حلفَةً وتَنصُّلا ... لقد نقَلَ الواشي إليها فأمْحَلا وما أحلى ما قال بعده: سعى جُهْدَه لكن تجاوز حدَّهُ ... وكثَّر فارتابتْ ولو شاء قلَّلا ومهيار كما يبدأ قصائده ببراعة الاستهلال نراه يختمها بالدعاء على نمط ما يصنع الكتاب برسائلهم، وانظر إليه يقول في نهاية إحدى قصائده: فلا قَلَصتْ عني سحائبُ ظلِّكم ... فمنها مُرِذٌ تارة وسَكُوبُ1 ولا عدِمتَكم نعمةٌ خُلقتْ لكم ... ودنيا لكم فيها الحياةُ تطيبُ يزوركُم النَّيروزُ مقتبَلَ الصِّبا ... وقد دبَّ في رأسِ الزَّمانِ مَشِيبُ تصَوَّحُ أغصانُ الأعادي وغصنُكم ... من السَّعد ريَّانُ النباتِ رطيبُ2 دعاءٌ حِيالي فيه ألفُ مؤمِّنٍ ... تَوافقُ منهم ألسنٌ وقلوبُ وماذا بقي لأسلوب الكتاب في رسائلهم؟ إن مهيار يبدأ قصائده ببراعة الاستهلال ويختمها بالدعاء، وكأنه يؤلف رسالة من الرسائل، وكيف يطيل قصائده إن لم يستخدم معرفته بمراسيم الرسائل في هذا الطول وينقل إلى القصيدة كل ما يمكنه من هذه المراسيم؟ على أن هذا الجانب من التجديد عند مهيار لم يضف للشعر جمالًا، بل أضاف إليه هلهلة وإسفافًا؛ فإن مهيار حين عدل بالشعر إلى مراسيم النثر استعار له ما يُطْوى في هذه المراسيم من الحشو وكثرة التَّكْرار والاعتراض، وعمَّم ذلك في نماذجه، حتى ليؤذينا إيذاء شديدًا، وانظر كيف يعتمد على الاعتراض في صنع أبياته: أقولُ وقد تعرَّمَ جُرحُ حالي ... وسُدَّ على مَطالِعيَ السَّراحُ3 وكاشفني وكان مجاملًا لي ... عَبوسُ الوجهِ من زمني وَقاحُ

_ 1 قلصت: رحلت. مرذ: من الإرذاذ وهو المطر الضعيف، ضد السكوب. 2 تصوح: تذبل. 3 تعرم: اشتد.

وقد منعت غضارَتها وجفَّت ... على أخلاقها الأيدي الشِّحاحُ غدًا يا نفسُ فانتظري أناسًا ... هُمُ فرَجٌ لصدركِ وانشراحُ فقد فصل بين أقول ومتعلقاتها بنحو ثلاثة أبيات، جاء بها حشوًا، لا لشيء سوى أن يطيل في نموذجه، وأن يحقق الكَمَّ الذي يريده لقصيدته؛ فإذا الإنسان لا يقرأ في شعر، وإنما يقرأ في نثر أو رسالة من الرسائل. ونحن لا نرتاب في أن مهيار حين خرج بنماذجه وقصائده إلى التطويل فيها، وجلب مراسيم الرسائل لم يستطع أن يشفع ذلك بجمال فني لا من جهة حسية ولا من وجهة عقلية إلا قليلا جدًّا، وكان ابن الرومي يطيل من قبله في قصائده ولكن الطول عنده كان مفهومًا؛ إذ كان يستخدم فيه ثقافته ومنطقه، فإذا المعاني تتسع عنده اتساع الرقاقة في قوله يصف خبَّازًا: ما أَنسَ لا أنس خبازًا مررتُ بِهِ ... يدحو الرقاقةَ وشك اللَّمح بالبصرِ1 ما بين رُؤيتها في كفِّهِ كُرَةً ... وبين رؤيتِها قوراء كالقَمَرِ2 إلا بمقدارِ ما تنداحُ دائرةٌ ... في لُجَّةِ الماءِ يُرْمَى فيه بالحجَرِ3 فابن الرومي كان يخبز معانيه خبزة عقلية إن صح هذا التعبير، أما مهيار فلم يكن يطيل في شعره بدافع عقلي؛ إنما كان يطيل من أجل الطول نفسه؛ ولذلك فقد الشعر عنده كل ما يحمل من حرارة العاطفة وتوهجها، لولا ما كان يسلكه فيه من أقواس موسيقية. وحقًّا إن مهيار تسلم له بعض قطع من نماذجه يوفر لها من القيم الصوتية ما نعجب به؛ ولكن ذلك لا يسري إلى أكثر شعره وأغلبه، بل إنه لا يسري إلى بقية القصائد التي قد نستجيد منها هذه القطع، فما يزال يهجم علينا منه هذا التلفيق وهذا الحشو، وكأني به حينما بسط نماذجه كل البسط أصبح الجمال الفني عنده مهوَّشًا لا روعة فيه ولا تنسيق.

_ 1 يدحو: يبسط. 2 قوراء: واسعة. 3 تنداح: تنبسط.

الميوعة في غزل مهيار

4- الميوعةُ في غَزَلِ مِهْيَار: كما أن مهيار لم يكن يسعفه التعبير الحاد في اللغة، كذلك لم يكن يسعفه الشعور الحاد؛ ففي شعره ضرب من الميوعة واللِّيونة وخاصة في غزله؛ إذ يحس الإنسان دائمًا بأن فيه إفراطًا في الحس والشعور والرقة، بل إنه لتنساب منه ألوان من الذلة والضراعة، فقد خُلِقَ -كما يقول- رقيق القلب1، وإنها لرقة تخرج به عن الحدود المألوفة، حتى لنرى أنفاس الخزامي تَخِزه2، وإنه لوخز غريب، ولكن لا غرابة فيه، فمهيار يتكلف الليونة والدماثة والحس الحاد والشعور المفرط؛ فإذا شعره يفقد ما يمكن أن يكون في العواطف من حرارة وقوة. إنه شعر يمتلئ بالميوعة والرقة المفرطة ولعل ذلك ما جعله يقول في وصف قصائده: في كلِّ نادٍ نازحٌ غائبُ ... لها حديثٌ بكم حاضرُ تعرض أيام التّهاني بها ... ما تعرضُ المعشوقة العاطرُ تميسُ منها بين أيامكم ... خاطرةٌ يتبعها الخاطرُ3 لثَّمها التحصين عن غيركم ... وهي على أبوابكم سافرُ فهو يعترف بأن قصائده -حتى في المديح- كأنها المعشوقة العاطر. إنها من جنس المعشوقات اللائي يتشاجين ويتموجن ويرضين في لبوس الغضب ويغضبن في لبوس الرضا. لم يكن مهيار يعتمد في شعره وغزله على قوة ولا ما يشبه القوة؛ بل كان يعتمد على هذه الليونة والدماثة وما يفضيان إليه من ميوعة شديدة؛ وهي ميوعة لا تطويها أصالة في التعبير ولا طرافة في التفكير، وإنما ينشرها هذا التلفيق.

_ 1 ديوان مهيار "طبع دار الكتب" 1/ 22. 2 الديوان 3/ 262. 3 تميس: تتبختر.

الذي أشرنا إليه، واقرأ هذه الأبيات: وبجَرْعاء الحمى قلبي فَعُجْ ... بالحمى فاقرأْ على قلبي السَّلاما1 وترجَّل فتحدَّث عجبًا ... أن قلبًا سار عن جسمٍ أقاما قُلْ لجيران الغَضَا آه على ... طيب عيشٍ بالغضا لو كان داما2 نصلُ العامَ وما ننساكُمُ ... وقُصَارى الوجد أن نَسْلُخَ عاما حمِّلوا ريح الصَّبا نشركم ... قبل أن تحمل شيحًا وثُماما3 وابعثوا أشباحَكُم لي في الكَرى ... إن أذنتم لجفوني أن تناما فإنك ترى الليونة والميوعة التي يصاب بها الشعراء الوجدانيون حين يصبح الشعر تلفيقًا فتراهم يتهالكون ولا يكادون يتماسكون، وقد كرر الحمى وكرر القلب تكرارًا لا نحس فيه جمالًا؛ وانظر إلى البيت الثاني، ألا تحس بشيء من التكلف في هذا الترجل؛ لكأنه جاء بهذا البيت ليعبر عن الطباق بين سار وأقام؛ ولكنه طباق باهت. وهكذا مهيار دائمًا في استخدام ألوان التصنيع؛ إذ نحس كأنها فقدت عنده أصباغها أو فقدت ألوانها، إن كان من الممكن أن يفقد لون لونه. ويستمر فيعبر عن دماثته وليونته بأنه لا ينسى محبيه، مهما طال به العهد؛ وقصارى الوجد عنده أن يسلخ عامًا؛ وها هو ذا أخيرًا لا ينام، إلا إذ أذن له هؤلاء المحبون، وهو إن نام يطلب أشباحهم في الكرى، ألا تحس في ذلك كله ما نشير إليه من ليونة الغزل عند مهيار، وما هذا الإذن الذي يصطنعه ليدل على منتهى ما يمكن من حساسية في الشعور ورقة في العواطف؟ وانظر إلى هذه الأبيات: لم تزل تخدع العيونَ إلى أن ... علَّقت دمعةً على كلِّ ماقِ ما أعفَّ النفوسَ يا صاحبي شكـ ... واي لولا غرامةُ الأحداقِ وبنفسي المحلُّ ليس رفيقًا ... للسَّوافي ولا لتيه الرِّفاق4

_ 1 الجرعاء: رملة منبتة ولا وعوثة فيها. عج: اعطف وقف. 2 الغضا: من أشجار البادية. 3 الشيح والثمام: من نباتات الصحراء. 4 السوافي: الريح تسفي التراب.

في مكان الوحشِ العواطلِ تلقى الـ ... إنسَ فيه حَواليَ الأعْنَاقِ يتعرَّضن ما لهن من اللَّمْـ ... س نفورٌ ولا من الصَّيدِ واقي كل محبوبة إلى الحقب مُسْتَنَّـ ... ـة لبسِ الخلخالِ عند الساقِ1 فإنك ترى دموعًا معلَّقة بمآقيه، وهي دموع تؤذينا إيذاء شديدًا، وأي دموع هذه التي تعلق تعليقًا؟ أليس فيها تصنع شديد ومبالغة مفرطة عن شعوره؟ ويستمر فإذا صواحبه لَسْنَ من هذا النوع المحصن الممنع الذي تحميه السيوف والرماح، والذي كان يتغنى به الشعراء من أمثال أبي تمام والمتنبي؛ بل هن من نوع آخر لا يصد ولا ينفر؛ إنهن يتعوجن كمهيار في حبهن ويتهالكن. وانظر أخيرًا كيف ختم هذه الأبيات بتلك الصور الملفقة التي أراد أن يجدد بها فذكر أن صواحبه يلبسن الخلخال عند الساق، وهل في هذه الفكرة شعر أو ما يشبه الشعر؟ إنما هي ثرثرة أصحاب الشعور المائع؛ إذ يعمدون إلى التلفيق في الصور تلفيقًا غريبًا، واقرأ هذه الأبيات: قالوا صحوت من الجنون به ... من ربد جنته على عقلي وسعَى بِيَ الواشي وكان وما ... يسطيعني بيدٍ ولا رِجْلِ فكأنهنّ بما أذِنَّ له ... يَلبسن أقراطًا من العَذلِ2 فإنك تراه يعلق اليد والرجل في البيت الثاني كما علق الدموع في الأبيات السابقة، وكما علِّقت أقراط العذل في البيت الثالث، وقد عاد للتعبير بالإذن؛ فدلَّ على هذا الشعور المصطنع وهذه الرقة المفرطة. وارجعْ إلى هذه المقطوعة من الفخر التي تُغَنَّى في العصر الحديث، والتي يبدؤها على هذه الشاكلة: أُعْجِبَتْ بي بين نادي قَومِها ... أُمُّ سعدٍ فمضَتْ تسألُ بي فإنك ترى منه محبًّا غريبًا يسوق الحديث مع صواحبه في طريقة غير مألوفة، ألست تراه يقول إنها هي التي تعجب به؟ وحقًّا كان مهيار شاعرًا من شعراء الحب؛ ولكنه شاعر من طراز آخر غير الطراز الذي نعرفه عند العرب، طراز

_ 1 الحقب: جمع حقاب، وهو حزام محلَّى تشده المرأة إلى وسطها. 2 العذل: اللوم.

يظهر الإفراط في الحس والشعور؛ بل هو طراز مائع ليِّن ليونة شديدة، وقد انتشر هذا الطراز بعد مهيار واستمر إلى عصرنا الحديث، وهو طراز ظهر في الشعر العربي حين أترفت الحضارة، وأترف الحس والشعور على هذا النمط الذي نرى فيه مهيار يقول: غار المحبونَ من أبصارِ غيرهِمُ ... ضداً وغِرْتُ على لمياءَ من بصري وإنها لغيرة غير مألوفة، فعهدنا بالمحبين أن يغاروا حقًّا، ولكنا لم نعهد أحدًا يغار من نفسه بل يغار من بصره. لقد كان خليقًا به أن يحمد هذا البصر، وإن كان يريد أن يُبْعِد في التعبير والتفكير فليسلك إلى ذلك طريقًا آخر، فيه قرب، ليقل لها: إنه يريد أن يظل له بصره حتى يراها به، ولكن مهيار كان يريد شيئًا آخر غير إظهار الدقة في الشعور، كان يريد أن يعبر عن ليونة وميوعة فإذا هو لا يغار قط من غيره؛ بل هو يغار من بصره حتى يعلن إلى صاحبته ما اشتمل عليه من رهافة حسه، بل من مرض حسه وما أصابه من هذه الميوعة الشديدة، وانظر إليه يقول: وحبّي لذكركِ حتى لَثَمْـ ... ـتُ مسلَكَه من فمِ العَاذِلِ فإنك ترى صورة أخرى لا تقل غرابة عن سابقتها، فها هو ذا مهيار يلثم فم العاذل حين يذكر له صاحبته، أرأيت إلى هذا التصنع لإظهار الإفراط في الشعور، بل لإظهار تلك الميوعة التي أخذت ترسخ أصولها وتستقر في هذا الديوان الضخم عند مهيار، واقرأ فيه ما استطعت أن تقرأ فإنك ستشرف دائمًا على هذه الميوعة الشديدة.

غزل مهيار والعناصر البدوية

5- غزلُ مِهْيَار والعناصرُ البدَوِيَّةُ: على أن هناك جانبًا آخر مهمًّا في غزل مهيار، هو ما نراه عنده من تشبثه بالعناصر البدوية وحشدها في قصائده، بحيث لا يمر غزل في قصيدة دون أن

نحس بأنه لشاعر يقيم في نجد أوفي الحجاز؛ فدائمًا صاحبته أمامه أو الرَّباب أو لمياء أو سعدى، ودائمًا هي من سكان: مِنَى أو الخِيف أو قباء أو سَلْع، وهو لذلك يكثر من ذكر الأماكن الحجازية والنجدية من مثل: أُحد وجُمَع وسَلَم ونُعمان والألال والمحصَّب وإضم وزمزم، إلى جَمٍّ من هذه الأمكنة التي تُنْشَر في مطالع قصائده، وهو إلى ذلك ما يزال يعنى بالحديث عن الأطلال عناية شديدة. وقد يعجب الإنسان لمزاوجة مهيار بين ميوعته في غزله وبين ارتفاعه بهذا الغزل عن حياته المتحضرة إلى الحياة المبتدية وما فيها من شظف العيش وخشونة الحياة، وحقًّا إن ذلك يشعر بشيء من التناقض عنده؛ غير أنها حالة عامة انتشرت في الشعر العربي لهذه العصور وعرفت عند مهيار وغيره كالمتنبي، وكان يعنى في نسيبه مثله بالبدويات على نحو ما مر بنا في الفصل السابق. وأكبر الظن أن هذه الحال من التبدي في الغزل تسربت للشعراء من تأثرهم بأساليب المتشيعة والمتصوفة في شعرهم الخاص، إذا كان هؤلاء ينحون بغزلهم منحى بدويًّا، يعبرون فيه بالأماكن النجدية والحجازية، وكأنهم يريدون أن يعطوه بذلك ضربًا من العبادة والقداسة، وهم لذلك يتشبثون خاصة بالأماكن المقدسة في الحجاز. وقد ربطنا سابقًا بين المتنبي وأساليب المتصوفة؛ أما مهيار فقد رأينا في أول هذا الفصل أنه كان متشيعًا بل كان من غلاة الرافضة، وقد نحا بغزله هذا المنحى الذي يعبر فيه هذا التعبير الواسع عن حبه، على الرغم مما قد يظن بأن هذه العناصر البدوية تقيد في خواطره وأفكاره. والحق أنها أعطت للغزل عند مهيار وعند غيره من الشعراء ضربًا من الاتساع في التعبير عن الوجدان والعاطفة، وماذا نطلب في الغزل؟ ألسنا نطلب التعبير عن الحب والعواطف؟ وهو تعبير ليس من الضروري له أن يرتبط بحياة الشعراء الحاضرة؛ إنما هي العاطفة ينوِّع الشعراء في التعبير عنها، هم قد يعبرون بعناصر حاضرة، وقد يرجعون إلى عناصر قديمة تشع منها ضروب مختلفة من المشاعر والأحاسيس. ولعل من الغريب أن نجد جماعة من النقاد المعاصرين يتلومون من يذهب

هذا المذهب من استخدام العناصر البدوية القديمة في الشعر، كأنما التعبير عن العاطفة تعبير يقيده الحاضر، وما الحاضر؟ إن العاطفة أوسع من أن تقيد بمكان خاص أو زمان خاص، وربما كان التعبير بالعناصر الماضية يعطيها من الاتساع في التعبير ما لا يعطيها التعبير بالعناصر الحاضرة، وما لنا نذهب بعيدًا؟! إن التعبير العاطفي إنما هو ضرب من الرمز عما في نفوسنا، ومن حق الشعراء أن يرمزوا إليه بالعناصر الماضية أو العناصر الحاضرة، وربما وجدوا في العناصر الماضية ما يسعفهم بالتعبير عما في نفوسهم تعبيرًا أدق وأعمق عمق هذه العناصر في الماضي والقديم. وأكبر الظن أن ذلك ما دعا أصحاب التصوف والتشيع إلى أن يرتبطوا في شعرهم بتلك العناصر؛ فقد اتخذوها للتعبير عن عواطفهم العميقة، واستطاعوا أن يحدثوا بها ضربًا من الشعر الرمزي في اللغة العربية. على كل حال كان مهيار يكثر من العناصر البدوية في شعره، سواء منها ما يتصل بأسماء صواحبه أو أماكنهن أو ما في هذه الأماكن من النباتات والأشجار والأودية والرياح، كأن يقول في مطلع إحدى قصائده: بَكَرَ العارِضُ تحدُوه النُّعامَى ... فسقاكِ الرَّيَّ يا دارَ أُماما1 وتمشَّتْ فيك أرواحُ الصَّبا ... يتأرَّجنَ بأنفاسِ الخُزامَى2 فإنك تراه يتشبث منذ المطلع بهذه العناصر القديمة، وهي لا شك تعطي غزله ضربًا من الاتساع في التعبير، وانظر إليه يقول في قصيدة أخرى تلك القطعة الجيدة المعروفة: سَل طريقَ العيسِ من وادي الغضا ... كيف أغسقتَ لنا رَأْدَ الضُّحى3 ألشيءٍ غير ما جيراننا ... نفضوا نجدًا وحَلّوا الأَبطحا يا نسيمَ الصُّبحِ من كاظمةٍ ... شدَّ ما هِجتَ الجوَى والبُرَحا الصَّبا إن كان لا بدَّ الصَّبا ... إنها كانتْ لِقَلْبي أرْوَحا

_ 1 العارض: السحاب. النعامى: ريح الجنوب. 2 الخزامى: نبات طيب الرائحة. 3 العيس: الإبل. رأد: ارتفاع.

يا نداماي بسلْعٍ هل أرى ... ذلك الْمَغْبَقَ والمصْطَبَحا1 اذْكُرونا قد ذكرَنا عهدَكُم ... ربَّ ذكَرى قرَّبتْ مَن نَزَحا واذكروا صبًّا إذا غنى بكم ... شرب الدَّمعَ وعافَ القَدَحَا ولا يروعك الآن ما تجد في هذه القطعة من موسيقى جيدة؛ فهي لا تطَّرد له في بقية قصيدته فضلًا عن قصائده الأخرى؛ إنما هي أبيات وقطع تأتي نادرة في ديوانه تستقيم له الموسيقى فيها ويستقيم له التعبير على أن جمال هذه القطعة في الواقع يأتي قبل كل شيء مما فيها من تواجد وحنين، وهو لا ينقلب إلى تلك الميوعة التي نعرفها في مهيار، ولذلك يقع منا موقعًا طريفًا. وحقًّا إننا لا ننكر الوجد في الغزل ولكننا ننكر الميوعة وما يطوى فيها من ليونه وتخنث. ولعل أهم شيء جعل مهيار لا يسقط في غزله سقوطًا تامًّا هذه العناصر البدوية التي كان يستعين بها في شعره والتي كانت تطوى في داخلها جانبًا من الشعور بالألم والحزن. وهو شعور جاء مهيار من تشيعه؛ فالشيعة دائمًا محزونون، وهم لذلك دائمًا يشعرون بالألم، وقد تسرب هذا الألم وتسرب هذا الحزن إلى غزل مهيار فشع منه حنين وتواجد بل إغراق في الحنين والتواجد، وكأنما نقرأ في ديوان مهيار لشاعر متشيع، بل نحن نقرأ حقًّا لشاعر متشيع يحز الألم في صدره، وهو ألم يفضي به إلى هذا التواجد في الحب، ولعل ذلك ما جعل المتصوفة يغنون بغزله، فهم يذكرون أن من سماعهم قوله2: مَنْ ناظرٌ لي بين سَلعٍ وقُبَا ... كيف أضاءَ البرقُ أم كيف خَبَا3 نبَّهَني وميضُه ولم تَنمْ ... عيني ولكن رَدَّ عقلًا عَزَبا برقٌ لهُ قد صار قلبي خافقًا ... واستبردتْه أضلعي مُلْتهبا يا لَبعيدٍ من مِنىً دَنَا به ... يوهمني الصدقَ بُرَيْقٌ كَذَبا

_ 1المغبق: مكان الغبوق وهو الشرب في المساء، والمصطبح: مكان الصبوح، وهو الشرب في الصباح. وقد ذكرهما على التشبيه. 2 محاضرات الأبرار: لابن العربي 1/ 214. 3 قباء: موضع قرب المدينة.

ولَنسيمِ سَحَرٍ بحاجرٍ ... رَدَّتْ به عهدَ الصِّبَا ريحُ الصَّبا1 أليَّة ما فتح العطَّارُ عن ... أعبقَ منه نَفَسًا وأطيبا سل مَن يدُلُّ الناشدين بالغضا ... على الطَّريدِ ويردُّ السَّلَبا أراجعٌ لي والمُنَى هَلْهَلَةٌ ... فطالعٌ نجمُ زمانٍ غَرَبا وطوفةٌ بين القِبابِ بِمنىً ... لا خائفًا عينًا ولا مرتَقبَا وليس من شك في أن هذه المقطوعة تمثل روح المتصوفة لا بما فيها من الأماكن الحجازية فقط؛ بل بما في داخلها من التواجد في الحب. وهذا الجانب عند مهيار يجعلنا نلتفت إلى أن التشيع والتصوف أصبحا منذ القرن الرابع أصلين مهمين من أصول الشعر العربي؛ فهما يدخلان في المواد التي تكونه، إما لأن الشاعر من المتصوفة أو من المتشيعة، أو لأنه يستعير من هاتين البيئتين في شعره، كما رأينا عند المتنبي؛ إذ أدخل كثيرًا من مواد التصوف وعناصره في ألفاظ شعره وعباراته. وهذا هو سر ما نجده من صلة واضحة بين الشعر العربي العام وشعر المتشيعة والمتصوفة، وهل هناك من فارق بين مقدمات مهيار وشعر شاعر متصوف كابن الفارض؟ إن القصيدة عندهما جميعًا تُملأ بهذا التواجد في الحب، ثم بتلك البقع الحجازية وما تنشره في الشعر من حنين عاطفي غريب. وحقًّا امتاز المتصوفة باتساع الرمز في التعبير عن حبهم الإلهي، ولكن أي رمز؟! إنهم كانوا يرمزون بنفس هذه المواد البدوية والعناصر القديمة التي كانت تتخذ أيضًا كرمز عند شعراء الحب الإنساني، فتعبر هذا التعبير الفسيح الذي ينطلق فيه الخيال ويسبح فيه الشعور والوجدان.

_ 1 الحاجر: جبل بديار غطفان شرقي المدينة.

المديح عند مهيار وتحوله إلى شعر مناسبات

6- الْمَدِيحُ عندَ مِهْيَار وتحوُّلُه إلى شعرِ مناسباتٍ: ونحن نعود فنقرر أن هذه العناصر البدوية السابقة في شعر مهيار هي كل ما كان يحميه من السقوط؛ فقد أصبح الشعر عنده ضربًا من التلفيق والطول.

الشديد، وهو طول ما يزال به حتى يحدث السأم والملل؛ إذ لم يكن يستعين عليه بثروة عقلية، إنما كان يستعين عليه ببسط الأسلوب ونشره، وارجع إلى الموضوع العام الذي يشغله في ديوانه، ونقصد شعر المديح فإنك تراه يفقد أصباغه العقلية القديمة التي رأيناها عند أبي تمام، بل هو يفقد أصباغه الحسية، وكأني به يتحول كما تحول الغزل إلى ضرب من المديح الباهت؛ بل إن الغزل لم يسقط عند مهيار كما سقط المديح؛ لأنه عرف كيف يستعين عليه بالعناصر البدوية القديمة، وما يمكن أن تعطيه من اتساع في التعبير، أما المديح فلم يستطع أن يحول بينه وبين هذا السقوط. وهذا هو ما يجعلنا نذهب إلى أن الشعر العربي أخذ يركد منذ القرن الرابع، فلم يعد فيه من جديد رائع سوى أن تتجمع مواده القديمة، وهي مواد أثرية إن لم تعن بها الأيدي الحديثة فقدت كل ما لها من روعة فنية. والحق أن مهيار لم يستطع أن ينوع في معاني المديح؛ إذ كانت تنقصه الثقافة، وكان ينقصه العمق، وهو كذلك لم يستطع أن يحتفظ للعبارة بمنطق العرب الأصيل، كما احتفظ لها الشريف الرضي والمتنبي وأمثالهما، بل لقد ذهب يطيل فيها ويسرف في هذا الطول، بما كان يبسط من الأفكار والصور القديمة، وأضرَّ هذا الصنيع بقصائده لأن الشعر الغنائي حين يبسط كل البسط تصبح خطوطه مهوشة وألوانه مضطربة. لم يكن مهيار يحكم التعبير في قصيدة المديح؛ إذ كان لا يزال يطيل فيها هذا الطول الممل الذي ينتهي بها إلى ما يشبه الرسالة من الرسائل؛ فهي تبدأ ببراعة الاستهلال، وتنتهي بالدعاء، وتمتلئ بينهما بالحشو وما يطوى من تفكك وتلفيق، وكأنما أجدبت الحضارة العربية أو أجدب التفكير الفني؛ فليس هناك من جديد سوى هذا الأسلوب المنبسط الذي ينشر الفكرة المطوية في أبيات كثيرة. ولعل من الطريف أن نذكر هنا ما رواه صاحب الأغاني عن عبد الملك بن مروان من أنه كان يقول للشعراء: "تشبهونني مرة بالأسد ومرة بالبازي ومرة بالصقر، ألا قلتم كما قال كعب الأشقري:

ملوكٌ ينزلونَ بكلِّ ثَغْرٍ ... إذا ما الهامُ يوم الرَّوعِ طَارا1 رِزانٌ في الأمورِ ترى عليهم ... من الشيخ الشمائلَ والنِّجارا2 نجومٌ يُهتدى بهم إذا ما ... أخو الظَّلماءِ في الغمراتِ حارا3 ولو أن عبد الملك عاش إلى عصر مهيار ووجده ومن حوله من الشعراء يبدئون ويعيدون في صور المديح المحفوظة لكان ذلك أشد إيذاء لنفسه. على أننا نلاحظ أن هذه المعاني التي ذكرها لكعب الأشقري وأمثالها قد تُدوولت واستنفدت في العصر العباسي؛ بحيث لا نصل إلى مهيار حتى نجد الشاعر العربي يقصر عمله على تلفيقها لجميع الممدوحين في مختلف المناسبات بدون تفريق، ومن غير اختلاف في التطبيق. ونحن لا نتلوم مهيار وغيره من الشعراء لاستعارتهم في المديح الصور المحفوظة والأفكار الموروثة، ولكنا نتلومهم؛ لأنهم لم يستطيعوا أن يضيفوا إلى هذه الصور والأفكار ثروة زخرفية من التصنيع العقلي والحسي، كما كان الشأن عند أبي تمام، وهل نستطيع أن نقرن قصيدة لمهيار بقصيدة عمورية وما رأينا هناك من مزج أبي تمام بين عناصر الثقافات المختلفة حتى استوت له موسيقاه الرائعة في تلك القصيدة؟ وأكبر الظن أننا لا نبعد إذا قلنا إن من أهم الأسباب في خمود قصيدة المديح لهذه العصور أنها فقدت غالبًا الحادث الخطير الذي تنشد فيه والذي يكسبها ضربًا من الحيوية والقوة على نحو ما نرى عند أبي تمام حين مدح المعتصم بقصيدة عمورية، وعلي نحو ما نرى عند المتنبي في مديحه لسيف الدولة حين كان يصف وقائعه مع الروم؛ غير أنا لا نتقدم بعد المتنبي إلى مهيار حتى يصبح المديح عملًا رسميًّا يقال في المناسبات كتهنئة بنيروز أو عيد أو وزارة، ولم يعد هناك -إذا نحن استثنينا الحروب الصليبية- من البواعث والحوادث الهامة ما يدفع إلى نظمه، وما يعطيه حدة أو قوة، واستمر ذلك شأنه حتى العصر الحديث،

_ 1الهام: الرءوس 2 رزان: جمع رزين. الشمائل: الطباع. النجار: الأصل والحسب. 3 أغاني "طبعة دار الكتب" 14/ 287. والغمرات: الشدائد.

ومهما يكن فقد أصبحت قصيدة المديح عند مهيار وغيره من شعراء هذه العصور غالبًا قصيدة مناسبة، ولم يعد لها شيء من اللذة والروعة الفنية، وبذلك تحول شعر المديح في اللغة العربية إلى ما يمكن أن نسميه شعر التهاني أو شعر المناسبات؛ فقد انطفأت منه كل شعلة يمكن أن تندفع منها حرارة أو ينبعث منها توهج؛ ولم يبق فيه ولا في غيره من موضوعات الشعر سوى هذا التلفيق الذي وصفناه عند مهيار، ولعل ذلك كان أحد الأسباب التي جعلت المعري ينفر في لزومياته من هذا الشعر الذي لا نجد فيه أفكارًا نادرة ولا ثروة زخرفية واسعة.

الفصل الرابع: التعقيد في التصنع

الفصل الرابع: التعقيد في التصنع أبو العلا نشأته وحياته وثقافته ... الفصل الرابع: التَّعْقيدُ في التَّصنُّيعِ أراني في الثلاثة من سجوني ... فلا تسأل عن الخبرِ النبيثِ لفقدي ناظري ولزوم بيتي ... وكون النفس في الجسمِ الخبيثِ أبو العلاء المعري 1- أبو العَلاءِ نشأتُهُ وحياتُهُ وثقافتُهُ: رأينا الشعر عند مهيار يصبح ضربًا من التلفيق الخالص، وكأنما جمد الشعر العربي وأصبح من الصعب أن يتحول إلى طرائف جديدة إلا ما رأينا عند المتنبي من تصنعه لصيغ الثقافات المختلفة وما يطوي هذا التصنيع من تعقيد. ونحن لا نمضي بعد المتنبي إلى النصف الثاني من القرن الرابع ثم القرن الخامس حتى نجد شاعرًا شاميًّا يبلغ بهذا التعقيد غايته، وهو أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعروف باسم المعري نسبة إلى معرة النُّعمان، وهي بلدة بين حلب وحماة، وكان يكنى أبا العلاء، وذكر ذلك في شعره إذ يقول: دُعيتُ أبا العلاء وذلك مَيْنٌ ... ولكنَّ الصحيح أبو النزُولِ وقد ولد أبو العلاء سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، ولم يبلغ الرابعة من عمره حتى اعتلّ علة الجدري التي ذهب فيها بصره، وأشار إلى ذلك في إحدى رسائله إلى داعي الدعاة؛ إذ يقول: "وقد علم الله أن سمعي ثقيل، وبصري عن الإبصار كليل، وقضي علي وأنا ابن أربع، لا أفرِّقُ بين البازل والرُّبع"1 وكان يقول: "لا أعرف من الألوان إلا الأحمر لأني ألبست في الجدري ثوبًا مصبوغًا بالعُصْفُر، لا علق غير ذلك"2

_ 1 معجم الأدباء: لياقوت "طبعة مرجليوث" 1/ 198. والربع: الفصيل، والبازل: البعير في تاسع سنيه. 2 بغية الوعاة: للسيوطي "طبع مطبعة السعادة" ص136.

وقد خرج أبو العلاء من بيت علم وشعر وقضاء؛ فآباؤه كانوا يتولون قضاء المعرة، وتحدث عنهم ياقوت في ترجمته له حديثًا مستفيضًا، ذكر لهم فيه طرفًا من أشعارهم، وكان لهذا الميراث العلمي أثره في تربية المعرى؛ إذ جعله يميل للبحث والدرس، وأيضًا فإن فقد بصره حدد موقفه، وجعله يطلب العلم ويشغف به، وبدأ أبو العلاء بهذا الدرس والتحصيل في المعرة؛ إذ تتلمذ على أبيه ومن في بلدته من تلامذة ابن خالويه. يقول القفطي: "ولما كبر أبو العلاء ووصل إلى سن الطلب أخذ العربية عن قوم من بلده كبني كوثر ومن يجري مجراهم من أصحاب ابن خالويه وطبقته، وقيد اللغة عن أصحاب ابن خالويه أيضًا، وطمحت نفسه إلى الاستكثار من ذلك؛ فرحل إلى طرابلس الشام وكانت بها خزائن كتب وَقَفَها ذوو اليسار من أهلها، فاجتاز باللاذقية ونزل دير الفاروس، وكان به راهب يشدو شيئًا من علوم الأوائل، فسمع منه أبو العلاء كلاما من أوائل أقوال الفلاسفة حصل له به شكوك لم يكن عنده ما يدفعها به، فعلق بخاطره ما حصل به الانحلال وضاق عطنه عن كتمان ما تحمله من ذلك حتى فاه به في أول عمره وأودعه أشعارًا له1" وقد يكون القفطي ألقى بخبر لقاء أبي العلاء لراهب دير الفاروس دون تثبت، تعليلًا لأبيات وضعت على لسانه، وليست في اللُّزوميات ولا سقط الزَّند تجري على هذه الصورة. في اللاذقية فتنةٌ ... ما بين أحمَدَ والمسيحْ هذا بناقوسٍ يدُقُّ ... وذا بمئذنةٍ يصيحُ كل يعززُ دينَهُ ... ليت شعري ما الصحيحُ ويظهر من اللزوميات أن أبا العلاء كما درس العلوم اللغوية والشرعية درس المسيحية واليهودية في أثناء تطوافه بالشام وأدياره. ولما بلغ الثلاثين سأل ربه إنعامًا ورزقه صوم الدهر فلم يفطر في السنة والشهر إلا في العيدين2 وفي

_ 1 تعريف القدماء بأبي العلاء "طبع دار الكتب" ص30. 2 الحضارة الإسلامية 2/ 110.

سن السادسة والثلاثين رحل إلى بغداد، ولقي علماءها من أمثال الربعي والواجكا والسكري والمرتضي1، وقد لقيه الأول والأخير لقاء سيئًا، وفارقها وهو يقول: رحلتُ فلا دُنْيا ولا دينَ نلتَهُ ... وما أَوبَتي إلا السفاهةُ والخرقُ ولما عاد إلى المعرة التزم ثلاثة أشياء: "نبذة كنبذة فتيق النجوم وانقضابًا من العالم كانقضاب القائبة2 من القوب وثباتًا في البلد أن حال أهله من خوف الروم"3. وسَمَّى نفسه رهين المحبسين، يعني حبس نفسه في المنزل، وحبس بصره عن الرؤية4. ومكث في هذين المحبسين نحو خمسين عامًا ألِفَ خلالها تلك الكتب الكثيرة التي رواها له ياقوت في معجمه، وهي تدل على أنه كان واسع الثقافات سعة شديدة؛ فهو يعرف الديانات والمعتقدات المختلفة كما يعرف الفلسفة والتنجيم والتاريخ والتصوف، وما يطوى في ذلك من ثقافات يونانية وفارسية وهندية، وعني عناية خاصة بالثقافة اللغوية فألَّف في النحو والعروض، وتصنع للغريب في جميع آثاره. وليس من المبالغة أن نزعم أنه كان إمامًا ممتازًا من أئمة اللغة؛ فليس هناك شاذة لغوية إلا وهو يعرفها ويسلكها فيم يكتب من نثر أو نظم، وكان السابقون يلاحظون مهارته في هذا الجانب؛ فالصفدي يعدد من رزقوا السعادة في أشياء لم يأت بعدهم من نالها ويذكر منهم أبا العلاء في الاطلاع على اللغة. ويقول التبريزي: "ما أعرف أن العرب نطقت بكلمة ولم يعرفها المعرى" وكانوا يقرنونه إلى ابن سِيدَة اللغوي المعروف. ويقولون: "كان بالمشرق لغوي وبالمغرب لغوي في عصر واحد لم يكن لهما ثالث وهما أبو العلاء وابن سيدة"5 وحقًّا أن أبا العلاء كان مثقفًا ثقافة لغوية واسعة، وكان يضيف إليها هذا الخليط المضطرب من ثقافاته الكثيرة وخاصة ما اتصل بالثقافة الفنية من الشعر إذا كان يعنى عناية شديدة بجمع الأفكار والصور

_ 1 تعريف القدماء بأبي العلاء 515. 2 القائبة: الفرخ. القوب: البيض. 3 رسائل أبي العلاء "طبع مرجليوث" ص34. 4 معجم الأدباء 1/ 170. 5 انظر في هذه النصوص كتاب "أبو العلاء وما إليه" للراجكوتي.

القديمة وحشدها في أشعاره وكتاباته على نحو ما نرى في الفصول والغايات واللزوميات، وكأنه كان يؤلف شعره للمثقفين خاصة فهو يجمع لهم فيه كل ما يعرفونه من ضروب الثقافات وألوان المعرفة، وخاصة المعرفة الفنية وما يطوى فيها من صور غريبة ولفظ غير مألوف حتى يستولي على أفئدتهم بهذه الطرائف النادرة التي كانت تعد بدعًا جديدًا في هذه العصور، والتي كان الناس والنقاد يقيسون بها مهارة الشاعر وإبداعه.

ذكاء أبي العلاء وحفظه

2- ذَكَاءُ أبي العَلاءِ وحفْظُهُ: كان أبو العلاء ذكيًّا ذكاء شديدًا سريع الخاطر دقيق الحس حتى ليروي المصيصي الشاعر أنه كان يلعب بالشطرنج والنرد1!! وروى الرواة أن أبا محمد الخافجي الحلبي دخل عليه وسلَّم ولم يكن يعرفه؛ فرد عليه السلام وقال: هذا رجل طوال، ثم سأله عن صناعته فقال: اقرأ القرآن؛ فقال: اقرأ علي شيئًا منه فقرأ عليه عشرًا، فقال له: أنت أبو محمد الخفاجي الحلبي؟ فقال نعم، فسئل عن ذلك فقال: أما طوله فعرفته بالسلام، وأما كونه أبا محمد فعرفته بصحة قراءته وأدائه بنغمة أهل حلب؛ فإنني سمعت بحديثه2. وذكر القِفْطي أنه كان له سرداب إذا أراد الأكل نزل إليه وأكل مستترًا، ثم يقول: إنه نزل إليه يومًا وأكل شيء من رُبٍّ أو دِبْس3 ونقط على صدره منه يسير وهو لا يشعر به؛ فلما جلس للإقراء لمحه بعض الطلبة فقال: يا سيدي أكلت دبسًا فأسرع بيده إلى صدره ومسحه وقال نعم، لعن الله النهم، فاستحسن منه سرعة فهمه بما على صدره، وأنه الذي أشعر به4. وليس من شك في أن هذا كله يدل على أن أبا العلاء كان مرهف الحس إرهافًا شديدًا، وهو إلى

_ 1 يتيمة اليتيمة: للثعالبي ص4. 2 تعريف القدماء بأبي العلاء ص251. 3 الرب: عصارة بعض الثمار. والدبس: عسل التمر أو عسل النحل. 4 المصدر نفسه ص37.

ذلك كان سريع الحفظ أيضًا سرعة شديدة، روى ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار أنه لما دخل بغداد أرادوا امتحانه؛ فأحضروا دستور الخراج الذي في الديوان وجعلوا يوردون ذلك عليه مياومة، وهو يسمع إلى أن فرغوا؛ فابتدأ أبو العلاء وسرد عليهم كل ما أوردوه عليه1. ويروي القفطي أنه كان يحفظ ما يمر بسمعه، وأن رجلًا من اليمن وقع إليه كتاب في اللغة سقط أوله وأعجبه جمعه وترتيبه فكان يحمله معه ويحج؛ فإذا اجتمع بمن فيه أدب أراه إياه وسأله عن اسمه واسم مصنفه، فلا يجد أحدًا يخبره بأمره، واتفق أن وجد من يعلم حال أبي العلاء فدله عليه، فخرج الرجل بالكتاب إلى الشام ووصل إلى المعرة واجتمع بأبي العلاء وعرفه ما حاله، وأحضر الكتاب وهو مقطوع الأول؛ فقال له أبو العلاء: اقرأ منه شيئًا، فقرأ عليه فقال له أبو العلاء: هذا الكتاب اسمه كذا ومصنفه فلان، ثم قرأ عليه من أول الكتاب إلى أن وصل إلى ما هو عند الرجل؛ فنقل عنه النقص، وأكمل عليه تصحيح النسخة، وانفصل إلى اليمن فأخبر الأدباء بذلك، وقد قيل إن هذا الكتاب هو ديوان الأدب للفارابي اللغوي، وهو مضبوط على أوزان الأفعال"2. كان أبو العلاء قوي الحافظة -على ما يظهر- قوة شديدة، وكان لا يقرأ عليه كتاب إلا حفظ منه أطرافًا حتى ليروي الرواة أنه لما ذهب إلى بغداد طلب أن تعرض عليه الكتب التي في خزائنها؛ فكان كلما قرئ عليه شيء حفظه، وهم يروون أنه كان يحفظ المحكم والمخصص وأنه أملاهما من صدره3! ولا تقف القصص بحفظ أبي العلاء عند نصوص اللغة العربية وكتبها، بل إنها لتمتد فتزعم أنه كان يحفظ ما يسمعه بين رجلين بالفارسية أو بالأذربية4. وربما كان كثير من هذه القصص مبالغ فيه ولكنها مع ذلك تدل على أن الرجل اشتهر في عصره بحدة الذكاء وسرعة الحفظ. يقول ابن العديم: "كان أبو العلاء على غاية من الذكاء والحفظ، وقيل له: بم بلغت هذه الرتبة في العلم؟ فقال: ما سمعت شيئًا إلا حفظته، وما حفظت شيئًا فنسيته"5.

_ 1 تعريف القدماء ص226. 2 تعريف القدماء ص 33 3 النور السافر: للعيدروسي "طبع بغداد" ص412. 4 تعريف القدماء ص13- 225. 5 تعريف القدماء بأبي العلاء ص551.

اللزوميات وتشاؤم أبي العلاء

3- اللُّزُومياتُ وتشاؤمُ أبي العَلاءِ: بدأ أبو العلاء حياته الفنية في الشعر بتقليد المتنبي إذا كان يتعصب له تعصبًا شديدًا1. وسقط الزَّند هو خير ما يفسر هذا الطور من تقليده؛ إذ نراه ينظم على طريقة المتنبي السابقة، فهو يعتد بالغريب والشاذ في التراكيب، كما يعتد بالتصنع لألفاظ الثقافات المختلفة والتغني بالفيافي والحكم والأمثال والفخر بنفسه وذم الدهر والشكوى منه على نحو ما رأينا عند المتنبي؛ إذ كان يردد جميع النغم الذي سمعناه عنده. وكان لا يضيف إلى ذلك جديدًا إلا عنايته الواسعة بالجناس. وما يزال أبو العلاء على هذه الحال من التقليد حتى يتبين نفسه فيستقل عن المتنبي ويؤلف لزومياته، وهي من طراز جديد إذ نراها تتضمن نقدًا للحياة الاجتماعية مع دعوة واسعة إلى الزهد والتقشف ورفض الدنيا، يسوده في ذلك كله تشاؤم واسع؛ فالحياة كلها آلام ونصب وعذاب، وكان الشعراء قبل أبي العلاء يعنون بهذا الجانب وخاصة أبا العتاهية والمتنبي، أما أبو العتاهية فله مقطوعات كثيرة في ذم الدنيا والدعوة إلى الزهد فيها؛ لأنها دائمًا مشوبة بالأكدار، وأما المتنبي فقد أشاع في ديوانه -وأكثره مديح- ضربًا واسعًا

_ 1 كان أبو العلاء يتعصب للمتنبي ويزعم أنه أشعر المحدثين ويفضله على بشار ومن بعده مثل أبي نواس وأبي تمام، وكان يسمي كل شاعر باسمه فإذا قال "الشاعر" فقط عرف أنه يريد المتنبي، ونحن نعرف قصته في بغداد مع المرتضي فقد تنقص المتنبي يومًا فاعترضه أبو العلاء وقال له: لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قوله "لك يا منازل في القلوب منازل" لكفاه فَضْلًا؛ فغضب المرتضي، وأمر فسحب برجله وأخرج من مجلسه، وقال لمن بحضرته أتدرون أي شيء يريد بهذه القصيدة فلم يجب أحد فقال يريد قول المتنبي فيها: وإذا أتتك مذمَّتي من ناقصٍ ... فهي الشهادةُ لي بأني كاملُ انظر في ذلك: معجم الأدباء: لياقوت 1/ 169.

