الفقه الميسر

عبد الله الطيار

قسم العبادات

الفِقهُ الميَسَّر قِسْمِ العِبَادَات الطَّهَارة - الأذَان - الصَّلاة - الجنَائز مَوسُوعة فقهيَّة حَديثَة تتناوَل أحكام الفقه الإسلامي بأسُلوب وَاضح للمختصّين وغيرهم تَأليف أ. د/عَبد الله بن محمد الطيّار أستَاذ الدراسات العليا بكليَّة الشَّريعة والدِّراسات الإسلامية بجامعة القصيم أ. د/عبد الله بن محمّد المطلق عضو هَيئة كبار العُلَماء، وعضو اللجنة الدَّائمة للإفتاء د/محمَّد بن إبراهيم الموسَى عضو مجلس الشورى سابقًا - المجلس الأعلى للأوقاف الجزء الأوَّل مدار الوطن للنشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الفِقهُ الميَسَّر قِسمُ العِبَادات الطَّهارة - الأذَان - الصّلاة - الجنَائز

حقُوق الطَّبع محفُوظَة الطَّبعَة الثانيَة 1433 هـ - 2012 م مَدَارُ الوَطن للنَّشر المملكة العربية السعودية - المقر الرئيسي: الرياض - الملز ص. ب: 245760 - الرمز البريدي 11312 - هاتف 4792042 (5 خطوط) - فاكس 4723941 البريد الإلكتروني: [email protected] موقعنا على الإنترنت: www.madaralwatan.com الرياض: 0503269316 الغربية: 0504143198 الشرقية: 0503193268 الشمالية والقصيم: 0504130728 التوزيع الخيري للشرقية والجنوبية: 0503193269 التوزيع الخيري لباقي جهات المملكة: 0506436804 التسويق للجهات الحكومية: 0500996987 مبيعات المكتبات الخارجية: 0503193269

المقدمة

المقدمة الحمد لله جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وأرسل إلينا أفضل رسله، وشرع لنا أكمل شرائع دينه عقيدةً ومنهاجَ حياةٍ بما أودع فيها من حكم وأسرار تضمن للبشرية سعادتها وفلاحها، وبما أقامها عليه من أسس وقواعد ومبادئ تكفل العدل والخير والمساواة. ولقد شمل الفقه الإسلامي كل نواحي الحياة الفردية والجماعية من شؤون اقتصادية واجتماعية وسياسية وغيرها إبان عز الدولة الإسلامية، حيث قام الفقهاء المجتهدون من الصحابة والتابعين ومن بعدهم بدراسة كل ما يعترض حياة الناس من مسائل وقضايا، على ضوء أصول الشريعة وقواعدها، وبينوا أحكامها، وتم تدوين ذلك والعمل به، بل إن بعض الفقهاء قد تناول بحث بعض القضايا التي لم تقع بعدُ، وإنما بناء على افتراضات، وقد عده بعض الناس ترفًا فقهيًا. وذلك يرجع إلى أنهم قد قاموا ببيان الأحكام في النوازل والوقائع في عصرهم، وتجاوزوها إلى غيرها، وقد تم الاستفادة منها في العصور التالية لعصرهم عندما ضعفت الدولة الإسلامية وشمل الضعف جميع الأمور بما في ذلك جوانب الفقه. إن طلب العلم الشرعي من أشرف المطالب وأسمى الغايات، والمشتغل به مع إخلاص النية في أعلى درجات العبادة، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من عبد يخرج يطلب علمًا إلا وضعت له الملائكة أجنحتها، وسُلِكَ به طريقٌ إلى الجنة، وإنه ليستغفر للعالم من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا

ولا درهمًا، ولكنهم ورثوا العلم؛ فمن أخذه أخذ بحظ وافر" (¬1). والفقه الإسلامي من أهم ميادين العلوم الشرعية، وقد جاءت الأدلة متضافرة في الحث على التفقه في دين الله ومعرفة أحكام الشريعة، قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (¬2). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من يرد الله به خيرًا يفقِّهْهُ في الدين" (¬3). وجاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "قليل العلم خير من كثير العبادة" (¬4). وجاء في الحديث عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خير العبادة الفقه" (¬5). وإن الفقه ثمرة العلوم كلها، قال ابن الجوزي (¬6): "أعظمُ دليل على فضيلة الشيء النظرُ إلى ثمرته، ومن تأمل ثمرة الفقه علم أنه أفضل العلوم، فإن أرباب المذاهب فاقوا بالفقه الخلائق أبدًا، وإن كان في زمن أحدهم من هو أعلم منه ¬

_ (¬1) أورده الحافظ المنذري وقال: رواه أبو داود والترمذيُّ وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقيُّ، وإنما يروى عن عاصم بن رجاء بن حيوة، عن داود بن جميل، عن كثير بن قيس، عنه. قال البخاري: وهذا أصح. جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (1/ 34). (¬2) سورة التوبة: 122. (¬3) رواه البخاري، انظر الصحيح مع الفتح (1/ 164)، ومسلمٌ انظر محمد حسن (2/ 718). (¬4) رواه الطبراني في الكبير وذكره الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب. قال البيهقي: ورُوِّيناه صحيحا من قول مطرِّف بن عبد الله الشخير. (¬5) رواه البخاري في الأدب عن محجن بن الأدرع، وذكره الإمام أحمد في مسنده. جامع بيان العلم وفضله (1/ 21). (¬6) صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 155).

بالقرآن أو الحديث أو باللغة" ثم قال: "على أنه ينبغي للفقيه ألا يكون أجنبيًّا عن باقي العلوم، فإنه لا يكون فقيهًا، بل يأخذ من كل علم بحظ، ثم يتوفر على الفقه؛ فإنه عز الدنيا والآخرة". وانطلاقا من هذه المكانة للفقه حرص العلماء على دراسة الفقه وتدوين فروعه، ووضعوا قواعد وضوابط تجمع فروعه المتناثرة مما سهل دراسة هذا الفن وضبط فروعه، والفقه كغيره من العلوم ينمو باستعماله ويضمر بإهماله، فقد مرت به أطوار نما فيها وترعرع وتناول كل مناحي الحياة، ثم عَدَتْ عليه العوادي من المتآمرين على شرع الله فتوقف ذلك النمو فترات، وكاد أن يقف في أخرى. والفقه الإسلامي تبع لشريعة الله التي أُبعدت عمدًا عن تنظيم حياة الناس وحل مشاكلهم، واستبدلت بنظم وطرائق جاءت من الأعداء وقد لبست أثوابًا مختلفة وتشكلت بأنماط متباينة حسب مصالحهم، وهذا الإقصاء عن مناحي الحياة أَثَّر كثيرًا على نمو الفقه وإبداع الفقهاء، وعلى الرغم من الضعف الذي تعيشه الأمة في مناحي الحياة إلا أنه توجد مؤشرات ومبشرات هنا وهناك من حيث تنامي البحوث والدراسات للوقائع والنوازل (¬1) والحوادث التي تنزل بالأمة الإسلامية، وتطبيق الأصول والقواعد الشرعية عليها، وبيان الحكم الشرعي فيها، واستبعاد ما يخالف الشريعة الإسلامية وإيجاد البدائل لما يتعارض منها مع ذلك، سواء كان ذلك من قبل المجامع الفقهية أو الجهود المتمثلة في الرسائل والبحوث العلمية في الجامعات ومراكز البحوث. إن الفقه الإسلامي ثروة فكرية هائلة وتراث ضخم لم يستفد منه الكثيرون، وإن كل طالب علم لديه القدرة على توسيع دائرة الاستفادة من الفقه الإسلامي ¬

_ (¬1) مما أُلف في ذلك: الجامع في فقه النوازل، د. صالح بن عبد الله بن حميد، فقه النوازل، بكر أبو زيد، وغيرها.

أسباب القيام بهذا المشروع وأهدافه

مسؤول عن هذا الأمر، وإن هذا المشروع المبارك لبنة في هذا الباب. أسباب القيام بهذا المشروع وأهدافه: 1 - إن كتب الفقه الإسلامي قد بلغت من الكثرة وقوة الأسلوب ما يجعل كثيرًا من المتخصصين يصعب عليه الرجوع إليها واستيعابها؛ لأن ذلك يحتاج إلى ممارسة عملية وفهم دقيق وتمييز صائب بينها، وإن في هذا الكتاب -بعون الله- ما ييسر الفهم والاستيعاب للأحكام الشرعية؛ لما يتميز به من وضوح في الأسلوب وحسن في الترتيب بعيدًا عن الغموض. 2 - شدة الحاجة إلى تيسير الفقه الإسلامي، وقد أشير إلى ذلك في كثير من المؤتمرات التي تناولت أمور الفقه، وكذلك بيان أحكام بعض الوقائع والحوادث المستجدة مع ربطها بما يشبهها من أبواب الفقه. 3 - انتشار التعليم والثقافة بين المجتمع رجالًا ونساء كما لم يكن من قبل، وهؤلاء يحتاجون معرفة ما يهمهم من أمور دينهم ودنياهم، ومن هنا رأينا أن هذا المؤلف سيقدم لهم ما يكفيهم في ذلك -بتوفيق الله-. 4 - أنه من خلال معرفة وخبرة كل مِنا -سواء في مجال التأليف والتعليم والحياة العملية- فقد تم الاجتماع بيننا (المؤلفون)، وتم تدارس الوضع، وتحققت القناعة من الجميع بضرورة إيجاد كتاب شامل لأبواب الفقه (العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والجنايات والقضاء وغيرها)، يتم فيه تيسير أبوابه للمختصين وغيرهم، وكل منا يعرف صاحبه، فنحن زملاء دراسة، وقد عقدنا العزم -بحول الله وقوته- على تقديم هذا المشروع على غيره من الأعمال العلمية الأخرى؛ لعموم الفائدة المتوخاة منه -بإذن الله- وقد أسميناه: (الفقه الميسر: موسوعة فقهية حديثة تتناول أحكام الفقه الإسلامي بأسلوب واضح للمختصين وغيرهم).

5 - إن في الكتابة بهذا الأسلوب السهل الممتنع مع ذكر آراء المذاهب الفقهية المشهورة ما أمكن ذلك وبيان الراجح منها -إثراءً للجوانب الفقهية وشمولًا لمختلف القضايا الهامة؛ إذ أن الأحكام لبعض المسائل قد ترد في مذهب دون غيره، إما بحكم المصلحة أو العرف أو غيرها، وفي ذلك استفادة أشمل وأعم؛ لأن الاقتصار على مذهب معين دون غيره لا يتسع لكل الأمور والمسائل التي تواجه المسلم في شؤون حياته. 6 - أنه يمكن الاستعانة بهذه الموسوعة في الدول الإسلامية وغيرها عند وضع أنظمةٍ وقوانينَ في مختلف جوانب حياة البشرية. 7 - أنه بتطور الحياة حدثت وقائع ونوازل وكثرت المعاملات المختلفة، مما يتطلب معه بيان الأحكام الشرعية لها؛ ليكون المسلم على دراية من موقف الإسلام منها وما يجوز وما لا يجوز، وكيفية تطبيق القواعد والمبادئ الشرعية عليها، وما تلحق به من أبواب الفقه المسماة الوارد ذكرها في الكتب الفقهية، أو لم تكن مندرجة تحت أسماء أبواب الفقه المعروفة، بل هي عقود جديدة (عقود غير مسماة) لا تندرج تحت مسميات أبواب الفقه المذكورة، ولكنها لا تخرج عن الأصول والقواعد الشرعية، فيحكم بجوازها؛ تحقيقًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمون عند شروطهم" (¬2) أو كانت مخالفة فيقال بمنعها مع محاولة إيجاد البديل الذي يتفق والقواعدَ الشرعيةَ. 8 - أنه يمكن الاستفادة منها كمقرر لطلاب الدراسات الشرعية المتخصصة، ويمكن ترجمتها ونشر الاستفادة منها بين أبناء المسلمين من غير الناطقين باللغة العربية، كما أنه يمكن نشرها عن طريق الوسائل الحديثة كالإنترنت وغيرها. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 1. (¬2) رواه البخاري، في باب الإجارة (3/ 114).

منهجنا في هذا البحث

منهجنا في هذا البحث: 1 - حرصنا على ذكر آراء المذاهب وخاصة (الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة) بإيجاز شديد، بعيدًا عن المناقشات والاستطراد في ذكر الأدلة إلا عند الحاجة لذلك. 2 - اقتصرنا على المسائل الهامة في كل باب دون جزئيات الفروع التي يكفي عنها غيرها من المسائل المشهورة. 3 - حرصنا على ذكر آراء المجامع الفقهية وما عليه الفتوى ما أمكن ذلك؛ ليكون معينًا للقارئ في هذا الباب. 4 - ذكرنا الراجح فيما نرى الحاجة إلى ذكره؛ ليكون القارئ على بينة من أقوال أهل العلم، وما يترجح لنا قد يترجح لغيرنا خلافه، وكل يَدِينُ اللهَ بما يتبين له من خلال الأدلة الشرعية. 5 - رجعنا إلى المصادر المعتمدة في كل مذهب مع الاستفادة من الكتب العلمية المتميزة مما كتب في العصور المتأخرة، ولا سيما الرسائل العلمية والبحوث الجادة الأصيلة. 6 - لم نعتمد ترتيبًا معينًا لكتاب معين، ولم نأخذ بمسائل كتاب معين، وإنما أخذنا رؤوس مسائل كل باب وما نرى أنه مهم في نفس الباب والحاجة داعية إليه، بعيدًا عن المسائل التي قد لا تدعو الحاجة العملية لها، مع أهمية هذه المسائل وضرورة وجودها في مختلف كتب الفقه، لكن مشروعنا يختلف كثيرًا عن الكتب العلمية التي يتناولها الباحثون والدارسون على مختلف مستوياتهم.

7 - وحيث إن الهدف من هذا المؤلَّف هو فائدة المسلمين جميعًا أينما كانوا وفي أي وقت وجدوا، فإنا نأمل التعاون معنا بالاقتراحات البناءة المفيدة؛ ليعم النفع وتكثر الفائدة، وهو ما نسعى إليه، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

كتاب الطهارة

الفِقهُ الميَسَّر كتاب الطهارة

الطهارة

كتاب الطهارة أولًا: تعريف الطهارة: الطهارة في اللغة: النظافة والنزاهة عن الأقذار والأوساخ، سواء كانت هذه الأقذار والأوساخ حسية أو معنوية (¬1). فالحسية كطهارة الثوب والبدن مما يصاب به من الأقذار والأوساخ. أما الطهارة المعنوية فهي طهارة القلب مما يعلق به من شرك بالله والغل والبغضاء للمؤمنين (¬2). والواجب على كل مسلم أن يهتم بالطهارة المعنوية؛ لأنها أعظم من الطهارة الحسية، فطهارة القلب من الشرك في عبادة الله أو طهارته من الغل والحسد والبغضاء للمؤمنين، أهم من طهارة البدن، بل لا يمكن أن تنفع الطهارة الحسية مع وجود نجس الشرك. وإذا نظرت إلى حال الكثير من الناس رأيتهم يهتمون بطهارة الظاهر ولا يبالون بطهارة الباطن، مع أن طهارة الباطن هي الأصل، وطهارة الظاهر فرع عليها. الطهارة في الاصطلاح: قيل في تعريفها: هي عبارة عن غسل لأعضاء مخصوصة بصفة مخصوصة (¬3). وقيل: هي ارتفاع الحدث وما في معناه وزوال الخبث. وقيل كذلك: الطهارة هي: إزالة الحدث وإزالة النجس أو ما في معناها أو صورتها (¬4). فقولهم: "ارتفاع الحدث" المراد به زوال الوصف القائم بالبدن المانع من الصلاة ونحوها. ¬

_ (¬1) لسان العرب، مادة: طهر. (¬2) انظر في ذلك: الشرح الممتع (1/ 25). (¬3) انظر: التعريفات، للجرجاني (ص: 142). (¬4) انظر في ذلك: كشاف القناع (1/ 24)، حاشية الروض (1/ 56).

ثانيا: أقسام الطهارة

وقولهم: "وما في معناه" أي: ما كان في معنى ارتفاع الحدث، كغسل اليدين بعد القيام من النوم ليلًا، فهذه طهارة واجبة وليست بحدث. وقولهم: "وزوال الخبث" فالمراد بالخبث النجاسة، وسيأتي الكلام عنها -إن شاء الله-. ثانيًا: أقسام الطهارة: تنقسم الطهارة الحسية قسمين: طهارة حكمية، وطهارة حقيقية. 1 - فالطهارة الحكمية: المراد بها الطهارة من الحدث بنوعيه الحدث الأكبر والحدث الأصغر: فالحدث الأكبر المراد به حدث الجنابة والحيض والنفاس، أما الأصغر فيقصد به حدث البول والغائط والريح والمذي والودي. 2 - أما الطهارة الحقيقية: فالمراد بها الطهارة من النجاسة القائمة بالشخص أو الثوب أو المكان. ثالثا: أدلة مشروعية الطهارة: دل على مشروعية الطهارة الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 6.

رابعا: ما تشترط له الطهاوة

وأما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقبل صلاة بغير طهور" (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" (¬2). وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على أن الصلاة لا تجزئ إلا بطهارة (¬3). رابعًا: ما تشترط له الطهاوة: 1 - الصلاة: يشترط لصحة الصلاة طهارة بدن المصلى وثوبه ومكانه من النجاسة؛ لما ذكرناه من الأدلة السابقة، ولقوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (¬4)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الأعرابي: "أريقوا عليه ذنوبًا من ماء" (¬5). 2 - سجود التلاوة: اختلف الفقهاء في اشتراط الطهارة في سجود التلاوة، وذلك مبني على سجود التلاوة: هل هو صلاة، أم هو جزء من الصلاة فيشترط لصحته الطهارة، أو هو في معنى الصلاة فلا يشترط له الطهارة. فمن قال بأنه صلاة أو جزء من الصلاة اشترط له الطهارة، وبهذا قال ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ، في كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، برقم (224) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. (¬2) أخرجه البخاريُّ، في كتاب الوضوء، باب لا تقبل صلاة بغير طهور، برقم (135). (¬3) الإجماع، لابن المنذر (ص: 29). الطبعة الثانية. (¬4) سورة البقرة: 125. (¬5) أخرجه البخاريُّ، في كتاب الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد، برقم (217).

3 - الطواف

الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2). أما المالكية (¬3) فإنهم يرون عدم اشتراط الطهارة له، وهذا هو المختار عند شيخ الإسلام ابن تيمية (¬4) -رحمه الله- ورجحه الشيخ محمد بن صالح العثيمين (¬5)، وهو الراجح؛ لأنه ليس صلاة ولا جزءًا منها. 3 - الطواف: اختلف الفقهاء في اشتراط الطهارة للطواف: 1 - فذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى اشتراط الطهارة للطواف، واحتجوا على اشتراطها بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أحل الكلام فيه، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير" (¬6)، (¬7). 2 - وذهب الحنفية إلى عدم اشتراط الطهارة في الطواف. وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ محمد بن صالح العثيمين. والراجح: أنه لا بد من الطهارة للطواف، للحديث المذكور. خامسًا: ما تحصل به الطهارة: تحصل الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر بالماء أو ما يقوم مقامه وهو التراب. أما إزالة الخبث فاشترط الفقهاء له الماء، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في دم الحيض يصيب ¬

_ (¬1) المجموع، للنووي (2/ 67)، (3/ 131) وحاشية الدسوقي (1/ 307). (¬2) المغني، لابن قدامة (1/ 620)، أسنى المطالب (1/ 103). (¬3) رد المحتار (1/ 515، 516)، تفسير القرطبي (7/ 358) وحاشية الدسوقي (1/ 307). (¬4) الاختيارات، لشيخ الإسلام (ص: 60). (¬5) الممتع في شرح زاد المستقنع (1/ 271). (¬6) الحديث أخرجه الترمذيّ (3/ 284)، الحاكم (2/ 267). والحديث مختلف في صحته. (¬7) انظر في ذلك حاشية الدسوقي (2/ 31)، المحلى على المنهاج (2/ 1003)، كشاف القناع (2/ 485)، المغني (3/ 377).

سادسا: اشتراط النية في طهارة الأحداث وطهارة النجاسات

الثوب: "تحتّه ثم تقرضه بالماء، ثم تنضحه (¬1)، ثم تصلي فيه" (¬2)؛ والشاهد هنا هو قوله: "بالماء" فهذا دليل على تعيين الماء لإزالة النجاسة، وهذا هو قول الشافعية (¬3) والمالكية (¬4) والحنابلة (¬5). وذهب الحنفية (¬6) -وبه قال شيخ الإسلام (¬7) وشيخنا (¬8) - إلى عدم اشتراط الماء لإزالة النجاسة، بل متى أزيلت النجاسة بأي مزيل آخر زالت وطهر المحل كالخل وماء الورد ونحوه مما إذا عصر انعصر. وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الماء في التطهير؛ لكونه أسرع وأيسر على المكلف. وهذا هو الراجح. سادسًا: اشتراط النية في طهارة الأحداث وطهارة النجاسات: اتفق الفقهاء على عدم اشتراط النية في تطهير النجاسة، ولكن اختلفوا في اشتراطها في طهارة الحدث: ¬

_ (¬1) قال النووي: ومعنى تحته: تقشره وتحكه وتنحته، ومعنى تقرضه: تقطعه بأطراف الأصابع مع الماء ليتحلل، وروي: تَقْرُضه، بفتح التاء وإسكان القاف وضم الراء، وروي بضم التاء وفتح القاف وكسر الراء المشددة: تُقَرِّضُه، ومعنى تنضحه: تغسله. شرح النووي على صحيح مسلم (3/ 199). (¬2) أخرجه البخاريُّ، في كتاب الوضوء، باب غسل دم الحيض، برقم (225)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب نجاسة الدم وكيفية غسله، برقم (291). (¬3) حاشيتا القليوبي وعميرة على منهاج الطالبين (1/ 18). (¬4) الشرح الكبير (1/ 33، 34). (¬5) كشاف القناع (1/ 25). (¬6) فتح القدير (1/ 133). (¬7) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (21/ 475). (¬8) الممتع (1/ 23).

1 - فذهب المالكية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3) إلى شرطيتها في طهارة الحدث. 2 - وخالف الحنفية (¬4) فقالوا بأن طهارة الحدث لا يشترط لها النية؛ لأنها ليست عبادة مقصودة لذاتها، وإنما هي مقصودة لتصحيح العبادة. والراجح: اشتراط النية عند الطهارة من الأحداث، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" (¬5). وأما قول الحنفية أن طهارة الأحداث ليست عبادة مستقلة فنقول: بل هي عبادة مستقلة، فالوضوء والغسل والتيمم عبادات مستقلة بدليل أن الله تعالى رتب عليها الفضل والثواب والأجر، وإذا كانت عبادة مستقلة صارت النية شرطًا لها. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 78). (¬2) المهذب (1/ 21). (¬3) كشاف القناع (1/ 86). (¬4) فتح القدير (1/ 21). (¬5) أخرجه البخاريّ، في باب بدء الوحي، برقم (1)، ومسلمٌ، في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنية" وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، برقم (1907) واللفظ للبخاري.

باب المياه

باب المياه أولًا: أقسام المياه: قسم الفقهاء المياه التي يصح التطهر بها أو لا يصح التطهر بها إلى ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر، ونجس. والطهور: هو الماء الباقي على أصل خلقته كماء البحر، والخارج من الأرض وماء المطر وغير ذلك. وهذا النوع من الماء أجمع الفقهاء على أنه طاهر في نفسه مطهر لغيره (¬1). والطاهر: هو الماء الذي تغير لونه أو طعمه أو ريحه بغير نجاسة. أما في حكم استعمال هذا النوع من المياه فقالوا: إنه طاهر في نفسه غير مطهر لغيره. فيصح استعماله في العادات من شرب وطبخ ونحو ذلك، ولا يصح استعماله في العبادات من وضوء وغسل. والماء النجس: هو الماء الذي تغيرت أحد أوصافه الثلاثة بنجاسة وقعت فيه، سواء كان هذا الماء قليلًا أو كثيرًا. وهذا النوع من المياه لا يجوز استعماله. فهذه هي أقسام المياه الثلاثة عند الحنابلة. وزاد بعض أهل العلم قسمًا رابعًا قالوا: الماء المشكوك فيه. وذهب الحنفية (¬2) وأحمدُ (¬3) في إحدى الروايتين عنه إلى أن أقسام المياه اثنان؛ ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 68، 69)، مواهب الجليل (1/ 43)، الروض المربع (1/ 11)، المغني (1/ 7)،المجموع (1/ 84) (¬2) بدائع الصنائع (1/ 51). (¬3) المغني (1/ 10).

ثانيا: ذكر بعض أحكام المياه

طهور، ونجس، أما الطاهر فهو قسم لا وجود له في الشريعة، والدليل على ذلك عدم الدليل، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1)، واختاره أيضا الشيخ محمد بن صالح العثيمين (¬2)، وهو الراجح. ثانيًا: ذكر بعض أحكام المياه: إذا تغير الماء بطاهر غير ممازج: إذا تغير الماء بطاهر غير ممازج كقطع الكافور ورواسب الدهن فقد اختلف الفقهاء في حكم هذا النوع من المياه: 1 - فذهب الجمهور إلى أنه يكون طهورًا لا يكره استعماله، وعللوا ذلك بأن هذا المتغير تغير عن مجاورة لا عن ممازجة، فلا يُسْلَبُ الماءُ صفتَه. 2 - وذهب الحنابلة -وهو المذهب عندهم- إلى أن هذا النوع من المياه طهور لكن يكره استعماله، وعللوا ذلك بأن هذا النوع من المياه وقع فيه الخلاف بين الفقهاء فيكره استعماله خروجًا من الخلاف (¬3). والصحيح: ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من عدم كراهية استعمال هذا الماء، والتعليل بالخلاف لا يصح بل ليس الخلاف دليلًا شرعيًا تثبت به الأحكام، وهذا هو اختيار شيخنا -رحمه الله- (¬4). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (19/ 236). (¬2) الشرح الممتع (1/ 61)، مجموع فتاوى الشيخ (4/ 85). (¬3) بدائع الصنائع (1/ 15)، البحر الرائق (1/ 71)، مواهب الجليل (1/ 54)، المجموع (1/ 156)، المغني (1/ 23) (¬4) الشرح الممتع (1/ 37)، مجموع فتاوى الشيخ (4/ 85).

حكم استعمال الماء المسخن بشيء نجس

حكم استعمال الماء المسخن بشيء نجس: اختلف الفقهاء (¬1) في الماء المسخن بنجس إذا كان الإناء محكمًا: 1 - فذهب الجمهور إلى عدم كراهة استعماله إذا كان الإناء له غطاء محكم؛ وذلك لأن الغالب على الظن عدم وصول النجاسة إليه، والعمل بغلبة الظن معمول به في الشريعة، ولذا لا يكره استعماله، وهذا هو إحدى الروايتين عن أحمد (¬2). 2 - وذهب أحمد في إحدى الروايتين -وهو المذهب- إلى كراهية استعمال المسخن بنجس؛ وذلك لاحتمال وصول النجاسة إليه، وعللوا ذلك أيضًا بأن استعمال النجاسة مكروه، والحاصل بالمكروه مكروه. الراجح: الصحيح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من عدم كراهية استعمال المسخن بالنجاسة؛ لما احتجوا به، وهو اختيار الشيخ محمد بن صالح العثيمين (¬3). حكم الماء إذا لاقته نجاسة فلم تغير أوصافه: اتفق الفقهاء على أن الماء إذا خالطته نجاسة وغيرت أحد أوصافه أنه ينجس، سواء كان الماء قليلًا أو كثيرًا، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك (¬4). لكنهم اختلفوا في الماء إذا خالطته نجاسة ولم تغير أحد أوصافه على قولين: القول الأول: أن الماء إذا خالطته نجاسة ولم تغير أحد أوصافه فهو طاهر، ¬

_ (¬1) الدر المختار (1/ 80)، المجموع (1/ 134)، الإنصاف (1/ 48). (¬2) المغني (1/ 31). (¬3) الشرح المتع (1/ 39). (¬4) المغنى (1/ 23)، المجموع (1/ 112).

سواء كان كثيرًا أو قليلًا، وهذه رواية عن مالك (¬1) وإحدى الروايتين عن أحمد (¬2)، وبه قال بعض الشافعية (¬3)، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬4) والشيخ محمد ابن صالح العثيمين (¬5). القول الثاني: أن الماء إذا خالطته النجاسة فلم تغير أحد أوصافه فإنه ينظر إلى الماء من حيث القلة والكثرة، فإن كان الماء قليلًا فإنه ينجس، وإن كان كثيرًا فإنه لا ينجس، وهذا مذهب الحنفية (¬6) ورواية عن مالك (¬7)، والمذهب عند الشافعية (¬8)، والمشهور عند الحنابلة (¬9). الراجح: هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول؛ وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الماء طهور لا ينجسه شيء" (¬10)، وهذا يشمل القليل والكثير، ولكن يستثنى من ذلك ما تغير بالنجاسة، فقد انعقد الإجماع على نجاسته، ولأن الأصل في المياه الطهارة ولا يعدل عنها إلا بدليل، ولا دليل على ذلك. ¬

_ (¬1) بداية المجتهد (1/ 41). (¬2) الغني (1/ 23). (¬3) المجموع (1/ 112). (¬4) الاختيارات الفقهية (ص: 10)، مجموع الفتاوى (21/ 33). (¬5) الشرح الممتع (1/ 46 - 62). (¬6) بدائع الصنائع (1/ 71). (¬7) بداية المجتهد (1/ 41). (¬8) المجموع (1/ 112). (¬9) المغني (1/ 23)، ومراتب الإجماع، لابن حزم (ص: 36). دار ابن حزم للنشر، بيروت، ط/ أولى 1419 هـ. (¬10) أخرجه أحمد في المسند (3/ 6215)، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب ما جاء في بئر بضاعة برقم (66)، والنسائيُّ في كتاب المياه، باب ذكر بئر بضاعة، برقم (326).

بيان حد القليل والكثير في المياه

أما حديث القلتين (¬1) فيجاب عنه بما يلي: أولًا: أنه حديث ضعفه كثير من أهل العلم؛ وذلك لاضطرابه. ثانيًا: على اعتبار صحته فإن لحديث القلتين مفهومًا ومنطوقًا؛ فمنطوقه: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، ومفهومه: أن ما دون القلتين ينجس، وهذا ليس على عمومه؛ لأنه يستثنى من ذلك: إذا كان الماء كثيرًا فتغيرت أوصافه بالنجاسة فإنه ينجس. ومن هنا يمكن الجمع بين الحديثين بأن يقال: ينجس إذا تغير ولا ينجس إذا لم يتغير؛ لأن منطوق حديث: "الماء طهور لا ينجسه شيء" مقدم على مفهوم حديث القلتين. بيان حد القليل والكثير في المياه: اختلف أهل العلم في ذلك على أقوال: الأول: ذهب الحنفية (¬2) إلى أن الماء القليل هو الذي إذا حُرِّك طرفه تحرك الطرف الآخر، سواء كان التحريك بالاغتسال أو باليد من غير اغتسال، ولا وضوء، وما لم يتحرك بتحريك طرفه فهو الكثير، ويعبرون عنه بأنه لا يخلص بعضه إلى بعض. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 107) رقم (5855)، وأبو داود، في كتاب الطهارة، باب ما ينجس الماء، برقم (63)، والترمذيُّ في أبواب الطهارة، باب أن الماء لا ينجسه شيء برقم (67) من حديث ابن عمر قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث"، وصححه الألباني. (¬2) بدائع الصنائع (1/ 71 - 72).

كيفية تطهير المياه النجسة

الثاني: وذهب المالكية (¬1) إلى أنه إن تغير لونه أو طعمه أو ريحه فهو قليل، وإن لم يتغير فهو كثير، مستدلين بحديث: "إن الماء لا ينجسه شيء، إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه" (¬2). الثالث: وذهب الشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) إلى أن الماء إذا بلغ قلتين فهو كثير، أما إن كان دون القلتين فهو قليل، مستدلين بحديث: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث" (¬5)، وفي رواية: "إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء" (¬6). وقد رجحنا سابقًا أن الماء لا ينجس، قليلًا كان أوكثيرًا، إلا إذا تغير بالنجاسة. كيفية تطهير المياه النجسة: اختلف الفقهاء في كيفية تطهير المياه النجسة: 1 - فذهب المالكية (¬7) إلى أن الماء النجس يطهر بصب الماء عليه ومكاثرته حتى تزول النجاسة، ولو زال تغيره بنفسه أو بنزح بعضه ففيه قولان عندهم. 2 - وذهب الشافعية (¬8) والحنابلة (¬9) إلى التفريق بين ما إذا كان الماء قلتين ¬

_ (¬1) الشرح الكبير على حاشية الدسوقي (1/ 43). (¬2) أخرجه ابن ماجه، في كتاب الطهارة وسننها، باب الحياض برقم (521)، وضعفه الألباني. (¬3) المجموع (1/ 114). (¬4) المغني (1/ 25). (¬5) أخرجه أحمد (2/ 107)، رقم (5855)، وأبو داود، في كتاب الطهارة، باب ما ينجس الماء برقم (63)، والترمذيُّ في أبواب الطهارة، باب أن الماء لا ينجسه شيء، برقم (67) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، وصححه الألباني. (¬6) أخرجه الحاكم في كتاب الطهارة، برقم (463) وصححها ووافقه الذهبي. (¬7) حاشية الدسوقي (1/ 46 - 47). (¬8) المجموع (1/ 132) (¬9) المغني (1/ 35)

فأكثر، أو هو دون القلتين. فإن كان دون القلتين فتطهيره يكون بالمكاثرة، وهل يشترط في المكاثرة كون الماء المتكاثر به طاهرًا؟ على قولين؛ فالشافعية يرون أنه لا يشترط كونه طاهرًا، بل تحصل المكاثرة بالماء النجس؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث" (¬1). ويرى الحنابلة اشتراط الطهارة للماء المتكاثر به. أما إذا كان الماء قلتين أو أكثر، فإن كان قدر القلتين فإنه إما أن يكون متغيرًا بالنجاسة أو غير متغير بها، فإن كان متغيرًا بالنجاسة فيطهر بالمكاثرة أو تركه حتى يزول تغيره. وإن كان غير متغير بالنجاسة فإنه يطهر بالمكاثرة فقط. أما إذا كان الماء يزيد عن القلتين فإن كان غير متغير فإنه يطهر بالمكاثرة، وإن كان متغيرًا بالنجاسة فيكون تطهيره بأحد ثلاثة أمور؛ إما بالمكاثرة، أو تركه حتى يزول تغيره بمكثه، أو بالأخذ منه حتى يزول به التغير ويبقى بعد ذلك قلتان فصاعدًا. ونرى أن تطهير الماء النجس بأي طريقة يحصل بها طهارته، سواء كان بالإضافة أو زوال تغيره بنفسه، أو ينزح منه ويبقى بعده كثير غير متغير، أو بغير ذلك من الوسائل التي تحصل بها طهارة الماء النجس؛ وذلك لأن الحكم متى ثبت بعلة زال بزوالها، فمتى زالت النجاسة فإنه يكون طاهرًا (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 107) رقم (5855)، وأبو داود، في كتاب الطهارة، باب ما ينجس الماء، برقم (63)، والترمذيُّ، في أبواب الطهارة، باب أن الماء لا ينجسه شيء، برقم (67) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، وصححه الألباني. (¬2) الشرح الممتع (1/ 66)، مجموع فتاوى الشيخ (4/ 89).

حكم الماء المستعمل

حكم الماء المستعمل: الماء المستعمل في طهارةٍ من الحدث أو إزالة نجس ولم تتغير أوصافه، اختلف فيه الفقهاء؛ فمذهب الحنفية (¬1) أنه يصلح لطهارة من خبث من حدث، وهذا هو المعتمد عندهم، فإنه يجوز إزالة النجاسة الحقيقية به. أما المالكية (¬2) فيرون أنه طاهر مطهر لكن يكره استعماله في رفع حدث أو اغتسالات مندوبة مع وجود غيره إن كان يسيرًا، ولا يكره استعماله في إزالة نجاسة ونحوه. أما الحنابلة (¬3) فعندهم روايتان: الأولى أنه طاهر غير مطهر لا يرفع حدثًا ولا يزيل خبثًا، وهذا هو ظاهر مذهب الحنابلة، والرواية الأخرى أنه طاهر مطهر وهذه اختارها شيخ الإسلام (¬4) -رحمه الله-، وشيخنا (¬5) -رحمه الله-، وهذا هو الراجح لأن الأصل بقاء الطهارة ولا يعدل عنها إلا بدليل شرعي، ولأنه ماء طاهر غسل به عضو طاهر، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الماء لا يجنب" (¬6) حكم الماء إذا خالطه طاهر: اتفق الفقهاء على أن الماء إذا خالطه طاهر ولم يتغير فيه شيء مع قلة الماء لم ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 89 - 90)، بدائع الصنائع (1/ 66 - 67). (¬2) الشرح الصغير (1/ 56). (¬3) المغني (1/ 18 - 21). (¬4) مجموع الفتاوى (20/ 519). (¬5) الشرح الممتع (1/ 37). (¬6) أخرجه أحمد (1/ 235)، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب الماء لا يجنب، رقم (68)، والنسائيُّ في كتاب المياه (1/ 174)، والترمذيُّ في كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء في الرخصة في ذلك (65) وقال حسنٌ صحيحٌ من حديث ابن عباس.

يمنع من الطهارة به، وكذا إذا خالطه طاهر ويمكن الاحتراز منه كالطحلب وأدران الشجر الذي سقط في الماء. لكنهم اختلفوا في حكم الماء الذي خالطه طاهر يمكن الاحتراز منه كالصابون والزعفران ونحوه فغير هذا الماء، فهنا اختلف في طهارة هذا الماء أهل العلم: 1 - الحنفية (¬1) والحنابلة (¬2) يرون أنه طاهر مطهر. 2 - وذهب المالكية (¬3) والشافعية (¬4) وأحمدُ في رواية عنه أنه طاهر غير مطهر، أي يستعمل في العادات كالطبخ والشرب، ولا يستعمل في العبادات كالوضوء والغسل. الراجح: هو القول الأول؛ لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬5). فقد أمر الله تعالى باستعمال الماء عند إرادة الصلاة، ولم يبح التيمم إلا عند عدم وجوده والقدرة على استعماله، وقد جاء في سنن النسائي وغيره أن أم هانئ -رضي الله عنها- ذكرت: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل هو وميمونة من إناء واحد في قصعة فيها أثر العجين" (¬6)، فهذا حديث واضح الدلالة في جواز التطهر بالماء إذا خالطه شيء طاهر يمكن الاحتراز منه. ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 62 - 72). (¬2) المغني (1/ 12 - 13). (¬3) أسهل المدارك (1/ 28). (¬4) المجموع (1/ 104). (¬5) سورة النساء: 43. (¬6) أخرجه النسائي، في كتاب الغسل والتيمم، باب ذكر الاغتسال في القصعة التي يعجن فيها، برقم (240)، والبيهقيُّ، في كتاب الطهارة، باب التطهير بالماء الذي خالطه طاهر لم يغلب عليه، برقم (18)

الفرق بين الطهور والطاهر عند من قال بهما

الفرق بين الطهور والطاهر عند من قال بهما: الفرق بين الماء الطهور والطاهر هو أن الماء الطهور يستعمل في العبادات وفي العادات، فيجوز الوضوء به والاغتسال من الجنابة والحيض، كما يجوز تطهير النجاسة به واستعماله في نظافة البدن والثوب من الأوساخ الظاهرة وغير ذلك. أما الماء الطاهر فإنه لا يصلح استعماله في العبادات من وضوء وغسل جنابة ونحوها، كما لا يصح تطهير النجاسة به، وإنما يصح استعماله في الأمور العادية من شرب وتنظيف بدن وثياب وعجن ونحو ذلك. هذه هي جملة فروق من يفرقون بين الطاهر والطهور، أما عند من قال بأن الطاهر لا وجود له في الشريعة فلا اعتبار عنده بهذه الفروق. حكم تطهر الرجل بفضل طهور المرأة: 1 - ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز استعمال الرجل فضل طهور المرأة. 2 - وذهب الحنابلة (¬1) إلى أن الماء إذا خلت به المرأة فهو طهور لكن لا يرفع حدث الرجل، واستدلوا على ذلك بحديث الحكم بن عمرو الغفاري قال: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة" (¬2)، وبما جاء عنه أيضًا - صلى الله عليه وسلم -: من نهيه أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو الرجل بفضل المرأة وليغترفا جميعًا (¬3). الراجح: هو ما ذهب إليه الجمهور، ودليل ذلك ما يأتي: ¬

_ (¬1) الإنصاف (1/ 85)، الإقناع (1/ 10). (¬2) أخرجه الترمذيُّ، في كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء في كراهية فضل طهور المرأة، برقم (64)، وأبو داود، في كتاب الطهارة، باب الوضوء بفضل وضوء المرأة، برقم (82). (¬3) أخرجه أبو داود، في كتاب الطهارة، باب الوضوء بفضل وضوء المرأة، برقم (81)، والنسائيُّ، كتاب الطهارة، باب ذكر النهي عن الاغتسال بفضل الجنب، برقم (238).

حكم الماء إذا غمس فيه يد قائم من نوم ليل

1 - حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: اغتسل بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في جفنة فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ليغتسل منها، فقالت: إني كنت جنبًا، فقال: "إن الماء لا يجنب" (¬1). 2 - اغتساله - صلى الله عليه وسلم - بفضل ميمونة (¬2). 3 - ما رواه البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميعًا" (¬3). حكم الماء إذا غمس فيه يد قائم من نوم ليل: اختلف العلماء في الماء القليل الذي غمس فيه يد قائم من نوم ليل قبل غسله ثلاثًا: 1 - فذهب جمهور العلماء من الحنفية (¬4) والمالكية (¬5) والشافعية (¬6) وهي رواية عن أحمد (¬7) واختارها شيخ الإسلام (¬8) -رحمه الله- وشيخنا (¬9)، إلى أنه طهور يرتفع به الحدث. 2 - وذهب الحنابلة (¬10) -وهو المذهب عندهم- إلى أن الماء طاهر غير مطهر، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، في كتاب الطهارة، باب الماء لا يجنب، برقم (68)، والترمذيُّ، في كتاب باب ما جاء في الرخصة في ذلك برقم (65) وصححه الألباني. (¬2) أخرجه مسلمٌ، في كتاب الحيض، باب القدر المستحب من الماء في الغسل، برقم (323). (¬3) أخرجه البخاريُّ، في كتاب الغسل، باب وضوء الرجل مع المرأة، برقم (146). (¬4) بدائع الصنائع (1/ 20)، الهداية (1/ 16). (¬5) بداية المجتهد (1/ 13). (¬6) المجموع (1/ 219، 412). (¬7) المقنع (1/ 67)، المغني (1/ 35). (¬8) الفتاوى (21/ 45). (¬9) الممتع (1/ 57). (¬10) الإنصاف (1/ 67)، شرح منتهى الإرادات (1/ 19)

حكم مياه الصرف الصحي والمجاري بعد تنقيتها

واستدلوا على ذلك بما رواه البخاري ومسلمٌ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا؛ فإنه لا يدري أين باتت يده" (¬1). الراجح: هو ما ذهب إليه الجمهور؛ لأن الحديث لا يدل على أن الماء سلبت طهوريته عند وضعِ القائم من نوم يدَه فيه، بل فيه النهي عن غمس اليد، ولم يتعرض للماء بذكر. حكم مياه الصرف الصحي والمجاري بعد تنقيتها: من الوسائل الحديثة ما تقوم به بعض المؤسسات من تنقية مياه الصرف الصحي والمجاري؛ بغرض التخلص من نجاستها بعدة وسائل فنية حديثة. وهذا الماء بعد تنقيته من العذرة والبول وكل أنواع النجاسة يصير طهورًا يجوز استعماله في إزالة الأحداث والأخباث وتحصل الطهارة به. جاء ذلك بقرار مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشرة، والمنعقدة بمكة المكرمة في 13/ 7 / 1409 هـ. أما إذا كانت هناك أضرارٌ صحية تنشأ عن استعمالها في الأكل والشرب فالواجب الامتناع عن استعماله محافظة على النفس وتفاديًا للأضرار التي تترتب على استعمالها في ذلك، لا لنجاستها. وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بذلك في فتواها رقم (2468) (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ، في كتاب الوضوء، باب الاستجمار وترًا، برقم (160)، ومسلمٌ، في كتاب الطهارة، باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثًا، برقم (278). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 79) برقم (2468).

الماء المسخن عن طريق الشمس

الماء المسخن عن طريق الشمس: اختلف الفقهاء في حكم استعمال الماء المشمَّس على قولين: الأول: جواز استعماله مطلقًا من غير كراهية، وهو قول الحنابلة (¬1) وجمهور الحنفية (¬2)، وهو قول لبعض المالكية (¬3) والشافعية (¬4) كالنووي. القول الثاني: كراهة استعماله، وإلى هذا ذهب المالكية (¬5) وهو المعتمد عندهم، والشافعية (¬6) في المذهب، وبعض الحنفية (¬7). الراجح: ما ذهب إليه أصحاب القول الأول؛ لضعف أدلة أصحاب القول الثاني؛ ولأن الكراهة تحتاج إلى دليل ولا دليل هنا على الكراهة، أما إذا كانت هناك أضرارٌ صحية تحصل باستعماله فهنا تكون الكراهية كراهة طبية لا شرعية؛ لأنها لا تمنع من إكمال الوضوء أو الغسل لشدة حرارتها، فهنا نقول بكراهته؛ لعدم حصول الإسباغ الذي جاءت السنة بالحث عليه والأمر به. ماء زمزم وحكم استعماله للطهارة: اختلف أهل العلم في حكم استعمال ماء زمزم في الطهارة وإزالة النجاسة على ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) المغني (1/ 17 - 20). (¬2) الدر المختار (1/ 27). (¬3) الشرح الكبير (1/ 42). (¬4) المجموع (1/ 87، 88). (¬5) الشرح الصغير (1/ 16) وحاشية الدسوقي (1/ 44). (¬6) مغني المحتاج (1/ 19). (¬7) رد المحتار على الدر المختار (1/ 27).

الأول: ذهب الحنفية (¬1) والشافعية وأحمدُ في رواية إلى جواز استعمال ماء زمزم في إزالة الأحداث، أما في إزالة النجاسات فيكره؛ تشريفًا وتكريمًا له. الثاني: ذهب المالكية (¬2) إلى جواز استعمال ماء زمزم من غير كراهية للطهارة من الأحداث وإزالة النجاسات. الثالث: ذهب الإمام أحمد (¬3) في رواية إلى كراهية استعمال ماء زمزم مطلقًا في إزالة الحدث والنجاسة، لقول العباس -رضي الله عنه-: "لا أحلها لمغتسل يغتسل في المسجد، وهي لشارب ومتوضئ حل وبل" (¬4). والذي يظهر رجحان رأي المالكية؛ لعمومات النصوص. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 179)، ومغني المحتاج (1/ 20)، والمجموع (1/ 92). (¬2) حاشية العدوي ومعها كفاية الطالب (1/ 139). (¬3) منار السبيل (1/ 10). (¬4) أخرجه الأزرقي في أخبار مكة (2/ 58)، والفاكهي في أخبار مكة (2/ 63) برقم (1154).

باب في النجاسات

باب في النجاسات تعريف النجاسة: النجاسة في اللغة القذارة، يقال: "تنجس الشيء" أي: تلطخ بالقذر وصار نجسًا (¬1). أما في الشرع: فقد عرفها الفقهاء بأنها: "مستقذر يمنع صحة الصلاة حيث لا مرخص" (¬2)، أو هي: "صفة حكمية توجب لموضوعها منع استباحة الصلاة به أو فيه" (¬3). أقسام النجاسة: تنقسم النجاسة إلى قسمين: حكمية، وعينية. أ- فالنجاسة الحكمية: هي التي تقع على الشيء الطاهر فيتنجس بها، كالبول يصيب الثوب. ب- أما النجاسة العينية: فهي التي لا يمكن تطهيرها أبدًا؛ لأن عينها نجسة، كالكلب عند من يقول بنجاسة عينه. طهارة بعض الحيوانات ونجاستها: أولًا: الكلب. اختلف الفقهاء في نجاسة الكلب وطهارته: ¬

_ (¬1) المصباح المنير، مادة: نجس. (¬2) القليوبي على المنهاج (1/ 68). (¬3) الشرح الكبير (1/ 32).

أي الغسلات التي تغسل بالتراب عند ولوغ الكلب في الإناء؟

1 - فذهب الشافعية والحنابلة إلى القول بأن الكلب نجس العين، واحتجوا لذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب" (¬1). 2 - وذهب الحنفية (¬2) إلى أن الكلب ليس بنجس العين، وإنما سؤره ورطوبته نجسة؛ لأن الحديث إنما ورد في ولوغ الكلب لا في عينه، فتحمل النجاسة على سؤره ولعابه. 3 - وذهب المالكية في المشهور عندهم (¬3) إلى أن الكلب طاهر العين، وكذا عرقه ومخاطه ولعابه؛ لأن الأصل في الأشياء الطهارة. الراجح: هو مذهب الحنفية أن الكلب ريقه وبوله وروثه كل ذلك نجس. أما شعره فإنه طاهر، فمتى أصابت رطوبة شعره الثوب أو البدن لم ينجس بذلك؛ لأن الحديث إنما ورد في ولوغه، أما كونه نجس العين فلا يصح القول به؛ لأن الأصل في الأعيان الطهارة، ولا يجوز تنجيس شيء ولا تحريمه إلا بدليل شرعي، وهذا القول هو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد -رحمه الله-. أيُّ الغسلات التي تغسل بالتراب عند ولوغ الكلب في الإناء؟ جاءت روايات في هذا الحكم متعددة: فإحدى الروايات جاء فيها: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب" (¬4) وفي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ، في كتاب الوضوء، باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان، برقم (170)، ومسلمٌ، في كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، برقم (279) واللفظ لمسلم. (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 204). (¬3) الشرح الصغير على أقرب المسالك (1/ 43، 44). (¬4) أخرجه مسلمٌ، في كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، برقم (279) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

هل يشمل هذا الحكم الكلب المعلم؟

رواية أخرى: "إحداهن بالتراب" (¬1) وفي رواية: "إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة في التراب" (¬2). ومن هنا اختلفت أقوال أهل العلم في ذلك: قال ابن حجر -رحمه الله-: "فطريق الجمع أن يقال: إحداهن مبهمة، وأولاهن والسابعة معينة، و (أو) إن كانت في نفس الخبر فهي للتخيير، فمقتضى حمل المطلق على المقيد أن يحمل على إحداهما؛ لأن فيه زيادة على الرواية المعينة ... ، وإن كانت شكًا من الراوي فرواية من عين ولم يشك أولى من رواية من أبهم أو شك، فيبقى النظر في الترجيح بين رواية أولاهن، ورواية الثامنة، ورواية أولاهن أرجح من حيث الأحفظية والأكثرية ومن حيث المعنى؛ لأن ترتيب الأخيرة يقتضي الاحتياج إلى غسلة أخرى تنظيفية" (¬3). هل يشمل هذا الحكمُ الكلبَ المعلَّمَ؟ الجواب: نعم يشمله، فلا بد من غسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب المعلم، فإن قال قائل: أليس في ذلك مشقة بالنسبة لما يباح اقتناؤه؟ قلنا: نعم، لكن تزول هذه المشقة بحماية الكلب من الأواني المستعملة بأن يخصص له أوانٍ لطعامه وشرابه. فإن قال قائل بأنه يلزم ما أمسكه كلب الصيد بفمه غسله سبعًا إحداهن بالتراب؟ قلنا: لا يلزم ذلك؛ لأن هذا مما عفى عنه الشارع، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الولوغ ولم يذكر العض أو الإمساك بالفم، ولأن الصحابة أيضًا لم يثبت عنهم أنهم كانوا يغسلون ما أمسكه الكلب سبعًا. ¬

_ (¬1) أخرجه البزار من حديث أبي هريرة، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح خلا شيخ البزار (مجمع الزوائد 1/ 287) قال ابن حجر: إسناده حسن. (التلخيص 35). (¬2) أخرجه مسلمٌ، في كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، برقم (280) عن عبد الله بن المغفل -رضي الله عنه-. (¬3) الشرح الممتع (1/ 416).

هل يقاس الخنزير على الكلب فيأخذ نفس الأحكام السابقة؟

هل يقاس الخنزير على الكلب فيأخذ نفس الأحكام السابقة؟ 1 - ذهب الحنفية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3) إلى أن الخنزير نجس نجاسة عينية، وكذلك جميع أجزائه وما ينفصل عنه كعرقه ولعابه، لقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬4)، فالضمير في قوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} يعود على عين الخنزير وجميع أجزائه. 2 - أما المالكية (¬5) فقالوا بأنه طاهر العين حال حياته، لأن الأصل في كل حي الطهارة والنجاسة عارضة، فطهارة عينه بسبب الحياة. الراجح: أن الخنزير نجس العين وكذا ما ينفصل منه من عرقه ولعابه وروثه وغير ذلك. هل القول بنجاسة عين الخنزير يلزم منه غسل الإناء سبعًا إذا ولغ فيه؟ الجواب: نقول بأن الصحيح من مذهب الحنابلة (¬6) وغيرهم أن نجاسة الخنزير كنجاسة الكلب تغسل سبعًا إحداهن بالتراب، لكن أكثر العلماء على أن الخنزير لا يغسل ما ولغ فيه سبعًا بل يكفي في غسله واحدة، وتذهب بذلك عين النجاسة لأن الحديث إنما ورد في الكلب، ولذلك جاء القرآن بذكر الخنزير فدل ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 82)، بدائع الصنائع (1/ 63). (¬2) المجموع (2/ 9). (¬3) كشاف القناع (1/ 81). (¬4) سورة الأنعام: 145. (¬5) الشرح الصغير (1/ 43). (¬6) كشاف القناع (1/ 182).

ثانيا: ميتة ما ليس له نفس سائلة.

على وجوده في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ألحقه بالكلب، ومن هنا كان الصحيح أن نجاسة الخنزير كسائر النجاسات لا تغسل سبع مرات. ثانيًا: ميتة ما ليس له نفس سائلة. تعريف ما ليس له نفس سائلة: هو ما ليس له دم يسيل منه إذا جرح أو قتل. حكم نجاسته: 1 - أكثر الفقهاء على أن ما ليس له نفس سائلة كالذباب والبعوض والصرصور والخنفساء ونحو ذلك، إذا وقعت في ماء يسير أو مائع فماتت فيه فإنه لا ينجس ما وقع فيه. استدلوا على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في إحدى جناحيه داءً وفي الأخرى شفاء" (¬1)، ومعلوم أنه قد يفضي غمسه إلى موته، فلو كان ينجس بالموت لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بغمسه إذا سقط في الماء. 2 - وفرق الحنابلة (¬2) في ذلك فقالوا: ما ليس له نفس سائلة نوعان؛ النوع الأول: ما يتولد من الطاهرات فهو طاهر حيًا وميتًا، والنوع الثاني: ما يتولد من النجاسات فهو نجس حيًا وميتا. وهذا التفريق عندهم مبني على مسألة وهي: هل النجاسة تطهر بالاستحالة أم لا؟ على خلاف بين الفقهاء: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ: باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه؛ فإن في إحدى جناحيه داءً وفي الأخرى شفاء، برقم (3142). (¬2) المغني مع الشرح الكبير (1/ 39، 40).

ثالثا: ميتة الحيوان.

1 - فذهب الشافعي (¬1) إلى أنها لا تطهر بالاستحالة، وهي إحدى الروايتين عن أحمد (¬2). 2 - وذهب أبو حنيفة (¬3) إلى أنها تطهر بالاستحالة، وهذه إحدى روايتين عن أحمد (¬4) ومالك (¬5)، واختارها شيخ الإسلام (¬6) -رحمه الله-. الراجح: هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وشيخ الإسلام، فمتى سقط كلب أو خنزير أو سقطت ميتة وغير ذلك من الأعيان النجسة في ملاحة فصارت بعد ذلك ملحًا، فإنه يصير بتحلله طاهرًا. ومن هنا كان المتولد من النجاسات على الصحيح من قولي العلماء طاهرًا، فما ليس له نفس سائلة طاهر مطلقًا. ثالثًا: ميتة الحيوان. تعريف الميتة: الميتة هي: ما مات حتف أنفه -أي: بغير تذكية شرعية- وقد حرّم الله تعالى لحم الميتة فقال: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ ...} (¬7). ولما كانت الضرورة شيئًا خارجًا عن إرادة العبد واختياره أباح الله تعالى للإنسان حال اضطراره أكل من الميتة، فقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (1/ 13). (¬2) المغني (1/ 60). (¬3) بدائع الصنائع (1/ 85). (¬4) المغني (1/ 60). (¬5) الشرح الكبير بحاشية الدسوقي (1/ 57). (¬6) مجموع الفتاوى (20/ 522). (¬7) سورة الأنعام: 145.

حكم ميتة الحيوان

إِثْمَ عَلَيْهِ} (¬1)، وهذا من رحمة الله تعالى بخلقه. حكم ميتة الحيوان: ميتة الحيوان نجسة، لكن هل يجوز الانتفاع ببعض أجزائها كعظمها وريشها وقرنها وظفرها وجلدها وشعرها؟ نقول -وبالله التوفيق-: اختلف الفقهاء في حكم هذه الأشياء المذكورة في نجاستها وطهارتها: 1 - فذهب الحنفية (¬2) إلى أن شعر الميتة وعظمها وعصبها -على المشهور- وحافرها وقرنها الخالية من الدسومة، وكذا كل ما لا تحله الحياة وهو ما يتألم الحيوان بقطعه كالريش والمنقار -كل هذا طاهر-. 2 - أما المالكية (¬3) فقالوا: أجزاء الميتة نجسة إلا الشعر وما يشابهه من الريش. 3 - أما الشافعية (¬4) فقالوا بنجاسة هذه الأشياء المذكورة، وقالوا بأن إباحة هذه الأشياء في قوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (¬5)، محمول على ما إذا أخذ بعد التذكية أو في الحياة على ما هو المعهود. 4 - أما الحنابلة (¬6) فقالوا بنجاسة العظم والقرن والظفر وأصول الشعر والريش إذا نتف وهو رطب أو يابس؛ لأن هذه الأشياء من جملة أجزاء الميتة. أما الشعر والصوف والوبر والريش فهي طاهرة في الحياة وبعد الممات، ولو ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 173. (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 137 - 138). (¬3) الشرح الصغير (1/ 49 - 51)، حاشية الدسوقي (1/ 49 - 54). (¬4) الإقناع، للشربيني الخطيب (1/ 30). (¬5) سورة النحل: 80. (¬6) كشاف القناع (1/ 56، 57).

في طهارة جلد الميتة بالدباغ

كانت لحيوان غير مأكول كالهرة وما دونها في الخلقة؛ لقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (¬1)، فالآية سيقت للامتنان، والظاهر شمول الآية لحالتي الحياة والموت، وهذا هو الراجح. في طهارة جلد الميتة بالدباغ: اختلف الفقهاء في هذه المسألة: 1 - فذهب الحنابلة (¬2) إلى أن جلد الميتة النجسة لا يطهر بالدباغ، ويباح استعماله بعد الدبغ في يابس لا مائع، بشرط أن يكون الجلد لحيوان طاهر في الحياة، سواء كان مأكول اللحم كالشاة، أو لَا كالهرة. وقد استدل الحنابلة بما رواه أحمد وغيره عن عبد الله بن حكيم قال: "أتانا كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا غلام ألا تنتفعوا بإهاب ميتة ولا عصب" (¬3). وجه الدلالة عندهم من الحديث ما يلي: 1 - أن النهي يدل على التحريم. 2 - ولأن الميتة نجسة العين، ونجس العين لا يمكن تطهيره. 3 - ولأن الجلد جزء من الميتة فكان حرامًا، ولقد قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (¬4)، فلم يطهر بالدبغ كاللحم (¬5). ¬

_ (¬1) سورة النحل: 80. (¬2) المغني (1/ 92)، الشرح الكبير (1/ 164)، الإنصاف (1/ 166). (¬3) أخرج أحمد (4/ 310)، وأبو داود، في كتاب الحمام، باب من روى ألا ينتفع بإهاب الميتة، برقم (4127)، (4128)، والترمذيُّ، في كتاب اللباس، باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت، برقم (1729) وقال: حديثٌ حسنٌ (¬4) سورة المائدة: 3. (¬5) الانتصار في المسائل الكبار (1/ 158).

2 - وذهب الحنفية (¬1) والشافعية (¬2) وهو رواية عن أحمد (¬3) إلى أن جلد الميتة يطهر بالدباغ إلا جلد الخنزير والكلب؛ لنجاسة عينها، وهذا هو الصحيح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬4)، والشيخ ابن العثيمين (¬5)، دليل ذلك: 1 - ما رواه مسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: تُصدّق على مولاة لميمونة بشاة، فماتت فمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه، فانتفعتم به؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها" (¬6). 2 - وما روى أحمد وأبو داود والنسائيُّ عن ميمونة قالت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بشاة يجرونها فقال: "هلا أخذتم إهابها؟ قالوا: إنها ميتة، قال: يطهرها الماء والقرظ" (¬7). 3 - وما جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس-رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" (¬8)، فهذه الأدلة تدل على طهارة جلد الميتة إذا دبغ. ¬

_ (¬1) رد المحتار على الدر المختار (1/ 136). (¬2) المجموع (1/ 214، 221، 225). (¬3) المغني (1/ 66). (¬4) مجموع الفتاوى (21/ 90). (¬5) الشرح الممتع (1/ 98، 102). (¬6) أخرجه البخاريُّ، في كتاب البيوع، باب جلود الميتة قبل أن تدبغ برقم (2108)، ومسلمٌ، في كتاب الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ (1/ 276) برقم (363) واللفظ لمسلم. (¬7) أخرجه أحمد (1/ 334)، وأبو داود، في كتاب، باب في أهب الميتة، برقم (4126)، والنسائيُّ، في كتاب الفرع والعتيرة، باب ما يدبغ به جلود الميتة، برقم (4248). (¬8) أخرجه مسلمٌ في صحيحه، كتاب الحيض، باب طهارة جلود الميتة (1/ 159) برقم (366).

في حكم لبن الميتة

في حكم لبن الميتة: اختلفت أقوال الفقهاء في حكم لبن الميتة: 1 - فذهب الحنفية (¬1) إلى القول بطهارة لبن الميتة، وبه قال الإمام أحمد (¬2) في إحدى الروايتين عنه، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3). 2 - وذهب مالك (¬4) والشافعيُّ (¬5) وإحدى الروايتين عن أحمد (¬6) -وهو المشهور في المذهب عندهم- إلى أن لبن الميتة وأنفحتها نجسة. حكم نجاسة الدم: قال الله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ .....} (¬7). فالآية دلت على نجاسة الدم المسفوح، والدم منه ما هو نجس ومنه ما هو طاهر؛ أما الدم النجس فهو على درجتين في الحكم: الأول: نجس لا يعفى عن شيء منه مطلقًا، وهو الخارج من السبيلين، وكذا دم الميتة من حيوان لا يحل إلا بالذكاة. الثاني: نجس يعفى عن يسيره، وهو دم الآدمى عند من قال بنجاسته، وكل ما ميتته نجسة، وكذا ما يبقى في الحيوان بعد خروج روحه بالذكاة الشرعية. ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 96 - 97). (¬2) المغني (1/ 61). (¬3) مجموع الفتاوى (21/ 102). (¬4) الشرح الصغير (1/ 20). (¬5) مغني المحتاج (1/ 80). (¬6) المغني (1/ 61). (¬7) سورة الأنعام: 145.

أما الدم الطاهر فمنه

أما الدم الطاهر فمنه: 1 - دم السمك؛ لأن ميتته طاهرة. 2 - دم ما لا يسيل دمه كدم البعوضة والبق والذباب. 3 - الدم الذي يبقى في العروق والقلب والطحال والكبد، فهذا طاهر سواء كان قليلًا أو كثيرًا. حكم دم الآدمي: اختلف الفقهاء في نجاسة دم الآدمي: 1 - فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (¬1) والمالكية (¬2) والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) إلى القول بنجاسته، إلا أنه يعفى عن يسيره، واستثنوا من ذلك دم الشهيد، فقالوا بطهارته ما دام عليه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لقتلى أحد: "زَمِّلوهم بدمائهم؛ فإنه ليس كَلْمٌ يُكْلَمُ في الله إلا يأتي يوم القيامة يَدْمَى، لونه لون الدم وريحه ريح المسك" (¬5). 2 - ذهب بعض الفقهاء إلى القول بطهارة دم الآدمي عدا دم الحيض والنفاس والاستحاضة، واستدلوا على ذلك بأدلة منها: 1 - أن الأصل في الأشياء الطهارة حتى يقوم دليل النجاسة، ولا نعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل الدم إلا دم الحيض مع كثرة ما يصيب الإنسان من جروح ورعاف وحجامة وغير ذلك، فلو كان نجسًا لبينه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الحاجه تدعو إلى ذلك. ¬

_ (¬1) الاختيار شرح المختار (1/ 8، 30، 31). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 57). (¬3) الإقناع، للشربيني (1/ 82، 83). (¬4) كشاف القناع (1/ 190، 191). (¬5) أخرجه النسائي، في كتاب الجنائز، باب مواراة الشهيد في دمه، برقم (2002) وصححه الألباني.

هل يقاس دم الآدمي على دم الحيض؟

2 - أن المسلمين ما زالوا يصلون في جراحاتهم، كما ذكر ذلك الحسن البصري -رحمه الله- وقد يسيل منهم الدم الكثير الذي ليس محلًا للعفو. 3 - وروى أبو داود في سننه: "أن أحد الصحابة قام يصلي في الليل، فرماه المشرك بسهم فوضعه فيه، فنزعه حتى رماه بثلاثة أسهم، ثم ركع وسجد ومضى في صلاته وهو يموج دمًا" (¬1)، فلو كان الدم نجسًا لانصرف من صلاته، ولكن لعلمهم وفقههم بطهارته لم ينصرفوا من صلاتهم. 4 - أن الآدمي أجزاؤه طاهرة، فلو قطعت يده لكانت طاهرة، وهذه اليد تحمل دمًا، وربما يكون الدم كثيرًا، فإذا كان العضو أو الجزء الذي يقطع من الإنسان طاهرًا وهو يعد ركنًا من بنية الإنسان، فالدم الذي ينفصل منه من باب أولى. هل يقاس دم الآدمي على دم الحيض؟ الجواب: لا يقاس ذلك؛ لأن بينهما فروقًا منها: 1 - أن دم الحيض دم طبيعة وجبلة للنساء، قال - صلى الله عليه وسلم -: "هذا شيء كتبه الله على بنات آدم" (¬2) فبين أنه مكتوب. 2 - أن دم الحيض دم غليظ نتن له رائحة مستكرهة، فيشبه البول والغائط. 3 - أن دم الحيض يخرج من السبيل، ولا يصح قياس الدم الخارج من غير السبيلين على الدم الخارج من السبيلين. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، في باب الوضوء من الدم برقم (198) وصححه الألباني. (¬2) أخرجه البخاريُّ، في كتاب الحيض، باب كيف كان بدء الحيض، برقم (290)، (291)، (300)، ومسلمٌ، في كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران، برقم (1211).

بول وروث ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل لحمه

الراجح من القولين: وبالنظر إلى هذه الأدلة يتبين لنا أن الصحيح من القولين هو طهارة دم الآدمي، عدا دم الحيض والنفاس والاستحاضة وغير ذلك مما خرج من السبيلين. بول وروث ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل لحمه: أولًا: بول وروث مأكول اللحم: اختلف الفقهاء في نجاسة بول وروث مأكول اللحم: 1 - فذهب المالكية (¬1) والحنابلة (¬2) إلى طهارتهما في حياة الحيوان أو بعد ذكاته، واستدلوا على ذلك بحديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أمر العُرَنِيِّينَ أن يشربوا من أبوال الإبل وألبانها" (¬3)، قالوا: فلو كان بولها نجسًا لما أمرهم بالشرب منها، وكذا لما سئل عن الصلاة في مرابض الغنم أجابهم بنعم، صلوا في مرابض الغنم (¬4)، وهذه المرابض محل بول الغنم وروثها. 2 - وذهب الشافعية (¬5) إلى أن بول حيوان مأكول اللحم وروثه نجس. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 51)، الشرح الصغير (1/ 47). (¬2) المغني (1/ 731 - 833)، مطالب أولي النهى (1/ 234) (¬3) أخرجه البخاريُّ، في كتاب الوضوء، باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها، برقم (231)، ومسلمٌ، في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب حكم المحاربين والمرتدين، برقم (1671) (¬4) أخرجه البخاريُّ، في أبواب المساجد، باب الصلاة في مرابض الغنم، برقم (419)، ومسلمٌ، في كتاب الحيض، باب الوضوء من لحوم الإبل، برقم (360) واللفظ لمسلم. (¬5) الاختيار شرح المختار (1/ 30، 33)، جواهر الإكليل (1/ 9).

ثانيا: بول وروث ما لا يؤكل لحمه

والراجح من القولين: هو الأول، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "لم يذهب أحد من الصحابة إلى القول بنجاسته، (يعني بول وروث مأكول اللحم)، بل القول بنجاسته قول مُحْدَثٌ لا سلف له من الصحابة" (¬1). ثم إن القول بطهارتها تمسكًا بالأصل واستصحابًا للبراءة الأصلية، والنجاسة حكم شرعي ناقل عن الحكم الذي يقتضيه الأصل والبراءة، فلا يقبل قول مدعيه إلا بدليل يصح للنقل عنهما وليس هناك دليل. ثانيًا: بول وروث ما لا يؤكل لحمه: اتفق الفقهاء على نجاسة بول الآدمي وعذرته، كما اتفقوا على نجاسة بول وروث ما لا يؤكل لحمه، لكن يعفى عن اليسير من ذلك؛ لمشقة التحرز منه. ذكر بعض ما اختلف فيه الفقهاء في النجاسات مع بيان الراجح: طهارة الآدمي ونجاسته: اتفق الفقهاء على طهارة الآدمي حيًا سواء كان مسلمًا أو كافرًا، واختلفوا في نجاسته ميتًا: 1 - فقال جمهور الفقهاء بالطهارة. 2 - وذهب عامة الحنفية إلى القول بالنجاسة، وقالوا بأنه إذا غسل يحكم بطهارته إذا كان مسلمًا؛ كرامة له، وأما إن كان كافرًا فإنه لا يطهر بالغسل. والراجح: طهارة الآدمي مطلقًا سواء كان حيًا أو ميتًا، مسلمًا كان أو كافرًا؛ ¬

_ (¬1) الأخبار العلمية من اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بتعليق الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ص: 42).

القيء

لاستوائهما في الآدمية وفي حال الحياة. القيء: 1 - ذهب الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) إلى القول بنجاسة القيء، وعللوا ذلك بأنه طعام استحال في الجوف إلى النتن والفساد، فكان نجسًا. 2 - أما الحنفية (¬3) فقالوا بأنه نجس إن كان مِلْءَ الفم أما دونه فطاهر. أما المالكية (¬4) فقالوا: ينظر إلى القيء؛ فإن كان متغيرًا لونه إلى صفراء أو بلغم ولم يتغير عن حالة الطعام، فهو طاهر، أما إذا تغير بحموضة أو نحوها، فهو نجس. 3 - أما ابن حزم (¬5) فقد قال بطهارة القيء، وذهب إلى ذلك الشوكاني (¬6) والصديق حسن خان (¬7)، واستدلوا على ذلك بأن الأصل الطهارة، فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه، وهذا هو الراجح. المني والمذي والودي: أما المني فقد اختلف الفقهاء في نجاسته أو طهارته: 1 - فذهب الحنفية (¬8) والمالكية (¬9) إلى نجاسته. ¬

_ (¬1) المهذب (1/ 53 - 54). (¬2) المغني مع الشرح الكبير (1/ 175، 176). (¬3) فتح القدير (1/ 141). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 51). (¬5) المحلى (1/ 255). (¬6) السيل الجرار (1/ 97). (¬7) الروضة الندية (1/ 17). (¬8) حاشية ابن عابدين (1/ 208). (¬9) حاشية الدسوقي (1/ 56).

2 - وذهب الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) إلى طهارته وهو الراجح. ودليل طهارة المني ما يلي: أولًا: أن الأصل في الأشياء الطهارة، فمن ادعى نجاسة شيء فعليه الدليل. ثانيًا: أن عائشة-رضي الله عنها- كانت تفرك المني اليابس من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) وتغسل الرطب (¬4)، ولو كان نجسًا ما اكتفت فيه بالفرك بل كان لا بد من غسله كدم الحيض. ثالثًا: أن هذا الماء أصل عباد الله المخلصين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وتأبى حكمة الله أن يكون أصل هؤلاء البررة نجسًا (¬5). أما المذي والودي فكلاهما نجس باتفاق الفقهاء؛ لأنهما يخرجان من سبيل الحدث، ولا يخلق منها طاهر، فهما كالبول، ولقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًّا بأن يغسل ذكره ويتوضأ حينما كان يصاب بالمذي، فعن علي -رضي الله عنه- قال: كنت رجلًا مَذَّاءً وكنت أستحي أن أسأل رسول الله؛ لمكان ابنته، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال: "توضأ واغسل ذكرك" (¬6). ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 80). (¬2) الفروع (1/ 247)، الإنصاف (1/ 340). (¬3) أخرجه مسلمٌ، في كتاب الطهارة، باب حكم المني، برقم (288). (¬4) أخرجه البخاريُّ، كتاب الطهارة، باب غسل المني وفركه وغسل ما يصيب من المرأة، برقم (229، 230)، ومسلمٌ، في كتاب الطهارة، باب حكم المني، برقم (289). (¬5) انظر في أدلة طهارة المني في: بدائع الفوائد (2/ 119 - 126)، الممتع في شرح زاد المستقنع (1/ 454 - 455). (¬6) أخرجه البخاريّ، في كتاب الغسل، باب غسل المذي والوضوء منه، برقم (266).

رطوبة فرج المرأة

رطوبة فرج المرأة: اختلف الفقهاء في رطوبة فرج المرأة: 1 - فذهب المالكية (¬1) إلى أن رطوبة فرج المرأة نجسة. وهو إحدى الروايتين عن أحمد (¬2). 2 - أما الشافعية (¬3) والصحيح في مذهب الحنابلة (¬4) فقالوا بطهارة رطوبة فرج المرأة، وهذا هو الراجح. هل تنقض الرطوبة الوضوء؟ القول بأنها تنقض الوضوء محل خلاف بين أهل العلم: 1 - فذهب ابن حزم (¬5) إلى القول بأنها لا تنقض الوضوء؛ لأنها ليست ببول ولا مذي، ومن قال بالنقض فعليه الدليل بل هو كالخارج من بقية البدن من الفضلات الأخرى كالعرق. 2 - ذهب الجمهور (¬6) إلى القول بأن هذه الرطوبات الخارجة من الفرج تنقض الوضوء، وهذا هو الراجح؛ لأنها خارجة من أحد السبيلين ولا يلزم من القول بطهارتها عدم القول بنقض الوضوء بها، فهذه الريح التي تخرج من الدبر تنقض الوضوء مع كونها طاهرة. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 57)، مواهب الجليل (1/ 105). (¬2) كشاف القناع (1/ 195)، الإنصاف (1/ 341). (¬3) مغني المحتاج (1/ 81)، نهاية المحتاج (1/ 228 - 229). (¬4) كشاف القناع (1/ 81)، مطالب أولي النهى (1/ 237). (¬5) المحلى، لابن حزم (1/ 255). (¬6) انظر: المغني (1/ 230)، المجموع (2/ 6).

الخمر

الخمر: 1 - ذهب جمهور الفقهاء (¬1) إلى القول بنجاسة الخمر كنجاسة البول والدم؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (¬2)، والرجس في اللغة الشيء القذر النتن. 2 - وذهب بعض الفقهاء (¬3) إلى القول بطهارة الخمر، وهو اختيار الشيخ محمد بن صالح العثيمين، وهو الراجح؛ لأن الأصل الطهارة حتى يقوم الدليل. أما الآية التي احتج بها الجمهور فالمراد بالنجاسة هنا النجاسة المعنوية لا الحسية؛ وذلك لوجهين: الأول: أنها قرنت بالأنصاب والأزلام والميسر ونجاسة هذه معنوية. الثاني: أن الرجس هنا قيد بقوله تعالى {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} فهو رجس عملي وليس رجسًا عينيًا تكون به هذه الأشياء نجسة (¬4). حكم استعمال ما غالبه نجاسة: اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فذهب الحنفية (¬5) إلى كراهة استعمال ما غالبه نجاسة إذا لم يعلم بنجاسته، أما ¬

_ (¬1) وبهذا قال الأئمة الأربعة وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-. انظر في ذلك: حاشية ابن عابدين (5/ 289)، المجموع (2/ 564)، المغني (8/ 318)، مغني المحتاج (1/ 188)، المحلى (1/ 163)، مجموع الفتاوى (21/ 481). (¬2) سورة المائدة: 90. (¬3) وبهذا قال ربيعة شيخ مالك والصاغاني والشوكاني، ونصر هذا القول الشيخ ابن العثيمين في الممتع (1/ 429 - 432). (¬4) انظر في ذلك: الممتع، للشيخ محمد بن صالح العثيمين (1/ 429 - 432). (¬5) الفتاوى الهندية (5/ 347).

حكم الزرع إذا كان سقياه مياها نجسة

إذا علم فإنه لا يجوز استعماله، ومثلوا لذلك باستخدام أواني المشركين وكذا سراويل المشركين، فلا يجوز استخدام الأواني في الأكل والشرب أو الصلاة بسراويلهم إذا كان عالمًا بحصول النجاسة فيها، أما إذا لم يعلم فيجوز الاستعمال مع الكراهة. 2 - وذهب المالكية (¬1) إلى حرمة استعمال ما غالبه النجاسة، فيحرم أن يصلى في ملابس الكفار عندهم. 3 - ويرى الشافعية (¬2) أنه لو غلب النجاسة في شيء الأصل فيه الطهارة حكم له بالطهارة؛ عملًا بالأصل. 4 - أما الحنابلة (¬3) فيفرقون في هذه المسألة بين الجاهل بحال النجاسة والعالم بها، فمن جهل حالها استعملها كاستخدام أواني الكفار وثيابهم وكذا آنية مدمني الخمر وثيابهم وآنية من يلامس النجاسة كثيرًا وثيابهم، كل هذه الأشياء طاهرة إذا جهل حالها، فيجوز استعمالها مع الكراهة احتياطًا للعبادة. أما إذا علم بنجاستها فلا يجوز استعمالها ولا تصح الصلاة في ثيابهم أو سراويلهم. حكم الزرع إذا كان سقياه مياهًا نجسة: 1 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (¬4) والمالكية (¬5) والشافعية (¬6) إلى أن الزروع والثمار التي تنمو وتنضج على مياه نجسة أنها لا تنجس ولا يحرم تناولها. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 61 - 62). (¬2) مغني المحتاج (1/ 29). (¬3) كشاف القناع (1/ 53). (¬4) حاشية ابن عابدين (5/ 217). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 61). (¬6) روضة الطالبين (1/ 17).

حكم استعمال العطورالطيارة الكولونيا وما شابه ذلك

2 - وذهب الحنابلة (¬1) إلى القول بحرمة المتغذي من الزروع على المياه النجسة، واحتجوا لذلك بدليل وتعليل: أما الدليل: فهو ما رواه البيهقي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كنا نكري أرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونشترط عليهم أن لا يدملوها بعذرة الناس" (¬2). أما التعليل: فعللوا بأنها تتغذى على النجاسات، وأجزاؤها تتحلل فيها، والاستحالة لا تطهير. حكم استعمال العطورالطيارة الكولونيا وما شابه ذلك: اختلف الفقهاء في حكم استعمال هذه الأنواع من العطور أي المضاف إليها مواد متطايرة والغالب فيها أنها تسكر. فقد ذهب بعض أهل العلم إلى نجاستها، وبالتالي حرمة استعمالها، وقد نصر ذلك العلامة الشنقيطي (¬3) في أضواء البيان. وذهب بعضهم إلى جواز استعمالها، ورجحه الشيخ محمد بن صالح العثيمين (¬4)، ولكن الاحتياط تركها وعدم استعمالها، وهذا هو رأي سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (¬5). الراجح: أن تركها أحوط وأسلم وأبرأ للذمة. ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة [(11/ 72 - 73)، (1/ 256)]، الإنصاف (10/ 368). (¬2) أخرجه البيهقيُّ في السنن، كتاب المزارعة، باب ما جاء في قطع السدرة، برقم (11536). (¬3) أضواء البيان (2/ 129). (¬4) مجموع فتاوى الشيخ (11/ 251). (¬5) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ -رحمه الله- (10/ 41).

آداب قضاء الحاجة

آداب قضاء الحاجة ما يقوله الإنسان عند دخول الخلاء والخروج منه: 1 - يسن لمن أراد دخول الخلاء أن يقدم رجله اليسرى ويقول: "اللَّهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" (¬1)، وإذا كان في البر استعاذ عند الجلوس لقضاء الحاجة. 2 - وعند خروجه من الخلاء يقدم رجله اليمنى ثم يقول: "غفرانك" (¬2)، وإن زاد "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني" (¬3) فلا بأس، لكن على سبيل الدعاء فقط، أما جعل ذلك سنة فلا يصح؛ لأن الحديث الوارد في ذلك فيه ضعف. 3 - السنة أن يبول الرجل قاعدًا، ويجوز له أن يبول واقفًا؛ لحديث حذيفة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ، في كتاب الوضوء، باب ما يقول عند الخلاء، برقم (142)، ومسلمٌ، في كتاب الحيض، باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء، برقم (375) (¬2) أخرجه أحمد في المسند 6/ 155، وأبو داود، في كتاب الطهارة، باب ما يقول الرجل إذا خرج من الخلاء، برقم (30)، والترمذيُّ، في كتاب أبواب الطهارة، باب ما يقول إذا خرج من الخلاء، برقم (7)، وقال: حسن غريب. والنسائيُّ في السنن الكبرى في كتاب عمل اليوم واليلة، برقم (9907)، وابن ماجه، في كتاب الطهارة وسننها، باب ما يقول إذا خرج من الخلاء، برقم (300)، وابن خزيمة، في كتاب الوضوء، باب القول عند الخروج من المتوَضَّأ، برقم (90)، وابن حبان، في كتاب الطهارة، باب الاستطابة، برقم (1444)، والحاكم في المستدرك، في كتاب الطهارة، برقم (562، 563)، وقال: حديث صحيح. قال ابن الملقن في تحفة المحتاج (1/ 167): "رواه الأربعة، وحسنه الترمذيُّ، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم". (¬3) أخرجه ابن ماجه، في كتاب الطهارة وسننها، باب ما يقول إذا خرج من الخلاء برقم (301)، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/ 44): هذا حديث ضعيف. وقال ابن الملقن في تحفة المحتاج 1/ 168: رواه ابن ماجه، وفي إسناده إسماعيل بن مسلم المخزومي، وهو ضعيف، لكنه من فضائل الأعمال.

-رضي الله عنه- حيث قال: "أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - سباطة قوم فبال قائمًا" (¬1). وجواز البول قائمًا مشروط بأمرين: الأول: أن يأمن التلوث لثيابه. الثاني: أن يستر عورته عن الناس. 4 - يحرم الدخول بالمصحف الحمام إلا أن يخاف عليه من السرقة، فيجوز له أن يدخل به لكن بعد إفراغ وسعه في عدم الدخول به، فإن كان في مكان عام من الناس أعطاه أحدًا فيمسكه له حتى يخرج. 5 - يكره دخول الحمام بشيء فيه ذكر الله -تعالى- إلا لحاجة. 6 - الواجب على من أراد أن يقضي حاجته في الفضاء أن يبتعد عن الناس ويستر منهم. 7 - يحرم على من أراد قضاء حاجته أن يتخلى في الطرق والظلال والموارد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا اللعَّانَيْنِ، قالوا: وما اللعَّانان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس، أو في ظلهم" (¬2). 8 - لا يجوز أن يبول في الماء الراكد أو المُسْتَحَمِّ الذي يستحم فيه، لنهيه - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، وجاء في سنن أبي داود عن عبد الله بن مغفل -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبولن أحدكم في مُسْتَحَمِّهِ ثم يغتسل فيه" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ، في كتاب المظالم، باب الوقوف والبول عند سباطة قوم، برقم (2339)، ومسلمٌ، في كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، برقم (273) واللفظ للبخاري. (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الطهارة، باب النهي عن التخلي في الطرق والظلال، برقم (269). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب الطهارة، باب النهي عن البول في الماء الراكد برقم (281). (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في البول في المستحم برقم (27)، وصححه الألباني.

9 - استقبال القبلة: اختلف الفقهاء في حكم استقبال القبلة لمن أراد قضاء حاجته: فقيل: يحرم استقبالها واستدبارها مطلقًا. وقيل: يحرم في الفضاء، ويجوز في البنيان. والصحيح: هو حرمة استقبال القبلة في الفضاء وكذلك استدبارها، أما في البنيان فيجوز فيه استدبارها واستقبالها، وهذا رواية عن الحنابلة (¬1). ويرجح الشيخ محمد بن صالح العثيمين جواز الاستدبار دون الاستقبال (¬2). 10 - لا يجوز الاستجمار باليمين حال قضاء الحاجة؛ لحديث سلمان -رضي الله عنه-: "نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول أو نستنجي باليمين أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار" (¬3). 11 - متى استجمر من قضى حاجته فلا يستجمر بأقل من ثلاثة أحجار؛ لحديث سلمان المتقدم، فإن كان حجرًا واحدًا له ثلاث شعب جاز له أن يستنجي به؛ لأن العبرة بجعل المسح ثلاثًا. ¬

_ (¬1) المبدع (1/ 86). (¬2) الشرح الممتع (1/ 144). (¬3) أخرجه البخاريُّ، في كتاب الوضوء، باب البول في الماء الدائم، برقم (236)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب الاستطابة، برقم (262).

باب الوضوء

باب الوضوء تعريف الوضوء: الوُضوء بالضم الفعل، وبالفتح (الوَضوء) ماؤه ومصدر أيضًا، أو لغتان: قد يعني بها المصدر، وقد يعني بها الماء (¬1). قال الحافظ: "وهو مشتق من الوضاءة، وسمي بذلك؛ لأن المصلي يتنظف به فيصير وضيئًا" (¬2). أما في الشرع: فقد عرفه الفقهاء بأنه "استعمال الماء في أعضاء مخصوصة؛ وهي الوجه واليدان والرأس والرجلان بكيفية مخصوصة"، هذا هو التعريف الذي عليه جمهور الفقهاء (¬3). والأولى أن يقال في تعريفه: "التعبد لله تعالى بغسل أعضاء مخصوصة بكيفية مخصوصة"؛ حتى يتميز بذلك العبادات عن غيرها من العادات (¬4). شروط الوضوء: شروط الوضوء تنقسم إلى ثلاثة أقسام: شروط وجوب، شروط صحة، شروط وجوب وصحة. ¬

_ (¬1) لسان العرب (1/ 194). (¬2) فتح الباري (1/ 232). (¬3) انظر في ذلك: الشرح الصغير على أقرب المسالك (1/ 163)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/ 44)، حاشية الروض (1/ 128، 129). (¬4) الشرح الممتع (1/ 183).

أولا: شروط وجوب

أولًا: شروط وجوب: المراد بها هي الشروط التي توجب على المكلفين الوضوء بحيث إذا فقدت هذه الشروط أو بعضها لم يجب الوضوء، وهذه الشروط هي: 1 - البلوغ: فلا يجب الوضوء على من لم يبلغ الحلم، وذلك لأنه غير مكلف لا يلزمه شيء من الواجبات، قال - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يُفِيقَ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم" (¬1). إذا بلغ الصبي بعد أن توضأ ساعة، هل يلزمه إعادة الوضوء للصلاة؟ الجواب: هذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم، والصحيح أنه لا يلزمه الإعادة؛ لأنه أدى الوضوء على الوجه المطلوب منه شرعًا فسقط عنه الطلب. 2 - ومن شرط الوجوب أيضًا للوضوء كونُ المكلف غير متوضئ، فمتى توضأ وصلى صلاة بوضوء ولم ينتقض وضوؤه طول النهار، فلا يجب عليه الوضوء بدخول وقت الصلاة، بل متى نقض الوضوء وجب عليه مرة ثانية لأداء عبادة أخرى. 3 - كون المكلف قادرًا على الوضوء، فلا يجب على العاجز عن استعمال الماء لمرض ونحوه، وكذلك لا يجب على فاقد الماء. 4 - دخول وقت الصلاة لأصحاب الأعذار كمن به سلس البول، وكذا المرأة المستحاضة، ومن به انفلات ريح، وقد اختلف في ذلك الفقهاء: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ، في كتاب الطلاق، باب إذا قال لامرأته وهو مكره: هذه أختي، فلا شيء عليه برقم (4966)، أبو داود، في كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدًا برقم (4401) واللفظ لأبي داود.

* فمنهم من يرى أنه لا يصح وضوء هؤلاء قبل دخول الوقت، وهذا قول الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2). * وذهب المالكية (¬3) إلى أنه يصح وضوء المعذور قبل دخول الوقت وبعده. * وقال الحنفية (¬4): إنه يصح الوضوء قبل الوقت إلى أن يخرج وقت الصلاة التي توضأ من أجلها، فلا يصح أن يصلي للصلاة الجديدة بوضوء ما قبلها. الراجح: ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة من اشتراط الوضوء لوقت كل صلاة لمن ابتلي بسلس بول أو كثرة مذي واستحاضة أو انفلات ريح وأشباههم ممّن يستمر منه الحدث ولا يمكنه حفظ طهارته، فعلى هؤلاء الوضوء لكل صلاة بعد غسل محل الحدث وشده والتحرز بكل ما يمكنه من خروج الحدث. أما دليل الترجيح لهذا القول فهو قوله - صلى الله عليه وسلم - في المستحاضة في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حُبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت خبرها فقال: "تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت تحيض فيها، ثم تغتسل وتتوضأ عند كل صلاة، وتصوم وتصلي" (¬5). وغير المستحاضة تلحق بها؛ لعدم إمكانهم الاحتراز من ذلك. ¬

_ (¬1) المجموع، للنووي (2/ 541). (¬2) كشاف القناع (1/ 196). (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 116). (¬4) البدائع (1/ 143). (¬5) أخرجه أبو داود، في كتاب الطهارة، باب في المرأة تستحاض ومن قال تدع الصلاة في عدة الأيام التي كانت تحيض، برقم (281)، والترمذيُّ، في كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة، برقم (126) وصححه الألباني في الإرواء (1/ 225) تحت رقم (207) واللفظ للترمذي.

ثانيا: شروط صحة الوضوء

ثانيًا: شروط صحة الوضوء: معنى شروط الصحة أي: الشروط التي لا يصح الوضوء إلا بها، ومن هذه الشروط: 1 - كون الماء طهورًا، وقد تقدم الكلام على معنى الطهور. 2 - وصول الماء إلى العضو الذي يراد غسله، فمتى كان هناك حائل يمنع وصول الماء إلى العضو وليس هناك حاجة لهذا الحائل، فإن الوضوء لا يصح. 3 - عدم وجود ما ينافي الوضوء أثناء وضوئه، فلو غسل وجهه ويديه ثم أحدث فإنه يجب عليه أن يبدأ الوضوء من أوله، إلا أن يكون من أصحاب الأعذار ممّن مر ذكرهم، فإنه لا يجب عليه استئناف الوضوء. 4 - كون الماء مباحًا، فإذا توضأ بماء مغصوب فإن وضوءه لا يصح، وهذا ما ذهب إليه الحنابلة (¬1) في إحدى الروايتين عن أحمد، والصحيح أن الوضوء يصح لكن مع الإثم. 5 - النية عند الوضوء، فيشترط لصحة الوضوء النية عند الحنابلة، فإذا لم ينو لم يصح؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" (¬2). أما الحنفية (¬3) فيرون أن النية سنة. ¬

_ (¬1) منار السبيل (1/ 8). (¬2) أخرجه البخاريُّ، في باب بدء الوحي برقم (1)، ومسلمٌ، في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنية"، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال برقم (1907) من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. (¬3) بدائع الصنائع (1/ 19).

ثالثا: شروط الوجوب والصحة معا

وذهب المالكية (¬1) والشافعية (¬2) إلى أنها من أركان الوضوء. والصحيح: هو اشتراط النية لصحة الوضوء؛ للحديث المذكور. ثالثًا: شروط الوجوب والصحة معًا: المراد بهذه الشروط أعني شروط الصحة والوجوب معًا هي: التي إذا فقد منها شرط فإن الوضوء لا يجب ولا يصح إذا وقع، وهذه الشروط هي: 1 - العقل؛ فلا يجب الوضوء على مجنون، وإن توضأ فإن وضوءه لا يصح، فمتى فاق من جنونه فالواجب عليه الوضوء لأداء العبادة. 2 - طهارة المرأة من الحيض والنفاس؛ فلا يجب الوضوء على حائض ولا نفساء، ولا يصح منهما بحيث إذا توضأت وهي حائض ثم ارتفع حيضها فإن وضوءها لا يعتبر؛ لعدم صحته. 3 - الإسلام؛ فلا يجب الوضوء على كافر؛ لأن الإسلام شرط لوجوب الوضوء، بمعنى أن غير المسلم لا يطالب بالوضوء وهو كافر، ولو توضأ وهو كافر لم يصح وضوؤه، ولكن حال كفره هو مخاطب بالصلاة وبوسائلها بحيث يعاقب على ترك الوضوء، ولا يصح منه إذا توضأ. فرائض الوضوء: تعريف الفرض: الفرض في اللغة الجزم والقطع. وفي الشرع: "ما أثيب فاعله وعوقب تاركه" وفروض الوضوء هي: ¬

_ (¬1) الشرح الصغير (1/ 176). (¬2) المجموع (1/ 355).

1 - غسل الوجه

1 - غسل الوجه: لقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (¬1)، وقد أجمع العلماء على وجوب غسل الوجه عند الوضوء. هل يدخل في وجوب غسل الوجه الفم والأنف أم أن غسلهما سنة؟ اختلف الفقهاء في ذلك: أ- فالمشهور في مذهب أحمد (¬2) وجوب المضمضة والاستنشاق في الطهارتين معًا، وفي رواية أخرى في المذهب أن الاستنشاق وحده هو الواجب. ب- وذهب الشافعية (¬3) والمالكية (¬4) إلى أن المضمضة والاستنشاق سنة لا يجبان في الطهارتين. الراجح: أن المضمضة والاستنشاق واجبان؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - للقيط بن صبرة: "إذا توضأت فمضمض" (¬5)، والأمر يفيد الوجوب إلا لقرينة تصرفه. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر" (¬6). قال الشوكاني -رحمه الله-: "القول بالوجوب هو الحق، لأن الله سبحانه أمر ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 6. (¬2) المغني (1/ 166، 167)، الإنصاف (1/ 154). (¬3) المجموع (1/ 395). (¬4) الشرح الصغير (1/ 181). (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الاستنثار، برقم (144)، صحيح سنن أبي داود (131) (¬6) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب الاستنثار في الوضوء، برقم (159)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب الإيتار في الاستنثار والاستجمار، برقم (237).

معنى الاستنشاق والمضمضة والاستنثار

في كتابه العزيز بغسل الوجه، ومحل المضمضة والاستنشاق من جملة الوجه، وقد ثبت مداومة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك في كل وضوء ... " (¬1). معنى الاستنشاق والمضمضة والاستنثار: المضمضة: هي إدارة الماء في الفم. والاستنشاق: اجتذاب الماء بالتنفس إلى باطن الأنف. والاستنثار: إخراج الماء من الأنف، ولكن يعبر عن الاستنثار بالاستنشاق؛ لكونه من لوازمه. ولا يجب إيصال الماء إلى جميع الفم ولا إيصال الماء إلى جميع باطن الأنف، وإنما ذلك مبالغة مستحبة في حق غير الصائم. 2 - غسل اليدين إلى المرفقين: لا خلاف بين الفقهاء في وجوب غسل اليدين في الطهارة لقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬2). لكن اختلف الفقهاء في إدخال المرفقين في الغسل: أ- فذهب مالك (¬3) والشافعيُّ (¬4) والحنفية (¬5) وأحمدُ (¬6) إلى وجوب إدخال المرفقين في الغسل. ¬

_ (¬1) السيل الجرار (1/ 81). (¬2) سورة المائدة: 6. (¬3) الشرح الصغير على أقرب المسالك (1/ 166). (¬4) المجموع (1/ 419). (¬5) بدائع الصنائع (1/ 4). (¬6) المغني (1/ 173).

3 - مسح الرأس

ب- وذهب بعض أصحاب مالك (¬1) وغيرهم إلى أنه لا يجب إدخال المرفقين في غسل اليدين. والصحيح: هو وجوب إدخال المرفقين في غسل اليدين، ولا يكفي أن يوصل المتوضئ الماء إلى بداية المرفقين، بل عليه أن يوصل الماء إلى نهاية المرفقين، يدل على ذلك حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ" (¬2)؛ وفي الآية دليل أيضًا على ذلك، أعني قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬3)، فإن {إِلَى} هنا بمعنى (مع)، كما في قوله تعالى: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} (¬4) يعني مع قوتكم، وقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} (¬5) يعني مع أموالكم، وقد جاءت السنة ببيان معنى الآية كما جاء في حديث أبي هريرة السابق فكان مبينًا للغسل المأمور به. 3 - مسح الرأس: قال الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬6). ولا خلاف بين الفقهاء في وجوب مسح الرأس، لكنهم اختلفوا في القدر الواجب منه: أ- فالمشهور من مذهب مالك (¬7) وأحمدُ (¬8) وجوب مسح جميع الرأس في الوضوء. ¬

_ (¬1) المغني (1/ 173). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الطهارة، باب استحباب إطاله الغرة والتحجيل في الوضوء، برقم (246). (¬3) سورة المائدة: 6. (¬4) سورة هود: 52. (¬5) سورة النساء: 2. (¬6) سورة المائدة: 6. (¬7) أقرب المسالك مع الشرح الصغير (1/ 42). (¬8) المغني (1/ 111).

هل يمسح الرأس أكثر من مرة؟

ب- وذهب أبو حنيفة (¬1) والشافعيُّ (¬2) وقول في مذهب مالك (¬3) وأحمدُ (¬4) إلى أنه لا يلزم مسح جميع الرأس، بل إذا مسح بعضه أجزأه. الراجح: القول الأول، وهو اختيار شيخ الإسلام (¬5) -رحمه الله- والشيخ العثيمين (¬6)، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬7). دليل ذلك: قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬8)، ولقد جاءت السنة ببيان صفة مسح الرأس، فالذين وصفوا وضوءه قالوا بأنه كان يبدأ بمقدم رأسه ثم يمر بهما إلى قفاه ثم يردهما إلى حيث بدأ، كما جاء ذلك في حديث عبد الله بن زيد في وصف وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬9). هل يمسح الرأس أكثر من مرة؟ الجواب: لا يسن تكرار مسح الرأس في الصحيح من مذهب الحنابلة، وهو قول ¬

_ (¬1) الهداية للمرغيناني (1/ 12)، فتح القدير (1/ 18). (¬2) الأم (1/ 22). (¬3) بداية المجتهد (1/ 14). (¬4) الإنصاف (1/ 161). (¬5) مجموع الفتاوى (21/ 123). (¬6) الممتع (1/ 717). (¬7) فتاوى اللجنة (5/ 210). (¬8) سورة المائدة: 6. (¬9) حديث عبد الله بن زيد متفق عليه: البخاري (1/ 82) رقم (189)، صحيح مسلم (1/ 210) رقم (235): "قيل له: توضأ لنا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بإناء فأكفأ منها على يديه فغسلهما ثلاثًا، ثم أدخل يده فاستخرجها فمضمض واستنشق من كف واحدة ففعل ذلك ثلاثًا، ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثًا، ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين، ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر، ثم غسل رجليه إلى الكعبين، ثم قال: هكذا كان وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -".

هل يجزئ غسل الرأس عن المسح عند الوضوء؟

أبي حنيفة ومالك، وذهب الشافعي وهو رواية عن أحمد أنه يسن تكرار مسح الرأس (¬1). والصحيح أنه لا يسن تكرار المسح، ولذا قال ابن القيم -رحمه الله-: "والصحيح أنه لم يكرر مسح رأسه بل إذا كرر غسل الأعضاء أفرد مسح الرأس ... بل ما عدا هذا إما صريح غير صحيح كحديث ابن البيلماني: "ومسح برأسه ثلاثًا"، وابن البيلماني وأبوه مُضَعَّفان، وكحديث عثمان الذي رواه أبو داود: "مسح رأسه ثلاثًا"، قال أبو داود: أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أنه مسح رأسه مرة" (¬2). هل يجزئ غسل الرأس عن المسح عند الوضوء؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه يجزئه؛ لأن الله إنما أسقط الغسل عن الرأس تخفيفًا لأنه يكون فيه شعر فيمسك الماء ويسيل إلى أسفل. ولا سيما في أيام الشتاء والبرد، فإذا غسله فقد اختار لنفسه ما هو أغلظ فيجزئه. القول الثاني: أنه يجزئه مع الكراهة، بشرط أن يمر يده على رأسه، وإلا فلا، وهذا هو المذهب؛ لأنه إذا أمرّ يده فقد حصل المسح مع زيادة بالغسل. القول الثالث: أنه لا يجزئه؛ لأنه خلاف أمر الله ورسوله؛ قال الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}، وإذا كان كذلك فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" (¬3). والصحيح من الأقوال: أن المسح أفضل من الغسل، لكن إن غسله أجزأه ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة (1/ 178). (¬2) زاد المعاد (1/ 193). (¬3) أخرجه البخاريّ في كتاب البيوع، باب النجش ومن قال لا يجوز ذلك البيع (61)، ومسلمٌ في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، برقم (1718).

هل يلزم من مسح الرأس مسح الأذنين؟

لكن بشرط إمرار اليد على الرأس عند الغسل (¬1). هل يلزم من مسح الرأس مسح الأذنين؟ يرى بعض الفقهاء أنه يجب مسحهما؛ لأنهما من الرأس، قال - صلى الله عليه وسلم -: "الأذنان من الرأس" (¬2) أي هما من جملة الرأس الذي يجب مسحه. وهذا هو الصحيح من مذهب الحنابلة (¬3). ويرى بعضهم أنه لا يجب مسحهما، وهذا ظاهر المذهب عند الحنابلة (¬4). والراجح من القولين: هو وجوب مسح الأذنين؛ لأنهما من الرأس، ولثبوت مسحهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل لمداومته على ذلك، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما" (¬5). هل يؤخذ للأذنين ماء جديد؟ المذهب عند الحنابلة أنه يسن أخذ ماء جديد للأذنين عند بعض الفقهاء. والصحيح أنه لا يشرع أخذ ماء جديد لهما؛ لأن جميع من وصف وضوءه - صلى الله عليه وسلم - لم يذكروا أنه أخذ ماءً جديدًا للأذنين، فعلى هذا يكون الصواب أنه لا يسن أخذ ماء جديد للأذنين (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: الممتع (1/ 186)، الإنصاف (1/ 159). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم (134)، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب الأذنان من الرأس، برقم (443). (¬3) المغني، لابن قدامة 1/ 183، والإنصاف (1/ 162). (¬4) المرجع السابق. (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم (121)، والترمذيُّ في كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء في مسح الأذنين ظاهرهما وباطنهما، برقم (36). (¬6) انظر في ذلك: زاد المعاد (1/ 95)، الممتع (1/ 178)، نيل الأوطار (1/ 190).

4 - من فرائض الوضوء غسل الرجلين مع الكعبين

4 - من فرائض الوضوء غسل الرجلين مع الكعبين: قال الله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (¬1)، والكعبان هما العظمان الناتئان اللذان بأسفل الساق من جانبي القدم. 5 - الترتيب: هذا هو الفرض الخامس من فرائض الوضوء، وبوجوبه قال الشافعي (¬2) وأحمدُ (¬3)، وذهب المالكية (¬4) والحنفية (¬5) إلى أن الترتيب غير واجب وأنه من سنن الوضوء. والراجح: هو وجوب الترتيب في الوضوء؛ لمواظبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليه ومراعاته، ولأن الله ذكر أعضاء الوضوء مرتبة فوجب ترتيبها، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ابدأ بما بدأ الله به" (¬6). هل يسقط الترتيب بالنسيان والجهل؟ قال بعض أهل العلم بأنه يسقط بالنسيان، وقال آخرون: لا يسقط بالنسيان؛ لأنه فرض والفرض لا يسقط بالنسيان. والصحيح: أن الناسي لا يعذر بنسيانه في الترتيب، فإذا توضأ وانتهى من وضوئه ثم تذكر أنه لم يرتب أعضاء الوضوء حال وضوئه، أعاد الوضوء، وكذا إذا تذكر بعد انتهائه من صلاته فيجب عليه إعادة الوضوء والصلاة. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 6. (¬2) الحاوي (1/ 138). (¬3) الكافي (1/ 31). (¬4) المعونة (1/ 126). (¬5) بدائع الصنائع (1/ 22). (¬6) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم (1218).

6 - الموالاة

أما الجاهل بحكمه -أي: بحكم فرضيته- فإنه يعذر، لعذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أناسًا كثيرين بجهلهم في مثل هذه الأحوال. 6 - الموالاة: تعريفها: هي أن يكون الشيء مواليًا للشيء بدون تأخير، فلا يؤخر غسل عضو من أعضاء الوضوء حتى ينشف الذي قبله بشرط أن يكون ذلك في زمن معتدل خال من الريح أو شدة الحر والبرد. دليلها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (¬1). وجه الدلالة: أن جواب الشرط يكون متتابعًا لا يتأخر. ومن السنة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ متواليًا ولم يكن يفصل بين أعضاء وضوئه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "رأى رجلًا توضأ وترك على قدمه مثل موضع ظفر لم يصبه ماء فأمره أن يحسن وضوءه" (¬2). وأيضًا: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد الوضوء والصلاة" (¬3). دليل التعليل: وهو أن الوضوء عبادة واحدة، فإذا فرق بين أجزائها لم تكن عبادة واحدة. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 6. (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الطهارة، باب وجوب استيعاب جميع أفراد البدن محل الطهارة، برقم (243). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب تفريق الوضوء برقم (175)، أحمد (3/ 424) رقم (15534).

حكم التسمية عند الوضوء

اختلاف العلماء في حكم الموالاة: ذهب الحنفية (¬1) وهو رواية عن أحمد (¬2) والقول الجديد عن الشافعية (¬3) إلى أن الموالاة سنة وليست بواجبة. أما المذهب عند الحنابلة (¬4) وهو المشهور في مذهب مالك (¬5) واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية (¬6) وشيخنا (¬7) -رحمه الله- أن الموالاة واجبة، احتجاجًا بما ذكرناه من الأدلة السابقة، وهذا هو الراجح. حكم التسمية عند الوضوء: اختلف الفقهاء فيه: 1 - فمنهم من قال بوجوبها؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله -تعالى- عليه" (¬8)، فدل هذا الحديث على أنها واجبة. وهو المشهور من مذهب الحنابلة (¬9). ¬

_ (¬1) الاختيار لتعليل المختار (1/ 12)، بدائع الصنائع (1/ 22). (¬2) المغني (1/ 128). (¬3) الأم (1/ 26). (¬4) المغني (1/ 128). (¬5) الشرح الصغير على أقرب المسالك (1/ 43، 44). (¬6) مجموع الفتاوى (21/ 135). (¬7) الشرح الممتع (1/ 192). (¬8) أخرجه أحمد (2/ 418) رقم (9408)، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب التسمية على الوضوء، برقم (101)، والترمذيُّ في كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء في التسمية عند الوضوء، برقم (25). (¬9) الإنصاف (1/ 275).

نواقض الوضوء

2 - وذهب الحنفية (¬1) والمالكية (¬2) والشافعية (¬3) ورواية عن الحنابلة (¬4) إلى أنها سنة وليست بواجبة، وهو اختيار الشيخ العثيمين (¬5)، وهو الراجح؛ وذلك لأن الذين وصفوا وضوء الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يذكروا التسمية فيه، فلو كانت واجبة لكان مشتهرًا بين الصحابة ذكرها؛ لأنها واجبة ولا يصح الوضوء بدونها. أما الحديث الذي احتج به من قال بالوجوب فهو ضعيف لا يثبت. نواقض الوضوء: معنى نواقض الوضوء أي مفسدات الوضوء، وهي من حيث الحكم نوعان: مجمع عليه، ومختلف فيه. أولًا: النواقض المجمع عليها: 1 - الخارج من السبيل، وهو أنواع منها: أ- البول والغائط؛ قال تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (¬6). ب- الريح؛ ويشترط أن يكون معها صوت أو نتن؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا" (¬7). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 20)، حاشية ابن عابدين (1/ 109). (¬2) الشرح الكبير (1/ 103). (¬3) المجموع (1/ 407). (¬4) المغني (1/ 145). (¬5) الشرح الممتع (1/ 159). (¬6) سورة المائدة: 6. (¬7) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القبل والدبر، برقم (175)، ومسلم في كتاب الحيض، باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك، برقم (361).

2 - زوال العقل بجنون أو إغماء أو سكر أو نوم مستغرق

ج- المذي؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اغسل ذكرك وتوضأ" (¬1). د- المني؛ وذلك إذا خرج بدون لذة لحر أو برد، هذا هو قول جمهور العلماء بخلاف الشافعي الذي يرى وجوب الغسل ولو بدون شهوة (¬2). هـ - السائل الذي يخرج من المرأة؛ فهو وإن كان طاهرًا إلا أنه يجب الوضوء منه؛ لأنه خارج من السبيل. 2 - زوال العقل بجنون أو إغماء أو سكر أو نوم مستغرق، بحيث لا يحس النائم بمن حوله من الناس. ثانيًا: النواقض المختلف بها مع بيان الراجح وهي كالآتي: 1 - مس الفرج باليد قبلًا كان أو دبرًا من غير حائل: اختلف الفقهاء في هذا الناقض: أ- فذهب المالكية (¬3) وفقهاء الحنابلة (¬4) إلى أن مس الذكر ناقض للوضوء، سواء كان بشهوة أو بغير شهوة، ذكرًا كان أو أنثى. احتجوا بحديث بسرة بنت صفوان قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من مس ذكره فليتوضأ" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الغسل، باب غسل المذي والوضوء منه، برقم (266)، ومسلمٌ في كتاب الحيض، باب المذي، برقم (303). (¬2) المجموع (2/ 139). (¬3) الشرح الصغير (1/ 55). (¬4) الإنصاف (1/ 26 - 27) (¬5) أخرجه أحمد في المسند (6/ 406) رقم (27334)، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر، برقم (181)، والترمذيُّ في أبواب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر، برقم (82).

2 - مس المرأة بشهوة

ب- وذهب الحنفية (¬1) وهو رواية عن أحمد أنه لا ينقض الوضوء، وفي رواية أخرى عند الحنابلة (¬2) أنه إذا مسه بشهوة انتقض وضوؤه، وإلا فلا (¬3). وذهب شيخ الإسلام (¬4) إلى أن الوضوء من مس الذكر مستحب مطلقًا، وهو اختيار الشيخ محمد بن صالح العثيمين (¬5). وهو الراجح؛ لأن النقض يحتاج إلى دليل، وما ذكروه حديث ضعيف. 2 - مس المرأة بشهوة: اختلف الفقهاء في هذا الناقض على ثلاثة أقوال: أحدها: أن مس المرأة لا ينقض بحال إلا إذا خرج منه شيء، وهذا قول أبي حنيفة (¬6) ورواية عن الحنابلة (¬7)، واختارها شيخ الإسلام (¬8)، والشيخ العثيمين (¬9)، وهو الصحيح. الثاني: أنه إن كان بشهوة نقض، وإلا فلا. وهو قول مالك (¬10) والمذهب عند الحنابلة (¬11). ¬

_ (¬1) الاختيار لتعليل الاختيار (1/ 14). (¬2) المغني (1/ 170). (¬3) الإنصاف (2/ 27). (¬4) مجموع الفتاوى (21/ 233). (¬5) الشرح الممتع (1/ 322). (¬6) شرح فتح القدير (1/ 56)، المبسوط، للسرخسي (1/ 67). (¬7) المغني بالشرح الكبير (1/ 43)، الإنصاف (2/ 42). (¬8) مجموع الفتاوى (2/ 235). (¬9) الشرح الممتع (1/ 330). (¬10) الشرح الصغير على أقرب المسالك (1/ 45). (¬11) المغني (1/ 186).

3 - تغسيل الميت

الثالث: أن مس المرأة ينقض في الجملة وإن لم يكن بشهوة، وهو قول الشافعي (¬1) ومذهب داود الظاهري (¬2). والراجح من الأقوال: أن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقًا إلا إذا خرج منه شيء؛ وذلك أن المسلمين ما زالوا يناولون زوجاتهم الأشياء وتمس أيديهم، ولم يؤمروا بالوضوء من ذلك، وهذا مما يكثر ابتلاء الناس به ولو كان الوضوء واجبًا لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - آمرًا به مرة بعد مرة ويشيع ذلك بين الصحابة. وكذلك الأصل عدم النقض حتى يقوم الدليل صريحا على النقض. أما اشتراطهم الشهوة عند المس فنقول بأن هذا القيد لم ينقل عن أحد من الصحابة، بل ما زال المسلمون يقبلون نساءهم، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأمر بالوضوء من ذلك. 3 - تغسيل الميت: هذا هو الناقض السادس من نواقض الوضوء عند الحنابلة، ومعنى تغسيل الميت هو أن يقوم الإنسان بمباشرة تغسيل ميت، لا من يقوم بصب الماء ولا من يناوله شيئًا، بل المغسل هو الذي يباشر التغسيل. وهذا الناقض من مفردات الإمام أحمد؛ لأن الأئمة الثلاثة على خلاف ذلك. واحتج أحمد بما جاء عن ابن عمر وأبي هريرة وابن عباس -رضي الله عنهم أنهم أمروا غاسل الميت بالوضوء (¬3). والصحيح: هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، وهو اختيار شيخ الإسلام ¬

_ (¬1) الروضة (1/ 74). (¬2) المحلى (1/ 44). (¬3) روى عنهم ذلك عبد الرزاق في مصنفه (3/ 405) برقم (6101).

4 - أكل لحم الإبل

ابن تيميه (¬1)، والشيخ محمد بن صالح العثيمين (¬2)، وهو أن الوضوء من تغسيل الميت لا يجب؛ لأن النقض يحتاج إلى دليل شرعي، ولا دليل على ذلك لا من الكتاب ولا من السنة، أما ما جاء عن الصحابة في ذلك فهو محمول على الاستحباب. 4 - أكل لحم الإبل: هذا هو الناقض السابع من نواقض الوضوء عند الحنابلة، وهو أيضًا من مفردات الإمام أحمد (¬3) -رحمه الله- وخالف جمهور أهل العلم أحمد في هذا الناقض فقالوا: بأن أكل الجزور لا ينقض مطلقًا (¬4). والراجح: هو قول الحنابلة في ذلك، وهو اختيار الإمام البيهقي والنووي، قال النووي: "هو القوي أو الصحيح من حيث الدليل، وهو الذي أعتقد رجحانه، وقد أشار البيهقي إلى ترجيحه" (¬5). وهو أيضًا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬6)، والشيخ عبد الرحمن السعدي (¬7) وهو اختيار اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬8)؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن لحوم الإبل ¬

_ (¬1) شرح العمدة، لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 342). (¬2) الشرح الممتع (1/ 298). (¬3) الإنصاف (2/ 53، 54). (¬4) وبه قال المالكية في مختصر خليل (14)، والحنفية في بدائع الصنائع (1/ 32، 33)، والشافعية كما في روضة الطالبين (1/ 72). (¬5) المجموع (2/ 70)، وروضة الطالبين (1/ 72). (¬6) مجموع الفتاوى (21/ 260). (¬7) المختارات الجلية (ص: 23). (¬8) فتاوى اللجنة (5/ 274).

5 - الردة عن الإسلام

قال: "توضؤوا منها" (¬1) وقال أيضًا: "توضأوا من لحوم الإبل ولا تتوضأوا من لحوم الغنم" (¬2)، والأصل في الأمر الوجوب حتى يوجد دليل يصرفه عن الوجوب. 5 - الردة عن الإسلام: هذا هو الناقض الثامن من نواقض الوضوء. أ- الصحيح من مذهب الحنابلة (¬3) وهو المعتمد عند المالكية (¬4) أن الردة عن الإسلام تعد ناقضًا من نواقض الوضوء؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (¬5)، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْ بَطَنَّ عَمَلُكَ} (¬6)، ولأن الوضوء عمل فيبطل بالردة، وهو الصحيح. ب- وقال بعض الفقهاء (¬7) بأن الردة عن الإسلام لا تنقض الوضوء؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (¬8)، قالوا: فشرط الموت لإحباط العمل، ولأن الوضوء طهارة فلا تبطل بالردة كالغسل من الجنابة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (4/ 288) رقم (18561)، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب الوضوء من لحوم الإبل (184)، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل برقم (494) من حديث البراء بن عازب -رضي الله عنه-. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (4/ 352) رقم (19119)، والترمذيُّ، باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل، برقم (81)، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل، برقم (495) من حديث جابر بن سمرة-رضي الله عنه-. (¬3) المغني (1/ 238)، والإنصاف (1/ 219). (¬4) الشرح الصغير (1/ 519). (¬5) سورة المائدة: 5. (¬6) سورة الزمر: 65. (¬7) انظر في ذلك: المغني (1/ 238). (¬8) سورة البقرة: 217.

صفة الوضوء

صفة الوضوء: صفة الوضوء على ما ذكرناه تكون كالآتي: أن ينوي بقلبه الوضوء، ثم يسمي قائلًا: "بسم الله"، ويغسل كفيه ثلاثًا استحبابًا -لغير القائم من نوم الليل-، ثم يتمضمض ويستنشق بغرفة واحدة بيده اليمنى ثلاثًا ويستنثر ثلاثًا بيده اليسرى، ثم يغسل وجهه ثلاثًا، ثم يغسل يده اليمنى من أطراف أصابعه مع مرفقه ثلاث مرات ويخلل أصابعه، ثم اليسرى كذلك، ثم يمسح رأسه مرة واحدة يقبل بيديه ويدبر ويمسح أذنيه، ثم يغسل رجله اليمنى ثلاثًا مع الكعبين مخللًا أصابع رجليه ثم اليسرى مثل ذلك. فإذا انتهى من ذلك قال: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" (¬1) ويزيد كما في رواية الترمذيُّ: "اللَّهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين" (¬2). أحكام تتعلق بالنية: أولًا: تعريف النية: النية: هي القصد، أي: العزم على فعل العبادة. ثانيًا: محل النية: النية محلها القلب، فلا يعلم نيات العباد إلا الله تعالى، لكن هل ينطق بها؟ في المسألة أقوال: القول الأول: أنه يسن النطق بها سرًا، وهذا هو المشهور عند الحنابلة (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الطهارة، باب ذكر المستحب عقب الوضوء، برقم (234). (¬2) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الطهارة، باب ما بعد الوضوء، برقم (55)، وصححه الألباني في صحيح الترمذيُّ (1/ 18) برقم (48). (¬3) الإنصاف (1/ 307)، منتهى الإرادات (1/ 49).

القول الثاني: أنه يسن النطق جهرًا، وهذا هو قول الشافعية (¬1). القول الثالث: أنه لا ينطق بها وأن التعبد لله بالنطق بها بدعة ينهى عنه، ويدل لذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يكونوا ينطقون بالنية إطلاقًا، وهذا مذهب مالك (¬2) وإحدى الروايتين عند الحنابلة (¬3)، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية (¬4)، والشيخ العثيمين (¬5). ثالثًا: حكم النية في الوضوء: النية شرط في العبادات كلها، فهي شرط لصحة العمل وقبوله وإجزائه؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" (¬6). واشتراط النية في الوضوء هو مذهب الحنابلة (¬7)، وذهب الشافعية (¬8) والمالكية (¬9) إلى أنها ركن في الوضوء، أما الحنفية فقالوا بأنها سنة في طهارة الماء، وإنما تشترط في التيمم. والراجح: هو اشتراطها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات"، فقد نفى أن يكون له عمل شرعي بدون نية. ¬

_ (¬1) المجموع (1/ 358). (¬2) الشرح الكبير (1/ 234). (¬3) الإنصاف (1/ 307)، الإقناع (1/ 38). (¬4) الفتاوى (22/ 233). (¬5) الممتع (1/ 224). (¬6) أخرجه البخاريُّ في باب بدء الوحي برقم (1)، ومسلمٌ في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنية"، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال برقم (1907) من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. (¬7) حاشية الروض المربع (1/ 189)، الإنصاف (1/ 307). (¬8) المجموع (1/ 309). (¬9) الشرح الصغير (1/ 177)، حاشية الدسوقي (1/ 78).

رابعًا: متى يعقد المتوضئ النية؟ انعقاد النية له حالتان: الأولى: أن يعقد نيته عند أول مسنونات الوضوء إن وجد قبل واجب، مثل أن ينوي عند التسمية قبل غسل الكفين ثلاثًا عند من قال بسنية التسمية. الثانية: أن يعقد نيته عند أول واجبات الطهارة، فهنا يجب أن ينوي قبل التسمية عند من قال بوجوبها، فهنا يجب عليه الإتيان بها. خامسًا: هل يجب استصحاب النية حتى يفرغ المتوضئ من وضوئه؟ النية في هذه المسألة لها أربع حالات: الأولى: أن يستصحب ذكرها من أول الوضوء إلى آخره، وهذا أكمل الأحوال. الثانية: أن تغيب عن خاطره ولم ينو القطع، وهذا يسمى استصحاب حكمها. الثالثة: أن ينوي قطعا أثناء الوضوء لكن استمر، فهنا لا يصح وضوؤه؛ لعدم استصحاب الحكم لقطعه النية في أثناء العبادة. الرابعة: أن ينوي قطع الوضوء بعد الفراغ منه، فهذا لا ينتقض وضوؤه، والقاعدة في ذلك: أن قطع نية العبادة بعد الفراغ منها لا أثر له. ساسًا: في ذكر بعض صور النية: الصورة الأولى: أن ينوي رفع الحدث، مثل أن يتوضأ بنية رفع الحدث الذي حصل له، فهنا متى توضأ بهذه النية صح وضوؤه.

الصورة الثانية: أن ينوي الطهارة لما تجب له، مثل أن ينوي الطهارة لشيء لا يباح إلا بالطهارة كالصلاة والطواف ومس المصحف، فإن نوى الطهارة للصلاة ارتفع حدثه، وإن لم ينو رفع الحدث؛ لأن الصلاة لا تصح إلا بعد رفع الحدث. الصورة الثالثة: أن ينوي الطهارة لما تسن له، فإذا نوى ما تسن له الطهارة ارتفع حدثه. الصورة الرابعة: أن ينوي بالطهارة تجديدًا للوضوء، فهنا الصحيح أنه يرتفع حدثه، ولا يشترط كون التجديد مسنونًا. الصورة الخامسة: إذا كان ناسيًا الحدث ثم تطهير بنية التجديد فهذه محل خلاف، والصحيح أنه يرتفع حدثه. الصورة السادسة: من كان عليه أحداث ثم تطهر عن أحدهما أجزأه عن الآخر، مثل أن تكون المرأة عليها غسل حيض وجنابة فاغتسلت بنية رفع حدث الحيض أجزأها هذا الغسل وارتفع حدث الجنابة بذلك. الصورة السابعة: أن يغتسل غسلًا مسنونًا عن غسل واجب، ففي هذه المسألة تفصيل: إن كان ناسيًا أجزأه عن الواجب، أما إن كان متذكرًا أن عليه غسلًا واجبًا ثم اغتسل للمسنون كإحرام أو أي غسل مسنون آخر، فالمذهب يرى عدم الإجزاء، ويرى بعضهم الإجزاء، قال الشيخ ابن العثيمين: القول بالإجزاء في النفس منه شيء، أما إن كان ناسيًا فهو معذور (¬1). ¬

_ (¬1) الممتع (1/ 201).

سنن الوضوء

سنن الوضوء: أما سنن الوضوء فهي: 1 - السواك، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء" (¬1) وفي رواية عند أحمد: "مع كل وضوء" (¬2). 2 - الإسباغ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - للقيط بن صبرة: "أسبغ الوضوء" (¬3)، ومعنى الإسباغ: الإنقاء؛ وهو المبالغة في الغسل. 3 - غسل الكفين في أول الوضوء لغير القائم من نوم ليل؛ لحديث عبد الله بن زيد، وفيه: "فأكفأ على يده من التَّوْرِ فغسل يديه ثلاثًا" (¬4). 4 - تثليث غسل الأعضاء ما عدا الرأس، فالذين وصفوا وضوءه - صلى الله عليه وسلم - ذكروا أنه توضأ ثلاثًا، ونقلوا أنه توضأ مرة ومرتين، فدل على استحباب التثليث. 5 - البدء بالمضمضة والاستنشاق قبل غسل الوجه؛ لفعله - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في حديث عبد الله بن زيد (¬5) وحديث عثمان (¬6) في وصفهما لوضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الصوم، باب السواك الرطب واليابس للصائم برقم (1832) معلقًا ومجزومًا به. (¬2) أخرجه أحمد في مسند أبي هريرة -رضي الله عنه- (2/ 460) رقم (9930). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الاستنثار برقم (142)، والنسائيُّ في كتاب الطهارة، باب المبالغة في الاستنشاق برقم (87). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب غسل الرجلين إلى الكعبين برقم (184)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم (235). (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب الوضوء من التور برقم (196)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم (235). (¬6) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا برقم (158)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب صفة الوضوء وكماله، برقم (226).

لكن لو قدم غسل الوجه على المضمضة والاسنتشاق أجزأه ذلك؛ لأنهما من الوجه، ولم يكن مخلًا بالترتيب. 6 - المبالغة في المضمضة والاستنشاق لغير الصائم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا" (¬1). 7 - كون المضمضة والاستنشاق من غرفة واحدة. 8 - كون المضمضة باليمين والاستنثار باليسرى. 9 - تخليل اللحية الكثيفة، أما إذا كانت اللحية خفيفة تصف البشرة وجب غسل باطنها. 10 - تخليل أصابع اليد والقدم؛ لحديث: "إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الاستنثار، برقم (142)، والنسائيُّ في كتاب الطهارة، باب المبالغة في الاستنشاق، برقم (87). (¬2) أخرجه الترمذيُّ في كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء في تخليل الأصابع، برقم (39).

باب في المسح على الخفيق والجبيرة والعمامة

باب في المسح على الخفيق والجبيرة والعمامة أولًا: المسح على الخفين: المسح على الخفين جاءت نصوص السنة بجوازه، ولم يخالف في حكمه إلا الشيعة الجعفرية، ومن هنا ذكره بعض العلماء في كتب العقيدة، قال الطحاوي في وصفه لعقيدة السلف: ويرون المسح على الخفين (¬1). أدلة مشروعيته: استدل بعض أهل العلم من الكتاب بقول الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (¬2)، فعلى قراءة الجر يتناول المسح في الآية الرأس والرجل، وهذه قراءة متواترة. أما الدليل من السنة فأحاديث كثيرة منها: 1 - عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فأهويت لأنزع خفيه فقال: "دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين"، فمسح عليهما (¬3). 2 - وعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- قال: "كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائما، فتنحيت، فقال: "أُدْنُهْ" فدنوت حتى قمت عند عقبيه فتوضأ فمسح على خفيه" (¬4). ¬

_ (¬1) متن العقيدة الطحاوية، للطحاوي (ص: 49)، ونقله الأشعري أيضا في كتابه مقالات الإسلاميين (ص: 295). (¬2) سورة المائدة: 6. (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان، برقم (203)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، برقم (274). (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين برقم (273).

أيهما أفضل المسح أم الغسل؟

3 - وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خُفَّيْهِ" (¬1). 4 - وعن جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه-: "أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل له: أتفعل هذا؟ فقال: نعم، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال ثم توضأ ومسح على خفيه". (¬2) ولقد روى مشروعية المسح على الخفين أكثر من ثمانين صحابيًا. قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "ليس في قلبي من المسح شيء؛ فيه أربعون حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬3). أيهما أفضل المسح أم الغسل؟ جمهور الفقهاء على أن المسح على الخفين جائز، لكنَّ الغسل أفضل، وعند الحنابلة أن الأفضل المسح على الخفين، أخذًا بالرخصة، وأن كلًا من الغسل والمسح مشروع. والصحيح أن يقال: إن كان لابسًا للخف أو الجورب ونحوه فالمسح في حقه أفضل، وإن كان غير لابس لشيء فالأفضل في حقه الغسل. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب كيف المسح؟، برقم (162)، وصححه ابن حجر في تلخيص الحبير (1/ 160). (¬2) أخرجه النسائي في سننه، باب ما يوجب الوضوء، برقم (24)، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في المسح على الخفين، برقم (543). (¬3) المغني (1/ 360).

الحكمة في مشروعية المسح على الخفين

الحكمة في مشروعية المسح على الخفين: اقتضت شريعة الله التيسير والتخفيف عن المكلفين الذين يشق عليهم نزع الخف وغسل الرجلين، خاصة في أوقات البرد الشديد وفي السفر، وما يصاحبه من الاستعجال ومواصلة السير، ومن هنا جاء المسح على الخفين. مدة المسح على الخفين: اختلف الفقهاء في توقيت مدة المسح: فذهب المالكية (¬1) إلى عدم تعيين مدة للمسح، فيجوز عندهم المسح على الخفين في السفر والحضر من غير توقيت بزمان، فلا ينزعهما إلا لموجب الغسل. وذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (¬2) والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) إلى توقيت مدة المسح على الخفين، فهي يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام ولياليها للمسافر، واحتجوا بحديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: "جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم" (¬5)، وهذا هو الصحيح، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬6)، وهو اختيار الشيخ ابن العثيمين (¬7). ¬

_ (¬1) الشرح الصغير (1/ 152، 153، 158). (¬2) فتح القدير (1/ 127، 130). (¬3) المجموع (1/ 503، 510)، وروضة الطالبين (1/ 131). (¬4) منتهى الإرادات (1/ 22). (¬5) أخرجه مسلمٌ في كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين، برقم (276). (¬6) فتاوى اللجنة (5/ 243). (¬7) الشرح الممتع (1/ 225).

شروط المسح على الخفين

شروط المسح على الخفين: هناك شروط اتفق عليها الفقهاء وشروط اختلفوا فيها، وسنقوم -إن شاء الله- ببيان هذه الشروط مع بيان الراجح مما اختلف فيه الفقهاء. أولًا: الشروط المتفق عليها: 1 - لبس الخف على طهارة كاملة: لحديث المغيرة بن شعبة قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فأهويت لأنزع خفيه فقال: "دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين" (¬1). ولحديث صفوان بن عسال -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا إذا كنا سَفْرًا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم" (¬2). لكن هل تشترط أن تكون الطهارة بالماء أو طهارة التيمم تكفي؟ اختلف الفقهاء في ذلك: أ- فالجمهور يرون أن تكون الطهارة بالماء من وضوء أو غسل. ب- أما الشافعية: فيرون جواز أن تكون الطهارة بالتيمم الناتج عن عدم القدرة على استعمال الماء لا غير. الراجح: هو قول الجمهور؛ لأن النص يدل على ذلك، فقوله - صلى الله عليه وسلم - "إني أدخلتهما طاهرتين"، يدل دلالة واضحة على أن الرجل أدخلها بعد وضوء، فلا علاقة لطهارة التيمم بالمسح على الخفين. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان، برقم (203)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، برقم (274). (¬2) أخرجه النسائي في كتاب الطهارة، باب الوضوء من الغائط والبول برقم (158)، والترمذيُّ في كتاب أبواب الطهارة، باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم برقم (96) وقال: حسنٌ صحيحٌ.

2 - إمكانية المشي به عرفا

2 - إمكانية المشي به عرفًا: فإذا كان الخف لا يستمسك على القدم فلا يجوز المسح عليه، لكن إذا ثبت بشده بحيث لا يخلع من قدمه، فهل يصح المسح عليه؟ اختلف في ذلك الفقهاء: فذهب الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) أنه لا بد أن يثبت الخف بنفسه، فلو لم يثبت إلا بشده أو بخيط متصل أو منفصل عنه ونحو ذلك، فلا يمسح عليه. والصحيح أنه متى ثبت الخف بنفسه أو بشده عليه فلا مانع من المسح عليه، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام (¬3)، واختاره الشيخ ابن العثيمين (¬4). 3 - كون الخف طاهرًا: فلا يجوز المسح على خف نجس كأن يكون الخف من جلد خنزير مثلًا أو من جلد ميتة، فلا يجوز المسح عليه. لكن إذا كان الخف من جلد ميتة مدبوغ فهل يجوز المسح عليه؟ محل خلاف بين الفقهاء: فمن قال بأن الدبغ مطهر فيصح عنده المسح على الخفين، ومن قال بأن الدبغ غير مطهر فلا يجوز المسح عليه. والصحيح: أنه يجوز المسح على الخف إن كان من جلد ميتة مدبوغ؛ لما ذكرناه سابقًا أن جلد الميتة يطهر بالدباغ. ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 66). (¬2) منتهى الإرادات (288). (¬3) مجموع الفتاوى (21/ 184، 212). (¬4) الشرح الممتع (1/ 267).

ثانيا: الشروط المختلف فيها مع بيان الراجح منها

ثانيًا: الشروط المختلف فيها مع بيان الراجح منها: 1 - كون الخف ساترًا للمحل المفروض غسله في الوضوء: فلا يجوز المسح على خف غير ساتر للكعبين مع القدم، سواء كان ذلك لخفته أو كونه واصفًا للبشرة، وهذا هو قول الجمهور (¬1)، وبه قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (¬2)، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬3). وذهب بعض أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية (¬4) -رحمه الله-، واختاره الشيخ ابن العثيمين (¬5) أنه لا يشترط أن يكون الخف ساترًا لمحل الفرض، لأن النصوص الواردة في المسح جاءت مطلقة، وما ورد مطلقًا وجب أن يبقى على إطلاقه، وأيضًا فالصحابة-رضي الله عنهم - كان أكثرهم فقراء، وغالبًا الفقراء لا تخلو خفافهم من خروق، ولم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نبه أصحابه على أن الخف المخروق لا يجوز المسح عليه مع كثرة من يلبس منهم الخفاف المخروقة، من هنا كان اشتراط كون الخف ساترًا لمحل الفرض اشتراطًا ضعيفًا. 2 - كون الخف من الجلد: اختلف الفقهاء في هذا الشرط: أ- فذهب المالكية (¬6) إلى أنه يشترط لمسح الخف كونه من الجلد، فلا يجوز ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 65)، منتهى الإرادات (1/ 23)، الشرح الصغير (1/ 229)، حاشية الدر المختار (1/ 261). (¬2) مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز (10/ 106). (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 238). (¬4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (21/ 173، 212). (¬5) الشرح الممتع (1/ 267). (¬6) الشرح الصغير (1/ 229).

3 - كون الخف مباحا

المسح عندهم على الخف المصنوع من القماش، وكذلك الجوارب المصنوعة من القطن أو الصوف أو نحو ذلك. ب- وذهب الجمهور إلى جواز المسح على الخف المصنوع من الجلد أو الجوارب المصنوعة من القماش كالقطن أو الصوف أو غيره، وهذا هو الصحيح، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬1)، واستدلوا على ذلك بحديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على الجوربين، والنعلين" (¬2)، وأيضًا ثبت عن مجموعة من الصحابة أنهم مسحوا على الجوربين، كعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي أمامة وغيرهم. 3 - كون الخف مباحًا: وقد اختلف الفقهاء في هذا الشرط: أ- فذهب المالكية (¬3) والحنابلة (¬4) إلى أنه لا يصح المسح على الخف المغصوب أو المسروق أو المتخذ من الحرير. ب- وذهب الشافعية (¬5) في الأصح عندهم إلى جواز المسح على الخف ولو لم يكن مباحًا. والصحيح: هو القول الثاني بأنه لا يشترط كون الخف مباحًا، لكن مع ثبوت الإثم على الغاصب والسارق وغيرهم ممّن يلبس خفًّا غير مباح. ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 244). (¬2) أخرجه أحمد (4/ 252) رقم (18231)، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب المسح على الجوربين برقم (159)، والترمذيُّ في أبواب الطهارة، باب ما جاء في المسح على الجوربين والنعلين (99). (¬3) الشرح الصغير (1/ 229). (¬4) المغني (1/ 373). (¬5) مغني المحتاج (1/ 66، 67).

كيفية المسح على الخفين

كيفية المسح على الخفين: اختلف الفقهاء في كيفية مسح الخف والجورب مع اختلافهم في مقدار ما يمسح: 1 - فقال الحنفية (¬1): يمسح مقدار ثلاثة أصابع من أصغر أصابع اليد على ظاهر الخف فقط مرة واحدة. 2 - وقال المالكية (¬2) بوجوب مسح جميع ظاهر الخف كما يستحب عندهم مسح أسفله. 3 - وذهب الشافعية (¬3) إلى أن المسح الواجب هو ما يصدق عليه مسمى مسح، وهو مسح ظاهر الخف، فلا يمسح أسفله ولا عقبه ولا جوانبه. 4 - أما الحنابلة (¬4) فيرون أنه يمسح أكثر مقدم ظاهر الخف خطوطًا بالأصابع. والصحيح في الكيفية والمقدار أن يُمِرَّ يده من عند أصابع الرجل إلى الساق فقط، وعلى أي كيفية مسح أجزأه ذلك، لكن الأفضل أن يمسح اليمنى ثم اليسرى عملًا بقول عائشة -رضي الله عنها-: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله" (¬5). ¬

_ (¬1) الدر المختار (1/ 48)، فتح القدير (1/ 131، 132). (¬2) الشرح الصغير (1/ 235). (¬3) مغني المحتاج (1/ 67). (¬4) كشاف القناع (1/ 118). (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب التيمن في الوضوء والغسل، برقم (166)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب التيمن في الطهور وغيره، برقم (268) واللفظ للبخاري.

نواقض المسح على الخفين

نواقض المسح على الخفين: 1 - كل ما ينقض الوضوء ينقض المسح على الخفين أو الجوربين. 2 - وجود موجب الغسل كالجنابة والحيض والنفاس، فإذا وجد أحد هذه الموجبات انتقض المسح على الخفين. 3 - نزع الخفين أو أحدهما، وهذا محل خلاف بين أهل العلم: أ- فذهب الحنابلة إلى القول بأن الوضوء ينتقض بنزع الخفين، ويلزمه إعادة الوضوء (¬1). ب- وذهب الحنفية (¬2) وغيرهم إلى أنه يجزئه غسل الرجلين فقط وهو رواية عند أحمد (¬3) والقول الآخر عند الشافعي (¬4). ج- وذهب إبراهيم النخعي في رواية عنه، وبه قال ابن حزم (¬5) وجماعة، أنه لا ينتقض وضوؤه بنزعهما، ولا يجب غسل رجليه، بل يصلي دون أن يجدد وضوءًا أو يغسل رجليه. والراجح من هذه الأقوال الثلاثة: ما ذهب إليه الحنابلة، وهو انتقاض الوضوء بنزع الخف أو الجورب ونحوه؛ لأن الوضوء بطل في بعض الأعضاء فبطل في جميعها كما لو أحدث، وهذا هو الأرجح احتياطًا للعبادة، وهو اختيار اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬6). ¬

_ (¬1) هذا هو قول الحنابلة، انظر: كشاف القناع (1/ 121). (¬2) فتح القدير (1/ 132). (¬3) الإنصاف (1/ 192). (¬4) روضة الطالبين (1/ 132، 133). (¬5) المحلى، لابن حزم (2/ 80، 82، 94). (¬6) مجموع فتاوى اللجنة (5/ 252).

* حكم لبس الخفين أو الجوربين على غير طهارة ناسيا والمسح عليهما ثم الصلاة ناسيا

4 - مضي المدة: فمتى مضت مدة المسح -وهي كما ذكرنا سابقًا يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر- انتقض المسح على الخفين، ووجب نزعها، ويجب عليه الوضوء كاملًا، بخلاف ما ذهب إليه الحنفية والشافعية من أنه يجب غسل الرجلين فقط. * حكم لبس الخفين أو الجوربين على غير طهارة ناسيًا والمسح عليهما ثم الصلاة ناسيًا: من فعل ذلك فإن صلاته باطلة وعليه إعادة ما صلى بهذا المسح؛ لأن من شروط المسح على الخفين -كما ذكرنا سابقا- لبسَهما على طهارة بإجماع أهل العلم. * حكم من غسل رجله اليمنى ثم أدخلها الخف أو الجورب ثم غسل رجله اليسرى وأدخلها الخف أو الجورب: أ- ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يلبس الخف أو الجورب إلا بعد أن ينتهي من غسل رجله اليسرى، وهذا هو ظاهر حديث المغيرة بن شعبة، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين" (¬1). ب- وذهب بعضهم إلى جواز المسح ولو كان الماسح قد أدخل رجله اليمنى في الخف أو الجورب قبل غسل الرجلين، لكن الأول هو الأحوط والأولى، فمن فعل ذلك فينبغي أن ينزع الخف أو الشراب قبل المسح ثم يعيد إدخالها فيه بعد غسل اليسرى، وهذا هو اختيار سماحة الشيخ العلامة ابن باز (¬2) -رحمه الله-. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان، برقم (203)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، برقم (274). (¬2) مجموع فتاوى الشيخ (10/ 117).

* حكم من لبس خفا على خف أو جوربا على جورب

* حكم من لبس خفًا على خف أو جوربًا على جورب: إن توضأ ولبس خفًا أو جوربًا ثم أحدث ثم لبس الخف الآخر لم يجز المسح على الأعلى؛ لأنه لبسه على غير طهارة، بل يمسح على الأسفل. وإذا مسح الخف الأسفل بعد حدثه ثم لبس الخف أو الجورب الثاني على طهارة مسحٍ، لم يجز المسح على الثاني؛ لأن الممسوح بدل عن غسل ما تحته، والبدل لا يجوز له بدل آخر، بل يمسح على الأسفل؛ لأن الرخصة تعلقت به. وإن لبس جوربًا أو خفًا على آخر قبل الحدث ومسح الأعلى ثم نزع الممسوح الأعلى، هل يلزمه خلع الثاني وإعادة الوضوء؟ محل خلاف؛ والصحيح أنه يمسح على الأسفل. بيان بعض متعلقات المسح في السفر: * إذا لبس في الحضر ثم سافر قبل أن يحدث، فمسحُه مسحُ مسافر. * إذا لبس في السفر ثم أقام قبل أن يحدث، فمسحه مسح مقيم. * إذا لبس في الحضر فأحدث ثم سافر قبل أن يمسح، فمسحه مسح مسافر. * إذا لبس في الحضر فأحدث ومسح ثم سافر قبل أن تنتهي مدة المسح، أتم مسح مقيم. * إذا لبس في السفر فأحدث ومسح ثم أقام، أتم مسح مقيم إن بقي في المدة شيء. * إذا شك وهو مسافر في ابتداء المسح يعني هل مسح وهو مسافر أم مسح وهو مقيم؟ فإنه يتم مسح مسافر.

متى تبدأ مدة المسح؟

متى تبدأ مدة المسح؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة: 1 - فذهب الحنابلة (¬1) إلى أن المدة تبدأ من حال الحدث. 2 - والقول الثاني: أن المدة تبدأ من أول مسحة للخف أو الجورب، وهذا هو الصحيح، وهذا اختيار الشيخ ابن العثيمين (¬2)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: "يمسح المقيم يومًا وليلةً والمسافر ثلاثا" (¬3). ثانيًا: المسح على الجبيرة تعريف الجبيرة: الجبيرة في اللغة: هي العيدان التي تشد على العظم لتجبره على استواء (¬4)، وهذه الأعواد بدل منها الآن الجبس. أما تعريفها في الاصطلاح: فهي لا تخرج في استعمال الفقهاء لها عن المعنى اللغوي. حكم المسح على الجبيرة: اتفق الفقهاء على مشروعية المسح على الجبيرة في حال العذر نيابة عن غسل المحل في الوضوء أو الغسل، لكن متى يجب المسح عليها؟ ¬

_ (¬1) الكافي (1/ 46)، الفروع (1/ 167). (¬2) الممتع (1/ 187). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين برقم (276)، وابن خزيمة في كتاب الوضوء، باب ذكر توقيت المسح على الخفين للمقيم والمسافر برقم (194) واللفظ له. (¬4) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط مادة: جبر.

شروط المسح على الجبيرة

يجب المسح على الجبيرة عند إرادة الطهارة، ولا تتم طهارته إلا بذلك عند الجمهور (¬1). وقال ابن حزم (¬2) والألباني (¬3) بأنه لا يشرع المسح على الجبيرة، لأن الشرع لا يثبت إلا بقرآن وسنة ولم يأت قرآن ولا سنة بذلك. وقال بعض الشافعية (¬4): يغسل الصحيح ويتيمم ولا يمسح على الجبيرة. والصحيح: أنه يجب المسح على الجبيرة، فإن لم يمسح فلا تصح طهارته، وإن صلى ما صحت صلاته، وهذا هو قول الجمهور. شروط المسح على الجبيرة: يشترط لجواز المسح على الجبيرة ما يلي: 1 - أن يخشى حدوث الضرر بنزعها. 2 - أن لا يكون غسل الأعضاء الصحيحة يضر بالأعضاء الجريحة، فإن كان يضر بها فالصحيح من أقوال أهل العلم أنه يمسح لها. 3 - لبسها بعد كمال الطهارة: وهذا الشرط اختلف فيه أهل العلم، فالصحيح المشهور في مذهب الشافعية (¬5) وهو إحدى الروايتين عن أحمد (¬6) أنه يشترط أن تكون الجبيرة موضوعة ¬

_ (¬1) البدائع (1/ 13 - 14)، ابن عابدين (180 - 186)، حاشية الدسوقي (1/ 163)، المجموع (2/ 326)، كشاف القناع (1/ 120). (¬2) المحلى (2/ 74075). (¬3) تمام المنة (ص: 135). (¬4) المجموع (2/ 326). (¬5) نهاية المحتاج (1/ 169). (¬6) المغني (1/ 259 - 178)، كشاف القناع (1/ 112 - 114).

ذكر بعض الفروق بين الجبيرة والخف

على طهارة مائية، فإن خالف ووضعها على غير طهارة وجب نزعها، فإن خاف الضرر بنزعها مسح عليها ويقضي لفوات شرط وضعها على طهارة. والصحيح: أنه لا يشترط الطهارة للجبيرة، وهذه هي الرواية الأخرى في مذهب الحنابلة واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1) والشيخ ابن العثيمين (¬2)؛ وذلك لما يلي: 1 - أنه لا دليل على اشتراط الطهارة لها. 2 - أنها تأتي مفاجأة وليست كالخف متى أحتيج لها لبست. ذكر بعض الفروق بين الجبيرة والخف: يفارق المسحُ على الجبيرة المسحَ على الخفين من وجوه منها: 1 - أن المسح على الجبيرة حال الضرورة، أما الخف فبخلاف ذلك. 2 - أن المسح على الجبيرة مؤقت بزوال سببها، بخلاف الخف فإنه مؤقت بالأيام على تفصيل ذكرناه سابقًا. 3 - الجبيرة لا يشترط لها الطهارة على القول الراجح كما ذكرنا، بخلاف الخف فيشترط له الطهارة. 4 - الجبيرة يمسح عليها في الطهارتين الكبرى والصغرى، بخلاف الخف فيجب نزعه في الطهارة الكبرى. 5 - يجب استيعاب الجبيرة بالمسح على الصحيح من قولي العلماء، بخلاف الخف، فلا يجب، بل يكفي المسح على أكثره كما ذكرنا سابقًا في صفة المسح. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (21/ 179)، الاختيارات (ص: 15). (¬2) الممتع (1/ 250).

صفة المسح على الجبيرة

6 - أن الجبيرة لا تختص بعضو معين، والخف يختص بالرجل. صفة المسح على الجبيرة: إذا أراد واضع الجبيرة أن يمسح عليها في طهارة فإنه يفعل ما يلي: 1 - يغسل الصحيح من أعضائه. 2 - يمسح على الجبيرة. 3 - لكن هل يستوعب المسح جميع الجبيرة أم يكفي أكثرها كالخف؟ خلاف بين العلماء: أ- فالمالكية (¬1) والحنابلة (¬2) وهو الأصح عند الحنفية (¬3) أنه يجب استيعاب مسح الجبيرة. ب- أما عند الشافعية (¬4) ففيه وجهان مشهوران: أصحهما يجب الاستيعاب، والثاني يجزئه ما يقع عليه الاسم. والصحيح: هو وجوب استيعاب الجبيرة عند المسح عليها. إذا كانت الجبيرة تتجاوز قدر الحاجة فماذا يفعل؟ يمسح عليها لكن إن أمكن نزعها بلا ضرر نزع ما تجاوز قدر الحاجة، فإن لم يمكن فقيل يمسح على ما كان قدر الحاجة ويتيمم عن الزائد. وهو المذهب عند الحنابلة (¬5). ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 162، 165) (¬2) كشاف القناع (1/ 114 - 120)، المغني (1/ 278 - 279) (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 186 - 187)، بدائع الصنائع (1/ 14) (¬4) المجموع (2/ 323 - 326) (¬5) الإنصاف (1/ 188)

ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالجبيرة

والراجح: أنه يمسح على الجميع بلا تيمم؛ لأنه لما كان يتضرر بنزع الزائد صار الجميع بمنزلة الجبيرة، وهذا هو اختيار الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- (¬1). ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالجبيرة: 1 - يجوز المسح على العصابة واللصوق أو ما يوضع على الجروح مما يمنع وصول الماء. 2 - العضو الذي عليه جبيرة أو عصابة ونحوه مما يسوغ ستره به ليس فيه إلا المسح فقط، فإن أضره المسح مع كونه مستورًا فيعدل إلى التيمم؛ كما لو كان مكشوفًا. 3 - هل يجب الجمع بين المسح والتيمم؟ قال بعض العلماء: يجب الجمع بينهما احتياطًا، والصحيح أنه لا يجب الجمع؛ لأن إيجاب الطهارتين لعضو واحد مخالف للقواعد الفقهية. ثالثًا: المسح على العمامة: تعريفها: العمامة جمعها العمائم؛ وهي اللباس الذي يلف على الرأس تكويرًا. حكم المسح على العمامة: اختلف الفقهاء في حكم المسح على العمامة: ¬

_ (¬1) الممتع (1/ 243)

شروط المسح على العمامة

1 - فذهب الحنفية (¬1) إلى عدم جواز المسح عليها؛ لأنه لا حرج في نزعها. 2 - وقال المالكية (¬2): يجوز المسح عليها إذا خيف الضرر بنزعها ولم يتمكن من حلها. 3 - وقال الشافعية والحنابلة (¬3) بجواز المسح عليها، إلا أن الشافعية قالوا: لا يكفي الاقتصار عليها بل يمسح بناصيته وعلى العمامة. والصحيح: أن المسح على العمامة جائز ولا يجب أن يمسح ما ظهر من الرأس، لكن يسن، وهذا هو اختيار الشيخ محمد بن صالح العثيمين (¬4). شروط المسح على العمامة: يشترط لها ما يشترط للخف، ومنها: 1 - كونه في حدث أصغر. 2 - كونها طاهرة. 3 - كونها مباحة، فلا تكون مغصوبة ولا من حرير ولا بها صور لذوات الأرواح، فإن فقد هذا الشرط هل يجوز المسح عليها؟ فيه خلاف؛ والصحيح الجواز، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. 4 - أن يكون لبسها على طهارة، فإن لبسها وهو محدث لم يجز المسح عليها، ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 109). (¬2) جواهر الإكليل (1/ 29). (¬3) مغني المحتاج (1/ 60)، الإنصاف، للمرداوي 1/ 185، بتحقيق محمد حامد الفقي، نشر: دار إحياء التراث العربي. (¬4) الممتع (1/ 238).

القدر الواجب مسحه في العمامة

وقيل: يجوز، لكن هل يشترط كمال الطهارة؟ الصحيح أنه لا يشترط لبسها بعد كمال الطهارة. 5 - أن يكون المسح في المدة المحددة، وهذا محل خلاف بين أهل العلم. 6 - أن تكون ساترة لجميع الرأس لا ما جرت العادة بكشفه كالأذنين وبعض مقدم الرأس وكذا جوانب الرأس أو مؤخرته فإنه يعفى عنه، لكن هل يجب مسح المكشوف من الرأس؟ محل خلاف، والصحيح أنه لا يجب المسح، وهي إحدى الروايتين عن أحمد (¬1). 7 - أن المسح عليها إنما يجوز في حق الرجل. 8 - فإن لبستها المرأة فلا يجوز المسح عليها، فإن لبستها لضرورة لم يجز أيضًا لها المسح عليها عند الأكثر؛ لأن ذلك نادر ولا يعتد به. القدر الواجب مسحه في العمامة: اختلف الفقهاء في القدر الواجب مسحه في العمامة؛ فقيل: الواجب مسح أكثرها. وهو مذهب الحنابلة، وقيل: يمسح جميعها. وهي رواية عند الحنابلة، وقيل: يجزئ مسح وسطها وحده. وهو لبعض الحنابلة (¬2). والصحيح: أنه يمسح أكثر العمامة، فلو مسح جزءًا منها لم يصح، وإن مسح الكل فلا حرج، ويستحب كما ذكرنا إذا كانت الناصية بادية أن يمسحها مع العمامة (¬3). ¬

_ (¬1) الفروع (1/ 163). (¬2) الإنصاف، للمرداوي 1/ 185، بتحقيق محمد حامد الفقي، نشر: دار إحياء التراث العربي. (¬3) الممتع في شرح زاد المستقنع (1/ 259).

هل يشترط للعمامة أن تكون محنكة وذات ذؤابة؟

هل يشترط للعمامة أن تكون محنكة وذات ذؤابة؟ يشترط لمسحها كونها محنكة أو ذات ذؤابة، وفي رواية للمذهب عدم اشتراط ذلك (¬1)، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية (¬2) -رحمه الله- ورجحها الشيخ ابن العثيمين (¬3). وهذا هو الصحيح، فمتى ثبتت العمامة على الرأس وسميت العمامة فإنه يجوز المسح عليها. هل يجوز المسح على خُمُرِ النساء؟ اختلف العلماء في جواز ذلك؛ فقال بعضهم: لا يجزئ المسح على الخمار، وقال آخرون بأنه يجوز المسح على الخمار المدار تحت الحلق. وهذه هي إحدى الروايتين في مذهب الحنابلة، وعليها المذهب (¬4). والصحيح: أنه متى حصلت المشقة إما لبرودة في الجو أو مشقة في النزع، فالتسامح في هذا لا بأس به، أما ما عدا ذلك فالأولى أن لا تمسح؛ لعدم ورود النص الصحيح في ذلك. حكم المسح على القبع الشامل للرأس والأذنين: ما يلبس في الشتاء من القبع الشامل للرأس والأذنين، اختلف العلماء في جواز المسح عليه. والصحيح أنه يجوز المسح عليه؛ وذلك لمشقة النزع ولحصول الضرر المتوقع بنزعه؛ وذلك لما قد يصيب الرأس بكشفها (¬5). ¬

_ (¬1) المغني (1/ 283)، الإنصاف، للمرداوي (1/ 185)، بتحقيق محمد حامد الفقي، نشر: دار إحياء التراث العربي. (¬2) مجموع الفتاوى (21/ 186، 187)، والاختيارات (ص: 14). (¬3) الشرح الممتع (1/ 238). (¬4) الإنصاف (1/ 387). (¬5) مجموع فتاوى شيخنا رحمه الله (11/ 170).

إذا كان الرأس ملبدا بالحناء هل يجوز المسح عليه؟

إذا كان الرأس ملبدًا بالحناء هل يجوز المسح عليه؟ الصحيح أنه يجوز المسح على الرأس إذا لُبِّد بالحناء، فما وضع على الرأس فهو تابع له (¬1). ¬

_ (¬1) الشرح الممتع (1/ 239).

باب الغسل

باب الغسل أولًا: تعريفه: الغسل هو: استعمال ماء طهور في جميع البدن على وجه مخصوص بشروط وأركان (¬1). ثانيًا: موجبات الغسل (أسباب وجوب الغسل). 1 - خروج المني: اتفق الفقهاء على أن خروج المني سبب من أسباب وجوب الغسل بل نقل الإجماع على ذلك، لا فرق بين الرجل والمرأة في النوم واليقظة، دليل ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬2). وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما الماء من الماء" (¬3)، أي: يجب الغسل بالماء من إنزال الماء الدافق؛ وهو المني. وعن أم سليم -رضي الله عنها- أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: المرأة ترى في منامها ما يراه الرجل فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "نعم، إذا هي رأت الماء" (¬4). هل يشترط لإيجاب الغسل أن يكون المني خرج بشهوة؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة: ¬

_ (¬1) كشاف القناع (1/ 82). (¬2) سورة المائدة: 6 (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحيض، باب إنما الماء من الماء برقم (243). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الغسل، باب إذا احتلمت المرأة برقم (278)، ومسلمٌ في كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها برقم (313).

إذا أحس بانتقال المني فلم يخرج هل عليه الغسل؟

أ- فالحنفية (¬1) والمالكية (¬2) والحنابلة (¬3) يشترطون لإيجاب الغسل للمني أن يخرج بشهوة. ب- وذهب الشافعي (¬4) إلى وجوب الغسل بخروج المني مطلقًا، أي سواء وجدت الشهوة أم لم توجد، فإذا خرج لمرض أو لبرد أو لنحوه فإنه يوجب الغسل عندهم. والراجح: هو اشتراط الشهوة لوجوب الغسل. إذا أحس بانتقال المني فلم يخرج هل عليه الغسل؟ أ- ذهب الحنابلة (¬5) إلى أنه متى أحس بانتقاله لكنه ما خرج فإنه يغتسل؛ لأن المني باعد محله فصدق عليه أنه جنب؛ لأن أصل الجنابة من البعد. ب- وذهب الحنفية (¬6)، والمالكية (¬7)، والشافعية (¬8) إلى عدم وجوب الغسل، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬9)، والشيخ محمد بن صالح العثيمين (¬10) وهو الصواب، دليل ذلك حديث أم سليم -رضي الله عنها- السابق وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم، إذا هي ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 108). (¬2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 127 - 128). (¬3) كشاف القناع (1/ 139). (¬4) المجموع، للنووي (2/ 139). (¬5) كشاف القناع (1/ 641). (¬6) حاشية ابن عابدين (1/ 107). (¬7) حاشية الدسوقي (1/ 126). (¬8) المجموع (2/ 140). (¬9) الاختيارات (ص: 17). (¬10) الشرح الممتع (1/ 337).

إذا خرج المني بعد الغسل

رأت الماء" (¬1)، فلم يقل - صلى الله عليه وسلم - لو أحس بانتقاله. وكذلك حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- المتقدم، وقوله - صلى الله عليه وسلم - فيه: "إنما الماء من الماء" (¬2) فمتى لم يوجد ماء يعني المني فلا ماء يعني فلا يغتسل. إذا استيقظ النائم ووجد منيًّا ولم يذكر احتلامًا وجب عليه الغسل؛ لحديث أم سليم السابق، لكن إن تذكر احتلامًا ولم يجد منيًّا فلا يجب عليه الغسل؛ لحديث أبي سعيد الخدري المتقدم. إذا استيقظ فوجد بللًا، هنا لا يخلو من ثلاث حالات (¬3): الأولى: أن يتيقن أنه موجب للغسل، يعني: أنه منيٌّ، فالحكم هنا وجوب الغسل سواء ذكر احتلامًا أم لم يذكر. الثانية: أن يتيقن أنه ليس بمني، فالحكم عدم وجوب الغسل، لكن يجب غسل ما أصابه؛ لأن حكمه حكم البول. الثالثة: أن يجهل هل هو مني أم لا؟ فقد اختلف في هذه الحالة العلماء؛ فقيل: يجب أن يغتسل احتياطًا. وهو الصواب، وقيل: لا يجب؛ لأن الأصل الطهارة. إذا خرج المني بعد الغسل: إذا خرج المني بعد الغسل فقد اختلف الفقهاء في ذلك. والراجح هو عدم وجوب الغسل إلا إذا كان خروج المني ناشئًا عن لذة طارئة، فيجب عليه الغسل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الغسل، باب إذا احتلمت المرأة برقم (278)، ومسلمٌ في كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها برقم (313). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحيض، باب إنما الماء من الماء برقم (243). (¬3) الشرح الممتع (1/ 235 - 236).

2 - التقاء الختانين

مرة أخرى. أما إذا خرج المني بعد غسله بدون لذة فلا يجب الغسل، والواجب عليه الاستنجاء والوضوء عند إرادة الصلاة وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬1). 2 - التقاء الختانين: من أسباب الغسل التقاء الختانين، وذلك كما رواه البخاري ومسلمٌ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: "إذا جلس بين شُعَبِهَا الأربع ثم جَهَدَهَا فقد وجب الغسل" (¬2) وزاد في رواية مسلم: "وإن لم ينزل". وعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا جلس بين شُعَبِهَا الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل" (¬3). وعنها -رضي الله عنها- أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل" (¬4). والتقاء الختانين الذي يوجب الغسل هو تغييب الحشفة في الفرج، وليس المراد من التقاء الختانين التصاقهما وضم أحدهما للآخر، فإنه لو وضع موضع ختانه على موضع ختانها ولم يدخله في مدخل الذكر لم يجب الغسل. ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة (5/ 300). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الغسل، باب إذا التقى الختانان، برقم (287)، ومسلمٌ في كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، برقم (348). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، برقم (349). (¬4) أخرجه الترمذيُّ في كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء إذا التقى الختانان وجب الغسل، برقم (109)، وابن ماجه في كتاب الطهارة وأبوابها، باب ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان، برقم (608) وصححه الألباني في الإرواء (1/ 121) برقم (80).

هل يشترط عدم وجود الحائل؟

إذا غيب الإنسان حشفته في الفرج ولم ينزل منيًا فإنه يجب عليه الغسل؛ لأن العبرة بتغييب الحشفة لا بالإنزال، وهذا يخفى على كثير من الناس لظنهم عدم وجوب الغسل إلا بالإنزال. وهذا خطأ بدليل حديث أبي هريرة السابق وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإن لم ينزل" (¬1). إذا غيب الإنسان حشفته في دبر ولو من بهيمة أو ميت هل يجب عليه الغسل؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة، فقال بعضهم: يشترط لوجوب الغسل أن يكون في فرج آدمي حي، فلو أولج في فرج آدمي ميت أو أولج في بهيمة فإنه لا يجب الغسل. وقال بعضهم: بل يجب عليه الغسل، والصحيح أنه يأثم ويجب عليه الغسل. هل يشترط عدم وجود الحائل؟ محل خلاف بين العلماء؛ فقال بعضهم: يشترط أن يكون ذلك بلا حائل، فإن كان هناك حائل فلا يصدق عليه مس الختان، ولذلك لا يجب الغسل. وهذا هو قول الحنابلة؛ فإنهم يقولون بأنه لا يجب الغسل على من أولج بحائل مطلقًا (¬2). وقال آخرون: بل يجب الغسل؛ لعموم قوله: "ثم جهدها" والجهد يحصل ولو مع الحائل. وقال آخرون بالتفصيل: إن كان الحائل رقيقًا بحيث تكمل به اللذة وجب الغسل، وإن لم يكن رقيقًا فإنه لا يجب. وهذا تفصيل جيد، ولو قيل بالغسل احتياطًا لكان أولى. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، برقم (248). (¬2) كشاف القناع (1/ 143).

3 - الحيض والنفاس

3 - الحيض والنفاس: هذا هو الموجب الثالث من موجبات الغسل، دليل ذلك قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (¬1) أي إذا اغتسلن، فمنع الله -سبحانه وتعالى- من وطء زوجته قبل غسلها فدل على وجوبه عليها. أما السنة: فقد جاء في صحيح البخاري ومسلمٌ من حديث فاطمة بنت أبي حبيش قوله - صلى الله عليه وسلم - لها: "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي" (¬2). وقد أجمع الفقهاء على وجوب الغسل على الحائض والنفساء. 4 - الموت: إذا مات المسلم وجب على المسلمين تغسيله، دليل ذلك: * قوله - صلى الله عليه وسلم - فيمن وقصته ناقته بعرفة: "اغسلوه بماء وسدر" (¬3) والأصل في الأمر الوجوب. * وحديث أم عطية حين توفيت إحدى بناته - صلى الله عليه وسلم -: "اغسلنها ثلانًا أو خمسًا أو سبعًا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك" (¬4). ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 222. (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الحيض، باب إقبال المحيض وإدباره برقم (314)، ومسلمٌ في كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها برقم (333) واللفظ لمسلم. (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب الكفن في ثوبين برقم (1206)، ومسلمٌ في كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات برقم (1206). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب غسل الميت ووضوئه بالماء والسدر برقم (1195)، ومسلمٌ في كتاب الجنائز، باب في غسل الميت برقم (939).

هل يشمل الغسل السقط؟

هل يشمل الغسل السقط؟ الجواب: فيه تفصيل، إن نفخت فيه الروح غسل وكفن وصُلِّي عليه، وإن لم تنفخ فيه الروح فلا، وتنفخ فيه الروح إذا تم له أربعة أشهر. اتفق الفقهاء على أن الشهيد لا يغسل؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في شهداء أحد: "ادفنوهم في دمائهم" (¬1) وهذا خاص بشهيد المعركة، أما ما ورد فيه لفظ الشهادة كالمبطون والمطعون وصاحب الهدم والغرق والنفساء ونحوهم، فإنهم يُغَسَّلُون. إن كان الشهيد جنبًا أو كانت الشهيدة حائضًا أو نفساء فهل يشرع غسلها؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة: أ- فذهب أبو حنيفة (¬2) والحنابلة (¬3) -وهو الرواية عند الشافعية (¬4) وقول عند المالكية-، إلى أنه يغسل. ب- وذهب جمهورهم إلى عدم تغسيله (¬5). والأولى أن يغسل؛ لما ورد من أن حنظلة بن أبي عامر الأنصاري المعروف بحنظلة بن الراهب غسلته الملائكة بين السماء والأرض (¬6)، وقد قيل: إن ذلك ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب من لم ير غسل الشهداء، برقم (1281). (¬2) حاشية ابن عابدين (8/ 608)، وبدائع الصنائع (1/ 322). (¬3) المغني (3/ 530). (¬4) روضة الطالبين (2/ 120). (¬5) الشرح الصغير (1/ 576). (¬6) عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده في قصة أحد وقتل شداد بن الأسود الذي كان يقال له: ابن شعوب حنظلة بن أبي عامر قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن صاحبكم تغسله الملائكة فاسألوا صاحبته"، فقالت: خرج وهو جنب لما سمع الهائعة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لذلك غسلته الملائكة". رواه الحاكم في المستدرك (3/ 225) برقم (4917)، وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". والبيهقيُّ (4/ 15).

البغاة وقطاع الطريق هل يغسلون؟

غسل تكريم وتشريف. البغاة وقطاع الطريق هل يغسلون؟ ذهب جمهور الفقهاء (¬1) إلى أنهم يغسلون. وذهب الحنفية (¬2) إلى أنهم لا يغسلون إذا قتلوا في الحرب؛ إهانة لهم وزجرًا لغيرهم من فعلهم، أما إذا قتلوا بعد ثبوت يد الإمام عليهم فإنهم يغسلون. والصحيح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من تغسيلهم والصلاة عليهم. إذا قطع شيء من الميت وجعل معه في أكفانه فإنه يغسل بلا خلاف بين الفقهاء، لكن إن كان لم يحصل إلا جزء من الميت فقط فقد اختلف الفقهاء في ذلك؛ فذهب الحنفية (¬3) والمالكية (¬4) إلى أنه إن كان الموجود هو الأكثر غسل، وإلا فلا. وذهب الشافعية (¬5) والحنابلة (¬6) إلى أنه يغسل سواء كان أكثر البدن أو أقله. وهذا هو الصحيح. 5 - إسلام الكافر: هذا هو الموجب الخامس عند بعض الفقهاء للغسل. وقد اختلف الفقهاء في هذا الموجب على قولين: ¬

_ (¬1) انظر حاشية ابن عابدين (3/ 312)، المغني (8/ 116 - 117). (¬2) بدائع الصنائع (7/ 142). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 572)، بدائع الصنائع (1/ 302). (¬4) مواهب الجليل (2/ 212). (¬5) شرح البهجة (2/ 102). (¬6) المغني (2/ 539).

ثالثا: ذكر بعض الأغسال المستحبة

أ- فذهب المالكية (¬1) والحنابلة (¬2) إلى أن إسلام الكافر موجب للغسل، فمتى أسلم الكافر فإن الواجب عليه أن يغتسل، واستدلوا على ذلك بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن ثُمَامَة بن أُثالٍ -رضي الله عنه- عندما أسلم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اذهبوا به إلى حائط بني فلان فَمُرُوهُ أن يغتسل" (¬3) وكذلك أمره - صلى الله عليه وسلم - قيس بن عاصم حين أسلم أمره أن يغتسل بماء وسدر (¬4). ب- وذهب الحنفية (¬5) والشافعية (¬6) إلى استحباب غسل الكافر إذا أسلم وهو غير جنب، أما إن كان جنبًا فالواجب عليه الاغتسال للجنابة، واحتجوا لذلك أنه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أسلم خلق كثير ولم يأمرهم - صلى الله عليه وسلم - بالاغتسال، أما أمره - صلى الله عليه وسلم - ثمامة بن أثال وقيس بن عاصم فهو محمول على الاستحباب لا الوجوب. ثالثًا: ذكر بعض الأغسال المستحبة: 1 - غسل الجمعة: اختلف الفقهاء في غسل الجمعة على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه واجب على من أتى الجمعة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" (¬7) قال ابن حجر -رحمه الله- في الفتح تعليقًا على هذا ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 130 - 131). (¬2) كشاف القناع (1/ 145). (¬3) أخرجه أحمد (2/ 304) رقم (8024)، والبيهقيُّ في باب الكافر يسلم فيغتسل، برقم (776)، وصححه الألباني في الإرواء (1/ 164). (¬4) أخرجه أحمد (5/ 61)، أبو داود في كتاب الطهارة، باب في الرجل يسلم فيؤمر بالغسل، برقم (355)، النسائي (ذكر ما يوجب الغسل وما لا يوجبه)، باب غسل الكافر إذا أسلم، برقم (188) وغيرهم، والحديث صححه الألباني في الإرواء برقم (128) (1/ 164). (¬5) فتح القدير (1/ 44). (¬6) المجموع (2/ 152 - 153). (¬7) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجمعة، باب فضل الغسل يوم الجمعة، وهل على الصبي شهود يوم

الحديث: "وهو بمعنى اللزوم مطلقًا" (¬1) وهذا القول حكاه ابن المنذر عن مالك وحكاه الخطابي عن الحسن البصري (¬2) وهو رواية عن الإمام أحمد (¬3) وهو رأي الشيخ ابن العثيمين (¬4). القول الثاني: أنه يستحب ولا يجب، وهذا هو مذهب (¬5) جمهور العلماء من السلف والخلف وفقهاء الأمصار، واحتجوا لذلك بما رواه مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا" (¬6)، قال الحافظ ابن حجر: هذا من أقوى الأدلة على الاستحباب وعدم فريضة الغسل يوم الجمعة (¬7). ولحديث سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت (¬8)، ومن اغتسل فالغسل أفضل" (¬9). ¬

_ = الجمعة أو على النساء؟ برقم (839)، ومسلمٌ في كتاب الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة على كل بالغ من الرجال وبيان ما أمروا به، برقم (846) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-. (¬1) فتح الباري (2/ 379). (¬2) انظر في ذلك: نيل الأوطار (1/ 290). (¬3) شرح الروض المربع (2/ 470). (¬4) الشرح الممتع (5/ 108). (¬5) نيل الأوطار (1/ 290). (¬6) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجمعة، باب فضل من استمع وأنصت في الخطبة، برقم (857). (¬7) انظر: تلخيص الحبير 2/ 67. (¬8) قال ابن حجر في تلخيص الحبير (2/ 67): "حكى الأزهري أن قوله: "فبها ونعمت". معناه: فبالسنة أخذ ونعمت السنة. قاله الأصمعي، وحكاه الخطابي أيضًا، وقال: إنها ظهرت تاء التأنيث؛ لإضمار السنة، وقال غيره: ونعمت الخصلة. وقال أبو حامد الشاركي: ونعمت الرخصة. قال: لأن السنة الغسل. وقال بعضهم: معناه: فبالفريضة أخذ ونعمت الفريضة! ". (¬9) أخرج أحمد (5/ 8، 11، 16، 22)، وابن خزيمة في صحيحه، كتاب الجمعة، باب صحيح ابن خزيمة (3/ 128)، باب ذكر دليل أن الغسل يوم الجمعة فضيلة لا فريضة، برقم (1757)،

2 - غسل العيدين

القول الثالث: أنه واجب على من له عرق أو ريح يتأذى به غيره وهذا رواية عند الحنابلة واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1) -رحمه الله-. والراجح من هذه الأقوال هو استحباب الغسل لمن أتى الجمعة، ووقته يمتد من طلوع الفجر إلى صلاة الجمعة، وإن كان المستحب أن يتصل غسله بالذهاب (¬2). المرأة إن أتت الجمعة يسن لها الغسل، وهذه إحدى الروايتين عند الحنابلة، والصحيح في المذهب عندهم أن المرأة لا يستحب لها الاغتسال للجمعة (¬3). لكن الراجح هو سنية الاغتسال للمرأة إذا أتت الجمعة؛ وذلك لأن النصوص الواردة في فضل الغسل عامةٌ فتشمل الرجل والمرأة. 2 - غسل العيدين: استحب العلماء غسل العيدين، وهذا هو الصحيح في مذهب الحنابلة وعليه جمهورهم، وهناك آخر عندهم بوجوبه. والصحيح الاستحباب، والأدلة الواردة في غسل العيدين قال عنها العلماء: إنها ضعيفة، لكن جاءت آثار عن الصحابة أنهم كانوا يغتسلون للعيدين. ومحل الاستحباب أن يكون حاضرها ويصلي سواء صلى وحده أو في جماعة ¬

_ = وأبو داود في كتاب الطهارة، باب في الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة برقم (354)، والترمذيُّ في كتاب الجمعة، باب ما جاء في الوضوء يوم الجمعة برقم (497)، وقال: حديثٌ حسنٌ، والنسائيُّ (المجتبى) في كتاب الجمعة، باب الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة، برقم (1380). (¬1) الإنصاف (1/ 247). (¬2) المرجع السابق. (¬3) المرجع السابق.

3 - غسل من غسل ميتا

على الصحيح في المذهب، وقيل: لا يستحب إلا إذا صلى في جماعة (¬1). 3 - غسل من غسَّل ميتًا: هذا من الأغسال المستحبة، وهو الصحيح في مذهب الحنابلة (¬2)، واحتجوا لذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من غسل الميت فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ" (¬3). وظاهر الحديث الوجوب، لكن جاءت أدلة أخرى صرفته إلى الاستحباب ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس عليكم في غسل ميتكم إذا غسلتموه غسل؛ فإن ميتكم ليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم" (¬4). وقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل" (¬5). وبالاستحباب أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬6). 4 - غسل دخول مكة: هذا الغسل مستحب عند جميع العلماء كما قاله ابن المنذر (¬7)، واستدلوا لذلك بما جاء في صحيحي البخاري ومسلمٌ عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنه كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ثم يبيت بذي طُوَى (¬8)، ثم يصلي به الصبح ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) الإنصاف (1/ 248). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب في الغسل من غسل الميت، برقم (3161)، والترمذيُّ في كتاب، باب ما جاء في الغسل من غسل الميت (993) وصححه الألباني في الإرواء برقم (144). (¬4) أخرجه الحاكم في كتاب الجنائز برقم (1426)، والبيهقيُّ في كتاب الطهارة، باب الغسل من غسل الميت، برقم (1358). وحسنه الألباني في أحكام الجنائز (ص: 254). (¬5) أخرجه الدارقطني في كتاب الجنائز، باب التسليم في الجنازة واحد والتكبير أربعًا وخمسًا وقراءة الفاتحة، برقم (4)، أحكام الجنائز، للألباني (ص: 54). (¬6) فتاوى اللجنة (5/ 318). (¬7) فتح الباري (3/ 435) (¬8) واد معروف بقرب مكة.

5 - غسل الإحرام

ويغتسل، ويحدث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك" (¬1). 5 - غسل الإحرام: يستحب لمن أحرم بحج أو عمرة الاغتسال، ودليل ذلك حديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه-: "أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - تجرد لإهلاله واغتسل" (¬2). 6 - الاغتسال من الإغماء والجنون: من الأغسال المستحبة غسل المجنون والمغمى عليه إذا أفاقا من غير احتلام، فإن كان هناك إنزال وجب في حقهما الغسل. وهذا القيد هو المذهب عند الحنابلة. ودليل سنية هذا الغسل ما رواه البخاري ومسلمٌ عن عبد الله بن عتبة قال: دخلت على عائشة -رضي الله عنها- فقلت: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: بلى ثقل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أصلى الناس؟ " قلنا: لا، هم ينتظرونك، قال: "ضعوا لي ماء في المخضب"، قالت: ففعلنا فاغتسل فذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أصلى الناس؟ " قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله. قال: "ضعوا لي ماء في المخضب"، قالت: فقعد فاغتسل ... (¬3). قال الشوكاني -رحمه الله- تعليقًا على هذا الحديث في نيل الأوطار: "وقد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الحج، باب الاغتسال عند دخول مكة، برقم (1498)، ومسلمٌ في كتاب الحج، باب استحباب المبيت بذي طوى عند إرادة دخول مكة والاغتسال لدخولها ودخولها نهارًا، برقم (1259) واللفظ للبخاري. (¬2) صحيح سنن الترمذيُّ برقم (664)، الإرواء (149). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب إنما جعل الإمام ليؤتم به وصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي توفي فيه بالناس وهو جالس ... ، برقم (655)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر ... ، برقم (418)

هل غسل المجنون والمغمى عليه مشروع تعبدا أم لتقوية البدن؟

ساقه المصنف ها هنا للاستدلال به على استحباب الاغتسال للمغمى عليه، وقد فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات وهو مثقل بالمرض، فدل ذلك على تأكد استحبابه" (¬1). هل غسل المجنون والمغمى عليه مشروع تعبدًا أم لتقوية البدن؟ يَحْتَمِلُ الأمرين: وقال بعض الفقهاء: إنه مشروع تعبدًا (¬2). الأغسال المستحبة: لا يستحب الاغتسال للوقوف بعرفة وطواف الوداع والمبيت بمزدلفة ورمي الجمار، وكذلك الطواف؛ لأنه لم يرد في هذا نصوص شرعية، هذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3) -رحمه الله-. والمذهب على استحباب ذلك، لكن الصحيح عدم الاستحباب (¬4). هل يستحب الاغتسال لداخل المدينة النبوية؟ أحد الوجهين عند الحنابلة استحباب ذلك، وهو المنصوص عن الإمام أحمد -رحمه الله-. والصحيح من المذهب عند الحنابلة عدم استحباب ذلك (¬5). آكد الأغسال حسب ما تقتضيه الأدلة الشرعية: غسل الجمعة، ثم غسل من غسَّل ميتًا، وفي رواية عند الحنابلة (¬6) أن آكدها هو غسل من غسَّل ميتًا، ثم يليه ¬

_ (¬1) نيل الأوطار (1/ 306). (¬2) الشرح الممتع (1/ 356). (¬3) الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية، لشيخ الإسلام (ص: 30). (¬4) الإنصاف (1/ 270). (¬5) الإنصاف (1/ 271). (¬6) الإنصاف (1/ 251).

هل يجوز أن يتيمم لما يستحب له الغسل عند الحنابلة؟

غسل الجمعة. والصحيح أن آكدها غسل الجمعة. هل يجوز أن يتيمم لما يستحب له الغسل عند الحنابلة؟ قيل: يجوز أن يتيمم لما يستحب له، وقيل: لا يتيمم، وقيل: يتيمم لغير الإحرام، وقيل: يتيمم لما يستحب له الوضوء لعذر (¬1). والصحيح: أنه يتيمم لما تستحب له الطهارة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما ألقي عليه السلام تيمم ثم رد على المسلِّم عليه السلام، ومن المعلوم أن التيمم لرد السلام ليس بواجب بالإجماع. ثم إن التيمم بدل عن الطهارة بالماء والبدل له حكم المبدل منه، فمتى استحبت الطهارة بالماء استحبت الطهارة بالتيمم، وهذا هو قول الشيخ ابن العثيمين (¬2). رابعًا: فرائض الغسل: 1 - النية: لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" (¬3). ومذهب المالكية (¬4) والشافعية (¬5) والحنابلة (¬6) أن النية فرض في الغسل، وذهب الحنفية (¬7) إلى أن النية في الغسل سنة ¬

_ (¬1) الإنصاف (1/ 252). (¬2) الممتع (1/ 385). (¬3) أخرجه البخاريُّ في باب بدء الوحي برقم (1)، ومسلمٌ في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنية"، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، برقم (1907) من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. (¬4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 133). (¬5) مغني المحتاج (1/ 72). (¬6) كشاف القناع (1/ 152، 154). (¬7) حاشية ابن عابدين (1/ 105).

2 - تعميم البدن بالماء

وليست بفرض. والراجح أن النية فرض في الغسل بل هي شرط في صحة جميع العبادات. 2 - تعميم البدن بالماء: قال النووي: "إفاضة الماء على جميع البدن؛ شعره وبشره، واجب بلا خلاف" (¬1). هل يجب غسل باطن الفرج؟ الصحيح في المذهب عند الحنابلة (¬2) أنه لا يجب غسل باطن الفرج، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3) -رحمه الله-. نقض شعر المرأة: أ- ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (¬4) والمالكية (¬5) والشافعية (¬6) إلى أنه لا يجب نقض شعر المرأة في الغسل إذا كان الماء يصل إلى أصول شعرها. احتجوا لذلك بحديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: "لا، إنما يكفيك أن تَحْثِي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء" (¬7). ¬

_ (¬1) المجموع (2/ 180). (¬2) الإنصاف (1/ 254). (¬3) الاختيارات الفقهية (ص: 32). (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 134). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 134). (¬6) المجموع، للنووي (2/ 186). (¬7) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحيض، باب حكم ضفائر المغتسلة، برقم (330).

المضمضة والاستنشاق في الغسل

أما إذا كان لا يصل الماء إلى أصول الشعر فالواجب عندهم نقضه. ب- وذهب الحنابلة (¬1) إلى أنه لا يجب نقض الشعر في غسل الجنابة لكن يجب نقضه في غسل الحيض والنفاس. واحتجوا لذلك بحديث عائشة -رضي الله عنها- حيث قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انقضي رأسك وامتشطي" (¬2) وهذا هو المذهب عندهم. ج- وذهب أكثر الفقهاء إلى أنه لا يجب لا في الجنابة ولا في الحيض والنفاس (¬3). الراجح: الصحيح عدم الوجوب؛ لحديث أم سلمة سابق الذكر، ففي رواية أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني امرأة أشد ضفر رأسي فأنقضه للحيضة والجنابة؟ قال: "لا، إنما يكفيك أن تَحْثِي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين" (¬4) فهذا الحديث في عدم الوجوب وبه أفتت اللجنة الدائمة (¬5). المضمضة والاستنشاق في الغسل: ذهب الحنفية (¬6) والحنابلة (¬7) إلى وجوبها في الغسل؛ لأن الأنف والفم من الوجه، والوجه مأمور بغسله في الطهارتين الكبرى والصغرى، فيجب لذلك المضمضة والاستنشاق في الغسل. ¬

_ (¬1) المغني (1/ 226، 227)، كشاف القناع (1/ 154). (¬2) أخرج البخاري في كتاب الحيض، باب نقض المرأة شعرها عند غسل المحيض، برقم (311)، ومسلمٌ في كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام ... ، برقم (1211). (¬3) الغني (1/ 226، 227). (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحيض، باب حكم ضفائر المغتسلة، برقم (330). (¬5) فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 321). (¬6) حاشية ابن عابدين (1/ 102). (¬7) كشاف القناع (1/ 96 - 154).

3 - الموالاة

وذهب المالكية (¬1) والشافعية (¬2) إلى أن المضمضة والاستنشاق غير واجبتين في الغسل، لأن الأنف والفم ليس ظاهر الجسد فلا يجب غسلهما. والصحيح أن المضمضة والاستنشاق واجبان في الطهارتين الكبرى والصغرى. 3 - الموالاة: اختلف الفقهاء في فرضية الموالاة في الغسل: أ- فذهب الحنفية (¬3) والشافعية (¬4) والحنابلة (¬5) إلى أنها سنة في غسل جميع البدن؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن إن فأتت الموالاة بأن جف ما غسله من بدنه بزمن معتدل وأراد أن يتم غسله، جدد لإتمامه النية وجوبًا؛ لانقطاع النية بفوات الموالاة. ب- أما المالكية (¬6) فقالوا بأن الموالاة فرض في الغسل. وبه قال بعض الحنابلة (¬7). ونرى أن الراجح هو الوجوب؛ لأنها عبادة واحدة لا يجوز تجزئتها ولأن من تمام فعله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يراعي الموالاة. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 126). (¬2) مغني المحتاج (1/ 73). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 103 - 105). (¬4) المجموع شرح المهذب (1/ 453). (¬5) كشاف القناع (1/ 152). (¬6) حاشية الدسوقي (1/ 133). (¬7) الإنصاف (1/ 141).

4 - الدلك

4 - الدلك: اختلف الفقهاء في حكمه: أ- ذهب المالكية (¬1) إلى وجوب الدلك في الغسل وقالوا بأنه واجب بنفسه لا لإيصال الماء للبشرة فيعيد تاركه أبدًا، وبه قال المزني من الشافعية (¬2). ب- وذهب الحنفية (¬3) والشافعية (¬4) والحنابلة (¬5) إلى عدم الوجوب، وقالوا بأن دلك الأعضاء في الغسل سنة، واحتجوا لذلك بحديث أم سلمة المتقدم وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم - لها: " ... ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين" (¬6) فلم يذكر - صلى الله عليه وسلم - لها الدلك. وهذا هو الصحيح، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬7). 5 - التسمية: أ- ذهب الحنفية (¬8) والشافعية (¬9) والمالكية (¬10) إلى أن التسمية سنة من سنن ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 134). (¬2) المجموع شرح المهذب (2/ 185). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 103 - 105). (¬4) المجموع شرح المهذب (2/ 185). (¬5) كشاف القناع (1/ 152). (¬6) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحيض، باب حكم ضفائر المغتسلة، برقم (330). (¬7) فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 323). (¬8) حاشية ابن عابدين (1/ 105). (¬9) المجموع شرح المهذب (2/ 181). (¬10) حاشية الدسوقي (1/ 137).

خامسا: سنن الغسل

الغسل ولا تجب، وهذا أحد القولين في مذهب الحنابلة (¬1). ب- والمذهب عند الحنابلة (¬2) وجوبها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" (¬3) فقاسوا إحدى الطهارتين على الأخرى. والصحيح أن التسمية سنة في الوضوء والغسل ولا تجب. خامسًا: سنن الغسل: 1 - غسل الكفين ثلاثًا قبل إدخالهما في الإناء: اتفق الفقهاء على سنة غسل الكفين ثلاثًا قبل أن يدخلهما في الإناء، ودليل ذلك حديث ميمونة -رضي الله عنها- قالت: "وضعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ماء للغسل فغسل يديه مرتين أو ثلاثًا ... " (¬4). 2 - إزالة الأذى: يسن البداءة بإزالة الأذى وذلك بأن يغسل فرجه ويفيض الماء بيده اليمنى ثم يغسله باليسرى، دليل ذلك حديث ميمونة المتقدم وفيه "ثم أفرغ على شماله فغسل مذاكيره" (1). 3 - الوضوء: ذهب الجمهور إلى أنه يسن في الغسل الوضوء، وذلك لحديث عائشة ¬

_ (¬1) المغني (1/ 102). (¬2) كشاف القناع (1/ 90)، المغني (1/ 102). (¬3) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في التسمية في الوضوء، برقم (397) وحسنه الألباني في الإرواء برقم (122) (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الغسل، باب الغسل مرة واحدة برقم (254)، ومسلمٌ في كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة، برقم (317) واللفظ للبخاري.

-رضي الله عنها-: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم يتوضأ وضوءه للصلاه ... " (¬1). واختلف الفقهاء في محل غسل الرجلين، هل يغسلهما مع وضوئه أم إذا فرغ من غسله غسلها؟ أ- فذهب الحنفية (¬2) والشافعية (¬3) والصحيح في مذهب الحنابلة (¬4) إلى أنه لا يؤخرهما بل يكمل الوضوء بغسل الرجلين. ب- وذهب المالكية (¬5) إلى تأخير غسلهما إلى فراغه من غسله. والصواب أن يقال: إنه يغسل قدميه في مكان آخر عند الحاجة كما لو كانت الأرض طينًا؛ لأنه لو لم يغسلهما لتلوثت رجلاه بالطين، أما في وقتنا الحاضر فالأولى أن يتوضأ وضوءًا كاملًا؛ لأنه ليس هناك حاجة لذلك، ويدل لذلك حديث عائشة -رضي الله عنها- المتقدم حيث إنها ذكرت أنه - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة ثم توضأ وضوءه للصلاة فلم تذكر للرجلين تأخيرًا. وخلاصة الأمران حديث عائشة يحمل عند عدم الحاجة، وحديث ميمونة الذي فيه أنه كان يؤخر غسل رجليه فيغسلهما في مكان آخر يحمل عند الحاجة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الغسل، باب تخليل الشعر حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه، برقم (269)، ومسلمٌ في كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة، برقم (316) واللفظ للبخاري. (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 106). (¬3) المجموع (2/ 182). (¬4) كشاف القناع (1/ 152)، الإنصاف (2/ 252). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 136).

4 - البدء باليمين

4 - البدء باليمين: اتفق الفقهاء على استحباب البداءة باليمين في الغسل؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وشأنه كله" (¬1). 5 - تثليث الغسل: دليل ذلك حديث ميمونة -رضي الله عنها- وفيه: "ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات" (¬2) وكذلك حديث عائشة-رضي الله عنها-. واختار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3) أنه لا يشرع تثليث غسل اليدين لعدم؛ صحته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما المشروع هو غسل الرأس ثلاثًا، أما سائر البدن فلا يشرع غسله ثلاثًا. وبهذا قال المالكية (¬4). سادسًا: صفة الغسل: للغسل صفتان: صفة إجزاء، وصفة كمال. أولًا: صفة الإجزاء، وهي أن ينوي ثم يسمِّي ثم يعمم بدنه بالغسل. ثانيًا: صفة الكمال، وهي أن ينوي ثم يسمِّي ويغسل يديه ثلاثًا وما لوثه ثم يتوضأ ويَحْثِي على رأسه ثلاثًا تُرَوِّيْه ثم يفيض الماء على سائر جسده مع مراعاة تدليكه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب التيمن في الوضوء والغسل، برقم (166)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب التيمن في الطهور وغيره، برقم (268) واللفظ للبخاري. (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة، برقم (317) (¬3) مجموع الفتاوى (20/ 369)، الاختيارات (ص: 17). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 137).

سابعا: ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالغسل

سابعًا: ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالغسل: 1 - يجزئ غسل واحد عن حيض وجنابة أو عن جمعة وعيد أو عن جنابة وعن جمعة، وإذا نوى الكل أجزأه؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" (¬1). 2 - يقوم الغسل مقام الوضوء، فمتى اغتسل الرجل من الجنابة وكذلك المرأة متى اغتسلت من الحيض أو النفاس ولم تكن توضأت قبل الشروع في الغسل أجزأ الغسل عن الوضوء. 3 - يجوز للإنسان أن ينام وهو جنب، لكن الأفضل له أن يتوضأ؛ لحديث عمر -رضي الله عنه- أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد وهو جنب" (¬2). 4 - من أراد أن يغتسل غسلًا واجبًا أو مستحبًا فيجوز له أن يستخدم الصابون والشامبو ونحو ذلك من المنظفات ولا حرج عليه في ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في باب بدء الوحي برقم (1)، ومسلمٌ في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنية"، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال برقم (1907) من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الغسل، باب نوم الجنب، برقم (283)، ومسلمٌ في كتاب الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له وغسل الفرج إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يجامع، برقم (306).

باب التيمم

باب التيمم تعريفه: التيمم هو: مسح الوجه واليدين بتراب طهور على وجه مخصوص (¬1). دليل مشروعيته: دل الكتاب والسنة والإجماع على جواز التيمم: 1 - دليل الكتاب: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (¬2). 2 - أما السنة فدليله: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي" إلى أن قال: "وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" (¬3). 3 - أما الإجماع: فقد أجمع العلماء على أن التيمم مشروع بدلًا عن الوضوء والغسل في أحوال، سنذكرها -إن شاء الله- لاحقًا (¬4). هل التيمم خاص بهذه الأمة؟ نعم، التيمم من الخصائص التي خص الله تعالى بها هذه الأمة، فلم يكن ¬

_ (¬1) كشاف القناع (1/ 160). (¬2) سورة المائدة: 6. (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب التيمم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"، برقم (427)، (328)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب المساجد ومواضع الصلاة، برقم (521). (¬4) كشاف القناع (1/ 160)، مغني المحتاج (1/ 87).

هل التيمم رخصة أم عزيمة؟

مشروعًا عند الأمم السابقة، وهذا دليل رحمة الله بهذه الأمة وتخفيفه عنها. ففي حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي" إلى أن قال: "وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل" (2). هل التيمم رخصة أم عزيمة؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة؛ فذهب الجمهور (¬1) إلى أن التيمم رخصة للمسافر والمقيم، وقال الحنابلة (¬2) وبعض المالكية (¬3): إنه عزيمة. والصحيح أن التيمم عزيمة في حق العادم للماء، ورخصة في حق الواجد للماء العاجز عن استعماله. وثمرة الخلاف هنا تكمن في الآتي: أن الرخصة لا تستباح بالمعصية؛ فمتى سافر الإنسان سفر معصية ثم لم يجد ماء فتيمم للصلاة، فعلى من قال بأنه رخصة يجب عليه الإعادة؛ لأن التيمم رخصة فلا تستباح بمحرم. وإن قلنا بأنه عزيمة فنقول بأن صلاته صحيحة ولا إعادة عليه مع ثبوت الإثم عليه بسفره سفر المعصية. شروط التيمم: للتيمم شروط بعضها مجمع عليها وبعضها يختلف فيها بين العلماء، ومن هذه الشروط: ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 87)، المجموع (2/ 238). (¬2) كشاف القناع (1/ 161)، المغني (1/ 311). (¬3) مواهب الجليل لشرح مختصر الخليل (1/ 325).

1 - النية؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" (¬1) 2 - الإسلام. 3 - العقل. 4 - التمييز. وهذه الشروط الثلاثة شروط لكل عبادة، إلا التمييز في الحج فإنه لا يشترط. 5 - دخول وقت الصلاة: وهذا الشرط اختلف فيه الفقهاء: أ- فذهب الجمهور (¬2) إلى اشتراط دخول الوقت لما يتيمم له من فرض أو نفل له وقت مخصوص، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} (¬3)، والقيام إلى الصلاة لا يكون إلا بعد دخول الوقت لا قبله. وقالوا أيضًا بأن التيمم ضرورة، فلذلك لم يجز قبل الوقت. ب- وذهب الحنفية (¬4) إلى جواز التيمم قبل الوقت لأكثر من فرض ولغير الفرض أيضًا؛ لأن التيمم يرفع به الحدث إلى وجود الماء وليس يبيح فقط، وقاسوا ذلك على الوضوء، وهذا هو الصحيح وهو اختيار الشيخ ابن العثيمين (¬5)؛ لأنه بدل عن الماء فيقوم مقامه إلى أن يوجد. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في باب بدء الوحي برقم (1)، ومسلمٌ في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنية"، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، برقم (1907) من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. (¬2) انظر: القوانين الفقهية (ص: 37)، مغني المحتاج (1/ 105)، كشاف القناع (1/ 161). (¬3) سورة المائدة: 6. (¬4) بدائع الصنائع (1/ 54)، وحاشة ابن عابدين (1/ 161). (¬5) الشرح الممتع (1/ 378).

6 - تعذراستعمال الماء لعدمه أو لخوف استعماله: أما دليل عدم الماء فللأدلة التي سقناها آنفًا في مشروعية التيمم، أما دليل الخوف من استعمال الماء كأن يكون به مرض فيخاف إن استعمل الماء في الوضوء أو الغسل زاد مرضه أو تأخر بُرْؤُهُ، فهنا يجوز التيمم، دليل ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬1). وعن عمرو بن العاص -رضي الله عنه-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه في غزوة ذات السلاسل فاحتلم في ليلة باردة شديدة البرد فأشفق إن اغتسل هلك، فتيمم ثم صلى بأصحابه صلاة الصبح" (¬2) فأقره - صلى الله عليه وسلم - على فعله هذا، لكن إن خاف إن استعمل الماء لبرودته وكان عنده ما يمكن به تسخين الماء وجب عليه أن يقوم بتسخين الماء، ولا يعدل إلى التيمم؛ لأنه في حكم واجد الماء في هذه الحالة. 7 - أن يكون بتراب طهور مبيح غير مخترق له غبار باليد: وهذا الشرط هو مذهب الشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) واختاره أبو يوسف من الحنفية (¬5)، أما الحنفية (¬6) والمالكية واختاره الشيخ ابن العثيمين (¬7)، فقالوا بأنه يجوز بكل ما تصاعد على الأرض، فلا يختص التيمم بالتراب، وهذا هو الصحيح ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 6. (¬2) أخرجه البخاريُّ تعليقًا (الفتح 1/ 454)، وقواه ابن حجر في الفتح (1/ 454). (¬3) المجموع (2/ 245). (¬4) المغني (1/ 240)، كشاف القناع (1/ 165). (¬5) حاشية ابن عابدين (1/ 167). (¬6) المرجع السابق. (¬7) الشرح الصغير (1/ 188).

فروض التيمم

واختاره شيخنا (¬1) - رحمه الله دليل ذلك قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (¬2) والصعيد: كل ما تصاعد على وجه الأرض، واشتراط كون التراب طهورًا عند الحنابلة نقول بأن الصحيح أنه ليس في التراب قسم طاهر غير مطهر كما سبق في الماء، فمتى تيمم الإنسان بتراب ثم جاء آخر ليتيمم بهذا التراب الذي تيمم به الأول، جاز له ذلك. ولا يشترط كون التراب له غبار على الصحيح. فروض التيمم: 1 - مسح الوجه؛ لقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} (¬3). 2 - مسح ظاهر الكفين؛ لقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (¬4). وقد اختلف الفقهاء في صفة مسح اليدين: فذهب الحنفية (¬5) والشافعية (¬6) إلى أن المسح يكون إلى المرفقين على وجه الاستيعاب كالوضوء؛ لأن التيمم يقوم مقام الوضوء فيقاس عليه. وذهب المالكية (¬7) والحنابلة (¬8) إلى أن الفرض مسح اليدين إلي الكوعين ومن ¬

_ (¬1) الشرح الممتع (1/ 392). (¬2) سورة المائدة: 6. (¬3) سورة المائدة: 6. (¬4) سورة المائدة: 6. (¬5) حاشية ابن عابدين (1/ 158). (¬6) مغني المحتاج (1/ 99). (¬7) الشرح الصغير (1/ 151). (¬8) كشاف القناع (1/ 174).

الكوعين إلى المرفقين سنة، احتجوا بحديث عمار بن ياسر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالتيمم للوجه والكفين" (¬1). والصحيح: أن مسح اليدين يكون إلى الكوعين فقط ولا يشرع الزيادة إلى المرفقين؛ لأن هذا هو الثابت من قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمار بن ياسر، فعن عبد الرحمن بن أبزى قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجنبت فلم أصب الماء فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب: أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت فصليت فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما كان يكفيك هكذا" فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه (¬2). 3 - الترتيب: وقد اختلف الفقهاء في هذا الفرض؛ فذهب المالكية (¬3) إلى أن الترتيب في التيمم بين الوجه والكفين مستحب وليس بواجب، وذهب الشافعية (¬4) إلى أن الترتيب في التيمم فرض مثل الوضوء، أما الحنابلة (¬5) فيقولون بأنه فرض في الحدث الأصغر لا الأكبر؛ لعدم اشتراط الترتيب في الطهارة من الحدث أكبر. والراجح هو وجوب الترتيب في التيمم في المحدثين: الأكبر والأصغر، فيجب على المتيمم أن يبدأ بالوجه قبل اليدين، وأيضًا وصفه - صلى الله عليه وسلم - لصفة التيمم في ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه إن شاء الله. (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب التيمم، باب التيمم هل ينفخ فيهما، برقم (331)، ومسلمٌ في كتاب الحيض، باب التيمم (368). (¬3) الشرح الصغير (1/ 289). (¬4) مغني المحتاج (1/ 99). (¬5) كشاف القناع (1/ 175).

مبطلات التيمم

حديث عمار بن ياسر المتقدم حيث بدأ بالوجه قبل اليدين فوجب الترتيب لذلك. 4 - الموالاة: وهذا الفرض أيضًا مختلف فيه بين الفقهاء: فذهب الحنفية (¬1) والشافعية (¬2) إلى أن الموالاة في التيمم سنة كما في الوضوء. وذهب المالكية (¬3) والحنابلة (¬4) إلى أنها فرض في الحدث الأصغر، أما الأكبر فهي فيه سنة عند الحنابلة. والصحيح أن الموالاة واجبة في الطهارتين، وهو اختيار الشيخ ابن العثيمين (¬5). مبطلات التيمم: 1 - يبطله ما يبطل الوضوء؛ لأنه بدل عن الوضوء. 2 - وجود الماء؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا وجد الماء فليمسه بشرته" (¬6). 3 - زوال العذر باستعمال الماء كالمرض والبرد كما ذكرنا، والقاعدة في ذلك: أن ما جاز بعذر بطل بزواله. 4 - خروج الوقت، وقد اختلف الفقهاء في هذا الناقض: ¬

_ (¬1) ابن عابدين (1/ 154). (¬2) مغني المحتاج (1/ 99). (¬3) الشرح الصغير بحاشيته (1/ 155). (¬4) كشاف القناع (1/ 175). (¬5) الشرح الممتع (1/ 399). (¬6) أخرجه الترمذيُّ في كتاب الطهارة، باب ما جاء في التيمم للجنب إذا لم يجد الماء، برقم (124)، وصححه الألباني في الإرواء (1/ 160).

ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالتيمم

فذهب الحنابلة (¬1) إلى أن خروج وقت الصلاة التي تيمم لها ناقض للتيمم؛ فإن تيمم لصلاة الظهر مثلًا فيبطل تيممه بخروج وقت الظهر فلا يصلي به العصر. وذهب بعضهم إلى أن خروج الوقت لا يعتبر ناقضًا للوضوء. والصحيح: أن التيمم لا يبطل بخروج الوقت، وهو ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬2). ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالتيمم: 1 - اتفق الفقهاء على أن تأخير الصلاة بالتيمم لآخر الوقت أفضل من تقديمه لمن كان يرجو الماء آخر الوقت، أما إذا كان يئس من وجوده فيستحب تقديمه أول الوقت عند الجمهور، وهذا هو الصحيح (¬3). وذهب بعض العلماء (¬4) إلى أنه إذا كان يعلم وجود الماء فيجب أن يؤخر الصلاة. والراجح: أنه لا يجب التأخير بل هو أفضل، فإن صلى في أول الوقت فلا بأس. 2 - متى وجد المتيمم الماء في صلاته هل يقطعها مباشرة أم له أن يتمها؟ قولان لأهل العلم؛ قيل: عليه أن يقطع صلاته ثم يتوضأ؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا وجد الماء فليمس بشرته". فإن صلى بتيممه بطلت صلاته، أما إذا صلى ثم وجد الماء فلا إعادة عليه. وقيل: بل له أن يتم صلاته، وهي صحيحة؛ ¬

_ (¬1) الإنصاف (1/ 294). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 344). (¬3) انظر في ذلك: الإنصاف (2/ 252). (¬4) انظر في ذلك: حاشية ابن عابدين (1/ 166)، حاشية الدسوقي (1/ 157)، مغني المحتاج (1/ 89)، المغني (1/ 243).

لعموم قوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (¬1). والذي يظهر أن الأولى له أن يقلبها إلى نافلة ثم يتمها ويصلي صلاة الفرض بطهارة الماء، وهنا لا يبطل عمله ويصلي بطهارة الماء، وهذا أولى. 3 - التيمم للنجاسة: ذهب الشافعية (¬2) والحنابلة (¬3) إلى أنه إن كانت على بدن المصلي نجاسة وعجز عن غسلها لعدم الماء أو خوف الضرر باستعمال الماء، فإنه يتيمم لها ويصلي وعليه القضاء عند الشافعية، وهو رواية عن الحنابلة، والمذهب عند الحنابلة أنه لا قضاء عليه. والصحيح: أنه لا يتيمم إلا عن حدث، أما التيمم عن النجاسة فلا يشرع؛ لأن النص إنما ورد في الحدث ولأن طهارة المتيمم لا تؤثر في إزالة النجاسة. 4 - من وجد ماء بكلفة مال هل يلزمه شراؤه؟ أ- المذهب عند الحنابلة (¬4) أنه إن زاد عن ثمنه كثيرًا لا يلزمه شراؤه وعدل إلى التيمم. ب- وقيل: إذا كان واجدًا لثمنه قادرًا عليه وجب عليه أن يشتريه بأي ثمن؛ لأنه في هذه الحالة واجد للماء، ولا ضرر عليه بقدرته على شرائه لقدرته عليه. أما إن كان ليس معه ثمن الماء أو معه ثمن ليس كاملًا فهنا كالعادم للماء فيتيمم. ¬

_ (¬1) سورة محمد: 33. (¬2) مغني المحتاج (1/ 96). (¬3) كشاف القناع (1/ 172)، المغني (1/ 147 - 249). (¬4) كشاف القناع (1/ 165).

والصواب أنه إن زاد عن ثمنه فلا يجب عليه شراؤه وله أن يعدل إلى التيمم. إذا وهب شخص لأحد ماء ليتوضأ به هل يلزمه قبوله؟ نعم، يجب عليه قبوله ولا يجوز له العدول إلى التيمم، وهو قول الجمهور، لكن من دون مِنَّةٍ عليه. فإن وهب ثمنه هل يلزمه ثمنه؟ الصواب أنه لا يلزمه قبوله باتفاق الفقهاء. 5 - إذا لم يجد من أراد الصلاة إلا ماء قليلًا أو لم يستطع أن يستعمل الماء إلا في بعض أعضائه أو قدر على الوضوء في الجنابة ولم يقدر على الغسل، فهنا يفعل ما يستطيعه بطهارة الماء ثم يتيمم عن الباقي، وهذا هو المذهب عند الحنابلة (¬1)؛ لعموم قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬2). وقال بعض العلماء: إنه لا يجمع بين طهارة الماء وطهارة التيمم، بل إذا كان الماء يكفي لنصف الأعضاء فأكثر فإنه يستعمل بلا تيمم، وإذا كان لأقل من النصف فإنه لا يستعمل (¬3). والصحيح: القول الأول. 6 - التيمم رافع للحدث الأصغر والأكبر، ومن تيمم جاز له أن يصلي ويقرأ القرآن ويطوف ويذكر الله ويفعل ما يفعله المتوضئ والمغتسل؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عليك بالصعيد فإنه يكفيك" (¬4). ¬

_ (¬1) الإنصاف (2/ 193 - 195). (¬2) سورة التغابن: 16. (¬3) انظر: المغني (1/ 315). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب التيمم، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء، برقم (337).

7 - من خاف فوات عبادة من العبادات كصلاة جنازة أو صلاة عيد أو صلاة جمعة، فهل يعدل عن الطهارة بالماء إلى التيمم خوفًا من فوات مثل هذه العبادات؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة: فمذهب مالك (¬1) وأحمدُ (¬2) والشافعيُّ (¬3) - رحمهم الله- عدم جواز التيمم لما يخاف فواته كالجنائز وصلاة العيدين وغيرها لواجد الماء القادر على استعماله وإن فاتته هذه العبادات؛ لأنه منشغل بشرطها وهو الوضوء. وذهب الحنفية (¬4) إلى جواز التيمم لما يخاف فواته كالجنائز والعيدين. وهو مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال (¬5): أصح أقوال العلماء أنه يتيمم لكل ما يخاف فواته كالجنازة وصلاة العيد وغيرها، فإن الصلاة بالتيمم خير من تفويت الصلاة، كما أن صلاة التطوع بالتيمم خير من تفويته. لكن الحنفية يقولون بأن ما تفوت إلى بدل كصلاة جمعة فإن لها بدلًا وهو صلاة الظهر، فإنه يلزمه الوضوء ولا يتيمم بخلاف صلاة الجنازة والعيدين فإنه ليس لهما بدل، والصواب القول الأول. 8 - عادم الطهورين (الماء والتراب): من عدم الماء والتراب كأن يكون مغلقًا عليه الباب ولا يعلم متى يخرج، هل يصلي على حسب حاله؟ ¬

_ (¬1) المدونة (1/ 51). (¬2) الإنصاف (1/ 303). (¬3) مختصر المزني بهامش الأم (1/ 36). (¬4) تبيين الحقائق (1/ 43). (¬5) مجموع الفتاوى (21/ 438).

صفة التيمم

هذه المسألة محل خلاف بين الفقهاء؛ الصحيح منها أنه يصلي بلا ماء ولا تيمم وأنه لا إعادة عليه؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬1)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬2) وهذا هو مذهب الحنابلة (¬3)، وأحد الأقوال في مذهب مالك (¬4) والشافعيُّ (¬5) وبه قال ابن حزم (¬6) وهو اختيار شيخ الإسلام (¬7) رحمه الله. صفة التيمم: صفة التيمم للطهارتين: الكبرى والصغرى لا تختلف، وهي كالآتي: 1 - التسمية. 2 - أن يضرب بكفيه الأرض ضربة واحدة مفرجة الأصابع. 3 - يمسح وجهه بباطن أصابعه. 4 - يمسح ظاهر كفيه براحتيه: هذه هي الصفة الواردة عن النبي في حديث عمار بن ياسر؛ فعن عمار بن ياسر -رضي الله عنه- قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنما كان يكفيك أن ¬

_ (¬1) سورة التغابن: 16. (¬2) أخرجه البخاريُّ كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم (6858)، ومسلمٌ في كتاب الحج، باب الحج مرة في العمر، برقم (1337). (¬3) الإنصاف (1/ 282). (¬4) أسهل المدارك (1/ 136، 137). (¬5) المجموع (1/ 277، 278). (¬6) المحلى (1/ 138، 139). (¬7) الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية (ص: 37).

تصنع هكذا" فضرب بكفه ضربة على الأرض ثم نفضها ثم مسح بها ظهر كفه بشماله، أو ظهر شماله بكفه، ثم مسح بها وجهه، وفي رواية: "فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده الأرض فمسح وجهه وكفيه" (¬1). اختلف الفقهاء في هذه المسألة: 1 - فذهب الحنفية (¬2) والشافعية (¬3) إلى أن التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين" (¬4). 2 - وذهب المالكية (¬5) والحنابلة (¬6) إلى أن التيمم الواجب ضربة واحدة، والأكمل عندهم ضربتان. والصحيح: أن الأكمل ما صحت به السنة؛ وهي ضربة واحدة كما جاء في حديث عمار بن ياسر المتقدم، فالزيادة عن الواحدة لا يشرع. أما الحديث الذي احتج به الأولون فهو ضعيف لا يحتج به. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب التيمم، باب التيمم ضربة، رقم (340)، ومسلمٌ في كتاب الحيض، باب التيمم، برقم (368) (¬2) البدائع (1/ 46). (¬3) مغني المحتاج (1/ 99 - 100). (¬4) أخرجه الحاكم في كتاب الطهارة، برقم (634) و (638)، والبيهقيُّ في باب كيف التيمم، برقم (941)، الدارقطني (1/ 180)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، رقم (2519). (¬5) الشرح الصغير (1/ 151 - 152). (¬6) كشاف القناع (1/ 178 - 179).

باب الحيض والاستحاضة والنفاس

باب الحيض والاستحاضة والنفاس أولًا: الحيض: تعريف الحيض: الحيض هو: دم طبيعة وجبلة يعتاد الأنثى إذا بلغت، يخرج من قعر الرحم في أوقات معلومة (¬1). وهل يجب على المرأة أن تتعلم أحكام الحيض؟ نعم، يجب على المرأة أن تتعلم ما تحتاج إليه من أحكام الحيض ويجب على زوجها أو وليها أن يعلمها ما تحتاج إليه إن علم، وإن لم يعلم أذن لها بالخروج لتتعلم أحكامه أو سؤال أهل العلم عند حصول ما يشكل عليها فيه، ويحرم عليه منعها من ذلك. شروط الحيض: لكي يعتبر الخارج من المرأة دم حيض لا بد له من شروط، ومن هذه الشروط: 1 - كونه من رحم المرأة، فالخارج من الدبر ليس بحيض. 2 - ألَّا يكون بسبب الولادة، فالخارج بسبب الولادة دم نفاس لا دم حيض. 3 - أن يتقدم الحيض فترةُ طهر، وقد اختلف الفقهاء في فترة الطهر التي يعقبها الحيض: أ- فعند الجمهور (¬2) خمسة عشر يومًا. ¬

_ (¬1) كشاف القناع (1/ 196). (¬2) انظر في ذلك: حاشية ابن عابدين (1 م 189 - 190)، الخرشي على مختصر خليل (1/ 204)، مغني المحتاج (1/ 109).

ب- ويرى الحنابلة (¬1) أنه ثلاثة عشر يومًا، وهذا هو أقل مدة فاصلة بين الحيضتين. 4 - ألَّا ينقص الدم عن أقل الحيض، وقد اختلف الفقهاء في تحديد أقل مدة للحيض على أقوال كثيرة أرجحها أنه يوم وليلة (¬2). 5 - أن يكون الدم الخارج في أوانه، وأوانه هو تسع سنين عند كثير من أهل العلم، فمتى خرج الدم قبل ذلك فهو دم فساد على كل حال؛ لأنه لا يجوز أن يكون حيضًا. وبعض أهل العلم لا يرى له سنًا محددة بل قد يحصل قبل سن التاسعة، أما إن خرج بعد بلوغ المرأة سن الإياس فهذا أيضًا لا يعد حيضًا. وقد اختلف الفقهاء في تحديد سن الإياس على أقوال عديدة؛ أرجحها أنه لا حد لسن الإياس، فمتى وجدت المرأة الحيض ثبت حكمه، ومتى لم يوجد لم يثبت له حكم. 6 - أن لا يزيد الدم عن أكثر الحيض، وقد اختلف الفقهاء في تحديد أكثر الحيض: أ- فذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا حد لأكثر الحيض. وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3) والشيخ ابن العثيمين (¬4). ¬

_ (¬1) كشاف القناع (1/ 203). (¬2) المراجع السابقة. (¬3) مجموع الفتاوى (19/ 237). (¬4) الممتع (1/ 560).

أوصاف دم الحيض

ب- وذهب الجمهور من المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، إلى أن أكثر الحيض خمسة عشر يومًا، وهو الراجح. أوصاف دم الحيض: لدم الحيض خصائصه من حيث اللون والرائحة، وقد اتفق الفقهاء على أن لون دم الحيض هو اللون الأحمر، هذا هو الأصل في لونه، إلا أنه قد يغلب عليه السواد فيصير أسودًا، وقد يكون أصفر أو أكدر اللون. ويتميز دم الحيض بأنه غليظ كريه الرائحة، لكن قد يتغير على حسب اختلاف الطبيعة والبيئة من مكان لآخر. هل الصُّفْرة والكُدرة تعد حيضًا؟ 1 - ذهب الجمهور (¬4) إلى أن الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض، واحتجوا لذلك بأن عائشة -رضي الله عنها- كان النساء يبعثن إليها بالدَّرَجَة فيها الكُرْسُف فيه الصُّفْرَة فتقول لهن: "لا تَعْجَلْنَ حتى ترين القَصَّة البيضاء" (¬5) تريد بذلك الطهر من الحيض. 2 - وفي وجه عند الشافعية (¬6) أنهما ليستا بحيض، واحتجوا بحديث أم عطية: "كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئًا" (¬7). ¬

_ (¬1) الخرشي على مختصر خليل (1/ 204). (¬2) المجموع (2/ 383). (¬3) المغني، لابن قدامة 1/ 390، كشاف القناع (1/ 203). (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 192)، حاشية الدسوقي (1/ 197)، مغني المحتاج (1/ 113)، كشاف القناع (1/ 213) (¬5) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 59) كتاب الطهارة، باب طهر الحائض. (¬6) مغني المحتاج (1/ 113). (¬7) أخرجه البخاريُّ في كتاب الحيض، باب الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض، برقم (320).

هل الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض تعتبر حيضا؟

والراجح: قول الجمهور أن الصفرة والكدرة في زمن الحيض حيض، أما حديث أم عطية -رضي الله عنها- فقد جاء في رواية: "كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئًا" (¬1) فهذا القيد المذكور في هذه الرواية يدل على أن هذا الدم إن كان قبل الطهر فهو حيض، أي: في أيامه، وما عداه لا يكون حيضًا. هل الصُّفْرَة والكدرة في غير أيام الحيض تعتبر حيضًا؟ اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فالحنفية (¬2) والحنابلة (¬3) على أنهما ليستا بحيض في غير أيام الحيض. 2 - والمالكية (¬4) والشافعية (¬5) على أنهما حيض. والصحيح أنهما ليستا بحيض؛ لحديث أم عطية السابق. أحوال الحائض: للمرأة حين نزول الدم عليها ثلاث حالات؛ إما أن تكون مبتدأة، أو معتادة، أو متحيرة. أولًا: المرأة المبتدأة: 1 - تعريفها: هي المرأة التي ينزل معها الدم ولم يتقدم لها حيض قبل ذلك. 2 - حكمها: إذا رأت الدم تركت الصلاة والصيام والوطء وانتظرت الطهر، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في المرأة ترى الكدرة والصفرة بعد الطهر، برقم (307). (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 192). (¬3) كشاف القناع (1/ 213). (¬4) حاشية الدسوقي على مختصر خليل (1/ 203). (¬5) مغني المحتاج (1/ 113).

3 - ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالمبتدأة

فإذا رأت الطهر بعد يوم وليلة أو أكثر إلى خمسة عشر يومًا، اغتسلت وصلَّتْ. فإن استمر معها الدم بعد الخمسة عشر يومًا فهي مستحاضة، وسيأتي بيان حكمها قريبًا -إن شاء الله-. والأظهر عندنا -والله أعلم- أن المرأة تحيض بعادة نساء قومها والغالب بينهن؛ وهو ستة أيام أو سبعة أيام، وهذا هو قول المالكية والحنابلة والوجه الظاهر عند الشافعية؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله" (¬1)، (¬2). 3 - ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالمبتدأة: أ- إذا انقطع دم المبتدأة لتمام أكثر الحيض فما دون ورأت الطهر طهرت، ويكون الدم بين أول ما تراه إلى رؤية الطهر حيضًا يجب عليها ما يجب على الحائض، وهذا رأي الجمهور وهو الراجح. ب- إذا استمر دم المبتدأة أكثر مدة الحيض فقد اختلف الفقهاء في ذلك؛ والصحيح أنها تمكث خمسة عشر يومًا وهي أكثر فترة الحيض، فإن جاوز ذلك فهي مستحاضة. ج- إذا انقطع دمها خلال خمسة عشر يومًا فكانت تراه يومًا أو يومين وينقطع مثل ذلك، فإنها تغتسل وتصلي كلما رأت الطهر، وتقعد كلما رأت الدم. ثانيًا: المرأة المعتادة: 1 - تعريفها: هي من كانت لها أيام معلومة تحيضها من الشهر. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب من روى أن الحيضة إذا أدبرت لا تدع الصلاة، برقم (287)، والترمذيُّ في كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد، برقم (128). (¬2) المغني (1/ 327).

2 - حكمها

2 - حكمها: أنها تترك الصلاة والصوم والوطء أيام عادتهما، فإن رأت صفرة أو كدرة بعد عادتها فالراجح أنها لا تلتفت إليها، لحديث أم عطية المتقدم. أما إذا رأت ذلك أيام عادتها -أي: بأن يتخلل أيام عادتها صفرة أو كدرة- فإن ذلك يعتبر حيضًا كما ذكرنا ذلك سابقًا. 3 - بم تثبت العادة؟ أ- جمهور الفقهاء من الحنفية (¬1) والمالكية (¬2) وهو الأصح عند الشافعية (¬3) أن العادة تثبت بمرة واحدة في المبتدأة. ب- أما الحنابلة (¬4) فقالوا: لا تثبت العادة إلا بثلاث مرات، في كل شهر مرة، وهو قول -أيضًا- عند الشافعية. الأدلة: احتج الجمهور بما رواه أبو داود وغيره من حديث أم سلمة -رضي الله عنها-: أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفتيت لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتدع الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلَّفت ذلك فلتغتسل ثم لِتَسْتَثْفِرْ بثوب ثم لتصلِّ فيه" (¬5). وجه الدلالة: أن الحديث دل على اعتبار الشهر الذي قبل الاستحاضة. ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير (1/ 157). (¬2) شرح الزرقاني على مختصر خليل (1/ 134). (¬3) مغني المحتاج (1/ 115) (¬4) كشاف القناع (1/ 205، 208). (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في المرأة تستحاض ومن قال تدع الصلاة في عدة الأيام التي كانت تحيض، برقم (274).

4 - أحوال المرأة المعتادة

أما الحنابلة فاحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها" (¬1). وجه الدلالة عندهم قوله: "الأيام" وهي صفة جمع وأقله ثلاثة، وقالوا أيضًا بأن العادة مأخوذة من المعاودة، ولا تحصل المعاودة بمرة واحدة. والصحيح ما ذهب إليه أصحاب القول الأول من أن العادة تثبت بالمرة الواحدة. 4 - أحوال المرأة المعتادة: للمرأة المعتادة ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يوافق الدم عادتها. فالحكم هنا: تكون أيام الدم حيضًا وما بعدها طهرًا، كأن تكون أيام حيضها خمسة أيام حيضًا وخمسة وعشرين طهرًا ورأت ما يوافق ذلك، فحيضها خمسة أيام وطهرها خمسة وعشرون كعادتها. الحالة الثانية: أن ينقطع الدم دون العادة فإن انقطع دون أقل الحيض فلا يعد حيضًا في حقها، بل هو دم فساد لا تلتفت إليه المرأة. وإن انقطع بأقل الحيض؛ وهو يوم وليلة، وكانت عادتها أكثر من ذلك، فإنها تطهر بذلك ولا تتم عادتها. فإن عاودها الدم بعد انقطاعه وكان في أثناء عادتها ولم يجاوزها فإنها تجلس زمن الدم من العادة، كما لو لم ينقطع؛ لأنه صادف زمن العادة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الحيض، باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض وما يصدق النساء في الحيض والحمل فيما يمكن من الحيض، برقم (319).

الحالة الثالثة: أن يجاوز الدم عادتها.

الحالة الثالثة: أن يجاوز الدم عادتها. فإن جاوز عادتها المعروفة كأن تكون عادتها خمسة أيام فيتجاوز الدم هذه الخمسة إلى سبعة أيام، فهذا محل خلاف بين الفقهاء. والصواب أنها تجلس الزيادة إن كانت متصلة؛ لعموم الأدلة ولأن الحيض يزيد وينقص ما لم تتجاوز الزيادة خمسة عشر يومًا، فإن جاوزتها فهي مستحاضة وليس لها إلا عادتها المعلومة، وهذا هو اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز (¬1). 5 - انتقال العادة: جمهور (¬2) الفقهاء من المالكية (¬3) والشافعية (¬4) والحنابلة (¬5) على أن العادة تنتقل؛ تتقدم أو تتأخر، أو يزيد قدر الحيض أو ينقص. أما الزيادة والنقصان فقد تقدم الكلام عليها وبينا حكم ذلك. وأما المتقدم والتأخر كأن تكون أيام حيضها الخمسة الأولى من الشهر ثم رأت في بعض المشهور أن أيام حيضها الخمسة الثانية من الشهر، وهكذا في المتقدم، كأن يكون حيضها الخمسة الثانية من الشهر ثم جاءها حيضها في الخمسة الأولى من الشهر، فهذه المسألة اختلف فيها الفقهاء مع اتفاقهم في أن العادة تنتقل، لكن في حد الانتقال اختلفوا: هل يثبت الانتقال بمرة واحدة، أم لا بد من تكراره ثلاث مرات؟ ¬

_ (¬1) انظر: تعليق سماحة الشيخ على كتاب الأحكام الشرعية للدماء الطبيعية، تأليف الدكتور عبد الله الطيار (ص: 49). (¬2) الخرشي على مختصر خليل (1/ 205). (¬3) المجموع، للنووي (2/ 447)، ومغني المحتاج (1/ 115). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 396). (¬5) مغني المحتاج (1/ 115).

إذا نسيت المرأة المعتادة عادتها فماذا تفعل؟

أ- فالشافعية يرون أن الانتقال يكون بمرة واحدة إن كانت عادتها متفقة لامختلفة. ب- والحنابلة يرون أن الانتقال لا يكون إلا بالتكرار ثلاث مرات، فإذا رأت الدم في غير عادتها لم تعتبر ما خرج عن العادة حيضًا حتى يتكرر ثلاثًا في أكثر الروايات أو مرتين في رواية عندهم. والصحيح: أن العادة تنتقل بمرة واحدة، فمتى رأت المرأة الدم، ودم الحيض معروف بوصفه الذي ذكرنا سابقًا، فإنها تعتبر ما خرج منها حيضًا فلا تصلي ولا تصوم ولا توطأ، فان استمر معها حتى صادف أيام حيضها فإنها تبقى حائضًا ما لم يتجاوز الدم أكثر الحيض (خمسة عشر يومًا فهنا تعتبر استحاضة لها أحكامها التي سنذكرها إن شاء الله). إذا نسيت المرأة المعتادة عادتها فماذا تفعل؟ اختلف الفقهاء في المرأةِ الناسيةِ لزمن عادتها وموضعها من الشهر والناسيةِ أيضًا عددَ أيامها: 1 - فيرى بعض أهل العلم أنها تجلس في كل شهر ستة أيام أو سبعة وهو غالب الحيض. واستدل أصحاب هذا القول بما رواه أبو داود وغيره عن حَمْنَةَ بنت جحش قالت: كنت أُسْتَحَاضُ حيضة كبيرة شديدة فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أستفتيه فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش فقلت: يا رسول الله إني أستحاض من حيضة كبيرة شديدة فما تأمرني فيها؟ قد منعتني الصيام والصلاة، قال: "أَنْعَتُ لك الكُرْسُفَ فإنه يذهب الدم" قالت: هو أكثر من ذلك، قال: "فاتخذي ثوبا" فقالت: هو أكثر من ذلك إنما أَثُجُّ ثجًا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سآمرك بأمرين، أيهما فعلت أجزأ

علامات الطهر عند الحائض

عنك من الآخر، وإن قويت عليهما فأنت أعلم"، فقال لها: "إنما هذه رَكْضَةٌ من ركضات الشيطان فَتَحَيَّضِي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ... " (¬1). 2 - وذهب آخرون إلى أن الناسية لعددها ووقتها أنها تتحرى. 3 - وفي رواية للحنابلة أنها تجلس أقل الحيض؛ وهو يوم وليلة (¬2). لكن القول الأول هو الأصوب والأرفق؛ لأنه يتفق مع مبدأ التيسير الذي جاءت به الشريعة الإسلامية. علامات الطهر عند الحائض: الطهر من الحيض يكون بأحد أمرين: 1 - انقطاع الدم. 2 - رؤية القصة البيضاء. أولًا: انقطاع الدم: المقصود بانقطاع الدم هو جفافه بحيث إن المرأة لو وضعت خرقه في الفرج تخرج غير ملوثة بدم أو كدرة أو صفرة. ثانيًا: رؤية القصة البيضاء: القصة البيضاء هي ماء يخرج من فرج المرأة يأتي في آخر الحيض، قالت عائشة-رضي الله عنها-: "لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب من روى أن الحيضة إذا أدبرت لا تدع الصلاة برقم (287)، والترمذيُّ في كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد برقم (128) وقال حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. (¬2) المغني (1/ 321). (¬3) تقدم تخريجه (ص: 142).

الحيض والحمل

الحيض والحمل: اختلف الفقهاء في الدم الخارج من المرأة الحامل: هل هو حيض أم هو دم فساد؟ 1 - فذهب الحنفية (¬1) والحنابلة (¬2) إلى أن الدم الخارج من الحامل هو دم علة وفساد وليس بدم حيض. وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬3). احتجوا لذلك بحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه لما طلق زوجته وهي حائض قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مُرْهُ فليراجعها ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا" (¬4) فجعل - صلى الله عليه وسلم - الحمل علمًا على عدم الحيض كالطهر، وقال -أيضًا- بأن الله تعالى جعل من أنواع عدة المطلقة أن تحيض ثلاث حيض ليتبين بذلك براءة الرحم ولو كانت الحامل تحيض ما صح أن يجعل الحيض لإثبات براءة الرحم، وعلى هذا فالمرأة الحامل إذا حاضت لا تنقطع عن أي شيء من أنواع العبادة، فتصلي وتصوم وتوطأ وغير ذلك. 2 - أما المالكية (¬5) والشافعية (¬6) -وهو رواية عن الحنابلة (¬7) - واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ ابن العثيمين (¬8) أن الحامل إذا نزل عليها الدم يعتبر ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 189). (¬2) كشاف القناع (1/ 202). (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 392). (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها وأنه لو خالف وقع الطلاق ويؤمر برجعتها، رقم (1471). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 169)، التمهيد (16/ 87). (¬6) مغني المحتاج (1/ 118)، المجموع (2/ 384). (¬7) المغني (1/ 44). (¬8) الشرح الممتع (1/ 559).

حكم استعمال ما يمنع الحمل

حيضًا بناء على الأصل، واحتجوا لذلك بعموم الأدلة التي جاءت في الحيض، فلم تستثنِ في الحكم المرأة الحامل. والراجح: أن المرأة الحامل إذا رأت الدم المطرد الذي يأتيها على وقته وشهره وحاله، فإنه حيض تترك من أجله الصلاة والصيام وغير ذلك، إلا أنه يختلف عن الحيض في هذه الحالة بأنه لا عبرة به في العدة؛ لأن الحمل أقوى منه. حكم استعمال ما يمنع الحمل: استعمال ما يمنع حيض المرأة جائز ولكن بشرطين: 1 - ألا يكون فيه ضررٌ على المرأة؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (¬1)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" (¬2). 2 - أن يكون ذلك بإذن الزوج إن كان له تعلق به؛ مثل أن تكون معتدة منه على وجه تجب عليه فيه نفقتها فتستعمل ما يمنع الحيض؛ لكي تطول المدة، ومن ثم تزداد نفقتها، فلا يجوز لها أن تستعمل ما يمنع الحيض حينئذ إلا بإذنه. وإذا قلنا بجواز استعمال ما يمنع الحيض فالأولى عدم استعماله إلا لحاجة؛ لأن ترك الطبيعة على ما هي عليه أقرب إلى اعتدال الصحة والسلامة. غسل الثوب الذي أصابه دم حيض: إذا أصيب ثوب المرأة بشيء من دم الحيض وجب عليها غسله؛ لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء بذلك، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة فَلْتَقْرُصْهُ ¬

_ (¬1) سورة النساء: 29. (¬2) أخرجه الدارقطني في كتاب البيوع، برقم (288)، والحاكم في كتاب البيوع، برقم (2345) وصححه وقال: إنه على شرط مسلم. وحسنه النووي في الأربعين النووية، وكذلك الألباني في الإرواء برقم (888).

حكم من أتى امرأته وهي حائض

ثم لتنضحه بماء ثم لتصلي فيه" (¬1). فقد بين الحديث أن المرأة إذا رأت دم الحيض تحتَّه أي تحكه، والمراد بذلك إزالة عينه وتقرصه بالماء، ويكون القرص للدم بأطراف الأصابع ليتحلل بذلك ويخرج ما يشربه الثوب. أما النضح فقيل المراد به: الغسل، وقيل: الرش. حكم من أتى امرأته وهي حائض: من المعلوم أنه يحرم وطء الحائض في فرجها؛ لقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (¬2)، والمحيض هو زمان ومكان الحيض. ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" (¬3) يعني الوطء، أما المباشرة فيما دون الفرج فلا شك في جوازها. فإن وقع في الفرج فقد وقع في الإثم، لكن هل يلزمه شيء؟ اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (¬4) والمالكية (¬5) والمذهب الجديد عند الشافعية (¬6) ورواية عند أحمد (¬7) وحكاه الخطابي (¬8) عن أكثر العلماء، أنه يكون آثمًا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الحيض، باب غسل دم الحيض، برقم (301). (¬2) سورة البقرة: 222. (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحيض، باب الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد، برقم (302) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬4) البحر الرائق (1/ 207). (¬5) حاشية القليوبي (1/ 100). (¬6) مغني المحتاج (1/ 110). (¬7) الإنصاف (1/ 351، 352). (¬8) مسلم (3/ 204).

إذا انقطع الدم عن الحائض أو النفساء ولم تغتسلا هل يباح للزوج وطؤها؟

مرتكبًا لكبيرة، ولا كفارة عليه. 2 - وذهب الشافعي في القول القديم، والإمام أحمد في رواية، وهو قول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (¬1)، إلى القول بأنه يأثم مع وجوب الكفارة عليه. وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية. واحتجوا لذلك بما رواه أحمد وأصحاب السنن عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيمن يأتي امرأته وهي حائض: "ليتصدق بدينار أو بنصف دينار" (¬2). والذي يظهر -والله أعلم- أنه لا تجب الكفارة على من وطئ امرأته وهي حائض، ولكن تستحب في حقه، ويجب عليه الاستغفار والتوبة. إذا انقطع الدم عن الحائض أو النفساء ولم تغتسلا هل يباح للزوج وطؤها؟ 1 - ذهب الشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) وهو أحد الأقوال في مذهب مالك (¬5) واختاره شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬6) والشيخ ابن العثيمين (¬7) أنه لا يجوز وطء الحائض والنفساء حتى يغتسلا، فإن عدمتا الماء أو خافتا الضرر باستعمالهما الماء ¬

_ (¬1) انظر: الأحكام الشرعية للدماء الطبيعية وتعليقات سماحة الشيخ -رحمه الله- عليه (ص: 165). (¬2) أخرجه أحمد في المسند (1/ 229) رقم (2032)، وأبو داود في كتاب النكاح، باب كفارة من أتى حائضًا، برقم (2168)، والنسائيُّ في كتاب الحيض والاستحاضة، باب ذكر ما يجب على من أتى حليلته في حال حيضها مع علمه بنهي الله تعالى، برقم (370). (¬3) روضة الطالبين (1/ 135). (¬4) الإنصاف (1/ 349). (¬5) مواهب الجليل (1/ 374). (¬6) مجموع الفتاوى (21/ 626). (¬7) الشرح الممتع (1/ 484).

لمرض أو برد شديد، تيممتا، لكن المالكية (¬1) يرون اشتراط الغسل، فلا يكفي التيمم لعذر بعد انقطاع الدم في حل الوطء، فلا بد من الغسل حتى يحل وطؤها، واحتجوا لذلك بقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (¬2). فقد علق الله تعالى الوطء بشرطين: انقطاع الدم وذلك في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} أي ينقطع دمهن، الثاني: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي اغتسلن بالماء. 2 - وذهب الحنفية (¬3) إلى أنه إن انقطع الدم لأكثر مدة الحيض عندهم وهي عشرة أيام، فإنه يجوز وطؤها بدون غسل، لكن يستحب تأخير الوطء لما بعد الغسل. وإن انقطع دمها قبل أكثر مدة الحيض أو لتمام العادة في المعتادة بأن لم ينقص عن العادة، فإنه لا يجوز وطؤها حتى تغتسل أو تتيمم. وإن انقطع الدم قبل العادة وفوق الثلاث فإنه لا يجوز وطؤها حتى تقضي عادتها وإن اغتسلت؛ لأن العود في العادة غالب. 3 - وذهب ابن حزم (¬4) إلى جواز وطئها قبل الغسل فمتى طهرت المرأة من الحيض جاز لزوجها جماعها، وأجاب عن قوله تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بأن المراد هنا غسل أثر الدم لا الغسل الشرعي. الراجح: ما ذهب إليه جمهور الفقهاء وهو وجوب الغسل قبل الوطء. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 172). (¬2) سورة البقرة: 222. (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 189). (¬4) المحلى، لابن حزم (2/ 172).

ثانيا: الاستحاضة

ثانيًا: الاستحاضة تعريفها: الاستحاضة هي: سيلان الدم في غير أوقاته من مرض وفساد من عِرْقٍ فَمُهُ في أدنى الرحم يسمى العاذل. وقيل في تعريفها: "المستحاضة" هي التي يتجاوز دمها أكثر الحيض، وقيل: هي التي ترى دمًا لا يصلح أن يكون حيضًا ولا نفاسًا (¬1). أحوال المستحاضة: للمستحاضة ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تكون مدة الحيض معلومة معروفة لها قبل الاستحاضة وتسمى المعتادة، فالحكم هنا أنها تعتبر هذه المدة المعروفة هي مدة الحيض والباقي استحاضة. دليل ذلك حديث أم سلمة أنها استفتت النبي - صلى الله عليه وسلم - في امرأة تهراق الدم فقال: "لتنتظر قدر الليالي والأيام التي كانت تحيضهن وقدرهن من الشهر فتدع الصلاة ثم لتغتسل وَلْتَسْتَثْفِرْ بثوب ثم تصلي" (¬2). الحالة الثانية: أن يستمر بها الدم ولم يكن لها أيام معروفة، ففي هذه الحالة يكون حيضها تسعة أيام أو سبعة على غالب عادة النساء؛ لحديث حَمْنَةَ بنت جحش الذي سبق ذكره. الحالة الثالثة: أن لا يكون لها عادة ولكنها تستطيع أن يتميز دم الحيض عن ¬

_ (¬1) انظر تعريفات الاستحاضة في: الإقناع (1/ 63)، والبحر الرائق (1/ 226)، والشرح الممتع (1/ 436). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في المرأة تستحاض ومن قال تدع الصلاة في عدة الأيام التي كانت تحيض، برقم (274).

حكم الوضوء للمستحاضة

غيره، وفي هذه الحالة عليها أن تعمل بالتمييز؛ لحديث فاطمة بنت جحش أنها كانت تستحاض فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان دم الحيضة فإنة دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عِرْقٌ" (¬1). حكم الوضوء للمستحاضة: 1 - ذهب بعض العلماء إلى أنه يجب على المستحاضة الوضوء لكل صلاة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث فاطمة بنت أبي حبيش السابق: "ثم توضئي لكل صلاة" (¬2). 2 - وذهب مالك (¬3) إلى استحباب الوضوء لكل صلاة للمستحاضة ولا يجب إلا بحدث آخر. والراجح هو وجوب الوضوء لكل صلاة؛ لحديث فاطمة بنت أبي حبيش. حكل الغسل للمستحاضة: لا يجب على المستحاضة الغسل لشيء من الصلاة ولا في أي وقت من الأوقات إلا مرة واحدة وهي عند انقطاع حيضها. وهذا هو قول الجمهور وهو الراجح. أما حديث أم حبيبة -رضي الله عنها- أنها استحيضت فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي" فكانت تغتسل عند كل صلاة، وفي رواية: "فكانت تغتسل عند كل صلاة" (¬4) فالأمر هنا محمول على الاستحباب ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، برقم (286). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب غسل الدم، برقم (226). (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 116). (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، برقم (334).

كيفية طهر المستحاضة

وعلى هذا حمله المالكية (¬1) والحنابلة (¬2). كيفية طهر المستحاضة: إذا أرادت المستحاضة الوضوء فإنه يلزمها أن تغسل أثر الدم وتعصب على الفرج خرقة؛ لتمنع خروج الدم؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لحمنة: "أنْعَتُ لك الكُرْسُفَ فإنه يذهب الدم"، قالت: هو أكثر من ذلك قال: "فتلجمي" (¬3). متى تتوضأ المستعاضة؟ ذهب جمهور العلماء إلى أن طهارة المستحاضة طهارة ضرورية فلا يجوز لها تقديمها قبل وقت الحاجة، ومن هنا لا تتوضأ قبل دخول وقت الصلاة. وطء المستحاضة: اختلف أهل العلم في وطء المستحاضة على قولين: القول الأول: يجوز وطؤها، وهو قول أكثر الصحابة، وبه قال أكثر العلماء، وهو قول الحنفية (¬4) والشافعية (¬5)، واحتجوا بأن دم الاستحاضة إنما هو دم عرق فلا يمنع من الوطء. قال ابن حجر -رحمه الله-: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاز للمستحاضة الصلاة، فالوطء من باب أولى جائز؛ لأن الوطء أهون" (¬6). ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 130). (¬2) المغني بالشرح الكبير (1/ 378). (¬3) أخرجه الترمذيُّ في كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد، برقم (128) وقال: حسنٌ صحيحٌ. (¬4) البدائع (1/ 44). (¬5) المجموع (2/ 372). (¬6) فتح الباري (1/ 329).

الفرق بين دم الحيض ودم المستحاضة

القول الثاني: أنه لا يجوز وطؤها، وهو قول النخعي والحنابلة، وفي رواية لأحمد أنه يجوز وطؤها إذا خاف العنت (¬1). والراجح من القولين: هو جواز وطء المستحاضة وأن حكمها حكم الطاهرات في كل شيء غير أيام حيضها. الفرق بين دم الحيض ودم المستحاضة: لقد فرق الشارع بين الحيض والاستحاضة في الأحكام، ومن أن هناك فرقًا بين دم الحيض ودم الاستحاضة، ومن هذه الفروق: 1 - من حيث اللون: دم الحيض دم يميل إلى السواد، أما دم الاستحاضة فإنه دم أحمر يميل إلى الصفرة. روى البخاري في صحيحه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "اعتكفتْ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة مستحاضة من أزواجه، فكانت ترى الحمرة والصفرة، فربما وضعنا الطَّسْتَ تحتها وهي تصلي" (¬2). 2 - دم الحيض ثخين، ودم المستحاضة رقيق. 3 - أن رائحة دم الحيض منتنة كريهة، أما دم الاستحاضة فلا رائحة له. 4 - دم الحيض لا يتجمد إذا ظهر؛ لأنه تجمد في الرحم ثم انفجر وسال، أما دم الاستحاضة فإنه دم عرق إذا ظهر تجمد. ¬

_ (¬1) الكافي (1/ 84). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الاعتكاف، باب اعتكاف المستحاضة، برقم (1932).

ثالثا: النفاس

ثالثًا: النفاس تعريفه: النفاس: هو الدم الخارج من المرأة بسبب الولادة. مدة النفاس: اختلف الفقهاء في أقل مدة للنفاس وكذلك في أكثره: 1 - فذهب الجمهور إلى أنه لا حد لأقل النفاس، ففي أي وقت رأت الطهر اغتسلت وصلت، وهذا هو الراجح. أما أكثره فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (¬1) والحنابلة (¬2) إلى أن أقصى مدة النفاس أربعون يومًا، وبهذا أفتت اللجنة الدائمة (¬3). 2 - وذهب الشافعية (¬4) والمالكية (¬5) في المشهور عندهم إلى أن أقصى مدة النفاس ستون يومًا. وبهذا أخذ الشيخ ابن العثيمين (¬6). 3 - القول الثالث: أنه لا حد لأكثر النفاس، ولو زاد على الأربعين أو الستين أو السبعين ... وهذا هو اختيار شيخ الإسلام (¬7). والراجح: هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول وهو أن حد أكثر النفاس ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 41). (¬2) الإنصاف (1/ 382)، المبدع (1/ 293). (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 417). (¬4) روضة الطالبين (1/ 174). (¬5) مواهب الجليل (1/ 141). (¬6) الشرح الممتع (1/ 606). (¬7) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (19/ 239، 240).

بعض الأحكام المتعلقة بالنفاس

هو أربعون يومًا إلا أن ترى الطهر قبل ذلك، فإن لم تر الطهر وعبر الدم أربعين فإنها تغتسل بعد تمام الأربعين، ويكون حكمها كحكم الطاهرات إلا إذا وافق الدم عادتها فيكون حيضًا، وإلا فحكمه حكم الاستحاضة. وهذا هو الذي رجحه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (¬1). بعض الأحكام المتعلقة بالنفاس: أولًا: الولادة القيصرية وحكم النفاس فيها: إذا ولدت المرأة بعملية جراحية، وهي ما تسمى بالولادة القيصرية، فلا تخرج عن حالتين: الحالة الأولى: أن لا ترى دمًا فلا تكون نفساء، وإنما ذات جرح، لكن يثبت لها بهذه الولادة انقضاء العدة، وتصير الأمة أم ولد، ولو علق طلاقها بولادتها وقع؛ لوجود الشرط. الحالة الثانية: أن ترى بعد ولادتها دمًا، ففي هذه الحالة تصير نفساء؛ لأن خروج الدم من الرحم جاء عقيب الولادة. ثانيًا: إذا خرج الدم قبل الولادة بيوم أو يومين فهل يعتبر ذلك من النفاس؟ اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فالشافعية (¬2) يرون أنه لا نفاس إلا مع الولادة أو بعدها وما تراه المرأة ¬

_ (¬1) انظر: تعليقات سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز على كتابنا الأحكام الشرعية في الدماء الطبيعية (ص: 116). (¬2) المجموع شرح المهذب (2/ 392، 481).

ثالثا: هل حل ما يخرج من المرأة عند الولادة يكون نفاسا؟

قبل الولادة ولو مع الطلق ليس بنفاس، فلها أن تصلي وتصوم مع وجود الدم والطلق ولا حرج عليها. 2 - والحنابلة (¬1) يرون أن أول مدة النفاس من الوضع إلا أن تراه قبل ولادتها بيومين أو ثلاثة بأمَارَةٍ من المخاض ونحوه، فلو خرج بعد الوَلَدِ اعتد بالخارج معه من المدة على الصحيح من المذهب. والصحيح أن النفاس يثبت حكمه مع الولادة أو بعدها أو قبلها بيومين أو ثلاثة مع الطلق، أما بدون الطلق فالذي يخرج قبل الولادة دم فساد وليس بشيء. ثالثًا: هل حل ما يخرج من المرأة عند الولادة يكون نفاسًا؟ للفقهاء في هذه المسألة أقوال متعددة وتفريعات كثيرة، لكن الصواب أن يقال: الدم الخارج من المرأة إما أن يكون عند ولادة تامة قد مر فيها الجنين بمراحله المعتادة حتى خرج حيًا فهذه الحالة قد مر الكلام عليها، وإما أن يخرج الدم عن سقط يحصل للمرأة، فهنا متى يعتبر نفاسًا ومتى لا يعتبر؟ نقول: بأنه إذا كان السقط قبل الثمانين يومًا فلا يعتبر نفاسًا، والدم الخارج حكمه حكم دم المستحاضة. وإن كان السقط بعد الثمانين يومًا ودون المائة والعشرين يومًا، فإن كان مخلَّقًا اعتبر الخارج نفاسًا، وإن كان غير مخلق فيعتبر دم فساد حكمه حكم الاستحاضة. رابعًا: في حكم وطء النفساء إذا طهرت قبل الأربعين: 1 - قيل: يستحب لزوجها ألا يقربها في الفرج حتى تُتِمَّ الأربعين، وقيل: يكره. وهذا هو المذهب عند الحنابلة. ¬

_ (¬1) الإنصاف (1/ 387).

خامسا: إذا ولدت المرأة توأمين

2 - وقيل: يحرم مع عدم خوف العنت، ويكون مكروهًا إن أمن العنت (¬1). والراجح من الأقوال: أنه يجوز وطؤها قبل الأربعين إذا طهرت؛ لما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "إذا صلت حلت" (¬2) أي إذا استباحت الصلاة فكيف لا يستباح الوطء. خامسًا: إذا ولدت المرأة توأمين: فأول النفاس وآخره من أولهما إلا أن تكون المدة بين التوأمين أثناء الولادة بعيدة كأن يكون بينهما يومان أو ثلاثة فما فوقه وتجد مع ولادة الثاني الدم، فهنا تعتبر مدة النفاس من ولادة الثاني. وهذا هو الراجح، بخلاف المذهب عند الحنابلة فإنهم يرون ان أول النفاس وآخره من أولهما وإن طالت المدة (¬3). ¬

_ (¬1) الإنصاف (1/ 384)، الشرح الممتع (1/ 513). (¬2) أخرجه الدارمي (1/ 226). (¬3) الشرح الممتع (1/ 519).

كتاب الأذان

الفِقهُ الميَسَّر كتاب الأذان

أولا: تعريف الأذان

كتاب الأذان أولًا: تعريف الأذان: الأذان في اللغة: الإعلام، قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجّ} (¬1) أي أعلِمْهم به (¬2) وفي الاصطلاح هو: "الإعلام بوقت الصلاة المفروضة بألفاظ معلومة مأثورة على صفة مخصوصة" (¬3). قال الشيخ ابن العثيمين: "أما تعريف الأذان شرعًا فهو التعبد بذكر مخصوص بعد دخول وقت الصلاة بالإعلام به، وهذا أولى من قولنا: الإعلام بدخول وقت الصلاة؛ لأن الأذان عبادة فينبغي التنويه عليها في التعريف، ولأن الأذان لا يتقيد بأول الوقت ولهذا إذا شرع الإبراد في صلاة الظهر شرع تأخير الأذان أيضًا كما ورد ذلك في الصحيح" (¬4). ثانيًا: حكل الأذان والإقامة: اتفق الفقهاء -رحمهم الله- على مشروعية الأذان والإقامة وأنهما من خصائص الإِسلام وشعائره الظاهرة وأنه لو اتفق أهل بلد على تركها قوتلوا وأنه لو صلى مصلٍ من غير أذان ولا إقامة فصلاته صحيحة. لكنهم اختلفوا في حكم الأذان والإقامة على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن الأذان والإقامة سنة مؤكدة، والإقامة في هذا آكد من ¬

_ (¬1) سورة الحج: 27. (¬2) لسان العرب والمصباح المنير مادة "أذن". (¬3) شرح منتهى الإرادات (1/ 122). (¬4) الشرح الممتع (2/ 40).

الأذان وهو الراجح عند الحنفية (¬1) ورأي لبعض المالكية (¬2) للجماعة التي تنتظر غيرها والأصح عند الشافعية (¬3) ورواية عن الإمام أحمد (¬4)، اختارها الخرقي (¬5). القول الثاني: أن الأذان والإقامة فرض كفاية، وهو رأي لبعض الحنفية والمذهب عند المالكية على مساجد الجماعات، والوجه الثاني عند الشافعية، والصحيح عند الحنابلة في الحضر (¬6). القول الثالث: أن الأذان والإقامة فرض كفاية في الجمعة سنة في غيرها، وهو الوجه الثالث للشافعية ورأي لبعض الحنابلة (¬7). الراجح من الأقوال: هو ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني من أن الأذان والإقامة فرض كفاية؛ وذلك لما يأتي: 1 - قوله - صلى الله عليه وسلم - لمالك بن الحويرث -رضي الله عنه-: " ... فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم" (¬8). وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهما في حال سفرهما بالأذان، والأمر يقتضي الوجوب. 2 - ما رواه أحمد وغيره من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 240 - 241)، وبدائع الصنائع (1/ 146). (¬2) مواهب الجليل (1/ 422 - 423). (¬3) المجموع (3/ 89 - 90). (¬4) كشاف القناع (1/ 275). (¬5) المغني (2/ 73 - 73). (¬6) المراجع السابقة. (¬7) المراجع السابقة. (¬8) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد، برقم (602)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة، برقم (674).

ثالثا: ألفاظ الأذان والإقامة

النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من ثلاثة في قرية لا يؤذن وتقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان" (¬1). وجه الدلالة منه: أن الترك الذي هو نوع من استحواذ الشيطان يجب تجنبه. 3 - ما رواه البخاري ومسلمٌ من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غزا بنا قومًا لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذانًا كف عنهم، وإن لم يسمع أذانًا أغار عليهم" (¬2). وجه الدلالة أن الأذان جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - علامة على دار الكفر ودار الإِسلام، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلق استحلال أهل الدار بترك الأذان (¬3). 4 - مداومة النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأذان، فلم يتركه في سفر ولا حضر بل لم يرخص في تركه لأحد، ولو كان غير واجب لتركه ولو مرة ليبيّن جواز تركه، فلما لم يتركه دل على وجوبه. ومن هذه الأدلة يتبين لنا رجحان قول من قال بفرضيته على الكفاية في السفر والحضر. ثالثًا: ألفاظ الأذان والإقامة: قال أهل العلم: إن الأذان على قلة ألفاظه قد اشتمل على مسائل العقيدة، ذلك أنه بدأ بالأكبرية وهي تتضمن وجود الله تعالى وكماله، ثم ثنى بالتوحيد ونفى الشرك، ثم ثلث برسالة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ناداهم لما أراد من طاعته المخصوصة عقب الشهادة بالرسالة؛ لأنها لا تعرف إلا من جهة الرسول، ثم دعا ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده، برقم (22053، 22054). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب ما يحقن بالأذان من الدماء، برقم (585). (¬3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (22/ 65).

ألفاظ الأذان

إلى الفلاح وهو البقاء الدائم وفيه الإشارة إلى المعاد، ثم أعاد ما أعاد توكيدًا (¬1). ألفاظ الأذان: 1 - ذهب الحنفية (¬2) والحنابلة (¬3) إلى الأخذ بألفاظ الأذان الواردة في حديث عبد الله بن زيد في رؤياه التي قصها على النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: "لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة، طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسًا في يده، فقلت: يا عبد الله، أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلى، قال: فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. قال: ثم استأخر عني غير بعيد. ثم قال: وتقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، فلما أصبحت أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بما رأيت فقال: "إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به؛ فإنه أندى صوتًا منك" فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به، قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله، لقد رأيت مثل ما رأى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فلله الحمد" (¬4). ¬

_ (¬1) المفهم على صحيح مسلم (2/ 253)، فتح الباري (2/ 92). (¬2) البدائع (1/ 147)، المبسوط (1/ 129). (¬3) كشاف القناع (1/ 80)، المغني (2/ 56، 57). (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب كيف الأذان برقم (499)، وابن ماجه في كتاب الأذان والسنة فيه، باب بدء الأذان، برقم (706)، وأحمدُ في مسنده، برقم (16591).

2 - أما الشافعية (¬1) فقد أخذوا بحديث أبي محذورة، وهو بنفس الألفاظ الواردة في حديث عبد الله بن زيد المتقدم، غير أن فيه زيادة الترجيع، ولهذا أخذ بها الشافعية، وسوف يأتي بيان تعريف الترجيع -إن شاء الله- مع بيان حكمه. 3 - أما المالكية (¬2) فقالوا بأن التكبير في أول الأذان مرتان فقط مثل آخره؛ لأنه عمل السلف بالمدينة ولرواية أخرى عن عبد الله بن زيد حيث جاء فيها التكبير مرتين في أول الأذان. والصحيح: أن يقال: إن كل ما جاءت به السنة من صفات الأذان فإنه جائز، وينبغي عدم الالتزام بصورة واحدة منها بل يؤذن بهذا تارة وبهذا تارة، لكن بشرط أن لا يحصل تشويش وفتنة، وبهذا القول نكون قد حصلنا على عدة فوائد: أولًا: حفظ السنة ونشر أنواعها بين الناس. ثانيًا: التيسير على المكلف، فإن بعضها قد يكون أخف من بعض فيحتاج للعمل. ثالثا: حضور القلب وعدم ملله وسآمته. رابعًا: العمل بالشريعة على جميع وجوهها (¬3). خامسًا: تربية الناس على قبول الرأي المخالف مما ورد الشرع به مما لا علم لهم به. ¬

_ (¬1) المجموع (3/ 101)، ومغني المحتاج (1/ 135). (¬2) مواهب الجليل (1/ 424). (¬3) انظر الممتع (2/ 56).

الترجيع في الأذان

الترجيع في الأذان: تعريف الترجيع: الترجيع في الأذان هو أن يخفض المؤذن صوته بالشهادتين مع إسماعه الحاضرين ثم يعود فيرفع صوته بهما. حكمه: اختلف الفقهاء في حكم الترجيع على ثلاثة أقوال: القول الأول: يكره تنزيهًا. وهو رأي عند الحنفية (¬1)، وقيل بأنه الراجح عندهم. واحتجوا لذلك بأن بلالًا لم يكن يرجع في أذانه. ولأنه ليس في أذان الملك النازل من السماء. القول الثاني: أن الترجيع سنة وهو قول عند المالكية (¬2)، وهو الصحيح عند الشافعية (¬3) ورواية عند الحنابلة (¬4). القول الثالث: أنه مباح فليس بسنة وليس بمكروه. وهو قول الحنفية (¬5) والصحيح عند الحنابلة (¬6). والصحيح من هذه الأقوال: أن الترجيع في الأذان جائز، فلا يكره العمل به ولا تركه بل كلاهما ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمن شاء أن يُرَجِّعَ في أذانه رَجَّعَ ومن شاء لم يرجع؛ وذلك لتنوع الصفة الواردة في الأذان. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وإذا كان كذلك فالصواب ¬

_ (¬1) حاشية رد المحتار، لابن عابدين (1/ 387). (¬2) الخرشي على مختصر خليل (1/ 229). (¬3) المجموع (3/ 100). (¬4) الإنصاف (1/ 412). (¬5) البحر الرائق (1/ 269، 270). (¬6) المغني (2/ 56).

رابعا: صور الأذان

مذهب أهل الحديث ومن وافقهم من تسويغ كل ما ثبت في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكرهون شيئًا من ذلك؛ إذ تنوع صفة الأذان والإقامة كتنوع صفة القراءات والتشهدات ونحو ذلك، وليس لأحد أن يكره ما سنّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته" (¬1). رابعًا: صور الأذان: أولًا: صورة الأذان عند الحنفية والحنابلة: الله أكبر- الله أكبر- الله أكبر- الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله وذلك أخذا بحديث عبد الله بن زيد المتقدم. ثانيًا: صورة الأذان عند الشافعية: صورته عندهم نفس صورة الأذان عند الحنفية والحنابلة غير أنهم يزيدون الترجيع عند الإتيان بالشهادتين فيقول المؤذن: "أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، يخفض بذلك صوته، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، يخفض بذلك صوته ثم يرفعه. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (22/ 66).

دليلهم في ذلك حديث أبي محذورة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه الأذان تسع عشرة كلمة" (¬1). ثالثًا: صورة الأذان عند المالكية (¬2): الله أكبر- الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله فجعلوا التكبير أول الأذان مرتين، دليلهم في ذلك ما روي من وجوه صحاح في أذان عبد الله بن زيد، وفي أذان أبي محذورة، وعمل أهل المدينة (¬3)، وفي حديث أبي محذورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه الأذان: "الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم يعود فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب كيف الأذان، برقم (502)، والترمذيُّ في أبواب الصلاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في الترجيع في الأذان، برقم (192). والنسائيُّ في كتاب الأذان، كم الأذان من كلمة، برقم (630). (¬2) مواهب الجليل (1/ 424). (¬3) الاستذكار، لابن عبد البر (1/ 369) بتحقيق سالم محمَّد عطا، ومحمَّد علي معوض، نشر: دار الكتب العلمية.

خامسا: التثويب في الأذان

رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله حي على الصلاة مرتين حي على الفلاح مرتين" (¬1). وقد تقدم حديث عبد الله بن زيد (¬2). خامسًا: التثويب في الأذان: تعريف التثويب: التثويب هو: العود إلى الإعلام بالصلاة بعد الإعلام الأول بقوله: "الصلاة خير من النوم" مرتين في أذان الفجر. حكم التثويب: التثويب سنة في الأذان لصلاة الفجر عند جميع الفقهاء، دليله حديث أبي محذورة، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم - له: "فإذا كان صلاة الصبح فقل: الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم" (¬3). أي الصلوات يكون التثويب في الأذان؟ اتفق الفقهاء على أن التثويب يكون في الأذان لصلاة الفجر، وأجاز بعض الحنفية (¬4) والشافعية (¬5) التثويب في العشاء، وعللوا لذلك بأن العشاء وقت غفلة ونوم كالفجر. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب صفة الأذان، برقم (379). (¬2) قال البيهقي في السنن الكبرى (1/ 390): "أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أنا أحمد بن جعفر القطيعي ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي ثنا يعقوب. فذكره بإسناده مثله، إلا أنه ذكر التكبير في صدر الأذان مرتين، وكذلك ذكر محمَّد بن سلمة عن ابن إسحاق". (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب كيف الأذان، برقم (500)، والنسائيُّ في كتاب الأذان، باب الأذان في السفر، برقم (1597) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 147، 148). (¬4) بدائع الصنائع (1/ 148). (¬5) المجموع، للنووي (3/ 105).

أي الأذانين لصلاة الفجر يكون التثويب؟

وأجاز بعض الشافعية (¬1) التثويب في جميع الأوقات وعللوا ذلك لفرط الغفلة عند الناس في زماننا. والصحيح: أنه لا يشرع التثويب في غير الأذان لصلاة الفجر، وبهذا قال المالكية (¬2) والحنابلة (¬3) وهذا هو المذهب عند الحنفية (¬4) والشافعية (¬5)، دليل ذلك: أولًا: أن الأحاديث الواردة في مشروعية التثويب في الأذان إنما خصت الأذان لصلاة الصبح دون غيره كما في حديث أبي محذورة وبلال وأنس وابن عمر -رضي الله عنهم-. ثانيًا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (¬6) والتثويب في غير أذان الفجر محدث، إذًا فهو باطل غير معتدٍّ به. ثالثًا: من الآثار ما جاء عن ابن عمر - صلى الله عليه وسلم - "أنه دخل مسجدًا يصلي فيه فسمع رجلًا يثوِّب في أذان الظهر فخرج، فقيل له: أين؟ فقال: أخرجتني البدعة" (¬7). أي الأذانين لصلاة الفجر يكون التثويب؟ ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (2/ 56)، المجموع (3/ 105). (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 260). (¬3) المغني (2/ 61). (¬4) بدائع الصنائع (1/ 148). (¬5) المجموع (3/ 215). (¬6) أخرجه البخاريُّ في كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، برقم (2550)، ومسلمٌ في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، برقم (1718). (¬7) ذكره ابن قدامة في المغني بهذا اللفظ (1/ 62)، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن عيينة عن ليث عن مجاهد قال: "كنت مع ابن عمر فسمع رجلًا يثوب في المسجد فقال: اخرج بنا من عند هذا المبتدع". المصنف (1/ 475)، برقم (1832).

اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: أن التثويب يشرع في الأذان الأول الذي يكون قبل طلوع الفجر، وهذا هو رأي عند الحنابلة (¬1). واختار هذا الرأي الصنعاني في سبل السلام (¬2)، وبه قال الألباني (¬3). واحتجوا لذلك بما يأتي: 1 - من السنة: ما رواه النسائي عن أبي محذورة قال: "كنت أؤذن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكنت أقول في أذان الفجر الأول: حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله" (¬4). وقالوا: فهذا صريح في أن التثويب مخصوص بالأذان الأول من صلاة الصبح. 2 - أما من جهة المعقول فقالوا: الأذان الأول المقصود منه إيقاظ النائم، كما جاء في حديث بلال وفيه: " ... ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم" (¬5) أما الأذان الثاني فإنه إعلام بدخول الوقت ودعوة إلى الصلاة. القول الثاني: أن التثويب يكون في الأذان الثاني للفجر. وهذا هو المذهب عند الحنابلة (¬6) وهو اختيار الشيخ ابن العثيمين (¬7)، وبه أفتت اللجنة الدائمة ¬

_ (¬1) شرح منتهى الإرادات (1/ 134). (¬2) سبل السلام، للصنعاني (1/ 231). (¬3) الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب (1/ 131 - 132). (¬4) أخرجه النسائي في كتاب الأذان، باب التثويب في أذان الفجر، برقم (1611)، وصححه الألباني في سنن النسائي (1/ 140) برقم (628). (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب الأذان قبل الفجر، برقم (596)، ومسلمٌ في كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، برقم (1093) واللفظ لمسلم. (¬6) شرح منتهى الإرادات (1/ 134). (¬7) الممتع (2/ 57)، ومجموع فتاوى الشيخ (12/ 186).

للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬1) ودليل ذلك: 1 - أن الروايات للأحاديث التي جاءت بمشروعية التثويب قيدته بالأذان لصلاة الفجر أو الصبح، وهذا ينصرف إلى الأذان الثاني الذي يعتبر هو الأصل المتفق عليه؛ وهو الذي يكون بعد دخول وقت الصلاة. 2 - ومن الأحاديث التي تدل على ذلك حديث نعيم بن النحام -رضي الله عنه- قال: "كنت مع امرأتي في مرطها في غداة باردة، فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى صلاة الصبح، فلما سمعت قلت: لو قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ومن قعد فلا حرج، فلما قال: الصلاة خير من النوم، قال: ومن قعد فلا حرج" (¬2). وجه الدلالة في هذا الأثر من عدة وجوه: أولًا: قوله: "في غداة باردة": دليل أن الأذان وقع في الغداة وهو الصبح أي الفجر الصادق، فإنه لا يقال لآخر الليل غداة؛ لأن الغداة تكون من طلوع الفجر إلى شروق الشمس. ثانيًا: قوله: "فنادى إلى الصلاة": وجه الدلالة أن الأذان كان للصلاة، وهذا لا يكون حقيقة إلا إذا كان في الأذان الثاني الذي يكون عند دخول الوقت. ثالثًا: قوله: "ومن قعد فلا حرج": ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (6/ 58 - 60) رقم الفتوى (9854). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (1/ 502) برقم (1927)، وأحمدُ في مسنده برقم (18099)، والبيهقيُّ في سننه الكبرى (1/ 398) برقم (1731)، وصحح إسناده ابن حجر في الفتح (1/ 117).

أين يكون موضع التثويب في أذان الفجر؟

وجه الدلالة أن فيه دليلًا على أن ذلك الأذان كان يستلزم المشي إلى المسجد لأداء الصلاة لمن سمعه. 3 - أما احتجاجهم بحديث أبي محذورة فالمراد بالأذان الأول فيه هو الأذان الذي هو لصلاة الصبح بعد دخول الوقت للصلاة، أما الأذان الثاني فالمراد به الإقامة للصلاة؛ إذ يطلق عليها أنها أذان كما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: "بين كل أذانين صلاة" (¬1) والمراد بالأذانين هنا الأذان والإقامة. والراجح من القولين هو القول الثاني؛ وذلك لقوة الأدلة ولأن عمل المسلمين عليه. أين يكون موضع التثويب في أذان الفجر؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة: 1 - فالمالكية (¬2) والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) وقول في مذهب الحنفية (¬5) أن موضعه يكون بعد قول المؤذن: "حي على الفلاح". 2 - أما المذهب عند الحنفية (¬6) أن موضعه يكون بعد الانتهاء من الأذان. والراجح هو مذهب الجمهور، لحديث أبي محذورة المتقدم في تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - الأذان له وفيه قوله: "حي على الفلاح، حي على الفلاح، فإن كان صلاة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب بين كل أذانين صلاة لمن شاء، برقم (601)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين، باب بين كل أذانين صلاة، برقم (838). (¬2) مواهب الجليل (1/ 425). (¬3) المجموع (3/ 100). (¬4) المغني (2/ 61). (¬5) بدائع الصنائع (1/ 148). (¬6) المبسوط (1/ 130)، البدائع (1/ 148).

سادسا: شروط الأذان

الصبح قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله" (¬1). وأيضًا حديث أنس - رضي الله عنه - حيث قال: "كان التثويب في صلاة الغداة إذا قال المؤذن في أذان الفجر: حي على الفلاح، حي على الفلاح، فليقل: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم" (¬2). سادسًا: شروط الأذان يشترط للأذان ما يأتي: الشرط الأول: دخول وقت الصلاة: يشترط لصحة الأذان دخول وقت الصلاة المفروضة، فلا يصح الأذان قبل دخول الوقت إلا في الأذان لصلاة الصبح؛ لأن الأذان شرع للإعلام بدخول الوقت، فمتى أذن المؤذن قبل دخول الوقت لزمه الإعادة، إلا إذا صلى الناس في الوقت وكان الأذان قبله فلا تعاد الصلاة ولا يعاد الأذان. دليل ذلك ما رواه أبو داود وغيره من حديث ابن عمر -رضي الله عنه-: "أن بلالًا أذن قبل طلوع الفجر فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرجع فينادي: ألا إن العبد نام، ألا إن العبد نام" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب كيف الأذان؟ برقم (500)، والنسائيُّ في كتاب الأذان، باب الأذان في السفر، برقم (1597) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 147، 148). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في الأذان قبل دخول الوقت، برقم (532)، الدارقطني في كتاب الصلاة، باب في ذكر أذان أبي محذورة واختلاف الروايات فيه، برقم (48)، والبيهقيُّ في السنن الكبرى، وصححه، باب رواية من روى النهي عن الأذان قبل الوقت، برقم (1672). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في الأذان قبل دخول الوقت، برقم (532) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1/ 159، 160).

حكم الأذان لصلاة الصبح قبل وقتها

وأيضًا حديث مالك بن الحويرث -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " ... فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم" (¬1) فقد علق الأمر بالأذان بحضور الصلاة، وحضورها لا يكون إلا بعد دخول وقتها. حكم الأذان لصلاة الصبح قبل وقتها: اختلف الفقهاء في هذه المسألة على خمسة أقوال: القول الأول: وهو قول الجمهور من المالكية (¬2) والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) وأبي يوسف من الحنفية (¬5)، أنه يشرع مطلقًا. القول الثاني: أنه لا يشرع مطلقًا، وهو قول لبعض الحنفية (¬6) ورواية عند الحنابلة (¬7). القول الثالث: أنه يشرع في رمضان دون غيره، وهو قول ابن القطان من الشافعية (¬8). القول الرابع: أنه يشرع في غير رمضان ويكره في رمضان، وهو رواية عند الحنابلة وهي المذهب (¬9). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب من قال ليؤذن في السفر مؤذن واحد، برقم (602). (¬2) مواهب الجليل (1/ 428). (¬3) المجموع (3/ 95). (¬4) المغني (2/ 62). (¬5) البدائع (1/ 154). (¬6) المبسوط (1/ 134). (¬7) الفروع (1/ 279). (¬8) فتح الباري (2/ 124). (¬9) المغني (2/ 65)، الإنصاف (1/ 430، 431). بتحقيق محمَّد حامد الفقي، نشر: دار إحياء التراث العربي.

الشرط الثاني: كون الأذان مرتبا

القول الخامس: أنه لا يشرع إلا إذا كان للمسجد مؤذنان يؤذن أحدهما قبل الوقت والآخر عند دخوله، وهو قول ابن المنذر (¬1) وطائفة من أهل الحديث. والراجح من هذه الأقوال الخمسة ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، دليل هذا القول: ما رواه البخاري ومسلمٌ من حديث عائشة وابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" (¬2). الشرط الثاني: كون الأذان مرتبًا: المقصود بالترتيب هنا أن يأتي المؤذن بألفاظ الأذان وفق النصوص الشرعية التي جاءت ببيان صفة الأذان دون تقديم أو تأخير لكلمة أو جملة على الأخرى. وقد اختلف الفقهاء في هذا الشرط: 1 - فالجمهور (¬3) على أن الأذان لا يصح إلا مرتبًا، فمتى أخل المؤذن بالترتيب فإنه يستأنف الأذان من أوله؛ لأن ترك الترتيب يخل بالإعلام المقصود. 2 - وذهب الشافعية (¬4) وبعض المالكية (¬5) إلى أنه إن أخطأ فقدم -مثلًا- الشهادة بالرسالة على الشهادة بالتوحيد فإنه يعيد الشهادة بالتوحيد ثم يأتي بالشهادة بالرسالة وأن الاستئناف أولى. ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: الجامع لأحكام القرآن (6/ 216)، المجموع (3/ 97، 98). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب الأذان قبل الفجر، برقم (597)، ومسلمٌ في كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، برقم (1092). (¬3) انظر في ذلك: مواهب الجليل، للحطاب (1/ 425)، المجموع (3/ 121)، المغني (2/ 84). (¬4) مغني المحتاج (1/ 137). (¬5) مواهب الجليل (1/ 425).

الشرط الثالث: الموالاة في الأذان

3 - أما الحنفية (¬1) فالمذهب عندهم أن الترتيب سنة وليس بواجب، فلو قدم جملة في الأذان على الأخرى كأن قدم "حي على الفلاح" على "حي على الصلاة" فإنه يسن في حقه إعادة ما قدم فقط ولا يستأنف الأذان. والصحيح من القولين: هو اشتراط الترتيب في الأذان والإقامة؛ لما يأتي: 1 - أن الأحاديث التي جاءت في بيان ألفاظ الأذان كلها جاءت مرتبة. 2 - أن الأذان عبادة مشروعة على وجه مخصوص، فلا يغير. 3 - مداومة مؤذني النبي - صلى الله عليه وسلم - على ألفاظ الأذان والإقامة مرتبين، وكذلك من بعدهم، واستمرار عمل السلف الصالح والخلف على ذلك. الشرط الثالث: الموالاة في الأذان: تعريف الموالاة في الأذان: الموالاة: هي المتابعة بين ألفاظ الأذان بدون فصل بقول أو فعل. والموالاة شرط في صحة الأذان؛ فلا يكون الفصل بين ألفاظ الأذان طويلًا؛ وحدّ الطويل في ذلك هو العرف، فمتى حكم الناس بأن هذا فصل طويل فهنا يبطل الأذان. أما إذا كان الفصل يسيرًا فلا يبطل الأذان، ويبني على ما مضى، وهذا عند الحنفية (¬2) والمالكية (¬3) والحنابلة (¬4). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 149)، حاشية رد المحتار (1/ 389). (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 260 - 261). (¬3) مواهب الجليل (1/ 427). (¬4) المغني (2/ 83، 84)، كشاف القناع (1/ 218).

الشرط الرابع: النية

أما الشافعية (¬1) فيسنّ استئناف الأذان في غير السكوت والكلام. وإذا قلنا بصحة الأذان إذا كان الفصل يسيرًا فليس معناه أنه يجوز الكلام اليسير بين ألفاظ الأذان، بل اتفق الفقهاء على كراهة الكلام اليسير إن كان بغير سبب أو ضرورة. أما إذا كان الفصل يسيرًا وتخلله كلام يسير فاحش كشتم وقذف وغناء ونحوه، فهنا يبطل الأذان ويجب الإعادة، وهو المذهب عند الحنابلة (¬2). الشرط الرابع: النية: اختلف الفقهاء في اشتراط النية في الأذان: 1 - فالمالكية (¬3) والحنابلة (¬4) على اشتراط النية لصحة الأذان، فلو أن شخصًا أخذ في ذكر الله بالتكبير ثم بدا له عقب ما كبر أن يجعله بداية أذان، فإنه يبتدئ الأذان من أوله ولا يبني على ما قال. 2 - ويرى الشافعية (¬5) أن النية ليست شرطًا عندهم على الأرجح ولكنها مندوبة، إلا أنه يشترط عندهم عدم الصارف، فلو قصد تعليم غيره لم يعتدَّ به. 3 - أما الحنفية (¬6) فالنية عندهم ليست شرطًا لصحة الأذان وإن كانت شرطًا للثواب. والصحيح من هذه الأقوال هو اشتراط النية لصحة الأذان؛ لأن الأذان ¬

_ (¬1) المجموع (3/ 114)، مغني المحتاج (1/ 137). (¬2) المغني (2/ 83، 84). (¬3) مواهب الجليل (1/ 424). (¬4) شرح منتهى الإرادات (1/ 136). (¬5) مغني المحتاج (1/ 137). (¬6) الأشباه والنظائر، لابن نجيم (ص: 16)، وعمدة القاري (1/ 314).

الشرط الخامس: كون الأذان باللغة العربية

عبادة والعبادة شرط لصحتها النية ولعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" (¬1) فالحديث يشمل الصحة وحصول الثواب. الشرط الخامس: كون الأذان باللغة العربية: 1 - يشترط للأذان أن يكون بلغة العرب. وبهذا قال الحنفية (¬2) والحنابلة (¬3)، فلا يصح الإتيان به بأي لغة أخرى. 2 - وذهب الشافعية (¬4) إلى أنه إن كان يؤذن لجماعة وفيهم من يحسن العربية لم يجز الأذان بغيرها، أما إن كان هناك من لا يجيد اللغة العربية ولا يحسنها فإنه يجزئ بلغتهم. والصحيح: أنه لا يجزئ الأذان بغير اللغة العربية؛ لأن الأذان إنما ورد بلغة العرب، وقياسًا على أذكار الصلاة: فكما أنها لا تصح بغير العربية فكذلك الأذان والإقامة لا يصحان إلا باللغة العربية. الشرط السادس: رفع الصوت بالأذان: 1 - أوجب الفقهاء من الشافعية (¬5) والحنابلة (¬6) رفع الصوت بالأذان؛ ليحصل السماع المقصود بالأذان، وهو رأي عند الحنفية (¬7)، هذا إذا كان الغرض ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في باب بدء الوحي رقم (1)، ومسلمٌ في كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنية" وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، برقم (1907) من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 256). (¬3) كشاف القناع (1/ 215). (¬4) المجموع (3/ 121). (¬5) مغني المحتاج (1/ 137). (¬6) كشاف القناع (1/ 217). (¬7) البدائع (1/ 149)، حاشية ابن عابدين (1/ 261).

سابعا: الشروط المعتبرة في المؤذن

إعلام غير الحاضرين بصلاة الجماعة. أما من يؤذن لنفسه أو الحاضر معه فلا يشترط رفع الصوت به لكن يرفع صوته بقدر ما يسمع نفسه أو يسمعه الحاضر معه. 2 - أما المالكية (¬1) فيرون أن رفع الصوت سنة وليس بشرط، وهذا هو الراجح في مذهب الحنفية (¬2) والوجه الثاني عند الشافعية (¬3). والراجح: هو ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة؛ لأن المقصود من الأذان هو الإعلام ولا يحصل إلا برفع الصوت فكان رفع الصوت شرطًا في صحته. سابعًا: الشروط المعتبرة في المؤذن: يشترط في المؤذن ما يأتي: الشرط الأول: كونه مسلمًا: فلا يصح أذان الكافر؛ لأنه ليس من أهل العبادة، ولأنه لا يعتقد الصلاة التي يعتبر الأذان دعاء لها، وإتيانه بالأذان ضرب من الاستهزاء فلا يعتد بأذانه، وهذا باتفاق الفقهاء (¬4). الشرط الثاني: كونه ذكرًا: فلا يصح أذان المرأة؛ لأن رفع صوتها قد يوقع في الفتنة، ولا يعتد بأذانها لو أذنت. أما الحنفية (¬5) فيقولون بأن الذكورية سنة وليست بشرط، وكرهوا أذان ¬

_ (¬1) مواهب الجليل، للحطاب (1/ 426). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 1 / 149). (¬3) مغني المحتاج (1/ 137). (¬4) انظر في ذلك منتهى الإرادات (1/ 125)، رد المحتار (1/ 393، 394)، مغني المحتاج (1/ 137). (¬5) بدائع الصنائع (1/ 150)، وحاشية ابن عابدين (1/ 263).

الشرط الثالث: العقل

المرأة، ولو أذنت المرأة عندهم أجزأ أذانها ولا يعاد، لحصول المقصود. الشرط الثالث: العقل: يشترط في المؤذن أن يكون عاقلًا، فلا يصح الأذان من مجنون وسكران؛ لأنهما ليسا من أهل العبادة، ويجب إعادة الأذان إذا وقع منهما. أما الحنفية (¬1) فقالوا بكراهة أذان غير العاقل، واستحب في ظاهر الرواية عندهم إعادة أذانه. والراجح: ما ذهب إليه الجمهور من اشتراط العقل لصحة الأذان، فمتى أذن غير العاقل لم يصح أذانه ويجب إعادته. الشرط الرابع: البلوغ: الصبي غير المميز لا يجوز أذانه بالاتفاق؛ لأن ما يصدر منه لا يعتد به. أما الصبي المميز فقد وقع في أذانه خلاف بين الفقهاء: القول الأول: صحة أذان المميز، وهو المذهب عند الحنفية (¬2) مع الكراهة في ظاهر الرواية عندهم، وقول عند المالكية (¬3) والصحيح في مذهب الشافعية (¬4) والحنابلة (¬5). القول الثاني: أنه لا يصح أذان المميز، وهو المذهب عند المالكية (¬6) ووجه ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 150)، حاشية ابن عابدين (1/ 264). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 150)، حاشية ابن عابدين (1/ 264). (¬3) مواهب الجليل (1/ 435). (¬4) المجموع (3/ 107). (¬5) المغني (2/ 68). (¬6) مواهب الجليل (1/ 435).

الشرط الخامس: العدالة

عند الشافعية (¬1) ورواية عند الحنابلة (¬2). والصحيح ما ذهب إليه أصحاب القول الأول -أعني القائلين بصحة أذان المميز ما دام أنه يؤذن في الوقت- فمتى أذن فإنه يكتفى بأذانه؛ لأن به يحصل الإعلام بدخول الوقت. الشرط الخامس: العدالة: اتفق الفقهاء على اشتراط العدالة في المؤذن، واستدلوا على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن" (¬3). وعرف الفقهاء العدالة بأنها هي: أن يجتنب الذنوب الكبائر ويتحفظ عن الصغائر ويحافظ على مروءته، فمتى فقدت هذه الأمور من المؤذن فلا يعتد بأذانه. حكم أذان الفاسق: ذكرنا فيما سبق اشتراط العدالة في المؤذن، لكنهم اختلفوا في صحة أذان الفاسق على قولين: القول الأول: أنه يصح أذانه، وهذا هو المذهب عند الحنفية (¬4) والمالكية (¬5) والشافعية (¬6) ورواية عند الحنابلة (¬7). ¬

_ (¬1) الأم (1/ 84)، المجموع (3/ 107). (¬2) المغني (2/ 62). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت، برقم (517) وصححه الألباني. (¬4) البحر الرائق (1/ 277)، رد المحتار (1/ 393، 394). (¬5) مواهب الجليل (1/ 436). (¬6) المجموع (3/ 108 - 111). (¬7) المغني (2/ 68، 69)، الإنصاف (1/ 424) بتحقيق محمَّد حامد الفقي.

ثامنا: ذكر بعض الأمور المستحبة في المؤذن

القول الثاني: أنه لا يصح أذانه، وهو المذهب عند الحنابلة (¬1). والصحيح من القولين هو صحة أذان الفاسق إذا لم يكن هو المعتمد عليه في دخول الوقت، لكن ينبغي أن لا يتخذ الناس فاسقًا يؤذن لهم؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أمناء المسلمين على صلاتهم وسحورهم المؤذنون" (¬2). ثامنًا: ذكر بعض الأمور المستحبة في المؤذن: يستحب في المؤذن ما يلي: 1 - أن يؤذن على طهارة: دليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر" أو قال: "على طهارة" (¬3). قال الترمذيُّ -رحمه الله-: "واختلف أهل العلم في الأذان على غير وضوء؛ فكرهه بعض أهل العلم، وبه يقول الشافعي وإسحاق، ورخص في ذلك بعض أهل العلم وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك وأحمدُ" (¬4). 2 - أن يقف قائمًا عند أذانه: يستحب للمؤذن عند أذانه أن يقف قائمًا، فعن وائل بن حجر -رضي الله عنه- قال: ¬

_ (¬1) المغني (2/ 68، 69)، الإنصاف (1/ 424)، شرح منتهى الإرادات (1/ 123). (¬2) أخرجه البيهقيُّ في السنن الكبرى، ذكر جماع أبواب الأذان والإقامة، باب الأذان في المنارة، برقم (1849)، وحسنه الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 102)، وحسنه الألباني في الإرواء (1/ 239) برقم (221). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب أيرد السلام وهو يبول، برقم (17) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 16). (¬4) صحيح سنن الترمذيّ (1/ 63).

3 - أن يؤذن على مكان عال

"حق وسنة مسنونة أن لا يؤذن الرجل إلا وهو طاهر ولا يؤذن إلا وهو قائم" (¬1). قال ابن المنذر -رحمه الله-: "أجمع أهل العلم على أن القيام في الأذان سنة" (¬2). 3 - أن يؤذن على مكان عالٍ: وذلك لأنه أبلغ في الإسماع وحصول المقصود الذي شرع من أجله الأذان، ولهذا وردت السنة كما في حديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - المتقدم حينما أذن الملك حيث قال: "فقام على المسجد فأذن" وفي رواية: "على حائط" (¬3). وكذلك ما جاء في سنن أبي داود: عن امرأة من بني النجار قالت: "كان بيتي من أطول البيوت حول المسجد، وكان بلال يؤذن عليه الفجر فيأتي بسحر فيجلس على البيت ينظر إلى الفجر، فإذا رآه تمطى ثم قال: اللَّهم إني أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك" (¬4). وأيضًا ما جاء عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤذنان بلال وابن أم مكتوم الأعمى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" قال: ولم يكن بينهما إلا أن يؤذن هذا ويرقى هذا (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقيُّ في السنن الكبرى، ذكر جماع أبواب الأذان والإقامة، باب القيام في الأذان والإقامة، برقم (1708). وحسنه ابن حجر في التلخيص (1/ 509)، وحسنه الألباني في الإرواء (1/ 240). (¬2) الإجماع، لابن المنذر (ص: 39). (¬3) أخرجه البيهقيُّ في السنن الكبرى، ذكر جماع أبواب الأذان والإقامة، باب ما روي في تثنية الأذان والإقامة (1829). (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الأذان، باب الأذان فوق المنارة، برقم (519) وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 105) رقم (519). (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره، برقم (592)، ومسلمٌ

4 - استقبال القبلة

وجه الدلالة في قوله: "ويرقى هذا": وهذا الحكم بلا شك معلق بعدم وجود التقنية الحديثة، فالعلة من الأذان في المكان العالي هي حصول الإسماع وهي حاصلة بهذه الاختراعات الحديثة، فلا حاجة إذًا للصعود إلى مكان عال لأداء الأذان عليه. 4 - استقبال القبلة: يسن استقبال المؤذن للقبلة حال أذانه، وهو مذهب الحنفية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3) وهو الراجح عند المالكية (¬4)؛ وذلك لأن مؤذني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يؤذنون مستقبلي القبلة، فإن تركه أجزأه مع الكراهة. 5 - أن يجعل إصبعيه في أذنيه: يستحب للمؤذن أن يجعل أصبعيه في أذنيه حال أذانه، فعن أبي جحيفة قال: "رأيت بلالًا يؤذن ويدور ويتبع فاه ها هنا وها هنا وإصبعاه في أذنيه" (¬5). والفائدة في وضع الإصبعين -يعني السبابتين في- الأذنين: 1 - أنه أقوى للصوت. ¬

_ في كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، برقم (1092) واللفظ لمسلم. (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 259 - 260). (¬2) المجموع (3/ 106)، مغني المحتاج (1/ 136). (¬3) كشاف القناع (1/ 217). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 196). (¬5) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الصلاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في إدخال الإِصبع في الأذن عند الأذان، برقم (197)، وأحمدُ في مسنده (4/ 308) رقم (18781).

6 - أن يلتفت المؤذن يمينا وشمالا في الحيعلتين

2 - ليراه الناس من مكان بعيد أو من لا يسمع فيعرف أنه يؤذن. 6 - أن يلتفت المؤذن يمينًا وشمالًا في الحيعلتين: دليل ذلك حديث أبي جحيفة حيث قال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم، قال: فخرج بلال بوضوئه فمن نائل وناضح، قال: فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه حلة حمراء كأني انظر إلى بياض ساقيه، قال: فتوضأ وأذن بلال، قال: فجعلت أتتبع فاه ها هنا وها هنا، يقول يمينًا وشمالًا: حي على الصلاة، حي على الفلاح ... " (¬1). والحكمة من الالتفات يمينًا وشمالًا إبلاغ المدعوين من على اليمين والشمال، وبناء على ذلك هل يلتفت المؤذن إن أذن بمكبرات الصوت؟ قال الشيخ ابن العثيمين: "لا يلتفت من أذن بمكبرات الصوت؛ لأن الإسماع يكون من السماعات التي في المنارة، ولو التفت لضعف الصوت؛ لأنه ينحرف عن الأخذة" (¬2). وقد اختلف الفقهاء المعاصرون في هذه المسألة: 1 - فبعضهم قال بأن الالتفات في الأذان في الحيعلتين سنة مطلقًا، وهذا الصحيح عند الحنفية، حيث إنهم قالوا بالالتفات في الحيعلتين في الأذان ولو في حق المنفرد أو في من يؤذن لمولود، وعلى هذا يسن عندهم الالتفات عبر مكبر الصوت. 2 - وبعض العلماء قالوا بأن الالتفات لعلة، والحكم يدور مع علته وجودًا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب سترة المصلي، برقم (503). (¬2) الممتع (2/ 60).

تاسعا: ذكر بعض المسائل المتعلقة بالأذان والإقامة

وعدمًا، والعلة منتفية إذا أذن عبر مكبر الصوت؛ لأن صوته يتوزع في جميع الجهات عبر مكبر الصوت. تاسعًا: ذكر بعض المسائل المتعلقة بالأذان والإقامة من جمع أو قضى فوائت فإنه يؤذن مرة واحدة ويقيم لكل صلاة: دليل ذلك حديث جابر -رضي الله عنه-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن في عرفة ثم أقام فصلى الظهر والعصر، وكذلك في مزدلفة حيث أذن وأقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء" (¬1). حكم الاستماع للأذان وإجابة المؤذن: اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: أنه يجب الاستماع للأذان وإجابة المؤذن، وهذا هو مذهب الحنفية (¬2) وأهل الظاهر (¬3)، وابن رجب كما ذكر ذلك في فتح الباري (¬4). القول الثاني: أنه يستحب الاستماع للأذان وإجابة المؤذن، وهو رأي لبعض الحنفية (¬5) والمشهور عند المالكية (¬6) ومذهب الشافعية (¬7) والحنابلة (¬8)، وبه قال ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم (1218). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 660). (¬3) المحلى (3/ 148). (¬4) فتح الباري (2/ 73). (¬5) فتح القدير (2/ 248)، البحر الرائق (1/ 272، 273). (¬6) مواهب الجليل (1/ 442). (¬7) الأم (1/ 88). (¬8) المغني (2/ 85).

الأدلة

الشيخ ابن العثيمين (¬1) الأدلة: 1 - احتج أصحاب القول الأول بما رواه البخاري ومسلمٌ من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن" (¬2). وجه الدلالة: أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بإجابة النداء، والأمر للوجوب ولا قرينة تصرفه إلى الاستحباب. 2 - واحتج الجمهور بما يأتي: أولًا: ما رواه مسلم عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلًا يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "على الفطرة"، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خرجت من النار" (¬3). وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سمع المؤذن لم يقل مثل ما قال، فدل على أن الأمر ليس للإيجاب بل للاستحباب. ثانيًا: ما رواه مالك في موطئه عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي قال: "إنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر، فإذا خرج عمر وأذن المؤذنون قال ثعلبة: جلسنا نتحدث، فإذا سكت المؤذنون وقام عمر ¬

_ (¬1) الممتع في شرح زاد المستقنع (2/ 82، 83). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المنادي، برقم (586)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن إذا سمعه ... ، رقم (383). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفار إذا سمع منهم الأذان (382).

الحالات التي تستثنى فيها متابعة المؤذن

يخطب أنصتنا فلم يتكلم أحد" (¬1). الراجح: نرى أن الصحيح هو قول الجمهور؛ لما أوردوه من أدلة، وإذا قلنا باستحباب الاستماع للمؤذن وإجابة النداء كما هو عليه جمهور الفقهاء، فإننا ننبه على أنه ينبغي للمسلم أن يحرص على الاستماع للأذان وإجابته؛ لما يترتب على ذلك من الأجر العظيم الذي يحصل في وقت قليل وبأسهل ما يمكن من غير كلفة على المسلم. قال الشيخ ابن العثيمين: "وفي متابعة المؤذن دليل على رحمة الله -عز وجل- وسعة فضله؛ لأن المؤذنين لما نالوا من أجر الأذان شرع لغير المؤذن أن يتابعه لينال أجرًا كما نال المؤذن أجرًا" (¬2). الحالات التي تستثنى فيها متابعة المؤذن: استثنى العلماء من ذلك حالتين هما: حالة قضاء الحاجة؛ وذلك لأن المقام ليس مقام ذكر. والمصلي؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن في الصلاة شغلًا" (¬3)، فهو مشغول بأذكار الصلاة. والمختار عند شيخ الإسلام ابن تيمية أن المصلي يتابع المؤذن؛ لعموم قوله ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ برقم (233)، وابن أبي شيبة (1/ 348)، وصححه النووي في المجموع (4/ 471). (¬2) الشرح الممتع (2/ 85). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب العمل في الصلاة، باب ما ينهى من الكلام في الصلاة، رقم (1141)، ومسلمٌ في كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، برقم (538).

المشروع في حق المصلي أن يتابع المؤذن فيما يقوله إلا في الحيعلتين

- صلى الله عليه وسلم -: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول" (¬1)، ولأنه ذكر وجد سببه في الصلاة فكان مشروعًا، كما لو عطس المصلي فإنه يحمد الله كما جاء في السنة (¬2). والراجح: أن المصلي لا يتابع المؤذن وكذا قاضي الحاجة، وهذا هو اختيار الشيخ ابن العثيمين (¬3). لكن هل يقضيان أم لا؟ المشهور عند الحنابلة أنهما يقضيان؛ لأن السبب وجد حال وجود المانع، فإذا زال المانع ارتفع وقضى ما فاته. المشروع في حق المصلي أن يتابع المؤذن فيما يقوله إلا في الحيعلتين: فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وفي قول المؤذن: "الصلاة خير من النوم" يقول كما يقول المؤذن: الصلاة خير من النوم؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فقولوا مثل ما يقول" (¬4). ولا تقول: صدقت وبررت؛ لضعف الحديث الوارد في ذلك. ما يقول المؤذن عند شدة المطر أو الريح أو البرد: يشرع للمؤذن عند ذلك أن يقول: "صلوا في رحالكم"؛ لما رواه البخاري ومسلمٌ عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح ثم قال: ألا صلوا في الرحال، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المنادي، برقم (586)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن إذا سمعه ... ، رقم (383). (¬2) الفتاوى الكبرى (4/ 408). (¬3) الممتع (2/ 82). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المنادي، برقم (586)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل ما يقول المؤذن ... ، برقم (383).

يقول: "ألا صلوا في الرحال" (¬1). وقد اختلف الفقهاء في موضع قول المؤذن: "صلوا في الرحال" من الأذان: هل تقال في أثناء الأذان، أم بعد الفراغ منه؟ فقيل بأنها أثناء الأذان بعد الحيعلتين، وقيل بأنها تقال بعد الفراغ من الأذان. والصحيح: أن يقال بأن الأمر في هذا واسع، فقد ثبت هذا وهذا في السنة ولا منافاة بين الأحاديث الواردة في ذلك، فالكل صحيح -إن شاء الله-. إذا تنازع رجلان أو أكثر على الأذان ولم يكن للمسجد مؤذن راتب أو كان له مؤذنون وتنازعوا في أيهم يؤذن؟ الجواب: يقدم أفضلهم في الخصال المعتبرة في المؤذنين، فيقدم من كان أعلى صوتًا وأحسن، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن زيد: "ألقه على بلال فإنه أندى صوتًا منك" (¬2) وكذا يقدم من كان صيتًا وأبلغ في معرفة الوقت وأشد محافظة عليه؛ لأنه مؤتمن. ويقدم أيضًا أفضلهم دينًا وعقلًا. فإذا تساوى المتنازعون فيما تقدم فللفقهاء فيهم قولان: القول الأول: وهو قول الجمهور (¬3) أنه يقرع بينهم. القول الثاني: وهو المذهب عند الحنابلة (¬4) أنه يقدم من يختاره الجيران، فإن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب الرخصة في المطر والعلة أن يصلي في رحله، برقم (635)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الصلاة في الرحال في المطر، برقم (697). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب كيف الأذان، برقم (499). (¬3) مواهب الجليل (1/ 453)، المجموع (3/ 88 - 89)، المغني (2/ 90). (¬4) المغني (2/ 90).

حكم أخذ العوض على الأذان والإقامة

تعذر إجماع الجيران على اختيار مؤذن فإنه يؤخذ بقول الأكثر؛ لأنه قلّ أن تجد رجلًا يجمع عليه الناس. حكم أخذ العوض على الأذان والإقامة: أخذ العوض عن الأذان والإقامة لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون من بيت مال المسلمين وهو ما يسميه بعض الفقهاء بـ: "الرَزق" بفتح الراء. الحالة الثانية: أن يكون المال المأخوذ من المصلين وهو ما يسمى بالأجرة، ولبيان الحكم الشرعي في الحالتين نقول: الكلام على الحالة الأولى: اتفق الفقهاء على جواز أخذ الرَّزق من بيت المال على الأذان والإقامة ونحوهما مما يتعدى نفعه إلى غير فاعله. لكن الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) قيدوا ذلك بعدم وجود المتبرع للأذان والإقامة. واستدل الفقهاء على ذلك بما يلي: 1 - أن ما يؤخذ من بيت المال ليس عوضًا وأجرة بل رَزق، وهو حق ثابت في بيت المال (¬3). 2 - أن بالمسلمين حاجة إلى الأذان والإقامة وقد لا يوجد متطوع بهما وإذا لم ¬

_ (¬1) المهذب من المجموع (3/ 132). (¬2) الاختيارات الفقهية، لابن عثيمين (ص: 132). (¬3) الأحكام السلطانية، للقاضي أبي يعلى (ص: 98).

يدفع الرزق فيهما تعطلتا (¬1). 3 - أن بيت المال معد لمصالح المسلمين، فإذا كان بذله لمن يتعدى نفعه إلى المسلمين محتاجًا إليه كان من المصالح (¬2). الكلام على الحالة الثانية: حكم أخذ الأجرة على الأذان والإقامة: اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه لا يجوز مطلقًا أخذ الأجرة على الأذان والإقامة، وبهذا قال أبو حنيفة (¬3) وأصحابه، ورواية عند الحنابلة (¬4) هي ظاهر المذهب، وبه قال الشوكاني (¬5) وابن حزم (¬6). واستدلوا لذلك بأدلة منها: 1 - قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (¬7)، وجه الدلالة: أن المؤذن خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء، فينبغي أن يكون مثله في عدم أخذ الأجرة على الأعمال. 2 - ومن السنة حديث عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، اجعلني إمام قومي، قال: "أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذنًا لا ¬

_ (¬1) المغني (2/ 70). (¬2) المرجع السابق. (¬3) المبسوط (1/ 140)، بدائع الصنائع (1/ 152). (¬4) المغني (2/ 70). (¬5) نيل الأوطار (2/ 49، 50). (¬6) المحلى (3/ 145 - 146). (¬7) سورة الشورى: 23.

يأخذ على أذانه أجرًا" (¬1). القول الثاني: أنه يجوز أخذ الأجرة على الأذان والإقامة. وهذا هو مذهب المالكية (¬2) والصحيح عند الشافعية (¬3) ورواية عند الحنابلة (¬4). واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها: حديث أبي محذورة - رضي الله عنه - وتعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - الأذان له، وفيه: "ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة" (¬5). وجه الدلالة ظاهرة في هذا الحديث على أخذ الأجرة. واحتجوا بأدلة عقلية منها: 1 - أن الأذان عمل معلوم يجوز أخذ الرزق عليه، فجاز أخذ الأجرة عليه كسائر الأعمال (¬6). 2 - أن الأذان فعل يجوز التبرع به عن الغير، فلا يعتبر كونه قربة مانعًا من الإجارة، قياسًا على الحج عن الغير وبناء المساجد أو كتب المصاحف والسعاية على الزكاة. 3 - أن في الأذان نفعًا يصل إلى المستأجر. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (4/ 21) رقم (16314)، أبو داود في كتاب الصلاة، باب أخذ الأجر على التأذين، برقم (531)، والترمذيُّ في أبواب الصلاة، باب ما جاء في كراهية أن يأخذ المؤذن على أذانه أجرًا، برقم (209). وقال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ. (¬2) المدونة الكبرى (1/ 183)، الخرشي على مختصر خليل (1/ 236). (¬3) المجموع (3/ 134). (¬4) المغني (2/ 70) (¬5) أخرجه أحمد في مسنده (3/ 409) رقم (15417)، والنسائيُّ في كتاب الأذان، باب كيف الأذان، برقم (632) (¬6) المجموع (3/ 132)

القول الثالث: أن أخذ الأجر لا يجوز إلا في حالة الحاجة من غير شرط، وبه قال متأخرو الحنفية (¬1) وهو قول عند الحنابلة (¬2). والراجح من الأقوال هو جواز أخذ الأجرة على الأذان والإقامة في حالة الحاجة، فمتى دفع إليه ما يعينه على أداء الأذان كحاجته إليه فلا حرج عليه في ذلك؛ لأن الأذان يحبسه ويحتاج منه الأوقات. لكن من وسَّع الله عليه وأحب أن يعمل بدون شيء من بيت المال، فذلك أفضل وأكمل؛ لأنه حينئذ تكون قربته كاملة ليس فيها شيء من النقص، بل عمل عمله كاملًا من دون شائبة. أما من أخذ من بيت مال المسلمين فلا حرج عليه؛ لأن بيت المال للمسلمين عامة ولا سيما المصالح كالأذان والإقامة وأشباه ذلك. وهكذا الأوقاف التي توقف على المؤذنين والأئمة هذه كلها من باب التعاون على البر والتقوى، ومن باب تسهيل الأمور، وكون هناك راتب لمن يتفرغ لهذا الشيء أدعى إلى أن يلتزم ويقوم بهذا الأمر العظيم. أما حديث عثمان بن أبي العاص المتقدم في النهي عن أخذ الأجرة على الأذان، فمحمول على المشارطة بينه وبين أهل المسجد أو بينه وبين بعض الناس الآخرين، فهذا هو الأقرب في ظاهر النص. أما الذي يعطاه من بيت المال كما يعطى المدرس ويعطى الإِمام ويعطى المجاهد، فغير داخل في هذا الباب -إن شاء الله-، لكن الذي يتفرغ لهذا الشيء من ¬

_ (¬1) المبسوط (1/ 140)، بدائع الصنائع (1/ 152) (¬2) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (30/ 202)، الإنصاف (1/ 409)

حكم الأذان الثاني لصلاة الجمعة

جهة نفسه ولا يأخذ لذلك أجرًا؛ لأن الله أعطاه مالًا ووسع عليه، فهذا أكمل في الإخلاص. وبهذا نكون قد انتهينا من هذه المسألة التي كثر الحديث عنها بين الناس. حكم الأذان الثاني لصلاة الجمعة: الأذان لصلاة الجمعة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أذانًا واحدًا، وهكذا في عهد أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، وهذا الأذان كان ينادى به حين يجلس الإِمام على المنبر. فلما جاءت خلافة عثمان -رضي الله عنه- زاد الأذان الثاني لصلاة الجمعة، وذلك حينما أكثر الناس. وروى البخاري عن السائب بن يزيد -رضي الله عنه- قال: "إن الأذان يوم الجمعة كان أوله حين يجلس الإمام يوم الجمعة على المنبر في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، فلما كان في خلافة عثمان -رضي الله عنه- وكثروا أَمَرَ عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث، فإذا به على الزوراء، فثبت الأمر على ذلك" (¬1). قلنا: وقول السائب بن يزيد -رضي الله عنه-: "أمر عثمان بالأذان الثالث" المراد بالأذان الأول والثاني الأذان والإقامة كما ذكرنا سابقًا أن الإقامة تعتبر أذانًا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "بين كل أذانين صلاة" (¬2). وقد اختلف الفقهاء في حكم الأذان الثاني للجمعة: 1 - فذهب جمهور الفقهاء على أنه سنة، واحتجوا لذلك بما يلي: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجمعة، باب التأذين عند الخطبة، برقم (874). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب كم بين الأذان والإقامة ومن ينتظر الإقامة؟ برقم (598)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين، باب بين كل أذانين صلاة برقم (838) من حديث عبد الله بن مغفل المزني -رضي الله عنه-.

* قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ... فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" (¬1). وجه الدلالة من الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين وعثمانُ منهم، فوجب اتباع أذانه شرعًا. * إجماع الصحابة: حيث إن عثمان - رضي الله عنه - أمر بهذا الأذان بجمع منهم. ولم ينكر عليه أحد من الصحابة- رضوان الله عليهم-. 2 - وذهب آخرون، منهم الإِمام الشافعي (¬2) وهو مروي عن الإمام مالك نحو ما ذكر الشافعي (¬3) وهو قول لبعض الحنفية (¬4) وقول الصنعاني (¬5) ونصره الألباني (¬6) - أنه لا يشرع ما أحدثه عثمان -رضي الله عنه-. واحتج أصحاب هذا القول بما يأتي: * ما جاء عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: "الأذان الأول" وفي رواية أخرى: "الأذان يوم الجمعة الذي يكون عند خروج الإِمام والذي قبل ذلك محدث" (¬7). وجه الدلالة ظاهرة حيث جعل الأذان الثاني -أي: ما أحدثه عثمان- بدعة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند (4/ 126) رقم (17184)، وأبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة، برقم (4607)، والترمذيُّ في كتاب العلم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، برقم (2676). (¬2) الأم (1/ 190). (¬3) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (18/ 88، 89). (¬4) أحكام القرآن، للجصاص (5/ 336). (¬5) سبل السلام (1/ 217). (¬6) الأجوبة النافعة عن أسئلة لجنة مسجد الجامعة (ص: 26). (¬7) مصنف ابن أبي شيبة (1/ 470).

* ويستدلون لذلك بأن جماعة من السلف أنكروا هذا الأذان كالحسن وعطاء (¬1). وقالوا أيضًا: إن ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر -رضي الله عنهم- أولى بالاتباع. * واحتجوا لذلك أن عليًا -رضي الله عنه-، وهو من الخلفاء الراشدين، كان يُؤَذَّنُ له أذان واحد بالكوفة (¬2)، وكذلك ابن الزبير كان لا يؤذن له حتى يجلس على المنبر ولا يؤذَّنُ له إلا أذان واحد يوم الجمعة (¬3). فبهذه الأدلة احتجوا على عدم مشروعية الأذان الثاني -أي: الذي أحدثه عثمان -رضي الله عنه-. ولذلك قال المعاصرون منهم بأن ما أحدثه عثمان كان لعلة وهي كثرة الناس وتباعد المنازل عن المسجد، وقالوا بأن هذه العلة منتفية في هذا العصر، فلا حاجة لهذا الأذان. قلنا: وقد ذهب إلى القول الأول اللجنة الدائمة (¬4) وهو قول الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمَّد بن صالح العثيمين (¬5)، واحتجوا لذلك بما احتج به جمهور الفقهاء. لكن ينبغي أن تكون المدة بين الأذانين كافية ليتأهب الناس للصلاة، كأن يكون بين الأذانين ساعة أو قريب منها؛ لكي يتسنى للناس الحضور وترك ما بأيديهم من أعمال. أما ما يحصل في بعض المساجد من أن يؤذن فيها بالأذان الأول ثم يؤذن للثاني مباشرة، أو تكون هناك مدة يسيرة كخمس دقائق أو أكثر بقليل، ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (18/ 88). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (3/ 206). (¬4) مجموع فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 198) فتوى رقم (1647). (¬5) مجموع فتاوى ومقالات سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (12/ 347)، مجموع فتاوى سماحة الشيخ محمَّد الصالح العثيمين (15/ 123 - 124)

إذا لم يستطع المؤذن إكمال الأذان هل يكمله غيره؟

فهذا خلاف المشروع؛ لأن العلة من الأذان الأول للجمعة هي تأهب الناس وإعلامهم بأن اليوم يوم جمعة وأنه ينبغي عليهم التأهب للصلاة، فإذا ما أذن الأول ثم تبعه الثاني لم تتحقق الفائدة والعلة التي من أجلها كان الأذان الثالث حينئذ. إذا لم يستطع المؤذن إكمال الأذان هل يكمله غيره؟ إذا حصل للمؤذن عذر يمنعه من إتمام الأذان أو الإقامة كإغماء أو موت ونحو ذلك، فهل يبني شخص آخر على أذانه أو إقامته أم لا بد من استئناف الأذان؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة: 1 - فالجمهور (¬1) على اشتراط أن يؤدي الأذان والإقامة شخص واحد، فلا يصح أن يبني على أذان غيره بل يجب استئنافها. 2 - وقال بعض الفقهاء (¬2) بأنه لا يشترط أن يؤدي الأذان والإقامة شخص واحد بل يصح أن يبني على أذان غيره. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور وذلك؛ لأن الأذان عبادة واحده، فكما أنه لا يصح أن يصلي أحد ركعة ويكمل الثاني الركعة الثانية فكذلك الأذان لا يصح أن يؤذن شخصٌ أوَّلٌ الأذان ويكمله آخرُ. المسألة العاشرة: إجابة الأذان عند تعدده: إذا تعدد المؤذنون في بلد ما فلا يخلو أذانهم من حالتين: الحالة الأولى: أن يسمع الأذان من مؤذن فإذا انتهى سمعه من الآخر فما ¬

_ (¬1) انظر حاشية رد المحتار (1/ 393)، مواهب الجليل (1/ 427)، المجموع (3/ 120 - 121)، المغني (3/ 84). (¬2) مواهب الجليل (1/ 427)، المجموع (3/ 122).

المشروع في حقه؟ نقول: اختلف الفقهاء في هذه الحالة على ثلاثة أقوال: القول الأول: الإجابة لجميع المؤذنين (وجوبًا أو ندبًا) على حسب الخلاف في حكم الإجابة. القول الثاني: استحباب إجابة المؤذن الأول وأصل الفضيلة شامل للجميع إلا أن الأول متأكد يكره تركه. القول الثالث: أنه تستحب إجابة جميع المؤذنين ما لم يصلّ فريضة الوقت، فإذا صلى فلا يستحب. وهذا هو المذهب عند الحنابلة (¬1) وهو قول لبعض الشافعية (¬2). والراجح هو استحباب إجابة جميع المؤذنين؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن" (¬3). الحالة الثانية: أن يتعدد الأذان في آن واحد فتسمع عن يمينك أذانًا وعن شمالك أذانًا وأمامك أذانًا وهكذا في وقت واحد فأيهما تجيب؟ فهنا لا يستطيع الإنسان أن يجيب الجميع في وقت واحد، وقد أجاب عن هذه بعض الفقهاء؛ قال العز بن عبد السلام: "إذا أذن المؤذنون معًا كفتهم إجابة ¬

_ (¬1) الفروع (1/ 281). (¬2) الإعلام لفوائد عمدة الأحكام، لابن الملقن (2/ 473)، التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، للأسنوي (ص: 282 - 284). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المنادي، برقم (586)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، برقم (383).

حكم الاعتماد على الأذان المسموع عبر المذياع

واحدة" (¬1). وقال الكمال بن الهمام: "الذي ينبغي إجابة الأول سواء كان مؤذن مسجدٍ أو غيره؛ لأنه حيث يسمع الأذان ندب له الإجابة أو وجبت ... " (¬2). وقال الفقهاء: بل يجيب مؤذن مسجده الذي يصلي فيه. قلنا: والذي يظهر -والله أعلم- أن المستحب في حق من حصل له ذلك إجابة المؤذن الأول، اللَّهم إلا إذا حصل هناك تشويش عليه؛ لكون المؤذن الأول بعيدًا ولا يستطيع إجابته فهنا الأولى له تركه وإجابة أقرب مسموع له. حكم الاعتماد على الأذان المسموع عبر المذياع: الأذان عبر المذياع لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن ينقل الأذان عبر المذياع مباشرة، فهذا يأخذ حكم الاستماع للمؤذن؛ لأن المؤذن يأخذ حكم المبلغ عبر مكبرات الصوت، وهنا يستحب إجابته؛ لأنه أذان. الحالة الثانية: أن ينقل الأذان عبر تسجيل في غير وقت الصلاة، فهنا نقول: إذا كان الأذان مسجلًا وليس أذانًا للوقت فإنه لا يجيبه؛ لأن هذا ليس أذانًا حقيقيًا أي: أن الرجل لم يرفعها حين أمر برفعه وإنما هو شيء مسموع لأذان سابق (¬3). أما إن كان في الوقت -أي: في وقت الصلاة- فهنا يجيبه؛ لأنه نداء للصلاة. ¬

_ (¬1) فتاوى العز بن عبد السلام (ص: 494). (¬2) فتح القدير (1/ 249) البحر الرائق (1/ 273 - 274). (¬3) انظر في ذلك مجموع فتاوى ومقالات سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (10/ 363)، مجموع فتاوى شيخنا العثيمين رحمه الله (12/ 196).

ما أضيف للأذان مما ليس منه

ما أضيف للأذان مما ليس منه: أولًا: في قول المؤذن: "الصلاة عليك يا رسول الله" بعد الأذان: جاء في صحيح الإِمام مسلم -رحمه الله-: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة" (¬1). فالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر مطلوب شرعًا من المؤذن، والمستمع لكن جعل ذلك شعارًا في الأذان بحيث يجعله المؤذن من الأذان وينادي به بعد الأذان، فهذا أمر محدث يوجد في كثير من البلدان الإِسلامية وهو أمر محدث لم يكن على عهده - صلى الله عليه وسلم - ولا في عهد الخلفاء الراشدين ولا في عهد من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما حكاية زيادة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عبر الأذان فقد أحدثت في زمن السلطان المنصور حاجي بن الأشرف، وذلك في شعبان سنة 791 هـ، وكان قد حدث قبل ذلك في أيام السلطان يوسف صلاح الدين بن أيوب، حيث كان يقال قبل أذان الفجر في كل ليلة بمصر والشام: "السلام عليك يا رسول الله" واستمر ذلك إلى سنة 777 هـ. فزيد بأمر المحتسب صلاح الدين البرلسي أن يقال: "الصلاة والسلام عليك يا رسول الله" ثم جعل ذلك عقب كل أذان سنة 791 هـ كما ذكرنا (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن ... ، برقم (384) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه-. (¬2) انظر في ذلك: حاشية بن عابدين (1/ 261)، وحاشية الدسوقي (1/ 193).

ومن هنا نعلم أن هذه الزيادة محدثة بدعة، قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: "أما إذا كان المؤذن يقول ذلك برفع صوت كالأذان فذلك بدعة؛ لأنه يوهم أنه من الأذان، والزيادة في الأذان لا تجوز لأن آخر الأذان كلمة (لا إله إلا الله) فلا يجوز الزيادة على ذلك، ولو كان ذلك خيرًا لسبق إليه السلف الصالح بل لعلَّمه النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته وشرعه لهم .... " (¬1). ثانيًا: قول المؤذن: "حي على خير العمل" وقوله: "أشهد أن عليًا ولي الله": ألفاظ الأذان الصحيحة هي التي وردت في رؤيا عبد الله بن زيد -رضي الله عنه-، فهي الألفاظ الأصلية المتواترة، فلا يجوز الزيادة على تلك الألفاظ إلا بما ورد بنص صحيح كالتثويب في الفجر والنداء بالصلاة في الرحال، على ما ذكرنا سابقًا. أما هذه الزيادة وهي قول المؤذن: "حي على خير العمل" أو "أشهد أن عليًا ولي الله" وغيرها من الألفاظ، فهذه من المحدثات التي أحدثت، وهي بدعة لا أصل لها في الأحاديث الصحيحة (¬2). ثالثًا: التعوذ والبسملة قبل الأذان: من الأمور المحدثة قبل الأذان ما يقوم به البعض من التعوذ والبسملة قبل الأذان، وهذا لا نعلم له أصلًا يدل على مشروعيته لا بالنسبة للمؤذن ولا لمن يسمعه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (¬3). ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى الشيخ -رحمه الله- (10/ 362 - 363). (¬2) انظر في ذلك: فتاوى اللجنة الدائمة (6/ 94) رقم الفتوى (220)، وفتاوى سماحة الشيخ ابن باز (10/ 352 - 354). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، برقم (2550)، ومسلمٌ في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم (1718).

إذا سمع المرء بعض الأذان هل يقضي ما فاته من السماع ويجيبه فيما بقي أم يجيبه فيما بقي فقط؟

إذا سمع المرء بعض الأذان هل يقضي ما فاته من السماع ويجيبه فيما بقي أم يجيبه فيما بقي فقط؟ الجواب: للفقهاء فيها قولان: القول الأول: أنه يستحب أن يجيبه في جميع الأذان ما سمعه منه وما لم يسمع. وهذا قول الشافعية (¬1) وقول أكثر الحنابلة (¬2). واستدلوا لذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فقولوا بمثل ما يقول" (¬3) ولم يقل بمثل ما سمعتم. القول الثاني: أنه يستحب له أن يجيبه فيما سمع فقط. وهو رأي لبعض المالكية (¬4) وقول لبعض الحنابلة (¬5) وبه قال سماحة الشيخ محمَّد بن إبراهيم (¬6) -رحمه الله-. واحتجوا لذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سمعتم" فالإجابة للمؤذن متعلقة بالسماع؛ لأنه قال: "فقولوا مثل ما يقول" ولم يقل مثل ما قال وهذا هو القول الصحيح؛ لأن الأذان عبادة، فما فات من ألفاظه فات محل إجابة السامع فيها. وهذا هو الأقرب والله أعلم. حكم توحيد الأذان: من الأمور الفقهية المستجدة في العصر الحديث ما تراه في بعض البلدان من ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 140). (¬2) حاشية على منتهى الإرادات، لعثمان النجدي (1/ 146). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المنادي، برقم (586)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، برقم (383). (¬4) الشرح الكبير، للعدوي (1/ 319). (¬5) حاشية على منتهى الإرادات، لعثمان النجدي (1/ 146). (¬6) مجموع فتاوى سماحة الشيخ محمَّد بن إبراهيم -رحمه الله- (2/ 134).

توحيد الأذان في جميع البلد، بمعنى أنه يؤذن مؤذن واحد لجميع المساجد الموجودة وذلك من خلال استخدام التقنية الحديثة، فهل يشرع هذا العمل؟ ولما كان الأذان له أدلته الشرعية المناطة به كما ذكرنا ذلك من خلال فقه الأذان ولا مانع من استخدام الوسائل الحديثة في الإعلام به وأنه يتعين على الأمة الأخذ بها لأن فيها نفعًا عظيمًا للأمة -لكن هذا مع مراعاة النصوص الشرعية التي وردت بذلك-. فلا ينبغي مثلًا استخدام الشريط المسجل للإعلام بالأذان ووضعه من خلال مكبرات الصوت، لما يأتي: 1 - أنه لا بد أن يكون لكل جماعة مؤذن خاص بها يؤذن ويقيم كما قال - صلى الله عليه وسلم - لعثمان بن أبي العاص: "أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على آذانه أجرًا" (¬1) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من ثلاثة في قرية لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة؛ فإن الذئب يأكل القاصية" (¬2). وجه الدلالة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة" فقوله: "فيهم" أي في مكان وجودهم التي ستقام فيه الصلاة، ومع توحيد الأذان لم يكن المؤذن فيهم بل بعيدًا عنهم بعشرات بل بمئات الكيلو مترات. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم" (1). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (4/ 21) رقم (16314)، أبو داود في كتاب الصلاة، باب أخذ الأجر على التأذين برقم (531)، والترمذيُّ في أبواب الصلاة، باب ما جاء في كراهية أن يأخذ المؤذن على أذانه أجرًا، برقم (209) وقال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ .. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده برقم (21758) وحسنه الألباني في الثمر المستطاب (1/ 117).

أكبركم" (¬1). فقوله - صلى الله عليه وسلم - "فليؤذن لكم" دليل على أن المؤذن لا بد أن يكون من الجماعة الحاضرة، ومع توحيد الأذان يكون المؤذن من غير الجماعة الحاضرة. 2 - أن توحيد الأذان فيه تهوين وتقليل من شأن هذه الشعيرة العظيمة التي جعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - دليلًا على إسلام البلد وإسلام أهلها. 3 - أن في توحيد الأذان حجرًا على العمل الصالح وجعله على فرد معين، وبالتالي لا يؤذن بهذه الطريقة آلاف البشر الذين يريدون حصول الأجر بالأذان. 4 - أن توحيد الأذان قد يحصل معه عطل فني في بعض الأجهزة المستخدمة في نقله وبالتالي ستتعطل هذه الشعيرة في بعض المساجد بل في بعض البلدان. ومن هنا نرى أنه لا يشرع العمل بتوحيد الأذان لما ذكرناه من هذه الأدلة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد، برقم (602)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة، برقم (674).

كتاب الصلاة

الفِقهُ الميَسَّر كتاب الصلاة

تعريف الصلاة

كتاب الصلاة تعريف الصلاة: الصلاة في اللغة: الدعاء قال الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} (¬1) أي: ادع لهم، وفي الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائمًا فليصلّ، وإذا كان مفطرًا فليطعم" (¬2) ومعنى: "فليصلّ" أي فليدع لأهل الطعام. أما معنى الصلاة في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} (¬3) فالصلاة من الله تعالى علينا هي الرحمة ومن الملائكة الاستغفار والدعاء. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلت عليه الملائكة عشرًا" (¬4) أي دعت، وقد تأتي الصلاة بمعنى الثناء كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} (¬5) أي ثناء حسن من الله تعالى عليهم (¬6). تعريفها في الاصطلاح: عرفها جمهور الفقهاء بقولهم: "أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم مع النية بشرائط مخصوصة" (¬7). ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 103. (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب النكاح، باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة، برقم (1431). (¬3) سورة الأحزاب: 43. (¬4) أخرجه الترمذيُّ في كتاب الصوم، باب ما جاء في فضل الصائم إذا أكل عنده، برقم (784)، وابن ماجه في كتاب الصيام، باب في الصائم إذا أكل عنده، برقم (1748). (¬5) سورة البقرة: 157. (¬6) تاج العروس، للزبيدي (19/ 606، 607). (¬7) انظر في ذلك: فتح القدير (1/ 191)، مواهب الجليل (1/ 377)، مغني المحتاج (1/ 120)، كشاف القناع (1/ 221).

مكانة الصلاة في الإسلام

وقيل: "عبادة ذات أقوال، أو تقول: التعبد لله تعالى بأقوال وأفعال معلومة؛ حتى يتبين أنها من العبادات" (¬1). مكانة الصلاة في الإسلام: الصلاة صورة من الصور التي يقوم بها الإنسان لعبادة خالقه، فهي صلة بين العبد وربه، ومنزلتها من الإِسلام بمنزلة الرأس من الجسد، قال - صلى الله عليه وسلم -: "رأس الأمر الإِسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد" (¬2). أما من حيث الأركان التي يقوم بها الإِسلام فهي تمثل الركن الثاني بعد الشهادتين؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: "بني الإِسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان" (¬3). فتقدم الصلاة على جميع الأركان بعد الشهادتين لمكانتها وعظيم شأنها، فهي أول عبادة فرضها الله تعالى على عباده في مكة وأول عبادة تكتمل في المدينة عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر" (¬4). ماذا يتحقق بالصلاة: الصلاة من أجلِّ العبادات، بها يتحقق دوام ذكر الله ودوام الاتصال به، ¬

_ (¬1) الشرح الممتع على زاد المستقنع (2/ 5). (¬2) أخرجه الترمذيُّ في كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة برقم (2616)، وأحمدُ (5/ 22069) من حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه-. (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الإيمان، باب الإيمان، برقم (8)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإِسلام ودعائمه العظام، برقم (16) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب صلاة المسافرين، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء، برقم (343)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم (685).

