الفكرة السنية والحاجة إليها

محمد إسحاق الصديقي

مقدمة

مقدمة ... الفكرة السنية والحاجة إليها للشيخ محمد إسحاق الصديقي عضو مجلس الدعوة والتحقيق الإسلامي- باكستان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين وسيد العالمين، محمد وعلى آله الذين هم أصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: قال الله عز اسمه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ} . (سورة آل عمران/ 19) ، والإسلام هو الانقياد الكامل ظاهرا وباطناً، فالمسلم هو المنقاد الكامل لله تعالى، ولا نعني بالانقياد الكامل الظاهري والباطني إلا أن ينقاد العبد لله تعالى في عقائده وأفكاره، ومنهج فكره وأخلاقه، وأعماله في حياته الفردية وحياته الاجتماعية، وبالجملة: لا تبقى شعبة من شعب حياته سواء كانت فردية أو اجتماعية إلا وهي تابعة ومنقادة لأوامر ربه تعالى ونواهيه، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} . (سورة البقرة) .

أجزاء الحياة الانسانية

أجزاء الحياة الإنسانية: الحياة الإنسانية تنقسم إلى أجزاء كثيرة، وتجزئتها إلى جميع أجزائها خارجة عن موضوعنا، بل يكفي لنا أن نقسمها إلى جزئيها اللذين نراهما في بادئ النظر ولا نحتاج إلى التفكر العميق لمعرفتهما، بل يكفي لشعورهما أدنى التفكر، وهما كما ترى الحياة الفكرية أو التفكر، والحياة العملية أو العمل، فالإنسان يتفكر ويعمل، ولابد له من التفكر كما لابد له من العمل. الإسلام يطالب بانقياد كلا الجزئين في حياتنا: وهذه التجزئة تدلنا إلى أن معنى الآية المذكورة آنفاً أنه يجب أن تدخل حياتنا الفكرية في الإسلام كما تدخل حياتنا العملية فيه، وتنقاد لهداية الله تعالى شأنه في الحياة الفكرية كما تنقاد لها في الحياة العملية. معنى الانقياد في الحياة الفكرية: الانقياد في العمل واضح لا حاجة لتوضيحه، فإن كلنا يعرف أن معناه أن نعمل كما أمرنا الله بوساطة كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم فنأتي بما أمرنا به ونحذر عما نهى عنه. أما الانقياد في الحياة

الفكرية فمعرفته أدق من هذا، لأن له ثلاث شعب وإحدى شعبها معروفة عند الخواص والعوام، وشعبتان منها لا يعرفهما إلا أخص الخواص. أما الشعبة الأولى المعروفة عند الناس فهي: شعبة العقيدة، وحقيقتها أن نعتقد ما أمر الله به أن نعتقده ونؤمن ونستيقن به، فنؤمن بوحدانية الله تعالى مثلا، ونستيقن أن الشرك بأقسامه كلها باطل، وكذلك نؤمن برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبأن القرآن كلام الله وكتابه، وقس على هذا. وأما الشعبة الثانية التي هي غير معروفة عند الناس فهي: شعبة الوجهة الفكرية. وأما الشعبة الثالثة التي هي أيضاً غير معروفة عندهم فهي: شعبة منهاج الفكر أي طريق التفكر. والإسلام يطالبنا بالانقياد في هاتين الشعبتين أيضا كما يطالبنا بانقياد فكرنا وذهننا في الشعبة الأولى، ولابد لحصول الإسلام الكامل من انقياد أفكارنا لأوامر الله تعالى ونواهيه في هاتين الشعبتين أيضاً، وسنلقي الضوء على هاتين الشعبتين مفصلاً في السطور الآتية لدقتهما وخفائهما على أكثر الناس.

الوجهة الفكرية

الوجهة الفكرية: إن الله العليم الحكيم خلق الإنسان وأعطاه القوة الفكرية، وهذا العطاء عام للمؤمن والكافر والتقي والفاجر، فإنه لا فرق بينهما في نفس القوى الذهنية والاستعداد للتفكر والتأمل والنظر، أما ما يميز المؤمن من غير المؤمن من هذه الناحية فأمران: (الوجهة الفكرية) و (المنهاج الفكري) ونقدم تنوير الوجهة الفكرية: الحركة الإرادية لابد لها من هدف ومقصد تسكن المتحرك إذا وصل إليه، فلابد للحركة الفكرية من هدف ومقصد تنتهي إليه ويسكن الذهن إذا وصل إليه، فإرادة مقصد وهدف هي التي نسميها ب (الوجهة الفكرية) . وينقسم الفكر إلى قسمين باعتبار المقصد والهدف: الأول: ما أريد به حصول معلوم جديد فحسب. الثاني: ما قصد به الانتفاع والاستفادة بمعلوم جديد كما قصد به حصوله. فالوجهة الفكرية على نوعين: أي الوجهة إلى العلم للعلم، والوجهة إلى العلم والانتفاع به، مثال الأول: الوجهة الفكرية لعالم الفلكيات المولع بها في كثير من تفكراته في مسائلها فإنه يجتهد ويتفكر ليعلم أن الكواكب كذا مثلا ما شأنه؟ ما هي أحواله الطبيعية؟ هل فيها جبال ووهاد؟ وما هو بعده من الشمس؟ إلى غير ذلك من العلوم التي لا تفيد العالم بها شيئاً إلا أنها تعد فوائد في أنفسها لأنها جديدة لم تكن حاصلة له قبل التفكر، وتتنوع

باختلاف العلوم المقصودة، فإن وجهة فكر الرياضي مثلاً مغايرة لوجهة فكر الطبعي. ومثال الثاني: تفكر الفلكي في نفس تلك الكواكب وفي أحوالها الطبيعية وخواصها لينتفع بهذا العلم كتفكره مثلاً في حركات الشمس والقمر ليعلم عدد السنين والشهور والحساب، ويعرف زمان المد والجزر في البحار، وكذلك تفكر الطبيب في عالم النبات لاستخدامها لإصلاح البدن وإزالة الأمراض، فإن وجهة فكره هي العلم مع الانتفاع به. وتتنوع باختلاف المنفعة المقصودة فإن وجهة فكر الفلكي هي الانتفاع بمعرفة حركة الشمس مثلا في عدد السنين والحساب، وأما الطبيب فغاية علمه بالنبات مثلا هي نفعها للجسم الإنساني من خشية دفع المرض أو تقويته، فوجهة فكره مغايرة لوجهة فكر الفلكي.