من التشاؤم يعمه نقد شديد للحياة الاجتماعية، وبيان لما في الدنيا من آلام وتفكير في حقائق الحياة والموت. وليس من شك في أننا إذا أردنا أن نبحث عن أصول الأفكار في اللزوميات وجدناها جميعًا عند المتنبي على نحو ما مر بنا في غير هذا الموضع. وإذن فموضوع اللزوميات ليس جديدًا وما نرى فيها من تشاؤم ودعوة إلى الزهد في الحياة وسرد للحكم والعظات، كل ذلك ليس جديدًا خالصًا؛ فقد وجد قبل أبي العلاء؛ غير أن من الحق أن نشهد بأنه كبَّره ووسعه واستطاع أن يخرجه في ديوان خاص به يؤلفه على الحروف الهجائية، ويملؤه بهذا التشاؤم الواسع وما ينطوي فيه من وصف للدنيا بأنها دار آلام وعذاب؛ وقد ذهب يستعرض الحياة فيها من جميع جوانبها وينقدها نقدًا ساخرًا في جرأة وصراحة صريحة كأن يقول في نقد الحياة السياسية: وأرى ملوكًا لا تحوط رعيةً ... فعلام تؤخذُ جزيةٌ ومكوسُ أو يقول في نقد حكام عصره: يسوسون الأمورَ بغير عقلٍ ... وينفُذُ أمرُهم فيقالُ ساسَه فَأُفَّ مِنَ الحَياةِ وَأُفَّ مِنّي ... وَمِن زَمَنٍ رِئاسَتُهُ خَساسَةْ أو يقول: ملَّ المقام فكم أعشارُ أمَّةً ... أمرت بغير صلاحها أمراؤها ظلموا الرعية واستجازوا كيدَها ... فعدوا مصالحاها وهم أجَرَاؤها فإذا ترك الحياة السياسية نظر في الحياة العامة للناس وما يسودها من رياء ونفاق وما يعمها من حب للمادة، وما ينطوي فيها من شر؛ فإذا هو ساخط على الدنيا والناس من حوله سخطًا شديدًا، وإذا هو ينقلب عليهم حنقًا مغيظًا يذمهم ويذم الدنيا معهم ذمًّا شنيعًا، كأن يقول: يَحسُنُ مَرأى لِبَني آدَمٍ ... وَكُلُّهُم في الذَوقِ لا يَعذبُ أَفضَلُ مِن أَفضَلِهِم صَخرَةٌ ... لا تَظلِمُ النَّاسَ وَلا تَكذِبُ

أو يقول: لَعَمرُكَ ما الدُّنيا بِدارِ إِقامَةٍ ... وَلا الحَيُّ في حالِ السَلامَةِ آمِنُ وَإِنَّ وَليدًا حَلَّها لَمُعَذَّبٌ ... جَرَت لِسِواهُ بِالسُعودِ الأَيامِنُ أو يقول: عجبت للأم لما مات واحدها ... بكت وساعدها ناس يبكونه هم أسارى مناياهم فما لهم ... إذا أتاهم أسيرٌ لا يفكَّونه أو يقول: نمسي ونضحى في ضلالاتنا ... وما على الغبراء إلا سفيه فنسأل الواحد إنقاذنا ... من عالم السوء الذي نحن فيه أو يقول: خسست يا أمُّنا الدُّنيا فأفِّ لنا ... بني الخسيسة أوباشٌ أخساءُ وعلى هذا النمط استمر أبو العلاء يهاجم هذا العالم بكل ما فيه؛ فقد كان يتراءى له في صورة حمقاء منكرة، وتمادى به تشاؤمه فهجا آدم وحواء والناس جميعًا: إن مازت الناسَ أخلاقٌ يعاشُ بها ... فإنهم عند سوءِ الطبعِ أسواء أو كان كل بني حواء يشبهني ... فبئس ما ولدت للناس حواءُ وكان لحواء وبناتها حظ واسع من هذا الهجاء؛ فهن أصل هذا البلاء في الأرض وأصل هذا النسل الذي يعيش في دار النحس والشقاء: فليت حواء عقيمًا غدتْ ... لا تلد النَّاس ولا تحبَلُ بل ليت الناس يمتنعون عن النسل والزواج حتى يتحطم هذا العالم الذي يسير هذه السيرة العرجاء في توزيع الحظوظ والأرزاق: لو أن كل نفوس الناس رائية ... كرأي نفس تناهت عن خطاياها لعطلوا هذه الدنيا فما ولدوا ... ولا اقتنوا واستراحوا من رزاياها إذن ما قام هذا العالم الفاسد، الذي لا يستطيع أبو العلاء أن يفهم له

نظامًا! إنه شر خالص! وليس لهذا الشر من دواء إلا أن يتحطم فنستريح الراحة الكبرى، فإن لم يتحطم هذا العالم من نفسه فلنحطمه نحن بأيدينا هذا التحطيم السلبي، فنعطل الزواج والتناسل، ولعله من أجل ذلك كان يهاجم المرأة هجومًا عنيفًا، كأن يقول: ومن صفات النساء قِدمًا ... أن لسن في الوُدِّ منصفاتِ وما يبين الوفاءُ إلا ... في زمنِ الفقدِ والوفاةِ أو يقول: ألا إن النساءَ حبالُ غيٍ ... بهن يضيعُ الشرفُ التليدُ ويستمر أبو العلاء في ترديد هذا السخط على الحياة والناس الذي يحيون فيها من رجال ونساء. والإنسان لا يتابعه في لزومياته حتى تكثر في سمعه هذه الأنغام التي تدل على أنه مغيظ من الناس جميعًا غيظًا شديدًا؛ فهو حنق عليهم ضيق بهم وبكل شيء فيهم حتى تقواهم ودينهم: نادتْ على الدينِ في الآفاقِ طائفةٌ ... يا قوم من يشتري دينًا بدينارِ جنوا كبائرَ آثامٍ وقد زعموا ... أن الصغائرَ تجني الخلدَ في النَّارِ ويقول في بعض الوعاظ والنساك: بخِيفةِ اللهِ تعبدتنا ... وأنت عينُ الظالمِ اللَّاهي تأمرُنا بالزُّهدِ في هذه الدُّنيا ... وما همُّك إلا هِي ويقول: توهمتَ يا مغرورُ أنك ديِّنٌ ... علي يمين اللهِ ما لك دينُ تسير إلى البيتِ الحرامِ تنسكًا ... ويشكوك جارٌ بائسٌ وخَدينُ ويقول أيضًا: سبِّح وصلِّ وطفْ بمكةَ زائرًا ... سبعين لا سبعًا فلست بناسِكِ وكما يهاجم الوعاظ والنساك وغيرهم من علماء الدين يهاجم المتصوفة أيضًا هجومًا عنيفًا، وكان يسخر خاصة من الرقص الذي شاع بينهم في عصره على

نحو ما نعرف الآن في حلقات الذكر. يقول: تزيّوا بالتَّصوف عن خداعٍ ... فهل زُرْتَ الرِّجالَ أو اعتميت1 وقاموا في تواجدهم فداروا ... كأنهم ثمالٌ من كُمَيتِ2 ويقول أيضًا: تستروا بأمورٍ في ديانتِهم ... وإنما دينُهم دينُ الزناديقِ نكذبُ العقلَ في تصديقِ كاذبِهِم ... والعقلُ أولى بإكرامٍ وتصديقِ وهكذا استمر أبو العلاء يرى الدنيا هذه الرؤيا السوداء، وتجمعت ظلمات كثيرة من حوله بعضها فوق بعض؛ فالدنيا آلام وعذاب ونكبات ونوائب، بل هي شر مستطير يجب أن نتخلص منه فنخرج من هذا العالم الموحش المظلم، ونستريح من متاعبه وآلامه: حياتي تعذيبٌ وموتي راحةٌ ... وكل ابنِ أنثى في التُّرَابِ سجينُ ولا شك في أن أبا العلاء بتشاؤمه وسخطه على الدنيا والناس من حوله يثير في أنفسنا ضروبًا من الشفقة عليه؛ إذ كان يتجرع الحياة غصص خالصة. ولو أنه أخذ نفسه بالرضا والتسليم فاقتنع بحظه وحظ الناس من حوله، وما في دنيانا من نصب وعذاب لاستراح وأوى إلى ظل ظليل، ولكنه لم يرضَ ولم يسلِّم ولم يقتنع فسعر نفسه وأودى بها في هذا الجحيم المظلم من الإحساس بالشقاء والتعاسة وما ينطوي فيهما من تشاؤم شديد، وظل في هذا الجحيم يصارع الناس ويصارع الحياة حتى صرعته.

_ 1 راز: اختبر، اعتمى: اختار. 2 الكميت: الخمر. ثمال: سكارى.

اللزوميات وفلسفة أبي العلاء

4- اللُّزومِيَّاتُ وفلسفةُ أبي العَلاءِ: من يقرأ اللزوميات ويتتبع سيرة أبي العلاء يرى أنه كان يسلك منهجًا واضحًا في معيشته وعقله وتفكيره؛ فهو يبدأ فيقيد لذائذه، ويحدد نفسه بقوانين

صارمة في مطعمه وملبسه، إذا كان يختار خشن الثياب والطعام، وقص ذلك في شعره فقال إن طعامه العدس والتين أو كما يسميهما البُلسَن والبلَس فهما يقنعانه، وهما غذاؤه في حياته، وهو غذاء يجد فيه راحته النفسية؛ لأنه غذاء زاهد متقشف يرفض لذائذ الحياة وما ينطوي فيها من لذائذ الطعام: يقنعني بلسن يمارس لي ... فإن أتتني حلاوة فبلس فَلُسَّ ما اخترت أن أروحَ من ... يسارِ قارونَ عفَّةٌ وفَلَس1 ويقول الرحالة ناصر خسرو -وقد مر بالمعرة في حياة أبي العلاء: إنه "تزهد فلبس بسيطًا ولزم بيته وقوتُهُ نصفُ مَنٍّ مِنْ خبز الشعير"2. ويقول القفطي: "لم يكن أبو العلاء من ذوي الأحوال في الدنيا؛ وإنما خلف له وقف يشاركه فيه غيره من قومه، وكانت له نفس تشرف عن تحمل المنن فمشى حاله على قدر الموجود، فاقتضى ذاك خشن الملبوس والمأكل والزهد في ملاذ الدنيا، وكان الذي يحصل له في السنة مقدار ثلاثين دينارًا، قدر منها لمن يخدمه النصف وأبقى النصف الآخر لمئونته؛ فكان أكله العدس-إذا أكل- مطبوخًا، وحلاوته التين، ولباسه خشن الثياب من القطن، وفرشه من لباد في الشتاء وحصيرة من البردي في الصيف، وترك ما سوى ذلك"3. وكل هذا يدل على أن أبا العلاء كان يأخذ نفسه بحياة خشنة زاهدة، ولعل ذلك ما جعله ينفر من مديح الرؤساء طلبًا للجوائز والمكافآت. يقول في مقدمة سقط الزند: ولم أطرق مسامع الرؤساء بالنشيد ولا مدحت طلبًا للثواب؛ وإنما كان ذلك على معنى الرياضة وامتحان السُّوس، فالحمد لله الذي ستر بغُفَّة4 من قوام العيش، ورزق شعبة من القناعة أوفت على جزيل الوَفْر". فهو لا يمدح طلبًا للنوال، وماذا يفيده النوال؟ لقد رفض كل شيء وعاش عيشة الكفاف والزهد، وكان يصنع ذلك عن عمد وقصد إليه. روى الرواة أن

_ 1 لس: كل، ولس: أكل. 2 الحضارة الإسلامية: لمتز 2/ 110. 3 تعريف القدماء بأبي العلاء ص31. 4 الغفة: البلغة من العيش. والسوس: الطبيعة.

"المستنصر صاحب مصر بذل له ما ببيت المال بالمعرَّة من المال؛ فلم يقبل منه شيئًا، وقال: لا أطلبُ الأرزاقَ والمولى ... يفيضُ على رزقي إن أُعْطَ بعضَ القوت أعـ ... لم أنّ ذلك فوق حقي"1 لم يكن أبو العلاء يطلب مالًا ولا عطاء؛ لأنه كان زاهدًا في حياته متقشفًا يكفيه القليل الذي يقيم أوده، أما ما دون ذلك فهو ينبذه، وماذا نريد من الدنيا وهي تنتهي بنا إلى الفناء وتسوقنا إلى الموت سوقًا حاملين ما نحمل من أثقال كروب وآلام! إن علينا أن نقوِّي أنفسنا بالزهد حتى نلقى هذا المصير المحتوم: لا تشرفنَّ بدنيا عنك معرضة ... فما التشرُّفُ بالدُّنيا هو الشَّرَفُ واصرف فؤادَك عنها مثلما انصرفتْ ... فكلنا عن مغانيها سننصرفُ يا أمَّ دفرٍ2 لحاك اللهُ والدةً ... فيك العناءُ وفيك الهمُّ والسَّرفُ لو أنك العِرسُ أوقعتُ الطلاق بها ... لكنَّك الأمُّ ما لي عنكِ منصرفُ واستمر أبو العلاء نحو خمسة وأربعين عامًا يصرخ في الناس بهذه الدعوة الحارة إلى الزهد والتقشف؛ وبدأ بنفسه فسنَّ لها قوانين من الزهد صارمة التزمها طوال حياته؛ فلم يتعلق بشيء من زخارف الدُّنيا وزينتها؛ بل رفضها فيم رفض ورفض معها متاع الأولاد والزواج لا لسبب سوى هذا الحرمان الذي كان يأخذ نفسه به، وفي ذلك يقول: لو أنَّ بنيَّ أفضلُ أهلِ عصري ... لما آثرتُ أن أحظى بنسلِ وفي امتناعه عن الزواج والنسل ما يجعلنا نرى جانبًا من تشاؤمه الأسود الذي ضرب ظلماته على حياته وجميع أفكاره، ولعل ذلك ما جعله يوصي بأن يكتب على قبره: هذا جَنَاهُ أبي علـ ... يَّ وما جنيتُ على أحدْ وحقًّا أن أبا العلاء لم يجن على أحد لا من حيث النسل والزواج فقط بل أيضًا من

_ 1 تعريف القدماء بأبي العلاء ص369. 2 أم دفر: الدنيا.

حيث حاجاته في الحياة؛ فقد كان زاهدًا فيها زهدًا شديدًا، وكان لا يريد أن يتصل منها بشيء لا بأزواج وأولاد ولا بغير أزواج وأولاد، وهاجم فكرة الزواج والنسل في شعره كثيرًا كقوله الذي أنشدناه: فليت حَوَّاءَ عقيمًا غدت ... لا تلد الناسَ ولا تَحْبَلُ كان أبو العلاء برمًا بالحياة وكان يراها سلسلة آلام؛ فأكثر من نقدها ونقد الذين يعيشون فيها. وأعجب بعض الناس هذا النغم الذي يردده أبو العلاء، وراعهم أنه كان صاحب عقل حرٍّ بالنسبة لأهل عصره فهو يهاجم أصحاب الأديان؛ فذهبوا إلى أنه كان فيلسوفًا، وحشروه في زمرة الفلاسفة، ومن العجب أن نجد مثل نيكلسون1 وهيار2 يذهبان هذا المذهب، وليس لرأيهما ولا لمن تبعهما أي دليل على هذه الفلسفة إلا إذا كنا نعد كل زاهد يدعو إلى الزهد والتقشف في الحياة فيلسوفًا. وزهد أبي العلاء وما يُطوى فيه من نظر جريء إلى مسائل الدين لا يكفي لنعده فيلسوفًا بالمعنى اليوناني لهذه الكلمة إنه لم يعرف عنه أنه كان ملخصًا للفلسفة اليونانية على نحو ما صنع الفارابي وغيره من جماعة الفلاسفة المسلمين، وهو أيضًا لم يعرف عنه أنه نَمَّى مذهبًا من مذاهب الفلسفة اليونانية، ولذا كان من الخطأ أن يجعل بعض النقاد أبا العلاء فيلسوفًا بالمعنى اليوناني لهذه الكلمة، وهو لم يلخِّص الفلسفة اليونانية؛ فضلًا عن أن يكون من المنمِّين لها ولا كان من المتعلقين بمذهب من مذاهبها. وأكبر الظن أن شبهة فلسفة أبي العلاء جاءت من أنه كان نباتيًّا يحرم على نفسه أكل اللحم واللبن والبيض والسمك وعسل النحل، وفي ذلك يقول: غدوت مريض العقل والرأي فالقنى ... لتعلمَ أنباء الأمور الصحائح فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالِمًا ... ولا تبغِ قوتًا من غريض الذَّبائحِ3

_ 1 nichoison, Aliterary History of the Arabs,p.313 2 huart, litterture. Arabe,p.99. 3 الغريض: الطري.

وأبيض أمات أرادت صريحه ... لأطفالها دون الغواني الصرائح1 ودع ضربَ النَّحْلَ الذي بَكَرَت له ... كواسبُ من أزهار نبت فوائح2 والمراد بالأبيض اللبن. والمعروف أن أبا العلاء ترك أكل اللحم ومشتقاته رحمة بالحيوان. روى الرواة أن سائلًا سأله: "لم لا تأكل اللحم؟ فقال: أرحم الحيوان، قال: فما تقول في السباع التي لا طعام لها إلا لحوم الحيوان؟ فإن كان الخالق الذي دبَّر ذلك فما أنت بأرأف منه، وإن كانت الطبائع المحدثة؛ لذلك فما أنت بأحذق منها، ولا هي أنقص عملًا منك". ويعلق ابن الجوزي على هذه الرواية فيقول: "لقد كان يمكنه أن لا يذبح رحمة؛ فأما ما ذبحه غيره فأي رحمة قد بقيت في ترك أكله"3. على كل حال كان أبو العلاء نباتيًّا وقد صد عن أكل اللحم ودعا إلى ذلك، وله حوار طريف مع داعي الدعاة في هذه المسألة يرجع إليه القارئ في ترجمته بياقوت، ولكن هل هذه النباتية في أبي العلاء تجعلنا نزعم أنه فيلسوف؟ إنها طريقة في الحياة وليست طريقة في التفكير. على أننا إذا أردنا تصحيح القياس وجب لكي نثبت فلسفته عن هذه المقدمة أن نكون على يقين من أن هذه النباتية يونانية أو أنها مذهب فلسفي من مذاهب اليونان، وليست النباتية من مذاهب اليونان ولا من فلسفتهم؛ إنما هي مذهب هندي يرجع إلى البراهمة، وقد قص علينا ذلك كل من ترجموا لأبي العلاء، يقول ابن الأنباري: "يحكى عنه أنه كان برهميًا وأنه وصف لمريض فروج، فقال: استضعفوك فوصفوك"4 ويقول ابن الجوزي: "كان ظاهر أمر أبي العلاء يدل على أنه يميل إلى مذهب البراهمة؛ فإنهم لا يرون ذبح الحيوان ويجحدون الرسل"5 ويقول ياقوت عنه: "كان متهما في دينه، يرى رأي البراهمة: لا يرى إفساد الصورة، ولا يأكل لحمًا، ولا يؤمن بالرسل والبعث والنشور"6. ويقول أبو الفداء:

_ 1 صريحة: خالصة. الصرائح: الجميلات. 2 الضرب: العسل الأبيض الثقيل. 3 تعريف القدماء بأبي العلاء ص19. 4 نزهة الألباء في طبقات الأدباء: لابن الأنباري "طبع مصر" ص427. 5 تعريف القدماء بأبي العلاء ص19. 6 المصدر نفسه ص46.

"نُسب أبو العلاء إلى التمذهب بمذهب الهنود لتركه أكل اللحم خمسًا وأربعين سنة، وكذلك البيض واللَّبن، وكان يحرِّم إيلام الحيوان"1 ويقول ابن فضل الله العمري: "ترك أبو العلاء أكل لحوم الحيوان وعموم ما يجري مجراها من الأعسال والألبان ومال في هذا إلى رأي الحكماء! وقال بمذهب البراهمة في تجنُّب إراقة الدماء"2. ويقول السلفي: "من عجيب رأي أبي العلاء تركه تناول كل مأكول لا تنبته الأرض شفقة على الحيوانات حتى نسب إلى التبرهم، وأنه يرى رأي البراهمة في إثبات الصانع وإنكار الرسل، وفي شعره ما يدل على هذا المذهب"3 وواضح من هذه النصوص أن العرب لم يصلوا بين نباتية أبي العلاء وفلسفة اليونان، إنما وصلوا بينها وبين التبرهم والبراهمة، فهي ليست شيئًا يونانيًّا. ومن الخطأ أن يعتمد عليها بعض الباحثين في إثبات فلسفة أبي العلاء، وهي لا تمت مباشرة إلى اليونان وفلسفتهم. والحق أن أبا العلاء ليس فيلسوفا بالمعنى اليوناني لهذه الكلمة إلا إذا توسعنا في معناها وجعلنا كل شخص يفكر تفكيرًا حرًّا فيلسوفًا أي محبًّا للحكمة. آخذًا بقوانين العقل غير متقيد بعرف الناس ولا بما يعتنقون من آراء وأفكار. إذن يكون أبو العلاء فيلسوفًا، ومن أهم مما يميزه ما نراه عنده من تشاؤم شديد؛ فالعالم مليء بالشر وأيضًا ما نراه عنده من شكوك. يقول التبريزي: "إن أبا العلاء سألني يومًا ما الذي تعتقد؟ فقلت في نفسي: اليوم أقف على اعتقاده، فقلت له: ما أنا إلا شاك، فقال: وهكذا شيخك"4. وأقرَّ أبو العلاء بهذا الشك في إحدى رسائله إلى داعي الدعاة إذ يقول: "قد بدأ المعترف بجهله المقر بحيرته والداعي إلى الله سبحانه أن يرزقه ما قلَّ من رحمته"5. ويظهر أنه كان لمحنة أبي العلاء في بصره أثر في تكييف هذا الشك العلائي؛ فقد كان يضيق بما أصابه من هذا الشر في بدء حياته ولم يستطع له

_ 1 انظر المختصر في أخبار البشر: لأبي الفدا في حوادث 449. 2 تعريف القدماء بأبي العلاء ص217. 3 لسان الميزان: لابن حجر "طبع حيدر آباد". 1/ 204. 4 معجم الأدباء "طبعة مرجليوث" 1/ 171. 5 معجم الأدباء 1/ 120 وانظر أيضًا ص204.

تفسيرًا فرجع يشك في بعض الحقائق، حتى ليشك في الشك نفسه، وهذا مصدر ما نجد عنده من تناقض يعتري آراءه وليس من شك في أن اللزوميَّات ترينا أبا العلاء حائرًا حيرة شديدة؛ فالدُّنيا كلها وما وراءها ظلام وسواد ولجج واسعة من الحيرة: الحمدُ للهِ قد أصبحتُ في لججٍ ... مكابدًا من همومِ الدَّهر قاموسًا1 واتسعت هذه اللجج عليه ولم يستطع أن يقاومها ولا أن يخرج منها، فمكث فيها تائهًا حائرًا، واستمر يقص علينا في لزومياته قصة هذا الطوفان، فقد أطبقت عليه الأمواج من كال جانب وكأنما أفسدت عليه جميع الطرق والمناهج: قد ترامت إلى الفساد البرايا ... واستوت في الضَّلالة الأديانُ أنا أعمى فكيف أهدَى إلى المنـ ... ـهج والناسُ كلُّهم عميانُ ولم يستطع أبو العلاء حقًّا أن يهتدي إلى المنهج في كثير من المسائل والمشاكل فشك واتسع عليه الشك حتى جعله لا يؤمن بيقين، وعبر عن ذلك في مرثيته لأبيه تعبيرًا واضحًا؛ إذ يقول: طلبت يقينًا من جهينة عنهمُ ... ولم تخبريني يا جهينُ سوى الظن2ُّ فإن تعهديني لا أزال مسائلًا ... فأني لم أعطَ الصحيحَ فأستغني ويقول أيضًا: أما اليقينُ فلا يقينَ وإنَّما ... أقصى اجتهادي أن أظنَّ وأحدِسا فأبو العلاء يطلب اليقين فلا يجد إلا الظن والحدس، وإذن فمن الخطأ أن يأتي باحث فيراه يقول رأيًا فيظنه يقينًا، ثم يراه يخرج عنه فيقول: إنه مضطرب متناقض؛ فإن أبا العلاء لم يكن صاحب يقين في رأي من الآراء؛ بل هو صاحب ظن وحدس وشك، وهو يعمم هذا الشك في كل شيء، سوى إيمانه بربه؛ إذ يقول:

_ 1 القاموس: المحيط. 2 يشير إلى المثل العربي القديم: عند جهينة الخبر اليقين.

أثبَتُّ لي خالقًا حكيمًا ... ولست من معشرٍ نُفاةِ فأبو العلاء لم يكن يشك في ربه؛ إذ كان يرى كل شيء حوله يشهد بوجوده، وهو كذلك لم يكن يشك في عقله، بل لقد كان يؤمن به إيمانًا شديدًا، يقول في بعض شعره: كذب الظن لا إمام سوى العقـ ... ـل مشيرًا في صبحه والمساءِ ويقول أيضًا: وشاور العقل واترك غيره هدرًا ... فالعقل خير مشير ضمَّه النَّادي إلا أن هذا العقل كان قاصرًا ولم يستطع أن يفسر له أسرار الكون وما فيه من حقائق الخير والشر ومن هنا اعترف كما مر بنا آنفًا أنه لا يكاد يوجد يقين وأن مبلغ علم الإنسان أن يظن ويحدس، وكأن العقل يضطر أحيانًا إلى التوقف دون اليقين عند أسوار الظن والحدس. وآمن -خاصة في المسائل الشرعية- أن العقل ينبغي أن لا يجمح وأن لا يحاول الخروج على الشرع بل يكون تابعًا له، يقول: وجدنا اتِّباع الشرع حزمًا لذي النُّهى ... ومن جرب الأيام لم ينكر النَّسخا وقد توقف بعض الباحثين عند أبيات في اللُّزوميات رآه فيها يهاجم الديانات فظن أنه يهاجمها حقًّا، وهو إنما يهاجم أصحابها، يقول: هفتِ الحنيفةُ والنصارى ما اهتدت ... ويهود حارت والمجوسُ مضلِّلَة اثنان أهلُ الأرضِ ذو عقل بلا ... دين وآخرُ دين لا عقلَ لهُ ويقول: دينٌ وكفرٌ وأنباءٌ تقالُ وفُرْ ... قانٌ ينصُّ وتوراةٌ وإنجيلُ في كل جيلٍ أباطيلٌ ملفَّقةٌ ... فهل تفرد يومًا بالهدى جيلُ وواضح أن أبا العلاء إنما يهاجم في البيتين الأولين أصحاب الديانات الذين توزعتهم الفرق والأهواء فأهدروا عقولهم؛ حتى عمت الحيرة والتبس الأمر، وهو في البيتين التاليين إنما ينص على أنه لا يوجد جيل يخلو من الكفر والضلال. وليس في ذلك هجوم على الأنبياء ولا هجاء كما ظن بعض المعاصرين.

ولا نستطيع أن نخرج من كل ذلك بأن أبا العلاء كان زنديقًا أو ملحدًا كما قال بعض القدماء، والواقع أنهم تطرفوا حينما أضافوا إلى أبي العلاء الزندقة والإلحاد ملتمسين ذلك في أبيات حملوها على معنى مخالف لما قصده، وهي قليلة جدًّا في لزومياته؛ إذ كثرتها تحميد وتقديس وتمجيد في الله. على أننا إذا تطرقنا مع هؤلاء السابقين وجعلنا أبا العلاء زنديقًا أو ملحدًا لم يكن هناك ما يبرر أن نزعم بأنه فيلسوف؛ لأن الإلحاد والزندقة ليسا هما الفلسفة فالفلسفة شيء والإلحاد والزندقة شيء آخر، وإلا سقط من تاريخ الفلسفة كثير من الفلاسفة المسيحيين والمسلمين. والحق أن أبا العلاء كان مفكرًا حرَّ الفكر وكان زاهدًا صادق الزهد وكان شديد التشاؤم؛ غير أنه لم يستطع أن يخرج من ذلك إلى إحداث نظرية معينة أو منهج معين يمكن أن نسميه "المنهج الفلسفي لأبي العلاء" إلا إذا كنا ممن يلتقطون بعض الأقوال للشعراء ويحاولون أن يحملوها أكثر من مدلولها، ثم يستخرجوا لهم فلسفة ذات أصول وفروع متشابكة. ونحن بهذه الطريقة نستطيع أن نجعل أبا العلاء فيلسوفًا، كما نستطيع أن نجعل المتنبي وأبا تمام وأبا العتاهية فلاسفة بأفكار معدودة وآراء محصورة جاءت في أشعارهم. والحق أن في ذلك كله مبالغة في البحث يؤدي إليها عادة غلو الباحث في الإعجاب بالشاعر الذي يبحثه، وكان من حسن حظ أبي العلاء أن غالى كثير من المعاصرين الذين عنوا ببحثه؛ فأثبتوه فيلسوفًا لما رأوا عنده من تشاؤم وحيرة وشك وزهد، ولكن هل يكفي التشاؤم أو الزهد أو الحيرة لنعد شخصًا فيلسوفًا؟ أما نحن فلا نشك في أن أبا العلاء لو كان فيلسوفًا حقًّا لفلسف تشاؤمه في الحياة فجعله في شكل كلية عامة، وطبق هذه الكلية على الجزئيات المختلفة تطبيقًا شاملًا، إذن كان يتساءل كيف نحكم على الأشياء وما أدواتنا في المعرفة، هل هي الحس أو الفكر أو هما جميعًا. ولكنه لم يصنع شيئًا من ذلك، إنما كل ما صنعه أنه استراح إلى العقل في الحكم على الأشياء وألقى عليه العبء كله، ولو أنه صاحب عقل فلسفي لشك في هذا العقل نفسه وامتحنه وأخضعه للتجربة على نمط، يحلل فيه المعرفة في الطبيعة وما وراء

الطبيعة. وكنا ننتظر منه أن يتساءل هل يمكن للعقل أن يعرف ما وراء الطبيعة من مسائل البعث والنشور أو لا يمكن؟ وإذا ثبت إمكان ذلك فهل طريقنا إليه العقل أو الشعور؟ وهل يمكن للعقل أن يحكم في قضايا ما وراء الطبيعة كما يحكم في قضايا الطبيعة؟ وهل أحكام العقل المجرد تكون صوابًا دائمًا، أو أنها معرضة للخطأ؟ كل ذلك لا نجد له أثرًا عند أبي العلاء؛ لأنه لم يكن فيلسوفًا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وآية ذلك أنه لم يترك أي نظرية فلسفية معللة أو موضحة، وكيف له بصنع نظريات؟ إنه لم يكن يفكر التفكير الفلسفي الذي يقوم على صنع كليات؛ إنما كان يفكر تفكيرًا أدبيًّا يقوم على تشاؤم وسخط، وهو يعرض هذا التفكير في آراء متفرقة وأفكار مفككة، لا يطرد لها نظام ولا سياق فكري متماسك.

صياغة اللزوميات

5- صياغةُ اللُّزُومِيَّاتِ: من يقرأ اللُّزوميات وينظر فيها نظرة فنية من حيث الصياغة والتنسيق يلاحظ أن جوانب كثيرة منها واهية؛ إذ استغرقها أبو العلاء بالتَّكرار حتى كاد أسلوبه أن يسقط في غير موضع من مواضعها، نعم إنه وفق في بعض أبياتها ولكن الكثرة الغالبة يعمها الإسفاف والضعف، وكأني به نسى أسلوب الشعر الذي كان يعرفه في سقط الزَّند، وهل يستطيع الإنسان أن يؤمن بأن اللُّزوميات أنشأها أبو العلاء بعد ديوان "سقط الزند" بنفس صورة صياغته؟! على أنه ينبغي أن نعرف أن سقط الزند لا يعتبر مثلًا أعلى في الصياغة الفنية للشعر العربي، فديوان كديوان المتنبي يتفوق عليه في هذا الجانب، ولعله من أجل ذلك كان يسميه أبو العلاء: معجز أحمد، واستمر في سقط الزند دون هذا المعجز إلا في مراثيه؛ فقد أظهر فيها تفوقًا نادرًا من حيث الصياغة وخاصة مرثيته: غير مجدٍ في ملتي واعتقادي ... نوحُ باكٍ ولا ترنُّم شادِ وإن هذه القصيدة لتتفوق على كل ما كتبه في لزومياته، ولعلنا لا نبالغ إذا

قلنا إنه يسود فيها الخلل والضعف في البناء. وكان القدماء أنفسهم يعرفون فرق ما بين الديوانين؛ فالذهبي يقول: إن السقط جيد بخلاف اللُّزوميات1، وفي غير موضع نجدهم يشيدون بالسقط2، وحقًّا ما يقوله "نيكلسون" من أن أبا العلاء يدين بشهرته في المشرق إلى مجموعة أشعاره الأولى المسماه بسقط الزند3؛ فإن أبا العلاء الشاعر إنما نلقاه في السقط، أما في اللزوميات فلا بد من إضافة وصف آخر غير وصف الشاعر، نسميه أبا العلاء الواعظ أو الزاهد أو المتشائم أو نحو ذلك من أوصاف تعبر عن موضوع الديوان، أما كلمة الشعر والشاعر فمن الصعب أن نضيفهما إليه. يمكن أن نسميه الناظم ولكن من الصعب أن نعطيه لقب الشاعر، أو نسمي ما في اللزوميات شعرًا، وربما كان ذلك يرجع من بعض الوجوه إلى أنه لم يتأنَّ ولم يتمهل في صنع اللزوميات. روى ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار عن بعض القضاة أنه قال: "بينما أنا عند أبي العلاء المعري في الوقت الذي يملي فيه شعره المعروف بلزوم ما لا يلزم؛ فأملى في ليلة واحدة ألفي بيت. كان يسكت زمانًا ثم يملي قريبا من خمسمائة بيت ثم يعود إلى الفكرة والعمل إلى أن أكمل العدة المذكور"4. وقد سقنا هذه الرواية لندل بها على أن أبا العلاء لم يكن يعني بتجويد شعره وتحبيره في اللزوميات فهو لا يعطيه المهلة الكافية للصقل والانتخاب والتنقيح، ثم التأليف والتنسيق، فخرج شعره مهلهلًا ضعيف النسج ليس فيه شيء من حبكه التعبير ولا جمال التصوير إلا في القليل الأقل. وليس هذا فقط هو كل الأسباب، فهناك سبب آخر ربما كان أهم من السبب السابق، وهو الطريقة التي أخرج بها أبو العلاء لزومياته، أو بعبارة أدق الغاية التي أرادها للزومياته؛ فقد كان -فيما يظهر- يريد أن يخرجها في شكل خطب وعظ وإرشاد، يقول في مقدمتها: "إنها تمجيد لله الذي شرف عن التمجيد ووضع المنن في كل جيد، وبعضها

_ 1 تعريف القدماء بأبي العلاء ص318. 2 الأنساب للسمعاني ص110. 3 المجلد الأول من دائرة المعارف الإسلامية "الطبعة العربية" ص381. 4 تعريف القدماء بأبي العلاء ص249.

تذكير للناسين وتنبيه للرقدة الغافلين وتحذير من الدنيا". فهو يقصد بها إلى الوعظ، وهي لذلك تمتلئ بما تمتلئ به أساليب الوعظ من التكرار الممل، ومن أجل ذلك كنا نشعر حين قراءتنا للزوميات بملل وسأم شديد؛ لأن الشاعر يتنقل بين أفكار يبدئ فيها ويعيد، وقد أخرجها في أسلوب واهٍ، ليس فيه جمال فني ولا طرافة فنية إلا قليلًا. والحق أن أبا العلاء لم يستطع أن ينهض بالصياغة الفنية في لزومياته إذا كان يعتمد على تكرار الأفكار، وإن الإنسان ليخيل إليه أن هناك مجموعة من الأفكار ما يزال ينظمها أبو العلاء على قوافٍ وحروف مختلفة، وهو يغاير في القافية أوفي الحرفين الأخيرين؛ ولكنه قلما حاول أن يغاير في المعاني والأفكار، ولذلك يستطيع الباحث أن يقرأ طائفة من مقطوعات اللزوميات ويترك الأخرى؛ لأنه قلما يجد جديدًا إلا ما يخضع له أبو العلاء من قيود في ألفاظه وقوافيه. ليس في اللزوميات غالبًا جمال في الصياغة ولا تنويع في الأفكار؛ إنما فيها بدء وإعادة وتكرار غريب للمعاني، وهي معانٍ عامة وكثيرًا ما ينقصها العمق والابتكار، وما يزال المعري ينظمها على حرف من الحروف كالباء ثم يعود إلى حرف آخر كالتاء، وهو ينظمها مرة على حرف الباء أو غيرها مضمومة، ثم يعود مرة أخرى أو مرارًا فينظمها على حرف الباء أو غيرها من الحروف مكسورة أو منصوبة أو ساكن. ومن أجل ذلك التكرار والإعادة كنا نمل متابعة أبي العلاء في لزومياته؛ إذ ما يزال يجتر أفكارًا محفوظة يكررها على قواف وأوزان مختلفة. ولعل ما يصور ذلك تصويرًا واضحًا رسالته المسماه باسم "ملقى السبيل" حيث نجده يصوغ المعنى نثرًا، ثم يصوغه شعرًا على هذا النمط؛ إذ يقول: "كم يجني الرجل ويخطئ، ويعلم أن حتفه لا يبطئ: إن الأنام ليخطئو ... ن ويغفر الله الخطيئةْ كم يبطئون عن الجميـ ... ل وما مناياهم بطيئةْ وعلى هذه الصورة التي نجدها في "ملقى السبيل" كان أبو العلاء ينظم في لزومياته ولم يكن ينظم المعنى نثرًا، ثم ينظمه شعرًا، بل كان ينظمه شعرًا، ثم يعود

فينظمه أيضًا شعرًا؛ ولكن على قافية جديدة، وقيود لفظية جديدة، وهذا كل ما يصنعه من تغيير، وهو تغيير قلما يضيف طرافة في التفكير؛ إذ يدخل عليه أبو العلاء هذا التَّكرار الذي يصيب الصياغة في اللزوميات بضروب واسعة من الابتذال. وأكبر الظن أننا لا نبعد حين نقول: إن أبا العلاء كان واعظًا في لزومياته، ولذلك لم يحسن صوغ أفكاره في الأساليب الخاصة بالشعر؛ لأن الوعظ من طبيعته التكرار، وهو يلائم النثر، ولا يلائم الشعر، ومن ثم كان الخطباء والوعاظ يتخذون النثر أداة للتعبير عن أفكارهم ومعانيهم المكررة، فإذا جاء خطيب أو واعظ واتخذ الشعر أداته في الخطابة أو الوعظ كان لا بد له أن يسقط في استخدام هذه الأداة الجديدة مهما تكن مقدرته البيانية. ومن أجل ذلك لم يكن غريبًا أن نجد أبا العلاء يخفق في استخدام الشعر أداة لوعظه وتشاؤمه الذي نعرفه في اللزوميات، وخاصة أنه أطال هذا الوعظ والتشاؤم وامتد به نفسه إلى عشرات الصفحات بل مئات الصفحات، فبدا في أساليبه هذا الانهيار والسقوط وما يتبعهما من ابتذال؛ بحيث لا نجد ما يعجب حاستنا الفنية إلا في النادر؛ فالأفكار عارية لا يحول بينها وبين الإسفاف حائل، ولذلك قلما نحس في أثناء قراءتنا اللزوميات ببهجة فنية، إذ لم يستطع أبو العلاء أن ينهض بصياغتها إلا هذا النهوض القاصر الذي يعود بالشعر وكأنه يشبه أساليب الوعظ والإرشاد.

اللوازم الدائمة في اللزوميات

6- اللَّوازمُ الدائمةُ في اللُّزوميَّاتِ: لم يوفر أبو العلاء مجهودًا واسعًا في إحكام صياغته؛ إذ كان مشغول عنها بعقد ولوازم غريبة في لزومياته، فهو يصعب على نفسه الممرات إلى شعره، ويتقيد بلوازم دائمة يتبعها في صناعته، ولعل أهم هذه اللوازم ما أشار إليه في مقدمة ديوانه؛ إذ يقول: "وقد تكلفت في هذا التأليف ثلاث كُلَف: الأولى أنه ينتظم حروف المعجم عن آخرها، والثانية أنه يجيء رويُّة بالحركات الثلاث وبالسكون بعد ذلك، والثالثة أنه لزم مع كل روي فيه شيء لا يلزم من باء أو

تاء أو غير ذلك من حروف". ونحن نلتفت من هذه الكلف إلى أن اللزوميات ليست ديوانًا بالمعنى المألوف عند العرب، ولعل ذلك ما جعل أبا العلاء يسميها في مقدمته لها تأليفًا، وسماها مرة أخرى كتابًا، وحقًّا إنها ألفت على شكل التأليف والكتب؛ فقد قسِّمت إلى أبواب وقسمت الأبواب إلى فصول وهل هناك ديوان قبل اللزوميات نظم شعرًا ووُزِّع -على هذا الطراز- إلى أبواب وفصول كما يصنع أصحاب النثر بتآليفهم وكتبهم؟! ومهما يكن فاللزوميات أول ديوان في اللغة العربية يؤلَّف على طريقة خاصة يذكرها الشاعر في مقدمته ويطبقها على أبياته بيتًا بيتًا. وهذه الطريقة يحددها أبو العلاء بثلاث كلف؛ ولكن لنحذر هذا التحديد، فهي أكثر من ذلك وأوسع، ولست أجد كلمة تعبر عن هذه الكلف الكثيرة ككلمة اللزوميات التي يظهر أنها استعيرت للديوان من كتب المناطق لتدل على ما فيه من نسب ومعادلات بين ألفاظه وقوافيه. وإذن فتصنع المعري في اللزوميات لا يقف عند الكلف العروضية بل يتعداها إلى كلف أخرى كان يشغل بها هذا الفراغ الطويل الذي امتد إلى نحو خمسين عامًا قضاها حبيس بيته ونظره وأفكاره المظلمة في الحياة والكون، وعبر عن ذلك أجمل تعبير؛ إذ يقول: أراني في الثلاثة من سُجُوني ... فلا تسأل عن الخبر النَّبيثِ1 لفقدي ناظري ولزوم بيتي ... وكونِ النفسِ في الجسمِ الخبيثِ وذهب يحبس أفكاره في هذه السجون العروضية السابقة ولم يكتف بها؛ إذ أراد أن ينوع فيها كما تنوعت سجونه، واستعان بثقافته على ما يريد من هذا التنويع، ولعل أهم ثقافة سجن في قيودها آثاره هي الثقافة اللغوية؛ إذ نراه يتصنع الإغراب في ألفاظه، وعمَّم ذلك في جميع أشعاره وكتاباته، حتى ليشعر الإنسان في أحوال كثيرة بأنه يقرأ في متن من متون اللغة العويصة، ولقد كان المظنون أن يبتعد بها الإغراب في اللغة عن اللزوميات، فإن ما فيها من وعظ لا تلائمه الألفاظ الغريبة إذ هو يوجه عادة إلى الجماهير وهي لا تعرف

_ 1 النبيث: الخفي.

الألفاظ العويصة، ولكن أبا العلاء اتخذ هذه الألفاظ الغريبة لازمة دائمة في صناعة لزومياته ولم يستطع أن يتخلص منها، وقد أضاف إليها لازمة أخرى دائمة هي لازمة الجناس. ولعل من الطريف أن أبا العلاء استطاع أن يستخدم هذا الجناس استخدامًا مزدوجًا فهو يأتي به غالبًا ليعبر عن جناس من جهة وليعبر عن لفظ غريب من جهة أخرى. كان أبو العلاء يستخدم الجناس استخدامًا لغويًّا يريد به أن يدلَّ على مهارته في اللغة قبل أن يدل على مهارته في استخدام لون قديم من ألوان التصنيع. ولم يكتفِ أبو العلاء بما أحدثه بين الجناس والألفاظ الغريبة من مزاوجة؛ بل راح يصعب على نفسه؛ إذ نراه يطلبه بين حَشْوِ البيت والقافية، حتى يحدث هذه القيم المعقدة في قوافيه؛ فهو يلتزم فيها حرفين أو أكثر، وهو يلتزم فيها اللفظ الغريب، وهو أخيرًا يلتزم الجناس بينها وبين ألفاظ البيت، أرأيت إلى هذا التعقيد؟ إنه تعقيد ينسينا تعقيد المتنبي لموسيقاه الداخلية الذي عرضنا له في غير هذا الموضع، بل هو ينسينا تعقيد المهلبي لملاعقه في طعامه؛ فالمهلبي إنما كان يكرر الوسيلة فقط، أما أبو العلاء فإنه يستطيع أن يعقدها تعقيدًا شديدًا على هذا النمط الذي نقرؤه في هذه الأبيات: عَذيري مِنَ الدُّنيا عَرَتني بِظُلمِها ... فَتَمنَحَني قُوَّتي لِتَأخُذَ قُوَّتي وَجَدتُ بِها ديني دَنِيًّا فَضَرَّني ... وَأَضلَلتُ مِنها في مُروتٍ مُروَّتي1 أخوتُ2 كما خاتتْ عقابٌ لو انني ... قدرتُ على أمرٍ فَعُدَّ أخوَّتي وأصبحتُ في تِيهِ الحياةِ مناديًا ... بأرفعِ صوتي أين أطلبُ صوَّتي3 ومازال حوتي4 راصدي وهو آخذي ... فما لمتابي ليس يغسل حوَّتي رآني ربُّ الناس فيها متابعًا ... هوايَ فويحي يوم أسكن هوَّتي أبَوْتك5 يا إثمي ومن لي بأنني ... أتيتك فاشكرْ لا شكرتَ أبوَّتي

_ 1 مروت جمع مرت: الأرض لا نبات فيها. 2 أخوت: انقض. 3 الصوة: المنارة يهتدي بها. 4 الحوت: سواد الإثم. 5 أبوتك: صرت لك أبًا.

يكره الألفاظ إكراهًا على أن تؤدي هذا الجناس المفتعل الذي لا يحوي جمالًا ولا روعة فنية، وأي جمال أو روعة فنية في المجانسة بين قوت وقوتي ومروت ومروتي وأخوت وأخوتي وصوتي وصوَّتي وحوتي وحوَّتي وهواي وهوَّتي وأبوت وأبوتي؟ لكأنما عجز الشعر في هذه العصور عن أداء الجناس القديم الذي كنا نجده في القرن الثالث إلا أن يخرج إلى هذه الفنون من الالتواء والتعقيد، وانظر إلى الواو المشددة التي ختم بها أبو العلاء أبياته؛ فإنها تظهرنا على صناعته في اللزوميات؛ إذ كان يريد أن يثبت مهارته في النظم على جميع الحروف، فإذا هو يقع في مثل هذه الواو المشددة الغريبة، ولكن أي غرابة فيها؟ أَلَأَنَّها تحوي تعقيدًا وتصعيبًا؟ لقد كان التعقيد والتصعيب بدع هذه العصور، فما يزال الشاعر يعصب في فنه ووسائله وأبوابه التي يدخل منها إلى صناعته، فإذا أبو العلاء يطلب النظم على جميع الحروف ساكنة ومتحركة حركاتها المختلفة، ولكنه لا يزال يجد سهولة في الممرات التي ينفذ منها إلى شعره؛ وإذن فليصعب على نفسه أكثر من ذلك، وليطلب المجانسة بين القافية وحشو البيت حتى يحدث صعوبة، لعل أحدًا لا يستطيع أن يقلدها في فنه، أو يحاكيها في نماذجه، وكأني به رأى أن هذه الصعوبة لا تزال في دائرة الإمكان فحاول أن يدخلها في دائرة المستحيل قليلًا، وما تطور الشعر عنده إن كانت وسائله لا يزال يقدر عليها غيره من الشعراء؟ إن الفن الصحيح في رأيه هو الذي تتميز وسائله وأدواته بالعسر والمشقة؛ فإذا كان يحسن بالشاعر أن يجانس بين القافية وبين لفظة في البيت فليطلب ذلك في مكان يتعسر على غيره ولا ينقاد له. كان ذلك يدور بنفس أبي العلاء فذهب يبحث كيف يستحدث في الجناس صعوبة تبلغ به ما يريد من العسر والمشقة، وهداه بحثه -بعد كثير من التجربة والاختبار- إلى أن الحيز الذي يستطيع به أن يشق على نفسه وغيره بوضع جناسه فيه هو أول البيت وآخره؛ فهو لا يجانس بين القافية وحشو البيت، فإن هذا الجناس ربما كان لا يزال ممكنًا، إنما هو يجانس بين القافية وبين أول لفظة في البيت كما نرى في مثل قوله: أتراكَ يومًا قائلًا عن نيَّةٍ ... خلصتْ لنفسِك يا لجوجُ ترَاكِ1

_ 1 تراك: اترك.