الأصل في فرضية الصلوات الخمس

وتمثل تمام الطاعة والاستسلام لله والتجرد له وحده لا شريك له، وتربي النفس وتهذب الأخلاق وتنير القلب بما تغرس فيه من جلال الله وعظمته، فهي عمل من صميم الدين، بها يقف المرء بين يدي ربه في خشوع وخضوع مستشعرًا بقلبه عظمة المعبود مع الحب والخوف من جلال وجمال المعبود طامعًا، فيما عند الله. وراغبًا في كشف الضر. الأصل في فرضية الصلوات الخمس: دلت الأدلة المستفيضة من الكتاب والسنة على فرضية الصلوات الخمس وانعقد الإجماع على ذلك. أولًا: أدلة الكتاب: قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ} (¬1) وقد كررها الله تعالى في غير موضع في كتابه، وقال أيضًا: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (¬2). وقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬3) والآيات التي جاءت في الأمر بها كثيرة معروفة. ثانيًا: الدليل من السنة: جاءت أحاديث كثيرة منها: حديث "بني الإِسلام على خمس ... " (¬4) وحديث: ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 43. (¬2) سورة النساء: 103. (¬3) سورة البقرة: 238. (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الإيمان، باب الإيمان، برقم (8)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإِسلام ودعائمه العظام، برقم (16) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.

ثالثا: الإجماع

"رأس الأمر الإِسلام" (¬1) ومن ذلك أيضًا حديث أبي أسامة -رضي الله عنه- بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع: "اعبدوا ربكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وحجوا بيتكم وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم، تدخلوا جنة ربكم" (¬2). ثالثًا: الإجماع: انعقد الإجماع على فرضية الصلوات الخمس وتكفير من أنكرها (¬3)، واستُثني من ذلك من كان حديث عهد بكفر وجحد وجوبها، فإنه لا يكفر لكن يبين له الحق، فإن أعرض عن قبول الحق وأصر على جحودها كفر. حكم تارك الصلاة: لتارك الصلاة حالتان: الحالة الأولى: أن يتركها جحودًا لفرضيتها، فهذا لا خلاف بين العلماء في كفره؛ لأنه أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، فإن تاب وإلا قتل كفرًا، وكذلك من جحد ركنًا أو شرطًا مجمعًا عليه فإنه يكفر بذلك. لكن إن جحدها وهو حديث عهد بكفر فإنه لا يكفر إلا بعد بيان فرضيتها له، فإن أصرّ على جحده إياها كفر وصار مرتدًا. الحالة الثانية: أن يتركها تهاونًا وكسلًا مع إقراره بفرضيتها، وهنا اختلف الفقهاء في حكمه: ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذيُّ في كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة برقم (2616)، وأحمدُ (5/ 22069) من حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه-. (¬2) رواه أحمد (5/ 262) برقم (22215) من حديث أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه-. (¬3) المغني (3/ 351).

القول الأول: يرى الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3) أن من تركها تكاسلًا مع إقراره بفرضيتها ليس بكافر بل هو فاسق، واختلفوا في إقامة الحد عليه: 1 - فقال المالكية (¬4) والشافعية (¬5): يقام عليه حد القتل إن أصرّ على عدم الصلاة، ويكون حكمه بعد الموت حكم المسلم فيغسل ويصلى عليه. 2 - وقال الحنفية (¬6) لا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلي أو يتوب، واحتجوا لذلك بأدلة منها: 1 - قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬7). 2 - عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان منه من العمل" (¬8). 3 - وعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم -ومعاذ رديفه على الرحل- قال: "يا معاذ بن جبل" قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، ثلاثًا، قال: "ما من أحد يشهد ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 235). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 189 - 190). (¬3) مغني المحتاج (1/ 372). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 189 - 190). (¬5) مغني المحتاج (1/ 372). (¬6) حاشية الدسوقي (1/ 235)، الفتاوى الهندية (1/ 50). (¬7) سورة النساء: 48. (¬8) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} برقم (3252) (الفتح 6/ 342)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا برقم (28).

أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صدقًا من قلبه، إلا حرمه الله على النار"، قال: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتكلوا" فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا (¬1). 4 - وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله مخلصًا من قلبه" (¬2). 5 - وعن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد من أتى بهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له" (¬3). 6 - وفي الصحيح في قصة عتبان بن مالك وفيها: "إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" (¬4) وفيه: "فيخرج من النار من لم يعمل خيرًا قط" (¬5). 7 - عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يدرس الإِسلام كما يدرس وَشْيُ الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة وليسرى على كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب العلم، باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا، برقم (128)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، برقم (32). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب العلم، باب الحرص على الحديث، برقم (99). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، تفريع أبواب صلاة السفر، باب فيمن لم يوتر، برقم (1420)، وأحمدُ (5/ 315) رقم (22745)، (22772) من حديث عبادة بن صامت - رضي الله عنه -. (¬4) أخرجه البخاريُّ في أبواب المساجد، باب المساجد في البيوت وصلى البراء بن عازب في مسجده في داره جماعة، برقم (415). (¬5) أخرجه أحمد (3/ 116)، رقم (12174) من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-.

الناس، الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها" فقال له صلة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة ثم ردها عليه ثلاثًا كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة، تنجيهم من النار، ثلاثًا (¬1). فهذه الأدلة وغيرها تمنع من التكفير والتخليد وتوجب من الرجاء له ما يرجى لسائر أهل الكبائر. قالوا: ولأن الكفر جحود التوحيد وإنكار الرسالة والمعاد وجحد ما جاء به الرسول، وهذا يقر بالوحدانية شاهدًا أن محمدًا رسول الله، مؤمنًا بأن الله يبعث من في القبور، فكيف يحكم بكفره؟ والإيمان هو التصديق وضده التكذيب لا ترك العمل، فكيف يحكم للمصدق بحكم المكذب الجاحد؟ (¬2). أما أدلة قتله حدًا فقد استدلوا على ذلك بما رواه البخاري ومسلمٌ من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإِسلام وحسابهم على الله" (¬3). واستدل الحنفية على عدم قتله بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب ذهاب القرآن والعلم، برقم (4049) وصححه. (¬2) كتاب الصلاة وحكم تاركها، لابن القيم (ص: 37). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الإيمان، باب الحياء من الإيمان، برقم (25)، ومسلمٌ في كتاب، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله ... ، برقم (22). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ

القول الثاني في حكم تارك الصلاة تكاسلا وتهاونا

القول الثاني في حكم تارك الصلاة تكاسلًا وتهاونًا: قالوا: من ترك الصلاة تكاسلًا وتهاونًا فإنه يكفر كفرًا مخرجًا عن الملة ويقتل ردة إن لم يتب ويصل، وهذا هو إحدى الروايتين عن الإِمام أحمد (¬1) وهي وجه عند الشافعي (¬2) وبه قال عبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه (¬3) وهو قول الشيخين: عبد العزيز بن باز (¬4) ومحمَّد بن صالح العثيمين (¬5) وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬6). استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها: 1 - الكتاب: ومنه قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (¬7). وجه الدلالة: أن الله تعالى اشترط لثبوت الأخوة بيننا وبين المشركين ثلاثة شروط: الأول: أن يتوبوا من الشرك. الثاني: أن يقيموا الصلاة. ¬

_ = وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ...} برقم (6484)، ومسلمٌ في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب ما يباح به دم المسلم، برقم (1676) واللفظ لمسلم. (¬1) كشاف القناع (1/ 227). (¬2) مغني المحتاج (1/ 327). (¬3) نيل الأوطار (1/ 327). (¬4) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (1/ 239). (¬5) انظر رسالة تارك الصلاة (ص: 7). (¬6) مجموع فتاوى اللجنة الدائمة (6/ 36) رقم (443). (¬7) سورة التوبة: 11.

الثالث: أن يؤتوا الزكاة. فإن تابوا من الشرك ولم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة، فليسوا بإخوة لنا. 2 - قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ ...} (¬1). وجه الدلالة في قوله تعالى: {إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ}: دل على أنه حين إضاعتهم للصلاة واتباعهم للشهوات ليسوا بمؤمنين. 1 - من السنة حديث جابر -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر، تركَ الصلاة" (¬2) قالوا: والكفر متى عرِّف بأداة التعريف (ال) وهكذا الشرك، فالمراد بها الكفر الأكبر والشرك الأكبر. 2 - حديث بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" (¬3)، وجه الدلالة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق الكفر هنا على أثر واضح وهو الصلاة، فكون تركها كفرًا أكبر لا يستغرب. 3 - إجماع الصحابة حيث يرون كفر تارك الصلاة. دليل ذلك ما جاء عن عبد الله بن شقيق العقيلي أنه قال: "كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة" (¬4). ¬

_ (¬1) سورة مريم: 59. (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، برقم (82). (¬3) أخرجه الترمذيُّ في كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، برقم (2621). وقال: حسن صحيح. وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، برقم (1078). وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 177). (¬4) أخرج الترمذيُّ في كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، برقم (2622)، صحيح سنن الترمذيُّ برقم (2114)، وصحيح الترغيب والترهيب، للألباني (562).

الأثار المترتبة على كفر تارك الصلاة

فهذه الأدلة وغيرها تدل دلالة واضحة على كفر تارك الصلاة. قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: "والخلاصة أن القول الصواب الذي تقتضيه الأدلة هو أن ترك الصلاة كفر أكبر، ولو لم يجحد وجوبها، ولو قال الجمهور بخلافه فإن المناط هو الأدلة وليس المناط هو كثرة القائلين، فالحكم معلق بالأدلة، والترجيح يكون بالأدلة، وقد قامت الأدلة على كفر تارك الصلاة كفرًا أكبر" (¬1). وقال الشيخ محمَّد بن صالح العثيمين: "ولم يرد في الكتاب والسنة أن تارك الصلاة ليس بكافر أو أنه مؤمن، وغاية ما ورد في ذلك نصوص تدل على فضل التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وثواب ذلك، وهي إما مقيدة بقيود في نفس النص يمنع معها أن يترك الصلاة، وإما واردة في أحوال معينة يعذر الإنسان فيها بترك الصلاة، وإما عامة فتحمل على أدلة كفر تارك الصلاة؛ لأنها خاصة والخاص مقدم على العام (¬2). الأثار المترتبة على كفر تارك الصلاة: أولًا: في الدنيا: 1 - تسقط ولايته على من يشترط في ولايته الإِسلام، فلا يولَّى على أبنائه القاصرين ولا يزوج مولياته. 2 - يسقط إرثه من أقاربه: لما رواه أسامة بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يرث المسلمُ الكافرَ ولا الكافرُ المسلمَ" (¬3). ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ومقالات الشيخ (10/ 241). (¬2) رسالة في حكم تارك الصلاة لفضيلة شيخنا محمَّد بن صالح العثيمين (ص: 4). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الفرائض، باب ما لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر، برقم (6383)، ومسلمٌ في كتاب الفرائض، برقم (1614).

3 - يحرم دخوله مكة؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (¬1). 4 - لا تؤكل ذبيحته؛ لأنه غير مسلم ولا كتابي. 5 - لا يصلى عليه بعد موته، ويحرم الدعاء له بالمغفرة والرحمة، لقوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (¬2). 6 - يحرم نكاحه المرأة المسلمة؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (¬3). قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز: "وبهذا يعلم أن المسلم الذي يصلي وليس به ما يوجب كفره، إذا تزوج امرأة لا تصلي فإن النكاح باطل، وهكذا بالعكس؛ لأنه لا يجوز للمسلم أن ينكح الكافرة من غير أهل الكتابين، كما لا يجوز للمسلمة أن تنكح الكافر، لقول الله تعالى في سورة الممتحنة في نكاح الكافرات: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}، وقوله تعالى في سورة البقرة: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} (¬4)، (¬5). ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 28. (¬2) سورة التوبة: 84. (¬3) سورة الممتحنة: 10. (¬4) سورة البقرة: 221. (¬5) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/ 242).

ثانيا: الأحكام الأخروية

ثانيًا: الأحكام الأُخرَويَّة: فأما الأحكام الأخروية المترتبة على الرِّدَّة أيًا كان نوعها والعياذ بالله تعالى فمنها: 1 - أن الملائكة توبخه وتقرعه، بل تضرب وجوههم وأدبارهم قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (¬1). 2 - أنه يحشر مع أهل الكفر والشرك؛ لأنه منهم، قال الله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} (¬2) والأزواج جمع زوج؛ وهو الصنف، أي: احشروا الذين ظلموا ومن كان من أصنافهم من أهل الكفر والظلم. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: 50 - 51. (¬2) سورة الصافات: 22 - 23.

شروط الصلاة

شروط الصلاة شروط الصلاة منها ما هي شروط وجوب، ومنها ما هي شروط صحة؛ أولًا: شروط الوجوب: شروط الوجوب: هي التي توجب على المكلف أن يصلي، بحيث إذا فقدت هذه الشروط أو بعضها لم تجب الصلاة، وهذه الشروط هي: 1 - الإِسلام: تجب الصلاة على كل مسلم، ذكرًا كان أو أنثى، ولا تجب على الكافر الأصلي. ويترتب على ذلك أنه متى أسلم الكافر فإنه لا يؤمر بقضاء الصلاة ولا غيرها من العبادات؛ لأنه قد أسلم خلق كثير في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أحدًا منهم بقضاء الصلاة. لكن مع القول بعدم مطالبة الكافر بوجوب الصلاة فإنه معاقب على تركها في الآخرة، زيادة على كفره، كما قال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (¬1). هل على المرتد إذا عاد للإسلام قضاء الصلاة حال ردته؟ قولان للفقهاء: 1 - ذهب الحنفية (¬2) والمالكية (¬3) والحنابلة (¬4) إلى أن الصلاة لا تجب على المرتد، فلا يقضي ما فاته إذا رجع إلى الإِسلام، وعللوا ذلك بأنه حال ردته يصير كالكافر. ¬

_ (¬1) سورة المدثر: 42 - 43 (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 294). (¬3) مواهب الجليل (1/ 243). (¬4) كشاف القناع (1/ 222).

2 - العقل

2 - وذهب الشافعية (¬1) إلى وجوب الصلاة على المرتد، على معنى أنه يجب عليه قضاء ما فاته زمن ردته بعد رجوعه إلى الإِسلام؛ تغليظًا عليه، ولأنه التزمها بالإسلام، فلا تسقط عنه بالجحود؛ كحق الآدمي. والراجح: ما ذهب إليه الجمهور من عدم وجوب الصلاة على المرتد. 2 - العقل: وضده زوال العقل، يشترط لوجوب الصلاة العقل، فلا تجب على المجنون دليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى -وفي رواية: المعتوه- حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يَكْبُرَ" وفي رواية: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يعقل، وعن الصبي حتى يحتلم" (¬2). أما الإغماء، فمتى أفاق المغمى عليه في فترة، أقصاها ثلاثة أيام، فإنه يلزمه قضاء ما فاته حال إغمائه، وهذا هو المذهب عند الحنابلة (¬3)، ويرى المالكية (¬4) والشافعية (¬5) عدم القضاء للمغمى عليه، وهو اختيار الشيخ ابن العثيمين (¬6). والصحيح: هو وجوب القضاء على المغمى عليه: دليل ذلك: "أن عمار بن ياسر أغمي عليه في الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فأفاق نصف الليل فصلى ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 130). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدًا، برقم (4298)، والنسائيُّ في كتاب الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج، برقم (3432)، وابن ماجه في كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم، برقم (2041) والحديث صححه الألباني في الإرواء، برقم (297). (¬3) كشاف القناع (1/ 222). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 186). (¬5) مغني المحتاج (1/ 131). (¬6) مجموع فتاوى الشيخ (12/ 17).

3 - البلوغ

الظهر والعصر والمغرب والعشاء" (¬1). وعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - مثله ولم يعلم لهم مخالف فكان كالإجماع، ولأن مدة الإغماء لا تطول -غالبًا- وهذا هو قول الشيخ عبد العزيز بن باز (¬2). وأما النائم والساهي فيجب عليهما قضاء الصلاة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها" (¬3). 3 - البلوغ: من شروط وجوب الصلاة البلوغ، فلا تجب الصلاة على الصبي حتى يبلغ، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاث ... " وذكر منهم الصبي فقال: "وعن الصبي حتى يحتلم" (¬4)، لكن على وليه أن يأمره بالصلاة إذا بلغ سبع سنوات؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع" (¬5). واختلف الفقهاء في الأمر هنا، هل هو للوجوب أم للندب؟ فالجمهور على ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقيُّ في السنن الكبرى في كتاب الحيض، باب المغمى عليه يفيق بعد ذهاب الوقتين فلا يكون عليه قضاؤهما، رقم (1692). (¬2) مجموع فتاوى الشيخ (10/ 373). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، برقم (684). (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدًا، برقم (4298)، والنسائيُّ في كتاب الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج، برقم (3432)، وابن ماجه في كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم، برقم (2041). والحديث صححه الألباني في الإرواء برقم (297). (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة؟ برقم (495). وصححه الألباني في الإرواء برقم (247).

ثانيا: شروط صحة الصلاة

أنه للوجوب (¬1)، والمالكية (¬2) على أنه للندب. والصحيح أن الأمر للوجوب. واختلف الفقهاء في أي السنوات يؤمر بالصلاة ويضرب عليها؟ فالحنفية (¬3) والحنابلة (¬4) يرون وجوب الأمر بعد استكمال السبع -أي: في بداية الثمان-، والضرب يكون بعد استكمال العشر، أي: في بداية الحادية عشرة. والمالكية (¬5) يرون أن الأمر يكون عند بداية السبع والضرب عند بداية العشر. والشافعية (¬6) يرون أن الأمر يكون في أثناء السبع والضرب في أثناء العشر. والصحيح: ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة؛ وهو أن الأمر بعد تمام السابعة والضرب بعد تمام العاشرة. ثانيًا: شروط صحة الصلاة: المراد بشروط صحة الصلاة ما لا تصح الصلاة بدونها، بحيث إذا فُقد شرط من دون عذر لم تصح الصلاة وتكون باطلة ويجب إعادتها، وهذه الشروط هي: 1 - الطهارة: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (¬7). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 234، 235). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 186). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 234، 235). (¬4) كشاف القناع (1/ 225). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 186). (¬6) مغني المحتاج (1/ 131). (¬7) سورة المائدة: 6.

والطهارة التي هي شرط في صحة الصلاة نوعان: طهارة حقيقية، وطهارة حكمية. فالطهارة الحقيقية المراد بها طهارة الثوب والبدن والمكان من النجاسات الحقيقية؛ فطهارة الثوب دليلها قوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها-: أن امرأة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الثوب يصيبه الدم من الحيضة؟ فقال رسول الله: "حُتِّيهِ ثم اقرُصِيهِ ثُم رُشِّيهِ ثم صلي فيه" (¬2). أما طهارة البدن من النجاسة؛ فلأنه إذا وجبت طهارة الثوب فطهارة البدن من باب أولى، وقد جاءت أدلة السنة بذلك، فمن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي" (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه" (¬4) فثبت الأمر باجتناب النجاسة، والأمر بالشيء نهي عن ضده. أما طهارة المحل (المكان) فقد أمر الله تعالى نبيه إبراهيم بقوله: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة المدثر: 4. (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الحيض، باب غسل دم الحيض، رقم (301)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب نجاسة الدم وكيفية غسله، رقم (291) وسياق الحديث للترمذي، أبواب الطهارة، باب ما جاء في غسل دم الحيض من الثوب، وقال: حسنٌ صحيحٌ. رقم (138)، (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الحيض، باب إذا رأت المستحاضة الطهر، برقم (324)، ومسلمٌ في كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، برقم (333). (¬4) أخرجه الدارقطني في كتاب الطهارة، باب نجاسة البول والأمر بالتنزه منه والحكم في بول ما يؤكل لحمه، برقم (2)، وصححه الألباني في الإرواء (1/ 310) برقم (280). (¬5) سورة البقرة: 125.

2 - ستر العورة

أما النوع الثاني من الطهارة فهي الطهارة الحكمية؛ والمراد بها طهارة البدن من المحدثين الأكبر والأصغر، دليل ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬1). أما دلالة السنة على وجوب الطهارة للصلاة فمنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقبل صلاة أحدكم -إذا أحدث- حتى يتوضأ" (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقبل صلاة بغير طهور" (¬3)، وقوله: "مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم" (¬4). 2 - ستر العورة: من شروط صحة الصلاة ستر العورة، دليل ذلك قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬5)، والمراد بأخذ الزينة هنا هو الثياب في الصلاة، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" (¬6) وله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 6. (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب ما جاء في الوضوء، برقم (135)، ومسلمٌ في كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، برقم (224). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، برقم (224). (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب فرض الوضوء، برقم (61)، والترمذيُّ في كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، برقم (3)، وصححه الألباني في الإرواء (2/ 9)، برقم (301) من حديث علي - رضي الله عنه -. (¬5) سورة الأحزاب: 31. (¬6) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب المرأة تصلي بغير خمار، برقم (641)، والترمذيُّ في كتاب الصلاة، باب نجاسة البول والأمر بالتنزه منه والحكم في بول ما يؤكل لحمه، برقم (377) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

حد العورة في الصلاة

-رضي الله عنه-: "إن كان واسعًا فالتَحِفْ به، وإن كان ضيقًا فاتَّزِرْ به" (¬1). فمتى صلى الإنسان من غير أن يلبس ما يستر به العورة أو ما يجب ستره في الصلاة على الأصح، فصلاته باطلة وقد انعقد الإجماع على أن من صلى عريانًا مع قدرته على اللباس، فصلاته باطلة (¬2). حد العورة في الصلاة: العورة في الصلاة -على المشهور من مذهب الحنابلة- تنقسم إلى ثلاثة أقسام: مغلظة، مخففة، متوسطة. أولًا: العورة المغلطة: هي عورة الحرة البالغة، فكلها عورة إلا وجهها فإنه ليس بعورة في الصلاة، وإن كان هو عورة في النظر، فلو صلت المرأة في بيتها وليس عندها أحد، لوجب أن تستر كل شيء إلا وجهها. ثانيًا: العورة المخففة: وهي عورة الذكر من سبع إلى عشر سنوات، وهما الفرجان فقط، فإذا ستر قبله ودبره فقد أجزأه الستر، ولو كانت أفخاذه بادية، لكن على ولي أمره أن يأمره بالستر والعفاف وبخاصة إذا كان يعوِّده الصلاة. ثالثًا: العورة المتوسطة: وهي ما سوى ذلك وَحَدُّهَا ما بين السرة والركبة، فيدخل فيها الذكر من عشر سنوات فصاعدًا، والحرة دون البلوغ، والأمة ولو بالغة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في أبواب الصلاة في الثياب، باب إذا كان الثوب ضيقًا، برقم (354). (¬2) انظر في ذلك: التمهيد لابن عبد البر (6/ 376)، مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (22/ 116، 117).

الشروط المعتبرة في الثوب الذي به تستر العورة

فهذه هي أقسام العورات الثلاث التي يجب سترها في الصلاة وأمام الناس فيها وفي غيرها. الشروط المعتبرة في الثوب الذي به تستر العورة: يشترط للثوب الساتر ثلاثة شروط: الشرط الأول: أن لا يصف البشرة: فإن وصفها لم يجزئ؛ لأن الستر لا يحصل إلا بذلك، فإن حصلت بثياب خفيفة لا تستر العورة بطلت الصلاة، ومن ذلك لبس الرجل السراويل القصيرة التي لا تستر الفخذين ولا يلبس عليها ما يستر الفخذين، فإن صلاته -والحال على ما ذكرناه- غير صحيحة. وهكذا المرأة إذا صلت بثياب خفيفة رقيقة لا تستر عورتها بطلت صلاتها (¬1). الشرط الثاني: أن يكون طاهرًا: فإذا كان الثوب نجسًا فإنه لا يصح أن يصلي به، ولو صلى به لا تصح صلاته، وقد ذكرنا ذلك عند اشتراط الطهارة لصحة الصلاة. ومن صلى وبعد فراغه من صلاته رأى نجاسة في ملابسه ولم يعلم نجاستها إلا بعد الفراغ من الصلاة، فصلاته صحيحة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبره جبرائيل وهو في الصلاة أن في نعليه قذرًا فخلعها. ولم يعد أول الصلاة. وكذلك الحال لو علمها قبل الصلاة ثم نسي فصلى فيها ولم يذكر إلا بعد الصلاة؛ لقول الله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (¬2)، قال الله ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: الشرح الممتع لزاد المستقنع، لشيخنا رحمه الله (2/ 102)، ومجموع فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله (10/ 411). (¬2) سورة البقرة: 286

من كان عنده ثوب نجس ولا يمكنه تطهيره

تعالى: "قد فعلت". لكن لو أصاب ثوبه نجاسة وهو قائم يصلي، فالواجب عليه أن يزيلها في الحال إن أمكنه ذلك وهو في الصلاة؛ للحديث المتقدم -أعني حديث جبرائيل- وإن لم يمكنه إزالة النجاسة فالواجب عليه أن ينصرف من الصلاة ثم يذهب ليزيل النجاسة ثم يعيد الصلاة. هذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم، وإلا فالمذهب عند الحنابلة (¬1) أن الناسي والذاكر في الحكم سواء، أي: يجب عليه الإعادة للصلاة، لكن الصحيح ما ذكرناه: أن الناسي والجاهل أو من وجد النجاسة بعد صلاته، كلهم لا يجب عليهم الإعادة، وهذا هو اختيار الشيخ ابن باز والشيخ ابن العثيمين (¬2). من كان عنده ثوب نجس ولا يمكنه تطهيره: اختلف أهل العلم في ذلك على أقوال أشهرها ثلاثة: القول الأول: وجوب الصلاة مع الإعادة وهذا هو المذهب عند الحنابلة. القول الثاني: أنه يصلي عريانًا ولا يعيد وهو قول الشافعي (¬3) ورواية عند أحمد (¬4). القول الثالث: أنه يصلي به ولا إعادة وهذا هو مذهب مالك (¬5)، وهذا هو الصحيح؛ لقوله سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬6)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬7). ¬

_ (¬1) الفروع (1/ 333)، الإنصاف (3/ 233، 237) (¬2) مجموع فتاوى سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله (10/ 397)، الشرح الممتع (2/ 178) (¬3) المجموع (3/ 143، 142). (¬4) المغني (2/ 315، 316)، الإنصاف (3/ 228، 229). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 218). (¬6) سورة البقرة: 286. (¬7) أخرجه البخاريُّ في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله، برقم (6858) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

الشرط الثالث: أن يكون الثوب مباحا

الشرط الثالث: أن يكون الثوب مباحًا: فمتى كان الثوب محرمًا لعينه كالثوب الحرير للرجل، أو محرمًا لوصفه كأن يكون الثوب به إسبال أو به صور، أو محرمًا لكسبه كأن يكون مغصوبًا ومسروقًا، فلا تصح الصلاة به، وهذا الشرط هو المذهب عند الحنابلة (¬1). ذكر ذلك صاحب الإنصاف (¬2) وقال: وعليه جماهير الأصحاب. وفي رواية أخرى عند الحنابلة: أن الصلاة بالثوب المحرم صحيحة مع التحريم. اختارها الخلال وابن عقيل. وهي الصحيحة، وهي اختيار الشيخ ابن العثيمين (¬3). وعلى ذلك فمتى صُلِّي بثوب محرم فالصلاة به صحيحة مع حصول الإثم بالمخالفة للشرع. لبس الحرير للضرورة: إذا لبس الحرير لضرورة كأن يكون به مرض في جلده كالحساسية مثلًا، فإن صلاته تصير صحيحة ولا إثم عليه؛ لأننا لو ألزمناه بثوب آخر لم يحصل المقصود من الصلاة، وهو الخشوع والاطمئنان فيها، فيصير مشغولًا بذلك، فيفقد لبّ الصلاة -أعني الخشوع فيها-. 3 - استقبال القبلة: يشترط لصحة الصلاة استقبال القبلة، دليل ذلك قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (¬4). ¬

_ (¬1) منار السبيل (1/ 74 - 75). (¬2) الإنصاف (3/ 223). (¬3) الشرح الممتع (2/ 155). (¬4) سورة البقرة: 144.

أحوال المصلي في استقبال القبلة

ودليل السنة ما رواه البخاري ومسلمٌ من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - قد أُنْزِلَ عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبِلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة" (¬1). أحوال المصلي في استقبال القبلة: 1 - الصلاة على الدابة: أجمع أهل العلم (¬2) على أنه يجوز لكل من سافر سفرًا يقصر فيه الصلاة أن يتطوع على دابته حيثما توجهت، ولا يلزم تحري القبلة دليل ذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} (¬3) قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "نزلت هذه الآية في التطوع خاصة حيث توجه به بعيره" (¬4). وعلى ذلك فمن كان راكبًا في طائرة أو قطار أو سيارة ونحو ذلك، يجوز أن يصلي ما شاء من التطوع دون التحري للقبلة، لكن لا يجوز للسائق فعل ذلك؛ لما يترتب عليه من المفاسد. هذا كما ذكرنا في السفر الذي تقصر فيه الصلاة، لكن هل يشرع ذلك في السفر القصير الذي لا يشرع فيه القصر؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم؛ فالجمهور (¬5) على جواز ذلك -أي: جواز الصلاة على الراحلة دون تحري القبلة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في أبواب القبلة، باب ما جاء في القبلة ومن لا يرى الإعادة على من سها فصلى إلى غير القبلة، برقم (395)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، برقم (526). (¬2) المغني (2/ 95). (¬3) سورة البقرة: 115. (¬4) انظر في ذلك: تفسير الطبري (2/ 530). (¬5) المغني (3/ 96).

2 - استقبال القبلة للخائف

وذهب مالك (¬1) إلي أنه لا يباح إلا في سفر طويل؛ لأنه رخصة سفر. قال القاضي أبو يعلى: الأحكام التي يستوي فيها الطويل من السفر والقصير ثلاثة: التيمم، وأكل الميتة في المخمصة، والتطوع على الراحلة (¬2). 2 - استقبال القبلة للخائف: من اشتد به الخوف بحيث لا يتمكن من الصلاة إلى القبلة أو احتاج إلى المشي أو عجز عن بعض أركان الصلاة إما لهرب مباح من عدو أو سيل أو سبُع أو نحو ذلك مما لا يمكنه التخلص منه إلا بالهرب ونحو ذلك، فله أن يصلي على حسب حاله؛ راجلًا، أو راكبًا إلى القبلة إن أمكن، أو إلى غيرها إن لم يتمكن (¬3). 3 - الاجتهاد في القبلة: أ- اتفق الفقهاء على وجوب الاجتهاد في القبلة إذا لم يكن هناك من يخبره ولا ما يستدل به على جهتها إن كان من أهل الاجتهاد، فإن ضاق عليه الوقت عن الاجتهاد صلى على حسب حاله. لكن صرح ابن قدامة بأن شرط الاجتهاد لا يسقط بضيق الوقت مع إمكانه. والأولى هو مراعاة الوقت، لكن إن تبين أنه صلى لغير القبلة هل يعيد الصلاة؟ خلاف بين الفقهاء؛ الصحيح أنه لا يلزمه الإعادة إذا صلى حسب اجتهاده أو ضاق الوقت عليه ولم يجتهد؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬4) ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬5). ¬

_ (¬1) مواهب الجليل (1/ 507). (¬2) المغني (6/ 96). (¬3) المغني (2/ 92 - 93). (¬4) سورة التغابن: 16. (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله، برقم (6858) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

العجز عن استقبال القبلة

ب- إذا اختلف اجتهاد مجتهدين في اتجاه القبلة؛ فالحنفية (¬1) والمالكية (¬2) والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) يرون أنه لا يتبع أحدهما الآخر ولا يؤمه؛ لأن كلًا منهما يعتقد خطأ الآخر فلم يجز الائتمام. والأقرب للصواب أنه يجوز اتباع أحدهما الآخر مع اختلافهما في جهة القبلة، بل إذا كانت الصلاة صلاة جماعة واجبة، وجب اتباع أحدهما الآخر؛ لأن كل واحد منهما يعتقد خطأ الآخر لاجتهاده، أما الصلاة فيعتقد كل منهما صحة صلاة الآخر، فلم يمنع اختلاف الجهة الاقتداء به وهذا هو اختيار ابن قدامة (¬5). قال الشيخ محمَّد بن العثيمين: وهذا القول أقرب للصواب (¬6). العجز عن استقبال القبلة: من عجز عن استقبال القبلة لعذر به يمنعه من الاستقبال كالمريض والمربوط ونحوهم، فإنه يصلي على حسب حاله ولو إلى غير القبلة؛ لأن الاستقبال شرط لصحة الصلاة وقد عجز عنه. هل يلزم المتنفل افتتاح الصلاة إلى القبلة؟ المذهب عند الحنابلة (¬7) أنه يجب افتتاح الصلاة إليها ثم بعد ذلك يكون حيث كان وجهه، واستدلوا لذلك بحديث أنس بن مالك: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ¬

_ (¬1) حاشية رد المحتار (1/ 291). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 226). (¬3) نهاية المحتاج (1/ 429). (¬4) المغني (1/ 108). (¬5) المغني (1/ 178). (¬6) الشرح الممتع (2/ 283). (¬7) المغني (2/ 98)، الإنصاف (3/ 328).

حكم استقبال القبلة لصلاة الفريضة في السفينة ونحوها

سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة، فكبر ثم صلى حيث وجهه ركابه" (¬1). والصحيح: أنه ليس بواجب؛ لأن هذا مجرد فعل ولا يدل على الوجوب وإنما يدل على أنه الأفضل. ويدل على ما رجحناه حديث ابن عمر وهو أصح من حديث أنس، حيث إن حديث أنس اختلف في صحته، ولكن غايته أنه حسن، وحديث ابن عمر في الصحيحين حيث قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي حيث كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسبح على الراحلة قبل أي وجهة توجهه ويوتر عليها، غير أنه كان لا يصلي عليها المكتوبة" (¬2). فظاهره أنه من ابتداء الصلاة إلى آخرها. حكم استقبال القبلة لصلاة الفريضة في السفينة ونحوها: ذهب جمهور الفقهاء (¬3) إلى وجوب استقبال القبلة لمن صلى فرضًا في السفينة، فإن هبت الريح وحولت السفينة وجب رد وجهه إلى القبلة؛ لأن التوجه فرض عند القدرة، وهذا قادر، وفي وجه عند الحنابلة (¬4) أنه يجب أن يدور المفترض إلى القبلة كما دارت السفينة كالمتنفل. والصحيح: أنه يجب أن يدور مع السفينة أو الطائرة أين دارت في صلاة الفرض حسب طاقته؛ لأن استقبال القبلة شرط لصحة صلاة الفريضة كما بينا ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (3/ 203)، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب التطوع على الراحلة والوتر، رقم (1225). والحديث حسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 226)، برقم (1084). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الصلاة، باب ينزل للمكتوبة، رقم (1098)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين، باب جواز صلاة النافلة على الدابة، رقم (700). (¬3) مغني المحتاج (1/ 144)، حاشية الدسوقي (1/ 226) كشاف القناع (1/ 304). (¬4) تصحيح الفروع (1/ 380).

الصلاة في المسجد الحرام

ذلك. وهذا هو الذي أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬1). الصلاة في المسجد الحرام: من كان يصلي في المسجد الحرام وأمكنه أن يستقبل عين الكعبة، لزمه ذلك، فإن صلى مستقبلًا جهة القبلة لا عينها لم تصح صلاته؛ لأن الأصل هو وجوب استقبال البيت الذي هو البناء، وهذا يخطئ فيه الكثير ممّن يأتون إلى المسجد الحرام ويمكنهم استقبال عين الكعبة ثم يتركون استقبال عينها ويستقبلون جهتها، وهذا خطأ، بل الواجب استقبال عينها متى أمكن ذلك (¬2). 4 - دخول الوقت: هذا هو الشرط الرابع من شروط صحة الصلاة، دليل ذلك قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (¬3). وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (¬4). أما السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أمَّني جبريل -عليه السلام- عند البيت مرتين، فصلى الظهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشراك، ثم صلى العصر حين كان كل شيء مثل ظله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 121 - 122) فتوى رقم (6275) ورقم (2645). (¬2) انظر في ذلك الشرح الممتع لشيخنا رحمه الله (2/ 272). (¬3) سورة الإسراء: 78. (¬4) سورة النساء: 103.

شرط دخول الوقت للصلاة والأحكام المترتبة عليه

الصائم. وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه، ثم صلى المغرب لوقته الأول، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض. ثم التفتُّ إلى جبريل فقال: يا محمَّد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين" (¬1). وفي حديث مسلم: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس" (¬2). شرط دخول الوقت للصلاة والأحكام المترتبة عليه: 1 - لا تصح الصلاة قبل الوقت بإجماع المسلمين (¬3)، فإن صلى قبل الوقت؛ فإن كان متعمدًا فصلاته باطلة ولا يسلم من الإثم، وإن كان غير متعمدٍ لظنه أن الوقت قد دخل، فليس بآثم، ولكن عليه الإعادة؛ لما صلاها من فريضة قبل الوقت، وأما صلاته التي صلاها قبل الوقت فتعد نفلًا له. 2 - حكم الصلاة بعد الوقت: اتفق الفقهاء على أنه إذا خرج وقت الصلاة من غير أن يصلي، فإنه يجب عليه أن يصلي، ولا تسقط الصلاة بخروج وقتها، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في المواقيت، برقم (393)، والترمذيُّ في كتاب أبواب الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم (149). واللفظ للترمذي، وقال: "حسنٌ صحيحٌ، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-". (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب أوقات الصلوات الخمس، برقم (612). (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 182)، المغني (1/ 184)، (2/ 45) الإنصاف (1/ 429)، حاشية الروض المربع (1/ 462).

وتكون صلاته حينئذ قضاء مع ترتب الإثم عليه إن تركها عمدًا بغير عذر شرعي، واستدلوا لذلك بحديث: "من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها" (¬1) قالوا: فإذا كان هذا حال المعذور فالمتعمد من باب أولى. جاء في الشرح الممتع: "والصحيح أنها لا تصح بعد الوقت إذا لم يكن له عذر، وأن من تعمد الصلاة بعد خروج الوقت فإن صلاته لا تصح ولو صلى ألف مرة؛ لأن الدليل حدد الوقت، فإذا تعمد أن تكون صلاته خارج الوقت لم يأت بأمر الله، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" (¬2) إذن: فتكون الصلاة مردودة" (¬3). وهذا هو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬4) -رحمه الله-وهو مذهب الظاهرية (¬5)، أجابوا عن حديث: "من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها" قالوا: إن هذا معذور بنومه أو نسيانه والمعذور صلاته في الحقيقة ليست قضاء، بل أداء، وقولهم بعدم وجوب القضاء على من لا عذر له، ليس بغرض التخفيف وإنما تنكيل له وعقوبة من الله أنه لا يقبل صلاته. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، برقم (684). (¬2) أخرجه البخاريُّ، تعليقًا مجزومًا به، كتاب البيوع، باب النجش ومن قال لا يجوز ذلك البيع، رقم (2142)، ورواه مسلم موصولًا، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، برقم (1718) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬3) الشرح الممتع (2/ 97). (¬4) الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية، لشيخ الإِسلام ابن تيمية، مع تعليقات شيخنا محمَّد بن صالح العثيمين رحمه الله. (¬5) المحلى (2/ 236).

أوقات الصلاة

أوقات الصلاة: لقد جاءت نصوص الكتاب والسنة بتفصيل أوقات الصلوات المفروضة، وذلك على النحو الآتي: أولًا: وقت صلاة الصبح: اتفق الفقهاء على أن أول وقت الصبح هو طلوع الفجر الصادق، ويسمى الفجر الثاني، وسمي صادقًا؛ لأنه بين وجه الصبح وَوَضَحِه، وعلامته بياض ينتشر في الأفق عرضًا. أما آخر وقتها فهو بطلوع الشمس، فمتى طلعت الشمس فقد انتهى وقت صلاة الصبح، دليل ذلك ما رواه الترمذيُّ في السنن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن للصلاة أولًا وآخرًا، وإن أول وقت صلاة الظهر حين تزول الشمس وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر، وإن أول وقت صلاة العصر حين يدخل وقتها وإن آخر وقتها حين تصفر الشمس، وإن أول وقت المغرب حين تغرب الشمس وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق، وإن أول وقت العشاء الآخرة حين يغيب الأفق وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل، وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر وإن آخر وقتها حين تطلع الشمس" (¬1). أيهما أفضل لصلاة الصبح: الإسفار بها أم التغليس؟ 1 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأفضل لصلاة الصبح التغليس، واستدلوا لذلك بحديث عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الصلاة، باب مواقيت الصلاة، باب منه. والحديث صححه الألباني في صحيح سنن الترمذيُّ (1/ 71)، برقم (151).

أحد من الغلس" (¬1) أي: لا يعرفهن أحد من الظلمة. 2 - وذهب الحنفية (¬2) إلى أن الإسفار أفضل، ومعنى الإسفار هو أن يؤخر الصلاة إلى أن ينتشر الضوء، وتمكين كل من يريد الصلاة جماعة أن يسير في الطريق دون أن يلحقه ضرر، كأن تَزِلَّ قدمه أو يقع في حفرة أو غير ذلك من الأضرار، واستدلوا لذلك بحديث: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر" (¬3) وعللوا لذلك أيضًا بأنهم قالوا إن الإسفار فيه تكثير للجماعة، وفي التغليس تقليل لها، فكان الأفضل الإسفار. واستثنوا من ذلك صلاة الفجر بمزدلفة يوم النحر، فإنهم قالوا بأنه يستحب فيها التغليس. وهذا عند جميع الفقهاء (¬4). قلنا: والذي يظهر أن الأولى للإمام أن يدخل في الصلاة بالتغليس وينصرف في الإسفار هذا هو الذي تقتضيه الأدلة، وهذا هو ما رجحه الطحاوي -رحمه الله- في شرح معاني الآثار (¬5). أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر" فليس معناه تأخير الصلاة حتى يسفر الفجر، وإنما معناه أن الإِمام يطيل في صلاة الفجر، ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يطيل في صلاة الفجر ليخرج منها في الإسفار، فعن أبي بَرْزَةَ الأسلمي قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف من الصبح، فينظر الرجل إلى وجه جليسه الذي يعرف فيعرفة" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت الفجر، برقم (553). (¬2) تبيين الحقائق، للزيلعي (1/ 82). (¬3) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الصلاة، باب ما جاء في الإسفار بالفجر، والحديث صححه الألباني في صحيح سنن الترمذيُّ (1/ 52)، برقم (154). (¬4) جواهر الإكليل (1/ 51)، وحاشية الدسوقي (1/ 248). (¬5) شرح معاني الآثار (1/ 179). (¬6) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها، وهو التغليس، وبيان قدر القراءة فيها، برقم (647).

بم تدرك صلاة الصبح؟

قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -حين سئل عن تأخر البعض عن صلاة الفجر حتى الإسفار معللين ذلك بما ورد في الحديث: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر" (¬1) - قال: "هذا الحديث لا يخالف الأحاديث الصحيحة الدالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الصبح بَغَلَسٍ، ولا يخالف أيضًا حديث: "الصلاة لوقتها" (¬2)، وإنما معناه عند جمهور أهل العلم تأخير صلاة الفجر إلى أن يتضح الفجر ثم تؤدى قبل زوال الغَلَسِ كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤديها، إلا في مزدلفة فإن الأفضل التبكير بها من حين طلوع الفجر؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، وبذلك تجتمع الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -في وقت أداء صلاة الفجر، وهذا كله على سبيل الأفضلية" (¬3). بم تدرك صلاة الصبح؟ اختلف الفقهاء في ذلك؛ فمذهب الشافعية (¬4) والحنابلة (¬5) أن الصلاة تدرك بتكبيرة الإحرام، واستدلوا لذلك بحديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا: "من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس أو من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدركها" (¬6) فقالوا: السجدة جزء من الصلاة، فدل على إدراكها بإدراك جزء منها. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الصلاة، باب ما جاء في الإسفار بالفجر، والحديث صححه الألباني في صحيح سنن الترمذيُّ (1/ 52)، برقم (154). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب التوحيد، باب وسمى النبي الصلاة عملًا، برقم (7096)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، برقم (85). (¬3) مجموع فتاوى ومؤلفات الشيخ (10/ 392). (¬4) مغني المحتاج (11/ 127). (¬5) المغني (2/ 18). (¬6) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد، باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة، برقم (609).

ثانيا: وقت صلاة الظهر

والصحيح: أن الصلاة تدرك بإدراك ركعة، وهذا هو إحدى الروايتين عن أحمد (¬1). ثانيًا: وقت صلاة الظّهر: من خلال الحديث المتقدم -أعني حديث جبريل حين أمّ النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة- يتضح لنا أن وقت الظهر يبدأ من زوال الشمس عن وسط السماء تجاه الغرب، ولا يصح أداء الصلاة قبل الزوال. بماذا يعرف الزوال؟ يعرف بأن تغرز خشبة مستوية في الأرض والشمس ما زالت في المشرق، فما دام ظل الخشبة ينتقص فالشمس قبل الزوال. فإذا لم يكن للخشبة ظل أو تم نقص الظل بأن كان الظل أقل ما يكون، فالشمس في وسط السماء، وهو الوقت الذي تمنع فيه الصلاة؛ فإذا انتقل الظل من المغرب إلى المشرق وبدأ في الزيادة، فقد زالت الشمس عن وسط السماء ودخل وقت الظهر، وهذا هو أول وقت الظهر. أما آخر وقت الظهر: 1 - فذهب جمهور الفقهاء (¬2) إلى أن آخر وقت الظهر حين يصير ظل كل شيء مثله، سوى فيء الزوال، واستدلوا لذلك بالحديث المتقدم، وفيه: "أنه صلى به الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله" (¬3). ¬

_ (¬1) المغني (2/ 17، 18). (¬2) انظر في ذلك: مواهب الجليل (1/ 382)، مغني المحتاج (1/ 121، 122)، كشاف القناع (1/ 250 - 251). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في المواقيت، برقم (393)، والترمذيُّ في كتاب أبواب الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم (149). واللفظ للترمذي، وقال: "حسنٌ صحيحٌ، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-".

الأفضلية في أداء صلاة الظهر

2 - وذهب أبو حنيفة (¬1) إلى أن نهاية وقت الظهر حين يبلغ ظل الشيء مثليه، سوى فيء الزوال، واحتجوا لذلك بأدلة منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فَيْحِ جهنم" (¬2) قالوا: والإبراد لا يكون إلا إذا كان ظل كل شيء مثليه، لا سيما في البلاد الحارة كالحجاز. الراجح: يتبين من ذلك رجحان ما ذهب إليه الجمهور من أن آخر وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شيء مثله سوى فيء الزوال؛ لدلالة السنة على ذلك. وهذا هو اختيار الشيخ محمَّد بن العثيمين (¬3). الأفضلية في أداء صلاة الظهر: الأفضل في صلاة الظهر تعجيلها؛ لقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (¬4)، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها" (¬5) أي: حين دخول وقتها. لكن مع شدة الحر يكون الأفضل تأخيرها حتى ينكسر الحر؛ لثبوت ذلك عن النبي حيث قال: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة؛ فإن شدة الحر من فَيْحِ جهنم" (¬6). وحد الإبراد إلى قرب صلاة العصر، دليل ذلك ما رواه البخاري من ¬

_ (¬1) فتح القدير مع الهداية (1/ 93)، بدائع الصنائع (1/ 123). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، رقم (513). (¬3) الشرح الممتع (2/ 107). (¬4) سورة البقرة: 148. (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها، برقم (504)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، برقم (85). (¬6) أخرجه البخاريُّ في كتاب مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، برقم (510)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر لمن يمضي إلى جماعة ويناله الحر في طريقه، برقم (615).

ثالثا: وقت صلاة العصر

حديث أبي ذر قال: كنا مع النبي في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أبرد" ثم أراد أن يؤذن، فقال له: "أبرد" حتى رأينا فيء التُّلُول، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن شدة الحر من فَيْحِ جهنم" (¬1). لكن: هل الإبراد لمن يصلي جماعة أم يجوز الإبراد وإن كان المصلي منفردًا؟ على قولين لأهل العلم: فمنهم من قال بأن الإبراد لمن يصلي جماعة أو يكون بيته بعيدًا فيتضرر بالذهاب إلى الصلاة (¬2). وقال بعضهم: لا يشترط ذلك، بل يجوز الإبراد بالظهر ولو صلى وحده. وهذا هو المذهب عند الحنابلة (¬3)، وهذا هو الصحيح. قلنا: وإذا كانت المساجد فيها الإبراد بالوسائل الحديثة من المكيفات والمراوح وما شابه ذلك، فإنه لا ينبغي التأخر عن صلاة الظهر بحجة الإبراد؛ لأن الإبراد حاصل في المساجد ولله الحمد، فليس هناك عذر في التخلف عن صلاة الجماعة، اللَّهم إلا إذا كان البيت بعيدًا جدًا يحصل به الضرر على المصلي من شدة الحر، فهنا يجوز له الإبراد والصلاة وحده. ثالثًا: وقت صلاة العصر: اختلف الفقهاء في مبدأ صلاة العصر: 1 - فذهب الجمهور (¬4) إلى أن مبدأ صلاة العصر من حين الزيادة على المثل، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والإقامة، برقم (603)، ومسلمٌ في كتاب المساجد، باب استحباب الإبراد بالظهر، رقم (616). (¬2) المغني (2/ 36). (¬3) المرجع السابق. (¬4) انظر في ذلك: جواهر الإكليل (1/ 32)، مغني المحتاج (1/ 121، 122)، كشاف القناع (1/ 252)، المغني (2/ 14).

واحتجوا لذلك بحديث إمامة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدم ذكره. 2 - وذهب أبو حنيفة (¬1) إلى أن مبدأ صلاة العصر يكون من حين الزيادة على المثلين. 3 - وذهب أكثر المالكية (¬2) إلى أن وقت الظهر والعصر يتداخلان، بمعنى أنه لو صلى شخص صلاة الظهر عندما يكون ظل كل شيء مثله وآخر صلى العصر في نفس هذا الوقت، كانت صلاتهما أداء، واحتجوا لذلك بظاهر حديث إمامة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: "أنه صلى به العصر في اليوم الأول في الوقت الذي صلى فيه الظهر في اليوم الثاني" (¬3) الأمر الذي يدل على تداخل الوقتين. والصحيح: أنه لا تداخل بين وقت الظهر ووقت العصر، بل متى خرج وقت الظهر فإنه يدخل وقت العصر، وخروج وقت الظهر بأن يكون ظل كل شيء مثله، متى زاد على ذلك أدنى زيادة فقد دخل وقت العصر، هذا ما ذهب إليه الموفق في المغني (¬4) وهو ما ذهب إليه الشافعية (¬5) أيضًا. أما آخر وقت العصر فهو ما لم تغب الشمس -أي: قبيل الغروب- وهذا هو مذهب الجمهور (¬6). وذهب المالكية في إحدى الروايات عنهم إلى أن آخر ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 195). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 177). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في المواقت، برقم (393)، والترمذيُّ في كتاب أبواب الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم (149). واللفظ للترمذي، وقال: "حسنٌ صحيحٌ، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-". (¬4) المغني (2/ 14). (¬5) مغني المحتاج (1/ 122). (¬6) حاشية ابن عابدين (1/ 241)، مغني المحتاج (1/ 122)، كشاف القناع (1/ 163).

رابعا: وقت صلاة المغرب

وقت العصر ما لم تصفر الشمس (¬1). والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور من أن صلاة العصر يكون آخرها ما لم تغلب الشمس، أي: قبيل المغرب. بقليل، ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر" (¬2). رابعًا: وقت صلاة المغرب: اتفق الفقهاء (¬3) على أن أول وقت صلاة المغرب يكون بغروب الشمس وتكامل غروبها. وقد نقل ابن قدامة الإجماع على ذلك (¬4). أما آخر وقتها عند جمهور الفقهاء ما لم يغب الشفق، واستدلوا على ذلك بما رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وقت المغرب ما لم يغب الشفق" (¬5). والمشهور عند المالكية (¬6) وهو الجديد عند الشافعية (¬7) أن للمغرب وقتًا واحدًا، وهو بقدر ما يتطهر المصلي ويستر عورته ويؤذن ويقيم للصلاة. والصحيح: هو ما ذهب إليه الجمهور من أن آخر وقت المغرب ما لم يغب الشفق، أي: وقت الحمرة -فإذا غابت الحمرة فقد خرج وقت المغرب. ¬

_ (¬1) الحطاب مع المواق (1/ 390). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك من الفجر ركعة، برقم (544)، ومسلمٌ في كتاب المساجد، باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة، برقم (608). (¬3) بدائع الصنائع (1/ 123)، الحطاب (1/ 391)، جواهر الإكليل (1/ 32، 33)، مغني المحتاج (1/ 122)، المغني (2/ 25). (¬4) المغني (1/ 25). (¬5) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد، باب أوقات الصلوات الخمس، برقم (612). (¬6) جواهر الإكليل (1/ 32، 33). (¬7) مغني المحتاج (1/ 123).

الأفضلية في أداء صلاة المغرب

الأفضلية في أداء صلاة المغرب: يسن تعجيل صلاة المغرب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصليها إذا وجبت، أي: إذا وجبت الشمس وغربت، فيبادر بها، لكن المبادرة ليس معناها أنه إذا أذن يقيم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب" ثم قال: "لمن شاء" (¬1) وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- يصلون قبل المغرب، ويدل على ذلك أيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بين كل أذانين صلاة" (¬2) وهو عام في المغرب وغيرها، ومن هنا نعلم أن التعجيل ليس معناه أن يقيم للصلاة حينما ينتهي من الأذان، بل يتأخر بمقدار الوضوء والركعتين وما شابه ذلك. واستثنى الفقهاء من استحباب التعجيل لصلاة المغرب حالة واحدة؛ وهي ليلة مزدلفة للحجاج، فإن المستحب في حقه أن لا يصلي المغرب في عرفة ولا في الطريق بل يصليها في مزدلفة جمعًا مع العشاء؛ لفعله - صلى الله عليه وسلم -. لكن إذا خاف خروج وقت العشاء صلى المغرب والعشاء في الطريق، وبخاصة في الزحام الشديد، فإننا نرى بعض الناس لا يصل إلى مزدلفة إلا بعد خروج وقت العشاء، فهنا نقول بأنه يجب عليه أن ينزل فيصلي المغرب والعشاء وإن لم يصل إلى مزدلفة، فإن لم يمكنه النزول صلى ولو على ظهر راحلته -في السيارة أو غيرها- ويأتي بما استطاع من الأركان والشرائط، وما لم يستطع الإتيان به فإنه يسقط، فلا واجب مع عدم القدرة، ولا محرم مع الضرورة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في أبواب التطوع، باب الصلاة قبل المغرب، برقم (1128). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب كم بين الأذان والإقامة ومن ينتظر الإقامة، برقم (598)، ومسلمٌ في كتاب فضائل القرآن وما يتعلق به، باب بين كل أذانين صلاة، برقم (838). من حديث عبد الله بن مغفل المزني.

خامسا: وقت صلاة العشاء.

خامسًا: وقت صلاة العشاء. اتفق الفقهاء (¬1) على أن وقت صلاة العشاء حين يغيب الشفق، لكنهم اختلفوا في معنى الشفق؛ فالجمهور على أن الشفق هو الحمرة، وذهب أبو حنيفة (¬2) إلى أن الشفق هو البياض الذي يظهر في جو السماء بعد ذهاب الحمرة التي تعقب غروب الشمس، والفرق بين الشفقين ما يعادل اثنتي عشرة دقيقة. أما نهاية وقت العشاء فهو محل خلاف بين الفقهاء: 1 - فالحنفية والشافعية وغير المشهور عند المالكية أن آخر وقت العشاء حين يطلع الفجر الصادق (¬3). واحتجوا لذلك بما رواه الترمذيُّ وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أول وقت العشاء حين يغيب الشفق، وآخره حين يطلع الفجر" (¬4). 2 - يرى المالكية في المشهور عندهم أن آخر وقت العشاء إلى ثلث الليل؛ لحديث إمامة جبريل المتقدم وفيه: "أنه صلاها -يعني: العشاء- في اليوم الثاني في ثلث الليل" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: بداية المجتهد (1/ 51 - 52)، جواهر الإكليل (1/ 33)، ونهاية المحتاج (1/ 353 - 354). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 94 - 95). (¬3) المراجع السابقة. (¬4) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم (285)، والحديث ليس فيه: "وآخره حين يطلع الشمس" وهذه الزيادة غير موجودة عند الترمذيّ وغيره، ولذلك قال ابن حجر: "لم أجدها -يعني: هذه الزيادة- ومن هنا كان الحديث بهذا اللفظ ضعيفًا لكن الشطر الأول منه صحيح". (¬5) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الصلاة، باب مواقيت الصلاة، باب منه. والحديث صححه الألباني في صحيح سنن الترمذيُّ (1/ 71) برقم (151).

3 - أما الحنابلة فيرون أن آخر وقت العشاء الاختياري إلى نصف الليل، وبعده إلى طلوع الفجر وقت ضرورة، يعني: يكون لمريض شفي من مرضه أو حائضٍ أو نفساء ونحو ذلك. والصحيح من هذه الأقوال أن آخر وقت العشاء هو نصف الليل، والأدلة على ذلك ظاهرة، منها: 1 - حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ... ووقت العشاء إلى نصف الليل .... " (¬1). 2 - حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-، وفيه "أن جبريل -عليه السلام- جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: قم فصل" وذكر الحديث بطوله، وفيه: "ثم جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل، أو قال: ثلثه، فصلى العشاء" إلى أن قال: "ما بين هذين وقت" (¬2). 3 - حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم - "إن للصلاة أولًا وآخرًا ... وأول وقت العشاء الآخرة حين يغيب الشفق وإن آخر وقتها حين ينتصف الليل" (¬3). فهذه الأدلة بعمومها تدل على أن آخر وقت العشاء نصف الليل، وهذا ثابت من قوله وفعله - صلى الله عليه وسلم -. ولهذا كان الراجح هو أن آخر وقت صلاة العشاء هو نصف الليل. وهذا هو اختيار الشيخين (¬4) رحمهما الله. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد، باب أوقات الصلوات الخمس، برقم (612). (¬2) أخرجه النسائي في كتاب المواقيت، باب أول وقت العشاء، برقم (526). وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (488)، والترمذيُّ في أبواب الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، رقم (149). وصححه الألباني، برقم (127) (¬3) أخرج الترمذيُّ في أبواب الصلاة، باب مواقيت الصلاة باب منه. والحديث صححه الألباني في صحيح سنن الترمذيّ (1/ 71)، برقم (151). (¬4) مجموع فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله (10/ 386)، والشرح الممتع، لشيخنا محمَّد الصالح العثيمين رحمه الله (2/ 115).

الأفضلية في أداء صلاة العشاء

الأفضلية في أداء صلاة العشاء: 1 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (¬1) والحنابلة (¬2) وهو قول عند الشافعية (¬3)، إلى أن تأخير العشاء مستحب إلى ثلث الليل، واستدلوا على ذلك بما رواه البخاري ومسلمٌ عن أبي برزة -رضي الله عنه- قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستحب أن يؤخر العشاء" (¬4). وبحديث عمر -رضي الله عنه- أيضًا حينما أخر النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء، فقال له عمر -رضي الله عنه-: نام النساء والصبيان، فخرج رسول الله ورأسه يقطر ماء، وقال: "إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي" (¬5). واستدلوا أيضًا بحديث جابر -رضي الله عنه- وفيه أنه قال: "إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أَبْطَوْا أخر" (¬6). وأيضًا احتجوا بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه" (¬7). فهذه الأدلة احتج بها الجمهور على أن الأفضل هو تأخير صلاة العشاء، ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 246). (¬2) المغني، لابن قدامة (2/ 42 - 44). (¬3) مغني المحتاج (1/ 126). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب المواقيت، باب وقت العصر، برقم (522)، ومسلمٌ في كتاب المساجد، باب استحباب التبكير بالصبح إلى أول وقتها، برقم (643). (¬5) أخرجه مسلمٌ في كتاب الساجد، باب وقت العشاء وتأخيرها، برقم (638). (¬6) أخرجه البخاريُّ في كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت المغرب، برقم (535)، ومسلمٌ في كتاب المساجد، باب استحباب التبكير بالصبح، برقم (646). (¬7) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الصلاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في تأخير صلاة العشاء الآخرة، برقم (167)، وصححه الألباني رقم (141).

لكن قيد بعض الحنفية (¬1) هذا الحكم بأنه يستحب تأخير العشاء بالشتاء، وتعجيلها بالصيف. 2 - وذهب المالكية (¬2) والصحيح من القولين عند الشافعية إلى أن الأفضل للفذ والجماعة التي لا تنتظر غيرها تقديم الصلوات، ولو عشاء في أول وقتها المختار بعد تحقق دخوله، وقالوا: لا ينبغي تأخير العشاء إلا لمن يريد تأخيرها لشغل مهم. والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور من أن الأفضل للعشاء هو تأخيرها؛ لصراحة الأدلة على ذلك، لكن هذا مع مراعاة أحوال الناس، والأولى بلا شك هو مراعاة الناس كما هو ظاهر من حديث عمر، فخروجه - صلى الله عليه وسلم - ورأسه يقطر ماء إنما هو لمراعاة أحوال الناس، فمتى رأى الجماعة قد اجتمعوا صلى وإن تأخروا أخر، وإن كان جماعة لا يهمهم التعجيل ولا التأخير فالأفضل التأخير. أما النساء في بيوتهن فالأفضل لهن التأخير إن سهل عليهن، وبهذا تجتمع الأدلة (¬3). هل الأولى مراعاة تأخير صلاة العشاء إلى آخر الوقت أم الأولى مراعاة صلاة الجماعة؟ الجواب: صلاة الجماعة واجبة، وتأخير العشاء مستحب، ولا مقارنة بين الواجب والمستحب، فنقول بأن الواجب عليه أنه إذا كانت الجماعة تعجل العشاء فالواجب عليه أن يصلي معهم ولا يؤخر الصلاة؛ مراعاة للواجب (¬4). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 246). (¬2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (1/ 180). (¬3) انظر في ذلك: الشرح الممتع، لشيخنا (2/ 116). (¬4) انظر في ذلك: الشرح الممتع (1/ 116).

أركان الصلاة

أركان الصلاة تعريف الركن: الركن في الصلاة: هو ما لا تصح الصلاة بدونه، وتركه يوجب البطلان، سواء كان عمدًا أو سهوًا. وأركان الصلاة عند الفقهاء منها ما هو متفق عليه بينهم، ومنها ما هو مختلف فيه، وسنبين ذلك مع بيان الراجح من أقوالهم. الركن الأول: تكبيرة الإحرام: ذهب جمهور الفقهاء (¬1) إلى أن تكبيرة الإحرام فرض من فروض الصلاة، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (¬2)، وقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬3) هذه الأوامر مقتضاها الافتراض، ولم تفرض خارج الصلاة فوجب أن يراد بها الافتراض الواقع في الصلاة؛ إعمالًا للنصوص في حقيقتها (¬4)، واستدلوا على ذلك أيضًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: عمدة القارئ (5/ 268)، فتح القدير (1/ 239)، حاشية الدسوقي (1/ 231)، نيل المآرب (1/ 134) (¬2) سورة المدثر: 3. (¬3) سورة البقرة: 238. (¬4) فتح القدير (1/ 239). (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب فرض الوضوء، برقم (61)، وصححه الألباني في الإرواء (2/ 9) برقم (301)، والترمذيُّ في أبواب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، برقم (3) من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.

أحكام تتعلق بتكبيرة الإحرام

ومع اتفاق الجمهور على فرضية تكبيرة الإحرام، فقد اختلفوا: هل هي شرط أم ركن؟ 1 - فالجمهور على أنها ركن لا تصح الصلاة إلا بها. 2 - وذهب الحنفية إلى أنهما شرط خارج الصلاة، وليست من نفس الصلاة. والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور من كون تكبيرة الإحرام ركنًا، دليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" (¬1). وجه الدلالة من الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل التكبير كالقراءة. وأيضًا من الأدلة على ركنيتها أنه يشترط لها ما يشترط للصلاة، من استقبال القبلة والطهارة وستر العورة، ولولا أنهما من الأركان لجاز كسائر الشروط. أحكام تتعلق بتكبيرة الإحرام: 1 - يجب أن يأتي المصلي بتكبيرة الإحرام قائمًا، فإن لم يستطع فقاعدًا فإن لم يستطع فعلى جنب، فإن لم يستطع فمستلقيًا. لكن بماذا يتحقق القيام المأمور به؟ يكون القيام بنصب الظهر، فلا يجزئ إيقاع تكبيرة الإحرام جالسًا أو منحنيًا، وهذا يخطئ فيه كثير من الناس. دليل ما ذكرناه حديث عمران بن حصين حيث كانت به بواسير، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب" (¬2) وفي ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، برقم (537) من حديث معاوية بن الحكم السلمي -رضي الله عنه-. (¬2) أخرجه البخاريُّ في أبواب تقصير الصلاة، باب إذا لم يطق قاعدًا صلى على جنب، وقال عطاء: إن لم يقدر أن يتحول إلى القبلة صلى حيث كان وجهه، برقم (1066).

رواية عند البيهقي: "فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الأيمن صلى مستلقيًا رجله مما يلي القبلة" (¬1). 2 - يجب على المصلي النطق بتكبيرة الإحرام بحيث يسمع نفسه، إلا أن يكون به عارض من طرش أو ما يمنعه السماع، فيأتي به بحيث لو كان سميعًا لأتى به. أما إن كان عاجزًا عن النطق بها لخرس به، فإنها تسقط عنه باتفاق الفقهاء، لكن هل يلزم الأخرس تحريك لسانه بها؟ على خلاف بين الفقهاء: أ- فالمالكية (¬2) والحنابلة (¬3) وهو الصحيح عند الحنفية (¬4) أنه لا يجب على الأخرس تحريك لسانه، وإنما يجب عليه الإحرام بقلبه؛ لأن تحريك لسانه عبث رقم يرد الشرع به. ب- وعند الشافعية (¬5) يجب على الأخرس تحريك لسانه وشفتيه قدر إمكانه. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من عدم وجوب تحريك لسان الأخرس. 3 - هل يجوز الإتيان بتكبيرة الإحرام بغير العربية؟ أ- ذهب المالكية (¬6) والشافعية (¬7) والحنابلة (¬8) وأبو يوسف ومحمَّد من ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقيُّ في كتاب الصلاة، باب ما روي في كيفية الصلاة على الجنب أو الاستلقاء وفيه نظر، رقم (3493). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 233). (¬3) كشاف القناع (1/ 331)، المغني (2/ 830). (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 324). (¬5) مغني المحتاج (1/ 152). (¬6) الشرح الصغير (1/ 424). (¬7) المجموع (3/ 260). (¬8) المغني (2/ 129، 130).

الحنفية (¬1)، إلى أنه من كان يحسن العربية فإنه لا تجوز تكبيرة الإحرام منه بغيرها. وأجاز أبو حنيفة (¬2) كونها بغير العربية وإن كان يحسن العربية، وقال بأنه لو افتتح الصلاة بالفارسية وهو يحسن العربية، أجزأه. ب- وقال المالكية بعدم إجزائها بغير العربية وإن كان لا يحسن العربية، فمتى عجز عن النطق بها بغير العربية، سقطت ككل فرض. والصحيح: أنه لا تجوز تكبيرة الإحرام بغير العربية لمن كان يحسنها، أما من كان لا يعرف العربية ولا يستطيع النطق بها فإنه يكبر بلغته، ولا حرج عليه؛ لأنه لا يستطيع غيرها، دليل ذلك قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬3)، وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬4)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬5). 4 - هل تنعقد الصلاة بقول المصلي: "الله أَجَلُّ"، "الله أعظم" ونحو ذلك من ألفاظ التعظيم، أم يلزم الإتيان بقول: "الله أكبر"؟ أ- المذهب عند المالكية (¬6) والحنابلة (¬7) أنه لا تنعقد الصلاة إلا بقول: "الله أكبر" ولا يجزئ عندهم غيرها. ¬

_ (¬1) بداع الصنائع (1/ 131). (¬2) المرجع السابق. (¬3) سورة التغابن: 16. (¬4) سورة البقرة: 286. (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله، برقم (6858) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬6) الشرح الصغير على أقرب المسالك (1/ 423). (¬7) المغني (2/ 129).

ب- وذهب أبو حنيفة (¬1) إلى صحة الشروع في الصلاة بكل ذكر هو ثناء خالص لله تعالى يراد به تعظيمه لا غير، مثل أن يقول: "الله الأكبر الله الكبير، الله أجل، الله أعظم" أو يقول: "الحمد لله، سبحان الله" ونحو ذلك من صيغ التعظيم. والصحيح ما ذهب إليه المالكية والحنابلة من أنه لا يجزئ الإتيان بغير "الله أكبر"، دليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وتحريمها التكبير" (¬2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - للمسيء صلاته: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر" (¬3) وأيضًا فإنه - صلى الله عليه وسلم -: "كان يفتتح الصلاة بها" (¬4) ولم ينقل عنه العدول عنها حتى فارق الدنيا، بل لم يُنْقَلْ عن صحابتِه الكرامِ العدولُ عنها إلى غيرها، ولا عن التابعين لهم بإحسان. وكذلك فإن ألفاظ الذكر في الصلاة توقيفية، فما ورد فيه النص لا يجوز إبداله بغيره. ومن هنا نعلم أنه لا يجزئ الإتيان بغير تكبيرة الإحرام. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 130). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب فرض الوضوء، برقم (61)، والترمذيُّ في كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، برقم (3)، وصححه الألباني في الإرواء (2/ 9)، برقم (301) من حديث علي. (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر وما يجهر فيها وما يخافت، برقم (724)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وأنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها، قرأ ما تيسر له من غيرها، برقم (397). (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من لم ير الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، برقم (783) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

الركن الثاني: قراءة الفاتحة

الركن الثاني: قراءة الفاتحة: 1 - ذهب المالكية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3) إلى أن قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة، فتجب قراءتها في كل ركعة من كل صلاة فرضًا أو نفلًا جهرية كانت أو سرية. احتجوا لذلك بما رواه البخاري ومسلمٌ من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (¬4). 2 - وذهب الحنفية (¬5) إلى أن قراءة الفاتحة ليست ركنًا من أركان الصلاة، بل هي واجبة وتتحقق القراءة بآية غيرها من القرآن، واحتجوا لذلك بقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (¬6). وبالقول بوجوبها في الصلاة أخذ الشيخ عبد العزيز بن باز (¬7). والذي يظهر أنها واجبة في السرية على المأموم، وأما في الجهرية فيتحملها الإِمام عنه، لكن يتأكد في حق المأموم أن يقرأها في سكتات الإِمام، وبهذا تجتمع الأدله، وهذا هو ما رجحه شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬8). ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 231 - 236). (¬2) مغني المحتاج (1/ 155). (¬3) كشاف القناع (1/ 336، 386). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر وما يجهر فيها وما يخافت، برقم (723) ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وأنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها، قرأ ما تيسر له من غيرها، برقم (394). (¬5) حاشية ابن عابدين (1/ 300). (¬6) سورة المزمل: 20. (¬7) مجموع فتاوى الشيخ رحمه الله (11/ 218 - 219). (¬8) مجموع الفتاوى (22/ 295).

الركن الثالث: الركوع

الركن الثالث: الركوع: انعقد الإجماع على ركنية الركوع في الصلاة، دليل ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (¬1). ومن السنة حديث المسيء صلاته، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثم اركع حتى تطمئن راكعًا" (¬2). الركن الرابع: الاعتدال من الركوع: وهو ركن في الفرض والنفل؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث المسيء صلاته: "ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا" (¬3) ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - داوم عليه، كما ذكر ذلك أبو حميد في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال: "فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فَقَارٍ مكانه" (¬4). وتصف أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فتقول: "وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائمًا" (¬5) وعن أبي مسعود الأنصاري البدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجزئ صلاة لا يقيم فيها الرجل -يعني- صلبه في الركوع والسجود" (¬6). ¬

_ (¬1) سورة الحج: 77. (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم، رقم (724)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، برقم (397). (¬3) المرجع السابق. (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب سنة الجلوس في التشهد، برقم (794). (¬5) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به ... ، رقم (498). (¬6) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الصلاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء فيمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، برقم (265) وقال: حسنٌ صحيحٌ، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذيُّ (1/ 84) رقم (217).

حد الاعتدال المأمور به شرعا

حد الاعتدال المأمور به شرعًا: الاعتدال هو القيام مع الطمأنينة بعد الرفع من الركوع. والطمأنينة في الاعتدال، عرفها الشافعي (¬1) بأنها: هي أن تستقر أعضاء المصلي على ما كان قبل ركوعه بحيث ينفصل ارتفاعه عن عوده إلى ما كان عليه. أما حد الاعتدال فقد صرح المالكية (¬2) بأنه أن لا يكون منحنيًا، وعند الحنابلة (¬3) ما لم يصر راكعًا، وقالوا بأن كمال الاعتدال هو الاستقامة حتى يعود كل عضو محله. والصواب أن يقال بأن حد الاعتدال من الركوع هو أن يكون الظهر منتصبًا، وإن كان ظهره منحنيًا إلى حد الركوع فليس بمعتدل، ولا تصح صلاته إلا مع العجز، وإن كان إنحناؤه لظهره قليلًا أجزأه، لكن الأكمل هو أن يعود كل فقار إلى مكانه، كما جاءت السنة به. الركن الخامس: السجود: هذا هو الركن الخامس من أركان الصلاة، وقد انعقد الإجماع على ركنية السجود؛ لقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (¬4)، وكما جاء في حديث المسيء صلاته، وفيه: "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا" (¬5). ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 165). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 241). (¬3) كشاف القناع (1/ 387)، مطالب أولي النهي (1/ 446). (¬4) سورة الحج: 77. (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم، رقم (724)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، برقم (397) ..

حد السجود المأمور به

حد السجود المأمور به: حد السجود المأمور به في الصلاة هو أن يسجد المصلي على الأعضاء السبعة: الجبهة مع الأنف، واليدين، والركبتين، والقدمين. وهذا كله ركن مع القدرة. دليل ذلك ما رواه البخاري ومسلمٌ عن ابن عباس مرفوعًا: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة -وأشار بيده إلى أنفه- واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين" (¬1)، أما عند عجز المصلي عن السجود بجبهته فقد قال الحنابلة (¬2): يسقط عنه لزوم باقي الأعضاء؛ لأن الجبهة هي الأصل في السجود وغيرها تبع لها، فإذا سقط الأصل سقط التبع. والصحيح: أنه إذا كان المصلي يستطيع أن يوميء بحيث يكون إلى السجود التام أقرب منه إلى الجلوس التام، فإنه يلزمه أن يسجد على بقية الأعضاء فيدنو من الأرض بقدر ما يمكنه ثم يضع يديه، دليل ذلك عموم قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬4). الركن السادس: الجلوس بين السجدتين. هذا هو الركن السادس من أركان الصلاة، دليل ذلك حديث المسيء صلاته ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب السجود على الأنف، برقم (779)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب أعضاء السجود والنهي عن كف الشعر والثوب وعقص الرأس في الصلاة، برقم (490). (¬2) سورة التغابن: 16. (¬3) سورة التغابن: 16. (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله، برقم (6858) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

الركن السابع: الجلوس للتشهد الأخير

وفيه: "ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا" (¬1) وحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالسًا" (¬2). الركن السابع: الجلوس للتشهد الأخير: هذا هو الركن السابع من أركان الصلاة، وقد اتفق الفقهاء على ركنية الجلوس مع اختلافهم: هل الجلوس للتشهد الأخير أم هو للسلام فقط؟ 1 - فالشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) على أن الجلوس هو للتشهد الأخير. 2 - وذهب المالكية (¬5) إلى أن الجلوس للسلام فقط، وعلى قولهم هذا لو تشهد المصلي قائمًا ثم جلس للسلام من الصلاة، فصلاته صحيحة. والصحيح: أن الجلوس يكون للتشهد والسلام، فلو قام المصلي وقرأ التشهد فإنه لا يجزئه؛ لأنه ترك ركنًا وهو الجلسة، فلا بد أن يجلس للتشهد والسلام. الركن الثامن: التشهد الأخير: اختلف الفقهاء في ركنية التشهد الأخير في الصلاة: 1 - فذهب الشافعية (¬6) والحنابلة (¬7) إلى أن التشهد الأخير ركن في الصلاة؛ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم، رقم (724)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، برقم (397). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به ويختم به وصفة الركوع والاعتدال منه والسجود والاعتدال منه والتشهد بعد كل ركعتين من الرباعية وصفة الجلوس بين السجدتين وفي التشهد الأول، برقم (498). (¬3) مغني المحتاج (1/ 171). (¬4) كشاف القناع (1/ 388). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 240). (¬6) مغني المحتاج (1/ 172). (¬7) كشاف القناع (1/ 388).

حد التشهد الذي هو ركن

إذا تركه المصلي بطلت صلاته. 2 - وذهب المالكية (¬1) إلى أن التشهد الأخير سنة وليس بفرض. والصحيح: ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة، وهو القول بركنية التشهد الأخير؛ فمتى تركه المصلي في صلاته بطلت، دليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا جلس أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات لله، والصلوات الطيبات لله ... " (¬2) ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله ويداوم عليه، وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬3). حد التشهد الذي هو ركن: حدّ التشهد الذي هو ركن أن يقول المصلي: "التحيات لله، والصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله" هذا هو حدّ التشهد المأمور به شرعًا. الركن التاسع: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير: اختلف الفقهاء في ركنية الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -: 1 - فالشافعية (¬4) والحنابلة (¬5) قالوا بركنيتها؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬6)، وكذلك حديث بشير بن سعد أنه قال ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 243). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الاستئذان، باب السلام اسم من أسماء الله تعالى، رقم (5876). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة، برقم (605) من حديث مالك بن الحويرث -رضي الله عنه-. (¬4) مغني المحتاج (1/ 72). (¬5) كشاف القناع (1/ 388). (¬6) سورة الأحزاب: 56.

الركن العاشر: التسليم

للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، أمرنا الله أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك؟ فسكت، ثم قال: "قولوا: اللَّهم صل على محمَّد وعلى آل محمَّد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللَّهم بارك على محمَّد وعلى آل محمَّد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" (¬1)، وأيضًا فعله - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يصلي على نفسه وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬2). 2 - وفي رواية أخرى عند الحنابلة (¬3) أنها واجبة وليست بركن، فتجبر بسجود السهو عند النسيان. 3 - ويرى المالكية (¬4) أن الصلاة على النبي ليست بركن ولا بواجب، بل هي سنة، وهي رواية أخرى عند الحنابلة (¬5)، ولو تعمد الإنسان تركها فصلاته صحيحة. والذي يظهر -والله أعلم- أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - واجبة في التشهد الأخير من كل صلاة، وهذا هو قول ابن قدامة (¬6)، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (¬7). الركن العاشر: التسليم: هذا هو الركن العاشر من أركان الصلاة، ومعنى التسليم هو قول المصلي: السلام عليكم ورحمة الله. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد، برقم (405). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة ... ، برقم (605) من حديث مالك بن الحويرث -رضي الله عنه-. (¬3) المغني (2/ 228 - 229). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 243). (¬5) المغني (2/ 228 - 229). (¬6) المغني (2/ 228). (¬7) فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 13).

لو اقتصر المصلي على تسليمة واحدة فهل يجزئ؟

وبركنية التسليم قال المالكية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3)، واستدلوا على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وتحليلها التسليم" (¬4) وحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله يختم الصلاة بالتسليم" (¬5). لو اقتصر المصلي على تسليمة واحدة فهل يجزئ؟ هذه المسألة محل خلاف بين الفقهاء: 1 - فالمالكية (¬6) والشافعية (¬7) وبه قال ابن قدامة في المغني (¬8) يرون أن الواجب تسليمة واحدة، أما الثانية فهي سنة. 2 - وذهب الحنابلة (¬9) إلى وجوب التسليمتين. والصحيح القول بوجوب التسليمتين، فالواجب على المصلي أن يسلم من الصلاة عن يمينه وشماله، وهذا هو المحفوظ من فعله - صلى الله عليه وسلم - في الصلوات، دليل ذلك حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم عن يمينه ويساره: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله" (¬10). وعن عامر بن سعد -رضي الله عنهما- عن أبيه ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 241). (¬2) مغني المحتاج (1/ 177). (¬3) كشاف القناع (11/ 361). (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب فرض الوضوء، برقم (61)، وصححه الألباني في الإرواء (2/ 9)، برقم (301)، والترمذيُّ في أبواب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، برقم (3) من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. (¬5) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح به ويختتم به، برقم (498). (¬6) حاشية الدسوقي (1/ 241). (¬7) مغني المحتاج (1/ 177). (¬8) المغني (2/ 243). (¬9) كشاف القناع (1/ 361). (¬10) أخرجه الترمذيُّ في كتاب الصلاة، باب ما جاء في التسليم في الصلاة، برقم (295)، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب التسليم، برقم (916).

حكم زيادة لفظة: "وبركاته" في التسليم

قال: "كنت أرى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خده" (¬1). وهذان الحديثان وما في معناهما يستدل بهما على مشروعية التسليمتين، وأنه هو الواجب في الصلاة نفلًا كانت أو فرضًا، وبالقول بوجوب التسليمتين أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬2). حكم زيادة لفظة: "وبركاته" في التسليم: قال بعضهم: الأفضل أنه لا يزيد -وهو المشهور من مذهب أحمد (¬3) - لا في التسليمة الأولى ولا في التسليمة الثانية. وقال بعضهم: بل يزيد في التسليمة الأولى: "وبركاته" دون الثانية. والصحيح: أن يقال: لا بأس بزيادة لفظة: "وبركاته" في التسليمة الأولى؛ لورود ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعن وائل بن حجر -رضي الله عنه-: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله" (¬4). لكن لا يداوم عليها، بل يفعلها أحيانًا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يداوم عليها، ولأن رواة الاختصار على "رحمة الله" أكثر وطرقها أصح، بخلاف الرواية الثانية. إذا اقتصر المصلي على قوله "السلام عليكم" هل يجزئ؟ محل خلاف بين العلماء: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السلام للتحليل من الصلاة عند فراغها وكيفيته، رقم (582). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 68 - 69)، برقم (2294). (¬3) المغني (2/ 245)، منتهى الإرادات (1/ 221). (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في السلام، برقم (997)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم (878).

الركن الحادي عشر: الطمأنينة

1 - فالمذهب عند المالكية (¬1) والشافعية (¬2) أنه يجزئه ذلك. 2 - والمشهور عند الحنابلة (¬3) أنه لا يجزئ "السلام عليكم"، فإذا لم يقل: "ورحمة الله" في غير صلاة الجنازة، لم يجزئه. والصحيح: أنه يجزئه ذلك، فالواجب: "السلام عليكم"، أما زيادة: "ورحمة الله" فهي سنة وليست بواجب، دليل ذلك ما رواه مسلم من حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا: السلام عليكم، السلام عليكم" (¬4) فلم يذكر: "ورحمة الله"، فدل هذا على أنه إذا اقتصر المصلي على "السلام عليكم" أجزأه ذلك. وهذه هي إحدى الروايتين عن أحمد (¬5). الركن الحادي عشر: الطمأنينة: لا بد من الطمأنينة في جميع الأركان سابقة الذكر. أما معناها فقال بعض الفقهاء: الطمأنينة هي السكون وإن قل، وهذا هو رواية عن الحنابلة (¬6)، وفي رواية أخرى: أن الطمأنينة هي السكون بقدر الذكر الواجب. والفرق بين المعنيين: أن المعنى الأول أنه إن سكن سكونًا قليلًا -حتى وإن لم يتمكن من الذكر الواجب- فصلاته صحيحة. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 241). (¬2) المغني (2/ 245). (¬3) مغني المحتاج (1/ 361). (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب الأمر بالسكون في الصلاة والنهي عن الإشارة باليد ورفعها بعد السلام، برقم (431)، (121). (¬5) الإنصاف (3/ 567). (¬6) كشاف القناع (1/ 387)، الإنصاف (3/ 667).

دليل ركنية الطمأنينة في الصلاة

أما على المعنى الثاني: فإنه لابد من السكون حتى يتمكن من الإتيان بالذكر المشروع كسبحان ربي العظيم أو سبحان ربي الأعلى، فإن لم يتمكن من الإتيان به فصلاته باطلة على هذا المعنى، وهذا هو المعنى الصحيح للطمأنينة فلا بد من استقرار الأعضاء زمنًا بحيث يتمكن المصلي من الإتيان بالذكر الواجب داخل الصلاة. دليل ركنية الطمأنينة في الصلاة: حديث المسيء صلاته، حيث ذكر فيه - صلى الله عليه وسلم - الطمأنينة في جميع الصلاة. وأيضًا ما رواه البخاري عن حذيفة -رضي الله عنه-: "أنه رأى رجلًا يصلي ولا يتم الركوع ولا السجود، فقال له: ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدًا - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). الركن الثاني عشر: ترتيب الأركان: أي لابد أن يأتي بها كما جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يقدم السجود على الركوع. حكم من ترك ركنًا من الأركان التي سبق ذكرها: المتروك إما أن يكون تكبيرة الإحرام وإما غيرها؛ فمن ترك تكبيرة الإحرام عمدًا أو سهوًا لم تنعقد صلاته، ومن ترك ركنًا غير تكبيرة الإحرام عمدًا بطلت صلاته. أما تركه سهوًا ففيه تفصيل، وذلك كما يأتي: أولًا: إن وصل المصلي إلى موضع تركه من الركعة التالية، ألغيت الركعة التي نسي فيها الركن وقامت الثانية مقامها ويسجد للسهو بعد السلام ثم يسلم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب إذا لم يتم الركوع، برقم (758).

عقب سجوده. مثاله: نسي قراءة الفاتحة في الركعة الأولى، فلما نهض إلى الركعة الثانية تذكر أنه نسي قراءة الفاتحة، فهنا يلغي الركعة الأولى وتقوم الثانية مقامها. ثانيًا: إن لم يصل إلى موضع الركن المتروك سهوًا عاد إليه فأتى به وبما بعده وجوبًا، وسجد بعد السلام، وسلم عقب سجوده. مثاله: نسي المصلي قراءة الفاتحة ثم تذكر أثناء سجوده أنه لم يقرأ الفاتحة، فهنا يقوم من سجوده الذي هو فيه ثم يقرأ الفاتحة، ولا يعتد بما أداه سابقًا بل يأتي بالركوع والسجود مرة أخرى. ثالثًا: إن تذكر المصلي بعد الصلاة أنه ترك ركنًا من الأركان، فهذا حاله لا يخلو من أمرين: 1 - إذا لم يفصل فاصل طويل، وكان قريب الوقت من الصلاة، فإنه يقوم دون تكبير، وأتى بركعة كاملة مع التشهد الأخير والسلام، ثم يسجد للسهو ويسلم. 2 - إذا فصل فاصل زمن طويل، فإنه يعيد الصلاة؛ لبطلانها بترك ركن من أركانها.

واجبات الصلاة

واجبات الصلاة تعريف الواجب وحدُّه في الصلاة: الواجب هو ما أمر به الشارع على وجه الإلزام. وحدّه في الصلاة أنه ما تبطل الصلاة بتركه عمدًا ويسقط جهلًا ويجبر به سجود السهو سهوًا. وواجبات الصلاة لم يقل بها سوى الحنفية والحنابلة مع وجود الاختلاف في هذه الواجبات في المذهبين. الواجبات التي دلت عليها الأدلة فهي: أولًا: تكبيرات الانتقال. أي: جميع التكبيرات سوى تكبيرة الإحرام فهي -كما ذكرنا- ركن من أركان الصلاة. وقد اختلف الفقهاء في هذا الواجب: 1 - فذهب جمهور الفقهاء (¬1) إلى أن تكبيرات الانتقال سنة، واحتجوا لذلك بحديث المسيء في صلاته، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - علَّمه صلاته فعلمه واجباتها وذكر فيها تكبيرة الإحرام ولم يذكر تكبيرات الانتقال، فقالوا: وهذا موضع البيان ووقته ولا يجوز تأخيره عنه. 2 - وذهب الحنابلة (¬2) إلى القول بوجوب تكبيرات الانتقال، واحتجوا لذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك فعله. ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: المجموع، للنووي (3/ 397)، الفتاوى الهندية (1/ 72)، حاشية الدسوقي (1/ 249)، عمدة القاري (6/ 58). (¬2) المغني (2/ 169 - 170).

أما دليل القول فهو ثابت بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا ... " (¬1). وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء -يعني مواضعه- ثم يكبر ويحمد الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ويثني عليه ويقرأ بما تيسر من القرآن، ثم يقول: الله أكبر ثم يركع حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حتى يستوي قائمًا، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله ... " (¬2). فهذا الحديث والذي قبله نص في وجوب التكبير للانتقال. أما دليل فعله - صلى الله عليه وسلم - فقد روى أبو داود وغيره عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنه كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها: يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، ثم يقول: ربنا ولك الحمد قبل أن يسجد، ثم يقول: الله أكبر حين يهوي ساجدًا، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يقوم من الجلوس في اثنتين، فيفعل ذلك في كل ركعة حتى يفرغ من الصلاة، ثم يقول حين ينصرف: والذي نفسي بيده إني لأقربكم شبهًا بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا" (¬3). وروى البخاري ومسلمٌ أيضًا عن مطرف -رضي الله عنه- قال: "صليت أنا وعمران ابن الحصين خلف علي بن أبي طالب، فكان إذا سجد كبر وإذا رفع رأسه كبر وإذا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب إنما جعل الإِمام ليؤتم به، برقم (656)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، برقم (412) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) أخرج أبو داود في كتاب الصلاة، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، برقم (857). والحديث صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 161) برقم (761). (¬3) أخرج أبو داود في كتاب الصلاة، باب تمام التكبير، برقم (836) وصححه الألباني (1/ 158) برقم (745).

محل تكبيرات الانتقال

نهض من الركعتين كبر. فلما انصرفنا من الصلاة قال: أخذ عمران بيدي ثم قال: لقد صلى بنا هذا صلاة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -أو قال: قد ذكرني هذا صلاة محمد - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). فهذه أدلة فعله - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي ... " (¬2). وهذا ثابت عن صحابته الكرام حيث إنهم لم يتركوا التكبير للركوع والسجود وغير ذلك. عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في كل خفض ورفع وقيام وقعود، وأبو بكر وعمر" (¬3). الراجح من القولين: هو ما ذهب إليه الحنابلة من وجوب تكبيرات الانتقال؛ لقوة الأدلة وصراحتها في الوجوب. محل تكبيرات الانتقال: تكون تكبيرات الانتقال أثناء الانتقال؛ فلو كبر للركوع مثلًا يكون التكبير في حال هُوِيِّهِ إلى الركوع، فلا يبدأ قبله ولا يؤخره. ومن هنا نعلم خطأ بعض الأئمة في هذا الأمر، فإنهم إما أن يقدموا التكبير على الركن أو يؤخروه حتى يصلوا إلى الركن، أي: لا يأتون به فيما بين الركنين؛ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب إتمام التكبير في السجود، برقم (753)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة؛ إلا رفعه من الركوع فيقول فيه: سمع الله لمن حمده، برقم (393) واللفظ لمسلم. (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب يكبر وهو ينهض من السجدتين، برقم (792)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة، إلا رفعه من الركوع فيقول فيه: سمع الله لمن حمده، برقم (393). (¬3) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الصلاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في التكبير عند الركوع والسجود، برقم (253).

تكبيرة المسبوق

لاجتهادات عندهم خاطئة. لكن إن ابتدأ التكبير قبل الهُوِيِّ إلى الركوع وأتمه بعده، فلا حرج، ولو ابتدأ حين الهوي وأتمه بعد وصوله إلى الركوع، فلا حرج، لكن الأفضل أن يكون فيما بين الركنين بحسب الإمكان. تكبيرة المسبوق: إذا أدرك المسبوق الإِمام راكعًا فهل يأتي بتكبيرة الإحرام ثم يأتي بتكبيرة الانتقال؟ نقول بأنه إذا دخل المسبوق في الصلاة والإمام راكع، فالذي يلزمه أن يأتي بتكبيرة الإحرام؛ لأنها ركن، أما تكبيرة الركوع فإن شاء كبر وإن شاء لم يكبر؛ لأن التكبيرة الصغرى هنا تدخل في الكبرى، وتكبيرة الركوع في هذه الحالة تكون في حقه مستحبة. هكذا قال أهل العلم. ثانيًا: قول: "سمع الله لمن حمده" للإمام والمنفرد: هذا هو الواجب الثاني من واجبات الصلاة وهو قول الإِمام والمنفرد: "سمع الله لمن حمده" دليل ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به فقال: "لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ -إلى قوله- ثم يقول: سمع الله لمن حمده" (¬1). وأيضًا: هذا ثابت من فعله - صلى الله عليه وسلم -، كما ذكرنا عند الكلام على تكبيرات الانتقال. وبوجوب التسميع على الإِمام والمنفرد قال الحنابلة (¬2)،وخالف الجمهور (¬3) فقالوا بسنية ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، برقم (857). (¬2) كشاف القناع (1/ 348)، مطالب أولي النهي (1/ 446). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 334)، حاشية الدسوقي (1/ 243)، مغني المحتاج (1/ 165).

ثالثا: قول الإمام والمنفرد والمأموم: "ربنا ولك الحمد"

والصحيح هو وجوب التسميع والتحميد، وذلك لما يأتي: 1 - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر به وفعله وواظب عليه، رقم يَدَعْ قول: "سمع الله لمن حمده" بأي حال من الأحوال. 2 - أن التحميد والتسميع شعار الانتقال من الركوع إلى القيام. 3 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قال الإِمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد" (¬1). الصحيح: أن الواجب في حق المأموم أن يأتي يقول: "ربنا لك الحمد"؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قال الإِمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد". أما ما ذهب إليه البعض (¬2) من وجوب قول المأموم: "سمع الله لمن حمده " احتجاجًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، فنقول بأن هذا عام، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قال الإِمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد"، فهذا خاص، والخاص يقضي على العام فيكون المأموم مستثنًى من هذا العموم. ثالثًا: قول الإمام والمنفرد والمأموم: "ربنا ولك الحمد": يرى الجمهور (¬3) أن قول ذلك سنة. والصحيح وجوب ذلك وهو قول الحنابلة (¬4)؛ للأدلة التي ذكرناها آنفا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب فضل اللَّهم ربنا ولك الحمد، برقم (763)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين، برقم (409). (¬2) وبه قال الصنعاني في سبل السلام (1/ 347). (¬3) المراجع السابقة. (¬4) المراجع السابقة.

رابعا: قول "سبحان ربي العظيم" مرة في الركوع

رابعًا: قول "سبحان ربي العظيم" مرة في الركوع: هذا هو الواجب الرابع من واجبات الصلاة؛ لما روى حذيفة -رضي الله عنه-: "أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى" (¬1) وهو القائل - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬2). وجاء فيما رواه أبو داود وأحمدُ وغيرهم: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزل قول الله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (¬3)، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اجعلوها في ركوعكم"، ولما نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (¬4)، قال: "اجعلوها في سجودكم" (¬5). وبوجوب ذلك قال الحنابلة (¬6)، وهو قول الشيخين: ابن باز وابن العثيمين (¬7)، وهو الصحيح؛ لهذه الأدلة المذكورة. أما الجمهور فيرون سنية ذلك؛ احتجاجًا بما جاء في حديث المسيء صلاته، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر فيها أنه يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم" وفي سجوده: "سبحان ربي الأعلى". ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم (871)، والنسائيُّ في السنن الكبرى، كتاب التطبيق، باب الذكر في الركوع، برقم (634). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب يكبر وهو ينهض من السجدتين، برقم (792)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة، إلا رفعه من الركوع فيقول فيه: سمع الله لمن حمده، برقم (393). (¬3) سورة الواقعة: 74. (¬4) سورة الأعلى: 1. (¬5) أخرجه أحمد في المسند، برقم (17450)، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم (869)، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب التسبيح في الركوع والسجود، برقم (887). (¬6) منار السبيل (1/ 88). (¬7) فتاوى سماحة الشيخ (1/ 28)، الشرح الممتع (3/ 317).

خامسا: قول: "رب اغفر لي" بين السجدتين

خامسًا: قول: "رب اغفر لي" بين السجدتين: هذا هو الواجب الخامس من واجبات الصلاة، وبوجوبه قال الحنابلة (¬1). والجمهور على أن ذلك سنة. والصحيح هو وجوب ذلك؛ لأنه ثابت من فعله - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬2). أما دليل قوله - صلى الله عليه وسلم - لذلك، فقد قال حذيفة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بين السجدتين: "رب اغفر لي" (¬3). سادسًا: التشهد الأول: هذا هو الواجب السادس من واجبات الصلاة، وبوجوبه قال الحنفية (¬4) والحنابلة (¬5). وذهب المالكية (¬6) والشافعية (¬7) إلى سنية التشهد الأول. واحتجوا لذلك بما جاء في الصحيحين: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام من ركعتين من الظهر ولم يجلس، فلما قضى صلاته كبر وهو جالس فسجد سجدتين قبل السلام ¬

_ (¬1) منار السبيل (1/ 88). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب يكبر وهو ينهض من السجدتين، برقم (792)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة إلا رفعه من الركوع فيقول فيه: سمع الله لمن حمده، برقم (393). (¬3) أخرج أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم (874)، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما يقول بين السجدتين، برقم (897). (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 312). (¬5) كشاف القناع (1/ 347). (¬6) حاشية الدسوقي (1/ 243). (¬7) مغني المحتاج (1/ 172).

سابعا: الجلوس للتشهد الأول

ثم سلم" (¬1). والصحيح ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة من وجوب التشهد الأول؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله وداوم عليه وأمر به وسجد للسهو حين نسيه، وهذا هو الأصل المعتمد عليه في سائر الواجبات، لسقوطها بالسهو وانجبارها بالسجود (¬2). سابعًا: الجلوس للتشهد الأول: هذا هو الواجب السابع، وهو واجب على غير من قام إمامه سهوًا ولم ينبه، فيسقط عنه حينئذ التشهد الأول ويتابع إمامه وجوبًا. دليل ذلك حديث عبد الله بن بحينة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام في صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين فكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم، وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس" (¬3). وبوجوب الجلوس للتشهد الأول ذهب الحنفية (¬4) والحنابلة (¬5)، وذهب المالكية (¬6) والشافعية (¬7) إلى سنيته. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في أبواب السهو، باب ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفريضة، برقم (1167)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، برقم (570). (¬2) الشرح الممتع (3/ 323). (¬3) أخرجه البخاريُّ في أبواب السهو، باب من يكبر في سجدتي السهو، برقم (1173)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، برقم (570). (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 312). (¬5) كشاف القناع (1/ 347). (¬6) حاشية الدسوقي (1/ 247). (¬7) مغني المحتاج (1/ 172).

حكم من ترك واجبا من هذه الواجبات عند من قال بها؟

حكم من ترك واجبًا من هذه الواجبات عند من قال بها؟ من ترك شيئًا من هذه الواجبات ففيه تفصيل: 1 - إن تركها متعمدًا بطلت صلاته. 2 - إن تركها ناسيًا فلا يخلو من أمور: الأمر الأول: أن يذكره قبل أن يفارق محله من الصلاة، فيأتي به ولا شيء عليه. الأمر الثاني: أن يذكره بعد مفارقته محله قبل أن يصل إلى الركن الذي يليه، فيرجع ويأتي به ثم يكمل صلاته ويسلم ثم يسجد للسهو ويسلم. الأمر الثالث: أن يذكره بعد وصوله الركن الذي يليه، فلا يرجع إليه ويستمر في صلاته ويسجد للسهو قبل السلام.

سنن الصلاة

سنن الصلاة السنن: هي الأفعال التي لا تبطل الصلاة بتركها عمدًا أو سهوًا، واستحباب سجود السهو لها محل نظر عند أهل العلم. وسنن الصلاة هي: رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام: اتفق الفقهاء على أنه يسن للمصلي عند تكبيرة الإحرام أن يرفع يديه، دليل ذلك ما رواه البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "كان يرفع يديه حَذْوَ منكبيه إذا افتتح الصلاة" (¬1). وضع اليد اليمنى على اليسري: أ- ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (¬2) والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) إلى أن من سنن الصلاة وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة. ب- وخالف في ذلك المالكية (¬5) فقالوا: يندب الإرسال. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من سنية وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة. دليل ذلك: عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة، قال أبو حاتم: لا أعلمه إلا أنه ينمي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء؛ برقم (702). (¬2) بدائع الصنائع (2/ 523). (¬3) مغني المحتاج (1/ 152). (¬4) كشاف القناع (1/ 333). (¬5) مواهب الجليل (1/ 537).

(يرفع) ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). وجاء عن رسول الله أنه قال: "إنا معشرَ الأنبياءِ أمرنا بتعجيل فطرنا وتأخير سحورنا ووضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة" (¬2). وعن جابر -رضي الله عنه- قال: "مرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رجل وهو يصلي وقد وضع يده اليسرى على يده اليمنى، فانتزعها ووضع اليمنى على اليسرى" (¬3). فهذه الأدلة تدل على سنية وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة. قال ابن عبد البر: "لم تختلف الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب، ولا أعلم أحدًا عن الصحابة في ذلك خلافًا إلا شيء روي عن الزبير أنه كان يرسل يديه إذا صلى، وقد روي عنه خلافه مما قدمنا ذكر عنه ... - إلى قوله- وعلى هذا جمهور التابعين وأكثر فقهاء المسلمين من أهل الرأي والأثر ... إلى أن قال: فهذا ما روي عن بعض التابعين في هذا الباب، وليس بخلاف؛ لأنه لم يثبت عن واحد منهم كراهيته، ولو ثبت ذلك ما كانت فيه حجة؛ لأن الحجة في السنة لمن اتبعها، ومن خالفها فهو محجوج بها، ولا سيما سنة لم يثبت عن واحد من الصحابة خلافه" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب وضع اليمنى على اليسرى، برقم (707). (¬2) أخرجه الطبرانيُّ في المعجم الكبير، برقم (11485)، وصححه الألباني في صفة الصلاة (ص: 87). (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (3/ 381) برقم (15131). (¬4) فتح البر في التمهيد الفقهي، لابن عبد البر (4/ 564).

كيفية قبض اليدين في الصلاة

كيفية قبض اليدين في الصلاة: 1 - ذهب الحنفية (¬1) والحنابلة (¬2) إلى أن وضع اليدين تحت السرة -أي: يسن للمصلي أن يضعها تحت السرة. 2 - وذهب الشافعية (¬3) إلى أنه يسن وضع اليدين تحت الصدر وفوق السرة. والصحيح هو أن يضع المصلي يده اليمنى على يده اليسرى على صدره لا تحت السرة ولا تحت الصدر؛ لحديث وائل بن حُجْرٍ: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره" (¬4). وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر بعد القيام من الركوع: اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: أن وضع اليدين على الصدر بعد القيام من الركوع من السنن المستحبة في الصلاة، وهذا قول القاضي أبي يعلى من الحنابلة. قال الإِمام شمس الدين بن مفلح الحنبلي المقدسي في النكت على المحرر: "لم يذكر حكم يديه بعد الرفع من الركوع، قال الإِمام أحمد: إن شاء أرسلها وإن شاء وضع يمينه على شماله. وقطع به القاضي في الجامع؛ لأنه حالة قيام في الصلاة فأشبه قبل الركوع؛ لأنه حالة بعد الركوع فأشبه حالة السجود والجلوس ... " (¬5). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 321 - 327). (¬2) كشاف القناع (1/ 333). (¬3) مغني المحتاج (1/ 181). (¬4) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، كتاب الصلاة، باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة قبل افتتاح القراءة، برقم (479)، وصححه الألباني. (¬5) المحرر في الفقه (1/ 61).

وباستحباب وضع اليدين على الصدر قبل الركوع وبعده، أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬1)، وهو قول الشيخين ابن باز وابن العثيمين (¬2). القول الثاني: أنه لا يشرع وضع اليدين على الصدر بعد الركوع وبه قال بعض العلماء، منهم الألباني (¬3) -رحمه الله-. والصحيح من القولين هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول؛ وذلك لوجوه، منها: الوجه الأول: أن الأحاديث التي ذكرناها في مشروعية وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة في حال القيام، لم يذكر فيها تفصيل قبل الركوع أم بعد الركوع، والأصل عدمه حتى يأتي دليل يدل على أنه قبل الركوع فقط. الوجه الثاني: حديث وائل بن حجر، ففيه التصريح بذلك حيث قال بأنه: "رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبض يمينه على شماله إذا كان قائمًا في الصلاة" (¬4). الوجه الثالث: أن العلماء ذكروا أن الحكمة في وضع اليمين على الشمال أنه أقرب للخشوع والتذلل وأبعد عن العبث، وهذا المعنى مطلوب قبل الركوع وبعد الركوع، فلا يجوز أن يفرق بين الحالين إلا بنص ظاهر ثابت يجب المصير إليه. ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (11/ 350) فتوى رقم (181) ورقم (2139). (¬2) مجموع فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (11/ 131) تحت عنوان: أين يضع يديه بعد الرفع من الركوع؟ ومجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمَّد صالح العثيمين (13/ 165 - 166). (¬3) صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، (ص: 139). (¬4) أخرجه النسائي، في كتاب الافتتاح، باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة، برقم (886) وصححه الألباني.

دعاء الافتتاح

الوجه الرابع: أن الأصل بقاء ما كان حتى يأتي دليل ينقله عن أصله، فالأصل وضع اليدين حال القيام قبل الركوع على الصدر، فهي كذلك توضع حال القيام بعد الركوع على الصدر، إلا إذا كان هناك دليل ناقل عن الأصل فيصار إليه. ومن هنا كانت السنة هي وضع اليدين على الصدر بعد القيام من الركوع. دعاء الافتتاح: 1 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يسن للمصلي أن يأتي بدعاء الاستفتاح بعد تكبيرة الإحرام، واحتجوا لذلك بأدلة منها: حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استفتح الصلاة قال: "سبحانك اللَّهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جَدُّكَ ولا إله غيرك" (¬1). 2 - وذهب المالكية (¬2) إلى كراهية دعاء الاستفتاح، واحتجوا لذلك بحديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر-رضي الله عنهما- كانوا يفتتحون الصلاة بـ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬3). وكذلك حديث المسيء صلاته فليس فيه استفتاح. والصحيح أن دعاء الاستفتاح سنة؛ لحديث عائشة المذكور. الزيادة على قراءة الفاتحة: اتفق الفقهاء على أنه من السنة أن يقرأ المصلي بعد قراءة الفاتحة في الركعتين الأوليين من الصلاة، شيئًا من القرآن. والسنة في القراءة أن يقرأ في الصبح بطوال ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللَّهم وبحمدك، برقم (776). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 252). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب ما يقول بعد التكبير، برقم (710).

التأمين

المفصل، ويقرأ في الظهر والعصر والعشاء بأوساط المفصل، وفي المغرب يقرأ بقصار المفصل. كما يسن تطويل القراءة في الركعة الأولى على الثانية في الصلوات المفروضة. التأمين: اتفق الفقهاء على أن التأمين بعد قراءة الفاتحة سنة؛ لما رواه البخاري عن أبي هريرة مرفوعًا: "إذا قال الإِمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬1). التأمين سنة للمصلي عمومًا، سواء كان إمامًا أو مأمومًا أو منفردًا، لكن استثنى المالكية (¬2) من ذلك الإِمام في الصلاة الجهرية، فإنه لا يندب له التأمين عندهم. والصحيح أنه يندب له التأمين، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمّن الإِمام فأمّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬3). لكن هل يجهر بالتأمين في الصلاة الجهرية أم يسن الإسرار؟ محل خلاف بين الفقهاء: أ- فذهب الحنفية (¬4) والمالكية (¬5) إلى أن الإتيان بالتأمين يكون سرًا؛ وذلك لأنه دعاء والأصل فيه الإخفاء. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب جهر المأموم بالتأمين، برقم (749). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 248). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب جهر الإِمام بالتأمين، برقم (747)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين، برقم (410). (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 320 - 321). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 248).

رفع اليدين عند الركوع والرفع منه والقيام للركعة الثالثة

ب- وذهب الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) إلى أن التأمين يسن الجهر به في الصلاة الجهرية ويسر به في الصلاة السرية، وهذا هو الصحيح. رفع اليدين عند الركوع والرفع منه والقيام للركعة الثالثة: اختلف الفقهاء في جعل ذلك من السنة: أ- فالشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) على أن ذلك من السنة؛ لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام في الصلاة رفع يديه حتى تكونا حَذْوَ منكبيه، وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع، ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع" (¬5) وعن الحسن أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يفعلون ذلك (¬6). قال الإِمام البخاري: "رواه سبعة عشر من الصحابة، ولم يثبت عن أحد منهم عدم الرفع" (¬7). هذا عند الركوع وعند الرفع منه. أما عند القيام للركعة الثالثة في الصلاة الثلاثية والرباعية، فقيل: يندب الرفع. وهي رواية عن الإِمام أحمد (¬8) وهي المذهب عند الشافعية (¬9). ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 160). (¬2) كشاف القناع (1/ 339). (¬3) مغني المحتاج (1/ 162). (¬4) كشاف القناع (1/ 346). (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع، برقم (703). (¬6) أخرجه البخاريُّ في جزء رفع اليدين (ص: 80). (¬7) المرجع السابق. (¬8) كشاف القناع (1/ 363). (¬9) مغني المحتاج (1/ 164).

تنبيه

واحتجوا لذلك بحديث نافع: أن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه. ورفع ذلك ابن عمر إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). والرواية الثانية عن أحمد عدم الرفع، وهي المذهب عند الحنابلة (¬2). والراجح أنها سنة. ب- أما الحنفية (¬3) والمالكية (¬4) فلا يرون رفع اليدين إلا في تكبيرة الإحرام، فلا يشرع رفعهما عند الركوع ولا عند الرفع منه أو القيام إلى الركعة الثالثة. والصحيح ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة من سنية رفع اليدين في الأمور المذكورة. تنبيه: ذهب بعض أهل العلم إلى سنية رفع اليدين في كل رفع وخفض، فمع كل تكبيرة يقولون بسنية الرفع لليدين. والصحيح أنه لا يسن ذلك إلا في الأمور المذكورة آنفًا، فما سواها لا يشرع فيه الرفع. واحتجاجهم بحديث: "كان يرفع يديه عند كل تكبيرة" (¬5)، عام يخصص بما رواه ابن عمر عنه - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب رفع اليدين إذا قام من الركعتين، برقم (706). (¬2) المرجع السابق للحنابلة. (¬3) تبيين الحقائق (1/ 120). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 247). (¬5) أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب رفع اليدين إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع، برقم (865) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 143)، رقم (705) من حديث ابن عباس -رضي الله عنه-.

الجهر في الصلاة الجهرية والإسرار في الصلاة السرية

الجهر في الصلاة الجهرية والإسرار في الصلاة السرية: يسن للمصلي أن يجهر بالقراءة في الصلاة الجهرية؛ وهي الفجر والمغرب والعشاء، والإسرار في الصلاة السرية؛ وهي الظهر والعصر؛ لورود ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. عن جبير بن مُطْعِمٍ قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور" (¬1)، وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} في العشاء، ما سمعت أحدًا أحسن صوتًا أو قراءة منه" (¬2). أما الإسرار: فعن أبي معمر قال: "سألنا خبابًا: أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم، قلنا: بأي شيء كنتم تعرفون؟ قال: باضطراب لحيته" (¬3). وضع اليدين مفرجتي الأصابع على الركبتين في الركوع: دليل ذلك حديث عقبة بن عمرو قال: "ألا أصلي لكم كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي؟ فقلنا: بلى، فقام، فلما ركع وضع راحتيه على ركبتيه وجعل أصابعه من وراء ركبتيه ... ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، وهكذا كان يصلي بنا" (¬4). البداية بوضع الركبتين قبل اليدين في السجود: وقد اختلف الفقهاء في هذه الكيفية على قولين: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب الجهر في المغرب، برقم (731)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب القراءة في الصبح، برقم (463). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب القراءة في العشاء، برقم (735)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء، برقم (464). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب القراءة في الظهر، برقم (726). (¬4) أخرجه النسائي في كتاب التطبيق، باب مواضع أصابع اليدين في الركوع، برقم (1037). وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (1/ 223) برقم (992).

القول الأول: أن السنة هي وضع الركبتين قبل اليدين حين الهوي إلى السجود. وهذا هو قول جمهور الفقهاء من الحنفية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3)، وهو قول الشيخين ابن باز وابن العثيمين (¬4). استدلوا لذلك بما روي عن وائل بن حجر -رضي الله عنه- قال: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه" (¬5) وكان عمر -رضي الله عنه- وابن مسعود يفعلان ذلك (¬6). القول الثاني: وهو قول المالكية (¬7) وإحدى الروايتين عن أحمد (¬8) وهو قول أصحاب الحديث (¬9)، وبه قال أحمد شاكر (¬10) والألباني (¬11) وغيرهم، أن المصلي الأفضل في حقه تقديم اليدين على الركبتين عند السجود، واحتجوا لذلك بأدلة منها: 1 - حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: "إذا سجد أحدكم فلا يَبْرُكْ ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 325). (¬2) مغني المحتاج (1/ 170). (¬3) كشاف القناع (1/ 350). (¬4) مجموع فتاوى سماحة الشيخ (11/ 159)، مجموع فتاوى ورسائل الشيخ (13/ 217). (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه؟ برقم (838)، والترمذيُّ في أبواب الصلاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في وضع الركبتين قبل اليدين في السجود، برقم (268). (¬6) انظر: شرح معاني الآثار، للطحاوي (1/ 256). (¬7) حاشية الدسوقي (1/ 250). (¬8) المحرر (1/ 63)، المبدع (1/ 452). (¬9) عون المعبود (1/ 311) (¬10) تحقيق سنن الترمذيّ، لأحمد شاكر (2/ 59). (¬11) صفة صلاة النبي، للألباني (ص: 122).

كما يَبْرُكُ البعير وليضع يديه قبل ركبتيه" (¬1). 2 - بوّب البخاري لذلك بابًا قال فيه: "باب يَهْوِي بالتكبير حين سجد، وقال نافع: كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يضع يديه قبل ركبتيه" (¬2). وفي رواية: قال نافع: "كان ابن عمر يضع يديه قبل ركبتيه ويقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك" (¬3). قالوا: فهذا ابن عمر -رضي الله عنهما- وهو أشد الصحابة متابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - يصف هُوِيَّ النبي بالسجود أنه يقدم يديه على ركبتيه، فيكون بروك البعير خلافه. قال الأوزاعي: "أدركت الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم" (¬4)، وقالوا أيضًا: إن ركبة البعير في يده، كما جاء ذلك عند أعلام أهل اللغة كعلقمة والأسود وذكر ذلك الأزهري (¬5). قال الإِمام الطحاوي: "إن البعير ركبتاه في يديه وكذلك سائر البهائم وبنو آدم ليسوا كذلك" (¬6). فإذا كانت ركبة البعير في يده والبعير حين يخر إنما يخر على ركبتيه اللتين في يده ويرمي بنفسه على الأرض فيحدث سقوطه صوتًا، فأمر الرسول بمخالفة ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه؟ برقم (840)، والنسائيُّ في كتاب التطبيق، باب أول ما يصل إلى الأرض من الإنسان في سجوده، برقم (1091) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 158). (¬2) كتاب صفة الصلاة، والأثر علقه البخاري بصيغة الجزم تحت حديث رقم (770). (¬3) وأخرجه ابن خزيمة في كتاب الصلاة، باب البدء بوضع الركبتين على الأرض قبل اليدين إذا سجد المصلي، برقم (626) وصححه الألباني في صحيح ابن خزيمة. (¬4) صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - (ص: 122). (¬5) تهذيب اللغة (10/ 216). (¬6) شرح معاني الآثار، للطحاوي (1/ 254).

توجيه أصابع القدمين حال السجود إلى القبلة

البعير في ذلك، وأمر بتقديم اليدين على الركبتين. والذي يظهر -والله أعلم- أن الأمر في ذلك واسع، ولله الحمد، فمن رأى أن السنة تقديم الركبتين فعل ذلك، ومن رأى أن السنة تقديم اليدين فعل ذلك؛ لصحة الأخبار المنقولة عن السلف في ذلك. توجيه أصابع القدمين حال السجود إلى القبلة: لحديث أبي حميد في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ... فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة ... " (¬1). الافتراش في التشهد الأول والتورك في التشهد الأخير: دليل ذلك حديث أبي حميد في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ... فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته" (¬2). وقد اختلف الفقهاء في هذه السنة: أ- فالحنفية (¬3) ذهبوا إلى التفريق بين الرجل والمرأة؛ فالرجل يسن له الافتراش، والمرأة يسن لها التورك، لا فرق بين التشهد الأول والأخير أو الجلسة بين السجدتين. ب- أما المالكية (¬4) فالمسنون عندهم هو التورك في جميع جلسات الصلاة، والمرأة والرجل في ذلك سواء. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب سنة الجلوس في التشهد، برقم (794). (¬2) المرجع السابق. (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 321)، الفتاوى الهندية (1/ 75). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 249).

جلسة الاستراحة

ج- أما الشافعية (¬1) فالمشهور عندهم التورك في كل تشهد بعده سلام. د- وأما الحنابلة (¬2) فالمسنون عندهم أن الافتراش يكون في بقية الجلسات، والتورك في التشهد الأخير من الثلاثية والرباعية. وهذا هو الصحيح؛ لما ذكرناه من الأدلة، ويستوي في ذلك الرجل والمرأة؛ حيث لم ترد نصوص تدل على التفريق، والأصل هو المساواة حتى يأتي دليل يدل على التفريق. جلسة الاستراحة: يسن للمصلي أن يأتي بجلسة عند القيام من السجود للركعة الثانية أو الرابعة في الصلاة الرباعية؛ لما رواه الترمذيّ عن أبي حميد الساعدي -رضي الله عنه- في صفة صلاة النبي بعد أن ذكر السجدتين: " ... ثم قال: الله أكبر، ثم ثنى رجله وقعد، واعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه، ثم نهض، ثم صنع في الركعة الثانية مثل ذلك ... " (¬3). وكذلك حديث مالك بن الحويرث -رضي الله عنه-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رفع رأسه من السجدة الثانية استوى قاعدًا، ثم اعتمد على الأرض، ثم قام" (¬4). ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 172). (¬2) كشاف القناع (1/ 356، 363). (¬3) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الصلاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في وصف الصلاة، برقم (304) وصححه الألباني. (¬4) أخرجه البخاريُّ في صفة الصلاة، باب كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة؟ برقم (790).

الإشارة بالسبابة عند الذكر

وقد اختلف الفقهاء فيها على قولين: القول الأول: يكره فعلها؛ تنزيهًا لمن ليس به عذر، وهذا هو قول الحنفية (¬1) والمالكية (¬2) والحنابلة (¬3). فمن كان يشق عليه القيام مباشرة فليجلس، ومن لا يشق عليه فلا يجلس. القول الثاني: أنها تستحب مطلقًا، وهذا هو قول الشافعية (¬4) ورواية في مذهب أحمد (¬5) اختارها الخلال، وهذا هو اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز (¬6)، وبذلك أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬7). والأظهر هو ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني من أنها سنة مطلقًا وذلك لأمرين: الأول: أن الأصل في فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يفعلها ليقتدى به. الثاني: ثبوت هذه الجلسة في حديث أبي حميد الساعدي المتقدم. الإشارة بالسَّبَّابة عند الذكر: اتفق الفقهاء على أنه يسن للمصلي أن يشير بسبابته أثناء التشهد، ودليل ذلك ما رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثة ¬

(¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 940). (¬2) القوانين الفقهية (68)، نهاية المحتاج (1/ 518). (¬3) المغني (1/ 530). (¬4) فتح الباري (1/ 131). (¬5) المغني (1/ 531). (¬6) مجموع فتاوى سماحة الشيخ (11/ 99). (¬7) فتاوى اللجنة الدائمة (6/ 445)، برقم (4830).

الدعاء بعد التشهد الأخير

وخمسين وأشار بالسبابة" (¬1). أما محل الرفع فقد اختلف فيه الفقهاء؛ فالشافعية (¬2) يرون رفع المسبحة عند قوله: "إلا الله"، أما الحنابلة (¬3) فيرون أنه يشير بسبابته مرارًا كل مرة عند ذكر "الله"، تنبيهًا على التوحيد، ولا يحركها. والأظهر -والله أعلم- أنه يشير بسبابته حال تشهده؛ لحديث وائل بن حجر في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ... ثم قبض ثنتين من أصابعه وحلق حلقة، ثم رفع إصبعه فرأيته يحركها يدعو بها" (¬4) ويحرك سبابته عند الدعاء تحريكًا خفيفًا. وهذا هو قول الشيخين (¬5) رحمهما الله. الدعاء بعد التشهد الأخير: يسن للمصلي أن يدعو بما شاء بعد التشهد الأخير؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات لله -إلى قوله- ثم يتخير من المسألة ما شاء، أو أحب" (¬6) وفي رواية عند البخاري: "ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو" (¬7)، وفي رواية لمسلم: "ثم يتخير من المسألة ما شاء" (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب صفة الجلوس في الصلاة وكيفية وضع اليدين على الفخذين، برقم (580). (¬2) مغني المحتاج (1/ 173). (¬3) كشاف القناع (1/ 361). (¬4) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، كتاب الصلاة، باب صفة وضع اليدين على الركبتين في التشهد وتحريك السبابة عند الإشارة بها، برقم (714). (¬5) مجموع فتاوى سماحة الشيخ (11/ 185)، مجموع فتاوى ورسائل شيخنا (13/ 200). (¬6) أخرجه أحمد في المسند (1/ 413) رقم (3919) من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنه -. (¬7) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب، برقم (800). (¬8) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة، برقم (402).

حكم التعوذ من الأربع

والمالكية (¬1) يرون أنه مندوب وليس بسنة. أما الحنفية (¬2) فيرون أن المصلي يدعو بالأدعية المذكورة، على أن لا ينوي القراءة إذا دعا بأدعية القرآن؛ لكراهية قراءة القرآن في الركوع والسجود والتشهد. قلنا: الأفضل هو الدعاء بالمأثور؛ ومن ذلك ما جاء في صحيح البخاري ومسلمٌ من حديث أبي بكر -رضي الله عنه- أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال: "قل اللَّهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" (¬3). حكم التعوذ من الأربع: " من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال". اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: وجوب ذلك في الصلاة؛ لما رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال" (¬4). وقد ذهب إلى القول بوجوب ذلك الإمام أحمد في إحدى الروايتين (¬5) عنه، وهو قول ابن حزم (¬6) والألباني (¬7). ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 251، 252). (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 350). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الدعوات، باب الدعاء في الصلاة، برقم (5967)، ومسلمٌ في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت في الذكر، برقم (2705). (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، برقم (588). (¬5) الإنصاف (2/ 81). (¬6) المحلى (3/ 351). (¬7) صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - (ص: 163).

القول الثاني: أن الاستعاذة بهذه الأربع سنة وليس بواجب، وهو قول جمهور الفقهاء، وهذا هو الصواب، ولكن لا ينبغي تركها؛ لما يخشى على ذلك من إثم أو بطلان عند بعض أهل العلم لما جاء في ذلك فعن طاوس أن ابنه صلى بحضرته، فقال له: "أدعوت بها في صلاتك؟ فقال: لا، قال: أعد صلاتك" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ عن طاوس، كتاب المساجد، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، برقم (590).

مكروهات الصلاة

مكروهات الصلاة المكروه: هو عكس المندوب، فالمندوب هو: ما يكون في فعله الثواب ولا يكون في تركه العقاب، فيكون المكروه هو ما في تركه الثواب ولا يكون في فعله عقاب. أما مكروهات الصلاة فقد اختلف الفقهاء في تحديدها وحدها، فمن ذلك: الالتفات فيها: فيكره للمصلي أن يلتفت في صلاته؛ وذلك لأن النبي سئل عن الالتفات في الصلاة فقال: "هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد" (¬1). والكراهة هنا مقيدة بعدم الحاجة والضرورة؛ فإن احتيج للالتفات فلا بأس -كخوف على نفسه أو ماله أو كانت هناك امرأة عندها صبيها وتخشى عليه فصارت تلتفت إليه- فهنا يجوز؛ لحديث سهل بن الحنظلية قال: "ثوب بالصلاة -يعني: صلاة الصبح- فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو يلتفت إلى الشعب"، قال أبو داود: "وكان أرسل فارسًا إلى الشعب من الليل يحرس" (¬2). وكذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإنسان إذا أصابه الوسواس في صلاته أن يتفل عن يساره ثلاث مرات ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب الالتفات في الصلاة، رقم (718) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الرخصة في ذلك، رقم (916) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 172) برقم (810). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب السلام، باب التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة، برقم (2203).

حد الالتفات المكروه

حد الالتفات المكروه: اختلف الفقهاء في حد الالتفات المكروه: أ - فقال الحنفية (¬1): الالتفات بالوجه كله أو بعضه مكروه تحريمًا، وبالبصر من غير تحويل الوجه مكروه تنزيهًا. ب- وعند المالكية والحنابلة (¬2): الالتفات مكروه بجميع صوره ولو بجميع جسده، ولا يبطل الصلاة ما بقيت رجلاه للقبلة. ج- والشافعية (¬3) قالوا بحرمة الالتفات بالوجه، أما اللمح بالعين فلا بأس به. والصحيح أنه يجوز الالتفات بالوجه إذا كان لحاجة أو ضرورة. وهو قول المالكية والحنابلة (¬4). رفع البصر إلى السماء: ذهب جمهور الفقهاء إلى كراهة رفع البصر إلى السماء أثناء الصلاة؛ لحديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء"، فاشتد قوله في ذلك حتى قال: "لينتهين عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم" (¬5). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 432). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 254)، الإنصاف (2/ 91). (¬3) مغني المحتاج (1/ 201). (¬4) كشاف القناع (1/ 369). (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة، برقم (717)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة، رقم (429). واللفظ للبخاري.

لكن هل تبطل الصلاة به عند من قال بتحريمه؟

ذهب ابن حزم (¬1) وجماعة إلى القول بتحريم رفع البصر إلى السماء في الصلاة، وهذا هو اختيار الشيخ ابن العثيمين (¬2). لكن هل تبطل الصلاة به عند من قال بتحريمه؟ الجواب على قولين؛ قيل بأنها تبطل به، وقيل: لا تبطل. والذي اختاره الشيخ ابن العثيمين عدم إبطال الصلاة بذلك (¬3). تغميض العينين: ذهب جمهور الفقهاء (¬4) إلى كراهة تغميض العينين في الصلاة، وعللوا الكراهة هنا لأنه من فعل اليهود ومظنة النوم، ولأن السنة أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده، وفي التغميض تركها. لكن استثنى بعض الفقهاء من ذلك؛ إن كان التغميض لكمال الخشوع وذلك بأن يخاف فوات الخشوع بسبب رؤية ما يشغله في صلاته، فهنا لا يكره، بل قال بعضهم بأن الأولى في هذه الحالة التغميض (¬5). النظر إلى ما يلهي: اتفق الفقهاء على كراهة نظر المصلي إلى ما يلهيه في صلاته؛ لأن ذلك يشغله عن مقصود الصلاة الأعظم المتمثل بالخشوع فيها، ولأنه قد يشغله ذلك عن كمال الصلاة. ¬

_ (¬1) المحلى، لابن حزم (4/ 15). (¬2) الشرح الممتع على زاد المستقنع (3/ 227). (¬3) المرجع السابق. (¬4) انظر: حاشية ابن عابدين (1/ 434)، حاشية الدسوقي (1/ 254)، مغني المحتاج (1/ 181)، كشاف القناع (1/ 370). (¬5) حاشية ابن عابدين (1/ 434)، وانظر تعليق شيخنا على هذه المسألة في الشرح الممتع (3/ 229).

التخصر في الصلاة

دليل ذلك حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: "اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وأتوني بأَنبِجَانيَّةِ أبي جهم فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي" (¬1). التخصر في الصلاة: تعريف التخصر: هو أن يضع المصلي يده على خاصرته في القيام، والخاصرة هي المستدق من البطن الذي فوق الورك، أي: وسط الإنسان. ودليل ذلك هو نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي الرجل مختصرًا" (¬2). وقد جاء تعليل ذلك في حديث عائشة -رضي الله عنها- بأنه فعل اليهود (¬3). وقد ذهب ابن عابدين (¬4) إلى أن الكراهة فيه تحريمية. والذي يظهر أن الكراهة فيه ليست تحريمية. وهذا هو قول جمهور الفقهاء (¬5). الإقعاء في الصلاة: يكره للمصلي إقعاؤه في الجلوس؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إقعاء كإقعاء الكلب (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الصلاة، باب إذا صلى في ثوب له أعلام ونظر إلى علمها، برقم (366)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهة الصلاة في ثوب له أعلام، برقم (556) واللفظ للبخاري. (¬2) أخرجه البخاريُّ في أبواب العمل في الصلاة، باب الخصر في الصلاة، برقم (1162)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهية الاختصار في الصلاة، برقم (545). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، برقم (3271). (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 432). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 254)، مغني المحتاج (1/ 202)، كشاف القناع (1/ 372). (¬6) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 311) رقم (8091) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

والإقعاء له صور

والإقعاء له صور: الصورة الأولى: أن يفرش قدميه، أي: يجعل ظهورهما نحو الأرض ثم يجلس على عقبيه. الصورة الثانية: أن ينصب قدميه ويجلس على عقبيه. وقد اختلف الفقهاء في مشروعية هذه الصورة؛ فمنهم من (¬1) يرى كراهتها مطلقًا في الصلاة. وبعض أهل العلم قال: تجوز في الجلوس بين السجدتين في الصلاة؛ لفعل ابن عباس -رضي الله عنه- لها وقال بأنها سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وهذا هو الصواب -والله أعلم- لكن يفعل ذلك أحيانًا؛ لأن الذين وصفوا صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكروها ولم تثبت إلا عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، ولأن أكثر أهل العلم على خلاف ذلك، لكن الأولى كما ذكرنا الإتيان بها أحيانًا. وحديث ابن عباس عند مسلم في الصحيح. الصورة الثالثة: وهي أقربها مطابقة لإقعاء الكلب؛ هو أن ينصب فخذيه وساقيه ويجلس على إليتيه، ولا سيما إن اعتمد بيديه على الأرض. الصورة الرابعة: وهي أن ينصب قدميه ويجلس على الأرض بينهما. فهذه الصور المذكورة للإقعاء كلها مكروهة إلا الصورة الثانية، فقد وقع الخلاف فيها كما ذكرنا ذلك. ¬

_ (¬1) الشرح الممتع (3/ 230). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز الإقعاء على العقبين، برقم (536).

افتراش الذراعين حال السجود

افتراش الذراعين حال السجود: يكره للمصلي أن يفرش ذراعيه حال السجود؛ وذلك لورود النهي من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب" (¬1). العبث في الصلاة: العبث هو تشاغل المصلي بما لا تدعو الحاجة إليه، ومفاسده في الصلاة معلومة، فمن ذلك: أنه يشغل القلب وينافي كمال الخشوع في الصلاة، وكذلك فيه حركة بالجوارح دخيلة على الصلاة، وكل هذا بلا شك يؤثر على صلاة العبد. الصلاة بحضرة الطعام: يكره للمصلي أن يصلي بحضرة طعام تتوق نفسه إليه، والكراهة هنا تكون بشروط: * أن يكون الطعام حاضرًا. * أن تتوق إليه نفسه. * أن يكون قادرًا على تناوله حسًا وشرعًا. المقصود بالقدرة الحسيّة أي يستطيع تناوله، فلو كان الطعام حارًا لا يستطيع أن يتناوله مثلًا، فهنا لا تكره الصلاة. والمقصود بالقدرة الشرعية أي أن لا يكون ممنوعًا منه شرعًا، كالصائم إذا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب لا يفترش ذراعيه في السجود، برقم (788)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب الاعتدال في السجود ووضع الكفين على الأرض ورفع المرفقين عن الجنبين ورفع البطن عن الفخذين في السجود، برقم (45).

مدافعة الأخبثين

حضر أمامه طعام فالصلاة لا تكره في حقه؛ لأنه ممنوع منه شرعًا. دليل ذلك حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -رضي الله عنه- قال: "لا صلاة بحضرة الطعام ولا هو يدافعه الأخبثان" (¬1). وروى البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنه كان يوضع له الطعام وتقام الصلاة فلا يأتيها حتى يفرغ وإنه ليسمع قراءة الإِمام" (¬2). مدافعة الأخبثين: اتفق الفقهاء على كراهة صلاة من يدافع الأخبثين؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا صلاة بحضرة الطعام ولا هو يدافعه الأخبثان" (¬3) ويسمى مدافع البول حاقنًا، ومدافع الغائط حاقبًا. رجل على وضوء وهو يدافع البول أو الريح، فلو قضى حاجته لم يكن عنده ماء يتوضأ به، فماذا يشرع في حقه؟ نقول: المشروع في حقه أن يقضي حاجته ويتيمم، ولا ينبغي أن يصلي في حالته تلك. رجل حاقن أو حاقب، فإن قضى حاجته وتوضأ خرج وقت الصلاة، فماذا يفعل؟ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال وكراهة الصلاة مع مدافعة الأخبثين، برقم (560). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، برقم (642). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد مواضع الصلاة، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام، برقم (560).

الصلاة عند مغالبة النوم

نقول: الفقهاء اختلفوا في هذه المسألة؛ فالجمهور على أنه يصلي على حالته تلك؛ حفاظًا على الوقت. وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يقضي حاجته ويصلي ولو خرج الوقت، وهذا هو الأقرب لقواعد الشريعة. الصلاة عند مغالبة النوم: إذا غلب الإنسان النوم بحيث إنه لا يدري ولا يعي ما يقول في صلاته، فإنه يكره في حقه الصلاة وهو في هذه الحالة، فعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن؛ أحدكم إذا صلى وهو ناعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه" (¬1). كف الشعر أو الثوب أو تشمير الكمين عن الذراعين في الصلاة: لا يجوز ذلك، ودليله حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أمرت أن أسجد على سبعة ولا أَكُفَّ شَعَرًا ولا ثوبًا" (¬2). التلثم في الصلاة: التلثم هو تغطية الفم والأنف، ويكرهه جمهور أهل العلم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى أن يغطي الرجل فاه في الصلاة" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب الوضوء من النوم ومن لم ير من النعسة والنعستين أو الخفقة وضوءًا، برقم (209)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر، بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، برقم (786). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب لا يكف ثوبه في الصلاة، برقم (783)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب أعضاء السجود والنهي عن كف الشعر والثوب وعقص الرأس في الصلاة، برقم (490) واللفظ للبخاري. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما جاء في السدل في الصلاة، برقم (643)، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما يكره في الصلاة، برقم (966) واللفظ له، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

السدل في الصلاة

السدل في الصلاة: السدل اختلف الفقهاء في تفسيره؛ فقال الحنفية (¬1): السدل هو: إرسال الثوب بلا لبس معتاد. وقال الشافعية (¬2): السدل هو: أن يرسل الثوب حتى يصيب الأرض. وقال الحنابلة (¬3): السدل هو: أن يطرح ثوبًا على كتفيه ولا يرد أحد طرفيه على الكتف الأخرى. ودليل الكراهة ما رواه أبو داود عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه" (¬4). اشتمال الصماء: تعريفها: اشتمال الصماء هو أن يشتمل بالثوب حتى يجلل به جسده، ويرفع منه جانبًا فيكون فيه فرجة تخرج منها يده، وهو التلفع (¬5). أما دليل الكراهة: فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن اشتمال الصماء وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء" (¬6). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 429). (¬2) مغني المحتاج (200). (¬3) كشاف القناع (1/ 275). (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما جاء في السدل في الصلاة، برقم (643). (¬5) لسان العرب، مادة: "شمل". (¬6) أخرجه البخاريُّ في أبواب الصلاة في الثياب، باب ما يستر من العورة، برقم (360)، ومسلمٌ في كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن اشتمال الصماء والاحتباء في ثوب واحد، برقم (2099) واللفظ للبخاري.

الاقتصار على الفاتحة

تنكيس السور في الصلاة: ومعناه: أن يقرأ في الركعة الثانية بسورة مسبوقة عن السورة التي قرأها في الركعة الأولى، وذهب إلى كراهة ذلك جمهور الفقهاء. والذي يظهر أنه لا يكره؛ لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ في قيام الليل بالبقرة، ثم قرأ النساء، ثم قرأ آل عمران؛ فلا كراهة إذًا؛ إذا كان لحاجة، وإلا فالأولى القراءة حسب ترتيب المصحف. الاقتصار على الفاتحة: لا خلاف بين الفقهاء في كراهة الاقتصار على سورة الفاتحة في الركعتين الأوليين في الفرائض وكذلك النوافل. لكن تزول الكراهة إذا كان المصلي في نافلة وأقيمت الصلاة، فيشرع له تخفيفها، فيجوز له الاقتصار على الفاتحة حينئذ. الصلاة مستقبلًا لرجل أو امرأة: يكره للمصلي أن يصلي مستقبلًا لرجل أو امرأة إذا كان متحدثًا أو نائمًا، وقد اتفق الفقهاء على كراهية ذلك، قال الإِمام البخاري في صحيحه: "كره عثمان -رضي الله عنه- أن يستقبل الرجل وهو يصلي" (¬1) هذا إذا كان الرجل مستقبلًا بوجهه المصلي، أما إذا كان جالسًا وجعله المصلي سترة، له فلا حرج في ذلك. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في أبواب سترة الصلي، باب استقبال الرجل صاحبه أو غيره في صلاته وهو يصلي، (1/ 192). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الصلاة إلى المتحدثين والنيام، برقم (694).

مبطلات الصلاة

مبطلات الصلاة للصلاة مبطلات منها: الكلام فيها: اتفق الفقهاء على أن الصلاة تبطل بالكلام أثناءها بما ليس من جنسها، دليل ذلك ما رواه مسلم عن زيد بن أرقم -رضي الله عنه- قال: "كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬1)، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام" (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاوية بن الحكم السلمي -رضي الله عنه-: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" (¬3). وبطلان الصلاة بالكلام إذا كان المتكلم متعمدًا لذلك، أما إن كان ناسيًا أو كان تكلمه لسبق لسانه حال القراءة ونحو ذلك، فقد اختلف الفقهاء في ذلك: أ - فالحنفية (¬4) لم يفرقوا في ذلك؛ فقالوا ببطلان صلاة المتكلم سواء كان ناسيًا أو نائمًا أو جاهلًا أو مخطئًا أو مكرهًا ونحو ذلك. ب- أما الشافعية (¬5) فيرون عدم بطلان صلاة من تكلم ناسيًا أو جهل تحريم ذلك إن قرب عهده بالإِسلام، أو نشأ بعيدًا عن العلماء. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 238. (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، رقم (539). (¬3) المرجع السابق، حديث رقم (537). (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 413). (¬5) مغني المحتاج (1/ 195 - 196).

القهقهة

ج- أما الحنابلة (¬1) فيرون بطلان الصلاة بكلام الساهي والمكره وبالكلام لمصلحة الصلاة ونحو ذلك، ولا تبطل الصلاة عندهم بكلام النائم إذا كان النوم يسيرًا، وإذا كان كلامه لسبق لسانه؛ لأنه مغلوب عليه. والصحيح من هذه الأقوال أن صلاة من تكلم ناسيًا أو جاهلًا لا تبطل (¬2). دليل ذلك قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (¬3). وقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (¬4) قال سبحانه: "قد فعلت". وكذلك حديث معاوية بن الحكم المتقدم ذكره، حينما تكلم في الصلاة، فقال للرجل الذي عطس: "يرحمك الله" (¬5) لم يأمره - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة؛ لأنه كان جاهلًا. القهقهة: إذا ضحك المصلي بصوت يسمعه هو أو غيره بطلت صلاته قلّ أو كثر؛ لمنافاته للصلاة، ولأنه أقرب للهزل واللعب. وهذا هو قول جمهور الفقهاء من الحنفية (¬6) والمالكية (¬7) والحنابلة (¬8). أما التبسم فيها فلا يبطلها. ¬

_ (¬1) مطالب أولي النهي (1/ 520 - 538). (¬2) الشرح الممتع (3/ 365). (¬3) سورة الأحزاب: 5. (¬4) سورة البقرة: 286. (¬5) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، رقم (539). (¬6) حاشية ابن عابدين (1/ 97). (¬7) حاشية الدسوقي (1/ 286). (¬8) مطالب أولي النهي (1/ 520، 538).

الأكل والشرب

فإن ضحك بغير اختياره، كأن يرى أو يسمع شيئًا، ولم يملك نفسه من القهقهة، فهل تبطل صلاته بذلك؟ هذا محل خلاف بين الفقهاء، والراجح أنها لا تبطل. الأكل والشرب: اتفق الفقهاء على أن من أكل أو شرب في صلاته متعمدًا بطلت صلاته، لكن اختلف الفقهاء فيمن أكل أو شرب ناسيًا؛ فالحنفية (¬1) يرون بطلان الصلاة، أما المالكية (¬2) والشافعية (¬3) فيرون عدم بطلانها. والحنابلة (¬4) يفرقون بين نوعية الصلاة؛ فإن كانت فرضًا بطلت، وإن كانت نفلًا لم تبطل، وقول آخر في المذهب: إن كان الأكل أو الشرب يسيرًا فلا تبطل، وإن كان كثيرًا بطلت. والصحيح قول المالكية والشافعية من عدم بطلان من أكل أو شرب ناسيًا في صلاته سواء كانت الصلاة فرضًا أو نفلًا؛ لعموم قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (¬5)، وقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (¬6)، قال الرب سبحانه: "قد فعلت". وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬7). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 418). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 289). (¬3) مغني المحتاج (1/ 200). (¬4) كشاف القناع (1/ 398). (¬5) سورة الأحزاب: 5. (¬6) سورة البقرة: 286. (¬7) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، برقم (2043)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 347) رقم (1662).

العمل الكثير

هذا إذا كان الأكل أو الشرب يسيرًا، أما إن كان كثيرًا فلا شك أنه من المحال وقوعه؛ إذ كيف يأكل أو يشرب المصلي ولا يزال كذلك دون أن يدري أنه في صلاة؟ ولو حصل ووقع فالصواب إبطاله للصلاة؛ لخروجه عن هيئة الصلاة. وحد الكثير واليسير مرجعه -على الراجح- إلى العرف. العمل الكثير: يبطل الصلاة العمل الكثير الذي هو من غير جنس الصلاة إذا كان لغير ضرورة، وتعرف الكثرة بالعرف وهو ما يخيل لمن ينظر إليه أنه ليس في صلاة. أما إن كان العمل يسيرًا كحمل طفل أو فتح باب قريب ونحو ذلك من الأعمال اليسيرة، فإنه لا تبطل الصلاة به. دليل ذلك ما رواه البخاري عن أبي قتادة -رضي الله عنه- "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهو حاملٌ أمامةَ بنتَ زينبَ بنتِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -" ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس: "فإذا سجد وضعها وإن قام حملها" (¬1). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "جئت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في البيت والباب عليه مغلق، فمشى حتى فتح لي، ثم رجع إلى مكانه" (¬2). بطلان الصلاة بفقد شرطها: إذا طرأ ما ينافي الصلاة، كما لو نزلت على ثوبه نجاسة وهو يصلي ولم يستطع ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في أبواب سترة المصلي، باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، برقم (494)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز حمل الصبيان في الصلاة، برقم (543) واللفظ للبخاري. (¬2) أخرجه الترمذيُّ في أبواب السفر، باب ذكر ما يجوز من المشي والعمل في صلاة التطوع، برقم (601)، وأحمدُ في مسنده (6/ 31) رقم (24073).

التأوه والأنين والتأفيف والبكاء والنفخ والتنحنح

إزالتها أو سبقه حدث وهو يصلي فأصبح على غير طهارة ونحو ذلك، فإن الصلاة تبطل به؛ لاشتراط طهارة البدن والثوب والمكان، كما سبق ذكره. التأوه والأنين والتأفيف والبكاء والنفخ والتنحنح: اختلف الفقهاء في بطلان الصلاة بالأشياء المذكورة. أما التأوه وهو قول "آه" بالمد، والأنين وهو قول "أه" بالقصر، فقد اختلف فيه الفقهاء؛ فالحنفية (¬1) والشافعية (¬2) يرون بطلان الصلاة به، لكن الحنفية يفرقون بين من كان مريضًا وبين من لم يكن مريضًا؛ فالمريض الذي لا يملك نفسه لا تبطل الصلاة بِتَأَوُّهِهِ وأنينه وببكائه. والصحيح عدم بطلان الصلاة بذلك، وبه قال الحنابلة (¬3)؛ لأنه لا يتعلق به حكم من أحكام الكلام. أما البكاء فيرى الشافعية (¬4) بطلان الصلاة به سواء كان البكاء من خوف الآخرة أم لا. والصحيح عدم بطلان الصلاة بالبكاء إن كان من خشية الله؛ لكونه غير داخل في وسعه، وهو مذهب الحنابلة (¬5)، واختاره الشيخ ابن العثيمين (¬6). لكن ينبغي للمؤمن أن لا يرفع الصوت به وليحرص على أن لا يسمع صوته بالبكاء، وليحذر من الرياء فإن الشيطان قد يجره إليه. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 415). (¬2) مغني المحتاج (1/ 196). (¬3) مطالب أولي النهي (1/ 520 - 521). (¬4) مغني المحتاج (1/ 196). (¬5) مطالب أولي النهي (1/ 520 - 521). (¬6) الشرح الممتع (3/ 368).

تخلف شرط استقبال القبلة

أما التنحنح في الصلاة فالجمهور على أنه إن كان لغير عذر بطلت الصلاة إن ظهر منه حرفان، فإن كان لعذر أو فعله لغرض صحيح لم تفسد الصلاة به. والصحيح أنه لا تبطل الصلاة بذلك، وهو أحد قولي الإِمام مالك (¬1). أما النفخ في الصلاة؛ فالمالكية (¬2) صرحوا ببطلان الصلاة بتعمده، وهذا هو أحد الأقوال عندهم، وقيّد الحنابلة (¬3) بطلان الصلاة بالنفخ فيما إذا بان حرفان. والصواب عدم بطلان الصلاة بالنفخ فيها، وهذا هو أحد الأقوال عند المالكية، إلا إن كان النفخ لعبث، فإنه يبطل الصلاة؛ لمنافاة العبث لها، وإن كان لحاجة لم يبطل الصلاة. تخلف شرط استقبال القبلة: ذكرنا فيما سبق أنه يشترط لصلاة الفريضة استقبال القبلة وما يترتب على عدم استقبالها من أحكام. ترك ركن من أركان الصلاة: اتفق الفقهاء على أن من ترك ركنا من أركان الصلاة عمدًا، بطلت صلاته ولم تصح، وإن تركه سهوًا أو جهلًا فقد اتفقوا على وجوب الإتيان به إن أمكنه تداركه، فإن لم يمكنه تداركه فقد اختلف الفقهاء في ذلك: ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 281). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 281). (¬3) مطالب أولي النهي (1/ 520 - 521).

فالحنفية (¬1) يرون أن صلاته تفسد، والجمهور (¬2) على أنه تلغى الركعة التي ترك منها الركن فقط، وذلك إذا كان الركن المتروك غير النية وتكبيرة الإحرام، أما هما فلا بد أن يستأنف الصلاة؛ لأنه غير مُصَلٍّ. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 297 - 368)، بدائع الصنائع (1/ 113، 167، 168، 170). (¬2) انظر حاشية الدسوقي (1/ 239، 279)، شرح روضة الطالبين (1/ 187، 188)، كشاف القناع (1/ 385، 402).

صفة الصلاة

صفة الصلاة الصفة المشروعة للصلاة على القول الصحيح من أقوال أهل العلم. أولًا: إذا أراد المسلم الصلاة فإنه ينوي بقلبه الصلاة التي يريد فعلها من فرض أو نفل قبل التكبير، ولا يتلفظ بالنية؛ لعدم ورود الدليل على ذلك، بل هي بدعة -كما ذكرنا في مبحث النية-. ثانيًا: ثم يقول: "الله أكبر" ناويًا الصلاة التي كبر لها، رافعًا يديه إلى حذو منكبيه أو فروع أذنيه، ثم يضعها على صدره. ثالثًا: يشرع للمسلم أن يستفتح الصلاة بأي نوع من الاستفتاحات الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك: "سبحانك اللَّهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك" (¬1) أو"اللَّهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللَّهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللَّهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد" (¬2). وهناك أنواع أخرى من الاستفتاحات فبأي نوع منها استفتح المصلي صلاته أجزأه ذلك، لكن لا يشرع الجمع بين نوعين من أنواع الاستفتاح، بل الذي يشرع أن ينوع المصلي في صلاته بأنواع الاستفتاح؛ فيأتي بهذا تارة، وبهذا تارة، كما ذكرنا سابقًا. رابعًا: بعد الاستفتاح يستحب له أن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم وإن شاء قال: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" أو يقول: "أعوذ بالله السميع العليم من ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة، برقم (399). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب ما يقول بعد التكبير، برقم (710)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يقول بين تكبيرة الإحرام والقراءة، برقم (598). واللفظ للبخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

الشيطان الرجيم" (¬1) وإن شاء قال: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من هَمَزِه ونَفْخِهِ ونَفْثِهِ" (¬2). خامسًا: في أثناء ما ذكرناه ينظر إلى محل سجوده مطأطئا رأسه راقبًا ببصره نحو الأرض. سادسًا: بعد الاستفتاح والاستعاذة يقرأ الفاتحة يقف عند كل آية منها مستحضرًا قلبه عند قراءته لها. سابعًا: فإذا انتهى من قراءتها قال: آمين، الإِمام والمأموم والمنفرد، وهي مستحبة كما ذكرنا ذلك سابقًا يجهر بها في الجهرية ويسر بها في السرية. ثامنًا: ثم يقرأ ما تيسر من القرآن الكريم بعد الفاتحة، ومحل هذه القراءة في الركعة الأولى والثانية من الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء والجمعة والعيدين والاستسقاء والنفل. ويقتصر على الفاتحة في الركعة الثالثة والرابعة من الظهر والعصر والعشاء والثالثة من المغرب. وإن زاد على الفاتحة في الركعتين؛ الثالثة والرابعة من الظهر أحيانًا، فلا بأس؛ لورود ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. تاسعًا: الأفضل في القراءة بعد الفاتحة أن تكون على النحو التالي: 1 - في الظهر أن تكون قراءته من أوساط المفصل مثل: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}، ومثل: {عَبَسَ وَتَوَلَّى}، ومثل: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} وما أشبه ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند (5/ 26) رقم (20321). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من رأى الاستفتاح بسبحانك الله بحمدك، برقم (775)، والترمذيُّ في كتاب الصلاة، باب ما يقول عند افتتاح الصلاة، برقم (242).

2 - في العصر تكون القراءة فيها أخف من الظهر قليلًا. 3 - وفي المغرب كذلك، يقرأ بالفاتحة ثم يقرأ قصار المفصل وإن قرأ في بعض الأحيان بأطول في المغرب فهو أفضل؛ فقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب مرة بالطور، ومرة قرأ فيها بالمرسلات، ومرة قرأ فيها بالأعراف قسمها في الركعتين. لكن في الأغلب أنه كان يقرأ فيها بقصار المفصل كالزلزلة والقارعة والعاديات ونحو ذلك. 4 - أما العشاء فيقرأ بمثل ما قرأ في الظهر والعصر أو يأتي بآيات بمقدار ذلك. 5 - أما الفجر فالقراءة فيها تكون فيها أطول مما مضى من الصلوات، فيقرأ فيها بطوال المفصل؛ فيقرأ فيها بـ: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}، و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}، وغير ذلك مما هو أقل منها، وإن قرأ أقل من ذلك فلا بأس. عاشرًا: إذا انتهى من قراءته يركع قائلًا: "الله أكبر" ويعتدل في ركوعه ويطمئن ولا يعجل ويجعل يديه على ركبتيه مفرجتي الأصابع، ويسوي رأسه بظهره ويقول: "سبحان ربي العظيم" والمجزئ فيها واحدة، لكن الأفضل أن يزيد عليها فيجعلها ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا. وإن كان إمامًا فلا يشق على المأموم بالزيادة ويراعي أحوال المأموم. وإن شاء زاد في ركوعه: "سبحانك اللَّهم وبحمدك اللَّهم اغفر لي" (¬1) أو "سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة" (¬2) كله مستحب، لكن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب الدعاء في الركوع، برقم (761)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم (484) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم (873) من حديث عوف بن مالك الأشجعي -رضي الله عنه-.

الواجب كما ذكرنا سابقًا: "سبحان ربي العظيم". الحادي عشر: إذا انتهى من ركوعه رفع منه قائلًا: "سمع الله لمن حمده" إذا كان إمامًا أو منفردًا، ويرفع يديه مثل ما فعل عند الركوع حيال منكبيه أو حيال أذنيه عند قوله: "سمع الله لمن حمده". الثاني عشر: ثم بعد إنتصابه واعتداله من الركوع يقول: "ربنا ولك الحمد" أو "اللَّهم ربنا ولك الحمد" أو "ربنا لك الحمد" أو "اللَّهم ربنا لك الحمد" بأيها قال أجزأه، لكن المستحب أن يقول هذا تارة وهذا تارة ينوع بهن في صلاته. وإن زاد على ذلك فقال: "حمدًا طيبًا مباركًا فيه" (¬1) أو "ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد" (¬2)، فهذا حسن. كل هذا مشروع للإمام والمأموم والمنفرد جميعًا، لكن الإِمام يقول: "سمع الله لمن حمده" أولًا وهكذا المنفرد، أما المأموم فلا يقول ذلك على الصحيح كما ذكرنا ذلك. الثالث عشر: إذا رفع واعتدل واطمأن قائمًا فإنه يضع يديه على صدره. هذا هو الأفضل على ما ذكرناه سابقًا. الرابع عشر: ثم بعد حمده وثنائه على ربه واعتداله في قيامه من ركوعه ينحط ساجدًا قائلًا: "الله أكبر" من دون رفع اليدين على الصحيح من أقوال أهل العلم كما ذكرنا، فيسجد على أعضائه السبعة جبهته وأنفه هذا عضو، وكفيه وركبتيه، وعلى أصابع رجليه. هذا هو الواجب على الرجال والنساء، فالواجب ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب فضل اللَّهم ربنا ولك الحمد، برقم (766) من حديث رفاعة بن رافع الزُّرَقِيِّ -رضي الله عنه-. (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع، برقم (478).

السجود على هذه السبع، ومع سجوده يجعل أطراف أصابعه إلى القبلة ضامًا بعضها إلى بعض، ولا يمدّ ظهره كما نراه من البعض، بل يجعل ظهره على هيئة القوس فلا يمده، ولا يحنيه كسنام الإبل، بل يرفع بطنه عن فخذيه وفخذيه عن ساقيه ويجافي عضديه عن جنبيه، هذه هي هيئة السجود المسنونة. الخامس عشر: انحطاطه عند السجود ويسجد مقدمًا ركبتيه على يديه. هذا هو الأفضل، ومن كان يرى أن الأفضل تقديم اليدين على الركبتين فليأت بذلك على ما ذكرناه سابقًا. السادس عشر: يقول في سجوده: "سبحان ربي الأعلى" ويكررها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك، لكن إذا كان إمامًا فإنه يراعي المأمومين فلا يشق عليهم، وإن كان منفردًا فلا يضره إطالته. ويستحب له أن يأتي أيضًا بأي نوع من أنواع التسبيح كقوله: "سبحان ذي الجبروت والكبرياء والعظمة" أو "سبوح قدوس رب الملائكة والروح" (¬1) وهكذا. ويستحب له أيضًا في سجوده الإكثار فيه من الدعاء، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أما الركوع فعظموا فيه الربّ، أما السجود فاجتهدوا في الدعاء فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم" (¬2) أي: حري أن يستجاب لكم. السابع عشر: إذا انتهى من سجوده يرفع منه قائلًا: الله أكبر، ويجلس مفترشًا يسراه ناصبًا يمناه واضعًا يده اليمنى على فخذه اليمنى أو على ركبته ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم (487) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، برقم (479) من حديث ابن عباس -رضي الله عنه-.

اليمنى ويده اليسرى على فخذه اليسرى أو على ركبته اليسرى، باسطًا يده قائلًا: "رب اغفر لي، رب اغفر لي" (¬1) كما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقوله. ويستحب أن يأتي بما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الجلسة كأن يقول: "اللَّهم اغفر لي وارحمني واهدني واجبرني وارزقني وعافني" (¬2) أو بما شاء من أدعية أخرى. الثامن عشر: إذا انتهى من جلوسه بين السجدتين يسجد السجدة الثانية ويفعل فيها مثل ما فعل في السجدة الأولى، ويقول فيها بما قاله في السجدة الأولى. التاسع عشر: إذا انتهى من سجوده الثاني يكبر رافعًا وناهضًا إلى الركعة الثانية، والأفضل للمصلى هنا أن يجلس جلسة الاستراحة كما ذكرنا ذلك سابقًا، وإن قام ولم يجلس فلا حرج، وليس هناك ذكر ولا دعاء في هذه الجلسة. العشرون: إذا نهض إلى الركعة الثانية مكبرًا قائلًا: "الله أكبر" يفعل فيها كما فعل في الركعة الأولى. الحادي والعشرون: إذا فرغ من القراءة كبر للركوع وفعل في ركوعه مثل ما فعل في ركوعه الأول. الثاني والعشرون: إذا انتهى من ركوعه نهض رافعًا يديه حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ أو حذو أذنيه قائلًا: "سمع الله لمن حمده" إذا كان إمامًا أو منفردًا، ثم يفعل مثل ما فعل في رفعه الأول. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، برقم (874)، والنسائيُّ في كتاب التطبيق، باب الدعاء بين السجدتين، برقم (1145) من حديث حذيفة - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء بين السجدتين، برقم (850)، والترمذيُّ في أبواب الصلاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما يقول بين السجدتين، برقم (284) من حديث ابن عباس -رضي الله عنه-.

الثالث والعشرون: إذا انتهى من رفعه وقال بما هو واجب وما هو مستحب، فإنه ينحط ساجدًا كما تقدم من غير رفع لليدين على الصحيح مكبرًا عند انحطاطه، ثم يقول في سجوده بمثل ما قال في سجوده الأول. الرابع والعشرون: إذا فرغ من سجوده رفع قائلًا: "الله أكبر" ويجلس ويقول: "رب اغفر لي، رب اغفر لي" ويطمئن ويفعل كما تقدم في الركعة الأولى. الخامس والعشرون: إذا فرغ من جلوسه هذا كبر وسجد السجدة الثانية ويفعل كما تقدم. السادس والعشرون: إذا انتهى من سجوده هذا جلس للتشهد الأول مفترشًا رجله اليسرى ناصبًا اليمنى كجلسته بين السجدتين، هذا هو الأفضل، ثم يأتي بالتشهد الأول وهو كما ذكرنا سابقًا: "التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" والأفضل له أن يأتي بالصلاة الإبراهيمية في تشهده هذا هو الأصح، وإن اقتصر على تشهده فلا بأس فهي هنا ليست بواجبة بل هي سنة، ووجوبه يكون في التشهد الأخير كما ذكرنا سابقًا. السابع والعشرون: إذا انتهى من تشهده الأول قام فأتى بالركعة الثالثة إن كانت ثلاثية، ثم أتى بالرابعة إن كانت الصلاة رباعية. يفعل في هاتين الركعتين مثل ما فعل في الأول والثانية. الثامن والعشرون: إذا انتهى من صلاته ولم يبق إلا التشهد الأخير فإنه يجلس له متوركًا، فيفضي بوركه اليسرى الأرض ويخرج قدميه من ناحية واحدة أو يجعل اليسرى تحت فخذه وساقه أو ينصب اليمنى، وإن فرشها أحيانًا فلا بأس؛ كل هذا جاءت به السنة، وللمصلي أن يأتي بما هو أرفق عليه، وإن فعل هذا

أحيانًا وهذا أحيانًا، فحسن. التاسع والعشرون: إذا جلس في تشهده قال فيه مثل ما قال في التشهد الأول؛ فيقول: "التحيات لله ... " إلى آخر التشهد، ويجب هنا أن يأتي بالصلاة الإبراهيمية وهي: "اللَّهم صل على محمَّد وعلى آل محمَّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللَّهم بارك على محمَّد وعلى آل محمَّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد" (¬1) هذا هو الأكمل، وإن أتى بأي صيغة أخرى من صيغ الصلاة الإبراهيمية فلا بأس، والأحسن أن ينوع في صيغ الصلاة على النبي، فيفعل هذا تارة وهذا تارة محافظة على فعل السنة، وإن اقتصر على واحدة أجزأه ذلك. الثلاثون: إذا انتهى من تشهده هذا وصلاته على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيشرع للمصلي أن يدعو في آخر صلاته، فيستعيذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال. يحافظ على ذلك في فرائضه ونوافله على ما ذكرنا ذلك سابقًا، ثم يتخير بعد ذلك من الدعاء ما يعجبه فيدعو الله به، ويستحب له أن يدعو بما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - في مقامه هذا، ومن ذلك: "اللَّهم أَعِنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" (¬2). أو "اللَّهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد، برقم (978). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الوتر، باب في الاستغفار، برقم (1522)، والنسائيُّ في كتاب السهو، باب الدعاء بعد الذكر، برقم (1303) من حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه-. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل إذا سلم، برقم (1509)، والترمذيُّ في كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باب ما جاء في الدعاء عند افتتاح الصلاة بالليل، برقم (3422)، وأحمدُ في المسند (1/ 102) رقم (803) من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.

أو يقول: "اللَّهم إني أعوذ بك من البخل ومن الجُبْن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العُمُرِ، وأعوذ بك من فتنة الدنيا ومن عذاب القبر" (¬1). كل هذا ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن شاء أتى به وإن شاء أتى بغيره، فلا بأس بذلك. إذا انتهى المصلي من تشهده الأخير ومن دعائه فيه يقوم بالتسليم عن يمينه وشماله قائلًا: "السلام عليكم ورحمة الله" وإن زاد أحيانًا في التسليمة الأولى "وبركاته" فهذا أفضل؛ لورود (¬2) ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم -، لكن لا يداوم عليها بل يأتي بها أحيانًا. هذه صفة الصلاة التي جاءت بها نصوص السنة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب السير والجهاد، باب ما يتعوذ من الجبن، برقم (2667). (¬2) ورد في ذلك حديث عند أبي داود، كتاب الصلاة، باب في السلام، برقم (997)، وابن خزيمة في كتاب الصلاة، باب صفة السلام في الصلاة، برقم (728) وصححه ابن حجر. (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة، برقم (605).

أذكار ما بعد الصلاة

أذكار ما بعد الصلاة يستحب للمصلي إذا انتهى من صلاته أن يأتي بالأذكار التي تقال بعد السلام؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} (¬1)، ومن ذلك: 1 - أن يستغفر الله ثلاث مرات: "أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله" (¬2)، 2 - ثم يقول: "اللَّهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام" (¬3). 3 - إن كان إمامًا ينصرف إلى الناس بعد هذا ويقابل الناس بوجهه. 4 - يقول المصلي بعد هذا: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون" (¬4)، "اللَّهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجَدُّ منك الجَدُّ" (¬5). ¬

_ (¬1) سورة النساء: 103. (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (591) من حديث ثوبان -رضي الله عنه-. (¬3) المرجع السابق. (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (594) من حديث ابن الزبير -رضي الله عنه-. (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب الدعوات، باب الدعاء بعد الصلاة، برقم (5971)، مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (593).

5 - ثم يشرع للمصلي أن يقول: "سبحان الله والحمد لله والله أكبر" (¬1) ثلاثًا وثلاثين مرة يعقد ذلك بأصابعه ثم يقول تمام المائة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" (¬2). 6 - ثم يقرأ بعد ذلك آية الكرسي (¬3)، ثم يقرأ سورة الإخلاص، ثم المعوذتين (¬4) مرة واحدة بعد الظهر والعصر والعشاء، أما بعد الفجر والمغرب فيشرع أن يقرأ هذه السور ثلاث مرات. ويستحب للمصلي أيضًا أن يقول بعد الفجر وبعد المغرب: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" عشر مرات (¬5) زيادة على الذكر المشروع. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب الذكر بعد الصلاة، برقم (807)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (597) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (597) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬3) أخرجه النسائي في كتاب عمل اليوم والليلة، باب ثواب من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة، برقم (9928) من حديث أبي أمامة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت" وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (6464). (¬4) أخرجه النسائي في كتاب السهو، في باب الأمر بقراءة المعوذات بعد التسليم من الصلاة، برقم (1336) من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: "أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ المعوذات دبر كل صلاة". (¬5) أخرجه الترمذيُّ في كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في فضل التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد، برقم (3474)، وأحمدُ في مسنده (6/ 298)، رقم (26593).

الأحكام المتعلقة بالقنوت في الصلاة

الأحكام المتعلقة بالقنوت في الصلاة أولًا: مواطن القنوت: القنوت في الصلوات ينحصر في ثلاثة مواطن: الموطن الأول: الصبح: حكمه: اختلف الفقهاء في حكم القنوت في صلاة الصبح على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه لا يشرع القنوت في صلاة الصبح، وذهب إلى ذلك الحنفيّة (¬1) فقالوا بأنه بدعة، وقال الحنابلة بأنه يكره (¬2). القول الثاني: أنه مستحبّ وفضيلة، وهذا هو المشهور عند المالكية (¬3)، واحتجّوا لذلك بما جاء عن أنس -رضي الله عنه- وهو قوله: "ما زال رسول الله يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا" (¬4). القول الثالث: أن القنوت في صلاة الصبح سنة مؤكدة، وهذا هو قول الشافعيّة (¬5)، ولو تركه عمدًا أو سهوًا فإنه لا تبطل صلاته ولكن يسجد للسهو. هذه هي الأقوال الثلاثة في حكم القنوت، ومن نظر إلى الأدلّة وجد أن الصحيح هو ما ذهب إليه أصحاب المذهب الأول من عدم مشروعيّة القنوت في ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 273)، مجمع الأنهر (1/ 129). (¬2) شرح منتهى الإرادات (1/ 228)، كشاف القناع (1/ 493). (¬3) مواهب الجليل (1/ 539) فتح الجليل (1/ 157). (¬4) أخرجه أحمد في المسند (3/ 162)، رقم (12679)، وضعفه جمع من أهل العلم؛ منهم ابن التركماني كما في هامش سنن البيهقي، وكذا ابن الجوزي كما في نصب الراية (2/ 132)، وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (1238). (¬5) المجموع، للنووي (3/ 495)، الأذكار، للنووي (ص: 86).

الموطن الثاني: القنوت في الوتر.

صلاة الصبح إلا لنازلة تحلّ بالمسلمين، فهنا يشرع القنوت في الصبح وغيره من الصلوات الأخرى كما سنبيّنه إن شاء الله. أما جعل ذلك سنة يداوم عليها فليس بمشروع، دليل ذلك: 1 - ما رواه البخاريّ ومسلمٌ عن أنس - رضي الله عنه - قال: "قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر شهرًا يدعو في قنوته على أحياء من أحياء العرب ثم تركه" (¬1). 2 - ما رواه الترمذيّ عن سعد بن طارق الأشجعيّ -رضي الله عنه- قال: "قلت لأبي: يا أبت، إنّك قد صلّيت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ها هنا بالكوفة نحو خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال: أي بني محدث" (¬2) وفي لفظ آخر عند النسائيّ: "يا بني، إنها بدعة" (¬3). وقال الإِمام الترمذيُّ: "والعمل عليه عند أكثر أهل العلم" (¬4). أما احتجاجهم بحديث: "ما زال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا" فهو حديث ضعيف لا يحتجّ به كما بيَّنا ذلك في الهامش عند تحقيقنا لهذا الحديث. الموطن الثاني: القنوت في الوتر. اختلف الفقهاء في حكم القنوت في الوتر على أربعة أقوال: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، برقم (677). (¬2) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الصلاة، باب ما جاء في ترك القنوت، برقم (402)، أحمد في المسند (3/ 472)، رقم (15920)، وابن ماجه، باب ما جاء في القنوت في صلاة الفجر، برقم (1241). (¬3) أخرجه النسائي في كتاب التطبيق، ترك القنوت، برقم (1080). (¬4) سنن الترمذيُّ (2/ 252).

القول الأول: أن القنوت في الوتر واجب في جميع السنة، وهذا هو قول أبي حنيفة (¬1) وخالفه صاحباه أبو يوسف ومحمَّد (¬2) فقالا بأنه سنة في كل السنة. القول الثاني: أنه لا يشرع القنوت في الوتر، وهذا هو المشهور عند المالكيّة (¬3)، وفي رواية عن مالك (¬4) أنه يقنت في الوتر في العشر الأواخر من رمضان. القول الثالث: أنه يستحبّ القنوت في الوتر في النصف الأخير من شهر رمضان خاصّة. وهذا مذهب الشافعية (¬5). وفي وجه آخر عندهم أنه يقنت في جميع رمضان، وفي وجه آخر أنه يقنت في جميع السنة بلا كراهيّة، ولا يسجد للسهو لتركه في غير النصف الأخير (¬6). القول الرابع: أنه يسنّ القنوت في الوتر في جميع السنة، وهذا هو المشهور عند الحنابلة (¬7) وعليه المذهب. والأظهر -والله أعلم- أن قنوت الوتر، سنة لكن لا يداوم عليه؛ لأنه لم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقنت في الوتر، فالصحابة الذين رووا الوتر لم يذكروا القنوت فيه، فلو كان - صلى الله عليه وسلم - يفعله دائمًا لنقلوه إلينا جميعًا، وكون أحد الصحابة روى ذلك عنه دل على أنه كان يفعله أحيانًا، أي: لا يداوم عليه. ¬

_ (¬1) البحر الرائق (2/ 43 - 45)، بداع الصنائع (1/ 273)، مجمع الأنهر (1/ 128). (¬2) المرجع السابق. (¬3) القوانين الفقهية (ص: 66)، منح الجليل (1/ 157). (¬4) المرجع السابق. (¬5) روضة الطالبين (1/ 330). (¬6) المرجع السابق. (¬7) شرح منتهى الإرادات (1/ 226)، كشاف القناع (1/ 489).

الموطن الثالث: القنوت عند النازلة.

الموطن الثالث: القنوت عند النازلة. اختلف الفقهاء في حكم القنوت عند النازلة على أربعة أقوال: القول الأول: أنّه لا يقنت في غير الوتر إلا لنازلة كفتنة وبلية، فيقنت الإمام في الصلاة الجهريّة (¬1). القول الثاني: أنّه لا يقنت للنازلة في غير الصبح مطلقًا، لا بوتر ولا بسائر الصلوات عند الضرورة، وهذا هو المشهور عند المالكيّة (¬2). القول الثالث: أنّه إذا نزل بالمسلمين نازلة كوباء وقحط أو مطر يضرّ بالعمران أو الزرع أو خوف عدوّ أو أسر عالم، قنتوا في جميع الصلوات وهذا هو المشهور عند الشافعيّة (¬3)، وبه قال بعض المالكيّة (¬4). القول الرابع: وعند الحنابلة أنه يكره في غير وتر إلا أن ينزل بالمسلمين نازلة فإنّه يسنّ للإمام الأعظم القنوت فيما عدا الجمعة من الصلوات المكتوبة لرفع النازلة (¬5). والذي يظهر من هذه الأقوال: أن الأولى فيها مراعاة عموم الأدلّة التي جاءت في ذلك؛ فالذي يظهر من الأدلة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت أول وقوع النازلة في الصلوات الخمس، ثمّ يتركه في الظهر والعصر والعشاء ويبقيه في المغرب والفجر، ثمّ يتركه في المغرب ويبقيه في الفجر ثمّ يتركه إذا زالت النازلة. ¬

_ (¬1) البحر الرائق (2/ 47، 48). (¬2) فتح الجليل (1/ 157)، مواهب الجليل (1/ 539). (¬3) روضة الطالبين (1/ 254)، المجموع (3/ 494). (¬4) شرح الزرقاني على خليل (1/ 212). (¬5) انظر في ذلك: المبدع (2/ 13)، كشاف القناع (1/ 494)، شرح منتهى الإرادات (1/ 229)، المغني (2/ 587).

وإذا كان القنوت لغير نازلة بل هو لحاجة المسلمين والدّعاء لهم وعلى أعدائهم، فإنّ المستحبّ أن يدعو بين الحين والآخر، هذا هو الذي نرجّحه في قنوت النوازل. دليل هذا الترجيح ما يلي: أولًا: كونه - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت في الصلوات الخمس: عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: "قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرًا متتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دبر كل صلاة إذا قال سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة" (¬1). ثانيًا: قنوته - صلى الله عليه وسلم - في الظهر والعشاء والفجر: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لأقربن لكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الظهر والعشاء الآخرة وصلاة الصبح بعد ما يقول سمع الله لمن حمده فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار" (¬2) وفي رواية "وصلاة العصر" بدل من "صلاة العشاء". ثالثًا: قنوته - صلى الله عليه وسلم - في صلاة المغرب والفجر: عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: "إنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت في المغرب ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الوتر، باب القنوت في الصلوات، برقم (1443)، وأحمدُ في المسند (1/ 301)، رقم (2746). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب فضل اللَّهم ربنا ولك الحمد، برقم (764)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، برقم (676) واللفظ للبخاري.

ثانيا: محل القنوت

والفجر" (¬1) وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان القنوت في المغرب والفجر" (¬2). رابعًا: أما قنوته - صلى الله عليه وسلم - في الفجر فقط، فمن ذلك: حديث أنس -رضي الله عنه- في القرّاء الذين قتلوا في بئر معونة قال: " ... فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - على الذين قتلوهم شهرًا في صلاة الغداة ... " (¬3)، وحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّه سمع النّبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة من الفجر بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربّنا ولك الحمد، يقول: "اللَّهم العن فلانًا وفلانًا ... " (¬4). ثانيًا: محل القنوت: اختلف الفقهاء في محلّ القنوت، هل هو قبل الركوع أم بعده؟ فذهب الحنفيّة (¬5) والمالكيّة (¬6) إلى أنّه قبل الركوع أو بعده، غير أنّ المندوب الأفضل كونه قبل الركوع عقب القراءة بلا تكبيرة قبله. أما الشافعيّة (¬7) والحنابلة (¬8) فيرون أنه بعد الرفع من الركوع بعد قول سمع الله لمن حمده ربّنا لك الحمد. والأظهر هو جواز الأمرين. وهو قول الجمهور، فيجوز أن يكون القنوت قبل الركوع ويجوز بعده؛ لورود الأمرين عنه - صلى الله عليه وسلم -، ولذا بوّب البخاري -رحمه الله- ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، برقم (678). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب صفة الصلاة، باب فضل اللَّهم ربنا ولك الحمد، برقم (765). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان ... ، برقم (3860). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب التفسير، باب {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}، برقم (3842). (¬5) بدائع الصنائع (1/ 273). (¬6) مواهب الجليل (1/ 539). (¬7) المجموع في شرح المهذب (3/ 495). (¬8) كشاف القناع (1/ 489).

ثالثا: مدة القنوت للنازلة

بابًا قال فيه: "باب القنوت قبل الركوع وبعده". لكن الأولى أن يقنت بعد الركوع؛ لأن رواة القنوت بعده أكثر وأحفظ، فهو أولى، والأمر فيه سعة ولله الحمد. ثالثًا: مدّة القنوت للنازلة: تختلف مدّة القنوت في النازلة وذلك حسب النازلة، فيشرع القنوت مدّة النازلة إن كانت ذات وقت. فإنْ نزلت فجأة ثمّ أقلعت فيشرع لأيّام بعدها، والسنة في ذلك شهرًا. وإن كان لحاجة المسلمين فحتى تقضى. فإن طالت قنت وترك إلى أن تزول. فهي سنته - صلى الله عليه وسلم - في قنوت النازلة. فقد قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرًا في صلاة الغداة يدعو علي بني سُليم ورِعْل وذَكْوَانَ حينما قتلوا القرّاء (¬1). أما استمراره بالقنوت ما دامت النازلة نازلة فقد جاء في البخاري ومسلمٌ أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللَّهم نَجِّ الوليد بن الوليد اللَّهم نَجِّ عَيَّاشَ بن أبي ربيعة، اللَّهم نجّ المستضعفين من المؤمنين" قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: ثمّ رأيت النّبي - صلى الله عليه وسلم - ترك القنوت بعد، فقلت: أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ترك القنوت؟ قال: قيل "وما تراهم قد قدموا" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان ... ، برقم (3860)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، برقم (677). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}، برقم (4322)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، برقم (675).

رابعا: في حكم الجهر والإسرار في القنوت

رابعًا: في حكم الجهر والإسرار في القنوت: ذهب المالكيّة (¬1) إلى استحباب الإسرار بالقنوت في حق الإِمام والمأموم والمنفرد؛ وذلك لأنه دعاء فينبغي الإسرار به حَذَرًا من الرياء. أما الشافعيّة (¬2) فيفرِّقون بين ما إذا كان المصلي إمامًا أو منفردًا أو مأمومًا؛ فإن كان إمامًا فيستحبّ له الجهر بالقنوت، وإن كان منفردًا فيسرّ بلا خلاف، وإن كان مأمومًا؛ فإن لم يجهر الإِمام قنت سرًا كسائر الدعوات، وإن جهر الإِمام أمَّن على دعائه. وهذا هو الصحيح وعليه أكثر أهل العلم. والجهر به سواء كانت الصلاة جهريّة أو سرية، فيدعو الإِمام ويؤمِّن المأموم على دعائه. خامسًا: في حكم رفع اليدين في القنوت: ذهب المالكيّة (¬3) إلى أنّه لا يشرع رفع اليدين في القنوت، أمّا الشافعيّة (¬4) ففيه وجهان عندهم؛ أصحّهما استحباب الرفع وهو قول الحنابلة (¬5) وهو الصحيح؛ لوروده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال أنس -رضي الله عنه-: "فما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد على شيء قَطُّ وَجْدَهُ عليهم -يعني- القرّاء" فلقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الغداة رفع يديه فدعا عليهم ... " (¬6)، وكذلك ذكر البيهقي (¬7) آثارًا كثيرة عن الصحابة أنّهم كانوا يرفعون ¬

_ (¬1) مواهب الجليل (1/ 39)، والعدوي على كفاية الطالب (1/ 139). (¬2) المجموع (3/ 492 - 511)، روضة الطالبين (1/ 253). (¬3) مواهب الجليل (1/ 540). (¬4) المجموع (3/ 500 - 501). (¬5) شرح منتهى الإرادات (1/ 226). (¬6) أخرجه أحمد (3/ 137) رقم (12425). (¬7) سنن البيهقي الكبرى (2/ 211).

سادسا: في حكم مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من القنوت

أيديهم في القنوت، وكذلك النووي في المجموع (¬1). سادسًا: في حكم مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من القنوت: اختلف الفقهاء في هذه المسألة؛ فالشافعيّة (¬2) لهم وجهان، أصحّهما عدم استحباب المسح. أما الحنابلة (¬3) فقد اختلفت الروايات عن الإِمام أحمد في ذلك؛ فأشهرها أنه يمسح، واختارها الأكثرون، والثانية: أنه لا يمسح، نقلها جماعة. واختارها الآجري؛ لضعف الخبر، والثالثة: يكره، والرابعة: يمرّها على صدره. والصواب أنه لا يستحب مسح الوجه في الدعاء خارج الصلاة ولا في القنوت؛ لعدم ورود ذلك، والأحاديث التي جاءت في مسح الوجه ضعيفة لا يحتجّ بها. ذكر بعض الصِّيَغ المستحبّة في دعاء القنوت: ذكرنا أنَّه ليس هناك صيغة ملزمة بالدعاء في القنوت، لكن يستحبّ للمصلي أن يأتي بما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك وكذا عن صحابته -رضي الله عنهم-، فمن ذلك: 1 - "اللهمّ إنا نستيعنك ونستغفرك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونخضع لك ونخلع ونترك من يكفرك، اللَّهم إيّاك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخاف عذابك إن عذابك الجِدَّ بالكافرين مُلْحِقٌ" (¬4). 2 - "اللَّهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولّني فيمن تولّيت وبارك لي فيما أعطيت وقني شرّ ما قضيت، إنّك تقضي ولا يقضى عليك وإنّه ¬

_ (¬1) المجموع (3/ 511). (¬2) المجموع شرح المهذب (3/ 500). (¬3) المبدع (2/ 12)، المغني (4/ 585). (¬4) أخرجه البيهقيُّ في كتاب الصلاة، باب دعاء القنوت، برقم (2961) من حديث خالد بن أبي عمران -رضي الله عنه-.

تنبيه

لا يذلّ من واليت تباركت ربنا وتعاليت" (¬1) وإن زاد: "ولا يعزّ من عاديت" (¬2) قبل: "تباركت ربّنا وتعاليت" وكذلك: "فلك الحمد على ما قضيت أستغفرك وأتوب إليك" فلا بأس. 3 - "اللَّهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وألِّف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم وانصرهم على عدوِّك وعدوِّهم، اللَّهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يصدّون عن سبيلك ويكذّبون رسلك ويقاتلون أولياءك، اللَّهم خالف بين كلمتهم وزلزل أقدامهم وأنزل بهم بأسك الذي لا تردّه عن القوم المجرمين" (¬3). فهذه بعض صيغ القنوت التي يستحب الإتيان بها. تنبيه: إذا كان المصلي إمامًا لا يخصّ نفسه بالدعاء بل يعمّم ويأتي بلفظ الجمع: "اللَّهم اهدنا". سابعًا: حكم الإطالة في الدعاء في القنوت: وينبغي أن يكون دعاؤه جامعًا ولا يطيل فيه؛ فالمعروف من هديه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان لا يطيل في قنوته، بل كان يأتي بجوامع الكلم. أما ما يفعله الكثير من أئمة المساجد في زماننا من إطالة للدعاء وتعمّد السجع فيه، فهذا ليس من هديه - صلى الله عليه وسلم -. والعبرة في الدعاء تكون بصدق الداعي وطهارة نفسه وإخلاصه وقوة رجائه والعبودية لله تعالى فيه، وليست العبرة بطول الدعاء وتكلّف السجع. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الوتر، باب القنوت في الوتر، برقم (1425)، والترمذيُّ في أبواب الوتر، باب ما جاء في القنوت في الوتر، برقم (464) من حديث الحسن بن علي -رضي الله عنهما-. (¬2) أخرجه البيهقيُّ في كتاب الصلاة، باب دعاء القنوت، برقم (2957). (¬3) أخرجه البيهقيُّ في كتاب الصلاة، باب دعاء القنوت، برقم (2962) من حديث عبيد بن عمير -رضي الله عنه-.

ثامنا: حكم الدعاء على معين

قال الإِمام البخاري: "باب ما يكره من السجع في الدعاء" وساق هذا الأثر عن عكرمة عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: "حَدِّثِ الناس كل جمعة مرّة، فإن أَبَيْتَ فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرّات. ولا تملّ الناس هذا القرآن، ولا ألفَيَنَّكَ تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقصّ عليهم فتقطع عليهم حديثهم فتملّهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه. وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه؛ فإني عهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب" (¬1). ومعنى السجع هو الكلامُ المتشابهُ المخارجِ وليس بشعر. وخلاصة الكلام في ذلك أنّه لا يتكلّف الداعي السجع تكلّفًا يذهب صدق الدعاء واللهج به ويصرفه عن قصده. ولا يطيل فيه إطالة يخالف فيها هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ويشقّ على المأموم فيها. فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحبّ الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك" (¬2). ثامنًا: حكم الدعاء على مُعَيَّنٍ: لا يجوز تعيين أشخاص بأسمائهم بالدعاء عليهم، وما نراه من بعض الأئمة من تعيين رموز الكفر بالدعاء عليهم، هذا الأمر لا ينبغي؛ وذلك لأمور منها: أولًا: أن الله تعالى نهى نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك حينما عين بعض الأشخاص -وهم صفوان بن أميّة وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام- فأنزل الله تعالى: {ليْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (¬3)، (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الدعوات، باب ما يكره من السجع في الدعاء، برقم (5978). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الوتر، باب الدعاء، برقم (1482). (¬3) سورة آل عمران: 128. (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب التفسير، باب {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}، برقم (3842).

ثانيًا: لعلّ الله أن يتوب على المدعُوِّ عليه فَيُسْلِمَ، وهذا قد حصل فيمن ذكرنا أسماءهم؛ فقد تاب الله عليهم كلهم، فأسلموا وحسن إسلامهم. ثالثًا: أنه في دندنة المسلم بلعن الكافر المعين صرفٌ عن المقصود الأول والحكمة البالغة، فإن في تعيينه باسمه ما يحمله أن يزداد في طغيانه وصرفه عن دعوة الإِسلام التي جاءت بمثابة الهداية لجميع الخلق، وهذا أمر محسوس وملموس؛ فإن الواحد منا لا يرضى أن يذكر بأمر يسوءه، بل يزداد تمرّدًا عن قبوله للحق، فكيف بحال من لم يذق طعم الإيمان؟! رابعًا: من نظر إلى دعاء عمر -رضي الله عنه- في قنوته يجِدْ أنه سلك المنهج النبوي، فلم يعيّن، بل قال: "اللَّهم العن كفرة أهل الكتاب الذي يصدّون عن سبيلك ويكذّبون رسلك ويقاتلون أولياءك ... " (¬1) وهؤلاء كان لهم حكَّام، فلم يعيّنهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بأسمائهم بل عمّم ولم يخصّ. ومن هنا نرى أنه لا يشرع تعيين أحد من الكفرة ولا غيرهم في القنوت؛ حيث ورد النهي عنه، وفي الدعاء بالوصف كما فعل عمر -رضي الله عنه- غُنْيَةٌ. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقيُّ في كتاب الصلاة، باب دعاء القنوت، برقم (2962) من حديث عبيد بن عمير -رضي الله عنه-.

أحكام سجود السهو

أحكام سجود السهو أولًا: تعريفه: سجود السهو عرفه الفقهاء بأنه: "ما يكون في آخر الصلاة أو بعدها؛ لجبر خلل؛ بترك مأمور به، أو فعل منهي عنه دون تعمد" (¬1). ثانيًا: حكم سجود السهو: اختلف الفقهاء في حكم سجود السهو: 1 - فالحنفية (¬2) والحنابلة (¬3) على وجوب سجود السهو، ودليلهم حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يَدْرِ كم صلى، ثلاثًا أم أربعًا، فليطرح الشك وَلْيَبْنِ على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسًا شَفَعْنَ له صلاته، وإن كان صلى إتمامًا لأربع، كانتا ترغيمًا للشيطان" (¬4). وجاء في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين" وفي رواية: "فإذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين" (¬5). ¬

_ (¬1) الإقناع، للشربيني (2/ 89). (¬2) الفتاوى الهندية (1/ 125). (¬3) كشاف القناع (1/ 408)، المغني (2/ 433). (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، برقم (571). (¬5) أخرجه البخاريُّ في أبواب القبلة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، رقم (392)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، رقم (572). واللفظ لمسلم.

وجه الدلالة من الحديثين أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر من شكّ أو نسي فزاد أو نقص في صلاته، أن يسجد سجدتين، والأمر يقتضي الوجوب. 2 - وذهب المالكية (¬1) إلى أنه سنة، سواء كان قبل السلام أو بعده، وهو المشهور في مذهبهم، وقول آخر أنهم يفرقون بين السهو في الأفعال والسهو في الأقوال وبين الزيادة والنقصان؛ فقالوا بأن سجود السهو الذي يكون في الأفعال الناقصة واجب، وقول آخر عندهم: إن كان للزيادة فهو مستحب، وإن كان للنقصان فهو واجب (¬2). 3 - أما الشافعية (¬3) فيرون أنه سنة مطلقًا، وهذه هي إحدى الروايتين عند الحنابلة. والصحيح ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة، أن سجود السهو واجب، وهذا هو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬4) وهو قول الشيخين ابن باز وابن العثيمين (¬5)، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬6). وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به وداوم عليه ولم يدعه، وهذه دلائل واضحة بينة على وجوبه. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 273). (¬2) بداية المجتهد، لابن رشد (1/ 195). (¬3) نهاية المحتاج (2/ 62)، المجموع، للنووي (4/ 138). (¬4) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (23/ 27، 28). (¬5) مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز (11/ 251)، الشرح الممتع (3/ 339). (¬6) مجموع فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 126) رقم (11071).

ثالثا: أسباب سجود السهو

ثالثًا: أسباب سجود السهو: أسباب السجود للسهو ثلاثة: 1 - الزيادة. 2 - النقصان. 3 - الشك. فيجب تارة، ويسن أخرى. ولا يعني ذلك أنه يشرع في كل زيادة أو نقص أو شك، بل حسبما ورد به الدليل. ولا يشرع سجود السهو في العمد؛ لأنه إن ترك ركنًا أو واجبًا عمدًا بطلت صلاته، فلا فائدة من سجود السهو حينئذ؛ لأنه غير معذور. وإن ترك سنة عمدًا فصلاته صحيحة، لكن هل يسجد للسهو عند تركه سنة من السنن؟ محل خلاف، والصواب أنه لا يشرع لترك السنن سجود السهو. ولا يشرع كذلك سجود السهو لحديث النفس؛ لعدم ورود نص بذلك. ولبيان ذلك نقول: أولًا: الزيادة في الصلاة: الأول: إذا زاد المصلي في صلاته قيامًا أو قعودًا أو سجودًا متعمدًا، بطلت صلاته. الثاني: إن كان ناسيًا ولم يذكر الزيادة حتى فرغ منها، فليس عليه إلا سجود السهو، وصلاته صحيحة. الثالث: إن ذكر الزيادة في أثنائها وجب عليه الرجوع عنها. ووجب عليه سجود السهو، وصلاته صحيحة.

ثانيا: النقصان في الصلاة

ثانيًا: النقصان في الصلاة: النقص في الصلاة إما أن يكون نقصًا في الأركان أو نقصًا في الواجبات؛ فإن كان النقص في الأركان ففي ذلك تفصيل على النحو الآتي: 1 - إن كان النقص في تكبيرة الإحرام فلا صلاة له، سواء تركها عمدًا أو سهوًا؛ لأن صلاته لم تنعقد. 2 - وإن كان غير تكبيرة الإحرام؛ فإن تركه عمدًا بطلت صلاته، وإن تركه سهوا فله حالتان: الحالة الأولى: أن يصل إلى موضعه من الركعة الثانية، فهنا تلغى الركعة التي تركه منها، وتقوم الثانية مقام الأولى. الحالة الثانية: إن لم يصل إلى موضعه في الركعة الثانية، وجب عليه أن يعود إلى الركن المتروك فيأتي به وبما بعده ثم يسجد للسهو، وصلاته صحيحة. وإن كان النقص في الواجبات فهنا له أربع حالات: الحالة الأولى: إن ترك المصلي واجبًا من واجبات الصلاة متعمدًا، بطلت صلاته. الحالة الثانية: إن ترك الواجب ناسيًا ثم ذكره قبل أن يفارق محله في الصلاة، أتى به ولا شيء عليه. الحالة الثالثة: أن يترك الواجب ناسيًا ثم يذكره بعد مفارقة محله قبل أن يصل إلى الركن الذي يليه، فالواجب عليه أن يرجع؛ ليأتي به، ثم يكمل صلاته ثم يسجد للسهو ويسلم. الحالة الرابعة: أن يترك المصلي الواجب ناسيًا ثم يذكره بعد وصوله إلى

ثالثا: الشك

الركن الذي يليه، فهنا يسقط عنه الإتيان به ولا يرجع إليه، بل يستمر في صلاته ويسجد للسهو. ثالثًا: الشك: لا يخلو الشك في الصلاة من حالتين: الحالة الأولى: أن يترجح عنده أحد الأمرين، فيعمل بما ترجح عنده، فيتم صلاته ويسلم ثم يسجد للسهو ويسلم. فلو شك في الركعة هل هي الثانية أو الثالثة لكن ترجح عنده أنها الثالثة، فإنه يجعلها الثالثة ثم يسجد للسهو. الحالة الثانية: أن لا يترجح عنده أحد الأمرين، فيعمل باليقين، وهو الأقل، ثم يتم صلاته ويسجد للسهو قبل أن يسلم ثم يسلم. أحكام متعلقة بالشك في الصلاة: 1 - من شك في صلاته فعمل باليقين أو بما ترجح عنده ثم تبين له أنه لا زيادة ولا نقص، هل يلزمه سجود السهو؟ على قولين: قيل: إنه يسقط عنه سجود السهو، لزوال موجب السجود وهو الشك. وقيل بأنه لا يسقط عنه؛ ليراغم به الشيطان، ولأنه أدى جزءًا من صلاته شاكًا فيه حين أداه. وهذا هو الراجح. 2 - إذا جاء المأموم فوجد إمامه راكعًا فركع معه غير أنه شك هل أدرك معه الركوع أم لا، فما المشروع في حقه؟ الجواب: هذه الحال لا تخلو من أمرين:

الأمر الأول: أن يشك هل أدرك الإِمام في ركوعه أم لا ثم يترجح عنده أحد الأمرين -أي: أنه أدرك الركوع مع الإِمام أو أنه لم يدرك الركوع مع الإِمام- فهنا يعمل بما ترجح عنده فيتم صلاته ثم يسلم ثم يسجد للسهو ويسلم. الأمر الثاني: أن يشك هل أدرك الركوع أم لا ولا يترجح عنده، فهنا يعمل باليقين فيبني على الأقل، وهو أن الركعة فاتته، فيتم صلاته ثم يسجد للسهو قبل أن يسلم ثم يسلم. 3 - إذا سها الإِمام وجب على المأموم متابعة إمامه في سجود السهو؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه" إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا سجد فاسجدوا" (¬1). فيسجد المأموم مع إمامه، سواء كان سجوده للسهو قبل السلام أو بعده، إلا أن يكون المأموم مسبوقًا، أي قد فاته شيء من صلاته -فهنا لا يتابعه في السجود بعده؛ لتعذر ذلك؛ لأنه لا يمكن أن يسلم مع إمامه، لكن الواجب عليه أن يقضي ما فاته من صلاته ويسلم ثم يسجد للسهو بعد السلام. 4 - إذا سها المأموم دون الإِمام هل يلزمه سجود السهو؟ في هذه المسألة لا يخلو المأموم من حالتين: الحالة الأولى: أن يسهو المأموم ولم يفته شيء من الصلاة؛ بمعنى أنه يدرك الصلاة من أولها مع الإِمام ثم يطرأ عليه نِسْيَانٌ، فيسجد حال ركوع الإِمام مثلًا أو يقوم حال جلوس الإِمام، فهنا لا سجود عليه؛ لأن سجوده يؤدي إلى الاختلاف عن الإِمام واختلال متابعته، ولأن الإِمام يتحمل السهو عن المأموم في هذه الحالة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والأمامة، باب إقامة الصف من تمام الصلاة، رقم (689)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، رقم (414) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

الحالة الثانية: أن يكون المأموم مسبوقًا بركعة أو أكثر ثم سها مع إمامه أو فيما قضاه بعده، فهنا لا يسقط عنه سجود السهو، بل يلزمه الإتيان به. 5 - محل سجود السهو في الصلاة: اختلف الفقهاء في موضع سجود السهو في الصلاة: أ- فالحنفية (¬1) يرون أن سجود السهو يكون بعد السلام مطلقًا، سواء في الزيادة أو النقصان. ب- أما المالكية (¬2) فإنهم يفرقون بين الزيادة والنقصان، فإن كان السهو عن نقصان فالسجود يكون قبل السلام، وإن كان عن زيادة فيكون بعد السلام، وإن جمع بين زيادة ونقص فيسجد قبل السلام؛ ترجيحًا لجانب النقص. ج- أما الشافعية (¬3) فالأظهر عندهم أنه يكون قبل السلام، وفي قول آخر: إن شاء قبل السلام وإن شاء بعده. د- أما الحنابلة (¬4) فيرون أن سجود السهو كله قبل السلام، إلا في الموضعين اللذين ورد النص بسجودهما بعد السلام، وهما إذا سلم من نقص ركعة فأكثر، وإذا تحرى الإِمام فبنى على غالب ظنه، فهنا يكون محل سجود السهو بعد السلام. وهذا هو الراجح؛ لما فيه من جمع بين الأدلة، والجمع أولى من الترجيح. 6 - حكم من سها عن سجود السهو: إذا سها المصلي عن سجود السهو فقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أقوال: ¬

_ (¬1) رد المحتار على الدر المختار (1/ 492 - 495). (¬2) الشرح الصغير (1/ 378 - 379). (¬3) المجموع، للنووي (4/ 69). (¬4) المغني، لابن قدامة (2/ 22 - 23)، مغني المحتاج (1/ 209).

أ- فالحنفية (¬1) يرون أنه يلزمه سجود السهو ما دام في المسجد. ب- والمالكية (¬2) يفرقون بين سجود السهو الذي قبل السلام والذي بعده؛ فإن سها عن سجود السهو البعدي يقضيه متى ذكره، ولو بعد سنين، فلا يسقط بطول الزمان. أما السجود القبلي فإنهم قيدوه بعدم خروجهم من المسجد رقم يطل الزمان وهو في مكانه أو قربه. ج- أما الشافعية (¬3) فيرون أنه إن طال الفصل فإنه يسقط. د- أما الحنابلة (¬4) فيرون أنه إن نسي سجود السهو قضاه، وذلك بشرطين: الأول: أن يكون في المسجد، الثاني: أن لا يطول الفصل. وهذا هو الأقرب. 7 - حكم استجابة الإِمام للمأمومين ومتابعتهم. ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الإِمام إذا زاد في صلاته وتيقن المأموم أنه قام لركعة زائدة، فإن الواجب على المأموم أن ينبه الإِمام، وذلك بالتسبيح، أي قول سبحان الله، للرجال، أما النساء فالمشروع في حقهن التصفيق. لكن إذا كان الإِمام على يقين أو غلب على ظنه أنه مصيب والمأموم يرى أنه مخطئ، فهنا لا يستجيب لهم، ولا يجوزُ للمأمومين إذا كانوا كثرة ويرون أن الإِمام قد زاد في الصلاة، متابعةُ الإِمام على الزيادة. ¬

_ (¬1) رد المحتار على الدر المختار (1/ 505). (¬2) الشرح الصغير (1/ 387 - 389). (¬3) المجموع (4/ 156). (¬4) المغني (2/ 432).

باب في ذكر أحكام صلاة التطوع

باب في ذكر أحكام صلاة التطوع أولًا: تعريف صلاة التطوع: صلاة التطوع هي ما زادت على الفرائض، لقوله - صلى الله عليه وسلم - حينما سأله الأعرابي عن الإِسلام، فقال: "خمس صلوات في اليوم والليلة"، قال: هل علي غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تَطَوَّعَ" (¬1). ثانيًا: الحكمة في مشروعيتها: الصلاة كما لا يخفى هي ركن من أركان الدين ومبانيه العظام؛ لأنها في الحقيقة صلة بين العبد وخالقه، ولذلك رغب الرب -سبحانه وتعالى- في الإكثار منها والحث عليها؛ حتى يزداد العبد قربًا وصلة من ربه -سبحانه وتعالى-، قال - صلى الله عليه وسلم -: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" (¬2). ومن هنا شرع الله تعالى لعباده صلاة التطوع زيادة على الفرائض؛ لتدوم الصلة به، بل جعل صلاة التطوع منها ما هو قبل الفرائض ومنها ما هو بعدها؛ لجبر النقص الحاصل في الفريضة. ولذلك استنبط العلماء بعض المعاني اللطيفة، فقالوا: أمَّا في تقديم السنن على الفرائض فلأن النفس لاشتغالها بأسباب الدنيا بعيدة عن حال الخشوع والحضور التي هي روح العبادة، فإذا قدمت النوافل على الفرائض أنست النفس بالعبادة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإِسلام، برقم (46)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإِسلام، برقم (11). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم (482) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

ثالثا: حكم صلاة التطوع

أما في تأخيرها عن الصلاة فقد ورد في أن النوافل جابرة لنقص الفرائض، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم، الصلاة. قال: يقول ربنا -جل وعز- لملائكته وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها، فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئًا قال: انظروا هل لعبدي من تطوع، فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم" (¬1). ثالثًا: حكم صلاة التطوع: صلاة التطوع سنة، لكن منها ما هو سنن مؤكدة، ومنها ما هو غير مؤكد. والسنن المؤكدة هي: ما حافظ عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورغَّب في المحافظة عليها. ذكر بعض السنن المؤكدة: أولًا: السنن الرواتب: وهي التي تكون دائمة مستمرة تابعة للفرائض، وهذه السنن منها ما يكون قبل الصلاة، ومنها ما يكون بعدها. فالتي قبل الصلاة كركعتي الفجر، وأربع ركعات أو اثنتين قبل الظهر. أما التي بعد الفرائض، فهي ركعتان بعد الظهر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء. وقد اختلف الفقهاء في عدد السنن الرواتب، فمنهم من ذهب إلى أنها عشر ركعات، وذهب آخرون إلى أنها اثنا عشرة ركعة، وهذا هو الصحيح، لحديث عائشة -رضي الله عنها-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدع أربعًا قبل الظهر، وركعتين قبل الغداة" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل صلاة لا يتمها صاحبها تتم من تطوعه" برقم (864) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 163)، برقم (770). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب التهجد، باب الركعتين قبل الظهر، برقم (1127).

أفضل السنن الرواتب

وعن أم المؤمنين حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - و -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير فريضة، إلا بنى الله له بيتًا في الجنة، أو إلا بني له بيت في الجنة" (¬1). أفضل السنن الرواتب: أفضل السنن الرواتب وأشدها تأكيدًا ركعتا سنة الفجر، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشدَّ منه تعاهدًا على ركعتي الفجر" (¬2). ومما يدل على تأكيدهما أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدعهما في الحضر أو السفر. خصائص ركعتي الفجر: 1 - تخفيفها: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح، حتى إني لأقول هل قرأ بأم الكتاب" (¬3). 2 - القراءة فيهما بـ "الكافرون والإخلاص": فمن هديه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقرأ في ركعتي الفجر سورتي {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} كما ذكر ذلك أبو هريرة -رضي الله عنه- (¬4) وأحيانًا كان يقرأ فيهما، في الركعة الأولى منها: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن، برقم (728). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب التهجد، باب تعاهد ركعتي الفجر وما سماها تطوعًا، برقم (1116). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب أبواب التطوع، باب ما يقرأ في ركعتي الفجر ومن سماهما تطوعًا، برقم (1118). (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليهما، برقم (726).

إِليْنَا ..} (¬1)، وفي الركعة الثانية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ...} (¬2)، (¬3). فيسن الإتيان بهذا وهذا؛ لكي يتحقق الإتيان بالسنة. وقد ذهب أبو حنيفة (¬4) إلى أنه لا توقيف في هاتين الركعتين في القراءة يستحب، وأنه يجوز أن يقرأ فيهما المرء حزبه من الليل. قلنا: والصحيح ما ذهب إليه الأولون من استحباب القراءة فيهما بما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لورود ذلك في الصحيحين وغيرهما. 3 - مشروعيتها في السفر والحضر: ركعتا الفجر تصلى في السفر، وقد ذكرنا حديث عائشة -رضي الله عنها- سابقًا، فهي بخلاف الرواتب الأخرى؛ فإنه يشرع تركها في السفر. 4 - ثوابها: تميزت ركعتا الفجر عن غيرها في الثواب والأجر، فهما خير من الدنيا وما فيها، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" (¬5). 5 - أنه يسن الاضطجاع على الجنب الأيمن بعدها: وقد اختلف الفقهاء في حكم الاضطجاع بعد ركعتي الفجر لمن صلاهما؛ فقيل بأنها سنة مطلقًا، وقيل بأنها ليست بسنة مطلقًا، وقيل بأنها شرط لصحة صلاة الفجر. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 136. (¬2) سورة آل عمران: 64. (¬3) أخرجه مسلمٌ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليهما، برقم (727). (¬4) بدائع الصنائع (2/ 735، 739، 747). (¬5) أخرجه مسلمٌ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليهما، برقم (725).

ثانيا: الوتر

والصحيح من الأقوال أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر سنة لمن يقوم بالليل؛ لأنه يحتاج إلى الراحة. لكن إذا كان المضطجع ممّن إذا وضع جنبه على الأرض نام ولم يستيقظ إلا بعد مدة طويلة يترتب عليها تضييعه لصلاة الصبح في جماعة، فهنا لا يسن له فعل هذا الاضطجاع؛ لأنه يفضي إلى ترك واجب، وربما يفوته أداء الصلاة في وقتها فيؤديها بعد طلوع الشمس. ثانيًا: الوتر: 1 - تعريفها: الوتر في اللغة -بفتح الواو وكسرها-: هو العدد الفردي، كالواحد والثلاثة والخمسة، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله وتر يحب الوتر" (¬1) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من استجمر فَلْيُوتِرْ" (¬2) أي: فَلْيَسْتَنْجِ بثلاثة أحجار أو خمسة أو سبعة. أما في الاصطلاح فهي: صلاة تفعل بين صلاة العشاء وطلوع الفجر، سميت بذلك؛ لأنها تصلى وترًا، أي: ركعة واحدة أو ثلاثًا أو أكثر. 2 - حكم صلاة الوتر: اختلف الفقهاء في حكم صلاة الوتر على قولين: القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن صلاة الوتر سنة مؤكدة وليست واجبة، واحتجوا لذلك بما يأتي: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوتر، باب لله مئة اسم غيرَ واحدة، برقم (6047). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب الاستجمار وترًا، برقم (160)، ومسلمٌ، كتاب الطهارة، باب الإيتار في الاستنثار والاستجمار، برقم (237).

أما أدلة تأكيد سنيتها فمنها

أولًا: حديث طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- في الأعرابي الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عما فرض عليه في اليوم والليلة، فقال: "خمس صلوات"، فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تَطَوَّعَ شيئًا" (¬1). ثانيًا: ما رواه النسائي وغيره عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئًا استخفافًا بحقهن، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عهد عند الله؛ إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة" (¬2). ثالثًا: ما جاء عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: "الوتر ليس بحتم كهيئة المكتوبة، ولكنه سنة سنها - صلى الله عليه وسلم -" (¬3). هذه أدلة عدم وجوب الوتر. أما أدلة تأكيد سنيتها فمنها: أولًا: حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتر ثم قال: "يا أهل القرآن، أَوْتِرُوا فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- وتر يحب الوترِ" (¬4). ثانيًا: حديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه- خَطَبَ الناسَ يوم الجمعة فقال: إن أبا بَصْرَةَ حدثني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله زادكم صلاة، وهي الوتر، فصلوها فيما بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإِسلام، برقم (46)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإِسلام، برقم (11). (¬2) أخرجه النسائي في كتاب الصلاة الأولى، باب المحافظة على الصلوات الخمس، برقم (322). (¬3) أخرجه النسائي في كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب الأمر بالوتر، برقم (1676) وصححه الألباني. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الوتر، باب استحباب الوتر، برقم (1416)، والنسائيُّ في كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب الأمر بالوتر، برقم (1675) وصححه الألباني. (¬5) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده (6/ 7) رقم (23902).

3 - وقت الوتر

فهذه الأدلة وغيرها تدل على أن الوتر سنة مؤكدة. القول الثاني: ذهب أبو حنيفة (¬1) إلى أن الوتر واجب، واستدل على ذلك بأدلة منها: أولًا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا" (¬2). ثانيًا: حديث عمرو المتقدم ذكره وقوله - صلى الله عليه وسلم - فيه: "فصلوها فيما بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر ... " (¬3). قالوا: الأمر هنا للوجوب. ثالثًا: أنها صلاة مؤقتة، وقد جاء في السنة ما يدل على أنها تقضى. والصحيح من القولين هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء؛ من أن الوتر سنة مؤكدة؛ لقوة الأدلة، وما احتج به أصحاب القول الثاني؛ فهو إما أن يكون حديثًا ضعيفًا، أو أن الاحتجاج به في غير المراد. وقولنا بأنه سنة مؤكدة لا يعني التقليل من شأنه، بل على الإنسان المسلم أن يحرص على الوتر كل الحرص، فلا يتركه عمدًا، قال الإِمام أحمد: "من ترك الوتر عمدًا فهو رجل سوء ولا ينبغي أن تقبل شهادته" (¬4). فأراد بهذا أن يبالغ في تأكيده على الوتر. 3 - وقت الوتر: اتفق الفقهاء على أن وقته من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، كما اتفقوا على أن أفضل وقته هو السَّحَرُ؛ لقول عائشة -رضي الله عنها- حيث قالت: "من كل الليل قد ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 300 - 303). (¬2) أخرجه أبو داود، كتاب الوتر، باب فيمن لم يوتر، برقم (1419). (¬3) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده (6/ 7)، رقم (23902). (¬4) المغني (2/ 594).

4 - حكم صلاة الوتر بعد طلوع الفجر

أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ من أول الليل وأوسطه وآخره، فانتهى وتره إلى السحر" (¬1). وعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل؛ فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل" (¬2). 4 - حكم صلاة الوتر بعد طلوع الفجر: اختلف الفقهاء في ذلك؛ فذهب البعض إلى أنها تُصلى ولو بعد طلوع الفجر ما لم يصل الصبح، وذهب آخرون إلى أنه لا تصلى بعد طلوع الفجر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أوتروا قبل أن تصبحوا" (¬3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث خارجة المتقدم: " ... فصلوها ما بين العشاء وطلوع الفجر" (¬4) وهذا هو القول الصحيح. 5 - حكم قضاء صلاة الوتر: إذا طلع الفجر ولم يوتر المسلم فالمشروع في حقه أن يصلي من الضحى وترًا مشفوعًا بركعة، فإذا كان من عادته أنه يوتر بثلاث جعلها أربعًا، وإن كان من عادته أن يوتر بخمس جعلها ستًا؛ وذلك لحديث عائشة -رضي الله عنها-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل وأن الوتر ركعة وأن الركعة صلاة صحيحة، برقم (745). (¬2) أخرجه مسلمٌ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، برقم (755). (¬3) أخرجه مسلمٌ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل مثنى مثنى والوتر ركعة، برقم (754). (¬4) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده (6/ 7)، رقم (23902). (¬5) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، برقم (746).

6 - عدد ركعات الوتر

6 - عدد ركعات الوتر: أولًا: أقل الوتر: أما أقل الوتر فعند المالكية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3) ركعة واحدة، ويجوز ذلك عندهم بلا كراهية، والاقتصار عليها خلاف الأولى، واستدلوا لذلك بما ورد عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رجلًا قال: يا رسول الله، كيف صلاة الليل؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة" (¬4). وقال الحنفية (¬5): لا يجوز الإتيان بركعة. والصحيح من القولين هو القول الأول وهو جواز الاقتصار على ركعة في الوتر، لحديث ابن عمر. ثانيًا: أكثر الوتر: أما أكثره فعند الشافعية (¬6) والحنابلة (¬7) إحدى عشرة ركعة، وفي قول عند الشافعية ثلاث عشرة ركعة. والأولى أنه إحدى عشرة ركعة، وإن أوتر أحيانًا بثلاث عشرة ركعة، فلا بأس؛ ¬

_ (¬1) الاستذكار، لابن عبد البر (2/ 110)، المنتقى، للباجي (1/ 215). (¬2) شرح المحلى على المنهاج وحاشية القليوبي (1/ 212). (¬3) كشاف القناع (1/ 416). (¬4) أخرج البخاري، كتاب أبواب التهجد، باب كيف كانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل؟ برقم (1086)، ومسلمٌ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل مثنى مثنى والوتر ركعة من آخر الليل، برقم (749). (¬5) الهداية وفتح القدير والغاية (1/ 304). (¬6) المحلى على المنهاج (1/ 212). (¬7) كشاف القناع (1/ 416).

ثالثا: أدنى الكمال للوتر

لحديث أم سلمة -رضي الله عنها-: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث عشرة ركعة" (¬1). ثالثًا: أدنى الكمال للوتر: أدنى الكمال للوتر ثلاث ركعات، فلو اقتصر على ركعة كان خلاف الأولى، على أنه لا يكره الإتيان بها، ولو بلا عذر. 7 - صفة صلاة الوتر: لصلاة الوتر صفتان: الوصل، والفصل. أولًا: الفصل: والمراد أن يفصل المصلي بين ركعات الوتر؛ فيسلم من كل ركعتين، فإذا صلى خمسًا مثلًا صلى ثنتين ثم ثنتين ثم يسلم، ثم يصلي واحدة هكذا. ودليل هذه الصورة: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في الحجرة وأنا في البيت فيفصل عن الشفع والوتر بتسليم يُسْمِعُنَاهُ" (¬2). وكذا حديث عائشة -رضي الله عنها- حيثما قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء، وهي التي يدعو الناسُ العتمةَ، إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة" (¬3). ثانيًا: الوصل: وهي أن يصلى الوتر الذي هو أكثر من ركعة متصلًا لا يفصل بينها بسلام، ¬

_ (¬1) المستدرك على الصحيحين (1/ 449)، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والسنن الكبرى عدد الوتر، برقم (429). (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (6/ 83)، برقم (24583). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل وأن الوتر ركعة وأن الركعة صلاة صحيحة، برقم (736).

ولهذه الصورة حالات: الحالة الأولي: هي أن يوتر المصلي بثلاث ركعات، فالأفضل في حقه كما ذكرنا أن يصلي ركعتين ثم يسلم ثم يصلي ركعة ثم يسلم. وإن سردها من غير أن يفصل بينها بسلام ولا جلوس، جاز له ذلك. والمتعين عند الحنفية (¬1) إذا أوتر بثلاث: إذا وصلها فإنه يجلس من الثنتين للتشهد، ثم يقوم فيأتي بثالثة كهيئة صلاة المغرب، إلا أنه يقرأ في الثالثة سورة زيادة على الفاتحة خلافًا للمغرب. والصواب أنه لا يجلس في الثانية، بل عليه أن يقوم ويأتي بالثالثة دون تشهد؛ لكي لا تشبه صلاة المغرب. الحالة الثانية: أن يوتر بخمس أو سبع، فالأفضل هنا أن يسردهن سردًا، فلا يجلس في آخرهن؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها" (¬2). وأيضًا لحديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوتر بسبع أو بخمس لا يفصل بينهن بتسليم" (¬3). الحالة الثالثة: أن يوتر بتسع، فالأفضل أن يسلم من كل ركعتين، ويجوز أن يسرد ثمانيًا، ثم يجلس للتشهد ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة ويتشهد ويسلم. ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 303)، حاشية ابن عابدين (1/ 445). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل وأن الوتر ركعة وأن الركعة صلاة صحيحة، برقم (737). (¬3) أخرجه النسائي في كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب كيف الوتر بخمس، برقم (1715) وصححه الألباني.

8 - القراءة في صلاة الوتر

ويجوز في هذه الحالات الثلاث أن يسلم من كل ركعتين. الحالة الرابعة: أن يوتر بإحدى عشرة ركعة، فالأفضل أن يسرد عشرًا، يتشهد ثم يقوم ويأتي بركعة ويسلم، ويجوز أن يسردها كلها فلا يجلس ولا يتشهد إلا في آخرها. 8 - القراءة في صلاة الوتر: اتفق الفقهاء على أن المصلي يقرأ في كل ركعة من الوتر بالفاتحة وسورة، لكن السورة عندهم سنة لا يعود لها إن ركع. لكن هل هناك سور معينة يسن الإتيان بها في الوتر؟ أ- الحنفية (¬1) يقولون بعدم التوقيت في القراءة في الوتر بشيء، فما قرأ فيها فهو حسن. ب- وذهب الحنابلة (¬2) إلى أنه يندب القراءة بعد الفاتحة بالسور الثلاث، وهي: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} في الركعة الأولى، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} في الثانية، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في الثالثة. ج- وذهب المالكية (¬3) والشافعية (¬4) إلى أنه يندب هذه السور الثلاث، غير أنه مع الإخلاص المُعَوِّذتَانِ. والصحيح من هذه الأقوال أنه تسن القراءة بما ذكر، أما الزيادة على الإخلاص بالمعوذتين فالحديث الوارد في ذلك ضعيف لا تقوم به حجة. ¬

_ (¬1) الهداية (1/ 78). (¬2) كشاف القناع (1/ 417). (¬3) شرح الزرقاني (1/ 284). (¬4) المجموع، للنووي (4/ 17، 24).

ثالثا: صلاة التراويح

ثالثًا: صلاة التراويح: 1 - سبب التسمية: سميت بذلك؛ لأن من عادتهم أنهم كانوا إذا صلوا أربعًا كانوا يجلسون قليلًا ليستريحوا، وذلك أنهم كانوا يطيلون القيام فيها فيجلسون بعد كل أربع ركعات للاستراحة. 2 - حكم صلاة التراويح: اتفق الفقهاء على أنها سنة مؤكدة، دليل ذلك: عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬1). قال الفقهاء في معنى الحديث: اتفقوا على أن المراد في القيام هنا هو صلاة التراويح. وصلاة التراويح مما تسن له الجماعة، وهي أفضل مما لا تسن له الجماعة؛ لتأكده بسنيتها له. 3 - تاريخ مشروعية صلاة التراويح: صلاة التراويح صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى بصلاته ناس، ثم إنه لما اجتمع الصحابة وكثروا في الصلاة خلفه، تركها - صلى الله عليه وسلم -؛ خشية أن تفرض على أمته. فعن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ذات ليلة في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أصبح قال: "قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم" وذلك في رمضان (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ، كتاب الإيمان، باب صوم رمضان إيمانًا واحتسابًا، برقم (38). (¬2) أخرجه البخاريُّ، كتاب أبواب التهجد، باب تحريض النبي - صلى الله عليه وسلم - على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب، برقم (1077)، ومسلمٌ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام

4 - هل ينادى لصلاة التراويح؟

ثم توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك، فكان الصحابة يصلون فُرَادَى كُلٌّ بمفرده، واستمر الأمر على ذلك إلى خلافة أبي بكر، فلما تولى عمر الخلافة ورأى الناس على هذه الحال، جمعهم على إمام واحد؛ وهو أبي بن كعب، فكانوا يصلونها جماعة. فعن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون؛ يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط. فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد، لكان أمثل. ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ... " (¬1). 4 - هل ينادى لصلاة التراويح؟ أ- ذهب الشافعية (¬2) إلى أنها ينادى لها بقول: الصلاة جامعة. ب- وذهب الحنابلة (¬3) إلى أنه لا ينادى على التراويح، وقالوا بأنه محدث، وهذا هو الصحيح؛ لأنه لم ينقل عن أحد من الصحابة فعله من عهد خلافة عمر -رضي الله عنه- إلى من بعده. 5 - عدد ركعات التراويح: اختلفت أقوال الفقهاء في عدد ركعات التراويح: أ- فالجمهور على أنها عشرون ركعة، عدا الوتر بثلاث ركعات، فيكون المجموع ثلاثًا وعشرين ركعة، واحتجوا لذلك بما جاء عن عمر بن الخطاب ¬

_ = رمضان وهو التراويح، برقم (761). (¬1) أخرجه البخاريُّ، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، برقم (1906). (¬2) نهاية المحتاج (1/ 385 - 386). (¬3) كشاف القناع (1/ 233 - 234).

6 - ختم القرآن في صلاة التراويح

-رضي الله عنه-: "أنه جمع الناس على هذا العدد من الركعات" (¬1). قال الكاساني: "جمع عمر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان على أُبَيِّ ابن كعب -رضي الله عنه- ولم ينكر عليه أحد؛ فيكون إجماعًا منهم على ذلك" (¬2). ب- وذهب مالك (¬3) في إحدى الروايات عنه أنه قال بأنها ست وثلاثون ركعة، واحتج بعمل أهل المدينة في خلافة عمر بن عبد العزيز حيث كانوا يصلون بهذا العدد. وذهب مالك في رواية أخرى إلى أنها إحدى عشرة ركعة (¬4). والأمر في ذلك واسع، ولله الحمد. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحدد في صلاة الليل شيئًا، بل لما سئل عن صلاة الليل قال: "مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر ما قد صلى" (¬5) فلم يحدد إحدى عشرة ركعة ولا غيرها، فدل على التوسعة في صلاة الليل في رمضان وغيره. وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬6). 6 - ختم القرآن في صلاة التراويح: استحب الفقهاء أن يختم القرآن الكريم في صلاة التراويح؛ ليسمع الناس جميع القرآن في تلك الصلاة. هذا ما استحبه الفقهاء، وهذا الأفضل، وأن يدعو ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ كتاب الصلاة، باب ما جاء في قيام رمضان، برقم (303)، والبيهقيُّ، في كتاب الصلاة، باب ما روي في عدد ركعات القيام في شهر رمضان (2/ 496). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 288). (¬3) كفاية الطالب (1/ 353)، شرح الزرقاني (1/ 284). (¬4) المرجع السابق. (¬5) أخرجه البخاريُّ، كتاب الوتر، باب ما جاء في الوتر، برقم (946). (¬6) فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 194) رقم الفتوى (3953).

7 - المسبوق في صلاة التراويح

عند ختم القرآن؛ لما رُوِي أن أنس بن مالك كان إذا ختم القرآن جمع ولده وأهل بيته فدعاهم، وما روي عن مجاهد أنه قال: بلغنا أن الدعاء يستجاب عند ختم القرآن (¬1). لكن إذا كان في ختم القرآن مشقة على الناس وذلك بتطويل القراءة فيه، فالأفضل للإمام أن يقرأ على حسب القوم، فيقرأ قدر ما لا ينفرهم عن الجماعة؛ لأن تكثير الجماعة أفضل من تطويل القراءة. 7 - المسبوق في صلاة التراويح: من فاته بعض التراويح وقام الإِمام إلى الوتر فله أمران: إما أن يقتصر على ما أدركه مع الإِمام في التراويح ويوتر معه ويسلم، وإما أن يصلي معه الوتر، فإذا سلم الإِمام جعلها شفعًا ثم يكمل ما فاته من التراويح ثم يوتر لنفسه. ¬

_ (¬1) سنن الدارمي (2/ 469)، دار الكتب العلمية.

أوقات النهى

أوقات النهى جاءت نصوص السنة ببيان بعض الأوقات التي ورد النهي عن الصلاة فيها، وهي خمسة أوقات: الوقت الأول: بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس. الوقت الثاني: عند طلوع الشمس حتى ترتفع قدر رمح. الوقت الثالث: عند استواء الشمس حتى تميل للغروب. الوقت الرابع: بعد صلاة العصر حتى تغرب. الوقت الخامس: إذا شرعت الشمس للغروب بمغيب حاجبها حتى تغيب. أما الأدلة على ذلك فهي: حديث ابن عباس -رضي الله عنه- قال: شهد عندي رجال مَرْضِيُّونَ، وأرضاهم عندي عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب" (¬1). وعن عمرو بن عبسة قال: قلت: يا نبي الله، أخبرني عن الصلاة، قال: "صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة؛ فإنه حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، رقم (556)، ومسلمٌ، في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، رقم (827).

العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس؛ فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار" (¬1). وعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: "ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تَضِيفُ الشمس للغروب حتى تغرب" (¬2). فهذه الأدلة التي جاءت ببيان الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها. وقد اختلف الفقهاء في هذه الاوقات: 1 - فالحنفية (¬3) والشافعية (¬4) والحنابلة (¬5) على أن الأوقات ثلاثة وهي: عند طلوع الشمس إلى أن ترتفع بمقدار رمح أو رمحين، وعند استوائها في وسط السماء حتى تزول، وعند اصفرارها لا تتعب العين في رؤيتها إلى أن تغرب. 2 - أما المالكية (¬6) فقالوا بأن عدد الأوقات المنهي عن الصلاة فيها اثنان: عند طلوع الشمس، وعند اصفرارها، أما عند الاستواء فلا تكره الصلاة فيه عندهم. وحجتهم في ذلك أن هذا هو عمل أهل المدينة؛ فإنهم كانوا يصلون وقت الاستواء، وعمل أهل المدينة حجة عندهم. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب إسلام عمرو بن عبسة، رقم (832). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، رقم (831). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 246). (¬4) المهذب (4/ 164). (¬5) المغني (2/ 513 - 514). (¬6) حاشية الدسوقي (1/ 187).

أداء الصلوات ذوات الأسباب في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها

والصواب هو ما ذهب إليه الجمهور؛ لورود النهي عن ذلك. وحجة المالكية بعمل أهل المدينة ليس حجة على ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما هو مذكور في حديث عقبة بن عامر سالف الذكر. أداء الصلوات ذوات الأسباب في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها: اختلف الفقهاء في جواز الصلوات ذوات الأسباب في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها: 1 - فذهب الأئمة الثلاثة؛ أبو حنيفة (¬1) ومالك (¬2) وأحمدُ (¬3) في المشهور في مذهبه، إلى عدم جواز الصلاة في أوقات النهي مطلقًا، سواء كانت من ذوات الأسباب أو من غيرها. 2 - وذهب الشافعي (¬4) وهي رواية عن الإِمام أحمد (¬5) واختارها شيخ الإِسلام (¬6) رحمه الله، إلى جواز فعل ذوات الأسباب في أوقات النهي. وهذا هو الصحيح وهو اختيار الشيخين ابن باز وابن العثيمين (¬7)، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية حيث قالت: "الراجح من أقوال العلماء أن ذوات الأسباب، كتحية المسجد وركعتي الطواف وركعتي الوضوء والصلاة على الميت، تستحب مطلقًا في أوقات النهي وغيرها، ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 295، 296، 297). (¬2) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير (1/ 187). (¬3) المغني (2/ 515 - 516). (¬4) المجموع شرح المهذب (4/ 164). (¬5) الإنصاف (4/ 253). (¬6) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (23/ 194). (¬7) مجموع فتاوى ومقالات الشيخ (11/ 291)، الشرح الممتع (4/ 126).

هل النهي عن الصلاة في أوقات النهي متعلق بفعل الصلاة أم بالوقت؟

ولا حرج في تركها؛ جمعًا بين الأدلة ... " (¬1). هل النهي عن الصلاة في أوقات النهي متعلق بفعل الصلاة أم بالوقت؟ اتفق الفقهاء على أن النهي عن الصلاة بعد العصر متعلق بفعل الصلاة، فمن لم يصل أبيح له التنفل وإن صلى غيره، ومن صلى العصر فليس له التنفل. أما النهي بعد الفجر فمتعلق بطلوع الفجر، وهو قول الحنفية وغيرهم، وذهب الشافعية، وهو مروي عن أحمد (¬2)، إلى أن النهي متعلق بفعل الصلاة أيضًا كالعصر، واختارها شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬3) حيث يرى أن النهي متعلق بفعل الصلاة، سواء صلاة العصر أو الصبح. والصحيح ما ذهب إليه شيخ الإِسلام من أن النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الفجر متعلق بفعل الصلاة، فمن لم يصل العصر جاز له التنفل قبل صلاته لها. حكم صلاة ركعتي الوضوء بعد صلاة العصر وركعتي تحية المسجد قبل المغرب يوم الجمعة. إن توضأ ليصلي فلا يجوز؛ لأنه تعمد الصلاة في أوقات النهي، وإن توضأ للطهارة صلى -على القول الصحيح- (¬4). إن قصد المسجد ليصلي تحية المسجد حتى يشمله الحديث؛ وهو: "إن في ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 273) رقم الفتوى (4918). (¬2) المغني (2/ 525). (¬3) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (23/ 194). (¬4) الشرح الممتع (4/ 128).

الجمعة لساعةً، لا يوافقها مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله خيرًا، إلا أعطاه إياه" (¬1)، فإن فعله هذا لا يجوز، وإن قصد المسجد من أجل المتقدم لصلاة المغرب ثم لما دخل المسجد صلى ركعتين من أجل أنه دخل المسجد، فإنه لا بأس به (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجمعة، باب في الساعة التي في يوم الجمعة، رقم (852) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬2) الشرح الممتع (4/ 128 - 129).

صلاة الجماعة والأحكام المتعلقة بها

صلاة الجماعة والأحكام المتعلقة بها أولًا: فضلها: جاءت نصوص السنة ببيان فضل صلاة الجماعة، فمن ذلك: 1 - عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الْفَذِّ بخمس وعشرين درجة" (¬1). 2 - وعن ابن عمر -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الْفَذِّ بسبع وعشرين درجة" (¬2). 3 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو يعلمُ الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه، لاستهموا، ولو يعلمون ما في التَّهْجيِر لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في الْعَتَمَةِ والصبح لأتوهما ولو حَبْوًا" (¬3). 4 - عن عثمان -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله" (¬4). ومن هنا كان لا بد من إقامة الصلاة في جماعة؛ لأنها شعار الإِسلام، ولو ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب فضل صلاة الجماعة، برقم (619). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب فضل صلاة الجماعة، برقم (619)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها، برقم (649). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب الاسْتِهَام في الأذان، برقم (590). (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة، برقم (656).

ثانيا: حكم صلاة الجماعة

تركها أهل مصر قوتلوا على تركهم إياها، بل لو تركها أهل حَيٍّ أو حارة فإنهم يجبرون على إقامتها. ثانيًا: حكم صلاة الجماعة: اختلف الفقهاء في حكم صلاة الجماعة على أربعة أقوال: القول الأول: أنها فرض كفاية. وذهب إلى هذا القول الشافعي (¬1)، وعليه جمهور المتقدمين من أصحابه، وبه قال الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3). ذكر ذلك ابن حجر في الفتح (¬4). القول الثاني: أنها سنة مؤكدة. وهذا هو المذهب عند الحنفية (¬5)، والمالكية (¬6)، وبه قال الشوكاني (¬7). القول الثالث: أنها شرط لصحة الصلاة، وأن وجوبها على الأعيان إلا لعذر. وهذا هو قول شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬8)، وتلميذه ابن القيم (¬9)، وحكاه السبكي عن ابن خزيمة (¬10)، وهو قول الظاهرية (¬11). ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 229)، فتح القدير (1/ 300)، الإيضاح (1/ 142). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 155). (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 319، 320)، الشرح الصغير (1/ 152). (¬4) فتح الباري (1/ 339). (¬5) بدائع الصنائع (1/ 155). (¬6) جواهر الإكليل (1/ 76)، قوانين الأحكام الشرعية (ص: 83). (¬7) نيل الأوطار (3/ 146). (¬8) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (23/ 333). (¬9) كتاب الصلاة، لابن القيم، في فصل: هل الجماعة شرط في صحة الصلاة أم لا؟ (¬10) طبقات الشافعية (3/ 199). (¬11) المحلى (3/ 199).

أدلة الكتاب

القول الرابع: أنها فرض عين وليست بشرط في صحة الصلاة. وهذا هو المذهب عند الحنابلة (¬1)، وعليه أئمة السلف وعلماء الحديث (¬2)، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء وهو القول الصحيح (¬3). فمتى ترك المسلم صلاة الجماعة فإنه يأثم، وصلاته صحيحة. والأدلة على صحة هذا القول كثيرة، منها: أدلة الكتاب: 1 - قال تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} (¬4). وجه الدلالة من الآية: أن الله تعالى أمر بوجوب صلاة الجماعة حال الخوف، ففي غيره أولى. 2 - قوله سبحانه وتعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (¬5). وجه الدلالة: أن الله تعالى أمر بالركوع مع الراكعين، وذلك يكون في حال المشاركة في الركوع؛ فكان أمرًا بإقامة الصلاة في جماعة، ومطلق الأمر لوجوب العمل. أما أدلة السنة، فمنها: 1 - ما رواه البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي ¬

_ (¬1) المقنع (1/ 193). (¬2) المصنف، لعبد الرزاق (1/ 497). (¬3) مجموع فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 282) رقم الفتوى (141). (¬4) سورة النساء: 102. (¬5) سورة البقرة: 43.

نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلًا فَيَؤُمَّ الناس، ثم أُخَالِفَ إلى رجال أُحَرِّقُ عليهم بيوتهم ... " (¬1). فالحديث ظاهر في كون الجماعة من فروض الأعيان، وليست بسنة؛ إذ لو كانت سنة -كما يقول البعض- لم يهدد تاركها بالتحريق المذكور. 2 - ما رواه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ أعمى، فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرخِّص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه، قال - صلى الله عليه وسلم -: "هل تسمع النداء بالصلاة؟ " فقال: نعم. قال: "فأجب" (¬2). وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرخص للأعمى في ترك صلاة الجماعة في المسجد مع ما أبداه هذا الأعمى للنبي - صلى الله عليه وسلم - من الأعذار، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرخص لهذا الأعمى في تركها، فالبصير الذي يبصر من باب أولى في عدم تركها. 3 - ما رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة، إلا قد اسْتَحْوَذَ عليهم الشيطان؛ فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القَاصيَةَ" (¬3). ويعني بالجماعة هنا: أي صلاة الجماعة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب وجوب صلاة الجماعة، برقم (618). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب يجب إتيان المسجد على من سمع النداء، برقم (653). (¬3) أخرج أبو داود في كتاب الصلاة، باب التشديد في ترك الجماعة، برقم (547)، وابن حبان في صحيحه، كتاب الصلاة، باب ذكر استحواذ الشيطان على الثلاثة إذا كانوا في بدو أو قرية ولم يجمعوا الصلاة، برقم (2101).

ثالثا: حكم صلاة الجماعة للنساء

وجه الدلالة من الحديث: أن ترك الجماعة سبب في استحواذ الشيطان عليهم، ونحن مأمورون بعداوة الشيطان وعدم استحواذه، ولو كانت الجماعة سنة لما استحوذ الشيطان على تاركها. فهذه الأدلة التي ذكرناها من الكتاب والسنة تدل دلالة واضحة على وجوبها، ولا يجوز التخلف عنها إلا لعذر؛ من مرض أو خوف ونحوه من الأعذار المبيحة لتركها، كما سيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. ثالثًا: حكم صلاة الجماعة للنساء: ما ذكرناه في وجوب الجماعة إنما هو خاص بالرجال، أما في حق النساء: 1 - فعند الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) أنه يسنّ لهن الجماعة منفردات عن الرجال، سواء أَمَّهُنَّ رجل أو امرأة. 2 - وعند الحنفية (¬3) فالجماعة للنساء مكروهة، وعللوا ذلك بحصول الفتنة؛ لأن خروجهن إلى الجماعات يؤدي إلى الفتنة. أما المالكية (¬4) فعندهم إذا كان النساء يصلين جماعة مع الرجال، فلا بأس إذا لم تكن هناك فتنة، أما كونهن يصلين فيما بينهن -أي: النساء- جماعة وتؤمهم امرأة، فلا يشرع؛ وذلك لأن شرط الإِمام أن يكون ذَكَرًا. والصواب أن الجماعة للنساء مباحة، فيباح للمرأة أن تصلي جماعة مع النساء منفردات عن الرجال، ويجوز لهن أن تَؤُمَّ إحدى النساء جماعة النساء. ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 225)، المجموع، للنووي (4/ 97). (¬2) المغني، لابن قدامة (3/ 38). (¬3) البدائع (1/ 155 - 157). (¬4) الشرح الصغير (1/ 156 - 160).

رابعا: على من تجب صلاة الجماعة؟

فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أم وَرَقَةَ أن تؤم أهل دارها (¬1)، ولقد كانت النساء يشهدن الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ينصرفن مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهنَّ ما يعرفهن أحد من الغلس، كما أخبرت عائشة -رضي الله عنها- (¬2). فإذا ثبت جواز إمامة الرجل بالمرأة وإمامة المرأة بالمرأة، فإن الذي ينبغي لها إذا أمها الرجل أن تكون خلفه، وإذا كانت في جماعة الرجال فإنها تكون في آخر الصفوف؛ إبعادًا للمرأة عن نظر الرجال. أما في المساجد -كما هو في عصرنا- حيث خُصِّصَ مكان للنساء فيه، فإن الأفضل لها الصف الأول كالرجال؛ حيث لا محذور يترتب على ذلك. وإذا أَمَّتْهَا المرأة؛ فإن كانت امرأة واحدة وقفت عن يمينها، وإن كُنَّ جماعة فمن أمتهن تقف وَسَطَهُنَّ؛ لأن المرأة مأمورة بالتستر، وهذا أستر لها. لكن إن كانت صلاة جهرية، هل يشرع لها أن تجهر بالقراءة؟ الصواب أنه إن كان هناك رجال من غير محارمها، فإنها لا تجهر، فإن كانوا من محارمها فلا بأس. رابعًا: على من تجب صلاة الجماعة؟ تجب صلاة الجماعة على الرجال الأحرار العقلاء القادرين عليها دون حرج، هكذا قال الفقهاء، ولبيان ذلك نقول: قولهم "الرجال": خرج منه النساء والصبيان غير الممِّيزين. وهذا بإجماع أهل العلم، فالنساء لا تلزمهن صلاة الجماعة؛ لأنهن لَسْنَ من أهل الاجتماع، ¬

_ (¬1) أخرج أبو داود في كتاب الصلاة، باب إمامة النساء، برقم (592). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت الفجر، برقم (553)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها، برقم (645).

خامسا: العدد الذي تنعقد به صلاة الجماعة

ولا يطلب منهن إظهار الشعائر، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بيوتهن خير لهن" (¬1). أما الصبيان غير البالغين فلأنهم غير مأمورين بها أصلًا، فمن باب أولى أن لا تلزمهم الجماعة. وقولهم: "الأحرار": أي لا تلزم العبيد صلاة الجماعة، وعللوا ذلك لأن العبد مشغول في خدمة سيده، فكان في إيجاب الجماعة عليه حرج. وهناك قول آخر بأنها تلزمه؛ لأن النصوص عامَّة، فلم يستثن منها العبد، ولأن حق الله مقدم على حق البشر. والصواب: هو أن يقال بأنه إذا كان السيد يتضرر بصلاة العبد في جماعة، فلا تجب على العبد، أما إذا لم يكن هناك ضرر فإنها تجب عليه. وهذا هو أعدل الأقوال. قولهم: "العقلاء": أي لا تجب الجماعة على فاقد العقل بإغماء أو جنون ونحوه، كما بيَّنا ذلك في شروط الصلاة. وقولهم: "القادرون": خرج بذلك أهل الأعذار من مرض وغيره، أو يكون هناك عذر يحول بين الرجل وأداء الصلاة في جماعة، أو أن يشق عليه الصلاة في جماعة، فهنا لا تجب عليه. خامسًا: العدد الذي تنعقد به صلاة الجماعة: اتفق الفقهاء على أن أقل عدد تنعقد به الجماعة اثنان لحديث مالك بن الحويرث: "فإذا حَضَرَتِ الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، ثم ليَؤُمَّكُمْ أكبركم" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرج أحمد (2/ 76)، برقم (5468)، أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد، برقم (567). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب اثنان فما فوقهما جماعة، برقم (627)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة، برقم (674). واللفظ لمسلم.

سادسا: ما تدرك به الجماعة

سواء كان الذي يصلي مع الإِمام رجلًا أم امرأة، فمن صلى إمامًا بزوجته مثلًا يحصل لهما فضل الجماعة. أما إذا كان الذي يصلي مع الإِمام صبيًّا مُميزًا، فهل تنعقد به الجماعة وتحصل فضيلة الجماعة؟ اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فالحنفية (¬1) والشافعية (¬2) ورواية عن أحمد (¬3) على انعقادها به وحصول فضيلة الجماعة. 2 - وذهب المالكية (¬4) وهو رواية عن الإِمام أحمد (¬5) أنها لا تحصل الجماعة ولا فضلها باقتداء الصبي في الصلاة في الفرض بخلاف النفل، فمتى صلى إمام بصبي في فرض لا يحصل له فضل الجماعة؛ فكأن الإِمام صلى منفردًا. والصحيح هو صحة الاقتداء بالصبي المميز في الفرض والنفل، ووقوع الجماعة به، وحصول الأجر المترتب على الصلاة في الجماعة (¬6). سادسًا: ما تدرك به الجماعة: اختلف الفقهاء فيما تدرك به فضيلة الجماعة: ¬

_ (¬1) البدائع (1/ 156)، حاشية ابن عابدين (1/ 372). (¬2) المجموع بشرح المهذب (1/ 100 - 104). (¬3) كشاف القناع (1/ 453 - 454)، المغني (3/ 7، 8). (¬4) الشرح الكبير مع حاشية ابن عابدين (1/ 319، 320). (¬5) المغني لابن قدامة (3/ 8). (¬6) الشرح الممتع (4/ 285).

الدخول مع الإمام وهو في التشهد الأخير

1 - فعند الحنفية (¬1) والحنابلة (¬2) -وهو الصحيح عند الشافعية (¬3) - أن الجماعة تدرك بإدراك جزء من الصلاة، ولو في القعْدَةِ الأخيرة قبل السلام؛ لأنه أدرك جزءًا من الصلاة. 2 - وقال المالكية (¬4) وهو قول عند الشافعية (¬5) ورواية عن أحمد (¬6): إنها لا تدرك إلا بإدراك ركعة كاملة. والصحيح هو القول الثاني: أي قول المالكية أنها لا تدرك إلا بإدراك ركعة كاملة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" (¬7) وهذا هو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬8)، واختيار الشيخين ابن باز وابن العثيمين (¬9)، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬10). الدخول مع الإِمام وهو في التشهد الأخير: إذا دخل رجل المسجد فوجد الإِمام في التشهد الأخير، هل يدخل معه، أم ينتظر جماعة أخرى ليحصل على فضيلة الجماعة؟ ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 483). (¬2) حاشية بن عابدين (1/ 483). (¬3) كشاف القناع (1/ 460). (¬4) نهاية المحتاج (2/ 140). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 320). (¬6) الإنصاف 2/ 222. (¬7) أخرجه البخاريُّ في كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك من الصلاة ركعة، برقم (555)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك تلك الصلاة، برقم (607). (¬8) مجموع الفتاوى (23/ 331، 332). (¬9) مجموع فتاوى سماحة الشيخ (21/ 657)، الشرح الممتع (4/ 169). (¬10) فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 320) برقم (7371).

سابعا: حكم إعادة الصلاة جماعة لمن صلى منفردا

اختلف الفقهاء في هذه المسألة: فقال بعضهم: الأفضل أن يدخل مع الإِمام ولا ينتظر أحدًا؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" (¬1)، ويكون ثوابه بقدر ما أدركه مع الإِمام. وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬2)، وهو قول الشيخ عبد العزيز بن باز (¬3). وقال بعض العلماء: بل الأفضل أنه إذا كان يرجو وجود جماعة فلا يدخل مع الإِمام، وإن كان لا يرجو فإنه يدخل معه. وهذا هو قول الشيخ ابن العثيمين (¬4). سابعًا: حكم إعادة الصلاة جماعة لمن صلى منفردًا: 1 - من صلى منفردًا ثم وجد جماعة يصلون، فله أن يدخل معهم، ليحصل على فضيلة الجماعة، ويكون ما صلاه جماعة نافلة له. وهذا هو قول الحنفية (¬5) والحنابلة (¬6). 2 - وقال المالكية (¬7) في حكم المعادة: يفوض في الثانية أمره إلى الله -تعالى- في قبول أَيِّ الصلاتين. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب لا يسعى إلى الصلاة وليأت بسكينة ووقار، برقم (610)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، برقم (602). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 321) فتوى رقم (7371). (¬3) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (12/ 175). (¬4) مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن عثيمين (15/ 103، 104). (¬5) الهداية مع فتح القدير (1/ 412). (¬6) المغني (2/ 522). (¬7) حاشية الدسوقي (1/ 320، 321).

ثامنا: حكم إعادة صلاة الجماعة لمن صلي جماعة

3 - وذهب ابن المسيب وعطاء والشعبي (¬1) إلى أن المعادة مع الجماعة تكون المكتوبة. والصحيح ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة، وهو اختيار الشيخ ابن العثيمين (¬2)؛ لأن الفرض لا يتكرر في وقت واحد. ثامنًا: حكم إعادة صلاة الجماعة لمن صلي جماعة: من صلى الفريضة في جماعة ثم أتى إلى مسجد آخر توجد فيه جماعة أخرى فهل يصلي معهم؟ 1 - ذهب الشافعية (¬3) في الصحيح عندهم والحنابلة (¬4) إلى استحباب فعل الصلاة مرة أخرى في الجماعة الثانية؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - للرجلين اللَّذين لم يصليا معه: "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة" (¬5). 2 - وذهب المالكية (¬6) إلى أنه لا يعيد في جماعة أخرى؛ لأنه حصَّل فضيلة الجماعة، فلا معنى للإعادة، بخلاف المنفرد، واستثنوا من ذلك المساجد الثلاثة (الحرام، النبوي، الأقصى) فقالوا بأنه يعيد فيها جماعة؛ لفضلها. والصحيح استحباب ذلك؛ للدليل السابق. ¬

_ (¬1) ذكر ذلك صاحب المغني عنهم. (¬2) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ (15/ 91). (¬3) مغني المحتاج (1/ 233). (¬4) كشاف القناع (1/ 452 - 458). (¬5) أخرجه أحمد (4/ 160)، برقم (17509)، وابن حبان، باب إعادة الصلاة (6/ 155)، برقم (2395). (¬6) الحطاب (2/ 84، 85).

تاسعا: حكم تكرار الجماعة في مسجد واحد

تاسعًا: حكم تكرار الجماعة في مسجد واحد: ذهب بعض الفقهاء إلى عدم جواز ذلك. والصحيح في هذه المسألة جواز تكرار الجماعة في مسجد واحد؛ وذلك لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وَحْدَهُ، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله تعالى" (¬1). ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه حينما فرغ من الصلاة فوجد بعض الصحابة وقد فاتته الصلاة فقال: "من يتصدق على هذا فيصلي معه" (¬2)، فقام بعض الصحابة فصلى معه. وبجواز ذلك أفتى الشيخان ابن باز وابن العثيمين (¬3)، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬4). لكن هذا إذا كانت الجماعتان عارضتين، بحيث يأتي جماعة بعد انتهاء الجماعة الأولى، فإقامة الجماعة الثانية حينئذ مستحبة. أما تكرار الجماعة في وقت واحد، أو تعمد ترك الجماعة الأولى لإقامة جماعة أخرى، فهذا لا يشرع؛ لأنه دعوة إلى التفرق، ولأنه لا ينبغي أن تكون جماعتان في مسجد واحد. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في باب فضل صلاة الجماعة، برقم (554)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم (518). (¬2) أخرجه أحمد (3/ 45) برقم (11426)، وابن حبان (6/ 158) برقم (2399). (¬3) مجموع فتاوى سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله (13/ 170)، مجموع مؤلفات شيخنا ابن عثيمين رحمه الله (15/ 83). (¬4) فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 309)، برقم (2583).

عاشرا: الأعذار المبيحة لترك صلاة الجماعة

عاشرًا: الأعذار المبيحة لترك صلاة الجماعة: الأعذار المبيحة لترك صلاة الجماعة تنقسم إلى نوعين: عامة، وخاصة. أولًا: الأعذار العامة في ترك صلاة الجماعة: 1 - المطر الشديد. 2 - الريح الشديدة. 3 - البرد الشديد. 4 - الوحل الشديد. 5 - الظلمة الشديدة. دليل هذه الأعذار: من الكتاب: قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬1)، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬2). فمتى كان هناك مشقة على العبد في حضوره للجماعة، فإنه يسقط عنه الواجب، فلا تكليف إلا بمقدور. أما السنة: فمنها ما رواه البخاري ومسلمٌ من حديث ابن عمر -رضي الله عنه- قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر المؤذن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر، يقول: "ألا صلوا في رحالكم"، وفي رواية: كان يأمر مناديه في الليلة الممطرة والليلة الباردة ذات الريح، أن يقول: "ألا صلوا في رحالكم" (¬3). وعند البخاري ومسلمٌ أيضًا عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه قال لمؤذنه في يوم الجمعة في يوم مطير: "وإذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول ¬

_ (¬1) البقرة: 286. (¬2) التغابن: 16. (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة، برقم (606)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الصلاة في الرحال في المطر، برقم (697) واللفظ له.

ثانيا: الأعذار الخاصة

الله، فلا تقل حي على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم، قال: فكأن الناس استنكروا ذاك، فقال: أتعجبون من ذا؟! قد فعل ذا من هو خير مني، إن الجمعة عَزْمَةٌ، وإني كرهت أن أُحْرِجَكُمْ فتمشوا في الطين والدَّحْضِ" (¬1). قال ابن بطال: "أجمع العلماء على أن التخلف عن الجماعة في شدة المطر والظلمة والريح وما أشبه ذلك، مباح" (¬2). ثانيًا: الأعذار الخاصة: 1 - المرض: من الأعذار المبيحة لترك صلاة الجماعة المرض، والمقصود به هو الذي يحصل به مشقة مع الحضور لصلاة الجماعة، أما المرض الخفيف كصُدَاعٍ بسيط في الرأس مثلًا، فليس بعذر. دليل ذلك قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬3). ومن الأدلة أيضًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مرض تخلف عن الجماعة، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس" (¬4). ومن ذلك الأمراض المعدية والتي يخشى منها انتقال العدوى إلى الناس. ويلحق بالمريض كبير السن الذي يشق عليه الإتيان إلى المسجد. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجمعة، باب الرخصة إن لم يحضر في المطر، برقم (859)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الصلاة في الرحال في المطر، برقم (699) واللفظ له. والدحض: الزلل. قال النووي: والدحض والزلل والزلق والرَّدْغ بفتح الراء وإسكان الدال المهملة وبالغين المعجمة، كله بمعنى واحد. شرح النووي على صحيح مسلم (5/ 207). (¬2) شرح التثريب في شرح التقريب، للحافظ العراقي (2/ 217، 218). (¬3) الحج: 78. (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامه، باب حد المريض أن يشهد الجماعة، برقم (633)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب استخلاف الإِمام إذا عرض له عذر من مرض، برقم (418).

2 - الخوف: مما يعذر به تارك الجمعة والجماعة الخوف، والخوف المبيح لترك الجمعة والجماعة على ثلاثة أنواع: الأول: الخوف على النفس؛ كأن يخاف على نفسه عَدُوًّا، أو لِصًّا، أو سَبْعًا، أو دابة، أو سيلًا، ونحو ذلك، فهنا يشرع له ترك الجماعة. الثاني: الخوف على المال من ظالم أو لص، أو يخاف أن يسرق منزله، أو يحرق، أو يكون له خبز في تَنُّورٍ، أو طبخ على نار. فيخاف على ذلك ونحوه، فهنا يعذر بتركه للجمعة والجماعة. الثالث: الخوف على الأهل؛ كأن يخاف على والديه أو ولده إن كان يقوم بتمريضهما، وكذلك إن كان يقوم بتمريض رجل أجنبي لم يكن له من يقوم بتمريضه، وكان يخشى عليه الضياع لو تركه. دليل أن الخوف عذر في ترك الجماعة: قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬1). وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬2). ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر" (¬4) وهذا معذور بلا شك. ¬

_ (¬1) التغابن: 16. (¬2) البقرة: 286. (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنة رسول الله، برقم (6857)، ومسلمٌ، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، برقم (1337). (¬4) أخرجه ابن ماجه، في كتاب المساجد والجماعات، باب التغليظ في التخلف عن الجماعة، برقم (793) وصححه الألباني.

ولأن مع الخوف يحصل انشغال القلب بما يخاف منه أو عليه. وهذا منافٍ للمقصود الأعظم الذي من أجله شرعت الصلاة؛ وهو سكون القلب وخشوعه بين يدي خالقه -سبحانه وتعالى-. 3 - حضور طعام محتاج إليه: متى حضر الطعام وهو محتاج إليه فهنا يجوز له ترك الجماعة، بل المستحب له أن يبدأ به قبل الصلاة؛ ليكون أفرغ لقلبه وأحضر لباله. دليل ذلك: حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا صلاة بحضرة طعام ولا هو يدافعه الأخبثان" (¬1). وفي لفظ آخر عن أنس -رضي الله عنه-: "إذا قرب العَشَاء وحضرت الصلاة فَابْدَؤُوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب ولا تعجلوا عن عَشَائكم" (¬2). ولا فرق بين أن يخاف فوات الجماعة أو لا يخاف؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس -رضي الله عنه-: "إذا قرب العَشَاء وحضرت الصلاة فَابْدَؤُوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب ولا تَعْجَلُوا عن عَشائكم" (2). وفي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "إذا وضع عَشَاء أحدكم وأقيمت الصلاة، فابدءوا بالعَشَاء ولا يعجلن حتى يفرغ منه" (¬3). 4 - مدافعة الأخبثين: هذا عذر آخر في ترك صلاة الجماعة، دليل ذلك: حديث عائشة المتقدم: "لا صلاة بحضرة طعام ولا هو يدافعه الأخبثان" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام، برقم (560). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام، برقم (557). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام، برقم (559). (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام، برقم (560).

والنفي هنا بمعنى النهي، أي: لا تصلوا وأنتم في حال مدافعة الأخبثين. ولأن مدافعة الأخبثين تقتضي انشغال القلب عن الصلاة، وهذا خلل في نفس العبادة. ولأن في انحباس الأخبثين ضررًا على الإنسان، فإنه يضر البدن ضررًا بينًا، والشريعة أمرت بالمحافظة على النفس مما يضرها. 5 - أكل مَا لَهُ رائحة كريهة: من أكل بَصَلًا أو كُرَّاثًا أو ثُومًا أو فُجْلًا ونحو ذلك مما له رائحة كريهة، فإنه يعذر بترك الجماعة. دليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أكل ثومًا أو بصلًا فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته" (¬1). وفي رواية: "فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنوا آدم" (¬2). وهذا الذي أكل هذه الأشياء لا نقول بأنه معذور أمام الله إذا كان يتعمد ذلك ويكرره ولم يكن مصادفة، فلا يعذر بتخلفه عن صلاة الجماعة؛ لأنه يمكنه أن يأكل هذه الأشياء مطبوخة، أو يأكلها في غير أوقات الصلاة، فتركه للجمعة والجماعة دفعًا لأذيته للملائكة والمصلين. أما إذا كان يتناول هذه الأشياء من أجل العلاج لمرض أصابه، وكان ممّن يحافظ على الصلوات في جماعة، فلا شك أنه من أهل الأعذار، ويحصل له أجر الجماعة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع السجود، باب نهي من أكل ثومًا أو بصلًا، برقم (564). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع السجود، باب نهي من أكل ثومًا أو بصلًا، برقم (564). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجهاد والسير، باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة، برقم (2834).

سؤال: هل يلحق بمن يأكل هذه الأشياء شارب الدُّخَان؟ الجواب: نعم، يلحق بهم؛ لأن رائحة الدخان أَنْتَنُ وأكره مما ذُكر، فلا يحل لشارب الدخان أن يؤذي غيره. حكم من أكل هذه الأشياء المذكورة: (البصل، الثوم، الكراث): إن أكلها بقصد التخلف عن صلاة الجماعة فهذا حرام، ويأثم بتركه الجماعة. وإن أكلها بقصد التمتع وأنه يشتهيه، فليس بحرام. 6 - أن يكون على سفر ويخاف فوات الرفقة: من تأهب لسفر مباح مع رفقة ثم أقيمت الجماعة وكان يخشى أنه إذا صلى فاتته الرفقة، فله التخلف عن الجماعة. وهذا عذر من وجهين: الأول: فوات المقصود من الرفقة إذا انتظر الصلاة مع الجماعة. الثاني: انشغال القلب بالرفقة. 7 - غلبة النوم: من غلبه النوم ودافعه فلم يستطع، فله أن يتخلف عن الجماعة؛ ليأخذ قسطًا منه، ثم يصلي حتى يَفْقَهَ صلاته ويعلم ما يقوله فيها؛ فلعله إذا غلبه النعاس أو النوم يذهب ليدعو فيدعو على نفسه، ولهذا فالأولى له أن ينام قليلًا ثم يصلي، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى" (¬1)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث عائشة -رضي الله عنها-: "إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم؛ فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة، برقم (681). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب الوضوء من النوم، برقم (209)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته، برقم (786).

8 - تطويل الإِمام بالصلاة: إذا أطال الإِمام الصلاة فللمأموم أن ينصرف عنه ويصلي منفردًا، بشرط أن تكون هذه الإطالة خارجة عن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما إذا كانت موافقة للسنة فليس له الخروج. دليل ذلك: ما رواه البخاري ومسلمٌ عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: أن رجلًا قال: والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا، فما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في موعظة أشد غضبًا منه يومئذٍ، ثم قال: "إن منكم مُنَفِّرِينَ، فأيكم ما صلى بالناس فَلْيَتَجَوَّزْ" (¬1). فائدة: هذه الأعذار كلها ليست عذرًا في إخراج الصلاة عن وقتها، بل على الإنسان أن يصليها في الوقت على أي حال كان. لكن من كان مريضًا مرضًا لا يستطيع معه أداء كل فرض في وقته، فله أن يجمع بين الظهر والعصر، وكذا المغرب والعشاء، وألحق بعض أهل العلم مدافعة الأخبثين؛ لما يكون منهما من ضرر على الإنسان. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب تخفيف الإِمام في القيام وإتمام الركوع والسجود، برقم (670).

أحكام الإمامة

أحكام الإمامة أولًا: شروط الإمامة: يشترط للإمامة ما يلي: 1 - الإسلام: فلا تصح الصلاة خلف الكافر، سواء كان كفره بالاعتقاد، أو بالقول، أو بالفعل، أو بالترك. فالاعتقاد: كأن يعتقد أن مع الله إلهًا آخر، فهذا لا تصح إمامته. أما القول: فكأن يسب دين الله، أو يسب الله، وكذا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا لا تصح إمامته، وكذا من يَسْتَهْزِئُ بالله أو برسوله - صلى الله عليه وسلم - أو دينه، فهذا كافر ولو كان يصلي، وكذا من يستغيث بغير الله أو يدعوه من دون الله، فهؤلاء لا تصح إمامتهم. أما الفعل: فمثل أن يسجد لمن سوى الله، أو يذبح لغير الله، أو يتعامل بالسحر، ونحو ذلك من الأفعال المكفرة. أما الترك: فمثل من يترك الصلاة، فهذا لا تصح الصلاة خلفه؛ لأنه لا يصير مسلمًا إلا إذا صلى، وهو حين تكبيره للإحرام كافر؛ لأنه لا يُسْلِم إلا إذا صلى. حكم إمامة الفاسق: الفاسق الذي يأتي بعض الكبائر كالشارب للخمر، أو الزاني، أو آكل الربا، أو الذي يداوم على الصغائر، اختلف الفقهاء في حكم إمامته:

1 - فالمذهب عند الحنابلة (¬1) وهو قول عند المالكية (¬2) أنه لا تجوز إمامة الفاسق. 2 - أما الحنفية (¬3)، والشافعية (¬4) وقول عند المالكية هو المعتمد (¬5)، ورواية عند الحنابلة، فقالوا: تجوز إمامته، وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬6)، وهو الصحيح، وذلك للأدلة الآتية: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله" (¬7). * قوله - صلى الله عليه وسلم - في الأَئِمَّةِ الجَوَرَةِ: "يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم" (¬8). * أن الصحابة -رضي الله عنهم - كانوا يصلون خلف الحجاج ومعروف من هو الحجاج بن يوسف، فلو كانت الصلاة خلفه لا تجوز ما صلى خلفه أحد من الصحابة. * ولأن كل من صحت صلاته لنفسه، صحت صلاته لغيره. والأولى للإنسان أنه متى تمكن أن لا يصلي خلف الإِمام الفاسق، فالأولى أن لا يصلي خلفه إن تيسر ذلك ولم تحدث فتنة، وإن صلى خلف الفاسق جاز له ذلك، لكنه خلاف الأولى. ¬

_ (¬1) كشاف القناع (1/ 475)، المغني (3/ 17 - 18). (¬2) جواهر الإكليل (1/ 78). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 376). (¬4) قليوبي وعميرة (3/ 227). (¬5) بلغة السالك (1/ 274). (¬6) فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 371) برقم (5417). (¬7) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة، برقم (673). (¬8) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب إذا لم يتم الإِمام وأتم من خلفه، برقم (662).

2 - العقل

2 - العقل: من شروط الإمامة أن يكون الإِمام عاقلًا؛ فلا تصح إمامة السكران ولا المجنون؛ وذلك لأن صلاتهم لأنفسهم غير صحيحة، فلا تصح صلاتهم لغيرهم، لكن من كان يُجَنُّ أحيانًا ويُفيقُ أحيانًا، فقد اختلف فيه الفقهاء، والأولى أن لا يكون إمامًا. 3 - البلوغ: اختلف الفقهاء في ذلك: أ- ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يشترط في الإمامة كون الإِمام بالغًا؛ فلا تصح إمامة المميز بالبالغ في الفرض، أما النفل فالمالكية (¬1)، والحنابلة (¬2) على جوازها فيه، وخالف الأحناف (¬3) فقالوا: لا تصح مطلقًا. ب- أما الشافعية (¬4) فأجازوا إمامة المميز بالبالغ مطلقًا، سواء كانت في الفرض أو النفل، واحتجوا لذلك بما رواه البخاري في صحيحه: عن عمرو بن سلمة الجُرْمِيِّ أنه كان يؤم قومه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ست أو سبع سنين (¬5). والصحيح من القولين: ما ذهب إليه الشافعية؛ وهو صحة صلاة الصبي مطلقًا، بشرط أن يعقل صلاته ويؤديها على الوجه المطلوب شرعًا؛ لما استدل به أصحاب هذا القول من حديث عمرو بن سلمة، وبهذا أفتت اللجنة الدائمة ¬

_ (¬1) جواهر الإكليل (1/ 78). (¬2) كشاف القناع (1/ 480). (¬3) فتح القدير (1/ 320 - 321). (¬4) نهاية المحتاج (2/ 168). (¬5) رواه البخاري كتاب المغازي، باب من شهد الفتح، برقم (4051).

4 - الذكورة

للبحوث العلمية في السعودية (¬1). 4 - الذكورة: يشترط في الإمامة أن يكون الإِمام ذكرًا، فلا تصح إمامة المرأة، وكذا الخنثى للرجال، هذا باتفاق الأئمة الأربعة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لن يفلح قوم وَلَّوْا أمرهم امرأة" (¬2). وأيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خير صفوف النساء آخرها" (¬3)، وهذا دليل على أنه لا موقع لهن في الأَمَامِ، والإِمَامُ لا يكون إلا في الأَمام، ولحصول الفتنة المترتبة على تقدمهنَّ على الرجال. أما الخنثى: فلا تصح أيضًا صلاة الرجل خلف الخنثى، والخنثى هو الذي لا يُعرف أذكرٌ هو أم أنثى، وكذلك لا تصح إمامة الخنثى لمثله بلا خلاف؛ لاحتمال أن يكون رجلًا، أما إمامته للنساء فتصح. 5 - القدرة على النطق بالقراءة: يشترط في الإِمام أن يكون قادرًا على القراءة؛ فلا تصح إمامة الأخرس إلا بمثله؛ لأنه لا يستطيع النطق بالركن وهو الفاتحة، ولا بالواجبات كالتشهد، ولا بما تنعقد به الصلاة وهو تكبيرة الإحرام. 6 - السلامة من الأعذار: اختلف الفقهاء في ذلك: ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 389) برقم (4285). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب المغازي، باب كتاب النبي إلى كِسْرَى وقَيْصَرَ، برقم (4163). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها، برقم (440).

7 - نية الإمامة

أ- ذهب الحنفية (¬1)، والحنابلة (¬2) وهو رواية عند الشافعية (¬3) إلى أنه يشترط أن يكون سالمًا من الأعذار، كسَلَسِ بول وانفلات ريح ونحوه. ب- وذهب المالكية (¬4) إلى أن لا يشترط ذلك في الإِمام، وعللوا لذلك بأن هذه الأعذار عفي عنها في حق صاحبها، فيعفى عنها في حق غيره. والصحيح من القولين: ما ذهب إليه المالكية من صحة إمامته، لكن الأولى أن لا يكون إمامًا راتبًا ولا يتقدم للإمامة، خروجًا من الخلاف في ذلك. 7 - نية الإمامة: أ- ذهب الحنابلة (¬5) إلى أنه يشترط للإمامة نية الإمامة؛ لأن من شروط صحة الجماعة أن ينوي الإِمام الإمامة، وأن ينوي المأموم أنه مأموم. وقالوا أيضًا: إنه من أحرم منفردًا ثم جاء آخر فصلى معه فنوى إمامته، صح. ب- وأما المالكية (¬6) والشافعية (¬7) فيرون أن النية للإمامة مستحب وليس بشرط إلا في الجمعة والصلاة المعادة والمنذورة عند الشافعية. والصحيح: هو ما ذهب إليه الحنابلة من اشتراط النية في الإمامة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - "إنما الأعمال بالنيات" (¬8). ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 314). (¬2) كشاف القناع (1/ 376). (¬3) مغني المحتاج (1/ 241). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 330). (¬5) المغني، لابن قدامة (3/ 72). (¬6) بغية السالك (1/ 451). (¬7) نهاية المحتاج (2/ 204 - 205). (¬8) أخرجه البخاريُّ في باب بدء الوحي، برقم (1).

ثانيا: الأحق بالإمامة

وهذا هو ما ذهب إليه سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله- (¬1). ثانيًا: الأحق بالإمامة: جاءت السنة ببيان الأحق بالإمامة؛ فقد روى مسلم عن أبي مسعود البدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يؤم اقوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلمًا، ولا يؤمنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تَكْرِمَتِهِ إلا بإذنه" (¬2). واختلفت آراء الفقهاء في بيان فقه هذا الحديث: 1 - فالحنفية (¬3) والمالكية (¬4)، والشافعية (¬5) على أن الأعلم بأحكام الفقه أولى بالإمامة من الأقرأ، واحتجوا لذلك بحديث: "مُروا أبا بكر فليصل بالناس" (¬6). قالوا بأن أبا بكر -رضي الله عنه- لم يكن أقرأ الصحابة، بل ثَمَّةَ من هو أقرأ منه. وقالوا أيضًا بأن الحاجة للفقه أهم منها إلى القراءة. 2 - وذهب الحنابلة (¬7) إلى أن الأقرأ مقدم على من هو أعلم منه، واحتجوا لذلك بمنطوق حديث أبي مسعود المتقدم، وبقوله فيه: "فإن كانوا في القراءة سواء ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (12/ 149). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة، برقم (673). (¬3) فتح القدير (1/ 301، 304)، بدائع الصنائع (1/ 157). (¬4) جواهر الإكليل (1/ 83). (¬5) نهاية المحتاج (2/ 175 - 179). (¬6) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب حد المريض أن يشهد الجماعة، برقم (633)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب استخلاف الإِمام، برقم (418). (¬7) كشاف القناع (1/ 473).

1 - إمام المسجد الراتب

فأعلمهم بالسنة"؛ حيث فاضل بينهم بالعلم بالسنة مع تساويهم في القراءة. وقالوا أيضًا: بأن القراءة ركن لا بد منه، والحاجة للعلم في الصلاة أمر عارض قد يحتاج إليه وقد لا يحتاج. فهذا جانب من جوانب اختلافهم في الأحق بالإمامة، ونظرًا لطول الخلاف في هذه المسألة نقول: الصحيح في الأحق بالإمامة هو: القارئ لكتاب الله، أي (الأكثر حفظًا، وقيل: هو الذي يجيد القراءة) العارف بفقه صلاته وما يلزم فيها من شروطها وأركانها وواجباتها ومبطلاتها، بحيث لو طرأ عليه عارض في صلاته من سهو وغيره، تمكن من تطبيقه وفق الأحكام الشرعية. فإن كانوا فيما تقدم سواء، قُدم الأكثر فقهًا في دين الله، وهو بلا شك العالم بالسنة فقهًا وأحكامًا. فإن استووا في الفقه والقراءة، قُدم الأقدم هجرة. فإن استووا في ذلك كله، قُدم الأسبق إسلامًا. فإن استووا في ذلك قُدم الأكبر سنًا؛ لحديث مالك بن الحويرث: "وليؤمكم أكبركم" (¬1). ويستثنى مما ذكر ما يلي: 1 - إمام المسجد الراتب: الإِمام الراتب أحق بالإمامة من غيره وإن كان غيره أقرأ أو أفقه منه؛ لقوله ¬

_ (¬1) رواه البخاري، كتاب الجماعة والإمامة، باب إذا استووا في القراءة فليؤمهم أكبرهم، برقم (602).

2 - صاحب البيت

- صلى الله عليه وسلم -: "لايؤُمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه" (¬1). 2 - صاحب البيت: إذا كان صاحب البيت ممّن تصح إمامته فإنه أحق بالإمامة من غيره؛ لحديث أبي مسعود البدري، وفيه: "ولا يُؤَمُّ الرجل في بيته ولا في سلطانه، ولا يجلس على تَكْرِمَتِهِ إلا بإذنه" (¬2)، فمتى أذن صاحب البيت جاز لغيره الإمامة، وإلا فلا. 3 - السلطان: وهو الإِمام الأعظم أو نائبه، فلا يتقدم عليه أحد في الإمامة إلا بإذنه؛ للحديث المتقدم. ثالثًا: حكم اختلاف نية المأموم عن نية الإمام: إذا كانت نية الإِمام تختلف عن نية المأموم كأن تكون صلاة الإِمام العصر مثلًا، والمأموم الظهر، أو تكون صلاة الإِمام نافلة وصلاة المأموم فريضة -فقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين-: القول الاول: أنه لا يجوز اختلاف نية الإِمام عن نية المأموم، وبهذا قال الجمهور من الحنفية (¬3) والمالكية (¬4) والحنابلة (¬5)، واحتجوا لذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه" (¬6)، فقالوا بأن في اختلاف النية اختلافَ القلوب. ¬

_ (¬1) رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة، برقم (673) من حديث أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه-. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة، برقم (582)، وصححه الألباني. (¬3) فتح القدير (1/ 324). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 329). (¬5) كشاف القناع (1/ 484)، المغني (3/ 67، 68). (¬6) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب إقامة الصف من تمام الصلاة، برقم (689).

واحتجوا أيضًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الإِمام ضامن" (¬1)، أي ضامن لصلاة المأموم التي يؤديها، ومن هنا قالوا بعدم الجواز. القول الثاني: وهو قول الشافعية (¬2)، وهو رواية عند الحنابلة (¬3)، أنه يجوز إمامة المفترض بالمتنفل والعكس، وأنه يجوز اختلاف نية الفرض بين الإِمام والمأموم، لكن بشرط أن تتناظم صلاة الإِمام مع المأموم، فإن اختلفت الكيفية بين صلاة الإِمام والمأموم، لا يصح، كأن تكون صلاة الإِمام صلاة كسوف مثلًا، والمأموم يصلي فريضة، أو تكون صلاة الإِمام جنازة فهنا لا تصح المتابعة. وبها أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬4). ودليل ذلك فعل معاذ -رضي الله عنه- كما جاء في الصحيحين: عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "كان معاذ يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء ثم يأتي مسجد قومه فيصلي بهم" (¬5). ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من يتصدق على هذا" (¬6) فصلى معه بعض الصحابة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب ما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت، برقم (517)، والترمذيُّ في أبواب الصلاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء أن الإِمام ضامن والمؤذن مؤتمن، برقم (207) وصححه الألباني. (¬2) جواهر الإكليل (1/ 76). (¬3) المغني (3/ 68). (¬4) فتاوى اللجنة الدائمة (7/ 398) برقم (296). (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب إذا صلى ثم أَمَّ قومًا، برقم (679)، ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء، برقم (465). (¬6) أخرجه الإِمام أحمد في المسند (3/ 45)، رقم (11426)، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب في الجمع في المسجد مرتين، برقم (574) واللفظ لأحمد من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.

رابعا: إمامة المقيم بالمسافر والعكس

رابعًا: إمامة المقيم بالمسافر والعكس: يجوز إمامة المقيم بالمسافر والعكس باتفاق الفقهاء، لكن إذا أتم المقيم لزم المسافر الإتمام معه، وكذلك يجوز إمامة المسافر بالمقيم، ويستحب أن ينبه المأمومين قبل الصلاة ويقول لهم: أتموا صلاتكم فإني على سفر، أو مسافر، فإذا سلم الإِمام قام المأموم المقيم فكمل صلاته. خامسًا: إمامة من يخالف في الفروع: إذا كان الإِمام يخالف المأموم في بعض الفروع، كأن يرى الإِمام أن أكل لحم الجزور غير ناقض للوضوء، والمأموم يرى أنه ناقض، فهنا تصح إمامته؛ لأن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المسلمين لم يزل بعضهم يقتدي ببعض مع اختلافهم في الفروع؛ لما في ذلك من وَحْدَةِ الصف وقوة المسلمين، ولأن الجماعة واجبة فتقدم على أمرٍ مختلَفٍ فيه.

صلاة أهل الأعذار

صلاة أهل الأعذار الأعذار جمع عذر، والمراد بها هنا المرض والسفر والخوف، فهذه هي الأعذار التي تختلف بها الصلاة عند وجودها. واختلاف الصلاة هنا هو اختلاف هيئة وعدد مأخوذ من القاعدة العامة، وهي قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬1)، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬2)، وقوله: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬3). ومن القواعد المعروفة عند الفقهاء: "أن المشقة تجلب التيسير". أولًا: أحكام صلاة المريض: المريض هو الذي اعتلت صحته، سواء كانت هذه العلة في جزء من بدنه أو في جميع بدنه، فمن اشتكى عينه أو أُصْبُعَه فهو مريض، ومن أخذته الحمى فهو مريض. صفة صلاة المريض: 1 - يجب على المريض أن يتطهر بالماء لرفع الحدث الأصغر والأكبر؛ لأن الطهارة شرط للصلاة، فإن لم يستطع تيمم. 2 - يجب على المريض أن يطهر ثوبه وبدنه من النجاسات، فإن عجز صلى على حاله، وصلاته صحيحة. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 185. (¬2) سورة الحج: 78. (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن الله، برقم (6858)، ومسلمٌ في كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، برقم (1337).

3 - يجب على المريض أن يصلي على شيء طاهر، فإن عجز صلى على ما هو عليه، وصلاته صحيحة، ولا إعادة عليه. 4 - ويلزم المريض أن يصلي الفريضة قائمًا، ولو منحنيًا، ولا بأس إن اعتمد على عصًا أو جدار، فإن عجز عن القيام أو كان في قيامه مشقة ظاهرة أو تأخُّر بُرْءٍ أو زيادة مرض، صلى قاعدًا بأن يجلس متربعًا؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها-: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي متربعًا" (¬1). وله أن يجلس كجلوس التشهد، وله أن يجلس على الهيئة التي تسهل عليه، ولا ينقص ذلك من ثوابه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا" (¬2) ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن الحصين: "صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب" (¬3). 5 - فإن عجز المريض عن القعود أو كان فيه مشقة ظاهرة، صلى على جنبه متجهًا إلى القبلة. لكن على أي الجنبين يصلي؟ المذهب عند المالكية (¬4) والحنابلة (¬5) أن الأفضل أن يصلي على الجنب الأيمن ثم الأيسر. والصواب: أن الأفضل في حق المريض أن يفعل ما هو أيسر له، فإن كان الأيسر أن يكون على جنبه الأيسر فهو أفضل، وإن كان العكس فهو أفضل. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب كيف صلاة القاعد، برقم (1363) وصححه الألباني. (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجهاد والسير، باب يكتب للمسافر ما كان يعمل في الإقامة، برقم (2834). (¬3) أخرجه البخاريُّ، في كتاب تقصير الصلاة، باب إذا لم يطق قاعدًا صلى على جنب، برقم (1066). (¬4) بداية المجتهد (1/ 192). (¬5) المغني (2/ 574).

لكن إن تساوى عنده الأمران كان الأيمن هو الأفضل؛ لعموم قول عائشة -رضي الله عنها-: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمُّن في تَنَعُّلِه وترجُّله وطَهوره وشأنه كله" (¬1). 6 - فإن عجز المريض عن استقبال القبلة أو لم يجد من يحوله إليها، فإنه يصلي على حسب حاله، فيصلي إلى أي جهة تسهل عليه. 7 - فإن عجز المريض أن يصلي على جنبه قال بعض أهل العلم: يصلي مستلقيًا على قفاه ورجلاه إلى القبلة. 8 - فإن عجز عن الركوع والسجود أَوْمَأَ بالركوع والسجود برأسه، ويجعل السجود أخفض من الركوع. 9 - فإن عجز عن أن يومىء بالرأس لركوعه وسجوده، فقد قال الجمهور بأنه يومىء بما يستطيع؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬2) فمتى عجز عن الإيماء بالرأس قالو: يومىء بالعين. وقد اختلف الفقهاء عند العجز عن الإيماء بالرأس مع إمكان أداء الأقوال في الصلاة إلى قولين: الأول: إذا عجز عن الإيماء بالرأس يومىء بعينه. وهذا هو قول الجمهور. الثاني: أنه تسقط عنه الأفعال دون الأقوال. وهذا قول شيخ الإِسلام ابن تيمية وقول الشيخين ابن باز وابن العثيمين (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوضوء، باب التيمن في الوضوء والغسل، برقم (166). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن الله، برقم (6858)، ومسلمٌ في كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، برقم (1337). (¬3) الشرح الممتع (4/ 332)، مجموع مؤلفات سماحة الشيخ (12/ 243).

والراجح من هذه الأقوال أن من عجز عن الإيماء بالرأس كفاه النية والقول، ولا يومىء بعينه ولا بأصبعه ولا بغيره. 10 - إن استطاع المريض أن يصلي قائمًا وعجز عن الركوع والسجود، لزمه أن يصلي قائمًا وأومأ بالركوع، ثم يجلس ويومىء بالسجود. ولا بأس أن يجعل له وِسادة ليسجد عليها، ويجعل الوسادة منخفضة قدر طاقته (¬1). فإن كان الظهر مقوسًا رفع المصلي قدر طاقته حال القيام وينحني عند الركوع قليلًا، فإن قدر على الركوع دون السجود ركع عند الركوع وأومأ بالسجود، وإن قدر على السجود دون الركوع سجد عند السجود وأومأ بالركوع. 11 - إن صلى المريض قاعدًا وأمكنه السجود على الأرض، لزمه ذلك، ولا يكفيه الإيماء، لكن إن عجز عن السجود على الجبهة فقط لكن يقدر باليدين وبالركبتين، فنقول: يضع يديه على الأرض ويدنو من الأرض بقدر استطاعته؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬2). 12 - إذا بدأ المسلم صلاته قائمًا وعجز في أثنائها، أتم صلاته على حسب طاقته، فإن أحس بنشاط في أثنائها لزمه القيام؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬3). 13 - من كان في ماء وطين ولا يمكنه السجود بالتلوث والبلل فله الصلاة بالإيماء والصلاة على دابته؛ لما رواه مسلم عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: كان رسول ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة (1/ 446)، الإنصاف، للمرداوي (2/ 308). (¬2) سورة التغابن: 16. (¬3) سورة التغابن: 16.

ثانيا: صلاة الخوف

الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة ذات مطر يقول: "ألا صلوا في الرحال" (¬1). وروى يعلي بن مرة -رضي الله عنه-: "أنهم كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سير فانتهوا إلى مضيق وحضرت الصلاة فمطروا؛ السماء من فوقهم، والبِلَّةُ من أسفل منهم، فأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على راحلته وأقام، فتقدم على راحلته يومئ إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع" (¬2). 14 - لا يجوز للمريض أن يؤخر الصلاة عن وقتها ما لم يشق عليه، فإن شق عليه جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء جمع تقديم أو تأخير على ما يتيسر له، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬3). ثانيًا: صلاة الخوف: حكمها: ذهب جمهور الفقهاء إلى مشروعية صلاة الخوف في حياته - صلى الله عليه وسلم - وبعد مماته. دليل ذلك من الكتاب قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجماعة والإمامة، باب الرخصة في المطر والعلة أن يصلي في رحله، برقم (635)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الصلاة في الرحال في المطر، برقم (697). (¬2) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الصلاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في الصلاة على الدابة في الطين والمطر، برقم (411). (¬3) سورة البقرة: 185.

أنواع الخوف الذي تشرع له صلاة الخوف

وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} (¬1). فهذه الآية جاءت ببيان مشروعية هذه الصلاة وبيان إحدى صفاتها. أما السنة فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من سنته القولية وكذا من سنته الفعلية؛ أما القولية فهي من مفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬2). وأما الفعلية فقد صلاها - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه معه كما جاءت نصوص السنة بذلك. لكن ذهب أبو يوسف (¬3) من الحنفية إلى أنها مختصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واحتج بالآية على أن المخاطب بها هو - صلى الله عليه وسلم -. والصحيح أنها مشروعة له ولأمته - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خطاب له ولأمته ما لم يقم دليل على التخصيص، وتخصيصه - صلى الله عليه وسلم - بالخطاب لا يقتضي تخصيصه بالحكم. بل لم يقل أحد من صحابته - صلى الله عليه وسلم - أن صلاة الخوف مختصة به - صلى الله عليه وسلم -. أنواع الخوف الذي تشرع له صلاة الخوف: الخوف من العدو، أي عدو كان آدميًا أو سَبْعًا، مثل أن يكون في الأرض سِبَاعٌ يخاف على نفسه منها، فليس بشرط أن يكون العدو بني آدم بل أي عدو كان يخاف الإنسان على نفسه منه. كيفية صلاة الخوف: لصلاة الخوف كيفيات متعددة منها: ¬

_ (¬1) سورة النساء: 102. (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة وكذلك بعرفة وجمع وقول المؤذن الصلاة في الرحال في الليلة الباردة أو المطيرة، برقم (605). (¬3) المبسوط (2/ 384)، والعناية شرح الهداية (2/ 456).

1 - إذا كان العدو في غير جهة القبلة والإمام يصلي الثنائية، في هذه الحالة يقسم قائد الجيش جيشه إلى طائفتين؛ طائفة تصلي معه، وأخرى أمام العدو؛ لئلا يهجم، فيصلي بالطائفة الأولى ركعة، ثم إذا كانت الركعة الثانية نووا الانفراد وأتموا لأنفسهم وسلموا، ثم يذهبون ويقفون مكان الطائفة الثانية أمام العدو والإمام لا يزال قائمًا، وتأتي الطائفة الثانية، وتدخل مع الإِمام في الركعة الثانية، ويطيل الإِمام في الركعة الثانية أكثر من الأولى، فيصلي بهم الركعة التي بقيت ثم يجلس للتشهد، فإذا جلس للتشهد وقبل أن يسلم تقوم الطائفة الثانية من السجود وتكمل الركعة التي بقيت وتدرك الإِمام في التشهد فيسلم بهم. وهذه الصفة هي الموافقة لظاهر القرآن، وقد فعلها - صلى الله عليه وسلم - في غزوة ذات الرِّقاع، فقد روى البخاري ومسلمٌ عن صالح بن خوَّات عمن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: "أن طائفة صفت معه وطائفة وجَاهَ العدو، فصلى بالذي معه ركعة، ثم ثبت قائمًا، وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا، فصفوا وِجَاهَ العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالسًا، وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم" (¬1). وهناك كيفية أخرى في هذه الحالة وهي: أن يصلي الإِمام بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم ينصرفون ويقومون مقام أصحابهم مقبلين على العدو، ثم تأتي، فيصلي بهم ركعة ثم يسلم، ثم يتمون لأنفسهم، ثم تأتي الطائفة الأخرى فتقضي الركعة الثانية. ودليل هذه الصفة ما رواه مسلم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "صلى رسول الله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع؛ وهي غزوة محُارِب خَصَفَةَ من بني ثعلبة من غَطَفَانَ فنزل نخلا وهي بعدَ خيبر؛ لأن أبا موسى جاء بعد خيبر، برقم (3900)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الخوف، برقم (842).

- صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك، ثم صلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعة، ثم سلم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة" (¬1). وللإمام أيضًا هنا أمر آخر وهو: أن يجعل الجيش طائفتين؛ طائفة مواجهة للعدو، وطائفة يصلي بهم جميع الصلاة، ركعتين كانت أم ثلاثًا أم أربعًا، فإذا سلم بهم ذهبوا مكان الطائفة المواجهة للعدو، فتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم تلك الصلاة مرة ثانية، وتكون له نافلة ولهم فريضة. وهذه الصفة صلاها - صلى الله عليه وسلم - ببطن نخل، فعن أبي بكرة - رضي الله عنه - "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بالقوم في الخوف ركعتين ثم سلم، ثم صلى بالقوم الآخرين ركعتين ثم سلم، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعًا" (¬2). وهذه الصفة ليست بمشروعة عند من قال بعدم جواز صلاة المفترض خلف المتنفل، وقد ذكرنا ذلك سابقًا وبيَّنا جواز ذلك، ومن هنا كانت هذه الصفة صحيحة. 2 - الحالة الثانية: إذا كان العدو في جهة القبلة، فهنا يقوم الإِمام بترتيبهم صفين فيُحرِم بالجميع فيصلون معًا، فيقرأ ويركع ويعتدل بهم جميعًا، ثم يسجد بأحدهما، أي بأحد الصفين، ويحرس الصف الأول حتى يقوم الإِمام من سجوده، فإذا قام سجد الصف الآخر ويلحقون الإِمام في قيامه، ويفعل ذلك في الركعة الثانية، غير أن الصف الذي سجد معه هو الذي يحرس فيها، فإن جلس الإِمام ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الخوف، برقم (839). (¬2) أخرجه النسائي في كتاب الصلاة الأول، عدد صلاة الخوف وذكر الاختلاف فيه، برقم (516)، وصححه الألباني.

للتشهد هو والصف الذي معه، سجد الصف الثاني ولحق الإِمام في التشهد، فيتشهد ويسلم بهم جميعًا. ودليل هذه الصفة ما رواه مسلم عن جابر -رضي الله عنه- قال: "شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف، فصَفَّنا صَفَّيْنِ خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكبرنا جميعًا، ثم ركع وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وقام الصف المؤخر في نحو العدو، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود وقام الصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع النبي - صلى الله عليه وسلم - وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرًا في الركعة الأولى وقام الصف المؤخر في نحور العدو، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود والصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا، ثم سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلمنا جميعًا" (¬1). 3 - الحالة الثالثة: أن يصلي الإِمام بكل طائفة ركعتين، فتكون منه الصلاة أربعًا بلا تسليم وللقوم ركعتان، فقد روى مسلم عن جابر -رضي الله عنه- قال: "أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بذات الرقاع قال: فنودي بالصلاة، فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين قال: فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات وللقوم ركعتان" (¬2). 4 - الحالة الرابعة: حال شدة خوف: إذا اشتد الخوف بحيث لا يتمكنون ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الخوف، برقم (840). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع وهي غزوة محارب خَصَفَةَ من بني ثعلبة من غَطَفَانَ فنزل نخلا وهي بعد خيبر لأن أبا موسى جاء بعد خيبر، برقم (3906)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الخوف، برقم (843) واللفظ لمسلم.

كيفية صلاة المغرب عند الخوف

من الصلاة على الصفات المذكورة آنفًا، صلوا رجالًا قيامًا على أقدامهم أو ركبانًا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها. فإن عجزوا عن الإتيان بالركوع والسجود أومئوا بهما وأتوا بالسجود أخفض من الركوع. لكن هل يجوز القتال في الصلاة في هذه الحالة؟ قولان للفقهاء؛ فالجمهور على أنه يجوز القتال في هذه الحالة الشديدة ويعفى عما فيها من الحركات وضربات وطعنات والإمساك بسلاح ملطخ بالدم. والحنفية (¬1) اشترطوا في هذه الحالة عدم القتال، فإن قاتل فسدت صلاته. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور. كيفية صلاة المغرب عند الخوف: ذكر ابن حجر (¬2) -رحمه الله- أنه: لم يقع شيء من الأحاديث المروية في صلاة الخوف تعرض كيفية صلاة المغرب، لكن ذكر بعض أهل العلم أن الإِمام يصلي بالطائفة الأولى ركعتين وتتم لأنفسها ركعة تقرأ فيها بالحمد لله وبالثانية ركعة وتتم لأنفسها ركعتين تقرأ فيها بالحمد وسورة. ثالثًا: صلاة السفر: الأحكام المتعلقة بصلاة السفر قصر الصلاة الرباعية: من الأحكام المتعقلة بالصلاة حال السفر قصر الصلاة الرباعية، دليل ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 244). (¬2) ذكر ذلك الحافظ جلال الدين السيوطي في شرح سنن النسائي (3/ 168 - 169).

أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬1). وقصر الصلاة هنا ليس مقصورًا على الخوف، بدليل ما رواه مسلم عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: أرأيت إقصار الصلاة وإنما قال -عَزَّ وجَلَّ-: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقد ذهب ذلك اليوم؟ فقال عمر -رضي الله عنه-: عجبتُ مما عجبتَ منه، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "صدقة تصدَّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته" (¬2). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر" (¬3). وعنها أيضًا: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين بمكة، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة زاد مع كل ركعتين ركعتين، إلا المغرب فإنها وتر النهار، وصلاة الفجر؛ لطول قراءتها، وكان إذا سافر صلى صلاة الأولى" (¬4) أي: التي فرضت بمكة. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك -رضي الله عنهم- (¬5). ¬

_ (¬1) سورة النساء: 101. (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم (686). (¬3) أخرجه البخاريُّ في أبواب تقصير الصلاة، باب يقصر إذا خرج من موضعه وخرج علي -عليه السلام- فقصر وهو يرى البيوت؛ فلما رجع قيل له: هذه الكوفة؟ قال: لا، حتى ندخلها، برقم (1040)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم (685). (¬4) أخرجه الإِمام أحمد في المسند (6/ 241)، رقم (26084)، والبيهقيُّ في جماع أبواب صلاة المسافر والجمع في السفر، باب إتمام المغرب في السفر والحضر وأن لا قصر فيها، برقم (5228) واللفظ لأحمد. (¬5) أخرجه البخاريُّ في أبواب تقصير الصلاة، باب من لم يتطوع في السفر دبر الصلاة وقبلها، برقم (1051).

حكم قصر الصلاة في السفر

حكم قصر الصلاة في السفر اختلف الفقهاء في حكم قصر الصلاة في السفر مع اتفاقهم على مشروعيته: 1 - فالشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) على أن القصر جائز؛ تخفيفًا على المسافر، لما يلحقه من مشقة السفر غالبًا، ولأنه هذا هو هديه - صلى الله عليه وسلم - حال سفره، فقد كان يقصر الصلاة الرباعية فيصليها ركعتين. 2 - المشهور عند المالكية (¬3) أن القصر سنة مؤكدة. 3 - وقال الحنفية (¬4): قصر الصلاة في السفر فرض، فليس للمسافر أن يتم ذوات الأربع، واحتجوا لذلك بقول عائشة -رضي الله عنها-: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فَأُقِرَّتْ صلاة السفر وزيدَ في صلاة الحضر" (¬5). وهناك أقوال أخرى، لكن ما ذكرناه هو أشهرها. والصواب أن قصر الصلاة الرباعية في السفر سنة، لكن هل يأثم من أتم في سفره؟ الجواب عند من قال بالوجوب: يأثم ومن قال إنه سنة فلا يأثم؛ لأن القاعدة الشرعية: أنه لا يلزم من ترك المستحب الوقوع في المكروه. وهذا هو الراجح. لكن هناك سؤال آخر وهو: أيهما أفضل الإتمام في السفر أم القصر؟ ¬

_ (¬1) المجموع (4/ 219)، روضة الطالبين (1/ 380)، مغني المحتاج (1/ 262). (¬2) المغني، لابن قدامة (3/ 125 - 126). (¬3) بداية المجتهد (1/ 161)، الشرح الكبير، للدردير (1/ 358). (¬4) فتح القدير (1/ 395). (¬5) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم (685).

شروط قصر الصلاة

يرى الشافعية (¬1) أن الأفضل هو الإتمام؟ خروجًا من الخلاف، ولأن في الإتمام زيادة في عدد الركعات وهذا أفضل. والصحيح أن العمل بالسنة هو الأفضل، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان أسرع الناس إلى فعل الأفضل، ولذلك ما كان في سفره يزيد عن الركعتين في الرباعية، فعلم أن اتباع سنته هو الأفضل. شروط قصر الصلاة: 1 - نية السفر: اشترط جميع الفقهاء لجواز قصر الصلاة النية للسفر، وذلك لأن السفر قد يكون سفرًا مقصودًا، وقد يكون غير مقصود، فمن خرج من بيته إلى موضع ما طلبًا لحاجة معينة ثم تبدو له حاجة أخرى تجعله يقطع مسافة طويلة بدون قصد السفر مع كونه تجاوز مسافة القصر- فإنه لا يشرع له القصر؛ لاشتراط النية في السفر. لكن هل يلزم عقد نية قصر الصلاة في السفر؟ الجواب: لا يلزم ذلك، ولكن يكفي في ذلك نية السفر؛ لأن عقد نية قصر الصلاة يكون قبل فعلها، لا عند بدء السفر. 2 - مسافة القصر: من شروط قصر الصلاة أن تكون مسافة القصر مبيحة للقصر. وقد اختلف الفقهاء في هذا الشرط على ثلاثة أقوال: الأول: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن المسافة التي يجوز فيها القصر والفطر هي مسيرة يومين كاملين فأكثر، وتعادل بالكيلومتر (ثمانين كم) تقريبًا. ¬

_ (¬1) المجموع، للنووي (4/ 219).

حكم القصر لسكان مدينة لها طريقان مختلفان

الثاني: ما ذهب إليه الحنفية (¬1) وهو أن مسافة السفر التي شرع لها القصر ثلاثة أيام ولياليها. الثالث: أنه ليس هناك حد للمسافة ولا توقيت، المرجع في ذلك للعرف، فما سماه العرف سفرًا صار سفرًا يجوز قصر الصلاة فيه، وهذا هو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬2). والراجح ما ذهب إليه الجمهور وهو تحديد مسافة القصر بثمانين كيلو متر تقريبًا. وهو اختيار اللجنة الدائمة (¬3). حكم القصر لسكان مدينة لها طريقان مختلفان: لو كان لمدينة طريقان مختلفان أحدهما يتجاوز مسافة القصر والآخر أقل منها، أي: دون ثمانين كيلو مترًا، فهل يشرع للمسافر إليها القصر إن سلك الأبعد وترك الأقرب؟ اختلف في ذلك الفقهاء: 1 - فقال الحنفية (¬4) والحنابلة (¬5): يقصر الصلاة إذا سلك الأبعد مع وجود الأقرب؛ لأنه يعتبر مسافرًا. 2 - وقال المالكية (¬6) والشافعية (¬7): لا يقصر الصلاة إذا كان قاصدًا سلوكه ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 93 - 94). (¬2) مجموع الفتاوى (24/ 12). (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 99) برقم (11520). (¬4) بدائع الصنائع (1/ 94). (¬5) كشاف القناع (1/ 330). (¬6) شرح الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 362). (¬7) مغني المحتاج (1/ 265).

القصر عند السفر في الوسائل الحديثة كالطائرة وغيرها

لمجرد القصر أو لا قصد له إلا سلوك الأطول، أما إذا كان عدل للأبعد أو لأمر يحتاجه، فإنه يقصر الصلاة. الأولى في حقه عدم القصر؟ خروجًا من الخلاف وأخذًا بالأحوط. القصر عند السفر في الوسائل الحديثة كالطائرة وغيرها: حدد الفقهاء المسافة التي تشترط لقصر الصلاة على اعتبار سير الوسط وهو مشي الأقدام وسير الأقل، فهل إذا لم يكن هناك مشقة في السفر وذلك من خلال استخدام الوسائل الحديثة كالطائرة والقطار والسيارات ونحو ذلك، فهل نقول بأنه لا يشرع القصر لأن المشقة منتفية في هذه الحالة؟ 1 - يرى الكمال بن الهمام (¬1) من الحنفية أن المعتبر في ذلك المشقة، فلو قطع المسافر هذه المسافة في ساعة مثلًا لا يقصر الصلاة؛ لانتفاء مظنة المشقة وهي العلة. 2 - ذهب إليه جمهور الفقهاء (¬2)، وهو منقول عن أبي حنيفة أيضًا على أن العلة هنا ليست المشقة، وإنما العلة هي السفر، فمتى قطع المسافر هذه المسافة بسفره قصر، ولو كان يقطعها بطيران أو بقطار أو سيارة ونحو ذلك وهو الصحيح، وقد نقل بعضهم الإجماع على ذلك. 3 - الخروج من عمران بلدته: لا يجوز لمن قصد السفر أن يقصر الصلاة إلا إذا جاوز -أي: فارق- محل إقامته، والمراد بالمفارقة هنا المفارقة بالبدن لا بالبصر، أي أن يتجاوز البيوت ولو بقدر ذراع، فمتى خرج من مسافة البيوت ولو بمقدار ذراع، فإنه يعتبر مفارقًا. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 392)، فتح القدير (2/ 5). (¬2) انظر في ذلك: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 358)، مغني المحتاج (1/ 264)، كشاف القناع (1/ 327).

القصر لمن سافر بعد دخول الوقت

القصر لمن سافر بعد دخول الوقت: إذا دخل وقت الصلاة في الحضر ثم سافر هل يلزمه الإتمام أم يصلي صلاة مسافر؟ اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فالمذهب عند الحنابلة (¬1) أنه يلزمه الإتمام، لوجوبها عليه تامة بدخول وقتها. 2 - وقال آخرون: إنه يصليها قصرًا؛ لأنه في هذه الحالة يعتبر مسافرًا. والذي يظهر -والله أعلم- أن ما ذهب إليه القائلون بالقصر هو الراجح؛ أخذًا بالرخصة، ثم إنه يؤديها حال السفر. 4 - اشتراط نية قصر الصلاة عند كل صلاة: اختلف الفقهاء في اشتراط نية قصر الصلاة عند كل صلاة: 1 - فالحنفية (¬2) لا يشترطون ذلك، ويقولون بأنه يكفي نية السفر. 2 - ويقول المالكية (¬3): تكفي نية القصر في أول صلاة يقصرها المسافر، ولا يلزم تجديدها فيما بعد من الصلوات. 3 - أما الشافعية (¬4) والحنابلة (¬5) فيرون أنه لا بد من نية القصر عند كل صلاة يؤديها، فلو لم يَنْوِ القصر بأن نوى الإتمام أو أطلق، أتم الصلاة. ¬

_ (¬1) كشاف القناع (1/ 318). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 92، 93). (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 367). (¬4) مغني المحتاج (1/ 68). (¬5) كشاف القناع (1/ 329).

5 - كون السفر مباحا

والأولى الأخذ بما ذهب إليه الشافعية والحنابلة أخذًا بالأحوط؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" (¬1)، ولأنه أبرأ للذمة؛ خروجًا من الخلاف. 5 - كون السفر مباحًا: 1 - اشترط المالكية (¬2) والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) في السفر الذي تقصر فيه الصلاة، أن يكون مباحًا -أي: ليس بسفر معصية- فلا يقصر عاصٍ بسفره كالعبد الآبق وقاطع الطريق أو من سافر إلى بلاد الكفر لفعل الرذيلة أو رغبة منه في التحلل من قيم الإِسلام وآدابه، فهؤلاء لا يشرع لهم القصر؛ لأن جواز القصر في حقهم إعانة على المعصية، وهذا لا يجوز. 2 - وذهب الحنفية (¬5) إلى عدم اشتراط كون السفر مباحًا؛ وذلك لأن الأدلة التي جاءت في القصر عامة لم توجب الفصل بين مسافر ومسافر، فوجب العمل بعموم النصوص وإطلاقها. وقالوا أيضًا بأن القصر ليس برخصة، فإن صلاة ركعتين للظهر والعصر والعشاء بدلًا من أربع ركعات ليس تحويلًا من الأربع إلى ركعتين، بل هما في الأصل ركعتان. الراجح: نرى أن الراجح هو قول الحنفية؛ لقوة الأدلة وصراحتها، حيث جاءت النصوص ولم تفرق بين مسافر وآخر؛ لأن الأصل في صلاة السفر كونها ركعتين. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في باب بدء الوحي، برقم (1) من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. (¬2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي (1/ 358). (¬3) المجموع شرح المهذب (4/ 223). (¬4) كشاف القناع (1/ 237، 324)، المغني (3/ 116 - 117). (¬5) بدائع الصنائع (1/ 93).

حكم قضاء من فاتته صلاة سفر في الحضر والعكس

حكم قضاء من فاتته صلاة سفر في الحضر والعكس: 1 - ذهب الحنفية (¬1) والمالكية (¬2) إلى أن من فاتته صلاة في السفر قضاها في الحضر ركعتين. واختار ذلك الشيخ ابن العثيمين (¬3)، ومن فاتته صلاة في حضر قضاها في السفر أربعًا؛ وذلك لأن القضاء بحسب الأداء. 2 - أما الشافعية (¬4) في الجديد عندهم والحنابلة (¬5) فذهبوا إلى أن من نسي صلاة سفر فذكرها في الحضر، فإن الواجب عليه أن يصلي أربعًا؛ لأن القصر رخصة من رخص السفر فبطل بزواله، ولأن التخفيف متعلق بعذر، فزال بزواله. والأحوط الأخذ بما ذهب إليه الشافعية في الجديد والحنابلة من أن الواجب الإتمام؛ لأن القصر من رخص السفر وقد زال السفر فيلزمه الإتمام. نية الإقامة ومدتها المعتبرة: معناها: أن ينوي المسافر الذي قصد بلدًا ما الإقامةَ في هذا البلد لمدة تتجاوز أربعة أيام، أما إذا دخل بلدًا ما ومكث فيه شهرًا أو أكثر لانتظار قافلة أو لحاجة أخرى ولم يعزم على البقاء فيها، فإنه لا يصير مقيمًا؛ فله أن يقصر الصلاة إذا زادت عن أربعة أيام؛ لأنه لم ينو الإقامة في هذا البلد. ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 405). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 360). (¬3) الشرح الممتع (4/ 366). (¬4) المجموع شرح المهذب (1/ 360). (¬5) المغني (3/ 141 - 143).

الأحكام المتعلقة بالجمع

الأحكام المتعلقة بالجمع تعريف الجمع بين الصلوات: الجمع بين الصلوات هو: أداء صلاة الظهر مع العصر والمغرب مع العشاء جمع تقديم أو جمع تأخير. حكم الجمع بين الصلوات: اتفق الفقهاء على مشروعية الجمع بين الصلوات (الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء) لكن اختلفوا في مسوغات الجمع على ما سيأتي بيانه إن شاء الله. واحتجوا لجواز الجمع بحديث جابر في صفة حجه - صلى الله عليه وسلم - وفيه قال: "فأتى بطن الوادي فخطب الناس ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئًا" (¬1). مسوغات الجمع: أولاً: السفر 1 - ذهب الشافعية (¬2) والحنابلة (¬3) إلى جواز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء جمع تقديم أو جمع تأخير في السفر الذي يجوز فيه قصر الصلاة. واحتجوا لذلك بما رواه البخاري عن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما، فإن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم (1218). (¬2) المجموع، للنووي (4/ 371). (¬3) المغني (3/ 131 - 132).

زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر ثم ركب" (¬1). وعن معاذ -رضي الله عنه- قال: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك فكان يصلي الظهر والعصر جميعًا والمغرب والعشاء جميعًا" (¬2). 2 - أما الحنفية (¬3) فإنهم لا يجوّزون الجمع للمسافر لا تقديمًا ولا تأخيرًا، وتأولوا الجمع الوارد في حديث أنس ومعاذ بأنه جمع صُورِيٌّ؛ ومعناه أن يؤخر الظهر إلى آخر وقتها وكذلك في المغرب والعشاء. وأجازوا الجمع بين الظهر والعصر في عرفة وبين المغرب والعشاء في مُزْدَلفَةَ؛ لأن ذلك من المنسك وليس رخصة. واحتجوا لذلك بما رواه البخاري عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة بغير ميقاتها إلا صلاتين؛ جمع بين المغرب والعشاء، وصلى الفجر قبل ميقاتها" (¬4) يعني ليلة مزدلفة. وحديث أبي قتادة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى" الحديث (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في أبواب تقصير الصلاة، باب إذا ارتحل بعد ما زاغت الشمس صلى الظهر ثم ركب، برقم (1061)، ومسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، برقم (703). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، برقم (706). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 256). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الحج، باب متى يصلي الفجر بجمع صلاة الفجر بالمزدلفة، برقم (1598). (¬5) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائته واستحباب تعجيل قضائها، برقم (681).

أيهما أفضل جمع التقديم أم التأخير؟

والراجح ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة من جواز الجمع بين الصلاتين في السفر؛ للأدلة التي ذكروها. أيهما أفضل جمع التقديم أم التأخير؟ اتفق الفقهاء القائلون بجواز الجمع على أنه إن كان المسافر نازلًا في وقت الأولى، فالأفضل أن يقدم الثانية في وقت الأولى، وإن كان سائرًا في وقتهما أو نازلًا فيه وأراد جمعهما، فالأفضل تأخير الأولى منهما إلى وقت الثانية؛ لأن وقت الثانية للأولى حقيقة بخلاف العكس. والصواب أنه يفعل الأرفق به من تأخير أو تقديم، فإن كان التقديم أرفق به فليقدم، وإن كان التأخير أرفق به أخر؛ وذلك لأن الجمع إنما شرع رفقًا بالمكلف، فما كان أرفق فهو أفضل. لكن إن تساوى عنده الأمران -أي: جمع التقديم أو جمع التأخير- فالأفضل هنا التأخير؛ لأن غاية ما في التأخير تأخير الأولى عن وقتها، والصلاة بعد وقتها جائزة مُجْزِئَةٌ. أما التقديم ففيه صلاة الثانية قبل دخول وقتها. شروط جمع التقديم: يشترط لصحة جمع التقديم شروط منها: 1 - البداءة بالأولى من الصلاتين المجموعتين؛ فيصلي الظهر أولًا ثم العصر، ويصلي المغرب أولًا ثم العشاء، فلو صلى الثانية قبل الأولى لم يصح. 2 - نية الجمع عند الصلاة الأولى أو في أثنائها، فلا يجوز تقديم الصلاة إلا بنية الجمع إن وجد سببه. ولم يشترط ذلك شيخ الإِسلام ابن تيمية وحكاه عن

شروط جمع التأخير

جمهور العلماء (¬1). 3 - الموالاة بين الصلاتين المجموعتين؛ ومعنى الموالاة أن لا يفصل بينهما بزمن طويل، أما الفصل اليسير فلا يضر، فإن أطال الفصل بينهما بطل الجمع. 4 - دوام السفر حال افتتاح الأولى والفراغ منها وافتتاح الثانية، فإذا نوى الإقامة أثناء الصلاة الأولى أو وصل إلى بلده وهو في الأولى، انقطع الجمع؛ لزوال سببه، ولزمه تأخير الثانية إلى وقتها. شروط جمع التأخير: 1 - نية الجمع قبل خروج وقت الأولى، فإن أخرها بغير نية الجمع حتى خروج وقتها، أتم، وتكون قضاءً؛ لخلو وقتها عن الفعل أو العزم. 2 - البداءة بالأولى قبل الثانية على ما ذكرنا سابقًا، فإذا دخل بنية الظهر مع من يصلي العصر، جاز وتحقق الترتيب. أما إن كانوا جماعة فالأولى في حقهم أن يصلوا الظهر ثم يصلوا العصر ولا يدخلوا مع الجماعة الأولى، لكن لا يصلون حتى يفرغوا من صلاتهم؛ حتى لا تكون جماعتان في مسجد واحد. 3 - استمرار السفر لحين دخول وقت الثانية، فإن زال السفر قبل دخول وقت الثانية، لزمه أن يأتي بالأولى في وقتها ثم يؤخر الثانية لحين دخول وقتها، لكن لا يضر زوال السفر قبل فعل الصلاتين وبعد دخول وقت الثانية. 4 - الموالاة بين الصلاتين على ما ذكرناه في شروط جمع التقديم. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (21/ 456)، و (24/ 51).

ثانيا: المرض.

ثانيًا: المرض. من مسوغات الجمع بين الصلاتين المرض، وقد اختلف الفقهاء في جواز الجمع في المرض على قولين: الأول: أنه يجوز الجمع للمريض بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، وذهب إلى ذلك المالكية (¬1) والحنابلة (¬2). واستدلوا لذلك بما رواه مسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر" (¬3)، وفي رواية: "من غير خوف ولا سفر" (¬4). وأيضًا بما رواه أبو داود وأحمدُ: "أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر سَهْلَةَ بنت سُهَيْلٍ وحَمْنَةَ بنت جحش -رضي الله عنها- لما كانتا مستحاضتين، بتأخير الظهر وتعجيل العصر والجمع بينهما بغسل واحد" (¬5). لكن المالكية مع قولهم بجواز الجمع للمريض إلا أنهم قالوا بأن الجمع الجائز بسبب المرض هو جمع التقديم فقط لمن خاف الإغماء والحمى وغيرها، وإن سلم من هذه الأمراض ولم يصبه شيء منها، أعاد الثانية في وقتها. ¬

_ (¬1) جواهر الإكليل (1/ 92). (¬2) المغني، لابن قدامة (3/ 135 - 136). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الجمع بين الصلاتين في الحفر، برقم (705). (¬4) أخرجه النسائي في كتاب مواقيت الصلاة، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر من غير خوف، برقم (1573)، والبيهقيُّ في جماع أبواب صلاة المسافر والجمع في السفر، باب الجمع في المطر بين الصلاتين، برقم (5337). (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب من روى أن الحيضة إذا أدبرت لا تدع الصلاة، برقم (287)، وأحمدُ في المسند (6/ 139)، رقم (25130)،

ثالثا: الجمع بسبب المطر والثلج والبرد ونحو ذلك

وقال الحنابلة: إن المريض مخير بين التقديم والتأخير كالمسافر. وهذا هو الأصوب؛ لأنه في الحقيقة هو الأرفق بالمريض. القول الثاني: أنه لا يجوز الجمع بسبب المرض، وهو قول الشافعية (¬1)؛ لأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنه مرض أمراضًا كثيرة ولم ينقل عنه أنه جمع بسبب المرض. والصحيح أنه يجوز الجمع بسبب المرض؛ وذلك أن المشقة الحاصلة بسببه أشد من الحاصلة بسبب السفر، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يرفع الحرج عن أمته بسبب الجمع حين سُئِلَ ابن عباس عن جمعه - صلى الله عليه وسلم - من غير خوف ولا مطر قال: أراد أن لا يحرج أمته (¬2). ثالثًا: الجمع بسبب المطر والثلج والبرد ونحو ذلك: ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز الجمع بسبب المطر المبلل للثياب والثلج والبرد، واحتجوا لذلك بما جاء في الصحيحين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة الظهر والعصر جميعًا والمغرب والعشاء جميعًا" وزاد مسلم: "في غير خوف ولا سفر" (¬3). وهذا هو الراجح. لكن أي الصلاتين تجمع، الظهر والعصر أم المغرب والعشاء؟ ¬

_ (¬1) المجموع شرح المهذب، للإمام النووي (4/ 383). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، برقم (705). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، برقم (705).

اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فالمالكية (¬1) والحنابلة (¬2) على أنه لا يجوز الجمع بين الظهر والعصر بسبب المطر ونحوه، وإنما يجمع بين المغرب والعشاء، وذلك لأن المشقة في المغرب أشد؛ لأجل الظلمة. 2 - أما الشافعية (¬3) فيرون أنه يجوز الجمع بين الظهر والعصر كذلك بسبب المطر، لحديث ابن عباس المتقدم أنه جمع بين الظهر والعصر، ولأن العلة هي وجود المطر سواء كان ذلك في الليل أو النهار، وهذا هو الراجح. أما الجمع بسبب الريح الشديدة والظلمة فقد اختلف فيه الفقهاء: 1 - فالمالكية (¬4) والشافعية (¬5) على المنع. وهو وجه عند الحنابلة (¬6). 2 - ويرى الحنابلة جواز الجمع من أجل الريح الشديدة في الليلة الباردة؛ لأن ذلك عذر في ترك الجمعة والجماعة. والذي يظهر جواز الجمع مع الريح الشديدة الباردة؛ لحصول المشقة بها، لكن بقيدين: الأول: كون الريح شديدة؛ وهي ما خرج عن العادة، أما المعتادة فلا يباح لها الجمع. الثاني: كونها باردة، والمراد بها ما تشق على الناس. ¬

_ (¬1) جواهر الإكليل (1/ 92). (¬2) المغني (3/ 132 - 133). (¬3) مغني المحتاج (1/ 274). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 370). (¬5) المجموع (4/ 383)، مغني المحتاج (1/ 275). (¬6) المغني (3/ 134).

صلاة الجمعة

صلاة الجمعة فضل صلاة الجمعة: كان من هديه - صلى الله عليه وسلم - تعظيم هذا اليوم وتشريفه وتخصيصه بعبادات يختص بها عن غيره، وقد اختلف العلماء هل هو الأفضل أم يوم عرفة؟ على قولين هما وجهان لأصحاب الشافعي كما ذكر ذلك ابن القيم -رحمه الله (¬1) - فمن فضائله: 1 - أنه خير الأيام: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة" (¬2). 2 - فيه ساعة الإجابة: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر يوم الجمعة فقال: "إن في الجمعة لساعةً لا يوافقها مسلم قائم يصلي يسأل الله خيرًا، إلا أعطاه إياه، وقال بيده يقلِّلها يُزَهِّدُها" (¬3). 3 - حصول تكفير الذنوب: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر" (¬4)، وعنه أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مَسَّ الحصى فقد لغا" (¬5). ¬

_ (¬1) زاد المعاد (1/ 375). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجمعة، باب فضل يوم الجمعة (2/ 585)، برقم (854). (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجمعة، باب في الساعة التي في يوم الجمعة (2/ 584)، برقم (852). (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة (1/ 209)، برقم (233). (¬5) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجمعة، باب فضل من استمع وأنصت يوم الجمعة (2/ 588)، برقم (857).

التحذير من التخلف عن صلاة الجمعة

التحذير من التخلف عن صلاة الجمعة: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬1)، والأمر بالسعي إليها دليل على وجوبها، ولذا من تخلف عنها فهو آثم ومعرض؛ للوعيد المذكور في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لينتهين أقوام عن وَدْعِهِمُ الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين" (¬2). فليحذر الذين يتخلفون عن الجمعة من غير عذر شرعي من هذا الوعيد، نسأل الله تعالى السلامة والعافية. حكم صلاة الجمعة: صلاة الجمعة من الفرائض المعلوم فرضيتها بالضرورة بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الأمة. أما دليل الكتاب فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬3) فالأمر في الآية للوجوب، وذكر الله هنا قيل: هو الخطبة، وقيل: هو الصلاة، وكل ذلك حق، فالسعي إلى الخطبة سعي إلى الصلاة، ولأن ذكر الله يتناول الخطبة ويتناول الصلاة. أما السنة فمن ذلك الحديث المتقدم: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين" (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الجمعة: 9. (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجمعة، باب التغليظ في ترك الجمعة (2/ 591)، برقم (865). (¬3) سورة الجمعة: 9. (¬4) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجمعة، باب التغليظ في ترك الجمعة (2/ 591)، برقم (865).

شروط صلاة الجمعة

ومن ذلك أيضًا ما رواه النسائي عن حَفْصَةَ زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رَوَاحُ الجمعة واجب على كل مُحْتَلِمٍ" (¬1). أما الإجماع فقد نقل ابن المنذر وابن العربي أنها فرض عين (¬2). شروط صلاة الجمعة: أولًا: الوقت: فلا تصح الجمعة قبل وقتها ولا بعد وقتها بالإجماع، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (¬3). واختلف الفقهاء في أول وقت صلاة الجمعة: 1 - فالحنفية (¬4) والمالكية (¬5) والشافعية (¬6) على أن وقت الجمعة هو وقت الظهر، فلا يثبت وجوبها ولا يصح أداؤها إلا بدخول وقت الظهر، ويستمر وقتها إلى دخول وقت العصر، فإذا خرج وقت الظهر سقطت الجمعة واستبدل بها ظهرًا. ويمتد وقته عند المالكية إلى الغروب (¬7). 2 - أما الحنابلة (¬8) فقالوا بأن أول وقتها هو أول وقت صلاة العيد، ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في كتاب الجمعة، باب التشديد في التخلف عن الجمعة (1660)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (1/ 297)، برقم (1299). (¬2) انظر: الأحكام شرح أصول الأحكام، عبد الرحمن بن قاسم (ص: 432). (¬3) سورة النساء: 103. (¬4) بدائع الصنائع (1/ 269). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 372). (¬6) مغني المحتاج (1/ 279). (¬7) الذخيرة، للقرافي (2/ 331 - 332)، مواهب الجليل (2/ 517). (¬8) المغني، لابن قدامة (3/ 239 - 243).

واحتجوا لذلك بما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: "أنه كان يصلي ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها، زاد عبد الله في حديثه: حين تزول الشمس -يعني: النواضح" (¬1)، وفعلها بعد الزوال عندهم أفضل. وذهب ابن قدامة (¬2)، وهو الذي رجحه الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- (¬3)، إلى أن وقتها يكون قبل الزوال بساعة، واحتجوا لذلك بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح، فكأنما قرب بَدَنَةً، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإِمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر" (¬4). فهذه خمس ساعات، ثم ذكر في السادسة حضور الملائكة يستمعون الذكر، أي الخطبة، ووقت الساعة السادسة يكون قبل الزوال بساعة. والصحيح من الأقوال: أن أداءها بعد الزوال أفضل وأحوط؛ لما رواه البخاري عن أنس -رضي الله عنه-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس" (¬5)، وهذا هو فعله - صلى الله عليه وسلم - في أكثر الأوقات. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجمعة، باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس (2/ 588)، برقم (858). (¬2) المغني، لابن قدامة (3/ 240). (¬3) الشرح الممتع، لابن عثيمين (5/ 33). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجمعة، باب فضل الجمعة (1/ 301)، برقم (841)، ومسلمٌ في كتاب الجمعة، باب الصلاة في الرحال في المطر (2/ 582)، برقم (850). (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجمعة، باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس (1/ 307)، برقم (862).

ثانيا: الجماعة

ثانيًا: الجماعة: يشترط لصلاة الجمعة حصولها في جماعة، فمتى صلاها منفردًا فلا تصح ويلزمه أن يعيدها ظهرًا؛ وذلك لحديث طارق بن شهاب -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة ... " (¬1). من أدرك مع الإِمام أقل من ركعة، هل يكون مدركًا للجمعة؟ اختلف في ذلك الفقهاء: 1 - فالمالكية (¬2) والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) على أن من أدرك مع الإِمام أقل من ركعة، فإنه لا يكون مدركًا للجمعة ويصليها ظهرًا. 2 - وقال أبو حنيفة (¬5): "تدرك وإذا صلى مع الإِمام جزءًا منها، وإن قل، فمتى أدرك المأموم الإِمام وهو في التشهد أو في سجدتي السهو فاقتدى به، فقد أدرك الصلاة، ويصليها ركعتين". والصحيح أن صلاة الجمعة تدرك مع الإِمام بإدراك ركوع وسجود من الركعة الثانية لمن فاتته الأول، فإن دخل في الصلاة ولم يلحق ركوع الثانية، أتمها ظهرًا. دليل ذلك: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أدرك ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الجمعة للمملوك والمرأة، برقم (1067)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 199)، برقم (942). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 383). (¬3) نهاية المحتاج (2/ 334). (¬4) المغني، لابن قدامة (3/ 184). (¬5) حاشية ابن عابدين (1/ 569).

العدد الذي تتحقق به الجماعة للجمعة

ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جئتم ونحن سجود فاسجدوا ولا تَعُدُّوهَا شيئًا، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة" (¬2). العدد الذي تتحقق به الجماعة للجمعة: فقد اختلف الفقهاء في العدد الذي تتحقق به الجماعة للجمعة: 1 - فالشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) أنه لا يقل العدد عن أربعين رجلًا تجب في حقهم الجمعة. 2 - ويشترط المالكية (¬5) لحصول الجماعة للجمعة اثني عشر من أهلها، أي ممّن تجب عليهم الجمعة. 3 - وذهب الحنفية (¬6) إلى أنها تنعقد بواحد سِوَى الإِمام، وقيل بثلاثة سوى الإمام. والصحيح أن الجماعة تتحقق للجمعة بثلاثة أحدهم يخطب. وهو ما ذهب إليه شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬7)، وهو إحدى الروايتين عند الحنفية (¬8)، وإحدى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ، كتاب المواقيت، باب من أدرك من الصلاة ركعة (1/ 211)، برقم (555). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في الرجل يدرك الإِمام ساجدًا كيف يصنع؟ برقم (893) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وصححه الألباني. (¬3) المجموع (4/ 369). (¬4) المغني (3/ 204). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 378)، الشرح الصغير (1/ 499). (¬6) بدائع الصنائع (1/ 266). (¬7) الاختيارات الفقهية، لشيخ الإِسلام ابن تيمية (ص: 145، 146). (¬8) البدائع (1/ 266).

ثالثا: الاستيطان

الروايتين عن أحمد (¬1)، وبهذا قال الشيخان ابن باز وابن العثيمين (¬2)، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬3). ثالثًا: الاستيطان: اشترط الفقهاء للجمعة أن يكون أهل وجوبها مستوطنين بقرية، فإن كانوا في خيام ينتقلون، فلا تجب عليهم الجمعة ولا تصح منهم وحدهم. ومعنى مستوطنين: أي متخذيها وطنًا. وضد المستوطن: المسافر والمقيم؛ فالمسافر الذي على جناح سفر، والمقيم الذي ليس بمستوطن هو من يقيم ثم يسافر، فهؤلاء لا تلزمهم الجمعة، بل ولا تصح منهم وحدهم. واختلف الفقهاء في صفة الاستيطان، والصحيح ما ذهب إليه شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن الاستيطان يحصل بكل بناء متقارب لا يظعنون عنه شتاءً ولا صيفًا إذا كان مبنيًا بما جرت به عادتهم؛ من مدر، أو خشب، أو قصب، أو جريد، ونحو ذلك، فإن أجزاء البناء ومادته لا تأثير لها في ذلك (¬4). أما دليل اشتراط الاستيطان فإن قبائل العرب كانت حول المدينة فلم يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بجمعة. وكذلك لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى جمعة في سفر من أسفاره، ولم ينقل ذلك عنه. ¬

_ (¬1) الروض المربع (2/ 436). (¬2) فتاوى سماحة الشيخ ابن باز (12/ 326)، الشرح الممتع على زاد المستقنع (5/ 41). (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 178)، برقم (1794). (¬4) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية (24/ 166).

رابعا: تقدم الصلاة بالخطبة

رابعًا: تقدم الصلاة بالخطبة: يشترط للجمعة تقدمها بخطبة، فإن لم يتقدمها خطبة لم تصح. ويشترط في الخطبة ما يأتي: 1 - أن تكون متقدمة على الصلاة، فإن خطب بعدها أعاد الصلاة. 2 - وقوعها في وقت الجمعة، فإن وقعت الخطبة قبل وقت الصلاة لم تصح. 3 - حضور الجماعة التي تنعقد بهم الجمعة، وقد مر ذكر الخلاف في العدد مع بيان الراجح. 4 - حمد الله في الخطبة: وذهب إلى سنية الحمد في الخطبة الحنفية (¬1) والمالكية (¬2). وذهب الشافعية إلى ركنيته (¬3)، وذهب إلى أنه شرط الحنابلة (¬4). والصحيح أن ذلك واجب في الخطبة ليس بركن ولا بشرط (¬5). 5 - الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -: هذا هو الشرط الخامس من شروط الخطبة، وبهذا قال الشافعية (¬6) والحنابلة (¬7). واختار شيخ الإِسلام ابن تيمية أن ذلك واجب (¬8) وليس بشرط ولا بركن، فتصح الخطبة بدونه مع حصول الإثم. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 263)، البحر الرائق (2/ 159). (¬2) الذخيرة، للقرافي (2/ 345)، الشرح الكبير مع حاشية ابن عابدين (1/ 378). (¬3) نهاية المحتاج (2/ 300). (¬4) كشاف القناع (2/ 32). (¬5) نيل الأوطار (3/ 331). (¬6) نهاية المحتاج (2/ 300). (¬7) الكافي (1/ 220). (¬8) الفتاوى الكبرى، لشيخ الإِسلام ابن تيمية (4/ 430، 439)، الإنصاف، للمرداوي (2/ 387).