منهاج التفكر

منهاج التفكر: معناه طريق التفكر والنظر، ويمتاز أحد المنهاجين من الآخر بامتياز المتفكر فيه والوجهة الفكرية وكيفية حركة الذهن في الحركة الفكرية، وينقسم إلى قسمين كبيرين باعتبار المتفكر فيه والوجهة الفكرية وكيفية حركة الذهن: الأول: تحريك القوة الفكرية في أمر وبكيفية لا دخل لهما في سعادة النفس وشقائها بحسب نفس الأمر أو بحسب زعم المتفكر. الثاني: تحريكها في أمر بكيفية لهما أو لأحدهما دخل في سعادة النفس وشقائها، فههنا منهاجان للتفكر كأنهما نوعان من الفكرة، فالفكرة الأولى نسميه (الفكرة الطبعية) لأن هذا المنهج هو المختار في العلوم الطبعية كالطبعيات والكيمياء والرياضة وأمثالها من العلوم التي لا دخل لها في أنفسها في سعادة النفس وشقائها. الفكرة الثانية نسميها (الفكرة النفسية) لتأثير مسائلها على النفس الإنسانية من حيث السعادة والشقاء، وهي المختارة في علوم التمدن والمعاشرة غالبا كالأخلاقيات والسياسيات والمعاشيات وأمثالها من العلوم التي لها دخل في سعادة النفس وشقائها. الاختلاف بين مناهج التفكر: ثم إنا نجد اختلافاً كثيراً بين المتفكرين في مناهج التفكر، واختيار طريق الفكر والنظر، فهذا شاعر ينظر إلى الورد لألوانه الجميلة، وذاك طبيب يتفكر في نفس ذلك الورد لخواصه النافعة للمرضى، وإن الرياضي يتفكر في القمر في حركته ومطالعه ومغاربه وبعده من أجرام أخرى، كما أن الطبيعي يمعن النظر فيه ليعرف أحواله الطبعية من جباله ووهاده وكثافته وثقله وأمثالها من الأمور الطبعية التي يبحث عنها في الطبعيات، ولا نعني بالاختلاف

في المنهج الاختلاف المنطقي أو الاختلاف في مادة الفكر، وإنما نعني الاختلاف النفسي في الوجهة الفكرية وأمثالها من الاختلاف في العقائد والعواطف والميول النفسية.

مسألة مهمة

مسألة مهمة: إنا إذا نظرنا إلى الاختلاف المذكور قريباً بين المناهج الفكرية واجهتنا مسألة مهمة، وهي أن ديننا الإسلام دين كامل فهل عنده من منهج فكري يمتاز عن سائر المناهج الفكرية؟ وهل يطالبنا الدين الحق اتباعه؟ أم جعل لنا الخيرة في استخدام أي منهاج وطريق للتفكر والنظر حسب ما نختار ونرضى؟ هل يجوز لنا أن نسلك في الفكرة الطبعية مسلك الجاهلين عن الإسلام أو الضالين الذين هم أعداؤه؟ أيباح لنا أن ننظر إلى العالم كما ينظر إليه كافر منكر لقدرة الله تعالى شأنه وعظمته؟ أم يجوز لنا أن نختار في الفكرة النفسية منهاج التفكر الذي يختاره أوربيون أو أمريكيون الذين هم منكرون للدين المبين كافرون به؟ كيف وإن الإسلام هداية كاملة، فلابد لنا أن يعلمنا منهاجا خاصاً للتفكر، لأن المزاج الخاص الذي تمتاز به أمة من أمة يحتاج إلى منهاج فكري خاص بها لحصوله وبقائه. ولا حاجة إلى التصريح بأنه لا يتصور قوام أمة بدون مزاجها المخصوص بها، فإذا فسد مزاجها أو ضعف أصبحت تدحض عن موقفها وتبدل قوامها حتى تصير أمة أخرى أو تحرم مقام الأمة وتصبح زحام أفراد متفرقة لا يصدق عليها اسم الأمة أو القوم، أليس هذا أمارة واضحة وبرهان جلي على أن الأمة المسلمة هداها الإسلام إلى منهاج خاص للتفكر والنظر تمتاز به عن سائر الأمم، وتحفظ بها مزاجها الخاص بها؟ وبعد ما أوصلنا العقل السليم إلى هذه الحقيقة الضرورية لابد لنا أن نسأل القرآن المبين والسنة الكريمة عن وجود ذلك المنهاج المتين وحقيقته فاستمع لما يتلى عليك من الآيات الكريمة: 1- قال الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} . (سورة التغابن) . ومعنى القلب هنا هو العقل وقوة التفكر، والآية تدل على أن الإيمان يهدي العقل واهتداؤه أن يتفكر على منهاج صحيح، ويصل إلى هدف صحيح، ويفوز بمعرفة الحق، فتبين أن الإيمان يهدي العقل والفكر إلى منهاج خاص صحيح، ولابد للمؤمن أن يتبع ذلك المنهاج. 2- وقال تعالى شأنه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} . (سورة الحديد) . فما هذا الميزان؟ واضح أنه هو منهاج التفكر الذي علمه الكتاب والسنة ولابد من اتباعه للوصول إلى (القسط) في كل أمر، لأن الميزان المعد لوزن الأشياء المادية لم ينزل مع الرسل والأنبياء، وليس من فرائض النبوة تعليمه وتعريفه،

نعم تعليم الميزان الفكري يناسب شأن الأنبياء والمرسلين، وحقيقة إنهم رفعوا الحجاب عن وجه هذا الميزان وأمروا متبعيهم باتباعه كما سيتضح إن شاء الله تعالى. 3- وقال الله عز اسمه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (سورة الحديد) . إن معنى النور ما هو ظاهر بنفسه مظهر لغيره، والمراد بالنور ههنا هو نور الإيمان، فالآية تدل على أن المؤمن يمشي بنور الإيمان ويهتدي به، وبديهي أنه لم يرد ممشاه المادي بل المراد هو ممشاه الفكري وأن المؤمن يهتدي وينبغي له أن يهتدي بإيمانه في تفكره ويهدي به غيره، وذلك بأن النور المذكور ينور منهاج تفكره، ويعينه على التميز بين الحق والباطل وبين الصواب والخطأ، إن الآيات المتلوة قريباً تدل دلالة واضحة على أن الإسلام يهدي إلى منهاج خاص للتفكر، ويطالبنا باتباعه ومعرفة هذه الحقيقة توردنا أمام السؤال عن نوعية ذلك المنهاج وكيفيته، فلنشرع في إجابة هذا السؤال وهو المقصود بالبيان في هذه المقالة الوجيزة: قد أسلفنا أن الفكرة على قسمين: الفكرة الطبيعية، والفكرة النفسية، ولهما منهاجان مختلفان لكونهما نوعين مختلفين من التفكر، فينبغي أن نلقي الضوء على كل واحد منهما على حدة بعد الكشف عن وجه القسم.

