الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة

عبد الرحمن بن عبد الخالق

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعتين: الثالثة والرابعة الحمد لله لا نحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه. فله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، له الحمد كالذي نقول وخيرًا مما نقول وله الحمد أن هدانا لحمده، وعرفنا به، ونسأله تعالى أن يرزقنا الإيمان به، والثبات على الإيمان حتى نلقاه. والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة، الذي بلّغ البلاغ المبين، وأدى الأمانة كاملة، وكان العبد الكامل لسيده ومولاه، والرسول الكامل، والنبي المبجل والمكرم والإمام فصلوات الله عليه وسلامه. وبعد. أخي القارئ هذه هي الطبعة الثالثة من (الفكر الصوفي) تمتاز عن سابقتيها بتدارك الأخطاء المطبعية واللغوية، وزيادة الفصل الخاص بالطريقة الرفاعية من صفحة 562 إلى صفحة 596. وقد نبهنا إلى منهجنا في هذا الكتاب في مقدمة الطبعة الثانية. وقد أصبح هذا الكتاب بحمد الله موسوعة ومرجعًا لكل من أراد التعرف على هذا الفكر، والإحاطة بمباحثه المتفرقة، وتصور عقائده وشرائعه، وطرائق أهله في الفكر. وكذلك الرد على معظم ما انتحلوه من عقيدة وشريعة. وبهذا تيسير ـ بحمد الله ـ على طلاب العلم معرفة الفكر الصوفي في يسر وسهولة، وتعلم طريقة الرد على زندقتهم وخرافاتهم ودجلهم، ومعرفة أمهات الكتب عندهم، وأساطين فكرهم، وكيف تطورت العقيدة والشريعة الصوفية. ونرجو بهذا أن نكون قد مهدنا الطريق إلى القضاء على هذا الفكر المنحرف، وفتحنا الطريق أمام ناشئة المسلمين إلى الاعتصام بالكتاب والسنة، وإزالة عقبة كأداء

كانت تحول بينهم وبين ذلك. والله سبحانه هو المسئول أن يجعل هذا خالصًا لوجهه، وأن يكتب له القبول في الأرض، والرفعة مع الأعمال الصالحة إلى السماء إنه هو السميع العليم. وكتبه عبد الرحمن عبد الخالق، في الكويت، في رجب الحرام سنة 1406هـ أبريل سنة 1986م.

مقدمة الطبعة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الثانية الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، سبحانه وأشهد أنه لا ند له ولا شريك وأنه بذاته فوق عرشه عال على جميع مخلوقاته ومخترعاته ومصنوعاته وأنه هو الذي خلق الخلق وأوجد هذا العالم من العدم وأنه ما خلق الملائكة والجن والإنس إلا ليعبدوه ويوحدوه ويمجدوه وأن السموات والأرض وما فيهما جميعًا كل له خاضع وأن الجميع وفق أمره، ورهن مشيئته، فما شاء كان وما لم يشأه لم يكن، وأثني عليه سبحانه وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمد الذي بعثه الله إمامًا للناس وهاديًا ومرشدًا ومفرقًا بين الضلالة والهدى، والكفر والإيمان، والشرك والتوحيد {فَمَن يَكْفُرْ بِالْطَّاغوت ويؤْمِن بِاللهِ فقَدِ اسْتمسَك بالعُروَة الوُثقى لا انفصام لها والله سميع عليم} [البقرة: 256] . وبعد: فإن أعظم فتنة ابتلي بها المسلمون قديمًا وحديثًا هي فتنة التصوف. هذه الفتنة التي تلبست للمسلمين برداء الطهر والعفة والزهد والإخلاص، وأبطنت كل أنواع الكفر والمروق والزندقة، وحملت كل الفلسفات الباطلة ومبادئ الإلحاد والزندقة. فأدخلتها إلى عقائد الإسلام وتراث المسلمين على حين غفلة منهم، فأفسدوا العقول والعقائد. ونشروا الخرافات والدجل والشعوذة، ودمروا الأخلاق، وأتوا على بنيان دولة الإسلام من القواعد إذ حارب المتصوفة العلم والجهاد والبصيرة في الدين، بل والزواج والعمل والكسب، فنصبوا للقرآن والسنة حربًا لا هوادة فيها، وحرفوا الناس عن تعليمها بكل سبيل زاعمين تارة أن القرآن والسنة علم

أوراق وظواهر وأن علمهم الباطني علم أرواح وحقائق واطلاع على الغيب ومشاهدة وتارة أخرى زاعمين أن أورادهم وأذكارهم تفضل ما في القرآن والسنة آلاف بل عشرات الآلاف من المرات وتارة ثالثة واصفين كل علماء الشريعة بأنهم محجوبون مرتزقة ظاهريون جامدون، لم يتذوقوا الحقائق ولم يشاهدوا الغيب، واختص المتصوفة أنفسهم وهم بوجه عام من الزنادقة المبتدعين والكفار المستترين بأنهم أهل العلم اللدني، والحقيقة. . واستطاعوا بذلك أن يدخلوا كل ما سطره الكفار والزنادقة إلى عقائد المسلمين وأول ذلك ما يسمى بعقيدة وحدة الوجود التي تنادي بأن الوجود كله وحدة واحدة فلا خالق ولا مخلوق، الكل عين واحدة، وحقيقة واحدة في زعمهم تعددت وجوداتها، وتغيرت صفاتها ولكنها شيء واحد فالجنة والنار، والرسل والشياطين، والمؤمنون والكفار، والطهارة والنجاسة، والشرك والتوحيد شيء واحد وذات واحدة، ولا فرق ـ بتاتًا ـ عندهم بين موسى وفرعون، وإبليس أفضل من محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفضَّل شيخهم الأكبر كما يدعون فِرعون على موسى لأن فرعون علم الحقيقة التي يدعيها الصوفية ـ حيث قال {أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24] .! ! وهكذا خرج المتصوفة على المسلمين بدين، هذه مبادئه دين يرى في إبليس مثالًا للفتوة والتوحيد. لأنه لم يرض أن يسجد إلا لله بزعمهم، وبفرعون إمامًا لأهل الإيمان الصوفي. . لأنه عرف الحقيقة وأنه هو الله، والحال عندهم أنه ليس في الكون إلا الله. . دين لا يفرق بين خالق ومخلوق وشرك وتوحيد، وكفر وإيمان، وطهر وفجور. . وجنة ونار. أقول لقد استطاع المتصوفة إفساد عقائد المسلمين في قرون متطاولة، واستطاعوا كذلك إفساد أعمالهم وشرائعهم وكانت لهم اليد الطولى في هزيمة العالم الإسلامي وسقوطه تحت نير الاستعباد والذل والتبعية لدول الكفر، كان التصوف هو المعبرة التي عبر

عليها الملحدون والزنادقة والمفسدون في الأرض والعباءة التي تستر بها كل من يريد التخريب والتدمير لأمة الإسلام ورسالة القرآن ثم بعد ذلك كان التصوف هو الجسر الذي ركبه وعبره كل من يريد الوصول إلى تعظيم الناس له، واستعباد الآخرين، وأكل أموالهم بالباطل فقد تحول الزنادقة ومن لا أصول لهم معروفة من الأعاجم والملاحدة فدخلوا في التصوف، وانتسبوا زورًا إلى أهل بيت النبوة وادعوا الكرامات والكشوف والعلوم الإلهية اللدنية التي تنزل عليهم، ومن ثم سخروا الناس لخدمتهم بل وعبادتهم من دون الله أحياءً وأمواتًا، فحملت لهم الهبات والهدايا. وانهالت من كل حدب وصوب، وقدسهم الناس وعظموهم تعظيمًا لم تعرفه الملوك ولا أبناء الملوك من الجبابرة المفسدين واستطاع هؤلاء الزنادقة المتسترون أن يقيموا إقطاعات دينية، وممالك طائفية تربعوا على عروشها، وجعلوها وراثة في أولادهم من بعدهم. سبب تأليف الكتاب لقد كانت رؤية هذا الخطر الماحق على أمة الإسلام هو السبب الذي حداني إلى أن أؤلف هذا الكتاب، كاشفًا القناع عن الحركة الصوفية قديمًا وحديثًا، مبصرًا المسلمين بأبعادها، مبينًا مخاطرها وأهدافها. منهج الكتاب وتقسيماته وقد صدر أصل هذه الرسالة سنة 1975م وقد شملت الجانب العقائدي فقط من التصوف وانشغلت عن إتمام الكتاب بمشاغل أخرى ثم يسر الله سبحانه وتعالى أن يتم الكتاب بالصورة التي كنت أطمع فيها حيث قسمت الكتاب إلى أبواب ستة جعلت الباب الأول لبيان الخطوط العريضة لعقيدة الإسلام في

الكتاب والسنة، وأنه لا عقيدة إلا من القرآن والسنة، ولا شريعة كذلك إلا منهما وأن كل ما خالفهما فهو باطل. وذلك حتى تتضح هذه الحقيقة التي هي أصل الدين وأساسه والتي عمل الصوفية كل همهم لنقضها وهدمها، فالتصوف يقوم أول ما يقوم على هدم هذين الأصلين توحيد المعتقد، وتوحيد العمل، فعند الصوفية كل ما اعتقده الناس جميعًا مؤمنين وكفارًا وزنادقة وفلاسفة وعلى أي ملة ومذهب فهو حق، وكل عمل وشريعة فهي حق وأما الإسلام فإنه يقوم أول ما يقوم على أنه لا هدي إلا هدي الإسلام ولا عقيدة حق إلا عقيدة الكتاب والسنة ولا شريعة واجبة الإتباع إلا شريعة الرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنه لا صراط يوصل إلى الله إلا صراطه. وأما المتصوفة فكل الطرق نافعة وصالحة وكل الشرائع مهما كانت فعينها واحدة. وخصصت الباب الثاني لمجمل تاريخ التصوف: كيف بدأ التصوف، وكيف انتشر وما هي المراحل التي مر بها إلى يومنا هذا والخطوط العريضة للفكر الصوفي في العقائد والشرائع. وأما الباب الثالث فهو أوسع الأبواب، وقد شمل ثلاثة عشر فصلًا كلها في تفصيل المعتقد الصوفي كيف بدأ وكيف تطور إلى أن وصل إلى غاياته ونهاياته في القول بوحدة الوجود، والمناداة بوحدة العقائد جميعًا، والأديان جميعًا وجعل كل المتناقضات حقيقة واحدة (لله في زعمهم) تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. ثم عرضنا لعقيدة المتصوفة النهائية فشرحناها بحمد الله فصلًا فصلًا بدأنا بما سموه بالحقيقة المحمدية ويعنون بذلك أن الرسول هو أول موجود في الكون وهو المستوي على عرش الله فوق السماوات السبع، وأنه هو الذي خلق هذا العالم من نوره وهو الذي أرسل الرسل وأنزل الشرائع وأن كل العوالم السفلية والعلوية من فعله وصنعته وتدبيره وأنه بذلك المظهر الحسي لله في زعمهم. الله الذي لا يعدو كونه عندهم هو مجموع هذا العالم! ! شرحنا عقيدتهم هذه بالنصوص من كتبهم، ورددنا عليهم، ثم بينا معتقدهم في الخضر ـ عليه السلام ـ والذي جعلوا له صورة وحقيقة غير ما جاء في الكتاب

والسنة. ثم بينا عقيدتهم في علم الغيب وما سموه بالكشف، ثم قولهم في معراج الروح إلى السماوات ونقلنا نقولًا مستفيضة من خرافاتهم وترهاتهم ثم بينا كذلك أقوالهم وعقائدهم في الولاية الصوفية وشرحنا كيف خلعوا كل صفات الربوبية على أوليائهم المزعومين. وبينا مرارًا الولاية عندهم وتقسيماتهم لها، ثم خصصنا فصلًا لمعتقدهم فيما سموه بختم الولاية ومن قال بذلك منهم قديمًا وحديثًا ثم في عقيدتهم الخرافية في الديوان الذي يحكم العالم من جبل حراء بمكة! ! . وأما الباب الرابع: فقد خصصناه للشعائر الصوفية فعرضنا لشعائرهم في الذكر وكيف يتلقون أذكارهم في زعمهم من الرسول يقظة لا منامًا ومن الله ـ في زعمهم ـ مكتوبة! ! وكيف يتلقون من القبور. وبينا أيضًا ما زعموه من فضائل لأذكارهم المكذوبة. ثم بينا منهجهم وطريقتهم فيما سموه بالشطح. وشرحنا منهجهم في التربية الصوفية وكيف يغسلون الأمخاخ ويحولون العقلاء إلى مجانين ومجاذيب ودراويش سائمة يسهل قيادتهم وتوجيههم. وبينا في الفصل الرابع من هذا الباب الطرق الصوفية وشرحنا بالتفصيل طريقة حديثة مشهورة هي الطريقة التجانية لما لهذه الطريقة من شهرة وانتشار. وفي الفصل الخامس نقلنا بالنص مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية لأتباع الطريقة الرفاعية في وقته. وأما الباب الخامس: فقد شرحنا فيه الصلة بين التصوف والتشيع وأنهما كانا دائمًا وجهين لعملة واحدة. عملًا لأهداف واحدة وأخذ كل منهما عن الآخر. وأما الباب السادس: والأخير فقد بينا فيه موقف طائفة من علماء المسلمين قديمًا وحديثًا من الفكر الصوفي بدءًا بالإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ الذي كان له السبق الأول في الكشف عن هذه الفرق الباطنية، ثم الإمام أحمد الذي فضح مسلكهم وحارب أوائلهم حتى اختفوا إلى أن ماتوا. وختمنا هذا الباب بشهادة لرجلين متأخرين كانا من رجال التصوف البارزين فهداهما الله إلى الإسلام الصحيح وكتب كل منهما في فضح التصوف وهما الشيخ الدكتور تقي الدين

الهلالي والشيخ الراحل عبد الرحمن الوكيل. هذا وإني لأسأل الله أن ينفع بهذا الكتاب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وأن يكون هذا الكتاب النور الهادي للأمة لكشف غمة التصوف حتى تنزاح إلى غير رجعة عن وجه العالم الإسلامي. وقد حاولت جهدي أن أسهل العبارة وأشرح الغامض وأختصر في الرد وأبسط وأسترسل في النقل من كتب القوم وذلك لعلمي أن ظهور عقائد هؤلاء الزنادقة كاف في إبطالها وذلك أنها عقائد ينفر منها كل قلب سليم وكل فطرة لم تتنجس. وإنه ليكفي فقط أن نكشف الهالة الزائفة التي أحيطت بالتصوف لتظهر الحقيقة العارية البغيضة المشينة والتي إذا علمها أي مسلم لا بد أن ينكرها. مميزات هذه الرسالة عن غيرها وأحمد الله أن هذا الكتاب قد تميز عن كتب كثيرة كتبت في بيان حقيقة الصوفية أنه كان موضوعيًا مفصلًا وهو أول كتاب فصل بين العقيدة الصوفية والشريعة الصوفية وشرح كل باب من أبواب المعتقد الصوفي على حدة وكل شريعة لهم على حدة. وبذلك تكتمل الصورة عند القارئ ويفهم مغاليق التصوف ويتعرف على دروبه وسراديبه الخفية. وفي الختام أسأل الله ثواب هذا العمل من عنده إنه هو السميع العليم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله الأمين وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عبد الرحمن عبد الخالق، الكويت في يوم الاثنين، 9من ذي القعدة سنة 1404هـ الموافق 6 من أغسطس سنة 1984م.

مقدمة الطبعة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الأولى الحمد لله الذي وصف نفسه في كتابه، وعلى ألسنة رسله، فهدانا وعلمنا، وشرح صدور أهل الإيمان إلى توحيده وعبادته وتقديسه، فشهدوا شهادة الحق أن الله إله واحد سبحانه، كما قال ـ عز وجل ـ {شهدَ اللهُ أنَّه لا إلهَ إلا هوَ والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسطِ لا إلهَ إلا هوَ العزيزُ الحكيمُ} [آل عمران: 18] . أحمده سبحانه، وأستعينه وأستغفره، وأسأله أن يجعلني أحد أولئك الذين شهدوا له بالوحدانية، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله، محمد الداعي إلى سبيل ربه على بصيرة، الذي وصف ربه بما أوحي إليه، فأقام، للناس دينهم الحق، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه القويم إلى يوم الدين. وبعد: فالحركة الصوفية حركة قديمة، نشأت في منتصف القرن الثاني الهجري، وبلغت قمتها العقائدية في أواخر القرن الثالث، أي بعد مرور مئة وخمسين سنة تقريبًا على نشأتها. وأصبحت عقيدة عامة، ودينًا عامًا لعموم المسلمين إلا قليلًا في القرون التاسع والعاشر والحادي عشر، وكانت هذه القرون قرون ظلام وجهل، أفاق العالم الإسلامي بعدها على الغزو الأوربي لأراضيه. وكان العالم الإسلامي في ذلك الوقت في حالة بلغت منتهى السوء، فإن كثيرًا من علماء المسلمين لم

يجدوا ما يجابهون به الفاتحين من الفرنسيين إلا أن يقرؤوا كتاب البخاري! ! وكان ذلك في القاهرة وفي الأزهر ثم اصطحاب نابليون وإلباسه جبة المشيخة، وإدخاله في حلقة من حلقات الذكر! ! . وأما في المغرب فإن أتباع الشيخ أحمد التجاني كان لهم شرف خدمة الفرنسيين في ترسيخ أقدامهم في شمال أفريقيا وغربها، وأما في السودان فإن السيد الميرغني والطريقة الختمية قد وطأت الناس لدخول الإنجليز، والقضاء على الثورة المهدية. وهذه الحركة الصوفية ما زالت تعيش إلى يومنا هذا، بل هي في حالة بعث جديد تقوم عليه اليوم مراكز تعليمية كبيرة في بلاد الغرب وفي بلادنا الإسلامية، وهناك حركة نشطة لبعث التراث الصوفي، ليكون دعامة لبعث إسلامي في زعم القائمين على نشر هذا الفكر. ولقد كانت صلتي بدراسة التصوف قديمة، وذلك للموقف المتناقض الذي وقفه كثير من الباحثين والعلماء من هذه الحركة الصوفية، ومن فكرها الذي نشأ عنها، وكذلك للاختلاف الشديد حول رجالها، فكم من رجل من رجال التصوف اتهمه أناس بالزندقة والإلحاد، ووصفه آخرون بالقديسية والقطبية والغوثية. ولقد كان هذا التناقض والاختلاف في موقف علماء الإسلام إزاء هذه الحركة، وهذا الفكر باعثًا لي على النظر والتفكير والبحث. فمكثت مدة طويلة أجمع القول إلى القول، وأقف عند العبارة الغامضة طويلًا، وأفسر كلام القوم بعضه ببعض. وأظن أنني الآن بحول الله قد عرفت مغاليق هذا الفكر، ومساربه الخفية، ولم يكن هذا الأمر سهلًا قط، بل يعلم الله أنني تحملت فيه كثيرًا من الآلام النفسية المرهقة، وذلك أن أساطين القوم قد مارسوا تشويهًا لكتاب الله ـ عز وجل ـ وقلبًا لمفاهيم السنة الصحيحة، لا يحيط به إلا الله، ولا يطيق الوقوف عليه مسلم جاد! !

ولقد تجشمت مشقة ذلك لعلمي بعد الدراسة والجهد أن هذا الفكر هو أخطر ما يجابه المسلمين في الوقت الحاضر من مشكلات، فمشكلة الفكر الصوفي مشكلة عقائدية، والمشاكل العقائدية هي أخطر ما تقابله الأمة، فالأمة يتحول عملها كله بتحول عقيدتها، فالتتار عندما أسلموا حقيقة، تركوا حرب المسلمين، والمسلمون عندما تركوا الإسلام، وعقيدة الجهاد رضوا بالمستعمرين، وتخلقوا بأخلاقهم، وتثقفوا بثقافتهم. وهذا الكتاب الذي بين يديك أيها القارئ هو بحث في العقيدة الصوفية: ما هي؟ وما الغاية التي تسعى المتصوفة إلى غرسها؟ وما الفروق بين هذه العقيدة وعقيدة أهل السنة؟ وهذه العقيدة أنقلها لك بنصوصها من الكتب والمراجع الصوفية، التي يعتبرها المتصوفة من أنقى كتبهم وأشهرها، كاللمع للطوسي، والتعرف على مذهب أهل التصوف للكلاباذي، وطبقات الصوفية للسلمي، وغير ذلك من الكتب التي كتبت بأقلام رجال التصوف بأنفسهم. وستعلم من هذه الدراسة أن التصوف عقيدة فلسفية قديمة، نشأت قبل الإسلام في الفلسفة الاستشراقية المنسوبة إلى (أفلوطين) . والفلسفة الهندية القديمة، والتي ما زالت عقيدة الهند إلى اليوم، وهي القول بوحدة الوجود، وهذه العقيدة هي عقيدة كثير من شعراء الفرس قبل الإسلام، وبعد الإسلام كجلال الدين الرومي. وهذا يعني أن التصوف غير الزهد المعروف في العقيدة الإسلامية، فالزهد شيء، والتصوف شيء آخر، يختلف عنه كل الاختلاف، بل هناك فرق بين الزهد في عقيدة الكتاب والسنة، والزهد في العقيدة الصوفية. فالتصوف فلسفة كاملة، وعقيدة غايتها فتح القلب على علوم غيبية، لا تتلقى عن الرسل، بل تتلقى بطريق (الكشف) عن الله رأسًا، أو عن الرسول (حسب زعمهم) . ثم التحقق بعد ذلك أن لا موجود في الكون إلا الله، وبذلك يصبح العبد هو الرب، والرب هو العبد، بل الكل شيء واحد في الحقيقة، متفرّق في الصور فقط! ! وطريق الوصول إلى هذا العلم الغيبي (الكشف هو المجاهدة

بصور كثيرة) . وتختلف هذه الصور باختلاف الزمان والمكان، والأشخاص والديانات! ! ويجمعها أمور واحدة هي تعذيب النفس، وترديد أذكار معينة، والعزلة وترك الطهارات. ولا يعني هذا أن كل رجل نسب إلى التصوف كان يعتقد هذه العقيدة، بل من وصل الغاية منهم وصل إلى هذا، ومن لم يعرف التصوف لم يصل إلى هذه الغاية، ووقف عند مرحلة من مراحل الطريق الصوفي، الذي ينتهي بتلك النهاية. فالطريق الصوفي مراحل، وكلام كل إنسان فيه يدل على المرحلة التي انتهى إليها. والجوانب التي يجب أن يتعرض لها بحث كامل عن التصوف جوانب كثيرة، لا يسعها هذا البحث، ولذلك فقد اقتصرت في البحث الذي بين يدي القارئ الآن على بحث الجانب العقائدي فقط في الفكر الصوفي، جوابًا عن سؤال هام: ما هو التصوف؟ وما العقيدة التي ينتهي إليها؟ وما موقف هذا الفكر من قضية الكتاب والسنة؟ وأسأل الله أن يوفقني قريبًا إلى إخراج هذا البحث كاملًا، معالجًا جميع القضايا التي أثارها هذا الفكر في العبادات والسلوك وتزكية النفس، ثم الآثار السياسية والاجتماعية لهذا الفكر، مع تعريف برجالاته، منذ ظهوره إلى يومنا هذا، سائلًا الله ـ تبارك وتعالى ـ أن يجعل في هذه الرسالة الميسرة هداية ونورًا لأبناء أمتي الإسلامية، الذين يعزهم الطريق المستقيم إلى رب العالمين سبحانه وتعالى، في وقت تختلط فيه السبل، وعلى كل سبيل شيطان يدعو إليه، وأسأله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم. عبد الرحمن عبد الخالق يوسف الكويت في غرة جمادي الآخرة ل ـ 1394 21 يونيو 1974

الباب الأول: الكتاب والسنة عقيدة ومنهجا

الباب الأول: الكتاب والسنة عقيدة ومنهجا الكتاب والسنة عقيدة 1 ـ بُعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عصر قد انطمست فيه معالم الإيمان بالحق ـ تبارك وتعالى ـ: أـ فالعرب يعتقدون في وجود الله، وأنه خالق الكون، ومنزل المطر، ولكن هذا الإله في نظرهم لا يستطيع إحياءهم بعد الموت، وليست له غاية من خلق الناس غير هذه الدنيا التي خلقهم فيها، فليس هناك قيامة ولا حساب، ثم هو إله كملوك الأرض يتوسل إليه من أجل الرزق والمطر، والنصر على الأعداء بكل حبيب عنده كالملائكة والصالحين. ب ـ وأما النصارى فقد درس دينهم الحق، ولم يبق عليه إلا أفراد قلائل، وأما الكثرة الغالبة فقد اعتقدت أن عيسى هو الله أو ابن الله ـ تعالى ربنا عما يقولون ـ وجعلوا علماءهم ورهبانهم أربابًا، ينفذون أقوالهم في كل شيء، ولو خالف ذلك نصوص الكتاب عندهم، ورفعوا الصالحين منهم إلى منزلة التقديس والتأليه. ج ـ وأما اليهود فقد غالوا في تشبيه الله بخلقه، ونسبوا إليه كل القبائح التي تنسب إلى البشر من الكذب والبخل، والغفلة، وعدم العلم بالمستقبل. د ـ وفي بلاد فارس والهند عاشت فلسفات كثيرة، كل فلسفة تصور

معبودها بصورة تروق في عقل قائلها: ـ ففلسفة نادت بإلهين للعالم: إله للنور وآخر للظلمة، وزعمت صراعًا بينهما، ودعت الناس إلى مساعدة إله الخير والنور، بإشعال النيران لينتصر الحق على الباطل. ـ وفلسفة نادت بخالق للكون، يجب على الإنسان أن يجاهد نفسه بصنوف من المجاهدات حتى يفنى فيه ويلتحق به، ولا تنسخ روحه مرة ثانية بعد الموت إلى هذا العالم. ـ وفلسفة نادت بالوجود الكلي لذات واحدة، تعددت وجوداتها بتعدد صفاتها، ولهج الشعراء والكتاب من الفرس بحب هذه الذات التي تتراءى لهم في كل شيء، وتظهر لهم في كل موجود. هـ ـ وفي اليونان ظهرت فلسفات كثيرة نادى معظمها بخالق للكون سموه واجبًا للوجود أو علة للعلل، عنه نشأ العالم وصدر، ولكن هذه الفلسفة وقفت حائرة عاجزة أمام الغاية والهدف الذي من أجله خلق هذا الخالق الكون، والنهاية التي يسير إليها الناس. 2 ـ وكل هذه الفلسفات السابقة كانت محاولات بشرية لمعرفة الغيب، وما وراء هذا العالم المشاهد، وبديهي أن تنتهي هذه المحاولات البشرية بالإخفاق الذريع، إذ لا سبيل للبشر إلى معرفة الغيب إلا الظن والحدس والتخمين، أو الجن والشياطين. 3 ـ بعث الله رسوله محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليرشد كل أولئك الحيارى الضالين إلى ربهم وخالقهم سبحانه وتعالى، وليعلمهم الحكمة التي من أجلها خلقهم، والغاية التي

إليها يسيرون، والمنهج الذي يحبه الله لعباده ويرضاه لهم. 4 ـ وقدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للناس الدليل الكامل على أنه رسول من الله ـ تبارك وتعالى ـ يأتيه الوحي من السماء، فقال لهم: هذا كلام الله، أقرؤه عليكم، وإن لم تصدقوني فأتوا بسورة واحدة من مثله. 5 ـ وكان على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يواجه كل هذا الركام من الأفكار والعقائد والمذاهب والفلسفات، وأن يقيم الحجة والبرهان على فسادها جميعًا، وصحة ما يدعو هو الناس إليه، وكانت المعركة عقائدية. 6 ـ وتركزت هذه الحرب حول أصلين اثنين يتفرع عنهما فروع كثيرة: أـ فالأصل الأول هو توحيد الله وحده، وهذا يعني أنه الإله الخالق وحده، المعبود وحده، الذي لا يشاركه في صفاته وأفعاله أحد سبحانه وتعالى، والذي يتصف بكل صفات الكمال والجمال والجلال، وينتفي عنه أضداد ذلك. ب ـ والأصل الثاني هو توحيد الطريق إليه، فلا يحكم في شؤون الناس غيره، ولا يتقرب إليه بما شرع هو سبحانه وتعالى، وكان هذا هو معنى " لا إله إلا الله، محمد رسول الله " فلا إله إلا الله: الأصل الأول، ومحمد رسول الله: الأصل الثاني. 7 ـ ولقد نُوزع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذين الأصلين: أـ فأما المشركون من العرب فقالوا: {أجعل الآلهة إلهًا واحدًا إنَّ هذا لشيءٌ عُجابٌ} [الزمر: 3] وقالوا عن آلهتهم: {ما نعبُدهم إلاّ ليقربونا إلى الله

زُلفى} [الزمر: 3] وقالوا: {هؤلاءِ شُفعاؤُنا عندَ اللهِ} [يونس: 18] . وكان رد الله ـ تبارك وتعالى ـ: قل: {لَو كانَ فيهِما آلهَةٌ إلا اللهُ لفسدَتا} [الأنبياء: 22] ، {قُل للهِ الشَّفاعَة جميعًا} [الزمر: 44] . وعن الأصل الثاني: قال تعالى هادمًا تشريعاتهم الباطلة في الحلال والحرام والتقرب: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21] . ب وج ـ وأما اليهود والنصارى فزعمت كل طائفة أن طريقها هو الصواب، وأن معبودها هو الحق، وأن الجنة خالصة لهم من دون الناس، فكان رد الله ـ تبارك وتعالى ـ: {قل إن هدى الله هو الهدى} [البقرة: 120] ، {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31] . والقرآن كله بيان لجهاد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع هذه الطوائف الثلاث في شأن هذين الأصلين. 8 ـ وآمن بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجال أخلصوا دينهم لله، فأحبوه وآثروه على كل شيء، وأحبوا رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وافتدوه بأرواحهم وأنفسهم، وبذلوا الجهد في متابعته وطاعته، وفي تنزيه الله وتقديسه وعبادته، وتحققوا بهذين الأصلين، وقاموا بها خير قيام حتى أثنى عليهم الحق سبحانه وتعالى في آيات كثيرة من كتابه. من ذلك قوله جل وعلا: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدًا يبتغون فضلًا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود} . . الآية [الفتح: 29] ، فرضي عنهم سبحانه ورضوا عنه، وعرفوه حق معرفته، وقاموا

بدينه خير قيام. وأثنى عليهم رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) (رواه الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود، وغيرهم عن غيره) ، وشهد لأفراد منهم بالجنة والفضل، وكان من هؤلاء أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ الذي قال عنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: [وزنت بالأمة فرجحت، ووزن أبو بكر بالأمة ـ لست فيها ـ فرجح، ووزن عمر بالأمة ـ لست فيها وأبو بكر ـ فرجح] (رواه أحمد (2/76) بنحوه وإسناد ضعيف، فيه عبيد الله بن مروان أورده ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل ـ 5/334) ولم يحك فيه جرحًا ولا تعديلًا، وذكره ابن حبان في الثقات، وفيه أيضًا أبو عائشة أورده صاحب (الجرح والتعديل ـ 9/417) ولم يحك فيه كذلك جرحًا ولا تعديلًا، وعلى هذا فهما مجهولان وباقي رجاله ثقات. وروى أحمد (5/44 و 50) وأبو داود (4634) والترمذي (2389 ـ تحفة) وصححه، كلهم عن أبي بكرة أن أحد الصحابة رأى في منامه أن ميزانًا دلي من السماء، فوزن به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر، فرجح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم وزن به أبو بكر وعمر، فرجح أبو بكر، ثم وزن عمر وعثمان، فرجح عمر، ثم رفع الميزان. وقد قواه أستاذنا الألباني في (تخريج المشكاة ـ 3/233) بطريقيه) . وقال: [لو كان نبي بعدي لكان عمر] (رواه بنحوه أحمد (4/154) والترمذي (2/293) وحسنه والحاكم (3/85) وصححه وغيرهم، كلهم عن عقبة بن عامر مرفوعًا، وحسنه أستاذنا الألباني في (السلسلة الصحيحة ـ 327) وفي (صحيح الجامع ـ 5160) ، وقال لبلال: [إني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة] (رواه البخاري (3/376) ـ من الفتح) وأحمد (2/333 و439) عن أبي هريرة، ولفظ البخاري: قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبلال عند صلاة الفجر: [يا بلال، حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة] قال: ما عملت عملًا أرجى عندي أني لم أتطهر طهورًا في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي. ودف النعل هو صوت حركتها الخفيف وسيرها اللين) ، ونحو ذلك كثير جدًا. 9 ـ ومع ذلك فقد حرص رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ طيلة حياته على بقاء أصلي التوحيد " لا إله إلا الله، محمد رسول الله " نقيين صافيين، فما كان يسمح بتاتًا يخدش هذين الأصلين، ولو من أحب الناس لديه وآثرهم عنده ـ صلى الله عليه وسلم ـ.

ومن الأدلة على ذلك: أـ أنه رأى يومًا بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورقة من التوراة، وكان عمر قد أعجبه ما فيها، فغضب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غضبا ًشديدًا، وقال لعمر: [أهذا وأنا بين أظهركم، لقد جئتكم بها بيضاء نقية. . والله لو كان موسى حيًا لما وسعه إلا أن يتبعني] (رواه بنحوه الإمام أحمد في مسنده (3/387) والبيهقي في شعب الإيمان، والدارمي (1/115 ـ 116) بأتم منه، قال أستاذنا الألباني في (تخريج المشكاة ـ 1/63) : " وفيه مجالد بن سعيد، وفيه ضعف، ولكن الحديث حسن عندي لأن له طرقًا كثيرة عند اللالكائي والهروي وغيرهما، وقد خرجت بعضها في (الإرواء ـ 1589) ، وفي هذا الحديث من الفقه: أولا: أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعجب أن يبدأ الاهتداء بغير الكتاب والسنة وهو ما زال حيًا. ومن مقتضى الإيمان بالكتاب والسنة أن يعتقد أن الهدي فيهما وحدهما. وثانيا: أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد جاء بالدين نقيًا خالصًا، لم تشبه شائبة من تغيير أو تبديل أو تحريف، والصحابة يتلقونه غضًا طريًا خالصًا، فكيف ينصرفون عنه ويهتدون بما شابه التحريف والتبديل والزيادة والنقص. وثالثًا: أن موسى ـ عليه السلام ـ نفسه الذي نزلت عليه التوراة لو أنه حي موجود لكان اللازم في حقه هو متابعة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وترك شريعته التي بلغها للناس. وهذا الحديث أصل في بيان منهج الكتاب والسنة، وأنه لا يجوز لأحد أن يهتدي بعلم يقرب إلى الله، ويصلح النفس غير الذي بعث به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى لو كان أصله من شريعة منزلة علي أحد الأنبياء السابقين. ب ـ والدليل الثاني أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سمع خطيبًا يخطب بين يديه فكان مما قاله: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (بئس خطيب القوم أنت، قل: ومن يعص الله

ورسوله فقد غوى) (رواه مسلم 6/159 ـ بشرح النووي) وأحمد (4/256 و379) . فهذا الخطيب قد قاطعه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقبَّح قوله أمام الناس، والسبب أنه جمع بين الله ورسوله في ضمير واحد (ومن يعصهما) فأمره الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن يعيد ذكر الإسم الظاهر لله ولرسوله، حتى لا يُظن ولو من بعيد أن منزلة الرسول كمنزلة الله ـ عز وجل ـ. وهذا الحرص من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ دليل على وجوب صون جناب توحيد الله ـ تبارك وتعالى ـ صونًا كاملًا، ووجوب التفريق التام بين ما يجب لله ـ عز وجل ـ وما يجب لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. ج ـ والدليل الثالث أن عثمان بن مظعون ـ رضي الله عنه ـ وكان من خيار الصحابة، لما توفي، وحضر عنده الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ سمع الصحابية الجليلة أم العلاء تقول: شهادتي عليك أبا السائب أن الله قد أكرمك. . فرد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلًا: (وما يدريك أن الله قد أكرمه؟) وكان هذا تنبيهًا عظيمًا من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذه الصحابية بأنها قد حكمت بحكم غيبي، وهذا لا يجوز، لأنه لا يطلع على الغيب إلا الله ـ عز وجل ـ ولكنها ردت قائلة: سبحان الله يا رسول الله! ! ومن يكرم الله إذا لم يكرمه؟ أي إذا لم يكن عثمان بن مظعون ـ رضي الله عنه ـ ممن يكرمهم الله ـ تبارك وتعالى ـ فمن بقي منا حتى يكرمه الله ـ تبارك وتعالى ـ. وهذا رد في غاية البلاغة والفهم. ولكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رد عليها بما هو أبلغ من ذلك حيث قال لها: (والله إني لرسول الله لا أدري ما يفعل بي غدًا) وكان هذا نهاية الأمر وحسمه، فالرسول بنفسه وهو من هو صلوات الله وسلامه عليه يجب أن يظل خائفًا مترقبًا {يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه} [الزمر: 9] . وهنا وصلت أم العلاء إلى الحقيقة الشرعية العظيمة فقالت: والله لا أزكي بعده أحدًا أبدًا رواه البخاري (3/358 و6/223 و224 و8/266 و6/49 و69 ـ من الفتح) وأحمد (6/436) عن أم العلاء الأنصارية بنحوه) . وهذا الأصل مقرر في الشريعة في آيات وأحاديث كثيرة، منها قوله ـ تبارك وتعالى ـ: {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من

يشاء ولا يظلمون فتيلًا انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا} [النساء 49: 50] ومنها قوله: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا} [النساء: 123] ، وكان هذا ردًا على اليهود الذين قالوا: نحن أهل الجنة، ونحن شعب الله المختار، وردًا على النصارى الذين قالوا: بل نحن أهل الجنة، لأننا أتباع ابن الله المخلص للبشر من خطيئتهم، ورد أيضًا على المسلمين الذين قالوا: بل نحن أهل الجنة لأننا أتباع رسوله محمد خاتم الرسل والموحدين، فأخبر تعالى أن الجنة ليست بالأماني، وإنما بالعمل الصالح، وأن من عمل سوءًا يجز به، ولا تنفعه نسبته وروي في الحديث: (من قال أنا في الجنة فهو النار) (فيه إشارة إلى ضعفه، وقد أورده الحافظ السخاوي في المقاصد الحسنة ص423 ضمن الحديث على حديث: [من قال: أنا مؤمن فهو كافر، ومن قال: أنا عالم فهو جاهل] وعزاه إلى (المعجم الصغير للطبراني عن يحيى بن أبي كثير) وقال: وسنده ضعيف، وهو عند الديلمي في مسنده عن جابر بسند ضعيف جدًا، ورواه الحارث بن أبي أسامة من جهة قتادة عن عمر بن الخطاب موقوفًا عليه، وهو منقطع) . د ـ والدليل الرابع أن رجلًا جاء إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له: ما شاء الله وشئت فقال له ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (أجعلتني لله ندًا؟ قل ما شاء الله وحده) (رواه أحمد (1/214 و224 و283 و347) والبخاري في (الأدب المفرد ـ 783) وغيرهما، وأورده أستاذنا الألباني في (السلسلة الصحيحة ـ 138) وعزاه إلى مخرجيه وحسنه) ، فجعل ـ صلى الله عليه وسلم ـ المشيئة لله وحده، حتى يُعلّم المؤمنين أن لا مشيئة لأحد مع مشيئة الله ـ تبارك وتعالى ـ. هـ ـ ـ وأما الدليل الخامس فهو أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم مروا في أثناء خروجهم إلى هوازن بعد فتح مكة على شجرة، كان المشركون يعلقون عليها سيوفهم، ظانين أنه من فعل ذلك حالفه النصر في معاركه مع

العدو، فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. أي شجرة ينوطون بها أسلحتهم. فقال لهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (قلتم والذي نفسي بيده كما قال بنو إسرائيل لموسى: (اجعل لنا إلهًا كما لهمءَالِهَةٌ. .) [رواه الإمام أحمد في مسنده] (5/218) والترمذي في (سننه ـ 6/407 و408 ـ تحفة) وقال: حديث حسن صحيح، قلت: وإسناده صحيح كما قال، ورجاله رجال الستة غير سنان بن أبي سنان فلم يرو له أبو داود وابن ماجة) ، فبين ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن هذا من عمل المشركين، وأن مشابهتهم في هذا شرك بالله ـ تبارك وتعالى ـ إذ طلب البركة والنصر من غير الله ـ عز وجل ـ شرك به تعالى. 10 ـ والأدلة السابقة كلها لبيان أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان ليسمح بتاتًا بخدش الأصل الأصيل في الإسلام، وهو توحيد الله ـ عز وجل ـ والقول عليه بلا علم. وأخذ الهداية من غيره سبحانه وتعالى، وغير رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. 11 ـ وقد سدَّ رسول الله صلوات الله وسلامه عليه باب العرافة والكهانة وادعاء علم الغيب، وأخبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن مدعي ذلك كافر، وأن من صدَّق عرافًا أو كاهنًا فقد كفر بما أنزل على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد سئل ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن العرافين فقال: [ليسوا بشيء] هكذا بنفي قيمتهم وتحقيرهم، فقال له أصحابه رضوان الله عليهم: ولكنهم يخبروننا أحيانًا بالأمر، فيكون كما قالوا، فأخبرهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الشياطين تركب بعضها بعضًا وتصل إلى العنان، وتسمع الملائكة تتكلم بالأمر من أمر الله تعالى، فيتعلمونه منهم، فيرسل الله عليهم الشهب، فيلحقهم الشهاب أحيانًا فيحرقهم، وأحيانًا يلقون الكلمة إلى من هو أسفل منهم قبل الشهاب، فيكذب الشيطان مع هذه الكلمة مئة كذبة، فلذلك يصدق أولياء الشياطين من الإنس مرة، ولكنهم يكذبون كثيرًا (رواه مسلم في صحيحه 14/225 ـ نووي) ولفظه: قالت عائشة: سأل أناس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الكهان، فقال لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: [ليسوا بشيء] . قالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون أحيانًا الشيء يكون حقًا؟ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مئة كذبة) ، وأما صعود الشياطين إلى السماء لاستراق السمع، وقذفهم بالشهب فقد ورد في حديث آخر رواه البخاري في عدة مواضع من صحيحه، منها كتاب التفسير (9/452 ـ فتح) عن أبي هريرة، وعزاه ابن كثير إلى أبي داود والترمذي وابن ماجة أيضًا. كما ورد مثله في حديث رواه مسلم في صحيحه (7/36 و37 ـ نووي) وأحمد وغيرهما عن ابن عباس عن رجل من الأنصار) .

12 ـ ولما شك الصحابة في (ابن صياد اليهودي) الذي كان يسكن المدينة، وظنوه الدجال الذي حدث عنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأخذ الرسول معه جماعة وزاره في منزله قال له الرسول مختبرًا: (لقد خبأت لك خبئًا) . . وكان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أضمر في نفسه (سورة الدخان) فسأله الرسول عما في نفسه، فقال عدو الله: (هو الدخ) ولم يستطع أن يكمل الكلمة، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: [اخسأ فلن تعدو قدرك] . أي لن تتعدى كونك كاهنًا تتصل بالجن. ولذلك قال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (كيف ترى؟) قال: يأتيني أحيانًا صادق وكاذب. أي تأتيه أخبار من الشيطان صادقة أحيانًا، وكاذبة أخرى، فقال رسول الله: [لقد لُبِّس عليه] (رواه بنحوه مطولًا البخاري (3/462 و6/512 و13/180 ـ من الفتح) ومسلم (17/46 و58 ـ بشرح النووي) وغيرهما) . وفي هذا الحديث دليل على أن الشيطان من الممكن أن يطلع على ما في نفس المؤمن، ويخبر وليه من الإنس، وأننا مأمورون ألا نصدق من الغيب إلا ما أتانا من طريق الله، ومن طريق رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقط. وكل هذه الأدلة التي ذكرناها، وغيرها لا يحصى، إنما كانت لتثبت الجانب العقائدي الإيماني في دعوة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبيان أن العقيدة والإيمان بالغيب مصدره الله ـ تبارك وتعالى ـ وأنه لا يجوز لمسلم بتاتًا أن يتخذ طريقًا آخر للغيب يتلقى عنه، وأن من فعل ذلك فقد خرج من الإيمان بالله تعالى.

الكتاب والسنة منهجا

الكتاب والسنة منهجًا للتشريع ميادين كثيرة منها العبادات، والمعاملات، والسياسة وأمور المعاش والحياة، وباب الاجتهاد مفتوح فيها جميعًا إلا العبادات فليس فيها اجتهاد، فكل ما يتقرب به إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ من أعمال يجب الوقوف فيها عند الحد المشروع، ولم يسمح الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأحد أن يزيد على ما قال فيها، أو أن يبدل شيئًا منها. وهاك بعض الأدلة التي تثبت هذا الأصل من أصول الإيمان: أـ رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجلًا يمشي في الحج بين رجلين يسندانه فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (ما هذا؟) فقالوا: يا رسول الله نذر أن يحج ماشيًا. فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: [إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني! ! مروه فليركب] (رواه بنحوه البخاري (4/450 و451 ـ فتح) ومسلم (11/102 و103) وغيرهما عن أنس) فنهى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن فعل لم يشرعه الله ـ عز وجل ـ وإن كان فاعله قاصدًا به التعبد والتقرب إلى الله ـ عز وجل ـ. ب ـ ورأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجلًا آخر يجلس في الشمس فسأل عنه، فقالوا: يا رسول الله نذر أن يصوم، ولا يتكلم ويجلس في الشمس فقال صلوات وسلامه عليه: [ليتم صومه، وليتكلم وليجلس في الظل] (رواه بنحوه البخاري (12/401 و412) وأبو داود (3300) وغيرهما عن ابن عباس) فأقره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الصوم الشرعي فقط، ونهاه عن الصوم المبتدع وهو السكوت. وإن كان مشروعًا في شريعة سابقة كما في قصة زكريا وقول مريم عليهما السلام: {إني نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم إنسيًا} [مريم: 26] ، ولكن الله ـ عز وجل ـ لم يتعبدنا بهذه الشريعة وأمره بأن يتحول إلى الظل، لأن الجلوس في الشمس مع وجود الظل تكلف سخيف، وخروج عن

جادة الحق، وعبادة لم يشرعها الله ـ سبحانه وتعالى ـ. ج ـ وأبلغ من الدليلين السابقين حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن أباه شكاه إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه زوجه امرأة من أشراف العرب، ومكث يسألها كل يوم: كيف رأيت زوجك؟ فقالت: صالحًا غير أنه لم يطأ لنا فراشًا. . وذلك لخمس عشرة ليلة، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعبد الله بن عمرو بن العاص: (بلغني أنك تصوم النهار وتقوم الليل) ، فقال: نعم يا رسول الله. ثم قال له الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ (صم من كل شهر ثلاثة أيام) فقال: يا رسول الله! قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (خمسًا) . قال: يا رسول الله! قال: [سبعًا] . قال: يا رسول الله! قال: [تسعًا] ، ثم قال له في النهاية: (صم صيام أخي داود كان يصوم يومًا، ويفطر يومًا ولا يفر إذا لاقى) (هذا الحديث مركب من روايتين رواهما مسلم في صحيحه (8/44 ـ 47 نووي) بنحوه، كما روى نحوه البخاري (5/124 فتح)) . وفي هذا الحديث من الفقه أن منهج الإسلام هو الاعتدال بين حاجات الإنسان كلها فيعطي الإنسان حق ربه، ولا ينسى في سبيل ذلك حق زوجه ونفسه، وعينه وقوته. ولذلك جاء في الحديث الصحيح (إن لربك عليك حقًا، ولزوجك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه) (رواه البخاري 5/114 فتح) في قصة سلمان وأبي الدرداء، وفيه أن المتكلم بهذا هو سلمان، وقد صدق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلامه هذا. وفي قصة ابن عمرو الجملتان الأوليان منه مرفوعتين) . وهنا لفظه في الحديث يجب أن نقف عندها طويلًا، وهي أن المسلم لا يجوز أن يصوم صومًا يضعفه حتى إنه ليفر من العدو، ولذلك قال الرسول لعبد الله: (فصم صيام داود كان يصوم يومًا، ويفطر يومًا، ولا يفر إذا لاقى) وهذه القوة البدنية للقاء العدو مطلوبة في الإسلام، لأن الجهاد هو من أعلى مراتب الإسلام. فالذين يميتون قواهم بالتعبد ولو كان أصله مشروعًا، ويطغى هذا على جانب آخر من العبادة فإنهم مفرطون بهذا الفعل، عاصون لله ـ تبارك وتعالى ـ من جهة أخرى.

د ـ وفي الحديث الصحيح الآخر أن رجلًا سأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن صومه، فغضب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غضبًا شديدًا، وجلس عمر بن الخطاب يقول: رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا حتى سكن غضب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (رواه مسلم (1/49 ـ 51) عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه بنحوه مطولًا) ، وسر غضبه صلوات الله وسلامه عليه أن هذا السائل أراد أن يضاهي فعل الرسول في هذه العبادة التي كان له فيها خصوصية، وهي أنه يواصل اليوم واليومين والثلاثة وكان يُسأل ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك فيقول: (لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني) (رواه مسلم (7/212 و215) بنحوه عن أبي هريرة وعائشة وأنس ـ رضي الله عنهم ـ. هـ ـ ـ وأبلغ هذه الأدلة كلها في مسألة التعبد والتقرب، أنه لا يجوز فيه إلا اتباع المشروع، والتقيد بالكتاب والسنة هو حديث النفر الثلاثة الذين أتوا إلى بيوت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسألوا عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقال أحدهم: وأين نحن من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ! إن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء. فلما رجع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأخبر خبرهم صعد المنبر، وجمع الناس ثم قال: (ما بال أقوام يقولون كذا. . أما إن أعلمكم بالله، وأتقاكم لله أنا، أما إني لأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) (رواه البخاري ومسلم عن أنس ـ رضي الله عنه ـ وليس فيه صعود المنبر وجمع الناس) . وفي هذا الحديث من الفقه شيء كثير ويهمنا الآن ما نحن بصدده، وهو أن أي تجاوز فيما شرعه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في العبادات التي يتقرب بها إلى الله ـ عز وجل ـ فمعنى ذلك الخروج من منهج الإسلام إلى منهج آخر حتى ولو صلحت النيات، وأريد بذلك وجه الله ـ عز وجل ـ فإن الرب ـ تبارك وتعالى ـ لا يُعبد إلا بما شرع. وأمر آخر وهو أن تجاوز فعل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ سواء كان بتشريع جديد

كالترهُّب، أو الزيادة في المشروع كالصيام أبدًا، وقيام الليل كله هو اتهام للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لم يكن في القمة من معرفة الله ـ تبارك وتعالى ـ والقيام بحقه. ولذلك قال أولئك النفر: وأين نحن من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟ إنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يعنون أن الله قد غفر ذنوبه، فليس بمحتاج إلى اجتهاد في العبادة، ومعنى هذا أن الرسول قد ترك شيئًا من وسعه في العبادة استنادًا إلى هذه المغفرة، والحظوة عند الله ـ تبارك وتعالى ـ وهذا من الاعتقادات التي لا تليق في حق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي ما ترك وسعًا في عبادة الله وطاعته، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ في القمة دائمًا، وفي المقدمة دائمًا كما أمره بذلك ربنا سبحانه وتعالى حيث قال: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} [الأنعام: 162و163] ، فهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ أول المسلمين في كل شيء، فلا يجوز لمسلم أن يظن فيه غير ذلك، والزيادة علي ما شرعه إنما هي اتهام له ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولذلك قال: (إن أعلمكم بالله، وأتقاكم لله أنا) ثم فاصل بين من أراد طريقه بالالتزام، ومن لم يلتزم قال له (فمن رغب عن سنتي فليس مني) . 16 ـ ولم يكتف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ببيان كل ذلك، بل أعلن في كل خطبة من خطبه للناس: (وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) (هاتان الجملتان جزء من خطبة الحاجة التي كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبدأ بها خطبه، والجملة الأولى عند مسلم والبيهقي، وهي الجملة الثانية عند النسائي، وإسناده صحيح، وانظر رسالة (خطبة الحاجة) لأستاذنا الألباني فقد جمع فيها طرقها ورواياتها) ، وقال أيضًا: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) (رواه البخاري ومسلم) فكل عمل محدث يراد له التقرب إلى الله ـ عز وجل ـ فهو مردود على صاحبه، والتعبد هو بالمشروع فقط. 17 ـ ولقد أصل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد ذلك أصلًا خطيرًا، وهو تعمد مخالفة أهل الكتاب والأمم الأخرى، وذلك حتى تتحقق ميزة الأمة بالمنهج المستقل والأفعال المستقلة، وحتى لا تختلط أفعال الأمة وعباداتها بأفعال الأمم الأخرى

وعباداتها، فأمر أن نصلي بالنعال والخفاف مع العلم أن خلعها أتم لمعاني الخضوع والذلة، وذلك مخالفة لليهود والنصارى الذين لا يصلون في خفافهم ونعالهم. فقال: (إن أهل الكتاب لا يصلون في خفافهم ونعالهم، فصلوا في خفافكم ونعالكم) (رواه أبو داود 652) عن شداد بن أوس، وإسناده صحيح، ولفظه: (خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم) وصححه الألباني في (صحيح الجامع ـ 3205) و (تخريج المشكاة ـ 765)) . ولهذا الأصل أدلة وشواهد لا تحصى كثرة (من أجمع الكتب المؤلفة في ذلك كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم) لشيخ الإسلام ابن تيمية والفصل الخاص بحرمة التشبه بالكفار من (حجاب المرأة المسلمة) للألباني) ، والمراد هنا التنبيه على أن الأمة الإسلامية يجب أن تكون أمة مستقلة في كل شيء: المنهج والعبادة، والسلوك والآداب والعبادات، وحتى اللباس والمظاهر والعادات. 18 ـ وأرجو أن أكون بهذه المقدمة قد أوضحت جانبًا من هذه القضية: قضية الالتزام بالكتاب والسنة عقيدة وعبادة، وسلوكًا وآدابًا بالمشروع فقط. الصحابة رضوان الله عليهم والأصلان السابقان: 19 ـ فهم الصحابة رضوان الله عليهم هذا الأصل الأصيل لأنه مقتضى قولهم " لا إله إلا الله محمد رسول الله " فاتبعوا هذا الأصل، وكانوا حراسًا له، فما شاهدوا انحرافًا ولو يسيرًا إلا شددوا نكيرهم على فاعليه، وبتروه من أصله. ومن أكبر الأدلة على ذلك أن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ دخل المسجد في الكوفة فرأى حلقًا، وفي وسط كل حلقة كومًا من الحصى، ورجل قائم على كل حلقة يقول لهم: سبحوا مئة فيسبحون مئة. احمدوا مئة فيحمدون مئة، كبروا مئة، فيكبرون مئة؛ فقال لهم ابن مسعود رضي الله عنه: يا قوم! والله لأنتم على ملة هي أهدى من ملة رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو مقتحموا باب ضلالة (رواه الدارمي (1/68) بتمامه مع بعض اختلاف، وإسناده جيد، وصححه أستاذنا الألباني في رسالة (الرد على التعقب الحثيث ص45)) ، وهذه

قضية منطقية سليمة، فهؤلاء إما أن يكونوا أهدى من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنهم قد وفقوا لعمل لم يصل إليه علم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإما أن يكونوا في ضلالة، والفرض الأول منتف حتمًا، لأنه لا أحد أفضل من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يبق إلا الفرض الآخر، وهو أنهم قد اقتحموا باب ضلالة، فقالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، وهذا دليل منهم على صلاح نياتهم، وإرادتهم وجه الله ـ تبارك وتعالى ـ بهذا العمل المبتدع. ولكن عبد الله بن مسعود قال لهم: " وكم من مريد للخير لم يبلغه "! ! وهذا معناه أن النية وحدها لا تكفي لتصحيح الفعل، بل لا بد أن ينضاف إلى ذلك التقيد بالمشروع. 20 ـ وبالغ الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ في حماية جناب الدين وجانبه أن يدخل فيه الغريب، وما ليس منه حتى يصفو للناس التأدب بالأدب الخالص، والتخلق بالخلق الكامل من كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فطرد علي بن أبي طالب رضي الله عنه القصاصين من المساجد، وهم الوعاظ الذين يعظون الناس، ويزعمون ترقيق قلوبهم بالقصص الخيالي، والحكايات والأساطير، وأنكر ابن عمر على رجل عطس، فقال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله قائلًا له: " ما هكذا علمنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل قال إذا عطس أحدكم فليحمد الله ولم يقل: وليصل على رسوله "! ! (رواه بنحوه الترمذي (8/9 تحفة) وفيه ضعف، ورواه أيضًا الطبراني والبزار فينظر اسناده فيهما، فلعله يقوى به) . الحقائق. . والموازين: وبمجموع هذه الأدلة يتضح لنا الحقائق التالية لفهم قضية الكتاب والسنة أولًا: الهدى هو ما كان من الله سبحانه وتعالى ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقط {قل إن هدى الله هو الهدى} [البقرة: 120] {فماذا بعد الحق إلا الضلال} [يونس: 32] .

وإن هذا الهدى محصور في كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقط، وليس وراء هذا طريق ثالث يقرب إلى الله، ويباعد عن النار. ثانيًا: إن كل عقيدة تخالف كتاب الله وسنة رسوله هي عقيدة باطلة يجب حربها والقضاء عليها. ثالثًا: إن كل زيادة أو نقص في تشريع العبادات والسلوك يراد به التقرب إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ وإصلاح النفس إنما هو بدعة مرفوضة، حتى لو كان صدر هذا ممن ينتسبون إلى الإسلام ويدعون إليه. رابعًا: إن كل من ادعى علمًا غيبيًا في كتاب الله وسنة رسوله، زاعمًا أنه قد وصل بطريق الجن أو الفيض أو الفتح، أو الاتصال بالسماء إنما هو كاذب مارق. خامسًا: إن أقوال العلماء في أمور الدين لا تؤخذ قضية مسلمة قط، بل لا بد من عرضها على الكتاب والسنة، فما وافق أخذ وما خالف ذلك رد، وإذا جاز لنا أحيانًا الأخذ بها والعمل بها إذا لم نعلم الدليل، فإنما ذلك إلى حين معرفتنا بالدليل، ومتى عرفنا الدليل حكمنا به على القول. سادسًا: إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا أعبد الناس، وأتقى الناس، وأنهم تحققوا بهذين الأصلين: الكتاب والسنة، وأن من كان على مثل ما كانوا عليه فقد اهتدى، ومن شذ يمينًا أو يسارًا فقد ضل.

الباب الثاني: مجمل تاريخ الشريعة الصوفية

الباب الثاني: مجمل تاريخ الشريعة الصوفية الفصل الأول: لمحة سريعة عن تاريخ التصوف لا يعرف على وجه التحديد من بدأ التصوف في الأمة الإسلامية ومن هو أول متصوف وإن كان الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ عندما دخل مصر قال: تركت بغداد وقد أحدث الزنادقة فيها شيئًا يسمونه السماع. . والزنادقة الذين عناهم الشافعي هنا هم المتصوفة (والسماع) هو الغناء والمواجيد والمواويل التي ينشدونها ومعلوم أن الشافعي دخل مصر سنة 199هـ ـ وكلمة الشافعي توحي بأن قضية السماع هذه قضية جديدة ولكن أمر هؤلاء الزنادقة يبدو أنه كان معلومًا قبل ذلك. بدليل أن الشافعي قال كلامًا كثيرًا عنهم كقوله مثلًا (لو أن رجلًا تصوف أول النهار لا يأتي الظهر حتى يكون أحمق) (تلبيس إبليس لابن الجوزي ص370) وقال أيضًا: ما لزم أحد الصوفية أربعين يومًا فعاد إليه عقله أبدًا (المصدر السابق ص370) ، وكل هذا يدل على أنه قد كان هناك قبل نهاية القرن الثاني الهجري فرقة معلومة عند علماء الإسلام يسمونهم أحيانًا بالزنادقة وأحيانًا بالمتصوفة. . وأما الإمام أحمد فقد كان معاصرًا للشافعي وتلميذًا له في أول الأمر فقد أثر عنه أقوال كثيرة في التنفير من أفراد معينين نسبوا إلى التصوف. كقوله في رجل جاء يستفتيه في كلام الحارث المحاسبي: قال أحمد بن حنبل: " لا أرى لك أن تجالسهم " وذلك بعد أن اطلع أحمد بن حنبل على مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها للبكاء ـ ومحاسبة النفس كما يزعمون ـ والكلام على الوساوس وخطرات القلوب. فلما اطلع الإمام أحمد على ذلك قال لسائله محذرًا إياه من

مجالستهم وكتبهم " إياك وهذه الكتب، هذه كتب بدع وضلالات ". والذي يبدو أن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه قال هذا الكلام في مطلع القرن الثالث، ولكن هذا القرن ما كاد يكتمل حتى ظهر التصوف على حقيقته، وانتشر في الأمة انتشارًا ذريعًا، واستطاع المتصوفة أن يظهروا ما كانوا يخفونه سابقًا. والمطلع على الحركة الصوفية من أول نشأتها إلى حين ظهورها العلني على ذلك النحو يجد أن أساطين الفكر الصوفي جميعهم بلا استثناء في القرن الثالث والرابع الهجريين كانوا من الفرس ولم يكن فيهم عربي قط، وعند مقابلة الدين الصوفي ستجد أن التصوف هو الوجه الآخر للتشيع (اقرأ الفصل الخاص بذلك: الصلة بين التصوف والتشيع) وأن أهداف التصوف والتشيع كانت واحدة تقريبًا، في السياسة والدين،،. .، والمهم هنا هو التذكير بأن التصوف بلغ غايته وذروته من حيث العقيدة والتشريع في نهاية القرن الثالث حيث استطاع الحسين بن منصور الحلاج أن يظهر معتقده على الملأ ولذلك أفتى علماء العصر بكفره وقتله فقتل سنة 309هـ ـ وصلب على جسر بغداد، وسئل الصوفية الآخرون فلم يظهروا ما أظهر الحلاج. . وسيأتي وصف تفصيلي لعقيدة الحلاج عند بيان العقيدة الصوفية. وعلى الرغم من ذلك فإن الصوفية ظلت تواصل انتشارها في أرض فارس على الخصوص ثم العراق. . وساعد على انتشارها في فارس أن أقام رجل يسمى أبو سعيد الميهني نظامًا خاصًا للخانات الذي أصبح فيما بعد مركزًا للصوفية، وقلده في ذلك عامة رجال التصوف ومن هنا نشأت في منتصف القرن الرابع الهجري بدايات الطرق الصوفية التي سرعان ما انتشرت في العراق ومصر، والمغرب، وفي القرن السادس ظهرت مجموعة من رجال التصوف كل منهم يزعم أنه من نسل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ واستطاع كل منهم أن يقيم له طريقة صوفية خاصة وأتباعًا مخصوصين، فظهر الرفاعي في العراق، والبدوي في مصر وأصله من المغرب ولا يعرف له أم ولا أب ولا أسرة ولا هو من المغرب، وكذلك

الشاذلي في مصر وأصله كذلك من المغرب. وتتابع ظهور الطرق الصوفية التي تفرعت من هذه الطرق، وفي القرون السادس والسابع والثامن. . بلغت الفتنة الصوفية أقصاها وأنشئت فرق خاصة بالدراويش وظهر المجاذيب وبنيت القباب على القبور في كل ناحية، وذلك بقيام الدولة الفاطمية في مصر وبسط سيطرتها على أقاليم واسعة من العالم الإسلامي، وبنائها للمزارات والقبور المفتراة كقبر الحسين بن علي ـ رضي الله عنهما ـ في مصر والسيدة زينب، وإقامتهم بعد ذلك الموالد والبدع والخرافات الكثيرة، وتأليههم في النهاية للحاكم بأمر الله الفاطمي؛ لقد بدأت الدعوة الفاطمية بالمغرب لتكون بديلًا للحكم العباسي السني، واستطاعت هذه الدولة تجنيد هذه الفرق الصوفية وغزو العالم الإسلامي بهذه الجيوش الباطنية التي كان لها أعظم الأثر بعد ذلك في تمكين الجيوش الصليبية من أرض الإسلام كما ستطالعه بأدلته في هذه الرسالة. وأخيرًا عم الخطب وطم في القرون المتأخرة التاسع والعاشر والحادي عشر إذ ظهرت آلاف الطرق الصوفية، وانتشرت العقيدة والشريعة الصوفية في الأمة، واستمر ذلك إلى عصر النهضة الإسلامية الحديثة. لقد بدأت طلائع هذه النهضة ومقدماتها في آخر القرن السابع وبداية القرن الثامن على يد الإمام المجدد أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني الذي صاول كل العقائد المنحرفة بقلمه وبيانه ومن جملة ذلك عقائد المتصوفة وشرائعهم المبتدعة ولاقى في هذا ما لاقى (اقرأ الفصل الخاص بمناظرة ابن تيمية للرفاعية البطائحية) وجاء تلاميذه من بعده مجاهدين في هذا الصدد كابن القيم، وابن كثير، والحافظ الذهبي، والحافظ المزني، وغيرهم،. . ولكن شوكة التصوف والتخريف والعقائد الباطلة كانت قد تمكنت من الأمة تمكنًا عظيمًا، ولكن الله سبحانه وتعالى هيأ للأمة في القرن الثاني عشر الهجري الإمام الجليل محمد بن عبد الوهاب الذي تتلمذ على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية فقام مصاولًا هذا الباطل الذي عم الآفاق وقد حقق الله على يديه ظهور النهضة الإسلامية الحديثة فقد استجاب لدعوته المخلصون في كل أنحاء العالم الإسلامي وتردد صداها في الهند والسودان ومصر والشام وكل بلاد الإسلام، ومنذ ذلك الوقت

بدأت الحركة الصوفية تتعرى أوراقها شيئًا فشيئًا، وتبدد عقيدة التوحيد ظلامها، وتزيل من نفوس الأمة ترهاتها وخرافاتها. . واليوم بحمد الله يكتسح طوفان الحق جيش الباطل ويعود التصوف مرة أخرى إلى الإنجحار والاستتار كما بدأ وكما هو دائمًا شأن العقائد الباطنية، ولكن ما زالت دولة الصوفية قوية في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي وخاصة في أفريقيا ودول من آسيا. حيث العربية غير معلومة وحيث الجهل بالتوحيد والدين الصحيح ما زال قائمًا، ثم إن رموز التصوف ما زالت موجودة وأعني برموزه القبور والمزارات والشيوخ الضالين والعقائد الفاسدة؛ كل ذلك ما زال موجودًا، وهو يحتاج إلى جهد جهيد، وجهاد طويل لاقتلاع آثاره في القلوب والنفوس والأرض. وفي الفصل الخاص بالطرق الصوفية سيرى القارئ بعض هذا الواقع القائم إلى اليوم. . . هذه لمحة سريعة مجملة لنشأة الفكر الصوفي وتطوره. .

الفصل الثاني: لمحة عن العقيدة والشعائر الصوفية

الفصل الثاني: لمحة عن العقيدة والشعائر الصوفية تختلف العقيدة الصوفية في صورتها الأخيرة عن عقيدة الكتاب والسنة من كل وجه من حيث التلقي والمصادر أعني مصدر المعرفة الدينية؛ ففي الإسلام لا تثبت عقيدة إلا بقرآن أو سنة لكن في التصوف تثبت العقيدة بالإلهام والوحي المزعوم للأولياء والاتصال بالجن الذين يسمونهم الروحانيين، وبعروج الروح إلى السماوات، وبالفناء في الله، وانجلاء مرآة القلب حتى يظهر الغيب كله للولي الصوفي حسب زعمهم، وبالكشف، وبربط القلب بالرسول حيث يستمد العلوم منه في زعمهم، وبلقاء الرسول في اليقظة والمنام حسب زعمهم، وبالرؤى. .، وبالجملة فالمصادر الصوفية للغيب كثيرة جدًا. ولما تعددت هذه المصادر على هذا النحو، كانت العقيدة نفسها واسعة متطورة متغيرة مختلفة بل ومتناقضة بين صوفي وصوفي حيث كل منهم يزعم أنه يخبر بما أداه إليه كشفه هو، وما ورد على خاطره وما قاله له الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو ألقاه الملك إليه أو اطلع عليه بنفسه في اللوح المحفوظ. . وأما القرآن والسنة فإن للصوفية فيهما تفسيرًا باطنيًا حيث يسمونه أحيانًا تفسير الإشارة، ومعاني الحروف فيزعمون أن لكل حرف في القرآن معنى لا يطلع على معناه إلا الصوفي المتبحر، المكشوف عن قلبه. . وعلى هذا الأساس كان للمتصوفة دينهم الخاص الذي يختلف في أصوله وفروعه عن الدين الذي جاء به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذه باختصار هي جملة عقائدهم في الله والرسول والأولياء والجنة والنار وفرعون وإبليس، وكذلك جملة اعتقاداتهم في الشرائع. عقيدتهم في الله

عقيدتهم في الرسول

يعتقد المتصوفة في الله عقائد شتى منها الحلول كما هو مذهب الحلاج، ومنها وحدة الوجود حيث لا انفصال بين الخالق والمخلوق وهذه هي العقيدة الأخيرة التي انتشرت منذ القرن الثالث وإلى يومنا هذا وأطبق عليها أخيرًا كل رجال التصوف وأعلام هذه العقيدة كابن عربي وابن سبعين، والتلمساني، وعبد الكريم الجيلي، وعبد الغني النابلسي، وعامة رجال الطرق الصوفية المحدثين. عقيدتهم في الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعتقد الصوفية في الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أيضًا عقائد شتى فمنهم من يزعم أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يصل إلى مرتبتهم وحالهم، وأنه كان جاهلًا بعلوم رجال التصوف كما قال البسطامي: (خضنا بحرًا وقف الأنبياء بساحله) ومنهم من يعتقد أن الرسول محمد هو قبة الكون وهو الله المستوي على العرش وأن السماوات والأرض والعرش والكرسي وكل الكائنات خلقت من نوره وأنه هو أول موجود وهو المستوي على عرش الله وهذه عقيدة ابن عربي ومن جاء بعده. عقيدتهم وفي الأولياء يعتقد الصوفية في الأولياء عقائد شتى فمنهم من يفضل الولي على النبي وعامتهم يجعل الولي مساويًا لله في كل صفاته فهو يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويتصرف في الكون ولهم تقسيمات للولاية فهناك الغوث المتحكم في كل شيء في العالم، والأقطاب الأربعة الذين يمسكون الأركان الأربعة في العالم بأمر الغوث، والأبدال السبعة الذين يتحكم كل واحد منهم في قارة من القارات السبع بأمر الغوث والنجباء كل واحد منهم يتصرف في ناحية تتحكم في مصائر الخلق ولهم ديوان يجتمعون فيه في غار حراء كل ليلة ينظرون في المقادير، وباختصار؛ الأولياء عالم خرافي كامل. هذا بالطبع خلاف الولاية في الإسلام التي تقوم على الدين والتقوى وعمل الصالحات والعبودية الكاملة لله والفقر إليه وأن الولي لا يملك من أمر نفسه شيئًا فضلًا عن أنه يملك لغيره قال تعالى لرسوله {قل إني لا أملك لكم ضرًا ولا رشدًا} [الجن: 21] .

عقيدتهم في الجنة والنار

عقيدتهم في الجنة والنار وأما الجنة فإن الصوفية جميعًا يعتقدون أن طلبها منقصة عظيمة وأنه لا يجوز للولي أن يسعى إليها ولا أن يطلبها ومن طلبها فهو ناقص، وإنما الطلب عندهم والرغبة في الفناء المزعوم في الله، والإطلاع على الغيب والتصريف في الكون. . هذه جنة الصوفي المزعومة. وأما النار فإن الصوفية يعتقدون أيضًا أن الفرار منها لا يليق بالصوفي الكامل لأن الخوف منها طبع العبيد وليس الأحرار بل منهم من تبجح أنه لو بصق على النار لأطفأها، كما قال البسطامي. وأما من يعتقد بوحدة الوجود منهم فإنه يعتقد أن النار بالنسبة لمن يدخلها تكون عذوبة ونعيمًا لا يقل عن نعيم من يدخل الجنة. وهذه عقيدة ابن عربي كما ذكر ذلك في الفصوص. عقيدتهم في إبليس وفرعون وأما إبليس فيعتقد عامة الصوفية أنه أكمل العباد وأفضل الخلق توحيدًا لأنه لم يسجد إلا لله بزعمهم وأن الله قد غفر له ذنوبه وأدخله الجنة، وكذلك فرعون عندهم أفضل الموحدين لأنه قال {أنا ربكم الأعلى} [الذاريات: 24] . فعرف الحقيقة لأن كل موجود هو الله ثم هو في زعمهم من آمن ودخل الجنة. وأما الشعائر الصوفية اعتقادهم ففي العبادات يعتقد الصوفية أن الصلاة والصوم والحج والزكاة هي عبادات العوام وأما هم فيسمون أنفسهم الخاصة، أو خاصة الخاصة ولذلك فإن لهم عبادات مخصوصة. وقد شرع كل قوم منهم شرائع خاصة بهم كالذكر المخصوص بهيئات مخصوصة، والخلوة والأطعمة المخصوصة، والملابس المخصوصة والحلقات الخاصة. وإذا كانت العبادات في الإسلام لتزكية النفس وتطهير المجتمع فإن العبادات

اعتقادهم في الحلال والحرام

في التصوف هدفها ربط القلب بالله للتلقي عنه مباشرة حسب زعمهم، والفناء فيه واستمداد الغيب من الرسول والتخلق بأخلاق الله حتى يقول الصوفي للشيء كن فيكون ويطلع على أسرار الخلق، وينظر في كل الملكوت، ويتصرف في الكون. ولا يهم في التصوف أن تخالف الشريعة الصوفية ظاهر الشريعة المحمدية الإسلامية. فالحشيش والخمر واختلاط النساء بالرجال في الموالد وحلقات الذكر كل ذلك لا يهم لأن للولي شريعته تلقاها من الله مباشرة فلا يهم أن يوافق ما شرعه الرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن لكل واحد شريعته فشريعة محمد للعوام وشريعة الصوفي للخواص. اعتقادهم في الحلال والحرام وكذلك الشأن في الحلال والحرام فأهل وحدة الوجود في الصوفية لا شيء يحرم عندهم لأن لكل عين واحدة. . ولذلك كان منهم الزناة واللوطية، ومن يأتون الحمير جهارًا نهارًا. ومنهم من اعتقد أن الله قد أسقط عنه التكاليف وأحل له كل ما حرم على غيره. اعتقادهم في الحكم والسلطان والسياسة وأما في الحكم والسلطان والسياسة فإن المنهج الصوفي هو عدم جواز مقاومة الشر ومغالبة السلاطين لأن الله في زعمهم أقام العباد فيما أراد. اعتقادهم في التربية ولعل أخطر ما في الشريعة الصوفية هو منهجهم في التربية حيث يستحوذون على عقول الناس، ويلغونها وذلك بإدخالهم في طريق متدرج يبدأ بالتأنيس، ثم بالتهويل والتعظيم بشأن التصوف ورجاله ثم بالتلبيس على

الشخص ثم بالزرق إلى علوم التصوف شيئًا فشيئًا ثم بالربط بالطريقة وسد جميع الطرق بعد ذلك للخروج. ولكن كيف بدأت هذه العقائد الصوفية وتطورت على هذا النحو. .؟ ! تعالوا نشاهد كيف بدأت العقيدة الصوفية وتطورت. .

الباب الثالث: نشأة العقيدة الصوفية وتطورها

الباب الثالث: نشأة العقيدة الصوفية وتطورها الفصل الأول: طريق الهداية الصوفي لم يصل في ـ حدود علمي ـ أحد ممن بحث في التصوف إلى معرفة الرجل الأولي الذي تسمى باسم (الصوفي) في الإسلام ولا من وضع اللبنات الأولى لهذا الفكر. ولا شك أن التصوف منهج نشأ قبل الإسلام فكرًا وسلوكًا وعقيدة، وأنه كان في كل الأمم والديانات وخاصة في البرهمية الهندوكية والفلسفة الإشراقية اليونانية والمجوسية الفارسية، وكذلك نشأت النصرانية ـ ولا شك أن التصوف غير الرهبانية وغير الزهد كما سنعلم تفصيلًا ـ ثم انتقل بعد ذلك إلى الفكر الإسلامي عن طريق الزنادقة المجوس، وأخذ مجراه في واقع الأمة الإسلامية وتطور حتى بلغ شأوه وألفت مصادره، ووضعت أصوله وقواعده النهائية في القرن الرابع والخامس الهجري. ولكن بعض الكتاب ظن أن هناك صلة بين التصوف والزهد، ولذلك نسب إلى التصوف كل من عرف بالزهد والرغبة عن الدنيا، والإقبال على الله كإبراهيم وكالفضل بن عياض، وعبد الله بن المبارك وبشر الحافي وإبراهيم بن أدهم ونحوهم من العباد والزهاد. . والذي ساعد في هذا الخلط بين الزهد والتصوف أن الذين وضعوا طبقات الصوفية جعلوا أمثال هؤلاء أئمة في هذا الشأن، بل تجاوز بعضهم الحدود من أمثال الشعراني، وجعل الخلفاء الراشدين هم أو رجال في طبقات الصوفية وحاشاهم. . والحال أنه شتان ما بين الزهد والتصوف فالزهد في الدنيا فضيلة وعمل مشروع مستحب وهو خلق الأنبياء والأولياء وعباد الله الصالحين الذين يؤثرون ما عند الله على التنعم، والتلذذ والانشغال بالمباحات، بل يتركون بعض الطيبات في المباحات طمعًا فيما عند الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر: 9] . وقال أيضًا: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا} [الإنسان: 9] . وفي الصحيحين أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت (كان يأتي الهلال والهلال والهلال ثلاثة أهلة في شهرين ولا يوقد في أبيات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نار) . قيل فما كان طعامكم: قالت (الأسودان التمر والماء) . وهذا لكمال زهدهم، ورغبتهم عن الدنيا. وأما التصوف فمنهج آخر لأن الصوفي إذا تحقق في صوفيته يصبح الزهد عنده شيئًا لا معنى له، فهو قد يحتاج الزهد فقط في أول الطريق الصوفي ثم في النهاية عليه أن يعب من كل ما قدر عليه ولو كان حرامًا في الشرع خمرًا أو زنا، أو حتى إتيانًا للذكران لأن عقيدة وحدة الوجود لا تجعل في النهاية فرقًا بين الزنديق والصديق، ولا بين الأخت والأجنبية، ولا بين الملَك والشيطان، بل ولا بين العبد والرب على حد قول ابن عربي المهندس الأخير للفكر الصوفي: العبد رب والرب عبد ** ياليت شعري من المكلف؟ ! إن قلت عبد فذاك ربُّ ** وإن قلت رب أنى يكلف؟ ! وهذا سيأتي تفصيله وبيانه، والشاهد هنا أن هناك فرقًا هائلًا بين الزهد الذي هو فضيلة ونهاية في الشريعة الإسلامية وبين التصوف الذي قد يجعل الزهد من شعائره ولكنه للمبتدئين فقط وأما في النهاية فيجب عند الصوفي أن يتمتع بكل ما قدر عليه. وأعود فأقول أنه لا يعرف بالتحديد من أول من تسمى بالصوفي حقيقة في الإسلام وكنت في الطبعة الثانية من الكتاب لما قرأت ما كتبه أبو عبد الرحمن السلمي صاحب طبقات الصوفية عن إبراهيم بن أدهم وما روي بإسناده من حكايات شممت منها بدايات هذا الفكر وأول بذوره وقرأت ترجمة إبراهيم بن أدهم فوجدت أن أئمة الجرح والتعديل منهم من يوثقه ومنهم ينسبه إلى الخرافة والجهل بشرع الله فغلب على ظني أنه ربما كان الرائد الأول الذي وضع البذرة الصوفية. . ولقد لفت نظري بعد ذلك كثير من الأخوة أن شيخ الإسلام ابن تيمية أثنى على إبراهيم بن أدهم فكيف يكون منتميًا إلى هذا المنهج وكنت قد قرأت ما كتبه شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ وقد رأيت أنه ربّما يثني على شخص ما من أجل موقف صحيح في العقيدة، وهو قد لا يرضى عنه في موقف آخر بل إنه كثيرًا ما يستدل بأقوال النصارى واليهود إذا وافقت شيئًا من الحق. . وبعد أن أعدت النظر وجدتُ أن كلام أئمة الجرح والتعديل لا يرقى إلى اتهام إبراهيم بن أدهم ـ رحمه الله ـ بشيء مما وضعه المتصوفة في عقائدهم ومناهجهم، وأما الحكايات التي رويت عنه والموجودة في طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي فإنه لا يعول عليها في الجرح والتعديل لأن أبا عبد الرحمن السلمي نفسه قد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه كان يضع الحكايات للصوفية ولعل ذلك بل هذا هو الظاهر أن هذا مما كذبه وافتراه على إبراهيم بن أدهم ـ رحمه الله ـ. وعلى كل حال فيعلم الله أن قصدي من تأليف الكتاب هو بيان الفكر الصوفي من حيث هو مدون ومسطور في كتب القوم وبيان ما فيه من الباطل والتغرير، وأنا أعلم أيضًا أن الذين وضعوا هذا الفكر قد كذبوا على كثير من فضلاء الناس، وزهاد الأمة وليس قصدنا عداوة مع هؤلاء الفضلاء فنعوذ بالله أن نؤذي مسلمًا بلسان أو يد. . وإنما مقصدنا الذب عن عقيدة الإسلام وشريعة سيد المرسلين وبيان ما في هذا الفكر من الانحراف، وما في هذه الحكايات من الباطل. ومرة أخرى أقول لا نستطيع أن نجزم من هو أول شخص تسمى باسم الصوفي في الإسلام، وألقى بالكلمات الأولى والقواعد الأولى ليؤسس هذا المنهج. ولا شك أن ذلك كان في منتصف أو أوائل القرن الثاني من الهجرة. فإن الإمام الشافعي المتوفي سنة 205هـ ـ يقول: " تركت بغداد وقد أحدث الزنادقة فيها شيئًا يسمونه السماع " ا. هـ (والزنادقة) هنا هم الصوفية (والسماع) هو الغناء والأناشيد التي كانوا يتجمعون عليها، ولا شك أن ظهور الصوفية بهذه البدعة لم يكن وليد سنة أو سنتين إنما كان وليد سنوات تطورت بدعة الصوفية حتى استطاعوا أن يعلنوا بدعتهم بالغناء والطرب بالدفوف ونحو ذلك في عاصمة الخلافة ببغداد، ولا شك أن مثل هذه المظاهر والعقائد المنافية للإسلام الصحيح بدأت دعوة سرية ثم تطورت واستفحل شرها، وأعلن عنها أصحابها ومن أجل ذلك لا يعلم على القطع والحقيقة الرائد الأول للفكر الصوفي في الإسلام وواضع لبناته الأولى. . ومما يدل على أن الأمر كان سريًا في أوله ما روي عن الإمام أحمد أنه سمع الحارث المحاسبي يجتمع مع جماعة في منزل من المنازل وأنهم يقضون ليلهم في البكاء ومحاسبة النفس والكلام على الخطرات والوساوس وأن الإمام أحمد بعد أن استمع إليهم خلسة من منزل مجاور أصبح يقول: نفروا الناس عن الحارث المحاسبي، وقال لمن سأله هل يجلس معهم ويقضي الليل معهم قال: لا أرى لك أن تجالسهم. والشاهد أن هذه البدعة لا شك أنها بدأت سرية ثم تطورت واستعلنت. ونعود إلى أبي عبد الرحمن السلمي المتوفي سنة 412هـ ـ والذي لفق حكايات الصوفية ووضعها على ألسنة المشايخ السابقين لنجد أنه جعل إبراهيم بن أدهم رائدًا ومؤسسًا لبدايات هذا الفكر. . نأتي إلى حكايات السلمي لنناقش هذه الحكايات لا من حيث ثبوتها ونفيها ولكن من حيث أنها قد أصبحت هي العماد الذي قام عليه هذا الفكر. . نأتي لنناقش هذه الحكايات على ضوء الكتاب والسنة لنرى ما فيها من الباطل ولنعرف كيف بدأ هذا الفكر وتطور: 1 ـ قال أبو عبد الرحمن السلمي (توفي سنة 412هـ ـ) : " سمعت أبا العباس محمد بن الحسن الخشاب قال حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد المصري، قال حدثني أبو سعيد أحمد بن عيسى الخراز قال: حدثنا إبراهيم بن بشار قال: صحبت إبراهيم بن أدهم بالشام، أنا وأبو يوسف الغسولي، وأبو عبد الله السنجاري، فقلت: يا أبا إسحاق! خبرني عن بدء أمرك كيف كان؟ قال: كان أبي من ملوك خراسان، وكنت شابًا فركبت إلى الصيد، فخرجت يومًا على دابة لي، ومعي كلب، فأثرت أرنبًا أو ثعلبًا، فبينما أنا أطلبه، إذ هتف بي هاتف لا أراه، فقال: يا إبراهيم: ألهذا خلقت؟ أم بهذا أمرت؟ ففزعت، ووقفت، ثم

عدت فركضت الثانية، ففعل بي مثل ذلك ثلاث مرات، ثم هتف بي هاتف من قربوس (قربوس: كحلزون، حنو السرج ومنعطفه، وهما قربوسان) السرج: والله ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت. قال: فنزلت فصادفت راعيًا لأبي يرعى الغنم، فأخذت جبته الصوف، فلبستها ودفعت إليه الفرس، وما كان معي، وتوجهت إلى مكة فبينما أنا في البادية، إذ أنا برجل يسير ليس معه إناء ولا زاد، فلما أمسى وصلى المغرب، حرك شفتيه بكلام لم أفهمه، فإذا أنا بإناء فيه طعام، وإناء فيه شراب، فأكلت وشرب، وكنت معه على هذا أيامًا، وعلمني (اسم الله الأعظم) ثم غاب عني وبقيت وحدي، فبينما أنا ذات يوم مستوحش من الوحدة، دعوت الله به، فإذا أنا بشخص آخذ بحجزتي وقال: سل تعطه! ! فراعني قوله، فقال: لا روع عليك أنا أخوك الخضر، إن أخي داود علمك اسم الله الأعظم، فلا تدعو به على أحد بينك وبينه شحناء، فتهلكه هلاك الدنيا والآخرة، ولكن ادعُ الله أن يشجع به جبنك ويقوي به ضعفك، ويؤنس به وحشتك، ويجدد في كل ساعة رغبتك، ثم انصرف وتركني " (طبقات السلمي (29 ـ 31)) . وهذا خبر آخر: 2 ـ " سمعت محمد بن الحسن البغدادي يقول: سمعت علي بن الحسن بن أحمد المصري يقول: سمعت أحمد بن عيسى الخراز يقول: حدثني غير واحد من أصحابنا منهم: سعيد بن جعفر الوراق، وهارون الآدمي، وعثمان النجار، قالوا: حدثنا عثمان بن عمارة قال حدثني إبراهيم بن أدهم عن رجل من أهل الإسكندرية يقال له أسلم بن يزيد الجهني قال: لقيته بالإسكندرية فقال لي: من أنت يا غلام؟ قلت: شاب من أهل خراسان. قال: وما حملك على الخروج من الدنيا؟ قلت زهدًا فيها، ورجاء لثواب الله تعالى. فقال: إن العبد لا يتم رجاؤه لثواب الله تعالى حتى يحمل نفسه على الصبر. فقال رجل ممن كان معه: وأي شيء الصبر؟ فقال: إن أدنى منازل الصبر أن يروض العبد نفسه على احتمال مكاره الأنفس. قال: قلت: ثم مه؟ قال: إن كان

محتملًا للمكاره أورث الله قلبه نورًا. قلت: وما ذلك النور؟ قال: سراج يكون في قلبه، يفرق بين الحق والباطل، والناسخ والمتشابه، قلت: هذه صفة أولياء رب العالمين. قال: استغفر الله، صدق عيسى بن مريم ـ عليه السلام ـ حين قال: لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتضيعوها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموها! ! فبصصت إليه، وطلبت إليه، وطلب معي أصحابه إليه، فقال عند ذلك: يا غلام إياك إذا صحبت الأخيار أو حادثت الأبرار أن تغضبهم عليك، فإن الله يغضب لغضبهم، ويرضى لرضاهم، وذلك أن الحكماء هم العلماء، وهم الراضون عن الله ـ عز وجل ـ إذا سخط الناس، وهم جلساء الله غدًا بعد النبيين والصديقين. يا غلام احفظ عني واعقل، واحتمل ولا تعجل، فإن التأني معه الحلم والحياء، وإن السفه معه الخرق والشؤم، قال: فسالت عيناي، وقلت: والله ما حملني على مفارقة أبوي، والخروج من مالي، إلا حب الأثرة لله، ومع ذلك الزهد في الدنيا، والرغبة في جوار الله تعالى. قال: فإياك والبخل، قلت: وما البخل؟ فقال: أما البخل عند أهل الدنيا فهو أن يكون الرجل بخيلًا بماله، وأما الذي عند أهل الآخرة فهو الذي يبخل بنفسه عن الله تعالى. ألا وإن العبد إذا جاد بنفسه لله، أورث قلبه الهدى والتقى، وأعطى السكينة والوقار والعلم الراجح، والعقل الكامل، ومع ذلك تفتح له أبواب السماء، فهو ينظر إلى أبوابها بقلبه كيف تفتح، وإن كان في طريق الدنيا مطروحًا، فقال له رجل من أصحابه: " اضربه فأوجعه، فإنا نراه غلامًا قد وفق لولاية الله تعالى! ! " قال: فتعجب الشيخ من قول أصحابه: " لقد وفق لولاية الله تعالى " فقال لي: يا غلام أما إنك ستصحب الأخيار، فكن لهم أرضًا يطأون عليها، وإن ضربوك وشتموك وطردوك، وأسمعوك القبيح، فإن فعلوا بك ذلك ففكر في نفسك: من أين أتيت، فإنك إذا فعلت ذلك يؤيدك الله بنصره، ويقبل بقلوبهم عليك،

واعلم أن العبد إذا قلاه (أي كرهه) الأخيار، واجتنب صحبته الورعون وأبغضه الزاهدون، فإن ذلك استعتاب من الله تعالى لكي يعتبه، فإن أعتب الله ـ عز وجل ـ أقبل بقلوبهم عليه، وإن تمرد على الله أورث قلبه الضلالة، مع حرمان الرزق، وجفاء من الأهل، ومقت من الملائكة، وإعراض من الرسل بوجوههم، ثم لم يبال في أي واد يهلكه. قال: قلت: إني صحبت ـ وأنا ماش بين الكوفة ومكة ـ رجلًا فرأيته إذا أمسى يصلي ركعتين فيهما تجاوز، ثم يتكلم بكلام خفي بينه وبين نفسه، فإذا جفنة من ثريد عن يمينه، وكوز من ماء، فكان يأكل ويطعمني. قال: فبكى الشيخ عند ذلك، وبكى من حوله، ثم قال: يا بني أو يا أخي ذاك أخي داود، ومسكنه من وراء بلخ، بقرية يقال لها (الباردة الطيبة) وذلك أن البقاع تفاخرت بكينونة داود فيها، يا غلام: ما قال لك؟ وما علمك؟ قال: قلت: علمني اسم الله الأعظم، فسأل الشيخ ما هو؟ فقلت: إنه يتعاظم علي أن أنطق به. فإني سألت به مرة، فإذا برجل آخذ بحجزتي وقال: سل تعطه، فراعني، فقال: لا روع عليك: أنا أخوك الخضر، إن أخي داود علمك إياه، فإياك أن تدعو به إلا في بر، ثم قال: يا غلام إن الزاهدين في الدنيا، قد اتخذوا الرضا على الله لباسًا، وحبه دثارًا والأثرة له شعارًا، فتفضّل الله تعالى عليهم ليس كتفضله على غيرهم، ثم ذهب عني. فتعجب الشيخ من قولي، ثم قال: إن الله سيبلغ بمن كان في مثالك ومن تبعك من المهتدين، ثم قال يا غلام إنا قد أفدناك ومهدناك، وعلمناك علمًا. ثم قال بعضهم: يا إلهنا احجبه عنا، واحجبنا عنه، قال إبراهيم: فما أدري أين ذهبوا؟ ! ! ! " (ا. هـ من طبقات السلمي بنصه) . لقد وضع من وضع هاتين الحكايتين أصول التصوف، ومنها تفرع الفكر الصوفي فيما بعد، ولنستعرض معًا أصول هذا الفكر: أولًا: إن الهداية قد جاءت بزعمه لإبراهيم من هاتف هتف به أولًا، ثم من

كلام خرج من قربوس السرج، ولست مناقشًا الآن صحة هذه الدعوى أو بطلانها، ولكني أريد أن أذكر الآن أن هذا طريق للهداية يغاير ويخالف الطريق الذي جاء به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالهداية في الإسلام إنما تكون دائمًا عن طريق كتاب الله الذي أنزل للناس هدى ونورًا. والدعوة إلى الإيمان في شريعة الرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما تكون بالحجة والإقناع، وبتقديم الدليل على إعجاز القرآن وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. ثانيًا: الهداية التي ادعاها أبو عبد الرحمن السلمي لإبراهيم بن أدهم قد حملته على ترك أبيه وأمه وبلدته وخلع ثيابه، (وترك الدنيا) على حد التعبير، وليس ملابس الصوف التي كانت على جسم الراعي، ومن سمي هذا المنهج بالتصوف، وليس من شروط الهداية في الإسلام أن يترك المهتدي الدنيا، ويفر بدينه من وطنه، إلا إذا قابل فيه اضطهادًا أو منعًا من أداء الشعائر، أو كان في بلد كثير المعاصي وأراد النقلة إلى بلد آخر يكثر فيه الصالحون، ولم تكن (بلخ) التي هجرها إبراهيم كذلك؛ لأنه جاء في حكايته أنها مسكن (داود) وأن البقاع قد تفاخرت بكينونة داود فيها، هكذا قال، فكيف تترك هذه البقعة الطيبة، والقرية التي سميت (الباردة الطيبة) التي يسكن فيها داود ويخرج إلى البراري والقفار، وليس من سبب شرعي لهذا التحول؟ ثالثًا: جاء في الحكاية أن إبراهيم لقي رجلًا بالبادية يسير، وليس معه زاد ولا طعام، وأنه صاحبَه، وكان يطعمه من الطعام الذي يأتيه هكذا من الغيب، وأن هذا الرجل علمه اسم الله الأعظم، ثم أخبر أن هذا الرجل إنما هو داود ـ عليه السلام ـ وأنه لما دعا باسم الله الأعظم حضر الخضر إليه في الحال، وسأله عن طلبه. ولست أدري شرعًا ما الذي يدعو داود ـ عليه السلام ـ أن يعود إلى الدنيا، (إن كان ذلك في مكنته) ويتجاوز حدود رسالته ونبوته، ليعلم رجلًا من أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ اسم الله الأعظم، مع العلم أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لعمر: (والله لو كان موسى حيًا لما وسعه إلا أن يتبعني) فكذلك لو عاد

داود حيًا لوجب أن يتبع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا يجوز له أن يعلم الناس شيئًا من الدين لم يعلّمه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وقد جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سمع رجلًا يدعو قائلًا: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله (رواه أحمد (5/349 ـ 350) وأبو داود (14993) وغيرهما عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه) الذي لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد. فقال: ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (قد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا سأل به أعطى، وإذا دعي به أجاب) فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبر أن اسم الله الأعظم في هذا الدعاء، وأن الله ـ تبارك وتعالى ـ إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى، ولم يقل ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إن هذا الاسم من دعا به أتاه الخضر في التو والحال، وقال: سل تعطه! ! هكذا على الإطلاق: اسأل ما بدا لك. . ما أشبه هذا الكلام بالقصص الخرافي الذي يزعم بأن سليمان نبي الله ـ عليه السلام ـ كان له خاتم إذا حركه أتاه عفريت من الجان! ! . ثم لو فرضنا صحة الحكاية، أليس لنا أن نسأل: لما خص داود ـ عليه السلام ـ إبراهيم بن أدهم باسم الله الأعظم، ولم يخص به أحدًا قبله من الصحابة والتابعين؟ . ثم لماذا يقول الخضر لإبراهيم بن أدهم ـ كما جاء في الحكاية ـ: لقد تعلمت اسم الله الأعظم، فلا تدع به على أحد بينك وبينه شحناء، فتهلكه هلاك الدنيا والآخرة، هكذا وإبراهيم بن أدهم ليس معصومًا، فربما تخاصم مع رجل مسلم، فإذا دعا باسم الله الأعظم على هذا الرجل هلك هلاك الدنيا والآخرة، وحرم جنة الله، وباء بالنار، لأنه خاصم إبراهيم بن أدهم فقط، وهذا ليس للرسول، لأن الرسول دعا على أناس فقال له الله: {ليس لك من الأمر شيء} [آل عمران: 128] . (انظر حديث البخاري في شأن نزول هذه الآية) . هذا مع أن الحال في الخصومة بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين أعدائه إنما هو من أجل

العقيدة والدين، وليس كخصومة غيره من أهل الدنيا. رابعًا: جاء في الحكاية أن إبراهيم بن أدهم أطلق على طريقة ومنهجه الذي سلكه في تعبده أنه " الخروج من الدنيا " ولقد علمنا نتائج هذا الخروج، وهي خلع ملابسه، ولبس الصوف وترك دياره، ووطنه، والدخول في البادية، ولن نناقش الآن مدى قرب هذا المسلك أو بعده عن الرسالة التي بعث بها محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكننا سنناقش الآثار التي ترتبت على ذلك، وهي الزعم أن إبراهيم أخبره أسلم بن يزيد الجهني في الإسكندرية أنه إذا كان حقًا طالبًا لثواب الله فلا بد له من تحمل الصبر، وأنه إن فعل ذلك أورث الله قلبه نورًا يفرق به بين الحق والباطل، والناسخ والمتشابه (هكذا) ! ! وهنا تضع الحكاية الأصل الرابع في التصوف، وهو أنه بالمجاهدة والصبر يحصل النور الذي يعرف به علم الحق والباطل، والناسخ والمتشابه! ! والمعروف أن المجاهدة بالصبر مهما عظمت لا تعلم الإنسان الآيات الناسخة والمنسوخة، والمحكم والمتشابه من كلام الله ـ تبارك وتعالى ـ ولا تجعله يفرق بين حق وباطل، بل لا بد من التعلم، لأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (إنما العلم بالتعلم) (ذكره البخاري في (صحيحه ـ 1/170 من فتح الباري) معلقًا، وبين الحافظ بن حجر من وصله في شرحه عليه، وحسن إسناده، وأورده أستاذنا الألباني في (السلسلة الصحيحة ـ 342) بأتم منه، وصححه وقال في مختصره لصحيح البخاري (1/28) : " هو طرف من حديث رواه ابن خيثمة (114) بسند صحيح عن أبي الدرداء موقوفًا، ورواه غيره عنه مرفوعًا، وله شاهد من حديث معاوية ") ولم يقل: إنما العلم بالصبر. وأما أن الله ـ تبارك وتعالى ـ يوفق العامل بعلمه، والقائم بتقواه إلى الهداية والعلم فنعم، وذلك بتيسير أسباب العلم الجديد فقوله تعالى: {واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم} [البقرة: 282] . هي ختام أطول آية في كتاب الله، وقد نزلت بشأن الدّين وكتابته والإشهاد عليه، والتعلم المقصود في الآية هو هذا التعلم الذي أنزله الله على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ. ويستحيل شرعًا وعقلًا أن يبلغ المسلم علم شيء بالصبر أو

الصيام مثلًا دون بذل السبب الموصل إلى هذا العلم. فالعلم الشرعي بالتعلم، والعلم الدنيوي أيضًا بالتعلم، وليس شيء من ذلك يورث بالصبر والمجاهدة. ولا شك أن الحكاية عندما دعت إلى هذا العلم فإنما أرادت علمًا آخر، لأنها قالت على لسان أسلم بن يزيد: " وذلك أن الحكماء هم العلماء " فهو يعني طائفة أخرى لها تقاليدها وعاداتها، ومجاهداتها المستقلة وعلمها المستقل أيضًا، وستعلم هذا بأدلته فيما يأتي إن شاء الله تعالى. ولم يعن بالطبع علماء الشريعة الذين يعلمون الكتاب والسنة، لأن علم هؤلاء لا يتأتى إلا بالدرس والنقل والكتابة والحفظ، وسؤال الله الفهم والعمل والتوفيق، وأما طريق القوم الذين عنتهم الحكاية فإنما هو المجاهدة بأسلوب خاص، وعادات خاصة، ومنهج خاص ليصل الإنسان منهم إلى علم خاص، وفهم خاص، ووجد خاص، ولا يستطيع علماء الشريعة مهما بلغ علمهم أن يصلوا إلى شيء منه. وباب هذا العلم الخاص الذي عنته الحكاية هو ما عبر عنه بقوله: " وأن العبد إذا جاد بنفسه لله، أورث قلبه الهدى والتقى، وأعطي السكينة والوقار، والعلم الراجح، والعقل الكامل، ومع ذلك يفتح له أبواب السماء فهو ينظر إلى أبوابها بقلبه كيف تفتح، وإن كان في طريق الدنيا مطروحًا "! ! . فهذا العلم الخاص بابه السماء، وينظر أهل هذا العلم إلى فتح هذه الأبواب بقلوبهم حتى لو كانوا مطروحين في طريق الدنيا، وقبل أن نحكم على هذا العلم المزعوم بالصحة أو البطلان لا بد أن نرى نماذج منه، وهذا موعده فيما يأتي إن شاء الله. خامسًا: الغاية التي حددتها هذه الرواية المزعومة لهذا الطريق، وهذا المنهج هو: " والله ما حملني على مفارقة أبوي، والخروج من مالي إلا حب الأثرة لله، ومع ذلك الزهد في الدنيا، والرغبة في جوار الله تعالى " وقد فسر له على حد زعمه أسلم بن يزيد (البخيل) بأنه " الذي يبخل بنفسه عن الله تعالى ".

فالأثرة لله التي جاءت في الحكاية ليست هي حب الله وإيثار مرضاته، والطمع في جنته، وخوف ناره، بل سنعلم بالنصوص والنقول من مقالات القوم أنهم يعنون بالأثرة لله (الفناء به عن كل ما سواه) وعبادته دون رجاء مثوبة، أو خوف عقوبة، وسنعلم كيف تطور هذا الفكر فيما بعد إلى أن أنتج القول بوحدة الوجود، وأن العابد هو عين المعبود! ! سادسًا: من الغرائب في الحكاية عن إبراهيم السابقة أنه قال إن أصحاب أسلم بن يزيد الجهني قالوا له: " اضربه فأوجعه، فإنا نراه غلامًا قد وفق لولاية الله ـ عز وجل ـ " وكأن إبراهيم في زعم الحكاية قد فاز بكنز لم يفز به أحد قبله، وهو ولاية الله ـ عز وجل ـ وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنه ولي كل مؤمن. قال تعالى: {الله ولي الذين آمنوا} [البقرة: 257] وأخبر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث البخاري الصحيح أن الله تعالى يقول (من عادى لي وليًا فقد آذنته بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به. .، الحديث) . فبين الله ـ تبارك وتعالى ـ طريق ولايته، وهي أداء الفرائض ثم الاستزادة من النوافل، ولم يذكر ـ تبارك وتعالى ـ أن الولاية تأتي بهاتف من قربوس السرج، ثم بلقاء مع داود في البادية وتعليم للاسم الأعظم. وسنعلم في جولتنا القادمة في الفكر الصوفي أن الولاية ستصبح قاصرة على أناس مخصوصين، لهم منهج مخصوص وطريق مخصوص، وأن هذه الولاية سيجزم بها جزمًا، وسيدعيها من يدعيها بكل إصرار وتشبث! ! . سابعًا: جاء في الحكاية أن أسلم بن يزيد الجهني نصح إبراهيم قائلًا: " يا غلام أما أنك ستصحب الأخيار، فكن لهم أرضًا يطئون عليك، وإن ضربوك وشتموك، وطردوك وأسمعوك القبيح " ولا نعلم أن صحبة الأخيار تكون كذلك، بل الأخيار إذا صحبتهم أكرموك وسامحوك، وعلموك وقربوك وغفروا إساءتك، وسيعلم القارئ السر وراء هذا

المنهج، في النقول القادمة وفي بيان فرعيات هذا المنهج ودروبه. ثامنًا: جاء في الحكاية أن الشيخ وهو أسلم بن يزيد الجهني قال له: " إن الله سيبلغ بمن كان مثالك، ومن تبعك من المهتدين، وإنه قال له: يا غلام إنا قد أفدناك ومهدناك وعلمناك علمًا ". وهذا كله إشعار بأن هناك طريقًا آخر وروادًا جددًا قد هيئوا لأمر ما، ووجهوا وجهة خاصة، وأن الله سيبلغ بهم ما لم يبلغ بسواهم من قبل في رجال القرن الأول، ومن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، وسيعلم القارئ إن شاء الله تعالى أي مهمة هذه التي توجهت إليها هذه الفئة، وأي بلاغ عن الله ـ تبارك وتعالى ـ سيبلغون! ! . تاسعًا: لقد ختمت الحكاية بمثل ما بدئت، وهي أن قائلًا ممن كانوا حول الشيخ أسلم بن يزيد قال: يا إلهنا احجبه عنا، واحجبنا عنه. ففي الحال ذهبوا، ولا يدري أين ذهبوا؟ هكذا كما جاءه الهاتف وقال له: ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت. وهذا الأصل من الحكايات الغريبة سيكون بداية لحكايات تعتبر هذه الحكاية بالنسبة إليها أمرًا مقبولًا وسائغًا، فما هذه الحكايات؟ وبهذه الأضواء يكون أمامنا تسع نقاط يجب أن نكون على ذكر منها في رحلتنا هذه في الفكر الصوفي، وخلاصة هذه النقاط هي أن هناك طريقًا للهداية هو طريق الهواتف، وأن هذه الهداية تحمل الإنسان على ترك الدنيا، وترك الآباء والأمهات والدخول إلى البراري والقفار، وأن المهتدي على هذا النحو يرى الأنبياء ويتكلم معهم، ويأكل من الغيب لا من الشهادة، وأن الخضر ـ عليه السلام ـ خادم لاسم الله الأعظم، هذا الإسم الذي يتعاظم على العارف أن ينطق به، وأن هذا الطريق الذي يلج فيه الصوفي يتصل به بالسماء فيتعلم العلوم، وأن هذا الطريق هو المنهج الوحيد للحصول على ولاية الله ـ عز وجل ـ وأنه يجب الصبر مع أهل هذا الطريق، وعدم الإنكار عليهم،

بل يجب على المهتدي أن يكون أرضًا لهم يطئون عليها. وأن هؤلاء القوم قد أرسلوا في مهمة خاصة، وأنهم يتلقون عن الله هكذا رأسًا بلا وساطة، ويبلغون علمًا خاصًا، وأنه بدعاء واحد يختفي الموجود، ويوجد المفقود! ! . .

الفصل الثاني: طلب الجنة والفرار من النار ليس هدفا

الفصل الثاني: طلب الجنة والفرار من النار ليس هدفًا في الفصل السابق علمنا أن التصوف في بدء نشأته قد جعل غايته ما عبر عنه إبراهيم بن أدهم (بالأثرة لله) ، وأنه في سبيل ذلك يجب أن تتحقق مفارقة الدنيا والانخلاع منها، وعلى هذا الأصل كان تشريع ترك الزواج والتكسب، لأنهما من أسباب القعود عن تحقيق هذه الغاية. وهذا الإله الذي سعى المتصوفة الأولون ومن بعدهم إلى إثاره على كل شيء. لا يستمدون معرفته والعلم بذاته وأفعاله عن طريق الكتاب والسنة، وإنما عن طريق فتح أبواب السماء ـ على حد تعبيرهم ـ بالمجاهدة والسلوك الصوفي، لينكشف لهم وجه الحق، ويعلموه على حقيقته، وعندما نتتبع هذه العقيدة منذ ظهورها إلى أن اكتملت في صورتها النهائية، وحددت تحديدها الأخير، فإننا سنعلم الصورة الكاملة للعقيدة الصوفية في الرب سبحانه وتعالى، والجنة والنار، والرسالات والغيب كله. أولًا: عبادة الله لذاته زعم المتصوفة أن العبادة الحقة هي ما كانت دون طلب العوض من الله وأن يشهد فيها فعل الله لا فعل العبد، وأن من شاهد فعله في الطاعة فقد جحد، وقد استدلوا على ذلك بأدلة نذكرها فيما يلي: 1 ـ ذكر أبو بكر الكلاباذي في كتابه (التعرف لمذهب أهل التصوف) وهو الموسوعة الفقهية التي نشرها الدكتور عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور، وشهدا في مقدمة الكتاب بأنه أقدم ما كتب عن هذا العلم ورجاله وأدقه وأصفاه، أقول؛ قال الكلاباذي في بيان المعنى الحق للعبادة، وأنها لا تجوز في حق الصوفي أن تكون عن عوض، قال: " العوض ما لله عليك في العمل في قوله: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} " [التوبة: 111] ، ولم يكمل الآية ثم

قال: " لتعبدوه بالرق لا بالطمع " (ص141) فرؤية الجنة عندهم معصية، وطلبها نقص في حق العابد ". ولذلك قال (ص155) : " دخل جماعة على رابعة يعودونها من شكوى، فقالوا: ما حالك؟ قالت: والله ما أعرف لعلتي سببًا، غير أني عرضت على الجنة (هكذا) فملت بقلبي إليها، فأحسب أن مولاي غار علي، فعاتبني فله العتبى ". ومعنى هذا أن مجرد ميل القلب إلى الجنة يعتبره المتصوفة ذنبًا يعاقبون عليه. وفي سبيل هذه العقيدة حول المتصوفة معاني الآيات والأحاديث إلى ما يريدون إثباته من ذلك. وهذه بعض أدلتهم التي أخذوها من الآيات والأحاديث: 1 ـ قوله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} [التوبة: 111] . بهذا المقطع من الآية فقط يستدل الكلاباذي علي عقيدة القوم، ويقول: ليعبدوه بالرق لا بالطمع. ويقطع الآية عن نهايتها التي ترد فيها قوله، وهي قوله تعالى: {بأن لهم الجنة} [التوبة: 111] . فشراء الله لأنفس المؤمنين وأموالهم إنما كان بعوض وهو الجنة، وعمل المؤمنين كان سببًا للوصول إلى هذه الجنة، وإن كان غير مكافئ لها، ولكن لا يمنع هذا المؤمن أن يطمع في فضل الله ورحمته، ودخول الجنة، وأن يسعى إلى ذلك، بل هذا هو التعبد الصحيح. 2 ـ قوله تعالى: {كلوا واشربوا هنيئًا بما أسلفتم في الأيام الخالية} [الحاقة: 24] . يقول الكلاباذي: " أي الخالية عن ذكر الله، لتعلموا أنه بفضله نلتم لا بأعمالكم " (ص142) فسر الخالية هنا بمعنى الخالية عن ذكر الله، أي لأنكم لم تذكروا الله في بعض الأيام استحق هذا مني أن أدخلكم الجنة، لتعلموا أنما دخلتموها بفضلي لا بعلمكم. وهذا تفسير خاطئ معكوس لمعنى الآية، فالله ـ عز وجل ـ يقول للمؤمنين يوم القيامة: كلوا واشربوا هنيئًا بسبب ما أسلفتموه في الأيام الخالية أي السابقة التي خلت. والذي أسلفوه هو العمل الصالح.

3 ـ استدل الكلاباذي أيضًا على هذه العقيدة بقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث القدسي: (الصوم لي، وأنا أجزي به) (هو جزء من حديث رواه بنحوه البخاري ومسلم (3/157 و158 نووي) والترمذي (764) عن أبي هريرة) قال: " قال أحد الكبراء: أي أنا الجزاء به " (ص143) . وأحد الكبراء هذا هو الحلاج. وهذا تحريف لمعنى الحديث، ليوافق هذا المعتقد الباطل. وقد يظن المسلم في عصرنا الحاضر أن هذه العقيدة في الجنة عقيدة سامية، وهي أن يعبد الإنسان الله، لا طمعًا في الجنة ولا خوفًا من النار، ولكنها عقيدة غير صحيحة إذ هي مخالفة لعقيدة الكتاب والسنة. فقد وصف الله حال الأنبياء في عبادتهم وتقربهم ودعائهم بأنهم كانوا {ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين} [الأنبياء: 90] ، والرغب هو الطمع في جنة الله وفضله، والرهب هو الخوف من عقابه، والأنبياء هم أكمل الناس عقيدة وإيمانًا وحالًا. وكذلك وصف ـ تبارك وتعالى ـ أكمل المؤمنين إيمانًا بقوله تعالى: {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكّروا بها خروا سجدًا وسبّحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا وممّا رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفسٌ مّا أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 15 ـ 17] . فهؤلاء الذين ادخر الله لهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر لا شك أنهم أكمل الناس إيمانًا وحالًا، ومع ذلك فهم يدعون ربهم خوفًا وطمعًا: خوفًا من عذابه، وطمعًا في جنته. وآيات القرآن في هذا المعنى لا تحصى كثرة. وأما السنة فلا حصر للأحاديث في ذلك، ومن أبلغها في الدّلالة على هذا

الأمر قول أحد الأعراب للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: والله إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، وإنما أقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار؛ فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: [حولها ندندن] (رواه أبو داود (792 و793) وابن ماجة (910) وأحمد (3/474 و5/74) وابن خزيمة، وصحح إسناده الألباني في (صفة الصلاة ـ 202)) ، فإذا كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدندن بدعائه حول الجنة، فهل يتصور عقلًا وجود رجل أو امرأة أكمل منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيدعو الله ويعبده لا طمعًا في جنته ولا خوفًا من نار؟ . وهذه الحالة التي سعى المتصوفة إلى تحقيقها، أعني عبادة الله مجردة عن الطمع والخوف جرت عليهم البلايا: فقد سعوا إلى غاية أخرى بالعبادة وهي القول بالفناء في الرب، وجرهم هذا إلى الجذب، ثم جرهم هذا إلى الحلول، ثم جرهم هذا في النهاية إلى وحدة الوجود. وفي هذا الفصل من الرسالة سنسوق إليك الأدلة على هذا التسلسل العقائدي. وقد مر بك أن رابعة العدوية لما اشتكت، وعادها بعض المتصوفة زعمت أن ذلك بسبب غيرة الله عليها (هكذا) لأنها مالت بقلبها إلى الجنة. وإني لأتساءل: من أين لها أن تعلم حب الله لها وقبوله لعملها، فضلًا عن غيرته سبحانه وتعالى عليها؟ وقد وصف الله ـ تبارك وتعالى ـ المؤمنين بقوله: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} [المؤمنون: 57 ـ 61] . وقد سألت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن قوله تعالى: {يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} [المؤمنون: 60] . فقالت يا رسول الله يسرقون ويزنون ويخافون؟ قال: (لا يابنة الصديق، ولكن يصومون ويصلون ويخافون

أن لا يتقبل منهم) (رواه أحمد في (المسند ـ 6/159 و205) والترمذي في (سننه ـ 201/2) وابن ماجه (4198) وإسناده ضعيف: منقطع، عبد الرحمن بن سعيد بن وهب لم يدرك عائشة، كما قال الحافظ العسقلاني في (التهذيب) ولكن له عند ابن جرير (18/26) طرقًا وشاهدًا موصولًا يتقوى به، وقد حسنه الألباني في (الصحيحة 162) . فإذا كان حال المؤمن هو الخوف دائمًا من الله ـ تبارك وتعالى ـ حتى مع الطاعة، فمن أين لرابعة العدوية أن تعرف أن الله قد غار عليها؟ (العياذ بالله. .) لأنها مالت بقلبها إلى الجنة؟ أليس هذا القول من رابعة (إن صح نسبته إليها، وقد ذكر في أقدس كتب القوم وأنقاها باعترافهم) هو قول على الله بلا علم، وهو من اتباع خطوات الشيطان التي نهانا الله عنها بقوله: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالًا طيبًا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إن لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [البقرة: 168: 169] .

الفصل الثالث: التنفير من الطريق الشرعي للهداية

الفصل الثالث: التنفير من الطريق الشرعي للهداية لما كان الدخول في الطريق الصوفي لا يشترط له التوجه إلى الكتاب والسنة، بل إن التوفيق له يأتي أحيانًا عن طريق الهاتف، وأحيانًا بطرق أخرى سنعرفها فيما بعد إن شاء الله تعالى، فإن القوم منذ نشأتهم رأوا أن علمهم الذي يحصلون عليه ـ في زعمهم ـ أفضل من علم الكتاب والسنة، بل رأوا أن علم الكتاب والسنة مشغلة عن طريقهم ومسلكهم، وهذه بعض عباراتهم في ذلك: أـ قال أبو يزيد البسطامي (مات سنة 261هـ ـ) ناعيًا على علماء الشريعة مفاخرًا لهم: " أخذتم علمكم ميتًا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت، حدثني قلبي عن ربي، وأنتم تقولون: حدثني فلان، وأين هو؟ قالوا: مات، عن فلان وأين هو؟ قالوا: مات " (الفتوحات المكية ج1 ـ ص365) . ب ـ وهذا الجنيد يقول: " ما أخذنا التصوف عن القيل والقال " (طبقات السلمي 158) . ج ـ ويقول أيضًا: " أحب للمبتدئ ألا يشغل قلبه بهذه الثلاث، وإلا تغيرت حاله: التكسب وطلب الحديث والتزوج، وأحب للصوفي أن لا يقرأ ولا يكتب لأنه أجمع لهمه " (قوت القلوب: 3/135) . د ـ وقال أبو سليمان الداراني: " إذا طلب الرجل الحديث، أو سافر في

طلب المعاش، أو تزوج فقد ركن إلى الدنيا " (الفتوحات المكية 1/37) . وهذه أقوال قليلة مما نسب إلى القوم في وجوب ترك علم الشريعة، والانصراف إلى طريقهم الخاص في التلقي والكشف. ولا يخفى على أي منصف يتقي الله ـ تبارك وتعالى ـ ويقول كلمة الحق أن هذه الأقوال كافية في هدم الشريعة الإسلامية، بل في هدم العمران كله، لأن الحضارة الإنسانية حتى المادية منها لا تقوم إلا على هذه الثلاث: العلم، وطلب الكسب والمعاش، والزواج. وحضارة الإسلام خاصة تقوم على هذه الثلاث، وتأمر بطلب علم الآخرة وهو علم الكتاب والسنة، وكذلك علم الدنيا وهو كل علم نافع لحياة الإنسان ورقيه في هذه الأرض. ولم يكتف أهل هذا المنهج من المتصوفة بالتنفير من علم الشريعة والحديث بل جعلوا كشفهم، وما يزعمون نقله من العلم عن الله ـ تبارك وتعالى ـ حاكمًا على إسناد الحديث فيصححون ما شاؤوا من الأحاديث، وإن كانت ضعيفة عند علماء الحديث والسنة، ويضعفون ما شاؤوا منها، وإن كانت ثابتة صحيحة حسب الموازين العلمية الدقيقة التي تعارف عليها علماء الحديث ومصطلحه، والتي هي بحق مفخرة الإسلام، فليس عند أمة من أمم الأرض قديمًا وحديثًا تثبت في النقل على النحو الذي درج عليه علماء هذه الأمة في التعرف على الحديث الصحيح من الضعيف، وبذلك ـ ولله الحمد ـ سلم دين الأمة من دخول أقوال الزنادقة والملاحدة فيه. أقول عمد رؤساء المتصوفة إلى هدم الإسناد في الحديث، وهو مفخرة الإسلام بحق، وذلك عن طريق الحكم على الإسناد بعلمهم الخاص. يقول ابن عربي في رسائله: " وربما قالوا (أي علماء الشريعة) إذا عاينوهم (أي عاينوا علماء الصوفية) يتكلمون بمواجيدهم مع أصحابهم: دين مكتوم، دين مشوم، وما عرفوا جهات الدين. وهؤلاء ما تكتموا بالدين فقط، وإنما تكتموا بنتائجه، وما وهبهم الحق تعالى في طاعته حين أطاعوه، وبما صح عندهم من أحاديث الأحكام ما اتفق

على ضعفه، وتجريح نقلته، وهم أخذوه عن الكشف (الكشف: هو انكشاف حجاب القلب ورؤيته أشياء من الغيب زعم الصوفية أنه يحصل لهم، ومراد ابن عربي هنا بالكشف الاتصال بالرسول، ومعرفة الحديث منه رأسًا (انظر الباب الخاص بالكشف الصوفي)) ، عن قائله صحيحًا، فتعبدوا به أنفسهم على غير ما تقرر عند علماء الرسوم، فينسبونهم إلى الخروج عن الدين، وما أنصفوا فإن للحق وجوهًا يوصل إليه منها هذا أحدها، ورب حديث قد صححوه واتفقوا عليه، وليس بصحيح عندهم من طريق الكشف، ويتركون العمل به مثل ذلك سواء " (رسائل ابن عربي: ص4) . ومعنى هذا كله أن للمتصوفة حكمهم الخاص على إسناد الحديث، فعن طريق الكشف يتصلون رأسًا بالنبي ويصححون الحديث أو يضعفونه! ! وبهذا الهجوم على قواعد علم الحديث تتهدم السنة، وتبقى ألعوبة في يد هؤلاء الذين يحكمون عليها بما شاؤوا وليس من ضابط يرجع إليه، ولا فيصل يحتكم إليه ما دام أن الكشف هذا علم غيبي، وقد يكون كشف هذا غير كشف ذاك. أقول: لم يكتف المتصوفة بوضع الأصول على ترك العلم الشرعي والتنفير منه، بل أصلوا الأصول أيضًا لهدم علوم الشريعة وزوالها، وهذا أول معول من معاول الهدم، هدم الإسناد لمعرفة الحديث الصحيح من الضعيف. ولم يكتف المتصوفة بالنهي عن العلم، بل جعلوا العلم عورة يجب أن تستر وتغطى، حتى إن شيخًا يرى مريدًا له، وقد سقطت منه محبرة، فيقول له: اخف سوأتك! ! (عن تلبيس إبليس لابن الجوزي ص370) وبعد أن وضع المتصوفة هذه القواعد لهدم العلم الشرعي والتنفير منه دعوا الناس إلى العلم الباطني الذي أطلقوا عليه اسم الحقيقة، وقالوا: إن طريق الوصول إليه هو الكشف والفتح الرباني والفيض الرحماني. لنعلم أنهم لا يعنون

بالعلم الباطن إصلاح حال القلوب كما يزعم بعضهم، بل إنهم يعنون علمًا خاصًا يكشفون به حقائق يزعمون رؤيتها والتحقق بها. ولقد بالغوا في تفضيل هذا العلم، وتشديد التنكير على من نفاه أو خالفه. وقد كانوا يخفون هذا العلم والكشف في أول أمرهم، ويجعلونه من الأسرار والخصوصيات، ولكنهم سرعان ما أعلنوا عنه وكشفوه بعد أن تحولت دفة الناس إليهم.

الفصل الرابع: القول بالحلول

الفصل الرابع: القول بالحلول لما كان طلب الجنة والفرار من النار ليس هدفًا عند المتصوفة بل كان هذا هو طلب العامة والدهماء في زعمهم فإن المتصوفة جعلوا لهم أهدافًا أخرى غير ذلك وهو أن يكون كل منهم إلهًا وربًا يعلم الغيب كله كما يعلمه الله سبحانه وتعالى ويتصرف في الكون كله كما يتصرف الله فيحيي، ويميت ويخفض ويرفع، ويعز ويذل. . لقد أصبح الهدف الصوفي هو الوصول إلى مقام النبوة أولًا ثم الترقي حتى يصل الفرد منهم في زعمهم إلى مقام الألوهية والربوبية. فهذا مثلًا أبو يزيد البسطامي وهو من أئمة القوم ومقدميهم، توفي سنة 261هـ ـ فهو من أعلام القرن الثالث في التصوف، وقد مر بك كلامه في شأن الرجل الذي استفتاه في أنه لا يجد في نفسه من علوم القوم شيئًا، فأفتاه بتلك الفتوى العجيبة. يذكر عن نفسه ما يأتي: " رفعني مرة فأقامني بين يديه، وقال لي: يا أبا يزيد! إن خلقي يحبون أن يروك، فقلت: زيني بوحدانيتك، وألبسني أنانيتك، وارفعني إلى أحديتك، حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك، فتكون أنت ذاك، ولا أكون أنا هنا " (اللمع ص461) . وهذا الكلام لا يحتاج إلى تفسير وتأويل، والاعتذار عنه مشاركة لصاحبه في الباطل الذي يسعى إليه، ولنترك سيد الطائفة في وقته (الجنيد) يفسر كلام صاحبه أبي يزيد البسطامي يقول الجنيد في تفسير الكلام السابق:

" هذا كلام من لم يلبسه حقائق وحدة التفريد في كمال حق التوحيد، فيكون مستغنيًا بما ألبسه عن كون ما سأله. . وسؤاله لذلك يدل على أنه مقارب لما هناك، وليس المقارب للمكان بكائن فيه على الإمكان والاستمكان. . وقوله: ألبسني وزيني، وارفعني يدل على حقيقة ما وجده مما هذا مقداره ومكانه، ولم ينل الحظوة إلا بقدر ما استبانه " ا. هـ (اللمع ص461) . وبالطبع لن يستطيع أحد أن يفهم شرح الجنيد لكلام صاحبه أبي يزيد إلا من فهم عقيدة القوم، وعرف محتواها على الحقيقة. وإليك شرح كلامه حتى كأنك تحسه وتراه إن شاء الله. أقول: حكم الجنيد على صاحبه أبي يزيد بأنه لم يصل بعد إلى كمال حقيقة التفريد (ومعنى التفريد أن يعتقد الصوفي أنه ما تم في الحياة إلا فرد واحد، هو الله، تعددت وجوداته بحسب ما يظهر للناس، ولكن الحق واحد! ! ولذلك قال عن أبي يزيد: " هذا كلام من لم يُلبسْهُ (أي الله تعالى) حقائق وحدة التفريد "، أي لم ير غير الله غيرًا كما مر من كلام الحلاج. . ولذلك قال عنه أيضًا بأنه لو رأى التفريد على الحقيقة لكان مستغنيًا بما ألبسه عن كون ما سأله، فقد سأل البسطامي ربه أن يلبسه أنانيته، ويرفعه إلى أحديته. . ولو كان متحققًا من القول بوحدة الوجود لم يقل ذلك، ولم يطلبه، لأنه سيعلم يقينًا أنه هو الله. . ولذلك رآه الجنيد بسؤاله هذا مقاربًا للحقيقة الصوفية النهائية، فقال: " وسؤاله لذلك يدل على أنه مقارب لما هناك. . " ثم شرح هذا القول بقوله: " وقوله ألبسني وزيني وارفعني: يدل على حقيقة ما وجده مما هذا مقداره ومكانه، ولم ينل الحظوة إلا بقدر ما استبانه " أي فهذا مكان أبي يزيد في فهم الحقيقة الصوفية، ولم يصل بعد إلى فهمنا على الحقيقة. فانظر أيها الأخ المنصف أين كان الجنيد سيد الطائفة الصوفية من قضية التوحيد في الإسلام. . ولم يكن حكم الجنيد على أبي يزيد البسطامي في قوله السابق منفردًا به، بل حكم بهذا الحكم صاحبها الشبلي الذي كان أوحد القوم حالًا كما قالوا.

وروى صاحب اللمع الحكاية الآتية (ص741) : " حكي عن الشبلي ـ رحمه الله ـ. . أنه سئل عن أبي يزيد البسطامي ـ رحمه الله ـ. وعرض عليه ما حكي عنه مما ذكرناه وغير ذلك، فقال الشبلي ـ رحمه الله ـ: لو كان أبو يزيد ـ رحمه الله ـ ها هنا لأسلم على يد بعض صبياننا. .، وقال: لو أن أحدًا يفهم ما أقول لشددت الزنانير ". فانظر كيف حكم الشبلي على أبي يزيد بأنه لا يصلح تلميذًا له، بل لو كان موجودًا معه الآن في وقته لأسلم على يد بعض صبيان الشبلي. . وأنا أجزم الآن أنه يقصد بهذا الإسلام أن يعلمه أنه لا موجود إلا الله. . ولذلك قال بعد ذلك: " لو أن أحدًا يفهم ما أقول لشدد الزنانير " ومعنى شد الزنار أن يلبس لباس أهل الذمة من اليهود والنصارى والمجوس، لأنه كان يعتقد ـ بما لبس على الناس ـ أن أحدًا من معاصريه لا يفهم ما يشير إليه بهذه الأقوال. . وهذا حق، لأن القوم ليسوا على الناس بما ادعوه من الصلاح والتقوى ومحبة الله ورسوله. وقد مر بك أن هذا الشبلي كان سمينًا بدينًا، ومع ذلك كان يزعم أنه يحمي المرود ويكتحل به حتى لا ينام. ومما يدلك على ما جزمت به سالفًا من تفسير قول الشبلي الآنف ما فسر به أيضًا الجنيد حال أبي يزيد البسطامي قائلًا: " إن أبا يزيد ـ رحمه الله ـ. . مع عظم حاله، وعلو إشارته لم يخرج من حال البداية، ولم أسمع منه كلمة تدل على كمال النهاية " (ص479) . فانظر وتيقن الآن معتقد القوم الذين يشهدون على البسطامي بأنه لم يجاوز حال البداية، وهو الذي قال الأقوال السالفة. . ولا غرو في ذلك ما دام الشبلي يقول عن نفسه لأبي عبد الله بن جابان بعد أن زاره، وأراد أن يخرج من عنده هو وبعض زملائه: " مروا أنا معكم حيثما كنتم، أنتم في رعايتي وفي كلاءتي " (ص478) . فالذي وصل إلى هذه النهاية لا شك أنه يحكم على كلام البسطامي أن ما جاوز البداية. . وقد يظن ظان أن الجنيد كان دون الشبلي في هذه الأقوال، وهذا من

الجهل والغفلة، وعدم تتبع القضية الصوفية، والغوص على مغاليقها وأسرارها، والأمر على غير ذلك، فالجنيد كان أسبق أولئك القوم إلى العقيدة الصوفية، وأعلم الناس بها، ويدلك على هذا أن الشبلي يسأله يومًا، فيقول له: يا أبا القاسم ما تقول فيمن كان الله حسبه قولًا وحقيقة؟ فقال الجنيد ـ رحمه الله ـ. . يا أبا بكر (وهي كنية الشبلي) بينك وبين أكابر الناس في سؤالك هذا عشرة آلاف مقام، أوله محو ما بدأت به (اللمع ص487) . فانظر كيف سأل الجنيد عن حقيقة من حقائق الإسلام، وهي أن يكون الله حسب المرء في اعتقاده وقوله وكل شؤونه، أي أن يعتقد المسلم أن الله كافيه في كل ما يهمه ويشغله، وهذا من كمال التوحيد كما قال تعالى: {أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه} [الزمر: 36] ، وقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما قيل له: إن قريشًا عزمت أن ترجع لتستأصل شأفة المسلمين بعد هزيمة أحد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (حسبنا الله ونعم الوكيل) أي الله كافينا ومنجينا سبحانه وتعالى. انظر كيف حكم الجنيد على هذه الحقيقة الشرعية بأن سؤال الشبلي عنها يدل على أن بينه وبين أكابر الناس أي (كبراء الصوفية) عشرة آلاف مقام، أول هذه المقامات محو هذه الحقيقة الشرعية التي بدأ الشبلي بالسؤال عنها. .