حكم الإنصات للخطبة

6 - قراءة شيء من القرآن: وهذا هو المذهب عند الحنابلة (¬1)، وهو قول الشافعية (¬2). والصحيح أنه لا يشترط ذلك، وهذا هو إحدى الروايتين في المذهب، فمتى تضمنت الخطبة الموعظة المؤثرة في إصلاح القلوب وبيان الأحكام الشرعية، صحت بذلك. 7 - كون الخطبة باللغة العربية: فإن عجز عنها يكفي أن تكون فيها الآيات بالعربية. وأسقط المالكية (¬3) الجمعة إِنْ عُدِمَ من يُحْسِن العربية، وأجاز الحنفية (¬4) الخطبة بغير العربية. والصحيح إن كان يستطيع الخطبة بالعربية وجب عليه أداؤها بالعربية، لكن يشترط أن يكون الحاضرون ممّن يفهمون لغة العرب؛ لأن الغرض من الخطبة هو موعظة المدعُوِّ، فإن كان المدعو لا يفهم فات المقصود الأعظم من الخطبة وجاز أداؤها بلغتهم. حكم الإنصات للخطبة: إذا صعد الإِمام المنبر وجب على من حضر الصلاة الإنصات لخطبته ولا ينشغلون بكلام ولا بغيره. لكن اختلف الفقهاء فيما إذا دخل والخطيب يخطب، هل يصلي ركعتين تحية المسجد أم يجلس للاستماع؟ ¬

_ (¬1) كشاف القناع (2/ 32). (¬2) المحلى على المنهاج (1/ 277 - 278)، المجموع (4/ 388). (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 378)، الشرح الصغير (1/ 499). (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 543).

الحكم فيما إذا اجتمع يوم عيد مع يوم جمعة

1 - فالحنفية (¬1) والمالكية (¬2) على أنه يجلس ولا يصلي. 2 - والشافعيُّ (¬3) وأحمدُ (¬4) يقولون: لا يجلس حتى يصلي ركعتين خفيفتين. وهذا هو الصحيح. دليل ذلك ما رواه جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "جاء سُلَيْكٌ الغَطَفَانِيُّ يوم الجمعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فجلس، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: "يا سُلَيْكُ، قم فاركع ركعتين وتَجَوَّزْ فيهما" ثم قال: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب، فليركع ركعتين وَلْيَتَجَوَّزْ فيهما" (¬5) رواه البخاري ومسلمٌ. وحديث أبي قتادة السلمي -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس" (¬6). الحكم فيما إذا اجتمع يوم عيد مع يوم جمعة: اختلف الفقهاء في هذه المسألة: فذهب الحنفية (¬7) والمالكية (¬8) إلى أنه لا يباح لأحد ممّن تجب عليه الجمعة التخلف عنها إذا وافقت يوم عيد. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 574). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 386). (¬3) مغني المحتاج (1/ 88). (¬4) المغني (3/ 192). (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجمعة، باب إذا رأى الإِمام رجلًا جاء وهو يخطب، أمره أن يصلي ركعتين (1/ 315)، برقم (888)، وصحيح مسلم في كتاب الجمعة، باب التحية والإمام يخطب (2/ 596) برقم (875) واللفظ له. (¬6) أخرجه البخاريُّ في كتاب أبواب المساجد، باب إذا دخل المسجد فليركع ركعتين (1/ 170) برقم (433). (¬7) تبيين الحقائق (1/ 224). (¬8) حاشية الدسوقي (1/ 391).

سنن الجمعة ومستحباتها

أما الحنابلة (¬1) فقالوا: بأنه يجوز لمن صلى العيد أن يصلي الجمعة ظهرًا؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى العيد وقال: "من شاء أن يصلي فليصلِّ" (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون" (¬3). الراجح: يتبين من الأدلة أنه إذا اتفق عيد في يوم جمعة، سقط حضور الجمعة عمن صلى العيد، لكن يلزمه أن يصلي الظهر، أما الإِمام فإنها لا تسقط عنه إلا أن لا يجتمع له من يصلي الجمعة. وقد أخذ بذلك الشيخ ابن باز (¬4). سنن الجمعة ومستحباتها: يسن للجمعة ما يلي: 1 - الاغتسال لها: وقد بينا أنه الراجح، وأنه من السنن المؤكدة وليس بواجب، وهذا هو ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬5). أما وقته فيمتد من طلوع فجر يوم الجمعة إلى وقتها، والأفضل أن يكون حين الرَّواح إليها. 2 - ليس أحسن الثياب لها: وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما على أحدكم إن ¬

_ (¬1) المغني (2/ 242 - 243). (¬2) أخرجه أبو داود في باب إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد (1/ 281)، برقم (1070)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 199)، برقم (945). (¬3) أخرجه أبو داود في المرجع السابق، برقم (1073)، وصححه الألباني، برقم (948). (¬4) فتاوى سماحة الشيخ ابن باز (10/ 173). (¬5) فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 179)، برقم (2140).

وجدتم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته" (¬1). 3 - التطيب لها: فعن سلمان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويَدَّهِنُ من دُهْنِهِ، أو يمس من طيب بيته ثم يخرج لا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم يُنصت إذا تكلم الإِمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى" (¬2). 4 - التبكير إليها: يستحب التبكير لصلاة الجمعة؛ وذلك للحديث المتقدم، أعني: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بَدَنَةً ... " (¬3). 5 - الذهاب إليها ماشيًا: يسن أن يذهب إلى الجمعة ماشيًا على قدميه؛ وذلك لأن المشي أقرب للتواضع، ولأنه يرفع له بكل خطوة درجة، ويحط عنه بها خطيئة، فقد روى أحمد وأصحاب السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من غسل يوم الجمعة واغتسل، ثم بَكَّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع ولم يَلْغُ، كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها" (¬4). 6 - قراءة سورة الكهف في يومها: يسن قراءة سورة الكهف في يوم الجمعة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود باب اللبس للجمعة (1/ 282)، برقم (1076)، وصححه الألباني (1/ 201)، برقم (953). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب صلاة العيدين، باب الدهن للجمعة (1/ 301)، برقم (843). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجمعة، باب فضل الجمعة، برقم (841)، ومسلمٌ في كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة، برقم (850). (¬4) أخرجه أحمد (4/ 104)، برقم (10073)، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة، برقم (345).

بين الجمعتين" (¬1). 7 - الإكثار من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -: يسن الإكثار من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالإكثار من ذلك، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ" (¬2). 8 - قراءة سورتي السجدة والإنسان في فجر يومها؛ وذلك لفعله - صلى الله عليه وسلم -، والسنة أن يقرأ بالسورتين كاملتين، أما ما يفعله بعض الناس من قراءة بعض السورتين، فهذا ليس تطبيقًا للسنة، فإما أن يقرأ بهما كاملتين، أو يقرأ بغيرهما. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقيُّ (3/ 249)، برقم (5792)، وصححه الألباني في الإرواء (3/ 93)، برقم (626). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الوتر، باب في الاستغفار، برقم (1531) من حديث أَوْسِ بن أَوْسٍ -رضي الله عنه-، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود.

صلاة العيدين

صلاة العيدين: حكم صلاة العيدين: اختلف الفقهاء في حكمهما على ثلاثة أقوال: الأول: أنها فرض عين، وبه قال الحنفية (¬1)، واستدلوا لذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - واظب عليها من دون تركها ولو مرة واحدة، وأمر النساء بالخروج إليها، حتى الحائض أمرها بذلك، وهذا ما رجحه الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله (¬2) -، وهو قول شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- (¬3). الثاني: وهو ما ذهب إليه المالكية (¬4) والشافعية (¬5) إلى أن صلاة العيد سنة مؤكدة، واستدلوا لذلك بحديث الأعرابي حين قال: هل عليّ غيرها؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا، إلا أن تَطَوَّعَ" (¬6). الثالث: وهو مذهب الحنابلة (¬7) فقد قالوا بأنها فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬8)، وهذا هو الصواب؛ لفعله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 274، 275)، الهداية (1/ 60). (¬2) الشرح الممتع (5/ 116). (¬3) مجموع الفتاوى (23/ 161). (¬4) جواهر الإكليل (1/ 101). (¬5) المجموع (5/ 3). (¬6) أخرجه البخاريُّ في كتاب الصوم، باب وجوب صوم رمضان (2/ 669)، برقم (1792)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإِسلام (1/ 40)، برقم (11). (¬7) المغني (3/ 254). (¬8) مجموع فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 284)، برقم (9555).

شروط صلاة العيدين

شروط صلاة العيدين: 1 - الاستيطان: أي: تقام في جماعة مستوطنين غير مسافرين، ودليل ذلك الشرط أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقم صلاة العيدين إلا في المدينة، وسافر عام غزوة الفتح وبقي فيها إلى أول شوال وأدركه العيد، ولم ينقل أنه صلى صلاة العيد. وكذلك أهل البوادي الرُّحَّلُ غير المستقرين في مكان لا تلزمهم صلاة العيد. 2 - العدد: يشترط لصلاة العيد بلوغها العدد الذي تنعقد به الجمعة، وقد ذكرنا الخلاف في ذلك. والصحيح أن العدد الذي تنعقد به الصلاة وتجب به هو ثلاثة، فإن لم يكن في القرية إلا رجل واحد مسلم أو رجلان، فإنه لا تجب عليهم صلاة العيد. 3 - الوقت: يشترط لصلاة العيد دخول وقتها: ووقتها كوقت صلاة الضحى؛ تكون من ارتفاع الشمس قيد رمح بعد طلوعها، وهو بمقدار ربع ساعة تقريبًا، وهذا هو قول الجمهور. أما الشافعية (¬1) فيرون أن وقتها ما بين طلوع الشمس وزوالها؛ وذلك لأنها من ذوات الأسباب؛ فلا تراعى فيها الأوقات التي لا تجوز فيها الصلاة. والصحيح: هو القول الأول؛ لأنه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا هو أول وقتها، لكن هل يجوز تأخيرها؟ أما تأخيرها حتى يخرج وقتها، وهو بعد الزوال، فهذا لا يجوز، ويسن تأخيرها قليلًا، وهذا بالنسبة لصلاة عيد الفطر؛ لكي يتسنى للناس إخراج زكاة ¬

_ (¬1) نهاية المحتاج، للرملي (2/ 216).

حكم أدائها بعد خروج وقتها

فطرهم. أما عيد الأضحى فالأولى عدم التأخير، بل يبادر في أدائها في أول الوقت؛ لكي يفرغ المسلمون بعدها لذبح ضحاياهم. حكم أدائها بعد خروج وقتها: هذه المسألة لها ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن لا تصلى جماعة في وقتها يوم العيد، كأن غُمّ عليهم الهلال ثم شهد شهود عند الإِمام بعد الزوال أنهم رأوا الهلال. فهنا تصلى في اليوم الثاني من العيد سواء كان عيد فطر أو عيد أضحى، وهذا هو قول الحنفية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3). أما المالكية (¬4) فقد أطلقوا القول بعدم القضاء في مثل هذه الحال، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من قضائها في اليوم الثاني، وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬5). الحالة الثانية: أن تؤدى في جماعة وتفوت بعض الناس. فقد اختلف الفقهاء في هذه الحالة أيضًا: 1 - فالحنفية (¬6) على أنها لا تقضى مهما كان العذر؛ لأنها صلاة خاصة لم تشرع إلا في وقت معين وبقيود خاصة، فلا بد من تكاملها جميعًا. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 276). (¬2) المجموع، للنووي (5/ 35). (¬3) الإنصاف (2/ 420). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 396 - 400). (¬5) مجموع فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 289)، برقم (1944). (¬6) البدائع (1/ 276).

2 - يرى الشافعية (¬1)، على الصحيح عندهم، أنها تقضى في أي وقت شاء وكيفما كان، منفردًا أو جماعة؛ لأن النوافل كلها تقضى عندهم. 3 - أما الحنابلة (¬2) فقالوا: يستحب له قضاؤها. وإن شاء صلاها أربعًا، إما بسلام واحد أو بسلامين. 4 - أما المالكية (¬3) فيرون أن من فاتته مع الإِمام فله فعلها مع الإِمام إلى الزوال، ولا تقضى بعد الزوال. والصحيح: أن من فاتته صلاة العيد فإنه يصليها على صفتها التي سنذكرها -إن شاء الله تعالى- وإذا جاء متأخرًا وفاتته الصلاة ووجد الإِمام يخطب، فإن الأفضل في حقه أن يستمع الخطبة ثم يقضي الصلاة بعد ذلك؛ حتى يجمع بين المصلحتين. لكن إذا كانت صلاة العيد تؤدى داخل المساجد، كأن يكون يومًا مطيرًا أو ريحًا باردةً ونحو ذلك من الأعذار، ثم دخل من فاتته صلاة العيد- هل يجلس للاستماع للخطبة أم يصلي؟ وهل الأولى أن يصلي تحية المسجد أم يصلي العيد؟ الصواب هنا: أنه يصلي تحية المسجد ويجلس للاستماع. الحالة الثالثة: أن يؤخر صلاة العيد لغير عذر حتى فات وقتها: فبعض الفقهاء قالوا ينظر هل هي صلاة عيد أضحى أم فطر؛ فإن كانت صلاة أضحى جاز قضاؤها؛ لأنه يجوز تأخيرها إلى اليوم الثالث من أيام التشريق ¬

_ (¬1) المجموع، للبغوي (5/ 27، 28). (¬2) المغني، لابن قدامة (3/ 286 - 287)، الإنصاف 2/ 426، المحرر (1/ 166)، كشاف القناع (2/ 52). (¬3) حاشيبة الدسوقي (1/ 396).

صفتها

مع لحوق الإساءة، أما إن كان عيد فطر فإنها لا تقضى بعد الزوال؛ لسقوطها أصلًا. والصواب: أن هذه الصلاة فرض كفاية، كما ذكرنا، إن أداها بعض الناس سقط الإثم عن الباقين، ولا يلزم من تركها أداؤها، ولا يلحقه إثم ولا إساءة إن كان هناك من يؤديها. صفتها: 1 - صلاة العيد ركعتان، وهذا محل اتفاق بين أهل العلم. 2 - تبدأ الركعة الأولى بتكبيرة الإحرام كسائر الصلوات. 3 - يسن أن يكبر المصلي تكبيرات زوائد أخرى، اختلف الفقهاء في عددها: أ- فالشافعية (¬1) على أنها سبع في الركعة الأولى، بين تكبيرة الإحرام وبدء القراءة، وخمس في الركعة الثانية بين تكبيرة القيام وبدء القراءة. دليل ذلك ما رواه أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة، سبعًا في الأولى، وخمسًا في الآخرة" (¬2). ب- وذهب المالكية (¬3) والحنابلة (¬4) إلى أنها ست تكبيرات في الركعة الأولى عقب تكبيرة الإحرام، وخمس في الثانية عقب القيام إلى الركعة الثانية، أي: قبل القراءة في الركعتين. وبذلك صدرت الفتوى من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬5). ¬

_ (¬1) المجموع (5/ 23، 24). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في المسند (2/ 180)، برقم (6688). (¬3) الشرح الصغير على أقرب المسالك (2/ 18، 19). (¬4) المغني (3/ 271، 272). (¬5) فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 301، 302)، برقم (10557).

هل ورد ذكر مشروع بين التكبيرات؟

ج- أما الحنفية (¬1) فالتكبيرات الزوائد عندهم ثلاث، وهي: ثلاث تكبيرات بين تكبيرة الإحرام والركوع في الأولى، ومثلها أيضًا بين تكبيرة القيام والركوع في الركعة الثانية. والذي يظهر أن الأمر في ذلك واسع، ولله الحمد، فلو خالف وجعل التكبيرات خمسًا في الأولى والثانية، أو سبعًا في الأولى والثانية، كما جاء ذلك عن الصحابة -رضوان الله عليهم- فلا حرج في ذلك، وبهذا قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- (¬2). لكن هل ورد ذكر مشروع بين التكبيرات؟ المذهب عند الحنابلة (¬3) أنه يشرع أن يقول: "الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا، وصلى الله على محمَّد النبي"، وبهذا أفتت اللجنة الدائمة (¬4)، وهذا هو الصحيح. وقال بعض العلماء: إنه لا يسن بين التكبيرات ذكر، ولا تسبيح، ولا نحوه، بل المشروع السكوت، قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- وهذا أقرب للصواب (¬5). 1 - يشرع للمصلي أن يرفع يديه عند التكبيرات الزوائد. 2 - يسن للإمام أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة بسبح، وفي الثانية بالغاشية؛ لثبوت ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم -، وله أن يقرأ في الأولى بـ: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 584). (¬2) الشرح الممتع (5/ 131). (¬3) المغني (3/ 273). (¬4) مجموع فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 302)، برقم (10557). (¬5) الشرح الممتع (5/ 140).

مكان صلاة العيد

الْمَجِيدِ} (¬1)، وفي الثانية بـ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} (¬2) إن لم يكن هناك مشقة. 3 - إذا انتهى الإِمام من صلاته خطب الناس، لكن هل يخطب خطبتين كالجمعة، أم المسنون خطبة واحدة؟ المذهب عند الحنابلة (¬3) أنه يخطب خطبتين كالجمعة، وهذا هو الصواب. مكان صلاة العيد: يسن الخروج لصلاة العيد إلى الصحراء، أو إلى مفازة واسعة خارج البلد؛ وذلك لفعله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يخالف في ذلك أحد من الأئمة. لكن الشافعية (¬4) قيدوا أفضلية الصلاة في الصحراء بما إذا كان المسجد لا يسع المصلين، فهنا الأفضل الخروج إلى المصلى، أما إذا كان المسجد لا تحصل فيه مزاحمة، فالأفضل الصلاة فيه، وعللوا لذلك بأن المسجد أنظف وأشرف، ولأن الأئمة لا يزالون يصلون العيد بمكة في المسجد. والصحيح ما ذهب إليه الأولون من أن السنة في صلاة العيد أن تصلى في المُصَلِّى، بل لا ينبغي صلاتها في الجوامع إلا لعذر؛ كمطر، ورياح شديدة، ونحو ذلك. وقولنا بأنه لا ينبغي هنا؛ لأن صلاتها في المسجد يفوت به مقصود عظيم وكبير وهو إظهار هذه الشعيرة وإبرازها. ¬

_ (¬1) سورة ق: 1. (¬2) سورة القمر: 1. (¬3) شرح الممتع (5/ 146). (¬4) المجموع (5/ 7).

الأذان والإقامة للعيدين

وهذا شيء مقصود شرعًا، وما ذهب إليه الشافعية مدفوع بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك مسجده وصلى في الصحراء، مع أن الصلاة في مسجده لها مَزِيَّةٌ خاصة. أما أهل مكة فكونهم كانوا يصلون العيد في المسجد الحرام، فلعل -والله أعلم- الصلاة في الصحراء في مكة صعبة؛ لأنها جبال وأودية، فيشق على الناس الخروج، ولهذا كانت صلاة العيد في المسجد الحرام نفسه. الأذان والإقامة للعيدين: ليس لصلاة العيد أذان ولا إقامة؛ فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلاها من غير أذان ولا إقامة، فعن ابن عباس وجابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قالا: "لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى، إنما الخطبة بعد الصلاة" (¬1). وعن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العيدين غير مرة ولا مرتين، بغير أذان ولا إقامة" (¬2). هل يقال في العيدين: الصلاة جامعة؟ ذهب بعض الفقهاء إلى أنه ينادى لها: "الصلاة جامعة". والصحيح أنه لا يشرع ذلك؛ لأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من الصحابة. هل يصلى قبل العيد أو بعدها؟ لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى قبل صلاة العيد ولا بعدها، فعن ابن عباس -رضي الله عنه-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب العيدين، باب المشي والركوب إلي العيد ... ، برقم (917)، ومسلمٌ في كتاب صلاة العيدين، برقم (886). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب العيدين (2/ 604)، برقم (887).

الخروج إلى المصلى والرجوع منه

ومعه بلال" (¬1). هذا إن صلاها في المصلى. أما إن صلاها في المسجد فالمسنون أن يصلي تحية المسجد، وهذا هو اختيار اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (¬2)، وهو الصحيح؛ لما ورد في تحية المسجد. واختار الشيخ ابن عثيمين (¬3) -رحمه الله-: "من دخل مصلى العيد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس" (¬4)، ومصلى العيد مسجد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الحُيَّضَ أن يَعْتَزِلْنَهُ". الخروج إلى المصلى والرجوع منه: 1 - يستحب التبكير إلى صلاة العيد ودنوه من الإِمام؛ ليحصل له أجر التبكير وانتظار الصلاة. 2 - ويستحب له أيضًا أن يخرج ماشيًا وعليه السكينة والوقار. 3 - ويستحب أن يخالف الطريق؛ فيذهب من طريق، ويرجع من طريق. 4 - يسن له الخروج مكبرًا، أي قائلًا: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد. 5 - الأفضل أن يتناول تمرات قبل خروجه لعيد الفطر؛ وذلك لفعله - صلى الله عليه وسلم -، أما الأضحى فالأفضل ألا يأكل شيئًا قبل خروجه للصلاة حتى يرجع فيأكل من أضحيته. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب العيدين، باب الصلاة قبل العيد وبعدها (1/ 335)، برقم (945). (¬2) مجموع فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 304)، برقم (12515). (¬3) مجموع فتاوى ابن عثيمين (16/ 252)، رقم الفتوى (1373). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الصلاة، باب إذا دخل أحدكم فليركع ركعتين (1/ 170)، برقم (433).

التكبير المطلق، والتكبير المقيد

التكبير المطلق، والتكبير المقيد: التكبير للعيدين منه ما هو مطلق، ومنه ما هو مقيد، فالمطلق هو الذي يسن في كل وقت، والمقيد هو الذي يسن في أدبار الصلوات المكتوبة، ويبدأ المقيد من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، أما المطلق فيسن في عيد الفطر، وفي عشر ذي الحجة وفي أيام التشريق.

صلاة الكسوف

صلاة الكسوف أولًا: تعريفها: هي صلاة تؤدى بكيفية مخصوصة عند ظلمة أحد النَّيِّرَيْنِ: الشمس، أو القمر. ثانيًا: دليل المشروعية: وردت السنة بمشروعية صلاة الكسوف، ومن ذلك: ما رواه البخاري ومسلمٌ عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي" (¬1). ثالثًا: حكم صلاة الكسوف: 1 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أن صلاة الكسوف سنة مؤكدة، واستدلوا لذلك بحديث شعبة المتقدم، فقالوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بها وفعلها، فدل ذلك على أنها سنة مؤكدة، وقالوا بأن الصارف عن الوجوب حديث الأعرابي، وفيه: أنه سأل عن الصلوات الخمس ثم قال: هل عليَّ غيرها؟ فقال له - صلى الله عليه وسلم -: "لا، إلا أن تطوع شيئًا" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الكسوف، باب الدعاء في الكسوف (1/ 360)، برقم (1011) ومسلمٌ في كتاب الكسوف، باب ذكر النداء بصلاة الكسوف: الصلاة جامعة (2/ 630)، برقم (915). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإيمان (6/ 2551)، برقم (6556)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإِسلام (1/ 40)، برقم (11).

رابعا: وقت صلاة الكسوف

2 - وذهب بعض أهل العلم إلى القول بوجوب صلاة الكسوف، وهو قول عند الحنفية (¬1)، وبه قال الشيخ ابن العثيمين (¬2). قال ابن القيم في كتاب الصلاة (¬3): وهو قول قوي أي القول بوجوبها، وعللوا ذلك لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بها، وخروجه إليها فَزِعًا، وقال: "إنها تخويف" وخطب خطبة عظيمة، وعرضت عليه الجنة والنار، فكل هذه القرائن العظيمة تشعر بالوجوب. وأجابوا عن حديث الأعرابي بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الصلوات الخمس؛ لأنها اليومية التي تتكرر في كل زمان وفي كل مكان، بخلاف هذه الصلاة فإنها تجب بأسبابها، وما وجب بسبب ليس كالواجب المطلق. فلو نذر شخص أن يصلي ركعتين مثلًا، فإنه يجب عليه ذلك، مع أنها ليست من الصلوات الخمس. والصحيح أن صلاة الكسوف سنة مؤكدة؛ لقوة أدلة من قال بذلك، وبهذا قال الشيخ عبد العزيز بن باز (¬4). رابعًا: وقت صلاة الكسوف: يبدأ وقتها من ظهور الكسوف إلى حين زواله؛ وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم: "إذا رأيتموها فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي" (¬5). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 565، 566)، فتح القدير (2/ 51)، بدائع الصنائع (1/ 280). (¬2) الشرح الممتع (5/ 182). (¬3) كتاب الصلاة (15). (¬4) مجموع فتاوى سماحته -رحمه الله- (13/ 29). (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب الكسوف، باب الدعاء في الكسوف (1/ 360)، برقم (1011)، ومسلمٌ في كتاب الكسوف، باب ذكر النداء بصلاة الكسوف: الصلاة جامعة، (2/ 630)، برقم (915).

خامسا: حكم صلاة الكسوف في الأوقات المنهي عنها

ومن هنا نعلم أنه لا تشرع صلاة الكسوف قبل حصوله اعتمادًا على ما يقول به الْفَلَكِيُّونَ، بل لا بد من رؤيته رؤية عادية لا يستخدم فيها نظارات أو مكبرات ونحوه. خامسًا: حكم صلاة الكسوف في الأوقات المنهي عنها: اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين: الأول: أنها لا تصلى في أوقات النهي، لعموم الأدلة الواردة في النهي عن الصلاة في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، وقد ذكرنا هذه الأدلة سابقًا، وهذا هو قول الحنفية (¬1)، وهو ظاهر مذهب الحنابلة (¬2)، ورواية عن الإِمام مالك (¬3)، وقالوا بأنه يجعل مكانها الاستغفار والتهليل والتسبيح، ونحو ذلك غير الصلاة. القول الثاني: أنها تصلى في أوقات النهي؛ لأنها من ذوات الأسباب، فتصلى في أي وقت كالصلوات التي لها أسباب، وهذا هو قول الشافعية وهو القول الصحيح. سادسًا: حكم الجماعة لها: اتفق الفقهاء على أداء صلاة كسوف الشمس جماعة، أما في خسوف القمر فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: الأول: قول أبي حنيفة (¬4) ومالك (¬5) أنه يصلى لخسوف القمر وُحْدَانًا ركعتين ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 282). (¬2) المغني (2/ 515، 516). (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 403). (¬4) البدائع (1/ 282). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 402).

سابعا: صفتها

ركعتين، ولا يصلون جماعة، وعللوا لذلك بأنه لم يقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى لها جماعة، مع أن خسوفه كان أكثر من كسوف الشمس. القول الثاني: وهو مذهب الحنابلة (¬1) إلى أنها تصلى جماعة ككسوف الشمس. الراجح: أن صلاة خسوف القمر تصلى جماعة مثل الكسوف؛ وذلك لحديث عائشة الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الشمس والقمر لا يُخْسَفَانِ لموت أحد ولا لحياته ... فإذا رأيتم ذلك فافزعزا إلى الصلاة" (¬2). سابعًا: صفتها: اتفق الفقهاء على أن صلاة الكسوف ركعتان، لكنهم اختلفوا في الكيفية: فذهب المالكية (¬3) والشافعية (¬4) والحنابلة (¬5) إلى أنها ركعتان، في كل ركعة قيامان وقراءتان، وركوعان، وسجدتان. واستدلوا لذلك بحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كسفت الشمس على عهد رسول - صلى الله عليه وسلم -، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى بالناس فأطال القراءة، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع رأسه فأطال القراءة، وهي دون قراءته الأولى، ثم ركع فأطال الركوع دون ركوعه الأول، ثم رفع رأسه فسجد سجدتين، ثم قام، فصنع في الركعة الثانية مثل ذلك، ثم قام فقال: "إن الشمس والقمر لا يُخْسَفَانِ لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله يريهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة" (¬6). ¬

_ (¬1) المغني (3/ 330). (¬2) تقدم تخريجه (ص: 445). (¬3) أسنى المطالب (1/ 285). (¬4) المجموع (5/ 45). (¬5) كشاف القناع (2/ 62)، المغني (3/ 323 - 324). (¬6) أخرجه البخاريُّ في كتاب الكسوف، باب لا تنكسف الشمس لموت أحد ولا لحياته (1/ 360)، برقم (1009).

ثامنا: حكم الجهر في صلاة الكسوف

وقال الأحناف (¬1): إنها ركعتان، في كل ركعة قيام واحد وركوع واحد كسائر النوافل. والأولى العمل وفق ما ذهب إليه الأولون؛ لأن الرواية التي احتج بها الجمهور هي أشهر الروايات، ولذا فالعمل بها أولى. ثامنًا: حكم الجهر في صلاة الكسوف: اختلف الفقهاء في حكم الجهر في صلاة الكسوف: 1 - فذهب الجمهور إلى أنه لا يجهر في كسوف الشمس؛ لأنها صلاة نهار، وصلاة النهار سرية، أما خسوف القمر فإنه يشرع فيها الجهر بالقراءة. 2 - وذهب الإِمام أحمد (¬2)، وهو رواية عن مالك (¬3)، إلى مشروعية الجهر بالقراءة فيها، واحتجوا لذلك بما رواه البخاري عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الخسوف فجهر فيها بالقراءة" (¬4) ولأنها نافلة شرعت لها الجماعة فكان من سنتها الجهر، وهذا هو الصحيح، عملا بهذا الحديث. أما عن صفتها فهي أن يصلي الإِمام بالناس ركعتين، في كل ركعة قراءتان، وركوعان، وسجدتان، كما ذكرنا، يطيل القراءة والركوع والسجود، وتكون القراءة في الأولى أطول من الثانية، والركوع الأول أطول من الركوع الثاني، وهكذا القراءة في الركعة الثانية أقل من القراءة في الركعة الأولى، ثم يكون الركوع في الثالث أخف من الركوعين الأولين، وهكذا القراءة في الثانية من الركعة الثانية ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 281). (¬2) كشاف القناع (2/ 62)، المغني (3/ 326). (¬3) أسنى المطالب (1/ 286). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الكسوف، باب الجهر بالقراءة في الكسوف، برقم (1016).

تاسعا: هل يشرع لها خطبة؟

أخف من القراءة الأولى فيهما، وهكذا الركوع الثاني أخف من الركوع الأول فيهما، أما السجدتان في الركعتين فيسن تطويلهما تطويلًا لا يشق فيه على الناس. تاسعًا: هل يشرع لها خطبة؟ 1 - الجمهور على أنه لا يشرع لها خطبة بعدها ولا قبلها. 2 - وقال الشافعية (¬1): يسن أن يَخْطُبَ لها بعد الصلاة خُطْبَتَيْنِ كخطبتي العيد، واحتج الشافعية لذلك بما رواه مسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن الشمس والقمر من آيات الله، وإنهما لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فكبِّروا وادعوا الله وصلوا وتصدقوا" (¬2). والصحيح في ذلك أنه يشرع للإمام إذا انتهى من صلاته، عملًا بالحديث، أن يقبل على الناس بوجهه ويذكرهم وَيَعِظَهُمْ، إن كان لديه علم، ويخبرهم أن كسوف الشمس وخسوف القمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، وأن حصول ذلك لا يكون إلا بسبب الذنوب والمعاصي، ويخوفهم من سخط الله وعقابه، نسأل الله تعالى أن يصلح أحوال المسلمين. عاشرًا: إذا صلى الناس ولم يَنْجَلِ الكسوف، هل تكرر الصلاة؟ إذا صلى الناس الكسوف ولم ينجل فإنه لا يشرع تكرار الصلاة، بل الذي يشرع الإكثار من الذكر والتكبير والصدقة والعتق؛ لوجوب الحث على ذلك، كما تقدم في حديث عائشة -رضي الله عنها- المتقدم. ¬

_ (¬1) المجموع (5/ 52). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الكسوف، باب الصدقة في الكسوف (1/ 354)، برقم (997)، مسلم، كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف (2/ 618)، برقم (901).

صلاة الكسوف عند خسوف القمر وقبل طلوع الشمس

صلاة الكسوف عند خسوف القمر وقبل طلوع الشمس: يرى بعض الفقهاء أنها لا تصلى؛ لأنه وقت نهي، والصحيح أنها تصلى إذا كان القمر لولا الكسوف لأضاء، أما إن كان النهار قد انتشر، فهنا قد ذهب سلطانه والناس لا ينتفعون به، سواء كان كاسفًا أو مبدرًا. إذا نزل بالمسلمين نازلة، كزلزلة أو عواصف عظيمة تخيف الناس، أو رياح شديدة مهلكة ونحو ذلك من الآيات الكونية، فهل يصلى لها؟ اخْتُلِفَ في ذلك على أقوال: الأول: ذهب الحنفية (¬1) إلى أنه يصلى لكل ما يُفْزعُ؛ كرياح، وزلازل، وظلمة نهار، وبياض ليل، وغير ذلك من الأهوال. الثاني: يرى الحنابلة (¬2) أنه لا يصلى لكل ذلك إلا لزلزلة دائمة، فيصلى لها كصلاة الكسوف، أما غيرها فلا يصلى لها، واحتجوا لذلك بفعل ابن عباس -رضي الله عنهما- حين كانت الزلزلة بالبصرة. الثالث: ذهب الشافعية (¬3) إلى أنه لا يصلى لغير الكسوفين صلاة جماعة، بل يتضرع بالدعاء، ويستحب أن يصلوا منفردين. الرابع: وذهب المالكية (¬4) إلى أنه لا يصلى مطلقًا. والصحيح: ما ذهب إليه الأحناف، وقد أخذ به الشيخ ابن العثيمين (¬5). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 282). (¬2) كشاف القناع (2/ 65، 66)، المغني (3/ 332، 333). (¬3) أسنى المطالب (1/ 288). (¬4) مواهب الجليل (2/ 200). (¬5) الشرح الممتع (5/ 195).

ما بعد الركوع الأول في صلاة الكسوف هو سنة وليس ركنًا، وعلى ذلك لو صلاها كما تصلى النافلة، أي: يجعل في كل ركعة ركوعًا واحدًا، فلا بأس. لا تدرك الركعة من صلاة الكسوف بالركوع الثاني من الركعة الأولى، وإنما تدرك بالركوع الأول فيها، وعلى ذلك لو دخل مسبوق مع الإِمام بعد أن رفع رأسه من الركوع الأول، فإن هذه الركعة تعتبر قد فاتته فيقضيها؛ لأن الركوع الأول ركن، والثاني سنة.

كتاب الجنائز

الفِقهُ الميَسَّر كتاب الجنائز

تعريف الجنائز

كتاب الجنائز تعريف الجنائز: الجنائز جمع "جَنازة" بالفتح: الميت، وبالكسر "جِنازة": السرير الذي يوضع عليه الميت، وقيل بالعكس. وقيل: "جِنازة" بالكسر: السرير مع الميت، فإن لم يكن عليه الميت فهو سرير ونعش (¬1) ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالمريض: 1 - يجب على المريض أن يؤمن بقضاء الله، وأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن يصبر على قدر الله تعالى، ويحسن الظن بربه سبحانه وتعالى، وأن يكون بين الخوف والرجاء، ولا يتمنى الموت. 2 - ويجب عليه أيضًا أن يتخلص من حقوق الناس، وأن يؤدي حق ربه سبحانه وتعالى. 3 - ويسن له أيضًا أن يكتب وصيته، ويوصي أولاده بتقوى الله تعالى، وأن يحرصوا على هذا الدين، قال تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (¬2). 4 - ويسن للمريض أيضًا أن يوصي لأقاربه الذين لا يرثونه؛ فيوصي لهم بالثلث فأقل، وهذا هو الأفضل، ولا يجوز له أن يوصي لوارث؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: المصباح المنير، مادة: "جنز"، والدر المختار (1/ 599). (¬2) سورة البقرة: 133.

"لا وصية لوارث" (¬1). 5 - يشرع للمريض أن يتداوى، وقد اختلف الفقهاء في حكم التداوي: 1 - فذهب الحنفية (¬2) والمالكية (¬3) إلى أنه يباح التداوي. 2 - وذهب الشافعية (¬4) إلى استحبابه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا بحرام" (¬5). 3 - وذهب جمهور الحنابلة (¬6) إلى أن تركه أفضل، ونص عليه أحمد. قالوا: لأنه أقرب إلى التوكل. 4 - وذهب بعض العلماء إلى أنه يجب إذا ظن نفعه. والراجح: نرى أنه يمكن الجمع بين الأقوال على النحو الآتي: أ- إن كان في ترك التداوي الهلاك وغلب على الظن نفع التداوي مع احتمال الهلاك بعدمه، فهنا يجب التداوي، مثل السرطان الموضعي، فإذا كان يترتب على إزالته جزء من البدن مع نجاة المصاب منه، فهنا يجب. ب- أما إن غلب على الظن نفع التداوي ولكن ليس هناك هلاك محقق ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الإجارة، باب في تضمين العارية، برقم (3565)، والترمذيُّ في كتاب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث برقم (2120)، والنسائيُّ في كتاب الوصايا، باب إبطال الوصية للوارث، برقم (6468). (¬2) حاشية ابن عابدين (5/ 215، 249). (¬3) الفواكه الدَّوَاني (2/ 44). (¬4) روضة الطالبين (2/ 96). (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب في الأدوية المكروهة، برقم (3873) من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه-. (¬6) كشاف القناع (2/ 76).

بتركه، فهو أفضل. ج- إذا تساوى فيه الأمران، بمعنى أنه ظن نفعه مع احتمال الهلاك به أي (بالتداوي)، فهنا الأفضل تركه؛ لئلا يلقي بنفسه إلى تَهْلُكَةٍ. 6 - لا يجوز استطباب غير مسلمين إلا بشرطين: الحاجة إليهم، والأمن من مكرهم؛ وذلك لأن غير المسلمين لا يأمن مكرهم؛ فقد يعطونه دواء فيه هلاكه. 7 - يسن لمن علم بمرض أخيه المسلم عيادته؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "حق المسلم على المسلم خمس" وفي رواية: "ست"، وفيه قوله: "وإذا مرض فَعُدْهُ" (¬1). وقد اختلف الفقهاء في حكم عيادة المريض، والذي يظهر أن عيادة المريض واجبة على الكفاية؛ أي: يجب على المسلمين أن يعودوا مرضاهم. لكن إن كان المريض أبًا أو أمًا أو أخًا، فهنا يكون الوجوب عينيًا. 8 - الأفضل لمن عاد مريضًا أن لا يتأخر عنده، بل يبادر بالانصراف؛ لأن المريض قد يثقل عليه ذلك، إلا إذا كان هذا المريض يحب من يعوده ويرغب أن يبقى عنده ويتحدث إليه. 9 - هل يكفي الاتصال الهاتفي عن العيادة؟ الاتصال الهاتفي لا يغني عن العيادة، لا سيما القرابة، أما إذا كان المريض بعيدًا ويحتاج إلى سفر إليه، فيغني. 10 - يسن لمن عاد مريضًا أن يرقيه، لا سيما إذا كان المريض ممّن يشوق لذلك ويرغب فيه، ومعلوم ما في الرقية من النفع العظيم للمريض. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنازة، برقم (1183)، ومسلمٌ في كتاب السلام، باب من حق المسلم للمسلم رد السلام، برقم (2162) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

ذكر أحكام الاحتضار

ذكر أحكام الاحتضار: 1 - المحتضر هو مَنْ حضره الموت، والمراد به مَنْ قرب موته. وقد ذكر العلماء للاحتضار علامات: أن تسترخي قدماه فلا تنتصبان، ويعوج أنفه، ويَنْخَسِفَ صِدْغَاهُ، ويمتد جلد جبهته، فلا يرى فيه تَعَطُّفٌ، وغير ذلك من علامات الاحتضار. 2 - عند حضور علامات الموت لشخص ما يشرع لمن حضر عنده أمور منها: أولًا: تلقينه الشهادة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَقّنُوا موتاكم لا إله إلا الله" (¬1)، وقوله: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله عند الموت، دخل الجنة يومًا من الدهر، وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه" (¬2). ثانيًا: أن يدعو له. ثالثًا: لا يقول في حضوره إلا خيرًا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيرًا، فإن الملائكة يؤمّنون على ما تقولون" (¬3). لكن هل التلقين للشهادة يكون بذكرها بحضرة الميت وتسميعها إياه، أم يكون بأمره أن يقولها؟ ظاهر الحديث أنه يكون بأمره بقولها، وبدليل حديث أنس -رضي الله عنه- "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد رجلًا من الأنصار فقال: "يا خال، قل لا إله إلا الله"، فقال: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجنائز، باب تلقين الموتى لا إله إلا الله برقم (916). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب في التلقين، برقم (3116)، وأحمدُ في المسند (5/ 233) رقم (22087)، وابن حبان في صحيحه (7/ 272) رقم (3004) واللفظ له. (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجنائز، باب ما يقال عند المريض والميت، برقم (919) من حديث أم سلمة -رضي الله عنها-.

أخال أم عم؟ فقال: "لا، بل خال"، فقال: فخير لي أن أقول لا إله إلا الله؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نعم" (¬1). 3 - ذهب بعض الفقهاء إلى قراءة سورة يس عند المحتضر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اقرءوا على موتاكم يس" (¬2). والحديث فيه ضعف. وعللوا أيضًا بأن قراءتها فيها تخفيف لخروج الروح، ولأن فيها تشويقًا كما في قوله تعالى: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} (¬3)، وفيها قوله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ في شُغُلٍ فَاكِهُونَ} (¬4). وإذا قرأ القرآن عند المحتضر أو المريض فهذا أمر طيب، ولعل الله أن ينفعه به. 4 - ذهب بعض الفقهاء إلى توجيه المحتضر إلى القبلة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "البيت الحرام قبلتكم أحياءً وأمواتًا" (¬5) فيجعل المحتضر على جنبه الأيمن ويوجه إلى القبلة كما يوضع في اللحد. وذهب بعض العلماء إلى عدم استحباب ذلك؛ لأن الأحاديث الواردة في ذلك ضعيفة. والذي اختاره سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز استحباب توجيه المحتضر للقبلة (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند (3/ 154) رقم (12585). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب القراءة عند الميت، برقم (3121)، والنسائيُّ في كتاب عمل اليوم والليلة، باب ما يقرأ على الميت، برقم (10913) من حديث مَعْقِلِ بن يسار -رضي الله عنه-، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود، رقم (683)، (ص: 316). (¬3) سورة يس: 26. (¬4) سورة يس: 55. (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب الوصايا، باب ما جاء في التشديد في أكل مال اليتيم، برقم (2874) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬6) مجموع فتاوى الشيخ (13/ 101).

ما يشرع بعد الموت

ما يشرع بعد الموت: 1 - اتفق الفقهاء على أنه إذا مات الميت شُدَّ لحِيَاهُ وغمضت عيناه؛ لفعله بخلاف - صلى الله عليه وسلم - بأبي سلمة -رضي الله عنه-؛ فقد روى مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه وقال: "إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر" (¬1). 2 - يتولى أرفق أهله به إغماضه بأسهل ما يقدر عليه، ويشد لِحْيَاهُ بعصابة عريضة يشدها في لحيه الأسفل ويربطها فوق رأسه ويقول مع تغميضه: "بسم الله وعلى ملة رسول الله" ويدعو للميت بقوله: "اللَّهم يسر عليه أمره وسهل عليه ما بعده وأسعده بلقائك، واجعل ما خرج إليه خيرًا مما خرج منه". 3 - يشرع أيضًا تليين مفاصل المتوفى ورد ذراعيه إلى عَضُدَيْهِ، ويرد أصابع كفيه ثم يمدها، ويرد فخذيه إلى بطنه وساقيه إلى فخذيه ثم يمدها أيضًا. 4 - يستحب أيضًا أن تنزع ثياب المتوفى الذي مات فيها وَيُسَجَّى جميع بدنه بثوب، فقد روى البخاري ومسلمٌ عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين توفي سُجِّيَ بِبُرْدِ حِبَرَهٍ" (¬2). 5 - ينبغي أن يجعل الميت على شيء مرتفع؛ كسرير أو لوح مرتفع؛ لئلا تصيبه نَدَاوَةُ الأرض فيتغير ريحه، ولئلا تؤذيه هَوَامُّ الأرض، ولذلك يجعل على بطنه حديد أو طين يابس؛ لئلا ينتفخ، هذا إذا لم يكن هناك سرعة في تجهيزه وليس هناك ثلاجات تحفظ الميت. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند (4/ 125) رقم (17176)، وابن ماجه في كتاب الجنائز، باب ما جاء في تغميض الميت برقم (1455)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 245) رقم (1190). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب اللباس، باب البُرُود والحِبَرَة والشَّمْلَة، برقم (5477).

6 - يستحب لأهل الميت أن يخبروا جيرانه وأصدقاءه وأقاربه، وذلك ليقوموا بتجهيزه وتغسيله وتكفينه والصلاة عليه والدعاء له. ويكره النَّعْيُ؛ وهو النداء في الناس بموته؛ لحديث حذيفة -رضي الله عنه-: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن النعي" (¬1). أما الإعلام به لا على صورة نعي الجاهلية المشتمل على ذكر المفاخر ونحو ذلك، فلا بأس به (¬2)؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعى النَّجَاشِيَّ في اليوم الذي مات فيه، خرج إلى المصلى فصف بهم وكبر أربعًا" (¬3)، وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رجلًا أسود أو امرأة سوداء كان يَقُمُّ المسجد فمات فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه فقالوا: مات، قال: "أفلا كنتم آذَنْتُمُوني به، دُلُّوني على قبره"، أو قال: "قبرها"، فأتى قبرها فصلى عليها (¬4). 7 - يستحب المسارعة بقضاء دين الميت؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب ما جاء في النهي عن النعي (1/ 474)، برقم (1476)، والترمذيُّ في كتاب الجنائز، باب ما جاء في كراهية النعي، (3/ 313)، برقم (986) وقال: حسنٌ صحيحٌ. (¬2) المغني، لابن قدامة (2/ 226)، الإنصاف (2/ 468)، شرح صحيح مسلم، للنووي (7/ 21)، فتح الباري (3/ 116)، و (8/ 340). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب الرجل ينعي إلى أهل الميت بنفسه (1/ 420)، برقم (1188)، وفي باب التكبير على الجنازة أربعًا ... إلخ (1/ 447)، برقم (1268)، ومسلمٌ في كتاب الجنائز، باب في التكبر على الجنازة (2/ 656)، برقم (951). واللفظ للبخاري. (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الصلاة، باب التقاضي والملازمة في المسجد (1/ 175) برقم (446)، ومسلمٌ في كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر (2/ 659) برقم (956). واللفظ للبخاري. (¬5) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الجنائز، باب ما جاء أن نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه برقم (1078) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذيُّ (1/ 312) رقم (860) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

لكن إن كان الميت فقيرًا وعليه دين، فقال الحنابلة (¬1): إن تعذر الوفاء استحب للورثة أو غيرهم أن يتكفلوا عنه، فالكفاله بدين الميت صحيحة عند أكثر الفقهاء، وخالف أبو حنيفة (¬2) فقال: الكفالة لا تصح على ميت مُفْلِسٍ. والصحيح ما ذهب إليه أكثر الفقهاء وهو استحباب ذلك. 8 - يسن الإسراع بتجهيز الميت إن تيقن موته ولا يؤخر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظَهْرَانِي أهله" (¬3)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أسرعوا بالجنازة؛ فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن يك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم" (¬4). 9 - يحرم النَّوْحُ والصياح وشق الجيوب وغير ذلك من دعوى الجاهلية، وذلك في منزل الميت أو في أثناء الجنازة أو في أي محل آخر، وذلك لورود النهي عن ذلك؛ فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برئ من الصالقة والحالقة والشَّاقَّة (¬5) " (¬6). وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا من ضرب الخدود وشق ¬

_ (¬1) غاية المنتهى (1/ 228). (¬2) حاشية ابن عابدين (4/ 270). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب التعجيل بالجنازة وكراهية حبسها، برقم (3159). (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب السرعة بالجنازة، برقم (1252)، ومسلمٌ في كتاب الجنائز، باب الإسراع بالجنازة برقم (944)، واللفظ للبخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬5) الصالقة: التي ترفع صوتها بالبكاء، والحالقة: هي التي تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة: هي التي تشق ثوبها عند المصيبة. شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 110). (¬6) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب ما ينهى من الحلق عند المصيبة برقم (1234)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية، برقم (104).

الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية" (¬1). أما البكاء بغير رفع الصوت، أي: بدمع العين، فهذا جائز؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - عند موت ابنه إبراهيم: "إن العين تَدْمَعُ والقلب يحزن، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، إنا لله وإنا إليه راجعون" (¬2). وجاء في صحيح البخاري وصحيح مسلم: عن أسامة بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع إليه ابن لابنته ونفسه تَتَقَعْقَعُ، ففاضت عيناه وقال: "هذه رحمه جعلها الله في قلوب عباده" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب ليس منا من ضرب الخدود، برقم (1235)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية برقم (103). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنا بك لمحزونون"، برقم (1241)، ومسلمٌ في كتاب الفضائل، باب رحمته - صلى الله عليه وسلم - الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك، برقم (2315). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه، برقم (1224)، ومسلمٌ في كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، برقم (923).

تغسيل الميت وتكفينه

تغسيل الميت وتكفينه حكم تغسيل الميت: اتفق جمهور الفقهاء على أن تغسيل الميت واجب على الكفاية؛ إذا قام به البعض سقط عن الباقين. ما يشترط في مباشر التغسيل: 1 - كونه مسلمًا، فقد ذهب الحنفية (¬1) والمالكية (¬2) والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) إلى اشتراط كون المباشر للتغسيل مسلمًا، فلا يصح تغسيل الكفار للمسلم؛ لأن التغسيل عبادة، والكافر ليس من أهلها. 2 - أن يتولى تغسيل الميت من جنسه؛ فلا يغسل الرجال إلا الرجال، ولا يغسل النساء إلا النساء، إلا الزوجة: فيجوز لها تغسيل زوجها، والعكس إذا لم يحدث قبل موته ما يوجب البَيْنُونَةَ. والأصل في تغسيل الزوجة لزوجها حديث عائشة، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة -رضي الله عنها-: "ما ضرّك لو متِّ قبلي فغسَّلتك وكفَّنتك ثم صليت عليك ودفنتك" (¬5)، وقول عائشة -رضي الله عنها- أيضًا: "لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - غيرُ نسائه" (¬6). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 597). (¬2) مواهب الجليل (2/ 254). (¬3) المجموع (5/ 145). (¬4) نيل المآرب (1/ 220). (¬5) أخرجه أحمد في المسند (6/ 228)، رقم (25950)، والنسائيُّ كتاب الوفاة، باب بدء علة النبي - صلى الله عليه وسلم -، رقم (7080). (¬6) أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب ما جاء في غسل الرجل امرأته وغسل المرأة زوجها، رقم (1464) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 247) رقم (1196).

فإذا مات الرجل بين نسوة غير زوجته ولا يوجد رجل يقوم بتغسيله، وكذلك إذا ماتت امرأة ولم يوجد نسوة يقمن بتغسيلها، فهنا يشرع التيمم بنية الوضوء والغسل جميعًا، تغليبًا لجانب المحافظة على العورات. فإن الغالب ممّن يباشر تغسيل الميت، ولو بِصَبِّ الماء عليه، أن يقع بصره على شيء من عورته، وأن يمسه ويقلِّبه؛ ليتمكن من تعميم الماء على جسده. أما تغسيل الأطفال الصغار فلا حرج بتغسيل الرجال والنساء لهم، قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة تغسل الصبي الصغير" (¬1). أما حد الصِّغر فقد اختلف فيه الفقهاء؛ فالحنفية (¬2) والشافعية (¬3) قيدوا الصغر بالذي لا يشتهي، وقيده المالكية (¬4) بثمان سنين فما دونها، وقيده الحنابلة (¬5) بدون سبع سنين، وهذا هو الصحيح وهو اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز (¬6). والمصرح به في مذهب الحنابلة أن الرجل لا يغسل الصبية إلا ابنته الصغيرة، قال ابن قدامة (¬7): والصحيح ما ذهب إليه السلف من أن الرجل لا يغسل الجارية. 3 - كون الغاسل عارفًا بكيفية الغسل، فإذا كان المغسل غير عارف بكيفية الغسل، فلا يجوز له تغسيل الميت. ¬

_ (¬1) المغني (3/ 465). (¬2) بدائع الصنائع (1/ 306). (¬3) حاشية الجمل على المنهج (2/ 151). (¬4) مواهب الجليل (2/ 234). (¬5) المغني (3/ 465). (¬6) مجموع فتاوى سماحة الشيخ (13/ 109). (¬7) المغني (3/ 466).

الأحق بتغسيل الميت

لكن إن كان الميت أوصى لِزَيْدٍ من الناس بتغسيله وهو لا يعرف كيفية الغسل، فهل تنفذ وصيته؟ لا شك أن تنفيذ الوصية واجب عند الاستطاعة والتمكين، لكن ما دام الأمر كذلك، فإن استطاع تعليم الموصى كيفية التغسيل أو أمكن حضور بعض الناس ممّن يعلم الغسل وإرشاده ويقول: افعل كذا افعل كذا، لزم ذلك، وإلا فلا يلزم تنفيذها؛ لوقوعها في محل غير قابل للتنفيذ. الأحق بتغسيل الميت: الأحق بتغسيل الميت وصيّه ثم أبوه ثم جده ثم الأقرب فالأقرب من عصباته ثم ذوو أرحامه. وهذا الترتيب يحتاج إليه عند حصول المُشَاحَّةِ، لكن إن كان الوضع على ما هو عليه الآن في عصرنا هذا من عدم المشاحة، فإنه يتولى تغسيله من يتولى غسل عامة الناس. حكم تغسيل المسلم للكافر: ذهب جمهور العلماء إلى تحريم تغسيل المسلم للكافر؛ لأن الكافر ليس من أهل الكرامة والتعظيم، والغسل يوجبهما. وذهب الحنفية (¬1)، وهو المذهب عند الشافعية (¬2)، إلى جواز تغسيل المسلمين غيرهم من الكافرين. والصحيح أنه يحرم تغسيل المسلم للكافر؛ لأنه ليس له حرمة، بل يوارى فقط عن أعين الناس؛ حتى لا يتأذى الناس برائحته. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 567). (¬2) المجموع (5/ 141).

حكم تغسيل الشهيد

حكم تغسيل الشهيد: من مات شهيدًا في معركة بين الكفار، فقد اتفق الفقهاء على أنه لا يغسل؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في شهداء أحد: "ادفنوهم بدمائهم" (¬1). لكن إن كان الشهيد جنبًا فهل يغسل؟ اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فالحنفية (¬2) والشافعية (¬3) ورواية عند الحنابلة (¬4) أنه يغسل. 2 - ويرى جمهور المالكية (¬5) وأبو يوسف ومحمَّد من الحنفية (¬6) وفي الأصح عند الشافعية (¬7) أنه لا يغسل؛ لعموم الخبر. والصحيح أنه لا يغسل، سواء كان جنبًا أو غير جنب؛ لعموم الأدلة، ولأن الشهادة تُكَفِّرُ كل شيء، وبهذا قال الشيخ ابن عثيمين (¬8). حكم تغسيل من ورد فيهم لفظ الشهادة: الاختلاف عند العلماء فيمن ورد في نصوص السنة تسميتهم شهداء؛ كالمبطون والمطعون، وصاحب الهدم، ومن قتل دون ماله، وكذا الغريق، ومن ماتت وهي تلد، وغيرهم؛ ممّن جاءت نصوص السنة بوصفهم شهداء لاخلاف بين الفقهاء في وجوب تغسيلهم، وإن ورد فيهم لفظ الشهادة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب من لم يرَ غسل الشهداء، رقم (1281) من حديث جابر -رضي الله عنه-. (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 608). (¬3) روضة الطالبين (1/ 118). (¬4) المغني (3/ 469 - 470). (¬5) مواهب الجليل (2/ 247). (¬6) حاشية ابن عابدين (1/ 608). (¬7) روضة الطالبين (1/ 118). (¬8) الشرح الممتع (5/ 290).

حكم تغسيل قطاع الطرق والبغاة

حكم تغسيل قُطَّاع الطرق والبُغَاة: ذهب جمهور الفقهاء، وهو إحدى الروايات عن الحنفية، إلى أن البغاة وقطاع الطريق ممّن يقتلون عند المواجهة، يغسلون. وذهب الحنفية (¬1) إلى عدم تغسيل البغاة إذا قتلوا في الحرب؛ إهانة لهم وزجرًا لغيرهم عن فعلهم، وأما إذا قتلوا بعد ثبوت يد الإِمام عليهم، فإنهم يغسلون. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور؛ لعموم الأدلة في ذلك. حكم تغسيل الجنين: إذا خرج الجنين حيًا ثم مات، فالإجماع على أنه يغسل، أما إن كان سقط فينظر هل تم له أربعة أشهر أم لا؟ فإن تم له أربعة أشهر هلالية فهنا يغسل، وهذا هو مذهب الشافعية (¬2) والحنابلة (¬3). وذهب المالكية (¬4)، وهو رواية عند الحنفية (¬5) وقول للشافعية (¬6)، إلى أنه لا يُغَسَّلُ بل يُغْسَلُ دمه ويُلَفُّ في خِرْقَةٍ ويدفن. والصحيح أنه إذا تم له أربعة أشهر يغسل ويكفن ويدفن؛ لأنه قد نفخت فيه الروح وأصبح آدميا وقد كان قبل ذلك قطعة لحم. أما إذا كان دون الأربعة الأشهر فالجمهور على أنه لا يغسل (¬7). وهذا هو الصواب. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (783)، بدائع الصنائع (1/ 302). (¬2) روضة الطالبين (2/ 117). (¬3) المغني (3/ 458 - 470). (¬4) مواهب الجليل (2/ 240 - 250). (¬5) بدائع الصنائع (1/ 301). (¬6) روضة الطالبين (2/ 117). (¬7) المغني لابن قدامة (2/ 200). ط/ دار الفكر.

حكم تغسيل بعض أجزاء الميت

حكم تغسيل بعض أجزاء الميت: من مات فلم يبق إلا بعض أجزائه، فقد اختلف الفقهاء في تغسيل ما بقي؛ فالحنفية (¬1) والمالكية (¬2) ذهبوا إلى أنه إن وجد الأكثر غسل وإلا فلا. وذهب الشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) إلى أنه يغسل مطلقًا سواء كان أكثر البدن أم أقله. حكم أخد الأجرة للغاسل: اختلف الفقهاء في جواز أخذ الأجرة على تغسيل الميت، هل هو جائز أم لا؟ 1 - فذهب البعض إلى عدم الجواز لأن التغسيل طاعة وقربة ولا يجوز أخذ الأجرة على الطاعات والقرب. 2 - وذهب الجمهور إلى جواز أخذ الأجرة على ذلك، وأنه يؤخذ من مال الميت إن كان له تركة، والأفضل أخذ الأجرة على ذلك. والذي نراه أن الأولى أن يقوم بتغسيل الميت أحد أفراد المسلمين المتبرعين المحتسبين، فإن أعطي بعد ذلك أجرة الغسل من مال الميت أو من أحد أوليائه فلا بأس، ونرجو أن لا يحرم الثواب. وإن لم يوجد متبرع جاز الاستئجار على غسله وبهذا أفتت اللجنة الدائمة (¬5). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 576). (¬2) مواهب الجليل (2/ 212). (¬3) المجموع (5/ 92). (¬4) المغني (3/ 480). (¬5) مجموع فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 361) رقم الفتوى (2775).

حكم من دفن بلا غسل

حكم من دفن بلا غسل: إذا دفن الميت من دون تغسيل فلا يخلو من إحدى حالتين: الأولى: أن يدفن ولم يُهَلْ عليه التراب، فلا خلاف بين الفقهاء في أنه يخرج ويغسل. الثانية: أن يدفن حتى يفرغ من دفنه، وقد اختلف فيه الفقهاء: 1 - فالحنفية (¬1) وهو قول عند الشافعية (¬2) أنه لا ينبش لأجل تغسيله؛ لأن في ذلك مُثْلَةً له، وقد نُهِينا عن المثلة. 2 - ويرى المالكية (¬3) والحنابلة (¬4) وهو القول الصحيح عند الشافعية (¬5) أنه ينبش ويغسل ما لم يتغير ويُخَفْ عليه أن ينفسخ. وهذا هو الصحيح. كيفية تغسيل الميت: * إذا شرع في تغسيل الميت فإنه يستر ما بين سرته وركبتيه، وذلك وجوبًا. * ثم يجرده من ثيابه، وقد اختلف الفقهاء في تجريد الميت من ثيابه: 1 - فالحنفية (¬6) والمالكية (¬7) وهو قول عند الشافعية (¬8) ورواية عن الإِمام ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 582). (¬2) روضة الطالبين (2/ 140). (¬3) مواهب الجليل (2/ 233، 234). (¬4) المغني (3/ 500). (¬5) روضة الطالبين (2/ 140). (¬6) حاشية ابن عابدين (1/ 574). (¬7) الشرح الصغير (1/ 548). (¬8) المجموع (5/ 127).

أحمد (¬1) أنه يجرد من ثيابه؛ لأن المقصود من الغسل هو التطهير، وحصوله بالتجريد أبلغ، ولأنه لو غُسّل في ثوبه تنجس الثوب بما يخرج وقد لا يطهر. 2 - وذهب الشافعية (¬2) وهو الصحيح عندهم وهو رواية عن الإِمام أحمد (¬3)، إلى أنه يغسل في قميصه، قال الإِمام أحمد: "يعجبني أن يغسل الميت وعليه ثوب رقيق ينزل الماء فيه" (¬4) وذهب القاضي (¬5) إلى أن هذا هو السنة، أي: يغسل الميت في قميصه، واحتج لذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غسل في قميصه. والصحيح: ما ذهب إليه الأولون، بدليل قول الصحابة -رضي الله عنهم- حين أرادوا تغسيل النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: "هل نجرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ثيابه كما نجرد موتانا" (¬6)، فهذا دليل على أنهم كانوا يجردون موتاهم، وكذلك دليل النظر؛ من أن تجريده أبلغ في التطهير، والمقام يقتضي التطهير. * فإذا انتهى من تجريده فينبغي أن يرفع رأس الميت برفق إلى قرب جلوسه، ثم يعصر بطنه بيده؛ ليخرج ما كان متهيئًا للخروج، لكن إذا كان الميت امرأة حاملًا، فلا يعصر بطنها؛ لئلا يسقط الجنين. يصب الماء مع عصره برفق؛ حتى يزيل الخارج. * يأخذ الغاسل خرقة يلفها على يده أو يلبس قفازًا ثم يُنَجِّيهِ؛ ليطهر السبيلين. ¬

_ (¬1) المغني (3/ 368). (¬2) المجموع (5/ 127). (¬3) المغني (3/ 368). (¬4) المرجع السابق. (¬5) المرجع السابق (¬6) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب في ستر الميت عند غسله، رقم (3141)، وأحمدُ في المسند (6/ 267) رقم (26349) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

* ينوي الغاسل بعد ذلك وضوء الميت، ثم يشرع في الوضوء ولا يدخل الماء في فيه ولا أنفه، وإن كان فيه أذى أزاله بخرقة يبلها ويجعلها على أصبعه فيمسح أسنانه وأنفه حتى ينظفهما. وهذا هو الصحيح، أي: لا يمضمضه، كما ذهب لذلك المالكية (¬1) والشافعية (¬2)، فإنه لا يغني ما ذكرناه عن المضمضة والاستنشاق عندهم. * بعد فراغه من الوضوء يقوم بتغسيل الميت، فيغسل رأسه وَلِحْيَتَهُ برغوة سِدْرٍ ونحوه من أَشْنَانٍ أو صابون، ثم يصب الماء على سائر جسده فيبدأ بشِقِّه الأيمن من الأمام من صفحة العنق اليمنى ثم يده اليمنى من المنكب إلى الكف، ثم شِقِّ صدره وجنبه الأيمن وفخذيه وساقه وقدمه، ثم يقلبه على جنبه الأيسر، ويفعل مثل ما فعل في الأيمن. * ثم يفيض الماء على جميع بدنه. * الواجب في غسل الميت أن يغسله مرة واحدة. والمستحب ثلاثًا كل غسلة بالماء والسِّدر أو ما يقوم مقامه، لكن يجعل في الآخرة كافورًا أو غيره من الطيب إن أمكن هذا لغير المحرم. * إن رأى الغاسل الزيادة على الثلاث لكون الميت لم يُنَقَّ أو غير ذلك، غسله خمسًا أو سبعًا، ويستحب أن لا يقطع ذلك إلا على وتر، لكن هل يزيد على السبع؟ قال الإِمام أحمد: لا يزيد على السبع (¬3). والصحيح أنه إن احتاج إلى الزيادة عن السبع جاز له الزيادة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) الشرح الصغير (1/ 548). (¬2) المجموع (5/ 122). (¬3) المغني (3/ 379).

لغاسل ابنته: "سبعًا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك" (¬1). * إذا خرج من الميت شيء بعد الفراغ من تغسيله وهو على مُغْتَسَلِه، فقد اختلف في ذلك الفقهاء: 1 - فالحنفية (¬2) والمالكية (¬3) وهو الأصح عند الشافعية (¬4) ذهبوا إلى أنه يعاد غسله وإنما يغسل ذلك الموضع. 2 - وذهب الحنابلة (¬5) وهو قول عند الشافعية (¬6) إلى أنه يغسل إلى خمس أو سبع. والصحيح أن يقال: إذا خرج قبل السبع وجب غسل المحل وإعادة الغسل ويجعله تسعًا، وإن خرج بعد السبع وجب غسل المحل والوضوء، وإن خرج بعد التكفين لم يجب غسل المحل ولا إعادة الوضوء. * دليل ما ذكرناه من صفة تغسيل الميت ما رواه البخاري ومسلمٌ من حديث أم عطية -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لغاسلات ابنته زينب: " [ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها] (¬7) [واغسلنها وترًا ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورًا أو شيئًا من كافور، فإذا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب ما يجعل الكافور في آخره، رقم (1200)، ومسلمٌ في كتاب الجنائز، باب في غسل الميت، رقم (939)، من حديث أم عطية -رضي الله عنها-. (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 575). (¬3) الشرح الصغير (1/ 547). (¬4) روضة الطالبين (2/ 102). (¬5) المغني (3/ 379). (¬6) روضة الطالبين (2/ 102). (¬7) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب يبدأ بميامن الميت، رقم (1197)، ومسلمٌ في كتاب الجنائز، باب في غسل الميت، رقم (939).

فرغتن فآذِنَّني] " (¬1). * إذا كان الميت امرأة فإنه ينقض ضفائرها حين الغسل؛ لتغسل جيدًا، ثم نجعل ثلاث ضفائر وتلقى خلفها. * إذا كان بعض أعضاء الجسد مفصولة بسبب حادث أو نحوه، غسلت ووضعت في مكانها من الجسد. * إذا انتهى الغاسل من التغسيل فإنه يجفف البدن بثوب نظيف بعد الفراغ من الغسل؛ لئلا تبتل أكفانه. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذيُّ في أبواب الجنائز، باب ما جاء في غسل الميت، رقم (990) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذيُّ (1/ 290) رقم (789).

تكفين الميت

تكفين الميت: حكمه: اتفق الفقهاء على أن تكفين الميت بما يستره فرض كفاية، دليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "البسوا من ثيابكم البياض؛ فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم" (¬1). صفة الكفن: * أن يكون من جنس ما يجوز له لبسه في حال الحياة، فيكفن في الجائز من اللباس، فلا يجوز تكفين الرجل بالحرير بل يحرم ذلك، أما المرأة فقد اختلف الفقهاء في ذلك؛ فالجمهور على جوازه مع الكراهة؛ لأن فيه سَرَفًا ويشبه إضاعة المال، بخلاف لبسها في الحياة فإنه مباح شرعًا. أما الحنابلة (¬2) فيحرم عندهم تكفين المرأة في الحرير عند عدم الضرورة؛ لأنه إنما أبيح للمرأة حال الحياة؛ لأنه محل لزينتها وقد زال بموتها. وذهب الحنفية (¬3) والمالكية (¬4) والحنابلة (¬5) إلى تحسين الكفن، بمعنى أن يكون في ملبوسِ مثلِه في الجمع والأعياد، ما لم يوص بأدنى من ذلك؛ وذلك لأمر الشارع بتحسينه، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث جابر -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب في الأمر بالكحل، رقم (3878)، وأحمدُ في المسند (1/ 247) رقم (2219) من حديث ابن عباس -رضي الله عنه-. (¬2) كشاف القناع (2/ 104). (¬3) بدائع الصنائع (1/ 307). (¬4) الشرح الصغير (1/ 749). (¬5) كشاف القناع (2/ 103). (¬6) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجنائز، باب في تحسين كفن الميت، رقم (943).

وذهب الشافعية (¬1) إلى أن الكفن يكون من جنس ما كان يلبسه حال حياته، فإن كان من الجِيَادِ كان من جِيَادِ الثياب، وإن كان من أوسطها فأوسطها، وإن كان مقلًا فخشنها. والذي يظهر أنه ينهى عن الإسراف في الكفن، بل يكون من أوسطها؛ ليس بالنفيس الغالي، ولا بالخشن ونحوه. * يجزئ جميع أنواع القماش في التكفين، والأفضل أن يكون التكفين في الثياب البيض، لحديث ابن عباس سالف الذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم" (¬2). * يكره أن يكون الكفن من المُزَعْفَرِ والمُعَصْفَرِ أو من الصوف مع القدرة على غيره؛ لأنه خلاف ما كان عليه السلف -رضي الله عنهم -. * يحرم أن يكون الكفن من الحرير كما ذكرنا، وكذلك يحرم أن يكون من الجلود؛ لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بنزع الجلود عن الشهداء وأن يدفنوا في ثيابهم (¬3). * يشترط في الكفن أن لا يصف البشرة؛ لكونه غير ساتر لها، فوجوده كعدمه. * يستحب أن يكون الكفن من ثلاثة أثواب؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب يمانية بيض سُحُولِيَّة من كُرْسُفٍ ليس فيهن قميص ولا عمامة" (¬4). ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (1/ 109). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب في الأمر بالكحل، رقم (3878)، وأحمدُ في المسند (1/ 247) رقم (2219) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب في الشهيد يغسل، رقم (3134) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬4) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب الثياب البيض للكفن، رقم (1205)، ومسلمٌ في كتاب الجنائز، باب في كفن الميت، رقم (941) واللفظ للبخاري.

كيفية التكفين

يستحب تبخير الكفن ثلاثًا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جَمَّرْتُمُ الميت فَجَمِّرُوهُ ثلاتًا" (¬1). وهذا الحكم لا يشمل المحرم على ما ذكرناه سابقًا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الذي وقصته ناقته: " ... ولا تمسوه بطيب ... " (¬2). كيفية التكفين: بعد فراغ الغاسل من تغسيل الميت فإنه يكفنه، والمستحب كما ذكرنا أن يكون تكفين الرجل في ثلاث لفائف، والمرأة في خمسة أثواب (إزار وخمار وقميص ولفافتين)، أما الصبي ففي ثوب واحد، ويباح في ثلاثة أثواب، والصبية في قميص ولفافتين. فإذا انتهى من تجهيزه لذلك تبسط اللفائف بعضها فوق بعض، ثم تبخر بعود أو بنحوه من الطيب، ويوضع الميت عليها مستورًا مستلقيًا، وتجعل اللفافة الظاهرة أحسن الثلاث، ويجعل بينها الحُنُوطُ (أخلاط من طيب)، ثم يجعل بين إِلْيَتَيْهِ قطن مطيب ويشد فوقه خرقة، ثم يشد طرف اللفافة العليا الأيمن على شقه الأيسر، وطرفها الأيسر على شقه الأيمن، ثم يفعل باللفافة الثانية والثالثة كذلك. ويجعل الفاضل عند رأسه أكثر مما عند رجليه، ويرد ما زاد عند رأسه على وجهه، وما زاد عند رجليه يرده على رجليه، ثم تربط هذه اللفائف؛ لئلا تنتشر وتحل في القبر. أما المرأة فتكفن -كما ذكرنا- في لفافتين، ويجعل الخمار على رأسها والإزار في الوسط والقميص يلبس لها. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (3/ 331)، وقال النووي في المجموع (5/ 196): رواه أحمد بن حنبل في مسنده، والحاكم في المستدرك، والبيهقيُّ، وإسنادُهُ صحيحٌ. وقال: قال الحاكم: هو صحيح على شرط مسلم. (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات، رقم (1206) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.

أما المحرم فقد اختلف الفقهاء؛ هل يغطى رأسه أم لا؟ على قولين: 1 - فالشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) على أن المُحْرِمَ يحرم تغطية رأسه، وكذلك المحرمة يحرم تغطية وجهها، وهذا هو الصحيح، أي: أنه لا يغطى رأسه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لمن وقصته ناقته: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة مُلَبِّيًا" (¬3). وكذلك المحرمة لا يغطى وجهها ما لم يكن عندها أجانب؛ لأن الرأس محل الإحرام للرجل والوجه محله للمرأة. 2 - أما الحنفية (¬4) والمالكية (¬5) فيرون أن المحرم والمحرمة يكفنان كما يكفن غيرهما. ¬

_ (¬1) المجموع (5/ 157). (¬2) المغني مع الشرح الكبير (2/ 332). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب الكفن في ثوبين، رقم (1206)، ومسلمٌ في كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات، رقم (1206) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬4) بدائع الصنائع (1/ 307 - 308). (¬5) شرح فتح الجليل (1/ 298).

صلاة الجنازة

صلاة الجنازة حكمها: اتفق الفقهاء على أن صلاة الجنازة فرض على الكفاية، لكن هل يشترط لها الجماعة؟ اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فالجمهور على أن الجماعة ليست شرطًا لها، وإنما هي سنة. 2 - وقال المالكية (¬1): بل من شروط صحتها الجماعة كصلاة الجمعة، فإن صلى عليها بغير إمام أعيدت الصلاة. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور؛ حيث لم يرد نص يقضي باشتراطها. أركانها: اختلف الفقهاء في تحديد أركان صلاة الجنازة: 1 - فالحنفية (¬2) على أن أركانها التكبيرات والقيام. 2 - وقال المالكية (¬3): أركانها خمسة: النية، والتكبيرات الأربع، ودعاء بينهن، أما بعد الرابعة فهو مخير، وتسليمة واحدة يجهر بها الإِمام بقدر التسميع، وقيام لها لقادر. 3 - وقال الشافعية (¬4): إن أركانها هي: النية، والتكبيرات، وقراءة الفاتحة، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأدنى الدعاء للميت، والتسليمة الأولى. ¬

_ (¬1) الشرح الصغير (1/ 229). (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 608). (¬3) الشرح الصغير (1/ 223). (¬4) الأم (1/ 240).

شروط صلاة الجنازة

4 - أما الحنابلة (¬1) فقالوا بأن أركانها هي: قيام لقادر في موضعها، والتكبيرات الأربع، وقراءة الفاتحة على غير مأموم، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأدنى دعاء للميت، والسلام، والترتيب. وهذا هو الراجح إن شاء الله تعالى. شروط صلاة الجنازة: يشترط لصلاة الجنازة ما يشترط لبقية الصلوات من طهارة (البدن والثوب والمكان)، وستر العورة، واستقبال القبلة، والنية. لكن يزاد على هذه الشروط شروط أخرى منها: 1 - إسلام الميت والمصلي: فلا تجوز الصلاة على الميت الكافر ولا المرتد؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (¬2)، وكذلك لا تصح صلاة الجنازة من كافر أو مرتد وغيرهم. 2 - حضور الميت بين يدي المصلي إن كان بالبلد، فإن كان في غير البلد فهل تصح صلاة الغائب عليه؟ سيأتي بيان ذلك إن شاء الله. وقد اشترط الحنفية (¬3) لصلاة الجنازة أن تكون الجنازة على الأرض، وذهب الجمهور إلى عدم اشتراط ذلك، بل يجوز أن تكون الجنازة على الدابة ويصلي عليها وهذا هو الصحيح. ¬

_ (¬1) غاية المنتهى (1/ 242، 243). (¬2) سورة التوبة: 84. (¬3) حاشية ابن عابدين (2/ 38).

سنن صلاة الجنازة

سنن صلاة الجنازة: 1 - قيام الإِمام بحذاء صدر الميت ووسط الأنثى: وهذا هو المذهب عند الحنابلة (¬1)، وعند الشافعية (¬2) يقوم الإِمام عند رأس الرجل وَعَجُزِ المرأة، وأما الحنفية (¬3) فيرون الوقوف عند صدر الميت، ذكرًا كان أو أنثى، والصواب أن يقف الإِمام عند رأس الرجل لا عند صدره وعند وسط المرأة؛ لأن السنة جاءت بذلك؛ فقد قام أنس -رضي الله عنه- على جنازة فقام عند رأسه، وقام على جنازة امرأة فقام عند وسطها، فلما سئل عن ذلك قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم من الرجل حيث قمت، ومن المرأة حيث قمت" (¬4). 2 - رفع اليدين مع كل تكبيرة: وقد اختلف الفقهاء في مشروعية رفع اليدين مع كل تكبيرة في صلاة الجنازة؛ فذهب أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم إلى أنه يرفع يديه في كل تكبيرة، وقال بعض أهل العلم: لا يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى. والأولى أن يرفع يديه مع كل تكبيرة؛ لفعل ابن عمر -رضي الله عنهما- كما جاء ذلك معلقًا في البخاري (¬5). وقد صحح رفعه بعض أهل العلم، منهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (¬6) -رحمه الله-، وبهذا قال الشيخ محمَّد بن العثيمين (¬7). ¬

_ (¬1) غاية المنتهى (1/ 241). (¬2) المجموع (5/ 182). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 610 - 615). (¬4) أخرجه الإِمام أحمد في المسند (3/ 204) رقم (13136)، وصححه الألباني في أحكام الجنائز (ص: 109). (¬5) أخرجه البخاريُّ معلقًا في كتاب الجنائز، ووصله في جزء رفع اليدين في الصلاة (105). (¬6) مجموع فتاوى سماحة الشيخ ابن باز (17/ 148). (¬7) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين (17/ 112، 113).

3 - الاستعاذة والبسملة: على ما سبق ذكره في كتاب الصلاة؛ لكن هل يأتي بدعاء الاستفتاح؟ اختلف الفقهاء في سنية ذلك؛ فالحنفية (¬1) واختاره الخلال من الحنابلة (¬2) أن ذلك سنة في صلاة الجنازة. وقال الشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) بأنه لا استفتاح في صلاة الجنازة. والصحيح أنه لا يستحب الاستفتاح في صلاة الجنازة؛ لأن مبناها على التخفيف، وإذا كان مبناها على التخفيف فإنه لا يستفتح. وهذا هو قول الشيخ محمد العثيمين (¬5). 4 - الإسرار بالقراءة: ودل على ذلك حديث أبي أمامة بن سهل -رضي الله عنه- قال: "السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة، ثم يكبر ثلاثًا، والتسليم عند الآخرة" (¬6). لكن هل يزاد على الفاتحة في صلاة الجنازة؟ الجواب: قال بذلك بعض العلماء، واحتجوا لذلك بحديث طلحة بن عبد الله بن عوف -رضي الله عنه- قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، وجهر حتى أسمعنا، فلما فرغ أخذت بيده فسألته، فقال: سنة وحق (¬7). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 610، 615). (¬2) غاية المنتهى (1/ 241)، المغني (3/ 410). (¬3) المجموع (5/ 193). (¬4) المغني (3/ 410). (¬5) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ (17/ 119). (¬6) أخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب الدعاء، برقم (1989). وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (2/ 428)، رقم (1880). (¬7) أخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب الدعاء، برقم (1987)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (2/ 428)، رقم (1878).

وهذا قول سماحة الشيخ ابن باز (¬1) والشيخ الألباني (¬2). والذي يظهر أنه لا بأس بالزيادة على الفاتحة للخبر المذكور، وإن اقتصر على الفاتحة فلا حرج، فالأمر واسع ولله الحمد؛ لأن صلاة الجنازة -كما ذكرنا- مبناها على التخفيف. 5 - الدعاء لنفسه ولوالديه وللمسلمين: كما جاء نصوص السنة بذلك، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى على جنازة قال: "اللَّهم اغفر لحينا وميتنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا وشاهدنا وغائبنا، اللَّهم من أحييته منا فأحيه على الإِسلام ومن توفيته منا فَتَوَفَّهُ على الإيمان، اللَّهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده" (¬3). 6 - أن يقف قليلًا بعد التكبيرة الرابعة وقبل أن يسلم: هذا هو السنة، والمذهب عند المالكية (¬4) والشافعية (¬5) والحنابلة (¬6) أن الدعاء بعد التكبيرة الرابعة مشروع، واحتج لذلك بما رواه البيهقي وغيره، عن أبي يَعْفُورٍ "أنه شاهد عبد الله ابن أبي أوفى كبر على جنازة أربعًا، ثم قام ساعة، يعني يدعو، ثم قال: أتروني كنت أكبر خمسًا؟ قالوا: لا، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر أربعًا" (¬7). قال أحمد: هو من أصلح ما روي، وقال أيضًا: لا أعلم شيئًا يخالفه (¬8). ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ (13/ 144). (¬2) أحكام الجنائز (ص: 121). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب الدعاء للميت، برقم (3201)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 617)، رقم (2741). (¬4) الشرح الصغير (1/ 556). (¬5) مغني المحتاج (1/ 341). (¬6) الإنصاف 2/ 522. (¬7) أخرجه البيهقيُّ في جماع أبواب التكبير على الجنائز ومن أولى بإدخاله القبر، باب عدد التكبير في صلاة الجنازة، برقم (6728). (¬8) كشاف القناع (4/ 138) ط. وزارة العدل بالمملكة العربية السعودية.

لكن الذي يظهر أنه لا دعاء بعد التكبيرة الرابعة، بل يقف قليلًا ويسلم؛ لأنه لو كان فيه دعاء مشروع لنقل، ولذلك قال الإِمام أحمد: "لا أعلم فيه شيئًا؛ لأنه لو كان فيه دعاء مشروع لنقل"، وإن دعا فلا حرج. 7 - وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة: وذلك لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنا معاشرَ الأنبياء أمرنا أن نعجل إفطارنا ونؤخر سحورنا ونضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة" (¬1). 8 - الالتفات عن اليمين عند التسليم: الالتفات عن اليمين عند التسليم سنة، لكن هل يكتفي بتسليمة واحدة أم تسليمتين؛ محل خلاف بين الفقهاء: أ - فالحنفية (¬2) والشافعية (¬3) على أن المستحب تسليمتان، وتسليمة واحدة تجزئ؛ قياسًا على سائر الصلوات. ب- وذهب الحنابلة إلى أن المسنون تسليمة واحدة، قال الإِمام أحمد -رحمه الله-: "التسليم على الجنازة تسليمة واحدة عن ستة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس فيه اختلاف إلا عن إبراهيم" (¬4). وهذا هو الصحيح، وإن سلم تسليمتين فلا حرج. 9 - استحب أن تكون صلاة الجنازة على ثلاثة صفوف، حتى وإن كانوا قلة، كما قال الإِمام أحمد: "أحب إذا كان فيهم قلة أن يجعلهم ثلاثة صفوف" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقيُّ في كتاب الصيام، باب ما يستحب من تعجيل الفطر وتأخير السحور، برقم (7914) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم (2286). (¬2) حاشية ابن عابدين (1/ 611). (¬3) مغني المحتاج (1/ 341). (¬4) المغني (3/ 418). (¬5) المغني (3/ 420).

ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالصلاة على الميت

واحتج لذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب" (¬1). ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالصلاة على الميت: أولًا: من فاته شيء من التكبير: من فاته شيء من التكبيرات في صلاة الجنازة فيسن له قضاء ما فاته؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" (¬2). هذا إن كانت الجنازة لم ترفع، أما إذا رفعت الجنازة فهو مخير بين الأمرين: إما أن يتابع التكبير ويسلم، وإما أن يسلم بدون متابعة للتكبير. ثانيًا: إذا كبر الإِمام ثلاثًا ثم سلم: فإن كان عمدًا بطلت الصلاة (¬3)، وإن كان سهوًا فقد اختلف في ذلك الفقهاء: 1 - فقال المالكية (¬4): لزم المأموم أن ينبهه فيكبرها، أي التكبيرة الرابعة، فإن رجع عن قرب وكمل التكبير، كملوه معه وصحت صلاة الجميع. 2 - أما الحنابلة (¬5) فقالوا: إن ترك التكبير سهوًا فإن كان مأمومًا كبرها ما لم يَطُلِ الفصل، (أي بعد السلام)، وإن كان إمامًا نبهه المأموم، فيكبرها ما لم يطل ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنازة، باب في الصفوف على الجنازة، برقم (3166)، والترمذيُّ في كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على الجنازة والشفاعة للميت، برقم (1028) وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود برقم (3166)، وضعيف سنن الترمذيُّ، برقم (1024) وضعيف الجامع، برقم (5220) من حديث مالك بن هبيرة -رضي الله عنه-. (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب لا يسعى إلى الصلاة وليأت بالسكينة والوقار، برقم (610)، ومسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة والنهي عن إتيانها سعيًا، برقم (602) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬3) الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 411)، شرح البهجة (2/ 113). (¬4) حاشية الدسوقي (1/ 411). (¬5) معونة أولي النهى (2/ 444)، غاية المنتهى (1/ 242).

ثالثا: إذا اجتمع أكثر من جنازة ليصلى عليها، فهل يصلى عليهم مجتمعين أم فرادى؟

الفصل وصحت صلاة الجميع، فإن طال أو وجد مناف استأنف وصحت صلاة المأمومين إن نووا المفارقة. وهذا هو الراجح. ثالثًا: إذا اجتمع أكثر من جنازة ليصلى عليها، فهل يصلى عليهم مجتمعين أم فرادى؟ اتفق الفقهاء على جواز الصلاة عليهم مجتمعين، ولكن اختلفوا في الأولى والأفضل: 1 - فللحنفية (¬1) قولان: الأول أنه (أي الإِمام) مخير؛ إن شاء صلى على الكل دفعة واحدة بالنية للجميع، وإن شاء صلى عليهم فرادى، والثاني: أن الأولى أن يصلى عليهم فرادى؛ لأن الجمع مختلف فيه. 2 - وقال الشافعية (¬2): الإفراد أفضل؛ لأنه أكثر عملًا وأرجى للقبول. 3 - وقال الحنابلة (¬3): الصلاة عليهم مجتمعين أفضل؛ لأجل المحافظة على الإسراع والتخفيف. وهذا هو الراجح. وفي تسويتهم خلاف في الكيفية، والذي نراه أنه إذا اجتمعت جنائز فيجعل أفضلهم مما يلي الإِمام، ويوضعون بحيث تتساوى رؤوسهم، وإن اجتمع رجال ونساء وصبيان قدم الرجال ثم الصبيان ثم النساء، ويكون وسط المرأة محاذيًا رأس الرجال. رابعًا: حكم الصلاة على القبر: إذا صلي على الميت قبل الدفن وأراد جماعة أن يصلوا عليه بعد الدفن لعدم تمكنهم من الصلاة عليه قبل الدفن، فقد اختلف الفقهاء في ذلك؛ والصحيح ما ¬

_ (¬1) بدائع الصناع (1/ 316)، حاشية ابن عابدين (1/ 615). (¬2) المجموع (5/ 226). (¬3) غاية المنتهى (1/ 241).

خامسا: الصلاة على الجنازة في المسجد

ذهب إليه الحنفية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3) من جواز الصلاة على القبر لكل من فاتته الصلاة عليه قبل دفنه. لكن اختلف العلماء في المدة التي تمكن الصلاة فيها، والذي نختاره هو قول من يرى أن الصلاة على القبر لشهر من دفنه (¬4)، أما بعده فالأحوط تركه والاكتفاء بالدعاء للميت. وهذا هو قول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (¬5)، لكن لو صلى بعد شهر فلا حرج -إن شاء الله-. خامسًا: الصلاة على الجنازة في المسجد: اختلف الفقهاء في حكم الصلاة على الجنازة داخل المسجد: 1 - فالحنفية (¬6) والمالكية (¬7) على الكراهية. 2 - والشافعية (¬8) على ندب الصلاة في المسجد؛ وذلك لفعله - صلى الله عليه وسلم - على سهل وسهيل ابني بيضاء (¬9). 3 - وذهب الحنابلة (¬10) إلى الإباحة مع أمن التلويث، فإن لم يؤمن التلويث ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 314). (¬2) مغني المحتاج (1/ 346). (¬3) نيل المآرب (1/ 66)، المغني (3/ 455). (¬4) مغني المحتاج (1/ 346)، المغني (3/ 455). (¬5) مجموع فتاوى سماحة الشيخ -رحمه الله- (13/ 153). (¬6) حاشية ابن عابدين (1/ 619، 620). (¬7) الشرح الصغير (1/ 229). (¬8) غاية المنتهى (1/ 240). (¬9) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنازة في المسجد، برقم (973) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬10) المغني (3/ 421).

سادسا: تكرار الصلاة على الجنازة.

لم يجز. والصواب أنه لا بأس بالصلاة في المسجد. سادسًا: تكرار الصلاة على الجنازة. ذهب الحنابلة (¬1) إلى عدم سنية ذلك. والذي اختاره سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز (¬2) -رحمه الله- أنه لا مانع من أن يعيد الصلاة مع المصلين، ولا حرج في ذلك حتى لو صلى عليها مرتين أو ثلاثًا مع من يصلي عليها ممّن فاتته. سابعًا: الأحق بالصلاة على الميت: اختلف الفقهاء فيمن هو أولى بالصلاة على الميت، والذي يظهر -والله أعلم- أن الأحق بالصلاة عليه هو وصيه، إلا إذا كانت صلاة الجنازة ستؤدى في المسجد، فالأحق بها هو إمام المسجد؛ لأنه هو صاحب السلطان. وهو قول الشيخين ابن باز وابن العثيمين، ولو قيل بأن الوصي يستأذن الإِمام الراتب ليصلي عليه، لكان هذا أقرب. فإن لم يوص فأحد أقاربه ويتقدم أبوه وإن علا، ثم ابنه وإن نزل، ثم الأقرب فالأقرب على ترتيب الميراث. هذا إذا كان هناك مُشَاحَّةٌ، أما إذا لم يكن هناك مشاحة فالذي نراه أنه يصلي عليه أهل العلم والفضل من أهل بلده. ثامنًا: حكم الصلاة على الغائب: اختلف الفقهاء في حكم الصلاة على الغائب على ثلاثة أقوال: الأول: جواز الصلاة على الميت الغائب مطلقًا. وهو مذهب الشافعية (¬3) ¬

_ (¬1) المغني (3/ 445). (¬2) مجموع فتاوى سماحة الشيخ -رحمه الله- (13/ 153). (¬3) المجموع (5/ 211).

والحنابلة (¬1)، واستدلوا لذلك بصلاته - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي (¬2). والثاني: عدم جواز الصلاة على الميت الغائب. وهو قول الحنفية (¬3) والمالكية (¬4). والثالث: التفصيل في ذلك؛ إن كان لم يُصَلَّ عليه صُلِّيَ عليه، وإن كان قد صلي عليه لم يصل عليه صلاة الغائب، وإن كان كبيرًا في علمه أو ماله أو جاهه، فيصلى عليه صلاة الغائب. وهذا ما اختاره الشيخ ابن عثيمين (¬5) والعلامة الألباني (¬6). الرابع: أنه يصلى على الغائب إذا كان فيه منفعة للمسلمين؛ كعالم نفع الناس بعلمه، أو تاجر نفع الناس بماله، ومجاهد نفع الناس بجهاده، وغير ذلك، فيصلى عليه؛ شكرًا له وردًا لجميله وتشجيعًا لغيره على أن يفعل مثل ما فعل. وهذا هو قول سماحة الشيخ ابن باز (¬7). ¬

_ (¬1) المغني (3/ 446). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب فضائل الصحابة، باب موت النجاشي، برقم (3664)، ومسلمٌ في كتاب باب في "التكبير على الجنازة برقم (951)، (952) من حديث أبي هريرة أنه قال: نعى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النجاشي صاحب الحبشة في اليوم الذي مات فيه، فقال: "استغفروا لأخيكم". قال ابن شهاب: وحدثني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة حدثه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صف بهم بالمصلى فصلى فكبر عليه أربع تكبيرات". وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على أَصْحَمَةَ النجاشي فكبر عليه أربعًا". (¬3) بدائع الصنائع (1/ 312). (¬4) الشرح الصغير (2/ 70). (¬5) مجموع فتاوى الشيخ -رحمه الله- (17/ 146). (¬6) أحكام الجنائز (ص: 93). (¬7) مجموع فتاوى الشيخ (13/ 158 - 159).

تاسعا: حكم الصلاة على قاتل نفسه

والأولى أن يجمع بين قول الشيخين؛ فيُصلَّى على من لم يُصَلَّ عليه، وكذلك إذا مات من كان به نفع للمسلمين فيُصلَّى عليه وإن كان قد صُلِّي عليه. تاسعًا: حكم الصلاة على قاتل نفسه: اختلف الفقهاء في هذه المسألة: فالحنفية (¬1) والمالكية (¬2) والشافعية (¬3) يرون أنه يغسل ولا يصلى عليه ويصنع به ما يصنع بموتى المسلمين، وإثمه على نفسه وهو واليها في القضاء، وإن صلي عليه فلا بأس؛ وذلك زجرًا للناس مِنْ بعدهم. ونرى أن يصلي عليه بعض المسلمين؛ لأنه مسلم لا يكفر، وإن كان مخلدًا في النار تخليدًا غير أبدي إلى أن يشاء الله، ولا ينبغي لأمير القرية أو قاضيها أو مفتيها أن يصلي على قاتل نفسه. ويلحق بهذا أيضًا البُغَاةُ وقُطَّاعُ الطرق وغيرهم ممّن فيهم أذية للمسلمين؛ إهانة لهم وزجرًا لغيرهم، فيصلي عليهم بعض المسلمين دون الإِمام والقاضي والأمير. عاشرًا: كيفية صلاة الجنازة: أما عن كيفية الصلاة على الجنازة فهي كما يلي: 1 - أن يكبر المصلي (الإِمام والمأموم) ويتعوذ ويسمي ويقرأ الفاتحة ولا يستفتح. على القول الصحيح. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 312). (¬2) الشرح الصغير (1/ 229). (¬3) المدونة (1/ 165).

2 - ويستحب أن يقرأ بعد الفاتحة سورة قصيرة (كالإخلاص والعصر أو بعض الآيات)؛ لما صح ذلك كما ذكرنا عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وإن اكتفى بالفاتحة فلا بأس. 3 - يكبر التكبيرة الثانية رافعًا يديه (الإِمام والمأموم) على القول الصحيح، فإذا كبر يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - بأي صفة من الصلاة الإبراهيمية التي ورد ذكرها في باب صفة الصلاة. 4 - يكبر التكبيرة الثالثة رافعًا يديه عند التكبير ثم يدعو للميت، والأفضل أن يكون بما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل أن يقول: "اللَّهم اغفر لحينا وميتنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا وشاهدنا وغائبنا، اللَّهم من أحييته منا فأحيه على الإِسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان" اللَّهم لا تحرمنا أجره ولا تضلَّنا بعده (¬1)، اللَّهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نُزُلَهُ ووسع مدخله، واغسله بماء وثلج وبرد، ونقِّه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارًا خيرًا من داره وأهلًا خيرًا من أهله وزوجًا خيرًا من زوجه، وَقِهِ فتنة القبر وعذاب النار (¬2)، وأفسح له في قبره ونوّر له فيه (¬3)، اللَّهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده (¬4) ". وإن دعا بغيره من المأثور فلا بأس، وإن دعا بأي دعاء آخر غير المأثور فلا بأس. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب الدعاء للميت، برقم (3201)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 617)، رقم (2741). (¬2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجنائز، باب الدعاء للميت في الصلاة، برقم (963) من حديث عوف ابن مالك -رضي الله عنه-. (¬3) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حضر، برقم (920) من حديث أم سلمة -رضي الله عنها-. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب الدعاء للميت، برقم (3201)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 617) رقم (2741).

5 - ثم يكبر التكبيرة الرابعة ويقف قليلًا، ثم يسلم تسليمة واحدة عن يمينه قائلًا: السلام عليكم ورحمة الله، وإن زاد تسليمة أخرى جاز، ووجب على المأموم أن يتابع الإِمام.

تشييع الجنازة

تشييع الجنازة أولًا: حكم تشييع الجنازة: اتفق جمهور الفقهاء على أن تشييع الجنازة سنة، وذهب بعضهم إلى أن ذلك واجب على الكفاية. والذي يظهر أن حمل الجنازة واتباعها واجب على الكفاية؛ لأن ذلك من حق الميت المسلم على المسلمين، كما جاءت نصوص السنة بذلك: روى البخاري ومسلمٌ في صحيحهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس" (¬1). وجاء أيضًا من حديث البراء بن عازب قال: "أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع؛ أمرنا باتباع الجنائز وعيادة المريض وإجابة الداعي ونصر المظلوم وإبرار القسم ورد السلام وتشميت العاطس، ونهانا عن آنية الفضة وخاتم الذهب والحرير والدِّيباج والقِسِيِّ والإِسْتَبْرَقِ" (¬2). واختلف الفقهاء في حكم تشييع النساء للجنازة؛ فالحنفية (¬3) قالوا: لا ينبغي لهن أن يخرجن في الجنازة، وذهب الشافعية (¬4) والحنابلة (¬5) إلى كراهة تشييع المرأة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز، برقم (1183)، ومسلمٌ في كتاب السلام، باب من حق المسلم للمسلم رد السلام، برقم (2163). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز، برقم (1182). (¬3) حاشية ابن عابدين (1/ 208، 304). (¬4) المجموع (5/ 236). (¬5) غاية المنتهى (1/ 236).

ثانيا: ذكر الأحكام المتعلقة في التشييع

للجنازة، وذهب المالكية (¬1) إلى جواز خروج كبيرة السنن مطلقًا، وكذا الشابة ممّن لا تخشى فتنتها لجنازة من عظمت مصيبته عليها؛ كأب وأم وزوج وابن ونحو ذلك، أما من تخشى فتنتها فيحرم خروجها مطلقًا. والصحيح أنه لا يجوز للمرأة مطلقًا اتباع الجنازة، لا جنازة قريب ولا بعيد، فعن أم عطية -رضي الله عنها- قالت: "نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا" (¬2) والنهي هنا للتحريم. ثانيًا: ذكر الأحكام المتعلقة في التشييع: 1 - يسن الإسراع بالجنازة، كما جاء في صحيح البخاري ومسلمٌ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أسرعوا بالجنازة، فإن كانت صالحة قربتموها إلى الخير، وإن كانت غير ذلك كان شرًا تضعونه عن رقابكم" (¬3). 2 - يجوز المشي أمام الجنازة وخلفها، وعن يمينها ويسارها، على أن يكون قريبًا منها، إلا الراكب فيسير خلفها، دليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها وأمامها، وعن يمينها وعن يسارها قريبًا منها، والسَّقْطُ يصلَّى عليه ويُدْعى لوالديه بالمغفرة والرحمة" (¬4). ¬

_ (¬1) الشرح الصغير (1/ 566). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب اتباع النساء الجنائز، برقم (1219)، ومسلمٌ في كتاب الجنائز، باب نهي النساء عن اتباع الجنائز، برقم (938). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب السرعة بالجنازة، برقم (1252)، ومسلمٌ في كتاب الجنائز، باب الإسراع بالجنازة، برقم (944) واللفظ لمسلم. (¬4) أخرجه أحمد في المسند (4/ 249) رقم (18206)، وأبو داود في كتاب الجنائز، باب المشي أمام الجنازة، برقم (3180) من حديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 612) رقم (2723)، وفي صحيح الجامع، حديث رقم (3525).

وكلٌّ من المشي خلفها وأمامها ثابت من فعله - صلى الله عليه وسلم -، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يمشون أمام الجنازة وخلفها" (¬1). لكن أيهما أفضل. يسير خلفها أم أمامها؟ اختلف الفقهاء في ذلك؛ فالمالكية (¬2) والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) على أن المشي أمامها أفضل؛ وذلك لما جاء عن أنس -رضي الله عنه- قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة" (4). وقال بعض الفقهاء: بل المشي خلفها أفضل؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "واتباع الجنازة" (¬5). والذي يظهر أن كل ذلك في الفضل سواء، فالأمر فيه سعة؛ وذلك لحصول الأمرين منه - صلى الله عليه وسلم -. لكن هل المشي أفضل أم الركوب؟ الجواب: الركوب خلفها لا بأس به، لكن المشي أفضل؛ وذلك لأنه المعهود عنه - صلى الله عليه وسلم - ولم يَرِدْ أنه ركب معها، فعن ثوبان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بدابة وهو مع الجنازة، فأبى أن يركبها، فلما انصرف أُتِيَ بدابة فركب، فقيل له، فقال: "إن الملائكة كانت تمشي، فلم أكن لأركب وهم يمشون، فلما ذهبوا ركبت" (¬6). فالركوب بعد الانصراف جائز بدون كراهة. 3 - ذهب فقهاء الحنابلة (¬7) إلى سنية التربيع في حمل الميت، والتربيع هو أن ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذيُّ في كتاب الجنائز، باب ما جاء في المشي أمام الجنازة، برقم (1010)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذيُّ (1/ 296)، رقم (807) بدون لفظ: "وخلفها"، ورواية: "وخلفها" في شرح معاني الآثار (1/ 481). (¬2) الشرح الصغير (2/ 55). (¬3) المجموع (5/ 239). (¬4) المغني (3/ 397). (¬5) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز، برقم (1182). (¬6) أخرجه أبو داود في كتاب الجنازة، باب الركوب في الجنازة، برقم (3177)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 612) رقم (2720). (¬7) المغني (3/ 402).

يأخذ بجميع أعمدة النعش؛ لأن أعمدة النعش أربعة، فيبدأ بالجهة الأمامية بالعمود الذي على يمين الميت، ثم يرجع فيأخذ بالعمود الذي وراءه، ثم يتقدم مرة ثانية فيأخذ بالعمود الذي عن يسار الميت، ثم يأخذ بالذي خلفه، هذا هو معنى التربيع. والذي يظهر أن الأولى مراعاة الأسهل، فقد يكون التربيع صعبًا في بعض الأحيان، وذلك إذا كان المشيعون كثيرين، فيشق على نفسه وعلى غيره. 4 - إذا كان الميت امرأة، استحب الفقهاء أن يغطى نعشها بِمِكَبَّةٍ؛ لأنه أستر لها، أما إن كان الميت رجلًا فلا يسن فيه هذا، بل يبقى كما هو عليه. 5 - حمل الجنازة على الأعناق أفضل من حملها على السيارة ونحو ذلك، بل لا ينبغي حملها في السيارة وغيرها إلا لعذر؛ كبعد مسافة، أو وجود ريح، أو أمطار، أو خوف؛ وذلك لأن السُّنَّة إنما جاءت بحملها على الأعناق، كما روى البخاري عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها! أين يذهبون بها! يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعه صعق" (¬1)، ولانه أدعى للخشوع والاتِّعاظ. 6 - ذهب الفقهاء إلى كراهية الجلوس لمشيع الجنازة قبل وضعها؛ وذلك لما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتم الجنازة فقدموا، فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب حمل الرجال الجنازة دون النساء برقم (1251). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب من تبع جنازة فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال فإن قعد أمر بالقيام، برقم (1248)، ومسلمٌ في كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة، برقم (959)، واللفظ للبخاري.

وذلك لأن في الجلوس قبل وضعها ازْدِرَاءً بها، فإذا وضعت في القبر فلا بأس بالجلوس. لكن هل الأفضل أن يجلس أم الأفضل أن يقف حتى يفرغ من دفنها؟ نقول: الأفضل إذا أراد أن يعظ الناس ويذكرهم بالموت وما يلقاه الإنسان عند موته، فالأفضل أن يجلس؛ وذلك لفعله - صلى الله عليه وسلم -. أما إذا لم يكن هناك موعظة للحاضرين فالأفضل الوقوف؛ إكرامًا للميت وجبرًا له، ونقل عن الإِمام أحمد قوله: "لا بأس بقيامه على القبر حتى تدفن، جبرًا وإكرامًا"، وكان الإِمام أحمد -رحمه الله- إذا حضر جنازة وليها لم يجلس حتى تدفن (¬1). 7 - ينبغي لمن تبع جنازة أن يصمت إذا تبعها، إلا إذا رأى منكرًا فالواجب عليه الإنكار، أما غير ذلك، حتى وإن كان قربًا كقراءة القرآن والذكر ونحوه، فيكره له رفع الصوت به، لكن هل يكره كراهة الأَوْلَى أم كراهة تحريم؛ قولان لأهل العلم، والأولى أن يفكر في حاله، وأن يتذكر أنه غدًا محمول كما حمل صاحبه الذي أمامه، وأن يتفكر فيما يلقاه الميت وأن هذه عاقبة أهل الدنيا. جاء في مصنف ابن أبي شيبة عن المغيرة قال: "كان رجل يسير خلف الجنازة ويقرأ سورة الواقعة، فسئل إبراهيم النخعي عن ذلك، فكرهه" (¬2). فلا يَسَعُ أحدًا أن يقدر على إنكاره ويسكت عنه ولا ينكر عليه. وجاء عن سعيد بن جبير والنخعي -رحمهما الله- أنهما يكرهان أن يقول الرجل وهو يمشي: استغفروا له يغفر لكم (¬3). ¬

_ (¬1) غاية المنتهى (1/ 247). (¬2) المصنف، لابن أبي شيبة (1/ 108). (¬3) المصنف، لابن أبي شيبة (4/ 97، 98).

حكم القيام للجنازة

8 - يحرم اتباع الجنازة بمنكر؛ كالطبل، والعزف الحزين على الآلة، والنياحة، والتصفيق كما يفعل ذلك في بعض البلدان الإِسلامية تقليدًا للكفار، فهؤلاء جمعوا بين أمرين: الأول: فعل المحرم، وذلك بفعل العزف على الآلات الموسيقية أمام الجنازة أو خلفها، وكذلك بفعل النياحة ونحو ذلك مما جاءت النصوص بالنهي عنه وتحريمه. الثاني: التشبه بالنصارى؛ فإن من عاداتهم رفع الأصوات بأناجيلهم بأذكارهم مع التَّمطيط والتلحين والتحزين. حكم القيام للجنازة: اختلف الفقهاء في حكم القيام لها؛ فالجمهور لا يرون القيام لها إلا إذا أراد أن يشهدها، وعلى هذا أكثر أهل العلم، وذلك لأن القيام لها منسوخ، فعند مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قعد" (¬1)، وهذا هو آخر الأمرين منه - صلى الله عليه وسلم -. وذهب النووي (¬2) إلى أن المختار هو استحباب القيام؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم أو توضع" (¬3). وذهب أحمد (¬4) في رواية عنه: أنه مخير بين القيام والقعود. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجنائز، باب نسخ القيام للجنازة، برقم (962). (¬2) المجموع، للنووي (5/ 280). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة، برقم (1245)، ومسلمٌ في كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة، برقم (958) واللفظ لمسلم من حديث عامر بن ربيعة -رضي الله عنه-. (¬4) غاية المنتهى (1/ 246).

والذي يظهر -والله أعلم- أن الوقوف للجنازة هو المستحب؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها" (¬1)، ومن تركه فلا حرج؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمرين. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة، برقم (1245)، ومسلمٌ في كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة، برقم (958) واللفظ لمسلم من حديث عامر بن ربيعة -رضي الله عنه-.

الدفن والأحكام المتعلقة به

الدفن والأحكام المتعلقة به أولًا: حكم دفن الميت: حمل الميت ودفنه تكريم للميت، وهو من فروض الكفاية، كما سبق بيانه، قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} (¬1)، والكفت هو الضم والجمع، وقال الفراء: "يريد تَكْفتُهُمْ أحياء على ظهرها في دورهم ومنازلهم، وتكفتهم أمواتًا في بطنها أي تحوزهم" (¬2). وقال تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} (¬3)، والمعني: أي جعل له قبرًا يوارى فيه، قال الفراء: "جعله مقبورًا، ولم يجعله ممّن يلقى كالسباع والطيور" (¬4). ثانيًا: الأحق بدفن الميت: يتولى إنزال الميت -ولو كان أنثى- الرجال دون النساء، لأمور منها: الأول: أن هذا هو المعهود في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وجرى عليه عمل المسلمين حتى اليوم. الثاني: أن الرجال أقوى على ذلك من النساء. لكن اختلف الفقهاء في الأولى بالدفن، فالشافعية (¬5) والحنابلة (¬6) على أن الأولى بدفن الرجل أولاهم بغسله والصلاة عليه، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما توفي ¬

_ (¬1) سورة المرسلات: 25 - 26. (¬2) معالم التنزيل، للبغوي (4/ 434). (¬3) سورة عبس: 21. (¬4) معالم التنزيل (4/ 448). (¬5) روضة الطالبين (2/ 133). (¬6) المغني (3/ 433).

ثالثا: حكم نقل الميت من مكان لأخر

لحَدَهُ العباس وعلي وأسامة والفضل بن العباس -رضي الله عنهم-، وهم الذين كانوا تولوا غسله (¬1)، ولأن المقدم بغسله أقرب إلى ستر أحواله. أما النساء فالأولى عند جمهور الفقهاء أن يتولى دفنها محارمها الرجال، الأقرب فالأقرب، وهم الذين كانوا يحل لهم النظر إليها في حياتها, ولها السفر معهم، واستثنى الشافعية (¬2) الزوج، فقالوا بأنه أحق من غيره؛ لأن منظوره أكثر، وإذا لم يوجد أحد من أقاربها يقوم بإنزالها في القبر فيتولى ذلك بعض الحاضرين من الأجانب، وقد أمر رسول الله أبا طلحة أن ينزل في قبر ابنته زينب وينزلها فيه. وكذلك المرأة لا يشترط لإنزالها في القبر أحد محارمها، فيجوز أن ينزلها شخص آخر، وإن كان أجنبيًا عنها. ثالثًا: حكم نقل الميت من مكان لأخر: نقل الميت له حالتان: الأولى: نقله قبل الدفن، كأن يكون الميت في بلد ويراد دفنه في بلد آخر، فالحنفية (¬3) والمالكية يرون أنه لا بأس بنقله مطلقًا. وذهب جمهور الشافعية (¬4) والحنابلة (¬5) إلى أنه لا يجوز نقله من بلد لآخر إلا لغرض صحيح، وعللوا لذلك بأنه أَسْلَمُ به من أن تتغير رائحته وأخف في المؤونة، أما إن كان لغرض صحيح كأن يراد دفنه في مكة أو المدينة النبوية ونحوه فيجوز ذلك. ¬

_ (¬1) مسند أحمد (1/ 260) رقم (2357) من حديث ابن عباس، وأعله أحمد شاكر بضعف الرواة (4/ 104). (¬2) روضة الطالبين (2/ 133). (¬3) بدائع الصنائع (1/ 344)، حاشية ابن عابدين (1/ 610). (¬4) روضة الطالبين (2/ 332 - 333). (¬5) المغني (3/ 442).

رابعا: حكم الدفن ليلا

والذي نراه: أنه لا بأس بنقله لكن بشروط: الأول: أن يكون الميت قد أوصى بنقله. الثاني: أن لا يترتب على نقله ضرر على الموصَى كنوع كلفة مثلًا. الثالث: أن لا يترتب على نقله ضرر، كتغير رائحة، أو أن ينفجر حال نقله، أو أن تنتهك حرمته، ونحو ذلك. الحالة الثانية: نقله بعد الدفن، ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم جواز نقل الميت بعد الدفن مطلقًا، وخالف المالكية (¬1) فقالوا بجوازه، وجعلوا لنقله شروطًا. والذي يظهر أنه لا يجوز نقل الميت بعد الدفن إلا لغرض شرعي، كأن يكون الميت موجودًا في مسجد فينبش وينقل إلى مكان آخر غير المسجد، أو لغرض مشروع مثل التأكد من جناية ونحوها، أو كان في نقلها مصلحة للمسلمين، كأن يكون هناك طريق يحتاجه المسلمون يوجد فيه قبر أو قبور، فهنا يجوز نبش القبور ووضعها في مقبرة أخرى، أما غير ذلك فلا يجوز مطلقًا. رابعًا: حكم الدفن ليلًا: 1 - ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز الدفن ليلًا، واستدلوا لذلك بأن أبا بكر -رضي الله عنه- وكذا عثمان وابن مسعود وعائشة وفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم دفنوا ليلًا، لكن قالوا: يستحب أن يكون الدفن نهارًا إن أمكن؛ لأنه أسهل على من يتبع الجنازة، ولأنه يكثر فيه المصلون. 2 - وذهب أحمد (¬2) في رواية عنه أنه يكره الدفن ليلًا، واحتج لذلك بما رواه ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 421). (¬2) المغني (3/ 504).

خامسا: صفة القبر

مسلم عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب يومًا فذكر رجلًا من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل وقُبر ليلًا، فزجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقبر الرجل بالليل حتى يُصلَّى عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك" (¬1). والذي يترجح أن الأولى مراعاة الإسراع في الدفن، فمتى مات بأي ساعة من ليل أو نهار، فالأولى الإسراع بتجهيزه ودفنه. خامسًا: صفة القبر: القبر هو ما يقبر فيه الميت، وهو إما أن يكون لحدًا أو شقًا. فاللحد هو أن يحفر للميت من قاع القبر حفرة من جهة القبلة ليوضع فيها، ويجوز من خلف القبلة، لكنها من جهة القبلة أفضل، وسمي لحدًا؛ لأنه مائل من جانب القبر. أما الشق فهو أن يحفر للميت في وسط القبر حفرة. واللحد أفضل من الشق؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّحد لنا، والشق لغيرنا" (¬2). ولا بأس كذلك بالشق إذا احتيج إليه؛ كأن تكون الأرض رملية لا يمكن حصول اللحد فيها, ولأن الرمل إذا حصل فيه اللحد انهدم. سادسًا: كيفية الدفن: 1 - إذا جيء بالميت ليدفن في قبره، فهنا اختلف أهل العلم في الكيفية؛ فذهب الحنفية (¬3) إلى أنه يستحب أن يدخل من جهة القبلة، بأن يوضع من جهتها ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجنائز، باب في تحسين كفن الميت، برقم (943). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب في اللحد، برقم (3208)، والترمذيُّ في كتاب الجنائز، باب ما جاء في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللحد لنا والشق لغيرنا" برقم (1045) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 618)، رقم (2747)، وصحيح سنن الترمذيُّ (1/ 305)، رقم (835). (¬3) بدائع الصنائع (1/ 318).

أي أن يكون الآخذ له مستقبل القبلة حين الأخذ. وذهب الشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) إلى أنه يوضع عند آخر القبر ثم يُسَلُّ من قبل رأسه منحدرًا. ونرى أن الأمر في ذلك واسع، فالأولى مراعاة الجهة الميسَّرة. 2 - إذا أدخل الميت في قبره يسن وضعه على شقه الأيمن متوجهًا إلى القبلة، ورأسه ورجلاه إلى يمين القبلة ويساره، وعلى هذا جرى العمل عند أهل الإِسلام، بخلاف ما يفعله البعض من وضع الميت مستلقيًا على ظهره. 3 - يسن لمن يقوم بدفنه أن يقول: بسم الله وعلى سنة رسول الله أو ملة رسول الله، كما جاء ذلك عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا وضع الميت في القبر، قال: "بسم الله، وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬3)، وفي رواية: "بسم الله وعلى ملة رسول الله -أو قال-: بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله" (¬4)، وفي رواية: "بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله"، وقال مرة: "بسم الله وبالله وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬5). بل جاء لفظ آخر بالأمر بذلك، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وضعتم موتاكم في قبورهم، فقولوا: بسم الله وعلى سنة رسول الله" (¬6) وفي رواية: ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (1/ 133). (¬2) كشاف القناع (2/ 131). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب في الدعاء للميت إذا وضع في قبره، برقم (3213)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 619)، رقم (2752). (¬4) أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب ما جاء في إدخال الميت القبر، برقم (1550)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 259)، برقم (1260). (¬5) أخرجه الترمذيُّ في كتاب الجنائز، باب ما يقول إذا أدخل الميت القبر، برقم (1046)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذيُّ (1/ 306) رقم (836). (¬6) صححه الألباني في صحيح الجامع، حديث رقم (832).

"وعلى ملة رسول الله" (¬1). 4 - إذا انتهوا من وضعه داخل قبره، فإنه تحَل عقد الكفن؛ للاستغناء عنها، ويسوى اللَّبِن، وتسد الفُرَج بالمَدَرِ والقصب، أو غير ذلك؛ لكيلا ينزل التراب منها على الميت. 5 - ذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا يستخدم شيء مسَّته النار إلا إذا كانت الأرض رَخْوَةً، وكذلك يكره وضع الخشب في قبر الميت. والذي يظهر -والله أعلم- أنه لا بأس باستخدام ما يحتاج إليه، حتى وإن مسته النار، لعدم ورود دليل على الكراهة أو المنع. 6 - يستحب حثو التراب على الميت بعد دفنه ثلاث حثات بيديه جميعًا بعد الفراغ من سد اللحد، دليل ذلك ما رواه ابن ماجه وغيره عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على جنازة، ثم أتى قبر الميت، فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثًا" (¬2). 7 - يسن عند الفراغ من دفنه أن يكون القبر مرفوعًا عن الأرض قليلًا نحوًا من شبر، ولا يسوى بالأرض ولا يرفع كثيرًا، حتى لا يصير قبرًا شرفًا، فعن جابر -رضي الله عنه-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألحد له لحد ونصب عليه اللبن نصبًا ورفع قبره من الأرض نحوًا من شبر" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند (2/ 27) رقم (4812)، (5233). (¬2) أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب ما جاء في حثو التراب في القبر، برقم (1565)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 261)، برقم (1271). (¬3) أخرجه البيهقيُّ في جماع أبواب عدد الكفن وكيف الحنوط، باب لا يزاد في القبر على أكثر من ترابه، لئلا يرتفع جدًا، برقم (6527)، وابن حبان في صحيحه (14/ 602)، رقم (6635).

8 - ويسن أن يكون القبر مسنَّمًا، أي على هيئة سنام الإبل، وذلك لحديث البخاري عن سفيان التَّمار قال: "رأيت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنمًا" (¬1). 9 - لا بأس بأن يوضع على القبر علامة يعرف بها صاحبه؛ لكي يدعى ويستغفر له أو ليدفن إليه من يموت من أهله ونحو ذلك، فعن ابن أبي وِدَاعَةَ -رضي الله عنه- قال: "لما مات عثمان بن مظعون أخرج بجنازته فدفن، أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلًا أن يأتيه بحجر فلم يستطع حمله، فقام إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحسر عن ذراعيه، قال: كثير، قال: المطلب، قال: الذي يخبرني ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كأني انظر إلى بياض ذراعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حسر عنهما ثم حملها فوضعها عند رأسه، وقال: "أتعلَّمُ بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي" (¬2). 10 - إذا فرغ من الدفن، استحب الدعاء للميت عند قبره؛ لما جاء عند أبي داود وغيره عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: "استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل" (¬3). 11 - ذهب جمهور الفقهاء إلى كراهة الدفن في تابوت، إلا عند الحاجة، كرخاوة أرض ونحو ذلك. وذهب الحنفية (¬4) إلى التفريق بين الرجل والمرأة، فقالوا بأنه لا بأس بالتابوت للمرأة؛ لأنه أقرب إلى الستر. والذي يظهر أنه لا يجوز فعل ذلك، لا للرجل ولا للمرأة؛ لأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، بل هو فعل أهل الدنيا، وكذا يفعله أهل الديانات ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ، برقم (1325). (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب في جمع الموتى في قبر والقبر يعلَّم، برقم (3206). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب الاستغفار عند القبر للميت في وقت الانصراف، برقم (3221). (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 599).

سابعا: ذكر بعض أحكام الدفن

الأخرى، وكوننا نقلدهم فيه تشبه بهم، ونحن نهينا عن التشبه بهم. سابعًا: ذكر بعض أحكام الدفن: 1 - لا يجوز دفن الكفار في مقابر المسلمين ولا العكس إلا لضرورة، هذا باتفاق الفقهاء. 2 - إذا كانت المرأة كافرة فتوفيت، وهي حامل، فقد اختلف الفقهاء في مكان دفنها على ثلاثة أقوال، هل تدفن في مقابر المسلمين أم في مقابر الكفار؟ فذهب بعض الفقهاء إلى أنها تدفن في مقابر المسلمين تغليبًا لجانب الولد، وقال بعضهم: تدفن في مقابر المشركين؛ لأن الولد في جزء منها ما دام في بطنها، وقال بعضهم: بل نجعل لها مقبرة على حِدَةٍ. 3 - ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز أخذ الأجرة على الدفن، ولكن الأفضل أن يكون الدفن مجانًا؛ لأنها قربة، وتدفع أجرة الدفن من تركة المتوفى إن كان له تركة. وذهب الحنابلة (¬1) إلى كراهة أخذ الأجرة على الدفن؛ لأنه يذهب الأجر. والظاهر أنه لا بأس بأخذ الأجرة لكن خلاف الأولى. 4 - شهداء المعركة يدفنون حيث قتلوا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ادفنوا القتلى في مصارعهم" (¬2). 5 - يستحب أن يقف المشيع على قبر الميت، ويدعو له بالثبات والمغفرة فيقول: اللَّهم ثبته، اللَّهم ثبته، اللَّهم ثبته، اللَّهم اغفر له، اللَّهم اغفر له، اللَّهم اغفر له. ثم ينصرف، أما المُكْثُ عنده فليس بمشروع، وما ثبت عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- لم يقل به أحد من الصحابة قبله، بل لم يرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إليه. ¬

_ (¬1) كشاف القناع (2/ 126). (¬2) أخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب أين يدفن الشهيد، برقم (2005) وصححه الألباني.

6 - لا يجوز البناء على القبور، ولا تجصيصها, ولا الكتابة عليها؛ لما رواه مسلم: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه" (¬1). وزاد الترمذيُّ: "وأن يكتب عليه" (¬2). 7 - لا يجوز اتخاذ السُّرُجِ على القبور، لقوله: "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرُجَ" (¬3). والعلة في التحريم ظاهرة، فهي صرف للمال في غير فائدة، ولأن فيه إفراطًا في تعظيم القبور الذي يؤول إلى صرف العبادة لها من دون الله، وهي من وسائل الشرك الظاهرة. 8 - اختلف الفقهاء في دفن أكثر من ميت في قبر واحد، فقال بعضهم: يحرم مطلقًا إلا لضرورة، وإليه ذهب الحنابلة (¬4)، وذهب غيرهم إلى أن الإفراد أفضل والجمع ليس بمكروه ولا يحرم، والذي اختاره شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬5) كراهة فعل ذلك إلا لضرورة قُصْوَى. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ في كتاب الجنائز، باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه، برقم (970) من حديث جابر -رضي الله عنه-. (¬2) أخرجه الترمذيُّ في كتاب الجنائز، باب ما جاء في كراهية تجصيص القبور والكتابة عليها، برقم (1052). (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب في زيارة النساء للقبور، برقم (3236)، والترمذيُّ في كتاب الجنائز، باب ما جاء في كراهية أن يتخذ القبر مسجدًا، برقم (320)، والنسائيُّ في كتاب الجنائز، باب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور، برقم (2043)، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود والترمذيُّ والنسائيُّ، وحسنه في المشكاة (1/ 740). (¬4) كشاف القناع (2/ 143). (¬5) الاختيارات الفقهية (89).

التعزية وأحكامها

التعزية وأحكامها أولًا: تعريف التّعْزِيَةِ: التعزية في اللغة مصدر "عزَّى": إذا صبَّر المصاب وواساه. أما في اصطلاح الفقهاء فهي: "الأمر بالصبر والحمل عليه بوعد الأجر، والتحذير من الوِزْرِ، والدعاء للميت بالمغفرة، وللمصاب بجبر المصيبة" (¬1). ثانيًا: حكمها: يسن تعزية المصاب عند حصول مصيبة له؛ لما ورد في ذلك، وفيه: "من عزَّى مصابًا فله مثل أجره" (¬2)، لكن هل يُعزَّى غير المسلمين؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة: 1 - فالشافعية والحنابلة (¬3) وإحدى الروايات عن أبي حنيفة (¬4) أنه يعزي المسلم الكافر غير الحربي والعكس، ويعزي المسلم بالكافر. 2 - وذهب مالك (¬5) إلى أنه لا يعزى مسلم بكافر. والذي يظهر أنه يجوز تقديم العزاء للكفار؛ تطييبًا لخاطرهم، لكن لا يكون فيه دعاء للمتوفى، وذلك بقصد ترغيبهم في الإِسلام، وهذا من مقاصد الشريعة، وهكذا إذا كان في تعزيته لهم دفع أذى الكفار عن المسلمين، أو دفع أذاهم عنه؛ ¬

_ (¬1) انظر في تعريف التعزية في اللغة والاصطلاح في: أسنى المطالب (1/ 334)، ومغني المحتاج (1/ 355)، وحاشية الدسوقي (1/ 419). (¬2) أخرجه الترمذيُّ (3/ 376) ط. الحلبي، وضعفه ابن حجر في التلخيص. (¬3) مغني المحتاج (1/ 355)، والمغني لابن قدامة (2/ 543). (¬4) حاشية ابن عابدين (1/ 603). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 419).

ثالثا: وقت التعزية

وذلك لأن المصالح العامة للمسلمين تغتفر فيها المضارُّ الجزئية، وهذا هو قول اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية (¬1). ثالثًا: وقت التعزية: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن التعزية يكون وقتها بعد دفن الميت؛ وذلك لأن أهل الميت يكونون مشغولين بتجهيز ميتهم، ولأن وحشتهم بعد الدفن لفراقه أكثر، فكان ذلك الوقت أولى. والصحيح أن وقت التعزية من حين يموت الميت إلى أن تنسى المصيبة، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أرسلت إليه ابنة له تخبره أن صبيًا لها في الموت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمُرْها فلتصبر ولتحتسب" (¬2). فهذا دليل على جوازها قبل الدفن. رابعًا: صفة التعزية: الأولى في التعزية مراعاة ما جاءت به نصوص السنة، كما جاء في الحديث المذكور سابقًا عند عزائه لابنته - صلى الله عليه وسلم -، هذا أحسن ما يعزي به الإنسان، وإن قال كما ذكره العلماء: "عظم الله أجرك" و"أحسن عزاءك وغفر لميتك"، فلا بأس. خامسًا: مكان التعزية: ذهب الشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) إلى كراهة الجلوس للتعزية في أي مكان، ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (9/ 132) رقم الفتوى (1988). (¬2) أخرجه البخاريُّ في كتاب التوحيد، باب ما جاء في قول الله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، برقم (7010)، ومسلمٌ في كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، برقم (923)، واللفظ لمسلم من حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنه-. (¬3) المجموع (5/ 278). (¬4) كشاف القناع (2/ 160).

سادسا: مدة التعزبة

وذلك بأن يجتمع أهل الميت في مكان ليأتي إليهم من يعزيهم، وعللوا بأنه محدث وبدعة، ولأنه يجدد الأحزان لأهل الميت. ووافقهم الحنفية (¬1) على ذلك فقالوا بأنه يكره الجلوس للتعزية على باب الدار إذا كان يؤدي إلى ارتكاب محظور؛ كفرش البسط والأطعمة من أهل الميت. وذهب مالك (¬2) إلى أن الأفضل أن تكون التعزية في بيت المصاب. سادسًا: مدة التعزبة: جمهور الفقهاء على أن مدة التعزية ثلاثة أيام، واستدلوا لذلك بإذن الشارع في الإحداد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا" (¬3). والصحيح أنه لا حد للتعزية، بل تبقى بعد الثلاث ولو طال الزمان؛ لأن الغرض منها الدعاء للميت، وحمل المصاب على الصبر وعدم الجزع، لكن إذا نسي المصاب مصيبته فلا يشرع تعزيته؛ لئلا يكون ذلك مفضيًا لتجدد حزن المصاب. سابعًا: لمن تكون التعزية: يعزي أهل المصيبة كبيرهم وصغيرهم، ذكورهم وإناثهم، إلا إذا كانت هناك شابة من النساء فلا يعزيها إلا النساء ومحارمها؛ خوفًا من الفتنة، وكذلك يعزي أصدقاء الميت، وكذا الناس بعضهم بعضًا عند وفاة من به نفع للإسلام ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 630). (¬2) بلغة السالك (1/ 225). (¬3) أخرجه البخاريُّ في كتاب الطلاق، باب تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا، برقم (5024)، ومسلمٌ في كتاب الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة وتحريمه في غير ذلك إلا ثلاثة أيام، برقم (1486).

ثامنا: صنع الطعام لأهل الميت

والمسلمين، كالعلماء والأمراء والرؤساء الذين لهم قدم صدق في نصرة المسلمين، فلا شك أن موتهم مصيبة لا يشعر بها إلا من أعطاه الله بصيرة وفِقْهًا في الدين. ثامنًا: صنع الطعام لأهل الميت: يسن أن يقوم جيران الميت بصنع الطعام لأهل الميت، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اصنعوا لأهل جعفر طعامًا؛ فإنه قد جاءهم ما يشغلهم" (¬1). أما صناعة الطعام من أهل الميت للمعزِّين، فهذا لا يشرع، بل هو محرم؛ لقول جرير بن عبد الله البَجَلِيِّ: "كنا نرى الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة" (¬2). والنياحة من كبائر الذنوب. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب صنع الطعام لأهل الميت، برقم (3132)، والترمذيُّ في كتاب الجنائز، باب ما جاء في الطعام يصنع لأهل الميت، برقم (998) واللفظ للترمذي. (¬2) أخرجه أحمد في المسند (2/ 204)، رقم (6905)، وابن ماجه في كتاب الجنائز، باب ما جاء في النهي عن الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام، برقم (1612) واللفظ لابن ماجه، وصححه الألباني.

الفِقهُ الميَسَّر الزَّكَاة مَوسُوعة فقهيَّة حَديثَة تتناوَل أحكام الفقه الإسلامي بأسُلوب وَاضح للمختصّين وغيرهم تَأليف أ. د/عَبْد الله بن محمد الطيّار أستَاذ الدراسات العليا بكليَّة الشَّريعة والدِّراسات الإسلامية بجامعة القصيم أ. د/عبد الله بن محمّد المطلِّق عضو هَيئة كبار العُلَماء، وعضو اللَّجنة الدَّائمة للإفتاء د/محمَّد بن إبراهيم الموسَى عضو مجلس الشورى سابقًا - المجلس الأعلى للأوقاف الجزء الثَّاني مدار الوطن للنشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الفِقهُ الميَسَّر الزكاة

حقُوق الطَّبع محفُوظَة الطَّبعَة الثانيَة 1433 هـ - 2012 م مَدَارُ الوَطن للنَّشر المملكة العربية السعودية - المقر الرئيسي: الرياض - الملز ص. ب: 245760 - الرمز البريدي 11312 - هاتف 4792042 (5 خطوط) - فاكس 4723941 البريد الإلكتروني: [email protected] موقعنا على الإنترنت: www.madaralwatan.com الرياض: 0503269316 الغربية: 0504143198 الشرقية: 0503193268 الشمالية والقصيم: 0504130728 التوزيع الخيري للشرقية والجنوبية: 0503193269 التوزيع الخيري لباقي جهات المملكة: 0506436804 التسويق للجهات الحكومية: 0500996987 مبيعات المكتبات الخارجية: 0503193269

المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬1). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬3). أما بعد: فإن مما تميزت به شريعة الإِسلام أنها صالحة لكل زمان ومكان، وأنها تراعي في أحكامها أحوال الأمة الإِسلامية أفرادًا وجماعات وأممًا, ولما كان فضل الله تعالى على خلقه يتفاوت كما قال جل ذكره: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} (¬4)، وقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} (¬5)، جعل لهذا التفاوت ما يسد به الخلل ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: 102. (¬2) سورة النساء: 1. (¬3) سورة الأحزاب: 70 - 71. (¬4) سورة الزخرف: 32. (¬5) سورة الحديد: 21.

الذي قد يحصل فيه، والناس كما نعلم طبقات، غنًا وفقرًا، فهذا أغنى من هذا، وهذا أفقر من هذا, ولحكمة بالغة شرع الله تعالى ما يسد به حاجات الفقراء، فجعل لهم نصيبًا من أموال الأغنياء حرصًا على دفع عجلة الحياة الإنسانية. وجاءت فريضة الزكاة في المقام الأول لعلاج مشكلة الفقر الذي كان من هديه - صلى الله عليه وسلم - الاستعاذة منه، وما ينتج عنه، ولم تقتصر الزكاة على صنف معين من الناس كالفقراء والمساكين مثلًا، بل جاءت لتسد حاجات طوائف أخرى كالغارم، وابن السبيل، والغازي في سبيل الله، وغيرهم ممّن شرع الله تعالى إعطاء الزكاة لهم. ولأهمية هذا الركن في الإِسلام كان لا بد من إعطائه حقه ومستحقه من العناية، وبيان حكم الشريعة في أحكامه، مع الأخذ في الاعتبار مراعاة الأدلة الشرعية وأقوال أهل العلم المعتبرين فيما يستجد فيه من أحكام. وقد قمنا بوضع ذلك بين أيدي إخواننا المسلمين من طلاب العلم وغيرهم، وقد راعينا في ذلك الجوانب التي تم ذكرها في مقدمة هذه الموسوعة. ومما يحسن التذكير به أن هذا الجزء سبقه أجزاء في الطهارة والصلاة والحج والمعاملات، والحدود، والجنايات، والنكاح والطلاق، أعني موسوعة الفقه الميسر والتي لاقت صدىً واسعًا ولله الحمد عند الكثيرين. نسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم إنه سبحانه سميع قريب مجيب. أما عن موضوعات كتاب الزكاة التي تم التعرض لها في هذه الموسوعة على سبيل الإجمال لا الحصر:

التعريف بالزكاة - الحكمة في مشروعيتها - حكمها الشرعي - على من تجب - شروط المال الذي تجب فيه، مع ذكر المسائل المتعلقة بهذه الشروط -ما تجب فيه الزكاة- زكاة النقود (الذهب والفضة والورق النقدي) - نصابها والمقدار الواجب فيها - كيفية تحويل الدرهم والدينار إلى الجرامات - ذكر بعض المسائل المتعلقة بالذهب والفضة - زكاة الثروة الحيوانية (الإبل، والبقر، والغنم) - مع ذكر بعض المسائل المتعلقة بها - زكاة عروض التجارة - المقدار الواجب في زكاة عروض التجارة - مع ذكر بعض المسائل المتعلقة بها - زكاة الزروع والثمار - أنواع الزروع والثمار التي تجب فيها الزكاة، والنصاب الواجب فيها - مع ذكر بعض المسائل المتعلقة بها - زكاة الثروة المعدنية والبحرية - صفة المعدن الذي تجب فيه الزكاة - النصاب الواجب فيها - زكاة المستغلات والدخل - زكاة الأسهم والسندات - ذكر بعض الأحكام المتعلقة بإخراج الزكاة - زكاة الفطر - حكمها التكليفي - شروط وجوبها - على من تجب ووقت إخراجها - القدر الواجب فيها - الأصناف التي تخرج منها - مكان دفعها ولمن تدفع - ذكر بعض الأحكام المتعلقة بها - مصارف الزكاة (الفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل) - من لا يجوز دفع الزكاة لهم - اختلاف الفقهاء في إعطاء بني المطلب من الزكاة - ذكر بعض المسائل المتعلقة بمن لا يجوز دفع الزكاة إليهم. ومما يجدر التنبيه عليه أن ما رجحناه في هذا الكتاب إنما هو راجع إلى ما انتهينا إليه حسب ما ظهر لنا من الأدلة، وقد يرجح غيرنا خلاف ما رجحناه حسب ما ينتهي إليه، ولا تثريب على أحد فكل يأخذ بما انتهى إليه. وقد بذلنا جهدنا ووسعنا، فما كان من صواب فمن الله وحده، وما كان غير ذلك فمن أنفسنا والشيطان، ونستغفر الله ونتوب إليه.

ولا يفوتنا أن نلتمس ممّن يطلع على هذا المشروع المبارك أن يوافينا بما يراه من ملاحظات واقتراحات للاستفادة منها مستقبلًا -إن شاء الله تعالى-، والله المسؤول أن يوفقنا للعلم النافع والعمل والصالح، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمَّد. المؤلفون،،،

كتاب الزكاة

الفِقهُ الميَسَّر كتاب الزكاة

الزكاة

كتاب الزكاة أولًا: تعريف الزكاة: الزكاة في اللغة: الزكاة من الزكاءِ، والنماء، والزيادة؛ سميت بذلك لأنها تثمر المال وتنميه (¬1). أما تعريفها في الشرع: فقد عرفها الحنفية (¬2) بقولهم: "الزكاة هي تمليك جزء مال مخصوص من مال مخصوص لشخص مخصوص عينه الشارع لوجه الله تعالى". وعرفها المالكية (¬3) بأنها: "إخراج جزء مخصوص من مال مخصوص بلغ نصابًا، لمستحقه، إن تمَّ الملك، وحول غير معدن وحرث". وقال الشافعية (¬4) في تعريفها: "اسم لما يخرج عن مال أو بدن على وجه مخصوص". وقال الحنابلة (¬5): "هي حق واجب في مال مخصوص لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص". هذا هو حاصل ما ذكره فقهاء المذاهب في تعريفها، وإذا نظرنا إلى هذه التعريفات تبين لنا أن الزكاة في تعريف الحنفية والمالكية تطلق على نفس فعل الإيتاء، أي أداء الحق الواجب في المال، وأيضًا أطلقت في تعريف الشافعية ¬

_ (¬1) غريب الحديث (1/ 184). (¬2) العناية لهامش فتح القدير (1/ 481). (¬3) الشرح الصغير (2/ 92، 93)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 431). (¬4) المجموع شرح المهذب (5/ 295). (¬5) المغني (4/ 5).

ثانيا: الحكمة في مشروعيتها

والحنابلة على الجزء المقدر من المال الذي فرضه الله حقًا للفقراء. ثانيًا: الحكمة في مشروعيتها: من نظر إلى أرزاق الناس ومواهبهم في تحصيل المكاسب يجد أن هناك تفاوتًا عجيبًا بينهم في هذا الشأن، فهناك الفقراء المتفاوتون في الفقر، وهناك المساكين، وصدق الباري سبحانه وتعالى حيث قال: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} (¬1)، ونظرًا لهذا التفاوت العجيب الذي جعله الله لحكمة كان لا بد من وجود تشريع إلهي يعالج ذلك التفاوت، ويحقق التكافل بين أفراد المسلمين، ومن هنا شرع الله تعالى الزكاة. الأهداف العامة التي من أجلها شرع الله لعباده الزكاة: 1 - الزكاة عبادة مالية: يعتبر أداء الزكاة استجابة لأمر الله تعالى، ووفاء لعهده، يرجو عليها فاعلها حسن الجزاء في الآخرة، ونماء المال في الحياة الدنيا بالبركة. 2 - الزكاة طهارة من البخل والشح والطمع: تعتبر الزكاة علاجًا شافيًا -بإذن الله- لأمراض البخل والشح والطمع والأنانية والحقد، والإِسلام يقدر غريزة حب المال، وحب الذات، ويقرر أن الشح حاضر في النفس الإنسانية لا يغيب، قال تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} (¬2). فيعالج هذا كله علاجًا نفسيًا بالترغيب, والتحذير، والحض، فيطلب من هذه النفس الشحيحة أن تجود بما هو حبيب إليها، عزيز عليها، فتستجيب إليه، وتلتمس الطيب الذي تجود به، وبذلك يصل إلى غاية البذل، وأصعب الجود، ¬

_ (¬1) سورة النحل: 71. (¬2) سورة النساء: 128.

وأكرم العطاء النابع من أعماق الشعور، ويتغلب جانب الوجدان على جانب الغريزة. 3 - إعانة الضعفاء وكفاية أصحاب الحاجات: المسلم عندما يدفع زكاة ماله يشعر بمسئولية عن مجتمعه، وعن تكافله مع المحتاجين فيه، وتغمره السعادة عندما يؤدي الأمانة، ويأخذ بيد أخيه المعدم، ويرتفع به من ويلات مصيبة حلت به فأفقرته، وهو يستشعر في هذا كله قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (¬1). 4 - الزكاة تنمي الروح الاجتماعية بين الأفراد: يشعر المسلم الدافع للزكاة بعضويته الكاملة في الجماعة، فهو يشترك في واجباتها، وينهض بأعبائها، فيتحول المجتمع إلى أسرة واحدة يسودها التعاون، والتكافل، والتواد تحقيقًا وتجسيدًا، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ المُؤْمنِينَ في تَوَادِّهِمْ وَترَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشْتكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى له سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى" (¬2). 5 - الزكاة تكفر الخطايا، وتدفع البلايا: وهي تدفع فداء عن العبد، وتجلب رحمة الله تعالى، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} (¬3). ومن ذلك يتبين أن الله شرع الزكاة لأنها تطهر المزكي من الشح، والبخل، وأرجاس الذنوب والخطايا، وتدرب المسلم على البذل والإنفاق في سبيل الله، ولأن في أدائها شكرًا لله على ما أسبغ به على المسلم من نعمه الظاهرة والباطنة، ولأنها تعالج قلب المؤمن من حب الدنيا والحرص على جمع المال، ولأنها تنمي ¬

_ (¬1) سورة المعارج: 24 - 25. (¬2) رواه مسلم كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (4685). (¬3) سورة الأعراف: 156.

ثالثا: حكم الزكاة

شخصية الغني وذلك باستشعاره أنه تغلب على شحه وشيطانه وهواه، ولأنها تكون بين الفقير والغني حقيقة المحبة والأخوة، وتربط أفراد المجتمع بوشائج الصلة والقربى والتكافل والإخاء، ولأنها تحرر أفراد الأمة على اختلاف أجناسهم وألوانهم من الحسد، والبغضاء، والشحناء، والقطيعة، ولأنها تمحو الثالوث المخيف من المجتمع وهو الفقر والجهل والمرض، ولأنها توجه إلى الإنتاج وتدفع إلى العمل وذلك بتأمين وسائل العيش للمحتاجين ليكونوا عناصر فعالة في المجتمع تشارك في البناء والتعمير، فسبحان من شرعها لفوائد كثيرة وعواقب حميدة على مستوى الفرد والمجتمع والأمة. ثالثًا: حكم الزكاة: الزكاة أحد أركان الإِسلام الخمسة التي لا يستقيم إسلام العبد إلا بها قولًا وعملًا، فمن أراد الدخول في الإِسلام وهو ينكر ركنيتها فلا يعد مسلمَّا، ومن دخل في الإِسلام ثم جحد وجوبها كفر، ومن أقر وجوبها ولكنه امتنع عن أدائها فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، وقد جاء تشريعها في الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (¬1). أما في السنة: فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ صَاحِبِ كنْزٍ لا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إِلا أُحْمِيَ عَلَيْهِ في نَارِ جَهَنَّمَ فَيُجْعَلُ صَفَائِحَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبَاهُ وَجَبِينُهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ في يَوْمٍ كَانَ ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 34 - 35.

العقوبة التي يستحقها مانع الزكاة من قبل الإمام؟

مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلفَ سَنهٍ ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ وَمَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إِلا بُطِحَ لهَا بقَاعٍ قَرْقَرٍ كَأَوْفَرِ مَا كَانَتْ تَسْتَنُّ عَلَيْهِ كُلَّما مَضَى عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولاهَا حَتَّى يحكُمَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلفَ سَنهٍ ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ وَمَا مِنْ صَاحِبِ غَنَمٍ لا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إِلا بُطِحَ لهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ كَأَوْفَرِ مَا كَانَتْ فَتَطَؤُهُ بِأَظْلافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ وَلا جَلحَاءُ كلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولاهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلفَ سَنهٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ" (¬1). فهذا جزاءه عند الله تعالى. وأما الإجماع: فقد نقله بعض العلماء: قال ابن المنذر (¬2): "وأجمعوا على أن المال إذا حال عليه الحول أن الزكاة تجب فيه". وقال ابن عبد البر (¬3): "والصدقة الزكاة المعروفة وهي الصدقة المفروضة، سماها الله صدقة، وسماها زكاة، فهي الصدقة وهي الزكاة، وهذا ما لا تنازع فيه، ولا اختلاف". وجاء في الإفصاح (¬4): "وأجمعوا على أن الزكاة أحد أركان الإِسلام، وفرض من فروضه. قال الله تعالى: {... وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ...} (¬5). العقوبة التي يستحقها مانع الزكاة من قبل الإِمام؟ 1 - ذهب الشافعي (¬6) في القديم، وأبو بكر من أصحاب أحمد، وإسحاق بن ¬

_ (¬1) رواه مسلم كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة (1648). (¬2) الإجماع لابن المنذر، (ص: 54). (¬3) الإجماع لابن عبد البر، (ص: 105). (¬4) الإفصاح لابن هبيرة (1/ 195). (¬5) سورة النساء: 77. (¬6) المجموع شرح المهذب (5/ 334).

راهويه (¬1) إلى أن من منع زكاة ماله أخذت منه قهرًا، ويؤخذ شطر ماله عقوبة له مع أخذ الزكاة منه، واحتجوا لذلك بما رواه أحمد وأبو داود والنسائيُّ وغيرهم عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: "في كلِّ إبلٍ سَائِمَةٍ في كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنةُ لَبُونٍ لا يُفَرَّقُ إبلٌ عَنْ حِسَابِهَا مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا وَمَنْ أَبى فَإنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ إِبِلِهِ عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا لا يَحِلُّ لآلِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهَا شَيْءٌ" (¬2). 2 - وذهب جمهور الفقهاء إلى أن مانع الزكاة إذا أخذت منه قهرًا لا يؤخذ معها من ماله شيء، واستدلوا لذلك بما رواه ابن ماجة من حديث فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيْسَ في المَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ" (¬3)، ولأن الصحابة -رضي الله عنهم - لم يأخذوا نصف أموال الأعراب الذين منعوا الزكاة. وأجابوا عن حديث بهز بن حكيم بأنه حديث منسوخ، وأن هذا كان في أول الإِسلام ثم نسخ. والراجح: أن الحديث ليس بمنسوخ، وأن هذه العقوبة الشرعية مفوضة لأمر الإِمام وتقديره، ينفذها حيث يرى تمادي الناس في منع الزكاة ولم يجد سبيلًا لزجرهم غير هذا. أما من منع الزكاة وهو مقر بوجوبها وهو خارج عن قبضة الإِمام فعلى الإِمام أن يقاتله على عدم إخراجها لفعل الصحابة مع أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- حيث قاتلوا المانعين من أدائها, ولا يحكم بكفرهم على القول الراجح. ¬

_ (¬1) المغني (4/ 7). (¬2) رواه النسائي، وحسنه الألباني في سنن النسائي (5/ 15) رقم (2444). (¬3) رواه ابن ماجه، والبيهقيُّ، وضعفه الألباني في صحيح الجامع رقم (4909).

رابعا: على من تجب الزكاة؟

ولذا فمن مات منهم ورثه المسلمون من أقاربه، وصلِّي عليه. وذهب الإِمام أحمد (¬1) في رواية عنه أنه يحكم بكفره فلا يورث، ولا يصلى عليه، واحتج بقول أبي بكر -رضي الله عنه- حين قاتل مانعي الزكاة وأوهنتهم الحرب قالوا: نؤديها، قال: "لا أقبلها حتى تشهدوا أن قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار" ووافقه عمر، ولم ينقل إنكار لذلك عن أحد من الصحابة فدل على كفرهم. والراجح: ما ذهب إليه الأولون من عدم كفرهم. أما من منعها منكرًا لوجوبها ففي ذلك تفصيل: إن كان جاهلًا، ومثله يجهل ذلك لحداثة إسلامه أو لأنه نشأ في بادية بعيدة عن الأمصار أو نحو ذلك فإنه يعرف وجوبها ولا يحكم بكفره لأنه معذور، وإن كان مسلمًا قد نشأ في بلاد الإِسلام وبين أهل العلم فيحكم بكفره، ويصير مرتدًا، وتجرى عليه أحكام الردة لكونه أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة. رابعًا: على من تجب الزكاة؟ تجب الزكاة على المسلم الحر، المالك للنصاب ملكًا تامًا وحال عليه الحول. ومن ذلك يتبين ما يأتي: أولًا: أن الزكاة لا تجب على الكافر الأصلي: باتفاق الفقهاء حربيًا كان أو ذميًا، ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ ابن جبل -رضي الله عنه- كما في الصحيحين: "إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأني رَسُولُ اللهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ ¬

_ (¬1) المقنع ومعه الشرح الكبير والإنصاف (7/ 147).

أما المرتد فهل تؤخذ منه الزكاة؟

فِي فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُوم فَإنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ" (¬1). فالحديث يدل كما قال النووي (¬2) وغيره على أن المطالبة بالفرائض في الدنيا لا تكون إلا بعد الإِسلام، وهذا قدر متفق عليه، وأيضًا الزكاة عبادة وجبت طهرة للمزكي والكافر لا طهرة له ما دام على كفره، ولأنها أيضًا عبادة مالية يتقرب بها المسلم إلى الله، والكافر لا تقبل منه العبادة حتى يدخل في الإِسلام، هذا في حق الكافر الأصلي. أما المرتد فهل تؤخذ منه الزكاة؟ اختلف في ذلك الفقهاء: 1 - فالحنفية (¬3) يرون أنها لا تجب عليه لأن من شروطها النية عند الأداء، والكافر نيته غير معتبرة فتسقط بالردة كالصلاة. 2 - وذهب الشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5) إلى أن الزكاة تجب في حق المرتد إن كانت وجبت عليه في حال إسلامه، وبعد تمام الحول، وبلوغ النصاب، وذلك لأنها وجبت عليه حال إسلامه فلا تسقط بردته كغرامة المتلفات. وهذا هو الراجح: لأن الزكاة حق للفقراء والمستحقين فلا تسقط بالردة كالنفقات والغرامات. ¬

_ (¬1) رواه البخاري: كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته إلى توحيد الله (6824)، ومسلمٌ: كتاب الإيمان, باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإِسلام (27). (¬2) المجموع (5/ 327، 328). (¬3) تبيين الحقائق (1/ 253)، فتح القدير (2/ 13). (¬4) المجموع شرح المهذب (5/ 299). (¬5) المغني (8/ 514)، الشرح الكبير ومعه الإنصاف (6/ 332).

ثانيًا: من هذا التعريف أيضًا يتبين أن الزكاة لا تجب على العبد: باتفاق الفقهاء لأنه مملوك لسيده، فكل ما يملكه يعود لسيده، فالسيد مالك لما في يد عبده. وذهب المالكية (¬1) وهي إحدى الروايتين عند الشافعية (¬2): أنه لا زكاة في مال العبد أصلًا لا على العبد، ولا على سيده، لأن ملك العبد ناقص، والزكاة إنما تجب على تمام الملك، ولأن السيد لا يملك مال العبد. ثالثًا: هل تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون؟: اختلف الفقهاء في هذه المسألة: 1 - فالجمهور على أن الزكاة تجب في مال كل من الصبي والمجنون ذكرًا كان أو أنثى، وهذا مروي عن جملة من الصحابة، واحتج الجمهور لذلك بما رواه الترمذيُّ وغيره عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلا مَنْ وليَ يَتيمًا لَهُ مَالٌ فَليَتَّجِرْ فِيهِ وَلا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأكُلَهُ الصَّدَقَةُ" (¬3)، (¬4). والمراد بالصدقة هنا الزكاة المفروضة، وهذا أيضًا قد روي موقوفًا على عمر، وقالوا أيضًا: بأن الزكاة تراد لثواب المزكي، ومواساة الفقير، والصبي والمجنون من أهل الثواب وأهل المواساة. فيتولى الولي إخراج الزكاة من مالهما لأن الولي يقوم مقامهما في أداء ما عليهما من الحقوق. ¬

_ (¬1) الشرح الصغير على أقرب المسالك (2/ 94). (¬2) المجموع شرط المهذب (2/ 298). (¬3) رواه الترمذيُّ، وضعفه الألباني في جامع الترمذيّ (3/ 32) رقم (641). (¬4) تبيين الحقائق (1/ 352).

خامسا: شروط المال الذي تجب فيه الزكاة

2 - وذهب الحنفية (¬1) إلى أن الزكاة لا تجب في مال الصبي والمجنون إلا أنه يجب العشر في زروعهما وثمارهما، وزكاة الفطر عنهما، وعللوا لذلك بتعليل أثري ونظري: أما الأثري: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاَثةٍ: عَنْ المَجْنُونِ المَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يَفِيقَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ" (¬2). أما الدليل النظري: فقالوا: بأن الزكاة عبادة فلا تتأدى إلا بالاختيار تحقيقًا لمعنى الإِسلام، ولا اختيار للصبي والمجنون لعدم العقل، وقياسًا على عدم وجوبها على الذمي لأنه ليس من أهل العبادة. أما وجوب العشر في الزروع والثمار فقالوا وجوب العشر في ذلك لأنه في معنى مئونة الأرض، ومعنى العبادة فيه تابع. والراجح: وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون لعموم الأدلة، فلم تشترط النصوص أن يكون الغني بالغًا عاقلًا مع شدة عناية الشارع بحفظ أموال اليتامى، ثم إن الزكاة حق للفقراء والمساكين والمستحقين في مال الأغنياء، والصبي والمجنون أهل لوجوب حقوق العباد المالية عليهما، فهما أهل لوجوب الزكاة أيضًا. رابعًا: من هذا التعريف أيضًا يتبين لنا أن الزكاة يشترط فيها ملك النصاب، وحولان الحول، كما سيأتي بيانه في الشروط العامة لوجوب الزكاة. خامسًا: شروط المال الذي تجب فيه الزكاة: يشترط في المال الذي تجب فيه الزكاة ما يلي: ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (2/ 4، 5)، فتح القدير والعناية على الهداية (1/ 483). (¬2) رواه أبو داود، وأحمدُ، والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (3512).

الشرط الأول: كونه مملوكا لمعين

الشرط الأول: كونه مملوكًا لمعين: فلا زكاة فيما ليس له مالك معين، وذلك كأموال الحكومة التي تجمعها من الزكوات، أو غيرها من الموارد، فلا زكاة فيها لعدم المالك المعين، ولأنها ملك لجميع الأمة، ومنها الفقراء. ولذلك قال الفقهاء: "لا تجب الزكاة في مال فيء ولا في خمس غنيمة لأنه يرجع إلى الصرف في مصالح المسلمين" (¬1). الأموال الموقوفة: الأموال الموقوفة على نوعين: 1 - موقوف على معين: الموقوف على معين كزيد أو بني فلان، أو على ابنه أو ذريته فالراجح أن الزكاة تجب فيه، وذلك لثبوت الملك في حق الموقوف عليه، وهو يملكه ملكًا مستقرًا، وهذا هو قول المالكية (¬2)، والحنابلة (¬3)، وقول في مذهب الشافعية (¬4). وذهب بعض الفقهاء وهو قول عند الشافعية (¬5) أن الزكاة فيه لا تجب لأن ملكه ينتقل إلى الله تعالى لا إلى الموقوف عليه، وأيضًا مالكه لا يملك التصرف في رقبة الموقوف. والراجح: ما ذهب إليه الأولون كما ذكرنا، وكونه لا يملك التصرف في ¬

_ (¬1) مطالب أولي النهي (2/ 16). (¬2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 459 - 485). (¬3) مطالب أولي النهي (2/ 16). (¬4) المجموع شرح المهذب (5/ 312). (¬5) المرجع السابق.

الزكاة عن المال المغصوب

رقبة الموقوف ليس علة في سقوط الزكاة عنه لأن صاحب الموقوف عليه أحق بالانتفاع بالمملوك من غيره، ولا يستطيع أحد أن يهيجه عنه، فثبت بذلك استقرار ملكه له. 2 - موقوف على غير معين: فالجمهور على عدم وجوب الزكاة فيه، وذهب المالكية (¬1) إلى وجوب الزكاة في الموقوف على غير معين، وعللوا لذلك بأن الوقف لا يخرجه عن ملك الواقف. والراجح: أن ما وقف على جهة غير عامة كالفقراء، والمساجد، أو المجاهدين، أو اليتامى، أو المدارس، أو غير ذلك من أبواب الخير لا زكاة فيها. الزكاة عن المال المغصوب: المال المغصوب الذي لا يقدر صاحبه على أخذه لا زكاة عليه فيه، ومتى قدر صاحبه عليه فقيل: ليس عليه زكاة لما مضى من السنين لأنه كان محجوزًا عنه، ولم يكن قادرًا على تنميته، فكان ملكه ناقصًا. وقيل: عليه زكاته لما مضى، وهذا مذهب الشافعي (¬2) في الجديد. وقال الحنابلة (¬3): يخرج زكاته ويعود بها على الغاصب، وليس ذلك عندهم من باب تزكية الغاصب للمال الحرام، وإنما ذلك لأنه نقص حصل في المال وهو بيد الغاصب أشبه ما لو تلف بعضه. زكاة الأموال المكتسبة من حرام: الأموال المكتسبة من حرام: كغصب أو سرقة، أو تزوير، أو رشوة، أو ربا، ¬

_ (¬1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي (1/ 459 - 485). (¬2) المجموع شرح المهذب (5/ 313). (¬3) شرح منتهى الإرادات (1/ 365).

من حيل بينه وبين ماله كالأسير والمسجون

أو احتكار وغش، ونحو ذلك من أخذ أموال الناس بالباطل، هذه الأموال وأشباهها لا تجب فيها الزكاة لأنها مكتسبة من حرام، ولأن الواجب تفريغ ذمته بردها إلى أربابها إن عُلِمُوا، أو إلى ورثتهم، أو إلى الفقراء. وإخراجها إلى الفقراء يكون بنية التخلص من الحرام لا نية التصدق لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَقْبَلُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ ... " (¬1)، فالمال الذي غلَّه صاحبه بأخذه من المال العام، أو أخذه من أربابه بغير الطرق الشرعية هذا المال لا يقبل الله صدقته مع وجوب التخلص منه، وعدم قبول الصدقة بالحرام لأنه غير مملوك للتصدق. لكن إن كان المال مختلطًا بعضه حرام، وبعضه حلال فالمشروع في حقه أن يتخلص من الحرام بما يغلب على ظنه أنه تخلص منه. من حيل بينه وبين ماله كالأسير والمسجون: اختلف الفقهاء في هذه المسألة، فالحنابلة (¬2) أن ذلك لا يمنع وجوب الزكاة عليه لأنه لو تصرف في ماله ببيع أو هبة ونحوهما نفذ، وهذا قول عند الشافعية (¬3). أما المالكية (¬4) فقالوا: الزكاة تسقط في حقهما في الأحوال الباطنة لأنه بذلك يكون مغلوبًا على عدم التنمية فيكون ماله حينئذ كالمال الضائع، أما الأموال الظاهرة فلا تسقط الزكاة فيها، وذهب بعض الشافعية (¬5) أنه لا يجب فيه الزكاة إذا حيل بينه وبينه كالمغصوب. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود، وصححه الألباني في سنن أبي داود (1/ 16) رقم (59). (¬2) المقنع ومعه الشرح الكبير والإنصاف (6/ 332). (¬3) المجموع شرح المهذب (5/ 312، 313). (¬4) الشرح الصغير مع حاشية الدسوقي (1/ 481). (¬5) المجموع شرح المهذب (5/ 313).

صداق المرأة

والراجح: ما ذهب إليه الحنابلة لثبوت الملك في حق الأسير والمسجون، والواجب عليهما أن يكلفا من يقوم بإخراج زكاة مالهما إن أمكن، فإن عُدِمَ الإمكان أخرجوها لما مضى عند خروجهما من الأسر أو السجن. صداق المرأة: حكم الصداق حكم الدين, لأنه دين للمرأة في ذمة الرجل كما سيأتي بيان حكم الدين قريبًا -إن شاء الله تعالى- فإن كان الصداق على مليء وجبت فيه الزكاة، فإذا قبضته أدت زكاته لما مضى، وإن كان على جاحد أو معسر فعلى روايتين في المذهب، ولا فرق بين ما قبل الدخول وما بعده لأنه دين في الذمة، فإن سقط نصفه بطلاقها قبل الدخول وقبضت النصف الآخر فعليها زكاة ما قبضته خاصة (¬1). فإن وهبت الصداق لزوجها فالصحيح من المذهب أن الزكاة لا تسقط عنها، وفي رواية أنها تجب على الزوج. والراجح: عدم وجوب الزكاة عليها. زكاة اللقطة: اللقطة إذا ملكها الملتقط بعد الحول استقبل لها حولًا وزكاها على الصحيح من المذهب (¬2). وعند الشافعية (¬3) على قولين: إن اختار التملك بعد التعريف فتجب فيه الزكاة، وإن لم يختر التملك فلا، ومنهم من قال: لا تجب الزكاة قولًا واحدًا لأن ¬

_ (¬1) المقنع ومعه الشرح الكبير والإنصاف (6/ 333). (¬2) المرجع السابق (6/ 337). (¬3) المجموع شرح المهذب (5/ 313).

زكاة الدين

ملكه غير مستقر بعد التعريف، وهي رواية في مذهب أحمد (¬1). زكاة الدين: المال إذا كان دينًا هل يزكيه صاحبه، أم يزكيه المدين، أم تسقط الزكاة فيه؟ نقول: جمهور أهل العلم من السلف ومن بعدهم على أن الدين نوعان: الأول: دين مرجو الأداء: بأن كان على موسر مقر بالدين، فهذا يعجل زكاته مع ماله الحاضر في كل حول كالمال الذي بيده لأنه قادر على أخذه والتصرف فيه، وهذا هو مذهب الشافعي (¬2) في الأظهر، وقد صحح النووي القول الآخر بأنه لا يجب إخراج الزكاة قبل القبض. وذهب الحنفية (¬3)، والحنابلة (¬4) أن زكاته تجب على صاحبه كل عام لأنه مملوك له إلا أنه لا يجب عليه إخراج الزكاة منه ما لم يقبضه، فإذا قبضه زكاه لكل ما مضى من السنين. ووجه ذلك عندهم أنه دين ثابت في الذمة فلم يلزمه الإخراج قبل قبضه، ولأنه لا ينتفع به في الحال، وليس من المواساة أن يخرج زكاة مال لا ينتفع به. والراجح: أنه إذا كان الدين على مليء باذل مقر به معترف به فإنه يؤدي زكاته إذا قبضه، وإن شاء أدى زكاته مع زكاة ماله وذلك أفضل، ولكي يستريح الشخص مما شغلت به ذمته، ولأنه أيضًا أسرع في إبراء ذمته. الثاني: دين غير مرجو الأداء: وهو ما كان على معسر، أو جاحد، أو مماطل، ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) روضة الطالبين (2/ 194). (¬3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين (2/ 35، 39)، فتح القدير مع الهداية (2/ 167). (¬4) المقنع ومعه الشرح الكبير والإنصاف (6/ 321، 322).

هل يمنع الدين من إخراج الزكاة؟

فقد اختلفت فيه آراء الفقهاء، فذهب بعضهم أنه لا زكاة فيه لعدم تمام الملك، ولأنه غير مقدور على الانتفاع به، وهذا مذهب الحنفية (¬1)، ورواية في مذهب أحمد (¬2)، وفي رواية في مذهب أحمد (¬3)، وقول للشافعي (¬4) وهو الأظهر أنه يزكيه لما مضى من السنين إذا قبضه، وذهب مالك (¬5) إلى أنه إذا كان مما فيه الزكاة يزكيه إذا قبضه لعام واحد وإن أقام عند المدين أعوامًا، وهذا القول عزاه الشيخ العنقري (¬6) لشيخ الإِسلام محمَّد بن عبد الوهاب، وهو اختيار الشيخ محمَّد بن صالح العثيمين (¬7). والذي رجحته اللجنة الدائمة (¬8) وسماحة شيخنا بن باز (¬9) -رحمه الله- أن الزكاة لا تجب على الدائن حتى يقبض دينه ويستقبل به حولًا. هل يمنع الدين من إخراج الزكاة؟ اختلف الفقهاء في كون الدين مانعًا من وجوب الزكاة على أقوال: القول الأول: أن الأموال الباطنة كالنقدين، وعروض التجارة لا تجب فيها الزكاة إذا كان الدين ينقصها عن النصاب لأن الزكاة شرعت للمواساة، ومن عليه دين ينقص النصاب أو يستغرقه لا يوصف بالغنى بل هو أهل لدفع الزكاة إليه، أما الأموال الظاهرة كالمواشي والثمار فإنه لما كان المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) فتح القدير مع الهداية (2/ 167)، شرح العناية على الهداية (2/ 178). (¬2) المقنع ومعه الشرح الكبير والإنصاف (6/ 335). (¬3) المرجع السابق. (¬4) شرح المنهاج وحاشية القليوبي (2/ 40). (¬5) المنتقى مع الموطأ (2/ 113)، الشرح الصغير (2/ 155). (¬6) حاشية العنقري على الروض (1/ 361). (¬7) الشرح الممتع (6/ 27، 28). (¬8) فتاوى اللجنة الدائمة (9/ 191) رقم الفتوى (9069). (¬9) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (14/ 46).

زكاة الأجور المقبوضة سلفا

وخلفائه الراشدين -رضي الله عنهم - إرسال السعاة لأخذ الزكاة منها دون استفسار هل على أهلها ديون أم لا فإن الحكم فيها يختلف عن الأموال الباطنة، وهذا هو قول مالك (¬1)، وإحدى الروايتين في مذهب أحمد (¬2)، في الأموال الظاهرة. القول الثاني: أن الأموال الظاهرة والباطنة حكمها واحد في عدم وجوب الزكاة فيهما إذا كان الدين يستغرقهما، وهذا هو قول عطاء والحسن وميمون بن مهران والليث وإسحاق ورواية في مذهب أحمد (¬3). القول الثالث: أنه تجب الزكاة في الجميع سواء كانت أموالًا ظاهرة أو باطنة، وسواء استغرقت الدين أم لم تستغرقه، وذلك لأن الأدلة الدالة على وجوب الزكاة في الأموال الظاهرة والباطنة ليس فيها ما يدل على مراعاة الدين فوجب التعميم، وهذا هو قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن وحماد بن سليمان والشافعيُّ (¬4) في الجديد، وهو اختيار سماحة شيخنا ابن باز (¬5) -رحمه الله-، والشيخ محمَّد الصالح العثيمين (¬6) -رحمه الله-، وهو اختيار اللجنة الدائمة (¬7) وهو الراجح. زكاة الأجور المقبوضة سلفًا: ذهب الحنابلة (¬8) وهو قول عند الشافعية (¬9) أن الأجرة المعجلة لسنين إذا ¬

_ (¬1) الشرح الصغير على أقرب المسالك (2/ 176، 177). (¬2) المغني (4/ 265). (¬3) المرجع السابق. (¬4) المراجع السابقة، وانظر: شرح المنهاج وحاشية القليوبي (2/ 40). (¬5) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (14/ 50). (¬6) الشرح الممتع (6/ 35). (¬7) فتاوى اللجنة الدائمة (9/ 189) رقم الفتوى (4650). (¬8) المغني (4/ 271). (¬9) المنهاج وشرح حاشية القليوبي (2/ 41).

زكاة الثمن المقبوض عن البضائع التي لم يجر تسليمها

حال عليها الحول تجب على المؤجر زكاتها لأنه يملكها ملكا تامًا من حين العقد بدليل جواز تصرفه بها، وإن كان يلحقه دين بعد الحول بالفسخ الطارئ. وذهب المالكية (¬1) إلى أنه لا زكاة على المؤجر فيما قبضه مقدمًا إلا بعد تمام الملك. والأقرب هو ما ذهب إليه الأولون في وجوب الزكاة فيه. زكاة الثمن المقبوض عن البضائع التي لم يجر تسليمها: من اشترى مالًا بنصاب دراهم، أو أسلم نصابًا في شيء فحال الحول قبل أن يقبض المشتري المبيع أو يقبض المسلم فيه والعقد باق لم يجر فسخه فقيل بأن الزكاة على البائع لأن ملكه ثابت فيه، ثم لو فسخ العقد لتلف المبيع أو تعذر المسلم فيه وجب رد الثمن كاملًا. والراجح: أن زكاته على المشتري إذا حال عليه الحول من حيث لزوم العقد، وإن لم يقبض المبيع، وهذا هو قول الشافعية (¬2). الشرط الثاني: النماء: أي أن يكون المال الذي تؤخذ منه الزكاة ناميًا بالفعل، أو قابلًا للنماء، ومعنى النماء في اللغة: الزيادة، أي أن يكون من شأنه أن يدر على صاحبه ربحًا وفائدة: أي دخلًا أو غلة أو إيرادًا ونحو ذلك مما يعدُّ نماءً، وعلى هذا قسم علماء الشريعة المال النامي إلى قسمين: القسم الأول: نماء حقيقي: كزيادة المال ونمائه بالتجارة، أو التوالد؛ كتوالد الغنم والإبل. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 484). (¬2) شرح المنهاج (2/ 39).

الشرط الثالث: حولان الحول على المال

القسم الثاني: نماء تقديري: كقابلية المال للزيادة فيما لو وضع في مشاريع تجارية، وقد استنبط الفقهاء هذا الشرط من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: "لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِ في فَرَسِهِ وَغُلامِهِ صَدَقَةٌ" (¬1). ويدخل في ذلك الأموال التي ادخرت للحاجات الأصلية، كالطعام المدخر، وأدوات الحرفة، وما يستعمله الصانع في صنعته التي تدر عليه ما يكفيه وما ينفق منه، ودواب الركوب، ودور السكن، وأثاث السكن، وغير ذلك من الحاجات الأصلية، وخرجت أيضًا الأنعام التي لم تُعَدُّ للدرِّ والنَّسل، بل كانت معدة للحرث أو الركوب أو اللحم، وغيره من الحاجات الأصلية. أما الذهب والفضة فلا يشترط فيهما شرط النماء بالفعل لأنهما نماء خلقة، فتجب الزكاة فيهما نوى التجارة أو لم ينو أصلًا. الشرط الثالث: حولان الحول على المال: وذلك بأن يمر على المال في حوزة مالكه اثنا عشر شهرًا قمريًا، وهذا الشرط خاص بالأنعام والنقود، والسلع التجارية، أما الزروع، والثمار، والعسل، والمستخرج من المعادن والكنوز ونحوها فلا يشترط لها الحول بل تجب الزكاة فيها ولو لم يحل الحول لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬2)، ولأنها نماء في نفسها فلم يشترط فيها الحول إذ أنها تعود بعد ذلك إلى النقص. زكاة المال المستفاد أثناء الحول: إن لم يكن عند المكلف مالٌ فاستفاد مالًا زكويًا لم يبلغ نصابًا فلا زكاة فيه، ولا ينعقد حوله فإن تم عنده نصاب انعقد الحول من يوم تم النصاب، وتجب ¬

_ (¬1) رواه البخاري: كتاب الزكاة، باب ليس على المسلم في فرسه صدقه (1370). (¬2) سورة الأنعام: 141.

عليه زكاته إن بقي إلى تمام الحول، وإن كان عنده نصاب وقبل أن يحول عليه الحول استفاد مالًا من جنس ذلك النصاب أو مما يضم إليه فله ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن تكون الزيادة من نماء المال الأول كربح التجارة ونتاج السائمة، فهذا يزكى مع الأصل عند تمام الحول لا نعلم في ذلك خلافًا لأنه تبع للنصاب من جنسه فأشبه النماء المتصل. القسم الثاني: أن يكون المستفاد من غير جنس المال الذي عنده، كأن يكون ماله إبلًا سائمة، وإذا كانت الإبل للتجارة وليست للاقتناء بل هي للبيع والشراء تجارة كما هو في الوقت الحاضر، هل تكون كعروض التجارة؟ فيستفيد ذهبًا أو فضة فهذا النوع لا يزكى عند حول الأصل، بل ينعقد حوله يوم استفادته إن كان نصابًا اتفاقًا. القسم الثالث: أن يستفيد مالًا من جنس نصاب عنده قد انعقد حوله وليس المستفاد منه نماء المال الأول كأن يكون عنده عشرون مثقالًا ذهبًا ملكها في أول المحرم، ثم يستفيد ألف مثقال في أول ذي الحجة. فقد اختلف العلماء في ذلك: 1 - فالشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2) إلى أنه يضم إلى الأول في النصاب دون الحول، فيزكي الأول عند حوله أي في أول المحرم في المثال المتقدم، ويزكي الثاني لحوله أي في أول ذي الحجة ولو كان أقل من النصاب لأنه بلغ بضمه إلى الأول نصابًا. 2 - وذهب الحنفية (¬3) إلى أنه يضم كل ما يأتي في الحول إلى النصاب الذي ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (3/ 85). (¬2) المغني (4/ 251، 252). (¬3) فتح القدير (1/ 510).

الشرط الرابع: بلوغ النصاب

عنده فيزكيها جميعًا عند تمام حول الأول، عللوا لذلك لأنه يضم إلى جنسه في النصاب فوجب ضمه إليه في الحول كالنصاب، وذهب المالكية (¬1) إلى التفريق في ذلك بين السائمة والنقود، فقالوا: في السائمة يقول أبي حنيفة، قالوا لأن زكاة السائمة موكولة إلى الساعي، أما الأثمان فلا تضم لأنها موكولة إلى أربابها. الشرط الرابع: بلوغ النصاب: النصاب هو مقدار المال الذي لا تجب الزكاة في أقل منه، وهو يختلف باختلاف أجناس الأموال الزكوية. دليل ذلك الشرط ما رواه البخاري ومسلمٌ عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الوَرِقِ صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنْ الإِبِلِ صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ صَدَقَةٌ" (¬2). هل يعتبر وجود النصاب في جميع الحول؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة: 1 - فالشافعية (¬3)، ورواية في مذهب أحمد (¬4) وهي المعتمدة في المذهب أن من شرط وجوب الزكاة وجود النصاب في جميع الحول من أوله إلى آخره، فلو نقص في بعضه ولو كان يسيرًا انقطع الحول ولم تجب الزكاة في آخره. مثاله: من كان عنده أربعون شاة فماتت في الحول واحدة ثم ولدت واحدة ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 432). (¬2) رواه البخاري: كتاب الزكاة، باب ما أدى زكاته فليس بكنز (1317)، ومسلمٌ: كتاب الزكاة (1629). (¬3) شرح المنهاج (2/ 14). (¬4) المغني (4/ 78).

انقطع الحول، فإن كان الموت والنتاج في لحظة واحدة لم ينقطع، وفي رواية في مذهب أحمد (¬1) النقص اليسير كساعة أو ساعتين معفو عنه. 2 - وذهب الحنفية (¬2) إلى أن المعتبر طرفا الحول، فإن تم النصاب في أوله وآخره وجبت الزكاة، ولو نقص المال عن النصاب في أثنائه ما لم يتقدم المال كليته. ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) حاشية ابن عابدين (2/ 33).

ما تجب فيه الزكاة

ما تجب فيه الزكاة تجب الزكاة في أنواع خمسة من المال وهي: أولًا: النقود. ثانيًا: الثروة الحيوانية. ثالثًا: عروض التجارة. رابعًا: الزروع والثمار. خامسًا: الثروة المعدنية والبحرية. سادسًا: المستغلات والدخل. سابعًا: الأسهم والسندات.

أولا: زكاة النقود: (الذهب والفضة والورق النقدي)

ما تجب فيه الزكاة أولًا: زكاة النقود: (الذهب والفضة والورق النقدي) اتفق الفقهاء على وجوب الزكاة في النقود سواء كانت سبائك أم مضروبة، أم آنية، واختلفوا فيها إن كانت الأثمان حُليًّا، وسيأتي تفصيل ذلك -إن شاء الله تعالى- مع بيان القول الراجح. دليل وجوب الزكاة في النقدين: جاء ذلك في الكتاب والسنة والإجماع: أما دليل الكتاب: فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (¬1). أما دليل السنة: فما رواه مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلا فِضَّةٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلا إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ فَأُحْميَ عَلَيْهَا في نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ كلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلفَ سَنهٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ العِبَادِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ" (¬2). أما الإجماع: فقد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على وجوبها، وأنها الركن الثالث من أركان الإِسلام. ¬

_ (¬1) سورة التوبة: الآيتان 34، 35. (¬2) رواه مسلم كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة (1647).

نصابها والمقدار الواجب فيها

نصابها والمقدار الواجب فيها: أمر الله تعالى بوجوب الزكاة في الذهب والفضة، وجاءت نصوص السنة توضح نصابها والمقدار الواجب فيها، فمن ذلك: ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ وَلا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ وَلا فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ" (¬1). وفيه أيضًا عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خمسِ أَوَاقٍ مِنْ الوَرِقِ صَدَقَةٌ ... " (¬2). وجاء أيضًا في كتاب أبي بكر -رضي الله عنه- لأنس حينما وجهه إلى البحرين: " ... وَفي الرِّقَّةِ رُبْعُ العُشْرِ فَإِنْ لَمْ تكنْ إِلا تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا" (¬3). أما الإجماع: فقد نقل الإجماع غير واحد في بيان نصاب الذهب والفضة. قال النووي (¬4) -رحمه الله-: "فنصاب الفضة خمسة أواق، وهي مائتا درهم بنص الحديث والإجماع، وأما الذهب فعشرون مثقالًا، والمعول فيه على الإجماع". وقال ابن قدامه (¬5) -رحمه الله-: " ... وجملة ذلك أن نصاب الفضة مائتا درهم لا خلاف في ذلك بين علماء المسلمين". ¬

_ (¬1) رواه مسلم كتاب الزكاة (1625). (¬2) رواه مسلم كتاب الزكاة (1629). (¬3) رواه البخاري: كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم (1362). (¬4) شرح النووي على مسلم (7/ 48). (¬5) المغني (4/ 209).

زنة الدرهم بالمثقال؟

زنة الدرهم بالمثقال؟ قال ابن خلدون -رحمه الله- في مقدمته: "فاعلم أن الإجماع منعقد منذ صدر الإِسلام وعهد الصحابة والتابعين أن الدرهم الشرقي هو الذي تزن العشرة منه سبعة مثاقيل من الذهب، والأوقية منه أربعين درهمًا وهما على هذا سبعة أعشار الدينار، ووزن المثقال من الذهب ثنتان وسبعون حبَّة من الشعير، فالدرهم الذي هو سبعة أعشاره خمسون حبَّة وخمسا حبَّة، وهذه المقادير ثابتة بالإجماع (¬1). قال النووي (¬2) -رحمه الله-: " ... وقال أصحابنا: أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن المعروف، وهو أن الدرهم ستة دوانيق، وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، ولم يتغير المثقال في الجاهلية ولا الإِسلام". تحويل الدرهم والدينار إلى الجرامات: يتبين لنا فيما ذكرناه أن الدينار: اثنتان وسبعون حبَّة شعير، وأن الدرهم: سبعة أعشار المثقال، وعليه فالدرهم إحدى وخمسون حبَّة شعير احتياطًا (¬3). وهنا يسهل علينا تحويل الدينار والدرهم إلى الجرامات وذلك عن طريق وزن حبات الشعير المحددة، ومن خلال إجراء الوزن تبين لنا ما يلي: 1 - وزن الدينار يتراوح بين ثلاثة جرامات ونصف الجرام، وبين ثلاثة جرامات وثلاثة أرباع الجرام. 2 - وزن الدرهم يتراوح بين جرامين وثلث جرام، وبين جرامين وثلاثة من عشرة من الجرام. ¬

_ (¬1) مقدمة ابن خلدون (1/ 219). (¬2) شرح النووي على مسلم (7/ 52). (¬3) قلنا احتياطًا: لأن الدرهم يزن خمسين حبَّة وخمس حبَّة فجبرنا الكسر احتياطًا.

فائدة

وبهذا يصبح نصاب الذهب بالجرامات سبعين جرامًا "حاصل ضرب عشرين جرامًا في ثلاثة جرامات ونصف الجرام" (20 × 3. 5) = 70 جرامًا. أما نصاب الفضة فأربعمائة وستون جرامًا "حاصل ضرب مائتي درهم في جرامين وثلاثة من عشرة من الجرامات" (200 × 2. 3) = 460 جرامًا. وما ذكر هنا من نصاب الذهب والفضة جاء بعد قيام الشيخ عبد الله الطيار بإجراء وزن حبات الشعير المحددة مجموعة ومفردة، وبالصفة التي حددها أهل العلم من كونها متوسطة مقطوعة الطرفين ما دق وطال عليها قشرتها (¬1). فائدة: يرى الدكتور عبد الله المطلق أن نصاب الذهب عشرون مثقالًا، ويقدر بالجنيه السعودي بإحدى عشر جنيهًا وثلاثة أسباع الجنيه، ووزنه بالجرام واحد وتسعون جرامًا وثلاثة أسباع الجرام (¬2)، وقيل خمسة وثمانون جرامًا (¬3)، ونصاب الفضة مئتا درهم، ويساوي بمائة وأربعين مثقالًا، ومقداره بالريال السعودي ستة وخمسة ريالًا فضيًا، ووزنه بالجرام خمسمائة وخمسة وتسعون جرامًا (¬4). القدر الواجب إخراجه من الذهب والفضة: أجمع الفقهاء على أن القدر الواجب إخراجه من زكاة الذهب والفضة هو نسبة ربع العشر (2. 5)، لكن اختلفوا في الوقص. فذهب جمهور أهل العلم (¬5) إلى أنه لا وقص في الذهب والفضة، فلو كان ¬

_ (¬1) انظر: الزكاة وتطبيقاتها المعاصرة، أ. د. عبد الله الطيار. (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة، فتوى رقم (5343) ورقم (5522). (¬3) موسوعة فتاوى دار الإفتاء المصرية رقم (1147، 1150)، ورقم (3307، 3310). (¬4) انظر: المرجعين السابقين. (¬5) فتح القدير (1/ 520، 521)، حاشية ابن عابدين (2/ 31).

النصاب في المغشوش من الذهب والفضة

عنده (210) دراهم في المائتين خمسة دراهم، وفي الزائد بحسابه، وهو في المثال ربع درهم. واحتج الجمهور لذلك بما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فَإِذَا كَانَتْ مِائَتَيْ دِرْهَم فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فما زَادَ فَعَلَى حِسَابِ ذَلِكَ" (¬1). وذهب أبو حنيفة (¬2) إلى أن الزائد على النصاب عفو لا شيء فيه حتى يبلغ خمس نصاب، فإذا بلغ الزائد من الفضة أربعين درهمًا فيكون بها درهم ثم لا شيء في الزائد حتى تبلغ أربعين درهمًا، وهكذا. وكذا في الذهب لا شيء في الزائد على العشرين مثقالًا حتى يبلغ أربعة مثاقيل. النصاب في المغشوش من الذهب والفضة: اختلف الفقهاء في هذه المسألة: 1 - فالشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4) على أنه لا زكاة في المغشوش حتى يبلغ خالصه نصابًا، واحتجوا لذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الوَرِقِ صَدَقَةٌ ... " (¬5)، فإذا بلغه أخرج الواجب خالصًا، أو أخرج المغشوش مما يعلم اشتماله على خالص بقدر الواجب مع مراعاة درجة الجودة. 2 - وقال الحنفية (¬6): إذا كان الغالب على الورق المضروب الفضة فهو في ¬

_ (¬1) رواه أبو داود، وصححه الألباني في سنن أبي داود (2/ 99) رقم (1572). (¬2) فتح القدير (1/ 55 - 521)، حاشية ابن عابدين (2/ 31). (¬3) شرح المنهاج (2/ 22)، المجموع (6/ 8). (¬4) المقنع ومعه الشرح الكبير والإنصاف (7/ 9، 10). (¬5) سبق تخريجه، (ص: 28). (¬6) فتح القدير (1/ 523).

ضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب

حكم الفضة، فتجب فيه الزكاة كأنه كله فضة، أما إن كان الغش هو الغالب فلا يكون لها حكم الفضة، بل حكم العروض فلا زكاة فيها إلا إن نواها للتجارة وبلغت نصابًا بالقيمة، فإن لم ينوها للتجارة فإن كانت بحيث يخلص منها فضة تبلغ نصابًا وجبت زكاتها وإلا فلا. 3 - وقال المالكية (¬1): إن كانت الدراهم والدنانير المغشوشة رائجة رواج غير المغشوشة فإنها تعامل مثل الكاملة تمامًا، فتكون فيها زكاة إن بلغ وزنها بما فيها من الغش نصابًا، أما إن كانت غير رائجة فالعبرة بما فيها من الذهب أو الفضة الخالصين على تقدير التصفية، فإن بلغ نصابًا زكى وإلا فلا. والذي نرجحه في هذه المسألة: أنه لا زكاة في المغشوش من الذهب والفضة حتى يبلغ الخالص نصابًا، وعليه الجمهور، وجزم به كثير منهم كما نقل ذلك صاحب الإنصاف (¬2). ضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب: 1 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، وهو رواية في مذهب الحنابلة (¬5) إلى أن الذهب والفضة يضم أحدهما إلى الآخر في تكميل النصاب، واستدلوا لذلك بأن نفعها متحد من حيث إنهما ثمنان. 2 - وذهب الشافعية (¬6)، وهو رواية في مذهب الحنابلة (¬7) إلى أنها لا تجب في ¬

_ (¬1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي (1/ 456). (¬2) المقنع ومعه الشرح الكبير والإنصاف (7/ 9، 10). (¬3) حاشية ابن عابدين (2/ 34). (¬4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 455). (¬5) المقنع ومعه الشرح الكبير والإنصاف (7/ 16، 17). (¬6) المجموع (6/ 18). (¬7) المقنع ومعه الشرح الكبير والإنصاف (7/ 16، 17).

إخراج أحد النقدين عن الآخر في الزكاة

أحد الجنسين الزكاة حتى يكمل وحده نصابًا لعموم حديث: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الوَرِقِ صَدَقَةٌ ... " (¬1). قال المجد -رحمه الله-: "يروى عن الإِمام أحمد أنه رجع إليها أخيرًا"، وهذا ما اختاره الشيخ محمَّد الصالح العثيمين (¬2) -رحمه الله-، لكن يستثنى من ذلك ما إذا كان الذهب والفضة عروض تجارة كأموال الصيارف، فإنه يضم أحدهما للآخر في تكميل النصاب لأن المقصود القيمة. والراجح: أنه يضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب. إخراج أحد النقدين عن الآخر في الزكاة: اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين: الأول: لا يجوز إخراج أحد النقدين عن الآخر وذلك لأن أنواع الجنس لا يجوز إخراج أحدهما عن الآخر إذا كان أقل من المقدار، فمع اختلاف الجنس أولى. الثاني: يجوز؛ قال ابن قدامه (¬3) -رحمه الله- في المغني وهو أصح -إن شاء الله- لأن المقصود أحدهما وهو يحصل بإخراج الآخر فيجزيء كأنواع الجنس، وذلك لأن المقصود منهما جميعًا التنمية والتوصل بها إلى المقاصد، وهما يشتركان فيه على السواء. زكاة الحلي: اختلف الصحابة ومن بعدهم في هذه المسألة: ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص: 28). (¬2) الشرح الممتع (6/ 102). (¬3) المغني (4/ 218).

1 - فذهب عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وأنس وأسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهم - إلى أن الحلي ليس فيه زكاة، نقل ذلك عنهم الترمذيُّ في صحيحه، وابن قدامة (¬1) في المغني، وهو قول مالك (¬2)، والشافعيُّ (¬3)، وأحمدُ (¬4)، وكثير من علماء السلف والخلف. 2 - وذهب عمر وابن مسعود وابن عباس وعبد الله بن عمرو -رضي الله عنهم -، وإليه ذهب أبو حنيفة (¬5)، وكثير من علماء السلف والخلف إلى وجوب إخراج الزكاة في الحلي، وهذا هو اختيار مشايخنا عبد العزيز بن باز (¬6)، ومحمَّد بن صالح العثيمين (¬7). وسبب الاختلاف في ذلك ناشئ عن الآتي: أولًا: أن حلي الذهب والفضة للنساء لم يرد في شأنها شيء في كتب صدقات النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا جاء نص صريح صحيح بإيجاب الزكاة فيه أو نفيها عنه، وإنما وردت أحاديث اختلف الفقهاء في ثبوتها كما اختلفوا في دلالتها. ثانيًا: أن قومًا نظروا إلى المادة التي صنع من أجلها الحلي فقالوا: إنها نفس المعدن الذي خلقه الله ليكون نقدًا، يجري به التعامل بين الناس والذي وجبت فيه الزكاة بالإجماع، ومن ثمَّ أوجبوا فيه الزكاة كسبائك الذهب والفضة ونقديهما. ¬

_ (¬1) المغني (4/ 220). (¬2) الشرح الصغير (2/ 147). (¬3) الأم للشافعي (2/ 41)، المجموع (6/ 22). (¬4) المغني (4/ 220). (¬5) الهداية للمرغيناني (1/ 104). (¬6) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (14/ 99). (¬7) الشرح الممتع (6/ 135).

زكاة النقود الورقية

ونظر آخرون إلى أن هذا الحلي بالصناعة والصياغة خرج عن مشابهة النقود، وأصبح من الأشياء التي تقتنى لإشباع الحاجات الشخصية كالأثاث، والمتاع، والثياب، وهذه لا تجب فيها الزكاة بالإجماع؛ لأن الزكاة إنما تجب في المال النامي، أو القابل للنماء والاستغلال. وبعد النظر في أدلة الفريقين يترجح عندنا أن أداء الزكاة في حلي المرأة غير واجب، لكن زكاته الأولى والأحوط والأبرأ للذمة خروجًا من الخلاف، وسبب الترجيح لهذا القول ما يلي: 1 - أن الأصل براءة الذمة من التكاليف الشرعية ما لم يرد دليل صريح صحيح، وزكاة الحلي لم يرد فيها ذلك وإنما اعتمد من قال بالوجوب على أدلة عامة. 2 - أن وجوب الزكاة يدور على النماء، وهو معدوم في حلي المرأة. 3 - أن القول بعدم وجوب الزكاة في حلي المرأة هو قول عامة أهل العلم، وهو مذهب مالك، والشافعيُّ، وأحمدُ. 4 - من المعلوم أنه متى أمكن الجمع بين الأدلة المتعارضة وجب المصير إليه، والجمع هنا ممكن، ولا يكون ذلك إلا بالخروج من الخلاف، وهو العمل بالأحوط والأسلم للعاقبة. زكاة النقود الورقية: لم تعرف النقود الورقية إلا في العصر الحاضر، ومن هنا اختلف الفقهاء فيها هل تجب الزكاة فيها مطلقًا؟ أم هي عروض إن نوى بها التجارة ففيها الزكاة، وإلا فلا؟ القول الأول: ذهب بعض العلماء إلى أن الفلوس (النقود الورقية والمعدنية) عروض، وعليه فلا تجب الزكاة فيها ما لم تعد للتجارة.

ثانيا: زكاة الثروة الحيوانية

وعلى هذا فلو كان الإنسان عنده مليون من هذه النقود الورقية فليس عليه زكاة، ولو أبدل عشرة بعشرين من هذه الفلوس فهو جائز سواء قبضها في مجلس العقد، أو تأخر قبضها كما لو أبدل ثوبًا بثوبين فذلك جائز ولو تأخر القبض، وهذا قول ضعيف لا يعمل به. القول الثاني: أن الفلوس بمنزلة النقد في وجوب الزكاة نظرًا لأنها عامة أموال الناس، ورؤوس أموال التجارات والشركات، وغالب المدخرات، فلو قيل بعدم الزكاة فيها لأدى ذلك إلى ضياع الفقراء والمساكين، وقد قال الله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (¬1)، وهذا القول هو الراجح، وهو المناسب لروح الشريعة، يدل لذلك أدلة منها: قول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬2)، والأموال المعتمدة الآن هي هذه الأموال. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه- حينما أرسله إلى اليمن: " .. فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ الله افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً في أَمْوَالهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنيائِهِمْ وَتردُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ" (¬3)، فهي مال، فالزكاة فيها واجبة ولا إشكال في ذلك. ثانيًا: زكاة الثروة الحيوانية: المقصود بالثروة الحيوانية ما ينتفع به الإنسان من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، وهي التي امتن الله بها على عباده في قوله: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ ¬

_ (¬1) سورة الذاريات: 19. (¬2) سورة التوبة: 103. (¬3) رواه البخاري: كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة (1308)، رواه مسلم: كتاب الإيمان, باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإِسلام (27).

الشروط العامة لزكاة الأنعام

فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬1). الشروط العامة لزكاة الأنعام: أولًا: السوم: ومعنى السوم أن يكون غذاؤها على الرعي من نبات البر، بمعنى أن ترعى من العشب والشجر في الحول كله أو أكثره (¬2)، فلو كانت معلوفة لم تجب فيها الزكاة عند الحنفية (¬3)، والشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5)؛ لأن في المعلوفة تتراكم المؤونة فينعدم النماء من حيث المعنى. واستدلوا لذلك بحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعا: "في كُلِّ سَائِمَةِ إِبِلٍ فِي أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ" (¬6)، وحديث: "في كل خمس من الإبل السائمة شاة" (¬7) فدل بمفهومه على أن المعلوفة لا زكاة فيها. وذهب المالكية (¬8) إلى أن الزكاة تجب في الأنعام مطلقًا، أي سائمة كانت أو غير سائمة حتى لو كانت معلوفة كل الحول. وأجابوا عن الحديثين المتقدمين بأن التقييد في الحديث بالسائمة لأن السوم هو الغالب على مواشي العرب، فهو قيد ¬

_ (¬1) سورة النحل: 5 - 7. (¬2) قرار هيئة كبار العلماء رقم (109) بتاريخ: 2/ 11 / 1403 هـ , فتوى اللجنة رقم (15139) بتاريخ: 10/ 2 / 1413 هـ وفتوى رقم (6476) بتاريخ: 7/ 12 / 1403 هـ. (¬3) الهداية وفتح القدير (1/ 509). (¬4) شرح المنهاج وقليوبي عليه (2/ 14). (¬5) المغني (4/ 13) تحقيق الدكتور عبد المحسن التركي. (¬6) رواه أبو داود، وحسنه الألباني في سنن أبي داود (2/ 101) رقم (1575). (¬7) رواه الحاكم كتاب الزكاة، باب كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات (1397). (¬8) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 432).

هل المعتبر في السوم أكثر الحول أم تمامه؟

اتفاقي لبيان الواقع لا مفهوم له، نظيره قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} (¬1)، فإنها تحرم ولو لم تكن في الحجر. والأولى هنا ما ذهب إليه الأولون لقوة أدلتهم. هل المعتبر في السوم أكثر الحول أم تمامه؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألةْ 1 - فالحنفية (¬2)، والحنابلة (¬3) يرون أن السائمة هي التي تكتفي بالرعي في أكثر الحول، فلو علفها صاحبها نصف الحول أو أكثر كانت معلوفة ولم تجب زكاتها لأن القليل تابع للكثير. 2 - وذهب الشافعية (¬4) على الأصح إلى أن التي تجب فيها الزكاة هي التي ترعى كل الحول، وكذا إن علفت قدرًا قليلًا يعيش بدونه بلا ضرر بيِّن تجب فيها الزكاة، فإن علفت أكثر من ذلك فلا زكاة فيها. والراجح: ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة، فإذا كانت بهيمة الأنعام سائمة الحول أو أكثره وجبت فيها الزكاة. فمثلًا: إذا كان عند إنسان إبل ترعى خمسة أشهر، ويعلفها سبعة أشهر فلا زكاة فيها، وإذا كانت ترعى ستة أشهر ويعلفها ستة أشهر فلا زكاة فيها، وإذا كانت ترعى كل الحول ففيها الزكاة، وإذا كانت ترعى سبعة أشهر ويعلفها خمسة أشهر ففيها الزكاة. ¬

_ (¬1) سورة النساء: الآية 23. (¬2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 432)، الهداية وفتح القدير (1/ 509). (¬3) المغني (4/ 13). (¬4) روضة الطالبين (2/ 190).

ثانيا: أن تبلغ النصاب الشرعي

ثانيًا: أن تبلغ النصاب الشرعي: لأنها لا تجب إلا على الأغنياء، وأما من يملكون أعدادًا يسيرة منها لحاجتهم فلا زكاة فيها، والنصاب في الإبل خمس، وفي الغنم أربعون، وفي البقر ثلاثون، وما دون ذلك فلا زكاة فيه. ثالثًا: حولان الحول: قال ابن قدامة (¬1) -رحمه الله-: "إن اشتراط حولان الحول في الماشية لأنها مرصدة للدر والنسل، وعروض التجارة مرصدة للربح، وكذا الأثمان، فاعتبر لها الحول لكونه مظنة النماء ليكون إخراج المال من الربح، فإنه أسهل وأيسر ... ". وحلول الحول ثابت بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين، إذ كانوا يبعثون السعاة مرة في كل عام ليأخذوا صدقات الماشية. رابعًا: أن لا تكون عاملة: ومعنى هذا الشرط أن لا يستخدمها صاحبها في حرث الأرض، وسقي الزرع، وحمل الأثقال، وما شابه ذلك من الأشغال، وهذا الشرط خاص بالإبل والبقر. دليل وجوب الزكاة في الأنعام: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَمَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إِلا بُطِحَ لهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ كَأَوْفَرِ مَا كَانَتْ تَسْتَنُّ عَلَيْهِ كلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولاهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلفَ سَنةٍ ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ" (¬2). ¬

_ (¬1) المغني (4/ 74). (¬2) رواه مسلم كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة (1648).

كيفية زكاة بهيمة الأنعام؟

كيفية زكاة بهيمة الأنعام؟ أولًا: زكاة الإبل: اتفقت الآثار الصحاح الواردة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته رضوان الله عليهم على أن نصاب الإبل ومقاديرها من خمس إلى مائة وعشرين، فمتى ملك المسلم خمس ذود من الإبل وحال عليها الحول وهي في ملكه وجب عليه فيها شاة من الضأن، وإذا ملك عشرًا ففيها شاتان، وإذا ملك خمس عشرة وجب عليه فيها ثلاث شياه، وإذا ملك عشرين وجب عليه فيها أربع شياه، وإذا ملك خمسًا وعشرين وجب فيها بنت مخاض، فإن لم يجدها أجزأه ابن لبون حتى تبلغ ستًا وثلاثين فيجب فيها بنت لبون حتى تبلغ ستًا وأربعين ففيها حقة حتى تبلغ ستين، فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة حتى تبلغ تسعين ففيها بنتا لبون حتى تبلغ مائة وعشرين ففيها حقتان، فإذا زادت عن ذلك ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة. وهذا الجدول يبين ويوضح نصاب الإبل حسب ما ذكرناه: النصاب من الإبل ... القدر الواجب فيه من ... إلى ... 5 ... 9 ... شاة من الغنم. 10 ... 14 ... شاتان. 15 ... 19 ... ثلاث شياه. 20 ... 24 ... أربع شياة. 25 ... 35 ... نبت مخاض: وهي أنثى الإبل التي أتمت سنة, وقد دخلت في الثانية, وسميت بذلك لأن أمها لحقت

ودليل ما ذكرناه في نصاب الإبل

بالمخاض وهي الحوامل. 36 ... 45 ... بنت لبون: وهي أنثى الإبل التي تم لها سنتان ودخلت في الثالثة، وسميت بذلك لأن أمها وضعت غيرها وصارت ذات لبن. 46 ... 60 ... حقة: وهي أنثى الإبل التي أتمت ثلاث سنين، ودخلت في الرابعة، وسميت حقة لأنها استحقت أن يطرقها الفحل. 61 ... 75 ... جذعة: وهي أنثى الإبل التي أتمت أربع سنين ودخلت في الخامسة، وسميت بذلك لأنها جذعت مقدم أسنانها، أي أسقطته. 76 ... 90 ... بنتا لبون. 91 ... 120 ... حقتان. ودليل ما ذكرناه في نصاب الإبل: جاءت نصوص السنة ببيان المقادير التي يجب إخراجها في زكاة الإبل، ومن ذلك: ما رواه البخاري في صحيحه عن أنس -رضي الله عنه- أَنَّ أَبَا بَكْرٍ -رضي الله عنه- كَتَبَ لَهُ هَذَا الكِتَابَ لمَّا وَجَّهَهُ إِلَى البَحْرَيْنِ: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى المُسْلِمِينَ وَالَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا رَسُولَهُ فَمَنْ سُئِلَهَا مِنْ المُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَليُعْطِهَا وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلا يُعْطِ في أَرْبَعٍ وَعِشرِينَ مِنْ الإِبِلِ فَمَا دُونَهَا مِنْ الغَنَم مِنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ إِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنثَى فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلاثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا

بِنْتُ لَبُونٍ أنثَى فَإذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الجمَلِ فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إِلَى خمسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ فَإِذَا بَلَغَتْ يَعْنِي سِتًّا وَسبْعِينَ إِلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنتَا لَبُونٍ فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتسْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الجَمَلِ فَإذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلا أَرْبَعٌ مِنْ الإِبِلِ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنْ الإِبِلِ فَفِيهَا شَاةٌ وَفي صَدَقَةِ الغَنَمِ في سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمائَة شَاةٌ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمائَةٍ إِلَى مِائَتَيْنِ شَاتَانِ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتين إِلَى ثَلاثِ مِائَةٍ فَفِيهَا ثَلاثُ شِيَاهٍ فَإذَا زَادَتْ عَلَى ثَلاثِ مِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا وَفي الرِّقَّةِ رُبْعُ العُشْرِ فَإِنْ لَمْ تكنْ إِلا تِسْعِينَ وَمائَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا" (¬1). وفي موضع آخر في صحيح البخاري من حديث أنس -رضي الله عنه- أن أبا بكر -رضي الله عنه- كتب له فريضة الصدقة التي أمر الله بها رسوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنْ الإِبِلِ صَدَقَةُ الجذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الحِقَّةُ وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إِنْ اسْتيسَرَتَا لَهُ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ الحِقَّةُ وَعِنْدَهُ الجَذَعَةُ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الجَذَعَةُ وُيعْطِيهِ المُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إِلا بِنْتُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بنْتُ لَبُونٍ وُيعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الحِقَّةُ وُيعْطِيهِ المُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ مخاضٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ ¬

_ (¬1) رواه البخاري: كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم (1362).

مَخَاضٍ وَيُعْطِي مَعَهَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ" (¬1). المقدار الواجب إخراجه من زكاة الإبل فيما بين (121 - 129) من الإبل: اختلف الفقهاء فيما بين (121 - 129) من الإبل: 1 - فقال مالك (¬2) يتخير الساعي بين حقتين وثلاث بنات لبون. 2 - وذهب أبو عبيد وهي الرواية الأخرى للإمام أحمد (¬3) إلى أن فيها الحقتين؛ لأن الفرض لا يتغير إلا بمائة وثلاثين. المقدار الواجب إخراجه فيما زاد عن المائة والعشرين من الإبل: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن ما زاد عن المائة والعشرين أن في كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون، فيكون الجدول كالآتي: النصاب من الإبل ... القدر الواجب فيه من ... إلى ... 121 ... 129 ... ثلاث بنات لبون. 130 ... 139 ... حقة + بنتا لبون 140 ... 149 ... حقتان + بنت لبون 150 ... 159 ... ثلاث حقات. 160 ... 169 ... أربع بنات لبون. 170 ... 179 ... ثلاث بنات لبون + حقة. ¬

_ (¬1) رواه البخاري: كتاب الزكاة، باب من بلغت عنده صدقة بنت مخاض وليست عنده (1361). (¬2) الشرح الكبير على حاشية الدسوقي (1/ 434). (¬3) المغني لابن قدامة (4/ 20 - 25).

النوع المخرج من الإبل في زكاتها

180 ... 189 ... حقتان + بنتا لبون. 190 ... 199 ... ثلاث حقاق + بنت لبون. 200 ... 209 ... أربع حقاق أو خمس بنات لبون. هذا هو قول جمهور الفقهاء، فيما زاد عن المائة والعشرين. وخالف الجمهور في ذلك الحنفية (¬1)، فقالوا: إن زادت عن المائة والعشرين تستأنف الفريضة حتى تعود الزكاة إلى الغنم. فيجب في كل خمس مما زاد عليها شاة بالإضافة إلى الحقتين، وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بنت مخاض، والراجح من القولين هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء لأنه أقوى حجة، وأوفر أدلة من مذهب الحنفية. النوع المخرج من الإبل في زكاتها: الذي يؤخذ في زكاة الإبل الإناث دون الذكور إلا ابن لبون إن عدم بنت مخاض كما في الحديث المتقدم بخلاف البقر كما سيأتي فإنه يؤخذ منها المذكور. النوع المخرج من الغنم في زكاة الإبل: الشاة التي تؤخذ في زكاة الإبل إن كانت أنثى "جذعة من الضأن، أو ثنية من الماعز فما فوق ذلك" أجزأت بلا نزاع، أما الذكر فيحتمل أن يجزي لصدق اسم الشاة عليه، وهو المعتمد عند المالكية (¬2)، والأصح عند الشافعية (¬3)، ويحتمل أنه لا يجزئ وهو الراجح. ¬

_ (¬1) العناية بهامش الهداية وفتح القدير (1/ 497)، الهداية (1/ 494 - 497). (¬2) الزرقاني (2/ 119). (¬3) المجموع شرح المهذب (5/ 397).

إخراج المزكي أعلى من السن الواجب عليه

إخراج المزكي أعلى من السن الواجب عليه: إذا تطوع المزكي فأخرج عما وجب عليه سنًا أعلى من السن الواجب جاز، مثل أن يخرج بدل بنت مخاض بنت لبون أو حقة، أو جذعة أو عن بنت لبون حقة أو جدعة، قال ابن قدامة لا نعلم في ذلك خلافًا لما في حديث أبي بن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمن قدم ناقة عظيمة سمينة عن بنت مخاض: "ذَاكَ الَّذِي عَلَيْكَ فَإنْ تَطَوَّعْتَ بِخَيْرٍ آجَرَكَ اللهُ فِيهِ وَقَبِلنَاهُ مِنْكَ ... " (¬1). إخراج الإبل عن الزكاة الواجبة عن زكاتها من الغنم: إن أخرج بدل الشاة ناقة أجزأه، وكذا عما وجب من الشياه فيما دون خمس وعشرين لأنه يجزئ عن خمس وعشرين فإجزائه عما دونها أولى، وأيضًا لأن الشريعة لا تفرق بين متماثلين، والشارع أسقط الإبل فيما دون خمس وعشرين رفقًا بالمالك وهذا مذهب الشافعي (¬2)، والأصح عند المالكية (¬3). وذهب الحنابلة (¬4) إلى أنه لا يجزئ لأنه أخرج عن المنصوص عليه غيره من غير جنسه، فلم يجزئه، كما لو أخرج عن الأربعين من الغنم بعيرًا. والراجح: ما ذهب إليه الأولون، أي أنه إذا أخرج بدل الشاة ناقة أجزأه ذلك، وهذا هو اختيار الشيخ محمَّد الصالح العثيمين (¬5) -رحمه الله-. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود، والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي. (¬2) روضة الطالبين (2/ 104). (¬3) رواه أبو داود، وحسنه الألباني في سنن أبي داود (2/ 104). (¬4) المقنع ومعه الشرح الكبير والإنصاف (6/ 398، 399). (¬5) الشرح الممتع (6/ 54).

المقدارالذي يخرجه المزكي في زكاة الإبل إذا لم يكن له السن المحدد

المقدارالذي يخرجه المزكي في زكاة الإبل إذا لم يكن له السن المحدد: فيمن وجب عليه في إبله سن فلم يكن في إبله ذلك السنن اختلف الفقهاء في هذه المسألة: 1 - فالشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2) ذهبوا إلى أن من وجب عليه في إبله ذلك السن فله أن يخرج من السن الذي فوقه مما يؤخذ في زكاة الإبل، ويأخذ من الساعي شاتين أو عشرين درهما، أو أن يخرج من السن الذي تحته مما يجزئ في الزكاة ويعطي الساعي معها شاتين أو عشرين درهمًا، واستدلوا لذلك بما رواه البخاري من حديث أنس "أَنَّ أبا بَكْرٍ -رضي الله عنه- كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنْ الإِبِلِ صَدَقَةُ الجَذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّة فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الحِقَّةُ وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إِنْ اسْتَيْسَرتَا لَهُ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ... " (¬3). وذهب الحنفية (¬4) إلى أن من وجب عليه في إبله سن ولم يكن عنده ذلك السن أو كان عنده السن فله أن يدفع قيمة ما وجب أو يدفع السن الأقل وزيادة الدراهم بقدر النقص، كما لو أدى ثلاث شياه سمان عن أربع وسط أو بعض بنت لبون عن بنت مخاض. والراجح: ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة لورود النص في ذلك. ولكن ها هنا تنبيهان: ¬

_ (¬1) المجموع شرح المهذب (5/ 370، 371). (¬2) المقنع ومع الشرح الكبير والإنصاف (6/ 414، 415). (¬3) سبق تخريجه (ص: 50). (¬4) البحر الرائق (2/ 237).

هل في الوقص زكاة؟

الأول: أن الجبران إنما يكون في الإبل خاصة دون غيرها من بهيمة الأنعام لأن السنة إنما وردت به فقط في الإبل. الثاني: أن العشرين درهمًا التي جاءت في الجبران إنما هي للتقويم لا للتعيين، فلو كانت قيمة الشاتين مائتي درهم وأراد أن يعدل عنها فلا يكفي أن يعطيه عشرين درهمًا بل يعطيه مائتي درهم. هل في الوقص زكاة؟ اتفق الفقهاء على أن ما بين الفريضتين من الفرائض "الأوقاص" معفو عنه لا زكاة فيه، فالخمس من الإبل إلى التسع فيها شاة واحدة، ولا شيء في مقابل الزائد عن الخمس. ثانيًا: زكاة البقر: البقر سمي بقرًا لأنه يشق الأرض بحوافره. أجمع أهل العلم على وجوب الزكاة في البقر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ وَلا بَقَرٍ وَلا غَنَمٍ لا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إِلا جَاءَتْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا كَانَتْ وَأسْمَنَهُ تَنْطَحُهُ بقُرُونِها وَتَطَؤُهُ بِأَظْلافِهَا كُلَّمَا نَفِدَتْ أُخْرَاهَا عَادَتْ عَلَيْهِ أُولاهَا حَتَّى يُقْضى بَيْنَ النَاسَ" (¬1). نصاب البقر والقدر الواجب فيها: إذا ملك المسلم ثلاثين بقرة إلى تسع وثلاثين وجب عليه فيها عجل تبيع، وإذا ملك أربعين إلى تسع وخمسين وجب عليه فيها مسنة، وإذا ملك ستين إلى تسع وستين وجب عليه فيها تبيعان، وإذا ملك سبعين إلى تسع وسبعين وجب عليه فيها مسنة وتبيع، ثم في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة، وهكذا مهما بلغت. ¬

_ (¬1) رواه مسلم كتاب الزكاة، باب تغليظ عقوبة من لم يؤدي الزكاة (1652).

إخراج الذكر في زكاة البقر

النصاب من البقر ... القدر الواجب فيه من ... إلى ... 1 ... 29 ... لا شيء فيها. 30 ... 39 ... تبيع، أو تبيعة، وسمي بذلك لأنه يتبع أمه وهو ما تم له سنة كاملة. 40 ... 59 ... مسنة، وهي ما تم لها سنتان، وسميت بذلك لأنها طلعت أسنانها. 60 ... 69 ... تبيعان. 70 ... 79 ... تبيع ومسنة. 80 ... 89 ... مسنتان. 90 ... 99 ... ثلاثة أتبعة. 100 ... 109 ... تبيعان ومسنة 110 ... 119 ... تبيع ومسنتان. 120 ... 129 ... أربعة أتبعة أو ثلاث مسنات. إخراج الذكر في زكاة البقر: اتفق الفقهاء على أن التَّبيع الذكر يؤخذ في زكاة البقر لورود النص عليه في حديث أنس، فهو بمنزلة التَّبيعة، أما المسن الذكر فقد اختلف فيه الفقهاء، فذهب الحنفية (¬1) إلى جواز أخذه، وذهب الجمهور إلى عدم الجواز لأن النص إنما ورد في المسنة الأنثى. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (2/ 18).

مقدار سن التبيع والمسنة

مقدار سن التبيع والمسنة: ذهب جمهور الفقهاء (¬1) إلى أن التَّبيع ما تم له سنة وطعن في الثانية، والمسنة ما تم لها سنتان وطعنت في الثالثة. أما المالكية (¬2) فعندهم التَّبيع ما تم له سنتان ودخل في الثالثة، والمسنة ما تم لها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة. زكاة الوقص في البقر: تعريف الوقص: الوقص الذي من (41 - 59) لا شيء فيه عند الجمهور، وهو رواية عن أبي حنيفة (¬3)، وقول الصاحبين، وهو المختار عند الحنفية لظاهر الحديث، وفي رواية عن أبي حنيفة إلى أن ما زاد عن الأربعين ليس عفوًا بل يجب فيه بحسابه، ففي كل بقرة ربع عشر مسنة فرارًا من جعل الوقص تسعة عشر، فإنه لجميع أوقاصها فإنها عشرة عشرة. والراجح ما ذهب إليه الجمهور وذلك لحديث معاذ المذكور في بيان النصاب والقدر الواجب فيها، وهو صريح في محل النزاع. ولأن البقر أحد أنواع بهيمة الأنعام، فلم يجب في زكاتها كسر كسائر الأنواع. ثالثًا: زكاة الغنم: الغنم: سميت بذلك لأنه ليس لها آلة الدفاع عن نفسها، فكانت غنيمة لكل طالب، وزكاة الغنم واجبة بدليل السنة، وقد انعقد الإجماع على وجوبها. ¬

_ (¬1) البحر الرائق (2/ 231)، المجموع شرح المهذب (5/ 383)، المقنع ومعه الشرح الكبير والإنصاف (6/ 425). (¬2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 435). (¬3) حاشية ابن عابدين (2/ 18).

نصابها والقدر الواجب فيها

أما دليل السنة: على وجوبها فمنها الأحاديث المتقدمة، كحديث أبي هريرة، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ فَالبَقَرُ وَالغَنَمُ قَالَ: "وَلا صَاحِبُ بقَرٍ وَلا غَنَمٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلا إِذَا كانَ يَوْمُ القِيَامَةِ بُطِحَ لهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ لا يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئًا لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ وَلا جَلحَاءُ وَلا عَضْبَاءُ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأظْلافِهَا ... " (¬1). نصابها والقدر الواجب فيها: أما نصابها والقدر الواجب فيها فكما جاء في حديث أنس المتقدم تكون زكاة الغنم كالآتي: إذا ملك المسلم أربعين رأسًا من الغنم إلى مائة وعشرين وجب عليه فيها شاة، فإذا زادت واحدة إلى مائتين ففيها شاتان، فإذا زادت واحدة إلى ثلاثمائة وتسع وتسعين ففيها ثلاث شياه، فإذا بلغت أربعمائة ففيها أربع شياه، إلى أربعمائة وتسع وتسعين فإذا بلغت خمسمائة ففيها خمس شياه، وهكذا في كل مائة شاة مهما بلغت. وهذا جدول يوضح ما ذكرناه: النصاب من الغنم ... القدر الواجب فيه من ... إلى ... 1 ... 39 ... لا شيء فيها. 40 ... 120 ... شاة. 121 ... 200 ... شاتان. 201 ... 399 ... ثلاث شياه. 400 ... 499 ... أربع شياه. ¬

_ (¬1) رواه مسلم كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة (1647).

إخراج الذكر من الغنم في الزكاة

500 ... 599 ... خمس شياه. ثم في كل مائة شاة، وهكذا مهما بلغت. إخراج الذكر من الغنم في الزكاة: اختلف الفقهاء في جواز إخراج الذكر من الغنم في زكاة الغنم: 1 - فذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، إلى أن اسم الشاة يصدق على الذكر والأنثى، ولذا يجوز إخراج الذكر في زكاة الغنم، ولأن الشاة أيضًا أمر بها مطلقًا فأجزأ فيها الذكر كالأضحية والهدي. 2 - وذهب الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4) إلى أن الغنم إن كانت فيها إناث وذكور فيتعين إخراج الإناث وذلك لأن الغنم حيوان تجب الزكاة في عينه، فكانت الأنوثية معتبرة في فرضه كالإبل، والمطلق يتقيد بالقياس على سائر النُّصُب والأضحية غير معتبرة بالمال بخلاف مسألتنا. ما يؤخذ في صدقة الغنم: أولًا: اتفق الفقهاء على أنه تجزيء في صدقة الغنم الثنية، وهي ما تم له سنة، فما زاد فإن كانت أقل من ذلك فهل تجزيء؟ اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فقال أبو حنيفة (¬5) لا تجزيء سواء كانت من الضأن أو المعز، وقال ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (2/ 18، 19). (¬2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 435). (¬3) المجموع شرح المهذب (5/ 392). (¬4) المقنع ومعه الشرح الكبير والإنصاف (6/ 427). (¬5) فتح القدير (1/ 501).

الصاحبان يجزئ الجذع من الضأن سواء كان الجذع ذكرًا أو أنثى، وهي رواية عن أبي حنيفة، وقول مالك (¬1). 2 - وذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3) إلى أن الجذعة إن كانت من الضأن فتجزيء في الزكاة بخلاف المعز، والجذع هو ما تم له ستة أشهر، وأما المعز فيجزيء فيها الثني، وهو ماله سنة، وهذا هو الراجح. ثانيًا: لا يؤخذ في صدقة الغنم تيس، ولا هرمة، ولا ذات عوار، فهذه الثلاث لا تؤخذ لدناءتها, ولقول الله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (¬4)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس -رضي الله عنه-: "أبَا بَكْرٍ -رضي الله عنه- كَتَبَ لَهُ الصَّدَقَةَ الَّتِي أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - وَلا يُخرَجُ في الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلا ذَاتُ عَوَارٍ وَلا تَيْسٌ إِلا مَا شَاءَ المُصَدِّقُ" (¬5). وقد قيل: لا يؤخذ تيس الغنم لفضيلته، وكان أبو عبيد (¬6) يروي هذا الحديث: "إِلا أَنْ يَشَاءَ المصدَّق" بفتح الدال، يعني صاحب المال، فعلى هذا يكون الاستثناء في الحديث راجعًا للتيس وحده. وذكر الخطابي أن جميع الرواة يخالفونه في هذا، فيرونه: "المصدِّق" بكسر الدال، أي العامل. وقال: التيس لا يؤخذ لنقصه ولفساد لحمه. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 435). (¬2) شرح المنهاج (2/ 9). (¬3) المقنع ومعه الشرح الكبير والإنصاف (6/ 443). (¬4) سورة البقرة: 267. (¬5) رواه البخاري: كتاب الزكاة، باب لا تؤخذ في الصدقة هرمة (1363). (¬6) في الأموال (3991).

زكاة الخلطة

وعلى هذا لا يأخذ المصدِّق وهو الساعي أحد هذه الثلاثة إلا أن يرى ذلك، بأن يكون جميع المال من جنسه فيكون له أن يأخذ من جنس المال، فيأخذ هرمة من هرمات ومعيبة من المعيبات وتيسًا من التيوس. ثالثًا: لا يؤخذ من الصدقة الرُّبَّى، وهي التي تُربي ولدها, ولا الماخض التي قد حان ولادها, ولا كرائم المال إلا أن يشاء ربه، فهذه الثلاثة لا تؤخذ لحق رب المال. ولا تؤخذ أيضًا الأكولة وهي السمينة، وكذا الفحل، فهذه كلها من كرائم الأموال، وأخذها إضرار بالغني، ولا شك أن الإِسلام بشريعته العادلة وازن بين المصالح للفقراء والأغنياء. زكاة الخلطة: الخُلطة: بضم الخاء، وهي أن يجعل مال الرجلين أو الجماعة كمال الرجل الواحد، فيجب فيه ما يجب في مال الرجل الواحد. وقد اختلفت أقوال الفقهاء في تأثير الخلطة، وهل هي عام في جميع الأموال أم هي خاصة في بهيمة الأنعام؟ وإليك أقوال الفقهاء في الخلطة: 1 - ذهب الحنفية (¬1) إلى أنه لا تجب الزكاة في المال المشترك "الخلطة" إلا إذا كان نصيب كل واحد يبلغ نصابًا على انفراد، فإن الأصل الثابت "المجمع عليه أن الزكاة لا تعتبر إلا بملك الشخص الواحد. 2 - وذهب المالكية (¬2) إلى أن خلطاء الماشية كمالك واحد في الزكاة، ولا أثر ¬

_ (¬1) حاشية رد المحتار لابن عابدين (2/ 280). (¬2) الشرح الصغير (1/ 602)، القوانين الفقهية (ص: 8)، والشرح الكبير (1/ 439).

للخلطة، إلا إذا كان كل من الخليطين يملك نصابًا، بشرط اتحاد الراعي والفحل، والمرواح "المبيت" ونية الخلطة، وأن يكون مال كل واحد متمايزًا عن الآخر، وإلا كانا شريكين، وأن يكون كل منهما أهلًا للزكاة، ولا تؤثر الخلطة إلا في المواشي. 3 - وذهب الشافعية (¬1) إلى أن كل واحد من الخلطتين تؤثر في الزكاة ويصير مال الشخصين أو الأشخاص كمال واحد، ثم قد يكون أثرها في وجوب الزكاة، وقد يكون في تكثيرها، وقد يكون في تقليلها. مثال أثرها في الإيجاب: رجلان لكل واحد منهما عشرون شاة، فيجب بالخلطة شاة، ولو انفردوا لم يجب شيء. ومثل التكثير: خلط مائة شاة وواحدة بمثلها، فيجب على كل واحد شاة ونصف، ولو انفردا وجب على كل واحد شاة فقط. ومثال التقليل: ثلاثة لكل واحد أربعون شاة خلطوها، يجب عليهم جميعًا شاة، أي يجب على كل واحد ثلث شاة، ولو انفرد لزمه شاة كاملة، واشترطوا لذلك ما يلي: 1 - أن يكون الشركاء من أهل الزكاة. 2 - أن يكون المال المختلط نصابًا. 3 - أن يمضي عليه حول كامل. 4 - وأن لا يتميز واحد من المال عن الآخر في المُراح "المبيت"، والمسرح "المرتع الذي ترعى فيه"، والمشرب، والراعي، والمحْلب "الموضع الذي تحلب فيه". 5 - اتحاد الفحل إذا كانت الماشية من نوع واحد. ¬

_ (¬1) المجموع شرح المهذب (5/ 406).

الخلطة مع غير المسلم

4 - وذهب الحنابلة (¬1) إلى ما ذهب إليه الشافعية إلا أنه اختلفت الرواية في المذهب، هل تؤثر الخلطة في غير السائمة؟ فالصحيح من المذهب أنها لا تؤثر في غير السائمة. وفي رواية عن الإِمام أحمد أنها تؤثر في غير السائمة، كالذهب والفضة والزروع والثمار وعروض التجارة وغير ذلك، فإذا كان بينهم نصاب يشتركون فيه فعليهم الزكاة قياسًا على خلطة الماشية. والراجح: أنه لا تؤثر الخلطة إلا في السائمة، فلا تؤثر في عروض التجارة ولا في الخارج من الأرض، ولا في النقدين لأن الحديث إنما ورد في الماشية ولا دليل على تأثير الخلطة في غيرها، وهذا هو رأي الشيخ محمَّد بن صالح العثيمين (¬2). ملكية الشخص لنصاب في مكانين مختلفين: لو كان لرجل عشرون من الشياه في الرياض، وعشرون في المدينة المنورة، فالجمهور على أنه تجب عليه الزكاة لأن المالك واحد، والمذهب لا زكاة عليه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُفَرَّقَ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ وَلا يُجْمَعَ بَيْنَ مُتفَرِّقٍ خَشْيةَ الصدَقَة" (¬3). والأحوط رأي الجمهور، ويحمل الحديث على خلطة الأوصاف. الخلطة مع غير المسلم: لو اختلط مسلم وغيره ممّن ليس من أهل الزكاة كالكافر خلطة أوصاف، فالزكاة على المسلم في نصيبه إذا بلغ نصابًا لأن مخالطة من ليس من أهل الزكاة كالمعدوم. ¬

_ (¬1) المقنع ومعه الشرح الكبير (6/ 486). (¬2) الشرح الممتع (6/ 65، 66). (¬3) رواه البخاري: كتاب الحيل، باب لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة.

الخلطة مع اختلاف النية

الخلطة مع اختلاف النية: لو اختلط اثنان في ماشية، وأحدهما يريد بنصيبه التجارة، والآخر يريد الدر والنسل، فهذه خلطة غير مؤثرة لاختلاف زكاة كل منهما، فأحدهما زكاته بالقيمة، والآخر لا زكاة عليه. أجناس الإبل والبقر والغنم: كل جنس من الإبل ينقسم إلى نوعين، فالإبل نوعان: العراب: وهي الإبل العربية وهي ذات سنام واحد، والبخاتي: وهي إبل العجم والترك، وهي ذات سنامين. والبقر نوعان: البقر المعتاد، والجواميس. والغنم: إما ضان، وإما معز. ويقال للذكر والأنثى من الضأن والمعز: شاة. والمقادير التي يجب إخراجها عند بلوغ النصاب تشمل من كل جنس نوعيه، ويضم أحدهما إلى الآخر في تكميل النصاب. لكن من أي النوعين تؤخذ الزكاة؟ في ذلك تفصيل: أولًا: أن يكون عنده أحد النوعين: فإن كان عنده أحد النوعين فزكاته منه تجزئه اتفاقًا. ثانيًا: أن يكون النوعان مختلفين: إذا اختلف النوعان، فالشافعية (¬1)، ¬

_ (¬1) شرح المنهاج وحاشية القليوبي (2/ 9).

هل تجب الزكاة في العين أم في الذمة؟

والحنابلة (¬1) على أنه تؤخذ من كل نوع ما يخصه لأنها أنواع تجب فيها الزكاة، فتؤخذ زكاة كل نوع منه كأنواع الثمرة والحبوب، وقالوا: لو أخذ عن الضأن ماعزًا أو عكسه جاز بشرط رعاية القيمة، وفي قول عند الشافعية: يؤخذ الضأن عن المعز دون العكس، وعراب البقر من الجواميس دون العكس لأن الضأن والمعز أشرف. هل تجب الزكاة في العين أم في الذمة؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: الأول: ذهب الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والشافعيُّ (¬4) في مذهبه الجديد إلى أن الزكاة تجب في العين دون الذمة، فإذا هلك المال بعد وجوب الزكاة سقطت الزكاة عنه لأنه حق يتعلق بالمال فيسقط الزكاة، فيتعلق بعينه كحق المضارب، وإذا هلك بعض المال سقط حظه من الزكاة. أما الاستهلاك فلا يسقط الزكاة لأنها بعد الوجوب بمنزلة الأمانة، فإذا استهلكها صاحبها ضمنها. الثاني: ذهب الحنابلة (¬5) إلى أن الزكاة تجب في الذمة بحلول الحول، وإن تلف المال فرط أم لم يفرط، وإذا حال الحول على مال لم يؤد زكاته وجب أداؤها لما مضى. وفائدة الخلاف بين كونها في الذمة أو العين ينتج عنه أن الزكاة إذا كانت في الذمة فحال على ماله حول فأكثر لم يؤد زكاتها وجب عليه أداؤها لما مضى، ولا ¬

_ (¬1) المغني (4/ 35). (¬2) الدر المختار (2/ 27). (¬3) القوانين الفقهية (ص: 99). (¬4) المجموع (5/ 241، 242). (¬5) المدونة (1/ 258)، المجموع (5/ 428).

دفع القيمة في الزكاة

تنتقض عنه الزكاة في الحول الثاني، وعلى القول الثاني بأنها تجب في عين المال ولا يجب عليه إلا زكاة سنة واحدة السنة الأولى لأنه بإخراج الزكاة سينقص النصاب، فإذا كان عند إنسان أربعون شاة سائمة ومضى عليها الحول ففيها شاة، وبها ينقص النصاب لأن الزكاة واجبة في عين المال، أما إن قلنا إن الزكاة واجبة في الذمة فإنها تجب في كل سنة شاة. ومن ثمرات الخلاف أيضًا: أننا لو قلنا بأن الزكاة تجب في العين فلا يجوز لصاحب المال إذا وجبت عليه الزكاة أن يتصرف فيه كتعلق الرهن بالعين المرهونة. والراجح: أن الزكاة تجب في عين المال ولها تعلق بالذمة، فالإنسان في ذمته مطالب بها وهي واجبة في المال ولولا المال لم تجب الزكاة فهي واجبة في عين المال. لكن يستثنى من ذلك عروض التجارة فإن الزكاة لا تجب في عينها ولكن تجب في قيمتها. دفع القيمة في الزكاة: 1 - ذهب جمهور الفقهاء (¬1) إلى أنه لا يجزئ إخراج القيمة في شيء من الزكاة لأن الحق لله تعالى، وقد علقه على ما نص عليه فلا يجوز نقل ذلك إلى غيره كالأضحية. لما علقها على الأنعام لم يجز نقلها إلى غيرها، وبعبارة أخرى فإن الزكاة قربة لله تعالى، وكل ما كان كذلك فسبيله أن يتبع فيه أمر الله تعالى، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "في كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ ... " (¬2)، "فَإذَا كَانَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ" (¬3)، ¬

_ (¬1) المقنع ومعه الشرح الكبير مع الإنصاف (6/ 449). (¬2) ورواه أبو داود، والترمذيُّ، والنسائيُّ، وابن ماجه، وأحمدُ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4261). (¬3) رواه أبو داود، وأحمدُ، وصححه الألباني في سنن أبي داود (2/ 99) رقم (1572).

وهو وارد لبيان مجمل وهو قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬1)، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: "خُذْ الحَبَّ مِنْ الحَبِّ وَالشَّاةَ مِنْ الغَنَمِ وَالبَعِيرَ مِنْ الإِبِلِ وَالبقَرَةَ مِنْ البقَرِ" (¬2)، وهو نص يجب التزامه، ولا يتجاوز إلى القيمة. هذه بعض تعليلات الجمهور لعدم جواز أخذ القيمة في الزكاة. 2 - وخالف الأحناف (¬3) فقالوا بجواز دفع القيمة في الزكاة، وكذا في العشر الخراج، وزكاة الفطر، والنذر، والكفارة، وذلك تفريعًا على مبدئهم أن الواجب في الزكاة جزء من النصاب إما صورة أو معنى، أو معنى فقط. والراجح: ما ذهب إليه شيخ الإِسلام -رحمه الله- أنه يجب إخراج الأصل لكن يجوز إخراج القيمة في الزكاة للحاجة أو المصلحة أو العدل. قال شيخ الإِسلام (¬4) -رحمه الله-: "وأما إخراج القيمة للحاجة -أو المصلحة- أو العدل فلا بأس به، ولا يكلف أن يشتري ثمرًا، أو حنطة إذا كان ساوى الفقراء بنفسه". ومثاله: أن يكون عليه شاة في خمس من الإبل، وليس عنده من يبيعه شاة فإخراج القيمة هنا كاف، ولا يكلف السفر إلى مدينة أخرى يشتري شاة. ومثل أن يكون المستحقون للزكاة طلبوا منه القيمة لكونها أنفع فيعطيهم إياها، أو يرى الساعي أن أخذها أنفع للفقراء فإن لم تكن حاجة ولا مصلحة راجحة فالأظهر أن إخراج القيمة ممنوع. ¬

_ (¬1) سورة الحج: الآية 78. (¬2) رواه أبو داود، وابن ماجه وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (ج 8 رقم 3544). (¬3) بدائع الصنائع (2/ 25)، الدر المختار (2/ 29). (¬4) مجموع الفتاوى (25/ 80 - 82).

كون الفرع أو النتاج يتبع الأصل في الزكاة

كون الفرع أو النتاج يتبع الأصل في الزكاة: اتفق الفقهاء على أن النتاج أو الفرع -أولاد الأنعام- يتبع الأمهات في الحول، فكل ما نتج أو تولد من الأمهات وتم انفصاله قبل تمام حول النصاب الأصلي ولو بلحظة يزكى بحول الأصل. مثال ذلك: إنسان عنده مائة وعشرون من الغنم، فولدت واحدة منها سخلة "صغيرة أولاد الماعز والضأن" قبل الحول ولو بلحظة والأمهات كلها باقية لزمه شاتان. المستفاد في أثناء الحول: 1 - ذهب الجمهور (¬1) إلى أنه من كان له نصاب فاستفاد في أثناء الحول شيئًا من جنسه بشراء أو صدقة أو هبة أو ميراث ونحو ذلك فإنه يضمه إلى النصاب ويزكيه معه كربح مال التجارة، ونتاج السائمة، ويعتبر حول أصله لأنه تبع له من جنسه، فأشبه النماء المتصل وهو زيادة قيمة عروض التجارة، وإن لم يكن من جنسه لا يضم اتفاقًا. 2 - وقال الشافعية (¬2) لا يضم المملوك بشراء أو غيره كهبة أو إرث أو وصية إلى ما عنده في الحول، وإنما يبدأ له حول جديد لأنه ليس في معنى النتاج لأن الدليل قد قام على اشتراط الحول واستثنى النتاج. وينبني على هذا الخلاف أن من كان عنده نصاب من النعم كخمس من الإبل، وثلاثين من البقر، وأربعين من الغنم فأكثر فاستفاد بهيمة أو صدقة ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 510)، الدر المختار (2/ 21)، الشرح الصغير (1/ 592)، حاشية الدسوقي (1/ 432)، المغني (5/ 74 - 87). (¬2) مغني المحتاج (1/ 279).

زكاة الخيل

أو استحقاقًا في وقف أو دينًا أو إرثًا ونحو ذلك، فعلى قول الجمهور أنه يضم للأول الذي عنده ويزكيه معه، فيكون عليه شاتان بعد أن كان عليه واحدة، أو تبيعان بعد أن كان عليه تبيع أو حقة مثلا، وعلى كلام الشافعية أنه ليس عليه إلا شاة واحدة، أو تبيع من البقر. ومثال ذلك أيضًا: من كان عنده نصاب نقدي في بدء الحول ثم قبض رواتب شهرية فيضم ما يدخره ولو من أخر راتب إلى أصل النصاب ويزكيه معه، وهذا هو رأي الجمهور، أما عند الشافعية فإنه يكون للمستفاد أو المتجدد من الدخل حول مستقل على حدة، أي كل متجدد أو مدخر جديد له حوله. والراجح ما ذهب إليه الجمهور. زكاة الخيل: 1 - قرر جمهور الفقهاء ومنهم صاحبا أبي حنيفة (¬1) أنه لا زكاة فيما يقتنيه المسلم من الخيل للركوب أو حمل الأثقال، أو للجهاد عليها في سبيل الله، سواء كانت سائمة أم معلوفة لأنها مشغولة حينئذ بحاجة صاحبها ومال الزكاة كما قررنا هو المال النامي الفاضل عن الحاجة، ودليل الجمهور في عدم وجوب الزكاة فيها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ عَلَى المُسْلِم في فَرَسِهِ وَغُلامِهِ صَدَقَةٌ" (¬2)، وقوله: "عَفَوْتُ عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ وَالرَّقِيق" (¬3). 2 - وذهب أبو حنيفة وزفر (¬4) إلى أن الخيل إذا كانت سائمة ذكورًا وإناثًا ففيها الزكاة، وليس في ذكورها منفردة زكاة لأنها لا تتناسل، وفي رواية عن أبي ¬

_ (¬1) انظر: فتح القدير (1/ 502، 503)، شرح المنهاج (2/ 3)، حاشية الدسوقي (1/ 435). (¬2) رواه البخاري كتاب الزكاة، باب ليس على المسلم في فرسه صدقة (1370). (¬3) رواه الترمذيُّ كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة الذهب والورق (563). (¬4) الهداية (1/ 99).

ثالثا: زكاة عروض التجارة

حنيفة في الإناث المنفردات زكاة لأنها تتناسل بالفحل المستعار، واحتج أبو حنيفة لذلك بما رواه البخاري ومسلمٌ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الخَيْلُ لِرَجُلٍ أجرٌ وَلِرَجُلٍ سِترٌ وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ فَأَمَّا الَّذِي له أجرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا في سَبِيلِ اللهِ فَأَطَالَ بهَا في مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ فَمَا أَصَابَتْ في طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنْ المَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ وَلَوْ أَنَّهُ انْقَطَعَ طِيَلُهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ له وَلَوْ أَنَّها مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ له فَهِيَ لِذَلِكَ أجرٌ وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللهَ في رِقَابِهَا وَلا ظُهُورِهَا فَهِيَ لِذَلِكَ سِتْرٌ وَرَجُل رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً لأَهْلِ الإِسْلامِ فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ" وَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الحُمُرِ فَقَالَ: "مَا أُنزِلَ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إِلا هَذِهِ الآيَةُ الجَامِعَةُ الفَاذَّةُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬1). والراجح: ما ذهب إليه الجمهور، وبه أفتت اللجنة الدائمة (¬2)، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِ في فَرَسهِ وَغُلامِهِ صَدَقَةٌ" (¬3). ثالثًا: زكاة عروض التجارة: معنى عروض التجارة: العروض: جمع عَرَض "بفتحتين": حطام الدنيا، وبسكون الراء: هي ما عدا النقدين "الدراهم الفضية والدنانير الذهبية" من الأمتعة، والعقارات، وأنواع الحيوان، والزروع، والثياب، ونحو ذلك مما أعد للتجارة. ¬

_ (¬1) رواه البخاري كتاب المساقاة، باب شرب الناس والدواب من النهار (2198). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (9/ 217) رقم الفتوى (7276). (¬3) سبق تخريجه (ص: 27).

حكم الزكاة في عروض التجارة

قال في مطالب أولي النهي (¬1) في تعريفها: "هي ما يعد للبيع والشراء بقصد الربح". حكم الزكاة في عروض التجارة: ذهب جمهور الفقهاء إلى وجوب الزكاة في عروض التجارة ولم يخالف في ذلك إلا بعض المتأخرين من أهل الظاهر. والراجح: ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} (¬2). قال الإِمام البخاري في كتاب الزكاة "صدقة الكسب والتجارة" وساق هذه الآية المذكورة آنفًا. قال الإِمام الطبري في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}، يعني بذلك جل ثناؤه: زكوا من طيب ما كسبتم بتصرفكم إما بالتجارة، أو بضاعة من الذهب والفضة، وروي من عدة طرق عن مجاهد في قوله: {كَسَبْتُمْ}، قال: من التجارة. وقال الإِمام أبو بكر بن العربي (¬3): "قال علماؤنا: قوله تعالى: {مَا كَسَبْتُمْ}، يعني التجارة"، {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}: يعني النبات، وتحقيق ذلك أن الاكتساب "جمع كسب" على قسمين: منها ما يكون من بطن الأرض وهو النباتات كلها، ومنها ما يكون من المحاولة على وجه الأرض كالتجارة والنتاج والمناورة في بلاد العدو والاصطياد. فأمر الله تعالى الأغنياء من عباده بأن يؤتوا الفقراء مما أتاهم على الوجه الذي فعله رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) مطالب أولي النهي (2/ 96). (¬2) تفسير الطبري (5/ 555) تحقيق أحمد شاكر ومحمود شاكر. (¬3) أحكام القرآن (1/ 235).

شروط زكاة عروض التجارة

شروط زكاة عروض التجارة: اشترط الفقهاء لوجوب زكاة عروض التجارة شروطًا منها: 1 - بلوم النصاب: أي أن تبلغ قيمة أموال التجارة نصابًا من الذهب أو الفضة فلا زكاة في ما يملكه الإنسان من العروض إن كانت قيمتها أقل من نصاب الزكاة في الذهب والفضة، وتضم العروض بعضها إلى بعض في تكميل النصاب وإن اختلفت أجناسها. بأي النقدين تقوَّم عروض التجارة؟ اختلف الفقهاء هذه المسألة: 1 - فالحنابلة (¬1) ورواية عن أبي حنيفة (¬2) وهي التي عليها المذهب أنها تقوَّم بالأحظ للفقراء، فإذا قوَّمها بأحدهما لا تبلغ نصابًا وبالآخر تبلغ نصابًا تعين عليه التقويم بما يبلغ نصابًا، وفي رواية عن أبي حنيفة (¬3) التخيير للمالك فله أن يخرجها بأحد الثمنين لأنهما في التعيين سواء. وقال الشافعية (¬4) يقومها بما اشترى به من النقدين. والراجح من الأقوال: هو القول الأول، أي تقوَّم بالأحظ للفقراء. ¬

_ (¬1) المغني (4/ 253). (¬2) الهداية وفتح القدير (1/ 527). (¬3) الهداية وفتح القدير (1/ 527). (¬4) شرح المنهاج (2/ 30).

متى يبدأ الحول من بدأ بالتجارة وكانت قيمة المعروض أقل من النصاب؟

متى يبدأ الحول من بدأ بالتجارة وكانت قيمة المعروض أقل من النصاب؟ اختلف الفقهاء في ذلك فذهب الحنابلة (¬1)، وهو قول الشافعية (¬2) أنه لا ينعقد الحول حتى تتم قيمته نصابًا. ويرى بعض الفقهاء أن الحول من بداية الإثمار. والراجح: أن الحول ينعقد إذا بلغت قيمته نصابًا. 2 - نية التجارة: يشترط في زكاة العروض أن يكون قد نوى عند شرائه أو تملكه أنه للتجارة، والنية المعتبرة هي ما كانت مقارنة لدخوله في ملكه [ما لم] (*) لأن التجارة عمل فيحتاج إلى النية مع العمل. فلو ملكه للقنية ثم بدا له أن يجعله للتجارة صار عرضًا من عروض التجارة ولو ملكه للتجارة ثم نواه للقنية صار للقنية. 3 - حلول الحول: فإذا حال الحول وجب على المالك تقويم عروضه وإخراج زكاتها، وسيأتي قريبًا إن شاء الله كيفية تقويم عروض التجارة وطريقة إخراجها. 4 - الملك التام لعروض التجارة: يشترط لزكاة العروض أن يملك العرض بفعله كالبيع، وقبول الهبة، والوصية، واكتساب المباحات لأن ما لا يثبت له حكم الزكاة بدخوله في ملكه لا يثبت بمجرد النية كالصوم. ¬

_ (¬1) المغني (4/ 251). (¬2) شرح المنهاج (2/ 28). (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كذا بالمطبوع

مقدار الواجب في عروض التجارة وكيفية إخراجها

وقال المالكية (¬1)، والشافعية (¬2) لو ملكه بإرث أو هبة أو احتطاب أو استرداد بعيب أو استغلال أرض بالزراعة أو نحو ذلك فلا زكاة فيه، وذلك لأن التجارة كسب المال ببدل هو مال، وقبول الهبة مثلًا اكتساب بغير بدل أصلًا. والراجح: أنه متى ملكه بإرث، أو وصية، أو هبة ونحو ذلك ثم نواه للتجارة فقد صار عروضًا من التجارة تجب فيه الزكاة، وإن لم ينوه للتجارة وكان هذا المملوك مما تجب فيه الزكاة وبلغ نصابًا زكاه عند حلول الحول، ويبدأ الحول من ملكه له. مقدار الواجب في عروض التجارة وكيفية إخراجها: يجب في عروض التجارة ربع العشر مهما كانت وهو اثنان ونصف في المائة (2. 5 %). أما كيفية إخراج ذلك: يقوّم التاجر -إذا حلّ موعد الزكاة أن يضم ماله بعضه إلى بعض، ويقوّم ما يعرضه للبيع، وماله من الديون المرجوة فيقوم بجرد تجارته، ويقوِّم قيمة البضائع التي لديه من نقود -سواء استغلها في التجارة أم لم يستغلها- وكذا الديون المرجوة القضاء غير الميئوس منها، ويخرج من ذلك كله ربع العشر (2. 5 %). أما الدين الذي انقطع الرَّجاء فيه فقد رجحنا من قبل أنه لا زكاة فيه إلا إذا قبضه، فإذا قبضه زكاة لعام واحد. ¬

_ (¬1) الشرح الكبير لحاشية الدسوقي (1/ 472). (¬2) شرح المنهاج (2/ 29).

هل يجوز إخراج الزكاة من عروض التجارة؟

هل يجوز إخراج الزكاة من عروض التجارة؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: القول الأول: أن التاجر يخير بين إخراج العين أو القيمة، فيخرج ربع عشر القيمة، أو بين الإخراج من عينها، فيخرج ربع عشر العين التجارية، وعللوا لذلك بأن التجارة مال يجب فيه الزكاة فجاز إخراجها من عينه كسائر الأموال، وهذا هو قول الحنفية (¬1)، والشافعيُّ في أحد قوليه (¬2). القول الثاني: قول الجمهور (¬3) أنه يجب إخراج القيمة ولا يجوز الإخراج من عين العروض التجارية لأن النصاب معتبر بالقيمة فكانت الزكاة فيها كالعين في سائر الأموال، ولا نسلم أن الزكاة تجب في المال وإن وجبت في قيمته. والذي نرجحه أنه يجوز إخراج قيمة ما وجب عليه من بعض الأصناف عنده ولكن للحاجة والمصلحة الراجحة، فإن كان آخذ الزكاة يريد أن يشتري بها كسوة فاشترى رب المال له بها كسوة وأعطاه فقد أحسن إليه وما عدا ذلك لا يجوز إخراجها من أعيانها لما ذكره الجمهور من أدلة. ولأن مصلحة الفقير تكون في إعطاءه القيمة لا العين لأنه بالقيمة يستطيع أن يشتري ما يلزم له، أما عين السلعة فقد لا تنفعه، فقد يكون في غنى عنها فيحتاج إلى بيعها بثمن بخس. وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬4) -رحمه الله-. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (2/ 21). (¬2) مغني المحتاج (1/ 299)، روضة الطالبين (2/ 273). (¬3) بداية المجتهد (1/ 260)، القوانين الفقهية (ص: 103)، المغني (4/ 250). (¬4) مجموع الفتاوى (25/ 79).

حكم زكاة الربح والمال المستفاد؟

حكم زكاة الربح والمال المستفاد؟ اتفق فقهاء المذاهب على أنه تضم أرباح التجارة إلى أصل رأس المال في الحول، كما يضم أيضًا عند الحنفية (¬1) خلافًا لغيرهم المال المستفاد من غير التجارة كعطية وارث إلى أصل المال. والراجح: أنه لا يضم إلى مال التجارة المال المستفاد من إرث وعطية وإنما له حول مستقل من يوم ملكه. متى وأين تقوَّم عروض التجارة؟ صرح الحنفية أن عروض التجارة يقومها المالك على أساس البلد الذي فيه المال وليس الذي فيه المالك أو غيره ممّن له بالمال علاقة، وتعتبر القيمة عند أبي حنيفة يوم وجوب الزكاة، وقال صاحباه بل المعتبر للقيمة يوم الأداء، والذي يظهر أن السلعة تقوَّم بالسعر الحالي الذي تباع به في السوق عند وجوب الزكاة بها، وقد جاء عن جابر بن زيد من التابعين في عرض يراد به التجارة قوَّمه بنحو من ثمنه يوم حلت فيه الزكاة ثم أخرج زكاته (¬2). متى يبدأ الحول عمن لديه نقود فيشتري بها عروضًا ثم يبعها بنقود؟ لو قلب المال كأن يكون عنده نقود فيشتري بها عرضًا ثم يبيعه بنقود، ثم يشتري عرضًا آخر ثم يبيعه بعرض آخر، ثم يشتري به أسهمًا ثم يبيعها، وهكذا فإن الحول يبدأ من وقت بدء النقود التي عنده أول مرة، وهذا يكثر عند أصحاب الأقمشة والبقالات والمصانع ومزارع تربية المواشي وغيرها. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (2/ 12 وما بعدها)، فتح القدير (1/ 529)، تبيين الحقائق (1/ 280). (¬2) الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام، (ص: 426).

حكم زكاة عروض التجارة إذا نوى بها القنية؟

حكم زكاة عروض التجارة إذا نوى بها القنية؟ إذا نوى بعروض التجارة القنية بأن يدخرها لوقت الحاجة فإن احتاج إليها استعملها أو باعها واستفاد من قيمتها أو للزينة ونحو ذلك فلا زكاة فيها ثم إذا نوى بعد ذلك التجارة استأنف له حولًا. رابعًا: زكاة الزروع والثمار: لقد أنعم الله تعالى على الإنسان بنعم شتى في نفسه وماله، وسخَّر له كثيرًا من المخلوقات تكريمًا له وتشريفًا، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (¬1). ومن نعم الله على عباده أن جعل الأرض صالحة للإنبات والإثمار لتكون مصدرًا من مصادر رزق المخلوقين، ووسيلة من وسائل معيشتهم التي تقوم بها حياتهم، والفضل من الله أولًا وأخيرًا فهو الذي سخر الأرض للمخلوق يستفيد منها، يقول تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} (¬2). ولعل من أبرز مظاهر الشكر لهذه النعمة العظيمة أداء الزكاة مما يخرج من الأرض من زرع أو ثمر مواساة للفقراء والمساكين وسدًا لحاجة المحتاجين. دليل وجوب الزكاة في الزروع والثمار: استدل أهل العلم على وجوب الزكاة في الزروع والثمار بالكتاب والسنة: فأما الكتاب: فمنه قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} (¬3)، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ ¬

_ (¬1) سورة الإسراء: 70. (¬2) سورة الواقعة: 63 - 64. (¬3) سورة البقرة: 267.

جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (¬1). ففي الآية الأولى حكمان: الأول: الأمر بالإنفاق من طيب الكسب في عمومه، وفي هذا نفي للإنفاق من ضده، فمع أن الإنفاق المقصود هو إيتاء الزكاة إلى مستحقيها إلا أنها أيضًا قربة إلى الله تعالى، والله طيب لا يقبل إلا الطيب. الثاني: أمر بالإنفاق من المخرج من الأرض، وفي هذا شمول وعموم لأنواع المخرج منها. وفي الآية الثانية أيضًا حكمان: الأول: الأمر بالأكل مما أنشأه الله من الأرض من زروع وكروم ونحوهما. الثاني: الأمر بأداء واجب مترتب للغير وهو إيتاء الحق في قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬2). أما دليل السنة: فما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ صَدَقَة" (¬3). وما رواه أيضًا عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالعُيُونُ أَوْ كانَ عَثَرِيًّا العُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ" (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: 141. (¬2) نفس المرجع السابق. (¬3) سبق تخريجه (ص:)، والوسق ستون صاعًا. (¬4) رواه البخاري: كتاب الزكاة، باب العشر فيما يسقى من ماء (1388).

أنواع الزروع والثمار التي تجب فيها الزكاة

أنواع الزروع والثمار التي تجب فيها الزكاة: اختلف أهل العلم في الأصناف التي تجب فيها الزكاة، وسبب الخلاف ناتج عن اختلافهم في الزكاة هل هي متعلقة بالعين أم هي متعلقة بالعلة؟ وعلى آية حال فالعلماء متفقون على وجوب الزكاة في أصناف أربعة هي الحنطة والشعير والزبيب والتمر، دليلهم في ذلك حديث عمر -رضي الله عنه- مرفوعًا: "الزَّكَاةَ في هَذِهِ الأَرْبَعَةِ الحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيب وَالتَّمْرِ" (¬1)، وفي لفظ: "العشر في التمر والزبيب والحنطة والشعير" (¬2). ومنها أيضًا حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "إِنَّمَا سَنَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في الحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ" (¬3)، فهذه هي الأربعة التي أجمع عليها الفقهاء في وجوب الزكاة فيها. ثم اختلف العلماء فيما عدا هذه الأصناف: 1 - فذهب أبو حنيفة (¬4) إلى أن الزكاة تجب في كل ما يقصد بزراعته استنماء الأرض من الثمار والحبوب والخضروات والأبازير وغيرها مما يقصد به استغلال الأرض دون ما لا يقصد به ذلك عادة كالحطب والحشيش والقصب "أي القصب الفارسي بخلاف قصب السكر"، والتين، وشجر القطن، والباذنجان، وبذر البطيخ، وبذور الأدوية كالحلبة والشونيز، لكن لو قصد بشيء من هذه الأنواع كلها أن يشغل أرضه بها لأجل الاستنماء وجبت الزكاة، فالمدار على القصد. ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3584). (¬2) رواه ابن أبي شيبة (3/ 30). (¬3) رواه الدارقطني، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3584). (¬4) حاشية ابن عابدين (2/ 49، 50).

واحتج لذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا العُشْرُ" (¬1)، فإنه عام يؤخذ على عمومه، ولأنه يقصد بزراعته نماء الأرض واستغلالها فأشبه الحب. وذهب صاحبا أبي حنيفة (¬2) إلى أن الزكاة لا تجب إلا فيما له ثمرة باقية حولًا. 2 - أما المالكية (¬3) فإنهم يفرقون بين الثمار والحبوب. أما الثمار فلا يؤخذ من أي جنس منها غير التمر والعنب، أما الحبوب فيؤخذ من الحنطة والشعير والذرة والأرز والسلت ومن القطاني السبعة "الحمص، والفول، والعدس، واللوبيا، والترمس، والجُلُّتان، والبسيلة، وذوات الزيوت الأربع، الزيتون، والسمسم، والقرطم، وحب الفجل"، فهذه كلها عشرون جنسًا لا يؤخذ من شيء سواها زكاة. 3 - أما الشافعية (¬4) فقالوا إن الزكاة لا تجب في شيء من الزروع والثمار إلا ما كان قوتًا، والقوت هو ما به يعيش البدن غالبًا دون ما يؤكل تنعمًا، أو تداويًا فتجب الزكاة في الثمار من العنب والتمر خاصة، ومن الحبوب في الحنطة والشعير والأرز والعدس وسائر ما يقتات كالذرة والحمص والباقلاء، ولا تجب في السمسم والتين والجوز واللوز والرمان والتفاح ونحوها والزعفران والورس. 4 - أما الحنابلة (¬5) فقالوا بأن ما تجب فيه الزكاة من الحبوب والثمار هو كل ¬

_ (¬1) رواه البخاري: كتاب الزكاة، باب فيما يسقى من ماء السماء والماء الجاري (1388). (¬2) حاشية ابن عابدين (2/ 49، 50). (¬3) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (1/ 447). (¬4) شرح المنهاج وحاشية القليوبي (2/ 16). (¬5) شرح منتهى الإرادات (1/ 388).

النصاب في زكاة الزروع والثمار

ما كان يجمع وصفين الكيل والادخار، كالأرز والذرة والفول والعدس والحمص واللوبيا والكمون والكراويا وبذر البطيخ وبذر الخيار وكذا الحبوب التي تجمع الوصفين كالحلبة والفجل وغيرها. وعلى ذلك لا تجب الزكاة عندهم على الخضروات كثمار التفاح والمشمش والتين والتوت والموز والرمان والبرتقال وبقية الفواكه. والذي يظهر لنا بعد عرض هذه الأقوال: أن الزكاة إنما تجب في الحبوب والثمار التي جمعت ثلاثة أوصاف: 1 - الكيل: ولا عبرة باختلاف الكيل والوزن فإن التمر في عرفنا يوزن، وكذا الزبيب لكن لا عبرة بذلك وإنما العبرة تكون بما كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 2 - الادخار "اليبس مع البقاء": والمراد بالادخار ما كان عامة الناس يدخرونه لأن من الناس من لا يدخر التمر بل يأكله رطبًا، وكذلك العنب قد يؤكل رطبًا، لكن العبرة بما عليه عامة الناس. 3 - أن يكون قوتًا: والمراد به ما يعيش البدن غالبًا عليه دون ما يؤكل تنعمًا أو تداويًا. النصاب في زكاة الزروع والثمار: نصابها خمسة أوسق عند الجمهور (¬1)، وبه قال صاحبا أبي حنيفة (¬2) فيما يوسق، لما جاء في حديث أبى سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ صَدَقَةٌ" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري: كتاب الزكاة، باب ليس فيما دون خمسة ذود (1366). (¬2) انظر: المغنى (4/ 161). (¬3) سبق تخريجه (ص:).

عدم اعتبار الحول في زكاة الزروع والثمار

وقال أبو حنيفة (¬1) لا يشترط نصاب لزكاة الزروع والثمار بل هي واجبة في القليل والكثير ما لم يكن أقل من نصف صاع. والراجح: الذي ينبغي التعويل عليه أن نصاب الزروع والثمار خمسة أوسق، فلا تجب فيما دون خمسة أوسق زكاة، وهذا منطوق النص الصحيح الصريح الذي لا يحتمل غير هذا. عدم اعتبار الحول في زكاة الزروع والثمار: لا يشترط في زكاة الزروع والثمار حولان الحول، وهذه ميزة يتميز بها هذا النوع من أموال الزكاة عن غيره، وذلك لأن هذا النوع من أموال الزكاة نماء في نفسه، فتخرج منه الزكاة عند كماله، ثم بعد ذلك يبدأ في النقص لا في النماء، ولو أخرج منه العشر أو نصف العشر وبقي عنده أعوامًا طويلة لم يجب عليه فيه شيء لأنه زكاه مرة واحدة فقط. مقدار الواجب في زكاة الزروع والثمار: ورد تحديد مقدار الزكاة فيها بالسنة، ومن ذلك: 1 - ما رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خمسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ صَدَقَةٌ" (¬2). 2 - وعنه -رضي الله عنه- أنه سمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "فِيمَا سَقَتْ الأَنهَارُ وَالعُيُونُ العُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِالسَّوَانِي فَفِيهِ نِصْفُ العُشْرِ" (¬3). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (2/ 49). (¬2) سبق تخريجه (ص:). (¬3) رواه أبو داود، وصححه الألباني في سنن أبي داود (2/ 108) رقم (1597).

نصاب الزروع والثمار بالمقاييس العصرية

3 - وما ثبت في الصحيح من حديث سَالِم بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ أَبِيهِ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا (¬1) العُشْرُ وَمَا سُقِيَ بالنَّضْحِ نِصْف العُشْرِ" (¬2). هذه النصوص حددت النصاب بخمسة أوسق، وحددت المقدار إن كان يسقى بدون مؤنة بالعشر وهو نصف وسق، وإن كان يسقى بمؤنة بنصف العشر وهو ربع وسق. نصاب الزروع والثمار بالمقاييس العصرية: النصاب خمسة أوسق، والوسق ستون صاعًا، فيكون النصاب ثلاثمائة صاع. يقول النووي (¬3): " ... والمراد بالوسق ستون صاعًا، كل صاع خمسة أرطال وثلث بالبغدادي .. فالأوسق الخمسة ألف وستمائة رطل بالبغدادي .. ". قال في القاموس (¬4): "والوسق ستون صاعًا". وقال في موضع (¬5) آخر: "والصاع أربعة أمداد، كل مد رطل وثلث. قال الداودي معياره الذي لا يختلف أربع حفنات بكفي الرجل الذي ليس بعظيم الكفين ولا صغيرهما إذ ليس كل مكان يوجد فيه صاع النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى، وجرب ذلك فوجد صحيحًا". ¬

_ (¬1) العثري: هو ما يشرب بعروقه ولا يسقى بماء. (¬2) رواه البخاري: كتاب الزكاة، باب العشر فيما يسقى من ماء (1388). (¬3) شرح النووي على مسلم (7/ 49). (¬4) القاموس المحيط (3/ 299). (¬5) القاموس المحيط (3/ 55).

قال في مغني المحتاج (¬1): "والصاع أربعة أمداد فيكون النصاب ألف مد ومائتي مد، والمد رطل وثلث بالبغدادي، وذلك ألف وستمائة رطل ... ". وقد قام الدكتور عبد الله الطيار بقياس المد وكلف غيره ممّن يثق به بقياس ذلك وسأل أهل الخبرة فظهرت له النتائج التالية: أن المد خمسمائة وستون جراما من البر الجيد (560) جرامًا، وقد تحقق من هذه النتيجة عن طريق الوزن بالريال الفرنسي حيث إن المد يزن عشرين ريالًا فرنسيًا (¬2) (20) ريالًا. والريال الفرنسي يزن ثمانية وعشرين جرامًا (28) جرامًا. فيكون المد حاصل ضرب عشرين ريالًا فرنسيًا في ثمان وعشرين جرامًا (20 × 28 = 565 جرامًا). وبما أن الصاع أربعة أمداد بلا إشكال فيكون الصاع بالجرامات حاصل ضرب خمسمائة وستين جرامًا في أربعة أمداد (560 × 4 = 2240). أي: (اثنان وربع كيلو جرام) فظهر أن الصاع يساوي: كيلوين وربعًا من الكيلو. وعليه فيكون نصاب زكاة الزروع والثمار: (300 × اثنان وربع كيلو جرام= 675 كيلو جرامًا). وهذا بالنسبة للبر والأرز الثقيل والتمر. ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (1/ 382). (¬2) يقول الشيخ محمَّد بن إبراهيم المبارك -رحمه الله-: "وفي سنة حجنا عام ست وأربعين وثلاثمائة وألف هجرية اجتمعنا في المدينة بجملة من علمائها المحققين وأخذنا مدًا نبويًا -بالإجازة عليه- فوجدنا ملأه من البرزنة عشرين ريالًا فرنسيًا". التعليق الحاوي على الشرح الصغير (2/ 183).

وقت وجوب الزكاة في الحب والثمر

وأما الشعير فيختلف عنها نظرًا لخفته فيكون وزنه أقل من غيره، والنسبة بين الشعير والبر تساوي (23/ 28) (¬1) من حيث الوزن. وهذا ما ظهر له خلال تجربته في الوزن، والله أعلم (¬2). وقد اطلع أثناء البحث على ما قرره فضيلة الشيخ محمَّد بن صالح العثيمين -رحمه الله- في كتابه مجالس شهر رمضان حول نصاب الحبوب حيث قال ما نصه: "والوسق ستون صاعًا بصاع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيبلغ النصاب ثلاثمائة صاع بصاع النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي تبلغ زنته بالبر الجيد ألفين وأربعين جرامًا، أي كيلوين وخمس عشر الكيلو فتكون زنة النصاب بالبر الجيد ستمائة واثني عشر كيلو" (¬3)، وهنا لم يذكر الشيخ كيف توصل إلى ذلك ولعله قاس بنفسه أو سأل أهل الخبرة، وعلى العموم فالنصاب تقريبي والاحتياط فيه مطلوب. قال ابن قدامة: "والنصاب معتبر بالكيل، فإن الأوسق قليلة وإنما نقلت إلى الوزن لتضبط وتحفظ وتنقل، ولذلك تعلق وجوب الزكاة بالمكيلات دون الموزونات والمكيلات تختلف في الوزن فمنها الثقيل كالحنطة والعدس، ومنها الخفيف كالشعير والذرة ومنها المتوسط ... " (¬4). وقت وجوب الزكاة في الحب والثمر: اختلف الفقهاء في الوقت الذي تجب فيه زكاة الزروع والثمار: ¬

_ (¬1) ظهر لي أن زنة مد الشعير بالجرامات (460 جرامًا) فنسبتها إلى زنة المد من البر (460/ 560) = (23/ 28). (¬2) الزكاة وتطبيقاتها المعاصرة، أ. د. عبد الله الطيار، (ص 99 - 100). (¬3) مجالس شهر رمضان (ص: 120). (¬4) المغني (3/ 11).

1 - فالمالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، وأبو حنيفة (¬3) يرون أنها تجب بإفراك الحب، وطيب الثمر، والأمن عليه من الفساد. والمراد بإفراك الحب طيبه واستغناؤه عن السقي، وإن بقي في الأرض لتمام طيبه، وطيب الثمر نحو أن يزهى البسر أو تظهر الحلاوة في العنب. قالوا: لأن الحب باشتداده يكون طعامًا حقيقة وهو قبل ذلك بقل. والتمر قبل بدو صلاحه بلح وحصرم، وبعد بدو صلاحه ثمرة كاملة، ولأن ذلك وقت الخرص. والمراد بالوجوب هنا: انعقاد سبب الوجوب، ولا يكون الإخراج إلا بعد اليبس والجفاف. 2 - وذهب الحنابلة (¬4) إلى أن الوجوب يثبت ببدو الصلاح في الثمر، واشتداد الحب في الزرع، ويستقر الوجوب بجعل الثمرة أو الزرع في الجرين أو البيدر، فلو تلف قبل استقرار الوجوب بجائحة فلا شيء عليه. أما قبل ثبوت الوجوب فلو بيع النخل أو الأرض فلا زكاة على البائع في الزرع والثمار، ولو مات المالك قبل الوجوب فالزكاة على الورثة إن بقي إلى وقت الوجوب وبلغ نصيب الورثة نصابًا، وكذا إذا أوصى بها ومات قبل الوجوب فلا زكاة فيها, ولو أكل من الثمرة قبل الوجوب لم يحتسب عليه ما أكله، ولو نقصت ¬

_ (¬1) الشرح الكبير (1/ 451 - 454). (¬2) شرح المنهاج (2/ 20). (¬3) ابن عابدين (2/ 53). * فائد: الصاع (3 لتر+ 30 مل)، كما في قرار هيئة كبار العلماء رقم (207)، بتاريخ: 9/ 11 / 1422 هـ. (¬4) شرح منتهى الإرادات (1/ 390).

عن النصاب بما أكل فلا زكاة عليه. أما بعد الوجوب فتلزمه الزكاة وإن باع أو أوصى بها ولا شيء على من ملكها بعد أن ثبت الوجوب. وبعد عرض أقوال الفقهاء في وقت وجوب الزكاة الذي نراه ما يلي: 1 - أنه متى اشتد الحب وبدا صلاح الثمر وجبت الزكاة، ومعنى "اشتداد الحب": أي قوي وصار شديدًا ينضغط بضغطه، ومعنى "بدو الصلاح" وذلك في ثمر النخيل أن يحمر أو يصفر، وفي العنب أن يتموه حلوًا. 2 - أنه لا يستقر الوجوب إلا بجعلها في البيدر "المحل الذي تجمع فيه الثمار والزروع، ويسمى الجرين والبيدر". 3 - إن تلفت الزروع والثمار قبل وجوب الزكاة أي قبل اشتداد الحب وقبل بدو الصلاح فلا شيء على المالك مطلقًا سواء تلف بتعد أو تفريط، والعلة عدم الوجوب. 4 - إذا تلفت الزروع والثمار بعد الوجوب وقبل جعلها في البيدر ففي ذلك تفصيل: إن كان بتعد منه أو تفريط ضمن الزكاة، وإن كان بلا تعد ولا تفريط لم يضمن. 5 - إن تعفن بعد جعله في البيدر فالمذهب عليه الزكاة مطلقًا لأنها استقرت في ذمته فصارت دينا عليه، والإنسان إذا وجب عليه دين، وتلف ماله فلا يسقط عنه. والراجح في هذه الحالة أيضًا: أنها لا تجب عليه ما لم يتعد أو يفرط لأنها أمانة لديه هلكت بلا تعد ولا تفريط.

الزكاة في الأرض المستعارة والمستأجرة

الزكاة في الأرض المستعارة والمستأجرة: 1 - ذهب جمهور الفقهاء (¬1) إلى أن من استعار أرضًا أو استأجرها فزرعها فالزكاة على المستعير والمستأجر لأن الغلة ملكه، والعبرة في الزكاة بملكية الثمرة لا بملكية الأرض أو الشجر، واختار ذلك الشيخ محمَّد العثيمين (¬2) -رحمه الله-. 2 - وذهب أبو حنيفة (¬3) إلى أن العشر على المؤجر لأن الأرض كما تستنمي بالزراعة تستنمي بالإجارة. والراجح: هو ما ذهب إليه الجمهور، وهو قول الشيخ محمَّد بن صالح العثيمين (¬4) -رحمه الله-. زكاة الأرض الخراجية: زكاة الأرض الخراجية على المستأجر، والخراج على المالك، ووجه ذلك أن الخراج على عين الأرض فيكون على مالكها، والزكاة على الثمار فتكون على مالك الثمار وهو المستأجر، ولو كان المالك هو الذي يزرع الأرض فعليه الخراج باعتباره مالكًا للأرض والزكاة باعتباره مالكا للزرع أو الثمر. الزكاة في المزارعة والمساقاة: 1 - ذهب الحنابلة (¬5)، والصاحبان من الحنفية (¬6) إلى أن العشر في هاتين ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 447)، (4/ 201 - 202). (¬2) الشرح الممتع (6/ 83). (¬3) الدر وابن عابدين (2/ 55) (¬4) الشرح الممتع (6/ 83). (¬5) المغنى (4/ 199)، حاشية بن عابدين (2/ 56). (¬6) الدر وابن عابدين (2/ 55).

زكاة الزيتون

الحالتين على كل من المالك والعامل كل بحسب نصيبه من الغلة إن بلغ نصيبه نصابًا، ومن كان نصيبه فيهما أقل من النصاب فلا عشر عليه ما لم يكن له من أرض غيرها ما يكمل به النصاب، وهذا عند الحنابلة (¬1) على الرواية التي لا تجعل الخلطة مؤثرة في زكاة الزروع، أما على الرواية التي تجعل الخلطة مؤثرة فيها فإذا بلغت غلة الأرض خمسة أوسق يكون فيها زكاة فيؤخذ من كل من الشريكين عشر نصيبه، ما لم يكن أحدهما ممّن لا عشر عليه كأهل الذمة. 2 - وعند أبي حنيفة (¬2) العشر في المزارعة على رب الأرض؛ لأن المزارعة عنده فاسدة فالخارج منها له تحقيقًا أو تقديرًا. والراجح: أن الزكاة في المزارعة والمساقاة على العامل وعلى مالك الأصل بقدر حصتيهما إن بلغت حصة كل واحد منهما نصابًا، فإن لم تبلغ انبنى على تأثير الخلطة في غير بهيمة الأنعام، وقد تقدم الخلاف في ذلك. زكاة الزيتون: 1 - ذهب الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4)، وهو قول الشافعي (¬5) في القديم، ورواية عند الإِمام أحمد (¬6) وهو مروي عن ابن عباس إلى وجوب الزكاة في الزيتون لعموم قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬7). ¬

_ (¬1) المقنع ومعه الشرح الكبير والإنصاف (6/ 485 - 487). (¬2) حاشية بن عابدين (2/ 56) (¬3) بدائع الصنائع (2/ 59). (¬4) الشرح الكبير (1/ 447). (¬5) المجموع شرح المهذب (5/ 434) (¬6) المغني (4/ 160 - 161) (¬7) سورة الأنعام: 141.

زكاة العسل

2 - وذهب الشافعي في الجديد (¬1)، وأحمدُ في رواية أخرى (¬2) إلى أنه لا زكاة في الزيتون لأنه لا يدخر يابسًا. والراجح: نرى أن الراجح هو عدم وجوب الزكاة في الزيتون وهو اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز (¬3) -رحمه الله-. زكاة العسل: اختلف أهل العلم أيجب في العسل الزكاة أم لا؟ 1 - فذهب الحنابلة (¬4) إلى أن العسل تؤخذ منه الزكاة، واحتجوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يؤخذ في زمانه من قرب العسل من عشر قربات قربة من أوسطها" (¬5). وورد أن أبا سيارة المنعي قال: قلت يا رسول الله: إن لي نحلًا، قال: "أو العشر"، قلت يا رسول الله: أحمها لي، فحماها له (¬6)، وأخذ عمر من العسل العشر، ونصابه نصاب الحبوب والثمار ويجب فيه ما يجب في الحبوب والثمار. 2 - وذهب المالكية (¬7)، والشافعية (¬8) إلى أن العسل لا زكاة فيه، ووجه هذا ¬

_ (¬1) المرجع السابق للشافعية. (¬2) المرجع السابق للحنابلة. (¬3) مجموع فتاوى سماحة الشيخ -رحمه الله- (14/ 70). (¬4) المغني (2/ 714). (¬5) أورده أبو عبيد القاسم بن سلام في الأموال، (ص: 598)، وأعله بالإرسال كما في تلخيص الحبير لابن حجر. (¬6) أخرجه ابن ماجه، وحسنه الألباني في سنن ابن ماجه (1/ 584) رقم (1823). (¬7) اللباب (1/ 153). (¬8) المجموع (5/ 434).

خامسا: زكاة الثروة المعدنية والبحرية

القول أنه ليس في القرآن ولا في السنة ما يدل على وجوب الزكاة في العسل، قال الإِمام البخاري -رحمه الله- كما في العلل الكبرى للترمذي (¬1): "وليس في زكاة العسل شيء يصح". قالوا لأن الأصل براءة الذمة حتى يقوم دليل على الوجوب، وهو اختيار اللجنة الدائمة (¬2)، وقالوا يكفي أن نقول إنما تجب الزكاة في قيمته إذا أعده للبيع وحال عليه الحول، وبلغت قيمته النصاب فيخرج فيه ربع العشر. خامسًا: زكاة الثروة المعدنية والبحرية: تعريف المعدن: المعدن في اللغة: مأخوذ من العدن، وهو الإقامة، وسمي بذلك لعدونه، أي إقامته عدن بالمكان الذي أقام به (¬3). وشرعًا: كل ما خرج من الأرض مما يخلق فيها من غيرها مما له قيمة (¬4). تعريف الركاز: الركاز في اللغة: من الركز بمعنى الإثبات (¬5). وشرعًا: ما يوجد في الأرض أو على وجهها من دفائن الجاهلية ذهبًا أو فضة أو غيرها (¬6). ¬

_ (¬1) العلل الكبرى للترمذي (1/ 312). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (9/ 226) رقم الفتوى (4195). (¬3) انظر: النهاية لابن الأثير (3/ 82)، المغني (4/ 238). (¬4) المغني (4/ 239). (¬5) المغني (4/ 231). (¬6) المرجع السابق.

أدلة وجوب الزكاة في المعدن والركاز

أدلة وجوب الزكاة في المعدن والركاز: استدل أهل العلم على وجوب الزكاة في المعدن والركاز بعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} (¬1). قال القرطبي -رحمه الله-: "يعني النيات والمعادن والركاز" (¬2). وقد نقل صاحب المجموع الإجماع على وجوب الزكاة في المعادن حيث قال: "قال أصحابنا: أجمعت الأمة على وجوب الزكاة في المعادن" (¬3). صفة المعدن الدي تجب فيه الزكاة: اختلف أهل العلم في صفة المعدن الذي يتعلق به وجوب الزكاة على ثلاثة أقوال: القول الأول: قول الإِمام مالك (¬4)، والشافعيُّ (¬5) حيث قصرا المعدن الذي تجب فيه الزكاة على الذهب والفضة، وأما غيرهما من الجواهر فلا زكاة فيه. القول الثاني: قول أبي حنيفة (¬6) وأصحابه حيث أوجبوا الزكاة في المعادن المستخرجة من الأرض الجامدة التي تنطبع بالنار، أما المعادن السائلة والمعادن الجامدة التي لا تنطبع بالنار فلا شيء فيها. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 267. (¬2) تفسير القرطبي (3/ 321). (¬3) المجموع (6/ 37). (¬4) القوانين الفقهية، ص 102، الشرح الصغير (1/ 650)، بداية المجتهد (1/ 250). (¬5) مغنى المحتاج (1/ 394 - 396)، المجموع شرح المهذب (6/ 47). (¬6) فتح القدير (1/ 527 - 543)، الدر المختار (2/ 59 - 65)، بدائع الصنائع (2/ 65 - 68).

نصاب الزكاة في المعادن

القول الثالث: قول الحنابلة (¬1) حيث أوجبوا الزكاة في كل أنواع المعادن، وهي كل ما خرج من الأرض مما يخلق فيها من غيرها مما له قيمة، ولا فرق بين ما ينطبع وما لا ينطبع سواء أكان جامدًا أم سائلًا. الراجح من الأقوال: الذي نرجحه من هذه الأقوال هو ما ذهب إليه الحنابلة لعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} (¬2). وهذا ما يتمشى مع روح الشرع المطهر الذي يصلح لكل زمان ومكان، حيث نرى إمكانات الناس الهائلة في وقتنا الحاضر في استخراج شتى أنواع المعادن من باطن الأرض وخصوصًا السائلة منها، وهذا إذا كان بإمكان الشخص أن يمتلكها، أما إن كانت خاصة ببيت المال فلا زكاة فيها. نصاب الزكاة في المعادن: اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين: الأول: ذهب الحنفية (¬3) إلى وجوب الزكاة في المعدن في قليله وكثيره دون اعتبار نصاب له لأنهم قالوا إنه ركاز ولا يعتبر له حول، فلم يعتبر له نصاب كالركاز. الثاني: ما ذهب إليه مالك (¬4) والشافعيُّ (¬5)، وأحمدُ (¬6) إلى وجوب الزكاة في ¬

_ (¬1) المغني (4/ 238 - 239). (¬2) سورة البقرة: 267. (¬3) المراجع السابقة للحنفية. (¬4) المراجع السابقة للمالكية. (¬5) المراجع السابقة للشافعية. (¬6) المراجع السابقة للحنابلة.

مقدار الواجب في زكاة المعدن

المعدن إذا بلغ نصابًا وذلك بأن يبلغ الخارج ما قيمته نصاب من النقود، واستدل هؤلاء بعموم الأحاديث التي وردت في نصاب الذهب والفضة، وبالإجماع على أن نصاب الذهب عشرون مثقالًا. الراجح من القولين: الراجح هو اعتبار النصاب وعدم اعتبار الحول، ووجه التفريق هنا ما ذكره صاحب المغني حيث قال: "إن المعدن مفارق للركاز من حيث إن الركاز مال كافر أخذ في الإِسلام فأشبه القيمة، وهذا وجب مواساة وشكر لنعمة الغنى فاعتبر له النصاب كسائر الزكوات، وإنما لم يعتبر له الحول لحصوله دفعة واحدة فأشبه الزروع والثمار". مقدار الواجب في زكاة المعدن: اختلف أهل العلم في هذه المسألة: 1 - فذهب الحنفية (¬1) إلى وجوب الخمس في المعدن بناء على أنه فيء، وعليه فيصرف في مصالح المسلمين عامة. 2 - وذهب مالك (¬2)، وأحمدُ (¬3) في أحد قوليه إلى أن الواجب ربع العشر قياسًا على الواجب في النقدين، وعندهم أنه زكاة يصرف في مصارف الزكاة الثمانية. وهذا هو الراجح. زكاة ما يستخرج من البحر 1 - ذهب جمهور العلماء إلى أن المستخرج من البحر من اللؤلؤ والعنبر والمرجان ونحوهما لا شيء فيه من زكاة أو خمس. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (3/ 42 - 49). (¬2) الشرح الكبير على حاشية الدسوقي (1/ 486 - 493). (¬3) المغني (4/ 244، 245).

سادسا: زكاة المستغلات والدخل

2 - وفي رواية عن الإِمام أحمد (¬1)، وهو قول أبو يوسف (¬2) صاحب أبي حنيفة: فيه الزكاة لأنه يشبه الخارج من معدن البحر. 3 - وقال المالكية (¬3): ما خرج من البحر كالعنبر إن لم يتقدم عليه ملك فهو لواجده ولا يخمس كالصيد، فإن كان تقدم عليه ملك فإن كان لجاهلي أو شك في مالكه فركاز، وإن كان لمسلم أو ذمي فلقطة. والراجح: ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من عدم وجوب الزكاة في المستخرج من البحر لأنه كان يخرج على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه فلم يأت فيه سُنَّة عنه ولا عن أحد من خلفائه من وجه يصح، ولأن الأصل عدم الوجوب فيه ولا يصح قياسه على معدن البحر لأن العنبر إنما يلقيه البحر فيوجد ملقى في البر على الأرض من غير تعب فأشبه بالمباحات المأخوذة من البر. سادسًا: زكاة المستغلات والدخل: زكاة المستغلات من العمارات المؤجرة، والمصانع، ونحوها، وكذا الدخل من كسب العمل، والمهن الحرة، فقد اختلف فيه الفقهاء قديمًا وحديثًا على النحو الآتي: 1 - فذهب الجمهور إلى أن المال المستفاد من المستغلات والدخل متى حال عليه الحول وهو في حوزة مالكه وجبت فيه الزكاة. وقال آخرون بل متى قبضه يزكيه بشرط بلوغ النصاب، وكونه فاضلًا عن الحوائج الأصلية فلا يشترط له حول كالخارج من الأرض ولكل من القولين أدلته. لكن الذي يظهر أن الزكاة لا تجب فيها إلا إذا حال الحول على المال، وهو في ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) فتح القدير (1/ 432). (¬3) الشرح الكبير على حاشية الدسوقي (1/ 492).

سابعا: زكاة الأسهم والسندات

حوزة مالكه معاملة لها مثل غيرها من الأموال المملوكة، فإذا أجر شخص مصنعًا وقبض أجرته وحال عليها الحول وجبت فيها الزكاة، وكذلك المساكن المؤجرة مهما عظمت وكثرت لا تجب الزكاة إلا في أجرتها إذا حال عليها الحول، وهذا ما عليه عامة أهل العلم قديمًا وحديثًا. سابعًا: زكاة الأسهم والسندات: الأسهم لغة: جمع سهم، وهو الخط والنصب. واصطلاحًا: صكوك متساوية العتمة قابلة للتداول تصدرها شركة مساهمة تمنح لحاملها حقوقًا معينة مقابل التزامات محددة. والسند في اللغة: المعتمد. واصطلاحًا: صك قابل للتداول تصدره شركة أو حكومة، ويمثل قرضًا لحامله بفائدة معينة في أجل معين له استيفاء قيمتها بحلول الأجل (¬1). لقد جدت معاملات معاصرة اقتضى الأمر عرضها على نصوص الكتاب والسنة والقواعد الشرعية، وإلحاقها بأشبه المعاملات بها. ومن هذه الأمور المستجدة الأسهم والسندات فكيف زكاتها؟ نقول الأسهم: حقوق مالية يمتلكها الأفراد في شركات أو مؤسسات، ويقبضون أرباحها حسب نظام الشركة. والسندات: جمع سند، وهو تعهد مكتوب من جهة معينة كشركة بسداد مبلغ مقدر من قرض في تاريخ معين نظير فائدة مقدرة. ¬

_ (¬1) يراجع مادة سهم: المحكم والمحيط الأعظم (4/ 225)، مختار الصحاح، (ص: 134)، تاج العروس (32/ 439)، مادة سند: مختار الصحاح، (ص: 133)، مقاييس اللغة (3/ 105).

وأما كيفية زكاة الأسهم والسندات: فالذي يظهر من كلام أهل العلم أن صاحب الأسهم مخير بين أن يزكي رأس ماله كل سنة، وإذا قبض الربح زكاه لما مضى، أو لعام واحد على خلاف بين أهل العلم. وبين أن يسأل رأس كل حول عن قيمة أسهمه ويزكيها حسب ما يفيده به القائمون على الشركة أو المؤسسة التي ساهم فيها، أو ما يفيده به أهل الخبرة سواء كانت رابحة أو خاسرة، أو ما يعلن عنه في سوق المال. وزكاتها زكاة النقدين إذا بلغت نصابًا وهو ربع العشر (2. 5 %). وأما السندات فهي ديون مؤجلة. والراجح من كلام أهل العلم: وجوب تزكية الديون إذا كانت على موسرين، فإذا حال الحول على الديون ومنها السندات زكاها كغيرها من الأموال الموجودة عنده. وإن أخَّر زكاتها حتى قبضها زكاها إذا قبضها لما مضى. يقول الدكتور القرضاوي: " ... هناك اتجاهان في زكاة الأسهم والسندات: الاتجاه الأول: ينظر إلى هذه الأسهم والسندات تبعًا لنوع الشركة التي أصدرتها أهي صناعية أم تجارية أم مزيج منهما، فلا يعطي السهم حكمًا إلا بعد معرفة الشركة التي يمثل جزءًا من رأس مالها، وبناء عليه يحكم بتزكيته أو بعدمها. الاتجاه الثاني: ينظر إليها كلها نظرة واحدة، ويعطيها حكمًا واحدًا بغض النظر عن الشركة التي أصدرتها ... فيعتبرها عروض تجارة تأخذ أحكامها في كل شيء .... " (¬1) ¬

_ (¬1) فقه الزكاة، (ص: 523 - 527) بتصرف.

ذكر بعض الأحكام في إخراج الزكاة

إن المساهمة في البنوك الربوية أمر محرم لأنه تعامل بالربا صراحة وإعانة لها على عملها، كما أن المساهمة في الشركات التي يثبت تعاملها بالربا أمر محرم لأنه من التعاون على الإثم والعدوان المنهي عنه شرعًا، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬1). فلا تجوز المساهمة ابتداءً في هذه الشركات التي يجيز نظامها التعامل بالربا، لكن من جهل حالها ثم تبين له أنها تتعامل بالربا فعليه التخلص منها والبعد عنها، وإن لم يستطع فينتظر حتى توزيع أرباحها فإن علم قدر الربا أخرجه بنية التخلص منه لا بنية التقرب به إلى الله. وإن لم يعلم قدر الربا فعليه إخراج نصف الربح احتياطًا. ذكر بعض الأحكام في إخراج الزكاة: 1 - من وجبت عليه الزكاة إما أن يخرجها بإعطائها مباشرة إلى الفقراء وسائر المستحقين، وإما أن يدفعها للإمام ليصرفها في مصارفها. 2 - الزكاة فريضة من فرائض العبادات، ولذا يشترط فيها عند عامة الفقهاء النية عند إخراجها. ومعنى النية: أن يقصد بقلبه أن ما يخرجه هو الزكاة الواجبة عليه في ماله، لكن هل يشترط أن تكون النية مصاحبة للأداء على خلاف بين الفقهاء: 1 - صرح المالكية (¬2)، والشافعية (¬3) أنه ينوي عند دفعها إلى الإِمام أو إلى مستحقيها أو قبل الدفع بقليل، فإن نوى بعد الدفع لم يجزئه. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 2. (¬2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (1/ 500). (¬3) شرح المنهاج (2/ 43).

2 - أما الحنفية (¬1) فقالوا: يشترط مقارنة النية للأداء ولو حكمًا، كما لو دفع بلا نية ثم نوى، والمال لا يزال قائمًا في ملك الفقير بخلاف ما إذا نوى بعد ما استهلكه الفقير أو باعه فلا تجزيء عنه الزكاة. 3 - إن عزل الزكاة عن ماله ونوى عند العزل أنها زكاة كفى ذلك ولو لم ينو عند الدفع. 4 - من دفع الزكاة إلى وكيله ناويًا أنها زكاة كفى ذلك، والأفضل أن ينوي الوكيل أيضًا عند الدفع إلى المستحقين أيضًا ولا تكفي نية الوكيل وحده. 5 - من دفع ماله كله إلى الفقراء تطوعًا بعد وجوب الزكاة عليه لم تسقط عنه الزكاة، بل تبقى في ذمته وبهذا قال الحنابلة (¬2) لأنه لم ينو الفرض. وقال الحنفية (¬3) تسقط عنه الزكاة. والراجح: ما ذهب إليه الحنابلة. 6 - وجوب الزكاة على الفور: 1 - المشهور عند الحنفية (¬4) أن الزكاة تجب وجوبًا موسعًا, ولصاحب المال تأخيرها ما لم يطالب لأن الأمر بأدائها مطلق، فلا يتعين الزمن الأول لأدائها دون غيره كما لا يتعين مكان دون مكان. 2 - وذهب بعض الحنفية (¬5) إلى أنها واجبة على الفور لأن الأمر يقتضي الفورية، وهذا هو قول جمهور الفقهاء (¬6)، وهو الراجح، فلا يجوز تأخير الزكاة عن ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (2/ 4). (¬2) المغني (4/ 89). (¬3) حاشية ابن عابدين (2/ 12). (¬4) فتح القدير (1/ 482، 483)، رد المحتار (2/ 13، 14). (¬5) فتح القدير (1/ 482، 483)، رد المحتار (2/ 13، 14). (¬6) حاشية الدسوقي (1/ 502)، المغني (4/ 146، 147).

هل يجوز تأخير الزكاة لحاجة أو مصلحة راجحة؟

وقت وجوبها وذلك إبراءً لذمته. هل يجوز تأخير الزكاة لحاجة أو مصلحة راجحة؟ الراجح: أنه يجوز ذلك مثل أن يؤخرها ليدفعها إلى فقير غائب هو أشد حاجة من غيره من الفقراء الحاضرين، ومثل تأخيرها لقريب ذي حاجة لما له من الحق المؤكد، وما فيها من الأجر المضاعف. قال شمس الدين الرملي (¬1): "وله تأخيرها -يعني الزكاة- لانتظار أحوج أو أصلح أو قريب أو جار، لأن تأخيرها لغرض ظاهر وهو حيازة لفضيلة". لكن ينبغي أن يكون هذا التأخير يسيرًا، فأما إن كان كثيرًا فلا يجوز. 7 - حكم تعجيل الزكاة: 1 - ذهب جمهور الفقهاء (¬2) إلى جواز تعجيل الزكاة قبل حلول الحول. 2 - وقال ربيعة ومالك (¬3) لا يجوز تقديم الزكاة قبل حلول الحول سواء قدمها قبل ملك النصاب أو بعده. والراجح: ما ذهب إليه الجمهور من جواز تعجيل الزكاة لما ورد: "أن العباس -رضي الله عنه- سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له في ذلك" (¬4)، بشرط أن يكون النصاب موجودًا، أما عند عدم وجود النصاب فلا يجوز بغير خلاف، وذلك لأن النصاب سبب وجود الزكاة، والحول شرطها, ولا ¬

_ (¬1) نهاية المحتاج (2/ 124). (¬2) انظر في ذلك: فتح القدير (1/ 517، 518)، شرح المنهاج (2/ 44، 45)، المجموع شرح المهذب (6/ 112)، المغني (4/ 80، 81). (¬3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 502)، بداية المجتهد (1/ 266). (¬4) أخرجه الترمذيُّ (3/ 54)، وصححه الألباني في جامع الترمذيُّ (5/ 271) رقم (3085).

يقدم الواجب قبل سببه، ويجوز تقديمه قبل شرطه. 8 - من ترك إخراج الزكاة حتى مات فإنها لا تسقط عنه بالموت كسائر حقوق الله تعالى المالية، ويجب إخراجها من ماله سواء أوصى أم لم يوصي، وتخرج من كل ماله لأنها دين لله، وهذا هو قول الجمهور. وذهب أبو حنيفة (¬1) إلى أن الزكاة تسقط بالموت بمعنى أنه لا يجب إخراجها من تركته، فإن كان قد أوصى بها فهي وصية تزاحم سائر الوصايا في الثلث، وإن لم يوصِ بها سقطت. والراجح: ما ذهب إليه الجمهور. 9 - لا يجوز للدائن أن يسقط دينه عن مدينه الفقير المعسر الذي ليس عنده ما يسد به دينه ويحسبه من زكاة ماله، فإن فعل ذلك لم يجزئه عن الزكاة، وهذا هو قول الحنفية (¬2)، والمالكية (¬3)، والحنابلة (¬4). ووجه المنع أن الزكاة حق لله تعالى فلا يجوز للإنسان أن يصرفها إلى نفع نفسه وإحياء ماله واستيفاء دينه. 10 - قيل للإمام أحمد (¬5): يدفع الرجل زكاته إلى الرجل، فيقول: هذا من الزكاة، أو يسكت؟ قال: ولم يبكته بهذا القول؟ يعطيه ويسكت، ما حاجته إلى أن يقرعه؟ وهذا ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (2/ 28 - 54). (¬2) حاشية ابن عابدين (2/ 39). (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 494). (¬4) المغني (4/ 106). (¬5) المغني (4/ 98).

يقتضي الكراهة، وبه صرح اللقاني من المالكية (¬1)، قال: لما فيه من كسر قلب الفقير إلا إذا شك هل هو مستحق لها فيخبره لكي يرفضها إن لم يكن من أهلها. ¬

_ (¬1) الشرح الكبير (1/ 500).

زكاة الفطر

زكاة الفطر أولًا: التعريف بها: من معاني الزكاة في اللغة: النماء، والزيادة؛ والصلاح وصفوة الشيء، وما أخرجته من مالك لتطهر به. والفطر: اسم مصدر من قولك: أفطر الصائم إفطارًا (¬1). وأضيفت الزكاة إلى الفطر لأنه سبب وجوبها، وقيل لها فطرة لأنها من الفطرة التي هي الخلقة (¬2). قال النووي -رحمه الله-: "يقال - للمُخْرَجْ: فِطْرَة- والفطرة بكسر الفاء لا غير، وهي لفظة مولدة لا عربية ولا معربة بل اصطلاحية للفقهاء فتكون حقيقة شرعية على المختار، كالصلاة والزكاة. أما تعريفها في الاصطلاح: فهي صدقة تجب بالفطر من رمضان (¬3). ثانيًا: الحكمة في مشروعيتها: الحكمة من مشروعيتها ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنها: "طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ" (¬4)، وشكر لله -عَزَّ وجَلَّ- على إتمام الشهر، وطعمة للمساكين في هذا اليوم الذي هو يوم عيد وسرور، فكان من الحكمة أن يُعْطُوا هذه الزكاة من أجل أن يشاركوا الأغنياء في الفرح والسرور. ¬

_ (¬1) القاموس المحيط، والمصباح المنير، ولسان العرب، مادة: زكو. (¬2) كشاف القناع (2/ 345)، مغني المحتاج (1/ 401). (¬3) راجع حاشية الشلبي على الزيلعيّ، وشرح الزيلعيّ (1/ 306)، نيل المآرب (1/ 255). (¬4) أخرجه أبو داود، وحسنه النووي في المجموع (6/ 162)، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (3570).

ثالثا: حكمها التكليفي

ثالثًا: حكمها التكليفي: ذهب جمهور الفقهاء إلى وجوب زكاة الفطر، واستدل الجمهور لذلك بما رواه البخاري ومسلمٌ من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "فَرَضَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالأنثى وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنْ المُسْلِمِينَ" (¬1). وقال بعضهم: بأنها سنة، وحملوا جميع النصوص الواردة على الندب، ولكن الراجح قول الجمهور لظاهر النصوص الموجبة لها. رابعًا: شروط وجوب الزكاة في صدقة الفطر: 1 - الإِسلام: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الإِسلام شرط من شروط التكليف ومنه الزكاة فلا تجب على الكافر. وروي عن الشافعية (¬2) في الأصح عندهم أنه يجب على الكافر أن يؤديها عن أقاربه المسلمين. والراجح: ما ذهب إليه الجمهور، أي أنها لا تجب على الكافر مطلقًا لأنها قربة من القرب، وطهرة للصائم من الرفث واللغو، والكافر ليس من أهل الصيام إنما يعاقب على تركها يوم القيامة. 2 - الحرية: ذهب جمهور الفقهاء (¬3) إلى اشتراط الحرية لوجوب زكاة الفطر لأن العبد لا يملك، ومن لا يَمْلِك لا يُمْلِّكْ، وذهب الحنابلة (¬4) إلى عدم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ: كتاب الزكاة، باب فرض صدقة الفطر (1407)، مسلم: كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين (1636). (¬2) مغني المحتاج (1/ 402). (¬3) الدر المختار (1/ 72)، شرح الدردير لحاشية الدسوقي (1/ 504)، مغني المحتاج (1/ 402). (¬4) المغني (4/ 283، 285).

على من تجب زكاة الفطر على العبد أم سيده؟

اشتراط الحرية، بل تجب الزكاة على العبد أيضًا، وهذا هو الراجح لما جاء في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- المتقدم: "فَرَضَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالأُنثَى وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنْ المُسْلِمِينَ" (¬1). وهذا هو اختيار الشيخين ابن باز، وابن عثيمين رحمهما الله (¬2)، على من تجب زكاة الفطر على العبد أم سيده؟ الراجح: أنها واجبة على سيده لما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيْسَ في العَبْدِ صَدَقَةٌ إِلا صَدَقَةُ الفِطْرِ" (¬3). فهذا الحديث مخصصٌ لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- المتقدم فيما يتعلق بزكاة الفطر عن العبد، ولأن العبد مملوك للسيد لا يملك ما يجب عليه تطهيره. وقال بعض العلماء: بل تجب على العبد نفسه ويلزم السيد تفريغ العبد آخر رمضان ليتكسب ما يؤدي به صدقة الفطر، وهذا قول ضعيف لأن من القواعد المقررة أن ما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب، فلا يقال للعبد يجب عليك التكسب لأداء صدقة الفطر. 3 - أن يكون قادرًا على إخراج زكاة الفطر فلا يشترط كونه مالكًا للنصاب، وهذا هو قول الجمهور (¬4)، وذهب الحنفية (¬5) إلى اشتراط ملك النصاب الذي تجب فيه الزكاة كفضة أو ذهب، أو سوائم من الإبل والبقر والغنم، فمن ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص: 49). (¬2) فتاوى سماحة شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله- (14/ 197)، الشرح الممتع (6/ 156). (¬3) أخرجه مسلم: كتاب الزكاة، باب ليس على المسلم زكاة في عبده وفرسه (1633). (¬4) انظر: بداية المجتهد (1/ 164)، بلغة المسالك (1/ 201)، متن المنهاج على مغني المحتاج (1/ 403)، المغني (4/ 307 - 311)، كشاف القناع (2/ 247). (¬5) الزيلعيّ (1/ 307).

خامسا: على من تجب زكاة الفطر

كان عنده نصاب فاضلًا عن حوائجه الأصلية من مأكل وملبس ومسكن وسلاح وفرس وجبت عليه زكاة الفطر. والراجح: ما ذهبا إليه الجمهور، من أنه لا يشترط ملك النصاب لصدقة الفطر، بل متى كان عنده ما فضل من قوته وقوت من تلزمه نفقته ليلة العيد ويومه وجبت في حقه زكاة الفطر، وهذا هو قول الشيخ ابن عثيمين (¬1) -رحمه الله-. خامسًا: على من تجب زكاة الفطر: تجب زكاة الفطر على الكبير والصغير, والذكر والأنثى، والحر والعبد من المسلمين لما ثبت عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: "فَرَضَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِير عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالأنثَى وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنْ المُسْلِمِينَ" (¬2). ويجب أن يخرجها عن نفسه، لكن هل يلزم إخراجها عمن تلزمه مؤونته من زوجة أو قريب؟ عند الحنابلة يلزمه ذلك، والراجح أنهم إذا لم يستطيعوا إخراجها عن أنفسهم وجب عليه إخراجها عنهم. سادسًا: وقتها: تجب زكاة الفطر بغروب الشمس ليلة العيد، وهذا هو قول الشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4)، وهو أحد قولين عند المالكية (¬5) لقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "فَرَضَ ¬

_ (¬1) فتاوى الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- (14/ 197). (¬2) سبق تخريجه (ص:). (¬3) شرح المنهاج (1/ 528)، المجموع (6/ 109). (¬4) كشاف القناع (1/ 471)، المغني (4/ 298 - 300). (¬5) بلغة المسالك (1/ 201)، بداية المجتهد (1/ 144).

رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - زَكَاةَ الفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلمَسَاكِينِ مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ" (¬1). فدل الحديث على أن صدقة الفطر تجب بغروب شمس آخر يوم من رمضان وذلك لأنه أضاف الصدقة إلى الفطر، والإضافة تقتضي الاختصاص، أي الصدقة المختصة بالفطر، وأول فطر يقع عن جميع رمضان بغروب شمس آخر يوم من رمضان. أما الحنفية (¬2) فقالوا بأن وقتها يكون بطلوع فجر يوم العيد، وهو قول عند المالكية، واستدلوا لذلك بما رواه مسلم من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِزَكَاةِ الفِطْرِ أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاةِ" (¬3). فقالوا بأن أداءها الذي ندب إليه الشارع هو قبل الخروج إلى مصلى العيد فعلم أن وقت وجوبها هو يوم العيد، ولأن تسميتها صدقة الفطر تدل على أن وجوبها بطلوع فجر يوم الفطر؛ لأن الفطر إنما يكون بطلوع فجر ذلك اليوم، أما قبله فليس بفطر لأنه في كل ليلة من ليالي رمضان يصوم ويفطر، فيعتبر مفطرًا من صومه بطلوع ذلك اليوم. والراجح: ما ذهب إليه الأولون، من أنها إنما تجب بغروب شمس ليلة العيد لما ذكروه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، وحسنه النووي في المجموع (6/ 162)، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (3570). (¬2) فتح القدير (2/ 41)، الفتاوى الهندية (179). (¬3) أخرجه البخاريُّ: كتاب الزكاة، باب الصدقة قبل العيد (1413)، مسلم: كتاب الزكاة، باب الأمر بإخراج زكاة الفطر قبل الصلاة (1645).

هل يجوز إخراجها قبل العيد؟

هل يجوز إخراجها قبل العيد؟ الراجح من أقوال الفقهاء: أنه يجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، وهو قول المالكية (¬1)، والحنابلة (¬2) لقول ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كانوا يعطون صدقة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين" (¬3). وذلك يدل إقرارها من النبي - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الصحابة عليه. وهل وقتها موسع أم مضيق؟ 1 - ذهب الجمهور على أن وقتها مضيق لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- المتقدم، وفيه قوله: "فَمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاةِ فَهِيَ زَكاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ" (¬4). 2 - وذهب الحنفية (¬5) إلى أن وقتها موسع، ففي أي وقت أداها كان مؤديًا لا قاضيًا. لكن المستحب عندهم إخراجها قبل الذهاب إلى المصلى. والراجح: ما ذهب إليه الجمهور، فيحرم تأخيرها لحديث ابن عباس الذي استدل به الجمهور. لكن لا تسقط زكاة الفطر بخروج وقتها لأنها وجبت في ذمته لمن هي له، وهم مستحقوها، فهي دين لهم لا تسقط إلا بالأداء، أما حق الله في التأخير عن وقتها فلا يجبر إلا بالاستغفار والتوبة. ¬

_ (¬1) فتح القدير (2/ 41)، الفتاوى الهندية (179). (¬2) المراجع السابقة. (¬3) المراجع السابقة. (¬4) أخرجه ابن ماجه، وحسنه الألباني في سنن ابن ماجه (1/ 585) رقم (1827). (¬5) فتح القدير (2/ 41)، الفتاوى الهندية (179).

سابعا: القدر الواجب فيها

سابعًا: القدر الواجب فيها: اتفق الفقهاء على أن الواجب إخراجه في الفطرة صاع من جميع الأصناف التي يجوز إخراج الفطرة منها، عدا القمح والزبيب فقد اختلفوا في المقدار فيها. 1 - فذهب المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3) على أن الواجب إخراجه في القمح هو صاع منه. 2 - وذهب الحنفية (¬4)، واختاره شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬5) -رحمه الله- إلى أن الواجب في القمح هو نصف صاع. ودليل ما ذهب إليه الجمهور: حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَاعًا مِنْ طَعَامٍ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ فَلَمْ نَزَل كَذَلِكَ حَتى قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاوِيةُ المَدِينَةَ فكَانَ فِيمَا كَلَّمَ بِهِ النَّاسَ أَنْ قَالَ لا أُرَى مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ إِلا تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ هَذَا فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: لا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أبدًا مَا عِشْتُ" (¬6). ودليل الحنفية ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري السابق وفيه: فلما قدم ¬

_ (¬1) بداية المجتهد (1/ 64)، الشرح الصغير على أقرب المسالك (2/ 212). (¬2) المجموع شرح المهذب (6/ 88). (¬3) كشاف القناع (1/ 471 وما بعدها). (¬4) بدائع الصنائع (2/ 72، 73). (¬5) الاختيارات الفقهية، (ص: 183). (¬6) أخرجه البخاريُّ: كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر صاعًا من طعام (1410)، مسلم: كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين (1642)، ابن ماجه: كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر (1819) واللفظ له.

ثامنا: الأصناف التي تخرج منها زكاة الفطر

علينا معاوية حاجًا أو معتمرًا فكلم الناس على المنبر، وكان فيما كلم به الناس أن قال: "إني أرى أن مُدَّينِ من سَمُرَاء الشام -يعني القمح- تعدل صاعًا من تمر، فأخذ الناس بذلك" (¬1). والراجح: ما ذهب إليه الأولون، أي أن الواجب صاع من بر وغيره، وهذا هو اختيار الشيخين ابن باز وابن عثيمين (¬2) رحمهما الله. ثامنًا: الأصناف التي تخرج منها زكاة الفطر: 1 - ذهب الحنفية (¬3) إلى أنه يجوز أن تكون صدقة الفطر صاعًا من حنطة، أو صاعًا من شعير، أو تمر، وكذلك يجوز أن تكون نصف صاع من زبيب، أو نصف صاع من بر، ودقيق الحنطة والشعير وسويقهما مثل الشعير عندهم، أما الأقط فيعتبر فيه القيمة عندهم، وما سوى ذلك فيعتبر فيه القيمة عندهم، وسوف نذكر إن شاء الله حكم إخراج القيمة لصدقة الفطر. 2 - أما المالكية (¬4) فقالوا بأن صدقة الفطر تكون في أغلب القوت الذي يقتاته الناس، كالعدس، والفول، والقمح، والشعير، والتمر، والأقط، وغيره مما يقتاته الناس. 3 - وذهب الشافعية (¬5) إلى أنه يشترط من المخرج من الفطرة أن يكون من الأقوات التي يجب فيها العُشْر، وأنه لا يجزئ من غيرها إلا الأقط، والجبن، واللبن علي خلاف في المذهب. ¬

_ (¬1) نفس المرجع السابق. (¬2) مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- (14/ 201)، الشرح الممتع (6/ 181). (¬3) تحفة الفقهاء لعلاء الدين السمرقندي (1/ 516، 517)، بدائع الصنائع (2/ 72، 73). (¬4) الشرح الكبير على حاشية الدسوقي (1/ 505، 506). (¬5) المجموع شرح المهذب (6/ 130، 131).

تاسعا: مكان دفع زكاة الفطر

4 - أما الحنابلة (¬1) فقالوا: لا يجزئ من الفطرة إلا التمر، والشعير، والبر، قال في المفردات: وواجد المنصوص نحو التمر ... أيضًا وكالشعير أو البر فطرته إخراجها من ذاته ... لا غيره ولو من اقتياته قال البهوتي (¬2) في شرح ذلك: "أي من وجد الأجناس المنصوص عليها أو بعضها أخرج فطرته منها, ولا يجوز له العدول عنها إلى غيرها مع القدرة عليها سواء كان المعدول إليه من قوت بلده أو لم يكن لأن النص قصرها على أجناس معدودة، فلم يجز العدول عنها كما لو أخرج القيمة ... ". فهذا حاصل ما ذكره الفقهاء في الأصناف التي تخرج منها صدقة الفطر. الراجح: ما ذهب إليه المالكية، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬3) رحمه الله، واختاره الشيخان (¬4) ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله. قال الشيخ ابن باز (¬5) -رحمه الله-: "الواجب إخراجها من قوت البلد، سواء كان تمرًا، أو شعيرًا، أو برًا، أو غير ذلك في أصح قولي العلماء لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يشترط في ذلك نوعًا معينًا، ولأنها مواساة وليس على المسلم أن يواسي من غير قوته". تاسعًا: مكان دفع زكاة الفطر: تدفع زكاة الفطر إلى فقراء المكان الذي هو فيه وقت الإخراج سواء كان محل إقامته أو غيره من بلاد المسلمين لا سيما إذا كان مكانًا فاضلًا كمكة والمدينة، ¬

_ (¬1) الإنصاف مع معرفة الراجح من الخلاف (3/ 179 وما بعدها). (¬2) المنح الشافيات بشرح مفردات الإِمام أحمد للبهوتي (1/ 278، 279). (¬3) الاختيارات الفقهية، (ص: 182). (¬4) الشرح الممتع (6/ 182)، مجموع فتاوى سماحة شيخنا (14/ 198). (¬5) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (14/ 198).

عاشرا: لمن تدفع زكاة الفطر

أو كان فقراؤه أشد حاجة، فإن كان في بلد ليس فيه من يدفع إليه، أو كان لا يعرف المستحقين فيه وكَّل من يدفعها عنه في مكان فيه مستحق. وبناء على ذلك فمن أقام في بلاده أكثر رمضان ثم سافر في آخره إلى بلد أخرى فالأولى له أن يدفعها إلى فقراء البلد الذي تجب عليه فيه، وهو غروب شمس آخر يوم من رمضان، فمن كان في أي بلد من بلاد المسلمين وأتى إلى مكة في رمضان فالأفضل أن يدفعها إلى فقراء الحرم إذ وجبت عليه في نفس المكان وهو فاضل، وإن دفعها إلى فقراء بلده الذي يقيم به أكثر السنة أجزأته ولكنه خلاف الأولى، فالحاصل أن زكاة الفطر متعلقة بالبدن، فأينما وجد البدن أخرجها في المكان الذي هو فيه. قال الشيخ عبد العزيز بن باز (¬1) -رحمه الله-: "المشروع إخراجها في فقراء المسلمين في البلد التي فيها المزكي لأنهم أحوج إليها غالبًا, ولأنها مواساة لهم حتى يستغنوا بها عن السؤال أيام العيد، وإن نقلت إلى غيرهم من الفقراء أجزأت في أصح قولي العلماء لأنها بلغت محلها, لكن صرفها إلى فقراء البلد أولى وأفضل وأحوط". عاشرًا: لمن تدفع زكاة الفطر: 1 - ذهب الحنفية (¬2) إلى أن زكاة الفطر كالزكاة في المصارف إلا في جواز الدفع للذمي. 2 - وذهب المالكية (¬3) إلى أن زكاة الفطر تدفع لحر مسلم فقير، وما وراء ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (5/ 102) جمع: د. عبد الله الطيار. (¬2) الدر المختار شرح تنوير الأبصار (2/ 369). (¬3) الخرشي (2/ 233)، الشرح الكبير (1/ 508).

الحادي عشر: ذكر بعض الأحكام المتعلقة بصدقة الفطر

ذلك ممّن يليها أو يحرسها فلا تدفع إليه، ولا تعطى لمجاهد أيضًا, ولا يشترى له بها آلة، ولا للمؤلفة قلوبهم، ولا لابن السبيل إلا إذا كان فقيرًا بالموضع الذي هو فيه، فيعطى منها بوصف الفقر، ولا يعطى منها ما يوصله لبلده، ولا يشترى منها رقيق ولا غارم. 3 - وذهب الشافعية (¬1) في المشهور من مذهبهم إلى أنه يجب صرف الفطرة إلى الأصناف الثمانية الذين تصرف إليهم زكاة المال. 4 - وذهب الحنابلة (¬2) إلى أن مصرف الفطرة هو مصرف الزكاة. قال المرداوي: "وعليه الأصحاب، فلا يجوز دفعها لغيرهم". وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬3) -رحمه الله-: "لا يجزئ إطعامها إلا لمن يستحق الكفارة وهم الآخذون لحاجة أنفسهم فلا يعطى منها المؤلفة، ولا الرقاب، ولا غير ذلك". الراجح: الذي نرجحه من هذه الأقوال أن صدقة الفطر خاصة للفقراء والمساكين إلا إذا اقتضت المصلحة صرفها لأحد المصارف الثمانية غير الفقراء والمساكين ورأى الإِمام أو نائبه ذلك (¬4). الحادي عشر: ذكر بعض الأحكام المتعلقة بصدقة الفطر: 1 - لا يجوز إخراج القيمة في زكاة الفطر وهذا هو ما وصل إليه المالكية (¬5)، ¬

_ (¬1) المجموع (6/ 144). (¬2) الإنصاف (3/ 186). (¬3) الاختيارات الفقهية، (ص: 182). (¬4) أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة أن مصرف زكاة الفطر هو مصرف الزكاة، رقم الفتوى 16357 وتاريخ: 6/ 11 / 1414 هـ. (¬5) الشرح الكبير (1/ 502).

والشافعية (¬1) والحنابلة (¬2) لأنه لم يرد نص بذلك، ولأن القيمة في حقوق الناس لا تجوز إلا عن تراض منهم، وليس لصدقة الفطر مالك معين حتى يجوز رضاه أو إبراءه. قال الشيخ عبد العزيز بن باز (¬3) -رحمه الله-: "والأصل في العبادات التوقيف، ولا نعلم أحدًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرج النقود في زكاة الفطر، وهم أعلم الناس بسنته - صلى الله عليه وسلم - وأحرص الناس على العمل بها, ولو وقع منهم شيء من ذلك لنقل كما نقل غيره من أقوالهم وأفعالهم المتعلقة بالأمور الشرعية". وقال أيضًا: "ومما ذكرنا يتضح لصاحب الحق أن إخراج النقود في زكاة الفطر لا يجوز ولا يجزئ عمن أخرجه لكونه مخالفا كما ذكر للأدلة الشرعية". وذهب الحنفية (¬4) إلى جواز دفع القيمة في صدقة الفطر بناء على أصلهم في جواز دفع القيمة في الكفارة، وقالوا: بل هو أولى ليتيسر للفقير أن يشتري أي شيء يريده في يوم العيد؛ لأنه قد لا يكون محتاجًا إلى الحبوب، بل هو محتاج إلى ملابس، أو لحم، أو غير ذلك، فإعطاءه الحبوب يضطره إلى أن يطوف بالشوارع ليجد من يشتري منه الحبوب، وقد يبيعها بثمن بخس أقل من قيمتها الحقيقية. هذا كله في حالة اليسر ووجود الحبوب بكثرة في الأسواق، أما في حالة الشدة وقلة الحبوب في الأسواق فدفع العين أولى من القيمة مراعاة لمصلحة الفقير (¬5). ¬

_ (¬1) المجموع (5/ 401)، (6/ 252). (¬2) كشاف القناع (2/ 226). (¬3) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (14/ 210، 211). (¬4) بدائع الصنائع (2/ 73). (¬5) يرى الدكتور الطيار عدم جواز إخراج القيمة في الزكاة لاعتبارات ذكرها في كتابه (الزكاة وتطبيقاتها المعاصرة في الفقه الإِسلامي) فليراجع.

2 - لا ينبغي أن تعطى الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله، فإن الله فرضها معونة على طاعته لمن يحتاج إليها من المؤمنين كالفقراء والمساكين وغيرهم، فمن لا يصلي من أهل الحاجات لا يعطى شيئًا منها حتى يتوب ويلتزم بأداء الصلاة في وقتها. 3 - من عجز عن صدقة الفطر وقت وجوبها عليه ثم أيسر فأداها فقد أحسن. 4 - يجوز دفع صدقة الفطر لفقير واحد، وهو المذهب عند الحنابلة (¬1). 5 - يجوز دفع صدقة الفطر للجمعيات الخيرية، كجمعية البر، وهيئة الإغاثة العالمية على أنه يجب على الجمعيات الخيرية صرفها للمستحقين لها قبل صلاة العيد، ولا يجوز تأخيرها عن ذلك. 6 - من كان عليه دين وصاحبه لا يطالبه به، أدى صدقة الفطر وقت وجوبها عليه. ¬

_ (¬1) المغني (4/ 316).

مصارف الزكاة

مصارف الزكاة معنى مصارف الزكاة: أي الجهة التي تصرف إليها الزكاة، وهم المستحقون لها من الأصناف الثمانية التي جاءت نصوص الكتاب العزيز ببيانهم في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬1). فدلت الآية على أن مستحقيها هم: أولًا: الفقراء: وهم أصحاب السهم الأول، والفقير في رأي الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3)، هو من ليس له مال ولا كسب يقع موقعًا من كفايته أو حاجته، وليس له زوج ولا أصل ولا فرع يكفيه نفقته ولا يحقق كفايته مطعمًا وملبسًا ومسكنًا كمن يحتاج إلى عشرة ولا يجد إلا ثلاثة حتى وإن كان صحيحًا يسأل الناس أو كان له مسكن وثوب يتجمل به. أما الحنفية (¬4) فالفقير عندهم من له شيء دون النصاب أو قدر النصاب غير تام، أو مشغول بالحاجة الأصلية، فيصح الدفع إليه ولو كان صحيحًا متكسبًا، أو يملك نصبًا كثيرة غير نامية، أو كانت مشغولة بالحاجة الأصلية. ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 60. (¬2) المحلى على المحتاج (3/ 196). (¬3) المغني (6/ 420). (¬4) فتح القدير (2/ 15، 16).

ثانيا: المساكين

ثانيًا: المساكين: جمع مسكين، وهو الذي يقدر على كسب ما يسد من حاجته، ولكن لا يكفيه كمن يحتاج إلى عشرة وعنده ثمانية لا تكفيه الكفاية اللائقة بحاله من مطعم وملبس ومسكن. فالفقير عند الشافعية (¬1)، والحنابلة (¬2) أسوأ حالًا من المسكين، فالفقير هو من لا مال له ولا كسب أصلًا، أو كان يملك أو يكتسب أقل من نصف ما يكفيه لنفسه ومن تجب عليه نفقته من غير إسراف ولا تقتير، والمسكين هو من يملك أو يكتسب نصف ما يحتاجه فأكثر، وإن لم يصل إلى قدر كفايته، والمراد بالكفاية في حقه المكتسب كفاية يوم بيوم. وذهب الحنفية (¬3)، والمالكية (¬4) إلى أن المسكين أسوأ حالًا من الفقير كما نقل عن بعض أئمة اللغة، ولقوله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (¬5)، أي ألصق جلده بالتراب ليواري جسده. والذي يترجح عندنا بعد عرض القولين: أن الفقراء والمساكين هم الذين ليس عندهم مال يكفيهم، والفقير أشد حاجة، والمسكين أحسن حالًا منه، وإذا أطلق أحدهما دخل فيه الآخر، فيعطون من الزكاة ما يكفيهم هم وعوائلهم في حاجتهم الضرورية سنة كاملة، وهذا ما رجحه الشيخ ابن باز (¬6) -رحمه الله-. ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) المرجع السابق. (¬3) المرجع السابق. (¬4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 492). (¬5) سورة البلد: 16. (¬6) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (14/ 14).

متى يجوز إعطاء من له مال يكفيه من الزكاة؟

متى يجوز إعطاء من له مال يكفيه من الزكاة؟ من كان له مال يكفيه فلا يستحق من الزكاة، لكن إن كان له مال غائب ينتظر وصوله، أو كان دينًا مؤجلًا، أوكان دينًا على معسر فيجوز إعطاؤه من الزكاة ما يكفيه إلى أن يصل إليه ماله أو يحل الأجل، وهذا مذهب الشافعية (¬1). إعطاء من يطلب العلم الشرعي من الزكاة: إن شغله عن الكسب طلب العلم الشرعي لم يمنع ذلك من إعطائه من الزكاة لأن طلب العلم فرض كفاية بخلاف التفرغ للعبادة. حد الكافية المعتبرة لمن لا يستحق الزكاة: الكفاية المعتبرة عند جمهور الفقهاء: هي المطعم والمشرب والمسكن وسائر ما لا بد منه على ما يليق بالحال من غير إسراف ولا تقتير للشخص نفسه وممن هو في نفقته. وصرح المالكية (¬2) وغيرهم بأن مال الزكاة إن كان فيه سعة فيجوز الإعانة به لمن أراد الزواج، وبه قال الشيخ ابن باز (¬3) -رحمه الله-. مقدار ما يعطى الفقير والمسكين من الزكاة: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الواحد من أهل الحاجة المستحقة للزكاة كالفقير والمسكين يعطى من الزكاة الكفاية أو تمامها له ولمن يعوله عاما كاملًا ولا يزاد عليه، وإن كان يملك أو يحصل له بعض الكفاية أعطي تمام الكفاية لعام. وذهب الشافعية (¬4) في قول وهو رواية في مذهب أحمد إلى أن الفقير والمسكين يعطيان ما يخرجهما من الفاقة إلى الغنى وهو ما يحصل به الكفاية على ¬

_ (¬1) شرح المحلى على المنهاج (3/ 196). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 494)، (¬3) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (14/ 275). (¬4) المجموع (6/ 194).

إعطاء من لديه عقار ونحوه يستفيد منه بعض كفايته هل يعطى كفايته من الزكاة

الدوام، والراجح ما ذهب إليه الجمهور، وهو قول الشيخ (¬1) -رحمه الله-. وقال العلامة ابن عثيمين (¬2) -رحمه الله-: الفقير يعطى كفايته إلى نهاية العام لأن الزكاة تتجدد كل سنة، ولو قيل: أنه يعطى إلى أن يصبح غنيًا ويزول عنه وصف الفقر لكان قولًا قويًا، وكذلك القول في المسكين. والذي نراه هو القول الأول لأن الزكاة تتكرر كل سنة، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدخر لأهله قوت سنة (¬3)، وإن كانت الزكاة بحيث تفي بحاجة الفقراء والمساكين وزيادة فلا بأس من إعطائهم ما يخرجهم من الفقر والمسكنة إلى الغنى. إعطاء من لديه عقار ونحوه يستفيد منه بعض كفايته هل يعطى كفايته من الزكاة: نص الإِمام أحمد على أن من عنده عقار يتضرر لو باعه ويستغل منه أدنى من كفايته فإنه يعطى كفايته ولا يلزم بيعه لأن زكاة الناس لن تدوم له كل سنة. إعطاء القادر المتفرغ للعبادة من الزكاة: من كان قادرًا على التكسب وليس له مال وأراد أن يتفرغ إلى طلب العبادة فهذا لا يعطى من الزكاة لأن نفعه قاصر على المتعبد بخلاف طالب العلم فإن نفعه متعدي لغيره. إعطاء القادر القوي من الزكاة بدعواه أنه لا يجد مكسبًا: إذا ادعى رجل صحيح قوي أنه لا يجد مكسبًا يجوز أن يعطى من الزكاة إن كان مستور الحال، ويقبل قوله بغير يمين، أما إن علم كذبه بيقين لم يصدق ولم يجز إعطائه من الزكاة، وإن ادعى أن له عيالًا وطلب من الزكاة لأجلهم فعند الشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5) لا يقبل قوله إلا ¬

_ (¬1) المرجع السابق (14/ 268). (¬2) الشرح الممتع (6/ 221). (¬3) رواه البخاري: كتاب النفقات، باب حبس نفقة الرجل قوت سنة على أهله وكيف نفقات عياله (4938) (¬4) المجموع شرح المهذب (6/ 195). (¬5) الإنصاف (3/ 245).

ثالثا: العاملون عليها

ببينة لأن الأصل عدم العيال، ولا تتعذر إقامة البينة على ذلك، وكذا من كان معروفًا باليسار لا يعطى من الزكاة، لكن إن ادعى أن ماله تلف أو فقد كلف البينة على ذلك. واختلف قول الحنابلة في عدد البينة، فقيل لا بد من ثلاثة، واحتج لذلك بحديث قبيصة، وفيه: " ... وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلاَثةٌ مِنْ ذَوِي الحِجَا مِنْ قَوْمهِ لَقَدْ أَصَابَتْ فُلانًا فَاقَة فَحَلَّتْ له المَسْألَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ" أَوْ قَالَ: "سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ ... " (¬1). وفي رواية أخرى في المذهب: أنه يقبل قول اثنين فقط كسائر الحقوق، وقالوا بأن الحديث إنما جاء في المسألة لا في الإعطاء دون المسألة. ثالثًا: العاملون عليها: وهم السعاة لجباية الصدقة، والمراد بهم هنا من ترسلهم الحكومة لجمع الزكاة من أهلها، وصرفها لمستحقيها فهم ولاة وليسوا أجراء، وإنما قلنا ذلك لأجل أن يفهم أن من أعطى زكاة ليوزعها فليس من العاملين عليها، بل هو وكيل عليها أو بأجرة، ولهذا فإن الزكاة إذا تلفت عند العاملين عليها فإن ذمة المزكي بريئة منها، وأما إذا تلفت عند الموكل في التوزيع فلا تبرأ ذمة المزكي. ويشترط في العاملين عليها العدالة والمعرفة بفقه الزكاة، ويدخل الحاشر -الذي يجمع أرباب الأموال- والكاتب، وقاسم الزكاة، وحافظ المال، والعريف -الذي يعرف أرباب الاستحقاق-, وعداد المواشي، والكيال، والوزان، والراعي، وكل من يحتاج إليه في الزكاة لدخولهم في مسمى -العامل-، كل هؤلاء يدخلون بين مستحقيها غير قاضٍ ووالٍ لاستغنائهما بمالهما من بيت المال. ¬

_ (¬1) رواه مسلم: كتاب الزكاة، باب من تحل له المسألة (1730).