الفكرة السنية

الفكرة السنية: إن منهاج التفكر الذي نريد تعريفه وبيانه في هذه المقالة الموجزة ليس من مخترعات العقل بل هو ثابت بالكتاب والسنة القولية والعملية وكذلك بتعامل الصحابة - رضي الله عنهم - وبلفظ أخص هو سنة أي طريق مسلوك به ومأمور باتباعه في الإسلام، ولذلك سميناه (بالفكرة السنّية) أضف إلى ذلك أننا إذا تصورنا السنة بمعنى أوسع وعرفناها بكل ما ثبت عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وهو الذي علمنا الكتاب الحكيم، فمعنى الفكرة السنية هي الطريقة التي عرفت بالسنة أي بالقرآن العظيم وحديث النبي الكريم عليه أفضل الصلوات والتسليم كما نسمي بأنفسنا أهل السنة والجماعة أي متبعي القرآن والحديث وجماعة الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - ونثلث التوجيه بالتنبيه على أمر واقعي وهو أن (الفكرة السنّية) خاصة بأهل السنة والجماعة لا تختارها ولا تتبعها جماعة غيرهم، بل لا يريد ولا يتصور اختيارها واتباعها إلا أهل السنة. وبناء على الوجوه المذكورة اخترنا لفظ (الفكرة السنّية) لمنهاج التفكر الذي هدانا إليه ديننا الإسلام، ويمكن أن تسمى ب (الإسلامية) أو (الفكرة الإيمانية) لكنا اتخذنا لفظ

(الفكرة السنّية) مصطلحا في هذه المقالة الوجيزة ونستعمله في السطور الآتية لأنه أحسن الألقاب من ناحية دلالته على حقيقة ثابتة أننا معاشر أهل السنة ممتازون بين سائر الملل باعتبار منهاج التفكر كما نمتاز بينهم لخصائص أخر. ماهية الفكرة السنّية: ما ذكرنا من قبل من الآيات الحكيمة إنما تدل على أن الدين المتين يطالبنا باتباع منهاج مخصوص في تفكرنا ونظرنا وأنه تعالى شأنه قد أخبرنا بوجوده في تعليم دينه، أما ماهية هذا المنهاج أي ماهية (الفكرة السنّية) فلم يعلم بعد، ونريد أن نلقي الضوء عليها في السطور التالية: إن الماهية الكلية للفكرة السنّية قد نورها القرآن المبين وأوضحتها سنّة نبيه الكريم عليه أفضل الصلوات والتسليم، ودل عليه عمل الصحابة أجمعين، أما القرآن الكريم فنتلوا عليك منه أولاً هذه الآية المقدسة: {إن الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِم} (سورة يونس) . قد دلت الآية دلالة واضحة على أن المؤمن لابد له أن يتفكر في ضوء إيمانه ويهتدي به إلى نتائج صحيحة في فكره، ومعناه أن تكون مقدمات فكره ونظره مبنية على إيمانه ومعتقداته الحقة، ولا تكون غير مناسبة لها فضلا عن كونها منافية لجزء من أجزاء الإيمان وكذلك لا تجوز أن تكون غير متعلق به كلية، بل يجب أن تكون مربوطة به ولو برابطة بعيدة دقيقة، فيكون استدلاله واستنتاجه ولوفي أمر دنيوي مبنيا على العقائد الحقة التي هي أجزاء إيمانه ودينه. هذه هي (الفكرة السنّية) التي تهدي إلى علم نافع قطعا في الآخرة أو فيها وفي الدنيا كليهما لمن يتبعها ويختارها في تفكره، كما أنه يحفظه من الضرر في الآخرة والزلل في الدنيا، وبهذا فسره البيضاوي - رحمه الله - حيث قال: "بسبب إيمانهم إلى سلوك السبيل المؤدي إلى الجنة ولإدراك الحقائق". ولاشك أن لفظ (الهداية) عام في الآية لتنوير الطريقتين أي طريقة التفكر وطريقة العمل بل الأولوية للأولى لأنه لابد من تقدم الفكر على العمل، فدلالة الآية على أن المؤمن ينبغي له بل يجب عليه أن يهتدي به في أعماله وأخلاقه واضحة. وثانيا: نتلو عليك الآيات الكريمة من سورة الفاتحة التي نتلوها مرارا في صلواتنا وقد علمنا الله فيها كلمات ندعوه بها ونسأله ما اشتملت عليه تلك الكلمات العظيمة، فقال الله عز اسمه تعليما لنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} .

إن الله تبارك وتعالى يأمرنا في كلامه هذا أن نتبع الصراط المستقيم ولا نزال متبعين له مستقيمين عليه حتى نلقى الله عز وجل، وظاهر أن {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} في الآية شاملة لقسميه كليهما أي صراط الفكر وصراط العمل، فتبين أنه يجب على المسلم أن يتبع في تفكره صراطاً أي منهاجاً هداه الله إليه بالقرآن الحكيم وسنة نبيه الكريم عليه أفضل الصلوات والتسليم، ويلزمه العلم لزوما بينا بأن الإسلام قد هدانا إلى صراط خاص من التفكر فما هو؟ وقد أجابت الآية الثانية عن هذا السؤال بأنه صراط الذين أنعم الله عليهم؛ فعلينا أن نتفكر كما تفكروا، ثم صرح بأن صراط المؤمنين مغاير لصراط المغضوب عليهم، كما أنه مغاير لصراط الضالين، فعلى المسلم أن يحترز عن صراط كل واحد منهما في تفكره وعمله. بقي السؤال عن الذين أنعم الله عليهم، نجد جوابه في سورة النساء فقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} فبالنظر إلى الآيات المنقولة من سورة الفاتحة، وإلى هذه الآيات التي في سورة النساء يجب علينا أن نتبع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام في منهاج الفكر، كما يجب علينا اتباعهم في العمل، بل الاتباع في منهاج التفكر أشد تأكيدا، لأن العمل تابع للفكر، فإن الإنسان يتفكر ثم يعمل ولأن الخطأ في الفكر أشد ضرراً، وهذه الآيات المقدسة تنور الماهية الكلية (للفكرة السنية) وتكشف عن القوانين والأصول التي هي أجزاء هذه الماهية كما نفصلها في الفقرات الآتية المستمدة من الآيات القرآنية المزبورة أصولا: الأول: أن تفكر المؤمن ينبغي بل يجب أن يكون في ضوء إيمانه بالله تعالى وبما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قطعاً، ومعناه أن المقدمات التي يستعين بها للوصول إلى علم جديد لابد أن تكون مناسبة للإيمان ولا تكون مخالفة له، ولا منقطعة عنه انقطاعا كليا بحيث لا يوجد أدنى ربط بينهما، وقد ألقينا الضوء على هذا الأصل من قبل حين فسرنا الآية. الثاني: أنه لابد أن تتحرك فكرتنا على الصراط المستقيم أي على منهاج وطريق اختاره الذين أنعم الله عليهم من عباده، فيكون صراط أفكارنا هو صراط فكر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعن، أما بيان ذلك المنهاج وتعريف الصراط الذي كانوا يختارونه في فكرهم فيجيء في موضعه إن شاء الله تعالى. الثالث: أن الاحتراز عن الصراط الذي تختاره أمة غضب الله عليهم أو تختاره أمة ضالة في تفكرهم واجب، وأن اليهود هم المغضوب عليهم قطعاً، كما أن النصارى هم

ضالون قطعاً، وإن كان مفهوم اللفظين عاماً ولا نريد حصر مصداقيهما فيهما، فالاحتراز عن المنهاج الذي يتبعونه في التفكر والنظر واجب بالآية المزبورة، و (الفكرة السنّية) هي التي تكون مستضيئة من هذه القوانين، وتتحرك على طريق تُنَوِرُهُ القوانين والأصول المذكورة، فالماهية الكلية (للفكرة السنية) هي المركبة منها وهي أجزاؤها.