الفصل الخامس: القول بوحدة الوجود

الفصل الخامس: القول بوحدة الوجود لما بدأ القول بالحلول، وجعل المتصوفة غايتهم من التصوف أن يتشبهوا بصفات الله في زعمهم فيكون أحدهم إلهًا يعلم كل شيء، ويتصرف في كل شيء فإن هذا الحال استمر بهم حتى وصلوا في النهاية إلى القول بوحدة الوجود، وأن كل شيء إنما هو الله وأن الله هو الذي في الكون وحده وليس هناك شيء آخر معه. ومصطلح وحدة الوجود يعني في العقيدة الصوفية أنه ليس هناك موجود إلا الله فليس غيره في الكون، وما هذه الظواهر التي نراها إلا مظاهر لحقيقة واحدة، هي الحقيقة الإلهية (تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا) ، هذه الحقيقة التي تنوعت وجوداتها ومظاهرها في هذا الكون المشاهد، وليس هذا الكون ـ في هذه العقيدة الباطلة ـ إلا الله في زعمهم، تعالى الله عن ذلك. وقد رأينا كيف عبر الحلاج عن هذه العقيدة بكل صراحة ووضوح فيما نقلناه عنه آنفًا، وكيف عبر عنها الشبلي بشيء من التعمية واللف والدوران، وكيف جاءت في الكلام المنسوب إلى الجنيد في شيء من الحذر والحيطة. ولقد استمرت هذه العقيدة معلومة عند أناس مخصوصين فقط بلغوا النهاية في الطريق الصوفي، ولكنهم لم يعبروا عنها إلا بتعبيرات ملفوفة غامضة، لا يفهمها إلا من سار سيرتهم، وذاق ذوقهم، وكشف غوامض كلامهم. ولكن القرن السادس الهجري شهد في أواخره، وبداية القرن الذي يليه رجلًا عجيبًا استطاع أن يصوغ هذه العقيدة صياغة كاملة، ويضرب لها آلاف الأمثلة، ويبني عليها فروعها المختلفة في الاعتقاد والتصور، ويؤلف فيها عشرات الكتب، ذلك الرجل هو محيي الدين بن عربي المتوفي سنة 638هـ

ـ نشأ هذا الرجل في الأندلس، واستقر به المقام في الشام، ورمي بالكفر والزندقة والإلحاد والكذب، ولكن عقيدته ومذهبه وجدت المشيعين والمروجين الذين استطاعوا أن يرفعوه ـ كما رفع نفسه ـ إلى مرتبة الولاية، بل إلى ختم الولاية ومرتبة المشيخة الكبرى وإحياء الدين. وبالرغم من أن ابن عربي هذا قد زعم أنه نقل علمه وكتبه عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مباشرة، وكتب عن اللوح المحفوظ بلا وساطة، وصاغ عقيدة وحدة الوجود بكل جرأة وبلا مواربة، بل بقليل من التدليس والمراوغة، واستطاع أن يحرف آيات القرآن فيزعم أن قوم هود الكافرين كانوا على الصراط المستقيم، وأن فرعون كان مؤمنًا كامل الإيمان، وأن قوم نوح كانوا مؤمنين، فجازاهم الله بأن أغرقهم في بحار الوحدة، وأدخلهم نار الحب الإلهي ليتنعموا فيها، وأن هارون أخطأ لأنه نهى بني إسرائيل عن عبادة العجل، وما كان العجل إلا المعبود الحق، أو صورة من صور المعبود الحق، وأن قوم نوح أصابوا في عدم تركهم ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا لأنها مظاهر للإله الواحد، وأن النار عذوبة لا عذاب، وأنه ما من إنسان إلا مرحوم مرضي عنه، وأن الله لا يعلم شيئًا قبل وجوده، لأن وجود الشيء هو وجود العلم، بل وجود كل شيء هو ترجمة لوجود الله (تعالى الله عن ذلك) أقول: بالرغم من أن ابن عربي قال هذا الكلام كله، بل هذا جزء يسير جدًا مما قاله، فإنه أدعى بأن كل ذلك قد نقله بلا زيادة ولا نقصان عن الرسول الذي أمره بتبليغ ذلك للناس، وبالرغم أيضًا من كل ذلك فقد وجد هذا الرجل من المروجين والأتباع ما لا يقع تحت الحصر منذ ظهوره إلى زماننا هذا، ومن أمة الإسلام الذين يشهدون في كل يوم مرات كثيرة بأن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهذا من أعجب العجب. وهاك الآن نقولًا صوفية من كتبه تدلك على هذه العقيدة. 1 ـ قال في مطلع كتابه " فصوص الحكم " وهو الكتاب الذي جعله خاتمة لأعماله جامعًا لعقيدته: " أما بعد فإني رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مبشرة أريتها في العشر الآخر من المحرم سنة سبع وعشرين وستمائة بمحروسة دمشق، وبيده

ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتاب، فقال لي: هذا " كتاب فصوص الحكم خذه واخرج به إلى الناس ينتفعون به، فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منا كما أمرنا " ثم يقول: فحققت الأمنية، وأخلصت النية، وجردت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب كما حده لي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غير زيادة ولا نقصان " (الفصوص، ص47، طبع بيروت. تحقيق: أبو العلاء عفيفي) . ويقول في مكان آخر بعد أن ذكر مواضيع الكتاب: " فاقتصرت على ما ذكرته من هذه الحكم في هذا الكتاب على حد ما ثبت في أم الكتاب، فامتثلت ما رسم لي، ووقفت عند ما حد لي، ولو رمت زيادة على ذلك ما استطعت فإن الحضرة تمنع من ذلك " (ص58) . ويقول أيضًا في " فص حكمة علوية في كلمة موسوية ": " وأنا إن شاء الله أسرد منها في هذا الباب على قدر ما يقع به الأمر الإلهي في خاطري فكان هذا أول ما شوفهت به من هذا الباب " (ص58) . وهذه النقول من مقدمة الكتاب ومن ثناياه تعلمك إصرار الرجل أنه ينقل عن الله مباشرة بل مشافهة، وعن اللوح المحفوظ رأسًا، وعن الرسول الذي أمره في تلك الرؤيا المزعومة أن يخرج على الناس بهذا الكتاب، فماذا في هذا الكتاب من العلم بالله ورسالاته والهدى والنور؟ لننظر. 2 ـ يزعم ابن عربي أن قوم نوح أجابوا رسولهم إجابة حقيقية، وأن نوحًا مكر بهم فمكروا به، وأن تمسكهم بآلهتهم إنما هو تمسك بحق أراد نوح أن يزيلهم عنه، وهاك نص عباراته في ذلك: " علم العلماء بالله ما أشار إليه نوح ـ عليه السلام ـ في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم، وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، والأمر قرآن لا فرقان، ومن أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان وإن كان فيه. .، دعاهم ليغفر لهم، لا ليكشف لهم، وفهموا ذلك منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ. لذلك {جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم} [نوح: 7] . وهذه كلها صورة الستر التي دعاهم إليها، فأجابوا دعوته بالفعل، لا بلبيك.

قال نوح في حكمته لقومه: {يرسل السماء عليكم مدرارًا} [نوح: 11] . وهي المعارف العقلية في المعاني والنظر الاعتباري، {ويمددكم بأموال} [نوح: 11] . أي بما يميل بكم إليه، فإذا مال بكم إليه رأيتم صورتكم فيه، فمن تخيل منكم أنه رآه فما عرفه، ومن عرف منكم أنه رأى نفسه فهو العارف " (ص71) . فانظر كيف جعل المطر والخصب الذي هو نتيجة للصلاح والتقوى والإيمان والاستغفار والمعارف العقلية. . وكيف جعل الأموال أي ما يميل بهم إليه فيرون صورتهم فيه، وهذه هي وحدة الوجود، ولذلك يقول بعدها: " فمن تخيل أنه رآه فما عرف وأما من رأى نفسه فهو العارف ". ثم يقول: {ومكروا مكرًا كبارًا} [نوح: 22] . لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو، أدعو إلى الله فهذا عين المكر، فأجابوه مكرًا كما دعاهم (ص72) ، فانظر كيف جعل الدعوة إلى الله مكرًا بالمدعوين، بل عين المكر ثم بين نوع المكر الذي قابل قوم نوح نوحًا، فيقول: " فقالوا في مكرهم: لا تذرن آلهتكم، ولا تذرن ودًا ولا سواعًا، ولا يغوث ويعوق ونسرًا، فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء، فإن للحق في كل معبود وجهًا يعرفه من يعرفه، ويجهله من يجهله. .، فما عبد غير الله في كل معبود " (ص72) . وبهذا يجعل ابن عربي تلك الآلهة الباطلة التي عبدها قوم نوح آلهة حقة، لأنها في زعمه وجه من وجوه الحق. ثم يقول مكملًا تبديل آيات الله: {ولا تزد الظالمين} [نوح: 24، 28] . لأنفسهم (المصطفين) الذين أورثوا الكتاب أول الثلاثة، فقدمه على المقتصد والسابق {إلا ضلالًا} [نوح: 24] . إلا حيرة " (ص73) . وهنا يجعل ابن عربي قول الله في شأن قوم نوح: {ولا تزد الظالمين إلا ضلالًا} [نوح: 24] . وهو الدعاء الذي دعا به نوح على قومه، يجعل ابن عربي هذا الظلم كالظلم الذي وصف الله به طائفة من الذين أورثهم الكتاب حيث قال: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} فيجعل هذا الظلم كذاك الظلم،

وهذا غاية التلبس والثعلبية. ثم يقول ابن عربي: {مما خطيئاتهم} [نوح: 25] . فهي التي خطت بهم، فغرقوا في بحار العلم بالله. {فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارًا} [نوح: 25] . فكان الله عين أنصارهم، فهلكوا فيه إلى الأبد " (ص33) ، ثم يحرف قول الله تعالى: {إنك إن تذرهم يضلوا عبادك} [نوح: 27] . قائلًا: " أي يحيروهم، فيخرجوهم من العبودية إلى ما هم فيه من أسرار الربوبية، فينظرون أنفسهم أربابًا بعدما كانوا عند أنفسهم عبيدًا، فهم العبيد الأرباب " (ص74) . فيجعل ضلال قوم نوح إنما هو حيرة، لأنهم عرفوا أسرار الربوبية، وأن كل موجود هو الله، فأصبحوا بذلك أربابًا عند أنفسهم. . ثم يحرف كلمات الآية الباقية فيجعل {رب اغفر لي} [نوح: 28] . وهو بقية كلام نوح أي استرني، {ولوالدي} [نوح: 28] . يعني العقل والطبيعة و {لمن دخل بيتي} [نوح: 28] . يعني قلبي، {وللمؤمنين} [نوح: 28] . أي العقول. {والمؤمنات} [نوح: 28] . أي النفوس {ولا تزد الظالمين} [نوح: 28] . أي أهل الغيب، {إلا تبارًا} [نوح: 28] . أي هلاكًا، فلا يعرفون نفوسهم لشهودهم وجه الحق دونهم، ثم يقول بعد ذلك: " ومن أراد أن يعرف أسرار نوح فعليه بالرقي في فلك نوح، وهو في (التنزلات الموصلية) لنا والله يقول الحق " ا. هـ (ص74) . 3 ـ لم يكتف ابن عربي بتصحيح موقف قوم نوح الضالين المكذبين، بل عمد إلى جميع كفار الأرض فجعلهم مؤمنين موحدين عارفين واصلين، وعمل إلى المسلمين فجعلهم مؤمنين بجزء من الحق فقط كافرين بأجزاء أخرى، ولم ينس ابن عربي فرعون اللعين الذي لم تعرف الأرض قبله أكفر منه ولا أظلم، فجعله من المؤمنين الموحدين الفائزين بالجنة حيث يقول: " ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت، وأنه الخليفة بالسيف، وإن جار في العرف الناموسي، لذلك قال: {أنا ربكم الأعلى} [الذاريات: 24] . أي وإن كان الكل أربابًا بنسبة ما فأنا ربكم الأعلى منهم، بما أعطيته في الظاهر من التحكم فيكم، ولما علمت السحرة صدقه في مقاله لم ينكروه، بل أقروا له بذلك، فقالوا: {إنما تقضي هذه الحياة الدنيا} [طه: 72] . {فاقض ما أنت قاض} [طه: 72] . فالدولة لك، فصح قوله: {أنا ربكم الأعلى} [الذاريات: 24] . (ص210، 211) .

وهذا الكلام واضح ووازنه بكلام الحلاج الآنف في شأن فرعون، لتعلم وحدة العقيدة التي دعا إليها هؤلاء الأقوام. بقي أن تعلم إشاراته الخبيثة في كلامه، نحو: أن فرعون كان الخليفة بالسيف، ويعني بالخليفة قول الله لداود: {إنا جعلناك خليفة في الأرض} [ص: 26] . فيقيس الخلافة الشرعية النبوية على الملك المتسلط الفاجر، ثم شريعة موسى عُرفًا، أي ما يعرفه موسى، ولذلك اتهم بعض الصوفية الآخرين موسى ـ عليه السلام ـ بالجهل، وفرعون بالعلم والمعرفة، فقال: كان فرعون أعلم بالله من موسى، لأنه عرف حقيقة الحق، وأما موسى فما عرف إلا وجهًا واحدًا، ولم يعرف أن الكل أرباب وأنهم مخلوقون في نفس الوقت، فالإنسان عندهم هو الحق والخلق، كما سيأتي بالنص إن شاء الله من كلام ابن عربي، ولذلك قال ابن عربي معللًا كلمة فرعون: {أنا ربكم الأعلى} [الذاريات: 24] . أن الكل أرباب بنسبة ما؛ وفرعون أعلى من هؤلاء الأرباب، لأنه الملك المطاع في ذلك الوقت. وعلى هذا فقد حكم له بالإيمان والجنة زاعمًا أنه آمن عندما رأى انفلاق البحر لبني إسرائيل، فنجاه الله من العذاب الآخروي، وعمته النجاة حسًا ومعنى، وأنكر على من يقول: إنه من المعذبين قائلًا: " ليس لديهم نص في هذا المعنى "، مع العلم أن الله يقول عنه: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود} [هود: 96 ـ 99] . وما غاب هذا النص عن ابن عربي، ولكنه التلبيس والثعلبية والمكر، ومخالفة سبيل المؤمنين من أولهم إلى آخرهم. وعلى هذه العقيدة الباطلة أيضًا صحح ابن عربي موقف السامري، وصناعته للعجل الذي فتن به بنو إسرائيل، فعبدوه من دون الله، وخطّأ ابن عربي هارون عليه الصلاة والسلام، لأنه ما عرف الحق، وأنكر على بني إسرائيل، وزعم ابن عربي أن موسى عرف الحق وأنكر على السامري أن يحصر

الإله في شيء واحد فقط، لأن عين كل شيء هي عين الإله، وهي عين الحق ـ تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا ـ. يقول ابن عربي في ذلك: " ثم قال هارون لموسى ـ عليه السلام ـ: {إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل} [طه: 94] . فتجعلني سببًا في تفريقهم، فإن عبادة العجل فرقت بينهم، فكان منهم من عبده اتباعًا للسامري وتقليدًا له، ومنهم من توقف عن عبادته حتى يرجع إليهم موسى فيسألونه عن ذلك، فخشي هارون أن ينسب ذلك الفرقان بينهم إليه، فكان موسى أعلم بالأمر من هارون، لأنه علم ما عبده أصحاب العجل، لعلمه أن الله قضى ألا يعبد إلا إياه. . وما حكم الله بشيء إلا وقع. . فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه، فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء " ا. هـ (الفصوص ص192) . فانظر كيف زعم الخبيث أن موسى علم أن أصحاب العجل ما عبدوا إلا الله، لأن الله قال: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء: 23] ، فجعل هذا القضاء قضاء كونيًا قدريًا، وأن الله ما حكم بشيء إلا وقع، ومعنى هذا عنده أن كل معبود في الأرض إنما هو الله، وما عبد الإنسان شيئًا حجرًا أو غيره إلا عبد الله، مستدلًا بالآية السالفة بمعنى حكم وأمر، وهذا الحكم والأمر حكم شرعي، فمن هداه الله ووفقه إليه امتثله. ومن اتبع سبيل الغواية والشيطان انحرف ومال عنه، كبقية الأوامر الشرعية، نحو وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، ونحو قوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} [الأحزاب: 36] . وقد خالف قضاء الله وأمره كثير من الكفار والملاحدة والجاحدين، وخالف بعض المؤمنين بعض ما قضى الله به ورسوله، وكثيرًا مما أمر به. وها قد رأيت أن ابن عربي ختم عبارته بقوله: " فالعارف من يرى الحق

في كل شيء، بل يراه عين كل شيء " وهذا منتهى العقيدة الصوفية، والفارق هو الاصطلاح الصوفي لمن تحقق من هذه العقيدة الخبيثة، ووصل النهاية في هذا العلم الخبيث (والحق) هو الله في زعمهم، تعالى الله عن ذلك وسبحانه، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ثم يتمم ابن عربي شرح عقيدته الباطلة، فيحرف معنى قول الله تعالى: {فما خطبك يا سامري} [طه: 95] . قائلًا: " يعني فما صنعت من عدو لك إلى صورة العجل على الاختصاص " ا. هـ أي لماذا خصصت العجل فقط بكونه إلهًا، والحال في هذه العقيدة أن كل شيء هو الله، ولذلك حرق موسى العجل حتى لا يحصر الإله في شيء واحد ـ تعالى الله عن ذلك ـ ثم يستطرد الخبيث قائلًا: " وقال له: {وانظر إلى إلهك} [طه: 97] . فسماه إلهًا بطريق التنبيه للتعليم أنه بعض المجالي الإلهية " ا. هـ. فانظر كيف زعم أن قول موسى للسامري: {وانظر إلى إلهك} [طه: 97] . أن هذا اعتراف موسى بألوهية العجل، لأنه بعض الأشياء التي يتجلى فيها الرب (سبحانك هذا بهتان عظيم، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا) . ثم يفلسف ابن عربي عدم تسلط هارون على نسف العجل وإحراقه، وكون موسى هو الذي سلط على ذلك، زاعمًا أن هذا كان ليعبد الله في كل صورة، والعجل هو إحدى هذه الصور التي يجب عنده ـ لعنه الله ـ أن يعبد الله فيها، ويحرف في ذلك قول الله تعالى: {رفيع الدرجات} [غافر: 15] . فلله درجات يعبد فيها، وكل صنم وإله عبد في الأرض، فهو إحدى درجات الله في زعمه ـ تعالى الله عن ذلك ـ ثم يجعل عبادة الهوى أعظم هذه الدرجات وأسماها. وهاك نص عبارته في ذلك: " فكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل كما سلط موسى عليه حكمة من الله تعالى ظاهرة في الوجود، ليعبد في كل صورة وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك، فما ذهبت إلا بعد ما تلبست عند عابدها بالألوهية " ثم يقول " وما عبد شيء من العالم إلا بعد التلبس بالرفعة عند العابد، والظهور بالدرجة في

قلبه، وكذلك تسمى الحق لنا برفيع الدرجات، ولم يقل. . رفيع الدرجة، فكثر الدرجات في عين واحدة، فإنه قضى أن لا يعبد إلا إياه في درجات كثيرة مختلفة، أعطت كل درجة مجلى إلهيًا عبد فيها، وأعظم مجلى عبد فيه وأعلاه (الهوى) كما قال: {أفرءيت من اتخذ إلهه هواه} [الجاثية: 23] وهو أعظم معبود، فإنه لا يعبد شيء إلا به. . ولا يعبد هو إلا بذاته، وفيه أقول: وحق الهوى إن الهوى سبب الهوى ولولا الهوى في القلب ما عبد الهوى " (الفصوص ص194) ثم يقول بعد ذلك: " والعارف المكمل من رأى كل معبود مجلى للحق يعبد فيه، ولذلك سموه كلهم إلهًا مع اسمه الخاص بحجر أو شجر، أو حيوان أو إنسان، أو كوكب أو ملك " (الفصوص ص195) . ثم جعل ابن عربي بعد ذلك كفار قريش الذين تمسكوا بآلهتهم الباطلة قائلين {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] . غير منكرين لله، بل متعجبين لأنهم وقفوا مع كثرة الصور، ونسبوا الألوهية إليها، ثم يزعم أن الرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد جاء داعيًا لهم إلى إله يعرف، ولا يشهد. . ثم يصف ابن عربي هذا الإله قائلًا: " فدعا (أي الرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ) إلى إله يصمد إليه ويعلم من حيث الجملة. . ولا يشهد ولا تدركه الأبصار، للطفه وسريانه في أعيانه الأشياء، فلا تدركه الأبصار كما أنها لا تدرك أرواحها المدبرة أشباحها وصورها الظاهرة، وهو اللطيف الخبير، والخبرة ذوق، والذوق تجل، والتجلي في صور فلا بد منها، ولا بد منه، فلا بد أن يعبده من رآه بهواه إن فهمت. . " ا. هـ ثم يقول مستهزئًا بعقول الجاهلين: {وعلى الله قصد السبيل. .} [النحل: 9] . وأظنك أيها القارئ قد فهمت الآن العقيدة التي دعا إليها ابن عربي

والإله الذي تخيله، وهو ما زعم أنه الروح الذي يسري في جميع الموجودات، بل الموجودات هي صورته الظاهرة. . وهي عينه (تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا) ولم يكتف أن ينسب هذا إلى نفسه، ومن شايعه، بل زعم أن هذه هي عقيدة موسى وعيسى ومحمد، بل وجميع الأنبياء والمرسلين الذين عرفوا الأمر على حقيقته، وأن الرسول قد أعطاه هذا الكتاب، ليخرج به على الناس ليبلغهم الدين الحق، والرسالة الصحيحة، وأنه نقل فقط، وما تصرف في شيء، بل سار في حدود ما أمر به، ولم يزد حرفًا واحدًا. 4 ـ ولم تستطع عقبة أن تقف أمام ابن عربي لترده إلى صوابه، وليعلم العقيدة الحقة، ولكنه مضى في شوط التلبيس والتخطيط إلى منتهاه. وكانت من هذه العقبات العقيدة في النار: جهنم التي أعدها الله للكافرين، والتي يصطرخون بها: {ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} [المؤمنون: 107] . والتي يتمنون فيها الموت، بل يكون هو منتهى آمالهم وغاية مطلبهم {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك} [الزخرف: 77] . فيرد عليهم مالك قائلًا {إنكم ماكثون} [الزخرف: 77] ، جهنم التي يدعو أهلها على أنفسهم بالويل والثبور، ويرد الله عليهم قائلًا: {لا تدعوا اليوم ثبورًا واحدًا وادعوا ثبورًا كثيرًا} [الفرقان: 14] لأنه لا استجابة لهم، ولا خروج منها، فلا يموتون فيها ولا يحيون، وآيات كثيرة في وصف جهنم، وبشاعتها وحرقتها، وعذاب أهلها بها، كل هذه الآيات لم تمنع ابن عربي الذي حكم لقوم نوح بالمعرفة والإيمان، ولقوم فرعون ولكفار مكة كذلك، بل لكل كافر على الأرض أنه ما عبد إلا الله في صورة من الصور، أقول: كذلك هذه الآيات لم تمنع ابن عربي أن يحكم لأهل النار بالنعيم المقيم، والسعادة والهناء.

وأين ذلك؟ . . في النار نفسها، هذه النار التي وصفها الله بما وصف، ووصف أهلها بما وصف. . هذه النار دار سعادة عند ابن عربي، لا دار شقاوة وعذاب، بل دار عذوبة وهناء. وهاك نص عبارته في ذلك: " وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم ** على لذة فيها نعيم مباين نعيم جنان الخلد، فالأمر واحد** وبينهما عند التجلي تباين يسمى عذابًا من عذوبة طعمه** وذاك له كالقشر والقشر صاين (الفصوص ص94) فانظر كيف جعل نعيم النار كنعيم الجنة، لأن الأمر واحد في زعمه، وأن العذاب من العذوبة، وأن النار قشرة تخفي وراءها النعيم المقيم لأهل النار. ويقول أيضًا: " فمن عباد الله من تدركه تلك الآلام في الحياة الأخرى في دار تسمى جهنم، ومع هذا لا يقطع أحد من أهل العلم الذين كشفوا الأمر على ما هو عليه إنه لا يكون لهم في تلك الدار نعيم خاص بهم، إما بفقد ألم كانوا يجدونه، فارتفع عنهم، فيكون نعيمهم راحتهم عن وجدان ذلك الألم. . أو أن يكون النعيم مستقلًا زائدًا كنعيم أهل الجنان والله أعلم ". انتهى (الفصوص ص114) . ومع أنه تناقض هنا مع ما قرره في أبياته السابقة، وقال: يكون النعيم لأهل النار بفقد آلام سابقة، أو بحصول لذة ومتاع بالنار كنعيم الجنة و (أو) تقتضي الشك، ولذلك قال: والله أعلم، مع العلم أنه قال في مطلع الكتاب وفي ثناياه أنه ينقل عن الله بلا زيادة ولا نقصان. . فانظر هذا التهافت والتخبط والعمى. . نعوذ بالله من الخذلان. أقول مع هذا يعود ويقرر دون شك أن النار ستكون بردًا وسلامًا على أهلها، كما كانت نار إبراهيم بردًا وسلامًا عليه، يقول في (الفصوص ص169) : " وأما أهل النار فمآلهم إلى النعيم ولكن في النار. . إذ لا بد لصورة النار بعد انتهاء مدة العقاب أن تكون بردًا وسلامًا على من فيها، وهذا نعيمهم، فينعم أهل النار بعد استيفاء الحقوق نعيم خليل الله حين ألقي في النار، فإنه ـ عليه السلام ـ تعذب برؤيتها.

وبما تعود في علمه، وتقرر من أنها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان " ا. هـ. 5 ـ أظنك أيها القارئ الكريم قد عرفت الآن فرعيات هذه العقيدة الصوفية الباطلة، ولمزيد من هذه المعرفة والتوضيح سأنقل إليك بيانًا واضحًا من كلام ابن عربي أو الشيخ " الأكفر أو الأكبر " كما يسمونه، مما تتصور به هذه العقيدة، ويكفي في إبطالها أن تتصورها، فهذه العقيدة لا تحتاج إلى رد يبطلها، وإنما تصورها تصورًا صحيحًا يكفي لبطلانها. فما عرف البشر في تاريخهم الطويل كفرًا وإلحادًا أعظم من هذا الكفر؛ فإن الله ـ تبارك وتعالى ـ استعظم مقالة من قالوا: {اتخذ الله ولدًا} [البقرة: 116] . سبحانه وتعالى عن ذلك قائلًا: {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدًا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا} [الكهف: 4 ـ 5] . وقال جل وعلا: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا لقد جئتم شيئًا إدًا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًا أن دعوا للرحمن ولدًا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدًا إن كل من في السماوات والأرض إلا ءاتي الرحمن عبدًا لقد أحصاهم وعدهم عدًا وكلهم ءاتيه يوم القيامة فردًا} [مريم: 88 ـ 95] . فإذا كانت السماوات تكاد تنفطر من تلك المقالة الخبيثة، بل وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًا، فكيف بمن ينسب كل شيء خبيث في الأرض إلى ذات الله، بل جعله عين الله؟ ! . . فالذين نسبوا لله ولدًا نسبوا شيئًا صالحًا كنبي أو ملك، أما الذي جعل الله عين كل شيء. . أقول: إن تصور هذه العقيدة يكفي لبطلانها عند من له أدنى حس أو شعور، ولا أقول عقل ولب، فالقضية لا تحتاج معقولية لردها، وإنما تحتاج قليلًا من الإحساس والشعور، والحياء والخجل، وقد لبّس هؤلاء الشياطين على الناس زاعمين أن كلامهم لا يفقهه إلا من ذاق ذوقهم، ووجد وجدهم، وعرف معرفتهم، هأنا ذا أعطيك مفاتيح هذه المعارف الباطلة، والذوق الخبيث، والوجد اللعين، لتعرف الأمر عندهم على ما هو

عليه، ولذلك فسأسرد لك طائفة أخرى من الشرح التفصيلي لهذه العقيدة، وكل هذا الشرح من كلام القوم حتى لا يبقى عندك في الحق لبس، ولتعلم أيضًا أن من زعم منهم أن هذا الكلام المنقول عن أساتذة الضلال إنما هو شطح فقط، وغلبة حال فزعمه باطل، لأن الأمر ليس شطحًا، وإنما هو عقيدة فلسفية مقررة مشروحة في عشرات الكتب، وأن كل آي القرآن قد حرفوها واستدلوا بها، ليغيروا عقيدة المسلمين الحقة في إلههم سبحانه وتعالى، الذي يتصف بصفات الكمال، والذي لا يشبه أحدًا من خلقه، بل هو الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولمن يكن له كفوًا أحد. يقول ابن عربي شارحًا عقيدته مستدلًا عليها بالحديث الموضوع: " من عرف نفسه عرف ربه " قال: " قال ـ عليه السلام ـ: " من عرف نفسه عرف ربه "، وهو أعلم الخلق بالله، فإن بعض الحكماء وأبا حامد ادعوا أنه يعرف الإله من غير نظر في العالم، وهذا غلط، نعم تعرف ذات قديمة أزلية، لا تعرف أنها إله حتى يعرف المألوه، فهو الدليل عليه، ثم بعد هذا في ثاني حال يعطيك الكشف أن الحق نفسه كان عين الدليل على نفسه وعلى ألوهيته، وأن العالم ليس سوى تجليه في صور أعيانهم الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه، وأنه يتنوع ويتصور بحسب حقائق هذه الأعيان وأحوالها، وهذا بعد العلم به منا أنه إله لنا، ثم يأتي الكشف الآخر، فيظهر لك صورنا فيه، فيظهر بعضنا لبعض في الحق، فيعرف بعضنا بعضًا " ا. هـ (الفصوص ص81، 82) . فهنا قد أنكر ابن عربي على أبي حامد وبعض المتصوفة الآخرين الذين قالوا: إن الحق لا يشترط لمعرفته النظر في الكون، بل قد يأتي ذلك عن طريق الكشف رأسًا دون استدلال بالكون المشاهد على الخالق سبحانه وتعالى. وقال ابن عربي: " إن هذا لا يكفي إلا لمعرفة ذات قديمة أزلية، ولكن لا بد من النظر في الكون لتعلم أن الذي تشاهده هو الحق، وهو الدليل على الحق، أي أن الصور المشاهدة في الكون هي الله، وهي الدليل عليه، ثم يأتي بعد ذلك الكشف الآخر الذي يتحقق الإنسان فيه من نفسه أيضًا بأنه نفسه صورة من صور الحق، فعند ذلك يعرف نفسه، فيعرف ربه، يعرف نفسه أنه

الله، فيعرف الله أنه كل موجود. . " ولم يكتف ابن عربي بأن يتبع أسلوب الثعالب في اللف والدوران والمراوغة، بل اتبع أيضًا أسلوب الاستفزاز لكل مؤمن، والنيل من عقيدة الإسلام بكل احتقار واستهزاء، ويدلك على ذلك أن اسم الله ـ عز وجل ـ (العلي) يفهم منه سلف الأمة وعلماؤها الأفاضل أن المقصود به العلو الحقيقي المستلزم مباينته تعالى لخلقه، والعلو المجازي الذي هو علو المكانة، فالله علي بذاته سبحانه وتعالى لأنه فوق عرشه، والعرش سقف المخلوقات كما مدح نفسه بذلك في سبع آيات من كتابه الكريم، وكما قال مالك بن أنس: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة "، وأما المكانة فمنزلة الله ـ عز وجل ـ فوق كل منزلة، فهو العلي العظيم سبحانه وتعالى، والخالق القوي القدير، وما سواه معبود مربوب مقهور، فحتى العلماء الذين نفوا عن الله العلو الحقيقي، وأثبتوا علو المكانة فقط ما نفوا عن الله هذه الصفة، ولكن انظر إلى ابن عربي كيف فهم هذه الصفة، وطبقها حسب عقيدته الباطلة: قال (الفصوص ص76 ـ 77) : " ومن أسمائه الحسنى العلي، على من. . وما ثم إلا هو؟ فهو العلي لذاته. أو عن ماذا. وما هو إلا هو؟ فعلوه لنفسه، وهو من حيث الوجود عين الموجودات، فالمسمى المحدثات هي العلّية لذاتها، وليست إلا هو، فهو العلي، لا علو إضافة، لأن الأعيان التي لها العدم الثابتة فيه ما شمت رائحة من الوجود، فهي على حالها مع تعداد الصور في الموجودات، والعين واحدة من المجموع في المجموع، فوجود الكثرة في الأسماء، وهي النسب، وهي أمور عدمية، وليس إلا العين الذي هو الذات فهو العلي لنفسه لا بالإضافة، فما في العالم من هذه الحيثية علو إضافة لكن الوجوه الوجودية متفاضلة، فعلو الإضافة موجود في العين الواحدة من حيث الوجوه الكثيرة، لذلك نقول في: هو لا هو، أنت لا أنت، قال الخراز (ـ رحمه الله ـ تعالى) وهو وجه من وجوه الحق ولسان من ألسنته ينطق عن نفسه بأن الله تعالى لا يعرف إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها، فهو الأول والآخر، والظاهر والباطن،

فهو عين ما ظهر، وهو عين ما بطن في حال ظهوره، وما ثم من يراه غيره، وما ثم من يبطن عنه، فهو ظاهر لنفسه باطن عنه، وهو المسمى أبا سعيد الخراز وغير ذلك من أسماء المحدثات ". فانظر استهزاءه باسم الله (العلي) حيث يقول: على من؟ وعن ماذا؟ وليس في الوجود غيره، فهو المحدثات، بل هو المسمى أبو سعيد الخراز، وأبو سعيد هذا أحد أئمة القوم في القرن الثالث الهجري. . وانظر كيف جعلوا العلو إنما هو لبعض المحدثات على بعض، وما دام أن جميع المحدثات هو الحق، وهو الله عندهم، فلا يوصف الله بالعلو إضافة أبدًا، لأنه ليس شيء غيره في الكون، ولكن يوصف ـ عندهم ـ بالعلو لذاته فقط. ولا يتورع ابن عربي مع ذلك أن ينسب ما في الوجود من شر وقبائح وظلم وسفك دم إلى الله، بل يجعل كل ذلك هو الله فيقول: " فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية، حيث لا يمكن أن يفوته نعت منها، وسواء كانت محمودة عرفًا وعقلًا وشرعًا، أو مذمومة عرفًا وعقلًا وشرعًا، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة " (الفصوص ص79) . فانظر كيف جعل مسمى الله يستغرق جميع الأمور الوجودية، سواء كانت ممدوحة في العرف والعقل والشرع، أم كانت مذمومة في العرف والعقل والشرع، وليس هناك كفر على الأرض أكبر من هذا الكفر، بل ليس هناك وقاحة وسوء أدب مع الله أعظم من هذا، فاللهم رحمتك بنا ونقمتك بأولئك، أبعدهم الله. . ولقد كرر هذا المعنى كثيرًا في كتابه فقال أيضًا: " ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات، وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص وبصفات الذم؟ " (الفصوص ص80) . ولم يكتف بهذا القول المجمل، بل فصل ذلك أيضًا حيث جعل الكبش الذي أنزله الله فداءً لإسماعيل من الذبح هو الله ـ تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا ـ.

قال ابن عربي: فيا ليت شعري كيف ناب بذاته** شخيص كبيش عن خليفة رحمان (الفصوص ص84) . فوقتًا يكون العبد ربًا بلا شك** ووقتًا يكون العبد عبدًا بلا إفك فإن كان عبدًا كان بالحق واسعًا** وإن كان ربًا كان في عيشة ضنك (الفصوص ص90) بل لم يكتف بهذا أيضًا حتى زعم أن الحق لا يشهد أتم شهود، ولا يعرف حق المعرفة إلا في المرأة. . حال اللذة والشهوة. . وهاك نصوص عباراته القبيحة في ذلك، ووالله لولا وجوب بيان هذا الباطل وتحذير الأمة منه ما كان لي أن أخط قلمًا بهذا الإثم والفجور، ولكن ما حيلتنا وبين أظهرنا من يدافع عن هذا الباطل، ويعتقد الولاية لقائليه، بل ويكفّر من تعرض لهذا الإثم والفجور، ويرميهم بالكفر والزندقة، وهؤلاء الضالون قد ملؤوا أكبر المراكز الدينية في بلادنا، واتبعهم عوام الناس دون وعي منهم بما خلف هذه العمائم الفارغة، والشهادات الزائفة من الإثم والفجور والباطل؟ ! هذا ابن عربي سيد الصوفية وشيخها من لدنه إلى هذا يفسر حديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة) فيقول: " اشتق الله من الإنسان شخصًا على صورته سماه امرأة، فظهرت بصورته فحن إليها حنين الشيء إلى نفسه، وحنت إليه حنين الشيء إلى وطنه، فحببت إليه النساء، فإن الله أحب من خلقه على صورته، وأسجد له ملائكته النوريين على عظم قدرهم ومنزلتهم، وعلو نشأتهم الطبيعية، فمن هناك وقعت المناسبة والصورة أعظم مناسبة، وأجلها وأكملها " (الفصوص ص216) . وقبل أن نستطرد في النقل عن ابن عربي أشرح لك الإفك الذي أفكه

هنا، فقد زعم أن الإنسان أحب المرأة، لأنها جزء منه ولا مانع في ذلك، وقد يكون هذا قولًا صحيحًا، ثم قاس على هذا أن الله أحب الإنسان لأنه خلقه على صورته، يعني أن ابن آدم ظهر في الوجود على صورة الرحمن، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، فكان ابن عربي مشبهًا لله بخلقه أيضًا، وهذا القول منه يخالف عقيدته السابقة في وحدة الوجود، وأن جميع الموجودات هي صورة للحق، ولا تنفرد صورة واحدة بأن تكون مثلًا للخالق بل جميع الصور ذاتها ذات الخالق، وهذا يدلك على تناقضه وخبثه وثعلبيته، ويجعل السبب الذي من أجله أحب الله الإنسان أن الصورة التي خلق عليها هي أعظم مناسبة وأقرأ عبارته السابقة مرة أخرى حتى تفهم ما يقول. ثم يستطرد ابن عربي شارحًا ومفلسفًا عقيدته قائلًا: " فإنها زوج (أي صورة الإنسان آدم) أي شفعت وجود الحق كما كانت المرأة شفعت بوجودها الرجل، فصيرته زوجًا، فظهرت الثلاثة: حق ورجل وامرأة! ! ! فحن الرجل إلى ربه الذي هو أصله حنين المرأة إليه، فحبب إليه ربه النساء، كما أحب الله من هو على صورته، فما وقع الحب إلا لمن تكوّن عنه، وقد كان حبه لمن تكوّن منه، وهو الحق، فلهذا قال (حبب) ولم يقل (أحببت) من نفسه، لتعلق حبه بربه الذي هو على صورته حتى في محبته لامرأته، فإنه أحبها بحب الله إياه تخلقًا إلهيا ") ا. هـ. فانظر كيف جعل حب الرجل للمرأة من التخلق بأخلاق الله في زعمه، لأن الله قد أحب محمدًا الذي خلقه على صورته (تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا) ، ولأن محمدًا هو أول موجود حسب عقيدة ابن عربي. ثم يستطرد ابن عربي في عباراته الوقحة الكافرة القبيحة قائلًا: " ولما أحب الرجل المرأة طلب الوصلة أي غاية الوصل التي تكون في المحبة، فلم يكن في صورة النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح، ولهذا تعم الشهوة أجزاءه كلها، ولذلك أمر بالاغتسال منه، فعمت الطهارة كما عم الفناء فيها عند حصول الشهوة، فإن الحق غيور على عبده أن يعتقد أن يلتذ بغيره! ! فطهره بالغسل، ليرجع بالنظر إليه فيمن فني فيه، إذ لا يكون إلا

ذلك، فإذا شاهد الرجل الحق في المرأة كان شهودًا في منفعل، وإذا شاهد في نفسه ـ من حيث ظهور المرأة عنه ـ شاهده في فاعل، وإذا شاهده في نفسه من غير استحضار صورة ما تكوّن عنه كان شهوده في منفعل عن الحق بلا وساطة، فشهوده للحق في المرأة أم وأكمل. . ولأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل. . ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصة، فلهذا أحب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ النساء، لكمال شهود الحق فيهن. . إذ لا يشهد الحق مجردًا عن المواد أبدًا. . " (الفصوص ص217) . وأظن ليس بعد هذا الكلام كلام، وليس بعد هذا البيان بيان، ولا يملك المسلم الذي عصمه الله من هذا التردي الخلقي والعقلي إلا أن يقول (يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك) . ويستطرد ابن عربي مقررًا هذا المعنى شارحًا له بمثل هذه العبارات: " فشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله. . ". وقائلًا أيضًا: " فمن أحب النساء على هذا الحد فهو حب إلهي ". وقائلًا بعد هذا أيضًا: صح عند الناس أني عاشق ** غير أن لم يعرفوا عشقي لمن (الفصوص ص218)

الفصل السادس: طريقة المتصوفة في الإعراب عن عقيدتهم الباطنية

الفصل السادس: طريقة المتصوفة في الإعراب عن عقيدتهم الباطنية مع بداية القرن الثالث الهجري ابتدأ المتصوفة بالتصريح بشيء من علومهم الباطنة فأنكر بعضهم على بعض، فهذا الجنيد يقول للشبلي: " نحن حبرنا هذا العلم تحبيرًا، ثم خبأناه في السراديب، فجئت أنت فأظهرته على رؤوس الملأ " فرد عليه الشبلي بقوله: " أنا أقول وأنا أسمع فهل في الدارين غيري " (التعرف على مذهب التصوف ص145) . وقول الشبلي هذا هو بدايات القول بوحدة الوجود. ثم ابتدأت جماعة من المتصوفة تصرح بشيء من هذا العلم الباطن الذي لم يكن في حقيقته إلا القول بالحلول، الفناء في ذات الله الذي تقول به العقيدة الهندية البرهمية، والقول بوحدة الوجود، وكان هذا في نهاية القرن الثالث الهجري وبداية القرن الرابع. وهذه طائفة من هذه الأقوال التي ظهرت على أفواه القوم، وكانت تخفي تحتها العقيدة الباطنة التي زعموا أنها في منتهى الكمال والرقي في سلم التعبد الإسلامي. أـ ذكر أبو نصر السراج الطوسي صاحب كتاب اللمع في التصوف، وهو الكتاب الذي نشره الدكتور عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور أن أبا حمزة الصوفي دخل دار الحارث المحاسبي فثغت (ثغاء الشاه: صوتها) شاة الحارث، فشهق أبو حمزة شهقة وقال: " لبيك يا سيدي "! ! فأنكر عليه الحارث المحاسبي، فقال له أبو حمزة: إن إنكارك علي يشبه أحوال المريدين المبتدئين " (اللمع في التصوف ص495) أي الذين لم يصلوا بعد إلى التحقق من وحدة الوجود. ب ـ وهذا أبو الحسين النوري يسمع كلبًا يعوي فيقول: " لبيك

وسعديك " (اللمع ص492) . ج ـ وهذا الشبلي أيضًا يقول لأحد زواره عند خروجه: " أنا معكم حيثما كنتم، أنتم في رعايتي وفي كلاءتي ". د ـ وكان من أجرأ هؤلاء الذين صرحوا بهذا العلم الباطن الحلاج وقبل أن أستشهد بشيء من أقواله أحب أن أقدم هذه المقدمة عنه: نشأ الحلاج في أواخر القرن الثالث الهجري، وهو من أهل بيضاء فارس، ونشأ بواسط بالعراق، وصحب الجنيد الذي يعتبر سيد الطائفة الصوفية، وأبا الحسين النوري والفوطي، وقد قتل ببغداد، وصلب يوم الثلاثاء السادس من ذي القعدة سنة تسع وثلاث مئة وعموم المتصوفة راضون عنه، وإن كان قد رده بعضهم بعد قتله خوفًا على أنفسهم، ولكن ذكر الأقدمون منهم أقواله في كتبهم دون ذكر اسمه، بأن يقولوا مثلًا: قال أحد الكبراء (وهذا صنيع أبي بكر محمد الكلاباذي الذي ألف الموسوعة الصوفية الثانية بعد اللمع، وهو كتابه (التعرف على مذهب أهل التصوف) وكذلك صنيع السراج الطوسي صاحب الموسوعة الصوفية الأولى (اللمع) وقد استشهد بكلام الحلاج في أكثر من خمسين موضعًا من كتابه مصدرًا القول بقوله: قال بعضهم، أو قال القائل) (انظر مقدمة كتاب الحلاج ص11) ولم يستطيعوا التصريح باسمه، وهذا صنيع أكبر رجلين كتبا في التصوف في القرن الرابع، وهما أبو بكر محمد الكلاباذي المتوفي سنة 380هـ ـ وأبو نصر السراج الطوسي المتوفي سنة 378هوقد بالغت طائفة منهم بالثناء عليه حتى قال عنه محمد بن خفيف: " الحسين بن منصور عالم رباني " (طبقات الصوفية ص308) . وفي القرن الخامس وما يليه ابتدأ المتصوفة يصرحون باسمه، ويذكرون مقالاته، ويشهدون بفضله وسعته، فقد أشاد به أبو حامد الغزالي، وابن عربي، وعبد الغني النابلسي وكل المتصوفة منذ القرن الخامس. وأما في العصر الحديث فقد كتب فيه طه عبد الباقي سرور كتابًا بعنوان: (الحلاج شهيد التصوف الإسلامي) وقد جعله في هذا الكتاب ثائرًا على الفساد، ومصلحًا إجتماعيًا، وداعية إسلاميًا إلى الله سبحانه وتعالى.

وبعد هذه المقدمة أعود إلى سياق البحث، وهو أن أجرأ الناس في إظهار العقيدة الباطنية للفكر الصوفي كان الحسين بن منصور الحلاج، وهذه الجرأة هي التي أدت بعد ذلك إلى القتل والصلب، ولقد كان هناك من المتصوفة من هم على عقيدته ولكنهم كتموا. يقول الشبلي: " كنت أنا والحسين بن منصور شيئًا واحدًا، إلا أنه أظهر وكتمت " (الحلاج لطه عبد الباقي سرور) ، ومن أبرز ما صرح به الحلاج عن المعتقد الباطن للتصوف ما أنقله بنصه عن كتاب الطواسين للحلاج (نشر لويس ماسنيون) قال الحلاج (طاسين الأزل والالتباس) . " ما صحت الدعاوي لأحد إلا إبليس وأحمد، غير أن إبليس سقط عن العين، وأحمد كشف له عن عين العين، قيل لإبليس: اسجد، ولأحمد: انظر. هذا ما سجد وأحمد ما نظر، ما التفت يمينًا ولا شمالًا، {ما زاغ البصر وما طغى} [النجم: 17] . أما إبليس فإنه دعا لكنها ما رجع عن حوله، وأحمد ادعى ورجع عن حوله بقوله: (بك أحول وبك أصول) وبقوله: (يا مقلب القلوب) وقوله: (لا أحصي ثناء عليك) . وما كان في أهل السماء موحد مثل إبليس، حيث إبليس تغير عليه العين، وهجر الألحاظ في السير، وعبد المعبود على التجريد، ولُعن حين وصل إلى التفريد، وطُلب حين طلب المزيد. فقال له: (اسجد) قال: " لا غير " قال له: (وإن عليك لعنتي) قال: " لا غير "، مالي إلى غيرك سبيل، وإني محب ذليل، قال له: (استكبرت) قال: لو كان لي معك لحظة لكان يليق بي التكبر والتجبر، وأنا الذي عرفتك في الأزل (أنا خير منه) لأن لي قدمة في الخدمة، وليس في الكونين أعرف مني بك، ولي فيك إرادة، إرادتك في سابقة، إن سجدت لغيرك، فإن لم أسجد لا بد من الرجوع إلى الأصل، لأنك خلقتني من النار، والنار ترجع إلى النار، ولك التقدير والاختيار، تيقنت أن القرب والبعد واحد! ! " ثم يستطرد الحلاج قائلًا: " التقى موسى وإبليس على عقبة الطور، فقال له: يا إبليس ما منعك

عن السجود؟ قال: منعني الدعوة بمعبود واحد، ولو سجدت له لكنت مثلك، فإنك نوديت مرة واحدة. . انظر إلى الجبل. . فنظرت، ونوديت أنا ألف مرة أن أسجد فما سجدت لدعواي بمعناي، فقال: تركت الأمر؟ قال: كان ذلك ابتلاء لا أمرًا، فقال له: لا جرم قد غير صورتك. قال: يا موسى ذا وذا تلبيس، والحال لا يعول عليه فإنه يحول، لكن المعرفة صحيحة كما كانت وما تغيرت وإن الشخص قد تغير. فقال موسى: الآن تذكره؟ فقال: يا موسى الفكرة تذكر، أنا مذكور وهو مذكور، ذكره ذكري، وذكري ذكره، وهل يكون الذاكرون إلا معًا. خدمتي الآن أصفى، ووقتي أخلى، وذكري أجلى، لأني كنت أخدمه في القدم لحظي، والآن أخدمه لحظِّه ". ثم استطرد بعد ذلك قائلًا: " وفي أقوال عزازيل (زعم المتصوفة أن إبليس كان يسمى عزازيل قبل أن يطرد من رحمة الله) أحدها أنه كان في السماء داعيًا وفي الأرض داعيًا: في السماء دعي الملائكة بربهم المحاسن، وفي الأرض دعا الإنس بربهم القبائح، لأن الأشياء تعرف بأضدادها ". وفي هذه الصياغة الطويلة لمعصية إبليس تستطيع الآن أن تلم بملامح العقيدة الصوفية الباطنية، ونستطيع أن نلخصها على النحو التالي: 1 ـ أعبد الناس في كلام الحلاج هو إبليس والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وانظر كيف ينظمها عدو الله في سلك واحد، ثم يستدل على ذلك بأن إبليس أمر بالسجود فلم يسجد، والذي منعه من ذلك هو مشيئة الرب فيه وجبر الرب له. وتحققه أن لا موجود إلا هو، وأن القرب والبعد من الرب واحد، لأنه ليس على الحقيقة إلا الله، وأن إبليس قد كان داعيًا للملائكة إلى المحاسن، بإقامة الله له، وفي الأرض إنما هو داع إلى القبائح، وما هو في الحقيقة إلى قائم بمراد الرب ومشيئته. وأما الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحاشاه ـ فقد أصبح أعبد الناس عند الحلاج ـ وهذا

من التلبيس ـ لأن الله أمره في السماء أن ينظر إليه، فما نظر، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {ما زاغ البصر وما طغى} [النجم: 17] . والآية في أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها، وأن البصر ما زاغ ولا طغى، وهو ينظر إلى جبريل (فانظر كيف حول الحلاج الآية عن معناها، وأن المقصود بها هو: ما زاغ البصر أي ما نظر إلى الله، لأنه ليست هناك ذات مستقلة لله ـ تبارك وتعالى ـ في زعم الصوفية، بل ذاته هي ذات موجوداته. انظر هذا في كلام النابلسي الآتي) . وأما الدليل الآخر الذي ساقه الحلاج، فهو قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (اللهم بك أصول وبك أجول وبك أقول) (هو جزء محرف من حديث رواه أبو داود في (سننه 2632) عن أنس بن مالك، ولفظه: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا غزا قال: (اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أجول، وبك أصول، وبك أقاتل) وصحح إسناده أستاذنا الألباني في (تخريج الكلم الطيب ص75) كما رواه ببعض اختصار الترمذي (2/278) وحسنه، وأحمد (6/16)) والمعنى الذي هو مراد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو معنى لا حول ولا قوة إلا بالله، فلا يستطيع أحد أن يفعل خيرًا، أو يوفق إلى خير إلا بحول الله وقوته ولكن الحلاج قلب هذا المعنى إلى عقيدته الخبيثة في الرب جل وعلا، وجعل معناها أن الرسول قال ذلك لأنه كان متحققًا أنه هو هو، أي أنه هو الله! ! . وأما موسى في نظر الحلاج فلم يكن على معرفة بحقيقة الرب، ولذلك قال له: {رب أرني أنظر إليك} [الأعراف: 143] . ولقد كان من الجرأة بمكان أن يظهر الحلاج دعوته وعقيدته على هذا النحو من الصراحة والوضوح، ولقد كان يعاصره عدد كبير من المتصوفة في العراق وإيران والشام، ولكنهم قنعوا بالإشارات والرموز إلى عقيدتهم، ولم يقنع هو إلا بالتصريح، وقد سمى هو هذا المقام الذي وصل إليه مقام الفتوة، وفي ذلك يقول: " تناظرت مع إبليس وفرعون في الفتوة (الفتوة التي عناها الحلاج هنا هي الجرأة في إظهار معتقده، وأستاذه في ذلك كما يقول إبليس وفرعون! !) ، فقال إبليس: إن سجدت سقط

عني اسم الفتوة، وقال فرعون: إن آمنت برسوله سقطت من منزلة الفتوة، وقلت أنا أيضًا: إن رجعت عن دعواي وقولي سقطت من بساط الفتوة! ! وقال إبليس: أنا خير منه، حين لم ير غيره غيرًا، وقال فرعون: {ما علمت لكم من إله غيري} [القصص: 38] . حين لم يعرف في قومه من يميز بين الحق والباطل! ! وقلت أنا: إن لم تعرفوه فاعرفوا آثاره، وأنا ذلك الأثر، وأنا الحق لأني ما زلت أبدًا بالحق حقًا! ! فصاحبي وأستاذي إبليس وفرعون، وإبليس هدد بالنار وما رجع عن دعواه، وفرعون أغرق في اليم وما رجع عن دعواه، ولم يقر بالواسطة أبدًا، وإن قتلت أو صلبت أو قطعت يداي ورجلاي، ما رجعت عن دعواي " (الطواسين ص52) . وهذا الذي وصل الحلاج إليه قد كان عقيدة لكثير من معاصريه، ولكنهم لم يستطيعوا التصريح به بنفس الوضوح والصراحة التي صرح بها الحلاج، يقول الشبلي: " كنت والحسين بن منصور شيئًا واحدًا إلا أنه أظهر وكتمت " وقد مرّ بك هذا القول. ولقد حاول الحلاج أن ينقل عموم المتصوفة إلى موقفه، ولذلك لم يفتأ يحركهم نحو هذه الغاية، ففي الرسالة القشيرية أنه لقي إبراهيم الخواص فقال له الحلاج: ماذا صنعت في هذه الأسفار، وقطع هذه المفاوز؟ قال: بقيت في التوكل أصحح نفسي عليه. فقال الحلاج: أفنيت عمرك في عمران باطنك، فأين الفناء في التوحيد! ! ويدخل الحلاج مسجد بغداد، ويرى الجنيد يتكلم على المنبر والجنيد سيد الطائفة في وقته فيقول له: يا أبا القاسم إن الله لا يرضى من العالم بالعلم حتى يجده في العلم، فإن كنت في العلم فالزم مكانك، وإلا فانزل، فنزل الجنيد ولم يتكلم على الناس شهرًا (أخبار الحلاج طبع ماسنيون) . وهذا القول من الحلاج للجنيد إنكار شديد عليه، وأمر له بأن يظهر ما يعتقده، وبأن يتحقق ظاهرًا فيما تحقق فيه باطنًا. وهذا معنى قوله: " فإن

كنت في العلم فالزم مكانك " أي إن كنت قد وصلت إلى حقيقة معتقد التصوف فالزم هذا المكان، وأظهر ما تعتقد. والحلاج هنا لم ينكر على الجنيد معصية شرعية ظاهرة، ولكنه أنكر عليه إظهاره من علوم الشريعة للعامة ما يخالف ما وصل إليه من عقيدة التصوف، ولذلك احتجب عن الناس شهرًا لا يكلمهم، ولم يستطع الجنيد أن يظهر ما أظهر الحلاج، لأنه كان يعلم نهاية الإفصاح عن حقيقة المعتقد. ولذلك روى أبو عبد الرحمن السلمي في طبقاته في ترجمة الشبلي أن الجنيد قال للشبلي " لو رددت أمرك إلى الله لاسترحت " فقال الشبلي: " يا أبا القاسم لو ردّ الله أمرك إليك لاسترحت " فقال الجنيد: " سيوف الشبلي تقطر دمًا! ! " (الطبقات ص343) . والمعنى الذي عناه الجنيد في كلامه للشبلي أنه إذا استسلم لأمر الله، واسترسل معه كما يقولون: التصوف الاسترسال مع الله (يعني المتصوفة بهذا القول أن لا يكون لك اختيار وفعل، بل تترك مشيئة الرب تسيرك، وهذا معناه هدم الإرادة البشرية وترك الوسائل كلها) أي ترك الاختيار معه لاسترحت وهدأت. فرد الشبلي عليه بعكس العبارة وبالمعنى نفسه! ! ومعنى عبارة الشبلي أن الله قد جبر العبد وأقامه بما هو فيه، ولم يردّ أمره إليه، بل جعل أمر العبد إليه هو، ولو رد أمر العبد إلى نفسه لاستراح، واختار ما يحلو له. وكانت عبارة الشبلي للدلالة على المعنى أصرح من عبارة الجنيد، ولذلك قال الجنيد ردًا على ذلك: سيوف الشبلي تقطر دمًا. أي أنه بهذا التصريح عن معتقده سيعرض نفسه للقتل! ! ومما يدل على ذلك أن الحلاج عندما أحضر للقتل والصلب جمعت المتصوفة، وأرغموا على النيل من الحلاج وسبه، وكان ممن أحضروا لذلك الشبلي، وضعوا المنديل في رقبته، وسحبوه إلى الحسين بن منصور الحلاج

طريق الوصول إلى العلم الباطن

ليلعنه فتأبى من ذلك، فأمره الجند بأن يذهب بنفسه أو يرسل من يلعن الحلاج، فأرسل امرأة متصوفة، وأمرها أن تقول للحلاج: إن الله قد ائتمنك على سر من أسراره فأذعته؛ فأذاقك طعم الحديد! ! (ماسنيون. وانظر نشرات الصوفية) . وهذه الروايات كلها تدل على أن أفراد الطائفة في القرن الثالث الهجري كانوا على علم باطني واحد قد تفاوتوا في إظهاره وإعلانه! ! طريق الوصول إلى العلم الباطن ولقد ظن كثير من الناس أن هذا العلم الباطني كان نتيجة للصلاح والتقوى، والمداومة على التسبيح والذكر، فداوم على هذا وسار في طريقهم زمانًا عله يظفر بما يظفرون به، ولكنه لم يصل إلى شيء، من هؤلاء من يحدثنا عنه أبو حامد الغزالي في كتابه الإحياء يقول (ج4 ص358) : " حكي أن شاهدًا عظيم القدر من أعيان أهل (بسطام) كان لا يفارق مجلس أبي يزيد البسطامي فقال يومًا: أنا منذ ثلاثين سنة أصوم الدهر ولا أفطر، وأقوم ولا أنام، ولا أجد في قلبي من هذا العلم الذي تذكر شيئًا، وأنا أصدق به وأحبه! فقال أبو يزيد: ولو صمت ثلاثمائة سنة، وقمت ليلها ما وجدت من هذا ذرة! ! قال: ولم؟ قال: لأنك محجوب بنفسك. قال: فلهذا دواء؟ قال: نعم. قال: قل لي حتى أعمله. قال: لا تقبله. قال: فاذكره لي حتى أعمل. قال: اذهب إلى المزين فاحلق رأسك ولحيتك، وانزع هذا اللباس، واتزر بعباءة، وعلق في عنقك مخلاة مملوءة جوزًا، واجمع الصبيان حولك، وقل. . كل من صفعني صفعة أعطيته جوزة، وادخل السوق، وطف الأسواق كلها عند الشهود وعند من يعرفك، وأنت على ذلك! ! فقال الرجل: سبحان الله، تقول لي مثل هذا؟ فقال أبو يزيد: قولك. . " سبحان الله " شرك! ! قال: وكيف؟ قال: لأنك عظمت نفسك، فسبحتها، وما سبحت ربك. فقال: هذا لا أفعله، ولكن دلني على غيره. فقال ابتدئ بهذا قبل كل شيء. فقال: لا أطيقه. فقال: قد قلت لك. . إنك لا تقبل. .! . "

والعجيب أن أبا حامد الغزالي يعقب على هذه القصة بقوله: فهذا الذي ذكره أبو يزيد هو جزاء من اعتل بنظره إلى نفسه. فهذا الرجل الصالح الذي صام دهره وأقام ليله، يرجو الوصول إلى علوم القوم، وما جاءه خاطر، ولا مرّ به هاتف، تعجب من هذا وشكا إلى أبي يزيد، فقال له: لن تصل إلى شيء لأنك محجوب بنفسك. ومعنى ذلك أنه يرى أنه القائم بالعبادة فيرى نفسه عابدًا لله، وعقيدة الصوفية تعتقد أن الله قد أقامك فيها، وأنه اختارها لك، وتلك إرادته، ولا إرادة لك معه، وبالمقابل لا بد أن تعتقد أن الله قد أقام العصاة في معاصيهم، والكفرة في كفرهم، وإبليس في إغوائه (كما مرّ بنا في كلام الحلاج) ، وكذلك أيضًا قال أبو يزيد لذلك الرجل عندما قال: سبحان الله: سبحان الله شرك. ثم قال له: كيف؟ قال: لأنك نزهت نفسك عن فعل السوء، ولم تنزه الله الذي يفعل السوء ويريده، ويقيم الناس فيه، فقد عظم الرجل نفسه في عقيدة أبي يزيد وطائفته عندما امتنع عن عمل يقوم الله به ويريده ويحبه! ! ولهذا أمر أبو يزيد البسطامي ذلك الرجل ليصل إلى هذه الحقيقة الصوفية أن يفعل بنفسه ذلك الفعل المرعب، وبهذه الوسيلة التي تعتبر مجاهدة في عرف التصوف سيتحقق يقينًا بهذا العلم الباطني، وهو أن الكون على هذا النحو مراد لله سبحانه، ولذلك قالوا: " أقام العباد فيما أراد "! ! ولا شك أن الخطأ في فهم قضية القضاء والقدر قد جرت البلايا والفتن على كثير من الناس، والعياذ بالله، والسبب في ذلك أنهم لم يستطيعوا أن يفرقوا بين علم الله الأزلي سبحانه وتعالى، وما سطره من مقادير الكون وفق هذا العلم، وأنه سبحانه يعلم ما سيكون كيف يكون، وبين الاختيار والمشيئة للعبد التي جعلها الرب ـ تبارك وتعالى ـ أساسًا ومناطًا للتكليف والحساب. فللعبد مشيئة خاصة يوقع بها الفعل الذي يريده، ولكنه لا يوقعه جبرًا على الله ورغمًا عنه " وسيأتي لقضية القضاء والقدر رسالة مستقلة إن شاء الله أرجو عون الله في إتمامها ". فالطاعة بتوفيقه وهدايته، والمعصية بإذنه سبحانه ومشيئته، إذ لا يقع في

ملكه إلا ما شاء، وهو سبحانه وتعالى القادر على منع الكافر من الكفر، والفاجر من الفجور، ولكنه الابتلاء والاختيار والتكليف: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا} [يونس: 99] ، وقد جعل سبحانه وتعالى الهداية حقًا عليه لمن جاهد في سبيلها، قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: 69] . وقال: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى} [الليل: 6] . وجعل سبحانه وتعالى الضلال أيضًا ثمرة للسعي في طريقه، والحيدة عن هدى الله. قال تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] . وقال تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} [الأنعام: 110] . وقال ـ عز وجل ـ: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانًا فهو له قرين} [الزخرف:] . وقال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} [الشورى: 30] . إلى آخر الآيات التي تدل على أن الرب ـ تبارك وتعالى ـ لا يعجل الشر ابتداء، ولكنه يعاقب به جزاء، وسبحانه وتعالى أن يبدأ الإنسان بالشر، تعالى ربنا عن ذلك علوًا كبيرًا. فهؤلاء لم يفهموا هذه العقيدة الشرعية التي بينها الله في كتابه أتم البيان، وشرحها رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غاية الشرح. ظنوا ـ وخابت ظنونهم ـ أن الشر والمعاصي والفجور مرادة الله ـ تبارك وتعالى ـ إرادة حب وقبول ورضى، فقالوا ما قالوا، ولم يعلموا أنها مرادة لله أن تقع في ملكه فقط، فليست تفعل من فاعليها رغمًا عن الله سبحانه وتعالى، وعجزًا عن دفعها ومنعها، وحاشاه ربنا سبحانه وتعالى عن ذلك، ولكنها إرادة وقوع، ومشيئة إذن وسماح، ووراء ذلك كله العقوبة لأهلها في الدنيا والآخرة، والمذمة واللعنة والطرد والإبعاد لأهلها، وحاشا الله أن ينسب هذا إليه [والشر ليس إليك] (هو جزء من حديث رواه مسلم في (صحيحه ـ 6/57 ـ 59 بشرح النووي) وأبو داود (760) وأحمد وغيرهم، وأوله: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا. .) وهو من أدعية استفتاح الصلاة المأثور عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ) .

أقول إن هؤلاء المتصوفة لما لم يفهموا هذه الحقيقة الشرعية، رأوا أن فعل الكفرة والفجرة موافق للرب في إرادته ومحبته، وكذلك قال الحلاج عن إبليس وفرعون: إنهما عرفا الحقيقة، وأنهما قائمان بأمر الله في ذلك، ولهذا ما سجد إبليس، وما آمن فرعون إلا بأنه هو الله، ولهذا أيضًا ما رجع هو عن قوله. والعجيب بعد هذا كله أن المتصوفة الذين جرهم سوء الفهم لقضية القضاء والقدر إلى هذه العقيدة الباطلة، والمعتقد السيء، زعموا أنهم وصلوا إلى هذا الفهم عن طريق الكشف والعلم اللدني والفيض الرحماني (العلم اللدني نسبة في زعمهم إلى قوله تعالى عن الخضر: {وعلمناه من لدنا علما} [الكهف: 65] . وهو بمعنى الفيض عندهم، ويعنون بكل ذلك انفتاح علم الغيب وحقائق الدنيا والآخرة عليهم! !) ، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي أوحى إليهم بهذا. وبعد أن قدس المتصوفة الأقدمون علمهم الباطن على هذا النحو، وأظهره بعضهم بذلك الوضوح، وجعلوا علم الشريعة المنزلة على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ علمًا خاصًا بالعوام، وجعلوا علمهم الباطني علمًا خاصًا بالخواص يتلقى رأسًا عن الله بطريق انكشاف حجاب الغفلة ـ في زعمهم ـ لم يكتف المتأخرون منهم بهذا التقسيم، بل غالوا إلى أن جعلوا علوم الشريعة مرحلة فقط لعلمه الباطني، وجزموا بأن من وقف عند علم الشريعة، وتقيد بظاهره فقط فلا ينجو من الآخرة، بل هو غافل عن دين محمد، شأنه شأن الكافرين. يقول الشيخ عبد الغني النابلسي (وهو كما ترجم له صاحب " الأعلام " من كبار العلماء المتأخرين، له مصنفات كثيرة جدًا في علوم الشريعة والتصوف والأدب، ولد ونشأ في دمشق، وتوفي بها سنة 1143هـ ـ يقول فيكتابه: " الفتح الرباني والفيض الرحماني ص133 ") : " فكل من اشتغل بالعلوم الظاهرة، ولم يعتقد أن وراء ما هو ساع في تعلمه من الفقه والحديث والتفسير حقائق وعلومًا باطنة، رمزها الشارع تحت ما أظهر من هذه الرسوم هي مقصودة له، لأنها المنجية عند الله تعالى، فهو غافل

الذنب عند النابلسي

عن الله تعالى، جاهل بدين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ داخل تحت قوله تعالى: {يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخر هم غافلون} " [الروم: 7] . ا. هـ. وقد ساغ في كلام الشيخ كما ترى أن يستدل بالآية السابقة على أن علوم الشريعة من الفقه والحديث والتفسير، العلم بها كالعلم بظاهر الحياة الدنيا. والغفلة بها عن العلم الباطني كالغفلة بعلوم الدنيا وزخرفها عن حقائق الآخرة! ! . الذنب عند النابلسي لقد كتب الشيخ عبد الغني النابلسي هذا الكلام في كتابه الفتح الرباني، وقد قال في مقدمته: إنه يكتب كتابه هذا مترجمًا عن الإلقاء الرحماني له مباشرة، وبغير وساطة، فهو وحي أو إلهام أو كشف حسب ما يدعيه، قال النابلسي في تعريف الذنب حسب العلم الباطني: " اعلم أن الذنب له حقيقة متى علمت علم سره، ومتى علم سره علم جهره، وله حال ومقام، وله أقسام، وأنا أتكلم لك الآن في ذلك بحسب الوارد ترجمة عن الإلقاء الرحماني ". فالنابلسي عندما قرر في (ص133 من كتابه الفتح الرباني) أن علوم الشريعة لا تنجي وحدها من عذاب الآخرة، بل لا بد أن يدخل المتعلم إلى الحقائق والعلوم الباطنية التي ذكرت في الشريعة بالرمز فقط، ولم ينص عليها نصًا؛ وذلك لينجو من عذاب الله يوم القيامة، عندما قرر النابلسي كل ذلك فإنما قرره ترجمة عن الإلقاء الرحماني في زعمه، ولم يقرر ذلك إجتهادًا ورأيًا! ! ولعلك أخي القارئ تحب أن تقف على نماذج من هذا الإلقاء الرحماني على الشيخ عبد الغني النابلسي، لتعلم الحقيقة الباطنة التي أرادها الله، وأرادها رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في زعم القوم ـ والتي تكلم الله ورسوله عنها بطريق الرمز في زعمهم، والتي فهمها وعقلها، بل نزل الفيض الرحماني والفتح الرباني بها على الشيخ عبد الغني النابلسي! ! يقول الشيخ في بيان حقيقة الذنب: " وأما الذنب بحسب باطن الأمر الإلهي المسمى الحقيقة فهو: الموافقة للرب

سبحانه وتعالى في شيء مما أراد بنفسه من نفسه بعد وصول التبليغ عن نفسه بنفسه إلى نفسه، ويرجع ذلك إلى تعيين وجود العبد " ا. هـ. (ونفسه) هذه التي تكررت في العبارة خمس مرات هي مضمون وحدة الوجود، فالله نفسه هو المريد، وما أراد شيئًا بغيره، وإنما أراد بنفسه، والمبلّغ عنه هو الرسول، وهو الله نفسه في زعمهم، والمبلغ إليهم هم البشر، وهم الله نفسه أيضًا ـ في زعمهم ـ تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. وحتى لا يظن القارئ أن تفسيري هذا تجن على الرجل أنقل نص عبارة الشيخ النابلسي في تفسيره للفقرة السابقة. يقول: " ما ثم إلا ذات وصفات، وصفات صفات، وهي الأفعال، ومنفعلات وهي العالم فالأول هو المعبود، والثاني الموصل إليه وهو الوساطة، والثالث هو العابد، والرابع هو العائق والمانع، والأول مرتبة الله تعالى، والثاني مرتبة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ والثالث مرتبة المؤمنين، والرابع مرتبة الشيطان، وهذه الأربعة في الحقيقة شيء واحد، لكنه تنزل وتفصل، فظهرت له هذه الأطوار وتعددت وجوداته " (الفتح ص51) . فهذا شرح واضح لوحدة الوجود التي ينقلها الشيخ عبد الغني النابلسي عن شيخه الأكبر ابن عربي، فليس في الوجود عندهم إلا الله، وهذه الموجودات المشاهدة جميعها صفاته، تعددت وتنوعت لتعرب عن الصفات الكثيرة التي يتصف بها الرب في زعمهم، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. وهو حسبنا ونعم الوكيل. فالمعبود والرسول والمؤمنون والشياطين كلهم بنص النابلسي شيء واحد، ولذلك فالذنب عند النابلسي هو " الموافقة للرب سبحانه " وهذا راجع بنص كلامه إلى " تعين وجود العبد ". ويشرح النابلسي " تعين الوجود " هذا بقوله: فمن تعين عنده وجوده مع الله تعالى ظاهرًا أو باطنًا فقد أفحش، وبغى وقال ما لم يعلم (كذا! !) وذلك لأن التعينات في الوجود الحادث إنما هي

الفرق بين الصديق والزنديق

لبيان امتياز المحضرات الصفاتية، لتنفصل مجملاتها، وتبين كمالاتها، وليست المغايرة أمرًا مقصورًا، وإنما لزمت من ظهور حقائق بعض الصفات كالغفور والحليم والمنتقم بوساطة تحقق الذنب. قال الجنيد: ما انتفعت بشيء كانتفاعي بأبيات سمعتها، وأنا مار ببعض الطرقات منها: وإن قلت: ما ذنبي إليك؟ ** أجبتني: وجودك ذنب لا يقاس به ذنب (الفتح ص49) فالذنب عند النابلسي بمقتضى كلامه السابق هو أن يظن العبد أن له وجودًا مستقلًا عن وجود الله! ! ومن ظن ذلك فقد أفحش وبغى، وقال ما لم يعلم، واستدل على ذلك ببيت الشعر الذي سمعه الجنيد. ويبالغ النابلسي أكثر من ذلك، فيزعم أن حال الذنب هو القرب من الله، وليس البعد منه. ولذلك يقول بالنص: " فالمذنب في حال ذنبه أقرب إلى الله منه في حال طاعته "! ! الفرق بين الصديق والزنديق وقد أوضح النابلسي هذه العقيدة الباطنية أكثر من ذلك عندما عقد فصلًا مطولًا قارن فيه بين الزنديق والصديق، وكانت خلاصة هذا الفصل أن الزنديق من يرى أن كفره وفسقه صادر منه فقط، وأنه مستقل بهذا الكفر. وأما الصديق فهو من يرى أن كل أفعال العباد صادرة من الله سبحانه ـ تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا ـ وأن المؤمن والكافر والفاسق والبار ما هم جميعًا إلا مظاهر مختلفة لحقيقة الرب الموجود وحده، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} [الملك: 3] ، فالمؤمن عنده والكافر من خلق الله، ولا فرق بين هذا وذاك، ومن عرف هذه الحقيقة فهو الصديق، ومن جهلها وظن أن الكافر يصنع كفره، ويخلق فعله، ويستقل

بأمر نفسه فهو الزنديق! ! . ويحسن أن أنقل كلامه في هذه المسألة بنصه حتى تتضح صورة هذه العقيدة الباطنية وضوحًا لا شك فيه. يقول الشيخ النابلسي: " واعلم أن الأديان كلها التي في العالم بالنسبة إلى المتدينين بها من الخلق تنقسم إلى قسمين: دين واحد حق وهو الإسلام، وأديان جميعها باطلة، وهي ما عدا دين الإسلام. وأما بالنسبة إلى الخالق سبحانه وتعالى فجميع الأديان الباطلة والصحيحة مخلوقة له تعالى، وهو خالقها، وقد قال تعالى: {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه يرجعون} [آل عمران: 83] ، أي انقادوا إليه طائعين في حق المؤمنين، ومكروهين، لأنه لا خالق غيره، في حق الكافرين. فمن نظر إلى ما يظهر من كلا الفريقين، وقال: إن جميع ذلك صواب وحق فهو الزنديق، ومن لم ينظر إلى ما يظهر من كلا الفريقين، وإنما نظر إلى يد الله العليا التي فوق أيديهم جميعًا، واعتقد أن جميع ما يصدر منها صواب وحق فهو الصديق، والفرق بينهما دقيق. لا يدرك إلا بعناية من الله تعالى وتوفيقه. فربما يظهر الصديق في حلية الزنديق، وربما يظهر الزنديق في حلية الصديق، وموقع النظر واحد، وهو الخلق. فمن نظر إلى الخلق وقال: إنهم كلهم على الصواب: فإما أن ينظر إليهم من حيث صدورهم عن الصانع القديم، ويقول ذلك فهو الصديق. وإما أن ينظر إليهم من حيث ذواتهم ويقول ذلك فهو الزنديق. وسبب ذلك أن من نظر إليهم من حيث صدورهم عن الصانع القديم، فحكم بالتساوي بينهم، لأن الله تعالى يقول: {ما ترى في خلق الرحمن

من تفاوت} [الملك: 3] ، (انظر كيف قطع النابلسي هذا المقطع من الآية عن موضعه، فبدل معناه، وموضعه هكذا: {الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور} [الملك: 3] . والتفاوت المقصود هنا هو التفاوت في خلق السماوات والأرض، لا في فعل البشر، لأن كل عاقل يعلم أن فعل البشر متفاوت، فكم بين الإيمان والكفر من تفاوت! !) {الله خالق كل شيء} [الرعد: 18] ، فلا يكلف إلى الفرق والتمييز حينئذ، وهو صادق في حكمه بذلك التساوي، لأنه مأمور بالإيمان بذلك. وأما من نظر إليهم من حيث ذواتهم، وما هم عليه من الأحوال، فحكمه بالتساوي بينهم خطأ محض وجهل. قال تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون} [القلم: 35: 36] . وقال تعالى: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} [ص: 28] . وإنما يكلف إلى الفرق والتمييز حينئذ، وهو كاذب في حكمه بالتساوي بينهم، قد يشتبه كلام الصديق بالزنديق، والقصد هو الفارق، ويعرف ذلك من كلام آخر في موضع آخر كقول الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي (رضي الله عنه) من أبيات الفتوحات المكية: عقد البرية في الإله عقائدًا ** وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه ومراده جميع ما اعتقدوه من حيث صدور ذلك عن الصانع القديم، فإن جميع ذلك آثار دالة عليه تعالى، لا من حيث صدور ذلك عن المعتقدين لأنها من حيث هم دالة عليهم لا عليه، وعقيدة أهل الاختصاص فيها الغفلة عن الآثار، والنظر إلى المؤثر، يعلم ذلك في مواضع شتى في كلامه " (الفتح ص85 ـ 86) . وبهذا النقل المطول عن الشيخ النابلسي تتضح أمامنا الآن صورة العقيدة

الشعر المنسوب إلى ابن عربي

الباطنية التي سعى القوم إلى غرسها وبنائها، وأنها التحقق ـ في زعمهم ـ من أن الموجودات ما هي إلا مظاهر لحقيقة واحدة هي الله، وأن الأفعال لا تتفاضل ولا تتناقض إلا بالنظر إلى الخلق، وأما بالنظر إلى الله الفاعل الحقيقي ـ في زعمهم ـ فإنما هي شيء واحد يدل على ذات واحدة. وبهذه العقيدة هدموا جميع الأديان، وأبطلوا جميع الشرائع واستحلوا كل المحرمات، وهذا الذي أقرره هنا لا أقرره أيضًا استنباطًا واجتهادًا، وتحميلًا لألفاظ القوم ما لا تحتمل، فقد مر بك بيت الشعر المنسوب إلى ابن عربي عقد البرية في الإله عقائدًا ** وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه وقد فسره ابن عربي بأن من اعتقد بأن هناك دينًا واحدًا حقًا، وبقية الأديان باطلة فقد فاته خير كثير، لأنه آمن بجزء من الحقيقة، ولم ير الحقيقة كاملة، وهي أن كل هذه الأديان التي ظنها باطلة هي مرادة لله ـ تبارك وتعالى ـ بل هو خالقها وبارئها. وأصرح من هذا كله ما وصل إليه الشيخ النابلسي، وهو أن مقام الزهد المشهور في التصوف ما هو إلا مرحلة في الطريق الصوفي، وأما المرحلة النهائية في فهو ترك الزهد، والاستمتاع بالمقسوم على أتم وجه، وفي ذلك يقول النص: " وأما بالنظر إلى غير الله تعالى فهو اشتغال الروحانية بما يرد عليها من أسئلة الأكوان السائرة للكون الحق، والستر هو الكفر، وأصحاب هذا الاشتغال المذكور هم الزهاد الذين يزهدون في الأشياء، فإنهم لولا ملاحظتهم للأشياء وادعاؤهم بثبوتها ما زهدوا فيها، فقد استتر الحق عنهم بزهدهم في الأشياء، فكفروا كفرًا خفيًا، ولو عقلوا لما زهدوا في شيء، لأن الذي ليس لهم عدم، فكيف يزهدون في العدم وهو غير مقدور، والذي لهم لا بد أن يصيبهم، فلو زهدوا فيه، لما أمكنهم وعاندوا الأقدار فهم مشغولون بزهدهم عن الله تعالى، فمتى يتفرغون له تعالى؟ ولله در القائل:

تجرد عن مقام الزهد فلبي** فأنت الحق وحدك في شهودي أأزهد في سواك، وليس شيء** أراه سواك يا سر الوجود (الفتح الرباني ص134) . فانظر كيف نسب الكفر الخفي إلى الزهاد، لأنهم اشتغلوا بزهدهم في الأشياء، لأن الذي ليس لهم عدم، أي أن ما قدر لهم لا بد أن يكون. ولذلك يقول: " والذي لهم لا بد أن يصيبهم، فلو زهدوا فيه لما أمكنهم ". ولذلك رآهم النابلسي معارضين للأقدار، مشغولين بزهدهم عن الله ـ تبارك وتعالى ـ. . أحب أن أكرر هنا أن النابلسي ليس رجلًا مغمورًا جاهلًا، بل هو مقدم عند القوم، مستشهد بأقواله عند الجميع وبعضهم يعتذر عن مثل مقالاته هذه بأنه من الشطح، والشطح مغفور لهؤلاء، لأن ذلك من غلبة وجدهم وحبهم لمولاهم. وأقول: إذا كان ثم شطح مغفور عند الله، معذور صاحبه، فهو أن تصدر كلمة أو جملة في غلبة حال كما يقولون. أما أن يؤلف رجل مئتي كتاب، كلها على هذا النحو، وذلك يستغرق آلاف الساعات والأيام، فكيف يكون التأليف والتحقيق شطحًا وسكرًا؟ فافهم أخي المسلم هذه الحقيقة فإنها سهم قاتل لهذا الباطل. وبعد هذا الاستطراد أعود إلى السياق الأصلي، وهو أن القوم في نهاية مطافهم وصلوا إلى هدم الأديان، والتسوية بين الكفر والإيمان، بل وجعل مرتبة الزهد التي هي بداية للطريق الصوفي، ومرحلة من مراحله شركًا خفيًا بالله، لأن ذلك غيبة بالزهد عن الله تعالى. ولعل ظانًا يظن أن هذه العقيدة الباطنية التي وصل إليها كانت عقيدة نظرية فقط، ولم يكن لها واقع عملي في حياة القوم، وهذا الظن ساذج ومريض، بل إن القوم قد مارسوا هذه العقيدة الباطنية ممارسة واقعية، وقد جاءت ممارستهم الواقعية لهذه العقيدة شيئًا صارخًا لا يكاد العقل يصدق به. ولكن ماذا نفعل والحقيقة قد أصبحت أكبر من الخيال.

الفصل السابع: الحقيقة المحمدية في الفكر الصوفي

الفصل السابع: الحقيقة المحمدية في الفكر الصوفي يستحيل علينا أن نفهم ما يريده المتصوفة بقولهم (الحقيقة المحمدية) إلا بمعرفة عقيدتهم في الله. فالنظرية الصوفية الفلسفية قد وصلت في نهاية القرن الثالث إلى القول بأن الله هو هذا الوجود القائم المتجدد المتغير فهو السماوات والأرض والعرش والكرسي والملائكة والإنسان والحيوان والنبات وهو الأزل والأبد ـ تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا ـ وإن كانت عباراتهم تختلف أحيانًا فمرة يقولون: هو الروح الساري في الموجودات ويشبهون هذا السريان بأنه كرائحة الورد في الورد. ووجود الروح في الجسم الحي. وتارة يقولون نفس وجود الموجودات هو وجود الله فليس عناك اثنان في الوجود خالق ومخلوق بل المخلوق هو عين الخالق، والخالق هو نفس المخلوق، اعتقد بذلك ونشره في الناس كبار الصوفية من أهل الزندقة والإلحاد كابن عربي، والحلاج، والجيلي، وابن سبعين، ومن على شاكلتهم، وهؤلاء الصوفية أنكروا في كتبهم على من يشهد بأن الله سبحانه وتعالى هو الإله القائم بنفسه المستوي على عرشه البائن من خلقه والذي هو معتقد المسلمين في ربهم سبحانه وتعالى. وقد كان هذا المعتقد أيضًا هو معتقد بعض من نسب إلى التصوف ولذلك شدد ابن عربي عليهم النكير أيضًا وخطّأهم ونسبهم إلى القصور وعدم الفهم (اقرأ كتاب ابن عربي التجليات الذي يزعم فيه أنه التقى برجال التصوف السابقين في البرزخ وناقشهم في عقائدهم هذه في التوحيد وبين لهم خطأهم وعرفهم في النهاية أن لا موجود إلا الله، وأن الله والعبد شيء واحد، وأنهم أقروا جميعًا بذلك وكل ذلك في كتاب التجليات) . والمهم أن هؤلاء المتصوفة الذين نقلوا عقيدة وحدة الوجود عن الفلسفة الأفلاطونية واعتقدوها وجعلوها هي الحقيقة الصوفية وسر الأسرار وهي معتقد أهل الإسلام في زعمهم، نقلوا ما قاله هؤلاء الفلاسفة في نظرياتهم في بدء الخلق فقد قال الفلاسفة الأقدمون " إن أول شيء

بدأ في الخلق هو الهباء (أي الذرات) وإن أول موجود وجد هو العقل الأول وسموه (العقل الفعال) ، وأنه عن هذا العقل الأول نشأ العالم العلوي السماوات والكواكب ثم العالم السفلي. . إلخ. هذه النظرية الفلسفية القديمة جاء ابن عربي ونقلها هي نفسها إلى الفكر الصوفي ولكنه استبدل بدلًا من العقل الفعال عند الفلاسفة ما أسماه هو الحقيقة المحمدية فزعم أن أول الخلق كان هباء، ـ كلام الفلاسفة نفسه ـ وأن أول موجود هو " الحقيقة المحمدية " التي زعم ابن عربي أنها أول الموجودات وعلى حد تعبيره أول التعينات ـ أي أول عين تشكلت وتصورت من الذرات ـ يتطاول ابن عربي ويقول إن هذه (الحقيقة المحمدية) هي التي استوت على العرش الإلهي. فيجعل ما حدثنا الله سبحانه وتعالى به عن نفسه من أنه خالق الخلق، وأنه المستوي على العرش. . يلوي ابن عربي كل ذلك ويلبس على المسلمين وينقل لهم كلام الفلاسفة الملحدين في أسلوب جديد بغطاء إسلامي وآيات قرآنية فيقول إن ذات محمد هي أول ذات تكونت من الهباء وهي التي استوت على العرش الإلهي. ومن نور هذه الذات خلق الله الخلق جميعًا بعد ذلك فالملائكة والسماوات والأرض كل ذلك قد خلق من نور الذات الأولى وهي الذات المحمدية عند ابن عربي، والعقل الفعال في الفكر الفلسفي، وهكذا استطاع ابن عربي أن ينقل ترهات الفلاسفة وتخيلاتهم المريضة إلى دنيا المسلمين وعقائدهم بل جعل هذه العقيدة الإلحادية هي العقيدة الأساسية التي قام الفكر الصوفي كله بعد ذلك عليها، فإذا علمنا ماذا يعنيه المتصوفة المتفلسفون بوحدة الوجود وأن الله عندهم ليس ذاتًا يراها المؤمنون في الآخرة وتستوي على العرش، وإنما هو نفس الوجود بكل درجاته وتناقضاته، فالله عندهم هو عين وجود المَلَك والشيطان والإنس والجان، والحيوان والنبات، أقول إذا علمنا بعد ذلك ماذا يريد المتصوفة من قولهم بالحقيقة المحمدية المستوية على العرش وجعل النبي محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو المخلوق الأول قبل الأكوان جميعًا وهو الذي

استوى على العرش ومن نور النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خلق الله جميع الأكوان بعد ذلك السماوات والأرض والملائكة والإنس والجن وسائر المخلوقات. فأصبحت الحقيقة المحمدية ـ في زعمه ـ الصورة الكاملة المتجسدة للذات الإلهية التي لا ترى بذاتها، ولا تنفصل عن هذا الوجود. . فالنبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند ابن عربي ومشايخ التصوف الذين جاؤوا من بعده هو الله المتجلي على العرش. أو ـ قل ـ هو صورة الله المصغرة وهو الذي منه استمدت كل الموجودات وجوداتها وانفلقت عنه كل الأنوار وكل الأكوان وكل الموجودات. . وهو يعني أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو البذرة الأولى لكل موجود فكأنه بذرة لشجرة كان منها بعد ذلك الساق والفروع والأوراق والثمار والأشواك، فهكذا بدأ الوجود بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم خلق من نوره العرش والكرسي والسماوات والأرض وآدم وذريته وتفرع الخلق وتدرج بعد ذلك من المخلوقات التي خلقت من نور النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالموجودات كلها في عقيدة التصوف شيء واحد متفرع عن أصل واحد أو قل شجرة متفرعة عن بذرة واحدة. وإليك الآن نصوص عبارات هؤلاء الملاحدة الكافرين في هذه العقيدة الكفرية الزندقية: قال القاشاني شارح فصوص الحكم لابن عربي: " إن محمدًا أول التعينات التي عين به الذات الأحدية قبل كل تعين فظهر به ما لا نهاية من التعينات، فهو يشمل جمع التعينات. فهو واحد فرد في الوجود لا نظير له: إذ لا يتعين من يساويه في المرتبة، وليس فوقه إلا الذات الأحدية المطلقة المنزهة عن كل تعين وصفة واسم ورسم وحدّ ونعت، فله الفردية المطلقة، ومن هذا يعلم أن الاسم الأعظم لا يكون إلا له دون غيره من الأنبياء، ومن فرديته يعلم سر قوله: (كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين) كونه خاتم النبيين وأول الأولين وآخر الآخرين، ومن أوليته وجمعيته سر قوله: (أوتيت جوامع الكلم) وكونه أفضل الأنبياء فإنهم في التصاعد وسعة الاستعداد والمرتبة ينتهون إلى التعين الأول ولا يبلغونه، والتعين الأول هو محمد الذي يرجع إليه جميع التعينات فهو البرزخ بين الذات الأحدية وبين سائر الموجودات " (شرح القاشاني على الفصوص ص 266، 267) .

ومعنى أول التعينات أي أول موجود معين له ذات وجسمه وقبله لم يكن هناك أي ذات لا عرش ولا كرسي ولا سماوات ولا أرض. وقول القاشاني شارح الفصوص (وليس فوقه إلا الذات الأحدية المطلقة المنزهة عن كل تعين وصفة واسم ورسم وحد ونعت. . الخ) يعني أنه ليس فوق مرتبة الرسول شيء إلا الذات الإلهية التي لا توصف بأي صفة بتاتًا لأن ذات الله عنده مطلقة عن كل قيد ـ في زعمه ـ منزهة عن أن تكون ذاتًا معينة محدودة مثلًا كأن يقول لله وجه أو يد أو ساق، أو استوى على العرش، أو يأتي يوم القيامة لأن الذات الإلهية في العقيدة الصوفية هي المطلقة عن كل هذه القيود لأنها كل الموجودات. ويشرح ابن عربي نفسه عقيدته هذه بقوله: " بدء الخلق الهباء وأول موجود فيه الحقيقة المحمدية الرحمانية الموصوفة بالاستواء على العرش الرحماني وهو العرش الإلهي " (الفتوحات المكية ج1 ص152) . فالخلق في زعمه بدأ بالهباء أي الذرات وأول موجود وجد بذات قائمة محدودة هي ذات الرسول التي سماها الحقيقة المحمدية الرحمانية الموصوفة بالاستواء على العرش الرحماني وهو العرش الإلهي. وجاء بعد ابن عربي من شرح هذه العقيدة واستفاض فيها، قال أحمد بن مبارك السلجماسي في كتابه الأبريز فيما يرويه عن شيخه عبد العزيز الدباغ: " (وسمعته) رضي الله عنه يقول في قوله وانفلقت الأنوار أن أول ما خلق الله تعالى نور سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم خلق منه القلم والحجب السبعين وملائكتها ثم خلق اللوح ثم قبل كماله وانعقاده خلق العرش والأرواح والجنة والبرزخ أما العرش فإنه خلقه تعالى من نور وخلق ذلك النور من النور المكرم نور نبينا ومولانا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلقه أي العرش ياقوتة عظيمة لا يقاس قدرها وعظمها وخلق في وسط هذه الياقوتة جوهرة فصار مجموع الياقوتة والجوهرة كبيضة بياضها هو الياقوتة وصفارها هو الجوهرة ثم إن الله تعالى أمد تلك الجوهرة وسقاها بنوره ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجعل يخرق الياقوتة ويسقي الجوهرة فسقاها مرة

ثم مرة ثم مرة إلى أن انتهى إلى سبع مرات فسالت الجوهرة بإذن الله تعالى فرجعت ماء ونزلت إلى أسفل الياقوتة التي هي العرش ثم إن النور المكرم الذي خلق العرش إلى الجوهرة التي سالت ماء لم يرجع فخلق الله منه ملائكة ثمانية وهم حملة العرش فخلقهم من صفائه وخلق من ثقله الريح وله قوة وجهد عظيم فأمرها تعالى أن تنزل تحت الماء فسكنت تحته فحملته ثم جعلت تخدم وجعل البرد يقوى في الماء فأراد الماء أن يرجع إلى أصله ويجمد فلم تدعه الرياح بل جعلت تكسر شقوقه التي تجمد وجعلت تلك الشقوق تتعفن ويدخلها الثقل والنتونة وشقوق تزيد على شقوق ثم جعلت تكبر وتتسع وذهبت إلى جهات سبع وأماكن سبع فخلق الله منه الأرضين السبع ودخل الماء بينها والبحور وجعل الضباب يتصاعد من الماء لقوة جهد الريح ثم جعل يتراكم فخلق الله منه السماوات السبع ثم جعلت الريح تخدم خدمة عظيمة على عادتها أولًا وآخرًا فجعلت النار تزيد في الهواء من قوة حرق الريح للماء والهواء وكلما زندت نار أخذتها الملائكة وذهبت بها إلى محل جهنم اليوم فذلك أصل جهنم فالشقوق التي تكونت منها الأرضون تركوها على حالها والضباب التي تكونت منه السماوات تركوه على حاله والنار التي زندت في الهواء أخذوها ونقلوها إلى محل آخر لأنهم لو تركوها لأكلت الشقوق التي منها الأرضون السبع والضباب الذي منه السماوات السبع بل وتأكل الماء وتشربه بالكلية لقوة جهد الريح ثم إن الله تعالى خلق ملائكة الأرضين من نوره ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمرهم أن يعبدوه عليها وخلق ملائكة السماوات من نوره ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمرهم أن يعبدوه عليها، وأما الأرواح والجنة إلا مواضع منها فإنها أيضًا خلقت من نور وخلق ذلك النور من نوره ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأما البرزخ فنصفه الأعلى من نوره ـ صلى الله عليه وسلم ـ فخرج من هذا أن القلم واللوح ونصف البرزخ والحجب السبعين وجميع ملائكتها وجميع ملائكة السماوات والأرضين كلها خلقت من نوره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بلا وساطة وأن العرش والماء والجنة والأرواح خلقت من نور خلق من نوره ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم بعد هذا فلهذه المخلوقات أيضًا سقي من نوره ـ صلى الله عليه وسلم ـ أما القلم فإنه سقي سبع مرات سقيًا عظيمًا وهو أعظم المخلوقات بحيث إنه لو كشف نوره لجرم الأرض لتدكدكت

وصارت رميمًا وكذا الماء فإنه سقي سبع مرات ولكن ليس كسقي القلم وأما الحجب السبعون فإنها في سقي دائم وأما العرش فإنه سقي مرتين مرة في بدء خلقه ومرة عند تمام خلقه لتستمسك ذاته وكذا الجنة فإنها سقيت مرتين مرة في بدء خلقها ومرة بعد تمام خلقها لتستمسك ذاتها وأما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكذا سائر المؤمنين من الأمم السابقة ومن هذه الأمة فإنهم سقوا ثماني مرات الأولى في عالم الأرواح حين خلق الله نور الأرواح جملة فسقاه الثانية حين جعل يصور منه الأرواح فعند تصور كل روح سقاها بنوره ـ صلى الله عليه وسلم ـ. الثالثة يوم ألست بربكم فإن كل من أجاب لله تعالى من أرواح المؤمنين والأنبياء عليهم الصلاة والسلام سقي من نوره ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكن منهم من سقي كثيرًا ومنهم من سقي قليلًا فمن هنا وقع التفاوت بين المؤمنين حتى كان منهم أولياء وغيرهم. وأما أرواح الكفار فإنها كرهت شرب ذلك النور وامتنعت منه فلما رأت ما وقع للأرواح التي شربت منه من السعادة الأبدية والإرتقاآت السرمدية ندمت وطلبت سقيا فسقيت من الظلام والعياذ بالله. الرابعة عند تصويره في بطن أمه وتركيب مفاصله وشق بصره فإن ذاته تسقى من النور الكريم لتلين مفاصله وتنفتح أسماعها وأبصارها ولولا ذلك ما لانت مفاصلها. الخامسة عند خروجه من بطن أمه فإنه يسقى من النور الكريم ليلهم الأكل من فمه ولولا ذلك ما أكل من فمه أبدًا. السادسة عند التقامه ثدي أمه في أول وضعه فإنه يسقى من النور الكريم أيضًا. السابعة عند نفخ الروح فيه فإنه لولا سقي الذات بالنور الكريم ما دخلت فيها الروح أبدًا مع ذلك فلا تدخل فيها إلا بكلفة عظيمة وتعب يحصل للملائكة معها ولولا أمر الله لها ومعرفتها به ما قدر ملك على إدخالها بالذات ". انتهى. منه بلفظه (الأبريز ص224، 225) . وهذا الهذيان الكامل، والتخريف الكامل شرح لعقيدة الصوفية فيما يسمونه بالحقيقة المحمدية، وأنها الذات الأولى التي انطلقت منها بعد ذلك كل الذوات

والكائنات والموجودات. ويستطرد أحمد مبارك شارحًا عقيدة الصوفية فيما يسمونه بالحقيقة المحمدية فيقول أيضًا: " (وسمعته) ـ رضي الله عنه ـ يقول مرة أخرى إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإن سقوا من نوره لم يشربوه بتمامه بل كل واحد يشرب منه ما يناسبه وكتب له فإن النور المكرم ذو ألوان كثيرة وأحوال عديدة وأقسام كثيرة فكل واحد شرب لونًا خاصًا ونوعًا خاصًا، قال رضي الله عنه: فسيدنا عيسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ شرب من النور المكرم فحصل له مقام الغربة، وهو مقام يحمل صاحبه على السياحة، وعدم القرار في موضع واحد. وسيدنا إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ شرب من النور المكرم فحصل له مقام الرحمة والتواضع مع المشاهدة الكاملة؛ فتراه إذا تكلم مع أحد يخاطبه بلين، ويكلمه بتواضع عظيم، فيظن المتكلم أنه يتواضع له وهو إنما يتواضع لله ـ عز وجل ـ لقوة مشاهدته. وسيدنا موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ شرب من النور المكرم فحصل له مقام مشاهدة الحق سبحانه في نعمه وخيراته وعطاياه التي لا يقدر قدرها. وهكذا سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والملائكة الكرام والله أعلم " (الأبريز ص226) . ويقول كذلك: " (وسمعته) ـ أي شيخه عبد العزيز الدباغ ـ رضي الله عنه يقول إني لم أزل أتعجب من الوالي الذي يقول إنه يملأ الكون وذلك لأن للكون بابًا منه يقع الدخول إليه وهو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا يطيق مخلوق من المخلوقات أي يحمل نوره ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن عجز عن الباب فكيف يطيق غيره اللهم إلا أن يكون دخل من غير باب؛ يعني فيكون فتحه شيطانيًا ظلمانيًا، وهذا لا يملأ بيته فضلًا عن داره فضلًا عن شيء آخر. قال رضي الله عنه واعلم أن أنوار المكونات كلها من عرش وفرش وسماوات وأرضين وجنات وحجب وما فوقها وما تحتها إذا جمعت كلها وجدت بعضًا من نور النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن مجموع نوره ـ صلى الله عليه وسلم ـ لو وضع على العرش لذاب ولو وضع على

الحجب السبعين التي فوق العرش لتهافتت ولو جمعت المخلوقات كلها ووضع عليه ذلك النور العظيم لتهافتت وتساقطت وإذا كان هذا شأن نوره ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكيف يقول من يقول إنه يملأ الكون، فأين تكون ذاته إذا بلغت المدينة المنورة، وقربت من القبر الشريف. أم كيف تكون إذا تصاعدت نحو البرزخ وقربت من الموضع الذي فيه النور العظيم القائم بالروح الشريفة؟ أفتكون ذاته حاملة له والمخلوقات بجملتها عاجزة عنه أم يتخطى ذلك الموضع فلم يملأ الكون؟ والغرض أن الموضع المذكور آخذ من القبر الشريف إلى قبة البرزخ تحت العرش ولعله أراد بالكون ما بين السماء والأرض ما عدا موضع البرزخ الذي فيه نور المعظم فقلت ولعله أنه يملؤه من حيث النور أي يملؤه بنوره لا بذاته كالشمس التي سطعت على السماوات والأرض. فقال رضي الله عنه وما مراده إلا أنه يملؤه بنوره ولا يريد أنه يملؤه بذاته. ولكن أين نوره من نور المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن ذلك النور من النور المكرم بمنزلة الفتيلة في وسط النهار وقت الظهيرة. وهل يصح أن يقال إن تلك الفتيلة كسفت نور الشمس؟ فقلت ونور الشمس من النور المكرم بمنزلة الفتيلة فما باله ملأ الأكوان؟ فقال رضي الله عنه: لم يملأ الأكوان بمعنى أن النور المكرم ذهب بسببه واضمحل فكيف ونور الشمس إنما هو من نور أرواح المؤمنين الذي هو من نوره ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنما سبب ذلك أنا حجبنا عن مشاهدة النور المكرم كما حجبنا عن مشاهدة أنوار الأولياء فلو كشف الحجاب لكانت له أنوار من النور المكرم بمنزلة الفتائل وسط النهار ولم يظهر للشمس ولا لغيرها نورًا إلا كما يظهر للفتائل وسط النهار " (الأبريز ص230) . ا. هـ ويقول أيضًا في شرح قول الشاذلي (اللهم صل على من منه انشقت الأسرار وانفلقت الأنوار) . الباب السابع في تفسيره ـ رضي الله عنه ـ لبعض ما أشكل علينا من كلام الأشياخ ـ رضي الله عنهم ـ) فمن ذلك أنه شرح لنا رضي الله عنه بعض الألفاظ من صلاة القطب الكامل الوارث الواصل مولانا عبد السلام بن مشيش رضي

الله عنه فسمعته رضي الله عنه يقول في شرح قوله (اللهم صل على من منه انشقت الأسرار) حاكيًا عن سيد محمد بن عبد الكريم البصراوي رضي الله عنه أن الله تعالى لما أراد إخراج بركات الأرض وأسرارها مثل ما فيها من العيون والآبار والأنهار والأشجار والثمار والأزهار أرسل سبعين ألف ملك إلى سبعين ألف ملك إلى سبعين ألف ملك ثلاث سبعينات من الألوف فنزلوا يطوفون في الأرض؛ فالسبعون الأولى يذكرون اسم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومرادنا بالاسم الاسم العالي ما يأتي في شرح وتنزلت علوم آدم. والسبعون الثانية يذكرون قربه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ربه ـ عز وجل ـ ومنزلته ـ صلى الله عليه وسلم ـ منه. والسبعون الثالثة تصلي عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونوره ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الطوائف الثلاث فتكونت الكائنات ببركة ذكر اسمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحضوره بينها ومشاهدتها قربه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ربه ـ عز وجل ـ قال وذكروه على الأرض فاستقرت وعلى السماوات فاستقلت وعلى مفاصل ذات ابن آدم فلانت بإذن الله تعالى وعلى مواضع عينيه ففتحت بالأنوار التي فيها فهذا معنى قوله منه انشقت الأسرار. فقلت: فهذا معنى دلائل الخيرات وبالاسم الذي وضعته على الليل فأظلم وعلى النهار فاستنار وعلى السماوات فاستقلت وعلى الأرض فاستقرت وعلى الجبال فرست وعلى البحار ففجرت وعلى العيون فنبعت وعلى السحاب فأمطرت. فقال رضي الله عنه: نعم ذلك الاسم هو اسم نبينا ومولانا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فببركته تكونت الكائنات والله أعلم. قلت وقد سبق كلام سيدي أحمد بن عبد الله الغوث رضي الله عنه وقوله لمريده يا ولدي لولا نور سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما ظهر سر من أسرار الأرض؛ فلولا هو ما تفجرت عين من العيون ولا جرى نهر من الأنهار، وإن نوره ـ صلى الله عليه وسلم ـ يا ولدي يفوح في شهر مارس ثلاث مرات على سائر الحبوب فيقع لها الإثمار ببركته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولولا نوره ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أثمرت، ويا ولدي إن أقل الناس إيمانًا من يرى إيمانه على ذاته مثل الجبل وأعظم منه فأحرى غيره، وأن الذات تكل أحيانًا عن حمل الإيمان فتريد أن ترميه فيفوح نور النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليها فيكون معينًا لها على حمل الإيمان فتستحيله وتستطيبه " (الأبريز ص 222) . اه ـ. وصلاة ابن مشيش هذه يقول فيها

" اللهم صل على من منه انشقت الأسرار، وانفلقت الأنوار، وفيه ارتقت الحقائق وتنزلت علوم آدم بأعجز الخلائق، وله تضاءلت الفهوم فلم يدركه سابق ولا لاحق، فرياض الملكوت بزهر جماله مونقة، ووحياض الجبروت بفيض أنواره متدفقة، ولا شيء إلا هو به منوط، إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط " (أذكار الطريقة الشاذلية) . والحق أن هذه العبارات في وصف (الحقيقة المحمدية) حسب المفهوم الصوفي الفلسفي، قد يختلف بعضها عن بعض قليلًا ولكنها جميعها مجمعة على شيء واحد وهو أن الرسول هو أول موجود فمنهم من يقول نور الرسول هو أول موجود، ومنهم من يقول بل وأيضًا ذاته النورانية المستوية على العرش، وأن وجوده البشري في وقته إنما كان مجرد تعيين جديد، وتجسد جديد لذات الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبعض الصوفية أيضًا يجعل عين الرسول وذاته هي عين الله وذاته، وأنه ليس هناك حقيقة إلهية غير الحقيقة المحمدية ومن ذهب إلى ذلك عبد الكريم الجيلي وغيره، وبعضهم يفرق بين الذات الإلهية التي ليس لها تعين ذاتي ووجود منفصل عن الخلائق بل هي كل الموجودات بل هي في زعمهم الروح الخفي الساري في الموجودات. وأن هذه الذات الإلهية خلقت النبي محمدًا أولًا قبل المخلوقات جميعًا ثم خلقت المخلوقات بعد ذلك من نور ذات الرسول، وأن ذات الرسول هي المستوية على العرش الرحماني كما قال ابن عربي. ومنهم ولا سيما المتأخرون يجعل ذات الرسول والحقيقة المحمدية هي عين الحقيقة الإلهية، ويجعلون الرسول بصورته البشرية صورة كاملة أو هو أكمل صورة للحقيقة الإلهية. ويجعلون كذلك الصورة البشرية المحمدية هي إحدى الصور الممكنة للرسول، ويعتقدون أنه يتشكل كثيرًا في أي صورة يشاء وهذا نص عبارة عبد الكريم الجيلي في ذلك قال في الباب الستين: " اعلم حفظك الله أن الإنسان الكامل هو القطب الذي تدور عليه أفلاك

الوجود من أوله إلى آخره، وهو واحد منذ كان الوجود إلى أبد الآبدين، ثم له تنوع في ملابس ويظهر في كنائس (الإنسان الكامل للجيلي) ، فيسمى به باعتبار لباس، ولا يسمى به باعتبار لباس آخر، فاسمه الأصلي الذي هو له محمد، وكنيته أبو القاسم، ووصفه عبد الله، ولقبه شمس الدين، ثم له باعتبار ملابس أخر أسام، وله في كل زمان اسم ما يليق بلباسه في ذلك الزمان، فقد اجتمعت به ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو في صورة شيخي الشيخ شرف الدين اسماعيل الجبرتي، ولست أعلم أنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكنت أعلم أنه الشيخ، وهذا من جملة مشاهد شاهدته فيها بزبيد سنة ست وتسعين وسبعمائة، وسر هذا الأمر تمكنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من التصور بكل صورة، فالأديب إذا رآه في الصورة المحمدية التي كان عليها في حياته فإنه يسميه باسمه، وإذا رآه في صورة ما من الصور وعلم أنه محمد، فلا يسميه تلك الصورة، ثم لا يوقع ذلك الاسم إلا على الحقيقة المحمدية. ألا تراه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما ظهر في صورة الشبلي رضي الله عنه قال الشبلي لتلميذه أشهد أني رسول الله وكان التلميذ صاحب كشف فعرفه، فقال: أشهد أنك رسول الله، وهذا أمر منكور، وهو كما يرى النائم فلانًا في صورة فلان وأقل مراتب الكشف أن يسوغ به في اليقظة ما يسوغ به في النوم ولكن بين الكشف والنوم فرقًا، وهو أن الصورة التي يرى فيها محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في النوم لا يوقع اسمها في اليقظة على الحقيقة المحمدية، لأن عالم المثال يقع في التعبير فيه فيعبر عن الحقيقة المحمدية إلى حقيقة تلك الصورة في اليقظة، بخلاف الكشف فإنه إذا كشف لك عن الحقيقة المحمدية أنها متجلية في صورة من صور الآدميين، فيلزمك إيقاع اسم تلك الصورة على الحقيقة المحمدية، ويجب عليك أن تتأدب مع صاحب تلك الصورة تأدبك مع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما أعطاك الكشف أن محمدًا متصور بتلك الصورة، فلا يجوز لك بعد شهود محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها أن تعاملها بما كنت تعاملها به من قبل، ثم إياك أن تتوهم شيئًا في قولي من مذهب التناسخ، حاشا الله وحاشا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يكون ذلك مرادي، بل إن

رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ له من التمكين في التصور بكل صورة حتى يتجلى في هذه الصورة، وقد جرت سنته ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لا يزال يتصور في كل زمان بصورة أكملهم ليعلي شأنهم ويقيم مَيَلانَهُم فهم خلفاؤه في الظاهر وهو في الباطن حقيقتهم ". ا. هـ وأظن أنه قد وضح الآن حقيقة المعتقد الصوفي الفلسفي في النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحتى تتضح الصورة أمامنا أكثر من ذلك نجمل ما قدمناه فيما يلي، فنقول. . معتقد المتصوفة في النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ثلاث درجات: 1 ـ من يقولون بوحدة الوجود، وأن الله هو ذات الموجودات فيجعلون الرسول هو المخلوق الأول ومنه وعنه صدرت الموجودات جميعًا وهو الإله المستوي على العرش وهذا هو معتقد ابن عربي ومن على شاكلته. 2 ـ من يقولون إن نور الرسول هو أول موجود فعلًا ومنه انشقت الأنوار وخلق الخلق جميعًا لكن لا يقولون بأن ذات الرسول مستوية على العرش. 3 ـ من يقولون بأن نور الرسول أول موجود وهو أكرم الخلق ومن أجله خلق الله الكون جميعًا دون أن يصرحوا بأن العوالم قد خلقت من نوره، وإنما يقولون خلقت لأجله. هذا وبالرغم من أن الصوفية على هذه الدرجات الثلاث في الاعتقاد في النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنهم متفقون ومجمعون تقريبًا إلا ما شذ منهم أن ذات الرسول الذات التي منها تفيض كل العلوم وتنزل كل الرسالات، فالرسل لا ينزل عليهم الوحي إلا من الرسول ويعبرون عن ذلك بقولهم إن الرسل جميعًا والأولياء أيضًا لا تفيض ولا تنزل عليهم العلوم الإلهية إلا من ذات الرسول في الأزل والأبد أي قبل أن يوجد الرسول بذاته الترابية في الأرض، وبعد أن وجد ثم بعد أن خرجت ما يسمونه بذاته الترابية من هذه الأرض. . وهذا بالطبع هو حاصل اعتقادهم في أن الرسول أول موجود وأن العوالم من نوره، أو أن الكون خلق لأجله. وكذلك مفهوم المتصوفة ـ المعتدلين ـ منهم يعتقدون أن الرسول يعلم الغيب كله، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماوات. ولا شك أن المتصوفة الذين يعتقدون في مثل هذه العقائد في الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم

يتأثروا فقط بالفلاسفة في نظريتهم في الخلق وقولهم بالهباء، والعقل الأول أو العقل الفعال. . بل إنهم تأثروا أيضًا بما قاله النصارى في عيسى، ولا شك أن نظرية النصرانية في المسيح متأثرة بقول الفلاسفة أيضًا في العقل الفعال. ولقد استطاع المتصوفة نقل هذه النظرية بالرغم من غموضها الفلسفي، وصعوبة التدليل عليها بدليل منطقي يقبله العقل. وبمجافاة هذه النظرية عن عقيدة الإسلام الواضحة السهلة، أقول بالرغم من كل ذلك فإن المتصوفة استطاعوا أن يجعلوا هذه العقيدة هي عقيدة العوام والكثرة من المسلمين وذلك بصياغتها لعبارات سهلة، وفي شعر سلس يجري على الألسنة سريعًا كقولهم مثلًا: (لولاك ما خلقت الأفلاك) ! ! . . وكنت مرة أخطب في الحرم النبوي في نحو سنة 1381هـ ـ الموافقة 1960م تقريبًا مبينًا العقيدة الواجبة في الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقام إلي أحد الحجاج من كبار السن وقال لي: أليس يقول الله تعالى (لولاك ما خلقت الأفلاك) فقلت: له ليست هذه بآية من القرآن، ولا بحديث أيضًا واعتقادها شرك بالله! ! فانظر كيف جرى هذا المعتقد على ألسنة الناس بكلام مسجوع يظنه العامي قرآنًا وما هو بقرآن. فكيف إذا كان شعرًا من أمثال شعر البوصيري الذي سارت به الركبان كقوله: وإن من جودك الدنيا وضرتها ** ومن علومك علم اللوح والقلم وقوله: وكل آي أتى الرسل الكرام بها ** فإنما اتصلت من نوره بهم وهذا البيت يعبر عن معتقد الصوفية في أن علم الرسل كله من الرسول محمد مأخوذ من ذاته الأولى قبل أن تخلق ذاته الترابية كما يقولون. والبيت الأول يجعل الدنيا والآخرة نفحة من نفحات الرسول، وما سطره القلم ووعاه اللوح المحفوظ جزء وبعض من علوم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وكذلك وصفوا مثل هذه العقيدة في أذكار تقرأ صباحًا ومساءً لا أقول عشرات المرات بل يوجبون قراءتها أحيانًا على مريديهم آلاف المرات؛ نحو قولهم في

صلاة ابن مشيش: " اللهم صل على من منه انشقت الأسرار وانفلقت الأنوار وفيه ارتفعت الحقائق وتنزلت علوم آدم فأعجز الخلائق وله تضاءلت الفهوم فلم يدركه منا سابق ولا لاحق فرياض الملكوت بزهر جماله مونقة وحياض الجبروت بفيض أنواره متدفقة ولا شيء إلا وهو به منوط إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط صلاة تليق بك إليه كما هو أهله اللهم إنه سرك الجامع الدال عليك وحجابك الأعظم القائم لك بين يديك اللهم ألحقني بنسبه وحققني بحسبه وعرفني إياه معرفة أسلم بها من موارد الجهل وأكرع بها من موارد الفضل واحملني على سبيله إلى حضرتك حملًا محفوفًا بنصرتك واقذف بي على الباطل فأدمغه، وزج بي في بحار الأحدية وانشلني من أوحال التوحيد ". ا. هـ وكذلك لقولهم في مناجاة الرسول: " يا أول خلق الله يا نور عرش الله " ومثل هذه الكلمات كان وما زال المؤذنون في أماكن شتى من العالم الإسلامي يقولونها في المآذن قبل الآذان وبخاصة آذان الفجر. . فالعامي يفهم معنى عامًا من هذه الكلمات وأما الصوفي المتمرس القارئ أو المريد المترقي في سلم التصوف فإنه يظل يأخذ من هذه العقيدة حتى يتشربها أخيرًا وتنطبعفي نفسه ويظن ـ حقًا ـ أن الرسول هو أول موجود أو متعين ومنه انفلقت أنوار الوجود فكان العرش والكرسي والسماوات والأرض الملائكة والجن والإنس وأن الله ما خلق هذا الخلق إلا من أجله وحتى يستوي هو أي الرسول على عرش الكون ويكون كما قال ابن عربي قبة الكون. .! ! ولو أن المسلمين يقرءون القرآن ويفهمونه، ويتعلمون أحاديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويدرسون سيرته كما استشرت وانتشرت مثل هذه العقيدة الباطلة في أوساطهم لنجحوا في البعد عن البدع ولكن الصوفية كانوا قد أحكموا الطوق على المسلمين فزعموا أن القرآن كله أسرار وأن أسراره في الفاتحة، وأن سر الفاتحة في البسملة وسر البسملة في الباء وسر الباء في النقطة! ! ! ومن هذا الذي يستطيع أن يفتح نقطة الباء حتى يعلم أسرار القرآن، وكذلك جعلوا قراءة الحديث تبركًا فقط دون محاولة فهم لأن من حاول الفهم

لا بد أن يكون مجتهدًا ولا اجتهاد بعد الأئمة الأربعة. وجعل المتصوفة قراءة السير لا تعدو أن تكون ترديدًا لمنظومات ملئوها بالكفر والشرك والغلو والتغزل في عيون الرسول الكحلية، وخدوده الوردية، وقوامه الممشوق. . هكذا والله. . وأما سيرته وجهاده وحياته ومعاناته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنهم شغلوا الناس عن كل ذلك بهذه الترهات والخرافات، ولذلك ضاعت حقيقة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أوساط عامة المسلمين إلا من رحم الله، وحل مكانها هذه العقيدة الصوفية الكفرية. المعتقد الواجب في الرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسائر الرسل: من المعلوم أن الإيمان بالرسل من أركان الإيمان الستة كما جاء في حديث جبريل لما سأل النبي عن الإيمان قال: [أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى] (متفق عليه) ، وقد وصف الله الرسل في القرآن بأنهم بشر اختارهم لدعوة الناس إليه وأنهم كانوا يأكلون الطعام وكانوا يعالجون المعاش والسعي في الأرض كبقية البشر، ولم يكن أحد منهم يعلم من الغيب، أو يتصرف في الأكوان كما يشاء، أو يأتيه الطعام من الغيب وقتما يشاء إلا آية واحدة جعلها الله لعبده عيسى بعد تهديد ووعيد من الله بأن من يكفر بعد تنزل هذه الآية فإنه يعذبه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين كما قال تعالى: {إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين} [المائدة: 112 ـ 115] . وهكذا لم تكن هذه الآية والكرامة إلا علامة على الرسالة وصدق عيسى فيما دعا قومه إليه وأنه عبد الله ورسوله، لقد كانت سيرة الرسل وعلى رأسهم محمد ـ

صلى الله عليه وسلم ـ مبينة أنهم بشر قاسوا ما قاساه البشر من الآلام والأسقام والأوجاع والفتن والبلايا وتضرعوا إلى ربهم ودعوه، وخافوه، وأحبوه كذلك وطلبوا نصرته وعونه سبحانه وتعالى، وكان خاتمهم وخيرهم محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكمل الرسل في تحقيق عبودية الله سبحانه وتعالى على نفسه فقد قام من الليل حتى تفطرت قدماه، وأوذي بالله أشد الأذى، وأخرجه كفار مكة منها، وعاداه المنافقون في المدينة عداء شديدًا فسبوه أقذع السباب، ورموا زوجته بأشنع فرية، وقال قائلهم: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. .! ! . . وعاش ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الكفاف، وقالت عائشة رضي الله عنها " كان يأتي الهلال والهلال والهلال ثلاثة أهلة في شهرين ولا يوقد في أبيات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نار. .! ! قيل لها فما كان طعامكم؟ قالت الأسودان التمر والماء " (رواه البخاري) ، وربط رسول الله الحجر بل الحجرين على بطنه. . وجاع مع أصحابه وصبر معهم. . وكان في المرض يتألم ويوعك كما يوعك رجلان من المسلمين. . وحياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا تخفى فأموره أغلبها من المعلوم من الدين ضرورة. . وأشهر ذلك أنه لم يطلب من أحد أن يعظمه أو يعطيه حقًا لله فيسجد له أو يركع له، أو يقوم على رأسه أو يقوم لمقدمه كما قال أنس " كان أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحبونه وكانوا لا يقومون له لما يعلمون من شدة كراهته لذلك " ومعلوم كذلك أن الرسل لا يعلمون الغيب كما قال تعالى: {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون} [النمل: 65] . (اقرأ الفصل الخاص بذلك في باب الكشف الصوفي) ، وكذلك لم تكن كل دعواتهم تستجاب لهم فقد دعا نوح وشفع في ابنه قائلًا: {رب إن ابني من أهلي} [هود: 45] . فقيل له {يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين} [هود: 46] . ودعا إبراهيم لأبيه فلم يستجب له، وجاء في صحيح البخاري أن إبراهيم يلقى أباه آزر يوم القيامة وقد سربل بسربال من قطران وقد علت وجه آزر غبرة وقترة فيقول له إبراهيم: يا أبت ألم أقل لك لا تعصني. فيقول له آزر: يا بني الآن لا أعصيك. فينادي إبراهيم ربه قائلًا: ربي لقد وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون، وأي خزي أكبر من أبي

الأبعد، فيقال له يا إبراهيم إني حرمت الجنة على الكافرين. . وانظر تحت قدميك فينظر تحت قدميه فإذا هو بزيخٍ متلطخ بالدماء ـ والزيخ هو ذكر الضبع ـ فيؤخذ من قوائمه ويلقى في النار، وكذلك امرأة نوح وامرأة لوط كانتا كافرتين ولم ينفعهما القرب من الأنبياء، وأما النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد شفع في أبي طالب فلم يستجب الله له إلا بأن أخرجه من مكانه في النار إلى مكان آخر في ضحضاح من النار يغلي منه رأسه، وقال أيضًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ (استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنت أن أستغفر لها فلم يأذن لي) وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لابنته فاطمة (لا أغني عنك من الله شيئًا سليني من مالي ما شئت) . .! ! وقال أيضًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله) قالوا ولا أنت يا رسول الله. قال (ولا أنا ما لم يتغمدني الله برحمة منه وفضل) وكل هذه الأحاديث مما أخرجه أهل الصحيحين وما تضمنته هو من المعلوم في الإسلام ضرورة فإن الآيات القرآنية التي وصفت حال الرسل وافتقارهم إلى ربهم، ومعاتبته إياهم على مجرد فعلهم لخلاف الأولى كثير، كقوله لرسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئًا قليلًا إذًا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرًا} [الإسراء: 73 ـ 75] وكذلك قوله تعالى: {ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيمًا} [النساء: 113] وكذلك قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة: 43] . وقوله تعالى: {عبس وتولى أن جاءه الأعمى} [عبس: 1: 2] . وقوله تعالى: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} [الأحزاب: 37] . وأما الآيات التي يبين الله تعالى فيها فضله على عبده ورسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكثيرة جدًا يصعب حصرها وسردها في هذه المقام ومنها قوله تعالى: {ألم يجدك يتيمًا فآوى ووجدك ضالًا فهدى} [الضحى: 6: 7] . فكيف يقول تعالى {ووجدك

ضالًا فهدى} [الضحى: 7] . وتقول صوفية وجد محمد قبل الخلق جميعًا ومن نوره استمد جميع الأنبياء علومهم! ؟ ويقول تعالى أيضًا: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورًا نهدي به من نشاء من عبادنا} [الشورى: 52] . والمهم أن من قرأ القرآن وعلم شيئًا من الإسلام ودرس سيرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حصل العلم الضروري الذي لا يدافع بأن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو عبد الله ورسوله وأنه وجد يوم وجد على الأرض بشرًا كالبشر لا علم له بشيء مما كان في الملأ الأعلى كما قال تعالى: {قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرًا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} [ص: 67: 72] . (ص: 67 وما بعدها) ، فالرسول أمره الله أن يقول هنا: {ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون} [ص: 69] . والملأ الأعلى هم الملائكة عندما أمرهم الله بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس فكان بينه وبين الرب سبحانه وتعالى ما كان مما قصه على رسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومما لم يكن عن الرسول قبل بعثته وقبل نزول هذا الوحي أو في علم منه. . بل إن رسول الله عندما جاءه جبريل بالوحي ظنه شيطانًا وجاء أهله ترتعد فرائصه، وهو يقول زملوني وقال للسيدة خديجة رضي الله عنها: لقد خشيت على نفسي! ! وظن أن الذي أتاه في غار حراء شيطان من الذين ينزلون على الكهان والسحرة فلو كان جبريل مخلوقًا من نور الرسول كما زعمت المتصوفة لقال الرسول لجبريل عندما نزل إليه أهلًا بمن خلقه الله من نوري. ولم يكن شأن الرسول أمام جبريل كما كان حيث يأمره بأن يقرأ ما في يده من آيات ما أنا بقارئ. . فيضمه جبريل حتى تكاد أنفاس الرسول تنقطع ثم يرسله ويقول له مرة ثانية اقرأ ويفعل ذلك ثلاث مرات، وما كان ذلك إلا لإشعار الرسول أن ما يراه وما يسمعه ليس خيالًا ولا رؤيا منامية وإنما هو حق. . أقول لا شك أن من قرأ سيرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلم شيئًا يسيرًا من عقيدة الإسلام استحال

عليه الإيمان بما آمن به الصوفية في شأن الرسول، ولكن هؤلاء لأنهم تركوا الكتاب والسنة وراءهم ظهريًا وتركوا العقول أيضًا وراءهم وألقوها واتبعوا ما كتبه شياطين الإنس من الفلاسفة مما توهموه بعقولهم في قولهم بالهباء والهيولي والعقل الأول، والعلة، وواجب الوجود الذي لا يوصف بصفة ثبوتية وإنما يوصف بالصفة وضدها. . كالوجود والعدم، والحياة والموت، والفوق والتحت، وغير ذلك من هذه الأوهام والخرافات، والمتناقضات. أقول: عندما آمن فلاسفة التصوف بهذه الخرافات الإغريقية وتركوا الإسلام والعقل فإنهم خرجوا على الناس بهذه الخرافات وأدخلوا في الدين الإسلامي هذه الخزعبلات. والعجيب أنهم استطاعوا بفنهم الشيطاني أن يجعلوا عقيدتهم هذه وما سموه (بالحقيقة المحمدية) عقيدة العامة والدهماء من المسلمين الذين أحسنوا الظن برجال التصوف الذين لبسوا لهم مسوح الرهبان وأضمروا لهم عقائد الشيطان، وخرجوا على الناس بجلود الضأن، وقد أخفوا عنهم قلوب الذئاب. . وقد تذرع المتصوفة لنشر عقيدتهم فيما سموه (بالحقيقة المحمدية) أيضًا بحديث موضوع وهو (كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث) وذكره الشوكاني في الأحاديث الموضوعة ص326، وحديث آخر (كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد) ذكرها الحاكم وقال الصنعاني هو موضوع وكذا قال ابن تيمية. وعلى فرض صحة هذا الحديث الأخير فإنه لا شاهد فيه على عقائد الصوفية وإنما يعني أن الرسول قد قدر الله كونه نبيًا عندما خلق آدم. ولا شك أن الله قد قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما جاء في الحديث (إن أول شيء خلقه الله تعالى القلم وأمره أن يكتب كل شيء يكون) (رواه أبو يعلى والبيهقي وصححه الألباني وأخرجه في الصحيحة برقم133) . وبهذا يتضح لك أن ما ذكره الصوفية في عقائدهم عن (الحقيقة المحمدية) ما هو إلا هذيان وأقوال فلاسفة وكهان، وليس هو في شيء من دين الإسلام. وصلى الله على عبده محمد إمام أهل الإيمان.