رابعا: المؤلفة قلوبهم

ولا يشترط كون العاملين عليها فقراء، بل يعطون ولو كانوا أغنياء لأنهم يعملون لمصلحة الزكاة، فهم يعملون للحاجة إليهم لا لحاجتهم، فإذا انضم إلى ذلك أنهم فقراء ونصيبهم من العمل على الزكاة لا يكفي لمئونتهم ومئونة عيالهم فإنهم يأخذون بالسببين، أي سبب العمل، وسبب الفقر. القدر الذي يعطى منه العاملون عليها من الزكاة؟ يعطى العاملون عليها منها بقدر عملهم وتعبهم على ما يراه ولي الأمر. رابعًا: المؤلفة قلوبهم: وهم الذين يعطون لتأليف قلوبهم ممّن يرجى إسلامه، أو كف شره، أو يرجى بعطيته قوة إيمانه، وهم نوعان: مسلمون وكفار. أما الكفار فصنفان؟ صنف يرجى خيره، وصنف يخاف شره. وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى قومًا من الكفار يتألف قلوبهم ليسلموا، ففي صحيح مسلم (¬1) أنه أعطى أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وعيينه بن حصن، والأقرع بن حابس، وعباس بن مرداس، كل إنسان منهم مائة من الإبل، وأعطى أيضًا علقمة بن علاثة من غنائم حنين. واختلف الفقهاء في إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة حال كونهم كفارًا: 1 - فقال الحنابلة (¬2)، والمالكية (¬3) يعطون ترغيبًا في الإِسلام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى المؤلفة من المسلمين والكفار. ¬

_ (¬1) رواه مسلم: كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإِسلام وتصبر من قوى إيمانه (1757). (¬2) المغني (6/ 427). (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 495).

قال صاحب المغني: "ولنا كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله تعالى سمَّى المؤلفة من الأصناف الذين سمَّى الصدقة لهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله تعالى حكم فيها، فجزأها ثمانية أجزاء"، وكان بعض المؤلفة قلوبهم كثيرًا في أخبار مشهورة، ولم يزل كذلك حتى مات، ولا يجوز ترك كتاب الله وسنة رسوله إلا بنسخ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال ... إلى آخر ما قاله -رحمه الله-" (¬1). 2 - وقال الحنفية (¬2)، والشافعية (¬3) لا يعطى الكافر من الزكاة لا لتأليف ولا لغيره، وقد كان إعطاؤهم في صدر الإِسلام في حال قلة المسلمين، وكثرة عددهم، وقد أعز الله الإِسلام وأهله، واستغنى بهم عن تأليف الكفار، ولم يعطهم الخلفاء الراشدون بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال عمر -رضي الله عنه-: "إنا لا نعطي على الإِسلام شيئًا، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (¬4). الراجح: نرى أن الراجح هو جواز إعطاء المؤلفة قلوبهم إذا كان ذلك في مصلحة الإِسلام والمسلمين وأُقرَّ من أهل الفتوى في البلاد. وأما المسلمون من المؤلفة قلوبهم فهم أصناف ويعطون بسبب احتياجنا لهم، وهم: 1 - ضعفاء النية في الإِسلام؟ 2 - الشريف المسلم في قومه الذي يتوقع بإعطائه إسلام نظرائه، فقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ذكرنا أبا سفيان بن حرب وجماعة، وأعطى أيضًا الزبرقان بن بدر، وعدي بن حاتم لشرفهما في قومهما. ¬

_ (¬1) المغني (6/ 427). (¬2) فتح القدير (2/ 14). (¬3) القليوبي على شرح المنهاج (3/ 196، 198). (¬4) أخرجه البيهقيُّ (7/ 20) ط دائرة المعارف العثمانية.

خامسا: في الرقاب

3 - المقيم في ثغر من ثغور المسلمين المجاورة للكفار ليكفينا شر من يليه من الكفار بالقتال. خامسًا: في الرقاب: وهم عند جمهور الفقهاء المكاتبون المسلمون الذين لا يجدون وفاء ما يؤدون ولو مع القوة والكسب؛ لأنه لا يمكن الدفع إلى الشخص الذي يرادفك رقبته إلا إذا كان مكاتبًا. قال المالكية (¬1) يشتري بسهمهم رقيقًا فيعتق لأن كل موضع ذكرت فيه الرقبة يراد به عتقها، والعتق والتحرير لا يكون إلا في العتق والعبد الخالص العبودية كما في الكفارات. والراجح: أن كلمة الرقاب تشمل هذا وهذا أي تشمل المكاتب وغيره، فيعطى المكاتب من الزكاة، وكذلك العتق أي العبد الخالص يعطى منها لأنه داخل في عموم قوله تعالى: {وَفِي اَلرِّقَابِ} لا سيما إذا كان هذا العبد عنده سيد يؤذيه، أو عنده سيد لا يؤمن عليه، فإنه يُشترى من الزكاة ويعتق. وهذا ما ذهب إليه المالكية (¬2)، وأحمدُ (¬3) في رواية عنه، والحنفية (¬4)، والشافعية (¬5). وذهب الإِمام أحمد (¬6) في رواية أخرى أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى الرقيق المسلم، لكن الراجح كما ذكرنا جواز إعطاء الرقيق المسلم منها، وهو اختيار ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 496). (¬2) المرجع السابق. (¬3) كشاف القناع (2/ 280). (¬4) فتح القدير (2/ 17). (¬5) المجموع (6/ 200). (¬6) المغني (6/ 429، 430).

إعطاء الزكاة في تخليص الأسير المسلم

الشيخ ابن باز (¬1)، والشيخ ابن عثيمين (¬2). إعطاء الزكاة في تخليص الأسير المسلم: يجوز تخليص الأسير المسلم من الناس من سهم الرقاب، وقد صرح الحنابلة (¬3) وابن حبيب، وابن عبد الحكم من المالكية (¬4) بجواز هذا النوع لأنه فك رقبة من الناس فيدخل في الآية، بل هو أولى من فك رقبة من بأيدينا، وهذا ما ذهب إليه الشيخان ابن باز وابن عثيمين (¬5). اعتبار عتق العبد من الزكاة: من كان عنده عبد فأراد أن يعتقه من الزكاة هل يجزئه؟ لا يجزئه ذلك لأنه بمنزلة إسقاط الدين عن الزكاة، أي بمنزلة من كان له دين عند شخص فقير فيسقطه عنه ويحسب من الزكاة. مقدار إعطاء المكاتب والرقيق أو الأسير من الزكاة؟ يعطى المكاتبون ما يحصل به الوفاء. مثاله: اشترى عبدًا نفسه من سيده بعشرة آلاف، يدفع منها خمسة بعد ستة أشهر، وخمسة بعد ستة أشهر أخرى، فهنا يعطيه خمسة آلاف للأجل الأول، وخمسة آلاف للأجل الثاني. أما الرقيق الخلّص وكذلك الأسير فيعطون من الزكاة بقدر ما يحصل به ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (14/ 15). (¬2) الشرح الممتع (6/ 230، 231). (¬3) المرجع السابق للحنابلة. (¬4) المرجع لسابق للمالكية. (¬5) المراجع السابقة للشيخين.

سادسا: الغارمون

الفكاك من الرق أو الأسر. سادسًا: الغارمون: الغارم: من لحقه الغرم، وهو الضمان والإلزام بالمال وما شابه ذلك، وهم نوعان: الأول: من كان غارمًا لإصلاح ذات البين: والأصل في هذا النوع حديث قبيصة المرفوع، وقد تقدم ذكره، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ... يَا قَبِيصَةُ إِنَّ المَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ إلا لأَحَدِ ثَلاَثةٍ رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلَة حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَه فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ -أَوْ قَالَ: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ-, وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلاثَةٌ مِنْ ذَوِي الحِجَا مِنْ قَوْمِهِ لَقَدْ أَصَابَتْ فُلانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ -أَوْ قَالَ: سِدَادًا مِنْ عَيْش- فَمَا سِوَاهُنَّ مِنْ المَسْألةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا يَأكلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا" (¬1). وصورة هذا النوع: أن يكون بين قبيلتين أو حيين عداوة وفتنة، يكون فيها قتل نفس، أو إتلاف مال، فيتحمله شخص لأجل الإصلاح بينهم، فيعطى من الزكاة لتسديد حمالته. هل يشترط كونه فقيرًا؟ 1 - ذهب الشافعية (¬2)، والحنابلة (¬3) إلى أن هذا النوع من الغارمين يعطى من الزكاة سواء كان غنيًا أو فقيرًا لأنه لو اشترط الفقر فيه لألغيت هذه المكرمة. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص:). (¬2) روضة الطالبين (2/ 318)، المجموع (6/ 206)، مغني المحتاج (3/ 111). (¬3) المغني (6/ 433).

الثاني: الغارم لمصلحة نفسه

2 - وذهب الحنفية (¬1) إلى أنه لا يعطى المتحمل من الزكاة إلا إذا كان لا يملك نصابًا فاضلًا عن دينه كغيره من المدينين. والراجح: ما ذهب إليه الشافعية، والحنابلة من أنه لا يشترط كونه فقيرًا، بل يعطى من الزكاة مع الغنى لأن إعطاء الغارم لغرمه ولأننا نعطيه هنا للحاجة إليه، ومن أعطي للحاجة إليه فإنه لا يشترط أن يكون فقيرًا. الثاني: الغارم لمصلحة نفسه: وهذا النوع غارم لشيء يخصه، فهذا يعطى مع الفقر، والفقر هنا ليس كالفقر في الصنف الأول إنما الفقر هنا هو العجز عن الوفاء وإن كان عنده ما يكفيه ويكفي عياله لمدة سنة أو أكثر. ويشترط لإعطائه من الزكاة أن يكون: 1 - مسلمًا. 2 - أن لا يكون من آل البيت، وفي قول في المذهب جواز إعطاء مدين آل البيت من الزكاة، وهو الصواب في هذا العصر لعدم الفيء، أما صدقة التطوع فلا حرج فيها. 3 - أن لا يكون قد استدان ليأخذ من الزكاة كأن يكون عنده ما يكفيه وتوسع في الإنفاق بالدين لأجل أن يأخذ منها بخلاف فقير استدان للضرورة ناويًا الأخذ منها وهذا الشرط عند المالكية (¬2). 4 - أن لا يكون الدين في معصية، وهذا عند الجمهور كأن يكون بسبب خمر ¬

_ (¬1) فتح القدير (2/ 17). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 496، 497).

كيفية إعطاء الغارم الزكاة؟

أو قمار أو زنى، لكن إن تاب يجوز الدفع إليه، وقيل لا، ورجح المالكية (¬1) الأول، وهو الراجح، فمتى تاب أخذ من الزكاة وإلا لم نعطه لأن هذا إعانة على المحرم، ولذلك لو أعطيناه لاستدان مرة أخرى. إعطاء المسرف في النفقة من الزكاة: يرى الشافعية (¬2) أن الإسراف في النفقة يمنع الإعطاء. 5 - أن لا يكون قادرًا على السداد من مال عنده زكوي أو غير زكوي زائد عن كفايته، فلو كان له دار يسكنها تساوي مائة، وعليه مائة وتكفيه دار بخمسين فلا يعطى حتى تباع ويدفع الزائد في دينه. إعطاء الدائن من الزكاة عن المدين دون عليه: يجوز ذلك لأن هذا داخل في عموم قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ}، فهي مجرور بـ {فِي}، و {وَالْغَارِمِينَ} معطوف على الرقاب، فالتقدير وفي الغارمين {وَفِي} لا تدل على التمليك فيجوز أن ندفعها إلى الدائن. كيفية إعطاء الغارم الزكاة؟ إذا كان الغريم حريصًا على وفاء دينه فيعطى إياها ليتولى دفعها بنفسه، وإذا كان يخشى أن لا يوفي دينه ويفسد ماله فالأولى أن لا نعطيه بل نذهب إلى الغريم الذي يطلبه ونسدد عنه دينه. حكم قضاء دين الميت من الزكاة: اختلف الفقهاء في قضاء الدين عن الميت من الزكاة، فذكر الإِمام النووي (¬3) ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) المجموع (6/ 207 - 209). (¬3) المجموع (6/ 197).

إبراء الغريم الفقير بنية الزكاة؟

في ذلك وجهين في مذهب الشافعي: أحدهما: لا يجوز، قال: وهو قول الصيمري، ومذهب النخعي، وأبي حنيفة، وأحمدُ. الثاني: يجوز لعموم الآية، ولأنه يصح التبرع بقضاء دينه كالحي، وبه قال أبو ثور ومالك. والراجح: أنه لا يقضي دين الميت من الزكاة لأمور منها: أولًا: أن إعطاء الغارم من الزكاة كي يزال عنه ذل الدين لأن الدين ذل. ثانيًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يقضي ديون الأموات من الزكاة، بل كان يسأل عن الميت هل عليه دين، فإن كان عليه دين سأل هل ترك وفاء، فإن لم يترك لم يصل عليه، وإن كان له وفاء صلى عليه، فلما فتح الله عليه وكثر عنده المال صار يقضي الدين بما فتح الله عليه عن الأموات لا يقضيه من الزكاة بل من الغنائم وغيرها، فلو كان قضاء الدين عن الميت من الزكاة جائزًا لفعله - صلى الله عليه وسلم -. ثالثًا: أننا لو قلنا بجواز ذلك لعطل قضاء ديون كثيرة عن الأحياء؛ لأن العادة أن الناس يعطون الميت أكثر مما يعطون الحي، والأحياء أحق بالوفاء من الأموات. رابعًا: أن فتح هذا الباب يفتح باب الطمع والجشع من الورثة، فيمكن أن يجحدوا مال الميت كي يقضى عنه الدين من الزكاة. إبراء الغريم الفقير بنية الزكاة؟ لا يجوز إبراء الغريم الفقير بنية الزكاة، قال شيخ الإِسلام (¬1) -رحمه الله- بلا نزاع، وقولنا بعدم الجواز لعدة وجوه: ¬

_ (¬1) الاختيارات الفقهية، (ص: 186).

سابعا: في سبيل الله

الأول: أن الزكاة أخذ وإعطاء، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬1)، وهذا ليس فيه أخذ. الثاني: أن هذا بمنزلة إخراج الخبيث من الطيب، قال تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (¬2). ووجه ذلك أنه سيخرج هذا الدين عن زكاة عين، فعند شخص مثلًا أربعون ألفًا وزكاتها ألف ريال، وفي ذمة الفقير ألف ريال، والذي في حوزة الشخص أربعون ألفًا وهي في يده وتحت تصرفه، والدين الذي في ذمة المعسر ليس في يد الشخص، ومعلوم نقص الدين عن العين في النفوس، فكأنه أخرج رديئًا عن جيد وطيب فلا يجزئ. الثالث: أنه في الغالب لا يقع إلا إذا كان الشخص قد أيس من الوفاء فيكون بذلك إحياء وإثراء لماله الذي بيده. وهذا هو الراجح، وبه أفتت اللجنة الدائمة (¬3)، وهو قول الشيخين ابن باز (¬4)، وابن عثيمين (¬5). سابعًا: في سبيل الله: هذا هو المصرف السابع من مصارف الزكاة، وهم الغزاة في سبيل الله تعالى -والذين ليس لهم نصيب في الديوان- بل هم متطوعون للجهاد وهذا متفق عليه عند جميع الفقهاء من حيث الجملة، فيجوز إعطاؤهم من الزكاة قدر ما يتجهزون ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 103. (¬2) سورة البقرة: 267. (¬3) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (14/ 280، 281). (¬4) فتاوى اللجنة الدائمة (10/ 32، 33) رقم الفتوى (2531). (¬5) الشرح الممتع (6/ 232).

هل يشترط في كون الغازي في سبيل الله فقيرا؟

به للغزو من مركب وسلاح ونفقة وسائر ما يحتاج إليه الغازي لغزوه مدة الغزو وإن طالت. هل يشترط في كون الغازي في سبيل الله فقيرًا؟ 1 - يرى الجمهور (¬1) عدم اشتراط الفقر، بل يجوز إعطاؤه وإن كان غنيًا لأنه لا يأخذ لمصلحة نفسه بل لحاجة عامة المسلمين، فلم يشترط فيه الفقر. 2 - وقال الحنفية (¬2) إذا كان الغازي غنيًا وهو من يملك خمسين درهمًا أو قيمتها من الذهب فلا يعطى من الزكاة وإلا فيعطى. والراجح: هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء لأن في ذلك مصلحة الإِسلام والمسلمين. أما جنود الجيش الذين لهم نصيب من الديوان فلا يعطون الزكاة إذا كان العطاء يكفيهم، أما إذا كان لا يكفيهم فيعطون من الزكاة ما يكفيهم، وهو الفرق بين مرتباتهم وما يكفيهم. دخول ما تقتضيه مصلحة الحرب في مصرف سبيل الله: يجوز الصرف في مصالح الجهاد في سبيل الله الأخرى، نحو بناء أسوار للبلد لحفظها من غزو العدو ونحو بناء المراكب الحربية وشراء الأسلحة ونحو ذلك. بل كل ما يعين على الجهاد في سبيل الله حتى الأدلاء (الجواسيس) الذين يدلون على مواقع العدو يكون لهم نصيب من الزكاة لأن الله تعالى قال: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}، ولم يقل في المجاهدين، فدل على أن المراد كل ما يتعلق بالجهاد. ¬

_ (¬1) المغني (6/ 436)، حاشية الدسوقي (1/ 497). (¬2) فتح القدير (2/ 17)، حاشية ابن عابدين (2/ 61).

إعطاء من يريد الحج من الزكاة

إعطاء من يريد الحج من الزكاة: 1 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجوز إعطاء من يريد الحج والعمرة من الزكاة، وهذا هو مذهب الحنفية (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، وهو رواية عن الإِمام أحمد (¬4)، وقال ابن قدامة (¬5) إنه الصحيح، واحتجوا لذلك بأن سبيل الله في آية الزكاة مطلق، وهو عند الإطلاق ينصرف إلى الجهاد في سبيل الله تعالى. 2 - وذهب الإِمام أحمد في رواية عنه وهي المذهب (¬6) واختارها شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬7) إلى أن الحج في سبيل الله، فيصرف فيه الزكاة. وهل يعطى لحج الفريضة خاصة أم يجوز أن يعطى أيضًا في حج التطوع؟ على قولين في المذهب الحنبلي، والمختار في المذهب أنه لا يعطى إلا في فرض الحج والعمرة. الراجح: هو ما ذهب إليه الجمهور، وهو أنه لا يجوز إعطاء من يريد الحج من الزكاة، فإن كان فقيرًا أعطي لفقره، وهو بالخيار إن شاء حج بها أم لم يحج. ثامنًا: ابن السبيل: هذا هو المصرف الأخير ممّن تصرف لهم الزكاة، وهم الذين ينتقلون من ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (2/ 67). (¬2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 497). (¬3) المجموع (6/ 212). (¬4) المغني (6/ 475) مطبعة الإِمام. (¬5) المرجع السابق. (¬6) المغني (6/ 475) مطبعة الإِمام. (¬7) الاختيارات الفقهية، (ص: 188).

الشروط المعتبرة في ابن السبيل الذي يعطى من الزكاة

بلاد إلى بلاد، فينقطعون في الطريق إما لذهاب نفقتهم في الطريق إذا طال السفر عليهم، أو لأن عدوًا من قطاع الطريق أخذهم وأخذ أموالهم، أو لأسباب أخرى أذهبت نفقاتهم، فيعطون من الزكاة بقدر ما يوصلهم إلى بلادهم ولو كانوا أغنياء. الشروط المعتبرة في ابن السبيل الذي يعطى من الزكاة: الشرط الأول: كونه مسلمًا، فلا يعطى الكافر منها كما ذكرنا ذلك سابقًا. الشرط الثاني: اشترط بعض أهل العلم أن لا يكون من آل البيت، لكن يعطى من صدقة التطوع كما بيَّنَّا، والراجح أنهم يعطون حتى من الزكاة لعدم الفيء. الشرط الثالث: أن لا يكون بيده في الحال مال يتمكن به من الوصول إلى بلده وإن كان غنيًا في بلده. الشرط الرابع: أن لا يكون سفره لمعصية لأنه إعانة عليها. الشرط الخامس: وهو للمالكية (¬1) خاصة؟ أن لا يجد من يقرضه إن كان ببلده غنيًا. والراجح: أنه لا يشترط عدم وجود من يقرضه لأن الآية عامة وتخصيص ذلك بإيجاد المقرض يحتاج إلى دليل. من لا يجوز دفع الزكاة إليهم: 1 - بنو هاشم: والمراد بهم (آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس، وآل الحارث): ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (1/ 497، 498).

واختلف الفقهاء في بني المطلب، هل يمنعون من الزكاة كبني هاشم؟

قال بن قدامة (¬1) -رحمه الله-: لا نعلم خلافًا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الصَّدَقَةَ لا تَنْبَغِي لآلِ مُحَمَّدٍ إِنَّما هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ" (¬2). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كِخْ كِخْ " لِيَطْرَحَهَا ثُمَّ قَالَ: "أَمَا شَعَرْتَ أنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ" (¬3). واختلف الفقهاء في بني المطلب، هل يمنعون من الزكاة كبني هاشم؟ 1 - فذهب الشافعي (¬4) إلى أنه ليس لهم الأخذ من الزكاة مثل بني هاشم، وأحتجوا لذلك بما رواه البخاري عن جبير بن مطعم -رضي الله عنه- قال: مَشَيْتُ أنَّا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلنَا: يَا رَسُولَ اللهِ أَعْطَيْتَ بَنِي المُطَّلِبِ وَتركْتَنَا وَنَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما بَنُو المُطَّلِب وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ" (¬5). قال ابن حزم (¬6) -رحمه الله-: فصح أنه لا يجوز أن يفرق بين حكمهم في شيء أصلًا لأنهم شيء واحد بنص كلامه - صلى الله عليه وسلم -، فصح أنهم آل محمَّد، وإذا هم آل محمَّد فالصدقة عليهم حرام. وهو رواية في مذهب أحمد (¬7). ¬

_ (¬1) المغني (4/ 109، 110). (¬2) رواه مسلم: كتاب الزكاة، باب ترك استعمال آل النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة (1784). (¬3) رواه البخاري: كتاب الزكاة -باب ما يذكر في الصدقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وآله (1396)، ومسلمٌ: كتاب الزكاة، باب تحريم الزكاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله (1778). (¬4) المجموع (6/ 244) وما بعدها. (¬5) رواه البخاري: كتاب فرض الخمس، باب ومن الدليل على أن الخمس للإمام (2907). (¬6) المحلى (6/ 210). (¬7) المغني (4/ 111، 112).

2 - وذهب الحنفية (¬1)، وهو رواية عن أحمد (¬2) أنه يجوز دفع الزكاة لبني المطلب، قال ابن قدامة (¬3) -رحمه الله- في المغني بعد أن ساق الرواية الأولى قال: "والرواية الثانية لهم الأخذ منها، وهو قول أبي حنيفة لأنهم دخلوا في عموم قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬4). لكن خرج بنو هاشم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الصَّدَقَةَ لا تَنْبَغِي لآلِ مُحَمَّدٍ" (¬5) فيجب أن يختص المنع لهم، ولا يصح قياس بني طالب علي بني هاشم لأن بني هاشم أقرب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأشرف، وهم آل النبي - صلى الله عليه وسلم - ومشاركة بني المطلب لهم في خمس الخمس ما استحقوه بمجرد القرابة بدليل أن بني شمس وبني نوفل يساوونهم في القرابة. ولم يعطوا شيئًا وإنما شاركوهم بالنصرة أو بهما جميعًا، والنصرة لا تقتضي منع الزكاة. قال الشيخ محمَّد بن عثيمين (¬6) -رحمه الله-: "والصحيح الرواية الأخرى -وهي المذهب- أنه يصح دفع الزكاة إلى بني المطلب لأنهم ليسوا من آل محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ولعموم الأدلة {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (¬7)، فيدخل فيهم بنو المطلب، ويجاب عن تشريكهم في الخمس بأنه مبني على المناصرة والمؤازرة بخلاف الزكاة فإنهم لما ¬

_ (¬1) البدائع (2/ 49). (¬2) المرجع السابق. (¬3) المرجع السابق. (¬4) سورة التوبة: 60. (¬5) سبق تخريجه، (ص: 143). (¬6) الشرح الممتع (6/ 256). (¬7) سورة التوبة: 60.

إعطاء بني هاشم وبني المطلب من صدقة التطوع

آزروا بني هاشم وناصروهم أعطوا جزاءً لفضلهم من الخمس، أما الزكاة فهي شيءٌ آخر". والراجح: جواز إعطائهم من الزكاة. إعطاء بني هاشم وبني المطلب من صدقة التطوع: اختلف الفقهاء في ذلك: قال ابن قدامة (¬1) في المغني: "فأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فالظاهر أن الصدقة جميعها كانت محرمة عليه فرضها ونفلها". 1 - ذهب جمهور العلماء إلى جواز إعطائهم من صدقة التطوع، وهو اختيار الشيخين بن باز، ومحمَّد بن عثيمين. قال الشيخ ابن باز (¬2) -رحمه الله-: "أما صدقة التطوع لبني هاشم فلا حرج فيها". وقال الشيخ بن عثيمين (¬3) -رحمه الله-: "وبهذا نعرف أن بني هاشم ينقسمون إلى قسمين: الأول: من لا تحل له صدقة التطوع ولا الزكاة الواجبة، وهو شخص واحد وهو محمَّد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو لا يأكل الصدقة الواجبة ولا التطوع. الثاني: البقية من بني هاشم يأكلون من صدقة التطوع ولا يأكلون من الصدقة الواجبة". ¬

_ (¬1) المغني (6/ 113، 114). (¬2) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (14/ 314). (¬3) الشرح الممتع (6/ 255).

2 - الكفار ولو كانوا أهل ذمة

2 - الكفار ولو كانوا أهل ذمة: هذا هو الصنف الثاني الذي لا يجوز إعطاؤه من الزكاة، ونقل ابن المنذر (¬1) الإجماع على ذلك لحديث: "فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الله قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ... " (¬2). ويستثنى من ذلك المؤلفة قلوبهم كما ذكرنا سابقًا. ويشمل الكافر هنا الكافر الأصلي والمرتد، ومن كان متسميًا بالإِسلام، وأتى بمكفر نحو الاستخفاف بالقرآن، أو سب الله ورسوله، أو دين الإِسلام فهو كافر لا يجوز إعطاؤه من الزكاة اتفاقًا، وكذلك تارك الصلاة لا يعطى منها لأن حكمه في أصح قولي العلماء أنه كافر. 3 - الأصول والفروع والزوجة الذين تجب عليه نفقتهم: ويشمل ذلك أصوله وهم: أبواه وأجداده وجداته وارثين كانوا أولًا، وكذا فروعه وهم: أولاده وأولاد أولاده وإن نزلوا، قال الحنفية (¬3) لأن منافع الأملاك فيهم متصلة، وهذا مذهب الشافعية (¬4)، والحنابلة (¬5)، أما سائر الحواشي وهم الأخوة والأخوات، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، وأولادهم فلا يمنع إعطاؤهم من الزكاة. أما المالكية (¬6) فإن الأقارب الذين تلزم نفقتهم المزكي لا يجوز أن يعطيهم من الزكاة، والذين تلزم نفقتهم عند المالكية كالأب والأم دون الجد والجدة ¬

_ (¬1) المجموع (6/ 228)، الإنصاف (3/ 252). (¬2) رواه البخاري: كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن (4000)، ومسلمٌ: كتاب الإيمان, باب الدعاء إلى الشهادتين وأركان الإِسلام (27). (¬3) فتح القدير (2/ 22). (¬4) المجموع (6/ 229). (¬5) المغني (6/ 648)، (7/ 585). (¬6) حاشية الدسوقي (1/ 498، 499).

حكم قضاء دين الوالد أو الولد من الزكاة

والابن والابنة دون أولادهما، واللازم نفقة الابن في حد الصغر والبنت إلى أن تتزوج ويدخل بها. وقيد المالكية (¬1)، والشافعية (¬2)، وشيخ الإِسلام ابن تيمية (¬3) أن الإعطاء الممنوع بسهم الفقراء والمساكين، أما لو أعطى والده أو ولده من سهم العاملين أو المكاتبين أو الغارمين أو الغزاة فلا بأس. والراجح من هذه الأقوال: أن الزكاة لا يجوز أن تدفع للأم ولا للأب، ولا للجدات، ولا للأجداد، ولا للأولاد ذكورًا كانوا أو إناثًا, ولا لأولادهم لأن هؤلاء الأصول والفروع ليس لهم حق في الزكاة بالنسبة إلى الوالد، وإنما يعطيهم وينفق عليهم من ماله إذا دعت الحاجة إلى ذلك. حكم قضاء دين الوالد أو الولد من الزكاة: هل يجوز قضاء دين الوالد عن ابنه والعكس من الزكاة؟ قال بذلك بعض أهل العلم بشرط أن لا يكون سبب هذا الدين تحصيل نفقة واجبة، فإن كان سببه تحصيل نفقة واجبة فإنه لا يحل قضاء الدين من الزكاة لئلا يتخذ ذلك حيلة على منع الإنفاق على من تجب نفقتهم عليه لأجل أن يستدين ثم يقضي ديونهم من الزكاة. وقال بعضهم: لا يقضي دين الفروع والأصول من الزكاة، وهذا أحوط. ¬

_ (¬1) جواهر الإكليل (1/ 407). (¬2) المرجع السابق. (¬3) مجموع الفتاوى (25/ 90 - 92).

دفع الزوج زكاة ماله إلى زوجته وعكسه

دفع الزوج زكاة ماله إلى زوجته وعكسه: إعطاء الرجل زكاة ماله إلى زوجته لا يجزئ، قاله ابن قدامة (¬1) إجماعًا. قال الحنفية (¬2): لأن المنافع بين الزوجين مشتركة. وقال الجمهور: لأن نفقتها واجبة على الزوج فيكون كالدافع إلى نفسه، ومحل المنع إعطاؤها الزكاة لتنفقها على نفسها. أما لو أعطاها ما تدفعه في دينها فلا بأس على القول الصحيح. أما إعطاء المرأة زوجها زكاة مالها فقد اختلف فيه الفقهاء: 1 - فذهب الشافعي (¬3)، وصاحبا أبي حنيفة (¬4)، وهو رواية عن الإِمام أحمد (¬5) إلى جواز ذلك لحديث زينب زوجة عبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما-، وفيه: فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ عَلَى البَابِ حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِي فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلالٌ فَقُلنَا سَل النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَيَجزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي وَأَيْتَامٍ لي في حَجْرِي وَقُلنَا لا تُخْبِرْ بِنَا فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: "مَنْ هُمَا؟ " قَالَ: زَيْنَبُ قَالَ: "أَيُّ الزَّيَانِب" قَالَ: امْرَأَةُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: "نَعَمْ لهَا أَجْرَانِ أَجْرُ القَرَابةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ" (¬6). قال ابن قدامة (¬7): ولأنه لا تجب عليها نفقة الزوج ولعموم آية مصارف الزكاة إذ ليس في الزوج إذا كان فقيرًا نص أو إجماع يمنع إعطاءه. ¬

_ (¬1) المغني (4/ 100). (¬2) فتح القدير (2/ 22)، الدر مع حاشية ابن عابدين (2/ 62). (¬3) المجموع (6/ 192، 230). (¬4) المرجع السابق. (¬5) المغني (4/ 101، 100). (¬6) رواه البخاري: كتاب الزكاة، باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر (1373). (¬7) المغني (4/ 100 - 103).

4 - الفاسق والمبتدع

2 - وقال أبو حنيفة (¬1)، وهو رواية أخرى عن الإِمام أحمد: لا يجزئ المرأة أن تعطي زوجها زكاتها ولو كانت في عدتها من طلاقه البائن ولو بثلاث طلقات، لأن المنافع بين الرجل وبين المرأة مشتركة، فهي تنتفع بتلك الزكاة التي تعطيها لزوجها, ولأن الزوج لا يقطع بسرقة مال أسرته، ولا تصح شهادته لها. وقال مالك (¬2): لا تعطي المرأة زوجها زكاة مالها، واختلف أصحابه في معنى كلامه، فقال بعضهم: بأن مراده عدم الإجزاء، وقال آخرون: بإجزائه مع الكراهة. والراجح من هذه الأقوال: ما ذهب إليه الأولون من جواز دفع زكاة المرأة لزوجها لصراحة دليل زينب زوجة عبد الله بن مسعود في ذلك. 4 - الفاسق والمبتدع: صرح المالكية (¬3) بأن الزكاة لا تعطى لأهل المعاصي إذا غلب على ظن المعطي أنهم يصرفونها في المعصية، فإن أعطاهم على ذلك لم يجزئه عن الزكاة، وفي غير تلك الحال تجوز وتجزيء. وعند الحنفية (¬4): يجوز إعطاء الزكاة للمنتسبين إلى الإِسلام من أهل البدع إن كانوا من الأصناف الثمانية ما لم تكن بدعتهم مكفرة مخرجة عن الإِسلام على أن الأولى تقديم أهل الدين المستقيمين عليه في الاعتقاد. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬5) -رحمه الله-: "ولا ينبغي أن يعطى الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله، فإن الله تعالى فرضها معونة على طاعته لمن يحتاج إليها ¬

_ (¬1) فتح القدير (2/ 22). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 499). (¬3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي (1/ 492). (¬4) حاشية ابن عابدين (2/ 69). (¬5) الاختيارات الفقهية، (ص: 185).

5 - الأغنياء

من المؤمنين، كالفقراء والغارمين أو لمن يعاون المؤمنين، فمن لا يصلي من أهل الحاجات لا يعطى شيئًا حتى يتوب ويلتزم أداء الصلاة في أوقاتها. 5 - الأغنياء: اتفق الفقهاء على أنه لا يعطى من سهم الفقراء والمساكين غني لثبوت النصوص في ذلك، قالوا: لأن إعطاء الأغنياء من أسهم الفقراء والمساكين يمنع وصول الزكاة إلى أهلها، وقيل بحكمة وجوبها وهي إغناء الفقراء، فلم يجز غير أن بعض مصارف الزكاة تصرف لهم ولو كانوا أغنياء على الصحيح من أقوال أهل العلم كما سبق، وهم العاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم، والمجاهدون في سبيل الله، وابن السبيل. قرر أهل العلم أن الزكاة تحرم على القوي السليم المكتسب إلا إذا كان لا يجد العمل، أو يجد العمل ولكن الأجر الذي يأخذه لا يكفيه ولا يكفي عياله، فعندئذٍ يعان من الزكاة بقدر حاجته، أو بقدر ما ييسر له سبيل العمل، ولعل الحكمة في تحريمها على القوي المكتسب أنه مطالب شرعًا بالعمل وكفاية نفسه بنفسه لا أن يقعد ويتكل على غيره ويستجدي من الناس صدقاتهم وزكواتهم، دليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود، والنسائيُّ، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (ج 1 رقم 1832).

الفِقهُ الميَسَّر الصِّيَام مَوسُوعة فقهيَّة حَديثَة تتناوَل أحكام الفقه الإسلامي بأسُلوب وَاضح للمختصّين وغيرهم تَأليف أ. د/عَبد الله بن محمد الطيّار أستَاذ الدراسات العليا بكليَّة الشَّريعة والدِّراسات الإسلامية بجامعة القصيم أ. د/عبد الله بن محمّد المطلق عضو هَيئة كبار العُلَماء، وعضو اللجنة الدَّائمة للإفتاء د/محمَّد بن إبراهيم الموسَى عضو مجلس الشورى سابقًا - المجلس الأعلى للأوقاف الجزء الثَّالث مدار الوطن للنشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الفِقهُ الميَسَّر الصِّيَام

حقُوق الطَّبع محفُوظَة الطَّبعَة الثانيَة 1433 هـ - 2012 م مَدَارُ الوَطن للنَّشر المملكة العربية السعودية - المقر الرئيسي: الرياض - الملز ص. ب: 245760 - الرمز البريدي 11312 - هاتف 4792042 (5 خطوط) - فاكس 4723941 البريد الإلكتروني: [email protected] موقعنا على الإنترنت: www.madaralwatan.com الرياض: 0503269316 الغربية: 0504143198 الشرقية: 0503193268 الشمالية والقصيم: 0504130728 التوزيع الخيري للشرقية والجنوبية: 0503193269 التوزيع الخيري لباقي جهات المملكة: 0506436804 التسويق للجهات الحكومية: 0500996987 مبيعات المكتبات الخارجية: 0503193269

المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬1). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬3) ففى كل عام يتجدد اللقاء مع ضيف عزيز وشهر كريم تطهر فيه النفوس بعد أحد عشر شهرًا قضاها الناس في صراع مع المادة، وكفاح العيش، وتكدر القلوب فيها من الأحقاد، وتبلد الحس من الشهوات، وتلوث الضمير نتيجة لأطماع الناس. وصوم رمضان يطهر هذه القلوب بالطاعة، ويقوي الحس وينقيه حتى يصبح شفافًا فلا طمع ولا ظلم، ويتحلى الضمير بمراقبة الله -عَزَّ وَجَلَّ- مما يجعل النفس تقوى على تحمل المحن فتبتعد عن الضغائن والأطماع، ويحل محلها الحب والعطف والوئام. ¬

_ (¬1) سورة آل عمر ان: 102. (¬2) سورة النساء: 1. (¬3) سورة الأحزاب: 70 - 71.

إن شهر رمضان مدرسة ربانية تتربى فيه النفوس وتسمو فيه الأرواح، ومن هنا كان على المسلمين أن يعطوه حقه من العبادة في صلواتهم وخلواتهم، بل في سائر أوقاتهم. وصوم رمضان أحد أركان الإِسلام التي بني عليها كما في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا: "بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ" (¬1). ولأهمية هذا الركن في الإِسلام كان ولا بد من إعطائه حقه ومستحقه من العناية، وبيان حكم الشريعة في أحكامه، مع الأخذ في الاعتبار مراعاة الأدلة الشرعية وأقوال أهل العلم المعتبرين فيما يستجد فيه من أحكام. وقد قمنا بوضع ذلك بين أيدي إخواننا المسلمين من طلاب العلم وغيرهم، وقد راعينا في ذلك الجوانب التي تم بيانها عند إصدار هذه الموسوعة الفقهية. ومما يحسن التذكير به أن هذا الجزء يعني (كتاب الصيام) قد سبقه أجزاء في الطهارة والصلاة والزكاة والحج والمعاملات والحدود والجنايات والنكاح والطلاق من هذه الموسوعة، (موسوعة الفقه الميسر) والتي لاقت صدىً طيبًا من كثير من العلماء وطلاب العلم في كثير من بلاد المسلمين. ولله الحمد. أما عن موضوعات كتاب الصيام التي تم التعرض لها في هذه الموسوعة فهي على سبيل الإجمال لا الحصر: تعريف الصيام، حكمه، الحكمة من مشروعيته، أنواعه، شروطه، رؤية الهلال، الشهادة على الرؤية، تنظيم رؤية ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ: كتاب الإيمان, باب بني الإِسلام على خمس (7)، مسلم: كتاب الإيمان, باب بيان أركان الإِسلام ودعائمه العظام (19).

الهلال، وقت الإفطار، هل يشترط حكم الحاكم في الصوم؟ وجوب الصوم على بلاد المسلمين برؤية الهلال، حكم الاعتداد بالحساب الفلكي، سنن الصوم ومستحباته، مكروهات الصوم، مفسدات الصوم، أحكام القضاء، ما لا يفسد به الصوم، الأعذار المبيحة للفطر، أحكام صلاة التراويح، أحكام ليلة القدر، الاعتكاف. ومما يحسن التنبيه عليه أن ما رجحناه في فقه الصيام إنما هو راجع إلى ما انتهينا إليه، ولا تثريب على أحد فكلٌ يأخذ بما انتهى إليه. وقد بذلنا جهدنا ووسعنا، فما كان من صواب فمن الله وحده، وما كان غير ذلك فمن أنفسنا والشيطان ونستغفر الله منه ونتوب إليه. ولا يفوتنا أن نلتمس ممّن يطلع على هذا المشروع المبارك أن يوافينا بما يراه من ملاحظات واقتراحات لتلافيها مستقبلًا إن شاء الله. نسأل الله تعالى أن يوفقنا نحن وإخواننا المسلمين إلى العلم النافع والعمل الصالح، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. المؤلفون،،،

كتاب الصيام

الفِقهُ الميَسَّر كتاب الصيام

تعريف الصيام

كتاب الصيام تعريف الصيام: في اللغة: من صام يصوم صومًا وصيامًا. قال في التهذيب: الصوم في اللغة الإمساك عن الشيء والترك له، وقيل للصائم صائم لإمساكه عن المطعم والمشرب والمنكح. وقيل للصامت صائم لإمساكه عن الكلام. قال أبو عبيدة: "كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم" (¬1). قال تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} (¬2). وسمي رمضان من الرمض؛ وهو شدة الحر؛ لأن العرب لما أرادت وضع أسماء الشهور وافق شهر رمضان شدة الحر فسمي بذلك. وقيل: سمي بذلك؛ لأنه يحرق الذنوب. الصيام في الاصطلاح: يجوز أن يقال الصيام والصوم كما هو مذكور في الكتب الفقهية المختلفة، وهو إمساك المسلم بنية التعبد لله عن أشياء مخصوصة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس (¬3). قال أبو عمر بن عبد البر: "أما الصيام في الشريعة فمعناه الإمساك عن الأكل والشرب ووطء النساء نهارًا إذا كان تارك ذلك يريد به وجه الله وينويه، هذا معنى الصيام في الشريعة عند جميع علماء الأمة" (¬4). ¬

_ (¬1) لسان العرب، لابن منظور، مادة: صوم (12/ 350). (¬2) سورة مريم: 26. (¬3) حاشية ابن عابدين (2/ 394)، طبعة مصطفى الحلبي، الطبعة الثالثة 1404 هـ. (¬4) الإجماع، لابن عبد البر، (ص: 125).

حكمة مشروعية الصيام

حكمة مشروعية الصيام: للصوم حِكَمٌ وأسرار كثيرة، منها: 1 - الصوم سرٌّ بين العبد وخالقه يتمثل فيه عنصر المراقبة الصادقة، فهو يربي في المسلم مراقبة الله وخشيته، فلا يتطرق له الرياء مطلقًا. 2 - أنه يعوِّد الأمة على النظام والاتحاد وحب العدل والمساواة، ويكوِّن في المؤمنين عاطفة الرحمة وخلق الإحسان, ويصون المجتمع من الشرور والمفاسد. 3 - أن الصيام يجعل المسلم يشعر ويحس بآلام إخوانه، فيدفعه ذلك إلى البذل والإحسان إلى الفقراء والمساكين ويتحقق فيه مبدأ التكامل والتراحم فتعم الرحمة والمحبة والأخوةُ بين المسلمين. 4 - الصيام تدريب عملي على ضبط النفس وجهادها، ويؤدي إلى الصبر وتحمل المسؤولية وتحمل المشاق ليكون المسلم بعد الصوم أحسن حالًا وأفضل من حيث زيادة التقوى والعمل والالتزام بأخلاق الإِسلام. فضائل الصيام: لشهر رمضان فضائل كثيرة. جاء في الحديث الصحيح: "إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ" (¬1). ومن تلك الفضائل: 1 - أنه وقاية للمسلم من الوقوع في الإثم، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " ... الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفثْ يَوْمَئِذٍ وَلا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان (1765)، مسلم: كتاب الصيام، باب فضل شهر رمضان (1793).

حكم الصيام والأصل في مشروعيته

يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَليَقُل إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ ... " (¬1). 2 - عظم ثواب الصيام: جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ الله -تَعَالَى- مِنْ رِيحِ المِسْكِ؛ يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي. الصِّيَامُ لِي وَأَنَاَ أَجْزِي بِهِ، وَالحَسَنةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا" (¬2). 3 - أن الله -تعالى- قد خصه بباب من أبواب الجنة لا يدخل منه أحد إلا الصائمون كما جاء في حديث سعد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ في الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يدخلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ لا يدخلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُل مِنْهُ أَحَدٌ" (¬3). حكم الصيام والأصل في مشروعيته: فرض الصيام: في السنة الثانية من الهجرة، وهو الركن الرابع من أركان الإِسلام. والأصل في فرضيته: الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول: أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب هل يقول إني صائم إذا شتم؟ (1771)، مسلم: كتاب الصيام، باب فضل الصيام (1944). (¬2) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب فضل الصوم (1761). (¬3) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب الريان للصائمين (1763)، مسلم: كتاب الصيام، باب فضل الصيام (1947). (¬4) سورة البقرة: 183.

وقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬1). وأما السنة: فمنها: 1 - حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بُنيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ, وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ" (¬2). 2 - حديث طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه-: أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ثَائِرَ الرَّأْسِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللهُ عَلَيَّ مِنْ الصَّلاةِ؟ فَقَالَ: "الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ إِلا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا" فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بمَا فَرَضَ اللهُ عَلَيَّ مِنْ الصِّيَامِ؟ قَالَ: "شَهْرَ رَمَضَانَ ... " الحديث (¬3). وأما الإجماع: فقد انعقد الإجماع على فرضية صيام شهر رمضان. جاء في البدائع (¬4): "وأما الإجماع فإن الأمة على وجوب صيام شهر رمضان لا يجحده إلا كافر". وجاء في مواهب الجليل (¬5): "أجمعت الأمة على وجوب صيام شهر رمضان، فمن جحد وجوبه فهو مرتد، ومن امتنع من صومه مع الإقرار بوجوبه قتل حدًا على المشهور من مذهب مالك". ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 185. (¬2) سبق تخريجه، (ص: 6). (¬3) أخرجه البخاريُّ: كتاب الحيل، باب في الزكاة (6442)، مسلم: كتاب الصيام، باب وجوب الصيام (2063). (¬4) بدائع الصنائع، للكاساني (2/ 975). (¬5) مواهب الجليل، للحطاب (2/ 378).

أركان الصوم

وجاء في نهاية المحتاج (¬1): "يجب صوم رمضان إجماعًا". وجاء في المغني (¬2): "وأجمع المسلمون على وجوب صيام شهر رمضان". وأما المعقول فيتضح ذلك من وجوه: 1 - أن الصوم سبب لشكر النعمة: ذلك أن كف النفس عن الأكل والشرب والجماع زمنًا معينًا يعرف به المسلم قدر النعم التي يتمتع بها في كل وقت فيحمله ذلك إلى شكر المنعم -سبحانه وتعالى-. 2 - أنه وسيلة إلى التقوى: لأنه إذا انقادت نفسه بالامتناع عن المباح، انقادت للامتناع عن الحرام، وإليه أشار الله بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬3). 3 - أن في الصوم كسرًا للشهوة: لأن النفس إذا شبعت تمنت الشهوات، وإذا جاعت امتنعت عما تهوى؛ لانشغالها بطلب الطعام (¬4). وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ البَاءَةَ فَليَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ" (¬5). أركان الصوم: يتفق الفقهاء على أن ركن الصوم هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس. ¬

_ (¬1) نهاية المحتاج، للرملى (3/ 149). (¬2) المغنى، لابن قدامة (4/ 324). (¬3) سورة البقرة: 21. (¬4) بدائع الصنائع، للكاساني (2/ 975). (¬5) أخرجه البخاريُّ: كتاب النكاح، باب من لم يستطع الباءة فليصم (4678)، مسلم: كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه (2485).

أنواع الصيام

ودليله قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬1). ويرى بعض المالكية أن للصيام ركنين هما: الأول: الإمساك عن المفطرات. الثاني: النية. ويرى الشافعية أن للصيام ثلاثةَ أركان: الأول: الإمساك عن المفطرات. الثاني: النية. الثالث: الزمان؛ وهو ما بين الفجر الصادق وغروب الشمس. ويرى غيرهم من الفقهاء أن النية والزمان شروط للصيام وليست أركانا (¬2). أنواع الصيام: الصوم ينقسم إلى أنواع هي: أولًا: الصوم المفروض: وهو صيام شهر رمضان أداء أو قضاء، وصيام الكفارات، والصيام المنذور. ثانيًا: الصوم المسنون: وهو ما ورد في الشريعة الحث على صيامه، ومن ذلك: ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 187. (¬2) بدائع الصنائع، للكاساني (2/ 1006)، بداية المجتهد، لابن رشد (1/ 283)، روضة الطالبين، للنووي، (ص: 129).

1 - صوم يوم عرفة

1 - صوم يوم عرفة: وهو اليوم التاسع من ذي الحجة. وهو اليوم الذي يقف فيه الحاج بعرفة، دليل ذلك حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في صيام يوم عرفة: "صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ" (¬1). ولا يستحب لمن كان في عرفة أن يصومه ليتقوى على الدعاء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حج لم يصمه ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان. وهذا هو قول الجمهور من المالكية والحنابلة والشافعية لمن وقف بعرفة نهارًا، أما إذا وقف بعرفة ليلًا فيسن له صيامه. ويقول الحنفية: يكره صوم يوم عرفة للحاج إذا كان الصوم يضعفه عن الوقوف والدعاء، أما إذا كان الصوم لا يضعفه فإنه مستحب للحاج صيامه؛ لأن صيامه له فضيلة على غيره من الأيام (¬2). والأولى: ما ذهب إليه الجمهور. 2 - صوم يوم عاشوراء: وهو اليوم العاشر من محرم، وهو اليوم الذي نجَّى الله فيه موسى -عليه السلام- وقومَه من فرعون وقومِه. ويقال: إنه اليوم الذي تاب الله فيه على آدم -عليه السلام-، وقد كان صومه فرضًا في أول الإِسلام ثم نسخت فرضيته بصيام رمضان؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها-: "كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -يَصُومُهُ فَلمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بصِيَامِهِ، فَلمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ يَومَ عَاشُورَاءَ فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ: كتاب الصيام، استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر (1976). (¬2) بدائع الصنائع، للكاساني (2/ 982)، مواهب الجليل، للحطاب (2/ 402). (¬3) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصيام، باب صيام يوم عاشوراء (1863).

3 - صوم ستة أيام من شوال

وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضيلة صيام عاشوراء: " ... أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ" (¬1). ويستحب صوم يوم قبله أو يوم بعده؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ" (¬2). وجاء في رواية أخرى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَخَالِفُوا فِيهِ اليَهُودَ، صُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا أَوْ بَعْدَهُ يَوْمًا" (¬3). وعلى هذا يكون صوم يوم عاشوراء على ثلاث مراتب: * الأولى: صوم العاشر وحده، ولا كراهة في إفراده بالصوم وهو أدنى المراتب. * الثانية: صوم التاسع والعاشر، وهو أفضل من صوم العاشر والحادي عشر. * الثالثة: صوم التاسع والعاشر والحادي عشر وهو أفضل المراتب. 3 - صوم ستة أيام من شوال: صيام ستة أيام من شوال؛ لحديث أبي أيوب -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ" (¬4). وكره مالك صيام الستة أيام من شوال كما جاء في الموطأ (¬5): قال ابن رشد: سمعت مالكًا يقول: "صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان لم أر أحدًا من أهل ¬

_ (¬1) سبق تخريجه، (ص: 17). (¬2) أخرجه مسلمٌ: كتاب الصيام، باب أي يوم يصام في عاشوراء؟ (1917). (¬3) أخرجه أحمد وهي رواية ضعيفة منكرة، وأخرجه البيهقيُّ وذكره في التلخيص وسكت عنه. نيل الأوطار، للشوكاني (2/ 330)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (3506). (¬4) أخرجه مسلمٌ: كتاب الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال اتباعا (1984). (¬5) الموطأ، للإمام مالك (1/ 311).

هل يصوم الست من شوال من عليه قضاء رمضان قبل القضاء؟

العلم والفقه يصومها ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يُلْحِقَ برمضان ما ليس منه أهلُ الجهالة والجفاء لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم ورأوهم يعملون ذلك". قال ابن رشد: "إما مخافة أن يلحق الناس برمضان ما ليس منه وإما لأنه لعله لم يبلغه الحديث أو لم يصح عنده. وهو الأظهر" (¬1). والراجح: استحباب صيام الست من شوال متتابعة، وهو الأفضل، ومتفرقة؛ للحديث الصحيح المذكور. ثم إن كراهية بعض الحنفية ومالك معللة بأسباب معينة وقد انتهت تلك الأسباب فيكون الاستحباب هو المأخوذ من قولهم جميعًا. هل يصوم الست من شوال من عليه قضاء رمضان قبل القضاء؟ يرى الحنفية جواز صوم التطوع قبل الواجب سواء كان رمضان أو غيره؛ لأن وقت القضاء موسع غير مضيق، ويرى المالكية جواز ذلك مع الكراهة. ويرى بعض الفقهاء من الشافعية والحنابلة أنه لا يصوم الست من شوال إلا إذا كان قد صام رمضان؛ لأن صوم رمضان واجب فيجب قضاؤه أولًا ثم يصوم الست من شوال. وقد أخذت بذلك اللجنة الدائمة للفتوى في المملكة العربية السعودية (¬2). ويرى بعض الفقهاء من الشافعية أنه يجوز صوم الست من شوال، وإن كان عليه قضاء رمضان إذا كان إفطاره في رمضان لعذر من سفرٍ أو مرض ونحوها. ¬

_ (¬1) بداية المجتهد (1/ 308). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (10/ 392) رقم الفتوى (2264).

4 - صوم يوم وإفطار يوم

والراجح عندنا: أن الأولى في حقه أن يصوم قضاء رمضان أولًا ثم يصوم الست من شوال. لكن إذا كان الوقت لا يَتَّسِعُ لها فالمناسب صوم الست من شوال وغيرها من الأوقات المستحبة كيوم عرفة وعاشوراء ثم يقضِي ما عليه؛ لأن تلك لها وقت تنتهي فيه. أما القضاء فوقته إلى رمضان الآخر كما جاء في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلا في شَعْبَانَ، الشُّغْلُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). ولا يمكن أن يقال إن عائشة -رضي الله عنها- لا تصوم الست ولا يوم عرفة أو عاشوراء وغيرها من الأيام الفاضلة، بل يحمل قولها على أن الوقت لا يتسع بعد صوم الأيام الفاضلة التي كان يصومها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا في شعبان. وقد روي الجواز عن الإِمام أحمد لأنها عبادة تتعلق بوقت موسع (¬2). 4 - صوم يوم وإفطار يوم: وهو أفضل الصيام؛ لما روي في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " ... صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلام- وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ" قَالَ: قُلتُ: فَإنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ: كتاب الصيام، باب قضاء رمضان في شعبان (1146). قولها: "الشغل"، أي يمنعني الشغل برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) نهاية المحتاج، للرملي (3/ 208)، المغنى، لابن قدامة (4/ 402). (¬3) أخرجه مسلمٌ: كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به (1962).

5 - صوم ثلاثة أيام من كل شهر

5 - صوم ثلاثة أيام من كل شهر: اتفق الفقهاء على أنه يسن صوم ثلاثة أيام من كل شهر؛ لما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: أَوْصَانِي خَلِيلي - صلى الله عليه وسلم - بثَلاثٍ: صِيَامِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَي الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ" (¬1) ولما جاء عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ... وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلاَثةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالَهِا وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ ... " (¬2). واستحب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة أن تكون هي أيام البيض، وهي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر. وذلك لما روى أبو ذر -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إِذَا صُمْتَ مِنْ الشَّهْرِ ثَلاَثةَ أَيَّامٍ فَصُمْ ثَلاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ" (¬3). وعن ابن ملحان القيسي عن أبيه -رضي الله عنه- قال: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرُنَا أَنْ نَصُومَ البِيضَ: ثَلاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ. قَالَ: وَقَال: "هُنَّ كَهَيْئَةِ الدَّهْرِ" (¬4). وذهب المالكية إلى كراهة صيام الأيام خوفًا من أن يظن العامة أنها واجبة. قال ابن رشد: كره مالك تَحرِّي صيام الغرر مع ما جاء فيها من الأثر مخافة أن يظن الجهلى بها أنها واجبة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب صيام أيام البيض (1845)، مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، استحباب صلاة الضحى (1182). (¬2) سبق تخريجه، (ص: 20). (¬3) أخرجه الترمذيُّ: كتاب الصوم (692)، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (7817). (¬4) أخرجه أبو داودة كتاب الصوم (2093)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 1039).

6 - صوم الاثنين والخميس من كل أسبوع

6 - صوم الاثنين والخميس من كل أسبوع: اتفق الفقهاء على استحباب صوم الاثنين والخميس من كل أسبوع (¬1). لما روى أسامة بن زيد -رضي الله عنهما-: إِنَّ نَبِيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَصُومُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الخَمِيسِ، وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "إِنَّ أَعْمَالَ العِبَادِ تُعْرَضُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الخَمِيسِ" (¬2). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ" (¬3). ولما ورد من حديث أبى قتادة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم الاثنين فقال: "فِيهِ وُلِدْتُ وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ" (¬4). 7 - صوم التسعة أيام من ذي الحجة: وهي التي تبدأ من أول شهر ذي الحجة إلى يوم عرفة. وقد اتفق الفقهاء على استحباب صيامها؛ لما جاء في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى الله مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ" -يَعْنِي أَيَّامَ العَشْرِ- قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَلا الجِهَادُ في سَبِيلِ الله؟ قَالَ: "وَلا الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بمَالِهِ وِنَفْسِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْجعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَئٍ" (¬5). ¬

_ (¬1) البحر الرائق شرح كنز الدقائق، لابن نجيم (2/ 278) دار المعرفة لبنان، وبداية المجتهد، لابن رشد (1/ 309)، روضة الطالبين، للنووي، (ص: 346)، الشرح الكبير على المقنع، لشمس الدين عبد الرحمن بن قدامة (7/ 517). (¬2) أخرجه أبو داود: كتاب الصوم (2080)، وصححه الألباني في الإرواء (ج 4 رقم 948). (¬3) أخرجه الترمذيُّ: كتاب الصوم (678)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2959). (¬4) أخرجه مسلمٌ: كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر (1978). (¬5) أخرجه البخاريُّ مرفوعًا عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: كتاب العيدين، باب فضل العمل في أيام التشريق (926).

8 - صوم شهر الله المحرم

ولما ورد في حديث حفصة -رضي الله عنها- قالت: "أَرْبَعٌ لَمْ يَكُنْ يَدَعُهُنَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: صِيَامَ عَاشُورَاءَ، وَالعَشْرَ، وَثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الغَدَاةِ" (¬1). 8 - صوم شهر الله المحرم: اتفق الفقهاء على استحباب صوم شهر المحرم؛ لما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمُ" (¬2). ويرى جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية استحبابَ صوم الأشهر الحرم (المحرم، رجب، ذو القعدة، ذو الحجة). ويرى الحنابلة كراهية إفراد صيام شهر رجب بالصوم كاملًا، وتزول الكراهية بإفطار يوم أو أيام منه؛ وذلك لما روي عن خرشة بن الحر قال: "رأيت عمر يضرب أكف المترجبين حتى يضعوها في الطعام ويقول: كلوا فإنما هو شهر تعظمه الجاهلية" (¬3). 9 - صوم شهر شعبان: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية إلى استحباب صوم شهر شعبان؛ لما روت عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في الشَّهْرِ مِنْ السَّنَةِ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ في شَعْبَانَ" (¬4). وذهب الحنابلة إلى عدم استحباب صيام شهر شعبان كاملًا؛ لحديث عائشة ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد: مسند الأنصار (25254)، والنسائيُّ: كتاب الصيام (2373)، ونيل الأوطار، للشوكاني (2/ 323)، وضعفه الألباني في الإرواء (ج 4 رقم 954). (¬2) أخرجه مسلمٌ: كتاب الصوم، باب فضل صوم المحرم (1982). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 102)، وصححه الألباني في الإرواء (ج 4 رقم 957). (¬4) أخرجه مسلمٌ: كتاب الصيام، باب صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير رمضان (1958).

ثالثا: الصيام المحرم

-رضي الله عنها- قالت: " ... فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - اسْتكمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ في شَعْبَانَ" (¬1). وقيل في توجيه ذلك: لئلا يظن وجوبه (¬2). ثالثًا: الصيام المحرم: الصوم المحرم: وهو ما طلب الشارع الكف عن فعله على وجه الحتم بحيث يذم فاعله ومع الذم العقاب، ويمدح تاركه ومع الترك الثواب، ومن ذلك: 1 - صيام يومَيْ عيد الفطر وعيد الأضحى: اتفق الفقهاء على تحريم صومهما؛ لحديث أبي سعيد -رضي الله عنه- "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ: يَوْمِ الفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ" (¬3). قال ابن المنذر: "وأجمع أهل العلم على أن صوم هذين اليومين يوم الفطر ويوم الأضحى، منهي عنه" (¬4). 2 - صيام أيام التشريق: اختلف الفقهاء في صيام أيام التشريق: فمنهم من حرم صومها وهم الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة؛ لحديث نبيشة الهذلي -رضي الله عنه- قال: قال ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، صوم شعبان (1833)، مسلم: كتاب الصيام، باب صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير رمضان (1956). (¬2) الفتاوى الهندية (1/ 202)، قوانين الأحكام الشرعية، لابن جزي، (ص: 134)، ونهاية المحتاج، للرملي (3/ 211). (¬3) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب صوم يوم الفطر (1855)، مسلم: كتاب الصيام، باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى (1923). (¬4) الإجماع، لابن المنذر، (ص: 60).

رابعا: الصيام المكروه

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أّيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ"، وزاد في رواية: "وَذِكْرٍ لله" (¬1). ولما جاء عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أنه قال: "كُلْ فَهَذِهِ الأَيَّامُ الَّتِي كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرُنَا بإفْطَارِهَا وَيَنْهَانَا عَنْ صِيَامِهَا" قَالَ مَالِكٌ: "وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ" (¬2). وأجاز المالكية والحنفية والحنابلة صيامها في الحج عن دم المتعة والقران؛ لقول ابن عمر وعائشة -رضي الله عنهم -: "لَمْ يُرَخَّصْ في أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إِلا لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الهَدْيَ" (¬3). ومنع ذلك الشافعي في الجديد حتى في الحج. رابعًا: الصيام المكروه: وهو ما ورد في الشرع النهي عنه بصيغة غير ملزمة بأن اقترن بالنهي ما يدل على أنه لم يقصد التحريم. 1 - إفراد يوم الجمعة بالصوم: ذهب الجمهور من الشافعية والحنابلة وبعض المالكية إلى كراهية إفراد يوم الجمعة بالصوم؛ لما ورد من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ إِلا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ" (¬4). وفي رواية: "إِنَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدٍ فَلا تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُمْ يَوْمَ صِيَامِكُمْ إِلا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ: كتاب الصيام، باب تحريم صوم أيام التشريق (1926). (¬2) أخرجه أبو داود: كتاب الصوم (2065)، والإمام مالك في الموطأ (1/ 377)، وصححه الألباني في سنن أبي داود (2/ 320) رقم (2418). (¬3) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب صيام أيام التشريق (1859). (¬4) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب صوم يوم الجمعة (1849)، مسلم: كتاب الصيام، باب كراهية صيام يوم الجمعة منفردًا (1929).

2 - إفراد يوم السبت أو الأحد أو أعياد يعظمها الكفار بالصوم

أَنْ تَصُومُوا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ" (¬1). ويرى الحنفية أن صوم يوم الجمعة مستحب، وروي ذلك عن مالك، قال يحيى: "سمعت مالكًا يقول: لم أسمع أحدًا من أهل العلم والفقه ومن يُقْتَدَى به ينهى عن صيام يوم الجمعة. وصيامه حسن. وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه كان يتحراه" (¬2). والصحيح أنه يكره صوم يوم الجمعة منفردًا كما ذهب إلى ذلك الجمهور، لكن تزول الكراهة إذا ضُم إليه يَوْمٌ آخرُ؛ لحديث جويرية بنت الحارث -رضي الله عنها-: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ وَهِيَ صَائِمَةٌ فَقَالَ: "أَصُمْتِ أَمْسِ؟ " قَالَتْ: لا. قَالَ: "تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا؟ " قَالَتْ: لا. قَالَ: "فَأَفْطِرِي" (¬3). وكذلك تزول الكراهة إذا وافق يوم الجمعة صومًا له كيوم عرفة أو عاشوراء. 2 - إفراد يوم السبت أو الأحد أو أعياد يعظمها الكفار بالصوم: اتفق الفقهاء على كراهة إفراد شيء من ذلك بالصوم إلا أن يوافق يومًا يصومه فلا بأس. وقد جاء في صيام يوم السبت حديث عبد الله بن بسر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلا فِيمَا افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ" (¬4). ويوم السبت هو يوم تعظمه اليهود، والأحد تعظمه النصارى. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد: كتاب مسند المكثرين (7682)، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (ج 1 رقم 636). (¬2) البحر الرائق، لابن نجيم (2/ 278)، وبداية المجتهد، لابن رشد (1/ 311)، نهاية المحتاج، للرملي (3 /)، المقنع، لابن مقنع مع الشرح الكبير (7/ 530). (¬3) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب صوم يوم الجمعة (1850). (¬4) أخرجه الترمذيُّ: كتاب الصوم (675)، وأبو داود: كتاب الصوم (2068)، أحمد: مسند الشاميين (17026)، ابن ماجه: كتاب الصيام (1716)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (ج 1 رقم 1049).

3 - صوم الوصال

ويقاس على ذلك كل عيد للكفار إلا أن يوافق ذلك يومًا يصومه كيوم عرفة أو عاشوراء ونحوهما. 3 - صوم الوصال: وهو ألا يفطر بعد الغروب ويستمر صائمًا إلى مغرب اليوم الثاني، أو يستمر أيامًا، وقد اتفق الفقهاء على كراهية الوصال لحديث ابن عمر -رضي الله عنه- قال: نَهَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الوِصَالِ، قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ؟! قَالَ: "إِنِّي لَسْتُ مِثْلكُمْ إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى" (¬1). والحديث يقتضي اختصاص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوصال والنهي لغيره رفقًا ورحمةً بهم. ويجوز الوصل عند الحنابلة إلى السحر؛ لحديث: "لا تُوَاصِلُوا، فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَليُوَاصِل حَتَّى السَّحَرِ ... " (¬2). 4 - صوم الدهر (صوم العمر): ذهب أكثر العلماء إلى كراهة صوم الدهر لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صَامَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ" (¬3). وذلك لما يترتب على صيامه من المشقة والضعف. وقال بعض الشافعية إن خاف من صيام الدهر ضررًا أو فوت حقًا كره وإلا فلا يكره. والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب الوصال ومن قال: ليس في الليل صيام (1826)، مسلم: كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم (1845). (¬2) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب الوصال إلى السحر (1831). (¬3) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب صوم داود -عليه السلام- (1843)، مسلم: كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر (1966).

5 - صوم يوم الشك

5 - صوم يوم الشك: وهو يوم الثلاثين من شعبان وذلك إذا لم ير الهلال لغيم أو غيره عند الجمهور، ورواية عن الإِمام أحمد وإنما صامه احتياطًا، ويكره صومه لما جاء في حديث عمار -رضي الله عنه-: "مَنْ صَامَ اليَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا القَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). ولحديث: " ... فَأَكمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ" (¬2). جاء في فتوى اللجنة الدائمة رقم (2763): "إن صوم يوم الثلاثين من شعبان دون ثبوت الرؤية لا يجوز وقد دلت السنة الصحيحة على تحريم صومه". وفي رواية عن أحمد أنه إذا كان يوم الثلاثين من شعبان وفيه غير أو قترٍ فإنه يجب صومه حكمًا ظنيًا احتياطيًا بنية رمضان قال شيخ الإِسلام ابن تيمية يجوز صومه ويجوز فطره، وهو مذهب أبي حنيفة. وبناء عليه فيكون يوم الشك عند الحنابلة إذا كان ليلة الثلاثين من شعبان والجو صحو ولم يرى الهلال فإنه لا يجوز صومه. والراجح عندنا: أنه يحرم صوم يوم الشك مطلقًا لحديث عمار المتقدم وهو اختيار اللجنة الدائمة كما مر بنا. ويكره كذلك تقدم رمضان بيوم أو يومين لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلا يَوْمَيْنِ إِلا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَليَصُمْهُ" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود: كتاب الصوم (1987)، الترمذيُّ: كتاب الصوم (622)، وصححه الألباني في الإرواء (ج 4 رقم 961). (¬2) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتم ... " (1776)، مسلم: كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية .. (1810). (¬3) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين (1781)، مسلم كتاب الصيام، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين (1812).

6 - صيام المرأة تطوعا دون إذن الزوج

ويستثنى من الكراهية أن يكون للمسلم عادة في صيام ذلك كما إذا كان يوم الاثنين والخميس أو غيرها مما يعتاد صيامه أثناء العام فله صيامه دون كراهة. 6 - صيام المرأة تطوعًا دون إذن الزوج: اتفق الفقهاء على أنه ليس للمرأة أن تصوم تطوعًا إلا بإذن زوجها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَصُومُ المَرْأةُ وبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلا بِإِذْنِهِ" (¬1). وذلك لأن حق الزوج واجب فلا يترك الواجب لأداء النفل. ويرى الشافعية أن علم الزوجة برضا الزوج كإذنه (¬2). شروط الصيام: للصيام شروط وجوب وشروط صحة لا بد من توفرها فيمن يجب عليه الصيام. أولًا: شروط الوجوب: 1 - الإِسلام: وهو شرط عام للمخاطب بفروع الشريعة. فالكافر لا يطالب به وإن كان يعاقب عليه في الآخرة. 2 - البلوغ: وذلك إما بالسن وهو إتمام ثمانية عشر عامًا عند الحنفية، والمالكية، وعند الشافعية، والحنابلة يكون بإتمام خمسة عشر عامًا لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "عَرَضَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ أُحُدٍ في القِتَالِ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ: كتاب النكاح، باب صوم المرأة بإذن زوجها تطوعًا (4793)، مسلم: كتاب الزكاة، باب ما أنفق العبد من مال مولاه (1704). (¬2) الفتاوى الهندية (1/ 201)، حاشية الدسوقي (1/ 541)، نهاية المحتاج، للرملي (3/ 309)، الشرح الكبير، لابن قدامة (7/ 532).

ثانيا: شروط الصحة

فَلَمْ يُجِزْنِي وَعَرَضَنِي يَوْمَ الخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي" (¬1). أو يكون البلوغ بعلامات على تفصيل في ذلك عند الفقهاء. وقد سبق بيان ذلك في كتاب الطهارة. والصبي الذي لم يبلغ ليس مكلفًا وإنما يؤمر به إن أطاقه تدريبًا له على الطاعة. 3 - العقل: وهو شرط التكليف وإذا فقد العقل بالجنون فإنه لا تكليف، وجاء في شرط العقل والبلوغ ما روى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثٍ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ وَعَنْ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ" (¬2). 4 - أن يكون قادرًا على الصيام: لا يمنعه مرض أو سفر لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬3)، أو يمنعه غيرها من الأعذار التي يأتي ذكرها (¬4). شروط الصحة: يشترط لصحة أداء الصوم شروط: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب (3788)، مسلم: كتاب الإمارة، باب بيان سن البلوغ (3473). (¬2) أخرجه الترمذيُّ: كتاب الحدود (1343)، وابن ماجة: كتاب الطلاق (3378)، وأحمدُ: كتاب مسند العشرة المبشرين بالجنة (896)، وأبو داود: كتاب الحدود (3822)، والنسائيُّ: كتاب الطلاق (3378)، واللفظ له، وصححه الألباني في سنن النسائي (6/ 156) رقم (3432). (¬3) سورة البقرة: 185. (¬4) بدائع الصنائع، للكاساني (2/ 978)، قوانين الأحكام الشرعية، لابن خيري، (ص: 131)، روضة الطالبين، للنووي، (ص: 337)، كشاف القناع، للبهوتي (2/ 308).

الشرط الأول: النية

الشرط الأول: النية: وهي القصد؛ وهو اعتقاد القلب فعلَ شيءٍ وعزمُه عليه. يرى الجمهور أن النية شرط لصحة الصوم، ويرى بعض المالكية والشافعية أن النية ركن للصوم ولا يصح الصوم إلا بنية ومحلها القلب. وقال الحنفية: التلفظ بها للصوم سنة؛ لأن صوم رمضان عبادة فلا يجوز إلا بالنية؛ وذلك لحديث عمر -رضي الله عنه- قال: قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" (¬1). تبييت النية في الصوم الواجب: يرى الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة أن صيام رمضان وغيره من الواجبات يشترط فيه أن ينوي صيامه من الليل؛ لحديث ابن جريج وعبد الله بن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم عن الزهري عن سالم عن أبيه عن حفصة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيلِ فَلا صِيَامَ لَهُ" (¬2)، وفي رواية: "مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الفَجْرِ فَلا صِيَامَ لَهُ" (¬3). ولأنه صوم فرضٍ فافتقر إلى النية من الليل. ويرى أبو حنيفة أنه يجزئ صيام رمضان وكل صوم متعين كالنذر المعين بنية من النهار؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: " ... مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَليُتِهمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ" (¬4). وكان ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ: كتاب بدء الوحي، باب بدء الوحي (1)، مسلم: كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال ... " (3530). (¬2) أخرجه النسائي: كتاب الصيام (2294)، وصححه الألباني في سنن النسائي (2/ 197) رقم (2334). (¬3) أخرجه الترمذيُّ: كتاب الصوم (662)، وصححه الألباني في جامع الترمذيُّ (3/ 108) رقم (730). (¬4) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب صوم الصبيان (1824)، مسلم: كتاب الصيام، باب من أكل في عاشوراء فليكف بقية يومه (1919).

تجديد النية لكل يوم من صيام رمضان

صومًا واجبًا متعينًا. الراجح: نرى أن الراجح هو قول الجمهور وأن صيام رمضان وغيره من الواجبات لا بد أن ينوي صيامه من الليل قبل الفجر؛ للأحاديث الواردة في ذلك. وصوم عاشوراء لم يثبت وجوبه بل اختلف العلماء: هل كان واجبًا ثم نُسخ بصوم رمضان، أم أنه شرع من باب التطوع فقط؟ تجديد النية لكل يوم من صيام رمضان: ويرى الحنفية والشافعية والحنابلة على الصحيح من مذهبهم أن النية يجب أن تكون لكل يوم بمفرده؛ لأنه صوم واجب فوجب أن ينوي كل يوم بمفرده. ويرى مالك وهو راوية عن الحنابلة أنه يكفي نية واحدة لجميع الشهر إذا نوى صوم الشهر جميعه؛ لأنه نوى في زمن يصلح جنسه لنية الصوم. والراجح: أن الصوم المتتابع كرمضان وصيام الشهرين المتتابعين يكفيه نية من أوله، إلا إذا قطعه لعذر فيجب عليه أن يجدد النية. تبييت النية في صوم التطوع: اختلف في ذلك الفقهاء على أقوال: القول الأول: يرى الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة أن صوم التطوع يجوز بنية من الليل أو النهار؛ ذلك لما روت عائشة -رضي الله عنها- قالت: قَالَ لِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ: "يَا عَائِشَةُ هَل عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ " قَالَتْ: فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ، قَالَ: "فَإِنِّي صَائِمٌ" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ: كتاب الصيام، باب جواز صوم النافلة بنية من النهار (1950).

الشرط الثاني: الطهارة من الحيض والنفاس

ثم إن الحنفية حددوا نهاية وقت نية التطوع بالضحوة الكبرى, وحدد الشافعية في قول لهم أنه إلى وقت الزوال، ويرى بعض الشافعية، والحنابلة أنه يمتد إلى ما بعد الزوال، وهو قول معاذ بن جبل وابن مسعود وحذيفة، ولم ينقل عن أحد من الصحابة ما خالفه؛ لأن النية وجدت في جزء من النهار فأشبه وجودها قبل الزوال. القول الثاني: يرى مالك أن صوم التطوع لا يجوز إلا بنية من الليل كالفريضة؛ وذلك لحديث: "مَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ فَلا صِيَامَ لَهُ" (¬1). وهو عام يشمل الفريضة والنفل (¬2). الراجح: نرى أن الأولى هو القول بجواز أن تكون النية في صيام التطوع في النهار ولو في آخره ولا يشترط أن تكون في الليل؛ لما ورد فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحديث القائلين بالوجوب عام يُخَصَّصُ بالحديث الوارد بجواز ذلك. والله أعلم. ولأن التسامح فيما يخص صيام النفل يدفع الناس إلى اكتساب الأجر والمثوبة متى ما تيسر ذلك ليلًا أو نهارًا. أما الفريضة فلا بد من تبييت النية من الليل للحديث الوارد في ذلك. الشرط الثاني: الطهارة من الحيض والنفاس: فالمرأة الحائض أو النفساء لا يصح منها الصيام؛ لوجود مانع منه وهو الحيض والنفاس، وإنما يجب عليهما القضاء بعد طهارتهما. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه، (ص: 31). (¬2) بدائع الصنائع، للكاساني (2/ 996)، قوانين الأحكام الشرعية، لابن جزي، (ص: 135)، روضة الطالبين، للنووي، (ص: 331)، المغني، لابن قدامة (4/ 333).

أحكام دخول رمضان وخروجه

أحكام دخول رمضان وخروجه يبدأ صوم شهر رمضان إذا علم دخوله، ويتم العلم بدخوله بإحدى ثلاث طرق: 1 - رؤية هلال رمضان: يستحب للناس ترائي الهلال للصوم وللفطر؛ لأن ذلك عبادة، وقد أوجب ذلك بعض العلماء قالوا: ومن رأى الهلال بنفسه فإنه يجب عليه الصوم، لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬1)، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ ... " (¬2). والذي يظهر أنه لا يجب عليه الصوم إذا لم يقبل قوله؛ لأن الصيام يوم يصوم الناس، والفطر يوم يفطر الناس. 2 - الشهادة على رؤية الهلال في رمضان: ويكفي في ذلك رؤية واحد عدل مكلف عند الشافعية والحنابلة؛ لما جاء في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "ترَاءَى النَّاسُ الهِلالَ فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ" (¬3)، ولأن الصوم يحتاط له؛ لأنه عبادة. ويرى الحنفية أنه تقبل شهادة الواحد إذا كان عدلًا مكلفًا وفيما إذا كان في السماء غيم أو مانع يحول دون الرؤية، أما إذا كانت السماء صحوًا فلا بد من رؤية ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 185. (¬2) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتم ... " (1776)، مسلم: كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية .. (1810). (¬3) أخرجه أبو داود: كتاب الصوم (1995)، وصححه الألباني في سنن أبي داود (2/ 302) رقم (2342).

الشهادة على رؤية هلال شوال

جماعة كثيرين يرى الإِمام أو نائبه قبول شهادتهم. ويرى المالكية أن صوم رمضان لا يثبت إلا برؤية هلاله من شاهدين عدلين يشهدان عند الإِمام. الشهادة على رؤية هلال شوال: يتفق عامة الفقهاء على أن الفطر من رمضان لا يتم إلا بشهادة عدلين اثنين؛ لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ رَجُلٍ عَلَى رُؤْيَةِ الهِلَالِ، وَكَانَ لَا يُجِيزُ عَلَى شَهَادَةِ الإِفْطَارِ إِلَّا شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ" (¬1). وتختلف رؤية هلال شوال عن رمضان؛ لأنها خروج من العبادة فيجب فيه الاحتياط. وخالف في ذلك أبو ثور فقال: إنه يقبل في شهادة هلال شوال قول واحد؛ لأنه أحد طرفي شهر رمضان. الراجح: نرى أن الراجح هو قول عامة الفقهاء؛ لورود النص، ولأنه الاحتياط لخروج العبادة خلافًا لدخول شهر رمضان فهو دخول في العبادة. 3 - إكمال عدة شهر شعبان ثلاثين يومًا: وذلك لعدم رؤية الهلال لما جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني (2/ 156)، والبيهقيُّ في السنن الكبرى (4/ 212)، وأخرجه الألباني في الضعيفة (ج 9 رقم 4238)، وقال: حديث موضوع. (¬2) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتم ... " (1776)، مسلم: كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية .. (1810).

تنظيم الرؤية للهلال

وكذلك ما جاء عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلاثِينَ"، وفي رواية: "فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا ثَلاثِينَ" (¬1). وإذا صام الناس رمضان ثم لم يروا هلال شوال ليلة الثلاثين من رمضان فإنه يكمل رمضان ثلاثين يومًا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلاِثينَ" (¬2). تنظيم الرؤية للهلال: تتم عملية الرؤْية باجتهاد ورغبة من آحاد المسلمين في بعض البلاد، وقد رغبت المملكة العربية السعودية في تنظيم موضوع الرؤية وفقًا لما جاء في الشريعة المطهرة، فأعدوا مشروعًا بذلك يتضمن كيفية الرؤية ووقتها وأن يقام لذلك مراصد في أماكن مختلفة من المملكة من بينها مكة المكرمة، وفي المواقع التي يُرى فيها الهلال عادةً، ويُكَوَّنُ لذلك لجنة من وزارة العدل والإمارات ويستعان بأهل الخبرة ممّن يتراءون الهلال ويهتمون به. وذلك ليس بديلا عن تحري الهلال من العموم ولكنه مكمل له، ويكون الترائي للهلال دوريًا كل شهر، وهذا العمل لا بأس به لأنه تنظيم لما هو قائم، ولأن فيه استفادة من التقنية الحديثة والتي توضح الرؤية عن طريق المناظر المعدة لمتابعة الكواكب والأجرام الفلكية. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ: كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال (1796). (¬2) حاشية ابن عابدين (2/ 408)، مواهب الجليل، للحطاب (2/ 379)، نهاية المحتاج، للرملي (3/ 149)، المغني، لابن قدامة (4/ 325).

تبليغ الرؤية

جاء في مجموع فتاوى الشيخ ابن باز -رحمه الله- قوله: "أما الآلات فظاهر الأدلة الشرعية عدم تكليف الناس بها بل تكفي رؤية العين، لكن لو طالع الهلال بها وجزم بأنه رآه بواسطتها بعد غروب الشمس وهو مسلم عدل، فلا أعلم مانعًا من العمل برؤيته؛ لأنها من رؤية العين لا من الحساب" (¬1). تبليغ الرؤية: إذا ثبتت رؤية الهلال لشهر رمضان أو شوال فإنه يجب إعلام الناس لأداء الصوم أو الإفطار وصلاة عيد الفطر أو الأضحى، ويتم ذلك عبر وسائل الإعلام المختلفة وهو المعمول به في البلاد الإِسلامية حاليًا. وقت الإخبار بالهلال: يكون الإخبار برؤية هلال رمضان قبل فجر اليوم الأول منه، فإن حصل بعد ذلك وجب الإمساك وقضاء ذلك اليوم؛ لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في صيام عاشوراء وكان صومه واجبًا عند بعض العلماء قبل أن يفرض رمضان قال: "مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَليُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمهِ وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ" (¬2). وفي هلال شوال يخبر به ليلة دخوله وهي ليلة العيد، فإن لم يتم الإخبار به إلا نهارًا فإنهم يفطرون وتقام صلاة العيد في اليوم الثاني. بدء صوم اليوم ونهايته: يبدأ صوم يوم الفريضة أو التطوع من طلوع الفجر الثاني وينتهي بغروب الشمس؛ لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى الشيخ ابن باز، جمع د. محمَّد الشويعر (15/ 69) الطبعة الثالثة. (¬2) سبق تخريجه، (ص: 31).

مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬1). قال أبو عمر بن عبد البر: "والنهار الذي يجب صيامه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، على هذا إجماع علماء المسلمين" (¬2). وقال في الإفصاح (¬3): واتفقوا على أن وجوب الصوم ووقته من أول طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس. ثم يباح الأكل والشرب والجماع بعد غروب الشمس إلى أن يتبين ضياء الصباح من سواد الليل. قال ابن كثير: "هذه رخصة من الله -تعالى- للمسلمين ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإِسلام، فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك، فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشرب والجماع إلى الليلة القابلة، فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة فنزلت هذه الآية ففرحوا بها فرحًا شديدًا؛ حيث أباح الله الأكل والشرب والجماع في أي الليل شاء الصائم إلى أن يتبين ضياء الصباح من سواد الليل" (¬4). يدل لذلك قوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 187. (¬2) الإجماع، لابن عبد البر، (ص: 126). (¬3) الإفصاح، لابن هبيرة (15/ 235). (¬4) تصير ابن كثير (1/ 288). (¬5) سورة البقرة: 187.

هل يشترط حكم الحاكم في الصوم؟

هل يشترط حكم الحاكم في الصوم؟ ذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط حكم الحاكم (القاضي) في ثبوت الهلال ووجوب الصوم، بل على الناس الصوم إذا ثبت بإحدى الطرق المذكورة. وذهب الشافعية إلى أنه لا بد في تحقيق الهلال ووجوب الصوم أن يحكم به الحاكم؛ وذلك كي يتحقق من عدالة الشهود وصحة الرؤية. الراجح: الأولى هو القول بأن ثبوت الهلال ووجوب الصوم أو الفطر على الناس يترتب على حكم الحاكم؛ لئلا تترك الأمور لاجتهادات قد تؤدي إلى الاختلاف، ولأن الناس تختلف من حيث الكثرة بحيث يصعب إعلامهم بالصوم أو الفطر. وقد توفرت وسائل الإعلام في الوقت الحاضر بحيث يمكن الإبلاغ سريعًا، وحكم الحاكم يرفع الخلاف ويوجب التقيد به والالتزام صومًا أو فطرًا. وجوب الصوم على بلاد المسلمين برؤية بلد منها: اختلف الفقهاء في حكم صوم أقطار البلاد الإِسلامية إذا تمت الرؤية بقُطْر منها: 1 - فذهب الجمهور من الحنفية (¬1) والمالكية (¬2) والحنابلة (¬3) في الصحيح عندهم أن الرؤية في بلد توجب الصوم على البلاد الإِسلامية ولا عبرة باختلاف المطالع؛ وذلك لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ... " (¬4). ¬

_ (¬1) ابن عابدين ورسائل ابن عابدين (1/ 228، 229)، الفتاوى الهندية (1/ 198). (¬2) مواهب الجليل (2/ 384)، بداية المجتهد (1/ 287). (¬3) حاشية الروض المربع على زاد المستقنع (3/ 347) الطبعة السادسة 1414 هـ. (¬4) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتم ... " (1776)، مسلم: كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية ... (1810).

فقد أوجب هذا الحديث الصوم بمطلق الرؤية لجميع المسلمين دون تقييدها بمكان، وقد أخذ بذلك المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي في قراره رقم 18 (16/ 3) حيث جاء في البند أولًا: "إذا ثبتت الرؤية في بلد وجب على المسلمين الالتزام بها ولا عبرة لاختلاف المطالع؛ لعموم الخطاب بالأمر بالصوم والإفطار". وقد أيد هذا القول الشيخ عبد العزيز بن باز (¬1) -رحمه الله- حيث قال: "لا شك أن اجتماع المسلمين في الصوم والفطر أمر طيب ومحبوب للنفس ومطلوب شرعًا حيث أمكن، ولكن لا سبيل إلى ذلك إلا بأمرين: أحدهما: أن يلغي جميع علماء المسلمين الاعتماد على الحساب كما ألغاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وألغاه سلف الأمة، وأن يعملوا بالرؤية أو بإكمال العدة كما بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة. الأمر الثاني: أن يلتزموا الاعتماد على الرؤية في أي دولة إسلامية تعمل بشرع الله وتلتزم بأحكامه، فمتى ثبت عندها رؤية الهلال بالبينة الشرعية دخولًا أو خروجًا تبعوها في ذلك؛ عملًا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ... " (¬2). 2 - وذهب الشافعية وهو رواية عند الحنابلة أن الصوم إنما يلزم أهل الرؤية وما قرب منها مما اتحدت فيه المطالع فقط، وأما البعيد وهو ما اختلفت فيه المطالع فلا يجب عليهم الصوم؛ وذلك لحديث كريب قال: " ... اسْتُهِلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ فَرَأَيْتُ الِهلالَ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ ثُمَّ قَدِمْتُ المَدِينَةَ في آخِرِ الشَّهْرِ فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللهِ ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (15/ 74). (¬2) سبق تخريجه، (ص: 39).

حكم إثبات الأهلة بالحساب الفلكي

ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- ثُمَّ ذَكَرَ الهِلالَ فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُمْ الهِلالَ؟ فَقُلتُ: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ، فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ فَقُلتُ: نَعَمْ، وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلاثِينَ أَوْ نَرَاهُ، فَقُلتُ: أَوَلا تَكْتَفِي بِرُؤْيةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ، فَقَالَ: لا، هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). فلم يعمل ابن عباس برؤية أهل الشام. واختار هذا القول شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬2) فقال: "تختلف المطالع باتفاق أهل المعرفة، فإن اتفقت لزم الصوم، وإلا فلا". وبذلك أخذ المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإِسلامي في قراره السابع في دورته الرابعة. وقد رأى مجلس هيئة كبار العلماء في السعودية في الدورة الثانية المنعقدة عام 1392 هـ أن الأرجح في هذه المسألة التوسعة في هذا الأمر، وذلك بجواز الأخذ بأحد القولين على حسب ما يراه علماء البلاد. قال الشيخ ابن باز (¬3) -رحمه الله-: "وهذا قول وسط وفيه جمع بين الأدلة وأقوال أهل العلم". حكم إثبات الأهلة بالحساب الفلكي: 1 - يرى عامة الفقهاء (¬4) أنه لا يجوز إثبات الأهلة بالحساب الفلكي وإنما ¬

_ (¬1) صحيح مسلم: كتاب الصيام، باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم (1819). (¬2) مجموع الفتاوى (15/ 74). (¬3) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (15/ 74). (¬4) انظر في ذلك: رسائل ابن عابدين (224، 225)، حاشية ابن عابدين (2/ 411)، الفروق، للقرافي (2/ 178)، روضة الطالبين (2/ 330)، الشرح الكبير على المقنع، لابن قدامة (7/ 332)، كشاف القناع، للبهوتي (2/ 302).

بالرؤية، وقد أخذ بذلك المجمع الفقهي التابع للرابطة بقراره رقم (1) في الدورة (الرابعة)، وهو ما ذهب إليه مجلس هيئة كبار علماء السعودية، وأيده الشيخ عبد العزيز بن باز (¬1) -رحمه الله- حيث لا يجوز عنده الاعتماد على الحساب في إثبات الأهلة. وذلك لما يأتي: أ- جاء في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ فَلا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَلا تُفْطِرُوا حَتَّى ترَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيكُمْ فَاقْدِرُوا لَه" (¬2). ومعنى اقدروا له أي أكملوا عدته ثلاثين يومًا، كما جاء ذلك في حديث ابن عمر عند البخاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً فَلا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا العِدَّةَ ثَلاثِينَ" (¬3). وقد فسره ابن عمر بفعله "إذا لم يَرَ الهلال والسماء صافية فإنه يصبح صائمًا ويكمل ثلاثين" (¬4)، يؤيد ذلك قوله تعالى: {قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (¬5)، أي تمامًا. ويمكن اعتبار الحساب في القبلة والوقت. وقيل في معنى: "اقدروا له": "أي ضيقوا له العدد، من قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} (¬6)، أي ضيق، والتضييق أن يجعل شعبان تسعة وعشرين يومًا. قال ابن حجر (¬7): المراد بالحساب في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّا أُمَّةٌ أُمَّيَّةٌ لا نَكْتُبُ ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (15/ 74). (¬2) أخرجه مسلمٌ: كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال (1797). (¬3) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتم ... " (1774). (¬4) فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية (10/ 104). (¬5) سورة الطلاق: 3. (¬6) سورة الطلاق: 7. (¬7) فتح الباري، لابن حجر (4/ 127).

وَلا نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا" (¬1) يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين. المراد به حساب النجوم وتسييرها، فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لدفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير، بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلًا. 2 - يرى بعض الفقهاء من الحنفية (¬2) والمالكية (¬3) والشافعية (¬4) وغيرهم ومنهم مطرِّف بن عبد الله بن الشخير، وابن شرمج، وابن قتيبة، أنه يجوز اعتماد الحساب في إثبات الهلال؛ وذلك لأن معنى: "اقدروا له"، أي: قدروه بحساب المنازل، يعني: منازل القمر، ونقله العيني في عمدة القاري شرح صحيح البخاري (¬5). وقال أبو عمر في الاستذكار: "وقد كان بعض كبار التابعين يذهب في هذا إلى اعتباره بالنجوم ومنازل القمر وطريق الحساب، والعد بالحساب أمر قطعي والرؤية أمر ظني، فالأخذ بالقطعي أولى" (¬6). وقد أخذ بذلك بعض الفقهاء المعاصرين ومنهم مصطفى الزرقاء، وقد أخذ بذلك المجمع الفقهي لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بقراره رقم (18) (16/ 3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا نكتب ... " (1780)، مسلم: كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال (1806). (¬2) حاشية ابن عابدين (2/ 411). (¬3) الفروق، للقرافي (2/ 178). (¬4) المجموع (6/ 276). (¬5) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، للعيني (10/ 271) دار الفكر. (¬6) حاشية ابن عابدين (2/ 411)، الفروق، للقرافي (2/ 178) دار المعرفة لبنان، روضة الطالبين للنووي، (ص: 330)، الشرح الكبير، لابن قدامة (7/ 332)، كشاف القناع، للبهوتي (2/ 302)، وانظر: الموسوعة الفقهية الكويتية، كلمة (رؤية الهلال).

ونص القرار: "يجب الاعتماد على الرؤية، ويستعان بالحساب الفلكي والمراصد؛ مراعاة للأحاديث النبوية والحقائق العلمية .. وجاء في فتوى اللجنة الدائمة في السعودية رقم (319): "يجوز الاستعانة بآلات الرصد في رؤية الهلال ولا يجوز الاعتماد على العلوم الفلكية في إثبات بدء شهر رمضان المبارك أو الفطر". الراجح: لا ريب أن الأخذ بالقول باعتماد الرؤية الشرعية هو الصحيح وهو ما أخذ به عامة الفقهاء، بل نقل شيخ الإِسلام الإجماع على ذلك حيث قال: "وقد أجمع المسلمون على ذلك ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلًا، ولا خلاف حديث، إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غمَّ الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب، فإن كان الحساب دل على الرؤية صام، وإلا فلا. وهذا القول وإن كان مقيدًا بالإغمام ومختصًا بالحاسب نفسه فهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه، وأما اتباع ذلك -يعني: الحساب- في الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به، فما قاله مسلم ... " (¬1) إلى آخر ما قاله -رحمه الله-. ويمكن أن يستفاد مما يقوم به الفلكيون من مراصد وغيرها شريطة ألا يتعارض مع الرؤية الشرعية، ذلك أن علم الفلك في الوقت المعاصر أصبح من الدقة والتنظيم مما يدعو إلى الاستفادة منه كما في أوقات الصلاة والقبلة ونحوها. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (3/ 132، 133).

سنن الصوم ومستحباته

سنن الصوم ومستحباته للصوم سنن ومستحبات كثيرة، منها: 1 - السحور: روى البخاري ومسلمٌ عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَسَحَّرُوا فَإِنَّ في السَّحُورِ بَرَكَةً" (¬1). ففي السحور قوة للصائم على احتمال الصيام وجوعه وظمئه وخصوصًا عندما يطول النهار. وفي السحور أيضًا تمييز لصيام المسلمين عن غيرهم، ففي صحيح مسلم: عن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ" (¬2). وفي السحور أيضًا ما يكسبه المسلم من ذكر واستغفار ودعاء في وقت السحر الذي ينزل فيه الرب -سبحانه وتعالى- إلى سماء الدنيا فينادي: "مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ " (¬3). ويتحقق السحور بكل أكل مباح ولو شيئًا من التمر، فإن عجز عن ذلك أو لم تكن له رغبة في الطعام فيكفيه شربة ماء. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب بركة السحور من غير إيجاب (1789)، مسلم: كتاب الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه (1835). (¬2) أخرجه مسلمٌ: كتاب الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه (1836) .. (¬3) أخرجه البخاريُّ: كتاب الجمعة، باب الدعاء في آخر الليل (1077)، مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل (1261).

2 - تأخير السحور

فقد روى الإِمام أحمد وغيره عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "السَّحُورُ أَكْلُهُ بَرَكَةٌ فَلا تَدَعُوهُ وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جُرْعَةً مِنْ مَاءٍ فَإنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- وَمَلاِتكَتَةُ يُصَلُّونَ عَلَى المُتَسَحِّرِينَ" (¬1). 2 - تأخير السحور: ومن السنن أيضًا تأخير السحور؛ وذلك تقليلًا لمدة الجوع أو بعضه الذي قد يحصل للصائم أثناء صومه، فقد روى البخاري ومسلمٌ عن أنس -رضي الله عنه-: "أَنَّ نَبِيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ -رضي الله عنه- تَسَحَّرَا فَلمَّا فَرَغَا مِنْ سَحُورِهِمَا قَامَ نَبِيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الصَّلاةِ فَصَلَّى فَقُلنَا لأَنَسٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ فَرَاغِهِمَا مِنْ سَحُورِهِمَا وَدُخُولِهَمَا في الصَّلاةِ؟ قَالَ: كَقَدْرِ مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ خَمْسِينَ آيَةً" (¬2). 3 - تعجيل الفطر: ومن السنن أيضًا تعجيل الفطر، والمراد به المبادرة بالإفطار إذا غربت الشمس، دليل ذلك ما رواه البخاري ومسلمٌ عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ" (¬3). لكن هل المعتبر غروب الشمس أم الأذان؟ نقول: المعتبر غروب الشمس لا الأذان؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا وَغَرَبَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد: مسند المكثرين (10664)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (ج 1 رقم 1070). (¬2) أخرجه البخاريُّ: كتاب الجمعة، باب من تسحر ثم قام إلى الصلاة (1066). (¬3) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب تعجيل الفطر (1821)، مسلم: كتاب الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه (1838). (¬4) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب متى يحل فطر الصائم؟ (1818)، مسلم: كتاب الصيام، باب بيان وقت انقضاء الصوم (1841).

الفطر على غلبة الظن بغروب الشمس

والحكمة في تعجيل الفطر أن الله -سبحانه وتعالى- كريم والكريم يحب أن يتمتع الناس بكرمه، فيحب من عباده أن يبادروا بما أحل الله لهم من حين أن تغرب الشمس. الفطر على غلبة الظن بغروب الشمس: يجوز الفطر بناء على غلبة الظن، ودليل ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: "أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ غَيْمٍ ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ ... " (¬1). الشاهد من الحديث: أنهم لم يفطروا على علم لكن أفطروا على غلبة الظن، فإنهم لو أفطروا على علم ما طلعت الشمس. 4 - أن يكون الفطر على رطب فإذا لم تكن فعلى تمرات: الرطب: هو التمر اللين الذي لم ييبس؛ لكونه قد أخذ من النخل قريبًا. أما دليل هذه السنة فهو حديث أنس -رضي الله عنه- قال: "كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُفْطِرُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رُطَبَاتٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَتُمَيْرَاتٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تُمَيْرَاتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ" (¬2). وعن سلمان بن عامر -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَليُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَليُفْطِرْ عَلَى المَاءِ فَإِنَّهُ طَهُورٌ" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس (1823). (¬2) أخرجه الترمذيُّ: كتاب الصوم (632)، أبو داود: كتاب الصوم (2009)، أحمد: مسند المكثرين (12215)، وصححه الألباني في المشكاة (ج 1 رقم 1991). (¬3) أخرجه أحمد: مسند المدنيين (15633)، الترمذيُّ: كتاب الصوم (631)، أبو داود: كتاب الصوم (2008)، ابن ماجه: كتاب الصيام (1689) واللفظ له، وصححه الألباني في المشكاة (ج 1 رقم 1990).

5 - الدعاء عند الإفطار

5 - الدعاء عند الإفطار وذلك بأن يدعو الإنسان عند فطره ويكون دعاءه بما ورد عن النبي كما في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أفطر قال: "ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتْ العُرُوقُ وَثَبَتَ الأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللهُ" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود: كتاب الصوم (2010)، وحسنه الألباني في المشكاة (ج 1 رقم 1993).

مكروهات الصوم

مكروهات الصوم يكره للصائم فعل أمور قد تؤدي إذا تمادى بها إلى فساد صومه، وهذه الأمور وإن كانت غير مفسدة للصوم نفسه لكنها قد تؤدي إلى ما يفسد الصوم، فكرهت من أجل ذلك ومنها: 1 - المبالغة في المضمضة أو الاستنشاق عند الوضوء: لقوله - صلى الله عليه وسلم - للقيط بن صبرة: " ... وَبَالِغْ في الاسْتِنْشَاقِ إِلا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا" (¬1). فلو دخل ماء المضمضة أو الاستنشاق إلى جوفه عمدًا بطل صومه إجماعًا وعليه القضاء. أما لو سبقه الماء بدون قصد فقولان لأهل العلم. والراجح: عدم إفساد الصوم. 2 - القُبْلَةُ: تكره القبلة للصائم؛ لأنها قد تؤدي إلى إثارة الشهوة التي تجر إلى إفساد الصوم بالإمناء أو الجماع، ولا فرق في ذلك بين الشيخ والشاب فالاعتبار أولًا وأخيرًا بتحريك الشهوة وخوف الإنزال، وكالقبلة، والمعانقة، والمباشرة باليد، وغير ذلك من المثيرات. 3 - إدامة النظر إلى الزوجة أو الأَمَةِ: إذا كان ذلك يثير شهوته؛ لأنه قد يؤدي إلى فساد صومه. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذيُّ: كتاب الصوم (718)، أبو داود: كتاب الصوم (2019)، وابن ماجه: كتاب الطهارة وسننها (401)، والنسائيُّ: كتاب الطهارة (86)، وصححه الألباني في الإرواء (ج 4 رقم 935). وانظر: صفة صوم النبي - صلى الله عليه وسلم - (ص: 54).

4 - التفكير في شأن الجماع

4 - التفكير في شأن الجماع: لأنه قد يؤدي به تفكيره إلى إنزال المني أو الإقدام على الجماع، وهذا يفسد صومه ويوقعه في الإثم. 5 - مضغ العلك -اللبان-: وذلك إذا لم يتحلل منه شيء وليس له طعم معين، أما إذا كان العلك يتحلل منه شيء يختلط مع الريق ويبتلعه الصائم كما هو معروف في العلك الحالي فهذا حرام، وهو مما يفطر به الصائم. 6 - ذوق الطعام: ويكره للصائم ذوق الطعام من مرق وغيره إذا لم ينزل إلى جوفه منه شيء ولم يحتج إليه، فإن نزل منه في جوفه شيء فقد أفطر، وإن احتاج إليه لمصلحة ولد صغير أو مريض أو ما شابه هذا فلا كراهة؛ لأنه موضع ضرورة. 7 - الوصال: يكره الوصال في الصيام، وحقيقته المنهي عنها أن يصوم يومين فأكثر ولا يتناول في الليل شيئًا من طعام أو شراب، فإن أكل شيئًا ولو يسيرًا أو شرب فليس بوصال. والوصال مع كراهته لا يبطل الصيام. والحكمة من النهي عنه؛ لئلا يضعف الجسم عن أداء الواجبات، بل قد يلحق الجسم ضررٌ كبيرٌ يؤثر على الحواس والأعضاء. 8 - جمع الريق وابتلاعه وكذا ابتلاع النخامة (¬1): يكره للصائم أن يجمع ريقه ويبتلعه أو يبتلع النخامة؛ لأن ذلك يصل إلى ¬

_ (¬1) حاشية الروض المربع (3/ 404).

9 - شم ما لا يؤمن من شمه أن تجذبه نفسه إلى حلقه

جوفه ويتقوى به وهو ينافي الحكمة من الصيام. 9 - شم ما لا يؤمن من شمه أن تجذبه نفسه إلى حلقه: كمسحوق المسك أو الكافور أو البخور ونحو ذلك. 10 - استعمال السواك بعد الزوال: كره بعض أهل العلم استعمال السواك بعد الزوال. والراجح: أن السواك مشروع قبل الزوال وبعده في رمضان وغيره. ولكن ينبغي في رمضان أن يتجنب الرطب الحار الذي قد يتحلل فيصل إلى جوفه (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: حاشية ابن عابدين (2/ 416)، الشرح الصغير (2/ 231)، روضة الطاليين (2/ 360)، المغني (4/ 355)، نيل الأوطار (4/ 219).

مفسدات الصوم

مفسدات الصوم 1 - الجماع: متى جامع الصائم في نهار رمضان بطل صيامه وعليه التوبة والاستغفار وقضاء اليوم الذي جامع فيه. وعليه مع القضاء الكفارة وهي عتق رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع صيام شهرين متتابعين أطعم ستين مسكينًا لكل واحد مدّ بر من النوع الجيد وهو يزن كما سبق (562. 5) جرامًا، أو من غير البر من غالب طعام أهل البلد. ولا يتحول من الصيام إلى الإطعام عند الجمهور إلا إذا لم يقدر على الصيام لمانع صحيح، كأن يكون به مرض أو يخشى حدوث المرض بالصوم. أما من تلحقه المشقة المحتملة بالصوم فليس ذلك مسوغًا له للانتقال إلى الإطعام. ويرى المالكية أن الكفارة على التخيير، ويستدلون بما رواه الإِمام مالك في الموطأ ورواه مسلم ... إلخ. ولا بد أن يكون الصيام متتابعًا لا يفطر فيه إلا لعذر شرعي كأيام العيدين والتشريق وأيام الحيض والنفاس للمرأة، أو لعذر حسي كالمرض والسفر لغير قصد الفطر. فإن أفطر لغير عذر ولو يومًا واحدًا لزمه استئناف الصيام من جديد ليحصل التتابع. ودليل وجوب الكفارة ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: "بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكْتُ. قَالَ: "مَا لَكَ؟ " قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "هَل تَجِدُ رَقَبةً تُعْتِقُهَا؟ " قَالَ: لا، قَالَ:

2 - إنزال المني باختياره

"فَهَل تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ " قَالَ: لا، فَقَالَ: "فَهَل تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ " قَالَ: لا، قَالَ: فَمَكَثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَقٍ فِيهَا تمَرٌ وَالعَرَقُ المِكْتَلُ قَالَ: "أَيْنَ السَّائِلُ؟ " فَقَالَ: أَنَا، قَالَ: "خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ" فَقَالَ الرَّجُلُ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ الله فَوَاللهِ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا -يُرِيدُ الحَرَّتَيْنِ- أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي. فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثمَّ قَالَ: "أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ" (¬1). قال ابن قدامة -رحمه الله-: قال -يعني الخِرَقي-: "ومن جامع في الفرج فأنزل، أو لم ينزل، أو دون الفرج فأنزل عامدًا أو ساهيًا، فعليه القضاء والكفارة، إذا كان في شهر رمضان. لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في أن من جامع في الفرج فأنزل أو لم ينزل أو دون الفرج فأنزل أنه يفسد صومه. وقد دلت الأخبار الصحيحة على ذلك" (¬2). 2 - إنزال المني باختياره: إذ أنزل الصائم باختياره بتقبيل أو لمس أو استمناء -العادة السرية- أو غير ذلك، فسد صومه؛ لأن هذا من الشهوة التي تنافي الصوم، وعليه القضاء فقط. أما إن قبل أو لمس دون إنزال لم يفطر. لكن إن كان الصائم يخشى على نفسه من الإنزال لو قبَّل، أو يخشى أن يتدرج من القبلة إلى الجماع لعدم استطاعته كبح شهوته، لم يجز له التقبيل؛ سدًا للذريعة وصونًا لصيامه من الفساد. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق (1800). (¬2) المغني (4/ 372)، الهداية، للمرغيناني (1/ 122)، روضة الطالبين (2/ 356)، مواهب الجليل (2/ 433)، الفروق، للقرافي (2/ 92).

3 - الأكل والشرب متعمدا

أما الإنزال باحتلام أو بتفكير مجرد عن العمل فلا يفطر؛ لأن الاحتلام بغير اختياره والتفكير معفوٌّ عنه إن شاء الله (¬1). 3 - الأكل والشرب متعمدًا: وهو إيصال الطعام أو الشراب إلى الجوف من طريق الفم أو الأنف، أيًّا كان نوع المأكول أو المشروب؛ لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬2). فأباح الله -جل وعلا- الأكل والشرب إلى طلوع الفجر الثاني، ثم أمر بإتمام الصيام إلى الليل. وهذا معناه ترك الأكل والشرب في الفترة ما بين طلوع الفجر إلى الليل. ويدخل في ذلك السعوط في الأنف، وكذا إيصال كل شيء مائع أو جامد عن طريق الأنف أو العين أو الأذن شريطة وصوله للجوف (¬3). يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية: " ... ومعلوم أن النص والإجماع أثبتا الفطر بالأكل والشرب والجماع والحيض ... " (¬4). 4 - ما كان بمعنى الأكل والشرب: كل ما كان بمعنى الأكل والشرب كحقن الدم للصائم بحيث يستغني به عن الأكل والشرب، وكذا الإبر المغذية التي تقوم مقابل الأكل والشرب. ¬

_ (¬1) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمَّد بن إبراهيم (4/ 190 - 191). (¬2) سورة البقرة: 187. (¬3) المجموع (6/ 313)، كشاف القناع (2/ 317). (¬4) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية (25/ 244).

5 - الحجامة

فمتى حقن في الصائم دم لحاجة ضرورية كحصول نزيف أو أعطي إبرًا مغذية، فإنه يفطر ويقضي ذلك اليوم، وقد أبيح له الفطر للضرورة وألزم بالقضاء؛ لأن ما أفطر به يقوم مقام الأكل والشرب. أما الإبر الأخرى غير المغذية فلا تفطر في أي مكان من الجسم أخذها الصائم، وعلى أي كيفية ما لم تصل إلى جوفه كما سبق. يقول الشيخ محمَّد بن إبراهيم -رحمه الله-: " ... والذي يظهر لنا أن إبرة الوريد تفسد الصوم؛ لتحقيق دخول مادتها إلى مستعملها. وقد صرح الفقهاء -رحمهم الله- بفساد صيام من أدخل إلى جوفه شيئًا من أي موضع كان ... " (¬1). 5 - الحجامة: الحجامة: هي شرط ظاهر الجلد المتصل قصدًا لإخراج الدم من الجسد دون العروق. فمتى تم استخراج الدم من الصائم بحجامة أو فصد أو سحب للتبرع به لإنقاذ مريض محتاج، فإنه يفطر، والأصل في ذلك ما رواه شداد بن أوس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ" (¬2). وقد وردت أحاديث كثيرة مؤداها التفطير بالحجامة للحاجم والمحجوم، وعليه فلا يجوز للصائم صومًا واجبًا أن يتبرع بإخراج دمه إلا في حال الضرورة القصوى بشرط ألا يتضرر المتبرع ويفطر بذلك اليوم ويقضي (¬3). ¬

_ (¬1) فتاوى ورسائل الشيخ محمَّد بن إبراهيم (4/ 189). (¬2) أخرجه أحمد: مسند المكثرين (8413)، أبو داود: كتاب الصوم (2020)، الترمذيُّ: كتاب الصوم (705)، ابن ماجه: كتاب الصيام (1669)، وصححه الألباني في الإرواء (ج 4 رقم 931) (¬3) قال ابن قاسم -رحمه الله-: " ... ولا يفطر إلا بشرط أن يكون عامدًا ذاكرًا لصومه قاصدًا للفعل، ويجب القضاء إن كان الصوم واجبًا" حاشية الروض المربع، ج 3.

وأما خروج الدم بغير قصد من الصائم كالرعاف، ودم الجراحة، وخلع الضرس، ونحوه مما لا يؤثر على الصائم فلا يفطر به؛ لأنه ليس بمعنى الحجامة ثم إن الصائم معذور في هذه الحالات؛ لأنه محتاج لذلك حاجة ملحة. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-: " ... وقد بيَّنَّا أن الفطر بالحجامة على وفق الأصول والقياس. وأنه من جنس الفطر بدم الحيض والاستقاءة وبالاستمناء، وإذا كان كذلك فبأي وجه أراد إخراج الدم أفطر ... " (¬1). وذهب جمهور أهل العلم إلى أنها لا تفطر لا الحاجم ولا المحجوم ولكنهم كرهوها بوجه عام. قال الحنفية (¬2): لا بأس بها إن أمن الصائم على نفسه الضعف، أما إذا خاف الضعف فإنها تكره. وقال المالكية (¬3): إن المريض والصحيح إذا علمت سلامتهما بالحجامة أو ظُنَّتْ جازت الحجامة لهما، وإلا فلا، بل تحرم عليهما، وفي حال الشك تكره للمريض وتجوز للصحيح. وقال الشافعية (¬4): يستحب الاحتراز من الحجامة من الحاجم والمحجوم لأنها تضعفه. وقال الشافعي في الأم (¬5): لو ترك رجل الحجامة صائمًا للتوقي كان أحب إليَّ، ولو احتجم لم أره يفطره. ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية (25/ 257). (¬2) الفتاوى الهندية (1/ 199، 200). (¬3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 518). (¬4) المجموع (6/ 349 - 352). (¬5) الأم، للشافعي (2/ 97).

6 - التقيؤ عمدا

واحتج هؤلاء جميعًا بما رواه البخاري عن ابن عباس: "أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ" (¬1). وأيضًا بما جاء في صحيح البخاري عن ثابت البناني أنه قال لأنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ؟ قَالَ: لا، إِلا مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ" (¬2). والصحيح كما ذكرنا فساد صوم الحاجم والمحجوم؛ لحديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" (¬3)، وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية (¬4). 6 - التقيؤ عمدًا: وهو استخراج ما في المعدة من طعام أو شراب عن طريق الفم عمدًا. ويفطر بالتقيؤ عمدًا سواء كان بالفعل كعصر بطنه، أو بالشم كأن يشم شيئًا له رائحة كريهة نفاذة يتقيأ بها، أو بالنظر كأن يتعمد النظر إلى شيء قبيح ليقيء به، وعليه في كل ذلك القضاء. أما إذا غلبه القيء وخرج منه بغير اختياره فإنه لا يؤثر على صيامه، قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ ذَرَعَهُ القَيْءُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَمَنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَلْيَقْضِ" (¬5). قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-: " ... كما أنه بأي وجه أخرج القيء أفطر سواء جذب القيء بإدخال يده، أو يشم ما يقيئه، أو وضع يده تحت بطنه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب الحجامة والقيء للصائم (1802). (¬2) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب الحجامة والقيء للصائم (1804). (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة (10/ 262) رقم الفتوى (11917). (¬4) فتاوى اللجنة الدائمة (10/ 261) رقم الفتوى (11917). (¬5) أخرجه أبو داود: كتاب الصوم (2032)، الترمذيُّ: كتاب الصوم (653)، وصححه الألباني في الإرواء (ج 4 رقم 930).

7 - خروج دم الحيض والنفاس

واستخراج القيء فتلك طرق لإخراج القيء ... " (¬1). وقال ابن حجر -رحمه الله-: " ... أما القيء فذهب الجمهور إلى التفرقة بين من سبقه فلا يفطر، وبين من تعمده فيفطر. ونقل ابن المنذر الإجماع على بطلان الصوم بتعمد القيء ... " (¬2). 7 - خروج دم الحيض والنفاس: فمتى رأت المرأة دم الحيض والنفاس فسد صومها، سواء رأته في أول النهار أو في آخره. يدل لذلك ما رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَليْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ! فَذَلِكَ نُقْصَانُ دِينِهَا" (¬3). وما روته عائشة -رضي الله عنها- وفيه: " ... كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلاةِ" (¬4). 1 - حكم استعمال قطرة العين وقطرة الأذن في نهار رمضان: لا يفطر بهما الصائم في أصح قولي العلماء، فإن وجد طعم القطرة في حلقه فالأحوط له أن يقضي هذا اليوم، ولكن القضاء لا يجب حيث إن العين والأذن ليسا منفذين للطعام والشراب. أما قطرة الأنف: فلا تجوز إلا إذا كان مضطرًا؛ لأن الأنف منفذ للحلق، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية (25/ 257) .. (¬2) فتح الباري شرح صحيح البخاري (4/ 174). (¬3) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب الحائض تترك الصوم والصلاة (1815). (¬4) أخرجه مسلمٌ: كتاب الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة (508)، وانظر: مواهب الجليل (2/ 433)، المحلى (6/ 472).

2 - حكم استعمال بخاخ الربو اليدوي

" ... وَبَالِغْ في الاسْتِنْشَاقِ إِلا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا ... " (¬1). فمن فعل ذلك فعليه القضاء إن وجد طعم القطرة في حلقه. 2 - حكم استعمال بخاخ الربو اليدوي: لا مانع للصائم منه؛ لأنه لا يصل إلى المعدة وإنما هو في الحلق والرئة، وهو في هذه الحالة لا يفطر؛ لأنه ليس أكلًا أو شربًا، ولا بمعنى الأكل والشرب، وصيام مستعمله صحيح خاصة أن مثل هؤلاء المرضى من هذا النوع لا يستغنون عن البخاخ ولو تركوه طيلة اليوم لأصيبوا باختناقات في التنفس. نسأل الله السلامة والعافية لنا وللمسلمين. لكن لو ثبت أنه يضاف له محاليل وقرر الطبيب المختص أنها تصل المعدة فهنا يفطر به الصائم. 3 - حكم استعمال الإبر المسكنة في نهار رمضان: لا تفطر الصائمَ؛ لأنها ليست إبرًا مغذية، وأما إبرة السكر فالراجح أنها لا تفطر، ولكن الأولى لمريض السكر ألا يأخذها أثناء النهار إلا إذا كان محتاجًا لها. 4 - حكم استعمال الإبر المغذية للصائم: لا يجوز، ومن أخذها فقد فسد صومه وعليه القضاء. 5 - حكم استعمال الحقنة الشرجية: التي يحتقن بها المريض ضد الإمساك أو غيرها من الأدوية التي تدخل من دبر الصائم: ذهب بعض أهل العلم إلى أنها مفطرة للصائم بناءً على القاعدة الشرعية أن: "كل ما يصل إلى الجوف يفطر به الصائم". ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود: كتاب الطهارة (123)، الترمذيُّ: كتاب الصوم (718)، النسائي: كتاب الطهارة (86)، ابن ماجه: كتاب الطهارة (401)، وصححه الألباني في المشكاة (ج 4 رقم 935).

6 - حكم استعمال التحاميل في نهار رمضان

وقال بعضهم: إنها لا تفطر؛ لأنها ليست أكلًا أو شربًا, ولا في معنى الأكل والشرب. والذي يظهر أن مرد ذلك إلى الطب، فإذا قال الطبيب الثقة العدل أن هذه الحقنة كالأكل والشرب وأن الجسم يستفيد منها كما يستفيد من الأكل والشرب، فإنها في هذه الحالة تفطر، لكن الذي ثبت لنا عن طريق الأطباء أنها لا تصل للجوف وبالتالي لا تفطر. 6 - حكم استعمال التحاميل في نهار رمضان: لا حرج على الصائم في استعمال التحاميل التي يأخذها من دبره في نهار رمضان؛ لأن هذا ليس أكلًا أو شربًا ولا في معنى الأكل أو الشرب، والمحظور هو الأكل والشرب وما قام مقامهما، وهذه لا تدخل فيهما لا لفظًا ولا معنى، ثم إن هذه التحاميل تذوب ولا تتسرب إلى الجوف. 7 - حكم البنج إذا سرى في جسد الصائم: إذا سرى البنج في جسد الصائم في نهار رمضان بسبب قلع ضرس أو نحوه فلا بأس به ولا يفطر؛ لأنه ليس من الأكل أو الشرب ولا في معناهما, ولكن على الصائم في هذه الحالة ألا يبتلع الدم الخارج من الضرس، بل يتفله، فإن وصل إلى جوفه شيء منه أفطر به ما لم يكن بغير اختياره. 8 - حكم استعمال فرشاة الأسنان والمعجون: يجوز للصائم استعمالها في نهار رمضان؛ لأنها لا تفطر ما دام أنه لم يصل إلى جوفه شيء منها، وأما إذا وصل إلى جوفه شيء منها أفطر وقضى. والأولى للصائم ألا يستعمل فرشاة الأسنان والمعجون إلا في الليل؛ لأنه ربما ينزل شيء من المعجون

9 - حكم ابتلاع الريق وما في حكمه

إلى بطنه دون أن يشعر، ولو خرج من أسنانه دم حال تدليكها بالفرشاة فإنه لا يفطر إلا إذا ابتلع منه شيئًا، فهنا يفسد صومه وعليه القضاء. 9 - حكم ابتلاع الريق وما في حكمه: لا شيء فيه على الصائم، ولكن لا يسوغ تعمد بلع النخامة، وأما إذا ابتلعها الصائم من غير قصد فلا تأثير لها على صيامه؛ لأنها مما لا يتحرز منه غالبًا. 10 - حكم الصائم الذي تبرع بالدم: يبطل صومه قياسًا على الحجامة، ويقضي مكان ذلك اليوم. ولا يسوغ للصائم أن يتبرع بالدم في نهار رمضان إلا لحالة ضرورية كإنقاذ معصوم من الهلكة وبشرط ألا يتضرر الصائم من ذلك؛ إذ لا يزال الضرر بالضرر. 11 - حكم استعمال الطيب في نهار رمضان: يجوز للصائم ولا يفسد به صومه، وأما البخور فالأولى عدم استعماله؛ لأن له جرمًا يدخل إلى جوف الصائم فيفطر به. 12 - حكم السباحة في البحر أو البركة أو في حمام السباحة: يباح للصائم في نهار رمضان أن يسبح في البحر أو البركة أو في حمام السباحة سواء كان عميقًا أو غير ذلك، وله أن يسبح من حنفية الماء وغيرها حيث إن السباحة تنشط الصائم وتعينه على صومه؛ لما في ذلك من التخفيف والتيسير على العباد، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬1)، ويقول - صلى الله عليه وسلم -:"إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ ... " (¬2). ولكن على الصائم أن ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 185. (¬2) أخرجه البخاريُّ: كتاب الإيمان, باب الدين يسر (38).

13 - حكم استعمال دواء الغرغرة

يراعي ألا يتسرب الماء إلى جوفه. والأحوط للصائم ألا يسبح في الماء العميق أو الجاري في نهار رمضان؛ لأن الغالب على من يسبح أن يدخل في جوفه الماء. 13 - حكم استعمال دواء الغرغرة: استعمال الصائم لهذا الدواء في نهار رمضان لا يُبْطِلُ صومَه إذا لم يبتلعه، ولكن عليه ألا يتناوله إلا إذا دعت الحاجة إليه، ولا يفطر به إذا لم يدخل في جوفه شيء منه. وكذلك كل ما كان دواءً للأسنان أو اللثة ما دام أنه لا يدخل إلى الجوف فلا حرج من تناوله في نهار رمضان ولا يفطر بذلك. والممنوع هو وصوله إلى الحلق والجوف.

أحكام القضاء

أحكام القضاء من أفطر أيامًا من رمضان كالمريض والمسافر لزمه قضاء ما فاته، والقضاء إنما يكون بعد ما فاته فلا يجوز لأحد أن يصوم قبل رمضان ويجعله من قضائه؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬1). ومن فاته شهر رمضان كله لزمه قضاء الشهر كله ولا يلزمه هنا في هذه الحالة أن يبتدئ الصوم من أوله، بل متى ابتدأ الشهر من أوله أو من أثنائه جاز. لكن إن ابتدأ من أول الشهر وكان شهر رمضان ثلاثين وكان الشهر الذي يقضي فيه تسعة وعشرين يومًا، فهل يلزمه صيام يوم أخر؟ نقول: هذه المسألة محل خلاف عند الفقهاء، والراجح أنه إن صام بالهلال كفاه ما صامه ولو كان تسعة وعشرين يومًا. قال القاضي من الحنابلة (¬2): "إن قضى شهرًا هلاليًا أجزأه سواء كان تامًا أو ناقصًا، وإن لم يقصد شهرًا صام ثلاثين يومًا -وهو ظاهر كلام الخرقي-". قضاء رمضان على التراخي أو الفور: ذهب جمهور الفقهاء (¬3) إلى أن قضاء رمضان يكون على التراخي، لكن قيدوا التراخي بما إذا لم يفت وقت قضائه بأن يهل رمضان آخر، واحتجوا لذلك بما رواه البخاري ومسلمٌ عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 185. (¬2) المقنع ومعه الشرح الكبير والإنصاف (7/ 497). (¬3) انظر في ذلك: الإنصاف (2/ 333)، الإقناع (2/ 343)، شرح المعلى على المنهاج (2/ 68 - 69)، المهذب (6/ 363)، القوانين الفقهية، (ص: 84).

تتابع قضاء رمضان

رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلا فِي شَعْبَانَ، الشُّغْلُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). وقالوا أيضًا: كما أنه لا يؤخر الصلاة الأولى إلى الثانية فكذلك الصوم. وقال الحنفية (¬2) بإطلاق التراخي بلا قيد، فلو جاء رمضان آخر ولم يقض الفائت قدَّم صوم الأداء على القضاء ولا فدية عليه بالتأخير، واحتجوا لذلك بإطلاق النص فى قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر}. والصحيح: قول الجمهور، فلا يجوز تأخير القضاء حتى يدخل عليه رمضان آخر، فإن أخر القضاء حتى دخل عليه رمضان آخر لغير عذر فإنه يأثم بذلك وعليه القضاء والفدية إن كان قادرًا، وأما إن أخره لعذر فليس عليه إلا القضاء فقط (¬3). ومع قولنا بأن القضاء على التراخي إلا أن الأولى والأفضل في حق من عليه قضاء أن يبادر بالقضاء. تتابع قضاء رمضان: لا يلزم التتابع في قضاء رمضان بل يستحب؛ ليكون أقرب إلى مشابهة الأداء؛ لأن الأداء متتابع وأسرع في إبراء الذمة، ولأن التتابع العمل به أحوط فإن الإنسان لا يدري ما يعرض له. تأخير قضاء رمضان لعذر حتى الموت ولم يتمكن من القضاء: لا شيء على من حصل له ذلك لعدم تقصيره ولا إثم عليه؛ لأن القضاء فرض لم يتمكن منه إلى الموت فسقط حكمه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ: كتاب الصيام، باب قضاء رمضان في شعبان (1933). (¬2) الفتاوى الهندية (1/ 208). (¬3) انظر في ذلك: مجموع فتاوى ومقالات سماحة شيخنا (15/ 350).

تأخير قضاء رمضان لغير عذر مع إمكان القضاء حتى الموت

وقال أبو الخطاب (¬1) من الحنابلة: يحتمل أن يجب الصوم عنه أو التكفير. والصحيح: أنه لا يجب الصوم ولا التكفير عنه، وإن تبرع أحد فصام عنه أو فدى فإنه يتوجه جوازه إلى أنه لا يجب. تأخير قضاء رمضان لغير عذر مع إمكان القضاء حتى الموت: فإنه يطعم عنه لكل يوم مسكينًا، وهذا قول أكثر أهل العلم (¬2)، وقال الشافعي (¬3): يصام عنه واحتج لذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ" (¬4). واختار هذا القول سماحة شيخنا ابن باز -رحمه الله- حيث قال: "قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ"، قال: والصواب أنه عام وليس خاصًا بالنذر، وقد روي عن بعض الأئمة كأحمد وجماعة أنهم قالوا: إنه خاص بالنذر، ولكنه قول مرجوح ولا دليل عليه، والصواب أنه عام" (¬5). والأولى: ما ذهب إليه أكثر أهل العلم، فالواجب هنا هو الإطعام عن كل يوم مسكينًا إن كان له تَرِكَةٌ، فإن لم يكن له شيء من مال اسْتُحِبَّ لأوليائه الإخراج عنه ولا يلزمهم. أما ما احتج به الشافعية (¬6) فإنما ورد في النذر لا في القضاء، فإن تبرع أحد أقاربه فصام عنه جاز ذلك ولكن لا يجب. ¬

_ (¬1) الإنصاف (3/ 334). (¬2) انظر في ذلك: جواهر الإكليل (1/ 163)، روضة الطالبين (2/ 364)، كشاف القناع (2/ 334). (¬3) المجموع (6/ 368). (¬4) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم (1816)، مسلم: كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت (1935). (¬5) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (15/ 373، 374). (¬6) المجموع (6/ 368).

ما لا يفسد به الصيام

ما لا يفسد به الصيام هناك أمور يفسد بها الصوم وقد سبق بيانها، وهناك أمور قد تحصل للإنسان هي في الحقيقة مفسدة لصومه، لكن لوجود عارض صرفت من الإفساد إلى عدمه، ومن هذه الأمور: 1 - الأكل والشرب ناسيًا: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (¬1) والشافعية (¬2) والحنابلة (¬3) إلى أن الأكل والشرب في حال النسيان لا يفسد الصوم فرضًا أو نفلًا؛ وذلك لما رواه البخاري ومسلمٌ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا نَسِيَ فَأَكَلَ وَشَرِبَ فَليُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ" (¬4). والحديث عام لم يخصص الفرض ولا النفل. وذهب المالكية (¬5) إلى أن هذا خاص بالنفل، أما الفرض فمن أكل أو نسي فعليه القضاء. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور؛ لعموم الأدلة. قال ابن القيم (¬6) -رحمه الله-: "وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - إسقاط القضاء عمن أكل أو شرب ناسيًا، وأن الله -سبحانه وتعالى- هو الذي أطعمه وسقاه، فليس هذا الأكل والشرب يضاف إليه فيفطر به وإنما يفطر بما فعله، وهذا بمنزلة أكله وشربه في نومه؛ إذ لا تكليف بفعل النائم ولا بفعل الناسي". ¬

_ (¬1) الهداية (2/ 254)، المبسوط (3/ 65). (¬2) روضة الطالبين (2/ 356). (¬3) المغني (4/ 367 - 368). (¬4) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا (1797)، مسلم: كتاب الصيام، باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر (1952). (¬5) القوانين الفقهية، (ص: 83). (¬6) زاد المعاد (1/ 338).

2 - الجماع في حال النسيان

2 - الجماع في حال النسيان: ذكرنا سابقًا أن الجماع مفسد للصوم، لكن من فعله ناسيًا هل يفسد صومه به؟ نقول: اختلفت أقوال المذاهب في ذلك: فذهب الحنفية (¬1) والشافعية (¬2) في المذهب، وهو رواية عن الإِمام أحمد (¬3)، إلى أنه لا يفطر إن جامع في حال النسيان قياسًا على الأكل والشرب. وذهب المالكية (¬4) وهو المذهب عند الحنابلة (¬5) إلى أن من جامع ناسيًا فسد صومه، وعليه القضاء فقط عند المالكية (¬6) وقول عند الحنابلة، والقضاء والكفارة في المذهب عند الحنابلة. والراجح من الأقوال: هو القول الأول؛ فمتى كان الإنسان معذورًا بإكراه أو نسيان فإنه لا قضاء عليه ولا كفارة؛ لعموم قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (¬7)، فقال سبحانه: "قَدْ فَعَلتُ" (¬8). وقياسًا على الأكل والشرب ناسيًا. وهذا هو اختيار العلامة بن سعدي (¬9)، والشيخ محمَّد بن صالح العثيمين (¬10) - رحمهما الله-. ¬

_ (¬1) الهداية (2/ 254 - 255). (¬2) المجموع (6/ 352). (¬3) المقنع ومعه الشرح الكبير والإنصاف (7/ 442 - 443). (¬4) الشرح الصغير (2/ 244). (¬5) الإنصاف (3/ 311)، كشاف القناع (2/ 324). (¬6) الشرح الصغير (2/ 244). (¬7) سورة البقرة: 286. (¬8) أخرجه مسلمٌ: كتاب الإيمان, باب أنه -سبحانه وتعالى- لم يكلف إلا ... (180). (¬9) المختارات الجلية، (ص: 85 - 86). (¬10) الشرح الممتع (6/ 404).

3 - الاحتلام

3 - الاحتلام: من نام وهو صائم ثم احتلم لا يفسد صومه بل عليه إتمام الصوم ويجب عليه الاغتسال، قال - صلى الله عليه وسلم -: "رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثٍ: .. " وذكر منها: "عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ" (¬1). ولأنه غير قاصد. 4 - دخول الغبار ونحوه حلق الصائم: إذا دخل الغبار أو الذباب وغيره حلق الصائم لا يفطر بذلك؛ لعدم قدرته على الامتناع عنه، ولأن ذلك أيضًا لا يمكن التحرز منه. 5 - البلل في الفم: لا يفسد الصوم وجود البلل الذي يبقى في الفم بعد المضمضة إذا ابتلعه الصائم مع الريق بشرط أن يبصق بعد مج الماء؛ لاختلاط الماء بالبصاق، ولا تشترط المبالغة في البصق؛ لأن الباقي بعد البصق مجرد بلل ورطوبة لا يمكن التحرز منه. 6 - ابتلاع ما بين الأسنان: اختلف الفقهاء في حكم من ابتلع ما بين أسنانه وهو صائم. فالمالكية (¬2) ذهبوا إلى عدم الإفطار بما سبق إلى جوفه من بين أسنانه ولو عمدًا؛ لأنه أخذه في وقت يجوز له أخذه فيه. وفي قول آخر عندهم -يعني: المالكية (¬3) - أنه يفطر إذا تعمد بلعه، أما لو سبق إلى جوفه فإنه لا يفطر. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه، (ص: 30). (¬2) القوانين الفقهية، (ص: 80). (¬3) المرجع السابق.

7 - خروج الدم من اللثة

وذهب الشافعية (¬1) إلى فساد الصوم مطلقًا بابتلاع ما بين الأسنان سواء كان كثيرًا أو قليلًا؛ لأن الفم له حكم الظاهر، وللشافعية (¬2) قول آخر أنه لا يفطر مطلقًا بذلك. والراجح في هذه المسألة ما شرطه الشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) في عدم الإفطار بابتلاع ما بين الأسنان، وهما شرطان: الأول: أن لا يقصد ابتلاع ما بين أسنانه. الثاني: أن يعجز عن تمييزه ومجه؛ لأنه معذور غير مفرط. 7 - خروج الدم من اللثة: ذهب الشافعية (¬5) والحنابلة (¬6) إلى الإفطار بتعمد ابتلاع الريق المختلط بالدم لتغير الريق، والدمُ نجس لا يجوز ابتلاعه، وهذا هو الصحيح، وهو اختيار الشيخ محمَّد بن صالح العثيمين (¬7) -رحمه الله-. 8 - ابتلاع النخامة: النخامة أو النخاعة: هو ما يخرجه الإنسان من رأسه وتكون على هيئة مخاط أو تكون بلغمًا صاعدًا من البطن. وهذه يحرم ابتلاعها لضررها على البدن. ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (2/ 361). (¬2) المرجع السابق. (¬3) المرجع السابق. (¬4) المغني والشرح الكبير (3/ 42، 43)، كشاف القناع (2/ 331)، الإقناع (2/ 329). (¬5) روضة الطالبين (2/ 359). (¬6) كشاف القناع (2/ 329). (¬7) الشرح الممتع (6/ 424).

وقد اختلف الفقهاء في حكم من ابتلعها وهو صائم: فالحنفية (¬1) والمعتمد عند المالكية (¬2) أن النخامة لا تفطر مطلقًا. وجاء عند المالكية (¬3) أنه لا يفطر بها ولو وصلت إلى طرف لسانه ثم ابتلعها لمشقته، وفي قول آخر عند المالكية (¬4) وهو المذهب عند الحنابلة (¬5) أن عليه القضاء. وقال الشافعية (¬6): إن ابتلعها بعد وصولها إلى ظاهر الفم أفطر جزمًا (¬7). والراجح: أنه لا قضاء عليه ولو وصلت إلى الفم وابتلعها؛ لأن ذلك لا يعد أكلًا ولا شربًا، لكن الأحوط للإنسان أنها إذا وصلت إلى فمه أن لا يبتلعها؛ خروجًا من الخلاف. ¬

_ (¬1) الدر المختار ورد المحتار (2/ 101 - 111). (¬2) جواهر الإكليل (1/ 149). (¬3) جواهر الإكليل (1/ 149)، الشرح الكبير، للدردير (1/ 525). (¬4) المراجع السابقة. (¬5) المغني ومعه الشرح الكبير (2/ 43)، الروض المربع (1/ 143). (¬6) روضة الطالبين (2/ 224). (¬7) روضة الطالبين (2/ 360).

الأعذار المبيحة للفطر

الأعذار المبيحة للفطر الصيام عبادة شاقة تحتاج إلى تحمل وصبر وقد لا يتحملها بعض الناس لعوارض قد تلحق بهم؛ ومن محاسن شريعتنا أن خففت على هؤلاء -وهم أهل الأعذار- فرخصت لهم الفطر وألزمتهم بالقضاء عند زوال العذر أو بالفدية عند العجز عن الصيام. وهؤلاء هم: المريض، والمسافر، والمرأة الحامل، والمرضع، والشيخ الهرم، ومن أرهقه الجوع والعطش، والمكره. وسنتناول هنا الأحكام المتعلقة بهم. أولًا: المرض: قال في المصباح المنير (¬1): المرض: "هو كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة". حكمه مع الصوم: اتفق الفقهاء على إباحة الفطر للمريض وعليه القضاء عند الاستطاعة. قال ابن قدامة في المغني (¬2): "أجمع أهل العلم على إباحة الفطر للمريض في الجملة، والأصل فيه قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬3) ". وروى البخاري ومسلمٌ عن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- قال: "لمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ ¬

_ (¬1) المصباح المنير، مادة: "مرض" (2/ 568). (¬2) المغني (4/ 403). (¬3) سورة البقرة: 184.

أحوال المريض

وَيَفْتَدِيَ حَتَّى نَزَلَتْ الآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا" (¬1). يعني قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬2). أحوال المريض: للمريض مع الصوم حالات: الحالة الاولى: ألا يقدر على الصوم بحال، أو يخاف الهلاك أو الضعف أو يضره الصوم، فهذا يجب عليه الفطر ولا يجوز له الصوم؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (¬3)، وقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬4). فإن صام وهو في هذه الحال هل يجزئه الصوم؟ ذهب أكثر أهل العلم أنه يجزئه مع الإثم. وقال ابن حزم (¬5): لا يجزئه الصوم؛ لأن الله -تعالى- جعل للمريض عدة من أيام أُخر، فلو صام في مرضه فهو كالقادر الذي صام في شعبان عن رمضان فلا يجزئه ويجب عليه القضاء. والقاعدة عنده في ذلك أن ما نهي عنه لذاته فإنه لا يقع مجزئًا، فإذا قلنا بالتحريم فمقتضى القواعد أنه إذا صام لا يجزئه؛ لأنه صام ما نهي عنه كصوم أيام ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ: كتاب تفسير القرآن، باب: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (4147)، مسلم: كتاب الصيام، باب بيان نسخ قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} (1931). (¬2) سورة البقرة: 185. (¬3) سورة النساء: 29. (¬4) سورة البقرة: 195. (¬5) المحلى (6/ 247).

التشريق وأيام العيدين لا يحل ولا يصح. والراجح: أنه متى تحمل المريض الضرر فصام صح صومه ويجزئه؛ لأنه صدر من أهله في محله كما لو أتم المسافر الصلاة، وكالمريض الذي يباح له ترك الجمعة؛ إذا حضرها أجزأه عن الظهر لكنه يأثم؛ لأنه ألحق بنفسه الضرر. الحالة الثانية: أن يقدر على الصوم بمشقة ولا يتضرر بصومه: فالحنفية (¬1) والمالكية (¬2) والشافعية (¬3) على جواز الفطر له، وقال ابن العربي (¬4) من المالكية: بل يستحب له الفطر. والراجح: أنه يكره له الصوم ويسن له الفطر؛ لأن ارتكاب المشقة مع وجود الرخصة يشعر بالعدول عن رخصة الله -تعالى-، قال - صلى الله عليه وسلم -:"إِنَّ الله يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ" (¬5). الحالة الثالثة: ألا يشق عليه الصوم، ولا يخاف زيادة المرض، ولا يتأثر به. فالجمهور (¬6) على وجوب الصوم. وقال بعض السلف (¬7): يباح الفطر بكل مرض حتى من وجع الضرس والأصبع وغير ذلك مما لا يؤثر على المريض حال صومه. ¬

_ (¬1) الدر المختار ورد المحتار (2/ 116). (¬2) القوانين الفقهية، (ص: 82)، حاشية الدسوقي (1/ 535). (¬3) المجموع (6/ 258). (¬4) القوانين الفقهية، (ص: 82)، حاشية الدسوقي (1/ 535). (¬5) أخرجه أحمد: مسند المكثرين من الصحابة (5600)، وصححه الألباني في الإرواء (ج 3 رقم 564). (¬6) انظر في ذلك: المراجع السابقة. (¬7) المغني (4/ 404).

ثانيا: السفر

والصحيح ما ذهب إليه الجمهور أنه لا يجوز له الفطر إلا إذا كان الفطر أرفق به، أما إذا كان لا يتأثر فإنه لا يجوز له الفطر بل يجب عليه. ثانيًا: السفر: السفر عذر يباح فيه الفطر، قال تعالي: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬1). قال ابن قدامة (¬2): "وجواز الفطر للمسافر ثابت بالنص والإجماع". الشروط المعتبرة في السفر ليحصل به الفطر: اشترط الفقهاء للسفر المبيح للفطر شروطًا منها: 1 - أن يكون السفر مما تُقْصَرُ فيه الصلاة: قال ابن رشد في بداية المجتهد (¬3): "أما المعنى المعقول من إجازة الفطر في السفر فهي المشقة، ولما كانت لا توجد في كل سفر، وجب أن يوجد الفطر في السفر الذي فيه المشقة، ولما كان الصحابة كأنهم مجمعون على الحد في ذلك وجب أن يقاس ذلك على الحد في تقصير الصلاة". قلنا: والحد الذي تقصر فيه الصلاة ويجوز فيه الفطر اختلف فيه الفقهاء: فقال بعضهم (¬4): إن السفر الذي يباح له قصر الصلاة وجواز الفطر يحد بالعرف ولا يحد بالمسافة المقدرة بالكيلومترات، فما سمِّيَ في العُرف سفرًا يقصر ويفطر فيه، وما لا فلا. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 185. (¬2) المغني (4/ 406). (¬3) بداية المجتهد (1/ 346). (¬4) مجموع الفتاوى، لشيخ الإِسلام (24/ 12).

وذهب الجمهور (¬1) إلى التحديد بالمسافة وهو ما يبلغ في المسافة يومًا وليلة بالرواحل المعتادة، وهذا هو الصحيح الذي نختاره، وهو ما زاد عن ثمانين كيلو مترًا. 2 - أن لا يزيد على المدة التي يباح له فيها قصر الصلاة: وقد اختلف فيها الفقهاء -كما ذكرنا ذلك في كتاب الصلاة-، وقلنا بأن الراجح فيها أنها لا تزيد عن أربعة أيام، فمتى زاد عن ذلك لم يشرع القصر ولا الفطر؛ لأنه أصبح مقيمًا. وهذا هو اختيار اللجنة الدائمة (¬2). 3 - أن لا يكون سفر معصية: لأن الفطر رخصة فلا يستحقه العاصي بسفره، وهذا هو قول الجمهور (¬3). وذهب الحنفية (¬4) إلى جواز الفطر للمسافر ولو كان عاصيًا بسفره؛ عملًا بإطلاق النصوص المرخصة، ولأن نفس السفر ليس بمعصية وإنما المعصية ما يكون بعده أو يجاوزه، والرخصة تتعلق بالسفر لا بالمعصية. والراجح: ما ذهب إليه الجمهور، وهو الذي يترجح عندنا. 4 - أن يجاوز المسافر مدينته التي يسكن فيها وأفنيتها وأخبيتها. وذهب بعض الفقهاء (¬5) إلى جواز الفطر قبل ذلك. ¬

_ (¬1) المغني (4/ 406)، بداية المجتهد (1/ 346). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 99) برقم (11520). (¬3) انظر في ذلك: الشرح الكبير وحاشية الدسوقي (1/ 358)، المجموع شرح المهذب (4/ 223)، المغني (3/ 116 - 117). (¬4) بدائع الصنائع (1/ 93). (¬5) نيل الأوطار (5/ 306، 307).

متى يجوز الفطر للمسافر؟

والراجح: أنه لا يجوز؛ لأنه لا يسمى مسافرًا حتى يخرج من مدينته، قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬1)، فهو شاهد للشهر لا يتحقق كونه مسافرًا حتى يخرج من البلد ولذلك لا يقصر الصلاة حتى يخرج من عامر قريته. متى يجوز الفطر للمسافر؟ للمسافر حالتان: الحالة الأولى: أن يبدأ السفر قبل الفجر أو يطلع الفجر وهو مسافر وينوي الفطر، فيجوز له الفطر إجماعًا. الحالة الثانية: أن يبدأ السفر بعد الفجر بأن يطلع الفجر وهو مقيم ببلده ثم يسافر بعد طلوع الفجر أو خلال النهار وهذه الحالة اختلف فيها الفقهاء في جواز الفطر له: فالحنفية (¬2) والمالكية (¬3) وصحيح المذهب عند الشافعية (¬4)، وهو رواية عن الإِمام أحمد (¬5)، أنه لا يشرع له الفطر بل يجب عليه الإتمام؛ وذلك تغليبًا لجانب الحضر. وذهب الحنابلة (¬6) وبعض الشافعية (¬7) إلى جواز الفطر له؛ وذلك لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬8)، وحديث جابر ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 185. (¬2) الدر المختار (2/ 122). (¬3) القوانين الفقهية، (ص: 82). (¬4) شرح المحلى على المنهاج (2/ 64). (¬5) المقنع ومعه الشرح الكبير والإنصاف (7/ 179). (¬6) المرجع السابق. (¬7) المجموع (6/ 375). (¬8) سورة البقرة: 184

أيهما أفضل للمسافر الصوم أم الفطر؟

ابن عبد الله -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ عَامَ الفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ في رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الغَمِيمِ فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَ فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ؟ فَقَالَ: "أُولَئِكَ العُصَاةُ، أُولَئِكَ العُصَاةُ" (¬1). وأيضًا روى الإِمام أحمد وهو عند البخاري معلقًا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "خَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ في شَهْرِ رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى مَرَّ بغَدِيرٍ فِي الطَّرِيقِ وَذَلِكَ في نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، قَالَ: فَعَطِشَ النَّاسُ وَجَعَلُوا يَمُدُّونَ أًعْنَاقَهُمْ وَتَتُوقُ أَنْفُسُهُمْ إِلَيْهِ، قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَأَمْسَكَهُ عَلَى يَدِهِ حَتَّى رَآهُ النَّاسُ، ثُمَّ شَرِبَ فَشَرِبَ النَّاسُ" (¬2). فهذه الأدلة تدل دلالة واضحة على جواز فطر من أنشأ سفرًا بعد أن أصبح صائمًا، وهذا هو الصحيح من القولين، وهو اختيار الشيخ ابن سعدي (¬3) - رحمه الله-. أيهما أفضل للمسافر الصوم أم الفطر؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة: فالجمهور (¬4) يقولون بأن الصوم أفضل إذا لم يجهده الصوم ولم يضعفه، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬5)، فدلت الآيات على أن الصوم عزيمة، والإفطار رخصة، ولا شك أن العزيمة أفضل، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ: كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر (1878). (¬2) أخرجه أحمد: كتاب مسند بني هاشم (3281)، والبخاريُّ معلقًا. (¬3) المختارات الجليلة، (ص: 83). (¬4) الدر المختار (2/ 117)، بداية المجتهد (1/ 345)، حاشية القليوبي (2/ 64). (¬5) سورة البقرة: 183.

واحتجوا لذلك أيضًا بما روى البخاري ومسلمٌ عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في شَهْرِ رَمَضَانَ في حَرٍّ شَدِيدٍ حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ" (¬1). وذهب الحنابلة (¬2) إلى أن الفطر للمسافر أفضل، وهو اختيار اللجنة الدائمة (¬3)، بل قال بعض الحنابلة (¬4): يسن الفطر للمسافر ويكره صومه ولو لم يجد مشقة. وعليه الأصحاب، وهذا مذهب ابن عمر وابن عباس -رضي الله عنهما-، وسعيد، والشعبي، والأوزاعي (¬5). واستدل الحنابلة لذلك بما رواه البخاري ومسلمٌ من حديث جابر المتقدم: "لَيْسَ مِنْ البِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ" (¬6). وزاد مسلم في رواية: "عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللهِ الَّذِي رَخَّصَ لكُمْ" (¬7). وبعد ذكر القولين في المسألة فالذي يترجح لنا: أن المسافر الأفضل في حقه فعل الأسهل عليه من الصيام أو الفطر، فإن تساويا فالصوم أفضل لما يأتي: 1 - لأنه أسرع في إبراء الذمة. ¬

_ (¬1) البخاري: كتاب الصوم، باب إذا صام أيامًا من رمضان ثم سافر (1809)، مسلم: كتاب الصيام، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر (1892). (¬2) المقنع ومعه الشرح الكبير والإنصاف (7/ 373). (¬3) مجموع فتاوى اللجنة الدائمة (10/ 200) رقم الفتوى (10604). (¬4) المقنع ومعه الشرح الكبير والإنصاف (7/ 373). (¬5) المرجع السابق. (¬6) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن ظلل عليه (1810)، مسلم: كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر (1879). (¬7) مسلم: كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر (1879).

الأمور التي تسقط رخصة السفر

2 - أنه أنشط له إذا صام مع الناس. 3 - إدراك فضيلة الزمن. 4 - ولأنه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي الدرداء المتقدم. الأمور التي تسقط رخصة السفر: اتفق الفقهاء على أن رخصة السفر تسقط بأمرين: الأول: إذا عاد المسافر إلى بلده ودخل وطنه ومحل إقامته ولو كان دخولًا بشيء نسيه فيجب عليه الصوم. هل يجب على من عاد إلى بلده الإمساك بقية يومه؟ محل خلاف بين الفقهاء: فالحنفية (¬1)، وفي رواية عند الحنابلة (¬2) وهي المذهب أنه يجب الإمساك عليه إذا أقام، وعللوا لذلك بعلل منها: 1 - حرمة الوقت. 2 - إدراكه جزءًا من وقته كالصلاة. 3 - ولأنه معنى لو وجد قبل الفجر أوجب. وهذا هو اختيار الشيخ ابن باز (¬3) -رحمه الله- حيث قال: "المسافر إذا قدم في أثناء النهار إلى بلده فإن عليه الإمساك في أصح قولي العلماء؛ لزوال حكم السفر مع قضاء ذلك اليوم". ¬

_ (¬1) رد المحتار على الدر المختار (2/ 106). (¬2) المقنع ومعه الشرح الكبير والإنصاف (7/ 362). (¬3) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (15/ 193).

ثالثا: الحمل والرضاعة

وذهب المالكية (¬1) والشافعية (¬2) وهي إحدى الروايتين عند الحنابلة (¬3) إلى عدم وجوب الإمساك على من قدم من سفره أثناء النهار، واحتجوا لذلك بما رواه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "مَنْ أَكَلَ أَوَّلَ النَّهَارِ فَلْيَأْكُلْ آخِرَهُ" (¬4)، والمعنى من أُحِلَّ له الأكل في أول النهار أحل له الأكل في آخره. وعللوا لذلك أيضًا أنه جاز له الفطر في أول النهار ظاهرًا وباطنًا، فقد حل له في أول النهار الأكل والشرب وسائر ما يمكن من المفطرات، ولا يستفيد من هذا الإمساك شيئًا، وحرمة الزمن قد زالت بفطر مباح ولذا لا يجب عليه الإمساك. وهذا القول هو الراجح، وهو اختيار الشيخ ابن عثيمين (¬5) -رحمه الله- قال: "فمتى قدم المسافر إلى بلده مفطرًا ووجد زوجته قد طهرت أثناء ذلك اليوم من الحيض وتطهرت، جاز له جماعها؛ لأنه أصبح مفطرًا وهي أصبحت مفطرة لكن زال عذرهما آخر النهار". ثالثًا: الحمل والرضاعة: ممّن يباح لهم الفطر في رمضان الحامل والمرضع؛ وذلك لأن الحمل والرضاعة فيهما مشقة على المرأة من أجل كونه حملًا ولا سيما في الأشهر الأخيرة عند المرأة، وأيضًا بالنسبة للمرأة المرضع، فالصوم يؤثر على الطفل من جهة نموه إذا لم يكن في جسمها غذاء، فربما يضعف الطفل ويتضرر لصومها، فمن رحمة الله تعالى أن أباح لهما الفطر. ¬

_ (¬1) جواهر الإكليل (1/ 146)، حاشية الدسوقي (1/ 514 - 515). (¬2) روضة الطالبين (2/ 371)، الوجيز (1/ 104). (¬3) المرجع السابق. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: كتاب الصيام، باب في الرجل يتسحر وهو عليه ليلًا (2/ 286) رقم (9044). (¬5) الشرح الممتع (6/ 335، 336).

أحوال الحامل والمرضع في الصوم

أحوال الحامل والمرضع في الصوم: للمرأة الحامل والمرضع حالتان مع الصوم: الحالة الأولى: إذا خافتا على نفسيهما جاز لهما الفطر وعليهما القضاء، وهذا بغير خلاف؛ لأنهما بمنزلة المريض أو بمنزلة من يخاف حدوث المرض، وفي رواية عن الإِمام أحمد (¬1): يطعمان ويقضيان. والراجح: أنه لا يلزمهما سوى القضاء. الحالة الثانية: إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينًا، وهذا هو مذهب الشافعية (¬2) والحنابلة (¬3). وقال الحنفية (¬4): لا كفارة عليهما، وعليهما القضاء فقط. والراجح: هو القول الأول إذ ثبتت الرواية في الإطعام عن ابن عباس وابن عمر -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (¬5). قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كَانَتْ رُخْصَةً لِلشَّيْخِ الكَبِيرِ وَالمَرْأَةِ الكَبِيرَةِ وَهُمَا يُطِيقَانِ الصِّيَامَ أَنْ يُفْطِرَا وَيُطْعِمَا مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَالحُبْلَى وَالمُرْضِعُ إِذَا خَافَتَا"، قَالَ أَبُو دَاوُد: "يَعْنِى عَلَى أَوْلادِهِمَا أَفْطَرَتَا وَأَطْعَمَتَا" (¬6)، وهو أيضًا مروي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- ولا مخالف لهما من الصحابة. ¬

_ (¬1) المقنع ومعه الشرح الكبير والإنصاف (7/ 381). (¬2) المجموع (6/ 272، 274). (¬3) المرجع السابق. (¬4) بدائع الصنائع (2/ 97). (¬5) سورة البقرة: 184. (¬6) أخرجه أبو داود: كتاب الصوم (1974)، وخرجه الألباني في سنن أبي داود (2/ 296) رقم (2318) وقال: حديث شاذ.

حكم صوم الحامل والمرضع

حكم صوم الحامل والمرضع: الأصل أنه يكره لهما الصوم إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما، لكن إذا خافتا هلاكًا أو ضررًا شديدًا فيه أذىً فهنا يجب عليهما الفطر؛ لأنهما بمنزلة المريض الذي يضره الصوم. رابعًا: الشيخوخة والهرم: لا خلاف بين الفقهاء في أنه لا يلزم الشيخَ الهرمَ والمرأةَ العجوزَ والمريضَ الذي لا يرجى بُرْؤُهُ الصومُ إذا كان الصوم يجهدهم ويشق عليهم مشقة شديدة، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (¬1). ومعنى يطيقونه يستطيعونه بمشقة. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: الآية ليست بمنسوخة، وهي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا. خامسًا: الجوع والعطش: قد يَلْحَقُ بعضَ الناس من أصحاب الأعمال الشاقة كالحداد والخباز، والبناء، ونحوهم أثناء صومهم، جوعٌ وعطش شديدان وبخاصة في فصل الصيف ومع الحرارة الشديدة، فهل يباح لهؤلاء ونحوهم الفطر في رمضان؟ يجوز لمن أرهقه الجوع والعطش الفطر، ويجب عليهما القضاء باتفاق الفقهاء، ولكن يكون ذلك بشروط: الأول: أن ينوي الصيام ليلًا، فإن أحتاج إلى الإفطار ولحقته المشقة أفطر. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 184.

الثاني: أن يترتب على صومه ضرر في صنعته كأن يكون محتاجًا إلى المال والإنفاق على الأهل، فإن لم يكن هناك حاجة إلى الصنعة وأمكنه الاستغناء عنها خلال الشهر، لزمه الصوم وإن ترتب على ذلك ترك الصنعة.

أحكام صلاة التراويح

أحكام صلاة التراويح صلاة التراويح: سنة للرجال والنساء، واختلف فيها: هل هي سنة مؤكدة أو غير مؤكدة؟ والراجح: أنها سنة مؤكدة وهو قول الحنفية (¬1) والحنابلة (¬2) وبعض المالكية (¬3)، ودليل ذلك فعله - صلى الله عليه وسلم - وترغيبه في فعلها. روى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرغِّب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (¬4). وقد صلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه صلاة التراويح في بعض الليالي ولم يواظب عليها وبيَّن العذر في ترك المواظبة؛ وهو خشية أن تكتب فيعجزوا عنها. فقد روى البخاري ومسلمٌ من حديث عائشة -رضي الله عنها-: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى في المَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَصَلَّى بِصَلاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنْ القَابِلَةِ فَكَثُرَ النَّاسُ ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَلمَّا أَصْبَحَ قَالَ: "قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ الخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَا أَنِّى خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ" قَالَ: وَذَلِكَ في رَمَضَانَ (¬5). ¬

_ (¬1) رد المحتار (742). (¬2) الإقناع (1/ 147)، مطالب أولي النهى (1/ 563). (¬3) كفاية الطالب بحاشية العدوي (1/ 352)، (2/ 321). (¬4) أخرجه البخاريُّ: كتاب صلاة التراويح، باب فصل مَنْ قام مِنْ رمضان (1870)، مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (1266). (¬5) أخرجه البخاريُّ: كتاب الجمعة، باب تحريض النبي - صلى الله عليه وسلم - على ... (872)، مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (1270).

قصة جمع الناس عليها

وقد واظب الخلفاء الراشدون عليها منذ عهد عمر -رضي الله عنهم -، وتبعهم المسلمون على ذلك إلى يومنا هذا. قصة جمع الناس عليها: توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس لم يصلوها جماعة، وقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - العذر لصلاة التراويح جماعة وهو خشية أن تفرض على أمته، وتوفى النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك، وبقي الناس في خلافة أبي بكر على ذلك، فلما كان خلافة عمر جمعهم عليها. روى البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن عبد القارئ قال: "خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه- لَيْلَةً في رَمَضَانَ إِلَى المَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلاتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاةِ قَارِئِهِمْ، قَالَ عُمَرُ: "نِعْمَ البِدْعَةُ هَذِهِ! وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنْ الَّتِي يَقُومُونَ" يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ" (¬1). وعن أبي يوسف قال: سألت أبا حنيفة عن التراويح وما فعله عمر -رضي الله عنه- فقال: التراويح سنة مؤكدة ولم يتخرجه -لم يختلف- عمر من تلقاء نفسه، ولم يكن فيه مبتدعًا, ولم يأمر به إلا عن أصلٍ لديه وعهدٍ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولقد سنَّ عمر هذا وجمع الناس على أبي بن كعب فصلاها جماعةً والصحابةُ من المهاجرين والأنصار وما رد عليه أحد منهم، بل ساعدوه ووافقوه وأمروا بذلك (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ: كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان (1871). (¬2) فتح القدير (1/ 333)، الاختيار (1/ 68 - 69).

عدد ركعاتها

عدد ركعاتها: اختلف الفقهاء (¬1) في عدد ركعات صلاة التراويح والوتر معها إلى نحو من أحد عشر قولًا: أ- فقيل: إحدى عشرة ركعة. ب- وقيل: ثلاث عشرة ركعة. ج- وقيل: سبع عشرة ركعة. د- وقيل: تسع عشرة ركعة. هـ - وقيل: إحدى وعشرون ركعة. و- وقيل: ثلاث وعشرون ركعة. ز- وقيل: خمس وعشرون ركعة. ح- وقيل: سبع وعشرون ركعة. ط- وقيل: تسع وثلاثون ركعة. ي- وقيل: إحدى وأربعون ركعة. ك- وقيل: سبع وأربعون ركعة. وأرجح هذه الأقوال: أنها إحدى عشرة، أو ثلاث عشرة ركعة مع طول القيام والركوع والسجود بما لا يشق على الناس. لكن إن خفف زاد في عدد الركعات؛ لما روته عائشة -رضي الله عنها- حين سئلت عن ¬

_ (¬1) فتح الباري شرح صحيح البخاري (4/ 253، 254).

صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان فقالت: ... مَا كَانَ يَزِيدُ في رَمَضَانَ وَلا في غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاثًا فَقُلتُ: يَا رَسُولَ الله، أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ قَالَ: "يَا عَائِشَةُ، إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلا يَنَامُ قَلْبِي" (¬1). وما رواه البخاري ومسلمٌ عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كَانَتْ صَلاةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً. يَعْنِي بِاللَّيْلِ" (¬2). قال شيخ الإِسلام -رحمه الله-: " ... فيكون تكثير الركعات أو تقليلها بحسب طول القيام أو قصره". وقال: "الأفضل يختلف باختلاف المصلين، فإن كان فيهم احتمال لطول القيام بعشر ركعات وثلاث بعدها كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي لنفسه في رمضان وغيره، فهو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملون فالقيام بعشرين هو الأفضل، وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين" (¬3). وأما اليوم فأكثر المسلمين لا يزيد عن ثلاث عشرة ركعة. وبعض الأئمة يصلي التراويح بسرعة في القيام والنهوض من الركوع والسجود وغير ذلك من واجبات الصلاة وسننها، فعلى الإِمام أن يتقي الله ويراعي حال المأمومين ويقوم بأمانة الإمامة على وجهها الصحيح؛ لأنه مسؤول عما استرعاه الله عليه من المصلين خلفه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ: كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان (1874)، مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - (1219). (¬2) أخرجه البخاريُّ: كتاب الجمعة، باب كيف كانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ (1070)، مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه (1283). (¬3) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية (23/ 113).

الاستراحة بين كل تسليمتين

إذا صلى إنسان خلف إمام يصلي التراويح ثلاثًا وعشرين ركعة أو أكثر، هل يجلس ويدعه بعد إكمال ما يرى أنه أفضل أم أن الأفضل أن يكمل معه؟ الجواب: الأفضل الإكمال معه، ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ" (¬1)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّما جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ" (¬2). وهذا يشمل كل فعل فعله الإِمام ما لم يكن منهيًا عنه. الاستراحة بين كل تسليمتين: اتفق الفقهاء على مشروعية الاستراحة بعد كل أربع ركعات، فقد كان السلف -رضوان الله عليهم- يطيلون القيام في التراويح ويجلس الإِمام بعد كل أربع ركعات للاستراحة، ويشغل هذا الانتظار بالقراءة أو التسبيح أو السكوت. التسليم في صلاة التراويح: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن من يصلي التراويح يسلم من كل ركعتين؛ لأن التراويح من قيام الليل فتكون مثنى مثنى. فقد روى البخاري ومسلمٌ عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ... صَلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى ... " (¬3). لكن اختلف الفقهاء فيمن صلاها ولم يسلم من كل ركعتين: ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذيُّ: كتاب الصوم (734)، النسائي: كتاب قيام الليل وتطوع النهار (1587)، أحمد: مسند الأنصار -رضي الله عنهم- (20533)، وصححه الألباني في الإرواء (ج 2 رقم 447). (¬2) أخرجه البخاريُّ: كتاب الأذان، باب إقامة الصف من تمام الصلاة (680)، مسلم: كتاب الصلاة، باب النهي عن مبادرة الإِمام بالتكبير وغيره (628). (¬3) أخرجه البخاريُّ: كتاب الجمعة، باب ما جاء في الوتر (936)، مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل مثنى مثنى (1241).

القراءة في التراويح

فالحنفية (¬1) قالوا بجواز أن يصلي التراويح كلها بتسليمة واحدة. وقال المالكية (¬2): بل يندب لمن صلى التراويح التسليم من كل ركعتين، ويكره تأخير التسليم بعد كل أربع. وقال الشافعية (¬3): لو صلى في التراويح أربعًا بتسليمة واحدة لم يصح، فتبطل إن كان متعمدًا عالمًا، وإلا صارت نفلًا مطلقًا. والراجح: أنه يجب التسليم من كل ركعتين؛ وذلك للحديث المتقدم -أعني: حديث ابن عمر-رضي الله عنها-: " ... صَلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى ... " (¬4) - وأيضًا لما رواه مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَإِذَا طَلَعَ الفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَين ... " (¬5). القراءة في التراويح: ذهب الحنفية (¬6) والحنابلة (¬7) إلى أن السنة أن يختم القرآن الكريم في صلاة التراويح ليسمع الناس جميع القرآن في تلك الصلاة. وقال المالكية (¬8) والشافعية (¬9): يندب للإمام الختم لجميع القرآن في التراويح ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (1/ 289). (¬2) حاشية العدوى على كفاية الطالب (1/ 353). (¬3) نهاية المحتاج (2/ 123). (¬4) سبق تخريجه، (ص: 88). (¬5) أخرجه البخاريُّ: كتاب الدعوات، باب الضجع على الشق الأيمن (5835)، مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم - (1215). (¬6) فتح القدير (1/ 335)، بدائع الصنائع (1/ 289). (¬7) كشاف القناع (1/ 426، 427)، مطالب أولي النهى (1/ 566). (¬8) حاشية الدسوقي (1/ 315). (¬9) أسنى المطالب (1/ 201).

ختم القرآن للمسلم فى رمضان وغيره

في الشهر كله، وقراءة سورة في التراويح جميع الشهر تجزئ وإن كان خلاف الأولى. والأظهر عندنا: أن الأمر في ذلك واسع، فله أن يصلي بما شاء من القرآن مع مراعاة الأركان والواجبات والسنن فيها وأحوال المأموم، وإن كان الأولى أن يختم القرآن فيها ليسمع الناس جميع القرآن، وهو اختيار الشيخ ابن باز. ختم القرآن للمسلم فى رمضان وغيره: يشرع للمسلم أن يختم القرآن شهريًا بحيث يجعل له يوميًا مقدارًا معينًا يقرأه كجزء مثلًا كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو قال: جَمَعْتُ القُرْآنَ فَقَرَأْتُهُ كُلَّهُ في لَيْلَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَطُولَ عَلَيْكَ الزَّمَانُ وَأَنْ تَمَلَّ، فَاقْرَأْهُ فِي شَهْرٍ" فَقُلتُ: دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي، قَالَ: "فَاقْرَأْهُ في عَشْرَةٍ" قُلتُ: دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي، قَالَ: "فَاقْرَأْهُ في سَبْعٍ" قُلتُ: دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِى وَشَبَابِي، فَأَبَى (¬1). فهكذا كان يفعل السلف بحيث يختم كثير منهم القرآن أسبوعيًا أو شهريًا أو أقل من ذلك، والقرآن كلام الله، وهو أفضل أنواع الذكر، ويقرأ بتدبر وفهم كي يستفيد من قراءته أجرًا وعلمًا وزيادةَ إيمانٍ. وفي رمضان ينبغي للمسلم أن يتفرغ لقراءة القرآن كما كان يفعله سلف هذه الأمة؛ فقد كانوا يؤجلون ما عداه من العلوم، ويقولون: رمضان شهر القرآن، ومنهم الإِمام مالك -رحمه الله-. وكلما أمكن له أن يختم القرآن فليفعل، كما ورد أن من قرأ حرفًا من القرآن فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه: في كتاب إقامة الصلاة (1336)، وصححه الألباني في سنن ابن ماجه (1/ 428) رقم (1346).

دعاء ختم القرآن

وإن قام بتنظيم وقته بحيث يجعل قراءة متأنية للتدبر والتفهم مهما استغرق ذلك من مدة، فحسن، ويجعل قراءة غيرها يكسب بها الإكثار من قراءة القرآن بحيث يدرك الحسنيين من زيادة الحسنات واستفادة العلم بالتدبر للقرآن والخشوع عند قراءته وزيادة تقواه وإيمانه. دعاء ختم القرآن: يشرع الدعاء عند ختم القرآن، فقد ورد أن أنس بن مالك كان يجمع أهله عند ختم القرآن ويدعو. عن ثابت البناني قال: "كَانَ أَنَسٌ إِذَا خَتَمَ القُرْآنَ جَمَعَ وَلَدَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ فَدَعَا لَهُمْ" (¬1). وعن قتادة قال: "كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ في مَسْجِدِ المَدِينَةِ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ وَضَعَ عَلَيْهِ الرَّصَدَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ خَتْمِهِ قَامَ فَتَحَوَّلَ إِلَيْهِ" (¬2). ولكن ينبغي أن يدعو بجوامع الكلم ولا يطيل في الدعاء ويشق على المصلين؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كَانَ يُعْجِبُهُ الجوَامِعُ مِنْ الدُّعَاءِ" (¬3)، ويتجنب السجع في الدعاء لما جاء في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "فَانْظُرْ السَّجْعَ مِنْ الدُّعَاءِ فَاجْتَنِبْهُ فَإِنِّي عَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابَهُ لا يَفْعَلُونَ إِلا ذَلِكَ" (¬4). من أحب أن يتهجد بعد التراويح في آخر الليل: الحنابلة (¬5) يرون أنه لا يوتر مع الإِمام؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اجْعَلُوا آخِرَ صَلاِتكُمْ ¬

_ (¬1) أخرجه الدارمي: كتاب فضائل القرآن (3339). (¬2) أخرجه الدارمي: كتاب فضائل القرآن (3337). (¬3) أخرجه الإِمام أحمد: كتاب باقي مسند الأنصار (23996). (¬4) أخرجه البخاريُّ: كتاب الدعوات، باب ما يكره من السجع في الدعاء (5862). (¬5) الإقناع (1/ 147).

التنفل بين التراويح

بِاللَّيْلِ وِتْرًا" (¬1)، فإذا قام الإِمام ليوتر ينصرف ولا يوتر معه. وقال بعض الفقهاء: بل يوتر مع الإِمام ولا يتهجد بعده؛ لأن الصحابة لما طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينفلهم بقية ليلتهم قال: "مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ" (¬2)، وفي هذا إشارة إلى أن الأولى الاقتصار على الصلاة مع الإمام. والراجح عندنا: أن الأولى في حقه أن يصلي مع الإِمام حتى ينصرف من صلاته ووتره، ثم إن أراد أن يتهجد من الليل فله ذلك. فإن تبع إمامه في الوتر، قال بعض الفقهاء: فله أن يشفعه بركعة، فإذا سلم الإِمام من الوتر قام فأتى بركعة وسلم. والأفضل عندنا أنه يوتر مع إمامه ولا يشفع وتره، وإن أراد أن يتهجد من الليل فله ذلك. التنفل بين التراويح: يكره أن يصلي أثناء جلسة الاستراحة في صلاة التراويح: قال الحنابلة (¬3): ويكره التنفل فيها لا التعقيب في جماعة، يعني أن يصلي بعدها وبعد الوتر في جماعة. لكن لو كان هذا التعقيب جاء بعد التراويح وقبل الوتر لكان القول بعدم الكراهة صحيحًا، وهو عمل الناس اليوم في العشر الأواخر من رمضان، حيث يصلي الناس التراويح في أول الليل ثم يرجعون في آخر الليل ويقومون للتهجد. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ: كتاب الجمعة، باب ليجعل آخر صلاته وترا (943)، مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل مثنى مثنى (1245). (¬2) سبق تخريجه، (ص: 88). (¬3) الإقناع (1/ 147).

قراءة الإمام من المصحف في صلاة التراويح أو غيرها

قراءة الإمام من المصحف في صلاة التراويح أو غيرها: فقد كان لعائشة -رضي الله عنها- غلام اسمه ذكوان كان يقوم بها في رمضان ويقرأ من المصحف، أما الفريضة فلا يفعل ذلك. ويكره للمأموم المتابعة من المصحف أثناء قراءة الإِمام إلا إذا كانت هناك حاجة، كأن يحتاج إلى من ينبه الإِمام أثناء القراءة؛ وذلك لأن المتابعة من المصحف تشغله عن الخشوع في الصلاة وعن تدبر القراءة. الصلاة مع إمام حسن الصوت: لا حرج على المسلم أن يتتبع أصوات الأئمة إذا كان ذلك أدعى للتدبر والخشوع؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ... احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ ... " (¬1)، لكن الأولى أن يصلي في مسجده وخلف إمامه. تحسين الإمام صوته بقراءة القرآن: لا بأس بأن يحسن الإِمام صوته أثناء قراءة القرآن ويأتي به على صفة توافق القلوب دون غلو، وأن يراعي أحكام القراءة متى أمكن ذلك؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (¬2). قيام الإمام إلى الركعة الثالثة فى صلاة التراويح: إذا قام الإِمام إلى ثالثة في صلاة التراويح ناسيًا ثم تذكَّر أو ذُكِّر أنها ثالثة، فالواجب عليه الرجوع والجلوس، فإن لم يرجع بطلت صلاته؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ: كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة (4816). (¬2) سورة المزمل: 1 - 4.

تخفيف صلاة التراويح وإطالتها

" ... صَلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى ... " (¬1). تخفيف صلاة التراويح وإطالتها: فيصلونها بسرعة تمنع المصليِّ من فعل ما يسن، بل قد تمنعه من فعل ما يجب، وبالمقابل هناك من الأئمة من يطيل إطالة تشق على المأمومين، وهذا خطأ من كليهما، فالواجب على الإِمام أن يتقي الله -تعالى- فلا يخفف تخفيفًا يخل بواجب أو مسنون، ولا يطيل إطالة تشق على المأموم. حكم القنوت فى الوتر: القنوت في الوتر مشروع، لكن لا بد أن يراعى فيه: أولًا: عدم السجع المتكلف. ثانيًا: عدم الإطالة المفرطة. ثالثًا: الأولى فيه الاقتصار على ما ورد من جوامع الكلم والتي تغني عن كثير مما سواها. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه، (ص: 88).

ليلة القدر

ليلة القدر فضلها: ليلة القدر أفضل الليالي، والعمل الصالح فيها خير من العمل الصالح في ألف شهر ليس فيه ليلة القدر، قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (¬1). وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (¬2). وفي قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} (¬3). قال الإِمام القرطبي (¬4) في تفسيرها: "أي: تهبط من كل سماء ومن سدرة المنتهى فينزلون إلى الأرض ويُؤَمِّنون على دعاء الناس إلى وقت طلوع الفجر، وتنزّلُ الملائكة والروح في ليلة القدر بالرحمة بأمر الله تعالى وبكل أمر قدره الله وقضاه في تلك السنة إلى القابلة". ومن فضائلها أيضًا ما قاله الله في فضلها حيث قال: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (¬5). أي: أن ليلة القدر سلامة وخير كلها لا شر فيها إلى طلوع الفجر. قال الضحاك: "لا يُقَّدِر الله في تلك الليلة إلا السلامة، وفي سائر الليالي يقضي بالبلايا والسلامة". ¬

_ (¬1) سورة القدر: 2. (¬2) سورة الدخان: 3 - 4. (¬3) سورة القدر: 4. (¬4) تفسير القرطبي (20/ 133، 134). (¬5) سورة القدر: 6.

إحياء ليلة القدر

وقال مجاهد: هي ليلة سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا ولا أذى. إحياء ليلة القدر: اتفق الفقهاء على أنه يندب إحياء ليلة القدر؛ وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ... " (¬1). وأيضًا لما ثبت من فعله حيث إنه - صلى الله عليه وسلم - "إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ" (¬2) طالبًا ليلة القدر. وإحياء هذه الليلة يكون بالصلاة، وقراءة القرآن، والذكر، والدعاء، وغير ذلك من سائر الطاعات، وأن يكثر فيها من قول: " ... اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي" (¬3). كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- حين سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عما تقوله في ليلة القدر. اختصاص ليلة القدر بالأمة المحمدية: خصَّ الله تعالى أمتنا الإِسلامية بخصائص عديدة، منها ما خصها الله به في ليلة القدر، فلم تكن في الأمم السابقة، وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء (¬4). واحتجوا لذلك بما رواه مالك في الموطأ: أنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول: "إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أُرِيَ أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ أَوْ مَا شَاءَ اللهُ مِنْ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ: كتاب الصوم، باب من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا (1768)، مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام الليل (1268). (¬2) أخرجه البخاريُّ: كتاب صلاة التراويح، باب العمل في العشر الأواخر من رمضان (1884)، مسلم: كتاب الاعتكاف، باب الاجتهاد في العشر الأواخر (2008). (¬3) أخرجه الترمذيُّ: كتاب الدعوات (3435)، ابن ماجه: كتاب الدعاء (3840)، أحمد: مسند الأنصار (24215)، وصححه الألباني في المشكاة (ج 1 رقم 2091). (¬4) فتح الباري (4/ 263)، المجموع (6/ 447، 448)، الفواكه الدواني (1/ 378).

أى الليالي تكون ليلة القدر؟

تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ أَنْ لا يَبْلُغُوا مِنْ العَمَلِ مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ في طُولِ العُمْرِ، فَأَعْطَاهُ اللهُ لَيْلَةَ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلفِ شَهْرٍ" (¬1). أى الليالي تكون ليلة القدر؟ اختلف الفقهاء في أي الليالي تكون ليلة القدر: فجمهور الفقهاء من المالكية (¬2) والشافعية (¬3) والحنابلة (¬4) أنها في العشر الأواخر من رمضان، لكثرة الأحاديث التي وردت في التماسها في هذه العشر، وهي في الأوتار آكد من غيرها دائرة فيه. وقال الحنفية (¬5): ليلة القدر في الشهر قد تكون في أوله أو في وسطه أو آخره. والصواب ما ذهب إليه الجمهور؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ... التَمِسُوهَا في العَشْرِ ألأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ... " (¬6). وهل هى فى ليلة معينة أم تتنقل عنها؟ على قولين عند الفقهاء: فالشافعية (¬7) يرون أنها منحصرة في العشر الأواخر من رمضان مبهمة علينا ولكنها في ليلة معينة لا تتنقل عنها ولا تزال من تلك الليلة إلى يوم القيامة. ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام مالك في الموطأ: كتاب الاعتكاف، باب ما جاء في ليلة القدر (1/ 331) بلاغًا. (¬2) القوانين الفقهية، (ص: 85). (¬3) المجموع (6/ 449 , 450، 452، 459). (¬4) المغني (3/ 182). (¬5) حاشية ابن عابدين (2/ 237). (¬6) أخرجه البخاريُّ: كتاب صلاة التراويح، باب تحري ليلة القدر في الوتر (1881)، مسلم: كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر (1996). (¬7) المرجع السابق.

هل يشترط العلم بليلة القدر لنيل فضل ليلة القدر؟

وقالوا أيضًا: ليالي الوتر أرجاها، وأرجى الوتر عند الشافعية (¬1) ليلة الحادي والعشرين وفي موضع ثلاثة وعشرين. والراجح: أن ليلة القدر تنتقل؛ فتكون عامًا ليلة إحدى وعشرين، وعامًا ليلة سبع وعشرين، وعامًا ليلة خمس وعشرين، وعامًا ليلة أربع وعشرين، وهكذا في العشر الأواخر من الليالي الأخرى كأربعة وعشرين وغيرها. فهي لا تتعين في هذه العشر لكن أرجى لياليها ليلة سبع وعشرين. والسبب في اختيار هذا القول هو الجمع بين الأحاديث التي وردت في تحديدها في ليالٍ مختلفة من شهر رمضان عامة ومن العشر الأواخر خاصة، فلا طريق للجمع بين تلك الأحاديث إلا بالقول بأنها متنقلة. هل يشترط العلم بليلة القدر لنيل فضل ليلة القدر؟ المالكية (¬2) والشافعية (¬3) يشترطون العلم بليلة القدر لنيل فضلها، فلا ينال فضل هذه الليلة إلا من أطلعه الله عليها، فلو قام إنسان ولم يشعر بها لم ينل فضلها. وقال آخرون (¬4): لا يشترط لنيل فضلها العلم بها، بل يستحب التعبد لله -تعالى- في هذه العشر؛ حتى يحوز الفضيلة، فإن وافقها نال فضلها، وإن لم يعلم أنها ليلة القدر. وهذا هو الصحيح المفهوم من الأحاديث، والله أعلم. ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) الفواكه الدواني (1/ 378). (¬3) مغني المحتاج (1/ 450). (¬4) المراجع السابقة.

علامات ليلة القدر

علامات ليلة القدر: ذكر العلماء لليلة القدر علامات تظهر فيها، ومن ذلك: * أن السماء تكون صافية كأن فيها قمرًا ساطعًا، ساكنة ساجية لا برد فيها ولا حر، ولا يحل لكوكب أن يرمى به فيها حتى تصبح. * ومن أمارتها أن الشمس تخرج في صبيحتها مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر. روى مسلم عن أبي بن كعب -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ... أَنَّهَا تَطْلُعُ يَوْمَئِذٍ لا شُعَاعَ لهَا" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ: كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر (1999).

الاعتكاف

الاعتكاف تعريفه: الاعتكاف فى اللغة (¬1): افتعال من العكوف، افتعل أي دخل في العكوف، مأخوذ من عكف على شيء أي لزمه وداوم عليه. ومنه قول إبراهيم -عليه السلام-: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (¬2)، أي لها ملازمون، وقول الله تعالى: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} (¬3)، أي يلازمونها ويداومون عليها. أما تعريف الاعتكاف في الاصطلاح: فهو لزوم مسجد لطاعة الله بنية. فقولنا: لزوم مسجد، خرج منه الدار، والمصليات، ونحو ذلك. فلا بد للاعتكاف أن يكون في المسجد، كما قال تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (¬4)، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتكف إلا في المسجد. هل الاعتكاف فى المسجد عام في حق الرجال والنساء؟ على قولين عند الفقهاء: فالجمهور (¬5) يقولون بأن المرأة كالرجل لا يصح اعتكافها إلا في المسجد فلا يصح اعتكافها في مسجد بيتها. وقال الحنفية (¬6): يجوز اعتكاف المرأة في مسجد بيتها؛ لأنه هو موضع صلاتها. والأولى: ما ذهب إليه الجمهور، لكن لا يكون ذلك إلا بشرطين: ¬

_ (¬1) المصباح المنير والمفردات، مادة: "عكف" (2/ 424). (¬2) سورة الأنبياء: 52. (¬3) سورة الأعراف: 138. (¬4) سورة البقرة: 187. (¬5) انظر في ذلك: حاشية العدوي (1/ 41)، المجموع (6/ 484)، كشاف القناع (2/ 352). (¬6) تبيين الحقائق (1/ 350)، بدائع الصنائع (2/ 129).

أركان الاعتكاف

الأول: أمن الفتنة. الثاني: إذن الزوج أو ولي أمرها. أركان الاعتكاف: للاعتكاف أربعة أركان: (المعتكفِ، النية، المعتكَف فيه، اللبث في المسجد). فهذه أركان أربعة عند جمهور الفقهاء. وقال الحنفية (¬1): للاعتكاف ركن واحد وهو اللبث في المسجد وذلك في حق الرجل، وما عداه شروط لا أركان. وقال المالكية (¬2): أركان الاعتكاف خمسة: هذه الأربع، والخامس الصوم. تفصيل هذه الأركان: الركن الأول: المعْتَكِفُ: والمراد به الرجل والمرأة والصبي المميز. لكن يشترط لصحة اعتكاف هؤلاء شروط: 1 - الإِسلام: فلا يصح الاعتكاف من كافر. 2 - العقل: فلا يصح من المجنون والسكران والمغمى عليه؛ لأنه لا نية لهم. 3 - التمييز: فلا يصح من غير المميز. 4 - النقاء من الحيض والنفاس للمرأة: فلا يصح من الحائض والنفساء لأنهما ممنوعتان من المسجد، ولا يصح الاعتكاف إلا في المسجد كما ذكرنا. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (2/ 128، 129). (¬2) حاشية العدوي (1/ 409).

الركن الثاني: النية

5 - الطهارة من الحدث الأكبر: لأن الجنب ممنوع من اللبث في المسجد. الركن الثاني: النية: لا يصح اعتكاف بدون نية سواء كان الاعتكاف مسنونًا أم واجبًا، كما يجب التمييز بين نية الفرض ونية النفل لتمييز الفرض عن السنة، دليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" (¬1). الركن الثالث: مكان الاعتكاف: ذكرنا آنفًا أنه لا يصح الاعتكاف إلا في المسجد، واتفق الفقهاء على أن الاعتكاف في المسجد الحرام أفضل، ثم المسجد النبوي، ثم المسجد الأقصى. واتفق الفقهاء أيضًا على أن المسجد الجامع الاعتكاف فيه أولى من غيره بعد المساجد الثلاثة؛ وذلك لئلا يحتاج إلى الخروج وقت صلاة الجمعة. ولا يصح الاعتكاف إلا في مسجد تصلى فيه الجماعة. الركن الرابع: اللبث في المسجد: اتفق الفقهاء على أن اللبث في المسجد ركن، لكن اختلفوا في مقدار اللبث الذي يحصل به الاعتكاف: فقال الحنفية (¬2): أقل اللبث ساعة. أما المالكية (¬3) فقد اختلفت الأقوال عندهم: فبعضهم قال أقله يوم وليلة، وقال آخرون: أقله يوم. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه، (ص: 31). (¬2) حاشية ابن عابدين (2/ 441). (¬3) حاشية الدسوقي (2/ 541).

هل يشترط للاعتكاف صوم؟

وقال الشافعية (¬1): لا يقدر اللبث بزمان، بل أقله ما يسمى به عكوفًا وإقامة. قال الشيخ ابن باز (¬2) -رحمه الله-: لم يرد في مدة الاعتكاف -فيما نعلم- ما يدل على التحديد لا بيوم ولا يومين، ولا بما هو أكثر من ذلك. والأولى أن لا تقل مدة الاعتكاف عن يوم. هل يشترط للاعتكاف صوم؟ اختلف الفقهاء في اشتراط الصوم للاعتكاف: فقال المالكية (¬3): هو ركن للاعتكاف كالنية. واحتجوا بما جاء عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "السُّنَّةُ عَلَى المُعْتكِفِ أَنْ لا يَعُودَ مَرِيضًا وَلا يَشْهَدَ جَنَازَةً وَلا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلا يُبَاشِرَهَا وَلا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إِلا لِمَا لا بُدَّ مِنْهُ، وَلا اعْتِكَافَ إِلا بِصَوْمٍ ... " (¬4). وقال الشافعية (¬5) والحنابلة (¬6): لا يشترط للاعتكاف الصوم مطلقًا, بل ليس بركن فيه، لكن كونه بصيام أفضل. واحتج هؤلاء بحديث عائشة -رضي الله عنها-: " ... اعْتكَفَ فِي العَشْرِ الأَوَّلِ مِنْ شَوَّالٍ" (¬7)، وهذا يتناول اعتكاف يوم العيد. ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (2/ 311)، المجموع (6/ 515). (¬2) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (15/ 441). (¬3) حاشية الدسوقي (1/ 542). (¬4) أخرجه أبو داود: كتاب الصوم، باب المعتكف يعود المريض (2115)، وخرجه الألباني في سنن أبي داود (2/ 333) رقم (2473)، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. (¬5) المجموع (6/ 485). (¬6) المقنع ومعه الشرح الكبير والإنصاف (7/ 566 - 570). (¬7) أخرجه مسلمٌ: كتاب الاعتكاف، باب متى يدخل من أراد الاعتكاف؟ (2007).

التتابع في زمن الاعتكاف

وأيضًا احتجوا بما جاء عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتكِفَ لَيْلَةً فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ؟ قَالَ: "فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ" (¬1). قال سماحة الشيخ ابن باز (¬2) -رحمه الله-: "ولا يشترط أن يكون معه صوم على الصحيح". وقال الشيخ محمَّد بن صالح العثيمين (¬3) القول الثاني: "أنه لا يشترط له الصوم، وهذا القول هو الصحيح". قلنا: وهذا هو الراجح، فلا يشترط للاعتكاف صوم، لكن الأولى والأفضل أن يتخلل الاعتكاف الصوم. التتابع في زمن الاعتكاف: نقول: إذا نذر زمنًا معينًا لزمه التتابع؛ لضرورة تعيين الوقت. فإذا قال: "لله عليَّ نذرٌ أن أعتكف الأسبوع القادم" لزمه التتابع. أو قال: "لله عليَّ نذر أن أعتكف الشهر القادم" لزمه التتابع. أما إذا قال: "لله عليَّ أن أعتكف عشرة أيام أو أسبوعًا أو شهرًا" ولم يعين الأسبوع ولا الشهر فله أن يتابع وهو أفضل، وله أن يفرق؛ لأنه يحصل النذر بمطلق الصوم إن كان صائمًا أو بمطلق الاعتكاف إن كان معتكفًا. أما إذا نوى التتابع لزمه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ: كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف ليلًا (1891). (¬2) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (15/ 441). (¬3) الشرح الممتع (6/ 507). (¬4) سبق تخريجه، (ص: 31).

مفسدات الاعتكاف

مفسدات الاعتكاف: يفسد الاعتكاف بما يلي: 1 - الجماع: دليل ذلك قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (¬1). هل يفسد الاعتكاف بدواعي الجماع كاللمس والتقبيل؟ للفقهاء أقوال في ذلك: القول الأول وهو قول الحنفية (¬2) والحنابلة (¬3): أن اللمس والتقبيل ونحوه يُفْسِدُ الاعتكافَ إذا أنزل، فإن لم ينزل لم يفسد الاعتكاف. القول الثاني: أنه يبطل مطلقًا بدواعي الجماع، أي: سواء أنزل أم لم ينزل. وهذا أحد الأقوال عند الشافعية (¬4). القول الثالث قول المالكية (¬5): إذا قصد بذلك اللذة بطل اعتكافه، والصواب ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة. 2 - الخروج من المسجد: الخروج من المسجد بغير حاجة مفسد للاعتكاف، أما إذا كان الخروج لحاجة فلا يبطل الاعتكاف. والحاجة: هو ما لا بد له منه كغائط وبول، فإنه لا بد منه، ولا يمكن فعله في المسجد. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 187. (¬2) بدائع الصنائع (3/ 1071 - 1072). (¬3) المقنع ومعه الشرح الكبير والإنصاف (7/ 626). (¬4) مغني المحتاج (1/ 452). (¬5) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 514).

الخروج للأكل والشرب

الخروج للأكل والشرب: الجمهور على أن الخروج للأكل والشرب مفسد للاعتكاف إذا كان هناك من يأتيه به؛ لعدم الضرورة إلى الخروج، أما إذا لم يجد من يأتيه به فله الخروج؛ لأنه خروج لما لا بد له منه. الخروج لصلاة الجمعة: من اعتكف في مسجد لا تقام فيه الجمعة وجب عليه الخروج لها؛ لأنها فرض ولا يفسد اعتكافه بالخروج؛ لأنه خروج لما لا بد له منه. الخروج لعيادة المرضى والجنائز: لا يجوز الخروج لعيادة المرضى، ولا لصلاة الجنائز ولا لتشييعها؛ لعدم الضرورة للخروج، إلا إذا اشترط الخروج، فهنا يجوز. لكن الأولى أن يحافظ على اعتكافه ولا يشترط الخروج لذلك. الخروج في حالة النسيان: ذهب الحنفية (¬1) والمالكية (¬2) إلى أن الخروج من المسجد عمدًا أو سهوًا يبطل الاعتكاف، وعللوا ذلك بأن حالة الاعتكاف داعية للتذكر، ووقوع ذلك نادر وإنما تعتبر بقدر فيما يمكن وقوعه. وقال الشافعية (¬3) والحنابلة (¬4): لا يبطل الاعتكاف بالخروج نسيانًا: لقوله ¬

_ (¬1) الفتاوى الهندية (1/ 212)، حاشية ابن عابدين (2/ 447). (¬2) حاشية الدسوقي (1/ 545). (¬3) المجموع (6/ 520 - 521). (¬4) كشاف القناع (2/ 358).

الخروج من المسجد لأداء الشهادة

- صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" (¬1). وهذا هو الصواب؛ للحديث. الخروج من المسجد لأداء الشهادة: من احتيج له لأداء الشهادة لزمه الخروج؛ لأن أداء الشهادة واجب، فمتى تعينت عليه وجب الخروج لها، ويأثم بعدم الخروج، ولا يبطل اعتكافه بذلك. وهذا مذهب الشافعية (¬2) والحنابلة (¬3). وقال الحنفية (¬4) والمالكية (¬5): الخروج للشهادة مفسد للاعتكاف. والراجح: هو ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة. 3 - الحيض والنفاس: من مفسدات الاعتكاف أيضًا الحيض والنفاس، فمتى حاضت المرأة أو نفست وهي في المسجد لزمها الخروج منه؛ إذ يحرم عليها المكث فيه، أما المستحاضة فإن أمنت تلويث المسجد لم تخرج من اعتكافها. ما يباح ويستحب للمعتكف وما يكره: يباح للمعتكف الأكل والشرب في المسجد مع مراعاة الحرص على نظافة المسجد والحذر من أسباب توسيخه من فضول الطعام أو غيرها، ويستحب ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه: كتاب الطلاق (2033)، وصححه الألباني في سنن ابن ماجه (1/ 659) رقم (2043). (¬2) المجموع (6/ 514. 515). (¬3) كشاف القناع (2/ 357). (¬4) حاشية ابن عابدين (2/ 547). (¬5) حاشية الدسوقي (1/ 543).

للمعتكف الانشغال بالقُرَبِ كقراءة القرآن، والذكر، والدعاء، والصلاة في غير وقت النهي، واجتناب ما لا يعنيه، أي: ما لا يهمه من الأقوال والأفعال، وينبغي للمعتكف إذا تكلم ألا يتكلم إلا بخير -وهو ما لا إثم فيه- ويكره عند المالكية (¬1) والحنابلة (¬2) للمعتكف الاشتغال بتدريس العلم ومناظرة الفقهاء ونحو ذلك من غير العبادات. والراجح: عدم كراهية ذلك، إلا إذا كان فيه مباهاة أو عدم حاجة، فإن احتيج لذلك لم يكره كتعليم جاهل، والجدال بالتي هي أحسن إذا كان في الجدال نفع وإحقاق للحق. ويكره للمعتكف البيع والشراء إذا كان الغرض منه التجارة، أما إذا كان مما لا بد منه كإطعامِ أولادٍ ونفقةٍ على عياله فلا بأس به. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 548). (¬2) كشاف القناع (2/ 363 - 364).

الفِقهُ الميَسَّر قِسْمِ العِبَادَات الحجّ والعمرة والزّيارة مَوسُوعة فقهيَّة حَديثَة تتناوَل أحكام الفقه الإسلامي بأسُلوب وَاضح للمختصّين وغيرهم تَأليف د/محمَّد بن إبراهيم الموسَى عضو مجلس الشورى سابقًا - والمجلس الأعلى للأوقاف أ. د/عبد الله بن محمّد المطلق عضو هَيئة كبار العُلَماء، وعضو اللجنة الدَّائمة للإفتاء أ. د/عَبد الله بن محمد الطيّار أستَاذ الدراسات العليا بكليَّة الشَّريعة والدِّراسات الإسلامية بجامعة القصيم الجزء الرابع مدار الوطن للنشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الفِقهُ الميَسَّر قِسمُ العِبَادات الحج والعمرة والزيارة

حقُوق الطَّبع محفُوظَة الطَّبعَة الثانيَة 1433 هـ - 2012 م مَدَارُ الوَطن للنَّشر المملكة العربية السعودية - المقر الرئيسي: الرياض - الملز ص. ب: 245760 - الرمز البريدي 11312 - هاتف 4792042 (5 خطوط) - فاكس 4723941 البريد الإلكتروني: [email protected] موقعنا على الإنترنت: www.madaralwatan.com الرياض: 0503269316 الغربية: 0504143198 الشرقية: 0503193268 الشمالية والقصيم: 0504130728 التوزيع الخيري للشرقية والجنوبية: 0503193269 التوزيع الخيري لباقي جهات المملكة: 0506436804 التسويق للجهات الحكومية: 0500996987 مبيعات المكتبات الخارجية: 0503193269

المقدمة الحمد لله الذي شرع لعباده ما فيه سعادتهم دنيا وأخرى عبادات ومعاملات وسلوكًا ومنهاج حياة وجعل الحج إلى بيته الحرام ركنا من أركان الإِسلام ومبانيه العظام قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، والصلاة والسلام على رسوله محمَّد بن عبد الله الذي أرسله رحمة للعالمين وحج إلى بيت الله الحرام مبينًا للمسلمين نسكهم قولًا وفعلًا تنفيذًا لأمر الله، وقال: - صلى الله عليه وسلم - "لتأخذوا عني مناسككم". إن الإِسلام بشرعه للحج والعمرة والزيارة يبين للناس ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28] وفي الحج من الفوائد والأسرار والحكم ما لا يحصى، ولو عمل المسلمون وفقًا لتوجيهات دينهم لأصبحوا سادة العالم علمًا وعملًا وسياسة واقتصادًا واجتماعًا وقوةً في كافة المجالات، والأمة الإِسلامية بما شرع الله لها مؤهلة لعمارة الأرض وسيادة البشرية متى هي تمسكت بتعاليم دينها وحققت ما أراد الله لها. وسيأتي اليوم الذي يتحقق فيه ذلك بحول الله فنرجو أن يكون قريبًا. أيها القارئ الكريم: ها نحن نقدم إليك قسمًا هامًا من أقسام الفقه الميسر والذي صدر منه حتى الآن ثلاثة مجلدات ويتناول هذا القسم: الحج والعمرة والزيارة -باب الأضحية- باب العقيقة وذلك لارتباطهما بشعيرة الهدي المشروعة في الحج. وقد سرنا في تأليفه على منهج الأقسام التي صدرت قبله. فنذكر الأقوال الفقهية في المذاهب الأربعة وغيرها ما أمكن وقد نرى ترجيح شيء من ذلك إما لما فيه من جمع بين الأدلة أو لقوة أدلة الفريق الفريق الذي نرجح قولهم أو لأن المصلحة أو

الضرورة تقتضي ذلك لا سيما في العصر الحاضر وكثرة أعداد الحجاج وتزاحمهم تحقيقًا لما فيه المصلحة وتيسيرًا على الناس وإبعادًا لهم عما يضرهم، وحفظ ما ورد في الشريعة المطهرة الأمر بحفظه وهي الضروريات الخمس: (حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال). وقد يرى غيرنا رجحان خلاف ما رأيناه لسبب أو لآخر، ولا تثريب في ذلك على الكل لأن الفقهاء رحمهم الله -وهم قدوتنا- اجتهدوا واتفقوا أحيانًا واختلفوا أحيانًا كثيرة ولم يؤثر ذلك في احترام بعضهم لبعض ولا قبول ما رآه غيرهم وذلك بحثًا عن الحق. نرجو أن يكون في إصدار هذا القسم الفائدة المتوخاة لطلبة العلم وغيرهم وأن يوفقنا الله جميعًا لما فيه الخير ويسدد خطانا ويجعل عملنا خالصًا لوجهه الكريم. والله أعلم.

كتاب الحج والعمرة والزيارة

الفِقهُ الميَسَّر كتاب الحج والعمرة والزيارة

تعريف الحج

كتاب الحج والعمرة تعريف الحج: في اللغة: الحج بفتح الحاء ويجوز كسرها وهو القصد. حج إلينا فلان أي قدم وحَجَّه يحجُّه حجًّا قصده وقال جماعة من أهل اللغة: الحج القصد لمعظّم قال سيبويه: حجَّه يحجُّه حِجًا كما قالوا: ذكره ذكرًا. والحجيج: جماعة الحاج. قال الأزهري: الحَجُّ قضاء نسك سنة واحدة، وبعض يكسر الحاء فيقول: الحِجُّ والحِجَّة. وقرئ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [النساء: 97] والفتح أكثر. وقال الزجاج يقرأ بفتح الحاء وكسرها والفتح الأصل. الحج في الاصطلاح: قصد مكة تعبدًا لله في زمن مخصوص لعمل مخصوص. (¬1) والعمرة في اللغة: بضم العين وسكون الميم الزيارة. وقد اعتمر إذا أدى العمرة، وأعمره: أعانه على أدائها (¬2). العمرة في الاصطلاح: قصد مكة تعبدًا لله بإحرام للطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة (¬3). حكمة مشروعية الحج: شرع الحج لحكم وأسرار كثيرة منها: 1 - إظهار التذلل لله تعالى ويتضح ذلك في جميع مشاعر الحج من طواف وسعي ووقوف بعرفة ومزدلفة ومنى. ¬

_ (¬1) الإفصاح لابن هبيرة (1/ 62). (¬2) لسان العرب لابن منظور مادة: "حج" ومادة: "عمر". (¬3) حاشية الدسوقى على الشرح الكبير (2/ 2).

أهداف الحج

2 - أن فيه أداء شكر نعمة الصحة والمال وهما من أعظم نعم الله على الإنسان في الدنيا وفيه تدريب النفس على الوصول إلى أعلى درجات الإيمان والصبر. 3 - أن الحج يتمم ما شرعه الله من مواسم ومواقيت لاجتماع المسلمين في صلاة الجماعة والجمعة والعيد وذلك رغبة في اجتماع المسلمين شكلًا ومعنى على الإِسلام كي يحققوا ما أراد الله لهم. 4 - يجتمع المسلمون من كافة أقطار الأرض ليستفيدوا من منافع الحج سواءً أكانت علمية أم اقتصادية أم اجتماعية أم غيرها مما يعود بالعزة والقوة لأمة الإِسلام إذا أحسن استغلال الحج كأعظم مؤتمر إسلامي عام يتكرر كل عام (¬1). أهداف الحج: شرع الله الحج لأهداف سامية وأغراض هامة لمصلحة الفرد والمجتمع والأمة ومن تلك الأهداف: 1 - الحج امتثال لأوامر الله وفيه الطاعة الخالصة لله رب العالمين وتحقيق التقوى. 2 - في رحلة الحج من البداية إلى النهاية تذكير بالرحلة إلى الآخرة وقيام الناس إلى المحشر. 3 - التأسي بإبراهيم -عليه السلام- حين أذن في الناس بالحج وأدى المشاعر التي أمره الله بالقيام بها. 4 - في الحج تتجلى المساواة التي ينادي بها الإِسلام في أبها صورها، ففي تلك المشاعر يقف الغني والفقير والرئيس والمرؤوس موقفًا واحدًا لا يفضل ¬

_ (¬1) الموسوعة الفقهية مادة: "حج".

حكم الحج

بعضهم بعضًا في أغراض الدنيا. 5 - في الحج منافع كثيرة وفوائد جليلة للفرد والمجتمع والأمة لو أحسن المسلمون الاستفادة منه قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28]. حكم الحج: أمر الله تعالى نبيه إبراهيم -عليه السلام- أن ينادي في الناس بالحج قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]. وقد فرض الله الحج في الإِسلام سنة تسع من الهجرة لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]. وقيل فرض الحج سنة ست وقيل سنة سبع وقيل سنة ثمان. وأمّر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر في الحج بالناس وأن يعلن ألا يحج البيت مشرك بعد هذا العام. ثم حج النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنة العاشرة وسميت حجة الوداع لأنه لم يحج غيرها وقد ودع أصحابه فيها. فالحج هو الركن الخامس من أركان الإِسلام وهو فرض على كل مكلف مستطيع مرة في العمر. الأصل في مشروعية الحج: الأصل في فرضية الحج الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آلعمران: 97] ففي صدر الآية إلزام بالحج ثم أكد الأمر بأن مقابل من لم يؤد ذلك الكفر وليس من شأن المسلم ترك الحج لما يؤدي إليه ترك الحج من مآل يجب على المسلم الابتعاد عنه.

وأما السنة: فمنها حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بني الإِسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج" (¬1). ومنها حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: خطبنا رسول الله فقال: "أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا ... " الحديث (¬2). وقد وردت في ذلك الأحاديث الكثيرة التي تبلغ التواتر وهي تؤكد على فرضية الحج ووجوبه وأنه ركن من أركان الإِسلام ومبانيه العظام على المسلم أن يؤديه. وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على وجوب الحج مرة في العمر على المسلم المستطيع، قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن على المرء في عمره حجة واحدة، حجة الإِسلام" (¬3)، وقال ابن عبد البر: "إن الإجماع في الرجل يكون معه الزاد والراحلة وفيه الاستطاعة ولم يمنعه فساد طريق ولا غيره، أن الحج عليه واجب" (¬4). جاء في البدائع: "فأما الإجماع فلأن الأمة أجمعت على فرضيته ... " (¬5). وجاء في المغني: "وأجمعت الأمة على وجوب الحج على المستطيع في العمر مرة واحدة ... " (¬6). وأما المعقول: فإن العبادات وجبت لحق العبودية أو لحق شكر المنعم. وفي الحج إظهار العبودية وشكر المنعم جميعًا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (1/ 8)، ومسلمٌ (1/ 34). (¬2) أخرجه مسلمٌ (4/ 102). (¬3) الإجماع (ص: 61). (¬4) الإجماع لابن عبد البر (ص: 141). (¬5) بدائع الصنائع للكاساني (2/ 118). (¬6) المغني لابن قدامة (5/ 6).

حكم العمرة

ففي الحج إظهار التذلل للمعبود في جميع المشاعر والتخلي عن التزين والصبر على المشقة والجهد. وفي الحج شكر النعمة فالحج عبادة لا تقوم إلا بالبدن والمال ولهذا لا يجب إلا عند وجود المال وصحة البدن فكان فيه شكر النعمتين (¬1). حكم العمرة: أجمع العلماء على أن العمرة مشروعة ولكن اختلفوا في حكمها وجوبا أو سنية على قولين: 1 - أن العمرة واجبة مرة في العمر كالحج وهو قول عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وهو الأصل عند الشافعية ورواية عن أحمد. 2 - أن العمرة سنة وليست واجبة وهو قول ابن مسعود ومذهب الحنفية والمالكية ورواية في مذهب أحمد واختارها شيخ الإِسلام ابن تيمية. الأدلة: استدل كل منهم بالأدلة الآتية: 1 - استدل القائلون بالوجوب بما يأتي: أ- قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] أي ائتوا بهما تامين ومقتضى الأمر الوجوب وعطفها على الحج يؤكد ذلك لان الأصل التساوي بين المعطوف والمعطوف عليه. ب- حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت: يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني (2/ 118).

أركان الحج

قال: "نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة" (¬1). جـ - ما رواه أبو رزين العقيلي؛ أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أبي شيخ كبير، لا يستطيع الحج ولا العمرة فقال: "حج عن أبيك واعتمر". قال الإِمام أحمد: "لا أعلم في باب العمرة حديثا أجود من هذا ولا أصح منه" (¬2). 2 - واستدل القائلون بالسنية فقط بما يأتي: أ- روى جابر -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن العمرة أواجبة هي؟ قال: "لا، وأن تعتمروا فهو أفضل" (¬3). ب- أن المذكور في الآية هو الحج دون العمرة قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} فقد اقتصر جل وعلا على الواجب دون سواه. جـ - أن الأصل عدم وجوبها لأن الأصل براءة الذمة من التكاليف ولا ينتقل عن الأصل إلا بدليل ناقل ولا دليل في العمرة يصلح لذلك (¬4). أركان الحج: يتفق الفقهاء على أن أركان الحج: 1 - الطواف. 2 - الوقوف بعرفة. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (2/ 1968)، وقال ابن حجر في التلخيص (2/ 91) تأصيله في البخاري. (¬2) رواه أبو داود (1/ 340)، والترمذيُّ (1/ 275)، والنسائي (2/ 559). (¬3) أخرجه الترمذيُّ وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ عارضة الأحوذي (4/ 162)، وأحمدُ في المسند (3/ 316). (¬4) بدائع الصنائع للكاساني (3/ 1320)، ومواهب الجليل للخطاب (2/ 466)، ونهاية المحتاج للرملي (3/ 234)، والمغني لابن قدامة (5/ 13).

أركان العمرة

ويزيد المالكية والحنابلة ركنين آخرين: 3 - الإحرام. 4 - السعي بين الصفا والمروة. ويزيد الشافعية على ذلك ركنين آخرين: 5 - الحلق أو التقصير. 6 - الترتيب بين هذه الأركان على الصحيح عندهم. أركان العمرة: يتفق الفقهاء على أن الطواف ركن للعمرة ويختلفون في غيره: 1 - ذهب المالكية والحنابلة إلى أن الإحرام والسعي أركان للعمرة كذلك فتكون الأركان عندهم ثلاثة. 2 - وذهب الشافعية إلى أن الحلق أو التقصير والترتيب بين الأركان ركنان من أركان العمرة علاوة على ما ذكره الجمهور فتكون الأركان عندهم خمسة (¬1). هل وجوب الحج على الفور أم على التراخي؟ اختلف الفقهاء في وجوب الحج هل هو على الفور أو على التراخي: 1 - فذهب الشافعية إلى أن الحج يجب وجوبًا موسعًا على التراخي ويجوز تأديته في أي وقت من العمر ولا يأثم من وجب عليه بتأخيره متى أداه قبل الوفاة (¬2). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (2/ 467)، والشرح الصغير (2/ 211)، ومغني المحتاج (1/ 513)، والمقنع لابن قدامة (1/ 467). (¬2) حاشية إعانة الطالبين (2/ 279) دار الفكر.

2 - وذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أن الحج يجب على الفور لمن تحققت فيه شروط وجوبه فإن أخره وهو مستطيع فإنه يأثم لذلك إن مات دون أداء الحج وإن أداه ارتفع عنه الإثم (¬1). الأدلة: 1 - استدل الشافعية: أ- بأن الأمر في الآية: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] مطلق فيصح أداؤه في أي وقت. ب- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة عام ثمان من الهجرة ولم يحج إلا في السنة العاشرة ولو كان واجبًا على الفور لم يتخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ما فرض عليه (¬2). 2 - واستدل الجمهور: أ- قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] وقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} والأمر فيهما على الفور (¬3). ب- حديث: "من أراد الحج فليتعجل" (¬4). جـ - أن الحج أحد أركان الإِسلام فكان واجبًا على الفور كالصيام ولو أخر الحج عن السنة الأولى فقد يمتد به العمر وقد يموت فيفوت الفرض (¬5). ¬

_ (¬1) فتح القدير لابن الهمام (2/ 123)، ومواهب الجليل للخطاب (2/ 471)، والمغني لابن قدامة (5/ 36). (¬2) الأم للشافعي (2/ 118). (¬3) المغني لابن قدامة (5/ 36). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/ 214)، وأبو داود (1/ 402)، وابن ماجه (2/ 962). (¬5) المغني لابن قدامة (5/ 36)، والموسوعة الفقهية مادة: "حج".

شروط وجوب الحج

الراجح: يظهر من تتبع الأدلة أن الحج يجب على الفور إذا تحققت شروطه ولم يكن هناك مانع يحول بين المسلم وأدائه. شروط وجوب الحج: يجب الحج بشروط خمسة: 1 - الإِسلام: وهو شرط للوجوب والصحة فلا يجب الحج على كافر ولا يصح منه لأنه ليس من أهل العبادة. 2 - العقل: وهو شرط للوجوب والصحة، فالعقل شرط التكليف وإذا فقد العقل بالجنون فإنه لا تكليف. جاء في شرط العقل والبلوغ ما روى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على أمره حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم" (¬1). 3 - البلوغ: وذلك إما بالسن وهو إتمام ثمانية عشر عاما عند الحنفية والمالكية وعند الشافعية والحنابلة يكون بإتمام خمسة عشر عاما لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني" (¬2) أو بعلامات على تفصيل في ذلك عند الفقهاء. والصبي الذي لم يبلغ ليس مكلفا، والبلوغ شرط للوجوب والإجزاء فلو حج الصبي صح حجه ولكنه لا يجزئه عن حجة الإِسلام باتفاق أهل العلم. 4 - الحرية: فالرقيق المملوك لا يجب عليه الحج وهو معذور بترك الحج وهذا الشرط للوجوب والإجزاء فلو حج الرقيق بإذن سيده صح حجه ولكن لا يجزئه عن حجة الإِسلام. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (4/ 559)، والحاكم (4/ 389). (¬2) أخرجه البخاريُّ (5/ 137)، ومسلمٌ (6/ 31).

5 - الاستطاعة: وهي القدرة على الحج بالمال والبدن ويضيف بعض الفقهاء أمن الطريق وإمكان السير إلى مكة. والمرأة كالرجل في ذلك ولكن اختلف الفقهاء هل من شرط الاستطاعة بالنسبة للمرأة وجود المحرم (¬1): 1 - فذهب الحنفية والحنابلة وغيرهم إلى أن وجود المحرم شرط في وجوب الحج عليها فليست مستطيعة إن لم تجد محرمًا. 2 - وذهب المالكية والشافعية إلى أن وجود المحرم ليس شرطًا في وجوب الحج بل تحج المرأة مع الرفقة المأمونة (¬2). الأدلة: 1 - استدل أصحاب القول الأول بما يأتي: أ- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا ومعها ذو محرم" (¬3). ب- حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم. ولا تسافر امرأة إلا ومعها ذو محرم"، فقام رجل فقال: يا رسول الله إني اكتتبت في غزوة كذا وانطلقت امرأتي حاجة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "انطلق فاحجج مع امرأتك" (¬4). ¬

_ (¬1) المحرم: هو زوج المرأة أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح. (¬2) بدائع الصنائع للكاساني (3/ 1082)، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2/ 5)، ونهاية المحتاج للرملي (3/ 241)، والمغني لابن قدامه (5/ 30). (¬3) أخرجه البخاريُّ (2/ 54). (¬4) أخرجه البخاريُّ (3/ 24)، ومسلمٌ (2/ 978).

أنواع مناسك الحج

2 - واستدل أصحاب القول الثاني بما يأتي: أ- حديث عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يوشك أن تخرج الضعينة من الحيرة تؤم البيت لا جوار معها لا تخاف إلا الله" (¬1). ولأن السفر إلى الحج واجب حيث لا يتحقق الحج إلا به فلم يشترط له المحرم. الراجح: بدراسة أقوال الفقهاء في ذلك يتبين أن حج المرأة إذا حجت بدون محرم صحيح ولكن مع الإثم عند من اشترط المحرم. ويتبين كذلك أن اشتراط المحرم فيه تخفيف على المرأة فإن لم تجد محرما فلا يجب عليها الحج حيث لم تكن مستطيعة. كما أن الأحاديث الدالة على وجوب المحرم على المرأة صريحة في ذلك. أنواع مناسك الحج: للحج أنواع وردت كلها في الشرع والحاج مخير في فعل أي منها وهي: 1 - الإفراد: وهو أن يهل ويحرم بالحج وحده. 2 - القران: وهو أن يجمع في إحرامه بين العمرة والحج. 3 - التمتع: وهو أن يحرم بالعمرة فقط في أشهر الحج فإذا فرغ منها تمتَّع فيما كان محرَّمًا عليه في حال إحرامه ثم يحرم بالحج في عامه (¬2). وقد جاءت شرعية تلك الأنواع بالكتاب والسنة والإجماع: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (4/ 239). (¬2) قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 154)، ونهاية المحتاج للرملي (3/ 264)، والمغني لابن قدامه (5/ 82).

أفضل أنواع المناسك: (الإفراد- القران- التمتع).

فأما الكتاب: فقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]. وأما السنة: فمنها حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بحج" (¬1). وأما الإجماع: فقد ذكر الإجماع على مشروعية تلك الأنواع كثير من العلماء منهم ابن المنذر (¬2)، وابن عبد البر (¬3). وجاء في المغني (¬4): "وأجمع أهل العلم على جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة شاء". وقال النووي (¬5): "وقد انعقد الإجماع على جواز الإفراد والتمتع والقران". وقال ابن هبيرة (¬6): "واجمعوا على أنه يصح الحج بكل نسك من أنساك ثلاثة: التمتع والإفراد والقران". أفضل أنواع المناسك: (الإفراد- القران- التمتع). يرى بعض فقهاء المذاهب اختيار نوع من المناسك ويرى غيرهم تفضيل غيره بناء على اختلاف الروايات في حج النبي - صلى الله عليه وسلم - ونبين ذلك فيما يأتي: 1 - فذهب المالكية وهو ظاهر مذهب الشافعي وهو المروي عن عمر وعثمان ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (1/ 87)، ومسلمٌ (2/ 870). (¬2) الإجماع لابن المنذر (ص: 72). (¬3) الإجماع لابن عبد البر (ص: 152). (¬4) المغني لابن قدامة (5/ 82). (¬5) المجموع للنووي (7/ 141). (¬6) الإفصاح (1/ 263).

وابن عمر وجابر وعائشة -رضي الله عنهم - إلى أن الإفراد أفضل أنواع النسك وذلك: أ- حديث عائشة وجابر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج (¬1). ب- أن المفرد يأتي بالحج تامًا من غير احتياج إلى جبر وهو أكثر مشقة وليس فيه استباحة محظور كما في المتمتع فيكون أكثر ثوابًا. 2 - وذهب الحنفية والثوري إلى أن القران أفضل الأنواع وذلك لما يأتي: أ- حديث أنس -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل بهما جميعًا: "لبيك عمرة وحجًا لبيك عمرة وحجا" (¬2). ب- أن القران مبادرة إلى نسكين من الميقات وفيه زيادة نسك هو الدم فكان أولى. 3 - وذهب الحنابلة إلى أن التمتع أفضل وهو مروي عن ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وعائشة وهو أحد قولي الشافعي. واستدلوا بما يأتي: أ- ما روى ابن عباس وجابر وأبو موسى وعائشة -رضي الله عنهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه لما طافوا بالبيت أن يحلوا ويجعلوها عمرة (¬3). ب- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر أصحابه ونقلهم من الإفراد والقران إلى التمتع ولا يأمر بالانتقال إلا إلى الأفضل. جـ - أن التمتع قد جاء ذكره في القرآن دون سائر الأنواع {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [الحج: 196] وذلك يدل على فضله. ¬

_ (¬1) أخرجهما البخاري (2/ 175)، ومسلمٌ في كتاب الحج. (¬2) أخرجه البخاريُّ (5/ 208)، ومسلمٌ (2/ 905). (¬3) أخرجه البخاريُّ (2/ 54)، ومسلمٌ (2/ 909).

مواقيت الحج والعمرة

د- أن المتمتع يجتمع له الحج والعمرة في أشهر الحج مع كمالهما وزيادة نسك الهدي وذلك يدل على أفضليته (¬1). الراجح: اختلفت آراء الفقهاء تبعًا للأحاديث الواردة في ذلك ومنهم من جمع بين الأحاديث بقوله: إن ساق الحاج الهدي فالقران أفضل وذلك هو ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد قرن حين ساق الهدي ومنع كل من ساق الهدي من الحل حتى ينحر هديه وإن كان الحاج لم يسق الهدي فالتمتع أفضل وهو ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه ممّن لم يسق الهدي معه، وإن كان اعتمر في تلك السنة التي حج فيها فالإفراد أفضل لأنه يأتي به في سفره واحدة. وقد يكون من المناسب لمن يحج أكثر من مرة أن يأخذ بأحد هذه الأنواع في كل حجه حسب حاله وما يكون أرفق به. ويكون بذلك قد عمل بالأفضل وفقًا لما جاء في المذاهب الفقهية والمبنية على اختلاف الروايات والله أعلم. مواقيت الحج والعمرة: المواقيت لغة: جمع ميقات وهو الحد والمقصود الزمان والمكان المضروب للفعل. وشرعًا: مواضع وأزمنة معينة لعبادة مخصوصة. جعل الله سبحانه وتعالى للحج والعمرة والإحرام أوقاتا معينة وأماكن محدودة يجب ألا يتعداها من يريد الحج أو العمرة ومن تعداها كان مخالفًا ومتعديًا تلزمه فدية. ¬

_ (¬1) حاشية رد المحتار لابن عابدين (2/ 563)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 154)، والمجموع للنووي (7/ 140)، والمغني لابن قدامة (5/ 82)، ومفيد الأنام في تحرير الأحكام لحج بيت الله الحرام لابن جاسر (ص: 79).

أولا: المواقيت الزمانية

إن العبادات في الإِسلام تغرس في نفوس المسلمين الطاعة والاستسلام لله. وهي تعودهم على النظام وحسن الترتيب في شؤون الحياة والمحافظة على الوقت واحترام المواقيت والدقة في الوفاء بها وذلك يظهر واضحًا في توقيت الصلاة والصيام والحج وغيرها. والمواقيت التي وقتها الله للحج والعمرة نوعان: ميقات زماني وميقات مكاني. أولًا: المواقيت الزمانية: مواقيت الحج الزمانية وهي الأوقات التي لا يصح شيء من أعمال الحج إلا فيها وهي تبدأ من أول شهر شوال وشهر ذي القعدة إلى العاشر من ذي الحجة وهو قول الجمهور. وقال مالك أنه يشمل شهر ذي الحجة كاملًا ودليل ذلك قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] وميقات العمرة الزماني هو العام كله فله أن يحرم بها متى شاء عدا الحاج فلا يحرم بها ما دام متلبسًا بالحج. إحرام الحاج بالحج قبل دخول أشهر الحج: اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أقوال: 1 - ذهب الجمهور أبو حنيفة ومالك وأحمدُ إلى أن الإحرام بالحج قبل أشهره مكروه لأنه أحرم بالحج قبل وقته، ولكن إحرامه صحيح ويبقى على إحرامه إلى وقت الحج وذلك لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]. 2 - وذهب الشافعي إلى أنه لا يصح الإحرام بالحج قبل أشهره ولو أحرم به قبل وقته انعقد عمرة وذلك لقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]

ثانيا: المواقيت المكانية

فقد ضرب الله لأعمال الحج أشهرًا معلومة والإحرام عمل من أعمال الحج فلا يجوز تقديمه قبل وقته (¬1). ثانيًا: المواقيت المكانية: وهي الأماكن التي يحرم منها من يريد الحج أو العمرة. ولا يجوز لحاج أو معتمر أن يتجاوزها دون إحرام. وهي خمسة مواقع وكانت تحسب عند الفقهاء بالمراحل لسير الإبل المحملة. 1 - ذو الحليفة (¬2): وهو بضم الحاء وفتح اللام وتبعد عن مكة عشر مراحل بسير الإبل وهي قرية صغيرة تبعد عن المدينة ستة أميال ومنها إلى المسجد النبوي عشرة كيلو مترات. وهي المكان المحدد لأهل المدينة المنورة وهي أبعد المواقيت عن مكة المكرمة إذ تبعد عنها حوالي أربعمائة كيلو متر. 2 - الجُحْفَة: بضم الجيم وسكون الحاء وتقع على بعد خمس مراحل من مكة المكرمة وهي قرية قرب رابغ كان اسمها مهيعة فجحف السيل بأهلها فسميت بذلك وهي تقع في الشمالي الغربي من مكة المكرمة وتبعد عنها حوالي مائتي كيلو متر. وهي ميقات لأهل الشام ومصر والمغرب ويحرم الآن منها أو من رابغ لأنها قبلها وقريبة منها. 3 - قرن المنازل: بفتح القاف وسكون الراء وهو على مرحلتين من مكة للإبل وهو ميقات أهل نجد ويسمى الآن السيل الكبير ويتصل بوادي الحرم ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (2/ 501)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 149)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 370)، والمغني لابن قدامه (5/ 74). (¬2) وتسمى عند الناس أبيار علي لظنهم أن عليًا قاتل الجن بها وهو غير صحيح وتسمى وادي العقيق وهي الآن تعد ضاحية من ضواحي المدينة بعد اتساع العمران فيها.

الأصل فى تحديد المواقيت

ويمر معهما حاليًا طريقان بين مكة والطائف أحدهما مع السيل والآخر مع جبل كرا ويبعدان عن مكة المكرمة حوالي 70 كيلو متر، ومن أحرم من أحدهما فقد أحرم من الميقات الشرعي. 4 - يَلَمْلَم: بفتح الياء ويقال له: (ألملم) وهو جبل معروف ويقع على مرحلتين للإبل من مكة وهو ميقات أهل اليمن وهو على بعد سبعين كيلو متر من مكة. 5 - ذات عرق: وهو بكسر العين وسكون الراء وسمي الموقع بذلك لعرق فيه أي جبل صغير وهي قرية خربة قديمة وهو على مرحلتين للإبل من مكة المكرمة وهو ميقات أهل العراق والمشرق وهو على بعد سبعين كيلو متر من مكة المكرمة (¬1). الأصل فى تحديد المواقيت: الأصل فيها ما ورد في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم قال: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج أو العمرة فمن كان دونهن فمهله من أهله وكذلك حتى أهل مكة يهلون من مكة" (¬2). وقد ورد في هذا المعنى أحاديث أخرى وهي تفيد أن تعيين المواقيت إنما تم بتحديد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن تلك الأحاديث يتضح أن الناس بالنسبة إلى تلك المواقيت ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني (3/ 118)، وحاشية الدسوقي (2/ 22)، ونهاية المحتاج للرملي (3/ 259)، وكشاف القناع للبهوتي (2/ 399). (¬2) صحيح البخاري (2/ 164)، ومسلمٌ (4/ 5).

حد حرم مكة المكرمة

1 - أهل الحرم: وهم الذين يقيمون بمكة، مكيون كانوا أو غيرهم ويلحق بهم من كان بمكة مقيمًا بها أو غير مقيم. فهؤلاء يحرمون بالحج من مساكنهم ويحرمون بالعمرة من أدنى الحل كالتنعيم والجعرانة. 2 - أهل الحل: وهم الذين مساكنهم داخل المواقيت الخمسة خارج الحرم أي بين الحرم والميقات وهؤلاء يحرمون بالحج والعمرة من مساكنهم دون الذهاب للميقات. 3 - الآفاقيون: وهم الذين جاءوا من الآفاق وأنحاء الدنيا ومنازلهم خارج المواقيت التي وقتها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث وهؤلاء يحرمون من المواقيت المحددة لهم وإن كان مرورهم على غيرها من المواقيت في طريقهم إلى مكة المكرمة فإنهم يحرمون للحج والعمرة من الميقات الذي يمرون به وإن كان غير المحدد لهم. وأما الذين يمرون على المواقيت وهم لا يريدون حجًا أو عمرة فلا يلزمهم إحرام كمن جاء للدراسة أو التجارة أو غير ذلك من الأعمال أو مر على ميقات أهل اليمن وهو يريد المدينة قبل الحج. على حين أن الأفضل له ألا يتجاوز الميقات إلا محرما والله أعلم. حد حرم مكة المكرمة: إن تحديد حدود الحرم في مكة المكرمة توقيفي لا مجال للاجتهاد فيه، قال محب الدين الطبري: عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: "نصب إبراهيم أنصاب الحرم يريه جبريل -عليه السلام- ثم لم تحرك حتى كان قصى فجددها، ثم لم تحرك حتى كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فبعث عام الفتح عتم بن أسيد الخزاعي فجددها، ثم لم تحرك حتى كان عمر -رضي الله عنه- فبعث أربعة من قريش فجددها، ثم جددها معاوية

-رضي الله عنه-، ثم أمر عبد الملك بتجديدها، وجددها السلطان أحمد الأول العثماني سنة 1023 هـ، وقد جددت في الوقت الحاضر في عهد الدولة السعودية بوضع أعلام واضحة يراها القادم من كل جهة إلى مكة المكرمة وكتب عليها باللغة العربية وغيرها ليعرف الناس ذلك. وحد الحرم من جهة الشمال: عند التنعيم وما يسمى بمسجد عائشة ويبعد عن المسجد الحرام حوالي ستة كيلو متر. وحده من الجنوب: ما يسمى بأضاة لِبْن وهو على طريق اليمن، ويبعد عن المسجد الحرام سبعة أميال أي حوالي اثنى عشر كيلو متر. وحده من جهة طريق السيل الكبير: الجعرانة ويبعد عن المسجد تسعة أميال أي حوالي خمسة عشر كيلو مترًا. وحده من جهة الغرب: على طريق جدة السريع ويبعد عن المسجد الحرام عشرة أميال أي حوالي ستة عشر كيلو مترًا. وحده من جهة الشمال الشرقي: وادي نخلة ويبعد عن المسجد الحرام سبعة أميال أي حوالي اثنى عشر كيلو مترًا. وحده من جهة طريق الطائف شرقًا: طرف وادي عرنة ويبعد عن المسجد الحرام سبعة أميال أي حوالي اثنى عشر كيلو مترًا (¬1). ¬

_ (¬1) مفيد الأنام في تحريم الأحكام لحج بيت الله الحرام لابن جاسر (ص: 217)، وانظر فقه السنة للسيد سابق (1/ 614)، وانظر تاريخ عمارة المسجد الحرام، حسين باسلامة (ص: 307) ط. الثالثة 1400 هـ وتاريخ مكة المكرمة إعداد جماعة من العلماء بإشراف الشيخ صفي الرحمن المباركفوري.

الإحرام

الإحرام: الإحرام في اللغة: مصدر أحرم الرجل يحرم إحراما (¬1) وهو الدخول في الحرمة. وفي الشرع: نية الدخول في النسك من حج أو عمرة. وسمي بذلك لأنه يحرّم على نفسه بالدخول في النسك أشياء كانت مباحة له من قبل (¬2). والنية محلها القلب قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" (¬3). ويشرع لمن أراد الحج أو العمرة تسمية نسكه فإن كانت نيته عمرة قال: "لبيك عمرة"، وإن كانت حجًا قال: "لبيك حجًا". وإن نواهما جميعًا قال: "لبيك عمرة وحجًا". آداب وسنن الإحرام: للإحرام آداب ينبغي مراعاتها منها: 1 - النظافة: وذلك بتقليم الأظافر وقص الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وتسريح شعر اللحية وشعر الرأس والتطيب قبل الإحرام لفعله - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت" (¬4). ¬

_ (¬1) لسان العرب لابن منظور مادة: "حرم". (¬2) نهاية المحتاج للرملي (3/ 264)، وكشاف القناع للبهوتي (2/ 406). (¬3) أخرجه البخاريُّ في مطلع صحيحه ومسلمٌ (6/ 48). (¬4) أخرجه البخاريُّ (2/ 168)، ومسلمٌ (2/ 846).

2 - الاغتسال: وذلك قبل ارتداء لباس الإحرام ويشرع ذلك للحائض والنفساء لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الإحرام جائز بغير اغتسال وأنه غير واجب (¬1). 3 - إحرام الرجل في رداء وإزار أبيضين نظيفين: لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خير ثيابكم البياض فألبسوها أحياءكم وكفنوا فيها موتاكم" (¬2) ويتجنب الرجل لبس المخيط. أما المرأة فتحرم بما شاءت غير أنها لا تتشبه بالرجال وأن يكون ساترًا لها. 4 - أن يقع الإحرام بعد الصلاة المفروضة: لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أوجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإحرام حين فرغ من صلاته .. " (¬3). أما إذا لم يكن وقت فريضة فقد استحب جمهور العلماء صلاة ركعتين تطوعًا ويحرم بعدهما ومن هؤلاء عطاء وطاووس ومالك والشافعيُّ والثوري وأبو حنيفة وأحمدُ (¬4). ثم يحرم بعدها ويهل بنسكه من حج أو عمرة وإذا استوت به راحلته (سيارة، طائرة وغيرها) أهل وإذا علا البيداء أهل فكل ذلك ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر ذلك ابن عباس (¬5). 5 - التلبية: وهي لغة: إجابة المنادي. والمراد بها هنا قول المحرم: "لبيك اللَّهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك ¬

_ (¬1) الإجماع لابن المنذر (ص: 16). (¬2) أخرجه أبو داود (2/ 335)، والترمذيُّ (4/ 215) في عارضة الأحوذي. (¬3) أخرجه أبو داود (1/ 410). (¬4) حاشية ابن عابدين (2/ 512)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 150)، ونهاية المحتاج للرملي (3/ 272)، والمبدع في شرح المقنع لابن مفلح (3/ 177). (¬5) أخرجه أبو داود (1/ 410).

واجبات الإحرام

لك". وهي سنة عند الجمهور ويرى المالكية أنها واجبة ويستحب أن يكررها من حين إحرامه حتى بداية الطواف بالبيت. وتكون باللغة العربية لمن يقدر عليها وإلا فيلبي بلغته. واجبات الإحرام: للإحرام واجبات هي: 1 - الإحرام من الميقات لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله. فإن تجاوز الميقات بدون إحرام ورجع وأحرم منه فلا شيء عليه وإن لم يرجع إلى الميقات فإنه قد ارتكب محظورًا يجب عليه بتركه فدية دم بحيث يذبح شاة لفقراء الحرم ولا يأكل منها وعليه الإثم إذا ترك ذلك عالمًا عامدًا. 2 - التجرد من المخيط في حق الرجال: وذلك لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحدًا لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين" (¬1). فقد نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه الأشياء وألحق بها أهل العلم ما في معناها. فليس للمحرم ستر بدنه بما عمل على قدره ولا ستر عضو من أعضائه بما عمل على قدره كالقميص للبدن أو القفازين لليدين والخفين للرجلين ونحو ذلك. قال ابن عبد البر: "كل ما في هذا الحديث مجمع عليه من أهل العلم أنه لا يلبسه المحرم ما دام محرمًا وقال: وأجمعوا أن المراد بهذا الخطاب الرجال دون النساء وأنه لا بأس للمرأة بلباس القميص والدرع والسراويل والخمر والخفاف" (¬2)، ونقل الإجماع ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (1/ 45)، ومسلمٌ (2/ 835). (¬2) الإجماع لابن عبد البر (ص: 156 - 157).

إحرام الحاج عن طريق الجو

في ذلك ابن المنذر (¬1). إحرام الحاج عن طريق الجو: إذا قدم الحاج إلى مكة المكرمة لإرادة الحج أو العمرة فإنه ينبغي له التنظف والاستعداد في بيته ثم يحرم بما أراد من حج أو عمره إذا حاذى الميقات القريب منه وعليه أن يتأكد من ذلك عن طريق المختصين في الطائرة وألا يتجاوز حذو الميقات بدون إحرام لأنه يترتب على تجاوز الميقات بدون إحرام فدية دم شاة لفقراء مكة (¬2). الاشتراط في الإحرام: الاشتراط في الإحرام أن يقول المحرم بعد نية الدخول في النسك المقصود من عمرة أو حج [تمتع أو قران أو إفراد]: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني. حكم الاشتراط: اختلف الفقهاء في ذلك وما يترتب عليه: 1 - ذهب الحنفية والمالكية وهو قول ابن عمر وطاوس والزهري إلى عدم صحة الاشتراط وأنه إذا حصل مانع فإنه يحل لكن عليه هدي لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وأن الحج والعمرة عبادة تجب بأصل الشرع فلم يفد الإشتراط فيها كالصوم والصلاة. 2 - وذهب الشافعية إلى جواز الاشتراط فإن اشترط وحصل مانع من مرض أو عدو أو حبس تحلل من الإحرام ولا شيء عليه. ¬

_ (¬1) الإجماع لابن المنذر (ص: 64). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية (11/ 153).

النيابة في الحج والعمرة (حج الإنسان وعمرته عن غيره)

3 - وذهب الحنابلة إلى استحباب الإشتراط عند الإحرام. ويفيد عندهم هذا الشرط شيئين: أحدهما: أنه إذا عاقه عدو أو مرض أو غيرهما فإنه يجوز له أن يحل من إحرامه. الثاني: أنه مع إحلاله لا دم عليه ولا صوم وقد روى الاشتراط عن عمر وعلي وابن مسعود وعمار (¬1). دليل من يرى الاشتراط: حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على ضباعة بنت الزبير فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج وإني شاكية. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حجي واشترطي ان محلي حيث حبستني" (¬2). النيابة في الحج والعمرة (حج الإنسان وعمرته عن غيره): هي القيام مقام الغير (¬3) في أداء الحج أو العمرة. ولذلك حالات: الحالة الأولى: من عليه حج أو عمرة واجبان وهو غير مستطيع الحج بنفسه: اختلف الفقهاء في ذلك على ما يأتي: 1 - ذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى صحة أن يستنيب المرء غيره في أداء الحج أو العمرة الواجبين بشروط ذكروها. 2 - وذهب المالكية إلى أن النيابة لا تجوز عن فرض الحج ولا غيره لكن إذا أوصى الميت أن يحج عنه من ماله حج الفريضة نفذت الوصية من ثلث ماله. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (2/ 511)، وشرح الدردير (2/ 97)، ونهاية المحتاج (3/ 364)، والمغني لابن قدامة (5/ 92). (¬2) أخرجه مسلمٌ (2/ 868). (¬3) المعجم الوسيط مادة: "نوب".

شروط جواز حج الإنسان عن غيره في الفرض عند من يقول به

الأدلة: 1 - استدل الجمهور بما جاء في حديث أبي رزين أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن أبي شيخ لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن. قال: "حج عن أبيك واعتمر" (¬1). وروى ابن عباس -رضي الله عنهما- أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة. أفأحج عنه؟ قال: "نعم" وذلك في حجة الوداع (¬2). فهذه الأدلة وغيرها تدل على جواز الحج الواجب عن الغير بغير شروط. ولأن الحج عبادة تجب بإفسادها الفدية فجاز أن يقوم غير فعله فيها مقام فعله كالصوم إذا عجز عنه افتدى. 2 - واستدل المالكية بقوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] وهذا لم يستطع فلا حج عليه ويسقط فرض الحج عنه لعدم استطاعته القيام به بنفسه ولأن هذه عبادة لا تدخلها النيابة مع القدرة فلا تدخلها مع العجز كالصوم والصلاة. شروط جواز حج الإنسان عن غيره في الفرض عند من يقول به: يشترط القائلون بالإنابة في الحج أو العمرة الواجبين شروطا هي: 1 - عجز الواجب عليه الحج عن أدائه بنفسه إما لمرض لا يرجى برؤه أو مانع غيره ميؤوس من زواله أو موت. أما ما يرجى برؤه وزواله فلا يجوز أن ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1/ 420)، والترمذيُّ (4/ 160)، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. (¬2) أخرجه البخاريُّ (2/ 163)، ومسلمٌ (2/ 973).

يستنيب صاحبه عند الشافعية والحنابلة ويجوز عند الحنفية فإن برئ وجب عليه الحج بنفسه واعتبر صحيحًا منه عندهم. 2 - أن يكون لمن عجز عن الواجب من حج أو عمرة مال يكفي لاستنابة غيره حيًّا أو من تركته بعد وفاته. الحالة الثانية: أن يكون من وجب عليه الحج أو العمرة قادرًا على أدائها بنفسه وهذا لا يجوز له أن يستنيب بإجماع الفقهاء. قال ابن المنذر (¬1): "أجمع أهل العلم على أن من عليه حجة الإِسلام وهو قادر على أن يحج لا يجزئ عنه أن يحج عنه غيره". والقدرة تشمل البدنية والمالية معًا وبدونهما معًا لا يجب عليه الحج. وإن كان عاجزًا عن الحج ببدنه أو ليس عنده مال فلا يجب عليه الحج لأنه ليس بمستطيع. الحالة الثالثة: أن يكون الحج أو العمرة تطوعًا ولم يحج ولم يعتمر الواجب منهما فلا يصح أن يستنيب في التطوع لأنه لا يصح أن يؤدي التطوع قبل أداء الفريضة بنفسه فعدم صحتها من نائبه أولى. الحالة الرابعة: أن يكون قد أدى الفريضة ولا يستطيع الحج أو العمرة بنفسه فيصح أن يستنيب فيها لأن ما جازت الاستنابة في فرضه جازت في نفله كالصدقة. الحالة الخامسة: أن يكون قد أدى الفريضة وهو قادر على الحج بنفسه وهذه الحال قد اختلف فيها الفقهاء: ¬

_ (¬1) الإجماع لابن المنذر (ص: 77).

شروط النائب فى الحج

1 - ذهب الحنفية وهو رواية في مذهب أحمد إلى جواز ذلك وصحته لأنها حجة لا تلزمه بنفسه فجاز أن يستنيب فيها وأجاز ذلك مالك مع الكراهة. 2 - وذهب الشافعية وهو رواية في مذهب أحمد إلى عدم جواز ذلك لأنه قادر على الحج بنفسه فلم يجز أن يستنيب فيه كالفرض. شروط النائب فى الحج: يشترط لذلك شروطا هي: الشرط الأول: أن يكون النائب قد حج حجة الإِسلام عن نفسه أولًا وإلا كانت الحجة عن نفسه ولم تجز عن الأصيل وهو قول الشافعي وأحمدُ والأوزاعي وإسحاق بن راهويه. وذهب أبو حنيفة ومالك إلى عدم اشتراط ذلك وأنه يجوز أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه وذلك لأن الحج مما تدخله النيابة فجاز أن يؤديه عن غيره من لم يسقط فرضه عن نفسه كالزكاة. الأدلة: 1 - دليل اشتراط ذلك عند من يقول به ما روى ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلًا يقول لبيك عن شبرمة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من شبرمة؟ " قال: قريب لي. قال: "هل حججت قط؟ " قال: لا. قال: "فاجعل هذه عن نفسك ثم احجج عن شبرمة" (¬1). ولأنه حج عن غيره قبل الحج عن نفسه فلم يقع عن الغير كما لو كان صبيًا. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1/ 420)، وابن ماجه (1/ 969).

شروط صحة الحج الواجب عن الغير

2 - دليل عدم اشتراط ذلك: حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاءت امرأة من خثعم عام حجة الوداع قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج قد أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: "نعم" (¬1) ولم يسألها عن حجها عن نفسها قبل ذلك. وترك الاستفصال ينزل منزلة عموم المقال. الشرط الثاني: أن يكون النائب مسلمًا عاقلًا وذلك عند جمهور الفقهاء وأجاز الحنفية حج العبد والمراهق نيابة عن غيره (¬2). شروط صحة الحج الواجب عن الغير: يتفق الفقهاء على أنه يشترط لصحة الحج عن الغير فرضًا أو تطوعًا أن يكون بأمر الأصيل إذا كان حيًا. أما الميت فقد اختلف على النحو الآتي: 1 - يرى الحنفية أنه يجوز الحج عن الميت إذا كان قد أوصى بذلك، أو كان من أدى الحج أحد ورثته سواء بنفسه أو أقام من يحج عنه، وتبرأ ذمة الميت ولا يجوز غير ذلك. وذلك لحديث الخثعمية، فإنه لم يفصل في حق السائل هل أوصى أم لم يوص وهو وارث. 2 - ويرى المالكية أنه لا يجوز حج الغير عن الميت إلا إذا كان الميت قد أوصى بذلك. 3 - وذهب الشافعية والحنابلة إلى جواز الحج عن الميت سواء أوصى بذلك أم لم يوصِ وسواء أكان من الورثة أم من غيرهم، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبه الحج ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (2/ 163)، ومسلمٌ (2/ 973). (¬2) حاشية ابن عابدين (2/ 632)، ومواهب الجليل (3/ 5)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 360)، والمغني لابن قدمة (5/ 19).

الاستئجار على الحج

بالدين والدين يقضى بغير الوصية بأدائه، ومن دون إذن الورثة لأن الميت لا إذن له وما جاز فرضه جاز نفله. الاستئجار على الحج: وذلك كما لو استأجر من يحج عنه أو يحج عن غيره. وقد اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - ذهب الحنفية وهو رواية في مذهب أحمد إلى أنه لا يجوز الاستئجار على الحج حيث لا يجوز الاستئجار على الطاعات لأنها من أفعال القربة فلم يجز أخذ الأجرة عليها كالصلاة والصوم، لكن يكون الحج صحيحًا ويقع عن المحجوج عنه وللمستأجر نفقة مثله لبطلان الإجارة. 2 - وذهب المالكية إلى صحة الإجارة على الحج مع الكراهة وهي نوعان: أحدهما: إجارة بأجرة معلومة تكون ملكًا للأجير كسائر الإجارات فما عجز عن كفايته وفاه من ماله وما زاد فهو له. والثاني: البلاغ وهو أن يدفع إليه المال ليحج عنه فإن احتاج إلى زيادة أخذها من المؤجر وإن فضل شيء رده إليه. 3 - وذهب الشافعي وهو رواية عن أحمد إلى أنه يجوز الاستئجار على الحج لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله" (¬1) وأخذ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الجعل على الرقية بكتاب الله وأخبروا بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فصوبهم فيه (¬2). ولأنه يجوز أخذ النفقة عليه فجاز الاستئجار عليه كبناء المساجد والقناطر (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (3/ 121). (¬2) أخرجه البخاريُّ (3/ 122)، ومسلمٌ (4/ 1727). (¬3) حاشية رد المحتار لابن عابدين (2/ 639)، وبداية المجتهد لابن رشد (1/ 321)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 362)، والمغني لابن قدامة (5/ 23).

محظورات الإحرام

وقد أفتي بجواز الاستئجار على الحج اللجنة الدائمة للفتوى في السعودية كما جاء فى الفتوى رقم (5228). محظورات الإحرام: وهي ما يحرم على المحرم فعله بسبب الإحرام. وفي حضر بعض الأشياء على المحرم تذكير له بما أقدم عليه من نسك وتربية لنفسه على التقشف ومراقبة الإنسان لنفسه فيما يترك تعظيمًا لله وما شرعه من عبادات تزيد المسلم تقوى وإيمانًا. ومحظورات الإحرام تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما يحرم على الذكور والإناث معًا وهو: 1 - إزالة الشعر من جميع البدن. فلا يجوز للمحرم أن يحلق رأسه أو يزيل الشعر من جميع جسده بحلق أو نتف أو غيره لقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]. 2 - تقليم الأظافر من اليدين أو الرجلين فإن انكسر ظفره فأزاله فلا شيء عليه. 3 - استعمال الطيب بعد الإحرام في الثوب أو البدن أو غيرهما لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر صاحب الجبة بغسل الطيب ونزع الجبة (¬1). وقال في المحرم الذي وقصته راحلته: "لا تمسوه بطيب" (¬2)، وذلك لكي يبتعد المسلم عن ملاذ الدنيا ويتجه إلى الآخرة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ كتاب الحج (3/ 774)، ومسلمٌ في الحج (4/ 317). (¬2) أخرجه مسلمٌ (4/ 368).

القسم الثاني: ما يحرم على الذكور دون الإناث

4 - قتل الصيد: وهو الحيوان الحلال البري المتوحش مثل الظباء والأرانب والحمام. وذلك لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، وقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]. ولا يجوز للمحرم أن يعين على الصيد ولا أن يأكل مما صاده أو صيد لأجله أو أعان على صيده. 5 - الجماع ودواعيه كعقد النكاح والنظر بشهوة والمباشرة: لقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] والرفث هو الجماع قاله ابن عباس. والفسوق هو المعاصي. والجدال هو المماراة فيما لا يعني والخصام مع الرفقة والمنازعة والسباب. القسم الثاني: ما يحرم على الذكور دون الإناث: 1 - لبس المخيط وهو أن يلبس الثياب ونحوها مما هو على صفة اللباس كالقميص والفانيلة والسروال والخفين والقفازين والجوارب. وذلك لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل: ما يلبس المحرم؟ قال: "لا يلبس القميص ولا العمامة ولا البرانس ولا السراويل ولا ثوبًا مسه ورس أو زعفران ولا الخفين" (¬1). واختلف الفقهاء فيمن لم يجد غير السراويل هل يلبسها؟ فقال أبو حنيفة ومالك لا يجوز له لبسها وإن لبسها افتدى لحديث ابن عمر في منع ذلك ولو كان جائزا لاستثناه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما استثنى لبس الخفين. وذهب الشافعي وأحمدُ إلى أنه يجوز له لبسهما ولا شيء عليه لحديث عمرو بن دينار عن جابر وابن عباس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "السراويل لمن لم يجد الإزار والخف لمن لم يجد النعلين" (¬2) وبناء عليه أجاز أحمد لبس الخفين لمن لم يجد نعلين بدون قطع قال: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (3/ 505)، ومسلمٌ في (4/ 313). (¬2) أخرجه مسلمٌ (2/ 835).

القسم الثالث: ما يحرم على النساء فقط

عطاء: في قطعهما فساد والله لا يحب الفساد. وجمهور الفقهاء على إجازة لبس الخفين لكن مع قطعهما لحديث ابن عمر المذكور. 2 - تغطية الرأس بملاصق كالعمامة والغترة والطاقية وغيرها لنهيه - صلى الله عليه وسلم - (¬1) عن لبس العمائم والبرانس. أما غير الملاصق كالخيمة والشمسية وسقف السيارة فلا بأس به لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضربت له خيمة فنزل بها وهو محرم (¬2). القسم الثالث: ما يحرم على النساء فقط: وهو تغطية وجه المرأة بالنقاب، وهو لباس تغطي به المرأة وجهها فيه ثقبان على العينين لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ولاتنتقب المحرمة" (¬3). حكم من ارتكب شيئًا من محظورات الإحرام: لمرتكب المحظور ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يفعل المحظور عالمًا ذاكرًا مختارًا بلا عذر ولا حاجة فهذا يترتب على فعله الإثم وتقديم الفدية. الحالة الثانية: أن يفعل المحظور عالمًا ذاكرًا مختارًا ولكن فعله لعذر فهذا ليس عليه إثم ولكن عليه الفدية مثل أن يحلق رأسه لأذى أو شبهه وذلك لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (3/ 505)، ومسلمٌ (4/ 313). (¬2) أخرجه مسلمٌ في الحج (4/ 411). (¬3) أخرجه البخاريُّ (4/ 68).

الفدية المترتبة على ارتكاب محظورات الإحرام

قال ابن عبد البر: "وأجمعوا على أن الفدية واجبة على من حلق لأنه عذر وضرورة وأنه مخير فيما نص الله ورسوله عليه" (¬1). الحالة الثالثة: أن يفعل المحظور جاهلًا أو ناسيًا أو مكرهًا فهذا ليس عليه شيء عند الشافعية والحنابلة لقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ويرى بعض الفقهاء من الحنفية والمالكية وراوية عن أحمد وغيرهم أن عليه الفدية لأنه هتك حرمة الإحرام (¬2)، ولا فرق في ذلك بين العمد والخطأ والنسيان. الفدية المترتبة على ارتكاب محظورات الإحرام: على من ارتكب محظورًا من محظورات الإحرام أن يفتدي عن عمله ذلك. ولا يفسد الحج بإتيان أي محظور منها إلا الجماع قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن الحج لا يفسد بإتيان شيء من ذلك في حال الإحرام إلا الجماع" (¬3). 1 - الفدية في إزالة الشعر والظفر والطيب والمباشرة لشهوة ولبس الذكر للمخيط وتغطية رأس الذكر ولبس القفازين لكل منهما والنقاب للمرأة. يجب عليه في عمل شيء من ذلك عامدًا عالمًا ذاكرًا إذا كان محتاجًا له فدية: إما ذبح شاة أو إطعام ستة مساكين أو صيام ثلاثة أيام وهي على التخيير باتفاق العلماء. لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] أما العامد غير المعذور فيرى الجمهور من المالكية والشافعية ¬

_ (¬1) الإجماع لابن عبد البر (ص: 154). (¬2) حاشية ابن عابدين (2/ 518)، وبداية المجتهد لابن رشد (1/ 365)، ورضة الطالبين للنووي (ص: 406)، والمغني لابن قدامة (5/ 391)، وفقه العبادات لابن عثيمين (ص: 307) والملخص الفقهي د. صالح الفوزان (ص: 418)، والموسوعة الفقهية الكويتية كلمة (إحرام). (¬3) الإجماع لابن المنذر (ص: 63).

والحنابلة أنه يتخير كالمعذور ولكن عليه إثم ما فعل وذهب الحنفية إلى أن العامد لا يتخير وإنما يجب عليه الدم عينًا أو الصدقة حسب جنايته لأنه غير معذور فتكون جنايته مغلظة وذلك بنفي التخيير في حقه. 2 - الفدية الواجبة في جزاء الصيد: قد بينها الله تعالى بقوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] ويفهم من الآية أن للصيد حالتين: الأولى: أن يكون للصيد مثل فيخير المرتكب لهذا المحظور بين ثلاثة أشياء: أ- إما ذبح المثل وتفريق لحمه على فقراء مكة. ب- أن ينظر كم تساوي قيمة هذا المثل ويخرج ما يقابل قيمته طعامًا يفرق على المساكين لكل مسكين نصف صاع. جـ - أن يصوم عن إطعام كل مسكين يومًا. الثانية: ألا يكون للصيد مثل فإنه يخير بين الشيئين الأخيرين. 3 - الفدية الواجبة في الجماع: إن كان الجماع قبل التحلل الأول في الحج فإنه يترتب على من وطئ عدة أشياء: أ- فساد النسك وهو باتفاق الفقهاء إذا كان الجماع قبل الوقوف بعرفة وأما بعده فلا يفسد الحج عند الحنفية لأن الركن الأصلي للحج هو عرفة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الحج عرفة" (¬1) وذلك خلافًا للجمهور حيث يرون فساده ما لم يتم التحلل الأول قال ابن عبد البر: "من أصاب أهله قبل وقوفه بعرفة فسد حجه عند الجميع وهذا إجماع من العلماء" (¬2) وقال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن من جامع ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند (4/ 309)، والترمذيُّ (3/ 237). (¬2) الإجماع لابن عبد البر (ص: 59).

فساد العمرة وما يترتب عليه

عامدًا في حجه قبل وقوفه بعرفة أن عليه حج قابل والهدي" (¬1). ب- الإثم حيث لم يراع حرمة النسك. جـ - أن يذبح بدنة ويفرقها بين الفقراء في مكة في قول أكثر الفقهاء وعند الحنفية إن كان الجماع قبل الوقوف بعرفة فيجب عليه شاة فقط وإن كان بعده فقالوا أن عليه بدنة وحجه تام. فإن لم يجد وجب عليه الصيام عشرة أيام: ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. د- وجوب الاستمرار في الحج لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ولم يفرق بين صحيح أو فاسد وذلك لما روى عن ابن عمر أن رجلًا جامع امرأته وهما محرمان فسأله فقال له: "أفسدت حجك، انطلق أنت وأهلك مع الناس فاقضوا ما يقضون وحل إذا حلوا، فإذا كان في العام المقبل فاحجج أنت وامرأتك واهديا هديا فإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم" (¬2). هـ - وجوب القضاء من العام القادم وإن كان الوطء بعد التحلل الأول فإنه لا يفسد حجه ويجب عليه ذبح شاة وتفريقها على الفقراء في مكة (¬3). فساد العمرة وما يترتب عليه: إن كان الجماع في العمرة قبل التحلل منها فإنها تفسد وعليه القضاء والفدية وذلك عند الشافعية والحنابلة، ويرى المالكية أن الفساد إنما يكون قبل نهاية ¬

_ (¬1) الإجماع لابن المنذر (ص: 63). (¬2) رواه أبو داود في المراسيل والبيهقيُّ في السنن الكبرى (5/ 167). (¬3) بدائع الصنائع للكاساني (3/ 1224)، ومواهب الجليل للخطاب (3/ 140)، وبداية المجتهد لابن رشد (1/ 370)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 412)، والمبدع في شرح المقنع (3/ 161).

حكم صيد ونبات الحرم المكي

السعي وعليه القضاء والفدية، فإن انتهى السعي ولم يحلق فلا تفسد العمرة، ويرى الحنفية أن الفساد إنما يكون إذا جامع قبل أن يكمل الشوط الرابع للطواف وهو أغلب الطواف فإن جامع قبل ذلك فعليه القضاء والفدية. وإن كان بعد الشوط الرابع فلا تفسد العمرة لأنه بأداء الأغلب من الركن أمن الفساد. ومع اتفاق الفقهاء على وجوب الفدية في حال فساد العمرة فإنهم اختلفوا في نوعها: فذهب الحنفية والحنابلة وهو أحد القولين عند الشافعية إلى أنه يلزمه شاة لأن العمرة دون الحج فخفت جنايتها فوجب شاة. وذهب المالكية والشافعية وهو المذهب إلى أنه يلزمه بدنه قياسًا على الحج قال ابن هبيرة: "واتفقوا على أنه إذا وطئ في العمرة أفسدها وعليه القضاء" (¬1) إما فداء الجماع الذي لا يفسد العمرة فشاة والله أعلم (¬2). حكم صيد ونبات الحرم المكي: يحرم على كل من هو داخل الحرم من محرم أو حلال صيد الحرم وتنفيره كما يحرم عليه قطع الشجر الذي لم يستنبته الناس في العادة حتى الشوك إلا الإذخر فإنه يجوز قطعه والاستفادة منه، ودليل التحريم هذا ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- يوم فتح مكة قال: "أن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يختلي خلاها, ولا يعضد شوكها, ولا ينفر صيدها, ولا تلتقط لقطتها إلا من عرفها" فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر، فإنه لقينهم وبيوتهم، فقال رسول ¬

_ (¬1) الإفصاح لابن هبيرة (1/ 290). (¬2) بدائع الصنائع للكاساني (3/ 1299)، وبداية المجتهد لابن رشد (1/ 370)، ونهاية المحتاج للرملي (3/ 340)، والمقنع والشرح الكبير لابن قدامة (8/ 331).

ما يجوز قتله من الصيد وقطعه من الشجر في الحرم

الله - صلى الله عليه وسلم -: "إلا الإذخر" (*). وقد أجمع المسلمون على تحريم صيد الحرم على الحلال والمحرم قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن صيد الحرم حرام، على الحلال والمحرم، وأجمعوا على تحريم قطع شجرها" (¬1). ما يجوز قتله من الصيد وقطعه من الشجر في الحرم: يستثنى من قتل صيد الحرم ما ورد في الحديث الصحيح، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل خمس فواسق في الحل والحرم، الغراب، والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور" (¬2). ويلحق بذلك الحيوان الصائل دفاعًا عن نفسه أو أهله أو ماله. كما يستثنى من النبات ما زرعه أو غرسه الناس، قال ابن المنذر: "وأجمعوا على إباحة كل ما يستنبته الناس في الحرم من البقول والزروع والرياحين وغيرها" (¬3). جزاء قتل صيد الحرم: ومن قتل صيدًا من صيد الحرم فعليه الجزاء فيما قتله، وذلك بمثل ما يجزى به الصيد في الإحرام، وحكي عن داود الظاهري أنه لا جزاء فيه لأن الأصل براءة الذمة ولم يرد فيه نص فيبقى بحاله. ¬

_ (*) معنى الخلا: الرطب من الكلأ، يعضد يقطع، الإذخر: نبت طيب الرائحة، القين: الحداد والصانع والحديث أخرجه البخاريُّ (2/ 115)، ومسلمٌ (2/ 986). (¬1) الإجماع لابن المنذر (ص: 77). (¬2) أخرجه البخاريُّ (3/ 1204)، ومسلمٌ (2/ 856). (¬3) الإجماع لابن المنذر (ص: 78).

جزاء قطع شجر ونبات مكة مما لم يستنبته الناس

والصحيح: أن عليه جزاء ما قتله لأن الصحابة -رضي الله عنهم - قضوا في حمام الحرم بشاة كما هو مروي عن عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس ولم ينقل عن غيرهم خلافهم فيكون إجماعًا, ولأنه صيد ممنوع منه لحق الله تعالى أشبه الصيد في حق المحرم. جزاء قطع شجر ونبات مكة مما لم يستنبته الناس: اختلف الفقهاء في ذلك وفقًا للآتي: 1 - يرى أبو حنيفة أنه يؤخذ بقيمة ما قطعه هدي. 2 - ويرى مالك: أنه لا جزاء فيه، بل يأثم قال ابن المنذر: "لا أجد دلالة أوجب بها في شجر الحرم فرضًا من كتاب ولا سنة ولا إجماع وأقول كما قال مالك: نستغفر الله تعالى". 3 - ويرى الشافعي وأحمدُ أن في قطع ذلك ضمانًا وعليه الجزاء، فيجب في قطع الشجرة الكبيرة بقرة وفي الشجرة الصغيرة شاة، والحشيش بقيمته، والغصن بما نقص، والضمان مروى عن عمر بن الخطاب وابن عباس -رضي الله عنهم - (¬1). الطواف: إذا دخل المحرم مكة بادر إلى المسجد الحرام وتوجه إلى الكعبة المشرفة بخشوع وتضرع فيبدأ بالحجر الأسود يستلمه ويقبله إن تيسر وإلا أشار إليه ويقول: بسم الله والله أكبر ويقطع التلبية عند شروعه في الطواف. حقيقة الطواف ومكانه: الطواف هو الدوران حول الكعبة سبع مرات ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاسانى (3/ 1577)، وبداية المجتهد لابن رشد (1/ 358)، وروضة الطالبين للنووى (ص: 421)، والشرح الكبير لابن قدامة (9/ 37).

أنواع الطواف ووقت كل نوع وحكمه

تعبدًا لله بنية الطواف مبتدئا بالحجر الأسود ومنتهيًا إليه ويجعل الكعبة عن يساره لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}. أنواع الطواف ووقت كل نوع وحكمه: 1 - طواف القدوم: وهو مشروع لمن قدم إلى مكة ودخل المسجد الحرام تحية له وهو سنة عند الجمهور لمن لم يكن دخل معتمرًا ويرى المالكية أنه واجب من تركه فعليه دم (¬1). 2 - طواف العمرة: وهو ركن من أركان العمرة يؤديه المعتمر عند وصوله للبيت الحرام. 3 - طواف الإفاضة: (الزيارة) وهو ركن من أركان الحج يؤديه الحاج بعد إفاضته من عرفة ومزدلفة. وقد أجمع الفقهاء على ركنيته لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} قال الكاسانى: "والأمة أجمعت على كونه ركنا" (¬2). ولهذا الطواف وقت أفضلية ووقت إجزاء فأما وقت الفضيلة فيوم العيد بعد الرمي والنحر والحلق لقول جابر في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر: "فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر" (¬3) وأما وقت الجواز: فأوله من نصف الليل من ليلة النحر عند الشافعي وأحمدُ وليس لآخره حد معين، وعند أبي حنيفة أوله طلوع الفجر من يوم النحر وآخره آخر أيام النحر، ويرى المالكية أن أول وقت طواف الإفاضة بعد الفجر يوم النحر وآخره نهاية شهر ذي الحجة لأنه تقام فيه أعمال الحج فسووا بين أيامه أما بعده فيجب عليه دم عندهم. ¬

_ (¬1) مواهب الجليل للخطاب (3/ 82). (¬2) بدائع الصنائع للكاساني (3/ 1100). (¬3) أخرجه مسلمٌ (2/ 886).

شروط الطواف

4 - طواف الوداع: (طواف الصدر) ويأتي به الحاج إذا أراد السفر من مكة بعد فراغه من أعمال الحج وهو واجب عند الجمهور لقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض" (¬1)، وفي رواية له أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت" (¬2)، وفي تركه عند الجمهور إثم وعليه دم جبرًا لعدم إتيانه به. ويرى المالكية أن طواف الوداع سنة ولا يترتب على تركه شيء عندهم (¬3). 5 - طواف النفل: وهو ما يتعبد به المرء غير ما ذكر كصلاة النافلة وغيرها. وهذا جائز في كل وقت لما جاء في حديث جبير بن مطعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا بني عبد مناف إن وليتم من هذا الأمر فلا تمنعوا أحدًا طاف أو صلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار" (¬4). شروط الطواف: يشترط لصحة الطواف شروط هي: 1 - الطهارة: من الحدث في الثوب والبدن والمكان هذا عند جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "الطواف بالبيت صلاة" (¬5)، وعند الحنفية أن الطهارة واجبة وليست شرطًا للطواف. 2 - ستر العورة: وذلك كما في الصلاة فلو طاف بدون ستر لها بطل طوافه ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ (5/ 84)، وأحمدُ (1/ 223). (¬2) مواهب الجليل شرح مختصر خليل (3/ 82). (¬3) شرح فتح القدير لابن همام (2/ 180)، ومواهب الجليل للخطاب (3/ 82)، ونهاية المحتاج للرملي (3/ 308)، وكشاف القناع للبهوتي (2/ 506). (¬4) سنن الدارمي (2/ 70). (¬5) أخرجه النسائي (5/ 222)، وصححه ابن حجر في التلخيص (1/ 130).

عند الجمهور ويرى الحنفية أنه واجب وليس شرطًا فلا يفسد الطواف بدونه بل يصح مع الإثم وتجب الإعادة أو الجزاء. 3 - أن يبدأ الطواف من الحجر الأسود وينتهي إليه: فلو بدأ من غيره لم يعتد بما بدأ منه وإنما من الحجر الأسود هذا عند الجمهور أما الحنفية فيرون أن ذلك واجب إن خالف وجب عليه الإعادة ما دام في مكة فإن رجع ولم يعده فعليه دم. 4 - أن يكون البيت عن يسار الطائف ولا يجوز أن يكون عن يمينه. 5 - أن يكون الطواف حول الكعبة وخارجها فلو طاف داخل الحجر لم يصح طوافه لأن الحجر من الكعبة وذلك لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] وأن يكون الطواف سبعة أشواط كاملة فلا يصح طوافٌ أقل من ذلك عند الجمهور ويرى الحنفية أن الركن هو أغلب الطواف أربعة أشواط وباقي الطواف واجب وليس ركنا. فإن شك في عدد أشواط الطواف بني على اليقين وهو الأقل. وهذه الشروط متفق عليها بين الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة ويخالف في ذلك الحنفية فلا يرون أنها شروط بل هي واجبات إن خالف فيها فتجب عليه الإعادة ما دام في مكة فإن رجع ولم يعد فعليه دم يجبر مخالفته. 6 - يشترط الحنابلة نية الطواف عند الشروع فيه. فيعين في طواف الإفاضة نية أدائه الطواف نفسه لحديث: "إنما الأعمال بالنيات" (¬1) ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماه صلاة والصلاة لا تصح إلا بالنية، ولا يشترط ذلك الجمهور لشمول نية النسك له. ويشترط الشافعية نية الطواف إذا لم يشمله النسك كطواف النذر ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (1/ 3)، ومسلمٌ (3/ 1515).

واجبات الطواف

والمتطوع به وكذلك طواف الوداع لأنه ليس من المناسك عندهم لأنه يقع بعد التحلل. 7 - الموالاة بين أشواط الطواف وذلك عند المالكية والحنابلة لأن الطواف صلاة ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والى بين الأشواط ولا يؤثر الفصل اليسير كالصلاة ونحوها وعند الحنفية والشافعية أن الموالاة سنة لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. 8 - المشي في الطواف إذا كان قادرًا عليه وذلك عند الحنابلة ويرى الجمهور وهو رواية عن أحمد أن ذلك ليس شرطًا وإنما يعده الحنفية والمالكية واجبًا يترتب على تركه دم وبعضهم يعده سنة (¬1). ويستند كل من يعد هذه شروطًا إلى حديث الطواف صلاة. وإلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني مناسككم" (¬2). واجبات الطواف: 1 - يرى الحنفية أن واجبات الطواف اثنان: أ- ركعتا الطواف بعد كل سبعة أشواط سواء كان الطواف فرضًا أو نفلًا واستدلوا على ذلك بمواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها ويوافقهم المالكية في الطواف الواجب فقط. ب- أداء طواف الإفاضة في أيام النحر فإن آخره بعدها صح وعليه دم جزاء تأخيره. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني (2/ 132)، ومواهب الجليل للخطاب (3/ 64)، ونهاية المحتاج للرملي (3/ 278)، وكشاف القناع للبهوتي (2/ 485)، وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية كلمة (طواف). (¬2) أخرجه مسلمٌ (2/ 943).

سنن الطواف

سنن الطواف: للطواف سنن ينبغي للطائف القيام بها اقتداءً بالرسول - صلى الله عليه وسلم - من فعله وقوله: "خذوا عني مناسككم" وهي: 1 - استلام الحجر الأسود وتقبيله في ابتداء الطواف وفي كل شوط إن تيسر ذلك أو تقبيل ما استلمه به أو الإشارة إليه. 2 - الدعاء: وذلك بأن يقول عند بدء الطواف من الحجر الأسود: "بسم الله والله أكبر اللَّهم إيمانًا بك وتصديقًا بكتابك ووفاءً بعهدك واتباعًا لسنة نبيك محمَّد - صلى الله عليه وسلم -"، وأن يكرر التكبير عند كل شوط ثم يدعو بما أحب، ومنها الدعاء المأثور بين الركن اليماني والحجر الأسود: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. 3 - الرمل: وذلك بأن يسرع في مشيه مع تقارب الخُطى وهو سنة للرجال دون النساء في طواف القدوم وهو في الأشواط الثلاثة الأولى منه على ألا يؤذي أحدًا ولا سيما في الأوقات التي يكثر فيها الزحام. 4 - الاضطباع: وهو أن يجعل طرفي الرداء على كتفه الأيسر ووسطه تحت إبطه الأيمن وهو خاص بالرجال وفي طواف القدوم فقط عند الحنابلة وهو سنة عند الحنفية والشافعية في كل طواف بعده سعي. 5 - استلام الركن اليماني: وذلك بمسحه باليد ويكبر وهو الركن الواقع قبل الحجر الأسود ولا يقبله، وهذا عند الفقهاء الأربعة فإن لم يتمكن من استلامه فإنه لا يشير إليه ولا يقبل ما أشار به إليه عند الحنفية والمالكية والحنابلة وعند الشافعية يقبل ما استلمه به فإن عجز عن استلامه أشار إليه ولا يستلم غير الحجر الأسود والركن اليماني لقول ابن عمر -رضي الله عنهما-: "لم أر النبي - صلى الله عليه وسلم - يستلم من

الأمور المكروهة في الطواف

البيت إلا الركنين اليمانيين" (¬1). 6 - القرب من البيت الحرام للرجال قدر المستطاع لشرف البيت دون أذية الطائفين وقد ذكر ذلك الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. 7 - صلاة ركعتين بعد الطواف خلف مقام إبراهيم إن أمكن وإلا في أي مكان من المسجد، والقول بالسنية هو مذهب الشافعية والحنابلة. 8 - الإسرار بالذكر والدعاء لأن الله تعالى يسمع السر والنجوى ولئلا يؤذي غيره من الطائفين. 9 - الرجوع إلى الحجر الأسود واستلامه بعد صلاة ركعتي الطواف إن تيسر ذلك وقد ذكر ذلك الحنابلة وغيرهم. 10 - الشرب من ماء زمزم والتضلع منه بعد فراغه من ركعتى الطواف واستلام الحجر الأسود إن أمكن لما جاء في حديث جابر -رضي الله عنه- في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ثم أتى بني عبد المطلب وهم يسقون، فناولوه دلوًا فشرب منه" (¬2) ولما رُوِيَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ماء زمزم لما شرب له" (¬3). الأمور المكروهة في الطواف: ذكر الفقهاء أمورًا تكره في الطواف منها: 1 - رفع الصوت بالذكر والدعاء والقرآن بما يشوش على الطائفين ويشغلهم عن الدعاء والابتهال إلى الله في هذا المكان المقدس وذلك لقوله تعالى: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (3/ 473) من فتح الباري، ومسلمٌ (2/ 924). (¬2) أخرجه مسلمٌ (2/ 886). (¬3) أخرجه ابن ماجه (2/ 1018)، وله طرق أخرى يكون بها صحيحا المقاصد الحسنة للسخاوي (ص: 357).

المرور بين يدى المصلي فى المسجد الحرام والمسجد النبوى

{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: لما غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا إنكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم ... " (¬1) هذا وهم في البر فكيف إذا كان ذلك في البيت الحرام ويشوش على الطائفين ويجعلهم لا يتمكنون من الخشوع والدعاء والتضرع بهذا المكان الشريف. 2 - الكلام في أمور الدنيا أثناء الطواف فيما لا حاجة إليه وذلك أن الطائف في صلاة فينبغي أن يستفيد منه في دعائه وتضرعه وابتهاله وقراءة القرآن. 3 - الطواف وهو يدافع البول أو الغائط ونحو ذلك مما يشغله عن حضور قلبه وخشوعه (¬2). المرور بين يدى المصلي فى المسجد الحرام والمسجد النبوى: كان المسجد الحرام يمتلئ بالناس قديمًا في موسم الحج فقط، ولكنه في الوقت الحاضر يمتلئ بهم على مدار العام ويزيد في الحج وفي رمضان ويشق منع الناس عن المرور بين يدي المصلي لأن منهم الطائف والساعي وغيرهم ولذلك فإنه يجوز المرور بين يدي المصلي في المسجد الحرام عند عامة الفقهاء واستدلوا لذلك بحديث كثير بن كثير بن وداعة عن بعض أهله، عن جده "أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بما يلي باب بني سهم والناس يمرون بين يديه وليس بينهما سترة" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب المغازي ورقم الحديث (4205). (¬2) حاشية ابن عابدين (3/ 525)، ومواهب الجليل للخطاب (3/ 68)، ونهاية المحتاج للرملي (3/ 280)، وكشاف القناع للبهوتي (2/ 485). (¬3) أخرجه أبو داود (2/ 518)، من حديث المطلب بن وداعة وفي إسناده جهالة.

السعي بين الصفا والمروة

قال أحمد: "لأن مكة ليست كغيرها, لكثرة الناس وازدحامها بهم، فمنعهم تضييق عليهم" (¬1). وقال في حاشية ابن عابدين: "المرور بين يدي المصلي بحضرة الكعبة يجوز" (¬2). أما المسجد النبوي: فيزدحم اليوم بالناس في زمن الحج وفي رمضان وفي الروضة الشريفة على مدار العام ولذلك فإنه يجوز المرور بين يدي المصلي فيه لأن منع الناس فيه مشقة عليهم وزيادة ازدحام، وهو السبب الذي قيل فيه بجواز المرور بين يدي المصلى في المسجد الحرام. أما في غير الروضة الشريفة وغير أوقات الازدحام فإنه ينبغي ألا يمر الناس أمام المصلي وينبغي للمصلي أن يتخذ سترة له من عمود ونحوها لئلا يشغله الناس عن صلاته وإبعادًا للمار والمصلي عن الإثم، والله أعلم. السعي بين الصفا والمروة: التعريف: السعي في اللغة: من سعى يسعى سعيا: أي قصد أو عمل أو مشى أو عدا (¬3). قال تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]. والصفا جمع صفاة وهي الصخرة والحجر الأملس، والمروة حجر أبيض براق. ¬

_ (¬1) رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين (1/ 427)، والخرشى على خليل (1/ 279)، ونهاية المحتاج (2/ 52)، ومطالب أولى النهى للسيوطى (1/ 482). (¬2) حاشية ابن عابدين (2/ 534). (¬3) القاموس المحيط مادة: "سعى".

والمراد بالصفا والمروة الجبلان الصغيران اللذان على مقربة من الكعبة وقد أصبحا الآن ضمن بناء المسجد بعد التوسعة. وفي الاصطلاح الشرعي: قطع المسافة بين الصفا والمروة سبع مرات ذهابًا وإيابًا بعد طواف في نسك حج أو عمرة. الأصل في مشروعية السعي: دل على مشروعية السعي الكتاب والسنة. أما الكتاب: فمن القرآن قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيم} [البقرة: 158]. وأما السنة: فمنها ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سعى بين الصفا والمروة وقال: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" (¬1). وقد شرع السعي على مثال سعي السيدة هاجر أم إسماعيل فقد سعت بين الصفا والمروة سبع مرات لطلب الماء لابنها عندما أسكنها إبراهيم -عليه السلام- في هذا الوادى ونفد ما عندها من ماء حتى جاءها الغوث من الله حيث نبع ماء زمزم. قال ابن عباس -رضي الله عنهما- قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فذلك سعى الناس بينهما" (¬2). حكم السعي: اختلف الفقهاء في حكم السعي بين الصفا والمروة: 1 - ذهب المالكية والشافعية والحنابلة في المعتمد عندهم إلى أن السعي ركن من أركان الحج والعمرة لا يصحان بدونه. 2 - وذهب الحنفية والحنابلة في رواية إلى أن السعي واجب في الحج والعمرة ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند (6/ 422)، والبيهقيُّ في سننه (5/ 97). (¬2) أخرجه البخاريُّ (4/ 116).

فمن تركه وجب عليه الدم. 3 - وذهب الحنابلة في رواية أخرى إلى أن السعي سنة لا يجب بتركه شيء. الأدلة: 1 - استدل الجمهور بما يأتي: أ- حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطاف المسلمون يعني بين الصفا والمروة فكانت سنة، فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة" (¬1). ب- حديث حبيبة بنت أبي تجراة قالت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" (¬2). جـ - أن السعي نسك في الحج والعمرة حيث فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ووصله بالطواف فكان ركنا فيها كالطواف. 2 - واستدل الحنفية ومن معهم بما يأتي: أ- قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158]. جاء في قراءة ابن مسعود: {ألا يطوف بهما} وهي لا تدل على القول بالركنية للسعي لأن ذلك غير قاطع في الإثبات للركنية وإنما أكثر ما فيها الدلالة على الوجوب لا على كونه لا يتم الحج إلا به. وأجابوا عن قول عائشة بأنه معارض بقول من خالفه من الصحابة. وأما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (3/ 7)، ومسلمٌ (2/ 928). (¬2) سبق تخريجه (ص:)

صفة السعي

حديث حبيبة فقد ضعفه بعض العلماء قال ابن المنذر: "يرويه عبد الله بن المؤمل وقد تكلموا في حديثه". واستدل من قال بالسنية بما جاء في قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] فنفى الحرج عنه دليل على عدم وجوبه، وإنما هو رتبة المباح وتثبت السنية بقوله تعالى: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}. صفة السعي: بعد انتهاء الطواف يتوجه الحاج أو المعتمر إلى الصفا ويبدأ السعي مستقبلًا الكعبة المشرفة ويوحد الله ويكبره ويقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية ويدعو بما شاء ثم يسير متوجها إلى المروة فإذا حاذى العمودين الأخضرين أسرع بما لا يشق على غيره حتى العمودين الآخرين ثم يمشي إلى المروة ويصعد عليها ويكبر ويهلل ويدعو بما شاء كما فعل على الصفا وهذا شوط واحد ثم يتجه إلى الصفا مشيًا إلى محاذاة العمودين الأخضرين فيسرع إلى العمودين الآخرين وذلك خاص بالرجال دون النساء ويمشي حتى يصل إلى الصفا وهذا شوط ثان ثم يكمل سعيه سبعة أشواط في الذهاب سعيه وفي الرجوع سعيه حتى يكمل السعي. شروط السعي: 1 - أن يكون السعي بعد طواف صحيح سواء أكان طواف القدوم أو العمرة أو الإفاضة، دليل ذلك فعله - صلى الله عليه وسلم - فإنه قد سعى بعد الطواف. وورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لتأخذوا مناسككم" (¬1) وهذا الشرط باتفاق الفقهاء الأربعة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ (2/ 943).

سنن السعي

2 - الترتيب بأن يبدأ بالصفا وينتهي بالمروة لأن الله تعالى بدأ بالصفا ولفعله - صلى الله عليه وسلم - ويعتبره الحنفية واجبًا وليس شرطًا. 3 - أن يكون السعي سبعة أشواط كاملة لفعله - صلى الله عليه وسلم - ويعتبره الحنفية واجبًا وليس شرطًا. 4 - استيعاب المسافة بين الصفا والمروة وألا يقصر دونها وهو شرط عند الشافعية والحنابلة وذلك لفعله - صلى الله عليه وسلم -. 5 - الموالاة بين أشواط السعي ولا يضر الفصل اليسير كالصلاة وهو شرط عند المالكية والحنابلة في رواية. 6 - ويضيف الحنابلة شرطًا آخر هو نية السعي. سنن السعي: للسعي سنن كثيرة مأخوذة من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله لها ومنها: 1 - الخروج إلى الصفا من بابه. 2 - أن يؤدي السعي بعد الطواف مباشرة. 3 - أن يؤدي السعي وهو على طهارة من الحدثين وطهارة في الثوب والبدن. 4 - أن يصعد على الصفا والمروة كلما بلغهما في سعيه بحيث يشاهد البيت العتيق. 5 - استقبال القبلة كلما بلغ الصفا والمروة مع الدعاء والتكبير والتهليل. 6 - السعي الشديد بين (العمودين الأخضرين) اللذين في جدار المسعى في الأشواط السبعة وهو خاص بالرجال دون النساء لأن المطلوب منهن الستر ولا يناسبه السعي الشديد.

الوقوف بعرفه

7 - أن يسعى ماشيًا عند الشافعية والحنابلة وعند الحنفية والمالكية المشي للقادر عليه واجبًا (¬1). 8 - الموالاة بين أشواط السعي ولا تترك الموالاة إلا للصلاة ونحوها. الوقوف بعرفه: المراد بالوقوف في عرفة: هو وجود الحاج في أي جزء من أرض عرفة في الوقت المحدد للوقوف فيها على أي حال كان قائما أو جالسا أو نائما أو غير ذلك. الأصل في مشروعية الوقوف بعرفة: الأصل في الوقوف بعرفة الكتاب والسنة والإجماع. فأما الكتاب: فقوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 198]، وقوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] ذلك أن قريشا كانت تقف بالمزدلفة والناس يقفون بعرفات فأمر الله نبيه أن يأتي عرفات ويقف فيها ثم يفيض منها. فالآية أمرت بالوقوف ثم الإفاضة من عرفة (¬2). وأما السنة: فقد ورد عدة أحاديث منها: 1 - حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي أن أناسًا من أهل نجد أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألوه فأمر مناديًا ينادي: "الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج" (¬3). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (2/ 532)، وبدائع الصنائع للكاسانى (3/ 1112)، وبداية المجتهد لابن رشد (1/ 344)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 392)، والمغني لابن قدامة (5/ 234)، وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية كلمة: (سعى). (¬2) تفسير القرطبي (2/ 427). (¬3) أخرجه أبو داود (1/ 367).

حكم الوقوف بعرفة

2 - عن عروة بن مضرس الطائي قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت يا رسول الله إني جئت من جبل طيء أكللت رحلتي وأتعبت نفسي والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى يدفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا فقد تم حجه وقضى تفثه" (¬1). وأما الإجماع: فقد نقل كثير من العلماء الإجماع على ركنية الوقوف بعرفة: فقال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن الوقوف بعرفة فرض لا حج لمن فاته الوقوف بها" (¬2). 3 - وقال الكاساني: "وكذا الأمة أجمعت على كون الوقوف ركنا في الحج ... " (¬3). 4 - وقال ابن قدامة: "والوقوف ركن لا يتم الحج إلا به إجماعا" (¬4). 5 - وقال ابن عبد البر: "وأما الوقوف بعرفة فأجمع العلماء في كل عصر وبكل مصر فيما علمت أنه فرض لا ينوب عنه شيء، وأنه من فاته الوقوف بعرفة في وقته الذي لا بد منه فلا حج له" (¬5). حكم الوقوف بعرفة: الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج لا يتم حج المسلم إلا به وذلك بإجماع الأمة. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1/ 763)، والترمذيُّ (1/ 265). (¬2) الإجماع لابن المنذر (ص: 73). (¬3) بدائع الصنائع للكاساني (2/ 125). (¬4) المغني لابن قدامة (5/ 267). (¬5) الإجماع لابن عبد البر (ص: 168).

وقت الوقوف بعرفة

وقت الوقوف بعرفة: اتفق الفقهاء على أن آخر وقت الوقوف هو طلوع فجر يوم النحر أما أول وقت للوقوف فيرى الجمهور أنه يبدأ من زوال الشمس يوم عرفة ويرى الحنابلة أنه يبدأ من طلوع الفجر يوم عرفة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث: "وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا فقد تم حجه" والنهار يشمل جميع اليوم وإذا وقف الحاج ليلًا فقط أو نهارًا فقط فهل يكفيه ذلك ويكون حجه صحيحًا؟ اتفق الفقهاء على أن الحاج إذا وقف ليلًا فقط فإنه يكفيه وحجه صحيح. أما إذا وقف نهارًا فإنه يجب عليه عند عامة الفقهاء أن يقف إلى غروب الشمس ثم يدفع منها لفعله - صلى الله عليه وسلم - فإن انصرف منها قبل الغروب فحجه صحيح عند الجمهور ويجب عليه دم جزاءً لفعله ذلك. ويرى المالكية أن الوقوف ليلًا أو جزءًا من الليل لمن وقف نهارًا شرط في صحة الوقوف فإن لم يقف ليلًا فإن حجه باطل وعليه الحج من العام القادم لإخلاله بالشرط ما لم يرجع إلى عرفة قبل طلوع فجر يوم النحر. وفي قول عند الشافعية أن الوقوف إلى الليل مستحب وليس بواجب ولكن ينبغي لمن ينصرف قبل الليل أن يقدم فدية لذلك. مكان الوقوف بعرفة: يقف الحاج في عرفات وهي المكان المعروف الواقع بين وادي عرنة والجبال الشرقية الشاهقة وهي محددة بعلامات تبين حدودها فعلى الحاج التأكد من ذلك لئلا يقف خارج عرفة فيبطل حجه.

وقوف الحاج في عرنة

وقوف الحاج في عرنة: ذهب الفقهاء إلا مالكًا إلى أن حجه باطل فهو لم يقف بعرفة لحديث: "كل عرفة موقف وارفعوا عن بطن عرنة" (¬1). وذهب مالك إلى أن حجه صحيح وعليه دم لجبر النقص الذي حصل منه. لأن الأصل أن الوقوف بكل عرفة جائز إلا ما قام عليه الدليل ولم يقم الدليل من وجه يلزم به الحجة والخروج عن الأصل (¬2). الانصراف من عرفة قبل غروب الشمس: اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال: 1 - ذهب أكثر الفقهاء إلى أن الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس واجب من واجبات الحج وأن من لم يقف إلى الغروب فعليه دم جبرًا للنقص الحاصل في نسكه. 2 - وذهب مالك إلى أن الوقوف إلى الليل لمن وقف نهارًا بحيث يجمع بين الليل والنهار في وقوفه يعتبر شرطًا لصحة الوقوف وأن من خالفه فحجه باطل لحديث: "خذوا عني مناسككم". 3 - وذهب الشافعية في قول لهم إلى أن الوقوف إلى الليل مستحب وليس بواجب، ومنهم من يرى أن عليه دمًا خروجًا من الخلاف، ومنهم من لم ير عليه شيئًا وحجه تام وهو رواية عن الحنابلة (¬3) وقد أيد هذا القول الشيخ محمَّد الأمين ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة (2/ 2 / 1002)، وأخرجه مالك في الموطأ (1/ 388)، والإمام أحمد في المسند (4/ 82). (¬2) بدائع الصنائع للكاساني (3/ 1093)، وبداية المجتهد لابن رشد (1/ 346)، ونهاية المحتاج للرملي (3/ 294)، وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية مادة: "الحج". (¬3) بدائع الصنائع للكاساني (3/ 1098)، وبداية المجتهد لابن رشد (1/ 348)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 395)، والأنصاف للمرداوي (9/ 171) مع الشرح الكبير.

خطأ الحاج فى الوقوف بعرفة

الشنقيطي بقوله: "أما من اقتصر وقوفه على الليل والنهار أو النهار من بعد الزوال دون الليل فأظهر الأقوال فيه دليلًا عدم لزوم الدم ... " إلى أن قال: "وأما المقتصر على النهار دون الليل فلحديث عروة بن مضرس الطائي وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه: "وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلًا أو نهارًا فقد تم حجة وقضى تفثه" وهو يدل على أن الوقوف نهارًا يتم حجه بذلك، ولم يثبت نقل صريح في معارضة ظاهر هذا الحديث، وعدم لزوم الدم على المقتصر نهارًا هو الصحيح من مذهب الشافعي لدلالة هذا الحديث على ذلك كما ترى"أ. هـ. كما أيده الشيخ عبد الله بن منيع حيث قال: "ونظرًا إلى ما يعانيه حجاج بيت الله الحرام من المشقة والضرر البالغ نتيجة منعهم من الإفاضة من عرفات إلى مزدلفة قبل غروب الشمس ... ونظرًا إلى أن القول بوجوب الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس محل اجتهاد ونظر بين أهل العلم ... لا شك أن من التيسير: الأخذ بقول من قال: بجواز إفاضة الحجاج من عرفة قبل غروب الشمس إذ هو قول قوى قال بصحته شيخنا: محمَّد الأمين الشنقيطي وأن الأخذ به لا يرتب على الحاج دمًا" (¬1). خطأ الحاج فى الوقوف بعرفة: إذا أخطأ الحجاج فوقفوا في عرفة اليوم الثامن أو اليوم العاشر من ذي الحجة فإن للفقهاء في ذلك أقوالًا: أولًا: الوقوف في اليوم الثامن من ذي الحجة خطأ: 1 - ذهب الحنفية وهو قول عند المالكية وأصح الوجهين عند الشافعية إلى أنه لا يجزئ الوقوف في اليوم الثامن على أنه يوم عرفة وذلك لأنه اجتهاد أو ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى وبحوث للشيخ عبد الله المنيع (3/ 113).

ثانيا: الوقوف في اليوم العاشر من ذي الحجة خطأ

شهادة من شهد بالباطل، ولأنه خطأ غير مبني على دليل فلم يعذروا فيه. 2 - وذهب الحنابلة وهو قول ابن القاسم من المالكية ووجه عند الشافعية إلى أنه يجزئهم الوقوف لحديث: "يوم عرفة اليوم الذي يعرف الناس فيه" (¬1). وهو نص في الإجزاء ثم إنه لو كان هناك خطأ وصواب لاستحب الوقوف مرتين وهو بدعة لم يفعله السلف فعلم أنه لا خطأ. الراجح: بدراسة أدلة القولين نرى أن الراجح هو القول بالإجزاء لما ذكره القائلون بالإجزاء ولما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون" (¬2). ثانيًا: الوقوف في اليوم العاشر من ذي الحجة خطأ: اتفق الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة على أن وقوف الحاج خطأ اليوم العاشر على أنه يوم عرفة صحيح وذلك لحديث: "يوم عرفة اليوم الذي يعرف الناس فيه" (¬3). وحديث: "الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحي يوم تضحون" (¬4). ولأن الوقوف اليوم العاشر قد أكمل الناس فيه العدة لشهر ذي القعدة دون اجتهاد (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني (2/ 223). (¬2) أخرجه الدارقطني (2/ 224). (¬3) أخرجه الدارقطني (2/ 224). (¬4) أخرجه الترمذيُّ (3/ 71) من حديث أبي هريرة وقال: حديثٌ حسنٌ. (¬5) بدائع الصنائع للكاساني (3/ 1096)، ومواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب (3/ 95)، والمجموع للنووي (8/ 292)، والشرح الكبير على المقنع لابن قدامة (9/ 308).

من فاته الوقوف بعرفة (الفوات)

من فاته الوقوف بعرفة (الفوات): الوقوف بعرفة ركن الحج فمن لم يتمكن من الوقوف بعرفة في الوقت المحدد وطلع فجر يوم النحر دون وقوفه لأي سبب فإن الحج يفوته وعليه التحلل من الإحرام بعمرة فيطوف ويسعى ويحلق وليس عليه إكمال أعمال الحج المتبقية من مبيت بمزدلفة أو منى أو رمي جمار أو غيرها. وعلى من فاته الوقوف الحج من العام القابل وعليه هدي قال ابن عبد البر: "في قصة أبي أيوب وهبار بن الأسود إذ فات كل منهما الحج فأمرهما عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن يحل كل منهما بعمل عمرة ثم يحج من قابل ويهدي فمن لم يجد صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، وهذا أمر مجمع عليه فيمن فاته الحج بعد أن أحرم به ولم يدرك عرفة إلا يوم النحر" (¬1). سنن الوقوف بعرفة: للوقوف بعرفة سنن كثيرة وهي مأخوذة من هديه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ومنها: 1 - أن يغتسل للوقوف بعرفة. 2 - أن يسير إلى عرفة بعد طلوع الشمس من يوم عرفة وأن ينزل بنمرة إن أمكن. 3 - أن يخطب الإِمام أو نائبه في الناس ويبين لهم أحكام الحج ويتعرض لما يهم المسلمين في عاجل أمرهم وآجله. 4 - الجمع والقصر بين صلاتي الظهر والعصر في وقت الأولى. 5 - التوجه إلى عرفة بعد الصلاة ليكون تواجده بعرفة أطول زمنا. 6 - الفطر في يوم عرفة ليكون أعون للحاج على الدعاء. ¬

_ (¬1) الإجماع لابن عبد البر (ص: 176).

واجبات الحج

7 - أن يقف متطهرًا من الأحداث والأخباث لأنه أكمل في أداء العبادة. 8 - أن يقف مستقبل القبلة وأن يكون حاضر القلب فارغًا من مشاغل الدنيا ليواطئ دعاؤه وتضرعه قلبه فيكون أدعى للإجابة. 9 - أن يقف حيث وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الصخرات إن أمكن وأن يكون راكبًا إذا كان أرفق به وأن يبرز للشمس إذا لم يكن في ذلك ضرر عليه ولو في جزء من الوقت بعد ذهاب حرارة الشمس. 10 - أن يكثر من التلبية والدعاء والاستغفار وقراءة القرآن ويرفع يديه مع الدعاء. 11 - أن يدفع من عرفة بعد غروب الشمس وعليه السكينة والوقار، وألا يؤدي أحدًا في سيره وإفاضته من عرفة إلى مزدلفة (¬1). واجبات الحج: الواجب في الحج هو ما يطلب فعله ويحرم تركه ولا تتوقف صحة الحج عليه ويأثم تاركه إلا إذا كان الترك لعذر شرعي ويجب عليه الفداء بتركه جبرًا للنقص، وللحج واجبات هي: 1 - الإحرام: الإحرام من الميقات الذي يمر به في طريقه إلى مكة المكرمة، ويحرم تأخير الإحرام عنه، فإن آخره عنه ثم أحرم ولم يعد إلى الميقات فعليه دم فدية لتركه هذا الواجب وذلك باتفاق الفقهاء (¬2). قال ابن هبيرة: "واتفقوا على أن هذه المواقيت ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني (3/ 1098)، وبداية المجتهد لابن رشد (1/ 348)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 395)، والأنصاف للمرداوي (9/ 171) مع الشرح الكبير. (¬2) حاشية ابن عابدين (3/ 506)، وحاشية الدسوقي (2/ 25)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 372)، وكشاف القناع للبهوتي (2/ 404).

2 - المبيت بمزدلفة

لا يجوز أن يتجاوزها الإنسان إلا محرما ممّن يريد النسك" (¬1). 2 - المبيت بمزدلفة: تقع المزدلفة بين مأزمى عرفة وهو المضيق بين الجبلين عند نهاية عرفة جهة المزدلفة وبين وادي محسر الذي يفصل بين مزدلفة ومنى. ومزدلفة كلها من الحرم. وسميت المزدلفة من الزلفة بمعنى القربة أو القرب لأنهم من عرفات يقربون زلفا إلى المشاعر والبيت الحرام وتسمى جمعًا لاجتماع الناس فيها وتسمى المشعر الحرام باسم الجبل الموجود فيها وهو جبل قزح. مكان المبيت بمزدلفة: يبيت الحاج في أي مكان من مزدلفة ويرفع عن وادي محسر كما هو محدد بعلامات واضحة تبين حدودها وينبغي التنبه لها. وقت المبيت بمزدلفة: يبدأ وقت المبيت بعد مغرب يوم عرفة ليلة النحر إلى ما قبل طلوع الشمس. وقد اتفق الفقهاء على أن الوقوف بمزدلفة واجب من واجبات الحج ولكنهم اختلفوا في مقدار ذلك على النحو الآتي: 1 - فذهب الحنفية إلى أن الوقوف الواجب هو من طلوع الفجر يوم النحر إلى طلوع الشمس فمتى كان فيها في هذا الوقت ولو مارًا فقد أدرك الوقوف في مزدلفة ومن لم يكن في هذا الوقت فقد فاته الوقوف حتى لو كان قد بات في مزدلفة وعليه دم فدية لتركه الواجب ما لم يكن له عذر من مرض ونحوه. 2 - وذهب المالكية إلى أن الواجب هو النزول في المزدلفة قدر حط الرحال في ليلة النحر وهو في طريقه من عرفة إلى مني ما لم يكن له عذر فلا يجب عليه النزول. ¬

_ (¬1) الإفصاح لابن هبيرة (1/ 269).

3 - وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الواجب هو المبيت بمزدلفة إلى نصف الليل فإن غادرها قبل ذلك فعليه دم إن لم يعد إليها قبل طلوع الفجر وإن لم يبت بها مطلقا أو جاء بعد طلوع الفجر فعليه دم فدية واحتجوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بات في مزدلفة وقال "لتأخذوا عني مناسككم" وإنما أبيح الدفع بعد منتصف الليل لما روي عن ابن عباس -رضي الله عنه-: قال: كنت في من قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى (¬1). الراجح: نرى أن الأولى هو الأخذ بما ذهب إليه الشافعية والحنابلة حيث ينبغي أن يبقى الحاج في مزدلفة إلى نصف الليل إن استطاع الوصول إليها قبل ذلك وإن لم يستطيع فحسب استطاعته ولا شيء عليه لما ورد في ذلك من أحاديث وخروجًا من خلاف الفقهاء وهو أكمل لحج المسلم الذي جاء إلى المشاعر المقدسة ابتغاء لما عند الله. سنن المبيت بمزدلفة: وهي مأخوذة من فعله - صلى الله عليه وسلم - وهديه ومنها: 1 - أن يصلى فيها المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا حال وصوله. 2 - أن يبيت فيها إلى أن يصلى الفجر في أول وقتها. 3 - أن يبادر بعد صلاة الفجر إلى الدعاء والتكبير والتهليل والتلبية. ويستمر حتى يسفر جدًا. 4 - أن يلتقط حصى الجمار منها أو من الطريق إلى مني لفعله - صلى الله عليه وسلم -. 5 - أن يدفع من المزدلفة إلى منى قبل أن تطلع الشمس ويكثر من التلبية حتى يصل إلى جمرة العقبة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (2/ 202)، ومسلمٌ (2/ 941).

3 - رمي الجمار

6 - أن يسرع السير قدر الإمكان إذا وصل وادي محسر حتى يجاوزه إلى منى (¬1). 3 - رمي الجمار: حقيقته ومعناه: الرمي لغة القذف. والجمار: الأحجار الصغيرة جمع جمرة وهي الحصاة وسمي موضع الجمار بمنى جمرة لأنها ترمى بالجمار، والجمرة التي يرمي بها أكبر من الحمص قليلًا وأصغر من البندق. الجمار التي ترمى: يرمي الحاج ثلاث جمرات هي: 1 - الجمرة الصغرى: وهي أول الجمرات من جهة منى وأقربها إلى مسجد الخيف. 2 - الجمرة الوسطى: وهي التي تقع بعد الجمرة الصغرى وبين الصغرى والوسطى 156 م. 3 - جمرة العقبة: وسميت بالعقبة لوجود عقبة كانت بجانبها وقد أزيلت في الوقت الحاضر، وهي الجمرة الكبرى وتقع خارج منى من جهة مكة وبينها وبين الوسطى 116 م وقد أقيمت جسور تربط بينها جميعًا وجعلت أدوارًا متعددة ليتمكن الناس من الرمي بدون ضرر عليهم. الترتيب في الرمي وعدده: 1 - يرمي يوم النحر جمرة العقبة فقط ويبدأ بها حين وصوله منى من مزدلفة ويقطع التلبية ويرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة "الله أكبر". 2 - في اليوم الأول والثاني من أيام التشريق يرمي الجمرات الثلاث: بدءًا ¬

_ (¬1) حاشية رد المحتار لابن عابدين (3/ 541)، ومواهب الجليل (3/ 125)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 396)، والشرح الكبير للمقدسي (9/ 176).

بالأولى (الصغرى) بسبع حصيات ويكبر مع كل حصاة ثم يتجه إلى الثانية (الوسطى) ويرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم يتجه إلى الجمرة الكبرى (العقبة) ويرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة. 3 - في اليوم الثالث من أيام التشريق لمن لم يتعجل بل بقي بمنى وذلك أفضل كما هو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه يرمي الجمرات كما رماها في اليومين السابقين ترتيبًا وعددًا فيكون مجموع عدد الحصيات للمتأخر سبعين حصاة. وقد اختلف الفقهاء في أداء الرمي من حيث الترتيب: 1 - فذهب الجمهور إلى أنه واجب لأنه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله "لتأخذوا عني مناسككم" فمن ترك ذلك أو شيئًا منه لزمه فدية. 2 - وذهب الحنفية إلى أن الترتيب سنة ولا شيء بتركه. الأصل في مشروعية رمي الجمار: الأصل في مشروعيتها السنة والإجماع في أداء شعيرة الرمي للجمرات اقتداء بأبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- وهي انقياد لأمر الله وإظهار العبودية لله سبحانه. أما السنة: فما ثبت في حديث جابر في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ... حتي أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ... " (¬1). وأما الإجماع: فقد نقله بعض العلماء، جاء عن ابن المنذر قوله: "وأجمعوا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى يوم النحر جمرة العقبة بعد طلوع الشمس" (¬2). قال في بدائع الصنائع: "أما الإجماع فلأن الأمة أجمعت على وجوبه" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ (4/ 42). (¬2) الإجماع لابن المنذر (ص: 74). (¬3) بدائع الصنائع للكاسانى (2/ 136).

وقت رمي الجمار

وقال ابن رشد: "واتفقوا على أن جملة ما يرميه الحاج سبعون حصاة منها في يوم النحر جمرة العقبة بسبع ... وأنه يرمي في كل يوم من أيام التشريق ثلاث جمار بواحد وعشرين حصاة كل جمرة منها بسبع" (¬1). وبناء على ذلك فمن ترك رمي الجمار كلها أو بعضها لزمه دم عند عامة أهل العلم. وقت رمي الجمار: أولًا: رمي يوم النحر (جمرة العقبة): 1 - ذهب الحنفية والمالكية إلى أن وقت الرمي لجمرة العقبة يبدأ من طلوع فجر يوم النحر وآخره عند المالكية إلى مغرب اليوم نفسه وعند الحنفية إلى فجر اليوم التالي. فإن أخره الحاج عن ذلك فعليه فدية دم. 2 - وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن وقت الرمي لها يبدأ من منتصف ليلة يوم النحر لما روي عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "كنت في من قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى" (¬2)، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت" (¬3)، وآخر وقتها يمتد إلى آخر أيام التشريق فإن أخره عنها فعليه دم. وقد أخذ بهذا القول هيئة كبار العلماء في السعودية كما جاء في قرار الهيئة رقم (31). ثانيًا: رمي الجمار أيام التشريق: يبدأ وقت الرمي بعد الزوال في المختار عند الفقهاء لفعله - صلى الله عليه وسلم -، وأجاز الحنفية الرمي قبل الزوال إذا كان قصد الحاج النفر من منى في اليوم الثاني أو ¬

_ (¬1) بداية المجتهد لابن رشد (1/ 352). (¬2) أخرجه البخاريُّ (2/ 202)، ومسلمٌ (2/ 2 / 941). (¬3) أخرجه أبو داود (1/ 450).

ثالثا: الرمي ليلا

الثالث. وينتهي وقت الرمي عند الحنفية والمالكية بنهاية كل يوم. وعند الشافعية والحنابلة ينتهي وقت الرمي بنهاية أيام التشريق فلو أخر رمي اليوم الأول إلى اليوم الثاني أو أخرهما إلى اليوم الثالث جاز ولا شيء عليه لكن يجب الترتيب بين رمي اليوم السابق واليوم الذي يرمي فيه ويعتبر ذلك أداء لا قضاء لأنه محدد بوقت هي أيام التشريق والقضاء لا تحديد له وعند الشافعية يجوز تقديم رمي اليوم الثاني والثالث مع رمي اليوم الأول (¬1). ثالثًا: الرمي ليلًا: مما ذكرنا يتبين الأوقات الفاضلة لرمي الجمار حسب قول كل مذهب، ولكن نظرًا لكثرة الحجاج وشدة الزحام وحيث إن المحافظة على النفس إحدى الضروريات الخمس في الشريعة الإِسلامية فإنه يجوز الرمي ليلًا امتدادًا لليوم الذي رمي فيه الحاج ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحدد وقتا لانتهاء الرمي فيكون الرمي ليلًا جائزًا وبذلك صدرت الفتوى [بالقرار رقم (129)] من هيئة كبار العلماء في السعودية وغيرهم بجواز ذلك. رابعًا: الرمي قبل الزوال في أيام التشريق: أجاز الحنفية الرمي قبل الزوال في اليوم الثاني والثالث إذا كان الحاج قد قصد النفر عن مني، وبما أن عدد الحجاج قد كثر بحيث أصبح الازدحام عند الجمرات شديدًا فنتج عنه بعض الوفيات ولذا أجاز بعض أهل العلم الرمي قبل الزوال محافظة على أرواح الحجاج حيث قد جاءت الشريعة بحفظ الضروريات الخمس ومنها حفظ النفس. قال السيوطي: "وصحح النووي الجواز ليلًا وقبل الزوال" (¬2)، وبه أفتى ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر للسيوطى (ص: 397). (¬2) الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 397).

شروط صحة رمي الجمار

مجموعة من الفقهاء المعاصرين. شروط صحة رمي الجمار: 1 - أن يكون الرمي لكل من الجمرات بسبع حصيات. 2 - أن يرمي بيده كل حصاة برمية لوحدها ولا يجوز رميها دفعة واحدة أو رمي أكثر من واحدة. 3 - أن يكون الرمي بحصيات قدر ما يرمي به (الخذف) ولا يجوز الرمي بطين أو حديد أو غير ذلك كالأحذية. وأجاز الحنفية الرمي بكل ما كان من جنس الأرض كالحجر والطين ونحوها. 4 - أن يقصد المرمى وأن يتحقق من إصابة الحجر المرمى. 5 - الترتيب بين الجمرات في الرمي أيام التشريق بأن يبدأ بالصغرى ثم الوسطى ثم العقبة (الكبرى) عند الجمهور ويرى الحنفية أن الترتيب سنة في الرمي أيام التشريق. سنن رمي الجمار: لرمي الجمار سنن وهي مأخوذة من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله ومنها: 1 - المبادرة بالرمي لجمرة العقبة يوم النحر بعد وصوله إلى مني. 2 - أن يرمي الجمرات أيام التشريق بعد الزوال. 3 - الموالاة في رمي الحصيات في الجمرة وفي رمي الجمار الأخرى ولا يفصل بين ذلك إلا لحاجة. 4 - أن يقرب من المرمى ليتأكد من سقوط الحصى فيه.

النيابة في الرمي

5 - أن يرمي الجمرة الصغرى جاعلًا منى عن يساره ومكة عن يمينه وأن يجعل منى عن يمينه ومكة عن يساره عند رمي الوسطى وأن يرمي العقبة جاعلًا منى عن يمينه ومكة عن يساره. 6 - أن يقف بعد الجمرة الصغرى والوسطى مستقبلًا القبلة ويدعو بما شاء ولا يقف بعد جمرة العقبة. 7 - أن يرمي بيده اليمنى خذفا برؤوس أصابعه ويكبر مع كل حصاة. 8 - أن تكون الحصيات طاهرة ليس بها نجاسة. 9 - أن تكون الحصيات مثل حصى الخذف وهو أكبر من الحمص قليلًا. 10 - ألا تكون حصى الجمرات قد رمى بها. النيابة في الرمي: يجوز لولي الصغير أن يرمي عنه إذا خاف عليه الزحام، ويجوز للعاجز عن الرمي لكبر سن أو مرض أو حمل أو غير ذلك من الأعذار الشرعية أن يوكل غيره على أن يرمي الوكيل عن نفسه أولًا ثم يرمي عن موكله ولو كان في مكان واحد لم يغادره عند الجمرة كل منها على حدة. ترك الرمي للجمار: 1 - يرى الحنفية أنه يجب على الحاج دم بترك رمي الجمار كلها أو ترك يوم كامل وكذلك ترك رمي أكثر حصيات يوم منها لأن للأكثر حكم الكل. أما إن ترك الأقل من حصيات يوم فعليه صدقة، لكل حصاة نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير. 2 - ويرى المالكية أنه يلزم الحاج دم في ترك حصاة أو أكثر كما لو ترك الجميع.

4 - الهدي

3 - ويرى الشافعية والحنابلة أنه يجب الدم على من ترك الرمي كله أو ترك رمي يوم أو يومين أو ترك ثلاث حصيات من رمي أي جمرة. وعلى من ترك حصاة عند الشافعية مد طعام وفي الحصاتين مدان من الطعام. وعند الحنابلة روايات إحداها لا شيء عليه في الحصاة والحصاتين وفي رواية يجزئه ست والرواية الثالثة وهي المذهب أنه لا بد من سبع حصيات فإن قل فعليه في الحصاة طعام مسكين وفي الحصاتين طعام مسكينين (¬1). 4 - النحر لمن كان متمتعًا أو قارنًا: يجب على الحاج إذا كان متمتعًا أو قارنًا أن ينحر هديا ويسن لغيرهما تقديم الهدي. 4 - الهدي: والهدي لغة: بإسكان الدال وتخفيف الياء أو بكسر الدال مع تشديد الياء لغتان مشهورتان: وهو ما يهدى للحرم من النعم وغيرها وسمي الهدى بذلك لأنه يهدى لله تعالى. واصطلاحًا: هو ما يقدمه الحاج تقربًا إلى الله تعالى من بهيمة الأنعام (الإبل والبقر والغنم). الأصل في مشروعية الهدي: إن تقديم الهدى فيه اقتداء بإبراهيم -عليه السلام- الذي أمره الله بذبح ولده فامتثل ففداه الله بذبح عظيم وفيه شكر لله على نعمه العظيمة، ومنها أن وفقه لأداء مناسك الحج بعد أن أوصله الله إلى بيته الحرام. ¬

_ (¬1) حاشية رد المحتار لابن عابدين (3/ 545)، وبداية المجتهد (1/ 350)، ونهاية المحتاج للرملي (3/ 303)، وكشاف القناع للبهوتي/ 498.

أقسام الهدي

ومشروعية الهدي جاءت في الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36]. وقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]. وأما السنة: فما جاء في حديث جابر -رضي الله عنه- قال: "ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثًا وستين بدنة بيده ثم أمر عليًا فنحر ما غبر وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها" (¬1). وما جاء في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت ما هذا فقيل نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه" (¬2)، جاء في نيل الأوطار: "وهو دليل على الأكل من دم القران لأن عائشة كانت قارنة". وأما الإجماع: فقد جاء في بداية المجتهد (¬3): "إنهم قد أجمعوا على أن الهدي المسوق في هذه العبادة منه ما هو واجب ومنه تطوع، فالواجب منه ما هو واجب بالنذر، ومنه ما هو واجب في بعض أنواع هذه العبادة، ومنه ما هو واجب لأنه كفارة، فأما ما هو واجب في بعض أنواع هذه العبادة فهو هدي المتمتع باتفاق وهدي القارن ... ". أقسام الهدي: ينقسم الهدي إلى واجب ومستحب. أولًا: الهدي الواجب وينقسم إلى خمسة أقسام: 1 - هدي واجب للشكر وهو هدي التمتع والقران شكرًا لله تعالى على التوفيق بأداء النسكين في سفر واحد، وهذا هو ما جاء في قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ (4/ 39). (¬2) متفق عليه أخرجه البخاريُّ (2/ 211)، ومسلمٌ (2/ 876). (¬3) بداية المجتهد لابن رشد (1/ 376).

ثانيا: هدي التطوع وهو ما يتقرب به إلى الله دون سبب يلزمه.

فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] هدي واجب على من ترك واجبًا من واجبات الحج كالإحرام من الميقات ورمي الجمار والجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة وغيرها من الواجبات. 2 - هدي واجب على من ارتكب محظورًا من محظورات الإحرام غير الوطء كالتطيب والحلق. 3 - هدي واجب على من ارتكب جناية في الحرم بقتل صيده أو قطع شجرة. 4 - هدي واجب بالنذر وهو ما ينذره الحاج تقربًا لله عند البيت الحرام. ثانيًا: هدي التطوع وهو ما يتقرب به إلى الله دون سبب يلزمه. ومن ذلك هدي الحاج المفرد والمعتمر. ويستحب ذلك اقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد أهدى مائة من الإبل في حجة الوداع ويستحب لمن ساق الهدي من خارج الحرم أن يشعره ويقلده وذلك بما يعرف منه أنه هدي لئلا يتعرض له ويكون قدوة لغيره وإظهارًا لشعائر الله وذلك لفعله - صلى الله عليه وسلم - فيما أهداه إلى الحرم. قال النووي: "اتفقوا على أنه يستحب لمن قصد مكة بحج أو عمرة أن يهدي هديًا من الأنعام وينحره هناك ويفرقه على المساكين الموجودين في الحرم ... " (¬1). وقت الذبح: اختلف العلماء في ذلك على ما يأتي: 1 - يرى الحنفية أن وقت الذبح هو أيام النحر الثلاثة لهدي القران والتمتع وكذلك هدى التطوع. أما دم النذر والكفارات والتطوع فيذبح في أي وقت. 2 - ويرى المالكية والحنابلة أن وقت ذبح الهدي سواء أكان ذبح الهدي واجبًا أم تطوعًا هو أيام النحر الثلاثة: يوم العيد ويومان بعده وذلك من بعد ¬

_ (¬1) المجموع للنووي (8/ 269).

مكان الذبح

صلاة العيد إلى آخر اليوم الثاني من أيام التشريق وفي رواية عند الحنابلة أن الوقت يستمر حتى آخر اليوم الثالث من أيام التشريق. 3 - ويرى الشافعية أن وقت ذبح الهدي للتمتع والقران هو الإحرام بالحج فيجوز أن يقدمه على يوم العيد ويستمر إلى آخر أيام التشريق. فإن فات وقته ذبح الهدي الواجب قضاء. ويرى الشيخ عبد المجيد حسن: جواز ذبح هدي التمتع من حين الانتهاء من العمرة للمتمتع ويرى الشيخ عبد الله بن منيع: أنه يبدأ من الإحرام بالعمرة، ولا حد لنهايته بل يبقى دينا في ذمة الحاج حتى يؤديه ويوافقهم الشيخ عبد الرزاق عفيفي فيما يخص النهاية، وحجتهم في ذلك أنه لم يرد تحديد من الشارع حتى يتم التقيد به. جاء ذلك في القرار رقم (43) لهيئة كبار العلماء في السعودية. الراجح: نرى أن الأولى هو القول بأن وقت الذبح يبدأ بعد صلاة العيد وهو الأفضل ويمتد إلى آخر أيام التشريق الثلاثة لأن أيام التشريق كلها أيام تكبير وإفطار فكانت وقتا للنحر. مكان الذبح: يذبح الهدي سواء أكان واجبًا أم تطوعًا في الحرم وللمهدي ذبحه في أي مكان من الحرم وهو قول عامة الفقهاء وذلك لحديث: "كل منى منحر وكل المزدلفة موقف، وكل فجاج مكة طريق ومنحر" (¬1). السنة أن يذبح الحاج هديه بمنى وأما المعتمر ففي مكة. قال ابن رشد: "وبالجملة فالنحر بمنى إجماع العلماء وفي العمرة بمكة" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1/ 597)، وابن ماجه (2/ 1013). (¬2) بداية المجتهد لابن رشد (1/ 378).

كيفية النحر والذبح

كيفية النحر والذبح: يستحب أن يقول عند نحر الهدي أو ذبحه: "بسم الله والله أكبر اللَّهم هذا منك ولك" ويوجهه إلى القبلة والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى. وذبح البقر والغنم على جنبها الأيسر ويستحب أن ينحر بنفسه ويجوز له التوكيل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر بعضها بنفسه ووكل على باقيها. حكم الأكل من الهدي: 1 - يتفق الفقهاء على جواز الأكل من هدي التطوع إذا بلغ محله، قال ابن رشد (¬1): "وأجمعوا أن هدي التطوع إذا بلغ محله أنه يأكل منه صاحبه كسائر الناس وأنه إذا لم يبلغ محله خلى بينه وبين الناس ولم يأكل منه". 2 - يرى جمهور الفقهاء أن للحاج أن يأكل من لحم هدي التمتع والقران. ويرى الشافعية أنه لا يجوز له الأكل من هدي التمتع والقران لأنهما واجبان فهما خاصان بفقراء مكة. الراجح: نرى أن الأولى هو القول بجواز الأكل من هدي التمتع والقران لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]. 3 - الهدى الواجب بترك واجب من واجبات الحج يرى الجمهور أنه لا يجوز الأكل منه ويرى المالكية أنه يجوز الأكل منه. 4 - اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز الأكل من الهدي الذي وجب عليه بسبب ارتكابه محظورًا من محظورات الإحرام أو بسبب التعدي على صيد الحرم وقطع شجره وحشيشه أو بسبب النذر وأن هذه خاصة بفقراء الحرم. ¬

_ (¬1) بداية المجتهد لابن رشد (1/ 379).

مقدار ما يؤكل من الهدي

مقدار ما يؤكل من الهدي: يستحب للمهدي الذي يجوز له الأكل من هديه أن يقسمها أثلاثًا: فيأكل الثلث، ويهدي الثلث ويتصدق بالثلث. ولا يجوز أن يعطى الجزار الأجرة من الهدي لقول علي -رضي الله عنه-: "أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بدنة وأقسم جلودها وجلالها، وأمرني ألا أعطي الجزار شيئًا منها، وقال: نحن نعطيه من عندنا" (¬1). شروط الهدي: يشترط في الهدي ما يأتي: 1 - أن يكون من بهيمة الأنعام (الإبل والبقر والغنم). والإبل الواحد منها والبقرة تقوم مقام سبع شياه. قال جابر -رضي الله عنه-: "حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنحرنا البعير عن سبعة والبقرة عن سبعة" (¬2). 2 - أن يكون الهدي سليما خاليًا من العيوب التي تمنع الإجزاء وهي المريضة البين مرضها، والعوراء البين عورها والعرجاء البين عرجها. 3 - أن يكون سن الهدي من الإبل خمس سنين ومن البقر سنتين ومن المعز سنة ومن الضأن الجذع وهو ماله ستة أشهر (¬3). 5 - الحلق أو التقصير: الحلق: إزالة شعر الرأس كله بالموسي. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2/ 210)، ومسلمٌ (2/ 954). (¬2) أخرجه مسلمٌ (2/ 955). (¬3) بدائع الصنائع للكاساني (3/ 1201)، وبداية المجتهد لابن رشد (1/ 376)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 430)، وكشاف القناع للبهوتي (2/ 529)، وانظر الحج والعمرة أ. د. عبد الله الطيار (ص: 135).

حكم الحلق أو التقصير

التقصير: أخذ جزء من شعر الرأس كله أو بعضه بالمقص ونحوه. الأصل في مشروعية الحلق أو التقصير: الأصل في ذلك الكتاب والسنة والإجماع. فأما الكتاب: فقوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27]. وأما السنة فأحاديث منها: ما جاء عن عبد الله ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللَّهم ارحم المحلقين"، قالوا والمقصرين يا رسول الله قال: "اللَّهم ارحم المحلقين"، قالوا والمقصرين يا رسول الله، قال: "والمقصرين" (¬1). وأما الإجماع: فقال في الإفصاح: "وأجمعوا على أن الحلق مشروع للرجال المحرمين، وأنه واجب عليهم أو التقصير، وأن الحلق أفضل" (¬2). حكم الحلق أو التقصير: 1 - ذهب أكثر العلماء ومنهم الحنفية والمالكية ورواية عند الحنابلة والشافعية إلى أن الحلق أو التقصير نسك واجب يتعبد به في الحج وأنه يجبر تركه بدم. 2 - وذهب الشافعي في المشهور عنه إلى أن الحلق أو التقصير ركن من أركان الحج لا يجبره الدم. 3 - وذهب الشافعي وأحمدُ في رواية لكل منهما إلى أن الحلق أو التقصير استباحة محظور لا يترتب على تركه شيء ويحصل الحل بدونه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ (2/ 945). (¬2) الإفصاح لابن هبيرة (1/ 279).

الأدلة: استدل الجمهور ومن يقول إن الحلق أو التقصير نسك في الحج أو العمرة بما يأتي: أ- قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27]. فالله تعالى وصفهم به ولو لم يكن من المناسك لما وصفهم به. ب- ومن السنة حديث جابر -رضي الله عنه- قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أحلوا من إحرامكم بطواف البيت وبين الصفا والمروة وقصروا" (¬1) وأمره يقتضى الوجوب. واستدل من قال إن الحلق أو التقصير ليس بنسك وإنما هو إطلاق من محظور كان محرمًا عليه بالإحرام: أ- حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "بم أهللت؟ " قلت: لبيك بإهلال كإهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أحسنت "وأمرني فطفت بالبيت وبين الصفا والمروة" ثم قال لي: "أحل" (¬2) وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالحل من العمرة قبل الحلق. ولأن ما كان محرمًا في الإحرام إذا أبيح كان إطلاقًا من محظور كسائر محرماته. الراجح: نرى أن القول بأن الحلق أو التقصير نسك واجب هو الصحيح لما جاء في أدلة الجمهور ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترحم على المحلقين ثلاثًا وعلى المقصرين مرة ولو لم يكن من المناسك لما دخله التفضيل ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله وأصحابه فعلوه من بعده في جميع حجهم وعمرهم ولو لم يكن نسكًا لما داوموا عليه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ (2/ 886). (¬2) أخرجه البخاريُّ (2/ 212)، ومسلمٌ (2/ 896).

القدر المطلوب في الحلق أو التقصير

القدر المطلوب في الحلق أو التقصير: اتفق الفقهاء على أن الحلق أفضل من التقصير إلا في حق المتمتع فالأولى له أن يقصر عند التحلل من العمرة إذا كانت العمرة في العشر ليؤخر الحلق للحج. واتفقوا أن الحلق خاص بالرجال دون النساء وأن عليهن الأخذ من الشعر قدر أنملة. واختلفوا في المقدار المطلوب في الحلق أو التقصير: 1 - يرى الحنفية أنه يكفي في الحلق أو التقصير أن يأخذ ربع الرأس. 2 - ويرى المالكية والحنابلة أن الواجب حلق جميع الرأس أو تقصيره. 3 - يرى الشافعية أنه يكفي إزالة ثلاث شعرات أو تقصيرها. الأولى: أن حلق جميع الرأس أو تقصيره أولى لأنه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من بعده. زمان الحلق ومكانه: 1 - يرى الجمهور أن الحلق أو التقصير لا يختص بزمان ولا مكان. لكن السنة فعله في الحرم أيام النحر. 2 - وذهب الحنفية إلى أن الحلق أو التقصير يختص بأيام النحر وبمنطقة الحرم. فلو أحل بأي منهما فعليه دم ويحصل له التحلل بالحلق في غيرهما. ترتيب أعمال يوم النحر وموقع الحلق أو التقصير بينها: الأفضل للحاج أن يرتب أعمال يوم النحر كما يأتي: 1 - الرمي. 2 - النحر للمتمتع أو القارن لأن المفرد ليس عليه هدي واجب.

3 - الحلق أو التقصير. الحلق أفضل اقتداءً بالرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث حلق وحث أصحابه على الحلق وهو تأكيد لانتهاء مدة الإحرام بالتحلل الأول بحيث يحل له كل شيء إلا النساء. 4 - الطواف. وذلك للحديث الذي رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمي جمرة العقبة يوم النحر ثم رجع إلى منزله بمنى فدعا بذبح فذبح ثم دعا بالحلاق فأخذ بشق رأسه الأيمن فحلقه فجعل يقسم بين من يليه الشعرة والشعرتين ثم أخذ بشق رأسه الأيسر فحلقه" (¬1)، قال ابن رشد (¬2): "وأجمع العلماء على أن هذا سنة الحج"، ويستحب للأصلع وهو من لا شعر له أن يمر الموسي على رأسه قال ابن المنذر: "أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الأصلع يمر الموسي على رأسه عند الحلق" (¬3). ويرى أبو حنيفة أن إمرار الموسى على رأسه واجب. وإذا قدم نسكًا منها على نسك فلا شيء عليه عند أكثر العلماء وذلك لحديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: قال رجل: يا رسول الله، حلقت قبل أن أذبح؟ قال: "اذبح ولا حرج". فقال آخر: ذبحت قبل أن أرمي؟ قال: "ارم ولا حرج" (¬4). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قيل له يوم النحر وهو بمنى: في النحر والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: "لا حرج" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (4/ 82). (¬2) بداية المجتهد لابن رشد (1/ 352). (¬3) الإجماع لابن المنذر (ص: 75). (¬4) أخرجه البخاريُّ (1/ 31)، ومسلمٌ (2/ 948). (¬5) أخرجه البخاريُّ (2/ 214)، ومسلمٌ (2/ 214)، ومسلمٌ (2/ 950).