أدَرَاكَ1 دهرُك عن تقاك بجهده ... فدراكِ من قبل الفواتِ دراكِ أَبَرَاكِ2 ربُّك فوق ظهر مطيَّة ... سارت لتبلغ ساعة الإبراك أفَرَاكِنٌ أنا للزمانِ بمحصدٍ ... بانت عليه شواهدُ الإفراكِ3 أشرَاكَ4 ذنبُك والمهيمنُ غافرٌ ... ما كان من خطأٍ سوى الإشراكِ فإنك تلاحظ في هذه الأبيات أن المعري عرف كيف يصعب طريقه إلى نظم هذه المقطوعة، فقد ضيق الباب بل الأبواب التي يمر منها إلى صناعة البيت، وأبى إلا أن يظهر هذا التضييق في أول كلمة يبدؤه بها؛ إذ أقام هذا الجناس المتعب بينها وبين القافية. لقد كان الشعراء من قبل المعري يلتزمون رويًّا واحدًا في شعرهم، ولكنه رأى ذلك شيئًا سهلًا، وهو يريد الصعوبة والتعقيد فاشترط على نفسه أن ينظم على رويَّين، وكأنه أحسَّ بأن النظم لا يزال سهلًا، فذهب يبالغ في الصورة التي يمكنه أن يعقده فيها، وما زال يبالغ حتى انتهى إلى هذه الصورة من الجناس بين أول البيت وآخره والغريب أنه لم يكن يصنع ذلك في بيت واحد أو أبيات متفرقة من مقطوعاته التي يطلبه فيها، بل نراه يعممه في جميع أبياتها. وكان إذا جنح إليه في مقطوعة طوَّلها وتجاوز بها المعتاد حتى يثبت مقدرته ومهارته في صنع هذا الجناس اللغوي الذي ما يزال يعقد فيه حتى يخرج على هذا النحو المركب؛ فهو يلتزمه في أول البيت وفي آخره، وهو يسرف على نفسه فيلتزمه في المقطوعات الطويلة أحيانًا. وحقًّا أن المعري أسرف على نفسه إسرافًا شديدًا حين جنح إلى هذا النوع من الجناس؛ ولكن كيف يثبت مقدرته على التعقيد في الشعر إن لم ينزلق إلى هذه الممرات الصعبة يجعلها طريقه إلى شعره

_ 1 دراك: رفعك، أصله درأك. 2 أبراك: من البرة وهي حلقة تجعل في أنف البعير ليزم بها. يقول جعل الله لك عقلًا يمنعك من الشهوات كما تمنع الناقة من البرة. والمطية: يقصد بها الليل والنهار. 3 المحصد: الزرع يحصد. الإفراك: الاشتداد. يقول أتركن وزرعك قد اشتد وأفرك. 4 أشراك من الشري، وهو مرض يصيب الجلد فيتعقد.

وصناعته؛ فقد أصبح الفن صعوبة وتعقيدًا خالصين، وأصبحت مهارة الشاعر أن يصيب في شعره حظًّا من هذه الصعوبة أو ذلك التعقيد فإذا المعري يلتمس هذا الجناس الغريب. وأكبر الظن أن خير وصف يمكن أن يضاف إليه أنه جناس لُغوي؛ فقد تحول الجناس عند المعري عن وجهته الأولى، وأنه بديع مستطرف، إلى وجهة لُغوية يريد بها الشاعر أن يثبت مقدرته اللغوية في استخدام الغريب من الألفاظ، واقرأ هذا البيت: ذوَي كالرَّوضِ روضُك يوم شُبَّتْ ... جمارٌ من لَظَى أسفٍ ذَوَاكِ فقد استطاع أبو العلاء أن يلفق جناسًا أشد صعوبة من ضروب الجناس السابقة؛ إذ ألفه من كلمة وحرف في كلمة أخرى، وكأنه يريد أن يخطو بالشعر خطوة جديدة في سبيل التعقيد؛ فإذا هو يجانس بين القافية وبين ذوي الأولى وحرف الكاف التالي لها، أرأيت كيف أصبح الجناس عند أبي العلاء عبثًا لغويًّا لا يراد به شيء أكثر من التصعيب والتعقيد؟ وهل هناك شيء أطرف في رأي أبي العلاء ومعاصريه من أن يستخرج أحدهم عقدة جديدة في الشعر؟ بل إنه يلتزم عقدًا كثيرة؛ فإذا هو يقيد نفسه في قوافيه، وإذا هو يرجع إلى ثقافته اللغوية يستمد منها ألفاظه الغريبة التي يستخرج منها هذا الجناس المعقد بين القافية وحشو البيت، وكأني به يرى ذلك ممكنًا فيجانس بين القافية وأول البيت، ثم يرى أن ذلك لا يزال ممكنا أيضًا، فيفكر طويلًا حتى يقع على هذا الجناس بين القافية والكلمة الأولى في البيت وما يجاورها من حرف أو حرفين. وليس من شك في أن ذلك كله كان مباعدة لأسلوب الوعظ، وكأني باللزوميات إنما جاءت لتحدث هذه الصعوبات والتعقيدات في الشعر وما يطوَى فيها من شعب ومنعطفات؛ أما الوعظ وأما الزهد فقد كانا يأتيان تابعين لهذا العمل المعقد تعقيدًا شديدًا، وإن الإنسان ليخيل إليه كأن اللزوميات بنيت بناية لغة قبل أن تبنى بناية زهد، وهل كان المعري يَطْلب بلوازمه في قوافيه أوفي ألفاظه أن يؤدي حاجة من وعظ؟ لقد كان يؤدي بهذه اللوازم حاجة لغوية؛ فالثقافة اللغوية أهم شيء فكَّر فيه في أثناء عمل لزومياته.

اللوازم العارضة في اللزوميات

7- اللَّوَازمُ العَارضةُ في اللُّزُومِيَّاتِ: هذه اللوازم الدائمة في اللزوميات كانت ترافقها لوازم عارضة تظهر من حين إلى حين، نقصد بهذه اللوازم العارضة ما كان يجنح إليه أبو العلاء من تصنعه لألفاظ الثقافات المختلفة من عروض ونحو وفقه، ولعله أول من وسع استعارة الشعراء لاصطلاحات العلوم والفنون، ومن قبله كان المتنبي يتصنع لذلك، ولكنه لم يسرف فيه إسراف المعري الذي ذهب يطرز شعره بألفاظ العلوم والفنون؛ بل إننا لنراه يدخل مسائلها في آرائه، وكأنه يريد منها الحجة والدليل على ما يذهب إليه من فكرة أو رأي، وانظر إليه يستخدم العروض في التدليل على أفكاره فيقول: إذا ابنا أبٍ واحدٍ أُلْفيا ... جوادًا وعَيرًا فلا تعجبِ1 فإن الطويلَ نجيبُ القَريضِ ... أخوهُ المديدُ ولَمْ يُنْجِبِ2 فإنك تراه يصف أحوال الناس بأوصاف الطويل والمديد ويتصورهم على هذا النحو من التصور العروضي؛ فالنجيب طويل وغير النجيب مديد، أرأيت إلى هذا التجديد؟ لقد جمد الشعر العربي ولم يبقَ فيه إلا هذه الانحرافات التي يأتي بها الشعراء من أوعية الثقافة؛ فإذا أبو العلاء يقول: بقائي الطويلُ وغيِّي البسيطُ ... وأصبحتُ مضطربًا كالرَّجزِ أرأيت إلى حياة أبي العلاء كيف تتحول إلى أوزان العروض؟ ولم يكن أبو العلاء يلجأ إلى ذلك ليقرر فكرة الفيثاغوريين عن الكون وائتلافه الموسيقي؛ إنما هو يلجأ إليه ليثبت معرفته بالعروض ومصطلحاته، وكأنه المرآة المستقيمة التي يستطيع الفيلسوف أن يرى فيها أحوال الناس مقيسة مقدرة على خير ما يكون القياس والتقدير، ولست أشك في أن أبا العلاء كان يعجب إعجابًا شديدًا بهذه الآلة الحديثة التي عثر عليها والتي يقيس بها أحوال الناس والحياة، ويظن

_ 1 العير: الحمار. 2 يقصد بالنجابة هنا كثرة الاستعمال.

أنها تفسِّرها! وأكبر الظن أنه كان يعرف عجزها وأنها لا تستطيع ذلك؛ ولكنه يلجأ إليه ليحرز انتصارًا جديدًا في تعقيد الفن وتصعيبه. وليست اصطلاحات العروض فقط هي التي يمكن أن تفسر مشاكل الحياة، بل تشركها اصطلاحات أخرى من النحو والصرف، وانظر كيف يفسر الصلة بين الأصول والفروع تفسيرًا صرفيًّا فيقول: وفي الأصلِ غشٌّ والفروعُ توابعٌ ... وكيف وفاءُ النَّجل والأبُ غادرُ إذا اعتلَّت الأفعالُ جاءت عليلةً ... كحالاتها أسماؤها والمصادرُ فالأصول والفروعُ وما بينهما من وراثات، كل ذلك نستطيع أن نجد له تفسيرًا لا في الفلسفة، بل في الصرف؛ فالأفعال إذا كانت عليلة تبعتها مشتقاتها لا تستطيع حولًا عنها ولا خلاصًا منها، وعلى هذا النحو تتبع الفروع الأصول، إن كانت سليمة سلمت، وإن كانت معتلة اعتلت، أرأيت إلى الصرف كيف يمكن أن نستخرج منه تفسيرًا وتصويرًا لمشاكلنا؟ إنه أحد المفاتيح الصغيرة التي عثر عليها أبو العلاء وجاء يستخرج منها وصف أحوالنا، وليس الصرف فقط هو الذي نجد فيه هذه المفاتيح؛ بل إننا نجدها كما رأينا في العروض، ونجدها أيضًا في النحو، وانظر إليه؛ إذ يقول: سِرٌّ سيعلنُ والحياةُ معارةٌ ... ولتقضينَّ بها ديونُ المعسِرِ كخبيء نعم وبئس يخبأُ فيهما ... ويكونُ ذاك على اشتراطِ مفسِّرِ أرأيت إلى حقائقنا؟ إننا لا نتشابه فيها فقط، بل إننا نتشابه فيها مع مسائل النحو والعروض والصرف، وليس من شك في أن هذا الصنيع لا يضيف طرافة للشعر إلا عند أصحاب هذه الفنون، وهل حقًّا يمكن أن تفسر هذه الفنون ومصطلحاتها مشاكلنا، إنها مملؤءة بكثير من المشاكل التي تحتاج هي الأخرى إلى ما يفسرها! ومهما يكن فإن أبا العلاء غلا غلوًّا شديدًا حين جعل هذه المعارف لوازم في شعره وإن تكن لوازم عارضة تأتي من حين إلى حين. قد نفهم أن يبالغ

في التشديد على نفسه فيصطنع منهجًا جديدًا في قوافيه يعقد به موسيقاه؛ ولكن لا نستطيع أن نفهم هذا التصنع لاصطلاحات النحو والصرف والعروض، وكان يلح في طلبه إلحاحًا شديدًا. أليس يدل ذلك على أن التفكير الفني لم يعد يدخل فيه شيء طريف وأن الشعراء قد أحسوا إحساسًا ما بإجدابهم؛ فانطلقوا يتكلفون في شعرهم هذه الكلف التي لا تفصح عن جمال فني سوى هذا التعقيد الذي يدخله الشعراء من ممرات وأبواب كثيرة، تارة من ممرات موسيقية معقدة وتارة من أبواب بديعية ملفقة، وأخيرًا من هذه المسالك العلمية التي لا تضيف طرافة إلى الشعر أكثر من ذكر بعض الألفاظ وبعض المسائل والمصطلحات، ومع ذلك فقد كانت هذه المسالك تعدُّ بدعًا طريفًا في القرن الرابع وما تلاه من قرون، وأخذ أبو العلاء يوسع استخدامها؛ فهو لا يقتصر بها على ما مضى من فنون، بل هو يطلبها أيضًا في الفقه والدراسات الدينية، فإذا هو يقول: حيرانُ أنت فأيُّ النَّاسِ تتَّبعُ ... تجري الحظوظُ وكلٌّ جاهلٌ طبعُ1 والأمُّ بالسُّدس عادتْ وهي أرأفُ من ... بنتٍ لها النصفُ أو عرسٍ لها الرُّبُعُ فإنك تراه يخلط مسائل الدين الخاصة بتشاؤمه وما يرى في الحياة من مشاكل تؤديه إلى الشك والحيرة. وعلى هذا النمط ما يزال أبو العلاء يتعرض في اللزوميات لمسائل العلوم والفنون المختلفة يتخذ منها الحجج والأدلة على ما يزعمه من أفكار وآراء، وإنه ليكثر من ذلك كثرة مفرطة؛ حتى ليحس من يقرأ في لزومياته بأنه يقرأ في كتاب ثقافة لا في ديوان شعر. ولقد كان حريًّا به أن ينحِّي عن شعره هذه القيود الثقافية العارضة، ويكتفي بقيوده الدائمة السابقة، ولكنه يريد أن يصعب عمله وأن يسلك إليه أضيق الممرات والأبواب؛ فإذا هو يلتزم ما يلزم مرارا، مرة في حروف قوافيه وحركاتها، ومرة في ألفاظه الغريبة، ومرة في جناساته المعقدة، وأخيرًا في هذه اللوازم العارضة، حتى ليصبح الشعر لوازم خالصة.

_ 1 الطبع: اللئيم.

وعبث أن نبحث بعد ذلك عن جديد في الشعر؛ فقد اندفع الشعراء بعد أبي العلاء في هذه الممرات الضيقة، كما نجد عند الحريري وعند غيره من الشعراء ممن وقف عندهم صاحب معاهد التنصيص يروي لهم مقطوعات تقرأ طردًا وعكسًا، أو يلتزم الشاعر فيها الحروف المهملة أو الحروف المعجمة إلى غير ذلك من عبث لا يفيد الشعر شيئًا1. وكأني بالشعر العربي ارتفع به العباسيون إلى القمة ثم أخذ يسقط رويدًا رويدًا؛ فإذا هو قصائد تلفق تلفيقًا، وقلما احتوت جمالًا من زخرف أو فكر. وحتى ألوان التصنيع القديمة أصابها ما أصاب لون الجناس عند المعري، إذا تحولت إلى صور هندسية، قلما يجد الإنسان فيها طرافة إلا تعقيدًا يقضي على كل ما يبعثه الشعر من لذة شعرية أو متعة فنية.

_ 1 معاهد التنصيص 2/ 102 وما بعدها.

الكتاب الثالث: المذاهب الفنية في الأندلس ومصر

الكتاب الثالث: المذاهب الفنية في الأندلس ومصر الفصل الأول: الأندلس والمذاهب الفنية الأندلس ... الكتاب الثالث: المذاهب الفنية في الأندلس ومصر الفصل الأول: الأندلسُ والمذاهبُ الفَنِّيَّةُ في أرض أندلس تلتذ نعماء ... ولا تفارق فيها القلب سراء وكيف لا تبهج الأبصار رؤيتها ... وكل روض بها في الوشي صنعاء أنهارها فضة والمسك تربتها ... والخز روضتها والدر حصباء ابن سفر المريني 1- الأَنْدلسُ: من يرى مخطط الأندلس وكثرة ما يجري فيها من أنهار يصب بعضها في المحيط الأطلسي وبعضها في البحر المتوسط يحس جمال هذه البلاد وجمال مناظرها وأوضاعها الطبيعية، وقد أفاض مؤرخو العرب في وصف مشاهدها كما أفاض الشعراء في التغني بمناظرها يقول ابن سعيد: "ميزان وصف الأندلس أنها جزيرة قد أحدقت بها البحار فأكثرت فيها الخصب والعمارة من كل جهة؛ فمتى سافرت من مدينة إلى مدينة لا تكاد تنقطع من العمارة ما بين قرى ومياه ومزارع، ومما اختصت به أن قراها في نهاية من الجمال لتصنيع أهلها في أوضاعها وتبييضها لئلا تنبو العيون عنها؛ فهي كما قال بعض الشعراء فيها: لاحت قُراها بين خضرةِ أيكِهَا ... كالدُّرِّ بين زبرجدٍ مكنونِ1 ويقول ابن اليسع: "إنه لا يتزود فيها أحد ما حيث سلك لكثرة أنهارها وعيونها، وربما لقي المسافر فيها في اليوم الواحد أربع مدائن ومن المعاقل والقرى ما لا يحصى، وهي بطاح خضر وقصور بيض"2. وهذه البلاد نزلتها أمم مختلفة قبل دخول العرب فيها، نزلها أول الأمر

_ 1 نفح الطيب "طبع بولاق" 1/ 97. 2 نفخ الطيب 1/ 98.

قبائل البَسْك والسَّلت والجلالقة من الشمال من بلاد الغال، كما نزل بها كثير من البربر سكان إفريقية الشمالية، ثم نزل بها بعد ذلك الفينيقيون؛ إذ استعمرت قرطاجنة بعض جهاتها. وكان ذلك قبل الميلاد بقرون، وكان هذا الاستعمار سببًا في أن تنبهت لها روما؛ فلما وقعت بينها وبين قرطاجنة الحرب المعروفة رأيناها تعمد إلى هذه البلاد تستولي عليها في أوائل القرن الثالث الميلادي وتسميها إسبانيا اسمها المعروف. ومنذ الوقت أصبحت إسبانيا ولاية رومانية، وكان لروما تأثير واسع فيها فرأيناها تتخذ اللاتينية لغة لها كما تتخذ المسيحية دينها بحيث لا يفد عليها العرب حتى تكون كثرة أهلها من المسيحيين. وليست هذه الأحداث هي كل ما مر بالأندلس قبل الفتح العربي؛ فقد لقيت أحداثًا أخرى لعلها أكثر عنفًا من الأحداث السابقة ونقصد غارات "الفندال" عليها من الشمال وقد نزلوا بها وأسسوا على نهر الوادي الكبير مملكة سموها باسمهم "مملكة الفندال" ومنها أخذت كلمة "فندلس" التي نطق بها العرب "أندلس" وسموا بها هذه البلاد. وأغار عليها بعد الفندال جماعات القوط في القرن الخامس الميلادي. وأخيرًا فتحها العرب في أواخر القرن السابع الميلادي عام 92 للهجرة، ولم يكن الجيش الفاتح عربيًّا خالصًا بل كانت كثرته من البربر، واستمر العرب والبربر جميعًا ينزلون الأندلس بعد الفتح ويستقرون بها بحيث استطاعوا أن يعرِّبوها وأن يجعلوها ولاية عربية في أول الأمر، ثم سرعان ما تصبح بعد ذهاب عبد الرحمن الداخل إليها قبل منتصف القرن الثاني للهجرة بقليل دولة عظيمة تنافس بعاصمتها قرطبة بغدادَ وما يتصل بها. على أن هذه الدولة الكبيرة لم يمضِ عليها نحو قرنين ونصف حتى رأيناها تنقسم إلى شعب وفروع كثيرة؛ فتصبح كل مدينة كبيرة فيها إمارة مستقلة بنفسها لها ملك وللملك وزراؤه وشعراؤه في هذا النظام المعروف باسم نظام ملوك الطوائف. ولا تلبث هذه الإمارات أن تضعف تحت ضغط المسيحيين في الشمال بسبب تنابذها وتخاصمها، ويستغيث ملوكها بدولة المرابطين في المغرب،

فتمد ذراعها لمساعدتهم سنة 484 للهجرة وسرعان ما تستولي عليهم. وتخلفها دولة الموحدين فتتحول الأندلس إليهم منذ سنة 541. ولا نمضي في القرن السابع الهجري طويلًا حتى تأخذ هذه الدولة في الضعف؛ بينما تأخذ المدن الأندلسية في السقوط واحدة وراء الأخرى بيد المسيحيين. وينحاز المسلمون في ركن ضيق بالجنوب هو مملكة غرناطة، يشيدون فيه قصور الحمراء التي لا تزال تتألق به إلى اليوم، ويدافعون عنها دفاعًا مجيدًا نحو قرنين ونصف، حتى إذا لم يبقَ في كنانتهم سهم أسلموها مولين وجوههم إلى بطاح المغرب بعد أن ظلوا هناك ثمانية قرون، شادوا فيها صرح حضارة ومدنية باهرة.

شخصية الأندلس

2- شخصيَّةُ الأَنْدَلُسِ: لعل أهم ما يميز الأندلس ترفها ونعيمها ووصف شعرائه لطبيعتها وحسن مناظرها؛ فقد ذهبوا يتغنون بمشاهدها ومواطن الجمال والفتنة فيها، ويشيدون بها أيما إشادة ابن سفر المريني: في أرضِ أندلسَ تلتذُّ نعماءُ ... ولا تفارقُ فيها القلبَ سرَّاءُ وكيف لا تبهجُ الأبصارَ رؤيتَهَا ... وكلُّ روضٍ بها في الوَشي صنعاءُ أنهارُها فضةٌ والمسكُ تربتُهَا ... والخزُّ روضتُها والدَّرُّ حصباءُ وتفنَّن الأندلسيون تفننًا واسعًا في هذا الجانب وبذلك تركوا مادة كبيرة في شعر الطبيعة وساقهم ترفهم إلى وصف الخمر مع وصف الزهر ثم وصف مجالس الشراب وما ينطوي فيها من قيان. واستتبع ذلك الترف -عندهم- غناء واسعًا كان من آثاره ظهور الموشحات والأزجال. وهذه هي الصورة العامة لشخصية الأندلس، وهي شخصية رشحت لها البيئة والطبيعة. أما السكان فقد كانوا من عناصر متباينة على نحو ما قدمنا، وجعلهم هذا التباين لا يهدءون ولا يستقرون، بل دائمًا ثورات وحروب داخلية. وأكبر الظن أن هذه الثورات والحروب هي التي جعلت الأندلس لا تستفيد كثيرًا

من الحضارات القديمة التي اتصلت بها سواء الحضارة الفينيقية أو الحضارة الرومانية. ونحن لا نبالغ إذا قلنا بأن شخصية الأندلس في الأدب العربي ليست من القوة كما ينبغي؛ وخاصة إذا أهملنا جانب البيئة، فمما لا شك فيه أن هذا الجانب أثَّر أثرًا واضحًا في طبيعة الأدب الأندلسي شعره ونثره. غير أننا إذا تركنا هذا الجانب لم نكد نجد شيئًا آخر؛ فقد كانت الكتلة الأندلسية تنساق نحو تقليد المشرق بكل ما فيه، وحتى شعر الطبيعة عندهم لم يأتوا فيه بجديد سوى الكثرة، أما بعد ذلك فصورته كله بما فيها من أفكار وأخيلة وأساليب هي الصورة المشرقية. ونحن لا نغلو إذا قلنا: إن الأدب الأندلسي مدين في نهضته للتراث العربي العام، وهو تراث كان مشتركًا بين الأقاليم العربية كلها لا يختص به إقليم دون إقليم، وكأني بالأندلس لم تجد من الوقت ما تتعمق به الثقافة الرومانية التي تثقفتها قديْمًا على الرغم من اتخاذها اللاتينية، فلما جاء العرب لم يجدوها تحرز تراثًا لاتينيًّا واسعًا تستطيع أن تحتفظ به لنفسها وتدمجه في التراث العربي العام. وما أراني أبعد إذا قلت إن الأندلس كانت تستمد نهضتها وحياتها من بغداد شأنها في ذلك شأن الأقاليم الأخرى. وكان يمكن أن يقوم بينها وبين المشرق فوارق وحواجز لو أنها بدأت حياة عقلية مستقلة عن حياة المشرق تعتمد على ترجمة ما تعرفه من آثار لاتينية؛ غير أنها لم تتجه هذه الوجهة، بل غرقت إلى آذانها في الثقافة العربية العامة التي نهضت بها بغداد، وآية ذلك أنها لم تقم بها حركة ترجمة كالتي قامت في بغداد فقد كانت تقرأ الثقافات الأجنبية فيما يأتيها من هناك. وإن الإنسان ليخيل إليه أن الأندلس كانت تقلد المشرق في جميع جوانب الحياة، كما كان الشأن في "أميركا" الحديثة حين هاجر أهلها من أوربا؛ فإنهم ظلوا يستمدون من قارتهم القديمة ما شكَّلوا به حياتهم وعلمهم وفنهم. وهذا نفسه ما حدث بالأندلس؛ فقد سمى العرب هناك بعض البلدان التي نزلوها بأسماء بلدان المشرق، على نحو ما صنع الأوربيون حين نزلوا في أمريكا، فكما سمى

هؤلاء نيوأورليانس ونيويورك ونحوهما، سمى العرب في الأندلس بلدانًا قديمة باسم دمشق وقنسرين وحمص وفلسطين، وأخذوا يعيشون على نمط يشبه نمط معيشة العرب في المشرق، واتصل ذلك بحياتهم في جميع ضروبها ومظاهرها من سياسية واجتماعية وعقلية وفنية. أما حياتهم السياسية فقد حاولوا أن يجعلوها كالحياة السياسية في بغداد إذ نرى الناصر يلقب نفسه بالخليفة1، ويلقب أمراء الطوائف أنفسهم بالرشيد والمأمون والمتوكل والناصر والمنصور والمعتمد، يقول ابن شرف القيرواني2: مما يزهِّدني في أرضِ أندلُس ... أسماءُ معتضدٍ فيها ومعتمدِ ألقابُ مملكةٍ في غير موضِعِها ... كالهر يحكي انتفاخًا صولةَ الأسدِ أما الحياة الاجتماعية فقد عم التأثر فيها كل شيء؛ إذ نرى الخلفاء يهتمون بالغناء والموسيقى على نحو ما رأينا في بلاط هارون الرشيد والمأمون، وبدأت هذه الموجة مع وفود زرياب عام 206 للهجرة على الأندلس، وكان قد تعلم فن الموسيقى والغناء على إسحاق الموصلي، ثم رحل إلى الأندلس. ويذكر له صاحب نفح الطيب تأثرًا واسعًا في الحياة الاجتماعية لا يقف عند الغناء وما عرف به من إنشاء مدرسة هناك ثم ما كان من إصلاحه للعود وزيادته وترًا على أوتاره يمثل النفس، بل يمتد إلى جوانب أخرى؛ فقد شرع للناس ضروب من البِدْع البغدادي في الزينة والطعام والشراب والاستقبال، فهم يروون أنه سن لهم أن تكون أواني الشرب من زجاج وكانت من ذهب وفضة، كما سن لهم ما يحسن أن يلبسوه ويأكلوه، وكيف يتزين النساء، وكيف يصففن شعورهن إلى غير ذلك من وسائل الحياة الاجتماعية والتأنق فيها3. أما الحياة الفنية، ونقصد حياة العمارة والبناء فيظهر أن الأندلس تأثرت صورة الزخرف العربي العام، إذ يقولون إن زخرفة قصر الحمراء -المعروف

_ 1 أبو الفدا تحت عام 350هـ. وانظر نفح الطيب: للمقري 1/ 212. 2 نفح الطيب 1/ 101. 3 انظر ترجمته في نفح الطيب "طبع بولاق" 2/ 749 وانظر أيضًا: R.DOZY, HISTOIRE DES. MUSULMANS D'ESPAGNE, I P.312.

بغرناطة، والذي يشغل مكانة خاصة ممتازة بين المخلدات الأندلسية- تتصل بتقاليد الفن الإسلامي العام، وبالأخص فن ما بين النهرين أكثر منها بالتقاليد الإسبانية والإفريقية1. أما الحياة العقلية؛ فقد كان التأثر فيها بالمشرق بينًا واضحًا، وقد تتبع صاحب نفح الطيب في ثبتين طويلين من رحلوا من الأندلس إلى المشرق للتزود بالعلم ومن رحلوا من المشرق إلى الأندلس طلبًا للثروة أو للمجد العلمي والشهرة، وأقبل الأندلسيون على هؤلاء العلماء الوافدين عليهم يأخذون عنهم ويتعلمون، كما نرى في حياة أبي على القالي وأماليه التي أملاها هناك. وكنت الأندلس بطيئة -على ما يظهر- في تلقي الحياة العقلية من المشرق لكثرة ما كان فيها من فتن وخصومات. والحق أن الأندلس أبطأت في حركتها العقلية، وإنه لينبغي أن نحترس من هذا الفصل الذي عقده "صاعد" في كتابه طبقات الأمم، يستعرض فيه العلم في الأندلس، ويذكر أسماء جماعة كانوا في القرن الرابع كأبي عبيد البلنسي؛ فإن هؤلاء لم يكونوا علماء بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة؛ إنما كانوا مثقفين بالثقافة العربية العامة التي لم تكن تتجاوز عندهم شيئًا من الرياضيات والطبيعيات وبعض المعارف الطبية. وأسرعت الأندلس إلى الاهتمام بالثقافة الدينية، بل كادت أن لا تشغل نفسها بشيء سواها، يقول صاحب نفح الطيب: "وقراءة القرآن بالسبع، ورواية الحديث عندهم رفيعة، وللفقه رونق ووجاهة ولا مذهب لهم إلا مذهب مالك". ويقول: "كل العلوم لها عندهم حظ إلا الفلسفة والتنجيم، فإنه كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم أطلقت عليه العامة اسم زنديق، وقيدت عليه أنفاسه فإن زلَّ في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان، أو يقتله السلطان تقربًا للعامة، وكثيرًا ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت، وبذلك تقرب المنصور

_ 1 الحضارة الإسلامية: تأليف بارتولد "نشر دار المعارف" ص61.

ابن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه"1. والمنصور بن أبي عامر هو أهم وزير للأمويين في القرن الرابع؛ إذ توفي عام 392 للهجرة، ويقول ابن عذاري بصدده: "وكان المنصور أشد الناس في التغير على من عنده شيء من الفلسفة والجدل في الاعتقاد والتكلم في شيء من قضايا النجوم وأدلتها والاستخفاف بشيء من أمور الشريعة وأحرق ما كان في خزائن الحكم -الخليفة الأموي- من كتب الدهرية والفلاسفة بمحضر كبار العلماء"2 وليس من شك في أن ذلك كله كان سببًا في بطء الحياة العقلية وتأخر نموها في الأندلس، ونحن نعرف أن أول فيلسوف أندلسي هو ابن باجة المتوفى عام 533 للهجرة؛ فالأندلس لم تتعمق الفلسفة إلا في عصر متأخر، ولعلها من أجل ذلك اعتنقت مذهب مالك وفضلته على غيره من المذاهب؛ لأنه لم يكن معقدًا بفلسفة، ولاحظ ذلك ابن خلدون، وعلل له ببداوة أهل الأندلس وأنهم لم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق؛ فآثروا هذا المذهب لمناسبة البداوة بينهم وبين أهل الحجاز3. ويمكن أن نعلل بنفس العلة لعدم اتساع موجة التفكير الإباحي الماجن عندهم على نحو ما نعرف في المشرق، كما أنه لم يظهر عندهم شاعر متفلسف متشائم كأبي العلاء. وإذا تركنا الحياة العقلية في الأندلس إلى الحياة الأدبية وجدنا ظاهرة التقليد للمشرق واضحة جلية؛ إذ تصاغ الكتب الأدبية عند الأندلسيين على شكل الكتب الأدبية عند المشارقة، يصاغ "العقد الفريد" على شكل "عيون الأخبار" ويراه الصاحب بن عبَّاد فيقول هذه بضاعتنا ردت إلينا، ويصاغ كتاب "الحدائق" لأبي فرج الجياني في أهل زمانه على شكل كتاب "الزهرة" للأصبهاني"4، ويصاغ كتاب "الذخيرة" لابن بسام على شكل كتاب "اليتيمة"

_ 1 انظر: نفح الطيب 1/ 104. 2 البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب: لابن عذاري "طبع ليدن" 1/ 314. 3 مقدمة ابن خلدون ص315. 4 الذخيرة: لابن بسام "طبع جامعة القاهرة" 1/ 2.

للثعالبي1. والحق أن الحركة الأدبية في الأندلس صيغت صياغة على شكل الحركة الأدبية في المشرق، وقد نعجب من ذلك الآن، ولكن من يتعمق دراسة الأندلس يعرف سرعة الاتصال بينها وبين المشرق؛ فعلماؤها وأدباؤها يرحلون إليه كما يرحل إليها علماؤه وأدباؤه، ومن لم يذهب من المشرق إلى الأندلس أرسل إليه بآثاره، أو نقلها إليه هؤلاء الأندلسيون الذين يجوبون الأقطار الشرقية للبحث عن المنابع الهامة للأدب والثقافة، ولعل من الغريب أن يعرف القارئ أن كتابي "البيان والتَّبَيُّن" و"التربيع والتدوير" نقلًا في حياة الجاحظ إلى الأندلس2 وأرسل أبو الفرج الأصبهاني لعبد الرحمن الناصر نسخة من كتابه "الأغاني" كما نُقِل ديوان المتنبي في حياته إلى الأندلس نقله ابن الأشج الذي قابل المتنبي في الفسطاط عام 346 للهجرة، وبذلك استطاع ابن هانئ المعاصر له أن يتأثره تأثرًا واضحًا. ويذكر صاحب الذخيرة أن ابن شهيد كان يستعير معاني أبي العلاء في بعض أشعاره3 فإذا عرفنا أن ابن شهيد توفي عام 426 للهجرة؛ بينما توفي أبو العلاء عام 449 عرفنا إلى أي حد كانت سرعة الاتصال بين الأندلس والمشرق. ومن يقرأ في الذخيرة ويتابع الأدباء والشعراء في تقليدهم لأدباء المشرق وشعرائه يخيل إليه أن القوم قد حبسوا أنفسهم داخل الإطار العام للأدب العربي، فهم يضعون المشرق نصب أعينهم يتخذون منه مُثُلَهُم الأدبية العُليا، وقد كتب ابن شهيد رسالة "التوابع والزوابِع" وذكر فيها أسماء شياطين الشعراء الذين أجازوه، وكلهم من شعراء المشرق الذين نعرفهم، أمثال أبي نواس وأبي تمام والبحتري والمتنبي4، وكان الأندلسيون حتى عصر ابن خلدون لا يزالون يقولون: "إن أصول علم الأدب وأركانه أربعة دواوين، وهي أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين

_ 1 انظر مقدمة كتاب الذخيرة. 2 معجم الأدباء 6/ 74. 3 الذخيرة 1/ 287. 4 انظر: رسالة التوابع والزوابع في الذخيرة 1/ 210.

للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي"1، وليس في هذه الأصول والأركان شيء لأهل الأندلس. وما أظننا نسرف إذا قلنا بعد ذلك إن الأندلسيين كانوا يعيشون على تقليد أهل المشرق، ولعل ذلك ما جعل صاحب الذخيرة يقول فيهم: "إن أهل هذا الأفق أَبَوْا إلا متابعة أهل المشرق يرجعون إلى أخبارهم المعتادة رجوع الحديث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طن بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثوا على هذا صنمًا، وتلوا ذلك كتاب محكمًا "2.

_ 1 المقدمة ص408. 2 الذخيرة 1/ 2.

الشعر في الأندلس

3- الشِّعْرُ في الأَنْدَلُسِ: رأينا الأندلس تؤسس حياتها العقلية والأدبية على أسس مشرقية، وجعلها ذلك تعيش في فنها وشعرها داخل الإطار المشرقي العام؛ إذ كانت الفكرة الأساسية عند من يريد أن يكتب شعرًا أن يكون شعره على نمط الشعر عند المشارقة من القدماء أو العباسيين. ومعنى ذلك أن الشاعر الأندلسي لم يحاول أن يخضع الشعر العربي لشخصيته؛ بل رأيناه هو يخضع له، فهو يخضع لموضوعاته المعروفة في المشرق كما يخضع لأفكاره ومعانيه وأخيلته وأساليبه ولعل من المهم أن نعرف أنه مرت على الأندلس فترة طويلة قبل أن تجد شاعرًا ممتازًا تستطيع أن تلقى به شعراء المشرق، وأكبر الظن أن ذلك يرجع إلى كثرة ما كان فيها من فتن وثورات وخصومات فكأنها لم تهدأ لنفسها حتى تستطيع أن تنتج شاعرًا ممتازًا إذ كانت دائمًا في حروب داخلية يثيرها العرب وما بين المضرية واليمنية عندهم من خصومات قديمة، ثم يثيرها ما كان يقوم بين العرب وبين البربر من جهة، ثم بينهم وبين المسيحيين الشماليين من جهة أخرى. ومهما يكن فقد كانت مُثُل الأندلسيين في الشعر هي نفس مثل المشارقة، ومع ذلك فنحن لا نكاد نعرف للأندلس شاعرًا ممتازًا في القرنين الثاني والثالث

للهجرة سوى يحيى بن الحكم الغزال شاعر الأمير عبد الرحمن الثاني "206- 238هـ" وقد سفر بينه وبين أمراء أوربا وقدم في بعض هذه السفارات على أحد أمراء النورمان في جزائر الدانمارك، وأثبت ابن دحية بعض أشعاره في "المطرب" وهي أشعار جيدة. وأهم منه ابن عبد ربه صاحب كتاب "العقد الفريد" المتوفى عام 328 للهجرة، فقد تعلق بصنع الشعر وترك فيه ديوانًا لم يصلنا؛ غير أن ما نقله ياقوت وابن خلِّكان عنه يدل على أنه متكلف في شعره كقوله: يا ذا الذي خط العذارُ بوجهِِهِ ... خطين هاجا لوعةً وبلابلا ما صح عندي أن لحظك صارمٌ ... حتى لبست بعارضيكَ حَمَائلا وواضح في هذا التصوير من تكلف إذا وصف اللحظ بالسيف الصارم، وكان التشبيه حتى الآن طبيعيًّا؛ ولكنه أراد أن يبعد فزاد تلك البقية التي تجعل العذارين حمائل للسيف، أرأيت إلى هذا البعد في الخيال وهذا التكلف؟ ومع ذلك فقد كان لابن عبد ربه قطع أخرى لا يبدو فيها هذا التكلف الشديد كقوله: وبدت لي فأشرقَ الصبحُ منها ... بين تلك الجيوبِ والأطواقِ يا سقيمَ الجفونِ من غيرِ سَقَمٍ ... بين عينيك مصرعُ العشَّاقِ إن يوم الفراقِ أفظعُ يوم ... ليتني مت قبل يومِ الفِراقِ وله قطع أخرى أكثر من هذه رقة وسهولة. ولعله من المهم أن نعرف أن الشعر الأندلسي يفقد الوحدة منذ ابن عبد ربه؛ إذ نجد الشاعر الواحد يتكلف في قطعة ويخفف من تكلفه في أخرى، فتحار أهو من مذهب الصانعين أم هو من مذهب المتصنعين أم هو من مذهب المصنعين، فقطعة فيها صنعة وثانية فيها تصنُّع وثالثة فيها تصنيع على غير نظام أو نسق معين. ولذلك كان الباحث يضطرب في الحكم على الشارع الأندلسي؛ فبينما يحكم عليه بأنه من ذوق الصانعين إذا به يجد عنده نموذجًا من ذوق المصنعين أو المتصنعين، وكذلك الأمر إن هو حكم عليه بأحد الذوقين الآخرين. وقد يكون من أسباب ذلك أن هذه المذاهب كانت تتفارق في المشرق مفارق واضحة، إذ توجد مع التطور في الحياة والحضارة، فالصانعون يسبقون المصنعين ويأتي

المتصنعون من ورائهم، أما في الأندلس فإنه يوجد هناك تطور بين هذه المذاهب؛ إذ بدأت نهضة الشعر هناك متأخرة عن نشوء هذه المذاهب في المشرق، فكان الشعراء يحاكونها جميعًا في غير نظام ولا نسق واضح. ونحن نقف قليلًا عند شاعرين مهمين ظهرًا بعد ابن عبد ربه في القرن الرابع، وهما ابن هانئ الأندلسي وابن دراج القَسْطَلي. ابْنُ هانِئٍ الأَنْدلُسي: هو أبو القاسم محمد بن هانئ1، وهو عربي الأصل إذ ينسب إلى المهلب بن أبي صفرة الأزدي الذي اشتهر بحروبه وانتصاراته على الخوارج وفي خراسان لعصر بني أمية. ويسمى ابن هانئ الأندلسي تمييزًا له من ابن هانئ الحكمي المكنى بأبي نواس الشاعر المعروف. وقد ولد بإشبيلية عام 316 للهجرة، وكان أبوه قد هاجر إليها من المهدية في شمالي إفريقيا وعني بابنه وبتربيته، ولم يلبث أن تدفق الشعر على لسانه؛ فلمع اسمه، وقربه منه حاكم بلدته. غير أنه أكثر من الانهماك في الملاذ، وأظهر استهتارًا وزندقة، ونقم عليه أهل إشبيلية ذلك، وامتدت نقمتهم إلى الحاكم الذي يرعاه، فنصحه أن يبتعد عنهم مدة، فولى وجهه نحو المغرب وعمره سبعة وعشرون عامًا. وكانت جيوش الفاطميين تتوغل فيها بقيادة جوهر الصقلي، فألم به وقدَّم إليه إحدى مدائحه، لكنه لم يثبه الثواب الذي كان ينتظره، فتركه إلى جعفر ويحيى ابني علي، وكانا واليين على الزاب في المغرب الأوسط للمعز الفاطمي، فأجزلا له في العطاء، وسمع به المعز فطلبه منهما، وقدم عليه ابن هانئ، فبالغ في الإنعام عليه، حتى تحول إليه بقلبه، وآمن بعقيدته الشيعية وكل أصولها المذهبية. وخرج مع المعز حين فتح مصر ينشده مدائحه، ولكنه عاد ليحضر أولاده وأهله، ووصل بهم إلى برقة، ونفجأ بقتله فيها سنة 362 وربما دبَّر هذا القتل بعض خصوم المعز هناك حتى لا ينعم بهذه التحفة النادرة.

_ 1 انظر في ترجمته: وَفَيَات الأعيان: لابن خلكان 2/ 4. ومطمح الأنفس: للفتح بن خاقان "طبع الجوائب" ص74. والتكملة: لابن الأبارص 103. والإحاطة: للسان الدين بن الخطيب 2/ 212 والمغرب "القسم الأندلسي- طبع دار المعارف" 2/ 97. ومعجم الأدباء "طبعة القاهرة" 19/ 92.

ومن يرجع إلى ديوانه يجد أكثره في المديح، ومعانيه فيه هي نفس المعاني التي نلقاها في الشعر العربي عند العباسيين ومن قبلهم، وإن كنا نلاحظ في مديحه للمعز وقوفًا طويلًا عند صفاته الإمامية، وشعره في هذه الناحية مرجع مهم لمن يبحثون في العقيدة الفاطمية وكل ما كان يؤمن به دعاتهم من صفات عُلْوية في الإمام؛ إذ كانوا يؤمنون بأنه معصوم وأنه عالم بالظاهر والباطن وأنه يكون شفيعًا لأوليائه يوم القيامة، ولا يزالون به حتى يضعوه فوق البشر ويضفون عليه من القدسية والجلال ما يجعله روحًا من الله، بل ما يجعله سبب الوجود وعلة الحياة. وتكثر هذه المعاني وما يتصل بها في شعر ابن هانئ كثرة مفرطة كقوله1: وما كُنْهُ هذا النورِ نورِ جبينه ... ولكنَّ نورَ اللهِ فيه مشاركُ وقوله2: ولله علمٌ ليس يحجبُ دونَكُمْ ... ولكنَّهُ عن سائرِ الناسِ محجوبُ وقوله3: مؤيدٌ باختيارِ اللهِ يصحبُهُ ... وليس فيما أراه اللهُ من خَلَلِ وقد شهدتُ له بالمعجزات كما ... شهدت لله بالتوحيدِ والأزلِ وقوله4: أرى مدحه كالمدح لله إنه ... قنوتٌ وتسبيحٌ يحطُّ به الوزْرُ وقوله5: هو علَّةُ الدُّنيا ومن خُلقت له ... ولعلة ما كانت الأشياءُ وقوله6: ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ ... فاحكمْ فأنتَ الواحدُ القهارُ وقوله حين نزل المعز بمدينة رقادة بجوار القيروان7:

_ 1 الديوان "طبعة زاهد علي" ص511. 2 الديوان ص66 3 الديوان ص95. 4 الديوان ص342. 5 الديوان ص15. 6 الديوان ص365. 7 الديوان ص817

حلّ برقادةَ المسيحُ ... حلَّ بها آدم ونوحُ حلَّ بها الله ذو المعالي ... وكلُّ شيءٍ سواه ريحُ فالمعز في رأيه تحل فيه أرواح الأنبياء، بل يحل فيه الله -تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا- ومرَّ بنا شيء من هذه المبالغات عند المتنبي، وكان شيعيًّا غير أن ابن هانئ تجاوز فيه كل حد مردِّدًا عقيدة الشيعة الإسماعيلية في إمامهم، وكان هو نفسه من تابعيه ومريديه، ولعل هذا نفسه ما جعل المعز يأسف ويتحسر عليه حين بلغته وفاته. ولسنا أول من يربط بينه وبين المتنبي؛ فقد كان الأندلسيون أنفسهم يسمونه متنبي المغرب، ومن يقرأ ديوانه يجده يحتذي على مثاله، في كثير من أشعاره. غير أنه لا يستقي منه وحده فقد كان يعجب أيضًا بمذهب المصنعين، وفسح في شعره لأخيلة وصور كثيرة كقوله في فاتحة إحدى مدائحه للمعز1: فُتِقَتْ لكم ريحُ الجلاد بعنبرِ ... وأمدكم فلقُ الصباحِ المسْفِرِ2 وجنيتُم ثمرَ الوقائع يانعًا ... بالنَّصرِ من ورق الحديد الأخضرِ3 فقد تصور الجلاد وعراك الأبطال ريحًا عاصفًا يفوح منه العنبر والطيب، وهو يهبُّ في الصباح المشرق، وبالغ في التصور والتكلف ما شاء حتى تخيل السيوف شجرًا له ورق وثمر، وهم يجنون منه النصر والظفر. فتصوير المصنعين عنده ينتهي إلى هذه المبالغات الغريبة. ومن الحق أنه كان يحسن في هذا الباب، ولعل ذلك ما يجعل قصائده في وصف أساطيل المعز تروع قارئها لما يجد عنده من تفنن في التصوير، وهو لا يقف بهذا التفنن عند المديح ووصف الأساطيل بل يذيعه في ضروب شعره الأخرى من غزل وغير غزل، كمقطوعته المشهورة 4: فتكتاتُ طرفُك أم سيوفُ أبيكِ ... وكئوسُ خمرٍ أم مراشفُ فيكِ فهو إذن يخلط في شعره بين مذهبي التصنيع والتصنع، ومما لا شك فيه أنه كان معجب بالمتنبي وأنه كان يستوحيه في كثير من قصائده ومعانيه،

_ 1 الديوان ص321. 2 فتقت: فاحت، الجلاد: العراك. 3 يانعًا: ناضجًا. 4 الديوان ص531.

ونراه ينفذ مثله في الرثاء إلى ذم الدهر والشكوى من الحياة كقوله في رثاء غلام1: وهب الدهر نفيسًا فاسترد ... ربما جادَ بخيلٌ فحسدْ كلما أعطَى فوفَّى حاجةً ... بيدٍ شيئًا تلقَّاه بيدْ خاب من يرجو زمانًا دائمًا ... تعرف البأساءَ منه والنكدْ فإذا ما كدَّر العيش نَمَا ... وإذا ما طيب الزاد نفدْ وعلى هذا النحو كان يقتدي بالمتنبي تارة، ويقتدي بالمصنعين تارة أخرى؛ فهو لا يثبت عند مذهب بعينه. ونستطيع أن نسلك في اقتدائه بالمتنبي عنايته في شعره بالغريب والقوافي الشاذة فهو ينظم على الثاء والخاء ونحوهما من الحروف الصعبة حتى يثبت تفوقه. وإذا كنا لاحظنا في غير هذا الموضع على المتصنعين أنهم كانوا إذا عمدوا إلى التصنيع لفوا ولفقوا فإننا نلاحظ ذلك نفسه عند ابن هانئ، إذ كان يأتي المعاني والأخيلة من بعيد، وكان يستر ذلك بما تعوده من ضخامة التعبير. روى الرواة أن أبا العلاء كان إذا سمع شعره يقول: ما أشبِّهه إلا برحىً تطحن قرونًا لأجل القعقعة التي في ألفاظه، ويزعم أنه لا طائل تحت تلك الألفاظ2. وما هذه القعقعة وما يندرج فيها من عدم الطائل والفائدة إلا ما نشير إليه من طنطنته بالألفاظ والأساليب الضخمة، فإذا ما بحثنا هذه الأساليب لم نجد شيئًا غير التلفيق واللف وإتيان المعنى من بعيد، ولعل ذلك ما جعل ابن رشيق يقول عنه: "وفرقةٌ أصحاب جلبة وقعقعة بلا طائل معنى إلا القليل النادر كأبي القاسم بن هانئ ومن جرى مجراه فإنه يقول أول مذهبته: أصاخت فقالتْ وقعُ أجردشيظَمِ ... وشامت، فقالت: لمع أبيض مخذمِ3 وما ذعرت إلا بجرسِ حُلِيِّها ... ولا رمقت إلا بُرى في مخدَّمِ4 وليس تحت هذا كله إلا الفساد وخلاف المراد، ما الذي يفيدنا أن تكون

_ 1 الديوان ص245. 2 وَفَيَات الأعيان 2/ 5. 3 أصاخت: أرهفت السمع. الأجرد: من صفات الخيل الكريمة. الشيظم: الطويل القوي من الخيل. شام البرق: نظر إليه. والأبيض: السيف. والمخذم: القاطع. 4 جرس: صوت. رمق الشيء: لحظه لحظًا خفيفًا. برى: جمع بره، وهي هنا الخلخال. المخدم: موضع الخلخال.