الفصل الثامن: الخضر ـ عليه السلام ـ في الفكر الصوفي

الفصل الثامن: الخضر ـ عليه السلام ـ في الفكر الصوفي قصة الخضر ـ عليه السلام ـ التي وردت في القرآن في سورة الكهف، ووردت في السنة في البخاري وغيره، حرّف المتصوفة معانيها وأهدافها ومراميها وجعلوها عمودًا من أعمدة العقيدة الصوفية، فقد جعلوا هذه القصة دليلًا على أن هناك ظاهرًا شرعيًا، وحقيقة صوفية تخالف الظاهر، وجعلوا إنكار علماء الشريعة على علماء الحقيقة أمرًا مستغربًا (فقد أنكر موسى من قبل على الخضر وكان كل منها على شريعة خاصة) وجعل الصوفية الخضر مصدرًا للوحي والإلهام والعقائد والتشريع. ونسبوا طائفة كبيرة من علومهم التي ابتدعوها إلى الخضر، وليس منهم صغير أو كبير دخل في طريقهم إلا ادعى لقيا الخضر والأخذ عنه. ولما كان لهذه القصة هذا الدور العظيم في الفكر الصوفي فقد أحببت أن أجلي هذا الأمر وأوقف الإخوة القراء على حقيقة الأمر ولنبدأ أولًا بالقصة في القرآن والسنة: الخضر في القرآن الكريم قال تعالى: {وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبًا فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربًا فلما جاوزا قال لفتاه ءاتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبًا قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصًا فوجدا عبدًا من عبادنا آتيناه

رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علمًا قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدًا قال إنك لن تستطيع معي صبرًا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا قال ستجدني إن شاء الله صابرًا ولا أعصي لك أمرًا قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرًا فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئًا إمرًا قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرًا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرًا فانطلقا حتى إذا لقيا غلامًا فقتله قال أقتلت نفسًا زكية بغير نفس لقد جئت شيئًا نكرًا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرًا قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني ذكرًا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارًا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرًا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبًا وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانًا وكفرًا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرًا منه زكاة وأقرب رحمًا وأما الجدار

الخضر في السنة

فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحًا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرًا} [الكهف: 60: 82] . الخضر في السنة وقبل أن نتعرض لبعض ما جاء في هذه الآيات الكريمة بالشرح والتفسير نستعرض ما رواه الإمام البخاري ـ رضي الله عنه ـ في شأن هذه القصة. قال الإمام البخاري: باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام 1 ـ حدثنا عمرو بن محمد حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثني أبي عن صالح عن أبي شهاب أن عبيد الله بن عبد الله أخبره (عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس الفزاري في صاحب موسى، قال ابن عباس: هو خضر، فمر بهما أبي بن كعب، فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيّه، هل سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يذكر شأنه؟ قال نعم سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: [بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل فقال: هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ قال: لا. فأوحى الله إلى موسى بل عبدنا خضر، فسأل موسى السبيل إليه، فجعل له الحوت آية، وقيل له إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه، فكان يتبع الحوت في البحر، فقال لموسى فتاه: أرأيت إذا أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره. فقال موسى: ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصًا فوجدًا خضرًا، فكان من شأنهم الذي قص الله في كتابه) . 2 ـ حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار قال أخبرني سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس إن نوفًا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بن إسرائيل، إنما هو موسى آخر. فقال كذب عدو الله، حدثنا أبي بن كعب عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن موسى قام خطيبًا في بني

إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فقال له: بلى، لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال أي رب ومن لي به؟ ـ وربما قال سفيان؟ أي ربّ وكيف لي به؟ ـ قال تأخذ حوتًا فتجعله في مكتل، حيثما فقدت الحوت فهو ثم وربما قال: فهو ثمه ـ وأخذ حوتًا فجعله في مكتل ثم انطلق هو وفتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما، فرقد موسى واضطرب الحوت فخرج فسقط في البحر، فاتخذ سبيله في البحر سربًا، فأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار مثل الطاق ـ فقال هكذا مثل الطاق ـ فانطلقا يمشيان بقية ليلتهما ويومهما، حتى إذا من الغد قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا. ولم يجد موسى النصب حتى جاوز حيث أمره الله، قال له فتاه أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ سبيله في البحر عجبًا، فكان للحوت سربًا ولهما عجبًا، قال له موسى ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصًا ـ رجعا يقصان آثارهما ـ حتى انتهيا إلى الصخر، فإذا رجل مسجّى بثوب، فسلم موسى فرد عليه فقال: وأنّى بأرضك السلام، قال أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدًا. قال يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. قال هل أتبعك؟ قال: إنك لن تستطيع معي صبرًا، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا ـ إلى قوله ـ إمرًا. فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة كلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول. فلما ركبا في السفينة جاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، قال له الخضر يا موسى، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر. إذا أخذ الفأس فنزع لوحًا، قال فلم يفجأ موسى إلا وقد قلع لوحًا بالقدّوم، فقال له موسى: ما صنعت؟ قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئًا إمرًا. قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرًا؟ قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرًا. فكانت الأولى

من موسى نسيانًا، فلما خرجا من البحر مروا بغلام يلعب مع الصبيان، فأخذ الخضر برأسه فقلعه بيده هكذا ـ وأومأ سفيان بأطراف أصابعه كأنه يقطف شيئًا ـ فقال له موسى: أقتلت نفسًا زكية بغير نفس لقد جئت شيئًا نكرًا. قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرًا؟ قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرًا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما، فوجدا فيها جدارًا يريد أن ينقض مائلًا ـ أومأ بيده هكذا، وأشار سفيان كأنه يمسح شيئًا إلى فوق، فلم أسمع سفيان يذكر (مائلًا) إلا مرة ـ قال: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، عمدت إلى حائطهم، لو شئت لاتخذت عليه أجرًا. قال هذا فراق بيني وبينك، سأنبئك بتأويل ما تستطع عليه صبرًا، قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (وددنا لو أن موسى كان صبر فقص الله علينا من خبرهما) . قال سفيان: قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (يرحم الله موسى لو كان صبر يقص علينا من أمرهما) . وقرأ ابن عباس: أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا. وأما الغلام فكان كافرًا وكان أبواه مؤمنين. ثم قال لي سفيان: سمعته منه مرتين وحفظته منه. قيل لسفيان قبل أن تسمعه عن عمرو أو تحفظه من إنسان؟ فقال ممن أتحفظه؟ ورواه أحد عن عمرو غيري؟ سمعته منه مرتين أو ثلاثًا وحفظته منه. 3 ـ حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني أخبرنا ابن المبارك عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: [إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء] قال الحموي قال محمد بن يوسف بن مطر الفربري حدثنا علي بن خشرم عن سفيان بطوله. . فقه القصة كما وردت في الكتاب والسنة: ومن هذا العرض الكامل لنصوص القصة في القرآن وفي صحيح البخاري نستخلص الفوائد التالية: 1 ـ أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يؤدب نبيه موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي قال جوابًا عن سؤال (لا أعلم على الأرض أعلم مني) ! ! إن كان يجب أن يرد علم ذلك إلى الله

سبحانه وتعالى، فأراه الله جل وعلا أن هناك عبدًا لا يعلمه موسى هو على علم من علم الله لا يعلمه موسى وكان من أجل ذلك هذا اللقاء بين موسى والخضر. 2 ـ أن الخضر بعد أن تم لقاؤه بموسى أخبره أن علم الخضر وعلم موسى بجوار علم الله سبحانه لا شيء وأنهما لم ينقصا من علم الله إلا كما شرب العصفور من ماء النهر. 3 ـ أن الشريعة التي كان عليها الخضر لم تكن في حقيقتها مخالفة للشريعة التي عليها موسى، وإنما كان يخفى على موسى فقط الخلفية التي من أجلها فعل الخضر ما فعله، ولذلك فإن الخضر عندما بين لموسى الأسباب التي دفعته إلى خرق السفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار لم يستنكر موسى شيئًا من ذلك لأن هذا كله سائغ في الشريعة، فإتلاف بعض المال لاستنقاذ بعضه جائز فلو وكلت مثلًا رجلًا على عمل لك ثم جاء لصوص أو ظلمه قطاع طريق ليستولوا على المال كله ولم يجد هذا الوكيل وسيلة لدفعهم إلا بأن يدفع لهم بعض المال ويتركوا بعضه لما كان ملومًا شرعًا، ولا يلام ممن وكله بل يستحسن فعله، وما فعله الخضر بالنسبة إلى السفينة لا يعدو ذلك فهو إنما أفسد السفينة فسادًا جزئيًا لتظهر لأعوان ذلك الملك الظالم أنها غير صالحة فيتركوها وبذلك تسلم من الغصب، ولا شك أن ما فعله الخضر في حقيقته إحسان لأصحاب السفينة لأن الله أطلعه على شيء من المستقبل في أن ذلك الملك الظالم سيصادر السفن لأمر ما كما هو حال كثير من الرؤساء والملوك الظلمة يصادرون وسائل النقل أحيانًا إما لمصالحهم أو لمصلحة عامة. . فما فعله الخضر بالنسبة إلى السفينة موافق للشرع الإلهي تمامًا في كل دين وملة وليس مخالفًا للتشريع، وإنكار موسى في أول الأمر ناشئ من أنه لم يعرف الخلفية الغيبية التي كان الله قد أطلع عليها الخضر بوحي من عنده. وأما قتل الغلام فهو كذلك سائغ في الشريعة إذا كان هذا الغلام سيكون ظالمًا لوالديه، مجبرًا لهما على الكفر وكان هذا مما علمه الله مستقبلًا، وأطلع عليه الخضر، فكان قتله أيضًا سائغًا، وقد جاءت الشريعة بقتل الصائل المعتدي. حقًا إن الشريعة لا تأمر بقتل الصائل إلا إذا باشر العدوان،

والطفل هنا لم يباشر العدوان بعد، ولكن القتل هنا بأمر الله سبحانه وتعالى الذي يعلم ما سيكون، وقد كان هذا منه سبحانه وتعالى رحمة بعبدين من عباده صالحين أراد الله جل وعلا أن لا يتعرضا لفتنة هذا الولد العاق فيتألما ألمين، الألم الأول أنه ولدهما وعقوق الأولاد شديد على قلوب الآباء، والثاني أنهما قد يبلغان الكفر ويتعبان في التمسك بالإيمان وهذا عذاب آخر، فجمع الله سبحانه وتعالى لهما عذابًا واحدًا فقط وهو فقد الولد، وفيه خير لهما ولا شك لأن صبرهما، أيضًا على فقده فيه خير لهما. فلما علم الله ذلك، وأطلع الخضر عليه، ونفذ هذا بأمر الله كان ذلك كله موافقًا للشريعة التي عليها موسى وعليها محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعليها سائر الأنبياء. ولذلك لما قيل لابن عباس على هذه الحادثة: أيجوز أن نقتل الأولاد؟ . . قال: إذا علمت منهم ما علم الخضر فافعل. . أي إن ذلك سائغ في الشريعة ولكن أين من يطلعه الله على الغيب كما أطلع الخضر ـ عليه السلام ـ. وأما مسألة بناء جدار لقوم بخلاء لم يبذلوا القرى (بكسر القاف) والضيافة الواجبة، فإن ذلك من باب مقابلة الإساءة بالإحسان، وهذا خلق من أخلاق الشريعة الإسلامية والمسيحية واليهودية ففي القرآن {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} [فصلت: 34] . وفي الإنجيل (أحسنوا إلى من أساء إليكم وباركوا لأعينكم) ، وقال تعالى فيما أوحاه لموسى {وقولوا للناس حسنًا} [البقرة: 83] ، وما فعله الخضر هو من باب الإحسان إلى قوم قدموا الإساءة. ثم إن إحسانه لهذين الغلامين لم يتأت منهما إساءة وكان أبوهما رجلًا صالحًا وهم في قرية ظالمة بخيلة ولو هدم جدار بيتهم لانكشف كنزهم ولاستولى عليه هؤلاء القوم البخلاء، فلا شك أن ما فعله الخضر من بناء الجدار هو عين ما تأمر به كل شرائع الأنبياء التي أمرت بالفضل والإحسان، ورعاية اليتامى وحفظ حقوقهم. . فأي شيء يستغرب مما فعله الخضر، وأي حقيقة اطلع عليها الخضر تخالف ظاهر شريعة كان عليها موسى بل ما فعله الخضر موافق تمامًا لشريعة موسى

ولشريعة عيسى ولشريعة محمد ولكل شرائع الله المنزلة، ولم يقل الخضر أو يفعل شيئًا يخالف ما كان عليه الأنبياء صلوات الله عليهم، وإنما فقط أطلعه الله على بعض أسرار المقادير ففعل ما فعل من الحق الذي لا تنكره الشرائع بناء على هذه الأخبار والأنباء التي أطلعه الله عليها. وباختصار لم يفعل الخضر شيئًا مخالفًا لشريعة موسى فافهم هذا جيدًا وتمسك به. 4 ـ وجود الخضر ـ عليه السلام ـ على دين وشريعة غير شريعة موسى كان أمرًا سائغًا وسنة من سنن الله قبل بعثة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن النبي كان يبعث إلى قومه خاصة، ولذلك كان موسى رسولًا إلى بني إسرائيل فقط، ولم يكن رسولًا للعالمين، ولذلك لما سلم موسى ـ عليه السلام ـ على الخضر قال الخضر: وأنّى بأرضك السلام. قال له موسى أنا موسى. قال الخضر: موسى بني إسرائيل! ؟ قال: نعم. . أي أنت مبعوث إلى بني إسرائيل ومنهم، ولذلك لم تكن شريعة موسى لازمة للخضر ولجميع الناس في زمانه، وأما بعد بعثة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه لا يجوز شرعًا أن يكون هناك من هو خارج عن شريعته، لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسول للعالمين، فلا يسع الخضر ولا غيره أن يتخلف عن الإيمان به واتباعه ولذلك فلا وجود بتاتًا للخضر وأمثاله بعد بعثة الرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ. 5 ـ لا شك أن ما فعله الخضر فعله عن وحي حقيقي من الله وليس عن مجرد خيال أو إلهام لأن قتل النفس لا يجوز بمجرد الظن، ولذلك قال الخضر: وما فعلته عن أمري. . فلم يفعل إلا عن أمر الله الصادق ووحيه القطعي. ومثل هذا الأمر والوحي القطعي قد انقطع بوفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا وحي بعده، ومن ادعى شيئًا من ذلك فقد كفر لأنه بذلك خالف القرآن الذي يقول الله فيه: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليمًا} [الأحزاب: 40] . وقال أيضًا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (وختم بي النبيون فلا نبي بعدي) [رواه مسلم] .

من بيان الحقائق السالفة تتضح لنا الصورة الحقيقية لقصة الخضر ـ عليه السلام ـ والاعتقاد الواجب فيه حسب الكتاب والسنة. ولكن المتصوفة جعلوا من هذه القصة شيئًا مختلفًا تمامًا. فقد زعموا أن الخضر حي إلى أبد الدهر، وأنه صاحب شريعة وعلم باطني يختلف عن علوم الشريعة الظاهرية، وأنه وليّ وليس بنبي، وأن علمه علم لدني موهوب له من الله بغير وحي الأنبياء وأن هذه العلوم تنزل إلى جميع الأولياء في كل وقت قبل بعثة الرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبعد بعثته، وأن هذه العلوم أكبر وأعظم من العلوم التي مع الأنبياء، بل وعلوم الأنبياء لا تدانيها ولا تضاهيها، فكما أن الخضر وهو وليّ فقط في زعمهم كان أعلم من موسى فكذلك الأولياء من أمة محمد هم أعلم من محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن محمدًا عالم بالشريعة الظاهرة فقط، والولي عالم بالحقيقة الصوفية، وعلماء الحقيقة أعلم من علماء الشريعة، وزعموا كذلك أن الخضر يلتقي بالأولياء ويعلمهم هذه الحقائق ويأخذ لهم العهود الصوفية، وأن الحقائق الصوفية تختلف عن الحقيقة المحمدية ولذلك فلكل ولي شريعته المستقلة فما يكون معصية في الشريعة كشرب الخمر والزنا واللواط، قد يكون حقيقة صوفية وقربة إلى الله حسب العلم الباطني، وكذلك في أمر العقائد ومسائل الإيمان فلكل ولي كشفه الخاص، وعلمه الخاص اللدني الذي قد يختلف عن الوحي النبوي. . وهكذا جعل المتصوفة من قصة الخضر بابًا عظيمًا لإدخال كل أنواع الخرافات والزندقة والجهل والإسفاف. .، بل بلغ الهذيان وحده عندهم حيث يوجد من زعم منهم أن الخضر لا يصلي لأنه على شريعة خاصة! ! ومنهم من زعم أن الخضر يصلي ولكن على المذهب الحنفي! ! ولكن صوفيًا آخر يزعم أنه رأى الخضر يصلي ولكن على المذهب الشافعي! ! بل وأكثر من ذلك زعموا أن الخضر هو الذي يلقنه أذكار الطريقة الإدريسية والسنوسية. وهكذا أصبح الخضر الصوفي هذا ألعوبة عظيمة، ولم يكتفوا بذلك بل جعلوا في كل مكان في الأرض تقريبًا مكانًا زعموا أن الخضر جلس فيه أو رآه صوفي عنده، ولذلك أصبح له في كل أرض من أراضي الإسلام مقام ومزار،

أول من افترى القصة الصوفية للخضر

تذبح فيه الذبائح، وتقدم فيه القرابين، وينتفع بذلك الكذابون والغشاشون. باختصار لقد تحول الخضر إلى قصة خرافية كبيرة أشبه بقصة ما يسمونه بالسوبرمان الذي يطير في كل مكان، ويلتقي بالأصدقاء والخلان في كل البلدان، ويشرع للناس ما شاء من عبادات وقربات، ويلقن الأذكار وينشئ الطرق الصوفية، ويعمد الأولياء والأقطاب، ويولي من يشاء، ويعزل من يشاء، وما عليك إذا أردت لقاء الخضر إلا أن تذكر مجموعة من الأذكار فيأتيك الخضر في الحال، ويبشرك بما تشاء من البشارات، ويجعلك وليًا من الأولياء، ويعطيك علومًا لدنية لم يعلمها الرسل أنفسهم ولا خطرت لهم على بال. ولنذهب معًا في جولة مع الفكر الصوفي وخرافاته حول قصة الخضر أول من افترى القصة الصوفية للخضر يبدو أن أول من افترى القصة الصوفية للخضر هو محمد بن علي بن الحسن الترمذي المسمى بالحكيم والمتوفي في أواخر القرن الثالث الهجري ـ فالترمذي هذا يقول في كتابه ختم الولاية ـ (وهذا الكتاب بنظري هو أخطر كتاب صوفي على الإطلاق) يقول في جوابه عن علامات الأولياء: " وللخضر ـ عليه السلام ـ قصة عجيبة في شأنهم وقد عاين شأنهم في البدء ومن وقت المقادير فأحب أن يدركهم، فأعطى الحياة حتى بلغ من شأنه أنه يحشر مع هذه الأمة وفي زمرتهم، حتى يكون تبعًا لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو رجل من قرن إبراهيم الخليل، وذي القرنين، وكان على مقدمة جنده، حيث طلب ذو القرنين عين الحياة ففاتته وأصابها الخضر، في قصة طويلة. وهذه آياتهم وعلاماتهم. فأوضح علاماتهم ما ينطقون به من العلم وأصوله. قال له قائل: وما ذلك العلم؟ قال: علم البدء، وعلم الميثاق، وعلم المقادير، وعلم الحروف. فهذه أصول الحكمة وهي الحكمة العليا. وإنما يظهر هذا العلم عن كبراء

الأولياء، ويقبله عنهم من له حظ من الولاية " (ختم الولاية ص362) وفي هذا النص يزعم مجرد زعم بلا أدنى دليل أو علم أن الخضر هذا عاين منذ بدء الخليقة أمور الأولياء وعرفهم منذ كتابه المقادير (انظر) وأحب ـ في زعم الترمذي ـ أن يدرك هؤلاء الأولياء، فأعطى الحياة حتى يبلغ أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ. . وأما هو أي الخضر فكان في قرن إبراهيم أي وجد في زمانه. . وزمن ذي القرنين. . فانظر هذا الجهل والتخريف والإفتراء. . الذي لا يقوم على أدنى دليل إلا الكذب والبهتان. . ثم يستطرد في بهتانه فيزعم أن ذا القرنين كان يحارب ويسافر ليصل إلى عين الحياة التي من شرب منها فلا يموت أبدًا فلم يستطع الوصول إليها ولكن الخضر وصل إليها. . فانظر هذا الكذب والتخريف. وهذا بالطبع منقول بعضه من تخريف اليهود وافتراءاتهم أن آدم لما خلقه الله في الجنة أكل من شجرة المعرفة فأصبح كالله يعلم الخير والشر، ثم خاف الله منه أن يأكل من شجرة الحياة فيحيا أبدًا ولا يموت فلما خاف الله من ذلك طرده من الجنة من أجل ذلك. . (انظر التوراة الإصحاح الثالث) . ولقد لفق الترمذي من هذه القصص الخرقاء قصته عن الخضر التي تلقفها الصوفية فيم بعد وزادوا عليها ما شاؤوا. والمهم هنا أنه زعم كل هذه المزاعم وأن الخضر حي أبدًا وأنه قاتل مع ذي القرنين. . ولسنا ندري أين كان ما دام أنه حي يرزق إلى آخر الحياة. أين كان عن شهود غزوة بدر وأحد والخندق والمواقع، ولماذا لم يشارك في فتح القادسية واليرموك، ولماذا لم يلتق بأبي بكر وعمر، ولم يتشرف قبل ذلك برؤيا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما دام أنه حي أبدًا واطلع على جميع الأولياء منذ البدء. . بل ولماذا لم ينزل ولم يلتق إلا بالكذابين الضالين أمثال هذا الترمذي الذي لم يتنبأ له إلا امرأته التي تنزل عليها الوحي حسب زعمه وبشرته بأنه سيكون من شأنه كذا وكذا إلى أن يكون خاتم الأولياء كما كان محمد خاتم النبيين! ! والترمذي الذي هذا هو شأنه يذكر أيضًا من صفات أوليائه المزعومين أنه

الخضر يصلي على المذهب الشافعي

تظهر علي أيديهم الآيات كطي الأرض، والمشي على الماء، ومحادثة الخضر ـ عليه السلام ـ الذي زعم أيضًا أن الأرض تطوي له برها وبحرها، سهلها وجبلها، يبحث عن الأولياء شوقًا إليهم (ختم الولاية ص361) . ومنذ ذلك الوقت الذي افترى فيه من افترى هذه الفرية على الخضر ـ عليه السلام ـ سواء كان الترمذي نفسه هذا أو هو ناقل عمن قبله. . أقول سواء كان هذا أو هذا فإن المتصوفة بدأوا ينسحبون الخرافات حول قصة الخضر وإليك بعضًا من هذه الخزعبلات والخرافات: الخضر يصلي على المذهب الشافعي من أطرف القصص ما ذكره أحمد الفاروقي السرهندي في كتابه المنتخبات أنه رأى الخضر وإلياس عليهما السلام حضرا عنده في حلقة الدرس وأن الخضر قال له إنهما من عالم الأرواح وأنهما يتشكلان بما شاءا من الصور. . وأنه أي السرهندي هذا سأل الخضر هل تصلون بمذهب الشافعي فقال له الخضر لسنا مكلفين بالشرائع! ! ولكن لأن قطب الزمان الشافعي فنحن نصلي وراءه على مذهبه الشافعي. . ويعلن السرهندي على ذلك فيقول إن كمالات الولاية مختصة بالمذهب الشافعي، وأما كمالات النبوة فهي من اختصاص المذهب الحنفي! ! ولذلك عندما ينزل عيسى بن مريم فإنه يصلي ويعمل بالمذهب الحنفي! ! وإليك نص أحمد السرهندي في هذه الخرافات قال: المكتوب الثاني والثمانون والمئتان إلى الملا بديع في بيان ملاقاة الخضر وإلياس عليها السلام وبيان نبذة من أحوالهما الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى قد مضت مدة من استفسار الأصحاب عن أحوال الخضر على نبينا عليه الصلاة والسلام. ولما لم يكن للفقير اطلاع على أحواله كما ينبغي كنت متوقفًا في الجواب فرأيت اليوم في حلقة الصبح أن الإلياس والخضر عليهما السلام حضرا في صورة الروحانيين فقال

الخضر حنفي وليس شافعيا

الخضر بالإلقاء الروحاني: نحن من عالم الأرواح قد أعطى الحق سبحانه أرواحنا قدرة كاملة بحيث تتشكل وتتمثل بصورة الأجسام ويصدر عنها ما يصدر عن الأجسام من الحركات والسكنات الجسمانية والطاعات والعبادات الجسدية. فقلت له في تلك الأثناء: أنتم تصلون الصلاة بالمذهب الشافعي. فقال نحن لسنا مكلفين بالشرائع، ولكن لما كانت كفاية مهمات قطب الدار مربوطة بنا وهو على مذهب الإمام الشافعي نصلي نحن أيضًا وراءه بمذهب الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ فعلم في ذلك الوقت أنه لا يترتب الجزاء على طاعتهم بل تصدر عنهم الطاعة والعبادة موافقة لأهل الطاعة ومراعاة لصورة العبادة وعلم أيضًا أن كمالات الولاية موافقة لفقه الشافعي وكمالات النبوة موافقة لفقه الحنفي فعلم في ذلك الوقت حقيقة كلام الخواجة محمد بارسا قدس سره حيث ذكر في الفصول الستة نقلًا أن عيسى عليه وعلى نبينا السلام يعمل بعد نزوله بمذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه رضي الله عنه فوقع في الخاطر في ذلك الوقت أن نستمد بهما وأن نطلب منهما الدعاء فقال إذا كانت عناية الحق سبحانه شاملة لحال الشخص فلا مدخل لنا هناك وكأنهم أخذوا أنفسهم من البين. وأما إلياس على نبينا وعليه الصلاة والسلام فلم يتكلم في ذلك الوقت أصلًا والسلام (المنتخبات من المكتوبات لأحمد الفاروقي ص91 طبع تركيا) . الخضر حنفي وليس شافعيًا ويبدو أن الكشف السابق لما يسمونه بالعالم الرباني أحمد السرهندي الذي أراد به التنقص من المذهب الشافعي وعلاء منزلة المذهب الحنفي وذلك أنه جعل المذهب الحنفي للأنبياء، والمذهب الشافعي للأولياء. . أقول يبدو أنه لم يطلع على كشف الشعراني الذي زعم أن الخضر كان حنفيًا ولم يكن شافعيًا حيث ذكر في كتاب معارج الألباب عن بعض شيوخه أنه ذكر له أن الخضر ـ عليه السلام ـ كان يحضر مجلس فقه أبي حنيفة في كل يوم بعد صلاة الصبح يتعلم منه الشريعة فلما مات (أي أبو حنيفة) سأل الخضر ربه أن يرد روح أبي حنيفة

إلى قبره حيث يتم له علم الشريعة وأن الخضر كان يأتي إليه كل يوم على عادته يسمع منه الشريعة داخل القبر وأقام على ذلك خمس عشرة سنة حتى أكمل علم الشريعة (معارج الألباب ص44) . فانظر أي تخليط وكذب سمج، فهذا الخضر المزعوم أين هو من تعلم الشريعة على يد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم يزعمون أنه كان حيًا ذلك الوقت ولماذا لم يتتلمذ على الخلفاء الراشدين وهم أعلم الناس بالشريعة. . ولقد قال أبو حنيفة نفسه: دعوا قولي لقول أصحاب رسول الله فإنهم كانوا أعلم بالتنزيل! ! فإذا كان أبو حنيفة يأمرنا أن نترك قوله لقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقول أصحابه فكيف يترك الخضر المزعوم تعلم الشريعة عن الرسول وأصحابه وينتظر حيًا حتى يأتي أبو حنيفة ليتعلم منه الشريعة. . ثم أي تلميذ بليد هذا الخضر الصوفي المزعوم حتى يمكث مع أبي حنيفة كل حياته ولا يستطيع أن يتعلم علمه. . ويدعو الله أن يظل أبو حنيفة حيًا في قبره ليستكمل الدراسة ويستمر في التردد على القبر يوميًا لمدة خمس عشرة سنة ليتعلم علم أبو حنيفة فضلًا عن عشرات السنين قبل ذلك! ! ثم كيف يكون الخضر هو ممد الأولياء ومعلمهم وهو بهذه البلادة وقلة الحفظ! ! لقد فات الذين يفترون هذه القصص كل هذه الأمور، ولكن لأنهم لم تكن لهم عقول سليمة فإنهم كذبوا مثل هذا الكذب السمج. ورحم الله الإمام الشافعي القائل: " لا أرى أن رجلًا يتصوف أول النهار حتى يكون أحمق في آخره ". . وقال: " لا أرى أن رجلًا يصاحب الصوفية أربعين يومًا فيعود إليه عقله أبدًا ". وهؤلاء لا شك أنهم كانوا كذلك حمقى مجانين ذهبت عقولهم ولم ترجع إليهم أبدًا. والعجيب أن مثل هذه الخرافات تظل تسري وتجري فقد زعم الحصفكي

الخضر يعلم الأذكار الصوفية

الحنفي في مقدمة كتابه الدر المختار أن الخضر أودع أوراق المذهب الحنفي في نهر جيحون إلى وقت نزول عيسى ـ عليه السلام ـ حتى إذا نزل أخذ هذه الصحائف وتعلم منها المذهب الحنفي حتى يحكم به في آخر الزمان! ! الخضر يعلم الأذكار الصوفية الخضر الصوفي المزعوم يكاد يكون في كل ميدان من ميادين التصوف، فهو صاحب الكشف وهو نقيب الأولياء، وهو آخذ العهود، وهو مرشد الأنام، وهو معلم الأذكار. يقول أحمد بن إدريس: " اجتمعت بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اجتماعًا صوريًا ومعه الخضر ـ عليه السلام ـ فأمر النبي ـ عليه السلام ـ الخضر أن يلقنني أذكار الطريقة الشاذلية فلقنني إياها بحضرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ " (مفاتيح كنوز السماوات والأرض لصالح محمد الجعفري ص8) ويستطرد أيضًا قائلًا: " ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ للخضر ـ عليه السلام ـ يا خضر لقنه ما كان جامعًا لسائر الأذكار والصلوات والاستغفار " (مفاتيح كنوز السماوات والأرض لصالح محمد الجعفري ص8) . قلت اعلم أن أذكار الطريقة الشاذلية هذه فيها كفر وشرك فمن أذكارها صلاة ابن مشيش (اللهم انشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة) وفيها أن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو أصل هذا الوجود وأول مخلوق فيه ومنه انشقت كل الأنوار وظهرت كل الموجودات (اقرأ الباب الخاص بالحقيقة المحمدية، والباب الخاص بالذكر الصوفي) . . والمهم هنا التنبيه على أن الخضر الصوفي يختلف تمامًا عن الخضر الذي ذكره الله في القرآن وقص علينا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قصته. فذاك نبي عبد موحد مؤمن على علم من علم الله بالوحي عاش ومات لوقته وزمانه وفعل ما فعل موافقًا للحق والشريعة أما الخضر الصوفي فهو ما رأينا مصدرًا للخرافة والجهل والشرك ولذلك أخبر الإمام ابن تيمية بأن الخضر المزعوم هذا لا حقيقة له شأنه في ذلك

الخضر الصوفي خرافة لا حقيقة

شأن الغوث والقطب الصوفي، ومنتظر الرافضة. الخضر الصوفي خرافة لا حقيقة يقول الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في رسالة زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور ما نصه: " ثلاثة أشياء ما لها من أصل: باب النصيرية، ومنتظر الرافضة، وغوث الجهال، فإن النصيرية تدعي في الباب الذي لهم أنه الذي يقيم العالم فذاك شخصه موجود ولكن دعوى النصيرية فيه باطلة، وأما محمد بن الحسن المنتظر، والغوث المقيم بمكة ونحو هذا فإنه باطل ليس له وجود، وكذلك ما يزعمه بعضهم من أن القطب الغوث الجامع يمد أولياء الله ويعرفهم كلهم ونحو هذا فهذا باطل، فأبو بكر وعمر رضي الله عنهما لم يكونا يعرفان جميع أولياء الله ولا يمدانهم فكيف بهؤلاء الضالين المغترين الكذابين، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيد ولد آدم إنما عرف الذين لم يكن رآهم من أمته بسيماء الوضوء هو الغرة والتحجيل ومن هؤلاء من أولياء الله لا يحصيه إلا الله ـ عز وجل ـ وأنبياء الله الذي هو إمامهم وخطيبهم لم يكن يعرف أكثرهم بل قال الله تعالى: {ولقد أرسلنا رسلًا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} [غافر: 78] . وموسى لم يكن يعرف الخضر، والخضر لم يكن يعرف موسى بل لما سلم عليه موسى قال له الخضر: وإني بأرضك السّلام، فقال له: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، وقد كان بلغه اسمه وخبره ولم يكن يعرف عينه ومن قال أنه نقيب الأولياء أو أنه يعلمهم كلهم فقد قال الباطل. والصواب الذي عليه المحققون أنه ميت وأنه لم يدرك الإسلام ولو كان موجودًا، في زمان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لوجب عليه أن يؤمن به ويجاهد معه كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره ولكان يكون في مكة والمدينة ولكان يكون حضوره مع الصحابة للجهاد معهم وإعانتهم على الدين أولى به من حضوره عند قوم كفار ليرفع لهم سفينتهم ولم يكن مختفيًا عن خير أمة أخرجت للناس وهو قد كان بين المشركين ولم يحتجب عنهم ثم ليس للمسلمين به وأمثاله حاجة في دينهم ودنياهم، فإن دينهم

أخذوه عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ النبي الأمي الذي علمهم الكتاب والحكمة وقال لهم نبيهم (لو كان موسى حيًا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم) وعيسى بن مريم ـ عليه السلام ـ إذا نزل من السماء إنما يحكم فيهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم فأي حاجة لهم مع هذا إلى الخضر وغيره والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أخبرهم بنزول عيسى ـ عليه السلام ـ من السماء وحضوره مع المسلمين وقال [كيف تهلك أمة أنا أولها وعيسى في آخرها] فإذا كان النبيان الكريمان اللذان هما مع إبراهيم وموسى ونوح أفضل الرسل ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيد ولد آدم ولم يحتجبوا عن هذه الأمة لا عوامهم ولا خواصهم فكيف يحتجب عنهم من ليس مثلهم وإذا كان الخضر حيًا دائمًا فكيف لم يذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك فقط، ولا خلفاؤه الراشدين؟ ! ! وقول قائل إنه نقيب الأولياء، فيقال له، من ولاه النقابة وأفضل الأولياء أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليس فيهم الخضر، وغاية ما يحكى في هذا الباب من الحكايات بعضها كذب وبعضها مبني على ظن رجال مثل شخص رأى رجلًا ظن أنه الخضر، وقال إنه الخضر، كما أن الرافضة ترى شخصًا تظن أنه الإمام المنتظر المعصوم أو تدعي ذلك. وروي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال وقد ذكر له الخضر من أحالك على غائب فما أنصفك، وما ألقى هذا على ألسنة الناس إلا الشيطان. انتهى المراد منه.

الفصل التاسع: الكشف الصوفي

الفصل التاسع: الكشف الصوفي الإيمان بالغيب في الكتاب والسنة من أصول الدين وقواعد الإيمان أن تعتقد أن الغيب علمه لله تعالى وحده سبحانه وتعالى وأنه يطلع وسبحانه تعالى على ما شاء من الغيب من شاء من أنبيائه ورسله فقط وأن الأنبياء لا يعلمون من الغيب إلا ما أعلمهم الله إياه كما قال سبحانه وتعالى لرسوله: {قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} [الأعراف: 188] . وقال جل وعلا: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدًا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددًا} [الجن: 26 ـ 28] . وأمر رسوله محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يخبر الناس أنه ليس ملكًا ولا يملك خزائن الله ولا يعلم الغيب قال تعالى: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون} [الأنعام: 50] . وهذا الذي قاله الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو ما قاله نوح قبل ذلك. قال تعالى على لسان نوح: {ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرًا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذًا لمن الظالمين} [هود: 31] وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:

[مفاتيح الغيب خمسة لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله] . وهذا الحديث يقرر قوله تعالى: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيب ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} [لقمان: 34] . وفي صحيح البخاري أيضًا عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: من حدثك أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى ربه فقد كذب وهو يقول: {لا تدركه الأبصار} [الأنعام: 103] . ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب وهو يقول {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله} [النمل: 65] . فهذه الآيات والأحاديث ومثلها كثير جدًا قاطع بأنه لا يعلم أحد في السماوات والأرض الغيب إلا الله لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وأنه لا يعلم أحد من هؤلاء الغيب إلا ما أطلعه الله سبحانه عليه، فهاهم الملائكة يخلق الله آدم ولا يعلمون الحكمة من خلقه، ويعرض الله عليهم مسميات معينة ويقول لهم أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، فيقولون سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، ويعلم الله آدم النبي الأسماء فيعلمها لهم، وآدم نبي مكلم كما جاء في الحديث الشريف، وهؤلاء الأنبياء لا يعلمون الغيب بنص القرآن وبمئات بل بآلاف الوقائع، فنوح لم يعلم أن ابنه ليس من أهله وأن زوجته على غير دينه، وإبراهيم لم يعلم بأنه يولد له ولد من زوجته سارة إلا بعد أن جاءته الملائكة ولقد جاءته الملائكة في صورة بشر فذبح لهم عجلًا وقربه إليهم وهو لا يعلم حقيقتهم حتى أعلموه، ولم يكن يعرف مقصدهم حتى أعلموه أنهم ذاهبون لتدمير قرى لوط، وأما لوط فإنه ساءته رؤية الملائكة علمًا أنهم قد أتوا لإنجائه وإنجاء أهله، ولم يعلم حقيقة أمرهم إلا بعد أن علموه ولم يكن له كشف خاص، ولا علم خاص يستطيع أن يعرف من القوم، وأما محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد حدث له مئات بل آلاف الوقائع التي تدل يقينًا أنه لم يكن يعلم في الغيب إلا ما أعلمه الله إياه. . فقد ظن أن جبريل الذي أتاه في الغار

الغيب في المعتقد الصوفي

شيطان وقال لخديجة لقد خفت على نفسي، ولم يعرف أنه الملك حتى أتى ورقة بن نوفل فأخبره أن الكلام الذي جاء به يشبه الكلام الذي نزل على الأنبياء من قبله. . ولم يدر بخلد النبي أنه سيؤذى ويخرج من مكة أبدًا علمًا بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد مكث يتعبد في غار حراء سنوات طويلة، وعند الصوفية أن من لف رأسه بخرقه وجلس في مكان مظلم رأى الله، وعرف كل شيء وشاهد الكون أعلاه وأسفله. . بل النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكث ثلاث عشرة سنة في مكة لا يعلم أين سيهاجر بعد ذلك، وبعد الهجرة خرج إلى أبي سفيان ففاته واصطدم بجيش المشركين وجاءه المشركون في المدينة المرة تلو المرة يزعمون أنهم قد آمنوا ويطلبون منه أن يرسل لهم من يعلمهم القرآن فكان يرسل معهم خيرة القراء، فيغدرون بهم في الطريق. . فغدر المشركون بأربعين رجلًا من المسلمين مرة واحدة، وسبعة مرة، ولو علم رسول الله ما يكون من أمر الله بل لو علم أن هؤلاء الكفرة الأعراب يكذبون عليه لما أسلم لهم أصحابه وحبس المشركون يومًا وليلة في مكان ليس فيه ماء لأن السيدة عائشة رضي الله عنها قد فقدت عقدًا لها ولو كان هناك كشف صوفي على ما يصوره الصوفية ويزعمونه لعلموا أين عقد السيدة عائشة الذي كان تحت بعيرها ولم يفطن إليه أحد من المسلمين من أصحاب النبي. . ورمى المنافقون السيدة عائشة بالزنا ـ شرفها الله وحماها وبرأها ولعن الله من سبها ـ. . ومكث رسول الله شهرًا كاملًا لا يدري ما يقول، وكان يستفتي أصحابه ويسأل علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد، وبريرة خادمته ومولاته هل رأوا على عائشة شيئًا. . ولم يستطع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يعلم حقيقة الأمر حتى أنزل الله براءتها من السماء. . هذا إلى العشرات والمئات من الوقائع التي تبين أن رسول الله وأكرم خلق الله من البشر على الله لم يكن يطلع على شيء من الغيب إلا ما أطلعه الله بحكم النبوة. . الغيب في المعتقد الصوفي ولكن الصوفية منذ القدم. . منذ نشأتهم في الإسلام وإلى يومنا هذا عمدوا

إلى هذا الأصل الأصيل من أصول الدين فهدموا بل اقتلعوا جذوره من قلوب من يسير في طريقهم وينتهج منهجهم هذا الأصل فهدموه جعله الله أول صفة في كتابه للمتقين حيث يقول ـ تبارك وتعالى ـ في سورة البقرة الثانية في القرآن بعد الفاتحة: {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 1: 3] . الآية. جعل الله صفة الإيمان بالغيب أول صفة للمتقين المهتدين بالقرآن والسنة وذلك حتى يوحد المؤمنون طريق التلقي فلا يتلقون غيبًا إلا من الله ومن أقامه للأخبار بالغيب عنه وهم رسله، وأنبياؤه فقط، جاء المتصوفة فكان أول هدم لهم في الإسلام أن يهدموا هذا الأصل فأقاموا شيئًا سموه (الكشف الصوفي) وهو يعني عندهم رفع الحجب أمام قلب الصوفي وبصره ليعلم ما في السماوات جميعًا، وما في الأرض جميعًا، فلا تسقط ورقة إلا بنظره ولا تقع قطرة ماء من السماء إلا بعلمه ولا يولد مولود، أو يعقد معقود، أو يتحرك ساكن أو يسكن متحرك إلا بعلم الصوفي. . هكذا والله؛ وسيرى القارئ في هذا الفصل النقول من كتب القوم كلها تنص على أن الصوفي لا يقف أمامه حجاب، ولا يوصد أمامه باب، ولا يعجزه علم شيء في الأرض ولا في السماء. فهو يعلم ما يكتب في اللوح المحفوظ ساعة بساعة، بل هو يعلم بأي لغة وأي قلم كتب اللوح المحفوظ، وماذا في أم الكتاب، وماذا كان منذ الأزل وماذا سيكون إلى الأبد، لا أقول قد ساوى الصوفية أنفسهم بالأنبياء بالغيب أو ساووا أنفسهم بالخضر الذي يزعمون النقل عنه لا والله بل جعلوا كل زنديق منهم ممن لا وزن له في خلق ولا علم جعلوا هؤلاء هم الله علمًا بكل شيء، وإحاطة بما في السماوات والأرض. . وسيرى القارئ أن أي زندقة وأي كفر في الأرض لم يجرؤ كاتبوه ومؤيدوه أن يكتبوا مثل هذا ولكن الصوفية سبقوا كل الكفار في كل الملل والنحل والأقوام وكتبوا بأقلامهم ما لم يجرؤ أحد بتاتًا أن يكتبه أو يسطره فيما علمناه من الكفرة والزنادقة والملاحدة. .

لقد ترقى المتصوفة في قضية الكشف عندهم فزعموا أولًا أن الصوفي يكشف له معان في القرآن والحديث لا يعلمها علماء الشريعة الذين سموهم بعلماء الظاهر والقراطيس والآثار التي ينقلونها عن الموتى. .، وأما هم فيلتقون بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقظة أحيانًا، ومنامًا أحيانًا ويسألونه ويستفيدون منه هذه العلوم ثم ترقوا فقالوا إن لنا علومًا ليست في الكتاب والسنة نأخذها عن الخضر الذي هو على شريعة الباطن وهو الذي يمد الأولياء بهذه الشريعة، فموسى ومحمد والأنبياء على شريعة ظاهرة، وأما الخضر فهو على شريعة باطنة يجوز فيها ما لا يجوز في الظاهر، فقد قتل الغلام بغير ذنب، وكسر السفينة لمن حملهم بغير نوال، وبنى الجدار إحسانًا منه لمن أساء إليهم. . ومثل هذا ينكره أهل الظاهر كما أنكره موسى، ونحن في الباطن على شريعة الخضر وهو يلتقي بنا ونتعلم منه علومًا خاصة ينكرها أهل الظاهر لجهلهم. . والعجيب أنه كان من هذا الدين الباطن الذي زعموا أخذه عن الخضر إتيان (الحمارة) والزنا، وشرب الخمر واللواط، والتعري، والصراخ في الطرقات، وسب المؤذنين للصلاة، وسب الأنبياء والإدعاء بأن كل مخلوق هو الله وإلقاء السلام على الكلاب والخنازير، والترحم على إبليس ومحاولة الوصول إلى مقامه، وجعل فرعون أعلم من موسى بالله وتبرئة قوم نوح من الشرك، وجعل الرسول محمد هو الله المستوي على العرش. . هذه الأشياء قليلة جدًا من هذا الدين الباطني الذي زعم المتصوفة أنهم نالوه عن طريق الكشف الصوفي، وهو رفع الحجب عن القلوب والأبصار لرؤية الحق على ما هو عليه، وأن الخضر ـ عليه السلام ـ هو مبلغ كل هذا لهم، وتارة يترقون في هذا الكذب أو بالأحرى يهوون إلى أسفل سافلين في دعاوي الكذب هذه فيزعمون أنهم تلقوا هذه العلوم من ملك الإلهام كما تلقى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ علومه من ملك الوحي، وأخرى يزعمون أنهم تلقوا علومهم هذه التي أشرنا إلى بعضها آنفًا من الله رأسًا وبلا وساطة وأنها انطبعت في نفوسهم من الله رأسًا وأنهم مطالعون الأمر في الأزل بأرواحهم، والأمر في الأبد يرونه كما يكون عليه الحال يرونه كذلك بأرواحهم بغير

وساطة وأن همتهم تصل السماوات وما فوقها والأرض وما تحتها. . ولقد وسع المتصوفة دائرة كشفهم هذه فزعموا أنهم يعلمون أسرار الحروف المقطعة من القرآن بطريق الكشف، وقصص الأنبياء يروونها على حقيقتها ويجتمعون بالأنبياء ويسألونهم عن تفاصيل قصصهم وما كان منهم. . فيفيدون فوائد كثيرة دونها كثيرًا ما هو موجود فعلًا في القرآن، وأما الجنة والنار، فهم وإياها دائمًا رأي العين، بل هي ساقطة أصلًا من عيونهم لأن النار وما النار، لو بصق أحدهم عليها لأطفأها كما قال أبو يزيد وغيره منهم. . وأما الجنة فالنظر إليها شرك وكفر لأنهم ينظرون إلى الله فقط. . ولذلك قال قائلهم معيبًا على الصحابة عندما قرأ {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة} [آل عمران: 152] . قال. . أف. . أليس منكم أحد يريد الله. . وقال آخر عن قوله تعالى: {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} [يس: 55] . قال. . ألهاهم عنه. . باختصار لقد اكتشف المتصوفة بزعمهم للقرآن معاني غير التي يعرفها أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلماء الأمة على مر العصور. لقد اكتشفوا هم عن طريق كشفهم الشيطاني أن للقرآن معاني أخرى وأن فيه علومًا كثيرة جدًا لا يعلمها غيرهم. . وما هذه العلوم. . إنها كل الفلسفات القديمة، والخزعبلات والخرافات التي عند فلاسفة الإغريق، وكهنة الهنادك والهندوس، وشياطين المجوس وإباحية المانوية والمزدكية، وخرافات القصاص من كل لون وجنس كل هذا وهذا جعله المتصوفة كشفًا وحقيقة صوفية ومعاني للقرآن الكريم ولحديث النبي الشريف. . ومن أراد منهم أن لا ينسب هذه الخرافات والخزعبلات إلى القرآن والحديث، ورأى أنه تحقق بعلوم أكثر بكثير مما فيهما قال: خضنا بحرًا وقف الأنبياء بساحله. . فجعل نفسه أعظم معرفة وتحقيقًا مما لدى الأنبياء. . وذلك لما رأى أنه قد جمع من الخرافات والخزعبلات والأساطير شيئًا نهى الرسل الصادقون عن افترائه وتناقله وتداوله. .

هذه هي حقيقة الكشف الصوفي الذي زعم أصحابه أنه ثمرة العبادة والتقوى والاتصال بالله والملائكة والأنبياء والخضر، وأنه نتيجة حتمية لسباحة أرواحهم في الأزل والأبد، والسماوات السبع وما فوقها والأراضين السبع وما تحتها. . لقد أتونا بعد هذه السياحة الشيطانية بعشرات المجلدات والخرافات والخزعبلات بعد أن لبسوها وخلطوها ببعض العلم الذي جاء به الرسل فخلطوا الأمر على عامة المسلمين، وأضلوا من لا علم لهم بالكتاب والسنة، وظنوا فعلًا أن هؤلاء الناس صالحون وأن علومهم هذه قد أتوا بها فعلًا من الغيب، وخاصة أنهم رأوهم أحيانًا تجري على أيديهم بعض الحيل الشيطانية، وبعض الكرامات الإبليسية من خرق العادات أو الإخبار ببعض المغيبات ما هو عند الهندوس والمجوس والدجال وابن صياد أمثاله وأكثر منه مئات المرات، لقد أوهم العامة ما جرى على يد هؤلاء من هذه الكرامات الإبليسية التي هي حقًا أمثال شيطانية من ما يجري للكفار والمنافقين والدجالين، فظنوا أن هؤلاء من أهل الله حقًا، وأن الحجب ترتفع عنهم صدقًا وأن علومهم هذه آتية من الغيب يقينًا وبذلك راجت يومًا بضاعة هؤلاء الزنادقة وصرفوا المسلمين عن دينهم الحق وعقيدتهم المستقيمة. وها نحن نورد بعد هذه المقدمة التي لا بد منها طائفة من النقول من كتب القوم المعتمدة التي تبين هذا الباطل الذي يدعونه ويسمونه كشفًا، وحقيقة، وعلمًا لدنيًا، وتحققًا واطلاعًا ليكون القارئ المسلم على بينه مما عليه هؤلاء الزنادقة. عبد الكريم الجيلي وكتابه الإنسان الكامل: هذا عبد الكريم الجيلي يكتب كتابه (الإنسان الكامل) زاعمًا أيضًا أنه من الله أخذه، وأن الله أمره بإخراج هذا الكتاب للناس وأنه ليس فيه شيء إلا وهو مؤيد بالكتاب والسنة يقول: ". . ثم ألتمس من الناظر في هذا الكتاب بعد أن أعلمه أني ما وضعت شيئًا

في هذا الكتاب إلا وهو مؤيد بكتاب الله أو سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه إذا لاح له شيء في كلامي بخلاف الكتاب والسنة فليعلم أن ذلك من حيث مفهومه لا من حيث مرادي الذي وضعت الكلام لأجله فليتوقف عن العمل به مع التسليم إلى أن يفتح الله تعالى عليه بمعرفته، ويحصل له شاهد ذلك من كتاب الله تعالى أو سنة نبيه. وفائدة التسليم هنا وترك الإنكار أن لا يحرم الوصول إلى معرفة ذلك، فإن من أنكر شيئًا من علمنا هذا حرم الوصول إليه ما دام منكرًا، ولا سبيل إلى غير ذلك، بل ويخشى عليه حرمان الوصول إلى ذلك مطلقًا بالإنكار أول وهلة، ولا طريق له إلا الإيمان والتسليم. واعلم أن كل علم لا يؤيده الكتاب والسنة فهو ضلالة، لا لأجل ما لا تجد أنت له ما يؤيده، فقد يكون العلم في نفسه مؤيدًا بالكتاب والسنة، ولكن قلة استعدادك منعتك من فهمه فلن تستطيع أن تتناوله له بهمتك من محله فتظن أنه غير مؤيد بالكتاب والسنة، فالطريق في هذا التسليم وعدم العمل به من غير إنكار إلى أن يأخذ الله بيدك إليه " (الإنسان الكامل ص8) . علمًا بأنه لم يضع فيه شيئًا مطلقًا وافق الكتاب والسنة، بل جمع فيه من الكفر والزندقة أعظم من كل كفر الأولين والآخرين كيف لا وقد جعل كل من عبد شيئًا في الأرض فما عبد إلا الله. بل زعم أنه ليس في الوجود إلا الله، الذي خلق الوجود من نفسه لنفسه فليس هناك إلا هو فهو الرب والعبد، والشيطان والراهب، والسماء والأرض، والظلمات والنور، والحمل الوديع والذئب الكاسر. . تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا واستغفر الله من تسطير ذلك وكتابته. . اللهم رحماك رحماك. . لقد قلت في كتابك عن الذين ادعوا الألوهية في عيسى وهو نبي كريم ونفس طيبة {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا} [الكهف: 5] . وقلت أيضًا {تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًا أن دعوا للرحمن ولدًا وما ينبغي للرحمن

أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدًا} [مريم: 90: 93] . . وهذا الزنديق يا ربي وأمثاله جعلوا كل كلب وخنزير في الأرض، وكل شيطان وإبليس وكل كافر وفاجر جزءًا منك، ومظهرًا لك (ومجلى) ـ حسب عبارتهم ـ من مجاليك وتجلياتك ثم أنت ترزقهم وتعافيهم وتحلم عليهم سبحانك ما أحلمك وأجلك وأعظمك. لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك. ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. نعود إلى الجيلي وكتابه الذي يقول فيه بالنص: " وكنت قد أسميت الكتاب على الكشف الصريح وأيدت مسائله بالخبر الصحيح (. . انظر) وسميته بالإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل " ثم يقول: " فأمرني الحق الآن بإبرازه بين تصريحه وإلغازه، ووعدني بعموم الانتفاع فقلت طوعًا للأمر المطاع، وابتدأت في تأليفه متكلًا على الحق في تعريفه، فها أنا ذا أكرع من دنه (الدن: هو وعاء الخمر الذي يخمر فيه) القديم، بكأس الاسم العليم، في قوابل أهل الإيمان والتسليم خمرة مرضعة من الحي الكريم، مسكرة الموجود بالقديم) ا. هـ (ص6) . ما الذي يتكلم عليه الجيلي في هذا الكتاب: إن كتابه من أوله وآخره يدور حول معنى واحد وهو وصف الله بصفات مخلوقاته، وبيان أن المخلوق هو عين الخالق. . هذا كل ما يريد الجيلي أن يصل إليه وهذا هو ما شرحه شرحًا كاملًا في كتابه، وأضاف أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الإنسان الكامل والإله الكامل الذي اتصف بكل صفات الله بعلوها وسفلها، بحلوها ومرها؛ فقل هو الله أحد معناها كما يفسرها الجيلي: قل يا محمد الإنسان هو الله أحد. فهاء الإشارة في (هو) راجع إلى فاعل قل وهو أنت. . فيكون المعني يا محمد هو أي أنت الله أحد. . هذا هو الكشف الذي كشفه لنا الجيلي من الغيب وهذا هو الكتاب الذي ليس فيه شيء يخالف الكتاب والسنة. وهذا نص عبارة الجيلي في ذلك:. . " الحرف الخامس من هذا الاسم: هو الهاء، فهو إشارة إلى هوية الحق الذي

هو عين الإنسان قال الله تعالى (قل) يا محمد (هو) أي الإنسان (الله أحد) فهاء الإشارة في هو راجع إلى فاعل قل وهو أنت، وإلا فلا يجوز إعادة الضمير إلى غير مذكور أقيم المخاطب هنا مقام الغائب التفاتًا بيانيًا إشارة إلى أن المخاطب بهذا ليس نفس الحاضر وحده، بل الغائب والحاضر في هذا على السواء. قال الله تعالى {ولو ترى إذ وقفوا} [الأنعام: 27] . ليس المراد به محمدًا وحده بل كل راء، فاستدارة رأس الهاء إشارة إلى دوران رحى الوجود الحقي والخلقي على الإنسان، فهو في عالم المثال كالدائرة التي أشارت الهاء إليها، فقل ما شئت إن شئت قلت الدائرة حق وجوفها خلق، وإن شئت قلت الدائرة خلق وجوفها حق فهو حق وهو خلق، وإن شئت قلب الأمر فيه بالإلهام، فالأمر في الإنسان دوري بين أنه مخلوق له ذل العبودية والعجز وبين أنه على صورة الرحمن، فله الكمال والعز. قال الله تعالى (والله هو الولي) يعني الإنسان الكامل الذي قال فيه (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) لأنه يستحيل الخوف والحزن وأمثال ذلك على الله لأن الله هو الولي الحميد (وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير) أي الولي، فهو حق منصور في صورة خلقية، أو خلق متحقق بمعاني الإلهية، فعلى كل حال وتقدير وفي كل مقال وتقرير هو الجامع لوصفي النقص والكمال، والساطع في أرض كونه بنور شمس المتعال، فهو السماء والأرض، وهو الطول والعرض، وفي هذا المعنى قلت: لي الملك في الدارين لم أرى فيهما ** سواي فأرجو فضله أو فأخشاه ولا قبل من قبلي فالحق شأنه** ولا بعد من بعدي فأسبق معناه وقد حزت أنواع الكمال وإنني ** جمال جلال الكل ما أنا إلا هو فمهما ترى من معدن ونباته ** وحيوانه مع أنه وسجاياه ومهما ترى من عنصر وطبيعة ** ومن هباء الأصل طيب هيولاه ومهما ترى من أبحر وقفاره**ومن شجر أو شاهق طال أعلاه ومهما ترى من صورة معنوية ** ومن شهد للعين طال محياه إلى أن يقول:

فإني ذلك الكل والكل مشهدي** أنا المتجلي في حقيقته لا هو " (ص31) ويشرح الجيلي هذا المعنى المجمل تفصيليًا في الباب الستين من كتابه فيقول بالنص: الباب الملفى ستين: في الإنسان الكامل وأنه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنه مقابل للحق والخلق. " اعلم حفظك الله أن الإنسان الكامل هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره، وهو واحد منذ كان الوجود إلى أبد الآبدين، ثم له تنوع في ملابس ويظهر في كنائس (الكنيسة مكان العبادة عند النصارى. والمعنى المشار إليه هنا أنه يوصف بالشيء ونقيضه كما قال فريد الدين العطار: وما الكلب والخنزير إلهنا ** وما الله إلا راهب في كنيسة. فيسمى به باعتبار لباس، ولا يسمى به باعتبار لباس آخر، فاسمه الأصلي الذي هو له محمد، وكنيته أبو القاسم، ووصفه عبد الله، ولقبه شمس الدين، ثم له باعتبار ملابس أخرى أسام، وله في كل زمان اسم ما يليق بلباسه في ذلك الزمان، فقد اجتمعت به ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو في صورة شيخي الشيخ شرف الدين اسماعيل الجبرتي، ولست أعلم أنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكنت أعلم أنه الشيخ، وهذا من جملة مشاهد شاهدته فيها بزبيد سنة ست وتسعين وسبعمائة وسر هذا الأمر تمكنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من التصور بكل صورة، فالأديب إذا رآه في الصورة المحمدية التي كان عليها في حياته فإنه يسميه باسمه، وإذا رآه في صورة ما من الصور وعلم أنه محمد فلا يسميه إلا باسم تلك الصورة، ثم لا يوقع ذلك الاسم الأعلى الحقيقة المحمدية. ألا تراه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما ظهر في صورة الشبلي ـ رضي الله ـ عنه قال الشبلي لتلميذه أشهد أني رسول الله وكان التلميذ صاحب كشف فعرفه، فقال: أشهد أنك رسول الله، وهذا أمر غير منكور وهو كما يرى النائم فلان في صورة فلان. وأقل مراتب الكشف أن يسوغ به في اليقظة ما يسوغ به اليقظة ما يسوغ به في النوم، ولكن بين النوم والكشف فرقًا وهو أن الصورة التي يرى فيها محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في النوم لا يوقع اسمها

في اليقظة على الحقيقة المحمدية، لأن عالم المثال يقع التعبير فيه فيعبر عن الحقيقة المحمدية إلى حقيقة تلك الصورة في اليقظة، بخلاف الكشف فإنه إذا كشف لك عن الحقيقة المحمدية أنها متجلية في صورة من صور الآدميين، فيلزمك إيقاع اسم تلك الصورة على الحقيقة المحمدية، ويجب عليك أن تتأدب مع صاحب تلك الصورة تأدبك مع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ. لما أعطاك الكشف أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ متصور بتلك الصورة، فلا يجوز لك بعد شهود محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها أن تعاملها بما كنت تعاملها به من قبل، ثم إياك أن تتوهم شيئًا في قولي من مذهب التناسخ، حاشا لله وحاشا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يكون ذلك مرادي، بل إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ له من التمكين في التصور بكل صورة حتى يتجلى في هذه الصورة، وقد جرت سنته ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لا يزال يتصور في كل زمان بصورة أكملها ليعلي شأنهم ويقيم ميلانهم، فهم خلفاؤه في الظاهر وهو في الباطن حقيقتهم " ا. هـ ثم يستطرد الجيلي حسب اعتقاده مبينًا كيف يكون محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنسانًا كاملًا، وإلهًا تحققت فيه كل مظاهر الربوبية والألوهية وتجلت فيه كل أسماء الله وصفاته. . ولما كان الله عند الجيلي ومن على طريقته من هؤلاء الزنادقة الملحدين هو هذه المخلوقات لا غير. . استطرد الجيلي مبينًا أن الكون الوجود في كل شيء منه مقابل للذات المحمدية. ففي ذات الرسول شبيه العرش والكرسي، والسماوات والأرض والملائكة والحيوان والنبات والجماد. . وسائر الموجودات التي هي في حقيقتها عند الجيلي هي الله تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا. . يقول الجيلي شارحًا ذلك: " واعلم أن الإنسان الكامل مقابل لجميع الحقائق الوجودية بنفسه. فيقابل الحقائق العلوية بلطافته، ويقابل الحقائق السفلية بكثافته، فأول ما يبدو في مقابلته للحقائق الخلقية يقابل العرش بقلبه، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ (قلب المؤمن

من عرش الرحمن) ، ويقابل الكرسي بآنيته، ويقابل سدرة المنتهى بمقامه، ويقابل القلم الأعلى بعقله، ويقابل اللوح المحفوظ بنفسه، ويقابل العناصر بطبعه، ويقابل الهيولي بقابليته، ويقابل الهباء بحيز هيكله، ويقابل الفلك الأطلس برأيه، ويقابل الفلك المكوكب بمدركته، ويقابل السماء الخامسة بهمته، ويقابل السماء الرابعة بفهمه، ويقابل السماء الثالثة بخياله، ويقابل السماء الثانية بفكره، ويقابل السماء الأولى بحافظته، ثم يقابل زحل بالقوى اللامسة، ويقابل المشتري بالقوى الدافعة، ويقابل المريخ بالقوى المحركة، ويقابل الشمس بالقوى الناظرة، ويقابل الزهرة بالقوى المتلذذة، ويقابل عطارد بالقوى الشامة، ويقابل القمر بالقوى السامعة، ثم يقابل فلك النار بحرارته، ويقابل فلك الماء ببرودته، ويقابل فلك الهواء برطوبته، ويقابل فلك التراب بيبوسته، ثم يقابل الملائكة بخواطره، ويقابل الجن والشياطين بوسواسه، ويقابل البهائم بحيوانيته، ويقابل الأسد بالقوى الباطشة، ويقابل الثعلب بالقوى الماكرة، ويقابل الذئب بالقوى الخادعة، ويقابل القرد بالقوى الحاسدة، ويقابل الفأر بالقوى الحريصة، وقس على ذلك باقي قواه، ثم إنه يقابل النار بالمادة الصفراوية، ويقابل الماء بالمادة البلغمية، ويقابل الريح بالمادة الدموية، ويقابل التراب بالمادة السوداوية، ثم يقابل السبعة أبحر بريقه ومخاطه وعرقه ونقاء أذنه ودمعه وبوله والسامع المحيط، وهو المادة الجارية بين الدم والعرق والجلد، منها تتفرع تلك الستة، ولكل واحد طعم، فحلو وحامض، ومر وممزوج، ومالح ونتن وطيب، ثم يقابل الجوهر بهويته وهي ذاته، ويقابل العرض بوصفه، ثم يقابل الجمادات بأنيابه، فإن الناب إذا بلغ وأخذ حده في البلوغ بقي شبه الجمادات لا يزيد ولا ينقص وإذا كسرته لا يلتحم بشيء، ثم يقابل النبات بشعره وظفره، ويقابل الحيوان بشهوانيته، ويقابل مثله من الآدميين ببشريته وصورته، ثم يقابل أجناس الناس، فيقابل الملك بروحه، ويقابل الوزير بنظره الفكري، ويقابل القاضي بعلمه المسموع، ورأيه المطبوع، ويقابل الشرطي بظنه، ويقابل الأعوان بعروقه وقواه جميعها، ويقابل المؤمنين بيقينه، ويقابل المشركين

ادعاء رؤية العوالم العلوية والسفلية

بشكه وريبه، فلا يزال يقابل كل حقيقة من حقائق الوجود برقيقة من رقائقه، فقد بينا فيما مضى من الأبواب خلق كل ملك مقرب من كل قوى من الإنسان الكامل، وبقي أن نتكلم عن مقابلة الأسماء والصفات. اعلم أن نسخة الحق تعالى كما أخبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال: (خلق الله آدم على صورة الرحمن) وفي حديث آخر (خلق الله آدم على صورته) وذلك أن الله تعالى حي عليم قادر مريد سميع بصير متكلم، وكذلك الإنسان حي عليم. . إلخ. ثم يقابل الهوية بالهوية، والإنية بالإنية، والذات بالذات، والكل بالكل، والشمول بالشمول، والخصوص بالخصوص، وله مقابلة أخرى يقابل الحق بحقائقه الذاتية، وقد نبهنا عليها في هذا الكتاب في غير ما موضع، وأما هنا فلا يجوز لنا أن نترجم عنها، فيكفي هذا القدر من التنبيه عليها. ثم اعلم أن الإنسان الكامل هو الذي يستحق الأسماء الذاتية، والصفات الإلهية استحقاق الأصالة والملك بحكم المقتضي الذاتي، فإنه المعبر عن حقيقته بتلك العبارات والمشار إلى لطيفته بتلك الإشارات ليس لها مستند في الوجود إلا الإنسان الكامل، فمثاله للحق مثال المرآة التي لا يرى الشخص صورته إلا فيها، وإلا فلا يمكنه أن يرى صورة نفسه لا بمرآة الاسم الله فهو مرآته، والإنسان الكامل أيضًا مرآة الحق، فإن الحق تعالى أوجب على نفسه أن لا ترى أسماؤه ولا صفاته إلا في الإنسان الكامل، وهذا معنى قوله تعالى {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولًا} [الأحزاب: 72] . يعني قد ظلم نفسه بأن أنزلها عن تلك الدرجة، جهولًا بمقداره لأنه محل الأمانة الإلهية وهو لا يدري " ا. هـ (المصدر السابق ص76، 77) . ادعاء رؤية العوالم العلوية والسفلية ولا يتوقف هذا الهذيان الذي يطالعنا به الجيلي في كتابه لحظة واحدة فهو يزعم أنه قد كشفت له الحجب فرأى العالم عاليه وسافله وشاهد الملائكة جميعًا

وخاطبهم والرسل والأنبياء؛ فها هو يقول ويدعي: " وفي هذا المشهد (يعني بالمشهد اتصال الصوفي بأرواح المخلوقات التي وجدت في الحياة والتي لم توجد أيضًا لأن الأرواح في زعمه مخلوقة أبدًا لا تفنى) ، اجتماع الأنبياء والأولياء بعضهم ببعض أقمت فيه بزبيد (زبيد: مدينة من مدن اليمن المشهورة) بشهر ربيع الأول في سنة ثمانمائة من الهجرة النبوية فرأيت جميع الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين والأولياء والملائكة العالين، والمقربين، وملائكة التسخير، ورأيت روحانية الموجودات جميعها، وكشفت عن حقائق الأمور على ما هي عليه من الأزل إلى الأبد " (انظر) ويستطرد قائلًا " وتحققت بعلوم إلهية لا يسع الكون أن نذكرها فيه " (ص97 ج2) . ويستطرد الجيلي في هذيانه وكفرياته قائلًا عن مشاهداته المزعومة في خلق السماء الثانية: " رأيت نوحًا عليه السلام في هذه السماء جالسًا على سرير خلق من نور الكبرياء بين أهل المجد والثناء فسلمت عليه وتمثلت بين يديه فرد علي السلام ورحب بي وقام ". إلى أن يقول: " وروحانية الملك الحاكم على جميع ملائكة هذه السماء عجائب من آيات الرحمن وغرائب من أسرار الأكوان لا يسعنا إذاعتها في أهل هذا الزمان " (ص100) ا. هـ. ويستطرد الجيلي مبينًا مشاهداته المزعومة في السماء الثالثة وأنه رأى يوسف عليه السلام وأنه دار بينهما هذا الحديث الذي يزعم الجيلي في آخره أنه كان يعلم هذه العلوم التي أخبره يوسف بها قبل أن يتفوه بها يوسف. وما هذه العلوم. . إنها هذه الكفريات والهذيانات نفسها وهذا نص عبارته في ذلك: " اجتمعت في هذه السماء مع يوسف عليه السلام، فرأيته على سرير من الأسرار كاشفًا عن رمز الأنوار عالمًا بحقيقة ما انعقدت عليه أكلة الأحبار متحققًا بأمر المعاني، مجاوزًا عن قيد الماء والأواني فسلمت إلى تحية وافد إليه فأجاب وحيًا ثم رحب بي وبيا، فقلت له: سيدي أسألك عن قولك {رب قد آتيتني من

الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث} [يوسف: 101] . أي المملكتين تعني وعن تأويل أي الأحاديث تكنى فقال: أردت المملكة الرحمانية المودعة في النكتة الإنسانية (يعني أن يوسف عليه السلام أجابه بأن الله أطلعه عل وجود الرحمن في كيان الإنسان) وتأويل الأحاديث: الأمانات الدائرة في الألسنة الحيوانية، فقلت له يا سيدي أليس هذا المودع في التلويح حللًا من البيان والتصريح. فقال: اعلم أن للحق تعالى أمانة في العباد يوصلها المتكلمون بها إلى أهل الرشاد، قلت: كيف يكون للحق أمانة وهو أصل الوجود في الظهور والإبانة، فقال: ذلك وصفه وهذا شأنه وذاك حكمه وهذه عبارته، والأمانة يجعلها الجاهل في اللسان ويحملها العالم في السر والجنان، والكل في حيرة عنه، ولم يفز غير العارف بشيء منه، فقلت: وكيف ذلك. فقال: اعلم أيدك الله وحماك أن الحق تعالى جعل أسراره كدرر إشارات مودعة في أسرار عبارات (يعني أن سر الخلق قد صحبه الله في أسرار العبارات التي يوحيها إلي) ، فهي ملقاة في الطريق دائرة على ألسن الفريق، يجهل العام إشارتها، ويعرف الخاص ما سكن عبارتها، فيؤولها على حسب المقتضى ويؤول بها إلى حيث المرتضى، وهل تأويل الأحلام إلا رشحة من هذا البحر أو حصاة من جنادل هذا القفر فعلمت ما أشار إليه الصديق ولم أكن قبله جاهلًا بهذا التحقيق، ثم تركته وانصرفت في الرفيق الأعلى ونعم الرفيق " ا. هـ (ص101) . ثم يزعم الجيلي أن السماء الرابعة هي قلب الشمس وأن فيها إدريس وأن أكثر الأنبياء في دائرة هذا الفلك المكين مثل عيسى وسليمان وداود وإدريس وجرجيس. . وغيرهم. . إلخ. أسمعتم يا مسلمون نبيًا من أنبياء الله يسمى جرجيس،. . ها هو الجيلي اطلع عليه في السماء وجاءكم باسمه كما جاءكم باسم ملك يسمى توحائيل. . أنظرتم كيف يكون الكشف وعلم الغيب. هذه هي نماذجه. وأما السماء الخامسة عند الجيلي فهي سماء الكوكب المسمى بهرام. . وحاكم هذه السماء

عزرائيل وهو روحانية المريخ صاحب الانتقام والتوبيخ. . (هكذا والله. .) ويستطرد الجيلي فيصف السماء السادسة فهي عنده كوكب المشتري. . ويقول " رأيت فيها موسى عليه السلام متمكنًا في هذا المقام واضعًا قدمه على هذه السماء قابضًا بيمينه (يلاحظ في هذا التخليط والتقول على الله أن هؤلاء الكاذبين يعمدون إلى الوحي القرآني والحديثي فيأخذون منه ما يشاءون ويخلطونه بهذه الأكاذيب ويزعمون أن ذلك هو الكشف الذي كشف لهم فذكر منصبة موسى على ساق سدرة المنتهى مأخوذ من قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكون أول من يفيق فأجد موسى باطشًا بساق العرش) ساق سدرة المنتهى سكران من خمر تجلي الربوبية. . " أي موسى انطبعت في مرآة علمه أشكال الأكوان وتجلت فيه ربوبية الملك الديان. . وأنه دار بينه وبين الجيلي هذا الحوار. . يقول الجيلي بالنص: " فوقفت متأدبًا بين يديه، وسلمت بتحقيق مرتبته عليه، فرفع رأسه من سكرة الأزل ورحب بي ثم أهل، فقلت له: يا سيدي قد أخبر الناطق بالجواب الصادق في الخطاب، أنه قد برزت لك خلعة لن تراني من ذلك الجناب، وحالتك هذه غير حالة أهل الحجاب، فأخبرني بحقيقة هذا الأمر العجاب، فقال: اعلم أنني لما خرجت من مصر أرضي إلى حقيقة فرضي، ونوديت من طور قلبي بلسان ربي من جانب شجرة الأحدية في الوادي المقدس بأنوار الأزلية {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} [طه: 14] . فلما عبدته كما أمر في الأشياء، وأثنيت عليه بما يستحقه من الصفات والأسماء تجلت أنوار الربوبية لي فأخذني عني، فطلبت البقاء في مقام اللقاء، ومحال أن يثبت المحدث لظهور القديم، فنادى لسان سري مترجمًا عن ذلك الأمر العظيم، فقلت: {رب أرني أنظر إليك} [الأعراف: 143] . فأدخل بانيتي في حضرة القدس عليك فسمعت الجواب من ذلك الجناب {لن تراني ولكن انظر إلى الجبل} [الأعراف: 143] . وهي ذاتك المخلوقة من نوري في الأزل، {فإن استقر مكانه} [الأعراف: 143] . . بعد أن أظهر القديم سلطانه {فسوف تراني فلما تجلّى ربه للجبل} [الأعراف: 143] . وجذبتني حقيقة الأزل وظهر القديم على المحدث {جعله دكًا وخر موسى صعقًا} [الأعراف: 143] . فلم يبق في القديم إلا القديم، ولم يتجل بالعظمة إلا العظيم، هذا على أن استيفاؤه غير ممكن وحصره غير

جائز، فلا تدرك ماهيته ولا ترى ولا يعلم كنهه ولا يدري، فلما اطلع ترجمان الأزل على هذا الخطاب أخبركم به من أم الكتاب (أي أن الجيلي اطلع على هذه المكاشفة من أم الكتاب) فترجم بالحق والصواب، ثم تركته وانصرفت وقد اغترفت من بحره ما اغترفت (ص104) ا. هـ. ويستطرد الجيلي مبينًا مشاهداته في هذه السماء فيقول: " ثم إني رأيت ملائكة هذه السماء مخلوقة على سائر أنواع الحيوانات فمنهم من خلقه الله تعالى على هيئة الطائر وله أجنحة لا تنحصر للحاصر، وعبادة هذا النوع خدمة الأسرار ورفعها من حضيض الظلمة إلى عالم الأنوار، ومنهم من خلقه الله تعالى على هيئة الخيول المسومة، وعبادة هذه الطائفة المكرمة رفع القلوب من سجن الشهادة إلى فضاء الغيوب، ومنهم من خلقه الله تعالى على هيئة النجائب وفي صورة الركائب، وعبادة هذا النوع رفع النفوس إلى عالم المعاني من عالم المحسوس، ومنه من خلقه الله تعالى على هيئة البغال والحمير! ! وعبادة هذا النوع رفع الحقير وجبر الكسير والعبور من القليل إلى الكثير ومنهم من خلقه الله تعالى على صرة الإنسان وعبادة هؤلاء حفظ قواعد الأديان، ومنهم من خلق على صفة بسائط الجواهر والأعراض وعبادة هؤلاء إيصال الصحة إلى الأجسام المراض، ومنهم من خلق على أنواع الحبوب والمياه وسائر المأكولات والمشروبات، وعبادة هؤلاء إيصال الأرزاق إلى مرزوقها من سائر المخلوقات، ثم إني رأيت في هذه السماء ملائكة مخلوقة بحكم الاختلاط مزجًا، فالنصف من نار والنصف من ماء عقد ثلجًا، فلا الماء يفعل في إطفاء النار ولا النار تغير الماء عن ذلك القرار " (ص105) . وأما السماء السابعة التي شاهدها الجيلي وجاء يقص علينا مشاهداته فهي السماء السابعة، وهي عنده زحل، ويحكى أنه شاهد فيها إبراهيم عليه السلام قائمًا في هذه السماء وله منصة يجلس عليها على يمين العرش من فوق الكرسي وهو يتلو آية {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق} [إبراهيم: 39] .

ويستطرد الجيلي بعد ذلك تبجحًا أنه صعد إلى سدرة المنتهى وأنه رأى هناك الملائكة وأنها على هيئات مختلفة وأمامهم سبعة، ثم ثلاثة ثم ملك مقدم يسمى عبد الله. . وأنهم أخبروه أنهم لم يسجدوا لآدم ـ هكذا. . علمًا بأن الله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين} [الحجر: 30-31] . فأكد الله سبحانه سجود الملائكة بكل وجميع ولكن جاءنا الجيلي ليخبرنا بأن الملائكة هؤلاء الذين شاهدهم في السماء لم يؤمروا بالسجود لآدم فاكتشف ما لم يعلمه الله ورسوله. وهذا نص عبارته في ذلك: " ثم رأيت سبعة جملة هذه المائة متقدمة عليهم يسمون قائمة الكروبيين، ورأيت ثلاثة مقدمين على هذه السبعة يسمون بأهل المراتب والتمكين، ورأيت واحدًا مقدمًا على جميعهم يسمى عبد الله، وكل هؤلاء عالون ممن لم يؤمروا بالسجود لآدم، ومن فوقهم كالملك المسمى بالنون والملك المسمى بالقلم وأمثالهم أيضًا عالون، وبقية ملائكة القرب دونهم، وتحتهم مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل (ليس في ملائكة الله عز وجل ملك يسمى عزرائيل ولم يثبت ذلك في حديث صحيح أو ضعيف ولكنه اسم يجري على ألسنة العامة، ولكن هؤلاء الجهلة يلتقطون مثل هذه الأسماء ويجعلونها كشفًا وعلمًا لدنيًا وروحيًا وإلهامًا لهم فانظر وتعجب. .) وأمثالهم. ورأيت في هذا الفلك من العجائب والغرائب ما لا يسعنا شرحه " (ص107) . ولا يكتفي الجيلي ببيان كفرياته وهذيانه في السماء فينتقل إلى الأرض وهي عنده ليست أرضًا واحدة بل هو يزعم أنه شاهد سبعة أرضين وسبعة بحار ومحيطات وهاك بعضًا من هذا الهذيان الذي يزعم فيه الجيلي أنه رأى فيه الخضر وموسى، وأفلاطون وأرسطو والاسكندر، إلى هذيان وكفر لا يسع المؤمن عند سماعه وقراءته إلا أن يقول (يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك) وأن يقول أيضًا (الحمد لله الذي عافانا وما علينا ووقانا) وهاك أخي القارئ شيئًا من هذا الهذيان:

" إن الله تعالى لما بسط الأرض جعلها على قرني ثور يسمى البرهوت وجعل الثور على ظهر الحوت في هذا البحر يسمى البهموت، وهو الذي أشار إليه الحق تعالى بقوله {وما تحت الثرى} [طه: 6] . ومجمع البحرين هذا هو الذي اجتمع فيه موسى عليه السلام بالخضر على شطه، لأن الله تعالى كان قد وعده بأن يجتمع بعبد من عباده على مجمع البحرين، فلما ذهب موسى وفتاه حاملًا لغذائه ووصلا إلى مجمع البحرين لم يعرفه موسى عليه السلام إلا بالحوت الذي نسيه الفتى على الصخرة وكان البحر مدًا، فلما جزر بلغ الماء إلى الصخرة فصارت حقيقة الحياة في الحوت، فاتخذ سبيله في البحر سربًا، فعجب موسى من حياة حوت ميت قد طبخ على النار، وهذا الفتى اسمه يوشع بن نون، وهو أكبر من موسى عليه السلام في السن سنة شمسية وقصتهما مشهورة، وقد فصلنا ذلك في رسالتنا الموسومة (بمسامرة الخليل ومسايرة الصحيب) فليتأمل فيه. سافر الإسكندرية ليشرب من هذا الماء اعتمادًا على كل كلام أفلاطون أن من شرب من ماء الحياة فإنه لا يموت، لأن أفلاطون كان قد بلغ هذا المحل وشرب من هذا البحر فهو باق إلى يومنا هذا في جبل يسمى دواوند، وكان أرسطو تلميذ أفلاطون وهو أستاذ الاسكندر صحب الاسكندر في مسيره إلى مجمع البحرين، فلما وصل إلى أرض الظلمات ساروا وتبعهم نفر من العسكر وأقام الباقون في مدينة تسمى ثُبُتْ برفع الثاء المثلثة والباء الموحدة وإسكان التاء المثناة من فوق وهو حد ما تطلع الشمس عليه، وكان في جملة من صحب الاسكندر من عسكر الخضر عليه السلام، فساروا مدة لا يعلمون عددها ولا يدركون أمدها وهم على ساحل البحر، وكلما نزلوا منزلًا شربوا من الماء، فلما ملوا من طول السفر أخذوا في الرجوع إلى حيث أقام العسكر، وقد كانوا مروا بمجمع البحرين على طريقهم من غير أن يشعروا به، فما أقاموا عنده ولا نزلوا به لعدم العلامة، وكان الخضر عليه السلام قد ألهم بأن أخذ طيرًا فذبحه وربطه على ساقه، فكان يمشي ورجله في الماء، فلما بلغ هذا المحل انتعش الطير واضطرب عليه، فأقام عنده وشرب من ذلك الماء واغتسل منه وسبح فيه، فكتمه عن الاسكندر وكتم أمره إلى أن خرج، فلما نظر أرسطو إلى الخضر عليه

السلام علم أنه قد فاز من دونهم بذلك، فلزم خدمته إلى أن مات واستفاد من الخضر هو والاسكندر علومًا جمة " (ص117) . ويستطرد الجيلي شارحًا له عن طريق كشوفاته وهذيانه فيقول: ". . واعلم أن الخضر عليه السلام قد مضى ذكره فيما تقدم، خلقه الله تعالى من حقيقته {ونفخت فيه من روحي} [الحجر: 29] . فهو روح الله، فلهذا عاش إلى يوم القيامة، اجتمعت به وسألته، ومنه أروي جميع ما في هذا البحر المحيط (جميع الصوفية يزعمون أن كل ما ينقلونه من علومهم يسمعونه من الخضر، وقد زاد الجيلي أن الخضر مخلوق من روح الله. . ولا يعلم هذا الجاهل أن آدم هو الذي أمر الله جبريل أن ينفخ فيه وجبريل هو روح الله وليس الخضر خلقًا خاصًا) . واعلم أن هذا البحر المحيط المذكور، وما كان منه منفصلًا عن جبل (ق) مما يلي الدنيا فهو مالح وهو البحر المذكور، وما كان منه متصلًا بالجبل فهو وراء المالح، فإنه البحر الأحمر الطيب الرائحة وما كان من وراء جبل (ق) متصلًا بالجبل الأسود فإنه البحر الأخضر، وهو من الطعم كالسم القاتل، ومن شرب منه قطرة هلك، وفني لوقته، وما كان منه وراء الجبل يحكم الانفصال والحيطة والشمول بجميع الموجودات فهو البحر الأسود الذي لا يعلم له طعم ولا ريح ولا يبلغه أحد، بل وقع به الأخبار، فعلم وانقطع عن الآثار فكتم. وأما البحر الأحمر الذي نشره كالمسك الأذفر فإنه يعرف بالبحر الأسمى ذي الموج الأنمى، رأيت على ساحل هذا البحر رجالًا مؤمنين، ليس لهم عبادة إلا تقريب الخلق إلى الحق، قد جبلوا على ذلك، فمن عاشرهم أو صاحبهم عرف الله بقدر معاشرتهم، وتقرب إلى الله بقدر مسايرتهم، وجوههم كالشمس الطالع والبرق اللامع، يستضيء بهم الحائر في تيهات القفار، ويهتدي بهم التائه في غيابات البحار، إذا أرادوا السفر في هذا البحر نصبوا شركًا لحيتانه، فإذا اصطادوا ركبوا عليها لأن مراكب هذا البحر حيتانه، ومكتسبه لؤلؤه ومرجانه، ولكنهم عند أن يستووا على ظهر هذا الحوت ينتعشون بطيب

رائحة البحر فيغمى عليهم، فلا يفيقون إلى أنفسهم، ولا يرجعون إلى محسوسهم ما داموا راكبين في هذا البحر، فتسير بهم الحيتان إلى أن يأخذوا حدها من الساحل، فتقذف بهم في منزل من تلك المنازل، فإذا وصلوا إلى البر وخرجوا من ذلك البحر، رجعت إليهم عقولهم، وبان لهم محصولهم فيظفرون بعجائب وغرائب لا تحصر، أقل ما يعبر عنها، بأنها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " (ص118) . وفي ختام هذا الهذيان يقول الجيلي " وأما البحر السابع فهو الأسود القاطع، لا يعرف سكانه، ولا يعلم حيتانه، فهو مستحيل الوصول غير ممكن الحصول، لأنه وراء الأطوار وآخر الأكوار والأدوار، لا نهاية لعجائبه، ولا آخر لغرائبه، قصر عنه المدى فطال، وزاد على العجائب حتى كأنه المحال، فهو بحر الذات الذي حارت دونه الصفات، وهو المعدوم الموجود والموسوم والمفقود والمعلوم والمجهول والمنقول والمحتوم والمعقول، وجوده فقدانه، أوله محيط بآخره وباطنه مستو على ظاهره، لا يدرك ما فيه، ولا يعلمه أحد فيستوفيه، فلنقبض العنان عن الخوض فيه والبيان {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} [الأحزاب: 4] . وعليه التكلان " (ص118) ا. هـ. وهكذا يكون الهذيان مختومًا بقوله تعالى {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. .} [الأحزاب: 4] . . . أعرفتم الحق الذي يدعونا إليه الجيلي ومن على شاكلته من هؤلاء الملاحدة والزنادقة؟ إنه هذا الهذيان الذي لا أول له ولا آخر. ما الذي يريده هؤلاء الملاحدة؟ ! وقد يسأل سائل: وما الذي يريده هؤلاء من تأليف هذه الكتب، ونشر هذا الجنون والهذيان؟ ! ولست أنا الذي سأجيب عن هذا السؤال، وإنما سأثبت الجواب من كلام الجيلي نفسه. إنه يقول بالنص: " اعلم أن الله تعالى إنما خلق جميع الموجودات لعبادته، فهم مجبولون على

ذلك مفطورون عليه من حيث الأصالة، فما في الوجود شيء إلا هو يعبد الله بحاله ومقاله وفعاله، بل بذاته وصفاته، فكل شيء في الوجود مطيع لله تعالى، لقوله تعالى للسماوات والأرض {ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين} [الأحزاب: 4] . وليس المراد بالسماوات إلا أهلها، ولا بالأرض إلا سكانه. وقال تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] . ثم شهد لهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنهم يعبدونه بقوله (كل ميسر لما خلق له) لأن الجن والإنس مخلوقون لعبادته وهم ميسرون لما خلقوا له، فهم عباد الله بالضرورة، ولكن تختلف العبادات لاختلاف مقتضيات الأسماء والصفات، لأن الله تعالى متجل باسمه المضل، كما هو متجل باسمه الهادي، فكما يجب ظهور أثر اسمه المنعم، كذلك يجب ظهور أثر اسمه المنتقم. واختلاف الناس في أحوالهم لاختلاف أرباب الأسماء والصفات، قال تعالى {كان الناس أمة واحدة} [البقرة: 213] . يعني عباد الله مجبولون على طاعته من حيث الفطرة الأصلية، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ليعبده من اتبع الرسل من حيث اسمه المضل، فاختلف الناس وافترقت الملل وظهرت النحل، وذهبت كل طائفة إلى ما علمته أنه صواب. ولو كان ذلك العلم عند غيرها خطأ ولكن حسنه الله عندها ليعبدوه من الجهة التي تقتضيها تلك الصفة المؤثرة في ذلك الأمر، وهذا معنى قوله {ما من دابة في الأرض إلا هو آخذ بناصيتها} [هود: 56] . فهو الفاعل بهم على حسب ما يريد مريده، وهو عين ما اقتضته صفاته، فهو سبحانه وتعالى يجزيهم على حسب مقتضى أسمائه وصفاته، فلا ينفعه إقرار أحد بربوبيته ولا يضره جحود أحد بذلك، بل هو سبحانه وتعالى يتصرف فيهم على ما هو مستحق لذلك من تنوع عباداته التي تنبغي لكماله، فكل من في الوجود عابد لله تعالى، مطيع لقوله تعالى {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44] .، لأن من تسبيحهم ما يسمى مخالفة ومعصية وجحودًا وغير ذلك، فلا يفقهه كل أحد، ثم إن النفي إنما وقع على الجملة، فصح أن يفقهه البعض؛ فقوله {ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44] . يعني من حيث الجملة، فيجوز أن يفقهه بعضهم " (ص120) .

وبعد أن يذكر الجيلي طوائف الناس ومللهم يقول: " فكل هذه الطوائف عابدون لله تعالى كما ينبغي أن يعبد لأنه خلقهم لنفسه لا لهم فهم له كما يستحق ثم إنه سبحانه وتعالى أظهر في هذه الملل حقائق أسمائه وصفاته فتجلى في جميعها بذاته فعبدته جميع الطوائف " (ص122) . ويشرح هذا المعنى تفصيليًا فيقول: " فأما الكفار فإنهم عبدوه بالذات، لأنه لما كان الحق سبحانه وتعالى حقيقة الوجود بأسره والكفار من جملة الوجود وهو حقيقتهم فكفروا أن يكون لهم رب لأنه تعالى حقيقتهم ولا رب له بل هو الرب المطلق، فعبدوه من حيث ما تقتضيه ذواتهم التي هو عينها (وما دام أنهم في زعمه وكفره هم عين الله فهم ينفذون لثبته وأمره بل هم الله فلا حاجة بهم إلى أن يعلموا ذلك أو لا يعلموه. وبالتالي فكفرهم بإله غيرهم وخارج عن طبيعتهم هو عين الإيمان وعين الحق في نظر الجيلي الزنديق ومن على شاكلته من هؤلاء الملاحدة الذين لم تعرف الأرض أفجر ولا أكفر منهم) . ثم من عبد منهم الوثن فلسر وجوده سبحانه بكماله بلا حلول ولا مزج في كل فرد من أفراد ذوات الوجود، فكان تعالى حقيقة تلك الأوثان التي يعبدونها فما عبدوا إلا الله " (ص122) . وأظن أنه ليس هناك عبارة أصرح وأوضح من هذه العبارات تبين المقصود والمآل الذي يرمي المتصوفة والوصول إليه. ويستطرد الجيلي مبينًا عقائد الناس وأنهم جميعًا على حق. فيقول عن اليهود: " وأما اليهود فإنهم يتعبدون بتوحيد الله تعالى ثم بالصلاة في كل يوم مرتين. . ويتعبدون بالاعتكاف يوم السبت، وشرط الاعتكاف عندهم أن لا يدخل في بيته شيئًا مما يتمول به، ولا مما يؤكل، ولا يخرج منه شيئًا، ولا يحدث فيه نكاحًا ولا بيعًا ولا عقدًا، وأن يتفرغ لعبادة الله تعالى لقوله تعالى في التوراة:

(أنت وعبدك وأمتك لله تعالى في يوم السبت) ، فلأجل هذا حرم عليهم أن يحدثوا في يوم السبت شيئًا مما يتعلق بأمر دنياهم، ويكون مأكوله مما جمعه يوم الجمعة، وأول عندهم إذا غربت الشمس من يوم الجمعة، وآخره الاصفرار من يوم السبت. وهذه حكمة جليلة؛ فإن الحق تعالى خلق السماوات والأرضين في ستة أيام، وابتدأها في يوم الأحد ثم استوى على العرش في اليوم السابع وهو يوم السبت، فهو يوم الفراغ، فلأجل هذا عبد الله اليهود بهذه العبادة في هذا اليوم إشارة إلى الاستواء الرحماني وحصوله في هذا اليوم فافهم " (ص127) . ثم يقول مادحًا النصارى كذلك فيقول: " وأما النصارى فإنهم أقرب من جميع الأمم الماضية إلى الحق تعالى، فهم دون المحمديين، سببه أنهم طلبوا الله تعالى فعبدوه في عيسى ومريم وروح القدس، ثم قالوا بعدم التجزئة، ثم قالوا بمقدمه على وجوده في محدث عيسى وكل هذا تنزيه في تشبيه لائق بالجناب الإلهي ". أي أن فعل النصارى هذا من تشبيه الله بخلقه ومن عبادة الثلاث ومن اتخاذ أرباب مع الله كل ذلك لائق في عقيدة عبد الكريم الجيلي ولكنه يراهم أيضًا مقصرون لأنهم حصروا الله في ثلاث نقط، والله عنده لا ينحصر في ثلاثة لأن كل موجود هو الله. هذه هي الغاية التي يسعى هؤلاء الزنادقة سعيًا حثيثًا إليها. إنها التسوية بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والكفر والإيمان، وإبليس وجبريل، ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو جهل، والخمر والماء، والأخت والأجنبية، والزواج والزنا واللواط، والقتل ظلمًا والرحمة، والتوحيد والشرك، فلا ضلال في الأرض إلا في نظر القاصرين فقط، وأما العارفون فكل هذه الموجودات شيء واحد بل ذات واحدة تعددت وجوداتها، وتعددت أشكالها وألوانها وهي حقيقة

واحدة ـ وبهذا الدين الذي لم تعرف البشرية أظلم ولا أفجر ولا أكفر منه ـ اعتقد هؤلاء الزنادقة وألبسوا هذا الدين الفاجر آيات القرآن وأحاديث النبي الكريم، ووصفوا أنفسهم بأنهم خير الناس وأعلمهم وأتقاهم، وهذه هي حالهم في الظلم والكفر والفجور، وهدم دين الإسلام وإحلال شرائع الشيطان مكان شريعة الرحمن، وطمس صفات الله ونوره سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا. وأستغفر الله من نقل هذا الكفر وتسطيره. فإنه كفر لم تقله اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا الصابئة. . ورحم الله الإمام عبد الله بن المبارك الذي كان يقول: إنا لنحكي كفر اليهود والنصارى ونستعظم أن نحكي كفر الجهمية. . فكيف لو رأى كفر هؤلاء الصوفية الملاحدة ماذا كان يقول في ذلك؟ ! حقًا إن هذا لشيء عظيم ولكننا مضطرون أن نذكر كفرهم لندحضه ولنبينه للناس ليحذرون بعد أن عم شرهم البلاد والعباد، وبعد أن اغتر بهم جمع غفير من المسلمين، فظنوا أن الحق مع هؤلاء فاتبعوهم حتى صرفوهم عن دين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأوصلوهم إلى هذه النهاية المزرية التي يستحيل على الإنسان إذا وصلها أن يميز بين خير وشر، وهدى وضلالة، لأن كل هذه الأضداد ستكون عنده شيئًا واحدًا. ومع ذلك فإن الجيلي يستطرد في هذا الباب شارحًا مراده تمامًا فيقول: " ولم يفتقر في ذلك إلى علمهم، ولا يحتاج إلى نياتهم، لأن الحقائق ولو طال إخفاؤها لا أن تظهر " ا. هـ. يعني أن الله لا يحتاج أن يعلم الكافر به ما دام أن وجود هذا الكافر هو وجود الله، وأن هذه الحقيقة لا بد وأن تظهر للعيان يومًا ما. . ويمضي الجيلي شارحًا معتقده فيقول. . " وأما الطباعية فإنهم عبدوه من حيث صفاته الأربع. .، لأن أربعة الأوصاف الإلهية. . التي هي الحياة والعلم والقدرة والإرادة أصل بناء الوجود

فالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة مظاهرها في عالم الأكوان، فالرطوبة مظهر الحياة، والبرودة مظهر العلم، والحرارة مظهر الإرادة، واليبوسة مظهر القدرة. وحقيقة هذه المظاهر ذات الموصوف بها سبحانه وتعالى. . فعبدت هذه الطبائع لهذا السر فمنهم من علم ومنهم من جهل العالم سابق، والجاهل لاحق فهم عابدون للحق من حيث الصفات، ويؤول أمرهم إلى السعادة كما آل أمر من قبلهم إليها بظهور الحقائق التي بني أمرهم عليها " (ص123-124) . وهكذا يقرر الجيلي أن الفلاسفة الطبائعيين الذين قالوا برجوع الطبيعة إلى العناصر الأربعة هم عابدون لله شاؤوا أم أبوا، علموا أم جهلوا، وأن أمرهم إلى السعادة الأبدية. ويستدل لهذا الكفر الشنيع أيضًا بالقرآن فيقول: " والدليل من القرآن أن الله قال في الأحزاب المختلفين {كل حزب بما لديهم فرحون} [المؤمنون: 53] . فيقول: " إن فرحهم هذا في الدنيا والآخرة، فكل حزب يفرح بما عنده في الدنيا، ويفرح به أيضًا في الآخرة عندما يطلع الجميع أنه لا ثمة إلا الله وأنهم جميعًا مظاهر للذات الإلهية، وليسوا شيئًا خارجًا عنها ". وهكذا يستخدم القرآن أيضًا في هذا الكفر والباطل الذي لم تعرف البشرية له مثيلًا في كل تاريخها فقد ارتكز في الفطرة أن هناك حقًا وباطلًا، هدى وضلالًا، نورًا وظلامًا، كذبًا وصدقًا، وإيمانًا. .، ولكن عند هؤلاء الصوفية كل هذا شيء واحد وحق واحد اختلفت مظاهره ولم تختلف حقيقته فالجنة والنار كلاهما نعيم، وإبليس وجبريل كلاهما عابد، بل معبود، بل شيء تعددت صفاته بتعدد موجوداته. . ويستطرد الجيلي في شرح كفره وفجوره فيقول: " وأما الثنوية فإنهم عبدوه من حيث نفسه تعالى، لأنه تعالى جمع الأضداد بنفسه، فشمل المراتب الحقية والمراتب الخلقية، وظهر في الوصفين بالحكمين، وظهر في الدارين بالنعتين، فما كان منسوبًا إلى الحقيقة الحقية فهو الظاهر في الأنوار وما كان منسوبًا إلى الحقيقة الخلقية فهو عبارة عن الظلمة، فعبدوا النور والظلمة لهذا السر الإلهي الجامع للوصفين والضدين والاعتبارين والحكمين

كيف شئت من أي حكم شئت، فإنه سبحانه يجمعه وضده بنفسه. فالثنوية عبدوه من حيث هذه اللطيفة الإلهية مما يقتضيه في نفسه سبحانه وتعالى، فهو المسمى بالحق، وهو المسمى بالخلق، فهو النور والظلمة " (ص125) ا. هـ. بهذا الوضوح شرح الجيلي مذهب الفلاسفة الصوفية الزنادقة الملاحدة، وبهذا التفصيل والبيان يستطرد أيضًا قائلًا: " وأما المجوس فإنهم عبدوه من حيث الأحدية، فكما أن الأحدية مفنية لجميع المراتب والأسماء والأوصاف، كذلك النار فإنها أقوى الاستقصاءات وأرفعها، فإنها مفنية لجميع الطبائع بمحاذاتها، لا تقاربها طبيعة إلا تستحيل إلى النارية لغلبة قوتها، فكذلك الأحدية لا يقابلها اسم ولا وصف إلا يندرج فيها ويضمحل، فلهذه اللطيفة عبدوا النار وحقيقتها ذاتها وتعالى ". فيجعل المجوس قسمًا غير الثنوية والمعلوم أنهم قسم واحد فالثنوية القائلون بالنور والظلمة وإله للخير وإله للشر هم أيضًا المجوس عبدة النار التي يجعلونها ستارًا وعلامة لإلهم إله الخير في زعمهم ولكن الجيلي الملحد يجعل هؤلاء أيضًا عبدة النيران من أهل الحق والتوحيد وأن عبادتهم للنار حق أقوى العناصر وأرفعها ويقول والنار حقيقتها ذات الله تعالى. فأي كفر يا قوم في الأرض أعظم من هذا وأكبر. . ويمدح الجيلي المجوس فيقول: " فلما انتشقت مشام أرواح المجوس لعطر هذا المسك زكمت عن شمه سواه فعبدوا النار وما عبدوا إلا الواحد القهار " ا. هـ (ص126) . فأي تصريح عن عقائد القوم أبلغ من هذا. . ثم يقول: " وأما الدهرية (أي الاسم) فإنهم عبدوه من حيث الهوية (الدهرية: هم القائلون بأنه لا إله والحياة مادة فما هي أرحام تدفع وأرض يبلع واسمهم هذا مأخوذ من قوله تعالى {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون} [الجاثية: 24] فقال عليه السلام:

الغزالي وطريق الكشف

(لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر) ". قلت: هذا إبليس والزنادقة لم يصل إلى هذا الحد في الكفر فالمقصود بقول رسول الله [إن الله هو الدهر] هو أنه سبحانه وتعالى مقدر المقادير؛ فسب الأيام سب لله لأنه هو مقدر المقادير سبحانه وتعالى والزمان لا دخل له في ذلك. فنهانا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن سب الزمان لأن هذا من ثم يتوجه إلى الله سبحانه وتعالى. وليس مقصود الرسول حتمًا أن الله هو الزمان لأن الله جل وعلا هو خالق الزمان والمكان والخالق غير المخلوق. وأما الدهرية فإنهم لا يؤمنون بإله أصلًا والجيلي يجعل هؤلاء الملاحدة عبادًا لله. . انظر. . الغزالي وطريق الكشف لعل من العجائب والغرائب أن يسقط رجل في طريق التصوف كالغزالي رحمه الله وعفا عنه. وعلى ما كان منه فقد كان من علماء الشريعة. ولكن لقصر باعه -رحمه الله- في علم السنة ومعرفة صحيح الحديث من ضعيفه فقد اغتر بما عليه الصوفية من ظاهرهم، وما يبدونه ويعلقونه من الورع والتقوى، ولما كان عنده من الفلسفة الأولى التي دخل في بطنها ولم يستطع الخروج منها على حد قول تلميذه الإمام ابن العربي المالكي رحمه الله فإنه قد دون للمتصوفة ما دون في كتابه إحياء علوم الدين. ومن ذلك ما نقله عنهم في زعمهم بالكشف حيث يقول: " فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر، وفاض على صدورهم النور، لا بالتعليم والدراسة والكتابة للكتب، بل بالزهد في الدنيا والتبري من علائقها، وتفريغ القلب من شواغلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى. فمن كان لله، كان الله له - وزعموا أن الطريق في ذلك، أولًا بانقطاع علائق الدنيا بالكلية، وتفريغ القلب منها، وبقطع الهمة عن الأهل والمال والولد والوطن، وعن العالم والولاية والجاه، بل يصير قلبه إلى حالة يستوي فيها وجود الشيء وعدمه. ثم يخلوا بنفسه في زاوية مع الاقتصار على الفرائض

والرواتب، ويجلس فارغ القلب، ولا يفرق فكره بقراءة قرآن، ولا بالتأمل في تفسيره، ولا يكتب حديثًا ولا غيره. بل يجتهد أن لا يخطر بباله شيء سوى الله تعالى. فلا يزال، بعد جلوسه في الخلوة، قائلًا بلسانه: الله. . الله. . على الدوام، مع حضور القلب، حتى ينتهي إلى حالة يترك تحريك اللسان ويرى كأن الكلمة جارية على لسانه. ثم يصير عليه إلى أن يمحي عن القلب صورة اللفظ وحروفه وهيئة الكلمة، ويبقي معنى الكلمة مجردًا في قلبه حاضرًا فيه، كأنه لازم له، لا يفارقه، وله اختيار إلى أن ينتهي إلى هذا الحد، واختيار في استدامة هذه الحالة بدفع الوسواس. وليس له اختيار في استجلاب رحمة الله تعالى. بل هو بما فعله صار متعرضًا لنفحات رحمة الله، فلا يبقى إلا الانتظار لما يفتح الله من الرحمة، كما فتحها على الأنبياء والأولياء بهذه الطريق. وعند ذلك إذا صدقت إرادته، وصفت همته، وحسنت مواظبته، فلم تجاذبه شهواته، ولم يشغله حديث النفس بعلائق الدنيا - تلمع لوامع الحق في قلبه، ويكون في ابتدائه كالبرق الخاطف ثم يلبث ثم يعود وقد يتأخر. وإن عاد فقد يثبت، وقد يكون مختطفًا. وإن ثبت قد يطول ثباته وقد لا يطول، وقد يتظاهر أمثاله على التلاحق وقد يقتصر على فن واحد. ومنازل الأولياء الله تعالى فيه لا تحصر، كما لا يحصى تفاوت خلقهم وأخلاقهم - وقد رجع هذا الطريق إلى تطهير محض من جانبك، وتصفية وتجليات، ثم استعداد وانتظار فقط " ا. هـ فانظر قول الغزالي عن الصوفي الذي يريد الوصول إلى الكشف (ويجلس فارغ القلب، مجموع الهم، ولا يفرق فكره بقراءة القرآن ولا بالتأمل في تفسير ولا يكتب حديثًا ولا غيره. . بل يقول. . الله الله على الدوام. .) فهل وجد مثل هذا الأمر في كتاب أو سنة أو أنه عمل مبتدع يريد به صاحبه غاية لا تحصل له، وهي رؤية الله أو أنوار الله، أو الملائكة أو رسول الله؟ !

وهل يرى الصوفي من وراء هذا الذكر المبتدع غير طوالع نار الشياطين، وبوارق كيدهم، ولوائح طلوعهم على من جعل له غاية غير غايات الدين وطريقًا غير طريق المؤمنين الذي سنه لنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يسن لنا الرسول أن يجلس أحدنا في زاوية مظلمة ولا يجعل على خاطره شيئًا غير الله وينتظر أن ينزل عليه الوحي والكشف. . وبالطبع من جعل له غاية غير غايات الكتاب والسنة تلاعبت به الشياطين وظن أن ما تنزل عليه إنما هو من الله وما هو من الله. . والغزالي الذي قرر هذا الكلام للصوفية وساعد في نشر زندقتهم وكفرهم لم يتقدم فيما أعلمه خطوة أخرى وجعل من تنزل الملائكة على الصوفية وذلك فيما أظن وأعلم أن الرجل يعلم أن من قال بنزول الوحي عليه بعد النبي فقد كفر ولذلك أنكر الغزالي أن تكون الملائكة تنزل على الأولياء والصوفية كما تنزل على الأنبياء، واكتفى بما ذكرناه عنه آنفًا أن الأولياء والصوفية تشرق على قلوبهم هذه العلوم التي يقولونها إشراقًا من الغيب فضلًا من الله لهم ورحمة -في زعمه- بهم. لقد اكتفى الغزالي في تقريره الكشف الصوفي بإشراق العلوم في القلب وسماع الصوت أيضًا كما قال: " الخلوة لا تكون إلا في بيت مظلم فإن لم يكن له مكان مظلم فليلق رأسه بجيبه، أو يتدثر بكساء أو إبراز ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق ويشاهد جلال - الحضرة البوبية) (إحياء علوم الدين ج2 ص66) . وعلى الرغم من أن الغزالي جارى الصوفية في مزاعمهم هذه، وقرر ما ابتدعوه من الخلوة والظلام ولف الرأس وانتظار العلوم إلا أن إنكاره نزول الملك على الصوفي لم يعجب كبار الصوفية، وأهل الحقيقة منهم، ولذلك عنفوه وجهلوه وجعلوا هذا منه لقلة الذوق وعدم التحقق بنفسه وعدم مقابلته لمن هو أعلى منه مقامًا، وأحسن منه حالًا، وأنه لو التقى بمن هو أعظم منه وأكبر منه في هذا الطريق لعلم أن الملائكة ينزلون على أولياء الصوفية تمامًا كما ينزلون على الأنبياء وأنه لا فرق إلا في نوع العلوم فقط لا في كيفية النزول

ولذلك كتب عبد الوهاب الشعراني في كتابه اليواقيت والجواهر اعتراض الغزالي وإنكاره لنزول الملك على الصوفي وأتى بالجواب من ابن عربي الذي خطأ الغزالي ورد عليه في عدم جواز نزول الملك على الصوفي فقال: " (فإن قلت) قد ذكر الغزالي في بعض كتبه أن من الفرق بين تنزل الوحي على قلب الأنبياء وتنزله على قلوب الأولياء نزول الملك فإن الولي يلهم ولا ينزل عليه قط، والنبي لا بد له من الوحي من نزول الملك به فهل ذلك صحيح؟ (فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الرابع والستين وثلاثمائة أن ذلك غلط والحق أن الكلام في الفرق بينهما إنما هو في كيفية ما ينزل به الملك لا في نزول الملك إذ الذي ينزل به الملك على الرسول أو النبي خلاف ما ينزل به الملك على الولي التابع فإن الملك لا ينزل على الولي التابع إلا بالاتباع لنبيه وبإفهام ما جاء به بما لم يتحقق له علمه كحديث قال العلماء بضعفه مثلًا فيخبره ملك الإلهام بأنه صحيح فللولي العمل به في حق نفسه بشروط يعرفها أهل الله عز وجل لا مطلقًا. وقد ينزل الملك على الولي ببشرى من الله بأنه من أهل السعادة كما قال تعالى في الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا؛ وهذا وإن كان إنما يقع عند الموت فقد يعجل الله تعالى به لمن يشاء من عباده *قال الشيخ: وسبب غلط الغزالي وغيره في منع تنزل الملك على الولي عدم الذوق وظنوا بأنهم قد علموا بسلوكهم جميع المقامات فلما ظنوا ذلك بأنفسهم ولم يروا ملك الإلهام نزل عليهم أنكروه وقالوا ذلك خاص بالأنبياء فذوقهم صحيح وحكمهم باطل مع أنهؤلاء الذين منعوا قائلون بأن زيادة الثقة مقبولة وأهل الله كلهم ثقات. قال ولو أن أبا حامد وغيره اجتمعوا في زمانهم بكامل من أهل الله وأخبرهم بتنزل الملك على الولي لقبلوا ذلك ولم ينكروه. قال وقد نزل علينا ملك الإلهام بما لا يحصى من العلوم وأخبرنا بذلك جماعات كثيرة ممن كان لا يقول بقولنا فرجعوا إلينا فيه ولله الحمد ". وهكذا يقرر ابن عربي، الفيلسوف الصوفي والذي يسمونه الشيخ الأكبر، جواز، بل وقوع نزول الملائكة على شيوخ الصوفية وأن هذا قد وقع له ومد لمشايخ كثيرين ممن هم على شاكلته من أهل الكذب والزيغ. وإليك في

ابن عربي والكشف الصوفي

الفصل الآتي طائفة من كلام ابن عربي في هذا الصدد: ابن عربي والكشف الصوفي لم أطلع فيما اطلعت على كاتب صوفي أكثر تبجحًا فيما زعمه من العلم الباطني أكثر من ابن عربي الأندلسي الأصل، المغربي، ثم الشامي، سكنًا ووفاة. لقد ملأ هذا الكاتب كتبه مدحًا لنفسه، وأنه لا يستطيع أحد مجاراته قط. فقد زعم لنفسه الإطلاع على كل ما سطره الفلاسفة قديمًا وما كتبه اليهود والنصارى. . والمطالع لكتبه يجد هذا واضحًا جدًا في مؤلفاته فقد ادعى لنفسه ختم الولاية الكبرى الخاصة وأنه خاتم الأولياء كما كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتم الأنبياء، وكان في هذا الكذب متبعًا لمن سبقه ممن ادعى ختم الولاية كالترمذي الذي يسمونه الحكيم وهو محمد بن علي الترمذي. . وادعى لنفسه العلم الكامل المحيط بالقرآن والسنة، وأن تآليفه كلها معصومة من الخطأ، وأنه لا يكتب شيئًا إلا عن وحي يوحى، بل زعم أن أبواب كتابه الفتوحات المكية توقيفي يتبع فيه ما يوحى إليه وليس له يد في ترتيب فصوله وأبوابه. . وأنه أحيانًا يتكلم بشيء بعد شيء لا رابط بينهما كما نزل في القرآن {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238] . بعد آيات الطلاق ولا رابط بينهما. . وأن علومه كلها محفوظة من الخطأ. وإليك نصوص عباراته في ذلك كما جمعها الصوفي الكبير عبد الوهاب الشعراني من ثنايا كتاب (الفتوحات المكية) وضمنها عبد الوهاب في كتاب أسماه اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الكبائر: " قال في الباب السادس والستين وثلاثمائة من الفتوحات المكية جميع ما أتكلم به في مجالسي وتآليفي إنما هو من حضرة القرآن العظيم فإني أعطيت مفاتيح العلم فلا أستمد قط في علم من العلوم إلا منه كل ذلك حتى لا أخرج من مجالسة الحق تعالى في مناجاته بكلامه أو بما تضمنه كلامه وقال في الكلام على الآذان من الفتوحات: اعلم أني لم أقرر بحمد الله تعالى في كتابي هذا ولا غيره

قط أمرًا غير مشروع، وما خرجت عن الكتاب والسنة في شيء من تصانيفي وقال في الباب السادس والستين وثلاثمائة: جميع ما أكتبه في تصانيفي ليس هو عن فكر ولا روية وإنما هو عن نفث في روعي من ملك الإلهام وقال في الباب السابع والستين وثلاثمائة ليس عندي بحمد الله تقليد لأحد غير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعلومنا كلها محفوظة من الخطأ وقال في الباب العاشر من الفتوحات: نحن بحمد الله لا نعتمد في جميع ما نقوله إلا على ما يلقيه الله تعالى في قلوبنا لا على ما تحتمله الألفاظ وقال في الباب الثالث والسبعين وثلاثمائة: جميع ما كتبته وأكتبه إنما هو عن إملاء إلهي وإلقاء رباني أو نفث روحاني في روع كياني كل ذلك لي بحكم الإرث لا بحكم الاستقلال فإن النفث في الروع منحط عن رتبة وحي الكلام ووحي الإشارة والعبارة ففرق يا أخي بين وحي الكلام ووحي الإلهام تكن من العلماء الأعلام وقال في الباب السابع والأربعين من الفتوحات: اعلم أن علومنا وعلوم أصحابنا ليست من طريق الفكر وإنما هي من الفيض الإلهي وقال في الباب السادس والأربعين ومائتين: منها جميع علومنا من علوم الذوق لا من علم بلا ذوق فإن علوم الذوق لا تكون إلا عن تجل إلهي والعلم قد يحصل لنا بنقل المخبر الصادق وبالنظر الصحيح وقال في الباب التاسع والثمانين منها والباب الثامن والأربعين وثلاثمائة: اعلم أن ترتيب أبواب الفتوحات لم يكن عن اختيار مني ولا عن نظر فكري وإنما الحق تعالى يملي لنا على لسان ملك الإلهام جميع ما نسطره وقد نذكر كلامًا بين كلامين لا تعلق له بما قبله ولا بعده كما في قوله تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى بين آيات طلاق ونكاح وعدة ووفاة تتقدمها وتتأخر عنها انتهى وأطال في ذلك وقال في الباب الثامن من الفتوحات: اعلم أن العارفين رضي الله تعالى عنهم لا يتقيدون في تصانيفهم بالكلام فيما بوبوا عليه فقط وذلك لأن قلوبهم عاكفة على باب الحضرة الإلهية مراقبة لما يبرز لهم منها فمهما برز لهم كلام بادروا إلى إلقائه على حسب ما حد لهم فقد يلقون الشيء إلى ما ليس في جنسه امتثالًا لأمر ربهم وهو تعالى يعلم حكمة ذلك. انتهى. فهذه النقول

تدل على أن كلام الكمل لا يقبل الخطأ من حيث هو والله أعلم " (اليواقيت والجواهر ص24، 25 ج2) . وفي نص آخر، يقرر الشعراني ما زعمه شيخه ابن عربي في أنه لا فرق بين وحي الأولياء وحي الأنبياء إلا أن وحي الأنبياء تشريع جديد، وأما الأولياء فإن وجهتهم كشف وعلم واتباع لمشرع الأنبياء. . " وقال في الباب الثالث والخمسين وثلاثمائة: اعلم أنه لم يجيء لنا خبر إلهي أن بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحي تشريع أبدًا إنما لنا وحي الإلهام. قال تعالى ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك ولم يذكر أن بعده وحيًا أبدًا. وقد جاء الخبر الصحيح في عيسى عليه السلام وكان ممن أوحي إليه قبل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه إذا نزل آخر الزمان لا يؤمنا إلا بنا أي بشريعتنا وسنتنا مع أن له الكشف التام إذا نزل زيادة على الإلهام الذي يكون له كما الخواص من هذه الأمة. (فإن قلت) فإذن الإلهام خبر إلهي (فالجواب) نعم وهو كذلك إذ هو إخبار من الله تعالى للعبد على يد ملك مغيب عن الملهم. (فإن قلت) فهل يكون إلهام بلا وساطة أحد (فالجواب) نعم قد يلهم العبد من الوجه الخاص الذي بين كل إنسان وربه عز وجل فلا يعلم به ملك الإلهام لكن علم هذا الوجه يتسارع إلى إنكاره ومنه إنكار موسى على الخضر عليهما الصلاة والسلام وعذر موسى في إنكاره أن الأنبياء ما تعودوا أخذ أحكام شرعهم إلا على يد ملك لا يعرف شرعًا من غير هذا الطريق فعلم أن الرسول والنبي يشهدان الملك ويريانه رؤية بصر عندما يوحي إليهما وغير الرسول يحس بأثره ولا يراه فيلهمه الله تعالى بوساطته ما شاء أن يلهمه أو يعطيه من الوجه الخاص بارتفاع الوسائط وهو أجل الإلقاء، وأشرفه إذا حصل الحفظ لصاحبه ويجتمع في هذا الرسول والولي أيضًا " ا. هـ (اليواقيت والجواهر ص84 ج2) . وقول ابن عربي هنا " أو يلهمه أو يعطيه من الوجه الخاص بارتفاع الوسائط (أي بين الولي والله) وهو أي هذا الإلقاء بهذه الطريقة أجل الإلقاء وأشرفه ـ إذا حصل الحفظ لصاحبه ـ ويجتمع في هذا الرسول والولي أيضًا. . "

ا. هـ. . فانظر كيف جعل الولي كالنبي في تلقي الإلقاء الخاص من الله بلا وساطة ولم يكتف ابن عربي بتقرير هذا أيضًا بل راح يزعم أن هناك صورة أخرى للوحي للأولياء وهي انطباع صورة ما يريده الله في ذهن الولي قال الشعراني: " (فإن قلت) فما حقيقة الوحي (فالجواب) كما قال الشيخ في الباب الثالث والسبعين من الفتوحات أن حقيقته هو ما تقع به الإشارة القائمة مقام العبارة في غير عبارة إذ العبارة يتوصل منها إلى المعنى المقصود منها ولهذا سميت عبارة بخلاف الإشارة التي هي الوحي فإنها ذات المشار إليه والوحي هو المفهوم الأول والإفهام الأول ولا عجب من أن يكون عين الفهم عين الإفهام عين المفهوم منه فإن لم يحصل لك يا أخي معرفة هذه النكتة فليس لك نصيب من معرفة علم الإلهام الذي يكون للأولياء. ألا ترى أن الوحي هو السرعة ولا أسرع مما ذكرناه انتهى. (فإن قلت) فما صورة تنزل وحي الإلهام على قلوب الأولياء (فالجواب) صورته أن الحق تعالى إذا أراد أن يوحي إلى ولي من أوليائه بأمر ما تجلى إلى قلب ذلك الولي في صورة ذلك الأمر فيفهم من ذلك الولي التجلي بمجرد مشاهدته ما يريد الحق تعالى أن يعلم ذلك الولي به من تفهيم معاني كلامه أو كلام نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ علم في الضر به باليد الإلهية، كما يليق بجلاله تعالى وكما وجد العلم في شربة اللبن ليلة الإسراء. ثم إن من الأولياء من يشعر بذلك ومنهم من لا يشعر بل يقول وجدت كذا وكذا في خاطري ولا يعلم من أتاه به ولكن من عرفه فهو أتم لحفظه حينئذ من الشيطان وأطال في ذلك في الباب الثاني عشر وثلاثمائة (اليواقيت والجواهر ص84 ج2) . ويعني بالقربة الإلهية حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الثابت في مسند أحمد: رأيت ربي الليلة في أحسن صورة فقال لي يا محمد: [فيم يختصم الملأ الأعلى] فقلت: [الله أعلم] فوضع رب العزة يده على ظهري

حتى وجدت بردها في صدري فرأيت السماوات فقلت: [يا ربي في الكفارات والدرجات. .] الحديث. ويعني ابن عربي بذلك أنه كما أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ارتفع عنه الحجاب عندما وضع يده سبحانه على الكيفية التي شاءها سبحانه -على ظهر النبي فرأى النبي لذلك الملأ الأعلى وهم الملائكة- يختصمون أي يتناقشون في الكفارات والدرجات أي ما يكفر الذنوب لبني آدم، وما يعلي درجاتهم فقال الله سبحانه وتعالى مجيبًا بعد رؤيته للملائكة وسماعه لحديثهم أما الكفارات فهي إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. . وأما الدرجات فهي إطعام الطعام وإلانة في الكلام والصلاة بالليل والناس نيام. . أقول أراد ابن عربي أن يجعل للصوفية ما خص الله به الأنبياء من الرؤيا الصادقة في النوم والاطلاع على ما في السماوات من الملأ الأعلى والملائكة فزعم أنه يكون للولي الصوفي كذلك ما كان للنبي من كشف قناع قلبه ورؤيته للملأ الأعلى. ولم يكتف ابن عربي بهذا أيضًا بل زعم لنفسه وجماعته الصوفية ما لم يعلمه رسل الله أنفسهم وعلى رأسهم سيدهم وخاتمهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد زعم أن الصوفية أحيانًا ينزل عليهم الوحي مكتوبًا من السماء. وأنه أعني ابن عربي يعلم الفرق بين ما في اللوح المحفوظ من كتابه وما يكتبه المخلوقون وبذلك يستطيع أن يفرق بين المكتوب النازل من السماء والمكتوب في الأرض. . قلت لم يقل نبي قط ولا أخبرنا الله سبحانه وتعالى أن هناك بشرًا اطلع على ما في اللوح المحفوظ ولكن العجيب أن هؤلاء يزعمون العلم والإحاطة به. بل نقل الشعراني في كتابه الطبقات الكبرى عن شيخه الخواص أنه كان يعلم ما يكتب في اللوح المحفوظ ساعة بساعة. . وزعم أحمد بن المبارك أن شيخه الأمي عبد العزيز الدباغ يعلم اللوح المحفوظ ويعلم كتابته وأنه بالسريانية! والمهم هنا أن ابن عربي يقرر في فتوحاته أن وحي الأولياء كثيرًا ما ينزل مكتوبًا كما نزلت التوراة مكتوبة. . يقول الشعراني عن شيخه:

" وقد يكون ذلك كتابة ويقع هذا كثيرًا للأولياء وبه كان يوحى لأبي عبد الله قضيب البان، وغيره، كبقي بن مخلد تلميذ الإمام أحمد ـ رضي الله عنه ـ لكنه أضعف الجماعة في ذلك فكان لا يجده إلا بعد القيام من النوم مكتوبًا في ورقة انتهى (فإن قلت) فما علامة كون تلك الكتابة التي في الورقة من عند الله عز وجل حتى يجوز للولي العمل بها (فالجواب) أن علامتها كما قال الشيخ في الباب الخامس عشر وثلاثمائة أن تلك الكتابة تقرأ من كل ناحية على السواء لا تتغير كلما قلبت الورقة انقلبت الكتابة لانقلابها. قال الشيخ: وقد رأيت ورقة نزلت على فقير في المطاف يعتقه من النار على هذه الصفة فلما رآها الناس علموا أنها ليست من كتابة المخلوقين فإن وجدت تلك العلامة فتلك الورقة من الله عز وجل لكن لا يعمل بها إلا إن وافقت الشريعة التي بين أظهرنا. قال: وكذلك وقع لفقيرة من تلامذتنا أنها رأت في المنام أن الحق تعالى أعطاها ورقة فانطبقت كفها حين استيقظت فلم يقدر أحد على فتحها فألهمني الله تعالى أني قلت لها إنوِ بقلبك أنه إذا فتح الله كفك أن تبتلعيها فنوت وقربت يدها إلى فمها فدخلت الورقة في فيها قهرًا عليها فقال الولي بم عرفت ذلك فقلت ألهمت أن الله تعالى لم يرد منها أن يطلع أحد عليها وقد أطلعني الله تعالى على الفرق بين كتابة الله تعالى في اللوح المحفوظ وغيره وبين كتابة المخلوقين وهو علم عجيب رأيناه وشاهدناه انتهى (اليواقيت والجواهر ص83، 84 ج2) . . فانظر هذا الوحي الإلهي لهذه المريدة العزيزة الذي نزل في يدها وانطبقت عليه ثم ابتلعته. . وإن العالم النحرير والشيخ الكبير عرف بالكشف مراد الله فقال ابتلعيها. . إلخ. . سبحانك يا رب لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك. . ولم يكتف ابن عربي بكل ما قرره في هذا الكشف الشيطاني للصوفية من أنه تنزل عليهم الملائكة، ويشاهدون الله ويسمعون الصوت ويأتيهم الوحي مكتوبًا بل قرر أيضًا أن قلوب الأولياء تنكشف عنها الحجب فيشاهدون الجنة

وما فيها، والنار وما فيها تمامًا كما حدث للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ. قال الشعراني: " (فإن قلت) فما صورة وصول الأولياء إلى العلم بأحوال السماوات (فالجواب) يصل الأولياء إلى ذلك بانجلاء مرآة قلوبهم كما يكشفون عن أحوال أهل الجنة وأهل النار بحكم الإرث لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما رأى الجنة والنار في صلاة الكسوف ورأى في النار عمرو بن لحي الذي سيب السوائب وصاحب المحجن، وصاحبة الهرة التي حبستها حتى ماتت. وفي بعض طرق الحديث رأيت الجنة والنار في عرض هذا الحائط انتهى والله أعلم. . " ا. هـ (اليواقيت والجواهر ص88) . باختصار لم يترك ابن عربي صورة من صور الوحي الإلهي الذي يوحي به للرسل إلا أثبت مثيله ونظيره بل وأكمل منه للصوفية، وبالطبع كان لا بد للمتصوفة من أن يجيبوا عن تكفير علماء الأمة لهم ونسبتهم إلى الزندقة والمروق من الدين وذلك لادعائهم ما هو من خصوصيات الرسل رضوان الله عليهم، إذ لا فرق بين الرسول وغيره إلا الوحي، ولو كان واحد من الأمة يوحى إليه ويطلع على الغيب، ويكون وارثًا للرسول في هذا الإطلاع والتحقق لما كان للرسالة معنى، ولا للنبوة منزلة وفائدة، ما دام كل إنسان يستطيع بنفسه أن يصل إلى الله ويطلع على الغيب، وأن يعلم مراد الله على الحقيقة. ما مزية الرسول هنا وما منزلته، ما دام كل أحد إذا فعل بعض المجاهدات يكون مثله وينزل عليه الوحي ويرى الملائكة ويطلع على الملأ الأعلى، ويشاهد الله ويجلس في حضرته ويطبع الله مراده في ذهنه، ويكتب له ما شاء من الرسائل كما ادعى الحلاج أنه نزلت عليه رسائل كثيرة بخط الله، وادعى هذا ابن عربي كما مر سابقًا، لماذا يكون مسيلمة إذًا كذابًا والقرآن الذي افتراه أحسن حالًا في جوانب كثيرة من حكايات كثيرة من الصوفية التي زعموا أنهم تلقوها من

الله وملائكته. . لقد كان مسيلمة أقوى حجة وأكثر تابعًا، وأعز جيشًا من كل مشايخ التصوف الكاذبين. . وإذا قال هؤلاء بأننا علمنا أن مسيلمة كاذب بتكذيب النبي له قلنا لهم وكذلك يجب أن تحكموا على كل مشايخ التصوف الذين يزعمون نزول الوحي عليهم بتكذيب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أيضًا لهم. إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو القائل لا تقوم الساعة حتى يقوم كذابون كثيرون يزعم كل منهم أنه نبي. . وأن لا نبي بعدي وأليس كل من زعم أنه يوحى إليه قد ادعى النبوة فكيف إذا زعم أيضًا أنه يرى الله؟ ويلتقي بالملائكة ويسمع أصواتهم، ويلتقي بالخضر، وينزل عليه الكتب مكتوبة من السماء، ويطلع بقلبه على الملأ الأعلى والملأ الأسفل، أليس مسيلمة كان أقل كذبًا من هؤلاء بل وأحكم منطقًا وأعظم عقلًا؟ أقول لما علم ابن عربي ومن على شاكلته أن دعاواهم هذه لن تنطلي إلا على جاهل من أهل القبلة، وأن علماء المسلمين لا بد أن يكفروهم ويزندقوهم فإنه احتاط لذلك وأجاب عما رماه به علماء الأمة الصالحون، ورموا به أيضًا من هم على شاكلته في ادعاء العلم الغيبي والكشف الصوفي. أجاب على ذلك بأنهم على شريعة خاصة، وأن علماء الشريعة يمكن أن يحملوا كلام الصوفية على خلاف في الرأي كما هو حادث بين الشافعي والحنفي أو ينزلوا كلام المتصوفة كأنه كلام أهل الكتاب فلا يصدقونهم ولا يكذبونهم. . قال الشعراني: " (فإن قلت) قد رأينا في كلام بعضهم تكفير الأولياء المحدّثين بفتح الدال المهملة لكونهم يصححون الأحاديث التي قال الحفاظ بضعفها. (فالجواب) تكفير الناس للمحدثين المذكورين عدم إنصاف منهم لأن حكم المحدثين حكم المجتهدين فكما يحرم على كل واحد من المجتهدين أن يخالف ما ثبت عنده فكذلك المحدثون بفتح الدال وكلاهما أشرع بتقرير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. قال الشيخ محيي الدين في الباب الثالث والسبعين من الجواب السابع والخمسين: وقد وقع لنا التكفير مع علماء عصرنا لما صححنا بعض أحاديث قالوا بضعفها قال ونحن نعذرهم في ذلك لأنه ما قام عندهم على صدق كل واحد من هذه الطائفة

وهم مخاطبون بغلبة الظن ولو أنهم وفوا النظر معهم حقه لسلموا لهم حالهم كما يسلم الشافعي للحنفي حكمه ولا ينقض حكم من حكم به من الحكام. ومما اعتذروا به قولهم لو صدقت القوم في كل ما يدعونه من نحو ذلل لدخل الخلل في الشريعة لعدم العصمة فيهم فلذلك سددنا الباب وقلنا: إن الصادق من هؤلاء لا يضره سدنا هذا الباب، قال الشيخ محيي الدين ونعم ما فعلوه ونحن نسلم لهم ذلك ونصوبهم فيه ونحكم لهم بالأجر التام على ذلك ولكن إذا لم يقطعوا بأن ذلك الولي مخطئ في مخالفتهم فإن قطعوا بخطئه فلا عذر لهم فإن أقل الأحوال أن ينزلوا الأولياء المذكورين منزلة أهل الكتاب لا يصدقونهم ولا يكذبونهم انتهى (اليواقيت والجواهر ص90 ج2) . . وهذا الاعتذار والجواب عن تكفير أهل السنة لهؤلاء في غاية الجهالة أيضًا لأن ما أتى به المتصوفة مما يسمونه كشفًا ليس من الخلاف في الرأي، ولا الخلاف الفرعي، بل هو مصادم لأحكام الإسلام ومبادئ الإيمان. فالتصديق أصلًا بأنهم يعلمون من طريق الوحي كفر لأنه يناقض ما جاء به القرآن والحديث، من أن الوحي قاصر على الأنبياء فقط وأن لا نبوة بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنه من النبوة الرؤيا الصادقة فقط. . وأما سماع صوت الملك وانقشاع حجاب القلب ونزول الأوراق المكتوبة من السماء كل هذا من خصائص النبوة التي انتهت بوفاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ. . ثم ما جاء به الصوفية مما جعلوه ونسبوه إلى الكشف هو في عامته وحي إبليسي شيطاني لم يترك كفرًا في الأرض إلا نسبه إلى الدين كتبرئة إبليس من الكفر والقول بنجاة فرعون ودخوله الجنة وأن فلانًا من أهل الجنة ومن الصديقين والحال أنّ شارب الخمر زنديق، وأن فلانًا يطلع على اللوح المحفوظ، وأن فلانًا الذي يأتي (الحمارة) في الشارع ولي لله تعالى، وفلانًا القذر الذي لا يمس الماء ولا يتطهر من حدث أو جنابة ولي صالح، وفلان الذي يقول أنا الله وما في الجبة إلا الله وسبحانه ولي صالح. . إلخ.

هذا الكفر كيف يكون هذا من جنس الخلاف بين الشافعي والحنفي في قراءة الفاتحة وراء الإمام وفي نقض الوضوء من مس المرأة. . ومثل هذه الفرعيات التي كان فيها خلاف حول فهم النصوص القرآنية الحديثية. . وأما قياس ابن عربي ما جاء به المتصوفة أيضًا على كلام أهل الكتاب الذين قال الرسول فيهم لا تصدقوهم ولا تكذبوهم. . فإنه قياس بعيد أيضًا لأن هذا فيما قاله أهل الكتاب مما لا يناقض عقيدة الإسلام. وإلا كيف لا نكذب أهل الكتاب في قولهم إن الله استراح في اليوم السابع وإنه تصارع مع يعقوب (إسرائيل) وصرعه إسرائيل وإن لوطًا زنى بابنتيه وإبراهيم قدم زوجته لحاكم مصر ليحصل على إبل وغنم، وإن المسيح ابن الله وغير ذلك من الخرافات والخزعبلات وصنوف الكذب على الله والأنبياء. لا شك أن المسلم يكذب اليهود في كل ما زعموه مما هو مناقض لعقيدة الإسلام وما قرر الله سبحانه وتعالى غيره تمامًا وضده في القرآن، كيف نؤمن بكلام الصوفية وكشوفاتها وهو لا يقل في عمومه خبثًا ونجاسة عما افتراه اليهود والنصارى على الله. . كيف نصدق الصوفية في كشفهم أن الخنزير والكلب هو الله، وأن المخلوق والخالق شيء واحد، وأن القائلين بخالق فوق العرش مباين للعالم جاهلون بعقيدة التوحيد. . كيف يكون الكشف الصوفي هذا الذي يزعم أصحابه أنهم أخذوه عن الله ونقلوه بحرفيته هو الحق وأنه يجب على علماء الشريعة والإسلام أن يعاملوا الصوفية كما يعاملون اليهود والنصارى في أن لا يصدقوهم ولا يكذبوهم. . أقول بل يجب تكذيبهم في كل ما افتروه على الله وعلى رسوله مما يخالف كلام الله وكلام رسوله. ومما هو كفر صراح بواح لا يشك ولا يماري فيه من له أدنى علم بالكتاب والسنة عنده بصر وبصيرة يستطيع أن يميز فيه بين كلام الله وكلام الشياطين وبين وحي الله سبحانه الذي ينزل به جبريل الأمين محفوظًا أن يناله الشياطين أو أن يدخلوا معه ما ليس منه وبين وحي إبليس اللعين الذي يلقبه هو وأولاده وأفراخه على أوليائه من هؤلاء الكذابين والأفاكين. . فيدعون لأنفسهم ما ادعوه من كل كذب وزور وفجور. .