6 - المبيت بمنى ليالي أيام التشريق (*)

ويرى أبو حنيفة أنه إن لم يراع الترتيب فقدم نسكا على نسك فعليه دم وذلك لأن قوله في الحديث: "لا حرج" يفيد رفع الإثم دون الفدية. وفي رواية عن أحمد أنه إن كان الحاج الذي قدم نسكًا على نسك عالمًا بالترتيب وخالف ذلك متعمدًا فإن عليه دم. لأن رفع الحرج إنما هو عن الناسي والجاهل وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رتب وقال: "لتأخذوا عني مناسككم" (¬1). ويرى مالك أنه إن قدم الحلق على الرمي فعليه دم أما غيره فلا شيء عليه وذلك لأن الحاج ممنوع من حلق شعره قبل التحلل الأول ولا يحصل إلا برمي جمرة العقبة (¬2). 6 - المبيت بمنى ليالي أيام التشريق (*): مني شعب بين جبال، ويقصد بذلك أن يقضي الحاج بمنى معظم الليل في تلك الليالي. حكم المبيت بمنى: إذا فرغ الحاج من أعمال يوم النحر الرمي والنحر والحلق أو التقصير ثم طواف الإفاضة فإنه يرجع إلى منى ويبيت فيها ليلتين إن تعجل النفر أو ثلاثًا إن تأخر وهو أفضل وذلك لقوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203]. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ (2/ 943). (¬2) بدائع الصنائع للكاسانى (3/ 1126)، وبداية المجتهد لابن رشد (1/ 352)، وروضة الطالبين (ص: 397)، والإنصاف للمرداوي (9/ 203). (*) سميت أيام منى أيام التشريق لأن الناس يشرقون فيها لحوم الهدي والأضاحي في الشمس.

الأعذار المبيحة لعدم المبيت بمنى

وقد اختلف الفقهاء في حكم المبيت بمنى وما يترتب عليه وذلك على النحو الآتي: 1 - ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن المبيت بمنى واجب يلزم من تركه فدية دم سواء ترك ليلة أو أكثر. واستدلوا بفعله - صلى الله عليه وسلم - حيث بات بمنى ليالي أيام التشريق. 2 - وذهب الحنفية إلى أنه سنة قالوا لأنه رخص للعباس أن يبيت بمكة للسقاية ولو كان واجبًا لم يرخص له وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - محمول على السنة، فترك المبيت مخالفة للسنة وإساءة لكنها لا توجب دمًا وقد روي ذلك عن أحمد. الأعذار المبيحة لعدم المبيت بمنى: يسقط المبيت عن المريض أو من يقوم على شؤونه وكذا عن المرابطين في المهمات الرسمية التي تتعلق بمصالح الحجاج وذلك لأن العباس -رضي الله عنه- "استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته" (¬1). وقد روي مالك بإسناده عن أبي البداح بن عاصم عن أبيه قال: "رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرعاء الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النحر ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر يرمونه في أحدهما. قال مالك: ظننت أنه قال: في أول يوم منهما، ثم يرمون يوم النفر" (¬2). فالنبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لهؤلاء، وغيرهم من أهل الأعذار يلحقون بهم لوجود المعنى الذي رخص للسقاة والرعاة فيهم (¬3)، وقد صدر قرار هيئة كبار العلماء في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (2/ 191)، ومسلمٌ (2/ 953). (¬2) أخرجه أبو داود (1/ 456)، والترمذيُّ (4/ 179) عارضة الأحوذي. (¬3) بدائع الصنائع للكاساني (3/ 1170)، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2/ 49)، ونهاية المحتاج للرملي (3/ 309)، والشرح الكبير على المقنع (9/ 236).

7 - طواف الوداع

السعودية رقم (163) بجواز بيات العاملين في مشروع الإفادة من الهدي والأضاحي ويعملون ليلًا خارج منى إلحاقًا لهم بالسقاة والرعاة الذين رخص لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. 7 - طواف الوداع: يسمى طواف الوداع لأنه لتوديع البيت ويسمى طواف الصدر لأنه عند صدور الناس من مكة ويكون بالطواف سبعة أشواط. وقت طواف الوداع: يكون بعد فراغ الحاج من جميع أمور الحج وأموره الخاصة ليكون آخر عهده بالبيت وذلك لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت" (¬1) إلا أنه خفف عن المرأة الحائض. وإذا طهرت الحائض قبل أن تغادر مكة المكرمة لزمها طواف الوداع، ويرى الحنفية أن الحاج لو طاف للوداع ثم تأخر ولو أيامًا فإنه لا يجب عليه طواف الوداع لأن المراد أن يكون آخر عهده بالبيت نسكًا لا إقامة ولكنه يستحب له تأخيره إلى السفر، على حين يرى الجمهور أنه لا بد أن يباشر السفر ولا بأس من اشتغاله بأسباب السفر كشراء الزاد ونحو ذلك. حكم طواف الوداع: اتفق الفقهاء على أن أهل مكة ليس عليهم طواف وداع، ثم اختلفوا في حكم طواف الوداع لمن هو خارج مكة (الآفاقي) على ما يأتي: - ذهب الجمهور من الحنفية والحنابلة وهو الأظهر عند الشافعية إلى أن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (2/ 220)، ومسلمٌ (2/ 963).

سنن الحج

طواف الوداع واجب وذلك لحديث ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض" (¬1). وما جاء في صحيح مسلم كان الناس ينصرفون من كل وجه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينصرف أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت" (¬2) فإذا لم يؤد طواف الوداع وسافر فعليه دم لتركه واجب الطواف للوداع. 2 - وذهب المالكية وهو قول للشافعية وداود إلى أنه سنة لا يجب بتركه شيء لأنه يسقط عن الحائض ولو كان واجبًا لم يجز للحائض تركه ولأنه كتحية المسجد أشبه طواف القدوم ويحمل ما جاء في الحديث على أنه من باب السنية والاستحباب. سنن الحج: للحج سنن كثيرة وهي مأخوذة من هدى النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله ومنها: أولًا: طواف القدوم: وهو الطواف الذي يؤديه من قدم إلى مكة من خارجها وهو سنة عند الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة ويسمى طواف الورود وطواف التحية لأنه شرع للقادم والوارد من غير مكة لتحية البيت. وذهب المالكية إلى أن طواف القدوم واجب من تركه لزمه الدم. والأصل في مشروعية طواف القدوم ما ثبت في حديث جابر قال: "حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا" (¬3). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص: 48). (¬2) أخرجه مسلمٌ (2/ 963). (¬3) أخرجه البيهقيُّ (5/ 111) دائرة المعارف العثمانية.

وقت طواف القدوم

وعن عائشة -رضي الله عنها-: "أن أول شيء بدأ به حين قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة أنه توضأ ثم طاف ... " (¬1). وقت طواف القدوم: يبدأ وقت طواف القدوم حين دخول مكة المكرمة ويستحب أن يبادر به قبل عمل أي شيء؛ لأنه تحية للبيت العتيق، وآخر وقته وقوف الحاج بعرفة؛ لأنه بعد الوقوف مطالب بطواف الزيارة (الإفاضة). ثانيًا: خطب الإِمام: 1 - يرى الحنفية والمالكية أنها سنة في ثلاثة مواضع: أ- اليوم السابع من ذي الحجة بمكة المكرمة وذلك لكي يعلم الناس مناسكهم لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان قبل يوم التروية بيوم خطب الناس فأخبرهم بمناسكهم" (¬2). ب- يوم عرفة قبل الصلاة كما ثبت ذلك في حديث جابر وغيره يبين لهم المناسك ويحثهم على التضرع والإكثار من الدعاء كما يبين للناس ما يهمهم من شؤون دينهم وصلاح أحوالهم. ج- الخطبة يوم الحادي عشر بمنى ويبين لهم ما يهمهم من أمور حجهم وما فيه صلاح الأمة الإِسلامية ووحدة كيانها. 2 - ويرى الشافعية والحنابلة أن الخطب أربع هي ما ذكر والرابعة في منى ثاني أيام التشريق يعلمهم فيها جواز النفر ويودعهم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (2/ 584)، ورقمه (1536). (¬2) أخرجه البيهقيُّ (5/ 111) دائرة المعارف العثمانية.

ثالثا: المبيت بمنى ليلة عرفة

وتؤدى الخطب الثلاث كل واحدة منها بخطبة واحدة بعد صلاة الظهر، أما خطبة يوم عرفة فإنها تكون بخطبتين بينهما جلسة خفيفة كخطبة الجمعة وتكون بعد الزوال قبل الصلاة، ويفتتح الخطبة بالتلبية إن كان محرمًا وبالتكبير إن لم يكن محرمًا. ثالثًا: المبيت بمنى ليلة عرفة: يسن للحاج أن يخرج من مكة إلى منى يوم التروية بعد طلوع الشمس، فيصلي فيها خمس صلوات، الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، وذلك سنة باتفاق الفقهاء لما ثبت في حديث جابر: "فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر". رابعًا: السير من منى إلى عرفة: يسن السير من منى إلى عرفة صباحًا بعد طلوع الشمس، وذلك لفعله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث جابر: "ثم مكث قليلًا حتى طلعت الشمس". خامسًا: المبيت بمزدلفة إلى طلوع الفجر: وبعد طلوع الفجر يصلي صلاة الفجر ثم يقف في المشعر الحرام متضرعًا مبتهلًا يدعو حتى يسفر جدًا ثم يدفع إلى منى. سادسًا: الحلق بعد الرمي والنحر يوم العيد: لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهم اغفر للمحلقين" قالها ثلاثًا (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ (2/ 945).

سابعا: الشرب من ماء زمزم والتضلع منه.

سابعًا: الشرب من ماء زمزم والتضلع منه (¬1). اتباعًا لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد شرب من زمزم وقال: "ماء زمزم لما شرب له" (¬2). الإحصار والمنع من أداء الحج أو العمرة أو بعض أركانهما: تعريف الإحصار: في اللغة له معان منها المنع والحبس قال أبو عبيدة: حصر الرجل في الحبس وأحصر في السفر من مرض أو انقطاع به (¬3). وفي اصطلاح الفقهاء: هو المنع من إتمام أركان الحج أو العمرة (¬4). الأصل في مشروعية التحلل عند الإحصار والمنع: الأصل في ذلك الكتاب والسنة، وقد ورد في حادثة الحديبية حين خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة يريد العمرة فمنعه كفار قريش من دخول مكة وتم الصلح بين المسلمين وقريش على أن يرجعوا هذا العام ويعتمروا من العام القادم فنزل قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]. وأما السنة: فحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فحال كفار قريش دون البيت فنحر النبي - صلى الله عليه وسلم - هديه وحلق رأسه" (¬5). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني (3/ 1135)، والشرح الكبير (2/ 44)، والمجموع (8/ 129)، والمقنع لابن قدامة (9/ 257). (¬2) أخرجه ابن ماجه (3062) قال في إرواء الغليل: صحيح بمجموع طرقه (4/ 320). (¬3) لسان العرب لابن منظور مادة: "حصر". (¬4) نهاية المحتاج للرملي (3/ 362). (¬5) أخرجه البخاريُّ (2/ 169)، ومسلمٌ (2/ 903).

كيفية الإحصار

كيفية الإحصار: اختلف العلماء في السبب الذي يكون الاحصار متحققا به: 1 - فذهب الحنفية وهو قول عطاء والنخعي والثوري ورواية عن أحمد وهو قول ابن مسعود إلى أن الإحصار يتحقق بمنع العدو لمن أراد الحج أو العمرة من دخول مكة أو من إتمام أركانهما ويتحقق الإحصار بالمرض وذهاب النفقة أو الحبس بأي عذر مانع لأداء النسك أو إتمام أركانه. 2 - وذهب المالكية والشافعية وهو رواية عن أحمد وهو قول ابن عمر وابن عباس إلى أن الإحصار إنما يتحقق بمنع العدو فقط. الأدلة: 1 - استدل أصحاب القول الأول: أ- قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، فهو يشمل المنع والصد عن البيت الحرام بالمرض أو منع العدو. ب- حديث عكرمة قال: سمعت الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل" (¬1) قال عكرمة: سألت ابن عباس وأبا هريرة عن ذلك فقالا: صدق. وفي رواية عند أبي داود وابن ماجه (¬2): "من كسر أو عرج أو مرض ... ". جـ- أن من منع من البيت بالمرض ونحوه فهو مصدود عن البيت أشبه صد العدو وهو قياس جلي حتى جعله بعض الحنفية أولويًا. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2/ 173)، والترمذيُّ (3/ 277)، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، والنسائيُّ (5/ 198)، وابن ماجه (1/ 1028). (¬2) أخرجه أبو داود (2/ 173)، وابن ماجه (1/ 1028).

الإحصار والمنع بسبب الحبس والسجن

2 - واستدل أصحاب القول الثاني: أ- أن قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، إنما نزلت في إحصار النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعدو عام الحديبية. وأن الإحصار بالمرض وغيره يشمله قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، فعليه أن يتم حجه أو عمرته ولا يكون محصرًا. ب- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لضباعة بنت الزبير: "حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني" (¬1) فلو كان المرض يبيح الحل ما احتاجت إلى شرط. جـ- أن المحصر بالمرض لا يتخلص بالتحلل من الأذى الذي هو فيه، كمن ضل الطريق. الراجح: يتبين من الأدلة التي ذكرناها رجحان ما ذهب إليه أصحاب القول الأول فإن الإحصار يتحقق بالعدو وبالمرض ونحو ذلك من الأعذار الشرعية. والآية وإن كانت نزلت في الحديبية فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وفقًا للقاعدة الشرعية المعروفة. الإحصار والمنع بسبب الحبس والسجن: سجن الحاج أو المعتمر بعد دخوله في الإحرام: 1 - ذهب الحنفية إلى أن المنع من الحج والعمرة بسبب السجن يعد سببًا للإحصار ويجوز له التحلل من الإحرام بعد ذبح الهدي (¬2). 2 - وذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه إن كان الحبس ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ (2/ 868). (¬2) المسلك المتقسط لعلي القاري (ص: 273).

أنواع الإحصار

بغير حق أو كان مدينًا ثبت إعساره فإنه يكون محصرًا وإن حبس بحق يمكنه الخروج منه فلا يجوز له التحلل ولا يكون محصرًا (¬1). الراجح: نرى أن الراجح أن السجن يعتبر سببًا للإحصار سواء كان بحق أو بغير حق فهو قد منع من إكمال أركان الحج والعمرة. وقد يكون في السجن بحق مصلحة للمسلمين كمن سرق أو إرتكب جرمًا فيبعد عن الناس اتقاءً لشره وهو يحل لعدم تمكنه من أداء ركن ما أحرم به. أنواع الإحصار: أولًا: الإحصار عن الوقوف بعرفة وعن طواف الإفاضة: وهذا يعد محصرًا عند الفقهاء. ثانيًا: الإحصار عن الوقوف بعرفة دون الطواف. وقد اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فذهب الحنفية وهو رواية عن أحمد إلى أنه غير محصر وأنه يستطيع التحلل بعمرة كمن فاته الحج ولا دم عليه ولا قضاء. 2 - وذهب المالكية والشافعية إلى أنه يعد محصرًا وعليه التحلل بعمرة لكن يجب عليه دم الإحصار. ثالثًا: الإحصار عن طواف الإفاضة (الزيارة): 1 - ذهب الحنفية والمالكية إلى أنه لا يكون محصرًا لأنه قد أمن فوات الحج بوقوفه بعرفة ويعمل أعمال الحج ويظل محرمًا لا يحل إلا بالتحلل الثاني وهو ¬

_ (¬1) مواهب الجليل للخطاب (3/ 195)، ونهاية المحتاج (3/ 362)، والشرح الكبير على المقنع لابن قدامة (9/ 312).

شروط تحقق الإحصار

الطواف لأن وقته واسع يمكنه أداؤه بعد زوال سبب الإحصار. 2 - وذهب الشافعية في الأظهر عندهم والحنابلة إلى أن من منع مكة دون عرفة فإنه يقف بعرفة وعليه دم ثم يتحلل ولا قضاء عليه. شروط تحقق الإحصار: يفهم من كلام الفقهاء في الإحصار أن له شروطًا هي: 1 - أن يكون قد أحرم بحج أو عمرة أو بهما معا. أما قبل الإحرام فلا شيء عليه لأنه لم يدخل في النسك. 2 - ألا يكون قد وقف بعرفة قبل حصول المانع وهذا عند الحنفية والمالكية. وعند الشافعية والحنابلة يتحقق الإحصار عن الطواف. 3 - أن يتيقن أو يغلب على ظنه عدم زوال المانع قبل فوات الحج وهذا نص عليه المالكية والشافعية. 4 - يضيف المالكية شرطًا آخر هو: ألا يعلم حين إحرامه بالمانع من إتمام الحج أو العمرة. فإن علم فليس له التحلل ويبقى على إحرامه حتى يحج في العام القابل إلا أن يظن أنه لا يمنعه فمنعه فله أن يتحلل كما وقع للنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث أحرم بالعمرة عام الحديبية عالمًا بالعدو ظانًا أنه لا يمنعه فمنعه فلما منعه تحلل. أحكام الإحصار: 1 - ذبح الهدي: وقد ذهب الجمهور إلى وجوب ذبح الهدي كي يتحلل المحرم من إحرامه كما جاء في عام الحديبية. ويجزئ في هذا الهدي ما يجزئ في هدي التمتع والقران والأضحية من كونها شاة من بهيمة الأنعام أو سبع بدنة أو بقرة ومن حيث السن

مكان ذبح هدي الإحصار

والسلامة من العيوب والأمراض. فإن لم يجد هديًا فإن عليه الصوم عشرة أيام قياسًا على هدي التمتع. وذهب المالكية إلى أن المحصر لا يجب عليه هدي كي يتحلل، وإنما هو سنة فإنه لم يكن مع كل المحصرين في الحديبية هدي وما ذبحه النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ساقه من المدينة المنورة. مكان ذبح هدي الإحصار: يتفق الحنفية والشافعية والحنابلة على أن الهدي يذبح في أي وقت سواء كان هدي حج أو عمرة. أما مكان ذبحه فقد اختلف فيه الفقهاء: 1 - يرى الجمهور أن الهدي يذبح في مكان الإحصار من حل أو حرم. 2 - ويرى الحنفية أنه لا ينحره إلا في الحرم ولا يحل إلا بنحره فيه (¬1). الراجح: أنه يذبحه في مكانه من حل أو حرم لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية ولأنه لو حدد في الحرم وتعذر ذبحه فيه لتعذر الحل ولشق على الحاج والمعتمر البقاء على إحرامه وذلك ينافي التيسير ورفع الحرج. 2 - الحلق أو التقصير: وقد اختلف الفقهاء في ذلك: أ- فذهب الحنفية والمالكية وهو قول عند الحنابلة إلى أن الحلق ليس بشرط لتحلل المحصر من الإحرام. ¬

_ (¬1) فتح القدير لابن همام (2/ 295)، ومواهب الجليل للخطاب (3/ 195)، ونهاية المحتاج للرملي (3/ 362)، والشرح الكبير على المقنع لابن قدامة المقدسي (9/ 312)، وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية كلمة: "إحصار".

3 - التحلل

ب- وذهب الشافعية وهو قول عند الحنابلة إلى أن الحلق أو التقصير شرط للتحلل وذلك لفعله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية فإنه حلق وأمر أصحابه أن يحلقوا. 3 - التحلل: وهو فسخ الإحرام والخروج منه. قضاء النسك المتحلل منه بسبب الإحصار من حج أو عمرة: اتفق الفقهاء على أنه يجب على المحصر قضاء الحج أو العمرة الذي أحصر عنه إذا كان واجبًا كحجة الإِسلام، والحج والعمرة المنذورين، وكعمرة الإِسلام عند الشافعية والحنابلة والقضاء ليس بسبب الإحصار وإنما بأصل الوجوب. أما نسك التطوع من حج أو عمرة فقد اختلف في ذلك الفقهاء على النحو الآتي: 1 - فذهب الجمهور إلى أنه لا يجب عليه القضاء وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أحدًا من أصحابه أن يقضوا عام الحديبية. 2 - وذهب الحنفية وهو رواية عن أحمد إلى أنه يجب قضاء النفل الذي أحصر عنه المحرم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى العمرة عام الحديبية في السنة التي بعدها ولذلك سميت عمرة القضاء (¬1). الراجح: نرى أن الراجح أن لا قضاء على المحصر في حج أو عمرة النفل وذلك لأنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر من كان معه وهم ألف وأربعمائة بقضاء العمرة حيث لم يعتمر معه في العام القابل إلا نفر قليل أما كونها سميت عمرة ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني (3/ 1206)، ومواهب الجليل للخطاب (2/ 205)، ونهاية المحتاج للرملي (3/ 363)، والإنصاف للمرداوي مع الشرح الكبير على المقنع (9/ 321).

حكم من توفي أثناء إحرامه بالحج أو العمرة

القضاء فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاضى قريشًا وصالحهم في ذلك العام على الرجوع إلى المدينة دون دخول مكة. حكم من توفي أثناء إحرامه بالحج أو العمرة: اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فذهب بعضهم إلى أنه إن كان حجه فريضة فإنه يُقضَى ما بقي عليه من مناسك الحج أو العمرة عند من يقول بوجوبها لأنه يجب عليه أن يتم ما بدأ به من واجب الحج أو العمرة. 2 - وذهب آخرون إلى أنه لا يقضى عنه ما بقي عليه من المناسك وهذا هو الراجح. لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في قصة الرجل الذي وقصته دابته وهو واقف بعرفة. فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه ولا تحنطوه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا" (¬1) ولم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقضى عنه ما بقي من نسكه. الموالاة بين الطواف والسعي: تكلم الفقهاء من المالكية والحنابلة والشافعية في قول لهم عن الموالاة بين أشواط الطواف وأنها شرط لصحة الطواف لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والى بين طوافه وقال: "خذوا عني مناسككم" (¬2) ولأن الطواف بالبيت صلاة فكانت الموالاة مطلوبة فيه ولا يضر الفصل اليسير كالصلاة ونحوها ويبني على ما مضى. وإن طال الفصل ابتدأ الطواف من جديد ويحدد العرف الفصل طولًا وقصرًا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ برقم (1265) من كتاب الجنائز؛ ومسلمٌ برقم (93) من كتاب الحج. (¬2) أخرجه البيهقيُّ في السنن الكبرى (5/ 125) ط. مجلس دائرة المعارف.

زيارة مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) في المدينة المنورة

وقال الحنفية والشافعية في الأصح عندهم أن الموالاة سنة لأنه - صلى الله عليه وسلم - والى طوافه. كما يشترط المالكية والحنابلة في روايةٍ الموالاة بين أشواط السعي ولا يضر الفصل اليسير كالصلاة ونحوها. ويرى الحنفية والشافعية أن الموالاة بين أشواط السعي ليست شرطًا وإنما هي مستحبة (¬1). وأما الموالاة بين الطواف والسعي فلم نعثر على قول للفقهاء فيه ولكن يمكن أن نقول: أن كلًا منهما نسكًا مستقلًا عن الآخر ولا بأس بالفصل المناسب بينهما إما لصلاة أو استراحة ونحو ذلك بسبب عذر شرعى من مرض ونحوه. والله أعلم. زيارة مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) في المدينة المنورة: المدينة المنورة هي مهاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعاصمة الإِسلام الأولى وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة منها: 1 - حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها" (¬2). 2 - حديث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يصبر أحد على لأوائها وشدتها إلا كنت شفيعًا له يوم القيامة" (¬3). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني (3/ 1104)، وحاشية الدسوقي (2/ 32)، ونهاية المحتاج (3/ 287)، والمغني لابن قدامة (5/ 248). (¬2) أخرجه البخاريُّ (3/ 21). (¬3) أخرجه مسلمٌ (2/ 1003).

دخول الزائر مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم)

وزيارة مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - مشروعة في كل العام وليست من الحج لكن ينبغي لمن قدم للحج من خارج المملكة أن يزور المسجد النبوي لأنه قد لا يتمكن من زيارته وقتًا آخر فيدرك بذلك فضيلة الصلاة فيه، وقد دل على مشروعية زيارة المسجد أحاديث كثيرة منها: 1 - ما روته عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا خاتم الأنبياء ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء أحق المساجد أن يزار وتركب إليه الرواحل" (¬1). 2 - روى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" (¬2). 3 - روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" (¬3). 4 - روى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا، والمسجد الأقصي" (¬4). دخول الزائر مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم): إذا وصل الزائر إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استحب له أن يقدم رجله اليمنى حال دخوله ويقول: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله اللَّهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك ثم يصلي في الروضة الشريفة إن تمكن لشرفها وفضلها. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ (4/ 25). (¬2) أخرجه البخاريُّ (2/ 76)، ومسلمٌ (4/ 125). (¬3) أخرجه البخاريُّ (3/ 49)، ومسلمٌ (4/ 123). (¬4) أخرجه البخاريُّ (2/ 76)، ومسلمٌ (4/ 46).

زيارة قبر الرسول (صلى الله عليه وسلم)

زيارة قبر الرسول (صلى الله عليه وسلم): بعد الصلاة يتجه إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقف أمامه بكل أدب ووقار ويقول دون رفع الصوت السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته اللَّهم صل على محمَّد وعلى آل محمَّد كما صليت على آل إبراهيم أنك حميد مجيد وبارك على محمَّد وعلى آل محمَّد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أشهد أنك رسول الله حقًا وأنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة وجاهدت في الله حق جهاده، فجزاك الله عن أمتك أفضل ما جزى نبيًا عن أمته. ثم يتقدم قليلًا ويسلم على أبي بكر الصديق ويترضى عنه ويدعو له ثم يتقدم قليلًا ويسلم على عمر بن الخطاب ويترضى عنه ويدعو له، ولا يجوز أن يتمسح بحائط القبر ولا أن يقبله ولا أن يطوف به وإذا أراد الدعاء فعليه أن يستقبل القبلة لأن العبادات مبناها على الاتباع فقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تجعلوا بيوتكم قبورًا ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" (¬1). زيارة مسجد قباء والصلاة فيه: ويستحب زيارة مسجد قباء والصلاة فيه قال تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108]. وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يأتيه كل سبت ويصلي فيه ركعتين (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من تطهر في بيته فأحسن الطهور، ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان له كأجر عمرة" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1/ 622) ورقمه (2042) في كتاب الحج. (¬2) أخرجه البخاريُّ (3/ 169) الفتح الطبعة السلفية، ومسلمٌ في كتاب الحج ورقمه (520). (¬3) أخرجه أحمد، والنسائيُّ، وابن ماجه.

زيارة البقيع

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الصلاة في مسجد قباء كعمرة" (¬1). زيارة البقيع: دفن في البقيع كثير من الصحابة ومنهم عثمان بن عفان وبنات النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعض زوجاته -رضي الله عنهم - جميعًا فيسن زيارة البقيع والسلام على أهل البقيع، وزيارة القبور بالطريقة المشروعة سنة لحديث بريدة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" (¬2). والزيارة إنما تكون للسلام عليهم والدعاء لهم جزاء ما قاموا به من نصرة للإسلام ولا يجوز أن يدعى أحد منهم أو يتبرك بقبره أو يقصد بطلب الحوائج فإن ذلك من مظاهر الشرك ووسائله. زيارة شهداء غزوة وجبل أحد: يستحب أن يقوم القادم إلى المدينة المنورة بزيارة جبل أحد والسلام على الشهداء من الصحابة ومنهم حمزة بن عبد المطلب عم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد جاء في جبل أحد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "جبل يحبنا ونحبه" (¬3). وقد زار الرسول - صلى الله عليه وسلم - الشهداء ودعا لهم. زيارة المسجد الأقصى: ومما يحسن الحديث عنه زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه وهو ثالث المساجد الثلاثة التي ورد فيها حديث أبي سعيد الخدري في شد الرحال إليها وهي مسنونة -خلصه الله من دنس اليهود الحاقدين- فإن الصلاة فيه عن خمسمائة صلاة فيما سواه عدا المسجد الحرام والمسجد النبوي، لما روى البزار والطبرانيُّ من حديث أبي الدرداء رفعه: "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذيُّ وقال: حديثٌ حسنٌ. (¬2) أخرجه مسلمٌ (3/ 1564). (¬3) أخرجه البخاريُّ من حديث ابن عباس الفتح (3/ 344).

حرم المدينة

مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة" (¬1) قال ابن تيمية إنه الصواب (¬2). حرم المدينة: اختلف الفقهاء في حرم المدينة على قولين: 1 - ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن المدينة المنورة حرم له حدود وأحكام تختلف عن غيرها من البقاع كما تختلف عن حرم مكة المكرمة في بعض الأحكام، وذلك لما ورد من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة" (¬3). وحديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المدينة حرم من كذا إلى كذا لا يقطع شجرها ولا يحدث فيها حدث، من أحدث فيها حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" (¬4). وحديث: "إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها, لا يقطع عضاهها, ولا يصاد صيدها" (¬5). وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه كان يقول: لو رأيت الظباء بالمدينة ترتع ما ذعرتها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بين لابتيها حرام" (¬6). ¬

_ (¬1) مجمع الزوائد (4/ 7). (¬2) إعلام الساجد للزركشي (ص: 289)، والموسوعة الفقهية الكويتية. (المسجد الأقصى). (¬3) أخرجه مسلمٌ (2/ 991). (¬4) أخرجه البخاريُّ (3/ 20). (¬5) أخرجه البخاريُّ (2/ 95)، ومسلمٌ (2/ 986). (¬6) أخرجه البخاريُّ (3/ 21).

ما يجوز قتله من الصيد وقطعه من الشجر والنبات في حرم المدينة

وكذلك حديث علي -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المدينة حرام، ما بين عير إلى ثور، لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا يصلح أن يقطع منها شجرة إلا أن يعلف جل بعيره" (¬1) وحديث إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إني أحرم المدينة مثل ما حرم إبراهيم مكة" (¬2). فدل ذلك على أنه لا يحل صيدها ولا يعضد شجرها وأن من فعل شيئًا من ذلك أثم ولا جزاء عليه وهو قول الجمهور ورواية عن أحمد خلافًا للشافعي في القديم ورواية عن أحمد فإن عليه الجزاء عندهم. 2 - وذهب الحنفية إلى أنه لا حرم للمدينة وبناء عليه لا يحرم الصيد ولا قطع الشجر والحشيش فيها؛ لأنه لو كان محرمًا لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيانًا عامًا ولوجب فيه الجزاء كصيد حرم مكة، ولأن الصيد أحل بنص قاطع فلا يحرم إلا بدليل قطعي ولم يوجد (¬3). الراجح: تبين من الأحاديث حرمة قتل الصيد وقطع الشجر والنبات مما لم يستنبته الناس في حرم المدينة وذلك لكثرة الأحاديث الواردة في ذلك ومنها أحاديث في الصحاح، وأن من خالف ذلك وقتل صيدًا أو قطع شجرًا أو نباتًا فلا جزاء عليه وإنما هو آثم عليه التوبة والاستغفار، والله أعلم. ما يجوز قتله من الصيد وقطعه من الشجر والنبات في حرم المدينة: يجوز قتل الفواسق الخمس والصائل من السباع دفاعًا عن النفس أو الأهل أو المال. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1/ 469). (¬2) أخرجه البخاريُّ (3/ 88). (¬3) حاشية ابن عابدين (2/ 565).

حد حرم المدينة المنورة

ويجوز أخذ ما تدعو إليه الحاجة من الشجر للرحل وآلة الحرث ونحو ذلك (¬1). لما روى جابر -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حرم المدينة قالوا يا رسول الله، إنا أصحاب عمل وأصحاب نضح، وأنا لا نستطيع أرضًا غير أرضنا فرخص لنا، فقال: "القائمتان، والوسادة والعارضة والمسد، وأما غير ذلك فلا يعضد، ولا يخبط منها شيء" (¬2). حد حرم المدينة المنورة: حد حرم المدينة المنورة ما بين جبل ثور ويقع بجانب جبل أحد من الشمال وجبل عير ويقع قريبًا من ميقات ذي الحليفة على الطريق السريع الذاهب إلى مكة (طريق الهجرة) وهو جنوب المدينة ومن الشرق الحرة الشرقية، ومن الغرب الحرة الغربية، وقدر الحرم اثنا عشر ميلا من كل جهة وذلك لما ورد من حديث علي -رضي الله عنه- مرفوعًا: "حرم المدينة ما بين ثور إلى عير" (¬3)، وما جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بين لابتيها حرام" (¬4). الفرق بين الحرم المكي والحرم المدني: يختلف الحرم المدني عن الحرم المكي في بعض الأحكام وهي: ¬

_ (¬1) الشرح الصغير للدردير (2/ 1111)، ومغني المحتاج (1/ 529)، والشرح الكبير على المقنع (9/ 61)، ومفيد الأنام لابن عباس (ص: 220). (¬2) النضح: حمل الماء من نهر أو بئر ليسقي الزرع والحديث أخرجه الإِمام أحمد، والمسد: المحور الذي تدور عليه البكرة. (¬3) أخرجه البخاريُّ (12/ 42) الفتح، ومسلمٌ (2/ 995). (¬4) أخرجه البخاريُّ [الفتح (4/ 89)]، ومسلمٌ (2/ 1000) واللابة: هي الحرة ذات الحجارة السود وهي معروفة في المدينة المنورة وانظر تاريخ المدينة المنورة إعداد جماعة من العلماء بإشراف الشيخ صفي الرحمن المباركفوري.

أيهما أفضل مكة أم المدينة؟

1 - يجوز أخذ ما تدعو إليه الحاجة من شجر المدينة للرحل وآلة الحرث ونحو ذلك كما يجوز أخذ ما تدعو إليه الحاجة من حشيشها للعلف لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث علي: "ولا يصلح أن يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره" (¬1). أما حرم مكة فلا يجوز أخذ شيء منه إلا الإذخر كما ورد في الحديث. 2 - أن من أدخل صيدًا إلى حرم المدينة فله إمساكه وذبحه، أما في حرم مكة فلا يجوز له إمساكه ولا الدلالة عليه. 3 - أن تحريم صيد المدينة وقطع شجرها ونباتها يترتب عليه الإثم دون جزاء كما هو قول عامة الفقهاء بخلاف حرم مكة فعليه الإثم والجزاء. 4 - يختص حرم مكة المكرمة بالنسك وذبح الهدايا بخلاف حرم المدينة. 5 - دخول حرم المدينة يتم بدون إحرام وذلك خلافًا لحرم مكة ممّن أراد الحج أو العمرة. 6 - يجوز دخول غير المسلم للمدينة من أجل مصلحة مؤقتًا دون سكنى لها بخلاف حرم مكة فلا يجوز دخوله لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}. 7 - لقطة حرم المدينة ليست مثل لقطة حرم مكة، من حيث أنها في مكة لا يجوز تملكها ويجب تعريفها للأبد والمدينة مثل غيرها في ذلك (¬2). أيهما أفضل مكة أم المدينة؟ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2/ 532). (¬2) حاشية ابن عابدين (2/ 566)، والشرح الصغير للدردير (2/ 112)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 423)، وكشاف القناع للبهوتي (2/ 475). وانظر الموسوعة الفقهية كلمة: "حرم".

المجاورة بمكة المكرمة والمدينة المنورة

أولًا: ذهب أكثر العلماء إلى أن مكة أفضل من المدينة وذلك لما يلي: 1 - حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" (¬1). 2 - أن الصلاة في مكة المكرمة تضاعف أكثر فهي في مكة عن مائة ألف صلاة وفي المدينة عن ألف صلاة. ثانيًا: ذهب المالكية وهو رواية عن أحمد إلى أن المدينة أفضل لأنها مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يصبر أحد على لأوائها وشدتها إلا كنت له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة" (¬2) وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو هريرة من الحديث: "والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون" (¬3). المجاورة بمكة المكرمة والمدينة المنورة: تستحب المجاورة بهما لما ورد فيهما من الثواب والأجر، ولكن لمن يبذل جهده وطاقته في أداء العبادات والطاعات ويتجنب المعاصي والآثام. وقد كره بعض السلف المجاورة بمكة لما فيها من مضاعفة السيئات ومنهم ابن عباس -رضي الله عنهما- حيث تركها إلى الطائف خشية من مضاعفة السيئات فيها، قال القرطبي: "والمعاصي تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات فتكون المعصية معصيتين، إحداهما بنفس المخالفة والثانية بإسقاط حرمة البلد الحرام" (¬4)، وقد ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذيُّ (13/ 280) عارضه الأحوذي، وابن ماجة (2/ 1037). (¬2) أخرجه مسلمٌ (2/ 1004) في الحج رقم (482) عن عبد الله بن عمر. (¬3) أخرجه مسلمٌ رقمه (1381). (¬4) تفسير القرطبي (12/ 35).

مخطط وبرنامج الحاج وفق الهدي النبوي من البدء حتى النهاية

قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]، ذلك أن مجرد الهم بالمعصية بمكة دون فعلها يجازى عليه وذلك خاص بمكة. وقد سئل الإِمام أحمد هل تكتب السيئة أكثر من واحدة؟ فقال: لا، إلا بمكة لتعظيم البلد. وقيل إن مضاعفة السيئات بالكيف لا بالكم، أي تعظيمها لا زيادة عددها كما قرره شيخ الإِسلام ابن تيمية، وقد روى الأزرقي بسنده أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يقول: لخطيئة أصيبها بمكة أعز علي من سبعين خطيئة أصيبها برُكْبهَ (¬1). قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: المجاورة بمكان يكثر فيه إيمانه وتقواه أفضل حيث كان (¬2). مخطط وبرنامج الحاج وفق الهدي النبوي من البدء حتى النهاية: حيث أن الحاج قد لا يتوفر لديه الوقت لقراءة ما يتعلق في الحج فرأينا أن نضع له موجزًا يكفيه في أداء أعمال الحج بحيث إذا التزم به يكون مؤديا حجه على أفضل وجه بعيدًا عن الخطأ والزلل باذن الله: أولًا: الاستعداد لسفر الحج: يحسن لمن أراد السفر للحج أن يتبع ما يأتي: 1 - التوبة النصوح ورد المظالم إلى أهلها وأن يجتهد في رضاء والديه. 2 - تعلم الأحكام التي يحتاجها في سفره وتعلم أحكام الحج. ¬

_ (¬1) ركبه: هي الصحراء المعروفة بطريق مكة شرقًا، فقه السنة للسيد سابق (1/ 615)، ومفيد الأنام لابن جاسر (ص: 211). (¬2) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية (27/ 39).

ثانيا: عمل الحاج وهو مسافر

3 - اختيار الرفقة الصالحة ممّن يعرف الحج وإن تمكن أن يصاحب عالمًا فهو أولى لأنه يعينه على أداء الحج على أفضل وجه. 4 - اختيار النفقة الحلال وذلك تحريًا للقبول فإن غيرها من المال قد يكون سببًا في عدم قبول حجه واستجابة دعائه، لما جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام، فأنى يستجاب لذلك" (¬1). 5 - وصية أهله وأصحابه بتقوى الله وأن يودعهم ويقول لمن يودعه: "استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه" ويقول المقيم للمسافر: "استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك" (¬2). ثانيًا: عمل الحاج وهو مسافر: 1 - الإكثار من الدعاء: ومن ذلك دعاء السفر عند ركوبه لوسيلة النقل من طائرة أو سيارة أو غيرها. 2 - قصر الصلاة الرباعية والجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. 3 - التعاون وحسن الخلق فيما بين الرفقة المسافرين للحج وكف الأذى عنهم والسير وفق ما حدد للسير في الطرق إبعادًا لتهلكة الأنفس. ثالثًا: عمل الحاج في الميقات: 1 - يستحب للحاج أو المعتمر أن يتنظف من الأوساخ وأن يقص أظافره ثم يغتسل ويتطيب. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ (2/ 703). (¬2) أخرجه الترمذى (5/ 499).

رابعا: عمل الحاج عند وصوله المسجد الحرام

2 - يلبس ثياب الإحرام ويستحب أن يعقد نية الإحرام بعد صلاة مفروضة إن أمكن لأن ذلك فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يكن وقت فريضة فله أن يصلي ركعتين عند بعض الفقهاء أو يصلي سنة الوضوء. 3 - يقول المفرد للحج لبيك حجًا ويقول القارن: "لبيك عمرة وحجًا"، ويقول المتمتع: "لبيك عمرة متمتعًا بها إلى الحج"، ثم يقول الجميع: "لبيك اللَّهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك". 4 - للحاج أو المعتمر أن يشترط فيقول: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني. رابعًا: عمل الحاج عند وصوله المسجد الحرام: 1 - يقدم الحاج أو المعتمر رجله اليمنى حال دخوله ويقول: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللَّهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك. 2 - يتجه إلى الطواف ويستلم الحجر الأسود ويقبله إن أمكن وإلا أشار إليه ويقول بسم الله والله أكبر اللَّهم إيمانا بك وتصديقًا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعًا لسنة نبيك محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ويجعل البيت عن يساره ويدعو بما شاء فإذا وصل الركن اليماني استلمه دون تقبيل إن تيسر ويقول بين الركن اليماني والحجر الأسود ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. 3 - يستمر في طوافه حتى يكمل سبعة أشواط ويختمها بالحجر الأسود. 4 - إذا كان الطواف للعمرة أو للقدوم فإنه يشرع للمعتمر والحاج من الرجال أن يضطبع وهو أن يجعل وسط ردائه تحت إبطه الأيمن وطرفيه على كتفه الأيسر، كما يشرع له الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى وهو إسراع المشي مع مقاربة

الخطى على ألا يؤذي غيره في الطواف. 5 - بعد الطواف يصلي ركعتين خلف المقام إن تيسر وإلا في أي مكان من المسجد ويقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الثانية {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد}. 6 - ثم يتجه إلى المسعى فإذا أتى الصفا قرأ قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]. ثم يرقى إلى الصفا ما أمكن حتى يرى الكعبة إن تيسر ويستقبل الكعبة ويرفع يديه قائلًا: لا إله إلا الله والله أكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ثم ينزل متجهًا إلى المروة فإذا وصل العلم الأخضر ركض ركضًا شديدًا إذا كان رجلًا على ألا يؤذي أحدًا من السعاة وبعد العلم الثاني يمشي حتى يصل المروة فيرقى ويستقبل القبلة ويرفع يديه ويقول كما قال على الصفا وهذا شوط يأتي بعده بستة أشواط ذهابه سعية ورجوعه سعية فتكون سبعة أشواط. 8 - بعد نهاية السعي يحلق الرجل المعتمر رأسه وذلك أفضل إلا لمن اعتمر في أيام الحج فيقصر رأسه ليحلق في الحج والمرأة تقصر من رأسها أو من كل ظفيرة قدر أنملة (وهي رأس الإِصبع). 9 - بعد عمل الحاج المتمتع ذلك فإنه يكون قد أنهى عمرته، ويتحلل ويلبس ثيابه وله أن يفعل ما شاء مما كان ممنوعًا منه قبل الإحرام من لباس وطيب ونكاح وغيرها.

خامسا: ما يفعله الحاج يوم التروية (اليوم الثامن من ذي الحجة)

10 - للحاج المتمتع أن يبقى خلال المدة بين العمرة إلى الحج وكذلك غيره من القارن والمفرد وهما على إحرامهما حيث يريد في مكة أو منى أو غيرها, وله أن يعمل ما شاء من أعمال تجارية مما أباحه الله لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]. خامسًا: ما يفعله الحاج يوم التروية (اليوم الثامن من ذي الحجة): 1 - في اليوم الثامن يحرم المتمتع بالحج من مكانه ويفعل عند إحرامه ما يفعله عند إحرامه من الميقات من النظافة وإزالة الشعر والاغتسال والطيب، ثم بعد ذلك ينوي الحج ويلبي: لبيك حجًا، لبيك اللَّهم لبيك الخ ويمكن أن يشترط بقوله: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني. 2 - يستحب للحاج متمتعًا أو قارنًا أو مفردًا أن يصلى في منى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ويقصر الصلاة التي تقصر من غير جمع. سادسًا: عمل الحاج يوم عرفة (اليوم التاسع من ذي الحجة): 1 - يسير إلى عرفة بعد طلوع الشمس وينزل بنمرة إن تيسر وإلا نزل في عرفة. 2 - بعد زوال الشمس يصلى الحاج الظهر والعصر جمعًا وقصرًا في وقت الأولى كي يطول الوقت للتضرع والدعاء. 3 - يتفرغ للذكر والدعاء والابتهال والتضرع إلى الله وليس هنالك دعاء محدد بل يدعو بما أحب من خيري الدنيا والآخرة له ولأهله وجميع المسلمين ويستحب أن يرفع يديه حال الدعاء مستقبلًا القبلة، ويستحب أن يكون الجبل بينه وبين القبلة إن تيسر وإلا فعليه استقبال القبلة.

سابعا: عمل الحاج ليلة النحر (العيد)

4 - على الحاج أن يتأكد من وقوفه داخل حدود عرفة وأن يكون وقوفه في الوقت المحدد من يوم عرفة وهو زوال الشمس إلى طلوع الفجر من يوم النحر. 5 - أن يكون الحاج حال صعوده إلى عرفات وإفاضته منها مطمئنًا يسير بسكينة ووقار وذكر وتلبية وأن يتجنب أذية الآخرين ومزاحمتهم والتضييق عليهم. سابعًا: عمل الحاج ليلة النحر (العيد): 1 - ينصرف من عرفة إلى مزدلفة وبعد وصولها يبادر بأداء صلاة المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا حال وصوله بأذان وإقامتين فإن خاف فوات وقتهما قبل وصوله إلى مزدلفة بسبب الزحام مثلًا فإنه يصلي في الطريق. 2 - يبيت بمزدلفة إتباعًا للسنة ثم يصلي الفجر ويأتي المشعر الحرام إن تيسر له ذلك ويستقبل القبلة ويدعو بما أحب من خيري الدنيا والآخرة، ويجوز لأهل الأعذار من كبر أو مرض وكذا الأطفال والنساء ونحوها أن ينصرفوا من مزدلفة بعد منتصف الليل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص للضعفة في ذلك. 3 - يلتقط حصى الجمرة من مزدلفة ليرمي بها جمرة العقبة ثم يتجه إلى منى قبل طلوع الشمس فإذا وصل وادي محسر استحب أن يسرع في سيره حتى يجاوزه إقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم -. ثامنًا: عمل الحاج يوم النحر (العاشر من ذي الحجة): يستحب أن يأتي بأعمال يوم النحر مرتبة: الرمي ثم النحر، ثم الحلق، ثم الطواف والسعي فإن لم يتيسر وقدم بعضها على بعض فلا حرج في ذلك. 1 - يتجه الحاج إلى جمرة العقبة (أقرب الجمرات إلى مكة) ويستمر في التلبية حتى يبدأ رمي جمرة العقبة.

2 - يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ويستحب أن يرميها جاعلًا منى عن يمينه والبيت عن يساره. 3 - بعد رمي جمرة العقبة يستحب للقارن والمتمتع أن ينحر هديه ويوجهه للقبلة ويقول بسم الله والله أكبر اللَّهم هذا منك ولك، وليس على المفرد هدي إلا أن يتطوع، ويستحب أن يختار النوع الأفضل من الهدى وأن يأكل من هديه ويتصدق ويهدي. 4 - يحلق رأسه كله أو يقصره والحلق أفضل، وأما النساء فيقصرن من شعرهن قدر أنملة. 5 - بعد أداء ما سبق يكون الحاج متحللًا التحلل الأول فيباح له ما كان ممنوعًا منه بالإحرام من اللباس والطيب وغيرها ما عدا النكاح فإنه لا يحل له إلا بعد طواف الزيارة والسعي لمن عليه السعي. 6 - بعد التحلل الأول للحاج يستحب له أن يغتسل ويتنظف ويتطيب ويلبس ثيابه ويتجه إلى البيت الحرام ليطوف طواف الإفاضة، وهو كالطواف السابق عدا أنه لا رمل فيه ولا اضطباع. 7 - بعد الطواف يصلي ركعتين خلف المقام إن تيسر له ذلك وإلا صلاهما في أي مكان من المسجد. 8 - يتجه إلى المسعى إن كان عليه سعي ويسعى سبعة أشواط ذهابه سعيه ورجوعه سعيه ويدعو بما شاء، يبدأ بالصفا ويختم بالمروة، وبعد نهاية السعي يكون قد تحلل التحلل الثاني فيحل له كل شيء منع منه بالإحرام حتى النساء.

تاسعا: عمل الحاج أيام التشريق

تاسعًا: عمل الحاج أيام التشريق: 1 - يبيت بمنى ليلة الحادي والثاني والثالث عشر لمن تأخر، ومن تعجل فينصرف من منى اليوم الثاني عشر. 2 - يرمي الجمار في أيام التشريق مبتدئًا من الصغرى وهي القريبة من منى ويأتي إليها من جهة الشمال جاعلًا منى عن يساره والبيت عن يمينه ثم يرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويتأكد من وقوعها في الحوض، ثم يقف عنها يمينًا ويستقبل القبلة ويدعو بما شاء، وبعدها يذهب للجمرة الوسطى ويأتيها من الجنوب جاعلًا منى عن يمينه والبيت عن يساره ويرميها بسبع حصيات قائلًا الله أكبر ثم يأخذ ذات الشمال ويقف مستقبلًا القبلة ويدعو، ثم يذهب إلى جمرة العقبة (الكبرى) ويأتيها من الجنوب جاعلًا منى عن يمينه والبيت الحرام عن يساره ويرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ولا يقف بعدها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقف بعدها. 3 - يرمي في اليوم الثاني عشر وفي اليوم الثالث عشر إن تأخر كاليوم الحادي عشر تمامًا وعلى الحاج أن يرمي بنفسه ما لم يكن من أهل الأعذار الشرعية فيجوز أن يوكل من يرمي عنه، وعلى الوكيل الرمي عن نفسه أولًا ثم يرمي عن موكله في موقف واحد عند كل جمرة من الجمرات. 4 - وقت رمي جمرة العقبة يوم النحر من بعد منتصف الليل إلى طلوع فجر اليوم الحادي عشر ووقت رمي الجمرات الأخرى أيام التشريق من طلوع الفجر إلى طلوع الفجر الذي بعده وذلك توسعة على الحجاج حيث كثرت أعدادهم وازداد تزاحمهم عند الجمرات، وحصول وفيات نتيجة لذلك، وقد جاء الإِسلام بحفظ الضروريات الخمس (¬1)، ومنها حفظ النفس فلا حرج لرمي الحجاج في تلك ¬

_ (¬1) الضروريات الخمس: هي حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال.

الأوقات وقد صدرت فتاوى بذلك من بعض الفقهاء السابقين والمعاصرين، بل إنه يجوز عند بعض الفقهاء تأخير رمي الجمار إلى اليوم الثاني عشر أو الثالث عشر ويرميها كلها ولكن على الترتيب لكل يوم بحيث يرمي عن اليوم الحادي عشر الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى وهكذا لما بعده من الأيام وتلتقط الجمرات أيام التشريق من منى. 5 - بعد إتمام الجمرات يذهب الحاج إلى البيت الحرام ويطوف للوداع سبعة أشواط كطوافه السابق ثم يصلي بعده ركعتين، ويسقط طواف الوداع عن الحائض والنفساء، وينبغي للحاج ألا يتأخر كثيرًا بعد طواف الوداع إلا لما لا بد له منه. 6 - بعد انتهاء مشاعر الحج التي آخرها طواف الوداع يعود الحاج إلى بلده متحليًا بالسكينة والوقار ومنشغلًا بالذكر والدعاء عما لا فائدة فيه (¬1). ¬

_ (¬1) الحج والعمرة وزيارة مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أ. د. عبد الله الطيار (ص: 141).

باب الأضحية

باب الأضحية تعريف الأضحية: الأضحية في اللغة: بتشديد الياء وبضم الهمزة أو كسرها وجمعها الأضاحي، ويقال لها الضحية بفتح الضاد وتشديد الياء وجمعها الضحايا، وهي الشاة التي تذبح يوم الأضحى (¬1). والأضحية في الشرع: هي ما يذكى تقربًا إلى الله تعالى في أيام النحر بشرائط مخصوصة (¬2). الفرق بين الأضحية والهدي: تشترك الأضحية والهدي في أن كلًا منهما ذبيحة من الأنعام وتذبح في أيام النحر ويقصد بكل منهما التقرب إلى الله تعالى، ويفترقان في التسمية فهذه أضحية وهذا هدي، وتفترق الأضحية عن هدى التمتع والقران وهدى الكفارة من حيث أن الهدى له أسباب معينة خلافًا للأضحية. الأصل في مشروعية الأضحية: شرعت الأضحية في السنة الثانية من الهجرة، والأصل في ذلك الكتاب والسنة والإجماع: فأما الكتاب: فقوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 34]. وقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]. ¬

_ (¬1) لسان العرب (14/ 477). (¬2) حاشية ابن عابدين (5/ 111).

حكمة مشروعية الأضحية

وأما السنة: فقد ورد في السنة أحاديث كثيرة تبين فضلها والترغيب فيها والتنفير من تركها ومن ذلك: 1 - حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: "ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما" (¬1). 2 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا" (¬2). وأما الإجماع: فقد نقل الإجماع على مشروعية الأضحية كثير من العلماء، فقال ابن قدامة في الشرح الكبير (¬3): "وأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية"، وقال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن الضحايا لا يجوز ذبحها قبل طلوع الفجر يوم النحر" (¬4). وقال ابن عبد البر: "والذي يضحى به بإجماع من المسلمين: الأزواج الثمانية وهي الضأن والمعز والإبل والبقر" (¬5). وقال في الإفصاح: "واتفقوا على أن الأضحية مشروعة بأصل الشرع" (¬6). حكمة مشروعية الأضحية: في الأضحية إحياء لسنة إبراهيم الخليل -عليه السلام- حين أمره الله -عَزَّ وجَلَّ- بذبح ولده إسماعيل ثم فداه الله بذبح عظيم جزاء لامتثالهما وانقيادهما وصبرهما، وفيها شكر لنعم الله تعالى الكثيرة ومنها نعمة الحياة التي أنعم الله بها على الإنسان. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (2/ 210)، ومسلمٌ (3/ 1556). (¬2) أخرجه بن ماجه (2/ 1044)، والحاكم (2/ 389)، وصححه الحاكم. (¬3) الشرح الكبير لابن قدامة (9/ 332). (¬4) الإجماع لابن المنذر (ص: 78). (¬5) الإجماع (ص: 181). (¬6) الإفصاح لابن هبيرة (1/ 305).

حكم الأضحية

حكم الأضحية: اتفق الفقهاء على أن تقديم الأضحية قربانًا أفضل من الصدقة بقيمتها يدل لذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى وضحى الخلفاء من بعده ولما جاء في حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما عمل ابن آدم يوم النحر عملًا أحب إلى الله من إراقة دم وإنه ليؤتى يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفسًا" (¬1). ثم اختلف الفقهاء في حكمها على قولين: 1 - ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن الأضحية سنة مؤكدة وهو قول أبي بكر وعمر وبلال وغيرهم. 2 - وذهب الحنفية إلى أن الأضحية واجبة، وهو قول ربيعة والليث بن سعد والأوزاعي والثوري وقول في مذهب مالك. الأدلة: 1 - استدل الجمهور بأدلة منها: أ- قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا من بشره شيئًا" (¬2). وذلك لأنه قال: "وأراد أحدكم أن يضحي" فجعله مفوضًا إلى إرادته، ولو كانت التضحية واجبة لم يذكر ذلك. ب- إن أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- كانا لا يضحيان السنة والسنتين، مخافة أن يُرى ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة (2/ 1045). (¬2) أخرجه مسلمٌ (3/ 1565).

شروط صحة الأضحية

ذلك واجبًا، وهذا يدل على أنهما علما عدم الوجوب ولم يرو عن أحد من الصحابة خلاف ذلك. 2 - واستدل الحنفية بأدلة منها: أ- قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]. أي صل صلاة العيد وانحر البدن ومطلق الأمر للوجوب. ب- قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا" (¬1). وهذا كالوعيد على ترك التضحية والوعيد إنما يكون على ترك الواجب. شروط صحة الأضحية: يشترط للأضحية شروط هي: 1 - نية التضحية لأن الذبح قد يكون قربة وقد يكون للحم فلا يقع الفعل قربة إلا بالنية لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل أمرئ ما نوى" (¬2). 2 - أن تكون من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم (ضأنا أو ماعزًا) والذكور والإناث سواء، وأفضل ذلك الإبل ثم البقر إن أخرجت كاملًا عن شخص واحد ثم الغنم وذلك لكثرة نفعها للفقراء وزيادة ثمنها. 3 - أن تبلغ سن التضحية: وهو الجذع من الضأن وهو: ما تم له ستة أشهر عند الحنفية والحنابلة وقال المالكية والشافعية هو ما بلغ سنة، والثني من الإبل والبقر والمعز: فالثني من الإبل ما تم له خمس سنين ومن البقر ما تم له ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص:). (¬2) أخرجه البخاريُّ (1/ 3)، ومسلمٌ (3/ 1515).

سنتان ومن المعز ما تم له سنة وذهب المالكية إلى أن الثني من الإبل ما بلغ خمسًا ودخل في السادسة ومن البقر ما تم له ثلاث سنيين وذهب الشافعية إلى أن الثني من المعز والبقر ما تم له سنتان. وبناء على هذا الشرط فلا تجزيء التضحية بسن أقل مما حدد عند كل من الفقهاء، وأفضل كل جنس أسمنه وأغلاه ثمنًا لقوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]. وتجزيء الواحدة من الغنم عن الشخص وأهل بيته وتجزيء البدنة والبقرة عن سبعة، لقول جابر -رضي الله عنه-: "فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة" (¬1). وقال أبو أيوب -رضي الله عنه-: "كان الرجل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون" (¬2). 4 - السلامة من العيوب والأمراض: وبناء على ذلك فلا تجزئ العمياء ولا العوراء البين عورها ولا العجفاء وهي الهزيلة التي لا تنقي، ولا العرجاء: التي لا تطيق المشي مع الصحيحة ولا الهتماء التي ذهبت ثناياها من أصلها, ولا الجداء وهي التي نشف ضرعها من اللبن بسبب كبر سنها، وذلك لحديث البراء بن عازب قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أربع لا تجوز في الأضاحي العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والعجفاء التي لا تنقي" (¬3). وألحق الفقهاء بذلك كل ما به عيب فاحش. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ (5/ 71) في الحج. (¬2) أخرجه الترمذيُّ (4/ 91)، وصححه ابن ماجة (3/ 541). (¬3) أخرجه أبو داود (3/ 161)، والترمذيُّ (4/ 85).

وقت ذبح الأضحية

وقت ذبح الأضحية: يبدأ وقت الذبح بعد صلاة العيد وهو أفضلها ويستمر إلى آخر أيام التشريق وهو القول الذي اخترناه لوقت ذبح الهدى. المشروع فى توزيع لحوم الأضاحي: يستحب أن يأكل من أضحيته ثلثًا ويهدي ثلثًا ويتصدق بثلث لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]. وقد جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ويطعم أهل بيته الثلث، ويطعم فقراء جيرانه الثلث، ويتصدق على السّؤال بالثلث" (¬1). ما يشرع للمضحي: يشرع له أمور منها: أولًا: عدم الأخذ من الشعر أو البشرة والأظفار شيئًا، فإذا دخل عشر ذي الحجة فلا يأخذ من شعره ولا بشرته أو أظفاره شيئًا حتى يذبح أضحيته في وقتها، وقد اختلف الفقهاء في حكم ذلك: 1 - ذهب الحنفية والمالكية والشافعية إلى أن ذلك سنة يندب امتثاله ويكره مخالفته وليس واجبًا لحديث عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقلده ويبعث به ولا يحرم عليه شيء أحله الله حتى ينحر هديه" (¬2). قال الشافعي -رحمه الله-: البعث بالهدى أكثر من إرادة التضحية فدل على أنه لا يحرم ذلك. ¬

_ (¬1) رواه أبو موسى في الوظائف وحسنه كما في المغني (11/ 109) طبعة المنار. (¬2) أخرجه البخاريُّ (4/ 492)، ومسلمٌ (2/ 957).

الحكمة في مشروعية عدم الأخذ من الشعر والبشرة والأظفار

2 - وذهب الحنابلة إلى أن ذلك واجب لحديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا من بشره شيئًا" (¬1). وفى رواية أخرى عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره" (¬2). الحكمة في مشروعية عدم الأخذ من الشعر والبشرة والأظفار: إن الأضحية في أيام النحر وفيها أكثر أعمال الحج من نحر للهدى وغيره، ففي الإمساك عن أخذ الشعر وغيره تشبهٌ بالمحرم بالحج وترك جميع أجزاء الجسم رجاء أن يعتق من النار بالتضحية. ثانيًا: أن يذبح المضحي أضحيته بنفسه إن قدر لأنه قربة فإن لم يقدر فينيب غيره، ويستحب له أن يكون حاضرًا عند ذبح أضحيته لقوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة -رضي الله عنها-: "يا فاطمة قومي إلى أضحيتك فاشهديها" (¬3). ثالثًا: أن يسمي ويكبر فيقول: بسم الله والله أكبر لحديث أنس: "وسمى وكبر" (¬4). ويستحب أن يقول بعدها اللَّهم هذا منك ولك اللَّهم تقبل مني أو من فلان؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بكبش ليذبحه فأضجعه ثم قال: "اللَّهم تقبل من محمَّد وآل محمَّد وأمة محمَّد" (¬5). ثم ضحى به وأن يوجه الأضحية إلى القبلة عند الذبح أو النحر لحديث جابر -رضي الله عنه- أنه قال: ذبح النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الذبح كبشين أملحين موجوءين (*). فلما وجههما قال: "إني وجهت وجهي لله الذي فطر السماوات ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ (3/ 1565). (¬2) أخرجه مسلمٌ (3/ 1565). (¬3) أخرجه الحاكم (4/ 222). (¬4) أخرجه البخاريُّ (10/ 18). (¬5) أخرجه مسلمٌ (3/ 1557). (*) الأملح: هو ما بياضه أكثر من سواده والموجوء: هو الخصي.

الأضحية عن الميت

والأرض على ملة إبراهيم حنيفًا وما أنا من المشركين" (¬1). رابعًا: أن يسوق الأضحية إلى مكان الذبح برفق وأن يحد الذابح السكين ويمرها بقوة ليكون أسهل وأسرع في الذبح لئلا يكون فيه تعذيب للأضحية وذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" (¬2). الأضحية عن الميت: يتفق الفقهاء على جواز الأضحية عن الميت إذا كانت بوصية من الميت أو وقف وقفه ليضحى منه وتنفذ كما جاءت، أما إذا كانت الأضحية عن الميت من الوارث أو غيره تبرعًا فقد اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى جواز ذلك لأن الموت لا يمنع التقرب عن الميت كما في الصدقة والحج؛ لأنه صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين أحدهما عن نفسه وأهل بيته والآخر عمن لم يضح من أمته (¬3). 2 - وذهب الشافعية إلى أن الذبح عن الميت لا يجوز بغير وصية أو وقف (¬4). الراجح: القول بالجواز هو الراجح لحديث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بأحد الكبشين عمن لم يضح من أمته وفيهم أموات. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة (2/ 1043). (¬2) أخرجه مسلمٌ (4/ 1548). (¬3) أخرجه البيهقيُّ (9/ 268)، وقال الهيثمي: إسناده حسن (4/ 22). (¬4) بدائع الصنائع للكاساني (6/ 2814)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 207)، والمجموع للنووي (8/ 383)، والإنصاف للمرداوي (9/ 332)، وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية مادة: "أضحية".

مكان ذبح الأضحية

مكان ذبح الأضحية: تذبح الأضحية في مكان المضحي وهذا هو الأصل ولا سيما الموصى به منها وأضحية الشخص عن نفسه وأهل بيته، ولكن يلاحظ أنه في بعض البلاد الإِسلامية الموسرة يضحي المسلم بأكثر من واحدة بل إن بعض البيوت تضحي بأعدادٍ كثيرة تزيد عن حاجة المحتاجين في البلد ويوجد محتاجون من المسلمين في بعض البلاد، وعليه فلا نرى بأسًا من توكيل بعض الجهات والهيئات الموثوقة بشراء أضاحي وذبحها وتوزيعها على المستحقين وكالة عن المضحي وذلك فيما يزيد عن حاجة أهل البلد فيمتد نفعه إلى المسلمين المحتاجين ففي ذلك مصلحة وأجر وخير كثير بإذن الله. الاستفادة من لحوم الهدي والأضاحي: كانت لحوم الهدي والأضاحي في مكة المكرمة وفي منى يضيع كثير منها بردمه أو طمره في الأرض نتيجة لكثرة اللحوم وزيادتها عن حاجة أهل مكة ولئلا تؤدي إلى التلوث والأضرار بالصحة إذا تركت مكشوفة، فقام البنك الإِسلامي للتنمية مشكورا بدراسة الأمر وانتهى إلى إقامة مشروع سمي: مشروع الاستفادة من لحوم الهدي والأضاحي، وقد دعمته حكومة المملكة العربية السعودية بحيث يقوم البنك بالوكالة عن الحاج المتمتع أو القارن أو المهدي أو المضحي بشراء ما وكل فيه ثم يذبحها يوم النحر أو أيام التشريق، ويقوم بترتيبها وتنظيفها وحفظها مبردة أو مجمدة ثم يقوم بتوزيع جزء منها على فقراء الحرم وجزء على الفقراء في المملكة والعالم الإِسلامي وهذا جهد طيب ومشكور تم فيه الاستفادة من اللحوم والجلود وغيرها والتي كانت تذهب هدرًا واستفاد منها كثير من فقراء المسلمين، وهو أمر مفيد ومشروع لما يترتب عليه من المصالح وليس فيه مفاسد ألبته، وقد

صدرت الفتوى من هيئة كبار العلماء في السعودية بجواز تنظيم الاستفادة مما يترك من اللحوم في المجازر وتوزيعه على الفقراء جاء ذلك في القرار رقم (43).

باب العقيقة

باب العقيقة تعريف العقيقة: تطلق العقيقة في اللغة على الخرزة الحمراء من الأحجار الكريمة وعلى شعر كل مولود من الناس والبهائم ينبت وهو في بطن أمه، قال أبو عبيد: العقيقة الشعر الذي على المولود، وجمعها عقائق، ثم إن العرب سمت الذبيحة عند حلق شعر المولود عقيقة على عادتهم في تسمية الشيء باسم سببه أو ما يجاوره، ثم اشتهر ذلك حتى صار من الأسماء العرفية بحيث لا يفهم من العقيقة عند الإطلاق إلا الذبيحة (¬1). والعقيقة اصطلاحًا: هي ما يذكى عن المولود شكرًا لله تعالى، بنية وشرائط مخصوصة (¬2). مناسبة ذكر العقيقة بعد الأضحية والهدي: كل من الهدي والأضحية والعقيقة يذبح تقربًا إلى الله تعالى وشكرًا له سبحانه على نعمه، وكل منها يتقرب بذبح الأنعام من الإبل أو البقر أو الغنم. وتفترق في أن الهدي يذبح في أيام النحر في الحرم عن التمتع أو القران في الحج أو تطوعًا، وأن الأضحية تذبح شكرًا لله تعالى على نعمه ومنها نعمة الحياة في أيام النحر وفي أي مكان، وكذلك العقيقة تذبح شكرًا لله تعالى على إنعامه على الوالدين بالمولود وهي مرتبطة بوقت ولادة المولود. ¬

_ (¬1) القاموس المحيط مادة: "عق". (¬2) الموسوعة الفقهية الكويتية كلمة: "عقيقة".

حكمة مشروعية العقيقة

حكمة مشروعية العقيقة: شرعت العقيقة بحيث يقدمها الوالد تقربًا إلى الله تعالى لما فيها من إظهارٍ للبشر وشكرٍ للنعمة. حكم العقيقة: اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - ذهب عامة أهل العلم من الصحابة منهم ابن عباس وابن عمر وعائشة وفقهاء التابعين والمالكية والشافعية والحنابلة إلى أن العقيقة سنة. 2 - وذهب الحنفية إلى أن العقيقة ليست سنة وإنما هي مباحة من شاء عق ومن شاء لم يعق. 3 - وذهب الحسن وداود إلى أنها واجبة. الأدلة: 1 - استدل الجمهور بما يأتي: أ- حديث: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين " (¬1). ب- حديث أم كرز الكعبية قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "عن الغلام شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة" (¬2). 2 - واستدل الحنفية: أ- بما روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن العقيقة فقال: "إن الله لا يحب العقوق" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (3/ 177). (¬2) أخرجه أبو داود (2/ 95)، والنسائيُّ (7/ 146). (¬3) أخرجه أحمد في المسند (2/ 182).

مقدار العقيقة ووقت ذبحها

فكأنه كره الاسم، وقال: "من ولد له مولود، فأحب أن ينسك عنه فليفعل" (¬1). وهذا ينفي كون العقيقة سنة لأنه - صلى الله عليه وسلم - علق العق بالمشيئة وهذا أمارة الإباحة. 3 - واحتج القائلون بالوجوب: أ- بحديث سلمان عن عامر الضبي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دمًا وأميطوا عنه الأذى" (¬2). ب- بما روى سمرة بن جندب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كل غلام رهينة (*) بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى ويحلق رأسه" (¬3). الراجح: نرى أن الراجح هو القول بأنها سنة لما روى فيها من الأحاديث ولأن الصحابة ومن بعدهم يذبحون عن أولادهم، وأما حديث عمر وبن شعيب عن أبيه عن جده والذي جاء فيه: "من أحب أن ينسك عن ولده فليفعل" والذي استدل به الحنفية فإنه يقتضي عدم الوجوب لتفويضه الاختيار فتكون مرتبته صارفة عن الوجوب إلى الندب. مقدار العقيقة ووقت ذبحها: يذبح عن الذكر شاتان متقاربتان سنًا وشبهًا، وعن الأنثى شاة واحدة لحديث أم كرز الكعبية قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "عن الغلام شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة" (¬4). والفرق بين الذكر والأنثى: أن السرور بالذكر ¬

_ (¬1) رواه مالك في الموطأ (2/ 500). (¬2) أخرجه الجماعة إلا مسلمًا نيل الأوطار (1/ 223) شرح منتقى الأخبار. (*) معنى رهينة: قيل لا ينمو نمو مثله حتى يعق عنه، وقيل مرتهن عن الشفاعة عن والديه، وقيل: إن العق عنه سبب في حسن أخلاقه وسجاياه. (¬3) أخرجه أبو داود (2/ 95). (¬4) أخرجه أحمد (6/ 31)، وأبو داود (3/ 174).

أكمل فيكون الشكر عليه أكثر وهذا هو قول الشافعية والحنابلة، وذهب الحنفية والمالكية إلى أن العقيقة شاة واحدة للذكر والأنثى سواء وكان عمر -رضي الله عنه- يفعله، ويجزئ في العقيقة ما يجزئ في الأضحية نوعًا وسنًا وسلامة من العيوب والأمراض. ويستحب أن تذبح العقيقة اليوم السابع من ولادته ولو ذبحه قبله أو بعده جاز ويسمى المولود، فقد جاء في آخر حديث سمرة: (تذبح عنه يوم سابعه ويسمى) (¬1). ولو أخرت العقيقة لأي سبب استحب أن تذبح في أي وقت وبعد البلوغ يذبحها الإنسان عن نفسه، ويسن تحسين الاسم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم تدعون بأحسن أسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم" (¬2). ويستحب أن يؤذن من ولد له ولد في أذنه لما روى عبد الله بن رافع عن أبيه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن في أذن الحسن حين ولدته فاطمة) (¬3). وقد اتفق الفقهاء على أن العقيقة تكون من الأنعام (الإبل والبقر والغنم) ثم اختلفوا هل يجزئ سبع البدنة والبقرة في العقيقة: 1 - فذهب المالكية والحنابلة إلى أن العقيقة لا بد أن تكون كاملة ولا يجزئ سبع بدنة أو بقرة فيها, لأنه لم يرد فيها تشريك من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أصحابه، ولأنها فدية عن النفس فلا تقبل التشريك. 2 - وذهب الشافعية إلى أنه يجزئ المقدار الذي يجزئ في الأضحية شاة أو سبع بدنة أوسبع بقرة مثلها مثل الهدي والأضحية. ¬

_ (¬1) أخرجه الخمسة من حديث سمرة. (¬2) أخرجه أبو داود من حديث أبي الدرداء (5/ 149). (¬3) أخرجه أبو داود (2/ 621)، والترمذيُّ (6/ 315) عارضه الأحوذي، والإمام أحمد في المسند (6/ 391).

شروط العقيقة

شروط العقيقة: يشترط في العقيقة ما يشترط في أي ذبيحة من هدي أو أضحية ونحوهما ويستحب أن يقول: اللَّهم لك واليك هذه عقيقة فلان (¬1)، وذلك لحديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين وقال: "قولوا بسم الله والله أكبر اللَّهم لك وإليك هذه عقيقة فلان" (¬2). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني (6/ 2831)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 231)، والمجموع للنووي (8/ 435)، ومطالب أولي النهى (2/ 488)، وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية كلمة: "عقيقة". (¬2) أخرجه البيهقي (9/ 304)، وحسن إسناده النووي في المجموع (8/ 428).

فهرس المراجع والمصادر 1 - إعلام الساجد للزركشي. 2 - الإجماع لأبي بكر محمَّد بن إبراهيم بن المنذر. الطبعة الثانية 1420 هجرية. 3 - الإجماع لابن عبد البر، أبو عمر يوسف بن عبد الله، دار القاسم بالرياض، الطبعة الأولي 1418 هـ. 4 - الأشباه والنظائر في قواعد الشافعية جلال الدين السيوطي، الكتب العلمية- بيروت. 5 - الإفصاح عن معاني الصحاح، محمَّد بن هبيرة. المؤسسة السعيدية بالرياض. 6 - الأم للشافعي المطبعة الكبرى الأميرية بمصر 1321. 7 - الإنصاف للمرداوي على بن سليمان مع الشرح الكبير. هجر للطباعة والنشر. 8 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدين أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني المتوفى سنة 587 المطبعة الجمالية بالقاهرة سنة 1328 هجرية. 9 - بداية المجتهد ونهاية المقتصد لمحمد بن رشد الحفيد القرطبي، دار الفكر بيروت. 10 - تاريخ عمارة المسجد الحرام، حسين باسلامة الطبعة الثالثة 1400 هـ. 11 - تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير لشهاب الدين ابن حجر العسقلاني شركة الطباعة الفنية المتحدة بالقاهرة 1384. 12 - حاشية ابن عابدين المسمى رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، محمَّد أمين بن عابدين مطبعة مصطفى الحلبي بمصر الطبعة الثانية 1386.

13 - حاشية إعانة الطالبين، للسيد البكرى دار الفكر. 14 - حاشية الدسوقى على الشرح الكبير، الدسوقي للدردير، دار الفكر بيروت. 15 - حاشية رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين مطبعة الحلبي الطبعة الثانية. 16 - الحج والعمرة وزيارة مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أ. د. عبد الله الطيار، مدار الوطن للنشر الطبعة السادسة 1424 هـ 17 - الخرشى على مختصر خليل. دار صادر بيروت. 18 - روضة الطالبين للنووي، أبو زكريا يحيى بن شرف، المتوفى سنة 676. 19 - سنن ابن ماجة، الحافظ أبي عبد الله محمَّد بن زيد القزويني 207 - 279 هـ مطبعة الحلبي بمصر. 20 - سنن أبى داود، سليمان السجستانى الطبعة الأولى 1409 هـ. 21 - سنن الترمذيُّ. 22 - سنن الدارقطني علي بن عمر، دار المحاسن للطباعة الفنية القاهرة 1386 هـ. 23 - سنن الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن، دار الكتب العلمية. 24 - سنن النسائي، أبو عبد الرحمن مطبعة الحلبي بمصر الطبعة الأولى 1383 هـ. 25 - السنن الكبرى, لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي المتوفى 458 مطبعة مجلس دائرة المعارف بالهند 1350. 26 - شرح الدردير على أقرب المسالك دار الفكر بيروت. 27 - شرح فتح القدير، لكمال الدين محمَّد بن عبد الواحد السيواسي ثم السكندر

لأبي المعروف بابن الهمام أبي الحسن، المطبعة الكبرى الأميرية بمصر الطبعة الأولى 1316. 28 - الشرح الصغير على أقرب المسالك، للدردير، دار الفكر بيروت. 29 - الشرح الكبير، أبو الفرج عبد الرحمن بن قدامة المقدسي، هجر للطباعة والنشر. 30 - الشرح الكبير على المقنع لابن قدامة، شمس الدين عبد الرحمن بن محمَّد بن أحمد بن قدامة أبو الفرج، المتوفى 682. 31 - صحيح البخاري لأبي عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاري، مطبعة الحلبي. 32 - صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري، المتوفى سنة 261 هـ. 33 - عارضة الأحوذي شرح جامع الترمذيّ. 34 - فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية في الحج والعمرة. 35 - فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأحمد بن حجر العسقلاني، المطبعة السلفية بالمدينة. 36 - فتح القدير، محمَّد بن عبد الواحد ابن الهمام، دار إحياء التراث، بيروت. 37 - فقه السنة، للسيد سابق دار الكتاب العربي، بيروت لبنان الطبعة الثالثة 1379 هـ. 38 - فقه العبادات، للشيخ محمَّد بن عثيمين الطبعة الأولى 1424 هـ. 39 - القاموس المحيط، مجد الدين محمَّد بن يعقوب الفيروز آبادي طبعة دار الفكر بيروت.

40 - قوانين الأحكام الشرعية، لمحمد بن جزي الكلبي المتوفى 741 مكتبة عالم الفكر، القاهرة. 41 - كشاف القناع عن متن الإقناع، للبهوتي، منصور بن يونس بن إدريس البهوتي. 42 - لسان العرب لابن منظور. 43 - المبدع في شرح المقنع، أبو إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمَّد بن عبد الله بن محمَّد بن مفلح، المتوفى 884 هـ المكتب الإِسلامي بيروت 1400 هـ. 44 - المجموع شرح المهذب للنووي، المكتبة السلفية، المدينة المنورة. 45 - مجموع فتاوى وبحوث للشيخ عبد الله بن سليمان المنيع ج 3 دار العاصمة بالرياض الطبعة الأولى 1420 هـ. 46 - المراسيل لأبي داود. 47 - المستدرك، للحافظ أبي عبد الله محمَّد المعروف بالحاكم مطبعة مجلس دائرة المعارف بالهند، الطبعة الأولى 1334 هـ. 48 - المسند للإمام أحمد بن حنبل الطبعة الحديثة المحققة بإشراف الدكتور عبد الله التركي. 49 - مطالب أولى النهى شرح غاية المنتهى، مصطفى السيوطي الرحيباني، المكتب الإِسلامي بدمشق. 50 - المعجم الوسيط، د. إبراهيم أنيس وزملاؤه، مجمع اللغة العربية، مطابع دار المعارف بمصر الطبعة الثانية 1393 هـ.

51 - مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج، محمَّد الشربيني الخطيب، مطبعة الحلبي 1377 هـ. 52 - المغني لابن قدامة أبي محمَّد عبد الله بن أحمد بن محمَّد بن قدامة المقدسي، المتوفى سنة 620، مكتبة الرياض الحديثة بالرياض. 53 - مفيد الأنام في تحرير الأحكام لحج بيت الله الحرام لابن جاسر. 54 - المقاصد الحسنة للسخاوي. 55 - المقنع، عبد الله بن أحمد بن قدامة، هجر للطباعة والنشر. 56 - مواهب الجليل شرح مختصر خليل، لأبي عبد الله محمَّد بن محمَّد بن عبد الرحمن المغربي المعروف بالخطاب المتوفى 902 - 954 هـ دار الفكر الطبعة الثالثة 1412. 57 - الملخص الفقهي د. صالح الفوزان نشر رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء الطبعة الأولى 1423 هـ. 58 - الموسوعة الفقهية الكويتية. 59 - المؤطا للإمام مالك رواية يحيى بن يحيى الليثي، دار النفائس بيروت. 60 - نهاية المحتاج للرملي، شمس الدين محمَّد بن أبي العباس أحمد بن حمذه بن شهاب الرملي. 61 - نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، محمَّد بن علي الشوكاني.

الفِقهُ الميَسَّر قِسْمُ فِقه الأسرة النِّكاح - الطَّلاق - العدّة - الحضَانة - النَّفقَات - الفَرائض مَوسُوعة فقهيَّة حَديثَة تتناوَل أحكام الفقه الإسلامي بأسُلوب وَاضح للمختصّين وغيرهم تَأليف أ. د/عبد الله بن محمّد المطلق عضو هَيئة كبار العُلَماء، وعضو اللجنة الدَّائمة للإفتاء أ. د/عَبد الله بن محمد الطيّار أستَاذ الدراسات العليا بكليَّة الشَّريعة والدِّراسات الإسلامية بجامعة القصيم د/محمَّد بن إبراهيم المُوسَى عضو مجلس الشورى سابقًا - المجلس الأعلى للأوقاف الجزء الخامس مدار الوطن للنشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قسم فقه الأسرة

الفِقهُ الميَسَّر قسْمُ فِقه الأسرَة النِّكاح - الطَّلاق - العدّة - الحضَانة - النَّفقَات - الفَرائض

حقُوق الطَّبع محفُوظَة الطَّبعَة الثانيَة 1433 هـ - 2012 م مَدَارُ الوَطن للنَّشر المملكة العربية السعودية - المقر الرئيسي: الرياض - الملز ص. ب: 245760 - الرمز البريدي 11312 - هاتف 4792042 (5 خطوط) - فاكس 4723941 البريد الإلكتروني: [email protected] موقعنا على الإنترنت: www.madaralwatan.com الرياض: 0503269316 الغربية: 0504143198 الشرقية: 0503193268 الشمالية والقصيم: 0504130728 التوزيع الخيري للشرقية والجنوبية: 0503193269 التوزيع الخيري لباقي جهات المملكة: 0506436804 التسويق للجهات الحكومية: 0500996987 مبيعات المكتبات الخارجية: 0503193269

المقدمة

المقدمة الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم وبارك على نبي الهدى والرحمة محمَّد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين وبعد: فإن الإِسلام قد اهتم اهتمامًا كبيرًا ببناء الأسرة وأولاها عناية تامة لأنها عماد المجتمع واللبنة الأساسية للأمة الإِسلامية وشرع لها من الأحكام ما يسمو بها إلى معالي الأمور وتكون قوية متماسكة يتحقق منها وجود مجتمع يحترم بعضه بعضًا وتقوم كل منهم بواجباته ويؤدي له ما يستحقه من حقوق كي تكون الأمة الإِسلامية كما أراد الله لها أمه رائدة تقود البشرية إلى ما فيه سعادتها وصلاحها. وقد جاء الكلام في هذا الجزء على الموضوعات الآتية: 1 - كتاب النكاح: تعريفه وأركانه- الخطبة- الصداق- وليمة العرس- عشرة النساء. 2 - الطلاق: تعريفه وأركانه- أقسامه. 3 - الرجعة: شروط الرجعة- الإشهاد على الرجعة- ما تحصل به الرجعة. 4 - الإيلاء: معناه وألفاظه- مدته. 5 - الظهار: شروطه- ألفاظه- كفارته. 6 - اللعان: شروطه- الآثار المترتبة عليه. 7 - استلحاق النسب: الحالات التي ينسب فيه المولود للزوج. 8 - العدة: الحكمة من مشروعيتها- شروطها- أقسام المعتدات.

9 - الرضاع: شروط الرضاع المحرم- ما يثبت به الرضاعة- أثر الرضاعة. 10 - الحضانة: شروطها- أثر السن في إنهاء الحضانة. 11 - النفقات: مقدار الواجب منها- نفقة المطلقة- نفقة الأقارب. 12 - الفرائض: التركة- أركانها وموانع الإرث- أنواع الإرث- الحجب- حساب المواريث- العول- توريث ذوي الأرحام- المناسخات- ميراث الحمل- الخنثى- المفقود- ميراث الغرقى ونحوهم- قسمة التركات. والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه وأن ينفع به إنه سميع مجيب.

كتاب النكاح

الفِقهُ الميَسَّر كتاب النكاح

مشروعية النكاح

كتاب النكاح النكاح لغة: مصدر نكح ينكح من باب ضرب، يطلق على عقد الزواج، ويطلق على الوطء (¬1)؛ فمن الأول قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (¬2)، ومن الثاني قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬3). النكاح في الاصطلاح: تعدت ألفاظ فقهاء المذاهب في تعريف النكاح وهي كلها تدور حول معنى العقد الذي يحل الاستمتاع بالأنثى بالشروط الشرعية (¬4). مشروعية النكاح: الأصل في مشروعية النكاح الكتاب والسنة والإجماع: فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (¬5)، وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} (¬6). ¬

_ (¬1) المفردات للراغب الأصفهاني مادة: نكح (ص: 506)، لسان العرب مادة: نكح (2/ 625)، المصباح المنير مادة: نكح (ص: 321). (¬2) سورة النور: 32. (¬3) سورة البقرة: 230. (¬4) حاشية ابن عابدين (2/ 258)، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (3/ 78 - 79)، مغني المحتاج (3/ 123)، كشاف القناع (5/ 5). (¬5) سورة النساء: 3. (¬6) سورة النساء: 25.

الحكمة من مشروعية النكاح

ومن السنة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج" (¬1) الحديث رواه البخاري ومسلمٌ. وقد حكى الإجماع على مشروعيته غير واحد من الفقهاء (¬2). الحكمة من مشروعية النكاح: لمشروعية النكاح حكم كثيرة ومتنوعة، فمنها حفظ النوع بالتناسل، وغض البصر، وصيانة النفس عن الزنا قال - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج" (¬3) الحديث، ومن ذلك أيضًا صيانة النساء والقيام عليهن بالإنفاق وقضاء حوائجهن، والتعاون بين الرجل والمرأة على شؤون الحياة المختلفة، وتكثير أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وتحقيق مباهاته - صلى الله عليه وسلم - للأمم كما في حديث أنس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهيًا شديدًا ويقول: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة" (¬4)، وفي رواية: "تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة" (¬5). حكم النكاح: يرى الفقهاء أن النكاح تجري فيه الأحكام التكليفية الخمسة حسب حالات الأشخاص وفيما يلي توضيح ذلك (¬6): ¬

_ (¬1) البخاري برقم (4778)، ومسلمٌ برقم (1400). (¬2) مغني المحتاج (4/ 201)، المغني مع الشرح الكبير (7/ 334)، كشاف القناع (5/ 6). (¬3) تقدم تخريجه قريبًا. (¬4) قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 258: "رواه أحمد والطبرانيُّ في الأوسط وإسناده حسن". (¬5) رواه عبد الرزاق [6/ 173 (10391)]، مرسلا. (¬6) بدائع الصنائع (2/ 228)، البحر الرائق (3/ 84)، بداية المجتهد (2/ 3)، التاج والإكليل (3/ 403)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (2/ 214 - 215)، قوانين الأحكام الشرعية (ص: 130)، المهذب (2/ 43)، روضة الطالبين (7/ 18)، مغني المحتاج (3/ 125 - 126)

الوجوب: من الحالات التي لا يختلف جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في القول بوجوب النكاح فيها أن يخشى الشخص على نفسه من الوقوع في الزنا بترك النكاح، ففي هذه الحالة يكون النكاح واجبًا عليه مع مراعاة توافر الشروط الأخرى كالقدرة المالية ونحو ذلك؛ والعلة في وجوب النكاح هنا أن إعفاف النفس وصرفها عن الحرام واجب والطريق الشرعي لتحقيق ذلك هو النكاح. وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في فتواها رقم (16895) حيث نصت على أن مشروعية الزواج تختلف باختلاف الأحوال فمن خاف على نفسه الوقوع في المحظور إن ترك النكاح وجب عليه النكاح إن كان قادرًا على مؤنته في قول عامة فقهاء الإِسلام، وأن من كان يأمن على نفسه من الوقوع في المحظور استحب له الزواج .. الخ (¬1)، وكذلك في فتواها رقم (17973) (¬2). الندب: يرى جمهور الفقهاء أن النكاح في أصله سنة مندوب إليها إذا احتاج إليه الشخص وكانت له الرغبة والشهوة ولا يخاف على نفسه الزنا بتركه وذلك امتثالا لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج" (¬3) الحديث، رواه البخاري ومسلمٌ. فقوله: "فليتزوج" أمر وأقل ما يدل عليه الندب والاستحباب، ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - علل أمره به بأنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ووجه الخطاب إلى الشباب؛ لأنهم أغلب شهوة، وذكره بأفعل التفضيل فدل على أن ¬

_ = الإفصاح (2/ 110)، المغني مع الشرح الكبير (7/ 334 - 338)، الإنصاف (8/ 7)، كشاف القناع (5/ 6). (¬1) 18/ 8. (¬2) 18/ 19. (¬3) تقدم تخريجه.

ذلك أولى للأمن من الوقوع في محظور النظر والزنا من تركه (¬1). وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في فتواها رقم (16895) المتقدم ذكرها قريبا، والفتوى رقم (21359) (¬2). الكراهة: يكون النكاح مكروها كما يقول الحنفية عند خوف الجور، أو لمن لا يشتهيه عند المالكية والشافعية والحنابلة (¬3). الحرمة: يكون الزواج محرما إذا ترتب عليه مفسدة كتيقن الجور كما ينص عليه الحنفية، وعدم القدرة على الوطء أو النفقة أو التكسب من حرام ونحو ذلك كما ينص عليه المالكية والشافعية، وحالة أسر المسلم أو دخول المسلم دار كفر كما ينص عليه الحنابلة. الإباحة: يكون النكاح مباحا إذا كان قصد الشخص من الإقدام عليه هو مجرد قضاء الشهوة فحسب، ولم يكن يقصد إقامة السنة به عند الحنفية، وكذا لمن لا يولد له ولا يرغب في النساء ولا يرجو نسلا لكونه حصورا أو خصيا أو مجبوبا أو شيخا أو عقيما ونحو ذلك عند المالكية، وعند الشافعية يباح لمن وجد الأهبة مع عدم حاجته إلى النكاح ولم تكن به علة، وعند الحنابلة يباح لمن لا شهوة له كالعنين والمريض والكبير لأن الخوف من الزنا مفقود في حقه (¬4). ¬

_ (¬1) كشاف القناع (5/ 6). (¬2) 18/ 6. (¬3) انظر المراجع في أول المسألة. (¬4) انظر المراجع في أول المسألة.

أركان النكاح

أركان النكاح: اختلف الفقهاء في أركان النكاح على ثلاثة أقوال (¬1): الأول: أن ركنه واحد الإيجاب والقبول وهو مذهب الحنفية. التاتي: أن أركانه ثلاثة وهي عند المالكية الولي، الزوجان، والصيغة، وعند الحنابلة الزوجان والإيجاب والقبول. الثالث: أركانه خمسة وهو مذهب الشافعية وهي: الصيغة، والزوج، والزوجة، والشاهدان، والولي. أولًا: الزوجان الخاليان من الموانع: لا يختلف الفقهاء أن النكاح لا ينعقد إلا بين زوجين خاليين من الموانع شرعًا، والموانع الشرعية هي العلاقة التي جعلها الشارع سببا لتحريم النكاح بين الرجل والمرأة إما على سبيل التأبيد أو إلى أجل، ويتناول الفقهاء بحث ذلك في باب المحرمات في النكاح. ثانيا: الصيغة: لما كان النكاح عقدًا من العقود فلا يختلف الفقهاء في أنه يحتاج إلى صيغة يتحقق فيها الإيجاب والقبول، وينعقد بلفظ الإنكاح والتزويج وبكل ما يدل على ذلك كملكتك ونحو ذلك. وبذلك أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في فتواها رقم (4123) (¬2). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (2/ 229)، الشرح الصغير (3/ 81 - 82)، مغني المحتاج (3/ 139)، كشاف القناع (5/ 37). (¬2) 18/ 82.

ثالثا: الولي

ثالثًا: الولي: الولاية في الفقه: سلطة يثبتها الشرع لإنسان تمكنه من رعاية المولى عليه من نفس ومال وحفظه وتنميته بالطرق المشروعة (¬1). فولي المرأة في باب النكاح هو الذي يتولى تزويج المرأة وفق ما تقضي به أحكام الشريعة، وهو إما أن يكون ملزما بأخذ رأيها أو لا يكون كذلك حسب اختلاف قوة القرابة وحال المرأة. شروط الولاية في النكاح: يشترط في الولي أن تتوافر فيه الشروط الآتية (¬2): 1 - العقل: ولا خلاف في اشتراطه؛ لأن الولاية إنما تثبت نظرًا للمولى عليه عند عجزه عن النظر لنفسه، ومن لا عقل له لا يمكنه النظر لنفسه فلغيره أولى. 2 - الحرية: وهي شرط عند جمهور الفقهاء لأن العبد لا ولاية له على نفسه فعلى غيره أولى. وأجاز الحنفية ولايته بإذن المرأة بناء على قولهم بجواز أن تزوج نفسها. 3 - الإِسلام: وهو شرط بالإجماع فيما إذا كانت المرأة مسلمة فلا ولاية لكافر عليها. 4 - الذكورية: وهي شرط بالاتفاق فلا ولاية للمرأة في النكاح على غيرها؛ لأنها قاصرة عن النظر لنفسها فلغيرها أولى. ¬

_ (¬1) الولاية على النفس د. حسن الشاذلي (ص: 4). (¬2) بدائع الصنائع (2/ 237، 239)، تبيين الحقائق (2/ 126)، البحر الرائق (3/ 132)، الهداية شرح بداية المبتدي (1/ 199)، المسائل الملقوطة من الكتب المبسوطة لابن فرحون (ص: 131)، قوانين الأحكام الشرعية (ص: 134)، الفواكه الدواني (2/ 4)، التاج والإكليل (3/ 438)، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (3/ 126)، المهذب (2/ 36)، المنهاج مع شرحه مغني المحتاج (3/ 154 - 156)، الإنصاف (8/ 72 - 74)، كشاف القناع (5/ 53 - 54).

5 - البلوغ: وهو شرط عند الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في المذهب عندهم. وفي رواية أخرى عند الحنابلة لا يشترط البلوغ ونصوا على ثبوتها لابن عشر سنين فما فوقه. وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بالرأي الثاني في فتواها رقم (17529) (¬1). 6 - العدالة: وهي شرط عند الشافعية، والمذهب عند الحنابلة (¬2)؛ لأنها ولاية نظرية فلا يستبد بها الفاسق كولاية المال. وذهب الحنفية والمالكية والشافعية في قول إلى عدم اشتراطها (¬3)؛ لأن الفاسق يلي نكاح نفسه فتثبت له الولاية على غيره كالعدل، ولأن سبب الولاية القرابة وشرطها النظر وذلك متوافر فيه. 7 - الرشد: وهو شرط عند الشافعية والحنابلة (¬4). فلا ولاية للمحجور عليه لسفه في النكاح، واستدلوا بما روي عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل"، وفي رواية عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا نكاح إلا بإذن ولي مرشد أو سلطان" (¬5). وقال الشيخ تقي الدين -رحمه الله- الرشد هنا هو المعرفة ¬

_ (¬1) 18/ 147. (¬2) المهذب (2/ 36)، المغني (7/ 356)، الإنصاف (8/ 74)، كشاف القناع (5/ 54). (¬3) المسائل الملقوطة لابن فرحون (ص: 131)، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (3/ 128)، المهذب (2/ 36). (¬4) المهذب (2/ 36)، المنهاج مع شرحه مغني المحتاج (3/ 154 - 156)، الإنصاف (8/ 74)، كشاف القناع (5/ 54). (¬5) رواه الشافعي في مسنده (ص: 220)، والطبرانيُّ في الأوسط [1/ 167 (521)]، والبيهقيُّ (7/ 124). قال الهيثمي في المجمع (4/ 276): "رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح".

انتقال الولاية بالعضل

بالكفء ومصالح النكاح ليس هو حفظ المال فإن رشد كل مقام بحسبه (¬1). وذهب المالكية إلى عدم اشتراطه بل هو شرط كمال عندهم وهو قول عند الشافعية والحنابلة (¬2). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بذلك في فتواها رقم (17529) (¬3). 8 - أن يكون غير محرم بحج ولا عمرة: وهذا عند جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة (¬4)، لحديث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب" رواه مسلم (¬5). وذهب الحنفية إلى عدم اشتراط ذلك وحملوا حديث النهي على أن المحظور الوطء دون العقد (¬6). انتقال الولاية بالعضل: العضل: منع المرأة من نكاح كفئها إذا طلبت ذلك ورغب كل واحد منهما في صاحبه (¬7). وهو محرم لقوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا ¬

_ (¬1) الإنصاف (8/ 74)، كشاف القناع (5/ 54). (¬2) المسائل الملقوطة لابن فرحون (ص: 131)، قوانين الأحكام الشرعية (ص: 134)، التاج والإكليل (3/ 438)، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (3/ 126)، الإنصاف (8/ 74)، كشاف القناع (5/ 54). (¬3) 18/ 147. (¬4) الكافي لابن عبد البر (1/ 144)، والتمهيد للمؤلف نفسه (3/ 156)، قوانين الأحكام الشرعية (ص: 92)، المهذب (2/ 210)، مغني المحتاج (2/ 217)، المغني (7/ 578)، كشاف القناع (2/ 441). (¬5) صحيح مسلم برقم (1409). (¬6) المبسوط (4/ 191)، الهداية شرح بداية المبتدي (1/ 193)، البحر الرائق (3/ 111). (¬7) المغني (7/ 368).

تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬1). وعن معقل بن يسار -رضي الله عنه- قال: زوجت أختا لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها فقلت له زوجتك وأفرشتك وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها! لا والله لا تعود إليك أبدا، وكان رجلًا لا بأس به وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فأنزل الله هذه الآية: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} الآية، فقلت: الآن أفعل يا رسول الله قال: "فزوجتها إياه". رواه البخاري (¬2)، وفي لفظ عند البخاري أيضًا: "أن معقل بن يسار كانت أخته تحت رجل فطلقها ثم خلى عنها حتى انقضت عدتها ثم خطبها فحمي معقل من ذلك أنفا فقال: خلى عنها وهو يقدر عليها ثم يخطبها! فحال بينه وبينها فأنزل الله {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} إلى آخر الآية، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ عليه فترك الحمية واستقاد لأمر الله" (¬3). إذا عضل الولي الأقرب المرأة فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: الأول. أن الولاية تنتقل إلى السلطان وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية وهو رواية عند الحنابلة (¬4)، واستدلوا بحديث عائشة -رضي الله عنها-: "فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" (¬5). ولأن ذلك حق عليه امتنع من أدائه فقام الحاكم مقامه. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 232. (¬2) صحيح البخاري برقم (5021). (¬3) صحيح البخاري برقم (5021). (¬4) بدائع الصنائع (2/ 252)، حاشية ابن عابدين (3/ 82)، التاج والإكليل (3/ 439)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (2/ 232)، روضة الطالبين (7/ 58، 3/ 153)، مغني المحتاج (3/ 153)، المغني (7/ 368)، الإنصاف (8/ 75). (¬5) تقدم تخريجه.

التوكيل في النكاح

الثاني: أن الولاية تنتقل إلى الأبعد وهو الصحيح من مذهب الحنابلة (¬1)؛ لأنه تعذر التزويج من جهة الأقرب فملكه الأبعد كما لو جن، ولأنه يفسق بالعضل فتنتقل الولاية عنه كما لو شرب الخمر. وقالوا: إن عضل الأولياء كلهم زوج الحاكم وعليه حملوا حديث: "السلطان ولي من لا ولي له"؛ لأن المسألة فيمن لها أكثر من ولي غير العاضل، ولأن قوله: "فإن اشتجروا" ضمير جمع يتناول الكل. التوكيل في النكاح: التوكيل هو تفويض شخص ما له فعله مما يقبل النيابة إلى غيره ليفعله في حياته (¬2). ولا خلاف بين الفقهاء أن النكاح كما ينعقد بالأصالة ينعقد بالوكالة (¬3)؛ لأن تصرف الوكيل كتصرف الموكل. والأصل في جوازه ما روي عن أم حبيبة -رضي الله عنها- "أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش فمات بأرض الحبشة فزوجها النجاشي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمهرها عنه أربعة آلاف وبعث بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع شرحبيل بن حسنة" رواه أبو داود والنسائيُّ (¬4). قال الكاساني: فلا يخلو ذلك إما أن يكون فعله بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو لا، فإن فعله بأمره فهو وكيله في ذلك، وإن فعله بغير أمره فقد أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - عقده والإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة (¬5). ¬

_ (¬1) الإنصاف (8/ 75)، كشاف القناع (5/ 54). (¬2) مغني المحتاج (2/ 217). (¬3) بدائع الصنائع (2/ 231)، المغني (7/ 352). (¬4) أبو داود برقم (2107)، والنسائيُّ برقم (3350)، والدارقطنيُّ (3/ 246)، والحاكم [2/ 198 (2741)]، والبيهقيُّ (7/ 139). قال الحاكم عقبه: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". (¬5) بدائع الصنائع (2/ 231).

وإذا ثبت ذلك فيشترط في الوكيل شروط الوكالة العامة، ويشترط جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة (¬1) أن لا يكون محُرِمًا هو وموكله لما تقدم من حديث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب" رواه مسلم. ولا يشترط ذلك عند الحنفية حملًا للنهي على الوطء دون العقد (¬2). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بجواز التوكيل في الزواج في فتواها رقم (4883)، ورقم (1007) وغيرهما (¬3). وهل يجوز أن يوكل الولي امرأة في عقد النكاح؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: الأول: لا يجوز توكيلها وهو مذهب الشافعية والمذهب عند الحنابلة والمالكية (¬4)؛ لأنها لا تزوج نفسها فلا يجوز أن تكون وكيلًا عن غيرها ,ولحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها وكنا نقول إن التي تزوج نفسها هي الفاجرة" (¬5). ¬

_ (¬1) الكافي لابن عبد البر (1/ 144)، والتمهيد للمؤلف نفسه (3/ 156)، قوانين الأحكام الشرعية (ص: 92)، المهذب (2/ 210)، مغني المحتاج (2/ 217)، المغني (7/ 578)، كشاف القناع (2/ 441). (¬2) المبسوط (4/ 191)، الهداية شرح بداية المبتدي (1/ 193)، البحر الرائق (3/ 111). (¬3) 18/ 149 , 156. (¬4) التمهيد لابن عبد البر (19/ 84)، مغني المحتاج (3/ 147)، المغني (7/ 337)، الإنصاف (8/ 66). (¬5) رواه ابن ماجه برقم (1882)، والدارقطنيُّ (2/ 277)، قال ابن الملقن في الخلاصة (2/ 187) "رواه ابن ماجه من رواية أبي هريرة كذلك بسند ضعيف والدارقطنيُّ بإسناد على شرط مسلم".

الإشهاد

الثاني: يجوز توكيلها وهو مذهب الحنفية وقول عند الحنابلة (¬1)؛ لأنها تتولى تزويج نفسها فجاز أن تتولاه لغيرها. الإشهاد: المقصود بالإشهاد أي حضور الشهود وشهادتهم على عقد النكاح. وقد اختلف الفقهاء في اشتراط الإشهاد على قولين: الأول: ذهب المالكية إلى أن الإشهاد واجب مستقل وليس ركنا ولا شرطًا لصحة عقد النكاح، فلو انعقد النكاح بدونه صح ولكنه لا بد من حصوله قبل الدخول (¬2). الثاني: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة (¬3) إلى أن النكاح لا يصح إلا بحضرة شاهدين لحديث عائشة -رضي الله عنها-: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل وما كان من نكاح على غير ذلك فهو باطل" (¬4)، والمعنى في اعتبارهما الاحتياط للأبضاع، ولأنه عقد يتعلق به حق غير المتعاقدين وهو الولد فاشترط الإشهاد لئلا يجحده أبوه فيضيع نسبه، ولأن الحاجة ماسة إلى دفع تهمة ¬

_ (¬1) المبسوط (5/ 10)، الهداية شرح بداية المبتدي (1/ 196)، شرح فتح القدير (3/ 255)، الإنصاف (8/ 66). (¬2) الشرح الصغير والصاوي (3/ 82 - 83)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (2/ 216)، 220. (¬3) المبسوط (5/ 30)، بدائع الصنائع (2/ 252)، المهذب (2/ 40)، مغني المحتاج (3/ 144)، المغني (7/ 340)، الإنصاف (8/ 102)، كشاف القناع (5/ 65). (¬4) رواه ابن حبان [9/ 386 (4076)]. قال ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/ 176): "حديث لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل رواه ابن حبان من رواية عائشة وقال: لا يصح ذكر الشاهدين إلا في هذا الحديث، قلت: هو كما قال، وله طرق أخرى فيها ضعف لا حاجة إليها معه".

الشروط في النكاح

الزنا عن الزوجة بعد النكاح والدخول ولا تندفع إلا بالشهود لظهور النكاح واشتهاره بقول الشهود. الشروط في النكاح: الشروط في النكاح قسمان (¬1): صحيحة وفاسدة. الشروط الصحيحة: وهي نوعان: أحدهما: اشتراط ما يقتضيه العقد كتسليم الزوجة إلى الزوج وتمكينه من الاستمتاع بها، وتسليمها المهر ونحو ذلك فوجوده كعدمه؛ لأن العقد يقتضيه. الثاني: اشتراط ما تنتفع به المرأة مما لا ينافي العقد كزيادة معلومة في المهر أو في النفقة، أو أن لا ينقلها من دارها أو بلدها، أو أن لا يسافر بها، أو أن لا يفرق بينها وبين أبويها أو أولادها، أو لا يتزوج عليها، أو شرط لها طلاق ضرتها (¬2) ونحو ذلك فهذا النوع صحيح ولازم وللزوجة خيار الفسخ عند عدم الوفاء به؛ لما روى عن عبد الرحمن بن غنم قال: "شهدت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أتي في امرأة جعل لها زوجها دارها فقال عمر: لها شرطها، فقال رجل: إذا يطلقننا! فقال عمر: إنما مقاطع الحقوق عند الشروط" (¬3). وفي رواية عنه قال: "كنت مع عمر ¬

_ (¬1) المغني (7/ 448)، الإنصاف (8/ 154)، كشاف القناع (5/ 90). (¬2) القول بصحة اشتراط المرأة طلاق ضرتها رواية عن الإِمام أحمد ذكره عنه جماعة من أصحابه وعليه أكثر الحنابلة كما نقله ابن مفلح، وقال الموفق وغيره الصحيح بطلانه لما رواه البخاري ومسلمٌ من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائه" صحيح البخاري برقم (2032، و 2574)، وصحيح مسلم برقم (1413). انظر: المغني مع الشرح الكبير (7/ 451، و 527)، الإنصاف (8/ 157)، الفروع (5/ 162)، كشاف القناع (5/ 91). (¬3) رواه سعيد بن منصور [1/ 211 (662)]، وابن أبي شيبة [3/ 297 (16449)]. وذكره الموفق في المغني عن الأثرم (7/ 449). وذكره البخاري معلقًا في صحيحه (2/ 970). قال الحافظ في

الشروط الفاسدة

حيث تمس ركبتي ركبته فجاءه رجل فقال يا أمير المؤمنين تزوجت هذه وشرطت لها دارها وإني أجمع لأمري أو لشأني أن انتقل إلى أرض كذا وكذا فقال: لها شرطها، فقال: هلكت الرجال إذا لا تشاء امرأة أن تطلق زوجها إلا طلقت! فقال عمر: المسلمون على شروطهم عند مقاطع حقوقهم" (¬1). ولأنه شرط لها فيه منفعة مقصودة لا تمنع المقصود من النكاح فكان لازما. وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بصحة شرط المرأة بقاءها في قريتها في الفتوى رقم (14682) (¬2)، وصحة اشتراط مبلغ إضافي سوى المهر في فتواها رقم (9298) (¬3)، أما اشتراط المرأة طلاق ضرتها فقد أفتت اللجنة بفساده وعدم لزوم الوفاء به في فتواها رقم (18727) (¬4). الشروط الفاسدة: وهي نوعان (¬5): أحدهما: يبطل النكاح كاشتراط التحليل أو المتعة، واشتراط نفي الحل بأن يتزوجها على أن لا تحل له لمنافاته العقد، أو شرط مستقبل غير مشيئة الله كإن جاء رأس الشهر أو إن رضي زيد ونحو ذلك؛ لأن ذلك وقف للنكاح على شرط، ولأن النكاح عقد معاوضة فلا يصح تعليقه على شرط مستقبل كالبيع. وسيأتي الكلام عن شيء من صور الأنكحة المنهي عنها. ¬

_ = الفتح (5/ 323): "وصله ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور من طريق إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر عن عبد الرحمن بن غنم". وانظر أيضًا تغليق التعليق (4/ 419). (¬1) رواه عبد الرزاق [6/ 227 (10608)]، وسعيد بن منصور [1/ 211 (663)]. (¬2) 18/ 403. (¬3) 18/ 405. (¬4) 18/ 397. (¬5) المغني (7/ 7 / 452)، كشاف القناع (5/ 92).

صور من الأنكحة المنهي عنها

الثاني: اشتراط الزوجين أو أحدهما الخيار في النكاح أو في المهر أو لأحدهما الخيار في النكاح والمهر أو شرطا أو أحدهما عدم الوطء أو شرطت إن جاء بالمهر في وقت كذا وإلا فلا نكاح بينهما ونحو ذلك. صور من الأنكحة المنهي عنها: الأولى: نكاح الشغار: نكاح الشغار هو أن يزوج الرجل موليته لآخر على أن يزوجه موليته وليس بينهما صداق، وكان من الأنكحة المعروفة في الجاهلية سمي شغارًا لقبحه تشبيهًا برفع الكلب رجله عند البول، أو لخلوه من المهر من شغر البلد أو المكان إذا خلا (¬1). وهو من الأنكحة المنهي عنها في الإِسلام وقد ذكر العلماء له صورتين إحداهما أن يخلو العقد عن الصداق بأن يكون بضع كل منهما صداقًا للآخر، والصورة الأخرى أن يشترط كل من الوليين على الآخر أن يزوجه وليته. وقد أجمع العلماء على أن نكاح الشغار منهي عنه لكن اختلفوا هل هو نهي يقتضي بطلان النكاح أم لا (¬2)؟ على قولين: الأول: ذهب جمهور الفقهاء من الشافعية والحنابلة في المذهب عندهم إلى بطلانه (¬3)، لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشغار" والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق (¬4) متفق عليه، ¬

_ (¬1) غريب الحديث لأبي عبيد (3/ 128)، غريب الحديث لابن قتيبة (1/ 206)، التمهيد لابن عبد البر (14/ 71)، النهاية لابن الأثير (2/ 482)، المغني (7/ 134)، شرح صحيح مسلم للنووي (9/ 200)، المطلع (ص: 323). (¬2) التمهيد لابن عبد البر (14/ 71)، شرح صحيح مسلم للنووي (9/ 200). (¬3) الأم (5/ 77، 174)، الوسيط للغزالي (5/ 48)، المغني (7/ 134)، روضة الطالبين (7/ 41)، مغني المحتاج (3/ 142)، الإنصاف (8/ 159)، كشاف القناع (5/ 92). (¬4) البخاري برقم (4822، 6553)، ومسلمٌ برقم (1415).

الثانية: نكاح المتعة

وحديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا شغار في الإِسلام والشغار أن يبذل الرجل للرجل أخته بغير صداق" (¬1). وحديث جابر ابن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشغار، والشغار أن ينكح هذه بهذه بغير صداق بضع هذه صداق هذه، وبضع هذه صداق هذه" (¬2). الثاني: ذهب الحنفية إلى أن الشغار لا يبطل به عقد النكاح بل يصح ويجب فيه مهر المثل (¬3). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بتحريم هذا النكاح عندما يقع بشرط التبادل، أو بالتواطؤ أو بالحيلة في عدد من فتاواها من ذلك الفتوى رقم (275)، ورقم (801) و (354)، ورقم (1363)، ورقم (2158)، وغيرها (¬4). الثانية: نكاح المتعة: المتعة اسم من تمتع بالشيء إذا انتفع به، وهو النكاح إلى أجل معلوم أو مجهول. وهو من أنكحة الجاهلية، كان مباحًا في أول الإِسلام ثم حرم إلى الأبد، وقد كان ابن عباس يقول بجوازها ثم رجع عن ذلك. قال ابن العربي -رحمه الله-: "وقد كان ابن عباس يقول بجواز المتعة ثم ثبت رجوعه عنها فانعقد الإجماع على تحريمها" (¬5). قال النووي -رحمه الله-: "قال المازري: ثبت أن نكاح المتعة كان جائزًا في أول الإِسلام ثم ثبت بالأحاديث الصحيحة المذكورة هنا أنه نسخ وانعقد ¬

_ (¬1) رواه أحمد (3/ 162، 165)، وابن ماجه [1/ 606 (1885)]، والنسائيُّ برقم (3336)، وابن حبان [9/ 461 (4154)]، الطبراني في الأوسط [3/ 228 (2999)]. (¬2) رواه البيقهي (7/ 200)، وهو عند مسلم عن جابر بدون الزيادة برقم (1417). (¬3) بدائع الصنائع (2/ 278)، شرح فتح القدير (3/ 338). (¬4) فتاوى اللجنة الدائمة (18/ 418 - 436). (¬5) تفسير القرطبي (5/ 132 - 133).

الثالثة: نكاح التحليل

الإجماع على تحريمه ولم يخالف فيه إلا طائفة من المستبدعة" (¬1). الثالثة: نكاح التحليل: هو النكاح الذي يقصد به الرجل تحليل المرأة المطلقة ثلاثًا لتعود لزوجها الأول، وله ثلاث حالات: الأولى: أن يشترط في العقد أنه متى أصابها فلا نكاح بينهما ونحو ذلك فهذا النكاح باطل عند المالكية والشافعية والحنابلة، ودليل ذلك حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل له" (¬2)، وحديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ " قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له" (¬3)، وما رواه قبيصة بن جابر قال: "سمعت عمر وهو يخطب الناس وهو يقول: والله لا أوتى بمحل ولا محلل له إلا رجمتهما" (¬4)، ولأنه نكاح إلى مدة أو فيه شرط يمنع بقاءه فأشبه المتعة، ولأنه نكاح شرط فيه انقطاعه قبل غايته فوجب أن يكون باطلا. وذهب الحنفية إلى أن نكاح المحلل نكاح صحيح إلا أنه يكره عندهم كراهة تحريمية إذا كان بشرط التحليل كأن يقول: تزوجتك على أن أُحللك للأول فيصح النكاح ويلغو الشرط. ¬

_ (¬1) شرح صحيح مسلم (9/ 179). (¬2) رواه الدارمي [2/ 211 (2258)]، والترمذيُّ [3/ 428 (1120)]، وقال عقبه: "حسن صحيح"، والنسائيُّ في الكبرى [3/ 325 (5536)]، قال الحافظ في التلخيص (3/ 170): "وصححه بن القطان وابن دقيق العيد على شرط البخاري". (¬3) رواه ابن ماجه [1/ 623 (1936)]. قال الزيلعيُّ في نصب الراية (3/ 239): "قال عبد الحق في أحكامه: إسناده حسن انتهى". وقال الحافظ في الدراية (2/ 73): "ورواته موثقون". (¬4) رواه سعيد بن منصور [2/ 75 (1993)]، وعبد الرزاق [6/ 265 (10777)]، وابن أبي شيبة [7/ 292 (36191)]، والبيهقيُّ (7/ 208).

الرابعة: نكاح السر

الثانية: أن يتزوجها ويشترط عليه في العقد أنه إذا أحلها طلقها فهو باطل عند المالكية والحنابلة على الصحيح والشافعية في الأصح وأبي يوسف من الحنفية لعموم النهي، ولأنه شرط يمنع دوام النكاح فأشبه التأقيت له. وذهب الحنفية إلى صحة هذا النكاح وبطلان الشرط وهو قول عند الشافعية والحنابلة، إلا أنه يكره بهذا الشرط؛ لأنه ينافي المقصود من النكاح. الثالثة: أن يتواطأ العاقدان قبل العقد دون أن يذكراه في العقد، فذهب الحنفية والشافعية والحنابلة في وجه إلى صحته لخلوه مما يفسد العقد أشبه ما لو نوى طلاقها لغير الإحلال أو ما لو نوت المرأة ذلك، ولأن الشرط إنما يبطل بما شرط فيه لا بما قصد به (¬1). وذهب المالكية والحنابلة إلى عدم صحة هذا النكاح لعموم النهي، ولأنه قصد به التحليل فلم يصح كما لو شرطه في العقد (¬2). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية ببطلان نكاح التحليل بجميع صوره المذكورة في فتواها رقم (10726) (¬3). الرابعة: نكاح السر: يرى الحنفية أن نكاح السر هو ما لم يحضره الشاهدان، بينما يرى جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة أن نكاح السر هو ما توافر فيه الإشهاد مع التواصي على كتمانه كما هو الشأن في بعض صور ما يسمى الآن بنكاح المسيار، غير ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (3/ 187)، حاشية ابن عابدين (2/ 540)، الحاوي الكبير (9/ 332 - 333)، مغني المحتاج (3/ 183)، المغني (7/ 574)، كشاف القناع (5/ 95). (¬2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (2/ 258 - 259)، المغني (6/ 645)، كشاف القناع (5/ 94) (¬3) 18/ 438.

أن المالكية في المشهور عندهم يشترطون أن يوصي الزوج الشهود خاصة بالكتمان حين العقد، سواء أُوصي غيرهم بذلك أم لا (¬1). ونكاح السر على تعريف الحنفية نكاح باطل عند عامة الفقهاء وهو من جنس السفاح (¬2)؛ لأن الإشهاد في النكاح إما ركن أو شرط لصحة العقد. وأما على تعريف الجمهور فقد ذهب الشافعية والحنابلة إلى صحته مع الكراهة؛ لأن النكاح لا يكون مع الشهادة عليه مكتوما، وهو مكروه؛ لحديث عبد الله بن الزبير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعلنوا النكاح" (¬3)، وحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف" (¬4) رواه الترمذيُّ، وحديث أبي هريرة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نكاح السر" (¬5) رواه الطبراني، وحديث علي -رضي الله عنه-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر وأصحابه ببني زريق فسمعوا غناء ولعبا فقال: "ما هذا؟ " فقالوا: نكاح فلان يا رسول الله. فقال: "كمل ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (2/ 253)، فتح القدير (3/ 200)، حاشية الدسوقي (2/ 236، 237)، الأم (5/ 23، و 7/ 249)، المغني (7/ 343). (¬2) مجموع الفتاوى لشيخ الإِسلام ابن تيمية (33/ 158). (¬3) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 289): "رواه أحمد والبزار والطبرانيُّ فى الكبير والأوسط ورجال أحمد ثقات". (¬4) رواه الترمذيُّ [3/ 398 (1089)]، وقال: "غريب حسن في هذا الباب". قال الحافظ في التلخيص (4/ 201): "الترمذيُّ، وابن ماجه، والبيهقيُّ، عن عائشة، وفي إسناده خالد بن الياس وهو منكر الحديث قاله أحمد، وفي رواية الترمذيُّ عيسى بن ميمون وهو يضعف قاله الترمذيُّ، وضعفه ابن الجوزي من الوجهين، نعم روى أحمد وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن الزبير: "أعلنوا النكاح". وقال الهيثمي (4/ 289): "وعن عبد الله بن الزبير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعلنوا النكاح" رواه أحمد والبزار والطبرانيُّ في الكبير والأوسط ورجال أحمد ثقات". (¬5) مسند الشاميين [2/ 61 (921)]. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 285): "رواه الطبراني في الأوسط عن محمَّد بن عبد الصمد بن أبي الجراح ولم يتكلم فيه أحد وبقية رجاله ثقات".

الخامسة: النكاح بنية الطلاق

دينه هذا النكاح لا السفاح، ولا نكاح السر حتى يسمع دف أو يرى دخان" (¬1). وذهب المالكية إلى أن نكاح السر يفسخ قبل الدخول، ويفرق بينهما بالطلاق إن حصل فيه الدخول ولم يطل عرفا، أما إذا وقع الدخول وطالت المدة عرفا لم يفسخ على المشهور. وهذا كله إذا لم يكن الكتمان خوفًا من ظالم ونحوه (¬2). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بتحريم نكاح السر في فتواها رقم (1002) (¬3)، وفتواها رقم (18612) (¬4). الخامسة: النكاح بنية الطلاق: اختلف فيه الفقهاء في النكاح بنية الطلاق على قولين: الأول: ذهب الحنفية والمالكية والشافعية إلى صحته سواء علمت المرأة أو وليها بهذه النية أم لا، وهو قول عند الحنابلة جزم به ابن قدامة وغيره وقال: هو قول عامة أهل العلم إلا الأوزاعي قال هو نكاح متعة، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬5). وذلك لخلو العقد مما يفسده؛ إذ التوقيت المفسد للعقد إنما يكون باللفظ لا بالنية، وقد ينوي الرجل ما لا يفعله، أو يفعل ما لا ينويه (¬6). ¬

_ (¬1) رواه ابن عدي في الكامل (2/ 357، 358) وقال: "حسين بن عبد الله ضعيف منكر الحديث"، والبيهقيُّ في السنن الكبرى (7/ 290) وقال: "حسين بن عبد الله ضعيف". (¬2) المدونة الكبرى (2/ 192)، مواهب الجليل (3/ 410 , 409)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (2/ 236، 237). (¬3) 18/ 109. (¬4) 8/ 135. (¬5) المغني (7/ 573)، الإنصاف (8/ 163)، كشاف القناع (5/ 97)، مجموع الفتاوى (32/ 146). (¬6) الفتاوى الهندية (1/ 283)، البحر الرائق (3/ 116)، حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير (2/ 239)، الحاوي الكبير للماوردي (9/ 333)، مغني المحتاج (3/ 183)، المغني (7/ 573)، الإنصاف (8/ 163)، كشاف القناع (5/ 97).

المحرمات في النكاح

الثاني: ذهب الحنابلة في الصحيح من مذهبهم إلى بطلان هذا النكاح باعتبار أنه من صور نكاح المتعة. وهو قول بعض المالكية في حالة ما لو فهمت المرأة ذلك أو وليها (¬1). ومذهب الحنابلة هو ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في فتواها رقم (21140) (¬2). المحرمات في النكاح: الأصل في المحرمات في باب النكاح قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬3). أقسام المحرمات في النكاح: ينقسم التحريم في النكاح إلى قسمين مؤبد ومؤقت، فأما ما كان تحريمه مؤبدًا فأنواعه ثلاثة (¬4): ¬

_ (¬1) شرح الزرقاني على خليل مع حاشية البناني (3/ 190)، حاشية العدوي (2/ 47 - 49)، حاشية الدسوقي (2/ 239). (¬2) 18/ 448 - 449. (¬3) سورة النساء: 23. (¬4) القواعد لابن رجب (ص: 324)، جامع العلوم والحكم (2/ 438).

النوع الأول: المحرمات بالنسب

النوع الأول: المحرمات بالنسب: وضابط ذلك أنه يحرم على الإنسان أصوله وفروعه، وفروع أصله الأدنى وإن سفلن، وفروع أصوله البعيدة دون بناتهن، فيدخل في أصوله: أمه وأم أمه وأم أبيه وإن علون، ودخل في فروعه: بنته، وبنت بنته، وبنت ابنه وإن نزلن، ودخل في فرع أصله الأدنى: أخواته من الأبوين أو من أحدهما، وبناتهن، وبنات الإخوة وأولادهم وإن سفلن، ودخل في فروع أصوله البعيدة: العمات، والخالات، وعمات الأبوين، وخالاتهما وإن علون. ولم يبق من الأقارب حلال سوى فروع أصوله البعيدة وهن بنات العم وبنات العمات وبنات الخال وبنات الخالات. النوع الثاني: المحرمات بالصهر: وهن من أقارب الزوجين زوجات الآباء والأبناء، وأمهات الزوجات، وبنات الزوجات المدخول بهن. فيحرم على كل واحد من الزوجين أصول الآخر وفروعه، فيحرم على الرجل أم امرأته، وأم أبيها وأمها وإن علت. ويحرم عليه بنت امرأته وهي الربيبة، وبنت بنتها وإن سفلت، وتحرم بنت الربيب أيضًا نص عليه الإِمام أحمد في رواية صالح، وذكر الشيخ تقي الدين أنه لا يعلم فيه نزاعًا، ويحرم عليه أن يتزوج بامرأة أبيه وإن علا، وامرأة ابنه وإن سفل. النوع الثالث: المحرمات بالرضاع: فيحرم بالرضاع ما يحرم من النسب، واختار شيخ الإِسلام ابن تيمية أنه لا يثبت به تحريم المصاهرة فلا يحرم على الرجل نكاح أم زوجته وابنتها من الرضاع، ولا يحرم على المرأة نكاح أبي زوجها وابنه من الرضاع. وقال أحمد في رواية ابن بدينا في حليلة الابن من الرضاع: لا يعجبني أن يتزوجها؛ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.

ما كان تحريمه مؤقتا

وأما ما كان تحريمه مؤقتًا فيشمل نوعين: الأول: المحرمات بالجمع: وتحريمه هذا النوع يختص بالرجال لاستحالة إباحة جمع المرأة بين زوجين، وضابطه أن كل امرأتين بينهما رحم محرم يحرم الجمع بينهما بحيث لو كانت إحداهما ذكرا لم يجز له التزوج بالأخرى فإنه يحرم الجمع بينهما بعقد النكاح. قال الشعبي: كان أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - يقولون: لا يجمع الرجل بين امرأتين لو كانت إحداهما رجلًا لم يصلح له أن يتزوجها. والتحريم في هذا النوع مؤقت بمعنى أنه إذا كانت إحداهما مع الرجل لم يجز له أن يتزوج بالأخرى إلى أن يفارق التي في عصمته. فلا يجوز له الجمع بين المرأة وعمتها وإن علت، ولا بينها وبين خالتها وإن علت، ولا بين الأختين، ولا بين البنت وأمها وإن علت وهكذا. الثاني: المحرمات بسبب الكفر: تحرم المرأة المشركة على المسلم حتى تدخل في الإِسلام، كما يحرم غير المسلم على المرأة المسلمة سواء كان مشركًا أو كان كافرًا من أهل الكتاب ومن في حكمه حتى يدخل في الإِسلام لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (¬1). وقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 221. (¬2) سورة الممتحنة: 10.

الزواج من نساء أهل الكتاب

الزواج من نساء أهل الكتاب: يجوز للمسلم أن يتزوج من نساء أهل الكتاب اليهود والنصارى إذا توافرت فيهن شروط الزواج الأخرى، وقد نقل الموفق عن ابن المنذر قوله: ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك (¬1). ودليل ذلك قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} (¬2). وإجماع الصحابة على ذلك نقله ابن قدامة (¬3)، ويؤيده حديث أبي وائل شقيق ابن سلمة قال: "تزوج حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- يهودية فكتب إليه عمر -رضي الله عنه-: طلقها، فكتب إليه: أحرام هي؟ فكتب إليه: لا, ولكني خفت أن تعاطوا المومسات منهن" (¬4). وعن عبد الله بن السائب من بني المطلب "أن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- نكح ابنة الفرافصة الكلبية وهي نصرانية على نسائه ثم أسلمت على يديه" (¬5)، وفي رواية عن محمَّد بن جبير بن مطعم: "أن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- تزوج بنت الفرافصة وهي نصرانية ملك عقدة نكاحها وهي نصرانية حتى حنفت حين قدمت عليه" (¬6). ¬

_ (¬1) المغني (7/ 500). وانظر بداية المجتهد (2/ 33). (¬2) سورة المائدة: 5. (¬3) المغني (7/ 500). (¬4) رواه عبد الرزاق [7/ 177 (12670)]، وسعيد بن منصور [1/ 224 (716)] وابن أبى شيبة (3/ 474)، والطبريُّ فى تفسيره (2/ 378)، والبيهقيُّ (7/ 172). قال الحافظ فى التلخيص (3/ 357): "لا بأس بسنده". (¬5) رواه البيهقي (7/ 172). (¬6) رواه البيهقي (7/ 172).

وعن ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- يسأل عن نكاح المسلم اليهودية والنصرانية فقال: "تزوجناهن زمن الفتح بالكوفة مع سعد بن أبي قاص ونحن لا نكاد نجد المسلمات كثيرا فلما رجعنا طلقناهن وقال لا يرثن مسلما ولا يرثهن ونساؤهم لنا حل ونساؤنا عليهم حرام" (¬1). وفي رواية عنه -رضي الله عنه- قال: "شهدنا القادسية مع سعد ونحن يومئذ لا نجد سبيلا إلى المسلمات وتزوجنا اليهوديات والنصراينات فمنا من طلق ومنا أمسك" (¬2). وعن هبيرة عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: "تزوج طلحة -رضي الله عنه- يهودية" (¬3). وإذا ثبت ذلك فالجمهور من المالكية والشافعية في الصحيح عندهم والحنابلة (¬4) على كراهة الزواج منهن خوفًا من أن يميل إليها فتفتنه عن الدين، ولحديث علي بن أبي طلحة عن كعب أنه أراد أن يتزوج يهودية أو نصرانية فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فنهاه عنها وقال: "إنها لا تحصنك" (¬5)، ولأمر عمر -رضي الله عنه- ¬

_ (¬1) رواه الشافعي في الأم (5/ 7)، وعبد الرزاق [7/ 178 (12677)]، والبيهقيُّ (7/ 172). وذكره الحافظ في التلخيص (3/ 357) وقال: "رواه الشافعي، وروى ابن أبي شيبة نحوه وسكت عليه". (¬2) رواه ابن أبي شيبة (3/ 475). (¬3) رواه عبد الرزاق [6/ 79 (10060)] و [7/ 178 (12673)]، وابن أبي شيبة (3/ 478) ولفظه: "أن طلحة تزوج نصرانية"، وفي آخر: "تزوج رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يهودية" والبيهقيُّ واللفظ له (7/ 172)، وذكره الحافظ في التلخيص (3/ 357) وسكت عليه. (¬4) المدونة (4/ 307) ط. دار صادر، المهذب (2/ 44)، مغني المحتاج (3/ 187)، الكشاف (5/ 84). (¬5) رواه سعيد بن منصور [1/ 224 (715)]، وابن أبي شيبة 5/ 536 (28752)، والطبرانيُّ في الكبير [19/ 103 (205)]، وابن عدي في الضعفاء (2/ 39)، والدارقطنيُّ (3/ 148)، ورواه أبو داود مرسلًا في المراسيل (ص: 181). قال الدارقطنيُّ عقبه: أبو بكر بن أبي مريم ضعيف

للذين تزوجوا من نساء أهل الكتاب أن يطلقوهن كما تقدم، وكأكل ذبائحهم بلا حاجة تدعو إليه. وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بجواز الزواج من نساء أهل الكتاب إذا توافرت لذلك شروط الزواج الأخرى في فتواها رقم (1113) (¬1). وأما الأمة من أهل الكتاب فقد ذهب جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة (¬2) إلى عدم جواز الزواج منها؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} (¬3)، حيث قيدهن بالمسلمات، وحتى لا يؤدي ذلك إلى استرقاق الكافر ولدها المسلم. وأجاز الحنفية الزواج منها من غير فرق بينها وبين الحرة (¬4). ¬

_ = وعلى بن أبي طلحة لم يدرك كعبا، وقال الزيلعيُّ في نصب الراية (3/ 328): "رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ومن طريقه الطبراني في معجمه والدارقطنيُّ في سننه وابن عدي في الكامل ... قال الدارقطني وأبو بكر بن أبي مريم ضعيف وعلي بن أبي طلحة لم يدرك كعبا" انتهى. وقال ابن عدي: "أبو بكر ابن أبي مريم بكير الغساني الغالب على حديثه الغرائب قل ما يوافقه عليه الثقات وهو ممّن لا يحتج بحديثه وتكتب أحاديثه فإنها صالحة" انتهى. وأخرجه أبو داود في المراسيل عن بقية بن الوليد عن عتبة بن تميم عن علي بن أبي طلحة عن كعب بن مالك به فذكره قال بن القطان في كتابه: "هذا حديث ضعيف ومنقطع فانقطاعه فيما بين علي بن أبي طلحة وكعب بن مالك وضعفه من جهة عتبة بن تميم فإنه ممّن لا يعرف حاله وقد رواه عنه بقية وهو ممّن عرف ضعفه ولا يعلم روى عن عتبة بن تميم إلا بقية وإسماعيل" انتهى. (¬1) 18/ 176. (¬2) المدونة (2/ 219)، مغني المحتاج (3/ 185)، كشاف القناع (5/ 84). (¬3) سورة النساء: 25. (¬4) بدائع الصنائع (2/ 270)، الهداية شرح بداية المبتدي (1/ 193)، المبسوط (5/ 110).

حكم المشركات

وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية برأي الجمهور في فتواها رقم (5729) (¬1). حكم المشركات: أما المشركة التي ليست من أهل الكتاب كالمجوسية والوثنية فلا يحل الزواج منها حرة كانت أو أمة (¬2)؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} (¬3). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بذلك في فتواها رقم (2958)، وأفتت بعدم جواز الزواج من نساء أهل الديانات الأخرى غير الإِسلام وأهل الكتاب في فتواها رقم (10634)، وعدم جواز بقاء الزوجة المشركة غير الكتابية في عصمة المسلم في فتواها رقم (4459) (¬4). الخِطْبَة: وهي التماس قاصد الزواج النكاح من المرأة أو وليها (¬5). والأصل في مشروعيتها قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} (¬6)، وحديث عروة -رضي الله عنه-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) 18/ 271. (¬2) بدائع الصنائع (2/ 270)، الهداية شرح بداية المبتدي (1/ 193)، المدونة الكبرى (4/ 307) ط. دار صادر، المهذب (2/ 44)، مغني المحتاج (3/ 187)، كشاف (5/ 84). (¬3) سورة البقرة: 221. (¬4) 18/ 275، 300، 310. (¬5) انظر: المنتقى للباجي (3/ 264)، تفسير القرطبي (3/ 189)، مغني المحتاج (3/ 135)، نهاية المحتاج (6/ 201). (¬6) سورة البقرة: 235.

النظر إلى المخطوبة

خطب عائشة إلى أبي بكر فقال له أبو بكر إنما أنا أخوك فقال: "أنت أخي في دين الله وكتابه وهي لي حلال" (¬1). وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب أم هانئ بنت أبي طالب فقالت: يا رسول الله إني قد كبرت ولي عيال، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نساء قريش خير نساء ركبن الإبل أحناه على طفل وأرعاه على زوج في ذات يده" (¬2). ومن أحكام الخطبة أنه يحرم بالإجماع على المسلم أن يخطب على خطبة أخيه لما يؤدي إليه ذلك من الضغينة والعداوة فيحرم عليه ذلك إذا علم بالخطبة ما لم يترك الخاطب الأول أو يأذن له أو يعلم أنه رد (¬3)؛ لحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب أو يأذن له" متفق عليه (¬4). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بذلك في فتواها رقم (3116)، ورقم (7588) (¬5). النظر إلى المخطوبة: لا خلاف بين الفقهاء في إباحة نظر الخاطب إلى المخطوبة إذا كان عازما على النكاح ولم يكن قصده التلذذ فقط، ولا يجوز أن يخلو بها (¬6)؛ لحديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري برقم (4793). (¬2) صحيح البخاري برقم (3251) صحيح مسلم برقم (2527). (¬3) المغني (7/ 520). (¬4) صحيح البخاري برقم (4848)، وصحيح مسلم برقم (1412). (¬5) 18/ 51 , 52. (¬6) المغني (7/ 453).

ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل"، قال: فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجته (¬1)، وحديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن المغيرة بن شعبة أراد أن يتزوج امرأة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اذهب فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم" يعني بينكما ففعل وتزوجها فذكر من موافقتها (¬2). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في فتواها رقم (7044) بجواز كشف المخطوبة وجهها لخاطبها، مع عدم جواز الاستمرار في ذلك لما يخشى من عواقبه. كما أفتت في فتواها رقم (10928) بجواز النظر إلى وجه المخطوبة بلا تلذذ ولا شهوة ودون خلوةٍ (¬3). ولا بأس بالنظر إليها بغير إذنها عند الشافعية والحنابلة (¬4) اكتفاء بإذن الشارع لأن النصوص في ذلك مطلقة، ولقول جابر في الحديث المتقدم: "فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها". ولئلا تتزين المرأة فيفوت غرضه. وذهب المالكية إلى اشتراط علمها وكراهة استغفالها (¬5)؛ لئلا يتطرق أهل الفساد لنظر محارم الناس بدعوى الخطبة. ¬

_ (¬1) رواه أحمد (3/ 334)، وأبو داود برقم (2082). قال في الفتح (9/ 181) والدراية (2/ 226): "وإسناده حسن". (¬2) رواه ابن ماجه برقم (1865)، وابن حبان برقم (4043). قال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/ 100): "هذا إسنادٌ صحيحٌ رجاله ثقات وقد رواه الترمذيُّ وابن حبان في صحيحه أيضًا من حديث أنس". (¬3) 18/ 75. (¬4) مغني المحتاج (3/ 128)، المغني (7/ 453). (¬5) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (2/ 215).

ما يجوز النظر إليه من المخطوبة

ما يجوز النظر إليه من المخطوبة: أما الوجه فلا خلاف بين الفقهاء في جواز النظر إليه منها (¬1)، واختلف فيما سواه على قولين: الأول: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية (¬2) إلى جواز النظر إلى الكفين دون ما سواهما لأنه عورة. وقالوا في الاكتفاء بالنظر إلى الوجه والكفين أن الوجه يدل على الجمال من عدمه واليدان يدلان على خصابة البدن وطراوته من عدم ذلك. واستدلوا على جواز النظر إلى ذلك بقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (¬3)، وأن المقصود بما ظهر منها موضع الزينة وهما الوجه والكفان. الثاني: ذهب الحنابلة في المذهب عندهم إلى جواز النظر إلى كل ما يظهر غالبا كاليدين والرقبة والقدمين (¬4). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بالرأي الثاني في فتواها رقم (10928) (¬5). أخذ رأي المرأة في النكاح: لا تخلو حال المرأة التي يراد تزويجها من أن تكون ثيبًا أو بكرا، فإن كانت ثيبًا فلا يخلو حالها إما أن تكون كبيرة، وإما أن تكون صغيرة: ¬

_ (¬1) المغني (7/ 453). (¬2) الهداية شرح بداية المبتدئ (4/ 83)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (2/ 215)، المهذب (2/ 34)، مغني المحتاج (3/ 128). (¬3) سورة النور: 31. (¬4) المغني (7/ 454)، الإنصاف (8/ 18)، كشاف القناع (5/ 10). (¬5) 18/ 75.

فأما الكبيرة فلا خلاف بين الفقهاء أنه لا يجوز للأب ولا غيره تزويجها إلا بإذنها إلا الحسن فإنه قال: له تزويجها وإن كرهت وهو قول شاذ (¬1). واستدل الجمهور بحديث الخنساء بنت خدام الأنصارية: "أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد نكاحه" رواه البخاري (¬2). قال ابن عبد البر: "وهذا حديث صحيح مجتمع على صحته وعلى القول به ... ولا أعلم مخالفًا في أن الثيب لا يجوز لأبيها ولا لأحد من أوليائها إكراهها على النكاح إلا الحسن البصري ... " (¬3). وأما إن كانت صغيرة فلا يجوز تزويجها بغير إذنها في مذهب الشافعية ووجه عند الحنابلة (¬4)، لعموم ما تقدم. وأجاز الحنفية والمالكية والحنابلة في وجه (¬5) لأبيها تزويجها من غير أخذ رأيها؛ لأنها صغيرة فجاز إجبارها كغير الثيب. وأما البكر فلا خلاف بين الفقهاء أنها إن كانت صغيرة جاز لأبيها أن يزوجها بغير إذنها، وأما إن كانت كبيرة بالغة وعاقلة فلا خلاف بين الفقهاء في استحباب أخذ إذنها (¬6)، واختلفوا هل للأب تزويجها بغير إذنها على قولين: الأول: يجوز له ذلك وهو مذهب المالكية والشافعية، والصحيح من مذهب ¬

_ (¬1) المغني (7/ 385). (¬2) صحيح البخاري برقم (6546). (¬3) التمهيد (19/ 318)، الاستذكار (5/ 468). (¬4) المغني (7/ 385). (¬5) بدائع الصنائع (2/ 241)، الهداية شرح بداية المبتدئ (1/ 196)، المنتقى للباجي (3/ 267)، قوانين الأحكام الشرعية (ص: 133)، حاشية الدسوقي (2/ 222)، المهذب (2/ 37)، المغني (7/ 385)، الإنصاف (8/ 55). (¬6) المغني (7/ 384).

الحنابلة (¬1)؛ لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر يستأمرها أبوها في نفسها وإذنها صماتها" رواه مسلم (¬2) فدل على أن الولي أحق بالبكر وإن كانت بالغة. والوصي عند المالكية كالأب، والجد عند الشافعية كالأب عند فقده أو عدم أهليته. الثاني: لا يجوز له ذلك وهو مذهب الحنفية وهو رواية عند الحنابلة (¬3)؛ لأنها حرة مخاطبة فلا يكون للغير عليها ولاية الإجبار كالبالغة لأن الولاية على الصغيرة لقصور عقلها وقد كمل بالبلوغ. أما غير الأب: فلا يملك ولاية الإجبار على البكر لحديث نافع أن عبد الله ابن عمر -رضي الله عنهما- تزوج بنت خاله عثمان بن مظعون فذهبت أمها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالت: إن ابنتي تكره ذلك، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفارقها وقال: "لا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن فإن سكتن فهو إذنهن" فتزوجت بعد عبد الله المغيرة بن شعبة" (¬4). صورة الإذن: إذن الثيب أن تتكلم برأيها صراحة، وأما البكر فإذنها أن تتكلم صراحة بموافقتها أو أن تسكت لأنها قد تستحي أن تنطق بالموافقة فجعل الشرع صماتها بمثابة الإذن الصريح، وهو قول الجمهور والصحيح من مذهب ¬

_ (¬1) المنتقى للباجي (3/ 267)، قوانين الأحكام الشرعية (ص: 133)، حاشية الدسوقي (2/ 222)، المهذب (2/ 37)، روضة الطالبين (7/ 53)، المغني (7/ 380)، الإنصاف (8/ 55). (¬2) صحيح مسلم برقم (1421). (¬3) بدائع الصنائع (2/ 241)، الهداية شرح بداية المبتدي (1/ 196)، المغني (7/ 380)، الإنصاف (8/ 55). (¬4) أخرجه المحاملي في أماليه (ص: 325) (348)، والدراقطني (3/ 229)، والبيهقيُّ (7/ 121).

الصفات المطلوبة في الزوجين

الشافعية لحديث ابن عباس المتقدم، وحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجارية ينكحها أهلها أتستأمر أم لا فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم تستأمر" فقالت عائشة: فقلت له: فإنها تستحي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فذلك إذنها إذا هي سكتت" رواه مسلم (¬1)، (¬2). وذهب الشافعية في قول (¬3) إلى أن الاكتفاء بسكوت البكر إنما هو في حق الأب والجد دون غيرهما، فلا بد أن تنطق برأيها إن كان الولي غير الأب والجد. الصفات المطلوبة في الزوجين: يستحب لمن أراد التزوج أن يختار ذات دين، وحسب، وجمال، ومال فإن لم يجتمع فيها ذلك كله اختار ذات الدين لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك" متفق عليه (¬4)، ويستحب أن تكون بكرًا لحديث جابر -رضي الله عنه- قال: وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لي حين استأذنته: "ما تزوجت أبكرًا أم ثيبا؟ " فقلت له: تزوجت ثيبا، قال: "أفلا تزوجت بكرًا تلاعبك وتلاعبها؟ " متفق عليه (¬5). وأن تكون من نساء يعرفن بكثرة الولادة لحديث معقل بن يسار -رضي الله عنه- قال: ثم جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أني أصبت امرأة ذات حسب ومنصب ومال إلا أنها لا تلد أفأتزوجها؟ فنهاه ثم أتاه الثانية فقال له مثل ذلك فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال له مثل ذلك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تزوجوا الودود الولود فإني ¬

_ (¬1) صحيح مسلم برقم (1420). (¬2) المغني (7/ 386). (¬3) المهذب (2/ 37)، شرح مسلم (9/ 204)، مغني المحتاج (3/ 150). (¬4) صحيح البخاري برقم (4802)، وصحيح مسلم برقم (1466). (¬5) صحيح البخاري برقم (3826)، وصحيح مسلم برقم (715).

تعدد الزوجات

مكاثر بكم الأمم" (¬1). ويستحب في الرجل أن يكون ديّنًا وذا أخلاق حسنة لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" (¬2)، كما يستحب فيه ما يستحب في المرأة بأن يكون ذا حسب ومال وجمال وأن يكون ممّن يعرفون بالإنجاب. وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في فتواها رقم (20062)، ورقم (13656) بأن على الولي أن يختار لموليته الرجل الكفء الصالح ممّن يرضى دينه وأمانته والأتقى لله جل وعلا في جميع أموره والأحسن خلقًا والأكمل عقلًا (¬3). تعدد الزوجات: لقد شرع الإِسلام للرجل أن يتزوج أربع نسوة، وليس له أن يزيد عليهن بإجماع أهل العلم قال ابن قدامة: ولا نعلم أحدًا خالفه إلا شيئًا يُحكى عن القاسم ¬

_ (¬1) رواه أبو داود برقم (2050)، والنسائيُّ برقم (3227)، وابن حبان برقم (4056، 4057)، والحاكم [2/ 176 (2685)]، وقال عقبه: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة". (¬2) رواه الترمذيُّ برقم (1084)، وابن ماجه برقم (1967)، وابن حبان في الثقات (5/ 449)، والمجروحين (2/ 141)، والطبرانيُّ في الأوسط [1/ 141 (446)]، و [7/ 131 (7074)] , والحاكم في المستدرك [2/ 179 (2695)]، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، والخطيب في تاريخ بغداد (11/ 60). قال الترمذيّ (3/ 394): "قد خولف عبد الحميد بن سليمان في هذا الحديث، ورواه الليث بن سعد عن ابن عجلان عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. قال أبو عيسى: "قال محمَّد: وحديث الليث أشبه، ولم يعد حديث عبد الحميد محفوظا" أ. هـ. وقال في العلل (ص: 154): "وعبد الحميد بن سليمان صدوق إلا أنه ربما يهم في الشيء" أ. هـ. (¬3) 18/ 46 , 47.

ابن إبراهيم (¬1) أنه أباح تسعًا وليس بشيء لأنه خرق للإجماع وترك للسنة (¬2). والأصل في ذلك قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (¬3). وما روي عن سالم عن أبيه -رضي الله عنهما- أن غيلان ابن سلمة الثقفي أسلم وعنده عشر نسوة فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمسك أربعًا وفارق سائرهن" (¬4)، وعن نوفل بن معاوية الديلي قال: أسلمت وتحتي خمس نسوة فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "فارق واحدة وأمسك أربعًا" فعمدت إلى أقدمهن عندي عاقر منذ ستين سنة ففارقتها (¬5) رواه الشافعي، والبيهقيُّ. وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بجواز التعدد إذا وثق الشخص من نفسه بالعدل بين الزوجات وأمن من الجور في فتواها رقم (1294) (¬6). ¬

_ (¬1) هو القاسم بن إبراهيم الحسني إمام القاسمية فرقة من الزيدية توفي سنة 246 هـ. الفهرست لابن النديم (ص: 274)، الأعلام (5/ 171). (¬2) المغني (7/ 436). (¬3) سورة النساء: 3. (¬4) رواه الشافعي في مسنده (ص: 274)، وابن ماجه برقم (1953)، والترمذيُّ برقم (1128)، وابن حبان برقم (4157)، الحاكم [2/ 209 - 210 (2780 , 2779)]، والبيهقيُّ (7/ 181). قال ابن الملقن في الخلاصة (2/ 194): "رواه الشافعي والترمذيُّ وابن ماجه وابن حبان والحاكم من رواية الزهري عن سالم عن أبيه، وأبو داود من رواية الزهري مرسلًا قال أبو حاتم: وهو أصح، قال الترمذيُّ: قال البخاري: محفوظ، وصححه الحاكم وقال: الوصل زيادة وهي من الثقة مقبولة، وصححه البيهقي وابن القطان أيضًا". (¬5) مسند الشافعي (ص: 274)، والبيهقيُّ (7/ 184). (¬6) 18/ 255.

الصداق

الصداق الصداق لغة: المهر، يكسر صاده ويفتح والكسر أفصح، يجمع جمع قلة على أَصْدِقَة وهو القياس، وجمع كثرة على صُدُق، يقال أصدق المرأة حين تزوجها إذا جعل أو سمى لها صداقا, وله ثمانية أسماء: الصداق، والمهر، والنِّحلة، والفريضة، والأجر، والعقر، والحباء، والعليقة (¬1). وهو شرعًا: العوض المسمى في عقد النكاح أو ما يقوم مقامه (¬2). مشروعيته: الأصل في مشروعية الصداق الكتاب والسنة والإجماع. فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (¬3)، وقوله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} (¬4). ومن السنة حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعتق صفية وجعل عتقها صداقها" (¬5)، وحديث سهل بن سعد قال: جاءت امرأة إلى رسول - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني وهبت منك نفسي، فقامت طويلًا، فقال رجل: زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، قال: "هل عندك من شيء تصدقها؟ " قال: ما عندي إلا إزاري، فقال: "إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك فالتمس ¬

_ (¬1) المفردات مادة: صدق (ص: 282)، مختار الصحاح مادة: صدق (ص: 174)، المصباح المنير مادة: صدق (ص: 175)، لسان العرب مادة: صدق (10/ 197)، تحرير ألفاظ التنبيه للنووي (ص: 257)، المطلع (ص: 326)، كشاف القناع (5/ 128). (¬2) المطلع (ص: 326)، كشاف القناع (5/ 128). (¬3) سورة النساء: 4. (¬4) سورة النساء: 25. (¬5) البخاري برقم (905، 1539، 4798، 4874)، ومسلمٌ برقم (1365).

حكم الصداق

شيئًا" فقال: ما أجد شيئًا فقال: "التمس ولو خاتما من حديد" (¬1) الحديث. وأما الإجماع فقد نقله غير واحد من علماء المسلمين (¬2). حكم الصداق: الصداق حق خالص للمرأة مقابل ما تبذله من نفسها في العلاقة الزوجية، وقد اتفق الفقهاء على وجوب توافره في النكاح، ولا يجوز التواطؤ على تركه بحيث يكون النكاح مجانًا من غير صداق؛ لقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (¬3)، وقوله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (¬4)، (¬5) حيث أضافه إليهن في الآيتين لإفادة الملكية، فلا يجوز أن يهب الولي موليته للزوج بغير صداق، وإن فعل كان لها مهر مثلها. وأما ما ثبت من هبة المرأة نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - من غير صداق فهو خاص به - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬6)، ولهذا لم يزوج - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي طلب زواج هذه المرأة من غير شيء بل قال له: "التمس ولو خاتمًا من حديد" ولما لم يجد ذلك زوجه بما معه من القرآن. وإذا ثبت ذلك فللمرأة أن تسقط من المهر ما تشاء بطيب نفسها؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (¬7)، (¬8). ¬

_ (¬1) البخاري برقم (4741، 4742، 4799، 4829، 4842، 4839، 4833، 4847، 4854، 5533)، ومسلمٌ برقم (1425). (¬2) الحاوي الكبير (9/ 392)، المغني مع الشرح الكبير (8/ 2، 3). (¬3) سورة النساء: 4. (¬4) سورة النساء: 25. (¬5) بداية المجتهد ونهاية المقتصد (2/ 21). (¬6) سورة الأحزاب: 50. (¬7) سورة النساء: 4. (¬8) بدائع الصنائع (2/ 290).

استحباب تسمية الصداق عند العقد

وقد نصت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية على ما تقدم كله في فتاواها رقم (1275)، ورقم (1943)، ورقم (20879) (¬1). استحباب تسمية الصداق عند العقد (¬2): يستحب تسمية الصداق عند عقد النكاح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخلي ما يعقده من عقود النكاح عن تسمية الصداق، وفي حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- الذي تقدم ذكره قريبا قال - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي طلب زواج المرأة التي وهبت نفسها له: "التمس ولو خاتمًا من حديد"، فلما لم يجد زوجه بما معه من القرآن وكان ذلك حرصا منه - صلى الله عليه وسلم - على ألا يخلو العقد من التسمية. ولأن تسميته عند العقد أقطع للنزاع والخلاف فيه حيث تدخل المرأة في هذه العلاقة على بصيرة بما بذله الزوج مقابل بذلها نفسها. على أن ذلك ليس شرطًا لصحة العقد فلو تم من غير التسمية للصداق صح العقد وحدد مقداره لاحقًا بدليل قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (¬3) , (¬4). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بذلك في فتواها رقم (3582)، وفتواها رقم (4086) (¬5). ¬

_ (¬1) 19/ 31، 74، 78. (¬2) بدائع الصنائع (2/ 274)، مواهب الجليل (3/ 421)، حاشية الدسوقي (2/ 294)، المهذب (2/ 55)، المغني مع الشرح (8/ 3)، الإنصاف (8/ 227). (¬3) سورة البقرة: 236. (¬4) بدائع الصنائع (2/ 274)، الشرح الصغير (3/ 82)، الحاوي الكبير (9/ 393)، المغني مع الشرح الكبير (8/ 3 , 4). (¬5) 19/ 52

جواز تأجيل الصداق كله أو بعضه

جواز تأجيل الصداق كله أو بعضه: يجوز اتفاق الزوجين على تحديد جزء من الصداق معجلا وتحديد الجزء الآخر مؤجلا يكون دينا في ذمة الزوج، فإذا كان المؤجل معروف الأجل التزم الزوج ذلك بغير خلاف (¬1)، أما إن لم يتم تحديد أجله كأن اكتفيا بتحديد نصف الصداق معجلا والنصف الآخر مؤخرا مثلا ولم يحددوا أجله فقد اختلف الفقهاء في وقت استحقاق المطالبة بذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن هذا المؤخر لا تستحق الزوجة المطالبة به إلا بموت أو فرقة وهو المفتى به عند الحنفية، والصحيح من مذهب الحنابلة وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية. وحجة هذا القول أن الاتفاق وقع على تأجيل الصداق كله أو بعضه فوجب أن يكون مؤجلا عملًا بالشرط؛ لحديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أحق الشرط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج" (¬2) متفق عليه، وحديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالًا أو أحل حراما والمسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالًا أو أحل حراما" (¬3)، ولأن العادة قد جرت على جعل بعض الصداق معجلا والبعض الآخر مؤجلا، كما جرت العادة على أن المؤجل لا تطالب به المرأة إلا بالموت أو الفراق (¬4). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (2/ 288)، الشرح الصغير (3/ 210)، الأم (5/ 95)، المهذب (2/ 56)، روضة الطالبين (7/ 259). (¬2) البخاري برقم (2572)، و (4825)، ومسلمٌ برقم (1418). (¬3) رواه الترمذيُّ [3/ 634 (1352)]، وقال: "حسنٌ صحيحٌ"، وابن ماجه [2/ 788 (2353)]. (¬4) مجموع الفتاوى (32/ 196)، لسان الحكام (ص: 266).

القول الثاني: أن للمرأة حق المطالبة به حالًا وهو ظاهر الرواية عند الحنفية، ومذهب الشافعية (¬1). ووجه قول الحنفية القياس على البيع قالوا: إن النكاح عقد معاوضة فيقتضي المساواة من الجانبين في العوض، والمرأة قد عينت حق الزوج عند تسليم نفسها فيجب أن يعين الزوج حقها بذلك فوجب أن يكون حالًا، وكذا لو كان الأجل مجهولًا جهالة متفاحشة كوقت هبوب الرياح ونحو ذلك. ووجه قول الشافعية أن التسمية في هذه الحالة تكون فاسدة لجهالة العوض بجهالة أجله فيرد ذلك إلى مهر المثل ويحق لها المطالبة به حالًا. القول الثالث: أن النكاح يفسخ بذلك قبل البناء، ويثبت بعده بصداق المثل ويكون حالًا، وهو المشهور من مذهب المالكية والعمل عليه عندهم (¬2). كما أنهم يرون أن الصداق إذا أجل كله أو بعضه إلى ما يزيد على خمسين سنة فسد النكاح؛ لأن التقدير بذلك مظنة إسقاط الصداق (¬3). الراجح: هو القول الأول من صحة التسمية وعدم تمكين المرأة من المطالبة به إلا بموت أو فرقة؛ إذ هو الذي عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل قد حكى الإِمام الليث -رحمه الله- إجماعهم عليه. ولأنه يتفق مع القياس والنظر؛ ذلك أن المطلق من العقود ينصرف إلى العرف والعادة عند المتعاقدين كما في النقد والسكة والصفة والوزن، والعادة جارية بين الأزواج بترك المطالبة بالصداق إلا بالموت ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (2/ 288)، شرح فتح القدير (3/ 371)، البحر الرائق (3/ 191)، حواشي الشرواني (7/ 397). (¬2) التاج والإكليل (3/ 510)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (2/ 303)، مواهب الجليل (3/ 510). (¬3) المراجع السابقة.

ما يستقر به الصداق

أو الفراق فجرت العادة مجرى الشرط، ولأن عقد النكاح يخالف سائر العقود ولهذا نافاه التوقيت المشترط في غيره من العقود على المنافع، بل كانت جهالة مدة بقائه غير مؤثرة في صحته والصداق عوضه ومقابله فكانت جهالة مدته غير مؤثرة في صحته فهذا محض القياس (¬1). وإذا ثبت هذا فلا بأس في توثيق ذلك ليكون حجة عند الفراق أو الموت، قال شيخ الإِسلام: "ولم يكن الصحابة يكتبون صداقات؛ لأنهم لم يكونوا يتزوجون على مؤخر بل يعجلون المهر، وإن أخروه فهو معروف، فلما صار الناس يتزوجون على المؤخر والمدة تطول وينسى صاروا يكتبون المؤخر وصار ذلك حجة في إثبات الصداق" (¬2). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بأن ما حدد أجله من الصداق بالطلاق أو الموت وجب سداده عند ذلك، وما لم يحدد له أجل يجب سداده عند الطلاق أو الموت في فتواها رقم (4907)، وفتواها رقم (6871) (¬3). ما يستقر به الصداق: اتفق الفقهاء على أن الصداق يستقر كاملا بدخول الزوج على زوجته، ويستقر أيضًا بموت أحد الزوجين قبل الوطء في النكاح الصحيح؛ لحديث ابن مسعود أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقًا ولم يدخل بها حتى مات فقال: "لها مثل صداق نسائها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث، ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين (3/ 81). (¬2) مجموع الفتاوى (32/ 131). (¬3) 19/ 54 , 60.

القول الأول

فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بروع بنت واشق امرأة منا مثل الذي قضيت، ففرح بها ابن مسعود" (¬1). ولإجماع الصحابة -رضي الله عنهم - على ذلك. واختلفوا هل يستقر بالخلوة كاملًا أم لا على قولين (¬2): القول الأول: أنه لا يستقر كاملًا بالخلوة وإنما يجب بالعقد نصف المهر، وهو مذهب المالكية والشافعية. واحتجوا بقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (¬3)، قالوا: إن الله تعالى أوجب نصف المفروض في الطلاق قبل الدخول؛ لأن المراد بالمس الجماع فمن أوجب كل المفروض بالخلوة فقد خالف النص. وقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} (¬4)، وأنه تعالى أوجب لهن المتعة عند الطلاق في نكاح لا جماع فيه ولا تسمية للمهر من غير فصل بين حال وجود الخلوة وعدم وجودها فاستويا. ¬

_ (¬1) رواه الدارمي [2/ 207 (2246)]، وابن ماجه [1/ 609 (1891)]، وأبو داود [2/ 237 (2114)]، والترمذيُّ [3/ 450 (1145)]، وقال عقبه: "حسنٌ صحيحٌ"، والنسائيُّ برقم (3355، 3356، 3524)، والحاكم في المستدرك (2/ 197) وقال: "على شرط الشيخين". قال الحافظ في التلخيص (3/ 191): "رواه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم من حديث معقل بن سنان الأشجعي، وصححه ابن مهدي والترمذيُّ وقال ابن حزم: لا مغمز فيه لصحة إسناده، والبيهقيُّ في الخلافيات. وقال الشافعي: لا أحفظه من وجه يثبت مثله وقال: لو ثبت حديث بروع لقلت به. قوله في راوي هذا الحديث اضطراب قيل: عن معقل بن سنان، وقيل: عن رجل من أشجع أو ناس من أشجع وقيل غير ذلك، وصححه بعض أصحاب الحديث وقالوا إن الاختلاف في اسم راويه لا يضر لأن الصحابة كلهم عدول". (¬2) بداية المجتهد (2/ 26)، مغني المحتاج (3/ 225)، الإفصاح لابن هبيرة (2/ 139). (¬3) سورة البقرة: 237. (¬4) سورة البقرة: 236.

القول الثاني

ولأن تأكد المهر يتوقف على استيفاء المستحق بالعقد وهو منافع البضع واستيفاؤها بالوطء ولم يوجد فكان لها النصف بالنص. القول الثاني: أنه يستقر كاملا بالخلوة وهو مذهب الحنفية، والصحيح من مذهب الحنابلة إلا أن الحنفية يشترطون لذلك أن لا يكون هناك مانع شرعي كأن يكون مُحْرِمًا، أو مريضًا، أو صائمًا في رمضان، أو كانت المرأة حائضًا ونحو ذلك، بينما لا يشترط الحنابلة شيئًا من ذلك حيث يستقر المهر عندهم بالخلوة مطلقا (¬1). واستدلوا بقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (¬2)، قالوا: إن الله تعالى نهى الزوج عن أخذ شيء من مهر المرأة عند الطلاق وعلل ذلك بوجود الإفضاء وهو الخلوة دخل بها أو لم يدخل. ولحديث محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كشف خمار امرأة ونظر إليها وجب الصداق دخل بها أو لم يدخل" (¬3) قالوا: إن هذا نص في الباب فوجب المصير إليه. وأن الصحابة من الخلفاء الراشدين وغيرهم أجمعوا على ذلك فيما يروى عنهم، فقد نقل ذلك زرارة ابن أوفى حيث قال: "قضى الخلفاء الراشدون المهديون ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (2/ 291)، المغني (8/ 61)، الإنصاف (8/ 283). (¬2) سورة النساء: 20 - 21. (¬3) رواه الدارقطني (3/ 307)، والبيهقيُّ (7/ 256). قال الحافظ في التلخيص (3/ 193): "وفي إسناده ابن لهيعة مع إرساله، لكن أخرجه أبو داود في المراسيل من طريق ابن ثوبان ورجاله ثقات".

مقدار الصداق

أن من أغلق بابًا أو أرخى سترًا فقد وجب المهر ووجبت العدة" (¬1)، وهذه قضية مشتهرة ولم يخالفهم أحد في عصرهم فكان إجماعًا. ولأنها سلمت المبدل إلى زوجها في الخلوة الصحيحة فيجب على زوجها تسليم البدل إليها كما في البيع والإجارة. الراجح: الراجح في هذه المسألة هو القول الثاني للأدلة التي يستند إليها. مقدار الصداق: قد أجمع الفقهاء على أن الصداق ليس له حد أعلى لا تجوز مجاوزته قال ابن عبد البر: "وأجمع العلماء على أنه لا تحديد في أكثر الصداق؛ لقول الله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (¬2). وأما أقله فقد اختلف الفقهاء في تحديده بعد إجماعهم على أن ما لا يتمول ولا قيمة له لا يكون صداقا ولا يجزئ في النكاح إلا الظاهرية حيث أجازوا أن يكون الصداق من كل شيء ولو كان حبَّة من بر أو شعير ونحو ذلك (¬3). وللفقهاء في تحديد حده الأدنى قولان: القول الأول: أن أقله ما يقطع به السارق، وهو مذهب الحنفية والمالكية، ومقدار ذلك عند الحنفية دينار أو عشرة دراهم، وعند المالكية ربع دينار أو ثلاثة دراهم (¬4). ¬

_ (¬1) رواه سعيد بن منصور (1/ 234)، وابن أبي شيبة [3/ 520 (16695)]، وعبد الرزاق [6/ 288 (10875)]، وأبو عبيد في النكاح كما قال الحافظ في التلخيص (3/ 193). (¬2) التمهيد (2/ 186 , 21/ 117). (¬3) فتح الباري (9/ 211)، المحلى (9/ 494). (¬4) المبسوط للسرخسي (5/ 81)، بدائع الصنائع (2/ 275 - 276)، فتح القدير (3/ 317)، التمهيد (2/ 186، 2 و 21/ 115)، بداية المجتهد (2/ 22)، تفسير القرطبي (5/ 128)، حاشية الدسوقي (2/ 302).

القول الثاني

واستدل الحنفية بحديث جابر -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا لا يزوج النساء إلا الأولياء، ولا يزوجن إلا من الأكفاء، ولا مهر أقل من عشرة دراهم" (¬1). وما روي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: "لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم" (¬2)، وأن الظاهر منه أنه قال ذلك توقيفًا؛ لأنه باب لا يوصل إليه بالاجتهاد والقياس. واستدلوا بالقياس على نصاب قطع اليد في السرقة، ووجهه أن البضع عضو يستباح في النكاح بمقدر من المال فأشبه اليد من حيث إنه عضو يستباح في السرقة بمقدر من المال أيضًا فقدر ما يستباح به بما يستباح به اليد. القول الثاني: أن كل ما كان مالًا وصح أن يكون ثمنًا أو أجرة جاز أن يكون صداقًا وإن قل، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، وقول لبعض المالكية (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني (3/ 245)، وأبو يعلى كما في مجمع الزوائد (4/ 275)، والبيهقيُّ (7/ 240). قال الدارقطنيُّ عقبه: "مبشر بن عبيد متروك الحديث أحاديثه لا يتابع عليها"، وقال الزيلعيُّ في نصب الراية (3/ 196، 199): "ضعيف"، وقال الحافظ ابن حجر في الدراية (2/ 62): "وإسناده واه لأن فيه مبشر بن عبيد وهو كذاب". (¬2) أثر علي أخرجه الدارقطني (3/ 245)، والبيهقيُّ (7/ 240). قال الحافظ في الدراية (2/ 62): "أخرجه الدارقطنى من وجهين ضعيفين"، وقال الزيلعيُّ في نصب الراية (3/ 199): "قال ابن الجوزي في التحقيق: قال بن حبان داود الأودي ضعيف كان يقول بالرجعة، ثم إن الشعبي لم يسمع من علي" انتهى، وأخرجه الدارقطني أيضًا في الحدود عن جويبر عن الضحاك عن النزال بن سبرة عن علي فذكره وجويبر أيضًا ضعيف وأخرجه أيضًا من طريق آخر عن الضحاك بسنده وفيه محمَّد بن مروان أبو جعفر قال الذهبي: "لا يكاد يعرف" انتهى كلامه. (¬3) بداية المجتهد (2/ 21)، حاشية الدسوقي (2/ 302)، الأم (7/ 267 , 227)، الوسيط للغزالي (5/ 215)، الإفصاح لابن هبيرة (2/ 135)، المغني مع الشرح الكبير (8/ 4)، الإنصاف (8/ 229)، كشاف القناع (5/ 129).

استحباب تخفيف الصداق وعدم المغالاة فيه

واستدلوا بقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (¬1)، وأنه سبحانه لم يحدد أكثر ذلك ولا أقله فدخل فيه القليل والكثير. وما تقدم من حديث سهل ابن سعد وقد ورد فيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "التمس ولو خاتمًا من حديد" متفق عليه. وحديث عامر بن ربيعة: أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ " قالت: نعم، فأجازه (¬2)، وحديث جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو أن رجلًا أعطى امرأة صداقا ملء يده طعامًا كانت له حلالًا" (¬3). ولأنه بدل منفعة المرأة فجاز كل ما رضيت به من المال. الراجح: هو القول الثاني لقوة ما استندوا إليه وهو ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في فتواها رقم (3424)، ورقم (20229)، ورقم (17332) (¬4). أما أدلة القول الأول فهي ضعيفة. قال ابن حجر في الفتح: "وقد وردت أحاديث في أقل الصداق لا يثبت منها شيء" (¬5). استحباب تخفيف الصداق وعدم المغالاة فيه: السنة في الصداق أن لا يغالى فيه لحديث عائشة -رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة" (¬6)، وما رواه ابن أبي الحسين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

_ (¬1) سورة النساء: 24. (¬2) أخرجه الطيالسي [1/ 156 (1143)]، وأحمدُ (3/ 445، 446)، وابن ماجه [1/ 608 (1888)]، والترمذيُّ [3/ 420 (1113)]، وقال: "حسنٌ صحيحٌ"، وأبو يعلى [13/ 151 , 155 (7194) , (7197)]. (¬3) رواه أحمد (3/ 355). (¬4) 19/ 29 , 44. (¬5) 9/ 211. (¬6) رواه أحمد (6/ 145)، والنسائيُّ في الكبرى [5/ 402 (9274)]، والحاكم في المستدرك (2/ 194) وقال: "على شرط مسلم ولم يخرجاه"، والبيهقيُّ (7/ 235).

"تياسروا في الصداق إن الرجل يعطي المرأة حتى يبقى ذلك في نفسه عليها حسيكة (¬1)، وحتى يقول: ما جئتك حتى سقت إليك علق القربة (¬2) " (¬3)، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: "سألت عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - كم كان صداق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونَشًّا، قالت: أتدري ما النش؟ قال: قلت: لا، قالت: نصف أوقية، فتلك خمسمائة درهم، فهذا صداق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه" (¬4) رواه مسلم. وعن أبي العجفاء قال: قال عمر -رضي الله عنه-: "ألا لا تغالوا في صدقات النساء فإنه لو كان مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وإن الرجل ليغالي بصدقة امرأته حتى يبقى له في نفسه عداوة، وحتى يقول كلفت لك علق القربة أو عرق القربة (¬5) " (¬6). ¬

_ (¬1) حسيكة: أي عداوة وحقدا. غريب الحديث للخطابي (1/ 266)، الفائق للزمخشري (4/ 127)، النهاية لابن الأثير (1/ 386) و (5/ 295). (¬2) والمعنى تكلفت كل شيء حتى علق القربة وهو حبلها وعصامها. ويروى بالراء ومعناه عندئذ نصبت لك وتكلفت حتى عرقت كعرق القربة. غريب الحديث لأبى عبيد (3/ 286)، غريب الحديث لابن الجوزي (2/ 89)، النهاية في غريب الحديث (3/ 290). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في المصنف [6/ 174 (10398)]، والخطابي في غريب الحديث (1/ 266)، والديلمي كما أشار إليه المناوي في فيض القدير (2/ 6). (¬4) صحيح مسلم برقم (1426). (¬5) معنى عرق القربة أي نصبت لك وتكلفت حتى عرقت كعرق القربة. غريب الحديث لأبي عبيد (3/ 286)، غريب الحديث لابن الجوزي (2/ 89)، النهاية في غريب الحديث (3/ 290). (¬6) رواه وابن ماجه [1/ 607 (1887)]، والدارميُّ [2/ 120 (2200)]، وأبو داود [2/ 235 (2106)]، والترمذيُّ [3/ 422 (1114)]، والحاكم في المستدرك (2/ 193، 192) وصححه. قال الحافظ في الفتح (9/ 204): "وأصل قول عمر لا تغالوا في صدقات النساء عند أصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم لكن ليس فيه قصة المرأة".

والمنهي عنه هو المبالغة في المهر أما الزيادة المعقولة فجائزة فقد روى عروة عن أم حبيبة -رضي الله عنها- "أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش فمات بأرض الحبشة فزوجها النجاشي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمهرها عنه أربعة آلاف وبعث بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع شرحبيل بن حسنة" (¬1)، إذ لو كان ذلك مكروها لأنكره - صلى الله عليه وسلم -. وقد جاء في فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية أنه لا ينبغي المغالاة في المهور (16384) (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2/ 235)، والنسائيُّ (7/ 428)، والدارقطنيُّ (3/ 246)، والبيهقيُّ (7/ 139)، والحاكم في المستدرك (2/ 198) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". (¬2) 19/ 73.

وليمة العرس

وليمة العرس الوليمة اسم لكل طعام يتخذ لجمعٍ من الناس، وقيل هو طعام العرس خاصة مشتقة من الوَلْم وهو الحبل؛ لأن فيها الوصل واجتماع الشمل (¬1). مشروعية الوليمة في العرس: لا خلاف بين أهل العلم في أن الوليمة سنة مشروعة في العرس لما ثبت من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلها وأمر بفعلها فعن ثابت قال: "ذكر تزويج زينب بنت جحش عند أنس -رضي الله عنه- فقال: ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أولم على أحد من نسائه ما أولم عليها أولم بشاة" (¬2)، وفي لفظ: "أطعمهم خبزًا ولحمًا حتى تركوه" (¬3)، وعن أنس -رضي الله عنه-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اصطفى صفية لنفسه فخرج بها حتى بلغ ثنية الصهباء فبنى بها ثم صنع حيسا في نطع صغير ثم قال: "ائذن لمن حولك" فكانت وليمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صفية (¬4)، وروى أنس بن مالك -رضي الله عنه- أيضًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى على عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أثر صفرة فقال: "ما هذا؟ " قال: يا رسول الله إني تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب، فقال: "بارك الله لك، أولم ولو بشاة" (¬5). والوليمة سنة مؤكدة لما تقدم من ثبوتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قولًا وفعلًا، ولعدم تركه - صلى الله عليه وسلم - لها حتى في السفر، وليست واجبة في قول أكثر أهل العلم منهم الحنفية ¬

_ (¬1) مجمل اللغة لابن فارس مادة: "ولم" (ص: 938)، المصباح المنير مادة: "ولم" (ص: 346)، مختار الصحاح مادة: "ولم" (ص: 345). (¬2) رواه البخاري برقم (4876)، ومسلمٌ برقم (1428). (¬3) رواه مسلم برقم (1429). (¬4) رواه البخاري برقم (3974). (¬5) البخاري برقم (6023)، ومسلمٌ برقم (1427).

مقدار ما يولم به

والمالكية والشافعية في أصح قوليهم والحنابلة (¬1) وذهب الظاهرية والشافعية في قول إلى وجوبها (¬2). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بسنيتها في فتواها رقم (4026)، ورقم (3618) (¬3). الحكمة من مشروعيتها: شرعت شكرًا لله تعالى على نعمة النكاح والزواج، ومن أجل إعلان النكاح وإشهاره بين الناس لا سيما وأن الشهود قد يموتون. مقدار ما يولم به: نقل بعض العلماء الإجماع على أنه لا حد لأقل ما يولم به ولا أكثره، وأن المستحب في ذلك على حسب حال الزوج قال القاضي عياض: "وأجمعوا على أن لا حد لأكثرها، وأما أقلها فكذلك، ومهما تيسر أجزأ، والمستحب أنهما على قدر حال الزوج، وقد يتيسر على الموسر الشاة فما فوقها" (¬4). فإن أولم بأكثر من شاة جاز، وإن أولم بشاة واقتصر على ذلك امتثالًا لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أولم ولو بشاة". وإن أولم بما دون ذلك جاز لما تقدم من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولم على صفية بحيس في نطع صغير، وحديث صفية بنت شيبة قالت: "أولم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (7/ 10)، حاشية ابن عابدين (6/ 347)، التمهيد لابن عبد البر (2/ 189)، حاشية الدسوقي (2/ 337)، مواهب الجليل (4/ 2)، المهذب (2/ 64)، الوسيط (5/ 275)، مغني المحتاج (3/ 245)، الإفصاح (2/ 140)، المغني مع الشرح الكبير (8/ 105)، الإنصاف (8/ 316)، كشاف القناع (5/ 166). (¬2) المهذب (2/ 64)، الوسيط (5/ 275)، مغني الحتاج (3/ 245)، المحلى (9/ 450). (¬3) 19/ 90، 91. (¬4) شرح النووي على مسلم (9/ 218)، فتح الباري (9/ 335).

إجابة الدعوة إلى وليمة العرس

بعض نسائه بمدين من شعير" (¬1). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بذلك في فتاواها رقم (5782)، ورقم (16506)، ورقم (18997) (¬2). إجابة الدعوة إلى وليمة العرس: اختلف الفقهاء في حكم إجابة الدعوة إلى الوليمة عندما لا يكون فيها لهو ولا معصية هل هي واجبة أم لا؟ ولهم في ذلك ثلاثة أقوال (¬3): القول الأول: أن الإجابة لها واجبة، وقال به جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية في الأصح من مذهبهم، والحنابلة. القول الثاني: أنها سنة مستحبة، وهو مذهب الحنفية وقول للشافعية. القول الثالث: أنها فرض كفاية وهو قول للشافعية. واستدلوا جميعًا بحديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها" (¬4)، وحديث ابن عمر أيضًا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أجيبوا هذه الدعوة إذا دعيتم إليها" (¬5)، وحديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها، ومن لم ¬

_ (¬1) رواه البخاري برقم (4877). (¬2) 19/ 94، 99، 96. (¬3) بدائع الصنائع (5/ 128)، البحر الرائق (8/ 214)، حاشية ابن عابدين (6/ 347)، التمهيد لابن عبد البر (10/ 179)، المهذب (2/ 64)، الوسيط (5/ 275 - 276)، روضة الطالبين (7/ 333)، مغني المحتاج (3/ 245)، الإفصاح لابن هبيرة (2/ 140)، المغني مع الشرح (8/ 106 - 107). (¬4) رواه البخاري برقم (4878)، ومسلمٌ برقم (1429). (¬5) رواه البخاري برقم (4884)، ومسلمٌ برقم (1429).

حكم إجابة الدعوة إذا كانت عامة

يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله" (¬1). فمن قال بوجوب الإجابة حمل الأمر على الوجوب، ومن قال بسنيتها حمل ذلك على الاستحباب، وحمل العصيان الوارد في الحديث على معنى عصيان الرسول في سيرته وحسن الأخلاق. ومن قال إنها فرض كفاية نظر إلى الحكمة منها وأن المقصود بها إظهار النكاح وذلك يحصل بحضور من يكفي، ولأن الإجابة إكرام للداعي وموالاة فهي كرد السلام. الراجح: هو القول بالوجوب لظاهر حديث أبي هريرة المتقدم: "شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله". وهو ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في فتواها رقم (8052)، والفتوى رقم (6673) (¬2). حكم إجابة الدعوة إذا كانت عامة: إذا كانت الدعوة للناس عامة دون تعيين فقد ذكر الحنابلة أن الإجابة في هذه الحالة تكون جائزة وليست واجبة ولا مستحبة؛ لأنه لم يعين شخصا بعينه، ولا يحصل كسر قلب الداعي بترك إجابته (¬3). وإذا كانت الدعوة عامة لأناس مخصوصين كمن حضروا الصلاة في الجامع استحبت الإجابة إذا كان عدمها سيتأذى به الداعي. ¬

_ (¬1) رواه البخاري برقم (4882) ومسلمٌ برقم (1432). (¬2) 19/ 101، 102. (¬3) المغني مع الشرح (8/ 106، 107).

حكم إجابة الدعوة إذا كان في الوليمة معصية

حكم إجابة الدعوة إذا كان في الوليمة معصية: لا يختلف الفقهاء أن الوليمة إذا دعي إليها الشخص وكان فيها منكر كالخمر والغناء والاختلاط والرقص ونحو ذلك فإن أمكنه الإنكار وإزالة المنكر لزمه الحضور والإنكار؛ لأنه يؤدي فرضين إجابة الدعوة وإزالة المنكر، وإن كان لا يقدر على إزالة هذا المنكر فلا يجوز له الحضور إلى الوليمة (¬1). وأما إن لم يعلم بالمنكر حتى حضر الوليمة فالواجب عليه إزالته إن كان قادرا على ذلك، فإن لم يقدر وجب عليه الخروج والانصراف، والدليل على ذلك كله ما رواه سفينة أبي عبد الرحمن: أن رجلا أضافه علي فصنع له طعامًا فقالت فاطمة: لو دعونا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكل معنا، فدعوه فجاء فوضع يده على عضادتي الباب فرأى قراما في ناحية البيت فرجع، فقالت فاطمة لعلي: الحقه فقل له ما أرجعك يا رسول الله؟ فقال: "إنه ليس لي أن أدخل بيتا مزوقا (¬2) " (¬3)، وحديث عمر قال: أيها الناس إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر" (¬4)، وروي أن رجلا دعا عبد الله بن مسعود إلى وليمة فلما ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (5/ 127)، مواهب الجليل (4/ 4)، المهذب (2/ 64)، المغني مع الشرح الكبير (8/ 108). (¬2) مزوقا أي مزينا، قيل: أصله من الزاووق وهو الزئبق؛ لأنه يطلى به مع الذهب ثم يدخَل النار فيهب الزئبق ويبقى الذهب. النهاية في غريب الحديث (2/ 319). (¬3) رواه ابن أحمد (5/ 220، 221، 222)، وابن ماجه برقم (3360)، وأبو داود برقم (3755)، والبزار برقم (3826)، والطبرانيُّ في الكبير [7/ 84 (6446)]، والحاكم [2/ 203 (2758)] وصححه، وأبو نعيم في الحلية (1/ 369)، والبيهقيُّ (7/ 267). قال المناوي في فيض القدير (5/ 381): "ورمز المصنف لحسنه وفيه سعيد بن جهمان قال أبو حاتم لا يحتج به لكن رجحه الحاكم وصححه تركها الذهبي". (¬4) أخرجه النسائي في السنن الكبرى برقم (6741)، قال الحافظ في الفتح (9/ 250): "وإسناده جيد، وأخرجه الترمذيُّ من وجه آخر فيه ضعف عن جابر وأبو داود من حديث ابن عمر بسند فيه انقطاع وأحمدُ من حديث عمر".

حكم إجابة الدعوة عند تكرار الوليمة

جاء سمع لهوا فرجع فلقيه الذي دعاه فقال له مالك رجعت ألا تدخل فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من كثر سواد قوم فهو منهم ومن رضي عمل قوم كان شريك من عمله" (¬1) ولأنه بالجلوس يشاهد المنكر ويسمعه من غير حاجة إلى ذلك فمنع منه كما لو قدر على إزالته (¬2). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بهذا كله في فتاواها رقم (13959)، ورقم (20422)، ورقم (1938)، ورقم (13315) (¬3). حكم إجابة الدعوة عند تكرار الوليمة: وإذا صنعت الوليمة لأكثر من يوم فالإجابة لليوم الأول تكون واجبة على نحو ما تقدم، وفي اليوم الثاني تكون مستحبة، وأما اليوم الثالث فتكره الإجابة لها؛ لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الوليمة أول يوم حق، والثاني معروف، والثالث رياء وسمعة" (¬4). حكم الأكل من طعام الوليمة لمن حضرها: اختلف الفقهاء في وجوب الأكل من طعام الوليمة لمن حضرها وكان مفطرا: الأول: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية في الأصح من ¬

_ (¬1) أخرجه الديلمي في الفردوس برقم (5621). قال الزيلعيُّ في نصب الراية (4/ 346): "رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده ... ورواه علي بن معبد في كتاب الطاعة والمعصية حدثنا ابن وهب به سندًا ومتنًا، ورواه بن المبارك في كتاب الزهد والرقائق موقوفًا على أبي ذر". ونحو ذلك قال الحافظ في الدراية (2/ 267). (¬2) المغني مع الشرح الكبير (8/ 109، 111). (¬3) 19/ 107، 108، 135، 137. (¬4) رواه ابن ماجه [1/ 617 (1915)]. قال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/ 108): "هذا إسناد فيه عبد الملك بن حسين وهو ضعيف وله شاهد من حديث ابن مسعود رواه الترمذيّ".

مذهبهم والحنابلة إلى استحبابه (¬1)، لحديث جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دعي أحدكم فليجب فإن شاء أكل وإن شاء ترك" (¬2). والأولى له الأكل؛ لأن ذلك أبلغ في إكرام الداعي وجبر قلبه. الثاني: ذهب الظاهرية والشافعية في قول إلى وجوب الأكل؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وإن كان مفطرًا فليطعم"، ولأن المقصود منه الأكل فكان واجبا. أما الصائم فلا يخلو إما أن يكون صومه واجبًا أو تطوعًا، فإن كان واجبًا أجاب ولم يفطر؛ ولكن يدعو لهم ويبارك ويخبرهم بصيامه ليعلموا عذره فتزول عنه التهمة في ترك الأكل. والدليل على ذلك حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دعي أحدكم فليجب فإن كان صائما فليصل، وإن كان مفطرا فليطعم" (¬3)، قوله فليصل أي فليدعو. ولأن الفطر في الصوم الواجب غير جائز فإن الصوم واجب والأكل غير جائز. وإن كان صومًا تطوعًا استحب له الفطر والأكل (¬4) إذا كان في ذلك إجابة لأخيه المسلم وإدخال السرور على قلبه؛ لحديث أبي سعيد الخدري أنه صنع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه طعاما فدعاهم فلما دخلوا وضع الطعام فقال رجل من القوم: إني صائم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعاكم أخوكم وتكلف لكم وتقول إني صائم؟ أفطر، وصم يومًا مكانه إن شئت" (¬5)، ولأن له الخروج من الصوم ما دام أنه تطوع. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (2/ 338)، مواهب الجليل (4/ 5)، شرح النووي على مسلم (9/ 236)، مغني المحتاج (3/ 248)، المغني (8/ 108)، الإنصاف (8/ 322). (¬2) رواه مسلم برقم (1430). (¬3) رواه مسلم برقم (1431). (¬4) المبسوط (3/ 70)، المغني (8/ 108)، الإنصاف (8/ 322). (¬5) قال الهيثمي في المجمع (4/ 53): "رواه الطبراني في الأوسط وفيه حماد بن أبي حميد وهو ضعيف، وبقية رجاله ثقات".

حكم الضرب بالدفوف في العرس

وإن أحب إتمام الصيام جاز له ذلك لما تقدم من حديث أبي هريرة فيدعو لهم ويبارك ويخبرهم بصيامه ليعلموا عذره فتزول عنه التهمة كما تقدم. حكم الضرب بالدفوف في العرس: لا يختلف الفقهاء في استحباب إعلان النكاح والضرب عليه بالدف في حق النساء (¬1). ودليل ذلك حديث محمد بن حاطب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح" (¬2)، وحديث عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اظهروا النكاح واضربوا عليه بالغربال" (¬3)، وفي رواية أخرى عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف" (¬4). أما الرجال فيكره ذلك في حقهم عند الشافعية والحنابلة وبعض المالكية، خلافا لبعض المالكية، قال الحافظ ابن حجر: "واستدل بقوله: "واضربوا" على أن ذلك لا يختص بالنساء، لكنه ضعيف، والأحاديث القوية فيها الإذن في ذلك ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (2/ 253)، حاشية الدسوقي (2/ 339)، مواهب الجليل (4/ 7)، مغني المحتاج (4/ 429)، كشاف القناع (5/ 183). (¬2) رواه أحمد (4/ 259)، وابن ماجه [1/ 611 (1896)]، والترمذيُّ [3/ 398 (1088)]، والنسائيُّ في السنن برقم (3369)، وفي الكبرى [3/ 331 (5562)]، والطبرانيُّ في الكبير [19/ 242 (542)]، والحاكم في مستدركه (2/ 201) وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وقال الترمذيُّ عقبه: "حديث محمد بن حاطب حديثٌ حسنٌ، وأبو بلج اسمه يحيى بن أبي سليم ويقال ابن سليم أيضا ومحمَّد بن حاطب قد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو غلام صغير". (¬3) رواه ابن ماجه [1/ 611 (1895)]، والبيهقيُّ (7/ 290). قال ابن الجوزي في العلل (2/ 627): "فيه خالد بن إياس قال أحمد بن حنبل: هو متروك الحديث". (¬4) الترمذيُّ [3/ 398 (1089)] وقال: "غريب حسن في هذا الباب وعيسى بن ميمون الأنصاري يضعف في الحديث"، وذكره ابن الجوزي في العلل (2/ 627) وقال: "عيسى بن ميمون ضعيف جدًا لا يلتفت إلى ما روى".

للنساء فلا يلتحق بهن الرجال لعموم النهي عن التشبه بهن" (¬1). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بجوازه للنساء دون الرجال بشرط أن لا يصاحبه منكر كالاختلاط، والأغاني الماجنة ونحو ذلك في فتاواها رقم (13400)، ورقم (1715)، ورقم (3321)، ورقم (5067)، ورقم (18853)، ورقم (16915)، ورقم (15977) (¬2). ¬

_ (¬1) فتح الباري (9/ 226). (¬2) 19/ 96، 112، 114، 117، 123، 124، 131.

عشرة النساء

عِشْرة النساء العِشرة في اللغة: بالكسر اسم من المعاشرة والتعاشر وهي المخالطة، تقول: عاشرته معاشرة إذا خالطته مخالطة، واعتشروا وتعاشروا أي تخالطوا (¬1). واصطلاحًا: ما يكون بين الزوجين من حسن المخالطة والصحبة. حكم حسن العشرة بين الزوجين: يجب على كل من الزوجين معاشرة الآخر بالمعروف لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬2)، فهو أمر بما أوجبه الله به من حسن المعاشرة مع الزوجات (¬3)، وقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬4)، أي للنساء على الرجال من حقوق الزوجية مثل ما للرجال عليهن فليؤد كل من الطرفين إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف (¬5). وحق الزوج على الزوجة أعظم من حقها عليه لقوله الله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (¬6)، ولحديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله لهم عليهن من الحق" (¬7) رواه أبو داود والترمذيُّ، وحديث حصين بن محصن أن عمة له أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لها: "أذات زوج أنت؟ " قالت: نعم. قال: "فأين أنت منه؟ " قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه. قال: "فكيف أنت له فإنه جنتك ¬

_ (¬1) المصباح المنير مادة: عشر (ص: 213)، مختار الصحاح مادة: عشر (ص: 209). (¬2) سورة النساء: 19. (¬3) القرطبي (5/ 97). (¬4) سورة البقرة: 228. (¬5) تفسير القرطبي (3/ 123)، تفسير ابن كثير (1/ 272). (¬6) سورة البقرة: 228. (¬7) رواه أبو داود [2/ 244 (2140)]، والترمذيُّ [1/ 406 (1465)].

صور من حقوق الزوج على الزوجة

ونارك" (¬1)، وعن عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ فقال: "ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئًا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربًا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا، ألا إن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن" (¬2) رواه الترمذيُّ. وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بوجوب العشرة بين الزوجين بالمعروف في فتواها رقم (11534)، والفتوى رقم (13328) (¬3). صور من حقوق الزوج على الزوجة: من حق الزوج على زوجته أن تحافظ على عرضها، ولا تدخل بيته أحدًا يكرهه؛ لما تقدم من حديث عمرو بن الأحوص: "فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون". وعدم الخروج من البيت إلا بإذن الزوج ولا تصوم إلا بإذنه وإذا دعاها لم تمتنع؛ لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن امرأة من خثعم أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله أخبرني ما حق الزوج على الزوجة فإني امرأة أيم فإن استطعت وإلا جلست أيما. قال: "فإن حق الزوج على زوجته إن سألها نفسها وهي على ظهر بعير أن لا تمنعه نفسها، ¬

_ (¬1) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 306): "رواه أحمد والطبرانيُّ في الكبير والأوسط إلا أنه قال فانظري كيف أنت له ورجاله رجال الصحيح خلا حصين وهو ثقة". (¬2) رواه الترمذيُّ [3/ 467 (1163)] وقال: "حسنٌ صحيحٌ". (¬3) 19/ 234، 385.

هل من حق الزوج خدمة زوجته له

ومن حق الزوج على الزوجة أن لا تصوم تطوعًا إلا بإذنه فان فعلت جاعت وعطشت ولا يقبل منها، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه فإن فعلت لعنتها ملائكة السماء وملائكة الرحمة وملائكة العذاب حتى ترجع" قالت: لا جرم لا أتزوج أبدا (¬1) وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع" (¬2) متفق عليه، وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا لإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه وما أنفقت من نفقة من غير إذنه فإنه يرد إليه شطره" (¬3) رواه البخاري. وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بعدم جواز خروج المرأة من بيت زوجها إلا بإذنه في عدد من فتاواها من ذلك الفتوى رقم (18280)، ورقم (1136)، ورقم (3429)، ورقم (7484)، ورقم (7731)، ورقم (15668)، ورقم (5666)، وأفتت بعدم جواز إدخالها أحدا بيتها من غير إذنه في فتواها رقم (4313)، كما أفتت بعدم جواز صومها تطوعًا إلا بإذنه في فتواها رقم (19541)، وذكرت اللجنة جملة من هذه الحقوق في فتواها رقم (3377) (¬4). هل من حق الزوج خدمة زوجته له: لا خلاف بين الفقهاء في مشروعية خدمة الزوجة لزوجها في بيت الزوجية، ونقل بعض العلماء الإجماع في ذلك (¬5)، واختلفوا هل يجب ذلك عليها أم لا على ¬

_ (¬1) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 306 - 307): "رواه البزار، وفيه حسين بن قيس المعروف بحنش وهو ضعيف، وقد وثقه حصين بن نمير، وبقية رجاله ثقات". (¬2) البخاري برقم (4898)، ومسلمٌ برقم (1436). (¬3) البخاري برقم (4899). (¬4) 19/ 165، 169، 353، 262، 367، 368، 371، 373. (¬5) شرح النووي على صحيح مسلم (17/ 101).

قولين (¬1): القول الأول: أن خدمة الزوجة لزوجها ليست واجبة عليها، ولكن الأولى لها خدمته بما جرت العادة به، وإليه ذهب جمهور الفقهاء من الشافعية والحنابلة وبعض المالكية. وحجتهم في ذلك أن المعقود عليه هو الاستمتاع بها فلا يلزمها ما سواه، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} (¬2). القول الثاني: أن المرأة يجب عليها خدمة زوجها وإليه ذهب الحنفية وجمهور المالكية وبعض الحنابلة، على أن لهم شيء من التفصيل، فالحنفية يقولون بوجوب ذلك ديانة، وأنه لا يجوز لها أن تأخذ من زوجها أجرًا على خدمتها له؛ ويستدلون بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم الأعمال بين علي وفاطمة -رضي الله عنهما-، فجعل عمل الداخل على فاطمة، وعمل الخارج على علي. وجمهور المالكية يقيدون ذلك بخدمة المثل في الأعمال الباطنة التي جرت العادة بقيام الزوجة بمثلها كالعجن والكنس، والفرش، واستقاء الماء ونحو ذلك، واستدلوا بقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬3)، وقد جرى عرف المسلمين في بلدانهم على ذلك. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر نساءه بخدمته ففي حديث الأضحية عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "يا عائشة هلمي المدية" ثم قال: "اشحذيها بحجر" ففعلت ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه (¬4) رواه مسلم، وفي حديث أهل الصفة أنه قال: "يا عائشة أطعمينا" فقربت ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي (11/ 33)، بدائع الصنائع (4/ 192)، المنتقى للباجي (4/ 130)، شرح الخرشي على خليل (4/ 187)، حاشية الدسوقي (2/ 511)، المهذب للشيرازي (2/ 67)، قوانين الأحكام الشرعية (ص: 147)، المغني لابن قدامة (8/ 130)، كشاف القناع (5/ 195). (¬2) سورة النساء: 34. (¬3) سورة البقرة: 228. (¬4) مسلم برقم (1967).

حشيشة، ثم قال: "يا عائشة أطعمينا" فقربت حيسا، ثم قال: "يا عائشة اسقينا" فجاءت بعس فشرب ثم قال: "يا عائشة اسقينا" فجاءت بعس دونه (¬1). ولقصة علي وفاطمة -رضي الله عنهما- فعن علي -رضي الله عنه- أن فاطمة-رضي الله عنها- شكت ما تلقى من أثر الرحى فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - سبي فانطلقت فلم تجده فوجدت عائشة فأخبرتها فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته عائشة بمجيء فاطمة فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلينا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبت لأقوم فقال: "على مكانكما" فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري وقال: "ألا أعلمكما خيرًا مما سألتماني؟ إذا أخذتما مضاجعكما تكبران أربعًا وثلاثين وتسبحان ثلاثًا وثلاثين وتحمدان ثلاثًا وثلاثين فهو خير لكما من خادم". رواه البخاري (¬2). وكان الصحابة يأمرون أزواجهم بالطحن وإعداد الخبز، والطبخ، وتقريب الطعام، وفرش الفراش ونحو ذلك، فلولا أن الخدمة في مثل ذلك كانت مستحقة لما طالبوهن بذلك (¬3). الراجح: هو القول الأخير وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية فتجب على المرأة خدمة زوجها بالمعروف من مثلها لمثله، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال. وهو ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في فتواها رقم (9404) (¬4) حيث نصت على أن الواجب في ذلك يحتلف باختلاف طبقات الناس وما جرى به عرفهم وعاداتهم. ¬

_ (¬1) رواه أحمد (3/ 429، 5/ 426)، وأبو داود برقم [4/ 309 (5040)]، والنسائيُّ في الكبرى [4/ 145 (6621)، 146 (6622)، 4/ 161 (6695)]، وابن حبان [12/ 358 (5550)]، والطبرانيُّ في الكبير [8/ 328 (8229)، (8232)]، والحاكم في المستدرك (4/ 301) وذكره المنذري في الترغيب ونقل فيه اضطرابًا واختلافًا كثيرًا. (¬2) صحيح البخاري برقم (3502). (¬3) تفسير القرطبي (3/ 154). (¬4) 19/ 218.

حقوق الزوجة على زوجها

حقوق الزوجة على زوجها: لقد أوجب الإسلام على الرجال الإحسان إلى زوجاتهم في المعاملة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر -رضي الله عنه-: "فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله" (¬1) رواه مسلم، وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خياركم خياركم لنسائهم" رواه ابن ماجة (¬2)، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" رواه الترمذيُّ (¬3)، وعن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "واستوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه إن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج استوصوا بالنساء خيرًا" (¬4) رواه البخاري ومسلمٌ. كما أوجب الإسلام العدل بين الزوجات في كل ما هو مقدور له من حقوق الزوجية وواجباتها كالنفقة والكسوة والمسكن والقسم وما يستتبعه من البيتوتة والمؤانسة في اليوم والليلة، والقرعة بينهن عند السفر ونحو ذلك من الواجبات. أما ما لا يقدر عليه كالمحبة والميل النفسي والنشاط عند المعاشرة ونحو ذلك فلا يجب التسوية بينهن في ذلك؛ لأنه ليس في مقدوره، وهذا كله مما لا يختلف فيه الفقهاء (¬5)، والدليل عليه قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬6)، وليس في الميل ¬

_ (¬1) مسلم برقم (1218). (¬2) ابن ماجه [1/ 636 (1978)]. (¬3) الترمذيُّ [5/ 709 (3895)]، وابن حبان [9/ 484 (4177)]. قال الترمذيُّ: "حسن غريب صحيح". (¬4) البخاري برقم (4890)، ومسلمٌ برقم (1368). (¬5) شرح فتح القدير (3/ 433)، بداية المجتهد (2/ 42)، المغني لابن قدامة (8/ 138). (¬6) سورة النساء: 19.

لإحدى الزوجات دون الأخريات فيما يقدر عليه الإنسان معروف، وقال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (¬1)، وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل وفي لفظ وشقه ساقط" (¬2) رواه أهل السنن، وحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم بيننا فيعدل ثم يقول: "اللَّهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك" (¬3). وقد نصت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية على هذه الأحكام في فتاواها رقم (6561)، ورقم (12338)، ورقم (19782)، ورقم (20516)، ورقم (6723)، ورقم (19313)، ورقم (11967)، ورقم (21418)، ورقم (7813) (¬4). ¬

_ (¬1) سورة النساء: 129. (¬2) رواه الدارمي [2/ 193 (2206)]، وابن ماجه [1/ 633 (196)]، وأبو داود [2/ 242 (2133)]، والترمذيُّ [3/ 447 (2206)]، والنسائيُّ برقم (3942). قال الحافظ في التلخيص (3/ 201): "رواه أحمد والدارميُّ وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم واللفظ له والباقون نحوه وإسناده على شرط الشيخين قاله الحاكم وابن دقيق العيد واستغربه الترمذيُّ مع تصحيحه وقال عبد الحق هو خبر ثابت لكن عليه أن هماما تفرد به وأن هماما رواه عن قتادة فقال كان يقال". (¬3) رواه الدارمي [2/ 193 (2207)]، وأبو داود [2/ 242 (2134)]، والحاكم (2/ 204) وقال: "على شرط مسلم ولم يخرجاه". (¬4) 19/ 181، 184، 198، 201، 204، 249، 261، 291، 374.

القسمة للمرأة الجديدة

القسمة للمرأة الجديدة للفقهاء قولان في القسم للزوجة الجديدة: القول الأول: إذا تزوج امرأة جديدة فإنه يقيم عندها سبعًا إن كانت بكرا، وإن كانت ثيبا أقام عندها ثلاثا ويجوز أن يقسم عندها سبعا ويقضي للباقيات وإليه ذهب المالكية والشافعية والحنابلة (¬1). لما روى أبو قلابة عن أنس قال: "من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا ثم قسم"، قال أبو قلابة: لو شئت لقلت إن أنسا رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2) متفق عليه. وعن أبي بكر بن عبد الرحمن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما تزوج أم سلمة أقام عندها ثلاثًا وقال: "ليس بك على أهلك هوان إن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي" (¬3) رواه مسلم، وفي لفظ له: "إن شئت سبعت عندك وإن شئت ثلثت ثم درت؟ " قالت: ثلث، وفي لفظ آخر له: "إن شئت زدتك وحاسبتك به للبكر سبع وللثيب ثلاث". القول الثاني: لا فضل للجديدة في القسم فإن أقام عندها شيئا قضاه للباقيات وإليه ذهب الحنفية (¬4). واستدلوا بما تقدم من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما تزوجها أقام عندها ثلاثًا وقال: "ليس بك على أهلك هوان إن ¬

_ (¬1) التمهيد لابن عبد البر (17/ 245)، بداية المجتهد (2/ 42)، قوانين الأحكام الشرعية (ص: 141)، الأم (5/ 192)، المهذب (2/ 68)، روضة الطالبين (7/ 355)، مغني المحتاج (3/ 256)، المغني لابن قدامة (8/ 159)، كشاف القناع (5/ 198). (¬2) البخاري برقم (4916)، ومسلمٌ برقم (1461). (¬3) مسلم برقم (1460). (¬4) المبسوط (5/ 218)، شرح فتح القدير (3/ 433)، البحر الرائق (3/ 235).

النشوز

شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي" رواه مسلم، وفي لفظ: "وإن شئت ثلثت ثم درت"، أي درت عليهن بمثل هذه المدة نفسها. ولعموم حديث أبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل". ولأن القسم من حقوق النكاح ولا تفاوت بينهن في ذلك فلا تفاوت بينهن في القسم. الترجيح: لعل الراجح في المسألة هو القول الأول لأنه الذي يتفق مع ما ثبت صراحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلا وقولا. قال ابن عبد البر: "الأحاديث المرفوعة في هذا الباب عن أنس على ما ذهب إليه مالك والشافعيُّ وهو الصواب وليس فيما ذهب إليه غيرهما حديث مرفوع نصًا" (¬1). النشوز: النشوز والنشوص لغة: الارتفاع، يقال نشزت المرأة ونشصت، ونشز الرجل ونشص إذا ارتفع أحدهما على صاحبه وخرج عن حسن المعاشرة، وهو مأخوذ من النشز بفتح الشين وإسكانها وهو المرتفع من الأرض، وقيل النشوز كراهية كل من الزوجين الآخر (¬2). كيفية معالجة النشوز: عندما يقع نشوز من الزوجة على زوجها أو تصدر العلامات الظاهرة لذلك منها فالطريق المشروع لمعالجة ذلك هو أن يبدأ الزوج بوعظها وتذكيرها بشرع الله، فإن لم يفد ذلك هجرها في المضجع، فإن لم يؤثر ذلك على اعتدال حالها ¬

_ (¬1) التمهيد (17/ 247). (¬2) لسان العرب مادة: نشز (5/ 417)، المغرب (2/ 393)، تفسير القرطبي (5/ 170)، تحرير ألفاظ التنبيه (259)، المطلع (ص: 329).

جاز له ضربها ضربا غير مبرح كوسيلة أخيرة لإصلاحها وحملها على أداء ما يجب عليها من حقوق الزوجية. ودليل ذلك كله قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (¬1)، فالخوف في الآية بمعنى العلم قاله ابن عباس، وقيل بمعنى الظن لما يبدو من دلائل النشوز، والضرب في الآية هو ضرب الأدب غير المبرح وهو الذي لا يكسر عظما ولا يشين جارحة كاللكزة ونحوها فإن المقصود منه الصلاح لا غير، وأما ما يؤدي إلى الهلاك فيجب فيه الضمان (¬2). وقد نصت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية على هذه المراحل في فتواها رقم (6295) (¬3). أما إذا خافت المرأة نشوز زوجها أو إعراضه عنها لرغبته عنها إما لمرض بها أو كبر أو دمامة فلا بأس إذا رغبت أن تضع عنه بعض حقوقها تسترضيه بذلك لقول الله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (¬4). وعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت في هذه الآية: "هي المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها فيريد طلاقها ويتزوج عليها، تقول له: أمسكني ولا تطلقني ثم تزوج غيري فأنت في حل من النفقة علي والقسمة لي" (¬5)، وروى أبو داود عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن سودة بنت زمعة-رضي الله عنها- حين أسنت ¬

_ (¬1) سورة النساء: 34. (¬2) زاد المسير (2/ 75)، القرطبي (5/ 172). (¬3) 19/ 225. (¬4) سورة النساء: 128. (¬5) البخاري برقم (4910)، ومسلمٌ برقم (3021).

حل الشقاق بين الزوجين بالصلح

وفرقت أن يفارقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: يا رسول الله يومي لعائشة فقبل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها، قالت: في ذلك أنزل الله جل ثناؤه وفي أشباهها أراه قال: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} " (¬1). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بذلك في فتواها رقم (8435)، ورقم (18762)، ورقم (6723)، ورقم (15920) (¬2). حل الشقاق بين الزوجين بالصلح: وإذا وقع بين الزوجين شقاق وخشي أن يؤدي بهما ذلك إلى العصيان استحب أن يبعث الحاكم حكما من أهل الزوج وحكما من أهل الزوجة أمينين برضاهما فينظران بينهما ويفعلان ما يريان المصلحة فيه من جمع أو تفريق لقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} (¬3). فإن لم يتمكنا من حل المشكلة انتقل الأمر إلى القضاء. وقد نصت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية على ذلك في فتواها رقم (8736)، والفتوى رقم (4852) (¬4). الخلع: الخلع لغة: النزع والتجريد، تقول خلعت الثوب والرداء والنعل إذا نزعته وجردته، وخلع الرجل امرأته، واختلعت منه وخالعته إذا افتدت منه بمالها فطلقها ¬

_ (¬1) رواه أبو داود [2/ 242 (2135)]، والحاكم (2/ 203) وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". (¬2) 19/ 191، 207، 249، 378. (¬3) سورة النساء: 35. (¬4) 19/ 375، 381.

مشروعيته

على الفدية، فهي خالع والاسم الخلع بالضم. وسمي هذا النوع من الفراق خلعًا لأن الله تعالى جعل كلا من الزوجين لباسًا للآخر في قوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (¬1)، فإذا أجاب الزوج زوجته إليه فقد بانت منه وخلع كل واحد منهما لباس صاحبه، وفارق بدنه بدن الآخر (¬2). الخلع شرعًا: هو مفارقة المرأة بعوض مأخوذ (¬3). مشروعيته: لا يختلف الفقهاء أن المرأة إذا كرهت زوجها لخَلْقِه أو خُلُقِهِ أو دينه أو كبره أو ضعفه أو نحو ذلك وخشيت أن لا تؤدي حق الله في طاعته جاز لها أن تخالعه بعوض، والأصل في ذلك الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬4). وأما السنة: فحديث ابن عباس -رضي الله عنه-: "أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام -وفي رواية: ولكني لا أطيقه- فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أقبل الحديقة وطلقها تطليقة" (¬5). رواه البخاري. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 187. (¬2) لسان العرب مادة: خلع (8/ 77)، المصباح المنير مادة: خلع (ص: 94)، المغرب (1/ 75). (¬3) انظر الزاهر للأزهري (323 - 324)، تحرير ألفاظ التنبيه (260)، روضة الطالبين (7/ 374)، مغني المحتاج (3/ 262)، المطلع (ص: 331). (¬4) سورة البقرة: 229. (¬5) البخاري برقم (4971).

الحكمة من مشروعية الخلع

وأما الإجماع: فقد نقله غير واحد (¬1). الحكمة من مشروعية الخلع: أن المرأة قد تكره البقاء مع زوجها لخلقه أو خلقه أو دينه أو غير ذلك بحيث تخاف إن بقيت معه أن لا توفيه حقوقه المشروعة فتكون آثمة لتعديها حدود الله، وهي لا تملك طلاق نفسها فشرع لها الخلع كي تتجنب الوقوع في المعصية وتتخلص من البقاء مع الزوج على وجه لا رجعة له عليها إلا برضاها وعقد جديد. حالات الخلع: يختلف حكم الخلع تبعًا لاختلاف الحالات السائدة في العلاقة الزوجية وقت طلبه فتارة يكون جائزًا، وتارة أخرى يكون غير جائز، وفيما يلي توضيح ذلك: حالة الجواز: يباح للمرأة أن تطلب الخلع من زوجها في حالة ما إذا كرهت البقاء معه لسبب ما كشقاق بينهما أو لبغضها إياه أو سوء معاشرته وخافت ألا تؤدي حقه ولا تقيم حدود الله في طاعته، ويسن للزوج إجابتها في هذه الحال؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬2)، ولحديث ابن عباس في قصة امرأة ثابت بن قيس. ¬

_ (¬1) مراتب الإجماع لابن حزم (ص: 74)، المحلى (10/ 235)، التمهيد لابن عبد البر (23/ 375)، بداية المجتهد (2/ 50)، روضة الطالبين (7/ 374)، مغني المحتاج (3/ 262)، المغني مع الشرح الكبير (8/ 174). (¬2) سورة البقرة: 229.

حالة التحريم

وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بجواز طلب الخلع في مثل هذه الحال في فتواها رقم (8420) (¬1). حالة التحريم: يكون الخلع محرمًا في صور ثلاث: الأولى: إذا كانت حالهما مستقيمة وليس هناك ضرر يدعو إليه؛ لحديث ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أيما امرأة سألت زوجها طلاقًا في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة" (¬2)، وحديثه أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المختلعات هن المنافقات" (¬3)، وفي رواية عن عقبة بن عامر قال؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن المختلعات والمنتزعات هن المنافقات" (¬4). ولأنه إضرار بها وبزوجها وإزالة لمصالح النكاح من غير حاجة. ويرى الشافعية جوازه في هذه الحالة إذا وجد الرضا من الطرفين لقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (¬5)، ولأنه رفع عقد بالتراضي جعل لدفع الضرر فجاز من غير ضرر كالإقالة في البيع (¬6). فإذا خالع الزوج زوجته في هذه الحال صح في قول أكثر أهل العلم (¬7). ¬

_ (¬1) 19/ 382. (¬2) رواه وأبو داود [2/ 268 (2226)]، والترمذيُّ [3/ 493 (1187)] وقال: "حسن". (¬3) رواه الترمذيُّ [3/ 492 (1186)] وقال: "حديث غريب من هذا الوجه وليس إسناده بالقوي". (¬4) قال الهيثمي في المجمع (5/ 5) وقال: "رواه الطبراني وفيه قيس ابن الربيع وثقة الثوري وشعبة وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح". (¬5) سورة النساء: 4. (¬6) المهذب (2/ 90). (¬7) المغني (8/ 177).

الثانية: إذا عضل الزوج زوجته ليحملها على طلبه؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬1)، فإن خالعها في هذه الحال بلفظ الطلاق أو نيته بعوض فقد نص الحنابلة والشافعية على أن الطلاق يقع عليها رجعيا إن كان دون ثلاث، ولا يستحق العوض؛ لأنه عقد معاوضة أكرهت عليه بغير حق فلم يستحق فيه العوض للنهي عنه كالبيع والنهي يقتضي الفساد. وإن كان بغير لفظ الطلاق وقلنا إن الخلع طلاق وقع الطلاق بغير عوض، وإن قلنا إنه فسخ ولم ينو به الطلاق لم يقع شيء. والقول بتحريم الأخذ من المرأة بالعضل هو قول الجمهور، بل نقل الإجماع فيه ولم يخالف في ذلك إلا الحنفية (¬2)، حيث قالوا يكره عليه الأخذ في هذه الحال ديانة، فإن أخذ جاز ذلك حكما ولزم قضاء حتى لا تملك استرداده؛ لأن الزوج أسقط ملكه عنها بعوض رضيت به وهو من أهل الإسقاط والمرأة من أهل المعاوضة والرضا فيجوز في الحكم والقضاء. الثالثة: ويحرم الخلع أيضا إذا كان حيلة على الأصح، كأن يكون حيلة على إسقاط يمين الطلاق أي الذي يقصد منه إبطال الطلاق المعلق، ولا يصح ولا يقع؛ لأن الحيل خداع لا تحل ما حرم الله ويترتب عليه أنه إذا فعل المحلوف عليه بعده حنث في يمينه لعدم صحة الخلع (¬3). ¬

_ (¬1) سورة النساء: 19. (¬2) الإجماع لابن المنذر (ص: 83)، مراتب الإجماع (ص: 74)، بداية المجتهد (2/ 51)، المغني (8/ 178)، بدائع الصنائع (3/ 150). (¬3) كشاف القناع (5/ 231).

حقيقة الخلع وهل هو طلاق أم فسخ

حقيقة الخلع وهل هو طلاق أم فسخ: لا خلاف بين الفقهاء في أن الخلع إذا وقع بلفظ الطلاق أو نوى الزوج به الطلاق فهو طلاق، وإنما اختلفوا فيما إذا وقع بغير لفظ الطلاق ولم ينو الزوج به صريح الطلاق أو كنايته ماذا يكون؟ القول الأول: أنه يكون فسخا، وإليه ذهب الشافعي في القديم والحنابلة في الصحيح والمشهور من مذهبهم (¬1). واستدلوا بما روي عن ابن عباس أنه فسخ، قال الإِمام أحمد: ليس في الباب شيء أصح من حديث ابن عباس أنه فسخ، وعن ابن عباس أنه -رضي الله عنه- احتج في ذلك بقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} ثم قال: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}، ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬2) " (¬3)، فذكر تطليقتين، والخلع، وتطليقة بعدها، فلو كان الخلع طلاقا لكان أربعًا. ولحديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تعتد بحيضة" (¬4)، رواه أبو داود والترمذيُّ، وما روي عن الربيع بنت معوذ -رضي الله عنهما-: "أنها اختلعت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أمرت أن تعتد بحيضة" (¬5)، ¬

_ (¬1) المهذب (2/ 72)، الوسيط (5/ 311)، روضة الطالبين (7/ 375)، مغني المحتاج (3/ 268)، فتح الباري (9/ 402)، المغني لابن قدامة (8/ 180)، الإنصاف (22/ 29). (¬2) سورة البقرة: 229 - 230. (¬3) أخرجه البيهقيُّ (7/ 316) عن طاوس عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "سأل إبراهيم بن سعد ابن عباس عن امرأة طلقها زوجها تطليقتين ثم اختلعت منه أيتزوجها؟ قال ابن عباس: ذكر الله -عَزَّ وجَلَّ- الطلاق في أول الآية وآخرها والخلع بين ذلك، فليس الخلع بطلاق ينكحها". (¬4) رواه أبو داود [2/ 269 (2229)] وقال: "رواه عبد الرزاق عن معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا"، والترمذيُّ [3/ 491 (1185)] وقال: "حسن غريب". (¬5) الترمذيُّ [3/ 491 (1185)] وقال: "الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة".

رواه الترمذيُّ ووجه ذلك أن الخلع لو كان طلاقًا لما اقتصر رسول الله على أمرها بحيضة واحدة. ولأنها فرقة خلت عن صريح الطلاق ونيته فكانت فسخًا كسائر الفسوخ. القول الثاني: أنه يكون طلاقًا وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية في الجديد، وقول للحنابلة (¬1). واستدلوا بما روي عن ابن عباس وعلي وابن مسعود -رضي الله عنهم - أن الخلع تطليقة بائنة (¬2)، ولأن الفرقة التي يملك الزوج إيقاعها هي الطلاق دون الفسخ فوجب أن يكون الخلع طلاقًا، ولأنه لو كان فسخًا لما جاز على غير الصداق كالإقالة؛ إذ الفسخ يوجب استرجاع البدل كما أن الإقالة لا تجوز بغير الثمن، ولأنه أتى بكناية الطلاق قاصدًا فراقها، فكان طلاقًا كغير الخلع من كنايات الطلاق. وأصحاب هذا القول متفقون على أن الذي يقع به طلقة بائنة؛ لأن الزوج ملك البدل عليها فتصير هي بمقابلته أملك لنفسها، ولأن غرضها من التزام البدل أن تتخلص من الزوج ولا يحصل ذلك إلا بوقوع البينونة. ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي (6/ 171)، مختصر اختلاف العلماء للرازي (2/ 465)، تبيين الحقائق (2/ 268)، المدونة الكبرى (2/ 241)، بداية المجتهد (2/ 52)، تفسير القرطبي (3/ 143)، اختلاف العلماء للمروزي (ص: 159)، المغني (8/ 180)، الإنصاف (22/ 29)، كشاف القناع (5/ 216). (¬2) الرواية عن علي وابن مسعود أخرجها سعيد بن منصور (1/ 339)، والرواية عن عثمان أخرجها ابن أبي شيبة (5/ 112)، وأخرج البيهقي الرواية عن عثمان في السنن الكبري (7/ 316) ثم قال: "وقد روي فيه حديث مسند لم يثبت إسناده وروي فيه عن علي وابن مسعود -رضي الله عنهما-، قال ابن المنذر: وضعف أحمد يعني بن حنبل حديث عثمان، وحديث علي وابن مسعود -رضي الله عنهما- في إسنادهما مقال، وليس في الباب أصح من حديث ابن عباس يريد حديث طاوس عن بن عباس -رضي الله عنهما-".

هل يملك الزوج مراجعة المختلعة في عدتها؟

وأما الآية فقالوا في تأويلها: إن الله ذكر التطليقتين على غير وجه الخلع وأثبت معهما الرجعة، ثم ذكر حكمها إذا كانت على وجه الخلع، ثم ذكر حكم الثالثة، وبهذا لا يصير الطلاق أربعًا، وأما ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- من خلاف في هذه المسألة فقد روي عنه رجوعه إلى القول بأنه طلاق (¬1). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بهذا القول في فتواها رقم (4)، وفتواها رقم (112)، وفتواها رقم (179) (¬2). ثمرة الخلاف: تظهر ثمرة الخلاف في احتساب عدد الطلقات من عدمه، فمن جعل الخلع فسخًا لم يعتد به في عدد الطلقات، ومن جعله طلاقًا احتسب عليه ذلك. هل يملك الزوج مراجعة المختلعة في عدتها؟ لا خلاف بين الفقهاء أن المختلعة لا يملك زوجها مراجعتها في عدتها، بل ولا تحل له إلا بعقد جديد مع توافر أركان النكاح وشروطه. قال ابن رشد: "جمهور العلماء أجمعوا على أنه لا رجعة للزوج على المختلعة في العدة، إلا ما روي عن سعيد بن المسيب وابن شهاب أنهما قالا: إن رد لها ما أخذ منها في العدة أشهد على رجعتها" (¬3). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بما عليه الجمهور في فتواها رقم (33)، وفتواها رقم (103)، ورقم (112)، ورقم (179)، ورقم (365)، ورقم (1295)، ورقم (21355) (¬4). ¬

_ (¬1) أحكام القرآن للجصاص (2/ 96)، المبسوط (6/ 171، 172)، تفسير القرطبي (3/ 144). (¬2) 19/ 400، 404، 405. (¬3) بداية المجتهد (2/ 52 - 53). (¬4) 19/ 402 - 505، 407، 410، 412.

مقدار العوض في الخلع

مقدار العوض في الخلع: اختلف الفقهاء في مقدار عوض الخلع هل يجوز أن يكون أكثر من صداق المرأة أم لا؟ على قولين: القول الأول: أن الخلع يجوز بكل ما رضي به الطرفان من قليل أو كثير سواء كان مساويًا لصداق المرأة أو كان أقل منه أو أكثر، وإليه ذهب المالكية والشافعية (¬1). واستدلوا بقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬2)، حيث رفع سبحانه الجناح عنهما في الأخذ والعطاء من الفداء من غير فصل بين ما إذا كان مهر المثل أو زيادة عليه فيجب العمل بإطلاق النص، ولأنها أعطت مال نفسها بطيبة من نفسها وقد قال الله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (¬3). ولما روي عن أبي سعيد الخدري قال: كانت أختي تحت رجل من الأنصار تزوجها على حديقة، فكان بينهما كلام فارتفعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "تردين عليه حديقته ويطلقك؟ " قالت: نعم وأزيده، قال: "ردي عليه حديقته وزيديه" (¬4). وما روي عن الربيع بنت معوذ قالت: "اختلعت فيما دون عقاص رأسي فأجاز ذلك عثمان" (¬5). ¬

_ (¬1) المهذب (2/ 93)، روضة الطالبين (7/ 374)، فتح الباري (9/ 397)، بداية المجتهد (2/ 51)، تفسير القرطبي (3/ 140). (¬2) سورة البقرة: 229. (¬3) سورة النساء: 4. (¬4) رواه الدارقطني في سننه (3/ 254)، وقال ابن الجوزي في التحقيق (2/ 288): "هذا إسناد لا يصح". (¬5) أخرجه ابن الجعد (ص: 350) (2414)، والبيهقيُّ (7/ 315). قال الحافظ في تغليق التعليق (4/ 461): "إسناده حسن، وله شاهد في الموطأ".

وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بجواز الزيادة في فتواها رقم (357) (¬1)، وكانت الزوجة هي الطالبة للخلع لعدم رضاها بالزوج. القول الثاني: أن الخلع يكره بأكثر من صداق المرأة وهو مذهب الحنفية والحنابلة (¬2). واستدلوا بحديث ابن عباس: أن جميلة بنت سلول أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: والله ما أعتب على ثابت في دين ولا خلق، ولكني أكره الكفر في الإسلام لا أطيقه بغضًا، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أتردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد (¬3)، وما روي عن عطاء قال: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشكو زوجها فقال: "أتردين عليه حديقته التي أصدقك؟ " قالت: نعم وزيادة، قال: "أما الزيادة فلا" (¬4)، وعن أبي الزبير أن ثابت بن قيس بن شماس كانت عنده زينب بنت عبد الله بن أبي بن سلول وكان أصدقها حديقة فكرهته فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أتردين عليه حديقته التي أعطاك؟ " قالت: نعم وزيادة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أما الزيادة فلا ولكن حديقته" قالت: نعم فأخذها له وخلا سبيلها فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال: قد قبلت قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعه أبو الزبير ¬

_ (¬1) 19/ 408. (¬2) مختصر اختلاف العلماء للرازي (2/ 464)، بدائع الصنائع (3/ 150)، الهداية شرح بداية المبتدي (1/ 79)، شرح فتح القدير (4/ 215)، البحر الرائق (4/ 82 - 83)، المغني (8/ 175)، الإنصاف (22/ 45)، كشاف القناع (5/ 213). (¬3) رواه ابن ماجه في سننه [1/ 663 (2056)]، وصححه ابن حجر في الدراية (2/ 75)، وأصله في البخاري بدون الزيادة. (¬4) أخرجه الدارقطني في سننه (3/ 321) عن غندر عن ابن جريج به وقال: "خالفه الوليد عن ابن جريج أسنده عن عطاء عن ابن عباس والمرسل أصح".

هل الخلع يحتاج إلى حكم القاضي أم لا؟

من غير واحد (¬1). وعن عطاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يأخذ من المختلعة أكثر مما أعطاها" (¬2). قالوا: وإن كانت هذه الرواية مرسلة فهي حجة لا سيما وقد اعتضدت بطرق أخرى. ويحرم الأخذ مطلقًا إن كان النشوز من قبل الزوج ودليل ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (¬3). وقوله تعال: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬4)، ولأن النشوز إذا كان من قبل الزوج كانت هي مجبرة في دفع المال؛ لأن الظاهر أنها مع رغبتها في الزوج لا تعطي إلا إذا كانت مضطرة من جهته بأسباب أو مغترة بأنواع التغرير والتزوير، ولأنه أوحشها بالفراق فلا يزيد إيحاشها بأخذ مالها. هل الخلع يحتاج إلى حكم القاضي أم لا؟ جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على أن الخلع لا يحتاج إلى حكم القاضي أو السلطان (¬5)، بل نقل البعض الإجماع على ذلك وأنه لم يخالف فيه إلا الحسن وابن سيرين (¬6)؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬7)، وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق (6/ 502)، والدارقطنيُّ (3/ 255). (¬2) رواه سعيد بن منصور [1/ 378 (1428)]، وأبو داود في المراسيل (ص: 201) (238)، الدارقطني (3/ 255). قال أبو داود عقبه: "قال وكيع: سألت ابن جريج عنه فأنكره". (¬3) سورة النساء: 20. (¬4) سورة النساء: 19. (¬5) المبسوط (6/ 173)، بدائع الصنائع (3/ 145)، حاشية الدسوقي (2/ 347)، المهذب (2/ 92)، فتح الباري (9/ 396)، المغني لابن قدامة (8/ 174)، كشاف القناع (5/ 213). (¬6) الإجماع لابن المنذر (ص: 83)، مراتب الإجماع (ص: 75)، أحكام القرآن للجصاص (2/ 95). (¬7) سورة البقرة: 229.

حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (¬1)، حيث جعل الخوف لغير الزوجين ولم يقل إن خافا فاحتاج إلى حكم القاضي. وحجة الجمهور أن ذلك مروي عن عمر وعثمان وغيرهما (¬2)، ولأنه عقد معاوضة فلم يفتقر إلى السلطان كالبيع والنكاح، ولأنه قطع عقد بالتراضي أشبه الإقالة. وإذا ثبت هذا فقد تطلب الزوجة الخلع مع توافر دواعيه كبغضها الشديد للزوج وكراهة البقاء معه، وخوفها من الوقوع في المعصية بعدم الطاعة ونحو ذلك فيوافق الزوج ثم ينكر وحينئذ تكون مسألة نزاع بينهما ومرد ذلك إلى القاضي ليفصل فيه، ومثل ذلك ما لو طلبت منه فرفض، وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في فتواها رقم (8990) (¬3). ¬

_ (¬1) سورة النساء: 35. (¬2) أما خبر عمر فقد ذكره البخاري تعليقا (5/ 2021)، ورواه عبد الرزاق [6/ 494 (11810)]، وسعيد بن منصور [1/ 377 (1423)، من طريق الثوري عن عبد الله بن شهاب الخولاني أن عمر ابن الخطاب رفعت إليه امرأة اختلعت من زوجها بألف درهم فأجاز ذلك وقال: "هذه امرأة ابتاعت نفسها من زوجها ابتياعا". ورواه ابن أبي شيبة [4/ 120 (18468)، من طريق وكيع عن شعبة عن الحكم عن خيثمة قال: "أتى بشير بن مروان في خلع كان بين رجل وامرأة فلم يجزه فقال له عبد الله بن شهاب الخولاني شهدت عمر بن الخطاب أتي في خلع كان بين رجل وامرأته فأجازه". وأما خبر عثمان فرواه عبد الرزاق [6/ 495 (11812)]، وأبي شيبة [4/ 120 (18470)] عن نافع عن الربيع بنت معوذ بن عفراء "أن عمها خلعها من زوجها وكان يشرب الخمر دون عثمان فأجاز ذلك عثمان"، وفي رواية عند عبد الرزاق [6/ 495 (11811)] عن الربيع قالت: "اختلعت من زوجي ثم ندمت فرفع ذلك إلى عثمان فأجازه". وانظر: تغليق التعليق (4/ 459 - 460). (¬3) 19/ 411.

وقت الخلع

وقت الخلع: يجوز للزوج أن يخالع زوجته وهي حامل، وفي طهر لم يجامعها فيه بغير خلاف، واختلفوا هل يجوز إيقاع الخلع في حالة الحيض وفي طهر جامع فيه؟ على قولين: الأول: يجوز ذلك وهو مذهب الحنفية والمالكية في قول والشافعية والحنابلة (¬1). واستدلوا بقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬2)، وأن الآية مطلقة، ولأن المنع من الطلاق في الحيض من أجل الضرر الذي يلحق المرأة بطول العدة والخلع جعل لإزالة الضرر الذي يلحقها بسوء العشرة والمقام مع من تكرهه وتبغضه وضرر التقصير في حقه، وكل ذلك أعظم من ضرر طول العدة فجاز دفع أعلاهما بأدناهما، ولذلك لم يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - المختلعة عن حالها، ولأن ضرر تطويل العدة هو عليها، والخلع يحصل بسؤالها فيكون ذلك رضاء منها به ودليلا على رجحان مصلحتها فيه. الثاني: لا يجوز ذلك وهو والمشهور في مذهب المالكية (¬3) قياسًا على الطلاق. الثالث: يجوز إيقاعه حالة الحيض ولا يجوز في طهر جامع فيه وهو قول عند الشافعية؛ لأن كونه بدعة في حالة الحيض لحقها وقد رضيت فسقط وها هنا البدعة لحق الولد فلا يسقط حقه برضاها (¬4). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (3/ 96)، البحر الرائق (3/ 260)، الدر المختار مع حاشية ابن عابدين (3/ 234)، المهذب (2/ 91)، حاشية البجيرمى على الخطيب (3/ 486)، المغنى (8/ 174)، كشاف القناع (5/ 213). (¬2) سورة البقرة: 229. (¬3) التاج والإكليل (4/ 41)، مواهب الجليل (4/ 41)، شرح الخرشي (4/ 29)، الدسوقي (2/ 363). (¬4) روضة الطالبين (8/ 7)، أسنى المطالب (3/ 265).

عدة المختلعة

عدة المختلعة: جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في المذهب عندهم على أن عدة المختلعة عدة المطلقة (¬1). ويستدلون في ذلك بعموم قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬2)، ولأن الخلع فرقة بين الزوجين في الحياة بعد الدخول فكانت العدة ثلاثة قروء كغير الخلع. وذهب الحنابلة في رواية إلى أن عدتها حيضة واحدة، قال العلامة ابن القيم عن هذه الرواية إنها أصح الروايتين دليلا عن الإِمام أحمد، وهو مذهب عثمان بن عفان، وابن عمر، وابن عباس، وأبان بن عثمان، وإسحاق، وابن المنذر. واستدلوا بحديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تعتد بحيضة" (¬3). وعن الربيع بنت معوذ بن عفراء: أن ثابت ابن قيس بن شماس ضرب امرأته فكسر يدها وهي جميلة بنت عبد الله بن أُبي فأتى أخوها يشتكيه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ثابت فقال له: "خذ الذي لها عليك وخل سبيلها" قال نعم فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تتربص حيضة واحدة فتلحق بأهلها (¬4). ¬

_ (¬1) فتح القدير (3/ 269)، المنتقى للباجي (4/ 67)، حاشية الدسوقي (2/ 468)، روضة الطالبين (8/ 365)، المغني مع الشرح الكبير (9/ 781، 103). (¬2) سورة البقرة: 228. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) رواه النسائي [6/ 186 (3497)]. قال ابن القيم (2/ 53): "وأعل الحديث بعلتين: أحدهما: إرساله، والثانية: أن الصحيح فيه "أمرت" بحذف الفاعل، والعلتان غير مؤثرتين، فإنه قد روي من وجوه متصلة، ولا تعارض بين أمرت وأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -".

الطلاق

الطلاق الطلاق في اللغة: إزالة القيد والتخلية، يقال أطلقت البعير من عقاله وطلقته فهو طالق أو طَلْق إذا أزلت قيده وخليته (¬1). واصطلاحًا: حل عقد النكاح أو بعضه (¬2). مشروعية الطلاق: لا خلاف بين الفقهاء في مشروعية الطلاق، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬3)، وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} (¬4). وأما السنة فحديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلق حفصة ثم راجعها" (¬5)، وحديث ابن عمر -رضي الله عنه- أنه طلق امرأته وهي حائض فسأل عمر -رضي الله عنه- رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق ¬

_ (¬1) المفردات (ص: 309)، لسان العرب (10/ 227)، التعريفات للجرجاني (ص: 183). (¬2) المبدع (7/ 249)، المطلع (ص: 333)، كشاف القناع (5/ 232). (¬3) سورة البقرة: 229. (¬4) سورة الطلاق: 1. (¬5) رواه الدارمي 2/ 214 (2264)، وابن ماجه 1/ 650 (2016)، وأبو داود 2/ 285 (2283)، والنسائيُّ برقم (3560)، وأبو يعلى 1/ 160 (173)، وابن حبان (10/ 100)، والحاكم 2/ 210 (2792) وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قال الحافظ في التلخيص (3/ 218): "أخرجه أبو داود والنسائيُّ وابن ماجه والحاكم وأخرج له شاهدًا عن أنس".

الحكمة من مشروعية الطلاق

قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء" (¬1) متفق عليه. وحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق" (¬2). وأما الإجماع فقد نقله غير واحد من الفقهاء منهم ابن حزم وابن عبد البر، والموفق رحمهم الله جميعًا (¬3). الحكمة من مشروعية الطلاق: شرع الله تعالى لعباده النكاح لما فيه من مصالح دينية ودنيوية، واقتضت حكمته أن يشرع لهم الطلاق تكميلًا لهذه النعمة؛ إذ قد تفسد الحال بين الزوجين بحيث تتعذر إقامة حدود الله بينهما في العلاقة الزوجية فيصير بقاء النكاح مفسدة محضة وضررًا مجردًا يلتزم فيه الزوج النفقة والسكنى، وحبس المرأة مع سوء العشرة والخصومة الدائمة من غير فائدة، فاقتضى ذلك شرع ما يزيل النكاح لتزول المفسدة الحاصلة منه رحمة منه سبحانه بعباده. ثم إنه سبحانه شرعه بعدد معين لحكمة لطيفة وذلك أن النفس البشرية ملولة وعجولة، وربما أظهرت عدم الحاجة إلى المرأة حتى إذا وقع الطلاق حصل الندم وضاق الصدر وعيل الصبر، فالله تعالى جعله ثلاثًا ليجرب المرء نفسه في المرة الأولى، فإن استقرت نفسه وإلا أمكنه التدارك بالرجعة وأعطاه فرصة أخرى، حتى إذا طلق الثالثة حرّمها عليه حتى تنكح زوجًا غيره ويصيبها معاقبة له بما فيه غيظه بمقتضى جبلة الفحولية بحكمته ولطفه تعالى بعباده. ¬

_ (¬1) البخاري برقم (4953)، ومسلمٌ برقم (1471). (¬2) رواه ابن ماجه 1/ 650 (2018)، وأبو داود 2/ 255 (2178). (¬3) مراتب الإجماع (ص: 71)، التمهيد لابن عبد البر (15/ 57)، مغني المحتاج (3/ 278)، المغني مع الشرح الكبير (8/ 233)، المبدع (7/ 249).

حكم الطلاق

حكم الطلاق: اتفق الفقهاء على أن الطلاق تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة تبعًا لاختلاف حالات وقوعه ويظهر ذلك فيما يأتي (¬1): التحريم: ويكون الطلاق محرمًا في الحيض أو في طهر جامع الرجل امرأته فيه، وقد أجمع الفقهاء في جميع الأمصار على تحريمه لمخالفته أمر الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو المسمى بالطلاق البدعي. الكراهة: يكون الطلاق مكروها إذا كانت حياة الزوجين مستقرة ولم تكن هناك حاجة إليه؛ لحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-: "أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق" (¬2)، وحديث محارب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أحل الله شيئًا أبغض إليه من الطلاق" (¬3). ولأنه مزيل للنكاح المشتمل على المصالح المندوب إليها فيكون مكروها. وقيل يحرم في هذه الحال وهو رواية عن الإِمام أحمد؛ لأنه ضرر بنفسه وزوجته وإعدام للمصلحة الحاصلة لهما من غير حاجة إليه فكان حرامًا كإتلاف المال لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" (¬4). ¬

_ (¬1) البحر الرائق (3/ 255)، الشرح الصغير للدردير (3/ 341)، روضة الطالبين (8/ 3)، مغني المحتاج (3/ 307)، المغني (8/ 234)، كشاف القناع (5/ 232). (¬2) رواه ابن ماجه 1/ 650 (2018)، وأبو داود 2/ 255 (2178). قال ابن الملقن في الخلاصة (2/ 218): "حديث أبغض المباح إلى الله الطلاق رواه أبو داود وابن ماجه من رواية ابن عمر لكن بلفظ الحلال، وإسناد أبي داود صحيح لا جرم صححه الحاكم وقال أبو حاتم إنما هو مرسل قال الدارقطنيُّ: وهو أشبه وقال المنذري إنه المشهور". (¬3) رواه أبو داود 2/ 254 (2177). (¬4) قال الحافظ في التلخيص (4/ 198): "حديث "لا ضرر ولا ضرار" ابن ماجه والدارقطنيُّ من حديث أبي سعيد ورواه مالك مرسلا"، وقال ابن الملقن في الخلاصة (2/ 438): "وقد رواه مالك عن عمرو بن يحيى المازني مرسلا، وابن ماجه مسندًا من رواية ابن عباس وعبادة بن الصامت، والطبرانيُّ من رواية ثعلبة بن أبي مالك، والحاكم من رواية أبي سعيد الخدري وقال: =

وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية أنه لا ينبغي طلاق المرأة من أجل طلب العلم؛ لأن الزواج لا يمنع من طلب العلم مع وجود قوة العزيمة والنية الصادقة في فتواها رقم (11003) (¬1). الوجوب: يكون الطلاق واجبًا في حالة الإيلاء بعد مضي المدة وإباء الزوج الفيئة، وكذلك طلاق الحكمين في الشقاق بين الزوجين إذا رأيا ذلك. وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بأن طلاق المرأة التي لا تصلي إذا لم تجدِ نصيحتها يكون واجبًا في فتواها رقم (6391) (¬2). الإباحة: ويكون ذلك عند الحاجة إليه لسوء خلق المرأة، أو سوء عشرتها، وحصول الضرر بمعاشرتها. وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بأنه يباح للرجل أن يطلق زوجته إذا تبين له أنها لا تصلح له في فتواها رقم (4172)، وأفتت بالإباحة كذلك في فتواها رقم (17380)، ورقم (18416) (¬3). الندب: ذكر الفقهاء أن الطلاق يكون مندوبًا إليه في حالة عدم عفة المرأة، وفي حال الشقاق، وطلب المرأة الخلع لتزيل عنها الضرر. ¬

_ = صحيح على شرط مسلم، وقال ابن الصلاح: حسن، قال أبو داود: وهو أحد الأحاديث التي يدور عليها الفقه، وصححه إمامنا ... وقال البيهقي: تفرد به عثمان بن محمد عن الدراوردي، قلت: لا، بل تابعه عليه عبد الملك بن معاذ النصيبي فرواه عن الدراوردي كما أفاده ابن عبد البر في مرشده (تمهيده) واستذكاره. وأما ابن حزم فخالف في محلاه فقال: هذا خبر لا يصح قط". (¬1) 20/ 5. (¬2) 20/ 12. (¬3) 20/ 5 - 7.

أركان الطلاق

أركان الطلاق: للطلاق ركن واحد عند الحنفية وهو الصيغة، والجمهور ثلاثة أركان هي المطلق والزوجة والصيغة (¬1). الركن الأول: المطلق: والمراد به موقع الطلاق ويشترط أن زوجًا للمرأة أو من يقوم مقامه كالوكيل ونحوه؛ لحديث ابن عباس -رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما الطلاق لمن أخذ بالساق" (¬2). ويشترط فيه التكليف فلا يصح من غير مكلف كالصبي والمجنون ومن في حكمه ممّن زال عقله بغير سكر كالمغمى عليه ونحوه، وكذلك لا يصح من النائم، وهذا كله بإجماع الفقهاء (¬3). والأصل في ذلك حديث عائشة -رضي الله عنها- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل" (¬4)، وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير (3/ 487)، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (3/ 347 - 348). مغني المحتاج (3/ 279). (¬2) رواه ابن ماجه 1/ 672 (2081)، والدارقطنيُّ (4/ 37)، والبيهقيُّ (7/ 370). قال الحافظ في التلخيص (3/ 219): "وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف، وله طريق أخرى عند الطبراني في الكبير وفيه يحيى الحماني ورواه ابن عدي والدارقطنيُّ من حديث عصمة بن مالك وإسنادُهُ ضعيفٌ". (¬3) المغني (8/ 254). بدائع الصنائع (3/ 99)، شرح فتح القدير (3/ 487). (¬4) رواه ابن ماجه 1/ 659 (2042)، وأبو داود 4/ 140 (4401، 4402، 4403)، والترمذيُّ 4/ 32 (1423)، والنسائيُّ في الكبرى 4/ 324 (7346، 7347). قال ابن الملقن في خلاصته (1/ 91): "رواه الأربعة والحاكم من رواية علي، قال الترمذيُّ: حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وصححه ابن حبان، وأخرجه البخاريُّ موقوفًا معلقًا بصيغة جزم، ورواه الحاكم من رواية أبي قتادة وقال: صحيح الإسناد، ورواه أبو داود والنسائيُّ وابن ماجه وابن حبان والحاكم من رواية عائشة قال الحاكم: على شرط مسلم".

طلاق السكران

طلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله" (¬1)، وما روي عن علي ابن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: "كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه" (¬2)، ولأن الطلاق قول يزيل الملك فاعتبر له العقل كالبيع. وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بعدم وقوع طلاق النائم في فتواها رقم (3894)، وفتواها رقم (249)، وكذلك المجنون في فتواها رقم (13443) (¬3). طلاق السكران: اختلف الفقهاء في السكران هل ينفذ طلاقه أم لا؟ على قولين: القول الأول: أن طلاقه يقع وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الترمذيُّ 3/ 496 (1191) وقال: "هذا حديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث عطاء بن عجلان وعطاء بن عجلان ضعيف ذاهب الحديث والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم". (¬2) رواه عبد الرزاق 6/ 409 (11415)، وابن أبي شيبة (4/ 72)، قال الحافظ في الفتح (9/ 393): "وصله البغوي في الجعديات عن علي بن الجهد عن شعبة عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن عابس ابن ربيعة أن عليًا قال: "كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه"، وهكذا أخرجه سعيد بن منصور عن جماعة من أصحاب الأعمش عنه صرح في بعضها سماع عابس بن ربيعة من علي"، وقال في الدراية (2/ 69): "وإنما روى ابن أبي شيبة عن ابن عباس موقوفًا لا يجوز طلاق الصبي، وأخرج عن علي بإسناد صحيح "كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه". (¬3) 20/ 36، 40، 198. (¬4) المبسوط (6/ 176)، بدائع الصنائع (3/ 99)، الهداية شرح بداية المبتدي (1/ 230)، المدونة الكبرى (6/ 24)، المنتقى للباجي (4/ 126)، الشرح الصغير مع الصاوي (3/ 349)، الأم (5/ 220، 253)، الوسيط (5/ 390)، روضة الطالبين (8/ 23)، مغني المحتاج (3/ 279)، المغني (8/ 255)، الإنصاف (8/ 434).

واستدلوا بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل الطلاق جائز إلا طلاق الصبي والمعتوه" (¬1)، فقد استثنى الصبي والمعتوه، والسكران ليس في معناهما، ولأن الصحابة جعلوه كالصاحي في الحد بالقذف، ولأنه إيقاع للطلاق من مكلف غير مكره صادف ملكه فوجب أن يقع كطلاق الصاحي ويدل على تكليفه أنه يقتل بالقتل ويقطع بالسرقة وبهذا فارق المجنون. القول الثاني: أن طلاقه لا يقع وهو قول بعض الحنفية وبعض الشافعية، ورواية عند الحنابلة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم (¬2). واستدلوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (¬3)، حيث جعل قول السكران غير معتبر لأنه لا يعلم ما يقول، ولأنه زائل العقل أشبه المجنون والنائم فهو غير مكلف لانعقاد الإجماع على أن من شرط التكليف العقل ومن لا يعقل ما يقول فليس بمكلف، ولأنه مفقود الإرادة أشبه المكره. ولا فرق بين زوال الشرط بمعصية أو غيرها بدليل أن من كسر ساقيه جاز له أن يصلي قاعدًا ولو ضربت المرأة بطنها فنفست سقطت عنها الصلاة ولو ضرب رأسه فجن سقط عنه التكليف. ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الدراية (2/ 69): "حديث: "كل طلاق جائز إلا طلاق الصبى والمجنون" لم أجده وإنما روى ابن أبي شيبة عن ابن عباس موقوفًا لا يجوز طلاق الصبي، وأخرج عن علي بإسناد صحيح "كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه". (¬2) المبسوط (6/ 176)، شرح فتح القدير (3/ 488)، بدائع الصنائع (3/ 99)، الوسيط (5/ 391)، الفتاوى الكبرى (1/ 186)، و (5/ 489). إعلام الموقعين (4/ 39). (¬3) سورة النساء: 43.

الركن الثاني: الزوجة محل الطلاق

الركن الثاني: الزوجة محل الطلاق: فيشترط لوقوع الطلاق وجود محل له وهي الزوجة ويشترط أن تكون الزوجة في عصمة الرجل بنكاح صحيح، وعليه فلا يقع الطلاق على الأجنبية ولو كانت خطيبة ونحو ذلك، ولا على من تزوجها بنكاح باطل أو فاسد، أو وطئها بشبهة ونحو ذلك لانتفاء الولاية على محل الطلاق. ودليل ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق له فيما لا يملك ولا طلاق له فيما لا يملك" (¬1). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بعدم وقوع طلاق الخاطب قبل النكاح في فتواها رقم (18212) (¬2). طلاق المعتدة: يرى جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في المذهب عندهم وقوع الطلاق على المعتدة من طلاق رجعي، فلو قال الرجل لزوجته المدخول بها: أنت طالق، ثم قال لها في عدتها: أنت طالق ثانية، اعتبر ذلك طلقتين ما لم يرد بذلك تأكيدًا للأولى ولم تكن هناك قرائن تمنع صحة إرادة التأكيد. ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه 1/ 660 (2047)، وأبو داود 2/ 258 (2190)، والترمذيُّ 3/ 496 (1181)، قال: "وفي الباب عن علي ومعاذ بن جبل وجابر وابن عباس وعائشة قال أبو عيسى حديث عبد الله بن عمرو حديثٌ حسنٌ صحيحٌ وهو أحسن شيء روي في هذا الباب". قال ابن الملقن في الخلاصة (2/ 221): "رواه الأربعة والحاكم من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ... قال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ، قال: وهو أحسن شيء روي في الباب، وقال البخاري: هو أصح شيء ورد في الطلاق قبل النكاح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال الخطابي: حسن، ورواه الحاكم من طرق منها عن جابر مرفوعًا: "لا طلاق لمن لا يملك ولا عتاق لمن لا يملك" ثم قال: صحيح على شرط الشيخين". (¬2) 20/ 191.

الركن الثالث: الصيغة

الركن الثالث: الصيغة: والمقصود بها ما يقع به الطلاق من الألفاظ والعبارات، فلا يكفي لوقوع الطلاق النية فحسب بل لا بد من صدور ذلك بلفظ يدل عليه صراحة أو كناية. والأصل في ذلك حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به" متفق عليه (¬1). وقد أفتت بذلك اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في عدد من فتاواها من ذلك الفتوى رقم (326)، ورقم (329)، ورقم (2035)، ورقم (8190)، ورقم (6680)، ورقم (8501)، ورقم (9222)، ورقم (19307) (¬2). والصيغة الصريحة: هي ما لا تحتمل غير الطلاق، فيقع بها الطلاق من غير حاجة إلى النية حتى لو ادعى المطلق خلافه لم يقبل منه. وصريح الطلاق عند الحنفية والمالكية والحنابلة هو لفظ الطلاق وما تصرف منه غير الأمر والمضارع كأنت طالق ومطلقة وطلقتك ونحو ذلك، وهو عند الشافعية والحنابلة في قول ثلاثة ألفاظ وما تصرف منها وهي الطلاق، والفراق، والسراح (¬3). وأما الكناية: فهي ما يحتمل الطلاق وغيره، ولا يقع بها الطلاق إلا بالنية أو ما يقوم مقامها، وألفاظها كثيرة مختلف فيها بين الفقهاء ويمكن تقسيمها إلى قسمين (¬4): ¬

_ (¬1) صحيح البخاري برقم (4968، 6287)، ومسلمٌ برقم (127). (¬2) 20/ 22 - 27، 193، 209، 220. (¬3) حاشية ابن عابدين (3/ 274)، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (3/ 370)، المهذب (2/ 81)، الوسيط (5/ 372)، روضة الطالبين (8/ 25)، المغني (8/ 263، 264)، الإنصاف (8/ 462)، كشاف القناع (5/ 245). (¬4) حاشية ابن عابدين (3/ 296)، الشرح الصغير (3/ 379)، المهذب (2/ 81)، المغني (8/ 274)، كشاف القناع (5/ 250).

طلاق الهازل واللاعب

1 - ظاهرة جلية: وهي الألفاظ الموضوعة للبينونة؛ لأن معنى الطلاق فيها أظهر كأنت بريّة وخليّة وبائن وبتلة ونحو ذلك. 2 - خفية: وهي الألفاظ الموضوعة للطلقة الواحدة وألفاظها كثيرة نحو الحقي بأهلك، ولا حاجة لي فيك، واستبرئي، ولست لي بامرأة، واعتدي، واخرجي، وأنت واحدة ونحو ذلك. وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بعدم وقوع الطلاق بقول المستفتي لزوجته: تغطي عني في حالة غضب ولم يقصد الطلاق وذلك في فتواها رقم (378)، وقول آخر: اذهبي إلى أهلك ولم يقصد الطلاق (8731) (¬1). وأفتت بوقوع الطلاق بقول السائل لزوجته: غطي وجهك، وأرسلي لأهلك يحملون عفشك، وذلك في فتواها رقم (304)، وعللت ذلك بأنه كناية وجد معها قرينة إرادة الطلاق وهي قوله: سأرسل لك ورقتك (¬2). شروط الصيغة: يشترط في الصيغة ما يأتي: القصد: أي قصد النطق باللفظ الصريح أو الكناية فإن سبق لسانه ولم يقصده لم يقع الطلاق، ومن مسائل القصد طلاق الهازل والمكره وفيما يلي بيان حكم كل منهما: طلاق الهازل واللاعب: لا خلاف بين الفقهاء في وقوع طلاق الهازل واللاعب قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن جد الطلاق وهزله سواء" (¬3)؛ لقوله ¬

_ (¬1) 20/ 67، 74. (¬2) 20/ 67. (¬3) الإجماع (ص: 81). وانظر: المبسوط (24/ 58)، بدائع الصنائع (3/ 100، البحر الرائق (3/ 263)، =

تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (¬1)، ولحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد، النكاح والطلاق والرجعة" (¬2)، وحديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لعب بطلاق أو عتاق فهو كما قال" (¬3) أي يقع لأن جدهما وهزلهما سواء (¬4). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بما تقدم في حق المازح في فتواها رقم (12967)، والفتوى رقم (20121) (¬5). طلاق المكره: لا يخلو الإكراه إما أن يكون بحق أو بغير حق فإن كان بحق فإن الطلاق يقع بغير خلاف، وذلك نحو إكراه الحاكم المولى على الطلاق بعد التربص وعدم الفيئة، وإكراهه الرجلين اللذين زوجهما وليان ولا يعلم السابق منهما على الطلاق ونحو ذلك؛ لأنه قول حمل عليه بحق فصح كإسلام المرتد إذا أكره عليه، ولأنه إنما جاز إكراهه على الطلاق ليقع طلاقه فلو لم يقع لم يحصل ¬

_ = أحكام القرآن لابن العربي (1/ 271)، مغني المحتاج (3/ 288)، حاشية قليوبي وعميرة (3/ 332)، الفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/ 63)، إعلام الموقعين (3/ 100)، كشاف القناع (5/ 246)، شرح منتهى الإرادات (3/ 83). (¬1) سورة البقرة: 231. (¬2) رواه ابن ماجه 1/ 658 (2039)، وأبو داود 2/ 259 (2194)، والترمذيُّ 3/ 490 (1184) وقال: حسن غريب، والحاكم 2/ 216 (2800) وصححه، قال الحافظ في التلخيص: (3/ 209): "قال الترمذيُّ: حسن، وقال الحاكم صحيح وأقره صاحب الإلمام، وهو من رواية عبد الرحمن بن حبيب بن أردك وهو مختلف فيه، قال النسائي: منكر الحديث، ووثقه غيره، فهو على هذا حسن". (¬3) قال الهيثمي في "المجمع (4/ 246): "رواه الطبراني وفيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف". قال المناوي في الفيض القدير (6/ 220) بعد ذكر كلام الهيثمي: "فرمز المصنف لحسنه لا يحسن". (¬4) الفيض القدير (6/ 220). (¬5) 20/ 64، 66

المقصود. وأما الإكراه بغير حق فقد اختلف الفقهاء هل يقع معه الطلاق أم لا؟ على قولين: القول الأول: أن المكره لا يقع طلاقه وهو مذهب المالكية الشافعية والحنابلة (¬1). واستدلوا بحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬2)، وحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق" (¬3)، والإغلاق هو الإكراه لأن المكره مغلق عليه في أمره ومضيق عليه في تصرفه كما يغلق الباب على الإنسان (¬4). وقد جاءت بذلك عدد من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية من ذلك الفتوى رقم (707) حيث ذكرت أن طلاق المستفتي زوجته بإكراه من أولياء الزوجة فلا يقع إن أثبت ذلك شرعًا، والفتوى رقم (827) حيث ذكرت أن طلاق الرجل بناء على أخذ زوجته بحلقه ومطالبته بطلاقها إن تحقق بذلك إكراه ملجئ فطلاقه لا يقع، والفتوى رقم (10811) ¬

_ (¬1) المدونة الكبرى (6/ 24)، تفسير القرطبي (10/ 184)، مغني المحتاج (3/ 289)، المغني (8/ 259). (¬2) رواه ابن ماجه 1/ 659 (2045)، قال ابن الملقن في خلاصته (1/ 154): "رواه ابن ماجه من رواية ... وصححه ابن حبان والحاكم على شرط الشيخين وله طرق أخر". (¬3) رواه أحمد 6/ 276، وابن ماجه 1/ 660 (2046)، وأبو داود 2/ 258 (2193)، والحاكم 2/ 216 (2802) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. قال ابن الملقن في الخلاصة (2/ 220): "رواه أبو داود وابن ماجه من رواية عائشة وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم وله متابع فذكره". (¬4) الفائق في غريب الحديث (3/ 72)، النهاية في غريب الحديث (3/ 379).

أقسام الطلاق باعتبار موافقته للشرع من عدمها

حيث أفتت فيها بعدم وقوع الطلاق لوجود التهديد بالقتل (¬1). القول الثاني: أن طلاقه يقع وهو مذهب الحنفية (¬2). واستدلوا بظاهر قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬3)، وأنه سبحانه لم يفرق بين طلاق المكره وغيره، وما تقدم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه"، ولبقاء الأهلية والخطاب مع الإكراه، ولأنه قصد إيقاع الطلاق في محل يملكه وهو منكوحته في حال أهليته فنفذ كطلاق غير المكره. والراجح: هو القول الأول لما استندوا إليه. ويشترط في الإكراه العائب للإرادة ثلاثة أمور: أحدها: أن يكون من قادر بسلطان أو تغلب كاللص ونحوه. الثاني: أن يغلب على ظنه حصول ما هدد به إن لم يجبه إلى ما طلبه. والثالث: أن يكون مما يستضر به ضررًا كثيرًا كالقتل والضرب الشديد والقيد والحبس الطويلين بخلاف الشتم والسب وأخذ المال اليسير ونحو ذلك. أقسام الطلاق باعتبار موافقته للشرع من عدمها: يقسم الفقهاء الطلاق باعتبار موافقته للشرع من عدمها إلى سني وبدعي: الطلاق السني: وهو الذي وافق أمر الله تعالى وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو طلاق الرجل امرأته طلقة واحدة في طهر لم يصبها فيه ثم يتركها حتى تنقضي عدتها. وقد أجمع الفقهاء ¬

_ (¬1) 20/ 41، 42، 44. (¬2) المبسوط (24/ 40)، أحكام القرآن للجصاص (5/ 14)، فتح القدير (3/ 488). (¬3) سورة البقرة: 230.

الطلاق البدعي

على أن من طلق بهذه الصورة مصيب للسنة ومطلق للعدة التي أمر الله بها (¬1). ودليله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} (¬2). فقد بين ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فسأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء". الطلاق البدعي: وهو ما خالف شرع الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وهو نوعان: أحدهما: ما خالف الشرع من حيث توقيته وذلك بأن يطلق الرجل المرأة وهي حائض أو نفساء أو في طهر أصابها فيه. ولا خلاف أن مثل هذا الطلاق مكروه وفاعله عاص لله -عَزَّ وجَلَّ- إن كان عالمًا بالنهي عنه (¬3). ووقوع الطلاق في هذه الحالة هو قول عامة أهل العلم (¬4). لحديث ابن عمر: "مره فليراجعها" إذ أن الرجعة لا تكون إلا بعد وقوع الطلاق، ولأنه طلاق من مكلف في محل الطلاق فوقع كطلاق الحامل، ولأنه ليس بقربة فيعتبر لوقوعه موافقة السنة بل هي إزالة عصمة وقطع ملك فإيقاعه في زمن البدعة أولى تغليظًا عليه وعقوبة له (¬5). ¬

_ (¬1) الإجماع لابن المنذر (ص: 79)، مراتب الإجماع لابن حزم (ص: 71)، بداية المجتهد (2/ 74)، المغني مع الشرح الكبير (8/ 236). (¬2) سورة الطلاق: 1. (¬3) التمهيد لابن عبد البر (15/ 57). (¬4) التمهيد لابن عبد البر (15/ 58 - 59)، بداية المجتهد (2/ 74، 76)، الإفصاع (2/ 148)، المغني (8/ 237). (¬5) المغني (8/ 238).

وقد صدرت فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بعدم وقوع الطلاق في الحيض أو النفاس أو الطهر الذي جامع فيه في فتواها رقم (6542)، وفتواها رقم (9541) (¬1). واختلف الفقهاء في حكم مراجعة الزوجة في هذه الحالة على قولين: الأول: ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى استحباب مراجعتها؛ لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمراجعتها كما في حديث ابن عمر، إذ أقل أحوال الأمر كما قالوا: الاستحباب، ولأنه بالرجعة يزيل المعنى الذي حرم من أجله الطلاق. الثاني: ذهب بعض الحنفيه، والمالكية والظاهرية، والحنابلة في رواية إلى وجوب مراجعتها عملا بظاهر الأمر، ولأن بالرجعة يحصل استبقاء النكاح وهو هنا واجب بدليل تحريم الطلاق (¬2). النوع الثاني: ما خالف الشرع من حيث العدد وهو الطلاق ثلاثًا بلفظ واحد، وقد اختلف الفقهاء فيما يقع بذلك على قولين: الأول: ذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى أن الذي يقع به هو ثلاث طلقات. الثاني: ذهب بعض الفقهاء إلى أن الذي يقع به طلقة واحدة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم (¬3). ¬

_ (¬1) 20/ 58. (¬2) شرح فتح القدير (3/ 481)، البحر الرائق (3/ 260)، بداية المجتهد (2/ 76)، المهذب (2/ 79)، مغني المحتاج (3/ 309)، المغني (8/ 238)، كشاف القناع (5/ 240). (¬3) بدائع الصنائع (3/ 109)، المنتقى للباجي (4/ 3)، روضة الطالبين (8/ 82)، الكافي لابن قدامة (3/ 179)، كشاف (5/ 261)، مجموع الفتاوى (33/ 67، 71)، إعلام الموقعين (3/ 31).

أقسام الطلاق باعتبار الرجعة من عدمها

واستدلوا جميعًا بحديث ابن عباس: "كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم" (¬1). فقال الأولون إن عمر قد أمضاه ثلاثًا وسنته متبعة، وقال الآخرون إن ما كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى بالاتباع. وقد جاءت فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بوقوع طلاق المرأة ثلاثًا باللفظ الواحد واعتباره طلقة واحدة في فتواها رقم (6542)، وفتواها رقم (8925) (¬2). أقسام الطلاق باعتبار الرجعة من عدمها: يتفق الفقهاء على أن الطلاق بهذا الاعتبار ينقسم إلى رجعي وبائن، وأن الرجعي هو الذي يملك به الزوج رجعة زوجته من غير اختيارها بدون عقد جديد ما دامت في العدة، ولا يكون إلا في حق المدخول بها التي لم يكتمل فيها عدد الطلقات، وأن البائن هو الذي لا يملك الزوج فيه الرجعة إلا بعقد جديد. والبينونة: 1 - بينونة صغرى: وهي من كان عدد طلاقها دون الثلاث وقد انتهت عدتها، ومثلها من لا عدة لها وهي المطلقة قبل الدخول. 2 - وبينونة كبرى: وهي من اكتمل عدد الطلقات في حقها أي بأن كان ذلك آخر الثلاث فلا تحل للزوج حتى تنكح زوجًا غيره نكاحًا شرعيًا صحيحًا ويصيبها ثم يطلقها. ¬

_ (¬1) رواه مسلم برقم (1472). (¬2) 20/ 58، 163.

ودليل هذا التقسيم قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬1)، {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (¬2). وحديث عائشة -رضي الله عنها-: أن رفاعة القرظي طلق امرأته فبت طلاقها فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير فجاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إنها كانت عند رفاعة فطلقها آخر ثلاث تطليقات فتزوجت بعده بعبد الرحمن بن الزبير وإنه والله ما معه إلا مثل هذه الهدبة، وأخذت بهدبة من جلبابها قالت: فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضاحكًا وقال: "لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته" متفق عليه (¬3). ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 229. (¬2) سورة البقرة: 230. (¬3) البخاري برقم (5456)، ومسلمٌ برقم (1433).

كتاب الرجعة

الفِقهُ الميَسَّر كتاب الرجعة

مشروعية الرجعة

كتاب الرجعة الرجعة في اللغة: اسم المرة من الرجوع بمعنى العود، تقول راجع المرأة وارتجعها أي أرجعها إلى نفسه بعد الطلاق، وتفتح راؤها وتكسر. قال الأزهري: أكثر ما يقال بالكسر الرِّجعة، وقال الجوهري: الفتح أفصح (¬1). الرجعة اصطلاحًا: إعادة المطلقة غير البائن إلى ما كانت عليه بغير عقد (¬2). مشروعية الرجعة: وهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} (¬3)، وقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (¬4). فإن المقصود بذلك كله الرجعة. وأما السنة: فحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: طلقت امرأتي وهي حائض فسأل عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مره فليراجعها" متفق عليه (¬5). وحديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلق حفصة ثم راجعها" (¬6). ¬

_ (¬1) الزاهر للأزهري بتحقيق د. عبد المنعم طوعي بشناتي (ص: 441)، الصحاح مادة: رجع (3/ 1216)، لسان العرب مادة: رجع (8/ 114). (¬2) المطلع (ص: 342)، المبدع (7/ 390)، كشاف القناع (5/ 341). (¬3) سورة البقرة: 228. (¬4) سورة الطلاق: 2. (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) رواه ابن ماجة برقم (2016)، وأبو داود [2/ 285 (2283)]، والنسائيُّ في السنن برقم (3560) وفي السنن الكبرى [3/ 403 (5755)]، وابن حبان [10/ 100 (4275)]، والحاكم في المستدرك =

أركان الرجعة

وأما الإجماع: فقد أجمع الفقهاء على أن الحر إذا طلق الحرة دون الثلاث أو العبد إذا طلق دون الاثنتين وكان بغير عوض ولا أمر يقتضي بينونتها أن له الرجعة في العدة نقل ذلك غير واحد من الفقهاء منهم ابن المنذر وابن حزم والموفق (¬1). أركان الرجعة: يرى الحنفية أن الرجعة لها ركن واحد هو كل ما يدل عليه من قول أو فعل (¬2). ولها عند الجمهور والمالكية ثلاثة أركان هي: زوج مرتجع، وصيغة، وزوجة. شروط الرجعة: يشترط لصحة الرجعة ما يأتي (¬3): 1 - أن تكون المرأة مدخولا بها: فإن لم تكن كذلك فلا يملك الزوج رجعتها لعدم وجوب العدة في حقها ودليل ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ ¬

_ = [2/ 215 (2797)] وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والبيهقيُّ (7/ 321). قال الحافظ في التلخيص (3/ 218): "أخرجه أبو داود والنسائيُّ وابن ماجة والحاكم وأخرج له شاهدًا عن أنس". وقال صاحب تحفة المحتاج (2/ 401): "رواه أبو داود والنسائيُّ وابن ماجه والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين". (¬1) الإجماع لابن المنذر (ص: 80، 89)، مراتب الإجماع لابن حزم (ص: 75)، بداية المجتهد (2/ 63)، المغني (8/ 470، 476). (¬2) (3/ 183). (¬3) انظر حاشية ابن عابدين (3/ 400)، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (3/ 429)، مغني المحتاج (3/ 335 - 336)، كشاف القناع (5/ 342)، دقائق المنتهى (3/ 147)، مطالب أولي النهى (5/ 477).

تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (¬1). وهذا ما جاءت به فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية رقم (157)، وفتواها رقم (872)، والفتوى رقم (9881) وغيرها (¬2). 2 - أن تكون بعد طلاق رجعي: أي بأن لم يستكمل الزوج نصابه في عدد الطلقات وهو ثلاث طلقات في الحر وطلقتان في العبد. فإن لم يكن الطلاق رجعيًا بأن استكمل الزوج عدد الطلقات فلا تحل له المرأة حتى تنكح زوجًا غيره نكاحًا صحيحًا ويصيبها ثم يطلقها كما تقدم. فإن كان الطلاق بعوض لم يملك الزوج مراجعة المرأة؛ لأنه يكون عندئذ طلاقًا بائنًا والعوض لمنع الرجعة فلو كان للزوج حق الرجعة لم يكن له فائدة. وهذا ما جاءت به فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية رقم (5170)، والفتوى رقم (61)، والفتوى رقم (73) وغيرها (¬3). 3 - أن تكون الرجعة في العدة: لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} (¬4). فإن انتهت عدتها فلا سبيل للزوج عليها إلا برضاها وعقد جديد. وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في عدد من فتاواها من ذلك الفتوى رقم (1685) (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب: 49. (¬2) 20/ 59، 60، 61. (¬3) 20/ 62، 131، 132. (¬4) سورة البقرة: 228. (¬5) (20/ 248).

الإشهاد على الرجعة

4 - أهلية المرتجع: بأن يكون بالغًا عاقلًا وقد اختلف الفقهاء في هذا الشرط على ثلاثة أقوال: الأول: لا يشترط أن يكون المرتجع مكلفًا وهو مذهب الحنفية فتصح عندهم رجعة المجنون بالفعل كالجماع واللمس والقبلة ونحو ذلك دون القول (¬1). وإذا صحت عندهم من المجنون فالصبي أولى. الثاني: يشترط ذلك وهو مذهب المالكية والشافعية فلا تصح رجعة غير المكلف عندهم كالمجنون والصبي (¬2). الثالث: يشترط فيه العقل دون البلوغ وهو ظاهر مذهب الحنابلة؛ فتصح الرجعة عندهم من صبي مميز يعقلها؛ لأن الرجعة إمساك وهو يملكه (¬3). 5 - أن تكون الرجعة منجزة: فلا تصح معلقة كإن جاء فلان فقد راجعتك ونحو ذلك (¬4). الإشهاد على الرجعة: يتفق الفقهاء على القول بسنية الإشهاد في الرجعة؛ إذ لو لم يشهد الرجل على الرجعة لا يأمن من أن تنقضي العدة فلا تصدقه المرأة، واختلفوا هل هو واجب لصحتها أم لا؟ (¬5) على قولين: ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير (4/ 161)، تبيين الحقائق (2/ 252)، الدر المختار مع حاشية ابن عابدين (3/ 399). (¬2) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (3/ 429)، مغني المحتاج (3/ 335 - 336). (¬3) مطالب أولي النهي (5/ 477)، دقائق أولي النهي (3/ 147). (¬4) بدائع الصنائع (3/ 185)، شرح الخرشي على خليل (4/ 84)، مغني المحتاج (3/ 337)، الإنصاف (9/ 157)، دقائق أولي النهي (3/ 147). (¬5) بدائع الصنائع (3/ 181)، بداية المجتهد (2/ 64)، المهذب (2/ 103)، الوسيط (5/ 460)، المغني (8/ 482)، الإنصاف (9/ 152)، كشاف القناع (5/ 342، 343).

ما تحصل به الرجعة

الأول: ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة في المذهب عندهم والشافعية في الأظهر إلى عدم وجوبه؛ لأن الرجعة لا تفتقر إلى قبول فلم تفتقر إلى شهادة كسائر حقوق الزوج، ولأنها لا يشترط فيها الولي وما لا يشترط فيه الولي لا يشترط فيه الإشهاد كالبيع. الثاني: ذهب الشافعية في قول والحنابلة في رواية إلى وجوبه، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬1)؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (¬2)، إذ أن ظاهر الأمر الوجوب، ولأنه استباحة بضع مقصود فوجبت الشهادة فيه كالنكاح وعكسه البيع. والراجح: هو القول الأول، والآية محمولة على الاستحباب بدليل أن الله تعالى جمع فيها بين الرجعة والفرقة ومعلوم أن الإشهاد على الفرقة ليس بواجب بل هو مستحب فكذا الرجعة. وقد أجمع الفقهاء على أنه لا يشترط لصحة الرجعة علم المرأة ولا رضاها أو رضا وليها, ولا يشترط تقديم صداق جديد (¬3). ما تحصل به الرجعة: لا خلاف بين الفقهاء أن الرجعة تحصل بالقول، ومن ألفاظها أن يقول: راجعتها وأرجعتها وارتجعتها ورددتها وأمسكتها ونحو ذلك. واختلفوا في وقوعها بالفعل على قولين: ¬

_ (¬1) المهذب (2/ 103)، الوسيط (5/ 460)، المغني (8/ 482)، مجموع الفتاوى (32/ 129)، الإنصاف (9/ 152)، كشاف القناع (5/ 342، 343). (¬2) سورة الطلاق: 2. (¬3) المغني (8/ 481).

حكم الرجعية

القول الأول: أن الرجعة لا تصح بالفعل كالجماع وما دونه، بل ولا تباح إلا بالقول وهو مذهب الشافعية (¬1). وعللوا ذلك بأن الرجعة إعادة لعقد الزواج، فكما أن عقد الزواج لا يصح إلا بالقول مع القدرة فكذلك الرجعة. القول الثاني: أن الرجعة تحصل بالفعل مع النية فلو وطئها أو قبلها أو لمسها مع نية الرجعة حصلت الرجعة بذلك وهذا مذهب جمهور الفقهاء (¬2). حكم الرجعية: يتفق الفقهاء على أن الرجعية لها حكم الزوجات ما دامت في العدة فتجب لها النفقة والكسوة والمسكن ونحو ذلك، وتجب إقامتها في منزل الزوج، وترث الزوج كما يرثها، ويشرع لها أن تتزين للزوج لعل ذلك يكون سببا لمراجعتها، ويلحقها الطلاق والظهار والإيلاء بغير خلاف قال ابن قدامة: "والرجعية زوجة يلحقها طلاقه وظهاره وإيلاؤه ولعانه ويرث أحدهما صاحبه بالإجماع" (¬3). ¬

_ (¬1) الأم (5/ 344)، المهذب (2/ 103)، الوسيط (5/ 460)، روضة الطالبين (8/ 217)، مغني المحتاج (3/ 337). (¬2) بدائع الصنائع (3/ 183)، الهداية شرح بداية المبتدي (2/ 6)، شرح الخرشي على خليل (4/ 81)، الإنصاف (9/ 153، 154، 155)، المحرر (2/ 83)، كشاف القناع (5/ 343). (¬3) المغني (8/ 477).

الإيلاء

الإيلاء الإيلاء لغة: الحلف تقول: آلى يولي إيلاء إذا حلف على فعل شيء أو تركه (¬1). وشرعًا: حلف الزوج القادر على الوطء بالله تعالى أو صفة من صفاته على ترك وطء زوجته مدة زائدة على أربعة أشهر (¬2). والأصل فيه قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬3). وحكمه: اختلف الفقهاء في حكم الإيلاء هل هو حرام أم لا؟ على قولين: الأول: أنه من حيث هو يمين مشروع لكن فيه معنى الظلم لمنع حق الزوجة في الوطء، ولا يلزم به المعصية على سبيل الإطلاق؛ إذ قد يكون برضاها لخوف الغِيل على ولدها أو عدم موافقة مزاجها ونحوه فيتفقان عليه لقطع لجاج النفس وهو مذهب الحنفية والمالكية (¬4). الثاني: أنه محرم لما يترتب عليه من الضرر والإيذاء فهو يمين على ترك واجب يترتب عليه الإضرار بالزوجة (¬5). ¬

_ (¬1) المصباح المنير مادة: ألي، (ص: 16)، مختار الصحاح مادة: ألا، (ص: 21). (¬2) المطلع (ص: 343). (¬3) سورة البقرة: 226. (¬4) شرح فتح القدير (4/ 188)، الاستذكار (6/ 46)، الذخيرة (8/ 5)، مواهب الجليل (4/ 10). (¬5) مغني المحتاج (3/ 343)، الإنصاف (9/ 169). كشاف القناع (5/ 353).

حكمة تحديد مدة الإيلاء بأربعة أشهر

حكمة تحديد مدة الإيلاء بأربعة أشهر: كان الرجل في الجاهلية إذا غضب على زوجته آلى منها فحلف ألا يطأها ما شاء من المدة فتبقى الزوجة معلقة، فجاء الإِسلام وأبقى أصل الإيلاء إذ قد يحتاج الزوج إلى هجر زوجته لسبب شرعي تأديبا لها غير أنه حدد ذلك بأربعة أشهر؛ لأنها المدة التي تصبر فيها المرأة عن الرجل عادة، وألزمه بعد مضي هذه المدة إما أن يفيء فيطأها أو يطلقها رفعا للضرر عنها. شروطه: يشترط للإيلاء شروط يجب توافرها لصحته وهي كالآتي (¬1): 1 - أن يحلف الزوج على ترك الوطء في القبل فإن تركه بغير حلف أو حلف على ترك وطء غير الفرج لم يكن موليا. وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في فتواها رقم (20443) فيمن هجر زوجته لنشوزها أكثر من ثلاثة أشهر تأديبا لها أن ذلك لا يكون إيلاء (¬2). 2 - أن يكون الحلف بالله أو اسم من أسمائه أو بصفة من صفاته وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء (¬3). أما لو علق ترك الوطء على غير ذلك كالعتاق والطلاق والصوم والصلاة ونحو ذلك فقد ذهب الحنفية والمالكية والشافعية في ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (3/ 171)، حاشية الدسوقي (2/ 427)، المهذب (2/ 105، 106)، مغني المحتاج (3/ 344)، نهاية المحتاج (7/ 70)، المغني مع الشرح الكبير (8/ 502)، كشاف القناع (5/ 353 - 361). (¬2) (20/ 261). (¬3) المغني مع الشرح الكبير (8/ 502 - 503، 506).

ألفاظ الإيلاء

الجديد من مذهبهم والحنابلة في رواية إلى حصول الإيلاء به؛ لأن ذلك يمين يلزمه فيها حق فصح به الإيلاء كاليمين بالله -عَزَّ وَجَلَّ-. والمذهب عند الحنابلة أن ذلك لا يكون إيلاء (¬1). 3 - يشترط لصحة الإيلاء في الرجل والمرأة معا قيام النكاح بين المولي ومن يقع عليها الإيلاء حقيقة كالتي في عصمة الرجل، أو حكمًا كالرجعية؛ لأن الإيلاء كالطلاق، فلو انتفى ذلك بأن كانت المرأة أجنبية أو لم تكن في حكم الزوجة كالمبانة لم يقع الإيلاء عليها؛ لأنه لا حق لها في وطئه (¬2). 4 - أن يكون من زوج يمكنه الوطء، وتكون الزوجة ممّن يمكن وطؤها. 5 - يشترط في المولي التكليف كما في الطلاق فلا يصح من الصبي الذي لا يعقل، ولا من مجنون ولا معتوه ولا مكره على نحو ما تقدم في الطلاق (¬3). ألفاظ الإيلاء: وألفاظ الإيلاء الدالة على ترك الوطء عند الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة تنقسم إلى صريحة وكناية ويضيف الحنفية والحنابلة قسما يسمونه ما يجري مجري الصريح، وعليه فالصريح هو: ما دل على الوطء لغة وعرفا، وما يجري مجرى الصريح هو ما يستعمل في الجماع عرفا كأن يحلف ألا يقربها أو لا يغتسل منها ونحو ذلك. وحكم الصريح أنه لا يشترط فيه النية حتى لو ادعى الزوج خلافه لم يقبل منه، وما يجري مجرى الصريح كذلك غير أنه يقبل منه دعوى خلافه ديانة لا قضاء. ¬

_ (¬1) المغني مع الشرح الكبير (8/ 503، 507)، الإنصاف (23/ 147 - 148). (¬2) المغني مع الشرح الكبير (8/ 521، 527، 530). (¬3) بدائع الصنائع (3/ 100)، تفسير القرطبي (3/ 103)، الخرشي (3/ 229)، المهذب (2/ 105)، مغني المحتاج (3/ 343)، المغني مع الشرح الكبير (8/ 523، 530).

مدة الإيلاء

والكناية هو: ما يحتمل الجماع وغيره، ولم يغلب استعماله في الجماع عرفا، كأن يحلف ألا يمس جلده جلدها، أو ألا يقرب فراشها ونحو ذلك، ولا يكون ذلك إيلاء إلا بالنية (¬1). مدة الإيلاء: يتفق الفقهاء على أن من حلف ألا يطأ زوجته أقل من أربعة أشهر لا يكون موليا، بل يلزمه كفارة يمين إذا حنث في يمينه، كما يتفقون أن من حلف ألا يقرب امرأته أبدًا أو أطلق ولم يحدد المدة فهو مول، واختلفوا في التحديد بأربعة أشهر على قولين: الأول: أن التحديد بأربعة أشهر إيلاء فمن حلف ألا يطأ زوجته أربعة أشهر يكون موليًا وهو مذهب الحنفية ورواية عند المالكية والحنابلة (¬2)؛ لظاهر قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬3). الثاني: أن الإيلاء لا يكون إلا بأكثر من أربعة أشهر وهو المشهور في مذهب المالكية، ومذهب الشافعية والصحيح من مذهب الحنابلة (¬4). واستدلوا بقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، ووجه الاستدلال أن الآية جعلت للمولي حق التربص أربعة أشهر كاملة فلا اعتبار بما دون ذلك، كما جعلت المطالبة بالفيء عقب تربص المدة المذكورة بفاء التعقيب فدل على تأخرها عنه. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (3/ 162)، حاشية الدسوقي (2/ 427)، مغني المحتاج (3/ 345)، المغني (8/ 525). (¬2) أحكام القرآن للجصاص (1/ 488)، الخرشى (4/ 91)، الإنصاف (23/ 153). (¬3) سورة البقرة: 226. (¬4) تفسير القرطبي (3/ 105)، شرح الخرشي (4/ 91)، مغني المحتاج (3/ 343)، المغني (8/ 506)، الإنصاف (23/ 153).

الأثر المترتب على انعقاد الإيلاء

الأثر المترتب على انعقاد الإيلاء: يترتب على الإيلاء أثران هما: الأول: أن المولي يمهل أربعة أشهر لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. ومتى رجع إلى معاشرة زوجته خلال مدة الإيلاء وجبت عليه كفارة يمين لقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬1). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية لمن آلى من زوجته لأكثر من أربعة أشهر ثم جامعها قبل مضي المدة أن عليه كفارة يمين في فتواها رقم (9404) (¬2). الفيئة: أن يرجع الزوج عن يمينه، وتحصل بالجماع لمن لا عذر له إجماعًا (¬3)، قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن الفيء الجماع إذا لم يكن عذر" (¬4). والفيئة مستحبة؛ لأن بها يرتفع الضرر عن المرأة، ويكون الرجل راجعًا عما ارتكبه من المعصية بتحريم ما أحل الله له قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (¬5)، ولحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 89. (¬2) (20/ 259). (¬3) تفسير القرطبي (3/ 108)، الهداية شرح بداية المبتدي (2/ 11)، المبسوط (7/ 19)، بداية المجتهد (2/ 75). (¬4) الإجماع (ص: 83). (¬5) سورة المائدة: 87.

عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" (¬1). الثاني: حق الزوجة في مطالبة الزوج المولي بالفيء أو الطلاق لقوله تعالى لأن الإيلاء لا يحرم الزوجة على زوجها؛ لأنه تحريم لما أحل الله، بل يستحب للمولي الرجوع عن الإيلاء ويجب عليه الاستغفار والتوبة عنه، يدل على ذلك قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬2)، ولعموم قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬3). فإن استجاب لطلبها فطلقها انتهى الأمر، وإلا فللسلطان أن يطلق عليه. وقد جاء بذلك فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية رقم (10298) (¬4). متى يقع الطلاق؟ اختلف الفقهاء هل يقع الطلاق بمجرد مضي المدة أم لا بد من قضاء الحاكم؟ على قولين: الأول: أن الطلاق يقع بمجرد مضي أربعة أشهر، ولا يتوقف على رفع الأمر إلى الحاكم، ولا صدور حكم منه بتطليقها وهو مذهب الحنفية (¬5). ¬

_ (¬1) رواه مسلم برقم (1650). (¬2) سورة البقرة: 226 - 227. (¬3) سورة البقرة: 229. (¬4) (20/ 260). (¬5) بدائع الصنائع (3/ 176).

نوع الفرقة بسبب الإيلاء

الثاني: أن الطلاق لا يقع بمضي أربعة أشهر، بل يحق للزوجة بمضي ذلك أن ترفع الأمر إلى الحاكم ليأمره بالفيء أو الطلاق، فإن أبى طلقها عليه، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة (¬1). واستدلوا بما رواه الدارقطني في سننه عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال: "سألت اثني عشر رجلًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رجل يولي من امرأته قالوا: ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر، فيوقف، فإن فاء وإلا طلق" (¬2)، فقوله يوقف دليل على أنه لا بد من رفع الأمر للحاكم. نوع الفرقة بسبب الإيلاء: اختلف الفقهاء في نوع الفرقة الحاصلة بسبب الإيلاء على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن الفرقة بسبب الإيلاء طلاق بائن وهو مذهب الحنفية وقول أبي ثور (¬3)؛ لأنه طلاق لدفع الضرر عن الزوجة ولا يتحقق ذلك إلا بالبينونة. القول الثاني: أن هذه الفرقة طلاق رجعي ما لم يستكمل الرجل عدد الطلقات، سواء أوقعه بنفسه أو طلق الحاكم عليه، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة في المذهب عندهم (¬4)؛ لأنه طلاق بدون عوض ولم يستكمل العدد كغير الإيلاء. ¬

_ (¬1) المدونة الكبرى (2/ 336) ط. دار الكتب، المنتقى للباجي (4/ 26)، شرح الخرشي (4/ 91)، الأم (5/ 287، 289)، مغني المحتاج (3/ 348)، المغني مع الشرح الكبير (8/ 528، 535). (¬2) رواه البخاري في التاريخ كما في تغليق التعليق (4/ 468)، والدارقطنيُّ في سننه (4/ 61)، والبيهقيُّ في السنن الكبرى (7/ 377). (¬3) بدائع الصنائع (3/ 177)، شرح فتح القدير (4/ 191)، المغني (8/ 542). (¬4) المنتقى للباجي (4/ 33)، حاشية العدوي (2/ 103)، الأم (5/ 290)، المغني (8/ 542)، الإنصاف (23/ 216).

القول الثالث: أنها طلاق رجعي إن أوقعه بنفسه، وبائن إن طلق عليه الحاكم وهو رواية عند الحنابلة (¬1). ¬

_ (¬1) المغني (8/ 542)، الإنصاف (23/ 216).

الظهار

الظهار الظهار لغة: مأخوذ من الظَهْر يقال: ظاهر من امرأته وتظاهر منها، وهو أن يقول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي أو نحوه، أي إذا أراد تحريمها، وإنما خص ذلك بذكر الظهر لأن الظهر من الدابة موضع الركوب (¬1). وشرعًا: تشبيه الرجل زوجته أو جزءًا منها بامرأةٍ محرمة عليه تحريمًا مؤبدًا أو بجزء منها يحرم عليه النظر إليه كالظهر والبطن والفخذ ونحو ذلك (¬2). والأصل فيه: قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (¬3). وحديث خولة بنت مالك بن ثعلبة قالت: ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أشكو إليه ورسول الله يجادلني فيه ويقول: "اتقي الله فإنه ابن عمك" فما خرجت حتى أنزل الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} الآيات. فقال: "ليعتق رقبة"، قالت: لا يجد، قال: "فيصوم شهرين متتابعين". قالت: يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به صيام. قال: "فليطعم ستين مسكينا". قالت: ما عنده من شيء يتصدق به. قال: "فإني سأعينه بعرق من تمر". قالت: وأنا أعينه بعرق آخر. قال: "لقد أحسنت، اذهبي فأطعمي عنه ستين مسكينا" خرجه أبو داود (¬4). ¬

_ (¬1) المفردات (ص: 320)، المصباح مادة: "ظهر" (ص: 200)، مختار الصحاح مادة: "ظهر" (ص: 197). (¬2) التعريفات للجرجاني (ص: 187)، البحر الرائق (4/ 102)، مغني المحتاج (3/ 353)، حاشية الدسوقي (2/ 439)، كشاف القناع (5/ 368). (¬3) سورة المجادلة: 2. (¬4) سنن أبي داود [2/ 266 (2214)].

حكمه

حكمه: الظهار محرم لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (¬1). وهو من كبائر الذنوب لأن الله وصفه بأنه منكر من القول في هذه الآية. وقد كان طلاقًا في الجاهلية فجاء الإِسلام فحرمه وجعله يمينا مكفرة مغلظة بحيث لا يجوز للمظاهر أن يقرب زوجته المظاهر منها إلا بعد الكفارة. أركان الظهار: للظهار عند الحنفية ركن واحد هو اللفظ الدال عليه، وله عند الجمهور أربعة أركان هي: الزوج المظاهر، والزوجة المظاهر منها، ومشبه به وهو من يحرم وطؤه أصالة، والصيغة الدالة عليه (¬2). شروط الظهار: يشترط لصحة الظهار ما يلي: 1 - أن يكون المظاهر مكلفًا: لا يختلف الفقهاء في اشتراط تكليف الزوج لصحة الظهار أي بأن يكون المظاهر بالغًا عاقلًا، فلا يصح ظهار المجنون ولا الصبي غير المميز بغير خلاف؛ لأن حكم الظهار الحرمة وخطاب التحريم لا يتناول من لا يعقل. ولا يصح من الصبي المميز أيضًا عند الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في الصحيح من مذهبهم؛ لأنه ليس من أهل الكفارة لعدم التكليف، ولأن الظهار من التصرفات ¬

_ (¬1) [المجادلة: 2] (¬2) بدائع الصنائع (3/ 229)، تبيين الحقائق (3/ 2)، الشرح الصغير (3/ 470)، حاشية الدسوقي (2/ 440)، روضة الطالبين (8/ 261).

2 - الإسلام

الضارة المحضة فلا يملكه الصبي كما لا يملك الطلاق والعتاق وغيرهما من التصرفات التي هي ضارة محضة. وظهار السكران والمكره كطلاقه وهو على التفصيل الذي ذكرناه في كتاب الطلاق (¬1). 2 - الإسلام: يشترط الحنفية والمالكية لصحة الظهار أن يكون المظاهر مسلمًا فلا يصح ظهار الذمي عندهم؛ لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} (¬2)، ولأن حكم الظهار حرمة مؤقتة بالكفارة بتحرير رقبة يخلفه الصوم والكافر ليس من أهل هذا الحكم فلا يكون من أهل الظهار (¬3). وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الإِسلام ليس شرطًا لصحة الظهار فيصح عندهم ظهار الكافر؛ لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (¬4)، إذ لم يفرق بين المسلم والكافر، ولأن الكافر يصح طلاقه فصح ظهاره (¬5). 3 - أن تكون المرأة المظاهر منها زوجة للمظاهر: اختلف الفقهاء في اشتراط الزوجية بين المظاهر والمظاهر منها على قولين: القول الأول: أن الزوجية شرط لانعقاد الظهار وصحته وإليه ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة في رواية (¬6)، فلو قال لأجنبية أنت علي كظهر أمي أو إن ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (3/ 230)، الشرح الصغير (3/ 467)، مغني المحتاج (3/ 352)، المغني (8/ 554، 555). (¬2) سورة المجادلة 2. (¬3) بدائع الصنائع (3/ 230)، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (3/ 466). (¬4) سورة المجادلة: 3. (¬5) مغني المحتاج (3/ 252)، المغني (8/ 554). (¬6) بدائع الصنائع (3/ 232)، روضة الطالبين (8/ 261)، مغني المحتاج (3/ 354)، أسنى المطالب (3/ 358)، المغني (8/ 577).

تزوجتك فأنت كظهر أمي لم يكن ظهارًا حتى أنه لو تزوجها لم يجب عليه شيء، فيشترط لصحة الظهار أن تكون المرأة زوجة للرجل لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} (¬1)، والأجنبية ليست من نسائه، ولأن الظهار يمين ورد الشرع بحكمها مقيدًا بنسائه فلم يثبت حكمها في الأجنبية كالإيلاء، ولأنها ليست بزوجة فلم يصح الظهار منها كأمته، ولأن الأجنبية محرمة فلم يلزمه شيء كما لو قال أنت حرام، ولأنه نوع تحريم فلم يتقدم النكاح كالطلاق. القول الثاني: أن الزوجية ليست شرطًا لانعقاد الظهار وصحته بل يصح من الأجنبية حتى إذا تزوجها لم يقربها إلا بعد الكفارة وهو مذهب المالكية والصحيح من مذهب الحنابلة (¬2)، وسواء كان الظهار من أجنبية بعينها أو قال كل النساء علي كظهر أمي، وسواء أوقعه مطلقًا أو علقه على التزويج فقال كل امرأة أتزوجها فهي علي كظهر أمي. ومتى تزوج التي ظاهر منها لم يطأها حتى يكفر لما روى الإِمام أحمد بإسناده عن عمر بن الخطاب أنه قال في رجل قال: إن تزوجت فلانة فهي علي كظهر أمي فتزوجها قال: "عليه كفارة الظهار" (¬3)، ولأنها يمين مكفرة فصح انعقادها قبل النكاح كاليمين بالله تعالى. وقد جاءت عدد من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية موافقة للقول الأول منها الفتوى رقم (1476) في حق من خطب امرأة ¬

_ (¬1) سورة المجادلة: 2. (¬2) أحكام القرآن لابن العربي (4/ 160)، الشرح الكبير للدردير (2/ 444 - 445)، المغني (8/ 577)، الإنصاف (9/ 202)، كشاف القناع (5/ 372)، مطالب أولى النهي (5/ 512). (¬3) أورده ابن قدامة في المغني (8/ 578)، ورواه سعيد بن منصور في سننه [1/ 290 (1023)]، وابن حزم في المحلى (10/ 56، 206) كلاهما من طريق الإِمام مالك عن سعيد بن عمرو بن سليم عن القاسم بن محمَّد أن رجلًا قال: "إن تزوجت فلانة فهي علي كظهر أمي، فتزوجها فسأل عمر بن الخطاب فقال: لا تقربها حتى تكفر كفارة الظهار".

4 - تشبيه الرجل زوجته أو عضوا منها بمن تحرم عليه أو بعض منها

ثم قال لها نتيجة غضب بينه وبين والدتها: محرم علي مثل أمي وأختي حيث أفتت بأن لا تأثير لهذا التحريم على عقد الزواج لوقوعه قبله، ولا تلزمه كفارة ظهار بل يلزمه كفارة يمين بالإقدام على زواجها. وفتواها رقم (16133) في حق من قال لخطيبته: اعتبريني مثل أخيك هذا أي اعتبريني محرمًا عليك مثل أخيك؛ لأنها حين التحريم ليست زوجة له، وكذلك فتواها رقم (3762) (¬1). وبناء على اشتراط قيام الزوجية في الظهار فلا يصح الظهار من المطلقة ثلاثًا ولا المبانة والمختلعة وإن كانت في العدة؛ لأن الظهار تحريم وقد ثبتت الحرمة بالإبانة والخلع، وتحريم المحرم نوع من العبث (¬2). 4 - تشبيه الرجل زوجته أو عضوًا منها بمن تحرم عليه أو بعض منها: لا خلاف بين الفقهاء أن الزوج إذا شبه زوجته بظهر أمه أو شبه نفسها أو ذاتها أو جسمها أو بدنها أو قال: كلك أو جملتك أو أنت وأشار إليها ونحو ذلك مما يعبر به عن جملتها يكون مظاهرًا منها. واختلفوا في أي الأجزاء منها يكون تشبيهه بظهر الأم ظهارًا؟ على قولين: الأول: ذهب الحنفية (¬3) إلى أن الرجل إذا شبه جزءًا شائعًا من المرأة كالنصف والربع والثلث أو ما يعبر به عن الكل كالرأس والرقبة والفرج والوجه يكون مظاهرًا لها؛ لأن هذه الأعضاء يعبر بها عن جميع البدن فكانت الإضافة إليها إضافة إلى جميع البدن. أما إن كان الجزء لا يعبر به عن الكل كاليد والرجل والأصبع ونحو ذلك فلا يكون ظهارًا. ¬

_ (¬1) 20/ 279، 281، 284. (¬2) بدائع الصنائع (3/ 232)، المهذب (2/ 112، 113)، المغني (8/ 577 - 578)، كشاف القناع (3/ 370). (¬3) بدائع الصنائع (3/ 233).

الثاني: ذهب المالكية والشافعية في الجديد والحنابلة (¬1) إلى أن الظهار يكون بتشبيه كل عضو من أعضاء الزوجة شائعًا كان أو غير شائع إلا أن الشافعية استثنوا من ذلك ما يذكر في معرض الإعزاز كالعين فلا يكون ظهارًا عندهم، واستثنى الحنابلة من ذلك الأعضاء غير الثابتة كالشعر والظفر والسن والريق والدم ونحو ذلك فلا يصح به الظهار عندهم. وأما المرأة المشبه بها وهي في الأصل الأم فلا خلاف أنه إن شبه الزوجة بظهرها يكون ظهارًا واختلفوا فيما سوى ذلك. فذهب الحنفية (¬2) إلى أنه إن شبه الزوجة بذات الأم أو كل عضو منها يحرم النظر إليه كالظهر والبطن والفخذ والفرج ونحو ذلك يكون مظاهرًا، بخلاف ما لو شبهها بعضو لا يحرم النظر إليه كالرأس أو الوجه أو اليد أو الرجل ونحو ذلك فلا يصير مظاهرًا؛ لأن هذه الأعضاء من أمه يحل له النظر إليها. وذهب المالكية والشافعية والحنابلة (¬3) إلى صحة وقوع الظهار بتشبيه الزوجة بكل عضو من أعضاء الأم سواء كان مما يحرم النظر إليه أم لا؛ لأن العضو وإن لم يحرم النظر إليه إلا أنه يحرم أن يفعل به ما يباح في الزوجة وهو التلذذ والاستمتاع. إلا أن الشافعية خصوا ذلك بما لا يذكر في معرض الكرامة والإعزاز كالعين ونحو ذلك. على حين المالكية والحنابلة ذلك بالأجزاء الثابتة فقط كاليد والرجل والرأس ونحوها دون غيرها كالريق والدمع والكلام ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) الشرح الصغير (3/ 467)، روضة الطالبين (8/ 263)، مغني المحتاج (3/ 353)، المغني (8/ 564 , 565)، كشاف القناع (5/ 369 - 370). (¬2) بدائع الصنائع (3/ 233). (¬3) بدائع الصنائع (3/ 231، 233)، الشرح الصغير (3/ 468)، شرح الخرشي (4/ 103)، حاشية الدسوقي (2/ 439)، روضة الطالبين (8/ 263)، مغني المحتاج (3/ 353)، المغني (8/ 564 , 565)، كشاف القناع (5/ 369 - 370).

هل يقع الظهار بتشبيه الزوجة زوجها بمن يحرم عليها؟

وقد أفتت اللجنة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في قول الرجل: أنت علي مثل فرج أمي أنه ظهار في فتواها رقم (12842) (¬1). هل يقع الظهار بتشبيه الزوجة زوجها بمن يحرم عليها؟ لا يقع الظهار بتشبيه الزوجة زوجها بمن يحرم عليها لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (¬2)، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} (¬3)، حيث إن الخطاب موجه للزوج لا الزوجة. وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في فتواها رقم (1152)، ورقم (6130)، ورقم (5839) (¬4). 5 - أن تكون المرأة التي شبه الزوجة بها ممّن تحرم عليه تحريمًا مؤبدا: يتفق جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية في الجديد والحنابلة على أن الظهار ينعقد بتشبيه المرأة بكل من تحرم على الرجل تحريمًا مؤبدًا سواء حرمت عليه بالرحم كالأم والجدة والعمة والخالة والبنت والأخت وبنت الأخ أو الأخت، أو بالرضاع كالأمهات المرضعات والأخوات من الرضاعة، أو بالمصاهرة كحلائل الآباء والأبناء وأمهات النساء؛ لأنه يحرم عليه نكاحهن على التأبيد فأشبهن الأم من حيث التحريم. وذهب الشافعي في القديم إلى أن الظهار لا يصح إلا بتشبيه المرأة بالأم أو الجدة فقط دون من سواهما؛ لأن اللفظ الذي ورد به القرآن مختص بالأم، والجدة أم فإذا عدل عنه لم يتعلق به ما أوجبه الله تعالى فيه. ¬

_ (¬1) (20/ 300). (¬2) سورة المجادلة: 3. (¬3) سورة المجادلة: 2. (¬4) 20/ 288 , 290 , 291.

تشبيه الزوجة بظهر من تحرم تحريما مؤقتا

تشبيه الزوجة بظهر من تحرم تحريمًا مؤقتا: أما إذا شبه الرجل الزوجة بظهر من تحرم عليه تحريمًا مؤقتًا كأخت امرأته، وعمتها، أو بالأجنبية فقد اختلف الفقهاء في ذلك فذهب الحنفية والشافعية والحنابلة في رواية (¬1)، إلى أن ذلك لا يعتبر ظهارًا؛ لأنه شبهها بمن لا تحرم على التأبيد كالحائض والمُحْرِمة من نسائه. وذهب المالكية والحنابلة في المذهب عندهم (¬2) إلى أن ذلك يعتبر ظهارًا؛ لأنه شبهها بمحرَّمة عليه وقت الظهار فأشبه ما لو شبهها بالأم. تشبيه الزوجة بظهر من يحرم من الرجال: إذا شبه زوجته بظهر أبيه أو غيره من الرجال كابنه أو أخيه ونحو ذلك فلا يكون ظهارًا عند الحنفية، والمالكية في قول، والشافعية، والحنابلة في رواية (¬3)، قال ابن قدامة: وهو قول أكثر العلماء؛ وذلك لعدم ورود الشرع به، ولأنه تشبيه بما ليس بمحل للاستمتاع. والمذهب عند المالكية والحنابلة (¬4) أنه يكون ظهارًا، وهو مروي عن جابر بن زيد. واشترط الحنابلة النية أو القرينة. واستدلوا بأن ظهر الرجل حرام كظهر الأم. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (3/ 233 - 234)، مغني المحتاج (3/ 354)، المغني (8/ 557)، الإنصاف (¬2) حاشية الدسوقي (2/ 442 - 443)، شرح الخرشي (4/ 106)، المغني (8/ 557)، الإنصاف (9/ 195)، كشاف القناع (5/ 369). (¬3) بدائع الصنائع (3/ 233)، الكافي لابن عبد البر (1/ 283)، حاشية الدسوقي (2/ 444)، حاشية العدوي (2/ 135)، الأم (5/ 278)، المهذب (2/ 112)، الوسيط (6/ 32)، روضة الطالبين (8/ 265)، المغني (8/ 558). (¬4) الكافي لابن عبد البر (1/ 283)، الشرح الصغير (3/ 472، 474، 473)، حاشية الدسوقي (2/ 444)، حاشية العدوي (2/ 135)، المغني (8/ 558)، الإنصاف (9/ 195)، كشاف القناع (5/ 370).

تشبيه الزوجة بالمحرمات كالخمر والخنزير والميتة والدم ونحو ذلك

تشبيه الزوجة بالمحرمات كالخمر والخنزير والميتة والدم ونحو ذلك: اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: الأول: ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة في المذهب عندهم إلى أن العبرة في ذلك بنية الرجل، فإن نوى به الظهار كان ظهارًا وإن نوى به الطلاق كان طلاقًا وإن نوى به اليمين كان يمينًا (¬1). الثاني: وذهب المالكية إلى أن ذلك يقع به طلاق ويكون باتًا إلا أن ينوي أقل من ذلك في غير المدخول بها (¬2). ألفاظ الظهار: يقسم الفقهاء ألفاظ الظهار إلى صريحة وكناية، فالصريح: أن يقول: أنت علي كظهر أمي فهذا ظهار صريح بالإجماع نقله غير واحد من الفقهاء (¬3). وكذلك قوله أنت عندي أو مني أو معي كظهر أمي فهو ظهار بمنزلة عليَّ؛ لأن هذه الألفاظ في معناه (¬4). وكذا قوله أنا منك مظاهر، أو قد ظاهرتك، أو أنت علي كبطن أمي أو كفخذ أمي أو كفرج أمي فهذا كله يكون مظاهرًا سواء نوى الظهار أولا؛ لأن هذا صريح في الظهار فلو نوى به غيره لم يقبل منه (¬5). والكناية ما يحتمل الظهار وغيره كما لو قال: أنت علي كأمي أو مثل أمي فقد ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (3/ 232)، المهذب (2/ 83)، روضة الطالبين (8/ 31)، مغني المحتاج (3/ 283 - 284)، المغني (8/ 558)، الإنصاف (8/ 490)، كشاف القناع (5/ 253). (¬2) الشرح الصغير (3/ 473)، شرح الخرشي (4/ 106)، حاشية الدسوقي (2/ 444). (¬3) الإجماع لابن المنذر (ص: 84)، الإفصاح لابن هبيرة (2/ 163)، بداية المجتهد (2/ 124)، المغني (8/ 556). (¬4) المغني (8/ 558)، مغني المحتاج (3/ 353). (¬5) بدائع الصنائع (3/ 231).

ذهب أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعية والحنابلة في الأظهر (¬1) إلى أنه كناية لا يكون ظهارًا إلا بالنية، فإن نوى به الظهار كان ظهارًا، وإن نوى به الكرامة كان كرامة، وإن نوى به الطلاق كان طلاقًا، وإن نوى به اليمين كان إيلاء؛ لأن اللفظ يحتمل كل ذلك، ويستعمل في الكرامة أكثر مما يستعمل في التحريم فلم ينصرف إليه بغير نية ككنايات الطلاق. وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بهذا الرأي في فتواها رقم (818)، ورقم (557)، ورقم (14609)، (19314)، وفتواها رقم (20889) (¬2). واختلفوا في قوله: "أنت علي حرام" على ثلاثة أقوال: الأول: ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة في رواية (¬3) إلى أن المعتبر فيه النية فإن نوى به الظهار كان ظهارًا وإلا فلا. ووجه ذلك أن التحريم يتنوع فمنه ما يكون بظهار وبحيض وإحرام وصيام فلا يكون صريحًا في واحد منها ولا ينصرف إليه بغير النية كما لا ينصرف إلى تحريم الطلاق. الثاني: وذهب الحنابلة في الصحيح من مذهبهم (¬4) إلى أن ذلك ظهار نواه أم لا، وممن قال به عثمان وابن عباس وأبي قلابة وسعيد بن جبير وميمون بن مهران والبتي. واستدلوا بما رواه الأثرم بإسناده عن ابن العباس في الحرام "أنه تحرير رقبة ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (3/ 231)، الأم (5/ 296)، المهذب (2/ 112)، الوسيط (6/ 31)، روضة الطالبين (8/ 263، 268)، مغني المحتاج (3/ 355)، الإنصاف (9/ 193). (¬2) 20/ 276، 274، 303، 315، 321. (¬3) بدائع الصنائع (3/ 232)، المهذب (2/ 83)، الوسيط (5/ 376)، روضة الطالبين (8/ 28 - 29)، مغني المحتاج (3/ 282 - 355، 283)، الإفصاح (2/ 163 - 164)، الإنصاف (8/ 486)، و (9/ 196)، كشاف القناع (5/ 253). (¬4) المغني (8/ 303)، الإنصاف (8/ 486)، و (9/ 196)، كشاف القناع (5/ 253).

آثار الظهار

فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا" (¬1)، ولأنه تحريم للزوجة بغير طلاق فوجبت به كفارة الظهار كما لو قال: أنت علي حرام كظهر أمي. ولأنه صريح في تحريمها فكان ظهارًا وإن نوى غيره كما لو قال: أنت علي كظهر أمي. الثالث: ذهب المالكية في المشهور عندهم (¬2) إلى أن التحريم يقع به الطلاق ثلاثًا في حق المدخول بها ونيته في غير الدخول بها. وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في ألفاظ التحريم أنها ظهار كما في قول الزوج لزوجته: تراك علي حرام مدة عام في فتواها رقم (1178)، وقول زوج آخر: أنت علي حرام اعتبارًا من هذا اليوم في فتواها رقم (1172) (¬3). وفي الفتوى رقم (9010) في قول الرجل: "أنت محرمة علي لن أقترب منك ولن أجامعك" فأفتت بأنه إن كان قصده من التحريم الظهار فهو ظهار وإن قصد به الطلاق فهو طلاق وإن قصد به اليمين فهو كذلك (¬4). آثار الظهار: 1 - حرمة الوطء قبل التكفير: لا خلاف بين الفقهاء أن المظاهر يحرم عليه وطء زوجته قبل أن يكفر عن ظهاره إذا كان فرضه في الكفارة العتق أو الصيام (¬5) لقوله -عَزَّ وجَلَّ-: {يُظَاهِرُونَ مِنْ ¬

_ (¬1) ذكره ابن قدامة في المغني (8/ 303). (¬2) الكافي لابن عبد البر (1/ 165)، تفسير القرطبي (18/ 180 - 182)، التاج والإكليل (4/ 54)، قوانين الأحكام الشرعية (ص: 152)، حاشية الدسوقي (2/ 380). (¬3) 20/ 266، 275، 277، 282. (¬4) (20/ 298). (¬5) روضة الطالبين (8/ 268)، مغني المحتاج (3/ 357)، المغني (8/ 566)، الإنصاف (9/ 203)، كشاف القناع (5/ 374).

نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬1)، وهو أمر المظاهر بتحرير رقبة قبل المسيس فلو لم يحرم الوطء قبل المسيس لم يكن للأمر بتقديم التحرير قبل المسيس معنى ومثل ذلك في الصيام، ولحديث ابن عباس -رضي الله عنه-: أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ظاهر من امرأته فوقع عليها فقال: يا رسول الله إني قد ظاهرت من زوجتي فوقعت عليها قبل أن أكفر، فقال: "وما حملك على ذلك يرحمك الله؟ " قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر، قال: "فلا تقربها حتى تفعل أمرك به الله" رواه أصحاب السنن (¬2). وفي رواية: "استغفر الله ولا تعد حتى تكفر" (¬3) فأمره - صلى الله عليه وسلم - بالاستغفار ولا يكون ذلك إلا عن الذنب فدل على حرمة الوطء، ونهاه - صلى الله عليه وسلم - عن العود إلى الجماع ومطلق النهي للتحريم فيدل على حرمة الجماع قبل الكفارة. ¬

_ (¬1) سورة المجادلة: 3 - 4. (¬2) رواه ابن ماجة برقم (2065)، وأبو داود برقم (2223)، والترمذيُّ برقم (1199) وقال عقبه: "حديثٌ حسنٌ غريب صحيح"، والنسائيُّ برقم (3457). قال الحافظ في الفتح بعد ذكر أسانيد الحديث (9/ 433): "وأسانيد هذه الأحاديث حسان". وقال في الدراية (2/ 76): "وقد أخرجه أصحاب السنن والبزار من طريق ابن حبان عن عكرمة عن ابن عباس ... صححه الترمذيُّ ورجح النسائي إرساله، وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن ابن عباس وفيه إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف". وقال صاحب تحفة المحتاج (2/ 407): "رواه الأربعة وقال الترمذيُّ حسن غريب صحيح وقال النسائي وأبو حاتم مرسلًا أصوب وروى الحاكم الأول واستشهد له". وقال الصنعاني في سبل السلام (3/ 186): "رواه الأربعة وصححه الترمذيُّ ورجح النسائي إرساله ورواه البزار من وجه آخر عن ابن عباس وزاد فيه كفر ولا تعد". (¬3) قال الحافظ في الدراية (2/ 76): "لم أجد في شيء من طرقه ذكر الاستغفار".

أما إذا كان فرضه في الكفارة الإطعام فالجمهور على أن ذلك لا يجوز أيضًا حتى يكفر قياسًا على الكفارة. 2 - حرمة الاستمتاع بما دون الوطء: اختلف الفقهاء هل يحرم الاستمتاع بالزوجة المظاهر منها بالمباشرة والتقبيل واللمس عن شهوة ونحو ذلك قبل التكفير عن الظهار أم لا؟ على قولين: الأول: ذهب الحنفية والمالكية والشافعية في القديم والحنابلة في المذهب عندهم (¬1) إلى أنه يحرم؛ لقوله -عَزَّ وجَلَّ-: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وأخف ما يقع عليه اسم المس هو اللمس باليد إذ هو حقيقة لهما جميعا أعني الجماع واللمس باليد لوجود معنى المس باليد فيهما؛ ولأن الاستمتاع داع إلى الجماع فإذا حرم الجماع حرم الداعي إليه إذ لو لم يحرم لأدى إلى التناقض، ولأن ما حرم الوطء من القول حرم دواعيه كالطلاق والإحرام. الثاني: ذهب الشافعية في الجديد والحنابلة في رواية إلى جوازه (¬2)؛ لأنه وطء يتعلق بتحريمه حال فلم يتجاوزه التحريم كوطء الحائض. وقالوا: إن قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} محمول على الجماع كقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (¬3). وعلى القول بالتحريم لا ينبغي للمرأة إذا ظاهر منها زوجها أن تدعه يقربها بالوطء والاستمتاع حتى يكفر؛ لأن ذلك حرام عليه والتمكين من الحرام ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (3/ 234)، الإفصاح (2/ 165)، الشرح الصغير (3/ 475)، تفسير القرطبي (17/ 277)، المغني (8/ 567)، روضة الطالبين (8/ 269)، مغني المحتاج (3/ 357)، الإنصاف (9/ 204)، كشاف القناع (5/ 374). (¬2) روضة الطالبين (8/ 269)، مغني المحتاج (3/ 357)، المغني (8/ 567)، الإنصاف (9/ 204). (¬3) سورة البقرة: 237.

كفارة الظهار

حرام (¬1)، على أن ذلك لا يسقط حقها في الاستمتاع به فلها أن تطالبه بالوطء، وإذا طالبته به فعلى الحاكم أن يجبره على أن يكفر حتى يطأ؛ لأنه بالتحريم بالظهار أضر بها حيث منعها حقها في الوطء مع قيام الملك فكان لها المطالبة بإيفاء حقها ودفع التضرر عنها وفي وسعه إيفاء حقها بإزالة الحرمة بالكفارة فيجب عليه ذلك ويجبر عليه لو امتنع. كفارة الظهار: كفارة الظهار أحد ثلاثة أمور على الترتيب: إعتاق رقبة لمن يجد ذلك، ثم صيام شهرين متتابعين لمن لم يجد الرقبة، ثم الإطعام لمن لم يجد الرقبة ولم يستطع الصيام. ودليل ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬2). ولحديث خولة بنت مالك حين ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت فشكت أمرها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزل القرآن فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يعتق رقبة"، قالت: لا يجد، قال: "فيصوم شهرين متتابعين"، قالت: يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام، قال: "فليطعم ستين مسكينا"، قالت: ما عنده من شيء يتصدق به، قال: "فإني سأعينه بعرق من تمر"، قالت: يا رسول الله وإني أعينه بعرق آخر، قال: "قد أحسنت اذهبي فأطعمي بها عنه ستين مسكينا وارجعي إلى ¬

_ (¬1) أحكام القرآن للجصاص (3/ 635)، المبسوط (6/ 230). (¬2) سورة المجادلة: 3 - 4.

ابن عمك" (¬1). ولحديث سلمة بن صخر الأنصاري -رضي الله عنه- حين ظاهر من امرأته في شهر رمضان ثم وقع عليها في إحدى لياليه فقد قال له - صلى الله عليه وسلم -: "اعتق رقبة"، قال: فضربت صفحة رقبتي بيدي فقلت: لا والذي بعثك بالحق لا أملك غيرها، قال: "فصم شهرين"، قلت: يا رسول الله وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام، قال: "فأطعم ستين مسكينا"، فقلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وُحُشًا ما لنا عشاء، قال: "اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك فأطعم عنك منها وسقا ستين مسكينا ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك ... " (¬2)، فمن وجد رقبة يستغني عنها أو وجد ثمنها فاضلا عن حاجته ووجدها به لم يجزئه إلا الإعتاق. ¬

_ (¬1) أبو داود برقم (2214)، وابن حبان [10/ 108 (4279)]، والبيهقيُّ (7/ 392). قال الشوكاني في نيل الأوطار (7/ 55): "رواه أبو داود، ولأحمد معناه لكنه لم يذكر قدر العرق وقال فيه: فليطعم ستين مسكينًا وسقًا من تمر، ولأبي داود في رواية أخرى والعرق مكتل يسع ثلاثين صاعًا وقال: هذا أصح ... حديث خولة سكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده محمَّد بن إسحاق". (¬2) رواه أحمد (4/ 37)، والدارميُّ [2/ 217 (2273)]، وابن ماجة برقم (2062)، والترمذيُّ برقم (3299) وقال: "حسن"، والبيهقيُّ (7/ 385)، والحاكم [2/ 221 (2815)]، وقال عقبه: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ... ". قال الحافظ في التلخيص (3/ 221): "فرواه أحمد والحاكم وأصحاب السنن إلا النسائي من حديث سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر ... وأعله عبد الحق بالانقطاع، وأن سليمان لم يدرك سلمة. قلت: حكى ذلك الترمذيُّ عن البخاري". قال ابن الملقن في الخلاصة (2/ 229): "لكن قال الحاكم: هو صحيح على شرط مسلم وله شاهد من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وهذا إسناد على شرط الشيخين، قلت: ومن هذا الطريق أخرجه الترمذيُّ وقال حديثٌ حسنٌ".

العود الذي تجب به الكفارة

العود الذي تجب به الكفارة: لا يخلو الظهار إما أن يكون مطلقًا من غير تقييد بوقت أو يكون مؤقتا فإن كان مطلقًا فلا خلاف بين الفقهاء أن الكفارة لا تجب إلا بعد وجود العود إلا أنهم اختلفوا في طبيعة هذا العود على ثلاثة أقوال: الأول: ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة في رواية (¬1) إلى أن العود هو العزم على الوطء عزمًا مؤكدًا حتى لو عزم ثم بدا له في أن لا يطأها لا كفارة عليه لعدم العزم المؤكد. الثاني: ذهب الشافعية (¬2) إلى أن العود هو أن يمسكها بعد الظهار زمانًا يمكنه أن يطلقها فلم يفعل والدليل على ذلك أن تشبيهها بالأم يقتضي ألا يمسكها فإذا أمسكها فقد عاد فيما قال؛ لأن العود للقول مخالفته وهو قريب من قولهم عاد في هبته. الثالث: ذهب الحنابلة في المذهب عندهم والشافعية في القديم (¬3) إلى أنه الوطء في الفرج؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (¬4)، فأوجب الكفارة عقب الوطء وذلك يقتضي تعلقها به، ولا تجب قبل ذلك إلا أنها شرط لحل الوطء فيؤمر بها من أراده ليستحله بها كما يؤمر بعقد النكاح من أراد حلها ولأن العود في القول هو فعل ضد ما قال كما أن العود في الهبة استرجاع ما وهب. ¬

_ (¬1) الكافي لابن عبد البر (1/ 283)، تفسير القرطبي (17/ 28)، حاشية الدسوقي (2/ 447)، الشرح الصغير (3/ 478 - 479). (¬2) المهذب (2/ 113)، مغني المحتاج (3/ 356). (¬3) الوسيط (6/ 41)، المغني (8/ 574)، الإنصاف (9/ 204)، كشاف القناع (5/ 374). (¬4) سورة المجادلة: 3.

ما ينتهي به حكم الظهار

ما ينتهي به حكم الظهار: ينتهي حكم الظهار بموت أحد الزوجين لأنه بذلك يبطل محله ولا يتصور بقاء الشيء في غير محله، وبالكفارة إن كان مطلقًا ولم يقيده الزوج بوقت، أما إن قيده بوقت كأن قال: أنت علي كظهر أمي أسبوعًا أو شهرًا أو شهرين ونحو ذلك فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: الأول: فقد ذهب الحنفية والشافعية في الأظهر عندهم والحنابلة (¬1) إلى صحة الظهار مؤقتًا بوقت كيوم وشهر وشهرين ونحو ذلك؛ لحديث سلمة بن صخر البياضي أنه قال: "تظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ شهر رمضان ... " وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أصابها في الشهر فأمره بالكفارة ولم يعتبر عليه تقييده، ولأنه منع نفسه منها بيمين لها كفارة فصح مؤقتًا كالإيلاء. الثاني: ذهب المالكية والشافعية في قول (¬2) إلى عدم صحته مؤقتًا وأنه إذا وقته يلغى التوقيت ويكون مؤبدًا تشبيهًا له بالطلاق. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (3/ 235)، المغني (8/ 569)، المهذب (2/ 113)، روضة الطالبين (8/ 273)، مغني المحتاج (3/ 357)، كشاف القناع (5/ 373). (¬2) الشرح الصغير (3/ 468)، روضة الطالبين (8/ 273)، مغني المحتاج (3/ 357).

اللعان

اللعان اللعان في اللغة: المباهلة، وهو مصدر لاعن يلاعن مأخوذ من اللعن وهو الطرد والإبعاد. والملاعنة بين الزوجين أن يقذف الرجل امرأته بالزنا، أو برجل أنه زنى بها، وسمي بذلك لأن كل واحد من الزوجين يلعن نفسه (¬1). واللعان شرعًا: شهادات مؤكدات بالأيمان مقرونة باللعن أو الغضب قائمة مقام حد القذف في جانب الزوج ومقام حد الزنا في جانب الزوجة (¬2). مشروعية اللعان: الأصل في مشروعية اللعان الكتاب والسنة: أما الكتاب فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (¬3). وأما السنة فحديث عويمر العجلاني قال: يا رسول الله أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أنزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها"، قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ابن شهاب: فكانت سنة المتلاعنين. متفق عليه (¬4). ¬

_ (¬1) لسان العرب مادة: "لعن". تهذيب اللغة مادة: "لعن" (2/ 396)، الصحاح مادة: "لعن" (6/ 2196). (¬2) بدائع الصنائع (3/ 241 - 242)، شرح فتح القدير (4/ 278)، المبدع (8/ 73)، كشاف القناع (5/ 390). (¬3) سورة النور: 6. (¬4) البخاري برقم (5002)، ومسلمٌ برقم (1492).

الحكمة من مشروعية اللعان

الحكمة من مشروعية اللعان: أن الرجل قد يبتلى بامرأة تفسد فراشه بالزنا فيعظم عليه إشهاد شهود عليها وقتئذ حيث يلحقه العار بذلك، وإن قذفها وليس له بينة أقيم عليه الحد، وإن سكت قد يلحقه من ذلك نسب غيره، فشرع له اللعان خروجًا من ذلك، لهذا لما نزلت آية اللعان قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجًا ومخرجا" فقال هلال: قد كنت أرجو ذلك من ربي (¬1). شروط اللعان: يشترط لصحة اللعان ما يلي: 1 - أن يقذف الزوج زوجته بالزنا في القبل أو الدبر، أو ينفي حملها أو ولدها. 2 - قيام الزوجية بين المتلاعنين فلو قذف أجنبية ولم تكن لديه بينة حد حد القذف (¬2). ولا يشترط الدخول بالزوجة فلو قذف امرأته قبل أن يدخل بها جاز له ملاعنتها بالإجماع (¬3). 3 - أن تكذبه الزوجة في قذفه لها ولا تكون لديه بينة على ما ادعاه ويستمر ذلك إلى انقضاء اللعان (¬4). 4 - أن يكون الزوجان مكلفين أي بالغين عاقلين. قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن الصبي إذا قذف امرأته أنه لا يضرب ولا يلاعن (¬5). ¬

_ (¬1) رواه أحمد (1/ 238)، وأبو داود برقم (2256)، وأبو يعلى [5/ 124 (2740)]. (¬2) بدائع الصنائع (3/ 241)، جامع الأمهات (ص: 314، 317)، الوسيط (6/ 89). (¬3) الإقناع في مسائل الإجماع لابن قطان (2/ 67). (¬4) كشاف القناع (5/ 394). (¬5) الإجماع (ص: 85).

5 - الإِسلام (¬1): أما الإِسلام فهو شرط لصحة اللعان في الرجل عند الحنفية والمالكية؛ لأنه شهادة وغير المسلم ليس من أهلها. وعند الشافعية والحنابلة يصح لعان غير المسلم لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} (¬2)، ولأن اللعان أيمان بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن" (¬3). والأيمان تكون من غير المسلمين كما في حديث القسامة. 6 - أن يكون بالصيغة التي ورد بها الشرع أشهد في الأربع مرات منه ومنها واللعن منه في الخامسة والغضب منها، فيقول: أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميت به امرأتي هذه من الزنا مشيرًا إليها إن كانت حاضرة وإن لم تكن حاضرة بالمجلس سماها ونسبها بما تتميز به حتى تنتفي المشاركة بينها وبين غيرها ويعيد قوله أشهد بالله الخ مرة بعد أخرى حتى يكمل ذلك أربع مرات، ثم يقول في المرة الخامسة أن لعنة الله عليَّ إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا، ثم تقول هي أشهد بالله أن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا وتشير إليه إن كان حاضرًا بالمجلس وإن كان غائبا عن المجلس سمته ونسبته كما تقدم وتكرر ذلك أربع مرات ثم تقول في الخامسة: وأن غضب الله عليَّ إن كان من الصادقين فيما رماني من الزنا. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (3/ 242)، جامع الأمهات لابن الحاجب (ص: 314، 317)، الشرح الصغير (3/ 495، 508)، الوسيط (6/ 88)، الإفصاح لابن هبيرة (2/ 168)، كشاف القناع (5/ 394). (¬2) سورة النور: 6. (¬3) رواه أبو داود برقم (2256)، وأحمدُ (1/ 238)، وأبو يعلى [5/ 124 (2740)]، والبيهقيُّ (7/ 394). قال الحافظ في التلخيص (3/ 227): "أحمد وأبو داود من حديث بن عباس هكذا ورواه البخاري بلفظ لولا ما مضى من كتاب الله وهو طرف من حديث بن عباس في قصة هلال". وقال ابن الملقن في الخلاصة (2/ 234): "رواه أبو داود وكذلك البخاري بلفظ لولا ما مضى من كتاب الله كلاهما من رواية ابن عباس".