الفكرة السنية الطبيعية

الفكرة السنية الطبيعية: المراد بها المنهاج الذي يجب أن يتبعه المؤمن إذا تفكر في المسائل التي لا دخل لها بالذات في سعادة النفس وشقائها وظاهر أنها المسائل المتعلقة بعالم الخلق والأمور التكوينية، وإنما نذكر في السطور الآتية الأصول التي علمنا القرآن الحكيم وسنة النبي الكريم عليه أفضل الصلوات والتسليم واتبعتها الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين للتفكر في عالم الخلق والأمور التكوينية واتباع تلك الأصول والضوابط في التفكر في الأمور المذكورة هي التي نسميها ب (الفكرة السنية الطبيعية) . وسيرى القارئ أن لتلك الأصول والضوابط شأنا تمتاز به عن غيرها، فمعرفتها نفسها تغني عن بيان الفرق بينها وبين الفكرة الخاطئة التي يتبعها الذين لا يؤمنون بالله العظيم وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم فلا حاجة إلى صرف القلم في بيان الفرق بينهما، فنعطف عنان القلم إلى بيان الأصول في السطور الآتية، واسأل القرآن الحكيم عن هذا الأمر ستجد جوابه، قال الله تعالى جل شأنه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ، الذين الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . (سورة آل عمران) . إن إيماننا بالقرآن العظيم يقتضي أن نسأله عن هذه المسألة، فسألناه فأجاب، فإن هذه الآيات المقدسة الحكيمة تدل دلالة واضحة على الأصول التي اتباعها واجب على كل مسلم يريد أن يتفكر في عالم الخلق أي الكائنات وهي هذه: الأصل الأول: إن نظر المؤمن إلى الكائنات يجب أن يكون نظر عبد مخلوق لله تعالى، إلى عبد مخلوق لله الخلاق الحكيم، سواء كانت النظرة نظرة الرياضي أو نظرة الطبيعي أو غير ذلك، فلا ينظر المؤمن إلى السموات والأرض والنجوم أو شيء آخر من حيث هي موجودات مع قطع النظر عن موجده، بل ينظر إليها من حيث أنها وجدت بعد العدم بإيجاد الله البديع الحكيم وإبداعه، والإشارة بهذا إلى أن فكرة المؤمن في الكائنات فكرة موضوعية subjective وليست بفكرة معروضية objective واضحة.

الأصل الثاني: إن الاعتقاد بأن الكائنات بأسرها مجموعة لآيات الله تعالى جل شأنه وعلى أن كل جزء منها آية من آياته الباهرة الدالة على ذاته تعالى وعلى صفاته العلية العظيمة، واجب على كل مسلم، وهذه العقيدة واليقين يجب أن يظهر في تفكره فيها، وأنه إذا تفكر فليتفكر فيها من حيث أنها آيات الله تعالى شأنه كما هو ظاهر من الآيات المزبورة، وهذا المنهج من التفكر يميزه عن سائر المناهج الفكرية التي يتبعها الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. الأصل الثالث: ومما يستنبط من الآيات المزبورة هو أن الفكر ينبغي أن يتقدمه ذكر الله تعالى شأنه، وذلك بأن الله تعالى قدم الذكر على التفكر. الأصل الرابع: تدل الآية على أن تفكر المؤمن في عالم الخلق، ينبغي أن يكون لتحصيل نفع من علمه ومعلومه سواء كان المقصود أن ينتفع به نفسه أو أن ينفع غيره، لأن المؤمن يعتقد ويقر بأن الرب الحكيم لم يخلق شيئا باطلا، فيجب أن يبتغي منافع السموات والأرض وأمثالهما من أجزاء الكائنات التي يتفكر فيه ثم يدعو الله أن يهديه إليها. ثم إنه ليس من شأن المؤمن أن يقصد نفعاً دنيوياً فقط، بل ينبغي له أن يقصد نفع الآخرة قصدا أوليا والنفع الدنيوي قصداً ثانوياً، يشير إليه قوله تعالى: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . كما يشير إلى قصد مطلق النفع قوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} . إن الحركة الفكرية في عالم الخلق والتكوين التي تقودها هذه الأصول الأربعة وتقطع مسافتها في ضوئها تسمى ب (الفكرة السنية الطبعية) سواء كانت في الطبعيات أو الكيمياء أو الهيئة والرياضة أو في غيرها من العلوم الطبعية، وهي (سنية) لكونها مهتدية بهداية القرآن الحكيم، و (طبعية) لاختصاص مسافتها بعالم الخلق والتكوين وعدم علاقتها في نفسها بعالم الأمر والتشريع، وعدم تأثيرها في نفسها في سعادة النفس وشقائها كما أوضحناه من قبل. ثم إن التفكر في عالم الخلق والتكوين لا يختص بالمسلمين وهو مجال لكل من له قوة في التفكر والنظر سواء كان مؤمناً أو كافراً، وإن من المخلوق ما هو خير لنا كما أن منه ما هو شر