والعجيب أيضًا أن ابن عربي الذي نحن بصدد بيان افتراءاته في الكشوف والعلوم التي له كان يعلم أن هناك وحيًا شيطانيًا يتنزل على بعض الصوفية، وأن هناك من يحفظ منهم من تلبيس الشيطان ومنهم من لا يحفظ. يقول عبد الوهاب الشعراني أيضًا في كتابه اليواقيت فيما ينقله عن ابن عربي: " (فإن قلت) فمتى يحفظ الولي من التلبيس عليه فيما يأتيه من وحي الإلهام (فالجواب) يعرف ذلك بالعلامات؛ فمن كان له في ذلك علامة بينه وبين الله عرف الوحي الحق الإلهامي الملكي من الوحي الباطل الشيطاني حفظ من التلبيس ولكن أهل هذا المقام قليل. قال الشيخ في الباب الثالث والثمانين ومائتين: مما غلط فيه جماعة من أهل الله عز وجل كأبي حامد الغزالي وابن سيد لون (رجل بوادي اشت) قولهم إذا ارتقى الولي عن عالم العناصر وفتح لقلبه أبواب السماء حفظ من التلبيس قالوا وذلك لأنه حينئذ في عالم الحفظ من المردة والشياطين فكل ما يراه هناك حق. قال الشيخ محيي الدين وهذا الذي قالوه ليس بصحيح وإنما يصح ذلك أن لو كان المعراج بأجسامهم مع أرواحهم إن صح أن أحدًا يرث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا المعراج وأما من عرج به بخاطريته وروحانيته بغير انفصال موت وجسده في بيته مثلًا فقد لا يحفظ من التلبيس إلا أن يكون له علامة في ذلك كما مر وأطال في ذلك ثم قال واعلم أن الشيطان لا يزال مراقبًا لقلوب أهل الكشف سواء كان أحدهم من أهل العلامات أو لم يكن لأن له حرصًا على الإغواء والتلبيس لعلمه بأن الله تعالى قد يخذل عبده فلا يحفظه فيعيش إبليس بالترجي ويقول لعل وعسى فإن رأى إبليس باطن العبد محفوظًا وأنوار الملائكة قد حفت به انتقل إلى جسد ذلك العبد فيظهر له في صورة الحس أمورًا عسى أن يأخذ بها فإذا حفظ الله تعالى قلب ذلك العبد ولم ير له على باطنه سبيلًا جلس تجاه قلبه فينتظر غفلة تطرأ عليه فإذا عجز أن يوقعه في شيء يقبله منه بلا وساطة نظر في حال ذلك الولي فإن رأى أن من عادته

الأخذ للمعارف من الأرض أقام له أرضًا متخيلة ليأخذ منها فإن أيد الله تعالى ذلك العبد رده خاسئًا لاطلاعه حينئذ على الفرق بين الأرضين المتخيلة والمحسوسة وقد يأخذ الكامل من إبليس ما ألقاه إليه من الله لا من إبليس فيرده أيضًا خاسئًا وكذلك إن رأى إبليس أن حال ذلك الولي الأخذ من السماء أقام له سماء متخيلة مثل السماء التي يأخذ منها ويدرج له فيها من السموم القاتلة ما يقدر عليه فيعامله العارف بما قلناه في شأن الأرض المتخيلة والأصلية وإن رأى أن حال ذلك الولي الأخذ من سدرة المنتهى أو من ملك من الملائكة خيل له سدرة مثلها أو صورة ملك مثل ذلك الملك وتسمى له باسمه وألقى إليه ما عرف أن ذلك الملك يلقيه إليه من ذلك المقام فإن كان ذلك الشخص من أهل التلبيس فقد ظفر به عدوه وإن كان محفوظًا حفظ منه فيطرد عنه إبليس ويرمي ما جاء به أو يأخذ ذلك عن الله تعالى لا عن إبليس كما مر ويشكر الله تعالى على ذلك وإن رأى الشيطان أن حال ذلك الولي الأخذ من العرش أو من العماء أو الأسماء الإلهية ألقى إليه الشيطان بحسب حاله ميزانًا بميزان وأطال الشيخ في ذلك في الباب الثالث والثمانين ومائتين " ا. هـ (اليواقيت والجواهر ص87 ج2) . والعجيب من الغزالي أيضًا كيف ظن أن ما يزعم الصوفي نقله من السماوات لا يكون فيه شيء شيطاني لأن الله حفظ السماء من الشياطين، وكأنه قد غاب عنه أن الصوفي الذي يزعم الوصول إلى السماوات هو جالس هنا في الأرض تستهويه الشياطين وتحف به من كل جانب. ولم أر ابن عربي صدق في هذا الصدد إلا فيما نقلناه عنه آنفًا من بيان تلبيس الشياطين على الصوفية في تصويره لهم سماء متخيلة، أو سدرة المنتهى أو الملائكة. . إلخ. حتى يظن الصوفي أنه قد رأى ذلك فعلًا وأنه ينقل علمه من هناك والحال أنه ينقل عن الشياطين الذين يزخرفون له ذلك ويحيلون له ما يشاهده مما ليس هنالك هو تمامًا ما وقع لهؤلاء الصوفية ومنهم بل أولهم في ذلك هو ابن عربي هذا الذي لم يترك كفرًا في الأرض إلا سطره في كتبه

وبخاصة كتابه الفصوص (فصوص الحكم) وكتابه (الفتوحات المكية) . لقد عرف ابن عربي حقًا الطريق الذي استقى منه هو والصوفية وأنه الشياطين الذي يخيلون لهم هذه الخيالات ويوحون إليهم بهذه الكلمات. وسيجد القارئ في ثنايا هذا الكتاب نقولًا مستفيضة عن ابن عربي تبين ما هي حقيقة كشوفاته ووحيه الذي أوحي به إليه ولكني أحب أن أختم هذا الفصل في بيان موقف ابن عربي من الكشف بحقيقة موقفه من إبليس لنبين للقارئ بما لا يدع مجالًا للشك أي دين يدين به هؤلاء وأي علم يزعمون الوصول إليه وأي كشف اكتشفوه. . فمن المعلوم يقينًا عند كل مسلم أن إبليس هو رأس الشر والبلاء وأنه عدو لآدم وذريته منذ امتنع عن السجود لآدم وطرده الله بسبب ذلك من رحمته وجعل الله عليه اللعنة إلى يوم يبعثون وأنه يكون في الآخرة في جهنم كما قال تعالى: {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم} [إبراهيم: 22] . والشيطان في هذه الآية هو إبليس بإجماع المفسرين وكذلك قوله تعالى: {فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وما أضلنا إلا المجرمون فما لنا من شافعين ولا صديق حميم} [الشعراء: 94 ـ 101] . ولا شك أن جنود إبليس يستحيل أن يدخلوا النار ولا يدخل هو معهم إذ كيف يدخل الجنود ويبقى رأس الجند من الناجين. ولعل قائلًا يقول ولماذا هذا التطويل في بيان أن إبليس من أهل الجحيم. إن هذا أمر بديهي معلوم عند جميع أبناء الإسلام وأقول: إن هذا الأمر البديهي المعلوم من الدين بالضرورة التي

يعتبر جاحدًا وناكرًا وكافرًا مرتدًا من نفاه هو ما أثبت ابن عربي تبعًا في زعمه لسهل بن عبد الله التستري ضده، وهو أن إبليس من الناجين وأنه لن يدخل النار أبدًا وأنه أعني إبليس التقى في زعم ابن عربي بسهل بن عبد الله التستري الصوفي كان من كبار مشايخهم في القرن الثالث فناقشه في هذه المسألة وبين له أنه من الناجين، وأنه لن يدخل النار وأن الله سبحانه وتعالى سيغير ما أثبته في القرآن لأن الله لا يجب عليه شيء وما دام أنه لا يجب عليه شيء ولا يقيده قيد، فإنه قد قضى بنجاة إبليس يوم القيامة، وتبرئته من جميع التهم المنسوبة إليه والعفو التام عنه. . . . انظروا يا مسلمين هذا الكشف الصوفي ما أعظمه وأطرفه بل ما أفجره وأكفره. . إن ما أتعب النبي محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه نفسه طيلة ثلاثة وعشرين عامًا من بيان قصة إبليس وآدم، ومن لعن إبليس دائمًا، واستفتاح صلاته بالاستعاذة منه، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ له عندما خنقه (ألعنك بلعنة الله. . ألعنك بلعنة الله. . ألعنك بلعنة الله. .) وذلك عندما جاء إبليس اللعين هذا بشهاب من نار ووضعه في وجه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يصلي. . هذا الذي أتعب فيه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفسه ومن بعده سائر الصحابة والمسلمين؛. . جاء ابن عربي اليوم ليبين لنا عن شيخه المزعوم التستري أنه كان خطًا في خطأ، وأنه يوم القيامة يكون في الجنة مع من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا. . وأن هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة. . ويعني ابن عربي بذلك الأشاعرة لأنهم يقولون (لا يجب على الله شيء) وما دام لا يجب عليه شيء فيجوز أن يدخل إبليس الجنة. . وهذا الجائز العقلي عن الأشاعرة جعله ابن عربي ممكنًا وواقعًا لأن شيخه القشيري التقى بإبليس وناقشه في هذه المسألة وتحقق منه أنه سيكون يوم القيامة من الفائزين الفالحين. . وهذا نص الحكاية المزعومة وتعقيب ابن عربي عليها بنصها من كتاب اليواقيت والجواهر. .

" وذكر الشيخ محيي الدين في الباب الثالث والتسعين ومائتين أيضًا ما يؤيد اعتقاد أهل السنة والجماعة من أن الحق تعالى لا يجب عليه شيء وهو أن سهل بن عبد الله التستري ـ رضي الله عنه ـ قال لقيت إبليس مرة فعرفته وعرف مني أنني عرفته فوقع بيني وبينه مناظرة فقال لي وقلت له وعلا بيننا الكلام وطال النزاع بحيث إنه وقف ووقفت حائرًا وحرت فكان آخر ما قال لي يا سهل إن الله تعالى قال ورحمتي وسعت كل شيء نعم ولا يخفى عليك أنني شيء ولفظة كل تقتضي الإحاطة والعموم إلا ما خص وشيء أنكر النكرات فقد وسعتني رحمته أنا وجميع العصاة فبأي دليل تقولون إن رحمة الله لا تنالنا. قال سهل فوالله لقد أخرسني وحيرني بلطافة سياقه وظفره بمثل هذه الآية وفهمه منها ما لم أكن أفهمه وعلمه من دلالتها ما لم أكن أعلمه فبقيت حائرًا متفكرًا وأخذت أردد الآية في نفسي فلما جئت إلى قوله تعالى فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة إلى آخر النسق فسررت بها وظننت أني قد ظفرت بحجة وظهرت عليه بما يقصم ظهره فقلت له: تعال يا ملعون، إن الله تعالى قد قيدها بنعوت مخصوصة تخرجك عن ذلك العموم فقال سأكتبها للذين يتقون إلى آخر النسق. فتبسم إبليس وقال: يا سهل، التقييد صفتك لا صفته تعالى. ثم قال: يا سهل ما كنت أظن أن يبلغ بك الجهل بالله ما رأيت وما ظننت أنك ههنا ليتك سكت، قال سهل فرجعت إلى نفسي وغصصت بريقي وأقام الماء في حلقي وما وجدت له جوابًا ولا سددت وجهه بابًا وعلمت أنه طمع في مطمع وانصرف وانصرفت ووالله ما أدري بعد هذا ما يكون فإن الله تعالى ما نص بما يرفع هذا الإشكال فبقي الأمر عندي على المشيئة منه في خلقه لا أحكم عليه بذلك إلا بما حكم به على نفسه من حيث وجود الإيمان به. انتهى كلام سهل. قال الشيخ محيي الدين: وكنت قديمًا أقول ما رأيت أقصر حجة من إبليس ولا أجهل منه فلما وقفت له على هذه المسألة التي حكاها عنه سهل ـ رضي الله عنه ـ تعجبت وعلمت أن إبليس قد علم علمًا لا جهل فيه فله رتبة الإفادة لسهل في هذه المسألة. انتهى فقد بان لك أن الله تعالى خلق العالم كله من غير حاجة إليه لا موجب أوجب ذلك عليه " ا. هـ (اليواقيت والجواهر ص60 ج1) .

ملك ينزل إلى الأرض على شكل خواجة

وأظن الآن أنه قد وضح للقارئ تمامًا ما هو الكشف الصوفي، وأنه عملية هدم منتظمة للدين الحنيف الذي جاء به سيد المرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ فما دام إبليس من الناجين فليس هناك شيء ثابت في هذا الدين. ولا عجب فيما رووا عن إبليس، فإن أستاذهم الحلاج وأحد كبرائهم قال في إبليس ما لم يقله أحد منهم في جبريل؛ إذ جعله سيد الملائكة أجمعين ذلك لأنه أبى أن يسجد إلا لله. . لأن عبادته لله خاصة فقط وذلك كان أعظم الموحدين. وإليك هذه النماذج من الكشف الصوفي اللعين. ملك ينزل إلى الأرض على شكل خواجة كتب أحمد بن مبارك السلجماسي المغربي كتابًا سماه (الإبريز) زعم أنه ينقل ما فيه عن شيخه عبد العزيز الدباغ المغربي أيضًا، وهذا الشيخ أمي جاهل لم يكن يحفظ حزبًا واحدًا من القرآن بشهادة تلميذه أحمد بن مبارك، ولكنه مع ذلك كان يستطيع التفريق بين القرآن والحديث بمجرد السماع، بل كان يستطيع أيضًا أن يفرق بين القرآن والحديث النبوي والحديث القدسي وكل ذلك بالكشف من غير علم ولا تعليم، وليس كذلك فقط بل كان يستطيع أيضًا أن يفرق ويعلم صحيح الحديث من موضوعه وضعيفه فإذا ألقي إليه الحديث علم هل قاله الرسول أو لا ويقول أحمد بن مبارك اختبرته في ذلك فكنت ألقي عليه الحديث من الجامع الصغير للسيوطي فما قال فيه السيوطي صحيح كان يقول الشيخ عنه صحيح وما قال فيه موضوع يقول موضوع دون أن يتلقى هذا بالعلم وإنما بالكشف فقط بل كان يعرف إن كان الحديث في البخاري أو مسلم أو فيهما أو انفرد فيه أحدهما. . إلخ. . ولم يكن هذا هو كل علم عبد العزيز الدباغ بل كان يعرف معاني القرآن كلها وتفسيره الباطني وعلم الحروف المقطعة في القرآن. بل وكان يعلم جميع الكتب المنزلة على جميع الأنبياء ويعلم تفاسيرها ومعانيها. ولم يكن هذا فقط هو علم

الدباغ أستاذ أحمد بن مبارك المزعوم بل كان يعلم ما في اللوح المحفوظ كله من المقادير. بل كان كل هذا الذي لا يحفظ حزبًا من القرآن بشهادة تلميذه لا تغيب عنه ذرة في الأرض ولا في السماء، وأنه هو الغوث الأكبر المتحكم في العالم العلوي والسفلي والوارث للحقيقة المحمدية. والحقيقة المحمدية في الفكر الصوفي هو الله المستوي على العرش كما قال ابن عربي: " الحقيقة المحمدية هي الموصوفة بالاستواء على العرش " (أهل التصرف في الفكر الصوفي هم أهل الديوان الذين يتحكمون في المقادير وهو الغوث والأقطاب الأربعة) ، المهم أن أحمد بن مبارك يزعم فيما يزعم أن شيخه الأكبر وهو رئيس الديوان الصوفي وأنه استفاد منه علومًا جمة من بعضها كتابه الإبريز. وسيجد القارئ جانبًا كبيرًا من هذه العلوم في الفصل الخاص بالديوان الصوفي لأن الدباغ هذا وصف ما سماه بالديوان الصوفي وصفًا عجيبًا. . والمهم هنا أن ننقل بعض كشوفات الدباغ. . قال أحمد بن مبارك: " وسمعته ـ رضي الله عنه ـ يقول: إن في كل مدينة من المدن عددًا كبيرًا من الملائكة مثل السبعين ملكًا أو أقل أو أكثر يكونون عونًا لأهل التصوف من الأولياء فيما لا تطيقه ذات الولي؛ قال ـ رضي الله عنه ـ وهؤلاء الملائكة الذين يكونون موجودين في المدن يكونون على هيئة بني آدم فمنهم من يلقاك في صورة خواجة، ومنهم من يلقاك في صورة فقير (أي صوفي أو شحاذ) ، ومنهم من يلقاك في صورة طفل صغير وهم منغمسون في الناس ولكنهم لا يشعرون " ا. هـ (الإبريز ص164، 165) . فانظر هذا الكشف العجيب؛ الملائكة تنزل إلى الأرض تأتمر بأمر الصوفية وهو على أشكال الخواجات والشحاذين والأطفال. . فإذا رأيت خواجة فلا تزعجه في الطريق ولا تنظر إليه شذرًا فربما كان ملكًا من ملائكة الله نزل لتنفيذ أوامر مشايخ الصوفية. .

تاريخ بناء الأهرام عن طريق الكشف

تاريخ بناء الأهرام عن طريق الكشف الكشف الصوفي لم يترك شيئًا إلا حاول الدخول فيه وإليه؛ من ذلك تاريخ بناء الأهرام التي بناها خوفو الفرعون قبل ميلاد المسيح عليه السلام بنحو أربعة آلاف سنة ولكن بالكشف الصوفي يقول ابن عربي: " بلغنا أنه وجد مكتوبًا بالقلم الأول على الأهرام أنها بنيت والنسر الطائر في الأسد، وهو الآن في الجدي ". . قال عبد الوهاب الشعراني تعليقًا على كلام ابن عربي " ومعلوم أن النسر الطائر لا ينتقل من برج إلى غيره إلا بعد مضي ثلاثين ألف سنة قال الشيخ عبد الكريم الجيلي، وهو اليوم في الدلو فقد قطع نحو عشرة أبراج ولا يتأتى ذلك إلا بعد ثلاثمائة ألف سنة " ا. هـ (الكبريت الأحمر على هامش اليواقيت والجواهر ص9) . وعلى الكشف الصوفي هذا يصبح عمر الأهرام حسب تخريفاتهم أكثر من 295 مائتين وخمسة وتسعين ألف سنة فقط من عمرها الحقيقي. الدباغ يكتشف نبيًا جديدًا اسمه هويد قال أحمد بن مبارك في كتابه الإبريز: " ومما قاله ـ رضي الله عنه ـ في نسب هود محصلة كشف وعيان فإنه أمي لا يعرف تاريخًا، ولا غيره فلا ينبغي لأحد أن يعارضه بما قال أهل التاريخ في نسب هود لأنه مبني على خبر الواحد، ومع ذلك فقد اضطرب في خبر الواحد في نسب هو فقيل نسبه هود بن عبد الله بن رباح بن الجارود بن عماد بن عوض بن آدم بن سام بن نوح، وقيل هو هود بن شارخ بدار فخشذ بن سام بن نوح عليه السلام فهو على هذا ابن عم أبي عماد دائمًا جعل من عاد وإن لم يكن منهم لأنهم أفهم لقوله وأعرف لحاله وأرغب في اقتفائه. . قال ـ رضي الله

عنه ـ: وأما عادًا الأولى فكانوا قبل نوح عليه السلام وأرسل الله لهم نبيًا يسمى (هويد) وهو رسول مستقل بشرعه بخلاف هود الذي أرسل إلى عاد الثانية فإنه مجدد لشرع من قبله من المرسلين. قال: وكل رسول مستقل فلا بد أن يكون له كتاب. قال: ولسيدنا (هويد) المذكور كتاب وأنا أحفظه كما أحفظ جميع كتب المرسلين. فقلت له وتعدها. قال أحفظها ولا أعدها اسمعوا مني. ثم جعل يعدها كتابًا كتابًا، قال: (أي الدباغ) ولا يكون الولي وليًا حتى يؤمن بجميع هذه الكتب تفصيلًا ولا يكفيه الإجمال فقلت هذا لسائر الأولياء المفتوح عليهم فقال: بل لواحد فقط وهو الغوث فاستفدت منه في ذلك الوقت أنه ـ رضي الله عنه ـ هو الغوث وعلومه دالة على ذلك فإني لو قيدت جميع ما سمعت منه لملأت أسفارًا، وكم من مرة يقول جميع كلامي معكم على قدر ما تطيقه العقول " ا. هـ (الإبريز ص103-104) . وليس هناك من تعليق على مثل هذا الهراء إلا أن يقول المسلم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك. . وانظر بعد ذلك تتمة هذه الفتوح الدباغية كيف أنه اكتشف أيضًا بطريقة الكشف أن بين نوح وآدم سبعين رسولًا لم يقص الله تعالى في القرآن شيئًا من قصصهم ولكن عبد العزيز الدباغ عرفهم بطريق الكشف. . قال أحمد بن مبارك تلميذ الدباغ: (وسمعته) ـ رضي الله عنه ـ يقول كان قبل نوح سبعمائة رسول من الأنبياء وفي قصصهم من العجائب الكثيرة وإنما لم يقصص علينا في كتابه العزيز منها شيئًا لعدم اشتهار أهلها في أزمنة الوحي فقلت فما معنى قوله في حديث الشفاعة في صفة نوح وأنه أول الرسل فقال ـ رضي الله عنه ـ المراد أنه أول الرسل إلى قوم كافرين ومن قبله من المرسلين أرسلوا إلى قوم عقيدتهم صحيحة فقلت فلم عوقب قوم هويد بالحجارة والنار إذا كانوا مؤمنين فقال ـ رضي الله عنه ـ كانت عادته تعالى مع القوم الذين قبل نوح أن يهلكهم على ترك أكثر القواعد وإن كانوا على العقائد " ا. هـ (الإبريز ص104) .

أولياء أكثرهم أميون

فانظر كيف اكتشف الدباغ سبعين رسولًا قبل نوح وكيف أن الله أهلكهم ليس على الشرك والكفر ومعاندة الرسل بل على المعاصي فقط. . أولياء أكثرهم أميون دباغ يفضل نفسه على إبراهيم الدسوقي ولا عجب بعد ذلك إذا علمنا أن أهل هذه الكشوف المزعومة في غالبهم أميون كعبد العزيز الدباغ الذي روى عنه أو افترى عليه أحمد بن مبارك كان رجلًا أميًا، وشيخ عبد الوهاب الشعراني وهو الخواص كان أميًا كذلك واسمع ما يقول أحمد بن مبارك عن شيخه الأمي الدباغ. " وسمعته ـ رضي الله عنه ـ يقول مرة أخرى السماوات والأرضون بالنسبة إلى كالموزونة (الموزونة: عملة مغربية) في فلاة من الأرض يصدر هذا الكلام منه ـ رضي الله عنه ـ وما أشبهه إذا شهدنا منه زيادة بل هو في زيادة دائمًا ـ رضي الله عنه ـ وقد كنت معه ذات يوم خارج باب الفتوح فجعل يذكر لي أكابر الصالحين مع كونه أميًا فقلت فمن أين تعرفهم فقال ـ رضي الله عنه ـ أهل الفتح الكبير مسكن أرواحهم قبة البرزخ فمن رأيناه فيها علمنا أنه من الأكابر ثم جرى بيننا ذكر الشيخ سيدي إبراهيم الدسوقي فقلت هو من الأكابر فجعلت أذكر مناقبه والغرائب التي نقلت من كراماته فقال ـ رضي الله عنه ـ لو عاش سيدي إبراهيم الدسوقي من زمنه إلى زماننا ما أدرك من المقامات ولا ترقى مثل ما ترقى أخوك عبد العزيز يعني نفسه من أمس إلى اليوم والله ما قاله أخوك افتخارًا وإنما قاله تعريفًا وتحدثًا معكم بالنعمة " ا. هـ (الإبريز ص168) . . ونسأل ما فيه البرزخ هذه التي تجتمع فيها أرواح الصوفية. . ولماذا لا يختار الله لولايته -في زعمهم- إلا أميين علمًا بأنه سبحانه وتعالى فضل أهل العلم والعلماء وما كان اختياره للرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أميًا إلا ليقيم به الحجة

دباغ يكتشف سر ليلة القدر

على عباده وحتى لا يتهم بأنه أتى بالقرآن من عند نفسه كما قال تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذًا لارتاب المبطلون} [العنكبوت: 48] . وأما بعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد فضل الله علماء هذه الأمة على أهل الجهالة منها، وجعل تعلم العلم بالكتابة والقراءة والسماع والأسباب الأخرى البشرية المؤدية لذلك. . وليس بطريقة الغيب لأن هذا الطريق خاص بالأنبياء رضوان الله عليهم وما سوى النبي الصادق فمتنبئ كاذب وهذا هو حال هؤلاء المساكين الذين استحوذ عليهم الشيطان فراحوا يهيمون في أودية الضلال على هذا النحو المهين. دباغ يكتشف سر ليلة القدر ولم يكتف الدباغ بكشوفاته في الأرض فراح يكتشف السماء أيضًا وأتى لنا بهذه الحكاية العجيبة عن سرّ ليلة القدر. قال تلميذه أحمد بن مبارك. . " ثم ذكر لنا ـ رضي الله عنه ـ سبب ليلة القدر فقال إن العالم قبل خلق النور في حرم الشمس كان مظلمًا والملائكة عامرون له أرضًا وسماء وفي الكهوف والسهول والجبال والأودية فلما خلق الله تعالى النور في الشمس وأضاء العالم بها أصبحت ملائكة السماء وملائكة الأرض وخافوا من خراب العالم ومن أمر عظيم ينزل بهم فنزل ملائكة السماء إلى الأرض وجعل ملائكة الأرض يفرون من الضوء إلى الظل أي من ضوء النهار إلى ظل الليل فرارًا من الضوء الذي لم يعرفوه إلى الظل الذي يعرفونه خائفين متضرعين مجتمعين على الابتهال إلى الله تعالى والتضرع له والخوف منه يطلبون منه الرضا ويلجأون إليه في أن لا يسخط عليهم ولم يكن في ظنهم ألا أنه تعالى أراد أن يطوي هذا العالم فاجتمعوا على التضرع والابتهال على الصفة السابقة مقدرين في كل لحظة وقوع ما خافوه. فإذا زاد إليهم الضوء فروا عنه إلى الظل ولم يزالوا على تلك الحالة والضوء ينسخ الظل وهم يفرون إلى أن طافوا الأرض كلها ورجعوا إلى الموضع الذي بدأوا منه فلما لم يروا شيئًا وقع حصل لهم الأمن ورجعوا

طبال ومغفل من أهل الكشف

إلى مراكزهم يجتمعون من كل عام فهذا هو سبب ليلة القدر " ا. هـ (الإبريز ص165) . فهل علمتم ما سر ليلة القدر يا مسلمون. . طبال ومغفل من أهل الكشف وبعض الناس قد يظنون أن هذا الكشف لا يأتي إلا لأناس عقلاء من أهل التقوى والاتزان ولكن الصوفية يقررون غير ذلك فهذا أحمد بن مبارك يحكي عن شيخه الدباغ بأن الفتح جاء إلى رجل وهو طبال، يقول: " وأعرف رجلًا بالرملة من أرض الشام فتح الله عليه وهو بحالة يتضاحك الناس عليه، كحالة الرجل المشهور بمدينة فاس (بمعيزو) (مدينة في المغرب) ، فبقي على حاله بعد الفتح ولم ينتقل عنها. قلت: وكانت حالة المتقدم أن الصبيان وغيرهم من ضعفة العقول يتبعونه طول النهار يضحكون عليه، وقال (رضي الله عنه) وأعرف رجلًا آخر فتح الله عليه وكان قبل ذلك طبالًا فبقي على حالته قبل الفتح ولم ينتقل عنها " ا. هـ (الإبريز ص198) . أي ظل طبالًا كما هو وظل الفتح الصوفي ينزل عليه ولا عجب عند الصوفية في ذلك فالولاية عندهم ليست مسألة كسبية ينالها المسلم بتقوى الله ومخافته ومحبته والسعي إلى مرضاته. بل هي مسألة يقولون ـ وهبية ـ تنال الشخص هبة له من الله وإن لم يكن هناك من الأسباب والدواعي ما يستند عليها ففضل الله عندهم وحسب زعمهم لا حرج عليه فقد يصيب الطبالين أو الزمارين، وقد يكون الولي سكيرًا أو زنديقًا، أو طفلًا صغيرًا، أو مجذوبًا شاهد الأنوار العلوية فضاع عقله أو متخلفًا عقليًا يتضاحك الصبيان منه ولكنه يكون وليًا ربانيًا ويحدث الناس بأمور الغيب، ويشاهد ويطالع الحضرة الإلهية والرسولية، والخضرية (نسبة إلى الخضر)

الوحي الصوفي لا ينزل إذا كان أحد المنكرين حاضرا

وهكذا قلبوا كل موازين العلم، وكل قوانين الشريعة، فالولاية لا شك أنها منحة إلهية وتفضيل وفضل رباني ولكنها لا تنال إلا محلها ممن كان عنده الاستعداد لذلك ومن سعى لنيل درجات القرب من الله سبحانه وتعالى كما جاء في حديث البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: (من عادى لي وليًا فقد آذنته بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بشيء إلي أحب مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه) ، فجعل الله للولاية طريقًا وهو أداء الفرائض أولًا ثم الإكثار من النوافل حتى يصل المسلم إلى مرحلة القرب من الله سبحانه وتعالى، فيحمي الله سمعه وبصره ويده ورجله، ويجعل ذلك كله في طاعته ومحبته ومرضاته. ولكن الولاية والفتح والكشف الصوفي بغير ذلك ينال كل هؤلاء. . الوحي الصوفي لا ينزل إذا كان أحد المنكرين حاضرًا ومما يدلك يقينًا على أن هذا الكشف الصوفي ما هو إلا إلقاء شيطاني هذه الحكاية التي يرويها أحمد بن مبارك أيضًا عن شيخه الدباغ وأنه كان إذا حضر رجل من أهل التوحيد والإيمان الصحيح ممن لا يؤمن بهذه الخرافات كان وحي الشيخ ينقطع ويعود جاهلًا كما كان لا يتكلم الكلمة. " قال ـ رضي الله عنه ـ وما مثلت الولي مع القاصدين إلا كحجر بني إسرائيل. فإذا كان بين يدي أولياء الله تعالى انفجرت منه اثنتا عشر عينًا وإذا كان بين أعدائه تعالى لا تخرج منه ولا قطرة واحدة (قلت) وقد شاهدت هذا المعنى في الشيخ ـ رضي الله عنه ـ مرارًا فإذا حضر بين يديه بعض من لا يعتقده لا تخرج منه ولا فائدة واحدة ولا يقدر على التكلم بشيء من العلوم اللدنية والمعارف الربانية حتى يقوم ذلك الشخص ويوصينا ويقول إذا حضر مثل هذا الرجل فلا تسألوني عن شيء حتى يقوم وكنا قبل الوصية جاهلين بهذا الأمر فنسأل الشيخ ونريد أن نستخرج منه النفائس والأسرار الربانية كي يسمعها الرجل

تقديم مذهب أبي حنيفة على سائر مذاهب الفقهاء بطريق الكشف

الحاضر فيتوب فإذا سألناه ـ رضي الله عنه ـ حينئذ وجدناه كأنه رجل آخر لا نعرفه ولا يعرفنا فكأن العلوم التي تبدو منه لم تكن له على بال أبدًا حتى ذكرنا له السبب ففهمنا السر والحمد لله رب العالمين " ا. هـ (الإبريز ص169) . وليس ذلك بالطبع إلا لأن الشيطان يهرب إذا رأى من يؤمن بالله حقًا، كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمر: (والله ما رآك الشيطان سالكًا فجًا إلا سلك فجًا غير فجك) . وهؤلاء الصوفية لا يأتيهم في مكانهم موحد إلا انتهت أحوالهم واضمحلت أنوارهم المزعومة وانفض سامرهم الشيطاني. تقديم مذهب أبي حنيفة على سائر مذاهب الفقهاء بطريق الكشف ولعل من أطرف ما تدخل فيه الكشف الصوفي أيضًا تفضيل مذهب فقهي على مذهب آخر كما فعل أحمد الفاروقي السرهندي النقشبندي الحنفي، كما في النص الآتي الذي يفسر فيه أيضًا قول محمد بارسا أن المسيح عليه السلام إذا نزل يحكم بالمذهب الحنفي يقول: " ومثل أرواح الله (يعني المسيح عليه السلام) مثل الإمام الأعظم الكوفي (أبو حنيفة رحمه الله) فإنه ببركة الورع والتقوى وبدولة متابعة السنة نال في الاجتهاد والاستنباط درجة عليا بحيث يعجز الآخرون عن فهمه ويزعمون مجتهداته بوساطة دقة المعاني مخالفة للكتاب والسنة ويسمون أصحابه أصحاب الرأي كل ذلك لعدم الوصول إلى حقيقة علمه ودرايته وعدم الإطلاع على فهمه وفراسته إلا أن الإمام الشافعي وجد نبذة من دقة فقاهته عليهما الرضوان حيث قال الناس كلهم عيال في الفقه لأبي حنيفة فويل لقاصري النظر على جراءتهم حيث ينسبون قصورهم إلى الغير

(المنتخبات من المكتوبات لأحمد الفاروقي طبع استانبول ص149، 150) : لو عابهم قاصر طعنًا بهم صفها ** برأت ساحتهم عن أفحش الكلم هل يقطع الثعلب المحتال سلسلة ** قيدت بها أسد الدنيا بأسرها ويمكن أن يكون ما قاله الخواجة محمد بارسا قدس عمره في الفصول الستة من أن عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام يعمل بعد النزول بمذهب الإمام أبي حنيفة بوساطة هذه المناسبة التي له ـ رضي الله عنه ـ بحضرة روح الله عليه السلام يعني أن اجتهاد روح الله يكون موافقًا لاجتهاد الإمام الأعظم لا أنه يقلد مذهبه فإن شأنه عليه السلام أعلى وأجل من أن يقلد علماء الأمة. ونقول من غير شائبة تكلف وتعصب: إن نورانية المذهب الحنفي ترى وتظهر في النظر الكشفي كالبحر العظيم وسائر المذاهب تظهر مثل الحياض والجداول " ا. هـ منه بلفظه (الإبريز ص150) .

الفصل العاشر: المعراج الصوفي

الفصل العاشر: المعراج الصوفي كثيرون من رجال التصوف ادعوا أنهم قد عرج بهم إلى السماوات العلى. فمنهم عبد الكريم الجيلي وقد ذكرنا بعضًا مما زعم مشاهدته في السماوات وذلك في باب الكشف الصوفي وقد سبق الجيلي من زعم مثل هذا، ويبدو أن أول من افترى ذلك هو أبو يزيد البسطامي الذي جعل لنفسه معراجًا كمعراج الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وراح يحدثنا كيف أنه عرج بروحه إلى السماوات سماءً سماءً وأن بغيته كانت في الفناء في الله، أو على حد قوله البقاء مع الله إلى الأبد. وهذه هي الفكرة البرهمية الوثنية نفسها في الفناء في الذات الإلهية حسب زعمهم. ولكن البسطامي أول من افتري له أو عليه ذلك. يدعي أنه عرج به إلى السماء السابعة فالكرسي، فالعرش، وأن الله قال له: إلي إلي، وأجلسه على بساط قدسه وقال له: (يا صفي ادن مني واشرف على مشارف بهائي، وميادين ضيائي واجلس على بساط قدسي. . إلخ) ، وهذا هو نص المعراج الكاذب المنسوب إلى أبي يزيد البسطامي. " في رؤيا أبي يزيد: في القصد إلى الله تعالى وبيان قصته: قال أبو القاسم العارف ـ رضي الله عنه ـ: اعلموا معاشر القاصدين إلى الله سبحانه وتعالى أن لأبي يزيد حالات ومقامات لا تحتملها قلوب أهل الغفلة وعامة الناس، وله مع الله أسرار لو اطلع عليها أهل الغرة لبهتوا فيها، وإني نظرت في كتاب فيه مناقب أبي يزيد، فإذا فيه أشياء من حالاته وأوقاته وكلامه، ما كلت الألسن عن نعته وصفته، فكل من أراد أن يعرف كماله

ومنزلته فلينظر إلى نومه ورؤياه التي هي أصح في المعنى، وأقرب في التحقيق من يقظة غيره، فهذا ما حكى أن خادم أبي يزيد ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت أبا يزيد البسطامي ـ رضي الله عنه ـ يقول: إني رأيت في المنام كأني عرجت إلى السماوات قاصدًا إلى الله، طالبًا مواصلة الله سبحانه وتعالى، على أن أقيم معه إلى الأبد، فامتحنت بامتحان لا تقوم له السماوات والأرض ومن فيهما، لأنه بسط لي بساط العطايا نوعًا بعد نوع، وعرض علي ملك كل سماء، ففي ذلك كنت أغض بصري عنها، لما علمت أنه بها يجربني، فكنت لا ألتفت إليها إجلالًا لحرمة ربي، وكنت أقول في ذلك: يا عزيزي مرادي غير ما تعرض علي، قال فقلت له: رحمك الله صف لي مما عرض عليك من ملك كل سماء قال: رأيت في المنام كأني عرجت إلى السماوات، فلما أتيت إلى السماء الدنيا فإذا أنا بطير أخضر، فنشر جناحًا من أجنحته، فحملني عليه وطار بي حتى انتهى بي انتهائي إلى صفوف الملائكة، وهم قيام متحرقة أقدامهم في النجوم يسبحون الله بكرة وعشيًا، فسلمت عليهم، فردوا علي السلام، فوضعني الطير بينهم ثم مضى فلم أزل أسبح الله تعالى بينهم، وأحمد الله تعالى بلسانهم وهم يقولون: هذا آدمي لا نوري إذ لجأ إلينا وتكلم معنا، قال: فألهمت كلمات، وقلت: باسم القادر على أن يغنيني عنكم، ثم لم يزل يعرض علي من الملك ما كلت الألسن من نعته وصفته، فعلمت أن ربها يجربني، ففي ذلك كنت أقول: مرادي غير ما تعرض علي، فلم ألتفت إليها إجلالًا لحرمته، ثم رأيت كأني عرجت إلى السماء الثانية فإذا جاءني فوج فوج من الملائكة ينظرون إلي كما ينظر أهل المدينة إلى أمير يدخلها، ثم جاءني رأس الملائكة اسمه لاويد (اسم فارسي جعله اسمًا من أسماء الملائكة) ، وقال: يا أبا يزيد، إن ربك يقرئك السلام، ويقول: أحببتني فأحببتك. فانتهى بي إلى روضة خضرة فيها نهر، يجري حولها ملائكة طيارة، يطيرون كل يوم إلى الأرض مائة ألف مرة، ينظرون إلى أولياء الله، وجوههم كضياء الشمس، وقد عرفوني معرفة الأرض، أي في الأرض،

فجاؤوني وحيوني، وأنزلوني على شط ذلك النهر، وإذا على حافيته أشجار من نور، ولها أغصان كثيرة متدلية في الهواء، وإذا على كل غصن منها وكر طير، أي من الملائكة، وإذا في كل وكر ملك ساجد، ففي كل ذلك أقول: يا عزيزي مرادي غير ما تعرض علي، كن لي يا عزيزي جارًا من جميع المستجيرين وجليسًا من المجالسين، ثم هاج من سري شيء من عطش نارياق، حتى إن الملائكة مع هذه الأشجار، صارت كالبعوضة في جنب همتي، وكلهم ينظرون إلي متعجبين مدهوشين من عظم ما يرون مني. ثم لم يزل يعرض علي من الملك ما كلت الألسن عن نعته، ففي كل ذلك علمت أنه بها يجربني، فلم ألتفت إليه إجلالًا لحرمة ربي، وكنت أقول: يا عزيزي مرادي غير ما تعرض علي، فلما علم الله تعالى من صدق الإرادة في القصد إليه، وتجردي عما سواه، فإذا أنا بملك قد مد يده فجذبني، ثم رأيت كأني عرجت إلى السماء الثالثة، فإذا جميع ملائكة الله تعالى بصفاتهم ونعوتهم قد جاؤوني يسلمون علي، فإذا ملك منهم له أربعة أوجه: وجه يلي السماء، وهو يبكي لا تسكن دموعه أصلًا، ووجه يلي الأرض ينادي: يا عباد الله اعلموا يوم الفراغ (لعلها الفزع) ، يوم الأخذ والحساب، ووجه يلي يمينه إلى الملائكة يسبح بلسانه، ووجه يلي يساره يبعث جنوده في أقطار السماوات يسبحون الله تعالى فيها، فسلمت عليه، فرد علي السلام، ثم قال: من أنت؟ إذ فضلت علينا، فقلت: عبد قد منّ الله تعالى عليه من فضله، قال: تريد أن تنظر إلى عجائب الله؟ قلت: بلى، فنشر جناحًا من أجنحته، فإذا على كل ريشة من ريشه قنديل أظلم ضياء الشمس من ضيئها، ثم قال: تعال يا أبا يزيد، واستظل في جناحي، حتى نسبح الله تعالى ونهلله إلى الموت، فقلت له: الله قادر على أن يغنيني عنك، ثم هاج من سري نور من ضياء معرفتي أظلم ضوءها: أي ضوء القناديل من ضوئي، فصار الملك كالبعوضة في جنب كمالي،

ثم لم يزل يعرض علي من الملك ما كلت الألسن عن نعته، ففي ذلك علمت أنه بها يجربني، فلم ألتفت إلى ذلك إجلالًا لحرمته، وكنت أقول في ذلك: يا عزيزي مرادي غير ما تعرض علي، فلما علم الله تعالى مني صدق الإرادة في القصد إليه، فإذا أنا بملك مد يده فرفعني ثم رأيت: كأني عرجت إلى السماء الرابعة، فإذا جميع الملائكة بصفاتهم وهيئاتهم ونعوتهم قد جاؤوني يسلمون علي، وينظرون إلي كما ينظر أهل البلد إلى أمير لهم في وقت الدخول، يرفعون أصواتهم بالتسبيح والتهليل من عظم ما يرون من انقطاعي إليه، وقلة التفاتي إليهم، ثم استقبلني ملك يقال له: نيائيل، فمد يده وأقعدني على كرسي له موضوع على شاطئ بحر عجاج، لا ترى أوائله ولا أواخره، فألهمت تسبيحه وانطلقت بلسانه، ولم ألتفت إليه، ثم لم يزل يعرض علي من الملك ما كلت الألسن عن نعته، ففي كل ذلك علمت أنه بها يجربني، فلم ألتفت إليه إجلالًا لحرمته، وكنت أقول يا عزيزي، مرادي غير ما تعرض علي: فلما علم الله تعالى مني صدق الانفراد به في القصد إليه، فإذا أنا بملك مد يده فرفعني إليه ثم رأيت كأني عرجت إلى السماء الخامسة، فإذا أنا بملائكة قيام في السماء رؤوسهم في عنان السماء السادسة يقطر منهم نور تبرق منه السماوات، فسلموا كلهم علي بأنواع اللغات، فرددت عليهم السلام بكل لغة سلموا علي، فتعجبوا من ذلك، ثم قالوا: يا أبا يزيد: تعال حتى تسبح الله تعالى وتهلله ونعينك على ما تريد، فلم ألتفت إليهم من إجلال ربي، فعند ذلك هاج من سري عيون من الشوق، فصار نور الملائكة فيما التمع مني كسراج يوضع في الشمس، ثم لم يزل يعرض علي من الملك ما كلت الألسن عن نعته، ففي كل ذلك علمت أنه بها يجربني، وكنت أقول يا عزيزي، مرادي غير ما تعرض علي، فلما علم الله تعالى مني صدق الإرادة في القصد إليه فإذا أنا بملك مد يده فرفعني إليه، ثم رأيت كأني عرجت إلى السماء السادسة، فإذا أنا بالملائكة المشتاقين جاؤوني يسلمون علي ويتفخرون بشوقهم إلي، فافتخرت عليهم بشيء من طيران سري، ثم لم يزل يعرض علي من الملك ما كلت الألسن عن نعته، ففي كل ذلك علمت أنه بها يجربني، فلم ألتفت إليه، وكنت

أقول: يا عزيزي مرادي غير ما تعرض علي. فلما علم الله تعالى مني صدق الإرادة في القصد إليه، فإذا أنا بملك مد يده فرفعني، ثم رأيت كأني عرجت إلى السماء السابعة، فإذا بمائة ألف صف من الملائكة استقبلني. كل صف مثل الثقلين ألف ألف مرة، مع كل ملك لواء من نور، تحت كل لواء ألف ألف ملك، طول كل ملك مسيرة خمسمائة عام، وكل على مقدمتهم ملك اسمه بريائيل، فسلموا علي بلسانهم ولغتهم، فرددت عليهم السلام بلسانهم فتعجبوا من ذلك، فإذا مناد ينادي: يا أبا يزيد: قف قف؛ فإنك قد وصلت إلى المنتهى، فلم ألتفت إلى قوله ثم لم يزل يعرض علي من الملك ما كلت الألسن عن نعته، ففي كل ذلك علمت أنه بها يجربني، وكنت أقول: يا عزيزي مرادي غير ما تعرض علي، فلما علم الله تعالى مني صدق الإرادة في مقصدي إليه صيرني طيرًا، كأن كل ريشة من جناحي أبعد من الشرق إلى الغرب ألف ألف مرة، فلم أزل أطير في الملكوت، وأجول في الجبروت، وأقطع مملكة بعد مملكة، وحجبًا بعد حجب، وميدانًا بعد ميدان، وبحارًا بعد بحار، وأستارًا بعد أستار، حتى إذا أنا بملك المرسى استقبلني، ومعه عمود من نور، فسلم علي ثم قال: خذ هذا العمود، فأخذته فإذا السماوات بكل ما فيها قد استظل بظل معرفتي، واستضاء بضياء شوقي، والملائكة كلهم صارت كالبعوضة عند كمال همتي في القصد إليه، ففي كل ذلك علمت أنه بها يجربني، فلم ألتفت إليها إجلالًا لحرمة ربي الله تعالى. ثم لم أزل أطير وأجول مملكة بعد مملكة، وحجبًا بعد حجب، وميدانًا بعد ميدان، وبحارًا بعد بحار، وأستارًا بعد أستار، حتى انتهيت إلى الكرسي، فإذا قد استقبلني ملائكة لهم عيون بعدد نجوم السماوات، يبرق من كل عين نور تلمع منه، فتصير تلك الأنوار قناديل، أسمع من جوف كل قنديل تسبيحًا وتهليلًا، ثم لم أزل أطير كذلك حتى انتهيت إلى بحر من نور تلاطم أمواجه يظلم في جنبه ضياء الشمس، فإذا على البحر سفن من نور، يظلم في جنب نورها أنوار تلك الأبحر، فلم أزل أعبر بحارًا بعد بحار حتى انتهيت إلى البحر الأعظم الذي عليه عرش الرحمن، فلم أزل أسبح فيه حتى رأيت ما من العرش

إلا الثرى من الملائكة الكروبيين وحملة العرش، وغيرهم ممن خلق الله سبحانه وتعالى في السماوات والأرض، أصغر من حيث طيران سري في القصد إليه، من خردلة بين السماء والأرض، ثم لم يزل يعرض علي من لطائف بره وكمال قدرته وعظم مملكته ما كلت الألسن عن نعته وصفته، ففي كل ذلك كنت أقول: يا عزيزي مرادي في غير ما تعرض لي، فلم ألتفت إليه إجلالًا لحرمته فلما علم الله سبحانه وتعالى من صدق الإرادة في القصد إليه فنادى: إلي إلي، وقال: يا صفي ادن مني، وأشرف على مشرفات بهائي، وميادين ضيائي، واجلس على بساط قدسي حتى ترى لطائف صنعي في آنائي، أنت صفيي وحبيبي، وخيرتي من خلقي، فكنت أذوب عند ذلك كما يذوب الرصاص، ثم سقاني شربة من عين اللطف بكأس الأنس، ثم صيرني إلى حال لم أقدر على وصفه، ثم قربني منه، وقربني حتى صرت أقرب منه من الروح إلى الجسد، ثم استقبلني روح كل نبي يسلمون علي ويعظمون أمري ويكلمونني وأكلمهم، ثم استقبلني روح محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم سلم علي، فقال: يا أبا يزيد: مرحبًا وأهلًا وسهلًا، فقد فضلك الله على كثير من خلقه تفضيلًا، إذا رجعت إلى الأرض اقرأ لأمتي مني السلام، وانصحهم ما استطعت، وادعهم إلى الله عز وجل، ثم لم أزل مثل ذلك حتى صرت كما كان من حيث لم يكن التكوين، وبقي الحق بلا كون ولا بين ولا أين ولا حيث ولا كيف، جل جلاله وتقدست أسماؤه. قال أبو القاسم العارف ـ رضي الله عنه ـ: معاشر إخواني عرضت هذه الرؤيا على أجلاء أهل المعرفة فكلهم يصدقونها ولا ينكرونها، بل يستقبلونها عند مراتب أهل الانفراد في القصد إليه، ثم يحتجون بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: (إن العبد لا يزال من الله والله منه ما لم يجزع فإذا جزع وجب عليه العتاب والحساب) وروي أيضًا عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ (أن من العلم كهيئة المخزون لا يعرفه إلا أهل العلم بالله ولا ينكره إلا أهل الغرة بالله) ا. هـ منه بلفظه (ملحق رقم (2) لكتاب المعراج منقول من مخطوطة حيدر آباد بعنوان القصد إلى الله) .

معراج إسماعيل بن عبد الله السوداني

معراج إسماعيل بن عبد الله السوداني ذكرنا في باب الكشف الصوفي ما افتراه عبد الكريم الجيلي في كتابه الإنسان الكامل فيما زعمه أنه عرج به إلى السماوات ورأى هنالك الملائكة والأنبياء وكلمهم واستفاد منهم فوائد، وأفادهم كذلك فوائد فيما زعمه، وقد نقلنا في ذلك الباب نقولًا مستفيضة مما كذبه، وقد جاء من نسج على منوال الجيلي تمامًا وكتب كتابًا يكاد يكون نسخة منه وهو إسماعيل بن عبد الله السوداني والذي ألفه سنة 1261هـ ـ أي منذ مائة وسبع وثلاثين سنة تقريبًا وسماه (مشارق شمس الأنوار ومقارب حسها في معنى العلوم والأسرار) . وقد سلك إسماعيل بن عبد الله السوداني هذا مسلك الجيلي نفسه حيث زعم أنه عرج به إلى السماء سماء سماء. والعجيب أنه جعل هذه السماوات هي الكواكب السبعة التي كانت معروفة في ذلك الوقت (القمر، والزهرة، والمشتري، والمريخ، وعطارد، وزحل) . والتي كان يظن قديمًا أنها هي السماوات السبع فجعل لكل سماء من هذه (روحانية) كما يعتقده الصابئة عبدة النجوم، وشوه معراج الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنقل منه أسماء الأنبياء والرسل الذين التقى بهم الرسول في معراجه، فزعم إسماعيل هذا أنه التقى بهم أيضًا وأفادوه وباركوه واحتفلوا بمجيئه إليهم، وأنه شاهد بعد ذلك العرش والكرسي وسدرة المنتهى، والملائكة الذين لم يسجدوا لآدم تمامًا كما زعم الجيلي من قبله مكذبًا بذلك القرآن حيث يقول سبحانه وتعالى: {ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين} [الأعراف: 11] . ويبدو أنه لم يقرأ هذه الآية قط واكتفى بقراءة كتاب الجيلي ونقل عنه مشاهداته وزعمها لنفسه وجعلها كشفًا خاصًا به هو. . وهذا هو شأن مشايخ التصوف ينقل بعضهم عن بعض نفس الدعاوي التي يدعيها من قبله فإذا قال أحدهم أنا خاتم الأولياء قال من بعده بل أنا خاتم الأولياء، وإذا قال أحدهم رفعني الله وأجلسني عنده وأعطاني وقربني جاء من يدعي هذه الدعاوي ويزيد على ذلك وهكذا. وهأنذا أنقل فقرات من هذه

نفائس حقية من علوم ذوقية

الأكاذيب المفتراة التي افتراها إسماعيل بن عبد الله السوداني: قال: " المغرب السابع في عين العروج إلى السماء السادسة اعلم أيها الابن البار المبرور والمهدي إلى طريق الملك الغفور أن العبد إذا طرح جميع الأكوان العارضة له في السماء الخامسة في حالة عروجه إلى حضرة الرحمن فإن الرب الكريم يصلح له السريرة ويحد له عين البصيرة فيعرج منها إلى السماء السادسة فيجد البواب فيسلم عليه فيرد عليه السلام ويرحب به، ويفتح له الباب. فافهم يا بني فإنه يدخل فينظر ما فيها من الغرائب ويتعجب من تلك العجائب فإن هذه السماء فيها من الكواكب المشتري ولونها في غاية السواد قد يرى وهو جوهر شفاف من بديع الصنائع على الاستواء من غير اختلاف ودورها أوسع يزيد على دور سماء المريخ بألفين عام ومائتين سنة وثلاثة وثلاثين سنين (كذا والصواب: بألفي عام، ومئتي سنة وثلاث سنين!) وأربعة أشهر، وفيها نبي الله موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام (هكذا) . نفائس حقية من علوم ذوقية فنقول بحسب كشفنا، فإن العبد الراقي إلى تلك المراقي إذا وصل إلى هذه السماء يرى نفسه مغيبًا في أنوار القدس موشحة بأنوار الهيبة والأنس حوله جملًا من ملائكة الرحمن ناطقًا بغميض الأسرار والعلوم معهم في حالة عروجه إلى حضرة الملك الديان. فيرى ملائكة هذه السماء متنوعة من عدة أصناف، فيهم ملائكة الرحمة الألطاف، يدرون ملائكة هذه السماء في هذه الأرض لرفع الوضيع وزيادة الرفيع، منهم من وكله الله تعالى بإيصال الرزق إلى المرزوق، ووكل غيرهم بما اقتضته الحكمة بين الخالق والمخلوق. . وقد اجتمعت بالملك الحاكم عليهم وهو روحانية المشتري (كوكب معروف) ، رأيته جالسًا على منبر من نور الحكمة ملتحفًا بثوب أصفر من أنوار الهمة، وهم مطيعون له في

سره وجهره وممثلون له في جميع نهيه وأمره لا يفعل منهم أحد شيئًا إلا بإذنه ولا يتقدم إلا بأمره لتنفيذ ما وكل به من شأنه، فسألته عن عدة علوم فأجابني برمز مكتوم ففهمته منه بوساطة مظهر اسم الله القيوم، بفهم لا من حيث مطلق المفهوم فوثبت قائمًا وسرت منه بفضل الله تعالى عالمًا، فاجتمعت من بعده بنبي الله موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام فوجدته فانيًا في الشهود والمكالمات غالبًا في أنوار المشاهدات جالسًا على كرسي من أنوار الوقار ولونه أصفر مخلوط عليه خطوط مرموزة جامعة لما حواه من الفخار من حضرة الأسرار متأدبًا مع استهلاكه مع شهود مولاه، مناجيًا له ومستغرقًا في فناه، تجلي الآنية فيحضره إظهار مظاهر الحق في حقيقة سره، إنني أنا الله، فقد عرفته بعدما عرفني فسلمت عليه ورد علي السلام وقربني وانتصب لي قائمًا وأهل بي حيث جئته حافظًا ملازمة أدبي، فسألته سؤال من دخل حضرة الأدب وعرف سر البسط والغضب. فقلت له: يا سيدي بحق من نبأك وزكاك وأورثك هذا المقام وتولاك بأن تجود علي بإجابة مقالي وإفادتي في سؤالي، فإن رسولنا الصادق الكريم بلغنا ما قصه له ربه في الكتاب الحكيم بأنك طلبت رؤية مولاك حيث قلت له: أرني أنظر إليك. فأتاك منه الخطاب حيث قال: لن تراني، فما معنى طلبك له ومجيء هذا الخطاب إليك فاستفدنا عدم حصول الرؤية لك في حالة مجيء الخطاب فشتان ما بين حالتك هذه وحالة أهل الحجاب، فكيف هذا السر، وباطن هذا الأمر؟ فقال لي: يا عبد الله إن السر غريب والأمر عجيب، فافهم أرشدك مولاك وأورثك أسرار علومه وتولاك، فإن ربي حين أمرني بعبادته بمطلق العبودية وعرفني سر ظهور أسراره مظاهره في عموم الآنية حين أبصرت نار سر دلالتي ورجوت إتياني لأهلي بشعلة منا كي يصدقوني بها في مقالتي أو أجد عليها هدى من ضلالتي، فنوديت بعد إتياني بها من جانب طور قلبي بما اقتضت الحكمة من ربي، يا موسى إني أنا ربك الصادر أمري لك، فاخلع نعليك الكائنتين في عضويك بأن لا تشرك بعبادتي أحدًا ولا يدخلك ريب فيما آمرك به أبدًا

إنك بالواد الذي هو فضاء سر الظهور الظاهر من ربك إلى قلبك من جانب الطور المقدس عن حلول الأغيار فيه، المطهر لك حيث اقتضت الحكمة بأنك في هذا الوادي المسمى بطوى توافيه، وأنا اخترتك حيث أمرتك فاستمع لما يوحى من الإيحاء، فلما حققت هذا المقال من حضرة القرب على لسان الحال استعددت إلى تنزله في داخل قلبي وفنيت نفسي في الاستماع لما يوحى إلي من حضرة ربي، جاءني منه الأمر بالاستفراغ لعبادته حيث قال لي: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} [طه: 14] . فقبلت ذلك وعبدته كما أمرني، فلما صدق الإخلاص مني وحسن في الله ظني أردت بقاء نفسي في مقام لقاه وأيقنت بأن لا إله معبود بحق سواه. فقلت: ربي أرني أنظر إليك. فما طلبت سوى تجلي الذات للذات. وذلك من أسرار الكبريائية من التجليات، فلما علم الله استحالة بقاء القديم في الحادث وما ثم غيري في هذا المقام محادث. قال لي: لن تراني في الحال بحيث أبقى فيك، لأني قديم وأنت حادث ولكن أنظر إلى الجبل المستقر حولك إذ تنكشف لك حقيقة ذلك، فإن استقر مكانه بعد ظهور سلطاني له فسوف تراني، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًا وخر موسى صعقا، أي فلما ظهر سلطان القديم للجبل ساخ في الأرض حيث نزل وقد حصل لموسى ما حصل من الصعق والوجل. وفي هذا المقام سر لطيف وتعلمت من موسى عليه السلام مائة ألف علم من العلوم التي تجول في الأفكار تعذر النطق بها. ثم تعلمت منه في هذا المشهد علومًا لم يسعني الوقت أن أفشيها فيه، وما أظن أحدًا من الأولياء المتقدمين تكلم على حقيقة هذا المشهد على ما هو عليه أبدًا إلى وقتنا هذا، وإن تكلم البعض عليه فذلك في شيء منه فلا يستطيع أحد منهم أن يستوفيه لشدة ما رأيته من عظمة حقيقته ورقة دقيقته، وقد اجتمعت برجال من الأولياء الأكابر حين تقييدي لهذا المحل فوجدته له معرفة تامة في بعض المظاهر من هذا المشهد وقدمه موسوي متحقق بإحدى وخمسين اسمًا من أسماء الله الحسنى له تعبير لطيف وبحث ظريف فسألته عن مقامه

والذي حازه من علوم هذا المقام، فأخبرني بدقائق من علومه فحققت أن له حظًا وافرًا وأخبرني أن لما وصل من هذا المقام إلى هذا المحل وجدنا سيدنا موسى عليه السلام. وسأله فبحث فيه فاستفاد بوساطته خمسة آلاف علمًا وفي كل علم أسرار لا تحصى فلما سألني عن علومي في هذا المشهد وبحثت له في ذروته من دقائق العلوم والأسرار والمظاهر والأنوار غاب عن نفسه غيبة عظيمة حتى خفت عليه من أن يذوب، فلما صحا تعجبت من ثباتي مع شدة التمكين فحمدت على ذلك الملك المعين، فلما حققت زيادتي عليه وتمكني في المشاهد بالذي ظهر مني إليه طلبني اسمًا من المخفيات لأجل التبرك فأعطيته ذلك الاسم بأنواره وعلوم حضراته وأسراره فانتفع به " (كتاب مشارق شموس الأنوار ص128، 131) انتهى منه بلفظه. ويستطرد إسماعيل بن عبد الله السوداني مبينًا مشاهداته المزعومة في السماء السابعة فيقول: " فنقول بحسب كشفنا، قد اجتمعت فيها (أي في السماء السابعة) بجملة من الملائكة فعرفتهم وعرفوني وسألتهم عن علوم لا تحصى، ورأيت فيها كوكبًا له توقد من شدة عظمته ولكنه خفي عن أعين الناظرين، لأن معرفته لم تحصل لأحد سوى الكاملين من العارفين أهل الفتح ولم يظفر به إلا أرباب المعارف الراقين ذروة السطح ومن ثم فعلت كيفية حلول زحل في فلكه، وعلم كيفية سيره فيه، وعلم السر الذي وضعه الله فيه وغير ذلك. واجتمعت في هذه السماء بنبي الله سيدنا إبراهيم الخليل على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام فوجدته جالسًا على منبر من نور أحمر متكئ على نمارق من نور أخضر لائحة على وجهه أنوار المعارف والكمال متوجهًا بتاج أسرار النبوة والأجلال بيده قضيب من سر علوم الكنوز معتقلًا سيف فتق طلاسم الرموز مسندًا ظهره إلى البيت المعمور مشاهدًا ما هو له من

حضرة الغفور، فلما وصلت إليه وسلمت عليه، رد علي السلام وأكرمني بالقيام إكرامًا لنبينا أشرف الأنام فعرفني ورحب بي وبشرني ببلوغ مطلبي. . " انتهى منه بلفظه (كتاب مشارق شموس الأنوار ص135) . ويستطرد إسماعيل هذا في بيان مشاهداته في السماء السابعة والدعوة إلى طريقته الخاصة قائلًا: " وفي باطن هذا سر لا أطيق ذكره في هذا الكتاب وفي هذا المشهد سر لطيف ومقام طريف ما تكلم عليه أحد الأولياء المتقدمين إلى وقتنا هذا، وإن أردت التكلم على بعض منه في حين تقييدي لهذا المحل اجتمعت بسيدنا إبراهيم عليه السلام فأشار إلي بتركه وبشرني بمقام كبير أبلغه وأنال به في الآخرة مما لا يعطي لغير المقربين من الكاملين المحبوبين فأنعم به أنا ومن معي من أولادي وإخواني وأصحابي المجدين في طريقتي " ا. هـ (كتاب مشارق شموس الأنوار ص135) . ويستطرد إسماعيل هذا في بيان مشاهداته المزعومة فيزعم رؤية سدرة المنتهى والعرش والكرسي فيقول: " فنقول بحسب كشفنا إن العبد الراقي إلى مقام هذه السدرة يراها عظيمة جدًا وبها (نويرًا خارقًا) ممتدًا فيعلم السر الذي وضعه الله سبحانه وتعالى فيها وعلم السبب الذي ينتهي إليها الصاعد والهابط. ويعلم مقام الملائكة الكروبيين منها ومنازلهم وكيفية حالتهم، فهم على أنواع مضعفة، وحالات مختلفة، فمنهم مدهوش في هويته، ومنهم مستغرق في آنيته، ومنهم واقع على جنبه، ومنهم واقع على وجهه، ومنهم حاث على ركبتيه قد غمروا في أنوار المشاهدات وانفنوا في انطباق تكرر التجليات فلا يستطيع أحد منهم حركة لعدم شعورهم وشدة استغراقهم فيما هم فيه، فهم عالون في الملائكة فما أمروا بالسجود لآدم عليه السلام ولا سجدوا له قط، وقد اجتمعت بالملك الحاكم عليهم وهو مقدمهم الذي يأتي منه الأمر، والنهي إليهم وينظره من المتقدمين على

غيرهم أعمدة النور لأجل تأديب الدون منهم وغيرهم من الآدميين، فسألته عن السر الذي سرى في ذوات هؤلاء الملائكة حتى لازمتهم تلك الحالة، فأفادني بأحسن مقال، ثم سألته عن دقائق العلوم ومن خفي السر المكتوم فأفادني بحول الله وقوته فيها وفي بعض أمور مما هي من المستور، وقد حزت في هذا المشهد علومًا لم أطق إبداءها ولم أستطع إفشاءها. ثم نرجع إلى ما كنا في سبيله فنقول: إن من هنا يرقى العبد إلى فلك الكرسي إلى كرسي جبريل عليه السلام، فمن ذلك يعلم حقيقة كل ستر كان وموجبه وسر حقيقته، فيرى عن ذلك أنهارًا جارية فيغترف من أكبرها وينال الشرب من أشهرها، فيحصل له بذلك التحقق بما يحويه من الأسرار التي لا تحصي والعلوم التي لا تستقصي ثم يرقى إلى الفلك المحيط الذي هو العرش. وهو أول الأفلاك وأعظم السماك، فمن ثم يتضح له مظهر الاسم الرحمن، فهنالك يعلم ما شاء الله تعالى من مناسبة مصاحبة بعض الملائكة والأنبياء صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهم، فحينئذ ينظر حملة العرش، ويتعلم من علم السر الذي يحملونه به وكيفية صورهم الباقين بها، وقبل هذا يعرف مظاهر كثيرة، منها ما يتعلق بالأجسام المتغذية، ومنها ما يتعلق بالأرواح، وفي هذا المقام أشياء لا يصح إبداؤها ولا سبيل للتكلم إلى مجاوزة ما فوق ذلك مخافة أن يدعيها أهل الدعاوي المحجوبون الذين لم يصلوا إليها، فالسكوت عنها أولى والتلذذ بمطالعة مشاهدة تجليات صانعها أحلى، والله على ما نقول وكيل وهو يهدي السبيل " انتهى منه بلفظه (كتاب مشارق شموس الأنوار ص140، 141) . وبعد كل هذه السخافات والخرافات التي يسرقها إسماعيل بن عبد الله السوداني من عبد الكريم الجيلي وينقلها أحيانًا بالنص ولا سيما في ألوان كل سماء، وأن كلا منها كوكب من الكواكب المشهورة يعود فيذكر مشاهداته المزعومة أيضًا في الأرضين السبع. . إلى أسفل سافلين تمامًا كما فعل عبد الكريم الجيلي،

فيزعم إسماعيل هذا أيضًا أنه طاف بالطبقة الأولى من الأرض وهي أرض في زعمه ناصعة البياض لم يعص فيها الله قط، وأن الفجر يطلع بعد الغروب بمقدار يسير جدًا وذلك على حد زعمه في زمن الشتاء. قلت من يعلم جغرافية الأرض يعلم أن هذا وصف للقطب الشمالي وبياض الأرض هو الثلج الذي يغطيها، وكون الليل يكون نحو ساعة واحدة نعم ولكن هذا لا يحصل في الشتاء كما زعم إسماعيل هذا ولكنه يحدث في الصيف حيث يصبح الليل ساعة والعكس تمامًا في الصيف حتى لا يكون بقاء الشمس إلا نحو ساعة أو أقل أحيانًا في بعض مناطق القطب. .، ولكن هذه المعارف الجغرافية العادية التقطها هؤلاء الشيوخ وجعلوها كشفًا صوفيًا لا يتأتى إلا بالمجاهدة المزعومة وبانكشاف حجب القلب، وليتهم إذ نقلوها أيضًا نقلوها صحيحة بل لم يستطيعوا أن يميزوا بين ما عليه هذه المناطق في الصيف والشتاء. ثم يذكر إسماعيل هذا أن الأرض الثانية مسكونة بالجن وأن ليلهم نهارنا ونهارنا ليل عندهم. وهذا خلط بين معارف الجغرافية وبين أغاليط الصوفية. وأما الطبقة الثالثة من الأرض فيزعم أنها مسكونة بالجن كذلك (كتاب مشارق شموس الأنوار ص143) ، وينتقل هذا الشيخ الصوفي هكذا بين الأرضين المزعومة أرضًا أرضًا يطلعنا على مشاهدته وتخريفاته فيقول مثلًا ففي الأرض السادسة: " فنقول بحسب كشفنا: إن هذه الطبقة مسكونة بالمردة من الشياطين وهم أقوى حالًا من العفاريت وكل منهم مسلط على إنسان للعداوة السابقة، فكثير يدخلون في حوزهم فلا ترى منهم متحركًا ولا ساكنًا إلا قد قيده حكمهم بما اقتضته الحكمة الإلهية بمثابة تقلباتهم ودخولهم على الخلق بالأنواع المختلفة بحسب أجناسهم، فمنهم من يظهر للآدميين في الخواطر، ومنهم من يظهر لهم في عالم المثال لسوقهم إلى غاية الخذلان والضلال إلى غير ذلك مما لا يدركه على الحقيقة إلا الأولياء أهل الكمال وقد يتكلمون بحسب ما يؤذن لهم فيه من هذه

الأبواب والمقامات من العوالم العلويات والسفليات والله على ما نقول وكيل وهو يهدي السبيل " انتهى (كتاب مشارق شموس الأنوار ص148) . ويستطرد أيضًا فيذكر مشاهداته في الأرض السابعة فيقول: " نقول بحسب كشفنا: إن هذه الطبقة مسكونة بالحيات والعقارب وهي التي وردت بها الأخبار من أنها كأمثال الجبال وأعناق البخت وغير ذلك، فإن العبد العارف حين يدخل هذه الطبقة يدخله هم شديد مخافة أن يرى مقامًا في النار لبعض أصحابه ومريديه، فحينئذ يتطلع على جميع المقامات فإذا وجد مقامًا في النار لبعض مريديه أو بعض أصحابه سعى في هتكه بالتضرع إلى الله تعالى إلى أن يبدله الله سبحانه وتعالى (له) مقامًا في الجنة. كما أنه إذا وقف على الفلك الكوكب المسكون بطائفة من الذين هم معدودون في نعم الجنة يتطلع على مقامات الجنات، فإذا رأى مقامًا من مقامات بعض أصحابه سعى في رفعته وزيادته، وهذا كله يكون كرامة في الحق الولي العارف وشرفًا للوساطة الكبرى والوصلة الفخري عين حقائق السعود وجنة نعيم التجليات والشهود سيدنا ومولانا محمد الأسعد عليه أفضل الصلاة والسلام من البر الأوحد لأن بشرفه على أمثاله شرف أمته على سائر الأمم فإن الولي من أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطوف على جميع العوالم العلويات والسفليات ويطلع على مكنون غيب السبع السماوات والسبع طبقات (هكذا والصواب: سبع السماوات، وسبع الطبقات) ، ويعلم منازل أهل الجنة ومنازل أهل النار، وعلم ما كان وما يكون وما هو كائن وغير ذلك ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، فإنه يعلمهم قدر ما تقتضيه حكمته وتعمهم به رحمته بالوهب والتفضيل، والله على ما نقول وكيل وهو يهدي السبيل " انتهى منه بلفظه (كتاب مشارق شموس الأنوار ص153) . ولا يكتفي أيضًا بكل هذا الإفك والتخريف بل يذهب ليطلعنا أيضًا على كشفه المزعوم في بحار العلوم، فيقول:

" وقد اجتمعت مرة في بقعة من ساحل البحر المحيط الذي هو من وراء جبل قاف برجل من النقباء أصفر اللون مربوع القامة كثيف اللحية صبيح الوجه، فوجدته فانيًا في التجليات، غائبًا في أنوار المشاهدات وقدمه على قدم سيدنا يعقوب عليه السلام، وورده القائم به آخر سورة الحشر، {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم} [الحشر: 22] . . إلخ السورة. وهو مسقي بثلاثة عشر اسمًا من أسماء الله تعالى الحسنى، ولكنه متحير في مقامه، ويطلب التخلص منه فما وجد له سبيلًا، فسلمت عليه، فإذا هو في غاية الاستغراق شاخصًا ببصره إلى الطباق، فإنه يشير إلى البحر الذي هو بساحله ففهمت منه أنه يشتكي إلي بصعوبة تخليصه من هذا المقام، كأنه يقول إن خلاصه منه أصعب حالًا من شراب ماء هذا البحر، لأنه هو البحر الأخضر، ماؤه مر لا يستطيع أحد الشراب منه، لأن الذي يشرب منه يهلك حالًا من شدة مرارته، فوجدت بيد الرجل رمانة مغلوقة وأكلت معه منها، فلما عرفته بوسمه وخاطبته باسمه قلت له ما المقصود؟ قال: مشاهدة الملك المعبود. فلما عرفني فهمت لغزه وأدركت رمزه، وتحقق أنني مفيده فيما يريده أخذ يطلبني من غير انفكاك عني وصحبني إلى محل بعيد، فأخذت له في المقال وأطلقت له لسان الحال إلى أن شاهدنا الكنوز المستورة تحت قباب الرموز من البحر الأسود الذي انتهى إليه المورد، فإن هذا البحر رسمه معدوم وظاهره مكتوم فلا أستطيع فيه التعبير ولم أتعرض إلى البيان فيه والتفسير فمن ثم أخذ مني بعض أذكار مصاحبة أنواره وانصرف بسبيله إلى مشاهدة دليله، وفي حين تقييدي لهذا المحل اجتمعت معه فوجدته في حال عظيم ومقام فخيم فأخبرني أنه حصلت له مني مفاتحات عظيمة وإمدادات كريمة حين أكلت معه في تلك الرمانة، فحكى لي شيئًا من حاله، ووجدته سقى بخمسة وثلاثين اسمًا من أسمائه تعالى، وصار في زيادة بابتهاج طريقه الأعلى. وقد اجتمعت في ساحل البحر الأحمر برجال من أرباب الأحوال لم يزالوا في دلالة المخلوقين إلى طريق معرفة رب العالمين فإذا أمعن ناظرهم فكرة يحقق أنهم ليس لهم اشتغال أبدًا بغير

كيفية صفة خلوة للمؤلف وغير ذلك من الأدعية المرجية

هذا، ثم أمور لا سبيل إلى ذكرها بقصور الوقت وضيقه عنها، فانتهج أيها العاقل وكابد في خوض المقامات والمنازل فإن الله تعالى حكيم كريم يورثك من علم سره العظيم أنه واهب جليل والله على ما نقول وكيل وهو يهدي السبيل " انتهى (كتاب مشارق شموس الأنوار ص159، 160) . وقد يسأل السائل ما الداعي لكل هذا الكذب والانحراف، وما الذي يدفع هؤلاء إلى كل هذا التخريف والتكلف، هل هم عقلاء أو مجانين وإن كانوا عقلاء فماذا يريدون. وقطعًا لهذه التساؤلات يجيب المؤلف نفسه عن مراده وذلك في آخر كتابه فيقول: " المغرب التاسع في عين خاتمة الكتاب كيفية صفة خلوة للمؤلف وغير ذلك من الأدعية المرجية اعلم أيها الابن المجتهد والمحتسب المقتصد، أن كل خير لا ترقى ذروته إلا بجهد النفس وأتعابها فيه، وقد تكلمنا لك فيما تقدم من المجاهدات والمكابدات، وأن الطرق الموصلة إلى الله تعالى لا تحصى، وكل صاحب طريقة أدرى بما فيه الصلاح لمن يسلكها، ولما أنعم الله علي بنيل هذا المقام وجعلني من خواصه الكرام أذن لي في التكلم والظهور وإبداء طريقة أستقبل بها وأسلك بها المريدين لأجل أن يصلوا بها، إلى حضرة الغفور، فحصل الأمر كما أمر واشتهر ذلك واستمر، فلما أذنت من الحضرتين بإظهار كل ما نراه يصلح لأهل طريقتي بلامين وأفاض علي الوهاب بوارد تأليف هذا الكتاب أردت أن أختمه بصفة خلوتي التي تصلح لأهل طريقتي كما فعل قبلي أهل الطرق

بنظرهم الذي يصلح لأهل طرائقهم، وجعلت كيفية هذه الخلوة رسالة مستقرة وأفردتها في هذا المغرب لأجل أن يسهل نقلها ونظرها لمن له رغبة فيها، فمن أراد نقل جميع الكتاب فهي من جملته، ومن أراد الاستقلال بها فليفردها منه من أول البسملة إلى حد الخاتمة الآتية، وهي هذه " انتهى منه بلفظه (كتاب مشارق شموس الأنوار ص161) . الخلاصة أن الرجل يريد أن يبني له طريقة خاصة لتسليك المريدين، وجمع الأغبياء والمغفلين ومن ثم جمع النذور والقرابين، وبالتالي جعل نفسه في مكان الملوك والسلاطين! ! ! هذه هي النهاية التي يسعى إليها ملوك التصوف، وأئمة الضلالة ومن أجل هذا كذبوا على الله هذا الكذب المبين ولا يسع المسلم إلا أن يحمد الله على العافية مما ابتلي به هؤلاء المارقون الكاذبون والحمد لله رب العالمين.

الفصل الحادي عشر: الولاية الصوفية

الفصل الحادي عشر: الولاية الصوفية الولاية الرحمانية أعلن القرآن أن كل مؤمن صادق في الإيمان ولي لله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة: 257] . نصت الآية هنا على أن الله ولي كل مؤمن، وأنه بفضل هذه الولاية يخرج الله المؤمنين من الظلمات إلى النور، وقال تعالى أيضًا: {إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} [الأعراف: 196] . وقال تعالى: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئًا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين} [الجاثية: 18-19] . يخبر سبحانه وتعالى أنه ولي لكل من اتقاه وخافه. . وجاء في دعاء موسى ـ عليه السلام ـ لربه {أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين} [الأعراف: 155] . وقال تعالى أيضًا: {وهذا صراط ربك مستقيمًا قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون} [الأنعام: 126-127] . وقال تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون

الذين آمنوا وكانوا يتقون} [يونس: 62-63] . والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًا التي تبين ولايته سبحانه وتعالى لكل مؤمن صالح متق لله سبحانه وتعالى. . والولاية هي المحبة والنصرة. . فالله سبحانه وتعالى إذا والى عبدًا فإنه يحبه وينصره ويعزه ويكرمه كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم} [المائدة: 54] . وكذلك العبد إذا قيل إنه يوالي الله فمعنى ذلك أنه يحب الله وينصره كما قال تعالى: {والذين آمنوا أشد حبًا لله} [البقرة: 165] . وقال تعالى: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} [محمد: 7] . فولي الله من ينصره ويحبه، ومن يحب الله ينصره. .، فكل من أحب الله ونصره، وسار في مرضاته، وحفظ حدوده، وأقام شريعته ودينه، فهو ولي الله سبحانه وتعالى. وقد بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ طريق الولاية فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: [قال الله تعالى من عادى لي وليًا فقد آذنته بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه] (رواه البخاري) . هنا بين الرسول فيما يرويه عن ربه سبحانه وتعالى أن طريق الولاية للعبد هو أن يقوم بأداء الفرائض أولًا التي هي أحب الطاعات إليه سبحانه وتعالى، ثم يتدرج في أداء النوافل حتى يحبه الله، فإذا أحبه الله سبحانه وتعالى كان وليًا حقًا له جل وعلا، وقد جاء في الحديث الصحيح: (إن الله إذا أحب عبدًا قال يا جبريل إني أحب فلانًا فأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء فيقول إن الله يحب فلانًا فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له

الولاية الصوفية الشيطانية

القبول في الأرض) (رواه مسلم) . ولا شك أن ولاية الله سبحانه وتعالى هذه مبذولة لكل من سعى إليها وسار في طريقها ووفقه الله سبحانه وتعالى إلى بلوغها كما قال جل وعلا: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى} [الليل: 5] . وقال أيضًا جل وعلا: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} [العنكبوت: 69] . ولا شك أنه على الرغم من أن كل مؤمن هو ولي الله جل وعلا فإن ولاية الله للعبد ومحبته له تتفاوت بحسب الإيمان والتقوى والعمل الصالح فكلما ازداد إيمان العبد وترقى في درجات الكمال والصلاح وتحلى بالتقوى كان أعظم ولاية، وأقرب من ربه سبحانه وتعالى، هذا مفهوم الولاية في الإسلام على وجه الإجمال. الولاية الصوفية الشيطانية ولكن في التصوف الشيطاني فإن الولاية لها معنى آخر تمامًا في الشكل المضمون والموضوع، فولي الله عند الصوفية الزنادقة من اختاره الله وجذبه إليه، وليس من شرط ذلك أن يكون عند هذا المختار والمجذوب أية مواصفات للصلاح والتقوى إذ الولاية عندهم نوع من الوهب الإلهي دون سبب، وبغير حكمة، ويجعلون الولاية الكسبية هي ولاية العوام والمتنسكين والولاية الحقيقية عندهم هي الولاية الوهبية، يستدلون لذلك بمثل قوله تعالى: {يختص برحمته من يشاء} [البقرة: 105] . فيقولون: الولاية اختصاص وهذا تلبيس منهم لأن اختصاص الله من يشاء برحمته لا يكون إلا لحكمة وأسباب اقتضت ذلك كما قال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون} [المائدة: 35] . فجعل سبحانه وتعالى تقواه واتخاذ الوسيلة منه هي الطريق الموصل لرحمته فيستحيل أن تكون رحمة الله التي يختص بها من يشاء كائنة دون حكمة لأن الله سبحانه وتعالى يعلم أن يجعل رسالته وأين يضع هدايته كما قال تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124] . وقال تعالى:

{وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين} [الأنعام: 53] . فأخبر سبحانه ردًا على الكفار الذين احتقروا المؤمنين لفقرهم وقالوا: كيف يرزقهم الله التقوى ونحن أكرم على الله منهم لأنه رزقنا الأموال والأولاد. قال تعالى: {أليس الله بأعلم بالشاكرين} [الأنعام:] سبحانه وتعالى إنه أعلم من يوفق لهدايته وهم الذين يحكمون بواجب شكره سبحانه وتعالى ولذلك عبد الرسول ربه حتى أتاه اليقين وهو الموت، وقام من الليل حتى تفطرت قدماه وقيل له: يا رسول الله تفعل هذا وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال: [أفلا أكون عبدًا شكورًا] [متفق عليه] . . فالعباد الذين يعلم الله منهم الطاعة والإخلاص والقيام بشكر نعمته هم الذين يوفقهم الله لطاعته ومحبته وولايته. ولما اعتقد الصوفية الزنادقة أن الولاية قضية وهبية بلا حكمة ولا معقولية جعلوا المجاذيب والمجانين والفسقة والظلمة والملاحدة المشركين من أهل وحدة الوجود، أولياء لله بمجرد أن ظهر على أيديهم بعض خوارق العادات التي ظهر مثلها على الدجال وابن صياد، وأصناف من المشركين وأهل الإلحاد. . فجعلوا الكرامة الشيطانية الإبليسية كالإخبار ببعض المغيبات واحتراف بعض الحيل والشعوذات وإتقانها كزعم الدخول في النيران وضرب الجسم بالسكاكين والسهام واللعب بالعقارب والحيات، وأمثال ذلك من المخاريق والترهات جعلوا أولياء الله هم هؤلاء الذين يدجلون على الناس بمثل هذه الخرافات مع ما هم عليه من مخالفة الإسلام، في الظاهر والباطن فظاهرهم مخالف للشريعة حيث عبدوا الله بالبدع والمظاهر الكاذبة والرياء والسمعة كملبس الخرق الملونة والمرقعات وإظهار الفقر والزهد، وذكر الله بالصياح والهوس والجنون وإقامة مشاعر الشرك عند القبور والمزارات والاستعانة بالأموات، وعبادة المشايخ والذوات، جعلوا من هذه أحوالهم في ظاهرهم أولياء لله، ومن أحوالهم في بواطنهم أشر من ذلك وأمر. فهم من أهل وحدة الوجود الكافرين والزنادقة الملحدين الذين لا يفرقون بين خالق ومخلوق، ورب

وعبد، ومن يجعلون النبي محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو علة الأكوان، والمستوي على عرش الرحمن، ومبدع الأرض والسماوات إلى آخر هذا الكفر والهذيان مما يأباه من عنده أدنى إسلام وإيمان. . . هذه هي الولاية الصوفية في زعمهم جعلوها لهؤلاء كما جعلوها أيضًا للمجانين والصبيان ولأهل التخاريف والهذيان حتى عدوا في أوليائهم من يأتي الحمارة في وضح النهار، وأمام الأسماع والأبصار وسلكوا في سلك الولاية الشيطانية هذه من يشرب الخمر جهارًا نهارًا، ويزني ويلوط عيانًا بيانًا، ويزعمون في كل ذلك أن هذا مظاهر غير مراد، وأنه نوع من التخييل للعباد، وأن الولي الصادق لا تضره معصية أبدًا، أو أن الأعيان ينقلب له فالخمر التي يشاهدها الناس خمرًا ينقلب في بطن الولي لبنًا خالصًا، والزانية الفاجرة التي يرى الناس الولي بصحبتها تكون زوجته، ولم يكتفوا بهذا أيضًا في تعريف الولاية عندهم بل قالوا في الفكر الصوفي إن الولي يتصرف في الأكوان ويقول للشيء كن فيكون، وكل ولي عندهم قد وكله الله بتصريف جانب من جوانب الخلق فأربعة أولياء يمسكون العالم من جوانبه الأربعة، ويسمون الأقطاب، وسبعة أولياء آخرون كل منهم في قارة من قارات الأرض السبع ويسمون البدلاء. وعدد آخر من الأولياء في كل إقليم في مصر ثلاثون أو أربعون وفي الشام كذلك، والعراق وهكذا، وكل واحد من هؤلاء قد أوكل إليه التصريف في شيء ما، حتى عدو منهم من صرفه الله في رعاية الكلاب، ومنهم من له التصريف في رعاية الحيات، وفوق هؤلاء الأولياء جميعًا ولي واحد مراد يسمى القطب الأكبر أو الغوث وهو الذي يدبر شأن الملك كله سمواته وأرضه والأولياء جميعًا في بقاع الأرض تحت أمره. فالأرض والسماوات تدار حسب الولاية الصوفية وأما الملائكة جميعًا فإنهم في خدمة هؤلاء الأولياء ينفذون أوامرهم ويخضعون لمشيئتهم. . هذه هي الولاية الصوفية وهي لا تمت من قريب أو بعيد للولاية الإسلامية القرآنية قط. . فالولي في الإسلام عبد هداه الله ووفقه وسار في مرضاة ربه حسب شريعته، وهو يخشى على نفسه دائمًا من الكفر والنفاق وسوء العاقبة ولا يعلم هل يقبل

الله عمله أو لا. . وأما الولي الصوفي فهو رب كبير أو صغير يتصرف في جانب من جوانب الكون ولا يلتزم بشريعة لأن له شريعته المستقلة، والملائكة تحت مشيئته والسماوات والأرض كالخلخال برجله! ! ولا يغرب عنه شيء في السماوات ولا في الأرض، ولا خوف عليه مطلقًا لأنه قد جاءه الأمان، ولا يحزن لشيء مطلقًا لأن بيده التصريف. . هذه هي الولاية الصوفية. والحق أن الذي قرأ شيئًا من الفلسفة الإغريقية القديمة يعلم يقينًا أن فكرة الولاية الصوفية هذه منقولة عن هذه الفلسفة فآلهة الإغريق قديمًا ـ كما صورتها الإلياذة والأوديسيا ـ يتصرفون في الكون ولكل منهم جانب خاص من جوانب العالم، (فمارس) هو إله الحرب، (وكيوبيد) هو إله الحب و (افروديت) هي إلهة الجمال، و (أبوللو) هو رب الأرباب وهكذا. . إن فكرة تعدد الآلهة عند الإغريق وتصرفهم في الكون هي فكرة الولاية الصوفية تمامًا حيث يعبث هؤلاء الولاية الصوفيون بمصائر البشر، ويتحكمون في أرزاقهم وأعمالهم، ويتصارعون أيضًا ويتنافسون كما يصنع آلهة الإغريق تمامًا. . والآن اصحبني أيها القارئ لأريك نصوص المتصوفة وعباراتهم، وخيالاتهم في وصف ولايتهم الصوفية: أول من ألف كتابًا مستقلًا في الولاية الصوفية هو محمد بن علي بن الحسن الترمذي، الذي يسمونه الحكيم، وهو غير الترمذي صاحب السنن المشهورة بسنن الترمذي، وقد نشأ (الحكيم) هذا في أواخر القرن الثالث الهجري، وهو مجهول سنة الولادة والوفاة. وكتابه الذي أشرنا إليه يسمى (خاتم الأولياء) (راجع الفصل بختم الولاية الصوفية) . . والمهم هنا أن الترمذي هذا رسم الملامح الخيالية الزندقية للولاية الصوفية ومن أجل هذا الكتاب شهد علماء زمانه بالزندقة والكفر ونفوه من بلده (ترمذ) كما أخبر بذلك صاحب الطبقات الصوفية أبو عبد الرحمن السلمي، وادعى الترمذي هذا في الولاية ما تابعه بعد ذلك عامة الصوفية عليه من أن الولاية وهب ومنحة إلهية لا كسب وموجدات، وأن الولي يعلم علم البدء

وعلم المقادير وعلم الحروف (ختم الولاية ص362) . ووضع الترمذي هذا مراتب للولاية، فجعل منهم المجاذيب وأهل العته والجنون لأن الله جذبهم إليه وأسقط عنهم التكاليف، وأن هناك أربعين من أوليائهم الذين يتصرفون في شئون العالم، وأن هناك القطب الأكبر والخاتم للولاية وأن الأولياء هؤلاء محروسون عند الله فلا يلقى في صدورهم إلا الوحي الرحماني الملائكي فقط! ! وجعل هؤلاء الأولياء منهم من بلغ ثلث النبوة، ومنهم من بلغ نصفها ومنهم من زاد على ذلك وهو ختم الأولياء (ختم الولاية ص347) . ومن هؤلاء الأولياء تظهر لهم الآيات مثل طي الأرض، والمشي على الماء ومحادثة الخضر (ص361) . وزعم كذلك أن قلوب هؤلاء الأولياء هي كتاب الله يطبع فيه ما يشاء! ! وأنهم كالأنبياء لهم من الله عقد الولاية ولذلك كشف عن قلوبهم الغطاء فيرون ملك الله في كل أجزائه في العالم العلوي والسفلي، وزعم أن هؤلاء الأولياء يعرفون منازلهم من الجنة، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ويقطعون بذلك وأن الكرامات التي تظهر على أيديهم دليل على صدقهم وإيمانهم. .، يقول الترمذي: " ما قولك في مُحَدِّث، بشر بالفوز والنجاة فقال: رب اجعل لي آية تحقق لي ذلك الخبر الذي جاءني لينقطع الشك والاعتراض. فقال (أي الله) : آتيك أن أطوي لك الأرض حتى تبلغ بيني الحرام في ثلاث خطوات، وأجعل لك البحر كالأرض تمشي عليه كيف شئت وأجعل لك التراب والجو في يديك ذهبًا، ففعل هذا هل ينبغي له أن يطمئن إلى هذه البشرى بعد ظهور هذه الآية أولًا " ا. هـ منه بلفظه (ختم الولاية ص401) . وهذا الكلام من الحكيم الترمذي تلبيس وتدليس كله. . من هذا الذي يخاطبه الله بكلمة بعد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟ ! ولا نبي بعد رسول الله، ومن هذا الذي

يعطيه من هذه الكرامات المزعومة ما لم يعط رسله وأنبياءه. . فإن الرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما سار على الماء، ولا طار في الهواء، ولا جعلت له الجبال ذهبًا. بل جاع هو وأصحابه وربط الحجر على بطنه أيامًا وسار على قدميه في جيوشه حتى تقطعت أقدامهم وما كان لهم إلا الخرق يلفونها به حتى لقد سمو غزوة من غزواتهم بغزوة ذات الرقاع لأنهم مزقوا فيها بعض ملابسهم ليلفوا أرجلهم ولقد كانوا أفضل الناس وأفضل الأمة، أيأتي بعد ذلك هؤلاء البطالون المتأكلون الآكلون أموال الناس بالباطل المعتقدون عقائد الوثنية والشرك ليعطيهم الله الولاية العظمى يمكنهم من الطيران في الهواء، والسير على الماء، وقلب الأحجار فضة وذهبًا لا شك أن الذي يزعم شيئًا من ذلك قد لبس عليه الشيطان وأدى له بعض الخدمات كأن نقله مرة من مكان إلى مكان بسرعة الشيطان، وسرق له بعض الذهب من مكان وتسمى هذه الأمثلة كرامة رحمانية وما هي إلا حيل شيطانية يلبس بها الشيطان على أوليائه. ولا غرو أن يدعي الترمذي هذا ما يدعي فأنه قد ذكر على نفسه فيما سماه (بدو شأن الترمذي) أن زوجته قد تنبأت له، وزعمت له أنها رأت في شأنه عشرات من الرؤى منها أنها رأت أن سطح بيتها وكانت نائمة عليه قد هبط إلى الأرض وأنها وجدت داخل بيتها رجلين قاعدين في هيبة وأنهما قالا لها: قولي لزوجك: أنت وتد من أوتاد الأرض تمسك طائفة من الناس! ! (بدو شأن الترمذي مطبوع مع ختم الولاية ص25) وأن هذين الرجلين الذين بشراها هما محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وزوجته هذه أيضًا تنبأت له بأنها كانت نائمة مع زوجها في فراش واحد وجاء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فدخل فراشهما معهما! ! (بدو شأن الترمذي مطبوع مع ختم الولاية ص38) . ولا يخفى أن أمثال هذه الرؤيا والتنبؤات رؤى شيطانية حتمًا فليس هناك شيء يسمى أوتادًا تمسك الأرض لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا} [فاطر: 41] .

وإذا كان الله هو الذي يمسك السماوات والأرض فمعنى ذلك أنه ليس في حاجة إلى الترمذي وغيره ليكون وتدًا يمسك جانبًا من الأرض! ! نعم جعل الله الجبال أوتادًا للأرض ولم يجعل الترمذي الذي ينام ليله شاخرًا وتدًا من أوتاد الأرض وأما الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي يقول (من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي) يستحيل أن يأتي ليدخل في فراش رجل مع زوجته ولم يدخل مع زوجة الترمذي في فراشها وهي مع زوجها إلا الشيطان حتمًا الذي يعلم من هم أولياؤه. واسمع إلى الترمذي يحكي عن خرافات زوجته فيقول: " ثم رأت رؤيا أخرى وهي بالفارسية وفي آخرها قالت: فانتبهت فوقع عليها حرص الاستماع إلى الموعظة وطلب الحقوق من نفسها. فأول ما ابتدى لها من تحقيق رؤياها أنها كانت في البستان قاعدة وذلك لثلاث بقين من ذي القعدة، بعد أن رأت هذه الرؤيا، بنحو من خمسة أيام (ستة) إذ وقع على قلبها: يا نور كل شيء وهداه أنت الذي فلق الظلمات نوره. قالت فوجدت كأن شيئًا دخل صدري فدار حول قلبي فأحاط به وامتلأ الصدر إلى الحلق، حتى صرت شبه المخنوق من امتلائه، وله حرارة وحرقات على القلب فتزينت الأشياء كلها لي. فما وقع بصري على أرض ولا سماء وخلق من الخلق إلا رأيته بخلاف ما كنت أراه من الزينة والبهجة والحلاوة. ثم وقع على قلبي كلمة بالفارسية: (نكيني من ترا داذم) ، فامتلأت فرحًا وطيب نفس ونشاطًا فأخبرتني بذلك فلما كان اليوم الثاني قالت: وقع على قلبي أنا أعطيناك ثلاثة أشياء، ووقع الكلام بالفارسية: (سه جيزترا داذم جلال من (و) عظمة من وبهاء من (ومعنى هذه الكلمات بالعربية: أي أعطيناك ثلاثة أشياء هي جلالي وعظمتي وقدرتي! !)) وأضاء لي من فوقي فدام هكذا فوق رأسي في الهواء كما كنت رأيته في المنام فترى في ذلك الضوء علم الجلال وعلم العظمة وعلم البهاء. . فأما الجلال فإني رأيت كأن البيت يتحرك (ايذون جيزي همي بيود، وجمش خلق همه ازوي، وعظمة بري (و) همه جيزها ازوي، وبها (و) سرا (ي) همه

جيزها همه جيزها (ازوي نخست فر (أي أعطيناك علم الأولين) سمانها وبذم او كنده. . تفروذ) . ثم وقع على قلبها، اليوم الثالث (تراداذم علم اولين وآخرين) فدام بها هذا حتى نطقت بعلم أسماء الله فكان يفتح لها في كل يوم اسم الأصل: ويبدو، ذلك الضوء على قلبها وينكشف لها باطن ذلك. حتى كان يوم الجمعة، في أيام العشرة، حضرت المجلس، فذكرت أنه وقع عليها اسم (اللطيف) ". فانظر كيف تنبأت زوجة الترمذي الفارسية وكانت الرؤى تنزل عليها بالفارسية أيضًا وأنها أخبرت أنها أخذت من الله الجلال والعظمة والقدر! ! وأنها كذلك نالت علم الأولين والآخرين، وهكذا لم يكتف الترمذي بأن يكون هو الوتد بل رأس الأوتاد الذين زعم أنهم أربعون بل زعم أخيرًا أنهم خاتم الأولياء جميعًا كما كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتم الأنبياء ولم يكتف بكل ذلك إلا أن جعل زوجته متنبئة كذلك وأنها حصلت على علم الأولين والآخرين وأخذت ثلاث صفات من صفات لله تعالى وهي الجلالة والعظمة والقدر! ؟ هذا هو الزعيم الأول والرائد الأول لفكرة الولاية الصوفية، وفكرة ختم الولاية. والعجيب أنه كتب كتابه هذا نحو سنة 269هـ ـ حيث ذكر أن زوجته رأت بعض هذه الرؤى يوم السبت 20 من ذي القعدة سنة 269هـ ـ. . وبذلك يكون الترمذي أول من وضع لبنات الفكر الصوفي في قضية الولاية المزعومة. . ومن أجل هذا الكتاب رماه علماء بلده بالكفر والزندقة واستطاعوا طرده من ترمذ ولكنه عاد إليها بعد ذلك تحت جناح بعض الظالمين. . وقد أفضنا في بيان هذه القضية من كتاب الترمذي لأنه أول من سن هذا الشر المستطير الذي جاء بعده، وكتابه هو أول كتاب فيما أظن قد وضع الأسس الخبيثة هذه لفكرة الولاية الصوفية.

مراتب الولاية عند الصوفية

مراتب الولاية عند الصوفية وقد ذهب المتصوفة إلى تقسيم مراتب الولاية عندهم فمنهم من قالوا إنهم يتقسمون إلى الغوث وهو أكبر الأولياء جميعًا وهو واحد في كل زمان وتحته الأوتاد الأربعة وكل واحد منهم في ركن من أركان العالم يقوم به ويحفظه والأقطاب السبعة وكل منهم في إقليم من أقاليم الأرض السبعة أي في قارة من القارات السبع، (والأبدال) وزعموا أنهم أربعون وهم يعيشون في العالم، وكلما هلك واحد منهم أبدله الله بغيره لحفظ الكون! ! (والنجباء) وهم ثلاثمائة كل منهم يتولى شأنًا من شئون الخلق. . ولا يشك مسلم يعلم شيئًا من الكتاب والسنة ولا عالم قد اطلع على علوم الكتاب والسنة أن ما قاله الصوفية في هذا الصدد هراء وكذب لا أساس له من كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكن الصوفية أرادوا أن يؤسسوا لهم دولة في الباطن تحكم وتنفذ وتتحكم في شئون الناس فبنوا هذه الدولة العجيبة الباطنية التي يتحكم فيها هؤلاء الذين سموهم بالغوث والأقطاب والأبدال والنجباء والأوتاد. . ويتعجب الإنسان وهو يطالع الفكر الصوفي في هذا الصدد كيف أن المتصوفة أحكموا خطتهم للسيطرة على عقول الناس، ولإدخالهم إلى دينهم العجب العجيب حيث أوهموهم أن التصريف في الأرض والسماء والخلق أجمعين إنما هو لدولتهم الخفية التي يتحكم فيها أولياء الصوفية. . هؤلاء الأولياء الذين قد يكونون أحيانًا أميين لا يعرفون قراءة ولا كتابة وأحيانًا مجاذيب يصرخون ويبولون في الطرقات وأحيانًا زناة وشاربي خمور قد رفعت عنهم التكاليف الظاهرة وأن منهم من يعيش طيلة عمره قذرًا وسخًا لا يتطهر بماء قط أو صابون ليوفر الماء (انظر) للفقراء! ! ومع ذلك فهؤلاء الأولياء يعلمون الغيب كله ولا يخفى عليهم شيء في الأرض ولا في السماء ولا يعجزهم شيء ولا يقف أمام إرادتهم أحد أبدًا. . وتعال معي في جولة مع خرافات القوم وترهاتهم

لتعلم أي عالم يعيش فيه رجال التصوف. وقد كفانا عبد الوهاب الشعراني مئونة تجميع أقوالهم في مراتب الولاية حيث جمع أقوال ابن عربي في الفتوحات ولنبدأ أولًا بمفهوم القطب الغوث أو القطب الأكبر عند الصوفية: يقول الشعراني: " وأما القطب فقد ذكر الشيخ في الباب الخامس وخمسين ومائتين أنه لا يتمكن القطب من أن يقوم في القطابة إلا بعد أن يحصل معاني الحروف التي في أوائل السور المقطعة مثل ألم، والمص، ونحوهما فإذا أوقفه الله تعالى على حقائقها ومعانيها تعينت له الخلافة وكان أهلًا لها. (فإن قلت) فما علامة القطب فإن جماعة في عصرنا ادعوا القطبية وليس معنا علم برد دعواهم. (فالجواب) قد ذكر الشيخ أبو الحسن الشاذلي ـ رضي الله عنه ـ أن للقطب خمس عشرة علامة: أن يمد بمدد العصمة والرحمة والخلافة والنيابة ومدد حملة العرش العظيم ويكشف له عن حقيقة الذات وإحاطة الصفات ويكرم بكرامة الحلم والفضل بين الموجودين وانفصال الأول عن الأول وما انفصل عنه إلى منتهاه وما ثبت فيه حكم ما قبل وما بعد وحكم من لا قبل له ولا بعد، وعلم الإحاطة بكل علم ومعلوم ما بدا من السر الأول إلى منتهاه ثم يعود إليه. . " انتهى. وقال في الفتوحات في الباب السبعين ومائتين: " إن اسم القطب في كل زمان عبد الله وعبد الجامع المنعوت بالتخلق والتحقق بمعاني جميع الأسماء الإلهية (أي أن يتصف بما يتصف به الله من السمع والبصر والقدرة. . إلخ) ، بحكم الخلافة وهو مرآة الحق تعالى ومجلى النعوت المقدسة ومحل المظاهر الإلهية (يعني ظهور صفات الله فيه) ، وصاحب الوقت (أي المتصرف في الخلق) ، وعين الزمان وصاحب علم سر القدر وله علم دهر الدهور (فهو يعلم ما مضى وما يأتي) ، ومن شأنه أن يكون الغالب عليه الخفاء لأنه محفوظ في خزائن الغيرة

ملتحف بأردية الصون لا يعتريه شبهة في دينه قط ولا يخطر له خاطر يناقض مقامه، كثير النكاح وراغب فيه، محب للنساء، يوفي الطبيعة حقها على الحد المشروع له، ويوفي الروحانية حقها على الحد الإلهي، يضع الموازين ويتصرف على المقدار المعين الموقت له لا يحكم عليه وقت إنما هو لله وحده حاله دائمًا العبودية والافتقار، يقبح القبيح ويحسن الحسن، يحب الجمال المقيد في الزينة والأشخاص، تأتيه الأرواح في أحسن الصور يذوب عشقًا يغار لله عز وجل، ويغضب له تعالى، له الإطلاق في المظاهر من غير تقييد، لا تظهر روحانيته إلا من خاف حجاب الشهادة والغيب، لا يرى من الأشياء إلا محل نظر الحق فيها، يضع الأسباب ويقيمها، ويدل عليها، ويجري بحكمها، ينزل إليها حتى يحكم عليه، ويؤثر فيه رياسة على أحد من الخلق بوجه من الوجوه مصاحب لهذا الحال دائمًا إن كان صاحب دنيا وثروة تصرف فيها تصرف عبد في مال سيد كريم وإن لم يكن بيده دنيا وكان على ما يفتح الله تعالى له به لم تستشرف له نفس بل يقصد بنفسه عند الحاجة بيت صديق ممن يعرفه يعرض عليه ما تحتاج إليه طبيعته كالشافع لها عنده فيتناول لها منه قدر ما تحتاج إليه ثم ينصرف لا يجلس عن حاجته إلا لضرورة فإن لم يجد حاجته لجأ إلى الله تعالى في حاجة طبيعة لأنه مسؤول عنها ومتول عليها ثم ينتظر الإجابة من الله فيما سأل فإن شاء الله تعالى أعطاه ما سأل عاجلًا أو آجلًا فمرتبته الإلحاح في الدعاء والشفاعة في حق طبيعته بخلاف أصحاب الأحوال فإن الأشياء كلها تتكون عن هممهم لأن الله تعالى عجل لهم نصيبًا من أحوالهم في الجنة فهم ربانيون والقطب منزه عن الحال ثابت في العلم فإن أطلعه الله على ما يكون أخبر بذلك على وجه الافتقار الله لا على وجه الافتخار لا تطوى له أرض ولا يمشي في هواء ولا على ماء ولا يأكل من غير سبب ولا يطرأ عليه شيء من خرق العوائد إلا في النادر لا ما يراه الحق تعالى فيفعله بإذن الله من غير أن

يكون ذلك مطلوبًا له وكذلك من شأنه أن يجوع اضطرارًا لا اختيارًا ويصبر على النكاح كذلك لعدم الطول يعلم من تجلي النكاح ما يحرضه على طلبه والتعشق به لا يتحقق قط بالعبودية في شيء أكثر مما يتحقق به في النكاح لا يرغب في النكاح للنسل وإنما يرغب ففيه لمجرد الشهوة وإحضار التناسل في نفسه لأمر مشروع فنكاحه لمجرد اللذة كنكاح أهل الجنة. وقد غاب عن هذه الحقيقة أكثر العارفين لما فيه من شهود الضعف وقهر اللذة المغيبة له عن إحساسه فهو قهر لذيذ وذلك من خصائص الأنبياء ولعلو مراقي هذا المقام جهله أكثر الأولياء وجعلوا النكاح شهوة حيوانية ونزهوا أنفسهم عن الإكثار منها " (اليواقيت والجواهر ج2 ص79) ا. هـ. فانظر كيف لبس على الناس ووصف الولي المزعوم بصفات الربوبية الكاملة ثم راح يصفه بصفات العبودية أيضًا تلبيسًا على الناس. ويستطرد الشعراني ناقلًا عن ابن عربي وصفه للغوث فيقول: " واعلم أن من مقام القطب أن يتلقى أنفاسه إذا دخلت وإذا خرجت بأحسن الأدب لأنها رسل الله إليه فترجع منه إلى ربها شاكرة له لا يتكلف لذلك (وهذا كذب محض فالتنفس عملية لا إرادية شأنها واحد في كل إنسان وليس هناك نفس مسبح ونفس غير مسبح إلا أنه يعتقد المؤمن أن حياته لا تقوم إلا بالله فيؤجر على ذلك ويكون عائدًا لله من هذا الوجه) . وأطال الشيخ في ذلك ثم قال فإذن القطب هو الرجل الكامل الذي حصل أربعة الدنانير منها خمسة وعشرون قيراطًا وبها توزن الرجال والأربعة هم الرسل والأنبياء والأولياء والمؤمنون فهو وارثهم كلهم ـ رضي الله عنه ـ. وقال الشيخ في الباب الحادي والخمسين وثلاثمائة: من شأن القطب الوقوف دائمًا خلف الحجاب الذي بينه وبين الحق جل وعلا فلا يرتفع حجابه حتى يموت فإن مات لقي الله ـ عز وجل ـ فهو كالحجاب الذي ينفذ أوامر الملك وليس له من الله تعالى إلا صفة الخطاب لا الشهود " (عاد إلى التلبيس مرة ثانية فزعم أن الولي يتصرف في الخلق بأمر الله) .

القطب الغوث واحد في الزمان فقط

القطب الغوث واحد في الزمان فقط ويستطرد أيضًا مبينًا أن القطب الأكبر أو ما يسمونه بالغوث واحد في كل زمان. فيقول: " قال الشيخ في الباب الخامس والخمسين ومائتين: ومن خصائص القطب أن يختلي بالله تعالى وحده ولا تكون هذه المرتبة لغيره من الأولياء أبدًا ثم إذا مات القطب الغوث انفرد تعالى بتلك الخلوة لقطب آخر لا ينفرد قط بالخلوة لشخصين في زمان واحد أبدًا. وهذه الخلوة من علوم الأسرار. وأما ما ورد في الآخرة من أن الحق تعالى يخلو بعبده ويعاتبه فذلك من باب انفراد العبد بالحق تعالى لا من باب انفراد الحق بالعبد فافهم واكتم ". انتهى (اليواقيت والجواهر) . وحتى لا يقع المتصوفة في الأشكال المعروفة وهو أن كان أقطاب التصوف في عهد الخلافة الراشدة لذلك بادر ابن عربي للقول أن أبا بكر وعمر كانوا أقطابًا بالمعنى الصوفي. . ونقول حاشا الصحابة أن يدخلوا في هذا الزور والبهتان. يقول ابن عربي: " ثم اعلم أنه لما كان نصب الإمام واجبًا لإقامة الدين وجب أن يكون واحدًا لئلا يقع التنازع والتضاد والفساد فحكم هذا الإمام في الوجود حكم القطب. قال: وقد يكون من ظهر الأئمة بالسيف أيضًا قطب الوقت كأبي بكر وعمر في وقته، وقد لا يكون قطب الوقت فتكون الخلافة لقطب الوقت الذي لا يكون إلا بصفة العدل، ويكون هذا الخليفة الظاهر من جملة نواب القطب في الباطن من حيث لا يشعر فإن الجور والعدل يقع من أئمة الظاهر ولا يكون القطب إلا عادلًا. واعلم أن القطبية كما أنها قد تكون لولاة الأمور

كذلك قد تكون في الأئمة المجتهدين من الأربعة وغيرهم بل هي فيهم أظهر ويكون تظاهرهم بالاشتغال بالعلم الكسبي حجابًا عليهم لكون القطب من شأنه الخفاء ـ رضي الله عنه ـ م أجمعين " (اليواقيت والجواهر ج2 ص80) . وهكذا يجعل ابن عربي بعض الخلفاء أقطابًا وبعض الفقهاء كذلك. ولقد من ابن عربي على الإمام الشافعي فأعطاه رتبة (الوتد) في مملكته الصوفية، أي أنه كان يسيطر على ربع العالم. وأما الإمام أحمد فأن ابن عربي لم يمن عليه بشيء من هذه الرتب الصوفية واكتفى بأن جعله مجرد (صديق) ! ! وهي منزلة العامة عندهم ممن يؤمن بالخرافات الصوفية. يقول الشعراني: " قال الشيخ محيي الدين: وقد اجتمعت بالخضر عليه السلام وسألته عن مقام الإمام الشافعي فقال: كان من الأوتاد الأربعة فسألته عن مقام الإمام أحمد فقال: هو صديق وأطال في ذلك ثم قال في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} المراد بأولي الأمر الأقطاب والخلفاء والولاة ولكن فيما لا يخالف شرعًا مأمورًا به وذلك هو المباح الذي لا أجر فيه ولا وزر فإن الواجب والمندوب والحرام والمكروه من طاعة الله ورسوله فما بقي لأولي الأمر إلا المباح فإذا أمرك الإمام الذي بايعته على السمع والطاعة بمباح من المباحات وجب عليك طاعته في ذلك وحرمت عليك مخالفته وصار حكم الإباحة منه بأمر هذا الإمام الذي بايعته " ا. هـ. ولا شك أن الإمام أحمد لم يكن ممن يؤمن بهذه الخرافات بل قال لمن سأله عن كتب الحارث المحاسبي هذه كتب بدع وضلالات ولكن الصوفية لا يستطيعون أن يسبوا أحد الأئمة الأربعة المتبعين وذلك لمنزلة هؤلاء الأئمة من قلوب الناس.

والمهم أن الصوفية قد بنوا لهم دولة في الباطن على هذا النحو الذي أسلفناه. . أيضًا لأجل التلبيس على الناس وتمريغ عقولهم في الأوحال والإلقاء بهم بعيدًا في مهاوي الضلال زعم ابن عربي أيضًا أن الأوتاد الأربعة يكونون على قلوب الرسل الذين زعم أنهم ما زالوا أحياء، وهم: إدريس، وإلياس، وعيسى، والخضر، وأن هؤلاء جميعًا يرجعون في الأخذ من القطب الأكبر (الغوث) الذي هو واحد في الأرض فقط وأنه إذا مات أقام الله غيره. فهؤلاء الأولياء الأربعة (الأوتاد) الذين طبعوا على قلوب الأنبياء الأربعة الأحياء يرجعون في أحكامهم للقطب الغوث. . وكل هذه الخرافات والخزعبلات قد عرفها ابن عربي عن طريق الكشف الخاص له والعلم اللدني ولذلك سماه المتصوفة بالشيخ الأكبر والكبريت الأحمر! ! . يقول الشعراني عن شيخه ابن عربي في بيان هذه الخرافات: " (فإن قلت) فالمراد بقولهم القطب لا يموت: (فالجواب) كما قال الشيخ في الباب الثالث والسبعين من الفتوحات: أن المراد به من أن العالم لا يخلو زمانًا واحدًا من قطب يكون فيه كما هو في الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولذلك أبقى الله تعالى من الرسل الأحياء بأجسادهم في الدنيا أربعة: ثلاثة مشرعون، وهم إدريس وإلياس وعيسى، وواحد حامل العلم اللدني هو الخضر عليه السلام. وإيضاح ذلك أن الدين الحنيف له أربعة أركان كأركان البيت وهم الرسل والأنبياء والأولياء والمؤمنون، والرسالة هي الركن الجامع للبيت وأركانه، فلا يخلوا زمان من رسول يكون فيه، وذلك هو القطب الذي هو محل النظر الحق سبحانه وتعالى من العالم كما يليق بجلاله. ومن هذا القطب يتفرع جميع الأمداد الإلهية على جميع العالم العلوي والسفلي. قال الشيخ محيي الدين: ومن شرطه أن يكون ذا جسم طبيعي وروح ويكون موجودًا في هذه الدار الدنيا بجسده وحقيقته فلا بد أن يكون موجودًا في هذه الدار بجسده وروحه من عهد آدم إلى يوم القيامة ولما كان الأمر على ما

ذكرناه ومات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد ما قرر الدين الذي لا ينسخ والشرع الذي لا يتبدل دخلت الرسل كلها في شريعته ليقوموا بها فلا تخلو الأرض من رسول حي جسمه إذ هو قطب العالم الإنساني ولو كانوا في العدد ألف رسول فإن المقصود من هؤلاء هو الواحد؛ فإدريس في السماء الرابعة، وعيسى في السماء الثانية، وإلياس والخضر في الأرض. ومعلوم أن السماوات السبع من عالم الدنيا لكونها تبقى بقاء الدنيا بفنائها فهي جزء من دار الدنيا بخلاف الفلك الأطلس فإنه معدود من الآخرة في يوم القيامة تبدل الأرض غير الأرض والسماوات يعني يبدلهم بغيرهن، كما تبدل هذه النشأة الترابية منا أيها السعداء بنشأة أخرى أرقى وأصفى وألطف فهي نشأة طبيعية جسمية لا يبول أهلها ولا يتغوطون كما وردت بذلك الأخبار. وقد أبقى الله في الأرض إلياس والخضر وكذلك عيسى إذا نزل وهم من المرسلين؛ فهم القائمون في الأرض بالدين الحنيف فما زال المرسلون لا يزولون في هذه الدار لكن من باطنية شرع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكن أكثر الناس لا يعلمون. فالقطب هو الواحد من عيسى وإدريس وإلياس والخضر وهو أحد أركان بيت الدين وهو كركن الحجر الأسود واثنان منهم هما الإمامان وأربعتهم هم الأوتاد فبالواحد يحفظ الله الإيمان وبالثاني يحفظ الله الولاية وبالثالث يحفظ الله النبوة وبالرابع يحفظ الله الرسالة وبالمجموع يحفظ الله الدين الحنيف فالقطب من هؤلاء لا بعينه. قال الشيخ: ولكل واحد من هؤلاء الأربعة من هذه الأمة من كل زمان شخص على قلبه نائبًا عنه مع وجودهم وأكثر الأولياء لا يعرفون القطب والإمامين والأوتاد ولا النواب ولا هؤلاء المرسلين الذين ذكرناهم، ولها يتطاول كل أحد لنيل هذه المقامات ثم إذا خصوا بها عرفوا عند ذلك أنهم نواب لذلك القطب فاعرف هذه النكتة فإنك لا تراها في كلام أحد غيرنا ولولا ما ألقي في سري من إظهارها ما أظهرتها " (اليواقيت والجواهر ج2 ص81) انتهى منه بلفظه.

ولعلك أيها القارئ بعد هذه الجولة الخرافية الصوفية تريد أن تعرف أين يسكن القطب ويجيبك ابن عربي قائلًا: " فإن قيل هل يكون محل إقامة القطب بمكة دائمًا كما هو مشهور. (فالجواب) هو بجسمه حيث شاء الله لا يتقيد بالمكث في مكان بخصوصه ومن شأنه الخفاء فتارة يكون حدادًا وتارة تاجرًا وتارة يبيع الفول، ونحو ذلك والله أعلم " (اليواقيت والجواهر ج2 ص81) ا. هـ. ولعلك الآن أيها القارئ تريد أن تعرف كيفية تولي القطب منصبه الباطني هذا وهل تكون له مبايعة كما يبايع الأمراء والخلفاء. . وقد تفضل ابن عربي أيضًا فأجاب عن هذا التساؤل بقوله: " فإن قلت: فهل يحتاج القطب في توليته إلى مبايعة في دولة الباطن كما هي الخلافة في الظاهر؟ (فالجواب) نعم كما قاله الشيخ في الباب السادس والثلاثين وثلاثمائة وعبارته: (اعلم أن الحق تعالى لا يولي قط عبدًا مرتبة القطابة إلا وينصب له سرير في حضرة المثال يقعده عليه ينبي صورة ذلك المكان عن صورة المكانة كما ينبي صورة الاستواء على العرش عن صورة إحاطته تعالى علمًا بكل شيء ولله المثل الأعلى فإذا نصب له ذلك السرير فلا بد أن يخلع عليه جميع الأسماء التي يطلبها العالم وتطلبه فيظهر بها حللًا وزينة متوجًا مسورًا من ملجا لتعمه الزينة علوًا وسفلًا ووسطًا وظاهرًا وباطنًا فإذا قعد عليه وقعد بصورة الخلافة وأمر الله العالم ببيعته على السمع والطاعة في المنشط والمكره دخل في تلك البيعة كل مأمور من أدنى وأعلى إلا العالون المهيمنون في جلال الله عز وجل العابدون لله تعالى بالذات لا بأمر إلهي ظاهر على لسان رسول. واعلم أن أول من يدخل عليه الملأ الأعلى على مراتبهم الأول فيأخذون يده على السمع والطاعة ولا يتقيدون بمنشط ولا مكره لأنهم لا يعرفون هاتين الصفتين فيهم إذ لا يعرف شيء إلا بضده فهم في منشط لا يعرفون لها طعمًا لعدم ذوقهم للمكره وما منهم روح يدخل عليه للمبايعة إلا يسأله عن مسألة من العلم الإلهي فيقول له يا هذا أنت القائل كذا وكذا فيقول له نعم فيقول له في هذه المسألة

وجهان يتعلقان بالعلم بالله تعالى أحدهما أعلى من الذي كان عند ذلك الشخص فيستفيد منه كل من بايعه علمًا ليس عنده ثم يخرج. قال الشيخ: وقد ذكرنا جميع سؤالات القطابة في جزء مستقل ما سبقنا أحد إليه وليست هذه المسائل معينة يتحرر السؤال بها لكل قطب وإنما يخطر الله تعالى ذلك لمن يسأل القطب حال السؤال بعد أن جرى ذلك على خاطره فيما مضى من الزمان. قال الشيخ وأول من يبايعه العقل الأول ثم النفس ثم المقدمون من عمار السماوات والأرض من الملائكة المسخرة ثم الأرواح المدبرة للهياكل التي فارقت أجسامها بالموت ثم الجن ثم المولدات ثم سائر ما سبح الله تعالى من مكان ومتمكن ومحل حال فيه إلا العالون من الملائكة كما مر، وكذلك الأفراد من البشر لا يدخلون تحت دائرة القطب وماله فيهم تصرف إذ هم كمل مثله مؤهلون لما ناله هذا الشخص من القطبية لكن لما كان الأمر يقتضي أن لا يكون في الزمان إلا واحد تقوم بهذا الأمر تعين ذلك الواحد لكن لا بأولية وإنما هو يسبق العلم فيه بأن يكون هو الوالي وفي الأفراد من يكون أكبر منه في العلم بالله تعالى وحده " انتهى بلفظه (اليواقيت والجواهر ج2 ص79، 80) . فانظر أيها المسلم هذا التهريج والتخريف والخبط الذي يريد هؤلاء الأفاكون جذب الناس إليه وإيقاع الناس فيه، وأحمد الله على نعمة العقل التي أعطاك إياها ونعمة الإيمان والإسلام إن كنت من أهله، وانظر كيف يتلاعب الشيطان بهؤلاء المتهوكين الفارغين إلا من الخرافات والخزعبلات والزندقة والكفر الذي ليس له مثل في الأرض. والعجيب أن ابن عربي لا يقف خياله الزندقي عند حد مطلقًا فقد ذهب ليزعم أيضًا أنه عرف أسماء الأقطاب منذ آدم وحتى بعثة رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث ينقل عنه الشعراني أنه قال في الفتوحات ما نصه: " فإن قلت فهل كان قبل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقطاب وكم عددهم (فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الرابع عشر من الفتوحات:

(إن الأقطاب لا يخلو عصر منهم قال وجملة الأقطاب المكملين من الأمم السالفة من عهد آدم إلى محمد عليهما الصلاة والسلام خمسة وعشرون قطبًا أشهدنيهم الحق تعالى في مشهد قدس في حضرة برزخية وأنا بمدينة قرطبة وهم: الفرق ومداوي الكلوم والبكاء والمرتفع والشفار والماضي والماحق والعاقب والمنحور وسجر الماء وعنصر الحياة والشريد والصائغ والمراجع والطيار والسالم والخليفة والمقسوم والحي والراقي والواسع والبحر والمنصف والهادي الأصلح والباقي فهؤلاء هم الأقطاب الذين سموا لنا من آدم إلى محمد عليهما الصلاة والسلام وأما القطب الواحد الممد لجميع الأنبياء والرسل من حيث النشء الإنساني إلى يوم القيامة فهو روح محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ (اليواقيت والجواهر ج2 ص82) ا. هـ. فانظر كيف اكتشف ابن عربي أسماء الأقطاب المزعومين منذ آدم إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكيف راح يزعم أن هؤلاء جميعًا الذين افترى أسماءهم يستمدون علومهم من روح الرسول التي زعم أنها هي المستوي على العرش الرحماني كما مر تفصيل ذلك في الحقيقة المحمدية. وذلك أن الرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو أول موجود في زعمهم وهو الحق الذي خلق العرش من نوره والكرسي والسماوات والأرض والجن ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو المستوي على عرش الرحمن تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا. . وهكذا نجد الصوفية قلبوا كل موازين الشريعة وغيروا جميع عقائد الدين وابتدعوا دينًا جديدًا بعيدًا عن الإسلام الذي جاء به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد المشرق عن المغرب. قطب سنة 593هـ ـ من مدينة فاس بالمغرب: ويستطرد ابن عربي في تخريفاته وكذبه فيزعم أن لكل إقليم بلدة وقرية قطبًا صغيرًا آخر يحفظ هذه المدينة! ! وأنه التقى بالقطب الأكبر في المغرب

في مدينة فاس وأنه كان مشلول اليد: يقول الشعراني: " قال الشيخ محيي الدين في الباب الثاني والستين وأربعمائة: واعلم أن لكل بلد أو قرية أو إقليم قطبًا غير الغوث يحفظ الله تعالى تلك الجهة سواء أكان أهلها مؤمنين أو كفارًا وكذلك القول في الزهاد والعباد والمتوكلين وغيرهم لا بد لكل صنف منهم من قطب يكون مدارهم عليه. قال الشيخ: قد اجتمعت بقطب المتوكلين فرأيت مقام المتوكل يدور عليه دوران الرحى حين تدور على قطبها وهو عبد الله بن الأستاذ ببلاد الأندلس صحبته زمانًا طويلًا وكذلك اجتمعت بقطب الزمان سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة بمدينة فاس وكان أشل اليد فتكلمت على مقام القطبية في مجلس كان فيه فأشار علي أن أستره عن الحاضرين ففعلت " (اليواقيت والجواهر ج2 ص83) ا. هـ. وهكذا تتم السيطرة الباطنية المزعومة من هؤلاء الأولياء على كل مدينة وقرية من قرى العالم، وهكذا يحكم الصوفية شباكهم ويصطادون العقول المريضة والضعيفة والتي سيقتلها الخوف عندما تعلم أن الدولة الباطنية قد أحكمت سيطرتها على العالم وأنه ليس هناك من قرية ولا مدينة إلا فيها حاكم باطني يحكم أو قالوا يحفظ هذه المدينة والقرية، وقد أعطاه الله في زعمهم التصريف في شئون عبادها. . وظيفة القطب: ولعلك تريد أن تعرف الوظيفة المناطة بكل هؤلاء الذين توزعوا الأرض وتصرفوا في حياة الخلائق وحفظ الله بهم -في زعم الصوفية- الوجود وكيف تورث هذه الولاية:

يقول الشعراني عن شيخه ابن عربي: " وقال في الباب الثالث والثمانين وثلاثمائة: اعلم أن بالقطب تحفظ دائرة الوجود كله من عالم السكون والفساد وبالإمامين يحفظ الله تعالى عالم الغيب والشهادة وهو ما أدركه الحس، وبالأوتاد يحفظ الله تعالى الجنوب والشمال والمشرق والمغرب، وبالأبدال يحفظ الله الأقاليم السبعة، وبالقطب يحفظ الله تعالى جميع هؤلاء لأنه هو الذي يدور عليه أمر عالم الكون كله فمن علم هذا الأمر علم كيف يحفظ الله الوجود على عالم الدنيا ونظيره من الطب علم تقويم الصحة (فإن قلت) فهل للقطب تصريف في أن يعطي القطبية لمن شاء من أصحابه وأولاده. (فالجواب) ليس له تصريف في ذلك وقد بلغنا أن بعض الأقطاب سأل الله أن تكون القطبية من بعده لولده فإذا بالهاتف يقول له: ذلك لا يكون إلا في الإرث الظاهر وأما الإرث الباطن فذلك إلى الله وحده الله أعلم حيث يجعل رسالته. انتهى. فعلم أنه ما حفظ من حفظ من الأولياء وغيرهم من جهاته الأربعة إلا بالأوتاد الذين كان منهم الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ وما حفظ من حفظ في صفاته السبع إلا بالأبدال السبعة فكل صفة لها بدل يحفظها على صاحبها من حياة وعلم وقدرة وإرادة وسمع وبصر وكلام. انتهى (اليواقيت والجواهر) . وهكذا يريد المتصوف إيهامك أن ما حفظ من سمعك وبصرك وقدرتك وعلمك، وحياتك وإرادتك إنما مرجعه إلى بدل من الأبدال السبعة الذين كان منهم الشافعي في زمانه. . الشافعي هذا ـ رضي الله عنه ـ الذين يكذبون عليه والذي قال عن الصوفية بعد أن ارتحل عن العراق إلى مصر قال: " تركت بغداد وقد أحدث الزنادقة فيها شيئًا يسمونه السماع " ا. هـ. وقال أيضًا ـ رضي الله عنه ـ: " لا أرى إنسانًا يتصوف أول النهار إلا يكون أحمق

في آخره "! ! ! ! . . والصحيح أن الحمق يصيب الأتباع والدهماء الذين يصدقون مثل هذه الخرافات ولكن الذين افتروا ذلك ودونوه لا شك أنهم دهاة عرفوا كيف يصرفون الناس عن عقيدة الإسلام إلى عقائد الكفر والوثنية. . فهؤلاء لم يتركوا دينًا أو فلسفة كافرة ولا زندقة إلا أضافوها إلى عقيدتهم وخرافاتهم وانظر إلى كيفية عمل الأبدال عندهم. الأبدال السبعة ووظائفهم: قال الشعراني: وقال الشيخ أيضًا في الباب الخامس عشر: " اعلم أن لكل بدل من الأبدال السبعة قدرًا، يمده من روحانية الأنبياء الكائنين في السماوات فينزل مدد كل بدل من حقيقة صاحبه الذي في السماء. قال: وكذلك أمداد الأيام السبعة فتنزل من هؤلاء الأبدال لكل يوم مدد يختص به من ذلك البدل. (فإن قلت) وهل يزيد الأبدال وينقصون بحسب الشئون التي يبدلها الحق تعالى أو هم على عدد واحد لا يزيدون ولا ينقصون؟ ؟ (فالجواب) هم سبعة لا يزيدون ولا ينقصون وبهم يحفظ الله الأقاليم السبعة ومن شأنهم العلم بما أودع الله تعالى في الكواكب السيارة من الأمور والأسرار في حركاتها ونزوله في المنازل المقدرة. (فإن قلت) فلم سموا أبدالًا؟ (فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الثالث والسبعين: أنهم سموا أبدالًا لأن كل واحد منهم إذا فارق مكانه خلفه فيه شخص على صورته لا يشك الرائي أن ذلك البدل. (فإن قلت) فهل ترتيب الأقاليم السبعة على صورة ترتيب السماوات بحيث يكون ارتباط الإقليم الأول بالسماء السابعة والثاني بالسماء السادسة وهكذا. . (فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الثمن والتسعين ومائة: نعم يكون روحانية كل إقليم مرتبطة بالسماء المشاكلة له فالإقليم الأول للسماء السابعة وهكذا. .

(وإيضاح ذلك) أن تعلم يا أخي أن الله تعالى جعل هذه الأرض التي تجن عليها سبعة أقاليم (أي سبع قارات هي قارات العالم المعروفة) ، واصطفى من عباده المؤمنين سبعة سماهم الأبدال وجعل لكل بدل إقليمًا يمسك الله وجود ذلك الإقليم به فالإقليم الأول ينزل الأمر إليه من السماء الأولى التي هي السابعة وينظر إليه روحانية كوكبها والبدل الذي يحفظه هو على قلب الخليل إبراهيم عليه السلام والإقليم الثاني ينزل الأمر إليه من السماء الثانية وينزل إليه الروحانية كوكبها الأعظم والبدل الذي يحفظه على قلب موسى عليه السلام والإقليم الثالث ينزل إليه الأمر الإلهي من السماء الثالثة وينظر إليه روحانية كوكبها البدل الذي يحفظه على قلب هارون ويحيى بتأييد الرابعة قلب الأفلاك كلها وينظر إليه روحانية كوكبها الأعظم والبدل الذي يحفظه على قلب إدريس عليه السلام وهو القطب الذي لم يمت إلى الآن والأقطاب فينا نوابه كما مر والإقليم الخامس ينزل إليه الأمر من السماء الخامسة وينظر إليه روحانية كوكبها والبدل الذي يحفظ الله به هذه الأقاليم على قلب يوسف عليه السلام بتأييد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ والإقليم السادس ينزل الأمر عليه من السماء السادسة وينظر إليه روحانية كوكبها والبدل الذي يحفظه على قلب عيسى روح الله ويحيى عليهما السلام والإقليم السابع ينزل الأمر إليه من السماء الدنيا وينظر إليه روحانية كوكبها والبدل الذي يحفظه على قلب آدم عليه السلام. قال الشيخ: وقد اجتمعت بهؤلاء الأبدال السبعة بمكة خلف حطيم الحنابلة حيث وجدتهم يركعون هناك فسلمت عليهم وسلموا علي وتحدثت معهم فما رأيت أحسن منهم سمتًا ولا أكثر شغلًا منهم بالله ـ عز وجل ـ وما رأيت مثلهم إلا سقيط الرفرف بن ساقط العرش بقونية وكان فارسيًا ـ رضي الله عنه ـ وقد أطال الشيخ الكلام على أصحاب الدوائر من الأولياء في الثالث والسبعين من الفتوحات فراجعه والله أعلم " انتهى منه بلفظه (اليواقيت والجواهر ج2 ص83) .