نكول الزوج عن اللعان

ويشترط أن يبدأ به الزوج ثم المرأة فإن بدأت به المرأة أعادته بعده، ولكن لو لم تعد المرأة وفرق بينهما نفذ (¬1). 7 - أن يكون بحضور السلطان أو نائبه: وقد أجمع الفقهاء على أن اللعان لا يكون إلا بحضور السلطان أو من ينيبه (¬2)، ويشترط المالكية إضافة إلى ذلك حضور جماعة أقلها أربعة من العدول، بينما استحب ذلك الشافعية والحنابلة (¬3). 8 - أن يكون في المسجد: لا يختلف الفقهاء أن اللعان لا يكون إلا في المسجد الجامع؛ لأن النبي لاعن بين المتلاعنين في مسجده (¬4). 9 - ويشترط المالكية في اللعان إن كان لنفي الحمل أو الولد التعجيل بأن لا يؤخره بعد العلم بالوضع أو الحمل. وأن لا يطأ المرأة بعد الرؤية أو العلم بالوضع أو الحمل (¬5). نكول الزوج عن اللعان (¬6): إذا نكل الزوج عن اللعان بعد قذفه لزوجته بالزنا وطالبته الزوجة بحد القذف فللفقهاء في ذلك قولان: ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (3/ 237)، حاشية الدسوقي (2/ 465)، مغني المحتاج (3/ 376)، كشاف القناع (5/ 393). (¬2) الاستذكار (17/ 202)، تفسير القرطبي (12/ 193)، الإقناع في مسائل الإجماع (2/ 67). (¬3) الشرح الصغير (3/ 507)، المهذب (2/ 125)، المبدع (8/ 78)، كشاف القناع (5/ 393). (¬4) التمهيد لابن عبد البر (6/ 191)، تفسير القرطبي (12/ 193)، الإقناع في مسائل الإجماع لابن القطان (2/ 67). (¬5) جامع الأمهات (ص: 316)، الشرح الصغير (3/ 504). (¬6) بدائع الصنائع (3/ 238)، شرح فتح القدير (4/ 281)، التاج والإكليل (4/ 138)، مغني المحتاج (3/ 380)، الكافي لابن قدامة (3/ 286)، المبدع (8/ 91)، كشات القناع (5/ 401).

نكول المرأة عن اللعان بعد يمين الزوج

الأول: ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه يحد للقذف لعموم أدلة حد القذف. الثاني: ذهب الحنفية إلى أنه يحبس حتى يلاعن أو تصدقه المرأة فيما ادعاه أو يكذب نفسه فيحد للقذف؛ لأن الله جعل اللعان موجب قذف الرجل زوجته. وقالوا: آية حد القذف منسوخ منها حد الزوج بآية اللعان والدليل عليه ما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "كنا جلوسًا في المسجد ليلة الجمعة فجاء رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله أرأيتم الرجل يجد مع امرأته رجلًا فإن قتله قتلتموه وإن تكلم به جلدتموه، وإن أمسك أمسك على غيظ؟ ثم جعل يقول: اللَّهم افتح فنزلت آية اللعان" (¬1)، قالوا: دل قوله: "وإن تكلم به جلدتموه" على أن موجب قذف الزوجة كان الحد قبل نزول آية اللعان ثم نسخ في الزوجات بآية اللعان حيث ينسخ عندهم الخاص المتأخر العام المتقدم. نكول المرأة عن اللعان بعد يمين الزوج (¬2): وإذا امتنعت المرأة عن اليمين بعد أن حلف الزوج فقد اختلف أهل العلم في ذلك على قولين: الأول: ذهب الحنفية والحنابلة إلى أنها تحبس حتى تلاعن أو تقر بالزنا أربع مرات فتحد حده. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة [5/ 449 (27883)]، وأحمدُ (1/ 421)، وابن ماجة برقم (2068) وأبو يعلى [9/ 95 (5161)]، وأبو عوانة [3/ 208 (4703)] , وابن حبان [10/ 112 (4281)]، والبيهقيُّ [7/ 405، 410، 8/ 337]، والطحاويُّ في شرح معاني الآثار (3/ 99). (¬2) بدائع الصنائع (3/ 238، 239)، شرح فتح القدير (4/ 281)، حاشية ابن عابدين (2/ 967)، التاج والإكليل (3/ 138)، روضة الطالبين (8/ 356)، مغني المحتاج (3/ 380)، المبدع (8/ 89)، الإنصاف (9/ 249)، المحرر (2/ 99)، كشاف القناع (5/ 400).

الآثار المترتبة على اللعان

الثاني: ذهب الشافعية والمالكية إلى أنها بنكولها تحد حد الزنا لأن الحد إنما يدرأ عنها باللعان فإذا امتنعت عنه لم يسقط عنها لقوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} (¬1). الآثار المترتبة على اللعان (¬2): 1 - انتفاء الحد عن الزوجين: فعندما يتم اللعان بين الزوجين يسقط حد القذف في حق الزوج ويسقط حد الزنا في حق الزوجة. 2 - حصول الفرقة المؤبدة بين الزوجين: لا خلاف بين الفقهاء في أن اللعان تترتب عليه فرقة مؤبدة بين الزوجين المتلاعنين، واختلفوا هل حصول الفرقة متوقف على حكم القاضي أم لا؟ على قولين: الأول: ذهب الحنفية والحنابلة في رواية إلى أنه يتوقف على حكم القاضي؛ لحديث نافع عن ابن عمر: "أن رجلًا لاعن امرأته في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وانتفى من ولدها ففرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما وألحق الولد بالمرأة" متفق عليه (¬3)، وحديث سعيد بن جبير قال: قلت لابن عمر: رجل قذف امرأته فقال: فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أخوي بني العجلان وقال: "الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟ " فأبيا، وقال: "الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟ " فأبيا، فقال: "الله يعلم أن أحدكما ¬

_ (¬1) سورة النور: 8. (¬2) بدائع الصنائع (3/ 244)، الشرح الصغير (3/ 511)، المبدع (8/ 91)، كشاف القناع (5/ 402)، مغني المحتاج (3/ 380)، الكافي لابن عبد البر (1/ 289)، المغني (8/ 52)، الإنصاف (9/ 251). (¬3) البخاري برقم (5009)، ومسلمٌ برقم (1494).

كاذب فهل منكما تائب؟ " فأبيا ففرق بينهما (¬1)، فقالوا إن الحديثين يدلان على أن رسول الله هو الذي فرق بين المتلاعنين. الثاني: ذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة في المذهب عندهم وزفر من الحنفية أن الفرقة تقع بمجرد اللعان من غير توقف على حكم القاضي. واستدلوا بحديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا" (¬2)، وحديث عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا" (¬3)، وقالوا: في بقاء النكاح اجتماعهما وهو خلاف النص، ولأن اللعان يقتضي التحريم المؤبد فلا يحتاج إلى حكم القاضي في التفريق كالرضاع، ولأنها فرقة واقعة بدون رضا الزوجين فلم يتوقف على حكم القاضي. 3 - انتفاء الولد إن نفاه الزوج في اللعان: ينتفي نسب الولد إذا نفاه الزوج باللعان، فينسب إلى الزوجة؟ لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لاعن بين رجل وامرأته فانتفى من ولدها ففرق بينهما، وألحق الولد بالمرأة" رواه البخاري ومسلمٌ (¬4). ¬

_ (¬1) البخاري برقم (5005)، ومسلمٌ برقم (1493). (¬2) قال الزيلعيُّ في نصب الراية (3/ 250): "أخرجه الدارقطني في سننه عن فروة بن أبي المغراء ثنا أبو معاوية عن محمَّد بن زيد عن سعيد بن جبير عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا" انتهى قال صاحب التنقيح إسناده جيد". وقال الحافظ في الدراية (2/ 76): "قوله قال - صلى الله عليه وسلم -: "المتلاعنان لا يجتمعان أبدا" الدارقطني من حديث ابن عمر مرفوعًا بلفظ: "المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا" وإسناده لا بأس به، وعن علي وعبد الله بن مسعود قالا: "مضت السنة أن لا يجتمع المتلاعنان أبدا" وأخرجه عبد الرزاق عنهما موقوفًا وعن عمر أيضًا". (¬3) رواه عبد الرزاق [7/ 112 (12433)]، وسعيد بن منصور [1/ 406 (1561)]، وابن أبي شيبة (4/ 19)، والدراقطني (3/ 276). (¬4) رواه البخاري برقم (5009، و 6367)، ومسلمٌ برقم (1494).

هل الفرقة بين الزوجين باللعان فسخ أم طلاق؟

هل الفرقة بين الزوجين باللعان فسخ أم طلاق؟ اختلف الفقهاء في الفرقة الحاصلة باللعان هل هي فسخ أم طلاق؟ على قولين: الأول: ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وأبو يوسف من الحنفية (¬1) إلى أنها فسخ يوجب التحريم المؤبد كحرمة الرضاع لما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجتمعان أبدًا"، ولحديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- في حديث المتلاعنين قال: "فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا" (¬2). الثاني: ذهب أبو حنيفة ومحمَّد إلى أن فرقة اللعان طلاق بائن (¬3)، قالوا إنها طلاق لأنها من جانب الزوج، وبائن لتوقفها على القضاء. وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بالرأي الأول في فتواها رقم (7518) (¬4). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (3/ 245)، شرح فتح القدير (3/ 255)، مغني المحتاج (3/ 380)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (2/ 467)، الإفصاح لابن هبيرة (2/ 169)، المغني (7/ 412 - 413). (¬2) رواه أبو داود [2/ 274 (2250)]، والدراقطني (3/ 275)، والبيهقيُّ (7/ 410). (¬3) بدائع الصنائع (3/ 245)، شرح فتح القدير (3/ 25). (¬4) 20/ 339 - 340.

باب استلحاق النسب

باب استلحاق النسب الاستلحاق لغة: ادعاء الشيء وطلب لحوقه (¬1). واصطلاحا: ادعاء رجل أبوة آخر (¬2). إذا ولدت الزوجة مولودًا وأمكن أن يكون لزوجها نسب إليه ما لم ينفه باللعان. والأصل في ذلك حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: اختصم سعد ابن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام فقال سعد: هذا يا رسول الله ابن أخي عتبة ابن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه انظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى شبهه فرأى شبهًا بينًا بعتبة فقال: "هو لك يا عبد الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة"، فلم تره سودة قط. متفق عليه (¬3). الحالات التي ينسب المولود فيها للزوج: نسب المولود يمكن أن يكون للزوج في الحالات الآتية (¬4): 1 - أن تكون الزوجة في عصمة زوجها: إذا أتت الزوجة بالمولود بعد ستة أشهر فأكثر من وقت إمكان وطء الزوج لها وكان الزوج ممّن يولد لمثله، فهذا المولود ينسب إليه سواء كان حاضرًا بعد ذلك أم غائبا؛ لأن هذه المدة هي أقل ما يمكن الحمل والولادة فيها. وعليه فإن أتت بالمولود لأقل من ستة أشهر منذ زواجها وعاش لم يلحقه نسبه؛ لأنها مدة لا ¬

_ (¬1) المصباح المنير مادة: "لحق" (ص: 284)، القاموس المحيط مادة: "لحق" (ص: 1189). (¬2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (3/ 412). (¬3) صحيح البخاري برقم (1948، 2105)، وصحيح مسلم برقم (1457). (¬4) كشاف القناع (5/ 405).

عدم تأثير تغير لون المولود في لحوق النسب

يمكن أن تحمل المرأة وتلد فيها، فعلم أنها كانت حاملًا قبل زواجها. وهذا مما لا خلاف فيه بين الفقهاء قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن المرأة إذا جاءت بولد لأقل من ستة أشهر من يوم عقد نكاحها أن الولد لا يلحق به وإن جاءت به لستة أشهر من يوم عقد نكاحها فالولد له" (¬1). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بهذا الحكم في فتواها رقم (8576)، ورقم (14348) (¬2). وإذا ثبت هذا فلو سافر الزوج سفرًا طويلًا بعد معاشرة الزوجة ولم يعلم بحملها قبل السفر ثم لما رجع وجدها حاملًا أو قد ولدت فالولد يلحق به ولا يجوز له إنكاره إلا باللعان. وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في فتواها رقم (7518) (¬3). عدم تأثير تغير لون المولود في لحوق النسب: إذا ولدت الزوجة مولودًا بعد ستة أشهر فأكثر من زواجها وكان لونه مخالفا للون الزوج لم يؤثر ذلك في لحوق نسبه إليه، ولا يملك الزوج نفيه إلا باللعان؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جاء رجل من بني فزارة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هل لك من إبل؟ " قال: نعم، قال: "فما ألوانها؟ " قال: حمر، قال: "هل فيها من أورق؟ " قال: إن فيها لورقًا، قال: "فأنى أتاها ذلك؟ " قال: عسى أن يكون نزعه عرق، قال: "وهذا عسى أن يكون نزعه عرق" رواه البخاري ومسلمٌ (¬4). ¬

_ (¬1) الإجماع (ص: 86). (¬2) (20/ 335). (¬3) (20/ 339). (¬4) صحيح البخاري برقم (4999) و (6455)، وصحيح مسلم برقم (1500).

زنا الزوجة وأثره على نسب المولود

قال الإِمام النووي: "وفي هذا الحديث أن الولد يلحق الزوج وإن خالف لونه لونه حتى لو كان الأب أبيض والولد أسود أو عكسه لحقه ولا يحل له نفيه بمجرد المخالفة في اللون وكذا لو كان الزوجان أبيضين فجاء الولد أسود أو عكسه لاحتمال أنه نزعه عرق من أسلافه" (¬1). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بهذا الحكم في فتواها رقم (8331) (¬2). زنا الزوجة وأثره على نسب المولود: إذا زنت امرأة وهي في عصمة رجل يطؤها فأتت بمولود فهو لزوجها ما لم ينفه باللعان لحديث عائشة المتقدم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر". وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بهذا الحكم في فتواها رقم (4225) (¬3). 2 - أن تكون الزوجة مطلقة: ففي هذه الحالة إما أن يكون الطلاق رجعيًا أو بائنا فإن كان رجعيًا فيلحقه نسبه إذا أتت إلا بأن تأتي بالمولود بعد أربع سنين من انقضاء عدتها؛ لأن هذه المدة هي أكثر مدة الحمل والرجعية في حكم الزوجات فأشبه ما بعد الطلاق ما قبله. أما إن كان الطلاق بائنا فإن أتت به لدون أربع سنين منذ أبانها نسب إليه لما تقدم، وإن أتت به أكثر من أربع سنين منذ أبانها لم يلحقه نسبه؛ لأنا علمنا أنها حملت به بعد النكاح. وكذا لو أخبرت بانقضاء عدتها بالقرء ثم أتت به لأكثر من ¬

_ (¬1) شرح صحيح مسلم (10/ 134). (¬2) (20/ 337). (¬3) (20/ 338).

حكم لحوق النسب بالقيافة

ستة أشهر لم يلحق الزوج نسبه؛ لأنها أتت به بعد الحكم بانقضاء عدتها في وقت يمكن أن لا يكون منه فلم يلحقه كما لو انقضت عدتها بالحمل (¬1). حكم لحوق النسب بالقيافة: اختلف الفقهاء في لحوق النسب بالقيافة على قولين: الأول: جواز لحوق النسب بالقيافة عند التنازع وعدم الدليل، أو عند تعارض الأدلة وعدم وجود ما هو أقوى منها وهو مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة (¬2)، على أنهم اختلفوا في تفاصيل ذلك. واستدلوا بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتبرها في نسب زيد بن حارثة فعن عائشة رضي الله تعالى عنها: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم وهو مسرور فقال: "يا عائشة ألم تري أن مجززا المدلجي دخل فرأى أسامة وزيدا وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض" (¬3) متفق عليه. وجه الاستدلال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سر بذلك ولا يسر - صلى الله عليه وسلم - بباطل. وكذلك حديث عائشة -رضي الله عنها-: أن امرأة قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل تغتسل المرأة إذا احتلمت وأبصرت الماء؟ فقال: "نعم"، فقالت لها عائشة: تربت يداك وأُلَّتْ (¬4)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعيها، وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك، إذا ¬

_ (¬1) الإنصاف (9/ 258 - 259)، كشاف القناع (5/ 405 - 406). (¬2) الفروق للقرافي (3/ 125)، الأم (6/ 266، 265)، مغني المحتاج (4/ 489)، الطرق الحكمية (ص: 10). (¬3) صحيح البخاري برقم (3362، و 6388، و 6389) وصحيح مسلم برقم (1459). (¬4) قال النووي في شرح مسلم (3/ 225): "تربت يداك هو بضم الهمزة وألت هو بضم الهمزة وفتح اللام المشددة وإسكان التاء هكذا الرواية فيه ومعناه أصابتها الآلة بفتح الهمزة وتشديد اللام وهي الحربة".

على ماؤها ماء الرجل أشبه الولد أخواله وإذا على ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه" (¬1) رواه مسلم. وحديث أنس بن مالك أن أم سليم سألت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأت ذلك المرأة فلتغتسل"، فقالت أم سليم واستحييت من ذلك -قالت-: وهل يكون هذا؟ فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم، فمن أين يكون الشبه؟ إن ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر فمن أيهما على أو سبق يكون منه الشبه" (¬2) رواه مسلم. فقد دل الحديثان على أن مني المرأة ومني الرجل يحدث شبها في الولد بالأبوين فيأتي في الخلقة والأعضاء والمحاسن ما يدل على الأنساب. ولأن الصحابة -رضي الله عنهم - عملوا بها في إثبات النسب عند التنازع فقد روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه كان يلحق أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإِسلام وكان يدعو القافة ويأخذ بقولهم واشتهر ذلك بين الصحابة من غير نكير. فعن سليمان بن يسار "أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يُلِيط (¬3) أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإِسلام فأتى رجلان كلاهما يدعي ولد امرأة فدعا عمر بن الخطاب قائفًا فنظر إليهما فقال القائف: لقد اشتركا فيه، فضربه عمر بن الخطاب بالدرة ثم دعا المرأة فقال: أخبريني خبرك فقالت: كان هذا لأحد الرجلين يأتيني وهي في إبل لأهلها فلا يفارقها حتى يَظُنّ وتَظُنّ أنه قد استمر بها حبل، ثم انصرف عنها فأُهريقت عليه دماءٌ ثم خَلَفَ عليها هذا تعني الآخر فلا أدري من أيهما هو. قال: ¬

_ (¬1) صحيح مسلم برقم (314). (¬2) صحيح مسلم برقم (311). (¬3) أي يلحقهم بهم من ألاطه بليطه إذا ألصقه به. النهاية في غريب الحديث (4/ 285).

حكم لحوق النسب بواسطة البصمة الوراثية

فكبر الفائق، فقال عمر للغلام: وال أيهما شئت" رواه مالك (¬1). الثاني: عدم جواز لحوق النسب بالقيافة وهو مذهب الحنفية (¬2). واستدلوا بحديث: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" (¬3)، وأنه يفيد الحصر في أن النسب يلحق للفراش فلا يجوز ثبوته بالقيافة. وأجابوا عن حديث سرور النبي - صلى الله عليه وسلم - بما قاله القافة في قصة زيد بأن ذلك لم يكن لإلحاق النسب بل لأنه يكف المنافقين عن الطعن في نسب زيد لاعتقادهم بحجية القيافة. الترجيح: ولعل الراجح هو قول الجمهور للأدلة التي استدلوا بها. حكم لحوق النسب بواسطة البصمة الوراثية: لقد شهد القرن العشرون تطورا هائلًا في شتى مجالات العلوم وكان من ثمرة ذلك من الناحية الطبية اكتشاف البصمة الوراثية (DNA) وتعرف أيضًا بالحمض النووي وهي المادة الوراثية الموجودة في خلايا جميع الكائنات الحية والتي يمكن عن طريق تحليلها معرفة الكائن وتحديده بدقة. وقد قال كثير من الفقهاء المعاصرين بالأخذ بالحمض النووي كقرينة قوية مقدمة على القيافة في ثبوت النسب؛ لأنه يمكن عن طريقه معرفة الأم والأب والأخت والأخ بصورة قاطعة تصل إلى حد 99. 9 %، ويمكن معرفة انتفاء النسب عن طريقه بنسبة 100 %، ففي حالة تنازع اثنين في ولد يمكن إثباته أو نفيه بذلك مع الأخذ في الاعتبار الضمانات الشرعية الكفيلة بمنع التلاعب. ¬

_ (¬1) الموطأ برقم (1420)، وعبد الرزاق (7/ 303)، والبيهقيُّ (10/ 263). (¬2) المبسوط للسرخسي (17/ 70)، بدائع الصنائع (6/ 244)، التقرير والتحبير (2/ 410). (¬3) تقدم تخريجه.

نسب ولد الزنا

نسب ولد الزنا: اختلف الفقهاء في نسب ولد الزنا وهو الذي يولد على غير فراش الزوجية هل يلحق بأمه أو بالزاني؟ على قولين: القول الأول: أنه يلحق بالزاني إذا استلحقه وهو مذهب إسحاق بن راهويه واختيار ابن تيمية وتلميذه ابن القيم؛ وقال الحسن وابن سيرين: يلحقه إذا أقيم عليه الحد، وقال إبراهيم يلحقه إن أقيم عليه الحد أو ملك الموطوءة (¬1). وذلك كله بناء على أن زنا الرجل حقيقة ثابتة فكما ثبت نسبه من الأم ثبت نسبه من الزاني حتى لا يضيع نسب الولد فيصيبه الضرر والعار بسبب جريمة لم يرتكبها. وقد قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬2). والقول بهذا القول قوي وخصوصًا في المجتمعات الغربية التي يتعارف فيها الزوجان وينجبان قبل الزواج ثم يتزوجان بعد ذلك ثم يتوبان إلى الله وتصلح أحوالهما بعد ذلك وقد نسب إليهما أولادهما وعاشوا في كنفهم. القول الثاني: أنه يلحق بأمه ولا يلحق بالزاني وهو مذهب جمهور الفقهاء لحديث عائشة -رضي الله عنها-: "الولد للفراش، وللعاهر الحجر". ولأن النسب نعمة من الله تعالى في علاقة مشروعة فيجب أن لا يترتب على الزنا الذي هو جريمة. ولأنه لا يلحق به إذا لم يستلحقه، فلم يلحق به بحال، كما لو كانت أمه فراشا، أو كما لو لم يجلد الحد عند من اعتبره (¬3). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (32/ 137، 140)، الفتاوى الكبرى (2/ 226)، إعلام الموقعين (4/ 356). (¬2) سورة الإسر اء: 15. (¬3) الفتاوى الهندية (4/ 127)، الجوهرة النيرة (1/ 258)، شرح الخرشي على خليل (6/ 101)، أسنى المطالب (3/ 20)، المغني (7/ 119).

وقد أجاب الأولون عن الحديث بأنه إنما يكون للعاهر الحجر في دعوى النسب إذا نازعه ذو فراش. وقد رجحت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية قول الجمهور وأفتت به في فتواها رقم (6499) (¬1). ولا يختلف الحكم عند الجمهور لو ادعى الزاني النسب أو تزوج بالمرأة المزني بها زواجًا شرعيًا صحيحًا بعد الزنا واستلحق المولود فلا يجوز إلحاق نسبه بهذا الرجل. وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في عدد من فتاواها من ذلك الفتوى رقم (5554)، والفتوى رقم (10663) (¬2)، وغيرهما. وإذا ثبت هذا فولد الزنا من حيث الإِسلام والحقوق كالإرث ووجوب النفقة ونحو ذلك تابع لأمه وأقاربها, ولا تجب على الزاني نفقته ولا توارث بينهما. وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في فتواها رقم (3408) ورقم (6499)، ورقم (5512) (¬3). ¬

_ (¬1) (20/ 343). (¬2) 20/ 388، 394. (¬3) 20/ 343، 387، 396.

حكم التبني

حكم التبني كان التبني معروفًا في الجاهلية وهو أن يلحق الرجل شخصًا أجنبيًا بنسبه، فيكون كالولد الحقيقي في نسبه وإرثه ونصرته ونحو ذلك. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تبنى زيد بن حارثة قبل الرسالة فكان يدعى زيد بن محمد، ثم جاء تحريم ذلك بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬1). ولحديث سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام" رواه البخاري ومسلمٌ (¬2). فلا يجوز أن يتبنى أحد أجنبيًا عنه ويلحقه بنسبه كأحد أولاده أو بناته بحيث يكون له حقوق الأبناء الشرعية، وسواء كان الشخص معلوم النسب أم لا. وقد أفتت بهذا الحكم اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في عدد من فتاواها من ذلك فتاواها رقم (53)، ورقم (6006)، ورقم (3000)، ورقم (3149) (¬3). استحباب رعاية الأطفال مجهولي النسب: لا يعني إبطال الشرع للتبني عدم مشروعية الإحسان إلى الأيتام واللقطاء ونحوهم من مجهولي النسب، بل قد أوجب الشرع رعايتهم على بيت المال. ¬

_ (¬1) سورة الأحز اب: 4 - 5. (¬2) صحيح البخاري برقم (6385)، وصحيح مسلم برقم (63). (¬3) 20/ 344 , 349 , 353 , 351.

ويستحب للفرد المتقدم لطلب رعاية أحد هؤلاء وتربيته وتنشئته بحيث يتربى في أحضان الأسرة بشرط أن لا يلحقه بنسبه مع مراعاة أحكام الشريعة من حيث الاختلاط لأن حكمه في الأسرة حكم الأجنبي شرعًا وإن أمكن إرضاعه من إحدى المحارم لكان أولى حتى يكون كأحد أولادهم من حيث الخلوة والمحرمية. ودليل استحباب ذلك عموم قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" رواه مسلم (¬2)، وحديث: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا" رواه البخاري ومسلمٌ (¬3). ولأن ذلك يعينه على تأمين مستقبل زاهر له ويكفل للأمة الأمان من شر سوء تربيته. وقد أفتتت بذلك اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في فتواها رقم (8592) (¬4)، وفي الفتاوى التي تقدّمت الإشارة إليها قريبا. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 2. (¬2) صحيح مسلم برقم (2586). (¬3) صحيح البخاري برقم (467، و 2314، و 5680)، وصحيح مسلم برقم (2585). (¬4) (20/ 359).

كتاب العدة

الفِقهُ الميَسَّر كتاب العدة

مشروعيتها

كتاب العدة العدة لغة: الإحصاء، أو الشيء المعدود، مأخوذة من العد والحساب ومنه قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬1)، أي عدد ما فاته من أيام شهر رمضان. وعدة المرأة هي الأيام التي بانقضائها يحل لها التزوج وهي مأخوذة من العد أيضًا لاشتمالها على العدد من الأقراء أو الأشهر غالبًا، وجمعها عِدَد (¬2). العدة شرعا: التربص المحدود شرعا (¬3). مشروعيتها: الأصل في مشروعية العدة الكتاب والسنة والإجماع والمعقول: أما الكتاب فقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬4)، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬5)، وقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬6). وأما السنة فمنها حديث فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها-: أن أبا حفص ابن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثًا ثم انطلق إلى اليمن فقال لها أهله: ليس لك علينا نفقة، فانطلق خالد بن الوليد -رضي الله عنه- في نفر فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت ميمونة -رضي الله عنها- ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 184. (¬2) المفردات للراغب الأصفهاني مادة: عد (ص: 327)، المصباح المنير للفيومي مادة: عدد (ص: 205)، مختار الصحاح للرازي مادة: عدد (ص: 202). (¬3) الإقناع (4/ 3)، كشاف القناع (5/ 411). وانظر المطلع (ص: 348). (¬4) سورة البقرة: 228. (¬5) سورة البقرة: 234. (¬6) سورة الطلاق: 4.

الحكمة من مشروعية العدة

فقالوا: إن أبا حفص طلق امرأته ثلاثًا فهل لها من نفقة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليست لها نفقة وعليها العدة" الحديث رواه مسلم (¬1). وحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أمرت بريرة أن تعتد بثلاث حيض" رواه ابن ماجه (¬2). وأما الإجماع فقد نقله غير واحد من الفقهاء (¬3). وأما المعقول فلأن الزوج يحتاج لمدة يفكر فيها ويراجع أموره وكذا تحتاج الزوجة لمدة تستبرئ بها رحمها وليعرف الزوجان عظم ما بينهما من عقد فلا يقدمان على إنهائه إلا بعد ترو وتفكير. الحكمة من مشروعية العدة: إن من أهم المعاني التي تظهر فيها الحكمة من العدة استبراء رحم المرأة للتأكد من حملها أو عدمه حتى لا يحصل اختلاط للأنساب، وفيها أيضا إتاحة الفرصة للزوج لمراجعة نفسه إن أراد إبقاء المرأة في عصمته في الطلاق الرجعي، كما أن فيها معنى تعظيم خطر عقد النكاح ورفع قدره وإظهار شرفه، والاحتياط لحق الزوج ومصلحة الزوجة وحق الولد، والقيام بحق الله الذي أوجبه (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم برقم (1480). (¬2) سنن ابن ماجه برقم (2077). قال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/ 130): "هذا إسناد صحيح رجاله موثقون رواه البزار في مسنده عن حميد بن الربيع عن أسيد بن زيد عن أبي معشر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به وقال: لا نعلم رواه هكذا إلا أبو معشر". (¬3) مغني المحتاج (3/ 384). (¬4) إعلام الموقعين (2/ 85).

شروط العدة

شروط العدة: يشترط لوجوب العدة ما يلي (¬1): 1 - حصول الفرقة سواء بالطلاق أو الخلع أو الفسخ أو بالموت. 2 - أن يسبق الفرقة حصول الوطء، وهذا بغير خلاف بين الفقهاء، أو حصول خلوة يمكن فيها الوطء عند جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية في القديم والحنابلة، وذهب الشافعية في الجديد عندهم إلى أن العدة لا تجب بخلوة مجردة عن الوطء. إذًا فلو لم يقع الوطء ولا الخلوة لم تجب العدة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (¬2). ويرى الشافعية وجوب العدة أيضًا باستدخال الزوجة مني الزوج ولو لم يحصل الوطء؛ لأنه أقرب إلى العلوق بالرحم من مجرد الإيلاج (¬3) وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بعدم وجوب العدة على الزوجة المطلقة غير المدخول بها في فتواها رقم (562) (¬4). 3 - أن يكون الزوج بالغصا أو ممّن يولد لمثله. 4 - أن تكون الزوجة بالغة أو ممّن يوطأ مثلها. فلو كانت ممّن لا يوطأ مثلها كالتي دون تسع سنين فلا عدة للعلم ببراءة الرحم في حقها. ¬

_ (¬1) انظر: البحر الرائق (4/ 139)، تبيين الحقائق (3/ 26)، الشرح الصغير (3/ 517)، مغني المحتاج (3/ 384)، الروض المربع (ص: 445). (¬2) سورة الأحزاب: 49. (¬3) مغني المحتاج (3/ 384). (¬4) (20/ 399).

أقسام المعتدات

أقسام المعتدات: 1 - الحامل: وعدتها بوضع جميع الحمل سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها، مسلمة أو كافرة، حرة أو أمة، ودليل ذلك عموم قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬1). 2 - المتوفى عنها زوجها غير الحامل: وعدتها أربعة أشهر وعشرة أيام لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬2). ولا يختلف ذلك سواء كانت المرأة مدخولًا بها أم لا، كبيرة كانت أو صغيرة لعموم الآية وقد أجمع الفقهاء على ذلك قال ابن المنذر: "وأجمعوا أن عدة الحرة المسلمة التي ليست بحامل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشرا مدخولًا بها وغير مدخول صغيرة لم تبلغ أو كبيرة" (¬3). ونقل الإجماع أيضًا ابن رشد، والموفق وغيرهما (¬4). وهذا الحكم خاص بمن كانت حرة من النساء، وأما الأمة فالقاعدة فيها أن عدتها على النصف من عدة الحرة. وإذا مات زوج الرجعية استأنفت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا بغير خلاف قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن مطلق زوجته طلاقًا يملك فيه رجعتها ثم توفي قبل انقضاء العدة أن عليها عدة الوفاة وترثه" (¬5). وذلك لأن الرجعية زوجة ¬

_ (¬1) سورة الطلاق: 4. (¬2) سورة البقرة: 234. (¬3) الإجماع (ص: 86). (¬4) بداية المجتهد (2/ 113)، الإفصاح (2/ 173)، المغني (9/ 106)، زاد المعاد (5/ 596). (¬5) الإجماع (ص: 87).

3 - ذات القروء

يلحقها طلاقه وينالها ميراثه فاعتدت للوفاة كغير المطلقة. وأما البائن فإذا مات زوجها قبل انتهاء عدتها فقد اتفق الفقهاء على أنها تبني على عدة الطلاق؛ لأنه مات وليست زوجة، واستثنى الحنفية والحنابلة (¬1) ما إذا طلقها في مرض موته فإنها تعتد أطول الأجلين من عدة الوفاة أو ثلاثة قروء؛ لأنها عندئذ وارثة له فتجب عليها عدة الوفاة كالرجعية. وأما البناء على عدة الطلاق في حالة الصحة فلعموم قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬2)، ولأنها أجنبية منه في نكاحه وميراثه. 3 - ذات القروء: وهي التي تحيض وعدتها ثلاثة قروء بالإجماع (¬3)؛ لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬4). وهذا في حكم الحرة أما الأمة فعدتها قرآن روي ذلك عن عمر وعلي وابن عمر ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة، وقياسًا على الحدود ولما كان القرء الواحد لا يتبعض وجب تكميله فصار قرءين (¬5). وقد اختلف الفقهاء هل القرء هو الحيض أو الطهر؟ على قولين: الأول: أن القرء هو الحيض وإليه ذهب الحنفية وهو الصحيح من مذهب الحنابلة، وهو قول الخلفاء الراشدين والعبادلة وجمع من الصحابة -رضي الله عنهم جميعا (¬6). ¬

_ (¬1) الهداية شرح بداية المبتدي (2/ 28)، البحر الرائق (4/ 148)، حاشية ابن عابدين (3/ 513)، المغني (9/ 108 , 109)، الإنصاف (9/ 276)، كشاف القناع (5/ 415 - 416). (¬2) سورة البقرة: 228. (¬3) المغني (9/ 81 - 82). (¬4) سورة البقرة: 228. (¬5) بدائع الصنائع (3/ 97)، حاشية الدسوقي (2/ 500)، المهذب (2/ 145)، المغني (9/ 88). (¬6) الهداية شرح بداية المبتدي (22/ 28)، شرح فتح القدير (4/ 309)، المغني (9/ 82)، الإنصاف

واستدلوا بقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (¬1)، حيث نقل من لا تحيض إلى الاعتداد بالأشهر فدل ذلك على أن الحيض هو الأصل، ولحديث عروة بن الزبير عن زينب بنت أم سلمة "أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تدع الصلاة أيام إقرائها ثم تغتسل وتصلي" رواه أبو داود (¬2)، وحديث فاطمة بنت أبي حبيش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال لها: "انظري فإذا أتى قرؤك فلا تصلي وإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء" رواه النسائي (¬3)، وحديث عائشة -رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "طلاق الأمة طلقتان وقرؤها حيضتان" رواه أبو داود، وهو نص في الموضوع (¬4). الثاني: أن القرء هو الطهر وإليه ذهب المالكية والشافعية والحنابلة في رواية (¬5). واستدلوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬6)، أي في عدتهن فأمر سبحانه الرجل إذا طلق امرأته أن يكون ذلك في العدة وهو ¬

_ = (8/ 460)، و (9/ 279)، كشاف القناع (5/ 417). (¬1) سورة الطلاق: 4. (¬2) سنن أبي داود برقم (281). (¬3) سنن النسائي رقم (211، و 358، و 3553). (¬4) رواه الدارمي برقم (2294)، وابن ماجه برقم (2080)، وأبو داود برقم (2189) وقال: "حديث مجهول"، والدارقطنيُّ (4/ 39). قال ابن قدامة (9/ 84): "إن قالوا هذا يرويه مظاهر بن مسلم وهو منكر الحديث قلنا قد رواه عبد الله بن عيسى عن عطية العوفي عن ابن عمر كذلك أخرجه ابن ماجه في سننه وأبو بكر الخلال في جامعه". (¬5) شرح المنتقى للباجي (4/ 94)، الأم (5/ 209) ط. 2، دار المعرفة 1393 هـ مغني المحتاج (3/ 385)، المغني (9/ 82)، الإنصاف (8/ 460)، و (9/ 279)، كشاف القناع (5/ 417). (¬6) سورة الطلاق: 1.

4 - من لا تحيض ليأس أو صغر

الطهر، يؤكده حديث ابن عمر لما طلق امرأته وهي حائض حيث قال - صلى الله عليه وسلم - لعمر -رضي الله عنه-: "مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإن شاء طلق وإن شاء أمسك فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء" متفق عليه. وأجاب الأولون عن الاستدلال بالآية بأن معنى فطلقوهن لعدتهن أي لاستقبال عدتهن على حذف المضاف، أو مستقبلات لعدتهن (¬1). الراجح: هو القول الأول لقوة ما استندوا إليه. 4 - من لا تحيض ليأس أو صغر: وعدتها ثلاثة أشهر لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (¬2). وقيل حد اليأس خمسون سنة، واختار شيخ الإسلام أن لا حد لأكثر سنه (¬3)، وهو الذي يؤيده الواقع وطب النساء والولادة. 5 - من ارتفع حيضها ولا تدري ما رفعه: إذا ارتفع حيضها لعارض عرفته كالرضاع أو المرض انتظرت حتى يرتفع العارض فتعتد بالحيض وإن طال إلا أن تبلغ سن اليأس فتعتد عدته (¬4). وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في فتواها رقم (14098) (¬5). ¬

_ (¬1) فتح القدير للشوكاني (5/ 240). (¬2) سورة الطلاق: 4. (¬3) كشاف القناع (5/ 419). (¬4) المهذب (2/ 143)، مغني المحتاج (3/ 387)، المغني (9/ 99). (¬5) (20/ 429).

6 - زوجة المفقود ظاهر الهلاك

وأما إذا ارتفع ولم تدر ما رفعه فقد اختلف الفقهاء في عدتها على ثلاثة أقوال: الأول: ذهب الحنابلة والمالكية والشافعية في قول (¬1) أن عدتها سنة منذ انقطع الحيض بعد الطلاق، وإن كان الانقطاع قبل الطلاق فتسعة أشهر لتعلم براءة رحمها؛ لأنها غالب مدة الحمل، وثلاثة أشهر عدة الإياس؛ لقضاء عمر بذلك ولم يعلم له نكير، ولأن الغرض بالاعتداد معرفة براءة رحم المرأة وتحصل بذلك فاكتفي به. الثاني: ذهب الشافعية في قول إلى أنها تعتد أربع سنوات (¬2)؛ لأنه أكثر مدة الحمل، وهي المدة التي يتيقن بها براءة رحمها فوجب اعتبارها احتياطا، ثم تعتد ثلاثة شهور للإياس. الثالث: وذهب الشافعية في الجديد من مذهبهم إلى أن عدتها تستمر أبدا حتى تحيض أو تبلغ سن اليأس فتعتد عدة الإياس ثلاثة أشهر (¬3)؛ لأن الاعتداد بالأشهر جعل بعد الإياس فلم يجز قبله. 6 - زوجة المفقود ظاهر الهلاك: اختلف الفقهاء في زوجة المفقود ظاهر الهلاك على قولين: الأول: ذهب الحنفية والشافعية في الجديد إلى أنها لا تعتد حتى يتبين موته أو فراقه فتعتد لذلك (¬4)، لحديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) التاج والإكليل (4/ 151)، المهذب (2/ 143)، مغني المحتاج (3/ 387) ,والمغني (9/ 97). (¬2) مغني المحتاج (3/ 387). (¬3) الأم (5/ 214)، مغني المحتاج (3/ 387). (¬4) المبسوط (11/ 35)، تبيين الحقائق (3/ 311)، الأم (7/ 250) ط. دار المعرفة، السنن الكبرى للبيهقي (6/ 158)، مغني المحتاج (3/ 397).

"امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها البيان" (¬1). ولما روي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: "امرأة المفقود ابتليت فلتصبر ولا تنكح حتى يأتيها يقين موته" (¬2). قالوا إن هذا الأثر بيان لحديث المغيرة المتقدم. ولأن الأصل بقاء حياته فيستصحب ذلك إلى أن يتيقن خلافه. الثاني: وذهب المالكية، والحنابلة في المذهب عندهم، والشافعية في القديم إلى أنها تعتد أربع سنين ثم تعتد للوفاة أربعة أشهر وعشرا (¬3). واستدلوا بفعل عمر وإجماع الصحابة عليه فقد روى الأثرم والجوزجاني بإسنادهما عن عبيد ابن عمير قال: "فقد رجل في عهد عمر فجاءت امرأته إلى عمر فذكرت ذلك له فقال انطلقي فتربصي أربع سنين ففعلت ثم أتته فقال انطلقي فاعتدي أربعة أشهر وعشرا ففعلت ثم أتته فقال أين ولي هذا الرجل؟ ¬

_ (¬1) الدارقطني (3/ 312)، والبيهقيُّ (7/ 445)، قال الحافظ في الدراية (2/ 143): "وسئل أبو حاتم عنه فقال منكر، وفي إسناده سوار بن مصعب عن محمد بن شرحبيل وهما متروكان". وقال في التلخيص (3/ 232): "حديث المغيرة بن شعبة: "امرأة المفقود تصبر حتى يأتيها يقين موته أو طلاقه" الدارقطني من حديثه بلفظ حتى يأتيها الخبر، والبيهقيُّ بلفظ حتى يأتيها البيان، وإسناده ضعيف، وضعفه أبو حاتم، والبيهقيُّ، وعبد الحق، وابن القطان وغيرهم". وقال ابن الملقن في الخلاصة (2/ 24): "حديث المغيرة بن شعبة مرفوعًا: "امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها البيان" رواه الدارقطني والبيهقيُّ بإسناد ضعيف بمرة قال أبو حاتم: حديث منكر، وقال البيهقي: لا يحتج به". (¬2) أخرجه عبد الرزاق (7/ 90)، والبيهقيُّ (6/ 158). قال الحافظ في التلخيص (3/ 237): "وأما أثر علي فرواه الشافعي من طريق المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله عن علي أنه قال في امرأة المفقود: إنها لا تتزوج، وذكره في مكان آخر تعليقًا فقال: وقال علي في امرأة المفقود إنها لا تتزوج، وذكره في مكان آخر تعليقًا فقال: وقال علي في امرأة المفقود: امرأة ابتليت فلتصبر لا تنكح حتى يأتيها يقين موته، وقال البيهقي: هو عن علي مشهور، وروي عنه من وجه ضعيف ما يخالفه وهو منقطع". (¬3) شرح الخرشي على خليل (4/ 149 - 150)، الإنصاف (9/ 288)، كشاف القناع (5/ 421).

فقال طلقها ففعل فقال لها عمر: انطلقي فتزوجي من شئت فتزوجت ثم جاء زوجها الأول فقال عمر: أين كنت؟ قال يا أمير المؤمنين استهوتني الشياطين فوالله ما أدري في أي أرض الله كنت عند قوم يستعبدونني حتى غزاهم قوم مسلمون فكنت فيما غنموه فقالوا لي أنت رجل من الإنس وهؤلاء من الجن فمالك وما لهم؟ فأخبرتهم خبري فقالوا: بأي أرض الله تحب أن تصبح؟ قلت: المدينة هي أرضي فأصبحت وأنا انظر إلى الحرة فخيره عمر إن شاء امرأته وإن شاء الصداق فاختار الصداق وقال: قد حبلت لا حاجة لي فيها" (¬1). قال الإمام أحمد: يروى عن عمر من ثلاثة وجوه ولم يعرف في الصحابة له مخالف (¬2). وروى الإمام مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "أيما امرأة فقدت زوجها فلم تدر أين هو فإنها تنتظر أربع سنين ثم تنتظر أربعة أشهر وعشرا" (¬3). وروى الجوزجاني وغيره عن علي في امرأة المفقود: "تعتد أربع سنين ثم يطلقها ولي زوجها وتعتد بعد ذلك أربعة أشهر وعشرا، فإن جاء زوجها المفقود بعد ذلك خير بين الصداق وبين امرأته" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه سعيد [1/ 449 - 450 (1754، 1755)]، وذكره ابن قدامة في المغني (9/ 134). قال الحافظ في الفتح (9/ 431): "وقد أخرجه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن عمر". (¬2) المغني (9/ 134). (¬3) الموطأ [2/ 575 (1195)]، وسنن سعيد بن منصور [1/ 449 (1752)]، والبيهقيُّ (7/ 445). (¬4) أخرجه البيهقيُّ من رواية خلاس بن عمرو وأبو المليح عن علي -رضي الله عنه- وقال (7/ 445): "ورواية خلاس عن علي ضعيفة، ورواية أبي المليح عن علي مرسلة، والمشهور عن علي -رضي الله عنه- خلاف هذا".

وعن الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر وعثمان -رضي الله عنه- قالا: "امرأة المفقود تتربص أربع سنين ثم تعتد أربعة أشهر وعشرا ثم تنكح" (¬1). وعن جابر بن زيد قال: "تذاكر ابن عباس وابن عمر المفقود فقالا جميعًا تتربص امرأته أربع سنين ثم يطلقها ولي زوجها ثم تتربص أربعة أشهر وعشرا" (¬2). قالوا في هذه الآثار جميعًا: إنها قضايا انتشرت في الصحابة فلم تنكر فكانت إجماعًا (¬3). ولأن هذه المدة أكثر مدة الحمل. الراجح: هو القول الثاني لما استندوا إليه ولأنه أكثر موافقة للقياس وهو ما اختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم (¬4). أما قولهم قد صح رجوع عمر إلى قول علي -رضي الله عنه- (¬5) فهي دعوى تحتاج إلى إثبات وقد قال عنه الحافظ ابن حجر: "وأما رجوع عمر فلم أره" (¬6). ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق [7/ 85 (12317)]، وابن أبي شيبة (3/ 521)، والبيهقيُّ (7/ 445). قال الحافظ في الفتح (9/ 431): " ... وقد أخرجه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن عمر، منها لعبد الرزاق من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر وعثمان قضيا بذلك، ... وثبت أيضا عن عثمان وابن مسعود في رواية وعن جمع من التابعين كالنخعي وعطاء والزهري ومكحول والشعبي". (¬2) سعيد بن منصور [1/ 451 (1756)]، وابن أبي شيبة (4/ 143). قال الحافظ في الفتح (9/ 431): "وأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن ابن عمر وابن عباس قالا: تنتظر امرأة المفقود أربع سنين". (¬3) المغني (9/ 134). (¬4) مجموع الفتاوى (20/ 576)، والفتاوى الكبرى (4/ 587 - 588)، ط. دار المعرفة 1386 هـ , إعلام الموقعين (2/ 53)، ط. دار الجيل 1973 م. (¬5) تبيين الحقائق (3/ 311). (¬6) الدراية (2/ 143).

حساب بداية العدة

وتبدأ المدة من حين ضربها الحاكم في المشهور من مذهب المالكية ورواية عند الحنابلة،؛ لأنها مدة مختلف فيها فافتقرت إلى ضرب الحاكم كمدة العنة (¬1). والصحيح عند الحنابلة عدم اشتراط ذلك. وهذا كله في حق الزوج الحر، وأما العبد فيؤجل نصف الحر في المشهور من مذهب المالكية، وهو رواية عند الحنابلة في الأمة (¬2). والصحيح من مذهب الحنابلة أن الأمة كالحرة في ذلك (¬3). حساب بداية العدة: يبدأ حساب العدة للمطلقة من تاريخ وقوع طلاقها من الزوج لا من تاريخ صدور الصك ونحو ذلك، ويبدأ بالنسبة للمتوفى عنها من تاريخ الوفاة. وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية فتواها رقم (6360)، ورقم (1954)، ورقم (16488) (¬4). أحكام المعتدة: للمعتدة أحكام منها: 1 - إن كانت متوفى عنها زوجها يجب عليها الاعتداد في المنزل الذي مات زوجها وهي فيه (¬5)؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً} ¬

_ (¬1) المدونة (2/ 30)، المنتقى (4/ 90 - 91)، الخرشي (4/ 151)، المغني (9/ 135)، الإنصاف (9/ 289). (¬2) شرح الخرشي على خليل (4/ 149 - 150)، الإنصاف (9/ 289). (¬3) الإنصاف (9/ 289). (¬4) 20/ 424، 425، 431. (¬5) تبيين الحقائق (3/ 36)، أحكام القرآن البحر الرائق (4/ 165)، شرح الزرقاني على الموطأ (3/ 289)، المهذب (2/ 148)، الإنصاف (9/ 308).

لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} (¬1)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - للفريعة بنت مالك بن سنان -رضي الله عنها- حين توفي عنها زوجها واستأذنته بالاعتداد عند أهلها: "امكثي في بيتك" (¬2)، وفي رواية: "اعتدي في البيت الذي جاء فيه نعي زوجك" (¬3)، وفي لفظ: "حيث أتاك الخبر" رواه النسائي (¬4). ولا يجوز لها الخروج إلا لحاجة ويكون ذلك نهارًا لا ليلًا؛ لأنه مظنة الفساد والأصل في ذلك ما رواه مجاهد -رحمه الله- قال: استشهد رجال يوم أحد فآم نساؤهم وكن متجاورات في دار فجئن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلن: يا رسول الله إنا نستوحش بالليل فنبيت عند إحدانا فإذا أصبحنا تبدرنا إلى بيوتنا؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تحدثن عند إحداكن ما بدا لكن فإذا أردتن النوم فلتؤب كل امرأة منكن إلى بيتها" (¬5). وكذلك الحكم في المطلقة الرجعية يجب عليها الإعتداد في منزلها الذي طلقت فيه، ولا تخرج إلا لعذر ويكون ذلك في النهار لعموم قوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬6).ولما رواه جابر -رضي الله عنه- قال: طلقت خالتي فأرادت أن تجد نخلها فزجرها رجل أن تخرج فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "بلى فجدي نخلك فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفا" رواه مسلم (¬7). ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 240. (¬2) أبو داود برقم (2300) والترمذيُّ برقم (1204)، والنسائيُّ برقم (3528) وابن ماجه برقم (2031). (¬3) ابن ماجه برقم (2031). (¬4) النسائي برقم (3529). (¬5) البيهقي (7/ 436). (¬6) سورة الطلاق: 1. (¬7) صحيح مسلم برقم (1483).

2 - الإحداد

وتخرج المعتدة لنحو مراجعة المستشفى للعلاج، ولشراء حاجاتها من السوق إذا لم يكن لديها من يقوم بذلك، والذهاب إلى الجامعة لحضور المحاضرات إن كانت طالبة ونحو ذلك، أما العذر الشرعي الذي يجيز لها الانتقال من بيت الزوجية فنحو الخوف على نفسها من البقاء وحدها في البيت إذا لم يكن معها أحد يصونها ونحو ذلك. وأفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في الفتوى رقم (18875) (¬1) بجواز خروجها لزيارة أمها إذا لم يحتج ذلك إلى سفر؛ لأن ذلك من أعظم حاجاتها. 2 - الإحداد: وهو اجتناب كل ما تتزين به النساء (¬2). والعبرة فيه بما يعتبر زينة عادة من الثياب والحلي والطيب والخضاب ونحو ذلك، وهو تابع للعدة والأصل فيه حديث أم حبيبة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" رواه البخاري ومسلمٌ (¬3). وحديث أم عطية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا, ولا تلبس ثوبًا مصبوغا إلا ثوب عصب، ولا تكتحل ولا تمس طيبًا إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار" رواه البخاري ومسلمٌ (¬4). ¬

_ (¬1) (20/ 476). (¬2) بدائع الصنائع (3/ 208)، البحر الرائق (4/ 162)، التمهيد (17/ 315)، مواهب الجليل (4/ 154)، مغني المحتاج (3/ 399)، تفسير ابن كثير (1/ 287)، المطلع (348). (¬3) صحيح البخاري برقم (5024، 5030)، وصحيح مسلم برقم (1486). (¬4) صحيح البخاري برقم (5027، 5028) , وصحيح مسلم برقم (938).

ولا خلاف بين الفقهاء في وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها كبيرة كانت أم صغيرة دخل بها الزوج أم لا لأن الإحداد تبع للعدة والعدة واجبة عليهن لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬1)، واختلفوا في غيرها على قولين: الأول: أن الإحداد لا يجب على المطلقة رجعية كانت أم مبتوتة. وإليه ذهب المالكية، والشافعية في الجديد عندهم والحنابلة في المذهب عندهم (¬2). الثاني: أن الإحداد يجب على المطلقة البائن، وإليه ذهب الحنفية والشافعية في القديم والحنابلة في رواية (¬3)؛ لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى المعتدة أن تختضب بالحناء وقال الحناء طيب (¬4)، ولأنه يجب إظهارًا للتأسف على فوت نعمة النكاح الذي هو سبب لصونها وكفاية مؤنها والإبانة أقطع لها من الموت حتى كان لها أن تغسله ميتًا قبل الإبانة لا بعدها. وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بوجوب ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 234. (¬2) التمهيد لابن عبد البر (17/ 317)، التاج والإكليل (4/ 154)، المهذب (2/ 149)، روضة الطالب (8/ 405)، الحنابلة (9/ 301 - 302). (¬3) بدائع الصنائع (3/ 209)، الهداية شرح بداية المبتدي (2/ 31)، البحر الرائق (4/ 163)، الوسيط (6/ 149)، روضة الطالب (8/ 405)، الحنابلة الإنصاف (9/ 301 - 302). (¬4) قال الزيلعيُّ في نصب الراية (3/ 124): "أخرجه البيهقيُّ في كتاب المعرفة في الحج عن ابن لهيعة عن بكر بن عبد الله بن الأشج عن خولة بنت حكيم عن أمها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأم سلمة: "لا تطيبي ولا تمسي الحناء فإنه طيب" انتهى، قال البيهقي: إسنادُهُ ضعيفٌ فإن ابن لهيعة لا يحتج به انتهى. وأخرجه الطبرانيُّ في معجمه عن ابن لهيعة عن بكر بن عبد الله بن الأشج عن خولة عن أم سلمة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تطيبي، ولا تمسي الحناء فإنه طيب" انتهى. وعزاه السروجي في الغاية إلى النسائي، ولفظه: "نهى المعتدة عن التكحل والدهن والخضاب بالحناء وقال الحناء طيب" انتهى".

الغلو في الإحداد

اجتناب المعتدة من الوفاة كل ما يعتبر زينة من الملابس الجميلة والخضاب والتحلي بالذهب والفضة، واستعمال الكحل والطيب ونحو ذلك في عدد من فتاواها من ذلك الفتوى رقم (9153) و (10652)، و (17705) و (19756) (¬1)، وغيرهما. وأفتت اللجنة أيضًا بأن من تجتنب الزينة وكل ما يلحق بها عن عمد فهي آثمة ويجب عليها التوبة والاستغفار بخلاف من تركتها عن جهل فلا إثم عليها وذلك في فتواها رقم (14157)، وفتواها رقم (1128)، ورقم (1823) و (5932) و (7422) و (20504) (¬2). الغلو في الإحداد: لا يشرع في الإحداد تجاوز حد المشروع بترك ما لم يشرع تركه، فلا يشرع ترك الغسل وترك تمشيط الشعر ونحو ذلك، كما لا يشرع الانعزال وعدم مكالمة الناس أو ترك الرد على المكالمات التليفونية ونحو ذلك مما قد يعتقد العوام أن الشرع قد أمر به. بل كل ذلك من الغلو غير المشروع. وقد أفتت بذلك اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في فتواها رقم (5775)، ورقم (7079) (¬3). انتهاء الإحداد بمضي المدة: سبق أن قلنا إن الإحداد تبع للعدة وعليه فينقضي بانقضاء العدة وذلك بوضع العمل إن كانت حاملا سواء زادت مدته على أربعة أشهر أم قلت، وإن لم ¬

_ (¬1) 20/ 435 , 448. (¬2) 20/ 421، 432، 479، 481، 483، 485. (¬3) 20/ 457 , 456.

3 - خطبة المعتدة

تكن حاملا فتنتهي بمضي أربعة أشهر وعشرا. فإن توفي زوجها وهي لا تعلم ومضى بعض هذه المدة جلست ما تبقى منها بحسابه، وإن مضت المدة كلها ولم تعلم بذلك أو لم تعلم بالحكم انقضت العدة والإحداد. وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في عدد من فتاواها من ذلك الفتوى رقم (9153)، ورقم (14463)، ورقم (16680)، ورقم (14506)، ورقم (13767) ورقم (12081) (¬1). 3 - خطبة المعتدة: يحرم التصريح بخطبة المعتدة البائن في فترة العدة دون التعريض، والتصريح هو ما لا يحتمل غير النكاح كقوله: أطلب يدك في النكاح ونحو ذلك، والتعريض ما يفهم منه النكاح مع احتمال غيره نحو أن يقول: إني في مثلك راغب، ولا تفوتيني بنفسك، أو إذا انقضت عدتك فأعلميني، أو ما أحوجني إلى مثلك ونحو ذلك. والدليل على ذلك الإجماع (¬2)، وسنده قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (¬3). وأما المطلقة الرجعية فيحرم التصريح والتعريض بخطبتها لأنها في حكم المتزوجة. ¬

_ (¬1) 20/ 435 , 416 , 417 , 418 , 419 , 484. (¬2) كشاف القناع (5/ 18). (¬3) سورة البقرة: 235.

الاستبراء

الاستبراء الاستبراء لغة: طلب البراءة تقول استبرأت المرأة إذا طلبت براءة رحمها من الحبل (¬1). وشرعا: تربص يقصد منه العلم ببراءة رحم ملك يمين (¬2). مشروعيته: الأصل في مشرعية الاستبراء السنة ومنها حديث رويفع بن ثابت الأنصاري قال: قام فينا خطيبًا قال: أما إني لا أقول لكم إلا ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول يوم حنين قال: "لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره يعني إتيان الحبالى ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها, ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم" رواه أحمد وأبو داود (¬3). الحكمة من استبراء الرحم: الحكمة منه تجنب اختلاط الأنساب. ما يكون به الاستبراء: يكون استبراء الأمة الحامل بوضع الحمل، وغير الحامل إن كانت تحيض فاستبراؤها بحيضة لعموم قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬4)، وحديث أبي سعيد الخدري في سبايا أوطاس ورفعه: "لا توطأ حامل ¬

_ (¬1) المصباح المنير مادة: "بري" (ص: 30). (¬2) الروض المربع (ص: 452). (¬3) رواه أحمد (4/ 108)، وأبو داود برقم (2158). (¬4) سورة الطلاق: 4.

حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة" (¬1) رواه أحمد وأبو داود. وأما الآيسة والصغيرة فتستبرآن بمضي شهر لأنه يقوم مقام حيضة. ¬

_ (¬1) أحمد (3/ 62)، وأبو داود برقم (2157). والحاكم في المستدرك [2/ 212 (2790)]، وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، وقال الحافظ في الفتح (4/ 434): "أخرجه أبو داود وغيره وليس على شرط الصحيح". وقال في التلخيص (1/ 173): "وإسناده حسن". وقال ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (1/ 83): "رواه أحمد وأبو داود من رواية أبي سعيد الخدري وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم وأعله عبد الحق وابن القطان".

الرضاع

الرضاع الرضاع لغة: مص اللبن من الثدي، وفي ماضيه لغتان بكسر الضاد وفتحها رضِع يرضَع، ورضَع يرضِع رضْعًا ورضاعًا ورضاعةً، وتقول امرأة مرضع إذا كان لها ولد ترضعه، فإن وصفتها بإرضاعه قلت: مُرضِعةٌ (¬1). وشرعًا: مص الرضيع اللبن من ثدي الآدمية في وقت مخصوص (¬2). وقيل: مص من دون الحولين لبنًا ثاب عن حمل أو شربه أو نحوه (¬3). مشروعية الرضاعة: الأصل في مشروعية الرضاع وحصول التحريم به الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (¬4)، وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (¬5). وأما السنة فحديث علي -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله مالك تنوق في قريش وتدعنا؟ فقال: وعندكم شيء؟ قلت: نعم، بنت حمزة، فقال رسول الله ¬

_ (¬1) المفردات (ص: 202)، مجمل اللغة (2/ 380)، أساس البلاغة (ص: 165) المصباح المنير مادة: "رضع" (ص: 120)، مختار الصحاح مادة: "رضع" (ص: 123). (¬2) تبيين الحقائق (2/ 181)، شرح فتح القدير (3/ 438)، البحر الرائق (3/ 238)، التعاريف للجرجاني (ص: 148). (¬3) الروض المربع (ص: 453). (¬4) سورة البقرة: 233. (¬5) سورة النساء: 23.

شروط الرضاع المحرم

- صلى الله عليه وسلم -: "إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة" رواه مسلم (¬1). وحديث عائشة -رضي الله عنها- أن عمها من الرضاعة يسمى أفلح استأذن عليها فحجبته فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لها: "لا تحتجبي منه فإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب" رواه البخاري ومسلمٌ (¬2). وأما الإجماع فقد نقله غير واحد من الفقهاء منهم ابن المنذر وابن حزم والموفق وغيرهم (¬3). أركانه ثلاثة: مرضع ولبن ورضيع (¬4). شروط الرضاع المحرّم: يشترط للرضاع المحرم أربعة شروط هي (¬5): 1 - أن يكون باللبن خاصة: فلو امتص الرضيع غير اللبن كما لو امتص من ثدي المرأة ماء أو دما أو قيحا ونحو ذلك فلا يثبت بذلك حكم الرضاع المحرم. ويستوي الحكم بين ما إذا كانت طريق الرضاع هي امتصاصه الرضيع اللبن من ثدي المرأة، أو شربه من كأس ونحو ذلك؛ لأن المؤثر في التحريم هو حصول الغذاء باللبن وإنبات اللحم وإنشاز العظم وسد المجاعة وذلك حاصل بهذه الطرق. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم برقم (1466). (¬2) صحيح البخاري برقم (4941)، وصحيح مسلم برقم (1445). (¬3) الإجماع (ص: 77)، مراتب الإجماع (ص: 67)، بدائع الصنائع (2/ 262)، تفسير القرطبي (5/ 106)، المغني (9/ 191). (¬4) مغني المحتاج (3/ 414). (¬5) مغني المحتاج (3/ 414)، المغني (9/ 205)، الإنصاف (9/ 191).

وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة بعدم ثبوت أحكام الرضاع في حالة التبرع بالدم بين المتبرع والمتبرع له وفي حالة كون ما يمتصه الرضيع ماء وليس لبنا لأن ذلك كله ليس رضاعًا شرعيًا وذلك في فتواها رقم (310) و (1507)، والفتوى (14753) (¬1). كما أفتت بثبوت حكم الرضاع باستخراج اللبن وبشربه من الزجاجة في فتواها رقم (13178) (¬2). حكم اللبن المخلوط: اختلف الفقهاء في اللبن المخلوط بغيره هل يثبت حكم الرضاع به؟ على قولين: الأول: أنه يثبت به حكم الرضاع سواء كان اللبن هو الغالب أم غيره وهو الأظهر في مذهب الشافعية وقول عند الحنابلة (¬3)؛ لأن أجزاءه موجودة في الخلطة ويحصل بها إنبات اللحم وإنشاز العظم فثبت به حكم الرضاع. الثاني: أنه إن كان الغالب هو اللبن ثبت به حكم التحريم وإلا لم يثبت ذلك وهو قول أبي يوسف ومحمَّد بن الحسن من الحنفية ومذهب المالكية وقول للشافعية والمذهب عند الحنابلة (¬4)؛ لأنه إن لم يكن غالبًا لم يكن مؤثرًا في الرضيع. الثالث: أنه إن كان مخلوطًا بالطعام لم يحرم وإن كان هو الغالب، بخلاف ما لو كان مخلوطًا بالماء أو الدواء أو لبن الحيوان ونحو ذلك فالحكم فيه للغالب وهو ¬

_ (¬1) 21/ 96، 54، 145 - 157. (¬2) 21/ 12. (¬3) مغني المحتاج (3/ 415)، المغني (9/ 197)، الإنصاف (9/ 337)، كشاف القناع (5/ 447). (¬4) بدائع الصنائع (4/ 9)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (2/ 503)، مغني المحتاج (3/ 415)، المغني (9/ 197)، الإنصاف (9/ 337)، كشاف القناع (5/ 447).

2 - أن يكون اللبن لآدمية

قول أبي حنيفة (¬1)؛ لأن الطعام إذا كان أقل من اللبن فإنه يسلب قوة اللبن لأنه يرق ويضعف بحيث يظهر ذلك في حس البصر فلا تقع الكفاية به في تغذية الصبي فكان اللبن مغلوبًا معنى وإن كان غالبًا صورة. وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بالقول الثاني في فتواها رقم (21057) و (3504) (¬2). 2 - أن يكون اللبن لآدمية: فلو كان لغير الآدمية كما لو ارتضع صغيران من لبن شاة ونحو ذلك لم يثبت بذلك حكم الرضاعة شرعًا؛ لأن الأخوة فرع الأمومة فإذا لم يثبت الأصل لم يثبت الفرع (¬3). وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك (¬4). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة بعدم ثبوت التحريم بالرضاع من الحليب الصناعي في فتواها رقم (3085) (¬5). حكم الرضاع من لبن الميتة: اختلف الفقهاء هل يشترط لثبوت التحريم أن يكون الرضاع من امرأة حية أم لا؟ على قولين: الأول: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة (¬6) إلى أنه لا يشترط لثبوت التحريم أن يكون الرضاع من امرأة حية بل يثبت حكم الرضاع المحرم بالارتضاع من ثدي امرأة ميتة؛ لأنّ اللبن لا يموت. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (4/ 9). (¬2) 21/ 42 , 53. (¬3) مغني المحتاج (3/ 414)، المغني (9/ 205). (¬4) الإجماع (ص: 77). (¬5) 21/ 18. (¬6) بدائع الصنائع (4/ 8)، حاشية السوقي (2/ 502)، المغني (9/ 198).

الثاني: ذهب الشافعية في المذهب عندهم إلى اشتراط حياة المرأة صاحبة اللبن وقت انفصال اللبن عن ثديها فالرضاع من ثدي الميتة لا يحرم؛ لأنه من لبن جثة منفكة عن الحل والحرمة كالبهيمة (¬1). هل يشترط أن يثوب اللبن عن وطء؟ للفقهاء في ذلك قولان: الأول: ذهب المالكية والشافعية في الأصح وأحمدُ في أظهر الروايتين عنه (¬2) إلى عدم اشتراط ذلك فلو ثاب اللبن من غير الوطء فرضع منه الطفل نشرت به الحرمة؛ بل وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك فقال: "وأجمعوا على أن البكر التي لم تنكح ثم نزل بها لبن فأرضعت به مولودًا أنه ابنها ولا أب له من الرضاعة" (¬3). وذلك لعموم قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (¬4)، ولأنه لبن امرأة فتعلق به التحريم، ولأنه وإن كان نادرًا إلا أن جنسه معتاد. الثاني: ذهب الحنابلة في المذهب عندهم (¬5) إلى اشتراطه فلا تنتشر الحرمة إذا لم يكن اللبن ثاب عن الوطء؛ لأنه نادر لم تجر العادة به لتغذية الأطفال فأشبه لبن الرجال. أما إسلام المرضع: فليس بشرط بالاتفاق (¬6)؛ لأن الزواج من أهل الكتاب ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (4/ 8)، حاشية السوقي (2/ 502)، مغني المحتاج (3/ 414، 415)، المغني (9/ 198). (¬2) التاج والإكليل (4/ 178)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (2/ 502)، مواهب الجليل (4/ 179)، مغني المحتاج (3/ 415)، المغني (9/ 206)، الإنصاف (9/ 331) (¬3) الإجماع (ص: 77). (¬4) سورة النساء: 23. (¬5) المغني (9/ 206)، الإنصاف (9/ 331). (¬6) الخرشي على خليل (4/ 182)، حاشية الدسوقي (2/ 508)، المغني (9/ 228).

3 - أن يبلغ عدد الرضعات ما يحرم شرعا

جائز فما ترتب عليه من الرضاع والحضانة ونحو ذلك يكون مشروعا تباعا. ولكن يكره الرضاع من الفاجرة لقول عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز -رضي الله عنهما-: "اللبن يشبه عليه فلا تستق من يهودية ولا نصرانية ولا زانية" (¬1). ولأن لبن الفاجرة ربما أفضى إلى شبه المرضعة في الفجور فإنه يقال إن الرضاع يغير الطباع. وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة بجواز أن تكون المرضع نصرانية في فتواها رقم (4668) (¬2). 3 - أن يبلغ عدد الرضعات ما يحرّم شرعًا: وقد اختلف الفقهاء هل يشترط للرضاع المحرم عددًا معينًا أم لا؟ على أقوال أهمها ما يأتي: الأول: يشترط له خمس رضعات فصاعدًا وهو مذهب الشافعية والصحيح في مذهب الحنابلة (¬3). واستدلوا بحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن فيما يقرأ من القرآن" رواه مسلم (¬4). وعن عائشة -رضي الله عنها- "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر امرأة أبي حذيفة فأرضعت سالما خمس رضعات فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة" رواه مالك (¬5). قالوا إن هذين ¬

_ (¬1) هكذا ذكره الموفق في المغني وقد أخرج عبد الرزاق [7/ 476 (13593)] , وسعيد بن منصور [2/ 147 (2299)]، والبيهقيُّ (7/ 464) عن رجل من بني عتوارة قال: "جلست إلى ابن عمر فقال لي: من بني فلان أنت قلت لا ولكنهم أرضعونى فقال: سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: إن اللبن يشبه عليه". وأخرج البيهقي عن عمر بن عبد العزيز قال: "اللبن يشبه عليه". (¬2) 21/ 61. (¬3) المهذب (2/ 156)، مغني المحتاج (3/ 416)، المغني (9/ 192)، الإنصاف (9/ 334). (¬4) صحيح مسلم برقم (1452). (¬5) الموطأ [2/ 605 (1265)]، وأحمدُ (6/ 255).

الحديثين وأمثالهما مبينة للآية في تحديد الرضاعة المحرمة. الثاني: أن قليل الرضاع وكثيره يحرّم وهو مذهب الحنفية والمالكية ورواية عند الحنابلة (¬1). واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (¬2)، وعموم حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة" متفق عليه (¬3). وقالوا إن ما ورد فيه التقدير منسوخ بما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- حين قيل له: إن الناس يقولون إن الرضعة لا تحرم، فقال: "كان ذلك ثم نسخ" (¬4). وما روي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "آل أمر الرضاع إلى أن قليله وكثيره يحرم" (¬5). وعن عمرو بن دينار قال: "سئل ابن عمر -رضي الله عنهما- عن شيء من أمر الرضاع فقال: لا أعلم إلا أن الله قد حرم الأخت من الرضاعة فقلت: إن أمير المؤمنين ابن الزبير يقول: لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان ولا المصة ولا المصتان فقال ابن عمر -رضي الله عنه-: قضاء الله خير من قضائك وقضاء أمير المؤمنين معك" (¬6). وفي رواية ¬

_ (¬1) أحكام القرآن للجصاص (2/ 113)، بدائع الصنائع (4/ 7)، شرح فتح القدير (3/ 438)، تبيين الحقائق (2/ 182)، بداية المجتهد (2/ 27)، تفسير القرطبي (5/ 109)، المغني (9/ 192). (¬2) سورة النساء: 23. (¬3) صحيح البخاري برقم (2503، و 4941)، وصحيح مسلم برقم (1444). (¬4) لم أجده، وقد روى البيهقي في سننه (7/ 458) عن ابن عباس أنه كان يقول: "قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد". (¬5) لم أجده وقد أخرج البيهقي في سننه (7/ 458) عن علي وابن مسعود -رضي الله عنه- قالا: "يحرم من الرضاع قليله وكثيره". (¬6) أخرجه سعيد بن منصور (1/ 281)، وعبد الرزاق [7/ 467 (13919)]، والدارقطنيُّ (4/ 183)، والبيهقيُّ (7/ 458).

أخرى عن شعبة عن عمرو بن دينار سمع رجلا قال لابن عمر -رضي الله عنه-: "إن أمير المؤمنين بن الزبير -رضي الله عنهما- يقول: لا تحرم الرضعة والرضعتان فقال بن عمر -رضي الله عنهما-: كتاب الله -عَزَّ وجَلَّ- أصدق من أمير المؤمنين: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (¬1) " (¬2). الثالث: لا يثبت التحريم إلا بثلاث رضعات فأكثر وهو رواية عند الحنابلة (¬3). واستدلوا بحديث: "لا تحرّم المصة والمصتان" رواه مسلم (¬4)، وعن أم الفضل بنت الحارث قالت: دخل أعرابي على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيتي فقال: يا نبي الله إني كانت لي امرأة فتزوجت عليها أخرى فزعمت امرأتي الأولى أنها أرضعت امرأتي الحدثى رضعة أو رضعتين فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحرّم الإملاجة والإملاجتان" رواه مسلم (¬5). وفي لفظ عنده أيضًا أن أم الفضل حدثت أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم -قال: "لا تحرّم الرضعة أو الرضعتان أو المصة أو المصتان"، ولأن ما يعتبر فيه العدد والتكرار يعتبر فيه الثلاث. القول الرابع: لا يحرم دون عشر رضعات روي ذلك عن حفصة وعائشة (¬6)؛ لما جاء في بعض روايات حديث سهلة بنت سهيل قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فأرضعيه عشر رضعات ثم ليدخل عليك كيف شاء ... " رواه أحمد (¬7) وما رواه مالك عن نافع أن سالم بن عبد الله بن عمر أخبره أن عائشة أم المؤمنين ¬

_ (¬1) سورة النساء: 23. (¬2) أخرجه البيهقيُّ (7/ 458). (¬3) المغني (9/ 193). (¬4) صحيح مسلم برقم (1450). (¬5) صحيح مسلم برقم (1451). (¬6) المغني (9/ 193)، فتح الباري (9/ 146). (¬7) المسند (6/ 269).

حد الرضعة الواحدة

أرسلت به وهو يرضع إلى أختها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق فقالت: "أرضعيه عشر رضعات حتى يدخل علي قال سالم: فأرضعتني أم كلثوم ثلاث رضعات ثم مرضت فلم أكن أدخل على عائشة من أجل أن أم كلثوم لم تتم لي عشر رضعات" (¬1). حد الرضعة الواحدة: والمرجع في معرفة الرضعة إلى العرف لأن الشرع ورد بها مطلقا ولم يحدها بزمن ولا مقدار فدل ذلك على أنه ردهم إلى العرف فإذا ارتضع الصبي وقطع قطعًا بينًا باختياره كان ذلك رضعة ولو انقطع للتنفس أو الملل أو اللهو أو النومة الخفيفة أو ازدراد ما جمعه في فمه وعاد للرضاع في الحال فلا تَعدُّد بل الكل رضعة واحدة (¬2). 4 - أن تكون الرضعات في الحولين: وقد اختلف الفقهاء في هذا الشرط على أقوال كثيرة نذكر أهمها فيما يلي: القول الأول: يشترط في الرضاع المحرم أن يكون في الحولين، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة، وقول أبي يوسف ومحمَّد من الحنفية، ورواية عن مالك (¬3). والاعتبار عندهم بالحولين لا بالفطام فلو فطم قبل الحولين ثم ارتضع فيهما حصل التحريم ولو لم يفطم حتى تجاوز الحولين ثم ارتضع بعدهما قبل الفطام لم يثبت التحريم. ¬

_ (¬1) الموطأ [2/ 603 (1260)]. (¬2) انظر مغني المحتاج (3/ 417)، المغني (9/ 194). (¬3) المبسوط للسرخسي (5/ 136)، بدائع الصنائع (4/ 6)، حاشية الدسوقي (2/ 503)، مغني المحتاج (3/ 416)، المغني (9/ 201)، الإنصاف (9/ 333).

واستدلوا بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (¬1)، حيث جعل سبحانه تمام الرضاع في الحولين فدل ذلك على أن ما بعد الحولين بخلافه. ولحديث ابن عباس -رضي الله عنه- قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا رضاع إلا ما كان في الحولين" رواه الدارقطني (¬2). وعن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها رجل فتغير وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة" متفق عليه (¬3). وعن أم سلمة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام" أخرجه الترمذيُّ (¬4). القول الثاني: أن الرضاع المحرم هو ما يتم خلال ثلاثين شهرًا، وهو مذهب الحنفية (¬5)، ولا يحرم بعد ذلك سواء فطم الولد أو لم يفطم. واستدلوا بقوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 233. (¬2) سنن الدارقطني (4/ 174) موقوفًا على ابن عباس، ومن طريق أخرى عن الهيثم بن جميل عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن بن عباس وقال عقبه: "لم يسنده عن ابن الهيثم بن جميل وهو ثقة حافظ". وقال الحافظ في فتح الباري (9/ 146):"أخرجه الدارقطني وقال لم يسنده عن ابن الهيثم بن جميل وهو ثقة حافظ، أخرجه ابن عدي. الهيثم يوقفه على ابن عباس وهو المحفوظ". قال الزيلعيُّ في نصب الراية (3/ 218): "ورواه بن عدي في الكامل ولفظه قال: "لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين" قال ابن عدي: والهيثم بن جميل يغلط عن الثقات وأرجو أنه لا يتعمد الكذب وهذا الحديث يعرف به عن ابن عيينة مسندًا وغير الهيثم يوقفه على ابن عباس انتهى. وذكره عبد الحق في أحكامه من جهة ابن عدي ونقل كلامه هذا ثم قال: وذكر أبو حاتم الهيثم هذا وقال وثقه أحمد" انتهى. (¬3) صحيح البخاري برقم (2504، و 4814)، ومسلمٌ برقم (1455). (¬4) سنن الترمذيُّ برقم (1152) وقال: "وقال حديثٌ حسنٌ صحيحٌ". (¬5) المبسوط للسرخسي (5/ 136)، بدائع الصنائع (4/ 6)، الهداية (1/ 223)، شرح فتح القدير (3/ 442).

{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (¬1). قالوا: إن الله ذكر شيئين في الآية وضرب لهما مدة فكانت لكل واحد منهما بكمالها إلا أن الدليل قد قام على أن أدنى مدة الحمل ستة أشهر، فبقي مدة الفصال على ظاهره، ولأن اللبن كما يغذي الصبي قبل الحولين يغذيه بعده والفطام لا يحصل في ساعة واحدة لكن يفطم درجة فدرجة حتى ينسى اللبن ويتعود الطعام فلا بد من زيادة على الحولين بمدة وإذا وجبت الزيادة قدرنا تلك الزيادة بأدنى مدة الحبل وذلك ستة أشهر اعتبارا للانتهاء بالابتداء. القول الثالث: أن رضاع الكبير يثبت به التحريم وهو مذهب عائشة وعلي وعروة بن الزبير -رضي الله عنهم -، وعطاء والليث بن سعد والظاهرية، وهو واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وقيده بالحاجة ووافقه تلميذه ابن القيم والشوكاني والصنعاني رحمهم الله جميعا (¬2). واستدلوا بعموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (¬3). حيث لم يفصل بين الرضاع حال الصغر والرضاع حال الكبر. وحديث سهلة بنت سهيل -رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله إنا كنا نرى سالمًا ولدا فكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد ويراني فضلى وقد أنزل الله فيهم ما قد علمت فكيف ترى فيه؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أرضعيه". فأرضعته خمس رضعات ¬

_ (¬1) سورة الأحقاف: 15. (¬2) بدائع الصنائع (4/ 5)، بداية الجتهد (2/ 27)، المغني (9/ 201)، مجموع الفتاوي (34/ 60)، إعلام الموقعين (4/ 347)، نيل الأوطار (7/ 120)، سبل السلام (3/ 215، 216). (¬3) سورة النساء: 23.

فكان بمنزلة ولدها فبذلك كانت عائشة تأخذ تأمر بنات أخواتها وبنات إخوتها يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيرًا خمس رضعات وأبت ذلك أم سلمة وسائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس حتى يرضع في المهد، وقلن لعائشة: والله ما ندري لعلها رخصة من النبي - صلى الله عليه وسلم - لسالم دون الناس. رواه أبو داود والنسائيُّ وغيرهما (¬1). وما روي عن زينب بنت أم سلمة قالت: قالت أم سلمة لعائشة: إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي قال: فقالت عائشة: أما لك في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إسوة؟ قالت: إن امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله إن سالما يدخل علي وهو رجل وفي نفس أبي حذيفة منه شيء فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرضعيه حتى يدخل عليك" رواه مسلم (¬2). وقد رد الجمهور الاستدلال بحديث الجواز بأنّه رخصة في حق سالم خاصة فعن أم سلمة قالت: "أبى سائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدخلن عليهن أحدًا بتلك الرضاعة وقلن لعائشة: والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسالم خاصة فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا" رواه مسلم (¬3). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بعدم ثبوت التحريم برضاع الكبير في فتواها رقم (3055) حيث كان سن المرتضع ثلاث سنين، وفي فتواها رقم (1490) لكون عمر المرتضع ثمان أو تسع سنوات (¬4). ¬

_ (¬1) أحمد (6/ 270)، وأبو داود برقم (2061)، والنسائيُّ برقم (3324). (¬2) صحيح مسلم برقم (1453). (¬3) صحيح مسلم برقم (1454). (¬4) 21/ 40 , 46.

ما يثبت به الرضاعة

ما يثبت به الرضاعة: يثبت حكم الرضاعة بالإقرار والبينة والإقرار كأن تقول امرأة هو ابني من الرضاعة ونحو ذلك، والبينة أن يشهد به رجلان فأكثر ونحو ذلك ولا خلاف بين الفقهاء في ثبوت حكمه بالإقرار وبشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، واختلفوا فيما سوى ذلك على أربعة أقوال: الأول: لا يقبل إلا رجل وامرأتان وهو مذهب الحنفية (¬1) واستدلوا بعموم قول الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬2). الثاني: يكفي شهادة رجل وامرأة، أو شهادة امرأتين إن فشا ذلك وهو مذهب المالكية (¬3). الثالث: لا يقبل أقل من أربع نسوة وهو مذهب الشافعية (¬4). الرابع: يكفي لثبوت حكم الرضاعة شهادة امرأة واحدة إذا كانت مرضية وهو مذهب الحنابلة (¬5). واستدلوا بما روى عقبة بن الحارث قال: تزوجت امرأة فجاءتنا امرأة سوداء فقالت: أرضعتكما فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: تزوجت فلانة بنت فلان فجاءتنا امرأة سوداء فقالت لي: إني قد أرضعتكما وهي كاذبة، فأعرض عني، فأتيته من قبل وجهه قلت: إنها كاذبة، قال: "كيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما دعها عنك" رواه البخاري (¬6). قالوا: إن هذا يدل على الاكتفاء بالمرأة ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (4/ 14). (¬2) سورة البقرة: 282. (¬3) بداية المجتهد (2/ 29)، حاشية الدسوقي (2/ 507). (¬4) مغني المحتاج (3/ 424). (¬5) المغني (9/ 222). (¬6) صحيح البخاري برقم (2516، 2517، 4816).

أثر الرضاعة

الواحدة في ثبوت حكم الرضاعة. وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة بالقول الرابع في فتواها رقم (19328)، و (5542) (¬1). أثر الرضاعة: عندما يحصل الرضاع بشروطه الشرعية يترتب عليه نشر التحريم بين الرضيع والمرضع وصاحب اللبن تماما كما ينشره النسب وهذا بالإجماع قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" (¬2). وسنده حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة" متفق عليه (¬3). وإذا ثبت هذا فالمقصود بالتحريم إنما هو من حيث النكاح وجواز النظر والخلوة وعدم نقض الوضوء باللمس ونحو ذلك، أما بقية أحكام النسب من النفقة والعتق ورد الشهادة وسقوط القود في القتل وغير ذلك فلا يوجبها الرضاع؛ لأن النسب أقوى منه فلا يقاس عليه في جميع أحكامه وإنما يأخذ حكم حكمه فيما نص الشارع عليه (¬4). ¬

_ (¬1) 21/ 56 , 57. (¬2) الإجماع (ص: 77). (¬3) صحيح البخاري برقم (2503، و 4941)، وصحيح مسلم برقم (1444). (¬4) مغني المحتاج (3/ 414)، المغني (9/ 191).

الحضانة

الحضانة الحضانة في اللغة: الضم إلى الحِضن، وهي مأخوذ من الحِضن بكسر الحاء وهو الجنب أو ما بين العضدين من منطقة الصدر وما حولها، سميت بذلك لأن الحاضنة تضم الطفل إلى حضنها، تقول حضَن الطائر بيضه حَضْنًا وحِضانا إذا ضمه تحت جناحه، والاسم منه الحضانة بكسر الحاء وفتحها (¬1). وشرعًا: وهي حفظ صغير ونحوه عما يضره وتربيته بعمل مصالحه (¬2). مشروعيتها: الحضانة واجبة للطفل لأنه يهلك بتركها فوجب حفظه عن الهلاك كما يجب الإنفاق عليه وإنجاؤه من المهالك (¬3). ونقل بعض الفقهاء الإجماع على وجوبها للصغير حتى يقوم بنفسه (¬4). ووجوبها على الكفاية إن قام بها قائم سقط الإثم عن الباقين (¬5). الحكمة من مشروعيتها: لما كان الصغير ومن في حكمه كالمجنون والمعتوه ونحوهم لا يستطيعون رعاية أنفسهم ولا تربيتها لقصورهم اقتضت الحكمة أن شرع الله ولاية الحضانة لصيانة هؤلاء المحتاجين ورعاية شؤونهم وتربيتهم لا سيما في حالة فراق الزوجين وذلك رحمةً بهم حتى لا يهلكوا أو يضيعوا فيصبحوا وبالا على الأمة. ¬

_ (¬1) المصباح المنير مادة: "حضن" (ص: 76)، مختار الصحاح مادة: "حضن" (ص: 75). (¬2) الروض المربع (ص: 463)، التعريفات للجرجاني (ص: 463)، مغني المحتاج (3/ 452). (¬3) التاج والإكليل (4/ 214)، المغني (9/ 297)، كشاف القناع (5/ 497). (¬4) التاج والإكليل (4/ 214). (¬5) المرجع السابق.

الحق في الحضانة

الحق في الحضانة: الحضانة حق لكل من المحضون والحاضن فهو حق للمحضون باعتبار أن فيها محافظة عليه وفي تركها هلاك له، وحق للحاضن باعتبار أن له الحرية في المطالبة بها أو إسقاطها ما لم يمتنع المحضون عمن سواها (¬1). ويستحق المطالبة بها كل رجل عصبة كالأب، والجد، والأخ لغير أم, والعم كذلك، وكل امرأة وارثة كالأم والجدة والأخت، أو مدلية بوارث كالخالة، وبنات الأخوات، أو مدلية بعصبة كبنات الإخوة وبنات الأعمام، وذوي رحم غير من تقدم كالعم لأم والجد لأم والأخ لأم، والحاكم عند عدم وجود هؤلاء جميعا (¬2). شروط الحضانة: يشترط لاستحقاق المطالبة بالحضانة ما يلي: 1 - الإسلام: يشترط جمهور الفقهاء في الحاضن الإسلام لأن الحضانة ولاية ولا ولاية للكافر على المسلم، وخوفًا من فتنة المحضون في دينه بتعليمه الكفر وتربيته عليه وفي ذلك ضرر عليه (¬3). 2 - التكليف: يشرط جمهور الفقهاء أن يكون الحاضن بالغًا عاقلًا فإن لم يكن كذلك لم يستحق المطالبة بها، فلا حضانة للطفل أو الصبي ولا المجنون أو المعتوه؛ لأنهم عاجزون عن تولي شؤونهم وضانة أنفسهم فلا يكونوا مؤهلين ¬

_ (¬1) رد المحتار مع حاشية ابن عابدين (3/ 559، 562 - 563)، حاشية الدسوقي (2/ 532)، مغني المحتاج (3/ 456)، كشاف القناع (5/ 496، 498). (¬2) كشاف القناع (5/ 496). (¬3) حاشية ابن عابدين (3/ 555، 556)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (2/ 525)، مغني المحتاج (3/ 455)، كشاف القناع (5/ 498).

لحضانة غيرهم (¬1). 3 - الأمانة في الدين: فلا حضانة لفاسق ولو كان أبًا للمحضون كمدمن خمر، وسارق، ومشتهر بالزنا ونحو ذلك؛ لأنه المحضون يتأثر بذلك (¬2). ويرى الحنفية أن الحاضنة إن كانت أما للمحضون وهي فاسقة فسقًا يلزم منه ضياعه سقط حقها، وإلا لم يسقط حقها حتى يعقل الولد فجورها فتنزع منها كالكتابية (¬3). 4 - القدرة على القيام بالحضانة: يشترط لاستحقاق الحضانة قدرة الحاضنة على القيام بأعمال الحضانة أي القيام بشؤون الطفل وما يتطلبه من تربية، فمن لم يكن قادرًا على القيام بذلك إما لعجز خلقي أو مرض يعيقه كالعمى والزمانة لم يكن من أهل الحضانة (¬4). 5 - الرشد: يشترط المالكية والشافعية في الحاضن أن يكون رشيدًا وهو القدرة على حفظ مال المحضون وصيانته، فلا حضانة عندهم لسفيه مبذر لئلا يتلف مال المحضون (¬5). 6 - الحرية: يشترط الشافعية والحنابلة في الحاضن الحرية فلا حضانة للرقيق عندهم؛ لأن الحضانة ولاية وهو ليس من أهل الولايات، ولأن منافعه لسيده. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (3/ 555)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (2/ 528)، مغني المحتاج (3/ 456 , 454)، كشاف القناع (5/ 498). (¬2) حاشية ابن عابدين (3/ 555، 557)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (2/ 528) ,مغني المحتاج (3/ 455) ,كشاف القناع (5/ 498). (¬3) حاشية ابن عابدين (3/ 557). (¬4) حاشية ابن عابدين (3/ 555) ,حاشية الدسوقي (2/ 528) ,مغني المحتاج (3/ 456) , كشاف القناع (5/ 499). (¬5) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (2/ 529) ,مغني المحتاج (3/ 456).

7 - انتفاء الأمراض المعدية: يشترط خلو الحاضن من الأمراض المعدية خوفًا من انتقالها إلى المحضون وذلك كمرض نقص المناعة المكتسبة (الأيدز)، والبرص والجذام ونحو ذلك (¬1). 8 - عدم زواج الحاضنة: يشترط في حق الأم لاستحقاق حضانة ابنها ألا تتزوج الأم، وهذا مما لا يختلف فيه الفقهاء (¬2). قال ابن المنذر: "وأجمعوا أن الزوجين إذا افترقا ولهما ولد طفل أن الأم أحق به ما لم تنكح، وأجمعوا على أن لا حق للأم في الولد إذا تزوجت" (¬3). ودليل ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدع عبد الله بن عمرو بن العاص: أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنت أحق به ما لم تنكحي" رواه أحمد وأبو داود (¬4). 9 - يشترط في حق الرجل أن يكون لديه من هو صالح للحضانة: كالزوجة أو سرية أو أمة لخدمة أو مستأجرة ونحو ذلك؛ لأن الرجل لا صبر له على أحوال الأطفال كالنساء فإن لم يكن عنده من يقوم بذلك فلا حق له انتقل الحق إلى غيره (¬5). ¬

_ (¬1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (2/ 528)، مغني المحتاج (3/ 456)، كشاف القناع (5/ 499). (¬2) المغني (9/ 298 - 299). (¬3) الإجماع لابن المنذر (ص: 79). وانظر: المغني (9/ 298 - 299). (¬4) أحمد (2/ 182)، وأبو داود برقم (2276)، والحاكم في المستدرك [2/ 225 (2830)]، وقال عقبه: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، والبيهقيُّ (8/ 4). قال الهيثمي في المجمع (4/ 323): "رواه أحمد ورجاله ثقات"، وقال الحافظ في الدراية (2/ 81): "أبو داود وعبد الرزاق والدارقطنيُّ وإسحاق من حديث عبد الله ابن عمرو به وصححه الحاكم". (¬5) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (2/ 529).

ترتيب الحاضنين

10 - يشترط في حالة كون المحضون أنثى تشتهى والحاضن ذكرًا أن يكون محرمًا لها زمن الحضانة. فإن لم يكن كذلك فلا حق له في حضانة البنت لما يترتب على ذلك من المحظورات (¬1). ترتيب الحاضنين: يحق للحاضن المطالبة بالحضانة حسب الترتيب الآتي: الأم: فأحق الناس في المطالبة بالحضانة الأم ما لم تتزوج إذا توافرت فيها شروط الأهلية الأخرى المتقدم ذكرها. وهذا مما لا يختلف فيه الفقهاء (¬2). قال ابن المنذر: "وأجمعوا أن الزوجين إذا افترقا ولهما ولد طفل أن الأم أحق به ما لم تنكح" (¬3). ودليل ذلك حديث عمرو بن شعيب المتقدم ذكره قريبا. وما روي عن ابن عباس -رضي الله عنه-: "أن عمر خاصم امرأته أم ابنه عاصم إلى أبي بكر إذ طلقها وقال: أنا أحق به، فقال له أبو بكر: ريحها وحرها وفراشها خير له منك حتى يشب ويختار لنفسه وقضى أبو بكر لها به" (¬4). ولأن الأم أقرب إلى الطفل وأشفق عليه والأب لا يتولى الحضانة بنفسه بل يدفعه إلى امرأته وأمه أولى به من امرأة أبيه. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (4/ 43)، حاشية ابن عابدين (3/ 557)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (2/ 529)، مغني المحتاج (3/ 454)، كشاف القناع (5/ 497). (¬2) المغني (9/ 298 - 299). (¬3) الإجماع لابن المنذر (ص: 79)، المغني (9/ 298 - 299). (¬4) أخرجه عبد الرزاق [7/ 154 (12601)] , وابن حزم في المحلى (10/ 327). ولابن أبي شيبة نحوه من طريق سعيد بن المسيب.

وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بذلك في فتواها رقم (14806) (¬1). الجدة أم الأم: إذا تزوجت الأم أو أسقطت حقها في الحضانة انتقل الحق إلى أمها لقربها ولأنها في معنى الأم من حيث كمال الشفقة على المحضون (¬2). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بذلك في فتواها رقم (14806) (¬3). الأب: تنتقل الحضانة إليه بعد الأم وأم الأم؛ لأنه أقرب إلى المحضون وأكثر شفقة من غيره. الجدة أم الأب: لأنه تدلي بمن هو أحق, وتقدم على الجد؛ لأن الأنوثة مع التساوي توجب الرجحان. الجد أبو الأب؛ لأنه بمنزلة الأب. ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية ترجيح جهة الأبوة على جهة الأمومة في الحضانة، وإنما رجحت الأم على الأب لأنها أنثى ولأنها أشفق على الطفل وأصبر عليه. وبناء على هذا فترجح الجدة أم الأب على أم الأم، وترجح الأخت لأب على الأخت لأم؛ لأن جهة الأبوة ترتبط برابطتي العصوبة والرحم بخلاف جهة الأمومة فإنها إنما ترتبط مع المحضون برابطة الرحم (¬4). أخوات المحضون: لأنهن يشاركنه في النسب، وتقدم الأخت لأبوين لقوة ¬

_ (¬1) 21/ 193. (¬2) المغني (9/ 306). (¬3) 21/ 193. (¬4) مجموع الفتاوى (34/ 122 - 123)، زاد المعاد (5/ 392).

أجرة الحضانة

القرابة، ثم الأخت لأم لأنها تدلي بالأم وهي مقدمة على الأب، ثم الأخت لأب. الخالات: لأنهن يدلين بالأم، ولحديث: "الخالة بمنزلة الأم"، وتقدم الخالة لأبوين ثم الخالة لأم فالخالة لأب كما في الأخوات. ثم العمات، ثم بنات الإخوة، ثم بنات الأخوات ثم بنات الأعمام، ثم بنات العمات، ثم بقية العصبة الأقرب فالأقرب؛ لأن لهم ولاية وتعصيبًا بالقرابة فثبتت لهم الحضانة كالأب. ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن العمة أحق من الخالة وأن نساء الأب يقدمن على نساء الأم؛ لأن الولاية للأب وكذا أقاربه كما سبق. أجرة الحضانة: اختلف الفقهاء هل تجب للحاضنة أجرة أم لا؟ على ثلاثة أقوال: الأول: تجب للحاضنة أجرة إذا طالبت بها ولو كانت هي أم المحضون وهو مذهب الشافعية والحنابلة (¬1). وذلك لأن الحضانة ليست واجبة فلو امتنعت عنها لم تجبر. والأجرة تكون في مال المحضون إن كان له مال وإلا فعلى من تجب عليه نفقته. الثاني: لها الأجرة ما لم تكن الحضانة مستحقة عليها وهو مذهب الحنفية (¬2) كأن تكون أمًا للمحضون وهي تحت أبيه، أو في عدة الطلاق الرجعي؛ لأن ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (9/ 98)، مغني المحتاج (3/ 452)، أسنى المطالب (4/ 447)، نهاية المحتاج (7/ 225)، حاشية قليوبي وعميرة (4/ 89)، كشاف القناع (3/ 562)، و (5/ 498)، دقائق المنتهى شرح منتهى الإرادات (2/ 252). (¬2) درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 411)، البحر الرائق (4/ 180 - 181)، مجمع الأنهر (1/ 482).

الحكم عند بلوغ المحضون سبع سنين

الإرضاع مستحق عليها ديانة لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} (¬1)، وإنما تعذر لاحتمال عجزها، فإذا أقدمت عليه بالأجر ظهر قدرتها فكان الفعل واجبًا عليها فلا يجوز أخذ الأجر عليه. الثالث: ليس لها أجرة إلا إذا كانت أمًا وهي فقيرة والمحضون غني وهو المشهور من مذهب المالكية (¬2)؛ لأنها في هذه الحالة تجب عليه نفقتها. الحكم عند بلوغ المحضون سبع سنين: عندما يبلغ المحضون الذكر سبع سنين إما أن يتفق أبواه المنفصلان على أن يكون لدى أحدهما أو يختلفا فإن اتفقا على شيء كان لهما ذلك؛ لأن الحق لا يعدوهما، وإن تنازعا فقد اختلف الفقهاء عند من يكون؟ على قولين: الأول: يخيره الحاكم بينهما ويكون عند من اختاره وهو مذهب الشافعية والحنابلة (¬3)؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت امرأة جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا قاعد عنده فقالت: يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة وقد نفعني فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "استهما عليه"، فقال زوجها: من يحاقني في ولدي؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت" فأخذ بيد أمه فانطلقت به، وفي لفظ مختصر عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "خير النبي - صلى الله عليه وسلم - غلامًا بين أبيه وأمه" (¬4). ¬

_ (¬1) البقرة: 233. (¬2) التاج والإكليل (4/ 221)، الفواكه الدواني (2/ 67)، مواهب الجليل (4/ 221)، شرح ميارة (1/ 269)، حاشية العدوي (2/ 133)، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (2/ 765). (¬3) مغني المحتاج (3/ 456)، المغني (9/ 300)، الإنصاف (9/ 429). (¬4) رواه أحمد (2/ 246)، وابن ماجه برقم (2352)، وأبو داود برقم (2277)، والترمذيُّ برقم (1357) وصححه، والنسائيُّ برقم (3496)، والحاكم [4/ 108 (7039)]، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

هل يختلف حكم الجارية إذا بلغت سبع سنين عن حكم الصبي؟

وما رواه عبد الرحمن بن غنم "أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خير غلامًا بين أبيه وأمه" (¬1)، ولأنه إذا مال إلى أحد أبويه دل على أنه أرفق به وأشفق عليه. الثاني: لا يخير وهو مذهب الحنفية والمالكية (¬2)؛ لأنه دون البلوغ فهو كمن دون السبع سواء فلا قول له، ولا يعرف حظه وربما اختار من يلعب عنده ويترك تأديبه ويمكنه من شهواته فيؤدي إلى فساده. ويضم إلى الأب عند الحنفية؛ لأنه استغنى بنفسه ويحتاج إلى التثقيف والتأدب والتخلق بأخلاق الرجال وآدابهم والأب أقدر على ذلك. ويبقى مع الأم عند المالكية كما كان قبل هذا السن. وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بالقول الأوّل في فتواها رقم (14806) (¬3). هل يختلف حكم الجارية إذا بلغت سبع سنين عن حكم الصبي؟ اختلف الفقهاء في ذلك على أربعة أقوال: الأول: أن الأم أو الجدة أحق بها حتى تحيض وهو مذهب الحنفية (¬4)، ورواية عن الإمام أحمد قال ابن القيم في زاد المعاد: هي الأشهر عن الإمام (¬5)؛ لأن الجارية بعد الاستغناء تحتاج إلى معرفة آداب النساء من الطبخ والغسل ونحو ذلك، والأم أقدر على ذلك فإذا بلغت كان الأب أحق بها؛ لأنها عند ذلك تحتاج إلى التزويج ¬

_ (¬1) رواه البيهقي (8/ 4). قال ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/ 259): "رواه الشافعي والبيهقيُّ". (¬2) تبيين الحقائق (3/ 49 - 50)، المدونة الكبرى (2/ 258) ط. دار الكتب العلمية، تفسير القرطبي (3/ 164)، التاج والإكليل (4/ 214)، حاشية الدسوقي (2/ 562). (¬3) 21/ 193. (¬4) بدائع الصنائع (4/ 42 - 43)، تبيين الحقائق (3/ 48). (¬5) زاد المعاد (5/ 422)، الإنصاف (9/ 431).

أثر السن في إنهاء الحضانة

والصيانة، وإلى الأب ولاية التزويج وهو أقدر على الصيانة. وإن كانت الحاضنة غير الأم فإذا بلغت البنت حدًا تشتهى تضم إلى الأب وحدد ذلك بسبع سنين، وقيل تسع سنين وعليه الفتوى عندهم (¬1). الثاني: أن الأم أحق بها حتى تبلغ النكاح وتتزوج إلا إذا خيف عليها وكانت الأم في غير حرز ومنعة فتضم إلى الأب وهو مذهب المالكية (¬2)، ورواية في مذهب الحنابلة إذا كانت الأم أيما أو كان زوجها محرمًا للجارية (¬3). الثالث: أن حكمها لا يختلف عن حكم الغلام الذي بلغ هذا السن وهو مذهب الشافعية (¬4). الرابع: أن الأب أحق بها وهو المذهب عند الحنابلة (¬5). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بالقول الرابع في فتواها رقم (14806) (¬6). أثر السن في إنهاء الحضانة: لا يختلف الفقهاء أن الحضانة تنتهي بالنسبة للذكر بالبلوغ مع العقل والرشد لأنه بذلك يستقل بنفسه ويقدر على إصلاح أموره بنفسه فوجب انفكاك الحجر عنه، ومن ثم فهو بالخيار في الإقامة مع من شاء من أبويه أو الانفراد عنهما. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (4/ 42 - 43)، تبيين الحقائق (3/ 48). (¬2) المدونة الكبرى (2/ 258) ط. دار الكتب العلمية، التاج والإكليل (4/ 214)، حاشية الدسوقي (2/ 562). (¬3) الإنصاف مع الشرح الكبير (24/ 492). (¬4) مغني المحتاج (3/ 459). (¬5) المغني (9/ 302 - 303)، الإنصاف (9/ 431). (¬6) 21/ 193.

وإن كانت أنثى فكذلك غير أنه ليس لها حق الانفراد بنفسها لما قد يترتب عليه من المحظورات (¬1). وفرق الحنفية بين البكر والثيب وقالوا إن الثيب كالصبي عند البلوغ رشيدا وأما البكر فتضم إلى الأب لسرعة انخداعها (¬2). ¬

_ (¬1) تبيين الحقائق (3/ 49)، مغني المحتاج (3/ 459)، نهاية المحتاج (7/ 225)، المغني (9/ 299)، كشاف القناع (5/ 499 - 500). (¬2) تبيين الحقائق (3/ 49 - 50)، العناية شرح الهداية (4/ 371).

النفقات

النفقات النفقة في اللغة: اسم لما يُنفَقُ فيذهب، تقول نفق الشيء إذا مضى ونفد، ونَفِقت الدراهم إذا فنيت، وأنفق الرجل إذا افتقر. وتجمع على نَفَقَات (¬1). وشرعًا: كفاية من يمونه الشخص خبزًا وإدامًا وكسوةً ومسكنًا وتوابعها (¬2). الأسباب الموجبة للنفقة: الأسباب التي توجب النفقة ثلاثة هي: النكاح، والقرابة، وملك اليمين (¬3)، وفيما يأتي بيان حكم النفقة حسب ترتيب هذه الأسباب: نفقة الزوجة: الأصل في وجوب نفقة الزوجات الكتاب والسنة الإجماع: أما الكتاب فقول الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} (¬4)، وقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬5). قال ابن كثير: "أي ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن فليؤدي كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف"، وذلك شامل للنفقة وغيرها من الحقوق الأخرى (¬6). ¬

_ (¬1) مجمل اللغة (2/ 877)، المفردات (ص: 504)، المصباح مادة: نفق (ص: 318). (¬2) الروض المربع (ص: 455)، كشاف القناع (5/ 459). (¬3) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (2/ 508)، الوسيط للغزالي (6/ 201)، روضة الطالبين (9/ 40)، مغني المحتاج (3/ 425)، كشاف القناع (5/ 460). (¬4) سورة الطلاق: 7. (¬5) سورة البقرة: 228. (¬6) تفسر ابن كثير (1/ 272).

شروط وجوب النفقة للزوجة

وأما السنة فما روى جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس فقال: "اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" رواه مسلم، وحديث هند بنت عتبة -رضي الله عنها- أنها جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي فقال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" متفق عليه. وأما الإجماع فقد نقله غير واحد من الفقهاء منهم ابن المنذر وابن حزم والموفق وغيرهم (¬1). شروط وجوب النفقة للزوجة: 1 - أن تكون الزوجة ممّن يمكن وطؤها: فإن كانت صغيرة لا تحتمل الوطء فلا نفقة لها وهو مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والصحيح من مذهب الشافعية والحنابلة (¬2)؛ لأنّ النفقة تجب بالتمكين من الاستمتاع ولا يتصور ذلك مع تعذر الاستمتاع كما لو لم تسلم نفسها. ولأن من لا تمكن الزوج من نفسها لا يلزم الزوج نفقتها فهذه أولى لأن تلك يمكن الزوج قهرها والاستمتاع بها كرها وهذه لا يمكن ذلك فيها بحال. وذهب الشافعية في قول إلى وجوب نفقة الصغيرة التي لا يوطأ مثلها إذا سلمت نفسها (¬3). فإن تسلمها الزوج لمصلحته كرعاية أولاده أو بهائمه وجبت ¬

_ (¬1) الإجماع لابن المنذر (ص: 78)، مراتب الإجماع (ص: 79)، الوسيط للغزالي (6/ 203)، المغني (9/ 229، 230). (¬2) بدائع الصنائع (4/ 19)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (2/ 508)، المهذب (2/ 159)، المغني (9/ 281). (¬3) المهذب (2/ 159).

مقدار ما يجب من النفقة

عليه نفقتها. 2 - أن تمكن الزوجة الزوج من نفسها تمكينًا تامًا: فإن منعت نفسها أو منعها أولياؤها أو سلمت نفسها ولكنها لم تمكن الزوج من قربانها ونحو ذلك فلا نفقة لها بالاتفاق (¬1)؛ لأن النفقة تجب في مقابلة التمكين المستحق بعقد النكاح فإذا وجد استحقت وإذا فقد لم تستحق شيئا (¬2). مقدار ما يجب من النفقة: اتفق الفقهاء على أن النفقة والكسوة تجب بالمعروف، والجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة على أن المعتبر في ذلك الكفاية وهي تختاف باختلاف من تجب لها، ويجتهد الحاكم في تقدير ذلك عند التنازع (¬3). والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬4)، وما كان دون الكفاية لم يكن معروفا، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهند بنت عتبة -رضي الله عنها-: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". المعتبر في تقدير النفقة: اختلف الفقهاء في تقدير النفقة هل المعتبر فيه حال الزوج أو حال الزوجة أو حالهما معًا على ثلاثة أقوال: الأوّل: أن الاعتبار في ذلك بحال الزوجة: وهو مذهب المالكية (¬5)؛ لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬6)، ولأنه سوى بين النفقة ¬

_ (¬1) الإجماع لابن المنذر (ص: 78). (¬2) بدائع الصنائع (4/ 18، 19)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (2/ 508)، مغني المحتاج (3/ 435)، المغني (9/ 282). (¬3) بدائع الصنائع (4/ 22)، بداية المجتهد (2/ 41)، المغني (9/ 231، 236). (¬4) سورة البقرة: 233. (¬5) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (2/ 509). (¬6) سورة البقرة: 233.

وقت وجوب النفقة

والكسوة والكسوة على قدر حالها فكذلك النفقة، ولحديث هند بنت عتبة -رضي الله عنها- حين شكت شح أبي سفيان وأنه لا يعطيها من النفقة ما يكفيها وولدها قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" (¬1) فاعتبر كفايتها دون حال زوجها، ولأن نفقتها حاجتها فكان الاعتبار بما تندفع به حاجتها دون حال من وجبت عليه كنفقة المماليك، ولأنه واجب للمرأة على زوجها بحكم الزوجية لم يقدر فكان معتبرًا بها كمهرها وكسوتها. الثاني: أن الاعتبار في تقدير النفقة بحال الزوج وهو ظاهر الرواية عند الحنفية ومذهب الشافعية (¬2)؛ لقول الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} (¬3). الثالث: أن الاعتبار بحالهما معًا وهو مذهب الحنابلة وما عليه الفتوى عند الحنفية (¬4)؛ لأنه بذلك يحصل الجمع بين الأدلة فكان أولى. وقت وجوب النفقة: يجب على الزوج دفع نفقة الزوجة إليها في صدر نهار كل يوم إذا طلعت الشمس؛ لأنه أول وقت الحاجة فإن اتفقا على تأخيرها أو تعجيل نفقة عام أو شهر أو لأقل من ذلك جاز لأن الحق لا يعدوهما كالدين. قال الموفق: "وليس بين أهل العلم في هذا خلاف علمناه" (¬5). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا. (¬2) بدائع الصنائع (4/ 24)، البحر الرائق (4/ 190)، مغني المحتاج (3/ 426، 427، 429). (¬3) سورة الطلاق: 7. (¬4) بدائع الصنائع (4/ 24)، البحر الرائق (4/ 190)، المغني (9/ 230). (¬5) المغني (9/ 240).

المسكن: ويجب على الزوج توفير مسكن ملائم للزوجة بإجماع الفقهاء لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (¬1)، إذ أن هذا في حق المطلقة فالتي في عصمة النكاح أولى، ولقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬2)، ومن المعروف أن يسكنها في مسكن ملائم، ولأنها لا تستغني عن المسكن للاستتار عن العيون وفي التصرف والاستمتاع وحفظ المتاع. ويكون المسكن على قدر يسارهما وإعسارهما لقول الله تعالى في الآية السابقة: {مِنْ وُجْدِكُمْ}، ولأنه واجب لها لمصلحتها في الدوام فجرى مجرى النفقة والكسوة. وجوب ما جرت به العادة للزوجات: ويجب للزوجة على الزوج توفير كل ما تجري به العادة لمثيلاتها في حدود ما يقدر عليه من ذلك ما تحتاج إليه للنوم من فراش ولحاف ووسادة، وزلي وحصير ونحو ذلك على حسب ما تجري به العادة ويسار الزوج وإعساره (¬3). الخادم: لا خلاف بين الفقهاء أن الزوجة إذا كانت ممّن لا تخدم نفسها لكونها من ذوي المكانة أو لكونها مريضة وجب لها خادم إذا كان الزوج قادرًا على ذلك (¬4)؛ لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬5)، ومن العشرة بالمعروف أن يقيم لها خادمًا، ولأنه مما تحتاج إليه في الدوام فأشبه النفقة. ¬

_ (¬1) سورة الطلاق: 6. (¬2) سورة النساء: 19. (¬3) المغني (9/ 236). (¬4) حاشية ابن عابدين (3/ 588)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (2/ 510)، مغني المحتاج (3/ 432)، المغني (9/ 237). (¬5) سورة النساء: 19.

نفقة المطلقة

نفقة المطلقة: لا تخلو المطلقة إما أن يكون طلاقها رجعيًا أو بائنًا فإن كان رجعيًا فلا خلاف بين الفقهاء في وجوب النفقة والسكنى والكسوة لها ما دامت في العدة؛ لأنها في حكم الزوجات لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} (¬1). وإن كان طلاقها بائنًا سواء كانت بينونة كبرى أم بينونة صغرى بخلع أو فسخ ونحو ذلك فإن كانت حاملًا فلها النفقة بالإجماع (¬2) وإن اختلفوا هل النفقة للحمل أو للحامل لأجل الحمل، ومستند الإجماع قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬3). وحديث فاطمة بنت قيس: "لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا" رواه أبو داود (¬4). ولأن الحمل ولد للزوج المطلق فلزمه الإنفاق عليه ولا يمكنه ذلك إلا بالإنفاق على أمه الحامل به. أما إن كانت غير حامل فقد اختلف الفقهاء في حقها على ثلاثة أقوال: الأوّل: لها النفقة والسكنى وهو مذهب الحنفية (¬5) لحديث عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- لما سمع حديث فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- تقول: طلقني زوجي ثلاثًا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا سكنى لك ولا نفقة" قال عمر: لا ندع كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت، وكان عمر يجعل لها السكنى والنفقة (¬6). ولأنها مطلقة فوجبت لها النفقة والسكنى كالرجعية. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 228 (¬2) التمهيد لابن عبد البر (19/ 141)، تفسير القرطبي (3/ 185)، الغني (9/ 288). (¬3) سورة الطلاق: 6. (¬4) سنن أبي داود برقم (2290)، والنسائيُّ برقم (3222). (¬5) حاشية ابن عابدين (3/ 609). (¬6) رواه أحمد (6/ 415)، والترمذيُّ برقم (1180) وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ"، وابن حبان [10 - 63 (4260)].

أسباب سقوط النفقة

الثاني: لها السكنى دون النفقة وهو مذهب المالكية والشافعية ورواية عند الحنابلة (¬1) لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} (¬2)، حيث أوجب سبحانه لهن السكنى مطلقًا ثم خص الحامل بالإنفاق عليها. لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬3)، حيث نهى عن إخراجهن مطلقًا. الثالث: لا نفقة لها ولا سكنى وهو المذهب عند الحنابلة (¬4)؛ لحديث فاطمة بنت قيس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المطلقة ثلاثًا قال: "ليس لها سكنى ولا نفقة" رواه مسلم (¬5). أسباب سقوط النفقة (¬6): من أسباب سقوط النفقة ما يأتي: 1 - النشوز: إذا نشزت المرأة بأن امتنعت عن طاعة زوجها وعن إجابته إلى نفسها سقطت نفقتها حتى تعود إلى الطاعة بالإجماع قال ابن المنذر: "وأجمعوا على إسقاط النفقة على زوج الناشر وانفرد الحكم فقال: لها النفقة" (¬7). ¬

_ (¬1) الكافي لابن عبد البر (2/ 627)، التمهيد للمؤلف نفسه (15/ 43)، مغني المحتاج (3/ 440)، المغني (9/ 288)، الإنصاف (361). (¬2) سورة الطلاق: 6. (¬3) سورة الطلاق: 1. (¬4) المغني (9/ 288)، الإنصاف (9/ 361). (¬5) صحيح مسلم برقم (1480). (¬6) حاشية الدسوقي (2/ 514)، مغني المحتاج (3/ 437)، المغني (9/ 286). (¬7) الإجماع (ص: 78).

حالة جواز أخذ الزوجة كفايتها من النفقة بدون إذن الزوج

3 - إذا فوتت عليه نفسها كإن سافرت لحاجتها الخاصة ونحو ذلك سقطت نفقتها فترة السفر؛ لأنها بذلك فوتت نفسها على الزوج بسبب من جهتها. حالة جواز أخذ الزوجة كفايتها من النفقة بدون إذن الزوج: عندما لا يدفع الزوج إلى زوجته ما يجب لها عليه من النفقة والكسوة أو يدفع إليها أقل من كفايتها فلها إن قدرت على ماله أن تأخذ منه القدر الواجب من الكفاية أو تمامه بإذنه وبغير إذنه بشرط ألا يتجاوز ذلك المعروف (¬1)؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لهند بنت عتبة -رضي الله عنها-: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، لما شكت إليه شح أبي سفيان -رضي الله عنه-، وهذا إذن لها في الأخذ من ماله بغير إذنه ورد لها إلى اجتهادها في قدر كفايتها وكفاية ولدها. وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بذلك في فتواها رقم (5101)، ورقم (17612) (¬2). التفريق بالإعسار عن النفقة: اختلف الفقهاء فيما إذا أعسر الزوج عن النفقة والكسوة أو بعضها هل يحق للزوجة طلب فسخ النكاح لأجل ذلك أم لا؟ على قولين: الأوّل: أنها لا تملك فراق الزوج بذلك ولكن تؤمر بالاستدانة عليه وهو مذهب الحنفية (¬3). واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (¬4)، وقالوا: غاية النفقة أن تكون دينًا في الذمة وقد أعسر بها الزوج ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (4/ 27)، المهذب (2/ 317)، مغني المحتاج (4/ 406)، المغني (9/ 245). (¬2) 21/ 166. (¬3) الهداية (2/ 41)، شرح فتح القدير (4/ 389، 391)، تبيين الحقائق (3/ 54)، البحر الرائق (4/ 200)، حاشية ابن عابدين (3/ 590). (¬4) سورة البقرة: 280.

فكانت المرأة مأمورة بالإنظار بالنص، ولأن في إلزام الفسخ عليه إبطال حقه بالكلية، وفي إلزام الإنظار عليها والاستدانة عليه تأخير حقها دينًا عليه وإذا دار الأمر بينهما كان التأخير أولى. الثاني: أن الزوجة مخيرة بين الصبر عليه وبين المطالبة بفراقه وهو مذهب المالكية والشافعية والصحيح من مذهب الحنابلة (¬1). واستدلوا قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬2)؛ إذ ليس الإمساك مع الإعسار وترك النفقة معروفا. ولحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الصدقة ما ترك غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تطلقني، ويقول العبد: أطعمني واستعملني، ويقول الابن: أطعمني إلى من تدعني" فقالوا: يا أبا هريرة سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا هذا من كيس أبي هريرة. رواه البخاري (¬3). قال الحافظ: "واستدل بقوله إما أن تطعمني وأما أن تطلقني من قال يفرق بين الرجل وامرأته إذا أعسر بالنفقة واختارت فراقه وهو قول جمهور العلماء" (¬4). وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال: "يفرق بينهما" رواه الدارقطني (¬5). ¬

_ (¬1) جامع الأمهات لابن الحاجب (ص: 333)، التاج والإكليل (4/ 195)، تفسير القرطبي (3/ 155)، المهذب (2/ 163)، مغني المحتاج (3/ 443)، المغني (9/ 243)، الإنصاف (9/ 383). (¬2) سورة البقرة: 229. (¬3) صحيح البخاري برقم (5040). (¬4) فتح الباري (9/ 501). (¬5) سنن الدارقطني (3/ 297). وقد اختلف فيه هل هو مرفوع أو موقوف قال الحافظ في التلخيص =

نفقة الأقارب

وروى سعيد عن سفيان عن ابن أبي الزناد قال: "سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته أيفرق بينهما؟ قال: نعم، قال أبو الزناد قلت: سنة؟ قال: سنة" (¬1). قال الشافعي -رحمه الله-: "والذي يشبه قول سعيد سنة أن تكون سنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬2). نفقة الأقارب: الأصل في وجوب نفقة الوالدين والأولاد الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب ففي نفقة الولد قال تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (¬3)، حيث أوجب سبحانه النفقة للحامل إلى وضع الحمل ثم أوجب أجر رضاع الولد على أبيه، وقال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬4)، وقال سبحانه في حق الوالدين: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (¬5)، ومن الإحسان الإنفاق عليهما عند حاجتهما. وأما الحديث فقوله - صلى الله عليه وسلم - لهند بنت عتبة -رضي الله عنه-: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" (¬6)، وحديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أطيب ما أكل الرجل ¬

_ = (4/ 8): "أما حديث أبي هريرة فرواه الدارقطني والبيهقيُّ من طريق عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة وأعله أبو حاتم". (¬1) رواه سعيد بن منصور [282 (2022)]، وعبد الرزاق (7/ 96 (12357)]، والشافعيُّ في مسنده (ص: 266)، والبيهقيُّ (7/ 469). قال الصنعاني في سبل السلام (3/ 224): "وهذا مرسل قوي، ومراسيل سعيد معمول بها لما عرف من أنه لا يرسل إلا عن ثقة". (¬2) سنن البيهقي (7/ 469). (¬3) سورة الطلاق: 6. (¬4) سورة البقرة: 233. (¬5) سورة الإسراء: 23. (¬6) تقدم تخريجه.

من كسبه وإن ولده من كسبه" رواه ابن ماجه (¬1). وأما الإجماع فحكاه ابن المنذر وابن حزم والموفق وغيرهم (¬2). وأما دليل وجوب نفقة غير الوالدين والأولاد من الأقارب فقوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} (¬3)، وقوله سبحانه: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (¬4)، أي على الوارث غير الوالد مثل ما على الوالد من النفقة عند عدمه، وحديث كليب بن منفعة عن جده أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله من أبر؟ قال: "أمك وأباك، وأختك وأخاك، ومولاك الذي يلي ذاك، حق واجب ورحم موصولة" (¬5). وحديث طارق بن عبد الله المحاربي -رضي الله عنه- قال: قدمت المدينة فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب الناس وهو يقول: "يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول: أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك" (¬6). ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه برقم (2137)، والنسائيُّ برقم (4451)، وابن حبّان [10/ 74 (4261)]، والحاكم وصححه (2/ 312). (¬2) الإجماع (ص: 78)، مراتب الإجماع (ص: 79)، تفسير القرطبي (3/ 163)، (5/ 32)، المغني (9/ 256). (¬3) سورة الإسراء: 26. (¬4) سورة البقرة: 233. (¬5) رواه أبو داود برقم (5140). (¬6) رواه النسائيُّ برقم (2532)، وابن حبّان في صحيحه [8/ 130 (3341)]، والدارقطنيُّ (3/ 44)، والحاكم في المستدرك (2/ 668 (4219)]، وقال عقبة: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، والبيهقيُّ (6/ 20)، قال الحافظ في تغليق التعليق (3/ 236 - 238): "رواه ابن حبّان في صحيحه عن عبد الله بن محمَّد الأزدي عن إسحاق بن إبراهيم وهو ابن راهويه عن الفضل بن موسى عن يزيد بن زياد بطوله، وروى النسائيُّ بعضه مفرقًا عن يوسف بن عيسى عن الفضل بن موسى" ثم ذكر له وجهًا آخر وقال عقبه: "رواه أبو عبد الله بن منده في المعرفة عن إسماعيل بن محمَّد البغدادي عن محمَّد بن الجهم ولم يسق لفظه. وأبو جناب اسمه يحيى بن أبي حية كوفي يكتب حديثه في المتابعات وكان يعاب عليه التدليس وقد صرح بسماعه هنا".

شروط وجوب نفقة الأقارب

شروط وجوب نفقة الأقارب: يشترط لوجوب الإنفاق ثلاثة شروط كالآتي (¬1): 1 - أن يكون فقيرًا لا مال له ولا كسب يستغني به عن الإنفاق عليه: فإن كان موسرًا أو له كسب يستغني به فلا تجب له النفقة؛ لأنها تجب على سبيل المواساة وهو مستغن عن ذلك. وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في فتواها رقم (2512)، و (455) (¬2). 2 - أن يكون المنفق مالكًا لما هو فاضل عن نفقته ومن تحت يده: وذلك لحديث جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا يقول: فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك" رواه مسلم (¬3)، وفي لفظ: "إذا كان أحدكم فقيرًا فليبدأ بنفسه، فإن فضل فعلى عياله، فإن كان فضل فعلى قرابته أو ذي رحمه فإن كان فضلًا فهنا وها هنا وأشار عن يمينه وشماله" (¬4). ولأن إيجاب النفقة من قبيل المواساة فلا تجب على المحتاج كالزكاة. 3 - أن يكون المنفق وارثًا للمنفَق عليه: لقول الله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ ¬

_ (¬1) المغني (9/ 258). (¬2) 21/ 173، 181. (¬3) صحيح مسلم برقم (997). (¬4) رواه عبد الرزاق في مصنفه (9/ 143)، وأحمدُ (3/ 305)، والنسائيُّ برقم (4653)، وابن خزيمة في صحيحه برقم (2445)، (2451)، وأبو عوانة [3/ 490 (5804)]، وابن حبّان في صحيحه (8/ 131)، و [11/ 304 (3342، 4932)].

مقدار النفقة

مِثْلُ ذَلِكَ} (¬1)، ولأن بين المتوارثين قرابة تقتضي كون الوارث أحق بمال الموروث من سائر الناس فينبغي أن يختص بوجوب صلته بالنفقة دونهم، فإن لم يكن وارثًا لعدم القرابة لم تجب عليه النفقة لذلك. مقدار النفقة: لا يختلف مقدار الواجب في نفقة الأقارب عما تقدم بيانه في نفقة الزوجات فهو الكفاية بالمعروف؛ لأنها تجب على سبيل المواساة لدفع الحاجة الناجزة فاعتبر فيها الكفاية بالمعروف (¬2). وقد أفتت بذلك اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في فتواها رقم (18705) (¬3). نفقة المماليك: يجب على السيد نفقة مملوكه ووجوب هذه النفقة ثابت بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول. أما الكتاب فقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (¬4)، حيث عطف المماليك في الأمر بالإحسان ومطلق الأمر يحمل على الوجوب والإنفاق عليهم إحسان بهم فكان واجبًا. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 233. (¬2) مغني المحتاج (3/ 448)، المغني كشاف القناع (5/ 486). (¬3) 21/ 161. (¬4) سورة النساء: 36.

وأما السنة فما تقدم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الصدقة ما ترك غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تطلقني، ويقول العبد: أطعمني واستعملني" الحديث، وحديث أبي ذر -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم" متفق عليه (¬1). وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق" (¬2) رواه مالك والشافعيُّ. وحديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في مرضه الذي توفي فيه: "الصلاة وما ملكت أيمانكم"، فما زال يقولها حتى ما يفيض بها لسانه (¬3). وأما الإجماع فقد نقله غير واحد من الفقهاء (¬4)، قال الموفق: "وأجمع العلماء على وجوب نفقة المملوك على سيده". وأما المعقول فلأنه عبد مملوك لا يقدر على شيء فلو لم تجعل نفقته على مولاه لهلك إذ لا بد له من نفقة ومنافعه لسيده وهو أخص الناس به فوجبت نفقته عليه كبهيمته. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري برقم (30، و 2407)، وصحيح مسلم برقم (1661). (¬2) رواه أحمد (2/ 247)، والبخاريُّ في الأدب المفرد برقم (192)، ومسلمٌ في صحيحه برقم (1662)، ومالك في الموطأ [2/ 980 (1769)]، والشافعيُّ في الأم (5/ 101)، وفي مسنده (ص: 305)، والبيهقيُّ (8/ 6). (¬3) ابن ماجه برقم (1625)، والنسائيُّ في الكبرى برقم (7097، 7098)، وأبو يعلى برقم (6936)، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/ 55): "هذا إسنادٌ صحيحٌ على شرط الشيخين فقد احتجا بجميع رواته". (¬4) مختصر اختلاف العلماء (3/ 407)، بدائع (4/ 39)، التمهيد (24/ 289)، المغني (9/ 314).

مقدار الواجب من النفقة للمملوك

مقدار الواجب من النفقة للمملوك: الواجب من نفقة المملوك قدركفايته من غالب قوت البلد سواء كان قوت سيده أو دونه أو فوقه، وأدم مثله بالمعروف (¬1) لحديث أبي ذر: "للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف". ويستحب أن يطعمه من جنس طعامه لحديث أبي ذر: "فليطعمه مما يأكل". وأما الكسوة فتجب له بالمعروف من غالب الكسوة لأمثال العبد في ذلك البلد الذي هو به، والأولى أن يلبسه من لباسه لحديث أبي ذر: "وليلبسه مما يلبس". حكم إعفاف العبد والأمة بالزواج: اختلف الفقهاء في وجوب إعفاف العبد والأمة بالزواج فذهب الحنفية والمالكية والشافعية في الأظهر إلى عدم وجوب ذلك (¬2)؛ لأنه ليس مما تقوم به البنية ويتضرر السيد بفوات بعض منافع العبد، وأما الأمر بالتزويج في قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (¬3)، فهو على الاستحباب. وذهب المالكية الشافعية في قول لهما والحنابلة إلى وجوب إعفافه عند طلبه ذلك، وإن طلبته الأمة خير بين وطئها (¬4) أو تزويجها أو بيعها لإزالة الضرر عنها، ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين، التمهيد (24/ 289)، (3/ 636)، روضة الطالبين (9/ 115، 116)، شرح مسلم للنووي (11/ 133). (¬2) أحكام القرآن للجصاص (3/ 465)، مواهب الجليل (3/ 425)، قوانين الأحكام الشرعية (ص: 133)، روضة الطالبين (7/ 102)، المهذب (2/ 40). (¬3) سورة النور: 32. (¬4) مواهب الجليل (3/ 425)، روضة الطالبين (7/ 102)، المهذب (2/ 40)، المغني (9/ 315)، مجموع الفتاوى (32/ 202).

حكم تكليف المملوك من العمل ما لا يطيق

واستدلوا على الوجوب بقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}، ولما رواه عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "من كانت له جارية فلم يزوجها ولم يصبها أو عبد فلم يزوجه فما صنعا من شيء كان على السيد" (¬1)، أي فما ارتكبا من إثم بسبب ذلك كان على السيد ولولا وجوب إعفافهما لما لحق السيد الإثم بفعلهما، ولأنه مكلف محجور عليه طلب تزويجه فلزمته إجابته كالمحجور عليه للسفه، ولأن النكاح مما تدعو إليه الحاجة غالبًا ويتضرر بفواته فأجبر عليه كالنفقة (¬2). حكم تكليف المملوك من العمل ما لا يطيق: يحرم أن يكلف السيد مملوكه ما لا يطيقه وهو كل عمل يشق عليه ويقرب من العجز عنه (¬3)؛ لحديث أبي ذر المتقدم: "ولا يكلف من العمل ما لا يطيق"، ولعموم حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ضرر ولا ضرار من ضار ضاره الله ومن شاق شاق الله عليه" (¬4). نفقة البهائم: يجب على من ملك بهيمة الإنفاق عليها بتوفير علفها وسقيها والقيام بكل ¬

_ (¬1) ذكره الموفق في المغني (9/ 315). (¬2) المغني (9/ 315). (¬3) روضة الطالبين (9/ 119)، المغني (9/ 315). (¬4) الحاكم (2/ 66 (2345)] وقال عقبه: "صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه"، قال ابن الملقن في الخلاصة (2/ 438): "وقد رواه مالك عن عمرو بن يحيى المازني مرسلًا وابن ماجه مسندًا من رواية ابن عباس وعبادة بن الصامت، والطبرانيُّ من رواية ثعلبة بن أبي مالك، والحاكم من رواية أبي سعيد الخدري وقال: صحيح على شرط مسلم، وقال ابن الصلاح: حسن، قال أبو داود: وهو أحد الأحاديث التي يدور عليها الفقه".

حكم تعذيب البهائم وتكليفها ما لا تطيق

ما يصلحها أو إقامة من يرعاها في ذلك (¬1) وهذا مما هو مجمع عليه بين الفقهاء (¬2) لما رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعًا، فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض" متفق عليه (¬3). وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية في فتواها رقم (13703) (¬4). وإن عجز عن الإنفاق عليها أو أبى ذلك أجبر عليه أو على بيعها أو ذبحها إن كانت مما يذبح لرفع الضرر عنها (¬5). حكم تعذيب البهائم وتكليفها ما لا تطيق: يحرم تعذيب البهائم وتحميلها ما لا تطيق، ولا يجوز أتخاذ ظهرها مجالس؛ لأن ذلك من قبيل التعذيب، والأصل في ذلك ما تقدم من حديث ابن عمر: "عذبت امرأة في هرة" الحديث، وحديث أبي سعيد الخدري: "لا ضرر ولا ضرار" الحديث. ولحديث شداد بن أوس -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء" الحديث رواه مسلم (¬6)، وحديث سهل بن عمرو -رضي الله عنه- قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببعير قد لحق ظهره ببطنه فقال: "اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة واركبوها صالحة، وكلوها صالحة" رواه أبو داود (¬7). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (9/ 120)، المغني (9/ 317). (¬2) مختصر اختلاف العلماء (3/ 407). (¬3) صحيح البخاري برقم (2236) و (3295) وصحيح مسلم برقم (2242). (¬4) 21/ 189. (¬5) روضة الطالبين (9/ 120)، المغني (9/ 317). (¬6) صحيح مسلم برقم (1955). (¬7) سنن أبي داود برقم (2548). وصحح إسناده الإمام النوويّ في المجموع (4/ 273).

النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر؛ فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وجعل لكم الأرض فعليها فاقضوا حاجاتكم" رواه أبو داود (¬1). وعن أنس -رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه مر على قوم وهم وقوف على دواب لهم رواحل فقال لهم: "اركبوها سالمة ودعوها سالمة ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرًا لله تبارك وتعالى منه" (¬2). وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بتحريم تجويع الحيوان في فتواها رقم (16655) (¬3). ¬

_ (¬1) سنن أبي داود برقم (2567). وجود إسناده الإمام النوويّ في المجموع (4/ 272). (¬2) رواه أحمد (3/ 439)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 140): "رواه أحمد وإسناده حسن". (¬3) 21/ 191.

كتاب الفرائض

الفِقهُ الميَسَّر كتاب الفرائض

تعريف الفرائض

كتاب الفرائض تعريف الفرائض: في اللغة: الفرائض جمع فريضة مأخوذة من الفرض ومن معانيه القطع، يقال فرضت لفلان كذا من المال "أي قطعت له شيئًا منه" (¬1). ومنها، التقدير قال تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (¬2) أي قدرتم. واصطلاحًا: العلم بقسمة المواريث فقهًا وحسابًا (¬3). أهمية علم الفرائض: علم الفرائض من أهم العلوم في الإِسلام وقد تولى الله تقدير الفرائض بنفسه فبينها أتم بيان فجاءت آيات المواريث وأحاديثها شاملة لكل ما يمكن وقوعه من المواريث، وكان الناس في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغار من الذكور وإنما هي لمن قاتل وحاز الغنيمة، فأبطل الله ذلك وجعل لكل نصيبه المناسب قسمة عادلة بحسب ما تقتضيه حكمته البالغة وجاء الحديث مبينًا تلك الأهمية قال أبو هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تعلموا الفرائض وعلموها فإنها نصف العلم (¬4)، وهو ينسى وهو أول شيء ينزع من أمتي" (¬5). الأصل في مشرعية الفرائض: والأصل في مشروعية الفرائض (المواريث): الكتاب والسنة والإجماع: ¬

_ (¬1) لسان العرب لابن منظور مادة: فرض. (¬2) سورة البقرة: 237 (¬3) حاشية ابن عابدين (6/ 811). (¬4) قيل في كون الفرائض نصف العلم، لأنها تتعلق بالموت، وغيرها بالحياة، فهذا نصف وذاك نصف. والله أعلم. (¬5) رواه ابن ماجه (2719).

فأما الكتاب: فآيات المواريث ومنها قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} الآيات (¬1). وأما السنة: فمنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وألحقوا الفرائض بأهلها فما بقى فهو لأولى رجل ذكر" (¬2). وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على الإرث بالنكاح والنسب والولاء إذا انتفت الموانع ووجدت التركة ولم يكن حجب (¬3). ¬

_ (¬1) سورة النساء: 11 - 12. (¬2) أخرجه البخاريُّ (6732) ومسلمٌ (1615). (¬3) الإفصاح، لابن هبيرة (2/ 82).

التركة

التركة التركة لغة: بفتح التاء وكسر الراء مصدر بمعنى المفعول أي متروكة (¬1). واصطلاحًا: هي ما تركه الميت من أموال وحقوق. وقيل: ما تركه الميت من الأموال خاليًا عن تعلق حق الغير بعينه (¬2). الحقوق المتعلقة بالتركة: يتعلق بالتركة حقوق خمسة مرتبة بقدم بعضها على بعض هي: 1 - مؤن تجهيز الميت من كفن وأجرة غسل ونقل وغيره، ويرى الحنابلة وهو قول للحنفية البدء بها قبل غيرها، لأنّ سترته واجبة في الحياة، فكذلك بعد الموت. ويرى الحنفية في قول والمالكية والشافعية البدء بالحقوق المتعلقة بعين التركة على مؤن التجهيز، لأنها متعلقة بالمال قبل كونه تركة. 2 - الحقوق المتعلقة بعين التركة: كدين برهن فإنها متعلقة بعين التركة. 3 - الحقوق المطلقة وهي المتعلقة بذمة الميت وليس بعين التركة وهي نوعان: أ- حقوق الآدمي كالقرض وأجرة الدار وثمن المبيع ونحوها. ب- حقوق الله كالزكاة والنذر والكفارات. 4 - الوصية بالثلث فما دون لغير وارث. 5 - الإرث: وهو المقصود بهذا البحث. ¬

_ (¬1) القاموس المحيط مادة: "ترك". (¬2) تبيين الحقائق (6/ 229)، البحر الرائق (8/ 557)، إعانة الطالبين (3/ 238).

أركان الإرث

أركان الإرث: أركان الإرث ثلاثة: 1 - المورث: وهو الميت حقيقة أو حكمًا مثل المفقود. 2 - الوارث: وهو الحي الذي ينتمي إلى الميت بسبب من أسباب الميراث. 3 - الموروث: وهو التركة من مال أو حق. شروط الإرث: يشترط لثبوت الإرث ثلاثة شروط: 1 - تحقق حياة الوارث بعد موت المورث ولو لحظة: ويدخل فيه الحمل إذا انفصل حيًا حياة مستقرة. 2 - تحقق موت المورث أو إلحاقه بالأموات حكمًا: كالمفقود إذا حكم القاضي بموته، أو إلحاقه بالأموات تقديرًا كما في الجنين إذا انفصل بجناية على أمه. 3 - العلم بالجهة المقتضية للإرث: من زوجية أو قرابة أو ولاء، وتعين جهة القرابة من بنوة، وأبوة، وأمومة، وأخوة، وعمومة، والعلم بالدرجة التي اجتمع الميت والوارث فيها. أسباب الإرث: يتفق الفقهاء على أن أسباب الإرث ثلاثة: 1 - النكاح: وهو عقد الزوجية الصحيح وإن لم يحصل به وطء ولا خلوة، ويرث به الزوجان لقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة النساء: 12.

موانع الإرث

2 - النسب: وهو الاتصال بين إنسانين بالاشتراك في ولادة قريبة أو بعيدة، وتشمل الأصول وهم الآباء والأمهات والأجداد والجدات، والفروع: وهم الأولاد وأولاد البنين وإن نزلوا، والحواشي وهم الأخوة والأخوات وبنو الإخوة الأشقاء أو من الأب، والأعمام من الأبوين أو من الأب وبنوهم وذلك لقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (¬1). 3 - الولاء: والمراد به ولاء العتق، ويورث به من جانب واحد فقط وهو المعتق، لأنه أنعم على عتيقه بالحرية لما ورد في حديث بريرة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنما الولاء لمن أعتق" (¬2). ويضيف المالكية والشافعية سببًا رابعًا وهو بيت المال. موانع الإرث: يتفق الفقهاء على أن موانع الإرث ثلاثة: الأوّل: الرق: وهو عجز حكمي يلحق الإنسان بسبب الكفر، وذلك لأنّ الرقيق وما ملكت يده لسيده. الثاني: القتل: يتفق الفقهاء على أن القتل العمد العدوان من الوارث لمورثه يمنعه من الإرث لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الزوجين: "فإن قتل أحدهما صاحبه عمدًا لم يرث من ديته وماله شيئًا، وإن قتل ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: 75. (¬2) أخرجه البخاريُّ [2/ 757 (2048)]، ومسلمٌ [2/ 1142 (1504)].

صاحبه خطأ ورث من ماله ولم يرث من ديته" (¬1). ويختلفون فيما عدا ذلك وفقًا للآتي: 1 - يرى الحنفية أن قتل شبه العمد وقتل الخطأ وما جرى مجرى الخطأ كلها تمنع الإرث دون القتل بالسبب وقتل الصبي والمجنون فلا يمنع من الإرث لعدم الإثم فيها. 2 - ويرى المالكية أن القتل خطأ يمنع من الإرث ومن الدية فقط ويرث من غيرها. 3 - ويرى الشافعية وهو رواية عن أحمد أن القتل مطلقًا مباشرة أو تسببًا بحق أو بغيره مضمونًا أو غير مضمون يمنع الإرث، لأنّ توريث القاتل يفضي إلى تكثير القتل. 4 - ويرى الحنابلة أن القتل المضمون بدية أو كفارة كشبه العمد والخطأ وما أجري مجرى الخطأ كالقتل بالسبب وقتل الصبي والمجنون والنائم يمنع من الإرث دون ما ليس بمضمون كالقصاص والحد فلا يمنع من الإرث. ¬

_ (¬1) رواه ابن الجارود في المنتقى (ص: 247)، (967)، والدارقطنيُّ في سننه (2/ 73)، والبيهقيُّ في السنن الكبرى (6/ 221). قال الدارقطنيُّ عقبه: محمَّد بن سعيد الطائفي ثقة. قال ابن الجوزي في التحقيق (2/ 242) بعد أن ذكر قول الدارقطني: "الحسن بن صالح مجروح، قال ابن حبّان: ينفرد عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات". قال ابن عبد الهادي في تنقيحه للتحقيق (3/ 122 - 123): "وقال الحاكم الحسن ابن صالح عشرة ليس فيهم مطعون غير الحسن بن صالح العجلي. وروى هذا الحديث ابن ماجة. وقد فرَّق شيخنا في التهذيب بين عمرو بن شعيب وبين عمرو بن سعيد لأن في بعض النسخ هذا الحديث عن عمرو بن سعيد وكذلك هو في الأطراف لأبي القاسم وهو خطأ هكذا قال شيخنا في التهذيب وعند الدارقطني أنه الطائفي وقد قال بعض الحفاظ في هذا الحديث إنه منكر وقال أبو محمَّد الظاهري في كتاب الفرائض له هذا الخبر عندنا ضعيف" أ. هـ.

الثالث: اختلاف الدين

الراجح: يظهر أن الراجح هو القول بمنع الميراث بالقتل إذا كان القتل بغير حق، أما إذا كان القتل بحق فلا يمنع الإرث كالقصاص والحد والدفاع عن النفس. وفي ذلك جمع بين الأدلة الشرعية المانعة لتوريث القاتل ومنها حديث عمر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليس للقاتل شيء" (¬1). ولأن عمر -رضي الله عنه- أعطى دية ابن قتادة المدلجي لأخيه دون أبيه وكان حذفه بسيف فقتله، واشتهرت هذه القصة بين الصحابة -رضي الله عنهم - فلم تنكر فكانت إجماعًا. أما إقامة الحدود الواجبة واستيفاء الحقوق المشروعة فلا تمنع الميراث لأنها لا تفضي إلى إيجاد قتل محرم (¬2). الثالث: اختلاف الدين: والمراد به أن يكون المورث على دين والوارث على دين آخر، ويندرج تحته أمران: الأوّل: إرث المسلم من الكافر والكافر من المسلم: وقد اختلف الفقهاء في ذلك: ¬

_ (¬1) رواه مالك في موطئه (2/ 867)، والنسائيُّ في السنن الكبرى [4/ 79 (6368)] قال الحافظ في الدراية (2/ 260): "قال النسائي: الصواب رواية مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب أن عمر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس للقاتل شيء" انتهى وهو في الموطإ" أ. هـ. وقال ابن عبد الهادي في التنقيح (3/ 121): "ورواه النسائيُّ مرفوعًا: "ليس للقاتل شيء" قال النسائيُّ: "وهو الصواب" وقد جود ابن عبد البر هذا وقال إن الصواب ما قاله النسائيُّ. (¬2) حاشية ابن عابدين (6/ 810 - 820)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 417 - 427)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 997 - 1008)، والمغني لابن قدامة (9/ 5 و 105) وانظر فقه المواريث د. عبد الكريم اللاحم (1/ 141) المكتب التعاوني للدعوة عام 1413 هـ والتحقيقات المرضية في المباحث (ص: 14 وما بعدها)، مطابع الوطن، وتسهيل الفرائض، محمَّد صالح العثيمين (ص: 11) دار الطباعة اليوسفية بمصر.

1 - يرى الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد أن المسلم لا يرث الكافر ولا الكافر المسلم مطلقًا، وذلك لحديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" (¬1). 2 - ويرى أحمد في رواية أن التوارث بين المسلم والكافر يحصل بالولاء، لحديث: "لا يرث المسلم النصراني إلا أن يكون عبده أو أمته" (¬2). ويقاس إرث غير المسلم لعتيقه المسلم على ذلك. 3 - يرى الشعبي والنخعي وإسحاق وهو رواية عن عمر ومعاذ -رضي الله عنهم- أنهم ورثوا المسلم من الكافر ولم يورثوا الكافر من المسلم وذلك لحديث: "الإِسلام يزيد ولا ينقص" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (4/ 243)، ومسلمٌ (3/ 1233). (¬2) أخرجه النسائيُّ في السنن الكبرى [4/ 83 (6389)]، والدارقطنيُّ في سننه (4/ 74، 75)، وقال عقبه: "موقوف وهو المحفوظ"، والحاكم في المستدرك [4/ 383 (8007)] وصححه، والبيهقيُّ في السنن الكبرى (6/ 218). قال ابن عبد الهادي في التنقيح (3/ 125): "قال الدارقطني روي موقوفًا وهو المحفوظ، ورواه النسائيُّ من رواية وهب وقد وثقه ابن حبّان" وقال الحافظ في فتح الباري (12/ 53): "وأما ما أخرج النسائيُّ والحاكم من طريق أبي الزبير عن جابر مرفوعًا: "لا يرث المسلم النصراني إلا أن يكون عبده أو أمته"، وأعله بن حزم بتدليس أبي الزبير وهو مردود فقد أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع جابرًا فلا حجة فيه لكل من المسألتين لأنه ظاهر في الموقوف". وقال ابن القطان في تحفة المحتاج (2/ 325): ورواه النسائيُّ وصححه الحاكم وأعله ابن حزم بعنعنة أبي الزبير عن جابر كعادته وأعله ابن القطان بمحمد بن عمرو اليافعي الذي في سنده وقال إنه مجهول الحال. قلت: هذا غريب فقد روى عن ابن جريج وغيره وعنه ابن وهب وأخرج له مسلم في صحيحه وذكره ابن حبّان في ثقاته وقال أبو حاتم وأبو زرعة شيخ وقال الحاكم صدوق الحديث صحيح نعم قال ابن عديّ له مناكير وقال ابن يونس روى عنه ابن وهب وحده بغرائب" أ. هـ. (¬3) أخرجه أحمد (5/ 230، 236)، وأبو داود (2/ 113)، والطبرانيُّ في الكبير المعجم الكبير [20/ 162 (338)]، والحاكم في المستدرك [4/ 383 (8006)] وقال: صحيح الإسناد ولم

وإرث المسلم من الكافر زيادة وإرث الكافر من المسلم نقصان فيكون داخلًا في مدلول الحديث. الراجح: يتبين من أدلة الأقوال التي ذكرناها ترجح ما ذهب إليه الجمهور لقوة دليله وصراحته في الاستدلال، والله أعلم. الثاني: إرث الكفار فيما بينهم: ولذلك حالتان: 1 - أن يكونوا على دين واحد كاليهود مثلا ففي هذه الحال يرث بعضهم بعضا لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتوارث أهل ملتين شيء" (¬1)، وهو يدلّ على أن أهل الملة الواحدة يرث بعضهم بعضا. 2 - أن يكونوا على أديان مختلفة كاليهود مع النصارى أو غيرهم وقد اختلف في ذلك الفقهاء على النحو الآتي: ¬

_ = يخرجاه، والبيهقيُّ في السنن الكبرى (6/ 205). قال الحافظ في فتح الباري (12/ 50): "وهو حديث أخرجه أبو داود وصححه الحاكم من طريق يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الدؤلي عنه قال الحاكم: صحيح الإسناد، وتعقب بالانقطاع بين أبي الأسود ومعاذ، ولكن سماعه منه ممكن. وقد زعم الجوزقاني أنه باطل وهي مجازفة وقال القرطبي في المفهم هو كلام محكي ولا يروى كذا قال وقد رواه من قدمت ذكره فكأنه ما وقف على ذلك وأخرج أحمد بن منيع بسند قوي عن معاذ أنه كان يورث المسلم من الكافر بغير عكس". (¬1) أخرجه أحمد (2/ 195)، وأبو داود (2/ 113). وابن ماجة [2/ 912 (2731)]، وابن الجارود في المنتقى [1/ 243 (967)]، والنسائيُّ في السنن الكبرى [4/ 82 (6383، 6384)]، والدارقطنيُّ في سننه (4/ 75)، والطبرانيُّ في المعجم الأوسط [6/ 251 (6323)]، وقال عقبه: "لم يرو هذا الحديث عن يعقوب بن عطاء إلا سفيان تفرد به سعيد بن منصور". قال ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/ 135): "رواه أبو داود والنسائيُّ وابن ماجه والدارقطنيُّ من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وإسناد أبي داود والدارقطنيُّ إسناد صحيح وإسناد الآخرين ضعيف".

أ- فيرى الجمهور من الحنفية والشافعية ورواية عن أحمد أن الكفر كله ملة واحدة، وبناء عليه يتوارث الكفار فيما بينهم دون نظر إلى اختلافهم في الديانة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (¬1). وهي تدل على أنهم مله واحدة وهم أولياء بعض. ب- ويرى المالكية في قول وهو رواية في مذهب الحنابلة أن الكفر ثلاث ملل، اليهودية والنصرانية، وغيرهما ملة لأنهم يجمعهم أنهم لا كتاب لهم فلا يرث أهل ملة غيرها. ج- ويرى المالكية في قول والحنابلة في رواية أن الكفر ملل متعددة حسب النحلة والمذهب دون الاعتماد على وجود كتاب لهم. واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتوارث أهل ملتين شتى" (¬2). الراجح: يتبين من ذلك رجحان القول بأن الكفر ملل شتى فلا توارث بين أهل الملتين المختلفتين للحديث الذي استدلوا به، ولأن كل فريق من الكفار لا موالاة بينه وبين الآخر ولا اتفاق في الدين فلم يرث بعضهم بعضًا كالمسلمين مع الكفار (¬3)، ولأنه لو ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: 73. (¬2) رواه أحمد (2/ 195)، وأبو داود برقم (2911)، والنسائيُّ في السنن الكبرى برقم (6383)، وابن ماجة برقم (2731)، والدارقطنيُّ (4/ 75). قال الحافظ في تلخيص الحبير (3/ 84): أخرجه أحمد والنسائيُّ وأبو داود وابن ماجة والدارقطنيُّ وابن السكن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وسكت عنه. وقال ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/ 135): رواه أبو داود والنسائيُّ وابن ماجه والدارقطنيُّ من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وإسناد أبي داود والدراقطني إسنادٌ صحيحٌ وإسناد الآخرين ضعيف. (¬3) حاشية ابن عابدين (6/ 820)، ومواهب الجليل للحطاب (6/ 422)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1008)، والمغني لابن قدامة (9/ 150).

موانع الإرث المختلف فيها

جعل لغير المسلم حق توارثه مع غير من هو على دينه من الكفار لأعطى مزية له على المسلم من حيث أنه يستفيد التوارث مع جميع الملل، والمسلم لا يمكنه ذلك فلم يكن ذلك مناسبًا. والله أعلم. موانع الإرث المختلف فيها: يرى بعض الفقهاء أن هناك موانع أخرى للإرث غير ما ذكر ويخالفهم آخرون وإليك بيان ذلك: الأول: الردة: اتفق الفقهاء على أن المرتد وهو من ترك الإِسلام بإرادته لا يرث أحدًا ممّن يجمعه وإياهم سبب من أسباب الميراث، لأنّ المرتد لا ملة له حيث لا يقر على الدين الذي ينتقل إليه. ويختلف الفقهاء هل يورث المرتد أم لا؟ 1 - ذهب المالكية والشافعية والحنابلة في الرواية المشهورة عندهم إلى أن المرتد لا يرثه أحد من المسلمين أو غيرهم، ويكون ماله إن قتل أو مات فيئًا يدفع لبيت المال للأدلة المانعة من إرث المسلم للكافر والكافر للمسلم، كما يقاس المرتد على الكافر الأصلي في عدم إرث المسلم له. 2 - ذهب أبو يوسف ومحمَّد بن الحسن من الحنفية وهو رواية عن أحمد إلى أن هذا المانع لا يؤثر مطلقًا، فيرث المسلم ما خلفه المرتد، سواء ما كسبه بعد ردته أو قبلها، وذلك لفعل أبي بكر وعلي -رضي الله عنهما-، ولأن ردته ينتقل بها ماله فوجب أن ينتقل إلى ورثته المسلمين، كما لو انتقل بالموت واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1). ¬

_ (¬1) تسهيل الفرائض، محمَّد بن عثيمين (ص: 19).

الثاني: اختلاف الدار فيما بين الكفار

3 - ذهب أبو حنيفة إلى التفرقة بين ما كسبه المرتد في إسلامه فيرثه ورثته المسلمون ولا يرثون ما اكتسبه في زمان ردته ويكون فيئًا للمسلمين؛ لأنّ إرث المسلم للمرتد لكونه مسلمًا قبل ردته فيقتصر على ما كسبه في تلك الحال. أما المرأة المرتدة فيرثها أقاربها من المسلمين سواء كان اكتسابها للمال حال إسلامها أو حال ردتها. الراجح: يتضح من ذكر أقوال الفقهاء وأدلتهم أن الراجح هو القول بعدم إرث المسلم للمرتد لكفره بردته، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" (¬1). الثاني: اختلاف الدار فيما بين الكفار: ويقصد باختلاف الدار إذا كان كل من البلدين يستحل قتال الآخر، وقد اختلف في ذلك الفقهاء وفقًا للآتي: 1 - يرى جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية في قول لهم والحنابلة أن اختلف الدارين لا يمنع من التوارث بين غير المسلمين لحديث: "لا توارث بين أهل ملتين" (¬2)، ومفهومه أن أهل الملة الواحدة يتوارثون ولو اختلفت ديارهم. 2 - يرى الحنفية وهو المشهور من مذهب الشافعية وقول لبعض الحنابلة أن اختلاف الدارين يمنع من التوارث بين أهل الملة الواحدة إذا اختلفت الدار فلا توارث بين الحربي والذمي لأنّ الإرث مبني على المولاة والمناصرة، وهو غير ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (4/ 243). (¬2) تقدم تخريجه قريبًا.

الثالث: الدور الحكمي

متحقق مع اختلاف الدار (¬1). الراجح: يتضح أن قول الجمهور أولى لأدلتهم التي أوردوها. الثالث: الدور الحكمي: ومعناه: كل حكم أدى ثبوته لنفيه فيدور على نفسه بالبطلان. وصورته: أن يقر وارث بجميع المال لمن يحجبه عنه، كأن يقر أخ شقيق بابن وارث للمورث فإنه يلزم من ثبوت الإرث للابن انتفاؤه عنه، وقد اختلف الفقهاء في ذلك على أقوال: 1 - أن ذلك مانع للإرث فلا يرث الابن، وهو الأظهر عند الشافعية، لأنّ التوريث يبطل التوريث فلا يصح منعًا للدور. 2 - أن ذلك لا يمنع من الإرث فيكون الميراث للابن وهو قول أبي حنيفة وقول للشافعي والحنابلة، لأنّ الإقرار يثبت النسب، وإذا ثبت النسب ثبت الإرث، لأنه فرع عنه (¬2). الورثة: قسمان فيكونون رجالًا أو نساء: أولًا: الوارثون من الرجال: والمراد بالرجال هم الذكور مطلقًا وقد أجمع الفقهاء على إرث خمسة عشر وهم: ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (6/ 821)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 427)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1088)، والمغني لابن قدامة (9/ 157). (¬2) حاشية ابن عابدين (6/ 823)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1010)، والإنصاف للمرداوي (7/ 361).

1 - الابن: لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (¬1). 2 - ابن الابن: وإن نزل بمحض الذكور وذلك قياسًا على الابن ولقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} (¬2). 3 - الأب: لقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} (¬3). 4 - الجد من قبل الأب: وإن علا بمحض الذكور، لأنه يدخل في لفظ الأب فيتناوله النص. 5 - الأخ الشقيق: وذلك لقوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} (¬4). 6 - الأخ لأب: ودليل ذلك ما ورد في الفقرة السابقة. 7 - الأخ لأم: لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} (¬5)، والمراد به الأخ من الأم وبه قرأ سعد بن أبي وقاص وهو مجمع عليه. 8 - ابن الأخ الشقيق: وإن نزل بمحض الذكور. 9 - ابن الأخ لأب: وإن نزل بمحض الذكور. 10 - العم الشقيق وإن علا. 11 - العم لأب وإن علا. ¬

_ (¬1) سورة النساء: 11. (¬2) سورة الأعراف: 26. (¬3) سورة النساء: 11. (¬4) سورة النساء: 176. (¬5) سورة النساء: 12.

ثانيا: الوارثات من النساء

12 - ابن العم الشقيق وإن نزل. 13 - ابن العم لأب وإن نزل. ودليل ما ورد في الفقرة (¬1) إلى الفقرة (¬2) حديث: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولي رجل ذكر" (¬3). 14 - الزوج: لقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} (¬4). 15 - المعتق وعصبته المتعصبون بأنفسهم: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الولاء لمن أعتق" (¬5). ثانيًا: الوارثات من النساء: وقد أجمع الفقهاء على إرث عشر منهن: 1 - البنت: لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} (¬6). 2 - بنت الابن وإن نزل أبوها بمحض الذكور، وذلك قياسًا على البنت. 3 - الأم: لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} (¬7) 4 - الجدة من جهة الأم وأمهاتها المدليات بإناث خلص. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (6732)، ومسلمٌ (1615). (¬2) سورة النساء: 12. (¬3) أخرجه البخاريُّ [757 (2048)]، ومسلمٌ [2/ 1142 (1504)]. (¬4) سورة النساء: 12. (¬5) رواه أبو داود (2895) وقال في بلوغ المرام لابن حجر وصححه ابن خزيمة وابن الجارود وقواه ابن عدى، توضيح الأحكام لابن بسام (5/ 165). (¬6) سورة النساء: 11. (¬7) سورة النساء: 11.

5 - الجدة من قبل الأب وأمهاتها المدليات بإناث خلص، ودليل توريث الجدة من الجهتين حديث بريدة عن أبيه -رضي الله عنهما- "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم" (¬1). 6 - الاخت الشقيقة: لقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} (¬2). 7 - الأخت لأب: لقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} (¬3). 8 - الاخت لأم: لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} (¬4). 9 - الزوجة: لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} (¬5). 10 - المعتقة ومن لها ولاء العتاقة: لحديث: "الولاء لمن أعتق" متفق عليه (¬6)، ولأن ابنة حمزة أعتقت مولى لها فورثها منه - صلى الله عليه وسلم - فعن عبد الله بن شداد وهو أخو أمامة بنت حمزة لأمها عن أخته أمامة بنت حمزة أن مولى لها توفي ولم يترك ¬

_ (¬1) صحيح البخاري برقم (338)، وصحيح مسلم برقم (1504). (¬2) سورة النساء: 176. (¬3) سورة النساء: 176. (¬4) سورة النساء: 12. (¬5) سورة النساء: 12. (¬6)

أنواع الإرث

إلا ابنة واحدة فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أن لابنته النصف ولابنة حمزة النصف" رواه النسائيُّ وابن ماجة والحاكم (¬1). أنواع الإرث: الإرث نوعان: فرض وتعصيب: الأول: الفرض: وذلك بأن يكون للوارث نصيب مقدر كالنصف والربع. والفروض الواردة في القرآن ستة وهي نصف وربع وثمن وثلثان وثلث وسدس. الأول- النصف: أ- ويكون للبنت وبنت الابن وإن نزلن، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً ¬

_ (¬1) ابن ماجة برقم (2734)، والنسائيُّ في السنن الكبري [4/ 86 (6398، 6399)]، والحاكم في المستدرك [4/ 74 (6925)]، والبيهقيُّ (6/ 241). قال البيهقي عقبه: "والحديث منقطع وقد قيل عن الشعبي عن عبد الله بن شداد عن أبيه وليس بمحفوظ"، وقال في موضع آخر (10/ 302): "هذا مرسل وقد روي من أوجه أخر مرسلًا وبعضها يؤكد بعضا". قال الحافظ في تلخيص الحبير (3/ 80): "رواه النسائيُّ وابن ماجة من حديثها وفي إسناده بن أبي ليلى القاضي وأعله النسائيُّ بالإرسال وصحح هو والدارقطنيُّ الطريق المرسلة. وفي الباب عن بن عباس أخرجه الدارقطني". وقال أيضًا: "وجاء في مصنف بن أبي شيبة أنها فاطمة وأخرجه الطبراني في الكبير أيضًا". قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 231): "وعن سلمى ابنة حمزة أن مولاها مات وترك ابنته فورث النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته النصف وورث سلمى النصف وكان ابن سلمى رواه أحمد. ولها عند الطبراني قالت: مات مولى لي وترك ابنته فقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماله بيني وبين ابنته فجعل لي النصف ولها النصف رواه الطبراني بأسانيد ورجال بعضها رجال الصحيح، وإسناد أحمد كذلك إلا أن قتادة لم يسمع من سلمى" أ. هـ.

فَلَهَا النِّصْفُ} (¬1)، وبشرط ألا يكون معها أحد من الأبناء. ب- والنصف فرض الزوج بشرط ألا يكون للزوجة ولد من ذكر أو أنثى لقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} (¬2). ج- ويكون النصف فرض الأخت الشقيقة، فإن لم توجد فيكون نصيبًا للأخت لأب إذا انفردت كل واحدة منهن وعدم الفرع الوارث، وعدم الأصول من الذكور، لقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} (¬3). الثاني- الربع: أ- ويكون للزوج مع وجود الفرع الوارث لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} (¬4). ب- ويكون الربع فرض الزوجة فأكثر مع عدم الفرع الوارث للزوج لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} (¬5). الثالث- الثمن: ويكون للزوجة فأكثر مع وجود الفرع الوارث للزوج لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} (¬6). ¬

_ (¬1) سورة النساء: 11. (¬2) سورة النساء: 12. (¬3) سورة النساء: 176. (¬4) سورة النساء: 12. (¬5) سورة النساء: 12. (¬6) سورة النساء: 12.

الرابع- الثلثان: وهو فرض أربعة من الورثة: 1 - البنات: بشرط عدم المعصب وأن يكن اثنتين فأكثر لقوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} (¬1). 2 - بنات الابن: بشرط عدم الفرع الوارث الذي هو أعلا منهن وذلك علاوة على ما ذكر في إرث البنات. 3 - الأخوات الشقائق: ويشترط لهن علاوة على ما ذكر في بنات الابن عدم الأصل الوارث من الذكور لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} (¬2). 4 - الأخوات لأب: وذلك بخمسة شروط: وهي الأربعة المذكورة في الشقائق والخامس عدم الأشقاء والشقائق ودليل استحقاقهن الثلثين الآية الواردة في الأخوات الشقائق. الخامس- الثلث: ويرث الثلث صنفان: 1 - الأم: وتستحق الثلث بثلاثة شروط. أ- عدم الفرع الوارث. ب- عدم الجمع من الإخوة اثنين فأكثر ذكورًا أو إناثًا أشقاء أو لأب أو لأم أو مختلفين. ¬

_ (¬1) سورة النساء: 11. (¬2) سورة النساء: 176.

ج- ألا تكون المسألة إحدى العمريتين، لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} (¬1)، فإن كانت إحدى العمريتين فإن الأم تستحق ثلث الباقي بعد الزوجين وهذا هو رأي جمهور الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وهو الراجح لإجماع الصحابة عليه. 2 - الأخوة لأم: ويستحقون الثلث بشروط: أ- عدم الفرع الوارث. ب- عدم الأصل الوارث من الذكور. ج- أن يكونوا اثنين فأكثر. ودليل استحقاقهم الثلث بشروطه قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (¬2). مثال: أم: ... 1/ 6 ... 1 أخ شقيق ... عصبة ... 3 أخ لأم - أخ لأم ... 1/ 3 ... 2 ¬

_ (¬1) سورة النساء: 11. (¬2) سورة النساء: 12.

السادس- السدس: ويستحقه سبعة وهم: 1 - الأب: بشرط وجود الفرع الوارث، لقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} (¬1). 2 - الأم: بشرط وجود الفرع الوارث، أو جمع من الإخوة لقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}، وقوله تعالى بعده: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} (¬2). 3 - الجد: ويرث السدس بشرطين: أ- عدم الأب. ب- وجود الفرع الوارث كالأب. 4 - بنت الابن فأكثر: وترث السدس بثلاثة شروط: أ- عدم المعصَّب. ب- عدم الفرع الوارث الذكر الذي هو أعلى منها. ج- أن تكون مع بنت واحدة ترث النصف، فإن بنت الابن ترث السدس معها وذلك لما روى ابن مسعود -رضي الله عنه- "أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعطى بنت الابن السدس تكملة الثلثين" (¬3). 5 - الأخت لأب فأكثر: وترثه بشرطين: ¬

_ (¬1) سورة النساء: 11. (¬2) سورة النساء: 11. (¬3) أخرجه البخاريُّ (4/ 238) برقم (6736).

توريث الجدات

أ- أن تكون مع أخت واحدة شقيقة نصيبها النصف. ب- عدم المعصِّب، ودليل ذلك الإجماع. 6 - الجدة فأكثر: وترث السدس بشرط عدم الأم أو جدة أقرب منها، لما ورد "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى للجدتين بالسدس بينهما" (¬1). توريث الجدات: الجدة الوارثة: ويقال لها الصحيحة: هي التي لا يكون في نسبها إلى المورث ذكر مدل بأنثى، وهي ثلاثة أقسام: 1 - التي تدلي إلى المورث بمحض الإناث كأم الأم وأمها. 2 - التي تدلي إلى المورث بمحض الإناث إلى الذكور كأم الأب وأمها. 3 - التي تدلي إلى المورث بمحض الذكور كأم الجد وأم أبيه. أما الجدة غير الوارثة: ويقال لها الفاسدة: فهي التي يكون في نسبها إلى المورث ذكر مدل بأنثى كأم أبي الأم وأم أبي أم الأب وهذه لا خلاف فيها، ويزيد المالكية الجدة التي يكون بينها وبين الميت أكثر من ذكر وهي أم أبي الأب، ويزيد الحنابلة الجدة التي يكون بينها وبين الميت أكثر من ذكرين وهي أم جد الأب. عدد من يرث من الجدات: اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) رواه عبد الله بن أحمد في المسند (5/ 326)، والحاكم في المستدرك [4/ 378 (7984)]، والبيهقيُّ السنن الكبرى للبيهقي (6/ 235). قال الحاكم عقبه: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال البيهقي عقبه: "إسحاق عن عبادة مرسل". وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 227): "رواه الطبراني في الكبير وأحمدُ في أثناء حديث طويل وإسنادهما منقطع إسحاق بن يحيى لم يسمع من عبادة".

1 - أنه لا يرث غير جدتين إحداهما من قبل الأم والأخرى من قبل الأب، وهذا مذهب المالكية. 2 - أنه لا يرث غير ثلاث جدات واحدة من قبل الأم واثنتان من قبل الأب وهو مذهب الحنابلة. 3 - أنه لا حد لعدد الجدات الوارثات، فمتى تساوت درجتهن ورثن كلهن، وهو مذهب الحنفية والشافعية. الأدلة: 1 - استدل أصحاب القول الأول بما ورد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قضى للجدتين بالسدس بينهما" (¬1)، ثم بما ورد أن أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- "قد ورثا السدس للجدتين" (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا. (¬2) أثر أبي بكر وعمر أخرجهما مالك في الموطأ (2/ 513) عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمَّد أنه قال: أتت الجدتان إلى أبي بكر الصديق فأراد أن يجعل السدس للتي من قبل الأم فقال له رجل من الأنصار أما إنك تترك التي لو ماتت وهو حي كان إياها يرث فجعل أبو بكر السدس بينهما، ومن طريقه أخرجه البيهقيُّ في السنن (6/ 235)، وأبو داود (3/ 317). وذكره الحافظ في تلخيص الحبير (3/ 85) وقال: رواه مالك وهو منقطع، ورواه الدارقطني من حديث ابن عيينة وبين أن الأنصاري هو عبد الرحمن بن سهل بن حارثة. وذكره ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/ 137) وقال: رواه مالك والبيهقيُّ من طريقين وكلاهما منقطع القاسم لم يدرك جده باتفاق. وأخرج مالك في الموطأ (2/ 513)، ومن طريقه أبو دود (3/ 121) برقم (2894) عن ابن شهاب عن عثمان ابن إسحاق بن خرشة عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها فقال مالك في كتاب الله تعالى شيء وما علمت لك في سنة نبي الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا فارجعي حتى أسأل الناس فسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس فقال أبو بكر هل معك غيرك؟ فقام محمَّد بن مسلمة فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة فأنفذه لها أبو بكر ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- تسأله ميراثها فقال

2 - واستدل أصحاب القول الثاني: بما ورد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ورث ثلاث جدات، واحدة من قبل الأم وثنتين من قبل الأب" (¬1)، ثم بما ورد من قضاء بعض الصحابة بتوريث ثلاث جدات (¬2). 3 - واستدل أصحاب القول الثالث بما استدل به أصحاب القول الثاني، وما زاد عن الثلاث فقد استدلوا لتوريثهن بقياس ما زاد على الثلاث على الثلاث في الإرث بجامع أن كلًا منهن جدة مدلية بوارث (¬3). الراجح: يترجح القول الثالث لعدم الفارق بين الجدات المتحاذيات المدليات بوارث. حجب بعض الجدات لبعض: إذا كانت درجة الجدات واحدة لم تسقط إحداهما الأخرى ويرثن جميعًا. وتسقط القربى البعدى بالاتفاق إذا اتحدت الجهة أو اختلفت والقربى من جهة الأم. ¬

_ = مالك في كتاب الله تعالى شيء وما كان القضاء الذي قضي به إلا لغيرك وما أنا بزائد في الفرائض ولكن هو ذلك السدس فإن اجتمعتما فيه فهو بينكما وأيتكما خلت به فهو لها. (¬1) أخرجه البيهقيُّ (2/ 236) عن إبراهيم قال: "أطعم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث جدات سدسًا قلت لإبراهيم ما هن قال جدتاك من قبل أبيك وجدة أمك" قال البيهقي: هذا مرسل. وقد روي عن خارجة بن مصعب عن منصور عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أيضًا مرسل. وأخرج الدارقطني (4/ 9) عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد قال: أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث جدات السدس اثنتين من قبل الأب وواحدة من قبل الأم. (¬2) أخرجه الدارمى (2/ 359). (¬3) حاشية ابن عابدين (6/ 826)، وحاشية الدسوقي (4/ 462)، ونهاية المحتاج (6/ 20)، والشرح الكبير على المقنع (18/ 62)، وانظر فقه المواريث د. عبد الكريم للاحم (1/ 368).

إرث الجدة ذات القرابتين

وإذا كانت القربى من جهة الأب والبعدى من جهة الأم فقد اختلفت المذاهب في ذلك: 1 - فذهب الحنفية والشافعية في قول والحنابلة إلى أن القربى من جهة الأب تسقط البعدى من جهة الأم، وذلك لأن الجدات أمهات يرثن ميراثًا واحدًا، فإذا اجتمعن مع اختلاف الدرجة فالميراث لأقربهن. 2 - وذهب المالكية والشافعية في الصحيح عندهم وهو رواية عند الحنابلة إلى أن القربى من جهة الأب لا تسقط البعدى من جهة الأم بل تشتركان في السدس، وذلك لأن الجدة التي من قبل الأم وإن كانت أبعد فهي أقوى لكون الأم أصلًا في إرث الجدات (¬1). إرث الجدة ذات القرابتين: إذا اجتمعت جدة مدلية للميت من جهتين وأخرى مدلية له من جهة واحدة فإن ذات القرابتين تأخذ ثلثي السدس وذات القرابة الواحدة تأخذ ثلثه (¬2). 7 - ولد الأم: يرث السدس سواء كان ذكرًا أو أنثى ويشترط لإرثه السدس: أ- عدم الفرع الوارث. ب- عدم الأصل الوارث من الذكور. ج- أن يكون منفردًا. ودليل ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (6/ 826) وحاشية الدسوقي (4/ 463)، وروضة الطالبين (ص: 999)، والشرح الكبير على المقنع (18/ 62). (¬2) الشرح الكبير على المقنع (18/ 68) هجر للطباعة والنشر الطبعة الأولى 1416 هـ.

ما يختص به الأخوة لأم عن غيرهم من أحكام

أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} (¬1). والمراد بالأخوة فيها أولاد الأم بالإجماع، وقد قرأها سعد بن أبي وقاص: "وله أخ أو أخت من أم" (¬2). ما يختص به الأخوة لأم عن غيرهم من أحكام: 1 - أن ذكرهم لا يفضل على أنثاهم في الإرث اجتماعًا أو انفرادًا. 2 - أن ذكرهم يدلي بأنثى ويرث. 3 - أن ذكرهم لا يعصب أنثاهم. 4 - أنهم يرثون مع من أدلوا به خلافًا لغيرهم فلا يرث بوجود من أدلى به. 5 - أنهم يحجبون من أدلوا به بالنقص عند اجتماعهم. الثاني: الإرث بالتعصيب: تعريف التعصيب: التعصيب لغة مشتق من العصب وهو الشدُّ والتقوية والإحاطة، ومنه العصائب وهي العمائم، سميت بذلك لأنها تحيط برؤوس لابسيها. والعصبة جمع عاصب وهم القرابة الذكور الذين يدلون بالذكور (¬3) وفي الاصطلاح: هو الإرث بغير تقدير. وعلى هذا فالعصبة: هم الذين يرثون بلا تقدير. ¬

_ (¬1) سورة النساء: 12. (¬2) تفسير القرطبي (5/ 78)، وحاشية ابن عابدين (6/ 824)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 422)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 999)، والمغني لابن قدامة (9/ 18). (¬3) المصباح المنير مادة: عصب.

أقسام العصبة

أقسام العصبة: ينقسم العصبة إلى قسمين: عصبة بنسب وعصبة بسبب وإليك بيانها: أولًا: العصبة بالنسب: عصبة بالنفس وعصبة بالغير وعصبة مع الغير. 1 - فالعصبة بالنفس: هم كل ذكر ليس بينه وبين المورث أنثى، ويشمل جميع الوارثين من الرجال إلا الزوج والأخ لأم. وللعصبة بالنفس ثلاثة أحكام هي: أ- أن من انفرد منهم أخذ كل المال، وذلك لقوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} (¬1). ب- أنه يأخذ ما أبقت الفروض لما روى ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقى فلأولى رجل ذكر" (¬2). ج- أن العاصب بالنفس يسقط إذا استغرقت الفروض التركة إلا الابن فلا يسقط وكذلك الأب والجد فإنهما يرثان عند ذلك السدس بالفرض. 2 - العصبة بالغير: وهن البنات والأخوات لغير الأم سمين بذلك لأنهن لا يكن عصبة بأنفسهن ولا بد من عاصب بالنفس يكن عصبة بسببه، وهن أربعة أصناف: أ- البنت فأكثر مع الابن فأكثر. ¬

_ (¬1) سورة النساء: 176. (¬2) أخرجه البخاريُّ (6732)، ومسلمٌ (1615).

ثانيا: العصبة بالسبب

ب- بنت الابن فأكثر مع ابن الابن فأكثر سواء كان أخاها أو ابن عمها الذي في درجتها أو أنزل منها إن احتاجت إليه ودليل ذلك قوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (¬1). ج- الأخت الشقيقة فأكثر مع الأخ الشقيق فأكثر. د- الأخت لأب فأكثر مع الأخ لأب فأكثر ودليل ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (¬2). 3 - العصبة مع الغير: وسمين بذلك لأنهن لا يحتجن إلى معصب وإنما هن يكن عصبة إذا وجد معهن غيرهن وهن صنفان: أ- الأخوات الشقيقات مع إناث الفرع الوارث. ب- الأخوات لأب مع إناث الفرع الوارث، ودليل ذلك ما ورد "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في بنت وبنت ابن وأخت أن للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين والباقي للأخت" (¬3)، وهو قول الفقهاء الأربعة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة (¬4). ثانيًا: العصبة بالسبب: وهم المعتق ذكرًا كان أو أنثى وعصبته المتعصبون بأنفسهم، ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الولاء لمن أعتق" (¬5). ¬

_ (¬1) سورة النساء: 11. (¬2) سورة النساء: 176. (¬3) صحيح البخاري (4/ 238). (¬4) إعلام الموقعين (1/ 368)، والمبسوط للسرخسي (29/ 157)، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدسوقي (4/ 466)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1003). (¬5) أخرجه البخاريُّ (12/ 40).

شرط إرث العصبة بالسبب

شرط إرث العصبة بالسبب: يشترط له عدم جميع العصبة بالنسب أو قيام مانع بهم. فيأخذ المعتق أو عصبته جميع مال العتيق إذا لم يكن وارث، فإن كان له وارث صاحب فرض أخذ نصيبه والباقي للعاصب المعتق. جهات العصبة: وقد اختلفت في ذلك الفقهاء على النحو الآتي: 1 - فيرى الحنفية أن جهات العصبة: البنوة، والأبوة، والأخوة، والعمومة، والولاء. 2 - ويرى الحنابلة وهو قول أبي يوسف ومحمَّد بن الحسن من الحنفية أن جهات العصبة: البنوة، والأبوة، والجدودة، والأخوة، وبنوة الأخوة، وتشمل أبناء الأخوة لغير أم وإن نزلوا، والعمومة، والولاء. 3 - ويرى المالكية والشافعية أن جهات العصبة: البنوة، والأبوة، والجدودة، والأخوة، وبنو الأخوة، والعمومة، والولاء، وبيت المال (¬1). الراجح: يترجح القول الأول لأنه يتفق وما مضى في البحث من توزيع الورثة إلى أصول وفروع وحواشي فيكون منسجمًا ومتسقًا معه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (6/ 856)، وحاشية الدسوقي (4/ 467)، وروضة الطالبين (ص: 1003)، والكافي في فقه أحمد (2/ 544).

الترتيب بين جهات العصبة

الترتيب بين جهات العصبة: يقدم في التعصيب الأسبق جهة فإن كانوا في جهة واحدة قدم الأقرب منزلة فإن كانوا في منزلة واحدة قدم الأقوى، وهو من يدلى بالأبوين على الذي يدلى بالأب وحده لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فما بقى فهو لأولى رجل ذكر" (¬1). وعلى هذا فالابن أولى من الأب لأنه أسبق جهة، والأب أولى من الجد لأنه أقرب منزلة، والأخ الشقيق أولى من الأخ لأب لأنه أقوى (¬2). الحجب: الحجب في اللغة: المنع، يقال حجبه حجبًا إذا منعه من الدخول والحاجب المانع (¬3). وفي الاصطلاح: منع من قام به سبب الإرث من الإرث بالكلية أو من أوفر حظيه (¬4). أهمية الحجب: معرفة أحكام الحجب ضرورية للمشتغل بعلم الفرائض، وقد قال بعض العلماء: حرام على من لم يعرف الحجب أن يفتي في الفرائض، لأنه قد يورث شخصًا محجوبًا أو يحجب وارثًا، اكتفاء بمعرفته بأسباب الإرث وأصحاب الفروض والتعصيب والتي لا تكفي لتقدير الاستحقاق من عدمه ما لم يكن ملمًا بالحجب وأحكامه (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (4/ 237). (¬2) تسهيل الفرائض، محمَّد بن عثيمين (ص: 38). (¬3) المصباح المنير مادة: حجب. (¬4) العذب الفائض (1/ 93). (¬5) العذب الفائض (1/ 93).

أقسام الحجب

أقسام الحجب: للحجب قسمان: حجب أوصاف وحجب أشخاص. 1 - حجب الأوصاف: هو منع من قام به سبب الإرث من الإرث لوجود مانع من موانع الإرث وهي الرق والقتل واختلاف الدين، وهو يدخل على جميع الورثة من غير استثناء. 2 - حجب أشخاص: منع شخص من الإرث أو بعضه لوجود شخص آخر وهو نوعان: أ- حجب حرمان: وهو أن يسقط الشخص غيره بالكلية، ويدخل على جميع الورثة، ما عدا ستة: الأبوان، والولدان، والزوجان. ب- حجب نقصان: وهو منع الشخص من أوفر حظيه ويدخل على جميع الورثة من غير استثناء وهو سبعة: أربعة منها بسبب الانتقال وثلاثة منها بسبب الازدحام. ما يختص بالانتقال: * انتقال من فرض إلى فرض أقل منه، كانتقال الزوج من النصف إلى الربع مثلًا. * انتقال من تعصيب إلى تعصيب أقل منه كانتقال الأخت لغير أم من كونها عصبة مع الغير إلى كونها عصبة بالغير. * انتقال من فرض إلى تعصيب أقل منه كانتقال ذوات النصف إلى التعصيب بالغير. * انتقال من تعصيب إلى فرض أقل منه كانتقال الأب والجد من الإرث بالتعصيب إلى الإرث بالفرض.

قواعد حجب الحرمان بالشخص

وأما ما يختص بسبب الازدحام فهي: * ازدحام في فرض كازدحام الزوجات في الربع والثمن مثلًا. * ازدحام في تعصيب كازدحام العصبات في المال أو فيما أبقت الفروض. * ازدحام بسبب عول كازدحام أصحاب الفروض في الأصول التي يدخلها العول، فإن كل واحد يأخذ فرضه ناقصًا بسبب العول. قواعد حجب الحرمان بالشخص: 1 - أن كل فرد أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة سواء كان المدلى والمدلى به عصبة كابن الابن مع الابن، أو صاحبي فرض كأم أم مع أم، أو صاحب فرض مع تعصيب كبنت الابن مع الابن، يستثنى من تلك القاعدة ولد الأم فإنه يرث مع وجودها كما أنه يحجبهم الأب والجد مع أنهم لا يدلون بهما لأنّ النص قيد ميراثهم بأن يكون الميت كلالة ليس له والد ولا ولد. 2 - أن الأقرب يحجب الأبعد إذا كان يستحق بوصفه ونوعه، فالابن يحجب ابن الابن وإن لم يكن أباه، والبنتان تحجبان بنت الابن في الاستحقاق بالفروض، والأخ يحجب العم ولو كان لا يدلي به، والقربى من الجدات تحجب البعدى وإن كانت لا تدلى بها. 3 - أن الأقوى قرابة يحجب الأضعف منه، فالأخ الشقيق يحجب الأخ لأب (¬1). المشرَّكة: المسألة المشركة: هي زوج وأم أو جدة وإخوة لأم اثنان فأكثر وأخ شقيق فأكثر سواء كانوا ذكورًا أم ذكورًا وإناثًا. ¬

_ (¬1) العذب الفائض (1/ 93).

وسميت المشرَّكة بفتح الراء المشددة لتشريك الإخوة الأشقاء مع الإخوة لأم. وتسمى الحجرية لأنّ الإخوة الأشقاء قالوا هب أبانا حجرًا في اليم. وتسمى الحمارية لأنّ الإخوة الأشقاء، قالوا هب أبانا خمارًا. وقد اختلف في هذه المسألة الصحابة وفقهاء المذاهب على النحو الآتي: 1 - أن الأخوة الأشقاء لا يشاركون الأخوة لأم في الثلث، لاستغراق الفروض للتركة وهو قول عمر في قضائه الأوّل وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب وأبي موسى الأشعري وجابر -رضي الله عنهم - وبه قال الحنفية والحنابلة، لأن الإخوة الأشقاء عصبة وقد استغرقت الفروض التركة فيسقطون لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقى فلأولى رجل ذكر" (¬1). 2 - أن الإخوة الأشقاء يشاركون الإخوة لأم في الثلث وهو قول عمر الأخير وعثمان وزيد بن ثابت -رضي الله عنهم - وبه قال مالك والشافعيُّ لأنّ الإخوة الأشقاء ساووا ولد الأم في القرابة التي يرثون بها فوجب أن يساووهم في الميراث، فإنهم جميعًا من ولد الأم، وقرابتهم من جهة الأب إن لم تزدهم قربًا واستحقاقًا فلا ينبغي أن تسقطهم (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (4/ 237). (¬2) التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية، صالح الفوزان (ص: 127)، وانظر فقه المواريث د. عبد الكريم اللاحم (2/ 230).

مثال المشاركة

مثال المشاركة: مذهب عدم المشاركة 6 زوج ... 1/ 2 ... 3 أم ... 1/ 6 ... 1 أخوان الأم ... 1/ 3 ... 2 أخ شقيق أو أكثر ... × ... × مذهب المشاركة 3 × 6 = 18 زوج ... 1/ 2 ... 3 ... 9 أم ... 1/ 6 ... 1 ... 3 أخوان الأم ... 1/ 3 ... 2 ... 4 أخ شقيق أو أكثر ... 1/ 3 ... 2 ... 2 الجد والإخوة: اتفق الفقهاء على عدم توريث الإخوة لأم مع الجد، واختلفوا في توريث الإخوة الأشقاء أو لأب مع الجد: 1 - فذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وصاحبا أبي حنيفة إلى توريث الإخوة الأشقاء أو لأب مع الجد وذلك لأنّ ميراث الإخوة ثبت بالكتاب فلا يحجبون إلا بنص أو إجماع أو قياس ولا يوجد شيء من ذلك فلا يحجبون. كما أن الجد والإخوة يتساوون في درجة القرب من الميت، فإن كلًا من الجد والإخوة يدلى إلى الميت بدرجة واحدة، فكل منهما يتصل عن طريق الأب، فالجد أبو الأب، والأخ ابن الأب، وقرابة البنوة لا تقل عن قرابة الأبوة. 2 - وذهب أبو حنيفة وهو رواية عن أحمد بن حنبل إلى أن الجد يسقط الإخوة من جميع الجهات كما يسقطهم الأب وذلك لأنّ الجد أب فيقوم مقامه عند عدم وجوده، ويحجب الإخوة كما يحجبهم الأب، وهو قول أبي بكر -رضي الله عنه-.

واستدلوا بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقى فلأولى رجل ذكر" (¬1). والجد أقرب إلى الميت من الأخ، ولا يحجبه عن الإرث سوى الأب، بخلاف الإخوة والأخوات، فإنهم يحجبون بثلاثة بالأب والابن وابن الابن. الترجيح: يتبين من ذلك أن الراجح هو القول بإسقاط الإخوة بالجد لقوة أدلته، قال البخاري في صحيحه: "ولم يذكر أن أحدًا خالف أبا بكر في زمانه وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - متوافرون" (¬2). واختار ذلك الإِسلام ابن تيمية وابن القيم وهو اختيار الشيخين عبد العزيز بن باز ومحمَّد بن عثيمين رحمهما الله. توريث الإخوة مع الجد عند القائدين به: للجد مع الإخوة الأشقاء أو لأب حالان: 1 - ألا يكون معهم صاحب فرض، فميراثه يكون الأكثر من ثلث المال أو مقاسمة الإخوة. 2 - أن يكون معهم صاحب فرض فيأخذ صاحب الفرض فرضه ثم يكون ميراث الجد الأكثر من المقاسمة أو ثلث الباقي أو سدس جميع المال، فإن لم يبق إلا السدس أخذه الجد وسقط الإخوة إلا في الأكدرية. الأكدرية: سميت بذلك لأنها كدرت قواعد باب الجد والإخوة حيث خالفتها في ثلاثة أمور. 1 - أن قاعدة توريث الإخوة مع الجد أنه إذا لم يبق إلا السدس يسقط الإخوة وفي الأكدرية لم تسقط الأخت. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص: 246). (¬2) انظر فتح الباري (18/ 12).

2 - أن مسائل توريث الإخوة مع الجد لا تعول والأكدرية عالت: والأكدرية: هي زوج وأم وجد وأخت لغير أم، فتكون المسألة من ستة: للزوج النصف ثلاثة وللأم الثلث اثنان وللجد السدس واحد وللأخت النصف ثلاثة فتعول إلى تسعة ثم يجمع نصيب الجد والأخت ليقتسمانها تعصيبًا للذكر مثل حظ الأنثيين فيكون نصيبهما أربعة ورؤوسهما ثلاثة ولا تنقسم، فنضرب رؤوسهما ثلاثة في عول المسألة تسعة تبلغ سبعة وعشرين، للزوج تسعة والأم ستة وللجد والأخت اثنا عشر يقسم بينهما، للجد ثمانية وللأخت أربعة وذلك تعصيبًا للذكر مثل حظ الأنثيين. 9 × 3 = 27 زوج ... 3 ... 9 أم ... 2 ... 6 جد ... 1 ... 4 شقيقة ... 3 ... 8 وإذا لم يكن في المسألة زوج وهي أم وجد وأخت شقيقة فتسمى الخرقاء لتخرق أقوال الصحابة فيها أو لأنّ الأقوال خرقتها لكثرتها، فتقسم كالآتي: 6 × 3 = 18 أم ... 2 ... 6 جد ... 4 ... 8 شقيقة ... 4 ... 4

المعادة: وهي أن يكون الورثة مع الجد إخوة أشقاء وإخوة لأب، وتكون المعادة فيما إذا كان ولد الأبوين أقل من مثلي الجد، وبقى بعد الفرض أكثر من الربع، فإن الإخوة الأشقاء يعدون معهم الإخوة لأب ليزحموا الجد، فإذا أخذ الجد نصيبه رجع الإخوة الأشقاء على الإخوة لأب ومنعوهم من الإرث واختص به الإخوة الأشقاء. مثال: هلك هالك عن جد وأخ شقيق وأخوان لأب: فالأكثر للجد ثلث المال فيأخذه والباقي للأخ الشقيق ولا شيء للأخوين لأب. 3 جد ... 1 أخ شقيق ... 2 أخوان لأب ... ×

حساب المواريث

حساب المواريث هو تأصيل مسائل الفرائض وتصحيحها. والتأصيل لغة: هو مصدر أصلت العدد أي جعلته أصلًا، والأصل هو ما يبني عليه غيره. واصطلاحًا: هو أقل عدد يخرج منه سهام المسألة بلا كسر. والتصحيح: من الصحة ضد السقم. واصطلاحًا: تحصيل أقل عدد ينقسم على الورثة بلا كسر. فالتأصيل أولًا، فإن صحت منه المسألة فذاك وإلا صححت على الطريق المناسبة، ولا بد لمن يشتغل بالفرائض أن يكون ملمًا بعلم الحساب بقدر ما يحتاج إليه. أصول المسائل: وهو العدد الذي يخرج منه سهامها، ومسائل الفرائض نوعان: 1 - أن يكون كل الورثة عصبات، سواء كانوا ذكورًا، أو نسوة أعتقن عبدًا فتكون رؤوسهم هي أصل المسألة ويتقاسمون بالسوية، أو عصبته ذكورًا وإناثًا فيكون للذكر مثل حظ الأنثيين ومسألتهم بعدد أسهمهم. 2 - أن يكون في الورثة صاحب فرض مع العصبة، فأصل المسألة هو مقام الكسر الاعتيادي الدال على فرض صاحب الفرض وهي لا تتعدى الفروض الآتية: 1/ 2، 1/ 4، 1/ 8، 2/ 3، 1/ 3، 1/ 6. 3 - أن يكون الورثة أصحاب فروض مختلفة وحدهم، أو مع غيرهم من العصبات الوارثين، فيكون أصل المسألة المضاعف البسيط لمقامات الكسور

الاعتيادية الدالة على الفروض وهو لا يخرج عن سبعة أعداد 2، 3، 4، 6، 8، 24، 12. وزاد المحققون من الفرضين في باب الجد والإخوة أصلين هما: 18، 36. وذلك لأنّ أقل عدد يخرج منه السدس وثلث الباقي صحيحًا ثمانية عشر، ولأن أقل عدد يخرج منه السدس والربع وثلث الباقي صحيحًا ستة وثلاثون، وقد اتفق الجميع على أن أصل كل مسألة أقل عدد يصح منه فرضها أو فروضها، وهذان كذلك (¬1). ¬

_ (¬1) العذب الفائض (1/ 123)، وانظر التحقيقات المرضية د. صالح الفوزان (ص: 158)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1022)، والمغني لابن قدامة (9/ 36)، وحاشية ابن عابدين (6/ 8410)، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4/ 469).

العول

العول العول في اللغة: يطلق على معان منها الاشتداد يقال عال الأمر إذا اشتد، ومنها الارتفاع يقال عال الميزان إذ ارتفع، وعالت الفريضة زادت (¬1). واصطلاحًا: زيادة سهام الفروض عن أصل المسألة مما يترتب عليه نقص أنصباء الورثة. وقيل هو ازدحام الفرائض بحيث لا يتسع لها المال، فيدخل النقص عليهم كلهم ويقسم المال بينهم على قدر فروضهم (¬2). العول وخلاف العلماء فيه: 1 - ذهب عامة الصحابة -رضي الله عنهم - والعلماء ومنهم الأئمة الأربعة إلى القول بالعول، وذلك لدلالة الكتاب والسنة عليه حيث أطلقت الآيات في المورايث ولم تفرق بين أصحاب الفروض، وأمره - صلى الله عليه وسلم - بإلحاق الفرائض بأهلها دون تفرقة بين أصحابها ولأنه انعقد الإجماع على ذلك قبل أن يقول ابن عباس بعدمه وذلك في زمن عمر -رضي الله عنه- حين استشار الصحابة في العول واتفقوا على القول به ثم حصل الإجماع بعد ابن عباس، قال في المغني: "ولا نعلم اليوم قائلًا بمذهب ابن عباس -رضي الله عنهما- ولا نعلم خلافًا بين فقهاء العصر في القول بالعول بحمد الله" (¬3). وقياسًا على الديون إذا ضاقت عنها التركة فإنها تقسم عليهم بالحصص لضيق ماله عن وفائهم. ¬

_ (¬1) القاموس المحيط مادة: عال. (¬2) حاشية الباجوري على شرح الرحبية (ص: 15)، والشرح الكبير، عبد الرحمن بن قدامة المقدسي (18/ 106) هجر للطباعة الطبعة الأولى 1416 هـ. (¬3) الشرح الكبير لابن قدامة (18/ 109).

أصول المسائل التي تعول

2 - وذهب ابن عباس -رضي الله عنهما- ومحمَّد من الحنفية وعطاء وداود إلى أن المسائل لا تعول، لأنه يرى تقديم من قدمه الله وتأخير من أخره، فيقدم من ينزل من فرض إلى فرض وهم الزوجان والأم على من ينزل من فرض إلى ما بقى وهم البنات والأخوات (¬1). الراجح: يترجح ما ذهب إليه أصحاب القول الأول لقوة أدلته. أصول المسائل التي تعول: تنقسم أصول المسائل من حيث العول وعدمه إلى قسمين: أحدهما: لا تعول وهي 2، 3، 4، 8. الثاني: ما يدخلها العول وهي: 6، 12، 24. فما أصله ستة قد يعول إلى سبعة، أو ثمانية أو تسعة أو عشرة. 1 - مثال: العول إلى التسعة: 6 - 9 زوج ... 1/ 2 ... 3 أختان شقيقتان ... 2/ 3 ... 4 أخوان لأم ... 1/ 3 ... 2 وما أصله اثنا عشر يعول إلى ثلاثة عشر أو خمسة عشر أو سبعة عشر. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (6/ 842)، وحاشية الدسوقي (4/ 471)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1022)، والشرح الكبير لابن قدامة (18/ 106).

تصحيح الانكسار في الأصول

2 - مثال: العول لخمسة عشر: 12 - 15 زوج ... 1/ 4 ... 3 ابنتين ... 2/ 3 ... 8 أب ... 1/ 6 ... 2 أم ... 1/ 6 ... 2 وما أصله أربعة عشرين يعول إلى سبعة وعشرين: مثال ذلك: 24 - 27 زوجة ... 1/ 8 ... 3 بنتان ... 2/ 3 ... 16 أب ... 1/ 6 ... 4 أم ... 1/ 6 ... 4 وتسمى هذه المسألة بالمنبرية: لأنّ علي ابن أبي طالب -رضي الله عنه- سئل عنها وهو على المنبر فأجاب بها بقوله: وقد صار ثمن المرأة تسعًا ومضى في خطبته (¬1). تصحيح الانكسار في الأصول: الانكسار: هو عدم انقسام نصيب جماعة من الورثة عليهم انقسامًا خاليًا من الكسر. ¬

_ (¬1) التحقيقات المرضية د. صالح الفوزان (ص: 163).

وقوع الانكسار

وقوع الانكسار: يكون الانكسار على فريق أو على فريقين أو على ثلاثة باتفاق الفقهاء ولا يتجاوز الأربعة باتفاقهم أما الأربعة فاختلف فيها الفقهاء على النحو الآتي: 1 - يرى المالكية أن الانكسار لا يتجاوز ثلاث فرق وذلك لأنهم لا يورثون أكثر من جدتين أم الأم وأمهاتها وأم الأب وأمهاتها لأنه لا يجتمع أربعة أصناف متعددة إلا في أصل اثنى عشر وأصل أربعة وعشرين ونصيب الجدتين ينقسم عليهما في كل منهما. 2 - ويرى الحنفية والشافعية والحنابلة أن الانكسار يقع على أربع فرق، لأنهم يورثون أكثر من جدتين، فيكون نصيب الجدات وهو السدس من أصل اثنى عشر وأصل أربعة وعشرين لا ينقسم عليهن إذا كن أكثر من اثنتين. الترجيح: يترجح ما ذهب إليه الجمهور لأنه أولى من حيث شموله لتوريث أكثر من جدتين. كيفية التصحيح: 1 - إذا كان الانكسار على فريق واحد وهو أصل اثنين. مثال ذلك: بنت وعمان فيؤخذ رؤوس العمين (¬1) وتجعل جزء السهم ويضرب بها أصل المسألة، وحاصل الضرب هو مصح المسألة. ¬

_ (¬1) التحقيقات المرضية د. صالح الفوزان (ص: 172)، والفوائد الجلية، عبد العزيز ابن باز (ص: 30).

2 × 2 = 4 بنت ... 1 ... 2 عم ... 1 ... 1 عم ... - ... 1 2 - إذا كان الانكسار على أكثر من فريق (ثلاث فرق، أو أربع فرق) فيعمل كالآتي: أ- ينظر بين كل فريق وسهامه، فإما أن يتوافقا، وإما أن يتباينا، فإن توافقا فيرد الفريق إلى وفقه ويثبت وفقه مكانه، وإما إن يتباينا فيثبت ذلك الفريق بتمامه، ثم ينظر في الفريق الثاني مثل ذلك، ثم ينظر بين الفريق الثالث وسهامه ثم بين الفريق الرابع وسهامه كذلك. ب- بعد ذلك ينظر بين المثبتات من الفرق أو وفقها بعضها مع بعض بالنسب الأربع (المماثلة، المداخلة، الموافقة، المباينة)، فإن تماثلت كلها فيكتفي بأحدها وهو جزء السهم، وإن تداخلت فيكتفي بأكثرها وإن توافقت فيضرب وفق أحدهما في كامل الآخر، وإن تباينت كلها فما ينتج من ضرب بعضها ببعض فهو جزء السهم. ونكتفي بذكر مسألة واحدة لبيان ذلك. مثال الموافقة: أربع زوجات وأخت شقيقة واثنتا عشرة أختًا لأب وعشرة أعمام. أصل المسألة من اثني عشر، للزوجات الربع ثلاثة وهن أربع لا تنقسم وتباين فنثبت جميع رؤوسهن، وللأخت الشقيقة النصف ستة، وللأخوات لأب

الإرث بالرد

السدس اثنان وهن اثنتا عشرة لا ينقسم ويوافق بالنصف وفق رؤوسهن ستة، وللأعمام الباقي واحد وهم عشرة لا ينقسم وتباين فنثبت جميع رؤوسهم، ثم ينظر بين المثليات من الرؤوس وهي أربعة وستة وعشر، فنجد بين الأربعة والستة موافقة بالنصف نضرب وفق أحدهما في كامل الآخر يحصل اثنا عشر وبينهما وبين العشرة موافقة بالنصف فنضرب وفق أحدهما في كامل الآخر يحصل ستون وهي جزء السهم، نضرب في أصل المسألة اثني عشر يحصل سبعمائة وعشرون وهي مصحها وتقسم كما في الجدول (2). 12 × 60 = 720 4 زوجات ... 3 ... 180/ 45 أخت شقيقة ... 6 ... 360 12 أخت لأب ... 2 ... 120/ 10 10 أعمام ... 1 ... 60/ 6 الإرث بالرد: الرد في اللغة: الرجع يقال رجعت بمعنى رددت، ويأتي بمعنى الإعادة، يقال: رد عليه حقه أي أعاده إليه (¬1). وفي الاصطلاح: دفع ما فضل من فروض ذوي الفروض النسبية إليهم بقدر حقوقهم، عند عدم استحقاق الغير (¬2). ¬

_ (¬1) القاموس المحيط مادة: ردد. (¬2) فقه السنة للسيد سابق (3/ 520).

شروط الرد

شروط الرد: لا يتحقق الرد إلا إذا توافرت الشروط الآتية: 1 - أن يبقى من التركة شيء بعد أصحاب الفروض. 2 - أن يكون أصحاب الفروض غير الزوجين. 3 - ألا يوجد عصبة. أقوال العلماء في الرد: اختلف العلماء في القول بالرد على النحو الآتي: 1 - أنه إذا تبقى من الإرث شيء بعد ذوي الفروض فإنه يرد عليهم بقدر فروضهم إلا الزوجين وروي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود -رضي الله عنهم - وهو مذهب الحنفية والحنابلة وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي إذا لم ينتظم بيت المال. 2 - أنه يرد على جميع أصحاب الفروض حتى الزوجين بنسبة فروضهم وروي ذلك عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه-. 3 - أنه لا يرد الباقي من الإرث بعد ذوي الفروض، وإنما يصرف الباقي لبيت المال، وبذلك قال زيد بن ثابت وهو مذهب المالكية والشافعية ورواية عن أحمد. الأدلة: استدل القائلون بعدم الرد بما يأتي: 1 - أن الله تعالى فرض نصيب كل واحد من الورثة فلا يزاد عليه، فمثلًا للأخت النصف إذا كانت لوحدها فلا يجوز الزيادة عليه ومن رد عليها جعل لها الكل وهو زيادة عما قدر الله لها. 2 - أن في التوريث بالرد قول بالرأي والمواريث لا يمكن إثباتها بالرأي.

طريقة حساب مسائل الرد

واستدل القائلون بالرد على جميع أصحاب الفروض ما عدا الزوجين بما يأتي: 1 - عموم قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (¬1). وقد ترجح الورثة الذين يرد عليهم بقربهم من الميت، فيكونون أولى من بيت المال لأنه لسائر المسلمين، وذوو الرحم أحق من الأجانب عملًا بالنص. 2 - عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن ترك مالًا فهو لورثته" (¬2). وهذا عام في جميع المال ومنه المتبقي بعد الفروض (¬3). واستدل القائلون بالرد على جميع أصحاب الفروض حتى الزوجين بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن ترك مالًا فلورثته" والزوجان من الورثة، ولم يرد الدليل البين على أن الرد مخصوص بغير الزوجين. الترجيح: القول بالرد هو الراجح لقوة أدلة القائلين به. طريقة حساب مسائل الرد: لذلك حالتان: 1 - ألا يكون مع أصحاب الفروض أحد من الزوجين، فإن كان المردود عليه واحدًا أخذ جميع المال فرضًا وردا، وإن كان أكثر من واحد وهم من جنس واحد فأصل مسألتهم من عدد رؤوسهم، وإن كان أكثر من واحد وهم جنسان فأكثر فأصل مسألتهم من ستة ويرجع بالرد إلى العدد الذي ينتهي به فروضها. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: 75. (¬2) رواه البخاري (9/ 12)، ومسلمٌ، شرح النووي (11/ 60). (¬3) حاشية ابن عابدين (6/ 842)، وحاشية الدسوقي (4/ 468)، وروضة الطالبين (ص: 1015)، والشرح الكبير لابن قدامة (18/ 117).

توريث ذوي الأرحام

2 - إذا وجد مع أصحاب الفروض أحد الزوجين فإنه يأخذ فرضه منسوبًا إلى أصل التركة والباقي بعد فرضه يكون لأصحاب الفروض بحسب رؤوسهم إن كانوا صنفًا واحدًا، وإن كانوا أكثر من صنف واحد فإن الباقي يرد عليهم بنسبة فروضهم، وبذلك يكون نصيب كل صاحب فرض قد زاد بنسبة فرضه واستحق جملته فرضًا وردًا. مثال الحالة الأولى: هلك هالك عن بنت فإنها تأخذ المال كله فرضًا وردًا. مثال الحال الثانية: هلكت امرأة عن بنت وزوج فمسألة الزوجية من أربعة للزوج الربع واحد والباقي للبنت فرضًا وردًا (¬1). توريث ذوي الأرحام: المراد بذوي الأرحام: الأرحام لغة: جمع رحم وهو القرابة (¬2). واصطلاحًا: كل قريب ليس بذي فرض ولا عصبة (¬3). أصناف ذوي الأرحام: ذوو الأرحام أربعة أصناف: 1 - من ينتمي إلى الميت: وهم أولاد البنات وأولاد بنات البنين وإن نزلوا. 2 - من ينتمي إليهم الميت: وهم الأجداد الساقطون والجدات السواقط (¬4) وإن علوا. ¬

_ (¬1) تسهيل الفرائض، محمَّد بن عثيمين (ص: 75). (¬2) القاموس المحيط مادة: "رحم". (¬3) المقنع والشرح الكبير (18/ 159). (¬4) المراد بالأجداد الساقطين والجدات الساقطات أي غير الوارثين.

أقوال العلماء في توريث ذوي الأرحام

3 - من ينتسب إلى أبوي الميت أو أحدهم: وهم أولاد الأخوات وبنات الإخوة، وأولاد الإخوة لأم ومن يدلى بهم وإن نزلوا. 4 - من ينتسب إلى أجداد الميت وجداته: وهم الأعمام للأم والعمات مطلقًا وبنات الأعمام مطلقًا والخؤولة مطلقًا وإن تباعدوا وأولادهم وإن نزلوا. أقوال العلماء في توريث ذوي الأرحام: اختلف العلماء في ذلك: 1 - ذهب زيد بن ثابت -رضي الله عنه- وسعيد بن المسيب، وهو مذهب المالكية والشافعية إلى عدم توريث ذوي الأرحام ويجعل المال الموروث لبيت المال. 2 - وذهب جماعة من الصحابة منهم عمر وعلي وغيرهم -رضي الله عنهم - وهو مذهب الحنفية والحنابلة إلى القول بتوريث ذوي الأرحام، إذا لم يكن ذو فرض ولا عصبة إلا الزوج أو الزوجة. الأدلة: استدل المانعون بما يأتي: 1 - أن الله تعالى نص في آيات المواريث على بيان أصحاب الفروض والعصبات ولم يذكر لذوي الأرحام شيئًا فدلّ ذلك على عدم استحقاقهم للإرث. 2 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "سألت الله -عَزَّ وَجَلَّ- عن ميراث العمة والخالة فسارني أن لا ميراث لهما" (¬1)، والعمة والخالة من ذوي الأرحام فيكون الحكم شاملًا لبقيتهم. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في المراسيل، وروى موصولًا من طرق كلها لا تقوم بها حجة، نيل الأوطار (6/ 68).

واستدل القائلون بتوريث ذوي الأرحام بأدلة منها: 1 - عموم قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (¬1) أي أحق بالتوارث في حكم الله. 2 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الخال وارث من لا وارث له يعقل عنه ويرثه" (¬2)، وذلك أنه جعل الخال وارثًا عند عدم الوارث بالفرض أو التعصيب وهو من ذوي الأرحام فيلحق به غيره منهم. الراجح: القول بتوريث ذوي الأرحام هو الراجح لوضوح أدلتهم في الدلالة على التوريث، ولأن ذا الرحم له قرابة فيرث كذوي الفروض والعصبات عند عدمهم، ولأنه ساوى الناس في الإسلام وزاد عليهم بالقرابة فكان أولى بماله منهم، كما أنه أحق في الحياة بصدقته وصلته وبعد الموت بوصيته. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: 75. (¬2) أخرجه أحمد (4/ 131)، وأبو داود برقم (2899)، والنسائيُّ في السنن الكبرى [4/ 76 (6354)]، وابن ماجه برقم (2634) و (2738)، وابن حبّان [13/ 397 (6035)]، والدارقطنيُّ (4/ 85)، والحاكم [4/ 382 (8002)] كلهم من حديث المقدام عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الحاكم عقبه: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/ 129): "رواه أبو داود والنسائيُّ وابن ماجه من رواية المقدام ابن معدي كرب وصححه ابن حبان والحاكم وأنه على شرط الشيخين وابن القطان. وقال البيهقي: إنه ليس بالقوي وإنه مختلف فيه وأن يحيى بن معين كان يبطله ويقول ليس فيه حديث قوي" أ. هـ. وقال الحافظ في تلخيص الحبير (3/ 80): "رواه أبو داود والنسائيُّ وابن ماجة والحاكم وصححه وابن حبان من حديث المقدام بن معدي كرب ... وحكى ابن أبي حاتم عن أبي زرعة أنه حديثٌ حسنٌ وأعله البيهقي بالاضطراب ونقل عن يحيى بن معين أنه كان يقول ليس فيه حديث قوي".

كيفية توريث ذوي الأرحام

كيفية توريث ذوي الأرحام: اتفق القائلون بتوريث ذوي الأرحام بشرطه على أن من انفرد منهم أخذ جميع التركة ذكرًا كان أو أنثى، أما إذا اجتمع ذوو الأرحام فقد اختلفوا في كيفية توريثهم على أقوال: 1 - فيرى أبو حنيفة وهو رواية عن أحمد أن الاعتبار في التوريث القرب الجهة، فيجعل الجهات أربعًا بنوة ثم أبوة ثم أخوة ثم عمومه، فإذا كان في الجهة الأولى وارث من ذوي الأرحام لم يرث أحد من الجهة التي بعدها قياسًا على الإرث بالتعصيب. وإن كان الورثة متعددين وهم من صنف واحد، فإن اختلفت درجتهم قدم الأقرب درجة فإن استووا في الدرجة قدم الأقوى منهم قرابة، فإن كانوا في قوة القرابة سواء اشتركوا في الميراث فإن كانوا ذكورًا فقط أو إناثًا فقط قسمت التركة بينهم بالسوية، وإن كانوا ذكورًا وإناثًا فللذكر مثل حظ الأنثيين، وذلك لأنّ الأصل في المواريث تفضيل الذكر على الأنثى. 2 - ويرى أحمد وهو المذهب عند الحنابلة أن الاعتبار في التوريث في التنزيل، وذلك بأن ينزل كل واحد من ذوي الأرحام منزلة من أدلى به ثم يقسم المال بين المدلى بهم فما صار لكل واحد منهم أخذه المدلى. ونوضح ذلك بالمثال: مات شخص عن بنت بنت بنت وبنت أخ لأب، فإن المال لبنت بنت البنت على القول الأول لأنها الأقرب جهة، وعلى القول الثاني يكون المال بينهما نصفين لأن بنت بنت البنت بمنزلة البنت فلها النصف كما تستحق البنت بالفرض وبنت الأخ بمنزلته فلها الباقي كما يستحقه أبوها بالتعصيب.

المناسخات

المناسخات المناسخات في اللغة: جمع مناسخة، وهو يطلق على معان منها: النقل، تقول نسخت الكتاب أي نقلت ما فيه (¬1). وفي الاصطلاح: انتقال نصيب بعض الورثة بموته قبل القسمة إلى من يرث منه (¬2). أحوال المناسخة: للمناسخة ثلاث حالات: أحدها: أن يكون ورثة الميت الثاني هم ورثة الأول، فتقسم التركة على الموجودين، كما إذا مات شخص عن بنين وبنات من زوجة واحدة ثم مات أحدهم قبل قسمة التركة ولا وارث له سوى إخوته الباقين فيكتفي بقسمة واحدة للذكر مثل حظ الأنثيين. الثانية: أن يكون ورثة كل ميت لا يرثون غيره، وهنا تقسم تركة الميت الأول بين ورثته ثم يقسم نصيب الثاني بين ورثته، وذلك مثل أن يموت شخص عن ابنه وبنته وقبل القسمة يموت الابن عن بنت وأخته التي ورثت معه، فتقسم تركة الميت الأول بين الابن والبنت للذكر مثل حظ الأنثيين، ثم يقسم نصيب الابن بين بنته وأخته مناصفة بينهما البنت فرضًا والأخت تعصيبًا. الثالثة: أن يكون ورثة الميت الثاني هم بقية ورثة الميت الأول لكن اختلف إرثهم أو ورث معهم غيرهم، وهنا يتم عمل مسألة للميت الأول وتقسم على ¬

_ (¬1) المصباح المنير مادة: نسخ. (¬2) حاشية ابن عابدين (6/ 858).

التوريث بالتقدير والاحتياط

الورثة، وتعرف سهام الميت الثاني ثم يعمل مسألة له وتقسم على ورثته ثم تعرض سهامه من المسألة الأولى على مسألته، فإما أن تنقسم أو توافق أو تباين، فإن انقسمت صحت مسألته مما صحت منه المسألة الأولى، وتكون مسألة الميت الأول هي الجامعة أو توافق فحينئذ يؤخذ وفق مسألته ويضرب في كامل مسألة الميت الأوّل وحاصل الضرب يكون هو الجامعة للمسألتين، وإما أن تباين سهام الميت الثاني مسألته فتضرب كل مسألة الميت الأوّل في كل مسألة الميت الثاني وحاصل الضرب يكون هو الجامعة للمسألتين. مثال مباينة سهام الميت الثاني لمسألته (¬1): 8/ 24 زوجة ... 1 ... 3 ابن ... 7 ... 14 بنت ... - ... 7 5 - 120 أم ... 2 ... 43 ت ... - ... × شقيقة ... 3 ... 77 التوريث بالتقدير والاحتياط: قد يكون لبعض الورثة أحوال تتردد بين الوجود والعدم كالحمل والمفقود والغرقى ونحوهم أو تتردد بين الذكورة والأنوثة كالحمل والخنثى المشكل وذلك يتطلب بحثها لتأثيرها على مسائل الميراث ويتم العمل فيها بالتقدير والاحتياط لمصلحة الوارث أو المورث. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (6/ 858)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 434)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1027)، والكافي في فقه أحمد أبو محمَّد المقدسي (2/ 546)، وانظر تسهيل الفرائض، محمَّد عثيمين (ص: 64).

ميراث الحمل

ميراث الحمل والمراد به: موت المورث عن جنين في البطن إذا انفصل حيًا ورث أو حجب. شروط إرث الحمل: يشترط لاستحقاقه الإرث شرطان: 1 - وجود الحمل في الرحم حين موت المورث. 2 - انفصاله حيًا حياة مستقرة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا استهل المولود وُرِّثَ" (¬1). والاستهلال: وجود دليل الحياة من بكاء أو عطاس أو حركة. تحديد مدة الحمل التي يرث فيها: اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال: 1 - ذهب الحنفية وهو رواية عن أحمد إلى أن أكثر مدة الحمل سنتان واستدلوا بقول عائشة -رضي الله عنها-: "لا يبقى الولد في بطن أمه أكثر من سنتين ولو بفلكه مغزل" (¬2). وقولها هذا له حكم المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ لا مجال للاجتهاد فيه. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود برقم (2920)، قال ابن عبد الهادي في تنقيح تحقيق أحاديث التعليق (3/ 135): وهذا إسناد جيد وحسن وهو من طريق عبد الأعلى وقد ذكره ابن حبّان في الثقات. (¬2) أخرجه الدارقطني (3/ 221)، والبيهقيُّ (7/ 728). قال الحافظ في الدراية (2/ 80): رواه الدارقطني من طريق جميلة بنت سعد عن عائشة -رضي الله عنها-. وقال: وأخرج من طريق الوليد بن مسلم قال: سألت مالكًا عن هذا الحديث فقال: من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمَّد بن عجلان تحمل كل بطن أربع سنين. قال البيهقي: ويؤيده قول عمر تتربص امرأة المفقود أربعة أعوام.

مقدار ما يوقف للحمل عند القسمة

2 - وذهب الشافعية وهو المذهب عند الحنابلة إلى أن أكثر مدة الحمل أربع سنين، لأنه لا نص يحدد ذلك فيرجع فيه إلى الوجود، وقد وجد أربع سنين. 3 - وذهب المالكية إلى أن أكثر مدة الحمل خمس سنين. الترجيح: نرى أنه نظرًا لتقدم الطب وتوفر الأجهزة الطبية الدقيقة والتي يمكن من خلالها اكتشاف الحمل عند بداية حدوثه ومن ثم متابعته حتى ولادته فإن ذلك يكفي للاستدلال به على حصول الجنين واستحقاقه للإرث إذا ولد حيًا مهما بلغ من مدة والله أعلم. مقدار ما يوقف للحمل عند القسمة: إذا رغب الورثة وهم أصحاب الحق تأجيل قسمة التركة حتى يوضع الحمل فذلك حسن احتياطًا للشك في الحمل من حيث حياته ونوعه وعدده، وإن طلبوا أو بعضهم القسمة قبل الوضع فلهم ذلك لأنّ في تأخير القسمة إضرارًا بهم، حيث قد تطول مدة الحمل، وعند ذلك يجب الاحتياط في إرث الحمل ومن معه. وقد اختلف الفقهاء عند القسمة في المقدار الذي يوقف له من مورثه على ما يأتي: 1 - ذهب أبو حنيفة وهو القول المفتى به عند الحنفية إلى أنه يوقف للحمل حظ ذكر واحد أو أنثى واحدة أيهما كان أكثر، لأنه الغالب في ولادة النساء، ويأخذ الورثة كفيلًا بالزيادة على نصيب الواحد لأن الحمل عاجز عن النظر لنفسه فينظر له القاضي احتياطًا. 2 - وذهب الشافعية في الأصح عندهم إلى أنه لا ضبط لعدد الحمل، لأنه لا يعلم أكثر عدد تحمله المرأة لكن ينظر في حال الورثة الذين يرثون معه فمن يرث

في بعض التقادير دون بعض أو كان نصيبه غير مقدر كالعاصب فهذا لا يعطى شيئًا، ومن يرث في جميع التقادير متفاضلًا يعطى الأقل، ومن لا يختلف نصيبه في جميع التقادير يعطى نصيبه كاملًا ثم يوقف الباقي إلى أن ينكشف الحمل. 3 - وذهب الحنابلة إلى أنه يعمل بالأحظ للحمل، ويعامل الورثة بالأضر فيوقف للحمل الأكثر من ميراث ذكرين أو أنثيين ويعطى الوارث معه اليقين من نصيبه، فإذا ولد الحمل أخذ الموقوف إن كان قدر نصيبه، وإن كان أكثر منه رد الباقي على مستحقه من الورثة (¬1). الراجح: مذهب الحنابلة لكن مع تقدم الطب وتوفر الأجهزة الطبية الدقيقة والتي يمكن من خلالها تحديد عدد الحمل ونوعه فنرى أن يتم الاستفادة منها في ذلك وقسمة التركة على ضوء نتيجة التقرير الطبي المعد من المختصين بعد اعتماده من طبيبين مسلمين عادلين، فإذا ولد الحمل حيًا حياة مستقرة ورث ما ترك له وإلا فيوزع على الورثة على قدر نصيبهم، والله أعلم. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (6/ 856)، وبداية المجتهد لابن رشد (2/ 358)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1011)، والشرح الكبير على المقنع (18/ 205)، وانظر التحقيقات المرضية د. صالح الفوزان (ص: 217).

ميراث الخنثى

ميراث الخنثى تعريفه: في اللغة الخنثى من فيه انخناث أي تكسر وتثن (¬1). وفي الاصطلاح: من له آله الرجال وآلة النساء معًا أو ليس له شيء منها أصلًا. ميراث الخنثى: أجمع العلماء على أن الخنثى يوَّرث حسب ما يظهر فيه من علامات مميزة فإن بال من حيث يبول الرجل وُرِّثَ ميراث رجل وإن بال من حيث تبول المرأة وُرِّثَ ميراث المرأة وإن لم يتبين ذلك فهو مشكل، فإن كان يرجى معرفة حالة عند البلوغ أعطى هو ومن معه اليقين ووقف الباقي حتى يبلغ فيظهر فيه علامات الرجال من نبات لحيته وخروج المني من ذكره أو علامات النساء من الحيض ونحوه. كيفية توريث الخنثى المشكل: إن رغب الورثة الانتظار حتى يتضح أمره فحسن، وإن أرادوا قسم الميراث فلهم ذلك ولكن يراعى الاحتياط لميراث الخنثى وقد اختلف الفقهاء في كيفية توريثه على ما يأتي: 1 - يرى الحنفية أنه يفرض أنه ذكر ثم يفرض أنه أنثى ويعامل بأقل ما يستحقه، وإن كان يرث على اعتبار ولا يرث على اعتبار آخر لم يعط شيئًا، وذلك لأنّ المال لا يثبت استحقاقه مع الشك في سببه. 2 - ويرى المالكية أنه يعطى نصف نصيبي ذكر وأنثى إن ورث بهما متفاضلًا، وإن ورث بأحدهما فقط فله نصف نصيبه سواء كان يرجى اتضاحه أم لا. ¬

_ (¬1) القاموس المحيط مادة: خنث.

مثال توريث الخنثى المشكل على أكثر الاحتياط

3 - ويرى الشافعية أن يعامل الخنثى بالأضر سواء كان يرجى اتضاحه أو لا، ويوقف المشكوك فيه إلى الاتضاح أو الصلح. 4 - ويرى الحنابلة أنه إن كان يرجى اتضاح أمر الخنثى عومل هو ومن معه بالأضر كما يقول الشافعية، وإن كان لا يرجى اتضاح حاله، كإن مات قبل بلوغه أو بلغ مشكلًا، فيعطى نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى إن ورث بهما متفاضلًا، وإن ورث بكونه ذكرًا فقط أعطى نصف ميراث ذكر، وإن ورث بكونه أنثى فقط أعطى نصف ميراث أنثى وذلك مراعاة للاحتياط (¬1). مثال توريث الخنثى المشكل على أكثر الاحتياط: مات شخص عن ابن وولد خنثى، فيكون مسألة الذكورية من اثنين لكل واحد واحد، ومسألة الأنوثية من ثلاثة للابن اثنان وللخنثى واحد، وبين المسألتين مباينة فتضرب إحداهما في الأخرى يحصل ستة تضرب في حالتي الخنثى يحصل اثنا عشر هي الجامعة ثم تقسمها على مسألة الذكورة اثنين يحصل ستة وهي جزء سهمها، وعلى مسألة الأنوثة ثلاثة يحصل أربعة وهي جزء سهمها، للابن في مسألة الذكورية واحد في جزء سهمها ستة بستة وله من مسألة الأنوثية اثنان في جزء سهمها أربعة بثمانية فيجتمع له من المسألة أربعة عشر تقسم على الحالتين يحصل سبعة وهي نصيبه، وللخنثى من مسألة الذكورة واحد في جزء سهمها ستة وله من مسألة الأنوثية واحد في جزء سهمها أربعة بأربعة فيجتمع له من المسألتين عشرة تقسم على الحالتين يحصل خمسة وهذه صورتها: ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخي (2091)، وحاشية الدسوقي (4/ 418)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1013)، والشرح الكبير على المقنع (18/ 239).

2/ 6 - 3/ 4 - 12 ابن ... 1 ... 2 ... 7 ولد خنثى ... 1 ... 1 ... 5 الراجح: حيث إن الأخذ بالاحتياط يحقق مصلحة الخنثى ولا يضر بغيره فإن الأخذ به أولى، وذلك يتحقق في القول الرابع، ولكن نقول بما أن الطب قد أحرز تقدمًا كبيرًا وتطورت الأجهزة الطبية التي تعين في تحديد وتشخيص كثير من مكونات جسم الإنسان ومنها الهرومونات التي يمكن عن طريقها معرفة نوعية جنس الإنسان وما فيه من صفات الذكورة والأنوثة ولذلك يمكن الاستفادة منها في تحديد كونه ذكرًا أم أنثى، ويتم ذلك بالتحاليل المخبرية على أن يعتمد ذلك من طبيبين مسلمين عدلين، وتتم قسمة التركة بناء على ذلك دون حاجة للانتظار حيث يحصل بها تبيّن أمر الخنثى وتحديد نوعه، والله أعلم.

ميراث المفقود

ميراث المفقود في اللغة المفقود: اسم مفعول من فقد الشيء إذا عدمه، والمفقود المعدوم (¬1). واصطلاحًا: من انقطع خبره ولا يدري حياته من موته (¬2). مقدار مدة انتظار المفقود: 1 - يرى الحنفية وهو المشهور عن المالكية والشافعية في قول والحنابلة في رواية أنه ينتظر فيه حتى يتحقق حاله، ويضيف الحنفية أو يمضي عليه مدة من الزمن حددوها بمضي تسعين سنة من ولادته، وقبل مائة وعشرين سنة، وقيل عندهم إذا لم يبق أحد من أقرانه حكم بموته وحددها المالكية بسبعين سنة وقيل ثمانين وقيل تسعين وقيل مائة سنة، وذلك تقديرًا لما يمكن أن يعيش إليه الإنسان إذا لم يتبين موته. 2 - ويرى الحنابلة وهو المذهب عندهم أن للمفقود حالتين: أ- أن يغلب عليه الهلاك كمن فقد في معركة أو في مهلكة ونحو ذلك، فهذا ينتظر أربع سنين من حيث فقده لأنها مدة كافية لوصول خبره إن كان حيًا. ب- أن يغلب عليه السلامة كمن سافر لتجارة أو سياحة أو طلب علم فهذا ينتظر تكملة تسعين سنة منذ ولد لأن الغالب أنه لا يعيش أكثر من هذا. 3 - أن المرجع في الحكم بموته إلى اجتهاد الحاكم وهذا هو المشهور عند الحنفية والأصح عند الشافعية ورواية عند الحنابلة وذلك لأسباب منها: 1 - أن التجديد بمدة معينة لا دليل عليه. ¬

_ (¬1) القاموس المحيط مادة: "فقد". (¬2) العذب الفائض (2/ 26).

كيفية إرث المفقود

2 - أنه في الوقت الحاضر أصبح العالم كبلد واحد، حيث توفرت وسائل الاتصالات وكثرت أجهزة الإعلام المختلفة وأصبح من اليسير البحث عن المفقود مقارنة بالزمن السابق. وهو الراجح إن شاء الله تعالى. كيفية إرث المفقود: إذا مات مورثه قبل الحكم بموته فإن المفقود يرثه فيوقف نصيبه له كاملًا ويعامل بقية الورثة باليقين، فمن كان محجوبًا لم يعط شيئًا، ومن كان ينقصه أعطى الأقل، ومن كان لا ينقصه أعطى إرثه كاملًا. مثال: مات شخص عن زوجة وجدة وعم وابن مفقود، فتعطى الزوجة الثمن لأنه اليقين والجدة السدس لأنّ المفقود لا ينقصها، ولا يعطى العم شيئًا لأنّ المفقود يحجبه، ويوقف الباقي. كيفية الإرث من المفقود: إذا انقضت المدة المحددة لاحتمال حياته أو حكم القاضي بموته فإنها تقسم تركته على من كان وارثًا له حين الحكم بوفاته (¬1). ميراث الغرقى والحرقى ونحوهم: والمراد بذلك كل من لم يعلم موتهم بسبب حادث أتلفهم جميعًا، فلم يعرف أيهم مات أولًا كحادث الغرق والهدم وحوادث الطائرات والقطارات والسيارات والقتال ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي (20/ 45)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 241)، وروضة الطالبين (ص: 1010)، والشرح الكبير على المقنع (18/ 225)، وانظر تسهيل الفرائض، محمَّد عثيمين (ص: 89).

لوفاة الغرقى ونحوهم خمس حالات: 1 - أن يعلم المتأخر منهم بعينه فيرث من المتقدم بالإجماع. 2 - أن يعلم موتهم جميعًا في وقت واحد، فلا توارث بينهم إجماعًا لأن من شرط الإرث تحقق حياة الوارث بعد موت المورث. 3 - أن يجهل واقع موتهم فلم يعلم هل سبق أحدهم أو ماتوا جميعًا. 4 - أن يعلم أن موتهم بالترتيب ولكن لا يعلم عين المتأخر. 5 - أن يعلم تأخر أحدهما بالموت عن الآخر ثم ينسى. وفي هذه الحالات الثلاث يختلف العلماء في توريث بعضهم من بعض على ما يأتي: 1 - يرى جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية وهو رواية عن أحمد أنه لا يرث بعضهم من بعض، وإنما الإرث للأحياء من الورثة دون من مات معه وهو مروى عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وابن عباس -رضي الله عنهم -، لأنه لم يتحقق حياة الوارث بعد موت المورث، ولأن قتلى اليمامة وصفين والحرة لم يورث بعضهم من بعض بل جعل إرثهم للأحياء من ورثتهم. 2 - ويرى أحمد وهو الظاهر من مذهبه أنه يرث بعضهم من بعض، وقيل يرث كل منهما صاحبه من ماله الخاص دون ما يرثه من الميت معه، فيقدر أحدهما مات أولًا ويورَّث الآخر منه، ثم يقسم ما ورثه على الأحياء من ورثته ثم يعمل بالثاني مثل ذلك. ويروى ذلك عن عمر وعلي -رضي الله عنهم -، فإن عمر -رضي الله عنه- لما وقع الطاعون في الشام فجعل أهل البيت يموتون عن آخرهم فكُتب عن ذلك إلى عمر فأمر: "أن

كيفية توارث الغرقى ومن في حكمهم عند من يقول به

ورثوا بعضهم من بعض". الراجح: يترجح قول الجمهور بعدم التوارث بينهم لتحقق الجهالة، ولا يثبت الاستحقاق مع الشك، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية والشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمَّد بن عثيمين. كيفية توارث الغرقى ومن في حكمهم عند من يقول به: 1 - يعمل مسألة لأحدهم فتقسم على ورثته الأحياء ومن مات معه. 2 - يعمل مسألة ثانية للأحياء من ورثه من مات معه ويقسم عليها نصيبه من مسألة الميت الأوّل ويحصل جامعه بذلك. 3 - يعمل مسألة للميت الثاني وهو الذي قدر أولًا أنه حي وتقسم على ورثته الأحياء ومن مات معه. 4 - يعمل مسألة أخرى للأحياء من ورثة من مات معه وتقسم عليها سهامه ثم تصحح المسألة (¬1). الميراث بالولاء: تعريفه: الولاء في اللغة القرابة والنصرة (¬2). واصطلاحًا: هو عصوبة سببها نعمة المعتق على رقيقه بالعتق (¬3). ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي (20/ 27)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 428)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1009)، والشرح الكبير على المقنع (18/ 255)، وتسهيل الفرائض، محمَّد بن عثيمين (ص: 94) دار الطباعة اليوسفية بمصر. (¬2) القاموس المحيط مادة: "ولاء". (¬3) التحقيقات المرضية د. صالح الفوزان (ص: 36).

الأصل في مشروعية الإرث بالولاء

الأصل في مشروعية الإرث بالولاء: الإرث بالولاء مشروع بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (¬1). وأما السنة: فمنها حديث: "إنما الولاء لمن أعتق" (¬2). وحديث: "مولى القوم من أنفسهم" (¬3). وأما الإجماع: فقد أجمع أهل العلم على أن من أعتق عبدًا أو عتق عليه ولم يعتقه سائبة ولا من زكاته أو نذره أو كفارته أن له عليه الولاء (¬4). الإرث بالولاء: يرث المعتق عتيقه بالولاء سواء كان ذكرًا أو أنثى ولا يرثه العتيق، ويكون الإرث به تعصيبًا، وهو مقدم على الرد وذوي الأرحام لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الميراث للعصبة فإن لم يكن عصبة فللمولى" (¬5). وترتيب عصبات الولاء كترتيب عصبات النسب. من يرث بالولاء: الذين يرثون بالولاء خمسة أصناف: 1 - المعتق ذكرًا أو أنثى. ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب: 5. (¬2) أخرجه البخاريُّ (4/ 241). (¬3) صحيح البخاري (8/ 193). (¬4) الشرح الكبير على المقنع (18/ 403). (¬5) أخرجه سعيد بن منصور [1/ 1 / 117 (281)]، وذكره الألباني في إرواء الغليل (6/ 163).

شروط الإرث بالولاء

2 - معتق المعتق وإن بعد. 3 - عصبة المعتق بالنفس دون العصبة بالغير أو مع الغير. 4 - معتق أبي المعتق إذا لم يجر على العتق رق. 5 - معتق جد المعتق إذا لم يجر على العتق أو على أبيه رق. شروط الإرث بالولاء: يشترط للإرث بالولاء أحد أمرين: 1 - عدم جميع العصبة بالنسب. 2 - أن يقوم بهم مانع عند وجودهم من الإرث كالقتل والرق واختلاف الدين (¬1) ميراث المطلقة: عقد النكاح من أسباب الميراث، وقد يحل هذا العقد بالطلاق، ومن المطلقات من ترث ومنهن من لا ترث، وإليك بيان ذلك: 1 - المطلقة الرجعية: سواء حصل طلاقها في حال صحة الزوج أو مرضه، وترث باتفاق الفقهاء لأنها زوجة ما دامت في العدة. 2 - المطلقة البائن في حال الصحة أو مرض غير مخوف: وهي لا ترث إجماعًا لانقطاع صلة الزوجية. 3 - المطلقة البائن في مرض الموت: وهو غير متهم بقصد حرمانها من الميراث، وفي توريثها أربعة أقوال: ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (6/ 832)، وحاشية الدسوقي (4/ 467)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1004)، والشرح الكبير على المقنع (18/ 402).

الصلح بين الورثة في إخراج بعضهم (التخارج)

الأول: أنها لا ترث مطلقًا لأنها بائن منه قبل موته، وهذا هو الصحيح من قولي الشافعي. الثاني: أنها ترث إذا توفي مطلقها وهي في العدة ولا ترث إذا توفي بعد خروجها من العدة وهذا قول الحنفية. الثالث: أنها ترث سواء توفي وهي في العدة أو بعدها ما لم تتزوج بآخر أو ترتد وذلك معاملة له بنقيض قصده وهذا قول الحنابلة. الرابع: أنها ترث مطلقًا سواء مات في العدة أو بعدها تزوجت غيره أو لم تتزوج وهذا قول المالكية (¬1). الراجح: لنا أنها ترث مطلقًا ما لم تتزوج أو ترتد وذلك سدًا للذريعة حتى لا يتخذ الطلاق عند الموت وسيلة إلى حرمان الزوجة من الإرث. الصلح بين الورثة في إخراج بعضهم (التخارج): وهو أن يصطلح الورثة على إخراج بعضهم بشيء معلوم (¬2). حكم الصلح (التخارج): 1 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية إلى جواز التخارج عند التراضي وأن يعطى أحد الورثة عوضًا عن نصيبه من التركة ليخرج منها للباقين. واستدلوا بما روى أن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- طلق امرأته تماضر بنت الأصبغ الكلبية في مرض موته، ثم مات وهي في العدة، فورثها عثمان بن عفان ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي (6/ 154)، وبداية المجتهد (2/ 62)، المجموع شرح المهذب (15/ 219)، والشرح الكبير على المقنع (18/ 299). (¬2) شرح فتح القدير لابن الهمام (7/ 408).

-رضي الله عنه- مع ثلاث نسوة أخر، فصالحوها عن ربع ثمنها على ثلاثة وثمانين ألفًا، قيل هي دنانير وقيل دراهم (¬1). 2 - وذهب الحنابلة إلى جواز ذلك في المواريث القديمة، لما روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في رجلين اختصما في مواريث: "استهما، وتوخيا، وليحلل أحدكما صاحبه" (¬2) وهذا صلح عن المجهول. أما ما يمكن معرفته كتركة موجودة أو يعلمه الذي هو عليه ويجهله صاحبه، فلا يصح الصلح عليه مع الجهل، قال أحمد إن صولحت امرأة من ثمنها، لم يصح واحتج بقول شريح: "أيما امرأة صولحت من ثمنها، لم يتبين لها ما ترك زوجها، فهي الريبة كلها"، قال وإن ورث قوم مالًا ودورًا وغير ذلك فقالوا لبعضهم، نخرجك من الميراث بألف درهم، أكره ذلك. وإنما جاز الصلح مع الجهالة للحاجة إليه لإبراء الذمم، وإزالة الخصام، ومع العلم فلا حاجة إلى المصالحة لإمكان أخذ كل ذي حق حقه (¬3). ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير (7/ 409). (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (6/ 320)، وأبو داود برقم (3584)، والحاكم [4/ 107 (7034)]، وصححه. قال الزيلعيُّ في تخريج الأحاديث والآثار (1/ 118): رواه أبو داود في سننه في القضاء من حديث أسامة بن زيد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه رجلان يختصمان في مواريث وأشياء قد درست فذكره، ورواه الحاكم في مستدركه في كتاب الأحكام وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ورواه أحمد وأبو يعلى الموصلي وإسحاق بن راهويه في مسانيدهم وابن أبي شيبة في مصنفه قالوا ثلاثتهم ثنا وكيع ثنا أسامة بن زيد الليثي عن عبد الله بن رافع به، ورواه الدارقطني في سننه في الأقضية وبعضه في الصحيحين. وقال صاحب تحفة المحتاج (2/ 576): رواه أبو داود بإسناد على شرط الصحيح لا جرم رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد. (¬3) شرح فتح القدير (7/ 408)، وحاشية الدسوقي (3/ 315)، وروضة الطالبين (ص: 691)، والمغني لابن قدامة (7/ 23).

كيفية تقسم التركة بعد التخارج عند من يقول به

كيفية تقسم التركة بعد التخارج عند من يقول به: إذا تصالح الورثة مع أحدهم على أن يترك حصته لهم ويأخذ بدلها جزءًا معينًا من التركة، فإن طريقة التقسيم أن تصحح المسألة باعتبار المصالح موجودًا بين الورثة ثم تطرح سهامه من التصحيح ثم يقسم باقي التركة على سهام الباقين من الورثة. أما إذا كان التخارج على شيء من المال من غير التركة فإن المتخارج يكون قد باع نصيبه من التركة نظير الثمن الذي دفعه سائر الورثة من أموالهم الخاصة لتخلص التركة كلها لهم. وأما إذا تخارج وارث واحد مع وارث آخر على أن يترك له نصيبه، فإن التركة تقسم بين الورثة جميعًا على اعتبار أنه لم يحصل تخارج ويؤول نصيب المتخارج بعد ذلك لمن دفع له البدل (¬1). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (5/ 678).

قسمة التركات

قسمة التركات في اللغة: القسمة: جعل الشيء الواحد قسامًا. والتركات: جمع تركة وهي ما تركه الميت من مال (¬1). وقسمة التركات اصطلاحًا: هي إعطاء كل وارث ما يستحقه شرعًا من مال مورثه (¬2). أهمية ذلك: إن قسمة التركات هي الثمرة المقصودة من علم الفرائض، وتعلم الفرائض وما يشتمل عليه من مباحث إنما هو وسيلة إلى إعطاء كل وارث حقه من مال مورثه. أنواع التركة: التركة نوعان: 1 - ما يمكن قسمته أي فرزه بالعد أو الوزن أو الكيل أو الذرع لكونه مستوي الأجزاء. 2 - ما لا يمكن قسمته لكونه غير مستوي الأجزاء كالعقارات وغيرها. عمل القسمة في النوع الأوّل: لقسمة التركة في هذا النوع عدة أوجه، أنسبها: 1 - طريقة النسبة: وهو أن تنسب سهم كل وارث من المسألة إلى المسألة، ثم تعطيه من التركة بتلك النسبة، وهو يصلح لجميع أنواع التركة. ¬

_ (¬1) لسان العرب مادة: قسم. (¬2) التحقيقات المرضية د. صالح الفوزان (ص: 191).

2 - أن تقسم التركة على مصح المسألة، فما خرج اعتبرته كجزء السهم، فتضرب فيه سهم كل وارث من المسألة، فما خرج فهو نصيبه من التركة. 3 - أن تقسم المسألة على سهام كل وارث منها، ثم اقسم التركة على خارج القسمة، يخرج نصيب ذلك الوارث. مثال: مات شخص عن أم وبنت وعم والتركة 96 ألف ريال. فتقسم على الوجه الثالث كما يأتي: 6 - 96 أم ... 1 ... 16 بنت ... 3 ... 48 عم ... 2 ... 32 عمل القسمة في النوع الثاني: 1 - طريقة النسبة: وهو أن تنسب نصيب كل وارث من المسألة إلى المسألة ثم تعطيه من التركة بمثل تلك النسبة. 2 - طريقة القيراط: وهو ثلث الثمن فهو جزء من أربعة وعشرين جزءًا، فكل جزء من الأربعة والعشرين يسمى قيراطًا، ويتم ذلك بأن تقسم العدد الأوّل الذي هو المسألة على العدد الرابع الذي هو مخرج القيراط، وما خرج يسمى قيراط ويقسم عليه نصيب كل وارث فيخرج ماله من القراريط (¬1). ¬

_ (¬1) قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 433)، وروضة الطالبين (ص: 1029)، وانظر الرائد في علم الفرائض (ص: 148).

- ... 12 ... 24 ... 1/ 2 زوج ... 3 ... 6 ... - بنت ... 4 ... 8 ... - بنت ... 4 ... 8 ... - عم ... 1 ... 2 ... - قيراط المسألة= 1/ 2 ما يخص الزوج= 3 ÷ 1/ 2 = 3 × 2/ 1 = 6 ما يخص كل بنت = 4 ÷ 1/ 2 = 4 × 2/ 1 = 8 ما يخص العم = 1 ÷ 1/ 2 = 1 × 2/ 1 = 2

الفِقهُ الميَسَّر قِسْمُ المعَامَلات البيع - الرهن - الضمان - الشركة - الإجارة - الوقف - الوصايا مَوسُوعة فقهيَّة حَديثَة تتناوَل أحكام الفقه الإسلامي بأسُلوب وَاضح للمختصّين وغيرهم تَأليف د/محمَّد بن إبراهيم الموسَى عضو مجلس الشورى سابقًا - المجلس الأعلى للأوقاف أ. د/عَبد الله بن محمد الطيّار أستَاذ الدراسات العليا بكليَّة الشَّريعة والدِّراسات الإسلامية بجامعة القصيم أ. د/عبد الله بن محمّد المطلق عضو هَيئة كبار العُلَماء، وعضو اللجنة الدَّائمة للإفتاء الجزء السَّادس مدار الوطن للنشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قسم المعاملات

الفِقهُ الميَسَّر قسم المعاملات البيع - الرهن -الشركة - الإجارة - الوقف - الوصايا

حقُوق الطَّبع محفُوظَة الطَّبعَة الثانيَة 1433 هـ - 2012 م مَدَارُ الوَطن للنَّشر المملكة العربية السعودية - المقر الرئيسي: الرياض - الملز ص. ب: 245760 - الرمز البريدي 11312 - هاتف 4792042 (5 خطوط) - فاكس 4723941 البريد الإلكتروني: [email protected] موقعنا على الإنترنت: www.madaralwatan.com الرياض: 0503269316 الغربية: 0504143198 الشرقية: 0503193268 الشمالية والقصيم: 0504130728 التوزيع الخيري للشرقية والجنوبية: 0503193269 التوزيع الخيري لباقي جهات المملكة: 0506436804 التسويق للجهات الحكومية: 0500996987 مبيعات المكتبات الخارجية: 0503193269

المقدمة

المقدمة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد: فإن الإِسلام دين شامل لكل شؤون الحياة: اقتصادية واجتماعية وسياسية وغيرها، فجاء بما يكفل سعادة البشرية جمعاء فردًا ومجتمعًا وأمة، ومن ذلك تنظيم شؤون التعامل أخذًا وعطاء، ووضع لذلك القواعد والأسس التي تكفل العدل والخير والمساواة. ولقد قام الفقهاء منذ فجر الإِسلام بدراسة القضايا وإصدار الأحكام بشأنها حتى أصبح التأليف في الفقه مثالًا يحتذى ومنارة يقتدى بها لأبناء الإسلام وغيرهم، واستفادت من ذلك بعض الأمم، كما نجد أن القانون المدني الفرنسي قد استفاد من الفقه على مذهب الإمام مالك. وقد مر الفقه الإِسلامي بأدوار وعصور مختلفة، ازدهر في بعضها حتى لا تكاد تجد قضية أو حادثة إلا وللفقهاء فيها حكم يبين موقف الشريعة. إن على فقهاء الأمة في هذا العصر وكل عصر أن يدرسوا القضايا والنوازل والحوادث التي تواجه الأمة، بل وتواجه العالم كله، ويطبقوا عليها أصول وقواعد ومبادئ الفقه الإسلامي. فلا توجد قضية أو نازلة أو مشكلة إلا وفي الإسلام الحل الناجح لها {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]. وسيأتي اليوم الذي تتبوأ فيه الأمة الإِسلامية -بحول الله- الريادة في كل مجالات الحياة بما فيها الأمور التشريعية والفقهية. وقد تناولنا في مُؤَلَّفِنَا الجزءِ السادسِ من كتاب الفقه الميسر الأبواب الآتية:

1 - البيوع: تعريفه، مشروعيتها، أركانها، الشروط المعتبرة في هذه الأركان، وأقسامها، والبيوع المنهي عنها. 2 - الاحتكار، التسعير، الوعد بالبيع، الإقالة فيه، السمسرة، الخيار في البيع وأقسامه. 3 - الربا والصرف: تعريف الربا، حكمه، أقسامه، العلة في تحريمه. 4 - السلم: تعريفه، أركانه، حكمه، شروطه. 5 - الاستصناع: تعريفه، حكمه، أركانه. 6 - القرض: تعريفه، مشروعيته، الحكمة منه، أركانه. 7 - الرهن: تعريفه، حكمه، شروطه، أركانه. 8 - الضمان: تعريفه، أركانه، حكمه، أنواعه. 9 - الصلح: تعريفه، حكمه، أقسامه، آثاره. 10 - الحجر والتفليس: تعريفه، حكمه، أقسامه. 11 - الوكالة: تعريفها، حكمها، أركانها، ما تجوز فيه، أنواعها. 12 - الشركات: تعريفها، مشروعيتها، أنواعها. 13 - الإجارة: تعريفها، أنواعها، مشروعيتها، أركانها. كما تم بحث أبواب السبق والعارية والغصب والشفعة والوديعة والتأمين وإحياء الموات، والإقطاع، والجعالة واللقطة، والوقف، والهبة والعطية والوصايا ... ونسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- التوفيق والسداد، وأن يكون فيه الفائدة وأن يجعله خالصًا لوجهه تعالى، وصلِّ اللَّهم وسلم على محمَّد وآله وصحبه.

كتاب البيوع

الفِقهُ الميَسَّر كتاب البيوع

أركان البيع

كتاب البيوع تعريفها في اللغة: من حيث التصريف من باعه بيعة ومبيعًا، وهو مبيوع أو مبيع، والبياعة بالكسر: السلعة، وابتعتُه عرضته للبيع، وابتاعه اشتراه (¬1). وبناءً على هذا التعريف يكون البيع في اللغة مطلق المبادلة. قال الشيخ محمَّد الصالح العثيمين -رحمه الله-: "إذًا البيع في اللغة أعم من البيع شرعًا، فهو أَخْذُ شيء وإعطاء شيء حتى ولو كان على سبيل العارية أو الوديعة، فإذا مددت إليك شيئًا أعيرك إياه فهو بيع في اللغة؛ لأنه مأخوذ من الباع، إذ أن كل واحد من المتعاطيين يمد باعه إلى الآخر" (¬2). تعريف البيع في الاصطلاح: اختلفت أقوال الفقهاء في تعريف البيع شرعًا، والتعريف المختار هو: "مبادلة مال بمال أو منفعة مباحة ولو في الذمة". شرح التعريف: قولهم: "مبادلة مال بمال" المراد بالمال هنا كل عين مباحة النفع بلا حاجة كالذهب والفضة والشعير والبر والتمر والملح والسيارات وغيرهما. وقولهم: "أو منفعة مباحة" أي مبادلة مال بمنفعة مباحة، واشتراط كونها مباحة احترازًا من المنفعة غير المباحة، وقولهم: "ولو في الذمة" لو هنا ليست إشارة خلاف ولكن المعنى أن المال الذي يقع العقد عليه قد يكون حاضرًا وقد يكون في الذمة فالبيع يشمل هذا وهذا. أركان البيع: أركان البيع أربعة هي: ¬

_ (¬1) القاموس المحيط، للفيروزآبادي، مادة: بيع (3/ 8)، ط دار الفكر بيروت. (¬2) الشرح الممتع على زاد المستقنع (3/ 511)، ط المكتبة الإسلامية بالقاهرة.

حكم البيع شرعا

الركن الأول والثاني: العاقدان وهما طرفا العقد اللذان لا يتم انعقاده إلا بهما، ولا بد أن يكون كل من العاقدين بالغًا عاقلًا رشيدًا غير محجور عليه. الركن الثالث: المعقود عليه (محلّ العقد) وهو المال المبيع. الركن الرابع: الصيغة. جاء في المجموع (¬1): "أركان البيع ثلاثة: العاقدان، والصيغة، والمعقود عليه". وجاء في كشاف القناع (¬2): "البيع ثلاثة أركان: عاقد، ومعقود عليه، وصيغة". حكم البيع شرعًا: البيع جائز بالكتاب والسنة والإجماع والقياس. دليل الكتاب: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬3). وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (¬4). ودليل السنة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" (¬5). والإجماع: قال ابن قدامة -رحمه الله-: "وأجمع المسلمون على جواز البيع في الجملة والحكمة تقتضيه؛ لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه، وصاحبه لا يبذله بغير عوض، ففي شرع البيع وتجويزه وصولُ كلِّ واحد منهما إلى غرضه ¬

_ (¬1) المجموع شرح المهذب، للنووي (9/ 149). (¬2) كشاف القناع، للبهوتي (3/ 146). (¬3) سورة البقرة: 275. (¬4) سورة البقرة: 198. (¬5) أخرجه البخاريُّ، كتاب البيوع، باب إذا بيَّن البيعان ولم يكتما ونصحا، (3/ 76)، وأخرجه مسلم، كتاب البيوع، باب ثبوت خيار المجلس (3/ 163 - 164).

شروط البيع

ودفع حاجته" (¬1) وأما القياس: إن في تشريعات الرب -سبحانه وتعالى- من الِحكَمِ والأسرار ما لا يخفى على أحد، وإذا نظرنا إلى البيع والحكم المترتبة على جوازه، نراها كثيرة؛ فمن ذلك أنه شرعهُ توسعة على العباد، وذلك لحاجة الإنسان إلى الغذاء أو الكساء أو غيرها ولا يستطيع الإنسان توفير كل ذلك بمفرده وإنما يتحقق ذلك بالمبادلة والأخذ والعطاء بين الناس فيما يملكون من أموال وأشياء تلبي حاجتهم. شروط البيع: اختلفت أراء الفقهاء في تحديد شروط البيع، ونظرًا لذلك فإننا سنوجز أقوالهم فيما يلي: أولًا: الشروط المعتبرة في المعقود عليه. ثانيًا: الشروط المعتبرة في المتعاقدين. أولًا: الشروط المعتبرة في المعقود عليه: يشترط في المعقود عليه: 1 - كون المعقود عليه موجودًا حين العقد فلا يصح بيع المعدوم وذلك بإتفاق الفقهاء فمثلًا لا يصح بيع الثمرة قبل أن تخلق ولا يصح بيع المضامين (¬2) وكذلك بيع الملاقيح (¬3)؛ لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة (6/ 6). (¬2) المضامين: ما سيوجد من ماء الفحل. (¬3) الملاقيح: ما في البطون من الأجنة.

2 - كون المعقود عليه مالا ينتفع به

المضامين والملاقيح وحبل الحبلة" (¬1) لما في ذلك من الغرر والجهالة، وقد جاء النهي عن بيع الغرر فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة حيث قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر" (¬2). 2 - كون المعقود عليه مالًا ينتفع به: والمال هنا ما يميل إليه الطبع ويجري فيه البذل والمنع وهو ما يجوز الانتفاع به، فما لا نفع فيه فليس بمال (¬3). مثال: كأن تقول: بعتك هذه الدار بهذه السيارة، أو بعتك هذا القلم بكذا من المال. فالعبرة بالمالية في نظر الشرع ما يجوز الانتفاع به أما ما لا يجوز الانتفاع به كالميتة والدم المسفوح ونحوه فهذا ليس بمال. 3 - كون المعقود عليه ملكًا للبائع: لقوله - صلى الله عليه وسلم - لحكيم بن حزام -رضي الله عنه-: "لا تبع ما ليس عندك" (¬4) فلا ينعقد بيع ما ليس مملوكًا لبائعه وقت العقد ملكًا تامًا. 4 - أن يكون المعقود عليه مقدورًا على تسليمه حال العقد: فلا يصح بيع الجمل الشارد ولا بيع الطير في الهواء، سواء كان الطير مما ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- (8/ 21)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6/ 62) برقم (6814) ط. المكتب الإِسلامي. (¬2) أخرجه مسلمٌ (5/ 3). وانظر لاشتراط هذا الشرط في: فتح القدير (1/ 50)، الدسوقي (3/ 157 - 158)، المغني، لابن قدامة (6/ 234 - 242). (¬3) انظر الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 15). (¬4) أخرجه الترمذيُّ (4/ 30) تحفة الأحوذي، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7083).

5 - أن يكون المعقود عليه معلوما لكل من المتعاقدين

يألف الرجوع أو لا، ولا السمك في الماء، إلا إذا كان الماء في بركة ماؤها صاف يشاهد فيه السمك وكانت هذه البركة غير متصلة بنهر ويمكن أخذ السمك منها، فإن البيع في هذه الحالة يصح، ودليل هذا الشرط نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر (¬1). 5 - أن يكون المعقود عليه معلومًا لكل من المتعاقدين وذلك؛ لأن بيع المجهول يفضي إلى المخاصمة والمنازعة، ولأن فيه نوعَ غررٍ، والغرر منهيٌّ عنه فلا يصح شراء ما لم يره أو رآه وجهله (¬2). 6 - زاد المالكية والشافعية شروطًا أخرى في المعقود عليه، منها كونه طاهر العين فلا يصح بيع الخنزير ولا الكلب ولا الخمر ولا جلد الميتة قبل الدبغ. ومن الشروط عند المالكية والشافعية أن لا يكون المبيع من البيوع المنهي عنها، وسيأتي بيانها إن شاء الله قريبًا. ومن الشروط كذلك أن لا يكون البيع محرمًا كبيع المسروق والمغصوب أو المكره، على ما سيأتي بيانه -إن شاء الله- (¬3). ثانيًا: الشروط المعتبرة في المتعاقدين: 1 - أن يكونا جائزي التصرف، وذلك بأن يكون كل منهما حرًا مكلفًا رشيدًا فلا يصح بيع ولا شراء الصبي ولا المجنون ولا المملوك بغير إذن الولي أو السيد. ¬

_ (¬1) انظر في هذا الشرط حاشية ابن عابدين (4/ 6)، والدسوقي (3/ 11 - 12)، وشرح منتهى الإرادات (2/ 14). (¬2) الملخص الفقهي للشيخ صالح الفوزان (2/ 10). (¬3) الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 15).

الشروط في البيع

وخالف بعضَ ما ذكرناه الأحنافُ فقالوا: لا ينعقد بيع المجنون والصبي الذي لا يعقل؛ لأن أهلية المتصرف شرط انعقاد التصرف والأهلية لا تثبت بدون عقل فلا يثبت الانعقاد بدونه فأما البلوغ فليس بشرط. وقالوا كذلك: إن الحرية ليست بشرط لانعقاد البيع ولا لنفاذه (¬1). 2 - أن يكونا مختارين للعقد وذلك؛ لأن التراضي شرط في صحة العقد فلا يصح بيع المكره منهما إذا كان مكرهًا بغير حق؛ لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬2). ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما البيع عن التراضي" (¬3). أما إن كان الإكراه بحقٍّ كما لو أكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه، فإن هذا إكراه بحق ويصح بيعه هنا (¬4). الشروط في البيع: قد يحتاج المتعاقدان أو المتبايعان كلاهما أو أحدهما إلى شرط أو أكثر في البيع، فأباح الشارع لهما أن يشترطا بعض الشروط في البيع، وَعَرَّفَ الفقهاء الشروط في البيع بأنها إلزام أحد المتعاقدين الآخر بسبب العقد ما له فيه منفعة. أنواع الشروط في البيع: للشروط في البيع ضربان: ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع، للكاساني (5/ 134). (¬2) سورة النساء: 29. (¬3) صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 13)، برقم (1887). (¬4) انظر في ذلك: المبدع في شرح المقنع (4/ 7)، ط. المكتب الإِسلامي، والمجموع شرح المهذب (9/ 364)، وروضة الطالبين (499 - 501).

الأول: صحيح: وهي ما يوافق مقتضى العقد وهذا القسم يلزم العمل بمقتضاه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمون عندَ شروطِهم" (¬1). ولأن الأصل في الشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع ونهى عنه، وهذا الضرب ثلاثة أقسام: القسم الأول: شرط مقتضى البيع، كاشتراط التقابض وحلول الثمن. القسم الثاني: شرط من مصلحة العقد بحيث يتقوى به العقد وتعود مصلحته على المشترط، كاشتراط صفة في الثمن كتأجيله أو بعضه إلى مدة معلومة، أو اشتراط صفة في المبيع مثل كونه من النوع الجيد أو من صناعة كذا، أو إنتاج كذا؛ لأن الرغبات تختلف باختلاف ذلك. فإن أتى البائع بهذه الشروط التي اتفق عليها في البيع، لزم البيع. وإن اختلف عنه فللمشترى الفسخ أو الإمساك مع تعويضه عن فقد الشرط، ويتم ذلك بأن يقوم المبيع مع تقدير وجود الصفة المشترطة ثم يقوَّم مع فقدها ويدفع له الفرق بين القيمتين. الشرط الجزائي: ومما يدخل ضمن هذا القسم الشرط الجزائيّ، وهو اتفاق بين المتعاقدين على مقدار التعويض الذي يستحقه الدائن من المدين إذا لم ينفذ ما التزم به أو تأخر في تنفيذه، وهو شرط صحيح معتبر وهو من مصلحة العقد؛ فهو دافع لإنجاز ما تم التعاقد عليه في وقته، وقد جاء في صحيح البخاري عن ابن سيرين أن شريحًا قال: "من شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود برقم (3594)، وصححه الألباني في الإرواء (5/ 142)، برقم (1303). (¬2) أبحاث هيئة كبار العلماء (1/ 213)، انظر الجامع في فقة النوازل، د. صالح بن حميد القسم الأول (ص: 64).

القسم الثالث: من الشروط الصحيحة في البيع: أن يشترط أحد المتعاقدين نفعًا معلومًا في المبيع، كأن يشترط البائع سكن الدار المبيعة مدة معينة أو أن يحمل على الدابة أو السيارة المبيعة إلى موضع معين، دليل ذلك ما رواه جابر -رضي الله عنه- "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - باعَ جملًا واشترط ظهَره إلى المدينةِ" (¬1). وكذا لو اشترط المشتري على البائع بذل عمل في البيع، كأن يشترى ثوبًا ويشترط عليه خياطته. الضرب الثاني: الفاسد: وهو على ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يشترط أحدهما على صاحبه عقدًا آخر، كأن يقول: بعتك هذه السلعة على أن تؤجرني دارك أو أن تشركني معك في العمل أو على أن تقرضني مبلغ كذا، فهذا شرط فاسد يبطل العقد من أصله؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة. قال أحمد -رحمه الله- عن هذا القسم من البيع الفاسد: هذا بيعتان في بيعة. ويرى بعض المالكية جواز اشتراط بعض العقود مع البيع، وهي الجعالة والصرف والمساقاة والشركة والنكاح والقراض والإجارة (¬2). القسم الثاني: شرط ما ينافي مقتضى البيع، نحو أن يشترط عليه أن لا يبيع ما اشتراه ولا يهبه أو أن يشترط المشتري على البائع إن خسر في السلعة ردها عليه، فهذا شرط فاسد يفسد في نفسه ولا يبطل البيع به؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من اشترط شرطًا ليس في كتابِ اللهِ فهو باطلٌ، وإن كان مئةَ شرطٍ" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (2/ 172)، مسلم (5/ 23). (¬2) قوانين الأحكام الشرعية، لابن جزي (ص: 285). (¬3) متفق عليه أخرجه البخاريُّ (2/ 176)، ومسلمٌ (4/ 213).

الإشهاد في البيع

القسم الثالث: أن يشترط شرطًا يعلق البيع به كقوله إن جئتني بكذا أو إن رضي فلان بعتك، فهذا مختلف فيه: فالمذهب الحنبلي أنهما لا يصحان؛ لأن مقتضى البيع نقل الملكية حال البيع، والشرط هنا يمنعه. وروى صحتها واختارها شيخ الإِسلام في كل العقود التي لم تخالف الشرع (¬1). الإشهاد في البيع: يستحب الإشهاد في البيع؛ لقول الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (¬2). ولأنه أقطع للنزاع وأبعد عن التجاحد فكان أولى، ويختص ذلك بما له أهمية فأما الأشياء القليلة فلا يستحب ذلك فيها وهذا هو قول الشافعي والحنفية وإسحاق وأيوب. وقال طائفة بأن الإشهاد فرض لا يجوز تركه وهو مروي عن ابن عباس وهو قول عطاء وجابر وغيرهم (¬3). الركن الرابع: الصيغة التي ينعقد بها البيع ينعقد البيع بصيغتين: صيغة قولية، وصيغة فعلية. فالصيغة القولية: هي الإيجاب والقبول. فالإيجاب: هو اللفظ الصادر من البائع أو من يقوم مقامه. والقبول: هو اللفظ الصادر من المشتري أو من يقوم مقامه، وصفة هذه ¬

_ (¬1) المبدع في شرح المقنع (4/ 51)، وانظر أيضًا الملخص الفقهي، لفضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان (2/ 14 - 15). (¬2) سورة البقرة: 282. (¬3) انظر المغني، لابن قدامه (6/ 381).

الصيغة أن يقول البائع للمشتري: بعتك هذا الشيء بكذا، ويقول المشتري: قبلت. ولا يشترط للبيع القولي صيغة معينة بل يقول مثلًا: بعتك هذا الشيء أو أعطيتك أو مَلَّكْتُكَ. فليس هناك لفظ معين للبيع بل ينعقد بكل لفظ دل عليه (¬1). أما الصيغة الفعلية في البيع التي يعبر عنها الفقهاء بالمعاطاة، أي: يعطي البائعُ المشتريَ السلعةَ بدون قول يصدر منهما. وهذه الصيغة في البيع نص الفقهاء على جوازها، وهذا يدل على أن كل ما دل على العقد؛ فهو عقد وذلك لعدم التعبد بذلك، فالمعاملات ليست عبادات يتقيد الإنسان فيها بما ورد بل هي معاملات بين الناس (¬2). هنالك أساليب للبيع يتعرض لها الإنسان كثيرًا نظرًا للحاجة أو الضرورة وهي: أولًا: البيع بالكتابة والمراسلة: يصح التعاقد بالكتابة بين حاضرين أو باللفظ من حاضر والكتابة من الآخر، وكذلك ينعقد البيع إذا أوجب العاقد البيع بالكتابة إلى غائب بمثل عبارة: بعتك داري بكذا أو أَرْسَلَ بذلك رسولًا فقبل المشتري بعد اطِّلاعِه على الإيجاب من الكاتب أو الرسول (¬3). ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: منح الجليل (2/ 462)، وجواهر الإكليل (2/ 2)، وشرح منتهى الإرادات (2/ 140)، وكشاف القناع (3/ 146)، وروضة الطالبين، للنووي (ص: 499). (¬2) انظر انعقاد البيع بالمعاطاة: (حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3/ 3)، مغني المحتاج (2/ 3)، وشرح منتهى الإرادات (2/ 141). (¬3) الموسوعة الفقهية الكويتية (913).

أقسام البيوع

ثانيًا: البيع بالإشارة: ينعقد البيع بالإشارة من الأخرس إذا كانت معروفة ولو كان قادرًا على الكتابة. وهو المعتمد عند الحنفية؛ لأن كلًّا من الإشارة والكتابة حجة، أما الإشارة غير المفهومة فلا عبرة بها، وأما الناطق فلا تقبل إشارته عند الجمهور، وخالف المالكية فقالوا بانعقاد البيع بالإشارة المفهومة مع القدرة على النطق (¬1). أقسام البيوع: أولًا: أقسامها باعتبار المبيع: ينقسم المبيع باعتبار المبادلة فيه إلى أربعة أنواع: 1 - البيع المطلق: وهو الذي لا يُحْتَاجُ فيه إلى تقييد، وعرفه الفقهاء بأنه: مبادلة العين بالدين. وهو أشهر أنواع البيوع فهو يتيح للإنسان المبادلة بنقوده على كل ما يحتاج إليه من الأعيان، وإليه ينصرف البيع عند الإطلاق (¬2). 2 - بيع السَّلَمِ: وسيأتي الكلام فيه. 3 - الربا والصرف: وسيأتي الكلام فيه. 4 - بيع المقايضة: تعريفه: هو مبادلة عين بعين أو هي بيع السلعة بالسلعة، أي: مبادلة مال بمال غير النقدين (¬3). ¬

_ (¬1) المراجع السابقة نفس الصفحة والجزء. (¬2) الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 8). (¬3) انظر في ذلك الموسوعة الفقهية الكويتية (38/ 343).

أقسام البيع باعتبار تحديد الثمن

شروط المقايضة: المقايضة بيع من أنواع البيوع؛ فيشترط له ما يشترط في البيع، لكنْ هناك شروط خاصة ببيع المقايضة ومن هذه الشروط: الشرط الأول: أن لا يكون البدلان فيهما نقدًا، فإن كانا نقدين كان البيع صرفًا وإن كان أحدهما نقدًا فالبيع مطلق أو سلم (¬1). الشرط الثاني: أن يكون كل من البدلين في المقايضة عينًا معينة؛ لأن بيع شيء غير معين بآخر معين ليس مقايضة بل هو من البيع المطلق أي بيع العين، ولأن المبيع إذا كان دينًا والثمن سلعة، فهو من باب السلم (¬2). الشرط الثالث: التقابض في المقايضة، فلا يؤمر أحد العاقدين بالتسليم قبل صاحبه؛ لأن كُلًّا من السلعتين متعين. الشرط الرابع: أن تكون المقايضة فيما لا يجري فيه ربا الفضل (¬3). أقسام البيع باعتبار تحديد الثمن: أولًا: بيع المساومة: تعريفه: هو مجاذبة بين البدع والمشتري على سلعة ما وفصل ثمنها، وهذا النوع من البيوع لا يُظْهِرُ فيه البائع رأس ماله، فيأتي المشتري للبائع فيقول له: بكم هذه السلعة فيقول له: اشتر، ولا يظهر له ثمن السلعة فيساومه المشتري عليها. وهذا النوع من البيوع جائز بشرط أن تتوفر فيه الشروط المعتبرة في البيع ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) الموسوعة الفقهية الكويتية (38/ 343). (¬3) المرجع السابق (ص: 344).

ثانيا: بيع المزايدة

وأن لا يدخل فيه نوع من البيوع المنهي عنها كما سيأتي بيانه -إن شاء الله-. ثانيًا: بيع المزايدة: ويسمى أيضًا بيع الدلالة أو بيع المناداة. تعريفه في اللغة: التنافس في زيادة ثمن السلعة المعروضة للبيع. أما في الاصطلاح: فهو أن يعرض البائع سلعته في السوق ويزايد المشترون فيها فتباع لمن يدفع الثمن الأكثر (¬1). حكمه الشرعي: ذهب جمهور الفقهاء إلى إباحة بيع المزايدة، ولم يخالف في ذلك إلا النخعي فقال بكراهيته مطلقًا، وذهب الحسن البصري وابن سيرين والأوزاعي وغيرهم إلى كراهيته فيما عدا بيع الغنائم والمواريث. والصحيح عندنا هو قول جمهور الفقهاء، وهو القول بإباحته، فعن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا بأس ببيع من يزيد وكذلك تباع الأخماس، وقال ابن العربي في رده على من خصه بالغنائم والمواريث: "لا معنى لاختصاص الجواز بالغنيمة والمواريث؛ فإن الباب واحد والمعنى مشترك" (¬2). وباستحبابه في بيع مال المفلس؛ لما فيه من توقع زيادة الثمن وتطييب نفوس الغرماء -قال به الحنابلة- (¬3). ولا شك أن هذا هو الصواب الذي تقتضيه محاسن الشريعة. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي في شرح الدردير (3/ 159)، مغني المحتاج (2/ 37). (¬2) انظر في ذلك فتح القدير (4/ 354). (¬3) كشاف القناع (4/ 432).

أثر الخيار في بيع المزايدة

أثر الخيار في بيع المزايدة: 1 - خيار الرجوع: خيار الرجوع عن المزايدة: إذا وقع الرجوع قبل زيادة آخر على ما دفعه فهنا لا يختلف بيع المزايدة عن غيره في مسألة الرجوع عن الإيجاب من حيث إن للموجب حقَّ الرجوع قبل أن يقع القبول. 2 - خيار المجلس: قال الخطاب: "جرت العادة بحكم أن من رجع بعد الزيادة لا يلزمه شيء ما دام في المجلس". 3 - خيار العيب: ذهب الفقهاء إلى أن خيار العيب يثبت بحكم الشرع ولو لم يشترطه المشتري؛ لأن الأصلَ في البيع السلامةُ، وبيع المزايدة كغيره من البيوع التي يثبت فيها خيار العيب (¬1). الغبن في المزايدة: لا حق لمُدَّعِي الغبن في الرجوع على البائع ولو كان الغبن خارجًا عن المعتاد، إلا إذا توفرت ثلاثة شروط: أ- أن يكون المغبون جاهلًا بثمن المثل في السوق لما باعه أو اشتراه. ب- أن يدعي قبل مضي سنة من يوم العقد. ¬

_ (¬1) انظر تفصيلات هذه المسألة في: الموسوعة الكويتية (37/ 90089).

ثالثا: بيع الأمانة

ج- أن يكون الغبن فاحشًا بحيث يزيد على ثمن المثل قدر الثلث فأكثر (¬1). ثالثًا: بيع الأمانة: وهذا النوع من البيوع يحدد فيها الثمن بمثل رأس المال وسميت بذلك؛ لأن البائع يؤتمن فيها في إخباره برأس المال. وهي ثلاثة أنواع: النوع الأول: بيع مرابحة: وهو أن يحدد فيها رأس مال السلعة ثم يزيد عليه فيقول البائع للمشترى: هذه علىَّ بكذا وسأبيعها بكذا. بزيادة على رأس مالها. النوع الثاني: بيع التولية: وهي أن يحدد فيها أن السلعة برأس مالها ثم يبيعها بنفس رأس المال بلا زيادة ولا خسران. النوع الثالث: بيع الوضيعة أو الخسارة أو النقيصة أو المحاطة: وهي التي يحدد فيها رأس مال السلعة ثم يبيعها بثمن أقل. رابعًا: البيع بالرقم: وهو أن يبيع السلعة بالثمن المكتوب عليها. وهو جائز؛ لأن الثمن معلوم لكل من المشترى والبائع حال البيع (¬2). خامسًا: الإشراك في المبيع: وهو أن يشتري شيئًا ثم يشرك فيه غيره ليصير بعضه له بقسطه من الثمن فإن صرح بنصيبه وقبله فجائز، وإن لم يصرح فيحمل على المناصفة وقسطها من الثمن (¬3). ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) المغني، لابن قدامة (6/ 266). (¬3) روضة الطالبين (ص: 580).

البيوع المنهي عنها

البيوع المنهي عنها: جاءت شريعة الإِسلام بإباحة البيع وجعلت الأصل فيه الإباحة والصحة حتى يأتي دليل يدل على الحظر والفساد، وقد تأتي نصوص الكتاب والسنة صراحة في تحريم نوعٍ ما من البيوع كما سيأتي بيانه وقد يشتمل البيع على بعض الأمور التي تدل على حرمته أو كراهته مع عدم حصر مسمى هذا النوع من البيوع في الشريعة. ونظرًا لأهمية هذا الموضوع وكثرة الوقوع فيه من قِبَلِ أهل التجارة ونحوهم ممّن يتعاملون بالبيع والشراء، ذكرنا بعضًا منها وهي: أولًا: البيع المشتمل على أي نوع من أنواع الربا: وسيأتي الكلام عنه في باب مستقل. ثانيًا: بيع العينة: في اللغة -بكسر العين-: السلف، يقال: اعتان الرجل إذا اشترى الشيء بالشيء نسيئة أو اشترى بنسيئة، وقيل لهذا البيع عينة؛ لأن مشتريَ السلعة إلى أجل يأخذ بدلها عينًا. أي: نقدًا حاضرا (¬1). في الاصطلاح: هو بيع العين بثمن زائد نسيئة ليبيعها المستقرض بثمن حاضر أقل ليقضي دينه (¬2). وصورة بيع العينة: هو أن يبيع البائع سلعة بثمن إلى أجل معلوم ثم يشتري السلعة بعينها من نفس المشتري نقدًا بثمن أقل، وفي نهاية الأجل يقوم المشتري بدفع الثمن الأول. ¬

_ (¬1) مختار الصحاح، مادة: عين. (¬2) انظر في تعريفها: الدر المختار (4/ 279).

التورق

والربا يظهر هنا في الفرق بين الثمنين، وهو ربا الفضل، فالبيع هنا وسيلة إلى الربا، قال سماحة الشيخ العلامة ابن باز -رحمه الله- في تعريفه للعينة: "وصورة ذلك أن يشتري شخص سلعة من آخر بثمن في الذمة ثم يبيعها عليه بثمن أقل ينقده إياه، فهذا ممنوع شرعًا؛ لما فيه من الحيلة على الربا، وتسمى المسألة مسألة العينة، وقد ورد فيها حديث عائشة وابن عمر -رضي الله عنهم - مما يدل على منعها" (¬1). وقد صدرت بذلك فتوى اللجنة الدائمة في السعودية رقم (4104)، ورقم (9397). التورق: مما يبحث ضمن هذا النوع موضوع التورق. والتورق: مصدر تورَّق، والورِق -بكسر الر اء: الدراهم المضروبة من الفضة (¬2). وهو في الاصطلاح: أن يشتري سلعة بنسيئة ثم يبيعها نقدًا لغير البائع بأقل مما اشتراها به؛ ليحصل بذلك على النقد. ولم ترد التسمية بهذا المصطلح إلا عند فقهاء الحنابلة، أما غيرهم فقد تكلموا عنها في مسائل بيع العينة. حكم التورق: يرى جمهور الفقهاء جوازه؛ لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (¬3)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لعامله على خيبر: "بعِ الجمعَ بالدراهمِ ثم ابتعْ بالدراهمِ جنيبًا" (¬4)، ولأنه لم يظهر فيه قصد الربا ولا صورته جاء في كشاف القناع "ولو احتاج إنسان ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى سماحة الشيخ ابن باز. (¬2) المصباح المنير، مادة: ورق. (¬3) سورة البقرة: 275. (¬4) أخرجه البخاريُّ. الفتح (4/ 399) ط. السلفية.

ثالثا: بيع الغرر

إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بمائة وخمسين، فلا بأس بذلك. نص عليه" (¬1). ويرى عمر بن عبد العزيز ومحمَّد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة كراهتَه، وقال ابن الهمام: "هو خلاف الأولى" (¬2). وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية عن ذلك فأجابت ردًا على السؤال بالفتوى رقم 421 في 25/ 3 / 1392 هـ: "بيع المال إلى أجل بثمن أكثر منه حالًا يعرف عند أهل العلم بمسألة التورق، والمقدم عند الحنابلة أنها جائزة". وإلى جوازه ذهب مجمع الفقه الإِسلامي بمكة المكرمة في دورته الخامسة عشرة لعام 1419 هـ. ثالثًا: بيع الغرر: تعريفه: الغرر: هو ما لا تعلم عاقبته من الخطر مما طوي عنك علمه وخفي عليك أمره. حكمه: ثبت في صحيح مسلم نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر، وهو أصل كبير وقاعدة كلية في عقود المعاوضات في البيع والإجارة ونحوها، والغرر يتفاوت تفاوتًا كثيرًا فكلما كان أعظم جهلًا كان أعظم تحريمًا وأشد تأثيمًا، فكل جهالة بينة وخطر ظاهر في جميع عقود المعاوضات والشركات، فإنه داخل في هذا الحديث العظيم (¬3). والغرر ثلالة أنواع: 1 - بيع المعدوم، كحبل الحبلة. 2 - بيع المعجوز عن تسليمه، كالجمل الشارد. ¬

_ (¬1) كشاف القناع، للبهوتي (3/ 186). (¬2) الموسوعة الفقهية الكويتية (14/ 147). (¬3) الفتاوى السعدية، عبد الرحمن السعدي (ص: 271).

رابعا: بيع المزابنة

3 - بيع المجهول المطلق أو المجهول الجنس أو المجهول القدر. ومن صوره بيع الملاقيح وبيع المضامين وبيع الثمار قبل بدو صلاحها وبيع الملامسة والمنابذة وبيع الحصاة. ومع أن تلك الأنواع من البيوع تدخل في النهي عن بيع الغرر فقد أفردت بالذكر في بعض النصوص؛ لكونها من أنواع البيوع المشهورة في الجاهلية (¬1). قال النووي: "النهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة، كبيع المعدوم والآبق والمجهول وما لا يقدر على تسليمه وما لا يتم ملك البائع عليه وبيع السمك في الماء الكثير واللبن في الضرع وبيع الحمل في البطن وبيع ثوب من الأثواب وشاة من الشياه ونظائر ذلك، وكل ذلك باطل؛ لأنه غرر كبير من غير حاجة" (¬2). وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "وأما الغرر فالأصل في ذلك أن الله حرم في كتابه أكلَ أموال الناس بالباطل، وهذا يعم كل ما يؤكل بالباطل، والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الغرر، والغرر: هو المجهول العاقبة" (¬3). رابعًا: بيع المزابنة: تعريفه لغة: المزابنة: مأخوذة من الزبن وهو في اللغة الدفع لأنها تؤدي إلى النزاع والمدافعة بسبب الغبن (¬4). ¬

_ (¬1) توضيح الأحكام من بلوغ المرام، لابن بسام (4/ 266). (¬2) المجموع شرح المهذب، للنووي (9/ 257). (¬3) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية (29/ 22). (¬4) المصباح المنير، مادة: زبن.

تعريفه اصطلاحًا: هو بيع التمر على النخل بتمر مجذوذ. وصفته: بأن يقدر الرطب الذي على النخيل بمقدار مائة صاع مثلًا بطريق الظن فيبيع بقدره من التمر. حكمه: اتفق الفقهاء على فساده وعدم صحته؛ لما يأتي: أولًا: ما جاء من النهي عنه، فقد روى البخاري من حديث جابر -رضي الله عنه-: "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المزابنة والمحاقلة" (¬1). والمحاقلة: بيع الزرع في سنبله بالبر (¬2). ثانيًا: الشبهة بحصول الربا فيه وذلك؛ لأنه بيعُ مكيلٍ بمكيلٍ من جنسه مع احتمال عدم المساواة بينهما بالكيل (¬3). ثالثًا: حصول الغرر به (¬4)، وكل ما حصل به غرر فهو غير صحيح؛ فلا يجوز بيع الآبق ولا الشارد ولا الطير في الهواء؛ لأنه بيع غرر؛ لما روى مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: "أنه نهى عن بيعِ الغررِ" (¬5). ويستثنى من المزابنة بيع العرايا: جمع عَرِيَّة؛ وهي النخلة يعريها صاحبُها رجلًا محتاجًا فيجعل له تمرها عامها والجمع العرايا (¬6)، سميت بذلك؛ لأنها عَريَتْ من البيع المحرم، أي: خرجت عنه. ¬

_ (¬1) البخاري، مع فتح الباري (4/ 384). (¬2) مختار الصحاح، مادة: حقل. (¬3) رد المحتار على الدر المختار (4/ 109). (¬4) القوانين الفقهية، لابن جزي (ص: 169). (¬5) صحيح مسلم (3/ 1153)، وأبو داود (2/ 228). (¬6) المصباح المنير، مادة: عرو.

خامسا: بيع العربون

وصورتها: أن يباع الرطب في رؤوس النخل بقدر ما يؤول إليه تمرًا يابسًا، وهي جائزة عند الجمهور للحاجة، على أن يحصل التقابض بمجلس العقد وأن تكون فيما دون خمسة أَوْسُقٍ؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في بيع العرايا بخرصها من التمر فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق" متفق عليه (¬1). خامسًا: بيع العربون: في اللغة: بفتحتين والعربون على وزن عصفور لغة فيه، والعربان لغة ثالثة، وفسروه لغة بما عقد به البيع (¬2). في الاصطلاح: هو أن يشتري المشتري السلعة ويقوم بدفع بعض قيمتها إلى البائع، على أنه إذا أخذ السلعة احتسبها من الثمن وإن لم يأخذها فهو للبائع (¬3). وقد اختلف الفقهاء في حكمه: فالجمهور (¬4) يرون أنه لا يصح؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع العربان (¬5). وقالوا بأنه يحرم؛ لأنه من أكل أموال الناس بالباطل وفيه غرر ولاشتماله على شرطين مفسدين: شرط الهبة للعربون، وشرط رد البيع بتقدير أنه لا يرضى، وهناك أمور أخرى احتج بها الجمهور على عدم صحة هذا البيع. وذهب الحنابلة (¬6) إلى جواز هذا النوع من البيوع وهو الصحيح عندنا؛ وذلك ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (4/ 387)، ومسلمٌ (2/ 1171) ط. الحلبي. (¬2) القاموس المحيط، مادة: عربون. (¬3) انظر في تعريفه: كشاف القناع (3/ 195). (¬4) الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 94). (¬5) أخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب في العربان برقم (3502)، وضعفه ابن حجر في تلخيص الحبير (3/ 17)، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود برقم (754). (¬6) المغني والشرح الكبير (4/ 58).

سادسا: النهي عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان

لما روي عن نافع بن الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية، فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا. قال الأثرم: قلت لأحمد: تذهب إليه؟ قال: أيَّ شيء أقول؟ هذا عمر -رضي الله عنه-، وحديث عمرو بن شعيب حديث ضعيف. وبجوازه قال شيخنا عبد العزيز بن باز حيث قال -رحمه الله-: "لا حرج في أخذ العربون في أصح قولي العلماء إذا اتفق البائع والمشترى على ذلك ولو لم يتم البيع" (¬1). وبه صدرت الفتوى من اللجنة الدائمة في السعودية برقم (19637)، وقد أجازه مجمع الفقه الإِسلامي بجدة في قراره رقم (72/ 3 / 8) بشرط تحديد فترة زمن الانتظار، وألحقوا به الإجارة؛ لإنها بيع المنافع. لكن إذا رد البائع النقود للمشتري عند عدم إتمام البيع فهو أفضل وأعظم أجرًا عند الله تعالى؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أقالَ مسلمًا بيعتَه أقالَ اللهُ عَثْرَتَه" (¬2). سادسًا: النهي عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: تعريفه: جاء في تعريفه عند الإِمام أحمد عن عثمان -رضي الله عنه- قال: كنت ابتاع التمر من بطن من اليهود يقال لهم: بنو قينقاع وأبيعه بربح فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا عثمانُ، إذا اشتريتَ فاكتلْ، وإذا بعتَ فكُلْ" (¬3). فهذا الحديث وما جاء في معناه يدل على أن من اشترى شيئًا مكايلة وقبضه ثم باعه إلى غيره، لم يجز تسليمه بالكيل الأول حتى يكيله على من اشتراه ثانيًا، ¬

_ (¬1) المغني والشرح الكبير (4/ 58). (¬2) رواه أبو داود، كتاب البيوع، باب فضل الإقالة برقم (3460)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (2945). (¬3) رواه أحمد وهو حديثٌ حسنٌ، انظر في مسند أحمد، الطبعة الحديثة المحققة باشراف د. عبد الله التركي (1/ 496) برقم (444).

سابعا: بيع الشيء قبل قبضه

وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة (¬1). سابعًا: بيع الشيء قبل قبضه: القبض في اللغة: هو تناول الشيء بجميع الكف، يقال قَبَضْتُ دار فلان. أي: حزتُها، ويقال: هذا الشيء في قبضة فلان أي: في ملكه وتصرفه. وقبض الشيء في الاصطلاح: حيازة الشيء والتمكن منه. حكم بيع الشيء قبل قبضه: اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فذهب الشافعية، وهو قول أبي يوسف ومحمَّد من الحنفية ورواية في مذهب أحمد، إلى أنه لا يصح بيع المبيع قبل قبضه سواء أكان منقولًا أم عقارًا (¬2). وذلك؛ لحديث حكيم بن حِزامٍ -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، إني أشتري بيوعًا فما يحل لي وما يحرمُ عليَّ؟ قال: "إذا اشتريتَ بيعًا فلا تَبِعْهُ حتى تقبضَه" (¬3). 2 - وذهب المالكية -وهو رواية عند الحنابلة- إلى أن المحرم المفسد للبيع هو بيع الطعام دون غيره من الأشياء قبل قبضه، أما غير الطعام فيجوز بيعه قبل قبضه، وذلك لحديث ابن عباس: "من ابتاعَ طعامًا فلا يَبِعْهُ حتى يقبضَه" (¬4). قال في المغني: "وأما غير ذلك فيجوز بيعه قبل قبضه في أظهر الروايتين، ويروى مثل هذا عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وسعيد بن المسيب والحَكَمِ والأوزاعيِّ وإسحاقَ". ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري (4/ 344 - 345). (¬2) فتح القدير (6/ 137)، المغني (4/ 221). (¬3) أخرجه أحمد في المسند (3/ 402) ط. الميمنية. (¬4) أخرجه البخاريُّ (4/ 349) ط. السلفية، ومسلمٌ (3/ 1160) ط. الحلبي.

القبض الحكمي

قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن قوله: "نهى عن ربح ما لم يضمن" قال: هذا في الطعام وما أشبه من مأكول ومشروب فلا يبيعه حتى يقبضه. وقال ابن عبد البر: الأصح أن الذي يمنع من بيعه قبل قبضه هو الطعام؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن بيعِ الطعامِ قبلَ قبضِه" فمفهومه إباحة ما سواه قبل قبضه. وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن المشتري طعامًا فليس له أن يبيعه حتى يستوفيه (¬1). وأما الأحاديث التي استدل بها المانعون من بيع كل شيء قبل قبضه، فإنه لم يصح منها إلا حديث الطعام وهو ما يحتج به المجيزون في بيع غير الطعام قبل قبضه، فإن تخصيصه الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه يدل على إباحة ما سواه، وردوا قولهم بأنه لم يتم الملك على المبيع بأن ذلك ممنوع، لأن السبب المقتضيَ للملك متحقق، واليد ليست شرطًا في صحة البيع بدليل جواز بيع المال المودع والمورث والتصرف في الصداق (¬2). وهذا هو الراجح. والله أعلم. القبض الحكمي: وهو التخلية بين المبيع والمشتري ليتصرف فيه. ويقوم القبض الحكمي مقام القبض الحقيقي في أحوال كثيرة وإن لم يكن متحققًا حسًا في الواقع؛ وذلك لأسباب تقتضي اعتباره تقديرًا وحكمًا، جاء في المغني لابن قدامة: "وقبض كل شيء بِحَسْبِه ... "، وقال أبو حنيفة: "التخلية في ذلك قبض"، وجاء فيه: "ولأن القبض مطلق في الشرعِ فيجب الرجوع فيه إلى العرف، كالإحراز، والتفرق"، وجاء في المهذب (1/ 270): "لأن الشارعَ أطلق ¬

_ (¬1) بداية المجتهد، لابن رشد (2/ 143)، والشرح الكبير، لشمس الدين أبي الفرح المقدسي (4/ 116). (¬2) المغني، لابن قدامة (6/ 155).

ثامنا: بيع الحاضر لباد

القبض وأناط به أحكامًا، ولم يبينه، ولا حدَّ له في اللغة، فرجع فيه إلى العرف"، وجاء في فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية: وما لم يكن له حَدٌّ في اللغة ولا في الشرع، فالمرجع فيه إلى عرف الناس كالقبض المذكور في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ ابتاعَ طعامًا فلا يَبِعْهُ حتى يقبضَه" (¬1). ثامنًا: بيع الحاضر لبادٍ: صفته: هو أن يخرج الحضري (¬2) إلى البادي (¬3) -وقد جلب السلعة- فيعرفه السلعة ويقول: أنا أبيع لك فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: "دَعُوا الناسَ يَرْزُق اللهُ بعضهم بعضًا" (¬4). وظاهر التحريم يكون بثلاثة شروط: الأول: أن يكون الحاضر قصد البادي ليتولى البيع له. الثاني: أن يكون البادي جاهلًا بالسعر. الثالث: أن يكون قد جلب السلع للبيع (¬5). والعلة في النهي عنها هي أنه متى تُرك البدوي يبيع سلعته اشتراها الناس برخص ويوسع عليهم السعر، فإذا تولى الحاضر بيعها وامتنع من بيعها إلا بسعر البلد، ضاق على أهل البلد وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - (في الحديث) إلى هذا المعنى (¬6). ¬

_ (¬1) فتاوى ابن تيمية (3/ 272)، وانظر قضايا فقهية معاصرة، د. نزيه (ص: 86). (¬2) الحاضر: المقيم في المدن والقرى والريف التي يباع فيها السلعة. (¬3) والبادي: هنا من يدخل البلدة من غير أهلها سواء كان بدويًا أو من قرية أو بلدة أخرى. (¬4) أخرجه مسلمٌ (2/ 1157). (¬5) انظر: المغني (6/ 308، 310). (¬6) المرجع السابق (ص: 309).

تاسعا: النهي عن تلقي الركبان

تاسعًا: النهي عن تلقي الركبان: وصفته: هو أن يجيء البائع إلى السوق فيقابله المشتري قبل أن يصل إلى السوق فيشتري منه السلعة وهو لا يدري كم قيمة هذه السلعة، فجاءت الشريعة بالنهي عن ذلك؛ لما فيه من الخديعة والضرر بالبائع وبأهل البلد، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري: "الخديعةُ في النارِ" (¬1). فإن تلقوا واشترى منهم فهم بالخيار إذا دخلوا السوق وعرفوا أنهم غبنوا، إن أحبوا أن يفسخوا البيع فسخوا، وذلك لما جاء في حديث ابن عباس من النهي عن تلقي الركبان (¬2). عاشرًا: بيع البعض على بيع بعض: هو أن يتبايع الرجلان فيجئ آخر إلى المشتري فيقول: أنا أبيعك مثل هذه السلعة بدون هذا الثمن أو أبيعك خيرًا منها بثمنها أو دونه أو عرض عليه سلعة رغب فيها المشتري ففسخ البيع واشترى هذه، فهذا غير جائز، لنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولما فيه من الإضرار بالمسلم والإفساد عليه. وكذلك إن اشترى على شراء أخيه؛ وهو أن يجيء إلى البائع قبل لزوم العقد فيدفع في البيع أكثر من الثمن الذي اشترى به فهو محرم أيضًا؛ لأن الشراء يسمى بيعًا فيدخل في النهى، فإن خالف وعقد فالبيع باطل؛ لأنه نهى عنه والنهي يقتضي الفساد. قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَبعْ بعضُكم على بيعِ بعضٍ" (¬3). وقوله أيضًا: "لا يَسُمِ الرجلُ على سومِ أخيه" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ: كتاب البيوع، باب النجش، (3/ 91). (¬2) المغني (6/ 312). (¬3) رواه البخاري (2/ 29). (¬4) رواه البخاري (2/ 175)، ومسلمٌ (4/ 138)، الغني (6/ 305).

الحادي عشر: النجش

الحادي عشر: النجش: في اللغة بفتح السين: اسم مصدر وأصل النجش الاستتار؛ لأن الناجش يستر قصده، ومنه يقال للصايد ناجش؛ لاستتاره (¬1). في الاصطلاح: هو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ليقتدي به المستام فيظن أنه لم يزد فيها هذا الثمن إلا وهي تساويه فيغتر بذلك، فهذا حرام وخداع (¬2)، قال البخاري -نقلًا عن ابن أبي أوفى-: "الناجشُ آكِلُ ربًا خائنٌ" وهو خداع باطل لا يحل، وروى ابن عمر "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عنِ النجشِ، ولأن فيه تغريرًا بالمشتري وخديعة له" (¬3). لكن هل يصح بيع النجش؟ الصحيح -وهو مذهب جمهور الفقهاء-: أن البيع صحيح؛ لأن النجش فعل الناجش لا العاقد؛ فلم يؤثر في البيع كتلقي الركبان، وبيع المعيب مع صحته يثبت الإثم على الناجش (¬4). الثاني عشر: تفريق الصفقة: الصفقة: هي المرة من الصفق؛ وهو في اللغة الضرب الذي يسمع له صوت، فقد كان أحدهم إذا أوجب البيع صفق بيده على يد المشتري، وتطلق الصفقة في الاصطلاح على البيعة وعلى غيرها من العقود، ويراد بالصفقتين في صفقة جمع صفقتين في عقد واحد كأن يبيع بيته من فلان ويشتري منه سيارته على ¬

_ (¬1) المصباح المنير، مادة: نجش. (¬2) لسان العرب، مادة: نجش (6/ 351). (¬3) المغني، لابن قدامة (6/ 304). (¬4) انظر في ذلك: حاشية الدسوقي (3/ 68)، المغني (6/ 304).

تفريق الصفقة

أنه إذا وجبت هذه وجبت الصفقة الأخرى (¬1). وفي الاصطلاح الفقهي: اختلف الفقهاء في المراد بالصفقتين في صفقة: فذهب بعضهم -ومنهم الشوكاني وابن القيم- إلى أنهما مترادفتان، وذهب الحنفية إلى أن الصفقتين في صفقة أعم فتشمل اجتماع السلف مع البيع والإجارة مع البيع والإعارة مع البيع والشركة مع الإجارة وغير ذلك من الصور (¬2). تفريق الصفقة: هو أن يبيع ما يجوز بيعه وما لا يجوز في صفقة واحدة بثمن واحد. مثاله: له صور كثيرة ومنها: أن يبيع بيته من فلان ويشتري منه سيارته على أنه إن وجبت هذه وجبت الصفقة الأخرى، أو أن يبيعه كيلو عسلٍ ولترَ خمرٍ بمائة مثلًا. الحكم الشرعي: يرى بعض الفقهاء من الشافعية والحنابلة أن تفرق الصفقة فيبطل البيع فيما لا يجوز ويصح فيما يجوز ويقسم الثمن بينهما حسب قيمة كل منهما السائدة؛ لأنه يمكن تفريق الصفقة دون حمل إحدهما على الأخرى. ويرى بعض الفقهاء من الشافعية والحنابلة أن الصفقة لا تفرق فيبطل العقد فيهما (¬3)؛ لحديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صفقتين في صفقةٍ" (¬4). ¬

_ (¬1) لسان العرب، مادة: صفق، وفتح القدير (6/ 81). (¬2) فتح القدير (6/ 8)، وقيل الأوطار (5/ 153)، وتهذيب سنن أبي داود، لابن القيم (5/ 106). (¬3) المجموع شرح المهذب (9/ 379)، والغني، لابن قدامة (6/ 335). (¬4) أخرجه أحمد (1/ 398) ط. الميمنية، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.

الثالث عشر: بيعتان في بيعة

وجاء في المبدع (¬1): إن تفريق الصفقة له ثلاث صور: أحدهما: باع معلومًا ومجهولًا فلا يصح؛ لأن المجهول لا يمكن تقويمه فلا طريق إلى معرفة ثمن المعلوم. الثانية: باع مشاعًا بينه وبين غيره كأرض بينهما، فيصح في نصيبه بقسطه في الصحيح من المذهب. الثالثة: باع خَلًّا وخمرًا، ففيه روايتان: أولاهما: لا يصح؛ لأن الصفقة جمعت حلالًا وحرامًا، والأخرى: تصح؛ لأن كل واحد منهما له حكم منفرد، فإذا اجتمعا بقيا على حكمهما. وهذا هو الراجح. والله أعلم. الثالث عشر: بيعتان في بيعة: البيعتان لغة: مثنى البيعة، والبيعة اسم المرة الواحدة من البيع. الحكم الشرعي: جاءت نصوص السنة في النهي عن بيعتين في بيعة، فقد روى أحمد في مسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة"، وكذا رواه عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-: "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتينِ في بيعةٍ وعن ربحِ ما لم يُضْمَنْ" (¬2). اختلفت أقوال الفقهاء في بيان هذا النوع من أنواع البيوع: فيرى ابن القيم مثلًا أن معنى: بيعتان في بيعة هو أن يقول: بعتك هذه السلعة بمائة إلى سنة على أن أشتريها منك، أي بعد ذلك بثمانين حالةٍ، ثم قال: وهذا معنى الحديث الوارد في البيعتين في بيعة وهو الذي لا معنى غيره، فكأنه -رحمه الله- يرى أن بيعتين في بيعة هو بيع العينة ¬

_ (¬1) المبدع في شرح المقنع، لابن مفلح (4/ 38) المكتب الإِسلامي، بيروت 1400 هـ. (¬2) انظر مسند أحمد (18398)، والنسائيُّ، والحديث صححه الألباني تحت رقم (1307).

الرابع عشر: بيع التلجئة

وليس كذلك، بل معنى بيعتين في بيعة هو أن يقول: بعتك هذه السلعة بعشرة صحاح أو عشرة مكسرة أو بعشرة نقدًا أو عشرين نسيئة دون أن يقطع في البيع (¬1)، فالممنوع هو أن يُمْضِيَ البيع دون أن يقطع فيه -أي: لا يعرف هل أخذها نقدًا أو نسيئة أما إن قطع في البيع وعلم بأيهما تم البيع، فلا حرج في ذلك (¬2). قال صاحب المغني: "وإذا قال: بعتك بكذا على أن آخذ منك الدينار بكذا، لم ينعقد البيع، وكذلك إن باعه بذهب على أن يأخذه دراهم بصرف، أن البيع بهذه الصفة باطل؛ لأنه شَرَطَ في العقد أن يصارفه بالثمن الذي وقع العقد به، والصارف عقد بيع، فتكون بيعتان في بيعة" قال أحمد: هذا معناه. وقال كذلك: وقد روى في تفسير بيعتين في بيعة وجه آخر وهو أن يقول: بعتك هذه بعشرة نقدًا وبخمسة عشر نسيئة. وهو باطل؛ لأن الثمن مجهول فلم يصح (¬3). الرابع عشر: بيع التلجئة: في اللغة: التلجئة ترد في اللغة بمعنى الإكراه والإضطرار (¬4). واصطلاحًا: وهو أن يظهرا بيعًا لم يريداه باطنًا بل خوفًا من ظالم ونحوه دفعًا له (¬5). حكم بيع التلجئة: اختلف في ذلك الفقهاء: ¬

_ (¬1) العدة في شرح العمدة (ص: 218). (¬2) انظر في جواز البيع إلى أجل مع الزيادة في: فتاوى سماحة الشيخ ابن باز (19/ 48). (¬3) المغني، لابن قدامة (6/ 332)، وانظر: المجموع (9/ 340). (¬4) القاموس المحيط، مادة: لجأ. (¬5) الإنصاف (4/ 265) ط. التراث.

الخامس عشر: بيع الكلب

1 - يرى أبو حنيفة، وهو المشهور عند الحنابلة، أنه بيع باطل؛ لأن ذلك من الهزل وهو يعدم الرضا فلم يكن بيعًا منعقدًا في الحكم. 2 - ويرى الشافعية، وهو رواية عند كل من الحنفية والحنابلة، أن البيع جائز؛ لأن العبرة بما اتفقا عليه في الظاهر، وهو عقد صحيح مستوفٍ لشرائطه. الراجح: عدم صحة هذا البيع؛ لأن الرضا بالبيع غير موجود. أما بيع المضطر (المكره) فله تفسيران: أحدهما: المراد به المكره، فلا يصح بيعه إن أُكره بغير حق، وإن كان بحق صح. والثاني: أن يكون عليه ديون مستغرقة فيحتاج إلى بيع ما معه بسعر أقل من قيمته، وهذا يستحب ألا يشترى منه، بل يعان لتسديد ديونه إما بهبة وإما بقرض وإما باستمهال صاحب الدين، ولكن لو اشترى منه فإن البيع صحيح (¬1). الخامس عشر: بيع الكلب: روى البخاري في صحيحه عن أبي جحيفة -رضي الله عنه-: "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمنِ الدَّمِ وثمنِ الكلبِ وكسبِ البغيِّ" (¬2). وبناء على هذا الحديث وغيره ذهب الشافعية والحنابلة -وهو المشهور عند المالكية- إلى عدم صحة بيع الكلب مطلقًا سواء كان معلمًا أو غير معلم. وذهب بعض المالكية إلى التفريق بين الكلب المأذون باتخاذه وبين غيره فأجازوا بيع المأذون اتخاذه واختلفوا في الثاني. ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (ص: 524). (¬2) أخرجه البخاريُّ (2/ 43)، ومسلمٌ (5/ 35).

السادس عشر: بيع آلات اللهو والمعازف

أما الحنفية فذهبوا إلى صحة بيع الكلب مطلقًا (¬1). والصحيح -عندنا- أن الكلب المعلم يجوز بيعه ويكون الثمن من أجل التعلم فقط لا من أجل كونه كلبًا (¬2). السادس عشر: بيع آلات اللهو والمعازف: وهو من البيوع المنهي عنها عند جمهور الفقهاء؛ وذلك لأن هذه الآلات إنما أعدت للمعصية فبطل تقويمها ولا ينعقد بيعها، ولأنها ليس فيها نفع بل فيها من الضرر ما لا يخفى على عاقل (¬3). السابع عشر: بيع الأصنام ونحوها: القول فيها كالقول في بيع آلات اللهو والمعازف، ولما جاء في النهى عنها صراحة في صحيح البخاري فعن جابر مرفوعًا: "إن الله حرم بيعَ الخمرِ والميتةِ والخنزيرِ والأصنامِ" (¬4). الثامن عشر: بيع الدين بالدين: وهو بيع الدين الذي في الذمة بثمن مؤجل (¬5). حكمه: لا يجوز بيع الدين بالدين فقد ورد النهي عنه في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعِ الكالئِ بالكالئِ" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 154). (¬2) انظر: توجيه وتنبيه إلى هواة الصيد ومحبيه، للدكتور عبد الله الطيار (ص: 42). (¬3) انظر في تحريمها: بدائع الصنائع (5/ 144)، كشاف القناع (3/ 155). (¬4) رواه البخاري. انظر في الفتح (4/ 424). (¬5) المبدع في شرح المقنع (4/ 150). (¬6) البيهقي (5/ 290) دار المعارف العثمانية، وضعفه ابن حجر في بلوغ المرام (ص: 193).

التاسع عشر: بيع الوفاء

وقال: "هو النسيئةُ بالنسيئةِ" والكالئ مأخوذ من كلأ الدين إذا تأخر؛ وهو بيع الدين بالدين. ولذلك حالتان: 1 - بيعه من المدين نفسه. 2 - بيعه من غير المدين. الحالة الأولى: وهي حالة بيعه من المدين نفسه: ذهب بعض الفقهاء إلى أنه إن كان الملك عليها مستقرًا كغرامة المتلف وبدل القرض فإنه يجوز بيعه ممّن عليه قبل القبض؛ لأن ملكه مستقر عليه أما غير ذلك فلا يجوز. وفي الحالة الثانية: وهي بيع الدين بالدين من غير المدين -فلا يجوز بيعه-؛ لأنه لا يقدر على تسليمه (¬1). وقد أوصل صور بيع الدين بالدين الشيخ عبد الله بن منيع إلى خمس عشرة صورة، فما انتفى فيه الغرر والجهالة والربا أجازه، وما عدا ذلك فلا يجوز (¬2). التاسع عشر: بيع الوفاء: لغة: ضد الغدر، يقال: وفى بعهد والوفاء الخلق الشريف، وأوفى الرجل حقه بمعنى أكمله له وأعطاه وافيًا، وسمي بيع الوفاء؛ لأن المشتري يلزمه الوفاء بالشرط (¬3)، وفي الاصطلاح: وهو البيع بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري المبيع إليه، وسمي بيعَ الوفاء؛ لأن المشتري يلزمه الوفاء بالشرط. ¬

_ (¬1) المجموع شرح التهذيب (9/ 272)، والمبدع في شرح المقنع (4/ 150)، وحاشية الدسوقي (3/ 61). (¬2) فتاوى وبحوث الشيخ عبد الله منيع (3/ 285). (¬3) مجلة الأحكام العدلية، مادة (105).

ويسميه المالكية بيعَ الثنيا، والشافعية بيعَ العهدة، ويسميه الحنابلة بيعَ الأمانة. حكمه: 1 - ذهب المالكية والحنابلة والمتقدمون من الحنفية والشافعية إلى أن بيع الوفاء فاسد؛ لأن اشتراط البائع أخذ المبيع إذا رد الثمن إلى المشتري يخالف مقتضى البيع، وهو ملك المشتري للمبيع على سبيل الاستقرار والدوام. 2 - وذهب بعض المتأخرين من الحنفية والشافعية إلى أن بيع الوفاء جائز مفيد لبعض أحكامه وهو انتفاع المشتري بالمبيع دون بيعه من آخر. وحجتهم أن الناس تعارفوا هذا البيع وتعاملوا به لحاجتهم إليه؛ فرارًا من الربا، فيكون صحيحًا لا يفسد البيع باشتراطه وإن كان مخالفًا للقواعد؛ لأن القواعد تترك بالتعامل كما في الاستصناع. 3 - وذهب بعض الحنفية إلى أن بيع الوفاء رهن وليس ببيع فيثبت له أحكام الرهن، وحجتهم أن العبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ والمباني (¬1). وشاع العمل به في بلاد الشام والعراق ومصر وغيرها بلا نكير منذ القرن السادس الهجري (¬2). وقد رأى المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي المنعقد في جدة في قراره رقم (66/ 4 / 7) أن بيع الوفاء غير جائز شرعًا؛ لأن حقيقة هذا البيع (قرض جر نفعًا) فهو تحايل على الربا، فهم قد نظروا إليه على أنه رهن ولم ينظروا إليه على أنه نوع من العقود المستحدثة والذي بموجبه أجازه بعض الفقهاء السابقين. ¬

_ (¬1) الموسوعة الفقهية الكويتية (9/ 260). (¬2) العقود المسماة في الفقه الإِسلامي عقد البيع، مصطفى الزرقاء (ص: 164) دار القلم، دمشق.

العشرون: البيع وقت نداء الجمعة

العشرون: البيع وقت نداء الجمعة: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ...} (¬1). والأمر بترك البيع نهي عنه، ومن أجل هذا النص اتفق الفقهاء على حرمة هذا البيع. لكن أي الأذانين يَحْرُمُ فيه البيعُ؟ الصحيح -وهو مذهب الجمهور- أن الأذان الذي يحرم به البيع هنا هو الأذان الثاني؛ لأنه لم يكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا نداء واحد وهو أذان خطبة الجمعة، ولذا فإنه يصرف النهي إليه. شروط تحريم البيع وقت نداء الجمعة: 1 - أن يكون المشتغل بالبيع ممّن تلزمه الجمعة. فمتى تبايع اثنان ممّن لا تلزمهم الجمعة لم يحرم ولم يُكْرَهْ. أما إذا كانت الجمعة واجبة على أحدهما دون الآخر فالجمهور على أنهما يأثمان جميعًا، لارتكابهما المنهيَّ عنه ولإعانة من لا تجب عليه من وجبت عليه، وقد نُهِينَا عن ذلك بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬2). لكن هل يفسخ البيع في هذه الحالة؟ يرى المالكية فسخه في هذه الحالة، ونص الحنابلة على أن البيع لا يصح ممّن ¬

_ (¬1) سورة الجمعة: 9. (¬2) سورة المائدة: 2.

الحادي والعشرون: بيع الفضولي

تلزمه الجمعة، ويُكْرَهُ البيع والشراء للآخر الذي لا تلزمه؛ لما فيه من الإعانة على الإثم (¬1). 2 - أن يكون المشتغل بالبيع عالمًا بالنهي. 3 - انتفاء الضرورة إلى البيع كبيع المضطر ما يأكله. 4 - أن يكون البيع بعد الشروع في الأذان الخاص بالخطبة. الحادي والعشرون: بيع الفضولي: الفضولي لغة: من يشتغل بما لا يعنيه، وهو من لم يكن وليًا ولا أصيلًا ولا وكيلًا في العقد (¬2). وفي الاصطلاح: هو أن يتصرف شخص ما في حق غيره ببيعه من غير إذن شرعي. حكمه الشرعي: اختلف الفقهاء في حكم هذا البيع: فمنهم من يرى جوازه -وهم الحنفية والمالكية وقول للشافعية- إذا كان فيه مصلحة لمالكه كخوف تلف أو ضياع، ويرى الحنابلة -وهو قول للشافعية- بطلانَه؛ لتصرف الفضولي بلا ملك ولا إذن ولا ولاية ولا وكالة، ولكونه باع ما لا يقدر على تسليمه (¬3). الراجح: هو جواز هذا النوع من البيوع، لكن يقف نفاذه على إجازة مالكه. مما يتطلب بحثه في موضوع البيع أمور يحتاج المسلم معرفتها وهي: ¬

_ (¬1) حاشية العدوى على شرح الخرشي (2/ 90)، كشاف القناع (3/ 180). (¬2) المصباح المنير، مادة: فضل. (¬3) انظر في ذلك: مغني المحتاج (2/ 15)، والمجموع، للنووي (9261).

1 - الاحتكار

1 - الاحتكار: لغة: حبس الطعام إرادة الغلاء. والاسم منه الحكرة (¬1). اصطلاحًا: هو أن يشتري الطعام في وقت الغلاء ويحبسه؛ ليبيعه بأكثر عند اشتداد الحاجة. وهو حرام عند جمهور الفقهاء، وهو الصحيح، وقيل مكروه. وقد استدل من قال بتحريمه بحديث سعيد بن المسيب عن معمر بن عبد الله أنه قال: "منِ احتكر فهو خاطئٌ" (¬2). واعتبره ابن حجر الهيثمي من الكبائر؛ لما ورد فيه من الوعيد الشديد كاللعنة وبراءة ذمة الله ورسوله منه. وتحريم الاحتكار يختص بالأقوات ولا يعم جميع الأطعمة، ويصح الشراء من المحتكر؛ لأن المنهي عنه هو الاحتكار، ولا تكره التجارة في الطعام إذا لم يرد الاحتكار. ويجبر المحتكر على بيعه كما يبيع الناس دفعًا للضرر (¬3). 2 - التسعير: في اللغة: هو تقدير السعر (¬4). ¬

_ (¬1) لسان العرب، مادة: حكر. (¬2) رواه مسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم الاحتكار في الأقوات، والترمذيُّ، كتاب البيوع، باب ما جاء في الاحتكار نحوه. (¬3) حاشية ابن عابدين (5/ 255)، والشرح الصغير للدردير (1/ 639)، وروضة الطالبين (ص. 532)، وكشاف القناع للبهوتي (3/ 178). (¬4) القاموس المحيط، مادة: سعر.

وفي الاصطلاح: تقدير السلطان أو نائبه للناس سعرًا وإجبارهم على التبايع بما قدره (¬1). حكم التسعير: اتفق الفقهاء على أن الأصل في التسعير هو الحرمة، واستدلوا بما ورد في الكتاب والسنة، ومن ذلك: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} (¬2). والتسعير لا يتحقق به التراضي. ومن السنة: ما روى أنس -رضي الله عنه- أنه غلى السعر في المدينة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال الناس: يا رسول الله، غلى السعر فسعِّرْ لنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللهَ هو المسعرُ القابضُ الباسطُ الرازقُ. وإني لأرجو أن ألقى اللهَ وليس أحدُكم يطالبُنِي بمظلمةٍ في دَمٍ ولا مالٍ" (¬3). حيث لم يسعر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سألوه ذلك، ولو جاز لأجابهم إليه. ومن الفقهاء من يرى جواز التسعير ولكن بشروط: 1 - إذا بالغ التجار في القيمة مبالغة كبيرة، وقد ذكر الزيلعيُّ من الحنفية أن ذلك يكون بالبيع بضعف القيمة. 2 - حاجة الناس إلى السلعة، ويكون التسعير دافعًا للضرر عن العامة. قال ابن تيمية: "إن لولي الأمر أن يكره الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه، مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه والناس في مخمصة فإنه ¬

_ (¬1) مطالب أولى النهى (3/ 62). (¬2) سورة النساء: 29. (¬3) أخرجه أبو داود (3/ 731)، وقال ابن حجر: إسناده على شرط مسلم. تلخيص الحبير (3/ 14).

3 - الوعد بالبيع

يُجْبَرُ على بيعه للناس بقيمة المثل" (¬1). وقال ابن القيم (¬2): "إن هذا الذي أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من تقويم الجميع (أي جميع العبد وذلك ما ورد في حديث من أعتق شركًا له في عبد، فكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد) قوم عليه قيمة العدل" (¬3). "قيمة المثل هو حقيقة التسعير فماذا كان الشارع يوجب إخراج الشيء عن ملك مالكه بعوض المثل لمصلحة تكميل العتق فكيف إذا كانت الحاجة بالناس إلى التملك أعظم، مثل حاجة المضطر إلى الطعام والشراب واللباس وغيره" ويكون التسعير بعد مشورة أهل الرأي والبصيرة فيما يحقق مصلحة الناس (¬4). 3 - الوعد بالبيع: الوعد معناه: الالتزام للغير بما لا يلزم ابتداء. وقد جاء ذكر الوعد وأنه ملزم للواعد في المذهب المالكي حيث جاء في حاشية الدسوقي: "إذا قال الآخر اشترها لي بعشرة نقدًا ... ولزمت السلعة الآمر بالعشرة إن قال: اشترها لي" (¬5). 4 - الإقالة في البيع: الإقالة في اللغة: الرفع والإزالة والفسخ ومن ذلك قولهم: أقال الله عثرته ¬

_ (¬1) الحسبة في الإِسلام لابن تيمية (ص: 28). (¬2) الطرق الحكمية (ص: 359) مطبعة السنة المحمدية. (¬3) أخرجه مسلمٌ (2/ 1139) ط. الحلبي. (¬4) روضة الطالبين (ص: 532)، وكشاف القناع (3/ 187)، وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية (11/ 301). (¬5) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (3/ 89)، وانظر جواهر الإكليل شرح مختصر خليل (2/ 33).

5 - مبايعة من يعلم أن جميع ماله حرام أو يخالطه حرام

إذا رفعه من سقوطه (¬1). في الاصطلاح: رفع العقد وفسخه وإلغاء حكمه وآثاره بتراضي الطرفين (¬2). والإقالة بعد البيع جائزة إذا ندم أحدهما، ويستحب للآخر إقالته، وفي كونها فسخًا أو بيعًا قولان: أظهرهما فسخ، ولا يصح إلا بذات الثمن فلو زاد أو نقص بطلت وبقى البيع بحاله (¬3). 5 - مبايعة من يعلم أن جميع ماله حرام أو يخالطه حرام: جاء في المغني: وإن اشترى ممّن في ماله حرام وحلال كالغاصب والسارق والظالم والمرابي، فإن عُلِمَ أن المبيع من حل ماله فهو حلال، وإن علم أنه حرام فحرام، فإن لم يعلم من أيهما هو كرهناه؛ لاحتمال التحريم فيه، ولم يبطل البيع؛ لإمكان الحلال قَلَّ الحرامُ أو كثر. وجاء في المجموع: قال المصنف -رحمه الله-: "ولا يجوز مبايعة من يعلم أن جميع ماله حرام"، لما روى أبو مسعود البدري: "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن حلوانِ الكاهنِ ومهرِ البغيِّ" (¬4). فإن كان معه حلال وحرام كره مبايعته والأخذ منه؛ لما روى النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بيِّنٌ ... " (¬5). ¬

_ (¬1) المصباح المنير، مادة: قيل. (¬2) مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر، عبد الله المعروف بداماد أفندي، المطبعة العامرة 1316 هـ، (2/ 254). (¬3) انظر في ذلك: روضة الطالبين (ص: 566)، المغني، لابن قدامة (6/ 199). (¬4) سبق تخريجه. (¬5) رواه البخاري (1/ 116)، ومسلمٌ برقم (1599).

6 - بيع ما يستعمله المشتري في حرام

وإن بايعه وأخذ منه جاز؛ لأن الظاهر مما في يده أنه له فلا يحرم الأخذ منه. وإذا اختلط حرام لا ينحصر بحلال لا ينحصر، لم يحرم الشراء منه بل يجوز الأخذ منه إلا أن يقترن بتلك العين علامة تدل على أنها من الحرام، فإن لم يقترن فليس بحرام ولكن تركه ورع محبوب (¬1). 6 - بيع ما يستعمله المشتري في حرام: اختلف الفقهاء في ذلك على قولين: 1 - فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن ذلك لا يجوز وهو بيع محرم؛ كمن يبيع العنب والتمر لمن يتخذه خمرًا. جاء في المستصفى للغزالي أن العقد له: "سبب منصوب لحكم إذا أفاد حكمه المقصود منه يقال إنه صح، وإن تخلف عنه مقصوده يقال إنه بطل" (¬2). وجاء في إعلام الموقعين لابن القيم: "إن القصود في العقود معتبرة وإنها تؤثر في صحة العقد وفساده وفي حله وحرمته" (¬3). 2 - وذهب بعض الفقهاء إلى أن ذلك جائز، وحكى ابن المنذر عن الحسن وعطاء والثوري أنه لا بأس ببيع التمر ممّن يتخذه مسكرًا، قال الثوري: "بع الحلال ممّن شئت"، واحتج لهم بقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ} (¬4). ولأن البيع تم بأركانه وشروطه (¬5). ¬

_ (¬1) المجموع شرح المهذب (9/ 333)، والمغني (6/ 372). (¬2) المستصفي، للغزالي (1/ 61) المكتبة التجارية الكبرى بمصر، الطبعة الأولى 1356 هـ. (¬3) إعلام الموقعين، لابن القيم (3/ 96)، والمغني، لابن قدامة (6/ 317). (¬4) سورة البقرة: 275. (¬5) المجموع شرح المهذب (9/ 353)، والمغني، لابن قدامة (6/ 317).

7 - هلاك المبيع

الراجح: أنه إذا كان يعتقد أن المشتري سيستعمل ما اشتراه في محرم كالتمر والعنب لمن يتخذه خمرًا أو السلاح لمن سيقتل به ونحو ذلك، فإن هذا البيع محرم وباطل؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬1). وهذا نهي يقتضي التحريم، وإن كان البيع قد وجد بأركانه وشروطه لكن وجد المانع منه فيبطل. 7 - هلاك المبيع: قد يهلك المبيع قبل القبض أو بعده فما الحكم إذًا؟ إذا وقع البيع على مكيل أو موزون أو معدود فتلف قبل قبضه، فهو من مال البائع. وهو ظاهر كلام أحمد، وقال القاضي وأصحابه: المراد بالمكيل والموزون والمعدود ما ليس بمتعين منه، فأما المتعين فيدخل في ضمان المشتري كالصبرة يبيعها من غير تسمية كيل، واستدل بحديث ابن عمر: "ما أدركت الصفقة حيًا مجموعًا فهو من المبتاع" (¬2). وما عدا ذلك فلا يحتاج فيه إلى قبض وإن تلف فهو من مال المشتري. قال في المغني: "ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الخراجُ بالضمانِ" وهذا البيع للمشتري فضمانه عليه" (¬3). وجاء في نهاية المحتاج: "المبيع قبل قبضه من ضمان البائع فإن تلف انفسخ البيع، وإتلاف المشتري قبض له والمذهب أن إتلاف البائع كتلفه، والأظهر أن إتلاف الأجنبي لا يفسخ بل يخير المشتري بين أن يجيز ويغرم الأجنبي أو يفسخ ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 2. (¬2) أخرجه البخاريُّ تعليقًا في كتاب البيوع (3/ 90). (¬3) المغني (6/ 181).

8 - السمسرة في البيع

فيغرم البائع الأجنبي" (¬1). 8 - السِّمسَرَةُ في البيع: السِّمسَارُ في اللغة: اسم من قام بالسمسرة؛ وهو المتوسط بين البائع والمشتري لإمضاء البيع. قال في تاج العروس: وهو الذي يسميه الناس الدلال فإنه يدل المشتري على السلع ويدل البائع على الأثمان، وعلى هذا فلا فرق بين الدلال والسمسار (¬2). حكمها: قال الإِمام البخاري: لم ير ابن سيرين وعطاء وإبراهيم والحسن بأجر السمسار بأسًا. وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: لا بأس بأن يقول: بع هذا الثوب فما زاد على كذا وكذا فهو لك. وقال ابن سيرين: إذا قال: بعه بكذا فما كان من ربح فهو لك أو بيني وبينك، فلا بأس به (¬3). قال في المجموع: إذا قال السمسار المتوسط بينهما للبائع: بعت بكذا فقال: نعم أو بعت فقال المشتري: اشتريت بكذا أو اشتريت فقال: نعم، فوجهان حكاهما الرافعي: أصحهما عند الرافعي وغيره: الانعقاد؛ لوجود الصيغة والتراضي (¬4). ومن ذلك يعلم جواز السمسرة والتوسط في المبايعات. ¬

_ (¬1) نهاية المحتاج (4/ 76). (¬2) لسان العرب (4/ 380) مادة: سمسر، وتاج العروس، مادة: سمسر. (¬3) فتح الباري (4/ 451)، (¬4) المجموع شرح المهذب (9/ 170).

باب الخيار

باب الخيار تعريفه في اللغة: اسم مصدر من الاختيار، وهو الاصطفاء والانتقاء، والفعل منها (اختيار) ويقال: خيره بين الشيئين، أي: فوض إليه اختيار أحدهما (¬1). أما في الاصطلاح: فقد تعدت تعريفاته؛ وذلك لكثرة أنواع الخيار، لكن يمكن استخلاص ما قالوه في تعريفه بأن نقول: الخيار هو حق العاقد في فسخ العقد أو إمضائه؛ لظهور مسوغ شرعي أو بمقتضى اتفاق عقدي (¬2). أو يقال -أيضًا-: هو طلب خير الأمرين من إمضاء العقد أو فسخه (¬3). الحكمة في تشريع الخيار: إذا نظرنا إلى شريعة الإِسلام نجدها في تشريعاتها مليئة بالحِكَمِ والأسرار، علم ذلك من عَلِمَ وجَهِلَهُ من جَهِلَ، وليس معنى الجهل بهذه الحِكَمِ أننا لا نستجيب لما جهلنا حِكَمَهُ وأسراره، بل علينا السمع والطاعة وإن لم نعرف ذلك، لكن هذه الحكم والأسرار تزيد المسلم يقينًا بعظم هذا الدين وسعة أفقه وأنه هو الدين الحق الذي يدعو اللهَ أن يتوفاه عليه. ولما كان الخيار في البيع له حِكَمُه الخاصَّةُ في الشريعة، التمس أهلُ العلم له حِكَمًا، فمن هذه الحكم: 1 - تخفيف مغبة الإخلال بالعقد في البداية، لعدم المعلومية التامة أو لدخول اللبس والغبن ونحوه مما يؤدي إلى الإضرار بالعاقد. ¬

_ (¬1) القاموس المحيط، للفيروز أبادي (2/ 26)، مادة: خير. (¬2) الموسوعة الفقهية الكويتية (20/ 41). (¬3) خيار المجلس والعيب، د. عبد الله الطيار (ص: 33).

أقسام الخيار

2 - تنقية عنصر التراضي من الشوائب، توصلًا إلى دفع الضرر عن العاقد. 3 - التروي والتأمل في صلاح الشيء له وسد حاجته في الشراء؛ وذلك للترفيه عن المتعاقد؛ لتحصيل مصلحة يحرص عليها. 4 - ومن الحكم في الخيار بالنسبة للبائع كذلك أنه يعطيه شيئًا من المشورة فيحق له أن يراجع من يَثِقُ به في كون الثمن متكافئًا مع المبيع فلا غبن ولا وكس. 5 - ومن الحكمة في تشريع خيار المجلس أنه يمنح أصحاب الحقوق ويوقف أصحاب المطامع عن مطامعهم؛ حيث جعل مكان التبايع فرصة للنظر في السلعة وتقليبها وموازنتها مع ثمنها؛ ليكون المتبايعان على بينة من أمرهما، ولئلا يحصل لهما الندم والحسرة بعد لزوم البيع (¬1). أقسام الخيار: للخيار أقسام كثيرة وسنذكر بعضَها وأكثرَها شيوعًا في البيوع، فمن هذه الأقسام: 1 - خيار المجلس: " خيار المتبايعين" (¬2)، مأخوذة من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "البيِّعانِ بالخيارِ ... " الحديث. تعريفه: خيار المجلس: مركب إضافي. والإضافة فيه من إضافة الشيء إلى محله، والمجلس -بكسر اللام- موضع الجلوس والمراد به هنا مكان التبايع (¬3). ¬

_ (¬1) انظر حكم تشريع الخيار الموسوعة الفقهية الكويتية (20/ 46)، كتاب خيار المجلس والعيب في الفقه الإِسلامي د. عبد الله الطيار (ص: 42). (¬2) سماه بذلك ابن قدامة في المغني (6/ 10 - 17). (¬3) خيار المجلس والعيب (ص: 33).