هذه المنسوب بها لبست حليها فتوهمته بعد الإصاخة والرمق وقع فرس أو لمع سيف؛ غير أنها مغزوَّة في دارها، أو جاهلة بما حملته من زينتها، ولم يخف عنا مراده أنها كانت تترقبه، فما هذا كله؟ 1" ونحن نرى من هذا النص أن ابن رشيق يلاحظ على ابن هانئ شيئين: الشيء الأول أنه قد تعلق بمعنى لا طرافة فيه، والشيء الثاني أنه لفَّ طويلا حول تعبيره عن فكرته قبل أن يؤديها، وكأني به تأثر قول المتنبي: يَرَونَ من الذُّعرِ صوتَ الرِّيَاحِ ... صهيلَ الجيادِ وخفقَ البُنُودِ فالمتنبي يقول إن أعداء الممدوح فروا منه، وهم يظنون في أثناء فرارهم أن صوت الرياح صهيل الجياد وخفق البنود لشدة فزعهم وخوفهم، فجاء ابن هانئ ونقل هذا المعنى من وصف الحرب إلى شعر الغزل ودار حوله هذا الدوران الطويل؛ فإذا صاحبته تتوهم لخوفها أن صوت حليها وقع أقدام فرسه، وأن لون خلخالها لون سيفه، أرأيت إلى هذا التكلف في التعبير؟ إنه لم يجلبه فن ولا زينه إنما جلبه تصنع ابن هانئ وتلفيقه للصور والأفكار العباسية وما يشفعه بها من نقل ولف ودوران. على أننا نعود فنلاحظ مرة أخرى أن هذا الشاعر المتصنع كان يستخدم أدوات التصنيع وخاصة أدوات التصوير؛ غير أنها تحولت في بعض جوانبها عنده إلى ضروب جديدة من التكلف والتصنع، وهذا هو معنى ما نقوله من أن الشاعر الأندلسي لا يستطيع أن يعيش في منهج عباسي واحد. هو لا يجدد ولا يحدث مذهبًا جديدًا وهو حين يعيش في منهج عباسي نراه لا يستمر فيه، بل يخلط بينه وبين غيره من المناهج، وهذا ابن هانئ أقرب الأندلسيين إلى ذوق التصنع نراه يجمع في شعره بين أدوات التصنيع والتصنع جميعًا، واقرأ هذه القطعة التي امتلأت بالصور والتشبيهات: كأن رقيبَ النَّجمِ أجدلُ مرقبٍ ... يقلبُ تحتَ اللَّيلِ في ريشه طرْفَا2

_ 1 العمدة: لابن رشيق 1/ 80 وما بعدها. 2 رقيب النجم: الذي يغيب بطلوعه مثل الإكليل فإنه يغيب بطلوع الثريا. الأجدل: الصقر. المرقب: الموضع العالي.

كأنَّ بني نعيشٍ ونعشًا مطافلٌ ... بوجرة قد أضللن في مهمةٍ خَشَفا1 كأن سهيلًا في مطالعِ أفُقِهِ ... مفارقُ إلفٍ لم يجد بعده إلفا كأن سهاها عاشقٌ بين عوَّدٍ ... فآونةً يبدو، وآونةً يخفى2 كأن معلَّى قُطْبها فارسٌ له ... لواءان مركوزان قد كره الزَّحْفا كأن قُدَامى النِّسر، والنسر واقعٌ ... قصصن فلم تسم الخوافي به ضَعْفَا3 ومضى في القصيدة على هذا النحو يصنِّع لهذه التشبيهات التي يحس الإنسان إزاءها أنها جاءت لتعبر عن تلفيق لا لتعبر عن شعور وجمال؛ فكل ما هناك أن الشاعر يريد أن يثبت مهارته باستخدام "كأن" وما يتبعها من صور وأخيلة. وعلى هذا النمط كان الشاعر الأندلسي يجمع في شعره بين صور التصنيع والتصنع جميعًا. ابْنُ دَاَّرجٍ القَسْطَلِيّ: وهذا شاعر آخر يقرن بالمتنبي، عاش في القرن الرابع وصدر الخامس، وكان كاتب المنصور بن أبي عامر وزير الأمويين، كما كان شاعره4، وقد ذكره الثعالبي في يتيمته، وقال في حقه: "كان بصقع الأندلس كالمتنبي بصقع الشام، وهو أحد الشعراء الفحول، وكان يجيد ما ينظم". ويقول ابن بسام عنه: "إنه كان لسان الجزيرة شاعرًا وأولًا حين عد معاصريه من شعرائها المشهورة،

_ 1 بنو نعش ونعش: نجوم سبعة. مطافل: جمع مطفل، وهي الظبية ذات الأطفال. وجرة: موضع ببادية نجد، المهمة: الفلاة. الخشف: ولد الظبية. 2 السُّها: كوكب خفي من بنات نعش. العود: جمعُ عائدٍ وهو زائر المريض. 3 في الكواكب نسران: نسر واقع ونسر طائر. القدامى: الريش الطويل في مقدم الجناح، الخوافي: صغار الريش؛ مما ينبت تحت القوادم. 4 انظر ترجمته في: وفيات الأعيان: لابن خلكان 1/ 42. ويتيمة الدهر: للثعالبي 1/ 438. والمجلد الأول من الذخيرة ص43. وبغية الملتمس: للضبي ص147. والصلة: لابن بشكوال ص42. والمغرب: لابن سعيد "طبع دار المعارف" 2/ 60. وقد طبع ديوانه في دمشق بتحقيق محمود علي مكي.

وآخر حاملي لوائها، وبهجة أرضها وسمائها وأسوة كتَّابها وشعرائها، له عُقِد فخرها المحمول وسهم، وبه بدئ ذكرها الجميل وختم، حل اسمه من الأماني محل الأنس، وسار نظمه ونثره في الأقاصي والأداني مسير الشمس، وأحد من تضاءلت الآفاق عن جلالة قدره.."1. وقال أبو حيان عنه: "أبو عمر بن دراج القسطلي سبَّاق حلبة الشعراء العامريين وخاتمة محسني أهل الأندلس أجمعين"2! وذكره ابن شهيد فقال: "الفرق بينه وبين غيره أنه شديد أسر الكلام، ثم زاد بما في أشعاره من الدليل على العلم بالخبر واللغة والنسب، وما تراه من حوكه للكلام، وملكه لأحرار الألفاظ، وسعة صدره، وجيشة بحره، وصحة قدرته على البديع، وطول طَلَقِهِ في الوصف، وبغيته للمعنى وترديده، وتلاعبه به وتكريره، وراحته بما يتعب الناس، وسعة نفسه فيما يُضَيِّقُ الأنفاس"3. وواضح من آراء هؤلاء النقاد جميعًا أن ابن دراج كان شاعرًا ممتازًا حتى ليجعله أبو حيان خاتمة محسني أهل الأندلس أجمعين، وهي مبالغة من بعض الوجوه؛ ولكنها تدل على حقيقة مطوية فيها، وهي أن ابن دراج يعد من الشعراء الأفذاذ الذين ظهروا في الأندلس. ونرى صاحب اليتيمة يقرنه بالمتنبي، ويظهر أنه كان يتأثره في شعره تأثرًا شديدًا لا يقل عن تأثر ابن هانئ، وإن كنا نلاحظ أنه لم يستظهر في شعره شيئًا من العبارات الشيعية والصوفية؛ غير أنه بعد ذلك يستظهر جميع خصائص المتنبي؛ فهو يميل إلى الغريب في شعره من جهة، كما يميل إلى التصنع للثقافات من جهة أخرى. ثم هو بعد ذلك كابن هانئ يعنى باللفظ الطنان وقعقعاته، وقد تعلق -مثل المتنبي- في مطلع مدائحه بشكوى الدهر والسخط على الناس في عصره، وساعده على ذلك أنه كان عصر فتن وثورات على الأمويين واستعداد لظهور ملوك الطوائف. ويظهر أنه عرف بين الثائرين الناشئين بميله للأمويين؛ إذ كان شاعرًا ابن أبي عامر كما قدمنا، فازورَّت

_ 1 الذخيرة: لابن بسام 1/ 43. 2 الذخيرة 1/ 44. 3 الذخيرة 1/ 45.

عنه قلوب الملوك من حوله. يقول أبو حيان: "وكان ابن دراج من طرحت به تلك الفتنة الشنعاء واضطرته إلى النُّجعة؛ فاستقرى ملوكها أجمعين ما بين الجزيرة الخضراء وسرقسطة من الثغر الأعلى، يهز كلًا بمدحه يستعينهم على نكبته، وليس منهم من يصغي له، ولا يحفظ ما أضيع من حقه، وأُرْخِصَ من علقه1، وهو يخبطهم خبط العضاة2 بمقوله، فيصمون عنه، إلى أن مر بعقوة3 منذر بن يحيى أمير سرقسطة فألقى عصا سيره عند من بوّاه، ورحب به وأوسع قراه؛ فلم يزل عنده، وعند ابنه بعده، مادحًا لهما، مثنيًا عليهما، رافعًا من ذكرهما؛ غير باغ بدلًا بجوارهما، إلى أن مضى بسبيله، بعد أن جرت له رحمه الله على إحسانه الباهر، في فتنة البرابر، مع أملاك الجزيرة في طول الاغتراب والنُّجعة أخبار شائعة، فيها لذي اللُّب موعظة بالغة4". وهذا الجانب في حياة ابن دراج جعله يشتعل شكوى من الدهر، وقد وجد من أستاذه المتنبي خير مدد في هذا الصدد؛ فاستعار منه هذا الصوت، وذهب يكبره ما وسعه تكبيره. وربما كان لكثرة الفتن التي عاصرها أثر في اندلاع هذه الشكوى التي تغمر شعره. وهو يخلط بين منهجي التصنيع والتصنع في قصائده، واستمع إليه يخاطب ابنه مبشرًا بما لقى في رحاب منذر بن يحيى: أبنيّ لا تذهب بنفسك حسرةٌ ... عن غول رحلي منجدًا أو مغورا فلئن تركتَ الليلَ فوقي داجيًا ... فلقد لقيت الصبح بعدك أزهرا وحللت أرضًا بدِّلت حصباؤها ... ذهبًا يرفُّ لناظري وجوهرا ولتعلم الأملاك أني بعدها ... ألفيتُ كل الصيدِ في جوفِ الفرا5 ورمى عليَّ رداءه من دونهم ... ملك تخيِّر للعلا فتخيَّرا ضربوا قداحهم علي ففاز بي ... من كان بالقدح المعلَّى أجدرا 6

_ 1 العلق: النفيس. 2 العضاة: جمع عضاهة، وهي الخمط أو كل شجرة كبيرة ذات شوك. 3 العقوة: ما حول الدار والمحلة. 4 الذخيرة 1/ 44. 5 الفرا: حمار الوحش، ومعنى المثل واضح. 6 القدح المعلَّى: أكثر قداح الميسر حظًّا فهو أعلاها.

وواضح من هذه الأبيات القليلة أن صاحبنا يعنى -كما قال ابن شهيد- بالخبر واللغة؛ فهو هنا يتصنع لذكر المثل المعروف"كل الصيد في جوف الفرا" كما يتصنع لفكرة القداح المعروفة عند العرب القدماء، ثم هو بعد ذلك يعنى -كما لاحظ ابن شهيد أيضًا- بالبديع؛ ففي الأبيات الأولى يعنى بالطباق بين النجد والغور والليل والصبح والحصباء والذهب، واستمِر معه في القصيدة فستراه يقول: كلا وقد آنست من هودٍ هدى ... ولقيت يعرُبَ في القيول وحميرا وأصبت في سبأ مورَّث ملكها ... يسبي الملوك ولا يدب لها الضَّرا1 فكأنما تابعت تبَّع رافعًا ... أعلامه ملكًا يدينُ له الورى والحارث الجفني ممنوع الحمى ... بالخيل والآسادِ مبذول القِرَى وحططتُ رحلي بين ناري حاتمٍ ... أيام يَقْرى موسرًا أو معسرًا ولقيت زيد الخيلِ تحت عجاجةٍ ... تكسو غلائلُها الجيادَ الضُّمَّرا وعقدت في يَمَنٍ مواثقَ ذمَّةٍ ... مشدودة الأسباب موثقة العُرى وأتيت بَحْدَل وهو يرفع منبرًا ... الدين والدنيا ويخفض منبرا2 وأظن صوت ابن دراج أتضح لنا الآن تمام الوضوح؛ فهو يعنى -كما قال ابن شهيد- بالنسب إذ يرد ممدوحه منذر بن يحيى إلى اليمن فينسبه إلى ملوكها ومشاهيرها، وهو في أثناء ذلك يصنع للجناس بين هود وهدى وسبأ ويسبي وتابع وتبع، أرأيت إلى ابن دراج؟ إنه كما قال ابن شهيد يصنع للبديع كما يتصنع للغريب والأمثال كهذا المثل المعروف "يدب له الضَّراء". ولا يكتفي بذلك بل نراه يتصنع في آخر هذه الأبيات للرفع والخفض المعروفين في علم النحو، وواضح ما في ذكرهما من تكلف وتصنع. وهذا هو الصوت العام لابن دراج، خلط بين تصنع وتصنيع، أو بعبارة أدق

_ 1 الضرا: الاستخفاء. يريد أنه يهجم على أعدائه جهارًا لقوته وشجاعته. 2 بحدل: هو بحدل بن أنيف الكلبي صهر معاوية وظهيره.

خلط بين مذهب أبي تمام ومذهب المتنبي، وقد قيلت هذه القصيدة نفسها على نسق قصيدة المتنبي في ابن العميد: بادٍ هواك صبرتَ أم لم تصبِرا ... وبكاك إن لم يجرِ دمعَك أو جرى وكان مولعًا بتتبع المتنبي في شعره والإغارة على معانيه، ولاحظ ذلك صاحب الذخيرة في غير موضع من شعره كهذا البيت: أواصل آناء الأصائل بالضحى ... وزادي من جهدي، وراحلتي رجلي فقد أخذه من قول المتنبي: لا ناقتي تقبل الرديف ولا ... بالسَّوطِ يوم الرِّهانِ أجهدُها شراكُها كورُها، ومشفرُها ... زمامُها، والشُّسوعُ مقودها1 وكذلك قوله في وصف فرس: وذو غُرَّةٍ معروفة السبق في المدى ... وقد قرح التحجيل من حلق الشُّكْل2 فقد أخذه من قول المتنبي: وإن تكن محكمات الشُّكْلِ تمنعني ... ظهورَ جريٍ فلي فيهن تَصْهالُ3 ولم يكتف ابن دراج بتقليد المتنبي، إذا كان يشغف بتقليد غيره من المشارقة كالشريف الرضي4 وأبي نواس وقد عارض قصيدته في مدح الخصيب: أجارة بيتينا أبوك غيورُ ... وميسورُ ما يرجى لديك عسيرُ بقصيدة في مدح المنصور بن أبي عامر مطلعها:

_ 1 الذخيرة 1/ 61. الرديف: من يرتدف خلف الراكب. الرهان: السباق. الشراك: سير النعل، والشسع: ما يكون في الأصابع منه. وواضح أن المتنبي يريد بناقته نعله وقد جعل شراكها بمنزلة الكور والرحل للناقة. وجعل مشفرها وهو مقدم الشراك بمنزلة الزمام والشسوع بمنزلة المقود. 2 التحجيل: بياض في قوائم الفرس. الشكل: جمع شكال وهو القيد الذي تشد به قوائم الفرس. 3 الذخيرة 1/ 63. 4 الذخيرة: 1/ 72.

ألم تعلمي أن الثَّواءَ هو التَّوَى ... وأن بيوت العاجزين قبورُ1 ومنها في وصف ودَاعِهِ لزوجِهِ وولدها الصغير: ولَمَّا تدانَتْ للوداعِ وَقَدْ هَفا ... بصَبْرِيَ منها أَنَّةٌ وزَفيرُ تناشدني عهدَ المودةِ والهوى ... وفي المهد مَبْغومُ النداء صغيرُ عيي بمرجوع الخطابِ ولفظِهِ ... بموقع أهواء النفوسِ خبيرُ تبوَّأ ممنوع القلوبِ ومُهِّدت ... له أذرعٌ محفوفة ونحُورُ فكل مفدَّاة الترائبِ مرضِعٌ ... وكل محيَّاةِ المحاسنِ ظيرُ2 عصيتُ شفيعَ النفس فيه وقادني ... رواحٌ بتدآبِ السُّرى وبكورُ وطار جناحُ البَينِ بي وهفتْ بها ... جوانحُ من ذُعرِ الفراقِ تطيرُ وهذه القطعة تفيض بالعواطف والشعور الحي، وهي دليل على جودة شاعرية ابن دراج وأنه لو ترك نفسه على سجيتها دون عناية بتقليد المذاهب المشرقية من صنعة وتصنيع وتصنع لاستطاع أن يترك لنا شعرًا مليئًا بالحيوية والقوة والوجدان الفياض؛ غير أنه كان يريد أن يثبت تفوقه ومهارته، وهو لذلك يحاول أن يصنع شعره على صورة شعر المتنبي أو أبي تمام أو غيرهما من شعراء المشرق، ونفس هذه القصيدة التي أتى فيها بهذه القطعة الممتازة نراه يختمها بهذين البيتين: أثرني لخطبِ الدَّهرِ، والدَّهرُ معضلٌ ... وكلني لليثِ الغابِ وهو هصُورُ وقد تخفضُ الأسْمَاءُ وهي سواكنٌ ... ويعملُ في الفعلِ الصحيحِ ضميرُ ومعنى ذلك أنه كان يلتزم التصنع في شعره حتى في هذه القصائد التي يحاول أن يعبر فيها تعبيرًا حرًّا عن عواطفه، بل نحن نبالغ فليس عنده من حرية في التعبير، أليست هذه القصيدة التي نعجب فيه بوداعه لزوجه وولده قد نظمها في حيز قصيدة أبي نواس إذ استعار منه الوزن والقافية، كما استعار منه كثيرًا من خواطره وأفكاره. واقرأ له هذه القطعة من قصيدة أخرى في منذر بن يحيى: علا فحوى ميراثَ عادٍ وتبَّعٍ ... بهمَّتهِ العليا ونسبته الدُّنيا

_ 1 التوى: الهلاك. 2 الظئر: المرضعة لولد غيرها.

فأعرب عن إقدام يعربَ واحْتَبَى ... فلم ينسَ من هودٍ سنَاءَ ولا هَدْيا ومن حميرٍ ردَّ القنا أحمر الذُّرى ... ومن سبأ قادت كتائبُهُ السَّبيا وما نام عن عرقُ قحطان إذ فَدى ... عروق الثَّرى من غُلَّة القحطِ بالسُّقيا ولا اسكَنَتْ عنه السَّكونُ زيادةً ... ولا رضيت طي لراحته طَيَّا ولا كَنَدَتْ أسيافُهُ ملك كندةٍ ... فتترك في أركان عزَّتِهِ وهيا وكائن له في الأوسِ من حق أسوةٍ ... بنصب الهدى جهرًا وبذل الندى خفيا فقد ملأ هذه القطعة بالجناس إذ جانس بين يعرب وأعرب وينس وسناء وهود وهدى وحمير وأحمر وسبأ والسبي وقحطان والقحط وأسكنت والسكون وطي وطيا وكندت -أي جحدت- وكندة والأوس وأسوة، أرأيت إلى كل هذه الجناسات المتكلفة؛ ألا تحس أن لون الجناس عند صاحبنا قد أصبح شيئًا ثقيلًا على الأذن واللسان؟ غير أنه بدع جديد كان يراه الشاعر الأندلسي في شعر المشارقة فيتعلق به كما يتعلق بالطباق على نحو ما نرى في هذه القطعة نفسها، وكما يتعلق بألوان التصنع الأخرى من ذكر الأنساب أو الألفاظ الغريبة أو الأمثال أو النحو. وكان ابن دراج لا يكتفي بذلك؛ إذ نراه في شعره يعنى بالاقتباس من القرآن الكريم والحديث الشريف كقوله في الوزير أبي الأصبغ عيسى بن سعيد القطاع: أَبا الأصبَغ الْمعْنيَّ هل أَنت مُصْرِخِي ... وهلْ أَنتَ لي مُغْنٍ وهل أَنتَ لي مُعْلِي وقوله في على بن حمود: تجزَّأ من جنتي مأرب ... بخمطٍ وأثلٍ وسدرٍِ قليلِ وقوله في خيران العامري صاحب المريَّة: فتىً سيفه للدين أمن وإيمانُ ... ويمناهُ للآمالِ روحٌ وريحانُ فَفُضَّت سيوفٌ حاربته وأيمنٌ ... وشاهت وجوهٌ فاخرتْهُ وتِيجَانُ وأكبر الظن أن منهج ابن دراج اتضح لنا الآن وتكشف عن جميع صفاته وخصائصه وهو ليس منهجًا جديدًا، فالأندلس لا تستطيع أن تمد الأدب العربي

بمنهج جديد لا من حيث الموضوعات ولا من حيث المعاني ولا من حيث الأخيلة والأساليب، إنما كل ما هنالك أنها تستطيع أن تفخر بشعراء يعيشون في إطار الشعر العباسي العام، وهم يعيشون في هذا الإطار معيشة مضطربة؛ إذ نرى الشاعر الواحد يخلط بين مذاهب الفن العباسي خلطًا شديدًا، فهو تارة صانع يفيض بالشعور ولا يجعل للزخرف سبيلًا إليه كما رأينا عند ابن دراج في وداعه لزوجه وطفله، وتارة نراه متصنعًا يعنى بالتصنع للثقافات، كما يعنى بالغريب والأنساب والأمثال والاقتباس من القرآن الكريم على نحو ما رأينا عند ابن دراج أيضًا، ثم هو أخيرًا مصنع، يشفع شعره بألوان التصنيع والزخرف العباسي من جناس وطباق وتصوير، على نحو ما مر بنا عند ابن دراج. وهكذا نرى الشاعر الأندلسي يجمع في شعره بين جميع المذاهب العباسية، وهذا هو معنى ما نقول من أن الشعراء الأندلسيين يخلطون خلطًا شديدًا بين المذاهب الفنية للشعر العربي؛ إذ يستعيرون منها جميعًا بدون تفريق ولا اختلاف في التطبيق. على أنه ينبغي أن نتريث قليلًا في هذا الحكم العام على الأندلس وشعرائها حتى نرى شعرهم وما أصابه من نهضة في عصر ملوك الطوائف.

نهضة الشعر الأندلسي

4- نَهْضَةُ الشِّعْرِ الأندَلُسي: لا نكاد نمضي في صدر القرن الخامس الهجري حتى نرى الدولة الأموية التي أقام صرحها عبد الرحمن الداخل وأبناؤه تتحكم ويحل مكانها نظام جديد، يقوم على أن تحكم كل مدينة كبيرة في الأندلس نفسها بنفسها، ويعرف هذا النظام باسم نظام ملوك الطوائف؛ إذ أصبح في كل مدينة فرد أو أسرة تحكمها حكمًا منظمًا، وقد اشتد التنافس بين هذه المدن، واستطاعت الأندلس عن طريق هذا التنافس أن تظفر بأكبر حظ من النشاط العلمي والأدبي؛ إذ كان كل أمير، أو ملك -كما كانوا يسمونه- يريد أن يبذَّ من حوله في القوة والسلطان والثروة المادية والعقلية والفنية. وإن الإنسان ليحس تشابها -من بعض الوجوه- بين نظام

الأندلس في هذا العصر وبين نظام اليونان في العصور القديمة؛ إذ كانت تنافس أثينا إسبرطةَ وغيرها من المدن اليونانية، وكما أن هذا النظام اليوناني القديم يعد أزهى عصور اليونان بما تركوا فيه من آثار فنية وفلسفية وأدبية، كذلك يعد عصر ملوك الطوائف من أزهى عصور الأندلس من الوجهة الحضارية. واستمرت هذه الحركة الدافعة في العصرين التاليين: عصر المرابطين والموحدين إذ استطاعت الأندلس أن تظفر بطائفة من الفلاسفة كابن باجة وابن رشد، كما استطاعت أن تظفر بطائفة كبيرة من العلماء في الأبحاث الدينية والأبحاث النحوية. وهي أيضًا حققت لنفسها رقيًّا واسعًا في الأدب بقسميه من شعر ونثر. وبذلك نهض الشعر الأندلسي نهضة واسعة في هذه العصور وهي نهضة ظلت في حدود الصورة العامة لشعرنا العربي، فلم يَثرُ الشعراء هناك على خطوط هذه الصورة وظلالها وأضوائها، بل ظلوا يعيدون رسمها، لا يكلُّون ولا يملُّون، وفي أثناء ذلك يقعون على تشبيهات واستعارات طريفة، وقد يمتد ذلك إلى مقطوعات بديعة في الغزل وغير الغزل كقول يحيى بن بقي1: عاطيته والليل يسحب ذيلَهُ ... صهباء كالمسكِ الفتيقِ لناشقِ وضممته ضمَّ الكمي لسيفِهِ ... وذؤابتاه حمائلٌ في عاتقي حتى إذا مالت به سِنَةُ الكرى ... زَحْزَحْتُه شيئًا وكان مُعَانقي باعدتُه عن أضلعٍ تشتاقُهُ ... كي لا ينامُ على وسادٍ خافق وقول ابن شطرِيَّة2: ستر الصبح بطُرَّةْ ... وجلا الليلُ بغرةْ وأرى من وجهه في ... قدِّهِ غصنًا وزهرةْ جاءني كالظَّبي في أشـ ... راكِهِ إذا حلَّ شعرَهْ ومضى عني ولكنْ ... بعد ما خلَّف نشْرَهْ فتراني في افتضاحٍ ... كلما أخفيتُ سرَّهْ

_ 1 معجم الأدباء "طبعة القاهرة" 20/ 21. والمغرب لابن سعيد "طبع دار المعارف" 2/ 21. 2 المغرب 1/ 140.

وقول أبي حفص عمر بن عمر1: هم نظروا لواحظها فهاموا ... وتشرب عقلَ شاربِها المدامُ يخاف الناسُ مقلتَهَا سواها ... أيذعرُ قلبَ حاملِه الحسامُ سما طَرْفي إليها وهو باكٍ ... وتحت الشمسِ ينسكبُ الغمامُ وأذكر قدَّها فأنوحُ وجدًا ... على الأغصانِ ينتدبُ الحمامُ وأعقب بينُها في الصَّدرِ غمًّا ... إذا غربت ذُكاءُ أتى الظلامُ والقطع جميعًا تستمد من جذاذات الشعر المشرقي في المعاني والصور؛ ولكنها تعيدها في معارض جديدة، فيها طرافة الخيال وبراعة التصوير. وكانوا كثيرًا ما يلمون بوصف وداع المعشوقة في الصباح، ولكن لا تظن أنهم يسبقون المشارقة في ذلك، فإننا نجد هذا الوصف عند عمر بن أبي ربيعة في قصيدته المشهورة "أمن آل نُعمٍ أنت غادٍ فمبكِرُ" ونقله عنه العباسيون من أمثال أبي فراس، وشاع عنهم في الأندلس بين الشعراء والوشاحين والزجالين. وربما كان أهم موضوع برع فيه الأندلسيون هو وصف الطبيعة، وقد أعانهم فيه جمال المناظر في إقليمهم، ولهم فيه روائع كثيرة، وهي روائع كانت تستمد من كنوز الشعر العباسي، مضيفة إليها أخيلة دقيقة كثيرة، على شاكلة قول الرُّصافي يصف نهرًا وما على جانبيه من أشجار تتراءى على صفحته ظلالها2: ومُهَدَّلِ الشطَّين تحسب أنه ... متسايلٌ من دُرَّةٍ لصفائِهِ فاءت عليه مع الهجيرةِ سَرْحَةٌ ... صدئت لفيئتها صفيحةُ مائِهِ3 وتراه أزرق في غلالة سندسٍ ... كالدَّارعِ استلقى لظلِّ لوائِهِ وقد يمزجون وصف الطبيعية بالخمر ووصف الصباح أو وصف المساء، فنقع عندهم على صور طريفة كهذه الصورة للرصافي أيضًا؛ إذ يقول: وعشيٍّ رائقٍ منظرُهُ ... قد قطعناه على صِرْفِ الشَّمولِ4

_ 1 انظر الأبيات في كتاب "رايات الْمُبَرَّزين" لابن سعيد. 2 راجع الأبيات في رايات المبرزين. 3 السرحة: الشجرة، فاءت: نشرت فيئها أي ظلها. 4 الشمول: الخمر، وصِرْفُها: خالصها.

وكأن الشمسَ في أثنائِهِ ... ألصقت بالأرضِ خدًّا للنزولْ والصبا ترفع أذيال الرُّبى ... ومحيَّا الجوِّ كالنهر الصقيلِ حبَّذا منزلُنا مغتبقًا ... حيث لا يطربُنا إلا الهديلْ1 طائرٌ شادٍ وغصنٌ منثنٍ ... والدُّجى يشربُ صهباءَ الأصيلْ ودائمًا تلقانا مثل هذه الصور الطريفة في أشعارهم، لا في وصف الطبيعة والغزل فحسب، بل أيضًا في مدائحهم ومراثيهم، كقول ابن عمَّار يمدح المعتضد ملك إشبيلية2: أنْدَى على الأكبادِ من قطرِ النَّدى ... وألذُّ في الأجفانِ من سِنَةِ الكَرى ومثل قول أبي عامر بن الحمارة يرثي زوجه3: ولما أن حللت التُّربَ قلنا ... لقد ضلَّت مواقعَها النُّجومُ ألا يا زهرةً ذبلتْ سريعًا ... أضنَّ المزنُ أم ركدَ النَّسيمُ واشتهروا بمراثيهم للدول الزائلة، ومراثي ابن اللبَّانة في بني عباد مشهورة، وكذلك مراثي ابن عبدون في بني الأفطس أصحاب بطليموس، ومن بديع قوله فيها هذا المطلع الرائع لإحداها4: ما لليالي أقال اللهُ عثرتَنَا ... من الليالي وخانَتْها يدُ الغيرِ تسُرُّ بالشيء لكن كي تَغُرُّ به ... كالأيمِ ثار إلى الجاني من الزَّهَرِ5 ولم تسقط مدينة في يد مسيحيي الشمال إلا بكوها وتفجعوا عليها تفجعًا حارًّا، وهو تفجع كانوا يضمنونه استصراخًا للمسلمين في مغارب الأرض ومشارقها لعلهم يستنقذون تلك المدن من براثن الإسبان، ويعيدونها إلى حظيرة الإسلام، قبل أن تدكَّ هناك كل صروحه وتسقط كل راياته وأعلامه. ومن غير شك نهض الشعر العربي في هذا الفردوس المفقود نهضة رائعة. على أنه ينبغي أن لا نبالغ في تصور هذه النهضة؛ إذ كان الأندلسيون يولون

_ 1 المغتبق: مكان الاغتباق وهو شرب المساء. الهديل: صوت الحمام وفرخه. 2 المغرب 1/ 391. 3 المغرب 2/ 120. 4 المغرب 1/ 376. 5 الأيم: الثعبان.

وجوههم دائمًا نحو المشرق يقلدون شعراءه في مذاهبهم ونماذجهم، ولعله من أجل ذلك شاعت عندهم فكرة معارضة قصائد المشارقة، فابن برد الأصغر ينظم قصيدته: بخداعٍ علَّلُوه ... وبهجرٍ وصَلُوهُ على نمط قصيدة لشاعر من شعراء بغداد في وزنها ورويها1، وابن زيدون ينظم قصيدته المشهورة: بنتُم وبنَّا فما ابتلَّت جوانِحُنا ... شوقًا إليكم ولا جفت مآقينا على نمط قصيدة البحتري: يكاد عاذلنا في الحب يغرينا ... فما لجاجُك في عذلِ المحبينا وابن خفاجة ينظم قصيدته: كفاني شكوى أن أرى المجدَ شاكيا ... وحسب الرزايا أن تراني باكيا على نمط قصيدة المتنبي: كفي بك داءً أن ترى الموتَ شافيا ... وحسبُ المنايا أن يكنَّ أمَانيا وهو كذلك ينظم قصيدته: قل لِمَسْرَى الرِّيحِ من إضمِ ... وليالينا بذي سلَمِ على نمط قصيدة أبي نواس، إن صح أنها له: يا شقيقَ النَّفْسِ من حكمِ ... نمت عن ليلى ولم أَنَمِ وعلى هذه الشاكلة يصوغ الشعراء قصائدهم على صورة القصائد العباسية، وهي صورة لا تقف عند المشابهة في الوزن والروي، بل تمتد إلى المشابهة في المعاني والأساليب، وكأنما القصيدة في رأيهم ليست إلا تلفيقًا للمواد الفنية التي تركها العباسيون، فهم يبدِئُون ويعيدون في المعاني والصور الموروثة دون أن يضيفوا.

_ 1 الذخيرة 2/ 43.

إليها جديدًا إلا قليلًا. إنما هي مواد وعناصر تتراكم وتتجمع فتحدث قصيدة ولكنها لا تحدث عملًا فنيًّا قيمًا إلا في الندرة، أما الكثرة فإنها تصنع تحت تأثير المواد العتيقة، ولقد كان حريًا بالشعراء أن ينحوا عن شعرهم كل ما هو عتيق؛ غير أن التفكير الفني عند العرب كان قد فَقَدَ كل مقدرته على الابتكار والتجديد ولذلك لم يستطع الأندلسيون أن يتجهوا بشعرهم إلى وجهات جديدة، سوى ما سنراه بعد قليل عندهم من الموشحات والأزجال، أما بعد ذلك فالشعر الأندلسي باقٍ على قديمه العربي، سوى ما كان من تجديداته في أوزان موشحاتهم وأزجالهم، وهي تجديدات اضطرهم إليها الغناء اضطرارًا، أما بعد ذلك فأساليبهم وصورهم هي نفس الأساليب والصور المشرقية. ونحن نبحث عبثًا إذا حاولنا أن نجد عند الأندلسيين رغبة في تغيير صياغة الشعر تغييرًا تامًّا بحيث تدفع بالشعراء إلى إحداث مذهب جديد، إنما هم يعيشون في الإطار الفني العباسي العام وما فيه من مذاهب الصنعة والتصنيع والتصنع يخلطون بين هذه المذاهب في غير نظام ولا نسق معين على نحو ما رأينا سابقًا عند ابن هانئ وابن دراج، ونحن نقف عند نفر من شعراء هذا العصر لنرى حقيقة هذا الرأي ومدى صحته. ابنُ بُرْدٍ الأَصْغَر: هو أبو حفص أحمد الأصغر حفيد ابن برد الأكبر الذي كان وزيرًا في الأيام العامرية وكان كاتبًا بليغًا أيضًا1. حدَّث الحميدي أنه رآه في المرية بعد الأربعين وأربعمائة غير مرة2، وأشاد به صاحب الذخيرة؛ إذ يقول: "كان أبو حفص بن برد الأصغر في وقته فلكَ البلاغة الدائر ومثلها السائر، نفث فيها بسحره، وأقام من أودها بناصع نظمه وبارع نثره، وله إليها طروق، وفي عروقها الصالحة عروق"3. ومن يرجع إلى القطعة التي رواها له صاحب

_ 1 انظر ترجمته في: المغرب 1/ 86. وبغية الملتمس: للضبي ص153. والمطمح: للفتح ص24. والذخيرة 2/ 18. ومعجم الأدباء: لياقوت 2/ 106. 2 معجم الأدباء 2/ 106. 3 الذخيرة 2/ 18.

الذخيرة من شعره1، وهي قطعة كبيرة يراه يحتذي دائمًا على مثال العباسيين بل إنه ليبلغ من ذلك مبلغًا لا يكاد يدور بخلد الإنسان؛ فقلما يوجد له معنى إلا وهو مسبوق به، قد طرقه الشعراء من قبله، ولاحظ ذلك عليه صاحب الذخيرة في غير موضع من روايته لشعره، فمن ذلك قوله في النسيب: لما بدا في لا زَوَرْ ... ديِّ الحرير وقد بَهَر كبَّرتُ من فَرْطِ الجَمَالِ ... وقلت ما هذا بَشَرْ فأجابني لا تنكرن ... ثوبَ السَّمَاءِ على القمَرْ وهو من قول ابن الرومي: يا ثوبهُ الأزرقُ الذي قد ... فاقَ العِراقيَّ في السناءِ كأنه فيه بدرٌ تِمٍّ ... يشق في زُرْقةِ السماءِ وقول ابن المعتز أيضًا: وبنفسجي الثوبِ قَتْـ ... ـل محبِّه من دابِهِ الآن صرتَ البدر حـ ... ينَ لبستَ ثوبَ سحابه ونستمر في قراءة ابن برد، فإذا هو يقول: بأبي أنت وأمي ... لم تطبَّعتَ بظلمي أبدًا تأتي بعتبٍ ... دون أن آتي بجُرْمِ بيننا في الحب قُربى ... سقمُ عينيك وجسمي وهو من قول ابن الرومي: يا عليلًا جعل العِلَّة ... مفتاحًا لسُقْمي ليس في الأرض عليلٌ ... غير جفنيكَ وجسمي وهو كما يتأثر ابن الرومي نراه يتأثر ابن المعتز؛ بل ربما كان تأثره بابن المعتز أكثر وأوضح، فقد تعلق مثله بالأوصاف والتشبيهات فمن ذلك قوله:

_ 1 انظر الذخيرة، الجزء الثاني، من ص37 إلى ص50.

عارضٌ أقبل في جنح الدُّجى ... يتهادى كتهادي ذي الوَجَى1 أتلفتْ ريحُ الصَّبا لؤلؤه ... فانحنى يوقد عنه السُّرُجا وقوله: وكأن الليلَ حين لوى ... هاربًا والصُّبحُ قد لاحا كلة سوداء حرَّقها ... عامدٌ أسرج مصباحا فإن ذلك كله من قول ابن المعتز الذي مر في غير هذا الموضع: والصبحُ يتلو المشتري فكأنه ... عُريانُ يمشي في الدُّجى بسراجِ ويقول ابن برد في وصف كلف البدر: والبدرُ كالمرآةِ غَيَّرَ صَقْلَها ... عبثُ العذاري فيه بالأنفاسِ والليلُ ملتبسٌ بضوءِ صباحِهِ ... مثل التباسِ النِّقسِ بالقرطاسِ2 وهو واضح الصلة يقول ابن المعتز في وصف فرند السيف: جرى فوق متنَيهِ الفِرِندُ كأنما ... تنفسَ فيه القينُ وهو صقيلُ وعلى هذا النمط نرى ابن برد يمضي في تأليف شعره، وكأنه نسخة طبق الأصل من شعر أصحاب المشرق، وخاصة ابن المعتز وابن الرومي. والحق أنه ينبغي أن لا نتعلق بالفكرة الشائعة من أن الأندلس كان لها شخصية واضحة في تاريخ الشعر العربي، فإن هذه الشخصية تنحصر في كثرة الإنتاج وخاصة في شعر الطبيعة، أما بعد ذلك فالأندلس تستعير من المشرق موضوعات شعرها ومعانيه وصوره وأساليبه وكل ما يتصل به استعارة تكاد تكون طبق الأصل، على نحو ما نرى الآن عند ابن بُرْد؛ فقد استقر في أذهان الشعراء أن خير عصور الشعر وأزهاها هو العصر العباسي وما ينطوي فيه من شعراء عظام أمثال أبي نواس وأبي تمام والبحتري وابن الرومي وابن المعتز والمتنبي، فذهبوا يقرءون هؤلاء الشعراء وأمثالهم، ثم أخذوا يحاكونهم دون

_ 1 العارض: السحاب الممطر. الوجى: الحفا أو أشد منه. 2 النفس: المداد.

أن يفهموا مذاهبهم فهمًا واضحًا أو يعرفوا ما بين هذه المذاهب من مفارق واسعة، وكأني بالأندلسيين انتهوا إلى التقليد وارتضوه لأنفسهم فعاشوا في الشعر العربي هذه المعيشة التقليدية التي نرى آثارها الآن عند ابن برد وغيره من الشعراء. ابْنُ زَيْدُونٍ: لعله يحسن بنا أن نقف عند ابن زيدون1 لننظر في حقيقة هذا الحكم العام الذي نحكم به على شعراء الأندلس، وكان حامل لواء الشعر في عصره، وهو من أسرة اشتهرت بالفقه، ونعمت بالثراء. ولد بقرطبة سنة 394 للهجرة واهتم به أبوه منذ نعومة أظفاره فأحضر له الأدباء المعلمين والفقهاء والمثقفين، ولم تلبث ملكته الشعرية أن تفجرت على لسانه ينبوعًا عذبًا، فعلا شأنه ولمع نجمه. وليس بين أيدينا أخبار واضحة من موقعه في حوادث سقوط الدولة الأموية، وإن كنا نظن أنه لم يقف مكتوف اليدين إزاءها، بل لعله كان أحد من أعانوا في قيام دولة بني جهور واعتلاء أبي الحزم عرش قرطبة سنة 426. ونراه غارقًا في حب ولادة بنت الخليفة المستكفي، وكان ابن عبدوس ينافسه في هذا الحب، ويظهر أنه كان أحد من وشى به إلى أبي الحزم؛ إذ نسبت إليه مؤامرة ضده للعودة بزمام الأمور إلى بني أمية، فأودع السجن سنوات طوالًا، وهو يضرع إلى أبي الحزم بشعره ورسالته الجدية، واستشفع بابنه أبي الوليد؛ ولكنه لم يعف عنه فهرب من السجن ليلة عيد. وأخيرًا عفى عنه أبو الحزم، وقربه أبو الوليد منه، حتى إذا توفي أبوه وولِّي مكانه عيَّنه للنظر على أهل الذمة، ثم رفعه إلى مرتبة الوزارة، وسفر بينه وبين كثير من ملوك الإمارات الأندلسية. وفسدت الأمور بينه وبين أبي الوليد كما فسدت بينه قبلًا وبين أبيه، فولَّى وجهه نحو إشبيلية واستقبله ملكها المعتضد استقبالًا حافلًا، واتخذه وزيرًا له، كما اتخذه من بعده ابنه المعتمد وزيره ومستشاره واستطاع بفضل جهوده أن يغزو قرطبة

_ 1 انظر كتابنا "ابن زيدون" طبع دار المعارف؛ حيث فصلنا الحديث عن حياته وشعره. وراجع الذخيرة 1/289. والقلائد: للفتح بن خاقان ص70. والمغرب في حلى المغرب 1/63. والمعجب: للمراكشي "طبعة دوزي" ص74. والحلة السيراء: لابن الأبار ص45.

ويستولى عليها. وحدث أن أرسل به المعتمد إلى إشبيلية في بعض المهام، فدعاه القدر هناك إلى جوار ربه سنة 463. وخصومة ابن زيدون لابن عبدوس -كما قدمنا- لم تكن ترجع إلى أسباب سياسية إنما كانت ترجع إلى حبه لولَّادة بنت الخليفة المستكفي فقد كان يحبها كذلك ابن عبدوس، وجعله هذا الحب يصطدم بابن زيدون، فكاد له حتى سجنه. وحياة ابن زيدون من الوجهة الأدبية حياة طريفة؛ فقد تعلق بولادة وأصبح مغرمًا بها صبًّا، وكان لها منتدى لطيف تجلس فيه للرجال والشعراء، ويظهر أنها كانت ماجنة خليعة. يقول صاحب الذخيرة: "إنها أوجدت إلى القول فيها السبيل بقلة مبالاتها ومجاهرتها بلذاتها. كتبت -زعموا- على أحد عاتقي ثوبها: أنا والله أصلحُ للمعالي ... وأمشي مشيتي وأتيه تيهَا وكتبت على الآخر: وأمكن عاشقي من صَحْنِ خدي ... وأعطي قبلتي من يشتهيها1 وهناك نص طويل يرويه صاحب الذخيرة عن ابن زيدون يصف فيه إحدى وقائعه الغرامية معها ذات ليلة2، ومن يرجع إلى مجموع ما روي عن حياة ولادة في الذخيرة ونفح الطيب، ثم يرجع مع ذلك إلى ما روي في نفح الطيب عن غيرها من حرائر الأندلس3 يحس أن المرأة الأندلسية الحرة لعبت في الأدب الأندلسي دورًا يشبه من بعض الوجوه دور المرأة في الأدب الفرنسي في أثناء القرنين السابع عشر والثامن عشر، وليس من شك في أن هذه الناحية تعطي ديوان ابن زيدون أهمية في تاريخ الشعر الأندلسي. على أنه ينبغي أن نعرف أن حبه لولادة أصطدم بأشياء؛ إذ نراها تؤثر ابن عبدوس عليه، ثم يفرق بينهما السجن ولا يستطيع أن يجد سبيلًا إلى لقائها، ثم يكون الحرمان منها بخروجه عن قرطبة إلى أشبيلية، ولوَّن ذلك شعره بألوان من الصبابة بها واللوعة فرأيناه يصف أيامه معها، كما يصف المعاهد التي كانا يتفرجان

_ 1 الذخيرة 1/ 376. 2 الذخيرة 1/ 377. 3 انظر الجزء الثاني من نفح الطيب "طبع بولاق" من ص1076 إلى 1173.

عليها أو يتنزهان فيها، ومعنى ذلك أن شعره يفيض بالعواطف ويكتظ بالشعور، ولعله من أجل ذلك كان يسميه النقاد باسم: بحتري الأندلس، فذوقه أقرب إلى ذوق البحتري؛ إذ يطلب في شعره أن يعبر عن خواطره في حرية دون تقييد بضروب التصنيع أو التصنع؛ غير أنه ينبغي أن نقيد هذا الكلام؛ لأن من يتتبع ابن زيدون في ديوانه يجده كبقية الشعراء الأندلسيين يخلط بين مذاهب العباسيين من صنعة وتصنيع وتصنع في غير طريقة مرسومة ولا خطة موضوعة. ومرَّ بنا أن أهم قصائده وهي"بنتم وبنَّا" قد صنعها على نمط قصيدة للبحتري، وهو في قصائده الأخرى لا يزال يعيش هذه المعيشة التقليدية، واقرأ له هذه القطعة المشهورة: ما على ظَنِّيَ باسُ ... يَجْرحُ الدهرُ وياسُو ربما أشرفَ بالمرءِ ... على الآمالِ ياسُ ولقد ينجيك إغفا ... ل ويرديك احتراسُ والمحاذيرُ سهامٌ ... والمقاديرُ قياسُ1 يا أبا حفصٍ وما سا ... واك في فهمِ إياسُ2 من سنا رأيك لي في ... ظلمِ الخطبِ اقتباسُ3 وودادي لك نصٌّ ... لم يخالفه القياسُ فإنك تراه يصنع إذ يطابق بين يجرح ويأسو، كما يجانس بين يأسو في البيت الأول ويأس في البيت الثاني، وهو كذلك يتصنع لذكر النص والقياس والاقتباس. فحتى النموذج الواحد فيه خلط بين المذاهب؛ فالشاعر تارة يصنع وتارة يتصنع، ومع ذلك فهذه القطعة قريبة من ذوق الصانعين بما اشتملت عليه من حسن جرس وإيقاع! وإذا تركنا هذا المظهر العام في شعره من الخلط بين المذاهب الفنية العباسية إلى تتبع معانيه وأخيلته وأساليبه وجدنا صورتها العامة هي الصورة العباسية وقد

_ 1 قياس هنا: جمع قوس. 2 هو إياس بن معاوية، من قضاة العراق في العصر الأموي، وكان يشتهر بالذكاء وحدة الفهم. 3 سنا: ضوء.