مدة حكم القطب ووظيفته

وهكذا استطاع المتصوفة نقل عقائد الصابئة الذي كانوا في عهد إبراهيم عليه السلام وهم عبدة النجوم والكواكب الذين يؤمنون بأن لكل كوكب روحًا يتصرف في الخلق، وصوروا تماثيل لروحانية القمر والشمس والمشتري والزهرة. . إلخ. . وعبدوها. . نقل الصوفية هذه العقائد الوثنية الجاهلية إلى الفكر الإسلامي وجعلوها عقيدة من عقائد المتصوفة ومن أجل ذلك قال ابن عربي: عقد البرية في الإله عقائدا ** وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه وما ذلك إلا لأنه يؤمن أنه ليس إلا الله في الكون! ! ! ! مدة حكم القطب ووظيفته ويستمر ابن عربي في تخريفاته فيذكر لنا مدة حكم القطب والأعمال المنوطة به فيقول كما نقل الشعراني: " (فإن قلت) فهل مدة معينة للقطبية إذا وليها صاحبها لا يعزل منها حتى تنقضي؟ (فالجواب) ليس للقطبية مدة معينة فقد يمكث القطب في قطبيته سنة أو أكثر أو أقل إلى يوم إلى ساعة فإنها مقام ثقيل لتحمل صاحبها أعباء الممالك الأرضية كلها ملوكها ورعاياها. وذكر الشيخ في الباب الثالث والستين وأربعمائة أن كل قطب يمكث في العالم الذي هو فيه على حسب ما قدر الله عز وجل، ثم تنسخ دعوته بدعوة أخرى كما تنسخ الشرائع بالشرائع وأعني بالدعوة ما لذلك القطب من الحكم والتأثير في العالم فمن الأقطاب من يمكث في قطبيته الثلاث والثلاثين سنة وأربعة أشهر ومنهم من يمكث فيها ثلاث سنين ومنهم كما يؤيد ذلك مدة خلافة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فإنهم كانوا أقطابًا بلا شك " انتهى (اليواقيت والجواهرج2 ص83) .

ابن عربي القطب الأعظم

ابن عربي القطب الأعظم وبالطبع بعد أن يصف ابن عربي كل هذا الوصف الخرافي للأقطاب والأبدال والأوتاد فلا بد أن يخص نفسه بلقب من هذه الألقاب. وتأبى كرامة ابن عربي طبعًا أن يختار لقبًا دونًا، أو مرتبة صغيرة فيعلن عن نفسه أنه القطب الأعظم الذي لا أعظم منه أبدًا يقول بالنص: " لا أعرف في عصري هذا أحدًا تحقق بمقام العبودية مثلي وذلك لأنني بلغت في مقام العبودية الغاية بحكم الإرث لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأنا العبد المحض الخالص الذي لا يعرف للربوبية على أحد من العالم طمعًا، وقد منحني الله تعالى هذا المقام هبة منه، ولم أنله بعمل وإنما هو اختصاص إلهي " (اليواقيت والجواهر ص65، 66) . . فانظروا أين يضع ابن عربي نفسه، إنه يضعها في القمة العليا التي لا تدانيها قمة، ويدعي كذبًا مع ذلك أنه نال ذلك باختصاص إلهي حتى لا يطالبه أحد بمسوغات هذا الاختيار ومؤهلاته. وهكذا يعلن ابن عربي نفسه ملكًا متوجًا على مملكة الباطن التي صورها الخيال الشيطاني المريض لهذه العقلية الصوفية، ويجعل من نفسه قطب الأقطاب ووارث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلم الأعلام، ويتبعه على هذا كل شيوخ التصوف الذين جاؤوا بعده فيجعلون منه الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر. . وهكذا استطاع هذا الزنديق دارس الفلسفة والديانات القديمة، وتخريفات الجاهلية في كل العصور أن يجمع كل ما درسه وينسج منه عقيدة وثنية جاهلية حمقاء ويلبسها بإتقان وثعلبية نادرة الآيات والأحاديث القرآنية فتروج بذلك بين أيدي جهلة المسلمين، ويتاجر بها مجموعة الشياطين الذين قادوا هذا الفكر الصوفي المنحرف عبر القرون، والذين برروا له كل هذا الكفر والانحراف. وهكذا أخي المسلم تدرك الفارق بين الولاية الإسلامية القرآنية، وبين ولاية هؤلاء الشياطين فأولياء الرحمن وصفهم الله تعالى في كتابه فقال: {وعباد

الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا والذين يبيتون لربهم سجدًا وقيامًا والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جنهم إن عذابها كان غرامًا إنها ساءت مستقرًا ومقامًا} [الفرقان: 63-66] . فانظر كيف يمضون ليلهم كلهم في الصلاة ويستغفرون الله بعد ذلك ويخافون من عذاب النار مع ذلك، واسمع قوله تعالى: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} [المؤمنون: 57-61] . فهؤلاء هم أولياء الله حقًا خائفون من ربهم مشفقون من عذابه، مؤمنون بربهم الواحد سبحانه وتعالى الذي ليس له ند ولا شريك ولا ظهير ولا معين، ومع كل ذلك يصلون ويصومون ويخافون أن لا يتقبل الله أعمالهم. . أين هؤلاء الأولياء الصادقون من أولياء الشيطان الذين يزعمون أن الله ملكهم الدنيا والآخرة، وأن الله أمنهم من كل خوف، وأنه صرفهم في العالم العلوي والسفلي وأن الله عقد لهم ألوية المجد والعز وجعلهم جلساءه وخاصته، وعقد لهم الولاية في السماء وبايعتهم الملائكة هناك. . إلخ. أين الولاية الإسلامية من ولاية الشياطين المتقولين على الله، الذين لم يتركوا صفة واحدة لله إلا نسبوها إلى أنفسهم، الذين لم يجعلوا لله تصريفًا إلا بهم، ولا رحمة إلا منهم، ولا إحسانًا إلا من عندهم، ولا قدر ة إلا بوساطتهم، ومهما أفاض الإنسان في وصف وقاحة هؤلاء الشياطين فلن يبلغ عشر معشار ما يستحقون ولن يكتب أيضًا شيئًا قريبًا مما سودته أيديهم في الافتراء على الله والكذب على رسله الكرام. . هؤلاء الرسل الذين قال الله لأشرفهم وسيدهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ {قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} [الأعراف: 188] .

والذي كان يقول هو ـ صلى الله عليه وسلم ـ (والله إني لرسول الله لا أدري ما يفعل بي غدًا) (رواه البخاري) . وكان يقول أيضًا (واعلموا أنه لا يدخل أحدكم الجنة بعمله) ، قالوا ولا أنت يا رسول الله، قال: [ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته منه وفضل] (متفق عليه) . فأين هذا مما يفترون ويقولون (لو بصقت على النار لأطفأتها) ! ! ! ومن يقول (أعطاني الله التصريف في الخلق) ! ! ومن يقول (سبحاني ما أعظم شأني) ! ! ! ومن ومن؟ . . أين أولياء الرحمن من أولياء الشيطان. . شتان. . شتان. .! ! !

الفصل الثاني عشر: ختم الولاية

الفصل الثاني عشر: ختم الولاية نشأ في الفكر الصوفي منذ القرن الثالث الهجري دعوى كاذبة وهي أن الأولياء يختمون كما أن الأنبياء لهم نبي خاتم. وأول من أظهر هذه الفكرة ودعا رجل يسمى محمد بن علي بن الحسن الترمذي ـ ويسمونه الحكيم ـ وجد في أواخر القرن الثالث الهجري وهو مجهول سنة الولادة والوفاة. ولقد ألف كتابًا في هذا أسماه (ختم الأولياء) يقول في هذا الكتاب المذكور؛ " وما صفة ذلك الولي، الذي له إمامة الولاية ورياستها وختم الولاية؟ قال: ذلك من الأنبياء قريب، يكاد يلحقهم. قال: فأين مقامه؟ قال: في أعلى منازل الأولياء، في ملك الفردانية، وقد انفرد في وحدانيته، ومناجاته كفاحًا في مجالس الملك، وهداياه من خزائن السعي. قال: وما خزائن السعي؟ قال: إنما هي خزائن ثلاث: خزائن المنن للأولياء، وخزائن السعي لهذا الإمام القائد، وخزائن القرب للأنبياء عليهم السلام، فهذا خاتم الأولياء مقامه من خزائن المنن، ومتناوله من خزائن القرب: فهو في السعي أبدًا فمرتبته ههنا، ومتناوله من خزائن الأنبياء عليهم السلام، قد انكشف له الغطاء عن مقام الأولياء ومراتبهم وعطاياهم وتحفهم " (ختم الولاية) . وقد تدرج الترمذي هذا في دعواه تلك تدرجًا إبليسيًا خبيثًا حيث هو يجابه العالم الإسلامي بمثل هذه العقيدة الفاسدة، فيتذرع لنشر عقيدته الباطلة

بتحريف النصوص القرآنية والحديثية فيزعم أن للأولياء البشرى في الحياة الدنيا مستدلًا بقوله تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم} [يونس: 62-64] . وأن الرسول بشر بعض أصحابه بالجنة، وأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أخبر البشرى باقية في الرؤيا، أقول. . يتذرع الترمذي بهذه النصوص من القرآن والسنة الصحيحة ليبث في عقائد المسلمين أن الولاية لا تنقطع وأن فضل الله على هذه الأمة لا يتوقف، وأن البشرى باقية بعد الرسالة، وأن الأولياء يصلون إلى معرفة الحق لأن الله في زعمه كشف عنهم الحجاب كلها ويقول في هذا الشأن بالنص: " فهذه الطبقة التي يكبر في صدورهم (يعني علماء السنة الذين ينكرون هذه الترهات والأكاذيب) بلوغ الأولياء هذا المحل من ربهم فيدفعون هذا لجهلهم، لا يعلمون أن لله عبادًا أغرقوا في بحر جوده، فجاد عليهم، بكشف الغطاء عن قلوبهم، عن عجائب، وأطلعهم من ملكه ما نسوا في جنبه كل مذكور، حتى تنعموا به في حجبه الربانية " (ختم الأولياء ص386) . ثم يستطرد الترمذي أيضًا عائبًا على من يعيب على المتصوفة هذه الدعاوي الباطلة فيسميهم علماء حطامين أي أهل دنيا، وتارة بلعامين ـ نسبة إلى بلعام بن باعوراء ـ اليهودي الذي يذكر المفسرون أن الله أنزل في شأنه {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين} [الأعراف: 175] . ثم يدعي الترمذي بعد ذلك للأولياء أنهم يخبرون ويغترفون مما يغترف منه الأنبياء. وأن الأولياء يبشرون (بالبناء للمجهول) كما يبشر الأنبياء ويرد على من يحتج عليهم أيضًا بقوله تعالى {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} [الأعراف: 99] . انظر إليه يقول:

" فإذا ذكر شأن الأولياء قدروا أحوالهم على ما يرون من أمور نفوسهم فكذبوا نعم الله تعالى، ودفعوا منه وجهلوا أمره. فهذا من أعظم الفرية على الله تعالى. . قال له قائل: فإن بعضهم احتج بقوله (تعالى) : {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} [الأعراف: 99] . (. . وقال: إن الأمن من مكر الله أو ضلال هذه الطبقة، وهذا يؤدي إلى الزندقة) . - وقال تعالى {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون} [النمل: 65] . والمحبة والسعادة والشقاوة غيب عند الله تعالى، لا يعلم إلا هو،. . وزعم أنك ناظرت يحيى بن معاذ في ذلك حتى بقي متحيرًا. . وأن هذه الطبقة تقدم نفسها على الأنبياء. . قال له: أما قوله تعالى: {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} [الأعراف: 99] . فهذا قوله تعالى، لا ريب فيه ولا في قبوله. وهو أنه لا يعلم ما حاله عند الله تعالى فإن أمن فهو خاسر جاهل. كأنه حكم على الله من غير أن يحكمه. فأما من بشره الله فرد بشراه فقد اجترم، كما اجترم ذلك الآخر، فهذا من ذلك الوجه، فحق على من لا يعلم، أن لا يأمن، وحق على من أمن أن يأمن، فليس الأنبياء عليهم السلام كانوا يؤمنون (من أنفسهم) ولكن لما أُمِّنوا أَمِنُوا والأنبياء لهم عقدة النبوة والأولياء لهم عقدة الولاية. . " ا. هـ (ختم الأولياء ص387-388) . ويستطرد الترمذي مجيبًا في زعمه على من يقول للمتصوفة في دعاواهم هذه أن هذا ادعاء لعلم الغيب ولا يعلم الغيب إلا الله، فيجيب الترمذي على ذلك بجواب عجيب حيث يقول: " وأما قوله {لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله} [النمل: 65] . فعلم الغيب عند الله، وكم من غيب أطلع الله عليه رسوله فأية حجة في هذا؟ وإنما يريد أن يروج بمثل هذا الأغبياء. وكم من غيب أطلع الله عليه أهل الإلهام حتى نطقوا به وأهل الفراسة. . ".

وبالطبع يمهد الترمذي لهذا كله الذي يهدم به الدين من أساسه بأن الله في زعمه قد أعطاه الدليل على أن هذا الوحي المزعوم صدق، فيقول ردًا على من ينكر ذلك عليهم: " ويقال (له أيضًا) : ما قولك في محدِّث، بشر بالفوز والنجاة فقال: رب اجعل لي آية تحقق لي ذلك الخبر الذي جاءني، لينقطع (الشك والاعتراض) فقال: آتيك أن أطوي لك الأرض حتى تبلغ بيتي الحرام في ثلاث خطوات، وأجعل لك البحر كالأرض تمشي عليه كيف شئت، وأجعل لك التراب والجو في يديك ذهبًا. . ففعل هذا فهل ينبغي له أن يطمئن إلى هذه البشرى، بعد ظهور هذه الآية أم لا؟ فإن قال: لا، فقد عاند واجترأ على الله وحلت به دائرة السوء. وإن قال: نعم. فقد ذهب قوله واحتجاجه الظلماني " (ختم الأولياء ص401) . ثم يبالغ الترمذي بعد ذلك في وصف هذا الولي المزعوم الذي يدعي أنه خاتم الأولياء فيقول في ص406 من المصدر المذكور (ختم الأولياء) : " فهذا سيد الأولياء وأمان أهل الأرض ومنظر أهل السماء، وخالصة الله وموضع نظره وسوطه في خلقه " ا. هـ وأن هذا الذي حصل عليه ذلك الولي إنما كان باجتباء من الله ومنة منه فهو الذي جذبه إليه، وأراد به ذلك. . ثم يسأل الترمذي سؤالًا يجيب عنه وهو كيف تقدم الختم هذا الأولياء فيقول (ختم الأولياء ص421) : " قال: فيم تقدم الأولياء واحتاجوا إليه؟ قال: بأن أعطي ختم الأولياء. فبالختم تقدمهم، فصار حجة الله على أوليائه، وقد ذكرت في أول الكتاب سبب الختم. . (وهو) أن النبوة أعطيت الأنبياء عليهم السلام، ولم يعطوا الختم فلم تخل تلك الحظوظ من هنات النفس ومشاركتها، وأعطي نبينا وختمت له نبوته. كالعهد الذي يكتب ثم يختم، فلا يصل أحد إلى أن يزيد فيه ولا أن ينقص منه، وقد وصفت شأنه فيما تقدم. وكذلك هذا الولي سير به (الله تعالى) على طريق محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بنبوته،

ابن عربي وختم الولاية

مختومًا بختم الله، فكما كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حجة على الأنبياء فكذلك يصير هذا الولي حجة على الأولياء، أعطيتكم ولايتي فلم تصونوها من مشاركة النفس. وهذا أضعفكم وأقلكم عمرًا قد أتى بجميع الولاية صدقًا، فلم يجعل للنفس فيها نصيبًا ولا تلبيسًا. وكان ذلك في الغيب من منة الله تعالى على هذا العبد، حيث أعطاه الختم لتقر به عين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الموقف حتى قعد الشيطان في معزل، وليست النفس فبقيت محجوبة، فيقر له الأولياء يومئذ بالفضل عليهم. فإذا جاءت تلك الأهوال لم يك مقصرًا. وجاء محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالختم فيكون أمانًا لهم من ذلك الهول. وجاء هذا الولي بختمه فيكون أمانًا لهم بصدق الولاية، فاحتاج إليه الأولياء. . " ا. هـ وهكذا يجعل الترمذي لهذا الولي المزعوم ما جعله الله لنبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ. . وصدق الله سبحانه وتعالى في شأن المشركين {بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفًا منشرة} [المدثر: 52] . وهؤلاء الزنادقة يريد كل منهم أن يوحى إليه كما يوحى إلى الرسول، بل لم يتركوا فضلًا مما فضل الله به عبده ورسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا انتحلوه لأنفسهم بل زادوا عليه، واحتقروا منزلة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المنازل التي يزعمون أن الله قد بلغهم إياها. لقد وضع الترمذي المسمى بالحكيم في الكتاب (ختم الولاية) بذور الشر الكبرى في الفكر الصوفي، وكل الذين جاؤوا بعده إنما هم عيال عليه وتبع له في كل هذا الباطل الذي بثه في كتابه، وخاصة في مسألة الختم الولاية فلم يأت متصوف بعد الترمذي هذا من مشهوري المتصوفة إلا وادعى ختم الولاية لنفسه. وها أنذا أسوق بعضًا من ذلك. ابن عربي وختم الولاية يقول ابن عربي المتوفي سنة 638هـ ـ مدعيًا لنفسه ختم الولاية: " وأما ختم الولاية المحمدية فهي لرجل من العرب. من أكرمها أصلًا

ويدًا. وهو في زماننا اليوم موجود. عرفت به سنة خمس وتسعين وخمسمائة ورأيت العلامة التي له قد أخفاها الحق فيه من عباده، وكشفها لي بمدينة فاس، حتى رأيت خاتم الولاية منه ـ وهو خاتم النبوة المطلقة ـ لا يعلمها كثير من الناس وقد ابتلاه الله بأهل الإنكار عليه فيما يتحقق به من الحق في سره من العلم به. وكما أن الله ختم بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبوة الشرائع كذلك ختم الله بالختم المحمدي الولاية التي تحصل من الورث المحمدي لا التي تحصل من سائر الأنبياء فإن من الأولياء من إبراهيم وموسى وعيسى، فهؤلاء يوحدون بعد الختم المحمدي، وبعده فلا يوجد ولي على قلب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا معنى خاتم الولاية المحمدية " (الفتوحات ج2 ص49) . ويقول في موضع آخر من فتوحاته الضالة: " ومنهم (يعني الأولياء) الختم، وهو واحد لا في كل زمان، بل واحد في العالم يختم الله به الولاية المحمدية فلا يكون في الأولياء المحمدية أكبر منه " (الفتوحات ج2 ص9) . وهذه العقيدة المفتراة التي لم يأت بها كتاب ولا سنة، وإنما افتراها الترمذي وجاء هؤلاء الملاحدة لينسجوا على منواله، وكل منهم يريد فيها شيئًا، فبالرغم من أن الترمذي لم يفضل خاتم الأولياء المزعوم هذا على خاتم الأنبياء ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن ابن عربي جاء من بعده ليزعم أن خاتم الأولياء ـ يعني نفسه ـ أفضل من خاتم الأنبياء محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذلك بناء على تفضيله الولي على النبي كما قال في شعره: مقام النبوة في برزخ** فويق الرسول ودون الولي ويأتي إلى حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي رواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله، ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين) . فيزعم أن اللبنة التي رآها الرسول هي لبنة فضة، وأما خاتم الأولياء فإنه يرى أن الجدار قد نقص لبنتين لبنة فضة ولبنة ذهب، وأنه يرى نفسه قد

انطبع موضع هاتين اللبنتين. يقول ابن عربي: " ولما مثل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ النبوة بالحائط من اللبن، وقد كمل سوى موضع لبنة، فمكان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تلك اللبنة، غير أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يراها إلا كما قال: لبنة واحدة. وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤيا، فيرى ما مثله به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويرى في الحائط موضع اللبنتين واللبن، من ذهب وفضة. فلا بد أن يرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين، فيكون خاتم الأولياء تينك اللبنتين، فيكمل الحائط ". والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين، أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر، وهو موضع اللبنة الفضية، وهو ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام. كما هو آخذ عن الله، في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه من الأحكام، كما هو آخذ عن الله، لأنه يرى الأمر على ما هو عليه - فلا بد أن يراه هكذا، وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن، فإنه آخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذي يوحى به إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ. فصوص الحكم ا. هـ الفص الشيسي. والذين جاؤوا بعد ابن عربي من المتصوفة السائرين في هذا الدرب المظلم رددوا هذه العقيدة في كتبهم وزاد كثير من مشايخهم فزعم لنفسه هذه الولاية الكبرى التي يتم بها -في زعمهم- الولاية، وقد تصدى الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى وـ رضي الله عنه ـ لهذه المزاعم في أماكن كثيرة من كتبه ومن ذلك قوله: " وكذا خاتم الأولياء لفظ باطل لا أصل له. وأول من ذكره محمد بن علي الحكيم الترمذي. وقد انتحله طائفة كل منهم يدعي أنه خاتم الأولياء: كابن حموي، وابن عربي، وبعض الشيوخ الضالين بدمشق وغيرها، وكل منهم يدعي أنه أفضل من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بعض الوجوه، إلى غير ذلك من الكفر والبهتان، وكل ذلك طمعًا في رياسة خاتم الأولياء لما فاتتهم رياسة خاتم الأنبياء، وقد غلطوا، فإن خاتم الأنبياء إنما كان أفضلهم للأدلة الدالة على ذلك، وليس كذلك خاتم الأولياء، فإن أفضل أولياء هذه الأمة السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ـ رضي الله

عنه ـ ثم عمر ـ رضي الله عنه ـ ثم عثمان ـ رضي الله عنه ـ ثم علي ـ رضي الله عنه ـ وخير قرونها القرن الذي بعث فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وخاتم الأولياء في الحقيقة آخر مؤمن نقي يكون في الناس، وليس ذلك بخير الأولياء، ولا أفضلهم، بل خيرهم وأفضلهم أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ ثم عمر اللذان ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل منهما " (الفتاوي: ج11 ص444) . وقال رحمه الله أيضًا: ". . إن دعوى المدعي وجود خاتم الأولياء، على ما ادعوه، باطل لا أصل له، ولم يذكر هذا أحد من المعروفين قبل هؤلاء إلا أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم في كتاب (ختم الولاية) وقد ذكر في هذا الكتاب وهو خطأ وغلط مخالف للكتاب والسنة والإجماع. وهو رحمه الله تعالى وإن كان فيه فضل ومعرفة، ومن الكلام الحسن المقبول والحقائق النافعة أشياء محمودة (قلت: رحم الله ابن تيمية: أي شيء محمود في كتابه وقد بناه من أوله لآخره على أن الأولياء معصومون، وأن الله هو يختصهم ويختارهم، وأن التكليف ليس شرطًا في ولايتهم، وأنهم يعلمون الغيب كله. . بل أسس في كتابه ختم الولاية كل أصول الشر لمن جاء بعده) ، ففي كلامه من الخطأ ما يجب رده. ومن أشنعها ما ذكره في ختم الولاية: مثل دعواه فيه أنه يكون في المتأخرين من درجته عند الله أعظم من درجة أبو بكر وعمر وغيرهما: ثم إنه تناقض في موضع آخر، لما حكى عن بعض الناس، أن الولي يكون منفردًا عن الناس، فأبطل ذلك واحتج بأبي بكر وعمر وقال: يلزم هذا أن يكون أفضل من أبي بكر وعمر " (وأبطل ذلك) . ومنها أنه ذكر في كتابه ما يشعر أن ترك الأعمال الظاهرة، ولو أنها التطوعات المشروعة، أفضل في حق الكامل ذي الأعمال القلبية، وهذا أيضًا خطأ عند أئمة الطريق. فإن أكمل الخلق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخير الهدي هدي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما زال محافظًا على ما يمكنه من الأوراد والتطوعات البدنية إلى مماته. .

وقال أيضًا: " ومنها ما ادعاه من خاتم الأولياء، الذي يكون في آخر الزمان وتفضيله وتقديمه على من تقدم من الأولياء، الذي يكون في آخر الزمان وتفضيله وتقديمه على من تقدم من الأولياء، وأنه يكون معهم خاتم الأنبياء مع الأنبياء، وهذا ضلال واضح، فإن أفضل أولياء الله من هذه الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأمثالهم، من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، كما ثبت ذلك بالنصوص المشهورة، وخير القرون قرن ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في الحديث الصحيح: (خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) ولفظ خاتم الأولياء لا يوجد في كلام أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، ولا له ذكر في كتاب الله ولا سنة رسوله، وموجب هذا اللفظ أنه آخر مؤمن تقي، (ومهما يكن الأمر) فإن الله يقول: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [يونس: 62] . الآية.، فكل من كان مؤمنًا تقيًا كان لله وليًا. وهم على درجتين: السابقون المقربون وأصحاب اليمين المقتصدون، كما قسمهم الله تعالى في سورة فاطر وسورة الواقعة والإنسان والمطففين. . وإذا كان خاتم الأولياء آخر مؤمن تقي في الدنيا، فليس ذلك الرجل أفضل الأولياء ولا أكملهم، بل أفضلهم وأكملهم سابقوهم، الذين هم أخص بأفضل الرسل من غيرهم. . ". وقد رد الإمام ابن تيمية رحمه الله أيضًا على ما ادعاه الترمذي (الحكيم) في ثبوت العصمة للأولياء بقوله: ". . وإن طائفة تدعي على أن الولي محفوظ وهو نظير ما يثبت للأنبياء من العصمة -والحكيم الترمذي قد أشار إلى هذا- فهذا باطل مخالف للسنة والإجماع، ولهذا اتفق المسلمون على أن من الناس من يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ. . وبهذا صار جميع الأولياء مفتقرين إلى الكتاب والسنة، لا بد لهم أن يزنوا جميع أمورهم بآثار الرسول فما وافق آثار الرسول فهو الحق وما خالف ذلك فهو باطل. . ".

وقال أيضًا: " ثم إن صاحب الفصوص (يعني ابن عربي) وأمثاله بنوا الأمر على أن الولي يأخذ عن الله بلا وساطة والنبي يأخذ بوساطة الملك. ولهذا صار خاتم الأولياء أفضل عندهم من هذه الجهة، وهذا باطل وكذب فإن الولي لا يأخذ عن الله إلا بوساطة الرسول وإن كان محدثًا (يشير الإمام ابن تيمية بقوله (محدثًا) إلى حديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن عائشة ـ رضي الله عنه ـ اعن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أنه كان يقول (قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منم واحد، فإن عمر بن الخطاب منهم) قال ابن وهب: تفسير محدثون أي ملهمون (متفق عليه) ، فقد ألقي إليه بشيء وجب عليه أن يزنه بما جاء الرسول من الكتاب والسنة " ا. هـ ولا يظنن ظان أن قول الإمام ابن تيمية أن الولي يكون (محدثًا) أن الله يكلمه، وإنما ذلك مجرد الإلهام الذي لا يستطيع الولي بأن يجزم بأنه من الله أو من الشيطان إلا بعرضه على ميزان الكتاب والسنة. وباطمئنان قلب المؤمن المتبع لشرع الله إلى مثل هذا الإلهام، وأما هذه المخاريق والخزعبلات والكفر والزندقة التي جاء بها المتصوفة فليست إلا وساوس شياطين إذ كيف يكون إلهامًا من الله وهو يدعي أنه خاتم الأولياء وأنه أفضل من محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنه يعلم الغيب كله وأنه يتصرف في الأكوان. . إلخ هذه الكفريات. ولذلك قال الإمام ابن تيمية في هذا الصدد: " والأولياء وإن كان فيهم محدث، كما ثبت في الصحيحين عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال [إنه كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم فعمر] فهذا الحديث يدل على أن أول المحدثين من هذه الأمة عمر، وأبو بكر أفضل منه إذ هو صديق، والمحدث وإن كان يلهم ويحدث من جهة الله تعالى فعليه أن يعرض ذلك على الكتاب والسنة فإنه ليس بمعصوم. . " ا. هـ ولا شك بعد هذا أن دعوى ختم الولاية هي من الكفر الصريح الذي لا يجوز أن يماري فيها مؤمن يعي عن الله وعن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا سيما إذا انضاف إلى ذلك الزعم بتفضيل خاتم الأولياء هذا على خاتم الأنبياء ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وقد نص ابن تيمية رحمه الله في مواطن كثيرة على كفر من زعم ذلك كقوله:

" ومن الأنواع التي في دعواهم، أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من بعض الوجوه، فإن هذا لم يقله أبو عبد الله الحكيم الترمذي (قلت: حقًا لم يقل هذا نصًا ولكن ما وصف به خاتم الأولياء المزعوم يجعله في منزلة فوق النبي نفسه) ولا غيره من المشايخ المعروفين. بل الرجل أجل قدرًا وأعظم إيمانًا من أن يفتري هذا الكفر الصريح ولكن أخطأ شبرًا ففرعوا على خطئه ما صار كفرًا. وأعظم من ذلك زعم (ابن عربي) أن الأولياء والرسل، من حيث ولايتهم، تابعون لخاتم الأولياء وأخذوا من مشكاته. فهذا باطل بالعقل والدين فإن المتقدم لا يؤخذ من المتأخر، والرسل لا يأخذون من غيرهم، وأعظم من ذلك أنه جعلهم تابعين له في العلم بالله، الذي هو أشرف علومهم، وأظهر من ذلك أنه جعل العلم بالله هو مذهب أهل وحدة الوجود، القائلين بأن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق! فليتدبر المؤمن هذا الكفر القبيح درجة بعد درجة (! ! . .) . فقد زعم أنه أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن تقدمه عليه بالعلم بالله، وتقدم خاتم الأنبياء بالتشريع فقط. وهذا من أعظم الكفر الذي يقع فيه غالية المتفلسفة، وغالية المتصوفة، وغالية المتكلمة، الذين يزعمون أنهم في الأمور العلمية أكمل من الرسل. . وأن الرسل إنما تقدموا عليهم بالتشريع العام الذي جعل لصلاح الناس في دنياهم. وقد يقولون إن الشرائع قوانين عدلية، وضعت لمصلحة الدنيا، فأما المعارف والحقائق والدرجات العليا في الدنيا والآخرة فيفضلون فيها أنفسهم وطرقهم على الأنبياء وطرق الأنبياء " (حيق مذهب الاتحاديين لابن تيمية ص115-123) . وأظن بعد هذا الكلام الصريح الواضح والدليل الناصع لا يرتاب مسلم مؤمن بالله في كفر هذه الطائفة المارقة التي فتحت الباب لكل زندقة وكفر ليدخل دين الإسلام، وللأسف إن ذلك كل يحدث باسم التقوى والصلاح والزهد والتصوف والتعبد وإصلاح القلوب، والوصول إلى غاية الدين. وهؤلاء

محمد عثمان الميرغني وختم الولاية

المتصوفة في حقيقة أمرهم متبعون في دينهم للملاحدة الذين أرادوا هدم الدين. . واقرأ ما يقوله ابن تيمية أيضًا في ذلك: " ولهذا كان الملاحدة من المتصوفة على طريقهم، كابن عربي وابن سبعين وغيرهما، قد سلكوا مسلك ملاحدة الشيعة، كأصحاب رسائل إخوان الصفا واتبعوا ما وجدوه من كلام صاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها وغير ذلك مما يناسب ذلك، فصار بعضهم يرى أن باب النبوة مفتوح لا يمكن إغلاقه. فيقول كما كان ابن سبعين يقول: " لقد زَرَّبَ ابن آمنة (ضيق على الناس ويعني بابن آمنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال (لا نبوة بعدي) "! أو يرى، لكونه أشد تعظيمًا للشريعة، أن باب النبوة قد أغلق؛ فيدعي أن الولاية أعظم من النبوة وأن خاتم الأولياء أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن خاتم الأنبياء بل وجميع الأنبياء إنما يستفيدون معرفة الله من مشكاة خاتم الأولياء. ويقول إنه يوافق النبي في معرفة الشريعة العملية لأنه يرى الأمر على ما هو عليه، فلا بد أن يراه هكذا، وأنه أعلم من النبي بالحقائق العلمية لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذي يوحى به إلى الرسول. . فمحمد عندهم يأخذ من الملك الذي هو عندهم خيال في نفسه، وذلك الخيال يؤخذ عن العقل. فمحمد عندهم يأخذ عن جبريل وجبريل يأخذ عن ما علمه من النفس الفلكية، فزعم ابن عربي أنه يأخذ من العقل، وهو المعدن الذي يأخذ منه جبريل فإن ابن عربي وهؤلاء يعظمون طريق الكشف والمشاهدة والرياضة والعبادة، ويذمون طرق النظر والقياس وما يدعونه من الكشف والمشاهدة، عامته خيالات أنفسهم، ويسمونه حقيقة. . " (الرد على المنطقيين، لابن تيمية ص486-489) . محمد عثمان الميرغني وختم الولاية وممن ادعى ختم الولاية لنفسه محمد عثمان الميرغني السوداني المتوفي سنة 1268هـ ـ.

والذي كان يقول عن نفسه " من رآني ومن رأى من رآني إلى خمسة لم تمسه النار! ولا حرج على ذلك فإن الله يختص برحمته من يشاء " (انظر تاج التفاسير لمحمد عثمان الميرغني ص4) . وسمى نفسه الختم، أو خاتم الأولياء، وجعل هذا الاسم أيضًا علمًا على طريقته الصوفية حيث سماها (الختمية) أي خاتمة الطرق جميعًا! ! ومما يدعيه في تفضيل نفسه على سائر الأمة جميعًا بمن فيهم أبو بكر عمر ما يقوله في كتابه الذي سماه تاج التفاسير ص137 عند قوله تعالى: {أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس} [الأنعام: 122] . يقول: " ولما وصلت في التفسير إلى هذا الموضع رأيت في تلك الليلة المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ في محفل من الرسل الكرام ويقول لي الأنبياء من نوري، وطارت نقطة نور منه فتخلق منها صورة سيدنا إسماعيل الذبيح فقال لي هكذا خلقوا من نوري والأولياء من نور الختم ثم رأيته تلك الليلة عن يمينه جبريل وعن يده اليسرى ميكائيل وأمامه الصديق وخلفه الإمام علي، فقال لي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن دنوت منه وقبلت جبهته الكريمة: ما قام بأمر الله والمؤمنين أحد بعدي مثلك شكر الله سعيك فقلت له يا رسول الله، فقال تعبت في المؤمنين ونصحتهم ما تعب فيهم أحد بعدي مثلك فقلت له أأرضاك ذلك؟ قال أرضاني وأرضى الله من فوق سبع سماواته وعرشه وحجبه. ثم نادى رضوان فقال يا رضوان: عمر جنانًا ومساكن لابني محمد عثمان وأبنائه وصحبه وأتباعه، وأتباع أتباعه إلى يوم القيامة: ثم قال يا مالك فحضر فقال عمر: في النار مواضع لأعداء محمد عثمان إلى يوم القيامة. وأطال الكلام في الواقعة ونسأل الله التوفيق لشكر النعم بحق المصطفى صاحب الأسرار الجامعة " ا. هـ منه بلفظه. . وفي هذه الرؤيا المزعومة كل الكفر والشرك. فالأنبياء لم يخلقوا من نور الرسول كما زعم في رؤياه بل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشر كسائر الناس في البشرية لقوله تعالى: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملًا صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا} [الكهف: 110] .

فليس مخلوقًا من نور كما زعموا بل من يقول هذا يجعل الرسول جزءًا من الله وهذا كفر كما قال الله للمشركين {وجعلوا له من عباده جزءًا إن الإنسان لكفور مبين} [الزخرف: 15] . فمن قال إن الرسول خلق من نور الله فهو كافر، ومن قال أيضًا خلق من نور عرش الله فهو كافر متقول على الله ما لم يقل، متقول على رسول الله ما لم يقله. وأما الحديث الموضوع المكذوب على رسول الله والذي فيه أن جابرًا سأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أول خلق الله؟ فقال: نور نبيك يا جابر، فهو حديث موضوع باتفاق أئمة الحديث جميعًا على وضعه وأنه كذب محض مخالف لما صح عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حديث ابن عمر أن أول شيء خلقه الله سبحانه وتعالى هو القلم فقال له اكتب. قال وما أكتب؟ قال اكتب ما كان وما يكون إلى يوم القيامة. (متفق عليه) ، وأما قوله الأولياء قد خلقوا من نور الختم! ! يعني محمد عثمان الميرغني فهذا ليس كذبًا فقط ولكنه كذب وصفاقة وسخافة تضحك العقلاء، فما النور الذي كان مع محمد عثمان حتى يخلق الله منه جميع الأولياء! ! ومتى كان الأولياء قد خلقوا من نور، والملائكة هم الذين خلقهم الله من النور! ! وأما الأولياء والأنبياء فبشر كالبشر فضلهم الله بعبادته وطاعته والإيمان به. وأما الإدعاء بأن الرسول قد أمر رضوان أن يبني لمحمد عثمان وأتباعه وذريته وأهل بيته. . الخ، هذه السخافات فشيء لم يدعيه الرسول لنفسه فضلًا عن أن يجعلها لرجل كان أهم ما امتاز به هو أن مهد الطريق للاستعمار الإنجليزي في السودان، واستطاع أن يأكل أموال الناس بالباطل بما لا مثيل له فقد استحوذ على أموال البسطاء والمساكين والفقراء. . وأن يتزوج مئات النساء وينجب عشرات الأطفال! ! وأما أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمر مالكًا خازن النار أن يعمر مساكن لأعداء محمد عثمان إلى يوم القيامة. . هكذا. . فالنبي لا يأمر ملائكة الله من عند نفسه بل قال له سبحانه: {ليس لك من الأمر شيء} [آل عمران: 128] ! ! فلا يتصرف في الكون كما يزعمون، بل الرسول عبد كامل العبودية لربه سبحانه وتعالى يتصرف بأمر مولاه وهو أجل وأعظم ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يأتي لرجل في المنام ويعطيه الجنة كما يشاء له ولذريته وأتباعه، ويعطي

أحمد التجاني وختم الولاية

النار لأعدائه. . هكذا. . وأين الله سبحانه وتعالى أن يتصرف مخلوق في ملكه كما يشاء المخلوق. . ودون الرجوع إلى الخالق سبحانه وتعالى. تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وحاشا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يفتريه عليه المفترون. . وهؤلاء يصدق فيهم قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ[من أرى عينيه ما لم تراءيا أمر يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بفاعل] . أي أن من قال: رأيت في النوم كذا وكذا وليس بذلك فهذا قد رأى في عينه ما لم ترءيا، وإن كان رأى حقًا فإنما ذلك من الشيطان حتمًا لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يأت بعد مماته بما يخلف شريعته في حياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ. أحمد التجاني وختم الولاية وممن ادعى لنفسه ختم الولاية أيضًا بصفاقة ليس بعدها صفاقة أحمد التجاني الفاسي المتوفي سنة 1230هـ ـ وهذا التجاني جاء ليكذب جميع الذين ادعوا الختمية قبله على ألف سنة تقريبًا. فإذا كان أول من ادعاها هو محمد بن علي بن الحسن الترمذي المسمى بالحكيم وكان ذلك في أواخر القرن الثالث الهجري فقد جاء التجاني في القرن الثالث عشر ليكذب جميع الذين ادعوا الختمية قبله وليزعم لنفسه أن الله قد ختم الأولياء به حقًا وصدقًا، وأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد بشره بذلك. قال صاحب كتاب رماح حزب الرحيم على نحور حزب الشيطان الرجيم: " قال صاحب الرماح ما نصه: وشيخنا التجاني ولد عام خمسين ومائة وألف ووقع له الإذن من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقظة لا منامًا بتربية الخلق على العموم والإطلاق سنة ألف ومائة وست وتسعين، قال أخبرني سيدي محمد الغالي أن الشيخ عاش وهو في مرتبة الختمية ثلاثين سنة وإذا تأملت هذا علمت أن الختمية لم تثبت لأحد قبل شيخنا وأن أحدًا ما ادعاها وثبت على ادعائها لنفسه وأما شيخنا وسيدنا ووسيلتنا إلى ربنا سيد أحمد بن محمد الشريف الحسني التيجاني قال: أخبرني سيد الوجود ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأني أنا القطب المكتوم منه إلي مشافهة يقظة لا منامًا فقيل له ما معنى المكتوم؟ فقال هو الذي كتمه الله تعالى عن

جميع خلقه حتى الملائكة والنبيين إلا سيد الوجود ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه علم به وبحاله وهو الذي حاز كل ما عند الأولياء من الكمالات الإلهية واحتوى على جميعها وأكبر من هذا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال إن لله ثلاثمائة خلق من تخلق بواحد منها أدخله الله الجنة وما اجتمعت في نبي ولا ولي إلا في سيد الوجود ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأما الأقطاب الذين بعده حتى الحجة العظمى ابن عربي الحاتمي فإنما يعلمون ظواهرها فقط ويسمون المحمديين وبه ختم الله الأقطاب المجتمعة فيهم الأخلاق والإلهية وهذه الأخلاق لا يعرفها إلا من ذاقها ولا تدرك بالوصف ولا يعرف ما فيها إلا بالذوق وقال إن الفيوض التي تفيض من ذات سيد الوجود ـ صلى الله عليه وسلم ـ تتلقاها ذات الأنبياء وكل ما فاض وبرز من ذات الأنبياء تتلقاه ذاتي ومني يتفرق على جميع الخلائق من نشأة العالم إلى النفخ في الصور، وخصصت بعلوم بيني وبينه منه إلى مشافهة لا يعلمها إلا الله عز وجل بلا واسطة قال أنا سيد الأولياء كما كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيد الأنبياء " ا. هـ منه. وهكذا تعلم أخي المسلم ما يتمتع به هؤلاء القوم من صفاقة وكذب سبقوا به الأولين والآخرين فهؤلاء هم يكذب بعضهم بعضًا، ويدعي كل منهم لنفسه ختم الولاية وهو شيء لم يأت في كتاب ولا سنة وإنما افتراه لهم مفتر فتتابعوا وراءه على مدى ألف ومائة سنة إلى اليوم لم أقرأ عن شيخ صوفي مشهور إلا ادعى هذا لنفسه ولكنني لم أجد أكثر كذبًا وصفاقة من هذا أحمد التجاني الذي ادعى أنه قد تحقق بكل الأخلاق الإلهية وعددها ثلاثمائة خلق ولما يتحقق بها إلا الرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كذا، وجميع الأولياء عرفوا ظاهرها فقط وأما أحمد التيجاني (الكذاب) فقد تحقق بها تمامًا، ثم تسأل أخي المسلم ما هي هذه الأخلاق فيقال لك إنها أخلاق ذوقية لا يعرفها إلا من ذاقها فقط كيف تكون الأخلاق أذواقًا يا قوم، وكيف تكون هذه هي أخلاق الله التي تخلق بها أحمد التجاني حقًا وصدقًا! ! . . إن هذا المفتري لم يترك فرية من الفرى والأكاذيب التي افتراها من قبله على هذا الطريق الهالك طريق التصوف إلا افتراها هو لنفسه فقد زعم هنا أيضًا أن الله ينزل الفيوض (العلوم الغيبية) على الرسول محمد وأن الرسول محمد هو الذي

يفاض منه على سائر الأنبياء، ثم يفاض من الأنبياء جميعًا على شخص أحمد التجاني فقط الذي يقوم بإمداد جميع الأولياء. بعد ذلك بهذه العلوم منذ خلق آدم وحتى النفخ في الصور! ! انظر إلى هذا الكذب الملفق ما أعظمه وأشنعه. لقد افترى الفرية رجال قبله فلم يهدأ له بال حتى نسب ذلك إلى نفسه. انظر هنا إلى النص الآتي كيف يناقش من يذكر أمامه فضيلة من الفضائل المزعومة أيضًا لشيخ من شيوخ التصوف. قال صاحب الرماح أيضًا ما نصه: " ومدده الخاص به (يعني الشيخ التجاني) إنما يتلقاه منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا اطلاع لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على فيضه الخاص به لأن له مشربًا معهم منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ـ رضي الله عنه ـ وأرضاه وعنا به مشيرًا بإصبعه السبابة والوسطى روحي وروحه ـ صلى الله عليه وسلم ـ هكذا، روحه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تمد الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام وروحي تمد الأقطاب والعارفين والأولياء من الأزل إلى الأبد وسبب ذلك أن بعض أصحابه تحاور مع بعض الناس في قوله ـ رضي الله عنه ـ وأرضاه وعنا به كل شيوخ أخذوا عني في الغيب فحكي له ذلك فأجاب ـ رضي الله عنه ـ وأرضاه وعنا به ما ذكر. وقال: نسبة الأقطاب معي كنسبة العامة مع الأقطاب وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني قال قدمي هذا (كذا) على رقبة كل ولي لله تعالى يعني أهل عصره وأما أنا فقدماي هاتان جميعها (وكان متكئًا فجلس وقال) على رقبة كل ولي لله تعالى من لدن آدم إلى النفخ في الصور " ا. هـ. . فانظر هذا الكذب والإفتراء. فإذا كان الجيلاني قد نسب إليه قوله مفصلًا لنفسه: قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله تعالى! ! فإن التجاني لم يهدأ باله حتى فسر كلام الجيلاني بأن هذا في وقته فقط وأما هو فقدماه على رقبة كل ولي لله تعالى من خلق آدم إلى النفخ في الصور! ! فانظر إلى هؤلاء الذين يدوسون بأقدامهم على أولياء الله تعالى ويفضلون أنفسهم على هذا النحو. وهذه الكلمات منهم إن دلت على شيء فإنما تدل على مقدار الوقاحة والكذب الذي تحلى به هؤلاء، وعلى مقدار الجهل والفساد والتردي الذي وصلت إليه الأمة بأن تجعل أمثال هؤلاء المفترين الوقحين هم سادتها وقادتها ووسيلتها إلى الله

وأن تملك رقابها وأموالها وعقولها لأمثال هؤلاء حيث يقودونهم إلى درب الغواية والضلال. وقد قسم الجيلاني هذا مراتب الأولياء والأنبياء إلى سبع مراتب سماها حضرات قال فيها: الحضرة الأولى: الحقيقة المحمدية. قال: وهذه الحضرة غيب من غيوب الله تعالى لم يطلع عليها أحد ولا عرف شيئًا من علومها وأسرارها وتجلياتها وأخلاقها ولو كان من الرسل والأنبياء لأنها خاصة بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. والثانية الحضرة المحمدية وتمثلها الدائرة الثانية ومن هذه الحقيقة المحمدية مدارك النبيين والمرسلين وجميع الملائكة والمقربين وجميع الأقطاب والصديقين وجميع الأولياء والعارفين. والثالثة حضرة الأنبياء وتمثلها الدائرة الثالثة وأهل هذه الحضرة يتلقون علومهم وأحوالهم وتجلياتهم من هذه الحقيقة المحمدية وخاتم الأولياء أعني الشيخ التجاني له مشرب من هذه الحضرة مع الأنبياء فهو يتلقى المدد رأسًا من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حقيقته المحمدية بلا وساطة. الرابعة حضرة خاتم الأولياء وتمثلها الدائرة الرابعة وصاحب هذه الحضرة هو الشيخ أحمد التجاني فهو يتلقى كل ما فاض من ذوات الأنبياء زيادة على ما يتلقاه بلا وساطة من الحقيقة المحمدية ولذلك سمى نفسه (برزخ البرازخ) . وقال الشيخ التجاني: وخصصت بعلوم بيني وبينه منه إلى مشافهة لا يعلمها إلا الله عز وجل بلا وساطة وقال: أنا سيد الأولياء كما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيد الأنبياء. ثم قال صاحب الرماح " ولا اطلاع لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على فيضه الخاص لأن له مشربًا معهم منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ "! ! . الحضرة الخامسة حضرة المتبعين للطريقة التجانية المتمسكين بها. قال الشيخ التجاني في حق أهل هذه الحضرة ما نصه " لو اطلع أكابر الأقطاب على ما أعد الله لأهل هذه الطريقة لبكوا وقالوا يا ربنا ما أعطيتنا شيئًا ". وقال الشيخ التجاني لا مطمع لأحد من الأولياء في مراتب أصحابنا حتى الأقطاب الكبار ما عدا أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وقال الشيخ التجاني: كل الطرائق تدخل عليه (كذا) طريقتنا فتبطلها وطابعنا يركب على كل طابع ولا يحمل طابعنا غيره وقال من ترك وردًا من

أوراد المشايخ لأجل الدخول في طريقتنا هذه المحمدية التي شرفها الله تعالى على جميع الطرق أمنه الله في الدنيا والآخرة فلا يخاف من شيء يصيبه لا من الله ولا من رسوله ولا من شيخه أيا كان من الأحياء أو من الأموات. وأما من دخل زمرتنا وتأخر عنها ودخل غيرها تحل به مصائب الدنيا وأخرى ولا يفلح أبدًا (هامش: قلت فانظر كيف يهدم كل صاحب طريق صوفي طريق غيره من الكاذبين الضالين من أمثاله. واعتبر! !) . ثم قال ناقلًا عن شيخه التجاني كما هو في جواهر المعاني: وليس لأحد من الرجال أن يدخل كافة أصحابه الجنة بلا حساب ولا عقاب ولو عملوا من الذنوب ما عملوا وبلغوا إلا أنا وحدي. ووراء ذلك مما ذكر لي فيهم وضمنه أمر لا يحل لي ذكره ولا يرى ولا يعرف إلا في الدار الآخرة بشرى للمعتقد علي رغم أنف المنتقد. ثم استطرد صاحب الرماح ومن هنا صار جميع أهل طريقته أعلى مرتبة عند الله تعالى في الآخرة من أكابر الأقطاب وإن كان بعضهم في الظاهر من جملة العوام المحجوبين. الحضرة السادسة حضرة الأولياء وتمثلها الدائرة السادسة وهي مستمدة من حضرة خاتمهم الأكبر جميع ما نالوا (الهدية الهادية ص36) . انظر ماذا في هذه النصوص من الكفر الصريح والمخالفة الواضحة لما هو معلوم من الدين بالضرورة، فمعلوم من الدين ضرورة أن من قال أنا في الجنة فهو في النار كما ثبت بذلك الحديث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن هذا غيب بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهؤلاء لم يدعو الجنة لأنفسهم فقط بل ادعوها لكل من صدق أكاذيبهم ولو كان فاجرًا عاصيًا لله زيادة على الكفر بتصديقهم كأن يكون تارك الصلاة زانيًا. . وجعل التجانية هذا، أعني إدخاله العصاة إلى الجنة، فضلًا أعطاه الله إياه وبلغه الرسول بذلك. فانظر. . أقول: العجيب بعد كل هذا الكفر البواح المخرج من ملة الإسلام أن يدعي المدعي أن طريقته هذه مبنية على الكتاب والسنة وأنه لم يأت قط بما يخالفها فانظر هذا التلبيس على الناس، وانظر أي فتنة فتن بها المسلمون بهذا الطريق الصوفي! ؟

الفصل الثالث عشر: الديوان الصوفي الذي يحكم العالم

الفصل الثالث عشر: الديوان الصوفي الذي يحكم العالم إكمالًا لإحكام السيطرة الخرافية على العالم، اخترع رجال التصوف بخيالاتهم الشيطانية المريضة. . اخترعوا ديوانًا للأقطاب والأوتاد وسائر صنوف الأولياء عندهم ينعقد في غار حراء، وفي أماكن أخرى أحيانًا ليدير هذا الديوان العالم من خلال قراراته. . وقد كفانا أحمد بن مبارك السلجماسي المغربي في كتابه الإبريز المؤنة وقد بسط وشرح بخيال لا يجارى، وبعقلية عندها قدرة عجيبة على الكذب والبهتان، هذا الديوان العجيب على الرغم من أنه غاية في الكفر والزندقة ولا يخلو من طرافة الخرافة. وسأحاول أن تكون تعليقاتي وشرحي لبعض ما جاء في هذا الديوان قليلة وذلك أنني أتصور وأعتقد أيضًا أن الفكرة السيئة يكفي لدحضها وبيان تفاهتها أن يعرفها الناس فلو أن الناس عرفوا الأفكار الصوفية على حقيقتها لما راج التصوف وقامت سوقه ولكن لأنه دائمًا كان يغلف الخرافة والكفر والشرك بالرموز والأسرار، واللف والدوران مع ما يعلنه من التمسك بالكتاب والسنة جعل الناس يتهافتون على ما عندهم ظنًا أن عندهم فعلًا علومًا جديدة وفوائد عظيمة ولكن لو أن الناس فهموا ما عند المتصوفة على حقيقته لتغير الحال. وهذا نمط من الأسرار الصوفية التي يدعي المتصوفة أنهم وصلوا إليها. يقول السلجماسي في وصف الديوان الباطني الصوفي ما يلي: هيئة الديوان الباب الرابع في ذكر ديوان الصالحين ـ رضي الله عنهم ـ أجمعين

سمعت الشيخ (يعني بالشيخ عبد العزيز الدباغ الأمي الجاهل الذي يدعي أنه قد علِم علمَ الأولين والآخرين جميعًا) ، ـ رضي الله عنه ـ يقول الديوان يكون بغار حراء الذي كان يتحنف فيه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل البعثة قال ـ رضي الله عنه ـ فيجلس الغوث خارج الغار ومكة خلف كتفه الأيمن والمدينة أمام ركبته اليسرى وأربعة أقطاب عن يمينه وهم مالكية على مذهب مالك بن أنس ـ رضي الله عنه ـ وثلاثة أقطاب عن يساره واحد من كل مذهب ومن المذاهب الأخرى والوكيل أمامه ويسمى قاضي الديوان وهو في هذا الوقت مالكي أيضًا من بني خالد القاطنين بناحية البصرى واسمه سيدي محمد بن عبد الكريم البصراوي ومع الوكيل يتكلم الغوث ولذلك يسمى وكيلًا لأنه ينوب في الكلام عن جميع من في الديوان. قال والتصرف للأقطاب السبعة على أمر الغوث وكل واحد من الأقطاب السبعة تحته عدد مخصوص يتصرفون تحته والصفوف الستة من وراء الوكيل وتكون دائرتها من القطب الرابع الذي على اليسار من الأقطاب الثلاثة فالأقطاب السبعة هم أطراف الدائرة وهذا هو الصف الأول وخالطه الثاني على صفته وعلى دائرته وهكذا الثالث إلى أن يكون السادس آخرها. قال ويحضره النساء وعددهن قليل وصفوفهن ثلاثة وذلك في جهة الأقطاب الثلاثة التي على اليسار فوق دائرة الصف الأول فسحة هناك بين الغوث والأقطاب الثلاثة قال ـ رضي الله عنه ـ ويحضره بعض الكمل من الأموات ويكونون في الصفوف مع الأحياء ويتميزون بثلاثة أمور أحدها أن زيهم لا يتبدل بخلاف زي الحي وهيئته فمرة يحلق شعره ومرة يحدد ثوبه وهكذا. وأما الموتى فلا تتبدل حالتهم فإذا رأيت في الديوان رجلًا على زي لا يتبدل فاعلم أنه من الموتى كأن تراه محلوق الشعر ولا ينبت له شعر فاعلم أنه على تلك الحالة مات، وإن رأيت الشعر على رأسه على حاله لا يزيد ولا ينقص ولا يحلق فاعلم أنه ميت وأنه مات على تلك الحالة، ثانيها أنه لا تقع معهم المشاورة في أمور عالم الأموات قال ـ رضي الله عنه ـ ومن آداب زائر القبور إذا أراد أن يدعو لصاحب القبر ويتوسل إلى الله تعالى بولي

من أوليائه في إجابة دعوته أن يتوسل إليه تعالى بولي ميت فإنه أنجع للمقصود وأقرب لإجابة دعوته. ثالثها أن ذات الميت لا ظل لها فإذا وقف الميت بينك وبين الشمس فإنك لا ترى له ظلًا وسره أنه يحضر بذات روحه لا بذاته الفانية الترابية وذات الروح خفيفة لا ثقيلة وشفافة لا كثيفة قال لي ـ رضي الله عنه ـ وكم مرة أذهب إلى الديوان أو إلى مجمع من ملجأ الأولياء وقد طلعت الشمس فإذا رأوني من بعيد استقبلوني فأراهم بعين رأسي متميزين هذا بظله وهذا لا ظل له. قال ـ رضي الله عنه ـ والأموات الحاضرون في الديوان ينزلون إليه من البرزخ يطيرون طيرًا بطيران الروح فإذا قربوا من موضع الديوان بنحو مسافة نزلوا إلى الأرض ومشوا على أرجلهم إلى أن يصلوا إلى الديوان تأدبًا مع الأحياء وخوفًا منهم. قال وكذا رجال الغيب إذا زار بعضهم بعضًا فإنه يجيء بسير روحه فإذا قرب من موضعه تأدب ومشى مشي ذاته الثقيلة تأدبًا وخوفًا. قال وتحضره الملائكة وهم من وراء الصفوف ويحضر أيضًا الجن الكمل وهم الروحانيون وهم من وراء الجميع وهم لا يبلغون صفًا كاملًا قال ـ رضي الله عنه ـ وفائدة حضور الملائكة والجن أن الأولياء يتصرفون في أمور تطيق ذواتهم الوصول إليها وفي أمور أخرى لا تطيق ذواتهم الوصول إليها فيستعينون بالملائكة وبالجن في الأمور التي لا تطيق ذواتهم الوصول إليها " ا. هـ منه بلفظه (الإبريز ص163، 164) . الغوث الصوفي هو بمنزلة رب الأرباب عندهم أو كبير المتصوفين في هذا العالم، وهناك عدد كبير جدًا من المتصوفة زعم أنه وصل إلى هذه المرحلة (الغوثية أو القطبية والقطبانية الكبرى) منهم الدباغ هذا وكان أميًا جاهلًا لا يحفظ حزبًا من القرآن الكريم (وانظر معنى الغوث في فصل الولاية الصوفية) وجعلوا هذا الغوث الذي يدبر العالم من غار حراء جعلوا في خدمته الأقطاب والأوتاد والنجباء وسائر الأولياء بل والملائكة والجن أيضًا. . ولم يقصروا الحضور على الأحياء فقط بل جعلوا الحضور للأموات أيضًا. .

زعمهم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحضر الديوان

زعمهم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحضر الديوان ولم يكتف هؤلاء الشياطين بأنفسهم لحضور هذه الخيالات حتى زعموا أيضًا أن الرسول يحضر معهم: قال (أي الدباغ) : " وفي بعض الأحيان يحضره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإذا أحضر عليه السلام جلس في موضع الغوث وجلس الغوث في موضع الوكيل للصف، وإذا جاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جاءت معه الأنوار التي لا تطاق دائمًا وهي أنوار محرقة مفزعة قاتله لحينها، وهي أنوار المهابة والجلالة والعظمة حتى إننا لو فرضنا أربعين رجلًا بلغوا في الشجاعة مبلغًا لا مزيد عليه ثم فجؤوا بهذه الأنوار فإنهم يصعقون لحينهم إلا أن الله تعالى يرزق أولياءه القوة على تلقيها ومع ذلك فإنه قليل منهم هو الذي يضبط الأمور والتي صدرت في ساعة حضوره ـ صلى الله عليه وسلم ـ. قال وكلامه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الغوث قال وكذلك الغوث إذا غاب ـ صلى الله عليه وسلم ـ تكون له أنوار الخارقة حتى لا يستطيع أهل الديوان أن يقربوا منه بل يجلسون منه على بعد فالأمر الذي ينزل من عند الله تعالى لا تطيقه ذات إلا ذات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإذا خرج من عنده ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا تطيقه ذات إلا ذات الغوث ومن ذات الغوث يتفرق على الأقطاب السبعة ومن الأقطاب السبعة تفرق على أهل الديوان " ا. هـ منه بلفظه (الإبريز ص164) . ساعة انعقاد الديوان ويستطرد السلجماسي قائلًا: " وأما ساعة الديوان سبق الكلام عليها وإنها هي الساعة التي ولد فيها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنها هي ساعة الاستجابة من ثلث الليل الأخير التي وردت بها الأحاديث كحديث: ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حيث يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له. . . الحديث. قلت

زوجات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والديوان

ومن أراد أن يظفر بهذه الساعة فليقرأ عند إرادة النوم {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلًا. .} [الكهف: 107: 110] . إلى آخر السورة ويطلب من الله تعالى أن يوقظه في الساعة المذكورة فإنه يفيق فيها ذكره الشيخ عبد الرحمن الثعالبي ـ رضي الله عنه ـ وقد جربناه ما لا يحصي وجربه غيرنا حتى إنه وقع لجماعة غير مأمورة أن يقرأوا الآية المذكورة ويطلبوا من الله تعالى الإفاقة في الساعة المذكورة كل منهم يفعل ذلك في خاصة نفسه من غير أن يعلم به صاحبه وإذا أفاقوا أفاقوا جميعًا في وقت واحد " انتهى منه بلفظه (الإبريز ص164) . زوجات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والديوان ويستمر السلجماسي في خيالاته الشيطانية فيقول: " وسألته ـ رضي الله عنه ـ هل يحضر الديوان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل سيدنا إبراهيم وسيدنا موسى وغيرهما من الرسل على نبينا وعليهم أفضل الصلاة والسلام فقال ـ رضي الله عنه ـ يحضرونه في ليلة واحدة في العام قلت فما هي قال في ليلة القدر فيحضره في تلك الليلة الأنبياء والمرسلون ويحضره الملأ الأعلى من الملائكة المقربين وغيرهم ويحضره سيد الوجود ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويحضر معه أزواجه الطاهرات وأكابر صحابته الأكرمين ـ رضي الله عنه ـ م أجمعين " انتهى بلفظه (الإبريز) . قلت يتعجب المسلم كيف تأتي لهؤلاء هذه القدرة على الكذب والبهتان، وكيف قادتهم الشياطين لمثل هذه الافتراءات التي يتضاحك منها الصبيان فضلًا عن العقلاء. فالحمد لله الذي نجانا وهدانا وأخرجنا برحمته من ظلمات هذه الوثنية إلى نور الإسلام والاستظلال بظلال القرآن الحكيم والسنة النبوية المطهرة وأبعدها عن تخريفات أهل البهتان.

زعمهم حضور الملائكة للديوان

زعمهم حضور الملائكة للديوان ثم يقول السلجماسي " وسمعته ـ رضي الله عنه ـ يقول إن الديوان أولًا كان معمورًا بالملائكة ولما بعث الله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل الديوان يعمر بأولياء هذه الأمة فظهر أن أولئك الملائكة كانوا نائبين عن أولياء هذه الأمة المشرفة حيث رأينا الولي إذا خرج إلى الدنيا وفتح الله عليه وصار من أهل الديوان فإنه يجيء إلى موضع مخصوص في الصف الأول أو غيره فيجلس فيه ويصعد الملك الذي في ذلك الوضع وهكذا كانت بداية عمارة الديوان حتى كمل ولله الحمد كلما ظهر ولي صعد ملك وأما الملائكة الذين هم باقون فيه يكونون في الصفوف الستة كما سبق فهم ملائكة ذات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذين كانوا حفاظًا لها في الدنيا ولما كان نور ذاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ مفرقًا في أهل الديوان بقيت ملائكة الذات الشريفة مع ذلك النور الشريف. قال ـ رضي الله عنه ـ وإذا حضر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الديوان وجاءت معه الأنوار التي لا تطاق بادرت الملائكة الذين مع أهل الديوان ودخلوا في نوره ـ صلى الله عليه وسلم ـ فما دام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الديوان لا يظهر منهم ملك فإذا خرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجع الملائكة إلى مراكزهم والله أعلم " (الإبريز ص174) . ولست أدري لماذا يقول هؤلاء الكذابون بعد كل هذا الدجل والكذب (والله أعلم) ماذا تفيدهم هذه الكلمة العظيمة في هذا الموضع الذي يكذبون فيه على الله. إنهم بزعمهم يتكلمون على حقائق وعلوم وأسرار غيبية زعموا أنهم رأوها وشاهدوها وليست عندهم مجرد ظن أو اجتهاد فلماذا يقولون بعد ذلك والله أعلم وهم يعلمون يقينًا أنهم يكذبون ويفترون، ويضحكون على عقول الدهماء والتي تسير وراءهم وتصدقهم. أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وفاطمة والحسن والحسين أعضاء في الديوان:

لغة أهل الديوان

ويستمر السلجماسي في خيالاته الفاجرة فيقول: " قال ـ رضي الله عنه ـ وإذا حضر سيد الوجود ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع غيبة الغوث فإنه يحضر معه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن والحسين وأمهما فاطمة الزهراء تارة كلهم وتارة بعضهم ـ رضي الله عنهم ـ أجمعين، قال وتجلس مولاتنا فاطمة مع جماعة النسوة اللاتي يحضرن الديوان في جهة اليسار كما سبق وتكون مولاتنا فاطمة أمامهن ـ رضي الله عنها ـ وعنهن قال ـ رضي الله عنه ـ وسمعتها ـ رضي الله عنه ـ اتصلي على أبيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة من الليالي وهي تقول اللهم صل على من روحه محراب الأرواح والملائكة والكون اللهم صل على من هو إمام الأنبياء والمرسلين اللهم صل على من هو إمام أهل الجنة عباد الله المؤمنين وكانت تصلي عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكن لا بهذا اللفظ وإنما أنا استخرجت معناه. والله أعلم " انتهى (الإبريز ص168) . لغة أهل الديوان ويقول أحمد بن مبارك: " سمعته ـ رضي الله عنه ـ يقول إن لغة أهل الديوان ـ رضي الله عنه ـ م هي السريانية لاختصارها وجمعها المعاني الكثيرة ولأن الديوان يحضر الأرواح والملائكة والسريانية هي لغتهم ولا يتكلمون العربية إلا إذا حضر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أدبًا معه " ا. هـ (الإبريز ص168) . ولست أدري لماذا يجمع المتصوفة تقريبًا على اختيار اللغة السريانية لغة للديوان، ولمعاني الحروف، وللأذكار فإما للتلبيس على الناس لأنها لغة منقرضة لا توجد إلا في قرية واحدة الآن من قرى سوريا ولا يتكلمها إلا نحو خمسمائة شخص فقط، أو لأن هذه اللغة كانت لغة أقوام اشتهروا بعبادة الجن والأوثان وهذا الذي يبدو فإن هذه اللغة كانت لأقوام وثنيين من عبدة الجن والكواكب وما يزال كثير من هذه القرية التي يتكلم أصحابها بهذه اللغة مهجورًا مسكونًا بالجن.

الديوان يعقد في صحراء السودان أحيانا

أولياء يحضرون الديوان بأرواحهم فقط: ثم يقول السلجماسي: " وسمعته ـ رضي الله عنه ـ يقول إن الصغير من الأولياء يحضر بذاته وأما الكبير فلا تحجير عليه يشير ـ رضي الله عنه ـ إلى أن الصغير إذا حضر غاب عن محله وداره فلا يوجد في بلدته أصلًا لأنه يذهب إليه بذاته. وأما الكبير فإنه يدبر وعلى رأسه فيحضر ولا يغيب عن داره لأن الكبير يقدر على التطور على ما شاء من الصور لكمال روحه تدبر له إن شاء ثلاثمائة وست وستون ذاتًا بل سمعت الشيخ ـ رضي الله عنه ـ مرة وأنا معه خارج باب الحبشة أحد أبواب فاس حرسها الله يقول: ايش هو: الديوان والأولياء الذين يقيمونه كلهم في صدري وسمعته مرة يقول إنما يقام الديوان في صدري " (الإبريز ص167) . ولعل الكلمة الأخيرة التي قالها الدباغ هي أصدق ما قال أعني أن الديوان يقام فقط في قلبه المريض وفي عقله المجنون وأما ذكره من غار حراء والأولياء والأنبياء والرسل وسائر هذه التخريفات فلا صحة لها. الديوان يعقد في صحراء السودان أحيانًا الصحراء السودانية مكان آخر لانعقاد الديوان يقول السلجماسي: " (وسألته) ـ رضي الله عنه ـ هل يكون الديوان في موضع آخر غير غار حراء فقال ـ رضي الله عنه ـ نعم يكون في موضع آخر مرة في العام لا غير وهذا الموضع يقال له زاوية أَسَا بفتح الهمزة والسين بعدها ألف خارج أرض سوس بينها وبين أرض غرب السودان فيحضر أولياء السودان ومنهم من لا يحضر الديوان إلا في تلك الليلة ويأذن الله تعالى ويسوق أهل آفاق تلك الأراضي ويجتمعون بالوضع المذكور قبل تلك الليلة بيوم أو يومين وبعدها كذلك يجتمع في ذلك السوق من التبر ما لا يحصى فقلت وهل ثم مع آخر في غير هذين الموضعين فقال نعم يجتمعون

ولكن لا يجتمع نحو العشرة منهم في موضع قط إلا في الموضعين السابقين لأن الأرض لا تطيقهم لأنه تعالى أراد تفرقهم في الأرض وفي الخلق والله تعالى أعلم " ا. هـ منه بلفظه (الإبريز ص73) . ماذا لو غاب الغوث: ويقول السلجماسي أيضًا: " وسمعته ـ رضي الله عنه ـ يقول قد يغيب الغوث عن الديوان فلا يحضر فيحصل بين أولياء الله تعالى من أهل الديوان ما يوجب اختلافهم فيقع منهم التصرف الموجب لأن يقتل بعضهم بعضًا فإن غالبهم اختار أمرًا وخالف الأقل في ذلك فإن الأقل يحصل فيهم التصرف السابق فيموتون جميعًا وقد اختلفوا ذات يوم في أمر فقال طائفة منهم قليلة إن يكن لكم ذلك الأمر فلتمت فقالت الطائفة الكثيرة فموتوا إن شئتم فماتت الطائفة القليلة قال ـ رضي الله عنه ـ فإن تكافأ الفريقان إن حصل التصرف فيهم معًا فقلت فإنهم أهل بصيرة وكشف فلم يحصل بينهم النزاع وهم يشاهدون مراد الله تعالى ببصيرتهم فقال ـ رضي الله عنه ـ إذا كان الأقل هو المخالف فإن الله يحجبهم عن المراد حتى ينفذ ما فيهم وإذا تكافأ الفريقان فإن مراد الحق سبحانه يخفى على الجميع لأن قلوب الأولياء الأوفياء مظاهر الأقدار وقد اختلفت وتكافأت فقلت فما سبب غيبة الغوث ـ رضي الله عنه ـ عن الديوان فقال ـ رضي الله عنه ـ سببه أحد أمرين إما غيبته في مشاهدة الحق سبحانه فلهذا لا يحضر في الديوان وإما كونه في بداية توليته كما إذا كان بقرب موت الغوث الذي قبله فإنه قد لا يحضر في بداية الأمر حتى تتأنس ذاته شيئًا فشيئًا قال ـ رضي الله عنه ـ وقد يحضر سيد الوجود ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غيبة الغوث فيحصل لأهل الديوان من الخوف والجزع من حيث إنهم يجهلون العاقبة في حضوره ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يخرجهم عن جناسهم حتى إنه لو

الغوث الصوفي دكتاتور كبير

طال ذلك أيامًا لانهدم العوالم " (الإبريز ص168) . الغوث الصوفي دكتاتور كبير وأما الغوث هذا فهو أخطر دكتاتور فإن أي أحد لا يستطيع أن يفتح فمه عنده يقول السلجماسي: " وسألته مرة فقلت: إذا حضر الغوث فهل يقدر أحد على مخالفته فقال ـ رضي الله عنه ـ لا يقدر أن يحرك شفته السفلى بالمخالفة فضلًا عن النطق بها فإنه لو فعل ذلك لخاف على نفسه من سلب الإيمان فضلًا عن شيء آخر والله أعلم " (الإبريز ص169) . ولست أدري ما دام هذا هو حال غوثهم مع سائر أوليائهم المزعومين فلماذا الحضور إذن في هذا الديوان هل هو لمجرد تلقي الأوامر فقط. .؟ ! أولياء ينظرون في اللوح المحفوظ ويستطرد السلجماسي مبينًا مراتب الأولياء الذين يحضرون ديوانهم المكذوب فيقول: " وسمعته ـ رضي الله عنه ـ يقول ليس كل من يحضر الديوان من الأولياء يقدر على النظر في اللوح المحفوظ بل منهم من يقدر على النظر فيه ومنهم من يتوجه إليه ببصيرته ويعرف ما فيه ومنهم من لا يتوجه إليه لعلمه بأنه ليس من أهل النظر إليه قال ـ رضي الله عنه ـ كالهلال فإن رؤية الناس إليه مخالفة " ا. هـ. وأقول ألا لعنة الله على من كذب مثل هذا الكذب الذي لم تعرف البشرية له مثيلًا من قبل قط. . ولكن العجيب أن ينشر مثل هذا الفكر المجنون عند أناس يقرأون كتاب الله الذي يقول {قل لا يعلم من في السماوات والأرض

الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون} [النمل: 65] . لماذا يجتمع أهل الديوان: والآن نأتي إلى بيت القصيد كما يقولون فلماذا يجتمع أهل الديوان؟ يقول السلجماسي: " وسمعته ـ رضي الله عنه ـ يقول أن أهل الديوان إذا اجتمعوا فيه اتفقوا على ما يكون من ذلك الوقت إلى مثله من الغد فهم ـ رضي الله عنهم ـ يتكلمون في قضاء الله عز وجل في اليوم المستقبل والليلة التي تليه قال ـ رضي الله عنه ـ ولهم التصوف في العوالم كلها السفلية والعلوية وحتى في الحجب السبعين وحتى في عالم الرقا (بالراء وتشديد القاف) وهو ما فوق الحجب السبعين فهم الذين يتصرفون فيه وفي أهله وفي خواطرهم وما تهمس به ضمائرهم فلا يهمس في خاطر واحد منهم شيء إلا بإذن أهل التصرف ـ رضي الله عنه ـ م أجمعين وإذا كان هذا في عالم الرقا الذي هو فوق الحجب السبعين التي هي فوق العرش فما ظنك بغير من العوالم " (الإبريز ص169) . . فانظر كيف يتحكم هؤلاء بخيالاتهم وكذبهم ليس في الأرض فقط بل في الأرض والسماء وما فوق السماء من الحجب والعرش، فماذا أبقى هؤلاء الكاذبون المارقون لله سبحانه وتعالى ليتصرف فيه. . تَبَّتْ عقول استساغت مثل هذا الكذب واعتقدت مثل هذا الهراء! !

الباب الرابع: الشريعة الصوفية

الباب الرابع: الشريعة الصوفية في الأبواب والفصول السابقة اطلعنا على حقيقة المعتقد الصوفي، وسبرنا غور هذا الفكر الباطني الذي يتستر بالإسلام. والآن نأتي إلى الشريعة الصوفية ونعني بها العمل الظاهر، والمنهج العملي الذي سلكه رجال التصوف تضليلًا للعامة، ووصولًا إلى العقيدة الباطنية، وتظاهرًا بالتمسك بالإسلام المنزل على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسيعلم القارئ كيف أن الظاهر الصوفي والشريعة الخاصة الصوفية لا تكاد تخرج عن البدعة والفسق والكفر والشرك. ولنبدأ بأخص أمورهم وأشهرها، التي جعلوها دائمًا المدخل إلى الطريق الصوفي ألا وهو الذكر.

الفصل الأول: الذكر الصوفي

الفصل الأول: الذكر الصوفي كيفية تتلقى الأذكار عند الصوفية يخطئ من يظن أن الصوفية أتباع للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هديه في الذكر حيث شرع لنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نذكر الله سبحانه وتعالى بأذكار مخصوصة في أوقات معلومة، والنبي عندما أخبرنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن من قال كذا وكذا فله كذا وكذا من الأجر إنما يتكلم بالوحي لأن الأجر أمر غيبي يقدره الله ويعلمه، ولكن مشايخ الصوفية أراد كل منهم أن ينصب من نفسه مشرعًا لمجموعة من المريدين، وإلهًا يعبده الأتباع الجاهلون، وكان باب الأذكار هو الباب الذي دخل منه هؤلاء للتشريع للأتباع والمريدين فوضع كل منهم لأتباع طريقته منهجًا خاصًا بالذكر، وأذكارًا مخصوصة وكان لكل واحد منهم أن يضفي على ذكره الخاص هالة من التقديس، وأن يحاول جذب المريدين إليه بشتى الطرق والوسائل فمنهم من زعم أن ذكره الخاص قد أخذه من الرسول منامًا، ومنهم من ادعى أنه أخذه من الرسول يقظة، ومنهم من زعم أن الخضر الذي أوحى له بالذكر، ومنهم من تنازل فنسب ذكره إلى شيخ طريقة ميت، ومنهم من تنازل عن ذلك فأخبر أتباعه أنه جمع لهم هذا الذكر من آيات القرآن، وأحاديث الرسول وتأليفاته، وأنه مجرب وأن من فعله حصل له كذا وكذا من الخير. فقد فعله فلان فحصل له كذا وكذا، وفعله فلان فحصل له كذا وكذا. . وإليك أنماطًا من هذه الافتراءات والأكاذيب والخزعبلات لا يصدقها إلا من طمست بصائرهم: الزعم بأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلم أذكار الطريقة الشاذلية: علم جميع المسلمين بالضرورة من دين الإسلام أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد علم الناس

كيف يذكرون الله ويحمدونه ويمجدونه، وأن ذلك بوحي من الله له، ولكن الصوفية انفردوا عن جميع المسلمين فزعموا أن الرسول يأتيهم بعد موته ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتحاقه بالرفيق الأعلى ليعلمهم الطريقة الشاذلية! ! يقول صالح محمد الجعفري الذي كان إمامًا لمسجد الأزهر لمدة طويلة (هذه الدعوى بالطبع هي الباب الذي يدخل منه هؤلاء على المسلمين بالخرافات والخزعبلات التي ينسبونها إلى الرسول، ويدعون بها الغيب فما دام أنه رزق عيونًا إلهية فلماذا لا يطلع على الغيب) ، في كتابه الذي سماه (مفاتيح كنوز السماوات والأرض المخزونة التي أعطاها ـ صلى الله عليه وسلم ـ لشيخ الطريقة الإدريسية المصونة! !) . يقول: " قال سيدي أحمد ـ رضي الله عنه ـ اجتمعت بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم اجتماعًا صوريًا ومعه الخضر عليه السلام فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخضر أن يلقنني أذكار الطريقة الشاذلية فلقنني إياها بحضرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ. ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم للخضر عليه السلام: يا خضر لقنه ما كان جامعًا لسائر الأذكار والصلوات والاستغفار وأفضل ثوابًا وأكثر عددًا فقال أي شيء هو يا رسول الله؟ فقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله في كل لمحة ونفس عدد ما وسعه علم الله فقالها وقلتها بعدهما وكررها صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثًا. ثم قال، قل: اللهم إني أسألك بنور وجه الله العظيم إلى آخرة الصلاة العظيمية ثم قال له استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم غفار الذنوب ذو الجلال والإكرام إلى آخر الاستغفار الكبير فقلت بعدهما وقد كسبت أنوارًا وقوة محمدية ورزقت عيونًا إلهية (توفي سنة 1979) ! ! . ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ يا أحمد أعطيتك مفاتيح السماوات والأرض وهي الذكر المخصوص والصلاة العظيمة والاستغفار الكبير المرة الواحدة منها بقدر الدنيا والآخرة وما فيها أضعافًا مضاعفة "! ! واستطرد قائلًا: قال سيدي أحمد ـ رضي الله عنه ـ وقدس سره: ثم لقنها لي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غير

وساطة فصرت ألقن المريدين كما لقنني به ـ صلى الله عليه وسلم ـ. ومرة قال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا إله إلا الله محمد رسول الله في كل لمحة ونفس عدد ما وسعه علم الله خزنتها لك يا أحمد ما سبقك بها أحد علّمها أصحابك يسبقون بها. وكان ـ رضي الله عنه ـ يقول أملى علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأحزاب من لفظه حتى استشكل بعض أصحابه من العلماء مرة كلمة في الحزب الخامس فقال يا أخانا هكذا قال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " (مفتاح كنوز السماوات والأرض المخزونة ص8، 9) ا. هـ فهذه الحكايات التي كان يرويها صالح الجعفري بالسند المتصل حسب زعمه إلى قائلة أحمد الإدريسي فيها من الدعاوي والضلالات شيء كثير جدًا. من ذلك اجتماع لأحمد الإدريسي بالرسول والخضر ولسنا ندري ما علاقة الخضر بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليس هو من أتباع الرسول محمد ولا من هذه الأمة الإسلامية أصلًا، إنما الخضر صاحب موسى على شريعة غير شريعة موسى أيضًا، وقد مات كما مات الرسل والأنبياء ممن كانوا قبله وممن أتوا بعده، ولو كان حيًا في زمان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لاتبعه وحارب معه وشهد معه الجمع والجماعات وإلا كان مرتدًا كافرًا، بدليل قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (والله لو أن موسى حيًا لما وسعه إلا أن يتبعني) وبدليل نزول عيسى في آخر الزمان وحكمه بشريعة النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فما علاقة الخضر أن يكون حاضرًا مع الرسول وأن يأمره الرسول أن يعلم الأذكار والأوراد! ؟ (اقرأ الفصل الخاص بالخضر في عقيدة المتصوفة) ، ولماذا يلجأ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحاشاه ـ أن يعلم شيئًا جديدًا بعد إتمام رسالته ولحوقه بربه. ألا تكفي الأذكار والأوراد التي علمها في حياته؟ ألم يقل سبحانه وتعالى {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} [المائدة: 3] . فما الحاجة بعد إلى أذكار جديدة. . وأليس لو كان للرسول هذا الاتصال ببعض الناس أن يكون ذلك لبيان كيف يخرج المسلمون مما يواجهونه من محن ومصائب، ألا يأتي مثلًا الرسول ليحل بعض المعضلات التي تجابه العالم الإسلامي

ويحتار فيها العلماء ويختلفون. ثم لننظر ما هي الأوراد والأدعية التي جاء الرسول في زعمهم ليعلمها لهؤلاء، إنها كلمات ركيكة التركيب العربي، فيها جهل عظيم بالله سبحانه وتعالى، وتقول عليه سبحانه وتعالى، وفيها اعتداء في الدعاء بكل معاني الاعتداء، وفيها من أسماء الشياطين ما فيها. وإليكم نماذج من هذه الأدعية التي يزعم أصحابها أنهم اجتمعوا بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلمها لهم. هذه هي الصلاة التي يسمونها (الصلاة العظيمية) ! ! هكذا (والعظيمية! !) وهي: " اللهم إني أسألك بنور وجه الله العظيم، الذي ملأ أركان عرش الله العظيم، وقامت به عوالم الله العظيم، أن تصلي على مولانا محمد ذي القدر العظيم، وعلى آل نبي الله العظيم، بقدر عظمة ذات الله العظيم، في كل لمحة ونفس وعدد ما في علم الله العظيم، صلاة دائمة بدوام الله العظيم، تعظيمًا لحقك يا مولانا يا محمد يا ذا الحق العظيم، وسلم عليه وعلى آله مثل ذلك، واجمع بيني وبينه كما جمعت بين الروح والنفس ظاهرًا وباطنًا يقظة ومنامًا واجعله يا رب روحًا لذاتي من جميع الوجوه في الدنيا قبل الآخرة يا عظيم ". ا. هـ. . فانظر إلى ركاكة التعبير، وخطاب الله بالغيبة وهو سوء أدب مع الله فقوله اللهم إني أسألك وهذا خطاب. ثم يقول (بنور وجه الله العظيم) وهذه غيبة كأن الله غير المخاطب، والصواب والبلاغة أن تقول (بنور وجهك العظيم) لأنك تخاطب الله. ولكن الذين ألقوا هذه الأذكار المبتدعة لا يحسنون العربية والعجيب أن ينسبوها بعد ذلك إلى أفصح العرب لسانًا والذي آتاه الله جوامع الكلم. وانظر بعد ذلك تكرار اسم العظيم في غير مناسبة، ثم وصف العرش أن له أركانًا ومن أين لهم ذلك؟ ولم يرد هذا في كتاب أو سنة وإنما جاء في الحديث أن للعرش ساقًا كما جاء في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ[فأجد موسى باطشًا بساق العرش] .

ثم ما معنى أن يدعو المسلم ربه ويسأله أن يجمع بينه وبين الرسول كما جمع بين الروح والنفس! ! وأن يكون هذا ظاهرًا وباطنًا، يقظة ومنامًا، وأن يكون الرسول روحًا لذات الداعي وهذا كله من أكبر العدوان في الدعاء، وهو فتح باب الإدعاء بعلم الغيب. فما دام أن الرسول قد امتزجت روحه بالمدعو ظاهرًا وباطنًا، يقظة ومنامًا، فمعنى هذا أنه يتكلم بلسان الرسول ويعلم علم الرسول وهذا فتح لباب التقول على الله! ! ! فهل هذا الدعاء الركيك السقيم معنى ومبنى يأتي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليعلمه للناس! ! . . هذا من أذكار هذه الطريقة الشاذلية وإليك نماذج أخرى من أدعيتها وأذكارها. . " يا خالق السبع سماوات ومن الأرض مثلهن، يتنزل الأمر بينهن، أشهد أنك على كل شيء قدير، وأنك قد أحطت بكل شيء علمًا، أسألك بهذا الأمر الذي هو أصل الموجودات، وإليه المبدأ والمنتهى، وإليه غاية الغايات أن تسخر لنا هذا البحر، بحر الدنيا وما فيه، كما سخرت البحر لموسى، وسخرت النار لإبراهيم، وسخرت الجبال والحديد لداود، وسخرت الرياح والشياطين والجن لسليمان، وسخر لي كل بحر هو لك، وسخر لي كل جبل وسخر لي كل حديد، وسخر لي كل ريح، وسخر لي كل شيطان من الجن والإنس، وسخر لي نفسي، وسخر لي كل شيء، يا من بيده ملكوت كل شيء، وأيدني بالنصر المبين إنك على كل شيء قدير " ا. هـ (أبو الحسن الشاذلي لعبد الحليم محمود ص375) . وعلى الرغم من أن الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر والإمام الأكبر كما يسمونه أورد هذا الدعاء وغيره في ترجمة الشاذلي مستحسنًا له، فإن في هذا الدعاء من التعدي شيئًا عظيمًا جدًا، فإنه لا يجوز لنا أن نسأل ما جعله الله لأنبيائه من هذه المعجزات فتسخير الجن والشياطين لسليمان كان شيئًا خاصًا بسليمان فقط، ولذلك روى البخاري بإسناده إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: [جاءني عدو الله

إبليس بشهاب من نار ليضعه في وجهي ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح موثقًا بسارية المسجد يلعب به صبيان المدينة] . وأما نار إبراهيم الذي يسأل الشاذلي ربه أن يسخرها له! ! فإن الله عز وجل جعلها بردًا وسلامًا على إبراهيم في مناسبة خاصة وذلك بعد أن تعرض لما تعرض له من البلاء، ولم يسأل إبراهيم ربه أصلًا بذلك، وكذلك إلانة الحديد لداود إنما كان لأنه يأكل من عمل يده فكافأه الله بأن ألان له الحديد وعلمه صنعة الدروع فكان هذا من الله فضلًا له للمناسبة التي فيه. . أما أن يأتي رجل ليس بنبي فيسأل الله جميع معجزات الأنبياء فلا شك أن يكون قد تعدى في الدعاء وقد نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن التعدي في الدعاء والحق أننا إذا قارنا هذا التعدي الموجود في أدعية أخرى لهان الأمر فها هو الشاذلي نفسه يقول في دعائه أيضًا: " اللهم هب لي من النور الذي رأى به رسولك ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان ويكون، ليكون العبد بوصف سيده لا بوصف نفسه. غنيًا بك عن تجديدات النظر لشيء من المعلومات، ولا يلحقه عجز عما أراد من المقدورات، ومحيطًا بذات السر بجميع أنواع الذوات، ومرتبًا البدن مع النفس والقلب مع العقل، والروح مع السر والأمر مع البصيرة والعقل الأول الممد من الروح الأكبر المنفصل عن السر الأعلى " ا. هـ (أبو الحسن الشاذلي لعبد الحليم محمود ص168) . فأي تعد أكبر من هذا أن يدعو إنسان ربه ليعطيه نورًا من النور الذي رأى به النبي ما كان يكون -وهذا كذب أيضًا لأن الرسول لم يكن يعلم من الغيب ما كان وما يكون وما لم يكن منه إلا ما أعلمه الله سبحانه وتعالى إياه، ولكن هؤلاء زعموا هذا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورتبوا على ذلك أن يجعلهم الله أيضًا كالنبي يعلمون الغيب، وقوله حتى يكون العبد بوصف مولاه- يعني أن يتصف بما اتصف به النبي ويكون الوصف راجعًا في النهاية للنبي لا يعفيه هذا أنه يطلب ما كان للنبي من منزلة وعلم، وصدق الله سبحانه حيث يقول في أمثالهم {بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفًا منشرة} [المدثر: 52] .

والحق أن الشاذلي في هذا الدعاء قد طلب ما لله من علم وليس ما للرسول فقط فمولاه هنا راجعة إلى الله سبحانه فكل من هؤلاء يريد أن يكون كالله سبحانه وتعالى في علمه وتصريفه وقدرته. والحق أنه لا يتوقف التعدي في الدعاء عند الصوفية أن يطلبوا منازل الأنبياء وخصائصهم وعلومهم بل وصفات الله وخصوصياته، بل وتعدى ذلك أيضًا إلى أن يتطاولوا على الله فيعلموه كيف يصفح وكيف يرحم؛ انظر إلى هذا الدعاء للشاذلي أيضًا: " ولقد شكا إليك يعقوب فخلصته من حزنه ورددت عليه ما ذهب من بصره وجمعت بينه وبين ولده، ولقد نادى نوح من قبل فنجيته من كربه، ولقد ناداك أيوب بعد فكشفت ما به من ضره، ولقد ناداك يونس فنجيته من غمه، ولقد ناداك زكريا فوهبت له ولدًا من صلبه بعد يأس أهله وكبر سنه، ولقد علمت ما نزل بإبراهيم فأنقذته من نار عدوه، وأنجيت لوطًا وأهله من العذاب النازل بقومه. فها أنذا عبدك إن تعذبني بجميع ما علمت من عذابك فأنا حقيق به وإن ترحمن كما رحمتهم من عظيم إجرامي فأنت أولى بذلك وأحق من أكرم به فليس كرمك مخصوصًا بمن أطاعك وأقبل عليك بل هو مبذول بالسبق لمن شئت من خلقك وإن عصاك وأعرض عنك، وليس من الكرم أن لا تحسن إلا لمن أحسن إليك وأنت الرحيم العلي كيف وقد أمرتنا أن نحسن إلى من أساء إلينا فأنت أولى بذلك منا " (أبو الحسن الشاذلي لعبد الحليم محمود ص191) فعلى الرغم من أنه دعا الله سبحانه أن ينجيه كما أنجى عباده الصالحين فإنه تطاول على الله في آخر الدعاء فراح يقول لله (وليس من الكرم أن لا تحسن إلا لمن أحسن إليك) ؟ ! (بل من الكرم أن تحسن إلى من أساء إليك) وكأنه في هذا يعلم الله سبحانه كيف يتفضل وكيف يحسن وعلى هذا القول تكون عقوبة الله للمسيئين ليست جارية على سنة الله في كرمه وعفوه وصفحه وحلمه وهذا خطأ بالغ لأن الله سبحانه وتعالى لا يضع رحمته إلا فيمن يستحقها، ولا يعفو إلا عمن هو أهل للصفح والمغفرة. كما قال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء

التلقي من القبور

فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون} [الأعراف: 156] . وهذا التعدي في الدعاء هو سمة المتصوفة بوجه عام كما مر بك في دعاء البسطامي " ارفعني إلى أحديتك وأدخلني في صمديتك حتى أكون أنت أنا فإذا رآني عبادك عرفوك. . " إلى آخر هذا الهذيان والكفر. . والعجيب أن يأتي من يسطر مثل هذا الهراء وينشره على الناس داعيًا إياهم إلى هذا الطريق الصوفي طريق الظلمات. . هذه هي نماذج من الأدعية والأذكار التي زعم صالح الجعفري أنها رويت بأنها بإسناده إلى شيخه أحمد بن إدريس أن رسول الله علمها إياه وأن أحد المريدين استشكل لفظة من الحزب الخامس فقال له يا أخانا هكذا قال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ! ! التلقي من القبور وهذه قصة تبين طريقة أخرى لتلقي الأذكار، إنها مخاطبة الموتى والأخذ عنهم حتى لو كان الذكر كلامًا لا معنى له في أي لغة من اللغات المعروفة! ! ذكر أحمد بن المبارك السلجماسي المتوفي سنة 1155هـ ـ قال: " قص علينا بعض أصحابنا من أخيار أهل تلمسان، فأخبرني أنه سمع بعض من حج بيت الله الحرام يقول إنه زار قبر سيدي إبراهيم الدسوقي (نفعنا الله به) ! ! فوقف عليه الشيخ سيدي إبراهيم الدسوقي نفعنا الله به وعلمه دعاء وهذا هو: بسم الله الخالق، يلجمه بلجام قدرته. أحمى حميثًا أطمى طميثًا وكان الله قويًا عزيزًا. حم عسق حمايتنا كهيعص كفايتنا، فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " (الإبريز) . " فقال له سيدي إبراهيم: ادع بهذا الدعاء ولا تخف من شيء فقال له صاحبنا التلمساني وهو الحاج الأبر التاجر الأطهر سيدي عبد الرحمن بن إبراهيم من

أولاد إبراهيم القاطنين بتلمسان: إن أخي الحاج محمد بن إبراهيم استشكل معنى هاتين الكلمتين وهما (أحمى حميثًا وأطمى طميثًا) امتنع من هذا الدعاء وقال: لا أدري ما معناها ولعل أن يكون فيهما ما أكره، فسألني عن معنى الكلمتين. فسألت شيخنا ـ رضي الله عنه ـ عن معناهما، فقال ـ رضي الله عنه ـ بديهة لا يتكلم أحد اليوم على وجه الأرض بهاتين الكلمتين فمن أين لك بهما؟ ! . . فحكيت له الحكاية، فقال ـ رضي الله عنه ـ: نعم سيدي إبراهيم الدسوقي من أكابر الصالحين ومن أهل الفتح الكبير وهو وأمثاله الذين يتكلمون بهاتين الكلمتين. ثم قال ـ رضي الله تعالى عنه ـ: هما كلمتان باللغة السريانية: أما أحمى فمعناه يا مالك الأسرار يا مالك الأنوار يا مالك الليل والنهار يا مالك الحساب المدرار، يا مالك الشموس والأقمار، يا مالك العطا والنفع، يا مالك الخفض والرفع، يا مالك كل حي، يا مالك كل شيء، وفي هذا الاسم سر عجيب لا يطيق القلم ولا العبارة تبلغه أبدًا. . وأما قوله (أطمى) فهو بمنزلة من يصفه تعالى بالعظمة والكبرياء والقهر والغلبة والعز والانفراد في ذلك كله وكأنه يقول: يا عالم كل شيء يا قادرًا على كل شيء يا مكون كل شيء ويا مدبر كل شيء ويا قاهر كل شيء ويا من لا يتطرق إليه عجز ولا يتوهم في تصرفه نقص. . (وطميثًا) إشارة إلى الأشياء التي يتصرف فيها، وإلى الممكنات التي يفعل فيها ما يشاء ويحكم ما يريد سبحانه لا إله إلا هو. وفي هذا الاسم سر عجيب لا يطيق القلم تبليغه أبدًا والله أعلم " (الإبريز) . فانظر كيف أن إسناد هذه القصة مجهول عن مجهول عن ميت وكلمات الذكر لا معنى لها في أي لغة قديمة أو حديثة، وكلمة السريانية هي لا تعني اللغة السريانية البائدة المعروفة وإنما يفسرها الصوفية بأنها لغة الأرواح! ! ومع كل هذه الجهالة في الإسناد والحديث عن موتى يعلمون الناس الأذكار من قبورهم إلا أن كل ذلك طرق معتمدة عند الصوفية لتلقي العلم. .

ونقول (العلم) هنا تجوزًا والحق أنه تلقى هذه الضلالات من أفواه الشياطين الذين يخاطبونهم من هذه القبور ويلبسون عليهم دينهم ويصرفونهم عن الذكر الطيب الذي نطق به فم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فبدلًا من أن يذكر المسلم الله قائلًا: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، وأمثال هذه الكلمات الطيبات النافعات يقول: (سقفاطيس، سقاطيم، آمون، فاق آدم حم، هأ آمين، كد كد، كردد، ده، بها بهيا بهيا، لمقفتجل يا أرض خُذيهم) ! ! والعجيب بعد كل هذا أنهم إذا سئلوا من أين لكم بهذه الخزعبلات التي تسمونها أذكارًا يقولون كما قال أبو الحسن الشاذلي عن نفسه وقد سئل عن شيخه الذي أخذ عنه العلم فقال: " أما فيما مضى فكان سيدي عبد السلام بن مشيش. وأما الآن فأستقي من عشرة أبحر خمسة سماوية وخمسة أرضية، أما السماوية فجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل والروح وأما الأرضية فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ا. هـ (أبو الحسن الشاذلي لعبد الحليم محمود ص210) . وأما سيده عبد السلام بن مشيش هذا فهو الذي يقول في صلاته المشهورة عن الرسول: " اللهم إنه سرك الجامع الدال عليك وحجابك الأعظم القائم لك بين يديك اللهم ألحقني بنسبه وحققني بحسبه وعرفني إياه معرفة أسلم بها من موارد الجهل وأكرع بها من موارد الفضل واحملني على سبيله إلى حضرتك حملًا محفوفًا بنصرتك واقذف بي على الباطل فأدمغه وزج في بحار الأحدية وانشلني من أوحال التوحيد وأغرقني في عين بحر الوحدة حتى لا أرى ولا أسمع ولا أجد ولا أحس إلا بها واجعل الحجاب الأعظم حياة روحي وروحه سر حقيقتي وحقيقته جامع عوالمي بتحقيق الحق الأول يا أول يا آخر يا ظاهر، يا باطن اسمع ندائي بما سمعت به نداء عبدك زكريا وانصرني بك لك وأيدني بك لك

واجمع بيني وبينك " (الحزب الكبير للدسوقي) . وفي هذا الدعاء من الكفر والهذيان شيء عظيم لا يخفى على من عنده أي إلمام بشيء من علوم الدين قوله (وزج بي في بحار الأحدية وانشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة) تصريح واضح لعقيدة ابن مشيش ومن على شاكلته من أهل وحدة الوجود الذين يسمون عقيدة التوحيد أوحالًا! ! وأما قوله (واجعل الحجاب الأعظم حياة روحي) فيعني بالحجاب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي أن صورة الرسول صورة الله كما مضى بيان ذلك في كلام عبد الكريم الجيلي، والعجيب من قول الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر والإمام الأكبر " كان ابن مشيش متمسكًا بالكتاب والسنة عاملًا بها ملتزمًا لهما " (أبو الحسن الشاذلي ص21) . وقوله أيضًا عن ابن مشيش " ولتأمل القارئ في مدى انغماس (سيده) سيدنا ابن مشيش في النور وما وصل إليه من الفضل الإلهي ". بل إن الشيخ عبد الحليم محمود يدون في كتابه عن الشاذلي ما هو أدهى وأمر من ذلك وأضل فيقول: " ولقد بهر ابن مشيش أبا الحسن الشاذلي، بهره بعلمه المشيد على الكتاب والسنة وبهره بولايته وكرامته، يقول أبو الحسن، كما يروي صاحب كتاب درة الأسرار: ورأيت له خرق عادات كثيرة، فمنها أنني كنت يومًا جالسًا بين يديه، وفي حجره ابن له صغير يلاعبه، فخطر ببالي أن أسأله عن اسم الله الأعظم، قال فقام إلى الولد، ورمى بيده في طوقي وهزني وقال: (يا أبا الحسن، أنت أردت أن تسأل الشيخ عن اسم الله الأعظم ليس الشأن أن تسأل عن اسم الله الأعظم، إنما الشأن أن تكون أنت هو اسم الله الأعظم) ! ! يعني أن سر الله مودع في قلبك.

قال فتبسم الشيخ وقال لي: جاوبك فلان عني " ا. هـ. ألا تعجب بعد ذلك من شيخ أكبر جامعة إسلامية معاصرة يروي هذه الترهات ويصدقها ويكتب كتابًا في سلسلة أعلام العرب تحت رقم 72 ليحدثنا أن من أعلام العرب من كان له ابن صغير يلعب في حجره وأن هذا الغلام الصغير علم الذي في نفس ابن مشيش قبل أن يسأل أباه، وأن هذا الطفل أعلم الشيخ أن اسم الله الأعظم هو ابن مشيش! ! ! مثل هذا الكذب السمج يروي ويدون في كتب وينشر على الناس باسم الدين، وتوضع هذه النماذج الكاذبة المفتراة على الله ورسالاته لأن يكونوا هم أعلام العرب حتى تحذو الناشئة حذوهم وتسير على طريقهم؟ ! . . اللهم رحمتك بنا ومغفرتك لنا. والمهم أن نعود الآن فنذكر بما أوردناه في صدر هذا الباب وهو الزعم بأن أوراد الطريقة الشاذلية التي تلقاها ابن إدريس وأخذها عن شيخه قد تعلمها ابن إدريس هذا مشافهة من النبي حال اليقظة لا حال المنام. وقد رأينا نماذج من هذه الأوراد ونماذج الرجال الذين يزعمون أن رسول الله تنزل عليهم، وحضر إليهم ليخصهم بهذه الكرامات وبهذه الأوراد والأذكار، وحرم من ذلك أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة وجاء بعد ستة قرون من الزمان ليعلم هؤلاء أن يقول أحدهم " اللهم انشلني من أوحال التوحيد وأغرقني في بحار الوحدة ". ويقول أيضًا: " بكهيعص كفيت بحمعسق حميت فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم اللهم أمنا من كل خوف وهم وغم وكرب كد كد كردد كرده ده ده ده ده الله رب العزة كتب اسمه على كل شيء أعزه خضع كل شيء لعظمة سلطانه اللهم أخضع لي جميع من يراني من الجن والإنس والطير والوحوش والهوام "! ! " طهور بدعق محببة صورة سقفاطيس سقاطيم آحون ق أدُّمَّ حم هأ يا هو يا غوثاه يا من ليس للراجي سواه بما في اللوح من اسم خفي وبالذكر

فضائل مكذوبة للأذكار الصوفية

الحكيم وما تلاه وبالقبر الشريف وزائريه وبالقدس العلي وما حواه تقبل ربنا منا دعانا "! ! {ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين} [فصلت: 29] . {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويًا عزيزًا} [الأحزاب: 25] . بها بها بها بهيا بهيا بهيا بهيهات بهيهات بهيهات القديم الأزلي يخضع لي جميع من يراني لمقننجل يا أرض خذيهم قل كونوا حجارة أو حديدًا "! ! هذه نماذج من الأدعية التي يزعمون أنهم يتلقونها من الغيب وأن الرسول جاء ليعلمها لهم والحال أن جميعها من وضع الشياطين وتلبيس الأباليس ومن التمويه على العامة والسذج بأن هؤلاء المشايخ عندهم أسرار ويتكلمون بكلام من الغيب العجيب كل العجب أن يجعل أمثال هؤلاء الذين يصرفون الناس عن القرآن الحكيم والسنة النبوية المطهرة التي ظاهرها كباطنها أن يجعلوا أئمة للناس يقتدي بهم في هذا الدجل والشعوذة والكذب على الله ورسوله. فضائل مكذوبة للأذكار الصوفية لو كان هؤلاء الصوفية عندما يؤلفون أذكارهم الركيكة التي شاهدنا نماذج منها آنفًا لا يتقولون بذلك على الله وعلى رسوله، ولا يزعمون أنهم كتبوها من الرسول حرفًا حرفًا وكلمة كلمة لهان الخطب وقلنا إن الأمر لا يتعدى البدعة فقد اخترعوا من عند أنفسهم أدعية وأذكارًا يتعبدون الله بها وتركوا ما هو أفضل من ذلك مما علمناه إياه رسول الله وثبت عنه بنقل الصحابة الصادقين والتابعين لهم بإحسان وما دونه أئمة الهدى من المسلمين في كتبهم كالبخاري ومسلم وأصحاب السنن والمسانيد. ولكن هؤلاء المتصوفة المتقولين على الله لم ينسبوا هذه الأذكار والأدعية إلى أنفسهم وإنما نسبوها إلى الله وإلى الرسول وزعموا أنه جاء بها إليهم الوحي والإلهام أو أملاها الرسول عليهم حال يقظتهم لا حال نومهم. وليتهم إذا فعلوا ذلك أيضًا جعلوا لأذكارهم هذه من الفضل ما كان يذكره

الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حياته للأذكار من الفضل فقالوا مثلًا من قال هذا الذكر كان كمن أعتق عشرة رقاب أو كان كمن أهدى بدنه أو لم يأت يوم القيامة رجل بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل مثله أو زاد، أو بنى الله له بيتًا في الجنة على نحو ما كان يتكلم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مبينًا فضائل الأذكار التي يعلمها لأصحابه، ولكن هؤلاء جعلوا لأذكارهم المفتراة المكذوبة من الفضل والأجر شيئًا لا يبلغه الحد والوصف، وبالغ كل منهم في بيان فضل الذكر الذي يزعم أن رسول الله اختصه وجماعته به مبالغة عظيمة فهذا مثلًا أحمد التجاني رأس الطريقة التجانية يزعم أن (ذكره) الذي يسميه صلاة الفاتح: القراءة الواحدة له تعدل قراءة القرآن ستة آلاف مرة! ! قال مؤلف جواهر المعاني على حرازم في الجزء الأول صفحة (94) " وأما فضل صلاة الفاتح لما أغلق الخ، فقد سمعت شيخنا يقول: كنت مشتغلًا بذكر صلاة الفاتح لما أغلق حين رجعت من الحج إلى تلمسان لما رأيت من فضلها وهو أن المرة الواحدة بستمائة ألف صلاة كما هو في وردة الجيوب وقد ذكر صاحب الوردة أن صاحبها سيدي محمد البكري الصديقي نزيل مصر وكان قطبًا، قال إن من ذكرها ولم يدخل الجنة فليقبض صاحبها عند الله، وبقيت أذكرها إلى أن رحلت من تلمسان إلى أبي سمعون فلما رأيت الصلاة التي فيها المرة بسبعين ألف ختمة من دلائل الخيرات تركت الفاتح لما أغلق واشتغلت بها وهي (اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله صلاة تعدل جميع صلوات أهل محبتك وسلم على سيدنا محمد وعلى آله سلامًا يعدل سلامهم) لما رأيت فيها من كثر الفضل ثم أمرني بالرجوع ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى صلاة الفاتح لما أغلق فلما أمرني بالرجوع إليها سألته ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن فضلها فأخبرني أولًا بأن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات، ثم أخبرني ثانيًا أن المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيحة وقع في الكون ومن كل ذكر ومن كل دعاء كبير أو صغير ومن القرآن ستة آلاف مرة لأنه من الأذكار " انتهى بلفظه (جواهر المعاني ص94) . .

فانظر إلى هؤلاء الكاذبين كيف يدعي أحدهم أن كلامًا ركيكًا كصلاة الفاتح التي هي مجرد سطر ونصف سطر أو نحو خمس عشرة كلمة فقط يعدل أجر قراءتها أجر قراءة القرآن ستة آلاف مرة! ! وهذا كذب سخيف لا يحتاج إلى تعليق وبيان وهذه الصلاة ذات الفضل المزعوم هي: " اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق والخاتم لم سبق ناصر الحق بالحق والداعي إلى صراطك المستقيم "! ! والعجيب أن هذا الكلام الركيك كله جهالة، فما هو الذي أغلق وفتحه الرسول شيء غير مذكور في هذا الذكر، وما الحق الذي نصره الرسول وبأي حق نصره أيضًا مجهول وما هو الذي سبق وختمه النبي. . فهو كلام ليس فيه لذاته معنى مفيد، وإنما قد يفسر بنحو صحيح بكلام آخر، وقد يفسر أيضًا على نحو فاسد كما يفسره التجانيون أنفسهم بمعان فاسدة فمثلًا قد يقول قائل إن معنى قولهم (الخاتم لما سبق) أي خاتم النبوة وهذا معنى صحيح وهو غير موجود في هذه الصلاة التي يسمونها صلاة الفاتح. لكن التجانيين أنفسهم يخالفون ذلك ويرون أن النبوة لم تنته بدليل قولهم إن صلاة الفاتح هذه نزلت عليهم من السماء في ورقة مكتوبة بقلم القدرة! ! ولذلك قالوا هي من كلام الله تعالى وليست من تأليف مخلوق (انظر الهدية العادية إلى الطريقة التجانية ص105) ! ! فمعنى هذا أن قولهم (والخاتم لما سبق) ليس مقصودًا به النبوة والوحي لأن صلاة الفاتح المزعومة نفسها وحي أكمل القرآن بل على قولهم هذا أكمل نزولًا من القرآن لأنها نزلت مكتوبة من السماء والقرآن نزل مشافهة وسماعًا، ومعلوم أن المكتوب أعظم من المسموع في الإثبات بدليل امتنان الله على موسى بإنزال التوراة مكتوبة كما قال تعالى {وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة. .} [الأعراف: 145] . الآية. وهم يزعمون هنا أن صلاة الفاتح نزلت من السماء مكتوبة ولذا جاز عندهم تفضيل قراءتها على القرآن وإن أجر قراءة القرآن كله ستة آلاف مرة فأي كذب على الله أكبر من هذا. ونحن نقول لهؤلاء الكاذبين أكان يجوز لرسول

الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي يزعمون أنه هو الذي خص أحمد التجاني وجماعته بهذه الفضيلة وقال له (خبأتها لك يا أحمد) ! ! أكان يجوز له أن يخفي شيئًا مثل هذا عن الصحابة رضوان الله عليهم وهم أصحابه القائمون بأمره الحارسون لدينه الباذلون أنفسهم وأموالهم في سبيل نصرته. . ليعطي مثل هذه الفضيلة إلى أحمد التجاني وأعوانه الذين كانوا وما زالوا أعظم أعوان الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا بل في كل القارة الأفريقية وهم الذين مهدوا السبيل أمام الجيوش الفرنسية في معظم أنحاء القارة. أكان يجوز للرسول إخفاء صلاة الفاتح التي يزعمون أنها أعظم من القرآن بستة آلاف مرة لإعطائها مجموعة من خدم الاستعمار والكفار! ! والحال أن الله قد قال لرسوله {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67] . أم أنكم كذبتم على الله ورسوله وجاريتم في كذبكم هذا من قال إن قراءة دلائل الخيرات أفضل من قراءة القرآن سبعة آلاف مرة! ! فانظر المجاراة والتنافس في الكذب على الله ورسوله. ولم يكتف صاحب الفاتح بذكر ما ذكره من الفضل لصلاته المزعومة بل انظروا ما يقوله أيضًا في فضله: قال صاحب الجواهر في صفحة 96 من الجزء الأول في سياق فضل صلاة الفاتح " إنها لم تكن من تأليف البكري ولكنه توجه إلى الله مدة طويلة أن يمنحه صلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها ثواب جميع الصلوات وسر جميع الصلوات وطال طلبه مدة ثم أجاب الله دعوته فأتاه الملك بهذه الصلاة مكتوبة في صحيفة من النور ثم قال الشيخ: فلما تأملت هذه الصلاة وجدتها لا تزنها عبادة جميع الجن والإنس والملائكة. قال الشيخ وقد أخبرني ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ثواب الاسم الأعظم فقلت: إنها أكثر منه فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل هو أعظم منها ولا تقوم له عبادة " ا. هـ. فانظر كيف جعل هذه الصلاة المزعومة أفضل من عبادة جميع الإنس والجن والملائكة! ! وليست هذه الفرية هي وحدها ما عند أصحاب الطريقة التجانية بل

عندهم من الدواهي والأكاذيب ما يندى له الجبين فعندهم صلاة أخرى يسمونها جوهرة الكمال ونصها: " اللهم صل وسلم على عين الرحمة الرانية والياقوتية المتحققة الحائطة بمركز الفهوم والمعاني ونور الأكوان المتكونة الآدمي صاحب الحق الرباني البرق الأسطع بمزون الأرياح المالئة لكل متعرض من البحور والأواني ونورك اللامع الذي ملأت به كونك الحائط بأمكنة المكاني اللهم صل وسلم على عين الحق التي تتجلى منها عروش الحقائق عين المعارف الأقوم صراطك التام الأسقم اللهم صل وسلم على طلعة الحق بالحق الكنز الأعظم إفاضتك منه إليك إحاطة النور المطلسم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى آله صلاة تعرفنا بها إياه " (الرماح ص224 ج1) . وقد قال الدكتور الشيخ تقي الدين الهلال حفظه الله تعقيبًا على هذه الصلاة: " إن هذه الصلاة التي زعم التجانيون أن شيخهم أخذها عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذكروا لها ما تقدم من الفضل يستحيل أن تكون من كلام العرب الفصحاء وهي بعيدة منه بعد السماء من الأرض، وكل من يعرف لسان العرب معرفة حقيقية لا يكاد يصدق أن ذلك الكلام الركيك يقوله أحد من العرب وفيهما كلمتان إحداهما سب لا يجوز أن يطلق على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا يتناسب مع ما قبله وهي كلمة (الأسقم) فإن الصراط لا يوصف بالسقم إذ لا يقال صراط مريض وهذا الصراط أمرض من ذلك وإنما يقال صراطك المستقيم أو قويم وهذا الصراط أقوم من ذلك ". وقد رد العلماء على التجانيين وعابوا عليهم هذه الكلمة القبيحة فقال الشيخ الكميل الشنقيطي في أرجوزته التي انتقد بها الطريقة التجانية: ولم يجز إطلاق لفظ موهم ** نقصًا على النبي مثل الأسقم كذا مطلسم وما يدريكا ** لعله كفر عني الشريكا

ولم يتفطن أولئك العلماء إلى سبب هذا الخطأ ولو تفطنوا له لانحل الإشكال كله فسببه أن مؤلف هذه الصلاة مغربي وأهل المغرب في لغتهم العامية يقولون (سر مسقم) يريدون امش مستقيمًا ويقولون كذلك (سر اسقم) بعضه ينطق به قافا وبعضهم ينطق به كافا، ولما كان منشئ هذه الصلاة غير عالم بالعربية وقد ذكر الأقوم من قبله في قوله عين المعارف الأقوم وقال بعدها صراط التام، أراد أن يصف الصراط بالاستقامة مع المحافظة على السجع لمقابلة الأقوم واستثقل أن يكرر الأقوم عبر بالأسقم ظنًا منه أنهما في المعنى سواء كما يفهمه عامة المغاربة، وقد علمت من مصاحبتي للشيخ أحمد سكيرج وهو من كبار المقدمين في الطريقة التجانية وكنت في ذلك الوقت تجانيًا لا يخفى عني سرًا، أن هذه الصلاة وجدت في أول أمرها عند شخص يسمى محمد بن العربي النازي ويسميه التجانيون الواسطة المعظم لأنه بزعمهم وساطة بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين الشيخ أحمد التجاني يحمل الرسائل من الشيخ إلى النبي ومن النبي إلى الشيخ وفي ذلك الوقت أي في وقت الوساطة لم يكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يظهر للشيخ التجاني وإنما كان يظهر لمحمد بن العربي وزعموا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال للواسطة محمد بن العربي لولا محبتك لحبيبي التجاني ما رأيتني وكان الواسطة يخبر الشيخ التجاني بأنه إذا جاء الوقت الموعود يظهر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له بلا واسطة يحدثه ويكلمه وسنذكر شيئًا من الرسائل التي أملاها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على محمد بن العربي وأمره بكتابتها ليحملها إلى الشيخ التجاني يقرأها عليه وحينئذ لا يبقى عندك شك في جهل هذا الرجل بالعربية وأنه سبب ركاكة هذه الصلاة التي هي من إنشائه " ا. هـ (الهدية الهادية إلى الطريقة التجانية ص110، 111) . والعجيب أنه من ركاكة هذا الدعاء وهذه الصلاة المزعومة ونسبتها إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنهم زعموا لها أيضًا من الفضل ما فاق الكذب إلى الوقاحة فقد زعموا كما جاء في كتاب الرماح ص89 أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر لأحمد

التجاني أن قراءة المرة الواحدة من (جوهرة الكمال) تعدل تسبيح العالم ثلاث مرات ومن قرأها سبع مرات فأكثر بحضرة رسول الله والخلفاء الأربعة ما دام يذكرها، ومن لازمها أكثر من سبع مرات كل يوم أحبه النبي محبة خاصة ولا يموت حتى يكون وليًا! ! فانظر أي تقول على الله هذا. بل قال التجاني أيضًا: " أعطاني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلاة تسمى جوهرة الكمال كل من ذكرها اثنتي عشرة مرة فكأنما زاره في قبره يعني في روضته الشريفة! ! وكأنما زار أولياء الله الصالحين من أول الوجود إلى وقته ذلك. وقال لي رسول الله هذه هدية مني إليك "! ! ! ا. هـ (الهدية الهادية إلى الطريقة التجانية ص110) .

الفصل الثاني: الشطح الصوفي

الفصل الثاني: الشطح الصوفي

الفصل الثاني: الشطح الصوفي فسر أبو نصر السراج الطوسي الشطح الصوفي بأنه (عبارة مستغرقة في وصف وجد فاض بقوته، وهاج بشدة غليانه وغلبته) (اللمع ص453) ، وقد لجأ المتصوفة إلى هذا التعريف لتبرير الكفر والزندقة الذي فاضت به كتب القوم وتواتر عنهم معتذرين أن ما قالوه قد قالوه في حالة سكر بما تجلى لهم من حقائق وبما عاينوا من علوم وزعموا أنها أسكرتهم وأطارت صوابهم، وجعلتهم يتكلمون بمثل هذه العبارات وهذا التبرير السمج الذي لجأ إليه الصوفية لا يغير من الحقائق شيئًا وهو أن ما قالوه كفر واضح ظاهر وافتراء على الشريعة. وقبل أن نبدأ في تفنيد مزاعمهم نستعرض طائفة يسيرة من عباراتهم التي اعتذروا عنها بأنها من الشطح وأن قائليها معذورون فيما قالوه لأنهم بزعمهم كانوا سكارى غائبين عن وعيهم عند ذكرهم لهذه العبارات. فقد تواتر ونقل الناس عن أبي يزيد البسطامي أنه قال " رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك! ! فقلت: زيني بوحدانيتك وألبسني أنانيتك وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك، فتكون أنت ذاك، ولا أكون أنا هنا " (اللمع ص461) ا. هـ. . وذكر عنه كذلك أنه قال " أول ما صرت إلى وحدانيته فصرت طيرًا جسمه من الأحدية، وجناحاه من الديمومة فلم أزل أطير إلى أن صرت في ميدان الأزلية، فرأيت فيها شجرة الأحدية " (اللمع الطوسي ص461) ، ونقل عنه أيضًا أنه قال: " سبحاني سبحاني " وقال أيضًا " ضربت خيمتي بإزاء العرش " (اللمع ص464) ، ومر يومًا بمقبرة للمسلمين فقال " مغرورون " و. . لليهود فقال " معذورون "! ! (اللمع ص463) .

وأما الشبلي فهو أحد مقدميهم وقادتهم واسمه دلف بن جحدر فقد قيل له يومًا: يا أبا بكر أخبرنا عن التوحيد فقال: للسائل: " ويحك! من أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو ملحد، ومن أشار إليه فهو ثنوي، ومن سكت عنه فهو جاهل، ومن هم أنه واصل فليس له حاصل، ومن أومأ إليه فهو عابد وثن، ومن نطق فيه فهو غافل ومن ظن أنه قريب فهو بعيد ومن تواجد فهو فاقد، وكلما ميزتموه بأوهامكم وأدركتموه بعقولكم في أتم معانيكم فهو مصروف مردود إليكم محدث مصنوع مثلكم " ا. هـ. . وعندما سئل الشبلي عن أبي يزيد البسطامي وعرض عليه بعض ما قاله البسطامي مما نقلناه آنفًا قال الشبلي: " لو كان أبو يزيد ها هنا لأسلم على يد بعض صبياننا وقال: لو أن أحدًا يفهم ما أقول لشددت الزنانير " (اللمع ص50) . وكان هذا الشبلي أيضًا يقول: " لو خطر ببالي أن الجحيم نيرانها وسعيرها تحرق مني شعرة كنت مشركًا " (اللمع ص479 ومعنى شددت الزنانير جمع زنار وهو ما كان يضعه أهل الذمة على وسطهم تميزًا لهم عن المسلمين) . وذكر عنه أيضًا أنه سمع قارئًا يقرأ هذه الآية {اخسأوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 103] . فقال الشبلي ليتني كنت واحدًا منهم (اللمع ص490) . وذكر عنه كذلك أنه قال: " إن لله عبادًا لو بزقوا على جهنم لأطفأوها " (اللمع ص490) وثبت عن أبي الحسين النوري أنه قال (أنا أعشق الله وهو يعشقني "! ! (اللمع ص491) . وشهدوا عليه أيضًا أنه سمع المؤذن فقال: طعنه وشم الموت! ! وسمع نباح كلب فقال: " لبيك وسعديك "! ! (اللمع ص492) ، وكذلك كان أبو حمزة الصوفي إذا سمع صوت هبوب الريح وخرير الماء، وصياح الطيور يصيح ويقول: لبيك! ! .

ودخل دار الحارث المحاسبي فسمع شاه مرغيًا: فقال: " لبيك يا سيدي "! ! . هذه عبارات قليلة جدًا مما نقل عن هؤلاء وتواتر عنهم، ومهما حاول المرء أن يعتذر عن أصحابها بأي وجه من الوجوه فإنه لا يجد مفرًا من الحكم بكفر معتقديها وقائليها. . فأما قولهم إن هذا شطح، وغلبة حال وغلبة سكر، ونحو هذا من الأقوال فالرد عليها ما يأتي: 1 ـ لا نسلم أن قائلي هذه العبارات قد قالوها كما زعموا وهم في حالة هذيان وغيبة عقل، وذلك أن هذه العبارات لها لمعان محدودة، وهي نسيج مؤلف مركب قصد بها صاحبها أن يدل على عقيدة عنده، ولم يقلها كلامًا غير منضبط ككلام السكران والغائب عن الوعي. 2 ـ إن هذه العبارات قد تلقاها تلاميذ التصوف بالقبول واعتقدوا ما فيها بل وشرحوا العقيدة التي تشير هذه العبارات إليها في كتب كاملة. . والعقيدة هذه هي أن الأديان جميعًا دين واحد، وأن الخلق جميعًا هم عين الخالق وأنه لا موجود إلا الله! ! وأن هذا الخنزير الذي كان يمر به أحدهم فيقول له عم صباحًا! ! هم مظهر من مظاهر الخالق ـ تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا ـ ونستغفر الله من كتابة أقوالهم وإعادتها وكذلك هذه الشاة التي ترغي فيقول لها أحدهم لبيك يا سيدي، ما قال ذلك في غلبة السكر، وفي رؤيته للنار أو النعيم، ولا لتذكره لآية من كتاب الله وإنما قال ذلك لأنه سمع ثغاء شاة، أو نباح كلب، ومثل هذه الأصوات لا تخلق في المسلم (حالة) ولا تجعل عنده وجدًا يحمله على الغياب عن الوعي حتى يقول مجيبًا له " لبيك يا سيدي "! ! وكذلك نقول أيضًا ما الذي يبعثه نداء المؤذن في قلب الصوفي حتى يرد عليه قائلًا. . ضربه وشم الموت! ! ، هل سماع المؤذن يؤدي إلى حالة وجد وغياب عن الوعي حتى يقول سامع المؤذن: ضربك أيها المؤذن وشم الموت! ! وأنا أقول نعم هي حالة حقيقية للزنديق عند سماع المؤذن لأنه لا يريد لصوت الداعي إلى الله أن يعلو. . لأنه يكفر بالإسلام والصلاة ويريد لأصوات الكلاب والخنازير أن يقبلها المسلم بقولهم (لبيك يا سيدي "! ! . . إقرأ في

كتاب اللمع للطوسي قوله " وأخذوا عليه (يعني أبا الحسن النووي) أنه سمع أذان المؤذن فقال: طعنه وشم الموت، وسمع نباح الكلب فقال: لبيك وسعديك ". ومثله تمامًا ما نقلناه آنفًا عن أبي يزيد أنه اجتاز بمقبرة لليهود: فقال: معذورون. وبمقبرة للمسلمين فقال: مغرورون! ! فأي غلبة حال وسكر، وهذيان غلبت على هؤلاء حتى قالوا ما قالوا. . وأليست هذه عقيدة زنديقية واحدة. . ثم ما هذا (المربي) ـ زعموا ـ الذي رأى مريده يقتل قملة فقال له: قاتلك الله شفيت غيظك بقتل قملة! ! وهذا الشيخ نفسه يمر على الخنزير فيقول له: عم صباحًا! ! وكان يبدأ الكلاب والخنازير بالسلام. . المهم أن هذه العبارات التي يسمونها شطحًا لم تكن شطحًا كما زعموا وقد قالها قائلوها في حالة صحو وليس في حالة سكر، وإنها تنبئ عن عقيدة وليست كلامًا فارغًا من المعنى وهذيانًا كما زعموا. 3 ـ ثم إننا نسأل إذا كان مثل هذه العبارات يسميها الصوفية شطحًا وهذيانًا، فلماذا يعمدون إلى تأويلها وتفسيرها، وإخراج درر معانيها، بل وجعلها من مناقب قائليها ووصولهم إلى الحقيقة؟ ! فقد فسروا كلام من أجاب الشاة بقوله: لبيك يا سيدي بأنه علم أن كل شيء يسبح بحمد الله، وأن ثغاء الشاة تسبيح ولذلك أجابها. . فإذا كان كلامهم هذا شطحًا فلماذا فسروه وأخرجوا معانيه الغالية! ! ودرره الثمينة. . وتقول لهم جعل الشاة في موضوع السيادة ليس تعظيمًا للخالق! ! والسلام ليس موضوعًا ليلقي على الخنازير والكلاب بل ولا على غير المسلم أيضًا لأن السلام تحية خاصة بالمسلمين فقط فإلقاؤها على الكلاب والخنازير مروق من الدين، وخروج عن حقيقة الشريعة المطهرة وظاهرها. وأما تفسيرهم لقول النوري الذي دعا على المؤذن بالموت عندما سمع نداءه، بأنه خشي أن يكون هذا المؤذن مرائيًا أو يأخذ أجرًا على أذانه كما زعموا فليس هذا طريق الإنكار على المؤذن وإنما النوري أنكر على الأذان وليس على المؤذن. وكان يجب لو كان يؤمن بالإسلام حقًا، وبالأذان صدقًا أن يقول كما يقول وأن يصلي بعد ذلك على الرسول ويطلب له الوسيلة

والفضيلة ثم يسارع إلى المسجد ويشهد الصلاة مع المسلمين ثم ينكر على المؤذن أخذه للأجرة لو شاء. . ولكن هؤلاء كما أسلفنا ينشرون عقيدة معلومة لديهم تلقوها عن الزنادقة والملاحدة، وهذا الذي يسمونه شطحًا ما هو إلا تأسيس لهذه العقيدة. 4 ـ والأمر الرابع نسألهم: هذا السكران بحب الله كما زعمتم. . وبرؤية الجلال الإلهي أو الجمال ـ كما تزعمون ـ هل يجلس ليؤلف كتبًا كاملة في هذا الهذيان والسكر وغلبة الحال كما تقولون. . أو يكفيه عبارة أو عبارتان، جملة أو جملتان. . أعني لو كانوا صادقين أن هذا الكلام الخارج عن موازين الشريعة هذيان وشطح حقًا لكان شيئًا قليلًا ولكن الحاصل والموجود أن هناك عشرات بل مئات بل آلاف الكتب قد شحنت بهذا الكفر والزندقة فكتاب يزعم صاحبه أنه تلقاه من الغيب بالوحي الإلهي ولا يترك كفرًا إلا ويضعه فيه كالحكم ببراءة قوم نوح من الشرك، وجهل نوح لأنه دعاهم إلى التوحد، والحكم بإيمان فرعون، وجهل هارون لأنه نهى قومه عن عبادة العجل، والعجل هذا في زعم مؤلف كتاب (الفصوص) هو مظهر من مظاهر الله تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وكذلك تبرئة إبليس والحكم بنجاته، بل والحكم بأن أهل النار منعمون فهم في عذوبة لا عذاب وأنه وأنه. . بعضهم يسمي كل هذا شطحًا. وآخر وهو عبد الكريم الجيلي يكتب كتابًا يقع في أكثر من مائتي صفحة من القطع المتوسط يسميه (الإنسان الكامل) لا يترك كفرًا في الأرض إلا ويجعله فيه؛ من ذلك أنه يصف رحلة مزعومة له من الأرض إلى السماء الدنيا، حيث يصف ما فيها وأنه قابل فيها فلانًا وفلانًا من الأنبياء وناقشهم واستفاد منهم، ثم السماء الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة والسادسة والسابعة وإلى الكرسي والعرش والحجب السبعين! ! ويصف ما رآه هناك ثم يعود ليهبط إلى الأرض الأولى فالثانية فالثالثة، فالرابعة وحتى السابعة ويقابل فيها أولياء وروحانيين وفلاسفة وحكماء و. . ويدعي أن من لم يصدق هذا فهو كافر! ! ويأتي كاتب صوفي آخر ينسج على منوال هؤلاء فيكتب كتابًا يسميه (مشارق شموس الأنوار ومقارب حسها في معنى عيون

العلوم والأسرار) والكاتب هذا هو إسماعيل بن عبد الله السوداني ألف كتابه سنة 1262هـ ـ فيصف كذلك مشاهداته الحسية ـ في زعمه ـ للسماوات السبع العلى، وللأرضين السبع ويجد القارئ فصولًا من هذيانه وتخليطه في باب (المعراج الصوفي) من هذا الكتاب. . وغير هذا. . وهذا شيء يصعب إحصاؤه واستقصاؤه وإن جئت تناقش بعض المدافعين عن هذا الهذيان يقولون لك تارة هذا شطح، وتارة هذه كرامة، وتارة هذا فتح، وهذا تناقض منهم وسنناقش دعوى الفتح والكرامة في موطن آخر من الكتاب والمهم هنا أن نرد على دعواهم أن مثل هذا من الشطح، فيقول كيف يكتب كاتب كتابًا يقسم أبوابه ويضعفصوله ويقول للناس هذا من عند الله وتدعون أنتم أنه شطح وهذيان وأن قائله معذور لأنه قاله في غلبة حال وضياع عقل! ! أليس قولكم هذا تلبيسًا على الناس، واستهزاء بعقولهم! ! الشطح لا يكون كتبًا كاملة مؤلفة منسقة منفصلة! ! وإنما هذه عقيدة ودين باطني يريد أربابه به صرف المسلمين عن عقيدة الكتاب والسنة إلى الكفر والإلحاد والزندقة. 5 ـ ثم نقول لهؤلاء إثباتكم أن الصوفية يشطحون ويقولون ما لا يريدونه ولا يقصدونه في أقل أحواله إثبات لأحوال غريبة وبدعة منكرة ما كان عليها أحد من سلف الأمة الصادقين كالصحابة والأئمة فهل سمعتم أن أبا بكر وعمر والخلفاء والصحابة شطحوا! ! وهل وجد في التابعين لهم بإحسان من عرف عنه شيء من ذلك، وهل كان الأئمة الأربعة من أهل الشطح أليس الشطح الصوفي دليلًا على الابتداع والخروج عن الدين القويم. .؟ أليس الإمام الشافعي قد قال وقد صدق والله فيما قال: " لا أرى شخصًا يتصوف في أول النهار، إلا وأصبح أحمق في آخره! ! " أليست هذه كلمات من نور الإمام الشافعي الذي رأى بعينه بدايات التصوف وأخبر أن يومًا واحدًا في التصوف يكفي لجعل الشخص أحمق. فأنتم باعترافكم أن هذا شطح إنما تسجلون على أنفسكم الحماقة والبدعة والخروج عن نهج السلف الصالح رضوان الله عليهم ورضي الله عن الشافعي الذي يقول أيضًا " ما لزم أحد الصوفية أربعين يومًا

فعاد عقله إليه أبدًا " (تلبيس إبليس) . 6 ـ ولكن بعض الصوفية وقد أحرجوا في حكاية الشطح هذه أرادوا أن يستخرجوا دليلًا من الكتاب والسنة على شطحهم وأن أحوالهم هذه وهذيانهم مؤيد أيضًا بالكتاب والسنة فقال: لقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ[والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا] فدل هذا على جواز الشطح وأن الرسول فعله أو مثله. . ونحن نقول: نسبة النبي إلى الشطح كفر وزندقة. . فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاين ما عاين من أمر الله وكان في كل ذلك هو الإنسان الكامل والرسول الصادق والعبد الكامل ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يكن له حال أو مقال يخالف عقيدته التي نشرها وبينها والتي جاء بها كتاب الله وسنة رسوله. ومن قال إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خالف بعض كلامه بعضًا لحال أو مشاهدة فقد كفر وافترى وكذب على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وأما استدلالكم بالحديث على أن من رأى ما رآه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنقول: من هذا الذي رأى ما رآه الرسول في الغيب: الحلاج والبسطامي، والشبلي، والنوري وأشكالهم سبحان الله أجاء هؤلاء ليطلعوا على ما لم يطلع عليه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والمبشرون بالجنة. أكان الحلاج يزعق بالشوارع، والشبلي يصرخ بالمجالس لأن الله أطلعه على الجنة والنار! ! ألا تستحون من إيراد مثل هذه السخافات! ! . . ونتنزل معكم درجة: هبو صدقناكم أن هؤلاء اطلعوا على الجنة والنار وشاهدوها رأي العين ألم يكن الواجب أن يحصل فيهم ما أخبر به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيبكون كثيرًا ويضحكون قليلًا وهذا ما قاله الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ. (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا) . ما قال لشطحتم ونصحتم وافتريتم وكذبتم وقلتم " سبحاني " وما في الجبة إلا الله، ويا خنزير عم صباحًا، ويا كلب عم مساءً. وفي ختام هذا الفصل نقول من سمع آيات الله وكان من أهل الإيمان والتقوى خشع قلبه وقد تدمع عينه، ويقشعر جلده، ثم يلين لذكر الله كما قاله سبحانه وتعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا مثاني تقشعر منه جلود

الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد} [الزمر: 23] . وقال أيضًا سبحانه وتعالى في وصف حال الأنبياء والرسل والمؤمنين عند سماع آيات الله بعد أن قص في سورة مريم أخبار طائفة من رسله وأنبيائه وأوليائه وهم زكريا ويحيى وعيسى ومريم وإبراهيم وموسى وهارون، وإسحاق ويعقوب، وإسماعيل وإدريس. .: {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدوا وبكيًا} [مريم: 58] . فليس عندهم عند سماع الآيات إلا السجود والبكي، وليس الشطح فهل هؤلاء الصوفية حقًا متأسون بالأنبياء والأولياء الصالحين أو أنهم صارخون مستصرخون من وخز الشياطين ولترويج عقائد الملحدين؟ ! 7 ـ لقد شاهدت بنفسي كيف يصرع هؤلاء عند الذي يسمونه حالًا، والله لا أشك لحظة واحدة أنه وخز شيطان أو تصنع منافق خبيث، فقد كان أحدهم يقوم ويقعد ويصرخ ويزبد ويأخذ (بطاقيته) وقلنسوته وغترته أو عمامته فيلقيها على الأرض ويسارقنا النظر ونحن ننظر إليه راثين لأحوال هؤلاء الحمقى الذين يستفزهم الشيطان ويحركهم ويتلاعب بهم، وقد كان هؤلاء المطيرون الضاحكون يفعلون ذلك عندما كان يقال كلام كله كفر وشرك وغلو في شخص الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسمونه مدحًا وهو في الحقيقة ذم للرسول، وسب له. فاعلم أخي المسلم أن هذا الشطح الذي يأتي مما يسمونه بالحال ما هو إلا وخز شيطاني وتحريك إبليسي، هذا عند الصادقين منهم، وأما الكاذبون فإنهم يفتعلون ما يفعلون لإيهام العامة والسذج بأنهم من أهل الأحوال ومن المشاهدين لما يسمونه بحضرة الجلال أو الجمال! ! وذلك كله من الرياء والنفاق وسوء الأخلاق. ومخالفته هدي سلفنا الصالح والخروج على مناهج الأنبياء. فنسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين السلامة والعافية مما ابتلي به هؤلاء.