فيما يثبت فيه خيار المجلس ومدته

أما تعريفه في الاصطلاح: فهو حق العاقد في إمضاء العقد أو رده منذ التعاقد إلى التفرق أو التخاير (¬1). حكمه الشرعي: اختلف الفقهاء في خيار المجلس: فالجمهور من السلف والخلف -ومنهم الشافعية والحنابلة والظاهرية- ذهبوا إلى ثبوته فلا يلزم العقد عندهم إلا بالتفرق عن المجلس أو التخاير واختيار إمضاء العقد (¬2)، على حين ذهب الحنفية والمالكية وبعض فقهاء السلف إلى نفي خيار المجلس (¬3)، وحملوه على خيار التفرق بالأقوال وليس بالأبدان. والراجح: هو ثبوت هذا النوع من الخيار؛ لصحة الأحاديث الواردة فيه ولحاجة الناس إلى ذلك ولأنه ثبت العمل به من الصحابة -رضوان الله عليهم- (¬4). فيما يثبت فيه خيار المجلس ومدته: 1 - يثبت خيار المجلس في البيع والصلح والإجارة وغيرها من المعاوضات التي يقصد منها المال، وهو حق للمتبايعين معًا. أما الشركة والوكالة والوديعة والعارية والدين والجعالة وكذا الضمان والرهن والكتابة، فلا خيار فيها كلها؛ لأنه متمكن من الفسخ متى شاء، وكذلك الضامن والكفيل لا خيار لهما؛ لأنهما دخلا متطوعين راضيين (¬5). ¬

_ (¬1) الموسوعة الفقهية الكويتية (20/ 169). (¬2) انظر المجموع، للنووي (9/ 169)، والمغني (6/ 7). (¬3) فتح القدير (5/ 81)، وبدائع الصنائع (5/ 228). (¬4) خيار المجلس والعيب (ص: 78 - 79). (¬5) انظر في ذلك المغني، لابن قدامة (6/ 70)، مختصر الفقه الإِسلامي، للتويجري (ص: 790 - 710)، وكتاب خيار المجلس والعيب، عبد الله الطيار (ص: 43).

2 - خيار الشرط

2 - أما عن زمن ثبوت الخيار: فالزمن الذي يثبت فيه خيار المجلس هو الفترة التي أولها لحظة إبرام العقد أي بعد صدور القبول والإيجاب (¬1). قال في مختصر الفقه الإِسلامي: "ومدته من حين العقد إلى التفرق بالأبدان، فإن أسقطاه سقط وإن أسقطه أحدهما بقي خيار الآخر فإذا تفرقا لزم البيع" (¬2). 3 - مدة خيار المجلس: ذهب بعض القائلين بثبوته إلى أنه لا يجوز أكثر من ثلاث، وأجازه بعضهم فيما زاد على الثلاث بقدر الحاجة، والصحيح أن أمد خيار المجلس لا يمكن تحديده؛ لأنه موكول لإرادة كل من المتعاقدين فيطول برغبتهما في زيادة التروي ويقصر بإرادة المستعجل منهما حين يخاير صاحبه أو يفارقه (¬3). 2 - خيار الشرط: تعريفه: هو مركب إضافي صار علمًا في اصطلاح الفقهاء على ما يثبت (بالاشتراط) لأحد المتعاقدين من الاختيار بين الإمضاء والفسخ (¬4). دليل مشروعية هذا النوع من الخيار مما رواه نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رجلًا من الأنصار وكانت بلسانه لوثة يشكو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يزال يغبن في البيع فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بايعتَ فَقُلْ لا خِلابةَ ثم أنت بالخيارِ في كلِّ سلعةٍ ابتعتَها ثلاثَ ليالٍ، فإن رضيتَ فَأَمْسِكْ، وإن سخطتَ فاردُدْ" (¬5). ¬

_ (¬1) الموسوعة الفقهية (20/ 1172) (¬2) مختصر الفقه الإِسلامي، للتويجري (ص: 710). (¬3) المغني، لابن قدامة (6/ 39)، الموسوعة الفقهية الكويتية (20/ 1172). (¬4) رد المحتار (4/ 74). (¬5) هكذا رواه الدارقطني مطولًا (3/ 56)، وأخرج آخره. انظر في الفتح (4/ 337)، البخاري باب ما يكره من الخداع في البيع.

ومن أحكام هذا النوع من الخيار

وقد انعقد الإجماع على القول بخيار الشرط كما نقل ذلك النووي عنهم، قال ابن الهمام: "وشرط الخيار مجمع عليه" (¬1). ومن أحكام هذا النوع من الخيار: 1 - أنه متى ما اشترط المتبايعان أو أحدهما الخيار إلى مدة معلومة، صح وإن طالت المدة، ومدته من حين العقد إلى أن تنتهي المدة المشترطة، وإذا مضت مدة الخيار ولم يفسخ المشترط المبيع لزم البيع، وإن قطعا الخيار أثناء المدة جاز؛ لأن الحق لهما. 2 - لا بد من تقييد الخيار بمدة معلومة مضبوطة من الزيادة والنقصان، فلا يصح اشتراط خيار غير مؤقت أصلًا، والحكمة في ذلك أن لا يكون الخيار سببًا من أسباب الجهالة الفاحشة التي تؤدي إلى التنازع، وهو مما تتحاشاه الشريعة في أحكامها. 3 - أن هذه المدة في الخيار -على الصحيح من أقوال الفقهاء-: إنها مفوضة إلى كلا المتعاقدين، لا حد لها بثلاثة أيام كما حددها من حددها من الفقهاء؛ لكي ينبغي أن لا تطول هذه المدة في الخيار حدًا خارجًا عن العادة. 4 - أن اشتراط الخيار في شيء يفسد قبل تمام المدة لا يصح؛ لحصول الضرر بذلك. 3 - خيار العيب: تعريفه: "خيار" مضاف و"العيب" مضاف إليه وهو من إضافة الشيء إلى سببه، أي: الخيار الذي سببه العيب، والعيب ضد السلامة فيقال: هذا معيب ¬

_ (¬1) فتح القدير شرح الهداية (5/ 111)، والمجموع شرح المهذب (9/ 190).

وهذا سليم فالعيب ضد السلامة والمعيب ضد السليم (¬1). أما تعريفه في الاصطلاح: فقد عرفه الفقهاء بتعاريف متعددة منها: 1 - عرفه ابن نجيم وابن الهمام بأنه: "ما يخلو عنه أصلِ الفطرةِ السليمة مما يُعَدُّ به نقصًا". 2 - عرفه ابن رشد بأنه: "ما نقص عن الخِلْقَةِ الطبيعيةِ أو عن الخلقِ الشرعيِّ نُقْصَانًا له تأثيرٌ في ثمن المبيع". 3 - عرفه الغزالي بأنه: "كلُّ وصفٍ مذمومٍ اقتضى العرفُ سلامةَ المبيعِ عنه غالبًا" (¬2). حكمه الشرعي: لما كانت بعض النفوس مجبولة على الخداع والمكر وبعضها كذلك مجبولة على التسرع في الأمور وعدم التريث فيها، فقد شرع الله خيار العيب ليُعامل المخادعُ المضللُ بنقيض قصده ويؤخذ الحق للضعيف المسكين الذي تدفعه العجلة الناتجة عن التفكير البشري القاصر إلى الخطأ، فيذهب يبرم من العقود ما يضره من أجل ذلك لم يكن هناك خلاف بين الفقهاء في الرد بالعيب. والأدلة على ثبوت هذا النوع من الخيار كثيرة منها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬3). ¬

_ (¬1) الممتع شرح زاد المستقنع، للشيخ العثيمين -رحمه الله- (3/ 646)، طبعة مركز فجر للطباعة، القاهرة. (¬2) انظر هذه التعريفات في الموسوعة الفقهية الكويتية (20/ 113). (¬3) سورة النساء: 29.

الشروط الواجب توفرها في العيب ليثبت به الخيار

وجه الدلالة من الآية أن العلم بالعيب في المبيع منافٍ للرضا المشروط في العقود، فالعقد الملتبس بالعيب تجارة من غير تراضٍ. أما من السنة: فالأدلة على ذلك كثيرة نذكر منها ما يدل على ذلك صراحة وهو ما رواه البخاري في صحيحه عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمُ أخو المسلم، لا يحلُّ لمسلم باع من أخيه بيعًا، وفيه عيبٌ إلا أن يبينَه له" (¬1). وعن واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحلُّ لأحدٍ يبيعُ شيئًا إلا يبينُ ما فيه، ولا يحل لمن يعلمُ ذلك إلا بَيَّنهُ" (¬2). والأدلة على هذا النوع من الخيار كثيرة (¬3). الشروط الواجب توفرها في العيب ليثبت به الخيار: يشترط في العيب الذي يثبت به الخيار عدة شروط منها: 1 - أن يكون العيب مؤثرًا في قيمة المبيع، والمعوَّل في هذا الشرط هو عرف التجار؛ فما كان من شأنه أن ينقص ثمن البيع في عرفهم فهو عيب يوجب الخيار. 2 - كون المشتري غير عالم بوجود العيب في وقت العقد وفي وقت القبض معًا. 3 - ثبوت العيب وقت عقد البيع أو بعد ذلك ولكن قبل التسليم. 4 - أن لا يمكن زوال العيب إلا بمشقة، فإذا أمكن إزالته بغير مشقة فإن المبيع لا يرد به. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (2/ 755). (¬2) أخرجه أحمد (3/ 491)، وهو مختلف في صحته. (¬3) وانظر باقي الأدلة على مشروعية هذا الخيار في: كتاب خيار المجلس والعيب في الفقه الإسلامي، (ص: 120 - 122).

ذكر بعض الأحكام المتعلقة بخيار العيب

5 - أن لا يزول ذلك العيب قبل الفسخ، فإذا اشترى حيوانًا مريضًا ولم يفسخ ثم زال المرض، فليس له الفسخ؛ لأنه زال قبل أن يرده (¬1). ذكر بعض الأحكام المتعلقة بخيار العيب: 1 - إذا اشترى المشتري السلعة وبها عيب فهو بالخيار: إما أن يردها ويأخذ الثمن أو يمسكها ويأخذ أَرْشَ العيب. 2 - وطريقة معرفة أرش العيب هي أن يقوم المبيع بلا عيب ثم يقوم مع العيب ويأخذ الفرق بينهما (¬2). 3 - إذا اختلف البائع والمشتري فيمن حدث عنده العيب كمن اشترى حيوانًا وبعد يوم ادعى أن به عرجًا أو اشترى طعامًا ففسد ولا يدري عند أيهما فسد فالقول قول البائع مع يمينه أو يترادان؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اختلفا المتبايعان فالقولُ ما قال البائعُ أو يترادَّانِ" (¬3). 4 - خيار الرؤية: تعريفه: هو حق يثبت به للمتملك الفسخُ أو الإمضاءُ عند رؤية محل العقد الذي عقد عليه ولم يره (¬4). حكمه: هذا النوع من الخيار اختلف فيه الفقهاء وذلك تبعًا لاختلافهم في بيع الغائب؛ إذ وردت بعض النصوص بمنع بمثل هذا البيع، من ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عبيد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيعِ الغررِ ¬

_ (¬1) انظر في هذه الشروط وغيرها: خيار المجلس والعيب، د. عبد الله الطيار (ص: 123 - 125). (¬2) تراجع فتوى اللجنة الدائمة للافتاء في السعودية رقم (19637). (¬3) رواه أحمد (1/ 466)، وصححه الألباني تحت رقم (1322 - 5/ 166). (¬4) رد المحتار (4/ 22)، وفتح القدير (5/ 137)، والبحر الرائق (6/ 18).

شروط خيار الرؤية عند من قال به

وعن بيعِ الحصاةِ" (¬1). ووجه الدلالة من الحديث أن بيع الغائب الذي لم يُرَ ولم يُوصَفْ فيه نوع غرر فيكون منهيًا عنه، وإلى هذا القول ذهب المالكية وهو أحد قولي الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد واختاره شيخ الإِسلام ابن تيمية. وذهب الحنفية -وهو قول للشافعية وإحدى الروايتين لأحمد- إلى جواز بيع الغائب لعموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬2) قالوا: فهذا على عمومه فيشمل بيع الغائب، ولا يخرج منه إلا بيعٌ منعه كتابٌ أو سنة أو إجماع. ومنها نشأ الخلاف بينهم في هذا النوع من الخيار. شروط خيار الرؤية عند من قال به: 1 - كون المعقود عليه عينًا، والمراد بالعين هنا ما ينعقد العقد عليه بعينه لا على مثله وأن يكون من الأعيان أي (الأموال العينية) كالأراضي والدواب أي كل ما يكون من المثليات. 2 - كون المعقود عليه في عقد يقبل الفسخ، أي: ينفسخ بالرد كالبيع والإجارة إذا رد العين المؤجرة والصلح عن دعوى المال برد المال المصالح عنه والقسمة برد النصيب، فهذه العقود يثبت فيها خيار الرؤية. 3 - عدم الرؤية عند العقد أو قبله مع عدم التغير (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (5/ 3). (¬2) سورة البقرة: 275. (¬3) انظر شروط خيار الرؤية واختلاف الفقهاء فيها: الموسوعة الفقهية الكويتية (2068).

5 - خيار الغبن

5 - خيار الغبن: تعريفه في اللغة: الغبن في اللغة النقص، فعلُهُ غَبَن من باب ضَربَ. ويقال: هذا مغبون، أي: منقوص من الثمن أو غيره. وفي الاصطلاح: هو النقص في الثمن في البيع والشراء. ذهب الحنابلة والظاهرية إلى القول بخيار الغبن. وهو رواية عن المالكية. وذهب الجمهور إلى منع الخيار وقالوا بجواز الغبن وأنه لا يثبت خيارًا مطلقًا إذا كان المتصرف رشيدًا بالغًا، والصحيح عندنا ثبوت هذا النوع من الخيار؛ لأن الغبن منهيٌّ عنه شرعًا. ما يثبت فيه خيار الغبن: يثبت خيار الغبن في مواضع ثلاثة: 1 - النجش: وذلك بأن يزيد الإنسان في قيمة السلعة دون رغبته في شرائها وإنما يقصد نفع صاحبها أو ضرر مشتريها. 2 - يثبت خيار الغبن حال تلقي الركبان (¬1). 3 - بيع المسترسل: وذلك بأن يأتي شخص جاهل بالسعر لا يحسن المماكسة فينقاد للبائع ويأخذ السلعة بأكثر من قيمتها فيغبن غبنًا فاحشًا، ففي هذه الحالة يثبت له الخيار عند بعض العلماء (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية رقم (19637). (¬2) خيار المجلس والعيب، د. عبد الله الطيار (ص: 37)، والممتع في شرح المستقنع، لابن عثيمين (3/ 639).

ضابط الغبن المعتبر

ضابط الغبن المعتبر: الغبن المعتبر هنا هو الغبن الفاحش، فإن كان غير فاحشٍ فلا غبن، والعبرة في تقديره على عادة التجار؛ لأنهم هم الذين يُرْجَعُ إليهم في العيوب ونحوها من الأمور التي تقتضى الخبرة في المعاملات (¬1). شرط خيار الغبن: يشترط لخيار الغبن عدم معرفة المغبون أي يكون جاهلًا بالغبن عند التعاقد، فإن كان عالمًا فلا خيار له؛ لأنه أتى من قِبَلِ نفسه فكأنه أسقط حقه راضيًا. لمن يكون خيار الغبن؟ الغبن يقع للبائع والمشتري، فكما أن للمشتري الحقَّ إذا غبن في فسخ البيع فللبائع الفسخ أيضًا إذا غبن، وذلك إذا ارتفعت قيمة السلعة في السوق ولا يعلم البائع فله الخيار هنا. 6 - خيار التدليس: التعريف: التدليس: هو إظهار المعقود عليه بصورة ليس هو عليها في الواقع، كالذي يبيع بقرة لأجل لبنها ويتركها مدة دون حلب؛ ليتوهم المشتري أنها حافلة باللبن وأن هذه هي عادتها، وبعد أن يأخذها المشتري تظهر حقيقة أمرها فهنا له خيار التدليس. حكمه الشرعي: التدليس محرم شرعًا؛ لما فيه من الغش والخداع وأكل أموال الناس بطريق ¬

_ (¬1) رد المحتار (4/ 159)، وبدائع الصنائع (6/ 30)، وانظر كذلك الممتع في شرح زاد المستقنع، شرح الشيخ العثيمين (3/ 640).

غير مشروع، ودليل النهي عنه ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَصُرُّوا الإبلَ والغنمَ، فمن ابتاعها بعدَ ذلك فهو بخير النظرِ بعدَ أن يحلبَها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعًا من تمر" (¬1). ووجه الدلالة في الحديث أن الشارع نهى عن التصرية؛ وهي نوع تدليس. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3/ 93)، ومسلمٌ (5/ 6).

باب الربا والصرف

باب الربا والصرف التعريف: هو في اللغة الزيادة، قال تعالى: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} (¬1). أي: أكثر عددًا، يقال: أربى فلان على فلان إذا زاد عليه (¬2). وفي الاصطلاح: الزيادة في أشياء مخصصة (¬3)، والمقصود به هنا الزيادة على رأس المال، قال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (¬4). الحكم الشرعي: الربا محرم في جميع الأديان السماوية، وجاء الإِسلام بتأكيد ذلك، ولم يُؤْذِنِ الله -تعالى- في كتابه عاصيا بالحرب سوى آكل الربا، ومن استحله فقد كفر؛ لإنكاره معلومًا من الدين بالضرورة، أما من تعامل بالربا من غير أن يكون مستحِلًّا له، فهو فاسق مرتكب كبيرة من أعظم كبائر الذنوب، وتحريم الربا جاء به الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فمنه قوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬5). وأما السنة فمن ذلك ما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اجتنبوا السبع الموبقات"، قالوا: وما هُنَّ يا رسولَ الله؛ قال: "الشركُ بالله، والسحرُ، وأكلُ الربا ... " الحديث (¬6). ¬

_ (¬1) سورة النحل: 92. (¬2) لسان العرب (3/ 1572)، دار المعارف. (¬3) المغني، لابن قدامة (6/ 51). (¬4) سورة البقرة: 279. (¬5) سورة البقرة: 275. (¬6) أخرجه البخاريُّ (4/ 12)، رقم (2766)، ومسلمٌ (1/ 92)، رقم (89).

الحكمة في تحريم الربا

وجاء في الحديث الذي رواه جابر -رضي الله عنه- قال: لعن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - آكلَ الربا وموكلَه وكاتبَه وشاهدَيْهِ وقال: "هُمْ سَوَاءٌ" (¬1). وأجمعت الأمة على أن الربا محرم (¬2). الحكمة في تحريم الربا: أن الإِسلام يدعو إلى التعاون والإيثار لغرس المحبة والألفة بين أفراد المجتمع، والربا يسبب العداوة بين الأفراد ويقضي على روح التعاون بينهم، والربا يتحصل بدون مشقة، مما يدفع أصحاب الأموال إلى اتخاذه وسيلة للكسب وعدم التوجه إلى المكاسب الأخرى المفيدة للمجتمع والأمة من تجارة وزراعة وصناعة وغيرها، وذلك يؤدي إلى انقطاع المنافع للفرد والمجتمع، ويقلل فرص العمل لبعض فئات المجتمع، ويزيد الفقراء فقرًا والأغنياء غنى، وهو خلاف مبادئ الإِسلام التي تدعو إلى التعاون والتكافل الذي يحقق رفاهية المجتمع وسعادته، ولذلك وغيره حرمه الإِسلام. أقسام الربا: ينقسم الربا إلى قسمين عند جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة وهما: 1 - ربا النسيئة: وهو التأجيل والتأخير. وهو الزيادة في المال مقابل الزيادة في الأجل، وهو أن يبيع شخص لآخر سلعة بأجل فإذا حل وقت الأجل ولم يقم المشتري بسداد ما عليه زاد في الدين نظير الأجل، وهذا هو ما كان معهودًا في الجاهلية، فكان أحدهم إذا حل أجل دينه ولم يُوَفِّهِ الغريمُ، أضعف له المال وأضعف له الأجل، وهو معنى قوله تعالى: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (7/ 217)، رقم (5914)، ومسلمٌ (1219) رقم (1598). (¬2) المغني، لابن قدامة (6/ 52).

2 - ربا الفضل

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (¬1). وسمي أيضًا الربا الجلي، قال ابن القيم: وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال (¬2). 2 - ربا الفضل: وهو بيع أحد الجنسين بمثله مع زيادة أحد العوضين عن الآخر بدون أجل كبيع ربال بريالين أو صاع قمح بصاعين. ودليل تحريم ذلك حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الذهبُ بالذهبِ والفضةُ بالفضةِ والبُرُّ بالبُرِّ والشعيرُ بالشعر والتمرُ بالتمرِ والملحُ بالملحِ مِثْلًا بمِثْلٍ سَوَاءً بسَوَاءٍ يدًا بيَدٍ، فإذا اختلفتْ هذه الأصنافُ فبيعوا كيف شئتم إذا كان يَدًا بِيَدٍ" (¬3). وفي هذا الحديث عدَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أصول الربا وأحكامها وشروطها، وألحق بها العلماء أجناسًا أخرى قياسا عليها إذا تحققت فيها علة الربا حسبما يقتضيه اجتهادهم، وهذه الأشياء الستة تشمل المتطلبات الأساسية والتي لا يستغني عنها الناس من أثمان وأطعمة، فإذا جرى فيها الربا شق على الناس وتحقق الضرر في أمور حياتهم وتعاملهم، فمنع منه الشارع؛ رحمة بالناس ورعاية لمصالحهم. ويزيد الشافعية قسمًا ثالثًا: وهو ربا اليد: وذلك بأن يفارق أحدهما مجلس العقد قبل التقابض (¬4)، وهو داخل في ربا الفضل عند الجمهور وإنما حدث لاختلال شرط من شروط بيع الأشياء الربوية. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: 130. (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم (2/ 154). (¬3) أخرجه مسلمٌ (3/ 1211)، رقم (1587). (¬4) بدائع الصنائع، للكاساني (7/ 305)، وجواهر الإكليل شرح مختصر خليل، للأزهري (2/ 17)، ونهاية المحتاج، للرملي (3/ 424)، والمغني، لابن قدامة (6/ 52).

العلة في تحريم الربا

العلة في تحريم الربا: يرى الحنفية -وهو الرواية المشهورة عند الحنابلة- أن العلة هي الجنس والقدر، والقدر هو الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن. ويرى المالكية: أن العلة في النقود هي مطلق الثمنية، والعلة في الطعام كونه قوتًا مدخرًا "أي تقوم بنية الإنسان به ويصلح للاحتفاظ به إلى الأجل المطلوب". ويرى الشافعية: أن العلة في الذهب والفضة هي أنهما من جنس الأثمان فأما الأعيان الأربعة فالعلة فيها أنها مطعومة؛ وهي ما قصد بها طعام الآدمي غالبًا وهو الرواية الثانية عند الحنابلة. وفي رواية عند الحنابلة: أن العلة فيما عدا الذهب والفضة كونه مطعومَ جنسٍ مكيلًا أو موزونًا، فلا يجري الربا في مطعوم لا يكال ولا يوزن كالتفاح والرمان ونحوهما. والحاصل من ذلك أن ما اجتمع فيه الكيل والوزن والطعم من جنس واحد ففيه الربا، وما انعدم فيه الكيل والوزن والطعم واختلف جنسه فلا ربًا فيه، وهو قول أكثر أهل العلم: قال ابن المنذر: هذا قول علماء الأمصار في القديم والحديث سوى قتادة، حيث قَصَرَ تحريم التفاضل على الستة الأشياء الواردة في الحديث، وما عدا ذلك مما وجد فيه الطعام وحده أو الكيل أو الوزن من جنس واحد، فمختلف فيه والأولى -إن شاء الله تعالى- حله؛ إذ ليس في تحريمه دليل موثوق به ولا معنى يقوي التمسك به (¬1)، وهذا هو الراجح؛ إذ فيه يتحقق الجمع بين الأدلة الواردة في ربا الفضل. ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير، لابن الهمام (6/ 147)، وجواهر الإكليل شرح مختصر خليل (2/ 17)، والمجموع شرح التهذيب، للنووي (9/ 392)، والغني، لابن قدامة (6/ 55).

أثر الربا في العقود

وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "الأظهر أن علة الربا في الذهب والفضة هي الثمنية لا الوزن كما قاله جمهور العلماء". وقال مجلس هيئة كبار العلماء: إن القول باعتبار مطلق الثمنية علة في جريان الربا في النقدية؛ هو الأظهر والأقرب إلى مقاصد الشريعة وهو إحدى الروايات عن الأئمة أبي حنيفة ومالك وأحمدُ كما هو اختيار لبعض المحققين من أهل العلم كشيخ الإِسلام بن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما (¬1). وقد أخذ بذلك مجلس مجمع الفقه الإِسلامي برابطة العالم الإِسلامي في قراره رقم (6) في 10/ 4 / 1402 هـ وألحقوا بذلك العملةَ الورقيةَ؛ لأن علة جريان الربا في الذهب والفضة هو مطلق الثمنية وهو متحقق في العملة الورقية؛ فقد أصبحت ثمنًا وقامت مقام الذهب والفضة في التعامل بها واختفى التعامل بالذهب والفضة فتجب الزكاة فيها ويجري عليها الربا بنوعيه فضلًا ونسأ. أثر الربا في العقود: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن العقد الذي يخالطه الربا باطل مفسوخ لا يجوز بحال، وأن من أربى ينقض عقده ويرد فعله وإن كان جاهلًا؛ لأنه فعل ما حرمه الشارع ونهى عنه، والنهي يقتضى التحريم والفساد، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من عَمِلَ عملًا ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ" (¬2). وقال الحنفية: اشتراط الربا في البيع مفسد للبيع، لكنهم يفرقون في المعاملات بين الفاسد والباطل، فيملك المبيع مع البيع الفاسد بالقبض ولا يملك ¬

_ (¬1) بحث حكم الأوراق النقدية (1/ 57) قُدِّمَ في الدورة الثالثة المنعقدة في ربيع الثاني عام 1393 هـ، وانظر: فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية رقم (16875). (¬2) أخرجه مسلمٌ (3/ 1344)، رقم (1718)، مطبعة الحلبي.

بيع (النقود، العملات) وصرفها

المبيع في البيع الباطل بالقبض والبيع الربوي عندهم من البيوع الفاسدة فيملك بالقبض، وعليه فإنه يجب رد الزيادة الربوية لو كانت قائمة، ومثله أو قيمته إن كان هالكًا (¬1). بيع (النقود، العملات) وصرفها: الصرف: بيع الأثمان بعضها ببعض، ويشمل الذهب بالذهب والفضة بالفضة كما يشمل بيع الذهب بالفضة، والمراد بالثمن ما خلق للثمنية فيدخل فيه بيع المصوغ بالمصوغ أو بالنقد (¬2). ويشترط لصحته القبض في المجلس. قال ابن المنذر: أجمع كل من يُحْفَظُ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا؛ أن الصرف فاسد (¬3). دليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الذهبُ بالورِقِ ربًا إلا هاءَ وهاءَ" (¬4). وحيث إن القول بأن علة الربا في النقدين الذهب والفضة مطلق الثمنية وذلك متحقق في العملات الورقية المختلفة من ريال ودرهم ودينار وجنيه ودولار وغيرها؛ فإنه يري فيها الربا. وتعتبر العملات الورقية أجناسًا تتعدد بتعدد جهات إصدارها فيجوز بعضها ببعض من غير جنسها مطلقًا إذا كان ذلك يدًا بيد؛ لحديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فإذا اختلفت هذه الأشياءُ فبيعوا كيف شئتم إذا كان يَدًّا بيدٍ" (¬5). ¬

_ (¬1) المبسوط، للسرخسحي (6/ 109). (¬2) حاشية ابن عابدين (4/ 334). (¬3) المغني، لابن قدامة (6/ 112). (¬4) البخاري (3/ 89)، رقم (2134)، ومسلمٌ، في باب الصرف (3/ 1209)، رقم (1586). (¬5) أخرجه مسلمٌ، في باب الصرف (3/ 1211).

ولا يجوز بيع الجنس الواحد منه بعضه ببعض متفاضلًا مطلقًا. كالريال السعودي وزيادة ونحو ذلك (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية رقم (3037) في الموضوع.

باب بيع الأصول والثمار

باب بيع الأصول والثمار تعريفها: الأصول جمع أصل، وهو ما يتفرع عنه غيره، والمراد هنا الأرضون والأشجار والثمار وهو جمع ثمر (¬1). وهذا الباب من أبواب البيع، وقد بينا حكم البيع ودليل مشروعيته وسنتناول هنا الكلام عن بيع الأصول وما يتبعها والثمار وما ورد في ذلك من كلام الفقهاء وأدلتهم. 1 - بيع الأرض: من باع أرضًا فإنه يدخل فيها الغرس والبناء؛ لاتصالها بها اتصالَ قرارٍ، وهي من حقوقها. وهذا قول الفقهاء. ومن باع دارًا دخل في البيع بناؤها وفناؤها وما فيها من شجر مغروس وما كان متصلًا فيها لمصلحتها كسلالم وأبواب ولا يتناول ما فيها من كنز مدفون. 2 - بيع الأشجار من باع شجرًا تبعه الأغصان والورق وسائر أجزاء الشجرة، وإذا كان المباع نخلًا مثمرًا فلا يخلو من حالتين: الأولى: أن يبيع النخل وقد أثمر ولم يشترط البائع الثمرة، فإنه -والحالة تلك- ينظر فإن كانت الثمرة مُؤْبَّرَةً (¬2) فهي للبائع، وإن كانت غيرَ مُؤْبَّرَةٍ فهي للمشتري. وبه قال مالك والشافعيُّ وأحمدُ، وقال أبو حنيفة والأوزاعي: هي للبائع فيهما؛ لأن هذا نماء له حد فلم يتبع أصله في البيع كالزرع في الأرض. ¬

_ (¬1) المبدع في شرح المقنع (4/ 158). (¬2) يقال: أبَّرْتُ النخلةَ تأبيرًا، والإبار: هو التلقيح، ويكون عند تشقق الطلع وظهور الثمرة، فعبر له عن ظهور الثمرة للزومه منه، والحكم متعلق بالظهور دون نفس التلقيح بغير اختلاف بين العلماء. المغني (6/ 130).

مدة بقاء الثمرة للبائع

الراجح: أن الثمرة إن كانت مؤبرة فهي للبائع، وإن لم تكن فهي للمشتري؛ للحديث الصحيح: "من ابتاع نخلًا بعدَ أن تُؤَبَّرَ فَثمرَتُها للذي باعها إِلَّا أن يشترطَ المبتاعُ" (¬1). الثانية: أن يشترط أحد المتبايعين أنها له فتكون له بهذا الشرط سواء كانت مؤبرة أو غير مؤبرة. وهو قول الحنابلة. وقال مالك: إن اشترطها المشتري بعد التأبير جاز؛ لأنه بمنزلة شرائها مع أصلها وإن اشترطها البائع قبل التأبير لم يجز؛ لأن اشتراطه لها بمنزلة شرائه لها قبل بدو صلاحها بشرط تركها. والراجح: صحة الشرط من البائع قبل التأبير؛ لأنه استثنى بعض ما وقع عليه العقد، وهو معلوم كما لو باع حائطًا واستثنى نخلًة بعينها. مدة بقاء الثمرة للبائع: 1 - يرى المالكية والشافعية والحنابلة أن الثمرة إذا بقيت للبائع فله تركها في الشجر إلى وقت الجذاذ؛ وذلك وفقًا للعادة والعرف ببقائها إلى جذاذها ليستفاد منها. 2 - ويرى الحنفية أنه يلزم البائعَ قطعُها وتفريغ النخل منها؛ لأنه مبيع مشغول بملك البائع فلزمه نقله وتفريقه (¬2). الراجح: أن تبقى الثمرة إلى وقمت جذاذها وذلك حين تتناهى حلاوة ثمره ليمكن الاستفادة منه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (3/ 102)، ومسلمٌ (3/ 1172). (¬2) حاشية ابن عابدين (4/ 37)، وحاشية الدسوقي (3/ 170)، ونهاية المحتاج (4/ 116)، والمغني، لابن قدامة (6/ 130).

الحكم إذا كان بعض الثمرة مؤبرا دون بعض

الحكم إذا كان بعض الثمرة مؤبرًا دون بعض: 1 - ذهب أحمد في المنصوص عنه إلى أن ما أبر للبائع وما لم يؤبر للمشتري؛ لحديثِ: "من ابتاع نخلًا" المذكورِ. 2 - وذهب الشافعي وأحمدُ في رواية إلى أن الكل للبائع وذلك بجعل ما لم يؤبر تبعًا لما أُبّر؛ لأنه بدون ذلك يؤدي إلى الإضرار باشتراك الأيدي في البستان (¬1). الراجح: الأولى في ذلك أن يكون الكل للبائع؛ لأن البستان إذا بدا صلاح ثمرة منه جاز بيع جميعها؛ إلحاقًا لما لم يَبْدُ صلاحه بما صلح فكذا هنا إلحاقًا لما لم يؤبر بما أُبِّر. بيع الثمرة قبل بدو صلاحها: له حالات ثلاث: الأولى: أن يشترى الثمرة بشرط التبقية، فلا يصح البيع؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن بيعِ الثمارِ حتى يبدوَ صلاحُها نهى البائعَ والمبتاعَ" متفق عليه. والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول بجملة هذا الحديث. الثانية: أن يبيعها بشرط القطع في الحال فيصح بالإجماع؛ لأن المنع إنما كان خوفًا من تلف الثمرة وحدوث العاهة عليها قبل أخذها، وهذا مأمون فيما يقطع فصح بيعه. الثالثة: أن يبيعها مطلقًا، ولم يشترط قطعًا ولا تبقية فالبيع باطل. وبه قال مالك الشافعي وأحمدُ، وأجازه أبو حنيفة؛ لأن إطلاق العقد يقتضى القطع فهو كما ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة (6/ 133).

بم يكون بدو صلاح الثمر؟

لو اشترطه، وعلى المشتري القطعُ (¬1). الراجح: أن البيع غير صحيح؛ لأن الحديث قد أطلق النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها فتدخل فيه هذه الحالة. بم يكون بدو صلاح الثمر؟ بدو صلاح ثمر النخيل وما مثله بِتَغَيُّرِ لونه للحمرة أو الصفرة، وصلاح غيرها بأن يبدو فيه النضج بأن يحلو ويطيب أكله، وإن كان مما لا يتغير لونه ويؤكل صغارًا وكبارًا كالخيار فصلاحه ببلوغه أن يؤكل عادة، ويعرف صلاح الحبوب بالاشتداد في سنبله، وإذا بدا في الثمرة الصلاح جاز بيعها. وهذا قول مالك والشافعيُّ وأحمدُ وغيرهم، ويؤيده الأحاديث الواردة في ذلك ومنها: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه "نهى عن بيعِ الثمرةِ حتى تطيبَ" متفق عليه، وما ورد أنه نهى أن تباع الثمرة حتى تزهو، قيل: وما تزهو؟ قال: "تَحْمارُّ أو تَصْفارُّ" (¬2). بيع الثمار التي تظهر بالتدريج: يصح بيع أصول هذه الثمار التي تتكرر ثمرتها من غير شرط القطع، أما بيع ثمرتها فقد اختلفوا فيه. 1 - يرى أبو حنيفة والشافعيُّ وأحمدُ أنه يجوز بيع الموجود منها دون المعدوم؛ لأنها ثمرة لم تخلق فلم يجز بيعها. 2 - ويرى الإمام مالك أنه يجوز بيع الجميع؛ لأن ذلك يشق تمييزه فجعل ما لم يظهر تبعًا لما ظهر كما أن ما لم يَبْدُ صلاحه تبع لما بدا. الراجح: ما دام أن الثمرة لم تظهر وهو قد باع الثمرة كلها، فإن ذلك ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة (6/ 148)، والإفصاح (2/ 339). (¬2) رواه البخاري (3/ 101).

بيع ما هو مستور في الأرض من الخضار والبقول ونحوها

ينصرف إلى بيع الأصل وما فيه من ثمرة، وليس هو بيعًا للمعدوم كما يظهر فيصح ذلك. والله أعلم. بيع ما هو مستور في الأرض من الخضار والبقول ونحوها: 1 - يرى الحنفية والشافعية -وهو رواية عند الحنابلة وابن المنذر- أنه لا يجوز بيع ذلك حتى يُقْلَعَ ويشاهَدَ؛ لأنه بيع مجهول وفيه غرر. 2 - ويرى مالك -وهو قولٌ في مذهبِ أحمدَ- والأوزاعيُّ وإسحاقُ أن بيع ذلك جائز؛ لأن الحاجة داعية إليه، فأشبه بيعَ ما لم يبدُ صلاحه تبعًا لما بدا (¬1). الراجح: يرى بعض الفقهاء جمعًا بين ذلك أنه إذا كان المبيع مما تقصد فروعه وأصوله كالبصل والكراث والفجل أو كان المقصود فروعه، فالأولى جواز بيعه؛ لأن المقصود منه ظاهر فأشبه الشجر، وإن كان معظم المقصود منه أصوله أو تساويا لم يجز بيعه في الأرض كالجزر، للغرر والجهالة، ويرى ابن تيمية جواز ذلك، وعليه عَمَلُ المسلمين قديمًا وحديثًا وهو الراجح. والله أعلم. بيع الزرع الذي يحصد مرة بعد مرة: يصح بيع الزرع مع الأرض تبعًا، أما بيعه دون الأرض فقد جاء فيه الأقوال الآتية: 1 - يرى الحسن وعطاء والشافعيُّ وأحمدُ أنه لا يجوز بيعه إلا أن يبيع الظاهر منه بشرط القطع في الحال؛ وذلك لأن ما في الأرض منه مستور وما يحدث منه معدوم فلا يجوز بيعه. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (4/ 38)، وحاشية الدسوقي (3/ 176)، ونهاية المحتاج (4/ 141)، والمغني (6/ 159).

بيع الثمار بعد بدو الصلاح

2 - يرى مالك جواز شراء جَزَّتَيْنِ أو ثلاثًا للحاجة. بيع الثمار بعد بدو الصلاح: اتفق الفقهاء على جواز بيع الثمار بعد بدو صلاحها مطلقًا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن بيعِ الثمرةِ قبل بُدُوِّ صلاحِها"، فيجوز بعده. وضع الجوائح: الجائحة: كل آفة لا صنع للآدمي فيها، كالريح والدود والجراد والعطش. وقد اختلف الفقهاء في وضع الجائحة عن الثمار التي تباع فتصيبها الآفة: 1 - ذهب أحمد وجماعة من أهل الحديث إلى أن ما يهلك من الثمار بالجائحة من ضمان البائع قليلًا كان الهالك بها أو كثيرًا؛ لحديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أمر بوضعِ الجوائحِ" (¬1). وهذا صريح في الحكم فلا يعدل عنه. 2 - وذهب أبو حنيفة والشافعيُّ في الجديد إلى أن ما يهلك منها من ضمان المشترى؛ لما روي أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن ابني اشترى ثمرة من فلان، فأذهبتْهَا الجائحة، فسأله أن يضع عنه فتألىَّ أن لا يفعل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تألىَّ فلانٌ ألا يفعلَ خيرًا" متفق عليه. 3 - وذهب مالك وأحمدُ في رواية وهو مذهب الشافعي في القديم إلى أن ما كان دون الثلث فهو من ضمان المشتري وما كان في الثلث وما زاد عنه من ضمان البائع؛ وذلك لأن الثلث اعتبره الشرع في مواضع منها: "الوصية وعطايا المريض وغيرها" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (3/ 1191). (¬2) حاشية الدسوقي (3/ 182)، وشرح روض الطالب (2/ 108)، انظر في ذلك: الموسوعة الفقهية والمغني (6/ 177)، وروضة الطالبين (ص: 596).

حصاد الزرع وجذ الثمرة

الراجح: أن يتم وضع الجوائح سواء كانت أكثر من الثلث أو أقل؛ لعموم الأحاديث الواردة في ذلك، ومنها حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن بعتَ من أخيك ثمرًا، فأصابته جائحةٌ، فلا يحلُّ لك أن تأخذَ منه شيئًا، لم تأخذُ مالَ أخيك بغر حقٍّ" (¬1). وما دون الثلث داخل في ذلك فيجب وضعه. حصادُ الزرعِ وجَذُّ الثمرةِ: الأصل أن الحصاد والجذاذ على المشتري، لأن نقل المبيع وتفريغ ملك البائع منه على المشتري كنقل الطعام المبيع من دار البائع. فإذا شرط الحصاد والجذاذ على البائع فقد اختلف في ذلك على ما يأتي: 1 - ذهب الشافعية والحنابلة في رواية لكل منهما إلى أنه إذا شرط الحصاد أو الجذاذ على البائع فإن البيع يبطل؛ لأنه شرط ما لا يقتضيه العقد كما أنه بذلك شرط تأخير التسليم، ولحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن بيعٍ وشرطٍ" (¬2). 2 - وذهب الشافعية والحنابلة في رواية أخرى لكل منهما إلى أنه يجوز الشرط؛ لأن هذا بيع وإجارة، فهو باعه الزرع وأجره على حصاده وكل منهما يصح منفردًا، فإذا جمعهما جاز. الراجح: صحة هذا الشرط وجوازه؛ لأنه لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن بيع وشرط، وإنما الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن شرطين في بيعٍ" (¬3). قال أحمد: إنما النهي عن شرطين في بيع، أما الشرط الواحد فلا بأس به (¬4). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (3/ 1190). (¬2) تلخيص الحبير (3/ 12). (¬3) رواه الترمذيُّ (5/ 243). (¬4) المغني، لابن قدامة (6/ 163).

اشتراط البائع منفعة المبيع مدة معلومة

اشتراط البائع منفعة المبيع مدة معلومة: 1 - يرى أحمد -وهو قول الأوزاعي وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر- أنه يصح أن يشترط البائع نفع المبيع مدة معلومة مثل أن يبيع دارًا ويستثني سكناها شهرًا أو نخلًا ويشترط الثمرة له أو جملًا ويشترط ظهره إلى مكان معلوم. 2 - ويرى أبو حنيفة والشافعيُّ أنه لا يصح الشرط؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع وشرط ولأن هذا الشرط ينافي مقتضى البيع. الراجح: جواز ذلك وصحة الشرط؛ لحديث جابر أنه "باع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جملًا واشترط ظهرَه إلى المدينةِ" (¬1). ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن الثُّنْيَا إلا أن تُعْلَمَ" (¬2). وهذه معلومة، ولم يصح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وشرط وإنما نهى عن شرطين في بيع. بيع الثمرة واستثناء شيء منها: إذا باع ثمرة بستان واستثنى منها مكيلًا أو موزونًا معينًا نحو مائة صاع أو 100 كيلو غراما، لم يجز ذلك. وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والشافعيُّ وأبي حنيفة. وقال ابن سيرين ومالك وهو رواية عن أحمد: إن ذلك يجوز؛ لأنه استثنى شيئًا معلومًا أشبه ما لو استثنى منها جزءًا. وإن كان استثنى البائع من ثمرة البستان جزءًا معلومًا كثلث ونحوه صح البيع والاستثناء. وهو مذهب الشافعي وأحمدُ في رواية، وإن استثنى نخلةً أو ¬

_ (¬1) رواه مسلم (3/ 1223). (¬2) أخرجه أبو داود (2/ 235)، والترمذيُّ (5/ 290).

شجرة بعينها فإن ذلك جائز. قال في المغني (¬1): "ولا نعلم في ذلك خلافًا؛ وذلك لأن المستثنى معلوم ولا يؤدي إلى جهالة المستثنى منه" (¬2). ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة (6/ 673). (¬2) الإفصاح (1/ 341)، والمغني، لابن قدامة (6/ 172)، وجواهر الإكليل (2/ 63).

باب السلم

باب السَّلَمْ تعريف السَّلم في اللغة: السَّلَمُ والسَّلفُ بمعني واحد يقال: أسلم الثوبَ للخياط، أي: أعطاه إياه، وسمي السلم سلمًا لتسليم رأس المال في المجلس، وسمي سلفًا لتقديمه قبل أوان استلام المبيع، وهو نوع من أنواع البيع، ينعقد بما ينعقد به البيع علاوة على اللفظين المذكورين. التعريف الاصطلاحي: هو عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض في مجلس العقد (¬1). وقيل في تعريفه: هو شراء آجل بعاجل (¬2). أركان السلم: ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن أركان السلم ثلاثة: 1 - الصيغة؛ وهي الإيجاب والقبول. 2 - العاقدان؛ وهما المسلِم والمسلَّم إليه. 3 - والمحل وهو: رأس المال (الثمن) والمسلَم فيه. ويرى الحنفية أن ركن السلم هو الصيغة فقط (¬3). والراجح رأي الجمهور؛ لأنه أحسن في التقسيم العلمي والبحث. الحكم الشرعي ودليله: السلم جائز ودليل ذلك الكتاب والسنة والإجماع. ¬

_ (¬1) كشاف القناع عن متن الإقناع، للبهوتي (2/ 289). (¬2) حاشية ابن عابدين (4/ 203). (¬3) شرح فتح القدير، لابن الهمام (6/ 204).

فأما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (¬1)، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه. ثم قرأ هذه الآية. وأما السنة: فما روى ابن عباس -رضي الله عنهما- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قدم المدينة والناس يسلفون في التمر السنتين والثلاث. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "من أَسْلَفَ في تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ في كيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ إلى أجلٍ معلومٍ" (¬2). وأما الإجماع: فقال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز". ويرى بعض الفقهاء أن السلم قد شرع على خلاف القياس إذ هو من بيع المعدوم، وبيع ما ليس عند الإنسان غير جائز ولكنه أجيز استثناء للنص والإجماع على جوازه. ويرى البعض الآخر ومنهم ابن تيمية وابن القيم أن السلم مشروع على وفق قواعد الشريعة ويقتضيه القياس إذ أن المثمن في البيع أحد عوضي العقد فجاز أن يثبت في الذمة كالثمن، كما أن من مصلحة البائع قبضَ الثمنِ معجلا؛ ليصلح به زراعته وتجارته وللنفقة على نفسه، ومن مصلحة المشتري الحصول على الثمرة رخيصة مقابل الأجل قبل قبض المبيع، وليس ذلك من قبيل بيع المعدوم. قال ابن تيمية: "فإباحة هذا على وفق القياس لا على خلافه" (¬3)، وقال ابن القيم: "والصواب أنه على وفق القياس" (¬4). ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 282. (¬2) أخرجه البخاريُّ (3/ 111)، رقم (224)، ومسلمٌ، في باب السلم (3/ 1227)، رقم (1604). (¬3) أخرجه البخاريُّ (3/ 111)، رقم (224)، ومسلمٌ، في باب السلم (3/ 1227)، رقم (1604). (¬4) مجموع فتاوى ابن تيمية (20/ 529).

شروط السلم

شروط السلم: السلم من أنواع البيع فيشترك معه في شروط ويزيد عليها شروطًا خاصة به: 1 - أن يكون المسلم فيه مما ينضبط بالصفات التي يختلف الثمن باختلافها ظاهرًا بأن يذكر جنسه ونوعه وجودته ولونه وبلده؛ لئلا يؤدي إلى المنازعة، كالحبوب والثمار ونحوها. 2 - العلم بالثمن. 3 - قبض الثمن في مجلس العقد فإن تفرقا قبل ذلك بطل العقد. 4 - أن يكون المسلم فيه في الذمة. 5 - أن يكون مؤجلًا أجلًا معلومًا. 6 - أن يكون المسلم فيه عامَّ الوجودِ وقت وجوب تسليمه (¬1). التصرف في السلم قبل القبض: يرى جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة: أنه لا يصح بيع المسلم فيه لمن هو في ذمته أو لغيره أو الاستبدال عنه؛ لأنه بيع لم يتم قبضه وقد نُهِيَ عنه (¬2). وأجاز المالكية بيع المسلم فيه لغير المسلم إليه إذا لم يكن طعامًا (¬3). وأجاز ابن تيمية بيع المسلم فيه قبل قبضه لمن هو في ذمته بثمن المثل أو ورثته. وهو قول ابن عباس ورواية عن أحمد (¬4). ¬

_ (¬1) كشاف القناع، للبهوتي (3/ 289)، وشرح فتح القدير، لابن الهمام (6/ 305)، وجواهر الإكليل شرح مختصر خليل (2/ 66)، روضة الطالبين، للنووي (1/ 607). (¬2) رد المحتار (4/ 166)، وأسنى المطالب (2/ 84)، والمغني، لابن قدامة (6/ 415). (¬3) بداية المجتهد، لابن رشد (2/ 231). (¬4) مجموع فتاوى ابن تيمية (29/ 503).

تعذر وجود المسلم فيه عند حلوله

قال ابن المنذر: "ثبت عن ابن عباس أنه قال: إذا أسلفت في شيء إلى أجل فإن أخذتَ ما أسلفت منه وإلا فخُذْ عوضًا أنقص منه ولا تَرْبَحْ مرتين" (¬1). تعذر وجود المسلَم فيه عند حلوله: إذا تعذر وجود المسلم فيه عند حلول أجله كما لو أسلم في ثمرة ولم تحمل الشجر تلك السنة، فلرب السلم الصبر إلى أن يوجد المسلم فيه أو الفسخ، ويطالب برأس ماله؛ لأن العقد إذا زال وجب رد الثمن، فإن كان الثمن تالفًا رد بدله إليه (¬2). الاستصناع: وهو عقد يشبه بيع السلم من جهة أنه بيع المعدوم وأن المصنوع ملتزم عند العقد في ذمة الصانع البائع ولذلك تم إيراده بعد السلم. تعريفه لغة: الاستصناع في اللغة: مصدر استصنع الشيء، أي: دعا إلى صنعه (¬3)، أي: تطلب من الصانع العمل. واصطلاحًا: عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل (¬4) فالمعقود عليه هنا هو العين والعمل معًا. الفرق بين السلم والاستصناع: السلم عام للمصنوع وغيره والاستصناع خاص بما اشترط فيه الصنع والسلم يشترط فيه تعجيل الثمن في حين أن الاستصناع لا يشترط فيه ذلك. ¬

_ (¬1) تهذيب سنن أبي داود (5/ 113). (¬2) الملخص الفقهي، للشيخ صالح الفوزان (2/ 60)، وانظر: فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية رقم (17347). (¬3) لسان العرب، مادة: صنع. (¬4) البدائع، للكاساني (6/ 2677).

الفرق بين الاستصناع والإجارة

فالاستصناع يتفق مع السلم بصورة كبيرة؛ فالآجل الذي في السلم هو ما وصف في الذمة، ويؤكد ذلك أن الفقهاء ذكروا مبحث الاستصناع ضمن السلم (¬1). الفرق بين الاستصناع والإجارة: في عقد الاستصناع تكون العين والعمل جميعًا من الصانع، فإذا كانت العين من المستصنع (المشتري) والمطلوب من الصانع هو العمل فقط، فإن العقد يكون إجارة لا استصناعًا. الحكم الشرعي ودليله: يرى مجيزو عقد الاستصناع أنه مشروع بالسنة حيث استصنع النبي - صلى الله عليه وسلم - الخاتم كما جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اصطنع خاتمًا من ذهب وكان يلبسه فجعل فصه في باطن كفه. فصنع الناس خواتيم، ثم إنه جلس على المنبر فنزعه فقال: "إني كنتُ أَلْبَسُ هذا الخاتَمَ وأجعلُ فَصَّهُ من داخل" فرمى به ثم قال: "واللهِ لا ألبسُه أبدًا" فنبذ الناس خواتيمهم (¬2). وفي النهاية في غريب الحديث: "اصطنع الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - خَاتَمًا من ذهبٍ قال ابن الأثير: أي: أمر أن يصنع له" (¬3). وذكر الكاساني في البدائع: "الإجماع من لدن رسول - صلى الله عليه وسلم - دون نكير" (¬4). وقد تعامل الناس بهذا العقد والحاجة إليه ماسة. ¬

_ (¬1) البدائع (6/ 2677). (¬2) صحيح البخاري، كتاب الإيمان والنذور. فتح الباري (11/ 537). (¬3) النهاية، لابن الأثير (3/ 57). (¬4) البدائع (6/ 2678).

حكمة مشروعية الاستصناع

حكمة مشروعية الاستصناع: لا تكفي الأشياء المصنوعة لتلبية حاجات الناس ومتطلباتهم ولا سيما في الوقت الحاضر حيث تطورت الصناعات وزادت حاجة الناس إلى صنع أشياء كثيرة تلبي رغباتهم، وفيه مصلحة للصانع بتسويق مصنوعاته وما يقتضيه ذلك من الإبداع، وللمستصنع بتلبية رغبته من حيث الشكل والجودة، وبذلك تتحقق مصلحة الطرفين. أركان الاستصناع: 1 - العاقدان: وذلك بأن يكون كل منهما جائزَ التصرفِ. 2 - الصيغة: وهي كل ما يدل على رضا الجانبين البائعِ والمشتري. 3 - المحل: ويرى جمهور الحنفية أن المعقود عليه هو العين، وللمستصنع خيار الرؤية. ولا يثبت خيار الرؤية إلا في بيع العين، وهذا يدل على أن المبيع هو العين وليس الصنعة. ومن الحنفية من يرى أن المعقود عليه في الاستصناع هو العمل، فالاستصناع: طلب العمل لغة، ولو لم يكن عقد الاستصناع عملًا لمَا جاز أن يفرد بالتسمية (¬1). والراجح: أن الاستصناع بيع للعين الموصى بصنعها لا لعمل الصانع؛ لما ذكر ولأنه يحق للصانع أن يأتي للمستصنع بما لم يصنعه هو مما يوافق الأوصاف المشروطة. ¬

_ (¬1) المبسوط (12/ 139).

حكم عقد الاستصناع من حيث اللزوم وعدمه

حكم عقد الاستصناع من حيث اللزوم وعدمه: يرى جمهور المجيزين لعقد الاستصناع أنه عقد غير لازم، فللمستصنع الفسخ والعدول عنه ولو جاء المصنوع موافقًا للطلب والشروط. ويرى بعض المجيزين، ومنهم أبو يوسف، أنه عقد لازم؛ لأنه إنما صنعه على حسب طلب المستصنع فلعله لا يوافق سواه إن لم يأخذه فيتضرر البائع الصانع. لكن إذا جاء المصنوع مختلفًا عن الأوصاف والشروط فللمستصنع الخيار بفوات الوصف (¬1). الراجح: نرى أن القول بأنه عقد لازم إذا كان مطابقًا للشروط والمواصفات هو الأولى؛ لما يترتب على ذلك من الأخذ في الاعتبار بمصلحة العاقدين؛ إذ أن التعامل في الوقت الحاضر يتم بواسطة عقود يحدد فيها المطلوب من حيث المدة والجودة ومكان التسليم، وقد حدد العرف ذلك مراعاة لمصلحة الطرفين. شروط الاستصناع: 1 - أن يكون المستصنع فيه معلومًا وذلك ببيان الجنس والنوع والعدد. 2 - أن يكون مما يجري فيه التعامل بين الناس؛ لأن ما لا تعامل فيه يُرْجَعُ فيه للقياس فيحمل على السلم ويأخذ أحكامه. 3 - ألا يحدد فيه أجل، فإن حدد أجل صار سلمًا ويعتبر فيه شروط السلم، ويرى أبو يوسف ومحمَّد من الحنفية عدم اشتراط ذلك؛ إذ أن العرف جرى لضرب الأجل في الاستصناع (¬2). ¬

_ (¬1) فتح القدير، لابن الهمام (5/ 355). (¬2) حاشية ابن عابدين (5/ 235) ط. الحلبي.

تكييف عقد الاستصناع

وهو الأولى تحكيمًا للعرف وتحقيقًا لما فيه مصلحة العاقدين. وقد أخذ بذلك مجمع الفقه الإِسلامي في قراره رقم 65 (3/ 7). تكييف عقد الاستصناع: اختلف في تخريج الاستصناع على النحو الآتي: 1 - يرى بعضهم أنه وعد بالبيع؛ لأن الصانع له ألا يعمل، وبذلك كان ارتباطه مع المستصنع ارتباطَ وعدٍ لا عقدٍ، وللمستصنع حق الرجوع عما استصنعه قبل تمامه ورؤيته، وهذا علامة على أنه وعد لا عقد. 2 - ويرى بعضهم أن الاستصناع إجارة؛ لأن المقصود هو العمل. 3 - ويرى أكثر الحنفية والحنابلة أن الاستصناع بيع وجاء ذكره في أنواع البيوع، ويثبت فيه للمشترى خيار الرؤية (¬1). الراجح: أن الاستصناع بيع، لتوفر مقومات البيع فيه، وشرط العمل فيه لا يخرجه عن كونه بيعًا؛ لأن العمل جاء تبعًا. ويمكن أن يقال إنه عقد جديد توافرت فيه خصائصُ عقودٍ أخرى. أقوال الفقهاء في الاستصناع: 1 - ذهب بعض الفقهاء إلى أن الاستصناع غير صحيح؛ لأنه بيع ما ليس عنده على غير وجه السلم وهو قول في المذهب الحنبلي. جاء في الإنصاف (¬2): "ذكر القاضي وأصحابه أنه لا يصح استصناع سلعه؛ لأنه بيع ما ليس عنده على وجه السلم". ¬

_ (¬1) فتح القدير (5/ 355). (¬2) الإنصاف، للمرداوى (4/ 300).

2 - وذهب بعضهم ومنهم الحنفية وهو قول في المذهب الحنبلي، إلى أنه عقد صحيح باعتباره عقدًا منفصلًا اجتمع فيه بيع وغيره. جاء في الإنصاف: "وقيل: يصح بيعه للمشترى إن صح جمع بين بيع وإجارة منه بعقد واحد؛ لأنه بيع وسلم". 3 - ويرى بعض الفقهاء أن الاستصناع ملحق بالسلم فيؤخذ حكمه من السلم (¬1). الراجح: أن الاستصناع عقد صحيح يتفق والقواعد الفقهية في العقود والتصرفات، وله دور كبير في تنشيط الصناعة والنهوض بالاقتصاد الإِسلامي. وقد أصدر مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي في قراره رقم 65/ 3 / 7 المنعقد في جدة في 7/ 12 / 1412 هـ الآتيَ: أولًا: أن عقد الاستصناع -وهو عقد وارد على العمل والعين في الذمة- ملزم للطرفين إذا توافرت فيه الأركان والشروط. ثانيًا: يشترط في عقد الاستصناع ما يلي: أ- بيان جنس المستصنع ونوعه وقدره وأوصافه المطلوبة. ب- أن يحدد فيه الأجل. ثالثًا: يجوز في عقد الاستصناع تأجيل الثمن كله أو تقسيطه إلى أقساط معلومة لآجال محددة. رابعًا: يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطًا جزائيًا بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة. أ. هـ ¬

_ (¬1) مواهب الجليل 4/ 514.

انتهاء عقد الاستصناع

انتهاء عقد الاستصناع: ينتهي الاستصناع بما يأتي: 1 - إنجاز المستصنع وتسليم العين وقبض الثمن. 2 - انتهاء المدة قبل إنجاز المستصنع وتسليمه حسب الاتفاق. 3 - موت أحد العاقدين (¬1). ¬

_ (¬1) فتح القدير (5/ 356).

باب القرض

باب القرض أولًا: تعريفه: القرض في اللغة: مصدر قرض الشيء يقرضه إذا قطعه، والقرض اسم مصدر بمعنى الإقراض، يقال: قرضت الشيء بالمقراض. والقرض ما تعطيه الإنسانَ من مالِكَ لتُقضاه. أما في الاصطلاح: فهو دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله (¬1). ثانيًا: أصل مشروعية القرض: دل على مشروعية القرض الكتاب والسنة والإجماع. 1 - فدليل الكتاب: قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} (¬2). ووجه الدلالة من الآية أن الله سبحانه وتعالى شبه الأعمال الصالحة والإنفاق في سبيل الله بالمال المقرض، وشبَّه الجزاء المضاعف على ذلك ببذل القرض، وسمى أعمال البر قرضًا؛ لأن المحسن بذلها ليأخذ عوضها فأشبه من أقرض شيئًا ليأخذ عوضه. 2 - ودليل السنة: ما رواه مسلم عن أبي رافع -رضي الله عنه-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استلف من رجل بكرًا فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خيارًا رباعيًا، فقال: "أعطِه إياه؛ إن خيارَ الناسِ أحسنُهم قضاءً" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر في تعريفه: حاشية ابن عابدين (4/ 171)، كشاف القناع (3/ 298). (¬2) سورة البقرة: 245. (¬3) رواه مسلم (3/ 1224).

ثالثا: الحكمة في مشروعيته

وروى ابن ماجه أيضًا عن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِنْ مسلمٍ يقرضُ مسلمًا قرضًا مرتين إلا كان كصدقتِها مرةً" (¬1). 3 - أما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على جواز القرض (¬2). ثالثًا: الحكمة في مشروعيته: الشريعة الإِسلامية مليئة بالحكم والأسرار فما من حكم شرعي إلا وله حكمة في تشريعه، ومن جملة هذه الأحكام القرض، فلما كانت أحوال الناس مختلفة منهم المعسر، ومنهم الموسر، ندب الله إلى القرض وجعله قربة من القرب، وذلك لما فيه من إيصال النفع للمقترض؛ وذلك لقضاء حاجته وتفريج كربته. قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نفَّس عن مسلمٍ كربةً من كربِ الدنيا نفَّسَ اللهُ عنه كربةً من كربِ يومِ القيامةِ، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" (¬3). فالقرض من محاسن الدين؛ لأنه يحتاجه من ضاقت أموره وانكسر خاطره واشتدت عليه الحاجة. حكم القرض: يدور القرض مع الأحكام التكليفية: فتارة يكون مباحًا، وتارة يكون مكروهًا، وتارة يكون واجبًا، وتارة يكون حرامًا، وذلك بحسب ما يلامسه أو يفضي إليه، فالوسائل تأخذ أحكام المقاصد. فإذا كان المقترض مضطرًّا والمقرض مليئًا كان إقراضه واجبًا. ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (2/ 812). (¬2) نقل الإجماع على جوازه ابن قدامة في المغني (6/ 429). (¬3) رواه مسلم (4/ 2074).

هل القرض على وفق القياس أم على خلافه؟

وإذا علم المقرض أن المقترض يصرفه في معصية أو أمر مكروه كان القرض حرامًا أو مكروهًا بحسب الحال. وإذا اقترض لا لحاجة بل ليزيد في تجارته طمعًا في الربح الحاصل منه، كان إقراضه مباحًا، هذا في حق المقرض. أما في حق المقترض فالقرض في حقه مباح لمن علم من نفسه الوفاء كأن يكون له مال مرتجىً وعزم على الوفاء منه وإلا لم يجز. أما إذا كان مضطرًا للقرض كشراء طعام له لإنقاذه من التهلكة، فهنا يجب في حقه؛ لدفع الضرر عن نفسه. هل القرض على وفق القياس أم على خلافه؟ اختلف الفقهاء في القرض: هل هو خلاف القياس أم هو على وفق القياس؟ فالجمهور على أنه خلاف القياس؛ وذلك لأنه من بيع الدراهم بالدراهم إلى أجل، فهو ربا لكنه رخص فيه من أجل مصالح الناس. والمختار عند شيخ الإِسلام ابن تيمية وابن القيم أنه يجري على القياس؛ لأنه عقد إرفاق وليس بيعًا وليس المقصود من القرض النفع الدنيوي وإنما يقصد منه الأجر الأخروي بخلاف البيع فإن القصد منه النفع الدنيوي. رابعًا: أركان وشروط عقد القرض: للقرض ثلاثة أركان هي: الأول: الصيغة. الثاني: العاقدان. الثالث: المال المقرض.

الركن الأول: الصيغة

شرح أركان القرض مع بيان شروط هذه الأركان: الركن الأول: الصيغة: تعريفها: هي الإيجاب والقبول. لا خلاف بين الفقهاء في صحة الإيجاب بلفظ القرض أو السلف وبكل ما يؤدي معناهما، كأقرضتك وأسلفتك وأعطيتك قرضًا أو سلفًا. وكذلك يصح القبول بكل لفظ يدل على الرضا مثل: استقرضت، أو قبلت، أو رضيت ونحو ذلك (¬1). ثانيًا: العاقدان: من أركان القرض العاقدان؛ والمراد بهما المقرض والمقترض ولكل منهما شروط: أولًا: الشروط المعتبرة في المقرض: 1 - اتفق الفقهاء على أنه يشترط في المقرض أن يكون من أهل التبرع. أي: حرًا بالغًا عاقلًا رشيدًا، وعللوا ذلك؛ لأن القرض عقد إرفاق فلم يصح إلا ممّن يصح تبرعه كالصدقة (¬2). ويعلل الشافعية بأن القرض فيه شائبةُ تبرعٍ لا أنه من عقود الإرفاق والتبرع. وقد نص الشافعية على أن أهلية المقرض للتبرع ستلزم اختياره فلا يصح إقراض من مكره إذا كان الإقراض بغير حق، أما إذا أكره بحق بأن وجب عليه ¬

_ (¬1) انظر في بيان هذا الركن في: بدائع الصنائع (7/ 394)، منتهى الإرادات (2/ 225)، كشاف القناع (3/ 299)، المغني (6/ 430)، روضة الطالبين (4/ 32). (¬2) انظر في ذلك الفتاوى الهندية (3/ 206)، ونهاية المحتاج (4/ 219)، شرح منتهى الإرادات (2/ 225)، كشاف القناع (3/ 300)، بدائع الصنائع (7/ 394).

ثانيا: الشروط المعتبرة في المقترض

الإقراض لنحو اضطرار، فإن إقراضه مع الإكراه يكون صحيحًا (¬1). وفرَّع الحنفية على اشتراط أهلية التبرع في المقرض عدمَ صحة إقراض الأب والوصي لمال الصغير (¬2). وفرَّع الحنابلة على اشتراط أهلية التبرع عدمَ صحة قرض ولى اليتيم وناظر الوقف لماليهما (¬3). وأما الشافعية فقد فصَّلوا في هذه المسألة فقالوا: لا يجوز إقراض الولي مال موليه من غير ضرورة إذا لم يكن الحاكم، أما الحاكم فيجوز له إقراضه من غير ضروره (¬4). ثانيًا: الشروط المعتبرة في المقترض: 1 - اشترط الشافعية في المقترض أهلية المعاملة دون اشتراط أهلية التبرع، أما الأحناف فالمستفاد من تعريفاتهم أنه يشترط أهلية التصرفات القولية فيه، وذلك بأن يكون حرًا بالغًا عاقلًا (¬5). 2 - واشترط الحنابلة في المقترض تمتعه بالذمة؛ لأن الدين لا يثبت إلا في الذمم فلا يصح الاقتراض مثلًا لمسجد أو مدرسة أو رباط؛ لعدم وجود ذمم لهذه الجهات (¬6). ¬

_ (¬1) تحفة المحتاج (5/ 41). (¬2) بدائع الصنائع (7/ 394). (¬3) منتهى الإرادات (2/ 225). (¬4) نهاية المحتاج (4/ 219). (¬5) نهاية المحتاج (4/ 220)، رد المحتار (4/ 174). (¬6) كشاف القناع (3/ 300)، شرح منتهى الإرادات (2/ 225).

ثالثا: المال المقترض

ثالثًا: المال المقترض: يشترط في هذا الركن شروط، منها: 1 - كونه من المثليات؛ والمراد بها الأموال التي لا تتفاوت آحادها تفاوتًا تختلف به قيمتها كالنقود وسائر المكيلات والموزونات والمزروعات والعدديات المتقاربة. أما إذا كانت من القيميات التي تتفاوت آحادها تفاوتًا تختلف به قيمتها كالحيوان والعقار ونحو ذلك، فلا يصح إقراضها؛ لأنه لا سبيل إلى إيجاب رد العين ولا إلى إيجاب رد القيمة مما يؤدى إلى المنازعة لاختلاف القيمة ولاختلاف تقويم المقومين. هذا ما ذهب إليه الحنفية (¬1). أما المالكية والشافعية في الأصح عندهم فإنه يجوز إقراض المثليات بل يجوز إقراض كل ما يجوز السلم فيه حيوانًا كان أو غيره، وهو كل ما يملك بالبيع ويضبط بالوصف ولو كان من القيميات، وعللوا ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استقرض بكرًا، وقيس عليه غيره. أما ما لا يجوز السلم فيه؛ وهو ما لا ينضبط بالوصف كالجواهر ونحوها، فلا يصح إقراضه، غير أن الشافعية استثنوا مما لا يجوز السلم فيه قرض الخبز وزنًا للحاجة والمسامحة (¬2). أما الحنابلة فقالوا بجواز قرض كل عين يجوز بيعها سواء كانت مثلية أو قيمية وسواء كانت مما يضبط بالوصف أم لا (¬3). ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: بدائع الصنائع (7/ 395)، رد المحتار (4/ 171). (¬2) انظر: مواهب الجليل (4/ 545)، المهذب (1/ 310)، نهاية المحتاج (4/ 222). (¬3) شرح منتهى الإرادات، كشاف القناع (3/ 300).

القرض عقد لازم أم جائز؟

2 - يشترط في المال المقترض أن يكون عينًا، فلا يصح إقراض المنافع. وهذا هو مذهب الحنفية والحنابلة (¬1). وخالف الشافعيةُ والمالكيةُ فلم يشترطوا في باب القرض كونه عينًا، بل يصح عندهم إقراض المنافع التي تنضبط بالوصف؛ لأنه كما ذكرنا عندهم كل ما صح السلم فيه صح إقراضه، وعندهم أن السلم يجوز في المنافع كما هو الشأن في الأعيان (¬2). والمختار عند شيخ الإِسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم جواز قرض المنافع (¬3). 3 - كون المال المقترض معلومًا، ولا خلاف بين الفقهاء في هذا الشرط؛ وذلك ليتمكن المقترض برد البدل المماثل. وهذا الشرط يتناول أمرين: الأول: معلومية القدر. الثاني: معرفة الصفة. وذلك ليتأتى أداؤه، فمتى فقد القرض شرط المعلومية لم يصح (¬4). القرض عقد لازم أم جائز؟ القرض عقد لازم من جهة المقرض بعد قبض المقترض له، وجائز من قبل المقترض، فمتى أعطى المقرض المقترض المال فإنه لا يجوز سحبه منه؛ لأنه عقد لازم، أما المقترض فمتى أراد أن يرد ما اقترضه جاز له ذلك. ¬

_ (¬1) رد المحتار (4/ 171)، شرح منتهى الإرادات (2/ 225)، كشاف القناع (3/ 300). (¬2) روضة الطالبين (4/ 27)، القوانين الفقهية (ص: 280). (¬3) الفتاوى الفقهية (ص: 131). (¬4) انظر تفاصيل هذا الشرط في: روضة الطالبين (4/ 23)، نهاية المحتاج (5/ 44)، المغني (6/ 434)، شرح منتهى الإراد ات (2/ 225).

اشتراط الأجل في القرض

اشتراط الأجل في القرض: الأكثرية على أنه لا يصح الأجل في القرض ولا يلزم وذلك؛ لأن القرض دين حالٌّ والحالُّ لا يتأجل فالشرط باطل وليس له مفعول لو اشترط. والصحيح أنه يجوز اشتراط الأجل في القرض. وهو قول مالك واختاره شيخ الإِسلام ابن تيمية وابن القيم وهو قول الشيخ محمَّد العثيمين -رحمه الله- والشيخ صالح الفوزان (¬1). الزيادة في القرض ولها حالتان: الأولى: أن تكون الزيادة مشترطه فهذه ممنوعة بالإجماع وكذلك المنفعة المشترطة كأن يقول له: أقرضك على أن تسكنني دارك أو غير ذلك من المنافع، فهذا من التحايل على الربا، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ قرضٍ جرَّ منفعةً فهو ربًا" (¬2). الثانية: أن تكون الزيادة بعد الوفاء وبدون شرط، فهذا جائز وهو من حسن القضاء، للحديث المتقدم في أدلة القرض (¬3). ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: بدائع الصنائع (7/ 397)، رد المحتار (4/ 170)، روضة الطالبين (4/ 34)، الاختيارات الفقهية (ص: 132)، إعلام الموقعين (3/ 375)، كشاف القناع (3/ 303)، من فقه المعاملات، للشيخ صالح الفوزان (2 / ص: 184). (¬2) المطالب العالية، لابن حجر (1/ 411)، وإسنادُهُ ضعيفٌ جدًا؛ ومن حكم بضعفه الصنعاني في بلوغ المرام (ص: 218)، والشوكاني في نيل الأوطار (5/ 332)، وابن باز في مجلة الدعوة (35/ 1569)، وانظر: تلخيص الحبير، لابن حجر (3/ 34). (¬3) وانظر في ذلك: فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء رقم (3895) ورقم (10167) ورقم (12827) حيث تناولت ذلك وأن المقرض لا يأخذ إلا ما أقرضه، إلا إذا لم تكن الزيادة مشروطة مسبقًا فلا بأس بذلك.

شرط وفاء القرض في بلد آخر

شرط وفاء القرض في بلد آخر: إذا أقرضه وشرط عليه الوفاء في بلد آخر فهذه لها حالتان: الأولى: ما يكون لحمله مؤونة فهذا لا يصح قولًا واحدًا؛ لأنه قرض جر نفعًا. كما لو أقرضه برًا أو شعيرًا وشرط عليه الأداء في بلد آخر فهذا لا يجوز؛ لأنه أراد أن يسلم من أجرة نقله: "وكلُّ قرضٍ جَرَّ نفعًا فهو ربًا". الثانية: إذا لم يكن لحمله مؤونة كالنقود، وهو موضع خلاف بين أهل العلم: القول الأول: ذهب مالك والشافعيُّ ورواية لأحمد وكثير من أهل العلم إلى المنع من ذلك؛ لأنه قرض جر نفعًا فاستفاد المقترض باستخدام هذه النقود في هذه البلدة وهذا قرض جر نفعًا. القول الثاني: الجواز. وهو قول الحنفية (¬1) وهو رواية عن أحمد واختارها ابن قدامة وشيخ الإِسلام ابن تيمية وابن القيم؛ وذلك لأن النفع لم ينفرد به المقرض، وإنما انتفع به الطرفان: فالمقرض ربح أمن الطريق، والمقترض ربح بأنه استفاد بالنقود واشترى بها. فلا بأس بذلك. واختاره الشيخ صالح الفوزان (¬2)، وهذا هو الراجح. ضع وتعجل (إسقاط بعض الدين وتعجيل وفاء الباقي): صورة هذه المسألة أن يقرض الإنسان غيره قرضًا إلى أجل ثم يقول المقرض للمقترض: أضع عنك بعض الدين نظير أن ترد الباقي قبل الأجل. ¬

_ (¬1) وصورته: أن يقرض الشخص آخر في بلد على أن يكتب المقترض إلى وكيله في بلد آخر ليوفيه إلى وكيل المقرض في ذلك البلد ليستفيد من أمن الطريق وغيره، ويطلق عليه السفتجة -بضم السين وفتح التاء على الأشهر-: وهي كلمة فارسية معربة بمعنى الشيء المحكم. انظر: تبيين الحقائق، للزيلعي (4/ 1075)، دار المعرفة بيروت، لبنان، الطبعة الثانية. (¬2) فقه المعاملات، للشيخ صالح الفوزان (2/ 186).

إنظار المعسر

اختلف الفقهاء في هذه المسألة فالجمهور على التحريم، والصواب الجواز. وهو رأي شيخ الإِسلام ابن تيمية ورجحه ابن القيم وانتصر لهذا الرأي في إعلام الموقعين ورجحه الشيخ محمَّد بن عبد الوهاب والشيخ البلبهي في السلسبيل (¬1). إنظار المعسر: إنظار المعسر أمر ضروري دعت إليه شريعة الإِسلام، قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬2). ولذا ينبغي لمن كان له قرض عند بعض الناس أن ينظره إذا كان معسرًا؛ لأنه من باب الإرفاق والتنفيس لكرب المسلمين. وجوب أداء القرض: وإذا قلنا بأنه ينبغي للمقرض إنظار المعسر فالواجب على المقترض أن يتعجل بقضاء ما عليه من الديون قبل أن تأتيه منيته فيموت وهو عليه دين. ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: إعلام الوقعين (3/ 371)، السلسبيل (2/ 507). (¬2) سورة البقرة: 280.

باب الرهن

باب الرَّهْن تعريف الرهن: في اللغة: الثبوت والدوام، ويقال: ماء راهن، أي: راكد، ونعمة راهنة أي: دائمة، وقيل: هو الحبس، لقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (¬1). أي: محبوسة، وهو قريبٌ من الأول؛ لأن المحبوس ثابت في مكانه (¬2). وفي الاصطلاح: جعلُ عينِ ماليةٍ وثيقةً بدينٍ؛ ليستوفى منها أو من ثمنها إذا تعذر الوفاء (¬3). الحكم الشرعي ودليله: الرهن جائز ودليل ذلك الكتاب والسنة والإجماع: فأما الكتاب: فقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬4). وأما السنة: فمنه حديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اشترى من يهوديٍّ طعامًا ورهنه درعَه" (¬5). وأما الإجماع: فأجمع المسلمون على جواز الرهن ومشروعيته في السفر، أما في الحضر فإنه لم يخالف في مشروعيته فيه إلا مجاهد حيث قصر الرهن على حال السفر مستدلًا بالآية، ولكن يرد عليه بالحديث، ثم إن ذكر السفر في الآية خرج مخرج الغالب (¬6). ¬

_ (¬1) سورة المدثر: 38. (¬2) لسان العرب، لابن منظور مادة: رهن. (¬3) المبدع في شرح المقنع (4/ 213). (¬4) سورة البقرة: 283. (¬5) أخرجه البخاريُّ (3/ 73)، رقم (2513)، ومسلمٌ (3/ 1226)، رقم (1603). (¬6) المغني، لابن قدامة (6/ 443).

أركان الرهن

أركان الرهن: يرى الجمهور أن أركان الرهن أربعة هي: المرهون، والمرهون به، والصيغة، والعاقدان: وهما الراهن والمرتهن. ويرى الحنفية أن ركن الرهن واحد وهو الصيغة؛ لأنه هو حقيقة العقد، وأما غيره فهو خارج عن ماهيته، وذلك بناء على رأيهم في العقود كافة. شروط الرهن: يشترط للرهن: 1 - أن يكون كل من العاقدين جائز التصرف بأن يكون بالغًا عاقلًا رشيدًا. 2 - أن يكون الرهن بدين واجب أو مآلُه إلى الوجوب. 3 - أن يكون المرهون متمولًا يمكن أخذ الدين منه أو من ثمنه عند تعذر وفاء الدين. 4 - أن يكون المرهون ملكًا للراهن أو مأذونًا له في رهنه (¬1). متى يلزم الرهن؟ ذهب الحنفية والشافعية وفي رواية عن الحنابلة إلى أن عقد الرهن لا يلزم إلا بالقبض؛ لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬2). حيث قيد الرهن بالقبض. وذهب المالكية وفي رواية عند الحنابلة إلى أن عقد الرهن يلزم بالعقد؛ لأنه عقد يلزم بالقبض فلزم قبله كالبيع، فالقبض عند مالك من تمام الرهن وليس شرطَ صحة له. ¬

_ (¬1) روضة الطالبين/ 622)، والمغني، لابن قدامة (6/ 455). (¬2) سورة البقرة: 283.

منافع الرهن وغرمه

والراجح: أن الرهن يلزم بالعقد؛ لأن ذلك يحقق فائدة الرهن من استيفاء الدين منها أو من ثمنها عند تعذر الاستيفاء، والآية جاءت على الوصف بالأغلب والحاجة داعية إلى التوثق ولو لم يكن تم القبض (¬1) لا مكان حصوله. منافع الرهن وغُرْمُهُ: منافع الرهن ونماؤه للراهن؛ لأنه مِلْكُه ليس لغيره أخذها بغير إذنه، فإن أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع بغير عوض وكان دين الرهن ناتجًا من قرض، لم يجز؛ لأنه يكون قرضًا يجر منفعة، وأما إن كان المرهون مركوبًا أو محلوبًا فإنه يجوز للمرتهن أن يركب ويحلب بقدر نفقته من غير إذن الراهن؛ لحديث: "الظهرُ يُرْكضَبُ بنفقتِه إذا كان مرهونًا، ولبنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بنفقتِه إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يَرْكَبُ وَيشْرَبُ النفقةُ" (¬2) وذلك عند الحنابلة. أما جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية فإنهم يرون أنه ليس للمرتهن الانتفاع بالرهن وإنما هو للراهن؛ لحديث: "له غُنْمُهُ وعليه غُرْمُهُ" (¬3). ولم يأخذ بحديث الانتفاع بالركوب والحليب بقدر النفقة إلا الإِمام أحمد (¬4)، وهو الراجح -إن شاء الله- للحديث الصحيح. ضمان المرتهن للمرهون عند تلفه: يرى الشافعية والحنابلة أن يد المرتهن يد أمانة فلا يضمن إلا بتعدٍّ؛ لحديث: ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (6/ 509)، وبداية المجتهد، لابن رشد (2/ 274)، ونهاية المحتاج (4/ 252)، والمغني، لابن قدامة (6/ 445). (¬2) رواه البخاري (3/ 187)، رقم (2512). (¬3) رواه الدارقطني (3/ 33)، والحاكم (2/ 51). (¬4) حاشية ابن عابدين (5/ 512)، وبداية المجتهد، لابن رشد (2/ 276)، ونهاية المحتاج (4/ 289)، والمغني، لابن قدامة (6/ 511).

متى يستحق بيع المرهون؟

"لا يُغْلَقُ الرهنُ؛ لصاحبِه غُنْمُه وعليه غُرْمُه" (¬1)، ولو تم تضمين المرتهن لامتنع الناس من فعله، خوفًا من الضمان. ويرى الحنفية أن يد المرتهن يد ضمان، فيضمن المرتهن إن هلك بيده الأقل من قيمته ومن الدين، واستدلوا بحديث عطاء بن أبي رباح أنه حدث أن رجلًا رهن فرسًا فنفق في يده فقال رسول الله للمرتهن: "ذَهَبَ حَقُّكَ" (¬2). وفرق المالكية بين ما يمكن إخفاؤه كالحلي والعروض وبين ما لا يمكن إخفاؤه كالحيوان والعقار: فيضمن الأول، ولا يضمن الثاني إلا بتفريط منه (¬3). والراجح: أن الرهن أمانة بيد المرتهن؛ لحديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يُغْلَقُ الرهنُ وهو ممّن رهنه، له غُنْمُه وعليه غُرْمُه" (¬4)، أي: له غلته وخراجه وعليه خسارته وهلاكه، والراهن قد رضي أمانة المرتهن فأشبه المودع، ثم إن مالكًا رأى أن ما ظهر هلاكه كالعقار أمانة، فينبغي أن يكون كله أمانة، وكذلك فإن أبا حنيفة يرى أن ما زاد من قيمة الرهن على قيمة الدين هو أمانة فينبغي أن يكون كله أمانة. متى يستحق بيع المرهون؟ المرهون حق الراهن له ملكه، لكن إذا حل الدين لزم الراهن بطلب المرتهن إيفاء الدين؛ لأنه دين حالٌّ فلزم إيفاؤه كالدين الذي لا رهن به، فإن وُفِّيَ الدينُ ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقيُّ (6/ 39). (¬2) أخرجه أبو داود في المراسيل، ونقل الزيلعيُّ عن ابن القطان أنه ضعف الراوي عن عطاء. نصب الراية (4/ 321). (¬3) فتح القدير (9/ 70)، وبداية المجتهد (2/ 247)، نهاية المحتاج (4/ 181)، وكشاف القناع (3/ 341). (¬4) رواه الدارقطني (3/ 33)، والحاكم في المستدرك (2/ 51).

جميعه من غير المرهون انفك الرهن فإن لم يف بالدين كله أو بعضه وجب على الراهن بيع المرهون بنفسه أو وكيله بإذن المرتهن، ويُقَدَّم المرتهن في ثمنه على سائر الغرماء، فإن امتنع الراهن من سداد الدين وبيع المرهون عزره الحاكم بالحبس لبيع المرهون، فإن لم يفعل باع الحاكمُ المرهونَ وقضى الدينِ من ثمنه، وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة، وقال المالكية ببيعِ الحاكمِ المرهونَ دون حبس وَيُؤَدَّى الدينُ من ثمنه. ويرى الحنفية أن للمرتهن مطالبةَ الراهن لِسداد الدين، ومطالبة الحاكم بحبسه إن ظهر مَطْلُه، ولا يبيع القاضي المرهون، لأنه نوع حَجْرٍ وفي الحجر إهدارُ أَهْلِيَتِهِ، فلا يجوز، ولكنه يحبسه حتى يبيعه؛ دفعًا للظلم (¬1). الراجح: أن الحاكم يبيع المرهون ويؤدي من ثمنه دون حبس للراهن؛ لأن الهدف هو سداد الدين وهو يتحقق بذلك مع ما يترتب على الحبس من سلبيات اجتماعية وغيرها، فإن وفى المرهون قيمة الدين انتهي الدين، وإلا بقي على الراهن الفرق بين قيمة الرهن والدين فيجب عليه تسديده. ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (4/ 88)، وكشاف القناع (3/ 341)، وشرح الزرقاني (5/ 153).

باب الضمان (الكفالة)

باب الضمان (الكفالة) التعريف لغة: يقال: ضمن الشيء ضمانًا فهو ضامن، أي: كفله، وضمن الرجل ضمانًا: كفله أو التزم أن يؤدي عنه ما قد يقصر في أدائه، والضامن: الكفيل أو الملتزم أو الغارم (¬1). ويقال: كفل فلانُ كفلًا وكفالة: ضمنه، قال ابن الأعرابي: كفيل وكافل وضمين وضامن بمعنى واحد (¬2). قال المازريُّ في شرح التلقين: الحمالة في اللغة والكفالة والضمان والزعامة كل ذلك بمعنى واحد، غير أن الماورديَّ قال: إن العرف قد خصص الضمين بالمال والحميل بالدية والزعيم بالمال العظيم والكفيل بالنفس، والصبير يعم الكل ومثله القبيل (¬3). واصطلاحًا: هو ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق الواجب حالًا أو مستقبلًا. وهو تعريف شامل لأنواع الضمان؛ لأن التزام الحق قد يكون بالمال وقد يكون بالنفس وهو مانع لدخول غير المعرف فيه كضمان الغاصب والمستعير. إطلاق لفظ الضمان والكفالة: يجد المطلع على كتب الفقه أن الفقهاء يطلقون لفظ الضمان والكفالة على النحو الآتي: 1 - جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة يطلقون لفظي الضمان والكفالة كلًّا منهما على الآخر، فهما مترادفان يراد بهما ما يعم ضمان المال وضمان ¬

_ (¬1) القاموس المحيط (4/ 243)، والمعجم الوسيط (1/ 546). (¬2) تاج العروس (8/ 99). (¬3) مواهب الجليل (5/ 96).

أركان الضمان

النفس وضمان الطلب، كما أنهم يستعملون لفظ الضمان فيما هو أعم من ذلك، وهو الضمان مطلقًا، سواء كان بعقد أو ضمان الضرر أو الاعتداء أو غيره. وهذا هو ما نتبعه في هذا المؤلَّف. 2 - يطلق الحنفية الكفالة على ما كان فيه الضمان بموجب العقد وتشمل كفالة النفس وكفالة المال والكفالة بالتسليم، ويطلقون الضمان على ما هو أعم فيشمل الضمان بالعقد وغير العقد، فهم يتفقون مع الجمهور في إطلاق لفظ الضمان على ما هو أعم من الكفالة وضمان المال وغيرها. 3 - ومن الفقهاء من يرى تخصيص الضمان بالمال، أما الكفالة فيراد بها الضمان بالنفس. أركان الضمان: للضمان أربعة أركان: 1 - الركن الأول: الصيغة: وينعقد الضمان بكل لفظ أو فعل يدل على التزام الموجب وتعهده بما التزم، وكذلك بالكتابة وإشارة الأخرس إذا كانت تدل على المقصود. 2 - 3 - الركن الثاني والثالث: العاقدان: وهما طرفا العقد اللذان لا يتم انعقاده إلا بهما، ولا بد أن يكون كل منهما أهلًا لإجراء العقد وذلك بأن يكون بالغًا عاقلًا رشيدًا غير محجور عليه. 4 - الركن الرابع: المعقود عليه (محل العقد): وهو المعبر عنه في الضمان بالمضمون، وهو الحق الملتزم به لصاحب الحق، وهو إما أن يكون عينًا أو دينًا أو نفسًا أو فعلًا (¬1). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (7/ 3415)، ومواهب الجليل (5/ 110)، ونهاية المحتاج/ 438)، وكشاف القناع (3/ 369).

شرط الضمان (الكفالة)

شرط الضمان (الكفالة): يشترط أن يكون الضامن جائز التصرف في ماله وهو البالغ العاقل الرشيد المختار. الحكم الشرعي ودليله: الأصل في مشروعية الضمان (الكفالة) الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. فمن الكتاب قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (¬1). قال ابن عباس: الزعيم الكفيل. وهذا نص في جواز الكفالة. وقال ابن كثير: هذا من باب الضمان والكفالة (¬2). ومن السنة: حديث سلمة بن الأكوع قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فَأُتِيَ بجنازة فقالوا: يا رسول الله، صل عليها، قال: "هل ترك شيئًا؟ " قالوا: لا، قال: "هل عليه دَيْنٌ؟ " قالوا: ثلاثة دنانير، قال: "صلوا على صاحبكم"، فقال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله وعليَّ دينُه، فصلى عليه. رواه أحمد والبخاريُّ والنسائيُّ. وأما الإجماع: فهو ما نراه من تعامل الناس وكفالة بعضهم بعضًا منذ القرون الأولى وإلى يومنا هذا دون إنكار من أحد، وقد نقل الإجماع كثير من الفقهاء. جاء في حاشية ابن عابدين (¬3): ودليلها الإجماع وسنده قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الزعيم غارم" (¬4). ¬

_ (¬1) سورة يوسف: 72. (¬2) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (3/ 523). (¬3) حاشية ابن عابدين (5/ 285). (¬4) رواه الترمذيُّ وابن ماجه، تلخيص الحبير، لابن حجر (2/ 47).

خصائص عقد الضمان (الكفالة)

وأما المعقول: فإن الشريعة الإِسلامية الغراء قد تكفلت بحفظ الضروريات والحاجيات والتحسينات (¬1)، فكل ما أدى إلى حفظ واحد منها فهو من مقاصد الشريعة، ولما كان الناس محتاجين إلى التعامل بالضمان والكفالة أقر الإِسلام مشروعيتها؛ لأن في منعها حرجًا ومشقةً والإِسلام دين اليسر، وعن طريق الضمان يطمئن صاحب المال على ماله؛ لالتزام الكفيل بأدائه، وهو -غالبًا- مستطيع لذلك فينصرف المدين إلى العمل وسداد الدين، وعن طريق ذلك تنتشر المحبة بين أفراد المجتمع؛ إذ يشعر المحتاج بتعاون الآخرين معه، ويستطيع الحصول على ما لا يستطيع الحصول عليه بدون الضمان، بل إن الكفالة من الأعمال المستحبة حيث يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما كفل علىٌّ عن الميت: "جزاك اللهُ عن الإِسلامِ خيرًا وفكَّ رهانَك كما فككْتَ رِهَانَ أخيك، ما من مسلمٍ فَكَّ رِهَانَ أخيه إلا فك اللهُ رِهَانَه يومَ القيامةِ" (¬2) وهذا الحديث يدل على أنها مندوبة؛ لأنها إحسان ومعروف. خصائص عقد الضمان (الكفالة): للضمان الشخصي خصائص عدة أهمها: 1 - يعقد عقد الكفالة بمجرد التراضي بين الكفيل والدائن ولا يحتاج في انعقاده إلى شكل خاص من كتابة ونحوها. ¬

_ (¬1) الضروريات: هي التي تتوقف عليها حياة الناس الدينية والدنيوية بحيث إذا فقدت اختلت الحياة في الدنيا وحل العقاب في الآخرة، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل. والحاجيات: هي ما يحتاج إليها لرفع الحرج عنهم فقط بحيث إذا فقدت وقع الناس في الضيق والحرج دون أن تختل الحياة، وقد شرع لها الشارع أصناف المعاملات من بيع وشراء ونحوها. أما التحسينات: فهي المصالح التي يتعبد بها للأخذ بمحاسن العبادات ومكارم الأخلاق. الوسيط في أصول الفقه الإِسلامي، د. وهبه الزحيلي (ص: 500). (¬2) رواه البيهقي. تلخيص الحبير (3/ 47).

أقسام الضمان (الكفالة)

2 - الكفالة عقد لازم من جهة الكفيل وهو بالتزامه لا بد أن يقوم بوفاء الدين للدائن ولا يستقل الكفيل بفسخه بدون رضا المكفول له. 3 - الكفالة من عقود التبرعات؛ لأن الكفيل بعمله هذا لم يأخذ شيئًا معاوضة وإنما بذل التزامه دفعًا للضرر والمشقة عن المدين. 4 - الأصل في الكفالة هو التزام المدين الأصلي والتزامُ الكفيل تَبَعٌ لالتزام المدين الأصلي. ولذا يطلق على الكفالة أنه عقد تابع، فالأصلية كالبيع والإيداع والإعارة، والتبعية كالرهن والكفالة (¬1). أقسام الضمان (الكفالة): يجد الباحث في كتب الفقه أن للكفالة في المذاهب الفقهية تقسيمات وهي لا تختلف في جوهرها وإنما هي من باب التنظيم: 1 - فيرى بعض الحنفية أن أقسام الضمان الشخصي ثلاثة: كفالة النفس، وكفالة العين، وكفالة الدين. وزاد بعضهم قسمًا رابعًا هي الكفالة بالتسليم (¬2). 2 - ويرى المالكية أن أقسام الضمان ثلاثة: هي ضمان المال، وضمان الوجه، وضمان الطلب (¬3). 3 - ويرى الشافعية أن أقسام الضمان ثلاثة: هي ضمان الدين، وضمان البدن، وضمان العين (¬4). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (4/ 3404)، وبلغة السالك، للصاوي (2/ 155)، ونهاية المحتاج (4/ 438)، والمغني، لابن قدامة (4/ 591). (¬2) البحر الرائق، لابن نجيم (6/ 222). (¬3) الشرح الصغير، للدردير (3/ 430). (¬4) نهاية المحتاج، للرملي (4/ 432).

كفالة النفس

4 - ويرى الحنابلة أن أقسام الضمان اثنان وهما: ضمان المال، وضمان البدن، ثم يقسم ضمان المال إلى: ضمان الدين، وضمان العين (¬1). وحيث إن كفالة التسليم وكفالة الدين وضمان الطلب من كفالة المال -والتي يتناولها البحث أصلًا منذ بداية الباب لكنها تختلف عن غيرها في بعض الأحكام- لذلك فإن من المناسب إفرادَ كل منها، فيكون التقسيم الذي نتبعه: كفالة النفس، والكفالة بالتسليم، والكفالة بالدرك، وضمان الطلب. كفالة النفس: التعريف: هي ضم ذمة الكفيل إلى ذمة المكفول عنه في التزام إحضاره. حكم كفالة النفس: يرى جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة جواز الكفالة بالنفس واستدلوا بأدلة من الكتاب والسنة (¬2): فأما الكتاب: فقوله تعالى: {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (¬3). قال القرطبي (¬4): "أي: خذ أحدنا مكانه حتى ينصرف إليك صاحبك" وهذا من كفالة النفس. وأما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي إمامة: "الزعيمُ غارمٌ" (¬5) وهذا عامٌّ يشمل كفالة النفس. ¬

_ (¬1) كشاف القناع، للبهوتي (3/ 362). (¬2) البدائع، للكاساني (7/ 3408)، ومواهب الجليل (5/ 112)، ونهاية المحتاج، للرملي (4/ 445)، وكشاف القناع (3/ 369). (¬3) سورة يوسف: 78. (¬4) تفسير القرطبي (9/ 240). (¬5) أخرجه الإمام أحمد (5/ 267)، والترمذيُّ (3/ 556)، وأبو داود رقم (3565).

حكم كفالة بدن من عليه حد أو قصاص

ويرى بعض الشافعية والظاهرية عدم جواز الكفالة بالنفس (¬1). والراجح: هو القول بجواز الكفالة بالنفس؛ للأدلة التي أوردها المجيزون. حكم كفالة بدن من عليه حد أو قصاص: تجوز الكفالة ببدن من عليه حد أو قصاص فيما كان حقَّ آدمي، ولا تجوز فيما كان حقًا لله -تعالى- خالصًا؛ لأن حق الله مبنيٌّ على الدَّرْءِ، والكفالة وثيقة فلا تناسب الدرء، أما حقوق الآدميين فلا تنافي بينها وبين الدرء بالشبهات؛ لأن حضور المدَّعَى عليه مجلسَ الحكمِ واجب بمجرد الدعوى فيناسبها الاستيثاق. ما يترتب على الكفيل عند تعذر إحضار المكفول بنفسه: اختلف الفقهاء في ذلك: فذهب المالكية والحنابلة إلى أن الكفيل بالنفس يضمن ما على المكفول من الحق إذا لم يحضره أو امتنع عن إحضاره. وذهب الحنفية والشافعية إلى أن الكفيل بالنفس يحبس إذا لم يحضر المكفول بنفسه حتى يتبين للقاضي عجزه عن إحضاره ولا يضمن شيئًا مما على المكفول إذا تعذر الاستيفاء منه، الراجح: أن الكفيل بالنفس إذا فرط أو تساهل في إحضار المكفول بنفسه حتى ضاع حق المكفول له يلزم بالتضمين، أما إذا لم يفرط الكفيل ولم يتساهل بل بذل كل ما في وسعه وعجز عن إحضاره فإنه لا يلزمه شيء مما على المكفول (¬2). ¬

_ (¬1) تكملة المجموع (14/ 41)، والمحلى، لابن حزم (5/ 119). (¬2) تبيين الحقائق، للزيلعي (4/ 148)، وبلغة السالك (2/ 163)، ونهاية المحتاج (4/ 450)، والمغني، لابن قدامة (4/ 614).

الكفالة بالتسليم

الكفالة بالتسليم: تعريفها: هي الكفالة بتسليم عين ونحوها. يرى الحنفية والحنابلة والشافعية في قول لهم أن كفالة التسليم في الأعيان المضمونة جائزة. ويرى المالكية وهو قول للشافعية أن كفالة التسليم في الأعيان لا تصح (¬1). والراجح: هو القول بصحة كفالة التسليم في الأعيان المضمونة وأن الواجب التسليم ما دامت قائمة فإن هلكت فإن الكفالة تنقضي. ضمان الدرك (العهدة): وهو ضمان الثمن عند استحقاق المبيع، وقد شرعت الكفالة بالدرك لتأمين حق المشترى في مراجعة البائع في ثمن المبيع إذا ظهر المبيع مستحقًا لغير البائع (¬2). ضمان الطلب: تعريفه: هو التزام طلب الغريم والتفتيش عليه إن تغيب ثم يدل عليه رب الحق وإن لم يأت به (¬3). وقد ذكر هذا النوع المالكية وهو من أنواع الكفالة بالنفس. ضمان المعرفة: أن يضمن الضامن معرفة إنسان بقوله: إني أعرفك من هو وأين هو. وقد ذكر ذلك الحنابلة، ويرون أنه يجب على الضامن البحث عن المضمون بمعرفته ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (5/ 301)، والخرشي على مختصر خليل (6/ 24)، تكملة المجموع (14/ 54)، وكشاف القناع (3/ 370). (¬2) البدائع، للكاساني (7/ 2420)، وكشاف القناع (3/ 369). (¬3) بلغة السالك/ 164.

حكم عقد الكفالة

ويعرف مكانه ثم يدل عليه المضمون له، فإن لم يعرفه ولم يَدُلَّ عليه ضمن ما عليه عندهم (¬1). حكم عقد الكفالة: الكفالة عقد لازم من جهة الكفيل وهو بالتزامه لا بد أن يقوم بوفاء الدين للدائن ولا يستقلُّ الكفيل بفسخه بدون رضا المكفول له. وتصح الكفالة منجزة ومعلقة ومؤقتة ومشروطة: فالمنجزة: مثل أن يقول: أكفل لفلان عن دينه الذي على فلان. والمعلقة: كقوله: أنا ضامن لك بالثمن إذا استحق البيع. والمؤقتة: كقوله: أنا ضامن ما على زَيْدٍ إلى شهر. والمشروطة: كقوله: أنا كفيل بدينك على فلان بشرط أن تبرئتي من كفالتي بدينك على فلان (¬2). الأثار المترتبة على الضمان: 1 - اختلف الفقهاء: هل يكون الضمان بضم ذمة إلى ذمة أو أنه بنقل الدين من ذمة المدين إلى ذمة الضامن؟ أ- يرى أبو ثور والظاهرية أن الضمان ينقل الدين من ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن وبالضمان تبرأ ذمة المضمون عنه. ¬

_ (¬1) كشاف القناع (3/ 375). (¬2) شرح فتح القدير (6/ 299)، والشرح الصغير، للدردير (3/ 432)، والإنصاف، للمرداوي (5/ 213).

ب- ويرى جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وبعض الحنفية أن الضمان يثبت به الحق في ذمة الضامن مع بقائه في ذمة المضمون عنه ولا تبرأ ذمة المضمون عنه وإنما يطالبان جميعًا بالأداء، فإذا أدى أحدهما برئ الآخر. ج- وذهب بعض الحنفية إلى أن الضمان هو الضم لذمة الضامن مع ذمة المضمون عنه إلا أن الضم إنما هو ضم في المطالبة فقط لا في الأداء، فيكون الدين شاغلًا لذمة المضمون عنه فقط والضامن يشاركه في المطالبة لا غير، وهذا هو المختار عند الحنفية (¬1). الراجح: هو القول بأن الضمان تنضم به ذمة الضامن إلى ذمة الأصيل ويكون المضمون به شاغلًا لذمتهما معًا، وأنه باستيفائه من أحدهما ينتهي الضمان. وهذا هو قول الجمهور. 2 - أن الدائن بالخيار: إن شاء طالب المدين، وإن شاء طالب الكفيل؛ لأن الكفالة ضم ذمة وقد ثبت الحق في ذمتهما جميعًا فيملك مطالبة من شاء منهما، وحيث إنه يتم في الوقت الحاضر مطالبة الكفيل بالأداء فإن لم يؤد تم سجنه على حين أن المدين تترك مطالبته وسجنه وقد يكون مماطلًا غير عابئ بإساءته للكفيل مما ترتب عليه العزوف عن الكفالة والبعد عنها وهي من أعمال البر والإحسان، فإنه من المناسب أن تتم مطالبة المدين الأصلي أولًا، فإن لم يُؤَدِّ سُجِنَ إلى أن يتبين إعساره ثم يطالب الكفيل بالأداء. وهذا هو الصحيح من مذهب الإِمام مالك وأخذ به بعض أصحابه حيث إن الدائن لا يطالب الكفيل بحضور المدين ومقدرته وهذا ما يرجحه بعض المحققين من أهل العلم كابن القيم وهو ما يحقق أهداف الكفالة. ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير (6/ 383)، والشرح الصغير، للدردير (3/ 438)، والمحلى، لابن حزم (8/ 112)، ونهاية المحتاج (4/ 458)، والمغني (4/ 604).

رجوع الكفيل على المدين

3 - جواز رجوع الضامن عن الضمان إذا كان الضمان لم يلزم بعد شريطة إعلام المكفول له؛ لأن التزام الضامن غير محدد بمدة ولأنه لم يترتب على التزامه شيء. 4 - صحة توقيت الكفالة، ويكون الكفيل مطالبًا حال انعقاد الكفالة وأثناء مدتها وتنتهي مطالبته بانتهائها (¬1). رجوع الكفيل على المدين: يرى الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة أن الضامن إذا أدى عن المدين بأمره بنيَّةِ الرجوع عليه فإنه يملك الرجوع عليه، أما إذا أدى الكفيل المضمون به من غير أمر المدين في الضمان ولا في الأداء، فإن الضامن لا يرجع على المدين بشيء؛ لأنه متبرع بذلك. فإذا أدى الكفيل عن المدين بأمره وبنية الرجوع عليه فإنه يرجع إليه بما أداه عنه سواء كان مثليا أو مقومًا (¬2). وإذا تغيب المضمون عنه فألزم الضامن بسب ذلك غرما وأنفقه في حبس فإنه يرجع به على المضمون عنه (¬3). انقضاء الكفالة وانتهاؤها: ينقضى الضمان والكفالة بما يأتي: ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (3/ 337)، وإعانة الطالبين، للبكري (3/ 78)، ومطالب أولى النهى، للسيوطي (3/ 301)، وشرح فتح القدير (5/ 404). (¬2) مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر، عبد الله أفندي (2/ 133)، وحاشية الدسوقي (3/ 334)، وإعانة الطالبين، للبكري (3/ 80)، والمغني، لابن قدامة (4/ 607). (¬3) المبدع في شرح المقنع، لابن مفلح (4/ 258).

1 - وفاء الدين سواء كان الأداء من الكفيل أو من المدين أو من غيرهما. 2 - إبراء الدائن للكفيل أو المدين، فإذا أبرأ الدائنُ المدينَ فإن الكفيل يبرأ؛ لأنه تبع له وفرع فيأخذ حكمه، أما إذا أبْرَأ الكفيلَ فإنه يبرأ وحده دون الأصيل؛ لأن الأصل لا يأخذ حكم الفرع. 3 - إذا صالح الكفيل الدائن عن الدين بعوض، وبذلك يبرأ الأصيل من مطالبة الدائن له ويرجع الكفيل على الأصيل بالأقل من الدين أو قيمة ما صالح به. 4 - إحالة الكفيل للدائن بالحق على شخص آخر أو إحالة المدين للدائن بالحق على آخر؛ لأن الحوالة كالقبض. 5 - إذا انفسخ الدين المكفول به أو سقط وبرئت بسبب ذلك ذمة الأصيل، فإن ذمة الكفيل تبرأ تبعًا لذلك وتنقضي الكفالة كما لو كفل بثمن المبيع وانفسخ البيع بشرط الخيار. 6 - هلاك المال المعين للكفالة أو هلاك العين المكفولة إذا كان الهلاك بغير فعل آدمي، فإن كان الهلاك بفعل آدمي فإن الضمان لا ينقضي ويجب على المتلف بدله. 7 - وفاة الدائن وكان الإرث منحصرًا في المدين فإن الكفيل يبرأ من الكفالة. 8 - إذا أدى الكفيل الدين وكان للمدين على الكفيل دينٌ مثله فتنتهي الكفالة بذلك مقاصة بين دين الكفيل على المدين وبين دين المدين الذي له على الكفيل. 9 - تنتهي كفالة النفس إذا سلم الكفيل المكفول إلى الطالب في مكان يقدر الطالب على إحضار المكفول مجلسَ القاضي.

10 - موت الكفيل يبرئه ما لم يُفَرِّطْ أو يتساهل، فإن فرَّط أو تساهل في حياته فإنها تلزم في تركته؛ حماية لحق الدائن. 11 - موت المكفول بنفسه يبرئ الكفيل؛ لأن الكفيل إنما التزم إحضار المكفول بنفسه وقد تعذر ذلك بسبب موته (¬1). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (7/ 3425)، مواهب الجليل (5/ 110)، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع (1/ 290)، والمبدع في شرح المقنع (4/ 265).

الحوالة

الحوالة تعريفها: لغة: الحوالة -بفتح الحاء وكسرها-: من حال الشيء حولًا تحوّل، وتحوَّل من مكانه: انتقل عنه (¬1). واصطلاحًا: نقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه (¬2). الحكم الشرعي ودليله: الحوالة جائزة ومشروعة، ودليل ذلك السنة والإجماع: أما السنة: فما روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ وإذا أُتبعَ أحدُكم على مليءٍ فليتبع" (¬3). وأما الإجماع: فقد أجمع أهل العلم على جواز الحوالة في الجملة وحاجة الناس داعية لها (¬4). أركان الحوالة: أركان الحوالة عند الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة هي: المحيل، والمحال، والمحال عليه، والمحال به، والصيغة. وعند الحنفية أن ركنها فقط هو الصيغة (¬5). ¬

_ (¬1) المصباح المنير، مادة: حول. (¬2) المبدع في شرح المقنع (4/ 270). (¬3) أخرجه البخاريُّ (3/ 123)، ومسلمٌ (3/ 1197). (¬4) المغني، لابن قدامة (7/ 56). (¬5) البدائع للكاساني (6/ 15)، وجواهر الإكليل (2/ 108)، وروضة الطالبين/ 706، والمبدع (4/ 270).

شروط الحوالة

شروط الحوالة: يشترط لصحة الحوالة: 1 - تماثل الحقين؛ لأنها تحويل للحق ونقل به فينتقل على صفته من حيث الجنس والصفة والحلول والتأجيل، فإن اختلف شيء من ذلك لم تصح الحوالة. 2 - أن تكون الحوالة بدين مستقر، فلا تصح الحوالة بدين السلم؛ لأنه غير مستقر؛ لكونه يعرض له الفسخ؛ لانقطاع المسلم فيه. 3 - أن تكون الحوالة بمال معلوم؛ لأنها إن كانت بيعًا فلا تصح في مجهول وإن كانت تحول الحق فيعتبر فيها التسليم، والجهالة تمنع منه. 4 - أن تكون الحوالة برضا المحيل؛ لأن الحق عليه فلا يلزمه أداؤه من جهة الدين الذي له على المحال عليه. حقيقة الحوالة: يرى الحنفية والمالكية وهو الأصح عند الشافعية وفي رواية عند الحنابلة، أن الحوالة مستثناة من بيع الدين بالدين، وذلك لحاجة الناس، واستُثْنِيَتْ للحديث: "وإذا أُتْبعَ أَحَدُكُمْ على مِليءٍ فَلْيَتْبَعْ" متفق عليه. والصحيح عند الحنابلة أن الحوالة عقد إرفاق منفرد بنفسه ليس بمحمول على غيره (¬1). وقال ابن القيم: قواعد الشرع تقتضى جوازها فهي على وفق القياس (¬2). ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة (7/ 56)، وحاشية ابن عابدين (6/ 274)، وروضة الطالبين (706)، وبداية المجتهد (2/ 299). (¬2) إعلام الموقعين، لابن القيم (1/ 439).

رضا المحال بالحوالة

رضا المحال بالحوالة: ذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية إلى وجوب رضا المحال؛ لأن الدين حقه فلا ينتقل من ذمة إلى ذمة إلا برضاه؛ إذ الذمم تتفاوت يسارًا وإعسارا وبذلًا ومطلًا، ويرى الحنابلة أنه إذا كان المحال عليه مليئًا؛ والمراد به القادر على الوفاء غير الجاحد ولا المماطل، فإنه يلزم المحال القبول، ولا يشترط رضاه بالحوالة، ويستدلون بالحديث الوارد بالباب (¬1). والذي يظهر من تعليل الجمهور بعدم إلزام المحال بالحوالة هو كون المحال عليه يختلف حاله يسارًا وإعسارًا وبذلًا ومطلًا، وما دام أن ذلك هو السبب بعدم إلزام المحال، فإذا تم التحقق من يسار المحال عليه وبذله كما هو نص الحديث: "مَليءٍ" فيمكن أن يقال بإلزام المحال، أما عند عدم تحققه فإن الجميع لا يرون إلزامه بذلك كما هو المفهوم من الحديث وبذلك يجتمع القولان. والله أعلم. رضا المحال عليه: يرى الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة أنه لا يشترط رضا المحال عليه، وهذا هو نص الحديث: "مَنْ أُحِيلَ على مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ" ولأن الحق للمحيل، فله أن يستوفيه بنفسه أو بوكيله. ويرى الحنفية أنه يشترط رضا المحال عليه؛ لأن الناس يتفاوتون في تقاضي ديونهم فلا يلزم من ذلك بما لم يلتزمه. والراجح: عدم اشتراط رضا المحال عليه؛ للحديث ولأن المحال عليه سيدفع المال لأي منهما ولا فرق في ذلك. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (5/ 360)، وجواهر الأكليل شرح مختصر خليل (2/ 107)، وروضة الطالبين، للنووي (ص: 706)، والمغني، لابن قدامة (7/ 62).

براءة ذمة المحيل

براءة ذمة المحيل: يرى عامة الفقهاء من الشافعية والحنابلة أنه إذا صحت الحوالة فإن ذمة المحيل تبرأ بذلك ولا حق للمحال في الرجوع إلى المحيل، ولو تعذر استيفاء الحق لمطل أو فلس أو موت. ويرى المالكية أن ذمة المحيل لا تبرأ وللمحتال الرجوع عليه إذا كان المحال عليه مفلسًا ولم يعلم المحتال بذلك. ويرى أبو حنيفة أن المحال يرجع إلى المحيل فيما إذا مات المحال عليه مفلسًا أو إذا جحده وحلف عليه عند الحاكم. وأضاف أبو يوسف ومحمَّد حالة أخرى: وهي فيما إذا حجر عليه لفلس (¬1). والراجح من ذلك: أنه إذا كانت الحوالة برضا المحتال والمحال عليه مليءٌ فإنه لا يرجع على المحيل؛ لأن ذمة المحيل قد برئت بمجرد الحوالة وانتقل الدين، أما إذا كانت بدون رضا المحَال والمحال عليه مفلسٌ أو ميتٌ فإنه يرجع على المحيل؛ لأن المحال عليه لم يكن مليئًا، ولا يلزمه قبول الحوالة على غير مليء؛ لما عليه فيه من الضرر. التحويل البنكي: كان الناس في السابق يقومون بتحويل نقودهم بطريقة تسمى (السُّفْتجة) بضم السين وسكون الفاء؛ وهي كلمة فارسية معربه، أصله سفته: وهو الشيء المحكم سمي بذلك؛ لإحكام أمره، ويسميها المالكية: (البالوصة) وصورة ذلك: أن يدفع شخص مالًا إلى أخر ليعطيه به خطابًا ليقبض بدلها في بلد آخر، وكان الدافع لهم على عمل ذلك الأمنَ من خطر الطريق؛ حيث يكون في نقل النقود خوفٌ عليها وعلى حياة من هي معه. ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير، لابن الهمام (6/ 351)، وجواهر الإكليل (2/ 108)، وروضة الطالبين (707)، والمغني، لابن قدامة (7/ 60).

حكم السفتجة

حكم السُّفتجة: يرى جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية ورواية عن أحمد أن السفتجة لا يجوز العمل بها؛ لكونها قرضًا جر نفعًا، فهي عندهم من باب القرض الذي جر نفعًا، فكأنه أقرض المال واستفاد أمن خطر الطريق فلا يجوز. ويرى الحنابلة في رواية أنها جائزة؛ لأنها ليست من باب القرض وإنما هي من باب الحوالة، والحوالة جائزة؛ لكونها مصلحة لهما جميعًا، والأصل في العقود الإباحة، وقد ورد أن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- كان يقبض النقود من الرجل في مكة ويكتب له خطابًا إلى أخيه مصعب في العراق ليسلمه بدلها، وحكاه ابن المنذر عن علي وابن عباس والحسن وابن الزبير وابن سيرين والنووي وأحمدُ وإسحاق (¬1). الراجح: نرى أن الراجح من ذلك هو جواز هذا العمل؛ لأنه من باب الحوالة وليس من باب القرض، يؤيد ذلك أنه يطلق عليها الآن في العمليات البنكية (الحوالة البنكية)، وهي أن يدفع الإنسان نقودًا للبنك ثم يعطيه البنك شيكًا لاستلام النقود في بلد آخر بذات العملة نفسها أو بقيمتها عملة أخرى، وقد يتم التحويل عن طريق الفاكس أو التليفون أو غيرها من أجهزة الاتصال الحديثة، وقد أجاز ذلك مجلس "المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في قراره المتخذ في دورته الحادية عشرة برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-. وقد جاء في القرار: 1 - يقوم تسليم الشيك قيام القبض عند توفر شروطه في مسألة صرف النقود بالتحويل في المصارف. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (5/ 370)، وحاشية الدسوقي (3/ 225)، ونهاية المحتاج (4/ 225)، والمغني، لابن قدامة (6/ 436).

2 - يعتبر القيد في دفاتر المصرف في حكم القبض لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى سواء كان الصرف بعملة يعطيها الشخص للمصرف، أو بعملة مودعة فيه، والله أعلم.

باب الصلح

باب الصُّلح في اللغة: اسم مصدر صالحه مُصَالحَةً وصُلحًا؛ وهو قطع المنازعة (¬1). وفي الاصطلاح: عقد يتوصل به إلى موافقة بين متخاصمين إنهاءً للنزاع (¬2). الحكم الشرعي ودليله: الصلح جائز ومشروع بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول: أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (¬3). وقوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (¬4). وأما السنة: فما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصلحُ جائزٌ بينَ المسلمين إلا صلحًا أَحَلَّ حرامًا أو حَرَّمَ حلالًا" (¬5). وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على جواز الصلح بين الخصوم. وأما المعقول: فإن الصلح تقتضيه المصلحة وحاجة الناس، وقد تكفلت الشريعة الإسلامية بحفظ الضروريات والحاجيات والتحسينات، وهو من أكثر العقود فائدة؛ لما فيه من قطع النزاع والشقاق ولذا أبيح فيه الكذب (¬6)، كما جاء في الحديث: "ليس الكذَّابُ الذي يُصْلِحُ بينَ الناسِ فَيَنْمِي خيرًا أو يقولُ خيرًا" (¬7). ¬

_ (¬1) القاموس المحيط (1/ 235). (¬2) كشاف القناع (3/ 390). (¬3) سورة الحجرات: 9. (¬4) سورة النساء: 128. (¬5) رواه الترمذيُّ (1352)، وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ". (¬6) توضيح الأحكام، لابن بسام (4/ 500). (¬7) رواه البخاري (2692)، ومسلمٌ (2605).

أقسام الصلح

أقسام الصلح: ينقسم الصلح بين المتخاصمين في الأموال إلى قسمين: القسم الأول: صلح على إقرار: وذلك بأن يكون المدَّعَى عليه مقِرًا بحق خصمه وهو نوعان: 1 - الصلح على جنس الحق ببعضه: كما إذا كان دينا فأسقط بعضه أو عينا فوهب له بعضها، فيصح ذلك؛ لأنه جائز التصرف وله حق التنازل عن بعض حقه. 2 - الصلح عن الحق بغير جنسه: كما إذا كان له عليه دين فاصطلح معه على أرض عوضًا عنه، وذلك صحيح؛ لأنه معاوضة وتجرى عليه أحكام تلك المعاوضة ويجوز ذلك باتفاق الفقهاء. القسم الثاني: صلح على إنكار: وهو أن يَدَّعِيَ شخص على آخر عينًا أو دينًا أو منفعة فينكر ما ادعاه ثم يتصالحا، فقد اختلف الفقهاء في ذلك: فيرى الحنفية والمالكية والحنابلة: أن الصلح مع الإنكار والسكوت جائز، وهو في حق المنكر إبراء؛ لأنه بذل العوض لدفع الخصومة عن نفسه. ويرى الشافعية: أنه لا يجوز الصلح مع الإنكار والسكوت؛ لأنه من أكل المال بالباطل من غير عوض حيث لم يثبت الحق على المدَّعَى عليه المنكِر (¬1). والراجح: جواز الصلح في ذلك؛ قطعًا وإنهاء للنزاع، أما إذا كان أحدهما كاذبًا فالصلح في حقه باطل وما أخذه حرام عليه؛ لأنه من أكل المال بالباطل. الصلح عن المجهول: يرى المالكية والحنابلة: أنه يصح الصلح عن المجهول سواء كان عينًا أو دينًا ¬

_ (¬1) البدائع (6/ 40)، وبداية المجتهد (2/ 294)، ونهاية المحتاج (4/ 387)، والمغني (7/ 6).

إذا كان لا سبيل إلى معرفته. ويرى الحنفية: أنه لا يجوز إذا كان مما يحتاج إلى التسليم؛ لئلا يفضيَ إلى المنازعة كما إذا ادعى حقًا في دار رجل ولم يسم فاصطلحا على مال معلوم يعطى المدعي، وأما إذا كان مما لا يحتاج إلى التسليم كترك الدعوى مثلًا، فيجوز؛ لأن جهالة الساقط لا تفضي إلى المنازعة فهو بمنزلة الإبراء عن المجهول وهو جائز. ويرى الشافعية: أنه لا يصح الصلح عن مجهول؛ لأن الصلح فرع البيع ولا يصح بيع المجهول. والراجح: جواز الصلح عن المجهول؛ لحديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم تختَصِمون إليَّ وإنما أنا بشرٌ ولعلَّ بعضَكم ألحنُ بحُجَّتِه من بعضٍ، فإني أقضي بينكم على نحوٍ مما أسمعُ، فمن قضيتُ له من حقِّ أخيه شيئًا فلا يأخذْه، فإنما أقطعُ له قطعةً مِنَ النارِ يأتي بها أسطامًا في عنقهِ يومَ القيامةِ"، فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمَّا إذ قلتما فاذهبا فَاقْتَسِما ثم توَّخيَا الحقَّ ثم اسْتَهِمَا ثم لِيَحْلِلْ كلُّ واحدٍ منكما صاحبَه" (¬1). ولأنه إسقاط حق فصح في المجهول، ولأنه إذا كان معلومًا فلهما طريق إلى التخلص وبراءة أحدهما من صاحبه بدونه، ومع المجهول لا يمكن ذلك، فلو لم يجز الصلح أفضى إلى ضياع الحق أو بقاء شغل الذمة على تقدير أن يكون بينهما مال لا يعرف كل واحد منهما قدر حقه منه، وليس الصلح هنا بيعًا وإنما هو إبراءٌ (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2/ 271)، والإمام أحمد في المسند (6/ 320). (¬2) بدائع الصنائع (6/ 49)، ومواهب الجليل، للحطاب (5/ 81)، وروضة الطالبين (ص: 695)، والمغني، لابن قدامة (7/ 22).

ما يجوز الصلح عنه

ما يجوز الصلح عنه: يتفق الفقهاء في عدم صحة الصلح عن حق الله فلا يصح الصلح عن حد الزنا والسرقة وشرب الخمر ونحوها. أما حقوق العباد فيجوز الصلح عن كل حق ثابت للمصالح إذا كان مما يجوز أخذ العوض عنه سواء كان مما يجوز بيعه أم لا يجوز، وسواء أكان مالًا أم غير مال، فيجوز الصلح عن دم العمد في النفس وما دونها وعن سكنى الدار ونحوها وعن عيب في المبيع؛ قطعًا للخصومة والمنازعة. ودليل ذلك ما روي أن الحسن والحسين وسعيد بن العاص بذلوا للذي وجب له القصاص على هدبة بن خشرم سبع ديات فأبى أن يقبلها (¬1). الصلح بين الأجنبي والمدعي: يرى الحنفية: أن الصلح إما أن يكون بإذن المدَّعَى عليه أو بغير إذنه: فإن كان بإذنه صح الصلح، وأما إذا كان بغير إذنه فهذا هو صلح الفضولي وهو جائز وصحيح، ويكون الفضولي متبرعًا حيث التزم ببدل الصلح ولا شيء له، لأنه أجرى العقد بدون أمر المدَّعَى عليه، وإذا أطلق الفضولي الصلح ولم يلتزم بشيء فصلحه هذا موقوف على إجازة المدعى عليه. ويرى المالكية: أنه يجوز للرجل أن يصالح عن غيره بوكالة أو بغير وكالة ويَلْزَمُ المصالحَ ما صالح به. ويرى الشافعية: أنه يصح الصلح إذا كان المدَّعَى به عينًا وبإذن المدَّعَى عليه، أما إذا كان دينا فيصح سواء أكان بإذن المدعى عليه أم لا. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (6/ 49)، ومواهب الجليل (5/ 85)، والمغني، لابن قدامة (7/ 24).

آثار الصلح

ويرى الحنابلة: أنه يجوز الصلح سواء أكان عينًا أم دينًا بإذن المدعى عليه أم بغير إذنه، لكن إن كان الصلح بإذن المدعى عليه فإن الأجنبي يرجع عليه بما أدى، وإن كان بغير إذنه فلا يرجع عليه؛ لأنه أدى عنه ما لا يلزمه فكان متبرعًا (¬1). الراجح: نرى أن القول بصحة الصلح بين الأجنبي والمدعي سواء كان عينًا أم دينًا بإذن المدعى عليه أم بغير إذنه، هو الأَوْلى؛ لحديث عليٍّ وأبي قتادة -رضي الله عنهما- حيث قضيا عن الميت فأجازه النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ويرجع بما أداه إذا كان بإذنه؛ لأنه قد أقره فيما يقوم به من صلح، وفي حال عدم الإذن فلا يرجع عليه بشي فإن إلزام المدعى عليه بما لم يقبله فيه مضرة عليه؛ حيث إنه يمكن ألا يثبت هذا الحق المدعى به. آثار الصلح: تَجْرِي على عقد الصلح أحكامُ أقرب العقود إليه شبهًا، فالصلح عن مال بمال يعتبر في حكم البيع، والصلح عن مال بمنفعة يكون في حكم الإجارة، والصلح على بعض العين المدَّعاة هبة، والصلح عن نقد بنقد له حكم الصرف، والصلح في دعوى الدين على أن يأخذ المدَّعِي أقل من المطلوب لترك دعواه يعتبر أخذ بعض الحق وإبراء الباقي، ونتيجة لذلك فإنه يجري على الصلح أحكام العقد الذي اعتبر به وتراعى فيه شروطه ومتطلباته وتحصل البراءة عن الدعوى ويقع الملك في بدل الصلح للمدعي وفي المصالح به للمدعى عليه (¬3). ¬

_ (¬1) البحر الرائق (7/ 259)، ومواهب الجليل، للحطاب (5/ 81)، ونهاية المحتاج (4/ 377)، والمبدع في شرح المقنع (4/ 287). (¬2) حديث عليٍّ أخرجه البيهقيُّ (6/ 73)، وحديث أبي قتادة أخرجه البخاريُّ (3/ 123). (¬3) تبيين الحقائق، للزيلعي (5/ 31)، والخرشي على مختصر خليل (6/ 2)، وروضة الطالبين (ص: 690)، وكشاف القناع (3/ 397).

باب الحجر والتفليس

باب الحَجْر والتَّفليس في اللغة: الْحَجْزُ: المنع والتضييق. ومنه سمي الحرام حجرًا، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} (¬1). أي: حرامًا محرمًا. وسمي العقل حِجْرًا؛ لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبُحُ وتضُرُّ عاقبته (¬2). والتَّفليس في اللغة: النداء على المفلس وشَهْرُهُ بصفة الإفلاس. وفي الاصطلاح: الحجز منع الإنسان من التصرف في ماله. والمفلس شرعًا: من عليه ديون لا يفي بها ماله (¬3). الحكم الشرعي ودليله: الحجر مشروع وجائز، ودليل ذلك الكتاب والسنة. فمن الكتاب قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} (¬4). أي: أموالهم، لكن أضيفت إلى الأولياء؛ لأنهم قائمون عليها مدبرون لها (¬5)، وقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} (¬6). ومن السنة: حديث كعب بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حجر علي معاذ -رضي الله عنه- وباع ماله (¬7). ¬

_ (¬1) سورة الفرقان: 22. (¬2) لسان العرب (4/ 170). (¬3) روضة الطالبين، للنووى (ص: 661). (¬4) سورة النساء: 5. (¬5) كشاف القناع عن متن الإقناع، للبهوتي (3/ 416). (¬6) سورة النساء: 6. (¬7) أخرجه البيهقيُّ في باب الحجر على المفلس وبيع ماله في ديونه، السنن الكبرى (6/ 48)، والحاكم في المستدرك (4/ 101)، والدارقطنيُّ في سننه (4/ 231).

الحكمة في تشريع الحجر

الحكمة في تشريع الحجر: قرر الشارع الحجر على الصغير والمجنون والسفيه؛ صيانة لأموالهم من الأيدي التي تستولي على أموال الناس بالباطل ومن المالك نفسه إذا كان لا يحسن التصرف. وبالنسبة للمفلس فإن في الحجر عليه حفظًا لماله لمصلحة أهله ولمصلحة دائنيه وأصحاب الحقوق من أن تضيع حقوقهم أو بعضها، فمنعه من التصرف لتتحقق العدالة في توزيع المال بينهم بالتساوي، كما أن المفلس بذلك يسلم من مطالبة الغرماء وملازمتهم له؛ وذلك حماية له من نفسه ومن الآخرين. أقسام الحجر: ينقسم الحجر إلى قسمين: 1 - قسمٌ شُرِعَ لمصلحة المحجور عليه وذلك كحجر الصبي والمجنون والسفيه ونحوهم؛ حفظًا لأموالهم من الضياع. 2 - قسم شرع لمصلحة الغير وذلك كحجر المدين المفلس لصالح دائنيه وحجر الراهن لحق المرتهن وكالحجر على المريض مرض الموت لحق الورثة فيما زاد على ثلث التركة وحجر الرقيق لسيده -وذلك عند جمهور الفقهاء- والحجر على الزوجة في ما زاد على الثلث عند المالكية (¬1). الأحكام المتعلقة بالمحجور عليهم: 1 - الصغير: يستمر الحجر عليه إلا أن يتم بلوغه ورشده، فإذا تحقق ذلك وجب دفع ماله إليه. قال: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا ¬

_ (¬1) بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد (2/ 179)، والبحر الرائق، لابن نجيم (8/ 88)، وروضة الطالبين، للنووي (ص: 683)، وكشاف القناع، للبهوتي (3/ 417).

فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (¬1). وذلك لزوال سبب الحجر عليه. قال ابن المنذر: اتفقوا على ذلك (¬2). والبلوغ يتم بعلامات: منها ما هو مشترك بين الرجال والنساء، ومنها ما هو خاص بكل منهما. ويتفق الفقهاء على أن من علامات البلوغ الاحتلامَ وإنزالَ المنيِّ للذكر والأنثى. وتختص الأنثى بالحيض والحمل. ويختلفون فيما عدا ذلك: فيذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن نبات الشعر الخشن حول قُبُلِ أحدهما معتبر من علامات البلوغ في الذكر والأنثى. ويذهب أبو حنيفة إلى أنه لا اعتبار به؛ لأنه نبات شعر فأشبه نبات شعر سائر البدن، وينفرد المالكية في اعتبارهم أن من علامات البلوغ كذلك نتنَ الإبطِ وفرقَ أرنبة الأنف وغلظ الصوت، ويخالفهم جمهور الفقهاء فلا يرون اعتبار شيء من ذلك علامة على البلوغ. فإذا لم يكن شيء من تلك العلامات المذكورة فإن الفقهاء يتفقون على أن البلوغ يكون بالسن، إلا أنهم اختلفوا في تحديد السن المعتبر للبلوغ على النحو التالي: أ- فأبو حنيفة يرى أن بلوغ الذكر يكون بإتمامه ثماني عشرة سنة، وبلوغ الأنثى يكون بإتمامها سبع عشرة سنة. ب- أما المالكية فإنهم اختلفوا في ذلك إلا أن المشهور هو اعتبار تمام ثماني عشرة سنة حدًّا لبلوغ الذكر والأنثى. ¬

_ (¬1) سورة النساء: 6. (¬2) المغني، لابن قدامة (6/ 537)، وبداية المجتهد (2/ 284).

ج- وأما الشافعية والحنابلة فيتفقون على تحديد سن البلوغ بخمس عشرة سنة في الذكر والأنثى (¬1)؛ لحديث ابن عمر -رضي الله عنه- قال: "عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يُجزني وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني" (¬2) وتحديد وقت البلوغ بسن معينة ولو كانت مرتفعة جائز؛ لأنه مما تقتضيه المصلحة العامة فقد تعقدت المعاملات وإجراءاتها وتشعبت كثيرًا وتدهورت الأخلاق العامة وكثر تفنن المحتالين في سلب أموال الناس، كما أن في التحديد زيادةَ احتياطٍ في حماية الناشئين وصيانةَ ذممِهم وأموالهم. 2 - الرشد: هو البصيرة المالية التي يكون بها الشخص حسن التصرف بالمال، وبهذا يقول جمهور الفقهاء (¬3)، وقال الشافعي: إن الرشد هو صلاحه في دينه وماله (¬4). ولا يعتبر الإنسان رشيدًا بمجرد بلوغه، بل لا بد من ثبوت الرشد بعد الاختبار. 3 - المجنون: الجنون: هو اختلال العقل بحيث يمنع جريان الأفعال والأقوال على نهجه إلا نادرًا (¬5) ويتفق الفقهاء في الحجر على المجنون، ويرتفع الحجر عنه بالإفاقة من الجنون. ويجب الضمان عليه فيما أتلفه من مال غيره (¬6). ¬

_ (¬1) مواهب الجليل، للحطاب (5/ 95)، وتكملة فتح القدير على شرح الهداية، شمس الدين أحمد (7/ 323)، كشاف القناع، للبهوتي (3/ 443)، والغرر البهية شرح الأبهجة، لزكريا الأنصاري (3/ 123). (¬2) رواه البخاري ومسلمٌ: فأخرجه البخاريُّ، في كتاب المغازي (5/ 137)، وأخرجه مسلمٌ، في باب سن البلوغ (6/ 31). (¬3) المدخل الفقهي العام، مصطفى الزرقاء (2/ 782). (¬4) الأم، للشافعي (3/ 191). (¬5) التقرير والتحبير، لابن أمير الحاج (2/ 173). (¬6) حاشية ابن عابدين (5/ 90)، والشرح الصغير، للدردير (3/ 381)، والمغني، لابن قدامة (6/ 595).

الحجر على السفيه

الحجر على السفيه: السفه في اللغة: نقص في العقل. واصطلاحا: هو تبذير المال وتضييعه علي خلاف مقتضى الشرع أو العقل (¬1). الحكم الشرعي: ويري الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وأبو يوسف ومحمَّد من الحنفية، أن السفيه إذا طرأ عليه السفه بعد بلوغه ورشده فإنه يحجر عليه، وقال أبو حنيفة: لا يبتدأ الحجر على بالغ عاقل، وتصرفه نافذ، ولا حجر عليه كالرشيد والراجح ما ذهب إليه الجمهور؛ لإجماع الصحابة عليه ولأنه سفيه فيحجر عليه كما لو بلغ سفيها، قال ابن المنذر: "أكثر علماء الأمصار من أهل الحجاز والعراق والشام ومصر يرون الحجر على كل مضيع لماله، صغيرًا كان أو كبيرًا. ولا يحجر علي السفيه أو يفك الحجر عنه إلا الحاكم عند الجمهور، وهو الصحيح؛ وذلك للتأكد من سفهه أو رشده" (¬2). تصرف الصغير: إذا كان الصبي غير مميز فلا يصح شي من تصرفه، أما إذا كان مميزًا فتصرفه علي ثلاثة أقسام: 1 - أن يتصرف تصرفًا ضارًا بماله ضررًا واضحًا كالطلاق والعتاق والقرض والصدقة، وهذا لا ينعقد أصلًا فلا ينفذ ولو أجازه الولي. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (5/ 92). (¬2) المغني، لابن قدامة (6/ 595).

الحجر على المدين المفلس

2 - أن يتصرف تصرفًا نافعًا نفعًا محضًا كقبول الهبة والدخول في الإسلام وهذا ينعقد وينفذ ولو لم يُجِزْهُ الولي. 3 - أن يتردد بين النفع والضرر كالبيع والشراء فإنه يصح إذا أذن له وليه بذلك ولا يصح بدون إذنه (¬1). الحجر على المدين المفلس: يتم الحجر على المدين المفلس من الحاكم إذا طلب ذلك غرماؤه أو بعضهم؛ حتى لا يلحق بهم ضرر بضياع حقوقهم، وأن تكون تلك الديون حالَّةً لا يفي ماله بها، ويستحب أن يظهر الحجر عليه؛ ليتجنب الناسُ معاملتَه ويترتب على الحجر عليه أربعة أحكام: 1 - تعلق حقوق الغرماء بعين ماله. 2 - منع تصرفه في عين ماله أما قبل الحجر فتصرفاته جائزة. 3 - أن للحاكم بيع ماله وإيفاء الغرماء فيبدأ بمن له رهن فيدفع له الأقل من دينه أو ثمن رهنه وله أسوة الغرماء في بقية دينه (¬2). 4 - أن من وجد عين ماله عنده فهو أحق بها من سائر الغرماء، إذا كانت السلعة باقية بعينها لم يتلف منها شي ولم تزد زيادة متصلة، وألا يكون البائع قد قبض من ثمنها شيئًا، وألا يتعلق بها حق الغير كهبتها أو حق شفعة ونحو ذلك. ومن حق المفلس النفقة له ومن تلزمه مؤنته بالمعروف من ماله، ولا يباع مسكنه الذي يحتاجه لسكناه. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (5/ 90)، والمبدع في شرح المقنع، لابن مفلح (4/ 337). (¬2) المغني، لابن قدامة (6/ 537)، وبداية المجتهد (2/ 284).

الأصل في الحجر على المفلس

الأصل في الحجر على المفلس: ما روى كعب بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "حجر على معاذ بن جبل وباع ماله" (¬1)، وعن عبد الرحمن بن كعب قال: "كان معاذ بن جبل من أفضل شباب قومه ولم يكن يمسك شيئًا ولم يزل يَدَّانُ حتى أغرق ماله في الدين، فكلم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - غرماؤه، فلو ترك أحد من أجل أحد لتركوا معاذًا من أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فباع لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماله حتى قام معاذ بغير شيء" (¬2). المطل في سداد الدين: لا يجوز لمن عليه دين مستحِقُّ الوفاء وهو قادر أن يماطل في سداده؛ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "مَطْلُ الغنيِّ ظلمٌ" متفق عليه. وعن عمرو بن الشريد عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيُّ الواجدِ يُحِلُّ عرضَه وعقوبتَه" رواه الخمسة إلا الترمذيّ. ولصاحب الدين ملازمته ومطالبته والإغلاظ له بالقول، وعلى الحاكم أن يلزمه بالوفاء فإن أبى حبسه. قال ابن المنذر: "أكثر من نحفظ عنه من علماء الأمصار وقضاتهم يرون الحبس في الدين" (¬3). الحجر على المعسر: إذا ثبت للحاكم إعسار المدين فإنه لا يحجر عليه ولا تجوز ملازمته من دائنه ويجب إنظاره؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (¬4)؛ وذلك حتى يتبين له مال ويزول عنه وصف الإعسار. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقيُّ في السنن الكبرى (6/ 48)، والحاكم في المستدرك (4/ 101). (¬2) أخرجه البيهقيُّ في السنن الكبرى (6/ 48)، والحاكم في المستدرك (3/ 273). (¬3) المغني، لابن قدامة (6/ 58). (¬4) سورة البقرة: 280.

الولاية على الصغير والمجنون

الولاية على الصغير والمجنون: الولي عليهما هو الأب ثم الجد ثم وصيهما ثم القاضي ثم من يوليه القاضي ولا يجوز للولي أن يتصرف إلا على وجه المصلحة لهما؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬1)،والمجنون في معناه، وينفق الولي على كل منهما بقدر حاله وماله، وإذا كان الولي فقيرًا فليأكل من المال بقدر عمله، وهو ما يقابل أجرة مثله، أما إذا كان غنيًا فلا يحل له أخذ شي من ماله (¬2)؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: 152. (¬2) البحر الرائق شرح كنز الدقائق، لابن نجيم (8/ 89)، وجواهر الإكليل على مختصر خليل (2/ 99)، روضة الطالبين، للنووي (ص: 687)، والمبدع في شرح المقنع (4/ 336). (¬3) سورة النساء: 6.

باب الوكالة

باب الوكالة تعريف الوكالة: في اللغة: بفتح الواو وكسرها وهي اسم مصدر بمعنى التوكيل، وهي لغةً: التفويض والحفظ (¬1). وفي الاصطلاح: استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة (¬2). الحكم الشرعي ودليله: الوكالة مشروعة وجائزة ودليل ذلك الكتاب والسنة والإجماع والقياس: فاما الكتاب: فقوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} (¬3). وأما السنة: فقد وكل النبي - صلى الله عليه وسلم - عروة البارِقِيَّ في شراء الشاة (¬4)، وأبا رافع في قبول زواج ميمونة (¬5). وأما الإجماع: فقد جاء في المغني: "وأجمعت الأمة على جواز الوكالة" (¬6). وأما القياس: فإن الحاجة داعية إلى الوكالة فليس كل إنسان قادرًا على مباشرة أموره بنفسه فيحتاج إلى غيره ليقوم بها بالنيابة عنه (¬7). ¬

_ (¬1) لسان العرب (6/ 4909). (¬2) المبدع في شرح المقنع (4/ 355). (¬3) سورة الكهف: 19. (¬4) أخرجه البخاريُّ (4/ 252)، وابن ماجه (2/ 803). (¬5) ذكره الحافظ ابن حجر في كتاب الوكالة. تلخيص الحبير (3/ 50). (¬6) الغني، لابن قدامة (7/ 196). (¬7) حاشية ابن عابدين (5/ 539)، والمغني، لابن قدامة (7/ 196).

أركان الوكالة

أركان الوكالة: أركان الوكالة أربعة: العاقدان: (الموكل- الوكيل). الصيغة: وهي الإيجاب والقبول. ويصح الإيجاب بكل لفظ يدل على الإذن، ويجوز القبول بكل لفظ أو فعل دل عليه نحو أن يفعل ما أمره بفعله. الموكل فيه: يصح التوكيل في كل حق لله -تعالى- تدخله النيابة من العبادات، ويصح في كل حق آدمي من العقود والفسوخ والعتق والطلاق والرجعة. حكم عقد الوكالة: الوكالة عقد جائز بين الطرفين يملك كل واحد منهما فسخه؛ لأنها من جهة الموكل إذن ومن جهة الوكيل بذل نفع، وكلاهما غير لازم، وهذا هو الأصل، لكن استثنى بعضُ الفقهاء مواضح تكون الوكالة فيها لازمة لا يصح عزل الوكيل فيها: فيرى الحنفية: أن الوكالة لا يجوز فسخها في ثلاثة مواضع؛ لأنه تعلق بها حق للغير وهي: 1 - الوكالة ببيع الرهن؛ وذلك لتعلق حق صاحب الدين بهذه الوكالة؛ لأنه يريد أخذ حقه ببيع الدَّيْن. 2 - الوكالة بالخصومة: كما إذا وكل المدعى عليه وكيلًا لمخاصمة المدعي وكان هذا التوكيل بطلب المدعي فعزله المدَّعَى عليه بغير حضرة المدعي فإنه لا ينعزل. 3 - الوكالة على تسليم عين لشخص مع غياب الموكل فإنه يجب على الوكيل أن يسلم هذه العين لصاحبها ولا يجوز له عزل نفسه.

فلا يصح العزل بغير رضا صاحب الحق؛ لأن في العزل إبطال حقه من غير رضاه (¬1). ويرى المالكية: أنه لا يجوز للموكل عزل وكيله في الخصومة إن خاصم وكيله في ثلاث جلسات، وليس للوكيل أن يعزل نفسه كذلك في الموضع الذي لا يجوز أن يعزله فيه الموكل؛ إبعادًا للضرر عنهما (¬2). ويرى الشافعية: أن للموكل أن يعزل الوكيل إلا في حالتين فإن الوكالة تكون لازمة: 1 - أن تكون الوكالة بِجُعْلٍ وشَرَعَ الوكيل بالعمل؛ لأن في فسخها مضرةً على الوكيل. 2 - أن تكون الوكالة بلفظ الإجارة واستكملت شرائطها فإنها تلزم في هذه الحالة (¬3). وقد جاء في نظام المحاماة السعودي في المادة (27، 28) ما يدل على الأخذ برأي بعض الفقهاء القائلين بلزوم الوكالة إذا كانت قائمة على الأجرة؛ حيث قضى النظام بدفع كامل الأتعاب إذا كان العزل بسبب غير مشروع. الراجح: وجاهة الاستثناءات المذكورة عند الحنفية والمالكية والشافعية بلزوم عقد الوكالة في تلك الحالات؛ وذلك لأنه يترتب على عزل الوكيل من الموكل أو من نفسه بعد مباشرته الوكالة وعمله بموجبها -ضررٌ، إما على الوكيل ¬

_ (¬1) البحر الرائق (7/ 187). (¬2) جواهر الإكليل شرح مختصر خليل (2/ 125). (¬3) روضة الطالبين (ص: 752) (2) أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه. الجامع الصغير، للسيوطي (2/ 749)، رقم (9899).

ما تجوز فيه الوكالة

أو الموكل؛ لأن الوكالة قد تعلق بها حق الغير، والقول بلزوم الوكالة في مثل تلك الصور حسن يؤيد ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضَررَ ولا ضِرارَ". ما تجوز فيه الوكالة: يتفق الفقهاء على أنه يجوز التوكيل فيما يقبل النيابة من العبادات كالزكاة وكذلك سائر العقود كالبيع والشراء والإجارة والنكاح والطلاق والهبة والصدقة والخلع والصلح والإعارة والإيداع وقبض الحقوق والخصومات والرهن وطلب الشفعة، ولا تصلح الوكالة في العبادات التي لا تدخلها النيابة كالإيمان والصلاة والطهارة، ولا تصح في العقود التي لا تقبل النيابة كالظهار والأيمان واللعان والنذر (¬1). أنواع الوكالة: نوعان: عامة، وخاصة: فالعامة: هي التوكيل في جميع الأمور، كأن يقول: وكلتك في كل قليل أو كثير أو فوضت إليك جميع الأشياء، وهذا النوع لا يجوز عند الشافعية والمالكية والحنابلة؛ لأن فيه غررًا. والخاصة: هي التوكيل في أشياءَ وأمورٍ معينة، مثل: وكلتك في بيع أموالي ونحوها (¬2). هل للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه؟ للوكيل أن يوكل فيه إذا أذن له الموكل بذلك، أما إذا لم يأذن له فإنه لا يحق للوكيل أن يوكل إلا في حالتين: ¬

_ (¬1) بداية المجتهد (2/ 301)، والمبدع، لابن مفلح (4/ 357). (¬2) بداية المجتهد (2/ 302)، وروضة الطالبين (ص: 736)، والمغني، لابن قدامة (7/ 205).

ضمان الوكيل

1 - أن يكون وكيلًا على أمر لا يليق به أن يتولاه بنفسه، كما إذا وكله على بيع شيء في سوق عامة والوكيل شريف لا يناسب مباشرة ذلك بنفسه. 2 - أن يوكل على عمل كثير لا يستطيع أن يتولاه وحده، فله أن يوكل غيره معه في ذلك (¬1). ضمان الوكيل: الوكيل أمين فيما وكل فيه لا يضمن بالتعدي أو التفريط ويقبل قوله في التلف؛ لأنه مؤتَمنٌ (¬2). بيع الوكيل وشراؤه لنفسه: يرى الحنفية والشافعية والحنابلة في رواية أنه لا يجوز للوكيل أن يشتري من نفسه؛ لأنه متهم في حق نفسه ومحاباته لها. ويرى المالكية وهو رواية عند الحنابلة جوازَ أن يشتري الوكيل من نفسه، ويشترط الحنابلة لذلك شرطين: 1 - أن يزيد على مبلغ ثمنه في النداء. 2 - أن يتولى النداء غيره. ويرون أنه بذلك تزول التهمة ويكون الحظ للموكل في البيع (¬3). ¬

_ (¬1) جواهر الإكليل (2/ 129)، وروضة الطالبين (ص: 743)، والمغني، لابن قدامة (7/ 207). (¬2) بداية المجتهد (2/ 304)، والمغني، لابن قدامة (7/ 213). (¬3) بداية المجتهد (2/ 302)، وروضة الطالبين (ص: 740)، والمغني، لابن قدامة (7/ 228)، والبحر الرائق، لابن نجيم (7/ 166).

أخذ الأجرة على الوكالة

أخذ الأجرة على الوكالة: يجوز أخذ الأجرة على الوكالة؛ لأنها مقابل عمل وبرضا كل من الوكيل والموكل. جاء ذلك في الفتوى رقم (15518) من فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية. انتهاء عقد الوكالة: ينتهي عقد الوكالة بأمور هي: 1 - موت الموكل أو الوكيل أو جنونهما؛ لأن الوكالة تعتمد الحياة والعقل فإذا حدث الموت أو الجنون فقدت ما يتوقف عليه صحتها. 2 - الحجر للسفه؛ لانتفاء أهلية التصرف. 3 - عزل الموكل للوكيل ولو لم يعلم الوكيل عند الجمهور؛ لأنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضا صاحبه فصح بغير علمه، وعند الحنفية ورواية عند المالكية يجب أن يعلم الوكيل بالعزل فإن لم يعلم فلا تنفسخ الوكالة. 4 - عزل الوكيل نفسه عن الوكالة ولو لم يعلم الموكل، ويشترط الأحناف علم الموكل وحضوره؛ لئلا يترتب عليه ضرر. 5 - خروج الموكل فيه عن ملك الموكل بهلاك أو غيره. 6 - انتهاء الوكالة بتنفيذ العمل المقصود فيها (¬1). ¬

_ (¬1) البحر الرائق (7/ 188)، وبداية المجتهد (2/ 302)، ونهاية المحتاج (5/ 52)، وكشاف القناع (3/ 471).

باب الشركة

باب الشركة تعريف الشركة بالمعنى العام: في اللغة: الشَّرِكَةُ والشِّرْكَةُ سواء؛ وهي مخالطة الشركاء، والشريك: هو المشارك، وهو الداخل مع غيره في عمل أو أيِّ أمر كان، فيجمع شريك على أشراك وشركاء (¬1). تعريف الشركة في الاصطلاح: هي الاجتماع في استحقاق أو تصرف (¬2). وهذا تعريف جامع لأنواع الشركة بمعناها العام. فقوله: الاجتماع في استحقاق. يشمل جميع أنواع شركة الملك سواء كان الاستحقاق بالإرث أو الوصية أو الهبة أو الغنيمة أو الشراء ونحو ذلك، وقوله: أو تصرف يشمل جميع أنواع شركات العقد سواء أكانت مالية أم بدنية أم قائمة على التعامل بالجاه. أقسام الشركة بمعناها العام: تنقسم الشركة إلى ثلاثة أقسام: 1 - شركة الإباحة: كون العامة مشتركين في صلاحية التملك بالأخذ أو الإحراز للأشياء المباحة التي ليست في الأصل ملكًا لأحد (¬3). 2 - شركة الملك: وهي أن يتملك اثنان أو أكثر عينًا كان أو دينًا بسبب من أسباب التملك وذلك كالشراء والهبة وقبول الوصية (¬4). ¬

_ (¬1) معجم متن اللغة، أحمد رضا (3/ 1382). (¬2) المغني، لابن قدامة (5/ 3)، مكتبة الرياض الحديثة. (¬3) مجلة الأحكام العدلية م 1045. (¬4) حاشية رد المحتار على الدر المختار (4/ 299) الحلبي الطبعة الثانية.

الحكم الشرعي للشركة ودليله

3 - شركة العقد: وهي المعنى المقصود للشركة عند إطلاق كلام الفقهاء، وهي عبارة عن تعاقد اثنين أو أكثر على العمل للكسب بواسطة الأموال أو الأعمال أو الوجاهة؛ ليكون الغنم والغرم بينهما. الحكم الشرعي للشركة ودليله: الأصل في ثبوت الشركة الكتاب والسنة والإجماع والمعقول: فأما الكتاب: فقوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} (¬1)؛ وذلك لأن الوَرِقَ كان لجميعهم. وأما السنة: فقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة: منها حديث السائب بن أبي السائب أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "كنتَ شريكي في الجاهليةِ فكنتَ خيرَ شريكٍ؛ لا تداريني ولا تماريني" رواه أبو داود والنسائيُّ والحاكم وصححه (¬2). والحديث يدل على مشروعية الشركة، حيث فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما الإجماع: فهو ما نراه من اشتراك المسلمين في التجارات منذ القرون الأولى إلى يومنا هذا بدون إنكار من أحد؛ فيكون ذلك إجماعًا (¬3). وأما المعقول: فإن الناس محتاجون إلى التعامل بالشركة فأقر الإسلام مشروعيتها، وفي منعها حرج ومشقة على الناس، ولم يكتف الإسلام ببيان مشروعيتها، ولكنه ندب إليها ورغب فيها؛ لقوله تعالى: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الكهف: 19. (¬2) نيل الأوطار، للشوكاني (5/ 197). (¬3) فتح القدير، لابن الهمام (5/ 3)، الفواكه الدواني (2/ 171)، وتكملة المجموع (13/ 506)، والمغني، لابن قدامة (5/ 3). (¬4) سورة الجمعة: 10.

أركان الشركة

أركان الشركة: يرى الحنفية أن ركن الشركة واحد وهو الصيغة (الإيجاب والقبول)؛ لأنه هو الذي يتحقق به عقد الشركة. ويرى الجمهور أن عقد الشركة له أركان أربعة هي: الصيغة، والعاقدان، والمعقود عليه (محل العقد). الركن الأول: الصيغة: وهي التعبير الصادر من كل من المتعاقدين الدال على إرادة إنشائه، وتتكون من الإيجاب والقبول، وتنعقد الشركة بكل ما دل عليه مقصودها من قول أو فعل. الركن الثاني والثالث: العاقدان: وهما طرفا العقد اللذان لا يتم انعقاده إلا بهما، ولا بد أن يكون كل من العاقدين ممّن يتوفر فيه الأهلية لمباشرة العقد، وذلك بأن يكون كل منهما بالغًا عاقلًا رشيدًا غيرَ محجورٍ عليه. الركن الرابع: المحل: ويقصد به رأس مال الشركة، وقد يكون مالًا أو عملًا، ولا بد أن يكون رأس مال الشركة موجودًا، فلا يجوز أن يكون دينًا ولا مالًا غائبًا؛ لأنه لا يمكن التصرف فيه لتحصيل مقصود الشركة وهو الربح، حيث لا يؤمن أداء الدين وحضور المال الغائب عند الحاجة إليه (¬1). ¬

_ (¬1) بداع الصنائع، للكاساني (6/ 60)، والشرح الصغير، للدردير (3/ 14)، وروضة الطالبين للنووي (4/ 175)، المكتب الإسلامي، والمغني، لابن قدامة (5/ 17).

شروط الشركة

شروط الشركة: تنقسم شروط الشركة إلى نوعين: النوع الأول: شروط عامة لصحة عقد الشركة: ومنها شروط متفق على اعتبارها عند المذاهب الفقهية، ومنها شروط مختلف فيها عندهم. فالمتفق عليه من هذه الشروط: 1 - أهلية كل من العاقدين للتوكيل والتوكل، وذلك بأن يكون كل منهما حرًا بالغًا رشيدًا؛ إذ أن كل واحد من العاقدين يعتبر أصيلًا بالنسبة لحصته وهو وكيل في التصرف عن شريكه. وتجوز الشركة بين المسلم والكافر إذا لم يكن في قيامها أو عملها ما يخالف الشريعة الإسلامية. جاء ذلك في الفتوى (7707) من فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية. 2 - أن يكون رأس مال الشركة معلومًا. 3 - يشترط أن يكون رأس مال الشركة حاضرًا. 4 - معرفة مقدار الربح وأن يكون جزءًا شائعًا في الجملة كالنصف ونحوه. أما المختلف فيه من الشروط فهو: 1 - أن يكون رأس مال الشركة مثليًا، وذلك عند الشافعية، والمثلي ما يحصره كيل أو وزن، ويجوز فيه السلم كالنقديين، أما غيرهم من الفقهاء فلا يشترط ذلك بل يرى الحنفية والحنابلة في رواية أن رأس مال الشركة لا بد أن

يكون من الأثمان، ولا يجوز غيره من العروض ولو مثليًّا، ويرى المالكية والحنابلة في رواية أخرى أنه لا يشترط كون رأس المال مثليًّا، بل يجوز في غير المثليات أن تكون رأس مال للشركة كالعروض. 2 - يشترط الشافعية لصحة الشركة اختلاط المالين فيها، ويخالفهم الفقهاء فلا يرون اشتراط ذلك. 3 - يشترط المالكية والشافعية في قسمة الربح أن تكون مبنية على مقدار نصيب كل شريك في رأس مال الشركة، ويخالفهم الحنفية والحنابلة فيرون أن قسمة الربح يجوز أن تكون مبنية على اشتراط الشركاء. أما الشروط في الشركة فتنقسم إلى قسمين: صحيحة، وفاسدة: 1 - الشروط الصحيحة في الشركة: هي ما لا يترتب على اشتراطها ضرر على الشركاء ولا يتوقف عليها انعقاد العقد، مثل أن يشترط أن لا يتجر إلا في نوع معين من البضاعة أو في مكان معين كالرياض مثلًا، فمثل ذلك صحيح؛ لأنه لا يترتب على اشتراطها ضرر (¬1). 2 - الشروط الفاسدة: وهي ما يترتب على اشتراطها ضرر على الشركاء وهي على ثلاثة أقسام: أ- ما يعود بجهالة الربح: كاشتراط ربح إحدى السفرتين أو اشتراط مبلغ معين، فهذه شروط فاسدة تؤدي إلى فساد الشركة؛ لأنها تفضي إلى جهلِ حقِّ كلِّ واحدٍ منهما من الربح أو إلى فواته بالكلية فيفضي إلى التنازع والاختلاف. ب- ما ينافي مقتضى العقد: مثل أن يشترط لزوم الشركة أو أن لا يبيع إلا ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع، للكاساني (6/ 60)، والشرح الصغير، للدردير (3/ 14)، وروضة الطالبين، للنووي (4/ 175)، المكتب الإسلامي، والمغني، لابن قدامة (5/ 17).

حكم عقد الشركة

برأس المال، فهذه شروط فاسدة؛ لأنها تفوت المقصود من الشركة وهو الربح أو تمنع الفسخ الجائز بحكم الأصل. ج- اشتراط ما ليس من مصلحة العقد ولا مقتضاه: كأن يشترط الضمان إن تلف المال، أو أن تكون الخسارة أكثر من رأس المال ونحوها، فهذه شروط فاسدة إلا إنها لا تفسد عقد الشركة (¬1). حكم عقد الشركة: يرى عامة الفقهاء أن عقد الشركة عقد جائز غير لازم، وفي قول لابن يونس من المالكية أن الشركة تلزم بالعقد ولا رجوع لأحدهما فيها كعقد البيع. ومعنى كون عقد الشركة غير لازم أن لكل من الشركاء فسخَه متى شاء ولو بدون رضاء الآخر؛ وذلك لتضمن عقد الشركة توكيلَ كل شريك لصاحبه، والوكالة عقد غير لازم. ويرى الحنفية أنه لا بد من علم الشريك الآخر بالفسخ، فإن لم يعلم به فلا تنفسخ الشركة حتى يعلم؛ لأن في الفسخ من دون علم شريكه بذلك إضرارًا به والضرر ممنوع (¬2). ويصح توقيت عقد الشركة بوقت معين؛ لأن الشركة تصرف يتوقت بنوع من المتاع فجاز توقيته في الزمان كما أنه يتم بناء على رضا الشركاء. وعلى هذا فإن توقيت مدة الشركات سواء منها الواردة في الفقه الإسلامي أو المعاصرة -جائز ومشروع يجب الالتزام به-؛ بل هو ما تقتضيه ظروف العصر ولا ¬

_ (¬1) الشرح الكبير، لابن قدامة (5/ 126). (¬2) بدائع الصنائع، للكاساني (6/ 77)، والمغني، لابن قدامة (5/ 18)، وكفاية الطالب، الرباني لرسالة ابن أبي زيد القيرواني (2/ 162).

كتابة عقد الشركة

سيما الشركات الكبيرة التي ترتبط بأعمال كثيرة ومتشعبة قد تكون منتشرة حول العالم، وليس من السهل القول بإنهائها في أي وقت؛ لا يترتب عليه من ضرر على الشركاء وعلى المتعاملين مع الشركات بل وعلى الاقتصاد الوطني (¬1). والله أعلم. كتابة عقد الشركة: كتابة عقد الشركة مستحب؛ لما فيه من التوثيق والاحتياط وحسم المنازعات والشقاق بين الشركاء، وذلك اعتمادًا على الوازع الإيماني، وفي القوانين المعاصرة تم اعتبار كتابة عقد الشركة ركنا شكليًا، أما نظامُ الشركاتِ السعوديُّ فقد اعتبر الكتابة لازمة يترتب على عدم القيام بها عدم الاحتجاج بالشركة أمام الغير. وحيث إنه قد ضعف الوازع المديني وتفنن المحتالون في أساليبهم، فإن القول باعتبار كتابة عقد الشركة واجبًا، أمر مناسب لتحقق المصلحة والبعد عن المفسدة، غير أنه لا يكون ركنًا؛ إذ الركن جزء من الماهية وليست الكتابة جزءًا من الماهية بل هي أمر خارج عن ماهية العقد. الشخصية المعنوية للشركة: يقصد بالشخصية المعنوية أو الاعتبارية للشركة أن تعتبر الشركة شخصًا معنويًّا مستقلًّا عن أشخاص الشركاء وأن تكون لها ذمة مالية خاصة وأن تكون لها حياة قانونية؛ بمعنى: أن تكتسب حقوقًا وتلتزم بواجبات، ولم يظهر القول بذلك إلا في العصور المتأخرة؛ لحاجة الأعمال الاقتصادية والتجارية فهي من الأمور التي اقتضتها ظروفُ ومتطلباتُ العصرِ. وقد ذكر الفقهاء أن لبعض الجهات كالوقف والمسجد وبيت المال وغيرها حقوقًا، ووجدوا أن كثيرًا من أحكامها لا يستقيم إلا بإثبات ذمة منفصلة لها. ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة (5/ 69)، وحاشية ابن عابدين (4/ 311).

النتائج المترتبة على إثبات الشخصية المعنوية (الاعتبارية) للشركات

ويرى الشيخ علي الخفيف (¬1) أن الذمة وما فرع عليها من الأحكام إنما هي تشريع فقهي يراد منه ضبط الأحكام واتساقها، وهو في الواقع أمر اجتهادي يصح أن يتغير ويتطور حسبما تقتضيه المصلحة والعرف تبعًا لمقتضيات المعاملات وتطورها وتغير أحكامها وتنوعها، ولا مانع من إثبات الذمة لغير الإنسان الحي؛ لأنه لم يرد بالمنع كتاب ولا سنة فيجوز أن تتسع الذمة لتشمل الشركاتِ والمؤسسات والأموالَ العامَّة، ويكون الثابت لهذه الأشياء من الذمة دون ما يثبت للإنسان، وذلك يكفي للوفاء بالالتزامات المالية من ناحيتها السلبية والإيجابية وبعض الأمور العبادية كالتبرع من الأرباح للمشاريع الخيرية والفقراء وجمعيات البر، وذلك أسوة بالوقف والمسجد وبيت المال (¬2). النتائج المترتبة على إثبات الشخصية المعنوية (الاعتبارية) للشركات: يترتب على ذلك آثار منها: 1 - للشركة ذمة مالية مستقلة عن الذمة المالية للشركاء الذين يُكَوِّنونها، فيكون لدائني الشركة ضمان عام على جميع أموالها، وليس لدائني الشريك الشخصِيِّين استيفاء حقوقهم من حصته في رأس مال الشركة أثناء قيامها، ولا يتم إجراء التقاص بين ديون الشركة ودين على الشريك أو العكس؛ لاختلاف الذمة بينهما. 2 - يجب أن يوجد من يمثل الشركة عند التعامل والتقاضي مع الغير وهو مديرها الذي يعمل باسمها. 3 - يكون للشركة كِيَانٌ مستقل، وينبني على هذا أن يكون لها موطن مستقل ¬

_ (¬1) الشركات، على الخفيف (ص: 23). (¬2) الهداية شرح بداية المبتدي، للمرغيناني (3/ 14)، ومتن البهجة، لابن الوردي الشافعي (3/ 382)، وكشاف القناع، للبهوتي (4/ 254).

أنواع الشركة

واسم وعنوان وجنسية بحسب البلد الذي تكون فيه (¬1). أنواع الشركة: اختلف الفقهاء في القواعد التي ينبني عليها التقسيم، فاعتبر بعضهم المال هو القاعدة التي ينبني عليها التقسيم، وزاد بعضهم حيث اعتبر العمل والضمان أساسًا في التقسيم، فجاءت أنواع التقسيم متعددة تبعًا لذلك: 1 - الحنفية: سلك الحنفية في تقسيم الشركة مسلكين: أحدهما: أن الشركة تنقسم إلى أربعة أقسام هي: مفاوضة، وعنان، وشركة الصنائع، وشركة الوجوه. وبهذا يقول بعض الحنفية كابن الهمام وغيره. الثاني: أن الشركة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: 1 - شركة الأموال. 2 - شركة الأعمال. 3 - شركة الوجوه. وكل منها ينقسم إلى: مفاوضة، وعنان. فيكون الكلُّ ستَّةً، وبهذا يقول بعض الحنفية، ويقول أولئك: إن هذا التقسيم أَوْلى من سابقه؛ لأن السابق يوهم أن شركة الصنائع والوجوه مغايرتان للمفاوضة والعنان، وليس الأمر كذلك؛ فإن شركة الصنائع والوجوه كل منهما ينقسم إلى مفاوضة وعنان وهذا هو قول أبي جعفر الطحاوي والكرخي (¬2). وبهذا التقسيم يقول ابن جزي من المالكية (¬3). ¬

_ (¬1) الشركات، لإبراهيم عشماوي (ص: 10). (¬2) العناية شرح الهداية (5/ 5). (¬3) قوانين الأحكام الشرعية، لابن جزي (ص: 299).

2 - المالكية: ويذهب المالكية إلى أن الشركة تنقسم إلى سبعة أقسام هي: المفاوضة، والعنان وشركة العمل، وشركة الوجوه، وشركة الذمم، وشركة الجبر، وشركة المضاربة، وهي صحيحة عندهم ما عدا شركتي الوجوه والذمم (¬1). 3 - الشافعية: تنقسم الشركة عندهم إلى خمسة أقسام: منها اثنان جائزان وهما العنان، والمضاربة، وثلاثة باطلة وهي شركة الأبدان والمفاوضة والوجوه (¬2). 4 - الحنابلة: تنقسم الشركة عندهم إلى خمسة أقسام: المفاوضة، والعنان، والأبدان، والوجوه، والمضاربة (¬3). وهي جائزة عندهم إلا في النوع الثاني لشركة المفاوضة على أحد التفسيرين لها عندهم. وبدراسة هذه التقسيمات للشركة في المذاهب الفقهية ومقارنتها يتبين أن التقسيم الأفضل منها هو تقسيمها إلى أربعة أقسام هي: 1 - شركة الأموال: وهي التي تعتمد في إنشائها على مشاركة الشركاء في رأس المال. 2 - شركة الأعمال: (الأبدان) وهي التي تعتمد في إنشائها على الجهد البدني من حرفة وصنعة ونحوهما. 3 - شركة الوجوه: وهي التي تعتمد على ثقة الناس في المشاركين وليس لهم مال ولا صنعة، وكل من هذه الأقسام ينقسم إلى مفاوضة وعنان. 4 - شركة المضاربة: وهي التي تعتمد على الجهد المالي والبدني معًا. ¬

_ (¬1) بلغة السالك، للصاوي (2/ 153). (¬2) مغني المحتاج، للخطيب (2/ 212). (¬3) المغني، لابن قدامة (5/ 5).

القسم الأول: شركة الأموال

فهذا التقسيم يشمل جميع أنواع الشركات التي ذكرها الفقهاء في تقسيماتهم للشركة. القسم الأول: شركة الأموال: ويقصد بشركة الأموال اشتراك اثنين أو أكثر برأس مال معين للتجارة واقتسام ما ينتج عن ذلك من ربح أو خسارة. وتنقسم إلى نوعين: 1 - العِنانِ: تعريفها لغة: العَنَانُ في اللغة من: عَنَّ يَعِنُّ إذا ظهر أمامك، وذلك لظهور مال كل من الشريكين لصاحبه، أو لأنها أظهر أنواع الشركة، ومنه قول امرئ القيس: فَعَنَّ لنا سِرْبٌ كأنَّ نِعاجَهُ ... عَذَارى دُوَارٍ في مُلاءٍ مُذيل قال ابن منظور في اللسان: شركة العَنَانِ: شركة في شيء خاص دون سائر أموالهما كأنه عَنَّ لهما شيء فاشترياه واشتركا فيه، يقال: بينهما شركة عنان إذا اشتركا على السواء؛ لأن العنان طاقان مستويان فالشريكان مستويان في ولاية الفسخ والتصرف واستحقاق الربح كاستواء طرف العنان. قال الزهري: شركة العنان هي: أن يخرج كل واحد من الشريكين دنانير أو دراهم مثل ما يخرج صاحبه ويخلطاها ويأذن كل واحد لصاحبه أن يَتَّجِرَ فيه (¬1). واصطلاحًا: يختلف تعريف العنان في المذاهب الفقهية ولكن التعريف المناسب في رأينا: ¬

_ (¬1) لسان العرب، لابن منظور (13/ 292)، وتاج العروس شرح القاموس، محمَّد الزبيدي (9/ 281).

حكم شركة العنان

العنان: هي عقد يلتزم بمقتضاه شخصان أو أكثر بأن يساهم كل منهم بدفع حصة معينة في رأس مال يتجرون به ويقتسمون ما ينتج عنه من أرباح. حكم شركة العنان: اتفق الفقهاء على مشروعية شركة العنان وجوازها، وقد كانت هذه الشركة هي المعهودة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد عملها النبي - صلى الله عليه وسلم - مع السائب بن أبي السائب ودخل فيها البراء بن عازب وزيد بن أرقم فأقرهما الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليها، ولم يزل المسلمون من الصدر الأول إلى يومنا هذا يتعاملون بهذه الشركة (¬1). 2 - شركة المفاوضة: تعريفها لغة: المفاوضة مشتقة من التفويض يقال فوض الأمر إليه تفويضًا، رده إليه وجعله الحاكم فيه، ومنه قوله تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} (¬2)، والمفاوضة مفاعلة، وتسمية هذه الشركة بالمفاوضة؛ لأن كل واحد من الشريكين يفوض أمر التصرف في مال الشركة إلى الآخر. واصطلاحًا: يختلف تعريف المفاوضة بين المذاهب الفقهية الإسلامية على النحو التالي: 1 - يعرف الحنفية المفاوضة بأنها: هي أن يشترك الرجلان فيتساويان في مالهما وتصرفهما ودينهما؛ لأنها شركة عامة في جميع التجارات يفوض كل واحد فيها أمر الشركة إلى صاحبه على الإطلاق (¬3). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع، للكاساني (6/ 58)، وبداية المجتهد (2/ 251)، وإعانة الطالبين، للسيد البكري (6/ 58). (¬2) سورة غافر: 44. (¬3) شرح فتح القدير (5/ 5).

حكم شركة المفاوضة

2 - المالكية: يذهب المالكية في تفسير شركة المفاوضة إلى أنها هي: أن يطلق كل واحد منهما التصرف لصاحبه في المال الذي اشتركا فيه في الغيبة والحضور والبيع والشراء والكراء والاكتراء، سواء كان الإطلاق في جميع الأنواع أو في نوع خاص، ولذلك سميت مفاوضة (¬1). 3 - وفي تعريف للشافعية والحنابلة في أحد تفسيرين للمفاوضة: أنها الاشتراك فيما يحصل لكل واحد منهما من كسب وعليهما ما يعرض من غرم سواء أكان بغصب أو إتلاف أو بيع فاسد وغير ذلك (¬2). 4 - وفي تعريف عند الحنابلة للمفاوضة أنها: تفويض كل شريك إلى صاحبه شراءً وبيعًا في الذمة ومضاربة وتوكيلًا وضمان ما يرى من الأعمال (¬3). حكم شركة المفاوضة: اختلف الفقهاء في حكم شركة المفاوضة تبعًا لاختلافهم في تعريفها: فمن عرفها بتعريف لا يتضمن شيئًا من أنواع الغرر قال بجوازها ومشروعيتها، ومن ذكر في تعريفها أنها تتناول أنواعًا من الغرر حكم بمنعها وحرمتها. 1 - فالحنفية يرون أن شركة المفاوضة جائزة؛ لآثار أوردوها ولأنها اشتملت على أمرين جائزين وهما الوكالة والكفالة وكل منهما جائزة حال الانفراد، فتجوزان مجتمعتين والجهالة متحملة تبعًا. ويرى الجمهور أن شركة المفاوضة على التعريف الذي أورده الحنفية غير جائزة؛ لأدلة ذكروها. ¬

_ (¬1) كفاية الطالب الرباني لرسالة أبي زيد القيرواني (2/ 162). (¬2) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، للرملي (4/ 3). (¬3) المغني، لابن قدامة (5/ 29).

شروط شركة المفاوضة

والذي يظهر -والله أعلم- جواز شركة المفاوضة على ما ذكره الحنفية؛ لتعامل الناس بها منذ القدم من غير نكير، وهي وعلى القول بجوازها على الصفة المذكورة فإن وجودها لا يقع إلا نادرًا؛ إذ الناس -غالبًا- ما يحصل لأحدهم أموال أخرى غير رأس مال الشركة، وبذلك فإنها تزول الشركة، أما ما ذكره المانعون للمفاوضة من كونها تشتمل على الاشتراك فيما يكتسبون من لقطة أو ركاز وفيما يلزم كل واحد منهما من أرش جناية وغيرها مما يكون فيه غرر كثير ولذلك يقولون بمنعها- فإن الحنفية لم يرد في تعريفهم للمفاوضة ذكر شيء من أنواع الغرر ولذلك قالوا بجوازها (¬1). 2 - يرى المالكية والحنابلة: جواز المفاوضة على ما أوردوه من تفسير لها؛ إذ ليس فيه غرر كثير يمنع القول بجوازها (¬2). ومن ذلك يتبين أن اختلافهم مبنيٌّ على اختلافهم في تفسير المفاوضة، وهو ليس اختلافًا في حكم لحقيقة واحدة وإنما في حكم لحقيقتين مختلفتين. شروط شركة المفاوضة: يشترِط لها الحنفية -علاوة على الشروط العامة للشركة- ما يأتي: 1 - أن يكون كل من الشركاء متمتعًا بأهلية الكفالة. 2 - المساواة في رأس المال قدرًا. 3 - ألا يكون لأحد الشركاء مال خارج عن مال الشركة. ¬

_ (¬1) شركات الأشخاص بين الشريعة والقانون، د. محمَّد إبراهيم الموسى (ص: 160)، دار العاصمة للنشر. (¬2) بدائع الصنائع (6/ 58)، وتكملة المجموع (13/ 517)، والمغني (5/ 3).

1 - شركة الأعمال (الأبدان)

4 - أن تكون الشركة في عموم التجارات. 5 - أن تكون بلفظ المفاوضة أو ما يقوم مقامها من عبارة تدل على المقصود. وإذا فقد شرط من شروط المفاوضة فإنها تنقلب إلى عنان؛ لأن المفاوضة تضمنت العنان وزيادة. ولا يشترط غيرهم من الفقهاء شروطًا تخص المفاوضة. 1 - شركة الأعمال (الأبدان): تعريفها لغة: يقال: عمل عملًا بمعنى فعل فعلًا عن قصد. والعمل المهنة والفعل، جمعه أعمال، والعامل من يعمل مهنة أو صنعة (¬1). واصطلاحًا: هو أن يشترك اثنان أو أكثر فيما يكتسبونه بأبدانهم، كالصناع يشتركون على أن يعملوا في صناعتهم أو يشتركوا فيما يكتسبونه من المباح كالاصطياد (¬2). أنواع شركة الأعمال: تنقسم شركة الأعمال إلى قسمين: مفاوضة، وعنان، فتكون مفاوضة إذا كانت مستوفية لشرائط المفاوضة، وتكون عنانًا إذا لم تكن مستوفية لتلك الشروط. حكم شركة الأعمال: تنقسم شركة الأعمال إلى قسمين، وحكم الشركة هنا يختلف تبعًا لاختلاف أقسامها عند الفقهاء، وإليك بيان ذلك: ¬

_ (¬1) المعجم الوسيط (2/ 628). (¬2) المغني، لابن قدامة (5/ 50).

2 - شركة الوجوه

1 - القسم الأول: أن يشتركا فيما يتقبلان بأبدانهما في ذممهما من العمل كالحدادة والخياطة ونحوها، وهذا النوع يقول الجمهور من الفقهاء الحنفية والمالكية والحنابلة بجوازه، إلا أن المالكية يشترطون لذلك اتحاد الصنعة والمكان (¬1). 2 - القسم الثاني: أن يشتركا فيما يكتسبانه بأبدانهما من مباح كالاحتطاب والاحتشاش ونحوهما. وهذا النوع يقول المالكية والحنابلة بجوازه (¬2). ويرى الشافعية والظاهرية أن شركة الأبدان بقسميها غير جائزة (¬3). الأدلة: كل من المجيزين والمانعين استدل بأدلة تؤيد ما ذهب إليه. والراجح: هو القول بجواز شركة الأعمال بقسميها، سواء أكانت بتقبل الأعمال أم بالاشتراك باكتساب المباحات، لقوة أدلة المجيزين وضعف أدلة المانعين، وفي ذلك منافع كثيرة للفرد والمجتمع؛ حيث يحصل التعاون والتكاتف مما يؤدي إلى ازدهار الاقتصاد، وهناك بعض الناس قد يتقن مهنة ما ولكنه لا يملك الجرأة التي تحمله على تقبل الأعمال بمفرده؛ لأنه يخاف المسؤولية، وباشتراك آخر معه تقوى عزيمته لتقبل الأعمال ومزاولتها وغير ذلك من المنافع الكثيرة. 2 - شركة الوجوه: تعريفها لغة: يقال: وَجُهَ فلان وجاهة صار ذا قدر ورتبة، ورجل وجيه ذو وجاهة (¬4). قال تعالى: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} (¬5). ¬

_ (¬1) تبيين الحقائق، للزيلعي (3/ 320)، وجواهر الإكليل (2/ 120)، ومجموع فتاوى ابن تيمية (30/ 73). (¬2) المدونة للإمام مالك (12/ 49)، والمغني لابن قدامة (5/ 5). (¬3) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع (2/ 41)، والمحلى، لابن حزم (8/ 542)، وشرائع الإسلام (1/ 214). (¬4) لسان العرب (13/ 558). (¬5) سورة الأحزاب: 69.

أقسام شركة الوجوه

واصطلاحًا: أن يشترك اثنان فيما يشتريان بجاههما وثقة التجار بهما من غير أن يكون لهما رأس مال على أن ما اشتريا بينهما ويبيعان والربح بينهما (¬1). أقسام شركة الوجوه: تنقسم إلى قسمين: مفاوضة، وعنان: فتكون مفاوضة إذا تحقق فيها الشروط الأربعة للمفاوضة بكون الشريكين من أهل الكفالة وكذلك بقية الشروط، وتكون عنانًا إذا لم تتحقق فيها شروط المفاوضة (¬2). حكم شركة الوجوه: يرى الحنفية والحنابلة أن شركة الوجوه جائزة ومشروعة؛ لأنها تشتمل على الوكالة والكفالة، وكل منها جائز، فلذلك تجوز الشركة بالوجوه كما أنها تشتمل على مصلحة من غير مفسدة، ويرى المالكية والشافعية أن شركة الوجوه غير مشروعة بل باطلة؛ لأنها لا تقوم على المال أو العمل ولأنها تشتمل على الغرر. والراجح: هو القول بجواز شركة الوجوه وهي تقوم على البيع والشراء وهو عمل وذلك إلى جانب الوجاهة كما أنه ليس فيها غرر، وجهالة الكسب لا تمنع الصحة؛ لأن الكسب في كل أنواع الشركات مجهول، ولم يمنع صحتها؛ لأن العبرة إنما هي معرفة مقدار النصيب من الربح، وما زال الناس يتعاملون بهذا النوع من الشركات، وفي التعامل بهذا النوع من الشركات مصالح كثيرة للفرد والجماعة، والإسلام يحرص على مراعاة المصالح. ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة (5/ 15). (¬2) بدائع الصنائع (6/ 65)، وكشاف القناع (3/ 531).

شركة المضاربة أو القراض

شركة المضاربة أو القراض: تعريفها لغة: لهذه الشركة في اللغة إطلاقان: 1 - يطلق عليها أهل الحجاز لفظ القراض، من القرض؛ وهو القطع، يقال: قرض قرضًا أي: قطعه، وذلك لأن المالك قطع للعامل قطعة من ماله وأعطاها له مقارضة ليتجر فيها (¬1). 2 - ويطلق عليها أهل العراق المضاربة، فهي من ضرب ضربًا ومضربا أي: سار في الأرض وخرج تاجرًا أو غازيًا (¬2)، قال تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (¬3)، والمعنى متحد وإن اختلف الإطلاق اللغوي. واصطلاحًا: هي عقد على الشركة بين اثنين أو أكثر يقدم أحدهما مالًا والآخر عملًا ويكون الربح بينهما حسب الاتفاق. وهذا التعريف جامع ومشتمل على مقومات المضاربة وما أورده الفقهاء في تعريفاتهم لها، إذ أن بعض التعريفات بمفردها ذكرت جوانب دون أخرى ولكن بالنظر في مجموعها يكون هذا التعريف وافيًا شافيًا (¬4). حكم شركة المضاربة أو القراض: أجمع الفقهاء على القول بجواز شركة المضاربة، وقد نقل الإجماعَ كثيرٌ من الفقهاء، ومستندهم في ذلك آيات كثيرة من القرآن الكريم وأحاديث من السنة ¬

_ (¬1) معجم متن اللغة، لأحمد رضا (3/ 539). (¬2) معجم مقاييس اللغة، لأحمد فارس (5/ 72). (¬3) سورة المزمل: 20. (¬4) تكملة فتح القدير (7/ 75)، وقواعد الأحكام، لابن جزى (ص: 309)، ونهاية المحتاج، للرملي (4/ 161)، والكافي في فقه أحمد (2/ 277).

أقسام المضاربة

النبوية وحاجة الناس إلى التعامل بها، وليس كل من ملك المال يتمتع بأهلية التصرف ويحسن استغلاله وتنميته (¬1)، وليس كل من استطاع تنمية المال وقدر على العمل يملك المال، ووجود هذا النوع من الشركات يحقق المصلحة للطرفين. ويرى الجمهور من الفقهاء أن المضاربة قد شرعت على خلاف القياس؛ لأن القياس يقتضي عدم جواز الاستئجار بأجر مجهول أو بأجر معدوم ولعمل مجهول، وقد تُرِكَ القياس للكتاب والسنة والإجماع، ويذهب بعض الفقهاء، وهو رأي ابن تيمية وابن القيم، إلى أن المضاربة قد شرعت على مقتضى القياس لأن المضاربة من جنس المشاركات لا المعاوضات، وهو الراجح -إن شاء الله-؛ لاشتراك رب المال والعامل بما ينتج عنها من ربح وخسران، كما أن المطلوب في المضاربة هو المال وليس عمل العامل، وبذلك تفترق المضاربة عن الإجارة (¬2). أقسام المضاربة: تنقسم المضاربة إلى قسمين: 1 - المضاربة المطلقة: وهي التي يدفع فيها المالك المال مضاربة إلى العامل من غير تقييد العمل والمكان والزمان ومن يتعامل المضارب معه، وهذا النوع يخول للمضارب التصرف بما يراه محققًا للمصلحة وبما يتناوله عرف التجار. 2 - المضاربة المقيدة: وهي التي يدفع المالك المال فيها إلى العامل مضاربة ويعين له العمل والمكان أو الزمان أو من يتعامل معه المضارب. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع، للكاساني (4/ 161)، وبداية المجتهد (2/ 236)، وتكملة المجموع، للمطيعى (14/ 189)، والمغني (5/ 26). (¬2) مواهب الجليل، للحطاب (5/ 356)، وبدائع الصنائع (6/ 79)، ومجمع فتاوى ابن تيمية (29/ 100)، وإعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 435).

أنواع الشركات المعاصرة

والفقهاء يختلفون في هذه القيود وما يجب الالتزام به منها وذلك مبني على اجتهادهم، فمن رأى أن القيد مفيد قال باعتباره، ومن رأى أنه غير مفيد وإنما فيه تضييق على العامل قد ينتج عنه عدم حصول الربح المطلوب، قال بعدم جوازه وصحته (¬1). والرأي في ذلك: أن تلك القيود مفيدة وليس في القول بها مخالفة لدليل شرعي وإنما هو الرأي والاجتهاد، وهي إنما تكون عن رضًا من الشريكين، فيلزم الوفاء بها؛ لحديث: "المسلمون عندَ شروطِهم" (¬2)، ولهذا يجب على المضارب التزام ما شرطه المالك وعدم مخالفته. أنواع الشركات المعاصرة: تنقسم الشركات من حيث الغرض من إنشائها إلى نوعين هما: 1 - الشركات المدنية: وهي الشركات التي تقوم بأعمال مدنية، مثل الشركات التي تقوم بأعمال المناجم أو التي تقوم بشراء الأراضي وبيعها؛ لتحقيق أغراض تعود بالربح على الشركاء ولا تكتسب صفة التاجر ولا تخضع لأحكام القانون التجاري وإنما تطبق عليها القواعد التي تطبق على الأفراد العاديين. 2 - الشركات التجارية: وهي الشركات التي تقوم بأعمال تجارية وتكتسب صفة التاجر وتخضع لكافة الواجبات المفروضة على التجار كما تطبق عليها أحكام القانون التجاري، وهي أهم من الشركات المدنية؛ لأنها تقوم بدور ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (6/ 87)، وكشاف القناع (3/ 501)، ومغني المحتاج، للشربيني (2/ 311)، والشرح الكبير، للدردير (3/ 521). (¬2) أخرجه البخاريُّ، في باب الإجارة (3/ 114)، مكتبة الجمهورية.

أنواع الشركات التجارية

أكبر في مجال الأعمال التجارية ولها دور أساسي في الحياة الاقتصادية (¬1). أنواع الشركات التجارية: تنقسم الشركات التجارية إلى ثلاثة أقسام هي: 1 - شركات الأشخاص: وهي الشركات التي تقوم على الاعتبار الشخصي بين الشركاء والثقة المتبادلة بينهم، وهي تقوم بين شخصين أو أكثر تجمعهم رابطة الصداقة، وتقوم شركات الأشخاص عادة لاستغلال المشاريع المتوسطة والصغيرة. 2 - شركات الأموال: وهي التي تقوم على المال وتعتمد عليه اعتمادًا كليًا ولا تتأثر بالاعتبارات الشخصية (¬2). 3 - الشركات العامة: وهي شركات يشترك فيها رأس المال العام مع رأس المال الخاص؛ لرعاية الصالح العام والجهة الفردية معًا، أو تنفرد الدولة أو إحدى المؤسسات العامة بتملك جميع أسهمها (¬3). أنواع شركات الأشخاص: شركات الأشخاص ثلاثة أنواع: 1 - شركة التضامن: وهي الشركة التي يعقدها اثنان أو أكثر بقصد الاتجار على وجه الشركة بينهم بعنوان مخصوص يكون اسمًا لها ويكون كل من الشركاء فيها مسؤولًا مسؤولية مطلقة عن سداد ديون الشركة. ¬

_ (¬1) الوجيز في النظام التجاري السعودي، د. سعيد يحيى (ص: 133). (¬2) الشركات التجارية، د. مرتضى نصر الله (ص: 52). (¬3) الوجيز في القانون التجاري، د. مصطفى طه (1/ 437).

أنواع شركات الأموال

2 - شركة التوصية البسيطة: وهي التي تُعْقَدُ بين فريقين من الشركاء، شريك أو أكثر متضامنين مسؤولين عن إدارة الشركة وعن ديونها وتعهداتها للغير، وشريك أو أكثر موصين ومسؤوليتهم عن ديون الشركة مسؤولية محدودة بقدر حصصهم في رأس مال الشركة. 3 - شركة المحاصة: وهي شركة تقوم على الشركاء وحدهم ولا وجود لها بالنسبة للآخرين وليس لها شخصية معنوية ويمكن إثباتها بكافة طرق الإثبات (¬1). أنواع شركات الأموال: 1 - المساهمة: وهي الشركة التي يقسم رأس مالها إلى أقسام متساوية قابلة للتداول تسمى أسهمًا، ومسؤولية المساهمين في سداد ديون الشركة لا تتعدى القيمة الإسمية للأسهم. 2 - شركة التوصية بالأسهم: ويقسم رأس المال إلى أسهم وتضم فريقين من الشركاء هما: شركاء متضامنون وهم مسؤولون عن جميع التزامات الشركة، وشركاء موصون ومسؤوليتهم عن التزامات الشركة تكون في حدود القيمة الإسمية التي اكتتبوا فيها. 3 - الشركة ذات المسؤولية المحدودة: وهي شركة لا يزيد عدد الشركاء فيها عن خمسين شريكًا ومسؤولية الشريك فيها محدودة بقدر حصته (¬2). أنواع الشركات العامة: 1 - شركة الاقتصاد المختلط: وهي شركة تجارية تؤسس-غالبًا- على ¬

_ (¬1) محاسبة شركات الأشخاص، محمَّد زهدي (ص: 15). (¬2) الشركات التجارية، د. مرتضى نصر الله (ص: 52).

مميزات شركات الأشخاص

شكل شركة مساهمة، وتخضع في معظم قواعدها للنصوص المتعلقة بشركة المساهمة، ويكون رأس مالها وإدارتها مشتركًا بين الأفراد والمؤسسات العامة. 2 - شركة المساهمة العامة: وهي الشركة التي تمتلكها الدولة أو إحدى المؤسسات العامة، وهي شركة نشأت نتيجة للتأميم الذي جرى في بعض الدول العربية (¬1). وقد زاد النظام السعودي للشركات على ذلك الشركة التعاونية والشركة ذاتَ رأس المال القابل للتغيير. مميزات شركات الأشخاص: تتميز شركات الأشخاص عن شركات الأموال بأن الشركاء يختار بعضهم بعضًا بسبب شعور كل واحد منهم نحو الآخر بالثقة في معرفته التجارية ومقدرته المالية وأمانته، وتكون العلاقة فيما بين الشركاء قوية جدًا، ويترتب على ذلك الاعتبارات الآتية: 1 - لا يجوز لأحد الشركاء أن يتنازل عن حصته في الشركة للغير دون رضا بقية الشركاء؛ لأنه يؤدي إلى دخول شخص غريب عن بقية الشركاء. 2 - تنحل الشركة بموت أحد الشركاء أو الحجر عليه أو إشهار إفلاسه الذي لا يؤدي إلى إفلاس الشركة ما لم ينص في عقد الشركة على غير ذلك. 3 - مسؤولية الشريك في الغالب غير محدودة، فالشركاء المتضامنون في شركة التضامن أو شركة التوصية يعتبرون مسؤولين بالتضامن عن ديون الشركة (¬2). ¬

_ (¬1) الشركات في الشريعة الإسلامية والقانون، د. عبد العزيز الخياط (ص: 120). (¬2) الشركات، محمَّد كامل ملش (ص: 88).

الحكم الشرعي للشركات المعاصرة

الحكم الشرعي للشركات المعاصرة: إن الشركات المعاصرة سواء ما كان منها من شركات الأشخاص أو الأموال أو المختلطة، لا تخرج في قواعدها وأسسها عن القواعد الشرعية للشركات الواردة في الفقه الإسلامي، ولذلك نقول بجوازها ومشروعيتها؛ لما يأتي: 1 - أن الأصل في العقود الإباحة والجواز؛ لأن الله تعالى قد أمر بالوفاء بالعقود؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬1). 2 - أن السنة قد جاءت بالالتزام بالشروط التي يُتَّفَقُ عليها ولا تخالفُ الشريعةَ الإِسلاميةَ، قال - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمون عندَ شروطِهم ما وافق الحقَّ من ذلك" (¬2). 3 - أن يتم استبعاد ما خالف الشريعة الإسلامية من شروط وأمور ممنوعة كاشتراط فائدة ثابتة لأيٍّ من الشركاء أو توزيع الخسائر بمقتضى اتفاق الشركاء دون اعتبار لمقدار نصيبِ كلِّ شريكٍ في رأس المال، أو كانت الشركة قد أنشئت للتعامل فيما حرم الإسلام من بيع أو شراء أو استيراد أو غير ذلك؛ لتكون الشركة موافقة للقواعد والأسس الشرعية. وما يتم من أمور تنظيمية أو إدارية أو غيرها فلا مانع منه؛ لعدم مخالفته للنصوص والقواعد الشرعية. وقد أصدر مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذي القعدة 1412 هـ - قراره رقم 63 يتناول الإسهام في الشركات وما يتبعه من جوانب تتعلق بالسهم. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 1. (¬2) ذكره الحاكم في المستدرك، والسيوطي في الجامع الصغير قال الألباني: "حديث صحيح"، صحيح الجامع الصغير (6/ 19).

أسباب انقضاء الشركة وانتهائها

وكذلك أصدر المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الرابعة عشرة المنعقدة في مكة المكرمة عام 1415 هـ، قراره في حكم الإسهام في تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مباحة، وأن ذلك جائز شرعًا؛ لأن الأصل في المعاملات الحِلُّ والإباحةُ. أسباب انقضاء الشركة وانتهائها: ذكر الفقهاء أسبابًا لانقضاء الشركة: منها موت أحد الشركاء، أو جنونه، أو الحجر عليه لسفه أو فلس، أو انسحاب أحد الشركاء من الشركة غير المؤقتة بمدة، وكذلك عزل أحد الشركاء من الشركة. وقد ذُكِرَتْ أسباب أخرى لانقضاء الشركات المعاصرة وهي: 1 - انقضاء المدة المحددة للشركة. 2 - انتهاء العمل الذي قامت من أجله أو استحالة تنفيذه. 3 - هلاك مال الشركة. 4 - الاتفاق على إنهاء الشركة قبل انقضاء مدتها. 5 - اجتماع الحصص في يد شريك واحد. 6 - اندماج الشركة في شركة أخرى. 7 - التأميم (¬1). وليس هناك ما يمنع من اعتبار هذه الأسباب أسبابًا لانقضاء الشركة، شريطة ألا يكون في ذلك ظلم وأن يكون تطبيقه مبنيًا على الحق والعدل. ¬

_ (¬1) التأميم: هو نقل ملكية الشركة من نطاق الملكية الخاصة إلى الملكية العامة؛ لاستخدامه للمصلحة العامة لا الخاصة. الشركات، محمَّد كامل ملش (ص: 699).

فإذا انتهت الشركة بأي سبب من الأسباب المشار إليها فإنه يتم تصفيتها وقسمة موجوداتها، ويقوم بالتصفية من يتفق الشركاء على تعيينه وتحديد سلطاته، فإن لم يتفق الشركاء على ذلك تولى القاضي تعيينه بناءً على طلب أحدهم، وعلى المصفي أن يستوفي ما للشركة من حقوق وأن يفي بما عليها من ديون وأن ينجز الأعمال الجارية التي بدأت فيها الشركة وله أن يبيع كل موجودات الشركة منقولًا أو عقارًا، ويلتزم المصفي بتقديم حساب عن أعماله إلى الشركاء وبيان الأموال المتبقية ثم تقسم أموال الشركة بين الشركاء كلٌّ حسب حصته فيها، فإذا لم تكف أموال الشركة للوفاء بحصص الشركاء فإن الخسارة توزع عليهم جميعًا بحسب مقدار نصيب كل منهم في رأس المال.

باب المساقاة والمزارعة

باب المساقاة والمزارعة تعريفها: المساقاة لغة: هي مأخوذة من السقي -بفتح السين وسكون القاف- المحتاج إليه فيها -غالبًا- وتسمى المعاملة. واصطلاحًا: هي معاملة على تعهد شجر بجزء من ثمرته (¬1). والمزارعة لغة: مشتقة من الزرع، وتسمى مخابرة من الخَبار بفتح الخاء؛ وهي الأرض اللينة. واصطلاحًا: دفع الأرض إلى من يزرعها ويعمل عليها والزرع بينهما (¬2). أركانها أربعة: 1 و 2 - العاقدان: وهما رب العمل والعامل (المساقي والمزارع). 3 - المحل: وهو ما يتفق على المساقاة والمزارعة فيه من شجر وزرع ونصيب كل منهما فيه. 4 - الصيغة: وتنعقد بكل لفظ يؤدي المعنى المقصود (¬3). حكم المساقاة والمزارعة ودليلهما: المساقاة والمزارعة مشروعتان، وهما نوع من التعاون بين العامل وصاحب الأرض، لأنه قد يكون المالك غير مستطيعٍ العملَ بنفسه؛ إما لعجزٍ أو لسعة ¬

_ (¬1) نهاية المحتاج، للرملي (5/ 244). (¬2) كشاف القناع، للبهوتي (3/ 532)، والمغني، لابن قدامة (7/ 555). (¬3) روضة الطالبين، للنووي (ص: 869).

دليل المشروعية

الأرض أو كثرة زراعته، ويكون العامل مستطيعًا للعمل بجهده وخبرته، فكل منهما يكمل الآخر، فشرع الإِسلام ذلك؛ لما يعود بالنفع عليهما وعلى المجتمع. دليل المشروعية: شرعت المساقاة والمزارعة بالسنة حيث وردت فيهما أحاديث صحيحة؛ فمن ذلك ما روى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "عامل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أهلَ خيبرَ بشطرِ ما يَخْرُجُ منها من ثَمَرٍ أو زَرْعٍ" حديث صحيح (¬1). وقد نقل صاحب المغني قول أبي جعفر محمَّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم -: عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر بالشطر ثم أبو بكر وعمر وعثمان وعليٌ ثم أهلوهم إلى اليوم يعطون الثلث أو الربع، واشتهر ذلك فلم ينكره منكر فكان إجماعًا، وبه يقول عليٌّ وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وأحمدُ بن حنبل وأبو يوسف ومحمَّد بن الحسن وغيرهم. وخالف في ذلك كله أبو حنيفة فمنع المساقاة والمزارعة لأدلة أوردها، ويرى مالك مشروعية المساقاة؛ للأحاديث الواردة فيها، وكذلك المزارعة إذا كانت الأرض تبعًا الثمر وكان الثمر أكثر بحيث يكون الزرع ثلث الثمر فأقل. ويرى الشافعي مشروعية المساقاة؛ لحديث معاملة أهل خيبر، وعدم جواز المزارعة؛ للنهي عنها في حديث رافع بن خديج، وأجازها بعض كبار الشافعية "ابن خزيمة وابن المنذر والخطابي وقال: فالمزارعة جائزة وهي عمل المسلمين في جميع الأمصار لا يُبْطِلُ العملَ بها أحدٌ" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (3/ 137)، ومسلمٌ (3/ 1186). (¬2) بدائع الصنائع، للكاساني (8/ 3808)، وبداية المجتهد، لابن رشد (2/ 246)، وروضة الطالبين، للنووي (ص: 674)، والمغني، لابن قدامة (7/ 527).

حكم عقد المساقاة والمزارعة

والراجح: مشروعية المساقاة والمزارعة؛ للأحاديث الصحيحة الواردة فيهما سواء أكانتا مجتمعتين أم كان الاتفاق على واحدة منهما منفردة، وأما حديث رافع ابن خديج -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها، فقد رده زيد بن ثابت -رضي الله عنه- وأخبر أن النهي كان لفض النزاع، وكذلك رده ابن عباس -رضي الله عنهما- فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحرم المزارعة ولكن أمر أن يرفق الناس بعضهم ببعض بقوله: "مَنْ كانتْ له أرضٌ فليزرعْها أو ليمنحْها أخاه"، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: المقصود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المشاركة التي هي كراء الأرض بالمعنى العام؛ إذا اشترط رب الأرض فيها زرعَ مكانٍ بعينه، وقد حث الإِسلام على المساقاة والمزارعة؛ جاء في حديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِنْ مسلمٍ يَغْرِسُ غرسًا أو يزرعُ زرعًا فيأكلُ منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ إلا كان له به صدقةٌ". قال القرطبي: الزراعة من فروض الكفاية، فيجب على الإمام أن يجبر الناس عليها وما كان في معناها من غرس الأشجار (¬1). حكم عقد المساقاة والمزارعة: يرى أكثر الفقهاء من المالكية والشافعية وبعض أصحاب أحمد وغيرهم، أن عقد المساقاة والمزارعة عقد لازم؛ لأنه عقد معاوضة، ويرى بعض الفقهاء ومنهم الإمام أحمد وهو قول الشافعية، أن العقد فيهما جائز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضرب لأهل خيبر مدة ولا خلفاؤه من بعده، ولأنها عقد على جزء من نماء المال فكانت جائزة كالمضاربة، ورتبوا على فسخها قبل انتهاء المتفق عليه أحكامًا؛ فإذا انفسخت بعد ظهور الثمر فهو بينهما وإن فسخ العامل قبل ظهورها فلا شيء له، وإن فسخ رب المال فعليه للعامل أجرة عمله (¬2)، ولذلك فإن النتيجة واحدة تقريبا؛ لأن الهدف من ¬

_ (¬1) فقه السنة، للسيد سابق (3/ 300). (¬2) بداية المجتهد (2/ 250)، وروضة الطالبين (ص: 870)، والمبدع في شرح المقنع (5/ 49).

خلاف المالك والعامل في نصيب العامل وفي الهلاك

القول بلزومها هو إبعاد الضرر عنهما، والذي يقول بجوازها يرى جواز توقيتها بمدة محددة، فالقول بلزومها أولى، ولأن ذلك قد تحقق برغبتهما ورضاهما. وعن طريق تحديد المدة يتحقق الهدف من عقد المساقاة والمزارعة. والله أعلم. خلاف المالك والعامل في نصيب العامل وفي الهلاك: إذا اختلفا في نصيب العامل فالقول للعامل عند مالك إذا ادَّعى ما يناسب؛ لأنه أقوى سببًا، وقال الشافعي: يتحالفان، وقال الحنابلة: القول قول رب العمل؛ لأنه منكر، ولحديث: "البينةُ على المدَّعِي واليمينُ على المدَّعَى عليه" (¬1). وإذا ادعى العامل الهلاك فالقول قوله؛ لأنه أمين، فهو كالمضارب، فإن اتُّهِمَ حلف، وإن ثبتت خيانته ضُمَّ إليه من يشرف عليه، فإن لم يمكن حفظه استؤجر من يعمل عمله. وبهذا قال الشافعي، وقال أصحاب مالك: لا يقام غيره مقامه بل يحفظ عنه. شروط المساقاة والمزارعة: 1 - أن يكون محل الاتفاق من سقاية وزراعة معلومًا بالرؤية أو بالصفة التي لا يختلف معها؛ لأنه لا يصح العقد على مجهول. 2 - أن يكون للعامل جزء مشاع معلوم من الثمر كالنصف والثلث؛ فلو شرط لأحدهما أرضًا معينة بطلت. ما تجوز فيه المساقاة: تجوز المساقاة في جميع الشجر المثمر. وهذا هو قول الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم - وبه قال سعيد بن المسيب ومالك وأحمدُ وأبو يوسف ومحمَّد وغيرهم؛ لأنه شجر ¬

_ (¬1) رواه الترمذيُّ عن ابن عمرو. حديث ضعيف، الجامع الصغير، للسيوطي (1/ 496).

ما يجب على المالك والعامل

يثمر كل حول فأشبه النخيل والعنب، ولأن الحاجة تدعو إلى المساقاة عليه، وقال الشافعي: لا يجوز إلا في النخيل والعنب؛ لأن الزكاة تجب في ثمرتهما. أما الأشجار غير المثمرة فيرى الإِمام مالك والشافعيُّ أنها لا تجوز المساقاة عليها؛ لأن المساقاة تكون بجزء من الثمر وهذا لا ثمر له، واستُثْنِيَ منه ما يقصد ورقه أو زهره كالتوت والورد، قال في المغني: إن القياس يقتضي جواز المساقاة عليه لأنه في معنى الثمر، لكونه نماءً يتكرر كل عام ويمكن أخذه والمساقاة عليه بجزء منه فيثبت له حكمه (¬1). الرأي: نرى جواز المساقاة على كل شجر ولو كان غير مثمر؛ لأنه قد جاء في لفظ بعض الأخبار: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من النخل والشجر"، وهذا عام يشمل المثمر وغير المثمر، كما أن الأشجار غير المثمرة محل حاجة الناس في الوقت الحاضر لعمل الورق والأثاث وما يحتاجه الناس في أمور حياتهم وهو مقصود كثيرًا، وفي جوازه تيسير على الناس؛ إذ هو طريق للكسب، بل إنه تُؤَسَّسُ من أجل القيام به واستغلاله الشركاتُ في بعض الدول. ما يجب على المالك والعامل: على العامل أن يعمل كل ما يحتاج إليه في إصلاح الثمر وزيادته مما يتكرر كل سنة كالسقي والحرث والتلقيح وحفظ الثمرة ونحو ذلك. وعلى المالك ما يقصد به حفظ الأصل ولا يتكرر كل سنة كبناء الحيطان وحفر الآبار وشق الأنهار ونحوها (¬2). ويرى بعض الفقهاء أن البذر لا بد أن يكون على المالك، وهو مذهب ¬

_ (¬1) بداية المجتهد (2/ 245)، ونهاية المحتاج، للرملي (5/ 246)، وكشاف القناع (3/ 532). (¬2) المغني، لابن قدامة (7/ 539).

كراء الأرض بالنقد (إجارتها)

الحنابلة؛ لأنهما يشتركان في نمائه فوجب أن يكون رأس المال من أحدهما كالمضاربة ويرى غيرهم عدم اشتراط ذلك بل يجوز أن يخرجه العامل، وهو قول عمر وابن مسعود وغيرهما واختاره ابن تيمية وابن القيم؛ لأن الأصل المعول عليه في المزارعة قضية خيبر، ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن البذر على المسلمين. كراء الأرض بالنقد (إجارتها): يجوز إجارة الأرض بالنقد وبالعروض، قال أحمد: ما اختلفوا في الذهب والورق، وقال ابن المنذر: أجمع عوامُّ أهل العلم على جواز ذلك بالذهب والفضة وبه قال سعيد بن المسيب وعروة والقاسم ومالك والشافعيُّ والحنفية. قال النووي: وهذا هو الراجح المختار. جاء في الفتوى رقم (2158) من فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية: "يجوز تأجير الأرض الزراعية بجزء مشاع من غلتها كالثلث والربع، وكذلك يجوز تأجير الأرض الزراعية بمبلغ محدد من المال يدفعه الشخص المستأجر لها سواء زرعها أو لم يزرعها". والحكم في العروض كالحكم في الأثمان، أما الطعام فقد منعه مالك مطلقًا سواء كان من الخارج منها أو من غيره؛ وأجازه الأئمة الثلاثة لحديث ثابت بن الضحاك -رضي الله عنه- أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن المزارعةِ وأمر بالمؤاجرةِ" (¬1). حيث إنه عامٌّ يشمل الطعام وغيره ولو مما يخرج منها، والنهي عن المزارعة في الحديث محمول على المزارعة الفاسدة التي يدخلها كثير من الجهالة والغرر والظلم لأحد الطرفين (¬2). ¬

_ (¬1) رواه مسلم حديث رقم (1549). (¬2) المغني، لابن قدامة (7/ 569)، وتوضيح الأحكام، لابن بسام (5/ 43).

انتهاء المساقاة والمزارعة

انتهاء المساقاة والمزارعة: تنتهي بأمور: 1 - هرب العامل: وهذا يخول الفسخ للمالك على القول بأنها عقد جائز، وأما مع لزوم العقد فحكمه أن يستأجر القاضي عليه من يعمل عمله. 2 - عجز العامل عن العمل: وفي تلك الحالة يقيم من يعمل مقامه، والأجرة عليه؛ لأن عليه توفيةَ العملِ. 3 - موت كل واحد منهما وجنونه على القول بأنها عقد جائز، وأما مع لزوم العقد فإن الوارث والولي يقوم مقام الميت والمجنون منهما. 4 - اتفاقهما على إنهائها برضاهما (¬1). ¬

_ (¬1) بداية المجتهد (2/ 250)، والمغني، لابن قدامة (7/ 546).

باب الإجارة

باب الإجارة تعريفها في اللغة: من آجَر يأجُرُ وهو ما أعطيت من أجر في العمل (¬1). تعريفها في الشرع: عقد على منفعة مباحة من عين معينة أو موصوفة في الذمة مدة معلومة أو على عمل معلوم بعوض معلوم (¬2). شرح التعريف: عقد: معناه الإيجاب والقبول الذي يعبر عن إرادة المتعاقدين وارتباطهما على وجه مشروع يظهر أثره في محله. على منفعة: لكي تخرج العين؛ لأن العقد عليها -أي العين- لا يسمى إجارة وإنما يسمى بيعًا. مباحة: يخرج منها العقد على المنفعة المحرمة كالزنى والغناء ونحوه مما هو محرم. معلومة: خرج منه المنفعة المجهولة فلا يصح العقد عليها وقولهم: "من عين معينة أو موصوفة في الذمة أو عمل معلوم" يؤخذ منه أن الإجارة نوعان (¬3): النوع الأول: أن تكون الإجارة على منفعة عين معينة أو عين موصوفة. مثال المعينة: آجرتك هذه الدار. مثال الموصوفة: آجرتك بعيرًا صفته كذا للحمل أو الركوب. ¬

_ (¬1) انظر في تعريفها في اللغة: لسان العرب (4/ 10)، والمصباح المنير (1/ 10)، وتاج العروس (10/ 34). (¬2) الملخص الفقهي، للشيخ صالح الفوزان (2/ 114). (¬3) انظر في شرح تعريف الإجارة: المقنع (2/ 199)، ومغني المحتاج (2/ 449)، ومنتهى الإرادات (1/ 476).

شروط الإجارة

النوع الثاني: أن تكون الإجارة على أداء عمل معلوم كأن يحمله إلى موضع كذا، أو يبني له جدارًا، وقولهم: "مدة معلومة" أي لا بد من تحديد مدة الإجارة كشهر وسنة. وقولهم: "بعوض معلوم" أي أجرة معلومة تكون مقابل المنفعة، فيخرج منها هبة المنافع والوصية بها؛ لأنها نوع تبرع من غير عوض، وكذلك يخرج منها الإعارة؛ لأن الذي يستعير شيئًا يأخذه من غير عوض (¬1). شروط الإجارة: من خلال تعريف الإجارة يمكن استخلاص الشروط المعتبرة فيها وهي كالآتي: 1 - يشترط لها كونها من جائز التصرف، وهذا الشرط معتبر في جميع المعاملات. 2 - معرفة المنفعة كَسُكْنَى دار وخدمةِ آدميٍّ وتعليمِ علمٍ. 3 - معرفة الأجرة. 4 - كون المنفعة مباحة، فلا تصح على نفع محرم. مشروعية الإجارة: الإجارة مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع: أما دليل الكتاب فقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (¬2). ففي الآية دليل على مشروعة الإجارة حيث أمر الله الأب بإعطاء الزوجة الأجرة على الرضاع، وكونه -سبحانه وتعالى- أجاز الأجرة على الرضاع فإنها تجوز على مثله ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (2/ 449). (¬2) سورة الطلاق: 6.

الحكمة في مشروعية الإجارة

وما هو في معناه (¬1). ومن الأدلة أيضًا ما جاء في قصة موسى- علية الصلاة والسلام - مع المرأتين اللتين سقى لهما حيث قالت إحداهما لأبيها: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (¬2). أما أدلة السنة فمنها: 1 - ما جاء في صحيح البخاري وغيره: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قال اللهُ -تعالى-: ثلاثةٌ أنا خصمُهم يومَ القيامةِ رجل أعطى بي ثم غدر، ورجلٌ باع حرًّا فأكل ثمنَه، ورجلٌ استأجر أجيرًا فَاسْتَوْفَى منه ولم يُعْطِهِ أجرَه" (¬3). 2 - ومن الأدلة أيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أحقُّ ما أخذتم عليه أجرًا كتابُ الله" (¬4). أما الإجماع: فقد أجمع علماء الإِسلام من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة على مشروعية الإجارة. قال ابن قدامة -رحمه الله-: "أجمع أهل العلم في كل عصر وكل مصر على جواز الإجارة" (¬5). الحكمة في مشروعية الإجارة: الإجارة وسيلة للتيسير على الناس في الحصول على ما يبتغونه من المنافع التي لا ملك لهم في أعيانها، فالحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان، فالفقير محتاج ¬

_ (¬1) الأم، للشافعي (3/ 250). (¬2) سورة القصص: 26. (¬3) صحيح البخاري، كتاب الإجارة، باب إثم من منع أجر الأجير (2/ 34). (¬4) صحيح البخاري، كتاب الإجارة، باب ما يعطى في الرقية (2/ 36). (¬5) المغني، لابن قدامة (8/ 6).

أركان الإجارة

إلى مال الغني، والغني محتاج إلى عمل الفقير، ومراعاة حاجة الناس أصل في شرع العقود، فيشرع على وجه ترتفع به الحاجة ويكون موافقًا لأصل الشرع وهذه هي حكمة تشريعها (¬1). أركان الإجارة: 1 - الركن الأول: الصيغة (الإيجاب والقبول): والمراد بصيغة عقد الإجارة ما يتم به إظهار إرادة المتعاقدين من لفظ أو ما يقوم مقامه كالاستئجار والاكتراء، وتعقد أيضًا بأعرتك هذه الدار شهرًا بكذا؛ لأن العارية بعوض إجارة، أو وهبتك منافعها شهرًا بكذا، أو صالحتك على أن تسكن هذه الدار لمدة شهر بكذا، فيقول المستأجر: قبلت (¬2). فمتى عرف المتعاقدان المقصود انعقدت الإجارة بأي لفظ كان من الألفاظ التي عرف المتعاقدان مقصودَها، فإن الشارع لم يحد حدًا لألفاظ العقد بل ذكرها مطلقة (¬3). 2 - الركن الثاني: المتعاقدان (المؤجر والمستأجر): أ- ويشترط في العاقدين أن يكونا جَائِزَيِ التصرف فلا تنعقد من المجنون والصبي الذي لا يميز. ب- ويشترط فيهما وقوع الإجارة منهما عن تراضٍ، فإذا وقع العقد مشوبًّا بإكراه فإنه يفسد. ¬

_ (¬1) الموسوعة الفقهية الكويتية (1/ 254). (¬2) الدر المختار (5/ 3)، مواهب الجليل (5/ 390)، حاشية الدسوقي (4/ 2). (¬3) كشاف القناع (3/ 457 - 458).

3 - الركن الثالث: المعقود عليه

3 - الركن الثالث: المعقود عليه: ويُشْترَطُ في هذا الركن شروط منها: أ- منفعة العين المؤجرة. ب- أن تقع الإجارة على العين المعقود عليها لا على استهلاك العين؛ لأن الإجارة لا تعقد إلا على نفع يستوفى مع بقاء العين. ج- أن تكون المنفعة مباحة. د- القدرة على الاستيفاء حقيقة وشرعًا، فلا يصح إجارة الدابة الشاردة ولا إجارة المغصوب ولا الغاصب. هـ - أن تكون المنفعة معلومة علمًا ينافي الجهالة المفضية للنزاع. 4 - الركن الرابع: الأجرة: وهي ما يلتزم به المستأجر عوضًا عن المنفعة التي يتملكها، وكل ما يصلح أن يكون ثمنًا في البيع يصلح أن يكون أجرة في الإجارة، ويجب في الأجرة العلم بها، وإن كان الأجر مما يثبت دينًا في الذمة كالدراهم والمكيلات والموزونات والمعدودات المتقاربة، فلا بد من بيان جنسه ونوعه وصفته وقدره. فإن استوفيت المنفعة وجب أجر المثل وهو ما يقدره أهل الخبرة (¬1). فهذه جملة أركان الإجارة. وذهب الحنفية إلى أن للإجارة ركنًا واحدًا فقط وهو الصيغة، وأما العاقدان والمعقود عليه فهي أطراف للعقد ومن مقوماته، فلا قيام للعقد إلا باجتماع ذلك كله. ¬

_ (¬1) انظر: أركان الإجارة في كل من: البدائع (4/ 175)، حاشية الدسوقي (4/ 16)، المحرر (1/ 356).

حكم عقد الإجارة

فالخلاف بينهم وبين الجمهور هو خلاف لفظي فقط. حكم عقد الإجارة: الأصل في عقد الإجارة اللزوم، فلا يملك أحد المتعاقدين الانفراد بفسخ العقد إلا لمقتضى تنفسخ به العقود اللازمة من ظهور عيب أو ذهاب محل استيفاء المنفعة. وهذا ما قال به الجمهور (¬1). دليل ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬2). تنجيز الإجارة وتعليقها: الأصل في الإجارة أن تكون منجزة وأنها غير قابلة للتعليق كالبيع، وصرح قاضي زاده من الحنفية بذلك فقال: "الإجارة لا تقبل التعليق" (¬3). وقيل: يصح التعليق في الإجارة (¬4). من يؤخذ قوله عند الاختلاف؟ 1 - إذا اختلفا في قدر الأجر فقال: أجرتنيها سنة بألف ريال قال: بل بألفي ريال، تحالفا ويُبدأُ بيمين المؤجر، نص عليه أحمد وهو قول الشافعي؛ لأن الإجارة نوع من البيع (¬5). 2 - إن اختلفا في المدة فقال: أجرتكها سنة بألف قال: بل سنتين بألفين، ¬

_ (¬1) الموسوعة الفقهية (1/ 253). وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية رقم (7502) ورقم (1434). (¬2) سورة المائدة: 1. (¬3) المرجع السابق (1/ 256). (¬4) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي (4/ 356). (¬5) المغني، لابن قدامة (8/ 141).

تأجير العين المستأجرة

فالقول قول المالك؛ لأنه منكر للزيادة فكان القول قوله فيما أنكره (¬1). 3 - إن اختلفا في التعدي في العين المستأجرة فالقول قول المستأجر؛ لأنه مؤتمن عليها ولأن الأصل عدم العدوان والبراءة من الضمان (¬2). تأجير العين المستأجرة: يجوز للمستأجر إجارة العين المؤجرة لمن يقوم مقامه بما شاء إن كان مثله أو أقل منه -لا بأكثر منه- ضررًا، إلا إذا اشتراط المالك في العقد عدم التأجير؛ لأن المسلمين على شروطهم. هل الإجارة تنفسخ بموت أحد المتعاقدين؟ المالكية والشافعية والحنابلة يرون أنها لا تنفسخ؛ لأن الإجارة عقد لازم فلم ينفسخ بموت العاقد مع سلامة المعقود عليه (¬3). أما الحنفية فإنهم يفرقون بين كون المستوفي عقد الإجارة لنفسه أو عقدها لغيره، فلو عقدها لنفسه انفسخت بموته، وإن كان عقدها لغيره مثل الوكيل أو الوصي لم تنفسخ. والذي اختاره شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن الأجرة لا تنفسخ بموت المستأجر إذا وثق الورثة برهن أو ضمين يحفظ الأجرة بل يوفونها كما كان يوفيها الميت (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق (8/ 142). (¬2) جاء ذلك في فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية رقم (19702). (¬3) انظر الهداية (3/ 250)، الدر المختار (6/ 83). (¬4) مجموع الفتاوى (30/ 157).

انتهاء الإجارة

انتهاء الإجارة: تنفسخ الإجارة بما يلي: 1 - تلف العين المؤجرة. 2 - موت المتعاقدين أو أحدهما عند من يرى ذلك؛ وهم الحنفية والشَّعْبِيُّ والليث. 3 - عدم التمكن من الانتفاع بالعين (¬1). استحقاق الأجرة عند هلاك العين: هل تسقط الأجرة بهلاك العين في الأعمال؟ إذا عمل الأجير في ملك المستأجر أو حضرته استحق الأجرة كاملة؛ لأنه تحت يده فأي عمل يعمله الأجير يصبح مسلمًا للمستأجر، وإن كان العمل في يد الأجير لم يستحق الأجرة بهلاك الشيء في يده؛ لأنه لم يسلم العمل (¬2). حكم الاستئجار على تعليم القرآن الكريم والحديث والفقه: اختلفت أقوال الأئمة في ذلك على النحو الآتي: 1 - مذهب أبي حنيفة أنه لا يجوز الاستئجار على ذلك؛ لأن هذه الأعمال يختص أن يكون فاعلها من أهل القرب بتعليم القرآن والحديث والفقه، ويدل على ذلك أنه لا يجوز أن يفعلها كافر، فلا يجوز خروج هذه الأعمال عن وجه العبادة لله، كما لا يجوز فعل الصلاة والصوم على غير وجه العبادة لله. 2 - وعند الشافعية والمالكية جواز أخذ الأجرة على ذلك؛ لأن ذلك يقع ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: الإنصاف (6/ 61، 62)، البدائع (4/ 196)، منهاج الطالبين (3/ 77). (¬2) المراجع السابقة.

إجارة دور مكة وغيرها من أرض الحرم

نفعه على المستأجر فجاز أخذ الأجرة عليه (¬1). والذي اختاره شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وهو رواية في مذهب أحمد -رحمه الله-، أنه يجوز الاستئجار على تعليم القرآن والحديث والفقه بشرط الحاجة (¬2). الراجح: الجواز؛ لأن في ذلك مصلحةً للفرد والأمة في نشر العلم، ولأن من يقوم بالتعليم -غالبًا- قد فرغ نفسه للقيام بذلك وانقطع عن البحث عن أسباب الرزق. وهو ما عليه الفتوى في السعودية (¬3). إجارة دور مكة وغيرها من أرض الحرم: يرى الشافعية جوازها (¬4). ومالك وأبو حنيفة لا يرون الجواز. وهذا هو مذهب الحنابلة (¬5). والخلاف في هذه المسألة مبنيٌّ على أن مكة فتحت صلحًا أم عنوة؟ فمن رأى أنها فتحت صلحًا قال بجواز بيعها وإجارتها وغير ذلك. ومن قال بأنها فتحت عنوة فإنه يرى عدم جواز ذلك. والمختار عند شيخ الإسلام ابن تيمية مع قوله بأنها فتحت عنوة القول بأنه يجوز بيع رباعها، ولم يُجِزْ إجارتها (¬6). والصواب -إن شاء الله- جواز الجميع؛ لحاجة الناس، وعليه العمل منذ أزمان بعيدة. ¬

_ (¬1) انظر: الشرح الكبير (4/ 16)، مغني المحتاج (2/ 344). (¬2) انظر: مجموع الفتاوى (30/ 205 - 207). (¬3) انظر: فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء رقم (3210). (¬4) المجموع شرح المهذب (9/ 248). (¬5) حاشية ابن عابدين (6/ 222)، والإنصاف (4/ 289 - 290). (¬6) مجموع الفتاوى (29/ 211).

باب السبق

باب السبق تعريفه: السَّبْق -بسكون الباء- بلوغه الغاية قبل غيره، وبالتحريك (السَّبَقُ): ما يتراهن عليه المتسابقون في الخيل والإبل وفي النضال فمن سبق أخذه. حكمه الشرعي: السبق جائز بالكتاب والسنة والإجماع: فأما الكتاب: قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (¬1). وقال تعالى: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} (¬2)، أي: نترامى بالسهام أو نتجارى على الأقدام. وأما السنة فمنها: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا إنَّ القوةَ الرميُ" (¬3). وعن أبي هريرة مرفوعًا: "لا سبقَ إلا في خُفٍّ أو نَصْلٍ أو حافرٍ" (¬4) فالحديث دليل على جواز السباق على جعل (¬5). ومن أدلة السنة -أيضًا- ما جاء عن ابن عمر -رضي الله عنهما- "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سابق بين الخيلِ المضمرةِ من الحقباءِ (¬6) إلى ثنيةِ الوداعِ وبين التي لم تُضَمَّرْ (¬7) من ثنيةِ الوداعِ ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: 60. (¬2) سورة يوسف: 17. (¬3) رواه مسلم من حديث عقبة بن عامر (3/ 1522). (¬4) أخرجه أبو داود (2074)، وصححه الألباني برقم (2244) في صحيح سنن أبي داود. (¬5) الملخص الفقهي، للشيخ صالح الفوزان (2/ 121). (¬6) الحقباء موضع بظاهر المدينة. (¬7) التضمير عند العرب أربعون يومًا، ومعناه هو: أن يُرْبَطَ الفرسُ وُيعْلَفَ ويسقى كثيرًا ثم يعلف قليلًا ويركض في الميدان حتى يخف.

الحكمة في مشروعية السبق

إلى مسجدِ بني زُرَيْقٍ" (¬1). وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على جواز المسابقة في الجملة. الحكمة في مشروعية السبق: المسابقة والمسارعة من محاسن الإسلام، وهما مشروعتان؛ لما فيهما من المرونة والتدريب على الفنون العسكرية والكَرِّ والفَرِّ وتقوية الأجسام والصبر والجلد وتهيئة الأعضاء والأبدان للجهاد في سبيل الله (¬2). شروط صحة السبق: يشترط لصحة السبق أو المسابقة خمسة شروط: 1 - تعيين المركوبَيْنِ؛ لأن الغرض معرفة سيرهما، ومن ثم فلا يجوز إبدالهما ولا إبدال أحدهما؛ لاختلاف الغرض. 2 - أن يكون المركوب والآلة التي يركبها من نوع واحد، فإن كانتا من جنسين كالفرس مثلًا والبعير، لم يجز؛ لأن البعير لا يكاد يسبق الفرس فلا يحصل الغرض من هذه المسابقة. وذهب المالكية إلى الجواز مع الجنس أو اختلافه (¬3). 3 - تحديد المسافة وتحديد مدى الرمي. وذهب المالكية إلى عدم اشتراط المساواة في المسافة في الميدان ولا في الغاية، فإذا دخلا على اختلاف في ذلك جاز، كأن يقول لصاحبه: أسابقك بشرط أن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (6/ 71) فتح الباري. (¬2) مختصر الفقه الإسلامي، التويجري (ص: 740). (¬3) انظر في ذلك: الموسوعة الفقهية (24/ 141).

ابتدئ الرماية من المحل الفلاني القريب من آخر الميدان وأنت في المحل الفلاني الذي هو بعيد من آخر الميدان (¬1). 4 - أن يكون العوض معلومًا؛ وذلك لأنه مال في عقد فلا بد أن يكون معلومًا كسائر العقود. ويكون معلومًا بالمشاهدة أو القدر أو بالصفة. ويجوز أيضًا أن يكون حالًا ومؤجلًا كالعوض في البيع، وأن يكون بعضه حالًا وبعضه مؤجلًا (¬2). 5 - الخروج عن شبه القمار بأن يكون العوض من واحد، فإن كان منهما لم يجز، وإن كان من إمام أو أجنبي جاز. وهذا هو قول الأئمة الأربعة فإنهم يلزمون أن يكون بين المتسابقين محلل وهو ثالث على فرس كُفْءٍ. قال الخرقي: "وإن أخرجا جميعًا لم يجز إلا أن يدخلا بينهما محللًا يكافئ فرسه فرسيهما أو بعيرُه بعيريهما أو رميُه رميَهما" (¬3). وذهب شيخ الإِسلام ابن تيمية إلى عدم اشتراط هذا الشرط مخالفًا بذلك لأقوال الأئمة الأربعة فقال بأنه: "يجوز المسابقة بعوض يخرجه المتسابقان يكون لمن سبق من غير أن يوجد بينهما محلل" (¬4)، وهذا هو الراجح. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (2/ 109). (¬2) انظر في ذلك بدائع الصنائع (6/ 206)، حاشية ابن عابدين (5/ 479)، الشرح الصغير (2/ 323)، مغني المحتاج (4/ 313)، المغني (11/ 409). (¬3) المغني (13/ 412). (¬4) مختصر الفتاوى المصرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية (520 - 521).

حكم عقد المسابقة

حكم عقد المسابقة: اختلف الفقهاء في عقد المسابقة: 1 - فذهب الحنفية والحنابلة إلى أن عقد المسابقة عقد جائز كعقد الجعالة، فلكل واحد من المتعاقدين الفسخ قبل الشروع في المسابقة. 2 - وقال المالكية: المسابقة عقد لازم ليس لأحد المتسابقين فسخه إلا برضاهما. 3 - وذهب الشافعية -وهو الأظهر في مذهبهم- إلى أن عقد المسابقة لازم لمن التزم بالعوض، أما من لم يلتزم شيئًا فجائز في حقه (¬1). ما تصح فيه المسابقة: لا تصح المسابقة في عوض إلا في إبل أو خيل أو رمي؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا سبقَ إلا في نصلٍ أو خُفٍّ أو حافرٍ" (¬2). وجاءت بذلك الفتوى رقم (1818) من فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية. وذهب الحنفية إلى أن السباق يكون في هذه الثلاث، وزيد معها القدم؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- في مسابقة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وتوسع الشافعية في جواز المسابقة على عوض فألحقوا بها السهام الصغيرة والرماح والرمي بالأحجار والرمي بالمنجنيق وكل ما هو نافع في الحرب (¬3). ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: بدائع الصنائع (6/ 206)، والمغني (13/ 409)، وحاشية الدسوقي (2/ 211)، ومغني المحتاج (4/ 312). (¬2) أخرجه أبو داود (2574)، وصححه الألباني برقم (2244) في صحيح أبي داود. (¬3) انظر في ذلك: البدائع (6/ 206)، الدسوقي (2/ 209)، مغني المحتاج (4/ 311)، المغني، لابن قدامة (13/ 406)، وانظر فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء رقم (3219) في السعودية في ذلك.

باب العارية

باب العارية تعريفها: لغة: العاريّة -هي بتخفيف الياء وتشديدها، وهي من التعاور: وهو التداول والتناوب لجعله للغير نوبة في الانتفاع، وقيل أصل المادة من العُري وهو التجرد؛ تسمى عارية؛ لتجردها عن العوض (¬1). واصطلاحًا: هي إباحة الانتفاع بالشيء مع بقاء عينه (¬2). الحكم الشرعي ودليله: العارية مستحبة ومندوب إليها، وهي مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع: فأما الكتاب: فقوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (¬3). قال ابن عباس وابن مسعود: هي العوارى؛ وهي جمع عارية. وأما السنة: فما رُوِيَ من حديث أبى إمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبة الوداع: "والعاريةُ مُؤَدَّاةٌ ... " الحديث (¬4). وروى صفوان بن أمية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعار منه أدرعًا يوم حنين، فقال: أغصبًا يا محمَّد؟ قال: "بل عاريةٌ مضمونةٌ" (¬5). وأما الإجماع: فقد أجمع الفقهاء على مشروعيتها، قال الموفق: "الإعارة ¬

_ (¬1) القاموس المحيط، مادة: عور. (¬2) شرح المنهاج (5/ 115). (¬3) سورة الماعون: 7. (¬4) أخرجه أبو داود (2/ 266)، والترمذيُّ (5/ 269)، عارضه الأحوذي. (¬5) أخرجه أبو داود (2/ 265)، والإمام أحمد في مسنده (3/ 401).

أركان العارية

مستحبة بإجماع المسلمين" (¬1). وقال ابن هبيرة: "اتفقوا على أنها جائزة وقربة مندوب إليها وأن للمعير ثوابًا" (¬2). وقيل: إن العارية واجبة، قال الشيخ تقي الدين بن تيمية: "تجب مع غِنَى المالك؛ للآية. وهو قول لأحمد كما أنه قول للمالكية، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}، أي: يمنعون إعطاء الشيء الذي لا يضر إعطاؤه على وجه العارية كالإناء والفأس ونحو ذلك مما جرت العادة ببذله والسماح به، لأن الله لَامَ مَنْ لم يفعل ذلك" (¬3). أركان العارية: أركان العارية أربعة: 1 - المُعِيرُ: وهو مالك العين المعارة. 2 - المستعير: وهو طالب الإعارة. 3 - المعار: وهو الدور والأرضون وغيرها مما يباح الانتفاع به. 4 - الصيغة: وهي كل قول أو فعل يدل عليها (¬4). شروط العارية: يشترط لها الشروط الآتية: ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة (7/ 340). (¬2) الإفصاح (2/ 21). (¬3) توضيح الأحكام (4/ 570)، والشرح الصغير (3/ 570). (¬4) روضة الطالبين (ص: 792).

حكم عقد العارية

1 - أن يكون المعير أهلًا للتبرع. 2 - أن تكون العين منتفعًا بها مع بقائها. 3 - أن يكون النفع مباحًا (¬1). حكم عقد العارية: 1 - يرى جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية أن العارية عقد جائز، للمعير أن يرجع في إعارته متى شاء. 2 - ويرى المالكية في المشهور عندهم أنه ليس له استرجاعها قبل الانتفاع، وإن شَرَطَ مدةً لزمته تلك المدة، وإن لم يشترط مدة لزمه من المدة ما يرى الناس أنه مدة لمثل تلك العارية. 3 - ويرى الحنابلة أن للمعير أن يرجع ما لم يكن على المستعير ضرر في رجوع المعير؛ كما إذا أعاره أرضًا ليزرعها فله الرجوع ما لم يزرع، فإن زرع لم يملك الرجوع فيها إلى أن ينتهي الزرع (¬2). الراجح: يظهر أن الأولى هو القول بأن للمعير الرجوعَ في عاريته ما لم يكن في ذلك ضرر على المستعير، وإن كان فيه ضرر فينتظر المدة اللازمة لانتهاء الغرض والذي به يزول الضرر؛ وذلك لما فيه من تحقيق الهدف من العارية. وهو جمع بين الأقوال في ذلك. والله أعلم. ¬

_ (¬1) فقه السنة (3/ 350). (¬2) حاشية ابن عابدين (4/ 767)، وبداية المجتهد (2/ 313)، ونهاية المحتاج (5/ 120)، والمغني (7/ 350).

ضمان العارية

ضمان العارية: على المستعير أن يرد العارية إن كانت باقية، أما إذا تلفت فقد اختلف الفقهاء على النحو الآتي: 1 - يرى ابن عباس وأبو هريرة وإليه ذهب عطاء والشافعيُّ وإسحاق وأحمدُ وهو قول لمالك -أن العارية إذا تلفت فإنه يجب ضمانها سواء تعدى المستعير أو لم يتعد، واستدلوا بحديث صفوان: "بل عاريةٌ مضمونةٌ"، وحديث الحسن عن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "على اليدِ ما أخذتْ حتى تؤدِّيَه" (¬1). ولأن المستعير قد أخذ ملك غيره لنفع نفسه ولم يؤذن له في الإتلاف؛ فكان مضمونًا كالغصب. 2 - ويرى الحسن والنخعي والشعبي وعمر بن عبد العزيز والثوري وأبو حنيفة -أنها أمانة لا يجب ضمانها إلا بالتعدي، ويستدلون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس على المستعيرِ غير المُغِلِّ ضمانٌ"، والمغل: هو الخائن (¬2) ولأنه قبضها بإذن مالكها فكانت أمانة كالوديعة. 3 - ويرى مالك في المشهور عنه وابن القاسم وأكثر أصحابه أن، العارية تضمن فيما يغاب عليه كالثياب والحلي إذا لم يكن على التلف بينة، ولا يضمن فيما لا يغاب عليه كالعقار والحيوان ولا فيما قامت البينة على تلفه (¬3). الراجح: هو القول بضمان العارية عند تلفها سواء أكان بتعدٍّ أو لم يكن بتعدٍّ؛ للأحاديث الواردة فيها، ولأن المصلحة في الانتفاع بها للمستعير دون المعير، وتضمينه يدفعه إلى المحافظة عليها، وليكون ذلك دافعًا للناس لبذل المنافع إذا ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2/ 265)، والترمذى (5/ 269). (¬2) أخرجه البيهقيُّ (6/ 91). (¬3) المغني، لابن قدامة (7/ 341)، وبداية المجتهد (2/ 313)، وتبيين الحقائق، للزيلعي (5/ 85)، وأسنى المطالب (2/ 328).

إعارة العارية وإجارتها

وثقوا من سلامة ملكهم إما بعودته أو بضمانه، وبدونه تقل الرغبة بالتعاون في ذلك. والله أعلم. إعارة العارية وإجارتها: 1 - ذهب بعض الفقهاء ومنهم الحنفية إلى أن المستعير له إعارة العارية وإن لم يأذن المالك إذا كان مما لا يختلف باختلاف المستعمل. 2 - وذهب بعضهم ومنهم الحنابلة إلى أن المستعير ليس له حق الإعارة أو التأجير إلا بإذن المالك (¬1). الراجح: الأولى القول بعدم الإعارة أو التأجير إلا بإذن المالك؛ لأنه أعارها له دون سواه وقد لا يرتضي هذا التصرف، وقد يقال بجواز ذلك لا سيما إذا قيل بضمان العارية إذا تلفت بتعدٍ أو غيره؛ إذ ملك المعير مضمون، وليس ملائما القول بجواز الإعارة مع عدم التضمين؛ لأن فيه ضياعًا لحق المالك دون إرادته. والله أعلم. شرط نفي الضمان: اختلف في ذلك الفقهاء: 1 - فمنهم من يرى أن شرط نفي الضمان في العارية يسقطه -وهو رواية عن أحمد-؛ لأنه لو أذن له في إتلافها لم يجب ضمانها فكذلك إذا أسقط عنه ضمانَهَا. 2 - ومن الفقهاء من يرى أن شرط نفي الضمان لا يُعْتَدُّ به وهو قول للشافعي ورواية عن أحمد؛ للحديث: "بل عاريةٌ مضمونةٌ"، ولأن كل عقد اقتضى الضمان لم يغيره الشرط (¬2). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (5/ 718)، والمغني، لابن قدامة (7/ 347). (¬2) المغني، لابن قدامة (7/ 342)، وحاشية ابن عابدين (5/ 718).

كيفية التضمين

الراجح: أن الأصل في العارية أنها مضمونة، وهو حق للمالك، وما دام المالك قد تنازل عنه بمحض إرادته واختياره فإن ذلك صحيح. والله أعلم. كيفية التضمين: يرى الفقهاء أنه يجب ضمان العين بمثلها، فإن لم تكن مثلية فإنها تضمن بقيمتها يوم تلفها، إلا إذا تلف فيها أجزاء قبل ذلك فإنه يضمنها بقيمتها يوم تلف أجزائها (¬1). ¬

_ (¬1) البدائع (8/ 3907)، نهاية المحتاج (5/ 141)، والشرح الصغير (3/ 574)، والمغني (7/ 344).

باب الغصب

باب الغصب التعريف: لغة: مصدر غصب الشيء يغصِبه بكسر الصاد غصبًا؛ وهو أخذ الشيء ظلمًا. قاله الجوهري وابن سيده (¬1). واصطلاحًا: هو الاستيلاء على مال غيره بغير حق (¬2). الحكم الشرعي ودليله: الغصب حرام، ودليل تحريمه الكتاب والسنة والإجماع: فمن الكتاب: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬3). وقوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} (¬4). وأما السنة: فما روى جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يوم النحر: "إنَّ دماءَكم وأموالكم حرامٌ، كحرمةِ يومكم هذا في شهرِكم هذا في بلدِكم هذا". رواه مسلم (¬5). وما رواه سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أخذ شبرًا من الأرضِ طُوِّقَهُ من سبعِ أَرَضِينَ" أخرجه البخاريُّ ومسلمٌ (¬6). ¬

_ (¬1) المحكم، لابن سيده (5/ 253). (¬2) المغني، لابن قدامة (7/ 360). (¬3) سورة النساء: 29. (¬4) سورة الكهف: 79. (¬5) أخرجه مسلمٌ (2/ 886)، وأبو داود (2/ 441). (¬6) أخرجه البخاريُّ (3/ 170)، ومسلمٌ (3/ 1230).

رد المغصوب

وأما الإجماع: قال في المغني (¬1): "وأجمع المسلمون على تحريم الغصب في الجملة". وقال ابن هبيرة: "واتفقوا على أن الغصب حرام" (¬2). رد المغصوب: يجب على الغاصب رد المغصوب لمالكه في المحل الذي غصبه فيه إن قدر عليه، ولا يجبر على قبول عوضه ولو بذل الغاصب أكثر من قيمته؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "على الْيَدِ ما أخذتْ حتى تُؤَدِّيَهُ" أخرجه أبو داود والترمذيُّ (¬3). ومؤونة رد المغصوب على الغاصب مهما بلغت، ويرده بزيادته سواء كانت متصلة كتعلم صنعة أو منفصلة كالكسب، وهي مضمونة ضمان الغصب. تصرفات الغاصب وعمله في المغصوب: تصرفات الغاصب في المغصوب من بيع أو إجارة أو هبة أو غيرها غير صحيحة، وفي رواية عند الحنابلة أن تصرفات الغاصب كتصرفات الفضولي تتوقف على إجازة المالك؛ فإن أجازها صحت، وإن ردها بطلت. وإذا عمل الغاصب في المغصوب فزادت به قيمته فإن عمله يعتبر تبرعًا لا يستحق عليه عوضًا، وإذا كان قد استأجر للعمل في المغصوب أجيرًا فأجره على الغاصب ولا يرجع به على المالك. وما أمكن رده إلى حالته فللمالك إلزامه به، وما لا يمكن فليس له ذلك (¬4). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: المال المغصوب إذا اتَّجر به الغاصب ونماه ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة (7/ 360). (¬2) الإفصاح (2/ 28). (¬3) رواه أبو داود (2/ 265)، والترمذيُّ (5/ 269)، عارضة الأحوذي. (¬4) مجلة الأحكام الشرعية (ص: 435)، ونهاية المحتاج (5/ 150)، والمغني (7/ 399).

غصب العقار

فربح، فأعدل الأقوال أن يكون الربح مناصفة بينه وبين صاحب المال، وهذا قضاء عُمَرَ الذي وافقه عليه الصحابة، وقد اعتمد عليه الفقهاء، وهو العدل؛ لأن النماء حصل بمال هذا وعمل هذا فلا يختص أحدهما بالربح (¬1). غصب العقار: من غصب عقارًا من الأراضي والدور فإنه يجب عليه ضمانها؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من ظلم قيدَ شبرٍ من الأرضِ، طُوِّقَهُ يومَ القيامةِ من سَبعِ أَرَضِينَ". رواه البخاري ومسلمٌ (¬2). وبذلك قال مالك والشافعيُّ وأحمدُ، وما يتلف من الأرض بفعله أو بسببه فعليه ضمانه بالإتلاف، وإذا غرس الغاصب في أرض غيره أو بنى فيها بغير إذنه فطلب صاحب الأرض قلع غرسه أو بنائه -لزم الغاصبَ ذلك-، لحديث سعيد بن عمرو بن نفيل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس لعرقٍ ظالمٍ حَقٌّ". رواه أبو داود والترمذيُّ. ولأن الغاصب شغل ملك غيره بدون إذنه فلزمه تفريغه، وعليه رد الأرض إلى ما كانت عليه قبل الغصب، وعليه أن يدفع قيمة نقص الأرض الذي تم بالزرع والغرس، وإن كان الرد للأرض بعد الزرع فعلى الغاصب أجرتها، وإذا كان الزرع قائما خُيِّرَ مالك الأرض بين تركه إلى الحصاد بأجرته وبين أخذه بعوضه؛ لأن كلًا من المالك والغاصب يحصل غرضه بذلك، والزرع يختلف عن الشجر الذي تطول مدته. منافع المغصوب: منافع الأموال من الأرض والمنقولات وغيرها مضمونة بالتفويت عند الجمهور، فعلى الغاصب أجرة مثله مدة مقامه في يده سواء استوفى الغاصب ¬

_ (¬1) توضيح الأحكام (4/ 586). (¬2) أخرجه البخاريُّ (3/ 170)، ومسلمٌ (3/ 1230).

كيفية ضمان المغصوب

المنافع أو تركها، وإن ذهب بعض أجزاء المغصوب في مدة الغصب باستعمالٍ أو غيره لزمه أرش (¬1) النقص الذي حدث، علاوة على أجرة مثله سليمًا، وعند الحنفية لا يضمن الغاصب منافع الغصب؛ لأنها حدثت في يد الغاصب (¬2). والراجح: ما ذهب إليه الجمهور؛ لأن ملكية المغصوب لصاحبه، ولا أثر ليد الغاصب عليه؛ لأنها ليست محترمة. كيفية ضمان المغصوب: يجب على الغاصب أن يرد المغصوب بعينه إذا كانت قائمة، فإن تلف المغصوب في يده لزمه بدله؛ لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (¬3). فإذا كان المغصوب مثليا كالحبوب وغيرها من المكيلات والموزونات وجب مثله؛ لأن المثل أقرب من القيمة. قال ابن عبد البر: كل مطعوم من مأكول أو مشروب، فمجمع على أنه يجب على مستهلكه مثله لا قيمته، وأما المتقوم فيضمن بقيمته. واختلفوا في العروض كالسيارات والأثاث وغيرها: فقال مالك: يقضى فيها بالقيمة يوم استهلك، وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمدُ: الواجبُ في ذلك المثلُ ولا تلزم القيمة إلا عند عدم المثل. واختار ذلك ابن تيمية وابن القيم واستدلوا بقوله تعالى: {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} (¬4)، ولحديث ¬

_ (¬1) الأرش: الجزء المسترد من ثمن المبيع إذا ظهر فيه عيب. المعجم الوسيط، مادة: أرش. (¬2) البحر الرائق (8/ 139)، وجواهر الإكليل (2/ 151)، وروضة الطالبين (ص: 805)، وكشاف القناع (4/ 111). (¬3) سورة البقرة: 194. (¬4) سورة الممتحنة: 11.

ضمان ما أفسدته المواشي

ضمان القصعة بمثلها، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَاءٌ بِإِنَاءٍ" وضمان المال بجنسه أقرب إلى العدل من ضمانه بغير جنسه، وهي الدراهم والدنانير، وليس على الغاصب ضمان نقص القيمة الحاصل بتغير الأسعار وهو قول الجمهور، وهو الراجح؛ لأنه رد العين بحالها لم يُنْقَصْ منها عينٌ أو صِفَةٌ (¬1). ضمان ما أفسدته المواشي: اختلف في ذلك العلماء: فيرى الليث أن كل دابَّةٍ مرسلة فصاحبها ضامن لما أفسدته على ألا يتجاوز ذلك قيمة الماشية، ويرى أبو حنيفة أنه لا ضمان مطلقًا؛ لحديث: "العَجْمَاءُ جُبَارٌ" (¬2)، ويرى مالك والشافعيُّ أن الضمان على أرباب البهائم بالليل ولا ضمان عليهم فيما أفسدته بالنهار. وهو رواية عن الإمام أحمد (¬3). الراجح: أن الضمان يكون عند إتلافها ليلًا، ولا يضمن ما أتلفته نهارًا؛ لما روى مالك عن الزهري عن حرام بن سعد أن ناقة للبراء دخلت حائط قوم فأفسدت فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن على أهلِ الأموال حفظَها بالنهار وما أفسدت ليلًا فهو مضمون عليهم. قال ابن عبد البر: هذا الحديث وإن كان مرسلًا فهو مشهور وحدَّث به الأئمة الثقات، وتلقاه فقهاء الحجاز بالقبول، ولأن العادة من أهل المواشي إرسالها نهارًا وحفظها ليلًا. هذا من حيث الضمان بشكل عامٍّ، أما الغاصب فيضمن ما أفسدت مطلقًا؛ لأنه متعدٍّ بغصبه. وقد أصدر مجلس هيئة كبار العلماء قراره رقم (111) في 2/ 11 / 1402 هـ بعدم ضمان البهائم التي تعترض الطرق العامة المعبدة بالإسفلت إذا تلفت نتيجة ¬

_ (¬1) البحر الرائق (8/ 124)، وبداية المجتهد (2/ 317)، ونهاية المحتاج (5/ 659)، والمغني (7/ 361)، وتوضيح الأحكام (4/ 590). (¬2) أي: هدر لا شيء فيها. (¬3) بداية المجتهد (2/ 323)، والمبدع في شرح المقنع (5/ 199)، وتوضيح الأحكام (4/ 599).

ضمان المغصوب المحرم على المسلمين

اعتراضها الطرق فصدمت، فهي هدر وصاحبها آثم بتركها وإهمالها. وأفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في فتواها رقم (1016) بوجوب ضمان ما تتلفه هذه البهائم والمواشي ليلًا دون ما تتلفه نهارا (14/ 184 - 185). ضمان المغصوب المحرم على المسلمين: ما لا يجوز للمسلم تعاطيه كالخمر والخنزير لو غصب من أهل الذمة فإن الفقهاء يختلفون فيه: فيرى الحنفية أنه يجب ردها إلى أهل الذمة ولو كان غاصبها مسلمًا، ويجب ضمانها إذا أتلفها بالقيمة إذا كان متلفها مسلمًا وبالمثل إذا كان ذميا؛ لأنها مال لهم يمتلكونها، بدليل ما رُوي عن عمر -رضي الله عنه- أن عامله كتب إليه عن الخمر عند أهل الذمة فكتب إليه عمر: ولُّوهم بيعها وخذوا منهم عُشْرَ ثمنِها. وإذا كانت مالًا لهم وجب ضمانها كسائر أموالهم. ويرى الشافعية والحنابلة أنه لا ضمان على متلفها؛ لما روى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا إن اللهَ ورسولَه حَرَّمَا بيعَ الخمرِ والميتةِ والخنزيرِ والأصنامِ" (¬1)، وما حرم بيعه لم تجب قيمته (¬2). الراجح: يمكن الجمع بين أدلة القولين في أنهم إذا لم يظهروا تعاطي ذلك فلا نتعرض لهم مما لا أذى على المسلمين فيه، وما أظهروه من ذلك تعيَّن إنكارُه عليهم، ويمنعون من إظهار ما يحرم على المسلمين، فإن كان خمرًا جازت إراقته ولا ضمان في إتلافه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (3/ 110)، ومسلمٌ/ 1207. (¬2) البحر الرائق (8/ 140)، والمغني، لابن قدامة (7/ 424).

إذا ترتب على يد الغاصب يد أخرى

إذا ترتب على يد الغاصب يدٌ أخرى: إذا ترتب على يد الغاصب يد أخرى سواء كان ذلك بالبيع أو الهبة أو غيرها، فإنها تعتبر يَدَ ضمانٍ فللمالك تضمين أيهما شاء إذا تلف المغصوب، أما الغاصب فإنه السبب في إيصالها إلى يد الغير، وأما المشتري فلأنه المتلف ولأنه أثبت يده على مال غيره بدون إذنه، فإن ضَمَّنَ الغاصب رجع على الآخر؛ لأن النقص حصل في يده والمنفعة له، وإذا ضمن المتلف فلا يرجع على الغاصب؛ لأنه المتلف، فاستقر الضمان عليه (¬1). اختلاف الغاصب والمالك: إذا ادَّعَى الغاصبُ تلفَ المغصوبِ وأنكر المالكُ ذلك فالقول قول الغاصب بيمينه؛ لاحتمال كونه صادقًا وعجز عن إقامة البينة، فإذا حلف فللمالك المطالبة ببدله؛ لأنه تعذر رد العين فلزم بدلها. فإن اختلفا في قيمة المغصوب ولا بينة لأحدهما فالقول قول الغاصب بيمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته. وإن اختلفا في رد المغصوب أو رد مثله أو قيمته فالقول قول المالك؛ لأن الأصل عدم ذلك واشتغال الذمة به (¬2). براءة الغاصب: يبرأ الغاصب بما يأتي: 1 - إذا رد الغاصبُ المغصوبَ إلى المالك أو وكيلِه بَرِئَ من الغصب، ويبقى عليه حق الاعتداء وهو حق عام يرجع تقديره إلى الحاكم. ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (ص: 803)، والمبدع في شرح المقنع (5/ 176)، وجواهر الإكليل (2/ 152). (¬2) نهاية المحتاج (5/ 1712)، المغني (7/ 420).

جناية المغصوب

2 - إذا أبرأ المالكُ الغاصبَ بَرِئَ، ولو أبرأ المالك اليد المترتبة على يد الغاصب لم يبرأ الغاصب وعليه الضمان؛ لأنه الأصل في الاعتداء. والله أعلم. 3 - تسليم الأشياء المغصوبة التي لا يعرف أصحابها إلى الحاكم ليتصرف فيها بما فيه المصلحة، وله أن يتصدق بها عن أصحابها بشرط الضمان كاللُّقَطَةِ؛ لأنه عاجز عن ردها إلى مالكها، فإذا تصدق بها كان ثوابها لأربابها فيسقط عنه إثم غصبها. جناية المغصوب: إذا جنى المغصوب فَأَرْشُ جنايته على الغاصب؛ لأن ذلك نقص في المغصوب فكان مضمونًا على الغاصب كسائر نقص المغصوب. وإن جنى عليه أجنبيٌّ فللمالك تضمين من شاء منهما، أما الجاني؛ فلأنه أتلف، وأما الغاصب؛ فلأن النقص حصل والمغصوب في يده فلزمه ضمانه (¬1). ¬

_ (¬1) العدة شرح العمدة، بهاء الدين المقدسي (ص: 269).

باب الشفعة

باب الشُّفعة تعريف الشُّفعَةِ: التعريف لغة: الشُفْعة -بإسكان الفاء- مأخوذة من الشفاعة أو من الشفع؛ فإن الشفيع كان نصيبه منفردًا في ملكه، فالشفعة ضم نصيب شريكه إليه فصار شَفْعًا، أو من الشفاعة؛ لأن الأخذ في الجاهلية كان بها، حيث كان الرجل إذا أراد بيع منزل أتاه الشريك أو الجار يشفع إليه فيما باع فيشفعه (¬1). واصطلاحًا: استحقاقُ الشريكِ انتزاعَ حصة شريكه ممّن انتقلت إليه بعوض ماليٍّ (¬2). الحكم الشرعي ودليله: الشفعة حق ثابت بالسنة والإجماع: فمن السنة: حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "قضى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالشُّفْعَةِ في كلِّ ما لم يُقْسَمْ، فإذا وقعتِ الحدودُ وصرفت الطرقُ فلا شفعةَ" (¬3). وأما الإجماع: فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم فيما بيع من أرض أو دار أو حائط (¬4)، وقال ابن هبيرة: "واتفقوا على أن الشفعة تجب في الخليط" (¬5)، أي: الشريك. ¬

_ (¬1) القاموس المحيط، مادة: "شفع"، والإفصاح (2/ 34). (¬2) المبدع شرح المقنع (5/ 203). (¬3) أخرجه البخاريُّ (3/ 104)، ومسلمٌ (3/ 1229). (¬4) المغني، لابن قدامة (7/ 4345). (¬5) الإفصاح (2/ 32).

حكمة مشروعيتها

حكمة مشروعيتها: شرع الإِسلام الشفعة لمنع الضرر، ذلك أن انتزاع حصة الشريك بثمنه من المشتري منفعة عظيمة للشريك الشافع، ودفع ضرر كبير عنه بلا ضرر يلحق البائع ولا المشتري، فكل منهما أخذ حقه كاملًا، قال ابن القيم: هي من محاسن الشريعة وعدلها وقيامها بمصالح العباد، ومنها يُعْلَمُ أن التحايل لإسقاطها مناقض لهذا المعنى الذي قصده الشارع ومضادٌّ له (¬1). أركان الشفعة: أركانها أربعة: الشافع، والمشفوع فيه، والمشفوع عليه، وصِفَةُ الأخذِ بالشفعةِ (¬2). شروط الشفعة: يشترط لإثباتها عدة شروط، فإذا تحققت هذه الشروط استحقت الشفعة، أما إذا تخلف منها شيء فهو محل خلاف بين الفقهاء: 1 - أن يكون الملك مشاعًا قابلًا للقسمة غير مقسوم. 2 - أن يكون المبيع عقارًا كالأرض والدور وما يتصل بها اتصال قرار. 3 - أن يكون المشفوع فيه مبيعًا أو في حكمه كالموهوب بعوض فلا شفعةَ في قسمةٍ ولا هبةٍ ولا موروثٍ. 4 - أن يكون للشفيع ملك للعقار سابق على البيع؛ لأن الشفعة ثبتت لدفع الضرر عن الشريك. 5 - أن يأخذ الشريك جميع المبيع المشفوع فيه؛ لئلا يتضرر غيره. ¬

_ (¬1) فقه السنة (3/ 335). (¬2) بداية المجتهد (2/ 256).

أنواع الشفعة

6 - أن يأخذ بقدر الثمن الذي تعاقدا عليه. 7 - يشترط طلب الشفعة من حيث علم الشافع ببيع المشفوع ويشهد ساعة علمه؛ لأن ثبوتها على التراخي يضر بالمشتري؛ لعدم استقرار ملكه (¬1). أنواع الشفعة: الشفعة أنواع: فمنها شفعة الشريك في العقار، ومنها شفعة حق الجوار. 1 - شفعة الشريك في العقار: الذي لم يقسم محل اتفاق بين الفقهاء، لكنهم اختلفوا في العقار الذي لا ينقسم على قولين: أ- ذهب مالك والشافعيُّ والحنابلة في إحدى روايتين عندهم إلى أن كل ما لا ينقسم كالبئر والطريق والضيعة والدكان، فلا شفعة فيه؛ لورود بعض الآثار فيه، ولأن إثبات الشفعة فيما لا ينقسم يضر بالبائع؛ لأنه لا يمكنه أن يتخلص من إثبات الشفعة في نصيبه بالقسمة، وقد يمتنع المشترى لأجل الشفيع فيتضرر البائع. ب- وذهب الحنفية ومالك والشافعيُّ والحنابلة في رواية لكل منهم إلى أن الشفعة تجب في العقار سواء قبل القسمة أم لم يقبلها، واستدلوا بحديث جابر المذكور، ولأن الشفعة ثبتت لإزالة ضرر المشاركة، والضرر في هذا النوع أكثر؛ لأنه يدوم ضرره (¬2). الراجح: ثبوت القسمة في كل ما لا ينقسم من العقار؛ لعموم الأخبار في ثبوت الشفعة، ولأن الشفعة ثبتت لإزالة ضرر الشراكة، وهي في هذا النوع من ¬

_ (¬1) مجلة الأحكام الشرعية (ص: 477). (¬2) تبيين الحقائق (5/ 252)، وحاشية الدسوقي (3/ 474)، ونهاية المحتاج (5/ 195)، ومنتهى الإرادات (1/ 557).

العقار أكثر ضررًا. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وبذلك صدر قرار مجلس هيئة كبار العلماء رقم (44) في 3/ 4 / 1396 هـ. 2 - شفعة الجار: اختلف الفقهاء في إثبات الشفعة للجار على النحو الآتي: 1 - يرى الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة أنه لا شفعة للجار، واستدلوا بحديث جابر وفيه: "فإذا وقعتِ الحدود وصرفتِ الطرقُ فلا شفعةَ". وفيه نفي الشفعة في المقسوم عند وقوع الحدود وصرف الطرق، والشارع إذا كان يقصد رفع الضرر عن الجار فهو كذلك يقصد رفعه عن المشتري. 2 - يرى الحنفية أن الشفعة مرتبة؛ فهي تثبت للشريك الذي لم يقاسم أولًا، ثم يليه الشريك المقاسم إذا بقيت في الطرق أو في الساحة شركة، ثم الجار الملاصق، واحتجوا بما روى أبو رافع قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الجارُ أحقُّ بصقبِه" (¬1) والصقب: القرب، وما روى الحسن عن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "جارُ الدارِ أحقُّ بالدارِ" (¬2)، ولأنه اتصال ملك يدوم. 3 - ومن الفقهاء من توسط فأثبتها للجار عند الاشتراك في حق من حقوق الملك كالطريق والماء ونحوه، ونفاها فيما عدا ذلك، واستدلوا بما رواه أصحاب السنن بإسناد صحيح عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجارُ أحقُّ بشفعةِ جارِه ينتظرُ بها، وإن كان غائبًا، إذا كان طريقُهما واحدًا" (¬3). الراجح: هو القول الثالث؛ لأن فيه جمعًا بين الأدلة. قال شيخ الإِسلام ابن ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3/ 115). (¬2) رواه الترمذيُّ (6/ 129)، وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ". (¬3) أخرجه النسائي في كتاب البيوع، باب في الشفعة، رقم الحديث (3518).

الشفعة في المنقول

تيمية: "أعدل الأقوال أنه إذا كان شريكًا في حقوق الملك ثبت له الشفعة، وإلا فلا"، وقال ابن القيم: "والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد، وأعدلها وأحسنها هذا القول الثالث" (¬1). ولو قيل بإثباتها للجار الملاصق لكان حسنًا؛ لما ورد في ذلك من الأحاديث ولأن الجار يتضرر كثيرًا بجاره السيئ كما هو مشاهد، وبذلك يبعد الضرر عنه. الشفعة في المنقول: اختلف الفقهاء في ثبوت الشفعة في المنقول على قولين: 1 - يرى الجمهور من الحنفية والشافعية وهو رواية عن المالكية والحنابلة أن الشفعة لا تثبت في المنقول، واستدلوا بحديث جابر حيث يفهم من قوله: "وقعتِ الحدودُ وصرفتِ الطرقُ فلا شفعةَ" أن ذلك خاص بالعقار دون المنقول، ولأن الشفعة إنما شرعت لدفع الضرر، والضرر في العقار يكثر جدًا؛ فإن الشريك يحتاج إلى إحداث المرافق والأبنية، وما يحدث في سوء الجوار، وفي العقار الضرر يدوم، وفي المنقول لا يدوم بل هو عارض كالمكيل والموزون. 2 - يرى المالكية والحنابلة في رواية عند كل منهم أن الشفعة تثبت في المنقول، وقالوا: إن حديث جابر يتناول العقار والمنقول؛ لأن (ما) من صيغ العموم، فتشمل العقار والمنقول، ولحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشفعةُ في كلِّ شيءٍ" (¬2). وهذا عام يشمل المنقول (¬3). ¬

_ (¬1) المبسوط، للسرخسي (14/ 95)، وحاشية الدسوقي (3/ 474)، ومغني المحتاج (2/ 297)، والمغني، لابن قدامة (5/ 461). (¬2) قال ابن حجر: ورجاله ثقات إلا أنه أعل بالإرسال. فتح الباري شرح صحيح البخاري (2257)، وأخرج الطحاوي شاهدًا له من حديث جابر بإسناد لا بأس برواته. (¬3) البدائع (6/ 2700)، ونهاية المحتاج (5/ 193)، وبداية المجتهد (2/ 258)، وإعلام الموقعين (2/ 251).

الشفعة في غير المبيع

الراجح: نرى أنه يمكن الجمع بين أدلة القولين حيث إن الحكمة من ثبوت الشفعة هو إبعاد الضرر، وذلك بأن تثبت الشفعة لما يتحقق فيه الضرر أكثر من المنقولات؛ لاستمرار مدته أو أهميته كالسيارات والمقتنيات المهمة ونحوها، ولا تثبت فيما يمكن تلافي الضرر فيه كالمكيل والموزون ونحوه، ويرجع تقدير ذلك إلى الحاكم الشرعي. والله أعلم. الشفعة في غير المبيع: اختلف الفقهاء في ذلك وفقًا للآتي: 1 - يرى الحنفية أن الشفعة تثبت في المبيع فقط؛ وذلك لظاهر الأحاديث حيث يفهم منها أنها في المبيع، بل ورد: "فلا يَبعْ حتى يستأذنَ شريكَه". 2 - ويرى الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة أن الشفعة تثبت في كل مشفوع فيه انتقل بعوض كالبيع وكل عقد جرى مجرى البيع كالصلح والهبة بشرط الثواب؛ لأن ذلك بيع ثبتت فيه أحكام البيع، وما عدا ذلك مما انتقل بغير عوض كالهبة بغير ثواب والصدقة والوصية والإرث فلا شفعة فيه. 3 - ويرى المالكية في رواية عندهم أن الشفعة تثبت بكل ملك انتقل بعوض أو بغير عوض كالهبة والصدقة، ما عدا الميراث فإنه لا شفعة فيه. ويأخذه الشفيع بقيمته، وحكي ذلك عن ابن أبي ليلى؛ لأن الشفعة تثبت لإزالة الضرر، وهذا موجود في الهبة والصدقة كذلك. الراجح: نرى الأخذ برأي الجمهور؛ لما ذكروه، ولأن فيه مراعاةً لمصلحة الأطراف كلها، وفي الهبة فإن الشفعة تثبت فيها ويقَوَّم دفعًا للضرر عن الشريك. وهو رأي بعض المحققين.

وقت المطالبة في الشفعة

وقت المطالبة في الشفعة: اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فيرى الحنفية وهو رواية عند الشافعية والحنابلة أن حق الشفعة على الفور؛ إن طالب بها ساعة يعلم بالبيع، وإلا بطلت؛ لحديث عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشفعةُ كَحَلِّ العقالِ" (¬1)، ورُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الشفعةُ لمن وَاثَبَهَا" (¬2). ولأنه خيار لدفع الضرر عن المال فكان على الفور، ولأن إثباته على التراخي يضر المشتري؛ لكونه لا يستقر ملكه على المبيع. 2 - ويرى المالكية وهو رواية عند الشافعية والحنابلة أن الشفعة على التراخي لا تسقط ما لم يوجد منه ما يدل على الرضا من عفو أو مطالبة بقسمة ونحو ذلك؛ لأن هذا الخيار لا ضرر في تراخيه فلم يسقط بالتأخير. الراجح: بتأمل ما ذكره بعض الفقهاء الذين يرون أن الشفعة على الفور وأنها تتأجل إذا كان فيه عذر للشفيع وذكروا لذلك صورًا -فإنه يترجح لدينا أنها على الفور-، إلا أنه متى كان هناك سبب وجيه لتأخير الأخذ بالشفعة فإن ذلك مقبول، سواء منها ما ذكره أولئك أو غيره مما يكون له وجاهة، ويرجع في تقدير ذلك إلى القضاء، وفي ذلك جمع بين الأدلة. والله أعلم. تصرف الشافع والمشفوع فيه: إذا تصرف الشافع في نصيبه من المشفوع فيه بما لا ينقل الملك كالإجارة والرهن، فلا يمنع حقه في الشفعة، أما إذا باعه كله بعد علمه بالبيع سقطت شفعته. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (2/ 835). (¬2) ذكره الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (3/ 56).

تعدد الشفعاء

وإذا تصرف المشفوع منه في المشفوع فيه قبل طلب الشفعة فتصرفه صحيح، أما بعد طلبها فتصرفه باطل. وإذا بَنَى المشتري أو غرس في المشفوع فيه فإن الشافع يخير بين أخذه بقيمته أو قطع ذلك وإزالته مع ضمان النقص، فَإنْ أَبَى سقطت شفعته. تعدد الشفعاء: اختلف الفقهاء في كيفية توزيع المشفوع فيه على الشفعاء عند اتحاد سبب الشفعة لكل منهم: 1 - فذهب المالكية، والشافعية والحنابلة في رواية لكل منهما، إلى أن الشفعة توزع عليهم بقدر الحصص من الملك، ووجه ذلك أن الشفعة مستحقة بالملك فقسط على قدره. 2 - وذهب الحنفية والشافعية والحنابلة في رواية أخرى لكل منهما إلى أنها تقسم على عدد الرؤوس، ووجه ذلك أن السبب في موضوع الشفعة هو أصل الشركة وقد استويا فيه فيستويان في الاستحقاق (¬1). الراجح: أن المشفوع فيه يقسم بين الشفعاء على قدر أملاكهم؛ لأنه حق يستفاد بسبب الملك فكانت قسمته على قدر الأملاك. وإذا كانت الشفعة بين شفعاء فلم يرغب أحد منهم بالشفعة فإنه ليس للباقين إلا أخذ الجميع أو ترك الجميع. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على هذا (¬2). ¬

_ (¬1) مواهب الجليل، للحطاب (5/ 325)، والبدائع (6/ 2683)، ونهاية المحتاج (5/ 211)، والمغني (7/ 497). (¬2) المغني، لابن قدامة (7/ 500).

شفعة الدمي

شفعة الدمي: اتفق الفقهاء على ثبوت الشفعة للمسلم على الذمي، وللذمي على الذمي، واختلفوا في ثبوتها للذمي على المسلم: 1 - ذهب الحنفية والمالكية والشافعية إلى ثبوتها للذمي على المسلم، واستدلوا بعموم الأحاديث الواردة في الشفعة وبالإجماع؛ لما روي عن شريح أنه قضى بالشفعة للذمي على المسلم وكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب فأجازه وأقره، وكان ذلك في محضر من الصحابة، ولم ينكر أحد منهم فكان ذلك إجماعًا، ولأن الذمي والمسلم يتفقان في السبب، والقصد من ذلك هو دفع الضرر عن الشريك (¬1). 2 - ذهب الحنابلة إلى عدم ثبوتها للذمي على المسلم واستدلوا بما رواه الدارقطني عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا شفعةَ لنصرانيّ" (¬2). الراجح: ثبوت الشفعة للذمي على المسلم؛ لعموم الأحاديث الصحيحة. وحديث أنس عند الدارقطني نُقِلَ عن ابن عدي إعلالُه. كما أن فيه نظرةً عادلةً للإسلام بإثبات مثل هذا الحق للذمي؛ مراعاة لحق الجوار وتأليفًا له في عدالة الإسلام وسمو أحكامه. اختلاف الشفيع والمشفوع منه: إذا اختلف الشفيع والمشفوع منه فادعى الشفيع عقدًا موجبًا للشفعة وادعى الآخر عقدًا لا تجب فيه الشفعة، صدق الشفيع إذا كانت له بينة أو أقر البائع بما ادعاه الشفيع، وإن لم يكن كذلك صدق المشفوع منه بيمينه. ¬

_ (¬1) المبسوط (14/ 93)، وحاشية الدسوقي (3/ 473)، ومغني المحتاج (2/ 298). (¬2) المغني، لابن قدامة (7/ 524).

إسقاط الشفعة

وإذا اختلفا في قدر الثمن صدق الشفيع بالبينة، وإن لم تكن بينة صدق المشفوع منه بيمينه، وإن كان الاختلاف في الغرس والبناء الموجودَيْنِ في المشفوع فيه فادعى المشتري إحداثه وأنكر الشفيع، فالقول للمشترى (¬1). إسقاط الشفعة: تسقط الشفعة بأمور عدة منها: 1 - ترك طلب المواثبة (¬2) في الشفعة وفق الشرط المحدد لذلك. 2 - إذا طلب الشفيع بعض العقار المبيع. 3 - الإبراء والتنازل عن الشفعة. 4 - التنازل عن الشفعة مقابل تعويض أو صلح (¬3). كيفية الأخذ بالشفعة: يذكر الفقهاء كيفية ذلك على النحو الآتي: 1 - يرى الحنفية أنه لا تثبت الملك للشفيع إلا بتسليم المشتري بالتراضي أو بقضاء القاضي. 2 - ويرى المالكية أن الشفيع يملك المشفوع فيه بحكم الحاكم له، أو دفع الثمن للمشتري، أو الإشهاد بالأخذ بالشفعة. 3 - ويرى الشافعية والحنابلة أن الشفيع يملك المشفوع فيه بكل لفظ يدل على أخذه بالشفعة ولا يشترط غير ذلك. ¬

_ (¬1) مجلة الأحكام الشرعية للقارئ (ص: 489). (¬2) المواثبة: المسارعة، من الوثوب، سمي به ليدل على غاية التعجيل. مجمع الأنهر (2/ 474). (¬3) حاشية ابن عابدين (6/ 240)، وحاشية الدسوقي (3/ 484)، مغني المحتاج (2/ 308)، والمغني (7/ 453).

هل تورث الشفعة؟

الراجح: أن الشفيع يملك الأخذ بالشفعة بكل لفظ يدل على أخذه بها مع مراعاة وقت المطالبة بها. هل تورث الشفعة؟ اختلف في ذلك الفقهاء على عدة أقوال: 1 - ذهب المالكية والشافعية إلى أن حق الشفعة يورث، فإذا مات الشفيع انتقل حق الشفعة إلى ورثته؛ لأن المقصود بالشفعة دفع الضرر عن المال، وذلك موروث كالرد بالعيب. 2 - وذهب الحنفية إلى أن هذا الحق لا يورث وإن كان الميت طالب بالشفعة، إلا أن يكون الحاكم حكم له بها ثم مات؛ لأن ملك المشفوع فيه، الذي هو سبب الأخذ بالشفعة، قد زال بموته. 3 - وذهب الحنابلة إلى أنه إذا مات الشفيع قبل الطلب بها فتسقط ولا تنقل إلى الورثة، وأما إذا طالب بالشفعة ثم مات فإن حق الشفعة ينتقل إلى الورثة؛ لأن الحق يتقدر بالطلب، فهو نوع خيار شرع للتمليك (¬1). الراجح: حيث إن حق الشفعة شرع لدفع الضرر عن الشريك وهو متحقق على المالك المشارك سواء أكان مالكًا أصليًا أم وارثا، فإن القول بثبوتها للوارث هو الذي يتفق مع هذه القاعدة. والله أعلم. تلف المشفوع فيه أو بعضه: تناول الفقهاء ذلك على النحو الآتي: 1 - يرى الحنابلة والثوري وهو قول للشافعي أن تلف الجزء المشفوع فيه أو بعضه في يد المشتري من ضمانه؛ لأنه ملكه تلف في يده، وللشفيع أن يأخذ ¬

_ (¬1) البدائع (6/ 2721)، وبداية المجتهد (2/ 260)، ونهاية المحتاج (5/ 217)، والمغني (7/ 510).

الموجود بحصته من الثمن سواء كان التلف بفعل الله -تعالى- أو بفعل آدمي وسواء تلف باختيار المشتري كنقضه للبناء أو بغير اختياره مثل انهدام المبنى. 2 - ويرى الحنفية وهو قول للشافعي أن للشفيع أن يأخذ الموجود بحصته من الثمن إذا كان التلف بفعل آدمي، أما إذا كان بفعل الله -تعالى- فعليه أن يأخذه بكل الثمن أو يترك. فإذا كان التلف بفعل آدمي رجع بدله إلى المشتري فلا يتضرر، أما إذا كان بفعل الله فلا يرجع على أحد فيتضرر، والضرر لا يزال بالضرر (¬1). الراجح: نرى التفرقة بين التلف، فإذا كان بفعل آدمي أخذ الموجود بحصته من الثمن؛ لأن حق المشتري لن يضيع؛ حيث إنه سيعود على المتلف ببدله، أما إذا كان بفعل الله -تعالى- فإنما يأخذه بكل الثمن؛ لأنه بدون ذلك يحصل ضرر على المشتري، والقاعدة الشرعية: الضرر لا يزال بالضرر. والله أعلم. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (6/ 2721)، والشرح الصغير (2/ 236)، وأسنى المطالب (2/ 370)، والمغني لابن قدامة (7/ 478)، والإنصاف (6/ 282).

باب الوديعة

باب الوديعة الوديعة في اللغة: من وَدَعَ الشيء إذا تركه عند المودَع. وفي الشرع: الوديعة: توكيلُ المودِع مَنْ يحفظَ مالَه بلا عوض (¬1). الحكم الشرعي: الوديعة جائزة بل هي مستحبة لمن كان أمينا وعلم من نفسه القدرة على حفظها، وقد ورد الكتاب والسنة والإجماع بمشروعيتها: فأما الكتاب: فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (¬2). وأما السنة: فمنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أدِّ الأمانةَ إلى مَنِ ائتمنك ولا تَخُنْ مَنْ خانك" (¬3). وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على جوازها وأنها من القرب المندوبة: جاء في المبدع (¬4): "والإجماع في كل عصر على جوازها"، وجاء في الإفصاح (¬5): "واتفقوا على أنها من القُرَبِ المندوب إليها وأن في حفظها ثوابًا". وفي الحديث: "واللهُ في عونِ العبدِ ما كان العبدُ في عونِ أخيه" (¬6). أركانها: أركانها عند الجمهور أربعة وهي: الحفظ، والعاقدان، والصيغة. ¬

_ (¬1) كشاف القناع، للبهوتي (4/ 166). (¬2) سورة النساء: 58. (¬3) رواه أبو داود، كتاب البيوع، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، والترمذيُّ، كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي للمسلم أن يدفع إلى الذمي الخمر، وحسنه. (¬4) المبدع في شرح المقنع (5/ 233). (¬5) الإفصاح، لابن هبيرة (2/ 23). (¬6) أخرجه مسلمٌ (2699).

حكم عقد الوديعة

ويرى الحنفية أن ركنها الإيجاب والقبول فقط. ويشترط في العاقدين أن يكونا جائزي التصرف، ولا تصح الوديعة أو قبولها من غير جائز التصرف كالصبي والمجنون. ويشترط في الصيغة: أن تكون الوديعة بصيغة من المودع دالة على الاستحفاظ كقوله: استودعتك هذا المال، أو أودعتك، أو احفظه، أو ما في معناها، ولا يشترط في القبول لفظ، بل يكفي القبض لها (¬1). حكم عقد الوديعة: هي عقد جائز من الجانبين يملك كل منهما فسخه، قال ابن جزي: "وهي أمانة من الجهتين، فلكل واحد منهما حلها متى شاء" (¬2). ضمان الوديعة: الوديعة أمانة عند المودَعِ يلزمه حفظها في حرز مثلها وكما يحفظ ماله، ويجب ردها عند طلب صاحبها؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} (¬3). ولا ضمان على المودع إذا تلفت الوديعة عنده بدون تفريط منه؛ لأنه أمين، والأمين لا يضمن إذا لم يتعدَّ؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أودع وديعةً فلا ضمانَ عليه " (¬4). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (5/ 701)، روضة الطالبين (ص: 1137)، وكشاف القناع، للبهوتي (4/ 167). (¬2) القوانين الفقهية، لابن جزي (ص: 405)، روضة الطالبين (ص: 1137)، وكشاف القناع، للبهوتي (4/ 167). (¬3) سورة البقرة: 283. (¬4) رواه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر (2401).

قال ابن رشد: "وبالجملة فالفقهاء يرون بأجمعهم أنه لا ضمان على صاحب الوديعة إلا أن يتعدى" (¬1). ولأن المستودع يحفظها تبرعًا، فلو ضمن لامتنع الناس من قبول الودائع، فيترتب على ذلك الضرر بالناس وتعطل المصلحة، واتفق الفقهاء على أنه إذا أودعه على شرط الضمان فإنه لا يضمن. والشرط باطل (¬2). أما إذا تعدى المودَع عنده أو قَصَّر وفرط في حفظها فإنه يضمنها إذا تلفت؛ لأنه متلف لمال غيره (¬3). وأسباب التقصير والتفريط كثيرة منها: 1 - أن يودعها المودَع عند غيره دون إذن المالك فيضمن ذلك. 2 - السفر بها دون إذن صاحبها مع أن بقاءها أضْمَنُ لها. 3 - ترك الإيصاء: فإذا مرض المودع مرضًا مخوفا أو حبس للقتل لزمه أن يوصي بها، فإن لم يفعل ضمن. 4 - الانتفاع بالوديعة: فالتعدي باستعمال الوديعة والانتفاع بها يوجب الضمان عليه. 5 - المخالفة في الحفظ: فإن أمره بحفظها بوجه مخصوص فجعلها في دونه ضمن. 6 - التأخر في رد الوديعة بعد طلب صاحبها بدون عذر حتى تلفت فإنه يضمن (¬4). ¬

_ (¬1) بداية المجتهد، لابن رشد (2/ 311). (¬2) الإفصاح، لابن هبيرة (2/ 27). (¬3) البدع، لابن مفلح (5/ 233)، وانظر الملخص الفقهي، للشيخ صالح الفوزان (1/ 173). (¬4) حاشية ابن عابدين (5/ 702)، والقوانين الفقهية، لابن جزي (ص: 405)، وروضة الطالبين (ص: 1138)، وانظر البدع (5/ 234).

ادعاء المودع الرد أو التلف

ادعاء المودَع الرد أو التلف: إذا ادعى المودع أنه ردها إلى صاحبها أو من يقوم مقامه قُبِل قوله؛ لأنه مؤتمن، وإذا ادعى أنها تلفت من غير تفريطه فإنه يقبل قوله مع يمينه؛ لأنه أمين. والأصل براءته إذا لم تقم قرينة على كذبه، وأما إذا كانت دعوى التلف بحادث ظاهر كالحريق فإنه لا يقبل قوله إلا إذا أقام بينة على وجود الحادث (¬1). انقضاء الوديعة: تنقضي الوديعة بموت أحدهما أو جنونه أو عزله المودع مع علمه بالعزل، وبناء على ذلك يجب رد الوديعة إلى صاحبها (¬2). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (5/ 703)، وبداية المجتهد، لابن رشد (2/ 310)، المبدع، لابن مفلح (5/ 243)، وانظر: الملخص الفقهي، صالح الفوزان (2/ 176). (¬2) روضة الطالبين، للنووي (ص: 1138)، وكشاف القناع، للبهوتي (4/ 167).

إحياء الموات

إحياء المَوَات التعريف لغة: الموات: بفتح الميم والواو المخففة وهو ما لا روح فيه، وأرض لا مالك لها شبهت عمارتها بالحياة وتعطيلها بالموت؛ لعدم الانتفاع بالأرض بزرع وغيره، وإحياؤها: عمارتها. ويطلق عليها كذلك الأراضي البور: فالبور بالضم هي الأرض التي لم تعمر بالزرع (¬1). واصطلاحًا: إعداد الأراضي التي لا مالك لها ولم يسبق تعميرها وتهيئتها وجعلها صالحة للانتفاع بها في السكن والزرع ونحو ذلك (¬2). الحكم الشرعي ودليله: شرع الإسلام إحياء الأرض التي لا مالك لها وليس لها اختصاص بمصالح الناس ومرافقهم، فالإسلام يُرَغِّبُ أن يتوسع الناس في العمران وينتشروا في الأرض ويحيوا مواتها فتكثر ثرواتهم وبهذا يتحقق لهم القوة. ودليل مشروعيته السنة والإجماع: أما السنة: 1 - ما روي عن سعيد بن زيد -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحيا أرضًا ميتةً فهي له" (¬3). 2 - عن عروة عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من عَمَّرَ أرضًا ليست لأحدٍ فهو أحقُّ بها"، قال عروة -رضي الله عنه-: "وقضي به عمر في خلافته" (¬4). ¬

_ (¬1) لسان العرب، لابن منظور (1/ 385). (¬2) توضيح الأحكام (5/ 70)، وفقه السنة (3/ 302). (¬3) رواه أبو داود، والنسائيُّ، والترمذيُّ، في باب في إحياء أرض الموات، وحسنه. (¬4) روه البخاري حديث رقم (2335).

وأما الإجماع

وأما الإجماع: فقد جاء في المغني: "وجملته أن الموات قسمان: أحدهما ما لم يجر عليه ملك لأحد ولم يوجد فيه أثر عمارة، فهذا يملك بالإحياء بغير خلاف بين القائلين بالإحياء" (¬1)، فقد حكى ابن هبيرة الاتفاق على جواز إحياء الأرض الميتة (¬2). كيفية الإحياء (بم يتم الإحياء)؟ إحياء الأرض الموات: يتم بأن يحوزها بحائط منيع، وبناء ما جرت عادة أهل البلد البناء به من لبن أو قصب أو خشب ونحوه، وبه يقول أبو حنيفة وأحمدُ، وقال مالك: بما يعلم بالعادة أنه إحياء لمثلها من بناء وغرس وحفر بئر وغيره. وعن أحمد: إحياء الأرض ما عده الناس إحياء واختاره ابن عقيل والموفق؛ لأن الشرع ورد بتعليق الملك عليه ولم يبينه، فوجب الرجوع إلى ما كان إحياءً في العرف، وقال الشافعي: إن كانت للزرع فبزرعها واستخراج ماء لها وإن كانت للسكنى فيقطعها بيوتًا ويسقفها. والأولى: القول باعتبار العرف في ذلك من إحياء أو عدمه؛ لأن الحديث أطلق فيرجع في تحديده للعرف. شروط إحياء الموات: 1 - أن تكون الأرض المحياة مواتًا لم يجر عليها ملك لأحد وألا تكون مرفقا لصالح المسلمين من طرق وميادين وحدائق ومقابر ومسايل مياه وغيرها. 2 - أن يتم الإحياء على وفق ما يراه العرف إحياء، لورود ذلك عامًا في الحديث. ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة (8/ 146). (¬2) الإفصاح، لابن هبيرة (2/ 49).

إذن الإمام في الإحياء

إذن الإمام في الإحياء: اتفق الفقهاء على أن الإحياء سبب للملكية، واختلفوا في اشتراط إذن الحاكم في الإحياء: فقال أبو حنيفة: يحتاج إلى إذنه، وقال مالك: ما كان في الفلاة وحيث لا يحرص الناس عليه فلا يحتاج إلى إذنه، وما كان قريبًا من العمران حيث يحرص الناس عليه افتقر إلى الإذن، وقال الشافعي وأحمدُ: لا يفتقر إلى الإذن، قال في كشاف القناع: ولا يشترط إذن الإمام، وهو مذهب جمهور العلماء؛ لإطلاق الحديث في ذلك (¬1). الراجح: نرى أن الراجح هو القول بأن الإحياء يحتاج إلى إذن الإمام؛ وذلك لما يأتي: 1 - أن المصلحة تقتضى القول به في هذا العصر، تنظيمًا لشؤون المسلمين ومصالحهم؛ إذ لو ترك الناس وشأنهم في الإحياء لأدى إلى فتن ومشاكل بين الأفراد والقبائل ولا سيما في الوقت الحاضر الذي ينتشر فيه الإحياء بتوفر وسائله من آلات وأجهزة للحفر والسقي وغيرها ولترتب على ذلك إغلاق الطرق والتضييق على الناس في مرافقهم ومصالحهم، والقصد بإذن الإمام ليس المنع لمجرد المنع، وإنما لتنظيم مصالح الناس وشؤونهم والإذن لهم بالإحياء بما لا يتعارض مع المصالح العامة ولا يترتب عليه مشاكل فردية أو جماعية، وفي ذلك جمع بين المصلحة الفردية والجماعية. قال الشيخ ابن بسام نقلًا عن سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: ولا شك أن منع ولي الأمر إحياءَ بعض الأرض معناه اختصاصه بها؛ لما يعود على المسلمين بالمصلحة العامة، وعليه فالإحياء على هذه الصورة غير صحيح. ¬

_ (¬1) الإفصاح، لابن هبيرة (2/ 49).

هل التحجر إحياء؟

هل التحجر إحياء؟ التحجر: هو الإمساك بأرض وإعلامها بِعَلَمٍ أو حائطٍ. أنواع التحجر: من أنواع التحجر أن يحيط الأرض بجدار ليس بمنيع، أو يبني الجدار ببعض الجوانب دون بعض، أو أن يحيط الأرض بشبك أو خندق أو حاجز ترابي، أو أن يحفر بئرًا فلا يصل إلى الماء. حكمه: التحجر يفيد إلاختصاص والأحقية على غيره ولا يفيد التملك (¬1). مدة التحجر: مدة التحجر ثلاث سنين، فإن أحياها وإلا فلولي الأمر نزعها وإعطاؤها غيره ممّن يرغب إحياءها، عن طاوس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عادي الأرضِ لله وللرسولِ، ثم لكم من بعدُ، فمن أحيا أرضًا ميتةً فهي له، وليس لمحتجر حقٌّ بعدَ ثلاثِ سنينَ" (¬2). حريم الآبار: إذا حفر بئرًا من يريد الإحياء ووصل إلى الماء فإن حريمه هو خمسون ذراعًا (¬3) من كل جانب إن كانت البئر قديمة، وخمس وعشرون ذراعًا إن كانت ¬

_ (¬1) توضيح الأحكام (5/ 76). (¬2) الخراج، لأبي يوسف (ص: 65)، دار المعرفة، لبنان. (¬3) ذراع القياس: وحدة قياس للأطوال، كانت تستعملها عدةُ حضاراتٍ قديمة. وهي مبنية على طول الساعد بدءًا من طرف الأصبع الوسطى إلى المرفق، وقد استعملها العرب والبابليون والمصريون القدماء والعراقيون، وهو تقريبًا 46 سم، الموسوعة العربية العالمية (10/ 639).

إقطاع الإمام الأراضي

جديدة (¬1)، لما روى الدارقطني بإسناده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "حريمُ البئرِ البدئ خمسةٌ وعشرون ذراعًا، وحريمُ العادي خمسون ذراعًا " (¬2). وقال القاضي وغيره: "حريمها في الحقيقة ما يحتاج إليه في ترقية مائها منها". وجاء في سنن الدارقطني من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وعينُ الزرعِ ستمائة ذراعٍ "، وهذا قول أكثر العلماء. وقال مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: "الحافر لغير الشرب كمريد إحياء الأرض للفلاحة، فله ما حواليه مقدار الزرع؛ لأنه جاء ليزرع، فما كان حواليه فلا يعترضه أحد؛ لأنه سبق إليها فيترك له ما جرت العادة به أن يزرع" (¬3). إقطاع الإمام الأراضي: الإقطاع: تعيين قطعة من الأرض لغيره، يقال: أقطع الإمام إقطاعًا: جعلها للمقطع، وهو مأخوذ من القطع كأنه يقطع له قطعة من الأرض، وهو إعطاء أرضٍ مواتٍ لن يكون أهلًا لإحيائها. حكل الإقطاع ودليله: يجوز للإمام أن يقطع أرضًا مواتا لمن يحييها إذا كان في ذلك مصلحة ولا يترتب عليه مضرة، ودليله السنة ومنها: عن عروة بن الزبير أن عبد الرحمن بن عوف قال: "أقطعني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وعمرَ بنَ الخطابِ أرضَ كذا وكذا" رواه أحمد. ¬

_ (¬1) العدة شرح العمدة، عبد الرحمن القدسي (ص: 256). (¬2) الحديث رواه الدارقطني (4/ 220)، والبئر العادي: هي القديمة نسبة إلى عاد، والبئر البديء: هي الجديدة غير القديمة وهي التي حفرت في الإسلام. (¬3) توضيح الأحكام، لابن بسام (5/ 89).

أنواع الإقطاع

وعن علقمة بن وائل عن أبيه -رضي الله عنها- "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقطعه أرضًا في حضرموت". قال أبو يوسف: "فقد جاءت الآثار بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقطع أقوامًا وأن الخلفاء من بعده أقطعوا. وهذا مصلحة للمسلمين في عمارة الأرض وتقوية المسلمين". أنواع الإقطاع: الإقطاع ثلاثة أنواع: 1 - إقطاع قصد به تمليك المقطَع لما أُقْطِعَ، وفي المذهب الحنبلي أن المقطع لا يملك الموات بالإقطاع وإنما يصير كالمتحجر، فإن أحياه ملكه، وإن لم يُحْيهِ ضرب له الإمام مدة: إن أحياه فيها، وإلا استرجعه. ولا ينبغي للإمام أن يقطع إلا ما قدر المقطع على إحيائه؛ لأن في إقطاعه أكثرَ من ذلك تضييقًا على الناس في حق مشترك بينهم، وقد استرجع عمر في خلافته من بلال بن الحارث ما عجز عن عمارته من العقيق الذي أقطعه النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم: لا يقطع كل فرد إلا الشيء الذي يقدر على إحيائه؛ لأن في إقطاعه أكثرَ من ذلك تضييقًا على الناس في حق مشترك بينهم. وقال في شرح الإقناع: ولا يجوز للإمام إقطاعُ ما لا يجوز إحياؤه مما قرب من العامر وتعلق بمصالحه؛ لأنه في حكم المملوك لأهل العامر. وقالت الهيئة القضائية في الديار السعودية: إقطاع الأرض الموات لا يسري على أملاك الآخرين ومرافق البلد ومصالحها وما تحتاج إليه. 2 - إقطاع استغلال: بأن يُقْطِعَ الإمام من يرى مصلحةً في إقطاعه؛ لينتفع بالشيء الذي أقطعه، فإذا انتفت المصلحة فللإمام استرجاعه. 3 - إقطاع إرفاق: بأن يقطع الإمام أو نائبه الباعةَ الجلوسَ في الميادين والأسواق ونحوها (¬1). ¬

_ (¬1) توضيح الأحكام (5/ 92).

باب الجعالة

باب الجعالة التعريف لغة: الجُعْلُ بالضم الأجرُ، يقال: جَعَلْتُ له جُعْلًا، والجعالة بكسر الجيم وفتحها. قال ابن فارس: الجُعل والجَعالة والجَعيلة: ما يعطاه الإنسان على أمر يفعله (¬1). واصطلاحًا: هي جعل شيءٍ -من المال- معلوم لمن يعمل له عملًا مباحًا ولو كان مجهولًا، أو لمن يعمل له مدة ولو كانت مجهولةً (¬2). حكم الجعالة ودليل مشروعيتها: الجعالة جائزة ومشروعة: قال ابن هبيرة: "واتفقور على أن رادَّ الآبق يستحق الجعل برده إذا اشترطه"، ودليل ذلك الكتاب والسنة والمعقول: فأما الكتاب فقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (¬3). وكان حمل البعير معلومًا عندهم، وشرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه. وأما السنة: فما روى أبو سعيد الخدري أن ناسًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أتوا حيًا من أحياء العرب فلم يُقْرُوهم، فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك، فقالوا: هل فيكم راقٍ؟ فقالوا: لم تقرونا فلا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلًا، فجعلوا لهم قطيع شياه، فجعل رجل يقرأ بأم القرآن، ويجمع بزاقه ويتفل، فبرأ الرجل، فأتوهم بالشاء، فقالوا: لا نأخذها حتى نسأل عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "وما أدراك أنها رقيةٌ؟ خذوها، واضربوا لي معكم بسهمٍ" (¬4). ¬

_ (¬1) القاموس المحيط، مادة: "جعل". (¬2) كشاف القناع (4/ 203). (¬3) سورة يوسف: 72. (¬4) رواه البخاري في الجامع الصحيح [5/ 2166 (5404)] ط. الثالثة.

الفرق بين الجعالة والإجارة

وأما المعقول: فإن حاجة الناس قد تدعوا إليها لرد مالٍ ضائعٍ أو عملٍ لا يقدر عليه الجاعل ولا يجد من يتطوع به، ولا تصح الإجارة عليه لجهالته، فجازت شرعًا للحاجة إليها كالمضاربة (¬1). الفرق بين الجعالة والإجارة: 1 - صحة الجعالة على عمل مجهول يعسر ضبطه وتعيينه كرد مال ضائع خلافًا للإجارة. 2 - صحة الجعالة على عامل غير معين. 3 - كون العامل لا يستحق الجعل إلا بعد تمام العمل. 4 - لا يشترط في الجعالة تلفظ العامل بالقبول. 5 - الجعالة عقد غير لازم خلافًا للإجارة (¬2) أركان الجعالة: أركانها: العاقدان، والصيغة، والعمل، والجعل. وتنعقد بما يدل على الإذن في العمل بعوض يلتزمه من قول أو فعل (¬3). حكم عقد الجعالة: وهي عقد جائز، لكل واحد منهما فسخها قبل الشروع في العمل، فإذا شرع في العمل، فإن كان الفسخ من العامل لم يستحق شيئًا؛ لأنه لم يأت بما شرط عليه، وإن ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة (8/ 327). (¬2) المبدع في شرح المقنع (5/ 269). (¬3) روضة الطالبين (ص: 917).

شروط الجعالة

فسخها الجاعل فعليه أجرة المثل للعامل؛ لأنه عمل بعوض لم يُمكَّنْ من إتمامه (¬1). شروط الجعالة: 1 - أن يكون العمل مباحًا، فلا يصح عقد الجعالة على شيء غير مباح كخمر وغناء ونحوها. 2 - أن يكون الجعل مالًا معلومًا جنسًا وقدرًا؛ لأن جهالة العوض تُفَوِّتُ المقصود من عقد الجعالة. 3 - أن يكون الجعل طاهرًا مقدورًا على تسليمه ومملوكًا للجاعل. 4 - أن يتم العامل العمل المجاعل عليه ويفرغ منه ويسلمه للجاعل (¬2). تخصيص الإذن والجعل لشخص محدد: إذا حدد الجاعل شخصًا بعينه في الإذن واستحقاق الجعل فإنه يتحدد بذلك عند الشافعية والحنابلة ولا يستحق الجعلَ أحدٌ غيره، وإذا قام غيره بذلك فإنه يعتبر متبرعًا، وقال المالكية: يستحق جعل المثل إن كان معروفًا بأداء مثل هذا العمل بعوض، وإلا فله النفقة (¬3). اختلاف المتعاقدين في الجعالة وتنازعهما: إذا حدث خلاف بين العاقدين فقد اختلف الفقهاء في ذلك على وفق الآتي: إذا اختلفا في بذل الجعل وتسميته، فقال العامل بذلت جعلًا، وأنكر الجاعل، فإن على العامل أن يثبت قوله ببينة، وإلا فإن القول قول الجاعل بيمينه؛ لأن الأصل براءته. ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (ص: 919)، والمباع شرح المقنع (5/ 269). (¬2) نهاية المحتاج (4/ 345)، والمغني، لابن قدامة (6/ 351)، وبدائع الصنائع (8/ 387). (¬3) نهاية المحتاج، للرملي (4/ 345)، وحاشية الدسوقي (4/ 66)، وكشاف القناع (4/ 302).

آثار عقد الجعالة

وإن اختلفا في قدر الجعل أو في جنسه أو صفته فإن الشافعية يرون أنهما يتحالفان وينفسخ العقد ويجب للعامل أجرة المثل إذا كان ذلك بعد الشروع في العمل أو بعد إنهائه، وهو رواية عند الحنابلة، ويرى الحنابلة كذلك أن القول قول الجاعل بيمينه؛ لأن الأصل عدم الزائد المختلف فيه. ويرى المالكية أنه إذا ادعى أحدهما ما يكون جعلًا مناسبًا فالقول قوله بيمينه، وإن لم يدع أحدهما ما يكون جعلًا مناسبًا فإنهما يتحالفان ويجب للعامل جعلٌ مثلُه. وإن كان الاختلاف في حصول العمل أو قدره فالقول قول الجاعل بيمينه لأنه منكر والأصل براءته ما دام لم يوجد بينة عند العامل (¬1). آثار عقد الجعالة: يترتب عليه آثار منها: 1 - لزوم عقد الجعالة بعد تمام العمل؛ لأن الجعل قد استقر على الجاعل. 2 - أن يد العامل على ما وقع في يده من مال الجاعل يد أمانة لا ضمان عليه ما لم يفرط. 3 - أن نفقة العامل على المال المجاعل عليه على المالك؛ لأن الإنفاق مأذون فيه شرعًا؛ لحرمة النفس وصيانة للمال (¬2). انتهاء عقد الجعالة: تنفسخ الجعالة بالأسباب الآتية: ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (4/ 67)، ومغني المحتاج (2/ 95)، والمغني (6/ 354). (¬2) الخرشي على مختصر خليل (7/ 76)، وأسنى المطالب (3/ 443)، والمغني (6/ 351).

1 - موت أحد المتعاقدين أو جنونه جنونًا مُطْبِقًا، وعند المالكية أنه إذا شرع العامل في العمل فلا تنفسخ بذلك ويلزم العقد ورثة كل من الجاعل والعامل إن كان ورثة العامل أمناء. 2 - فسخ العامل للجعالة. 3 - فسخ الجاعل قبل الشروع في العمل (¬1). ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (4/ 65)، وتحفة المحتاج (2/ 369)، وكشاف القناع (2/ 419).

باب اللقطة

باب اللقطة التعريف لغة: اللُقَطة بفتح القاف: اسم للمُلْتَقِطِ؛ لأن ما جاء على فُعَلَة فهو اسم للفاعل كقولهم: هُمَزة. واللُقْطَةُ بسكون القاف: المال الملقوط، وقال الأصمعي وغيره: هي بفتح القاف، اسم للمال الملقوط أيضا. واصطلاحًا: هي مال أو مختص ضاع من ربه (¬1). أركان اللقطة: أركانها ثلاثة: الالتقاط، والملتقط، واللقطة (¬2). الحكم الشرعي ودليله: يجوز أخذ اللقطة، ودليله السنة وذلك ما روى زيد بن خالد الجهني قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لقطة الذهب والورق، فقال: "اعْرِفْ وكاءَها وعفاصَها، ثم عَرِّفْها سنةً، فإن لم تُعْرَفْ فاستنفقْها، ولتكنْ وديعةً عندَك، فإن جاء طالبُها يومًا من الدهرِ فادفعْها إليه ... " الحديث (¬3). قال ابن هبيرة: واتفقوا على جواز الالتقاط في الجملة (¬4). أنواع اللقطة: تنقسم إلى أربعة أنواع: 1 - ما لا يتبعه همة أوساط الناس كالسوط والنقد اليسير فهذا يملك بلا تعريف. ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة (8/ 290). (¬2) بداية المجتهد (2/ 304). (¬3) أخرجه البخاريُّ (1/ 65)، ومسلمٌ (3/ 1347). والوكاء: الخيط الذي يشد به المال في الخرقة. والغفاص: الوعاء الذي هي فيه. (¬4) الإفصاح (2/ 62).

حكم الالتقاط

2 - الضوالُّ التي تمتنع من صغار السباع والظباء والطيور فهذا لا يجوز التقاطه. 3 - لقطة الحرم: وهذه يحرم التقاطها إلا لمن يريد تعريفها أبدًا. 4 - ما عدا ذلك من الأموال والحيوان والمتاع فهذه يحل التقاطها ويعرفها سنة (¬1). حكم الالتقاط: ومع اتفاقهم على جواز الالتقاط في الجملة إلا أنهم اختلفوا ما هو الأفضل والأولى: 1 - ذهب الحنفية والشافعية إلى أنه إذا خاف عليها الضيعة لو تركها، فأخذُها لصاحبِها أفضلُ من تركها؛ لما فيه من حفظ مال أخيه المسلم. 2 - وذهب مالك إلى كراهية الالتقاط، وروي عن ابن عمر وابن عباس، وقال الإمام أحمد: الأفضل ترك الالتقاط؛ لأن في أخذها تعريضًا لنفسه لأكل الحرام وتضييعًا للواجب من تعريفها، فكان تركه أولى وأسلم. وقال ابن هبيرة: والذي أرى أنه إذا أخذها ناويًا بأخذها حفظها لصاحبها واثقا من نفسه بتحمل الأمانة في ذلك فإن الأفضل أخذها، وإن كان يخاف منها الفتنة وألا يستطيع القيام بواجبها فليتركها. وهذا قول جيد وفيه جمع بين الأقوال الواردة في اللقطة. تعريف اللقطة: يجب على من التقط لقطة مما يجوز التقاطه وتتبعه همة أوسَطِ الناس (¬2) أن يعرفها سنة كاملة؛ لحديث زيد بن خالد حيث أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بعام واحد وذلك ¬

_ (¬1) المبدع في شرح المقنع (5/ 275). (¬2) يختلف ما تتبعه همة أوساط الناس من مكان إلى آخر ومن زمان إلى غيره، وقد يكون ذلك في البلاد السعودية هو خمسون ريالًا.

متى يملك اللقطة؟

في الأسواق وأبواب المساجد ومجامع الناس، وفي النهار وأن يذكر جنسها سواء قام به الملتقط بنفسه أو أناب عنه من يقوم به (¬1). ويكفي في وقتنا الحاضر الإعلان بوسائل الإعلام المختلفة من صحف وإذاعة وغيرها. ومتى جاء صاحبها فذكرها وبين قدرها وجنسها وصفتها، لَزِمَ دفعُها إليه بلا بينة ولا يمين عند الحنابلة والمالكية؛ لحديث زيد بن خالد المذكور، وقال الحنفية والشافعية: لا يجبر على ذلك إلا ببينة (¬2). متى يملك اللقطة؟ إذا عَرَّفَ الملتقط اللقطة حولًا فلم تُعْرف، ملكها ملتقطُها، وصارت من ماله إذا كان فقيرًا وذلك باتفاق فقهاء الأمصار. وإذا كان غنيًا فإن له أن يتصدق بها، فإن جاء صاحبها فهو مخير بين إجازة الصدقة أو أن يضمنه إياها، واختلف الفقهاء في الغني: هل له أن يأكلها أو ينفقها بعد الحول؟ فقال مالك والشافعيُّ وأحمدُ: له ذلك ويضمنها لصاحبها، وقال أبو حنيفة: ليس له أن ينتفع بها. الراجح: أن للملتقط بعد تعريفها وفقًا لشروطها أن ينتفع بها ويضمنها لصاحبها إن جاء؛ وذلك لأن الحديث الصحيح الوارد فيها قد جاء فيه: "فشأنك بها" وهو عام لم يفرق بين غني وفقير (¬3). ¬

_ (¬1) البدائع، للكاساني (8/ 3865)، وجواهر الإكليل (2/ 218)، ونهاية المحتاج (5/ 427)، والمغني، لابن قدامة (8/ 291). (¬2) المبدع (5/ 285). (¬3) بدائع الصنائع (8/ 3870)، وبداية المجتهد (2/ 306)، ونهاية المحتاج (5/ 442)، والمغني، لابن قدامة (8/ 299).

لقطة الحرم

لقطة الحرم: 1 - ذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية ورواية عن الشافعي وأحمدُ إلى أن لقطة الحرم كغيرها، له أخذها ليعرفها ويملكها بعد السنة، وقد روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعائشة مستدلين على ذلك بعمومِ أحاديثِ إباحةِ الالتقاطِ. 2 - وذهب الشافعي في الصحيح عنده وهو رواية عن أحمد إلى أنه لا يحل التقاطها إلا لمن يعرفها أبدًا إلى أن يجد صاحبها فيدفعها إليه، ولا يملكها بعد مضيِّ الحول واختاره ابن تيمية، مستدلين على ذلك بما جاء في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ولا تحلُّ ساقطتُها إلا لمنشدٍ"، والمنشد هو المعرف، واعتبروا هذا من خصائص مكة؛ لشرفها وحرمتها (¬1). ويلحق بها لقطة الحاج ولو كانت خارج الحرم؛ لحديث: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لقطةِ الحاجِّ" رواه مسلم (¬2). وحيث إنه في الوقت الحاضر قد كثر الحجاج والناس مما يصعب معه التعريف في الأسواق وأماكن تجمعهم، فإن المناسب أن تدفع إلى قسم الأمانات بإدارة الحرم حيث تتولى القيام بذلك، كما أن الناس قد تعارفوا على أن المفقودات توجد -غالبًا- عند قسم الأمانات، وهذا أحفظ لها وأولى أن يجدها صاحبها، والله أعلم. ضياع اللقطة وتلفها: اللقطة أمانة في يد الملتقط، فإن ضاعت أو تلفت بغير تفريطه أو نقصت فلا ضمان عليه كالوديعة، وإن أتلفها الملتقط أو تلفت أو ضاعت بتفريطه ضمنها ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (8/ 3871)، ونهاية المحتاج (5/ 445)، وجواهر الإكليل (2/ 218)، والمغني (8/ 305). (¬2) أخرجه مسلمٌ (1724).

بمثلها إن كانت من ذوات الأمثال، وبقيمتها إن لم يكن لها مثل، فإن مات الملتقط قام وارثه مقامه في إتمام تعريفها إن مات قبل الحول، ويملكها بعد إتمام التعريف، ومتى جاء صاحبها أخذها من الوارث كما يأخذ من الموروث (¬1). ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة (8/ 313).

باب اللقيط

باب اللقيط التعريف لغة: لقيط فعيل بمعنى مفعول، وسمي لقيطًا باعتبار أنه يُلْقَطُ (¬1). واصطلاحًا: هو الطفل غير البالغ يوجد في الشارع أو ضالُّ الطريق ولا يعرف نسبه (¬2). حكم التقاطه ودليله: التقاطه فرض كفاية؛ لأن فيه إحياء نفس (¬3)، والأصل فيه قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (¬4). نسبه: إذا ادَّعى نسبَ اللقيط أحدٌ ألحق به، لما فيه من مصلحة اللقيط دون مضرة على غيره، وبهذا يثبت نسبه وإرثه لمدعيه. فإن ادعاه أكثر من واحد ثبت نسبه لمن أقام البينة على دعواه، فإن لم يكن بينة عرض على القَافَةِ، وهم الذين يعرفون الأنساب بالشبه، وإذا حكم القائف بنسبه أخذ بحكمه إذا كان ذكرًا مكلفًا عدلًا مجربًا في الإصابة (¬5). وذلك لما جاء عن عائشة -رضي الله عنها- في حديث زيد وأسامة وقول مُجَزَّز المُدْلجي: "إن هذه الأقدامَ بعضُها من بعضٍ" رواه البخاري ومسلمٌ. ¬

_ (¬1) نهاية المحتاج (5/ 446). (¬2) فقه السنة (3/ 359). (¬3) المبدع في شرح المقنع (293). (¬4) سورة المائدة: 32. (¬5) بدائع الصنائع (8/ 3861)، وجواهر الإكليل (2/ 220)، وروضة الطالبين (ص: 989)، وكشاف القناع (4/ 235).

حريته وإسلامه

ونظرًا لتقدم الطب في هذا العصر فإنه بالإمكان الاعتماد على التقرير الطبي بعد التحليل واختبار المورثات (¬1) لتحديد النسب. والله أعلم. حريته وإسلامه: اللقيط حر: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن اللقيط حر؛ فإن الله -تعالى- خلق آدم وذريته أحرارًا، وإذا وجد لقيط في دار الإسلام فهو مسلم يحكم بإسلامه. نفقة اللقيط وميراثه: ينفق على اللقيط من ماله إن كان معه مال، فإن لم يوجد معه مال فنفقته من بيت المال؛ لأن بيت المال معد لحوائج المسلمين؛ لحديث: "من ترك كلًا أو ضياعًا فإليَّ" أخرجه البخاريُّ، قال ابن حجر في فتح الباري: والْكل والضَّياعُ هو العيال، وأراد المصنف بإدخاله في أبواب النفقات الإشارةَ إلى أن من مات وله أولاد ولم يترك لهم شيئًا فإن نفقتهم تجب في بيت مال المسلمين (¬2). كما أن اللقيط إذا مات وترك ميراثًا ولم يخلف وارثًا كان ميراثه لبيت المال. وفي الوقت الحاضر فإن الحكومات تقيم الملاجئ لهم وترعاهم من حيث التربية والتعليم وتساعد من يقوم على رعايتهم وتربيتهم ماديًا، كما أنه يطلق عليهم ودُورِهِم: (رعاية الأيتام)، وذلك حسن؛ لما يعود فيه من مصلحة على الفرد والمجتمع. ¬

_ (¬1) المورثة: جزء من الخلية يحدد صفات الكائن الحي الموروثة من الأبوين وتحدد المورثات خصائص الجنس والطول، وهي مركبة من الحمض النووى (dna). الموسوعة العربية العالمية (24/ 381). (¬2) فتح الباري (9/ 516).

كتاب الوقف

الفِقهُ الميَسَّر كتاب الوقف

الحكم الشرعي ودليله

كتاب الوقف تعريفه لغة: الوقف مصدر وقف، ووقفَ الشيء وحبَسه وسبَّله بمعنىً واحدٍ. واصطلاحًا: تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة. الحكم الشرعي ودليله: الوقف مستحب ومندوب إليه، وقد جاءت بذلك السنة الشريفة: فمن ذلك ما روى عبد الله بن عمر قال: أصاب عمر أرضًا بخيبر فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصب قط مالًا أنفس عندي منه، فما تأمرني فيها؟ فقال: "إن شئتَ حبسْتَ أصلَها وتصدَّقْتَ بها، غيرَ أنه لا يباعُ أصلُها، ولا يُبْتَاعُ، ولا يوهَبُ، ولا يورَثُ"، قال: فتصدق بها عمر في الفقراء وذوي القربى والرقاب وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وَلِيَهَا أن يأكل منها، أو يطعم صديقًا بالمعروف غير متأثِّلٍ فيه (¬1)، أو غير متموِّلٍ فيه (¬2). وما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا مات ابنُ آدمَ انقطع عملُه إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنْتَفَعُ به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له" (¬3). قال جابر: لم يكن أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ذو مقدرة إلا وقف، وقال الترمذيُّ بعد ذكر حديث ابن عمر المذكور: العمل على هذا الحديث عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، لا نعلم بين أحد من المتقدمين منهم في ذلك اختلافًا، وقد وقف الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة، واشتهر ¬

_ (¬1) تأثل فلان: إذا ادخَّر مالًا ليستثمره. المعجم الوسيط، مادة: أثل. (¬2) أخرجه البخاريُّ (3/ 260)، ومسلمٌ (3/ 1255). (¬3) أخرجه مسلمٌ (3/ 1255)، وأبو داود (2/ 106).

حكم عقد الوقف من حيث اللزوم

ذلك فلم ينكره أحد فكان إجماعًا (¬1). قال ابن هبيرة: "واتفقوا على جواز الوقف" (¬2). وحيث إن الأعمال الخيرية في العصر الحاضر كثيرة ومتعددة ومنتشرة في أنحاء العالم الإسلامي، كما أنها تتناول يختلف الأنشطة من علمية واجتماعية وصحية واقتصادية وغيرها ويحتاج الإنفاق عليها إلى أموال طائلة قد لا يتمكن الأفراد من القيام بها في صدقاتهم وأوقافهم، ولذلك اتجهت بعض المؤسسات إلى إنشاء الأوقاف الكبيرة؛ مواكبة لاحتياج فئات المجتمع، وعملت على أن تكون مساهمة من أهل الخير ومحبي الإحسان؛ لإمكان النهوض بالواجبات المنوطة بها ولضمان استمرار الإنفاق على الأعمال الخيرية على مدى العصور. فقد تكون هناك وفرة مالية في زمن ولا تتوفر في زمن آخر، وذلك من السنة الحسنة التي يعم نفعها وتكثر فائدتها، وهو من الصدقة الجارية التي يمتد خيرها ويعظم برها، وفق الله القائمين على تلك المؤسسات إلى انتهاج أفضل السبل وأكثرها جدوى، والله الهادي إلى سواء السبيل. حكم عقد الوقف من حيث اللزوم: الوقف عقد لازم يلزم بمجرد القول أو الفعل مع دلالته عليه؛ لأنه تبرع، وهو قول عامة الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وأبي يوسف ومحمَّد من الحنفية، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يباعُ أصلُها ولا يُوهَبُ ولا يُوَرَّثُ" فلا يجوز فسخه بإقالة ولا غيرها. وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه عقد جائز يجوز الرجوع عنه حال حياته مع ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة (8/ 184). (¬2) الإفصاح (2/ 52).

القبول في الوقف

الكراهة ويورث عنه، ولا يلزم عنده إلا بأحد أمرين: إما أن يحكم به القاضي، أو يخرجه مخرج الوصية به بعد الموت. الراجح: أن الوقف عقد لازم؛ لحديث عمر -رضي الله عنه- المذكور. قال الترمذيّ: العمل على هذا الحديث عند أهل العلم، وإجماع الصحابة على ذلك، ولأنه تبرع يمنع البيع والهبة وهو إزالة ملك، فإذا نجزه في الحياة لزم كالعتق. القبول في الوقف: الوقف تبرع والتزام، وقد أجمع الفقهاء على أن الوقف إذا كان لجهة غير محصورة فإنه لا يحتاج في لزومه إلى قبول، أما إذا كان الوقف لمعين فقد اختلف الفقهاء في ذلك على النحو الآتي: 1 - فيرى جمهور الفقهاء أن الوقف يتم بعبارة الواقف ولا يفتقر إلى القبول من الموقوف عليه؛ لأنه تبرع، وفيه إزالة ملك يمنع البيع والهبة والميراث فلم يعتبر فيه القبول، كما أن الوقف يتم ولا حاجة إلى القبض فيه. 2 - ويرى بعضهم وهو رواية في مذهب أحمد أنه يشترط القبول من الموقوف عليه المعين كالهبة والوصية، فالوصية لآدمي معين تتوقف على قبوله فكذا هنا، كما أنه يشترط للزوم الوقف أن يتم القبض فيه كالهبة (¬1). الراجح: عدم اشتراط القبول والقبض فيه من الموقوف عليه؛ لأنه تبرع، والمعين في ذلك كغيره من أنواع الوقف من حيث عدم لزوم اشتراط قبوله وقبضه. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (4/ 366)، والشرح الكبير (2/ 267)، والمهذب (1/ 448)، والمغني (8/ 187).

أركان الوقف

أركان الوقف: أركان الوقف أربعة: 1 - الواقف: ويكون أهلًا للتبرع. 2 - الموقوف: وهي كل عين مملوكة للواقف. 3 - الموقوف عليه: وهو إما أن يكون شخصًا أو جماعة معينة أو جهة. 4 - الصيغة: يلزم الوقف بمجرد اللفظ، وألفاظ الوقف منها ما هو صريح وهي: وقفت، وحبست، وسبلت، فيصير وقفًا من غير انضمام أمر آخر، ومنها ما هو كناية وهي: تصدقت، وحرمت، وأبدت ... ويصير وقفًا بها مع النية أو أن ينضم إليها ما يوضحها ويدل على أنه أراد بها الوقف نحو صدقة موقوفة أو صدقة لا تباع. كما يلزم الوقف بالفعل مع القرائن الدالة عليه مثل أن يبني مسجدًا ويأذن للناس في الصلاة فيه (¬1). شروط الوقف: يشترط للوقف شروط أربعة: 1 - أن يكون الوقف في عين يجوز بيعها ويمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها كالعقار والحيوان والأثاث والسلاح ونحوه. 2 - أن يكون الوقف على بر كالمساكين والمساجد والأقارب مسلمين أو من أهل الذمة. 3 - أن يقف على معين ولا يصح على مجهول كرجل. ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (ص: 936)، والمغني (8/ 190).

الملكية في الوقف

4 - أن يقف ناجزًا، فإن علقه بشرط لم يصح إلا أن يقول: هو وقف بعد موتي. فيصح. (¬1) الملكية في الوقف: اختلف الفقهاء في ذلك على ما يأتي: 1 - يرى الإمام مالك وهو رواية عن أحمد وقول للشافعي أن الوقف تبقى ملكيته للواقف ولا تخرج عنها؛ وذلك لما ورد في الحديث: "حبس الأصلَ وسبِّلِ الثمرةَ"، وتحبيس الأصل لا يقتضي خروجه عن ملك الواقف بل إقراره في ملكه، ولأن الوقف إنما هو تصرف في غلال الأعيان الموقوفة، وذلك لا يقتضي أن تخرج الأعيان من ملك أصحابها بل تبقى وتكون منفعتها لجهة أو شخص آخر كما هو الشأن في الوصية بالمنافع، وقال في نهاية المحتاج: "وفي قول يملكه؛ لأنه إنما أزال ملكه عن فوائده". 2 - أن الوقف تخرج ملكيته من الواقف إلى الموقوف عليهم، وهو ظاهر مذهب أحمد وقول للشافعي. قال أحمد: "إذا وقف داره على ولد أخيه صارت لهم، وهذا يدل على أنهم ملكوه". 3 - ذهب الحنفية وهو أرجح الأقوال عند الشافعي إلى أن الوقف يخرج من ملك الواقف إلى غير مالك من العباد، بل تكون الملكية على حكم ملك الله -تعالى-، وبهذا يقول الظاهرية وغيرهم. واحتج أولئك بأن بعض الروايات في حديث عمر المشهور: "تَصَدَّقْ بأصلِه"، والتصدق بالأصل يقتضي خروجه عن ملك الواقف، ولا يمكن إدخاله ¬

_ (¬1) المبدع، لابن مفلح (5/ 315)، وروضة الطالبين (ص: 941).

تأبيد الوقف

في ملك أحد من العباد، ولما كان الخروج إنما هو على وجه الصدقة وهي لا يراد بها إلا وجه الله -تعالى-، كان الملك لله -سبحانه وتعالى- (¬1). الراجح: نرى أن القول بأن الوقف يبقى على ملكية الواقف في الأوقاف التي على أشخاص معينين؛ لأن الحق الذي يثبت في الوقف للموقوف عليه إنما هو حق الانتفاع والاستيلاء على الغلال في وقتها، ولا يوجب ذلك زوالَ ملك لواقف على الوقف، ولذلك تلزمه الخصومة فيه، أما إذا كانت الأوقاف على جهات بر فإن الملك فيها ينتقل إلى الله تعالى. والله أعلم. تأبيد الوقف: يتفق الفقهاء على القول بجواز الوقف مؤبدًا. ويختلفون في صحة الوقف إذا كان مؤقتًا على النحو الآتي: 1 - فيرى الشافعي وأحمدُ أنه يشترط لصحة الوقف أن يكون مؤبدًا مطلقًا، فإذا شرط الواقف أن يبيعه متى شاء أو يهبه أو يرجع فيه، لم يصح الشرط ولا الوقف؛ لأن الشرط ينافي مقتضى الوقف، وإن وقف على جهة تنقطع صح الوقف وصرفت منفعته لأقرب الناس إلى الواقف، ويستدلون بحديث عمر: "حبس الأصلَ" وعبارة: "لا يباع ولا يوهب ولا يورث". 2 - يرى مالك أنه يجوز الوقف مؤقتًا كما جاز مؤبدًا، ويجيزه بشرط العودة للواقف أو لوارثه بعد موت الموقوف عليه، ويروى ذلك عن أبي يوسف من الحنفية؛ ذلك لأن الوقف في جملة معناه ومرماه صدقة، وأصل الصدقات ثابت بالكتاب والسنة، فلا تصح التفرقة بينهما بالجواز في بعضها والمنع في الآخر، ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (4/ 366)، والشرح الكبير (2/ 267)، والمهذب (1/ 448)، والمغني (8/ 187).

أنواع الموقوف: (محل الوقف)

وحديث عمر قد صدره النبي - صلى الله عليه وسلم - بعبارة: "إِنْ شِئْتَ"، وذلك يدل على أن المرجع في أمر الحبس إلى ما يختاره الشخص، وقول مالك هذا ينسجم مع رأيه في أن الوقف يبقى على ملك الواقف (¬1). حيث إن الوقف المؤقت يعود إلى الواقف بعد انتهاء ما حدده. الراجح: أن الأصل في الوقف أن يكون مؤبدًا، ولكن يجوز أن يكون مؤقتًا لفترة أو مدة معينة، وليس في إجازة الوقف مؤقتًا إلزام بشيء لم يرد به نص من الشارع؛ لأنه صدقة وبر، والصدقة جاء الشرع بالحث عليها، وقد جاءت العبارة في بعض الروايات: "تصدَّقْ"، وهي عبارة عامة تشمل المؤبد منها والمؤقت، وفي ذلك ترغيب في فعل الخير، ثم إن القول بمنع الوقف المؤقت إغلاقٌ لباب من أبواب الخير والبر، فليس كل الناس يرغب ويُقْدِمُ على الوقف مؤبدًا، والشرع الإسلامي يحث على الخير وأعمال البر، والوقفُ المؤقتُ نوعٌ من البر والإحسان فلا مانعَ منه. والله أعلم. أنواع الموقوف: (محل الوقف) 1 - يرى الحنفية أن الأصل في الوقف أن يكون عقارًا، ويجوز وقف المنقول استثناء، إما لورود أثر بجواز وقفه كوقف الأسلحة، وإما لكونه تابعًا للعقار كالبناء والأشجار أو مخصصًا لخدمة العقار، وإما لكونه قد جرى به العرف كوقف الكتب والمصاحف. 2 - ويرى المالكية والشافعية والحنابلة أنه يجوز وقف المنقول كالحيوانات والسلاح والأثاث وأشباه ذلك؛ لما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أما خالدٌ فقدِ احْتَبَسَ أدرعَه وأعتادَه في سبيلِ الله" (¬2)، ولأن ذلك يحصل فيه تحبيس الأصل وتسبيل ¬

_ (¬1) المبسوط (11/ 41)، والمهذب (1/ 417)، والغني (8/ 192)، والمحلى، لابن حزم (9/ 183). (¬2) أخرجه البخاريُّ (2/ 151)، ومسلمٌ (2/ 677).