عُنِي صاحب الذخيرة ببيان هذا الجانب في شعره، فرأيناه يرجع عشرات من أبياته وأشعاره إلى دواوين العباسيين وخاصة البحتري وأبا تمام والمتنبي والمعري، فمن ذلك قوله في وصف سواد ليلة: يا ليتَ ذاك السوادَ الجونَ متَّصِلٌ ... قد استعار سوادَ القلبِ والبصرِ1 فقد استعاره من قول أبي العلاء: يود أن ظلامَ الليلِ دامَ لهُ ... وزيد فيه سوادُ القلبِ والبصرِ2 ويقول ابن زيدون في بني جَهْوَر: بني جهورٍ أحرقتم بجفائِكُم ... جناني، فما بالُ المدائحِ تَعْبقُ3 تعدونني كالعنبرِ الوردِ إنما ... تطيبُ لكم أنفاسُهُ حين يُحْرَقُ4 وهو بَيِّن الصلة بقول أبي تمام: لولا اشتعالُ النارِ فيما جاورتْ ... ما كان يعرفُ طيبُ عَرْفِ العودِ وكذلك قوله: هرمتُ وما للشيبِ وَخْطٌ بمفرقي ... ولكن لشيب الهمِّ في كبدي وَخْطُ5 واضح الصلة بقول المتنبي: إلا يشبْ فلقد شابتْ له كبدٌ ... شيبًا إذا خضبته سلوةٌ نصلا6 وكذلك قوله في المديح: وصلنا فقبَّلنا النَّدى منك في يدٍ ... بها يُتْلَفُ المالُ الجسيمُ ويخلفُ مأخوذ من قول البحتري: دنوتُ فقبَّلتُ النَّدى من يد امرئ ... كريمٍ محيَّاهُ سباطٍ أنامِلُه7 يقول صاحب الذخيرة: "وبيت ابن زيدون لفظ بيت البحتري ومعناه،

_ 1 الجون: الحالك. 2 الذخيرة 1/ 299. 3 تعبق: تفوح. 4 الورد: الأحمر، ولعله يقصد الزعفران لحمرته. 5 وَخط الشيب: انتشاره. 6 نصل الشعر: زال عنه الخضاب. 7 سباط: جمع سبط ضد الجعد، وسباط أنامله: كناية عن الكرم.

ويقول بعض أدبائنا: إن ابن زيدون بحتري زماننا وصدقوا"1. وهو حقًّا يشبه البحتري في صوته؛ ولكنه -كما نرى الآن- كان يتتبع غيره من الشعراء ويحتذي على أمثلتهم في أفكاره ومعانيه كقوله في المديح: ومحاسنٌ تندى رقائقُ ذكرِِها ... فتكادُ توهمُكَ المديحَ نَسِيبا فإنه من قول أبي تمام: طابَ فيه المديحُ والتذَّ حتى ... فاق وصفَ الدِّيارِ والتَّشْبيبا وكذلك قوله: إن السيوفَ إذا طالَ جوهرُها ... في أول الطبعِ لم يعْلَقْ بها الطَّبعُ2 من قول أبي تمام: والسيفُ ما لم يلفَ فيه صيقلٌ ... من سِنْخِهِ لم ينتفع بصِقالِ3 والحق أن الإنسان لا يتابع ابن زيدون في شعره، حتى يحس بأن هذا الشعر يوشك أن يسقط من ديوانه؛ فيرتد إلى أمكنته من شعر العباسيين، ولعل هذا ما جعل صاحب الذخيرة يقول: "وأبو الوليد ابن زيدون على كثير إحسانه كثير الاهتدام في النِّثار والنظام"4. وهو حقًّا كثير الاهتدام لأشعار العباسيين يغير عليها فيسلبها من دواوينها ويسلكها في شعره على هذا النحو الذي رأيناه. وما أشك في أن صوت ابن زيدون اتَّضح لنا الآن فهو -بالرغم مما يبدو عليه من صفاء وعذوبة- صوت مصنوع؛ إذ هو صدى لصوت العباسيين، وهو صدى لا يطَّرد على نسق واحد؛ لأن الشاعر لا يختار له نسقًا معينًا يعيش فيه، بل هو يعيش في كل نسق يقرؤه: فتارة يعيش في جو البحتري وأخرى في جو أبي تمام أو المتنبي أو أبي العلاء من غير تفريق بين هؤلاء الشعراء ومعرفة أن كلا منهم يمثل مذهبًا خاصًّا له، وهذا هو معنى ما نقوله من أن الشاعر الأندلسي ما يزال في شعره يخلط بين جميع المناهج والمذاهب العباسية.

_ 1 الذخيرة 1/ 326. 2 الطبع: الصدأ. 3 السنخ: الأصل والجنس. 4 الذخيرة 1/ 305.

ابْنُ خَفَاجَة: هو أبو إسحاق إبراهيم1 بن أبي الفتح بن عبد الله بن خفاجة، عربي الأصل، ولد سنة 450 للهجرة بجزيرة شُقْر من أعمال بلنسية، وهي جزيرة يحيط بها نهر هناك، فيجعلها جنة من جنان الأندلس، وقد نشأ في بيت علم وأدب، وأقبل على الدرس، وسرعان ما تفتحت مواهبه الشعرية ولمع اسمه واشتهر واتجه بشعره إلى تصوير الطبيعة الجميلة من حوله، ويقول ابن بسام في الذخيرة: إنه لم يتعرض لاستماحة ملوك الطوائف مع تهافتهم على الأدب؛ غير أننا لا نمضي إلى عصر المرابطين "484- 539هـ" حتى نجده يمدح واليهم في الأندلس إبراهيم بن يوسف بن تاشفين ومساعدِيهِ من العمال والقضاة أمثال ابن تيفلويت حاكم شرق الأندلس وأبي العلاء بن زُهْر الطبيب والفقيه المشهور. وذهب إلى حاضرة المرابطين في المغرب؛ فمدح سطانهم علي بن يوسف بن تاشفين ووزراءه وعلى رأسهم صديقه ابن عائشة فكانت تُغْدَق عليه الأموال والهبات من كل جانب، وكان يعود بها إلى بلدته؛ فينفقها في متعه ومسرَّاته. ويقال إنه كف عن صبوته بآخرة، وإنه كان يخرج من جزيرته ويسير بين الوديان والجبال وينادي بأعلى صوته: يا إبراهيم تموت، فيجيبه الصدى ويخرُّ مغشيًّا عليه. وأخيرًا يلبِّي نداء ربه سنة 533 عن اثنين وثمانين عامًا. وكان الأندلسيون يعجبون به وبشعره حتى ليرفعونه إلى الأفق الأعلى، يقول ابن بسام: "الناظم المطبوع، الذي شهد بتقديمه الجميع، المتصرف بين أشتات البديع". ويقول الفتح في القلائد: "مالكُ أعنةِ المحاسنِ وناهج طريقها، العارف بترصيعها وتنميقها، الناظم لعقودها، الراقم لبرودها". ويقول الحجاري في المسهب:

_ 1 انظر في ترجمته: الذخيرة "النسخة المخطوطة بمكتبة الجامعة" المجلد الثالث، الورقة 87 وما بعدها. والفتح في القلائد ص231. وابن الأبار في التكملة "البقية المطبوعة في الجزائر" ص175. ووفيات الأعيان: لابن خلكان. والمغرب: لابن سعيد 2/ 367. والمطرب من أشعار أهل المغرب: لابن دحية "طبعة وزارة التربية والتعليم" ص111. ومعجم الصدفي ص59. ونفح الطيب: للمقري "طبعة أوربا" 2/ 328.

"هو اليوم شاعر هذه الجزيرة، لا أعرف فيها شرقًا ولا غربًا نظيره"1. وأكثر ديوانه يدور في المديح، وهو يجري فيه على سنة الشعراء من قبله، وقلما أضاف فيه جديدًا إلا بعض مبالغات مفرطة، ولا نراه يخلطه بمعانٍ إنسانية وحكم وأمثال على طريقة المتنبي، وربما كان ذلك راجعًا إلى أنه لم يمر به طيف من الحزن والتشاؤم، فحياته تمضي هنيئة سعيدة. ونراه يقول في مقدمة ديوانه: إنه كان ينهج في شعره نهج الشريف الرضي ومهيار وعبد المحسن الصُّوري. وقد طبع شعره في التشبيب بطوابع الأوَّلين فأكثر فيه من ذكر الطيف والخيال والظعائن والعيس والأماكن الحجازية والنجدية ونسيم الصبا وأنفاس الخزامى. وربما كان ذكره لعبد المحسن الصوري إشارة إلى تشبهه بشعراء الشام في وصف الطبيعة، وكان يعجب بألوان البديع وهو يقترب في ذلك من ذوق أصحاب التصنيع أمثال أبي تمام. وأهم موضوع عُني به وصف الطبيعة؛ إذ كان مغرىً بوصف الأنهار والأزهار وما يتعلق بها. ولعل أهم ما يلاحظ على فنه أنه كان يُعْنَى بالتشخيص للطبيعة والتصوير لمباهجها، وهو ليس تصويرًا جديدًا، فمن قبله كان العباسيون أمثال أبي تمام وابن الرومي وابن المعتز وغيرهم يصورون هذه المباهج تصويرًا لا يقل عن تصوير ابن خفاجة. وقد لا نعدو الحق إذا قلنا إن كل ما له في هذا الجانب إنما هو الكثرة، أما فيما عدا ذلك فليس له جديد. وحتى لون التشخيص الذي اتخذه في تصوير الطبيعة استعاره استعارة من أبي تمام وتلامذته. وإن الإنسان ليلاحظ جملة أن ذوق ابن خفاجة كان قريبًا من ذوق المصنعين في المشرق؛ إذ يكثر من ألوان التصنيع، من تشخيص وجناس وطباق وما يندمج في ذلك من صور وأخيلة. وكان يقف عند هذه الألوان الحسية في التصنيع التي سبق أن عرضنا لها عند أبي تمام، أما الألوان العقلية فلم يكن يعنى بها أو بعبارة أدق لم يكن يفهمها. على كل حال انحاز ابن خفاجة إلى جانب الألوان الحسية في التصنيع، وأظهر فيها مهارة واسعة إذ كان يمزج

_ 1 المغرب 2/ 367.

بينها مزجًا طريفًا، وانظر إليه يصف سراه بالليل: بَعَيشِكَ هَل تَدري أَهوجُ الجَنائِبِ ... تَخُبُّ بِرَحلي أَم ظُهورُ النجائِبِ فَما لُحْتُ في أولى المَشارِقِ كَوكَبًا ... فَأَشرَقتُ حَتّى جِئتُ أُخرى المَغارِبِ وَحيدًا تَهاداني الفَيافي فَأَجتَلي ... وَجوهَ المَنايا في قِناعِ الغَياهِبِ وَلا جارَ إِلّا مِن حُسامٍ مُصَمَّمٍ ... وَلا دارَ إِلّا في قُتودِ الرَّكائِبِ وَلا أُنسَ إِلّا أَن أُضاحِكَ ساعَةً ... ثُغورَ الأَماني في وُجوهِ المَطالِبِ وَلَيلٍ إِذا ما قُلتُ قَد بادَ فَانقَضى ... تَكَشَّفَ عَن وَعدٍ مِنَ الظَنِّ كاذِبِ سَحَبتُ الدَّياجي فيهِ سودَ ذَوائِبٍ ... لِأَعتَنِقَ الآمالَ بيضَ تَرائِبِ فَخَرَّقت جَيبَ اللَّيلِ عَن شَخصِ أَطلَس ... تَطَلَّعَ وَضّاحَ المَضاحِكِ قاطِبِ فإن أبصارنا تغرق في هذه الكثرة من المناظر والصور، وهي كثرة قد تعب ابن خفاجة في توفيرها حتى يحاكي بها أبا تمام وغيره من شعراء الطبيعة في المشرق، وارجع إلى البيت الأخير؛ فإنك تراه يعبر عن غبش الفجر الذي تختلط فيه أشعة النهار بظلام الليل بهذا الشخص المتنافر في الصورة؛ فهو يضحك ويقطب في آن واحد، وهي صورة طريفة. والواقع أن ابن خفاجة كان يعنى بكثرة الصور في شعره، حتى لتكاد بعض أبياته أن لا تفهم من كثرة ما يودع فيها من أخيلة واستعارات، ولعل ذلك ما جعل ابن خلدون يقول عنه: "كان شيوخنا -رحمهم الله- يعيبون شعر أبي بكر ابن خفاجة شاعر شرقي الأندلس لكثرة معانيه وازدحامها في البيت الواحد"1. وكنَّى ابن خلدون عن ابن خفاجة بأبي بكر وكنيته المشهورة أبو إسحاق، ويظهر أن ذلك سهو منه؛ فلسنا نعرف شاعرًا مشهورًا بشرقي الأندلس يسمى ابن خفاجة غير صاحبنا. فأما ازدحام المعاني فيقصد به -كما قلنا- ازدحام الصورة في شعره. على أنه لم يكن يكتفي بالصور بل كان يضيف إليها الألوان الأخرى من الجناس والطباق، وكان ما يزال يعنى في شعره أن يكون فياضًا

_ 1 المقدمة "طبع بولاق" ص571.

بالشعور، وقد أحال الطبيعة من حوله إلى صور ووجوه ناطقة، واقرأ له هذا الوصف للجبل الذي اعترضه في سراه فتحدث عن لسانه قائلًا: وَأَرعَنَ طَمّاحِ الذُّؤابَةِ باذِخٍ ... يُطاوِلُ أَعنانَ السَماءِ بِغارِبِ1 وَقورٍ عَلى ظَهرِ الفَلاةِ كَأَنّهُ ... طِوالَ اللَيالي مُفَكِّرٌ في العَواقِبِ يَلوثُ عَلَيهِ الغَيمُ سودَ عَمائِمٍ ... لَها مِن وَميضِ البَرقِ حُمرُ ذَوائِبِ2 أَصَختُ إِلَيهِ وَهوَ أَخرَسُ صامِتٌ ... فَحَدَّثَني لَيلُ السُّرى بِالعَجائِبِ وَقالَ أَلا كَم كُنتُ مَلجَأَ قاتِلٍ ... وَمَوطِنَ أَوّاهٍ تَبَتَّلَ تائِبِ3 وَكَم مَرَّ بي مِن مُدلِجٍ وَمُؤَوِّبٍ ... وَقالَ بِظِلّي مِن مَطِيٍّ وَراكِبِ4 فَما كانَ إِلّا أَن طَوَتْهُم يَدُ الرَّدى ... وَطارَت بِهِم ريحُ النَّوى وَالنَّوائِبِ فَما خَفقُ أَيكي غَيرَ رَجفَةِ أَضلُعٍ ... وَلا نَوحُ ورقي غَيرَ صَرخَةِ نادِبِ5 وَما غَيَّضَ السُّلوانَ دَمعي وَإِنَّما ... نَزَفتُ دُموعي في فِراقِ الصَواحِبِ فَحَتّى مَتى أَبقى وَيَظعَنُ صاحِبٌ ... أُوَدِّعُ مِنهُ راحِلًا غَيرَ آيِبِ ومن يقرأ هذه القطعة يعجب بابن خفاجة ومقدرته على تشخيص عناصر الطبيعة؛ ولكن لا تظن أنه أول من ألم بالجبل على هذا النحو، فحدَّثه ذلك الحديث، فإن من يرجع إلى ترجمة مجنون ليلى في الأغاني يجد فيها الأصل الذي بنى عليه ابن خفاجة مقطوعته، فقد حدثوا أن المجنون مر بجبل التوباد، فأجهش بالبكاء، وراح يقول6: وَأَجهَشتُ لِلتُّوبادِ حينَ رَأَيتُهُ ... وكبَّر لِلرَّحمَنِ حينَ رَآني وَأَذرَيتُ دَمعَ العَينِ لَمّا رَأَيتُهُ ... وَنادى بِأَعلى صَوتِهِ وَدَعاني فَقُلتُ لَهُ أَينَ الَّذينَ عَهِدتُهُم ... حَوالَيكَ في خِصبٍ وَطيبِ زَمانِ

_ 1 الأرعن: الجبل الشامخ، والغارب: الكاهل. 2 يلوث: يلف، والذوائب هنا: أعالي العمامة. 3 الأواه: العابد. 4 المدلج: السائر في الليل ومثله المؤوب. وقَالَ: استراح وقت القيلولة. 5 الأيك: الشجر المتكاثف، والورق: جمع ورقاء وهي الحمامة. 6 أغاني "طبعة دار الكتب" 2/ 53.

فَقالَ مَضَوا وَاِستودَعوني بِلادَهُم ... وَمَن ذا الَّذي يَبقى مَعَ الحَدَثانِ وَإِنّي لَأَبكي اليَومَ مِن حَذَري غَدًا ... فِراقَكِ وَالحَيّانِ مُجتمعانِ ومن غير شك استمد ابن خفاجة من هذه المقطوعة منظومته في الجبل، مضيفًا إليها من خياله ما يكمل به الصورة من تفاصيل ودقائق جديدة؛ فقد أعطانا أولًا هيئة الجبل، وصوَّره لنا وقورًا لاث عمامته وهو يطوي الليالي مفكرًا في العواقب، ثم أخذ يفصل الحديث عمن يمرون به من مجرمين وتقاة صالحين. وصوَّره حزينًا لفراق أصحابه ملتاعًا لوحدته من دونهم. ولعل في هذا كله ما يصور لنا جهد ابن خفاجة في إعادة الصور القديمة، وكثيرًا ما نقع عنده على صور بديعية كقوله: لقد خلعت ليلًا علينا يدُ الهوى ... رداءَ عناقٍ مزَّقتهُ يدُ الفجرِ وقوله في غرة فرس أشقر: يطلعُ للغرَّةِ في شقرةٍ ... حبابةً تضحكُ في كأسِ فهو يستمد من القديم حقًّا، ولكننا من حين إلى حين نقع عنده على أخيلة طريفة. وكان ذوقه أقرب ما يكون إلى ذوق المصنعين وما أشاعه أبو تمام من تشخيص عناصر الطبيعة، ومع ذلك كان يتصنع في أطراف كثيرة من شعره، ولعل خير ما يصور ذلك عنده ما شغف به من نقل أوصاف الطبيعة إلى موضوعات شعره الأخرى، فكما كان المتنبي ينقل أوصاف الغزل إلى الحرب كان ابن خفاجة ينقل أوصاف الطبيعة إلى الأبواب المختلفة كأن يصف ثناء ممدوحه بأنه رطب إذ يقول: تشيمُ بصفْحَتَيهِ بروق بِشْرٍ ... تعيد بشاشةَ الرَّوضِ الجديدِ وهو يتصنع لذلك في الرثاء كأن يقول: في كل نادٍ منك روضُ ثناءٍ ... وبكلِّ خَدٍّ فيك جدولُ ماءِ وَلِكُلِّ شَخصٍ هِزَّةُ الغُصنِ النَّدي ... غِبَّ البُكاءِ وَرَنَّةُ الْمُكَاءِ أرأيت إلى هذا التصنع؟ لقد جعل ابن خفاجة الدموع السائلة على الخدود

كأنها جداول ماء، كما شبه اضطراب الباكين وانسكاب دموعهم بهزة الغصن الذي غمرته أمطار السماء. ولم يكتف بذلك؛ بل راح يشبه أنينهم بصوت قُبَّرة تصفر وتصيح. وانظر كيف تصنع وكيف بالغ في تصنعه، حتى اجتمعت له هذه الصور والخيالات، التي تتجمع حقًّا في الطبيعة؛ ولكن لا يمكن للحس الطبيعي أن يجمعها في رثاء. وعلى هذا النمط كان ابن خفاجة يجمع بين التصنيع والتصنع في شعره، وإننا لنحس إزاءه ما أحسسناه عند سابقيه: ابن برد وابن زيدون من ضرب خواطره وأفكاره وصوره على النماذج المشرقية، ولاحظ ذلك ابن بسام في الذخيرة، فقرنه إلى الشعراء العباسيين، واستخرج طرفًا من أبياته وأشعاره التي نقلها عنهم نقلًا كقوله: يا بدرَ تِمٍّ زارَني ... منه الهلال وقد تلثَّمْ فقد أخذه لفظًا ومعنى من قول الشريف الرضي: تلثَّم مرتابًا بفضلِ ردائِهِ ... فقلت هلالٌ بعد بدرِ تمامِ ومن ذلك أيضًا قوله: كأنني بعدكم شمالٌ ... قد فارقتْ منكم يمينَا وقد أخذه بلفظه ومعناه من قول ابن المعتز: وإني وإيَّاك مثل اليدينِ ... ولكن لك الفضلُ أنت اليمينُ ونحن لا نريد أن نطيل بمثل هذه الأمثلة؛ إنما نريد أن نكثر من ذكر الأدلة على صحة ما نقوله من أن شعراء الأندلس لم يحاولوا الثورة على الأوضاع والأنماط العباسية فقد انساقوا يقلدون العباسيين ويحاكونهم، ولم يفكر أحد منهم في الخروج على هذا التقليد وتلك المحاكاة. ونحن نتساءل هل رأينا حتى الآن شيئًا جديدًا في الأندلس؛ إن الشعراء الأندلسيين لم يستطيعوا أن يحدثوا في عصر ملوك الطوائف وما تلاه من عصور إلى سقوط غرناطة اتجاهًا جديدًا في الشعر العربي يمكن أن نسميه مذهبًا، وهل عندهم إلا التقليد والاطراد مع الأفكار والصور السابقة، وكأني بالحياة العربية

في تلك العصور لم تعد حياة نشيطة، وكأنما أصابها شيء من العطل، فلم تعد تتعاقب فيها مذاهب فنية، بل تجمدت عند المذاهب القديمة، وكل ما يصنعه الشعراء أنهم يقلدونها على تلك الصورة المختلطة التي رأيناها، فهم ينقلون النماذج العباسية ويحاكونها بدون أن يعرفوا شيئًا عن تاريخها وما بينها من فواصل.

الغناء الأندلسي والموشحات والأزجال

5- الغناءُ الأندلسيُّ والموشَّحَاتُ والأَزْجَالُ: لم يستطع شعراء الأندلس أن يحدثوا مذهبًا فنيًّا جديدًا في الشعر العربي؛ فقد جمدوا غالبًا عند التقليد والصَّوغ على نماذج المشرق، وحقًّا أن الأندلس عاشت في ترف أحدث عندها اهتمامًا بشعر الطبيعة، كما أحدث عندها نهضة واسعة في الغناء وما يطوي من الموشحات والأزجال؛ غير أن صنيعهم في هذه الجوانب اقتصر على الشكل، ولم يتجاوزه إلى الصياغة العقلية والشعورية، فكل ما لهم في شعر الطبيعة إنما هو الكثرة، أما أفكارهم وأما طرقهم في الوصف ومناهجهم فكل ذلك يستعيرونه من المشرق استعارة وينقلونه نقلًا، وحتى ما نجده عندهم أحيانًا من التشخيص وبعث الشعور في الطبيعة قد تأثروا فيه العباسيين من أمثال أبي تمام وابن الرومي. ولعل الغناء وما تبعه من موشحات وأزجال هو الجانب الطريف في دراسة الشعر الأندلسي فقد سارعت الأندلس إلى العناية بالآداب الشعبية، ولكن ينبغي أيضًا أن لا نبالغ في ذلك، فإن هذه العناية لم تُحدث كما نقول تغييرًا في صياغة التفكير الفني عند الأندلسيين، إنما كل ما هناك أنهم يتخلصون من التقيد بالوزن، كما يتخلصون من التقيد بالقافية الواحدة وهذا كل ما عندهم من تجديد وهو تجديد شكلي اضطرتهم إليه ظروف الغناء، وحقًّا هم قد جددوا كثيرًا في الأوزان، ولكنا عرفنا في غير هذا الموضع أنهم سبقوا بذلك، سبقهم العباسيون إذ أوشكوا أن يغيروا صورة "الرُّقم الموسيقية" القديمة تغييرًا تامًّا، وإذن لا يبقى للأندلسيين في موشحاتهم سوى التجديد في القافية، وهو

ضرب من الحرية في صناعة المقطوعة، أوجدته ظروف إنشاد المغنِّين مع الجوقات للشعر، ونحن لا يمكن أن نعتد بهذا الجانب كمذهب جديد في الشعر العربي؛ إلا إذا كنا ممن يؤمنون بالشكليات ويتخذونها أصولًا للمذاهب الفنية. والحق أن شخصية الأندلس في الشعر العربي لم تكن قوية، ومع ذلك فإنها استطاعت أن تحدث شيئًا جديدًا في الشعر إلى حد ما يتجاوب مع بيئتها وما كان فيها من ترف ولذة ونعيم، وهو هذه الموشحات والأزجال التي تعبر عن موجة واسعة من الغناء والموسيقى، وقد نشأت هذه الموجة مع زرياب وغيره من مغني المشرق1 ومغنياته من أمثال فضل وعلم وقلم وقمر والعجفاء2. فشاع الغناء وشاعت الموسيقى وكثر المغنون والمغنيات وظهرت الجوقات المختلفة، واتصل ذلك كله بالشعب وأعياده، بل يظهر أنه اتصل بحياته دائمًا في عيد وغير عيد، حتى لنجد التجيبي يقول: "كنت بمدينة مالقة من بلاد الأندلس سنة ست وأربعمائة؛ فاعتللت بها مديدة انقطعت فيها عن التصرف ولزمت المنزل، وكان يمرضني حينئذ رفيقان كانا معي، يلمان من شعثي ويرفقان بي، وكنت إذا جن الليل اشتدَّ سهري وخفقَتْ حولي أوتار العيدان والطنابير والمعازف من كل ناحية، واختلطت الأصوات بالغناء فكان ذلك شديدًا علي، وزائدًا في قلقي وتألمي؛ فكانت نفسي تعاف تلك الضروب طبعًا وتكره تلك الأصوات جبلَّة وأود لو أجد مسكنًا لا أسمع فيه شيئًا من ذلك ويتعذر علي وجوده لغلبة ذلك الشأن على أهل تلك الناحية وكثرته عندهم"3، ويستمر التجيبي فيصف لنا حفلًا غنائيًّا رآه في بستان لدار كبيرة، وقد اصطفَّ شَرْب ونحو من عشرين رجلًا وبين أيديهم شراب وفاكهة وجوارٍ قيام بعيدان وطنابير وآلات لهوٍ ومزامير وجارية جالسة تضرب على عودها. وتحت تأثير هذه الموجة العنيفة من الغناء والموسيقى والجوقات وبتأثيرات مختلفة من البيئة المحلية ازدهرت الموشحات، "وكان المخترع لها مقدم بن معافى القبري

_ 1 نفح الطيب 2/ 853. 2 نفح الطيب 2/ 758. 3 المختار من شعر بشار وشرحه: للتجيبي ص14.

من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني، وأخذ عنه ذلك ابن عبد ربه صاحب كتاب العقد، ولم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر، وكسدت موشحاتهما، فكان أول من برع في هذا الشأن بعدهما عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المريَّة، وقد ذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع أبا بكر بن زهر يقول: كل الوشاحين عيالٌ على عبادة القزَّاز فيما اتفق له من قوله: بدر تم شمس ضحى ... غصنُ نقا مسك شمّ ما أتم ما أوضحا ... ما أورقا ما أنم لا جرمْ من لمحا ... قد عشقا قد حُرِم"1 وذكر ابن بسام أن الموشحات القديمة كان أكثرها على الأعاريض المهملة غير المستعملة وأنهم كانوا يبنونها على مركز من اللفظ العامي والعجمي. ولعل في هذا ما يشير في صراحة إلى أن الموشحات فن أندلسي محلي وإن كنا لا نؤمن بأنها نشأت من المزاوجة بين الشعر العربي وضروب من الأغاني الشعبية الأندلسية، كما يذهب إلى ذلك بعض الباحثين من المستشرقين؛ إنما نؤمن بأنها تطور تمَّ هناك للمسمطات والمخمسات التي عرفت منذ العصر العباسي الأول. ويقول ابن بسام أيضًا: إن الموشحات القديمة لم يكن فيها تضمين ولا أغصان؛ فلما جاء الرمادي أكثر من التضمين في المراكز ثم جاء عبادة بن ماء السماء فاعتمد مواقع الوقف في الأغصان يضمنها2. وإذن فالأغصان وأوقافها وتضمين مواقع الأوقاف كل ذلك قد عرف عند عبادة بن ماء السماء كما عرفت المراكز من قبله، وكأني به هو الذي انتهى بالموشحات إلى صورتها الأخيرة. واشتهر من بعده في عصر ملوك الطوائف ابن أرفع رأسه، شاعر المأمون بن ذي النون صاحب طليطلة، ثم جاءت الحلبة التي كانت في مدة الملثَّمين، وأشهرهم التُّطيلي صاحب الموشحة المشهورة: ضاحكٌ عن جمان سافرٌ عن بدرِ ... ضاق عنه الزمان وحواهُ صدري آه مما أجدْ ... شفَّني ما أجدْ

_ 1 مقدمة ابن خلدون "طبع المطبعة البهية" ص436. 2 الذخيرة: لابن بسام 2/ 2.

قام بي وقعد ... باطش متئد كلما قلت قد ... قال لي أين قد وتتكرر هذه الصورة عادة في الموشحة خمس مرات أو سبعًا، ومهما يكن فقد انتشر الغناء وانتشرت معه هذه الموشحات وأجاد الشعراء فيها إجادة بالغة، واستمر ذلك في دولة الموحدين واشتهر فيها ابن زُهْر صاحب الموشحة التي تنسب إلى ابن المعتز، وقد عرضنا لها في غير هذا الموضع. وما زالت الأندلس تعنى بهذه الموشحات حتى العصور المتأخر؛ إذ نجد ابن سهل صاحب الموشحة المشهورة. هل درى ظبي الحمى أن قد حمى ... قلبَ صبٍّ حلَّه عن مكنسِ فهو في نارٍ وخفقٍ مثلما ... لعبت ريح الصبا بالقبسِ وقد نسج على منواله لسان الدين بن الخطيب في موشحته المعروفة: جادك الغيثُ إذا الغيثُ همى ... يا زمانَ الوصلِ بالأندلسِ لم يكن وصلك إلا حلما ... في الكرى أو خلسةَ المختلسِ وكان يعاصره ابن زمرك، وهو يشتهر بوصفه الصباح في موشحاته حتى لتكون عنده الصبحيات مجموعة طريفة من الموشحات، ومن قوله في مطلع إحداها: كحلُ الدُّجى يجري ... من مقلةِ الفجر على الصباح وعمَّت هذه الموشحات وانتشرت من المغرب إلى المشرق؛ ولكنها كما قلنا لم تحدث مذهبًا جديدًا في الشعر العربي؛ لأنها لم تغير في دلالته وصياغته العقلية والشعورية؛ إنما وقفت عند الصياغة الموسيقية. على أن النقاد لم يهتموا بها لخروجها عن أعاريض شعر العرب1، وكأن هذا الجانب هو كل ما لفتهم فيها من تجديد. "ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس وأخذ به الجمهور لسلامته وتنميق كلامه وتصريع أجزائه نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا على

_ 1 الذخيرة 2/ 1

طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيه إعرابًا واستحدثوا فنًّا سموه بالزجل، التزموا النظم فيه على مناحيهم إلى هذا العهد؛ فجاءوا فيه بالغرائب، واتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة. وأول من أبدع هذه الطريقة الزجلية أبو بكر بن قُزْمَان، وإن كانت قيلت قبله بالأندلس لكن لم تظهر حلاها ولا انسبكت معانيها ولا اشتهرت رشاقتها إلا في زمانه، وكان لعهد الملثمين "توفي عام 555هـ". قال ابن سعيد: رأيت أزجاله مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب"1. وينبغي أن نلقى كلام ابن خلدون في نشأة الزَّجل وتأخر هذه النشأة عن نشأة فن التوشيح بشيء من الحذر؛ فقد رأينا الموشح نفسه يُبْنَى في أول أمره -كما يقول ابن بسام- على بعض الكلمات الأعجمية. فالمعقول أن يكون الزجل قد نشأ معه مباشرة، وربما سبقه. ويمكن أن نقول إنهما جميعًا فن واحد ذو شعبتين، شعبة تغلب عليها الفصاحة، وشعبة تغلب عليها العجمة. وذكر ابن قزمان في مقدمة ديوانه أن أشهر من سبقوه أخطل بن نمارة، وهو يبدأ مقدمته بقوله: "ولما اتسع في طريق الزجل باعي وانقادت لغريبه طباعي، وصارت الأئمة فيه خولي وأتباعي وحصلت منه على مقدار لم يحصله معي زجال، وقويت فيه قوة نقلتها الرجال عن الرجال، عندما أبنت أصوله، وتبينت منه فصوله، وصعبت على الأغلف الطبع وصوله، وصفيته عن العقد التي تشينه وسهلته حتى لَانَ ملمسه ورقَّ خشينه، وعريته من الإعراب والاصطلاحات تجريد السيف عن القراب". ونرى ابن قزمان يتلوَّم بعد ذلك الزجالين الذين سبقوه لما عندهم من "معانٍ باردة وأغراض شاردة، وألفاظ شياطينها غير ماردة" ثم لما عندهم من "إعراب هو أقبح ما يكون في الزَّجل، وأثقل من إقبال الأجل"2 وكأن الزَّجل في نشأته كان أقرب إلى الموشحة منه إلى الصورة العامية الخالصة التي انتهى إليها عند ابن قزمان، وانتقل هذا الرجل -كما انتقلت الموشحات- إلى المشرق

_ 1 مقدمة ابن خلدون "طبع المطبعة البهية" ص441. 2 انظر مقدمة ديوان ابن قزمان "مصورة" بمكتبة جامعة القاهرة.

واستخدمته الأقاليم في آدابها الشعبية. والحق أن الموشحات والأزجال جميعًا لم تحدثا ثورة واسعة على الأوضاع القديمة في الصياغة الفنية للشعر الفصيح، وربما كان ذلك يرجع في بعض أسبابه إلى أن الأندلس لم تعرف التفكير العميق الدقيق، أو على الأقل لم يعرفه شعراؤها، ولذلك استمروا عند المحاكاة والتقليد، ولعله من أجل ذلك كنت لا تجد عندهم كتابًا قيمًا يعرض لشاعر بتحليل فنه وبيان منهجه، وأنت أيضًا قلما وجدت عندهم شاعرًا متفلسفًا يتخذ له منهجًا واضحًا في عمله؛ إنما هم ينقلون ويلفقون لا عن انتخاب بل كما يقع لهم، وكما يعلمهم أساتذتهم من المشارقة، وقد أخذوا يصنعون بالموشحات والأزجال ما صنعوه بقصائدهم من الخلط فيها بين صياغات مذاهب الصنعة والتصنيع والتصنع، وظلوا يستمدون في دلالالتها وصياغاتها من معين المشرق ومذاهبه الفنية.

الفصل الثاني: مصر والمذاهب الفنية

الفصل الثاني: مصر والمذاهب الفنية مصر ... الفصل الثاني: مصرُ والمذاهبُ الفنيةُ ديارُ مصرَ هي الدنيا وساكنها ... هم الأنامُ فقابلها بتفضيلِ يا من يباهي ببغداد ودجلتها ... مصر مقدمةٌ والشرحُ للنِّيلِ زين الدِّين الوردي 1- مِصْرُ: مصر -كما وصفها هيرودوت- هبة النيل، وقد مثَّلت أقدم دور في قصة المدنية الإنسانية، فعنها تلقت الأمم القديمة من فينيقيين وبابليين ويونانيين هذه القصة في أروع صورة لها، ثم حاولت أن تحاكيها، وأن تحتذي على مثالها. وقد ذكرها القرآن الكريم في ثمانية وعشرين موضعا1، ووصفها بأنها: {جَنّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} . وحقًّا كانت الجنات والعيون والزروع تمتد على حافتي النيل من أسوان إلى شواطئ البحر المتوسط. وراع جمالها العرب حين فتحوها، فلقبوها فردوس الدنيا2 وعبروا عن هذه الروعة أجمل تعبير في الكتاب الذي يزعم الرواة أن عمرو بن العاص أرسله إلى عمر3، وفيه يقول: "مصر قرية غبراء وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر، يكنفها جبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها نيل مبارك الغدوات، ميمون الروحات، تجري فيه الزيادة والنقصان، له أوان يدر حلابه، ويكثر فيه ذبابه، تمدّه عيون الأرض وينابيعها حتى إذا اصلخمَّ عجاجه، وتعظمت أمواجه، فاض على جانبيه، فلم يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا

_ 1 حسن المحاضرة: للسيوطي "طبع مطبعة الموسوعات بمصر" 1/ 2 2 نفس المصدر 1/ 8. 3 النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة "طبع دار الكتب" 1/ 32.

في صغار المراكب، وخفاف القوارب، وزوارق كأنهم في المخايل وُرْق الأصائل، فإذا أحدق الزرع وأشرق سقاه الندى، وغذاه من تحته الثَّرى، فبينما مصر لؤلؤة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضراء، فإذا هي ديباجة رقشاء، فتبارك الله الخالق لما يشاء". وسكن هذه الزروع والوديان الخصيبة منذ الأبد السحيق أمشاج من إفريقيين وآسيويين، وسرعان ما اندمج بعضهم في بعض وألفوا أمة واحدة لها مشخصاتها ومقوماتها في اللغة والدين والتقليد. واستطاعت هذه الأمة أن تبني إمبراطورية كبيرة في الشرق القديم، إذ امتد سلطانها إلى الفرات شرقًا وآسيا الصغرى شمالا وبلاد البُنْت والنوبة جنوبًا. واستمرت هذه الإمبراطورية أحقابًا متطاولة، ثم ضعف شأنها؛ لكثرة الإغارات عليها والحروب بينها وبين جيرانها. أغار عليها في أول الأمر الهكسوس، ثم وقعت في حروب مع الحيثيين، ودخلها الآشوريون، وفتحها الفرس في عهد قمبيز عام 525 ق. م. واستمرت تابعة لهم حتى استولى عليها الإسكندر المقدوني عام 333 ق. م. وأسس بها مدينة الإسكندرية. ولما توفي الإسكندر واقتسم قوَّاده دولته ظفر بمصر بطليموس، فاستقل بها، وأسس هو وأبناؤه فيها دولة إغريقية، كان لها شأن عظيم في العصور القديمة، وأصبحت الإسكندرية في عهدهم من أعظم مدن بحر الروم إن لم تكن أعظمها، وقد بنوا فيها منارة الإسكندرية المشهورة كما بنوا دارًا كبيرة للكتب وأخرى سموها دار المتحف وكانت بمثابة جامعة تدرس فيها العلوم والفنون المختلفة من فلسفة وطب وهندسة. ويذهب البطالسة وتدخل مصر في حظيرة الإمبراطورية الرومانية عام 31م. وثارت مصر على الرومان كثيرًا. وأخيرًا يقبل العرب بأعلامهم من الفرما تحت قيادة القائد المظفر عمرو بن العاص فيفتحونها عام "640م- 19هـ" ويفتحون في تاريخها صفحة الإسلام والعروبة، وقد اختطَّ لهم عمرو مدينة الفسطاط حسب قبائلهم. ثم أقبلت بعد ذلك قبائل عربية، فنزلت ريف مصر وسَعَتْ -بكل ما يمكنها- إلى تعريب مصر دينيًّا ولغويًّا، بحيث لا نصل إلى أواخر القرن الرابع الهجري حتى تكون جمهرة المصريين دخلت في الإسلام وحتى نجد القبط يهجرون لغتهم إلى اللغة العربية1.

_ 1 انظر في ذلك كتاب: سير البطاركة: لساويرس "طبع بيروت" ص6، الذي ألَّفَهُ بعد عام 400هـ، بقليل إذ يذكر أن اللسان القبطي كاد ينعدم من ديار مصر وأن اللسان العربي هو الذي كان معروفًا وشائعًا في أهل هذا الزمان.

شخصية مصر

2- شَخْصِيَّةُ مِصْرَ: لعل من الغريب أن هذه الغارات والفتوحات الكثيرة التي أصابت مصر حتى عهد الفتوح الإسلامية لم تضعف شخصيتها، فإن مما يلاحظ على مصر أنها أمة محافظة، تعتد بجميع تقاليدها وخصالها، بحيث لا يمكن أن تندمج في مغتصبيها أو تفنى في فاتحيها، فعلى الرغم من دخول عناصر الهكسوس والآشوريين والفرس واليونان والرومان فيها ظلت حافظة لشخصيتها وخصائصها الجوهرية، حتى بعد دخول العرب أنفسهم، فإنهم لم يستطيعوا أن ينفوا عنها شيئًا من صفاتها، بل رأيناهم هم يغرقون في جداولها، ويذوبون في نهرها الأكبر نهر النيل، وكأنما كان اتساع هذا النهر من قديم رمزًا إلى أن مصر لا يمكن أن تفنى في غيرها، بل غيرها هو الذي يفنى في مجراها ومجرى نهرها العظيم. ومن يرجع إلى الحياة السياسية لمصر منذ فجر تاريخها يراها دائمًا أمة مقاومة لا تخضع للأجانب، أما ما قد يبدو من كثرة الفاتحين لها والمغيرين عليها من أنها تفتح صدرها لأعدائها من الأجانب فغير صحيح ولا يتفق وحقائقها التاريخية. وذلك أننا نراها تقاوم دائمًا، قاومت الهكسوس وطردتهم منها، وقاومت بعدهم الآشوريين والفرس والرومان، وكان لها مع الأخيرين ثورات عدة ذبح فيها الرومان كثيرين من أهلها1. وحتى العرب الذين أنقذوهم من نير الرومان

_ 1 انظر كتاب: فتح العرب لمصر، تأليف: بتلر، وترجمة: فريد أبي حديد، فقد عرض في ص78 للفكرة التي تذهب إلى أن مصر ترحب بالفاتحين ودحضها أي دحض.

نجدهم يثورون عليهم1، واستمرت ثوراتهم لا تهدأ حتى تحول جمهورهم إلى الإسلام. وقد تكون الدولة الأجنبية الوحيدة التي لم يقاوموها هي دولة البطالسة، غير أن ذلك يرجع إلى أنهم لم يكونوا يعدونهم أجانب عنهم، فقد مصَّروهم تمصيرًا نهائيًّا. وهم أنفسهم لم يهدءوا في عصر العرب إلا منذ الدولة الفاطمية لا لسبب إلا لأن الفاطميين مصَّروا أنفسهم إذ راحوا يحتفلون بأعياد الشعب في مظاهر كبيرة تشبه أن تكون "كرنفالات" عظيمة ومن أجل ذلك أحبهم المصريون حتى إذا اغتصب الملك منهم صلاح الدين وجدنا ابن مماتي -على الرغم من موقف صلاح الدين من الصليبين- يؤلف كتابه: الفاشوش في حكم قره قوش" يهاجم فيه قره قوش المستشار الأول لصلاح الدين، وكان يخلفه أحيانًا على حكم المصريين في أثناء حروبه، وكانت فيه جوانب غفلة، فاستغلَّها ابن مماتي وقصَّها باللغة العامية في صور هزلية مضحكة، وسخر فيها من أحكامه وهي سخرية ماكرة، تطوي في داخلها سخرية خبيثة بحكم صلاح الدين ودولته الجديدة. وتستمر هذه الروح الثائرة في المصريين حتى نلتقي بها في صورة مجسمة في أثناء غزو نابليون لمصر، وما حوادث الثورة المصرية الأخيرة منا ببعيدة. وإذن فالحياة السياسية لمصر تشهد بأنها أمة تشعر بشخصيتها شعورًا واضحًا، وهي لذلك لا تقهر، بل تستمر تقاوم، فإما أن يطرد الفاتح الأجنبي وإما أن يتمصَّر، ومعنى ذلك أن مصر ليست ضعيفة الشخصية، ولذلك كانت تتراءى لنا هذه الشخصية في جميع مظاهر حياتها في أثناء العصور الإسلامية. ومن يرجع إليها في مفتتح هذه العصور يجد فريقًا من أهلها يفزعون إلى التصوف منذ عام2 200هـ. وقد أنجبت مصر في القرن الثالث أهم متصوف في عصره، وهو ذو النون المصري المتوفى عام 245 للهجرة وعليه تتلمذ كثير من أساتذة التصوف في المشرق3. وظهر التصوف في مصر إنما كان استجابة لتراثها القديم من

_ 1 انظر stanley, lane-poole,A history of Egypt in the middle ages, pp. 28, 32. 2 الولاة والقضاة: للكندي ص162 وانظر أيضًا ص440. 3 انظر رسالة القشيري "طبع مصر" من صفحة 14 إلى صفحة 23.

المسيحية والرهبنة، وتسرَّب في التصوف على مرِّ التاريخ بعض عناصر الغنوسطية والأفلاطونية المحدثة التي كانت شائعة في مدرسة الإسكندرية قبل الفتح العربي. وفي هذا ما يلفتنا إلى أن مصر استبقت شيئًا من تراثها القديم في حياتها العقلية، إذ كان بها مدرسة الإسكندرية التي أنشأها البطالسة على نحو ما مر بنا وقد حافظت جملة على الفلسفة اليونانية، واستحدثت لنفسها فلسفة جديدة، هي مزيج من المسيحية والفلسفة القديمة، ومما لا شك فيه أن هذه المدرسة كانت لا تزال قائمة حين فتح العرب مصر1. على أنه ينبغي أن نلاحظ أن الدراسة فيها كانت باليونانية ثم شاركتها السريانية في أواخر العهد الروماني2، واتصل العرب مباشرة بهذه المدرسة منذ خالد بن يزيد بن معاوية الذي أمر بإحضار جماعة من علمائها لترجمة ما عندهم من كتب في الكيمياء3. لكن ينبغي أن لا نبالغ فيما استبقته مصر لنفسها من هذه المدرسة؛ لأنه سرعان ما ترك علماؤها مصر إلى أنطاكية في عهد عمر بن عبد العزيز4 وبذلك لم تأخذ مصر الإسلامية الفرصة لتتفاعل مباشرة مع ما كان في هذه المدرسة من تراث، بل رأيناه يفد إليها ثانية من المشرق، كما كان الشأن بالأندلس على نحو ما مر بنا في الفصل السابق. وربما كان ذلك سبب تأخر الحركة العقلية فيها. ويظهر أن مصر من طبيعتها أن لا تُعنى عناية واسعة بالدرس الفلسفي وما يحتاجه من عمق، أو على الأقل كانت تلك طبيعتها في العصر الإسلامي، ولعله من أجل ذلك رأيناها تعنى بالدراسات الدينية واللُّغوية، وقلما تعنى بالدراسات الفلسفية، واستمر ذلك سمتها حتى القرن الثامن الهجري إذ نرى بهاء الدين السبكي يلاحظ أن أهلها صرفوا همهم إلى علوم اللغة والنحو والفقه والحديث

_ 1 فتح العرب لمصر، ص83 وما بعدها. 2 فتح العرب لمصر ص83 وما بعدها. 3 الفهرست: لابن النديم "طبع مصر" ص338، 507. 4 انظر عيون الأنباء في طبقات الأطباء: لابن أبي أصيبعة "طبع مصر" 2/ 135. وكذلك التنبيه والإشراف: للمسعودي "طبع ليدن" ص122.