الفصل الثالث: قواعد التربية في المنهج الصوفي

الفصل الثالث: قواعد التربية في المنهج الصوفي وضع المتصوفة لهم قواعد خاصة للتربية حسب منهجهم الصوفي فحددوا أهدافًا خاصة للتربية ووضعوا شروطًا في المريد (وهو اسم أطلقوه على الطالب أو المبتدئ) وشروطًا خاصة بشيخ الطريق، ومنازل يسير فيها السالك في دربهم. وقد بدأ وضع ملامح هذا المنهج منذ بدأ الفكر الصوفي في الظهور في أواخر القرن الثاني الهجري، وبلغ هذا المنهج الغاية تقريبًا مع نهاية القرن الرابع الهجري حيث أسست الخانات والأماكن الخاصة التي يتجمع فيها الصوفية وكانوا يسمون بالفقراء أولًا. وكانت لهم في هذا الوقت مشاعر خاصة، كالسماع والذكر الخاص، ورسوم وإشارات وملابس خاصة، ولم يكن لهؤلاء الفقراء أو المتصوفة في القرن الثالث وأوائل القرن الرابع شيخ خاص بكل فريق وإنما كانوا يتربون على ما يسمعونه ويتناقلونه من كلام مشايخهم بوجه عام. ولكن منذ أواسط القرن الرابع بدأ التربي على الشيخ الخاص وأن يكون لكل جماعة شيخ معلوم لا يتجاوزونه إلى غيره ثم يرثه بعد ذلك شيخ على منهجه وطريقته. وهكذا ومنذ ذلك الوقت عرف ما يسمى بالطريقة الخاصة. ثم تدرج الأمر وتحولت وراثة الطريق إلى وراثة النسب فكان الأبناء يرثون آباءهم في الطريق وأحيانًا ما كانت الزوجات هن اللائي يرثن الأزواج وهن اللائي يسلكن المريدين ويعطين العهود. . باختصار تحولت الطريقة الصوفية في أواخر عهودها وخاصة بعد القرن العاشر الهجري إلى طرق وراثية، وإمارات خاصة وإقطاعيات دينية يرث فيها الأبناء جمهور الطريق والرعية التي كانت لآبائهم من قبل. وعلى مر هذه العصور وضع المتصوفة لهم آدابًا خاصة في التربية وشروطًا خاصة في المريد وها نحن نذكر لك بالتفصيل هذه الآداب والقواعد التي دونها

أولا ـ اتخاذ الشيخ

علماء التصوف في كتبهم لينشأ لهم في النهاية الجيل الصوفي الذي يريدون. أولًا ـ اتخاذ الشيخ أول ما يجب على مريد الطريق الصوفي أن يتخذ شيخًا له ليدله على الطريق. يقول عبد الكريم القشيري " ثم يجب على المريد أن يتأدب بشيخ فإن لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان " (القشيرية ص181) ، وهذا النص قد كتبه سنة 387هـ ـ وهو يدلك على أن قضية وجوب اتخاذ الشيخ قضية قديمة، واتخاذ الشيخ قد تفسر بأن لها سندًا من الكتاب والسنة في أن الرسول علم أصحابه والأصحاب علموا التابعين وهكذا، ولكن هذا استدلال من لا يعلم ماذا يعني الشيخ في الطريق الصوفي! إن الشيخ يعني شيئًا آخر تمامًا كما ستأتي مواصفات الشيخ والشروط والآداب التي يجب مراعاتها معه. والمهم هنا أن نعلم أن كون من لم يتخذ شيخًا لا يفلح أبدًا ليس بصحيح فمن الممكن أن يهتدي المسلم بسماعه للقرآن وقراءته للحديث من شيخ أو طالب علم، أو كتاب ولا يشترط في الهداية الالتزام بشيخ معين بل لو سمع المسلم من عشرات الشيوخ لكان هذا أحكم له وأعلم وهكذا كان سلفنا الصالح يسمعون الحديث النبوي من أهله، والفقه من أهله، والقواعد العربية من أهلها، والتفسير من أهله وهكذا. . وأما في الطريق الصوفي فيجب عليك أن تتخذ شيخًا واحدًا لا تحيد عنه ولا تلتفت إلى غيره بل لا يجوز أيضًا طلب العلم من غير أهل التصوف مطلقًا. يقول القشيري بعد أن قرر في زعمه أن طائفة التصوف هم أهل الحق وأن علومهم أشرف العلوم: ". . فإذا كان أصول هذه الطائفة أصح الأصول ومشايخهم أكبر الناس

وعلماؤهم أعلم الناس فالمريد الذي له إيمان بهم إن كان من أهل السلوك والتدرج إلى مقصدهم فهو يساهمهم فيما خصوا به من مكاشفات الغيب فلا يحتاج إلى التطفل على من هو خارج عن هذه الطائفة ". وقد قرر شيوخ التصوف من أهل الطرق الحديثة أن من ترك طريقتهم إلى طريقة غيرهم ابتلي بسوء الخاتمة. وهكذا فقد كان رجال التصوف قديمًا يأمرون فقط بمجرد الانتساب والسلوك في الطريق الصوفي أيًا كان الشيخ أو الطريقة، المهم أن يكون السالك (الموفق) حسب زعمهم سائرًا في هذا الطريق غير ملتفت إلى غيره من مذاهب العلماء والفقهاء الذين يصفهم المتصوفة دائمًا بأنهم علماء رسوم وطلاب دنيا، وتجار. . الخ الأوصاف التي يطلقونها على علماء الشريعة لتنفير الناس منهم. وانظر مثلًا إلى ما يقول القشيري في التنفير من سماع المريد إلى كلام غير كلام المتصوفة: " ويقبح بالمريد أن ينتسب إلى مذهب من مذاهب من ليس من هذه الطريقة وليس انتساب الصوفي إلى مذهب من مذاهب المختلفين سوى طريقة الصوفية إلا نتيجة جهلهم بمذاهب أهل هذه الطريقة فإن هؤلاء حججهم في مسائلهم أظهر من حجج كل أحد وقواعد مذاهبهم أقوى من قواعد كل مذهب والناس إما أصحاب النقل والأثر وإما أرباب العقل والفكر وشيوخ هذه الطائفة ارتقوا عن هذه الجملة فالذي للناس غيب فهو لهم ظهور، والذي للخلق من المعارف ومقصود فلهم من الحق سبحانه موجود فهم من أهل الوصال (أي مع الله في زعمه) والناس أهل الاستدلال وهم كما قال القائل: ليلي بوجهك مشرق ** وظلامه في الناس ساري فالناس في صدف الظلام ** ونحن في ضوء النهار (القشيرية ص180) . وها أنت ترى هنا أنه يقسم علماء الإسلام إلى ثلاثة أقسام: علماء النقل

ثانيا ـ مواصفات الشيخ

والأثر، وهم حملة القرآن والحديث والسير وعمل الصحابة والقسم الثاني من سماهم بأرباب العقل والفكر ويعني بهم الفلاسفة والمتكلمين كالمعتزلة والأشاعرة ونحوهم والفريق الثالث المتصوفة ومدح هؤلاء ويقول إن حججهم أظهر وقواعدهم أقوى وأن ما هو غيب عند الآخرين هو شهادة عند المتصوفة يعني أن المتصوفة يشاهدون الله والجنة والنار عيانًا ولا يحتاجون إلى الاستدلال بالقرآن والسنة كما هو شأن علماء الأثر، ولا بالأدلة العقلية كما هو حال علماء الكلام والمنطق والجدل. أقول: كان الشأن في أول التصوف هو إلحاق المريد بركب المتصوفة أيًا كانوا وكيفما كانوا، ولكن في العصور الحديثة أصبح التصوف دولًا، وإمارات خاصة، وإقطاعات دينية مستقلة، فالطريقة تدر على أصحابها وأربابها أرباحًا وفيرة ولذلك فلا بد من الاستحواذ على المريدين، وإدخالهم في سلك الطريقة الخاصة وعدم السماح لواحد منهم بتاتًا أن ينفلت من القيد الذي يوضع في رجليه والمقود الذي يوضع في رأسه وإلا ارتد عن دينه وعوقب بسوء الخاتمة. فالشيخ في الطريقة الصوفية ليس هو بتاتًا ما يعنيه الكتاب والسنة من اتخاذ المرشد والهادي والداعي إلى الله، وإنما هو التزام أبدي بطريقة خاصة ورجل خاص يقدسه حيًا وميتًا. فشتان بين اتخاذ شيخ وإمام في دين الإسلام الصحيح واتخاذ شيخ صوفي ليكون رائدًا للطريقة. ثانيًا ـ مواصفات الشيخ وليس كل شيخ يصلح أن يكون شيخًا في الطريق الصوفي بل لا بد أن يمر بمراحل الطريق من أولها إلى نهايتها، أو على الأقل أن يكون قد أخذ العهد من شيخ سابق أو والد له وقد أذن له الشيخ أو الأب بتسليك

المريدين، وإدخالهم في الطريق وتلقينهم الأذكار الخاصة. .، إلخ. وحتى تكون المشيخة الصوفية مشيخة معتبرة فقد اخترع المتصوفة قديمًا شيئًا سموه السلسلة الصوفية وهذه السلسلة المزعومة هي عبارة عن سند مزعوم يتناقله الخلف عن أسلافهم زاعمين أن هذه السلسلة تنتهي (بالجنيد) الذي يسمونه سيد الطائفة وأن هذا الجنيد قد أخذها عن سري السقطي، والسقطي عن معروف، ومعروف عن داود الطائي، وداود الطائي عن حبيب العجمي، والعجمي هذا عن الحسن البصري، والحسن البصري عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ. . يقول ابن عربي في فتوحاته: " اعلم أنه قد صح وثبت بحكم النقل عند المشايخ (هذه الطريقة المتصوفة في الإسناد فلا ذكر لشيوخ النقل ولا كيف نقلوا) ، أن عليًا أمير المؤمنين دخل على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله، دلني على أقرب الطرق وأفضلها فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: عليك يا علي، بما نلت ببركة النبوة. فقال علي: ما هذا يا رسول الله: قال عليه السلام: ذكر الله تعالى. . قال علي: يا رسول الله، هكذا فضيلة الذكر وكل الناس ذاكرون. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: مه يا علي، لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول: الله. الله، ثم قال: أحصيت، يا علي، حتى أنا أقوله ثلاث مرات وأنت تسمع مني فإذا أمسكت فقل أنت حتى أنا أسمع منك. هكذا لقن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليًا، ثم لقن علي عليه السلام الحسن البصري، ثم لقن الحسن حبيبًا العجمي، ثم لقن داود معروفًا الكرخي، ولقن معروف سري السقطي، وهو لقن أبا القاسم: الجنيد محمد بن البغدادي وعلى هذه السلسلة باقي المشايخ رحمهم الله " ا. هـ. (الفتوحات المكية) . ولا شك أن هذا يدل بغير بيان على ما فيه من الباطل وأنه كذب من أوله إلى آخره فبين ابن عربي الذي افترى هذا الكلام والجنيد أكثر من ثلاثمائة سنة، وهو يقول هنا: اعلم أنه ثبت وصح بحكم النقل عند المشايخ؛ ما

هذا (حكم النقل عن المشايخ) ! ! وهذه السلسلة إلى الحسن البصري سلسلة مظلمة والجنيد قد اتهم من علماء زمانه بالزندقة والكفر وهو صاحب الحلاج الذي أجمع المسلمون في عصره على كفره وزندقته وهذا الحديث عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ لا أصل له فيما أعلم في كتاب صحيح من كتب السنة، وهو يخالف ما ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أنه يخص أهل البيت لا عليًا ولا غيره بذكر خاص أو بعلم خاص امتثالًا لقوله تعالى {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعله فما بلغت رسالته} [المائدة: 67] . والجواب عن هذه الشبهة في مكان آخر من هذا الكتاب، أعني، شبهة أن الرسول قد كتم علمًا وخص أناسًا بعلم من علوم الشريعة أو بذكر خاص أو طريقة خاصة والشاهد هنا أن هذه الطريقة المزعومة كذب وافتراء على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى علي بن أبي طالب والحسن البصري ـ رضي الله عنه ـ م، وقد وضع ذلك المتصوفة ليوهموا الناس أن وحيهم الشيطاني الذي يدعونه، ومشاهداتهم الإبليسية التي يشاهدونها وعلومهم الخرافية التي يتناقلونها لها أصل من الإسناد، وهي متلقاة عن الرسول. فعجبًا لمن يحاربون الإسناد والحديث والنقل ثم يدعونه هنا لأنفسهم وهذا من تخبطهم وضلالهم فالإسناد لأهل الحديث كلام ميت عن ميت هذا زعمهم والإسناد لأهل التصوف شرف واتصال وعلم واتصال بالرسول فانظر وتعجب! ! * والمهم أن الشيخ في الطريق الصوفي يزعم أن له إسنادًا متصلًا، وأنه قد أخذ عهدًا عن شيوخ سابقين وأن شيوخه عن شيوخ وهكذا إلى الجنيد إلى الرسول. . ومن هؤلاء الشيوخ أهل التسليك من يقنع بأن يكون مجرد شيخ في الطريقة، ومنهم من ينفصل عن طريقته السابقة ويؤسس له طريقة خاصة باسمه ويؤلف ويبتدع لها من ثم أذكارًا خاصة ومشاعر خاصة. . ولكنه لا يقر طبعًا بالتأليف، والابتداع وإنما يزعم لأتباعه ومريديه أنه قد أخذ هذه الأذكار من الحضرة الإلهية هكذا أو من حضرة الرسول، أو من الخضر. . المهم أنه لا بد أن يكون للذكر الخاص صلة بالوحي الخاص، والإلهام. . وأن يكون للذكر الخاص هذا فضل عظيم لم ينله الأولون ويستحيل أن يناله الآخرون (واقرأ

ثالثا ـ آداب المريد

تفاصيل ذلك في الباب الخاص بالذكر الصوفي) . وبالطبع فإن هذا الشيخ الذي ينفرد بطريقة خاصة لا بد أن يجعل لنفسه من الشرف والمنزلة ما يؤهله لأن يتبعه الناس ويأخذوا عنه فيروي لنفسه من الكرامات والفضل والعلوم والكشف ما يتضاءل أمامه كل منازل الأنبياء والمرسلين (اقرأ الفصل الخاص بالولاية الصوفية) . وهكذا تعلم أن اتخاذ الشيخ في الطريق الصوفي ليس هو مجرد اتخاذ معلم قد اشتهر بالعلم والعمل والصلاح بل هو اتخاذ شيخ خاص له كرامات وكذلك له منهج خاص بتسليك المريدين. . وله كذلك حقوق خاصة. ثالثًا ـ آداب المريد وقد وضع المتصوفة آدابًا أوجبوها على المريد والسالك في الطريق الصوفي وهذه أهم هذه الآداب نقول تجاوزًا آداب وإنما هي في الحقيقة جهل وانحلال وعبودية وإذلال: 1 ـ لا تخالف الشيخ مطلقًا فيما يأمرك به هذا هو المبدأ الأول والشرط الأول والأدب الأول للمريد، وأن تكون موافقة الشيخ بالقلب والجوارح فلا إنكار ولا مخالفة لشيء مما يقوله مطلقًا ولا اعتراض عليه بلسان أو بقلب وشعارهم دائمًا: " كن بين يدي شيخك كالميت بين يدي الغاسل "! ! يقول القشيري في بيان ما يجب على المريد: " وأن لا يخالف شيخه في كل ما يشير عليه لأن الخلاف للمريد في ابتداء حاله دليل على جميع عمره " (القشيرية ص182) ويقول أيضًا: " ومن شروطه أن لا يكون بقلبه اعتراض على شيخه " (القشيرية ص182) .

ومن الأقوال يقصد بها بالطبع إماتة القلب واستسلامه للدواهي والمصائب التي سيتلقاها المريد في طريقه الصوفي. وإليك طائفة من الأقوال والحكايات الصوفية التي يراد من ورائها في النهاية استسلام المريد لشيخه ليعبث بعقله وقلبه كيف شاء. 2. لا يجوز الإنكار على شيوخ التصوف أبدًا ولو مع المنكر دليل. يقول أحمد بن مبارك السلجماسي فيما يرويه عن شيخه الجاهل الأمي عبد العزيز الدباغ: " * واعلم وفقك الله أن الولي المفتوح عليه يعرف الحق والصواب ولا يتقيد بمذهب من المذاهب. ولو تعطلت المذاهب بأسرها لقدر على إحياء الشريعة وكيف لا وهو الذي لا يغيب عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ طرفة عين! ! ولا يخرج عن مشاهدة الحق جل جلاله في أحكامه التكليفية وغيرها وإذا كان كذلك فهو حجة على غيره وليس غيره حجة عليه لأنه أقرب إلى الحق من غير المفتوح عليه وحينئذ فكيف يسوغ الإنكار على من هذه صفته ويقال إنه خالف مذهب فلان في كذا، إذا سمعت هذا فمن أراد أن ينكر على الولي المفتوح عليه لا يخلو إما أن يكون جاهلًا بالشريعة كما هو الواقع غالبًا من أهل الإنكار وهذا لا يليق به الإنكار والأعمى لا ينكر على البصير أبدًا " (الإبريز ص192) . وهذا داهية الدواهي لأنه زعم أن الشيخ له مذهبه الخاص الذي يتلقاه من النبي رأسًا ولا حاجة عنده إلى التلقي من أي مذهب فقهي لأي إمام مجتهد فلا تعترض أيها المريد على شيخك لأنه يتلقى الوحي غضًا طريًا، وهؤلاء العلماء عميان وهو مبصر! ! ويقول أيضًا شارحًا القصيدة الرائية في آداب المريد: فذو العقل لا يرضى سواه وإن نأى ** عن الحق نأي الليل عن واضح الفجر المعنى أن من له عقل سليم وطبع مستقيم لا يرضي سوى شيخه ويدور معه حيثما دار وإن بعد الشيخ في ظاهر الأمر عن الحق بعدًا بينًا كبعد الليل من

الفجر ويقول إن للشيخ في ذلك وجهًا مستقيمًا عسى أن يطلعني عليه " ا. هـ. (الإبريز ص203) . وهذا ظاهر في أنه لا يجوز الإنكار على الشيخ والخروج عنه، ولو خرج الشيخ عن الحق وظهر ذلك للمريد ظهور الفجر من الليل. وليس هذا فقط هو المدى السيء الذي يريد المتصوفة جر المريد إليه بل هناك ما هو أشد من ذلك وأضل وهو ما يأتي في الفقرة الآتية: 3 ـ يقول أحمد بن المبارك: " (ومنها) أني سمعت الشيخ ـ رضي الله عنه ـ يقول جاء بعض المريدين لشيخ عارف فقال له يا سيدي القبول لله عز وجل. نعم، ثم أمره بالمقام عنده والعكوف على خدمته وأعطاه مسّاحة في رأسها كورة حديد زائدة لا نفع فيها إلا تثقيل المساحة وكان المريد هو وارث الشيخ بشرط أن لا ينتبه لكورة الحديد المذكورة فإن انتبه وقال ما فائدتها، ولأي شيء تصلح، ولا معنى لها إلا التثقيل فإنه لا يرث شيئًا. قال ـ رضي الله عنه ـ فبقي في خدمته سبع سنين وهو يخدم بالفأس ولا يتحرك له عرق وسواس ولا هزته عواصف رياح الشيطان وصارت الكورة المذكورة بمنزلة العدم الذي لا يرى ولا يسمع فهذه مسألة الصادقين الموفقين ـ رضي الله عنه ـ م والله تعالى الموفق " (الإبريز ص178) . فانظر كيف يكون المريد (الصادق) في زعمهم مع شيخه. إنه الذي ينفذ ما يأمره به الشيخ ولا يسأله عنه بتاتًا ولو كان شيئًا غير معقول المعنى ولا فائدة أصلًا منه. ككرة الحديد هذه التي كانت في رأسها المساحة (الفأس) . وقد جعلوا صدق المريد عدم سؤال شيخه عن هذه (الكورة) التي لا تقع منها. وليت الأمر وقف عند هذا الحد ولكن. . . 4 ـ لم يقتصر الأمر على طاعة الشيخ فيما لا فائدة منه ولا معقولية له بل تعدى الأمر ذلك إلى الاعتقاد أن للشيخ شريعته الخاصة، ودينه المستقل فله أن يشرب الخمر، أو يزني وليس لمريده أن يسأل عن شيء من ذلك. يقول السلجماسي أيضًا:

" قال محيي الدين العربي (ـ رضي الله عنه ـ) ومن شروط المريد أن يعتقد في شيخه أنه على شريعة من ربه ونبيه منه ولا يزن أحواله بمسيرته أنه فقد تصدر من الشيخ صورة مذمومة في الظاهر وهي محمودة في الباطن والحقيقة يجب التسليم وكم من رجل كأس خمر بيده ورفعه إلى فيه وقلبه الله في فيه عسلًا والناظر يراه شرب خمرًا وهو ما شرب إلا عسلًا ومثل هذا كثير وقد رأينا من يجسد روحانيته على صورة ويقيمها في فعل من الأفعال ويراها الحاضرون على ذلك الفعل فيه ولو رأيناه فلا يفعل كذا وهو عن ذلك الفعل بمعزل وهذه كانت أحوال أبي عبد الله المصلي المعروف بقضيب البان وقد رأينا هذا مرارًا في أشخاص " ا. هـ. (الإبريز ص202) . وهذا الذي نقله أحمد بن مبارك السلجماسي عن ابن عربي مقررًا ومتبعًا له هو ما عليه عامة الصوفية بعد ابن عربي الذين يعتقدون أن للشيخ الصوفي (الكامل) أن يفعل ما يشاء من المعاصي ولا حرج عليه ولا يجوز أن يظن المريد خلاف الخير لأن الخمر التي يراها المريد خمرًا تنقلب عينها في الشيخ فتكون له لبنًا أو عسلًا. أو أن الشيخ يشكل نفسه على النحو الذي يظهر منه الفسق والخروج على الشريعة ليؤدب المريدين ويعلمهم أن يثقوا بشيخهم ولو رأوه يفعل منكرًا. أقول: وقد حدثني أستاذي وشيخي الشيخ محمد عبد الوهاب البنا حفظه الله أنه شاهد أباه وكان من هيئة كبار العلماء في الأزهر يشتري قارورة الخمر بنفسه ويعطيها لشيخ له في الطريق، ولما كلمه الشيخ محمد عبد الوهاب البنا في ذلك. قال له: يا بني إنها تنقلب في بطن الشيخ فتكون لبنًا! ! . . فانظر كيف يفعل مثل هذا الكلام في المريدين فيجعلهم يعتقدون في شيوخهم العصمة حتى لو رأوهم على المعصية جهارًا نهارًا، وهذا غاية في إلغاء العقول والأفهام وذلك حتى تتلقى هذه العقول ما هو شر من ذلك وأقبح من الكلام في العقائد وأصول الدين كلامًا وكفرًا وزندقة لم يقلها اليهود ولا النصارى ولا المجوس.

ولم يكتف دهاقنة الفكر الصوفي بمثل هذا بل وضعوا آلاف الحكايات والروايات ليحملوا المريدين حملًا على الاستسلام لشيوخهم مهما فعلوا أمامهم وأن يطيعوهم مهما أمروهم. يقول أحمد بن مبارك أيضًا: " (رأيت) في كتاب محيي الدين تلميذ تاج الدين الذاكر المصري رحمهما الله تعالى أن رجلًا جاء إلى بعض الأكابر فقال له يا سيدي أريد منكم أن تعطوني السر الذي خصكم الله به فقال الشيخ إنك لا تطيق ذلك. فقال المريد: أطيقه وأقدر عليه فامتحنه الشيخ بأمر سقط منه على أم رأسه وذلك أنه كان عند الشيخ مريد شاب حَدَث أبوه من الأكابر فلما قال ذلك المريد أنا أطيق السر. قال له الشيخ: إني سأعطيك إن شاء الله السر فأمره بالمقام عنده، ثم إن الشيخ أمر الشاب الحدث بالاختفاء في مكان بحيث لا يظهر لأحد، وأدخل الشيخ خلوته كبشًا فذبحه وجعل على ثيابه شيئًا من الدم فخرج على المريد السابق والسكين في يده والدم يسيل على يده وهو في صورة الغضبان فقال المريد ما عندكم يا سيدي؟ فقال: إن الشاب الفلان أغضبني فما ملكت نفسي أن ذبحته فها هو في ذلك المكان مذبوح يشير إلى الخلوة التي ذبح فيها الكبش فإن أردت السر يا ولدي فاكتم هذا الأمر ولا تذكره لأحد وإن سألني عنه أبوه فإني أقول له مرض ولدك ومات فإنه يصدقني ويحصل على المسألة لطف فعساك يا ولدي تساعدني على هذا الأمر وتسترني فيه فإن فعلت فأنا أعطيك السر إن شاء الله تعالى فقال له المريد وقد تمعر وجهه وظهر غيظه حيث ظن أن الشيخ في قبضته سأفعل بكلام يظهر فيه الكذب ففارق الشيخ وذهب سريعًا إلى والد الشاب وأعلمه بالقصة وقال له إن الشيخ الكذاب الذي كنتم تعتقدون فيه الخير قتل ولدكم في هذه الساعة وجعل يرغبني أن أستر ويطلب مني أن أكتمه عنكم وإن شككتم في الأمر فاذهبوا معي الساعة فإنكم تجدون ولدكم يتشحط في دمه فقال له الناس: ويحك فإن سيدي فلانًا لا يفعل هذا ولعل الأمر شبه عليك. فقال لهم: اذهبوا معي حتى يظهر صدقي أو كذبي ففشا قوله في الناس وسمع به أرباب الدولة فأقبلوا إلى الشيخ سراعًا والمريد أمامهم حتى وقفوا على خلوة الشيخ فقرعوا الباب فخرج الشيخ وقال لهم: ما لكم وأي شيء أقدمكم،

فقالوا له: ألا تسمع ما يقول هذا (يشيرون إلى المريد) . فقال له الشيخ: وأي شيء كان. فقال له المريد: الذي كنت ترغبني فيه وتطلب مني كتمانه هو الذي كان. فقال الشيخ: ما وقع بيني وبينك شيء وما كلمتك قط (انظر إلى هذا الكذب المبين) فقال المريد: الكذب لا ينجيك قد قتلت ولد الناس. فترامى الناس على الشيخ من كل ناحية. . قتلت ولد الناس فالآن نقتلك عدو الله. . تغش الناس في عبادتك وتخدعهم بخلوتك. فقال الشيخ: سلوه من أين علم بأني قتلته. فقال المريد: ألم تخرج علي وأثر الدم على يديك وثوبك. فقال الشيخ: نعم وقد ذبحت شاة. فقال المريد: فلندخل إلى الخلوة إن كنت صادقًا. فدخلوا فوجدوا شاة مذبوحة. فقال المريد: إنما أخفيت القتيل وأظهرت هذه الشاة في موضعه لئلا تقتل به. فقال الشيخ: أرأيت إن خرج الشاب ولا بأس عليه أتعلم الناس من الكاذبين الذين لا يفلحون. فقال المريد: فأخرجه إن كنت صادقًا. فأرسل الشيخ إلى الفتى فخرج ولا علم عنده بما وقع فلما رآه الناس تضرعوا إلى الشيخ وجعلوا يسبون المريد الكاذب وعند ذلك قال له الشيخ: ألست تزعم يا كذاب (بل الشيخ هذا هو الكذاب اللعين الذي يريد إلغاء عقل تلميذه قبل أن يطلعه على الأسرار المزعومة) أنك تطيق السر وتقدر عليه فما بالك لم تقدر على كتم هذا الأمر الذي لم يكن منه شيء، وإنما صنعنا معك هذا لدعواك أنك تطيق السر، فاذهب فقد أعطيناك السر الذي يليق بأمثالك، فكان ذلك المريد من يومه موعظة للمعتبرين نكالًا للمدعين الكاذبين. نسأل الله بمنه التوفيق " (الإبريز ص188) . فانظر في هذه الحكاية؛ كيف يعلم المريد على طاعة أمر الشيخ بمثل هذا الفعل الشيطاني، حتى لا يكون بعد ذلك فكاك عن القيد الذي يقيده به شيخه، بل يروي أحمد بن المبارك عن شيخه كذلك عشرات بل مئات الحكايات التي تصب كلها في هذا المص وانظر هذه الحكاية:

" سمعت من الشيخ يعني (عبد العزيز الدباغ) ـ رضي الله عنه ـ يقول كان بعض من أراد الله رحمته في الماضين يحب الصالحين فألقى الله في قلبه أن خرج من ماله فباعه وجمع ثمنه فذهب به لبعض من شهر عنه الصلاح وكانت تقصده الوفود من النواحي فذهب إليه هذا المرحوم بجملة ماله حتى بلغ بلده فسأل عن داره فدل عليها فدق الباب ففتح الخادم فقال: ما اسمك فقال: عبد العلي. وكان الشيخ المشهور بالولاية من العصاة المسرفين على نفوسهم (انظر كيف كان الشيخ الولي عاصيًا مسرفًا على نفسه ومع ذلك فهو عند المتصوفة ولي عنده أسرار! !) وكان له نديم يتعاطى معه الشراب وغيره اسمه عبد العلي فوافق اسمه اسم هذا المرحوم، فذهبت الجارية فقالت للشيخ، اسم هذا الذي دق الباب عبد العلي. فقال وظن أنه نديمه: ائذني له. فدخل على الشيخ فوجد الشراب بين يديه وامرأة فاجرة معه ورزقه الله تعالى الغفلة عن ذلك كله (انظر إلى الكذب الواضح) فتقدم إليه فقال: يا سيدي سمعت بك من بلادي وجئتك قاصدًا لتدلني على الله ـ عز وجل ـ وهذا مالي أتيتك به. فقال الشيخ (يتقبل الله منك) ثم أمر الجارية أن تدفع له رغيفًا فأخذه وأعطاه الفأس وأمره بالخدمة في بستان للشيخ عينه له. فذهب المرحوم من ساعته ونفسه مطمئنة وقلبه مسرور بقبول الشيخ له فذهب فرحًا للخدمة وقد لقي نصبًا من سفره للشيخ وما استراح حتى بلغ البستان وجعل يخدم بفرح وسرور ونشاط نفسي فكان من قدر الله عز وجل وحسن جميله بذلك المرحوم أن صادف مجيئه للشيخ الكاذب المسرف وفاة رجل من أكابر العارفين وكان من أهل الديوان فحضر وفاته الغوث والأقطاب السبعة فقالوا له يا سيدي فلان: كم مرة ونحن نقول لك اهبط إلى المدينة من مدن الإسلام فعسى أن تلقى من يرثك في سرك ولم تساعد فالآن حانت وفاتك فيضيع سرك وتبقى بلا وارث فقال لهم يا سادتي قد ساق الله إلى من يرثني وأنا في موضعي فقالوا له ومن هو؟ فقال: عبد العلي الذي وفد على فلان المبطل فانظروا إلى حسن سريرته مع الله عز وجل وإلى تمام صدقه

ورسوخ خاطره ونفوذ عزمه وصلابة جزمه فإنه رأى ما رأى ولم يتزلزل له خاطر ولا تحرك له وسواس؛ فهل سمعتم بمثل هذا الصفاء الذي في ذاته أتوافقون على إرثه؟ . فقالوا: نعم. فخرجت روح الولي واتصل سيدي عبد العلي بالسر وأثابه الله عز وجل على حسن نيته فوقع له الفتح وعلم من أين جاءته الرحمة وأن الشيخ الذي وفد عليه مسرف كذاب وأن الله تعالى رحمه بسبب نيته لا غير والله الموفق " (الإبريز ص186) ا. هـ. . فانظر كيف أن المريد (الصادق) أعطى ماله كله لشيخ يقيم على الزنا والخمر (وهو في غفلة من ذلك. . عجبًا) . . وكيف يقوم المريد الصادق بخدمة هذا الشيخ الزنديق الفاسق وأصبح مجرد فلاح أو مزارع في بستانه يخدم الفاجرات ويقدم الخمور، ويهيء المزرعة للشيخ الأستاذ. . وكانت المكافأة أن مات شيخ آخر معه السر فاختار ذلك المريد البعيد واتصل بروح وأعطاه السر. . ويستطرد أحمد بن مبارك هذا أيضًا فيقول: " وسمعت من غير الشيخ ـ رضي الله عنه ـ أن بعض الأكابر كان له عدة أصحاب وكان لا يتخيل النجابة إلا من واحد منهم فأراد أن يختبرهم ففروا بجملتهم سوى ذلك الواحد وذلك أنه تركهم على باب خلوته فأظهر لهم صورة امرأة فدخلت الخلوة فقام الشيخ فدخل معها فأيقنوا أن الشيخ اشتغل معها بالفاحشة فتفرقوا كلهم وخسرت نيتهم إلا ذلك الواحد فإنه ذهب وأتى بالماء وجعل يسخنه يقصد أن يغتسل به الشيخ فخرج عليه الشيخ فقال: ما الذي تفعل؟ فقال: رأيت المرأة دخلت فقلت لعلك بحاجة إلى غسل فسخنت لك الماء. فقال له الشيخ: وتتبعني بعد أن رأيتني على المعصية. فقال: ولم لا أتبعك والمعصية لا تستحيل عليك، وإنما تستحيل في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولم أخالطك على أنك نبي لا تعصي وإنما خالطتك على أنك بشر وأنك أعرف مني بالطريق ومعرفتك بالطريق باقية فيك والوصف الذي عرفتك عليه لم يزل فلم تتبدل لي نية ولا يتحرك لي

خاطر. فقال له الشيخ: يا ولدي تلك الدنيا تصورت بصورة امرأة وأنا فعلت ذلك عمدًا لينقطع عني أولئك القوم. فادخل يا ولدي وفقك الله معي إلى الخلوة فهل ترى امرأة فيها فدخل فلم يجد امرأة فازداد محبة على محبته والله الموفق " (الإبريز ص188) ا. هـ. . وهذه الحكاية تزيد على أن المريد الذي رأى شيخه يخرج من خلوة مع زانية معلومة مشهورة قام فسخن له الماء. . أليس هذا إلغاء تامًا للعقول، وغسلًا للأمخاخ من أي فكر أو حمية أو غيرة دينية أو عاطفية صادقة. واقرأ أيضًا هذه الحكاية لترى العجب العجاب. . كان المريد يرى شيخه على الزنا، ويصلي وهو جنب من زنا والماء بجواره، ثم يشرب الخمر وكل هذا لم يحرك شيئًا في المريد الصادق. . قال صاحب الإبريز: " وسمعته (رضي الله عنه) يقول: كان لبعض العارفين بالله عز وجل مريد صادق وكان هو وارث سره فأشهده الله تعالى من شيخه أمورًا كثيرة منكرة ومع ذلك لم يتحرك له وساوس فلما مات شيخه وفتح الله عليه شاهد تلك الأمور وعلم أن الصواب مع الشيخ فيها، وليس فيها ما ينكره شرعًا إلا أنها اشتبهت عليه، في ذلك أن امرأة كانت من جيران الشيخ وكانت تذكر بالسوء اشتبهت بين باب الدار وبين البيوت وكان المريد لا يبلغ إليه وإنما يقف بالباب فاتفق أن دخلت المرأة المشهورة بالسوء على المريد وهو بالباب فجازت للدار واتفق أن خرجت امرأة الشيخ الشبيهة بها فدخلت على الشيخ الخلوة وكان الشيخ أرسل إليها ليقضي حاجته منها فدخلت وقام إليها الشيخ ومرت الشبيهة بها نحو البيوت فرمى المريد ببصره إلى الخلوة فرأى المرأة مع الشيخ وهو يقضي حاجته منها فما شك أنها المشهورة بالسوء، وربط الله على قلبه فلم يستفزه الشيطان ثم خرجت المرأة وحانت الصلاة فخرج الشيخ للصلاة وتيمم وكان به مرض منعه من الاغتسال فما شك المريد أن الشيخ قد تيمم من غير ضرورة وربط الله على قلب المريد وكان بالشيخ مرض منعه من هضم الطعام

فصنعوا له ماء الفلنيص عصروه وأتوا له بمائه ليشربه فدخل المريد فوجده يشربه فما شك أنه ماء خمر وربط الله على قلبه فلم يتحرك عليه وسواس فلما فتح الله عليه علم أن المرأة التي وطئها الشيخ امرأته لا المرأة المشهورة بالسوء وعلم أن التيمم الذي فعله الشيخ لضرر كان بجسده وعلم أن الماء الذي شربه الشيخ ماء فلنيص لا ماء خمر والله الموفق " (الإبريز ص178) ا. هـ. . ولست أدري كيف يتأتى هذا التخليط: شيخ مريض عاجز عن الوضوء ولكنه قادر على الزنا وشرب الخمر. . وما معنى قول الكاتب في هذه القصة وربط الله على قلبه. . والحق أن يقال وطمس الله أبصارهم وبصائرهم. والعجب أنهم لم يكتفوا بطمس أبصار المريدين وبصيرتهم حتى لا يروا ما عليه شيوخهم من الفسق والفجور بل جعلوا رؤية ما عليه هؤلاء الشيوخ دليلًا على شقاوة المريدين، والمشاهدين. يقول صاحب الإبريز أيضًا: " (وسمعته ـ رضي الله عنه ـ) يقول: إن الولي الكبير فيما يظهر للناس يعصي وهو ليس بعاص وإنما روحه حجبت ذاته فظهرت في صورتها فإذا أخذت في المعصية فليست بمعصية لأنها إذا أكلت حرامًا مثلًا فإنها بمجرد جعلها في فيها فإنها ترميه إلى حيث شاءت وسبب هذه المعصية الظاهرية شقاوة الحاضرين والعياذ بالله تعالى فإذا رأيت الولي الكبير ظهرت عليه كرامة فاشهد للحاضرين بأن الله تعالى أراد بهم الخير أو معصية فاشهد بشقاوتهم وكما أن أرواحهم هي التي تتولى كراماتهم كذلك هي التي تتولى معاصيهم الظاهرة والله أعلم " (الإبريز ص196) . أليس من العجيب أن يكون مثل هذا الفكر منسوبًا إلى المسلمين وجزءًا من تراثهم الذي يتوارثونه ويحسبه من يحسبه منهم كتبًا للهداية والدلالة على الله.

ولم يكتف أرباب الفكر الصوفي بجعل معاصي الشيوخ من شؤم من يشاهدونها من الناظرين بل جعلوا الشيخ ربما تعمد المعصية خشية على ذاته الترابية أن تتحول من شدة التجلي إلى ذات نورانية فتتلاشى! ! . . يقول السلجماسي أيضًا: " وسمعته (رضي الله عنه) يقول: إن الولي قد يغلب عليه الشهود فيخاف على ذاته الترابية من التلاشي فيستعمل أمورًا ترده إلى حسه وإن كان فيها ما يعاب عليه من باب إذا التقى ضرران ارتكب أخفهما فإذا رآه شخص ارتكب ذلك الأمر ولا يعلم الوجه الذي ارتكبه لأجله ربما بادر إلى الإنكار عليه فيحرم بركته وقد تقرر في الشرع أي في الشريعة المطهرة أن العضو إذا أصابته الأكلة وخيف على الذات منها فإنه يباح قطعه لتسلم الذات مع أن العضو معصوم ولكنه من باب إذا التقى ضرران ارتكب أخفهما وكذلك الشخص إذا خاف على نفسه من الهلاك من شدة الجوع فإنه يباح له أكل الميتة حتى يشبع ويتزود منها ". . وهذا اعتذار في غاية القبح وكذب في غاية الوضوح لأن الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم كان الوحي يتنزل عليهم والملائكة تكلمهم وما كانوا يخشون على ذاتهم الترابية. . وأنا أعلم أن مثل هذه الحجج لا تناقش لأنها لا تنطلي إلا على سذج وأغبياء أو أناس فقدوا عقولهم وصوابهم ولكن ماذا نعمل إذا كان العالم الإسلامي قد ابتلي بهؤلاء وأفسدوا أجيالًا كثيرة من أبناء المسلمين وانظروا إلى الحكاية الآتية: يقول أحمد بن مبارك: " قال (رضي الله عنه) وإذا أراد الله شقاوة قوم وعدم انتفاعهم بالولي سخرهم الحق فيما هم فيه من قبح ومخالفة فيظنون أنه على شاكلتهم وليس كذلك حتى إنه يتصور في طور ولاية أن يقعد الولي مع قوم يشربون الخمر وهو يشرب معهم فيظنونه شارب خمر وإنما تصورت روحه في صورة من الصور وأظهرت ما أظهرت وفي الحقيقة لا شيء وإنما هو ظل ذاته تحرك فيما تحركوا فيه مثل الصورة التي تظهر في المرآة إنك إذا أخذت بالكلام تكلمت وإذا

أخذت في الأكل أكلت وإذا أخذت في الشرب شربت وإذا أخذت في الضحك ضحكت وإذا أخذت في الحركة تحركت وتحاكيك في كل ما يصدر منك وفي الحقيقة لم يصدر منها أكل ولا غيره لأنها ظل ذاتك وليست بذاته الحقيقية فإذا أراد الله شقاوة قوم ظهر الولي معهم بظل ذاته وجعل يرتكب ما يرتكبون والله الموفق " (الإبريز ص195) . والعجب أن هؤلاء الذين هذا هو مستواهم في التقوى والعلم والصلاح وهذه هي أخلاقهم وأعمالهم استطاعوا أيضًا الاستحواذ على أموال الناس. وهذا باب واسع جدًا سنبسطه في غير هذا الموضع إن شاء الله تعالى ولكننا نذكر هنا هذه الحكاية من حكاياتهم لنبين كيف يربي المريد أيضًا على سلب ماله وإعطائه لشيخه بل سلب عقله وشرفه. . قال ابن مبارك أيضًا: " سمعته (رضي الله عنه) يقول كان لبعض المريدين أخ في الله عز وجل فمات ذلك الأخ وبقي المريد فجعل إذا فتح الله عليه بشيء يقسمه بين أولاده وبين أولاد الأخ في الله وكان لهذا المريد أرض مع إخوته فبعث عليهم من جانب المخزن ظلمًا فلما أخذوا ثمنها كان نصيب المريد منها أربعين مثقالًا (سكة زماننا) فقال له إخوته ما تفعل بدراهمك فقال أقسمها بيني وبين أولاد أخي في الله؛ فاستحمقوه وقالوا ما رأينا مثلك في نقصان العقل تسبب (أي تاجر بها وأبذل سببًا لنمائها) بدراهمك واشتر بها كذا واصنع بها كذا واترك عنك هذه الحماقة التي أنت مشتغل بها فأرادت نفسه أن تميل إلى قولهم فقال لها يا نفسي ما تقولي لله عز وجل إذا وقفت بين يديه غدًا حيث يقول لي رزقتك أربعين مثقالًا فاستأثرت بها وضيعت حق الأخوة فاليوم أضيعك كما ضيعتها فوفقه الله فقسم الدراهم بينه وبين أولاد أخيه في الله فلما خرج من عندهم فتح الله عليه وأعطاه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وجعله من العارفين لصدق نيته ولصداقة عزمه ونفوذ جزمه والله الموفق " (الإبريز ص178) .

5 ـ وحتى يتم تذليل المريد تذليلًا كاملًا ويلغي عقله إلغاءً تامًا فإن شيخه يأمره بأوامر في غاية الغرابة بل فيها المعصية الواضحة والكفر الصريح امتحانًا لطاعته، ومعرفة من الشيخ هل بقي من المريد مسكة عقل، أو أثارة علم، أو بقية غيرة أو دين غير الدين الصوفي الباطني فبعضهم يأمرون مريدهم بإحضار زوجاتهم لشيوخهم ليختلي بهن فإن تلكأ أو شك في عفة الشيخ علم أنه غير صادق وشيخ آخر يأمر تلاميذه ومريديه بما هو أقبح من ذلك وهذه بعض حكاياتهم في هذا الصدد. يقول أحمد بن مبارك مبينًا كيف يكون المريد صادقًا مع شيخه مطيعًا له ولو أمره بقتل والديه يقول: " سمعت من الشيخ ـ رضي الله عنه ـ قال كان لبعض المشايخ مريد صادق فأراد أن يمتحن صدقه يومًا فقال له يا فلان أتحبني قال نعم يا سيدي فقال أرأيت إن أمرتك أن تأتيني برأس أبيك أتطيعني فقال يا سيدي فكيف لا أطيعك ولكن الساعة ترى فذهب من حينه وكان ذلك بعد أن رقد الناس فتسور جدار دارهم وعلا فوق السطح ثم دخل على أبيه وأمه في منزلهما فوجد أباه يقضي حاجته من أمه فلم يمهله حتى يفرغ من حاجته ولكن برك عليه وهو فوق أمه فقطع رأسه وأتى به للشيخ وطرحه بين يديه فقال له ويحك أتيتني برأس أبيك فقال يا سيدي نعم أما هو هذا فقال ويحك إنما كنت مازحًا فقال له المريد أما أنا فكل كلامك عندي لا هزل فيه فقال له الشيخ ـ رضي الله عنه ـ انظر هل هو رأس أبيك فنظر المريد فإذا هو ليس برأس أبيه فقال له الشيخ رأس من هو فقال له رأس فلان العلج قال وكان أهل مدينتهم يتخذون العلوج كثيرًا بمنزلة العبيد السودانيين قال وكان أبوه غاب تلك الليلة فخانته زوجته في الفراش وواعدت عليه كافرًا ومكنته من نفسها وكوشف الشيخ (رضي الله عنه) بذلك فأرسل المريد ليقتله على الصفة السابقة ليمتحن صدقه فعلم أنه جبل من الجبال فكان وارث سره والمستولي بعده على فتحه والله الموفق " (الإبريز ص186) .

وهذه الحكاية الملفقة المكذوبة ما أريد بها إلا تعليم السالك في طريق التصوف أن يطيع أمر الشيخ مهما كان ولو أمره بقتل والديه وأن تنفيذه لأمر الشيخ خير له بكل حال. . فأين هذا من قول الله سبحانه وتعالى لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئًا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم} [الممتحنة: 12] . فانظر إلى قوله تعالى {ولا يعصينك في معروف} [الممتحنة: 12] . فاشترط سبحانه طاعة النبي في المعروف علمًا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يأمر إلا بالمعروف ولكن هذا ليتعلم غير النبي أنه ليس له أن يأمر إلا بمعروف وليس لأحد أن يطيعه إلا في معروف. . ولذلك لما أمر رسول الله أميرًا على عدد من المسلمين في سرية ما قال هذا الأمير لأصحابه ألست أميركم قالوا بلى، قال ألم يأمركم الرسول بطاعتي قالوا بلى، قال: فإني آمركم أن تدخلوا هذه النار، وكان قد جمع حطبًا وأشعله، فقالوا: والله ما آمنا إلا فرارًا من نار الآخرة فكيف ندخل النار الآن. . ولما أخبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذه الواقعة قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ والله [لو دخلوها ما خرجوا منها] (رواه مسلم) . ولكن الأمر يختلف تمامًا عند مشايخ التصوف إذ العلوم والأسرار التي يجب على المريد أن يتلقاها من شيخه بالغة مبلغها في القبح والنكارة وما لم يكن المريد متهيئًا لقبول هذه الدواهي فإنه حتمًا سينفر ويخرج من الطريق ولذلك فلا بد من تهيئته تهيئة كاملة. وتوطئته لتحمل العقيدة الصوفية. . إذ كيف سيفاجئ الشيخ مريده عندما يطلب منهل المريد السر الصوفي كيف سيقول له يا بني اعلم أنه ليس هناك إله غيري وغيرك فما هذا العالم الذي نعيش فيه إلا الله بكل مظاهره ومصنوعاته فهو عالم قد خلق نفسه بنفسه لنفسه فليس ثم غير. . كيف سيستطيع المريد تقبل ذلك كله إلا أن يكون الشيخ الصوفي قد تمكن من عقل مريده عن آخره من دينه إلى نهايته ومن أخلاقه وشرفه حتى لا يبقى من ذلك شيئًا إلا عبادة شيخه والتصديق أنه

لا حركة ولا سكون للمريد إلا بإذن الشيخ

وساطته إلى الله وأنه لا نجاة له ولا فلاح له، إلا أن يكون هذا الشيخ هو كل شيء في حياته. . هذه هي الغاية التي يسعى إليها الفكر الصوفي من التربية وهي نقل هذه الأفكار الفلسفية الخبيثة إلى أذهان أبناء الإسلام ولذلك فلا بد من سلخهم أولًا من الدين حتى يكونوا بعد ذلك مطية سهلة لهؤلاء الشيوخ يغرسون في أذهانهم ما شاءوا من الخرافات والخزعبلات والهذيان الذي لم تعرف البشرية في كل عصورها مثالًا له. . لا حركة ولا سكون للمريد إلا بإذن الشيخ الأدب السادس من آداب المريد الصوفي مع شيخه أنه لا يجوز له أن يتحرك أو يسكن، أو يتصرف في نفسه أو ماله أو زوجته، أو سفره أو إقامته إلا بإذن شيخه، وأنه لا يجوز أن يجلس في مجلسه إلا بإذنه وأن يظهر قدمه أمام شيخه، أو يرفع صوته، أو يسأله من عند نفسه لأن الشيخ أعلم بما في نفس مريده فلا يجوز أن يبدأ بالسؤال، أو يستفسر عن إشكال وإنما ينتظر في كل ذلك ما يجود به شيخه. . لأنه في زعمهم هو أعلم بحاله. . وليس وراء ذلك عبودية في الأرض. . والعجيب أن المتصوفة قد أخذوا كل الحقوق والخصوصيات التي جعلها الله لرسوله فجعلوها حقًا أيضًا للشيوخ فانظر مثلًا ما يقوله صاحب الرائية وما يشرح به أحمد بن مبارك: " قال: ولا ترفعوا أصواتكم فوق صوته ** ولا تجهروا كجهر الذي هو في قفر يقول السلجماسي: والله أعلم لا ترفعوا أيها المريدون أصواتكم فوق صوت الشيخ فإن ذلك يخل بالأدب ولا تجهروا له بالقول كجهر سكان القفار والبوادي الذين معهم جفاء وجلافة ولكن عظموه وفخموه وقولوه يا سيدي ويا أستاذي ويا ولي الله ونحو ذلك وأصل هذا الكلام الآية الشريفة {يا أيها

الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات: 2] . قال السهروردي في العوارف (رضي الله عنه) ومن تأديب الله تعالى أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} [الحجرات: 2] . كان ثابت بن قيس بن شماس في أذنه وقر وكان جهوري الصوت وكان إذا تكلم جهر بصوته وربما كان يكلم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيتأذى بصوته فأنزل الله الآية تأديبًا له ولغيره ثم قال بعد أن ذكروا آية في سبب نزولها وأنها نزلت في منازعة أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنه ـ ما بحضرته قال فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يسمع كلامه حتى يستفهم وقيل لما نزلت الآية إلى أبو بكر أن لا يتكلم عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا كأخفى السر فهكذا ينبغي أن يكون المريد مع شيخه فلا ينبسط برفع الصوت وكثرة الضحك والكلام إلا إذا باسطه الشيخ " انتهى (الإبريز ص256) . وقد غاب عن هؤلاء الذين قرروا لشيوخهم ما أمر الله به نحو رسوله لمنزلته الخاصة غاب عنهم أن الله سبحانه وتعالى قال {كجهر بعضكم لبعض} [الحجرات: 2] . فالمسلمون من شأنهم أن يجهر بعضهم في الكلام لبعض وأما مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيجب أن يكون للمسلمين معه أدب خاص في معاملتهم له ـ صلى الله عليه وسلم ـ. . وليت أنهم أعطوا الشيخ من الحقوق ما يجب على المسلم نحو الرسول واكتفوا بذلك بل جعلوا لشيوخهم من الحقوق على مريديهم ما لم يجعله الله سبحانه لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد جعلوا من حق الشيخ أن لا تنطق عنده إلا بإذنه وأن تطيل إذا أحب منك الإطالة وتختصر إذا أراد الاختصار. قال صاحب الرائية: " ولا تنطقن يومًا لديه فإن دعا ** إليه فلا تعدل إلى الكلم النزر وقال الشارح يقول والله أعلم لا تنطق في وقت من الأوقات عند شيخك فإن سألك عن شيء فلا تعدل عن الجواب الذي تدعو إليه الحاجة إلى الإكثار

والتطويل فإن ذلك يزيل هيبة الشيخ وهذا والله أعلم ما لم يطلب منه الشيخ الإكثار من الكلام فإن طلب منه ذلك وكان للشيخ فيه غرض فإنه ينبغي له حينئذ الإسهاب والتطويل مراعيًا خاطر الشيخ فإذا رآه شبع من الكلام فإنه يجب عليه الرجوع إلى أدبه وقد سبق ما كان يقوله لنا الشيخ ـ رضي الله عنه ـ حين يغيب في المشاهدة أهدروا علي كثيرًا فإن الله يأجركم على ذلك يعني لأنه يرجع بذلك إلى حسه. أصل هذا الكلام الذي في البيت لصاحب العوارف قال فيها بعد أن ذكر تأويلات في قوله تعالى {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} [الحجرات: 1] . وقيل نزلت في أقوام كانوا يحضرون مجلس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإذا سأل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن شيء خاضوا فيه وتقدموا بالقول والفتوى فنهو عن ذلك وهكذا دأب المريد في مجلس الشيخ ينبغي أن يلزم السكون ولا يقول شيئًا بحضرته من كلام حسن إلا إذا استأمر الشيخ في ذلك ووجد من الشيخ فسحة " ا. هـ. (الإبريز ص205) . وقد جاوزوا هنا ما أمر الله به المسلمين مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} [الحجرات: 1] . معناها أي لا تفتوا قبل أن يفتي ولا تحكموا في شيء حتى يأتيكم حكمه من الله ورسوله. وليس معناه لا تبدأوا في أي كلام وإلا فالصحابة كثيرًا ما كانوا يبدأون ويعيدون في شئون كثيرة والنبي جالس يستمع وربما تبسم ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما يتكلمون أحيانًا في شئون الجاهلية. كما ثبت في صحيح مسلم وغيره أن الصحابة كانوا يجلسون مع النبي بعد صلاة الصبح يستمع لهم وربما تبسم ـ صلى الله عليه وسلم ـ. . وأما هؤلاء الصوفية فإنهم جعلوا على المريد حجرًا أن لا يتكلم بحضرة شيخه إلا أذن له. . وأن يختصر حيث أراد الشيخ أن يطيل إذا أمره الشيخ بذلك فجعلوه آلة ميتة يتحرك بحركة الشيخ ولماذا نذهب بعيدًا وقد أجملوا هذه الآداب مع شيخهم بقولهم:

" كن بين يدي شيخك كالميت بين يدي المغسل ". . والعجيب أنهم لم يكتفوا بهذا أيضًا بل جعلوا من جملة الآداب في خطاب الشيخ أن يسأل الله التوفيق قبل أن يبدأ أمام الشيخ بالكلام. . انظر ما يقولون: " وقال أيضًا من الأدب مع الشيخ أن المريد إذا كان له كلام مع الشيخ في شيء من أمر دينه أو دنياه لا يعجل بالإقدام على مكالمة الشيخ بالهجوم عليه حتى يتبين له من حال الشيخ أنه مستعد له ولسماع كلامه فكما أن للدعاء أوقاتًا وآدابًا وشروطًا لأنه مخاطبة لله تعالى فللقول مع الشيخ أيضًا آداب وشروط لأنه من معاملة الله تعالى (! !) ويسأل الله قبل الكلام مع الشيخ التوفيق لما يجب من الآداب " ا. هـ. (الإبريز ص213) . فجعلوا الشيخ هنا بمنزلة الله سبحانه وتعالى فكما أن لدعاء الله شروطًا وآدابًا وأوقاتًا. . فكذلك يجب أن يكون الكلام مع الشيخ. . وانظر قوله (لأنه. . أي لأن معاملة الشيخ من معاملة الله تعالى. .) فأي عبودية في الأرض أعظم من هذه؟ . . . وحتى يتلبس الأمر على المريدين التباسًا كاملًا ولا يستطيع المريد أن يفرق بين الشيخ والله فإن المتصوفة زعموا أن الشيخ عندما يتكلم بكلامه في الدرس لا يكون متكلمًا من عند نفسه وإنما هو مستمع كذلك لما يلقى عليه من الله، وما يجري على لسانه رغمًا عنه فالشيخ غير مسئول عن كلامه، لأن كلامه في الدرس وحي من الله وإلهام إليه لا حيلة له فيه. قال السلجماسي: " قال ويكون الشيخ فيما يجريه الحق سبحانه وتعالى على لسانه مستمعًا كأحدكم فأشكل ذلك على بعض الحاضرين وقال إذا كان القائل يعلم ما يقول فكيف يكون مستمعًا (فرجع إلى منزله فرأى في ليلته في المقام كأن قائلًا يقول له: أليس الغواص يغوص في البحر لطلب الدر ويرجع بالصدف) ويرجع بالصدف في مخلاته والدر وقد حصل معه ولكن لا يراه إلا إذا خرج من البحر ويشاركه في رؤية الدر من هو على الساحل ففهم في المنام إشارة الشيخ في

ذلك فأحسن آداب المريد مع الشيخ السكون والخمود والجمود حتى يبادئه الشيخ بما له فيه المصلحة قولًا وفعلًا " (الإبريز ص105) . وهذا المثال الذي ضربوه لا ينطبق على هذا الأمر لا شكلًا ولا موضوعًا. . فالقضية الأساسية وهي أن الشيخ يلقي عليه الكلام عن الغيب رأسًا في الدرس ولا حيلة له فيه هذا كفر وزندقة لأنه لا وحي بعد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ. . ومن زعم أنه ينزل عليه وحي أو يكاشفه ملك، أو يطلع على غيب بعد رسول الله فهو كافر مرتد حلال الدم بإجماع الأمة. وأما أن الغواص يغوص فيأتي بالمحار من البحر ولا يعرف إن كان فيها لؤلؤ أم لا ثم يفتحها على الشاطئ ويطالع مع الموجودين هناك. . إن أرادوا أن الشيخ يغوص في الغيب ويأتي بالمحار ولا يعرف هل أتى بلؤلؤ أم لا إن زعموا أن كلام الله الذي يأتي به الشيخ لا يعرف إن كان فيها لباب أم لا فهذا كفر صريح لأنه تشبيه للوحي الإلهي بأن منه ما يجوز أن يلقى مرة ثانية إلى البحر كما يرمي الغواص بقشور المحار التالفة التي لا نفع منها وقد نجد جوهرة وقد لا نجد. . وهذا المثال الذي ضربوه لما يجري على ألسنة شيوخهم ينطبق فقط على الإلقاء الشيطاني فالشياطين تلقي على أسماع أوليائها من الإنس الأمر مما يسمعونه من السماء يكون فيه شيء واحد صادق وتسعة وتسعون كذبًا وهذا هو بالفعل حال شيوخ التصوف المتصلين بالجن والشياطين؛ قد يطلعهم الجن على شيء واحد صادق ولكن الجن يكذبون مع كل خبر صادق مئة كذبة كما أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك في تفسير قوله تعالى {وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا} [الجن: 9] وفي قوله تعالى {لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورًا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب} [الصافات: 8، 9] . فشيوخ التصوف يحدثون بأحاديث الجن والشياطين فيكذبون مئة كذبة

ويفترون آلاف الافتراءات على الله ورسالته، وقد يصدقون مرة واحدة. والمهم في هذا الصدد أن هؤلاء المشايخ بمثل هذا الأمر جعلوا المريد صنمًا مع شيخه لا يستطيع أن يقاطعه أو أن يعترض عليه لأن الشيخ أصلًا مستمع لما يوحى إليه وليس مؤلفًا ولا ناقلًا كلام نفسه. وجعلوا من واجب المريد أيضًا أن لا يسافر سفرًا إلا بإذن الشيخ. قال عبد الكريم القشيري: " ومن أحكام المريد إذا لم يجد من يتأدب به في موضعه أن يهاجر إلى من هو منصوب في وقته لإرشاد المريدين ثم يقيه إليه ولا يبرح عن سدته إلى وقت الإذن " (القشيرية ص184) . وبالطبع الإذن الذي يجب على المريد أن ينتظره ليس هو إذن الشيخ في زعمهم وإنما هو الإذن الإلهي فالشيخ يأمر المريد أن يبقى في مكانه ولا يتحول عنه إلا إذا جاءه الأمر الإلهي بأن يسافر من عند شيخه. وبالطبع ليس هذا أمرًا إلهيًا وإنما هو أوامر شيطانية يلتزم بها هؤلاء وهؤلاء. . ويفلسف القشيري هذا الأدب الصوفي، أعني عدم جواز سفر المريد وإلا بإذن شيخه، فيقول: " ومن آداب المريد بل فرائض حاله أن يلازم موضع إرادته وأن لا يسافر قبل أن يقبله الطريق وقبل وصول القلب إلى الرب فإن السفر للمريد في غير وقته سم قاتل ولا يصل أحد منهم إلى ما كان يرجى له إذا سافر في غير وقته وإذا أراد الله بمريد خيرًا أثبته في أول إرادته وإذا أراد الله بمريد محنة شرده في مطارح غربته هذا إذا كان المريد يصلح للوصول فأما إذا كان شابًا طريقته للخدمة في الظاهر بالنفس للفقراء وهو دونهم في هذه الطريقة رتبة فهو وأمثاله يكتفون بالترسم في الظاهر فينقطعون في الأسفار وغاية نصيبهم من هذه الطريقة حجات يحصلونها وزيارات لمواضع يرتحل

إليها لبقاء شيوخ بظاهر سلام فيشاهدون الظواهر ويكتفون بما في هذا الباب من السير فهؤلاء الواجب لهم دوام السفر حتى لا تؤديهم الدعة إلى ارتكاب محظور فإن الشاب إذا وجد الراحة والدعة كان في معرض الفتنة إذا توسط المريد جميع الفقراء والأصحاب في بدايته فهو مضر له جدًا وإن امتحن واحد بذلك فليكن سبيله احترام الشيخ والخدمة للأصحاب وترك الخلاف عليهم والقيام بما فيه راحة فقيره والجهد أن لا يستوحش منه قلب شيخ ويجب أن يكون في صحبته مع الفقراء أبدًا خصمهم على نفسه ولا يكون خصم نفسه عليهم ويرى لكل واحد منهم عليه حقًا واجبًا ولا يرى لنفسه واجبًا على أحد " ا. هـ. (القشيرية ص183) . وهكذا يجب أن يكون المريد أداة طيعة في يد شيخه يختار له من المراتب والمسالك ما يريد. بل يجب عليه أيضًا أن ينخلع عن حرفته وصنعته وأن ينقطع كل علائقه بالدنيا، وينقطع انقطاعًا كاملًا لشيخه. . والحق أن قضية الانقطاع الكامل عن الدنيا والإقبال التام على التصوف وملازمة الشيوخ كان هو الأمر في القرن الرابع وما بعده، وما زال هذا موجودًا في الإقطاعيات الصوفية الكثيرة التي تأتيها دخول دائمة وأوقاف دائمة للمريدين الذين يجب أن يسير فيه. ويقول القشيري أيضًا: " وكل مريد بقي في قلبه شيء من عروض الدنيا مقدار وخطر فاسم الإرادة له مجاز وإذا بقي في قلبه اختيار فيما يخرج عنه من معلومه فيريد أن يخص به نوعًا من أنواع البر أو شخصًا دون شخص فهو متكلف في حاله وبالخطر أن يعود سريعًا إلى الدنيا لأن قصد المريد في حذف العلائق الخروج منها لا السعي في أعمال البر وقبيح بالمريد أن يخرج من معلومه من رأس ماله وقنيته ثم يكون أسير حرفة وينبغي أن يستوي عنده وجود ذلك وعدمه حتى لا ينافر لأجله فقيرًا ولا يضايق به أحدًا ولو مجوسيًا " انتهى (القشيرية ص184) .

ومعنى هذا أنه يجب على المريد الخروج من الحرف الدنيوية نهائيًا بزعم أنه يضايق أهل الحرف والصناعات ويزاحمهم وهذا يضاد التصوف حتى ولو كان من يزاحمهم مجوسيًا. . كما أنه يجب على المريد أن لا يفعل معروفًا مع شخص إلا بأمر شيخه. وقال أيضًا " ومن شأن المريد قصر الأمل فإن الفقير ابن وقته فإذا كان له تدبير في المستقبل وتطلع لغير ما هو فيه من الوقت وأمل فيها يستأنفه لا يجيء منه شيء. . ومن شأن المريد أن لا يكون له معلوم وإن قل لا سيما بين الفقراء فإن ظلمة المعلوم تطفئ نور الوقت " (الإبريز ص208) . يعني أن المريد يجب عليه أن لا يكون له تدبير مالي، للمستقبل أبدًا ولا راتب شهري معلوم يرجع إليه لأن هذا يطفئ نوره ويؤجل مكاشفاته. . وجعلوا كذلك من آداب المريد في مجلس الشيخ ما يأتي: " من آداب المريد مع شيخه أن لا يجلس بحضرته متربعًا، ولا مظهرًا رجلًا له. قال صاحب الرائية: ولا يعقدن قدامه متربعًا ** ولا باديًا رجلًا فبادر إلى الستر ولا يجوز له كذلك أن يلبس لباس الشيوخ إلا إذا انتهى من مقام التربية " ا. هـ. وهذه حقوق أعطيت للشيخ لم يجعلها الله لرسوله فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يأمر الصحابة أن لا يلبسوا لباسه. . أو يتشبهوا به في عمامته أو قلنسوته أو يجلسوا متربعين في حضرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ. . بل كانوا يجلسون بحضرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ متربعين ومضطجعين وكان أحيانًا يضجع معهم ولم يكن له ـ صلى الله عليه وسلم ـ زي خاص ولا مجلس خاص، وهذا يدلك على ابتداع المتصوفة وبعدهم عن الدين. وجعلوا من آدابهم أيضًا ما قاله القشيري: " ومن شروط المريد إذا زار شيخًا أن يدخل عليه بالحرمة وينظر إليه

كتمان لشيء من الأسرار عن الشيخ

بالحشمة فإن أهل الشيخ لشيء من الخدمة عَدَّ ذلك من جزيل النعمة. (القشيرية ص184) . فجعلوا خدمة شيوخهم من جزيل النعمة ومن تفضل الشيخ على المريد والأمر على العكس لأن من يخدم غيره دون أجر هو المتفضل لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للذين خدموا إخوانهم في السفر [ذهب المفطرون بالأجر كله] : " وقبول قلوب المشايخ للمريد أصدق شاهد لسعادته ومن رده قلب شيخ من الشيوخ فلا محالة يرى غِبَّ ذلك ولو بعد حين ومن خذل بترك حرمة الشيوخ فقد أظهر رقم شقاوته وذلك لا يخطئ ". . ا. هـ. وهذا يعني أن غضب الشيخ الصوفي على المريد هو غضب الله. فليس له قبول أبدًا. . وهذا من أعجب العجب. . كتمان لشيء من الأسرار عن الشيخ وحتى يتم أخذ المريد من نفسه والسيطرة الكاملة على كل قلبه وإحساسه وهواجسه فإن شيوخ التصوف قد فرضوا على المريد أن لا يحجب شيئًا من أسراره عن شيخه سواء كانت هذه الأسرار معاصي ارتكبها فإن الشيخ يتحملها عنه إذا أفضى بها إليه، وهذا نظير صكوك الغفران عند النصارى أو كانت في زعمهم مكاشفات وأنوارًا وعلومًا إلهية (لدنية) فإن شيخه سيفرح بذلك ويطلب له المزيد. يقول القشيري: " وإذا التزم المريد استدامة الذكر وآثر الخلوة فإن وجد في خلوته ما لا يجده قلبه إما في النوم وإما في اليقظة أو بين اليقظة والنوم من خطاب يسمع أو معنى يشاهده مما يكون نقصًا للعادة فينبغي أن لا يشتغل بذلك البتة ولا يسكن إليه ولا ينبغي أن ينتظر حصول أمثال ذلك فإن ذلك كله شواغل عن الحق سبحانه ولا بد له في هذه الأحوال في وصف ذلك لشيخه حتى يصير قلبه

فارغًا عن ذلك ويجب على شيخه أن يحفظ عليه سره فيكتم عن غيره أمره ويصغر ذلك في عينه فإن ذلك كله اختبارات والمساكنة إليها مكر فليحذر المريد عن ذلك وعن ملاحظاتها وليجعل همته فوق ذلك واعلم أن أضر الأشياء بالمريد استئناسه بما يلقى إليه في سره من تقريبات الحق سبحانه له ومنه بأني خصصتك بهذا وأفردتك عن أشكالك فإنه لو قال يترك هذا فمن قريب سيختطف عن ذلك بما يبدو له من مكاشفات الحقيقة وشرح هذه الجملة بإثباته في الكتب متعزز. . " ا. هـ. (القشيرية ص183، 184) وهذا الذي يقرره القشيري هنا فيه كثير من التلبيس الذي لا بد من بيانه فالشاهد فيه أولًا هو أن المريد لا يجوز له كتمان ما يطالعه مما يسمونه بالأنوار أو المكاشفات أو السماع من الملك أو مما نقض للعادة ويمثلون لذلك بسطوح الأنوار في الغرفة المظلمة مثلًا أو رفع سقفها أو رؤيته لشيخه أمامه أو حضور الرسول عنده ونحو هذا مما يدعونه من الخرافات والتهيؤات الشيطانية وذلك أن الأذكار التي تعطي للمريد بأعدادها الرهيبة وطرق أدائها كأن يكون الإنسان جاثيًا على ركبتيه مغمضًا إحدى عينيه أو متجهًا ببصره شمالًا أو يمينًا، وكذلك الجو المحيط بذلك من أظلام الغرفة، والمكث ساعات طوال على ذلك مع أعداد تربو أحيانًا على عشرات بل مئات الآلاف من المرات. . كل ذلك مع انتظار حدوث أمر غريب يجعل المريد يفقد السيطرة على نفسه وأعصابه فتتهيأ له أمور كثيرة أو يتسلط الشيطان عليه لما هو فيه من البدعة والبعد عن هدي النبوة المستنير فيتلاعب به الشيطان فيتهيأ له أحيانًا بصورة شخصية أو بصورة مكذوبة غير صورة الرسول ويلقي في روعه أنه رسول الله، وأنه يأمره بكذا وكذا. . وأحيانًا ما يتهيأ له أن السقف انشق وأن الظلام الدامس قد تحول إلى نور ساطع، وأن الملائكة قد هبطت عليه، وهو في هذه الحالة الشيطانية من قراءة الأذكار المبتدعة التي تشتمل غالبًا على أسماء الشياطين وتخليط بضع آيات من القرآن، مقطعة عن

مواضعها موضوعة في غير أماكنها فتنزل عليهم الشياطين لذلك وتعبث بعقولهم وأفئدتهم وهذا ما عناه القشيري من أن المريد إذا شرع في الذكر فلا بد أن يرى شيئًا من ذلك فعليه كما زعم أن لا ينظر إلى شيء من ذلك البتة لأن كما قال شواغل الحق وهو يريد أن يرى الله وأن يصلي إلى الله نفسه لا إلى هذه الأمور العارضة. . وعليه بعد رؤيته لهذه الأمور أن يحكيها لشيخه ولا يخفيها عنه. . فهذا أحمد بن المبارك يصف حال المريد مع شيخه وينقل كلام شيخه عبد العزيز الدباغ لهم فيقول: " وكان (رضي الله عنه) يقول: لا تكتموا عني شيئًا من الأمور التي تنزل بكم في الدين والدنيا وأخبرونا حتى بالمعاصي التي تقع لكم وإن لن تخبروني أخبركم فإنه لا خير في صحبة يستر معها شيء من أحوال المتصاحبين وكان ـ رضي الله عنه ـ يقول أما أنا فلا أكتم عنكم شيئًا من أموري ثم يشرح لنا ـ رضي الله عنه ـ حاله حتى بلغ ذلك ويذكر لنا جميع ما وقع له من العاديات وغيرها، ويقول لنا (رضي الله عنه) إن لم أخبركم ولم أطلعكم على أحوالي فإن الله يعاقبني ويحاسبني لأنكم تظنون بي الخير فاصبروا حتى أذكر لكم الأمور الباطنية التي لم تطلعوا عليها فمن شاء منكم بعد ذلك أن يبقى معي فليبق وحينئذ يحل لي أكل طعامه وقبول هديته ومن شاء أن يذهب فليذهب فإن سكوتي عن ذكر تلك الأمور غش لكم وما كان ـ رضي الله عنه ـ لأصحابه إلا رحمة محضة يشفع لهم في زلاتهم ويتكفل لهم بنوائبهم ويتحلل لهم ما يخشون عاقبته ويهتم لأمرهم أكثر مما يهتم لأموره. وقال لي ـ رضي الله عنه ـ ذات يوم الرجل الذي لا يشاطر صاحبه في سيئاته ما هو بصاحب له وقال إن لم تكن الصحبة إلا على الحسنات فما هي بصحبة. وبالجملة فما كان ـ رضي الله عنه ـ لأصحابه إلا رحمة مرسلة من الله عز وجل فعلى مثله يبكي الباكون ولو رمنا تفصيل أعيان الجزئيات الواقعة لنا معه ولغيرنا في هذا الباب لطال الكلام " ا. هـ. (الإبريز ص212) .

قلت وهذا الكلام معناه في النهاية إيقاف المريد عاريًا أمام شيخه وأستاذه وإيهامه بأنه إن لم يعترف بما عنده من الأسرار فإن الشيخ بنفسه يطلع على ذلك ونقل في هذا بيت صاحب الرائية: سوى الشيخ لا تكتمه سرًا فإنه ** بساحة كشف السر يجري على بحر ويقول القشيري أيضًا: " يجب عليه حفظ سره حتى عن زره إلا عن شيخه ولو كتم نفسًا من أنفاسه عن شيخ فقد خانه في حق صحبته ولو وقع له مخالفة فيما أشار عليه شيخه فيجب أن يقر بذلك بين يديه في الوقت ثم يستسلم لما يحكم عليه به شيخه عقوبة له على جنايته ومخالفته إما بسفر يكلفه أو أمر ما يراه ". أي وعليه أن يستسلم إذا خالف هذا الأدب فكتم شيئًا عن الشيخ أن يستسلم لحكم الشيخ فيما يحكم عليه به، ويكون راضيًا بذلك. وإذا كان القشيري قد قال مثل هذا الكلام منذ القرن الخامس الهجري فإن الصوفية قد نسجوا على منواله وساروا على أقدامه. . وجاء من زاد في هذه الأمور ووسع فيها أكثر من ذلك تحمل الشيخ للحمالات والذنوب ولعل كل ما مضى يهون إلا أن يجعل الصوفية الشيخ في مرتبة لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإيمان المريد متعلق بشيخه بل جميع أموره الدنيوية والأخروية لا نجاح ولا فلاح له فيها إلا إذا آمن بشيخه وجعله كل شيء في حياته. وفي ذلك يقول صاحب كتاب الإبريز: " وقد سمعت الشيخ (رضي الله عنه) يقول: الشيخ للمريد في درجة لا إله إلا الله محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإيمانه متعلق به، وسائر أموره الدنيوية والدينية وأرباب البصائر يشاهدون ذلك عيانًا وكنت أخرج معه كثيرًا ـ رضي الله عنه ـ وأنا لا أعرف درجته فكان يقول لي: مثلك مثل من يظل يمشي على عالي أسوار المدينة وشرفاتها مع ضيق المحل الذي تجعل فيه رجلك وبعد محل السقوط فلم أفهم معنى هذا الكلام إلا بعد حين فكان بعد ذلك إذا جرى هذا

ترك العهد الصوفي كفر وردة

الكلام على خاطري يحصل لي منه روع عظيم وخوف شديد وقلت له ذات يوم: إني أخاف من الله تعالى من أمور فعلتها فقال لي: ما هي؟ فذكرت له ما حصل. فقال لي (رضي الله عنه) : لا تخف من هذه الأشياء ولكن أكبر الكبائر في حقك أن تمر عليك ساعة ولا أكون في خاطرك فهذه هي المعصية التي تضرك في دينك ودنياك! ! وقلت له ذات مرة: يا سيدي إني بعيد من الخير. فقال ـ رضي الله عنه ـ: اطرح عنك هذا وانظر إلى منزلتك عندي فعليها تحمل وكنا معه ـ رضي الله عنه ـ على حالة قل أن يسمع بمثلها لا ينزل أمر مهم أو غير مهم إلا ذكرناه له فيتحمله عنا عيانًا ويريح خاطرنا منه بمجرد ذكره " ا. هـ. . وقد بلغ هذا النص الغاية في القباحة والبعد عن الدين لأن الشيخ هنا يجعل نفسه مكان الله سبحانه وتعالى حيث يذكر لمريده أنه إذا مرت ساعة ولا يكون الشيخ في خاطر مريده كانت هذه معصية ضارة عليه في دينه ودنياه. . وهذا حق ما أوجبه الله تعالى لنفسه على عبيده بمثل هذا النحو بل رضي الله سبحانه من العباد أن يذكروه في أوقات مخصوصة وجوبًا كالصلاة وعند أعمال محدودة كالطعام والشراب ونحو ذلك. أما أن تمضي ساعة ولا يذكر المرء فيها ربه ويكون لاهيًا في عمل مباح غير مضيع لواجب فإن هذا لا ضرر فيه على دين المرء أو دنياه، ولكن هؤلاء المشايخ أنزلوا أنفسهم من مريديهم ـ أو من عبادهم ـ هؤلاء المساكين! الذين يضلونهم، منزلة الله، بل جعلوا حقوقهم على مريديهم أعظم من حقوق الله سبحانه وتعالى. ترك العهد الصوفي كفر وردة وبعد فقد يظن أن المريد الذي يلقى مثل هذه الأهوال في طريق التصوف يمكنه أن ينفلت في النهاية فيما لو استيقظ فكره، أو صحا ضميره وهذا ظن بعيد ولكن من أجل هذه اليقظة المحتملة أيضًا قفل مشايخ التصوف

الطريق نهائيًا أمام المريد حتى لا يحاول النكال من ربقته؛ فقد جعلوا الخروج من عهد الشيخ خروجًا من الإسلام. والعهد الصوفي يؤخذ على المبتدئ والمريد في أول الطريق بأن يلتزم بالدين ويتوب مما كان عليه ويقول: تبت إلى الله على يد الشيخ فلان، وعاهدت الله أن ألتزم طريقته وأن لا أبوح بسره إلا بإذن من الشيخ وأن. . وأن. . وفي هذا الأمر يقل عبد الكريم القشيري مبينًا الوقت الذي يعطي في المريد العهد، وأنه يجب عليه التزام الطريق مهما حدث له من المشقات، يقول: " وما لم يتجرد المريد عن كل علاقة لا يجوز لشيخه أن يلقنه شيئًا من الأذكار بل يجب أن يقدم التجربة له فإذا شهد قلبه للمريد بصحة العزم فحينئذ يشترط عليه أن يرضى بما يستقبله في هذه الطريقة من فنون تصاريف القضاء فيأخذ عليه العهد بأن لا ينصرف عن هذه الطريقة بما يستقبله من الضر والذل والفقر والأسقام والآلام وأن لا يجنح بقلبه إلى السهولة ويترخص عن هجوم الفاقات وحصول الضرورات ولا يؤثر الدعة ولا يستشعر الكسل فإن وقفة المريد شرّ من فترته والفرق بني الفترة والوقفة أن الفترة رجوع عن الإرادة وخروج منها والوقفة سكون عن السير باستحلاء حالات الكسل وكل مريد وقف في ابتداء إرادته لا يجيء منه شيء فإذا جربه شيخه فيأمر أن يذكر ذلك الاسم بلسانه ثم يأمره أن يسوي بقلبه مع لسانه ثم يقول له: اثبت على استدامة هذا الذكر كأنك مع ربك أبدًا بقلبك ولا يجري على لسانك غير هذا الاسم ما أمكنك " ا. هـ. (الرسالة القشيرية ص182) . وهكذا يكون العهد بعد التأكد من المريد تمامًا، ويكون التزام المريد بالذكر المخصوص الذي يلقيه إليه الشيخ. ولا يجوز له أن يذكر باسم آخر إلا بإذن الشيخ له. ومعلوم ما في هذه الأمور من المخالفات الشرعية فالعهد لا

يجوز إلا على الإسلام وعلى بيعة الإمام أو على فعل أمر من أمور الإسلام لا يحل به المسلم حرامًا ولا يحرم حلالًا وطاعة الإمام تجب في المعروف فقط. أما في أن يخترع الشيخ للمريد أذكارًا خاصة ويعاهده على عدد لا مخصوص وأعمال مخصوصة فهذا لم يأت به الشرع الحكيم وإنما هذا من بدع الصوفية. ولا سيما أنهم يأمرونهم بأن يذكروا الله باسم واحد من أسمائه أو بمجرد ضمير كهو هو وهذه كلها من البدع التي لم يأمر بها الله ولا رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. ثم يقول القشيري أيضًا: " ومن شأن المريد حفظ حدوده مع الله تعالى فإن نقض العهد في طريق الإشادة كالردة عن الدين لأهل الظاهر " ا. هـ. (القشيرية ص186) . وبهذا يغلق الطريق نهائيًا أمام المريد الذي قد يريد فكاكًا مما دخل فيه إذا اطلع على تهاويل التصوف وترهاته.

الفصل الرابع: الطرق الصوفية

الفصل الرابع: الطرق الصوفية تاريخ نشأة الطرق الصوفية يبدو أن أول صوفي وضع نظام الطرق الصوفية هو الصوفي الإيراني محمد أحمد الميهمي المتوفي سنة 430هـ ـ والمعروف باسم أبي سعيد. فقد أقام في بلدته نظامًا للدراويش، وبنى خانًا بجوار منزله للصوفية، وجعل نظام تسلسل الطريق عن طريق الوراثية، ويبدو كذلك أنه من أوائل من كتب في طريقة التربية الصوفية وهو سابق على عبد الكريم القشيري صاحب الرسالة القشيرية والتي كتب فيها صاحبها أيضًا طائفة كبيرة من طرق التربية الصوفية والقشيري توفي سنة 465هـ ـ وكان مولده سنة 376هـ ـ وأما مولد أبي سعيد فقد كان في سنة 357هـ ـ فهو أكبر من القشيري وأقدم. وقد قيل إنه اتصل بعبد الرحمن السلمي، صاحب كتاب الطبقات، وأخذ عنه الحرقة الأولى، واتصل كذلك بأبي العباس القصاب وأخذ عنه الحرقة الثانية. وقد انتشر بعد ذلك في القرنين الخامس والسادس الهجريين نظام الطرق الصوفية وانتقلت من إيران إلى المشرق العربي فظهرت الرفاعية والقادرية في العراق، والأحمدية والشاذلية في مصر، ثم ظهرت بعد ذلك الدسوقية في مصر أيضًا، ثم تتابع ظهور الطرق الجديدة وكذلك الطرق المتفرعة من طرق قديمة حتى أصبحت الطرق تعد بالآلاف. وغالبًا ما تسمى الطريقة باسم مؤسسها، وأحيانًا تسمى باسم خاص (كالختمية) مثلًا (والزوامة) نسبة إلى الزم لأن ذكرهم (بالزوم) (وهي كلمة عامة مصرية معناه إخراج صوت معروف يخرج من الأنف والفم مقفول بعد الميم) .

معنى الطريقة الصوفية

معنى الطريقة الصوفية الطريقة الصوفية تعني أولًا النسبة إلى شيخ يزعم لنفسه الترقي في ميادين التصوف والوصول إلى رتبة الشيخ المربي. ويدعي لنفسه بالطبع رتبة صوفية من مراتب الأولياء عند الصوفية كالقطب والغوث والوتد والبدل. . إلخ. ولا بد أن يكون من أهل الكرامات والمكاشفات، ويكون له بالطبع ذكر خاص به، يزعم كل واحد منهم أنه تلقاه من الغيب إما من الله رأسًا، أو نزل منه سبحانه مكتوبًا، أو من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اليقظة أو في المنام، أو من الخضر عليه السلام. . المهم لا بد أن يكون له ذكر خاص ينفرد به عن سائر الطرق، ولا بد أن يكون لهذا الذكر الخاص ميزة خاصة وفضل خاص أكبر من الموجود في القرآن والسنة، وأفضل مما عند الطرق الأخرى وهذا بالطبع لجلب (الزبائن) لهذا الطريق الخاص. ثم لا بد أن يكون لكل طريق مشاعر خاصة فلون العلم والخرقة لون مميز، وطريقة الذكر الصوفي مميزة، ونظام الخلوة مميز، وهكذا؛ والطرق الحديثة غالبًا ما يتوارثها الأبناء عن الآباء وذلك أن الطريقة التي تستطيع جلب عدد كبير من المريدين والتابعين والأنصار تصبح بعد مدة يسيرة إقطاعية دينية عظيمة تفد الوفود إلى رئيسها (شيخها) من كل ناحية، وتأتيه الإتاوات والصدقات والهبات والبركات من كل حدب وصوب وحيثما حل الشيخ في مكان ذبحت الطيور والخرفان وأقيمت الموائد الحسان، ولذلك فإن أصحاب هذه الطرق يقاتلون اليوم عنها بالسيف والسنان. وعامة الذين يؤسسون الطرق بل جميعهم يصلون نسبهم بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويجعلون أنفسهم من آل بيته. نماذج من الطرق الصوفية الطريقة التجانية 1 ـ تنسب الطريقة التجانية إلى أحمد بن محمد بن المختار التجاني المولود

سنة 1150هـ ـ 1737م ونسبته إلى بلدة تسمى (بني توجين) قرية من قرى البربر في المغرب، وينسب نفسه إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما عادة كل من أسس طريقة صوفية. سار أولًا في الطريقة (الخلوتية) . 2 ـ ثم أسس طريقة لنفسه سماها باسمه بعد أن استقر في مدينة فاس بالمغرب وبنى فيها زاوية لمريديه. ويقول صاحب كشف الحجاب عن هذه الزاوية " كانت خربة متهدمة من ملك أولاد أفومي وكانت فيها كرمة كبيرة وكانت تلك الخربة مهيبة لا يقدر أحد أن يدخلها وحده، وقد بلغني على لسان الثقة أنه كان يسمع فيها بعض الأحيان كأن جماعة يذكرون فيها وكان يقصدها غالب مجاذيب فاس " ا. هـ. . ولم يترك التجاني هذا أي علم ينتفع به ولكن جمع له تلميذ من تلاميذه يسمى علي حرازم كتابًا سماه (جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التجاني) . . والكتاب كله في فضل سيده وكراماته وأخلاقه وشمائله وأذكاره وأحواله وطريقته، وإشاراته القرآنية وعلومه اللدنية. . 3 ـ ولم يترك التجاني هذا بدعة قديمة للتصوف إلا ابتدعها ولا فضلًا مزعومًا ادعاه شيخ صوفي لنفسه إلا ادعاه هو لنفسه وزاد عليه. فقد ادعى أنه هو خاتم الأولياء جميعًا والغوث الأكبر في حياته وبعد مماته، وأن أرواح الأولياء منذ آدم إلى آخر ولي لا يأتيها الفتح والعلم الرباني إلا بوساطته هو، وأن قدمه على رقبة كل ولي لله تعالى من خلق آدم إلى النفخ في الصور، وأنه أول من يدخل الجنة هو وأصحابه وأتباعه، وأن الله شفعه في جميع الناس الذين يعيشون في قرنه الذي عاش فيه، وأن الرسول أعطاه ذكرًا يسمى صلاة الفاتح يفضل أي ذكر قرئ في الأرض ستين ألف مرة بما في ذلك القرآن الكريم، وهاك بعض النصوص من كتب التجانية لكل هذه الأمور. أـ إيمانهم بوحدة الوجود وأن كل الأديان حق: قال أحمد بن حرازم، مؤلف جواهر المعاني، وهو أشهر كتاب عندهم كما مر

آنفًا: ". . فكل عابد أو ساجد لغير الله في الظاهر فما عبد ولا سجد إلا لله تعالى لأنه هو المتجلي في تلك الألباس، وتلك المعبودات كلها تسجد لله تعالى وتعبده وتسبحه خائفة من سطوة جلاله سبحانه وتعالى، ولو أنها برزت لعبادة الخلق وبرزت لها بدون تجلية فيها لتحطمت في أسرع من طرفة العين لغيرته تعالى لنسبة الألوهية إلى غيره قال سبحانه وتعالى لكليمه موسى: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} [طه: 14] . والإله في اللغة هو المعبود بحق وقوله {لا إله إلا أنا} [طه: 14] . يعني لا معبود غيري وإن عبد الأوثان من عبدها فما عبد غيري، ولا توجهوا بالخضوع والتذلل لغيري " (جواهر المعاني ص184، 185 ج1) . وقال أيضًا: ". . إن جميع المخلوقات مراتب للحق يجب التسليم له في حكمه وفي كل ما أقام خلقه لا يعارض في شيء ثم حكم الشرع من وراء هذا يتصرف فيه ظاهرًا لا باطنًا لا يكون هذا إلا لمن عرف وحدة الوجود فيشاهد فيها الوصل والفصل، فإن وجود عين واحدة لا تجرؤ فيها على كثرة أجناسها وأنواعها ووحدتها لا تخرجها عن افتراق أشخاصها بالأحكام. والخواص وهي المعبر عنها عند العارفين أن الكثرة عين الوحدة والوحدة عين الكثرة فمن نظر إلى كثرة الوجود وافتراق أجزائه نظر عينًا واحدة على كثرته، ومن نظر إلى عين الوحدة نظرة متكثر بما لا غاية له من الكثرة، وهذا النظر للعارف فقط لا غيره من أصحاب الحجاب وهذا لمن عاين الوحدة ذوقًا لا رسمًا وهذا خارجًا عن القال. . " (جواهر المعاني ص92 ج2) . ب ـ تفضيلهم ما يسمونه بصلاة الفاتح على القرآن الكريم: ومن أعظم جرائمهم أيضًا وأكبر مفترياتهم ابتداعهم وتفضيلهم ذكرًا مبتدعًا

سيء المعنى ركيك العبارة، على كل ذكر قرئ في الأرض، وجعلهم قراءته أفضل من قراءة القرآن الكريم ستين ألف مرة وهو لا يعدو ثلاثة أسطر وهذا الذكر المبتدع هو: " اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، الهادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم ". . ا. هـ. (أحزاب وأوراد التجاني تحقيق محمد الحافظ) . ولا يخفى على عالم بالعربية ركاكة لفظ هذه الصلاة وما فيها من المجاهيل فما هو الذي أغلق وفتحه الرسول. . وما هو الذي سبق؟ ! وكيف يكون هذان السطران أفضل من القرآن الكريم المعجز. .؟ ولا عجب في هذا الكذب فقد زعموا أيضًا أنها نزلت من السماء. فقد قال الفوطي مؤلف كتاب (رماح حزب الرحيم) : " ويجب أن يعتقد الذاكر أنها من كلام الله " (رماح حزب الرحيم ج2 ص139) ، وقال مؤلف كتاب (الدرة الخريدة) : " ويعتقد المصلي أنها في صحيفة من نور أنزلت بأقلام قدرة إلهية وليست من تأليف زيد ولا عمرو بل هي من كلامه سبحانه وتعالى " (الدرة الخريدة ج4 ص128) ، وقال صاحب الجواهر أيضًا: ". . إنها لم تكن من تأليف البكري ولكنه توجه إلى الله مدة طويلة أن يمنحه صلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها ثواب جميع الصلوات وسر جميع الصلوات وطال طلبه مدة ثم أجاب الله دعوته فأتاه الملك بهذه الصلاة المكتوبة في صحيفة النور ثم قال الشيخ فلما تأملت هذه الصلاة وجدتها مكتوبة في صحيفة من النور ثم قال الشيخ فلما تأملت هذه الصلاة وجدتها لا تزنها عبادة جميع الجن والإنس والملائكة قال الشيخ وقد أخبرني ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ثواب الاسم الأعظم فقلت: إنها أكثر منه فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل هو أعظم منها ولا تقوم له عبادة " (الجواهر ص96) ا. هـ. . وقال في بيان فضلها:

" وأما فضل صلاة الفاتح لما أغلق إلخ. . فقد سمعت شيخنا يقول كنت مشتغلًا بذكر صلاة الفاتح لما أغلق حين رجعت من الحج إلى تلمسان لما رأيت من فضلها وهو أن المرة الواحدة بستمائة ألف صلاة كما هو في وردة الجيوب. وقد ذكر صاحب الوردة أن صاحبها سيدي محمد البكري الصديقي نزيل مصر وكان قطبًا. قال إن من ذكرها ولم يدخل الجنة فليقبض صاحبها عند الله، وبقيت أذكرها إلى أن رحلت من تلمسان إلى أبي سمعون فلما رأيت الصلاة التي فيها المرة الواحدة بسبعين ألف ختمة من دلائل الخيرات تركت الفاتح لما أغلق واشتغلت بها وهي (اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله صلاة تعدل جميع صلوات أهل محبتك وسلم على سيدنا محمد وعلى آله سلامًا يعدل سلامهم) ولما رأيت فيها من كثرة الفضل ثم أمرني بالرجوع ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى صلاة الفاتح لما أغلق فلما أمرني بالرجوع إليها سألته ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن فضلها فأخبرني أولًا بأن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات، ثم أخبرني ثانيًا أن المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيح وقع في الكون ومن كل ذكر ومن كل دعاء كبير أو صغير ومن القرآن ستة آلاف مرة لأنه من الأذكار. . " (جواهر المعاني ج1 ص94) ا. هـ. . وقلت: ولا يخفى ما في هذا من الكذب والتلفيق، ولا يخفى أيضًا أن تصديق مثل هذه الترهات تكذيب لله ولرسوله فقد قال تعالى {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [المائدة: 67] . وقال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3] . ومستحيل أن يحجب الرسول مثل هذا الفضل عن أفضل أمته هم أصحابه الأطهار، ويؤثر بذلك مجموعة من خدم وعبيد الكفار والاستعمار عاشوا في شمال إفريقية على أكل أموال الناس بالباطل وخدمة الفرنسيين وتضليل المسلمين وصرفهم من التوحيد إلى الشرك ومن الصراط المستقيم إلى طرق الشياطين. ولا غرو فقد فضل التجاني هذا نفسه على جميع الصحابة والتابعين وجميع

ادعاء التجاني أن أتباعه يدخلون الجنة مهما عصوا

الأمة أجمعين وادعى الولاية العظمى والغوثية وختم الأولياء (انظر الفصل الخاص بخاتم الأولياء) . ادعاء التجاني أن أتباعه يدخلون الجنة مهما عصوا وادعى التجاني ما لم يعطه الله لرسوله من الشفاعة من أن من رآه دخل الجنة ولو كان كافرًا، وأن جميع آبائه وأمهاته في الجنة، وجميع أتباعه. قال صاحب الرماح: ". . وليس لأحد من الرجال أن يدخل أصحابه كافة الجنة بغير حساب ولا عقاب ولو عملوا من الذنوب ما عملوا وبلغوا من المعاصي ما بلغوا إلا أنا وحدي، ووراء ذلك ما ذكر لي فيهم وضمنه لهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر لا يحل ذكره ولا يرى ولا يعرف إلا في الآخرة. . " (رماح حزب الرحيم ص143 ج2) ا. هـ. . وقال مؤلف الجواهر: " اطلعت على ما رسمه وخطه ونصه. . أسأل من فضل سيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يضمن دخول الجنة بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى، أنا وكل أب وأم ولدوني من أبوي إلى أول أب وأم لي في الإسلام من جهة ومن جهة أمي، من كل ما تناسل منهم من وقتهم إلى أن يموت سيدنا عيسى بن مريم من جميع الذكور والإناث. وكل من أحسن إلي بإحسان حسي أو معنوي من مثقال ذرة فأكثر. . فكل من لم يعادني من جميع هؤلاء. أما من عاداني وأبغضني فلا، وكل من والاني واتخذني شيخًا أو أخذ عني ذكرًا، وكل من خدمني أو قضى لي حاجة. . وآباؤهم وأمهاتهم وأولادهم وبناتهم وأزواجهم. . يضمن لي سيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولجميع هؤلاء أن يموت كل حي منهم على الإيمان والإسلام. . ثم قال كل ما في هذا الكتاب ضمنته لك ضمانة لا تتخلف عنك وعنهم أبدًا،

إلى أن تكون أنت وجميع من ذكرت في جواري في عليين. وضمنت لك جميع ما طلبته منا ضمانًا لا يخلف عليك الوعد فيها والسلام. . ثم قال: وكل هذا واقع يقظة لا منامًا " (جواهر المعاني ج21 ص130، 131) . قلت: لم أجد في حياتي كذبًا أسمج، ولا وقاحة، ولا تقولًا على الله ورسالاته أكبر من ذلك. . فماذا كان عند هذا الوقح من دين وإسلام حتى يضمن الرسول له ذلك، وهذا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي يقول [والله إني لرسول الله لا أدري ما يفعل بي غدًا] (رواه البخاري) ، والذي يقول الله تبارك وتعالى له: {قل إني لا أملك لكم ضرًا ولا رشدًا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدًا} [الجن: 21 ـ 22] . فيأتي هذا الكذب ليفتري على الله أمثال هذه الافتراءات ويأبى الله إلا أن يكذبه فيكون أتباعه وأولاده أفضل خدم للكفر والاستعمار. . وقال أيضًا مؤكدًا هذه المزاعم: " وسألته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكل من أخذ عني وردًا أن تغفر لهم جميع ذنوبهم ما تقدم منها وما تأخر، تؤدي عنهم تبعاتهم من خزائن فضل الله لا من حسناتهم، وأن يدفع الله عنهم محاسبته على كل، وأن يكونوا آمنين من عذاب الله من الموت إلى دخول الجنة بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى، وأن يكونوا معي في عليين في جوار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ضمنت لك هذا ضمانًا لا ينقطع حتى تجاورني أنت وهم في عليين " (الجيش الكفيل بأخذ الثأر ص214، 215) ا. هـ. . فانظر أي أخلاق يكون عليها الذين يدعون مجاورة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عليين. ولم يكتف التجاني بهذا أيضًا فقد زعم كذلك أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يفارقه يومي الاثنين والجمعة من كل أسبوع، وأن مع الرسول سبعة أملاك وكل من رأى التجاني في هذين اليومين، تكتب الملائكة اسمه في رقعة من الذهب ويكون ناجيًا أبدًا ومن أهل السعادة حتى ولو كان كافرًا عند مشاهدته للتجاني فإنه لا بد أن يموت على الإسلام، وأن هذا كرامة من الله له.

قال صاحب بغية المستفيد شرح منية المريد (هو محمد العربي السائع العمري التجاني وكتابه شرح لمنية المريد وهي من تأليف أحمد التجاني بن بابا الشنقيطي العلوي (التجانية تأليف علي بن محمد بن الدخيل الله ص76)) : " وأما الكرامة الثالثة وهي دخول الجنة لمن رآه ـ رضي الله عنه ـ في اليومين الاثنين والجمعة، فهي من كراماته ـ رضي الله عنه ـ التي طارت بها الركبان وتواترت بها الأخبار في سائر الأقطار والبلدان، بأخبار من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولفظه الشريف فيما أخبر به سيدنا ـ رضي الله عنه ـ بعزة ربي، يوم الاثنين والجمعة لا أفارقك فيهما من الفجر إلى الغروب ومعي سبعة أملاك، وكل من يراك في اليومين يكتبون ـ يعني الأملاك السبعة ـ اسمه في رقعة من ذهب ويكتبونه من أجل الجنة وأنا شاهد على ذلك " (بغية المستفيد ص216) . وقال أيضًا: " ورأيت في كلام بعض من كان مشارًا إليه بالفتح من الأصحاب ما يشير إلى أن المختص برئيه في اليومين هو السعادة التي لا شقاوة بعدها يعني أنه لا يراه في هذين اليومين إلا من سبق في علم الله تعالى أن يكون سعيدًا، فيدخل الكفار في هذا الخطاب، وينسحب عليهم الحكم في هذا المقام بفضل الملك الوهاب فيقال لا يراه في هذين اليومين إلا من يسبق في علم الله تعالى أنه يختم له بالسعادة كائنًا من كان، فإذا رآه الكافر في أحد هذين اليومين ختم له بالإيمان وعليه فتخصص الرؤية المطلقة في كل يوم بمن كان مسلمًا سواء كان من الأصحاب أو لا حسبما هو مصرح به في الجواهر وهذه المقيدة باليومين بما يشمل كل من رآه ولو كان كافرًا " (بغية المستفيد ص275) ا. هـ. . وهذا الذي ادعاه التجاني لنفسه لم يحصل لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمعلوم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رآه آلاف الناس من الكفار في كل أيام الأسبوع ومع ذلك فقد ماتوا على الكفر والشرك بل كان هناك معه من الذين صحبوه، وجاهدوا وصلوا معه، منافقون مردوا على النفاق، بل كان منهم من قال الله له في شأنهم {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80] .

زعم التجانية رؤية الرسول في اليقظة والأخذ عنه

وكذلك كان من أصحابه أناس يعرفهم الرسول ويعرفونه ويوم القيامة يؤخذ بهم جهة النار ويطردون عن حوضه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقول للملائكة أصحابي أصحابي فيقولون: ليسوا أصحابك إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك. (رواه البخاري ومسلم) . فإذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا شأنه فيمن رآه، وهذا شأنه مع أصحابه فماذا يكون زعم التجاني إلا أنه كذب سمج وقح. . ووالله إني لا أرى الرد على أمثال هذه الترهات ولكننا مضطرون أحيانًا أن نذكر بالآيات والأحاديث وموازين الدين وقواعد الشريعة لأن بعض الناس قد يسمعون بمثل هذه السخافات ولا يستطيعون التمييز بين النبي الصادق والدعي الكذاب وبين عقيدة الإسلام الطيبة وعقائد الزنادقة ولذلك فإننا نضطر أحيانًا أن نقابل هذا الهراء الذي لا ينطلي حتى على الصبيان والمجانين بالآيات والأحاديث فاللهم معذرة أن نخاطب بكلامك الطيب وبكلام رسولك الصادق الأمين أمثال هؤلاء الكاذبين الزنادقة. زعم التجانية رؤية الرسول في اليقظة والأخذ عنه ومن خرافات التجانية أيضًا وافتراءاتهم زعمهم رؤية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دائمًا، وحضوره وحاشاه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مجالس ذكرهم المبتدعة وهذه أقوالهم في ذلك: 1 ـ قال في جواهر المعاني: " قال ـ رضي الله عنه ـ: أخبرني سيد الوجود يقظة لا منامًا قال لي: أنت من الآمنين، ومن رآك من الآمنين إن مات على الإيمان. . " (جواهر المعاني ج1 ص129) . 2 ـ وقال أيضًا: ". . سأل سيد الوجود، وعلم الشهود، ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كل نفس مشهود، عن نسبه وهل هو من الأبناء والأولاد، أو من الآل والأحفاد، فأجابه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله: (أنت ولدي حقًا) كررها ثلاثًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال نسبك إلى الحسن بن علي صحيح. وهذا السؤال من سيدنا ـ رضي الله عنه ـ لسيد الوجود

يقظة لا منامًا، وبشر ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأمور عظام جسام ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشرف وكرر ومجد وعظم " (جواهر المعاني ج2 ص228) . 3 ـ وقال أيضًا عن الصلاة المسماة بياقوتة الحقائق: " هي من إملاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من لفظه الشريف على شيخنا يقظة لا منامًا " (جواهر المعاني ج1 ص30، 31) . 4 ـ وقال أيضًا فيما يرويه عن شيخه التجاني: " قال رأيته مرة ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسألته عن الحديث الوارد في سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام. قلت له: ورد عنك روايتان صحيحتان واحدة قلت فيها يمكث بعد نزوله أربعين، وقلت في الأخرى سبعًا. . ما الصحيحة منها؟ قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: رواية السبع " (جواهر المعاني ج1 ص50) . وهذا الذي يزعم التجاني أنه استفاد من الرسول في اليقظة. بشأن ترجيح (رواية سبعة أيام على أربعين يومًا) قد سرقه التجاني من كتاب الإبريز للدباغ فهناك قد زعم الدباغ أيضًا أنه استفاد هذا من الرسول. . وقد كان هذا الشأن التجاني دائمًا. . كلما سمع أن أحدًا سبقه من رجال التصوف في قول أو نحوه قال نحوه وزاد؛ كما سمع أو قرأ أن عبد القادر الجيلاني قال عن نفسه قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله. . فقال التجاني وأما أنا فأقول قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله من خلق آدم إلى النفخ في الصور. . وسمع أو قرأ أن ابن عربي قال إنه خاتم الأولياء فقال بل أنا خاتم الأولياء وهكذا فقد ردد معظم الكذب الذي سبقه به شياطين التصوف القدامى وزاد عليهم. ونعود فنقول إن التجانية لم يجعلوا رؤية الرسول في اليقظة خاصة بالتجاني بل جعلوها بكل من زعموا أنه بلغ درجة العرفان في زعمهم وهاك بعض نصوصهم في ذلك: 1 ـ قال في رماح حزب الرحيم: " ولا يكمل العبد في مقام العرفان حتى يصير يجتمع برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقظة ومشافهة. . إلخ " (الرماح ص199 ج1) .

2 ـ وقال في بغية المستفيد: ". . منهم من يرى روحه في اليقظة متشكلة بصورته الشري فة، ومنهم من يرى حقيقة ذاته الشريفة وكأنه معه في حياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهؤلاء هم أهل المقام الأعلى في رؤيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ا. هـ. (بقية المستفيد ص79، 80) . * وهذا هو الذي نبهنا عليه في أول الكتاب أن المفترق الأول بين دين الإسلام ودين التصوف هو الافتراق في التلقي بينما يتلقى المسلمون دينهم بعد وفاة الرسول من الكتاب والسنة وإجماع الأمة فقط هذا هو المعصوم ثم من اجتهاد الأئمة المعرض للصواب والخطأ، أقول بينما يفعل المسلمون ذلك، فإن المتصوفة يجعلون تلقيهم للدين من كل هب ودب ممن يزعم ملاقاة الرسول وهذا كذب بإجماع الأمة. أو ملاقاة الخضر وهذا كذب وافتراء بين فلم يتعبدنا الله بخضر أو بغيره أو ممن يزعم رؤية الملائكة وسماع دينهم أو ممن يزعم تلقي الدين من اللوح المحفوظ رأسًا وممن يتجاوز كل ذلك فيقول حدثني قلبي عن ربي. . أو من يقول يأتيني كلام الله مكتوبًا في ألواح من نور. . فكل مشايخ التصوف رسل وأنبياء ومشرعون ومتلقون للدين من طرق أخرى غير طريق المسلمين وبهذا تتأكد أن دين هؤلاء حتمًا ليس بدين المسلمين. . وأنهم يفترقون عن المسلمين في الأصل الأصيل وهو مصدر الدين. ولو فرضنا جدلًا أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يمكن أن يعود بجسده الشريف أو روحه الطاهر ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلقى بعض المسلمين فإننا نجزم أن لقاءه هذا سيكون لتعزيز شريعته التي بثها في حياته لا لهدمها، فنتصور مثلًا في مثل التجاني أن يقول لا تكن أنت وأتباعك عبيدًا للاستعمار الفرنسي ولا خدمًا للكفار، وقوموا بنصرة الدين، وجاهدوا في سبيل الله وأما أن يأتي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليقول للتجاني أقطعتك الجنة وأتباعك ولو كانوا مجرمين فاسقين وكل من رآك دخل الجنة ولو كان كافرًا، وأمر أتباعك أن يدعوك من دون الله ويشركوا بالله في كل شيء. يأتي بآخر فيقطعه قطعة من الجنة ويؤمنه من العذاب ويقول لا حرج عليك وعلى أتباعك واعمل مولدًا لنفسك ومولدًا لي تستباح فيه

دعوة التجانية إلى الشرك الجلي

الحرمات وتهتك فيه الأعراض ولا حرج عليك من ذلك لأن كل ذنوب أصحابك أنا أغفرها لكم. . هذه هي المهمة التي بقيت لرسول الله في الأرض. . يا سبحان الله كم يكذب هؤلاء على الله وعلى رسوله وهم لا يستحون. دعوة التجانية إلى الشرك الجلي والطريقة التجانية كغيرها من الطرق رأس مالها وقطب رحاها في الدين أن تدعو الناس إلى الشرك بالله فبدلًا من دعوة الناس إلى الصلاة الصحيحة، والصوم الصحيح المشروع والحج، والزكاة، والجهاد في سبيل الله قد استبدلوا كل ذلك بوسيلة واحدة وهي الاستغاثة بالمشايخ ودعوتهم من دون الله والالتجاء بهم إلى الله والاعتقاد أن الله لا يقبلهم إلا عن طريق هؤلاء الشيوخ الضالين بزعم أن هؤلاء المشايخ هم أبواب الله، ولا دخول على الله إلا من طريقهم، ولا قبول لتوبة تائب إلا برضاهم، وأي قربان أو زكاة لا تقبل إلا إذا كانت أيدي هؤلاء المشايخ أول من يلتقطها، وأول من يأكلها. . هذا هو دين الصوفية في نهايته إخراج الناس من عبادة الله عز وجل إلى عبادة هؤلاء المشايخ أحياءً وأمواتًا. . قال مؤلف رماح حزب الرحيم: " وأما كيفية التوسل به ـ رضي الله عنه ـ وبجده ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهي أنك مهما أردت حاجة من حوائج الدنيا والآخرة فصل على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصلاة الفاتح لما أغلق مائة، واهد ثوابها لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضاء الحاجة التي تريدها ثم تقول: يا رب توسلت إليك بجاه القطب الكامل سيدنا أحمد بن محمد التجاني وجاهه عندك أن تعطيني كذا وكذا، وتسمي حاجتك بعينها عشرًا " ا. هـ. (الرماح ج1 ص165) . وهكذا لا يوجهون الناس في الملمات والمهمات إلا إلى التوجه إلى الرسول

تفضيل التجاني نفسه على جميع الأولياء

والتجاني. . وعلى الرغم من أن التوسل إلى الله بالنبي بعد موته بدعة منكرة لم يفعلها أحد من سلف الأمة المشهود لهم بالخير، فإن اقتران اسم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ باسم هذا الدعي الكذاب من أكبر الإثم والزور والجرأة على الله. . والعجيب في أمر التجانية أيضًا أنهم جعلوا التوسل بالأموات عند أتباعهم خاصًا بالرسول والتجاني فقط، وأنه من توسل منهم بغير الرسول والتجاني فإنه يخرج من الطريقة خروجًا نهائيًا وينسلخ منها انسلاخًا كاملًا لا رجعة فيه كما ينسلخ جلد الشاة عن الشاة والبيضة عن الدجاجة؛ ومعلوم أن جلد الشاة إذا سلخ منها يستحيل إعادته إليها وأن بيضة الدجاجة إذا انفصلت عنها يتعزز إعادتها إليها. . فانظر كيف حكموا بأكبر من الردة عن الدين لمجرد أن واحدًا منهم توسل بشيخ غير شيخهم. قال مؤلف الدرة الخريدة: " ومن زار من الإخوان الأحمديين شيخًا من المشايخ حيًا كان أو ميتًا بقصد التوسل به والاستمداد غير شيخنا أبي الفيض (شيخهم أبو الفاضل هو أحمد التجاني والفيض في زعمهم هو علم الغيب والخير الذي يفيضه على أتباعه) . . فقد خرج عن طريقة الأحمدية ولا إذن عنده فيها، بل انسلخ منها انسلاخ الجلد عن النعاج وانفصل عنها انفصال البيض عن الدجاج. . " ا. هـ. (الدرة الخريدة) . فانظر كيف يكون الاستعباد والاستبداد وضرب طوق جهنمي عمن وقع في شباكهم أن لا يتصل بشيخ آخر مطلقًا ولا يعلق قلبه به. تفضيل التجاني نفسه على جميع الأولياء كل شيخ صوفي صاحب طريق يؤثر عنه أنه يفضل نفسه على سائر الأولياء، وذلك حتى يستطيع جلب الناس لطريقته، ويتفانى فيه أتباعه من بعده تعصبًا لشيخهم وترويجًا لطريقتهم، والتجاني لعله أكثرهم جرأة في هذا الصدد، فلم يترك فضلًا مزعومًا لأحد قبله إلا نسبه إلى نفسه، فقد ادعى أنه

خاتم الأولياء تقليدًا لمن سبقه من مشايخ التصوف (راجع الفصل الخاص بخاتم الأولياء) وادعى لنفسه أنه هو الذي يمد جميع الأولياء بالعلوم والمعارف منذ خلق آدم أي قبل أن يخلقه الله وإلى النفخ في الصور. . فهو الذي تنبع منه المعارف والعلوم والأسرار الإلهية ـ حسب زعمه ـ إلى الأولياء السابقين قبل وجوده وإلى جميع الأولياء اللاحقين إلى نهاية العالم. 1 ـ وقال مؤلف بغية المستفيد: " قال ـ رضي الله عنه ـ إن الفيوض التي تفيض من ذات سيد الوجود ـ صلى الله عليه وسلم ـ تتلقاها ذوات الأنبياء، وكل ما فاض وبرز من ذوات الأنبياء تتلقاه ذاتي، ومني يتفرق على جميع الخلائق من نشأة العالم إلى النفخ في الصور. . وقال: لا يتلقى ولي فيضًا من الله تعالى إلا بوساطته ـ رضي الله عنه ـ من حيث لا يشعر به، ومدده الخاص به وإنما يتلقاه من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ا. هـ. (بغية المستفيد ص225) . 2 ـ وقال مؤلف الدرة الخريدة: ". . فسيدي أبو الفيض أصل جميع الوسائل المتقدمة والمتأخرة، وشيخ المشايخ، وبرزخ البرازخ، والمنبع الذي تنفجر منه العلوم والفيوض والمعارف والأسرار لجميع الأولياء والأقطاب والعارفين والأحباب. . " ا. هـ. (الدرة الخريدة ج1 ص26) . وقال في منية المريد: لا شك أن شيخنا التجاني ** مم كل عارف صمداني يعطي ويمنع ويسلب فمن ** كمثله من الورى في ذا الزمن (بغية المستفيد ص226) . ولا يخفى أن هذا اعتقاد خرافي ثم هو شرك واضح لأنه رفع للمخلوق إلى مرتبة الخالق فالذي يهب المعارف والعلوم والفقه ويشرح القلوب هو الله سبحانه وتعالى {ففهمناها سليمان وكلًا آتينا حكمًا وعلمًا} [الأنبياء: 79] . فهو الذي يفهم سبحانه وتعالى وقال أيضًا سبحانه: {الرحمن علم القرآن خلق الإنسان

أذكارهم وبدعهم الخاصة

علمه البيان} [الرحمن: 1: 4] . وقال تعالى لرسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء: 105] . فالله هو الذي يري رسوله وكل ذلك بمدده هو سبحانه وتعالى وفضله {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} [الأنعام: 125] . فشرح الصدر ونور الفؤاد منه سبحانه وتعالى وليس من التجاني ولا غيره ومن ظن هذا الظن في أنه لا يأتيه علم ولا مدد إلا عن طريق التجاني أو غيره من البشر فلا شك في كفره ومروقه من الدين. أذكارهم وبدعهم الخاصة هذه أخي المسلم هي أهم القواعد والقضايا التي تقوم عليها الطريقة التجانية إضافة إلى بدعهم الخاصة في الأذكار والعبادات، فقد ابتدعوا صلاة سموها (جوهرة الكمال) فيها سب للرسول واشترطوا لقراءتها أن يكون قارئها متطهرًا بالطهارة المائية فقط، فلو فقد الماء أو لم يستطع استعماله فلا يجوز له قراءتها فرفعوها بذلك عن منزلة القرآن الكريم والصلاة. وهذه الصلاة المبتدعة هي: " اللهم صل على عين الرحمة الربانية. . والياقوتة المتحققة الحائطة بمركز الفهوم والمعاني ونور الأكوان المتكونة الآدمي صاحب الحق الرباني البرق الأسطع بمزون الأرياح المائلة لكل متعرض من البحور والأواني ونورك اللامع الذي ملأت به كونك الحائط بأمكنة المكاني، اللهم صل وسلم على عين الحق التي تتجلى منها عروش الحقائق عين المعارف الأقوم صراطك التام الأسقم، اللهم صل على طلعة الحق بالحق الكنز الأعظم إفاضتك منك إليك إحاطة النور المطلسم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى آله صلاة تعرفنا بها إياه " ا. هـ. (أحزاب وأوراد التجاني ص13، 14) . فهذه الصلاة إلى جوار ركاكة ألفاظها فيها معان سيئة كقوله (صراطك التام الأسقم) . . (إحاطة النور المطلسم) . . (ونور الأكوان المتكونة) . . وبمثل هذه المبتدعات صرفوا الناس عن الصلوات والطيبات الزاكيات التي

نطق بها فم الرسول الطاهر ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحرموا المسلمين الأجر الحقيقي واتباع الرسول إلى اتباع هؤلاء المبتدعين المارقين. * هذه خلاصة وعجالة لهذه الطريقة التي انتشرت انتشارًا ذريعًا في شمال إفريقية وفي وسطها وغربها، وضمت تحت لوائها ملايين كثيرة من أبناء المسلمين. وهذا جانب يسير من واقعها الفعلي وإلا فقد جاء من بنى على هذا الواقع الفاسد، وزعم أنه صاحب الفيضة التجانية الذي بشر به التجاني، وأن أتباعه يدخلون جميعًا الجنة بغير حساب ولو كانوا كفارًا ولو أنهم لم يفعلوا شيئًا قط من الدين، أو استحلوا كل المحرمات لأن الله اختارهم لذواتهم فقط وهذا الشخص هو (الحاج إبراهيم السنغالي) والذي كان له شأن عظيم، وبسط دعوته تلك في أصقاع كبيرة من القارة الأفريقية.

الطريقة الرفاعية

الطريقة الرفاعية تنسب الطريقة الرفاعية إلى أحمد الرفاعي بن سلطان علي، ويصل أتباعه نسبه إلى موسى الكاظم بن جعفر الصادق إلى علي بن أبي طالب. ولد أحمد الرفاعي في قرية (حسن) بالقرب من أم عبيدة بالعراق 512هـ ـ وتوفي سنة 578هـ ـ ودفن في قرية أم عبيدة. ما نسب من كرامات للرفاعي: 1 ـ أشهر ما يعرف عنه زعم أتباعه أنه لما حج عام 555هـ ـ ووقف أمام قبر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال هذين البيتين: في حالة البعد روحي كنت أرسلها ** تقبل الأرض عني وهي نائبتي وهذه دولة الأشباح قد حضرت ** فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي ويزعم أتباعه أن النبي خرج من قبره ومد له يده من بين حديد شباك القبر فقبلها الرفاعي. . (الطريقة الرفاعية ص133) . 2 ـ وينسبون من كراماته أيضًا أنه إذا كان ألقى الدرس سمعه الأصم والسميع، والقريب والبعيد، وأن الله أحيا له الميت، وأقام له المقعدين، وقلب له الأعيان، وصرفه في الخلق (الطريقة الرفاعية ص134) . ويذكرون كذلك أن الله أبرد لأتباعه النيران، وأزال لهم فاعلية السموم. . وألان لهم الحديد، وأذل لهم السباع والأفاعي، وأخضع لهم طغاة الجن، وصرفهم في العوالم، وأطلعهم على عجائب الأسرار. 3 ـ دعا الناس إليه وإلى طريقته بطرق شتى؛ من ذلك قوله: " إنكار العبد نعمة من موجبات السلب، أنا من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. . إن

الله إذا وهب عبده نعمة ما استردها، شكر النعمة معرفة قدرها " (البرهان المؤيد ص28) . وقال أيضًا في بعض مواعظه ودروسه يمدح نفسه ويدعو إلى طريقته: " أي خاصة أي عامة فاض بحر الكرم (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) . أنا مأوى المنقطعين، أنا مأوى كل شاة عرجاء انقطعت في الطريق. أنا شيخ العواجز أن شيخ من لا شيخ له فلا يتشيخ الشيطان على رجل من أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ عهد مني بالنيابة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عهدًا عامًا إلى يوم القيامة، العرش قبلة الهمم، والكعبة قبلة الجباه، وأحمد قبلة القلوب. قال لي حبيبي أنت وجه لا يخزيه الله في أتباعه أبدًا {سلام عليك بما صبرتم فنعم عقبى الدار} [الرعد: 24] . هات يا منشد الفتح في حضرة المنجي. قل كيف شئت مجلس مأتم ومجلس فرح {يولج الليل في النهار} [فاطر: 16] . {ألا إلى الله تصير الأمور} [الشورى: 53] . {وكفى بالله وليًا} [النساء: 45] . عليكم بتقوى الله لا تخرجوا من ساحة التوحيد، ربنا الله لا شريك له نعم الولي ونعم النصير والحمد لله رب العالمين " (المجالس الرفاعية ص112) . ولا يخفى هنا زعمه أن الرسول خاطبه وكلمه (قال لي حبيبي أنت وجه لا يخزيه الله في أتباعه أبدًا) . وقال أيضًا في مقام آخر: " صحبتنا ترياق مجرب، والبعد سم قاتل، أي محجوب تزعم أنك اكتفيت عنا بعلمك، ما الفائدة من علم بلا عمل، ما الفائدة من عمل بلا إخلاص، الإخلاص على حافة طريق الخطر، من ينهض بك إلى العمل. من يداويك من سم الرياء، من يدلك على الطريق الأمين بعد الإخلاص {أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل: 43] . هكذا أنبأنا العليم الخبير، تظن أنك من أهل الذكر، لو كنت منهم ما كنت محجوبًا عنهم لو كنت من أهل الذكر ما حرمت ثمرات الفكر، صدك حجابك، قطعك عملك. قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أعوذ بكم من علم لا ينفع) ، لازم أبوابنا، أي محجوب فإن كل

درجة وآونة تمضي لك في أبوابنا درجة وإنابة إلى الله تعالى، صحت إنابتنا إلى الله، قال تعالى: {واتبع سبيل من أناب} [لقمان: 15] . أيها المتصوف لم هذه البطالة صر صوفيًا حتى نقول لك أيها الصوفي " ا. هـ. (البرهان المؤيد ص35) . وكان يقول أيضًا: " أيها البعيد عنا، الممقوت منا ما هذا يا مسكين، لو كان لنا فيك مقصد يشهد بحسن استعدادك وخالص حبك إلى الله وأهله اجتذبناك إلينا، وحسبناك إلينا. شئت وإلا. . لكن الحق يقال: حظك منعك، وعدم استعدادك قطعك، لو حسبناك منا ما تباعدت عنا، خذ مني يا أخي علم القلب، خذ مني علم الذوق، خذ مني علم الشوق. أين أنت مني يا أخا الحجاب اكشف لي قلبك. . " ا. هـ. (البرهان المؤيد ص33) . وقال أيضًا في هذا المعنى: " أقامنا الله أئمة الدعوة بالنيابة عن نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من اقتدى بنا مسلم، ومن أناب إلى الله بنا غنم، الحق يقال نحن أهل بيت ما أراد سلبنا سالب إلا سلب، ولا نبح علينا كلب إلا جرب، ولا هم على ضربنا ضارب إلا ضرب، ولا تعالى علينا حائط إلا وخرب "! ! (البرهان المؤيد ص31) . ومع هذه الأقوال التي كان يذكر نفسه فيها على هذا النحو فقد نقلت عنه أقوال تناقضها حيث يقول: " كل الفقراء رجال هذه الطائفة خير مني، أنا أحميد اللاش، أنا لاش اللاش ". . ا. هـ. (البرهان المؤيد ص24) . بل يقول ما هو أبلغ من هذا أيضًا: " أي سادة أنا لست بشيخ، لست بمقدم على هذا الجمع لست بواعظ، لست بمعلم، حشرت مع فرعون وهامان إن خطر لي أني شيخ على أحد من خلق الله برحمته فأكون كأحد المسلمين " ا. هـ. (البرهان المؤيد ص23) .

ويقول أيضًا في مجلس آخر: " أيش أنا حتى أدعوك، ما مثلي إلا كمثل ناموسة على الحائط لا قدر لها، حشرت مع فرعون وهامان وقارون وأخذني ما أخذهم أن كان خطر لما في سري أني شيخ هذا الجمع، أو مقدمهم أو من يحكم عليهم، أو ثبت عندي أني فقير منهم، وكيف تدعوه نفسه إلى ذلك من هو لا شيء، ولا يصلح لشيء، ولا يعد بشيء " ا. هـ. (البرهان المؤيد ص52) . ومع كل هذا التبري من الحول والطول فإن أحمد الرفاعي يناقض نفسه كثيرًا حيث يزعم ضد ذلك تمامًا فيقول: " وعدني رسول كرمه أن يأخذ بيد مريدي وحُبي ومن تمسك بي وبذريتي وخلفائي في مشارق الأرض ومغاربها إلى يوم القيامة عند انقطاع الحيل، بهذا جرت بيعة الروح لا يخلف الله وعده، لا تصح المكالمة لمخلوق مع الخالق بعد النبيين والمرسلين الذين كلمهم سبحانه وحيًا أو من وراء حجاب، وإنما وعد إحسانه ينجلي إلى قلوب أوليائه وأحبابه بالرؤيا المنامية، والواسطة المحمدية والإلهام الصحيح الذي لا يخالف ظاهر الشريعة الأحمدية بحال من الأحوال وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " ا. هـ. (البرهان المؤيد ص82، 83) . قلت: كيف لا يكون هذا الوعد المزعوم مخالفًا لظاهر الشريعة وقد أخبرنا سبحانه وتعالى أن خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام طلب ما هو دون هذا الطلب لذريته فلم يعطه الله تبارك وتعالى حيث يقول الله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إمامًا قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} [البقرة: 124] . فإذا كان الله سبحانه وتعالى لم يرض أن يعطي إبراهيم عهدًا بأن يكون كل ذريته صالحين أئمة في الدين من بعده فكيف يعطي الرفاعي مثل هذا العهد المزعوم فانظر قوله: " وعدني رسول كرمه أن يأخذ بيد مريدي ومحبي ومن تمسك به وبذريتي وخلفائه في مشارق الأرض ومغاربها إلى يوم القيامة "! !