لنا، فكما أنه يمكن لنا أن ننتفع به يمكن أن نتضرر به، وإذا تفكر أعداء الإسلام الكافرون بالدين المبين في عالم الخلق وأثاروا شره، ومنعونا عن خيره، ولم نستطع أن ندافع عن أنفسنا ونقاومهم لسبق فكرهم في عالم الخلق على فكرنا فما هو المخلص لنا من شرورهم؟ وكيف نحفظ ديننا وعرضنا وأنفسنا من عدوانهم وإفسادهم؟. ومرجع السؤال إلى أنه كيف نتفكر في الخلق والتكوين حتى نستطيع لجلب الخير ودفع الشر، ونقدر على الدفاع عن ديننا وملتنا، وعلى حفظ الإنسانية من الدمار والفساد بأيدي المجرمين من أوروبا وأمريكا؟ وهذه هي المشكلة الشديدة التي واجهناها اليوم كما هو ظاهر لا يحتاج إلى البيان. إن (الفكرة السنية) تدعو إلى أن نستعين بالإيمان، وهذا يقتضي أن نسأل القرآن الكريم لحل هذه المسألة العويصة، وننظر هل فيه هداية خاصة للأمة المسلمة إذا ابتليت بهذا البلاء العظيم؟ بلى وربنا إن القرآن الكريم قد حل هذه المشكلة وهدى إلى صورة خاصة للفكرة السنية الطبيعية التي هي أسرع وأقوم وأنجح من كل فكرة تتحرك في عالم الخلق والتكوين في الدنيا، وسبيل للنجاة من المصيبة التي ابتلينا بها، ليتنا نتبع هذه الفكرة القويمة القوية السريعة، وهذه الطريقة الأقوم التي يدعو إليها الفرقان الحميد قد أشير إليها في (سورة الفلق) فقد قال الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} ونقدم في السطور الآتية مقدمات يتطلبها توضيح الإشارة. الأولى: أن الاستقراء يدل دلالة واضحة على أن سنة الله في خلق شيء من شيء في هذا العالم المادي هي (الفلق) ، إن الشجرة لا تنبت إلا بفلق الحب والنواة، وأن ظهور الغصن مسبوق بفلق ساقها، كما أن القوة الذرية (atomic energy) المدهشة لا تظهر إلا بفلق الذرة (atom) وأن النظام الشمسي (solarstem) الذي نعيش تحته قد خلقه الله الخلاق العليم بإبداع الفلق العظيم في مجرة (galaxy) ، وإذا نظرت إلى الحوادث وجدت هذا القانون التكويني أي (قانون الفلق) جارية فيها، ولا تجد مثالا ينفيه. الثانية: أن الحوادث التي تبدو بعد الفلق كنتيجته بعضها تكون موجبا للخير كما أن بعضها تكون موجباً للشر، فعلينا أن نحصل الخير ونتجنب الشر.

الثالثة: أن الله وحده هو رب الفلق وهو القادر على الإطلاق، وهو قدير على أن يلهمنا بعلم جديد وتدبير قوي نفوز باستخدامه بهدفنا، أو يمحو الشر ويخلق الخير ويمن علينا بتوفيق الاستعاذة به. الرابعة: أنه لابد لنا من التفكر في عالم الخلق إذا واجهتنا المشكلة المذكورة وابتلينا بالضراء المذكورة، فإن الميل إلى ابتغاء السبيل إلى دفع الضرر والتحرز عن الهلاك والدمار والجهد للبقاء أمور فطرية تطالب بالتفكر في عالم الخلق، وقد أوجبته الشريعة كما أوجبه العقل السليم - لاسيما وأن هجوم المخاوف قد بدأ قرنه من جهته - وإن التفكر في عالم الخلق والتكوين لدفع شر أعداء الإسلام وللدفاع عن الدين والمسلمين ولإعلاء كلمة الله الحق المبين واجب على الكفاية لأنه لابد منه في هذا الزمان للوصول إلى تلك المقاصد الحسنة. وبعد هذا التمهيد نقول وبالله التوفيق: إن الله الحكيم العظيم أمرنا في هذه الآية ب (الاستعاذة) به عز اسمه من شر مخلوق مساوق للشر، والأمر بالتوجه إلى شأن الربوبية المتعلقة (بالفلق) إشارة إلى أن المؤمن إذا ابتلي بشر مخلوق حادث من الفلق وأخذه التفكر في تدبير دفع الشر وجلب الخير لاقتضاء الفطرة وأمر الشريعة، فليكن تفكره ممزوجا بالاستعاذة بالله الذي هو رب الفلق وبيده الخير ولا حول ولا قوة إلا به، وليس المراد الاستعاذة القولية فقط بل المراد الاستعاذة الحالية والعملية أي الإنابة إلى الله والتوجه إليه والتزام طاعته مع سؤال العلم الصحيح النافع وتوفيق العمل به والتهيؤ للدفاع عن الإسلام متوكلا على الله العليم العظيم. وهذا لأن الاستعاذة تقتضي طبعا أن يطيع المستعيذ المستعاذ به، ويفي معه بعهده ويلجأ إليه ولا يعصيه، وهذه هي صورة خاصة (للفكرة السنية الطبعية) المشار إليها بالآية الأولى من سورة الفلق المزبورة قريباً، ولها مع عموم حكمها ونفعها نوع من الخصوصية بالتفكر لإطفاء (فتنة الفلق) التي ابتلينا بها، لأن غلبة أعداء الإسلام علينا في الفلق إنما هي لعدم استطاعتنا على استخدامها مثل ما يستطيعون فإن الاستطاعة بفلق الذرة (atom) أو النواة (nucleus) سلطهم على الأقوام الضعيفة. ولا يدان لأحد من المسلمين لدفعهم، ومحصول البيان أن الفكرة السنية الطبعية معناها اتباع الأصول التي دلت عليها الآية التي ذكرت أولاً في هذا الباب، وأضف إلى تلك الأصول الأصل الذي دلت عليه هذه الآية من (سورة الفلق) ، وخاصة إذا كان التفكر في (الفلق) وقوته ونتائجه والأمور المتعلقة به. وهذا الأصل مشتمل على أجزاء، ونزيده وضوحاً بذكر الأجزاء مفصلاً:

الأول: أن التفكير لابد أن يكون ممزوجا بالاستعاذة بالله العزيز الحكيم من فتنة الفلق وشر المخلوق الحادث منه الاستعاذة به عز اسمه لدفعها والغلبة عليها. الثاني: أن نسأل الله تعالى الذي هو رب (الفلق) الاستطاعة لاستخدام (قوة الفلق) لاكتساب الخير ودفع الشر والانتفاع بها في الدنيا والآخرة. والثالث: أن التفكر لابد أن يكون مسبوقا بالتوبة عن الذنوب، وتصفية القلب عن العقائد الفاسدة وتجديد تنويره بنور الإيمان. الرابع: أن يكون مقصدنا الوحيد من التفكر هو رضي الله تعالى شأنه باستخدام تلك القوى لإعلاء كلمة الله وغلبة دينه المتين، ولاكتساب الخير للمسلمين ونفع خلق الله أجمعين. فإن المتفكر إذا أراد نصرة دين الله المبين، وأخلص نيته سيأتيه نصر الله القوي العظيم كما وعده ربنا الكريم بقوله في القرآن الحكيم: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} وإن من النصرة إلهام العلم الصحيح والهداية إلى التدبير النجيح، وليس ذلك على الله بعزيز. تنبيه: ظاهر أن لا ينتفع بتلك الأصول حق الانتفاع إلا من له معرفة معتد بها بالعلوم الطبعية (سائنسية) أو الرياضية، فتحصيلها واجب على الكفاية على الأمة في زماننا.