وتفسير القرآن بخلاف أهل المشرق الذين استوفوا هممهم الشامخة في تحصيل العلوم العقلية والمنطق1. ولعل فيما قدمنا ما يدل على أن مصر في العصور الإسلامية السابقة لم تكن تشق على نفسها في الحياة العقلية، وقد يكون من أسباب ذلك ودوافعه ما عرف عن أهلها حينئذ من اللهو والدعة2، فإن ذلك جعلهم لا يميلون إلى العمق والتقصي والتحليل، وإذا رجعنا إلى حياتهم الأدبية وجدناها تمثِّل تمثيلا واضحًا اللين والدعة وما ينساق فيهما. على أنه ينبغي أن نحمد لهم داخل حياتهم الأدبية وخاصة حياة الشعر أنهم صوروا لنا حياتهم السياسية إذ يمتلئ كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين" لأبي شامة بشعر كثير قيل في وصف المعارك والوقائع مع الصليبيين في الحكمين الفاطمي والأيوبي. ومعنى ذلك أن الشعب المصري لم يقصِّر في وصف الحوادث السياسية الكبيرة التي مرت به، وهو كذلك لم يقصر في وصف بيئته وطبيعة بلاده، وما انبث في وديانها وعلى ضفاف نيلها من زروع وجنات وعيون. وما أراني أبالغ إذا قلت: إن المادة التي تركتها مصر في شعر الطبيعة لا تختلف كثيرًا عن المادة التي تركتها الأندلس، فقد تغنى الشعراء كثيرًا بمشاهد مصر ومناظرها الجميلة. وكما مثَّل الشعر المصري بيئة بلاده وحياتها السياسية -من بعض الوجوه- كذلك مثل حياتها الدينية إذ نرى موجة من الزهد والتصوف تشيع في العصرين الفاطمي والأيوبي، وقد مثلها ابن الكيزاني في العصر الفاطمي بما كان له من شعر في التصوف والزهد، ثم مثلها في العصر الأيوبي ابن الفارض بديوانه الضخم المعروف، الذي يستغرقه جميعه بالتصوف والحب الإلهي. وجانب آخر مثَّله الشعر المصري في العصور الإسلامية تمثيلا دقيقًا، وهو ميل المصريين إلى الفكاهة والدعابة، فمنذ شاع بينهم الشعر نجد شعراءهم يشتهرون بخفة الروح والتندر، يسجل ذلك صاحب المغرب على الجمل الأكبر شاعر أحمد بن طولون، كما يسجله على الجمل الأصغر الذي "كان ينحو في

_ 1 عروس الأفراح: للسبكي 1/ 5. 2 خطط المقريزي 1/ 49

الظرافة والتطايب منحى الجمل الأكبر"1، وكذلك يسجله سعيد المعروف باسم قاضي البقر شاعر الإخشيد، فقد زاد اختصاصه عنده "بما كان فيه من الحلاوة والتندير والهزل"2. ومن ألقاب هؤلاء الشعراء أنفسهم -التي نُبِزوا بها- ما يدل على الروح المصرية التي نعرفها والتي تميل إلى الفكاهة والدعابة والنكتة. ومن يرجع إلى الخريدة -وهي تختص بالشعر الفاطمي- يجد فيها شاعرًا يُنْبَزُ باسم النسناس، وثانيًا باسم شلعلع، وثالثًا باسم الوضيع ورابعًا باسم الكاسات، وخامسًا باسم ابن مكنسة. وهكذا نجد روح مصر الحديثة التي تعرف بميلها إلى الفكاهة تطل علينا من بين سطور الشعر المصري القديم بل من ألقاب الشعراء أنفسهم. وسنقف وقفة طويلة عند الفاطميين لنوضح هذه النزعة ونصورها تصويرًا بينًا، ومهما يكن فإن مصر واضحة الشخصية في تاريخ الشعر العربي الإقليمي، وسنرى حينما نتعمق في درسها ودرس شعرائها أنه خليق بنا -منذ الآن- أن نعنى بها وبشعرها لا من حيث وطنيتنا بل من حيث الحقائق الفنية الخالصة، على أنه ينبغي أن لا يعزب عنا ما قلناه في الأندلس مرارًا من أن شعراء الأقاليم العربية حافظوا على الأوضاع والتقاليد الفنية القديمة محافظة شديدة تكاد تُلغي كل ما كنا نتصوره عندهم من تجديد أو ثورة على التقاليد، إذ لم تكن تقوم -في هذه العصور- أسوار فاصلة بين إقليم عربي وإقليم أو بين وطن ووطن. وحقًّا إنه وجدت هناك آداب إقليمية، ولكن ينبغي أن لا نبالغ في صورة هذه الآداب وما كان بينها من تغاير. هي تتغاير حقًّا، ولكن تغاير الفروع والأغصان في الشجرة الواحدة لا تغاير الأجناس والأنواع في الأشجار. والواقع أن تأثر الشعر العربي بالأقاليم لم يخرج إلى صورة واسعة نرى فيها هذه الأقاليم وكل منها تريد أن تحدث لنفسها شعرًا مستقلا عن الأقاليم الأخرى. وساعد في ذلك أن الشعراء أنفسهم كانوا يعتبرون العباسيين مثُلا عليا لهم،

_ 1 المغرب: لابن سعيد "السفر الأول من القسم الخاص بمصر" طبع جامعة القاهرة ص271. 2 نفس المصدر ص272.

فهم يعيشون على تقليدهم، ومن ثمَّ كنا نراهم يقفون معجبين بالأزياء الفنية التي نسجها أبو نواس والبحتري وابن الرومي، والأخرى التي نسجها أبو تمام وابن المعتز، والثالثة التي حاكها المتنبي وأبو العلاء وأضرابهما، وقلما بدلوا في هذه الأزياء، إنما هم يتنازعونها فيما بينهم، كل يحاول أن يتزيَّى بها في فنه، وأعجبوا خاصة بزي التصنيع والبديع، وما تزال ترى الشاعر منهم يجمع بين هذه الأزياء جميعًا في فنه دون أن يعرف الفروق بينها، فهي كلها أزياء، وهي كلها تحتذى وتقلد. ومع ذلك استطاعت الأندلس أن تمثل نفسها -إلى حد ما- في شعرها، فاستحدثت الموشحات والأزجال، وصور الشعراء بيئتها تصويرًا طريفًا، وكذلك شأن مصر، فقد استطاعت داخل هذا التقليد أن تمثل نيلها وزروعها وجناتها، كما استطاعت أن تمثل موجة الزهد والتصوف التي كانت منبثة في بعض جوانبها، وأيضًا فإنها مثلت موجة اللين والدعة التي كانت شائعة فيها، كما مثلت جانب الفكاهة والدعابة في شعرائها أروع تمثيل.

الشعر في مصر

3- الشِّعْرُ في مِصْرَ: إذا تعقبنا الشعر في مصر أثناء العصر الأموي لم نجد لها سوى أشعار كانت تقال في المناسبات والأحداث المختلفة. أما بعد ذلك فليس لها شاعر ممتاز يمكن أن نضعه في صف الشعراء الممتازين للحجاز ونجد والعراق والشام. وإذا تركنا العصر الأموي إلى العصر العباسي وجدنا مصر تأخذ بأسباب النهضة الفنية التي ستقبل عليها في العصر الفاطمي، فقد أخذ الشعر ينمو فيها أكثر من ذي قبل، ومع ذلك فلا يزال بينها وبين بغداد بون بعيد. روى الرواة أنه لما قدم أبو نواس مصر على الخصيب عامل الخراج عليها من قبل هارون الرشيد

"وجد لديه جماعة من الشعراء فاستنشده، فقال: لا، ههنا جماعة من الشعراء هم أقدم مني وأسن، فأذن لهم في الإنشاد، فإن كان شعري نظير أشعارهم أنشدت، وإلا أمسكت، فاستنشدهم، فأنشدوا مديحًا فيه، فلم تكن أشعارهم مقاربة لشعر أبي نواس، فتبسم ثم قال للخصيب: أنشدك -أيها الأمير- قصيدة هي منزلة عصا موسى، تتلقَّف ما يأفكون، قال: هات، فأنشده: "أجارة بيتينا أبوك غيور" حتى أتى على آخرها، فانفض الشعراء من حوله"1. وواضح ما يدل عليه النص من أن مصر حتى عصر أبي نواس لا تظفر بشاعر ممتاز يقاس إليه وإلى أضرابه من شعراء العراق، ولما قدم بعد ذلك أبو تمام إلى مصر في أوائل القرن الثالث كان أشهر شعرائها سعيد بن عفير والمعلَّى الطائي وابنه حِطَّان. ومن يرجع إلى شعرهم الذي روي في الولاة والقضاة للكندي وخطط المقريزي يلاحظ أنهم كانوا شعراء فحسب، ولكن لم يكونوا شعراء ممتازين بحيث يستطيعون أن يقرنوا إلى كبار الشعراء في العراق. وإذا استمررنا نتقدم في القرن الثالث أحسسنا بأن مصر بدأت تتضح شخصيتها قليلا، فقد ظهرت فيها طائفة من الصوفية على رأسها ذو النون المصري، كما ظهر فيها الترف، أو بعبارة أدق بدأت تأخذ في أسبابه، وأتاح لها ذلك -من بعض الوجوه- قيام الدولة الطولونية، فإن أحمد بن طولون كانت لديه نزعة إلى الغناء2 كما كانت لديه نزعة إلى الترف، فاهتم ببناء القصور والبساتين، وقالوا: إنه كان ينفق على طعامه كل يوم ألف دينار3، وكان ابنه خمارويه يحب الشراب ويسرف فيه4، ويظهر أنه كان مولعًا بالترف، فقد اهتم اهتمامًا واسعًا بالبستان الذي غرسه أبوه، وجلب إليه ضروب الرياحين والأشجار من كل نوع، كما جلب إليه ضروب الورد والزعفران والنيلوفر، وكسا أجسام النخل نُحاسًا مذهبًا حسن الصنعة، وتفنَّن فيه بضروب من الزخرف.

_ 1 أخبار أبي نواس: لابن منظور "طبع مصر" ص234. 2 المغرب "القسم الخاص بمصر". 3 النجوم الزاهرة 3/ 8. 4 نشوار المحاضرة: للتنوخي ص261.

والتجميل1. وروى الرواة أنه كان بقصره بركة من الزئبق طولها خمسون ذراعًا وعرضها خمسون، أقيمت عليها أساطين من الفضة، شدت إليها زنانير من الحرير تحمل فراشًا كان ينام عليه "وكانت هذه البركة يرى لها في الليالي المقمرة منظر عجيب إذا تألف نور القمر بنور الزئبق"2. وليس من شك في أن هذه الصورة بالغة من الثَّراء والترف، وقد تكون هي أهم الأسباب التي جعلت الشعراء يبكون الدولة الطولونية بكاءً شديدًا3. وتجتمع النصوص التي أثرت عن الدولة الطولونية أن الشعراء كثروا في عهدها4، وهي كثرة أتاحت للصولي فيما بعد أن يكتب عن أخبار شعراء مصر كتابًا5، غير أن هذا الكتاب مفقود، وربما كان أهم شاعر ظهر في هذا العهد هو الجمل الأكبر المتوفى عام 358 للهجرة. يقول ياقوت: "كان شاعرًا مفلقًا مدح الخلفاء والأمراء"6 وتخصص أخيرًا بابن طولون. ويقول صاحب المغرب أنه كان ينحو نحو الفكاهة والدعابة، غير أنه لم يصلنا من شعره، ما نستطيع به أن نحكم حكمًا واضحًا على قيمته الفنية أو قيمته الفكاهية. وإذا انتقلنا إلى عصر الإخشيديين وجدنا شاعرهم الفكه الملقب بقاضي البقر ومن شعره الماجن7: يا ربِّ دعني بلا صلاحِ ... يا ربِّ ذرني بلا فلاحِ يدي مدى الدَّهر فوق ردفٍ ... وراحتي تحت كأسِ راحِ واشتهر في هذا العصر أيضًا أبو هريرة أحمد بن أبي عصام، وفيه يقول صاحب المغرب: "كان من شعراء الإخشيد المصريين من أصحاب النوادر والمجون والإدمان على شرب الخمر، ومن شعره في وصف مجالس الشراب. مجلسٌ لايرى الإله به غيـ ... ـر مُصَلٍّ بلا وضوءٍ وطهرِ

_ 1 خطط المقريزي 1/ 316. 2 خطط المقريزي 1/ 317. 3 انظر: النجوم الزاهرة 3/ 140 وما بعدها. 4 نفس المصدر 3/ 140. 5 معجم الأدباء 2/ 415. 6 معجم الأدباء 4/ 76. 7 المغرب: لابن سعيد ص272.

سُجَّدٌ للكئوسِ من دون تسبيـ ... ح سوى نغمةٍ لعودٍ وزمْرِ"1 وروى له صاحب اليتيمة أبياتًا أخرى ذكر فيها دير القصير ومجونه2 به، ولكنا لا نستطيع أن نحكم حكمًا واضحًا منها على شاعريته. واشتهر مع هذين الشاعرين في نفس الحقبة ابن طباطبا نقيب الطالبين بمصر، ونجد في شعره الذي رواه صاحب اليتيمة وصاحب المغرب نفس النغمة السابقة من اللهو والمجون كقوله3. أأتركُ الشربَ والأَنواءُ دائمةٌ ... والطَّلُّ منها على الأشجارِ منثورُ والغصن يهتز كالنشوانِ من طربٍ ... والوردُ في العودِ مطويٌّ ومنشورُ وكان له إلى جانب ذلك شعر في الزهد4. ومهما يكن فإن مصر حتى الآن لم تستطع أن تقدم لنا شاعرًا ممتازًا من طراز الشعراء العباسيين ولا من طراز مقارب لهم، فكل ما هناك أنها أخذت -في هذه العصور- تستعد للنهضة الفنية المنشودة التي سنراها في عصر الفاطميين.

_ 1 المغرب ص273. 2 يتيمة 1/ 361. 3 المغرب ص203. والأنواء: الأمطار. 4 ابن خلِّكَان 1/ 39.

الفاطميون ونهضة الشعر المصري

4- الفاطميونَ ونهضةُ الشِّعْرِ الْمَصْريّ: إذا تركنا هذه العصور إلى العصر الفاطمي خيِّل إلينا كأنما طلعت الشمس من مغربها، كما يقول المعز نفسه أول خلفائهم بمصر في كتاب له1، فقد اتخذ الفاطميون من القاهرة عاصمة لهم، وأقاموا فيها دولة عظيمة أشبه ما تكون بإمبراطورية ضخمة، إذ كان سلطانهم يمتد من شواطئ إفريقية الشمالية

_ 1 الاتعاظ: للمقريزي "طبعة بونتز" ص141.

إلى نهر الفرات؛ وبذلك أعادوا لمصر مجدها القديم في عصر الفراعنة، إذ استردت ما كان لها في الشرق من سلطان وهيبة وثروة. وإن الإنسان ليخيَّل إليه حين يقرأ في تاريخ الفاطميين وما كانوا عليه من بذخ وترف وثراء أن مصر ألقت في حجورهم كل ما تملك من كنوز وزروع، وأي كنوز وزروع؟ لقد ساق المؤرخون ذلك علينا في صور تشبه أن تكون أقاصيص، ولذلك شك فيها بعض الباحثين1 غير أن هذا الشك لا يغني أمام الوثائق التاريخية الصحيحة، فإن المؤرخين يجمعون على ضخامة ثروة هذه الدولة، ويكفي للدلالة على ذلك أن نعرف أن يعقوب بن كلس وزيرها في القرن الرابع كان يأخذ من الخليفة مائة ألف دينار في العام، ولما توفي ترك من الجواهر ما قيمته أربعمائة ألف دينار ومن المصوغات ما قيمته خمسمائة ألف دينار2، ويقولون إنه أُنفق في كفنه من العطور التي استخدمت في تجهيزه عشرة آلاف دينار3، وكذلك نجد في أوائل القرن السادس الهجري وزيرهم الأفضل الجمالي يخلِّف ثروة ضخمة، إذ ترك ستمائة ألف ألف دينار عينًا، ومائتين وخمسين أردبًّا دراهم نقد مصر، وخمسة وسبعين ألف ثوب أطلس، إلى غير ذلك من طُرَف وتحف وصفها ابن ميسِّر وابن خلكان4، وإذا كان هذا حال وزرائهم فما حال خلفائهم وأمرائهم؟ ولعلنا لا نعجب بعد ذلك إذ نرى القاضي الفاضل يصف كنوزهم التي استولى عليها صلاح الدين فيقول: "وفي ثالث عشرين -يعني ربيعًا الآخر سنة سبع وستين وخمسمائة- كُشِفَ حاصل الخزائن الخاصة بالقصر ... ومقدار ما يحدس أنه خرج من القصر ما بين دينار ودرهم ومصاغ وجوهر ونحاس وملبوس وأثاث وقماش وسلاح ما لا يفي به ملك الأكاسرة، ولا تتصوره الخواطر الحاضرة ولا يشتمل عليه مثله الممالك العامرة، ولا يقدر على حسابه إلا من يقدر على

_ 1 STANLEY, LANE-POOLE, THE STORY OF CAIRO,P. 133 2 الإشارة إلى من نال الوزارة: لابن منجب ص23. 3 ابن خلِّكان 2/ 336. 4 ابن خلكان 1/ 222 وقد بالغ ابن ميسر في وصف هذه الثروة، انظر: أخبار مصر: لابن ميسر ص57.

حسابات الخلق في الآخرة1. والحق أن العصر الفاطمي يفتح في تاريخ مصر صفحة جديدة، وهي صفحة زاهية بما تصوره من ألوان الثراء والبذخ وما ينطوي في ذلك من ترف ونعيم، ولذلك لم يكن عجبًا أن يزورها المقدسي في أواخر القرن الرابع الهجري فيقول عنها "هي الإقليم الذي افتخر به فرعون على الورى، أحد جناحي الدنيا، ومفاخره لا تحصى، مصره قبة الإسلام، ونهره أجل الأنهار، وبخيراته تغمر الحجاز، وبأهله يبهج موسم الحاج، وبُرُّهُ يعم الشرق والغرب، قد وضعه الله بين البحرين، وأعلى ذكره في الخافقين، حسبك أن الشام -على جلالتها-رُسْتاقة، والحجاز مع أهلها عياله"2. واستتبع هذا المركز لمصر وما كانت فيه من نعيم وثراء في أثناء هذا العصر أن انبعث فيها نهضة أدبية في الشعر كادت أن تتفوق بها على ما كان بالأندلس وغيرها من الأقاليم، وساعد على ذلك أن الفاطميين بذلوا للشعراء كل ما يستطيعون من جوائز ومكافآت. روى المقريزي في أثناء كلامه على بركة الحبش أنه "كان بها طاقات، وعليها صور الشعراء، كل شاعر واسمه وبلده، وعلى جانب كل من هذه الطاقات قطعة من القماش كتب عليها قطعة من شعر الشاعر في المدح وعلى الجانب الآخر رفٌّ لطيف مذهّب، فلما دخل الخليفة الآمر "495- 524" وقرأ الأشعار أمر أن توضع على كل رفٍّ صرَّة مختومة فيها خمسون دينارًا، وأن يدخل كل شاعر ويأخذ صرته بيده"3. ونجد الشعراء في كل مكان وزمان من العصر الفاطمي وقد كثروا كثرة مفرطة، حتى قالوا إنه لما مات يعقوب بن كلس في القرن الرابع رثاه مائة شاعر، ونجد في الخريدة مجموعة من الشعراء تتخصص ببني رزَّيك، كما نجد كثيرين آخرين يمدحون الملوك والخلفاء من مثل طلائع الآمري المنسوب

_ 1 خطط المقريزي 1/ 496. 2 أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم "طبع ليدن" ص139. 3 خطط المقريزي 1/ 486.

إلى الخليفة الآمر"1 ومثل الشريف ابن الأخفش وله مدائح كثيرة في الآمر والحافظ2، ويظهر أن الشعراء الذين يمدحون الخلفاء زادوا عن الحاجة في عهد الحافظ "524- 544" ولذلك نراه يأمرهم بالإيجاز والاختصار في قصائدهم3: أمرتنَا أن نصوغَ المدحَ مختصرًا ... لم لا أمرتَ ندى كفَّيكَ يُخْتَصَرُ واللهِ لا بد أن نجري سوابقَنا ... حتى يبين لها في مدحك الأثرُ ومن يتصفح الخريدة يلاحظ حقًّا أن الشعراء اتسعوا في مديح الدولة الفاطمية وخاصة في أواخر عصرها اتساعًا شديدًا، واخذوا يبالغون في مدح خلفائها حتى ليرفعونهم إلى مرتبة الآلهة كقول الشريف ابن الأخفش في مديح الحافظ: وقد بدأه بغزل وخمر ثم خرج إلى المديح فقال4: صرفُ جريالٍ يرى تحريمها ... من يرى الحافظ فردًا صمدا بَشَرٌ في العين إلا أنهُ ... من طريقِ العقلِ نورٌ وهدى جل أن تدرِكُهُ أعينُنا ... وتعالى أن نراه جسدا فهو في التسبيحِ زلفى راكع ... سمع اللهُ به من حَمَدا تُدْرك الأفكارُ فيه نبأ ... كاد من إجلالِه أن يُعْبَدا وواضح أن الشاعر يسبغ على الخليفة صفات ربه، فهو يخاطبه وكأنه يخاطب رب العالمين، وعلق على هذه الأبيات صاحب الخريدة بقوله: "اقتصرت على هذه أنموذجًا لشركه، وأخَّرت الباقي من سلكه". وكنا نأمل من العماد أن لا يقتصر وأن لا يؤخر حتى نطلع بصورة واضحة على مدائح الشعراء للفاطميين وما اتخذوا فيها من صنوف الغلو، غير أنه كان كاتبًا لصلاح الدين الذي قامت دولته السنية للقضاء على دولة الفاطميين الشيعية، ولذلك رأيناه ينبذ مثل هذا الشعر الذي يتطرف في مديح الفاطميين، وصرح بذلك مرارًا في

_ 1 انظر خريدة القصر وجريدة العصر "قسم شعراء مصر" للعماد الأصفهاني "طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر" 2/ 166. 2 انظر الخريدة 1/ 238. 3 الخريدة 2/ 64. 4 الخريدة 1/ 241. والجريال: الخمر.

خريدته، يقول في ترجمة شاعر يسمى ابن الضيف: "كان من دعاة الأدعياء والغلاة لهم في الولاء، وكان في حدود سنة خمسمائة في عهد آمرهم، وله فيه مدائح كثيرة، لدواعي المنائح مثيرة، وقع إلىّ ديوانه بخطه، وكنت عازمًا لفرط غلوه على حطه؛ لأنه أساء شرعًا، وإن أحسن شعرًا، بل أظهر كفرًا، لكنني لم أترك كتابي منه صفرًا "1. وساق له قطعة صغيرة من شعره، ولم يقف صاحب الخريدة بإهماله لهذا الجانب عند الشعراء المفرطين في تشيعهم، بل تعداهم إلى غيرهم من مثل ظافر الحداد المتوفى عام 529 للهجرة، يقول في ترجمته: "ظافر بحظه من الفضل ظافر، يدل نظمه على أن أدبه وافر، وشعره بوجه الرقة والسلاسة سافر، وما أكمله لولا أنه من مدَّاح المصري والله له غافر"2. ومع ذلك ساق العماد بعض قطع لهؤلاء الشعراء وغيرهم، تصوِّر غلوهم في المديح على نحو ما رأينا عند الشريف ابن الأخفش كما ساق طرفًا من القصائد التي قيلت في معارك الصليبيين في أثناء العصر الفاطمي. والحق أن الخريدة تمثل لنا شخصية مصر تمام التمثيل إذا نحن أغضينا النظر عن مدائح الفاطميين، بل إن هذه المدائح نفسها صورت في الخريدة إلى حد ما. ونحن في الواقع نغفل مصر لا بإغفالنا للخريدة ونحوها من الكتب المخطوطة وعدم عنايتنا بقراءتها فضلا عن نشرها، بل نحن نغفلها ولا نقرؤها حتى في الكتب المطبوعة، وكذلك الشأن في دواوين شعرائها لا نقرؤها ولا ننشرها نشرة علمية صحيحة. وإن أي شخص يعنى بمصر ويقرؤها في مراجعها يجدها تملك عليه نفسه، فقد عبَّرت خير تعبير عن شخصيتها، وماذا تريد من شعرائها؟ أتريد تصويرهم لبيئتهم وما فيها من جنات وزروع؟ لقد بلغوا من ذلك كل مبلغ،

_ 1 الخريدة 1/ 285. ويقول العماد: إنه كان يقلد ابن هانئ، ويقول ابن سعيد: "إنه كثير المعارضة لطريقة ابن هانئ الأندلسي في الغلو وصقل الألفاظ وقعقعتها". 2 الخريدة 2/ 3.

وانظر إلى تميم بن المعز يقول في النيل1: يومٌ لنا بالنيلِ مختصرٌ ... ولكل يوم مسرَّة قصرُ والسُّفنُ تجري كالخيولِ بنا ... صعدًا وجيشُ الماءِ منحدرُ وكأنَّما أمواجُهُ عُكَنٌ ... وكأنما داراته سرَرُ2 ويصف ابن قلاقس3 آخر شعراء هذا العصر مغرب الشمس: هذا المنظر الذي تشتهر به مصر، فيقول وقد رآها تغرب في عين النيل: انظرْ إلى الشمسِ فوق النيلِ غاربةً ... واعجب لما بعدها من حُمْرةِ الشَّفقِ غابت وأبدت شعاعًا منه يخلُفُهَا ... كأنها احترقت بالماءِ في الغرقِ وتعلق الشعراء بوصف الزهور والزروع التي تحف بالنيل، ومن أشهرهم في ذلك ابن وكيع التنيسي4 المتوفى عام 393 للهجرة. كقوله في وصف الأزهار 5: من نرجسٍ أبيضَ كالثغورِ ... كأنه مخانقُ الكافورِ6 وروضةٍ تزهرُ من بنَفسجٍ ... كأنها أرضٌ من الفيروزجِ يضحكُ منها زهر الشقيقِ ... كأنَّهُ مداهن العقيقِ وارم بعينيك إلى البَهَارِ ... فإنه من أحسن الأزهارِ كأنه مداهنٌ من عسْجَدِ ... قد سُمِّرت في قضبِ الزَّبرجدِ وتبعه الشعراء يتغنون بهذه الأزهار والأنوار، وأضافوا إليها نغم

_ 1 انظر ترجمة تميم في: ابن خلكان واليتيمة والحلة السيراء لابن الأبار "طبعة أوربا" ص291. وله ترجمة مستفيضة في مسالك الأبصار "انظر القسم الثاني من نسخة مخطوطة بدار الكتب مأخوذة عن نسخة فوتوغرافية بها ص2180". وقد قال صاحب المسالك أنه يقلد في شعره ابن المعتز على إسفاف وركاكة فيه وقد تشبث مثله بوصف الزهر والخمر والغزل. 2 العكن: جمع عكنة، وهي ما تثنى من طيات البطن سمنًا. 3 آخر شعراء العصر الفاطمي إذ توفي عام 567هـ، وديوانه مطبوع، وشعره يمتلئ بالجناس وضروب التصنع والتكلف. 4 أكبر شعراء مصر في القرن الرابع. ترجم له صاحب اليتيمة وكذلك صاحب المسالك في القسم الثاني عشر من النسخة السابقة، وقد قال: إن له كتابًا اسمه "المنصف" رد فيه شعر المتنبي إلى أصوله ومصادره من الشعر القديم، فهو شاعر ناقد عالم، وشعره كله خمر وزهر وغلمان. 5 يتيمة 1/ 327. 6 مخانق: جمع مخنقة، وهي القلادة.

أخرى من غنائهم بالنواعير، كقول أبي الفرج الموقفي في ناعورةٍ1: ناعورةٌ تحسبُ في صوتِها ... متيمًا يشكو إلى زائرِ كأنما كيزانُها عصبةٌ ... صيبوا بريبِ الزمنِ الواترِ قد منعوا أن يلتقوا فاغتَدَى ... أوَّلهم يبكي على الآخِرِ ويقول ظافر الحداد2: وكأنما القُمريُّ ينشد مصرعا ... من كل بيتٍ والحمامُ يُجيزُ وكأنما الدولابُ يزمُرُ كلما ... غنَّت وأصوات الضفادع شِيزُ3 وواضح في هذا الشعر ميل الفاطميين إلى جمال التصوير وإدماجه في حسن التعليل، وقد تشبثوا به في شعرهم تشبثًا شديدًا، وهو أحد الألوان المهمة التي تكسب فنهم روعة خاصة، ولعل من الطريف أن الفاطميين كما وصفوا النيل وما على حفافيه من زهور وزروع ونواعير. وصفوا أيضًا ما على ضفتيه من آثار وخاصة الهرمين وأبا الهول، وانظر إلى هذه الصورة التي صورها ظافر الحداد4: تأمَّل بِنْيَةَ الهرمين وانظرْ ... وبينهما أبو الهولِ العجيبُ كعمَّارِيَّتين على رحيلٍ ... لمحبوبين بينهما رقيبُ وماءُ النيلِ تحتهما دموعٌ ... وصوتُ الريحِ عندهما نحيبُ وهي صورة طريفة تدل على أن صاحبها من أصحاب المخيلات اللاقطة التي تستطيع أن تضم أجزاء المنظر الواسع في الطبيعة بعضها إلى بعض وتؤلف منها صورة مركزة دقيقة، فإذا الهرمان كمحبوبين في عماريتين أو هودجين يبكيان لرحيلهما وفراقهما، وآية هذا البكاء ذلك النيل الذي يجري تحت أقدامهما متجمعًا من دموعهما! والحق أن الشعر الفاطمي صور بيئة بلاده تصويرًا طريفًا، وهو كما عني بتصوير البيئة التي كان يتنفس فيها عني كذلك بتصوير أهل هذه البيئة

_ 1 الخريدة 2/ 218. 2 الخريدة 2/ 13، وكان أصل ظافر حدادًا، ثم شَدَا الشعر ونبغ، وله أوصاف كثيرة في النيل والنخيل والبلح بأنواعه. انظر: حسن المحاضرة 2/ 229 وما بعدها. 3 الشيز: الآبنوس أو خشب الجوز، يريد صوته. 4 الخريدة 2/ 7.

ونفسياتهم، فقد تعرضت صفحات منه لتصوير موجة المجون التي كانت عامة في هذه العصور، كما تعرضت صفحات أخرى لتمثيل موجة الزهد والتصوف التي سبق أن تحدثنا عنها. ولعل مما يمثلها من بعض الوجوه هذا الشعر الزاهد الذي نجده في الخريدة من مثل قول بعض الشعراء1: جهادُ النَّفس مفترضٌ فخذْها ... بآدابِ القناعةِ والزهادَةْ. فإن جنحتْ لذلك واستجابتْ ... وخالفتِ الهوى فهو الإرادةْ وإن جمحتْ بها الشهواتُ فاكبحْ ... شكيمَتَهَا بمقْمَعَةِ العبادَةْ عساك تحلُّها درج المعالي ... وترفعها إلى رُتَب السَّعادَةْ وتعلق شاعر يسمى ابن الكيزاني بهذا الجانب يقول صاحب الخريدة عنه: "فقيه واعظ مذكِّر حسن العبارة مليح الإشارة، لكلامه رقة وطلاوة ولنظمه عذوبة وحلاوة، مصري الدار، عالم بالأصول والفروع، عالم بالمعقول والمشروع، مشهود له بألسنة القبول، مشهور بالتحقيق في علم الأصول، وكان ذا رواية ودراية بعلم الحديث، إلا أنه ابتدع مقالة ضل بها اعتقاده، وزل في مزلقها سداده، وادعى أن أفعال العبادة قديمة، والطائفة الكيزانية بمصر على هذه البدعة إلى اليوم مقيمة. واعتقد أن التنزيه في التشبيه، عصم الله من ذلك كل أديب أريب ونبيل نبيه، وله ديوان شعر يتهافت الناس على تحصيله وتعظيمه وتبجيله لما أودع فيه من المعنى الدقيق، واللفظ الرشيق، والوزن الموافق، والوعظ اللائق، والتذكير الرائع الرائق، توفي بمصر سنة ستين وخمسمائة، وهو شيخ ذو قبول، وكلام معسول، وشعر خالٍ من التصنع مغسول. والكيزانية بمصر فرقة منسوبة إليه يدَّعون قدم الأفعال، وهم أشباه الكرامية بخراسان"2. ويقول ابن خلكان: "كان زاهدًا ورعًا، وبمصر طائفة ينسبون إليه ويعتقدون مقالته، وله ديوان شعر أكثره في الزهد ولم أقف عليه، وسمعت له بيتًا واحدًا أعجبني وهو: وإذ لاقَ بالمحبِ غرامٌ ... فكذا الوصلُ بالحبيبِ يليقُ

_ 1 الخريدة 2/ 95. 2 الخريدة 2/ 18.

وفي شعره أشياء حسنة"1. ويقول ابن سعيد: "وقفت على ديوانه، وهو مشهور عند الناس قريب من أفهام العامة غير مُرْض عند صدور الشعراء, وديوانه كثيرًا ما يباع في سوق الفسطاط وسوق القاهرة. ولم أََرَ فيه ما يصلح للاختيار"2. ويظهر أن ابن سعيد قسا عليه في الحكم فقد أشاد به صاحب الخريدة، وإن كان لاحظ عليه أن شعره "لم يَخْلُ من وهن اللحن" ولكنه يقول: إن ذلك "مقبول في سبيل الوعظ"3. وروى له قطعة كبيرة من شعره إلا أنها كلها من الغزل الصوفي، وهو غزل كله تواجد، وليس فيه مادية ولا حسية على نحو ما نعرف في غزليات ابن الفارض، وأكبر الظن أنه أراد به إلى معانٍ دينية غير معاني الغزل الحقيقي، فهو من غزل المتصوفة. وعلى كل حال هو غزل سهل سهولة مطلقة، وقد ألِّف أكثره من الأوزان القصيرة. وهو من هذه الناحية أخف وألطف من غزل ابن الفارض؛ لأنه لم يملأه بالتصنع والبديع مثله، ولأننا نحس فيه بجو واسع من الحب الصوفي ومعانيه كقوله4: اصرفوا عني طبيبي ... ودعني وحبيبي علِّلوا قلبي بذكرا ... هـ فقد زادَ لهيبي طابَ هَتْكي في هواهُ ... بين واشٍ ورقيبِ لا أبالي بفوات النَّفـ ... س ما دام نصيبي ليس من لامَ وإن أطْـ ... نبَ فيهِ بمصيبِ جسدي راضٍ بسُقْمي ... وجفوني ونحيبي وواضح ما في هذا الغزل من روح المتصوفة إذ يتصل مباشرة بمبدأ التوكل عندهم وأنه لا يصح للمريض منهم أن يتعلل بدواء وهذه الموجة من الزهد

_ 1 ابن خلكان 2/ 18. 2 المغرب "القسم الخاص بمصر" ص 261. 3 الخريدة 2/ 40. 4 الخريدة 2/ 20.

والتصوف كان يقترن بها موجة أخرى من الترف، وزكَّاها ما سبق أن عرضنا له من ثراء الفاطميين وما ينطوي في هذا الثراء من دعة. ولعل ذلك ما جعل المقدسي يلاحظ أن أهل مصر أهل ترف وتجمل في ثيابهم1، ونمت هذه الحال على ما يظهر بعد المقدسي، إذ نرى مدينة تنِّيس تخرج -في القرن الخامس- نوعًا جديدًا من نسيج الثياب يسمى: أبا قلمون، وهو نسيج كان يظهر للرائي في ألوان متقلبة2. ولعل مما يدل على هذا الترف من بعض الوجوه ما لاحظه "ناصر خسرو" على أهل مصر من ولعهم بالأزهار واتخاذ أصصٍ لها على سطوح بيوتهم حتى تصير السطوح كأنها حدائق3. ويروي المقريزي أنه: "كان يُصْنَعُ للخليفة بمصر قصر من الورد بقرية من قرى قليوب، كان بها جنان وورود كثيرة، وكان الخليفة يخرج في يوم يسمى يوم قصر الورد إلى تلك القرية متنزهًا"4. وليس من شك في أن هذا كله دليل على أن ذوق مصر أترف في العصر الفاطمي، وساق الناس ترفهم إلى اللهو والقصف، وغرقوا إلى آذانهم في هذه الموجة هم وأمراؤهم، وآية ذلك أن حياة تميم بن المعز كانت لهوًا وخمرًا، وكذلك كان شعره، ولم تكن هذه الموجة من اللهو خاصة بالقصر بل تعدته إلى الناس حتى المشايخ، يقول المقدسي: "إن المشايخ في مصر لا يتورعون عن شرب الخمور"5 ويقول المقريزي: "كانت هناك قاعات مختلفة للخمارين بالفسطاط والقاهرة، وكان الفاطميون يكتفون بمنع الخمر في آخر جمادى في كل سنة"6. وساعد على اتساع هذه الموجة أن الفاطميين اهتموا اهتمامًا بالغًا بأعياد الشعب من إسلامية وقبطية، وينقل المقريزي عن المسبِّحي المتوفى عام 420 للهجرة وصفًا فخمًا لهذه الأعياد نتبين منه أنها كانت "كرنفالات" عظيمة.

_ 1 المقدسي ص205. ويظهر أن هذه النزعة في المصريين كانت أقدم من العصر الفاطمي، انظر الولاة والقضاة: للكندي ص460. 2 الحضارة الإسلامية: لمتز 2/ 298 وورد ذكر أبي قلمون في شعر الشريف للعقيلي وهو من شعراء النصف الأول من القرن الخامس. انظر: المغرب "قسم مصر" ص244. 3 الحضارة الإسلامية 2/ 182. 4 خطط المقريزي 1/ 488. 5 المقدسي ص200. 6 خطط المقريزي 1/ 491.

توقد فيها النار والمشاعل، ويجتمع الناس ومعهم التماثيل والمضاحك والخيال، ويتخذون ما شاءوا من اللهو والفسق والفجور1. ويظهر أن الشعراء اندفعوا في التعبير عن هذه الموجة اندفاعًا، فإن من يقرأ الشعر الفاطمي يجد أكثره زهرًا وخمرًا وغلمانًا كقول ابن وكيع: غرَّد الطيرُ فنبَّه من نعسْ ... وأدرْ كأسَكَ فالعيشُ خُلَسْ سلَّ سيفُ الفجرِ من غمد الدُّجى ... وتعرَّى الصبحُ من ثوبِ الغَلَس2 وإذا كانت موجة الزهد السابقة وجدت من يتخصص فيها كابن الكيزاني، فإن هذه الموجة الماجنة كثر المتخصصون فيها فقد تخصص فيها أول هذا العصر تميم وابن وكيع، ثم جاء شعراء القرنين الخامس والسادس فاتسعوا فيها وزادوا في الطنبور نغمة بل نغمات. واشتهر بغناء هذا اللحن في القرن الخامس الشريف العقيلي في أوله، ثم ابن مكنسة في آخره، ومن شعره في الخمر3: إبْريقُنا عاكفٌ على قَدَحِ ... تخالُهُ الأمَّ ترضعُ الولدا أو عابدًا من بني المجوسِ إذا ... توهَّم الكأسَ شعلةً سَجَدا ويقول ابن قادوس وهو من شعراء الخريدة الماجنين4: راحٌ إذا سفك الندمانُ من دَمِها ... ظلَّت تقهقِه في الكاسات من جَذَلِ ويقول أيضًا5: قم قبل تأذينِ النواقيسِ ... واجل علينا بنت قسِّيسِ عروس دنٍّ لم يدعْ عتقُها ... إلا شعاعًا غيرَ ملموسِ تُجْلى علينا باسمًا ثغرُها ... فلا تقابلها بتعبيسِ مُذْهَبةُ اللون إذا صفِّقَتْ ... مُذْهِبةٌ للهمِّ والبوسِ

_ 1 المرقص والمطرب: لابن سعيد ص45. 2 الغلس: الدُّجى. 3 المرقص والمطرب ص64. 4 الخريدة 1/ 228. 5 الخريدة 1/ 227.

لا غَرو ما تأتيهِ من ريبةٍ ... لأنها عنصُرُ إبليسِ ليس لها عيبٌ سوى أنَّها ... حسرةُ أقوامٍ مفاليسِ ولم يقف الشعراء عند ذلك بل نراهم يتطرقون إلى ذكر العورات في صور يعف القلم عن ذكرها. وأظهر الفاطميون رقة شديدة في غزلهم، وهي رقة كانت متفشية في الناس حتى جعلت لغتهم -كما لاحظ المقدسي1- رخوة، فهم يتظرفون ويرقون منتهى ما يكون من تظرف ورقة، وأورثنا ذلك عنهم طائفة واسعة من غزل رقيق كقول ظافر الحداد2. يا ساكني مصر أما من رحمةٍ ... فيكم لمن ذهب الغرامُ بلبِّه أمِنَ المروءةِ أن يزورَ بلادكم ... مثلي ويرجع مُعْدَمًا من قلبِهِ وكان ينساق مع هذا الجانب من الرقة جانب آخر من الظرف والفكاهة والدعابة، وسبق أن لاحظنا اتصال هذا الجانب بالشعراء المصريين قبل عصر الفاطميين، واستمرت هذه الظاهرة في العصر الفاطمي وكثر الشعر الذي يمثلها من القرن الرابع إلى القرن السادس، إذ نجد ابن وكيع في مفتتح هذا العصر يداعب غلامًا نصرانيًّا في مربعة طويلة3، شكا له فيها من حبة، ثم عرج على صدِّه، وتوعده أن هو لَجَّ في هجره أن يعرض أمره على القساوسة والشمامسة والرهبان، فإن أبى عليه وتمنع عرض أمره على الأسقف فالمطران فالبطرك: ولا تلُمني إن قصدت الأسقفا ... من برَّحَ السُّقمُ به رام الشِّفا فلا تقل أبديتُ مكنونَ الجفا ... أنت الذي أحوجتني أن أكْشِفا سوف إلى الْمُطرانِ أنهي قصَّتي ... إن دام ما تؤثرُهُ من هجرتي فإن رثى لي طالبًا معونتي ... ولم تشفِّعه بكشفِ كربتي

_ 1 المقدسي ص203، 205. 2 الخريدة 2/ 12. 3 يتيمة 1/ 317.

شكوت ما يلقاهُ من فَرْطِ السَّقمِ ... قلبي إلى البَطْرَك والحبرِ العلم وتستمر هذه الروح الفكهة في الأدب الفاطمي حتى عصر الجليس بن الحباب المتوفى عام 561 للهجرة فقد روى له صاحب الخريدة هذه القطعة يشكو فيها من طبيب على سبيل المداعبة1. وأصلُ بليَّتي من قد غزاني ... من السقم الملحِّ بعسكرينِ طبيبٌ طبُّهُ كغرابِ بينٍ ... يفرِّق بين عافيتي وبيني2 أتى الحمَّى وقد شاختْ وباختْ ... فردَّ لها الشبابَ بنسختينِ ودبَّرها بتدبيرٍ لطيفٍ ... حكاهُ عن سنانٍ أو حنينِ وكانت نوبةً في كل يومٍ ... فصيَّرها بحذقٍ نوبتينِ وإذا تركنا الجليس بن الحباب إلى من جاءوا بعقبه وجدنا بينهم كثيرين اشتهروا بهذه الروح مثل قمر الدولة، وكان يعيش في صدر القرن السادس، وكان "طريف الصنعة في مجونه، اجتمعت فيه أسباب المنادمة: يضرب بالعود، ويغني ويلعب بالشطرنج وهو صاحب نوادر ومضاحك"3. ومن شعره في ابن أفلح الكاتب وكان أسود: هذا ابنُ أفلحَ كاتبٌ ... متفرِّدٌ بصفاتِهِ أقلامُهُ من غيرِهِ ... ودواتُهُ من ذاتِهِ ونستمر فنجد ابن قادوس الشارع المشهور في هذا العصر بنوادره، كما نجد كثيرين غيره وقد نبزوا بألقاب تدل على هذه الروح فيهم، فلقب بعضهم باسم شلعلع وآخر باسم النسناس وثالث باسم الوضيع، ورابع باسم الجهجهان وخامس باسم الكاسات: "وكان خفيف الروح كثير المجون، يضحك بنوادره وسخفه المحزون"4. وما نزال نلقى نوادر هؤلاء الشعراء حتى ننتهي في آخر هذا القسم

_ 1 الخريدة 1/ 192. 2 البين: البعد والفراق. 3 انظر في هذا النص والشعر بعده: الخريدة 2/ 218. 4 الخريدة 2/ 61.

من الخريدة الخاص بمصر بالشاعر الفكة ابن مكنسة. والحق أن الشعراء المصريين في العصر الفاطمي مثلوا بيئتهم وطبيعتهم وروحهم وشعورهم تمثيلا صادقًا طريفًا. وقد وقفنا طويلا عند هذه الجوانب لأننا لم نجد أحدًا من الباحثين كشف عن هذه النواحي في الشعر المصري. وقد كنا نظن أن مصر ليست ذات خطر في تاريخ الشعر العربي! وأكبر الظن أن القارئ قد لاحظ أن المصريين لم يستحدثوا لأنفسهم صياغة فنية جديدة، فأساليبهم وأخيلتهم في التعبير عن بيئتهم وتصوير ترفهم ومجونهم كل ذلك كانوا يتأثرون فيه المشرق، بل لا نبعد إذا قلنا إنهم كانوا يقلدونه تقليدًا شديدًا، ولولا ما يميزهم من تصوف وفكاهات ودعابات لأحسسنا باتساع حركة التقليد على نحو ما أحسسنا بها في الأندلس. ومع ذلك فنحن نحسها بوضوح إذ نرى شعراء هذا العصر منذ افتتاحه يتشبثون بأوصاف العباسيين في الخمر والطبيعة والغزل، نرى ذلك عند تميم بن المعز وابن وكيع في القرن الرابع، وعند الشريف العقيلي وابن مكنسة في القرن الخامس، ثم بعد ذلك عند ظافر الحداد وابن الصياد وطلائع الآمري والشريف ابن الأخفش وابن قادوس والمهذب بن الزبير. واستعرض اليتيمة والخريدة والمغرب فسترى التفكير الفني عند المصريين يتصف بشارات التفكير الفني عند المشارقة، ويزيد على ذلك حال الاختلاط والاضطراب التي سبق أن وصفناها عند الأندلسيين، فالشاعر يخلط بين جميع المناهج العباسية، وآية ذلك أنك تجد له قطعة من ذوق الصانعين وأخرى من ذوق المصنعين وثالثة من ذوق المتصنعين في غير نسق ولا نظام. وكان شأن المصريين شأن الأندلسيين في أنهم نقلوا مجموعة ألوان التصنيع ونقصد الألوان الحسية من جناس وطباق وتصوير وأخذوا يضيفون إليها تلفيقًا ولفًّا ودورانًا، ويتراءى لنا ذلك بوضوح منذ القرن الخامس عند الشريف العقيلي الذي كان يتصنع كثيًرا للجناس والطباق، كما كان يتصنع في صوره وأخيلته. وكان يضيف إلى تصنعه بعض اصطلاحات من العلوم، واستمر هذا شأن المصريين من بعده، وغاية ما في الأمر أننا نرى بعضهم يتوسع في تلفيقه وتصنعه، وما يقترحه على نفسه من ضروب

مشقة وتكلف من مثل ابن الأخفش إذ يبدأ إحدى قصائده على هذا النمط1. سقى دِمَنَ السَّفحين لقطْر صيِّبُ ... وحيَّا رُبى حيٍّ رَبا فيه ربربُ2 ومالي عن شرعِ الصبابةِ مَشْرَعٌ ... ومالي إلا مذهب الحبِّ مذهبُ وفي الحيّ رُودٌ في عذاب ورودها ... عذابٌ يذيبُ العاشقينَ ويعْذُبُ3 فإنك تحس أن الشاعر يفتعل الجناس افتعالا فهو يتصيده بكل وسيلة وحيلة، وإذن فإياك أن تظن أن شخصية المصريين في شعرهم باعدت بينهم وبين صورة الفن في الشعر عند المشارقة، فلا تزال الصورة قائمة، وغاية ما في الأمر أن خفة روح المصريين في شعرهم هي التي تحول بيننا وبين رؤية الحقيقة. واستمع إلى هذه القطعة لشلعلع وكان شاعرًا فكهًا4: أجللت مدم إيما إجلالِ ... عن ظن إخلادٍ إلى إخلالِ أو ريبةٍ في الودِّ تخرج قاصدًا ... من فَرْطِ إدلالٍ إلى إذلالِ وحساب تسويفٍ ومطل عن غنى ... يفضي بإمهالٍ إلى إهمالِ آليتُ أبرحُ سائلا لك نائلا ... يُوسَى ببلِّ نداه بالي البالي حتى يراجعَ فيَّ عاطفةَ العُلا ... كرمٌ يزينُ الفضلَ بالإفضالِ وأرى بعودِ نداك عودي مورقًا ... ومعطَّل التأميل حالي حالي واستمر شلعلع على هذا النمط يصعِّب على نفسه المرور إلى قافيته، فهو يرصد قبلها كلمة ثم يلتزم الجناس بين هذه الكلمة وبين القافية، وكأنه يتأثر في ذلك تصنع أبي العلاء الذي مر بنا في الكتاب الثاني. وكما نجد هذه الصورة المتكلفة في الجناس نجد مثيلا لها في الطباق وفي التصوير، وانظر إلى قول ابن الأخفش في عذار غلام5:

_ 1 الخريدة 1/ 283. 2 الدمن: آثار الديار. الصيب: السحاب الممطر. الربى: جمع ربوة، ما ارتفع من الأرض، ربا: نمى. الربرب: القطيع من بقر الوحش. 3 رود: نساء جميلات جمع رادة. 4 الخريدة 2/ 130. 5 الخريدة 1/ 240.