من أقوال أحمد الرفاعي

ثم ما يدريه أن الله قد أعطاه هذا الوعد: يقول الرفاعي إنه بالإلهام والرؤيا المنامية، هل مثل هذا العهد يعطي بإلهام وبرؤيا منامية؟ وما يدريه أنها رؤيا شيطانية. . وإلهام شيطاني. . وكيف تكون غير ذلك والقرآن بضد ذلك. . بل كيف تكون غير ذلك والرجل يزعم أنه ليس بشيخ وأنه يموت ويحشر مع فرعون وهامان وقارون إن قال إنه شيخ على أحد من الناس فأي كلام من كلامه يصدق؟ من أقوال أحمد الرفاعي وقد نسب صاحب طبقات الصوفية عبد الوهاب الشعراني طائفة من الأقوال لأحمد الرفاعي فيها أمور كثيرة من الباطل ولم أقرأ في كتب الطريقة الرفاعية المؤلفة ما ينفي هذه الأقوال وهاك بعضًا من هذه الأقوال: ". . الكشف قوة جاذبية بخاصيتها نور عين البصيرة إلى فيض الغيب، فيتصل نورها به اتصال الشعاع بالزجاجة الصافية حال مقابلتها المنبع إلى فيضه، ثم يتقاذف نوره منعكسًا بضوئه على صفاء القلب ثم يترقى ساطعًا إلى عالم الفصل فيتصل به اتصالًا معنويًا له أثر في استفاضة نور القلب على ساحة القلب، فيشرق نور العقل على إنسان عين السر، فيرى ما خفي عن الأبصار موضعه ودق عن الأفهام تصوره، واستتر عن الأغيار مرآه ". . ا. هـ. (طبقات الشعراني ص141، 142) . ونقل عنه أيضًا أنه قال: وكان يقول: إذا صلح القلب صار مهبط الوحي والأسرار والأنوار والملائكة، ويقول أيضًا: إذا صلح القلب أخبرك بما وراءك وأمامك ونبهك على أمر لم تكن تعلمها بشيء دونه ". . ا. هـ. (طبقات الشعراني ص141، 142) . وهذه نصوص يزعم قائلها أن الصوفي يطلع على حقائق عينية وأسرار وقد بين سابقًا فساد هذا الاعتقاد. وقال أيضًا: ". . إن العبد إذا تمكن من الأحوال بلغ محل القرب من الله تعالى وصارت همته خارقة للسبع السماوات، وصارت الأرضون كالخلخال برجله، وصار صفة من صفات الحق جل وعلا، لا يعجزه شيء وصار الحق

تعالى يرضى لرضاه ويسخط لسخطه، قال: ويدل لما قلناه ما ورد في بعض الكتب الإلهية يقول الله عز وجل (يا بني آدم أطيعوني أطعكم، واختاروني أختركم، وارضوا عني أرض عنكم وأحبوني أحبكم وراقبوني أراقبكم وأجعلكم تقولون لشيء كن فيكون، يا بني آدم من حصلت له حصل له كل شيء ومن فته فاته كل شيء) " ا. هـ. (طبقات الشعراني ص142) . ولا يخفى ما في هذا النص من الباطل لأن العبد مهما بلغ من منازل القرب مع الله يبقى عبدًا محكومًا بسنن الله الكونية مفتقرًا إلى الله عز وجل كما كان أحوال الرسل وأولياء الله الصادقين فلم تكن الأرض كالخلخال برجل أحدهم بل كانوا يجوعون، ويمرضون، ويتألمون، ويهزمون أحيانًا، ويسبون ويشتمون، وقد يتوب لله على من يؤذيهم فيكونون مسلمين، كما فعل الله سبحانه بمن قتلوا أفضل أوليائه في أحد وقال رسول الله فيهم (كيف يفلح قوم شجو وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الله عز وجل. .) فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} [آل عمران: 128] . (رواه البخاري) . وأما ما نقله الشعراني هنا عن الرفاعي، وما زعمه أن هذا مكتوب في بعض الكتب الإلهية فما هذه الكتب الإلهية؟ . . ولماذا نهتدي بغير هدي القرآن والسنة وقد نهينا عن ذلك، وهل أنزل الله في هذه الكتب الإلهية المزعومة: وأجعلكم تقولون للشيء كن فيكون. . وماذا بقي لله إذن إذا أصبح كل من أطاع الله إلهًا صغيرًا يتصرف في الكون كما يتصرف الله. . ماذا بقي لله من دون صفاته. . لقد سلبوا منه كل صفاته وجعلوها لأنفسهم ولم يرضوا أن يكونوا عبيدًا له سبحانه وتعالى كما أمرهم. ومما يدلك على أن المتصوفة يريدون فعلًا الوصول إلى هذا، أعني سلب صفات الله عنه وإلباسها لأنفسهم حتى يكونوا عند الناس آلهة من دون الله، ما نقل هنا الشعراني أيضًا عن الرفاعي والله يعلم هل هذا النقل صحيح أم لا؟ : " إذا أراد الله عز وجل أن يرقي العبد إلى مقامات الرجال يكلفه بأمر نفسه

أولًا، فإذا أدب نفسه واستقامت معه كلفه بأهله، فإذا أحسن إليهم وأحسن عشرتهم، كلفهم بجيرانه وأهل محلته فإن هو أحسن إليهم وداراهم كلفه جهة من البلاد فإن هو داراهم وأحسن عشرتهم، وصلح سريرته مع الله كلفه ما بين السماء والأرض، فإن فيهم خلقًا لا يعلمه إلا الله تعالى، ثم لا يزال يرتفع من سماء إلى سماء حتى يصل إلى محل الغوث، ثم ترتفع صفته إلى أن يصير صفة من صفات الحق تبارك وتعالى، وأطلعه على غيبه حتى لا تنبت شجرة، ولا تخضر ورقة إلا بنظره وهناك يتكلم عن الله تعالى بكلام لا يسعه عقول الخلائق " (طبقات الشعراني ص143) ا. هـ. . قلت: فانظر كيف سيرتقي الصوفي إلى أن يكلفه الله أمر خلائق بين السماء والأرض. ولست أدري ماذا سيكلفه الله هناك. . ولكن صاحب هذا القول يزعم أنه سيكون صفة من صفات الحق والحق هنا يعني الله سبحانه وتعالى، يطلع على غيب الله فلا تنبت شجرة، ولا تخضر ورقة إلا بنظره. . باختصار يأخذ مكان الله سبحانه وتعالى، (راجع مراتب الأولياء في الفصل الخاص بذلك) . وهكذا يجعل الصوفية غوثهم المزعوم هو القائم في مقام الله يتصرف في هذا الكون أعلاه وأسفله فانظر الغاية التي يريد رجال التصوف أن يوصلوا الناس إليها إنها باختصار صرف الناس عن عبادة الواحد القهار إلى عبادة من يبولون ويتغوطون ويهرفون بما لا يعرفون، ويستمدون علومهم من الجن والشياطين، ويزعمون للناس أنها وحي من رب العالمين. وعلى كل حال فتحقيقًا لهذه الأقوال أعني أن الولي قد يكلف بأمر الخلائق فإن الشعراني يزعم أيضًا أن الله قد كلف أحمد الرفاعي بالنظر في أمر الدواب والحيوانات. . ولذلك كان ينهي أصحابه عن قتل القمل فقد رأى بعض مريديه يقتل قملة فقال له: لا وأخذك الله شفيت غيظك بقتل قملة. .

الشعائر الخاصة للطريقة الرفاعية

وكذلك زعموا أن الرفاعي كان إذا لقي الكلاب والخنازير بدأهن بالسلام وكان يقول لهن أحيانًا: أنعموا صباحًا (طبقات الشعراني ص143) . . ا. هـ. . وهكذا يظهر أثر التكليف الإلهي المزعوم برعايته الحيوانات فتكون النهاية عن قتل القمل، وإلقاء السلام على الخنازير والكلاب. . قلت: ليس عندي ما أقوله في هذا المقامإلا أن أقول إنا لله وإنا إليه راجعون. التحية التي جعلها الله خاصة بالمسلم فقط وحرم الرسول إلقاءها إلا على مسلم ونهى بدء اليهود والنصارى بها علمًا أنهم آدميون وقد يهتدون في مستقبل أيامهم هذه التحية التي قال فيها {فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة} [النور: 61] . هانت على رجال التصوف فأعطوها هدية للكلاب والخنازير. . أرأيت إلى المستنقع الذي يريد رجال التصوف إغراق المسلمين فيه. . ومع هذا كله فقد زعم الشعراني أيضًا أن الشيخ الرفاعي كان إذا تجلى الحق تعالى عليه بالتعظيم يذوب الرفاعي حتى يكون بقعة ماء ثم يتداركه اللطف فيجمد شيئًا فشيئًا حتى يرد إلى جسمه المعتاد (طبقات الشعراني ص143) . الشعائر الخاصة للطريقة الرفاعية وللطريقة الرفاعية مشاعر خاصة كشأن كل الطرق الصوفية وإليك أهم هذه الشعائر والعقائد. . 1 ـ من أهم ما يميز الطريقة الرفاعية هو التتلمذ لكل شيخ، بنقل الشعراني أيضًا عن الرفاعي أنه قال: " من تمشيخ عليكم فتتلمذوا له، فإن مد يده لكم لتقبلوها فقبلوا رجله. . ومن تقدم عليكم فقدموه وكونوا آخر شعرة في الذنب، فإن الضربة الأولى تقع في الرأس " (الطبقات الكبرى ص141) .

2 ـ تبنت الطريقة مذهب التفويض في الأسماء والصفات زاعمة أنه مذهب السلف، ولكن الرفاعيين مع ذلك يخالفون ذلك ويؤولون تأويل الأشاعرة فيزعمون أن الله لا يوصف بفوقية أو سفلية وليس في جهة من الجهات، ولا يثبتون ما أثبته الله لنفسه، وكذلك يقولون بوجوب القليد الفقهي. . (الطريقة الرفاعية ص42) . 3 ـ ويجعلون السماع والمواجيد والتواجد من الصراخ وغيره مما درج عليه أهل التصوف دينًا ويكفرون من يقول ببدعية ذلك أو يعيبه. قالوا " وإن من أنكر ذلك فقد كفر، لأنه عاب خيرًا أمر الله به، ومن عاب ما أمر الله به فهو كافر " (الطريقة الرفاعية ص64، 78) . 4 ـ أنكر أحمد الرفاعي ما قاله الحلاج ونفى أن يكون وليًا أو واصلًا حيث قال: " أي سادة تفرقت الطوائف شيعًا، وأحميد (يعني نفسه) بقي مع أهل الذل والانكسار والمسكنة والاضطرار، إياكم والكذب على الله {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا} [الأنعام: 21] . ينقلون عن الحلاج أنه قال: أنا الحق. أخطأ بوهمه، لو كان على الحق ما قال أنا الحق، يذكرون له شعرًا يوهم الوحدة كل ذلك ومثله باطل، ما رآه رجلًا واصلًا أبدًا، ما أراه شرب، ما أراه حضر، ما أراه سمع إلا رنة وطنينًا، فأخذهم الوهم من حال إلى حال، وما زاد قربًا ولم يزدد خوفًا فهو ممكور. إياكم والقول بهذه الأقاويل إن هي إلا أباطيل ". . ا. هـ. (البرهان المؤيد ص26) . وهذه أقوال صريحة في رفض أقوال الحلاج الكفرية، والتمسك بالحق والحكم على قائلها بما حكم به أهل الإسلام جميعًا في عصره أنه كافر زنديق وأنه يستحق القتل والصلب الذي وقع له. ويستطرد الرفاعي أيضًا مبينًا أن حال الأولياء الصادقين لا تكون كحال فرعون الذي قال أنا ربكم الأعلى. . وليست كذلك كحال نمرود الذي قال {أنا أحيي وأميت} [البقرة: 258] . فيقول:

" درج السلف على الحدود بلا تجاوز. بالله عليكم هل يتجاوز الحد إلا الجاهل وهل يدوس عنوة في الجب إلا الأعمى! ما هذا التطاول وذلك التطاول ساقط بالجوع. ساقط بالعطش. ساقط بالنوم. ساقط بالوجع. ساقط بالفاقة. ساقط بالهرم. ساقط بالعناء. أين هذا التطاول من صدمة صوت {لمن الملك اليوم} [غافر: 16] . العبد متى تجاوز حده مع إخوانه يعد في الحضرة ناقصًا. التجاوز علم نقص ينشر على رأس صاحبه. يشهد عليه بالغفلة. يشهد عليه بالزهو. يشهد عليه بالحجاب. يتحدث القوم بالنعم لكن مع ملاحظة الحدود الشرعية. الحقوق الإلهية تطلبهم في كل قول وفعل. الولاية ليست بفرعونية. ولا بنمرودية قال فرعون أنا ربكم الأعلى. وقال قائد الأولياء وسيد الأنبياء ـ صلى الله عليه وسلم ـ (لست بملك) نزع ثوب التعالي والإمرة والفوقية. كيف يتجرأ على ذلك العارفون: والله يقول {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} [يس: 59] . وصف الافتقار إلى الله وصف المؤمنين. قال تعالى {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله} [فاطر: 15] . هذا الذي أقوله علم القوم. تعلموا هذا العلم. فإن جذبات الرحمن في هذا الزمان قلت. اصرفوا الشكوى إلى الله في كل أمر. العاقل لا يشكو لا إلى ملك ولا إلى سلطان. العاقل كل أعماله لله " ا. هـ. (البرهان المؤيد ص26) . وهذا كلام جيد جيدًا في رفض دعاوي الصوفية وشطحهم ولكن أتباعه اليوم يخالفون هذا تمامًا فيترضون على ابن عربي ومن على شاكلته ويطبعون أقوال هؤلاء جنبًا إلى جنب مع أقوال الرفاعي. . ويعتذرون عما قاله الحلاج وغيره أنه من الشطح ولا يصرحون بما صرح لنا في إبعاد قائل هذه الأقوال من الدين. وبذلك يتناقضون على عاداتهم في قولهم أحيانًا في رفض الدعوى والشطح، وفي نشرهم لهذه الدعاوي وترضيهم على فاعليها. 5 ـ ومن المشاعر الخاصة بالطريقة الرفاعية أيضًا الخلوة الأسبوعية السنوية وتبدأ عندهم في اليوم الحادي عشر من المحرم كل عام، ومن شروطها أن لا يأكل المريد طعامًا أخذ من ذي روح، ويذكر المريد في اليوم الأول لا إله إلا الله

بعدد معلوم واليوم الثاني الله الله، والثالث وهاب وهاب، والرابع حي حي والخامس مجيد مجيد. . والسادس معطي معطي. . والسابع قدوس قدوس، وكل ذلك بعدد معلوم، وكذلك أن يقول المريد بعد كل صلاة من صلوات هذا الأسبوع (اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأمي الطاهر الزكي وعلى آله وصحبه وسلم) يقول ذلك مائة مرة، وزعموا أن لهذه الخلوة فتوحات محمدية، وعنايات أحمدية لا تحصى وأن من فعلها شاهد من البراهين العظيمة وكأن له شأن عظيم (الطريقة الرفاعية ص115) . * ولا يخف أن هذه الخلوة في هذا الوقت المخصوص بدعة ضلالة وكل بدعة في النار كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنها تشريع جديد لم يأذن به الله ولا رسوله، وأن فيها مشابه لصيام النصارى الذين يصومون عن ذوات الأرواح، وأن فيها تقربًا من الرافضة حيث يخصص الحادي عشر من محرم من كل عام بذلك حيث تنتهي مشاعر الرافضة الخاصة ليدخل مشاعر الرفاعية ولعل ذلك السبب في قولهم إن الرفاعي تأتي منزلته بعد الأئمة الاثني عشر مباشرة (الطريقة الرفاعية ص127) . وأما تخصيصهم كل يوم بذكر خاص فهو بدعة، وأما ذكرهم الله بالاسم المفرد فقط الله، حي، مجيد فبدعة عظيمة ولم يرد ذكر الله بالاسم المفرد مطلقًا. . بل لا يذكر الله إلا بجملة مفيدة نحو (لا إله إلا الله) فهي جملة (وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله) ، ونحو ذلك فكلها جمل تفيد معنى تعظيمًا، فكل من ذكر الله باسم فرد من أسمائه فهو مبتدع، ولذلك لا يستغرب على هؤلاء المبتدعة أن يروا في خلواتهم هذه النيران الشيطانية التي يحسبونها أنوارًا ملائكية رحمانية وما هي كذلك لأن الله لا يشرق نوره إلا في قلوب الصالحين المتبعين للحق من عباده. 6 ـ ومن مشاعر الطريقة الخاصة أيضًا جواز المحاضرة وربط الروح بأرواح من شاء استحضار روحه من كافر ومسلم (الطريقة الرفاعية ص120) وكذلك من مشاعرهم ما يسمى

بالاستفاضة وهي ربط قلب المريد بقلب الشيخ طلبًا لإفاضة العلم الباطني إليه، وهذه بدعة صوفية معلومة. ففي التربية الصوفية يطلب من المريد أن يستحضر روح شيخه عند الذكر ويتمثله أمامه ويطلب من شيخه أن يربط روحه بروح الرسول الذي يزعمون أنه يفيض العلوم والأسرار على قلوب شيوخ الصوفية. والحق أن هذه العملية عملية شيطانية لأن المريد الذي يغيب عقله بالذكر المبتدع الذي يذكره آلاف المرات وعشرات الآلاف حتى يكل عقله ودماغه وهو في كل ذلك يحاول استحضار صورة شيخه أمامه، وقد يكون هذا في ظلام دامس فإن هذا هو الوقت المناسب ليدخل الشيطان إليه زاعمًا أنه هو شيخه وأنه يراه الآن، وأنه يربط الآن قلبه بقلب الرسول ليفيض عليه العلوم والأسرار الإلهية، ويبدأ الشيطان يلقي في قلوب هؤلاء وساوسه الإبليسية فيوهم الواحد منهم أنه الآن صاعد إلى السماء، وأن هذا هو عرش الله، وهذا هو كرسيه هذه هي الأرض، وأن قد أصبحت الحبيب والعظيم وصاحب الهمة وما إلى ذلك من هذا النفح الشيطاني حتى يتصور المسكين فعلًا أنه وصل إلى مكان القرب من الله، وأن السماوات قد أصبحت طوع أمره، والأرض أصبحت كالخلخال برجله، وأنه يستطيع أن يقول للشيء كن فيكون. . وهكذا يكون المريد الذي دخل الخلوة، وذكر هذه الأذكار المبتدعة، وقطع نفسه بالظلام على هذا النحو يعود بنفس أخرى وحال أخرى غير الحال التي دخل بها. وهذا سر قولهم إن لهذه الخلوة أسرارًا وبراهين عظيمة، ولو علموا أنهم يربطون قلوبهم بالشياطين لعرفوا الحق المبين وأنهم نهوا عن سلوك الطرق المعوجة لأنه لا توصل إلا إلى الهاوية والضلال المبين. 7 ـ وقد جعل الرفاعية الفضيلة العظمى والشرف الأسمى لهم على سائر الفرق ببركة الرفاعي فإن الله قد أبرد لأتباعه النيران، وأزال لهم فاعلية السموم، وألان لهم الحديد، وأذل لهم السباع والحيات والأفاعي، وأخضع لهم

الرفاعية في طور جديد

طغاة الجن (الطريقة الرفاعية ص134) . ولذلك فإنهم في موالدهم ومؤتمراتهم العامة يأتون بمن يشعل النار ويدخلها إلى فمه، ومن ينفخ نارًا من فمه على هيئة التنين. . ومن يحمل الأفاعي ويلعب بها، ونحو ذلك من الشعبذات والخزعبلات التي لا يكاد يخلو منها قوم من أقوام أهل الشرك كالهنادك والفرس، وغيرهم (اقرأ الفصل الخاص بمناظرة ابن تيمية للبطائحية الرفاعية) . الرفاعية في طور جديد في النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري تزعم الطريقة الرفاعية رجل يسمى محمد مهدي الصيادي الرفاعي، الذي رفع نفسه إلى مرتبة الغوثية الكبرى، ودعا الناس إلى طريقته واقتفاء أثره، وزعم أنه سالك سبيل جده مؤسس الطريقة الرفاعية، ولكنه جاء بما لم يسبقه أحد من الدعاوي في علو منزلته، والحق أنني لم أجد أجرأ منه على مدح نفسه وكذبه فيما نسبه إلى الله ورسوله من تعظيم نفسه إلا أحمد التجاني وابن عربي، وإليك بعضًا من نصوصه في هذا الصدد. . الدرة البيضاء ألف كراسة صغيرة سماها (الدرة البيضاء) ملأها بالجهل والغباء، وبدأها للأسف بقوله " أمرني بكتابتها وإذاعتها حبيبي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " (المجموعة النادرة ص8) وزعم في هذه الرسالة أن الله خلق الرسول من نوره (المجموعة النادرة ص15) فأشرك بالله سبحانه وتعالى. وأن على المسلم أن يشفق على الخلق كلهم فخالف أمر الله القائل {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} [التوبة: 73] . ومن جملة مزاعمه في هذه الكراسة دعوة الناس إلى الاستمداد وطلب الإغاثة والإعانة من الأنبياء والأولياء (المجموعة النادرة ص18) فدعا بذلك إلى الشرك بالله سبحانه وتعالى، ودعا إلى العمل بأي رأي فقهي لأن اختلاف الأئمة رحمة (المجموعة النادرة ص23) ودافع عن ابن عربي واصفًا إياه بأنه

العارف الشيخ محيي الدين ابن عربي طيب الله ثراه (المجموعة النادرة ص26) . وزعم أن آل الرسول من أجزائه النورانية (المجموعة النادرة ص26) وبالتالي فهم أجزاء من الله حسب زعمه أن الرسول مخلوق من نور الله. . وقسم في هذه الرسالة الأولياء فجعل منهم المجاذيب وأهل الشطح والأميين. . وجعل نفسه في آخر هذه الكراسة أفضل الأولياء في زمنه على الإطلاق حيث يقول عن نفسه: " الاختصاص رحمة من الله تعالى للعبد لا بسعي ولا بعمل ولا برأي، ولا بِجَعْلٍ يختص الله برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم: هو عطاء رباني، ومنح صمداني، وفضل أسبغ في القدم، قبل أن تتعين النسم، والعناية قسم، فأهل الاختصاص جذبتهم يد المشيئة الربانية، بمحض الفضل والعناية الصمدانية، إلى أقصى المراتب العلية وهذا المنح الباهر، والفضل الوافر، هو اليوم حصتي، ومنصته منصتي، أقامني الله في هذه المنزلة إمامًا، واختارني لرتبة هذه الخصوصية ختامًا، وكشف لي مخبآت الغيب باطلاع من كرمه، وجليل نعمه، ففهمت أسرار الرموز الفرقانية وسبرت خفايا دقائق البطون القرآنية، ولم تبرح تترقى همتي بكشف تلك الحجب اللطيفة، وبشق ديباجات هاتيك المحاضر الشريفة، فأنا اليوم ولربي الحمد والشكر، وله الإحسان والبر، كنز الفيوضات الطاهرة المحمدية، وسجل العلوم المقدسة النبوية، وهذه النوبة نوبتي، تتقلب في وراث منزلتي، وخدام قدمي إلى ما شاء الله، بهذا بشرت من صاحب الوعد الصادق، وقرأته في صحف الرموزات العلوية التي طفحت بدقائق الحقائق، سينشر علم ظهور حالي بعد هذا الخفاء في الأكوان ويبرز بروز الشمس من بطن ليل الطمس للعيان، وتعكف على بابي القلوب والأرواح، ويسري سر إرشادي في الجبال والأودية والبطاح ولم يمس شأن نهجي المبارك غبار دنيوي، ولم يرجع منه حرف إلى قصد نفساني بل كله لله " (المجموعة النادرة ص37) ا. هـ. . وبعد أن مدح نفسه بكل ما استطاع من نعوت يقول: " جاءت لي بذلك البشرى المحمدية الصحيحة والعناية النبوية الصريحة بوساطة روح سلطان

الأولياء وزعيمهم وسيد منصتهم وكريمهم مولانا السيد أحمد الرفاعي الحسيني " ا. هـ. منه بلفظه (المجموعة النادرة ص37) . 2 ـ برقمة البلبل. وتكاد تكون كل الوسائل التي ألفها هذا الصياد الرفاعي على هذا النحو ولكن في رسالة أخرى سماها (برقمة البلبل) أتى فيها بما لم يسبقه به أحد من الكذب، ولا أظن أن لاحقًا يستطيع مجاراته أيضًا في مثل هذا الكذب السمج حيث يقول في أول رسالته هذه أنه كان في سنة 1252هـ ـ في مكة المكرمة في بيت الله الحرام، وأنه سمع بلبلًا يتكلم مع بلبل آخر وعلى حد تعبيره (يبرقم) بلغة فهمها لأنه زعم أن رجلًا من رجال الغيب كان قد علمه لغة البلابل، فزعم أن أحد البلبلين كان يتكلم مع صديقه فأخبره أن أولاد آدم كلهم مكرمون، وجميعهم مرحومون وأنه لا يجوز أن نحتقر ذرة واحدة منهم، وأن منهم أيضًا أولياء عارفين، وأن من هؤلاء الأولياء قسم يتصرفون في العالم؛ ومن جملة ما يتصرفون فيه الطير فيقول البلبل لصديقه (ومنهم المتصرفون في وفيك وفي عالم الأكوان والنائبون بإذن الله عن نبي الرحمن) ثم يستطرد الصيادي الرفاعي في هذيانه الصوفي فيزعم أن أحد البلابل قال لصديقه: إن هذا الرجل الملتحف بكسائه الرث المستقبل الكعبة (يعني نفسه) هو من آل الرسول وقد فهم لغتنا وعرف ما قلناه وهو نائب الرسول الآن في هذا الوقت، وهو عالم الزمان وشيخ الأوان. . فقال البلبل الآخر إذن تعال نتبرك به ونقبل قدميه. . ويستطرد الصيادي الرفاعي قائلًا إن البلبلين جاءا إليه، وعكفا عليه، وسألاه الدعاء، وأنهما أخبراه بعد ذلك أنه إمام الدين، وسيد الأولياء وإن

نوره لا يعدله نور، وإن مدده سيعم الأمصار والأقطار حيث تشب قلوب الحاسدين له بنار، وتنفلت عليه ألسنة الجاحدين (كذا. .) . . ويستطرد الصيادي قائلًا بأن البلبلين أخبراه أن الله قد كتب صحيفة منزلته ووضعها فوق مقام إبراهيم فقام الصيادي من فوره وأخذ الصحيفة وفرح بما وجد فيها حسب زعمه من إطناب الله في الثناء عليه، ومدحه له وتبشيره إياه بظهور طريقته وعلو شأنه. يقول الصيادي هذا: " وقد طبت بالله تعالى حين قرأت ما في الصحيفة المباركة بشأني، وبشأن ظهور أمر طريقي، وكدت أطير سرورًا لما امتن الله تعالى علي به من إطناب في الألقاب فيها ما نصه بلفظه: هذا غريب الغرباء أبو البراهين، وأحد آل طه ويس. خلف الأئمة الهادين. بقية أعيان العترة الطاهرين، سيف الرسالة المسلول على أهل الضلالة. المجدد الأكمل. الأشعث الأغبر. سنجنجل الحكمة والفراسة المحمدية. رافع ألوية الشريعة الطاهرة الأحمدية. باني مباني أحكام الطريقة المرضية الرفاعية. شيخ الأئمة. نور المدد المصطفوي الذي سيتجلى به الظلمة. الرفاعي الثاني. الإمام الأوحد الرباني. طلسم البرهان المحمدي الذي لا يدافع. معنى ناطقة البيان النبوي الذي لا ينازع. بحر الفتح. هادم الدعوى والشطح. الفتى ابن الفتى. محمد مهدي بهاء الدين. باب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في العصر. وجه علي في الدهر. الفقير الغني. الضعيف القوي. الخفي الظاهر. العاجز القادر. شمس الإفاضة المصطفوية للذرات كلها من التحق بها سلم ومن أبغضه عن جحد أو حسد ندم ومن آذى نوابه وأحبابه لم يقم. ولو التفت عليه المحافل، وسارت لأمره الكتائب، وصفت له الصفوف، ومرت لديه من قناطير الذهب المقنطرة الألوف. هذه آيه الله المخبأة في دفتر الغيب ينتفع بقراءة فحواها، والاندماج في ظل معناها، كل من لله في عناية، يصل به الله ويقطع، ويعطي ويمنع، ويرفع ويضع، هذا الزاهد الواجد، الآبد الماجد، هذا بركة الله في الكون. هذا الممهد هذا الموطد. هذا القائم لله، ولإعلاء كلمة الله، ولخدمة رسول الله، لا لغرض من أغراض الأكوان، ولا لعلو، ولا لغلو، ولا لتقدم، ولا لترفع، ولا لعظمة نفسانية، بل هو بحر

مطمطم رباني، وكنز مطلسم سبحاني، أفيض له مددنا بواسطه (كذا والصواب: بوساطة) ، جده سر الوجود وبارقة النظم الأول في كيانتي النسقين الطموس والشهود (محمد) ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا سيد عشاق رسول الله، وسيد محابيب الله اليوم في ملك الله عليه سلام الله ورضوان الله. وهناك غبت عني، وأخذت مني، وذبت معنى، وترقرقت مهنى، وانطمست بوجودي وظهرت بمجدي " انتهى منه بلفظه (برقة البلبل من المجموعة النادرة ص77 ـ 79) . ولا يكتفي الصيادي بهذا الكذب الأبلج على الله سبحانه وتعالى فإن الله لم يخاطب أحدًا بمثل هذا الخطاب المزعوم، فخطاب الله لصفوة أوليائه وهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يكن فيه عشر معشار هذا المدح بل كان عامته تأديبًا وعتابًا؛ كمثل قوله لنوح: {يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسئلن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين} [هود: 46] . وذلك لمجرد قول نوح: {رب إن ابني من أهلي} [هود: 46] . وكذلك قوله لإبراهيم: {لا ينال عهدي الظالمين} [البقرة: 124] . عندما طلب إبراهيم أن يكون من ذريته أئمة. . وقوله لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ: {إنك لا تهدي من أحببت} [القصص: 56] . وقوله سبحانه وتعالى: {ليس لك من الأمر شيء} [آل عمران: 128] . وقوله: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة: 43] . وقوله: {عبس وتولىّ} [عبس: 1] . وقوله: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} [الأحزاب: 37] . هذا بعض من خطاب الله في قرآنه لرسله فانظر كيف يزعم هذا الصيادي أن الله كتب في صحيفة له " هذا أبو البراهين، هذا سيف الرسالة المسلول على أهل الضلالة. . هذا الإمام الأوحد الرباني. . باني مباني الطريقة المرضية الرفاعية. . هذا شمس الإفاضة المصطفوية للذرات كلها. . ". . الخ، هذا الكفر والضلال وهذا الكذب الصريح. . ومثل هذا لو كان يسمى باللغة تجوزًا مدحًا فإن أسقط الساقطين ينزه أن يمدح غيره بمثل هذا الكلام فلو أن شاعرًا متملقًا كاذبًا قام يمدح رجلًا بمثل هذه الأوصاف لاستحق السقوط واللعنة، ولرمي بالتزلف والجهالة والمبالغة الممقوتة، ورفع الإنسان الحقير عن مكانته. فكيف يسوغ أن ينسب مثل هذا

الكلام الحقير الذي يقع في آخر سلم المدح الممجوج فينسب إلى رب العباد سبحانه وتعالى؟ أيليق أن ينسب مثل هذا التزلف الحقير لله جل وعلا. .؟ ولا يكتفي الصيادي بالكذب المكشوف هذا على رب العالمين فيكمل بعد ذلك كذبه على سيد المرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقول أنه بعد أن قرأ هذه الرسالة (الربانية) التي كانت فوق مقام إبراهيم انجلى له مظهر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم ناداه قائلًا: " قد ملأناك علمًا وفهمًا ومددًا وقدره بهاء وعرفانًا ونورًا وحظًا كبيرًا، ورفعنا لك منبرًا لا يسقط، ووهبناك ناطقة تتدرج كتائب مددها في الأكوان فلا تسكت إلى يوم الدين، أنت هو القبول عندنا، المؤيد بنورنا، المبارك بعلمنا، المنصور بمددنا، نوالي من والاك، ونعادي من عاداك، ونصون بعون الله من حاماك، يرفع علمك من أفلاذ بيتنا حبيب لنا فأعد عليه نظر حنانك، وعلمه رقرقة قلبك وناطقة لسانك، ولا توافق أهل البدعة، ولا تلايم أرباب الدعوى، ولا تجنح بالقلب ولا باللسان إلى القول بالوحدة المطلقة، ولا تتعمق بالكلام على الذات والصفات، ولا تعمل الفكر في المتشابهات، خذ ما أخذ أجدادك الآل الطاهرين، وسر سير الصحابة، واتبع مناهج السلف، ووافق إمامًا ترتضيه من أئمة المذاهب المتبعة اليوم، فالأربعة على حق ولا تقلد غير نبيك، وتحقق بالحب لله ولكتابه ولرسوله، ولا تشق العصا، ولا تجمع القلوب عليك بل اجمعها على الله، وعلى شريعة نبيك، وعليك بمشرب جدك السيد أحمد الرفاعي، واثبت على طريقته فإنها الطريقة المحمدية الحقة. . واعلم أنك اليوم خاتمة الصديقين وشيخ الطريقة القويمة المحمدية ثم الأحمدية. . وأنت سيد الآل فمن دونهم وصل علي وسلم " ا. هـ. منه بلفظه (البرقمة ص83) . ويزعم الصيادي أنه بعد أن سمع خطاب الرسول هذا غاب عن نفسه ستة أشهر كاملة، لا يصحو إلا أوقات الفروض فقط، وأنه شكر الله بعد ذلك إذ جاءته هذه النعمة الكبرى على يد طير صغير (برقمة البلبل ص82) . . فانظر إلى هذا الإسناد العجيب

الطريقة الرفاعية والتشيع

" حدثنا الصيادي حدثنا البلبل قال الله تعالى. . " فأين نضع هذا البلبل يا علماء الحديث وعلماء الأصول. . هل هو عدل ضابط، وهل الذي يحدث عن بلبل أيضًا يكون عدلًا ضابطًا. . وليتهم لم يقحموا اسم الله واسم رسوله في هذه الخرافات الممقوتة والمدح الكاذب لأنفسهم! وليتهم إذا أرادوا هذا العلو في الأرض وأكل أموال الناس بالباطل سلكوا غير هذا السبيل! فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. الطريقة الرفاعية والتشيع تلتقي الطريقة الرفاعية مع التشيع في أمور كثيرة أهمها ما يلي: 1 ـ جعل أحمد الرفاعي في المنزلة بعد الأئمة الاثني عشرة مباشرة: بالرغم من أن الرفاعية ينسبون إمامهم أحمد الرفاعي إلى أنه من أولاد إبراهيم بن موسى الكاظمي بن جعفر الصادق بن محمد بن الباقر بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي ـ رضي الله عنه ـ (الطريقة الرفاعية ص129) ، إلا أن الغريب حقًا أنهم يجعلون منزلته بعد منزلة الأئمة الاثني عشر مباشرة، وهذا لا شك مبني على قول الإمامية في أن الأئمة الاثني عشر هم وُرَّاثُ الدين، وأن إماميتهم بالنص، وجعل أحمد الرفاعي آتيًا في المنزلة بعد الإمام الثاني عشر الذي يزعم الشيعة أنه ابن سنتين أو ثلاث أو خمس على خلاف بينهم وأنه دخل السرداب في سامراء سنة 206هـ ـ وأنه مهدي آخر الزمان، وأنه سيخرج ليملأ الدنيا عدلًا. . لا شك أن قول الرفاعية في أحمد الرفاعي اعتراف منهم بهذه العقيدة التي يعتقد أهل السنة أنها من المفتريات والمكذوبات وأن الحسن العسكري لم ينجب أحدًا، وأن هذا المهدي لا وجود له.

يقول الأستاذ محمد فهد الشقفة صاحب كتاب التصوف بين الحق والخلق: " لدى تصفحي مواضيع كتاب بوارق الحقائق للرواس وجدت نقاطًا تحتاج إلى بيان شاف ـ إن كان لها بيان شاف ـ. . وقد علقت عليه بملاحظات ". ثم ذكر المؤلف من هذه الملاحظات ما يلي: " الأولى ـ يذكر ناشر هذا الكتاب ومحققه في ذيل صحيفة 141 ـ 142 ناقلًا عن (روضة العرفان) لمؤلفها السيد محمود أبو الهدى خليفة الرواس قال فيها: (الأئمة الاثنا عشر) رضي الله تعالى عنهم أئمة آل بيت الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، تشمل إمامتهم كثيرًا من المعاني اختلف فيها الفرق ـ ثم بعد أن يذكر رأيين لفرقتين من الشيعة الاثني عشرية من هؤلاء الأئمة، يقول: وأشرف المذاهب فيهم، مذهب أهل الحق من رجال الله العارفين فإنهم يقولون: إن الأئمة الاثني عشر، هم أئمة العترة فكل واحد منهم إمام لآل في زمانه، وصاحب مرتبة الغوثية المعبر عنها بالقطبية الكبرى، وهم: 1 ـ سيدنا أمير المؤمنين (علي بن أبي طالب) كرم الله وجهه، 2 ـ والإمام الجليل ولده أبو محمد (الحسن) ، 3 ـ والإمام الشهيد (الحسين) ، 4 ـ والإمام زين العابدين (علي) ، 5 ـ والإمام (محمد الباقر) ، 6 ـ والإمام (جعفر الصادق) ، 7 ـ والإمام (موسى الكاظم) ، 8 ـ والإمام (علي الرضا) ، 9 ـ والإمام محمد (الجواد) ، 10 ـ والإمام (علي الهادي) ، 11 ـ والإمام (الحسن العسكري) ، 12 ـ والإمام (محمد المهدي) المنتظر الحجة، ـ رضي الله عنهم ـ جميعًا. الثانية ـ ويذكر أيضًا عن (روضة العرفان) بعد ما تقدم في ذيل الصحيفة 142 تحت عنوان (تحفة) : أن بعض الأجلاء رأي الرسول عليه الصلاة والسلام في المنام وسأله عن الإمام السيد أحمد الرفاعي ـ رضي الله عنه ـ فقال له عليه الصلاة والسلام: هو ثالث عشر أئمة الهدي من أهل بيتي.

الثالثة ـ ويذكر الرواس في صحيفة 212 من هذا الكتاب (بوارق الحقائق) أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: تمسك بولدي (أحمد الرفاعي) تصل إلى الله فهو سيد أولياء أمتي بعد أولياء القرون الثلاثة وأعظمهم منزلة، ولا يجيء مثله إلى يوم القيامة غير سميك (المهدي) بن العسكري " ا. هـ. (التصوف بين الحق والخلق ص196) . وهذه الملاحظات التي أوردها محمد فهد الشقفة نقلًا من كتاب بوارق الحقائق للرواس الرفاعي لا تحتاج إلى مزيد شرح وإيضاح أن العقيدة الرفاعية هي عين العقيدة الشيعية الإمامية حول الأئمة عمومًا والإمام الغائب خصوصًا. وإن كان الصيادي قد زعم تارة أن أحمد الرفاعي يأتي في المنزلة بعد المهدي الغائب، وتارة يجعله مساويًا له. . 2 ـ إسناد الطريقة الرفاعية عن الإمام الغائب مهدي الشيعة المنتظر: وقد جعل محمد الصيادي الرفاعي المتوفي سنة 1327هـ ـ 1909م والذي يسمونه مجدد الطريقة الرفاعية، والرفاعي الثاني، أحد أسانيده المزعومة في الطريقة إلى المهدي الغائب منتظر الشيعة حيث يقول: " لي أربعة أسانيد في المصافحة الأول عن ابن عمي السيد إبراهيم الرفاعي المفتي وسنده في المصافحة سنده في الإجازة إلى الإمام الأكبر سلطان الأولياء مولانا السيد أحمد الكبير الرفاعي ـ رضي الله عنه ـ وهو صافح جده يوم مد اليد والقصة أشهر من أن تذكر. والثاني عن ابن عمي وشيخي السيد عبد الله الراوي الرفاعي وسنده أيضًا سند إجازته وهو يتصل بالإمام الكبير الرفاعي ـ رضي الله عنه ـ وعنا به وهو قد صافح جده عليه الصلاة والسلام. والثالث عن حجة الله الإمام المهدي ابن الإمام العسكري رضوان الله وسلامه عليهما في طيبة الطيبة تجاه المرقد الأشرف المصطفوي وقال صافحت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودعا لي بخير. قال شيخنا (ـ رضي الله عنه ـ) ثم دعا لي الإمام المهدي رضوان الله عليه بخير. قال والرابع عن الخضر عليه السلام صافحته سبعًا وثلاثين

وحدة الشعار بين الرفاعية والشيعة

مرة آخر مرة منها في مقام الشيخ معروف الكرخي (ـ رضي الله عنه ـ) ببغداد عصر يوم جمعة فقال صافحت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال لي صافحت كفي هذه سرادقات عرش ربي عز وجل " انتهى (المجموعة النادرة ص230، 231) . وهذا اعتراف صريح لعقيدة الشيعة في الأئمة الاثني عشر، وبالإمام الغائب المزعوم. فأي صلة أكبر من هذا بين الطريقة الرفاعية والتشيع. وحدة الشعار بين الرفاعية والشيعة وتلتقي الطريقة الرفاعية أيضًا في شعار واحد مع التشيع وهو السواد، ولبس العمامة السوداء. . يقول محمد مهدي الصيادي الرفاعي في كتاب قذلكة الحقيقة في أحكام الطريقة: " المادة التاسعة عشرة في المائة الثالثة: لبس العمامة السوداء، ولبس العمامة البيضاء وكلاهما سنة من سنن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولهذا كان زي إمامنا في طريقتنا السيد أحمد الرفاعي ـ رضي الله عنه ـ وعنا به العمامة السوداء فهي خرقته المباركة "! ! (الطريقة الرفاعية ص126) . فاختيار اللون الأسود ليكون الخرقة والشعار لا شك أنه توافق ظاهر آخر مع الشيعة الذين جعلوا هذا اذللون شعارًا لهم. الخلوة الأسبوعية ومن مشاعر الطريقة الرفاعية الخاصة الخلوة الأسبوعية في كل عام، وابتداء دخلوها في اليوم الثاني من عاشوراء يعني الحادي عشر من محرم، وقد جعلوها

ادعاء الاختصاص بالرحمة

شرطًا لكل من انتسب إلى هذه الطريقة، وطعامها خال من كل ذي روح (الطريقة الرفاعية ص115) . ولا شك أن هذا التوقيت السنوي ليس اختياره عبثًا، لأنه يأتي بعد المشاعر الخاصة للشيعة رأسًا. ادعاء الاختصاص بالرحمة يدعي الصياد وهو المؤسس الثاني للطريقة الرفاعية أنه مختص برحمة الله، ووارث رسول الله، والمختار من الله الذي كشف له الغيب، وعرف أسرار الرموز القرآنية، وباطن القرآن، وأنه كنز الفيوضات المحمدية، وأنه إمام الوقت، والإمامية تظل فيه وفي أعقابه إلى يوم القيامة. . وهذه الدعاوي جميعًا هي من دعاوي الشيعة في أئمتهم وهذه بعض نصوص عباراته في ذلك: يقول الصيادي الرفاعي: " فأهل الاختصاص جذبتهم يد المشيئة الربانية، بمحض الفضل والعناية الصمدانية، إلى أقصى المراتب العلية، وهذا المنح الباهر، والفضل الوافر، هو يوم حصتي، ومنصته منصتي، أقامني الله في هذه المنزلة إمامًا، واختارني لرتبة هذه الخصوصية ختامًا، وكشف لي مخبآت الغيب باطلاع من كرمه، وجليل نعمه، ففهمت أسرار الرموز الفرقانية، وسبرت خفايا دقائق البطون القرآنية ولم تبرح تترقى همتي بكشف تلك الحجب اللطيفة، وبشق ديباجات هاتيك المحاضر الشريفة، فأنا اليوم ولربي الحمد والشكر وله الإحسان والبر، كنز الفيوضات الطاهرة المحمدية، وسجل العلوم المقدسة النبوية، وهذه النوبة نوبتي، تتقلب في ورّاث منزلتي، وخدام قدمي إلى ما شاء الله، بهذا بشرت من صاحب الوعد الصادق، وقرأته في صحف الرموزات العلوية التي طفحت بفائق الحقائق، سينشر علم ظهور حالي بعد هذا الخفاء في الأكوان، ويبرز بروز الشمس من بطن ليل الطمس للعيان،

وتعكف على بابي القلوب والأرواح، ويسري سر إرشادي في الجبال والأودية والبطاح، ولم يمسس شأن نهجي المبارك غبار دنيوي، ولم يرجع منه حرف إلى قصد نفساني، بل كله لله، على منهاج رسول الله، عليه صلوات الله، لا يعبأ معناه بحال من أحوال هذه الدنيا الدنية، ولا يلتفت قائد حاله إلى مظاهرها الزائلة المطوية، وقد تفرغ رجال وراثتي حال النبي في الأمة، وتقوم بأطوار السادة القادة الأئمة، ومن رجالي وجه مولاي علي أمير المؤمنين، صهر النبي الأمين، الأسد البطين، ليث العرين، ولي هذا الخط الذي سيبرز، وكأني أراه على يد عبد يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله، من البيت الفاطمي، والفرع الأمدي، خزامي الفصيلة، خالدي القبيلة، يجدد المجد العلوي، ويرفع قواعد البيت الرفاعي، ويمهد فخار العنصر الصيادي، ينبلج شارق طالعه قرب متكين، فيقوم كما أنا حيرة للمفتونين، وجاذبة للموفقين، ويترعرع مجده في ساحة الظهور، فيرتقي إلى الشهباء، ثم إلى فروق، وبها تظهره لوامع بروق، وفي بحبوحة تلك الترقيات، وسمو هاتيك المنصات، فالمفتون قادح، والمأمون مادح ونور الله ساطع، وفي فضاء الوجودات لامع، وما النصر إلا من عند الله، يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله، ويقبل عليه من ارتضيناه وأعناه، وأسعفناه بمدد واجتذبناه، ولا يزال الأمر منبلج المظهر، ولذكر الله أكبر " ا. هـ. منه بلفظه. ولا يخفى على القارئ اللبيب كلمات هذا الصيادي أن وارثه سيجدد المجد العلوي، وأنه من البيت الفاطمي. . فكلها عبارات تنبئ عن المقصد والمعتقد. * ولعلنا لا نستغرب بعد ذلك ممن ترجم لهذا الصيادي الرفاعي بعد موته فقال عنه: " قام السيد أبو الهدىرحمه الله مدة حياته الكريمة بأعمال جليلة نافعة ومآثر حميدة طيبة تبقى شافعة له عند ربه يوم اللقاء، وأعماله كانت منصبة على تعمير الأضرحة لآل البيت الكرام " (المجموعة النادرة ص37، 38) .

الفصل الخامس: مناظرة شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية للبطائحية الرفاعية

الفصل الخامس: مناظرة شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية للبطائحية الرفاعية بعد أن استكملنا بحمد الله الخطوط العريضة للطرق الصوفية قديمًا وحديثًا نتبع هذا البيان بمناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية لمن عاصروه من الرفاعية البطائحية فقد زعم الرفاعية أن الله قد ألان لهم الحديد وأزال لهم فاعلية السموم والنيران، وأخضع لهم طغاة الجن، وما زالوا منذ ذلك اليوم يمخرقون بمثل هذا على الناس إلى يومنا هذا. وقد وقعت مناظرة بين شيخ الإسلام والرفاعية حول هذه الأمور التي يدعونها. فتحداهم شيخ الإسلام فيها وبين لهم أن ما يدعونه كذب وتمويه ودجل وليس من الولاية في شيء، وقد أثبت هذه المناظرة بكاملها بقلم الشيخ ابن تيمية لما فيها من القواعد العظيمة والجليلة، ولمناسبتها لما نحن في صددها من بيان الحق فيما عند الصوفية من الزيغ والباطل والله المستعان. قال شيخ الإسلام قدس الله روحه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله رب السماوات والأرضين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم تسليمًا دائمًا إلى يوم الدين (مناظرة ابن تيمية لدجاجلة البطائحية) . (أما بعد) فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الإمارة والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم في

أمر (البطائحية) يوم السبت تاسع جمادي الأولى سنة خمس (أي بعد السبعمائة) لتشوف الهمم إلى معرفة ذلك وحرص الناس على الإطلاع عليه. فإن من كان غائبًا عن ذلك قد يسمع بعض أطراف الواقعة، ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع، ومن الحاضرين من سمع ورأى ما لم يسمع غيره ويرى لانتشار هذه الواقعة العظيمة، ولما حصل بها من عز الدين، وظهور كلمته العليا، وقهر الناس على متابعة الكتاب والسنة، وظهور زيف من خرج عن ذلك من أهل البدع المضلة والأحوال الفاسدة والتلبيس على المسلمين. وقد كتبت في غير هذا الموضع صفة حال هؤلاء (البطائحية) وطريقتهم وطريق (الشيخ أحمد بن الرفاعي) وحاله، وما وافقوا فيه المسلمين وما خالفوهم. ليتبين ما دخلوا فيه من دين الإسلام وما خرجوا فيه عن دين الإسلام، فإن ذلك يطول وصفه في هذا الموضع، وإنما كتبت هنا ما حضرني ذكره من حكاية هذه الواقعة المشهورة في مناظراتهم ومقابلتهم. وذلك أني كنت أعلم من حالهم بما قد ذكرته في غير هذا الموضع ـ وهو أنهم وإن كانوا منتسبين إلى الإسلام، وطريقة الفقر والسلوك، ويوجد في بعضهم التعبد والتأله والوجد والمحبة والزهد والفقر والتواضع ولين الجانب والملاطفة في المخاطبة والمعاشرة والكشف والتصرف ونحو ذلك ما يوجد ـ فيوجد أيضًا في بعضهم من الشرك وغيره من أنواع الكفر، ومن الغلو والبدع في الإسلام والإعراض عن كثير ما جاء به الرسول، والاستخفاف بشريعة الإسلام، والكذب والتلبيس وإظهار المخارق الباطلة وأكل أموال الناس بالباطل، والصد عن سبيل الله ما يوجد. . وقد تقدمت لي معهم وقائع متعددة بينت فيها لمن خاطبته منهم ومن غيرهم بعض ما فيهم من حق وباطل، وأحوالهم التي يسمونها الإشارات، وتاب منهم جماعة، وأدب منهم جماعة من شيوخهم، وبينت صورة ما يظهرونه من المخاريق: مثل ملابسة النار والحيات، وإظهار الدم، واللاذن والزعفران وماء الورد والعسل والسكر وغير ذلك، وأن عامة ذلك عن حيل

معروفة وأسباب مصنوعة، وأراد غير مرة منهم قوم إظهار ذلك فلما رأوا معارضتي لهم رجعوا ودخلوا على أن أسترهم فأجبتهم إلى ذلك بشرط التوبة، حتى قال لي شيخ منهم في مجلس عام فيه جماعة كثيرة ببعض البساتين لما عارضتهم بأني أدخل معكم النار بعد أن نغتسل بما يذهب الحيلة، ومن احترق كان مغلوبًا، فلما رأوا الصدق أمسكوا عن ذلك. وحكى ذلك الشيخ أنه كان مرة عند بعض أمراء التتر بالمشرق، وكان له صنم يعبده، قال: فقال: هذا الصنم يأكل من هذا الطعام كل يوم ويبقى أثر الأكل في الطعام بينًا يرى فيه! ! فأنكرت ذلك، فقال لي إن كان يأكل أنت تموت؟ فقلت نعم، قال: فأقمت عنده إلى نصف النهار ولم يظهر في الطعام أثر! فاستعظم ذلك التتري وأقسم بأيمان مغلظة أنه كل يوم يرى فيه أثر الأكل، لكن اليوم بحضورك لم يظهر ذلك. فقلت لهذا الشيخ: أنا أبين لك سبب ذلك. ذلك التتري كافر مشرك، ولصنمه شيطان يغويه بما يظهره من الأثر في الطعام، وأنت كان معك من نور الإسلام وتأييد الله تعالى ما أوجب انصراف الشيطان عن أن يفعل ذلك بحضورك، وأنت وأمثالك بالنسبة إلى أهل الإسلام الخالص كالتتري بالنسبة لأمثالك. فالتتري وأمثاله سود، وأهل الإسلام المحض بيض، وأنتم بلق فيكم سواد وبياض. فأعجب هذا المثل من كان حاضرًا! ! ! وقلت لهم في مجلس آخر لما قالوا تريد أن تظهر هذه الإشارات؟ قلت: إن عملتموها بحضور من ليس من أهل الشأن: من الأعراب والفلاحين، أو الأتراك أو العامة أو جمهور المتفقهة والمتفرقة والمتصوفة لم يحسب لكم ذلك. فمن معه ذهب فليأت به إلى سوق الصرف إلى عند الجهابذة الذين يعرفون الذهب الخالص من المغشوش ومن الصفر، لا يذهب إلى عند أهل الجهل بذلك. فقالوا لي: لا نعمل هذا إلا أن تكون همتك معنا، فقلت: همتي ليست معكم، بل أنا معارض لكم مانع لكم، لأنكم تقصدون بذلك إبطال شريعة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن كان لكم قدرة على إظهار ذلك فافعلوا. فانقلبوا صاغرين.

فلما كان قبل هذه الواقعة بمدة كان يدخل منهم جماعة مع شيخ لهم من شيوخ البر. مطوقين بأغلال الحديد في أعناقهم، وهو وأتباعه معروفون بأمور، وكان يحضر عندي مرات فأخاطبه بالتي هي أحسن؛ فلما ذكر الناس ما يظهرونه من الشعار المبتدع الذين يتميزون به عن المسلمين. ويتخذونه عبادة ودينًا يوهمون به الناس أن هذا لله سر من أسرارهم، وأنه سيماء أهل الموهبة الإلهية السالكين طريقهم ـ أعني طريق ذلك الشيخ وأتباعه ـ خاطبته في ذلك بالمسجد الجامع، وقلت هذا بدعة لم يشرعها الله تعالى ولا رسوله، ولا فعل ذلك أحد من سلف هذه الأمة ولا من المشايخ الذين يقتدي بهم، ولا يجوز التعبد بذلك، وإلا التقرب به إلى الله تعالى لأن عبادة الله بما لم يشرعه ضلالة، ولباس الحديد على غير وجه التعبد قد كرهه من كرهه من العلماء للحديث المروي في ذلك وهو أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى على رجل خاتمًا من حديد فقال: (مالي أرى عليك حلية أهل النار) . وقد وصف الله تعالى أهل النار بأن في أعناقهم الأغلال، فالتشبه بأهل النار من المنكرات. وقال بعض الناس قد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث الرؤيا قال في آخره [أحب القيد وأكره الغل. القيد ثبات في الدين] فإذا كان مكروهًا في المنام فكيف في اليقظة؟ ! فقلت له في ذلك المجلس ما تقدم من الكلام أو نحوًا منه مع زيادة، وخوفته من عاقبة الإصرار على البدعة، وأن ذلك يوجب عقوبة فاعله، ونحو ذلك من الكلام الذي نسيت أكثره لبعد عهدي به. وذلك أن الأمور التي ليست مستحبة في الشرع لا يجوز التعبد بها باتفاق المسلمين، ولا التقرب بها إلى الله ولا اتخاذها طريقًا إلى الله وسببًا لأن يكون الرجل من أولياء الله وأحبائه، ولا اعتقاد أن الله يحبها أو يحب أصحابها كذلك، أو أن اتخاذها يزداد به الرجل خيرًا عند الله وقربة إليه، ولا أن يجعل شعارًا للتائبين المريدين وجه الله الذين هم أفضل ممن ليس مثلهم. فهذا أصل عظيم تجب معرفته والاعتناء به، وهو أن المباحات إنما تكون مباحة إذا جعلت مباحات، فأما إذا اتخذت واجبات أو مستحبات كان ذلك

دينًا لم يشرعه الله، وجعل ما ليس من الواجبات والمستحبات منها بمنزلة جعل ما ليس من المحرمات منها، فلا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله؛ ولهذا عظم ذم الله في القرآن لمن شرع دينًا لم يأذن الله به، ولمن حرم ما لم يأذن الله بتحريمه فإذا كان هذا في المباحات فكيف بالمكروهات أو المحرمات؟ ولهذا كانت هذه الأمور لا تلزم بالنذر، فلو نذر الرجل فعل مباح أو مكروه أو محرم لم يجب عليه فعله كما يجب عليه إذا نذر طاعة الله أن يطيعه؛ بل عليه كفارة يمين إذا لم يفعل عند أحمد وغيره، وعند آخرين لا شيء عليه. فلا يصير بالنذر ما ليس بطاعة ولا عبادة طاعة وعبادة. ونحو ذلك العهود التي تتخذ على الناس لالتزام طريقة شيخ معين كعهود أهل (الفتوة) و (رماة البندق) ونحو ذلك ليس على الرجل أن يلتزم من ذلك على وجه الدين والطاعة لله إلا ما كان دينًا وطاعة لله ورسوله في شرع الله؛ لكن قد يكون عليه كفارة عند الحنث في ذلك؛ ولهذا أمرت غير واحد أن يعدل عما أخذ عليه من العهد بالتزام طريقة مرجوحة أو مشتملة على أنواع من البدع إلى ما هو خير منها من طاعة الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واتباع الكتاب والسنة؛ إذا كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد أو يقول عن عمل: إنه قربة وطاعة وبر وطريق إلى الله واجب أو مستحب إلا أن يكون مما أمر الله به ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذلك يعلم بالأدلة المنصوبة على ذلك، وما علم باتفاق الأمة أنه ليس بواجب ولا مستحب ولا قربة لم يجز أن يعتقد أو يقال إنه قربة وطاعة. فكذلك هم متفقون على أنه لا يجوز قصد التقرب به إلى الله، ولا التعبد به ولا اتخاذه دينًا ولا عمله من الحسنات، فلا يجوز جعله من الدين لا باعتقاد وقول، ولا بإرادة وعمل. وبإهمال هذا الأصل غلط خلق كثير من العلماء والعباد يرون الشيء إذا لم يكن محرمًا لا ينهى عنه، بل يقال إنه جائز ولا يفرقون بين اتخاذه دينًا وطاعة وبرًا، وبين استعماله كما تستعمل المباحات المحضة، ومعلوم أن اتخاذه دينًا بالاعتقاد أو الاقتصاد أو بهما أو بالقول أو بالعمل أو بهما من أعظم

فصل فلما نهيتهم عن ذلك أظهروا الموافقة والطاعة

المحرمات وأكبر السيئات، وهذا من البدع المنكرات التي هي أعظم من المعاصي التي يعلم أنها معاص وسيئات. فصل فلما نهيتهم عن ذلك أظهروا الموافقة والطاعة ومضت على ذلك مدة والناس يذكرون عنهم والإصرار على الابتداع في الدين، وإظهار ما يخالف شرعة المسلمين، ويطلبون الإيقاع بهم، وأنا أسلك مسلك الرفق والأناة، وأنتظر الرجوع والفيئة، وأؤخر الخطاب إلى أن يحضر (ذلك الشيخ) لمسجد الجامع. وكان قد كتب إلي كتابًا بعد كتاب فيه احتجاج واعتذار، وعتب وآثار، وهو كلام باطل لا تقوم به حجة، بل إما أحاديث موضوعة، أو إسرائيليات غير مشروعة، وحقيقة الأمر الصد عن سبيل الله وأكل أموال الناس بالباطل. فقلت لهم: الجواب يكون بالخطاب. فإن جواب مثل هذا الكتاب لا يتم إلا بذلك وحضر عندنا منهم شخص فنزعنا الغل من عنقه. وهؤلاء هم من أهل الأهواء الذين يتعبدون في كثير من الأمور بأهوائهم لا بما أمر الله تعالى ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} [القصص: 50] . ولهذا غالب وجدهم هوى مطلق لا يدرون من يعبدون، وفيهم شبه قوي من النصارى الذين قال الله تعالى فيهم: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا وضلوا عن سواء السبيل} [المائدة: 77] ، ولهذا كان السلف يسمون أهل البدع أهل الأهواء. فحملهم هواهم على أن تجمع الأحزاب، ودخلوا إلى المسجد الجامع مستعدين للحراب، بالأحوال التي يعدونها للغلاب. فلما قضيت صلاة الجمعة أرسلت إلى شيخهم لنخاطبه بأمر الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونتفق على اتباع سبيله ـ فخرجوا من المسجد الجامع في جموعهم إلى قصر الإمارة، وكأنهم اتفقوا مع بعض الكبار على مطلوبهم، ثم رجعوا إلى مسجد الشاغور ـ على ما ذكر لي ـ وهم من

الصياح والاضطراب، على أمر من أعجب العجاب. فأرسلت إليهم مرة ثانية لإقامة الحجة والمعذرة، وطلبًا للبيان والتبصرة، ورجاء المنعة والتذكرة. فعمدوا إلى القصر مرة ثانية، وذكر لي أنهم قدموا من الناحية الغربية مظهرين الضجيج والعجيج والإزباد والإرعاد، واضطراب الرؤوس والأعضاء، والتقلب في نهر بردى وإظهار التوله الذي يخيلوا به على الردى، وإبراز ما يدعونه من الحال والمحال، الذي يسلمه إليهم من أضلوا من الجهال. فلما رأى الأمير ذلك هاله ذلك المنظر، وسأل عنهم فقيل له هم مشتكون، فقال ليدخل بعضهم، فدخل شيخهم، وأظهر من الشكوى عليّ ودعوى الاعتداء مني عليهم كلامًا كثيرًا لم يبلغني جميعه؛ لكن حدثني من كان حاضرًا أن الأمير قال لهم: فهذا الذي يقوله من عنده أو يقوله عن الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟ فقالوا: بل يقوله عن الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: فأي شيء يقال له؟ قالوا: نحن لنا أحوال وطريق يسلم إلينا، قال: فنسمع كلامه فمن كان في الحق معه، قالوا: ولا بد من حضوره؟ قال: نعم، فكرروا ذلك فأمر بإخراجهم، فأرسل إلى بعض خواصه من أهل الصدق والدين ممن يعرف ضلالهم وعرفني بصورة الحال وأنه يريد كشف أمر هؤلاء. فلما علمت ذلك ألقي في قلبي أن ذلك لأمر يريده الله من إظهار الدين، وكشف حال أهل النفاق المبتدعين، لانتشارهم في أقطار الأرضين، وما أحببت البغي عليهم والعدوان، ولا أن أسلك معهم إلا أبلغ ما يمكن من الإحسان، فأرسلت إليهم من عرفهم بصورة الحال، وأني إذا حضرت كان ذلك عليكم من الوبال، وكثر فيكم القيل والقال، وأن من قعد أو قام قدام رماح أهل الإيمان، فهو الذي أوقع نفسه في الهوان. فجاء الرسول وأخبر أنهم اجتمعوا بشيوخهم الكبار، الذين يعرفون حقيقة الأسرار، وأشاروا إليهم بموافقة ما أمروا به من اتباع الشريعة، والخروج عما ينكر عليهم من البدع الشنيعة. وقال شيخهم الذي يسيح بأقطار الأرض كبلاد الترك ومصر وغيرها: أحوالنا تظهر عند التتار لا تظهر عند شرح محمد بن عبد الله. وأنهم نزعوا الأغلال من الأعناق،

وأجابوا إلى الوفاق. ثم ذكر لي أنه جاءهم بعض أكابر غلمان المطاع وذكر أنه لا بد من حضورهم لموعد الاجتماع. فاستخرت الله تعالى تلك الليلة واستعنته، واستهديته، وسلكت سبيل عباد الله في مثل هذه المسالك، حتى ألقي في قلبي أن أدخل النار عند الحاجة إلى ذلك، وأنها تكون بردًا وسلامًا على من اتبع ملة الخليل، وأنها تحرق أشباه الصابئة أهل الخروج عن هذا السبيل. وقد كان بقايا الصابئة أعداء إبراهيم الحنفاء بنواحي البطائح منضمين إلى من يضاهيهم من نصارى الدهماء. وبين الصابئة ومن ضل من العباد المنتسبين إلى هذا الدين، لسبب يعرفه من عرف الحق المبين، فالغالية من القرامطة والقاطنية، كالنصيرية والإسماعيلية، يخرجون إلى مشابهة الصابئة الفلاسفة، ثم إلى الإشراك، ثم إلى جحود الحق تعالى. ومن شركهم الغلو في البشر والابتداع في العادات، والخروج عن الشريعة له نصيب من ذلك بحسب ما هو لائق، كالملحدين من أهل الاتحاد، والغالية من أصناف العباد. فلما أصبحنا ذهبت إلى الميعاد، وما أحببت أن أستصحب أحدًا للإسعاد، لكن ذهب أيضًا بعض من كان حاضرًا من الأصحاب، والله هو المسبب لجميع الأسباب، وبلغني بعد ذلك أنهم طافوا على عدد من أكابر الأمراء، وقالوا أنواعًا مما جرت به عادتهم من التلبيس والافتراء، الذي استحوذوا به على أكثر أهل الأرض من الأكابر والرؤساء، مثل زعمهم أن لهم أحوالًا لا يقاومهم فيها أحد من الأولياء، وأن لهم طريقًا لا يعرفه أحد من العلماء. وأن شيخهم هو في المشايخ كالخليفة، وأنهم يتقدمون على الخلق بهذه الأخبار المنيفة. وأن المنكر عليهم هو آخذ بالشرع الظاهر، غير واصل إلى الحقائق والسرائر. وأن لهم طريقًا وله طريق. وهم الواصلون إلى كنه التحقيق وأشباه هذه الدعاوي ذات الزخرف والتزويق.

أنواع من تلبيسات الرفاعية

أنواع من تلبيسات الرفاعية وكانوا لفرط انتشارهم في البلاد، واستحواذهم على الملوك والأمراء والأجناد، لخفاء نور الإسلام، واستبدال أكثر الناس بالنور الظلام، وطموس آثار الرسول في أكثر الأمصار، ودروس حقيقة الإسلام في دولة التتار، لهم في القلوب موقع هائل، ولهم فيهم من الاعتقاد ما لا يزول بقول قائل. قال المخبر: فغدا أولئك الأمراء الأكابر، وخاطبوا فيهم نائب السلطان بتعظيم أمرهم الباهر، وذكر لي أنواعًا من الخطاب، والله تعالى أعلم بحقيقة الصواب، والأمير مستشعر ظهور الحق عند التحقيق، فعاد الرسول، إلي مرة ثانية فبلغه أنّا في الطريق، وكان كثير من أهل الاتحاد مجدين في نصرهم بحسب مقدورهم، مجهزين لمن يعنيهم في حضورهم. فلما حضرت وجدت النفوس في غاية الشوق في هذا الاجتماع، متطلعين إلى ما سيكون طالبين للاطلاع. فذكر لي نائب السلطان وغيره من الأمراء بعض ما ذكروه من الأقوال المشتملة على الافتراء. وقال إنهم قالوا: إنك طلبت منهم الامتحان، وأن يحموا الأطواق نارًا ويلبسوها، فقلت هذا من البهتان. وها أنا ذا أصف ما كان. قلت للأمير: نحن لا نستحل أن نأمر أحدًا بأن يدخل نارًا، ولا تجوز طاعة من يأمر بدخول النار. وفي ذلك الحديث الصحيح. وهؤلاء يكذبون في ذلك، وهم كذابون مبتدعون قد أفسدوا من أمر دين المسلمين ودنياهم ما الله به عليم. وذكرت تلبيسهم على طوائف من الأمراء، وأنهم لبسوا على الأمير المعروف بالأيد مري، وعلى قفجق نائب السلطة وعلى غيرها، وقد لبسوا أيضًا على الملك العادل كتغا في ملكه، وفي حالة ولاية حماة، وعلى أمير السلاح أجل أمير بديار مصر، وضاق المجلس عن حكاية جميع تلبيسهم. فذكرت تلبيسهم على الأيد مري، وأنهم كانوا يرسلون من النساء من يستخبر عن أحوال بيته الباطنة، ثم يخبرونه بها على طريق المكاشفة، ووعدوه بالملك، وأنهم وعدوه أن يروه رجال الغيب. فصنعوا خشبًا طوالًا وجعلوا عليها من يمشي كهيئة الذي يلعب بأكر الزجاج، فجعلوا يمشون

على جبل المزة وذاك يرى من بعيد قومًا يطوفون على الجبل وهم يرتفعون على الأرض وأخذوا منه مالًا كثيرًا ثم انكشف له أمرهم. قلت للأمير: وولده هو الذي في حلقة الجيش يعلم ذلك، وهو ممن حدثني بهذه القصة. وأما قفجق فإنهم أدخلوا رجلًا في القبر يتكلم وأوهموه أن الموتى تتكلم، وأتوا به في مقابر باب الصغير إلى رجل زعموا أنه الرجل الشعراني الذي بجبل لبنان، ولم يقربوه منه بل من بعيد لتعود عليه بركته، وقالوا إنه طلب منه جملة من المال؛ فقال قفجق: الشيخ يكاشف وهو يعلم أن خزائني ليس فيها هذا كله، وتقرب قفجق منه وجذب الشعر فانقلع الجلد الذي ألصقوه على جلده من جلد الماعز. فذكرت للأمير هذا؛ ولهذا قيل لي إنه لما انقضى المجلس وانكشف ما لهم للناس كتب أصحاب قفجق إليه كتابًا وهو نائب السلطنة بحماة يخبره صورة ما جرى. وذكرت للأمير أنهم مبتدعون بأنواع من البدع، مثل الأغلال ونحوها، وأنّا نهيناهم عن البدع الخارجة عن الشريعة، فذكر الأمير حديث البدعة وسألني عنه، فذكرت حديث العرباض بن سارية، وحديث جابر بن عبد الله، وقد ذكرتهما بعد ذلك بالمجلس العام كما سأذكره. ابن تيمية يتحداهم بدخول النار معهم: قلت للأمير: أنا ما امتحنت هؤلاء، لكن هم يزعمون أن لهم أحوالًا يدخلون بها النار، وأن أهل الشريعة لا يقدرون على ذلك، ويقولون لنا: هذه الأحوال التي يعجز عنها أهل الشرع ليس لهم أن يعترضوا علينا، بل يسلم إلينا ما نحن عليه ـ سواء وافق الشرع أو خالفه ـ وأنا قد استخرت الله سبحانه أنهم إن دخلوا النار أدخل أنا وهم ومن احترق منا ومنهم فعليه لعنة الله، وكان مغلوبًا، وذلك بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار. فقال الأمير: ولم ذاك؟ قلت: لأنهم يطلون جسومهم بأدوية يصنعونها من

دهن الضفادع، وباطن قشر النارنج، وحجر الطلق، وغير ذلك من الحيل المعروفة لهم، وأنا لا أطلي جلدي بشيء فإذا اغتسلت أنا وهم بالخل والماء الحار بطلت الحيلة وظهر الحق، فاستعظم الأمير هجومي على النار، وقال: أتفعل ذلك؟ فقلت له: نعم! قد استخرت الله في ذلك وألقي في قلبي أن أفعله، ونحن لا نرى هذا وأمثاله ابتداء فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ المتبعين له باطنًا وظاهرًا لحجة أو حاجة، فالحجة لإقامة دين الله، والحاجة لما لا بد منه من النصر والرزق الذي به يقوم دين الله، وهؤلاء إذا أظهروا ما يسمونه إشارتهم وبراهينهم التي يزعمون أنها تبطل دين الله وشرعه وجب إلينا أن ننصر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونقوم في نصر دين الله وشريعته بما نقدر عليه من أرواحنا وجسومنا وأموالنا، فلنا حينئذ أن نعارض ما يظهرونه من هذه المخاريق بما يؤيدنا الله به من الآيات. وليعلم أن هذا مثل معارضة موسى للسحرة لما أظهروا سحرهم أيد الله موسى بالعصا التي ابتلعت سحرهم. فجعل الأمير يخاطب من حضره من الأمراء على السماط بذلك، وفرح بذلك، وكأنهم كانوا قد أوهموه أن هؤلاء لهم حال لا يقدر أحد على رده، وسمعته يخاطب الأمير الكبير الذي قدم من مصر الحاج بهادر وأنا جالس بينهما على رأس السماط بالتركي ما فهمته منه إلا أنه قال: اليوم ترى حربًا عظيمًا، ولعل ذلك كان جوابًا لمن كان خاطبه فيهم على ما قيل. وحضر شيوخهم الأكابر فجعلوا يطلبون من الأمير الإصلاح وإطفاء هذه القضية ويترفقون، فقال الأمير: إنما يكون الصلح بعد ظهور الحق، وقمنا إلى مقعد الأمير بزاوية القصر، أنا وهو وبهادر، فسمعته يذكر له أيوب الحمال بمصر والمولهين ونحو ذلك، فدل ذلك على أنه كان عند هذا الأمير لهم صورة معظمة، وأن لهم فيهم ظنًا حسنًا والله أعلم بحقيقة الحال؛ فإنه ذكر لي. وكان الأمير أحب أن يشهد بهادر هذه الواقعة ليتبين له الحق؛ فإنه من أكابر الأمراء وأقدمهم وأعظمهم حرمة عنده، وقد قدم الآن وهو يحب تأليفه وإكرامه، فأمر ببساط يبسط في الميدان. وقد قدم البطائحية وهم جماعة كثيرون، وقد أظهروا أحوالهم الشيطانية من الإزباد والإرغاء وحركة الرؤوس

والأعضاء، والظفر والحبو والتقلب، ونحو ذلك من الأصوات المنكرات، والحركات الخارجة عن العادات، المخالفة لما أمر به لقمان لابنه في قوله: {واقصد في مشيك واغضض من صوتك} [لقمان: 19] . فلما جلسنا وقد حضر خلق عظيم من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء والعامة وغيرهم، وحضر شيخهم الأول المشتكي، وشيخ آخر يسمي نفسه خليفة سيده أحمد، ويركب بعلمين، وهم يسمونه: عبد الله الكذاب، ولم أكن أعرف ذلك. وكان من مدة قد قدم علي منهم شيخ بصورة لطيفة وأظهر ما جرت به عادتهم من المسألة فأعطيته طلبته ولم أتفطن لكذبه حتى فارقني، فبقي في نفسي أن هذا خفي علي تلبيسه إلى أن غاب، وما يكاد يخفى علي تلبيس أحد، بل أدركه في أول الأمر فبقي ذلك في نفسي ولم أره قط إلى حين نظرته، ذكر لي أنه ذاك الذي كان اجتمع بي قديمًا فتعجبت من حسن صنع الله أنه هتكه في أعظم مشهد يكون حيث كتم تلبيسه بيني وبينه. الرفاعية البطائحية ينكلون عن دعاويهم ويقرون بما هم فيه من الباطل: فلما حضروا تكلم منهم شيخ يقال له حاتم بكلام مضمونه طلب الصلح والعفو عن الماضي والتوبة، وإنا مجيبون إلى ما طلب من ترك هذه الأغلال وغيرها من البدع، ومتبعون للشريعة. (فقلت) أما التوبة فمقبولة. قال الله تعالى: {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب} [غافر: 3] . وقال تعالى: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم} [الحجر: 49: 50] . فأخذ شيخهم المشتكي ينتصر للبسهم الأطواق وذكر أن وهب بن منبه روى أنه كان في بني إسرائيل عابد وأنه جعل في عنقه طوقًا في حكاية من حكايات بني إسرائيل لا تثبت.

(فقلت) لهم: ليس لنا أن نتعبد في ديننا بشيء من الإسرائيليات المخالفة لشرعنا، وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال: [أمتهوكون يا ابن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حيًا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم] وفي مراسيل أبي داود أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى مع بعض أصحابه شيئًا من كتب أهل الكتاب فقال: (كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتابًا غير كتابهم أنزل إلى نبي غير نبيهم) وأنزل الله تعالى: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} [العنكبوت: 51] . فنحن لا يجوز لنا اتباع موسى ولا عيسى فيما علمنا أنه أنزل عليهما من عند الله إذا خالف شرعنا، وإنما علينا أن نتبع ما أنزل علينا من ربنا ونتبع الشرعة والمنهاج الذي بعث الله به إلينا رسولنا. كما قال تعالى: {فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا} [المائدة: 48] . فكيف يجوز لنا أن نتبع عباد بني إسرائيل في حكاية لا تعلم صحتها؟ ! وما علينا من عباد بني إسرائيل؟ ! {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} [البقرة: 134] . هات ما في القرآن وما في الأحاديث الصحاح كالبخاري ومسلم وذكرت هذا وشبهه بكيفية قوية. فقال هذا الشيخ منهم يخاطب الأمير: نحن نريد أن تجمع لنا القضاة الأربعة والفقهاء ونحن قوم شافعية. (فقلت) له هذا غير مستحب ولا مشروع عند أحد من علماء المسلمين؛ بل كلهم ينهى عن التعبد به ويعده بدعة، وهذا الشيخ كمال الدين بن الزملكاني مفتي الشافعية ودعوته وقلت: يا كمال الدين! ما تقول في هذا؟ فقال هذا بدعة غير مستحبة بل مكروهة. أو كما قال. وكان مع بعض الجماعة فتوى فيها خطوط طائفة من العلماء بذلك. (وقلت) ليس لأحد الخروج عن شريعة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأشك هل تكلمت هنا في قصة موسى والخضر؛ فإني

تكلمت بكلام بعد عهدي به. فانتدب ذلك الشيخ عبد الله ورفع صوته. وقال: نحن لنا أحوال وأمور باطنة لا يوقف عليها، وذكر كلامًا لم أضبط لفظه: مثل المجالس والمدارس والباطن والظاهر؛ ومضمونه أن لنا الباطن ولغيره الظاهر، وأن لنا أمرًا لا يقف (نسخه: لا يقدر) عليه أهل الظاهر فلا ينكرونه علينا، (فقلت) له ـ ورفعت صوتي وغضبت ـ الباطن والظاهر والمجالس والمدارس، والشريعة والحقائق، كل هذا مردود إلى كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس لأحد الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا من المشايخ والفقراء، ولا من الملوك والأمراء، ولا من العلماء والقضاة وغيرهم، بل جميع الخلق عليهم طاعة الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وذكرت هذا ونحوه. فقال ـ رفع صوته ـ: نحن لنا الأحوال وكذا وكذا. وادعى الأحوال الخارقة كالنار وغيرها، واختصاصهم بها، وأنهم يستحقون تسليم الحال إليهم لأجلها. ابن تيمية يتحدى البطائحية بالدخول في النار ومن احترق فعليه لعنة الله: فقلت ـ ورفعت صوتي وغضبت ـ أنا أخاطب كل أحمدي من مشرق الأرض إلى مغربها أي شيء فعلوه في النار فأنا أصنع مثل ما تصنعون، ومن احترق فهو مغلوب، وربما قلت فعليه لعنة الله، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار؛ فسألني الأمراء والناس عن ذلك؟ فقلت: إن لهم حيلًا في الاتصال بالنار يصنعونها من أشياء: من دهن الضفادع، وقشر النارنج، وحجر الطلق. فضج الناس بذلك، فأخذ يظهر القدرة على ذلك فقال: أنا وأنت نلف في بارية بعد أن تطلى جسومنا بالكبريت. (فقلت) فقم.

وأخذت أكرر عليه في القيام إلى ذلك، فمد يده يظهر خلع القميص، فقلت: لا! حتى تغتسل في الماء الحار والخل، فأظهر الوهم على عادتهم فقال: من كان يحب الأمير فليحضر خشبًا أو قال حزمة حطب. فقلت هذا تطويل وتفريق للجمع؛ ولا يحصل به مقصود؛ بل قنديل يوقد وأدخل إصبعي وإصبعك فيه بعد الغسل؛ ومن احترقت إصبعه فعليه لعنة الله؛ أو قلت: فهو مغلوب. فلما قلت ذلك تغير وذل. وذكر لي أن وجهه أصفر. ثم قلت لهم: ومع هذا فلو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين حقيقة، ولو طرتم في الهواء، ومشيتم على الماء، ولو فعلتم ما فعلتم لم يكن في ذلك ما يدل على صحة ما تدعونه من مخالفة الشرع، ولا على إبطال الشرع، فإن الدجال الأكبر يقول للسماء أمطري فتمطر؛ وللأرض أنبتي فتنبت، وللخربة أخرجي كنوزك فتخرج كنوزها تتبعه، ويقتل رجلًا ثم يمشي بين شقيه، ثم يقول له قم فيقوم، ومع هذا فهو دجال كذاب ملعون، لعنه الله، ورفعت صوتي بذلك فكان لذلك وقع عظيم في القلوب. وذكرت قول أبي يزيد البسطامي: لو رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف وقوفه عند الأوامر والنواهي، وذكرت عن يونس بن عبد الأعلى أنه قال للشافعي أتدري ما قال صاحبنا يعني الليث بن سعد؟ قال: لو رأيت صاحب هوى يمشي على الماء فلا تغتر به. فقال الشافعي: لقد قصر الليث لو رأيت صاحب هوى يطير في الهواء فلا تغتر به؛ وتكلمت بهذا ونحوه بكلام بعد عهدي به. ومشايخهم يتضرعون عند الأمير في طلب الصلح وجعلت ألح عليه في إظهار ما ادعوه من النار مرة بعد مرة وهم لا يجيبون، وقد اجتمع عامة مشايخهم الذي في البلد والفقراء المولهون منهم، وهم عدد كثير، والناس يضجون في الميدان، ويتكلمون بأشياء لا أضبطها. فذكر بعض الحاضرين أن الناس قالوا ما مضمونه: {فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين} [الأعراف: 118: 119] . وذكروا أيضًا أن هذا الشيخ يسمى عبد الله الكذاب. وأنه الذي قصدك مرة فأعطيته ثلاثين درهمًا،

رجوع الرفاعية وإقرارهم العمل بالكتاب والسنة

فقلت: ظهر لي حين أخذ الدراهم وذهب أنه ملبس، وكان قد حكى حكاية عن نفسه مضمونها أنه أدخل النار في لحيته قدام صاحب حماة، ولما فارقني وقع في قلبي أن لحيته مدهونة، وأنه دخل الروم واستحوذ عليهم. رجوع الرفاعية وإقرارهم العمل بالكتاب والسنة فلما ظهر للحاضرين عجزهم وكذبهم وتلبيسهم، وتبين للأمراء الذين كانوا يشدون منهم أنهم مبطلون رجعوا، وتخاطب الحاج بهادر ونائب السلطان وغيرهما بصورة الحال، وعرفوا حقيقة المحال؛ وقمنا إلى داخل ودخلنا، وقد طلبوا التوبة عما مضى، وسألني الأمير عما تطلب منهم، فقلت: متابعة الكتاب والسنة مثل أن (لا) يعتقد أنه لا يجب عليه اتباعهما، أو أنه يسوغ لأحد الخروج من حكمهما ونحو ذلك، لو أنه يجوز اتباع طريقة تخالف بعض حكمهما، ونحو ذلك من وجوه الخروج عن الكتاب والسنة التي توجب الكفر وقد توجب القتل دون الكفر، وقد توجب قتال الطائفة الممتنعة دون قتل الواحد المقدور علي. فقالوا: نحن ملتزمون الكتاب والسنة؟ نحن نخلعها. فقلت: الأطواق وغير الأطواق، ليس المقصود شيئًا معينًا، وإنما المقصود أن يكون جميع المسلمين تحت طاعة الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. فقال الأمير: فأي شيء الذي يلزمهم من الكتاب والسنة؟ فقلت: حكم الكتاب والسنة كثير لا يمكن ذكره في هذا المجلس، لكن المقصود أن يلتزموا هذا التزامًا عامًا، من خرج عنه ضربت عنقه ـ وكرر ذلك وأشار بيده إلى ناحية الميدان ـ وكان المقصود أن يكون هذا حكمًا عامًا في حق جميع الناس؛ فإن هذا مشهد عام مشهور قد توفرت الهمم عليه، فيتقرر عند المقاتلة، وأهل الديوان، والعلماء والعباد، وهؤلاء وولاة الأمور أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه.

فظائع الرفاعية في الصلاة

فظائع الرفاعية في الصلاة قلت: ومن ذلك الصلوات الخمس في مواقيتها كما أمر الله ورسوله؛ فإن من هؤلاء من لا يصلي، ومنهم من يتكلم في صلاته، حتى إنهم بالأمس بعد أن اشتكوا علي في عصر الجمعة جعل أحدهم يقول في صلب الصلاة: يا سيدي أحمد شيء لله. وهذا مع أنه مبطل للصلاة فهو شرك بالله ودعاء لغيره في حال مناجاته التي أمرنا أن نقول فيها: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5] . وهذا قد فعل بالأمس بحضرة شيخهم فأمر قائل ذلك لما أنكر عليه المسلمون بالاستغفار على عادتهم في صغير الذنوب. ولم يأمره بإعادة الصلاة. وكذلك يصيحون في الصلاة صياحًا عظيمًا وهذا منكر يبطل الصلاة. فقال: هذا يغلب على أحدهم كما يغلب العطاس. فقلت: العطاس من الله والله يحب العطاس ويكره التثاؤب ولا يملك أحدهم دفعه، وأما هذا الصياح فهو من الشيطان، وهو باختيارهم وتكلفهم، ويقدرون على دفعه، ولقد حدثني بعض الخبيرين بهم بعد المجلس أنهم يفعلون في الصلاة مالا تفعله اليهود والنصارى: مثل قول أحدهم أنا على بطن امرأة الإمام، وقول الآخر كذا وكذا من الإمام، ونحو ذلك من الأقوال الخبيثة وأنهم إذا أنكر عليهم المنكر ترك الصلاة يصلون بالنوبة، وأنا أعلم أنهم متولون للشياطين ليسوا مغلوبين على ذلك كما يغلب الرجل في بعض الأوقات على صيحة أو بكاء في الصلاة أو غيرها. فلما أظهروا التزام الكتاب والسنة وجموعهم بالميدان بأصواتهم وحركاتهم الشيطانية يظهرون أحوالهم (قلت له) أهذا موافق للكتاب والسنة؟ فقال: هذا من الله حال يرد عليهم، فقلت: هذا من الشيطان الرجيم لم يأمر الله به ولا رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا أحبه الله ولا رسوله، فقال: ما في السماوات والأرض حركة ولا كذا ولا كذا إلا بمشيئته وإرادته، فقلت له: هذا من باب القضاء والقدر، وهكذا كل ما في العالم من كفر وفسوق وعصيان هم بمشيئته وإرادته وليس ذلك بحجة لأحد في فعله؛ بل ذلك مما زينه الشيطان وسخطه الرحمن.

فقال: فبأي شيء تبطل هذه الأحوال؟ فقلت: بهذه السياط الشرعية. فأعجب الأمير وضحك، وقال: أي والله! بالسياط الشرعية، تبطل هذه الأحوال الشيطانية، كما قد جرى مثل ذلك لغير واحد، ومن لم يجب إلى الدين بالسياط الشرعية فبالسيوف المحمدية. وأمسكت سيف الأمير وقلت: هذا نائب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وغلامه، وهذا السيف سيف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. فمن خرج عن كتاب الله وسنة رسوله ضربناه بسيف الله، وأعاد الأمير هذا الكلام، وأخذ بعضهم يقول: فاليهود والنصارى يقرون ولا نقر نحن؟ فقلت: اليهود والنصارى يقرون بالجزية على دينهم المكتوم في دورهم، والمبتدع لا يقر على بدعته، فأفحموا لذلك. و (حقيقة الأمر) أن من أظهر منكرًا في دار الإسلام لم يقر على ذلك، فمن دعا إلى بدعة وأظهرها لا يقر، ولا يقر من أظهر الفجور، وكذلك أهل الذمة لا يقرون على إظهار منكرات دينهم، ومن سواهم فإن كان مسلمًا أخذ بواجبات الإسلام وترك محرماته، وإن لم يكن مسلمًا ولا ذميًا فهو إما مرتد، وإما مشرك، وإما زنديق ظاهر الزندقة. وذكرت ذم المبتدعة فقلت: روى مسلم في صحيحه عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أبي جعفر الباقر عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقول في خطبته: [إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة] . وفي السنن عن العرباض بن سارية، قال: خطبنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خطبة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: (أوصيكم بالسمع والطاعة فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) وفي رواية (وكل ضلالة في النار) . فقال لي: البدعة مثل الزنا، وروى حديثًا في ذم الزنا، فقلت هذا حديث موضوع على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والزنا معصية، والبدعة شر من

المعصية، كما قال سفيان الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ فإن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها. وكان قد قال بعضهم: نحن نتوب الناس، فقلت: مما ذا تتوبونهم؟ قال: من قطع الطريق، والسرقة، ونحو ذلك. فقلت: حالهم قبل تتويبكم خير من حالهم بعد تتويبكم؛ فإنهم كانوا فساقًا يعتقدون تحريم ما هم عليه، ويرجون رحمة الله، ويتوبون إليه، أو ينوون التوبة. فجعلتموهم بتتويبكم ضالين مشركين خارجين عن شريعة الإسلام، يحبون ما يبغضه الله ويبغضون ما يحبه الله، وبينت أن هذه البدع التي هم وغيرهم عليها شر من المعاصي. قلت مخاطبًا للأمير والحاضرين: أما المعاصي فمثل ما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب أن رجلًا يدعى حمارًا، وكان يشرب الخمر، وكان يُضحك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان كلما أتي به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جلده الحد فلعنه رجل مرة. وقال: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟ ! فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: [لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله] . قلت: فهذا الرجل كثير الشرب للخمر ومع هذا فلما كان صحيح الاعتقاد يحب الله ورسوله شهد له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك فنهى عن لعنه. وأما المبتدع فمثل ما أخرجا في الصحيحين عن علي بن أبي طالب وعن أبي سعيد الخدري وغيرهما ـ دخل حديث بعضهم في بعض ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقسم، فجاءه رجل ناتئ الجبين كث اللحية، محلوق الرأس، بين عينيه أثر السجود، وقال ما قال. فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (يخرج من ضئضئي هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية؛ لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وفي رواية (لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل) وفي رواية (شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوا) . (قلت) : فهؤلاء مع كثرة صلاتهم وقيامهم وقراءتهم وما هم عليه من العبادة

والزهادة أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقتلهم، وقتلهم علي بن أبي طالب ومن معه من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذلك لخروجهم عن سنة النبي وشريعته، وأظن أني ذكرت قول الشافعي: لئن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلى الشرك بالله خير من أن يبتلى بشيء من هذه الأهواء. فلما ظهر قبح البدع في الإسلام، وأنها أظلم من الزنا والسرقة وشرب الخمر وأنهم مبتدعون بدعًا منكرة فيكون حالهم أسوء من حال الزاني والسارق وشارب الخمر أخذ شيخهم عبد الله يقول: يا مولانا لا تتعرض لهذا الجانب العزيز ـ يعني أتباع أحمد بن الرفاعي ـ فقلت منكرًا بكلام غليظ: ويحك؛ أي شيء هو الجانب العزيز، وجناب من خالفه أولى بالعز يا ذو الزرجنة (كذا بالأصل) تريدون أن تبطلوا دين الله ورسوله، فقال: يا مولانا يحرقك الفقراء بقلوبهم، وقلت: مثل ما أحرقني الرافضة لما قصدت الصعود إليهم وصار جميع الناس يخوفوني منهم ومن شرهم، ويقول أصحابهم إن لهم سرًا مع الله فنصر الله وأعان عليهم. وكان الأمراء قد عرفوه بركة ما يسره الله في أمر غزو الرافضة في الجبل. وقلت لهم: يا شبه الرافضة يا بيت الكذب، فإن فيهم من الغلو والشرك والمروق عن الشريعة ما شاركوا به الرافضة في بعض صفاتهم. وفيهم من الكذب ما قد يقاربون به الرافضة في ذلك، أو يساوونهم. أو يزيدون عليهم، فإنهم من أكذب الطوائف حتى قيل فيهم: لا تقولوا أكذب من اليهود على الله، ولكن قولوا أكذب من الأحمدية على شيخهم، وقلت لهم: أنا كافر بكم وبأحوالكم {فكيدوني جميعًا ثم لا تنظرون} [هود: 55] .

ولما رددت عليهم الأحاديث المكذوبة أخذوا يطلبون مني كتبًا صحيحة ليهتدوا بها فبذلت لهم ذلك، وأعيد الكلام: من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه، وأعاد الأمير هذا الكلام واستقر الكلام على ذلك. والحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

الباب الخامس: الصلة بين التصوف والتشيع

الباب الخامس: الصلة بين التصوف والتشيع أوائل المتصوفة وعلاقتهم بالتشيع يذكر الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه (الصلة بين التصوف والتشيع) أن أول من تسمى باسم الصوفي في الإسلام ثلاثة، هم جابر بن حيان، وأبو هاشم الكوفي، وعبدك الصوفي. فأما جابر بن حيان فقد كان تلميذًا لجعفر الصادق أو عبده، والشيعة يرون أن جابرًا هذا من كبارهم وأنه أحد الأبواب (الباب عند الشيعة هو المتكلم باسم الإمام) وأنه ألف كتبًا في التشيع، وكان له مذهب خاص في الزهد ويذكر القفطي صاحب كتاب (إخْبارُ العلماء بأخبار العلماء) أن جابر بن حيان هذا كان مشرفًا على كثير من علوم الفلسفة ومتقلدًا للعلم المعروف بعلم الباطن وهو مذهب المتصوفين من أهل الإسلام كالحارث المحاسبي، وسهل بن عبد الله التستري ونظرائهم، وقد كان جابر هذا بارعًا في الكيمياء ويقول عنه صاحب كتاب روضات الجنات (وأما البارع في هذه الصناعة على الإطلاق ـ علوم الطلسمات ـ فهو المقدم فيها الشيخ الآجل أبو موسى جابر بن حيان الصوفي منشئ كتاب المنتخب) . وأما الرجل الثاني الذي تسمى قديمًا باسم الصوفي فهو أبو هاشم الكوفي وأنه

أول من بنى خانقاه (دار خاصة للمنقطعين إلى التصوف) للصوفية في الرملة، وأنه كان يلبس لباسًا طويلًا من الصوف كفعل الرهبان وكان يقول بالحلول والاتحاد مثل النصارى غير أن النصارى أضافوا الحلول والاتحاد إلى عيسى عليه السلام وأضافهما هو لنفسه ويقول الدكتور كامل الشيبي: " ويظهر من كل ما دار حول أبي هاشم أن أخباره كانت قليلة وهي في اضطرابها تعدل الأخبار الواردة عن جابر بن حيان أو تزيد، ولكن أبا هاشم على كل حال كان معاصرًا لجعفر الصادق أي معاصرًا لجابر بن حيان ويسميه الشيعة مخترع الصوفية وينقلون عن الصادق أنه قال فيه (إنه فاسد العقيدة جدًا، وهو ابتدع مذهبًا يقال له التصوف وجعله مقرًا لعقيدته الخبيثة) كل ذلك لينفوا أن يكون التصوف من اختراع شيعي وذلك أمر يدل على التنصل من مسؤولية لم تمحص نتائجها ولا أغراضها " ا. هـ. (الصلة بين التصوف والتشيع) . * وأما عبدك الصوفي فيذكر الدكتور كامل الشيبي أيضًا أن الدكتور قاسم غني نقل عن ماسنيون أنه كان آخر شيوخ فرقة نصف شيعية ونصف صوفية تأسست في الكوفة، وظهرت كلمة (صوفية) في آثار المحاسبي والحافظ اسما لها، وأن (عبدك) هذا كان رجلًا منزويًا زاهدًا توفي ببغداد سنة 210هـ ـ وأنه أول من أطلق عليه اسم الصوفي وكان يطلق في ذلك الحين على بعض زهاد الكوفة من الشيعة، وعلى مجموعة من الثائرين في الإسكندرية، وأن (عبدك) هذا كان من كبار المشايخ وقدمائهم قبل بشر بن الحارث الحافي، والسري بن المغلّس السقطي، و (عبدك) هذا كان رأس فرقة من الزنادقة الذين زعموا أن الدنيا كلها حرام محرم لا يجوز الأخذ منها إلا القوت من حيث ذهب أئمة العدل، ولا تحل الدنيا إلا بأيام عادل، وإلا فهي حرام ومعاملة أهلها حرام. ولا يجوز الأخذ إلا مقدار القوت فقط. ويضيف كامل الشيبي أن اسم (عبدك) هذا هو عبد الكريم وأن حفيده محمد بن عبدك كان مقدم الشيعة. وهكذا يبدو عبدك هذا جامعًا لاتجاهات

أوجه التلاقي بين التصوف والتشيع

عديدة مختلفة نابعة من التشيع الممتزج بالزهد الذي انتشر في الكوفة وأنه أول كوفي يطلق عليه اسم الصوفي. ويعلق الدكتور كامل الشيبي على كل هذا قائلًا: " أما بعد فإن نتيجة هذا كله أن كلمة (صوفي) التي قطع الباحثون المحدثون بصدورها عن الصوف قد صارت كذلك لأن الصوف قد عم زهاد الكوفة نفسها حيث ظهرت هذه الكلمة أولًا. وقد اشتق التصوف من الصوف. وقد رأينا أن لبس الصوف قد نبع من بيئة الكوفة التي عرف تمسكها بالتشيع ومعارضتها وحربها بالسيف أو بالقول أو بالقلب لمن نكل بالأئمة العلويين. وذلك ـ إذا صح ـ يقطع بأن التصوف في أصوله الأولى كان متصلًا بالتشيع " (الصلة بين التصوف والتشيع ص272) . أوجه التلاقي بين التصوف والتشيع المطلع على حقيقة مذاهب الصوفية، وعلى حقيقة مذاهب التشيع يجد أن المذهبين ينبعان من أصل واحد تقريبًا ويهدفان في النهاية إلى غاية واحدة ويشتركان في عامة العقائد والشرائع التي ينتحلها كل منهم. وإليك التفصيل لهذا الإجمال. ادعاء العلوم الخاصة أول شيء يحب الشيعة أن ينفردوا به عن سائر فرق المسلمين أن عندهم علومًا خاصة ليست مبذولة لعموم الناس وهم ينسبون هذه العلوم تارة لعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بزعم أن عنده أسرار الدين، وأنه وصي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي كتم عنده ما لم يطلع عليه باقي المسلمين، وتارة يزعمون أن عندهم علوم الأئمة أولاد علي من فاطمة وأن هؤلاء الأئمة يعلمون الغيب كله ولا يخطئون ولا ينسون، ولا يستطيع أحد أن يفهم الإسلام إلا من طريق الأئمة، فأسرار القرآن وحقيقة الدين عند الأئمة وحدهم، وتارة يزعمون أن عندهم قرآنًا خاصًا يسمونه

قرآن فاطمة وأنه يعدل هذا القرآن الذي بأيدي المسلمين ثلاث مرات (الدين بين السائل والمجيب للحاج ميرزا الحائري الإحقاقي ص89) ، وليس فيه حرف من القرآن الذي بأيدي المسلمين اليوم. وأخرى يزعمون أن عندهم الجفر، وهو جلد قد كتب فيه كل العلوم. وهكذا يزعمون لأنفسهم علومًا في الدين ليست عند أحد إلا عندهم فقط، ومرة أخرى يزعمون أن عندهم التفسير الحق لآيات القرآن بل يقولون إن الله بعث محمدًا بالتنزيل (يعني حروف القرآن) وبعث عليًا بالتأويل ـ (يعنون التفسير) (فرق الشيعة ص38) . ولقد درج المتصوفة أنفسهم على هذا المنوال نفسه فأعظم ما يلوح به المتصوفة ويتفاخرون به على الناس أن لديهم علومًا لدنية لا يطلع عليها إلا هم ولا يصل إليها إلا من سار على طريقهم بل إنهم احتقروا ما عند عامة المسلمين بل والرسل أنفسهم بجوار ما زعموا لأنفسهم من العلم كما قال كبيرهم أبو يزيد البسطامي: " خضنا بحرًا وقف الأنبياء بساحله " وقال أيضًا: " أخذتم علمكم ميتًا عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت يقول أحدكم: حدثنا فلان عن فلان وأين فلان قالوا مات، وأما أحدنا فيقول: قلبي عن ربي ". وهكذا زعم المتصوفة أنهم أصحاب الكشف والعلوم اللدنية وأن من سار خلفهم تلقى عنهم واستفاد منهم، بل إنهم يزعمون ربط قلب المريد بقلب الشيخ ليتلقى العلم اللدني من الشيخ، ثم إن الشيخ أيضًا يربط قلب المريد بالرسول ليتلقى العلوم اللدنية من عند الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وجعل المتصوفة كذلك مصدر علومهم الخاصة التأويل الباطني للقرآن والحديث حيث يزعمون تارة أنهم تلقوا هذا التأويل من الله، وتارة يزعمون أنه من الملك، وأخرى أنه بالإلهام وكذلك ينسبون علومه الباطنية إلى معرفة

الإمامة الشيعية والولاية الصوفية

أسرار الحروف المقطعة في المصحف، والتلقي عن الخضر عليه السلام، بل والزعم بأن تلقيهم يكون أحيانًا عن اللوح المحفوظ بالسماء، وهذا عين ما ادعته الشيعة أيضًا في أئمتهم حيث زعموا لهم أنهم يعلمون الغيب وأنه لا تسقط ورقة إلا يعلمونها، ولا يحدث حدث في الأبد أو الأزل إلا هم على علم منه. وهذا عما ادعته المتصوفة لأنفسهم وأئمتهم. وهكذا تتطابق عقيدة التشيع مع معتقد المتصوفة في قضية العلم الباطني حتى لكأنهما شيء واحد. الإمامة الشيعية والولاية الصوفية ما زعمه الشيعة في أئمتهم هو عين ما ادعاه المتصوفة فيمن سموهم بالأولياء أيضًا. فقد بني مذهب الرفض على أن الأئمة أناس مختارون من قبل الله سبحانه وتعالى لقيادة الأمة بعد الرسول، وأنهم لذلك يملكون علومًا خاصة لدنية، وهم لذلك لا يخطئون ولا ينسون ولهم منزلتهم من الله التي استحقوها استحقاقًا ووهبًا واختصاصًا واجتباءً ثم غلوا في هؤلاء الأئمة فجعلوهم آلهة أربابًا بكل ما تحمله الكلمة من معان فهم متصرفون في كل ذرات الكون، وهم يدخلون الجنة من شاءوا ويدخلون النار من شاءوا، ومن الرافضة من جعل روح الله حالة فيهم كما قالت الإسماعيلية والنصيرية، ومنهم من جعل منزلتهم فوق منازل الأنبياء والرسل والملائكة جميعًا وقال: " إن لأئمتنا مقامًا لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل وأنهم يتحكمون في قرارات هذا الكون " (الخميني في الحكومة الإسلامية ص54) . * وهذه العقائد نفسها هي التي أخذها المتصوفة وأطلقوها على من سموهم بالأولياء فكما خلع الرافضة صفات الألوهية والربوبية على الأئمة خلع المتصوفة صفات الربوبية والألوهية على الأولياء المزعومين. فجعلوهم أيضًا متصرفين في الكون أعلاه وأسفله ويعلمون الغيب كله، ولا

يغرب عنهم صغير من أمر العالم أو كبير، وأن مقامهم لا يبلغه الأنبياء والملائكة، وأنهم نواب الله في مملكته والمتصرفون في شأن خلقه، وأنهم يدخلون الجنة من شاءوا ويخرجون من النار من شاءوا. * وإذا كان الرافضة قد جعلوا بعد مقام الإمامة مقامات أقل من ذلك كالنقباء وهم وكلاء الإمام. . وهذه الفكرة نفسها قد أخذها المتصوفة وجعلوا مقام الولي الأعظم وسموه القطب الغوث، ثم يليه الأقطاب الثلاثة ثم يليه الأبدال السبعة ثم النجباء السبعون وهكذا. . مقتبسين كل ذلك من الترتيب الشيعي للولاة والأئمة. . وهكذا يتطابق الفكر والعقيدة الرافضية في الإمامة مع العقيدة الصوفية في الولاية. يقول ابن خلدون في المقدمة: ـ " ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك، فذهب الكثير منهم إلى الحلول وفيما وراء الحس، توغلوا في ذلك، فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة. . وملأوا الصحف منه مثل الهروي في كتاب المقامات له، وغيره، وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما، ثم ابن العفيف وابن الفارض، والنجم الإسرائيلي في قصائدهم، وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضًا بالحلول وإلهية الأئمة مذهبًا لم يعرف لأولهم فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم، وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب، ومعناه رأس العارفين يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله، ثم يورث مقامه لآخر من أهل العرفان وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب الإشارات في فصول التصوف منها فقال: " جل جناب الحق أن يكون شرعه لكل وارد، أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد " وهكذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي، وإنما هو نوع من أنواع الخطابة، وهو

بعينه ما تقوله الرافضة في توارث الأئمة عندهم، فانظر كيف سرقت طباع هؤلاء القوم هذا الرأي من الرافضة ودانوا به، ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب، كما قال الشيعة في النقباء، حتى إنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجلوه أصلًا لطريقتهم ونحلتهم رفعوه إلى علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وهو من هذا المعنى أيضًا، وإلا فعلي ـ رضي الله عنه ـ لم يختص بين الصحابة بنحلة ولا طريقة في لباس ولا رجال، بل كان أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنه ـ ما أزهد الناس بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأكثرهم عبادة ولم يختص أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه على الخصوص بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين والزهد والمجاهدة. تشهد بذلك سيرهم وأخبارهم. نعم إن الشيعة يخيلون بما ينقلون من اختصاص علي بالفضائل دون سواه من الصحابة ذهابًا مع عقائد التشيع المعروفة لهم، والذي يظهر أن المتصوفة بالعراق لما ظهرت الإسماعيلية من الشيعة وظهر كلامهم في الإمامة وما يرجع إليها مما هو معروف، فاقتبسوا من ذلك الموازنة بين الظاهر والباطن وجعلوا الإمامة السباق والخلق في الانقياد إلى الشرع، وأفردوه بذلك أن لا يقع اختلاف كما تقرر في الشرع (يشير ابن خلدون رحمه الله بذلك إلى ما هو معروف عن الرافضة في إثباتهم الإمامة أنه لا بد من إمام معصوم يليه إمام معصوم وهكذا السياسة الدين والدنيا بعد الرسول حتى لا يقع خلاف بين الناس، ولا يكون مرد أمرهم إلى الاجتهاد الذي لا يخلو من الخطأ. . ومعلوم فساد هذا القول لأنه ما معصوم بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. . وهؤلاء الأئمة الذين قال الشيعة بعصمتهم قد وقع منهم، ما ينكره الشيعة أصلًا أو يقولون فعلوه تقية وخوفًا) ، ثم جعلوا القطب لتعليم المعرفة بالله لأنه رأس العارفين، وأفردوه بذلك تشبيهًا بالإمام في الظاهر، وأن يكون على وزانه في الباطن. وسموه قطبًا لمدار المعرفة عليه، وجعلوا الأبدال كالنقباء (الأبدال عند المتصوفة، والنقباء عند الشيعة. انظر الفصل الخامس بالولاية) مبالغة في التشبيه. فتأمل ذلك. يشهد بذلك كلام هؤلاء المتصوفة في أمر الفاطمي، وما شحنوا به كتبهم في ذلك مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي أو إثبات

وإنما مأخوذ من كلام الشيعة والرافضة ومذاهبهم في كتبهم والله يهدي إلى الحق " (مقدمة ابن خلدون ص875 ـ 877) . وهكذا يقرر ابن خلدون تطابق التصوف مع التشيع في القول بالعلوم الباطنية، ومراتب الولاية، والقول بالحلول والاتحاد. ويقول الدكتور كامل الشيبي في كتابه (الصلة بين التصوف والتشيع) : " وقد دخلت في التصوف فكرة إسماعيلية صريحة أخرى هي فكرة النقباء التي دارت ـ في الإسماعيلية ـ حول رجال عددهم اثنا عشر يسمون الحجج يبثون الدعوة في غيبة الإمام أو في حضرته وهم مقدسون وعددهم ثابت ويسندهم تكوين العالم الطبيعي كما يسند عدد الأئمة السبعة في السلسلة الواحدة، وقد بين لنا المقريزي أن هؤلاء الحجج متفرقون في جميع الأرض، عليهم تقوم. ويضيف أن عدد هؤلاء الحجج أبدًا اثنا عشر رجلًا " (خطط المقريزي ص489) . وهكذا يشارك الحجة الإمام في العلم والدعوة والسند الإلهي ومن هنا نفذت الصوفية إلى منازل القطب والأبدال. وهذا ابن عربي يذكر، في الفتوحات، عن الصوفية ما ذكره المقريزي عن الإسماعيلية فيقول في النقباء: " وهم اثنا عشر نقيبًا في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون على عدد بروج الفلك الاثني عشر " (الفتوحات المكية 2/9) . وهذه الإشارة تكفي للدلالة على أخذ المتصوفة فكرة هذه المنازل المقدسة عن الإسماعيلية. ويجب أن نشير هنا إلى أن ابن تيمية قد تنبه إلى أن هذه المصطلحات ليست مأثورة عن النبي فكأنه يشير إلى أن الصوفية قد أخذوها عن الإسماعيلية الذين قالوا بها أول من قال. وقد تنبه ابن خلدون أيضًا إلى أخذ المتصوفة ـ وبخاصة ابن عربي ـ عن الإسماعيلية القول (بالقطب) وكذلك ابن قصي وعبد الحق بن سبعين وابن أبي واصل: تلميذه " (الصلة بين التصوف والتشيع ص209) .

القول بأن للدين ظاهرا وباطنا

القول بأن للدين ظاهرًا وباطنًا اتفقت أيضًا كلمة التصوف مع التشيع في أن للدين ظاهرًا وباطنًا، فالظاهر هو المتبادل من خلال النصوص والذي يفهمه العامة من ذلك، وأما الباطن فهو عندهم العلم الحقيقي المراد من النص وهذا لا يفهمه ولا يعلمه إلا الأئمة والأولياء. . فقوله تعالى مثلًا: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [البقرة: 43] . أي أخرجوا زكاة أموالكم المفروضة حسب المقادير والنصاب الشرعي والشروط الشرعية لذلك. ولكن الشيعة والمتصوفة زعموا أن ظاهر القرآن والحديث الذي يفهم منه العوام ما يفهمون لا يلزم الأئمة والأولياء لأن الأئمة والأولياء تتنزل عليهم المعاني المقصودة والمرادة من ذلك. . بل قال الشيعة: إن محمدًا جاء بالتنزيل وعليًا جاء بالتأويل. وزعموا أن الأئمة من بعده هم الذين يعلمون معاني القرآن الحقيقية، وللقرآن عندهم باطن وظاهر، فالظاهر للعامة، والباطن للخاصة، ولذلك (فأقيموا الصلاة) عندهم مثلًا يعني بايعوا الإمام المعصوم، (وآتوا الزكاة) ، أي أخلصوا وانقادوا للإمام. . وهكذا تصبح الألفاظ والعبارات القرآنية لا مدلول لها. ويمكن تفسيرها حسب الأهواء والأمزجة، لتوافق العقائد الباطنية التي يدعو بها هؤلاء وهؤلاء، وقد سمى المتصوفة تفسيرهم الباطن هذا للنصوص القرآنية (بالحقيقة) وسموا التفسير الظاهري (بالشريعة) وقالوا الحقيقة للأولياء، والشريعة للعامة. . وتصرفوا بعد هذا التقسيم في نصوص القرآن والحديث حسب أهوائهم، وأدخلوا في الدين ما شاءوا من مزاعمهم وافتراءاتهم. وأفقدوا النصوص الشرعية جلالها واحترامها، لأنهم أبعدوها بهذا التأويل عن المعاني الحقيقية التي سيقت من أجلها تمامًا، فما علاقة مثلًا تفسير {التين} أن يكون هو الرسول، و {الزيتون} أن يكون هو علي بن أبي طالب {وطور سينين} أن يكون هو

الحسن، و {هذا البلد الأمين} [التين: 3] . أن يكون الحسين، وهكذا وما علاقة قوله تعالى: {مرج البحرين يلتقيان} [الرحمن: 19] . أن يكون بالبحرين عليًا وفاطمة و {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} [الرحمن: 22] . الحسن والحسين؟ ! . وقد كتب الدكتور كامل الشيبي فصلًا مطولًا حول هذا المعنى في كتابه (الصلة بين التصوف والتشيع) من هذا قوله: " وقد أورد لنا الخوانساري أمثلة من هذه التأويلات كتأويل الوضوء بموالاة الإمام، والتيمم بالأخذ من المأذون عند غيبة الإمام الذي هو الحجة، والصلاة هي الناطق الذي هو الرسول بدليل قوله تعالى إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والاحتلام بإفشاء السر إلى غريب دون قصد، والغسل بتجديد العهد، والزكاة بتزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين، والكعبة بالنبي، والباب بعلي، والميقات والتلبية بإجابة المدعو، والطواف بالبيت سبعًا بموالاة الأئمة السبعة، والجنة براحة الأبدان عن التكاليف، والنار بمشقتها بمزاولة التكاليف (روضات الجنات ص731) ، وتلك أحكام تعود بنا إلى الغلو الذي عرفناه أنه قرر أن الدين طاعة رجل وأن الصلاة والزكاة وغيرهما إنما هي كنايات عن رجال. ثم إن الإسماعيلية تجعل النقباء إلهيين أيضًا وإن كانوا من غير الأئمة وتسندهم بأن عددهم اثنا عشر رجلًا في كل زمان كما أن عدد الأئمة السبعة وأنهم مع كل إمام قائمون متفرقون في جميع الأرض عليهم تقوم (خطط المقريزي 2/231، 233) ، ثم يعين المقريزي مركز هؤلاء النقباء أو الحجج بأن مقامهم هو مقام الفاهم المطلع على أسرار المعاني وينص على أن ظهور أمر الإمام (إنما هو ظهور أمره ونهيه على لسان أوليائه) (خطط المقريزي 2/231، 233) . ويذكر أبو يعقوب السجستاني أن ميراث النبي من العلم يتحول إلى الوصي ومنه إلى الإمام ومن الإمام إلى الحجة (كشف المحجوب في شرح قصيدة الجرجاني ص65) .

ثم تتضح المسألة أكثر باطلاعنا على النص الذي يورده المقريزي أيضًا من أن " الإمام إنما وجوده في العالم الروحاني إذا صرنا بالرياضة في المعارف إليه " (خطط المقريزي 2/233) . المعنى الذي يعبر عنه السجستاني الإسماعيلي بقوله: " إن هذه العلوم لا تصل إلى مستحقيها بالرياضة ولو كان حبشيًا أو سنديًا " (كشف المحجوب ص92) . وبذلك تتضح لنا فكرة السلوك الإسماعيلي الذي يتيح للمريد أن يصل إلى حقيقة التأويل عن طريق الرياضة العقلية التي بلغ بها النقيب أو الحجة ما بلغه الإمام من علم. ويوضح جولد تسيهر ذلك بأن " الحقائق لا توجد إلا في المعاني الباطنة. أما المعاني الظاهرة فهي حجب مضطربة وأقنعة متناقضة. ومريدو الاندماج في الفرقة الإسماعيلية تزاح عنهم هذه الحجب والأقنعة بالقدر الذي يناسب استعداداتهم، ويتدرجون في هذا المضمار حتى تتهيأ لهم القدرة على مواجهة الحقائق وهي سافرة " (العقيدة والشريعة في الإسلام ص216) . ولا بد أننا لاحظنا موازاة هذه المعاني للمثل والمبادئ الصوفية. وقد لاحظ ذلك جولد تسيهر فأورد لنا قصيدة لجلال الدين الرومي الشاعر الصوفي يفصح بها عن فكرتي الجانبين المعبرة عن حقيقة واحدة بقوله: " اعلم أن آيات القرآن سهلة يسيره، ولكنها على سهولتها تخفي وراء ظاهرها معنى خفيًا مستترًا. ويتصل بهذا المعنى الخفي ثالث يحير ذوي الأفهام الثاقبة ويعييها والمعنى الرابع ما من أحد يحيط به سوى الله واسع الكفاية من لا شبيه له. وهكذا نصل إلى معان سبعة الواحد تلو الآخر، ولذا لا تتقيد يا بني بفهم المعنى الظاهري كما لم تر الشياطين في آدم إلا أنه مخلوق من الطين. فالمعنى الظاهري في القرآن شبيه بجسد آدم، فما نراه منه هو هيئته الظاهرة وليس روحه الخفية المستترة " (العقيدة والشريعة في الإسلام ص216) ، وهذا السلوك يصف الإنسان بالعلم الإلهي إلى حد أن الإسماعيلية

رآوه ـ كالمتصوفة ـ " أن الأنبياء النطقاء أصحاب الشرائع إنما هم لسياسة العامة وأن الفلاسفة أنبياء حكمة الخاصة " (خطط المقريزي 2/223) ، وذلك أن الفاطميين كانوا " يتدرجون في دعوتهم فإذا تمكن المدعو من التعاليم الأولى أحالوه على ما تقرر في كتب الفلسفة من علم الطبيعيات وما بعد الطبيعة والعلم الإلهي وغير ذلك من أقسام العلوم الفلسفية، حتى إذا تمكن المدعو من معرفة ذلك كشف الداعي قناعه وقال: إن ما ذكر من الحدوث والأصول رموز إلى معاني المبادئ وتقلب الجواهر. . " (خطط المقريزي 2/232) والظاهر أن هذه الدرجات متأخرة جدت في بدء دولة الفاطميين وليست من أوائل عقائد الإسماعيلية. ويورد عبد الله عنان المراتب التسع في دار الحكمة التي أسسها الحاكم بأمر الله الفاطمي، ويذكر أن الطالب يلقن تعاليم الثنوية في المرتبة السابعة، وفي الثامنة تنقض كل صفات الألوهية والنبوة ويعلم الطالب أن الرسل الحقيقيين هم رسل العمل الذين يعنون بالشؤون الدنيوية كالنظم السياسية وإنشاء الحكومات المثلى، وفي التاسعة والأخيرة يدخل إلى حظيرة الأسرار ويعلم أن كل التعاليم الدينية أوهام محضة وأنه يجب ألا يتبع منها إلا ما هو لازم لحفظ النظام. . " وأن إبراهيم وموسى والمسيح وغيرهم من الأنبياء ليسوا إلا رجالًا مستنيرين تفقهوا في المسائل الفلسفية " (الجمعيات السرية في الإسلام ص42) . والواقع أن هذه النظرة المادية إلى المذهب الإسماعيلي تسلبه كل ما فيه من غنوصية وروحانية، فليس الأمر كذلك وإلا ما قامت له خلافة ولا حدثت في دولتهم طاعة، بل لقد وجدنا الفاطميين أخلص من غيرهم في عقيدتهم وأسرع إلى بذل النفس، ولا يكون البذل إلا بالعاطفة الفياضة والإيمان الذي لا يتزعزع، وكذلك يرى الأستاذ محمد كرد علي أن " العقل عندهم هو حقيقة معبودهم " (الإسلام والحضارة العربية، دار الكتب 1936، 2/63) ، ولكن أي

عمل؟ إنه العقل الإلهي لا المادي وهذا ما يورده (فيليب حتي) من أن " المريد يتدرج بتأن وهدوء في مراق بطيئة دقيقة حتى يعلو ذروة العقائد الباطنية الخفية بعد أن يكون قد أقسم على الكتمان، ومن هذه التعاليم والعقائد الباطنية فكرة نشوء الكون متجليًا عن الجوهر الإلهي وتناسخ الأرواح وحلول الألوهية في إسماعيل وانتظار رجعته مهديًا. والمراتب التي يتدرج فيها المريد سبع وقد تكون تسعًا، وهي تذكرنا بدرجات الماسونية اليوم " (تاريخ العرب 2/533) . ومع تناول الباحثين لهذه الدرجات بالبحث على أنها قضية مسلمة فإن آدم متز يشكك في كل ما يقال عن درجات الإسماعيلية إلا ما يذكره ابن النديم من أنه " كان عندهم سبع درجات من الأتباع خلافًا لما ذكره أخو محسن من درجات تسع " (الحضارة العربية في القرن الرابع 2/51) . والمهم في الأمر أن كلًا من هذه الدرجات له كتاب خاص يلقى على الواصلين إليها، وكل كتاب يسمى البلاغ. والبلاغ السابع هو الذي فيه نتيجة المذهب والكشف الأكبر ويقول ابن النديم: " إنه قرأه فوجد فيه أمرًا عظيمًا من إباحة المحظورات والوضع من الشرائع وأصحابها " (الفهرست ص282) . وما دام الوضع من الشرائع وإباحة المحظورات مقصورة على الدرجة السابعة فإنها تعني ـ إن صح قول ابن النديم ـ أن المريد قد بلغ درجة الحلول وأن العقل الأول قد اتصل به فلم يعد ثمة مجال لإفهامه لماذا حرم كذا وأحل كذا لأنه صار بنفسه للتشريع، وتلك عقيدة وجدناها من قبل عند فرق الغلاة وليست هي جديدة على الإسماعيلية. ومن أهم ما يرد في هذا المقام تقرير محمد بن سرخ النيسابوري الإسماعيلي (المتوفي في القرن الخامس) " أن ذلك اليوم هو يوم قوة العقل ودولته، فيه يتعلق بالنفس آثار القائم الذي يعيد للعقل إشراقه، وتعود إلى النفوس الفيوض الإلهية التي حجبت عنها من قبل " (شرح قصيدة ابن الهيثم الجرجاني، طهران 1955) . وهذه المكانة في الإسماعيلية تقابلها في التصوف درجة المحو والاتحاد بحيث

يقول الصوفي في صراحة: أنا الله، وقد رأينا أنها آتية من الغلاة أولًا ثم نظمتها الإسماعيلية وأصلتها وأسست فأخذتها الصوفية جاهزة، وقد رأينا في رسائل جابر بن حيان الإسماعيلي قوله: " إن حدّ علم الباطن أنه العلم بعلل السنن وأغراضها الخاصة اللائقة بالعقول الإلهية " وقد وجدنا هذا التفاوت في العلم ـ من قبل ـ في هذه الرسائل أيضًا ووجدنا أن طبقات الناس الإلهيين تعد خمسًا وخمسين طبقة للواصلين لا سبعًا ولا تسعًا كما قال الفاطميون بعدئذ. وتبدأ هذه الدرجات بالنبي الإمام فالحجاب فالبسيط فالسابق فالتالي فالأساس. . حتى تنتهي بالناسك فالحياة فالناهي فذي الأمر الذي إذا ظهر فلا بدل منه إذ كان كل واحد منهم مندوبًا لأمر لا يخالطه فيه غيره " (الصلة بين التصوف والتشيع لكامل الشيبي ص205 ـ 209) ا. هـ. منه بلفظه. ويقول أيضًا الدكتور أبوالعلاء العفيفي: " وترجع المقابلة بين الشريعة والحقيقة ـ في أصل نشأتها ـ إلى المقابلة بين ظاهر الشرع وباطنه. ولم يكن المسلمون في أول عهدهم بالإسلام ليقروا هذه التفرقة أو يكفروا فيها. ولكنها بدأت بالشيعة الذين قالوا إن لكل شيء ظاهرًا وباطنًا، وإن للقرآن ظاهرًا وباطنًا، بل لكل آية فيه وكل كلمة ظاهر وباطن. وينكشف الباطن للخواص من عباد الله الذين اختصهم بهذا الفضل وكشف لهم عن أسرار القرآن. ولهذا كانت لهم طريقتهم الخاصة في تأويل القرآن وتفسيره. ويتألف من مجموع التأويلات الباطنية لنصوص القرآن ورسوم الدين وما ينكشف للسالكين من معاني الغيب عن طرق أخرى مما أطلق عليه الشيعة اسم (علم الباطن) الذي ورثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب ـ في زعمهم ـ وورثه علي أهل العلم الباطن الذين سموا أنفسهم بالورثة.