الفكرة السنية النفسية

الفكرة السنّية النفسية: قد بينا من قبل أنها التفكر في أمر مؤثر بالذات في سعادة النفس وشقائها، فإنها أعظم شأنا من الفكرة الطبعية لكونها أقوى ارتباطا بالسعادة والشقاء، ولكون تعلق حكم الشريعة بها أظهر وهي مطلوبة في كل شعبة من شعب حياتنا الاعتقادية والعملية من المعاشرة والسياسة والمعيشة وأمثالها، سواء كانت فردية أو اجتماعية لكن الحاجة إليها في حياتنا الاجتماعية والقومية أشد جدا، لأن تركها فيها أدهى وأضر، فإن الخطأ في الفكر المتعلق بالفرد فقط يوجب ضرر الفرد لكن الخطأ في الفكر المتعلق بالمجتمع موجب لضرر المجتمع، ثم يذوق وباله الفرد أيضاً، فضرره أشد وأمر مراراً من ضرر الأول. والأمور التي تدخل تحت هذا النوع على قسمين: الأول: الأمور التي لا حاجة فيها إلى الفكر لكونها مسلمة الثبوت عندنا، كفرضية الصلاة وحرمة القمار ونفع العدل وضرر الظلم.

الثاني: الأمور التي تحتاج إلى النظر والفكر ليتضح صحتها أو سقمها، وهي موضوعنا في هذه المقالة، ويواجهها المجتمع كما يواجهها الفرد، مثالها في الحياة الفردية مسألة تعلم الولد من رجل غير مسلم في هذا الزمان، وفي الحياة الاجتماعية مسألة التعاون والاتحاد بفرقة ضالة لهدف مشترك. واضح أن هذا القسم من مسائل الحياة يحتاج إلى النظر والفكر، فأي منهاج نختار فيها للتفكر، وما هي الأصول الثابتة بالكتاب والسنة التي يجب علينا اتباعها عند التفكر في هذا النوع من المسائل؟.

الأصول المتبعة

الأصول المتبعة: حقيقة جلية وصادقة لا ريب فيها أن مرجع العلم والمعرفة والفارق بين الصحيح والسقيم في الأمور التي لها دخل بالذات في سعادة النفس وشقائها هو القرآن الحكيم وسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وهذا أمر مسلم لا يشك فيه أحد من المسلمين كما قال الله تعالى في شأن كتابه المبين: {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان} فهو مأخذ الهداية ومنبع العلم والمعرفة، والفرقان المبين بين الحق والباطل والصحيح والسقيم، وما هذا شأنه فحقه أن يتخذ مأخذا ومرجعا للعلم والمعرفة، أما الإجماع والقياس فيرجعان إليهما، إن اتباع الصراط المستقيم هو المنهاج المختار في التفكر لأن منهاج الذين أنعم الله عليهم، هو الاهتداء بالكتاب والسنة والاعتماد عليهما، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أصل علمه ومنبعه هو الوحي الإلهي، وإذا اجتهد كان يتفكر في ضوء الوحي، ثم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يتعلمون منه صلى الله عليه وسلم ويتبعونه، وإذا احتاجوا إلى الاجتهاد كانوا ينظرون إلى الكتاب أولاً ثم إلى السنة ثم إلى الرأي المبني على أحدهما، مثاله ما ورد في قصة سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم قاضيا إلى اليمن، فاختبره بالسؤال عن منهاج التفكر والاجتهاد، ولما أجاب بذكر المراجع المذكورة بالترتيب المذكور صوب النبي صلى الله عليه وسلم رأيه. ثم إن الكتاب والسنة كل واحد منهما قد وصل إلينا بأيدي الصحابة رضي الله عنهم الذين تعلموهما عن النبي من غير واسطة، وفهموا معناهما وعقلوا مغزاهما وعملوا بهما تحت مراقبته صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه تولى تربيتهم وتزكيتهم، وجعلهم أسوة متبوعة لمن سواهم من الأمة الكائنة إلى يوم القيامة ومبلغين لدعوته إلى سائر الناس، ومعلمين ما علمهم من الكتاب والسنة لمن سواهم من أمته صلى الله عليه وسلم فجماعة الصحابة هم الواسطة الكبرى بيننا وبين النبي صلى الله عليه وسلم وكل صحابي رضي الله عنه هو أنموذج عملي لتعليمه عليه أفضل الصلوات

والسلام، فبديهي أنه لا تتضح معاني الكتاب والسنة إلا بالنظر إلى عمل الصحابة وتشريحهم وتفسيرهم لهما. فالكتاب والسنة منبعان لماء الحياة، وجماعة الصحابة نهر مملوء بمائهما جامع لهما لا يزال يجري إلى يوم القيامة. فقد تبينت من هذه المقدمات الممهدة الأصول التي هي أجزاء الفكرة السنية النفسية وهي هذه: الأصل الأول: يجب أن يكون تفكرنا في مسألة من مسائل الحياة من هذا النوع مبنيا على عقيدتنا الجازمة بأن المأخذ الأول للعلم الفارق بين الحق والباطل هو الكتاب والثاني هو السنة، أما الإجماع والقياس فيرجعان إليهما، وأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين أخذوهما من النبي صلى الله عليه وسلم من غير واسطة، ونقلوهما إلى من بعدهم من الأمة، ولم ينقل ولا يمكن أن ينقل كذلك شيء عن الدين عن غير الصحابة، ومن نسب شيئاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغير توسط صحابي فهو كاذب زنديق، فعمل الصحابة هو مأخذ ثالث للعلم فكونه دليلاً قطعياً على كون ذلك العمل والقول ثابتا بالكتاب أو السنة مطابقاً لهما، ولكونه أنموذجاً عملياً لتعليم النبي صلى الله عليه وسلم فهو حجة شرعية ما لم يعارضه حجة شرعية أخرى أقوى منه كنص الكتاب مثلاً. الثاني: ولتكن وجهة فكرنا ومقصدنا بالذات في كل فكرة هي المنفعة الدينية ورضا الله سبحانه ولو بوسائط عديدة، ولتكن المنفعة الدنيوية تابعة لها غير مقصودة بالذات بل مقصودة تبعا، لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} . (سورة الإسراء) . الثالث: علينا أن نتفكر في الكتاب والسنة وعمل الصحابة هل نجد فيها هداية جزئية، قولية أو عملية مخصوصة بما نحن فيه أو عامة كلية تنطبق على ما نتفكر فيه، ثم أن علينا اتباعها إن فزنا بها في الكتاب أو السنة أو عمل الصحابة، فقد قال الله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} . (الأنبياء) . وسيوضح المسألة المثال الآتي: أن أرباب الحل والعقد من مملكة إسلامية يتفكرون في سياستها الداخلية في تفويض الوزارة الداخلية أو الخارجية أو غيرها، إلى رجل مناسب يفوضونها إليه، ثم ينظرون إلى الكتاب المبين فيجدون فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} . الآية، وهذه الآية تهديهم إلى أصل عظيم ينور طريقهم لأنها تحذرهم عن تفويض الأمر إلى شيعي أو شيوعي وأمثالهما من أعداء الإسلام.