وكأن العذارَ في حُمرة الخدِّ ... على حسنِ خدِّك المنعوتِ صولجانٌ من الزُّمردِ معطو ... فٌ على أكْرةٍ من الياقوتِ ألا تحس أن هذه صورة مجتلبة، فقد ربطت مخيلة الشاعر بين شيئين متباعدين، ونحن نجد في الخريدة لمحمد بن هانئ قصيدة كلها صفوف من التشبيهات والصور إذ تمضي على هذا الشكل1: كأن ثغورَ العامريَّات كلما ... تبسَّمنَ نورُ الأقحوانِ الذي رفا كأن شذا الخيريِّ سرُّ محدِّثٍ ... تخوَّف أن تُصغي له الشمسُ فاستخفى كأن غصون الآسِ تحت اخضرارها ... قدودُ مهًا يحملن من سندسٍ لُحْفَا ومهما يكن فقد كان هذا ذوق العصر الفاطمي إذ نرى الشعراء -فيما سوى ابن الكيزاني- غارقين إلى آذانهم في ضروب من التصنع والتلفيق، وبلغ بهم ذلك مبلغًا كبيرًا بحيث كادوا لا يتركون شيئًا من هذه الضروب للعصور التالية، وماذا تريد؟ هل تريد الاقتباس من القرآن الذي شاع في العصر الأيوبي؟ لقد بدءوا به، وانظر إلى قول الشاعر الفكه شلعلع في ابن الدباغ2: تعالت قرونُ ابن الدَّباغِ فأصبحتْ ... تجلُّ عن التحديدِ في اللفظِ والمعنى على بعضها ناجى النبي إلهه ... وقد كان منه "قاب قوسين أو أدنى" ويقول شاعر آخر في مغنٍّ يسمى مرتضى3: لمرتضَى معبدٌ عَبْدٌ إذا صدرتْ ... أصواتُهُ عنه في النَّادي بتغريدِ قد غاضَ طوفانُ همِّي حين أسمعني ... ألحانَه فاستوى قلبي على "الجودي" وأنت ترى الشاعر الأول اقتبس من القرآن كلمة "قاب قوسين أو أدنى" واقتبس الثاني كلمة "استوت على الجودي" بعد تحريف بسيط. واترك لون الاقتباس فإنك ترى عندهم لون التضمين الذي شاع بعد ذلك كقول:

_ 1 الخريدة 1/ 274. 2 الخريدة 2/ 124. 3 الخريدة 2/ 152. والجودي: جبل.

المهذب بن الزبير، وكان من الشعراء الممتازين في أواخر العصر الفاطمي1: أقْصِرْ -فديتُك- عن لومي وعن عَذْلي ... أو لا فخذ لي أمانًا من ظُبا الْمُقَلِ من كل طرفٍ مريضِ الجفن تنشدنا ... ألحاظُهُ "ربَّ رام من بني ثعل" إن كان فيه لنا وهو السقيمُ شِفًا ... "فربما صحَّت الأجسامُ بالعللِ" فقد ضمن البيت الثاني شطرًا من شعر امرئ القيس، كما ضمن البيت الثالث شطرًا من شعر المتنبي، وكان يتأثره كثيرًا في شعره، واترك لون التضمين فإنك ترى عندهم لونًا آخر شاع عند من جاءوا بعدهم، وهو لون الاكتفاء كقول ابن قادوس2: مَنْ عاذري من عاذلِ ... يلومُ في حبِّ رَشا إذا نكرت حبَّه ... قال كفى بالدمعِ شا يريد كفى بالدمع شاهدًا. وواضح ما في البيتين من جناس، وكأني بالعصر الفاطمي لم يترك شيئًا للعصور التالية حتى الألغاز نجدها في هذا العصر فقد اختص بها شاعر إسكندري يسمى ابن مجبر3، وكذلك الأوزان الموشحة نجدها في هذا العصر عند شاعر يسمى علي بن عياد وهو أيضًا إسكندري4، وحتى الطرق التي سبق أن رأيناها عند الحريري من صنع قصيدة غير منقوطة نجدها أيضًا عند شعراء هذا العصر5، وماذا حدث بعد ذلك؟ إنه لم يحدث سوى لون التّورية كما يزعم ابن حجة وصلاح الدين الصفدي، فقد ذهبا إلى أن القاضي الفاضل هو الذي أحدث هذا اللون6، غير أن هذا وهمٌ منهما، فقد كانت التورية شائعة في العصر الفاطمي منذ أوائل القرن الخامس، إذ اقترنت بروح الفكاهة التي سبق أن تحدثنا عنها، وسنقف لنتحدث قليلا عن ثلاثة شعراء مهمين: هو الشريف العقيلي وابن مكنسة وابن قادوس، لنتبين حقيقة

_ 1 الخريدة 1/ 206. 2 الخريدة 1/ 230. 3 الخريدة 2/ 230. 4 الخريدة 2/ 44. 5 الخريدة 2/ 163. 6 انظر خزانة الأدب: للحموي ص54، 241، 276.

نشأة التورية، ونتعرف أكثر مما صنعنا -حتى الآن- على حقيقة العصر الفاطمي. الشَّريفُ الْعُقَيلِي: الشريف أبو الحسن علي بن حيدرة العقيلي، أهم شاعر ظهر بمصر في النصف الأول من القرن الخامس الهجري. يقول ابن سعيد: سألت عنه جماعة من أهل مصر، فلم أَرَ فيهم من يتحقق أمره، وقال لي أحد الشرفاء المعنيين بأنساب الشرف هو من ولد عقيل بن أبي طالب، كان في المائة الرابعة، وكان له متنزهات بجزيرة الفسطاط، ولم يكن يشتغل بخدمة سلطان ولا مدح أحد، ثم وقفت في الخريدة على ترجمته، فدل على أنه متأخر العصر عن المائة الرابعة، وذكر أنه من ولد عقيل بن أبي طالب، من أهل مصر وأنشد له: كأن الثُّريا والهلالُ أمامَها ... يدٌ مدَّها رامٍ إلى قوسِ عَسْجَدِ ثم وقع لي ديوان1 شعره فنقلت منه ما يشهد بعلو قدره وهو من أئمة المشبِّهين"2. وحقًّا إن الخريدة لا تعنى غالبًا إلا بمن عاشوا في المائة الأخيرة من العصر الفاطمي، على أننا نجد صاحب اليتيمة المتوفى عام 429 للهجرة يترجم له في يتيمته3، كما نجد المقريزي يروي أنه أنشد المستنصر شعرًا له في العام الذي بدأت فيه سنين المجاعة بمصر4، وهو عام 442 للهجرة ونستطيع أن نستنتج من ذلك كله أنه كان يعيش في النصف الأول من القرن الخامس الهجري. والشريف العقيلي شخصية طريفة في الشعر الفاطمي، بل في الشعر المصري العام، فقد روى له صاحب المغرب قطعة طويلة من شعره، وهي -مثل ديوانه- تُرينا أنه كان شاعرًا ممتازًا من شعراء الطبيعة، حقًّا سبقه في ذلك الموضوع ابن وكيع فقد

_ 1 طبع هذا الديوان في القاهرة، بتحقيق زكي المحاسني. 2 المغرب "السفر الأول من قسم مصر" ص205. 3 يتيمة 1/ 372. 4 خطط المقريزي 1/ 489.

قَصَرَ نفسه عليه، غير أننا نجد ابن وكيع لا يعيش بشعوره وأحاسيسه في الطبيعة، فهو يعجب بألوانها وأشكالها، ويصورها من خلال ذلك، أما الشريف العقيلي فقد فتن بها -على ما يظهر- فتنة شديدة جعلته يعنى بمتنزهاته على نحو ما يروي ابن سعيد، كما جعلته في شعره يتعمق الطبيعة ويصل نفسه بنفسها، ويعيش مع كل حركة وكل همسة فيها، وأتاح له ثراؤه ورقته وحبه لها أن يقصر نفسه عليها، فذهب يملؤها بمختلف الوجوه والشخوص، وكأني به كان من ذوي العيون الباصرة أو العيون الشاعرة التي تستطيع أن ترد صور الطبيعة إلى كثير من الرؤى والأحلام الغريبة، وساعده على ذلك أنه كان يتصل بالطبيعة روحًا وحسًّا، وزاد في اتصاله بها أنه كان صبًّا بالخمر، فذهب يتغنى بها وبالطبيعة من حوله، وبدت له الأزهار والثمار والأشجار في صورة خيالية مثيرة كأن يقول1: أمهاتُ الثِّمارِ بين الرَّوابي ... تائهاتٌ بلبسِ خضرِ الثيابِ أو يقول2: السُّحب تُرْضعُ من بنات الأرضِ ما ... جعلَ الربيعُ لها الغصونَ مُهُودا وواضح أنه يعمد إلى التشخيص، وملء الطبيعة بالشعور والأحاسيس، وكان يضيف إلى هذا التشخيص مقدرة واسعة على التجسيم، ومقدرة أخرى لعلها أوسع منها، ونعني قدرته على حشد المنظر الواسع في لمحة، كقوله3: قد بُيِّضتْ قبةُ السَّماءِ ... وزُرِّقت قاعةُ الفضاءِ وقوله4: الغيمُ ممدودُ السُّرادقْ ... والزهرُ مفروشُ النَّمارِقْ ومراودُ الأمطارِ قدْ ... كُحلت بها حدقُ الحدائقْ

_ 1 المغرب ص211. 2 المغرب ص225. 3 المغرب ص207. 4 المغرب ص230.

وقوله1: ستائرُ الأوراقِ منصوبةٌ ... قيانُها من خلفها الورقُ فاشربْ على ألحانِها واسْقني ... شمسًا لها من كأسِها شَرقُ وقوله2: فهات زواهرَ الكاساتِ مَلْأى ... إلى الحافاتِ بالذَّهبِ المذابِ فكيرُ الجوِّ يوقدُ نارَ بَرْقٍ ... إذا خمدتْ تدخنُ بالضَّبابِ وقوله3: وبركةٍ قد أثارنا عجبا ... ما عاجَ من مائها وما انسَكَبا يدركها الوردُ كلما ارتعدتْ ... منه بجمرٍ يظلُّ ملتهبا من حولِ فوَّارةٍ مركَّبةٍ ... قد انحنى ظهر مائه تعَبَا وقوله4: وروضةٍ كالحلة الخضراءِ ... محدقةٍ ببركةٍ حسناءِ قد لبست عقد طيور الماء ... لبس السماء أنجم الجوزاء وعلى هذا النمط تغرق أبصارنا عنده في صور ووجوه وشخوص لا عداد لها، وبجانب ذلك نجد دعابة طريفة في الشريف العقيلي، كما نجد عنده لون التورية المعروف من مثل قوله5: وشاعرٍ شعرُهُ فنونُ ... لكلِّ بيتٍ له طنينُ تُسْخِنُ عينَ العدوِّ منْهُ ... قصائدٌ كلُّها عيونُ وقوله في يوم النَّحر، وهو الشعر الذي أنشده المستنصر على ما مر في رواية المقريزي6:

_ 1 المغرب ص233. والورق: الحمام. 2 المغرب ص210. 3 نفس المصدر ص209. 4 نفس المصدر ص208. 5 نفس المصدر ص244 6 المغرب ص207. وانظر: خطط المقريزي 1/ 489.

قمْ فانْحرِ الرَّاح يوم النحرِ بالماءِ ... ولا تضحِّ ضُحىً إلا بصهباءِ1 وعُجْ على مكَّةَ الروحاء مبتكرًا ... فطفْ بها حولَ ركنِ العودِ والناءِ2 وقوله3: وزامرٍ يكذبُ فيه عائبُهْ ... تكثُرُ في صنعتِهِ عجائبُهْ يحجبُ صبرَ المرءِ عنه حاجبُهْ ... فيشكُرُ الشاربَ منه شاربُهْ كأنما ناياتُهُ ذوائِبُهْ فأنت ترى أنه ورَّى أولا في العيون ثم ورَّى ثانيًا في الضحى، ثم ورَّى ثالثًا في حاجب وشارب وذوائب، وهناك توريات له أخرى في الخريدة يعف القلم عن ذكرها لما فيها من مجون وفحش، وإذن فليست التورية شيئًا حادثًا أحدثه القاضي الفاضل كما ظن الحموي والصفدي، بل هي قديمة منذ الشريف العقيلي، وأيضًا فإن تصنع الشعراء لألوان البديع قديمٌ منذ هذا الشاعر، فشعره فيه طباق ومشاكلة وجناس كثير، وفيه أيضًا تكلف الصور والتصنع لاصطلاحات العلوم. وكان يستخدم في شعره عامة مراعاة النظير استخدامًا لم نره حتى عند شعراء الخريدة المتأخرين، وكان ذلك يوقعه كثيرًا في صور متكلفة كقوله4: ولما أقلعت سفنُ المطايا ... بريحِ الوجْدِ في لُجَجِ السرابِ جرى نظري وراءهم إلى أنْ ... تكسَّر بين أمواجِ الهضابِ فقد شبَّه الهوادج بالسفن ثم دفعته مراعاة النظير أن يأتي بالريح واللجج والأمواج. على أنه ينبغي أن نلاحظ أن عنده شعرًا كثيرًا يخلو من التصنيع والتصنع جملة، وهذا إلى فكاهاته ودعاباته، واستمع إلى هذه الدعابة في بعض من يهواه5:

_ 1 تضحي: تذبح الأضحية. الصهباء: الخمر. 2 الناء هنا: الناي، قلب الياء همزة؛ لضرورة القافية. 3 الخريدة 2/ 63. 4 المغرب ص211. 5 المغرب ص429.

قطَّع قلبي بمديةِ التيهِ ... وذرَّ من ملحِ صدِّه فيهِ ولفَّه في رُقاقِ جفوتِهِ ... وقطَّع البقل من تجنِّيهِ وقال لي: كُلْ، فقلت آكل ما ... أمْرِضُ قلبي به وأوذيهِ؟ وهكذا نجد الشريف العقيلي يميل إلى الدعابة والفكاهة والتورية في شعره كما نجده يستخدم أدوات التصنيع والتصنع جميعًا. وتلك هي صورة الشعر الفاطمي كله؛ فدائمًا نجد الشعراء يخلطون بين المذاهب الفنية السابقة، ولكنهم مع ذلك يعبرون عن شخصيتهم ومرحهم وفكاهاتهم كما يعبرون تعبيرًا طريفًا عن جمال الطبيعة في بيئتهم. ابْنُ مكنَسَةَ: كان يعيش في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس في عصر الأفضل بن بدر الجمالي1، وكان مختصًّا بأبي مليح النصراني جد ابن مماتي، ولما توفي قال فيه: طويت سماءُ المكرماتِ ... وكوِّرت شمسُ المديحْ وكان يتصنع في شعره للجناس3؛ ولكن شعره على كل حال خفيف، ويبدو فيه جمال التصوير وحسن التعليل كقوله في غلام وعقرب شَعْرِهِ4: قلت إذ عقربَ الدَّلا ... ل على خَدِّه الشَّعرْ هذه آيةٌ بها ... ظهرَ الحسنُ واشتهرْ ما رُئي قطُّ قبل ذا ... عقربٌ حلَّتِ القمرُ وساق صاحب الخريدة طرائف من فكاهاته ومداعباته كقوله5: لي بيت كأنه بيت شِعْر ... لابن حجَّاج من قصيدٍ سخيفِ

_ 1 الخريدة 2/ 203. وانظر: فوات الوفيات 1/ 26. 2 الخريدة 2/ 205. 3 الخريدة 2/ 209. 4 الخريدة 2/ 207. 5 الخريدة 2/ 211.

أين للعنكبوتِ بيتٌ ضعيفٌ ... مثلُهُ، وهو مثلُ عقلي الضعيفِ بقعةٌ صدَّ مطلعُ الشمسِ عنها ... فأنا مذ سكنتُها في الكسوفِ وواضح ما في كلمة الكسوف من تورية؛ إذ هو يريد به معناها العامي من الخجل لا كسوف الشمس! ويروي له صاحب الخريدة قطعة أخرى من قصيدة يذهب فيها مذهب الهزل، وهي قوله1: أنا الذي حدثكم ... عنه أبو الشَّمَقْمَقِ وقال عني إنني ... كنت نديم المتقي وكنتُ كنت كنـ ... ـت من رماة البندقِ حتى متى أبقي كذا ... تيسًا طويلَ العُنُقِ بلحيةٍ مُسْبلةٍ ... وشاربٍ محلَّقِ يا ليتها قد حلقت ... من وجهِ شيخٍ خَلَقِ وانظر إلى هذه المقطوعة الفكهة التي ذهب يشكو فيها من كبره وضعفه وشيخوخته وقد ارتعش في أثناء حديثه؛ فكونت رعشته بيتًا من أبياتها، كل ذلك؛ لينال ما يريد من دعابة وفكاهة، ويقول2: عشت خمسين بل تزيـ ... د رقيعًا كما ترى أحسب المقلَ بندقًا ... وكذا الملْحُ سكَّرا 3 وأظنُّ الطويلَ من ... كل شيء مدوَّرا قد كَبِرْ بِرْ بِبِرْ بِبِرْ ... ت وعقلي إلى ورا عجبًا كيف كلُّ شـ ... ـيءٍ أراه تغيَّرا لا أرى البَيْضَ صار يؤ ... كَلُ إلا مُقَشَّرا وإذا دُقَّ بالحجا ... ر زجاجٌ تكسَّرا فأنت تراه في البيت الرابع يرتعش في كلمة كبرت هذه الرعشة الطريفة،

_ 1 الخريدة 2/ 214. 2 الخريدة 2/ 214. 3 المقل: ثمر الدوم.

ولعل في هذا كله ما يدل على أن الشعر المصري مثَّل في هذا العصر مزاج المصريين وميلهم إلى الدعابة والنكتة. ابْنُ قادُوسٍ: يقول صاحب الخريدة في ترجمته: "القاضي أبو الفتح محمود بن إسماعيل كاتب الإنشاء بالحضرة المصرية، قال القاضي الفاضل: توفي سنة إحدى وخمسين، وأنشدني له أشعارًا محكمة النسج كالدر في الدرج"1. ومن يرجع إلى القطعة التي رواها له صاحب الخريدة يلاحظ أنه كان يميل إلى جملة ألوان التصنيع والتصنع في شعره كقوله2: أثر المشيب بفوده وفؤاده ... ألجأه أن يبغي لديها الجاها وقوله3: مليكٌ تذل الحادثاتُ لعزِّه ... يعيدُ ويبدي والليالي رواغمُ وكم كربةٍ يوم النِّزالِ تكشَّفت ... بحملاته وهي الغواشي الغواشمُ تشيد بناء الحمد والمجد بيضُهُ ... وهن لآساس الهوادي هوادمُ4 رقاقُ الظُّبي تجري بآجالِ ذي الورى ... وأرزاقهم فهي القواسي القواسمُ وابن قادوس في ذلك كان كشعراء عصره جميعًا؛ إذ يميلون إلى توشية شعرهم بهذه الألوان، ولكن ذلك الجانب فيه ليس هو الذي نريد أن نقف عنده؛ إنما نريد أن نقف عند جانب الفكاهة والدعابة في شعره، فقد كان خفيف الروح جدًّا، وانظر إليه يتهكم على شاعر أسودِ5: إن قلت من نارٍ خُلِقْـ ... تَ وفُقْتَ كل الناسِ فَهما قلنا صدقت فما الذي ... أطفاكَ حتى صرتَ فَحْما وكان يميل ميلًا واضحًا إلى التورية إذ كان الناس يتعلقون بها طوال

_ 1 الخريدة 1/ 226. 2 الخريدة 1/ 226 3 الخريدة 1/ 229 4 البيض: السيوف. 5 الخريدة 1/ 229.

العصر الفاطمي والعصور التي جاءت بعده، ومن تورياته قوله في الشاعر السابق1: يا شبه لقمانَ بلا حكمةٍ ... وخاسرًا في العلم لا راسخا سلختَ أشعارَ الورى كلِّهم ... فصرت تُدعى الأسودَ السالخا وقوله2: أهون بلون السَّوادِ لونًا ... ما فيه من حُجَّةٍ لناسبْ لست ترى حمرةً لخدٍّ ... فيه ولا خضرةً لشاربِ ولابن قادوس بعد ذلك دعابات ونوادر كثيرة، ويظهر أنه كان يقذع جدًّا في أهاجيه؛ إذ كان يخرجها مخرج السخرية كقوله في منافق3: حوله اليوم أناسٌ ... كلهم يزهى برائهْ وهو مثلُ الماءِ فيهم ... لونُه لونُ إنائِهْ والحق أن الشعر المصري نهض في العصر الفاطمي نهضة واسعة؛ إلا أنه ينبغي أن نلاحظ أن شعراء هذا العصر جميعًا كانوا يخلطون دائمًا بين المذاهب الفنية العباسية، فدائمًا ترى عند الشاعر الواحد قطعة من ذوق الصانعين وأخرى من ذوق المصنعين وثالثة من ذوق المتصنعين في غير نظام ولا نسق معين، ومع ذلك فقد مثل الشعراء بيئتهم وزهدهم وتصوفهم ومجونهم ونوادرهم في فنهم وشعرهم تمثيلًا واضحًا.

_ 1 الخريدة 1/ 226. والأسود: الثعبان. 2 الخريدة 1/ 233. 3 الخريدة 1/ 233. ورائه: رأيه.

الأيوبيون ونهضة الشعر في عهدهم

5- الأيوبيونَ ونهضةُ الشِّعرِ في عهدِهِمْ: إذا انتقلنا إلى العصر الأيوبي لاحظنا أن موجة هذه النهضة في الشعر والفن تستمر في عهد الأيوبيين، وإن كنا نحس ألوانًا من السواد والكآبة تدخل فيها، إذ نرى القاضي الفاضل وغيره من الشعراء يشكون من زمانهم. وكان من آثار ذلك أنه

رأينا الفكاهة التي قابلتنا في العصر الفاطمي تقل في هذا العصر، وإن استمر الشعراء يستخدمون التورية؛ ولكنا نلاحظ أن التورية أصبحت عندهم باهتة ولا جمال فيها؛ لأن النفوس لم تكن مطوية على مرح. وكان للحروب الصليبية أثر في ذلك؛ فإنها خلقت جوًّا من الصراع الكئيب بين الشرق والغرب، وكأنما كان انتهاء الدولة الفاطمية مؤذنًا بانتشار هذا الجو الخانق في نفوس الناس، ولعله من أجل ذلك كانوا يتهافتون في هذا العصر تهافتًا شديدًا على ديوان ابن الكيزاني لما فيه من زهد كما يقول صاحب المغرب1، وغنَّاهم ابن الفارض هذه النغمة فأعجبوا به وبشعره الصوفي إعجابًا شديدًا. ولعل من العجيب أن ابن الفارض لم يكن ينهج في شعره نهج ابن الكيزاني من ترك التصنع لفنون البديع، بل على العكس من ذلك نراه لا يكاد يخرج بيتًا دون توشيته بألوان من هذه الفنون، ولعل في ذلك ما يدل على أن موجة البديع وما يطوى فيها من ضروب تصنع كانت أكثر حدَّة في هذا العصر؛ إذ رأيناها تزحف إلى شعر التصوف2. على أنه ينبغي أن نعرف أن الفاطميين سبقوا الأيوبيين إلى هذه الجوانب من التصنيع ومن يندمج فيها من الخلط بين المذاهب الفنية المختلفة، وكأني بهم لم يتركوا لهم شيئًا سوى أن يتعلقوا بركابهم. ولعل من الطريف أن المؤرخين قصوا علينا أن القاضي الفاضل كان يتعلق بركاب ابن قادوس بعد خروجهما من الديوان؛ وإن هذه القصة لترمز إلى العصر الأيوبي كله؛ فقد كان شعراؤه يتعلقون بركاب شعراء العصر الفاطمي؛ فهم يحتذون مُثُلَهم ويقلدون نماذجهم ويتصنعون لما تركوه من تورية واقتباس ومراعاة نظير واكتناء، مضيفين ذلك كله إلى مجموعة ألوان التصنيع القديمة من جناس وطباق وتصوير. وكان

_ 1 المغرب ص261. 2 يلاحظ أننا أهملنا الحديث في هذا الفصل عن ابن الفارض وشعره الصوفي كما أهملنا البوصيري ومدائحه للنبي -صلى الله عليه وسلم- وكذلك أهملنا قبل ذلك الحديث عن الشعر الشيعي في العصر الفاطمي؛ لأن هذا الكتاب لا يعنى بالشعر الشيعي والصوفي؛ إنما يعنى بالشعر العربي العام.

يظهر من حين إلى حين من ينفر من جملة هذه الألوان كابن مماتي الذي كان ينفر من الجناس؛ إذ يقول1: طبع المجنِّس فيه نوع قيادةٍ ... أو ما ترى تأليفه للأحرُفِ غير أن ابن مماتي لا نحكم به على العصر كله؛ فقد كانت جمهرة الشعراء تنساق نحو العناية بجملة هذه الألوان، وسبقهم إلى ذلك القاضي الفاضل وزير صلاح الدين وتلميذ الفاطميين: ابن قادوس وغيره. وكان أحد المصادر التي استقى منها العماد خريدته عن الشعر الفاطمي. وتبعه تلميذه وصديقه ابن سناء الملك، وكان يعنى خاصة بصنع الموشحات، ثم جاء من بعده ابن النبيه، وأخيرًا نجد البهاء زهير، ولم يكن يبالغ في استخدام هذه الألوان إلا أنه على كل حال كان يتصنع لها في شعره على الرغم من سهولته المطلقة، ونحن نقف قليلًا عند القاضي الفاضل وابن سناء الملك والبهاء زهير. القَاضِي الفَاضِلُ: هو عبد الرحيم البيساني العسقلاني الملقب بالقاضي الفاضل، أصل أبيه من بيسان، وتولى القضاء والحكم بعسقلان2، ولما شب ابنه عبد الرحيم أرسله إلى ديوان الإنشاء بالقاهرة في العصر الفاطمي أيام الحافظ "524- 544" فتتلمذ فيه على أشْهَرِ الكتاب والشعراء في هذا العصر3. ثم التحق بخدمة قاضي الإسكندرية المعروف بابن حديد، ثم تركه إلى ديوان الإنشاء بالقاهرة مرة أخرى في عصر الظافر4 الفاطمي "544- 549"، ولما استقل أسد الدين شيركوه بالوزارة التحق بخدمته، ثم بخدمة صلاح الدين من بعده وقرَّبَه صلاح الدين منه، وسرعان ما أصبح وزيره ومشيره الأول في شئون الدولة، وأتاحت له هذه الصلة أن يلمع اسمه في سماء الأدب: شعره ونثره؛ فقد أكثر المؤرخون

_ 1 خزانة الأدب للحموي ص21. 2 الروضتين في أخبار الدولتين: لأبي شامة 1/ 50. 3 الروضتين 2/ 244. 4 انظر: ابن خلكان 2/ 408.

والكتاب والشعراء من مدحه، وانظر إلى العماد الأصبهاني يقول فيه: "رب القلم والبيان واللَّسن واللسان، والقريحة الوقَّادة، والبصيرة النقادة، والبديهة المعجزة، والبديعة المطرزة، والفضل الذي ما سمع في الأوائل ممن لو عاش في زمانه لتعلق بغباره، أو جرى في مضماره فهو كالشريعة المحمدية التي نسخت الشرائع، ورسخت بها الصنائع"1. وليس من شك في أن تمجيد صاحب الخريدة هو الذي جعل صلاح الدين الصفدي وابن حجة الحموي يقعان في خطئهما ويظنان أن القاضي الفاضل هو الذي استحدث التورية! ونحن نتساءل ما هي الشريعة التي يشير إليها العماد؛ فإن من يرجع إلى ديوان القاضي الفاضل2 لا يجد فيه إلا شاعرًا من الطبقة الثانية، ومن الصعب أن نقرنه إلى الشعراء الممتازين في العصر الفاطمي لا من حيث روحه وقلة الدُّعابة عنده، بل من حيث شعره العام؛ إذ نرى فيه آثار التكلف والتلفيق واضحة كقوله في القصيدة الأولى من ديوانه يصف بلاغته: ولي قلمٌ منه عينُ الكلا ... م يجري فتنظرُ عينَ الكمالِ يراعٌ تظل رياضُ الطرو ... س منها موشحة بالصلال3 وكتبٌ يفيضُ بأرجائها ... يمين الْجَدَا ولسان الجدالِ تقدَّمها الشكلُ من فوقها ... كمثل السهامِ أمام النِّصالِ وكم بريت وانبرت للعدوِّ ... كوثب الشرارِ وهدِّ الجبالِ وَكَم قد كَسَبنَ عَواري ظُبًا ... وَكَم قد سَلَبنَ عَواري عَوالي يكلِّلُ أفلاكَ قرْطاسِها ... شموسٌ شوامسُ عند الزوالِ فهل تجد في هذا الشعر روحًا أو جمالًا سوى هذا التلفيق للجناس، وكان يتصنع له كثيرًا كما كان يتصنع لضروب الطباق والتصوير الأخرى من تشخيص وغير تشخيص، وأيضًا فإنه كان يتصنع لاصطلاحات العلوم كقوله5:

_ 1 الخريدة 1/ 35. 2 انظر ديوان القاضي الفاضل "نسخة فوتوغرافية بدار الكتب" وقد ذكر الناسخ في آخرها أنه كتبها من نسخة كثيرة التصحيف. 3 الصلال: جمع صل وهو الحية. 4 العوالي: الرماح والقنا. 5 انظر خزانة الأدب: للحموي ص453.

لي عندكم دينٌ ولكن هل له ... من طالبٍ وفؤادي المرهونُ فكأنني ألِفٌ ولامٌ في الهوى ... وكأن موعد وصلكم تنوينُ أو تورياته فلعل أطرفها ما رواه ابن حجة من قوله1: في خدِّه فخٌ لعطفةِ صُدغِهِ ... والخالُ حَبَّتُه وقلبي الطائرُ وقوله2: بالله قل للنيل عني إنني ... لم أشفَ من ماءِ الفرات غليلا وسل الفؤادَ فإنه لي شاهدٌ ... أن كان طرفي بالبكاء بخيلا يا قلب كم خلَّفت ثمَّ بثينةً ... وأظن صبرك أن يكون جميلا فقد ورَّى في الطائر وجميل. ومهما يكن فشعر القاضي الفاضل لا تبدو عليه خفة الروح التي رأيناها في الشعر الفاطمي، وربما كان ذلك يرجع إلى أنه ليس مصري النشأة؛ إذ كان من عسقلان؛ فهو لا يعبر عن الروح المصرية. على أننا قلما نجد عند غيره هذه الروح، وكأنما نضب معينها تحت لفح الحروب الصليبية، وأيًّا كان فشعر القاضي الفاضل واضح فيه التكلف والتصنع لألوان البديع ومصطلحات العلوم، وهو شعر في الجملة مصنوع، وقلما نجد فيه شعورًا أو جمالًا. ابْنُ سَنَاءِ الْمُلْكِ: لا نبالغ إذا قلنا إن هبة الله بن سناء الملك أكبر شاعر عرفته مصر في القرن السادس للهجرة3، ولد في القاهرة سنة 550 لأبٍ متشيع كان يعمل في دواوين الفاطميين، وكان صديقًا للقاضي الفاضل؛ فلما تحول زمام الأمور إلى صلاح الدين استبقاه القاضي الفاضل فيمن استبقاهم للخدمة في دواوينه.

_ 1 خزانة الأدب ص241. 2 نفس المصدر ص242. 3 انظر ترجمته في: الخريدة "قسم شعراء مصر 1/ 64. ومعجم الأدباء "طبعة مصر" 19/ 265. وابن خلكان وغيره من كتب التاريخ والتراجم.

وأحاط الأب ابنه برعاية شديدة؛ فأحضر له المؤدبين والمثقفين من أمثال ابن برّي العالم النحْوي اللُّغوي المشهور وأرسله إلى السلفي في الإسكندرية يستمع إلى دروسه في الحديث. ولم تلبث مواهبه الشعرية أن استيقظت فيه، فقربه القاضي الفاضل إليه، وعينه في الدواوين، وخصه بالكتابة بين يديه في مصر وحين كان يرحل مع صلاح الدين إلى الشام في حروبه مع الصليبيين، ولما تطورت الأمور حين توفي صلاح الدين واعتزل القاضي الفاضل الخدمة ظل ابن سناء الملك في عمله الديواني إلى أن توفي سنة 608. ولم يكن ابن سناء الملك شاعرًا فحسب؛ بل كان أيضًا كاتبًا وناقدًا، وله كتاب يسمى "فصوص الفصول" لم يطبع، وهو يتضمن رسائل بينه وبين القاضي تدور في كثير من مسائل الأدب والشعر. وهو أول من اهتم من المصريين بصنع موشحات على غرار الموشحات الأندلسية، وقد وضع فيها كتابًا سماه "دار الطراز" تحدث فيه عن نظام الموشحات ومصطلحاتها1، اختار فيه للأندلسيين أربعة وثلاثين موشحًا وأضاف إليها خمسة وثلاثين من إنشائه. وديوانه ضخم وقد طبع أخيرًا في الهند، وهو يكثر فيه من مديح القاضي الفاضل وصلاح الدين، وتسجيل انتصارات الأخير على الصليبيين، وإن كنا نلاحظ عنده ضعفًا في البناء وشتان بين سيفيات المتنبي في حروب سيف الدولة، وصلاحياته في حروب صلاح الدين، وهي ملاحظة تعم شعراء هذه العصور فإنه قلما نجد بينهم من يستطيع أن يصور تصويرًا رائعًا الأعمال الحربية التي كان يقوم بها صلاح الدين ومن جاءوا بعده مثل الظاهر بيبرس، ولعل ذلك ما دعا أصحاب الأدب الشعبي إلى كتابة سيرة عنترة والظاهر بيبرس وغيرهما؛ كأنهم لم يجدوا عند أصحاب الشعر الفصيح ما يثير الحمية في نفوس أبناء الشعب إلا قليلًا، فعمدوا إلى كتابة هذه السير والقصص. وليس من العدل أن نقيس ابن سناء الملك بالمتنبي، فحسبه أنه كان مجليًا بين شعراء عصره، ونحن لا نقرأ فيه حتى نحس المبالغة الشديدة، وهي تتجلى

_ 1 نشر جودة الركابي هذا الكتاب بتحقيقه.

في فخره على شاكلة قطعته المشهورة: سواي يخاف الدهر أو يرهب الرَّدى ... وغيري يهوى أن يعيش مخلَّدا ولكنني لا أرهبُ الدَّهر إن سطا ... ولا أحذرُ الموتَ الزؤامَ إذا عدا ولو مد نحوي حادثُ الدَّهرِ كفَّه ... لحدَّثت نفسي أن أمدَّ له يدا وكان يميل إلى السهولة في شعره مع تحليته بألوان التصنيع، ولم يغب عنه مذهب التصنع؛ إذ كان يتصنع على طريقة معاصريه للمصطلحات العلمية كقوله: وجدتك بحرًا طبَّق الأرض مدُّه ... فلم تبقَ عندي رخصةٌ للتيمُّمِ وقوله هاجيًا: ما فوه ميمٌ ولكنه ... علامةُ الجزمِ في الميمِ ونراه يكثر من اقتباس الآيات القرآنية على شاكلة قوله: فقال لقد"آنست نارًا" بخدِّه ... فقلت: وإني ما "وجدت بها هدى" يشير بذلك إلى قصة موسى حين قال لأهله: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً} ولا نبالغ إذا قلنا إن موشحاته أروع من أشعاره؛ فقد كان يوفر لها النغم الحلو الرشيق كقوله: البدرُ يحكيك ... لولا تَثَنِّيك بالضمِّ أجْنيكَ ... للصدرِ أدْنيك ونحس مزاجه المصري وخفة روحه في كثير من الموشحات كقوله يمدح القاضي الفاضل: لما جلسْ. وقد رأسْ ... فكم غرسْ. من الدول وكم رتق. مما انفتق. وما لُحق ... لما خلق. وهاب. بلا حساب وهو لا يبارى في موشحاته وما يجمع لها من هذه الألفاظ العذبة ذات الجرس والرنين البديع الذي يمتع النفس والشعور.

الْبَهَاءُ زُهَيْر: هذا الشاعر من خير من يعبرون عن الروح المصرية في العصر الأيوبي، ولد في الحجاز بمكة1؛ غير أنه نشأ وتربى في قوص2، وأكبر الظن أنه كان مصري الدار وأنه ولد في أثناء حج أبويه، وكانت قوس التي نشأ بها تعد ثالثة مدن مصر بعد القاهرة والإسكندرية في هذه العصور، وقد تخرج فيه في أثناء العصر الفاطمي غير شاعر، كما تخرج فيها في أثناء هذا العصر ابن مطروح الشاعر رفيق البهاء وصديقه المعروف بوصفه لأسر ملك فرنسا في عهد الملك الصالح بالمنصورة؛ إذ يقول في ذلك من قصيدة طويلة طريفة3: قل للفرنسيس إذا جئته ... مقالَ صدقٍ من قئولٍ نصيحْ دارُ ابنِ لقمانَ على حالها ... والقيدُ باقٍ والطواشي صبيحْ والتحق بهاء الدين وزميله ابن مطروح بخدمة الملك الصالح حينما أرسله أبوه الملك الكامل لحكم بلاد الفرات، ولما توفي أبوه قرَّبهما منه جميعًا، وعهد إلى بهاء الدين بديوان الإنشاء، ولعل من الطريف أن الصديقين كانا من ذوق يميل إلى السهولة المطلقة إلا أن البهاء يتفوق بخفة الروح والعذوبة في الأسلوب، وكاد جمهور شعره أن يذهب في الغزل؛ فهو الموضوع الذي شغل نفسه به طوال حياته، ويرى "بالمر" في مقدمته لديوان البهاء أنه كان صادقًا في غزله، ولكن ينبغي أن نتريث في هذا الحكم؛ لأن البهاء يقول في بعض شعره: أذكرُ اليوم سليمى ... وغدًا أذكر زينبْ لي في ذلك سرٌّ ... برقُهُ في النَّاسِ خُلَّب

_ 1 انظر ابن خلكان 1/ 195. 2 انظر ترجمة ابن مطروح في ابن خلكان 2/ 257. 3 ديوان ابن مطروح مع ديوان العباس بن الأحنف "طبع الجوائب" ص182.

ويقول أيضًا: وإن قلتم أهوى الرباب وزينبا ... صدقتم سلوا عني الرباب وزينبا ولكن فتىً قد نال فضلَ بلاغةٍ ... تلعَّب فيها بالكلامِ تلعُّبا وإذن فهو متصنع في غزله كبقية الشعراء، وإن لم ينهج منهجهم في التصعيب؛ إذ كان يميل إلى الأساليب السهلة الرقيقة، ومع ذلك فنحن نجده يوشِّي شعره بضروب البديع من جناس وطباق وتورية، واستمع إلى هذه القطعة المشهورة: غيري على السُّلوانِ قادرْ ... وسواي في العشاقِ غادرْ لي في الغرام سريرةٌ ... والله أعلمُ بالسرائرْ حلو الحديثِ وإنها ... لحلاوةٌ شقَّت مرائرْ أشكو وأشكر فعله ... فاعجب لشاكٍ منه شاكرْ يا ليلُ ما لك آخرٌ ... يرجى ولا للشوقِ آخرْ يا ليلُ طلْ، يا شوقُ دُمْ ... إني على الحالينِ صابرْ لي فيك أجرُ مجاهدٍ ... إن صح أن الليلَ كافرْ طرفي وطرفُ النجمِ فيـ ... ك كلاهما ساهٍ وساهرْ فإنك تراها ملئت بالجناس، كما تراها وشيت بالتورية في طائر وكافر من الكفر بمعنى الستر. وكما كان يستخدم هذه الألوان كذلك كان يستخدم اصطلاحات العلوم كقوله: وهوىً حفظتُ حديثه وكتمتُه ... فوجدتُ دمعي قد رواه مُسلسلا وقوله: يُروى حديث الجود عنه مُسندًا ... فعلام ترويه السحائبُ مرسلا كما كان يكثر من التضمين في شعره، كقوله: وقفت على ما جاءني من كتابكم ... "وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه" فقد استعار الشطر الثاني من المتنبي وكثيرًا ما كان يستعير منه، وكما كان يتصنع للتضمين كان يتصنع للاكتفاء في مثل قوله:

ويقال إنك قد كبر ... ت عن الهوى فأقول "إني" ولكن لا ينبغي أن لا يفهم القارئ أن البهاء زهير كان يعمد إلى ذلك دائمًا فأكثر غزله لا تصنيع فيه ولا تصنع كقوله: تعيشُ أنت وتبقى ... أنا الذي متُّ حقّا حاشاك يا نورَ عيني ... تلقى الذي أنا ألقى قد كان ما كان مني ... والله خيرٌ وأبقى ولم أجد بين موتي ... وبين هجرك فرقا يا أنعم الناس قل لي ... إلى متى فيك أشقى يا ألف مولاي أهلًا ... يا ألف مولاي رفقا لم يبق مني إلا ... بقيةٌ ليس تبقى ويتطرف البهاء في هذه السهولة حتى ليملأ شعره بكثير من الكلمات العامية والأساليب الشعبية وتلك سمة عامة في الشعراء المصريين قبل البهاء زهير إلا أنه توسع فيها كقوله: من اليوم تعارفنا ... ونطوي ما جرى منا ولا كان ولا صار ... ولا قلتم ولا قلنا وإن كان ولا بد ... من العتب فبالحسنى وقوله: كل ما يرضيك عندي ... فعلى رأسي وعيني وقوله: من لي بنومٍ فأشكو ذا السهادَ له ... فهم يقولون إن النومَ سلطانُ وقوله: إياك يدري حديثًا بيننا أحدٌ ... فهو يقولون للحيطانِ آذانُ واستتبعت هذه السهولة المطلقة عند البهاء زهير أن وجدناه يميل إلى

الأوزان المجزوءة والمستحدثة، كما كان يميل إلى استخدام الشعر المسمى باسم "الدُّوبَيت" كقوله: كم يذهب هذا العمر في خسران ... ما أغفلني عنه وما أنساني إن لم يكن اليوم فَلَاحِي فمتى ... هل بعدك يا عمري عمر ثاني وأخيرًا فإن له مقطوعة مزح فيها مع صديق مزحًا يجعلنا نذكر فكاهة العصر الفاطمي وإن لم يبلغ مبلغًا من الخفة؛ إذ يقول: لك يا صديقي بغلةٌ ... ليست تساوي خردلةْ تمشي فتحسبُها العيو ... نُ على الطريق مشكَّلةْ وتخالُ مدبرةً إذا ... ما أقبلت مستعجلةْ مقدار خطوتِها الطويـ ... لة -حين تسرعُ- أنْمُلَةْ تهتزُّ وهي مكانها ... فكأنما هي زلزلةْ

المماليك وامتداد النهضة في عصرهم

6- المماليكُ وامتدادُ النَّهْضَةِ في عصْرِهِمْ: إذا تركنا العصر الأيوبي إلى عصر المماليك وجدنا مصر تستعيد كثيرًا من بهجتها ومرحها في العصر الفاطمي؛ فقد عاد لها كثير من مكانتها القديمة في الشرق وخاصة بعد غارات التتار على العالم الإسلامي وانتقال الخليفة العباسي من بغداد إلى القاهرة؛ فقد أقبل معه العلماء والأدباء إليها حيث الظل الهنيء والعيش الرغيد. وكانت مصر في هذا العصر أهم بلد في العالم الإسلامي، فإن العراق والشام عمهما سيل التتار، وكانت الأندلس على وشك الاحتضار؛ لذلك لم يكن غريبًا أن نرى مصر في هذا العصر تصبح كعبة الإسلام وملجأ العروبة، بل هي الدنيا كلها كما يقول زين الدين الوردي1:

_ 1 حلبة الكميت ص297.

ديارُ مصرَ هي الدنيا وساكنها ... همُ الأنامُ فقابلها بتفضيلِ يا من يباهي ببغداد ودجلتها ... مصر مقدمةٌ والشرحُ للنيلِ لذلك لم يكن غريبًا أن يسجل عصر المماليك صفحة زاهية في تاريخ مصر. وفي مساجدهم التي لا تزال قائمة تحت أبصارنا بالقاهرة ما يدل على مدى نهضتهم بالفن والعمارة وما تنطوي عليه من زخرف وجمال. وكما نهضوا بالعمارة نهضوا بالعلم والشعر، وكان منهم العلماء الممتازون كالملك المؤيَّد الذي يقول فيه ابن حجر: "كان معه إجازة بصحيح البخاري من شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني؛ فكانت لا تفارقه سفرًا ولا حضرًا"1، وغير الملك المؤيد إن لم يأخذ إجازة مثله فإنه كان يجلُّ العلماء ويكافئ الشعراء والأدباء. ونحن نعرف أنه ألفت في هذا العصر أكبر الكتب والمراجع في الأدب والتاريخ من مثل: مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري وصبح الأعشى، ونهاية الأرب، وخطط المقريزي والسلوك. وإذا رجعنا إلى الشعر والشعراء وجدنا الدفعة الهنيئة من الفكاهة والدعابة التي سبق أن رأيناها في العصر الفاطمي تعود إلى هذا العصر، ومثَّل ابن دانيال في اللغة العامية هذه الدفعة بكتابه "طيف الخيال" وهو تمثيلية لطيفة، كما مثلها في اللغة العربية الجزار والحمَّامي وسراج الدين الورَّاق إذ كانت روحهم فكهة، وخاصة جزارهم، ولعل ذلك ما جعل ابن سعيد، وقد زار مصر في القرن السابع يقول2: أسكان مصر جاور النيلُ أرضَكُم ... فأكسبكم تلك الحلاوةَ في الشِّعرِ وكان بتلك الأرضِ سحرٌ وما بقى ... سوى أثرٍ يبدو على النظمِ والنثرِ وفي اسمي الجزار والحمامي ما يدل على أن الشعر في هذه العصور أخذ يتصل بالشعب، فمن قبل رأينا في العصر الفاطمي ظافرًا الحداد شاعرًا، والآن

_ 1 حسن المحاضرة: للسيوطي 2/ 89. 2 فوات الوفيات "الطبعة الأولى" 2/ 113.

نجد جزارًا وحماميًّا وأيضًا نجد خياطًا1. وكان ابن دانيال كحَّالًا. وكل ذلك معناه أن الشعر في مصر يسعى دائمًا إلى أن يكون شعبيًّا. وهناك جانب آخر من هذه الشعبية لعله كان أهم من الجانب السابق، وهو شيوع الأزجال في هذا العصر أكثر من العصور السابقة، وشاع معها النظم من الدوبيت والمواليا والكان وكان، كما شاع نوع يسمى البُلَّيق، وهو ضرب من الزجل الماجن، يقول ابن سعيد يصف هذه الأنواع وقد سمعها بمصر في هذا العصر: "الدوبيت: يقول من أهل القاهرة كثير؛ ولكن المرضي قليل، ولم أسمع بها من شعرائه أحسن مما أنشدنيه لنفسه الزكي بن أبي الأصبع: قبَّلتُ ثنايا كجمان العقدِ ... منه وعدَلْت عن نضارِ الخدِّ ناداني ماذا؛ فقلت طبع عربي ... يشتاق أقاح الرَّوض دون الوردِ الكان وكان: كنت راكبًا مرة في خليج القاهرة فمررت على منظرة وجارية تغني: استنبهتْ وأنبهتني ... قالت حبيبي كم تنامْ وسمعت الذين يطوفون بالجمَّيز على هذا الخليج يغنون: السودُ مسك وعنبرْ ... والسُّمْرُ قضبانُ الذَّهب والبيضُ ثوبٌ دبيق ... ما يحتمل تَمْعيك البُلَّيْق: أظرف من كان في هذه الطريقة بالقاهرة في عصرنا القادوس، وله الزجل المليح المشهور الطائر في الآفاق بجناح الاستحسان "المليح قلبي عليه يخفق ... " ولا نطيل بذكر هذا الزجل فليرجع إليه من شاء في كتاب المغرب2. ويقول ابن سعيد في موضع آخر، إنه رأى جماعة يصنعون البليق بالفسطاط، ويقول إنه على طريقة الزجل الأندلسي، وإن أهم صناعه بالفسطاط

_ 1 انظر المغرب ص293. 2 المغرب "النسخة الخطية بدار الكتب" انظر القسم الثاني الورقة 49.