تقديس القبور وزيارة المشاهد

وقد اتبع الصوفية طريقة التأويل هذه واستعملوا فيها أساليب ومصطلحات الشيعة إلى حد كبير. ومما سبق تدرك مبلغ الصلة الوثيقة بين التصوف والتشيع الباطني " (التصوف والصورة الروحية في الإسلام) . تقديس القبور وزيارة المشاهد تقديس القبور وزيارة المشاهد تقديس شيعي في نشأته، فالشيعة هم أول من بنى المشاهد على القبور والمساجد عليها في الإسلام بعد أن جاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهدم ذلك حتى لا تكون ذريعة إلى الشرك كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد) (متفق عليه) . وفي صحيح مسلم أن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أرسل أبا الهياج الأسدي إلى اليمن وقال له: ألا أبعثك على ما بعثني به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أن لا تدع قبرًا مشرفًا (أي ظاهرًا بارزًا عاليًا عن الأرض) إلا سويته ولا تمثالًا إلا طمسته. ولكن الشيعة تتبعوا قبور من مات قديمًا ممن يعظمونهم من آل البيت كعلي بن أبي طالب والحسين ومن سموهم بالأئمة من أهل البيت وراحوا يبنون على قبورهم. . ويجعلونها مشاهد ومزارات، وجعلوا ذلك أيضًا وسيلة للتكسب والعيش. . كما جاء في رسائل إخوان الصفا أن من الشيعة من جعل التشيع مكسبًا، مثل الفاتحة والقصاص، وجعلوا شعارهم لزوم المشاهد وزيارة القبور (رسائل إخوان الصفا ج4 ص199) . وكان هذا البناء وإظهار هذه الشعائر منذ بداية القرن الثالث الهجري، ولكن بعض خلفاء بني العباس شرعوا يهدمون ما افتروه وبنوه من هذه القبور. كما ذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية أن الخليفة العباسي المتوكل أمر في سنة 236هـ ـ بهدم القبر المنسوب إلى الحسين بن علي

العمل على هدم الدولة الإسلامية

ـ رضي الله عنه ـ ما وما حوله من المنازل والدور ونودي في الناس أن من وجد هنا بعد ثلاثة أيام ذهب به إلى المطبق، فلم يبق هناك بشر، واتخذ ذلك الموضع مزرعة تحرث وتستغل (البداية والنهاية ص315 ج1) . . وكان هذا القبر مزارًا لفرقة الإسماعيلية من الشيعة الذين كانوا يزورون هذا القبر ثم يذهبون إلى (سلمية) (قرية من قرى سوريا كانت وما زالت مأوى للفرق الباطنية. وهي قاعدة الإسماعيلية في هذا الوقت) ، لزيارة أئمتهم هناك (العبر ج3 ص361) . وجاء الصوفية فنسجوا على هذا المنوال فجعلوا أهم مشاعرهم زيارة القبور وبناء الأضرحة، والطواف بها والتبرك بأحجارها، والاستغاثة بالأموات، فقد جعلوا قبر معروف الكرخي، وهو رائد من رواد التصوف، مكانًا لزيارتهم وقالوا: قبر معروف ترياق مجرب (طبقات الصوفية للسلمي ص85) . بل جعل المتصوفة جل همهم بناء هذه القبور وتعظيمها ودعوة الناس إليها، وجعلوا أعظم مشاعرهم الطواف بها، والتبرك بها ودعاءها من دون الله عز وجل. . بل لا يوجد شيخ متبع إلا وبنى لنفسه قبة كبيرة ومقامًا. . وهكذا أعادوا من جديد شرك الجاهلية الأولى. العمل على هدم الدولة الإسلامية الحلاج والتشيع قال الدكتور كامل الشيبي: لم يكن أمر الصلة بين الحلاج والتشيع مقصورًا على التداخل بين كلامه وكلام الأئمة، وإنما كان مطلقًا على مذاهب التشيع كلها، وقد استخدمها كلها في بناء مذهبه الحلولي الجديد الذي يشير إلى ظهور حركة غلو جديدة في مطلع القرن الرابع الهجري. والحلاج هو القائل:

" ما تمذهبت بمذهب أحد من الأئمة جملة وإنما أخذت من كل مذهب أصبعه وأشده وأنا الآن على ذلك " وستجد. . أن الحلاج كان صورة من أبي الخطاب الزعيم الغالي الذي قتل في الكوفة سنة 138هـ ـ وأما علاقته بالاثني عشرية فتنعكس مما رواه الطوسي من أن الحلاج صار إلى قم البلد الشيعي القديم، وكانت قرابة أبو الحسن النوبختي الشيعي تستدعيه ويستدعي أبو الحسن أيضًا ويقول: " أنا رسول الإمام ووكيله " ا. هـ. (الصلة بين التصوف والتشيع ص368) . وقال أيضًا: " وكانت إحدى التهم التي قتل الحلاج من أجلها تتضمن إنكار الحلاج للحج إلى مكة بالذات، ودعوته إلى الحج القائم على النية الخالصة والتوجه القلبي. وكان من أهم ما أخذ على الحلاج أنه يقول ببديل للحج يمكن إتمامه في بيت المسلم دون حاجة إلى تجشم مصاعب السفر والطواف حول الكعبة. وقد تطرق القاضي التنوخي إلى ذلك فذكر أن (هذا شيء معروف عند الحلاجية وقد اعترف لي (به) رجل منهم يقال: إنه عالم لهم) (الصلة بين التصوف والتشيع ص369) وقد برر هذا (العالم) ذلك بأن (هذا رواه الحلاج عن أهل البيت صلوات الله عليهم) (الصلة بين التصوف والتشيع ص396) (وصلوات الله عليهم) هذه من لوازم الإسماعيلية بالذات إلى ما عرف عنهم من أخذ بالتأويل على أوسع الحدود، وذلك يبين حدًا آخر لاتصال الحلاج بالإسماعيلية. وقد كان مصداق هذا الاتصال منبعثًا من أنه (أغار القرامطة على مكة ونهبوها بعد موت الحلاج بتسع سنوات واختطفوا الحجر الأسود منها) ، وحققوا مذهب الحلاج، ولعله كان مذهبًا من مذاهبهم أسرع هو بالتعبير عنه من عند نفسه. ا. هـ. . وقد ذكر القاضي التنوخي أن الحلاج أرسل إلى بعض دعاته يقول: " وقد آن الآن أذانك للدول الغراء الفاطمية الزهراء المحفوفة بأهل الأرض والسماء

الحلاج داعية الإسماعيلية في المشرق

وأذن للفئة الظاهرة وقوة ضعفها في الخروج إلى خراسان ليكشف الحق قناعه ويبسط العدل باعه " (نشوار المحاضرة ص86) . الحلاج داعية الإسماعيلية في المشرق قال الدكتور الشيبي أيضًا: " ويذكر الخطيب البغدادي وابن كثير أن أهل فارس كانوا يكاتبون الحلاج بأبي عبد الله الزاهد. . هذه الكتبة أطلعت على الداعية الإسماعيلي المشهور أبي عبد الله الشيعي الذي ساعد على قيام دولة العبيديين قبل تحولها إلى مصر. فكأن الإسماعيليين كانوا يعتمدون على داعيتين يحملان كنية واحدة أحدهما بالمشرق وهو الحلاج، والآخر بالمغرب وهو أبو عبد الله الشيعي الذي يروي الإسماعيلية أنفسهم سبق صوفيته على إسماعيليته) (ص73) . شهادة العمار الحنبلي أن الحلاج قرمطي ذكر العمار الحنبلي أن الحلاج رحل إلى بغداد سنة 301هـ ـ " مشهورًا على جمل وعلق مصلوبًا ونودي عليه: هذا أحد القرامطة فاعرفوه ". وعلى الرغم من أن الحلاج قد قتل سنة 309هـ ـ فإن الدعوة الفاطمية التي حمل لواءها قد استفحل خطرها وشرها؛ فقد استطاع أبو طاهر الجنابي القرمطي الإسماعيلي حليف الدولة الفاطمية والداعي إليها أن يدخل البصرة سنة 311هـ ـ والكوفة بعد ذلك بعامين. وكذلك استطاع القرامطة دخول مكة بعد مقتل الحلاج بتسع سنوات فقط، وقتل المسلمين حول الكعبة، وانتزاع الحجر الأسود،

الحلول عند الحلاج الصوفي وعند أبي الخطاب الشيعي

وكانوا بقيادة أبو سعيد القرمطي، وكان أبو سعيد هذا زميلًا للحلاج الحسين بن منصور (تذكرة الأولياء ج2 ص109) . ولذلك قال ابن النديم إن الحلاج كان يظهر مذاهب الشيعة للملوك، ومذاهب الصوفية للعامة، ويدعي أن الألوهية قد حلت فيه (الفهرست لابن النديم ص269) . ومع ذلك رأينا من يقول من شيوخ التصوف، وهو محمد بن حفيف المتوفي سنة 371هـ ـ: " الحسين بن منصور عالم رباني "! ! . ووجدنا كذلك من يجعل العبارات الباطنية التي أطلقها الحلاج على أنها نهاية علوم التصوف كقوله: " في القرآن علم كل شيء، وعلم القرآن في الأحرف التي في أوائل السور وعلم الأحرف في لام ألف ". الحلول عند الحلاج الصوفي وعند أبي الخطاب الشيعي وقضية الحلول تكاد تكون متطابقة عند الحلاج الصوفي وغلاة الشيعة، فقد كان الحلاج يقول في دعائه: " يا إله الآلهة ويا رب الأرباب، ويا من لا تأخذه سنة ولا نوم رد إلي نفسي لئلا يفتن بي عبادك، يا من هوأنا، وأنا هو لا فرق بين إنيتي وهويتك، إلا الحدث والقدم " (طبقات الصوفية) . والحلاج هو الذي وجد عنده ورقة مكتوب فيها " من الرحمن الرحيم إلى فلان ابن فلان ". . إذا قارنا ذلك بمذهب أبي الخطاب الرافضي الذي زعم أن الله خلق روح علي وأولاده وتوجه إليهم أمر العالم فخلقوا هم السماوات والأرض. ومن هنا قلنا في الركوع سبحان ربي العظيم، وفي السجود:

الطرق الصوفية والتشيع

سبحان ربي الأعلى لأنه لا إله إلا علي وأولاده، وأما الإله الأعظم فهو الذي فوض إليهم العالم (اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص57) . لا شك أن مثل هذا الكلام وكلام الحلاج ينبعثان من مصدر واحد ويصدران عن عقيدة واحدة، ويهدفان بالتالي إلى هدف واحد هو تحويل المسلمين عن عقيدتهم الحقة وتضليل سعيهم، وإذهاب دولتهم، وتمزيق وحدتهم وجماعتهم. ومما مضى يتبين لنا أن منهج الصوفية وغلاة الشيعة في القرن الثالث كان منهجًا واحدًا وعقيدة واحدة، فالحلاج كان زميلًا وصاحبًا لكبار رجال التصوف المشهورين في القرن الثالث كالجنيد البغدادي والشبلي. فالجنيد نفسه قد أرسل إليه عندما حكم عليه بالقتل والصلب يقول: " أنك أفشيت أسرار الربوبية فأذاقك طعم الحديد "! وأما الشبلي فيقول: " كنت أنا والحسن بن منصور (الحلاج) شيئًا واحدًا غير أنه تكلم وسكت أنا " فالصوفية كانوا مع غلاة الشيعة شيئًا واحدًا عقيدة وهدفًا. . عقيدة في الحلول، وإنما اختلفوا فيمن حلت فيه روح لله، وهدفًا واحدًا في العمل على إسقاط دولة الإسلام، وتمزيق وحدة المسلمين، وتشتيت الأمة، عقائد ومللًا وغلاة. الطرق الصوفية والتشيع كانت الطرق الصوفية هي البداية العظيمة التي دخل عن طريقها الفكر الشيعي والمذهب الشيعي إلى العالم الإسلامي السنّي. وستقرأ فيما يلي إن شاء الله تعالى عن طريقتين مشهورتين تأسست الأولى في منتصف القرن السابع الهجري وما زال لها أتباع إلى اليوم وهي الطريقة البكتاشية، وتأسست الثانية

الطريقة البكتاشية

في منتصف القرن السادس الهجري وما زال لها أتباع إلى اليوم وهي الطريقة الرفاعية. والطريقة الأولى أعني البكتاشية شيعية قلبًا وقالبًا ومع ذلك نشأت في تركية عاصمة الخلافة الإسلامية واستطاعت التسلل حتى وصلت إلى الجيش الجديد (الانكشارية) بل وإلى بيت السلطان العثماني نفسه وأسهمت إسهامًا فعالًا في تحويل العقيدة السنية. وسيعجب القارئ عندما يطلع على حقيقة هذه الطريقة كيف وجدت مكانًا وردادًا عند أهل السنة والجماعة ولكن عجبه سيزول عندما يعرف كيف التدرج بالمريد إلى ذلك المعتقد الباطني. الطريقة البكتاشية الطريقة البكتاشية طريقة صوفية شيعية الحقيقة والمنشأ، ولكنها مع ذلك تربت وترعرعت في بلاد أهل السنة في تركية ومصر. * تنسب هذه الطريقة إلى خنكار الحاج محمد بكتاش الخراساني النيسابوري ـ المولود في نيسابور سنة 646هـ ـ ـ 1248م وينسب خنكار هذا نفسه إلى أنه من أولاد إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ. ويقال إنه تلقى العلم عن الشيخ لقمان الخراساني ولا يعرف من لقمان هذا،. . ولكن يقال إنه هو الذي أمره أن يسافر إلى تركية لنشر طريقته الصوفية، فسافر أولًا إلى النجف في العراق، ثم حج البيت وزار وسافر بعد ذلك إلى تركية، وكان هذا في زمان السلطان أورخان العثماني المتوفي سنة 761هـ ـ. * ويذكر أحمد سري البكتاش (دده بابا) شيخ مشايخ الطريقة البكتاشية في مصر الحالي. . في كتابه (الرسالة الأحمدية في تاريخ الطريقة البكتاشية) أن خنكار هذا نزل في قرية (صوليجية فترة أويوك) والتي قسمت بعد ذلك بناحية الحاج بكتاش وما زالت تحمل هذا الاسم إلى اليوم. وأنه استضاف هناك رجل

يسمى الشيخ إدريس وزوجته (فاطمة قوتلو ملك) وأنهما أنفقا أموالهما في سبيل نشر دعوة الشيخ خنكار الخراساني ولكن جاء وفد من خراسان لزيارة الشيخ خنكار فلم تجد المرأة ما تضيفهم به إلا أن باعت ثيابها. . واشترت طعامًا لضيوف الشيخ خنكار الخراسانيين. ولما كان من عادة المرأة فاطمة هذه أن ترحب بضيوف الشيخ فإنها لم تخرج إليهم لأنها لا تملك ثيابًا. . فعلم الشيخ خنكار بهذا من الغيب فمد يده فأخرج صرة ملابس لها، ثم مد يده أيضًا تحت البساط الذي يجلس عليه فأخرج كيسين من الذهب وأعطاهما للمرأة التي جاءت وقبلت يدي الشيخ ورحبت بضيوفه، وآمنت بكراماته (الرسالة الأحمدية ص11 ولا يخفى ما في هذه القصة من الخدعة فخنكار هذا لم يخلق ثيابًا. وإنما جاء بذلك الوفد الخراساني الذي تجرد بعد ذلك للدعوة الصوفية في تركية، وصنع الشيخ هذا على أنها كرامة ليسهل ذلك له طريق دعوته في أوساط العامة) . وكانت هذه القصة هي البداية لنشر الطريقة البكتاشية وكذلك مجيء هذا الوفد الخراساني الذي راح يروج للشيخ خنكار الذي كان قد مهد الطريق للدعوة الصوفية ولهذه الطريقة الشيعية الباطنية. ثم انتحل الشيخ خنكار كرامة أخرى فادعى (أن فاطمة قوتلو) هذه زوجة الشيخ إدريس قد حملت عندما شربت قطرات من دم الشيخ. . وذلك أن فاطمة هذه لم تحمل من زوجها إدريس التركي مدة عشرين عامًا فلما جاء خنكار الخراساني وكانت تصب الماء له ليتوضأ فوقعت قطرات من دمه في الطشت فشربتها المرأة فحملت وتكرر حملها فولدت حبيبًا، ومحمودًا، وخضرًا. وهؤلاء الأولاد أصروا على أن أباهم هو الشيخ خنكار. . فيما يذكر أحمد سري شيخ مشايخ الطريقة البكتاشية في مصر أن الشيخ خنكار هو أبوهم الروحي فقط وأن أمهم حملت من شربها دم الشيخ وأن الشيخ خنكار لم يتزوج قط طيلة حياته. * أسس الشيخ خنكار أول (تكية) صوفية للطريقة وابتدأ الأتباع والرواد يكثرون، ويسكنون في هذه القرية التي لم تكن إلا سبعة بيوت فقط ثم

اكتشفوا جبلًا من جبال الملح. سموه جبل ملح الحاج بكتاش، واشتهر هذا الملح حتى كان يمون ويزود مطابخ السلطان العثماني الذي كان يحصل منه على مليونين (أقة) (الأقة وزن يكبر من الكيلو بقليل) كل عام. . ولما ذاع صيت الشيخ خنكار بكتاش ووصل الأمر إلى السلطان أورخان العثماني المتوفي سنة 761هـ ـ عمد هذا السلطان إلى الشيخ خنكار ليعلم أولاد الأسرى من أهل الذمة، وممن لا أب لهم. . ينشئهم على طريقة الدارسين البكتاشية. وكانت هذه الفرصة الذهبية لانتشار الطريقة وذلك أن هذا الجيش الذي عرف بعد ذلك بالجيش الإنكشاري ـ أي الجيش الجديد ـ وهو الذي كان عماد الحروب التركية بعد ذلك، ثم كان هو الجيش المتسلط على مرافق الحياة كافة في تركية. . وهكذا استطاعت الطريقة البكتاشية أن تنتشر وأقيمت المقامات على قبور من مات من مشايخها، وبعض هذه القبور غطيت بالذهب الخالص. تنافس السلاطين العثمانيون في بناء التكايا والزوايا والقبور البكتاشية. مر على الطريقة البكتاشية أيام مد وجزر في تركية فبينما ناصرها بعض السلاطين، عارضها آخرون مفضلين طريقة أخرى غيرها فقد أمر السلطان محمود الثاني بإلغاء الإنكشارية بعد أن عاثت في الأرض فسادًا، وأغلق كذلك الزوايا البكتاشية ولكن السلطان عبد المجيد المتوفي سنة 1255هـ ـ عاد وأمر بفتح الزوايا البكتاشية مرة أخرى. * وفي سنة 1925م صدر مرسوم الحكومة التركية بإلغاء جميع الطرق الصوفية ومن ضمنها الطريقة البكتاشية، وكان آخر مشايخها هو صالح نيازي الذي سافر إلى ألبانية وانتخبه الدراويش البكتاشيون ليكون (رده بابا) وهي أعلى منزلة في الطريقة أي شيخ مشايخ الطريقة. وبعد اغتيال صالح نيازي هذا سنة 1942م تولى بعده ابنه عباس دده بابا الذي قتل نفسه سنة 1949م بعد دخول البلاشفة إلى ألبانية. ومنذ ذلك الوقت انتقل المركز الرئيسي للطريقة ليتحول

الطريقة البكتاشية تنتشر في مصر

إلى مصر وتكون القاهرة هي المقر الحالي والأخير لهذه الطريقة. . فكيف دخلت هذه الطريقة إلى مصر وكيف استقرت فيها ثم أصبحت هي مكانها الرئيسي بعد تركية وألبانية؟ . الطريقة البكتاشية تنتشر في مصر * استطاع مؤسس الطريقة البكتاشية وهو خنكار محمد بكتاش أن يربي مجموعة من المريدين وكان منهم (أبدال موسى سلطان) الذي كان خليفة بعده، وربى أبدال هذا رجلًا يسمى (قبوغوسز) وهذا القبوغوسز لا يعرف من أبوه ولا أمه، وإنما تسمى بغيبي (الرسالة الأحمدية ص34) ، واستطاع هذا الرجل أن يرتحل مع مجموعة من الدراويش من تركية إلى مصر واختار لمن يصحبه في هذه الرحلة دراويش من النوع الذين يطيعون في كل صغيرة وكبيرة حتى إنه كان يقول لهم عن الشجرة الباسقة الطويلة. . هذه شجرة قثاء فيقولون نعم هي قثاء (الرسالة الأحمدية ص38) . ولما دخل بهم مصر. أمرهم أن يضع كل منهم على عينه قطعة قطن؛ فلما سألهم الشرط والجنود عن ذلك قالوا: إننا نغمض عين الظاهر، وننظر بعين الباطن. . والناس على دين ملوكهم. . وكان قد علم قبوغوسز أن الأمير يشتكي من وجع عينه! ! وأراد الملك أن يختبرهم فعمل لهم وليمة كبرى ووضع لهم ملاعق طويلة جدًا وأحضر وجهاء الناس ليأكلوا، وأمرهم ألا يأكلوا إلا بهذه الملاعق، فعجز الجميع عن الأكل إلا قبوغوسز ودراويشه فإنهم تناولوا الملاعق الطويلة، وكان كل منهم يطعم من أمامه وهكذا. وسر بهم الأمير الذي أعطاهم مكانًا يبنون فيه (تكية) أي زاوية ورباطًا لهم. ومنذ ذلك الوقت وهو سنة 800هـ ـ بدأ انتشار الطريقة البكتاشية في مصر في بداية القرن التاسع الهجري وسمى قبوغوسز نفسه عبد الله المغاوري، وسموا أول تكية لهم تكية القصر العيني. . وظل هذا الحال قائمًا في مصر إلى سنة 1242هـ ـ ـ 1826م حتى جاء

السلطان محمود الثاني العثماني فأمر بإلغاء الإنكشارية والطريقة البكتاشية، وأعطيت أملاكهم للطريقة القادرية. . ولكن في عهد السلطان عبد المجيد عادت الطريقة البكتاشية مرة ثانية إلى مصر بعد أن سمح لهم هذا السلطان بالعمل والنشاط وذلك منذ عام 1525م حيث حصل الشيخ علي الساعاتي على لقب (دده بابا) أي شيخ المشايخ، فجمع الدراويش حوله مرة ثانية وبنى تكية جديدة في باب اللوق، وأخذ يعطي العهود ويقيم حلقات الذكر. وفي سنة 1276هـ ـ ـ 1859م صدرت أوامر الحكومة المصرية بتخصيص المغاره التي دفن فيها عبد الله المغاوري (قبوغوسز) للطريقة البكتاشية، فبنوا تكية عظيمة هناك بعد أن طردوا الرعاة والبدو الذين يلجأون إليها بأغنامهم وإبلهم وبنوا قبة عظيمة لمؤسس طريقتهم في مصر. وأصبحت هذه التكية فيما بعد قبلة الشعب المصري حيث يؤمونها لزيارة (ولي الله المغاوري) ! ! الذي تخصص (بتحبيل النسوان) وشفاء الأمراض وتلبية الحاجات فكانت تقصده كل امرأة لا تلد، وكانت المرأة تدخل في المغارة ضمن كهوف مظلمة طويلة. . وبقيت تكية المغاوري هذه تابعة للمركز الرئيسي للطريقة في تركية، ثم أصبحت تابعة للمركز الرئيسي في ألبانية، ثم بعد أن قتل صالح نيازي بابا نفسه سنة 1949، اجتمع أتباع الطريقة واختاروا أحمد سري شيخ تكية قبوغوسز (عبد الله المغاوري) شيخًا لمشايخ علوم الطريقة وكان ذلك في 30 يناير سنة 1949م (الرسالة الأحمدية ص31) ومنذ ذلك الوقت أصبحت مصر هي المقر الرئيسي لهذه الطريقة، وأصبح أحمد سري (دده بابا) هو شيخ مشايخها. وفي يناير سنة 1957م أمرت الحكومة المصرية بإخلاء تكية المقطم لوقوعها ضمن المناطق العسكرية، وأعطت الحكومة أرباب الطريقة مكانًا آخر في ضاحية المعادي. حيث أسس المقر الجديد على غرار التكايا البكتاشية ثم نشط البكتاشيون، وجددوا التكايا القديمة التي لهم.

أصول الطريقة البكتاشية

* هذه لمحة سريعة عن تاريخ هذه الطريقة التي نشأت وترعرعت في أوساط أهل السنة في تركية ومصر، وسيعجب القارئ أشد العجب عندما يعلم أن هذه الطريقة شيعية خالصة في المعتقد والأذكار والمشاعر، وأنها لا تمت إلى أهل السنة بصلة مطلقًا. . سيعجب كيف خفي مثل ذلك على علماء الإسلام ورجال السنة في تركية ومصر، ولكن يزول العجب عندما نعلم أن الظاهر الصوفي كان دائمًا خداعًا يخفي تحته ما يخفي من العقائد الباطنية. أصول الطريقة البكتاشية الطريقة البكتاشية مزيج كامل من عقيدة وحدة الوجود، وعبادة المشايخ وتأليههم، وعقيدة الشيعة في الأئمة. يقول أحمد سري (دده بابا) شيخ مشايخ الطريقة: " الطريقة العلية البكتاشية هي طريقة أهل البيت الطاهر رضوان الله عليهم أجمعين " (الرسالة الأحمدية ص67) ويقول أيضًا: " وجميع الصوفية على اختلاف طرقهم يقدسون النبي وأهل بيته ويغالون في هذه المحبة لدرجة اتهامهم بالباطنية والاثني عشرية " (الرسالة الأحمدية ص68) . ويقول أيضًا: " والطريقة العلية البكتاشية قد انحدرت أصولها من سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعن أولاده وأحفاده إلى أن وصلت إلى مشايخنا الكرام يدًا بيد، وكابر عن كابر، وعنهم أخذنا مبادئ هذه الطريقة الجليلة " (الرسالة الأحمدية ص69) .

التكية البكتاشية

مراتب الطريقة البكتاشية: وقد قسم أرباب هذه الطريقة المنتسبين إلى طريقهم على النحو التالي حسب درجاتهم: 1 ـ العاشق: وهو الذي يحب الطريق ويعتنق مبادئها وتسيطر عليه الروح البكتاشية، وله رغبة في الانضمام إلى الطريقة، ويكثر من الحضور إلى التكية ويسمع ما يدور بها. ويرشحه الشيخ ليكون في المنزلة التالي وهي درجة الطالب. 2 ـ الطالب: وهو الذي يعلن رغبته في الانضمام ويرشحه الشيخ لذلك ليتقبل الإقرار، ويعطي العهد. وتقام له حفلة بذلك. 3 ـ المحب: وهو الطالب الذي انتسب إلى هذه الطريقة بعد حفلة الإقرار والبيعة. 4 ـ الدرويش: الذي يتبحر في آداب الطريقة وعلومها ويلم بأركانها ومبادئها. ويهب نفسه للخدمة العامة فيها. 5 ـ البابا: وهي درجة المشيخة ولا يصل إليها الدرويش إلا بعد مدة طويلة حيث يكون قد عرف الرموز الصوفية وأحاط بها. . 6 ـ الددة: وهو الخليفة، ولا يمنح هذه المنزلة إلا شيخ المشايخ ويكون هذا رئيسًا لفرع من فروع الطريقة في مصر. 7 ـ الددة بابا: شيخ المشايخ وينتخب من بين الخلفاء وهو المدير العام لشئون الطريقة في العالم وهو الذي يعين البابوات وله حق عزل المشايخ. . التكية البكتاشية التكية البكتاشية في الغالب عبارة عن ضيعة كبيرة بها قصر فخم وقبور مزخرفة مبنية، ويقيم بها الدراويش أبدًا منقطعين للخدمة، وقد تضم التكية آلاف المواشي والأنعام من البقر والغنم، وتأتيها الإتاوات والأرزاق من منتسبي

التكية في القطر. إذ لا يجوز للزائر الدخول إليها إلا وهو يحمل شيئًا ما يقدمه قربانًا. . ونستطيع أن نقول إنها مملكة أو إمارة خاصة. . ولذلك فالمنتسب إلى هذه الطريقة لا بد أن يكون خادمًا في هذه المملكة الخاصة لأسياده المشايخ الذين يتربعون على عرش الولاية البكتاشية. يقول أحد سري (دد بابا) : " والمنتسب إلى الطريقة العلية تنتظره واجبات كثيرة يؤديها في منزله وفي التكية عند زيارته لها. فالواجبات المنزلية هي إقامة الصلوات في أوقاتها وتلاوة الأوراد والأذكار المأذون بتلاوتها وحفظ الأدعية المأثورة، وفي التكية يكلف بالخدمة مع الدراويش ثم يخصص لخدمة مثل سقاية القهوة أو خدمة الضيوف أو إعداد الطعام وتجهيز المائدة وغسل الأواني أو خدمة الحديقة، فإذا حذق التعاليم كلفه الشيخ بخدمة أرقى فيعين نقيبًا أو دليلًا أو ميدانجيًا. وهكذا. . " ا. هـ. (الرسالة الأحمدية ص72) . العهد ودخول الطريقة: لتعميد المريد أو الطالب نظام خاص في الطريق البكتاشي فعند دخوله إلى ميدان التكية يقرأ الدليل أبياتًا معينة من الشعر ثم يقول: اللهم صل على جمال محمد، وكمال علي والحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ثم يقول: جئت بباب الحق بالشوق سائلًا مقرًا به محمدًا وحيدرًا (حيدر هو علي بن أبي طالب) وطالب بالسر والفيض منهما ومن الزهراء وشبير (وشبير المقصود علي بن أبي طالب أيضًا ويعنون بهذا القصير) شبرًا

آداب الطريقة البكتاشية

ثم يقرأ الشيخ على الطالب آية البيعة: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرًا عظيمًا} [الفتح: 10] . ثم يقول الطالب أبياتًا من الشعر يعلن بها دخول الطريق ومن هذه الأبيات: وبالحب أسلمت الحشا خادمًا لآل العبا (آل العبا يعنون بهم أهل الكساء وهم علي وفاطمة والحسن والحسين والعباس، وبعد دخول الطالب وإقامة الحفل على هذا النحو يسلم الطالب خدمة ما في التكية كأن يكون ساقيًا للقهوة أو فلاحًا، أو خادمًا للضيوف أو طباخًا. . إلخ) وملاذي هو الحاج بكتاش قطب الأوليا! ! آداب الطريقة البكتاشية آداب زيارة التكية فرض أرباب الطريقة على المريد أن يغتسل قبل زيارة التكية وأن يأخذ معه هدية ولا بد ولو كان ملحًا. فإذا وصل الباب سمى ولا يجوز له أن يطأ العتبة برجله لأنها مقدسة ثم يلتحق بالخدمة التي تطلب منه، وفي وقت المجلس يجلس حسب مرتبته، ولكل شخص مرتبة خاصة، والمراتب بالأقدمية. * ثم يذهب المريد بعد دخول التكية والاستراحة فيها إلى القبر الموجود في التكية، ولزيارة القبرة آداب خاصة منها السلام المخصوص، ثم العودة بظهره إلى خارج الضريح. والشيخ في العادة لا يجلس مع المريدين، ولا يزار إلا إذا صدر الإذن بذلك من الشيخ، ولا يزوره المريد إلا بصحبة الدرويش المختص، وعلى المريد

الأوراد البكتاشية

أن يخلع حذاءه ويدخل مطأطئ الرأس ويقف على بعد خطوات من الشيخ ويقرأ: وجهك مشكاة وللهدى منارة وجهك لصورة الحق إشارة! ! وجهك الحج والعمرة والزيارة وجهك للطائعين قبلة الإمارة وجهك القرآن الموجز العبارة (الرسالة الأحمدية ص74) ! ! ولا يخفى أن هذا هو عين الفكر الباطني في جعل الدين هو طاعة رجل كما تقول الإسماعيلية " الدين طاعة رجل "، وهذه العبودية الكاملة هي عين ما تهدف إليه هذه الطريقة حيث تجعل معاني الحج والعمرة والزيارة والقرآن بل والله سبحانه وتعالى هو هذا الشيخ الصوفي الباطني. وبعد ذلك يتقدم المريد فيقبل يد الشيخ ثم يعود بظهره بضع خطوات ولا يجلس حتى يأذن له الشيخ بالجلوس وعند الوقوف أمام الشيخ لا بد من مراعاة ما يلي: 1 ـ أن يضع إبهام القدم اليمنى فوق اليسرى. 2 ـ وضع اليدين على الصدر فوق السرة! ! . الأوراد البكتاشية والناظر في الأوراد البكتاشية يرى كيف أسست هذه الأوراد على عقيدة الشيعة الإمامية الاثني عشرية، فالورد البكتاشي يبدأ بذكر لله ثم للرسول ثم لعلي ثم لفاطمة ثم للحسن ثم للحسين ثم لعلي زين العابدين ثم الباقر، وهكذا إلى الإمام الثاني عشر عند الشيعة ثم الإعلان أن الذاكر بهذا الذكر متول للشيعة، بريء من جميع أهل السنة، ثم بعد ذلك ورد خاص في لعن الصديق أبي بكر ـ

رضي الله عنه ـ وكل من رضي وتابع له، ثم في النهاية إشهاد الله أن الخلفاء بعد الرسول هم الأئمة الأثنا عشر دون غيرهم. وإليك بعض نصوص هذه الأوراد البكتاشية. 1 ـ اللهم صل وسلم وزد وبارك على السيد المطهر، والإمام المظفر والشجاع الغضنفر إلى شبير وشبر ـ قاسم طوبى وسقر ـ (شبير: هو لقب يطلقونه على علي لأنه كان قصيرًا دون الربعة. ومعنى أنه قاسم طوبي وسقر أن له الجنة والنار وهو يدخل من يشاء كيف يشاء فالقسمة إليه) . 2 ـ اللهم صل وسلم وزد وبارك على السيدة الجليلة الجميلة الكريمة النبيلة المكروبة العليلة ذات الأحزان الطويلة! ! في المدة القليلة المعصومة المظلومة، الرضية الحليمة، العفيفة السليمة، المدفونة سرًا، والمغصوبة جهرًا، المجهولة قدرًا، والمخفية قبرًا، سيدة النساء الأنسية، الحوراء البتول العذراء، أم الأئمة النقباء النجباء فاطمة التقية الزهراء عليها السلام. ولا يخفى ما في هذا الكلام من الدس والطعن واتهام الصحابة رضوان الله عليهم بظلم فاطمة ـ رضي الله عنه ـ اوغصبها، وادعاء العصمة المطلقة لها. 3 ـ اللهم صل وسلم وزد وبارك على السيد المجتبى والإمام المرتجى سبط المصطفى وابن المرتضى علم الهدى. . الشفيع ابن الشفيع المقتول بالسم النقيع ـ المدفون بأرض البقيع. . الإمام المؤتمن. . والمسموم الممتحن. . الإمام بالحق أبي محمد الحسن. . (الرسالة الأحمدية ص83) . ولا يخفى ما في هذا أيضًا من الدس وأن الحسن بن علي ـ رضي الله عنه ـ مات مسمومًا. 4 ـ وأما في الصلاة على الحسين فيقول الورد البكتاشي: اللهم صل وسلم وزد وبارك على السيد الزاهد والإمام العابد الراكع الساجد. . قتيل الكافر الجاحد. . الإمام بالحق عبد الله الحسين. . 5 ـ وهكذا تستمر هذه الأوراد على هذا النحو ذاكرة إمامًا من أئمة الشيعة الاثني عشرية إلى أن يأتي الورد الخاص بمهدي الشيعة المنتظر الذي

وأما في ورد التولي والتبري فإنهم يقولون

يسمونه محمد بن الحسن العسكري فيقول الورد بالنص: اللهم صل وزد وبارك على صاحب الدعوة النبوية، والصولة الحيدرية، والعصمة الفاطمية، والحلم الحسينية والشجاعة الحسينية، والعبادة السجادية، والمآثر الباقرية، والآثار الجعفرية، والعلوم الكاظمية، والحجج الرضوية، والجود التقوية والنقاوة والنقوبة والهيبة العسكرية، والغيبة الإلهية، القائم بالحق والداعي إلى الصدق المطلق، كلمة الله، وأمان الله، وحجة الله، القائم لأمر الله، المقسط لدين الله، الذابّ عن حرم الله، إمام السر والعلن، دافع الكرب والمحن، صاحب الجود والمنن، الإمام بالحق أبي القاسم محمد بن الحسن، صاحب العصر والزمان، وخليفة الرحمن، ومظهر الإيمان وقاطع البرهان وسيد الإنس والجان، المولى الولي، وسمي النبي والوصي، والصراط السوي، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، الصلاة والسلام عليك يا وصي الحسن، والخلف الصالح، يا إمام زماننا، أيها القائم المنتظر المهدي، يا ابن رسول الله، يا ابن أمير المؤمنين، يا إمام المسلمين، يا حجة الله على خلقه، يا سيدنا ومولانا إنا توجهنا واستشفعنا وتوسلنا بك إلى الله، وقدمناك بين يدي حاجتنا في الدنيا والآخرة يا وجيهًا عند الله اشفع لنا عند الله بحقك وبحق جدك وبحق آبائك الطاهرين (الرسالة الأحمدية ص88، 89) . وأما في ورد التولي والتبري فإنهم يقولون بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وما توفيقي واعتصامي إلا بالله. إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا. والصلاة والسلام على رسولنا محمد الذي أرسله بالهدى. قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى. وعلى آله وأصحابه وأزواجه الهدى. يا سادتي ويا موالي إني توجهت بكم أنتم أئمتي وعدتي ليوم فقري وفاقتي وحاجتي إلى الله. وتوسلت بكم إلى الله واستشفعت بكم إلى الله. وبحبكم وبقربكم أرجو النجاة من الله. تكونوا عند الله. رجائي يا سادتي يا أولياء الله. صلى الله عليكم

أجمعين. اللهم إن هؤلاء أئمتنا وساداتنا وقاداتنا وكبراؤنا وشفعاؤنا بهم نتولى ومن أعدائهم نتبرأ في الدنيا والآخرة. والعن من ظلمهم. وانصر شيعتهم واغضب على من جحدهم. وعجل فرجهم. وأهلك عدوهم من الجن والإنس أجمعين من الأولين والآخرين إلى يوم الدين. اللهم ارزقنا في الدنيا زيارتهم وفي الآخرة شفاعتهم. وزدنا محبتهم. واحشرنا معهم. وفي زمرتهم. وتحت لوائهم. بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين. . ويا أرحم الراحمين. والحمد لله رب العالمين. اللهم صل على محمد وآل محمد. ولا يخفى أيضًا ما في هذا الورد من التبري من أهل السنة جميعًا بادعاء أنهم ظلموا أهل البيت وجحدوهم حقهم. وفي الورد الذي يلي هذا القول: " اللهم العن أول ظالم ظلم حق محمد وآل محمد وآخر تابع له على ذلك " (الأحمدية ص90) ، ولا يخفى أنهم يعنون بذلك الصديق أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ وكل مسلم رضي بولايته إلى يوم القيامة! ! وفي ختام الأوراد على المريد البكتاشي والسالك أن يشهد هذه الشهادة ويقول: " وأشهد أن الأئمة الأبرار. والخلفاء الأخيار. بعد الرسول المختار: على قامع الكفار. ومن بعده سيد أولاده الحسن بن علي. ثم أخوه السبط التابع لمرضات الله الحسين. ثم العابد علي ثم الباقر محمد. ثم الصادق جعفر. ثم الكاظم موسى. ثم الرضا علي ثم التقي محمد. ثم النقي علي. ثم الذكي العسكري الحسن. ثم الحجة الخلف الصالح القائم، المنتظر المهدي المرجى، الذي ببقائه بقيت الدنيا، وبيمنه رزق الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء، به يملأ الأرض قسطًا وعدلًا، بعدما ملئت ظلمًا وجورًا، وأشهد أن أقوالهم حجة وامتثالهم فريضة، وطاعتهم مفروضة، ومودتهم لازمة مقضية، والاقتداء بهم منجية، ومخالفتهم مردية، وهم سادات أهل الجنة أجمعين، وشفاء يوم الدين، وأئمة أهل الأرض

دور الفرس في التشيع والتصوف

على اليقين وأفضل الأوصياء المرضيين " (الرسالة الأحمدية ص92) . ولا شك بعد ذلك أن هذه عقيدة شيعية كاملة حملتها هذه الأوراد، والعجيب حقًا أن هذه العقيدة الشيعية قد انتشرت في تركية الدولة السنية، وفي مصر كذلك، واستمرت هذه العقيدة الباطنية تنتشر وتنمو طيلة هذه القرون الطويلة من أواسط القرن الثامن تقريبًا إلى يومنا هذا في القرن الخامس عشر الهجري وكل ذلك تحت جناح التصوف. . فأي تلازم أبلغ بعد ذلك وأي تطابق بين التصوف والتشيع. . وهل كان التصوف إلا المعبرة التي عبر عن طريقها الفكر الشيعي الباطني إلى ديار الإسلام. . بل هل كان التصوف إلا المعبرة التي عبرت بها كل الفلسفات وكل أشكال الإلحاد والزندقة والتخريف إلى العالم الإسلامي؟ ! ! . دور الفرس في التشيع والتصوف لقد كان للفرس والجنس الإيراني الدور المميز الخاص في التصوف والتشيع. فأئمة التصوف ورواده الأول بلا استثناء قد كانوا من الفرس والموالي ولم يكن منهم عربي قط. وقد ارتبط التشيع أيضًا قديمًا باسم الفرس حتى إنه لا يكاد يذكر التشيع إلا ويقترن ذكره بذكر الفرس. . وقد كان لذلك أسبابه الخفية بلا شك. وقد كتب الدكتور كامل الشيبي في كتابه (الصلة بين التصوف والتشيع) فصلًا خاصًا بذلك حيث يقول: أثر الشعب الإيراني في التشيع والتصوف: " ويهمنا في هذا المجال أن نورد رأيًا لبراون رواه الباحث الإيراني المعاصر الدكتور قاسم غني ـ ومر بنا أصله ـ مؤداه أن (الإيرانيين ـ بعد رضوخهم لسيف العرب إثر حروب القادسية وجلولاء وحلوان ونهاوند ـ بذلوا استقلالهم

وشوكتهم عن يد وهم صاغرون، وسواء أشاءوا أم أبوا دخلوا الإسلام بحكم غريزة المحافظة، غير أن العرب ـ الذين نظر إليهم الإيرانيون بعين الاحتقار من قديم ـ لم يستطيعوا مع غلبتهم أن يحملوا الإيرانيين على مشاركتهم طراز التفكير والعقيدة والسلفية والمنطق والآمال والمطالب الروحية، لأن التباين ـ شكلًا ومعنى ـ كان عظيمًا في العنصر وطريقة المعيشة والأوضاع الاجتماعية. وعلى ذلك فإن انتهاء الصراع بهزيمة إيران أوجد انفعالات روحية وتأثرات معنوية في الإيرانيين على شكل صراع فكري ظهر في التاريخ الأدبي والمذهبي والاجتماعي والسياسي، وأثر العرب في الإسلام، وكان التشيع وكذلك التصوف من أهم ردود الفعل التي أورثها هذا الصراع الفكري) (تاريخ تصوف در إسلام 3 ـ ترجمة ـ) . وقد أوضح الدكتور قاسم غني هذه الفكرة وبين جوهرها بقوله: (ويجب أن نبين هنا أن رد الفعل هذا لم يأت عن عمد واختيار وإرادة على خطة مرسومة يراد بها الانتقام بل كان أكثره متأنيًا بحكم الانفعال النفسي وتحت تأثير العواطف والأحاسيس الخفية التي يعرفها علم النفس، أي أن ذلك قد حدث غالبًا دون أن يجد له الناس علة واقعية ودون أن يحللوه، ولكن ذهنهم كان مسوقًا إلى هذا العمل بهذه الطريقة) (تاريخ تصوف در إسلام 3 ـ ترجمة) ولقد نطق إيراني معاصر ـ في صراحة وجلاء ـ بهذه الحقيقة واعترف بأن التصوف قد ظهر في إيران (في عصر تسلط على وطننا فيه عدو قوي، فلما لم يجد الإيرانيون قدرة على المخالفة والمبارزة سلكوا سبيل الهزيمة واتخذوا القوى الغيبية معتقدًا لهم وألقوا سلاحهم في ميدان تنازع البقاء. . . وعلى هذا فقد كان التصوف حينئذ ضرورة من الضرورات وليس اليوم كالأمس، ويجب ألا نحمل الأفكار الصوفية محمل الجد) (تصوف للبرفسور عباس مهرين: المقدمة ـ ترجمة ـ الواقع أن هذه المعاني متضمنة في صورة واضحة في عبارة ابن حزم الواردة في كتابه ـ الفصل ـ طبع مصر 1321م 2/115. وقد عبر عنها براون وغيره بألفاظهم) . على أن هذا كله لا يقدح في أن التصوف قد ظهر في سائر الأقطار الإسلامية حينئذ، ولكن الواضح أيضًا أن التطور لم يخالط الزهد إلا في

خراسان وعلى يد الفرس في البصرة والكوفة بل حتى في الشام حين دخلها إبراهيم بن أدهم وصحبه. وينبغي أن نذكر الدور الذي قام به الفرس من إدخالهم مثلهم الدينية في التشيع الغالي الأول حين نصروا المختار، وعاضدوا حركة الغلو العجلية، وانضموا إلى حركة أبي هاشم حتى أدى بهم الأمر إلى تأليه أبي مسلم الخراساني، كما فعلوا مع أئمة الشيعة من العلويين. يضاف إلى ذلك أنهم نصروا حركة عبد الله بن معاوية في فارس أيضًا وأسبغوا عليه النور الإلهي الذي سنجده في التصوف واضحًا جليًا. وهذا كله يعني أن الفرس قد بدؤوا إضافة القداسة إلى البيت النبوي باعتبارها أساسًا موازيًا لأسسهم السياسية والدينية السابقة من تأليههم الملوك، وقولهم بالنور الذي ينتقل من ملك إلى آخر، فثبتت الولاية لعلي بن أبي طالب على نحو مبالغ فيه، وانتقلت هذه الولاية المقدسة مع زيادات وإضافات وحواش إلى الأئمة من بعده حتى بلغ الأمر حد التأله " (الصلة بين التصوف والتشيع ص341 ـ 343) . وهذه الشهادات تعني في الجملة أن التصوف والتشيع عند الإيرانيين كان دائمًا وسيلة إلى غاية ولم يكن عقيدة وانتحالًا خالصًا، وهذا يصل إليه الدكتور كامل الشيبي في خلاصة بحثه حيث يقول: " وقد استعان المختار بالوالي لأول مرة في تاريخ التشيع وكان ذلك من أسباب فشل حركته، وانفضاض العرب عنه، ويجب أن نلاحظ هنا أن دور الفرس في التشيع المبكر كان مؤقتًا فقد انصرفوا من بعد المختار إلى موالاة العباسيين وعادوا إلى التشيع من جديد بعد أن نزلت بهم ضربة السفاح أولًا. ثم المنصور ثم الرشيد. بل لقد وجدناهم يمنعون العلويين الخلافة حين تسلم البويهيون أزمة الحكم من العباسيين. وبهذا يتبين لنا أن دور الفرس في التشيع بل في الإسلام كان مجرد وسيلة لاستعادة المجد القديم، وإلغاء التسلط العربي عن كواهلهم " (الصلة بين التصوف، لكامل الشيبي ص101) .

الباب السادس: أئمة الإسلام والتصوف

الباب السادس: أئمة الإسلام والتصوف في هذا الباب نجمع طائفة من كلام علماء المسلمين قديمًا وحديثًا لبيان مواقفهم من التصوف: 1 ـ لم تعرف كلمة التصوف قط في عصر الصحابة ولا التابعين ولم يكن هناك بتاتًا من يسمى بالمتصوف، ولذلك فالتصوف بدعة منكرة لم تظهر إلا في أواخر القرن الثاني الهجري، ولذلك لم يدركها الإمامان أبو حنيفة ومالك ـ رضي الله عنهما ـ. الإمام الشافعي: وأما الإمام الشافعي فقد أدرك بدايات التصوف وكان من أكثر العلماء والأئمة إنكارًا عليهم. وقد كان مما قاله في هذا الصدد: " لو أن رجلًا تصوف أول النهار لا يأتي الظهر حتى يصير أحمق ". وقال أيضًا: " ما لزم أحد الصوفيين أربعين يومًا فعاد عقله أبدًا، وأنشد: ودعوا الذين إذا أتوك تنسكو وإذا خلوا كانوا ذئاب خفاف (تلبيس إبليس ص371) وقال أيضًا عندما سافر إلى مصر: " تركت ببغداد وقد أحدث الزنادقة شيئًا يسمونه السماع " (يعني الغناء والرقص الذي ابتدعه الصوفية في القرن الثاني وما زال مسلكهم إلى اليوم) . الإمام أحمد بن حنبل: وأما الإمام أحمد بن حنبل فقد كان لهم بالمرصاد فقد قال فيما بدأ الحارث المحاسبي يتكلم فيه وهو الوساوس والخطرات. قال أحمد: " ما تكلم فيها الصحابة ولا التابعون ". وحذر من مجالسة الحارث المحاسبي وقال لصاحب له: " لا أرى لك أن تجالسهم ". وذكر أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن أحمد بن حنبل أنه قال:

الإمام أبو زرعة الدمشقي

" حذروا من الحارث أشد التحذير! ! الحارث أصل البلبلة ـ يعني في حوادث كلام جهم ـ ذاك جالسه فلان وفلان وأخرجهم إلى رأي جهم ما زال مأوى أصحاب الكلام. حارث بمنزلة الأسد المرابط انظر أي يوم يثب على الناس! ! " (تلبيس إبليس 166 ـ 167) . وهذا الكلام من الإمام أحمد يكشف فيه القناع أيضًا عن أن الحارث المحاسبي الذي تسربل ظاهرًا بالزهد والورع والكلام في محاسبة النفس على الخطرات والوساوس كان هو المأوى والملاذ لأتباع جهم بن صفوان المنحرفين في مسائل الأسماء والصفات والنافين لها، وهكذا كان التصوف دائمًا هو الظاهر الخادع للحركات والأفكار الباطنية. ولذلك وقف الإمام أحمد لهؤلاء الأشرار الظاهرين منهم والمتخفين بالزهد والورع وأمر بهجر الحارث المحاسبي وشدد النكير عليه فاختفى الحارث إلى أن مات. (تلبيس إبليس 167) . الإمام أبو زرعة الدمشقي وجاء بعد الإمام أحمد بن حنبل الإمام أبو زرعة رحمه الله فقال أيضًا عن كتب الحارث المحاسبي وقد سأله سائل عنها: " إياك وهذه الكتب هذه كتب بدع وضلالات. عليك بالأثر فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب. قيل له: في هذه الكتب عبرة. بلغكم أن مالك بن أنس وسفيان الثوري والأوزاعي والأئمة المتقدمين صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء هؤلاء (يعني الصوفية) قوم خالفوا أهل العلم يأتوننا مرة بالحارث المحاسبي، ومرة بعبد الرحيم الدبيلي ومرة بحاتم الأصم ومرة بشقيق البلخي ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع " ا. هـ. (تلبيس إبليس ص166 ـ 167) . الإمام أبو اليسر محمد بن محمد بن عبد الكريم البزودي المتوفي سنة 478هـ ـ ببخارى: قال في كتابه (أصول الدين) عند التعريف بالتصوف: " وأما

(الصوفية) فأكثرهم من (أهل السنة والجماعة) . وفيهم من يكون صاحب الكرامة، إلا أنه قد ظهر فيهم مذاهب ردية أكثرها ضلال وبدعة. منهم (الحبية) يقولون: إن الله تعالى إذا أحب عبدًا رفع عنه الخطاب فيحل له كل النعم ويسقط عنه العبادات ولا يبقى في حقه حظر فلا يصلون ولا يصومون ولا يسترون العورة، ولا يمنعون عن الزنا وشرب الخمر، ولا عن اللواطة ولا عن محظور ما. ومنهم (الأوليائية) يقولون: إن الولي أفضل من النبي والرسول من الآدميين والملائكة جميعًا. ويقولون: إن الرسول دون المرسل إليه ودون المرسل، على هذا رأينا عادات الأكابر. وهؤلاء يقولون أيضًا: إذا بلغ الإنسان في العبادة الدرجة القصوى وفي الولاية الرتبة العليا لا يبقى في حقه خطاب الإيجاب ولا خطاب الحظر ويحل له كل شيء. ومنهم (الإباحتية) يقولون: الأموال كلها على الإباحة، وكذا الفروج وليس للملاك إلا مجرد الاكتساب، ويستبيحون أموال الناس وفروج نسائهم. ومنهم (الحلولية) وهم قوم يستبيحون الرقص والغناء والنظر إلى الشاب الأمرد المليح الصبيح، ويقولون قد حلت بهذا الأمرد الصبيح صفة من صفات البارئ، فنحن نحبه ونعانقه لأجل تلك الصفة. ومنهم (الحورية) يقولون باستباحة الرقص والغناء والمبالغة في الرقص حتى يسقطون على الأرض من كثرة الإتعاب في الرقص، ثم يقومون ويغتسلون ويقولون إن الحور العين يحضرن (الحق أنهم كانوا ينسبون في هذا الوقت إلى أهل السنة والجماعة وكان هذا ظاهرهم ولكنهم في الحقيقة كانوا زنادقة في الباطن يضمرون عقائد الباطنية كما شرح البزدوي نفسه أحوالهم) ، ونجامعهن وكأن إبليس جامعهم لشر صنيعتهم. ومنهم (الواقفية) يقولون: إنه لا يمكن معرفة الله تعالى، وتوقفوا في معرفة الله تعالى، وقالوا أبياتًا في الفارسية والعربية فيها: تراكه داندكي تراتو داني تو ترانداند كس تراتو داني بس

وقال آخر: تاتوتوي زعلت خالي ني يا باعلل ومحك ويرا مجوي وقال آخر: جه خبر فهم وه، را ازتو بحقيقت تراتو داني تو روح وقلب وخردبتوا محدث محدثات تراجه علم ازتو وللآخر بالعربية: لا يعرف الحق إلا من يعرفه لا يعرف القديم المحدث الفاني (الشطر الثاني من البيت جاء مكسور الوزن) وقالوا: إن العجز عن المعرفة هو المعرفة. ومنهم (المتجاهلة) وهم قوم يضربون المزامير ويشربون الخمر ويأتون ببعض الفواحش ويلبسون ثياب الفسقة ويقولون: ترك الإرادة واجب فبمثل هذا تترك الإرادة. ومنهم (المتكاسلة) رضوا بملء البطن من الطعام حرامًا كان أو حلالًا يأكلون ما يجدون حرامًا أو حلالًا، ويسكنون في الحانات لا يكسبون بل ينامون في غالب الأزمان ويصلون قليلًا قليلًا، ويأكلون كثيرًا إن وجدوه ويرقصون إن وجدوا قاريًا (أي مضيفًا من القرى بمعنى الضيافة) ، واختاروا الكسل ولا يتعلمون شيئًا ولا يتزوجون إلا أنهم لا يعتقدون مذهبًا رديًا ولا ينازعون مع أحد فهؤلاء لا بأس بهم. ومنهم العامة الأتقياء البررة، وأصحاب الكرامات يكونون أبدًا على الطهارة ويتبعون سنن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المشرب والمأكل واللباس والكلام والنيام والعبادة إلا أنهم تركوا سنته في تبليغ الوحي، وفوضوا ذلك إلى العلماء. وينبغي أن يترك الإنسان الطعن في الصوفية ويقطع لسانه عنهم (قلت كيف يجب ذلك وهذه هي أحوالهم بل يجب الإنكار عليهم) ، فإن فيهم خيار الأمة، وإنما ذكرت هؤلاء لأنه ظهر في بلادنا بعض هؤلاء خصوصًا بديار فرغانة قد يحضرون بخارًا أحيانًا ثم يخرجون إذا علمناهم فهؤلاء (الأوليائية) و (الحبية) شر عباد الله مال مذهبهم إلى الزندقة. وفي (الصوفية) قوم يدعون الإلهام يقولون: حدثني قلبي عن ربي، ثم يذكرون بعض ما وضعه (القرامطة) من الإشارات الفاسدة بالألفاظ الهائلة

الإمام ابن الجوزي

يغرون بهم العامة، وجعلوا ذلك مكسبة لأنفسهم وأنكروا الشرائع أجمع، شر خليقة الله تعالى، وواحد من هؤلاء الصوفية حضر بلدة بخارى سنة ثمان وسبعين وأربع مائة، وجمع (الصوفية) وبعض (أصحاب الشافعي) على نفسه، وكنت خرجت من بلدة بخارى إلى بعض قراها فلما حضرت أخبروني بحضوره، وكان قبل ذلك يعتقد مذهب (أبي حنيفة) ويميل إلى الاعتزال، فبعثت إليه اثنين من أصحابي قلت لهما: قولا له لم تركت مذهب (أبي حنيفة) وأخرجت هذه البدع. فقال: ما تركته؛ فقلت لهما: قولا له لماذا ترفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع فاضطر إلى كشف سريرته الخبيثة فقال: ظهر لي ما لو ظهر لكم ترفعون أيديكم فقلت لهما: قولا له ماذا ظهر لك هل تقدر على إظهاره أو لا تقدر فإن كنت تقدر على إظهاره فأظهر وإن كنت لا تقدر على إظهاره فذلك بدعة عجزت عن إظهارها، ثم قلت لهما: قولا له إنا على الطريقة التي كان عليها الرسل والأنبياء والصالحون من الفقهاء من جميع الأعصار وأتقياؤهم وأولياؤهم وقراؤهم وأنت أيها التلبيس (هكذا بالأصل) الضال الغاوي المغوي أعرضت عن طريقة هؤلاء وسلكت طريقة إبليس وهو طريقة (الروافض) و (القرامطة) فعند ذلك فر من بلدة بخارى ونواحيها فرار القرود من الأسود والهنود والقيود. وقد أخبرني واحد من فقهائنا أنه سأل هذا المبتدع لم تركت مذهب (أبي حنيفة) وترفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع، فقال: إني رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي بأصحابه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وغيرهم ويرفعون أيديهم عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع (بالرغم من أن السنة هي رفع اليدين عند الركوع والرفع منه إلا أن احتجاج الصوفي بأنه يرى الرسول يفعل ذلك يقظة تلبيس وزندقة وكذب على الرسول وقد زعموا أيضًا أنه أعني الرسول يحضر مجالس سماعهم وموالدهم، بل وديوانهم في حراء الذي يزعمون أنه تقدر فيه المقادير) فقال: قلت له رأيت في المنام قال: بل في اليقظة " انتهى بلفظه. الإمام ابن الجوزي وأما الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي البغدادي المتوفي سنة 597هـ ـ فقد كتب كتابًا فريدًا سماه (تلبيس إبليس) خص الصوفية بمعظم فصوله وبين تلبيس الشيطان عليه وكان مما ذكره هذه الصفحات:

" وكان أصل تلبيسه عليهم أنه صدهم عن العلم وأراهم أن المقصود العمل فلما أطفأ مصباح العلم عندهم تخبطوا في الظلمات. فمنهم من أراه أن المقصود من ذلك ترك الدنيا في الجملة فرفضوا ما يصلح أبدانهم. وشبهوا المال بالعقارب، ونسوا أنه خلق للمصالح وبالغوا في الحمل على النفوس حتى إنه كان فيهم من لا يضطجع. وهؤلاء كانت مقاصدهم حسنة غير أنهم على غير الجادة. وفيهم من كان لقلة علمه يعمل بما يقع إليه من الأحاديث الموضوعة وهو لا يدري. ثم جاء أقوام يتكلمون لهم في الجوع والفقر الوساوس والحظوات وصنفوا في ذلك مثل الحارث المحاسبي. وجاء آخرون فهذبوا مذهب التصوف وأفردوه بصفات ميزوه بها من الاختصاص بالمرقعة والسماع والوجد والرقص والتصفيف وتميزوا بزيادة النظافة والطهارة. ثم مازال الأمر ينمى والأشياخ يضعون لهم أوضاعًا ويتكلمون بواقعاتهم. ويتفق بعدهم عن العلماء لا بل رؤيتهم ما هم فيه أو في العلوم حتى سموه العلم الباطن وجعلوا علم الشريعة العلم الظاهر. ومنهم من خرج به الجوع إلى الخيالات الفاسدة فادعى عشق الحق والهيمان فيه كأنهم تخايلوا شخصًا مستحسن الصورة فهاموا به، وهؤلاء بين الكفر والبدعة، ثم تشعبت بأقوام منهم الطرق، ففسدت عقائدهم، فمن هؤلاء من قال بالحلول ومنهم من قال بالاتحاد. وما زال إبليس يخبطهم بفنون البدع حتى جعلوا لأنفسهم سننًا، وجاء أبو عبد الرحمن السلمي فصنف لهم كتاب السنن، وجمع لهم حقائق التفسير، فذكر عنهم فيه العجب في تفسيرهم القرآن بما يقع لهم من غير إسناد ذلك إلى أصل من أصول العلم. وإنما حملوه على مذاهبهم. والعجب من ورعهم في الطعام وانبساطهم في القرآن. وقد أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب قال: قال لي محمد بن يوسف القطان النيسابوري، قال: كان أبو عبد الرحمن السلمي غير ثقة، ولم يكن سمع من الأصم إلا شيئًا يسيرًا فلما مات الحاكم أبو عبد الله بن البيع حدث عن الأصم بتاريخ يحيى بن معين وبأشياء كثيرة سواه. وكان يضع للصوفية الأحاديث. قال المصنف: وصنف لهم أبو نصر السراج كتابًا سماه لمع الصوفية ذكر فيه من الاعتقاد القبيح والكلام المرذول ما سنذكر منه جملة إن شاء الله تعالى.

وصنف لهم أبو طالب المكي قوت القلوب فذكر فيه الأحاديث الباطلة ومالا يستند فيه إلى أصل من صلوات الأيام والليالي وغير ذلك من الموضوع وذكر فيه الاعتقاد الفاسد. وردد فيه قول ـ قال بعض المكاشفين ـ وهذا كلام فارغ وذكر فيه عن بعض الصوفية أن الله عز وجل يتجلى في الدنيا لأوليائه. أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا أبو بكر الخطيب قال: قال أبو طاهر محمد بن العلاف. قال: دخل أبو طالب المكي إلى البصرة بعد وفاة أبي الحسين بن سالم فانتمى إلى مقالته وقدم بغداد فاجتمع الناس عليه في مجلس الوعاظ فخلط كلامه فحفظ عنه أنه قال: ليس على المخلوق أضر من الخالق. فبدعة الناس وهجروه فامتنع من الكلام على الناس بعد ذلك، قال الخطيب: وصنف أبو طالب المكي كتابًا سماه قوت القلوب على لسان الصوفية وذكر فيه أشياء منكرة مستشبعة في الصفات. قال المصنف: وجاء أبو نعيم الأصبهاني فصنف لهم كتاب الحلية. وذكر في حدود التصوف أشياء منكرة قبيحة ولم يستح أن يذكر في الصوفية أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا وسادات الصحابة ـ رضي الله عنه ـ م. فذكر عنهم فيه العجب وذكر منهم شريحًا القاضي والحسن البصري وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وكذلك ذكر السلمي في طبقات الصوفية وإبراهيم بن أدهم ومعروفًا الكرخي وجعلهم من الصوفية بأن أشار إلى أنهم من الزهاد. فالتصوف مذهب معروف يزيد على الزهد ويدل على الفرق بينهما أن الزهد لم يذمه أحد وقد ذموا التصوف على ما سيأتي ذكره وصنف لهم عبد الكريم بن هوازن القشيري كتاب الرسالة فذكر فيها العجائب من الكلام في الفناء والبقاء، والقبض، والبسط، والوقت، والحال والوجد والوجود، والجمع، والتفرقة، والصحو، والسكر، والذوق، والشرب، والمحو، والإثبات، والتجلي، والمحاضرة، والمكاشفة، واللوائح، والطوالع، واللوامع، والتكوين، والتمكين والشريعة، والحقيقة، إلى غير ذلك من التخليط الذي

ليس بشيء وتفسيره أعجب منه، وجاء محمد بن طاهر المقدسي فصنف لهم صفة التصوف فذكر فيه أشياء يستحي العاقل من ذكرها سنذكر منها ما يصلح ذكره في مواضعه إن شاء الله تعالى. وكان شيخنا أبو الفضل بن ناصر الحافظ يقول: كان ابن طاهر يذهب مذهب الإباحة، قال: وصنف كتابًا في جواز النظر إلى المراد أورد فيه حكاية عن يحيى بن معين، قال: رأيت جارية بمصر مليحة صلى الله عليها. فقيل له تصلي عليها، فقال صلى الله عليها وعلى كل مليح، قال شيخنا ابن ناصر: وليس ابن طاهر بمن يحتج به، وجاء أبو حامد الغزالي فصنف لهم كتاب الإحياء على طريقة القوم وملأه بالأحاديث الباطلة وهو لا يعلم بطلانها، وتكلم في علم المكاشفة وخرج عن قانون الفقه. وقال: إن المراد بالكوكب والشمس والقمر اللواتي رآهن إبراهيم صلوات الله عليه أنوار هي حجب الله عز وجل ولم يرد هذه المعروفات. وهذا من جنس كلام الباطنية. وقال في كتابه المفصح بالأحوال: إن الصوفية في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتًا ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصورة إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق. قال المصنف: وكان السبب في تصنيف هؤلاء مثل هذه الأشياء قلة علمهم بالسنن والإسلام والآثار وإقبالهم على ما استحسنوه من طريقة القوم. وإنما استحسنوها لأنه قد ثبت في النفوس مدح الزهد وما رأوا حالة أحسن من حالة هؤلاء القوم في الصورة ولا كلاما أرق من كلامهم. وفي سير السلف نوع خشونة، ثم إن ميل الناس إلى هؤلاء القوم شديد لما ذكرنا من أنها طريقة ظاهرها النظافة والتعبد وفي ضمنها الراحة والسماع والطباع تميل إليها. وقد كان أوائل الصوفية ينفرون من السلاطين والأمراء فصاروا أصدقاء (أي بعد أن صار التصوف حرفة وتكسبًا صاحبوا الأمراء والسلاطين) .

وجمهور هذه التصانيف التي صنفت لهم لا تستند إلى أصل وإنما هي واقعات تلقفها بعضهم عن بعض ودونوها وقد سموها بالعلم الباطن. والحديث بإسناد إلى أبي يعقوب إسحق بن حية قال سمعت أحمد بن حنبل وقد سئل عن الوساوس والخطرات. فقال: ما تكلم فيها الصحابة ولا التابعون. قال المصنف: وقد روينا في أول كتابنا هذا عن ذي النون نحو هذا، وروينا عن أحمد بن حنبل أن سمع كلام الحارث المحاسبي. فقال لصاحب له. لا أرى لك أن تجالسهم. وعن سعيد بن عمرو البردعي، قال شهدت أبا زرعة، وسئل عن الحارث المحاسبي وكتبه، فقال للسائل: إياك وهذه الكتب. هذه الكتب كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب. وقيل له. في هذه الكتب عبرة. قال: من لم يكن له في كتاب الله عز وجل عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة. بلغكم أن مالك بن أنس، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والأئمة المتقدمة، صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء هؤلاء قوم خالفوا أهل العلم يأتوننا مرة بالحارث المحاسبي ومرة بعبد الرحيم الدبيلي ومرة بحاتم الأصم ومرة بشقيق، ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع. أخبرنا محمد بن عبد الباقي ثنا أبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب التميمي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: أول من تكلم في بلدته في ترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية ذو النون المصري فأنكر عليه ذلك عبد الله بن عبد الحكم وكان رئيس مصر وكان يذهب مذهب مالك وهجره لذلك علماء مصر لما شاع خبره أنه أحدث علمًا لم يتكلم فيه السلف حتى رموه بالزندقة. قال السلمي: وأخرج أبو سليمان الداراني من دمشق. وقالوا إنه يزعم أنه يرى الملائكة وأنهم يكلمونه، وشهد قوم على أحمد بن أبي الحواري: إنه يفضل الأولياء على الأنبياء فهرب من دمشق إلى مكة، وأنكر أهل بسطام على أبي يزيد البسطامي ما كان يقول حتى إنه ذكر للحسين بن عيسى أنه يقول: لي معراج كما كان للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معراج فأخرجوه من بسطام، وأقام بمكة سنتين ثم رجع إلى جرجان فأقام بها إلى أن مات الحسين بن عيسى ثم رجع إلى بسطام، قال السلمي: وحكى رجل عن سهلي بن عبد الله التستري أنه يقول: إن الملائكة والجن والشياطين يحضرونه وإنه يتكلم عليهم فأنكر ذلك عليه

الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية

العوام حتى نسبوه إلى القبائح فخرج إلى البصرة فمات بها، قال السلمي: وتكلم الحارث المحاسبي في شيء من الكلام والصفات فهجره أحمد بن حنبل فاختفى إلى أن مات. قال المصنف: وقد ذكر أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن أحمد بن حنبل أنه قال: حذروا من الحارث أشد التحذير، الحارث أصل البلية يعني في حوادث كلام جهم ذاك جالسه فلان وفلان وأخرجهم إلى رأي جهم ما زال مأوى أصحاب الكلام، حارث بمنزلة الأسد المرابط انظر أي يوم يثب على الناس " (تلبيس إبليس 167/163) . انتهى منه بلفظه. الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية وأما الإمام ابن تيمية رحمه الله فقد كان من أعظم الناس بيانًا لحقيقة التصوف، وتتبعًا لأقوال الزنادقة والملحدين منهم وخاصة ابن عربي، والتلمساني، وابن سبعين. فتعقب أقوالهم وفضح باطنهم وحذر الأمة من شرورهم وذلك في كتبه ومؤلفاته الكثيرة وفي فتاويه، وكذلك تتبع أقوال المخلطين منهم الذين خلطوا بين القول الطيب والقول الخبيث كالترمذي صاحب كتاب (ختم الولاية) والغزالي صاحب إحياء علوم الدين. ولا شك أن من أعظم ما ألف الإمام ابن تيمية في هذا الصدد هو كتابة (الفرقان بين أولياء الرحمة وأولياء الشيطان) فقد فصل فيه القول في الولاية الرحمانية وبيان صفاتها من الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح، وفرق بين ذلك والولاية الشيطانية الصوفية التي تعتمد على الشعبذات والدجل، والكذب، وأكل أموال الناس بالباطل، والسماع والغناء والرقص والبدع المنكرة في الدين، والتظاهر بالصلاح والتقوى، ولقد أجاد الإمام ابن تيمية رحمه الله أيما إجادة في بيان الكرامة الرحمانية التي هي حق لولي الله، والكرامة الشيطانية التي تجري أحيانًا على أيدي هؤلاء كتظاهرهم بالدخول في النيران وزعمهم أنها لا تضرهم، وحملهم الحيات

الإمام برهان الدين البقاعي

والثعابين، وضربهم أنفسهم بالسيوف والسهام وغير ذلك من أنواع المخاريق التي يزعمون أنها من كراماتهم، وقد قام الإمام ابن تيمية نفسه بتحدي هؤلاء الصوفية الذي يزعمون هذه الكرامات وأنه يدخل معهم النار التي يزعمون دخولها وأنها تحرقهم إن شاء الله ولا تحرقه، شريطة أن يغسلوا أنفسهم أولًا بالخل لإزالة دهن الضفادع الذي يدهنون به أنفسهم حتى لا تؤثر فيهم النار. فلما كشف حيلهم وتحداهم وكان ذلك بمحضر السلطان تراجعوا عن ذلك وظهر كذبهم ومخاريقهم، وكان هؤلاء الصوفية من أتباع الرفاعي البطائحي (انظر مناظرة ابن تيمية لدجاجلة البطائحية الفتاوي الكبرى من ص445 ـ 476) . والمهم أن الإمام ابن تيمية كان من أعظم الرجال الذي كشفوا عوار التصوف وتتبعوا ترهاته، وما كتبه ودونه وقام به في هذا الصدد شيء يطول وصفه جدًا. الإمام برهان الدين البقاعي المتوفي سنة 885هـ ـ ألف هذا الإمام الجليل كتابًا فذًا فريدًا سماه (تنبيه الغبي بتكفير عمر بن الفارض وابن عربي) قال في خطبة هذا الكتاب: " وبعد: فإني لما رأيت الناس مضطربين في ابن عربي المنسوب إلى التصوف، الموسوم عند أهل الحق بالوحدة، ولم أر من شفى القلب في ترجمته وكان كفره في كتابه الفصوص أظهر منه في غيره، أحببت أن أذكر منه ما كان ظاهرًا، حتى يعلم حاله، فيهجر مقاله، ويعتقد انحلاله، وكفره وضلاله، وأنه إلى الهاوية مآله ومآبه، امتثالًا لما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: [من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان] وفي رواية عن عبد الله بن مسعود: [وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة من خردل] ، وما أحضر من النسخة التي نقلت ما تراه منها إلا شخص من كبار معتقديه، وأتباعه ومحبيه.

عقيدة ابن عربي وكيده للإسلام

عقيدة ابن عربي وكيده للإسلام وينبغي أن يعلم أولًا أن كلامه دائر على الوحدة المطلقة، وهي: أنه لا شيء سوى هذا العالم، وأن الإله أمر كلي لا وجود له إلا في ضمن جزئياته. ثم إنه يسعى في إبطال الدين من أصله، بما يحل به عقائد أهله، بأن كل أحد على صراط مستقيم، وأن الوعيد لا يقع منه شيء، وعلى تقدير وقوعه، فالعذاب المتوعد به إنما هو نعيم وعذوبة، ونحو ذلك! ! . وإن حصل لأهله ألم، فهو لا ينافي السعادة والرضى، كما لم ينافها ما يحصل من الآلام في الدنيا، وهذا يحط عند من له وعلى اعتقاد: أنه لا إله أصلًا، وأنه ما ثم إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما وراء ذلك شيء. منهاج الصوفية في الكيد بدعوتهم وكل ما في كلامه من غير هذا المهيع فهو تستر وتلبيس على من ينتقد عليه، ولا يلقي زمام انقياده إليه، فإنه علم أنه إن صرح بالتعطيل ابتداء بعد كل من قبوله فأظهر لأهل الدين أنه منهم، وقف لهم في أودية اعتقادهم، ثم استدرجهم عند المضائق، واستغواهم في أماكن الاشتباه، وهو أصنع الناس في التلبيس، فإنه يذكر أحاديث صحاحًا، ويحرفها على أوجه غريبة، ومناح عجيبة، فإذا تدرج معه من أراد الله ـ والعياذ بالله ـ ضلاله، وصل ـ ولا بد ـ إلى مراده من الانحلال من كل شرعة، والمباعدة لكل ملة. وخواص أهل هذه النحلة يتسترون بإظهار شعائر الإسلام، وإقامة الصلاة والصيام، وتمويه الإلحاد بزي التنسك والتقشف، وتزويق الزندقة بتسميتها: بعلم التصوف، فهو ممن أشار إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله: [يحقر أحدكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه، يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية] . وقد أصل لهم غويهم هذا كما صرح به في الفص النوحي: أن الدعوة إلى الله مكر! ! ونسب ذلك إلى الأنبياء عليهم السلام، فقال: أدعو إلى الله. فهذا عين المنكر. . إلى آخر كلامه.

مثالهم في الزندقة

وهذا هو السر في تنسكهم. على أنهم قد استغنوا في هذا الزمان عن التنسك، لانقياد أهله بغير ذلك، وقد يستدرجهم الله وأمثالهم ـ ممن يريد ضلاله ـ بإظهار شيء من الخوارق على أيديهم، كما يظهره الله على يد الدجال، وأيدي بعض الرهبان، ليتبين الموقن من المرتاب. مثالهم في الزندقة وقد ضربوا ـ لتصحيح زندقتهم ـ مثالًا مكروا فيه بمن لم ترسخ قدمه في الإسلام، ولا خالط أنفاس النبوة، حتى صار يدفع الشبه. حاصل ذلك المثال: أنهم يصلون إلى الله بغير وساطة المبعوث بالشرع، فتم لهم المكر، وتبعهم في ذلك أكثر الرعاع، ولم يبالوا بخرق الإجماع، وذلك المثال: أن ملكًا أقام على بابه سيفًا، وقال له: من دخل بغير إذنك فاقتله، وقال لغيره: أذنت لك في الدخول متى شئت، فإذا دخل الغير، فقد أصاب، وعنوا بالسياف الشارع. فما أفادهم مثالهم مع زندقتهم به شيئًا، فإنهم اعترفوا فيه بإباحة دمائهم، وهو قصد أهل الشريعة، ومن يعتقد أن لأحد من الخلق طريقًا إلى الله من غير متابعة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو كافر من أولياء الشيطان بالإجماع، فإن رسالته ـ صلى الله عليه وسلم ـ عامة ودعوته شاملة " (تنبيه الغبي إلى كفر الفارض وابن عربي لبرهان الدين البقاعي ص18 ـ 21) . انتهى منه بلفظه. ثم شرع المؤلف رحمه الله بعد ذلك يورد كلام أئمة الدين والعلم في بيان كفر هؤلاء وزندقتهم، وشرح ما جاء في الفصوص لابن عربي وبين كفره وزندقته وكذبه على الله ورسوله واستهزاءه بالأنبياء والمرسلين وادعاءه أن كل موجود هو الله. وكذلك استعرض قصيدة ابن الفارض المشهورة التائية وبين ما فيها من كفر وزندقة وأنها والفصوص وجهان لعملة واحدة وصورتان لكتاب واحد وهي وحدة الوجود التي ينادي بها هؤلاء الزنادقة. وعلى كل حال لو تتبعنا كلام علماء المسلمين قديمًا في شأن التحذير من التصوف فإنه أمر يطول شرحه. وأما في العصر الحديث فإن التصوف على الرغم من انتشاره في غفلة من المسلمين

شهادة الدكتور الشيخ تقي الدين الهلالي

عن علوم الكتاب والسنة، فإن الله سبحانه وتعالى قيض للمسلمين في العصر الحديث الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب الذي كان لدعوته المباركة في الجزيرة العربية الفضل في إيقاظ الأمة من سباتها العميق، واطلاعها على حقيقة التصوف الضال فانتشرت دعوة التوحيد شرقًا وغربًا، وقام الرجال المخلصون بملاحقة فلول التصوف في كل صقع من أصقاع الأرض حتى انزاحت الغمة أو كادت بفضل الله ورحمته بعد أن كان الظلام والشر قد عم الأرض كلها إلا القليل القليل من أهل الدين الحق والتوحيد. وأحب في هذا الباب من هذا الكتاب المبارك إن شاء الله تعالى أن أسوق شهادتين لرجلين مشهورين من رجال العصر الحاضر ممن أكرمهم الله بالنجاة من التصوف الخاسر إلى رحاب التوحيد والإيمان وهما الدكتور تقي الدين الهلالي شيخ التوحيد والسنة في بلاد المغرب، بل في العالم الإسلامي كله، والذي كان صوفيًا (تجانيًا) فأكرمه الله بدعوة التوحيد فلما رأى النور والخير كتب كتابه (الهدية الهادية إلى الطريقة التجانية) . وأما الرجل الآخر الذي ننقل شهادته فهو الشيخ عبد الرحمن الوكيل رحمه الله، وكيل جماعة أنصار السنة بمصر، والذي جرّد قلمه السيال لبيان فرية التصوف الكبرى فكتب كتابه المشهور (هذه هي الصوفية) . شهادة الدكتور الشيخ تقي الدين الهلالي " الحمد لله الذي أرسل خاتم النبيين وإمام المرسلين، محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ رحمة للعالمين بشيرًا لمن آمن به، واهتدى بهديه، بالفوز المبين ونذيرًا لمن كفر به وخالف سنته بالعذاب المهين، وصل اللهم على محمد وأزواجه وذرياته كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذرياته كما باركت على إبراهيم، صلاة تشمل آله ومن تمسك بسنته إلى يوم الدين. فيقول أفقر العباد إلى الغني الكبير المتعال، محمد تقي الدين بن عبد القادر الحسيني الهلالي غفر الله ذنبه وستر عيبه: نشأت في بلاد سجلمانة، وحفظت القرآن وأنا ابن اثنتي عشرة سنة، ورأيت أهل بلادنا مولعين بطرائق المتصوفة لا تكاد تجد واحدًا منهم لا عالمًا ولا جاهلًا إلا وقد انخرط في سلك إحدى الطرق، وتعلق بشيخها تعلق الهائم الوامق، يستغيث به في الشدائد

ويستنجد به في المصائب، ويلهج دائمًا بشكره والثناء عليه فإن وجد نعمة شكره عليها، وإن أصابته مصيبة اتهم نفسه بالتقصير في محبة شيخه والتمسك بطريقته، ولا يخطر بباله أن شيخه يعجز عن شيء في السماوات ولا في الأرض فهو على كل شيء قدير، وسمعت الناس يقولون: من لم يكن له شيخ فالشيطان شيخه. وينشدون قول ابن عاشور في أرجوزته التي نظمها في عقيدة الأشعرية، وفي فروع المالكية، وفي مبادئ التصوف: يصحب شيخًا عارف المسالك ** يقيه في طريقه المهالك يذكره الله إذا رآه ** ويوصل العبد إلى مولاه ورأيت الطرق المنتشرة في بلادنا قسمين: 1 ـ قسم ينتمي إليه العلماء وعلية القوم. 2 ـ وقسم ينتمي إليه السوقة وعامة الناس. فمالت نفسي إلى القسم الأول، وسمعت أبي وهو من علماء بلدنا مرارًا يقول: لولا أن الطريقة التجانية تمنع صاحبها من زيارة قبور الأولياء والاستمداد منهم وطلب الحاجات إلا قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والصحابة، وإلا قبر الشيخ التجاني، وقبور من ينتمي إلى طريقته من الأولياء، قال أبي: لولا ذلك لأخذت ورد الطريقة التجانية، لأني لا أستطيع أن أترك زيارة جدنا عبد القادر بن هلال، وجدنا كان مشهورًا بالصلاح وله قبر يزار وهو معدود من جملة الأولياء في ناحية الغرفة من القسم الشرقي الجنوبي في بلاد المغرب. والطريقة التجانية، والدرقاوية، والكتانية، وإن كان أهلها في بلادنا قليلًا، تؤلف القسم الأول، فاشتاقت نفسي إلى أخذ ورد الطريقة التجانية وأنا قد ناهزت البلوغ فذهبت إلى المقدم وقلت له: يا سيدي أريد منك أن تعطيني ورد الطريقة التجانية، ففرح كثيرًا، وقال لي: تأخذ الورد على صغر سنك؟ قلت: نعم، فقال: بخ بخ أفلحت ونجحت، فأعطاني الورد وهو: ذكر لا إله إلا الله مائة مرة، والاستغفار مائة مرة، والصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأي صيغة مائة مرة، لكن صيغة الفاتح لما أغلق هي أفضل الصيغ،

وسيأتي إن شاء الله ذكر فضلها (الفضل المزعوم عندهم) في هذا الكتاب بعون الله وتوفيقه، وأعطاني كذلك الوظيفة وهي أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ثلاثين مرة، وصلاة الفاتح لما أغلق خمسين مرة، ولا إله إلا الله مائة مرة، وجوهره الكمال وهي: اللهم صل وسلم على عين الرحمة الربانية. . الخ، وسيأتي ذكر ألفاظها اثنتي عشر مرة، وهذه الصلاة لا تذكر إلا بطهارة مائية، فمن كان فرضه التيمم فعليه أن يذكر بدلها صلاة الفاتح عشرين مرة، قال: وإنما اشترطت الطهارة المائية على ذاكرها لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والخلفاء الراشدين يحضرون مجلس كل من يذكرها ولا يزالون معه ما دام يذكرها. ويجب ذكر الورد مرة في الصباح ومرة في المساء بطهارة تامة كما يشترط في الصلاة، ويكون الذاكر جالسًا كجلسة التشهد على الأفضل مغمضًا عينيه مستحضرًا صورة الشيخ أحمد التجاني وهو رجل أبيض مشرب بحمرة ذو لحية بيضاء، ويتصور في قلبه أن عمودًا من النور يخرج من قلب الشيخ ويدخل في قلب المريد. أما الوظيفة فيجب أن تذكر جماعة بصوت واحد، إن كان للمريد إخوان في بلده، فإن لم يكن له إخوان تجانيون في بلاده جاز له أن يذكرها وحده مرة في كل يوم. وأخبرني المقدم الشيخ عبد الكريم المنصوري ببعض فضائل هذا الورد وسأذكرها فيما بعد إن شاء الله واستمررت على ذكر الورد والوظيفة بإخلاص ملتزمًا الشروط مدة تسع سنين، وهناك ذكر آخر يكون يوم الجمعة متصلًا بغروب الشمس وهو: لا إله إلا الله ألف مرة، والأفضل أن يكون معه سماع قبله أو بعده، وهو إنشاد شيء من الشعر بالغناء والترنم جماعة ثم يقولون جميعًا: الله حي، والمنشد ينشدهم وهم قيام حتى يخلص عند تواجدهم إلى لفظ آه، آه، آه، ويسمون هذه الحالة العمارة، وقد تركوها منذ زمان طويل لأن أبناء الشيخ التجاني لا يستعملون هذه العمارة، وهم يأتون من الجزائر إلى المغرب وقد أشاروا على المغاربة أن يتركوا العمارة لأنهم لا يستحسنونها، ولكن في كتب الطريقة أنها فعلت أمام الشيخ أحمد التجاني وبرضاه وإقراره.

وكنت كلما أصابتني مصيبة أستغيث بالشيخ فلا يغيثني، فمن ذلك أني كنت في الجزائر مسافرًا من ناحية (بركنت) بقرب حدود المغرب إلى (المشرية) ، وكان لي رفيق له جمل فعلقه وأوصاني بحراسته وتركني في خيمة وقلنا فيها من خيام أهل البادية، فانحل عقال الجمل وانطلق في البرية فتبعته فأخذ يستهزئ بي، وذلك أنه يبقى وقفًا إلى أن أكاد أضع يدي على عنقه ثم يجفل مرج واحدة ويجري مسافة طويلة ثم يقف ينتظرني إلى أن أكاد أقبضه ثم يهرب مرة أخرى وذلك في نحر الظهيرة وشدة الحر، فقلت في نفسي: هذا وقت الاستغاثة بالشيخ فتضرعت إليه وبالغت في الاستغاثة أن يمكنني في قبض الجمل وإناخته فلم يستجب، فعدت على نفسي باللوم واتهمتها بعدم الإخلاص والتقصير في خدمة الطريقة ولم أتهم الشيخ البتة بعجز عن قضاء حاجتي، ومع أن شيوخ الطريقة يوصون المريد أن لا يطالع شيئًا من كتب التصوف إلا كتب الطريقة التجانية وقع في يدي مجلد من كتاب (الإحياء) للغزالي فطالعته فأثر في نفسي واجتهدت في العبادة والتزمت قيام الليل في شدة البرد، فبينما أن ذات ليلة أصلي قيام الليل أمام خيمتي الصغيرة التي كنت جالسًا فيها يكاد رأسي يمس سقفها إذ رأيت غمامًا أبيض سد الأفق كالجبل المرتفع من الأرض إلى السماء وأخذ ذلك الغمام يدنو مني آتيًا من جهة الشرق ـ وهي قبلة المصلي في المغرب والجزائر ـ حتى وقف بعيدًا مني وخرج منه شخص وتقدم حتى قرب مني ثم شرع يصلي بصلاتي مؤتمًا بي، وثيابه تشبه ثياب جارية بنت خمس عشرة سنة، ولم أستطع أن أميز وجهه بسبب الظلام. ولما شرع يصلي معي كنت أقرأ في سورة ألم السجدة ففزعت وخفت خوفًا شديدًا، فخرجت منها إلى سورة أخرى أظنها سورة سبأ، ولم أستطع قراءة القرآن مع شدة حفظي له بسبب الرعب الذي أصابني، فتركت السور الطوال وأخذت أقرأ بالسور القصار التي لا تحتاج قراءاتها إلى رباطة جأش واستحضار فكر. فصلى معي ست ركعات، ولم أرد أن أكلمه، لأن كتب الطريقة توصي المريد أن لا يشتغل بشيء مما يعرض له في سلوكه حتى يصل إلى الله، وتنكشف له الحجب فيشاهد العرش والفرش، ولا يبقى شيء من المغيبات خافيًا عليه، ولما طال علي زمان الاضطراب دعوت الله في سجود الركعة

السادسة فقلت: يا رب إن كان في كلام هذا الشخص خير فاجعله هو يكلمني، وإن لم يكن في كلامه خير فاصرفه عني، فلما سلمت من التشهد بعد الركعة السادسة سلم هو أيضًا، ولم أسمع له صوتًا ولكني رأيته التفت عند السلام إلى جهة اليمين كما يفعل المصلي المنفرد على مذهب المالكية، فإنه يسلم مرة واحدة عن يمينه، السلام عليكم دون أن يضيف إليها رحمة الله وبركاته، وإن كان مؤتمًا بإمام يسلم ثلاث تسليمات إن كان بيساره مصل تسليمة عن يمينه وهي تسليمة التحليل وتسليمة أمامه للإمام، وتسليمة ثالثة عن شماله للمصلي الذي يجلس عن شماله وقد ثبت في الحديث الذي رواه أبو داود وصححه الحافظ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهذا هو الذي ينبغي لكل مصل أن يعتمد عليه سواء أكان إمامًا أو مأمومًا أو منفردًا. وبعد السلام انصرف ومشى على مهل حتى دخل في الغمام الأبيض الذي كان قائمًا في مكانه الذي كان ينتظره، وبعد دخوله في الغمام فورًا أخذ الغمام يتقهقر إلى جهة الشرق حتى اختفى عن بصري وكان في قبيلة (حميان) شيخ شنقيطي صالح ما رأيت مثله في الزهد والورع ومكارم الأخلاق وسأذكره فيما بعد، فسافرت إليه وحكيت له تلك الحادثة فقال لي: يمكن أن يكون ذلك شيطانًا لو كان ملكًا ما أصابك فزع ولا رعب، فظهر لي أن رأيه صواب. وبعد ذلك بزمن طويل أخذت أدرس علم الحديث، فرأيت كتاب (صحيح البخاري) ما وقع للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين جاءه جبريل وهو في غار حراء، فظهر لي أن رأي ذلك الشيخ رحمه الله غير صحيح وبقيت المشكلة بلا حل إلى الآن وكنت حينئذ مشركًا أستغيث بغير الله وأخاف غير الله. ومن هذا تعلم أن ظهور الخوارق وما في عالم الغيب ليس دليلًا على صلاح ما ظهرت له تلك الخوارق ولا على ولايته لله البتة فإن كل مرتاض رياضة روحية تظهر له الخوارق على أي دين كان وقد سمعنا وقرأنا أن العباد الوثنيين من أهل الهند تقع لهم خوارق عظام.

وبعد ذلك بأيام رأيت في المنام رجلًا نبهني وأشار إلى الأفق فقال لي: انظر فرأيت ثلاثة رجال فقال لي إن الأوسط منهم هو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذهبت إليه فلما وصلت إليه انصرف الرجلان اللذان كانا معه فأخذت يده وقلت يا رسول الله خذ بيدي إلى الله فقال لي اقرأ العلم ففكرت وعلمت أني في بلاد الجزائر وكان الفرنسيون مسؤولين عليها وكان فقهاء بلدنا يكفرون كل من سافر إلى الجزائر وإذا رجع من سفره يأمرونه بالاغتسال والدخول في الإسلام من جديد ويعقدون له عقدًا جديدًا على زوجته فقلت في نفسي هذا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمرني بطلب العلم، وأنا في بلاد يحكمها النصارى، فإما أن أكون عاصيًا أو كافرًا فكيف يجوز لي أن أطلب فيها العلم. هذا كله وقع في لحظة وأنا لا أزال واقفًا أمام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقلت في بلاد المسلمين أم في بلاد النصارى، فقال لي البلاد كلها لله، فقلت يا رسول الله ادع الله أن يختم لي بالإيمان فرفع اصبعه السبابة إلى السماء وقال لي عند الله. وبعدما خرجت من الطريقة التجانية على أثر المناظرة التي سأذكرها فيما بعد إن شاء الله بزمان رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرة أخرى في المنام على صورة تخالف الصورة التي رأيته عليها في المرة المذكورة، ففي الأولى كان طويلًا أبيض نحيفًا مشربًا بحمرة، لحيته بيضاء، أما في هذه المرة فكان ربعة من الرجال إلى الطول أقرب ولم يكن نحيفًا، ولحيته سوداء، وبياض وجهه وحمرته أقرب إلى ألوان العرب من المرة الأولى، وكانت رؤيتي له في فلاة من الأرض وكنت بعدما خرجت من الطريقة التجانية توسوس نفسي أحيانًا بما في كتاب جواهر المعاني مما ينسب إلى الشيخ التجاني أنه قال: (من ترك ورده وأخذ وردنا وتمسك بطريقتنا هذه الأحمدية المحمدية الإبراهيمية الحنفية التجانية فلا خوف عليه من الله ولا من رسوله ولا من شيخه أيًا كان من الأحياء أو من الأموات أما من أخذ وردنا وتركه فإنه يحل به البلاء وأخرى ولا يموت إلا كافرًا قطعًا وبذلك أخبرني سيد الوجود ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقظة ومنامًا) وقال لي سيد الوجود ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقراؤك فقرائي وتلاميذك تلاميذي وأنا مربيهم. وسيأتي من هذه

سبب خروجي من الطريقة التجانية

الأخبار وأمثالها إن شاء الله كثير في ذكر فضائل الأوراد والأصحاب فكنت أدفع هذا الوسواس بأدلة الكتاب والسنة، وأرجم شيطانه بأحجارها فيخنس ثم يخسأ ويدبر فأرًا منهزمًا فلما رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذه المرة خطر ببالي ذلك فعزمت على أن أبدأ الكلام مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن أسأله أن يدعو الله لي أن يختم لي بالإيمان، وأظن القارئ لم ينس أني سألته في المرة الأولى فلم يدع لي ولكنه رفع إصبعه السبابة إلى السماء وقال عند الله، فقلت يا رسول الله، ادع الله أن يختم لي بالإيمان، فقال لي ادع أنت وأنا أؤمن على دعائك، فرفعت يدي وقلت اللهم اختم لي بالإيمان، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ آمين وكان رافعًا يديه فزال عني ذلك الوسواس ولكني لم آمن مكر الله تعالى فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، والرؤيا تبشر ولا تغر، وبين هذه الرؤيا التي دعا لي فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يختم الله لي بالإيمان بتأمينه على دعائي والرؤيا التي قدمت ذكرها ولم يدع لي فيها، عشرون سنة، وتأولت اختلاف الصورة وعدم الدعاء في الرؤيا الأولى والدعاء في الرؤيا الثانية بما كنت عليه من الشرك في العبادة وبما صرت إليه من توحيد الله تعالى واتباع سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والله أعلم. سبب خروجي من الطريقة التجانية لقد كنت في غمرة عظيمة، وضلال مبين، وكنت أرى خروجي من الطريقة التجانية كالخروج من الإسلام. ولم يكن يخطر لي ببال أن أتزحزح عنها قيد شعرة، وكان الشيخ عبد الحي الكتاني عدوًا للطريقة التجانية لأنه كان شيخًا رسميًا للطريقة الكتانية، وإنما قلت رسميًا لأن أهل (سلا) أعني الكتانيين أنصار الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني، مؤسس الطريقة الكتانية، لا يعترفون به أي بالشيخ عبد الحي ويقولون إن الاستعمار الفرنسي هو الذي فرضه على الكتانيين فرضًا، والذي حدثني بذلك هو العالم الأديب النبيل الشيخ عبد الله بن سعيد السلوي فإنه كان حامل لواء نصرة الشيخ محمد

بن عبد الكبير الكتاني، وكان يعادي أخاه عبد الحي عداوة شديدة ويرميه بالعظائم والكبائر التي لا يسوغ ذكرها هنا والاستطراد بذكر أسباب العداوة بين الشيخين الكتانيين الأخوين يخرج بنا عن الموضوع، أقول مر بنا الشيخ عبد الحي في (وجدة) وأنا عند العالم الأديب الشاعر المتفنن في علوم كثيرة الشيخ أحمد سكيرج، قاضي القضاة بناحية (وجدة) ، معلمًا لولده الأديب السيد عبد الكريم وابن أخيه السيد عبد السلام، كنت أعلمهما الأدب العربي بدعوة من الشيخ أحمد سكيرج، فمدحت عبد الحي بقصيدة ضاعت مني ولا أذكر شيئًا منها، ولكنه أعجب بها أيما إعجاب، حتى قال لي عاهدني أنك إذا قدمت (فاسًا) تنزل عندي ضيفًا فعاهدته على ذلك. ففي ربيع الأول من سنة أربعين من هذا القرن الهجري سافرت إلى فاس ونزلت عنده. وولد له في تلك الأيام سماه عبد الأحد فالتمس مني نظم أبيات في التهنئة وتاريخ مولده فنظمتها ولا أذكر منها شيئًا، وفي اليوم السابع من مولده عمل مأدبة عظيمة دعا لها خلقًا كثيرًا وبعد ما أكلوا وشربوا قاموا (للعمارة) (ذكر بالرقص والتمايل) التي تقدم ذكرها ودعوني أشاركهم في باطلهم فامتنعت لأن من شروط التجاني المخلص أن لا يذكر مع طريقة أخرى ذكرهم وأن لا يرقص معهم. وفي كتاب البغية للشيخ العربي ابن السايح وهو شرح المنية للتجاني ابن بابا الشنقيطي حكاية في وعيد شديد لمن يشارك أصحاب الطرائق الأخرى في أورادهم وأذكارهم وحاصلها أن شخصًا تجانيًا ذهب إلى زاوية طريقة أخرى لغرض دنيوي فاستحى أن يبقى منفردًا عنه وهم يذكرون وظيفتهم فشاركهم في الذكر فلما فتح فاه ليذكر معهم أصابه الشلل في فكيه فبقي فاه مفغورًا ولم يستطع سده حتى مات. ولكن الجماعة ألحوا علي وجروني جرًا حتى أوقفوني في حلقتهم فرأيت أفواهًا مفغورة من وجوه بعضها فيه لحية سوداء، وبعضها فيه لحيةخطها الشيب، وبعضها أمرد ليس له لحية من الغلمان الذين لم يلتحوا بعد، أما حلق اللحى فلم يكن موجودًا في ذلك الزمن إلا عند الفرنسيين المستعمرين وقليل جدًا من حواشيهم وسمعت أصواتًا تنبعث من

تلك الأفواه ليس لها معنى في أي لغة بعضها آآآ وبعضها آه آه آه، وبعضها أحن أح أح فاستنكرت تلك الهيئة وقلت في نفسي إن الله لا يرضى بهذه الحالة أن تكون عبادة له لبشاعتها ثم ندمت على ذلك ندامة الكسعي أو الفرزدق حين طلق نوار فقال: ندمت ندامة الكسعي لما ** غدت مني مطلقة نوار وكانت جنتي فخرجت منها ** كآدم حين أخرجه الضرار وقلت في نفسي كيف يسوغ لي أن أنكر شيئًا حضر مثله خاتم الأولياء القطب سيدي أحمد التجاني فتبت من ذلك الخاطر ولكن جاءني امتحان آخر وذلك أن الشيخ عبد الحي الكتاني قال لي منتقدًا: إن الطريقة التجانية مبنية على شفا جرف، وأنه لا ينبغي لعاقل أن يتمسك بها فقلت له: (والطريقة الكتانية التي أنت شيخها) ؟ فقال لي كل الطرائق باطلة، وإنما هي صناعة للاحتيال على أكل أموال الناس بالباطل وتسخيرهم واستعبادهم، فقلت إذن أنت تستحل أموال الناس بالباطل وتسخرهم وتستعبدهم، قال: أنا لم أؤسس الطريقة وإنما أسسها غيري، وهذه الأموال التي آخذها منهم أنفقتها في مصالح لا ينفقونها هم فيها. ثم قلت له: ومن الذي حملك على الطعن في الطرائق وما دليلك على بطلانها؟ قال لي: ادعاء كل من الشيخين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحضر بذاته وظيفة أصحابه حين يذكرونها وهذه قلة حياء منهما، وعدم تعظيم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كيف تكلفونه أن يخرج من قبره ويقطع هذه المسافات من البر والبحر ليجلس أمامكم فأنتم تبسطون له ثوبًا أبيض ليجلس عليه وأصحابنا يقومون ويذهبون إلى الباب ليتلقوه، فقلت: إذًا أنت لا تعتقد صحة طريقك؟ فقال: لا أعتقدها أبدًا وقد أخبرتك أنها صناعة لأكل أموال الناس بالباطل. وأزيدك على ذلك اعتماد طريقتكم على كتاب (جواهر المعاني) الذي تزعمون أن شيخكم أحمد التجاني أملاه على علي حرازم نصفه مسروق، فأحد المجلدين وهو الأول مسروق بالحرف وهو تأليف لمحمد عبد الله المدفون بكذا وكذا بفاس، وسمى ناحية نسيتها الآن، قال وأنا قابلت الكتابين من أولهما إلى آخرهما فوجدت

المجلد الأول من (جواهر المعاني) مسروقًا كله من كلام الشيخ المذكور ففارقته. وبعد أيام كنت جالسًا عند الشيخ عمر بن الخياط بائع الكتب بقرب القرويين فقال لي: هل اجتمعت بالأستاذ الشيخ محمد بن العربي العلوي، فقلت: لا، فقال لي: هذا الرجل من أفضل علماء فاس وعنده خزانة كتب لا يوجد مثلها في فاس وأثنى عليه بالعلم والأدب فقلت له أنا لا أجالس هذا الرجل ولا أجتمع به لأنه يبغض الشيخ أحمد التجاني ويطعن في طريقته فقال لي: إن طالب العلم يجب أن يتسع فكره وخلقه لمجالسة جميع الناس وبذلك يتسع علمه وأدبه ولا يجب عليه أن يقلدهم في كل ما يدعون، يأخذ ما صفا ويدع ما كدر، وإن لم تجتمع بهذا الرجل يفوتك علم وأدب كثير فذهبت إليه لأجتمع به، وكان قاضيًا في محكمة فاس الجديدة فنظمت أربعة أبيات لا أحفظ منها إلا شطر البيت الرابع وهو (وهذا مدى قصدي وما أنا مستجد) . . أعني أن غرضي بالاجتماع بك المذاكرة العلمية فهي غاية قصدي وإن اعتبرنا ما موصولة يكون المعنى والذي أستجديه أي أطلبه وإن اعتبرناها نافية تميمية يكون المعنى ولست مستجديًا أي طالبًا مالًا، فلما خرج من المحكمة وأراد أن يركب بغلته التي كانت على باب المحكمة ولجامها بيد خادمه تقدمت إليه وأعطيته الصحيفة التي فيها الأبيات فلما قرأها رحب بي، وقال لطالب كان يرافقني وهو الحاج محمد بن الشيخ الأراري: أنت تعرف بيتنا، فقال: نعم، قال: فأتى به على الساعة التاسعة صباحًا، فخرجت مع الرفيق المذكور من مدرسة الشراطين، وكان يسكن فيها على الساعة الثامنة والنصف، لنصل إلى الشيخ على الساعة التاسعة، وكان ذلك اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، وهو عيد عند المغاربة وكثير من البلدان الإسلامية وفي المغرب طائفة يسمون (العيساويين) أتباع الشيخ بن عيسى المكناسي، وهؤلاء لهم موسم في كل سنة يجتمعون فيه في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول ويأتون من جميع أنحاء المغرب، فيضربون طبولهم ومزاميرهم، ويترنمون بأناشيدهم إلى أن يظهر للناس أنهم أصيبوا بالجنون وحينئذ يفترسون الغنم والدجاج بدون زكاة بل يقطعونه بأظافرهم ويأكلون لحمه نيئًا والدم يسيل منه وقد ملأوا أزقة فاس وهي

ضيقة في ذلك الزمن، وحتى في هذا الزمن، فلم نستطع أن نصل إلى بيت الشيخ إلا بعد مضي ساعتين ونصف من شدة الزحام فلما وصلنا وأخبرنا بوابه ذهب ثم رجع إلينا وقال: إنكما لم تجيئا في الموعد المضروب والشيخ مشغول عنده حكام فرنسيون فارجعا إليه بعد صلاة العصر فرجعنا وقلت لصاحبي: لا نرجع إليه فقد كفانا الله شر لقائه لأنه مبغض لشيخنا وطريقته فالخير في ما اختاره الله تعالى. فقال لي ليس الشيخ بملوم وقد اعتذر بعذر قائم والصواب أن نرجع إليه، فرجعنا إليه بعد العصر، ووجدت عنده من الترحيب والبشاشة والإكرام والتواضع ما لم أجده عند الشيخ الكتاني ولا عند أحد من علماء فاس. وأخذنا في أحاديث أدبية وكان يقوم ويأتي بالكتب ويضعها أمامي. ووجدته كما قال السيد عمر بن الخياط. ولما كادت الشمس تغرب استأذنته في الانصراف فقال لي: أين تذهب، أنت غريب في هذا البلد وهذا المكان معد للضيوف لا نحتاج إليه فامكث، وبت هنا؛ وقبلت دعوته، وبعد أن صلينا المغرب جاء أصحابه، أذكر منهم الشيخ عبد السلام الصرغيني، والشيخ المهدي العلوي، وهو لا يزال في قيد الحياة؛ أما الأول فقد مات فأخذ بعضهم يلعب الشطرنج وهو يراهم ولا ينكر عليهم فقلت في نفسي هذا دليل على أنه من العلماء الذين لا يعملون بعلمهم فهو جدير أن ينكر على أولياء الله ما خصهم الله به من كرامة. ثم تركوا الشطرنج وأخذوا ينتقدون الطريق الكتانية ويستهزئون بها ويسخرون من أهلها وكل منهم يحكي حكاية. فقال الشيخ عندي حكاية هي أعجب وأغرب مما عندكم؛ جاءني شاب كان متمسكًا بالطريقة الكتانية تمسكًا عظيمًا فقال لي: أريد أن أتوب على يدك من الطرائق كلها وتعلمني التمسك بالكتاب والسنة، فقلت له: وما الذي دعاك إلى الخروج من طريقتك التي كنت مغتبطًا بها. فقال لي: إنه أمس شرب الخمر وزنا وترك صلاة العصر والمغرب والعشاء فمر بالزاوية الكتانية وسمع المريدين يرقصون ويصيحون بأصوات عالية والمنشد ينشدهم، وكانت بقية سكر لا تزال مسيطرة عليه، فهم أن

يدخل الزاوية، ويرقص معهم، ولكنه أحجم عن ذلك لأنه جنب ولم يصل شيئًا من الصلوات في ذلك النهار، إلا أن سكره غلب على عقله فدخل الزاوية ووجد الشيخ محمد بن عبد الكبير في صدر الحلقة، والمريدون يرقصون فاشتغل معهم في الرقص، وكان أنشطهم فلما فرغوا من رقصهم دعاه الشيخ وقبله في فمه وقال (رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبلك فاقتديت به) ! قال ولما دعاني خفت خوفًا شديدًا وظننت أنه انكشف له حالي وهو يريد أن يوبخني على ذنوبي فلما قال لي أيقنت أنه كاذب في كل ما يدعيه ويدعو إليه وإلا كيف يرضى عني النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويقبلني في فمي مع تلك الكبائر التي ارتكبتها في ذلك اليوم. قال: فهذا سبب مجيئي إليك لأتوب إلى الله من الطرائق كلها وأتبع طريقة الكتاب والسنة. ولما رأيتهم أنا يعيبون الطريقة الكتانية ويستهزئون بها أصابني خوف شديد وندمت على زيارتي للشيخ فقلت لنفسي هذا الذي كنت أخافه وقد وقعت فيه فكيف الخلاص؟ وذكرت قول التجاني ابن بابا في منيته: ومن يجالس مبغض الشيخ هلك ** وضل في مهامة وفي حلك وشدد النهى لنا الرسول ** في ذاك فلتعمل بما أقول والشيخ قال هو سم يسري ** يحل من فعله في خسر ومعنى ذلك أن الشيخ أحمد التجاني قال قال لي سيد الوجود ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقظة لا منامًا قل لأصحابك لا يجالسوا المبغضين لك فإن ذلك يؤذيني فصممت على أن أخرج من ذلك المجلس. فقمت فقال لي الشيخ إلى أين؟ فقلت: إلى بيت الخلاء، كذبت عليه، فلما وصلت إلى الباب منعني البواب من الخروج، وقال لي: وهل أذن لك الشيخ في الخروج، فقلت: نعم، فقال لي: هذا محال لأنك غريب والقانون الفرنسي يقضي بأن التجول بعد الساعة العاشرة ليلًا فيه خطر، فإنك لا تمشي خطوات حتى يقبضوا عليك وتؤخذ إلى السجن، وتبقى فيه إلى ضحى الغد وحينئذ ينظر في إطلاق سراحك. وقال لي: أنا لا

أفتح لك الباب إلا إذا سمعت الإذن من الشيخ، فقلت له: إذا أرجع. ورجعت وجلست في مكاني، ولم تخفى حالي عن الشيخ فقال لي أراك منقبضًا؛ فما سبب انقباضك؟ فقلت سببه أنكم انتقلت من الطعن في الطريقة الكتانية إلى الطريقة التجانية، وأنا تجاني لا يجوز لي أن أجلس في مجلس أسمع فيه طعن في شيخي وطريقته. فقال لي: لا بأس عليك، أنا أيضًا كنت تجانيًا وخرجت من الطريقة التجانية لما ظهر لي بطلانها، فإن كنت تريد أن تتمسك بهذه الطريقة على جهل وتقليد فلك علي ألا تسمع بعد الآن في مجلس انتقادًا لها أو طعنًا فيها. وإن كنت تريد أن تسلك مسلك أهل العلم فهلم إلى المناظرة، فإن ظهرت علي رجعت إلى الطريقة، وإن ظهرت عليك خرجت منها كما فعلت أنا. فأخذتني النخوة ولم أرض أن أعترف أني أتمسك بها على جهل فقلت قبلت المناظرة. مناظرة حول ادعاء الشيخ التجاني في أنه رأى النبي في اليقظة: قال الشيخ أريد أن أناظرك في مسألة واحدة إن ثبتت ثبتت الطريقة كلها، وإن بطلت بطلت الطريقة كلها، قلت ما هي؟ قال: ادعاء التجاني أنه رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقظة لا منامًا، وأعطاه هذه الطريقة بما فيها من الفضائل فإن ثبتت رؤيته للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقظة وأخذه منه الطريقة فأنت على حق وأنا على باطل والرجوع إلى الحق، وإن بطل ادعاؤه فأنا على حق وأنت على باطل فيجب عليك أن تترك وتتمسك بالحق. ثم قال: تبدأ أنت أو أبدأ أنا؟ فقلت: ابدأ أنت، فقال: عندي أدلة كل واحد منها كاف في إبطال دعوى التجاني. قلت: هات ما عندك وعلي الجواب، فقال: الأول: إن أول خلاف وقع بين الصحابة بعد وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان بسبب الخلافة؛ قالت الأنصار للمهاجرين منا أمير ومنكم أمير، وقال المهاجرون: إن العرب لا تذعن إلا لهذا الحي من قريش. ووقع نزاع شديد بين الفريقين حتى

شغلهم عن دفن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فبقي ثلاثة أيام بلا دفن صلاة الله وسلامه عليه فكيف لم يظهر لأصحابه ويفصل النزاع بينهم ويقول الخليفة فلان فينهي النزاع؟ كيف يترك هذا الأمر العظيم لو كان يكلم أحدًا يقظة بعد موته لكلم أصحابه وأصبح بينهم، وذلك أهم من ظهوره للشيخ التجاني ألف ومائتي سنة، ولماذا ظهر؟ ليقول له أنت من الآمنين، ومن أحبك من الآمنين، ومن أخذ وردك يدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب هو ووالده وأزواجه لا الحفدة، فكيف يترك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الظهور يقظة والكلام لأفضل الناس بعده في أهم الأمور ويظهر لرجل لا يساويهم في الفضل ولا يقاربهم لأمر غير مهم فقلت له: إن الشيخ ـ رضي الله عنه ـ قد أجاب عن هذا الاعتراض في حياته فقال: إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يلقى الخاص للخاص والعام للعام في حياته، أما بعد وفاته فقد انقطع إلقاء العام للعام وبقي إلقاء الخاص للخاص لم ينقطع بوفاته وهذا الذي ألقاه إلى شيخنا من إعطاء الورد والفضائل هو من الخاص للخاص. فقال أنا لا أسلم في أن الشريعة خاصًا وعامًا لأن أحكام الشرع خمسة وهذا الورد وفضائله إن كان من الدين فلا بد أن يدخل في الأحكام الخمسة لأنه عمل أعد الله لعامله ثوابًا؛ فهو إما واجب أو مستحب ولم ينتقل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الرفيق الأعلى حتى بين لأمته جميع الواجبات والمستحبات. وفي صحيح البخاري عن علي بن أبي طالب أنه قيل له هل خصكم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ معشر أهل البيت بشيء فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما خصنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشيء إلا فهمًا يعطاه الرجل في كتاب الله، وإلا ما في هذه الصحيفة ففتحوها فإذا فيها العقل وفكاك الأسير وألا يقتل مسلم بكافر فكيف لا يخص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهل بيته وخلفاءه بشيء ثم يخص رجلًا في آخر الزمان بما يتنافى مع أحكام الكتاب والسنة. فقلت: إن الشيخ عالم بالكتاب والسنة وفي جوابه مقنع لمن أراد أن يقنع. قال احفظ هذا. الثاني: اختلاف أبي بكر مع فاطمة الزهراء ـ رضي الله عنه ـ ما على

الميراث فلا يخفى أن فاطمة طلبت من أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ حقها من ميراث أبيها واحتجت عليه بأن إذا مات هو يرثه أبناؤه، فلماذا يمنعها من ميراث أبيها، فأجابها أبو بكر الصديق بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة. وقد حضر ذلك جماعة من الصحابة فبقيت فاطمة الزهراء مغاضبة لأبي بكر حتى ماتت بعد ستة أشهر بعد وفاة أبيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ. فهذا حبيبان لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه قال: فاطمة بضعة مني يسؤني ما ساءها، أو كما قال عليه الصلاة والسلام وصرح بأن أبا بكر الصديق أحب الناس إليه، وقال ما أحد أمنّ علي في نفس ولا مال من أبي بكر الصديق رواه البخاري. وهذه المغاضبة التي وقعت بين أبي بكر وفاطمة، تسوء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلو كان يظهر لأحد بعد وفاته لغرض من الأغراض لظهر لأبي بكر الصديق وقال له: إني رجعت عما قلته في حياتي فأعطها حقها من الميراث، أو لظهر لفاطمة وقال لها يا ابنتي لا تغضبي على أبي بكر فإنه لم يفعل إلا ما أمرته به فقلت له ليس عندي من الجواب إلا ما سمعت قال احفظ هذا. الثالث: الذي وقع بين طلحة والزبير وعائشة من جهة، وعلي بين أبي طالب من جهة أخرى واشتد النزاع بينهما حتى وقعت حرب الجمل، في البصرة فقتل فيها خلق كثير من الصحابة والتابعين وعقر جمل عائشة فكيف يهون على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سفك هذه الدماء ووقوع هذا الشر بين المسلمين بل بين أخص الناس به، وهو يستطيع أن يحقن هذه الدماء بكلمة واحدة، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى في آخر سورة التوبة برأفته ورحمته بالمؤمنين وأنه يشق عليه كل ما يصيبهم من العنت، وذلك في قوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة: 128] . فقلت له ليس عندي من الجواب إلا ما سمعت وظهوره وكلامه للشيخ التجاني فضل من الله، والله يؤتي فضله من يشاء. قال احفظ هذا وفكر فيه. الرابع: خلاف علي مع الخوارج وقد سفكت فيه دماء كثيرة، ولو ظهر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لرئيس الخوارج وأمره بطاعة إمامه لحقنت تلك الدماء،

فقلت الجواب هو ما سمعت، فقال لي: احفظ هذا وفكر فيه، فإني أرجو أنك بعد التفكير ترجع إلى الحق. الخامس: النزاع الذي وقع بين معاوية وعلي، وقد قتل في الحرب التي وقعت بينهما خلق كثير، منهم عمار بن ياسر، فكيف يترك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الظهور لأفضل الناس بعده وفي ظهوره هذه المصالح المهمة من جمع كلمة المسلمين وإصلاح ذات بينهم وحقن دمائهم، وهو خير المصلحين بقوله تعالى: {وأصلحوا ذات بينكم} [الأنفال: 1] . وقوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} [الحجرات: 10] . ثم يظهر للشيخ التجاني في آخر الزمان لغرض غير مهم وهو في نفسه غير معقول لأنه مضاد لنصوص الكتاب والسنة. فلم يجد عندي جوابًا غير ما تقدم ولكني لم أسلم له فقال فكر في هذه الأدلة وسنتباحث في المجلس الآخر، فعقدنا بعد هذا المجلس سبعة مجالس كل منها كان يستمر من بعد صلاة المغرب إلى ما بعد العشاء بكثير. وحينئذ أيقنت أنني كنت ضلال، ولكن أردت أن أزداد يقينًا فقلت له (من معك من العلماء هنا في المغرب على هذه العقيدة وهي أن مسألة في العقائد أو في الفروع يجب أن نعرضها مع قصر باعنا وقلة اطلاعنا على كتاب الله وسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فما ظهر لنا أنه موافق لهما قبلناه وما ظهر لنا أنه مخالف رددناه) فقال لي يوافقني على هذا أكبر مقدم للطريقة التجانية في المغرب كله وهو الشيخ الفاطمي الشرادي، فكدت أكذبه لأن المشهور في جميع أنحاء المغرب أن هذا الرجل من كبار العلماء، وهو أكبر مقدم للطريقة التجانية، ولم أقل أكبر شيخ لأن الشيخ التجاني لا يبيح أن يكون شيخًا للطريقة سواه، لأن تلقيبه بالشيخ قد يفهم منه أنه يجوز لغيره أن يتصرف في أوراد الطريقة وفضائلها وعقائدها وذلك ممنوع لأن الذي أعطى هذه الطريقة هو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقظة لا منامًا كما تقدم والمتلقي الأول لها هو الشيخ أحمد التجاني والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سماه شيخًا لهذه الطريقة، وكل ناشر للطريقة وملقن لأورادها يسمى مقدمًا فقط فالطريقة لها

مع الشيخ الفاطمي الشرادي

مصدر واحد وشيخ واحد ولا يجوز تعدد المصدر ولا تعدد الشيخ حسبما في كتب الطريقة. مع الشيخ الفاطمي الشرادي فتوجهت إلى الشيخ الفاطمي رحمه الله وكان الوقت ضحى وقد أوصاني شيخنا محمد بن العربي ألا أسأله إلا في خلوة فوجدت عنده جماعة فانصرف بعضهم وجاء آخرون وبقيت عنده أنتظر أن أخلو به حتى صلينا الظهر وجاء الغداء فلم أستطع أن أخلو به وكان ثلاثة ممن كانوا في مجلسه حاضرين فقلت له إن الشيخ محمد بن العربي العلوي يقول يجب علينا أن نعرض جميع المسائل أصولًا وفروعًا على كتاب الله وسنة رسوله فما وافق في نظرنا القاصر قبلناه وما خالف رددنا ولو قال به الإمام مالك أو الشيخ أحمد التجاني، فأشار إلي بيده يستمهلني، وكان جلوسي عنده قد طال فانصرفت إلى مدرسة الشراطين حيث كنت نازلًا قبل لقائي بالشيخ العلوي، وفي ذلك اليوم بعد صلاة العشاء جاءني بواب المدرسة وقال لي إن الشيخ الفاطمي الشرادي أرسل إليك عبده وبغلته يطلب أن تزوره فتعجبت كثيرًا لأمرين، أحدهما أن الوقت ليس وقت زيارة، وثانيهما أنه لم تجر العادة أن كبار العلماء الطاعنين في السن، يبعثون الدابة للركوب إلا لمن هو مثلهم في السن والعلم وأنا شاب فركبت البغلة وسار العبد أمامي حتى وصلت إليه وسلمت عليه فرد أحسن رد ورحب بي وقال لي يا ولدي أنا رجل كبير طاعن في السن ليس لي قدرة على القتال، أما سيدي محمد بن العربي العلوي فهو شاب مستعد للقتال وأنت سألتني أمام الناس عن مسألة مهمة لا يسعني أن أكتم جوابها، ولا أستطيع أن أصرح به أمام الناس، فأعلم أن ما قال لك سيدي محمد بن العربي العلوي هو الحق الذي لا شك فيه، وقد أخذت الطريقة القادرية وبقيت فيها زمانًا، ثم أخذت الطريقة الوزانية وبقيت فيها زمانًا، ثم أخذت الطريقة التجانية والتزمتها حتى صرت مقدمًا فيها فلم أجد في هذه الطرائق فائدة، وتركتها كلها ولم يبق عندي من التصوف إلا طلب الشيخ المربي على الكتاب والسنة علمًا وعملًا، ولو وجدته

مع الشيخ عبد العزيز بن إدريس

لصاحبته وصرت تلميذًا له، وأنت تريد أن تسافر إلى الشرق فإن ظفرت بشيخ مرب متخلق بأخلاق الكتاب والسنة علمًا وعملًا فاكتب إلي وأخبرني به حتى أشد الرحال إليه فازددت يقينًا بالنتيجة التي وصلت إليها في مناظرتي مع الشيخ العلوي. ولو كان عندي من العلم مثل ما عندي الآن لقلت له إن ضالتك المنشودة هي أقرب إليك من كل قريب فإن هذا الشيخ الذي تطلبه وتريد أن تشد الرحال إليه ولو بعدت الدار وشط المزار هو أنت نفسك. بشرط أن يكون عندك العزم التام على العمل بالكتاب والسنة وطرح التقليد جانبًا كيفما كان الأمر فجزاهم الله خيرًا وتغمدهما برحمته. مع الشيخ عبد العزيز بن إدريس وبعد ذلك بعشرين سنة اجتمعت مع الشيخ عبد العزيز بن إدريس من علماء تطوان وهو أحد تلامذة الشيخ الفاطمي فذكرت له الحكاية السالفة فقال لي وأنا أيضًا وقع لي ما يشبه هذا فإني بعد إتمام دراستي في جامع القرويين ذهبت إليه وهو أفضل شيوخي فقلت له أيها الشيخ أريد أن أرجع إلى وطني تطوان فأريد أن تزودني بدعائك الصالح وأن تلقنني ورد الطريقة التجانية، فقال لي يا أسفي عليك، أنت تحفظ كتاب الله وقد درست العلوم الإلهية التي تمكنك من فهم كتابه وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يكفك ذلك كله حتى تطلب الهدى في غيره، والطريقة لا شيء فعليك بكتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكشف الله عني بفضله ظلام الشرك والبدعة، وفتح لي باب التوحيد والاتباع فله الحمد والمنة نسأله أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة إنه الهادي إلى الصراط المستقيم (الهدية الهادية من ص7 ـ 21) انتهى منه بلفظه.

شهادة الشيخ عبد الرحمن الوكيل

شهادة الشيخ عبد الرحمن الوكيل الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله محمد خاتم النبيين وسيد ولد آدم أجمعين، وبعد: فإنه كانت لي بالتصوف صلة هي صلة العبر بالمأساة، فهنالك ـ حيث يدرج بي الصبا في مدارجه السحرية، وتستقبل النفس كل صروف الأقدار بالفرحة الطرب، وتستثني الروح ربا الجمال والحب من كل معاني الحياة ـ هنالك تحت شفوف الأسحار الوردية من ليالي القرية الوادعة الحالمة، وفي هيكل عبق بغيوم البخار، جثم على صدره صنم صغير يعبده كثير من شيوخ القرية، هنالك في مطاف هذه الذكريات الولهى: كان يجلس الصبي بين شيوخ تغضضت منهم الجباه، وتهدلت الجفون، ومشى الهرم في أيديهم خفقات حزينة راعشة، وفي أجسادهم الهضمية تحولًا ذابلًا، يتراءون تحت وصوصة السراج الخافت أوهام ضيعته الخيبة، وبقايا آمال عصف بها اليأس. وتتهدج ترانيم الشيوخ تحت السحر ـ نواحًا بينها صوت الصبي ـ بالتراتيل الوثنية، وما زال الصبي يذكر أن صلوات ابن بشيش، ومنظومة الدردير كانتا أحب التراتيل إلى أولئك الشيوخ، وما زال يذكر أن أصوات الشيوخ كانت تشرق بالدموع، وتئن فيها الآهات حين كانوا ينطقون من الأولى: " اللهم انشلني من أوحال التوحيد! ! " ومن الثانية " وجدلي بجمع الجمع منك تفضلًا " يا للصبي الغرير التعس المسكين! ! فما كان يدري أنه بهذه الصلوات المجوسية يطلب أن يكون هو الله هوية وماهية وذاتًا وصفة! ! ما كان يدري ما التوحيد الذي يضرع إلى الله أن ينشله من أوحاله! ! ولا ما جمع الجمع الذي يبتهل إلى الله أن يمن به عليه. ويشب الصبي، فيذهب إلى طنطا ليتعلم، وليتفقه في الدين. وثمة يسمع الكبار من شيوخه يقسمون له، ولصحابه: أن " البدوي " قطب الأقطاب،

يصرف من شئون الكون، ويدبر من أقداره وغيوبه الخفية! ! ويجرؤ الشاب مرة فيسأل خائفًا مرتعدًا: وماذا يفعل الله؟ ! ويهدر الشيخ غضبًا، ويزمجر حنقًا، فيلوذ الشاب بالرعب الصامت، وقد استشعر من سؤاله، وغضب الشيخ، أنه لطخ لسانه بجريمة لم تكتب لها مغفرة! ! ولم لا؟ والشيخ هذا كبير جليل الشأن والخطر، وما كان يستطيع الشاب أبدًا أن يفهم أن مثل هذا الخبر الأشيب ـ الذي يسائل عنه الموت ـ يرضى بالكفر، أو يتهوك مع الضلال والكذب. فصدق الشاب شيخه وكذب ما كان يتلو قبل من آيات الله {ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه} [يونس: 3] . ثم يقرأ الشاب في الكتب التي يدرسها: أن الصوفي فلانًا غسلته الملائكة، وأن فلانًا كان يصلي كل أوقاته في الكعبة، في حين كان يسكن جبل قاف، أو جزائر واق الواق! ! وأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مد يده من القبر وسلم على الرفاعي! ! وأن فلانًا عذبته الملائكة، لأنه حفظ القرآن والسنة وعمل بما فيهما، ولكنه لم يحفظ كتاب الجوهرة في التوحيد! ! ! وأن مذهبنا في الفقه هو الحق وحده، لأنه أحاديث حذفت أسانيدها! ! ويصدق الشاب بكل هذا، ويؤمن، وما كان يمكن إلا أن يفعل هذا. إذ قال في نفسه: لو لم تكن هذه الكتب حقًا، ما درست في الأزهر، ولا درسها هؤلاء الهرمون من الأحبار ولا أخرجتها المطبعة! ! وهل كان يمكن أن يسأل نفسه مثلًا مثل هذا السؤال: أين من الحق البين من كتاب الله، هذا الباطل العربيد في هذه الكتب؟ ! لا، فلقد جيء به إلى طنطا ليتفقه في الدين على هؤلاء الشيوخ، وهاهو فقه الدين يسمعه من الشيوخ، ويقرؤه في الكتب، وحسبه هذا! ! وتموج طنطا بالوفود، وتعج بالآمين بين الطاغوت الأكبر من كل حدب، ويجلس الشاب في حلقة يذكر فيها الصوفية اسم الله بخنات الأنوف، ورجات الأرداف ووثنية الدفوف، وثمة يسمع منشد القوم يصيح راقصًا: " ولي صنم في الدير أعبد ذاته " فتتعالى أصوات الدراويش طروبة الصيحات: " إيوه كده اكفر، اكفر يا مربي " ويرى الشاب على وجوه القوم فرحًا وثنيًا راقص الإثم

بما سمعوا من المنشد الكافر، فيسأل شيخنا ممن وفدوا من أهل قريته: يا سيدي الشيخ، ما ذلك الصنم المعبود؟ ! فيزم الشيخ شفتيه، ثم يجود على الشاب الواله الحيرة بقوله: " انته لسه صغير "! ! ويسكت الشاب قليلًا، ولكن الكفر يضج في النعيق، فيسمع المنشد يقيء " سلكت طريق الدير في الأبدية " " وما الكلب والخنزير إلا إلهنا " ويطوي الشاب نفسه على فزع وعجب يسائل الذهول: ما الكلب؟ ما الخنزير؟ ما الدير وأنى للذهول بأن يجيب؟ ! ولقد خشي أن يسأل أحد الشيوخ ما دام قد قيل له: " انته لسه صغير " ثم إنه رأى بعض شيوخه الكبار يطوفون بهذه الحمآت، يشربون " القرفة " ويهنئون الأبدال والأنجاب والأوتاد بمولد القطب الغوث سيدهم السيد البدوي! ! ! وتكفن دورات الفلك من عمر الشاب سنوات، فيصبح طالبًا في كلية أصول الدين فيدرس أوسع كتب التوحيد ـ هكذا تسمى ـ فيعي منها كل شيء إلا حقيقة التوحيد، بل ما زادته دراستها إلا قلقًا حزينًا، وحيرة مسكينة. ويجلس الشاب ذات يوم هو وصديق من أصدقائه مع شيخ صوفي أمي. فيسأله عن معاني بعض تهاويل ابن عطاء السكندري " إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب، مع إقامة الله إياك في التجريد، انحطاط على الهمة العلية ". ويحار الطالبان، ولا يدريان بم يجيبان هذا الأمي عن هذه الحكم المزعومة ـ وقد عرفا بعد أنها تهدف إلى تقرير أسطورة رفع التكليف ـ فتمتلئ نفساهما بالغم المهموم، إذ رسبا في امتحان عقده لهما أمي صوفي؟ ! ويدور الزمن فيصبح الشاب طالبًا في شعبة التوحيد والفلسفة، ويدرس فيها التصوف، ويقرأ في كتاب صنفه أستاذ من أساتذته، رأي ابن تيمية في ابن عربي. فتسكن نفس الشاب قليلًا إلى ابن تيمية، وكان قبل يراه ضالًا مضلًا. فهذا البهتان الأثيم نعته الدردير! ! وكانت عنده لابن تيمية كتب، بيد أنه كان يرهب مطالعتها، خشية أن يرتاب في الأولياء، كما قال له بعض شيوخه من قبل! !

وخشية أن يضل ضلال ابن تيمية. . ويقرأ الشاب، ويستغرق في القراءة، ثم ينعم القدر على الشاب يصبح مشرق يهتك عنه حجب هذا الليل، فيقر به سراه المضني عند جماعة أنصار السنة المحمدية، فكأنما لقي بها الواحدة الندية السلسبيل بعد دوي ملتهب الهجير. لقد دعته الجماعة على لسان منشئها فضيلة والدنا الروحي الشيخ محمد حامد الفقي إلى تدبر الحق والهدى من الكتاب والسنة، فيقرأ الشباب ويتدبر ما يقرأ وثمة رويدًا رويدًا ترتفع الغشاوة عن عينيه، فيبهره النور السماوي، وعلى أشعته الهادية يرى الحقائق، ويبصر القيم. يرى النور نورًا والإيمان إيمانًا، والحق حقًا، والضلال ضلالًا، وكان قبل ـ بسحر التصوف ـ يرى في الشيء عين نقيضه، فيؤمن بالشرك توحيدًا، وبالكفر إيمانًا، وبالمادية الصماء من الوثنية: روحانية عليا، ويدرك الشاب ـ وهو لا يكاد يصدق ـ أن التصوف دين الوثنية والمجوسية، دين ينسب الربوبية والإلهية إلى كل زنديق، وكل مجرم، وكل جريمة! ! دين يرى في إبليس، وفرعون، وعجل السامري، وأوثان الجاهلي، يرى في كل هؤلاء الذين لعنتهم كتب الله، بل لعنتهم حتى العقول، يرى فيهم أربابًا وآلهة تهيمن على القدر في أزله وأبده، دين يرى في كل شيء إلهًا يجب أن يعبد. وربًا يخلق ما يشاء ويختار، دين يقرر أن حقيقة التوحيد الأسمى: هي الإيمان بأن الله ـ سبحانه ـ عين كل شيء. دين لا تجد فيه فيصلًا بين القيم، ولا بين حقائق الأشياء، ولا بين الضد وضده، ولا بين النقيض ونقيضه. دين يقول عن الجيف ـ يتأذى منها النتن، وعن الميكروبات تفتك سمومها بالبشرية ـ إنها هي الإلها، وسبحان ربنا! ! دين يقول عن القاتل، عن السارق، عن الباغي، عن كل وغد تسفل في دناءته، عن كل طاغية بغى في تجبره. يقول عن كل هؤلاء: إنهم عينات الذات الإلهية! ! فأي إله هذا الذي يقتل، ويبغي، ويفسد في الأرض؟ أي إله هذا الذي يدب تحت جنح الليل تتلظى في عينيه، وعلى يديه الإثم

والجريمة الضارية؟ أي إله هذا الذي يلعق دم الضحايا يبرد به غلته، ويخضب بدماء الأعراض التي سفحها يديه الظالمتين؟ أي إله هذا الذي مشى في أيام التاريخ ولياليه بطشًا وظلمًا وجبروتًا يدمر، ويخرب، ويصنع القصة الأولى لكل جريمة خاتلة؟ ! ومن يكون إلا إله الصوفية الذي ابتدع أسطورته سلف ابن عربي، وابن الفارض وغيرهما! ! ؟ . أيتها البشرية التي تهاب القانون، أو ترهب السماء! ! ها هو دين التصوف يناديك ملحًا ملهوف النداء: أن تنحدري معه إلى حيث تترعين من كل خمرة مخمورة، وتتلطخين بكل فسق، وتتمرغين في أوحال الإثم! ! وأنتم أيها العاكفون في المساجد؛ لا حاجة بكم إلى الصلاة والصوم والحج والزكاة، بل لا حاجة بكم إلى رب تحبونه وتخافونه، وترجونه، ولا إله تعبدونه. لم هذا الكدح والجهاد والنصب والعبودية؟ لم هذا وكل فرد منكم في حقيقته هو الرب، وهو الإله كما يزعم الصوفية! ! ؟ ألا فأطلقوا غرائزكم الحبيسة، ودعوها تعش في الغاب والدخل وحوشًا ضارية، وأفاعي فتاكة! وأنتم يا بني الشرق! دعوا المستعمر الغاصب يسومكم الخسف والهوان، ويلطخ شرفكم بالضعة، وعزتكم بالذل الهين، ويهيمن على مصائركم بما يهوى بطشه الباغي، وبغية الظلوم. دعوه يهتك ما تحمون من أعراض، ويدمر ما تشيدون من معال، وينسف كل ما أسستم من أمجاد، ثم الثموا ضارعين خناجره وهي تمزق منكم الحشاشات، واهتفوا لسياطه، وهي تشوي منكم ـ أذلاء ـ الجلود. فما ذلك المستعمر عند الصوفية سوى ربهم، تعين في صورة مستعمر. دعوا المواخير مفتحة الأبواب، ممهدة الفجاج. ومباءات البغاء تفتح ذراعيها الملهوفتين لكل شريد من ذئاب البشر، وحانات الخمور تطغى على قدسية المساجد، وأقيموا ذهبي الهياكل للأصنام، وارفعوا فوق الذرى منتن الجيف، ثم خروا ساجدين لها، مسبحين باسم ابن عربي وأسلافه وأخلاقه فقد أباح لكم أين تعبد الجيفة، وأن تتوسلوا إلى عبادتها بالجريمة! !

ذلكم هو دين التصوف في وسائله وغاياته وتلك هي روحانيته العليا! ! . ألا فاسمعوها غير هيابة ولا وجلة، واصغوا إلى هتاف الحق يهدر بالحق من أعماق الروح: إن التصوف أدنأ وألأم كيد ابتدعه الشيطان ليسخر معه عباد الله في حربه لله، ولرسله، إنه قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع كل عدو صوفي، العداوة للدين الحق، فتش فيه تجد برهمية، وبوذية، وزرادشتية، ومانوية وديصانية، تجد أفلوطينية، وغنوصية، تجد يهودية ونصرانية، ووثنية جاهلية، تجد فيه كل ما ابتدعه الشيطان من كفر، منذ وقف في جرأة الصوفية يتحدى الله، ويقسم بعزته أنه الذي سيضل غير المخلصين من عباده. تجد فيه كل هذا الكفر الشيطاني، وقد جعل منه الشيطان كفرًا جديدًا مكحول الإثم متبرج الغواية، متقتل الفتون، ثم سماه للمسلمين: (تصوفًا) وزعم لهم ـ وأيده في زعمه القدامية والمحدثون من الأحبار والرهبان ـ أنه يمثل أقدس المظاهر الروحية العليا في الإسلام! ! أقولها عن بينة من كتاب الله، وسنة خير المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وبعون من الله، سأظل أقولها، لعلي أعين الفريسة التعسة على أن تنجو من أنياب هذا الوحش الملثم بوشاح الدعة الحانية العطوف. ولكن الصوفية سودًا وبيضًا، خضرًا وحمرًا، سلوهم: ما ردكم على هذا الصوت الهادر من أعماق البحر؟ سيقولون ما قالت وثنية عاد (إن نراك إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) وآلهتهم هي قباب أضرحة الموتى وأعتابها! ! دمغناهم بالحق، فراحوا يعوون عواء اللص الحذر، وقع فجأة في قبضة الحارس، وجأروا بالشكوى الذليلة إلى النيابة، فلم تر النيابة فيمن يمسك بالبريء إلا مجرمًا، وشكوا إلى رئيس حكومة سابق، وختموا الشكاة بهذه الضراعة الذليلة: " والله نسأل لمقامكم الرفيع الخير والسؤدد في ظل حامي الدين حضرة صاحب

الجلالة المعظم صان عرشه، وأيد حكومته الرشيدة وألهمها التوفيق " (قدموا هذه الشكوى بتاريخ 4 أغسطس سنة 1951م) ، فلم يرى الرئيس السابق فيمن يثرم أنياب الرقطاء مجرمًا. وطاح الحق ببغي إلههم وملاذهم حامي دينهم، كما كانوا يلقبونه. وما زلنا ـ بعون من اللهنستلهمه ـ بكتاب الله نتحداهم، وبسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نحاججهم، والله على كل شيء شهيد، وهو حسبنا ونعم الوكيل. سيقول الناعمون ـ من ذوي الألسنة التي استمرأت كلمات الذل والعبودية، وليونة النفاق، وممن يتملقون الجماهير على حساب الحق، ويزعمون أنهم لا يحبون إثارة شقاق، أو جدال، ولا الطعن على أحد ـ سيقول هؤلاء: ما هكذا يكون النقد، ولا هكذا يكون البحث العلمي! ! لا. أيها المدللون الخانعون للأساطير، فإنا لسنا أمام جماعة مسلمة، فنخشى إثارة الشقاق بينهم، ولو خشي الرسول مثل هذا لما لأ قريشًا على حساب الحق، ولكنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أطاع أمر ربه {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} [الحجر: 94] . ووعى قلبه ـ المشرق المؤمن الطهور التقي ـ موعظة ربه فيما قاله له العلي الكبير {ودوا لو تدهن فيدهنون} [القلم: 9] . وفيما قال له {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلًا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئًا قليلًا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرًا} [الإسراء: 76: 80] . فكان سيد ما يستغفر به الرسول الكريم الأمين ربه: (اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) فكيف بنا نحن اليوم الذين أمرنا أن جعل الرسول وحده لنا الأسوة؟ ! ولسنا كذلك أمام فئة تحترم العقل، بل تزدريه وتحقره، ثم تهب في قحة طاغية الجراءة لتشتم الله، وتذود عن إبليس وفرعون وعباد العجل والوثن، داعية المسلمين إلى اتخاذ هؤلاء أربابًا وآلهة، وسيرد على القارئ عشرات

النصوص من نصوص ابن عربي وتائية بن الفارض شهيدة عليهم بما ذكرت، وابن عربي وابن الفارض قطبا التصوف، وإماما الصوفية المعاصرة. فكيف يعاب علينا أننا ندافع عن دين الله، وأنا نقول للشيطان: إنك أنت الشيطان؟ ما نقول عن رجل ـ وهو ابن عربي ـ يفتري أدنأ البهتان على الله، فيصوره في صورة رجل وامرأة يقترفان الإثم، مؤكدًا لأتباعه أن الجسدين الآثمين هما في الحقيقة ذات الله، سبحانه؟ ! وسبحان رب العزة عما يصف الإثم. فلا نلام إذا هتكنا القناع عن وجه هذا الرجل، ليبصره المخدوعون به، ليبصره مسخًا ثانيًا للشيطان؟ إننا في ميدان مستعر الأتون، يقاتلنا فيه عدو دنيء يتراءى أنه الأخ الشقيق الحنو، الندي الرحمة، فلا أقل من أن نحاربه بما يدفع ضره وشره، ويحول بينه وبين الفضاء على الرمق الذابل من عقائد المسلمين، وبين تشتيت الحشاشة الباقية من الجماعة الإسلامية. (مقدمة كتاب تنبيه الغبي إلى كفر ابن عربي من ص3 ـ 10، بقلم عبد الرحمن الوكيل) .

§1/1