الرابع: أن الاحتراز عن الباطل واجب كإحقاق الحق، والحذر عن سبيل الغي حَتم واجب كاتباع سبيل الحق والهدى، فيجب علينا أن لا نستخدم دليلاً ولا نعمل عملا يعين أهل الباطل في طغيانهم أو يؤيدهم في ضلالهم أو ينفعهم في إظهار بواطلهم فإن الله تعالى يقول: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} . وقال عز اسمه: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} . فينبغي لنا أن نراعي في فكرتنا في جانب النفي أيضا، فتكون فكرتنا مشتملة على نفي الباطل كاشتمالها على إثبات الحق. الخامس: يجب الاحتراز كل الاحتراز عن فكرة تؤدي إلى قطع صلتنا بالكتاب أو السنة أو الصحابة أو ضعفها وعن عمل كذلك- والعياذ بالله- فإن الاعتصام والتمسك بالكتاب والسنة واجب على كل حال، ولا يمكن الاعتصام والتمسك بهما إلا باتباع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، كما أوضحناه من قبل، وما يؤدي إلى ضعف هذا الاعتصام والتمسك فباطل مهلك فضلا عما يؤدي إلى قطعه والعياذ بالله، قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله" والآيات الدالة على هذا الأصل العظيم والأحاديث المضيئة له كثيرة وحق إن قلنا: إن (الموطأ للإمام مالك) من ضروريات الدين. السادس: لا نقبل فكراً أو حلا لمسألة ثبت كونه غير مرضي عند الله بالكتاب أو السنة أو قول الصحابة أو عملهم، قال الله تعالى في مدح الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} . فعلى المؤمن أن يبتغي رضوان الله تعالى شأنه، ويترك ما هو غير مرضي عنده عز اسمه، مثاله الاستعانة بما تمنح الدول الكافرة باسم العون على الرقي في المعاش وإصلاحه، فإن أخذه يؤدي إلى مفاسد كثيرة كالميل إلى الدولة المانحة في مسلكها السياسي وإن كان باطلاً وغير ذلك من المفاسد، ولاشك أن هذه الاستعانة غير مرضية عند الرب سبحانه وتعالى بالنظر إلى ما تؤدى إليه. فينبغي للمؤمن أن يحترز عن هذا القسم من المقدمات إذا تفكر في تدبير أمر أو إنجاح حاجة من الحوائج القومية. السابع: لا ينبغي أن تكون مقدمات فكرتنا مبنية على مجرد الميل والرغبة إلى أمر أو عن أمر بل لابد أن تكون ناشئة عن الفهم السليم والحكمة، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} . (سورة البقرة) ، وهذه الأصول هي أجزاء (الفكرة السنية النفسية) ، والفكرة التي تراعى فيها هذه الأصول وتكون على طبقها تسمى ب (الفكرة السنية) ، وهي متروكة في حياتنا الاجتماعية منذ قرون، على الغالب وتركها هو سبب زوال

الأمة المسلمة في حياتها الدينية والسياسية وفي غيرهما من شعب الحياة، وعلاجه إنما هو اتباع هذه الفكرة، ولاشك أن اتباعها في فكرتنا الاجتماعية وسيلة قوية لرقي الاجتماع وغلبة الإسلام والمسلمين.

الأمثلة

الأمثلة: ولزيادة التنوير نورد أمثلة للفكرة السنية النفسية في الأمور الاجتماعية: المثال الأول: نفرض أن دولة من دول المسلمين تفكرت في مسألة تعليم العلوم الحديثة، لكنها لم تتبع (الفكرة السنية) إذاً تجعل الدنيا غاية فكرها وجهدها وتكون فكرتها فكرة أوروبا وأمريكية، وتختار ما اختار أهلها من الرغبة عن الدين، والميل إلى الفسق والفجور، واتخاذ سبيل الغي في النظام التعليمي ومناهجه كرفع حجاب الطالبات وأمثالها من الأمور المخالفة للشريعة المقدسة، وكذلك لا تبالي هذه الدولة بتسليط أهل الضلالة كالشيعة والمرزائين وغيرهما من الضالين على الإدارات التعليمية ونظمها. وأما إذا كانت فكرتها (الفكرة السنّية) فتكون غاية فكرها وجهدها ومرام سعيها من إشاعة العلم هي إعلاء كلمة الله ومنافع الآخرة وترويج الخير في العالم. وتكون الغاية هي إرضاء الله تعالى شأنه، أما المنافع الدنيوية فتكون مقصودة تبعا للمنافع الدينية، فتتخذ سبيل الرشد سبيلا إلى مرامها، وتحترز كل الاحتراز عما نهى عنه الشرع الشريف، ولا تجترئ بتسليط أهل الضلال وأعداء الإسلام من المنافقين والمجاهرين بالكفر على الإدارات التعليمية. المثال الثاني: فرضنا أن أرباب الحل والعقد لمملكة مسلمة يريدون أن يضعوا دستوراً لمملكتهم فيلجأون إلى الكتاب والسنة وعمل الصحابة ومشاورة الفقهاء، ولا يلتفتون إلى ما يتفوه به أهل أوربا وأمريكا وغيرهما من الذين لا يتبعون الإسلام، لأن الفكرة السنّية النفسية ترشدهم إلى تلك المآخذ والمنابع، وتصدهم عن النظر إلى غيرها، ويصرحون في الدستور بأن مملكتهم هي مملكة إسلامية سنّية قائمة على منهاج الخلافة الراشدة، وغاية وجودها هي إجراء الأحكام الشرعية وحفظها والدعوة إليها ونصرتها، والرقي الديني والدنيوي لأهل الإسلام بحيث تكون دنياهم تابعة لدينهم، ثم أنهم لا يغفلون عن الأغيار

الأشرار المجاهرين بعداء الإسلام الداعين إلى النار كالشيعة والمرزائية وغيرهما من أهل الضلالة والنفاق، فإن أرباب الحل والعقد وقواد المسلمين المتفكرين بالفكرة السنّية النفسية لا يغفلون عن مكائد تلك الأشياع الضالة، فيضعون قوانين وضوابط في الدستور التي تسد طرق هذه الأشياع المنافقة على المملكة وطرق غدرهم بها، ويحفظون المملكة عن شرهم. وأما الذين لا يتفكرون بالمنهاج الإسلامي أي لا يختارون (الفكرة السنّية) فلا يبالون بتلك الأمور المهمة، أو يغفلون عن بعضها، أو يطرحون بعضها قصداً لضعف إيمانهم واعوجاج فهمهم لفقدهم (الفكرة السنّية) فيذوقون وبال أمرهم، ويخسرون في الدنيا والآخرة، يوردون قومهم مورد الهلاك والخسران كما نرى الآن في بعض البلدان الإسلامية فإن أهل السنة بها يبتلون بظلم شديد ومصائب عظيمة وما ذلك إلا لفقدهم (الفكرة السنّية) في حركاتهم السياسية وذهولهم عن الحقيقة أنهم أهل السنة والجماعة وأنهم هم المسلمون، وأن الرافضة ليست من الإسلام في شيء بل هم أعداء الإسلام والمسلمين. مثال آخر: أرادت دولة مسلمة حديثة إصلاح معيشة القوم وإجراء نظام للمعيشة يكون موجبا لفلاح القوم ويحفظ أهل الملك من الفقر والمسكنة، وظلم الظلمة من المستحصلين المتمولين المغلوبين من الشحّ والبخل، فإن كانت الدولة معتادة للفكرة السنّية واختارتها للتفكر في هذه المسألة المهمة، فلابد أن تنظر إلى الكتاب والسنة وعمل الصحابة وأقوال الفقهاء وتختار النظام الإسلامي للمعيشة الذي أمر به الله تعالى شأنه، ورسوله صلى الله عليه وسلم وفسرته الصحابة بقولهم وعملهم، وفصلته الفقهاء في ضوء عمل الصحابة وأقوالهم، ولا تلتفت هذه الدولة المؤمنة إلى نظام غير إسلامي كالشيوعية وغيرها من الأنظمة الخاطئة الباطلة، وأما الدولة التي ليس لها حَظ من (الفكرة السنّية) فتخبط خبط عشواء وتتبع كل عمياء، وتنظر إلى أنظمة غير إسلامية فتختار بعضها فتذوق وبال إثمها في الدنيا والآخرة، وكانت عاقبة أمرها خسراً، والأمثلة الثلاثة المذكورة آنفا للفكرة السنّية النفسية تكفي للزيادة في وضاحتها وتنور مفهومها ومصداقها فنختم بيانها، والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.