ساكن البليقي، ويروى له قطعة يعف القلم عن ذكرها لما فيها من فحش، وقد بدأها بقوله: بسِّي من الدين الثاني ... نرجع لديني الحقاني على أنه ينبغي أن نعرف أن هذه الأنواع كانت تمتلئ بفنون البديع من جناس وتورية وما إليهما كهذا الدوبيت وفيه تورية وتهكم بقاضي يأخذ الرشوة1: في مصر من القضاةِ قاضٍ ولهْ ... في أكلِ مواريثِ اليتامى ولهْ إن رمت عدالة فقل مجتهدًا ... من عدَّ له دراهمًا عَدَّلَهْ أما المواليا فقد كان أشهر أصحابها -كما يقول ابن حجة- أبا بكر بن العجمي فإنه كان إمام فنونها المتشعبة. وساق ابن حجة له مثالًا منها، وهو قوله2: للحبِّ قالوا مُعَنَّاك الذي إذ بلتو ... جدلو بقبله فقلبوا فيك خبِّلتو فقال أقسمْ لو أن البوس سَبِّلتو ... ومات، للشرق مادِرْتُو وقَبِّلْتو وفي هذه المواليا جناس معكوس واضح، وفيها أيضًا تورية في كلمة قبلتو. وإذا كانت هذه الفنون قد تسربت إلى الشعر الشعبي فلأنها كانت عامة في الشعر العربي حينئذ، وكان يعم معها فيه أيضًا التصنع لمصطلحات العلوم، وخاصة مصطلحات النحو والحديث والتاريخ والبديع والعروض كقول الجزار3: كفُّهُ زمزمٌ تفيضُ على العا ... فين جودًا والمالُ فيه الحطيمُ هو أولى بالرفع إن أعربَ الدَّهـ ... رُ وعُمْرُ العدا به مجزومُ عارفٌ بالبديعِ لم يخفَ عنه النـ ... قصُ منا يومًا ولا التتميمُ ويجيز الإيطاء في الجود لكنْ ... شابنا نحن في المديح اللزومُ

_ 1 خزانة الأدب: للحموى ص22. 2 خزانة الأدب ص35. 3 المغرب ص308.

ومع ذلك فالجزار كان أخف شعراء العصر روحًا وميلًا إلى المداعبة، ونحن نقف قليلًا عنده وعند ابن نباتة لنتبين هذا العصر في نور أعم وأوضح. الْجَزَّارُ: "الشاعر المفتنُّ جمال الدين أبو الحسين يحيى بن عبد العظيم، المصري المولد والوفاة، والمعروف بالجزار الشاعر المشهور، أحد فحول الشعراء في زمانه. وكان من محاسن الدنيا، وله نوادر مستظرفة ومداعبات ومقارضات مع شعراء عصره، وله ديوان شعر كبير. قال الشيخ صلاح الدين الصفدي: "لم يكن في عصره من يقاربه في جودة النظم غير السراج الوراق، وهو كان فارس تلك الْحَلْبة، ومنه أخذوا وعلى نمطه نسجوا، ومن مادته استمدوا"1، وتوفي الجزار عام 679 للهجرة. ويقول صاحب مسالك الأبصار فيه: "قال الشعر وهو صغير أول ما احتلم، وطاف بأركان بيت له واستلم"2. وقد ترجم له صاحب المغرب ترجمة طويلة أفاض فيها في وصف جوده وما لحقه هو نفسه من هذا الجود، وهو يبدأ ترجمته على هذا النمط: "الجمال أبو الحسين الجزار هو يحيى بن عبد العظيم ختمت به شعراء الفسطاط ليكون الختام بمسك، وكان بينهم في هذا العصر بمنزلة الواسطة من السلك، وكان أبوه وأقاربه جزارين بالفسطاط، دكاكينهم بها إلى الآن، قد عاينتها وأبصرته معهم بها، وكان في أول أمره قصابًا مثل أبيه وقومه، فحام على الأدب مدة وأكثر حوله من حَوْمه، فرفعت له في القريض راية. ولم يزل ذلك دأبه في بلده، حتى أخذ علو الطبقة بيده، فصار العلم الذي إليه الإشارة بين الجميع، وأصبح جوَّالا في آفاق الديار المصرية، حتى صار له في أقطارها عدة رسوم يجتمع له فيها ما لا يحصله في هذا العصر أحد من أهل المنظوم"3. ونرى من هذا النص الطويل أنه نشأ بين ساطور ووضم؛ غير أن هذه النشأة لم تعقه عن أن يحتل مكانة رفيعة بين

_ 1 النجوم الزاهرة 7/ 345. 2 مسالك الأبصار 12/ 3. المغرب ص296.

شعراء عصره، ويظهر أنه كان ينتجع الولاة في دمياط والمحلة والإسكندرية، كما يتبين من القطعة التي رواها ابن سعيد، وكانت -كما يقول- له عليهم وعلى غيرهم رسوم كثيرة. ومن يقرأ ما رواه ابن سعيد من شعره يلاحظ أنه كان يكثر فيه من التصنع للعلوم، كالمثال الذي مر سابقًا. وكان يتصنع بجانب ذلك للاقتباس من القرآن الكريم كقوله1: أرى الإسكندرية ذات حسنٍ ... بديعٍ ما عليه من مَزِيدِ حلَلَت بظاهرٍ منها كأنِّي ... حلَلَتُ هناك جنَّات الخلودِ فلا بئرٌ معطلة وكم قد ... رأيتُ هناك من قصرٍ مشيدِ وبإزاء ذلك نراه يكثر في شعره من ألوان الجناس والطباق، وكان يعنى عناية خاصة بالتورية ولا سيما باسمه، وكذلك كان يقلده الحمامي وسراج الدين الوراق في التورية باسميهما2. ويظهر أن الجزار كان خفيف الروح جدًّا فشعره مليء بالفكاهات والدعابات التي تعبر عن هذا الجانب في عصره، وأنه كان عصر تنادر وتفكه؛ فمن ذلك قوله في نِصْفيَّة3: لي نصفيةٌ تعدُّ من العُمْـ ... ر سنينًا غسَلْتُها ألفَ غسلةْ ظلَمَتْها الأيامُ حكمًا فأضْحَتْ ... في العذابِ الأليمِ من غيرِ زَلَّةْ كلَّ يوم يحوطُها العصرُ والدَّ ... قُّ مرارًا وما تقر بجملة فهي تعتلُّ كلما غسلوها ... ويزيل النِّشاءُ تلك العلَّة أين عيشي بها القديمُ وذاك التِّـ ... يهُ فيها وخطرتي والشَّملةْ حيث لا في أجنابها رقعةٌ قـ ... طُّ ولا في أكمامها قطُّ وصلةْ قال لي الناس حين أطنبتُ فيها ... بسِّ أكثرت خَلَّها فهي بقلةْ ويصف دارًا له متهدمة فيقول4:

_ 1 المغرب ص312. 2 المغرب ص316، وانظر خزانة الأدب: للحموي ص244 وما بعدها فقد جاء فيها بفصول طويلة من تورياته وتوريات صاحبيه. 3 المغرب ص304. 4 خزانة الأدب ص251.

ودار خراب بها قد نزلتُ ... ولكن نزلت إلى السابعةْ فلا فرقَ ما بين أني أكون ... بها أو أكون على القارعةْ1 تساورها هفوات النسيم ... فتُصغي بلا أذنٍ سامعةْ وأخشى بها أن أقيم الصلاةَ ... فتسجد حيطانها الراكعةْ إذا ما قرأتُ "إذا زلزلتْ" ... حشيت بأن تقرأ "الواقعةْ" وواضح ما في هذه الفكاهات من توريات. واستمع إليه يقول في أبيه وقد تزوج بعد هرمه وشيخوخته2: تزوج الشيخُ أبي شيخةً ... ليس لها عقلٌ ولا ذهنُ لو برزت صورتُها في الدُّجى ... ما جسرت تبصرها الجنُّ كأنها في فرشها رمةً ... وشعرُها من حولها قطنُ وقائلٍ قال فما سنُّها ... فقلت ما في فمِها سنُّ وما أطراف قوله في بخيل3: لا يستطيع يرى رغيـ ... فًا عنده في البيت يكسَرُ فلو أنه صلَّى وحاشاه ... لقال الخبزُ أكبرُ وواضح ما في هذه الفكاهات من ميل الجزار إلى الأساليب العامية؛ فهو يستعير منها بعض الألفاظ، ولكنه على كل حال لم يسقط في شعره، فقد استمر يعنى بأسلوبه، وظل على هذا النمط السابق يخلط فيه بين ألوان التصنيع والتصنع كما هي عادة الشعراء في تلك العصور. ابْنُ نَبَاتَةَ: جمال الدين محمد بن نباتة ينتهي نسبه إلى ابن نباتة الخطيب المشهور في عصر سيف الدولة، وقد ولد كما حدَّث هو عن نفسه4 بمصر في أواخر القرن

_ 1 القاهرة: أعلى الطريق. 2 خزانة الأدب ص249. 3 المغرب ص318. 4 انظر: خزانة الأدب ص291.

السابع ونشأ بها، وتركها إلى الشام؛ حيث خدم هناك في دواوين الإنشاء، ثم رجع في آخر حياته إلى مصر حوالي عام 760 للهجرة واستمر بها حتى توفي عام 768. ويظهر من شعره أن حظه كان كئيبًا، ولذلك أكثر من ألمه وشكواه من شقائه وبؤسه، وجعله هذا اللون في حياته لا يعبر عن فكاهة أو دعابة إلا ما كان من تصنعه للتورية. على أنها عنده تصبح ثقيلة بالرغم من إكثاره منها؛ لأن مزاجه لم يكن يساعد عليها، ولذلك قلما نقع له على تورية خفيفة، وربما كان أجمل ما جاء عنده من تورية قوله لمن طلق زوجًا له تسمى دنيًا: ظلمت دنياك وطلَّقْتها ... فرُحْتُ لا دنيا ولا آخرة وقوله: ومولعٍ بفخاخٍ ... يمدُّها وشباكِ قالتْ ليَ العين ماذا ... يصيد قلتُ كَراكي وقوله، وفيه اكتفاء واضح: فأقطفُ من أوراقه الأدبَ الذي ... وأسمعُ من ألفاظِهِ اللغة التي وكان يكثر من هذا الاكتفاء في شعره، كما كان يكثر من الاقتباس من القرآن الكريم كقوله: سألت قلبي عن ذوي العشقِ وعنْ ... ما أوتيتهُ من فنونِ الحسنِ مَي فقال لي: "إني وجدت امرأة ... تملكُهُم وأوتيتْ من كلِّ شيء" أما الشعر فقد كان يكثر من تضمين أبياته القديمة والعباسية في أشعاره، وهناك قصيدة في ديوانه ضمنها شطور معلقة امرئ القيس، وقد بدأها على هذا النحو: فَطَمْتُ ولائي ثم أقبلتُ عاتبًا ... "أفاطمُ مهلًا بعض هذا التَّدَلُّلِ" واستمر على هذا النمط. وتعلق في شعره بالتضمين للمتنبي كثيرًا، فتارة نراه ينقل شطورًا من أبياته، وتارة ينقل أبياتًا برمتها، وتارة ثالثة يتصنع لقصيدة

من قصائده، فينقل منها جميع شطورها. وكما كان يتعلق بالتضمين كان يتعلق بمعارضة القصائد الماضية؛ فتارة نراه يعارض كعب بن زهير في مديحه للنبي -صلى الله عليه وسلم- بقصيدة لامية على نمط قصيدة، يقول فيها: ما يمسك الْهُدْبُ دمعي حين أذكركم ... ألا كما يمسك الماءَ الغرابيلُ وتارة نراه يعارض المتنبي، وأخرى يعارض ابن النبيه فقد عارض قصيدته المعروفة: يا ساكني السفحِ كم عينٍ بكم سفَحَتْ ... نزحتُم فهي بعد البُعدِ ما نزحتْ إلا أنه لم يأت معها بطائل1، وتعلق مع هذه المعارضات بالتصنع لاصطلاحات العلوم كقوله: بلواحظٍ يرفعن جفنًا كاسرًا ... فيُثِرنَ في الأحشاءِ همًّا ناصبا كما تعلق بصنع الألغاز وهي كثيرة في ديوانه. ومهما يكن فإن روحه ليست خفيفة في شعره، ولذلك يبدو لنا كل ما فيه من تلفيق. وما من شك في أن الجزار تمثِّل روحه مصر في هذه العصور أكثر مما تمثلها روح ابن نباتة، وربما كان ذلك يرجع إلى أنه لم يعش فيها طويلًا وأنه كان تعسًا في حياته شقيًّا، وأيضًا فإنه -كما يبدو من شرحه لرسالة ابن زيدون في كتابه المسمى "سرح العيون"- كان عالِمًا، فبدت في شعره روح العلماء المتزمتين الذين لا يعجبون كثيرًا بالفكاهات والدعابات.

_ 1 خزانة الأدب: للحموي ص5.

العصر العثماني والعقم والجمود

7- العَصْرُ العُثْماني والعقْمُ والجمودُ: ويدخل العصر العثماني وتدخل مصر معه في ظلام قاتم؛ فقد تحولت من دولة بل إمبراطورية مستقلة إلى ولاية تابعة للدولة العثمانية، وليت الأمر وقف عند ذلك، فقد

سلبها سليمٌ فاتحها خير ما فيها من ثروة علمية وفنية؛ إذ أخذ معه كثيرًا من التحف والكتب، كما أخذ معه كثيرًا من الأدباء والعلماء والمهندسين وأصحاب الصناعات الفنية الذين يصنعون أدوات الترف، وانكمشت مصر ولم يعد لها صلة إلا بالقسطنطينية، وهي صلة تقف عند خلع وَالٍ أو بيان مظلمة، صلة التابع بالمتبوع، وأعوز مصر في هذا العصر العثماني الولاةُ والحكام الذين يعنون بالحركة العلمية والأدبية، فانطفأت المصابيح التي كانت مشتعلة في العصور السابقة. ولا نستطيع أن نقول إن الشعر انعدم في العصر العثماني؛ فقد كان موجودًا، ولكنه وجود خير منه العدم؛ إذ اقتصر الأمر على جماعة يقرءون بعض القصائد الموروثة وخاصة التي كانت قريبة من عصورهم، ثم يعارضونها أو يخمسونها أو يربِّعونها، فيأتون بنماذج لا روح فيها ولا جمال، إنما هي تقليد ركيك ضعيف، ومن أين تأتيها الروح أو يأتيها الجمال وهي تصدر عن نفوس مجدبة، لا تستطيع أن تصنع شيئًا إلا أن تجتر القديم هذا الاجترار الذي يحيله إلى مربَّعات ومخمَّسات في أساليب واهية ضعيفة. وليس من شك في أن الشعراء كانوا يحتالون على ألوان البديع يملئون بها شعرهم، ولكنا نحس أن هذه الألوان أصبحت باهتة في أيديهم؛ إذ فقدت مقدرتها القديمة على التلوين والتعبير. ولعل أهم شاعر ظهر في هذا العصر هو الشهاب الخفاجي، وقد ترجم لنفسه في آخر كتابه: ريحانة الألبَّا، وترجم له المحبّي1 وحكى شيئًا من أشعاره، وهي تدل على ما نقوله من ضعف الروح الأدبية في هذا العصر، وما أصاب الحياة الفنية من عقم وجمود، وكذلك الشأن في عبد الحليم العباسي صاحب كتاب "معاهد التنصيص" فقد ترجم له الشهاب الخفاجي2، وشعره غثٌّ، وهو يدلُّ بدوره على إجداب الحياة الفنية في هذا العصر؛ فقد أسفَّ الشعر، ولم يعد من الممكن أن يعود إلى الارتفاع، والتحليق في أجواء الفن العليا، إلا إذا قدِّمت إليه مجهودات شاقة،

_ 1 خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر: للمحبي 1/ 331. 2 انظر: ريحانة الألبا ص248.

وكأنما جفت في هذا العصر كل الينابيع الممكنة التي كانت تمد الشعر بأسباب الحياة؛ فشاعت فيه الألفاظ العامية والتركية، ويحسُّ الإنسان كأنما أصيبت الأداة الفنية التي رأيناها في العصور السابقة بعطل شديد، فقد عمَّ الظلام وعمت الكآبة، ولم يعد هناك إلا جو خانق يشمل كل شيء، وكأني بالمصريين أصبحوا لا يستطيعون التنفس؛ فضلًا عن أن يحيوا حياة فنية فيها فن وشعور وفيها حياة وجمال.

خاتمة

خَاتِمَةٌ: 1- الصُّورةُ العامَّةُ لِلْبَحْثِ: رأينا الشعر العربي ينشأ في ظروف غنائية، وقد أخذ يظهر فيه منذ أواخر العصر الجاهلي نوع متميز يتكسب به الشعراء سميناه باسم الشعر التقليدي، وقد تطور في المذاهب الفنية التي وصفناها من صنعة وتصنيع وتصنع، ونحن لا نترك العصر الجاهلي إلى العصور التالية حتى يحدث تطور واسع في الغناء العربي وقواعده، تحدثه العناصر الأجنبية، فقد كان أكثر المغنين من الموالي وبخاصة الفرس والروم، وأدخل هؤلاء المغنون في الغناء العربي كثيرًا من النغم الأجنبي والألحان الأجنبية مما أعد للتغيير في الرُّقُم الموسيقية القديمة، وكان الشعراء يحورون في شعرهم ويجزئون تحت تأثير هذا التغيير، وما زالوا يحورون ويجزئون حتى تحرفت صورة الرقم الموسيقية القديمة من بعض الوجوه، وتولدت داخل هذا التحريف أوزان جديدة كأوزان المقتضب والمضارع والمجتث والمتدارك، وكأوزان أخرى أشرنا إليها في موضعها، غير أن أصحاب العروض أهملوها، فلم يقترحوا لها أسماء، ولم يعنوا بها عناية من شأنها أن تسجلها على الزمن. ومضينا بعد بحث هذا الشعر الغنائي الخالص نبحث الموجات التي تعاقبت في الشعر العربي في أثناء العصر العباسي، فرأينا موجة الصنعة تستمر ثم يظهر بجانبها موجة جديدة من الزخرف والتصنيع، وأخيرًا تظهر موجة التصنع، فتعم الشعر العباسي ويعم معها تلفيق ولف ودوران كثير. وتتبعنا هذه الموجات في

الأندلس ومصر، أما الأندلس فرأيناها تأخذها جميعًا وتطبقها تطبيقًا دون أن تنمِّيها أو تعدل فيها سوى ما أحدثته من الموشحات والأزجال حيث نجد الشاعر يمزج بين الأوزان المختلفة والقوافي المتنوعة في المنظومة الواحدة، وقد حاولنا أن نجد جوانب أخرى تفسر لنا شخصية الأندلس، فتتبعناها في حياتها السياسية والاجتماعية والأدبية، ورأيناها تعيش جملة في الإطار العام لمذاهب الصنعة والتصنيع والتصنع دون أن تحاول إحداث مذهب جديد، إذ كانت تعتمد اعتمادًا على الاستعارة من المشرق بحيث لم نستطع أن نتبين شخصيتها في وضوح، بل بحيث قلنا إن شخصيتها كانت ضعيفة في تاريخ الشعر العربي. ولما تركنا الأندلس إلى مصر وجدناها حقًّا تقلد المذاهب السابقة، ولكنا رأيناها بعد ذلك تعبر عن شخصيتها في وضوح، إذ صور شعراؤها ما فيها من جنات وزروع ومفاتن جمال، وهم في ذلك لا يتفوقون على الأندلسيين، ولكنهم لا يوضعون في مرتبة متخلفة عنهم، بل نحن لا نبالغ إذا قلنا إن مادة شعر الطبيعة في مصر لا تقل عن مادته في الأندلس، لا من حيث الكمية، ولا من حيث القيمة الفنية الخالصة. وقلد المصريون الأندلسيين في صنع الموشحات والأزجال وتوسعوا فيها وأضافوا إليها النوع المسمى باسم "البُلَّيق" كما أضافوا إليها المواليا والكان وكان والدوبيت مما ذاع في المشرق. على أن مصر تفترق بعد ذلك من الأندلس مفارق واسعة، إذ عبر شعراؤها عن حياتها السياسية وخاصة في الحروب الصليبية تعبيرًا واضحًا، وهم كذلك عبروا عن زهد وتصوف متأثرين فيهما -إلى حد ما- بتراث مصري قديم، كما عبروا عن لهو وترف ونعيم ومجون، ولم يكتفوا بذلك، بل رأيناهم يعبرون عن الروح المصرية التي تشتهر بالفكاهة والدعابة، واستمروا يفصحون عن هذا الجانب الفكاهي بصورة واضحة من العصر الفاطمي إلى العصر العثماني، إذ يسود العقم والجمود كل شيء في مصر، ويحس الإنسان كأنما فقدت لوحة الفن المصرية ألوانها الزاهية البهيجة، أو كأنما تبللت هذه الألوان بالدموع على النهضة الفنية الزائلة، ولذلك كان من العسير أن نجد في العصر العثماني شاعرًا يفصح عن جِدةٍ؛ بل عن مقدرة في التعبير، فقد جمد الفن وعقم التفكير الفني، ولم يعد من الممكن أن يعود الشعراء به إلى روعته القديمة إلا بعد جهود شاقة عسيرة

الشعر العربى الحديث

2- الشِّعْرُ العَربِيُّ الحديثُ: إذا ذهبنا نتعقب الشعر العربي الحديث وجدنا نهضة واسعة تأخذ به من جميع أطرافه، وقد بدأ هذه النهضة شعراء مصر الحديثة يقودهم فيه البارودي. وهي نهضة لا تعد في صورتها العامة ثورة على القديم، بل هي تتصل به اتصالا شديدًا، إذ نرى الشعراء يعودون بالشعر العربي إلى رونقه الذي نعرفه في العصر العباسي. فقد تركوا هذا الشعر الركيك الذي نعرفه للمصريين في العصر العثماني كما تركوا شعر الخشاب والساعاتي ومن إليهما ممن كانوا ينظمون في مفتتح العصر الحديث، إذ كان شعرهم أيضًا غثًّا مسفًّا، وأخذوا يرتفعون بشعرهم إلى آفاق عليا. غير أنه ينبغي ألا نبالغ في ذلك، فإن حركة التجديد والنهضة عندنا وخاصة في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن لم تكن واسعة، بل كانت ضيقة تعتمد أكثر ما تعتمد على إحياء القديم وبعثه، فهي حركة بعث وإيقاظ، ورجوع بالشعر إلى تعبيره القديم، ولعله من أجل ذلك لم تختلف صورة الشعر عند البارودي وتلامذته كثيرًا عن الصور القديمة، فقد استمدوا أفكارهم وأخيلتهم ومعانيهم من القدماء، إذ ذهبوا يستَنُّون بمناهجهم ويحتذون على أمثلتهم. ومن يرجع إلى ديوان البارودي يجده يقلد جميع الشعراء العباسيين والجاهليين والإسلاميين، فهو يعارض النابغة وأبا نواس والبحتري والشريف الرضي والمتنبي وأبا العلاء؛ ولكن مع هذا نراه يخرج بالشعر من نطاق صفوت الساعاتي والخشاب،

هذا النطاق الذي هو أشبه ما يكون بكراريس التطبيق، إلى نطاق جديد فيه حقًّا تقليد، ولكن فيه أيضًا جدة وبراعة، وإذا تركنا البارودي إلى شوقي زعيم الشعر المصري الحديث وجدناه مثل أستاذه البارودي ينحو نحو تقليد القدماء، ولذلك كانت تكثر عنده معارضة الشعراء السابقين من مثل أبي نواس وأبي تمام والبحتري وابن زيدون، ولعل في هذا ما يدل على أن النهضة الفنية في الشعر المصري كانت نهضة بعث وإحياء، حقًّا قد يقول حافظ: آنَ يا شعرُ أن نفُكَّ قيودًا ... قيَّدَتنا بها دعاةُ المحالِ ولكن حافظًا وإخوانه لم يفكوا عن فنهم أفعى التقليد. والذي لا ريب فيه أن شوقي أكثرهم تجديدًا، فقد حاول أن يحدث ضربًا من الشعر التمثيلي على نحو ما نعرف في روايات مصرع كليوباترا ومجنون ليلى وقمبيز، إلا أن هذه المحاولة لم تبلغ الذورة عنده لأسباب كثيرة، أهمها أنه لم يدرس تاريخ المسرح الأوربي، فلم يتجه بشعره التمثيلي إلى أوزان جديدة ولا أحكم إخراجه لأبطال رواياته، وبدا الضعف في جوانب من عمله المسرحي، ووجد بجانب ذلك ضرب من الشعر في السياسة والآثار والحياة الحديثة، كأن ينظم الشعراء في الخلافات الحزبية أو في الفرعونيات أو في الطيارات والغواصات ولكن الشعر لم يتحرر بذلك تمامًا من القديم؛ لأن هذا التجديد لا يقوم على مذهب موضوع ومنهج مرسوم، بل إننا نرى الشاعر يجمع ديوانه ويقدمه للمطبعة فلا يعرف كيف يقدم له، ولذلك نراه يستعين ببعض الكتاب يكشفون له عن خصائصه التي لا يحسها هو في نفسه ولا في فنه، إذ هو في الواقع لم يكتب ديوانه ليعبر عن فلسفة في الحياة، أو حب للطبيعة، أو إيمان بعقيدة خاصة، إنما هي قصائد قيلت في مناسبات مختلفة، ثم جمعت في شكل ديوان، وقد يجدد الشاعر فيأتي بقصيدة في السياسة أو في الاختراعات الحديثة، وهو تجديد لا يقوم على نشر مذهب حديث في الأدب ولا إحداث ثورة في موضوعاته ومعانيه. وهذا الجانب عند شعرائنا يجعلنا نذكر الشعراء الغربيين، إذ نرى

الشعر عندهم عقيدة ومذهبًا من المذاهب يدافعون عنه حياتهم، كم نرى عند أصحاب النزعة الرومانسية وكما نرى عند البرناسيين والرمزيين حيث نجد الشاعر يكتب ديوانه ليقرر هذه العقيدة الجديدة، وذلك المذهب الحديث، ولذلك كان يقدم له بنفسه؛ لأنه يقرر منهجًا خاصًّا هو الذي يرفع قواعده ويقيم بنيانه. أما عندنا وخاصة في أول هذا القرن فلا يزال الشعر غالبًا على حالته التقليدية القديمة، لم تغيَّر أصوله ولا رسومه؛ ومن أجل ذلك كان الديوان عند كثير من شعرائنا حينئذ كالديوان عند القدماء، إنما هو قصائد تجمع من ظروف ومناسبات مختلفة، فيتكون منها مجموعة من الشعر تسمى ديوانًا، وليس بين أشعارها وحدة معينة أو غاية مشتركة، إنما كل ما بينها من اتفاق أنها تشترك في وحدات وغايات موسيقية، وأنها شعر نظم على أوزان وقوافٍ، وليس بعد ذلك ما يدل على اتفاقها في غرض معين، ومن ثَمَّ كان من العسير أن يكتب شاعر من هؤلاء الشعراء مقدمة لديوانه؛ لأن المقدمة تعني المنهج المرسوم والمذهب الموضوع وهم لا مذهب لهم ولا منهج إنما يكتبون بوحي الساعة، أو وحي الأحداث والمناسبات المختلفة. الشُّعَرَاءُ يحاولونَ التَّجْدِيدَ: ونحن لا ننسى ما حاوله بعض الشعراء من التجديد، غير أن جمهورهم في الحق لم يستطيعوا أن ينهضوا بكل ما كنا نصبوا إليه؛ فقد أهملوا -في كثير من جوانب شعرهم- الصياغة الفنية للشعر العربي، وراحوا يستعيرون معارض تفكيرهم وشعورهم من الشعراء الغربيين، وخاصة شعراء النزعة الرومانسية، وبالغوا في ذلك حتى أصبحت نماذج كثيرة من أشعارهم، وكأنها ضروب من الترجمة للأساليب الغربية. ولعل من الغريب أن نفرًا منهم ذهبوا ينادون بهجر الأساليب العربية القديمة، ويقولون إنها أصبحت لا تلائمنا في العصر الحديث، ونسوا أن صياغة التفكير الفني لأمة من الأمم لا يمكن أن تهجر مرة واحدة إلى صياغة أمم أخرى. يمكن أن يزاوج الشعراء بين صياغة أمتهم القديمة

وصياغة الأمم الحديثة، ولكن أن يهجو الشعراء أحاسيس أمتهم وطرقها في التعبير عن الفكر والشعور إلى أحاسيس وطرق جديدة فإن مثل هذه الحركة لا تؤدي إلى منهج واضح من التجديد. وأي تجديد؟ أليست تنبذ تقليد القديم إلى تقليد آخر سقيم؟ ولسنا نشك في أن التقليد في داخل القديم أكثر اتصالا بالأمة من هذا التقليد الجديد للأجنبي الخالص. وأكبر الظن أن ذلك ما جعل الشعراء المحافظين أكثر قبولا عند الناس والنقاد من هؤلاء الشعراء الذين نبذوا الصور القديمة للشعر العربي، وكأنما خيل إليهم أن التعبير الفني كالأزياء، فإذا كان من الممكن أن نخلع زينا، فكذلك يكون من الممكن أن نخلع الزي القديم في الفن إلى زي غربي حديث، لا نعتدُّ فيه بالأوزان القديمة، ولا بنظم القوافي، ولا بطريقة القوم في التعبير عن مشاعرهم وأحاسيسهم، إنما نعتد بشيء واحد هو التقليد للشعر الغربي تقليدًا ننسى فيه شخصياتنا القديمة. ولسنا نرتاب في أن هذه الحركة كانت تطرفًا في التجديد، ولذلك لم تحدث الانقلاب المنشود. ونحن لا ننكر أننا نجد أحيانًا عند بعض الشعراء المجددين قصائد بل دواوين رائعة استطاعوا أن يوازنوا فيها بين الصياغة العربية والأفكار والصور الغربية، ولكن ذلك قليل وفي الندرة. ولعل من الحق أن نذكر هنا أن الشعر العربي الحديث يغلي باتجاهات جديدة كثيرة فيه، إلا أنها لم تنظم حتى الآن تنظيمًا دقيقًا، ولا نزال نجد فيها التذبذب الذي يكون عادة رائدًا للثبوت والاستقرار.

الطريق إلى التجديد المستقيم

3- الطَّّّريقُ إلى التَّجديدِ المستَقِيمِ: ونحن نؤمن بأن هذه الحال من التذبذب في الشعر العربي الحديث ترجع إلى أن كثرة الشعراء لا يعتنقون عملهم مذهبًا وعقيدة، وهم ينقلون عن الغرب دون أن يستوعبوا، وهم كذلك لا يحققون لأنفسهم ثقافة واضحة بالصياغة العربية

الأصيلة، ولسنا نشك في أن إصلاح هذه الحال ينبغي أن يمتد على أصلين مهمين: أما الأصل الأول فهو أن يدرس شعراؤنا تلك المذاهب الفنية القديمة التي وصفناها دراسة دقيقة، يقفون بها على صورتها الحقيقية، حتى يعرفوا كيف يبنون على هذا الأساس الفني العتيد، وحتى يقوم بينهم وبين أسلافهم ضرب من التفاعل الفني تنتج عنه الأصالة التي يريدونها لأنفسهم وفنهم. وأما الأصل الثاني فهو الاستمرار في التأثر بالفن الغربي والثقافة الغربية، والتعمق في ذلك تعمقًا أوسع مما نرى الآن، ولكن على أن يكون ذلك في حدود التزاوج بين المنبعين من التفكير الفني عند العرب، وهذا التفكير عند الغرب، لا في هذا الخلط السقيم الذي نجده في كثير من النماذج. وإذا كان العباسيون لم يترجموا الأدب اليوناني ولم يتأثروا به، واستمروا يعيشون في شعرهم معيشة داخلية فيها ضرب من القصور، فإن واجب شعرائنا في العصر الحديث ألا يعودوا إلى هذا الخطأ القديم، وأن يتعمقوا الأدب الغربي والثقافة الغربية، وأن لا يقفوا بذلك عند السطح والقشور؛ وهؤلاء صبري ومطران وشوقي كانوا يلمون بأطراف من الثقافة الفرنسية، وقد تطور كل منهم بشعره تطورًا يختلف باختلاف ثقافته اتساعًا وعمقًا. ومن المحق أن شعراءنا المعاصرين قلَّ منهم من درس الفن الغربي أو الثقافة الغربية -وخاصة الثقافة الفلسفية- دراسة غيرت الأوضاع الفنية عنده أو الأوضاع الفكرية. وقد نجد نفرًا منهم يستعير عناوين قصائده أو دواوينه من الشعر الغربي، كما يستعير بعض المعاني والأفكار، وهو ضرب من الترجمة، إذ يترجمون بعض الألفاظ والأسماء والصور والأفكار من الشعر الغربي واهمين أن ذلك يحقق لهم التجديد المنشود. والناقد المعاصر يشعر بشيء من الأسى لهذا التحول الذي صار إليه الشعر العربي في العصور الحديثة، فالشاعر لا يأخذ نفسه بثقافة غربية واسعة تكوِّن عنده مركبًا فنيًّا جديدًا، كما كان الشأن عند العباسيين في استخدامهم للفلسفة اليونانية والثقافة الأجنبية، بل هو يكتفي باستعارة بعض العناوين والصور والمعاني، ظانًّا أن تلك هي الطرافة التي نبحث عنها، ولذلك كنا نقرأ في كثير

من الشعر الحديث بدون لذة، ونحن لا نبالغ إذا زعمنا أنه لا يوجد بيننا شاعر قرأ فلسفة العصور الحديثة أو القديمة قراءة دقيقة، كما أنه لا يوجد بيننا من قرأ الميثولوجيا القديمة، أو من قرأ في دقة آثار سوفوكليس أو كورني أو جيته أو بيرون؛ ولعله من أجل ذلك لم يحدث التجديد المنشود في الشعر المعاصر، فلم يكتب شاعر في الملاحم الكبرى كما كتب هوميروس في الإلياذة، ولم يوجد من تثقف ثقافة فلسفية عميقة يلائم بينها وبين التفكير الفني. ومن أجل هذا القصور في الثقافة كان الشاعر عندنا مرتبكًا في سلوك طريق التجديد الذي يريده، وكأني به يظن التجديد شيئًا يُلقَى في الطريق، وليس دراسة عميقة ولا ثقافة واسعة. وقد أحدث شوقي محاولات في المسرح ولكنها تعاب بنقص ثقافته المسرحية، ولو أنه درس المسرح اليوناني، ثم درس المسرح الغربي الحديث وما أصابه من تطورات مختلفة لخرج عمله أدنى إلى الكمال. والحق أن واجب شعرائنا أن يحتووا لأنفسهم ما خلفته أوربا من كنوز فكرية وفنية، وليس عيبًا أن يستمد شعر من شعر آخر، فهذا الشعر الغربي نفسه نراه يستمد في أجياله الحديثة من جميع العناصر القديمة يونانية أو رومانية، وشرقية أو عربية، وكأنما الحضارة الغربية تأخذ بحظ من جميع العناصر السابقة، فالفكر البشري ليست له حدود، ولا تقوم بين مناطقه وأقاليمه حواجز وفواصل، والحضارة العربية نفسها في العصور الوسطى كانت تمتص جميع العناصر التي سبقتها، وأمكنها الحصول عليها من الحضارات التي تقدمتها، وإن واجبنا أن نعود مرة أخرى إلى هذا الامتصاص إزاء الحضارة الغربية وعناصرها المتنوعة. ويحسن إلا يحجز الشعراء أنفسهم داخل إطار الشعر الغربي وثقافته، بل يضيفوا إلى ذلك ثقافة عميقة بالفلسفة القديمة والحديثة، وكذلك ينبغي أن يتثقفوا ثقافة واسعة بالنحت والرسم والموسيقى، فإن هذه الفنون تتشابك جميعًا بفن الشعر عند الغربيين بحيث نراهم لا يتصورون فرعًا منها منفصلا عن الفروع الأخرى من شجرة الفن. وليس من شك في أنه حين ينظِّم الاتصال بين شعرائنا المعاصرين وبين

المذاهب الفنية القديمة التي وصفناها من صنعة وتصنيع وتصنع، كما ينظم بينهم وبين الفن الغربي وطرائقه، فيقبلون على تعمق أصول الصناعة الفنية عند العرب، كما يقبلون على تعمق المناهج الفنية والفلسفية عند الغرب، ولا يكتفون بذلك بل يتجهون شطر المشرق فيطلعون على آداب الفرس والترك والهند والأمم الشرقية الآخرى؛ ولكن لا ليستعيروا وينقلوا أو يترجموا، بل ليتفاعلوا ويستوعبوا ويعبروا عن شعورهم وسرائرهم تعبيرًا لهم مادته وصورته وما فيه من معارض التفكير ومنازع الوجدان، حينئذ تجد قافية التجديد طريقها الذي أخطأته، ودليلها الذي ضَلَّتْهُ.

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات صفحة مقدمة الطبعة الرابعة 5- 6 مقدمة الطبعة الأولى 7- 10 الكتاب الأول: أ- مذهب الصنعة. ب- مذهب التصنيع 11- 174 الفصل الأول: الصنعة في الشعر القديم 13- 40. 1- الشعر صناعة 13 2- صناعة الشعر الجاهلي 14 3- الصناعة الجاهلية مقيدة 17 4- الطبع والصنعة 19 5- الصنعة أول مذهب يقابلنا في الشعر العربي 22 6- زهير ومذهب الصنعة 24 7- نمو مذهب الصنعة في العصر الإسلامي 32 8- الشعر التقليدي والغنائي 37 الفصل الثاني: الموسيقى والصنعة 41- 90 1- الشعر العربي نشأ نشأة غنائية 41 2- تعقد الغناء الجاهلي: الجوقات، القيان، الرقص 45 3- مظاهر الغناء والموسيقى في الشعر الجاهلي 48 4- موجة الغناء بالحجاز في أثناء العصر الإسلامي 53 5- تأثير الغناء الإسلامي في موسيقى الشعر الغنائي 55 6- انتقال الغناء من الحجاز إلى الشام 57 7- انتقال الغناء إلى العراق في العصر العباسي 59 8- نمو مقطوعات الشعر الغنائي: مطيع بن إياس، العباس بن الأحنف 63 9- تأثير الغناء العباسي في موسيقى الشعر الغنائي 70

صفحة 10- تأثير الغناء العباسي في موسيقى الشعر التقليدي 76 الفصل الثالث: الصنعة والتصنيع 91- 187 1- الشعر في القرنين الثاني والثالث وعلاقاته الجديدة: الدعوة العباسية، الشعوبية اللهو والمجون، الزندقة والزهد 91 2- العلاقات اللُّغوية 117 3- العلاقات الثقافية 129 4- ازدهار مذهب الصنعة 141 5- بشار وصنعته في شعره 148 6- صنعة أبي نواس 157 7- صنعة أبي العتاهية 164 8- ظهور مذهب التصنيع 172 9- التصنيع في شعر مسلم ونماذجه 180 الفصل الرابع: التعقيد في الصنعة 188- 218 1- البحتري: نشأته وحياته وصنعته 188 2- الخلاف بين البحتري وأصحاب التصنيع 193 3- البحتري لا يستخدم الثقافة الحديثة 196 4- ابن الرومي: أصله وحياته وصنعته 200 5- ابن الرومي يستخدم الثقافة الحديثة 205 6- التصوير في شعر ابن الرومي 207 7- الهجاء الساخر 212 8- جوانب أخرى في صناعة ابن الرومي 214 الفصل الخامس: التعقيد في التصنيع 219- 274 1- أبو تمام: أصله وحياته وثقافته 219 2- ذكاء أبي تمام وتصنيعه 222 3- استخدام أبي تمام لألوان التصنيع القديمة 227 4- التصوير في شعر أبي تمام 232 5- استخدام أبي تمام لألوان تصنيع جديدة 239 6- المزج بين ألوان التصنيع القديمة والجديدة: الرمز، نوافر الأضداد، الأقيسة الفنية 247 7- قصيدة عمورية 256

صفحة 1- ابن المعتز: نشأته وحياته وتصنيعه 262 2- تصوير ابن المعتز 267 3- الإفراط في الصور والتشبيهات 270 الكتاب الثاني: مذهب التصنع 275- 406 الفصل الأول: التصنع 277- 302 1- التصنع في الحضارة العربية 277 2- التصنع في الحياة الفنية 280 3- التصنع في ألوان التصنيع الحسية 282 4- ألوان التصنيع العقلية لا تستوعب ولا تتحول إلى فن 287 5- جمود الشعر العربي 292 6- التحوير: التحوير الفني، التلفيق 295 الفصل الثاني: الثقافة والتصنع 303- 354 1- المتنبي: نشأته وحياته وثقافته 303 2- تصنع المتنبي للثقافات المختلفة: قرمطية المتنبي وأثرها في شعره 311 3- تصنع المتنبي لمصطلحات التصوف وأفكاره 313 4- تصنع المتنبي للعبارة الصوفية وشاراتها 317 5- تصنع المتنبي للأفكار والصيغ الفلسفية 325 6- المركب الفني الفلسفي في شعر المتنبي 329 7- تصنع المتنبي للغريب من اللغة والأساليب الشاذة 335 8- تعقيد المتنبي للموسيقى الإيقاعية في الشعر 339 9- حكم عام على تصنع المتنبي وشعره 342 10- شعراء اليتيمة وتصنعهم: أبو فراس الحمداني، الشريف الرضي 349 الفصل الثالث: التصنع والتلفيق 355- 375 1- مهيار: أصله وتشيعه ومزاجه 355 2- تلفيق مهيار لنماذجه 357 3- تطويل مهيار لقصائده 362 4- الميوعة في غزل مهيار 365 5- غزل مهيار والعناصر البدوية 368 6- المديح عند مهيار وتحوله إلى شعر مناسبات 372

صفحة الفصل الرابع: التعقيد في التصنيع 376- 406 1- أبو العلاء: نشأته وحياته وثقافته 376 2- ذكاء أبي العلاء وحفظه 379 3- اللزوميات وتشاؤم أبي العلاء 381 4- اللزوميات وفلسفة أبي العلاء 385 5- صياغة اللزوميات 394 6- اللوازم الدائمة في اللزوميات 397 7- اللوازم العارضة في اللزوميات 403 الكتاب الثالث: المذاهب الفنية في الأندلس ومصر 407- 510 الفصل الأول: الأندلس والمذاهب الفنية 409- 455 1- الأندلس 409 2- شخصية الأندلس 411 3- الشعر في الأندلس: ابن هانئ الأندلسي، ابن دراج القسطلي 417 4- نهضة الشعر الأندلسي: ابن برد الأصغر، ابن زيدون، ابن خفاجة 431 5- الغناء الأندلسي والموشحات والأزجال 450 الفصل الثاني: مصر والمذاهب الفنية 456- 510 1- مصر 456 2- شخصية مصر 458 3- الشعر في مصر 463 4- الفاطميون ونهضة الشعر المصري: الشريف العقيلي، ابن مكنسة، ابن قادوس 466 5- الأيوبيون ونهضة الشعر في عهدهم: القاضي الفاضل، ابن سناء الملك، البهاء زهير 490 6- المماليك وامتداد النهضة في عصرهم: الجزار، ابن نباتة 500 7- العصر العثماني والعقم والجمود 508 خاتمة 511- 519 1- الصورة العامة للبحث 511 2- الشعر العربي الحديث: الشعراء يحاولون التجديد 513 3- الطريق إلى التجديد المستقيم 516

كتب للمؤلف مطبوعة بالدار

كتب للمؤلف مطبوعة بالدار: في الدراسات القرآنية: التطور والتجديد في الشعر الأموي، الطبعة التاسعة، 340 صفحة. سورة الرحمن وسور قصار، عرض ودراسة، الطبعة الثانية 404 صفحات. دراسات في الشعر العربي المعاصر، الطبعة الثامنة، 292 صفحة. في تاريخ الأدب العربي: شوقي شاعر العصر الحديث، الطبعة الثانية عشرة، 286 صفحة. العصر الجاهلي، الطبعة الخامسة عشرة، 436 صفحة. الأدب العربي المعاصر في مصر، الطبعة العاشرة، 308 صفحات. العصر الإسلامي، الطبعة الثالثة عشرة 461 صفحة. البارودي رائد الشعر الحديث، الطبعة الخامسة، 232 صفحة. العصر العباسي الأول، الطبعة الثانية عشرة 576 صفحة. الشعر والغناء في المدينة ومكة لعصر بني أمية، الطبعة الخامسة، 336 صفحة. العصر العباسي الثاني، الطبعة الثانية 657 صفحة. البحث الأدبي: طبيعته، مناهجه، أصوله، مصادره الطبعة السابعة 278 صفحة. عصر الدول والإمارات: الجزيرة العربية، العراق، إيران. الطبعة الثالثة 688 صفحة. الشعر وطوابعه الشعبية على مر العصور، الطبعة الثانية 256 صفحة. عصر الدول والإمارات: الشام، الطبعة الثانية 356 صفحة. في التراث والشعر واللغة، الطبعة الأولى، 276 صفحة. عصر الدول والإمارت: مصر، الطبعة الثانية، 500 صفحة. في الدراسات النقدية: عصر الدول والإمارات: الأندلس، الطبعة الأولى، 552 صفحة. في النقد الأدبي، الطبعة السابعة 250 صفحة. فصول في الشعر ونقده، الطبعة الثالثة 368 صفحة. في مكتبة الدراسات الأدبية: في الدراسات البلاغية واللغوية: الفن ومذاهبه في الشعر العربي، الطبعة الحادية عشرة، 524 صفحة. البلاغة: تطور وتاريخ، الطبعة الثامنة 380 صفحة. الفن ومذاهبه في النثر العربي، الطبعة الحادية عشرة، 400 صفحة. المدارس النحوية، الطبعة السابعة، 376 صفحة.

تجديد النحو، الطبعة الثالثة 282 صفحة. الترجمة الشخصية، الطبعة الرابعة، 128 صفحة. تيسير النحو التعليمي قديْمًا وحديثًا مع نهج تجديده، الطبعة الأولى، 208 صفحات الرحلات، الطبعة الرابعة، 128 صفحة. تيسيرات لغوية، الطبعة الأولى، 200 صفحة. في التراث المحقق: في مجموعة نوابغ الفكر العربي: ابن زيدون، الطبعة الثانية عشرة، 124 صفحة. المغرب في حلي المغرب، لابن سعيد الجزء الأول، الطبعة الثالثة، 468 صفحة. الجزء الثاني، الطبعة الثالثة، 572 صفحة. كتاب السبعة في القراءات، لابن مجاهد، الطبعة الثالثة، 788 صفحة. في مجموعة فنون الأدب العربي: الرثاء، الطبعة الرابعة، 112 صفحة. كتاب الرد على النحاة، الطبعة الثالثة، 152 صفحة. المقامة، الطبعة السادسة، 108 صفحات. الدرر في اختصار المغازي والسير، لابن عبد البر، الطبعة الثالثة، 356 صفحة. النقد، الطبعة الخامسة، 112 صفحة. في سلسة "اقرأ": العقاد، الطبعة الخامسة. معي"1" الطبعة الثانية. البطولة في الشعر العربي، الطبعة الثانية. معي"2" الطبعة الأولى. الفكاهة في مصر، الطبعة الثالثة.

§1/1