شهادة التاريخ

شهادة التاريخ: التاريخ يدخر المواعظ والعبر لنتعظ بها، ولنسلك طريق المستقبل في ضوئها، فنشير إلى بعض الحوادث الماضية التي تصدق ما قلناه من أن (الفكرة السنّية) لها أثر عظيم في رقي الأمة المسلمة وعروجها، وإن تركها موجب لزوالها وانحطاطها، فإن زوالها إنما بدأ حين ضعف اعتصامها بالكتاب والسنة، ولاشك أن هذا الضعف قد طرأ عليها بسبب التغير في منهاج فكرها ووجهة نظرها، وذلك بأن المجتمع الإسلامي من حيث المجتمع قد ترك (الفكرة السنّية) في الأمور الاجتماعية لاسيما في الأعمال السياسية وإن بقيت مختارة لكثير من الأفراد في الحياة الفردية، وكفاك مثلا وعبرة حادثة زوال الخلافة العباسية فإنها سقطت في أول فتنة في التاريخ الإسلامي التي أثارها المنافقون، وأصبحت تلك الفتنة قائدة لجيش الفتن التي صحبتها، كفتنة القول بخلق القرآن وفتنة إنكار الحديث وأمثالها من الفتن التي ظهرت في عصر العباسيين وانتهت بزوالهم. وتوضيح هذا المجمل أن أول فتنة ظهرت في الإسلام هي فتنة تنقيص شأن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فإن سعي اليهود لإزالة حب الصحابة وتعظيمهم وتوقيرهم عن قلوب المسلمين أنتجت فرقة في الأمة تسمي نفسها باسم الشيعة. وهذه الفرقة التي نشأت على عداوة الصحابة وتنقيص شأنهم، قد قويت على عهد الخلافة العباسية، لأن العباسيين استعانوا بها حين أثاروا الثورة ضد الأمويين، ثم إن خلفاءهم وزعماءهم قربوا هذه الفرقة ونصبوا رجالها على مناصب جليلة وأشركوهم في أمور الخلافة، حتى أنها تسلطت عليهم، وكان عاقبة الأمر أن الشيعة لعداوتهم لأهل السنة ولدينهم الحق دمروا الخلافة العباسية تدميرا واستأصلوها بالمؤامرة بتآمر الذين دعوهم للتدمير وأعانوهم على هذا المقصد الشنيع. والسبب الأساسي لتلك الحادثة الفاجعة الأليمة هو أن العباسيين ومن كان معهم من المسلمين أي من أهل السنة صرفوا النظر عن هداية الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} . (الآية) وخالفوها باتخاذ أعداء الإسلام المنافقين بطانتهم وبالاعتماد عليهم وتركوا الفكرة السنّية فذاقوا وبال خطئهم. ثم إن هذا المرض أصبح وباء متعديا إلى العامة من أهل السنة وأفسد مزاج المجتمع لأن الاختلاط والمودة بالذين أشربوا في قلوبهم عداوة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين

والسخط على دينهم الحق أدّى إلى ضعف حب الصحابة وسنتهم ونقص عظمتهم في قلوبهم، فأدى إلى ضعف في اعتصامهم بالكتاب والسنة وقد حفظ الله تعالى شأنه طائفة من المؤمنين من هذا الداء العضال حتى أصبحت مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم". أو كما قال، لكنها كانت قليلة في العدد. وكما أن التاريخ يقص قصص زوال الأمة وأسبابها ويرفع الحجاب عن الحقيقة أن إهمال الفكرة السنّية وتركها واختيار فكرة غير سنّية هي أعظم أسباب زوال الأمة وانحطاطها كذلك ينبئنا عن عروج الأمة ورقيها وأسبابه، ويضيء لنا الطريق إليه ويأتينا بأخبار كثيرة تدل دلالة واضحة على أن (الفكرة السنية) كفيلة بعروج الأمة ورقيها وهي الطريقة الوحيدة إليه. وإني أستطيع أن آتي من التاريخ بأمثلة كثيرة لهذا الأصل، لكني قصداً للإيجاز أكتفي بإيراد قصة المجاهد الجليل والفتى النبيل محمد بن القاسم الثقفي - رحمه الله - حين وصل إلى قلعة محكمة في غزوة السند، وكانت القلعة التي غزاها على ساحل بحر السند، ولم يكن هناك جسر ولا سفينة، فنظر إلى جيوشه وسألهم: أرب البحر والبر واحد أم لهما ربان؟ قالوا: إن الله وحده هو رب البحر والبر ورب كل شيء وهو رب العالمين، فقال: ربنا الذي نصرنا وحفظنا في البر وإنا خرجنا في سبيل الله فلا ينبغي لنا أن نرجع على أعقابنا فادخلوا البحر، فدخل المجاهدون في الماء يمشون عليه كما يمشي الرجل على الأرض، ولما رأت جيوش الهندوس الذين كانوا يرمون الحجارة عليهم بالمنجنيق هذه الحالة المدهشة العجيبة طرحوا أسلحتهم وفتحوا باب الحصن وأطاعوا المسلمين المجاهدين، وواضح أن محمداً بن القاسم ومن كان معه من المجاهدين تفكروا بفكرة سنية، فنظروا إلى وعد الله تعالى شأنه لا إلى الأسباب الظاهرة، واستعانوا بالإيمان فأفلحوا ونجحوا، ثم لا يخفى على من طالع تاريخ السند أن الفتح المذكور، جاء في تلك البلاد ببركات كثيرة من غلبة الإسلام ودخول الناس في دين الله أفواجا، ونشاط علمي وفكري كما جاء بالأمن والسلام. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

§1/1