وقف المشاع

المنفعة فصح وقفه كالعقار، ولأنه يصح وقفه مع غيره فصح وقفه وحده. وإذا تلف المنقول يستبدل بالعين مثلها عند بُدُوِّ انتهائها إن أمكن. وإن لم يمكن استبداله انتهى الوقف (¬1). الراجح: جواز وقف العقار والمنقول، لما ذكره المجيزون من أدلة ولإمكان الاستفادة أكثر من الأوقاف فيما هو من مصالح المسلمين؛ إذ في القول بمنع وقف المنقول تضييقٌ على الناس وتعطيلٌ لمصالحَ ورد الشرع بمراعاتها. وقف المشاع: يصح وقف المشاع؛ لحديث عمر: "أنه أصاب مائةَ سهمٍ من خيبرَ واستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها فأمره بوقفها" متفق عليه. وهذا صفة المشاع وبه يحصل تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة (¬2). الوقف على أهل الذمة: ويصح الوقف على أهل الذمة كالنصارى؛ لأنهم يملكون ملكًا محترمًا ويجوز أن يتصدق عليهم فجاز الوقف عليهم؛ وذلك لما رُوي: "أن صفية بنت حيىٍّ زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وقفت على أخٍ لها يهوديٍّ" (¬3). شروط الواقف: إرادة الواقف معتبرة وهي مقيدة بأحكام الشرع، فلا يصح أن يكون مصرف الوقف منهيًّا عنه أو يشترط شرطًا فيه مخالفة لأوامر الشارع، قال ابن القيم: "إنما ينفذ من شروط الواقفين ما كان لله طاعةً وللمكلف مصلحةً، وأما إن ¬

_ (¬1) نهاية المحتاج (5/ 486)، والشرح الكبير على المقنع (6/ 243). (¬2) المغني (8/ 233)، ونهاية المحتاج (4/ 362). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (6/ 33).

كان بغير ذلك فلا حرمة له كشرط التعزب والترهب المضاد للشريعة"، ثم يقول: "وبالجملة فشروط الواقفين أربعة: شروط محرمة في الشرع، وشروط مكروهة لله -سبحانه وتعالى- وشروط تتضمن ترك ما هو أحب إلى الله ورسوله، وشروط تتضمن فعل ما هو أحب إلى الله ورسوله، فالأقسام الثلاثة الأولى لا حرمةَ لها ولا اعتبارَ، والقسم الرابع هو الشرط الواجبُ الاعتبارِ". وكتاب الوقف الذي تحرر فيه إرادة الواقف تحريرًا كاملًا يعد المرجع في الوقف ما لم يخالف الأحكام الشرعية في ذلك وفقًا لما ذكره ابن القيم، وما لم ينص فيه في كتاب الوقف فإنه تنفذ فيه الأحكام الشرعية الواردة في الأوقاف، وطرق تفسير كتب الأوقاف هي الطرق التي يسلكها الفقهاء في تفسير النصوص الشرعية فيحمل المطلق على المقيد، والعام على الخاص، وينسخ المتأخر من الشروط المتقدم، ولذلك شاع بين الفقهاء عبارة: "شرط الواقف كنص الشارع"، أي: يُلْتَزَمُ في طريق تفسيره ما يلتزم في تفسير النصوص الشرعية. وتطبيقًا لذلك فإنه يرجع إلى شرط الواقف في القسمة على الموقوف عليهم، كأن يكون للأنثى سهم وللذكر سهمان وفقًا لما قسمه الله في الميراث. ويلتزم شرطه في التقديم بأن يقف مثلًا على أولاده الأفقه أو الأكثر حاجة ونحوه، لكن إن كان من باب الأثرة والتمييز دون مسوغ شرعي فلا يلتزم. ويلتزم شرطه في الجمع كأن يقف على أولاده وأولاد أولاده ونسله وعقبه، وكذلك في الترتيب بأن يقف على أولاده ثم أولادهم فلا يستحق المؤخر مع وجود المقدم (¬1). ¬

_ (¬1) المبدع (5/ 333)، وإعلام الموقعين، لابن القيم (3/ 94)، ومحاضرات في الوقف، محمد أبو زهرة (ص: 145).

نفقة الوقف

ودليل الالتزام بشرط الواقف: أن عمر -رضي الله عنه- وقف وقفًا وشرط فيه شروطًا، ولو لم يجب اتِّباع شرطه لم يكن في اشتراطه فائدة، ولأن ابن الزبير وقف على ولده وجعل للمطلقة من بناته السكن. نفقة الوقف: ينفق على الوقف وفقًا لما شرطه الواقف، فإن لم يمكن فينفق عليه من غلته؛ لأن الوقف اقتضى تحبيس أصله وتسبيل منفعته ولا يحصل ذلك إلا بالإنفاق عليه. القربة في الوقف: الأصل في شرعية الوقف أن يكون صدقة يتقرب بها إلى الله -سبحانه وتعالى- بالإنفاق في أوجه البر والصدقة الجارية، فهل يشترط في جهة الوقف أن تكون قربة؟ 1 - يرى بعض الفقهاء أنه يشترط في الوقف أن يكون قربة حالًا أو مآلًا؛ لأن الوقف قربة وصدقة، فلا بد من وجودها فيما لأجله عُيِّنَ الوقف، إذ هو المقصود، وقال بذلك الحنفية وهو رواية عن الشافعي وأحمدُ. 2 - ويرى بعضهم أنه لا يشترط ذلك، بل الشرط ألا تكون معصية كالوقف على شراء أسلحة محرمة. ويجوز الوقف على الأغنياء، وقال به مالك ورواية عن الشافعي وأحمدُ (¬1). الراجح: جواز الوقف وإن لم يكن قربة بشرط أن لا يكون في معصية، وذلك من التوسعة والتكافل فيما يعود على المسلمين بالنفع ولا يترتب عليه مضرة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (4/ 364)، وجواهر الإكليل (2/ 211)، ونهاية المحتاج (5/ 388)، والمبدع (5/ 328).

منافع الوقف

منافع الوقف: تكون منافع الوقف للموقوف عليه ولا يجوز للواقف أن ينتفع بشيء منها إلا إذا اشترط النفقة منه على نفسه وأهله؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرط ذلك في صدقته أن يأكل منها أهله بالمعروف، وإن اشترط أن يأكل من وليه منه ويطعم صديقا جاز؛ لأن عمر -رضي الله عنه- شرط ذلك في صدقته، وإن وليها الواقف كان له أن يأكل ويطعم صديقا، وإن وليها أحد من أهله كان له ذلك؛ لأن حفصة كانت تلي صدقة عمر بعد موته، ثم وليها بعده عبد الله بن عمر، وإذا لم يشترط فلا حق له بشيء من منافعه إلا أن يكون قد وقف شيئًا للمسلمين فيدخل في جملتهم مثل أن يقف بئرًا للمسلمين فله أن يستقي منها، وقد روي عن عثمان -رضي الله عنه- أنه سبل بئرَ رومةَ وكان دلوه فيها كدلاء المسلمين (¬1). الوقف على الأولاد: إن وقف على ولده أو أولاده أو على أولاد فلان ثم على المساكين فهو لولده الذكور والإناث؛ لأن اللفظ يشملهم، ويدخل فيهم أولاد البنات؛ لدخولهم في مسمى الأولاد، ولأن ولد البنت يدخل في التحريم الدال عليه قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} (¬2). وقيل: لا يدخل؛ لعدم دخولهم في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (¬3). وإن وقف على عقبه أو ذريته أو نسله دخل فيه ولد البنين والبنات؛ لأن اللفظ عامٌّ فيشملهم، وإذا وقف على ولد ولده لصلبه فلا يدخل فيه ولد البنات؛ ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة (8/ 191). (¬2) سورة النساء: 23. (¬3) سورة النساء: 11.

الوقف على القرابة

لأنهم ليسوا من صلبه، وإن وقف على بنيه أو بني فلان فهو للذكور خاصة؛ لأن لفظ البنين وضع للذكور خاصة؛ لقوله تعالى: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} (¬1). أما إذا كان لفظ بَنِي مضافًا إلى اسم قبيلة كبني هاشم وتميم وغيرها، فيدخل فيه النساء دون أولادهن من غير القبيلة. وإن وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتسوية بينهم، وإلا جاز تفضيلُ بعضهم على بعض والاقتصارُ على بعصهم. (¬2) الوقف على القرابة: إذا كان للإنسان أقارب فقراء وأراد الوقف عليهم، فوقفه صحيح، وله في ذلك عظيم الثواب سواء أكانوا ورثة أو غيرهم، غير أنه لا يجوز أن يكون في ذلك مخالفة لأمر الشارع، إما لحرمان وارثٍ مستحقٍّ أو إعطاء آخر زيادة عن نصيبه الشرعي، فإن كان قَصَدَ من موقفه هذا الإضرارَ بالورثة وحرمان بعضهم من الإرث، فقد خرج في الوقف عن مقصود الشارع وحكمته في تشريع الوقف. وإن كان قصد من ذلك القربى دون مخالفة لأحكام الشرع فهو صحيح، كما إذا حدد المستحق بصفة معينة كالعلم والصلاح ونحو ذلك. وإن وقف على قرابة فلانٍ فهو للذكور والإناث من أولاده وأولاد أبيه وجده وجد أبيه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجاوز بني هاشم بسهمِ ذوي القربى، وإن وقف على ذوي رحمه فإنه يشمل كل قرابة له من قبل الآباء والأمهات (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الصافات: 153. (¬2) نهاية المحتاج (5/ 382)، والمبدع في شرح المقنع (5/ 338)، ومحاضرات في الوقف، محمد أبو زهرة (ص: 306). (¬3) المبدع (5/ 334)، وفقه السنة (3/ 457).

الوقف المنقطع

الوقف المنقطع: قد يكون الوقف معلومَ الابتداءِ والانتهاءِ غيرَ منقطعٍ مثلَ أن يُجْعَلَ على المساكين أو على جهة غير منقطعة، وهذا لا اختلاف في صحته، وقد يكون غير معلوم الانتهاء مثل أن يقف على قوم يجوز انقراضهم بحكم العادة ولم يحدد له مصرفًا بعدهم لفئة أو جهة غير منقطعة، وفي تلك الحال اختلف الفقهاء: 1 - فيرى مالك وأبو يوسف وهو قول للشافعي ورواية عن أحمد أن الوقف صحيح؛ لأنه تصرفٌ معلوم المصرفِ فصح كما لو صرح بمصرفه المتصل. 2 - ويرى الشافعي في أحد قوليه وهو رواية عن أحمد ومحمَّد بن الحسن من الحنفية، أن الوقف المنقطع لا يصح؛ لأن الوقف مقتضاه التأبيد، فإذا صار منقطعًا صار وقفًا على مجهول فلم يصح كما لو وقف على مجهول في الابتداء. الراجح: هو القول بصحة الوقف المنقطع؛ لأنه صدر صحيحًا مستوفيًا لأركانه. ثم إن من يصححه يختلف في مصرفه: 1 - فيرى الشافعية وهو رواية عن أحمد أنه عند انقراض الموقوف عليهم فإن الوقف يصرف إلى أقارب الواقف؛ لأنهم أولى الناس بصدقته. 2 - وفي رواية أخرى عند أحمد أنه ينصرف إلى المساكين، لأنهم مصرف الصدقاتِ وحقوقِ الله -تعالى- من الكفارات ونحوها، فإذا وجدت صدقة غير معينة المصرف انصرفت إليهم. 3 - وفي رواية ثالثة لأحمد أنه يجعل في بيت مال المسلمين؛ لأنه مال لا مستحق له فأشبه مالَ مَنْ لا وارثَ له (¬1). ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة (8/ 211).

استبدال الوقف وبيعه

الراجح: هو صرفه على المساكين عمومًا، ولكن يقدم أقارب الواقف؛ لأنهم أولى به، وفي ذلك جمع بين القولين الأوَّلَينِ. والمساكين جهة عامة غير منقطعة، أما لو كانوا أقارب فقط فهي جهة منقطعة فلا يتحقق اتصال الوقف. والله أعلم. استبدال الوقف وبيعه: إذا تعطلت منافع الوقف أو خرب، كدارٍ انهدمت، أو أرضٍ زراعية عادت مواتًا ولم يمكن عمارتها، أو مسجدٍ انتقل أهل القرية عنه وصار لا يصلى فيه. أو ضاق بأهله ولم يمكن توسعته -فقد تناول الفقهاء ذلك بالدراسة والنظر وفقًا لما يأتي: 1 - يرى الحنابلة أنه إذا حدث ذلك في الوقف فإنه يباع بعضه لإصلاح الباقي، وإن لم يمكن الانتفاع بجميعه فإنه يباع كله ويستبدل به مثله مما يبقى عينه وينتفع به؛ لما روي أن عمر -رضي الله عنه- كتب إلى سعد لما بلغه أن بيت المال الذي بالكوفة نقب "أن انقل المسجد الذي بالتمَّارين واجعل بيت المال في قبلة المسجد"، وكان هذا بمشهد من الصحابة ولم يظهر خلافه فكان كالإجماع، وقال ابن عقيل: "الوقف مؤبد، فإذا لم يمكن تأبيده على وجه تخصيصه استبقينا الغرض وهو الانتفاع على الدوام في عين أخرى، واتصال الأبدال جرى مجرى الأعيان، وجمودنا على العين مع تعطلها تضييع للغرض". قال ابن تيمية -رحمه الله-: "في إبدال الوقف بمثلها أو خير منها للحاجة أو المصلحة" (¬1). 2 - ويرى الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية أنه إذا كان الوقف مسجدًا فلا يجوز استبداله، أما إذا كان غير مسجد: ¬

_ (¬1) فتاوى ابن تيمية (31/ 212).

الوقف في مرض الموت

أ- فيرى المالكية وهو قول للشافعية أنه لا يجوز بيع الوقف أو استبداله ولو لم ينتفع به أو خرب؛ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُباعُ أصلُها ولا يُبتاعُ ولا تُوهَبُ ولا تورَّث". ب- ويرى الحنفية وهو قول للشافعية أن الوقف إذا كان كذلك فإنه يجوز بيعه واستبداله، ولكن لا بد من إذن القاضي عند الحنفية (¬1). الراجح: هو ما ذهب إليه الحنابلة وهو القول بجواز بيع الوقف واستبداله إذا تعطلت منافعه أو خرب؛ لحديث عمر -رضي الله عنه- حيث لم ينكر عليه الصحابة، ولأن في ذلك استبقاءً للوقف بمعناه عند تعذر إبقائه بصورته، وبذلك تتحقق مقاصد الوقف وأهدافه، ولكن لا بد أن يكون الاستبدال مراعي فيه مصلحة الوقف بكون المستبدل أفضل، ولا مضرة في استبداله على الموقوف عليه ودون محاباة لأحد على حساب الوقف. الوقف في مرض الموت: إذا وقف المرء في مرض الموت صح واعتبر من الثلث؛ لأنه بمنزلة الوصية وما زاد على الثلث لا يصح إلا بإجازة الورثة: فإن أجازوه صح، وإلا فلا يصح فيما زاد على الثلث؛ لأن حق الورثة تعلق بالمال بوجود المرض فمنع من التبرع بزيادة على الثلث. فإذا قال الواقف: هو وقف بعد موتي، فقد اخْتُلِفَ في ذلك على النحو الآتي: 1 - يرى بعض الفقهاء عدم صحة الوقف؛ لأنه تعليق الوقف على شرط وهو غير جائز في حال الحياة، فكذا بعد الموت، وهو رواية في مذهب الإمام أحمد. ¬

_ (¬1) المبسوط (12/ 42)، والتاج والإكليل شرح مختصر خليل (6/ 41)، ونهاية الحتاج (4/ 286)، والمغني (8/ 220).

الولاية على الوقف: (ناظر الوقف)

2 - ويرى بعضهم وهو قول للإمام أحمد أن ذلك صحيح وجائز ويعتبر من الثلث كسائر الوصايا، ودليل صحة الوقف المعلق بالموت ما احتج به الإمام أحمد أن عمر وصى فكان في وصيته: "هذا ما أوصى به عبدُ الله عمرُ أميرُ المؤمنين إن حدث به حدث، أن ثمنًا (¬1) صدقة"، وذكر بقية الخبر (¬2). ووقفه هذا كان بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه اشتهر في الصحابة فلم ينكر فكان إجماعًا، ولأن هذا تبرع معلق بالموت فصح كالهبة والصدقة المطلقة (¬3). الراجح: إن القول بالجواز هو الذي تؤيده الأدلة وهو الأولى؛ لما فيه من تنوع لأعمال البر وتيسيرٍ لأبوابها. الولاية على الوقف: (ناظر الوقف): يحتاج الوقف إلى من يقوم بشؤونه ويحافظ عليه ويعمل على استغلاله بطرق الاستثمار المشروعة وإنفاق إيراداته في وجوهها وعلى مستحقيها، وإن الواقف هو أحق من يقوم بذلك ثم من شرطه الواقف، فإن مات الناظر أو لم يشترط الواقف ناظرًا وكان الوقف على جهة عامة أو على غير محصورين كالمساجد والمساكين -فالولاية إلى الحاكم الشرعي، وللحاكم أن ينيب فيه من يشاء-؛ لأنه لا يمكنه النظر بنفسه لتعدد واجباته، وقد جعلت بعض الحكومات الإسلامية النظر في ذلك لوزارات الأوقاف لتتولى شؤونها وإدارتها واستثمارها وصرف غلاتها على ما حددت له، وذلك جائز بشرط أن تراعى الأحكامُ الشرعيةُ المحددةُ في ذلك. أما إذا كان الوقف على آدمي معين محصور فالنظر يكون للموقوف عليه؛ لأنه يختص بنفسه، وهذا هو مذهب المالكية والحنابلة وقول للشافعية. ¬

_ (¬1) مكان قريب من المدينة. (¬2) رواه البخاري (3/ 260)، ومسلمٌ (3/ 1255). (¬3) المغني، لابن قدامة (8/ 215)، وحاشية ابن عابدين (4/ 371).

شروط الناظر

وذهب الحنفية وهو قول للشافعية ورواية عن الحنابلة إلى أن النظر يكون للحاكم الشرعي؛ لأنه يتعلق به حق الموقوف عليه وحق من ينتقل إليه الوقف من بعده فكان الحاكم أحق بولايته (¬1). وإن كان الوقف على محجور عليه لصغر أو سفه أو جنون فوليه يقوم مقامه في النظر أو من يعينه الحاكم. الراجح: نرى أن القول بأن النظر للحاكم الشرعي أولى؛ لما ذكره القائلون به ولأنه أبعد عن النزاع ولا سيما إذا كان الوقف على جماعة كثيرة مما يسبب ضياع الوقف عند اختلافهم ونزاعهم. والله أعلم. شروط الناظر: يشترط الفقهاء في الناظر أن يكون أمينًا قادرًا على القيام بعمله الموكل إليه، ويضيف الحنابلة شرطَ كونِ الناظرِ مسلمًا إذا كان الموقوف عليه مسلمًا، وإن كان المولى للنظر غيرَ صالح بسبب فسقه فإنه يعزل؛ مراعاة لحفظ الوقف ومصالحه (¬2). أجرة الناظر: للمتولي على الوقف أجر عمله، فإن حدد له الواقف شيئًا أخذه بالغًا ما بلغ، ولو زاد عن أجرة المثل فالزائد استحقاق، وبهذا يقول الفقهاء، فهي من شروط الواقف، وإن لم يعين له شيء حدد له القاضي أجرة المثل، والأصل في ذلك ما فعله عمر -رضي الله عنه- في كتابِ وقفِهِ، وغيره من الصحابة والتابعين. ¬

_ (¬1) فتح القدير (5/ 70)، ومواهب الجليل (6/ 31)، ونهاية المحتاج (5/ 397). (¬2) حاشية ابن عابدين (4/ 408)، روضة الطالبين (ص: 950)، وكشاف القناع، للبهوتي (4/ 270).

محاسبة الناظر

محاسبة الناظر: جرى الفقهاء في محاسبة نظار الأوقاف على حسن الظن وتغليب الثقة على الشك وحمل أفعالهم على الخير، وهذا هو الأصل تشجيعًا لوجوه الناس على توليها، فلا يحاسب الناظر إلا إذا اتهمه المستحقون بخيانة أو مخالفة شرط الواقف أو إذا طلب الناظر تقدير أجرته، أو استأذن في تصرف يحتاج إلى إذن القاضي فيقدم بيانًا بما ورد إليه من موارد الوقف وما أنفقه في مصارفه، فإن وجد عليه ملاحظة نوقش فيها، ولكن في الوقت الحاضر ومن باب التنظيم والإدارة فيما هو من مصلحة الوقف، فإنه ينبغي أن يُجعَلَ لكل وقف حسابٌ خاصٌ به موثقا من أهله ومقرًا في إيراداته ومصروفاته ومراجعًا من جهة مختصة؛ حرصًا على السير بالأوقاف إلى الأهداف المقصودة منها واستثمارها والمحافظة عليها وإعطاء كل ذي حق حقه؛ إذ الأوقاف مورد اقتصادي هامٌّ من موارد الدولة الإسلامية سواء منها الخاص أو العام، وبترتيبها وإدارتها بالشكل الصحيح تنال الأمة فيها ميزة كبيرة على سائر الأمم.

باب الهبة

باب الهبة تعريف الهبة لغة: أصلها من هبوب الريح، أي: مروره، يقال: وهبت له شيئًا وهبًا وهبةً، والاتهاب: قبول الهبة (¬1). تعريف الهبة في الاصطلاح: هي تمليك المال من جائز التصرف في الحياة بلا عوض. قال النووي -رحمه الله-: قسم الشافعي -رحمه الله- العطايا فقال: تبرع الإنسان بماله على غيره ينقسم إلى معلق بالموت (وهو) الوصية، وإلى منجز في الحياة وهو ضربان: أحدهما تمليك محض كالهبات والصدقات، والثاني الوقف. والتمليك المحض: ثلاثة أنواع: الهبة، والهدية، وصدقة التطوع. وسبيل ضبطها أن تقول: التمليك لا يعوض هبة، فَإِنِ انضم إليه حمل الموهوب من مكانٍ إلى مكان الموهوب له إعظاما وإكراما فهو هدية، وإن انضم إليه كون التمليك للمحتاج تقربًا إلى الله -تعالى- وطلبًا لثواب الآخرة فهو صدقة، فامتياز الهدية عن الهبة بالنقل والحمل من موضع إلى موضع ومنه إهداء النعم إلى الحرم، ولذلك لا يدخل لفظ الهدية في العقار بحال فلا يقال: أهدى إليه دارًا ولا أرضًا، وإنما يطلق ذلك في المنقولات كالثياب والعبيد، فحصل من هذا أن هذه الأنواع تفرق بالعموم والخصوص، فكل هدية وصدقة هبة ولا تنعكس (¬2). ¬

_ (¬1) المبدع في شرح المقنع، لابن مفلح (5/ 360). (¬2) روضة الطالبين (5/ 364).

الحكمة في مشروعيتها

الحكمة في مشروعيتها: شرع الله -تعالى- الهبة؛ لما فيها من تأليف القلوب وتوثيق عرى المحبة بين الناس، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تهادوا تحابُّوا" (¬1). وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ويثيب عليها، وكان يدعو إلى قبولها ويرغب فيها، ومن هنا رأى العلماء كراهية ردها حيث لا يوجد مانع شرعي. أركان الهبة: قال في البدائع: أما أركان الهبة: الإيجاب من الواهب، فأما القبول من الموهوب له فليس بركن استحسانًا (¬2). وقال النووي -رحمه الله-: أما أركانها فأربعة: الأول والثاني: العاقدان، وأمرهما واضح. الركن الثالث: الصيغة. أما الهبة فلا بد فيها من الإيجاب والقبول باللفظ كالبيع وسائر التمليكات. الركن الرابع: الموهوب (¬3). وقال في مغني المحتاج: وأركانها ثلاثة: عاقد، وصيغة، وموهوب (¬4). وقال في الشرح الصغير: وعلم من تعريف الهبة كالصدقة أن أركانها أربعة: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في الأدب المفرد برقم (594)، وصححه الألباني في الإرواء برقم [1601 - 6/ 44]. (¬2) بدائع الصنائع (6/ 115). (¬3) روضة الطالبين، للنووي (5/ 365)، المجموع (16/ 348). (¬4) مغني المحتاج (2/ 397).

الشروط المعتبرة عند الفقهاء في الهبة

واهب، وموهوب، وموهوب له، وصيغة (¬1). ويرى الحنابلة أن أركانها ثلاثة: عاقد، ومعقود عليه، وصيغة (¬2). هل يشترط لها إيجاب وقبول؟ يرى المالكية والشافعية اعتبار القبول في الهبة، وقال بعض الأحناف بأن الإيجاب كافٍ. وذهب الحنابلة إلى أن الهبة تصح بالمعاطاة التي تدل عليها، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُهدِي ويُهدَى إليه، وكذلك كان أصحابه يفعلون ولم ينقل عنهم أنهم كانوا يشترطون إيجابًا وقبولًا ونحو ذلك. وهذا هو الصحيح. الشروط المعتبرة عند الفقهاء في الهبة: جعل الفقهاء للهبة شروطًا تتوقف عليها صحتها، وهذه الشروط منها ما يتعلق (بالإيجاب والقبول)، ومنها ما يتعلق بالواهب، ومنها ما يتعلق بالموهوب وهو المال. أولًا: الشروط المعتبرة في الإيجاب والقبول: 1 - أن لا يكون الإيجاب معلقًا على شيءٍ غير محقق الوقوع كقوله: وهبت لك هذه الدار متى حضر أخوك من السفر، أو إن أمطرت السماء أهب لك هذه الدار. وهذا هو قول الأحناف (¬3)، وبه قال الشافعية والحنابلة. قال صاحب المهذب: "لا يجوز تعليقها على شرط مستقبل؛ لأنه عقد يبطل ¬

_ (¬1) الشرح الصغير (5/ 432). (¬2) انظر في ذلك: كشاف القناع (4/ 304)، حاشية الروض المربع (6/ 3). (¬3) بدائع الصنائع (6/ 118).

ثانيا: الشروط المعتبرة في الواهب

بالجهالة، فلم يجز تعليقه على شرط كالبيع" (¬1). وقال في المغني: "ولا يصح تعليق الهبة بشرط؛ لأنها تمليك لمعين في الحياة فلم يجز تعليقها على شرط كالبيع" (¬2). ثانيًا: الشروط المعتبرة في الواهب: 1 - كونه حرًّا، فلا تصحُّ هبة الرقيق (¬3). وقال في المغني: "أما العبد فلا يجوز أن يهب إلا بإذن سيده؛ لأنه ملك لسيده، وله أن يقبل الهبة بغير إذن سيده" (¬4). 2 - كونه عاقلًا غير محجور عليه لسفه أو جنون. 3 - كونه بالغًا، فلا تصح هبة الصغير. قال في المغني: "فأما الهبة من الصبي لغيره فلا تصح سواء أذن فيها الولي أو لم يأذن؛ لأنه محجور عليه لحفظ نفسه فلم يصح تبرعه كالسفيه" (¬5). وقال في البدائع: "أما ما يرجع إلى الواهب فهو أن يكون ممّن يملك التبرع؛ لأن الهبة تبرع فلا يملكها من لا يملك التبرع، فلا تجوز هبة الصبي ولا المجنون؛ لأنهما لا يملكان التبرع" (¬6). 4 - كونه مالكًا للموهوب (¬7) وهو قول الأحناف. ¬

_ (¬1) انظر: المجموع (16/ 344). (¬2) المغني، لابن قدامة (8/ 250). (¬3) حاشية الروض المربع (6/ 10). (¬4) المغني، لابن قدامة (8/ 256). (¬5) المغني، لابن قدامة (8/ 255). (¬6) بدائع الصنائع (6/ 118). (¬7) بدائع الصنائع (6/ 119).

ثالثا: الشروط المعتبرة في الموهوب

قال في البدائع: (ومنها) -أي: من الشروط- أن يكون مملوكًا للواهب، فلا تجوز هبة مال الغير بغير إذنه، لاستحالة تمليك ما ليس بمملوك. ثالثًا: الشروط المعتبرة في الموهوب: 1 - كونه موجودًا وقت الهبة فلا تصح هبة ما ليس بموجود وقت العقد كأن يهب له ثمر بستانه في العام المقبل أو ما تلد أغنامه بعد حملها. وبه قال الأحناف والشافعية والحنابلة. قال في المغني: "ولا تصح هبة الحمل في البطن واللبن في الضرع، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعيُّ وأبو ثور؛ لأنه مجهول معجوز عن تسليمه" (¬1). 2 - كون الموهوب مقبوضًا، وهو قول الأحناف والشافعية والحنابلة غير أن الحنابلة لهم تفصيل في مسألة القبض سنذكره -إن شاء الله-. قال صاحب البدائع: "ومنها" أي من الشروط القبض وهو أن يكون الموهوب مقبوضًا. وقال مالك -رحمه الله-: ليس بشرط ويملكه الموهوب له من غير قبض -إلى قوله-: ولنا إجماع الصحابة على أنهم قالوا: لا تجوز الهبة إلا مقبوضة محوزة، ولم يرد على غيرهم خلافه، ولأنها عقد تبرع فلو صحت بدون القبض لثبت للموهوب له ولاية مطالبة الواهب بالتسليم، فتصير عقد ضمان، وهذا تغيير المشروع (¬2) أ. هـ. قال في المجموع: "لا يملك الموهوب الهبة إلا بقبضها؛ فقد روى عروة عن عائشة -رضي الله عنها--: أن أبا بكر -رضي الله عنه- نحلها جذاذ عشرين وسقًا من ماله بالعالية، فلما ¬

_ (¬1) انظر: المغني، لابن قدامة (8/ 249). (¬2) بدائع الصنائع (6/ 119).

مرض قال: يا بنية، ما أحدٌ أحبَّ إلي بعدي منك، ولا أحد أعز عليَّ فقرًا منك، وكنت نحلتك جذاذ عشرين وسقًا ووددْتُ أنك حزتيه أو قبضتيه وهو اليوم مال الوارث، وإنما هما أخواكِ وأختاكِ فاقتسموا على كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-" (¬1). وروي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "ما بالُ أقوامٍ ينحلون أولادهم، فإذا مات أحدهم قال: مالي وفي يدي، وإذا مات هو قال: كنت نحلته ولدي، لا نحلة إلا نحلة يحرز الولد دون الوالد، فإن مات ورثه" (¬2). قال صاحب المغني في شرحه لقول الخرقي: "ولا تصح الهبة والصدقة فيما يكال أو يوزن إلا بقبضه، ويصح في غير ذلك بغير قبض إذا قَبِلَ كما يصح في البيع". قال ابن قدامة في شرحه لكلام الخرقي: "يعني أن غير المكيل والموزون تلزم الهبة فيه بمجرد العقد ويثبت الملك في الموهوب قبل قبضه، وروي ذلك عن علي وابن مسعود -رضي الله عنهما- فإنه يروى عنهما أنهما قالا: "الهبة جائزة، إذا كانت معلومة، قبضت أو لم تقبض"، وهو قول مالك وأبي ثور، وعن أحمد رواية أخرى: لا تلزم الهبة في الجميع إلا بالقبض. وهو قول أكثر أهل العلم" (¬3). قال صاحب المغني: "ومتى قلنا إن القبض شرط في الهبة لم تصح فيما لا يمكن تسليمه كالعبد الآبق والجمل الشارد والمغصوب لغير غاصبه ممّن لا يقدر على أخذه من غاصبه، وبهذا يقول أبو حنيفة والشافعيُّ؛ لأنه عقد يفتقر إلى القبض فلم يصح في ذلك كالبيع" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مالك: كتاب الأقضية، باب ما لا يجوز فيه النحل، في موطأ مالك (2/ 752)، والبيهقيُّ كتاب الهبات، باب شرط القبض في الهبة، في السنن الكبرى (6/ 170). (¬2) المجموع شرح المهذب (16/ 351). (¬3) المغني، لابن قدامة (8/ 244). (¬4) المغني، لابن قدامة (8/ 248).

هبة الدين لمن هو عليه

3 - أن لا يكون مشاعًا فيما يقبل القسمة وهذا هو قول الأحناف قال صاحب البدائع: "ومنها أن يكون محوزًا، فلا تجوز هبة المشاع فيما يقسم وتجوز فيما لا يقسم كالعبد والحمام" (¬1). قلنا: هذا الشرط اختلف فيه الفقهاء: فالأحناف -كما ذكرنا- يرون اشتراطه، وخالف في هذا الشرط الجمهور. قال صاحب المغني: "وتصح هبة المشاع، وبه قال مالك والشافعيُّ، قال الشافعي: وسواء في ذلك ما أمكن قسمته أو لم يمكن" (¬2)، وهذا هو الراجح عندنا. 4 - ومن شروط الموهوب أيضًّا أن يكون مملوكًّا للواهب: فلا تجوز هبة ملك الغير بدون إذنه، وهذا الشرط متفق عليه بين الفقهاء. هبة الدين لمن هو عليه: إذا كان له في ذمة إنسان دين فوهبه له أو أبرأه منه أو حله منه، صح وبرئت ذمة الغريم منه وإن رد ذلك ولم يقبله؛ لأنه إسقاط فلم يفتقر إلى القبول (¬3). هبة الدين لغير من هو عليه: وإن وهب الدين لغير من هو في ذمته لم يصح، وهو قول أبي حنيفة، ويحتمل أنها تصح؛ لأنه لا غرر فيها على المتهب ولا الواهب كهبة الأعيان. قبض الهبة: القبض فيما لا ينقل بالتخلية بينه وبينه، وفيما ينقل بالنقل، وفي المشاع ¬

_ (¬1) البدائع (6/ 119). (¬2) المغني، لابن قدامة (8/ 247)، المجموع شرح المهذب (16/ 345). (¬3) المغني، لابن قدامة (8/ 205).

هبة المريض غير المقبوضة

بتسليم الكل إليه، فإن أبى الشريك أن يسلم نصيبه قيل للمتهب: وكِّلِ الشريك في قبضه لك ونقله، فإن أبى نَصَّبَ الحاكمُ من يكون في يده لهما. فينقله ليحصل القبض؛ لأنه لا ضرر على الشريك في ذلك، ويتم به عقد شريكه (¬1). هبة المريض غير المقبوضة: إذا وهب المريض شيئًا من ماله ولم يقبض الموهوب له العين الموهوبة حتى مات الواهب؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين: أحدهما وهو قول الحنفية والشافعية: أنها تبطل؛ لموت الواهب قبل القبض. قال الشافعي -رحمه الله-: إذا وهب الرجل في مرضه هبةً فلم يقبضها الموهوب له حتى مات، لم يكن للموهوب له شيء وكانت الهبة للورثة (¬2). وعللوا البطلان هنا لأن الواهب أراد التمليك في الحال لا بعد الموت إذ الهبة من العقود التي تقتضي التملك المنجز في الحياة، وقالوا: لا تنقلب الهبة إلى وصية؛ لأن الهبة صلة والصلات يبطلها الموت كالنفقات (¬3). القول الثاني قول المالكية: وهو أن الهبة هنا صحيحة ولا تبطل وتأخذ حكم الوصية، ولو أن الموهوب له لم يقبضها قبل الموت، وقالوا بأنها كالوصية في الخروج من الثلث (¬4). ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة (8/ 247). (¬2) الأم (3/ 285). (¬3) المبسوط (12/ 102)، رد المحتار (4/ 710). (¬4) مواهب الجليل (6/ 381).

رجوع الأب فيما وهب لابنه

رجوع الأب فيما وهب لابنه: إذا وهب الأب ابنه شيئًا فهل له الرجوع فيما وهب؟ للفقهاء في ذلك قولان: الأول: مذهب مالك والشافعيُّ وظاهر مذهب أحمد أن للأب الرجوعَ فيما وهب لولده، وذلك لحديث النعمان بن بشير السابق وفيه قوله: "فَارْدُدْهُ"، وفي لفظ: "فأَرْجِعْهُ". الثاني: قال الحنفية: إنه ليس له الرجوع فيها, لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "العائدُ في هبتِه كالعائدِ في قيئِه" (¬1). وهو رواية أخرى لأحمد (¬2). والأول هو الصحيح عندنا، وبه قال الشيخ محمَّد بن العثيمين -رحمه الله- حيث قال في جوابه على حديث: "العائدُ في هبتِه كالعائدِ في قيئِه": لكننا نقول في الجواب عن هذا أن الاستثناء وإن كان ضعيفًا فله ما يعضده وهو أن الأب له أن يتملك من مال ولده ما شاء، وإذا كان له أن يتملك ما شاء فرجوعه فيما وهبه لابنه من باب أولى (¬3). شروط الرجوع هبة الولد: أحدهما: أن تكون باقية في ملك الابن، فإن خرجت عن ملكه لم يكن له الرجوع فيها؛ لأنه إبطال لملك غير الولد. وإن عادت إليه بسبب جديد لم يملك الرجوع فيها؛ لأنها عادت بملك جديد لم يستفده من قِبَلِ أبيه. ¬

_ (¬1) متفق عليه. انظر في البخاري، كتاب الهبة، في باب هبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها (3/ 207)، ومسلمٌ، كتاب الهبة، باب تحريم الرجوع في الصدقة (3/ 1241). (¬2) انظر في المغني، لابن قدامة (8/ 261 - 262). (¬3) الممتع في شرح زاد المستقنع (4/ 605)، المكتبة الإِسلامية بالقاهرة.

ثانيًا: أن تكون العين باقية في تصرف الولد بحيث يملك التصرف في رقبتها. ثالثًا: أن لا يتعلق بها رغبة لغير الولد، فإن تعلقت بها رغبة لغيره مثل أن يهب ولده شيئًا فيرغب الناس في معاملته وأدانوه ديونًا أو رغبوا في مناكحته فزوجوه إن كان ذكرًا أو تزوجت الأنثى لذلك ففيه قولان: 1 - ليس له الرجوع، وهذا مذهب مالك ورواية عن أحمد؛ لأنه تعلق به غير حق الابن ففي الرجوع إبطال حقه وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ" (¬1)، وفي الرجوع ضرر ولأن في هذا إلحاقَ ضررٍ بالمسلمين. 2 - له الرجوع؛ لعموم الخبر ولأن حق المتزوج والغريم لم يتعلق بعين هذا المال فلم يمنع الرجوع فيه. وهو رواية عن أحمد. رابعًا: أن لا تزيد زيادة متصلة كالسِّمن والكبر وتعلم صنعة، فإن زادت فقد اختلف الفقهاء على قولين: أحدهما: لا تمنع الرجوع، وهو مذهب الشافعي ورواية عن أحمد؛ لأنها زيادة في الموهوب فلم تمنع الرجوع. والثانية: تمنع الرجوع، وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد؛ لأن الزيادة للموهوب له لكونها نماءً مَلَكَه ولم تنتقل إليه من جهة أبيه فلم يملك الرجوع فيها كالمنفصلة، وإذا امتنع الرجوع فيها امتنع عن الأصل؛ لئلا يفضي إلى سوء المشاركة (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه برقم (2340)، وصححه الألباني في الإرواء (3/ 408) برقم (896). (¬2) انظر تفاصيل هذه الشروط في المغني، لابن قدامة (8/ 264 - 267).

العمري

العُمري: نوع من الهبة: وهو أن يقول الرجل: أعمرتك داري هذه، أو هي لك عمري، أو ما عِشْتَ أو مدة حياتك أو نحو هذا، سميت بذلك؟ لتقيدها بِالعُمْرِ. الرُّقْبى: أن يقول: أرقبتك هذه الدار، أو هي لك حياتك على أنك إن متَّ قبلي عادت إليَّ، وإن متُّ قبلك فهي لك ولعقبك، فكأنه يقول هي لآخرنا موتًا، وبذلك سميت رقبى؛ لأن كل واحد منهما يَرْقُبُ موت صاحبه. الحكم: يرى بعض الفقهاء عدم جوازهما؛ لحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تعمُروا ولا ترقُبُوا" (¬1). ويرى بعضهم جواز العمري دون الرقبى؛ لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاز العمري دون الرقبى ولأن معنى الرقبى (¬2) أنها للآخر منا، وهذا تعليق للتمليك وهو لا يجوز. ويرى أكثر أهل العلم جوازهما (¬3)؛ لما روى جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العمري جائزةٌ لأهلِها والرقبى جائزةٌ لأهلِها" (¬4). الراجح: جوازهما، لما روى جابر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "أَمْسِكُوا عليكم ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2/ 264)، وأحمدُ في مسنده (2/ 34). (¬2) أخرجه ابن ماجه (2/ 796). (¬3) المغني، لابن قدامة (8/ 281)، دار هجر للطباعة ط. الأولى 1409 هـ. (¬4) رواه أبو داود (2/ 365)، والترمذيُّ (6/ 101)، وقال الترمذيُّ: "حديثٌ حسنٌ".

أموالَكم ولا تُفسِدُوها؛ فإنه من أعمر عمري فهي للذي أعمرها حيًّا وميتًا ولعقبِه" (¬1)، وفي لفظ: "قضى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمري لمن وهبت له" (¬2)، ولأن النهي عنهما إنما ورد على سبيل الإعلام لهم. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (3/ 1246). (¬2) أخرجه البخاريُّ (3/ 216)، ومسلمٌ (3/ 1246).

باب العطية

باب العطية تعريفها: في اللغة: قال الجوهري: هي الشيء المعطى والجمع العطايا. في اصطلاح الفقهاء: هي التبرع بالمال في مرض الموت المخوف، فهي أخص من الهبة؛ لأن الهبة تبرع بالمال في أي وقت. ومن هنا كانت أحكام العطية تختلف في بعض الأحيان عن الهبة في حال الصحة، وسنذكر الأحكام المتعلقة بالعطية هنا. عطية غير المدين: إذا أعطى المريض غير المدين شيئًا من ماله، فإما أن يكون المعطى أجنبيًا عنه وإما أن يكون وارثًا له: 1 - فإن كان أجنبيًا عن المريض (المعطي) وقبض العين المعطاة له والمريض المعطي غير مدين: فقال الفقهاء: يفرق بين كون المعطي المريض له وارث أم لا: فإن كان له وارث فقد اتفق الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة على نفاذ عطية المريض في هذه الصورة إن حملها ثلث ماله، أما إذا زادت على الثلث فيتوقف القدر الزائد منها على إجازة الورثة: فإن أجازوه نفذ، وإن ردوه بطل (¬1). 2 - أما إذا لم يكن له وارث: فقال الحنفية: إن هذه العطية صحيحة نافذة ولو استغرقت كل ماله، ولا تتوقف على إجازة أحد. ¬

_ (¬1) الموسوعة الفقهية الكويتية (37/ 9).

العطية من المريض غير المدين لوارثه

وقال المالكية والشافعية: تبطل فيما زاد على ثلث مال المريض؛ لأنه ميراث للمسلمين ولا مجيز له منهم (¬1). العطية من المريض غير المدين لوارثه: لذلك حالتان: الأولى: أن يكون مع المعطى له ورثة غيره: فذهب الجمهور إلى أن العطية هنا تتوقف على إجازة باقي الورثة سواء كان المعطى له أقل من الثلث أو أكثر كما في الوصية لوارث، فإن أجازها الورثة نفذت، وإلا فلا (¬2). الحالة الثانية: أن لا يكون للمعطي المريض ورثة سوى صاحب العطية: فقال الحنفية بصحة هذه العطية، ولا تتوقف على أحد سواء كان المعطى له أكثر من الثلث أم أقل منه (¬3). عطية المريض المدين المقبوضة: إذا كان المريض المعطي مدينًا فلا يخلو من حالتين: الأولى: أن يكون دينه مستغرقًا لماله وأعطى شيئًا من ماله وقبضه المعطى له. فلا تنفذ العطية سواء كان المعطى أقل من الثلث أم أكثر منه وسواء كان المعطى له أجنبيًا عن المعطي المريض أم وارثًا له، بل تتوقف على إجازة الدائنين. الثانية: إذا كان مدينًا بدين غير مستغرق وقبض المعطى له المالَ. ¬

_ (¬1) المرجع السابق (37/ 9). (¬2) انظر في ذلك الموسوعة الفقهية (37/ 10). (¬3) المرجع السابق.

العدل في العطية بين الأولاد

ففي هذه الحالة يخرج مقدار الديون من التركة، ويحكم على العطية في المبلغ الزائد بنفس الحكم في حالة ما إذا كانت التركة خالية من الديون. العدل في العطية بين الأولاد: يجب العدل في العطية بين الأولاد باتفاق الفقهاء بأن يعطوا جميعًا وألا يعطى أحد ويحرم غيره. ويتفق الفقهاء على استحباب التسوية في العطية بينهم، لكنهم يختلفون في كيفية تحقيق التسوية: فمنهم من يرى أن التسوية بينهم بأن يعطى الذكر والأنثى مثل بعض، ويرى غيرهم أن التسوية تكون بأن يعطى الذكر مثل حظ الأنثيين على وفق الميراث. قال ابن قدامة -رحمه الله- ولا خلاف بين أهل العلم في استحباب التسوية وكراهة التفضيل، قال إبراهيم: كانوا يستحبون أن يسوَّى بينهم حتى في القُبَلِ، إذًا ثبت هذا فالتسوية المستحبة أن يقسم بينهم على حسب قسمة الله -تعالى- للميراث، فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين (¬1). وخالف في هذا أبو حنيفة ومالك والشافعيُّ فقالوا: تعطى الأنثى مثل ما يعطى الذكر. قال في المجموع: واختلف الموجبون للتسوية: فقال محمَّد بن الحسن وأحمدُ وإسحاق وبعض الشافعية والمالكية: العدل أن يعطى الذكر حظين كالميراث واحتجوا بأن ذلك حظه من المال الموروث، وقال غيرهم: لا فرق بين الذكر والأنثى وظاهر الأمر التسوية معهم (¬2). ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة (8/ 259). (¬2) المجموع (16/ 344).

تخصيص بعض الأولاد بالعطية لمعنى يقتضي ذلك

الراجح: 1 - وجوب التسوية بين الأولاد وأنه يحرم عدم التسوية في العطية؛ لحديث النعمان بن بشير وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: "فاتقوا الله واعدِلوا بينَ أولادِكم" (¬1). وفي لفظ: "لا تشهدْني على جورٍ"، وهذا دليل على التحريم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - سماه جورًا وأمر برده كما جاء في بعض الروايات أنه قال له: "فاردُدْه"، والأمر للوجوب، وكذا لامتناع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشهادة عليه ووصفه بأنه جور والجور حرام، ثم إن عواقب عدم العدل بين الأولاد في العطية وَخِيمَةٌ فيحدث بعدم العدل العداوة والبغضاء وقطيعة الرحم فمنع منه، ولذا كان القول بالتحريم هو الصحيح. 2 - أن العدل في العطية بأن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين بخلاف ما ذهب إليه الجمهور. قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "يعني أن يعطى الذكر مثل حظ الأنثيين، فلو أعطاهم بالسوية لكان جورًا؛ لأنه زاد الأنثى ونقص الذكر"، وهذا القول هو الراجح (¬2). تخصيص بعض الأولاد بالعطية لمعنىً يقتضي ذلك: إذا خص الأب أحد الأولاد عن بعض لمعنى يقتضي التخصيص كأن يكون الولد المخصص بالعطية صاحب حاجة أو كونه أعمى أو كثير العائلة أو لكونه مشتغلًا بطلب العلم أو نحوه أو لكون المصروف عنه في التسوية فاسقًا أو صاحب بدعة أو لكونه يستعين بما يأخذه على معصية الله -فقد اختُلِفَ في ذلك على قولين: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (2/ 134)، ومسلمٌ (5/ 65 - 66). (¬2) الممتع في شرح زاد المستقنع (4/ 99). وانظر فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية رقم (30) ورقم (10521).

مفاضلة الأم لأولادها في العطية

الأول: أنه يمنع من التخصيص والتفضيل على كل حال. الثاني: أنه يجوز إذا كان التخصيص لحاجة تقتضيه وهذا هو الراجح عندنا، وبه قال ابن قدامة حيث قال -رحمه الله-: ولأن بعضهم اختص بما تقتضيه العطية فجاز أن يختص بها كما لو اختص بالقرابة (¬1). مفاضلة الأم لأولادها في العطية: إن الأم كالأب في المنع من الفاضلة بين الأولاد، لظاهر حديث النعمان بن بشير. ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة (8/ 258).

كتاب الوصايا

الفِقهُ الميَسَّر كتاب الوصايا

الحكم الشرعي للوصية

كتاب الوصايا تعريف الوصية لغة: يقال: أوصيت لفلان بكذا، ووصَّيت، وأوصيت إليه إذا جعلته وصيًّا (¬1)، والوصية مأخوذة من وصيت الشيء إذا وصلته، سميت بذلك؛ لأنها وصلٌ لما كان في الحياة بما بعد الموت؛ لأن الموصيَ وصل بعض التصرف الجائز له في حياته ليستمر بعد موته. واصطلاحًا: هي التبرع بالمال بعد الموت (¬2). الحكم الشرعي للوصية: يدور حكم الوصية بين الأحكام التكليفية الأربعة: الوجوب، والاستحباب، والكراهة، والتحريم (¬3). 1 - الوصية الواجبة: تجب الوصية إذا كان على الإنسان دين لا بينة به ولا أحد يعرفه إلا الله -سبحانه وتعالى- وصاحب الدين، فهنا يجب على الوصي أن يوصي بسداد دينه؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فتجب الوصية بما له وما عليه من الحقوق التي ليس فيها إثبات؛ لئلا تضيعَ. ومن ذلك أيضًا -أي: الوصية الواجبة- الوصيةُ للأقربين الذين لم يكن لهم حق في الإرث وكانوا فقراء والموصي غني، فهنا تجب عليه الوصية لهؤلاء الأقارب. ¬

_ (¬1) مختار الصحاح، محمَّد الرازي مادة: وصى، وروضة الطالبين، للنووي (ص: 1039). (¬2) المبدع في شرح المقنع (6/ 3). (¬3) انظر في باب أحكام الوصية في: بدائع الصنائع (7/ 330)، المغني، لابن قدامة (8/ 396)، المجموع (6/ 174).

2 - الوصية المستحبة

قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (¬1). قال ابن سعدي -رحمه الله- في تفسيره: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} أي: فرض عليكم يا معشر المؤمنين. {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي: أسبابه كالمرض المشرِفِ على الهلاك. {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} وهو المال الكثير عرفًا. {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} أي: فعليه أن يوصي لوالديه وأقرب الناس إليه بالمعروف على قدر حاله من غير إسراف والاقتصار على الأبعد دون الأقرب. {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} دل على وجوب ذلك؛ لأن الحق هو الثابت وقد جعله الله من موجبات التقوى. إلى أن قال -رحمه الله-: "فالصحيح وجوب الوصية للأقارب غير الوارثين" (¬2). 2 - الوصية المستحبة: وهي الوصية المسنونة، وهي التي يكون فيها الموصي ذا مال وعنده ورثة ولكنهم أغنياء وكذا أقاربه لا حاجة لهم بالمال. وتكون الوصية مستحبة بأن يوصيَ بشيء من ماله يصرف في سبيل البر والإحسان؛ ليصل إليه ثوابه بعد وفاته. 3 - الوصية المكروهة: وتكون هذه الوصية إذا كان مال الموصي قليلًا وورثته محتاجون؛ لأنه بوصيته ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 180. (¬2) تفسير ابن سعدي (1/ 218).

4 - الوصية المحرمة

سيضيق على الورثة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد -رضي الله عنه-: "إنك إِنْ تَذرْ ورثتَك أغنياءَ خيرٌ من أن تذرَهم عالةَّ يَتكففون الناسَ" (¬1). 4 - الوصية المحرمة: والمراد بها ما لا تجوز ويأثم صاحبها، وهي التي اشتملت على أمور منهي عنها، ومن ذلك: أولًا: أن يوصي بزيادة عن ثلث ماله، فإنه لا يجوز له ذلك؛ لحديث سعد بن أبي وقاص المتقدم لقوله - صلى الله عليه وسلم - له: "لا"، حينما سأله, وكلمة: "لا" في مقام الاستفتاء تعني التحريم. ولكن هل يقال بأنه إذا أجازها الورثة تصير حلالًا؟ قال الشيخ محمَّد بن العثيمين -رحمه الله- عند قول صاحب الزاد: "إلا بإجازة الورثة لها: وظاهر كلامه -رحمه الله- أنه إذا أجازها الورثة صارت حلالًا، وفيه نظر، والصواب أنه حرام لكن من جهة التنفيذ فإن ذلك يتوقف على إجازة الورثة" (¬2). تانيًا: أن تكون الوصية لوارث، فهنا تصير محرمة؛ لأنها معصية لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فقد قال -تعالى- بعد ذكر آيات المواريث: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا وصيةَ لوارثٍ" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري، كتاب الوصايا، باب الوصية بالثلث (5/ 369)، رواه مسلم، كتاب الوصية باب الوصية بالثلث (3/ 1250). (¬2) الممتع (4/ 640). (¬3) سورة النساء: 14. (¬4) رواه أحمد (5/ 267)، وأبو داود (3/ 114)، وصححه الألباني في الإرواء (6/ 87).

أركان الوصية

وقد نُقِلَ الإجماعُ على ذلك. قال ابن قدامة -رحمه الله-: "وجملة ذلك أن الإنسان إذا أوصى لوارثه بوصية فلم يجزها سائر الورثة، لم تصح بغير خلاف بين العلماء. قال ابن المنذر وابن عبد البر: أجمع أهل العلم على هذا" (¬1). أركان الوصية: للوصية أربعة أركان هي: 1 - موصٍ: والمراد به صاحب الوصية. 2 - موصى له: والمراد به من تعين له الوصية. 3 - موصى به: والمراد به ما تحمله الوصية من مال. 4 - الصيغة: والمراد به الألفاظ المستعملة في الوصية، كأن تقول: أوصيت بكذا لفلان، أو جعلت لفلان ثلث مالي بعد موتي، ونحو ذلك. شروط الوصية: أولًا: الشروط المعتبرة في الوصي: ذكر الفقهاء بعض الشروط التي يجب توافرها في الوصي، وبعض هذه الشروط اتفقوا عليها، وبعضها اختلفوا فيها ومن هذه الشروط: 1 - اشترط الحنفية (¬2) والشافعية (¬3) للموصي أن يكون بالغًا، فلا تصح وصية الصبي وإن كان مميزًا حتى قال الأحناف: بل لا تصح وصية الصغير سواء ¬

_ (¬1) المغني (8/ 396). (¬2) بدائع الصنائع (7/ 334). (¬3) المجموع (16/ 387).

كان مراهقًا أو غيره وسواء كان مأذونًا له في التجارة أو لا. وأجازوا وصية الصبي المميز في شيء واحد وهو الوصية بتجهيزه ودفنه. أما المالكية (¬1) والحنابلة (¬2) فقالوا بأن البلوغ ليس بشرط بل تجوز وصية الصبي المميز. والصحيح عندنا جوازها من المميز بشرط إذن وليّه. 2 - كونه عاقلًا، فلا تصح وصية المجنون، والمغمى عليه، فإن كان يفيق أحيانًا فإن وصيته تصح حال إفاقته عند الحنابلة. أما السكران فلا تصح وصيته عند المالكية والحنابلة، أما الشافعية فقالوا بأن السكران المتعذي بسكره كالمكلف تصح منه سائر العقود، والصحيح أن السكران لا تصح وصيته (¬3)؛ لأن هذا التصرف يضر بالورثة. 3 - كون الموصي حرًّا، فلا تصح وصية الرقيق، مكاتبًا أو غيره. 4 - أن يكون مدينًا دينًا يستغرق كل ماله، فإن كان كذلك فإن الوصية لا تصح؛ لأن سداد الدين مقدم على تنفيذ الوصية. 5 - كونه مختارًا للوصية قاصدًا لها، فإن كان هازلًا أو مخطئًا أو مكرهًا فإن الوصية لا تصح. وهذا قول الحنفية. 6 - أن لا يكون محجورًا عليه لسفه إذا أراد الإيصاء لأولاده؛ لأنه لا يحسن التصرف على نفسه، فلا يحسن اختياره من يوصي على غيره. ¬

_ (¬1) الشرح الكبير (6/ 323). (¬2) المغني، لابن قدامة (8/ 508). (¬3) المرجع السابق.

ثانيا: الشروط المعتبرة في الموصى له

أما وصيته بماله فإنها تصح؛ لأن فيها نفعًا له كالصلاة والصيام ونحوهما من العبادات. وهذا قول الحنابلة (¬1). وقال المالكية بأن السلامة من السفه ليست بشرط فإنه يجوز للسفيه أن يوصي. 7 - أن لا يكون الموصي معتَقَلَ اللسانِ: فمتى طرأ على الموصي مرضٌ منعه من النطق فإن وصيته لا تصح، لكن هل تكفي إشارته في ذلك؟ نقول: نعم. تكفي إشارته كالأخرس، فمتى طرأ على لسانه مرض مزمن وصارت له إشارة معهودة يخاطِب بها الناسَ فإنها تقوم مقام نطقه في الوصية (¬2). ثانيًا: الشروط المعتبرة في الموصَى له: 1 - أن يكون أهلًا للتملك فلا تصح الوصية لمن لا يملك كوصيته لدابة مثلًا؛ لأنها غير أهل للملك، إلا إذا كان الغرض لصاحبها أو علفها، فهنا يقبلها مالك الدابة؛ لأنه المقصود في هذه الحالة. فلو قال: أوصيت بهذا العشب لدوابِّ فلان، فإنه لا يصح، بخلاف لو قال: أوصيت بهذا العشب ليُعْلَفَ به دوابُّ فلان، فإنه يصح. وهذا قول الحنفية والشافعية. 2 - كون الموصى له حيًّا وقت الوصية ولو تقديرًا، فيشمل الوصية للجنين في بطن أمه. وبه قال الأئمة الأربعة. 3 - أن لا يكون الموصى له قاتلًا للموصي، سواء كان القتل خطأً أو عمدًا، فإذا أوصى شخص لآخر فقتله بطلت الوصية، وبه قال الحنفية (¬3). ¬

_ (¬1) المغني (16510). (¬2) المغني لابن قدامة (16/ 511). (¬3) الفتاوى الهندية (6/ 91).

ثالثا: الشروط المعتبرة في الموصى به

وقال المالكية: تصح الوصية للقاتل بشرط أن تقع بعد الضربة وأن يعرف المقتولُ قاتلَه، فإذا ضرب شخص آخر ضربة قاتلة عمدًا أو خطأً ثم أوصى بعد الضربة بشيء من ماله ومات، فإن الوصية تصح، وتؤخذ من ثلث التركة وثلث مال الدية في القتل خطأ، ومن أصل مال المتوفى في القتل عمدًا. أما إذا أوصى له قبل أن يضربه فأماته فإن الوصية تبطل. وهذا أحد الأقوال عند الحنابلة. قال ابن قدامة -رحمه الله-: "قال أبو الخطاب: وإن وصى له بعد جرحه صح وإن وصى له قبله ثم طرأ القتل على الوصية أبطلها؛ جمعًا بين نص أحمد في الموضعين. وهو قولُ الحسنِ بن صالح وهذا قولٌ حسنٌ" (¬1). 4 - كون الموصى له معلومًا، ويكفي عليه بالوصف كالمساكين والفقراء، فتصح الوصية إذا قال: أوصيت للفقراء والمساكين، أما إذا قال: أوصيت لزيد من الناس، ولم يعينه، فإنها لا تصح. ثالثًا: الشروط المعتبرة في الموصى به: 1 - يشترط فيه أن يكون ملكًا للموصي، فلا تصح الوصية بملك الغير. 2 - كون الموصى به بعد موت الموصي، فإن كان قبله فهو هبة وليس وصية. 3 - كون الموصى به مباحًا، فإن كان الموصى به غيرَ مباحٍ الانتفاعُ به فإنه لا يجوز للموصى له تنفيذه بل يحرم عليه ذلك. رابعًا: الشروط المعتبرة في الصيغة: يشترط في الصيغة أن تكون بما يدل على الوصية من لفظ صريح كأوصيت، أو غير صريح ولكن يفهم منه الوصية بالقرينة كأعطُوا كذا لفلان بعد موتي، ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة (16/ 52104).

ومثلُ اللفظِ الكتابةُ، وهذا يسمى الإيجاب. أما القبول فهو شرط لتنفيذ الوصية بعد الموت، وهو أن يقول: قبلت، ويحصل أيضًا بالفعل كأخذ الموصى به ونحو ذلك مما يدل على الرضا.

المراجع والمصادر 1 - أبحاث هيئة كبار العلماء، إعداد وطبع إدارة البحوث العلمية والإفتاء في السعودية، الطبعة الأولى 1423 هـ. 2 - الإجارة المنتهية بالتمليك، خالد عبد الله الحافي، المطابع الوطنية الحديثة، الطبعة الأولى 1420 هـ. 3 - أسنى المطالب شرح روض الطالب، زكريا الأنصاري الشافعي، الطبعة الميمنية بمصر 1313 هـ. 4 - إعانة الطالبين، لأبي بكر السيد البكري، دار إحياء الكتب العربية بمصر. 5 - إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن قيم الجوزية محمَّد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي أبي عبد الله، المتوفى سنة 751 هـ. 6 - أعمال البنوك والشريعة الإِسلامية، د. محمَّد مصلح الدين، دار البحوث العلمية، الطبعة الأولى 1976 م. 7 - الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، محمَّد الشربيني الخطيب، دار إحياء الكتب العربية بمصر. 8 - الأم، للشافعي، المطبعة الكبرى الأميرية بمصر 1321 هـ. 9 - الأموال، لأبي عبيد القاسم بن سلام، دار الكتب العلمية، بيروت. 10 - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي، المتوفى سنة 885 هـ، الطبعة الأولى 1376 م مطبعة السنة المحمدية. 11 - بحث حكم الأوراق النقدية، قدم في الدورة الثالثة المنعقدة في ربيع الثاني عام 1393 هـ.

12 - البحر الرائق شرح كنز الدقائق، لابن نجيم الحنفي، المطبعة العلمية، الطبعة الأولى. 13 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدين أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني، المتوفى سنة 587 هـ، المطبعة الجمالية بالقاهرة، سنة 1328 هـ. 14 - بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لمحمد بن رشد الحفيد القرطبي، دار الفكر، بيروت. 15 - بلغة السالك لأقرب المسالك، للشيخ أحمد الصاوي، المكتبة التجارية الكبرى بمصر. 16 - بلوغ المرام من أدلة الأحكام، الحافظ ابن حجر العسقلاني، المطبعة التجارية بمصر. 17 - البنك اللاربوى في الإِسلام، محمَّد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، الطبعة السابقة 1400 هـ. 18 - البنوك الإِسلامية بين النظرية والتطبيق، د. عبد الله الطيار. 19 - تاج العروس من جواهر القاموس، محمَّد مرتضى الزبيدي، دار صادر، بيروت 1386 هـ. 20 - تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، عثمان بن علي الزيلعيُّ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 21 - تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذيُّ، للحافظ المباركفوري، المطبعة السلفية بالمدينة المنورة، الطبعة الثانية 1384 هـ. 22 - تحفة المحتاج شرح المنهاج، لابن حجر الهيثمي، دار إحياء التراث العربي.

23 - الترغيب والترهيب من الحديث، للحافظ زكي عبد العظيم بن المنذري، مكتبة مصطفى الحلبي بمصر. 24 - تفسير القرآن العظيم، عماد الدين إسماعيل بن كثير الدمشقي، مكتبة النهضة الحديثة بمصر، الطبعة الثالثة عام 1384 هـ. 25 - التقرير والتحبير، لابن أمير الحاج، المطبعة الكبرى الأميرية بمصر، الطبعة الأولى 1316 هـ. 26 - تكملة فتح القدير على شرح الهداية، شمس الدين أحمد المعروف بقاضي زاده أفندي، المكتبة التجارية بمصر. 27 - تكملة المجموع شرح المهذب، محمَّد نجيب المطيعي، المكتبة السلفية، المدينة المنورة. 28 - تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، لشهاب الدين بن حجر العسقلاني، شركة الطباعة الفنية المتحدة بالقاهرة 1384 هـ. 29 - تهذيب سنن أبي داود، للإمام ابن قيم الجوزية، دار المعرفة، بيروت. 30 - توجيه وتنبيه إلى هواة الصيد ومحبيه، للدكتور عبد الله الطيار. 31 - توضيح الأحكام من بلوغ المرام، لابن بسام. 32 - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن ناصر السَّعدي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1423 هـ. 33 - جامع بيان العلم وفضله، أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطي، دار الكتب العلمية، لبنان.

34 - الجامع الصحيح المختصر، محمَّد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي، المتوفى سنة 256 هـ. 35 - الجامع الصغير, للسيوطي، طبعة دار الكتب العربية بمصر. 36 - الجامع في فقه النوازل، د. صالح بن عبد الله بن حميد. 37 - جواهر الإكليل شرح مختصر خليل، صالح عبد السميع الأزهري، دار إحياء الكتب العربية. 38 - حاشية ابن عابدين، المسمى: رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، محمَّد أمين بن عابدين، مطبعة مصطفى الحلبي بمصر، الطبعة الثانية 1386 هـ. 39 - حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، الدسوقي، دار الفكر بيروت. 40 - حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع، جمع: عبد الرحمن بن قاسم، الطبعة الرابعة 1410 هـ. 41 - حاشية الصاوي على الشرح الصغير. 42 - حاشية العدوي على شرح الخرشي، تأليف الشيخ علي العدوي، دار صادر، بيروت. 43 - الحسبة في الإِسلام، لابن تيمية، مكتبة الأرقم، الكويت، الطبعة الأولى 1403 هـ. 44 - حكم الشريعة الإِسلامية في عقود التأمين، د. حسين حسان. 45 - خيار المجلس والعيب، د. عبد الله الطيار.

46 - الدر المختار شرح تنوير الأبصار، محمَّد علاء الدين الحصكفى، مطبعة الحلبي بمصر. 47 - رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الإبصار، لمحمد أمين بن عابدين، مطبعة مصطفى الحلبي بمصر، الطبعة الثانية 1386 هـ. 48 - روضة الطالبين، للنووي. وعمدة المفتين، النووي أبو زكريا يحيى بن شرف، المتوفى سنة 676 هـ. 49 - السلسبيل في معرفة الدليل حاشية على زاد المستقنع، صالح البلهي، الطبعة الأولى. 50 - سنن ابن ماجه، الحافظ أبو عبد الله محمَّد بن زيد القزويني 207 - 279 هـ مطبعة الحلبي بمصر. 51 - سنن الدارقطني، علي بن عمر، دار المحاسن للطباعة الفنية، القاهرة 1386 هـ. 52 - السنن الكبرى, لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، المتوفى 458 هـ، مطبعة مجلس دائرة المعارف بالهند 1350 هـ. 53 - سنن النسائي، أبو عبد الرحمن بن شعيب النسائي، مطبعة الحلبي بمصر، الطبعة الأولى 1383 هـ. 54 - شرائع الإِسلام في الفقه الجعفري، للمحقق الحلي، دار مكتبة الحياة، بيروت. 55 - شرح الخرشي على مختصر خليل، لأبي عبد الله محمَّد الخرشي، المتوفى 1101 هـ، دار صادر، بيروت. 56 - شرح روض الطالب، شرف الدين إسماعيل أبي بكر المقري.

57 - شرح الزرقاني على مختصر خليل، عبد الباقي الزرقاني، دار الفكر، بيروت. 58 - الشرح الصغير على أقرب المسالك، للدردير، دار الفكر، بيروت. 59 - شرح فتح القدير، لكمال الدين محمَّد بن عبد الواحد السيواسى ثم السكندرلاى المعروف بابن الهمام، المطبعة الكبرى الأميرية بمصر، الطبعة الأولى 1316 هـ. 60 - الشرح الكبير على المقنع، لابن قدامة شمس الدين عبد الرحمن بن محمَّد ابن أحمد بن قدامة أبي الفرج، المتوفى 682 هـ. 61 - الشرح الممتع على زاد المستقنع، ط المكتبة الإِسلامية بالقاهرة. 62 - شرح منتهى الإرادات، لمنصور البهوتي، مطبعة أنصار السنة المحمدية 1366 هـ. 63 - شركات الأشخاص بين الشريعة والقانون، د. محمَّد إبراهيم الموسى، دار العاصمة. 64 - الشركات التجارية، د. مرتضى نصر الله، مطبعة الإرشاد، بغداد. 65 - الشركات، لإبراهيم عشماوي، المطبعة الكمالية بمصر. 66 - الشركات في الفقه الإِسلامي، علي الخفيف، معهد الدراسات العربية 1962 م. 67 - الشركات، محمَّد كامل ملش، مطابع دار الكتاب بمصر. 68 - صحيح البخاري، لأبي عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاري، مطبعة الحلبي بمصر.

69 - صحيح الجامع الصغير, ناصر الدين الألباني، المكتبة الإِسلامية بمصر. 70 - صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري، المتوفى سنة 261 هـ. 71 - صيد الخاطر، للإمام ابن الجوزي، الطبعة الرابعة 1407 هـ دار الفكر سوريا. 72 - ضعيف سنن أبي داود، الشيخ محمَّد ناصر الدين الألباني، المكتب الإِسلامي الطبعة الأولى 1412 هـ. 73 - العدة شرح العمدة، بهاء الدين المقدسي. 74 - عقد البيع، مصطفى الزرقاء دار القلم، دمشق. 75 - العقود المسماة في الفقه الإِسلامي، عقد البيع مصطفى الزرقاء دار القلم دمشق. 76 - عمليات البنوك من الوجهة القانونية، علي عوض. 77 - العناية شرح الهداية، محمَّد بن محمود البابرتي المتوفى سنة 786 هـ التجارية الكبرى. 78 - الفتاوى السعدية عبد الرحمن سعدي. 79 - الفتاوى الفقهية. 80 - الفتاوى الهندية، لجماعة من علماء دار المعرفة للطباعة بيروت. 81 - فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية. 82 - فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأحمد بن حجر العسقلاني، المطبعة السلفية بالمدينة.

83 - فقه السنة، للسيد سابق دار الكتاب العربي، بيروت لبنان الطبعة الثالثة 1397 هـ. 84 - فقه النوازل، بكر أبو زيد وغيرها. 85 - القاموس المحيط، مجد الدين محمَّد بن يعقوب الفيروزآبادي ط دار الفكر بيروت. 86 - قرار المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإِسلامي بالأزهر وأبحاث هيئة كبار العلماء. 87 - قضايا فقهية معاصرة في المال والاقتصاد، د. نزيه حماد. 88 - القوانين الفقهية، لابن جزي، محمَّد أحمد الكبلي الغرناطي، المتوفى 741 هـ. 89 - قوانين الأحكام الشرعية، لمحمد بن جزي الكلبي المتوفى 741 هـ مكتبة عالم الفكر، القاهرة. 90 - كشاف القناع عن متن الإقناع، البهوتي، منصور بن يونس بن إدريس البهوتي. 91 - كفاية الطالب الرباني لرسالة ابن أبي زيد القيرواني لعلي الصعيدي المالكي الشاذلي مطبعة الفكر. 92 - المبدع في شرح المقنع، أبو إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمَّد بن عبد الله بن محمَّد بن مفلح، المتوفى 884 هـ، المكتب الإِسلامي بيروت 1400 هـ. 93 - المبسوط، للسرخسي، شمس الدين محمَّد بن أحمد بن أبي سهلب أبو بكر، المتوفي 483 هـ.

94 - متن البهجة، لابن الوردي الشافعي. 95 - مجلة الأحكام الشرعية، لأحمد بن عبد الله القاري، مطبوعات تهامة الطبعة الأولى 1401 هـ. 96 - مجلة الأحكام العدلية. 97 - مجلة المجمع التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي العدد الخامس. 98 - مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر، عبد الرحمن بن محمَّد سليمان أفندي. 99 - المجموع شرح التهذيب، للنووي. 100 - مجموع فتاوى وبحوث، الشيخ عبد الله المنيع. 101 - مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية، مطابع الرياض. 102 - محاسبة شركات الأشخاص. محمَّد زهدي المجني، مكتبة الشرق، دمشق الطبعة الثانية 1964 م. 103 - مختصر الفتاوى المصرية، لشيخ الإِسلام ابن تيمية. 104 - محاضرات في الوقف، محمَّد أبو زهرة. 105 - المحرر لمجد الدين أبي البركات بن تيمية مكتبة المعارف الرياض الطبعة الثانية 1404 هـ. 106 - المحلى، لأبي محمَّد بن أحمد بن حزم الظاهري 384 - 456 هـ مكتبة الجمهورية العربية. 157 - المدخل الفقهي العام، مصطفى الزرقاء، دار الفكر بيروت 1384 هـ.

108 - المستدرك، للحافظ أبي عبد الله محمَّد المعروف بالحاكم، مطبعة مجلس دائرة المعارف بالهند، الطبعة الأولى 1334 هـ. 109 - المستصفي للغزالي المكتبة التجارية الكبرى بمصر الطبعة الأولى 1356 هـ. 110 - المدونة للإمام مالك رواية سحنون، مطبعة السعادة بمصر. 111 - مسند أحمد الطبعة الحديثة المحققة بإشراف الدكتور عبد الله التركي. 112 - المصارف والأعمال المصرفية د. غريب الحمال. 113 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي أحمد المقري المكتبة العلمية بيروت. 114 - مطالب أولى النهى شرح غاية المنتهى, مصطفى السيوطي الرحيباني, المكتب الإِسلامي بدمشق. 115 - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية للحافظ أحمد بن حجر العسقلاني، دار المعرفة بيروت. 116 - معجم مقاييس اللغة، لأحمد فارس دار إحياء الكتب العربية بمصر الأولى 1369 هـ. 117 - معجم متن اللغة، أحمد رضا، دار مكتب الحياة، بيروت 1378 هـ. 118 - المعجم الوسيط، د. إبراهيم أنيس وزملاؤه، مجمع اللغة العربية، مطابع دار المعارف بمصر الطبعة الثانية 1393 هـ. 119 - المغني، لابن قدامة. أبي محمَّد عبد الله بن أحمد بن محمَّد بن قدامة المقدسي، المتوفى سنة 620، مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.

120 - مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج، محمَّد الشربيني الخطيب، مطبعة الحلبي 1377 هـ. 121 - الملخص الفقهي للشيخ، صالح الفوزان نشر رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء الطبعة الأولى 1423 هـ. 122 - الممتع شرح زاد المستقنع، للشيخ العثمين -رحمه الله- طبعة مركز فجر للطباعة، القاهرة. 123 - منح الجليل شرح مختصر خليل، الشيخ عليش المالكي. 124 - المنفعة في القرض، عبد الله العمرابي، دار ابن الجوزي للنشر الطبعة الأولى 1424 هـ. 125 - من فقه المعاملات للشيخ صالح الفوزان. 126 - مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، لأبي عبد الله محمَّد بن محمَّد بن عبد الرحمن المغربي المعروف بالخطاب المتوفى 902 - 954 هـ، دار الفكر الطبعة الثالثة 1412 هـ. 127 - الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإِسلامية، إصدار الاتحاد الدولي للبنوك الإِسلامية، الطبعة الأولى 1398 هـ. 128 - الموسوعة الفقهية الكويتية. 129 - الموطأ للإمام مالك رواية يحيى بن يحيى الليثي، دار النفائس بيروت. 130 - نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، للرملي، شمس الدين محمَّد بن أبي العباس أحمد بن حمزه بن شهاب الرملي.

131 - نظام التأمين، مصطفى الزرقاء، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1404 هـ. 132 - نظرية الضمان الشخصي (الكفالة)، د. محمَّد إبراهيم الموسى، مكتبة العبيكان، الطبعة الأولى. 133 - النهاية في غريب الحديث، لأبي السعادات المعروف بابن الأثير، المكتبة الإِسلامية. 134 - نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، محمَّد بن علي الشوكاني، مطبعة الحلبي بمصر، الأخيرة. 135 - الهداية شرح بداية المبتدي، لشيخ الإِسلام بن الحسن بن علي بن أبي بكر المرغيناني، المتوفى سنة 593 هـ، مطبعة مصطفى الحلبى بمصر، الطبعة الأخيرة. 136 - الوجيز في النظام التجاري السعودي، د. سعيد يحيى، المكتب المصري الحديث 1971 م. 137 - الوجيز في القانون التجاري، د. مصطفى كمال طه، المكتب المصري الحديث للطباعة، الطبعة الأولى 1394 هـ.

الفِقهُ الميَسَّر الأطعمة - الأيمان والنذور - الجنايات - الديات - الحدود - الجهاد مَوسُوعة فقهيَّة حَديثَة تتناوَل أحكام الفقه الإسلامي بأسُلوب وَاضح للمختصّين وغيرهم تَأليف د/محمَّد بن إبراهيم الموسَى عضو مجلس الشورى سابقًا - المجلس الأعلى للأوقاف أ. د/عَبد الله بن محمد الطيّار أستَاذ الدراسات العليا بكليَّة الشَّريعة والدِّراسات الإسلامية بجامعة القصيم أ. د/عبد الله بن محمّد المطلق عضو هَيئة كبار العُلَماء، وعضو اللجنة الدَّائمة للإفتاء الجزء السَّابع مدار الوطن للنشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الفِقهُ الميَسَّر الأطعمة - الأيمان والنذور - الجنايات - الديات - الحدود - الجهاد

حقُوق الطَّبع محفُوظَة الطَّبعَة الأولى 1432 هـ - 2011 م مَدَارُ الوَطن للنَّشر المملكة العربية السعودية - المقر الرئيسي: الرياض - الملز ص. ب: 245760 - الرمز البريدي 11312 - هاتف 4792042 (5 خطوط) - فاكس 4723941 البريد الإلكتروني: [email protected] موقعنا على الإنترنت: www.madaralwatan.com الرياض: 0503269316 الغربية: 0504143198 الشرقية: 0503193268 الشمالية والقصيم: 0504130728 التوزيع الخيري للشرقية والجنوبية: 0503193269 التوزيع الخيري لباقي جهات المملكة: 0506436804 التسويق للجهات الحكومية: 0500996987 مبيعات المكتبات الخارجية: 0503193269

المقدمة الحمد لله شرع فأحكم والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وبعد: فإن الشريعة الإِسلامية نظام عام وشامل جاء لتنظيم أمور الدين والدنيا فهو ينظم علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بغيره من الأفراد، وعلاقته بالمجتمع الذي يعيش فيه وغير ذلك من أمور الحياة. ويسرنا أن نضع بين يدي القارئ الكريم بعضًا من موضوعات الفقه وهي: 1 - كتاب الأطعمة: ويتناول أنواعها وما يحل منها وما يحرم لأهمية ذلك في حياة المسلم. 2 - كتاب الأيمان والنذور: وقد لازمت حياة الإنسان منذ القدم وجاء الإِسلام وبين موقفه منها وما يجوز وما لا يجوز. 3 - كتاب الجنايات: وقد حدد الإِسلام أنواعها وأحكامها سواء كانت على النفس أو على ما دونها. 4 - كتاب الديات: وهي في الشريعة الإِسلامية عقوبة أصلية للقتل والجنايات على ما دون النفس في الجرح والأعضاء والمنافع. 5 - كتاب الحدود: وهي عقوبات مقررة لسبع جرائم هي: الزنا، القذف، الشرب، السرقة، الحرابة، الردة، البغي، وتسمى العقوبة المقررة لكل جريمة حدًا، وتم بحث التعزير: وهو العقوبة غير المقدرة والتي تجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة. 6 - كتاب الجهاد: وهو بذل الجهد في نشر دين الله وإعلاء كلمته والدفاع عن حوزة الإِسلام والمسلمين.

ونرجو من الإخوة الكرام أن يمدونا بما يرونه من آراء ومقترحات أو ملاحظات تؤدي إلى تسديد هذا العمل العلمي ومن ثم زيادة الفائدة المتوخاة منه. وندعو الله تعالى أن يتقبله في صالح الأعمال وأن ينفع به والله الموفق والهادي سواء السبيل. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كتاب الأطعمة

الفِقهُ الميَسَّر كتاب الأطعمة

أولا: باب الأطعمة

كتاب الأطعمة والذكاة والصيد أولًا: باب الأطعمة التعريف في اللغة: الأطعمة جمع طعام وهو كل ما يؤكل (¬1). واصطلاحًا: هو بيان ما يباح ويحرم أكله (¬2). حكمه: الأصل في هذا الباب الحِلُّ وقد ورد ذلك في الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (¬3). وقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} (¬4). وقد دلت الآية على أن ما لم يبين تحريمه فهو حلال. وأما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وحرَّم أشياء، فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان، فلا تبحثوا عنها" (¬5). فكل ما لم يبين اللهُ ورسولُه - صلى الله عليه وسلم - تحريمَه من المطاعم والمشارب والملابس، فالأصلُ فيه الحِلُّ ولا يجوز تحريمُه إلا بدليل ناقل عن الأصل. ¬

_ (¬1) لسان العرب مادة: "طعم". (¬2) كشاف القناع للبهوتي (6/ 188). (¬3) البقرة: 29. (¬4) الأنعام: 119. (¬5) أخرجه الدارقطني من حديث أبي الدرداء في كتاب الأشربة قال النووي -رحمه الله-: حديث حسن رواه الدارقطني وغيره.

حكمة التشريع

وأما الإجماع: فإن العلماء متفقون على أن الأصل في الطعام والشراب الحِلُّ، إلا ما ورد الشرع في تحريمه قال في المقنع: "الأصل فيها الحل، فيحل كل طعام طاهر لا مضرة فيه من الحبوب والثمار وغيرها" (¬1). قال في تيسير العلام: "الأصل في الطعام والشراب الحل فلا يحرم، منها إلا ما حرمه الله ورسوله؛ لأنها داخلة في عموم العادات المبنية على الحل، والمحرم منها محدود ومعدود مما يدل على بقاء المتروك على أصله وهو العفو" (¬2). وجاء في الموسوعة الفقهية: "وتبين لمن تتبع كتب الفقه المختلفة في أبواب الأطعمة وغيرها أن الأصل في الأطعمة الحل، ولا يصار إلى التحريم إلا لدليل خاص" (¬3). حكمة التشريع: إن الطعام الذي يتغذى به الإنسان ينعكس أثره على صحته وأخلاقه وسلوكه، فالأطعمة الطيبة يكون أثرها طيبًا على الإنسان والأطعمة الخبيثة يكون أثرها سيئًا, ولذلك أمر الله العباد بالأكل من الطيبات ونهاهم عن الخبائث (¬4)، قال الله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (¬5). أنواع الأطعمة: تنقسم الأطعمة إلى قسمين: نباتية وحيوانية. ¬

_ (¬1) المبدع في شرح المقنع، لابن مفلح (9/ 193). (¬2) توضيح الأحكام، لابن بسام (7/ 3). (¬3) الموسوعة الفقهية الكويتية كلمة: "أطعمة". (¬4) الملخص الفقهي للفوزان (ص: 577). (¬5) سورة الأعراف: 157.

أولا: النباتية

أولًا: النباتية: الأطعمة النباتية: هي كل ما ينبت في الأرض من ثمار وأشجار وأعشاب وغيرها وهي مباحة كلها (¬1) لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} (¬2)، ولا يحرم تناولها إلا ما فيه ضرر، كالتراب والحصى والسم ونحوها أو ما هو مسكر أو نجس فيحرم تناوله لإسكاره أو نجاسته (¬3). ثانيًا: الحيوانية: وهي على نوعين: برية تعيش في البر وحيوانات مائية تعيش في الماء. 1 - حيوانات البر: وهي مباحة إلا أنواعًا منها وفقا للضوابط الآتية: أ - ما نص عليه الشارع بالتحريم بعينه كالخنزير لقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬4)، وكالحمر الأهلية لحديث جابر -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية" (¬5). ب- ما وضع له ضابط وحُدَّ، كالذي له ناب من السباع، أو مخلب من الطير، لحديث ابن عباس -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير" (¬6)، فيحرم ذلك وما عداه فإنه حلال. ¬

_ (¬1) مواهب الجليل، للحطاب (3/ 229). (¬2) سورة البقرة: 168. (¬3) القوانين الفقهية لابن جزي (ص: 192)، وروضة الطالبين (ص: 474)، والمبدع، لابن مفلح (9/ 193). (¬4) الأنعام: 145. (¬5) رواه البخاري (7/ 601)، ومسلمٌ (7/ 95). (¬6) أخرجه مسلمٌ (7/ 85).

ج- ما يأكل الجيف كالنسر والرخم ونحوهما وذلك لخبث ما يتغذى به، فيكون حراما؛ لأن الله حرم الخبائث. د- ما أمر الشارع بقتله أو نهى عنه: كالحية والعقرب والفأرة والغراب والحدأة، لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور" (¬1). وأما ما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو ما جاء في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل أربع من الدواب: النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد" (¬2)، وكل ذلك حرام لا يجوز أكله. هـ - أن يكون متولدًا من بين حلال وحرام فيغلب التحريم، كالبغل لحديث جابر - رضي الله عنه - قال: "ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البغال والحمير والحمر، ولم ينهنا عن الخيل" (¬3). وهذه ضوابط وقواعد يُحدُّ بها المُحرَّم، وعند التطبيق يختلف بعض العلماء في حل شيء أو تحريمه من الحيوانات إما لدليل يستند عليه، وإما لما يرى من عدم دخوله تحت مسمى ما تم تحريمه. ومن أمثلة ذلك: 1 - عند الحنفية: يرون أن العقعق وهو غراب نحو الحمامة حجمًا طويل الذنب فيه بياض وسواد حلال؛ لأنه يأكل الحب غالبًا فلا يكون مستخبثًا، وذلك خلافًا للجمهور الذين يرون حرمته. وعندهم أن الضب حرام خلافًا للجمهور (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري الحديث (3136). (¬2) رواه أحمد (1/ 332)، وأبو داود (5267)، وصحَّحه ابن حبان (1078). (¬3) رواه أبو داود الحديث (3789). (¬4) شرح فتح القدير لكمال الدين بن الهمام (8/ 417)، دار إحياء التراث العربي، لبنان.

2 - عند المالكية: في القول المشهور عندهم أنه يكره تنزيها أكل الحيوانات المفترسة سواء كانت أهلية كالسنور والكلب، أم متوحشة كالذئب والأسد، كما أنهم يجيزون أكل الحية وكذلك القنفذ (¬1) في قول عندهم (¬2). 3 - عند الشافعية: يرون أن أكل الثعلب حلال، قال في روضة الطالبين (¬3): "يحل الضَّب والثعلب"، أما الضَّب فلحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أُكِل الضَّب على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬4). وأما الثعلب فلأن أنيابه ضعيفة. 4 - وعند الحنابلة: يجوز أكل الضبع والضب (¬5)، والضبع من ذوات الناب من السباع والضب من الحشرات، ولكنه استثنى وذلك للأحاديث الواردة فيهما. حيث جاء في الضبع حديث ابن أبي عمار قال: قلت لجابر -رضي الله عنه-: الضبع صيد هو؟ قال: نعم. قلت: قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: نعم (¬6). والخلاصة: إن ما لا تنطبق عليه تلك الضوابط حلال لا إشكال فيه عند الفقهاء، وأما ما تنطبق عليه فإنه محل خلاف بينهم، وينبغي الالتزام بتلك القواعد ما لم يكن فيه دليل شرعي يبيح أو يحرم شيئًا منها، وذلك خروجًا من الخلاف وبراءة لدين المسلم. والله أعلم. 2 - حيوانات الماء: وهي ما تعيش في الماء من البحار والأنهار، وهي مباحة إلا ما استثني وبيان ذلك: ¬

_ (¬1) وانظر الفتوى رقم (5394) للجنة الدائمة في السعودية وفيها أن أكل القنفذ حلال. (¬2) الشرح الكبير حاشية الدسوقي (2/ 104)، والقوانين الفقهية، لابن جزى (ص: 150)، ومواهب الجليل، للحطاب (3/ 230). (¬3) روضة الطالبين للنووي (ص: 470). (¬4) أخرجه البخاريُّ (7358)، ومسلمٌ (1947). (¬5) المبدع شرح المقنع لابن مفلح (9/ 200). (¬6) رواه أحمد والأربعة وصححه البخاري وابن حبان، بلوغ المرام لابن حجر (1154).

1 - يرى الحنفية أنه يحل أكل السمك فقط من حيوان الماء وما سوى السمك يستخبثه الطبع (¬1). 2 - يرى جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة أنه يحل أكل جميع حيوان الماء وذلك استدلالًا بقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} (¬2)، جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث في السعودية رقم (5828) الأصل في حيوان البحر الذي لا يعيش عادة إلا فيه الحل لقوله سبحانه وتعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} (¬3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في البحر: "وهو الطهور ماؤه الحل ميتته". ويستثنى الشافعية والحنابلة من حيوان الماء: الضفدع، والحية، والتمساح، ويرون حرمتها، أما الضفدع فلما جاء في النهي عن قتلها حيث روى عبد الرحمن ابن عثمان القرشي: "أن طبيبًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضفدع يجعلها في دواء؟ فنهى عن قتلها" (¬4)، وأما الحية فلاستخباثها، وأما التمساح، فلأن له نابًا يفترس به (¬5). الراجح: نرى أن الراجح هو حل جميع ما يعيش في الماء إلا ما ورد دليل يقضي بتحريمه، وذلك لعموم الأدلة من الكتاب والسنة الدالة على حله كقوله - صلى الله عليه وسلم - في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" (¬6). ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير، لابن الهمام (8/ 423). (¬2) سورة فاطر: 12. (¬3) سورة المائدة: 96. (¬4) أخرجه أحمد (3/ 449)، وصححه الحاكم (4/ 411)، انظر الفتوى رقم (1414) من فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية وقد جاء فيها الحديث عن الضفدع بالتفصيل. (¬5) روضة الطالبين، للنووي (ص: 471)، المبدع، لابن مفلح (9/ 202). (¬6) رواه الخمسة وقال الترمذيُّ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

أسباب التحريم

أسباب التحريم: تبين من دراسة العلل التي يذكرها الفقهاء أسبابًا للتحريم أنها خمسة وهي: 1 - ضرر البدن كالأشياء السامة أو الضارة، فكل ما ثبت ضررٌ له يقول الأطباء أو المجربين فهو حرام. 2 - ضرر العقل كالمسكرات والمخدرات بأنواعها لما فيه من تعطيل للعقل ومفسدة للفرد والمجتمع. 3 - النجاسة: فيحْرم النجس والمتنجس كالدم والسمن الذي ماتت فيه فأرة. 4 - الأشياء المستقذرة عند ذوى الطباع السليمة كالبول والروث. 5 - عدم الإذن شرعًا: وذلك بأن يكون مباحًا, ولكن لم يأذن فيه الشارع كالمغصوب والمسروق أو المكتسب بالقمار والبغاء وغيرها (¬1). وما عدا ما ذكر في هذه الأسباب فإنه حلال يجوز أكله وشربه، بقاء على الأصل في حل كل شيء إلا ما ورد الدليل بتحريمه. ¬

_ (¬1) الموسوعة الفقهية الكويتية (5/ 125).

ثانيا: باب الذكاة

ثانيًا: باب الذكاة التعريف: في اللغة: الذكاة هي الذبح وأصل الذكاة في اللغة: التمام؛ لأن ذبح الحيوان فيه إتمام زهوقه (¬1). واصطلاحًا: ذبح حيوان برى مقدور عليه مباح أكله بقطع حلقومه ومريئه أو عقر ما لم يقدر عليه (¬2). الأصل في مشروعية الذكاة: اشتراط وجوب الذكاة ثابت بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إلى قوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (¬3). فيدل ذلك على اشتراط الذكاة لحل الأكل؛ ولأن الله تعالى حرم الميتة وهي ما زهقت نفسه بسبب غير مباح أو ليس بمقصود. وأما السنة: فمنها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي: "أمّر (¬4) الدم بما شئت" (¬5). وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" (¬6). ووجه الدلالة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أباح ميتة البحر دل على تحريم ما عداها وأن الذكاة شرط فيها (¬7). ¬

_ (¬1) لسان العرب مادة: ذكا. (¬2) كشاف القناع، للبهوتي (6/ 203). (¬3) سورة المائدة: 3. (¬4) أي سيله واستخرجه، لسان العرب (5/ 187). (¬5) رواه أبو داود الحديث (2824). (¬6) سبق تخريجه (ص: 5). (¬7) العدة شرح العمدة، بهاء الدين المقدس (ص: 446).

الحكمة من مشروعية الذكاة

وأما الإجماع: قال في الإفصاح (¬1): "فأما البري فإنهم أجمعوا على أن ما أبيح أكله منه لا يستباح إلا بالذكاة". الحكمة من مشروعية الذكاة: إن الشرع ورد بحل الطيبات قال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (¬2). وحرمت الميتة؛ لأن المُحَرَّم وهو الدم المسفوح فيها قائم ولا يزول الدم إلا بالذبح أو النحر، وفي الذكاة تنفير عن الشرك وأعمال المشركين وتمييز لمأكول الآدمي عن مأكول السباع (¬3). شروط الذكاة: يشترط للذكاة أربعة شروط: 1 - أهلية الذابح المذكي أو الناحر أو العاقر: وهو أن يكون عاقلًا قاصدًا التذكية، فلا تحل ذكاة مجنون وسكران، وطفل دون التمييز؛ لأنه لا قصد لهم قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إباحة ذبيحة المرأة والصبي" (¬4). 2 - أن يذبح بآلة محددة تقطع أو تنحر بحدها لا بثقلها: سواء أكانت حديدًا أو حجرًا أو خشبًا أو غيرها، غير عظم أو ظفر، فلا يحلُّ الذبح بها وهو المتفق على صحته بين الفقهاء لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث رافع بن خديج: "ما أنهر الدم ¬

_ (¬1) الإفصاح، لابن هبيرة (2/ 308). (¬2) سورة الأعراف: 157. (¬3) الموسوعة الفقهية الكويتية (21/ 177). (¬4) العدة شرح العمدة، بهاء الدين المقدسي (ص: 447).

ذكاة غير المسلم

وذكر اسم الله عليه فكلوه ليس السن والظفر" (¬1)، وأجاز الحنفية الذبح بالظفر والسن والقرن إذا كان منزوعًا. 3 - أن يقطع الحلقوم وهو: (مجرى النفس) والمريء وهو: (مجرى الطعام والشراب)، والودجين وهما: (الوريدان)، ويرى الحنفية الاكتفاء بقطع الثلاث منها، ويرى المالكية صحة قطع الحلقوم والودجين دون المريء، ويرى الشافعية والحنابلة صحة قطع الحلقوم والمريء. 4 - التسمية عند حركة يده بالذبح، فإن تَرَكَ التسميةَ عمدًا لم تحل التذكية عند جمهور العلماء خلافًا للشافعي، وإن تركها جهلًا أو نسيانًا فإنها تحل على الراجح من قولي الفقهاء (¬2). ذكاة غير المسلم: أجمع الفقهاء على إباحة ما ذبحه أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬3). قال الإِمام البخاري: عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "طعامهم ذبائحهم" (¬4). كما أجمع الفقهاء على أن: ما ذبحه غير أهل الكتاب لا يحل أكله، وهو ما يفهم من الآية الكريمة (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2488)، ومسلمٌ (5065). (¬2) شرح فتح القدير لابن الهمام (8/ 406)، مواهب الجليل (3/ 208)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 462)، وكشاف القناع، للبهوتي (6/ 204). (¬3) سورة المائدة: 5. (¬4) ذكره البخاري تعليقًا (9/ 787). (¬5) شرح فتح القدير، لابن الهمام (8/ 407).

التسمية عند الذبح

وإباحة ذبيحة أهل الكتاب دون غيرهم؟ لاعتقادهم بتحريم الذبح لغير الله، وتحريم الميتة، وهذا هو ما جاءت به أنبياؤهم، بخلاف غيرهم من الكفار (¬1). قال في الإفصاح: "أجمعوا على أن ذبائح أهل الكتاب العقلاء مباحة، وأجمعوا على أن ذبائح الكفار من غير أهل الكتاب غير مباحة" (¬2). التسمية عند الذبح: حقيقة التسمية: ذكر اسم الله تعالى بقوله: "بسم الله" لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} (¬3). ويرى الحنفية والمالكية وهو رواية عند الحنابلة: أنه يجوز أن يذكر اسم الله تعالى بأي اسم كان وتحل الذبيحة. والرواية الأخرى عند الحنابلة أن التسمية هي: "بسم الله"، ولا يقوم غيرها مقامها؛ لأن إطلاق التسمية ينصرف إليها وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذبح سمَّي: "باسم الله والله أكبر" (¬4). الراجح: إن ذكر الله تعالى وحده بأي اسم كان على الذبيحة مبيح لأكلها؛ لأنه إذا ذكر الذابح اسمًا من أسماء الله لم يكن المأكول مما لم يذكر اسم الله عليه الوارد في قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (¬5)، فلم يكن محُرَّمًا. ولكن المستحب أن يقول: "بسم الله والله أكبر" كما هو الوارد في السنة. ¬

_ (¬1) الملخص الفقهي، للفوزان (ص: 588). (¬2) الإفصاح لابن هبيرة (2/ 309). (¬3) سورة الأنعام: 118. (¬4) شرح فتح القدير، لابن الهمام (8/ 411)، وجواهر الإكليل في شرح مختصر خليل (1/ 222)، والمجموع شرح المهذب، للنووي (8/ 410)، والمبدع، لابن مفلح. (¬5) سورة الأنعام: 121.

أنواع الذكاة

أنواع الذكاة: الذكاة ثلاثة أنواع وهي: 1 - الذبح: وهو للحيوانات المقدور عليها من الغنم والبقر والطيور وغيرها، ويكون في حلق البهيمة أسفل للحيين. 2 - النحر: خاص بالإبل فقط، وهو الطعن في اللُّبة وهي وسط الصدر للإبل ونحوها. 3 - العقر: وهو بفتح العين وسكون القاف وهو: الإصابة القاتلة للحيوان والطير في أي موضع من بدنه، إذا كان غير مقدور عليه، ولو كان من الحيوانات الأليفة إذا فرَّ لحديث رافع -رضي الله عنه- قال: ندَّ بعير، فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما ندَّ عليكم فاصنعوا به هكذا" (¬1) سواء أكان العقر بالسهم أم بجوارح السباع والطير (¬2)، وهي الذكاة الاضطرارية. فإن ذبح من القفا مختارًا فإنَّ الذبيحة لا تؤكل، رُوي ذلك عن علي وسعيد ابن المسيب ومالك وإن بقيت فيها حياة مستقرة قبل ذبحها بقطع الحلقوم والمريء، فيحل أكلها كأكيلة السبع وذلك مروي عن عليٍّ -رضي الله عنه- وبه قال الشعبي وأبو حنيفة والشافعيُّ (¬3). آداب الذكاة: للذكاة آداب وسنن منها: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3075)، ومسلمٌ (5065). (¬2) الموسوعة الفقهية الكويتية (21/ 71)، وانظر: قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي رقم [94 (3/ 10)]. (¬3) المغني لابن قدامة (13/ 308).

1 - أن تكون الذكاة بآلة حادة كالسكين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وليُحِدَّ أحدُكُم شفرتَهُ وليُرِحْ ذبيحتَهُ" (¬1). 2 - أن يُمِرَّ السكين أو الآلة بقوة وبسرعة؛ ليكون أسرع؛ ولأن فيه إراحةً للذبيحة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ذبح أحدُكم فليُجْهِز" (¬2). 3 - أن يكون الذابح مستقبلًا القبلة وأن توجه الذبيحة إلى القبلة عند ذبحها. 4 - أن يُحِدَّ آلة الذبح من سكين ونحوها، دون أن تبصر ذلك الذبيحةُ؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أمر بحدَّ الشفار وأن تُوارَى عن البهائم" (¬3). 5 - أن تُنْحَر الإبلُ قائمةً معقولة يدها اليسرى وأن تذبح البقرة والغنم مضجعة على جانبها الأيسر (¬4). وحيث إن أساليب الذبح قد تغيرت عن الأساليب السابقة؛ لكثرة ما يذبح ولسهولة تصديرها، وقد صاحب ذلك استعمال أجهزة كهربائية لصعق الحيوان قبل ذبحه لذلك فقد دُرِسَ الموضوع من قبل المجامع الفقهية، وأصدر المجمع التابع لرابطة العالم الإِسلامي في دورته العاشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 24/ 2 / 1408 هـ إلى يوم الأربعاء 28/ 2 / 1408 هـ وصدر قراره باشتراط ما يأتي: 1 - إذا صُعِقَ الحيوانُ المأكولُ بالتيار الكهربائي، ثم بعد ذلك تَمَّ ذبحه أو ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ برقم (1955). (¬2) رواه أحمد (20/ 18)، ورقمه (5864). (¬3) رواه أحمد (20/ 18)، ورقمه (5864). (¬4) بدائع الصنائع (5/ 60)، والمجموع، للنووي (8/ 408)، والمغني لابن قدامة (13/ 305).

ذكاة الجنين

نحرُه وفيه حياة فقد ذكى ذكاة شرعية، وحَلَّ أكله لقوله تعالى {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (¬1). 2 - إذا زُهِقت روح الحيوان المصاب بالصعق الكهربائي قبل ذبحه أو نحره فإنه ميتة يحرم أكله لعموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (¬2). 3 - إذا كان التيار الكهربائي منخفض الضغط وخفيف المس بحيث لا يعذب الحيوان، وكان في ذلك مصلحةٌ كتخفيف ألم الذبح عنه وتهدئة عنفه ومقاومته، فلا بأس بذلك شرعًا مراعاة للمصلحة. وجاء في قرار المجمع التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي رقم 94 (3/ 10) بشأن الذبح في موضوع الدواجن (د) لا يجوز تدويخ الدواجن بالصدمة الكهربائية، لما ثبت بالتجربة من إفضاء ذلك إلى موت نسبة غير قليلة منها قبل التذكية، كما جاء فيه بعض الشروط الفنية لأجهزة الكهرباء والتي تستعمل لتدويخ الحيوان قبل ذبحه فمن شاء فليراجعه. ذكاة الجنين: 1 - يرى أبو حنيفة أن الجنين إذا أُدْرِكَ حيًّا بعد تذكية أمه، فإنه يُذكَّى ويحِلُّ أكله، وإن لم يخرج حيًا فلا يحِلُّ أكله؛ لأنه حيوان ينفرد بحياته، فلا يتذكى بذكاة غيره. 2 - ويرى جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وأبو يوسف ومحمَّد من الحنفية: أن ذكاة الأم ذكاةٌ للجنين، فيحِلُّ أكلُهُ إذا خرج الجنين ميتًا أو كانت حركته كحركة المذبوح، ويضيف المالكية اشتراط كونه تَمَّ خَلقُهُ ونبت شعره. وإن خرج الجنين حيًّا فإنه لا بد من تذكيته. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 3. (¬2) الآية السابقة.

المحرمات من الحيوانات المأكولة

الراجح: نرى أن الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور لحديث جابر -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ذكاةُ الجنينِ ذكاةُ أمه" (¬1). قال في المغني: "ولأن هذا إجماع من الصحابة ومن بعدهم، فلا يُعوَّل على ما مخالفه" (¬2). المحرمات من الحيوانات المأكولة: 1 - الميتة: وهي كل حيوان حلال الأكل وفارقته الروح من غير ذكاة شرعية ما عدا ميتة السمك والجراد لحديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال" (¬3). 2 - المنخنقة: وهي التي التف على عنقها حبلٌ ونحوه فخنقها. 3 - الموقوذة: وهي التي ضربت بشيء ثقيل. 4 - المتردية: وهي التي تسقط من شيء مرتفع. 5 - النطيحة: وهي التي نطحها حيوان آخر برأسه. 6 - ما أكل السبع: وهي التي افترسها الذئب ونحوه، جاء ذلك بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}، قوله تعالى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (¬4). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2/ 93)، وصححه ابن حبان (1077)، بلوغ المرام لابن حجر (1172). (¬2) شرح فتح القدير لابن الهمام (8/ 417)، ومواهب الجليل (3/ 227)، والمغني لابن قدامة (13/ 308). (¬3) رواه الإِمام أحمد في مسنده (2/ 97)، رقم (57230)، وابن ماجه (2/ 1103)، رقم (3314). (¬4) سورة المائدة: 3.

اللحوم المستوردة

وإذا ما أُدرك شيء منها حيًّا حياة مستقرة فذكى جاز أكلُه (¬1). اللحوم المستوردة: تستورد بعض البلاد الإِسلامية أنواعًا من اللحوم من بلاد غير إسلامية من أغنام وبقر وغيرها ولذلك حالتان: 1 - أن تكون من بلاد أهل الكتاب، فهي حِلٌّ للمسلمين بالنص القرآني، ما لم يعلم أنها ذبحت على غير الوجه الشرعي، قال الشيخ عبد العزيز بن باز: اللحوم التي تباع في أسواق دول غير إسلامية، إن علم أنها من ذبائح أهل الكتاب فهي حل للمسلمين، إذا لم يعلم أنها ذبحت على غير الوجه الشرعي، إذ الأصل حلها بالنص القرآني فلا يعدل عن ذلك إلا بأمر محقق يقتضي تحريمها. 2 - أن تكون من بلاد أخرى غير بلاد أهل الكتاب فلا يجوز أكلها، قال الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: أجمع علماء الإِسلام على تحريم ذبائح المشركين من عباد الأوثان ومنكري الأديان ونحوهم من جميع أصناف الكفار غير اليهود والنصارى (¬2). ¬

_ (¬1) الملخص الفقهي، للفوزان (ص: 591). (¬2) توضيح الأحكام لابن بسام (7/ 48)، وانظر الفتوى رقم (949) من فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية حيث تناولت حكم اللحوم المستوردة وهي تتفق مع ما ذكرناه.

ثالثا: باب الصيد

ثالثا: باب الصيد التعريف في اللغة: مصدر صاد يصيد صيدًا، ويطلق على فعل الاصطياد وكذا على المصيد وهو المقتول (¬1). وفي الاصطلاح: هو اقتناص حيوان حلال متوحش طبعًا، غير مملوك ولا مقدور عليه (¬2). أركان الصيد: للصيد ثلاثة أركان: صائد، ومصيد، وآله (¬3). أنواع الصيد: الصيد نوعان: بري وبحري، وقد سبق الكلام عما يحِلَّ أكلُه مما يعيش في البحر، أما البري فهو المقصود هنا. حكم الصيد: الأصل في الصيد الإباحة، ودليل ذلك الكتاب والسُّنة والإجماع. فأما الكتاب: فقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (¬4)، وقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (¬5). وأما السُّنة: فمنها حديث أبي ثعلبة الخشني -رضي الله عنه- أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصيد بالقوس والكلب المعلم والكلب غير المعلم: فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ما ¬

_ (¬1) لسان العرب، مادة: "صيد". (¬2) كشاف القناع، للبهوتي (6/ 213). (¬3) شرح الخرشي على مختصر خليل (3/ 8). (¬4) سورة المائدة: 96. (¬5) سورة المائدة: 2.

شروط الصيد

صدت بقوسك فاذكر اسم الله ثم كل، وما صدت بكلبك المعلم، فاذكر اسم الله ثم كل، وما صدت بكلبك الذي ليس معلمًا فأدركت ذكاته فكل" (¬1). وأما الإجماع: فقال ابن قدامة في المغني (¬2): "وأجمع أهل العلم على إباحة الاصطياد والأكل من الصيد". وقال ابن هبيرة (¬3): "واتفقوا على أن الله سبحانه وتعالى أباح الصيد". والإباحة تكون إذا كان لحاجة الإنسان ومعاشه، أما إذا كان لغير حاجة وإنما للهو فهو مكروه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتخذوا شيئًا فيه الروح غرضًا" (¬4). وأما المعقول: فإن الصيد نوع اكتساب وانتفاع، فكان مباحًا بمنزلة الاحتطاب (¬5). شروط الصيد: إذا أدرك الصيد حيًا فتجب ذكاته، أما إذا كان ميتًا بصيده فيشترط لحله شروط: 1 - أهليه الصائد وهو من تحل ذكاة ذبيحته وأن يكون غير مُحْرِمٍ بحج أو عمرة. 2 - أن تكون آلة الصيد حادة أو سهما يخرق الجلد، أو تكون جارحًا معلمًا كالكلب والصقر. 3 - إرسال الآلة قاصدًا للصيد، فلا يحل إن استرسل بنفسه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (7/ 112)، ومسلمٌ في باب الصيد (3/ 1532). (¬2) المغني لابن قدامة (13/ 257). (¬3) الإفصاح (2/ 302). (¬4) أخرجه مسلمٌ من حديث ابن عباس (3/ 1549). (¬5) الموسوعة الفقهية الكويتية (28/ 115).

الصيد المحرم

4 - قول الصائد باسم الله عند إرسال جارحه أو سهمه وألا يتركها عمدًا عند الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة فإن تركها عمدًا فلا تحِلُّ. وأما إذا تركها نسيانًا فإن الحنفية والمالكية وهو رواية عند أحمد يرون إباحتها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان" (¬1). ويرى الشافعية أنَّ التسمية عند ذلك سُنَّة فإنْ تركها عمدًا أو سهوًا جاز أكل الصيد (¬2). الراجح: هو عدم حل الصيد إن ترك التسمية عمدًا، أما إن تركها نسيانًا فإنه يجوز أكله لقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (¬3). وقد وردت في ذلك أحاديث منها حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المسلم يكفيه اسمه، فإن نسي أن يسمي حين يذبح فليسم ثم ليأكل" (¬4)، وله شاهد عند أبي داود وفي مراسيله بلفظ: "ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله عليها أو لم يذكر"، ورجاله موثقون (¬5). الصيد المحرَّم: يُحْرَمُ الصَّيدُ في عدة صور منها: 1 - أن يكون الصائدُ مُحْرِمًا بحج أو عمرة، والصيدُ بريًا، لقوله تعالى: ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (1/ 659)، وقد بين الزيلعيُّ في نصب الراية طرقه ومن أخرجه [نصب الراية (2/ 64)]. (¬2) بدائع الصنائع للكاساني (5/ 49)، والقوانين الفقهية، لابن جزى (ص: 196)، ونهاية المحتاج، للرملي (8/ 106)، والمغني لابن قدامة (13/ 257). (¬3) سورة البقرة: 286. (¬4) أخرجه الدارقطني وأخرجه عبد الرزاق بإسنادٌ صحيحٌ إلى ابن عباس موقوفًا عليه. (¬5) الدراقطني (4/ 296)، أبو داود في المراسيل (378).

حكم الصيد إذا غاب عن صائده فترة ثم وجده ميتا

{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (¬1)، وبهذا يقول جميع الفقهاء. 2 - أن يكون الصيد في الحَرَمِ لقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} (¬2). 3 - أن يكون الصيد مملوكًا لشخص آخر، وقد ورد ذلك في التعريف: "غير مملوك". 4 - أن يكون الصيد مُهَلًّا به لغير الله لقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (¬3). حكم الصيد إذا غاب عن صائده فترة ثم وجده ميتًا: يختلف العلماء في ذلك: فيرى أبو حنيفة أنه يباح إن لم يكن ترك طلبه وإن تشاغل عنه ثم وجده لم يبح. ويرى المالكية: أنه لا يباح إلا إذا تحقق أن مقاتله أنفذت بالصيد. ويرى الشافعية: أنه إذا غاب عنه ثم وجده ميتًا، فلا يحِلُّ على الصحيح عندهم؛ لاحتمال موته بسبب آخر. ويرى الحنابلة أنه إن وجده ميتًا، وسهمه فيه ولا أثر به غيره أو وجد كلبه معه حل أكله وإلا فلا يجوز أكله (¬4). الراجح: إنه إن وجد الصيد وبه أثر سهمه، ولم يوجد به أثر آخر أو وجد كلبه معه فإنه يحل أكله لحديث عدي بن حاتم عند البخاري وفيه أنه قال للنبي ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 96. (¬2) سورة العنكبوت: 67. (¬3) سورة البقرة: 173. (¬4) حاشية ابن عابدين (5/ 301)، والقوانين الفقهية، لابن جزى (ص: 196)، وروضة الطالبين، للنووي (ص: 462)، والمغني لابن قدامة (13/ 276).

أدوات الصيد

- صلى الله عليه وسلم -: يرمي الصيد فيقتفي أثره اليومين والثلاثة ثم يجده ميتًا وفيه سهمه قال: "يأكل منه إن شاء" (¬1). أدوات الصيد: للصيد أدوات منها: 1 - ما له حد يصلح للقطع كالسيف والسكين. 2 - ما ينطلق منها آلة أخرى ولها رأس محدد يصلح للخزق كالسهم أو يكون له رأس محدد لا ينطلق منه آله أخرى كالحديدة المثبتة في رأس العصا. وهذه الأدوات ونحوها يجوز الاصطياد بها إذا قتلت الصيد بحدها أو رأسها، أما الآلات التي تقتل بالثقل كالحجر أو العصا غير محددة الرأس أو المعراض (¬2) ونحوها فلا يجوز الاصطياد بها، وما رمى بها فإنه لا يحل؛ لأنه من الموقوذة إلا أن يُدرَك حيًّا فيذكى، لما روى عدي بن حاتم -رضي الله عنه- أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني أرمي الصيد بالمعراض فأصيب، فقال: "إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصابه بعرضه فلا تأكله"، وفي لفظ له قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تأكل من المعراض إلا ما ذكيت" (¬3). 3 - الاصطياد بالشبكة: وذلك بأن ينصب شبكة فيقع فيها صيد، فإن أدركه حيًّا وذبحه جاز أكله وإلا فلا. 4 - الاصطياد بالبندق (¬4) والحذف: ولا يجوز الاصطياد بهما لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنها ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5/ 2089)، وأبي داود في سننه (3/ 109). (¬2) المعراض: عود محدد قد يكون في رأسه حديد يشبه السهم ويحذف به الصيد، المغني (13/ 282). (¬3) أخرجه مسلمٌ (3/ 1529). (¬4) البندق: وهو ما يصنع من طينة مدورة.

ما يباح للمضطر ومن يخاف على نفسه الموت

لا تصيد صيدًا ولا تنكأ عدوًا, ولكنها تكسر السن وتفقأ العين" (¬1). 5 - الاصطياد بالسهم المسموم: لا يجوز الاصطياد بذلك؛ لأنه اجتمع فيه مباح ومحرم فغلب المحرم. 6 - الاصطياد بالحيوان المعلم وهو ما يسمى بالجوارح من الكلاب والسباع كالفهد والنمر والأسد والطيور كالصقر والعقاب، وكل ما يقبل التعلم وعلم فيجوز الصيد به بحيث إذا أرسله استرسل، وإذا زجره انزجر (¬2) فإن قتله الجارح أكل وإن لم يقتله قام بتذكيته. 7 - الصيد بالسلاح الحديث: من بنادق الرصاص وغيرها من الأسلحة، وهذه يجوز الصيد بها ويحل أكلها لأنها تخرق وتجرح الحيوان والطير الذي يتم صيده بها فإن أمسكها وبها حياة فإنه يجب تذكيتها. ما يباح للمضطر ومن يخاف على نفسه الموت: إذا حدث للإنسان مجاعة بحيث لم يجد ما يأكله من الطعام الحلال فإنَّ العلماء يجمعون على أنه يجوز له الأكل من الميتة، وذلك بما يكفي لسد جوعه لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬3). وإذا وجد المضطر حيوانًا مختلفًا في تحريمه وآخر متفقًا عليه، فإنه يأكل من المختلف فيه، كما لو وجد خنزيرًا وثعلبًا فإنه يأكل من الثعلب. وإذا وجد المضطر طعامًا لغيره مضطرًا مثله لم يبح له أخذه، وإن كان مستغنيًا ¬

_ (¬1) رواه مسلم في كتاب الصيد (3/ 1529). (¬2) تبيين الحقائق، للزيلعي (6/ 50)، القوانين الفقهية، لابن جزي (ص: 197)، وحاشية إعانة الطالبين، لأبي بكر البكري (2/ 344)، والمغني، لابن قدامة (13/ 257). (¬3) سورة البقرة: 173.

اقتناء الكلب

عنه أخذه بثمنه، فإن منعه منه صاحبه أخذه قهرًا مع ضمانه له متى قدر. فإن قتل المضطر فهو شهيد وعلى قاتله ضمانه، وإن قتل المانع للطعام فلا ضمان فيه (¬1). وذلك حماية للنفس المعصومة من التلف، وهو من الضروريات الخمس التي جاء الإِسلام بالمحافظة عليها: "وهي حفظ الدين والنفس والعقل والمال والعرض". اقتناء الكلب: يجوز اقتناء الكلب لغرض الصيد أو الحراسة، وما عدا ذلك فلا يجوز اقتناؤه، بل قد وردت أحاديث في النهي عن اقتناء الكلب إلا ما استثني، ومن ذلك ما رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من اقتنى كلبًا إلا كلب صيد أو ماشية فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان" (¬2). فعلى المسلم الالتزام بتعاليم الإِسلام، وألا ينساق في تقليد بعض الأمم التي ليست قدوة فيما تفعله أو تتركه مما يتعارض مع الدين الإِسلامي الحنيف. ¬

_ (¬1) القوانين الفقهية لابن جزي (ص: 194)، الإفصاح، لابن هبيرة (2/ 315)، والعدة شرح العمدة (ص: 454). (¬2) رواه البخاري (9/ 525)، ومسلمٌ (1574).

كتاب الأيمان والنذور

الفِقهُ الميَسَّر كتاب الأيمان والنذور

أولا: باب الأيمان

كتاب الأيمان والنذور أولًا: باب الأيمان التعريف في اللغة: الأيمان بفتح الهمزة وهي جمع يمين، ومن معاني اليمين لغة: القوة والقسم، والبركة واليد اليمنى؛ لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل واحد يمين صاحبه (¬1). واصطلاحًا: هي توكيد الحكم بذكر معظم على وجه مخصوص (¬2). الأصل في مشروعية الأيمان وثبوت حكمها: الأصل في ذلك الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقول الله سبحانه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} (¬3). وأما السنة: فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني والله إن شاء الله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتت الذي هو خير، وتحللتها" (¬4). وأما الإجماع: فقال ابن قدامة: "وأجمعت الأمة على مشروعية اليمين وثبوت أحكامها" (¬5). ¬

_ (¬1) المصباح المنير مادة: "يمين". (¬2) المبدع لابن مفلح (9/ 251). (¬3) سورة المائدة: 89. (¬4) أخرجه البخاريُّ (4/ 109)، ومسلمٌ (3/ 1270). (¬5) المغني لابن قدامة (13/ 435).

حكمة التشريع

حكمة التشريع: تعارف الناس في جميع العصور على أساليب التأكيد باليمين، وذلك لحمل المخاطبين على الثقة بكلام الحالف وصدقه بما أخبر عنه ووفائه بما التزم به، وجاء الإِسلام بشرعية ذلك مع الاقتصار على الحلف بالله أو صفة من صفاته لما فيه من تعظيمٍ لله تعالى، وحث على الوفاء بالعقد. صيغ اليمين: لليمين صيغ متعددة منها: 1 - الحلف باسم من أسماء الله تعالى، التي لا يُسمَى بها سواه نحو قوله: والله والرحمن، والأوَّلِ الذي ليس قبله شيء، ورب السموات والأرض والذي نفسي بيده ونحو هذا. 2 - ما ينصرف إطلاقه إلى الله -سبحانه وتعالى- وُيسمَى به غير الله تعالى مجازًا مثل الخالق، الرازق، الرب، الملك، الجبار، ونحوها، فهذا قد يسمى به غير الله مجازًا بدليل قوله تعالى: {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} (¬1)، وقوله: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} (¬2). وهذا إن نوى به اسم الله تعالى أو أطلق. كان يمينًا؛ لأنه بإطلاقه ينصرف إليه وإن نوى به غير الله تعالى لم يكن يمينًا؛ لأنه يستعمل في غيره. 3 - ما يسمى به الله تعالى وغيره، ولا ينصرف إليه بإطلاقه كالحي والعالم والكريم، فهذا إن قصد به اليمين باسم الله تعالى كان يمينًا وإن أطلق أو قصد غير الله تعالى لم يكن يمينًا. ¬

_ (¬1) سورة الصافات: 129. (¬2) سورة يوسف: 50.

حروف القسم

4 - ما هو صفة من صفات ذات الله تعالى لا يحتمل غيرها، كعزة الله تعالى، وعظمته، وجلاله، وكالحلف بالقرآن الكريم، أو المصحف الشريف؛ لأن القرآن وما في المصحف كلام الله تعالى وصفة من صفاته. فهذه تنعقد بها اليمين كقوله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (¬1). 5 - ما هو صفة لله تعالى ويوصف بها غيره، كعلم الله وقدرته، فمتى أقسم بها كان يمينًا. 6 - ما لا ينصرف بإطلاقه إلى صفة الله تعالى، لكن ينصرف بإضافته إلى الله سبحانه لفظًا أو نية كالعهد والميثاق والأمانة ونحوه، فهذا لا يكون يمينًا إلا بإضافته أو نيته (¬2). 7 - إذا قال: وحق الله فهي يمين عند المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وفي رواية عند الحنفية أنه ليس يمينًا؛ لأن حق الله ليست صفة له. 8 - إذا قال: لعمر الله أو على عهد الله وأمانته، فهو يمين منعقدة عند الجمهور وقال الشافعية. إن نوى بها اليمين فيمين وإن أطلق فلا لتردد اللفظ بينهما. ويكره الإفراط في الحلف بالله تعالى لقوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} (¬3). حروف القسم: حروف القسم ثلاثة: الباء والواو والتاء: ¬

_ (¬1) سورة ص: 82. (¬2) حاشية ابن عابدين (3/ 746)، والقوانين الفقهية لابن جزي (ص: 178)، وروضة الطالبين (ص: 1870)، والمغني لابن قدامة (13/ 452). (¬3) سورة القلم: 10.

أنواع اليمين

فأما الباء: فهي الأصل وتدخل على الظاهر والمضمر جميعًا. ثم الواو: وهي تدخل على الظاهر فقط، وهي أكثر استعمالًا للقسم في الكتاب والسنة. ثم التاء: وهي بدل من الواو وتختص باسم واحد من أسماء الله تعالى، وهو الله ولا تدخل على غيره فيقال تالله، كقوله تعالى: {تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} (¬1). ويجوز القسم بغير حروف القسم مثل قوله: آلله لأفعلن كذا، فإنه يكون يمينًا بغير حاجة إلى النية، وذلك هو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة، وذهب الشافعي إلى أنّه لا يكون يمينًا إلا بالنية؛ لأن ذكره اسم الله تعالى بغير حرف القسم ليس بصريح بها القسم فلا ينصرف إليه إلا بالنية (¬2). الراجح: اعتبار قول: الله لأفعلن قسمًا دون حاجة إلى النية؛ لأنه سائغ في العربية، ولورود الشرع به حيث روى أن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قتل أبا جهل، فقال: "آالله إنك قتلته؟ " قال: آلله إني قتلته (¬3). أنواع اليمين: الأيمان على ثلاثة أنواع: 1 - الحلف على أمر يظن صدق نفسه فبان بخلافه: ومن ذلك ما يجري على ¬

_ (¬1) سورة النحل: 56. (¬2) حاشية ابن عابدين (3/ 758)، ومواهب الجليل شرح مختصر خليل، للحطاب (3/ 361)، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاج (ص: 71)، مطبعة محمَّد على القاهرة 1384 هـ والمبدع شرح المقنع (9/ 261). (¬3) أخرجه البخاريُّ (40/ 112).

حكم الأيمان

لسان المتكلم بدون قصد: كـ "والله"، و"بلى والله"، "وتالله" فهذا لغو لا إثم فيه ولا كفارة عند الفقهاء، جاء في الفتوى رقم (5528) من فتاوي اللجنة الدائمة في السعودية: أن اللغو هو أن يحلف على شيء يظن أنه كما حلف ثم يتبين خلافه وكذا منه قول المسلم: "لا والله، وبلى من غير قصد الحلف". 2 - الحلف على أمر ماضٍ كاذبًا عالمًا وهذا هو اليمين الغموس، وسميت غموسًا؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار، وهي من الكبائر، وعلى الحالف بها التوبة إلى الله، فقد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس" (¬1)، ويرى جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة: أنه لا كفارة فيها؛ لأنها أعظم من أن تكفر ويرى الشافعية أن فيها الكفارة. الراجح: أنه لا كفارة فيها، وإنما يجب التوبة مما أقدم عليه. 3 - الحلف على أمر حال أو مستقبل قاصدًا لليمين فهذا يمين منعقدة (¬2) يترتب عليها الأحكام التي يأتي بيانها: حكم الأيمان: يكون حكم اليمين وفقًا للأحكام التكليفية الخمسة: 1 - الواجب: يجب القيام به، وهو اليمين التي يترتب عليها نجاة معصوم من ¬

_ (¬1) رواه البخاري (8/ 171)، الحديث (6675). (¬2) حاشية ابن عابدين (3/ 742)، والقوانين الفقهية، لابن جزى (ص: 179)، وروضة الطالبين، للنووي (ص: 1867)، والمبدع في شرح المقنع، لابن مفلح (9/ 264). البر هو الموافقة لما حلف عليه والحنث هو المخالفة لما حلف عليه من نفي أو إثبات القوانين الفقهية، لابن جزي (ص: 181).

شروط الأيمان

هلكة، ومنه إنجاء نفسه مثل أن تتوجه أيمان القسامة في دعوى القتل عليه وهو بريء. 2 - المندوب: وذلك كالحلف الذي يتعلق به إصلاح بين متخاصمين، والحلف على فعل طاعة أو ترك معصية. 3 - المباح: كالحلف على فعل مباح أو تركه، والحلف على خبر بشيء صادق فيه أو يظن صدقه. 4 - المكروه: الحلف على البيع والشراء. 5 - المُحَرَّم: وهو الحلف الكاذب، ومنه الحلف على فعل محرم أو ترك واجب (¬1). شروط الأيمان: للأيمان شروط يجب تحققها فيها حتى تكون منعقدة يترتب عليها حكمها: 1 - أن يكون الحالف بالغًا عاقلًا مسلمًا مختارًا قاصدًا لليمين. 2 - أن يكون المحلوف عليه أمرًا مستقبلًا. 3 - عدم الفصل بين المحلوف به والمحلوف عليه بسكوت كما لو قال بالله ثم سكت وبعد فترة قال لأفعلن كذا. 4 - خلو اليمين عن الاستثناء نحو أن يقول الحالف: إن شاء الله، أو: إلا أن يشاء الله أو: ماشاء الله (¬2). ¬

_ (¬1) المبدع لابن مفلح (9/ 253). (¬2) حاشية ابن عابدين (3/ 740)، والقوانين الفقهية، لابن جزي (ص: 179)، والإقناع (5/ 75)، والمغني، لابن قدامة (13/ 436).

الاستثناء في اليمين

الاستثناء في اليمين: المراد بالاستثناء هو التعليق بمشيئة الله -تعالى- أو نحوه مما يبطل الحكم كما لو قال الحالف عقب حلفه: إن شاء الله. أو: إلا أن يشاء الله، أو: ما شاء الله، أو: إلا إن يبدو لي غير هذا، أو: إذا يسر الله. وقد أجمع العلماء على أنه متى استثنى في يمينه لم يحنث فيها، وذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ومن حلف فقال: إن شاء الله لم يحنث" (¬1). شروط صحة الاستثناء: 1 - الدلالة على الاستثناء باللفظ أو ما يقوم مقامه من كتابة أو إشارة أخرس، ولا يكفي الاستثناء بالنية من غير قول أو ما يقوم مقامه. 2 - أن يكون الاستثناء متصلًا باليمين، بحيث لا يفصل بينهما كلام أجنبي ولا يسكت بينهما سكوتًا يمكن الكلام فيه. 3 - أن يقصد الاستثناء فإن سبق لسانه إلى الاستثناء من غير قصد لم يصح؛ لأن اليمين لا تنعقد من غير قصد فكذلك الاستثناء (¬2). كفارة الأيمان: الأصل في كفارة الأيمان الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب: فقول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (8/ 182). (¬2) حاشية ابن عابدين (3/ 780)، وبداية المجتهد، لابن رشد (1/ 412)، والمغني، لابن قدامة (13/ 484).

أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (¬1). وأما السُّنة: فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها، فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك" (¬2). وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على مشروعية الكفارة في اليمين بالله تعالى. قال ابن هبيرة: "واتفقوا على أن الكفارة تجب عند الحنث في اليمين على أي وجه كان، من كونه طاعة أو معصية أو مباحًا" (¬3). والكفارة واجبة على التخيير ابتداء والترتيب انتهاء، فالحالف إذا حنث وجب إحدى ثلاث وهو مخير بين فعلها وهي: 1 - إطعام عشرة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من بر أو تمر أو أرز (¬4)، ونحوهما من قوت البلد. 2 - كسوة عشرة مساكين، وهي تختلف من بلد إلى بلد حسب ما يلبسه الرجال والنساء. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 89. (¬2) أخرجه البخاريُّ (6622)، ومسلمٌ (1652). (¬3) الإفصاح، لابن هبيرة (2/ 324). (¬4) انظر: الفتوى رقم (11934) من فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية، وفيها أن ذلك يعادل كيلو ونصف تقريبًا, ولا يجوز إعطاء طعام العشرة لواحد، بل لا بد من العشرة كما في الآية، ويجزيه أن يصنع طعامًا ويدعو عشرة فقراء. فتوى رقم (8267). وله أن يشتري طعامًا يكفيهم ويوزعه عليهم، وله أن يعطي الجمعيات التي تتولى هذا الأمر مائة ريال أو نحوها وتخرج عنه إطعام عشرة مساكين.

عمل ما حلف عليه ناسيا

3 - تحرير رقبة. فإن عجز عن هذه الثلاث وجب عليه صيام ثلاثة أيام متتابعات. قال في المغني: "أجمع أهل العلم على أن الحانث في يمينه بالخيار بين فعل أي من هذه الخصال؛ لأن أو للتخيير فإن عجز عن الثلاث انتقل إلى الترتيب ووجب عليه صيام ثلاثة أيام" (¬1). ولا يجوز له الصيام قبل العجز عن أداء الخصال الثلاث، فإن بدأ بالصيام ثم وجد الإطعام فهل يترك الصيام ويطعم؟ في ذلك قولان لأهل العلم: عمل ما حلف عليه ناسيًا: إذا حلف ألا يفعل شيئًا ففعله ناسيًا فقد اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فيرى أبو حنيفة ومالك وهو قول للشافعي ورواية عن أحمد أنه يحنث وعليه الكفارة؛ لأنه فعل ما حلف عليه قاصدًا لفعله، فلزمه الحنث كالذاكر. 2 - ويرى الشافعي وأحمدُ في رواية لكل منهما أن الناسي لا يحنث بفعله ولا كفارة عليه. الراجح: أن الناسي لا يحنث بفعله ما حلف عليه لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (¬2). ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬3)، وهو في ذلك غير قاصد للمخالفة فلا كفارة عليه. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (3/ 762)، وبداية المجتهد لابن رشد (1/ 417)، والإقناع، للشربيني (5/ 75)، والمغني لابن قدامة (13/ 58). (¬2) سورة الأحزاب: 5. (¬3) أخرجه ابن ماجه (1/ 659)، وقد بين الزيلعيُّ طرقه، نصب الر اية (2/ 64).

عمل ما حلف عليه مكرها

عمل ما حلف عليه مكرهًا: إن المكره على الفعل لا يخلو إما أن يكون مكرهًا ملجأ إليه: مثل أن يحلف ألا يدخل دارًا فحُمِل فأدخلها ولم يمكنه الامتناع، فيرى أبو حنيفة: أنه لا يحنث ولا كفارة عليه، وهو قول مالك وأحمدُ وهو الصحيح. وإما أن يُكرَه على الفعل بالضرب والتهديد بالقتل ونحوه، فهذا يختلف فيه الفقهاء فيرى أبو حنيفة ومالك: أنه يحنث إن عمل ما حلف عليه مكرهًا بذلك؛ لأن الكفارة لا تسقط بالشبهة، ويرى أحمد وهو قول للشافعي أنه لا يحنث لحديث: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬1)، وعمله ذلك نوع إكراه فلا يحنث به (¬2)، وهو الصحيح -إن شاء الله-. تعدد الكفارة: إذا حلف الإنسان أيمانًا وحنث فيها فقد اختلف الفقهاء هل تتداخل الكفارات فتجزئه كفارة واحدة أو لا تتداخل فيجب عليه كفارة لكل يمين على النحو الآتي: 1 - فيرى الحنفية والشافعية والحنابلة في قول لكل منهم أنه إذا كرر الأيمان على فعل واحد أو حلف يمينًا واحدة على عدة أشياء كما لو حلف ألا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ثم حنث في أحدها فعليه كفارة واحدة؛ لأن الكفارات تتداخل، أما إذا كرر الأيمان على عدة أفعال ثم حنث فيها فعليه كفارة لكل يمين. 2 - ويرى المالكية: أن من حلف على أمور شتى بيمين واحدة أن كفارته ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص: 18). (¬2) حاشية ابن عابدين (3/ 745)، والقوانين الفقهية (ص: 181)، وروضة الطالبين (ص: 1899)، والمغني لابن قدامة (13/ 447).

وقت إخراج الكفارة

كفارة يمين واحدة كالجمهور، أما إذا حلف بأيمان شتى على شيء واحد فإن الكفارة تتعدد بعدد الأيمان، كما إذا حلف أيمانًا شتى على أشياء مختلفة، وكذلك من حلف في يمين واحدة بأكثر من صفتين من صفات الله تعالى بقوله والله السميع العليم فإن عليه كفارات بعدد الصفات الواردة في اليمين (¬1). الراجح: نرى أن الراجح هو قول الجمهور؛ لأن الكفارات تتداخل في ذلك بخلاف تكرار الأيمان على عدة أفعال، فيلزمه كفارة لكل حنث في يمين: قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "من كرَّر أيمانًا قبل التكفير فروايات، ثالثها وهو الصحيح: إن كانت على فعل فكفارة وإلا فكفارات" (¬2). وقت إخراج الكفارة: لا يجوز تقديم الكفارة على اليمين باتفاق الفقهاء؛ لأنه تقديم للحكم قبل سببه. وقد اختلف الفقهاء في وقت الكفارة هل تتقدم الحنث في اليمين أو تكون بعده: 1 - فقال أبو حنيفة وهو رواية في مذهب مالك: لا تتقدم الكفارة الحنث، وإنما تكون بعد وقوعه؛ لأن الحنث هو السبب فلا تتقدم عليه. 2 - وقال الشافعي وأحمدُ وهو رواية في مذهب مالك: يجوز تقديمها على الحنث لحديث عبد الرحمن بن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا عبد الرحمن إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير" (¬3). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (3/ 750)، وبداية الجتهد، لابن رشد (1/ 420)، والمغني لابن قدامة (13/ 472). (¬2) الاختبارات (ص: 474). (¬3) أخرجه أبو داود (3/ 380)، ورجاله ثقات، المبدع في شرح المقنع (9/ 278).

التأويل في اليمين

وروي ذلك عن عمر وابنه وابن عباس وسلمان (¬1). الراجح: هو جواز تقديم الكفارة على الحنث أو تأخيرها بعده لحديث عبد الرحمن بن سمرة، حيث ورد فيه تقديم الكفارة على الحنث كما هو عند البخاري ومسلمٌ (¬2)، وورد التأخير كما هو في لفظ البخاري: "فأت الذي هو خير وكفر عن يميك"، ولأن الحنث شرط لوجوب الكفارة وليس سببًا، وإنما السبب اليمين وذلك كتعجيل الزكاة بعد تمام النصاب وقبل الحول، وإذا تقدمت سميت تحلة اليمين وإذا تأخرت سميت كفارة اليمين. التأويل في اليمين: معنى التأويل: أن يقصد بكلامه معنى محتملًا يخالف ظاهره نحو أن يحلف أنه أخي يقصد أخوة الإِسلام. للمتأول في اليمين ثلاث حالات: 1 - أن يكون مظلومًا: مثل أن يستحلفه ظالم على شيء، لو صدقه لظلمه أو ظلم غيره، فهذا يقبل تأويله، دليل ذلك ما رواه سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا، فحلفت أنه أخي فخلى سبيله، فأتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فقال: "أنت أبرُّهم وأصدقهم، المسلم أخو المسلم" (¬3). 2 - أن يكون الحالف ظالمًا: كالذي يستحلفه الحاكم على حق عنده فهذا ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (3/ 164)، وبداية المجتهد، لابن رشد (1/ 420)، والمبدع لابن مفلح (9/ 278). (¬2) البخاري (11/ 629)، ومسلمٌ (6/ 118). (¬3) أخرجه أبو داود (2/ 200)، وابن ماجه (1/ 685)، والإمام أحمد في المسند (4/ 79).

ينصرف يمينه إلى ظاهر اللفظ الذي عناه المستحلف ولا ينفع الحالف تأويله لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يمينك على ما يصدقك به صاحبك" (¬1)، ولأنه لو ساغ التأويل لبطل المعنى المبتغى باليمين، وصار التأويل وسيلة إلى جحد الحقوق، قال في المغني (¬2): "ولا نعلم في هذا مخالفًا". 3 - ألا يكون ظالمًا أو مظلومًا: فإنه يرجع في اليمين إلى نية الحالف ويقبل تأويله في ذلك إذا كان اللفظ يحتمل مما نواه، وذلك أخذًا من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإنما لكل امرئ ما نوى"، فتدخل فيه الأيمان، فإن لم يكن نوى شيئًا فيرى الحنابلة أنه يرجع إلى سبب اليمين وما أثارها لدلالة ذلك على النية وإن عدمت النية والسبب رجع في اليمين إلى ما تناوله الاسم شرعًا، ثم ما تناوله الاسم عرفًا، وبعد ذلك ما تناوله الاسم لغة. * ويذهب الحنفية: إلى أن اليمين ينصرف إلى العرف إذا لم يكن للحالف نية ثم يراعى المعنى اللغوي بعد ذلك. * ويرى المالكية: أن تراعى نية الحالف، فإن لم يكن له نية روعي بساط يمينه وهو السبب على اليمين، وإلا فيعتبر العرف، فإن لم يكن فتحمل اليمين على الظاهر اللغوي. * ويرى الشافعية: أن الاعتبار بنية الحالف أولًا، فإن لم يكن فالعبرة بظاهر اللفظ ثم يتبع العرف إذا كان مطردًا (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (3/ 1274). (¬2) المغني لابن قدامة (13/ 499). (¬3) شرح فتح القدير، لابن الهمام (4/ 377)، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2/ 141)، وروضة الطالبين (ص: 1877)، والمغني، لابن قدامة (13/ 497).

الحلف بغير الله تعالى

ومن هذا يتبين أن الفقهاء يتفقون على اعتبار النية أولًا، فإن لم تكن نية فيرى بعضهم تقديم السبب وبعضهم تقديم العرف، وهذه اجتهادات في الأولى في الترتيب بينها ولا مانع منه، والله أعلم. الحلف بغير الله تعالى: لا يجوز الحلف بغير الله تعالى وصفاته عند الفقهاء، نحو أن يحلف بأبيه أو الكعبة أو الملائكة أو غيرهم، وذلك لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت" (¬1). ولحديث: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" (¬2). قال ابن عبد البر: وهذا أصل مجمع عليه، ومن حلف بغير الله تعالى فقد عظَّم غير الله تعظيمًا يشبه تعظيم الرب -تبارك وتعالى- ولهذا سُمِّي شركًا لكونه أشرك مع الله غيره في تعظيمه بالقسم به (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (10/ 634)، رقم (6108) واللفظ له، ومسلمٌ (6/ 108)، رقم (4233). (¬2) أخرجه أبو داود (3251)، والترمذيُّ (1539)، واللفظ له. (¬3) شرح فتح القدير لابن الهمام (4/ 365)، والقوانين الفقهية لابن جزى (ص: 178)، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاج للشربيني الخطيب (5/ 71)، والمغني لابن قدامة (13/ 436).

ثانيا: باب النذور

ثانيًا: باب النذور تعريف النذر لغة؛ مصدر نذرت أنذِرُ بضم الذال وكسرها، أي أوجبت على نفسي شيئًا لم يكن واجبًا علي (¬1). واصطلاحًا: هو إلزام مكلف مختار نفسَهُ لله تعالى شيئًا غيرَ لازم بأصل الشرع بكل قول يدل عليه (¬2). أركان النذر: للنذر ثلاثة أركان: الناذر والمنذور وصيغة النذر (¬3). شروط النذر: 1 - أن يكون الناذر بالغًا عاقلًا، فلا يصح نذر الصبي والمجنون؛ لأنهم غير مكلفين لقوله - صلى الله عليه وسلم - "رفع القلم عن ثلاثة: الصبي حتى يبلغ والمجنون حتى يفيق والنائم حتى يستيقظ" (¬4). 2 - أن يكون الناذر مسلمًا، وذلك عند الحنفية والمالكية، والصحيح من مذهب الشافعية، ويرى الحنابلة صحة النذر من الكافر ويقضيه إذا أسلم لحديث عمر -رضي الله عنه-: إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أوف بنذرك" (¬5). وهذا نذر في الجاهلية وقام بوفائه في الإِسلام. ¬

_ (¬1) لسان العرب مادة: "نذر". (¬2) كشاف القناع، للبهوتي (6/ 273). (¬3) القوانين الفقهية، لابن جزي (ص: 188)، وروضة الطالبين (ص: 480). (¬4) أخرجه أبو داود (4403)، والنسائيُّ (3462). (¬5) رواه البخاري (2032)، ومسلمٌ (1656).

حكم النذر

3 - أن يكون الناذر مختارًا غير مكره لحديث: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬1). 4 - ألا يكون المنذور واجبًا؛ لأنه واجب عليه بدون النذر، ولا يصح التزام ما هو لازم أصلًا، وهذا قول أكثر الفقهاء، ويرى طائفة منهم وهو رواية عن أحمد أنه ينعقد وعليه الكفارة إن لم يقم بالواجب. 5 - ألا يكون المنذور مستحيلًا، كنذر صوم يوم أمس. 6 - أن يلفظ فيه بالقول، ولا يكفي فيه مجرد النية (¬2). حكم النذر: اختلف العلماء في النذر لله تعالى على النحو الآتي: 1 - يرى الحنابلة أن إيجاب الإنسان على نفسه بالنذر شيئًا غير واجب مكروه لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل" (¬3). ولأنه يثقل على نفسه بهذا النذر، والأولى بالمسلم أن يفعل الخير بدون نذر ولو كان مستحبًا لفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفاضل أصحابه. والنذر لا يرد من قضاء الله شيئًا, ولكن قد يصادف موافقة المطلوب، فيظن الناذر أنه بسببه وليس ذلك صحيحًا، وإذا أوجب على نفسه شيئًا بالنذر، فإنه يجب عليه الوفاء بشروطه. ¬

_ (¬1) صحيح ابن حبان (16/ 202)، رقم (7219)، سنن ابن ماجه (1/ 659). (¬2) البدائع للكاساني (6/ 2862)، والقوانين الفقهية لابن جزى (ص: 188)، وروضة الطالبين (ص: 480)، والمبدع في شرح المقنع، لابن مفلح (9/ 325). (¬3) رواه البخاري (6608)، ومسلمٌ (1639).

2 - ويرى المالكية أن النذر المطلق مستحب، وهو ما أوجبه الناذر على نفسه شكرًا لله تعالى على ما حصل ووقع من نعمة أو دفع من نقمة كمن نجَّاه الله من كربة أو شفي مريضه أو رَزَقه مالًا أو علمًا ويجب على الناذر الوفاء بنذره. 3 - ويرى الحنفية أن النذر الصحيح قربة مشروعة، وهو ما يراه الشافعي في نذر التبرر وهو ما يقصد به الناذر فعل قربة من صلاة أو صيام ونحوه وهو مأخوذ من البر؛ لأن الناذر يطلب به البر والتقرب إلى الله تعالى، وهو مكروه في نذر اللجاج وهو ما يقع حال المخاصمة والغضب (¬1). والأصل في الوفاء بالنذر: الكتاب والسنة والإجماع والمعقول: فأما الكتاب: فقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} (¬2). وأما السُّنة: فما روت عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" (¬3). وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على صحة النذر في الجملة ولزوم الوفاء به (¬4). وأما المعقول: فإن المسلم يحتاج أن يتقرب إلى الله تعالى بنوع من القرب المقصودة، لما يترتب عليها من نيل الثواب عليها في الآخرة، فيلزم نفسه بها جهادًا لنفسه ليفوز بعاقبتها الحميدة. ¬

_ (¬1) البدائع (6/ 3883)، والقوانين الفقهية (ص: 188)، وروضة الطالبين (ص: 480)، والمبدع لابن مفلح (9/ 324). (¬2) سورة الإنسان: 7. (¬3) أخرجه البخاريُّ (6696). (¬4) بدائع الصنائع للكاساني (6/ 2883)، والمغني لابن قدامة (13/ 621).

أقسام النذر

ولا بد أن يكون النذر لله تعالى؛ لأنه نوع من العبادة، ولا يجوز صرفها لغير الله تعالى، سواء كان لملك أو نبي أو ولي أو غير ذلك. أقسام النذر: يذكر الفقهاء أقسامًا متعددة ويمكن حصرها فيما يأتي: 1 - نذر الطاعة والتبرر: كالتزام طاعة في مقابل نعمة استجلبها، أو نقمة استدفعها كقوله: إن شفاني الله فلله علي صوم شهر، فهذا القسم يجب الوفاء به للآيات والأحاديث الواردة في الباب. وإن عجز الناذر عن الوفاء بالنذر؟ لكونه لا يطيق الوفاء لكبر أو لمرض لا يرجى برؤه ونحوه، فإن عليه كفارة يمين وتبرأ ذمته بذلك لقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "من نذر نذرًا لا يطيق فكفارته كفارة يمين" رواه أبو داود، وقال: وقفه من رواه على ابن عباس (¬1). 2 - نذر اللجاج والغصب: وهو ما علق بشرط يخرج مخرج اليمين للحث على فعل شيء أو المنع منه أو التصديق أو التكذيب، فهذا يخير الناذر بين فعل المنذور أو كفارة يمين إذا وقع ما تم التعليق عليه. 3 - النذر المطلق: كقوله الناذر لله، علي نذر ولم يسم شيئًا، وهذا تجب فيه كفارة يمين لحديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كفارة النذر إذا لم يسم كفاره يمين" (¬2). 4 - النذر المباح: كقوله: لله علي أن ألبس ثوبي أو أركب سيارتي، فيرى الحنفية والحنابلة أنه مخير بين فعله وكفارة يمين؛ لما روى أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) انظر الفتوى رقم (16989) (18140) من فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية. (¬2) رواه مسلم (3/ 1265)، والترمذيُّ، وعارضه الأحوذي (7/ 7).

فقالت: إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوفِ بنذرك" (¬1). ويرى المالكية والشافعية أنه لا ينعقد نذره، وبناء عليه يباح الوفاء به وتركه وليس على من تركه كفارة لحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: رأى رجلًا يهادي بين اثنين فسأل عنه، فقالوا: نذر أن يحج ماشيًا فقال: "إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه، مروه فليركب" (¬2). ولم يأمره بكفارة، وهذا هو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية. الراجح: هو القول بانعقاد النذر للأحاديث الواردة في ذلك، ولأنه لو حلف على فعل مباح برَّ بفعله فكذلك إذا نذره؛ لأن النذر كاليمين، وأما حديث الذي نذر الحج ماشيًا فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ذكر الكفارة في موضع آخر فيكون ترك ذكرها في غيره إحالة إلى ما علم عنها فيما سبق والله أعلم. 5 - نذر المكروه: كنذر الطلاق ونحو ذلك، وحكم هذا النذر أنه يستحب أن يكفر كفارة يمين ليخرج من عهدة النذر ولا يفعله فإن فعله فلا كفارة عليه لأنه وفى بنذره. 6 - نذر المعصية: كشرب الخمر وأكل الحرام ونحوه وحكم هذا أنه لا يجوز الوفاء به بإجماع العلماء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من نذر أن يعصي الله فلا يعصه"، ولكن اختلف الفقهاء في وجوب الكفارة عليه، فيرى أبو حنيفة وأحمدُ في رواية أنه يجب عليه كفارة يمين، ويرى مالك والشافعيُّ وهو رواية عن أحمد أنه لا كفارة عليه لحديث: "من نذر أن يعصي الله فلا يعصه" (¬3)، ولم يأمره بالكفارة. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2/ 213). (¬2) أخرجه البخاريُّ (3/ 25)، ومسلمٌ (3/ 1263). (¬3) أخرجه البخاريُّ (6696).

الأكل من النذر

الأكل من النذر: إذا نوى الناذر الأكل من نذره أو اشترط ذلك فله الأكل منه وإلا فلا (¬1). الراجح: نرى أن الراجح هو القول بأن عليه كفارة يمين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين" (¬2)، وهو إن لم يبين أن عليه الكفارة في أحاديث فقد بينها في أحاديث غيرها. الجمع في النذر بين الطاعة وغيرها: إذا نذر الإنسان فعل طاعة وما ليس بطاعة، فإنه يلزمه فعل الطاعة أما غير الطاعة فإنه يترتب عليه ما يناسبه مما ذكرنا من كونه مباحًا أو مكروهًا أو معصية (¬3). ¬

_ (¬1) انظر الفتوى رقم (19781) من فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية. (¬2) أخرجه أبو داود (2/ 208). (¬3) كشاف القناع، للبهوتي (6/ 276).

كتاب الجنايات

الفِقهُ الميَسَّر كتاب الجنايات

حكم الجنايات

كتاب الجنايات التعريف اللغوي: الجنايات مفردها جناية، وهي في اللغة: الذنب والجرم، وتطلق على التعدي على بدن، أو مال أو عرض (¬1). واصطلاحًا: هي التعدي على البدن بما يوجب قصاصًا أو مالًا أو كفارة (¬2). وبعض الفقهاء يطلق عليها كتاب الجراح؛ لغلبة وقوعها به، ويسمى الفقهاء الجناية على الأموال غصبًا وسرقة وإتلافًا (¬3). حكم الجنايات: أن تحريم الجنايات ثابت بالكتاب والسنة والإجماع والقياس. فأما الكتاب: فقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (¬4). وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (¬5). وأما السُّنة: فمنها ما رواه عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحِلُّ دمُ امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" (¬6). ¬

_ (¬1) لسان العرب مادة: "جنى". (¬2) كشاف القناع للبهوتي (5/ 503). (¬3) المبدع في شرح المقنع (8/ 240)، وبداية المجتهد (2/ 394). (¬4) سورة الأنعام: 151. (¬5) سورة النساء: 93. (¬6) رواه البخاري (6878)، ومسلمٌ (1676).

أقسام الجنايات

وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على تحريم القتل بغير حق (¬1). وأما القياس: فإن الله شرع القصاص لمصلحة البشر، إذ لو لم يشرع قتل الجاني لأهلك الناس بعضهُم بعضًا, ولذا تنتشر جريمة القتل في المجتمعات التي استبعدت عقوبة الإعدام للقاتل، وتقل بحمد الله في البلدان التي تحكم بقتل القاتل كما تقضي شريعة الله في ذلك قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬2). أقسام الجنايات: تنقسم الجناية إلى ثلاثة أقسام: الأول: الجناية على النفس بالقتل. الثاني: الجناية على ما دون النفس، وتشمل الجناية على الأطراف والمنافع كما تشمل الجروح والشجاج. الثالث: الجناية على الجنين، وهو نفسٌ إلا أنه غير مكتمل الحياة، وبذلك يفترق عن الجناية على النفس وذلك بأن تُضرب حامل فتلقى جنينًا ميتًا، وفي ذلك تجب الغرة وهي نصف عشر الدية وسيأتي الكلام عن ذلك في الديات -إن شاء الله-. الأول: الجناية على النفس: 1 - ذهب أكثر أهل العلم إلى أن الجناية على النفس تنقسم إلى ثلاثة أنواع: أ - القتل العمد: وهو أن يقصد من يَعلْمُه آدميًا معصومًا فيقتله بما يغلب على الظن موته به. ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة (11/ 443). (¬2) سورة البقرة: 179.

ب- القتل شبه العمد: وهو أن يقصد الفعل والشخص بما لا يقتل غالبًا كالضرب بالعصا الصغيرة والسوط ونحوها فتؤدي إلى موته. ج- القتل الخطأ: أن يفعل ما له فعله فيقتل إنسانًا، مثل أن يرمي صيدًا فيصيب آدميًا معصومًا لم يقصده فيقتله، أو يقتل مسلمًا في صف كفار يظنه كافرًا. 2 - وذهب الحنفية إلى أن الجناية على النفس خمسة أقسام بزيادة (4) القتل بالتسبب كحافر البئر، فيقع فيه إنسان فيموت. (5) ما أجرى مجرى الخطأ كنائم انقلب على رجل فقتله. 3 - وذهب مالك في رواية إلى أن القتل نوعان: عمد وخطأ (¬1)، ولا ثالث لهما؛ لأنه لم يرد في كتاب الله إلا العمد والخطأ. 4 - ويرى بعض الحنابلة أن أقسام القتل أربعة بزيادة ما أجري مجرى الخطأ كقتل النائم والقتل بالسبب. الراجح: إن الراجح هو القول بأن القتل ثلاثة أنواع لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا إن دية الخطأ شبه العمد، ما كان بالسوط والعصا، مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها" (¬2). أما القتل بالتسبب وما أجرى مجرى الخطأ فهما داخلان في القتل الخطأ. وهذا التقسيم أفضل من حيث بيان الحكم الشرعي والأثر المترتب عليه. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني (10/ 4616)، وبداية المجتهد لابن رشد (2/ 397)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1587)، والمغني لابن قدامة (11/ 444). (¬2) رواه أبو داود في باب دية الخطأ شبه العمد (2/ 492).

الأثر المترتب على القتل

الأثر المترتب على القتل: 1 - يترتب على القتل العمد ثلاثة أمور هي: أ - القَودَ: وهو قتل القاتل إذا توافرت شروط وجوب القصاص، وقد دلت الآيات والأحاديث على ذلك قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (¬1). وروى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ومن قتل له قتيل فهو بخير النظيرين إما يودي وإما يقاد" (¬2). ولأولياء المقتول قبول الدية أو العفو عن القاتل كما جاء في حديث أبي شريح الخزاعي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أصيب بدم أو خَبْل (¬3) فهو بالخيار بين إحدى ثلاث؛ فإن أراد الرابعة (¬4) فخذوا على يديه، أن يقتل، أو يعفو، أو يأخذ الدية" (¬5). ب- أن القاتل قد ارتكب في قتله كبيرة من كبائر الذنوب، قال البغوي: "هو أكبر الكبائر بعد الكفر وقد نص على ذلك الشافعي في كتاب الشهادات في المختصر" (¬6). وتوبة القاتل عمدًا مقبولة عند جمهور العلماء لعمومِ الأدلة ومنها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 178. (¬2) أخرجه البخاريُّ (3/ 165)، ومسلمٌ (2/ 988). (¬3) الخَبْل: الجرح. (¬4) وهي الانتقام لنفسه بالقتل. (¬5) رواه أبو داود في سننه (2/ 478). (¬6) روضة الطالبين (ص: 1587).

مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬1)، وقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬2)، وقال ابن عباس: لا تقبل توبته لقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (¬3)، وهي من آخر ما نزل ولم ينسخها شيء (¬4). الراجح: إن الراجح هو القول بقبول توبة القاتل عمدًا لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬5)، فجعله الله داخلًا في المشيئة وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (¬6)، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أن رجلًا قتل مائة رجل ظلمًا، ثم سأل: هل له من توبة؟ فدل على عالم، فسأله فقال ومن يحول بينك وبين التوبة، ولكن اخرج إلى القرية الصالحة، فاعبد الله فيها، فخرج تائبًا، فأدركه الموت في الطريق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فبعث الله إليهم ملكا فقال: قيسوا ما بين القريتين فإلي أيهما كان أقرب فاجعلوه من أهلها فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة بشبر فجعلوه من أهلها" (¬7). ولأن التوبة تصح من الكفر، فمن القتل أولى والآية محمولة على من لم يتب. وقبول توبة القاتل عمدًا لا يسقط حق المقتول بل يبقي حقه يستوفيه يوم ¬

_ (¬1) سورة الفرقان: 68 - 70. (¬2) سورة الزمر: 53. (¬3) سورة النساء: 93. (¬4) أخرجه البخاريُّ (6/ 59)، ومسلمٌ (4/ 2318). (¬5) سورة النساء: 48. (¬6) سورة الزمر: 53. (¬7) أخرجه البخاريُّ (6/ 59)، ومسلمٌ (4/ 2318).

القيامة، قال ابن القيم (¬1)، التحقيق أن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق: الأول: حق الله تعالى ويسقط بالتوبة النصوح. الثاني: حق ولي الدم ويسقط بالاستيفاء أو الصلح أو العفو. الثالث: حق المقتول يعوضه الله عن حقه الثابت ويصلح بينه وبين قاتله إن تاب القاتل. ج- حرمان القاتل من ميراث المقتول إذا كان من ورثته (¬2). 2 - ويترتب على القتل شبه العمد ثلاثة آمور هي: أ - دية مغلظة تتحملها عاقلة القاتل لشبهه بالخطأ من حيث أنه قصد الفعل ولم يقصد القتل. ب- يجب فيه كذلك كفارة في مال الجاني. ج- الإثم وذلك لأنه قتل نفسًا حرم الله قتلها إلا بالحق وعليه التوبة الصادقة مما وقع فيه. جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها ... فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدية المرأة على عاقلتها" (¬3)، قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أنها على العاقلة" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (4/ 211)، ومسلمٌ (4/ 2118). (¬2) حاشية ابن عابدين (6/ 561)، وبداية المجتهد لابن رشد (2/ 401)، ونهاية المحتاج للرملي (7/ 246)، والمغني لابن قدامة (11/ 443). (¬3) رواه البخاري (7/ 175)، ومسلمٌ (3/ 1309). (¬4) الإجماع (ص: 172).

3 - ويترتب على القتل الخطأ أمران: وجوب الدية على العاقلة (¬1)، وذلك لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (¬2). ودليل وجوب دية قتل الخطأ على عاقلة القاتل حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتًا بغرة عبد أو أمة وأن العقل على عصبتها" (¬3). فشبه العمد والخطأ تكون الدية فيهما على عاقلة القاتل وذلك من باب التعاون بين العصبة في تحمل الواجبات، وقد يكون فيه دفع وإبعاد للجاني حتى لا يتكرر منه أو من غيره ما وقع. وجوب الكفارة في مال القاتل جاء في فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز: "الواجب في قتل الخطأ شبه العمد عتق رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين" (¬4). ومن القتل الخطأ ما لو قتل مسلما بين الكفار يظنه كافرًا فهذا لا تجب فيه الدية وإنما تجب الكفارة فقط (¬5). لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (¬6). ¬

_ (¬1) سورة النساء: 92. (¬2) العاقلة: هم الذكور من عصبته القريبون والبعيدون وإن لم يكونوا وارثين لأن ذلك من التناصر والتآزر. (¬3) رواه البخاري ورقمه (5758)، ومسلمٌ ورقمه (1681). (¬4) مجموع فتاوى، عبد العزيز بن باز (22/ 343) الطبعة الأولى 1424 هـ. (¬5) بداع الصنائع (10/ 4617)، وقوانين الأحكام الفقهية لابن جزي (ص: 377)، والمغني لابن قدامة (11/ 457)، وروضة الطالبين (ص: 1587). (¬6) سورة النساء: 92.

شروط وجوب القصاص

شروط وجوب القصاص: 1 - أن يكون القاتل بالغًا عاقلًا، فلا يقتص من صبي ومجنون وعمدهما خطأ والمرأة والرجل في ذلك سواء، لعموم الأدلة الواردة في وجوب القصاص ومنها قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (¬1)، وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "قتل يهوديًا رض رأس امرأة من الأنصار" (¬2)، وقال في الإفصاح: "واتفقوا على أن الرجل يقتل بالمرأة والمرأة تقتل بالرجل" (¬3). 2 - أن يقصد القاتل القتل فإن لم يقصد القتل فلا قصاص، لحديث: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬4). 3 - أن يقتل بما يغلب على الظن موت المقتول به. 4 - أن تكون الأداة التي استعملت في القتل مما يقتل بها غالبًا. 5 - المكافأة بين المقتول وقاتله وقت الجناية بأن يساويه في الدين والحرية. القتل مع الإكراه: للفقهاء في ذلك عدة أقوال: 1 - فيرى أبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي أن القصاص على الآمر دون المأمور إذا كان الآمر صاحب سلطان لأنه إكراه ملجئ ويعاقب المأمور على فعله لحديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬5). ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 25. (¬2) أخرجه البخاريُّ (9/ 5)، ومسلمٌ (3/ 299). (¬3) الإفصاح (2/ 191). (¬4) سبق تخريجه (ص: 18). (¬5) أخرجه بن ماجه في سننه (1/ 6549)، وقد بين الزيلعيُّ طرقه في نصب الراية (2/ 64).

الاشتراك في القتل

ولأن المأمور آلة للمكره بالكسر فصار كما لو ضربه به. 2 - وفي قول عند الشافعية أن القصاص على المكره بالفتح لأنه مباشر والمكره بالكسر متسبب والمباشر أقوى من المتسبب. 3 - ويرى جمهور الفقهاء من المالكية والحنابلة أنهما يقتلان جميعًا المكرِه والمكرَه لأن القاتل قصد استبقاء نفسه بقتل من لا يحل له قتله وهذا لا يعفيه من تحمل مسؤولية فعله (¬1). والآمر المكرِه قد تعدى بإكراهه القاتل. الراجح: نرى أن القول بقتل المكرِه والمكرَه جميعًا هو الصحيح لما ذكره الجمهور ولأن ذلك أبلغ في الزجر والردع حفظًا لحياة الناس. الاشتراك في القتل: إذا اشترك جماعة في قتل واحد فما الحكم؟ اختلف في ذلك الفقهاء: 1 - يرى جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية وهو رواية عند الحنابلة أنه إذا اشترك جماعة في قتل شخص واحد فعليهم القصاص لما روى سعيد بن المسيب "أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلًا وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعًا" (¬2)، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فصار ذلك إجماعًا. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني (10/ 4630)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 374)، ونهاية المحتاج للرملي (7/ 258)، والمبدع في شرح المقنع لابن مفلح (8/ 256). (¬2) أخرجه البخاريُّ (9/ 10).

2 - ويرى بعض الفقهاء ومنهم ابن الزبير والزهري وابن سيرين وهو رواية عند الحنابلة أن الجماعة لا يقتلون بالواحد وإنما تجب عليهم الدية؛ لأن الله تعالى شرط المساواة في القصاص ولا مساواة بين الجماعة والواحد. 3 - ويرى بعضهم وهو مروى عن معاذ بن جبل وابن الزبير وابن سيرين والزهري أنه يقتل واحد منهم ويؤخذ من الباقين حصصهم من الدية لقول الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (¬1)، فمقتضاه أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفس واحدة؛ لأن كل واحد منهم مكافئ له فلا تستوفي أبدال ببدل واحد، كما لا تجب ديات لمقتول واحد (¬2). الراجح: نرى أن قتل الجماعة بالواحد هو الصحيح لما ورد عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ولما روى عن علي -رضي الله عنه- أنه "قتل ثلاثة قتلوا رجلًا" (¬3). ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة فصار إجماعًا. ولأن القصاص عقوبة تجب على الواحد فتجب للواحد على الجماعة كحد القذف وغيره، ولأنه لو سقط القصاص بالاشتراك لأدى ذلك إلى التعاون على سفك الدماء وهو ما يتعارض مع ما يهدف إليه الإِسلام من سن القصاص وتشريعه قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 4. (¬2) بدائع الصنائع للكاساني (10/ 4628)، وبداية المجتهد لابن رشد (2/ 399)، وروضة الطالبين (ص: 1603)، والمغني لابن قدامة (11/ 490). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (9/ 348). (¬4) سورة البقرة: 179.

قتل الغيلة

قتل الغيلة: الغيلة لغة: الغِيلة بكسر الغين وسكون الياء يقال قُتِل غيلة أي على غفلة من المقتول وغَّرة. واصطلاحًا: هو القتل على وجه المخادعة والحيلة. حكم قتل الغيلة: اختلف العلماء في قتل الغيلة: 1 - فذهب الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية إلى أنه يوجب القتل قصاصًا كسائر أنواع القتل عمدًا وعدوانًا، وعليه يكون الحق في قتل الجاني لأولياء الدم، من ورثة القتيل أو عصبته فيجب تنفيذه إن اتفقوا على ذلك ويسقط بعفوهم، أو عفو بعضهم. 2 - وذهب المالكية إلى أنه يوجب قتل الجاني حدًا لا قودًا فيتولى تنفيذه السلطان أو نائبه ولا يسقط بعفو أحد لا السلطان ولا غيره. الأدلة: 1 - استدل جمهور الفقهاء بأدلة من الكتاب والسنة والقياس. فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (¬1). ومن السنة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إما أن يأخذوا العقل أو أن يقتلوا" (¬2)، وهذه الأدلة عامة في القصاص سواء أكان قتل غيلة أو غيره. ¬

_ (¬1) سورة الإسراء: 33. (¬2) أخرجه أبو داود (4504)، والترمذيُّ (1406) وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ".

وأما القياس: فإن القتل في الغيلة ليس في حرابة فكان كسائر أنواع القتل العمد في إيجاب القصاص وقبول العفو لعدم الفارق. 2 - واستدل من قال يقتل الجاني في قتل الغيلة حدًا فلا يسقط بالعفو من السلطان أو غيره بالكتاب والسنة والقياس. فمن الكتاب: قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (¬1). ومن السنة: ما ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قتل يهوديًا رضَّ رأس جارية بين حجرين" (¬2)، فقد قتله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يجعل ذلك إلى أولياء الجارية، فدل ذلك على أنه قتله حدًا لا قودًا. وما ثبت أن عمر -رضي الله عنه- "أمر بقتل جماعة اشتركوا في قتل غلام في صنعاء غيلة ولم ينقل أنه استشار أحدًا من أولياء الدم" (¬3)، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فكان إجماعًا. وأما القياس: فإن القتل غيلة يقع في الغالب عن خداع وحيلة فكان كالحرابة (¬4). الراجح: نرى أن حكم قتل الجاني في قتل الغيلة حد لا قصاص ولا يسقط بعفو أحد، لأن في ذلك مراعاة لحق المجتمع والمحافظة على أمنه وسدًا لذريعة ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 33. (¬2) أخرجه البخاريُّ (2413)، ومسلمٌ (1672). (¬3) أخرجه البخاريُّ (9/ 10). (¬4) بدائع الصنائع للكاساني (10/ 4628)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 375)، ونهاية المحتاج للرملي (7/ 274)، وكشاف القناع (5/ 543).

قتل السكران

الفوضى في الدماء، وأما عموم النصوص التي ذكرها الجمهور فتحمل على ما عدا قتل الغيلة وبهذا قال ابن تيمية وابن القيم وقد أخذ بذلك مجلس هيئة كبار العلماء في السعودية حيث صدر قراره رقم (38) بتاريخ 11/ 8 / 1395 هـ باعتبار أن القاتل في قتل الغيلة يقتل حدًا لا قصاصًا وأنه لا يصح فيه العفو من أحد. قتل السكران: إذا شرب المكلف خمرًا أو غيره مما يغيب عقله بإرادته فقتل إنسانًا عمدا فإنه يعتبر متعديًا وعليه القصاص، وقد أوجب الصحابة عليه حد القذف وإذا وجب الحد فالقصاص المتمحض حق آدمي أولى، ولأنه يفضى إلى أن يصير عصيانه سببًا لإسقاط العقوبة عنه. قتل الوالد بولده: 1 - ذهب الأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعيُّ وأحمدُ إلى أن الوالد لا يقتل بولده لحديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يقاد الوالد بالولد" (¬1). وقال الألباني: "وطرق الحديث تدل بمجموعها على أن الحديث صحيح ثابت" (¬2). وبه قال عمر بن الخطاب وربيعة الثوري والأوزاعي وإسحاق، ولأن الولد جزء من والده، والأم والأب في ذلك سواء. 2 - وذهب الإمام مالك إلى أنه إن أضجعه وذبحه أقيد به وإلا لم يقد به. ¬

_ (¬1) رواه أحمد والترمذيُّ (1400)، وابن ماجه (2662)، وصححه ابن الجارود (788)، والبيهقيُّ (8/ 38). (¬2) توضيح الأحكام لابن بسام (6/ 86).

قتل المسلم بالكافر

الراجح: نرى أن الراجح هو قول الجمهور وهو أنه لا يقتل الوالد بولده، للحديث الذي أوردوه، قال ابن عبد البر: "هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، مستفيض عندهم، يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به، عن الإسناد فيه، حتى يكون الإسناد فيه مع شهرته تكلفا". قتل المسلم بالكافر: يقتل الكافر بالمسلم ولا يقتل المسلم بالكافر لحديث علي -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يقتل مسلم بكافر" (¬1)، وذلك لأن الكافر غير مكافئ للمسلم في الدين، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة: مالك والشافعيُّ وأحمدُ. وذهب أبو حنيفة إلى أن المسلم يقتل بالذمي ولا يقتل بالكافر الحربي؛ لأن النصوص جاءت بعقوبة القصاص عامة قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (¬2). وقال تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (¬3). الراجح: هو عدم جواز قتل المسلم بالكافر لحديث علي المذكور وغيره وفي ذلك تخصيص للأدلة العامة التي احتج بها الحنفية. قتل الحر بالعبد: اختلف العلماء في ذلك: 1 - يرى جمهور الفقهاء: أنه لا يقتل حر بعبد مطلقًا لقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} (¬4)؛ لأن ذلك للحصر فلا يقتل الحر بغير الحر ولكن يغرم الحر قيمة ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1/ 269). (¬2) سورة البقرة: 178. (¬3) سورة المائدة: 45. (¬4) سورة البقرة: 178.

أنواع القتل العمد

العبد مهما بلغت. 2 - ويرى أبو حنيفة أنه يقتل الحر بالعبد لعموم آية القصاص {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (¬1)، إلا أنه إذا كان سيده فلا يقاد به. الراجح: هو أنه لا يقتل حر بعبد سواء كان سيده أو غيره لما أورده الجمهور (¬2)، ولحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يقتل حر بعبد" (¬3)، وما روى عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: لو لم أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يقاد المملوك من مولاه، والوالد من ولده" لأقدته منك (¬4). أنواع القتل العمد: للقتل العمد صور متعددة تختلف بخلاف وسيلة القتل منها: 1 - أن يضربه بما له نفوذ في البدن كالسيف والسكين ونحو ذلك مما يجرح قال في المغني "لا خلاف فيه بين العلماء فيما علمناه". 2 - أن يضربه بمثقل كبير كالحجر ونحوه ودليل ذلك حديث أنس -رضي الله عنه- "أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها بحجر، فقتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين حجرين" (¬5). أو يضربه بحجر صغير ويكون في مقتل ففيه القود. 3 - أن يمنع خروج نفسه إما بخنقه بحبل أو بيديه أو سد مجرى النفس بوسادة ونحوها فإذا مات من ذلك في فترة يموت في مثلها غالبًا فهو عمد فيه القصاص. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 45. (¬2) حاشية ابن عابدين (6/ 566)، وقوانين الشريعة لابن جزي (ص: 374)، ونهاية المحتاج للرملي (7/ 264)، والمغني لابن قدامة (11/ 465)، والمبدع في شرح المقنع (8/ 262). (¬3) رواه الدارقطني في سننه (3/ 133). (¬4) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 368)، والبيهقيُّ في السنن الكبرى (8/ 36). (¬5) أخرجه البخاريُّ (9/ 5)، ومسلمٌ (3/ 1299).

4 - أن يلقيه في قفص حيوان مفترس كأسد ونمر، ومعلوم أن مثل ذلك يقتل غالبًا، فعلى من ألقاه القصاص لأنه قتل عمد. 5 - أن يلقيه في ماء يغرقه أو نار لا يمكنه التخلص منهما، فهذا عمد لأنه يقتل غالبًا. 6 - أن يحبسه ويمنع عنه الطعام والشراب فيموت جوعًا أو عطشًا في فترة يموت فيها غالبًا، فهذا قتل عمد يجب عليه القود والقصاص. 7 - أن يسقيه سمًا أو يطعمه شيئًا قاتلًا فيموت به فهو عمد موجب للقود إذا كان مثله يقتل غالبًا، وذلك لحديث: "اليهودية التي سمت النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعض الصحابة في طعام، حيث ذكر أبو سلمه أن بشر بن البراء مات فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بها فقتلت" (¬1). 8 - أن يقتله بسحر يقتل غالبًا ففيه القصاص. 9 - أن يشهد عليه شهود بما يوجب قتله من قتل أو ردة فيقتل ثم يرجع الشهود عن شهادتهم فإنهم يقتلون به لأنهم أدوا إلى قتله بما يقتل غالبًا عمدًا عدوانًا (¬2). وهذه الصور تعتبر من القتل العمد عند جمهور الفقهاء "وعلى القاتل القصاص"، وهو الصحيح لما أوردوا من أحاديث ولأنه لو لم يعد ذلك عمدًا لأدى إلى تفنن المحتالين بأساليب القتل لئلا ينفذ فيهم القصاص وهذا يؤدي إلى تفشي القتل في المجتمع وقد أغلق الإسلام كافة الأسباب والوسائل المؤدية إليه ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه (2/ 482). (¬2) حاشية ابن عابدين (6/ 566)، وقوانين الشريعة لابن جزي (ص: 374)، ونهاية المحتاج للرملي (7/ 264)، والمغني لابن قدامة (11/ 465)، والمبدع في شرح المقنع (8/ 262).

شروط استيفاء القصاص

قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (¬1). شروط استيفاء القصاص: استيفاء القصاص هو فعل مجني عليه أو وليه بجانٍ عامدٍ مثل ما فعل أو شبهه. وتنفيذ القصاص لا يكون إلا بعد استيفاء شروط معينة وهي: 1 - أن يكون مستحق القصاص مكلفًا، فإن كان المستحق صغيرًا أو مجنونًا لم يستوفه لهما وليهما؛ لأن القصد التشفي والانتقام ولا يحصل لهما باستيفاء غيرهما، فيجب الانتظار في تنفيذ القصاص ويحبس الجاني إلى حين بلوغ الصغير وإفاقة المجنون؛ لأن معاوية -رضي الله عنه- حبس هدبة بن خشرم في قصاص حتى بلغ ابن القتيل، وكان ذلك في عصر الصحابة ولم ينكر عليه فكان إجماعًا (¬2)، وهو مذهب الشافعي ورواية عن أحمد، ويرى أبو حنيفة ومالك وهو رواية عن أحمد أن للكبار العقلاء استيفاؤه (¬3). لأن الحسن بن علي قتل ابن ملجم قصاصًا وفي الورثة صغار فلم ينكر عليه ذلك (¬4). الراجح: أن ينتظر بلوغ الصغير؛ لأنه قصاص ثبت لجماعة فلم يجز لأحدهم استيفاؤه استقلالًا وقد يعفو الصغير إذا بلغ، وقد رغب الإسلام في العفو لما فيه من إعتاق نفس. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 179. (¬2) المغني لابن قدامة (11/ 577). (¬3) بدائع الصنائع (10/ 4637)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزى (ص: 376)، وروضة الطالبين (ص: 1625)، والمغني لابن قدامة (11/ 576). (¬4) أخرجه البيهقيُّ في السنن الكبرى (8/ 58).

بم يثبت القتل؟

أما واقعة ابن ملجم فقد قيل إنه قتل إما لكفره وإما لسعيه في الأرض بالفساد، فيكون حرابة والحسن بن علي هو ولي الأمر. 2 - أن يتفق الأولياء المستحقون على استيفائه؛ لأن الاستيفاء حق لهم جميعًا وليس لبعضهم استيفاؤه دون بعض. 3 - أن يؤمن في الاستيفاء من التعدي إلى غير القاتل كما إذا كانت المرأة حاملًا فإنه ينتظر إلى أن تضع حملها لأن قتلها يتعدى إلى الجنين وهو برئ (¬1). لما روى ابن ماجه (¬2). بسنده عن عبد الرحمن بن غنم قال حدثنا معاذ بن جبل وأبو عبيدة ابن الجراح وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس قالوا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قتلت المرأة عمدًا فلا تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملًا وحتى تكفل ولدها ... ". بم يثبت القتل؟ يثبت القتل بأحد أمرين: 1 - الإقرار وهو اعتراف القاتل بقتله المجني عليه وذلك بإجماع الفقهاء. 2 - شهادة رجلين عدلين (¬3)، لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (¬4). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (6/ 573)، وجواهر الإكليل شرح مختصر خليل، صالح الأزهري (2/ 264)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1625)، وكشاف القناع (5/ 533). (¬2) أخرجه ابن ماجه (3/ 300). (¬3) حاشية ابن عابدين (6/ 605)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 377)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1971)، والمغني لابن قدامة (14/ 236). (¬4) سورة البقرة: 282.

صفة القصاص

قال ابن هبيرة في الإفصاح: "واتفقوا على أنه إذا شهد بالقتل شهود ولم يرجعوا عن شهادتهم أن ذلك نافذ يعمل به" (¬1). صفة القصاص: اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فذهب الجمهور من المالكية والشافعية وهو رواية في مذهب الحنابلة إلى أن القاتل يقتل بما قتل به لأن ذلك مقتضى المساواة والمماثلة وإن غرقه أو خنقه فإنه يفعل به مثل ما فعل بالمجني عليه لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (¬2). ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "رضخ رأس يهودي لرضخه رأس جارية من الأنصار بين حجرين" (¬3). 2 - وذهب الحنفية وهو رواية في مذهب الحنابلة إلى أن القصاص لا يستوفي إلا بآلة ماضية كسيف وسكين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة" (¬4)، ولما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا قود إلا بسيف" (¬5). الراجح: نرى أن يفعل بالجاني كما فعل بالمجني عليه للأدلة التي أوردها الجمهور واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، جاء في إعلام الموقعين (¬6): "والكتاب والميزان على أنه يفعل بالجاني كما فعل بالمجني عليه كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - "وإن قتله بمحرم فإنه يقتل بالسيف فقط"، ومثل قتل السيف في ¬

_ (¬1) الإفصاح لابن هبيرة (2/ 163). (¬2) سورة النحل: 126. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) أخرجه مسلمٌ (7/ 107). (¬5) رواه ابن ماجه (2/ 889). (¬6) إعلام الموقعين (1/ 310).

من يقيم تنفيذ القصاص

الوقت الحاضر قتله بإطلاق الرصاص عليه ممّن يحسن الرمي (¬1). من يقيم تنفيذ القصاص: يتفق الأئمة الفقهاء على أن إقامة القصاص في القتل من مسؤوليات وواجبات السلطان وولاة الأمر (¬2). لأن الله سبحانه وتعالى خاطب جميع المؤمنين بالقصاص فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (¬3). ولا يتهيأ للمؤمنين أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود، ولا يجوز للولي أن يتسلط على القاتل بدون إذن السلطان لأن فيه فسادًا وبعثًا للأحقاد والعداوات واستمرار الأخذ بالثأر مما يبعث على الفوضى وتهديد الأمن. وقد جاء ذلك في الفتوى رقم (18804) من فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية. الصلح عن القصاص بأكثر من الدية: حيث إن القصاص حق لأولياء القتيل وليس هو حق مالي، فلهم أن يصالحوا عليه القاتل أو أولياءه بأي قدر سواء أكان مساويًا للدية أو أقل أو أكثر منها، ويدل لجواز ذلك ما يأتي: 1 - ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل عمدًا دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا أخذوا الدية، ثلاثين حقه وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة، وما صالحوا عليه فهو لهم" (¬4). ¬

_ (¬1) الملخص الفقهي، صالح الفوزان (2/ 479). (¬2) حاشية ابن عابدين (6/ 602)، والمغني لابن قدامة (11/ 515)، ونهاية المحتاج (7/ 301). (¬3) سورة البقرة: 178. (¬4) أخرجه الترمذيُّ وقال حديثٌ حسنٌ غريب عارضه الأحوذي (6/ 159).

سقوط القصاص

2 - أن الصلح بأكثر من الدية صلح بعوض عن غير مال، فجاز الصلح عنه بما اتفقوا عليه كالصداق وعوض الخلع، قال ابن قدامة: "أن من له القصاص له أن يصالح عنه بأكثر من الدية وبقدرها وأقل منها لا أعلم فيه خلافا" (¬1). سقوط القصاص: إذا وجب القصاص حقًا لأولياء المقتول فإنه ينفذ بشروطه التي ذكرناها، ويسقط القصاص بأحد الأسباب الآتية: 1 - عفو أولياء المقتول جميعًا أو أحدهم بشرط أن يكون من صدر منه العفو بالغًا عاقلًا قال ابن هبيرة في الإفصاح: "واتفقوا على أنه إذا عفا أحد الأولياء من الرجال سقط القصاص وانتقل الأمر إلى الدية". 2 - موت القاتل أو فقد العضو الذي جنى به، فإنه يسقط القصاص لعدم إمكان تنفيذه وينتقل إلى الدية عند الشافعية والحنابلة؛ لأن حقوق الأولياء معلقة بالرقبة أو في الذمة وقد فات أحدهما فوجب الآخر، وعند الحنفية والمالكية لا تجب الدية لأن حقوقهم كانت معلقة في الرقبة وقد فاتت. 3 - مصالحة الأولياء أو بعضهم أو المجني عليه في الأطراف والجروح للجان أو غيره بالدية أو أكثر منها (¬2). ثانيًا الجناية فيما دون النفس: يجب القصاص فيما دون النفس إذا توافرت شروطه، ويتم تنفيذ ذلك وفقًا ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة (11/ 595)، وانظر في ذلك حاشية ابن عابدين (6/ 592)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 376)، ونهاية المحتاج للرملي (7/ 310). (¬2) بدائع الصنائع للكاساني (104645)، وجواهر الإكليل للأزهري (2/ 263)، ونهاية المحتاج للرملي (7/ 309)، والمبدع لابن مفلح (8/ 297).

أنواع الجناية على ما دون النفس

لما يتم تنفيذ القصاص به في النفس من حيث المماثلة والمكافأة والمساواة. ودليل القصاص فيما دون النفس الكتاب والسنة والإجماع والقياس: فأما الكتاب: فقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (¬1). وأما السنة: فما روى أنس -رضي الله عنه- قال: كسرت الربيع ثنية جارية من الأنصار، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كتاب الله القصاص" (¬2). وأما الإجماع: فقد أجمعوا على جريان القصاص فيما دون النفس إذا أمكن. وأما القياس: فإن ما دون النفس كالنفس في الحاجة إلى حفظه لأنه خلق وقاية للنفس فشرع الجزاء حماية له. أنواع الجناية على ما دون النفس: إن الجناية على ما دون النفس أنواع هي: أولًا: الجناية على الأطراف: وذلك إما بقطعها أو إتلافها كالعين والأنف والأذن والسن واليد والرجل وغيرها فيؤخذ بها ما يماثلها من الجاني وقد أجمع أهل العلم على جريان القصاص في الأطراف (¬3). ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 45. (¬2) أخرجه البخاريُّ (8/ 133)، ومسلمٌ ورقمه (1675). (¬3) المغني، لابن قدامة (11/ 536).

ثانيا: جناية الجروح التي يقع فيها القصاص

ثانيًا: جناية الجروح التي يقع فيها القصاص: وهي التي تنتهي إلى عظم لإمكان الاستيفاء فيها بلا حيف ولا زيادة وذلك كالموضحة وهي التي توضح العظم لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (¬1)، وأما ما عداها فلا قصاص فيه كالجائفة وهي التي تصل إلى باطن الجوف لعدم الأمن من الحيف والزيادة ولما جاء في حديث العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا قود في المأمومة ولا في الجائفة ولا في المنقلة (¬2) " (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "القصاص في الجراح ثابت بالكتاب والسنة والإجماع بشرط المساواة، فإذا شجه فله شجه كذلك، فإذا لم يمكن مثل أن يكسر عظمًا باطنًا أو شجه دون الموضحة فلا يشرع القصاص بل تجب الدية". قال في الإفصاح: "وأجمعوا على أن الموضحة فيها القصاص إذا كانت عمدًا"، فأما فوق الموضحة فلا قصاص فيها قال في المغني (¬4): "فأما فوق الموضحة فلا نعلم أحدًا أوجب فيها القصاص إلا ما روى عن ابن الزبير أنه أقاد في المنقلة وليس بثابت" قال ابن النذر: "لا أعلم أحدًا خالف ذلك". وأما ما دون الموضحة: فإن الفقهاء يتفقون على أنه لا قصاص فيها إلا في الدامية والباضعة والسمحاق (¬5) فقد اختلفوا فيها على النحو الآتي: 1 - فذهب الحنفية والمالكية وهو رواية عند الشافعية إلى أنه يجب القصاص في السمحاق والباضعة والدامية وذلك لأنه يمكن استيفاء المثل فيها بأن يقيس ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 45. (¬2) سيأتي بيانها في الديات. (¬3) أخرجه ابن ماجه (3/ 273). (¬4) المغني لابن قدامة (11/ 540). (¬5) سيأتي بيانها في الديات.

ثالثا: جناية إبطال المنافع

أهل الطب طول الجرح وعرضه وعمقه ويشقون مقداره في الجارح. 2 - وذهب الشافعية في قول لهم والحنابلة إلى أنه لا قصاص فيها؛ لأنه لا يؤمن فيها الزيادة عن الجرح. الراجح: نرى أن قول الحنفية والمالكية أولى، ولا سيما أنه قد تقدم الطب في العصر الحاضر بحيث يمكن تنفيذ مثل الجرح تمامًا عن طريق الطبيب المختص وبأدق الأجهزة، فيؤمن الحيف بالزيادة عن الجرح، وفي ذلك إذهاب لحقد المجني عليه وأوليائه وتشفٍ من الجاني كما أنه يؤدي إلى الزجر ويمنع حدوث الجناية إذا علم أن ذلك مصيره. ثالثًا: جناية إبطال المنافع: وهي التي لا يترتب عليها إزالة طرف أو جرح وإنما تؤدى إلى إبطال منفعة، كإزالة العقل وإبطال السمع والبصر والشم والذوق ونحوها. فيرى أبو حنيفة أنه لا قصاص وإنما الدية لأنه لا يمكن استيفاء المثل، ويرى المالكية والشافعية والحنابلة أنه يقتص من الجاني في ذلك بمثل فعله فإن ذهبت المنفعة المماثلة لجنايته وإلا أبطلت المنفعة بطريقة لا تؤدي إلى ذهاب عينه أو قطع عضو فيه (¬1). ونظرًا لتقدم الطب في الوقت الحاضر حيث يمكن استيفاء المثل في إبطال بعض المنافع من سمع وبصر وشم وذوق وغيرها من دون ضرر على غيرها، ولذا فمن المناسب القول بالقصاص فيها. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني (10/ 4785)، وجواهر الإكليل للأزهري (2/ 260)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1713)، والمبدع لابن مفلح (8/ 310).

شروط القصاص في الأطراف والجراح

والقول بالقصاص يوافق أهداف الشارع الحكيم من القصاص وهو تشفي المجني عليه من الجاني والزجر والردع لمن تسول له نفسه عمل شيء من ذلك، ولو لم يشرع القصاص في ذلك لأدى إلى كثرة الجنايات في مثل ذلك ولا سيما أنه يمكن قيام الجاني بإذهاب المنفعة من المجني عليه بطرق مأمونة على نفسه إذا علم أنه لا قصاص عليه فيها، والله أعلم. شروط القصاص في الأطراف والجراح: يشترط علاوة على شروط القصاص في النفس شروط أخرى ليتم استيفاء القصاص في الأطراف والجروح: 1 - الأمن من الحيف: بأن يكون القطع من مفصل أو له حد ينتهي إليه، أو أفاد الأطباء أن ذلك ممكن بدون زيادة، وإلا لم يجز القصاص، فلا قصاص في كسر عظم غير السن إذا لم يمكن المماثلة ولا قصاص في الجائفة وهي التي تصل إلى باطن الجوف ولا يؤمن الحيف في مثل ذلك. 2 - المماثلة في الاسم والموضع: فلا تقطع يمين بيسار، ولا يسار بيمين لعدم المساواة في الاسم ولا يؤخذ خنصر ببنصر من الأصابع للاختلاف في الاسم. 3 - استواء طرفي الجاني والمجني عليه في الصحة والكمال، فلا يؤخذ عضو صحيح بعضو أشل ولا تؤخذ عين صحيحة بعين لا تبصر لعدم التساوي، ويجوز أخذ العضو الناقص بالعضو الكامل إذا رغب المقتص لأنه أخذ بعض حقه، وله أخذ الدية بدل القصاص إن لم يرغب ذلك (¬1). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني (10/ 4761)، وقوانين الأحكام الفقهية لابن جزي (ص: 381)، والمغني لابن قدامة (11/ 531)، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع للشربيني (4/ 169).

وقت تنفيذ القصاص فيما دون النفس

وقت تنفيذ القصاص فيما دون النفس: 1 - يرى جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة أن وقت تنفيذ القصاص في الأطراف والجروح إنما يكون بعد أن يتم برؤها وشفاؤها لحديث جابر -رضي الله عنه- قال: "ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح" (¬1). وفي تأخير التنفيذ إلى الشفاء مصلحة للمجني عليه، إذ قد تسرى الجناية وتمتد إلى طرف آخر أو إلى النفس، فلو اقتص قبل البرء ثم سرت الجناية بعد ذلك فلا شيء للمجني عليه لما جاء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلًا طعن رجلًا بقرن في ركبته فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أقدني، فقال: "حتى تبرأ" ثم جاء إليه فأقاده، ثم جاء إليه فقال يا رسول الله: قد عرجت، قال: "نهيتك فعصيتني فأبعدك الله وبطل عرجك"، ثم نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أن يقتص من جرح حتى يبرأ منه صاحبه" (¬2). 2 - ويرى الشافعية أن وقت ذلك على الفور إن أمكن؛ لأن موجب القود الإتلاف والنبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمرو بن شعيب المذكور قد اقتص من الجاني قبل البرء عند ما طلبه المجني عليه كما جاء في الحديث الذي رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -رضي الله عنهم -: أن رجلًا طعن رجلًا بقرن في ركبته فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أقدني فقال: "حتى تبرأ"، ثم جاء إليه فقال: أقدني فأقاده (¬3). الراجح: نرى رجحان ما ذهب إليه الجمهور بتحديد وقت القصاص في الأطراف والجراح بما بعد شفائها لما أوردوه من أدلة، ولأن ذلك فيه مصلحة ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني (3/ 88). (¬2) أخرجه الدارقطني (3/ 71). (¬3) أخرجه أحمد (2/ 217)، والدارقطنيُّ (3/ 88)، وللحديث شواهد يتقوى بها قال ابن التركماني: هذا قد روى من عدة طرق يشد بعضها بعضا، توضيح الأحكام لابن بسام (6/ 98).

موت المقتص منه بسبب قود الجرح: (استيفاء القصاص)

للمجني عليه في المحافظة على حقه لئلا تسرى الجناية على غيرها من طرف أو نفس قال ابن المنذر: كل من نحفظ عنه من أهل العلم يرى الانتظار بالجرح حتى يبرأ (¬1). والله اعلم. موت المقتص منه بسبب قود الجرح: (استيفاء القصاص) يرى الفقهاء أن سراية الجناية على النفس وما دونها مضمونة لأنها أثر الجناية، والجناية مضمونة فكذلك أثرها، فلو مات المجني عليه بسبب جناية عليه في الطرف أو الجرح فإن الجاني يضمن ذلك وعليه القصاص. أما إذا مات المقتص منه بسبب استيفاء المجني عليه للقصاص من الجاني فلا شيء على المستوفي لأن سراية القود غير مضمونة، وهذا عند جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وأبي يوسف ومحمَّد من الحنفية وهو مروى عن أبي بكر وعمر وعلي -رضي الله عنهم -. ويرى أبو حنيفة والشعبي والنخعي والزهري أنه لا قصاص عليه للشبهة وتجب الدية وذلك لأنها سراية قطع مضمون فكانت مضمونة كسراية الجناية (¬2). الراجح: نرى أن الراجح هو قول الجمهور لما روى عن عمر وعلي -رضي الله عنهما- قال: "من مات من حدٍ أو قصاصٍ لا دية له الحق قتله" (¬3). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني (10/ 4792)، وبداية المجتهد لابن رشد (2/ 408)، ونهاية المحتاج (7/ 303)، والمغني لابن قدامة (11/ 565)، وانظر الإجماع لابن النذر (ص: 166). (¬2) بدائع الصنائع للكاساني (104778)، ونهاية المحتاج للرملي (7/ 307)، والمغني لابن قدامة (¬3) أخرجه البيهقيُّ في سننه الكبرى (8/ 68).

كتاب الديات

الفِقهُ الميَسَّر كتاب الديات

الأصل في مشروعية الديات

كتاب الديات التعريف في اللغة: الديات جمع دية وهي مصدر ودي القاتل القتيل يديه دية: إذا أعطى المال الذي هو بدل النفس (¬1). وفي الاصطلاح: هي المال المؤدى إلى مجني عليه أو وليه بسبب جناية (¬2). الأصل في مشروعية الديات: الأصل في مشروعية الديات الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (¬3). وأما السُّنة: فروى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب لعمرو بن حزم كتابًا إلى أهل اليمن، فيه الفرائض والسنن والديات، وقال فيه: "وإنَّ في النَّفْسِ مئة من الإبل" (¬4). قال ابن عبد البر: وهو كتاب مشهور عند أهل السير معروف عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرتها عن الإسناد؛ لأنه أشبه التواتر في مجيئه في أحاديث كثيرة. وأما الإجماع: فقد أجمع أهل العلم على وجوب الدية في الجملة (¬5). ¬

_ (¬1) المصباح المنير مادة: "ودي". (¬2) كشاف القناع (6/ 5). (¬3) سورة النساء: 92. (¬4) رواه النسائي في سننه المجتبى (8/ 52)، وأخرجه الإِمام مالك في الموطأ (2/ 849). (¬5) المغني لابن قدامة (12/ 5).

أقسام الدية

أقسام الدية: تنقسم الدية إلى دية النفس ودية ما دون النفس. أولًا: دية النفس: تنقسم دية النفس إلى: 1 - دية القتل العمد: تكون دية القتل العمد إذا لم تتوافر شروط القصاص أو سقط بسبب من الأسباب كالعفو، وهي دية مغلظة، وتجب دية العمد في مال القاتل ولا تتحملها العاقلة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجني جان إلا على نفسه" (¬1). ولأنه يجب بدل المتلَف على المتلِف، ويجب أن يختص الجاني بضرر جنايته؛ لأنها أثر فعله، جاء في المغني: "أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل" (¬2). ويرى جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة: أنها تجب حالة؛ لأنه لا يستحق التخفيف والرفق به لقيامه بالقتل عمدًا. ويرى أبو حنيفة: أن الدية تجب في ثلاث سنين؛ لأنها دية آدمي فكانت مؤجلة كدية شبه العمد. الراجح: إن دية العمد تكون حالة غير مؤجلة، فهي كالقصاص إذا وجب دون مانع منه، ولا تكون مثل دية شبه العمد؛ لأن القاتل فيه معذور خلافًا للعامد، وفي دية شبه العمد والخطأ تخفيف على العاقلة الذين حملوا أداء الدية مواساة. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذيُّ عارضة الأحوذي (9/ 4)، والإمام أحمد في المسند (3/ 499). (¬2) المغني لابن قدامة (12/ 13).

2 - دية القتل شبه العمد

2 - دية القتل شبه العمد: تجب دية شبه العمد مغلظة لحديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "ألا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا، مئة من الإبل، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها" (¬1). ويرى جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم أن دية شبه العمد تجب في مال عاقلة الجاني لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدية المرأة على عاقلتها" (¬2). ويرى بعض الفقهاء كابن سيرين وأبي ثور أنها على القاتل في ماله؛ لأنها موجب فعل قصده ولأنها دية مغلظة فأشبهت دية العمد فلم تحملها العاقلة كالعمد المحض. الراجح: من ذلك يتبين أن مذهب الجمهور أقوى وأولى للحديث المتفق على صحته. أجل دية شبه العمد: تجب دية شبه العمد مؤجلة في ثلاث سنين، قال ابن قدامة في المغني (¬3): "ولا أعلم في أنها تجب مؤجلة خلافًا بين أهل العلم"، وقد روى عن عمر وعلي -رضي الله عنهما- "أنهما قضيا بالدية على العاقلة في ثلاث سنين ولا مخالف لهما في عصرهما فكان إجماعًا"، وهو مذهب الفقهاء الأربعة، والسبب في ذلك أنها تجب على غير ¬

_ (¬1) رواه الإِمام أحمد في مسنده (2/ 11)، وأبو داود (2/ 492). (¬2) أخرجه البخاريُّ (7/ 175)، ومسلمٌ (3/ 1309). (¬3) المغني لابن قدامة (12/ 15).

3 - دية القتل الخطأ

الجاني على سبيل المواساة له، فاقتضت الحكمة تخفيفها عليهم. 3 - دية القتل الخطأ: تجب دية الخطأ على عاقلة الجاني مؤجلة على ثلاث سنين، وقد جعلت كذلك لأن جنايات القتل الخطأ كثيرة، وإيجابها في مال الجاني يضر به، فجعلت على العاقلة مواساة للقاتل وتخفيفًا عنه؛ لأنه معذور، وقد يكون في إيجابها في مال الجاني إذا كان لا يستطيع اجحافًا في حق أولياء المجني عليه، إذ قد لا يتمكن من دفع الدية والعاقلة يمكنها ذلك موزعة عليهم، وقد يقال إن العاقلة مسؤولة عن حفظ القاتل، وقد فرطوا في حفظه من القتل فيتحملون نتيجة تفريطهم. قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أنها على العاقلة" (¬1). وتكون الدية مؤجلة على ثلاث سنين، لإجماع الصحابة -رضي الله عنهم - على ذلك فإنه روي أن عمر -رضي الله عنه- قضى بذلك بمحضر من الصحابة -رضي الله عنهم - ولم ينقل أنه خالفه أحد فيكون إجماعًا (¬2). وألحق مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي في قراره رقم (71) حوادث السير بالجنايات، فتطبق عليها أحكامها المقررة في الشريعة الإِسلامية وهي في الغالب من قبيل الخطأ ولا يعفى السائق من المسؤولية إلا في حالات ورد ذكرها في القرار، كما أن مفتى المملكة العربية السعودية ورئيس قضاتها سابقًا الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ قد أفتى بمثل ذلك فيما يحدث من حوادث السيارات، وما ينشأ من الأطباء عند إجراء العمليات الجراحية من ¬

_ (¬1) الإجماع (ص: 172). (¬2) بدائع الصنائع للكاساني (10/ 4668)، وجواهر الإكليل شرح مختصر خليل للأزهري (2/ 265)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1683)، والمغني لابن قدامة (12/ 13).

ثانيا: دية ما دون النفس

حوادث الوفيات (¬1). ثانيًا: دية ما دون النفس: ويطلق عليها الأرش، ومن معاني الأرش: في اللغة: الدية والخدش، وما نقص العيب من الثوب ونحوه؛ لأنه سبب الأرش وما يدفع بين السلامة والعيب في السلعة (¬2). وفي الاصطلاح: هو المال الواجب في الجناية على ما دون النفس (¬3). وهي دية الجراحات فهو أخص من الدية، وتنقسم إلى ثلاثة أنواع: 1 - دية قطع الأطراف والأعضاء: اتفق الفقهاء على أن قطع ما في الإنسان منه شيء واحد كالأنف واللسان والذكر أن في ذلك دية كاملة، لما جاء في حديث عمرو بن حزم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "وفي الذكر الدية، وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية" (¬4). وأما قطع ما في الإنسان منه شيئان كالعينين والأذنين والشفتين واليدين والرجلين ففي قطعهما معًا الدية، وفي قطع أحدهما نصف الدية؛ لحديث عمرو بن حزم المذكور. وفي قطع ما في الإنسان منه أكثر من ذلك ففيه الدية كاملة وفي قطع بعضها نصيبه من الدية، وذلك بأن تقسم الدية على عدد ما في الإنسان كالأصابع حيث ¬

_ (¬1) توضيح الأحكام لابن بسام (6/ 149). (¬2) القاموس المحيط مادة: "أرش". (¬3) البحر الرائق شرح كنز الدقائق (8/ 372). (¬4) صحيح ابن حبان (14/ 507).

2 - دية المنافع

في كل أصبع منها عُشر الدية لحديث ابن عباس مرفوعًا: "دية أصابع اليدين والرجلين سواء عشر من الإبل لكل أصبع" (¬1). 2 - دية المنافع: والمقصود بها المال المدفوع مقابل ذهاب منافع الأعضاء مع بقاء العضو نفسه كالسمع والبصر والشم والكلام والمشي ونحوها، ففي إتلاف كل حاسة الدية كاملة لحديث عمرو بن حزم المذكور: "وفي المشام الدية"، وقد قضى عمر -رضي الله عنه- في رجل ضرب رجلًا فذهب سمعه وبصره ونكاحه وعقله بأربع ديات والرجل حي، ولا يعرف له مخالف من الصحابة. قال في الإفصاح لابن هبيرة: "وأجمعوا على أن في ذهاب العقل والسمع الدية" (¬2). 3 - دية الشجاج والجروح: الشجاج هي ما يكون في الرأس أو الوجه، والجراح ما يكون في سائر البدن. وقد ذكر الفقهاء أن الشجاج عشرة أنواع: 1 - الحارصة: وهي التي تشق الجلد قليلًا. 2 - الباضعة: وهي التي تشق اللحم بعد الجلد. 3 - البازلة: وهي التي يسيل منها الدم، ويسميها الأحناف الدامعة لخروج الدم منها مثل الدمع فإن سال الدم فهي عندهم الدامية. 4 - المتلاحمة: وهي التي أخذت في اللحم. 5 - السمحاق: وهي التي يبقى بينها وبين العظم جلدة رقيقه. ¬

_ (¬1) رواه الترمذيُّ (4/ 13)، وصححه. (¬2) الإفصاح لابن هبيرة (2/ 209).

كسر العظام وما يجب فيه

وفي هذه الشجاج الخمس التي هي أقل من الموضحة دية يقدرها الحاكم (حكومة عدل) (¬1)؛ لأنه لم يرد فيها شيء محدد من الشارع. 6 - الموضحة: وهي التي توضح العظم، وتكشفه وفيها خمس من الإبل. 7 - الهاشمة: وهي التي تكشف العظم وتكسره وفيها عشر من الإبل يروى ذلك عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- ولم يعرف له مخالف من الصحابة في عصره. 8 - المنقلة: وهي التي توضح العظم وتكسره وتنقل العظم وفيها خمس عشرة من الإبل لحديث عمرو بن حزم: "وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل". 9 - المأمومة: وهي التي تصل إلى الدماغ ويسميها الأحناف الآمة لأنها تصل إلى أم الدماغ. 10 - الدامغة: وهي التي تصل إلى الدماغ، وفي المأمومة والدامغة ثلث الدية لحديث عمرو بن حزم: "وفي المأمومة ثلث الدية" (¬2)، والدامغة أشد منها فتكون من باب أولى. وذكر بعض الفقهاء الجائفة وهي التي تصل إلى باطن جوف أو ظهر أو صدر ونحوها وفيها ثلث الدية لحديث عمرو بن حزم: "وفي الجائفة ثلث الدية". كسر العظام وما يجب فيه: يجب في الضلع إذا جبر بعد كسره وفي كل واحدة من الترقوتين بعير؛ لما ¬

_ (¬1) والحكومة العدل: ورد عند الحنفية أنها ما يقدره عدل في جناية ليس فيها مقدار معين من المال يجتهد الحاكم في تقديرها بالنظر إلى أقرب الجنايات التي لها مقدار محدد من الشارع. وورد في معناها: أن يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ثم يقوم وهي قد برئت فما نقص من القيمة فللمجني عليه مثل نسبته من الدية، المبدع لابن مفلح (9/ 13). (¬2) سنن النسائي (8/ 57).

أصول الدية

روي عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "في الضلع جمل وفي الترقوة جمل"، والترقوة هي العظم المستدير حول العنق من النحر إلى الكتف ولكل إنسان ترقوتان. وإذا لم يجبر الضلع والترقوة كما كان قبل الكسر فإنه يجب فيه حكومة. ويجب في كسر الذراع وهو الساعد الجامع لظهر الزند والعضد إذا جبر مستقيمًا وفي كسر الفخذ والساق والزند بعيران، وفي كسرهما معا أربعة من الإبل روى عن عمر -رضي الله عنه- ولم يخالفه أحد من الصحابة (¬1). أصول الدية: أجمع الفقهاء على أن الإبل أصل من أصول الدية، لما ورد في ذكرها من الأحاديث، ثم اختلفوا فيما عداها هل هي أصول للدية كالإبل أم هي معتبرة من باب التقويم على النحو الآتي: 1 - فذهب الشافعي وهو رواية عن أحمد إلى أن الأصل في الدية الإبل فقط وذلك هو ما ورد فيه الأحاديث وما عداها فهو بديل عنها مقدر بالشرع. 2 - وذهب أبو حنيفة والمالكية إلى أن أصول الدية ثلاثة أجناس الإبل والذهب والفضة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن في النفس مائة من الإبل، وعلى أهل الذهب ألف دينار" (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم" (¬3). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (10/ 4820)، وجواهر الإكليل للأزهري (2/ 259)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1646)، والمغني لابن قدامة (12/ 175). (¬2) أخرجه النسائي (8/ 58)، من حديث عمرو بن حزم عن أبيه عن جده ونقل ابن حجر تصحيحه عن جماعة من العلماء تلخيص الحبير (4/ 17). (¬3) أخرجه ابن ماجه (2/ 878).

ثمرة الخلاف

3 - وذهب أحمد في رواية وهو مروي عن أبي يوسف ومحمَّد من الحنفية وهو قول عمر بن الخطاب وفقهاء المدينة السبعة إلى أن أصول الدية خمسة: الإبل والذهب والفضة والبقر والغنم وأضاف بعضهم الحُلَل، لما ورد في ذلك من أحاديث منها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن عمر قام خطيبًا فقال: "ألا أن الإبل قد غلت. قال: فقوم على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاة ألفي شاة وعلى أهل الحُلَلِ مائتي حُلَّة" (¬1). ثمرة الخلاف: إذا قيل إن هذه كلها أصول فإنَّ الجاني أو العاقلة بالخيار في إحضار أي نوع منها، ومتى أحضره لزم الولي أو المجني عليه أخذه وعدم المطالبة بغيره، أما إذا قيل: إن الأصل الإبل فقط فعلى الجاني تقديم ذلك، ولا يلزم المجني عليه أو وليه قبول غيره. الراجح: حيث إن الأحاديث قد وردت باعتبار الإبل والذهب والفضة في الدية ومنها حديث عمرو بن حزم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن: "وأن في النفس المؤمنة مئة من الإبل، وعلى أهل الذهب ألف دينار" (¬2). كما أن حديث عمرو بن شعيب وفيه أن عمر قام خطيبًا وأضاف أنواعًا أخرى (البقر والغنم والحُلَل)، وعليه فإن اعتبار أصول الدية كل ما ذكر أولى لما يأتي: ¬

_ (¬1) رواه أبو داود في سننه (2/ 491)، (2) رواه النسائي (8/ 58)، وذكرنا أن ابن حجر نقل تصحيحه عن جماعة من العلماء، تلخيص الحبير (4/ 17). (¬2) إن دفع الدية في بلاد الإسلام وغيرها إنما تدفع مالًا في الوقت الحاضر وهو أرفق بالدافع والمدفوع إليه.

مقدار الدية

1 - ورود اعتبارها في الشرع كما أسلفنا. 2 - إن في ذلك توسيعًا على الناس ولا سيما أن كثيرًا من بلاد المسلمين وغيرها لا توجد فيها الإبل. 3 - إن من يقول: إن الأصل الإبل فقط. لا يتمسك بوجوب تقديم الإبل في الدية، وإنما يعتبر التقويم فيما تساويه من مال. 4 - إن دفع الدية في بلاد الإسلام وغيرها إنما تدفع مالًا في الوقت الحاضر وهو أرفق بالدافع والمدفوع إليه. 5 - وأما القول بالتغليظ في دِيّة العمد وشبه العمد، وعدم التغليظ في الخطأ وذلك يظهر جليًّا في الإبل دون غيرها فنقول: إن التقدير في ذلك ممكن في المال مع زيادة نسبة معينة عند تغليظ الدية. والله أعلم. مقدار الدية: ورد تحديد مقدار دية المسلم الحر الذكر بواحد الأنواع مما يأتي: * النوع الأول: مائة من الإبل على تفصيل يأتي فيها. * النوع الثاني: ألف دينار من الذهب. * النوع الثالث: اثنا عشر ألف درهم من الفضة وهو قول الجمهور، ويرى الحنفية أنها عشرة آلاف درهم، لما رواه الشعبي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "الدية عشرة آلاف درهم" (¬1)، وذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد فيكون إجماعًا. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (9/ 127).

دية المرأة

والصحيح: قول الجمهور؛ لما ورد في ذلك من أحاديث ومنها حديث ابن عباس: "أن رجلًا من بني عدي قُتِل، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ديته اثني عشر ألفًا" (¬1). وحديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر أنه جعلها اثني عشر ألف درهم. قال ابن عبد البر: ليس لمن جعل الدية عشرة آلاف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث مسند ولا مرسل، وأثر الشعبي عن عمر يخالفه أثر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر -رضي الله عنهم -. * النوع الرابع: مئتا بقرة. * النوع الخامس: ألفا شاه. * النوع السادس: مئتي حلة. وقد صدر بتحديد الديات قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رقم (50) وتاريخ 30/ 8 / 1396 هـ المتضمن أن مقدارها في العمد وشبه العمد خمسة وأربعون ألف ريال، وفي الخطأ أربعون ألف ريال وذلك تقديرًا لقيمة الإبل في ذلك التاريخ، ثم جرى زيادتها بعد ذلك إلى مئة وعشرة آلاف ريال للعمد وشبه العمد، ومئة ألف ريال للخطأ وذلك استنادًا على ارتفاع قيمة الإبل. دية المرأة: اتفق الفقهاء على أن دية المرأة الحرة المسلمة هي نصف دية الذكر الحر المسلم، قال في المغني: "وحكى غيرهما عن ابن عُليَّه والأصم أنهما قالا: ديتها كدية الرجل: وقال: هو قول شاذ يخالف إجماع الصحابة وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - " (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود في سننه (2/ 492)، وابن ماجه (2/ 878). (¬2) المغني لابن قدامة (12/ 56).

دية غير المسلم

وقال ابن المنذر وابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل، وذلك مراعاة لدور كل من الرجل والمرأة في الحياة، وما يترتب على فقده من أسرته من مصالح ومنافع حيث تتعطل مصالح أكثر في فقد الرجل، فاقتضت حكمة الشارع أن جعل ديتها على النصف من ديته؛ لتفاوت ما بينهما، كما أشار إلى ذلك ابن القيم -رحمه الله- (¬1). ودية نساء أهل كل دين على النصف من دية رجالهم. ويستوي الذكر والأنثى فيما يوجب أقل من ثلث الدية من الجروح؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: "عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديتها" (¬2)، وهو مروي عن عمر وزيد بن ثابت -رضي الله عنهم - ومالك والشافعيُّ في القديم وهو قول الفقهاء السبعة. وقال عليُّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-: أنها على النصف فيما قل أو كثر، وبه قال الثوري وأبو حنيفة والشافعيُّ في الجديد؛ لأنهما شخصان تختلف ديتهما فاختلفا في أرش أطرافهما. دية غير المسلم: 1 - يرى جمهور الفقهاء من المالكية والحنابلة أن دية الكتابي (¬3) الحر الذمي والمعاهد نصف دية الحر المسلم، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "دية المعاهد نصف دية الحر" (¬4). وفي لفظ: "دية عقل الكافر نصف عقل المؤمن" (¬5). ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين (2/ 149). (¬2) أخرجه النسائي (4/ 414). (¬3) أهل الكتاب: هم اليهود والنصارى. (¬4) أخرجه أبو داود (4/ 707). (¬5) أخرجه الترمذيُّ (4/ 25)، رقم (1432) وقال: "حديثٌ حسنٌ".

دية العبد

كما يرون أن دية الوثني والمجوسي ثمان مئة درهم لما روى ابن عدي عن عقبة ابن عامر -رضي الله عنه- مرفوعًا: "دية المجوسي ثمان مئة درهم" (¬1)، وتعادل 1/ 15 من دية المسلم. 2 - ويرى الحنفية والنخعي والشعبي أن ديتهم كدية المسلم؛ لأنه آدمي حر معصوم فأشبه المسلم لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (¬2)، فقد أطلق الدية دون تفصيل وهذا يدل على أن الواجب في الكل واحد. 3 - ويرى الشافعية أن دية الكتابي ثلث دية المسلم لما روى عبادة بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف" (¬3). أما النساء فديتهن نصف دية المذكور منهم. الراجح: نرى أن الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور؛ للأحاديث التي أوردوها، ولا تقوى حجج غيرهم على مخالفة تلك السنة الواردة في ذلك والله أعلم. دية العبد: 1 - يرى جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية وهو مذهب أحمد أن دية العبد هي قيمته ولو زادت عن دية الحر وذلك لأنه مال متقوم فيضمن بقيمته بالغة ما بلغت. 2 - ويرى أبو حنيفة والنخعي والشعبي والثوري وهو رواية عن أحمد أن دية ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عدي (4/ 206)، والبيهقيُّ (8/ 101، رقم 16122). (¬2) سورة النساء: 92. (¬3) قال ابن حجر في تلخيص الحبير (4/ 25)، رواه أبو إسحاق الإسفرائينى.

دية الجنين

العبد هي قيمته على ألا تبلغ دية الحر لأن الحر أشرف لخلوه من الرق (¬1). دية الجنين: وتجب الدية بجناية يترتب عليها انفصال الجنين ميتًا ذكرًا كان أو أنثى، وهي غرة عبد أو أمة وهو قول أكثر أهل العلم ومنهم الفقهاء الأربعة، وذلك لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بغرة عبد أو وليدة" (¬2). مقدار دية الجنين: هي غرة عبد أو أمة، والغرة هي البياض في وجه الفرس، وهي عندهم أنفس شيء، وغزة العبد والأمة سميا بذلك؛ لأنهما من أنفس الأموال. * والغرة: هي نصف عشر الدية، وهي خمس من الإبل أو خمسون دينارًا وهو قول الفقهاء الأربعة، وهي حق للورثة عندهم. أما إذا ألقت الأم الجنين حيًا حياة مستقرة ثم مات نتيجة للجناية، ففيه دية كاملة؛ لأنه قتلُ إنسان حيٍّ، فإن كان ذكرًا ففيه دية الذكر، وإن كان أنثى ففيه ديتها. من يتحمل دية الجنين؟ إذا مات الجنين مع أمه بجناية خطأ أو شبه عمد، فإن العاقلة تتحمل ديته مع أمه لما روى المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- أن "رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة على العاقلة" (¬3). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (10/ 465)، بداية المجتهد (2/ 414)، روضة الطالبين للنووي (ص: 1644)، والمغني لابن قدامة (12/ 51، وما بعدها). (¬2) أخرجه البخاريُّ فتح الباري (12/ 252)، ومسلمٌ (3/ 1310). (¬3) أخرجه البخاريُّ (9/ 14)، ومسلمٌ (3/ 1311).

تغليظ الدية

أما إذا قُتِلت الأم عمدًا أو مات الجنين وحده، فإنه يكون من مال الجاني ولا تحمله العاقلة. ففي العمد دية أمه على القاتل فكذلك دية الجنين؛ لأن الجناية لا تتجزأ، أما إذا مات الجنين وحده فإن العاقلة لا تحمل ما دون ثلث الدية (¬1). تغليظ الدية: تكون الدية مغلظة في قتل العمد إذا سقط القود عند الجمهور، ويرى الإمام أبو حنيفة: أنه لا دية في العمد وإنما الواجب ما اصطلح عليه الطرفان ويكون حالًا غير مؤجل. ويرى الإمام مالك: أن الدية تغلظ في قتل الخطأ والعمد فيما إذا قتل الأب أو الأم ابنه فتغلظ الدية عليه لامتناع القصاص في العمد. ويرى الشافعية والحنابلة أن دية الخطأ تغلظ إذا وقع القتل في البلد الحرام أو في الشهر الحرام، ويضيف الشافعية التغليظ لذي الرحم ويضيف الحنابلة القتل حالة الإحرام لحديث ابن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعتى الناس على الله ثلاثة: من قتل في حرم الله أو قتل غير قاتله أو قتل لذحل (¬2) الجاهلية" (¬3). ويرى الجمهور من الحنفية والمالكية وهو رواية عن أحمد: أنه لا تغليظ مطلقًا في الخطأ لقوله تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (¬4)، وذلك يقتضي أن ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني (10/ 4825)، وبداية المجتهد لابن رشد (2/ 15)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1690)، والمغني لابن قدامة (12/ 60). (¬2) والذَّحْلُ: الحقد والعداوة، يقال طلبه بذحْلِه: أي بثأره، مختار الصحاح مادة: ذَحَلْ. (¬3) أخرجه ابن حبان وصححه (13/ 340). (¬4) سورة النساء: 92.

مقدار تغليظ الدية

تكون الدية في الخطأ واحده في كل مكان وعلى أي حال، وهو ظاهر الأخبار، وعلى ذلك العمل في المحاكم الشرعية في السعودية وهو الراجح -إن شاء الله-. مقدار تغليظ الدية: تكون الدية المغلظة في القتل العمد وشبه العمد مئة من الإبل أرباعًا خمسًا وعشرين بنت مخاض، وخمسًا وعشرين بنت لبون، وخمسًا وعشرين حقة، وخمسًا وعشرين جذعة (¬1)، لما روى الزهري عن السائب بن يزيد قال: "كانت الدية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرباعًا خمسًا وعشرين جذعة، وخمسًا وعشرين حقة، وخمسًا وعشرين بنت لبون، وخمسًا وعشرين بنت مخاض"، وهذا هو قول الحنفية والمالكية والحنابلة. ويرى الشافعية -وهو قول عند الحنابلة ومحمَّد من الحنفية- أن الدية تكون أثلاثًا: ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة في بطونها أولادها (¬2)، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قُتِلَ متعمدًا دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاءوا قتلوه، وإن شاءوا أخذوا الدية، وهو ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة" (¬3)، ولحديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا، مئة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها" (¬4). ¬

_ (¬1) بنت المخاض: ما تم لها سنة، وبنت اللبون: ما تم لها سنتان، والحقة: ما تم لها ثلاث سنوات، والجذعة: ما تم لها أربع سنين. (¬2) بدائع الصنائع للكاساني (104663)، وبداية المجتهد لابن رشد (2/ 410)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1643)، والمبدع لابن مفلح (8/ 346). (¬3) رواه الترمذيُّ وقال حديثٌ حسنٌ غريب، عارضه الأحوذي (6/ 159). (¬4) أخرجه النسائي (8/ 41)، وصححه ابن حبان ورقمه (1526).

من يتحمل الدية إذا لم يكن للجاني عاقلة أو عجزت عن تحملها

وتكون دية الخطأ أخماسًا: عشرين بنت مخاض وعشرين ابن مخاض وعشرين بنت لبون وعشرين حقة وعشرين جذعة، وذلك لما روى عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "في دية الخطأ عشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون بنو مخاض" (¬1). من يتحمل الدية إذا لم يكن للجاني عاقلة أو عجزت عن تحملها: إذا كان الجاني لا عاقلة له، أو كان له عاقلة وعجزت عن تحمل ما وجب عليها، فإن الفقهاء يرون أن يتحمل بيت المال دية المقتول لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه" (¬2). قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي السعودية ورئيس القضاة سابقًا -رحمه الله-: الذي يتحمله بيت المال في الديات والديون: الأولى: إذا مات أحد المسلمين وعليه دين أو دية أو غيرها، ولم يخلف وفاء، فعلى ولي الأمر قضاؤه من بيت المال كما ثبت بالأحاديث الصحيحة. الثانية: إذا جنى إنسان على آخر، وكانت الجناية خطأ أو شبه عمد، ولم تكن له عاقلة موسرة، فالمشهور من المذهب أن الدية في بيت المال. وكل مقتول جهل قاتله، كمن مات في زحمة طواف أو عند الجمرة ونحو ذلك فديته في بيت المال (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (4545)، والترمذيُّ (1386) قال ابن حجر في التلخيص: حديث ابن مسعود رواه أحمد وأصحاب السنن والدارقطنيُّ والبيهقيُّ مرفوعًا. (¬2) أخرجه ابن ماجه (2/ 880)، قال ابن حجر في التلخيص (3/ 80): "حسَّنه أبو زرعه". (¬3) توضيح الأحكام لابن بسام (6/ 164).

العفو عن الدية

العفو عن الدية: يتفق الفقهاء على أن الدية تسقط بالعفو عنها لقوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (¬1)، وإذا عفا بعض الورثة دون البعض سقط حق من عفا، وبقي نصيب من لم يعفو أو يتنازل، يدفع إليه من الجاني في العمد ومن العاقلة في شبه العمد والخطأ. ¬

_ (¬1) سورة النساء: 92.

باب القسامة

باب القسامة القسامة لغة: بفتح القاف وتخفيف السين مصدر أقسم إقسامًا وقسامة، والقسامة هي الأيمان إذا كثرت على وجه المبالغة (¬1). واصطلاحًا: هي أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم (¬2). محل القسامة: أن يوجد قتيل بمكان ولا يُعرف قاتله، ولا تقوم البينة على من قتله، ويدعى أولياء المقتول على واحد معين أنه قتله، مع وجود قرينة تشهد بذلك (¬3). الأصل في القسامة: الأصل فيها السُّنة، وذلك ما روى يحي بن سعيد الأنصاري عن بشير عن سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج، أن محيصة بن مسعود وعبد الله بن سهل انطلقا إلى خيبر فتفرقا في النخيل، فقُتل عبد الله بن سهل، فاتهموا اليهود فجاء أخوه عبد الرحمن وأبناء عمه حويصه ومحيصه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فتكلما في أمر صاحبهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يُقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته"، فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: "فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم"، قالوا: يا رسول الله قوم كفار ضلال، قال: "فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبله" (¬4). وما أخرجه مسلمٌ (¬5) عن رجل من الأنصار -رضي الله عنه-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقر ¬

_ (¬1) لسان العرب لابن منظور (12/ 481). (¬2) المبدع في شرح المقنع لابن مفلح (9/ 31). (¬3) توضيح الأحكام لابن بسام (6/ 166). (¬4) أخرجه البخاريُّ (8/ 41)، ومسلمٌ (3/ 1292). (¬5) أخرجه مسلمٌ (1670).

شروط القسامة

القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية، وقضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين ناس من الأنصار في قتيل ادَّعوه على اليهود"، قال ابن قتيبة: "أول من قضى بالقسامة في الجاهلية الوليد بن المغيرة فأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإسلام". قال القاضي عياض: هي أصل من أصول الشرع، مستقل بنفسه وقاعدة من قواعد الأحكام وركن من أركان مصالح العباد (¬1). قال في الإفصاح: "اتفقوا على أن القسامة مشروعة في القتيل إذا وجد ولم يُعلم قاتله فتخصص بها الأدلة العامة" (¬2). شروط القسامة: 1 - دعوى القتل من أولياء القتيل، واتفاقهم عليه، فإن ادَّعى بعضهم وأنكر بعضهم لم تثبت القسامة. 2 - اتفاق الورثة في القتل العمد على عين القاتل، فلو قال بعضهم: قتله زيد وقال بعضهم: عمرو فلا قسامة (¬3). 3 - وجود اللوث وهو العداوة الظاهرة بين القتيل والمتهم بقتله، وكالقبائل التي يطلب بعضها بعضًا بالثأر، ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن ذلك يتناول كل ما يغلب على الظن صحة الدعوى كتفرق جماعة عن قتيل. 4 - أن يكون المدعي عليه القتل مكلفًا، فلا تصح الدعوى فيها على صغير ولا مجنون. ¬

_ (¬1) توضيح الأحكام لابن بسام (6/ 166). (¬2) الإفصاح لابن هبيرة (2/ 219). (¬3) بدائع الصنائع للكاساني (1/ 4739)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن حزم (ص: 378)، ونهاية المحتاج للرملي (7/ 387)، وكشاف القناع للبهوتي (6/ 67).

توجيه الدعوي في القسامة على غير معين

5 - إمكان القتل من المدعى عليه، وإلا فلا تسمع الدعوى كبعد المدعى عليه عن مكان الحادث وقت حدوثه. توجيه الدعوي في القسامة على غير معين: 1 - يرى الشافعية والحنابلة أن الدعوى في القسامة لا بد أن تكون على شخص بعينه لحديث: "تُقسمون على رجل منهم، فيدفع إليكم برمته"، وبذلك يثبت القتل قصاصًا. 2 - ويرى أبو حنيفة أن الدعوى في القسامة تُسمع إذا كانت على أهل مدينة أو قرية أو محلة أو أحد غير معين أو جماعة منهم بغير أعيانهم، ويستحلف منهم خمسون ويترتب عليهم ما يترتب على الواحد من حيث الإبراء والدية دون القصاص؛ لأن الأنصار ادَّعوا القتل على يهود خيبر، ولم يعينوا القاتل فسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعواهم. 3 - ويرى أبو حنيفة والشعبي والثوري والنخعي: أن اليمين توجه إلى المدَّعى عليهم أولًا، فيحلف خمسون من أهل المحلة بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلًا فإذا حلفوا يغرمون الدية ولا قصاص، وذلك لما روى من أحاديث منها ما روى زياد بن أبي مريم أنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني وجدت أخي قتيلًا في بني فلان فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اجمع منهم خمسين فيحلفون بأنهم ما قتلوه ولا علموا له قاتلًا"، فقال: يا رسول الله، ليس لي من أخي إلا هذا. فقال: "بل لك مئة من الإبل"، فدل الحديث على وجوب القسامة على المدعى عليهم وهم أهل المحلة لا على المدعي، وعلى وجوب الدية عليهم مع القسامة، وحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: وجد قيل بخيبر فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أخرجوا من هذا الدم"، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "يحلفون خمسين يمينًا ثم يغرمون الدية"، وهذا نص في الباب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غرمهم الدية لا القصاص.

وكذلك ما روي عن عمر وعلي -رضي الله عنهما- حيث ألزما أهل القرية القسامة والدية ولم ينقل الإنكار عليهما من أحد من الصحابة فيكون إجماعًا، وبناء على القاعدة في توجيه اليمين إلى المدَّعى عليهم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اليمين على المدعى عليه" (¬1). 4 - ويرى الحسن: أن يستحلف المدَّعى عليهم أولًا خمسين يمينًا ويبرءون، فإن أبو أن يحلفوا استحلف خمسون من المدعين: أن حقنا قبلكم ثم يعطون الدية ولا قصاص لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ولكن اليمين على المدَّعى عليه" (¬2)، وذلك لأنها يمين في دعوى فوجبت في جانب المدَّعى عليه ابتداء كسائر الدعاوى (¬3). الراجح: نرى أن الأولى هو القول بالبدء بأيمان المدعين، فيحلفون خمسين يمينًا يستحقون بها دم المدعى عليه بالقتل عمدًا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع إليكم برمته" (¬4). ولمسلم في صحيحه: "ويسلم إليكم"، وفي لفظ: "تستحقون دم صاحبكم"، والذي يظهر أن وقوع القسامة إنما يحدث نادرًا لكن في شرعيتها حماية للأنفس، وحتى لا يذهب دم القتيل هدرًا، إذ أن القتل إنما يحدث غالبًا في الخفاء، أما الحديث الذي احتج به من يرى توجيه اليمين إلى المدعي عليه فهو عام، وموضوع القسامة خاص فيقدم عليه، كما أن الحديث قد رواه ابن عبد البر بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة" (¬5). ويعمل بهذه ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) أخرجه مسلمٌ (3/ 1336). (¬3) بدائع الصنائع، للكاساني (10/ 47307)، وجواهر الإكليل شرح مختصر خليل، للأزهري (2/ 273)، ونهاية المحتاج، للرملي (7/ 396)، والمبدع في شرح المقنع لابن مفلح (9/ 38). (¬4) أخرجه البخاريُّ (8/ 41)، ومسلمٌ (3/ 1292). (¬5) أخرجه الدراقطني (4/ 218).

الزيادة؛ لأن الزيادة من الثقة مقبولة. وإن نكل المدعون فإن الحلف يتجه إلى المدعى عليه فيحلف خمسين يمينًا ويبرأ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم" (¬1). كما تقدم وتجب الدية حينئذ في بيت المال؛ لئلا يضيع دم القتيل، فإن امتنع المدعى عليهم من اليمين، فإنه لا يجب القصاص؛ لأن النكول حجة ضعيفة لا يثبت بها القصاص وإنما تجب عليهم الدية لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب" (¬2). وأما إذا لم يحلف المدعون، ولم يرضوا بيمين المدعى عليه؛ فإن دية القتيل تدفع من بيت المال لقصة عبد الله بن سهل حين قتل بخيبر حيث وداه النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما لم يحلف الأنصار ولم يقبلوا أيمان اليهود. وتكون القسامة في الاتهام بقتل العمد ويثبت بها القصاص وفي الخطأ كذلك وتثبت بها الدية. وقد ورد بشأن القسامة قرار مجلس هيئة كبار العلماء في السعودية برقم 41 في 13/ 4 / 1396 هـ، وقد جاء فيه: قرر المجلس بالأكثرية. أن الذي يحلف من الورثة هم الذكور العقلاء ولو واحدًا سواء كان عصبة أو لا لما في الصحيحين من حديث سهل بن أبي حثمة، ولأنها يمين في دعوى حق، فلا تشرع في حق غير المتداعين كسائر الأيمان. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ ومسلمٌ. (¬2) أخرجه البخاريُّ (8/ 41)، ومسلمٌ (3/ 1292).

كتاب الحدود

الفِقهُ الميَسَّر كتاب الحدود

الأصل في مشروعيتها

كتاب الحدود الحدود في اللغة: جمع حد وهو المنع، ويطلق على الحاجز بين الشيئيين. وسميت عقوبات المعاصي حدودًا؛ لأنها في الغالب تمنع العاصي من الوقوع في مثلها (¬1). وفي الاصطلاح: عقوبات مقدرة وجبت حقًا لله تعالى (¬2). الأصل في مشروعيتها: الأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. فأما الكتاب: فقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} (¬3). وأما السنة: فما روى أبو ثعلبة الخشني -رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرَّم حرمات فلا تنتهكوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان، فلا تبحثوا عنها" (¬4). قال السمعاني: هذا الحديث أصل كبير من أصول الدين وفروعه (¬5). وما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "حَدٌّ يقام في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا ثلاثين صباحًا" (¬6). وأما الإجماع: فقد وقع الإجماع على وجوب إقامة الحدود في الجملة (¬7). ¬

_ (¬1) مختار الصحاح مادة: "حدد". (¬2) حاشية ابن عابدين (4/ 3). (¬3) سورة البقرة: 187. (¬4) أخرجه الدارقطني سنن الدارقطني (4/ 184)، كتاب الرضاع. (¬5) توضيح الأحكام لابن بسام (6/ 210)، قال: "وحسن هذا الحديث النووي". (¬6) رواه أحمد في المسند (2/ 362، 402)، والنسائيُّ في السنن (8/ 76). (¬7) شرح فتح القدير لابن الهمام (5/ 3).

شروط وجوب الحد

وأما المعقول: فإن الطباع البشرية مائلة إلى قضاء الشهوة بكافة أنواعها، فاقتضت حكمة اللطيف الخبير شرع هذه الحدود؛ منعًا للفساد وزجرًا عن ارتكابه، وفي ذلك حفظ للضروريات (¬1) التي جاء الإسلام بحفظها، وإن في شرع حد الزنا حفظًا للأنساب وصيانة لفرش المسلمين من الفساد، وفي شرع حد الشرب صيانة لعقولهم، وفي شرع حد السرقة حفظًا لأموالهم، كما أن في شرع حد القذف صيانة لأعراضهم. شروط وجوب الحد: 1 - أن يكون مرتكب الجريمة بالغًا عاقلًا مختارًا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة: الصغير حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ" (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬3). 2 - أن يكون مرتكب الجريمة عالمًا بالتحريم، فلا حد على من يجهل التحريم لقول عمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم -: "لا حد إلا على من علمه" (¬4). ولم يعلم لهم مخالف من الصحابة (¬5). الفرق بين الحدود والقصاص: 1 - لا يقضي القاضي بعلمه في الحدود، بخلاف القصاص وهذا مذهب جمهور العلماء. ¬

_ (¬1) حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. (¬2) أخرجه أبو داود (4403)، والنسائيُّ (3462). (¬3) سبق تخريجه (ص: 18). (¬4) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (7/ 403، 405). (¬5) الملخص الفقهي د. صالح الفوزان (2/ 522).

أنواع الحدود

2 - الحدود لا تورث وأما القصاص فيورث، وفي حد القذف خلاف بين الفقهاء. 3 - لا يصح العفو في الحدود في الجملة ويصح في القصاص. 4 - لا تجوز الشفاعة في الحدود بعد وصولها للحاكم وتجوز في القصاص (¬1)، لحديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على أسامة بن زيد حين شفع في المخزومية التي سرقت فقال: "أتشفع في حدٍّ من حدود الله تعالى" (¬2). ويقام الحد حتى ولو تاب منه، أما إذا لم يصل إلى الحاكم فعلى المقترف لذلك الذنب التوبة والاستتار بستر الله (¬3). أنواع الحدود: اتفق الفقهاء على القول بالحد في الجرائم الخمس: وهي حد كل من جريمته الزنا والقذف والسكر والسرقة وقطع الطريق ويختلفون فيما عدا ذلك، فيذهب الحنفية إلى أن الحدود ستة، بتقسيم حد السكر إلى حد الشرب للخمر خاصة وحد السكر من غيرها، ويذهب المالكية إلى أن الحدود سبعة، فيضيفون حد الردة وحد البغي (¬4). من يقيم الحدود؟ يتفق الفقهاء على أن إقامة الحدود على الأحرار من اختصاص الإمام أو نائبه، وأنه لا يجوز لأحد أن يتولى القيام بذلك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقيم الحدود ثم ¬

_ (¬1) الموسوعة الفقهية الكويتية (حدود) (ص: 132). (¬2) أخرجه البخاريُّ فتح الباري (21/ 87). (¬3) انظر فتوى اللجنة الدائمة في السعودية رقم (9000). (¬4) حاشية ابن عابدين (4/ 3)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 392)، والملخص الفقهي للفوزان (2/ 526).

وقت إقامة الحدود ومكانه

قام بها خلفاؤه من بعده، وفي إقامة الحدود من الإمام أو نائبه رعاية لمصالح المجتمع من استتباب الأمن والبعد عن الثأر والمحاباة، وقد جاء الكلام في ذلك في الفتوى رقم (16815) من فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية. وقت إقامة الحدود ومكانه: يتفق الفقهاء على أن الحد يجب إقامته في الحال ما لم يكن عذر يمنع منه كالحمل مطلقًا في كل العقوبات وكالسكر والمرض في عقوبتي القطع والجلد. وقد نقل ابن المنذر الإجماع على أن الحد لا يقام على حامل حتى تضع حملها لئلا يتعدى إلى الحمل، لأنه نفس محترمة لا جريمة له. وأما السكر فإن مقصود إقامة الحد الزجر، وقد لا يتحقق مع وجود السكر. وأما المرض فللرفق بالمحدود؛ لأن إقامة الحد عليه في حال المرض قد تؤدي إلى زيادة المرض أو الموت. ويقام الحد بحضور جماعة من الناس لقوله تعالى في حد الزنا {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1)، ليكون في ذلك إعلام للناس وزجر وردع عن الوقوع في مثل ذلك. ولا يجوز إقامة الحدود في المساجد (¬2) تعظيمًا لها لما روى حكيم بن حزام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهي أن يستقاد بالمسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود" (¬3). ¬

_ (¬1) سورة النور: 2. (¬2) الموسوعة الفقهية الكويتية (حدود)، وفقه السنة للسيد سابق (2/ 362). (¬3) أخرجه أبو داود (4/ 407)، والترمذيُّ (4/ 19).

تداخل الحدود

تداخل الحدود: 1 - إذا اجتمعت حدود لله تعالى فيها قتل وغيره فإنه يُستوفى القتل ويسقط غيره، وهو قول عبد الله بن مسعود ولا مخالف له من الصحابة، وقال بعض الفقهاء: يستوفى جميعها؛ لأن ما وجب مع غير القتل وجب مع القتل كالقصاص في الأطراف. وإذا لم يكن فيها قتل وتكررت قبل إقامة الحد وهي من جنس واحد فإنه يقام عليه الحد لمرة واحدة فقط، قال ابن المنذر: أجمع عليه كل من نحفظ عنه (¬1)، لأن الغرض الزجر عن إتيان مثل ذلك في المستقبل وهو حاصل بالحد الواحد، والواجب هنا من جنس واحد فوجب التداخل كالكفارات، أما إذا كانت من أجناس مختلفة كقتل وسرقة وزنا وقذف فإنه يستوفى حد لكل منها ويبدأ بالأخف فيها. 2 - إذا اجتمعت حدود هي حقوق لآدميين، فإنها تستوفى كلها سواء كان فيها قتل أم لم يكن فيها قتل، ويبدأ بغير القتل، لأن حقوق الآدميين مبنية على المشاحة فيجب استيفاؤها كسائر حقوق الآدميين. 3 - إذا اجتمعت حدود هي حقوق لله تعالى وحقوق لآدميين، فإنها يبدأ بتنفيذ حق الآدميين، الأخف منها أولًا، ثم تنفيذ الحدود التي هي حقوق الله تعالى؛ لأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة (¬2). ¬

_ (¬1) المغني، لابن قدامة (12/ 381). (¬2) الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص: 147)، وحاشية ابن عابدين (4/ 55)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزى (ص: 391)، والمغني لابن قدامة (12/ 487).

سقوط الحدود

سقوط الحدود: تسقط الحدود بأمور منها: 1 - إذا كان في ثبوت الحد شبهة وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ادرأوا الحدود بالشبهات" (¬1)، قال ابن حجر في التلخيص: قد روي عن غير واحد من الصحابة أنهم قالوا ذلك، وقد جاء هذا الحديث من طرق مرفوعة وموقوفة يعضد بعضها بعضًا (¬2). قال ابن المنذر: "أجمعوا على درء الحد بالشبهات" (¬3). 2 - رجوع المقر بالحد عن إقراره إذا كان قد ثبت بالإقرار، وكان الحد حقًّا لله تعالى لما ورد في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما أتى ماعز بن مالك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "لعلك قبلت، أو غمزت أو نظرت ... " (¬4). حيث لقنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يسقط عنه الحد. تلف المقام عليه الحد: إذا مات من أقيم عليه الحد بالطريقة المشروعة من غير تعد ولا تفريط فلا ضمان على من نفذ الحد، أما إذا زاد على الوجه المشروع في إقامة الحد ثم تلف المحدود فإنه يضمنه؛ لأنه تلف بالتعدي (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقيُّ (8/ 238)، وقال في إسناده ضعف. (¬2) توضيح الأحكام لابن بسام (6/ 246). (¬3) الإجماع لابن المنذر (ص: 162). (¬4) أخرجه البخاريُّ (6/ 2502)، رقم (6438)، وانظر فتح الباري (12/ 165). (¬5) الملخص الفقهي د. صالح الفوزان (2/ 526).

الحدود كفارات للذنوب

الحدود كفارات للذنوب: 1 - يرى جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة أن الحد إذا أقيم فهو كفارة لمن أقيم عليه، بحيث لا يعذب في الآخرة لحديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مجلس فقال: "تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا ... " وقال: "ومن أصاب شيئًا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له ... " الحديث (¬1). 2 - ويرى الحنفية أن الحد غير مكفر للذنب وإنما التوبة هي التي تطهر فإذا حُدَّ ولم يتب بقي عليه إثم المعصية عندهم (¬2)، كما قال الله تعالى في حد قطاع الطرق: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬3). الراجح: أن الحد إذا أقيم فهو كفارة لمن أقيم عليه لحديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- المتفق على صحته، والذي استدل به الجمهور، وقد أخذت بذلك اللجنة الدائمة للفتوى في السعودية في فتواها رقم (6341). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (6/ 61)، ومسلمٌ في كتاب الحدود. (¬2) شرح فتح القدير لابن الهمام (5/ 3)، وفتح الباري (12/ 84). (¬3) سورة المائدة: 33.

باب حد الزنا

باب حد الزنا الزنى في اللغة: الفجور (¬1)، والزنى بالقصر لغة أهل الحجاز وبالمد لغة أهل نجد. واصطلاحًا: هو كل وطء وقع على غير نكاح صحيح، ولا شبهة نكاح ولا ملك يمين (¬2). وعرّفه آخرون بقولهم: هو فعل الفاحشة في قبل أو دبر (¬3). الأصل في تشريع حرمة الزنى: الزنى من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله والقتل، ودلَّ على ذلك الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (¬4). قال القرطبي، قال العلماء: إن ذلك أبلغ من أن يقول ولا تزنوا، ذلك أن معنى الآية لا تدنوا من الزنى (¬5). أما السنة: فما روى عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندًا وهو خلقك"، قلت: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك"، قال: قلت: ثم أي؟ قال: "أن تزني بحليلة ¬

_ (¬1) لسان العرب مادة: "زنا". (¬2) بداية المجتهد لابن رشد (2/ 433). (¬3) كشاف القناع للبهوتي (6/ 89). (¬4) سورة الإسراء: 32. (¬5) تفسير القرطبي (10/ 253)، مطبعة دار الكتب، القاهرة.

مقدار حد الزنى

جارك" (¬1). وأما الإجماع: فقال ابن المنذر: "أجمعوا على تحريم الزنا" (¬2). وأما المعقول: فإن الله قد شرع النكاح، لا فيه من الآثار والفوائد الإيجابية على الفرد والمجتمع والأمة، وحرَّم الزنى لما يترتب عليه من آثار سيئة، والتي منها إفساد نظام البيت وتدمير كيان الأسرة واختلاط الأنساب وانتشار كثير من الأمراض الخطيرة في المجتمع وإيقاع العداوة والبغضاء، مما يفرق المجتمع الذي يسعى الإسلام إلى توحيده وتأليف قلوب بعضهم لبعض؛ ليكون مجتمعًا طاهرًا عفيفًا صحيحًا معافى من كافة الأمراض الصحية والاجتماعية وغيرها؛ لتكون الأمة المسلمة كما أراد الله خير أمة أخرجت للناس في كل شؤونها. مقدار حد الزنى: وأجمع أهل الملل على تحريمه، ولهذا كان حده أشد الحدود؛ لأنه جناية على الأعراض والأنساب، ويختلف مقدار الحد بناء على كون الزانى بكرًا أو محصنًا: 1 - حد البكر: إذا ثبت زنا البكر الحر فإنه يجلد مئة جلدة رجلًا كان أو امرأة وذلك لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (¬3). وذلك متفق عليه بين الفقهاء، قال ابن المنذر: "أجمعوا على أن حد البكر الزانى الجلد" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (8/ 9)، ومسلمٌ (1/ 90). (¬2) الإجماع لابن المنذر (ص: 160). (¬3) سورة النور: 2. (¬4) الإجماع لابن المنذر (ص: 160).

2 - حد غير الحر

وإنما اختلفوا في التغريب لمدة عام: أ- فذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن البكر الحر الذكر يغرب مدة عام مع الجلد لحديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- وفيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة" (¬1)، وما روى الترمذيُّ (¬2) من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضَرب وغَرَّب وأن أبا بكر ضَرب وغَرَّب، وأن عمر ضرب وغرب، أما المرأة فحكمها عند الشافعية والحنابلة حكم الرجل ويكون تغريبها مع محرم، وأما المالكية فلا يرون تغريبها؛ لأنه قد يترتب على ذلك مفسده. ب- وقال الحنفية لا يغرب البكر مطلقًا؛ لأن التغريب منسوخ ولكن للإمام إن يفعله إن رأى في ذلك مصلحة من باب السياسة الشرعية وليس من الحد. 2 - حد غير الحر: إن حد غير الحر سواء كان محصنًا أو غير محصن جلد خمسين جلدة فقط ذكرًا أو أنثى ولا تغريب عليهما، لأن السنة قد وردت بالجلد فقط لما جاء في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأمة إذا زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها"، ولم يذكر تغريبها (¬3). وفي التغريب إضرار بالسيد. كما أنه لا يرجم المحصن منهما؛ لأن الرجم لا يتنصف قال تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ (6/ 189). (¬2) وما روى الترمذيُّ (4/ 44). (¬3) أخرجه البخاريُّ (4/ 466)، ومسلمٌ (6/ 211). (¬4) سورة النساء: 25.

3 - حد الحر المحصن

3 - حد الحر المحصن: الإحصان هو: الوطء من مكلف حر بنكاح صحيح. وحد الحر الزانى المحصن الرجم حتى الموت، رجلًا كان أو امرأة باتفاق الفقهاء لثبوته بما يأتي: 1 - أنه قد ورد في القرآن الكريم، ثم نسخ لفظه وبقي حكمه، جاء في حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: إن الله تعالى بعث محمدًا بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأتها وعقلتها ووعيتها ورجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى، فالرجم حق على من زنى إذا أحصن ... -إلى أن قال:- وقد قرأتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم" (¬1). 2 - ثبوت الرجم بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - القولية والفعلية، فمن ذلك ما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من المسلمين وهو في المسجد فناداه فقال: يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه ... إلى أن قال: "فهل أحصنت؟ " قال: نعم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اذهبوا به فارجموه" (¬2). وما جاء في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- في قصة "رجم اليهوديين" (¬3). 3 - إجماع الصحابة ومن بعدهم من الفقهاء على أن حد الحر الزانى المحصن الرجم حتى الموت، قال ابن المنذر: "أجمعوا أن المرجوم يداوم عليه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (12/ 176)، ومسلمٌ (6/ 191). (¬2) أخرجه البخاريُّ (5271)، ومسلمٌ (1691). (¬3) أخرجه البخاريُّ (6841)، ومسلمٌ (1699).

الجمع بين الجلد والرجم

الرجم حتى يموت" (¬1). وقال في الإفصاح (¬2): "وأجمعوا على أن من كملت فيه شرائط الإحصان فزنا بامرأة مثله .. أن عليهما الرجم حتى يموتا". قال ابن عبد البر: "وأما المحصن فحده الرجم إلا عند الخوارج، ولا يعدهم العلماء خلافًا، لجهلهم وخروجهم عن جماعة المسلمين"، وقال: "وأجمع فقهاء المسلمين وعلماؤهم من أهل الفقه والأثر من بعد الصحابة إلى يومنا هذا، أن المحصن حده الرجم" (¬3). الجمع بين الجلد والرجم: اختلف الفقهاء في الجمع بين الجلد والرجم للمحصن: 1 - فذهب جمهور العلماء من الفقهاء الأربعة وغيرهم إلى أنه لا يجمع بين الجلد والرجم، وإنما يكتفي بالرجم فقط، وهذا المروي عن عمر وعثمان -رضي الله عنهما- وبه قال ابن مسعود والزهري؛ لأن الثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزًا والغامدية ولم يجلدهما. 2 - وذهب جماعة من بينهم ابن عباس وأبي بن كعب وأبو ذر والحسن البصري وغيرهم، وهو رواية عن الإمام أحمد إلى أنه يجمع بين الجلد والرجم وذلك لحديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-: "والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" (¬4). وقد جلد ورجم علىٌّ بنُ أبي طالب -رضي الله عنه-. ¬

_ (¬1) الإجماع لابن المنذر (ص: 161). (¬2) الإفصاح لابن هبيرة (2/ 233). (¬3) الإجماع لابن عبد البر (ص: 286). (¬4) أخرجه مسلمٌ (1690).

شروط حد الزنا

الراجح: نرى أن القول الأول هو الراجح؛ لأنه الثابت من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفعله. شروط حد الزنا: هنالك شروط متفق عليها بين الفقهاء وشروط مختلف فيها: فأما المتفق عليها فهي: 1 - أن يكون من صدر منه مكلفًا (بالغًا عاقلًا)، فلا حدَّ على الصبي والمجنون لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والصغير حتى يكبر، والمجنون حتى يفيق" (¬1). 2 - إدخال الحشفة أو قدرها من مقطوعها في الفرج. 3 - أن يكون من صدر منه الفعل عالمًا بالتحريم؛ لأن الحكم لا يثبت إلا بعد العلم. 4 - انتفاء الشبهة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ادرأوا الحدود بالشبهات" (¬2). وأما الشروط المختلف فيها: 1 - اشتراط كون الموطوءة حية، وذلك عند جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة والمالكية في غير المشهور عندهم؛ لأن الحد وجب للزجر، ونكاح الميتة مما ينفر منه الطبع، ويرى المالكية في المشهور عندهم أن واطئ الميِّتِةِ يحد حد الزنا. 2 - كون الموطوءة امرأة، واختلف الفقهاء في حد اللواط، وهو: فعل الفاحشة في الدبر، بعد إجماعهم على تحريمه لقوله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي (6/ 62)، والحاكم (2/ 59)، وصححه الحاكم. (¬2) سبق تخريجه (ص: 88).

أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} (¬1)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله من عمل عمل قوم لوط" ثلاثًا (¬2). أ- فذهب الجمهور من المالكية وهو أحد قولي الشافعية ورواية عن أحمد إلى أن حده الرجم بكرًا كان أم ثيبًا؛ لأن الله تعالى عذَّب قوم لوط بالرجم، فينبغي أن يعاقب من فعل فعلهم بمثل عقوبتهم، وقد قال بذلك عليُّ بن أبي طالب وابن عباس وغيرهم لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" (¬3). ب- وذهب الشافعي في قوله المشهور، وهو رواية عند أحمد وأبي يوسف ومحمَّد بن الحسن من الحنفية إلى أن حدَّه حدُّ الزنى، وقد قال بذلك سعيد بن المسيب وعطاء والحسن وغيرهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان" (¬4). ومقتضى ذلك أنه إذا كان بكرًا جلد وغرب وإذا كان محصنًا رجم حتى الموت. ج- وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا حد على من فعل ذلك؛ لأنه ليس بمحل للوطء، ولكن يعزر فإن تكرر منه قتله الإمام محصنًا أو غير محصن من باب السياسة الشرعية (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: 80 - 81. (¬2) أخرجه الترمذيّ (4/ 75)، رقم (1456)، عارضة الأحوذي (6/ 240). (¬3) أخرجه أبو داود (4/ 393)، والترمذيُّ (4/ 57). (¬4) أخرجه البيهقيُّ في السنن الكبرى (8/ 233). (¬5) حاشية ابن عابدين (4/ 11)، والقوانين الفقهية لابن جزي (ص: 382)، ونهاية المحتاج للرملي (7/ 421)، والمغني لابن قدامة (12/ 348).

وطء البهيمة

وطء البهيمة: 1 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية وهو أظهر أقوال الشافعي ورواية عن أحمد إلى أن من أتى البهيمة يعزر ولا حد عليه، وهو مروي عن ابن عباس وعطاء والشعبي والنخعي والحكم؛ لأنه لم يصح فيه نص ولا يمكن قياسه على الوطء في فرج آدمي، ولأن الطبع السليم يأباه فلم يحتج إلى زجر بحد. 2 - وذهب الشافعي في أحد قوليه وهو قول الحسن البصري إلى أن حده حد الزانى فيرجم إن كان محصنًا ويجلد ويغرب إن لم يكن محصنًا. 3 - وذهب الشافعي في قول له وهو رواية عن أحمد إلى إن حكمه حكم اللائط فيقتل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه" (¬1). والحديث يرويه عمرو بن أبي عمرو ولم يثبته أحمد وقال الطحاوي: وهو ضعيف ومذهب ابن عباس خلافه وهو الذي روى عنه قال أبو داود: هذا يضعف الحديث عنه. وأما البهيمة فقد اختلف في قتلها: * فيرى الحنفية والحنابلة وهو قول الشافعي أن البهيمة تقتل للحديث المذكور. * ويرى المالكية وهو قول للشافعي أنها لا تقتل (¬2)؛ لأن الحديث ضعيف لا يثبت بمثله حكم. الاستمناء: الاستمناء لغة: هو مصدر استمنى أي طلب خروج المني (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2/ 468). (¬2) حاشية ابن عابدين (4/ 27)، والقوانين الفقهية لابن جزي (ص: 383)، ونهاية المحتاج للرملي (7/ 426)، والمغني لابن قدامة (12/ 351). (¬3) القاموس المحيط مادة: منى.

السحاق

واصطللاحًا: إخراج المنى بغير جماع (¬1). حكمه: اختلف الفقهاء فيه: 1 - فيرى الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة أنه محرم لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (¬2). 2 - ويرى الحنفية أن الاستمناء حرام إذا كان لاستجلاب الشهوة أما إذا غلبته الشهوة وليس له زوجه ولا أمة فيفعل ذلك لتسكينها فلا شيء عليه، ويرون وجوبه إذا خاف الوقوع في الزنا لارتكابه أخف الضررين وهو رواية عند الحنابلة (¬3). السحاق: هو مباشرة دون إيلاج وهو فعل المرأة بالمرأة مثل ما يفعل بها الرجل. حكمه: السحاق حرام باتفاق الفقهاء (¬4)؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان" (¬5). وقد عده ابن حجر من الكبائر (¬6). ¬

_ (¬1) الموسوعة الفقهية الكويتية (4/ 97)، كلمة: "استمناء". (¬2) سورة المؤمنون: 5 - 7. (¬3) حاشية ابن عابدين (4/ 29)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1737)، والإنصاف للمرداوي (10/ 251). (¬4) شرح فتح القدير لابن الهمام (5/ 44)، وروضة الطالبين (ص: 1737)، والمغني لابن قدامة (12/ 350)، جواهر الإكليل شرح مختصر خليل (2/ 284). (¬5) أخرجه البيهقيُّ في السنن الكبرى (8/ 233). (¬6) الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/ 119).

3 - كون الوطء في دار الإسلام

ولا يترتب على السحاق حد؛ لأنه مباشرة دون الفرج ولا يتضمن إيلاجًا وعليهما التعزير كما لو باشر الرجل المرأة من غير جماع، فإنه يعزر ولا حد عليه جاء ذلك في الفتوى رقم (17867) من فتاوى اللجنة الدائمة للفتوى في السعودية. 3 - كون الوطء في دار الإسلام: يرى جمهور الفقهاء أنه لا يقام عليه الحد في دار غير دار الإسلام لحديث بسر بن أرطأة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تقطع الأيدي في السفر" (¬1)، ولأن الزنا لم ينعقد سببًا لوجوب الحد حين وجوده لعدم الولاية فلا يستوفي بعد ذلك. ويرى الشافعية إقامة الحد في دار الحرب إن لم يخف فتنة نحو ردة المحدود والتحاقه بالكفار (¬2). الراجح: حيث إن ذلك قد يترتب عليه وقوع فتنة للمسلم في دينه فإنه يمكن القول إن تأخيره إلى رجوع من يقام عليه الحد إلى دار الإسلام هو الأولى والله أعلم. 4 - اشتراط الإسلام لإقامة حد الزنا: اختلف فيه الفقهاء على النحو الآتي: 1 - يرى مالك أنه لا يقام الحد إلا على مسلم، فالإسلام شرط في الإحصان، ويرى أبو حنيفة أن الذمي يحد إذا اقترف جريمة الزنا؛ لأنه بالذمة ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (4/ 563)، وقال ابن حجر: "هو إسناد قوي"، فيض القدير للمناوي (6/ 417) مكتبة التجارية. (¬2) بدائع الصنائع للكاساني (9/ 4152)، ومغني المحتاج للشربيني (4/ 150)، وكشاف القناع للبهوتي (6/ 88).

ثبوت الزنا

والعهد التزم أحكام الإسلام مطلقًا، إلا في قدر ما وقع الاستثناء فيه، ولم يوجد ها هنا في الزنا، أما الحربي فلا يحد لحديث ابن عمر -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أشرك بالله فليس بمحصن" (¬1)، ولأن الحربي لم يلتزم أحكام الإسلام، ورجم اليهوديين إنما كان بحكم التوراة وليس بناء على حكم الإسلام. 2 - ويرى الشافعي وأحمدُ وأبو يوسف من الحنفية عدم اشتراط الإسلام في إقامة الحد، ويقام الحد على الذمي، "لأن اليهود جاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بامرأة ورجل منهم قد زنيا، فأمر بهما فرجما" (¬2). كما يقام الحد على المستأمن؛ لأنه لما دخل دار الإسلام فقد التزم أحكام الإسلام مدة إقامته فيها فصار كالذمي (¬3). ثبوت الزنا: يثبت الزنا بأحد الأدلة الآتية: أولًا: الإقرار قد اتفق على ذلك الفقهاء؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ باعتراف ماعز والغامدية، ولكنهم اختلفوا في عدد مرات الإقرار الذي يلزم به الحد على النحو الآتي: 1 - ذهب جمهور العلماء ومنهم أبو حنيفة وأحمدُ والحكم وابن أبي ليلي إلى أنه لا بد من الإقرار أربع مرات مستدلين بحديث الباب الوارد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقم الحد على ماعز إلا بعد أن أقر على نفسه أربع مرات، ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني (3/ 327). (¬2) أخرجه البخاريُّ (8/ 205)، ومسلمٌ (3/ 1326). (¬3) بدائع الصنائع للكاساني (9/ 4152)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 382)، والإقناع للشربيني (4/ 20)، والمبدع لابن مفلح (9/ 63).

شروط صحة الإقرار

وقياسًا على الشهادة بالزنا حيث لا يقبل إلا أربعة شهود، ولا يشترط عندهم أن تكون الإقرارات في مجالس متعددة خلافًا للحنفية. 2 - وذهب مالك والشافعيُّ وأبو ثور وابن المنذر إلى أنه يكفي لإقامة الحد إقرار واحد لحديث: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" (¬1). وقد أوجب عليها الرجم وهي قد اعترفت مرة. الراجح: لا بد من الإقرار أربع مرات لحديث أبي هريرة في قصة ماعز حيث أقر أربع مرات، ولو وجب الحد بمرة لم يعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لا يجوز ترك حد وجب لله تعالى، وقد روى نعيم بن هزال في حديثه قال: حتى قالها أربع مرات، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنك قد قلتها أربع مرات فبمن؟ " قال: بفلانة (¬2). وهذا تعليل منه يدل على أن إقرار الأربع هي الموجبة، وما دام قد حصل احتمال في العدد فإن الأخذ بالأحوط أولى، كما في الشهادة على الزنا حيث يشترط أربعة شهود. شروط صحة الإقرار: يشترط لصحة الإقرار بالزنى أن يصرح بحقيقة الوطء، وألا يرجع عن إقراره حتى يقام عليه الحد (¬3). فإن رجع عن إقراره سقط عنه الحد، وذلك لما ثبت من تقريره - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا مرة بعد مرة، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لما هرب ماعز: "فهلا تركتموه، لعله يتوب فيتوب الله عليه" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (3/ 241)، ومسلمٌ (3/ 1324). (¬2) رواه أبو داود (2/ 457). (¬3) الملخص الفقهي للشيخ صالح الفوزان (2/ 531). (¬4) أخرجه أبو داود (4/ 373).

الإقرار في الجرائم المشتركة

الإقرار في الجرائم المشتركة: لو أقر أحدهما وأنكر الآخر أقيم الحد على المقر بشروطه دون المنكر منهما عند الجمهور، ويرى الحنفية أنه لا يقام الحد عليهما جميعًا؛ لأن قبول إنكار أحدهما يعد تكذيبًا للآخر. والصحيح: إقامة الحد على المقر بشروطه دون المنكر لما روى سهل بن سعد الساعدى: "أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقر عنده أنه زنى بامرأة، فسماها له، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المرأة فسألها عن ذلك، فأنكرت أن تكون زنت، فجلده وتركها" (¬1). ثانيًا: الشهادة: ولها شروط: 1 - أن يشهد عليه بالزنا أربعة شهود لقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} (¬2). وقوله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} (¬3). قال ابن المنذر (¬4): "وأجمعوا على أن الشهادة على الزنا أربعة لا يقبل أقل منهم". وقال في الإفصاح: "البينة التي يثبت بها الزنا أن يشهد عليه أربعة عدول رجال يصفون حقيقة الزنا" (¬5). وقد شدَّد الإسلام في أمر إثبات الزنا، لما يترتب عليه من آثار سلبية على من ثبت عليه وعلى أسرهم. 2 - أن يكونوا رجالًا كلهم ولا تقبل فيه شهادة النساء، لأنه لا مدخل لشهادة النساء في الحدود؛ لاحتمال عدم قدرتهن على ضبط الشهادة فتدرأُ الحدود بالشبهات. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2/ 469)، والإمام أحمد في سنده (5/ 339). (¬2) سورة النور: 13. (¬3) سورة النساء: 15. (¬4) الإجماع لابن المنذر (ص: 162). (¬5) الإفصاح لابن هبيرة (2/ 236).

3 - أن يكون الشهود مكلفين (بالغين عاقلين) فلا تقبل شهادة الصبي ولا المجنون. 4 - العدالة: فلا تقبل شهادة فاسق ولا مستور الحال لجواز أن يكون فاسقًا. 5 - أن يكون الشهود مسلمين: فلا تقبل شهادة أهل الذمة فيه؛ لأن العدالة لم تتحقق فيهم. 6 - أن يكون الشهود أحرارًا، فغير الحر لا تقبل شهادته، وقد اختلف في شهادة العبد في سائر الحقوق، فيكون ذلك شبهة تمنع قبول شهادته في الحد لأنه يندرئ بالشبهات. 7 - أن يصفو الزنى بما يدفع كل الاحتمالات عن إرادة غيره من الاستمتاع المحرم، فلا بد من تصريحهم به لتنتفي الشبهة. 8 - مجيء الشهود كلهم في مجلس واحد؛ لأن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حد أبا بكرة ونافعًا وشبل بن معبد عندما شهدوا على المغيرة بن شعبة بالزنى ولم يشهد زياد فحد الثلاثة ولو لم يكن المجلس مشترطًا لم يحدهم لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر، وقد عمل عمر ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكره أحد فكان كالإجماع. فإن اختل شرط من تلك الشروط أو رجعوا عن الشهادة فلا حد على المتهم وإنما يقام حد القذف على الشهود. ثالثًا: الحمل: إذا حملت امرأة لا زوج لها ولا سيد فقد اختلف الفقهاء في إقامة الحد عليها: 1 - فذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا حد عليها إن ادَّعت أنها أكرهت أو

علانية حد الزنا

وطئت بشبهة أو لم تعترف بالزنا، لاحتمال أن الوطء بشبهة أو إكراه والحد يسقط بالشبهات. 2 - وذهب المالكية إلى أنه يقام عليها الحد إذا كانت مقيمة غير غريبة، ولا تقبل دعواها الإكراه أو الاغتصاب إلا ببينة أو أمارة على صدقها كالصياح والاستغاثة (¬1). لقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "والرجم واجب على كل من زنى من الرجال والنساء إذا كان محصنًا إذا قامت بينة أو كان الحبل أو الاعتراف" (¬2). الراجح: يتبين من ذلك أن الراجح هو قول الجمهور؛ لما ذكروه ولما روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أتى بامرأة حامل فادَّعت أنها أكرهت فقال: "خل سبيلها"، وكتب إلى أمراء الأجناد أن لا يقتل أحد إلا بإذنه (¬3). رابعًا: إثبات حد الزنا بالوسائل الحديثة: لا يثبت الزنا بغير ما ورد في الشرع من وسائل الاثبات، فلا يثبت بالفحص الكيمائي أو غيره؛ لأن الإسلام قد جعل مبدأ درء الحدود بالشبهات، وقد جاء في الفتوى رقم (3339) من فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية: "إنه لا يصح إثبات جريمة الزنا بالتقرير للفاحص الكيمائي وتقرير أخصائي في بصمات الأصابع والشهادة الظرفية". علانية حد الزنا: 1 - يرى الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية استحباب أن يستوفى حد الزنا بحضور جماعة قيل أقلهم أربعة. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (4/ 6)، والقوانين الفقهية لابن جزي (ص: 385)، ونهاية المحتاج للرملي (7/ 430)، والمغني لابن قدامة (12/ 362، 381). (¬2) أخرجه البخاريُّ (8/ 208). (¬3) أخرجه البيهقيُّ (8/ 236).

كيفية تنفيذ الحد

2 - ويرى الحنابلة وجوب حضور طائفة من المؤمنين ولو واحدًا عند من يقيم الحد في قول ابن عباس (¬1)، وذلك لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬2). كيفية تنفيذ الحد: 1 - الجلد: اتفق الفقهاء على أنه يجلد الصحيح القوي في الحدود بسوط معتدل ويفرق الضرب على بدنه ويتقي الوجه والمقاتل؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا ضرب أحدكم فليتجنب الوجه" (¬3). وأما المقاتل فلأن في ضربها خطرًا على حياة المضروب، والقصد من الحد الردع والزجر لا القتل، ويجلد الرجل قائمًا والمرأة جالسة لئلا تتكشف (¬4). 2 - الرجم: إذا كان المقام عليه حد الزنا رجلًا؛ فإنه يرجم قائمًا ولا يوثق بشيء ولا يحفر له سواء ثبت الزنى ببينة أو إقرار لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "لم يحفر لماعز" (¬5). قال في الإفصاح: "واتفقوا على أن الرجل المرجوم لا يحفر له" (¬6). أما إذا كانت امرأة فقد اختلف الفقهاء فيها: أ- فذهب مالك وأحمدُ في رواية إلى أنه لا يحفر لها كالرجل ولكن تشد عليها ثيابها كيلا تتكشف لما روى أبو داود عن عمران بن حصين قال: "فأمر بها النبي ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (4/ 12)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 385)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1740)، وكشاف القناع للبهوتي (6/ 84). (¬2) سورة النور: 2. (¬3) أخرجه أحمد (2/ 244). (¬4) الموسوعة الفقهية الكويتية (15/ 247). (¬5) أخرجه أبو داود (2/ 460). (¬6) الإفصاح لابن هبيرة (2/ 249).

- صلى الله عليه وسلم - فشدت عليها ثيابها" (¬1). ب- وذهب الشافعي وأحمدُ في رواية أخرى إلى أنه إن كان الحد ثبت بالبينة فإنه يحفر لها إلى الصدر؛ لأنه أستر لها وإن ثبت بالإقرار فلا يحفر لها لتمكينها من الفرار إن رجعت. ج- ويرى أبو حنيفة الخيار للإمام في الحفر من عدمه مع التمكين من الفرار في حالة الإقرار إن هربت، ويبدأ الإمام أو الحاكم بالرجم إن كان ثبت الزنا عنده بالإقرار، وإن كان ثبت بشهود فالسنة أن يبدأ الشهود، لما روي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: "الرجم رجمان، فما كان منه بإقرار، فأول من يرجم الإمام ثم الناس، وما كان ببينة فأول من يرجم البينة ثم الناس" (¬2). ولأن فعل ذلك أبعد للشهود من التهمة في الكذب، فإن كان الثبوت بالإقرار، فإن المرجوم يمكن من الهرب إن أراده (¬3)، لما روى أبو داود في حديث ماعز بن مالك -رضي الله عنه- أنه لما وجد مس الحجارة خرج يشتد، فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2/ 462). (¬2) أخرجه البيهقيُّ (8/ 220). (¬3) حاشية ابن عابدين (4/ 14)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 385)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1740)، والمغني لابن قدامة (12/ 371). (¬4) أخرجه أبو داود (2/ 457).

باب القذف

باب القذف تعريف القذف: القذف لغة: الرمي، يقال قذف بالشيء يقذف قذفًا أي رمى به، وقذف المحصنة أي سبها (¬1). واصطلاحًا: هو الرمي بالزنى أو اللواط (¬2). حكم القذف: القذف حرام بإجماع الأمة، وهو من كبائر الذنوب، والأصل في تحريمه الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (¬3). وأما السُّنة: فما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اجتنبوا السبع الموبقات"، وعدَّ منها: "قذف المحصنات المؤمنات الغافلات" (¬4). وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على تحريمه (¬5). ¬

_ (¬1) لسان العرب لابن منظور مادة: قذف. (¬2) حاشية ابن عابدين (4/ 47)، وكشاف القناع للبهوتي (6/ 104). (¬3) سورة النور: 4. (¬4) أخرجه البخاريُّ (7/ 177)، ومسلمٌ (1/ 92). (¬5) حاشية ابن عابدين (4/ 47)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1743)، والمغني لابن قدامة (12/ 383).

صيغة القذف

صيغة القذف: للقذف صيغتان: 1 - صريح: وهو ما لا يحتمل غير القذف، فلا يقبل منه تفسيره بغير القذف مثل قول: يا زانى يا لوطي. 2 - كناية: وهي ما تحتمل القذف وغيره مثل قول: يا فاجر يا خبيث يا قحبة ونحو ذلك، فإن فسر القائل ذلك بالزنا فهو قذف، وإن فسره بما يحتمل غير القذف قبل؛ لأنه يحتمل غير الزنا مع يمينه، والحدود تدرأ بالشبهات (¬1). شروط القاذف: 1 - البلوغ: فلا حد على الصبي. 2 - العقل: فلا حد على المجنون. 3 - الاختيار وذلك بألا يكون القاذف مكرهًا، فإن كان مكرهًا فلا حد عليه. وذلك لأن من شروط ترتيب الحد على القذف أن يكون مكلفًا وهؤلاء غير مكلفين لما ورد في الصبي والمجنون والمكره من الأحاديث (¬2). قذف الوالد لولده: إذا قذف الوالد ولده فقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنه لا يحد؛ لأن الحد عقوبة تجب حقًا لآدمي فلا تجب للولد على والده؛ لأن الأبوة معنى يسقط القصاص فمنعت الحد. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (4/ 47)، وروضة الطالبين (ص: 1743)، والمبدع لابن مفلح (9/ 83). (¬2) سبق إيرادها (ص: 93).

شروط المقذوف

وذهب مالك وغيره إلى أن عليه الحد لعموم الآية، ولأنه حدٌ فلا تمنع من وجوبه قرابة الولادة كالزنى. الراجح: نرى القول بعدم إقامة الحد على الوالد لما ذكره الجمهور وعموم الآية يخصص في حالة قذف الوالد لولده، ويفترق حد القذف عن الزنى، بأن حد الزنى حق لله أما حد القذف فهو حق لآدمي فلا يثبت للولد على والده كالقصاص (¬1). شروط المقذوف: يشترط في المقذوف أن يكون محصنًا. والإحصان يتطلب توافر الشروط الآتية: 1 - البلوغ: يشترط أن يكون المقذوف بالغًا، فلا يُحدُّ قاذف الصغير والصغيرة؛ لأن زناهم لا يوجب حدًا فلا يجب الحد بالقذف به. 2 - العقل: لأن الحد شرع للزجر عن الأذية والضرر الواقع على المقذوف، ولا ضرر على من فقد العقل. 3 - الإسلام: وذلك بأن يكون المقذوف مسلمًا رجلًا أو امرأة، وإنما جاء النص على المرأة، لحدوث الواقعة، كما أن قذفها أشنع وأشد عارًا لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} (¬2). فإذا كان المقذوف غير مسلم، لم يقم الحد على قاذفه؛ لأنه لم يؤمن بالإِسلام ولا بأحكامه حتى يطبق على من قذفه الحد ويدفع عنه العار، ولأن الكفر أعظم عارًا من القذف، وقد لا يرى بعض الكفار في الزنا بأسًا فكيف يحد من قذفه به. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (4/ 49)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزى (ص: 386)، ونهاية المحتاج (7/ 436)، والمغني لابن قدامة (12/ 388). (¬2) سورة النور: 23.

مقدار حد القذف

4 - الحرية: فإن كان المقذوف عبدًا فلا يقام الحد على قاذفه؛ لأن الآية وردت في الحرائر وهذا ليس بمعناها. 5 - العفة عن الزنا: لأن غير العفيف لا يلحقه العار بالقذف بالزنا، ويضيف المالكية أن يكون مع المقذوف آلة الزنا فلا يكون حصورًا ولا مجبوبًا. فإن ثبت زنى المقذوف ببينة أو إقرار أو حد بالزنى فلا حد على قاذفه؛ لأنه لم يكن عفيفًا محصنًا (¬1). ثبوت حد القذف: يثبت حد القذف بالإقرار أو البينة: 1 - الإقرار: يثبت حد القذف بالإقرار ويقام عليه الحد بإقراره. 2 - البينة: يثبت حد القذف بشهادة شاهدين عدلين ذكرين حرين، ولا تقبل شهادة النساء في الحدود مطلقًا ولا شهادة واحد مع اليمين (¬2). قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن الحد لا يجب بيمين وشاهد" (¬3). مقدار حد القذف: يجلد القاذف الحر بعد ثبوت القذف ثمانين جلدة باتفاق الفقهاء إذا لم يثبت ما قذف به لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (¬4)، وخص النساء بالذكر؛ لأن قذفهن أشنع والعار فيهن أعظم، ويلحق ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (4/ 49)، وقونين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 386)، ونهاية المحتاج للرملي (7/ 437)، وكشاف القناع للبهوتي (6/ 105). (¬2) المبسوط للسرخسي (9/ 105)، وبدائع الصنائع للكاساني (9/ 4179). (¬3) الإجماع لابن المنذر (ص: 163). (¬4) سورة النور: 4.

الرجال بالنساء في هذا الحكم بلا خلاف بين علماء الأمة (¬1). كما يترتب على القذف رد شهادة القاذف وعدم قبولها أبدًا، والحكم عليه بالفسق وذلك لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2). قال ابن رشد: "واتفقوا على أنه يجب على القاذف مع الحد سقوط شهادته ما لم يتب" (¬3). ومع اتفاق الفقهاء على أن توبة القاذف لا تسقط عنه الحد. فقد اختلفوا فيما إذا تاب القاذف هل تقبل شهادته أو لا؟ 1 - فذهب الجمهور إلى أنه إذا تاب ذهب عنه اسم الفسق، وتقبل شهادته للآية، وذلك لأن الاستثناء يعود إلى ما تقدم فالتوبة تؤدي إلى رفع الفسق وقبول الشهادة. 2 - وذهب الحنفية إلى أنه إذا تاب القاذف، فإنه يرتفع عنه اسم الفسق ولكن لا تقبل شهادته؛ لأن الاستثناء يعود إلى أقرب مذكور وهو رفع الفسق فقط. الراجح: إن الراجح هو قول الجمهور، ذلك أن المانع من قبول الشهادة وهو الفسق المتسبب عن القذف قد زال، فلم يبق ما يوجب الرد للشهادة (¬4). ¬

_ (¬1) فتح القدير للشوكاني (4/ 7). (¬2) سورة النور: 4 - 5. (¬3) بداية المجتهد (2/ 443). (¬4) فتح القدير للشوكاني (4/ 9)، وانظر قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 387).

شروط تنفيذ حد القذف

شروط تنفيذ حد القذف: 1 - مطالبة المقذوف لأنه حق له فلا يستوفى قبل طلبه. 2 - أن لا يأتي القاذف ببينة تثبت صدقه لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} (¬1)، وأن لا يقر المقذوف بما قذفه به. 3 - امتناع القاذف عن اللعان إذا كانت المقذوفة زوجته. "ولا يعلم في هذا كله خلافًا" (¬2). 4 - استدامة الطالب إلى إقامة الحد، فلو طلب ثم عفا عن الحد، سقط، وقد اختلف الفقهاء في ذلك: أ- فذهب الشافعي وأحمدُ إلى عدم تنفيذ الحد وسقوطه إذا لم يطالب به المقذوف؛ لأنه حق لا يستوفى إلا بعد مطالبة الآدمي باستيفائه، فسقط بعفوه كالقصاص؛ لأنه حق العبد أو المغلب فيه حقه. ب - وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يسقط بعفوه؛ لأنه حدٌّ وهو من حقوق الله الخالصة أو الغالب فيها حقه. ج - وذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه يجوز إذا لم يبلغ الإمام، وإن بلغ لم يجز إلا أن يريد بذلك المقذوف الستر على نفسه. الراجح: يترجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء وهو عدم تنفيذ الحد وسقوطه إذا لم يطالب به المقذوف لما ذكروه، ولأنه إذا صدَّق المقذوف القاذف فيما قذفه به سقط عنه الحد (¬3). ¬

_ (¬1) سورة النور: 4. (¬2) المغني لابن قدامة (12/ 386). (¬3) بدائع الصنائع للكاساني (9/ 4202)، وبداية المجتهد لابن رشد (2/ 443)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1743)، والمغني لابن قدامة (12/ 386).

سقوط حد القذف

سقوط حد القذف: 1 - عفو المقذوف عن القاذف. 2 - إقامة اللعان بين الزوجين: وذلك فيما إذا رمى زوجته بالزنا ولم يثبت ذلك، فإنه يقام عليه الحد إلا إذا لاعنها فإنه يسقط عنه الحد. 3 - ثبوت زنا المقذوف بشهادة أو إقرار فإن ذلك يسقط الحد عن القاذف. 4 - زوال الإحصان عن المقذوف، كإن زنى المقذوف أو جُنَّ فإنه يسقط الحد عن القاذف لأنه يشترط استمرار الإحصان إلى إقامة الحد وذلك عند الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية ولأن وجود الزنى منه يقوى قول القاذف ويدل على تقدم هذا الفعل منه. وعند الحنابلة لا يسقط الحد عن القاذف؛ لأن الحد قد وجب بشروطه، فلا يسقط بزوالها بعد ثبوته. الراجح: يتبين من ذلك رجحان ما ذهب إليه الجمهور لما ذكروه، وما حدث من زوال الإحصان مبرر قوي لسقوط الحد، وقد ورد إن الحدود تدرأ بالشبهات. 5 - رجوع الشهود أو بعضهم عن الشهادة وذلك باتفاق الفقهاء؛ لأن رجوعهم شبهة والحدود تدرأ بالشبهات. قذف المحدود في الزنا: إذا أقيم الحد في الزنا على أحد فإنه لا حد على قاذفه لأنه غير محصن فكان صادقًا فيما قذف فيه.

قذف الملاعنة

ولكن يتم تعزير القاذف؛ لأنه آذى مسلمًا لا يجوز إيذاؤه، كما أن السب والقذف من الصفات التي ينهي عنها الإسلام لما يترتب عليها من عداوة وضغينة بين أفراد المجتمع (¬1). قذف الملاعنة: يرى الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة أن من قذف الملاعنة فإنه يحد لما روى ابن عباس -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في الملاعنة: "أن لا تُرْمَى، ولا يُرمَى ولدها، ومن رماها أو رَمَى ولدَها فعليه الحد" (¬2)، وهو قول ابن عمر وابن عباس والحسن وغيرهم، ولأن حصانتها لم تسقط باللعان ولذلك لم يلزمها به حد (¬3). حق الورثة في المطالبة بحد القذف: 1 - ذهب الحنفية إلى أن من يقع القدح في نسبه بقذفه، له حق المطالبة بحد القذف إذا كان المقذوف محصنًا، وهو الوالد وإن علا والولد وإن سفل؛ لأن العار يلتحق بهما، أما غيرهم فلا يحق له ذلك فلا ينتقل بطريق الإرث. 2 - وذهب المالكية إلى أن للوارث حق المطالبة بحق مورثه المقذوف حيًا كان أو ميتًا؛ لأن المعرة تلحق الجميع. 3 - وذهب الشافعية إلى أن حق المطالبة ينتقل إلى الوارث، وهو حق لجميع الورثة؛ لأنه موروث وهو الأصح عندهم. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (4/ 50)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 387)، والإقناع للشربيني الخطيب (4/ 209)، والمغني لابن قدامة (12/ 298). (¬2) رواه أبو داود في سننه من باب اللعان [1/ 685 (2256)]. (¬3) فتح القدير للكمال بن الهمام (5/ 104)، وحاشية الدسوقي (4/ 327)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1490)، والمغني لابن قدامة (12/ 401).

قذف الواحد لجماعة

4 - وذهب الحنابلة إلى أن المطالبة بعد الموت للابن فقط، إذا كان حرًا مسلمًا لأنه قدح في نسبه، وذلك حق له لكن ليس عن طريق الإرث ولذلك اعتبرت الحصانة فيه (¬1). قذف الواحد لجماعة: لا يخلو ذلك إما أن يكون القذف بكلمة واحدة أو بكلمات: الحالة الأولى: إذا قذفهم بكلمة واحدة: كقوله: (أنتم زناه). 1 - يرى الحنفية والمالكية والشافعيّ في قوله القديم وأحمدُ في رواية أن رمي القاذف لجماعة بالزنا بكلمة واحدة يترتب عليه إقامة حد واحد، لأنه قذف واحد فلم يجب فيه إلا حد واحد. 2 - ويرى الشافعي في قوله الجديد وأحمدُ في رواية أخرى له أنه يجب على القاذف حد لكل واحد منهم، وذلك أنه قذف كل واحد منهم فلزمه له حد كامل كما لو قذفهم بكلمات. الحالة الثانية: إذا قذفهم بكلمات لكل واحد منهم كلمة: 1 - يرى الحنفية والمالكية في الأصح عنهم أنه يترتب عليه حد واحد؛ لأن المقصود من إقامة الحد الزجر من فعله في المستقبل، وذلك حاصل في الحد الواحد. 2 - يرى الشافعي وأحمدُ في رواية أنه يجب على القاذف حد لكل واحد منهم وذلك؛ لأنها حقوق لآدميين فلم تتداخل كالديون والقصاص (¬2). ¬

_ (¬1) فتح القدير لابن الهمام (5/ 94)، وحاشية الدسوقي (4/ 331)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1484)، والمغني لابن قدامة (12/ 402). (¬2) شرح فتح القدير لابن الهمام (5/ 108)، وحاشية الدسوقي (4/ 327)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1494)، والمغني لابن قدامة (12/ 402).

الراجح: يتبين أن الأولى هو القول بأن عليه حدًا واحدًا في الحالين إذا كان قذفه في وقت ومجلس واحد لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (¬1)، ولم يفرق بين قذف واحد أو جماعة، ولأن الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة قذفوا امرأة كذلك فلم يحدهم عمر إلا حدًا واحدًا (¬2). ولأنه بإقامة الحد على القاذف عنهم يحصل الزجر وتزول المعرة لبيان كذبه في قذفه. ¬

_ (¬1) سورة النور: 4. (¬2) سبق تخريجه (ص: 99).

باب حد المسكر

باب حد المسكر تعريفه في اللغة: السُّكْرُ: مصدر سَكِرَ فلان من الشرب ونحوه، وهو نقيض الصحو، والسَّكَرُ كل ما يسكر من خمر وشراب، والمسكر: اسم فاعل من أسكر الشراب، والخمر ما خمر العقل وهو المسكر من الشراب، وسميت خمرًا؛ لأنها خامرت العقل وسترته (¬1). وفي الاصطلاح: المسكر: اسم لكل ما خامر العقل وغطاه من أي نوع من الأشربة. والخمر: هي كل ما اتخذ من العنب أو التمر أو الحنطة أو الشعير أو غيرها وأسكر كثيره أو قليله (¬2). الأصل في تحريم المسكرات: الأصل في ذلك الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (¬3). وأما السنة: فما رواه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" (¬4). ¬

_ (¬1) لسان العرب لابن منظور مادتي: سكر، وخمر. (¬2) توضيح الأحكام شرح بلوغ المرام لابن بسام (6/ 293)، وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية مادة: أشربة، وسكر. (¬3) سورة المائدة: 90 - 91. (¬4) أخرجه مسلمٌ (3/ 1588).

أنواع المسكرات

وما روته عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل شراب أسكر فهو حرام" (¬1)، وثبت تحريم الخمر بأخبار تبلغ بمجموعها رتبة التواتر. وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على تحريمه (¬2). قال في الإفصاح: "واتفقوا على أن الخمر حرام قليلها وكثيرها وفيها الحد" (¬3) أي الأئمة الأربعة. وأما المعقول: فإن الخمر هي أم الخبائث، لما يترتب عليها من مضار أخلاقية واجتماعية واقتصادية؛ فكان الإسلام وهو الذي يعتني بالمحافظة على الضروريات الخمس ومنها حفظ العقل قد حرم المسكرات لما تؤدي إليه من ذهاب العقل وضياع المرء في كافة شؤونه. أنواع المسكرات: 1 - الخمر: وتتخذ من خمسة أشياء: العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، وذلك لما روى البخاري ومسلمٌ أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خطب على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أما بعد، أيها الناس: إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء، من العنب والتمر والعسل والحنطة، والشعير، والخمر ما خامر العقل" (¬4). 2 - الأنبذة المختلفة: مثل نقيع الزبيب والذرة والتين وغيرها إذا أسكرت. 3 - المشروبات المعاصرة وغيرها: مثل الوسكي والجن والشمبانيا وغيرها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (10/ 41)، فتح الباري ط. السلفية، ومسلمٌ (3/ 1585). (¬2) المغني لابن قدامة (12/ 493)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1769). (¬3) الإفصاح لابن هبيرة (2/ 267). (¬4) البخاري (10/ 35) فتح الباري، ومسلمٌ (4/ 2322).

حكم تناول الأشربة المسكرة

حكم تناول الأشربة المسكرة: بيَّنا اتفاق العلماء على تحريم الخمر كثيرها وقليلها وإقامة الحد على شاربها. أما أنواع النبيذ الأخرى: فإليك بيان ذلك: 1 - يرى المالكية والشافعية والحنابلة ومحمَّد بن الحسن من الحنفية أنه لا فرق بين الخمر المتخذة من العنب وغيرها من أنواع النبيذ ويجب الحد بشرب القليل والكثير منها إذا كان الكثير منها يسكر لحديث: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" (¬1). 2 - ويرى أبو حنيفة أن الأنبذة المختلفة من غير العنب مثل نقيع التمر والحنطة والشعير وغيرها فإنه يحل شربها ولا يحرم إلا ما بلغ السكر منها، وذلك لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "حرمت الخمرة بعينها قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب" (¬2). الراجح: نرى أن ما ذهب إليه الجمهور هو الراجح للأدلة الصحيحة التي أوردوها وحسمًا لمادة الفساد، وحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- موقوف عليه مع أنه قد روى هو وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كل مسكر حرام". وقال ابن المنذر: جاء أهل الكوفة بأحاديث معلولة، وقال أحمد ليس في الرخصة في المسكر حديث صحيح (¬3)، وهو ما جاءت به الفتوى رقم (17386) من فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2/ 293)، والترمذيُّ، عارضه الأحوذي (8/ 58)، وصححه ابن حجر في الفتح (10/ 43)، طبعة السلفية. (¬2) أخرجه النسائي (8/ 321). (¬3) حاشية ابن عابدين (4/ 41)، وبداية المجتهد لابن رشد (2/ 444)، والإقناع للشربيني الخطيب (4/ 211)، والمغني لابن قدامة (12/ 495).

شرب العصير والنبيذ

شرب العصير والنبيذ (¬1): 1 - يرى جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية أن شربهما مباح ما لم يغل ويسكر وذلك لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اشربوا في كل وعاء، ولا تشربوا مسكرًا" (¬2)، ولأن علة تحريمه الشدة المطربة، وذلك يكون في المسكر خاصة. 2 - ويرى الحنابلة أنه يجوز شربهما ما لم يغليا أو يأتي عليها ثلاثة أيام، وذلك لما روى ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان ينبذ له الزبيب فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة ثم يأمر به فيسقى الخدم، أو يهراق" (¬3)، ولأن الشدة تحصل في الثلاث غالبًا وهي خفيَّة تحتاج إلى ضابط فجاز جعل الثلاث ضابطًا لها، وكره أحمد شربها بعد الثلاث إذا لم يغل، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يشربها بعد الثلاث. هل الخمر نجسة؟ يرى عامة الفقهاء أن الخمر نجسة لأن الله تعالى حرمها لعينها كالخنزير (¬4). شروط وجوب الحد: يشترط لوجوب الحد: 1 - التكليف: وذلك بأن يكون الشارب بالغًا عاقلًا فلا حد على الصبي والمجنون. ¬

_ (¬1) النبيذ: ما يلقى فيه تمر أو زبيب أو نحوهما ليحلو به الماء. (¬2) أخرجه أبو داود (2/ 298). (¬3) أخرجه مسلمٌ (3/ 1859). (¬4) المبسوط للسرخسي (24/ 23)، وحاشية الدسوقي (4/ 452)، وروضة الطالبين (ص: 1770)، والمغني لابن قدامة (12/ 514).

2 - الاختيار: وذلك بأن يكون الشارب مختارًا غير مكره، فإن أكره على شربها فلا حد عليه، لحديث: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬1). 3 - العلم بأن ما يشربه مسكر، فإن كان جاهلًا بأنها خمر، فإنه يعذر بجهله ولا يقام عليه الحد. 4 - الإسلام: وقد اختلف في اشتراط ذلك: أ- فيرى الحنفية والشافعية والحنابلة في قول لكل منهم عدم اشتراطه، وأن من شرب المسكر يقام عليه الحد ولو كان ذميًا أو مستأمنًا؛ لأن الخمر محرمة في جميع الأديان، ولأن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ولأن مضرة الخمر تتعدى إلى غيرهم من أبناء المجتمع، فيجب الزجر والردع عنها صيانة للمجتمع وحفظًا لأخلاقه وأمنه. ب- ويرى الحنفية وهو المذهب عندهم والمالكية والصحيح من مذهب الحنابلة والشافعية في المذهب أنه يشترط الإسلام لإقامة الحد على الشارب، فلا يقام الحد على الذمي والمستأمن؛ لأنهم لا يدينون بتحريم الخمر وقد أمرنا بتركهم وما يدينون. والصحيح: أن الحد يقام على من شرب المسكر مسلمًا كان أو غيره إذا جاهر غير المسلم بذلك؛ لأنه لم يرد أدلة تخص إقامة الحد بالمسلم، وغير المسلم يجب عليه احترام آداب الإسلام والالتزام بها (¬2). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص: 18). (¬2) حاشية ابن عابدين (4/ 40)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 390)، الإقناع للشربيني =

حكم المشروبات الأخرى (الوسكي والجن والشمبانيا وغيرها)

حكم المشروبات الأخرى (الوسكي والجن والشمبانيا وغيرها): ظهرت أنواع من المسكرات مختلفة المصادر متنوعة الأسماء مثل الوسكي والجن والشمبانيا وغيرها وذلك مصداق حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى: "ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ... " (¬1) الحديث. إن القاعدة الشرعية الواردة في الحديث الصحيح: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" (¬2). تقضي بحرمة جميع أنواع المسكرات مهما تنوعت أسماؤها وتعددت أشكالها. قال الأستاذ محمد رشيد رضا في تفسيره بعد تفسير آية الخمر في المائدة: قد ظهر في الناس من عهد بعيد مصداق ما ورد في الحديث من استحلال أناس لشرب الخمر بتسميتها بغير اسمها، وقد اخترع الناس بعد زمن التنزيل أنواعًا كثيرة من الخمور أشد من خمرة العنب ضررًا في الجسم والعقل باتفاق الأطباء وأشد إيقاعًا في العداوة والبغضاء، وصدًّا عن ذكر الله وعن الصلاة (¬3). ولهذا فإن جميع ما ينتج ويصنع من أنواع المسكرات من أي نوع كان وبأي اسم لقب هو حرام ما دام أنه يسكر الكثير منه وذلك تطبيقًا للأدلة الشرعية الواردة في الكتاب والسنة والتي بيناها سلفًا، وهو ما ورد في فتوى اللجنة الدائمة في السعودية رقم (17386). ¬

_ = (4/ 212)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1770)، والمبدع لابن مفلح (9/ 102). (¬1) الجامع الصغير للسيوطي (2/ 169)، قال السيوطي في الجامع الصغير: "رواه عن أبي مالك الأشعري ابن ماجه وابن حبان في صحيحه والطبرانيُّ في الكبير والبيهقيُّ في شعب الإيمان وقال حديث صحيح". (¬2) أخرجه مسلمٌ (3/ 1588)، وأبو داود (2/ 293). (¬3) الفقه على المذاهب الأربعة، عبد الرحمن الجزيري (5/ 43).

المخدرات

المخدرات: وهي مادة ذات مفعول مؤثر بشدة على جهاز الإنسان العصبي وتشمل المخدرات: الحشيش والأفيون والمورفين والهيروين وغيرها، وقد يؤدي تناول كميات كبيرة من المخدرات إلى الموت (¬1). وقد صدرت فتوى فضيلة مفتي الديار المصرية الشيخ عبد المجيد سليم (¬2): "بأنه لا يشك شاك ولا يرتاب مرتاب في أن تعاطي هذه المواد حرام؛ لأنها تؤدي إلى مضارٍ جسيمةٍ ومفاسد كثيرةٍ، فهي تفسد العقل وتفتك بالبدن إلى غير ذلك من المضار والمفاسد الخطيرة، ولأنه لما كان الكثير من هذه المواد يخامر العقل ويغطيه، ويحدث من الطرب واللذة عند متناولها ما يدعوهم إلى تعاطيها والمداومة عليها كانت داخلة فيما حرمه الله تعالى في كتابه العزيز وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الخمر والمسكر". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الحشيشة حرام يُحَدُّ متناولها كما يحد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من حيث إنها تفسد العقل والمزاج، وأنها تصدُّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وهي داخلة فيما حرمه الله ورسوله من الخمر والمسكر لفظًا ومعنى" (¬3). وكما يتناول التحريم جميع أنواع المخدرات التي حدثت ولم تكن معروفة من قبل سواء أكانت على هيئة حبوب أو مسحوق أو حقن أو غيرها لما فيها من أضرار صحية واجتماعية واقتصادية مثل الخمر بل تزيد عليه، والشريعة الإسلامية مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد والمضار، والمخدرات مفاسد ومضار يجب منعها ¬

_ (¬1) الموسوعة العربية العالية كلمة: المخدر، الطبعة الثانية. (¬2) مجلة الأزهر عام 1360 هـ عدد شعبان. (¬3) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (34/ 210).

وعقوبة متعاطيها كالخمر. كما أنه لا يجوز بيعها والاتجار بها ويكون ثمنها حرامًا؛ لأنه قد ورد في أحاديث كثيرة تحريم بيع الخمر، منها ما ورد عن جابر -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله حرم بيع الخمر، والميتة والخنزير والأصنام" (¬1). وإذا حرم الإسلام الانتفاع بشيء فإنه يحرُم بيعه وزراعته وصناعته وأكل ثمنه، فيتناول التحريم بيع هذه المخدرات لما يترتب على ترويجها من المفاسد والمضار بين أفراد الأمة من قتل للأنفس وضياع للأموال والأخلاق، والمخدرات تفتك بالأمة أكثر من فتك الأسلحة، فهي سلاح خطير يوجهه الأعداء للأمة بقصد إفساد عقولها وإضعاف شبابها وضياع مقدراتها حتى يستفيد الأعداء من ضعفها قوة لهم من كافة الوجوه، فعلى الأمة التعاون للتصدي لذلك بجميع الوسائل الإعلامية والتربوية وغيرها، حتى تكون أمة قوية عزيزة الجانب تسمو إلى معالي الأمور وتنأى عن سفاسفها. وقال الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي السعودية سابقًا: "المخدرات داء عضال، وشرها عظيم وعقوبتها وخيمة، والواجب التعاون في محاربة جميع المخدرات بالنصيحة والتوجيه الإِسلامي والتحذير بالقول والعمل" (¬2). وجاء في فتوى اللجنة الدائمة للفتوى في السعودية رقم (5001): المخدرات من الخبائث وقد حرم الله على عباده جميع الخبائث قال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (¬3)، ولما روى أبو داود عن أم سلمة -رضي الله عنها-، أن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (2/ 779)، رقم (2121)، ومسلمٌ (3/ 1207)، رقم (1581). (¬2) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، عبد العزيز بن باز (22/ 392). (¬3) سورة الأعراف: 157.

إثبات حد السكر

النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن كل مسكر ومفتر" (¬1). ومعلوم أن المخدرات من المفترات، ولما في المخدرات من الأضرار العظيمة وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" (¬2). وقد صدرت فتوى اللجنة الدائمة في السعودية بأن القات (¬3) محرم لا يجوز لمسلم أن يتعاطاه أكلًا وبيعًا وشراء وغيرها وذلك في الفتوى رقم (2159). الكولونيا: سائل مستحضر يستخدمه بعض الناس لتطييب الجسم (¬4)، وقد يشربه بعضهم وهو يحتوي على مادة مسكرة، فلذلك لا يجوز استعماله للتطيب ولا للشرب. وقد سئل عنه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- فأجاب: بوجوب ترك استعماله (¬5)، فإذا كان ذلك في التطييب به، فإن حرمته للشرب آكد ما دام يحتوي على مادة مسكرة. إثبات حد السكر: يثبت الحد بأحد أمور: 1 - البينة: وذلك بشهادة شاهدين رجلين عدلين مسلمين. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (4/ 90)، رقم (3686)، والإمام أحمد في المسند (6/ 309). (¬2) أخرجه مالك في الموطأ (2/ 745)، سنن ابن ماجه (2/ 784). (¬3) القات: نبات يزرع في بعض الأماكن يؤكل فينتج عنه الفتور والخدر. (¬4) الموسوعة العربية العالية (16/ 309)، الطبعة الثانية. (¬5) جاء في الفتاوى (1/ 258) لابن باز: "الطيب المعروف بالكولونيا لا يخلو من المادة المعروفة (السبرتو) وهي مادة مسكرة حسب إفادة الأطباء، فالواجب ترك استعماله والاعتياض عنه بالأطياب السليمة" طبع مؤسسة الدعوة الإِسلامية، الطبعة الأولى.

2 - الإقرار: ويكفي الإقرار مرة واحدة في قول عامة أهل العلم؛ لأنه حد لا يتضمن إتلافًا. وذلك هو قول الفقهاء الأربعة، ويضيف أبو حنيفة أنه يشترط مع الشهادة أو الإقرار وجود الرائحة، فإن لم توجد فإنه لا يحد لأنه خالص حق الله تعالى، والصحيح عدم اشتراط وجود الرائحة عند إثبات الحد بالشهادة أو الإقرار. 3 - وجود رائحة الخمر: يرى مالك وهو رواية عن أحمد أن وجود رائحة الخمر من الشارب يترتب عليه إقامة الحد عليه؛ لأن ابن مسعود -رضي الله عنه- "جلد رجلًا وجد فيه رائحة الخمر" (¬1). ويرى الجمهور من الحنفية والشافعية وهو رواية عن أحمد أنه لا يحد بوجود رائحة الخمر لاحتمال شربها مكرهًا أو مضطرًا والحدود تدرأ بالشبهات. 4 - وجود المرء سكران أو تقيأ الخمر: يرى الحنابلة في رواية إقامة الحد عليه، لأن ذلك لا يكون إلا بعد شربها فأشبه ما لو قامت البينة عليه بشربها، لما رواه هشيم عن المغيرة عن الشعبي قال: "لما كان من أمر قدامة ما كان، جاء علقمة الخصي، فقال: أشهد أني رأيته يتقيأها، فقال عمر: من قاءها فقد شربها، فضربه الحد" (¬2). وكذلك يقام عليه الحد من باب أولى إذا ثبت بالتحليل المخبري تعاطيه للمسكر. ويرى الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة في رواية أنه لا حد عليه لاحتمال أن يكون شربها مكرهًا أو لم يعلم أنها تسكر والحدود تدرأ بالشبهات (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (6/ 230)، ومسلمٌ (1/ 551). (¬2) أخرجه البيهقيُّ (8/ 316)، وابن أبي شيبة في المصنف (10/ 39). (¬3) حاشية ابن عابدين (4/ 43)، وقوانين الأحكام الشرعية (ص: 391)، والإقناع للشربيني الخطيب (4/ 215)، والمغني لابن قدامة (12/ 501).

مقدار حد المسكر

مقدار حد المسكر: اختلف الفقهاء في حد شارب المسكر: 1 - فذهب الشافعي وأحمدُ في رواية إلى أن الحد أربعون جلدة للحر ونصفها للرقيق لأن عليًا -رضي الله عنه- جلد الوليد بن عقبة أربعين، ثم قال: "جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي" (¬1). 2 - وذهب الحنفية والمالكية وهو رواية عن أحمد إلى أن الحد ثمانون جلدة لإجماع الصحابة فقد روى أن عمر -رضي الله عنه- "استشار الناس في حد الخمر لما كثر شربه، فقال عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-: اجعله كأخف الحدود ثمانين، فضرب عمر ثمانين وكتب به إلى خالد وأبي عبيد بالشام" (¬2). وروي أن عليًا قال في المشورة: "إنه إذا سكر هذي وإذا هذي افترى، فحدوه حد المفتري (¬3) " (¬4). وقد جاء في قرار مجلس هيئة كبار العلماء في السعودية رقم 53 وتاريخ 4/ 4 / 1397 هـ أن الحد ثمانون وذلك بأكثرية الأعضاء. الراجح: إن الثابت بالسنة أن الحد أربعون جلدة، وقد أجمع عليه المسلمون ويجوز للإمام عند الحاجة إذا أدمن الناس الخمر وكانوا لا يرتدعون بدونها الزيادة عليها إلى ثمانين. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ (3/ 1331). (¬2) أخرجه مسلمٌ (3/ 1330). (¬3) حاشية ابن عابدين (4/ 44)، وبداية المجتهد لابن رشد (2/ 444)، والإقناع للشربيني (4/ 212)، والمغني لابن قدامة (12/ 498). (¬4) أخرجه مالك في الموطأ (2/ 842)، والدارقطنيُّ (3/ 157).

ضابط السكر الذي يمنع صحة العبادات

وتحمل الزيادة على الأربعين من عمر -رضي الله عنه- على أنها تعزير يجوز فعلها إذا رأى الإمام فيها مصلحة (¬1). ضابط السكر الذي يمنع صحة العبادات: اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فيرى الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وصاحبا أبي حنيفة أن ضابط السكر الذي يمنع صحة العبادات ويوجب الفسق هو الذي يغلب على عقله ويجعله يخلط في كلامه. 2 - ويرى أبو حنيفة أن السكران هو من لا يعرف السماء من الأرض ولا الرجل من المرأة وذلك احتياطًا لمنع صحة العبادة وإقامة الحد. الراجح: ما قاله الجمهور لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (¬2). فقد دلَّت الآية على أنه إذا لم يعلم ما يقول فهو سكران، فالصحابة -رضي الله عنهم - قاموا إلى الصلاة عالمين بها وإنما اختلط عليهم بعض القراءة، كما أن المجنون يعرف السماء من الأرض والرجل من المرأة مع ذهاب عقله ورفع القلم عنه (¬3). شرب المسكر اضطرارًا: إذا شرب إنسان مسكرًا مضطرًا لدفع غصة فلا شيء عليه باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة، وذلك إنقاذًا للنفس من الهلاك. ¬

_ (¬1) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (34/ 299)، وانظر المغني لابن قدامة (12/ 499). (¬2) سورة النساء: 43. (¬3) حاشية ابن عابدين (4/ 44)، وجواهر الإكليل، صالح الأزهري (2/ 295)، والأحكام السلطانية للماوردي (ص: 229)، والمغني لابن قدامة (12/ 506).

شرب المسكر للتداوى

أما شربها لدفع العطش فقد اختلف في ذلك الفقهاء: 1 - فذهب الحنفية وهو قول للشافعية إلى جواز شربها لدفع العطش في حال الضرورة كما يباح للمضطر تناول الميتة والخنزير. 2 - وذهب المالكية وهو الأصح عند الشافعية إلى عدم جواز الشرب لعموم النهي. 3 - وذهب الحنابلة إلى أنها إن كانت الخمر ممزوجة بما يروي من العطش فإنها تباح للضرورة كما تباح الميتة عند المخمصة وكإباحتها لدفع الغصة وإن لم تكن ممزوجة فلا يباح الشرب لأنها لا تروى من العطش. شرب المسكر للتداوى: يتفق الفقهاء من الحنفية والمالكية وهو الأصح عند الشافعية والحنابلة على أنه لا يجوز شرب المسكر للتداوى (¬1). لما جاء أن طارق بن سويد -رضي الله عنهما- سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر يصنعها للدواء، فقال: "إنها ليست بدواء ولكنها داء" (¬2). وما جاء عن أم سلمة -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" (¬3)، والحديث صحيح وقد ورد عن عدد من الصحابة منهم ابن مسعود وأخرجه البخاريُّ تعليقًا ومنهم وائل بن حجر رواه أحمد ومسلمٌ وغيرهما وصححه ابن عبد البر (¬4). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (4/ 40)، وانظر المبسوط (24/ 9)، وحاشية الدسوقي (4/ 353)، ونهاية المحتاج (8/ 14)، والمغني لابن قدامة (12/ 500). (¬2) أخرجه مسلمٌ (3/ 1573) طبعة الحلبي. (¬3) أخرجه البيهقيُّ (10/ 5). (¬4) توضيح الأحكام لابن بسام (6/ 311).

والصحيح

ويرى الشافعية في وجه لهم أنه يجوز شرب المسكر للتداوي لأنها حال ضرورة فأبيحت كدفع غصة وسائر ما يضطر إليه. والصحيح: أنه لا يجوز التداوي بشرب المسكر للأحاديث الصحيحة التي ذكرها الجمهور، وقد ثبت في العلم الحديث أنه لا فائدة في التداوى بها بل تحدث أمراضًا واضطرابًا في الجسم يؤدي إلى أن يعتل الصحيح وذلك دلالة على الإعجاز العلمي فيما ورد في ذلك من الأحاديث الشريفة. كيفية إقامة الحد: 1 - يرى الحنفية والشافعية وهو رواية عن أحمد أن الرجل يضرب قائمًا، لأن قيامه وسيلة إلى إعطاء كل عضو حظه من الضرب ويتقي عند الضرب المقاتل: وهي الرأس والوجه والفرج، وذلك لقول علي -رضي الله عنه-: "لكل موضع من الجسد حظ يعني في الحد إلا الوجه والفرج، وقال للجلاد اضرب وأوجع واتق الرأس والوجه" (¬1). 2 - ويرى مالك وهو رواية عن أحمد أن الرجل يضرب جالسًا، لأن الله تعالى لم يأمر بالقيام ولأنه مجلود في حد فأشبه المرأة. وتضرب المرأة جالسة باتفاق الفقهاء الأربعة لأنه أستر لها. ويكون الضرب وسطا لا شديدًا فيقتل ولا ضعيفًا فلا يردع، ويكون بسوط متوسط، لأن القصد الردع والزجر لا القتل (¬2). ¬

_ (¬1) أخرج نحوهما البيهقي في سننه الكبرى (8/ 327). (¬2) شرح فتح القدير لابن الهمام (5/ 84)، وحاشية الدسوقي (4/ 354)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 677)، والمغني لابن قدامة (12/ 507).

باب حد السرقة

باب حد السرقة التعريف: السرقة في اللغة: يقال سرق يسرق سرقا فهو سارق، والسرقة أخذ الشيء من الغير خفية (¬1). وفي الاصطلاح: هي أخذ مالٍ محترمٍ لغيره من حرز مثله على وجه الاختفاء (¬2). الأصل في حكم السرقة: الأصل في حرمة السرقة وثبوت القطع فيها الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬3). وأما السنة: فما روت عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا" (¬4). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما هلك من كان قبلكم، بأنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه" (¬5). وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على وجوب قطع السارق في الجملة (¬6). ¬

_ (¬1) لسان العرب لابن منظور مادة: سرق. (¬2) كشاف القناع للبهوتي (6/ 129). (¬3) سورة المائدة: 38. (¬4) أخرجه البخاريُّ (8/ 199)، ومسلمٌ (3/ 1312). (¬5) أخرجه البخاريُّ (5/ 195)، ومسلمٌ (3/ 1315). (¬6) الإفصاح لابن هبيرة (2/ 250)، والمغني لابن قدامة (12/ 415)، والإجماع لابن المنذر (ص: 157).

أركان السرقة

وأما المعقول: فإن حكم القطع في السرقة فيه حفظ للمال، وهو من الضروريات التي جاء الإسلام بحفظها، وفي قطع يد السارق ردع له وزجر لغيره من الإقدام على مثل فعله، وبهذا تحفظ الأموال وتصان ولهذا فإنه عند تطبيق القطع في السرقة يستتب الأمن ويطمئن الناس في حياتهم كما هو في بعض البلاد، وفي عدم تطبيق ذلك انتشار للفوضى وسرقة الأموال، مما يؤدي أحيانًا إلى قتل الأنفس عند شعور السارق بالخطر، ولذلك ينتشر في البلاد التي لا تطبق الأحكام الشرعية بما فيها حكم القطع في السرقة القتل وسرقة الأموال وانتهاك الأعراض مهما كانت قوتها وإمكاناتها. أركان السرقة: للسرقة أركان أربعة: السارق والمسروق منه، والمال المسروق، والأخذ خفية، ولكل ركن منها شروط. شروط السارق: يشترط في السارق كي ينفذ فيه حد القطع شروط: 1 - التكليف: بأن يكون بالغًا عاقلًا مختارًا غير مكره، فلا حد على صغير ومجنون ولا حد على المكره؛ لأنه غير قاصد للسرقة، والحدود تدرأ بالشبهات. 2 - ألا يكون للسارق شبهة في الشيء المسروق، ولهذا لا يقطع الأصل والفرع في سرقته من مال فرعه أو أصله لشبهة الملكية والنفقة في ذلك، وكذلك الزوجان لا يقام الحد على أحدهما في سرقته من مال الآخر للانبساط بينهما في الأموال عادة، ولاختلال شرط الحرز. 3 - عدم الاضطرار أو الحاجة: فالضرورة تبيح للإنسان أن يأخذ من مال

شروط المسروق منه

الغير بقدر ما يكفيه ليدفع عن نفسه الهلاك لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (¬1). وعند الحاجة والضيق في الطعام وحصول المجاعة فإنه لا قطع كما حدث عام المجاعة حيث لم يقطع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وقال: "لا قطع في عام سنة" (¬2). قال ابن القيم: "وهذه شبهة قوية تدرأ الحد عن المحتاج" (¬3). شروط المسروق منه: 1 - أن يكون المسروق منه معلومًا، وإلى ذلك ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة؛ لأنه لا بد من دعوى ولا تتحقق الدعوى مع الجهالة، ولأنه يحتمل أن المالك قد أباحه له أو وقفه على جماعة المسلمين، وحيث يمكن وجود شبهة فإن الحد يدرأ، ويحبس السارق حتى يحضر من يدعى المال المسروق. وذهب المالكية إلى إقامة الحد على السارق إذا ثبتت السرقة، ولا فرق بين كون المسروق منه معلومًا أو مجهولًا لعموم الآية، ولأن إقامة الحد لا تتوقف على دعوى المسروق منه (¬4). 2 - أن تكون يد المسروق منه يدًا صحيحة على المسروق بأن يكون مالكًا له أو مستعيرًا أو مرتهنًا ونحو ذلك، أما إذا كانت يد المسروق منه يدًا غير صحيحة كما لو سرق السارق من سارق آخر أو من غاصب فقد اختلف الفقهاء في ذلك: ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 173. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10/ 242). (¬3) إعلام الموقعين لابن القيم (3/ 23). (¬4) شرح فتح القدير لابن الهمام (5/ 158)، والمدونة للإمام مالك (6/ 296)، والإقناع للشربيني (4/ 226)، وكشاف القناع للبهوتي (6/ 146).

شروط المسروق (المال)

أ- فيرى الحنفية عدم القطع في حال سرقة السارق من سارق آخر، لأن يد السارق ليست بيد صحيحة، أما السرقة من الغاصب فيقطع فيها السارق لأن المغصوب مضمون على الغاصب فأشبهت يد المشتري. ب- وذهب المالكية وهو قول مرجوح عند الشافعية إلى أن السارق يقطع في الحالين لأنه سرق مالًا محرزًا لا شبهة له فيه. جـ- وذهب الحنابلة وهو الأصح عند الشافعية إلى عدم إقامة حد القطع على السارق من السارق ومن الغاصب، لأنه لم يسرق من مال له ولا نائبه، فليست اليد في الحالين يدًا صحيحة (¬1). 3 - أن يكون المسروق منه معصوم المال بأن يكون مسلمًا أو ذميًا، ولا يقطع فيما عداهما، فلا يقطع بسرقة مال المستأمن لوجود شبهة الإباحة عند بعض الفقهاء، باعتبار أنه من دار الحرب ويقطع عند بعضهم، ولا يقطع بسرقة مال الحربي لأنه هدر (¬2). شروط المسروق (المال): 1 - أن يكون المسروق مالًا محترمًا يجوز بيعه: فلا قطع على من سرق الخمر والخنزير، لأن الله حرم ملكيتهما والانتفاع بهما، وكذلك لا قطع على سارق آلات اللهو، ولا قطع في سرقة مال الحربي لأنها ليست مالًا محترمًا (¬3). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكساني (9/ 4258)، والمدونة للإمام مالك (6/ 269)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1755)، وكشاف القناع للبهوتي (6/ 144). (¬2) حاشية بن عابدين (4/ 89)، والمدونة للإمام مالك (6/ 270)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1758)، وكشاف القناع للبهوتي (6/ 142). (¬3) حاشية ابن عابدين (4/ 90)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزى (ص: 389)، وروضة الطالبين (ص: 1745)، والمغني لابن قدامة (12/ 418).

2 - أن يكون المسروق نصابًا: وقد اتفق الفقهاء الأربعة على عدم القطع إلا إذا بلغ نصابًا. ولكنهم اختلفوا في تحديد مقدار النصاب: أ- فذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن النصاب الذي تقطع فيه يد السارق ربع دينار من الذهب، والدينار: هو المثقال من الذهب وزنه 4 غرامات وربع من الذهب الصافي، أو ثلاثة دراهم من الفضة، والدرهم: وزنه من الفضة 2. 975 غرامًا (¬1). أو ما يساوي قيمته أحدهما وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا" (¬2). ب- وذهب الحنفية إلى أن النصاب الموجب للقطع عشرة دراهم أو ما قيمته كذلك ولا يقطع في أقل منها، وذلك لحديث: "لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم" (¬3). ورجح الحنفية ذلك على الأخذ بغيرها لأنها أحوط احتيالًا لدرء الحد. جـ- وذهب الظاهرية إلى أنه تقطع اليد في القليل والكثير لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬4). الراجح: هو قول الجمهور لصحة الأحاديث التي احتجوا بها وأما استدلال الظاهرية بالآية فيجاب عنه بأنها مطلقة والحديث بيان لها. ¬

_ (¬1) توضيح الأحكام لابن بسام (6/ 264)، ويرجح د. عبد الله الطيار أن المثقال 3. 50 غرامًا وأن الدرهم 2. 30 غرامًا. (¬2) أخرجه البخاريُّ (6790)، ومسلمٌ (4376). (¬3) أخرجه عبد الرزاق (11/ 233)، وهو موقوف على ابن مسعود وفيه انقطاع، نصب الراية للزيلعي (3/ 360) ط. المجلس العلمي. (¬4) سورة المائدة: 5.

3 - أن يكون المسروق مخرجًا من حرز: الحرز عند الفقهاء: هو الموضع الذي يحفظ فيه المال عادة ويختلف ذلك باختلاف الأموال والبلدان حسب العرف. وقد ذهب الفقهاء الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعيُّ وأحمدُ إلى أن الحرز شرط في السرقة، فإذا لم يكن حرز فلا قطع، لأن المال غير المحرز ضائع بتقصير صاحبه، واستدل لاعتبار الحرز بما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال سمعت رجلًا من مزينة يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحريسة (¬1) التي توجد في مراتعها، فقال: "ما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن" (¬2). كما جاء في حديث الصحيحين وورد في رواية أن ثمنه عشرة دراهم (¬3). ومن سرق شيئًا من غير حرز فلا قطع عليه، قال في الإفصاح (¬4): "وأجمعوا على أن الحرز معتبر في وجوب القطع". قال ابن المنذر: "وأجمعوا أن القطع إنما يجب على من سرق ما يجب فيه قطع من الحرز" (¬5). من سرق ثمرًا من رؤوس الشجر فلا قطع عليه عند الفقهاء، لحديث رافع بن خديج -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا قطع في ثمر ولا كثر" (¬6). ¬

_ (¬1) الحريسة: الشاة يدركها الليل قبل رجوعها إلى مأواها فتسرق من الجبل (المصباح المنير). (¬2) العطن: الحظيرة، والمجن: بكسر الميم هو الترس، وسمي مجنًا من الاجتنان وهو الاستتار لأن المجن يتقي به من ضرب السلاح في الحرب وقيمة المجن ثلاثة دراهم. (¬3) توضيح الأحكام لابن بسام (6/ 265). (¬4) الإفصاح (2/ 251). (¬5) الإجماع (ص: 157). (¬6) أخرجه أحمد (3/ 463)، وأبو داود (4388)، والترمذيُّ (1449)، وصححه، والكثر: هو جمار النخيل وهو شحمه الذي في وسطه.

شروط الأخذ في السرقة

قال في الإفصاح (¬1): "أجمعوا على أنه يسقط القطع على سارق الثمر المعلق على رؤوس النخل إذا لم يكن محرزًا". ويرى أحمد أن من سرق ثمرًا من رؤوس الشجر أنه يضمن عوضه مرتين، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الثمر المعلق، فقال: "من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة، فلا شيء عليه ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوية، ومن سرق منه شيئًا بعد أن يؤويه الجرين، فبلغ ثمن المجن، فعليه القطع" (¬2). ويرى جمهور الفقهاء أنه يضمنه بعوضه مرة واحدة فقط أما حديث عمرو بن شعيب فهو منسوخ عندهم (¬3). الراجح: هو تغريم السارق من الثمر أو الشجر مثلي ما سرق للحديث، قال أحمد لا أعلم شيئًا يدفعه فلا تجوز مخالفته ودعوى النسخ غير صحيحة، كما أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أغرم حاطب بن أبي بلتعة حين نحر غلمانه ناقة رجل من مزينة مثلي قيمتها" (¬4). شروط الأخذ في السرقة: يشترط لإقامة حد السرقة أن يؤخذ الشيء خفية واستتارًا، فلا قطع على المنتهب ولا على المختلس ولا على الخائن لحديث جابر -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

_ (¬1) الإفصاح (2/ 251). (¬2) أخرجه أبي داود (2/ 449)، وابن ماجة (2/ 865)، والجرين: هو الموضع الذي يجفف فيه التمر، ويصفى فيه الحب. (¬3) توضيح الأحكام لابن بسام (6/ 279)، والمغني لابن قدامة (12/ 438). (¬4) أخرجه البيهقيُّ (8/ 278)، وعبد الرزاق في مصنفه (10/ 238).

إثبات حد السرقة

"ليس على خائن ولا مختلس ولا منتهب قطع" (¬1). حيث أنه لم يتحقق منهم أخذ الشيء خفية. فالمنتهب: هو الذي يأخذ المال على وجه العلانية قهرًا وقوة. المختلس: هو الذي يستخفي في ابتداء الاختلاس حتى يأخذ الشيء من غير غلبة ويهرب مع معاينة المالك. الخائن: ضد الأمين، وهو الذي يخون ما جعل عليه أمينًا كأن يخون في وديعة أو نحوها فيدعي ضياع ما اؤتمن عليه أو تلفه وهو كاذب. قال في الإفصاح: "واتفقوا على أن المختلس والمنتهب والغاصب والخائن على عظم جنايتهم وآثامهم، فإنهم لا قطع على واحد منهم ". قال القاضي عياض: صان الله الأموال بإيجاب القطع للسارق ولم يجعل ذلك في غير السرقة كالاختلاس والانتهاب والغصب؛ لأنه قليل بالنسبة إلى السرقة، ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمر، وتسهل إقامة البينة عليه بخلاف السرقة، فإنه تندر إقامة البينة عليها، فعظم أمرها واشتدت عقوبتها أبلغ في الزجر عنها (¬2). إثبات حد السرقة: يثبت حد السرقة بأحد أمرين: 1 - الإقرار: تثبت السرقة بإقرار السارق إذا كان مكلفًا، واختلف الفقهاء في عدد مرات الإقرار: ¬

_ (¬1) رواه أحمد (3/ 380)، والترمذيُّ وصححه (4/ 144852)، وغيرهم. (¬2) المبسوط (9/ 160)، وبداية المجتهد لابن رشد (2/ 445)، والإقناع للشربيني (4/ 223).

أ- فذهب أبو حنيفة ومالك والشافعيُّ إلى أنه يكفي إقرار السارق مرة واحدة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "قطع سارق خميصة صفوان وسارق المجن"، ولم ينقل أنه أمره بتكرار الإقرار، ولأنه حق يثبت بالإقرار فلم يعتبر فيه التكرار. ب- وذهب أحمد وابن أبي ليلي وأبو يوسف إلى أنه يشترط الإقرار مرتين وذلك لما رواه أبو داود بإسناده عن أبي أمية المخزومي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بلص قد اعترف، فقال له: "ما إخالك سرقت "، قال: بلى فعاد عليه مرتين أو ثلاثًا فأمر به فقطع، ولو وجب القطع بأول مرة لما أخره، وقد روى ذلك عن علي -رضي الله عنه-. ويجب أن يذكر في إقراره وصف السرقة لكي يندفع احتمال عدم توافر شروط القطع، وألا يرجع عن إقراره حتى يقطع ولا بأس عند الفقهاء بتلقين السارق ليرجع عن إقراره. الراجح: نرى أن الراجح اشتراط أن يكون الاعتراف مرتين للحديث المذكرر، ولأن الإقرار يتضمن إتلافًا في حد فكان من شرطه التكرار كحد الزنا، ويفارق الاعتراف في السرقة حق الآدمي لأن حقه مبني على الشح أما حق الله فمبني على المسامحة. 2 - البينة: وذلك بأن يشهد على السارق رجلان مسلمان عدلان حران، قال ابن المنذر (¬1): "وأجمعوا على أن قطع السارق يجب إذا شهد عليه بالسرقة شاهدان عدلان مسلمان حران ووصفا ما يجب فيه القطع". ويشترط أن يصفا السرقة والحرز وجنس النصاب وقدره ليزول الاختلاف فيه، ويتم التأكد من صحة شهادتهما فإن اختلفا لم يقطع درءًا للحد بالشبهة (¬2). ¬

_ (¬1) الإجماع لابن النذر (ص: 159). (¬2) بدائع الصنائع للكاساني (9/ 4260)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 390)، ونهاية المحتاج للرملي (7/ 465)، والمغني لابن قدامة (12/ 463).

عقوبة السرقة

عقوبة السرقة: اتفق الفقهاء على أن عقوبة السارق أمران: أولًا: قطع يده: لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬1). وقد تواترت الأحاديث بإقامة النبي - صلى الله عليه وسلم - الحد على من سرق، وجرى عليه عمل الخلفاء الراشدين من بعده. محل القطع: اتفق الفقهاء على وجوب قطع اليد اليمنى بعد ثبوت جريمة السرقة لأول مرة أو إذا تكررت السرقة قبل القطع، وذلك من مفصل الكف وهو الكوع، لما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "قطع اليد اليمنى وكذلك خلفاؤه من بعده"، قال أبو عمر بن عبد البر (¬2): "وثبت بالسنة المجمع عليها أن الأيدي في ذلك أريد بها الكوع"، وفي قراءة عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "فاقطعوا أيمانهما" (¬3)، ولأن البطش باليمين أقوى فكانت البداية بها أردع، ولأنها آلة السرقة فناسب عقوبتها بذلك. وإذا سرق ثانيًا قطعت رجله اليسرى لما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في السارق: "إذا سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله" (¬4). "وتقطع الرجل من مفصل الكعب، وفعل ذلك عمر -رضي الله عنه-" (¬5). وتحسم يد السارق بعد قطعها بأي طريقة مناسبة لئلا يؤدي إلى وفاته. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 38. (¬2) الإجماع لابن عبد البر (ص: 289). (¬3) أخرجه البيهقيُّ السنن الكبرى (8/ 270). (¬4) أخرجه الدارقطني في كتاب الحدود (3/ 181). (¬5) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10/ 185).

حكم زراعة عضو قطع في حد أو قصاص

وينبغي أن يتخير الوقت الملائم للقطع لئلا يؤدي إلى الإضرار بالسارق لأن المقصود الزجر دون القتل، ويختلف الفقهاء في حال عودة السارق للسرقة ثالثة: 1 - فيرى الحنفية والحنابلة في رواية أنه لا قطع عليه بل يحبس ويضرب حتى تظهر توبته أو يموت، وقد نقل ذلك عن عمر وعلي -رضي الله عنهما-. 2 - ويرى المالكية والشافعية والحنابلة في الرواية الأخرى أنه إذا عاد للمرة الثالثة فإنه تقطع يده اليسرى فإن عاد بعدها فإنه تقطع رجله اليمنى فإن عاد حبس حتى تظهر توبته أو يموت لما روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا سرق السارق فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله، فإن عاد فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله" (¬1). 3 - وذهب الشافعي في القديم إلى أن السارق بعد قطع أطرافه الأربعة يقتل حدًا، وذلك لما روى جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أمر بقتل سارق في المرة الخامسة" (¬2). حكم زراعة عضو قطع في حد أو قصاص: حيث إن الطب قد تقدم بحيث يمكن إعادة العضو المنفصل عن الإنسان في حال الحوادث وغيرها، فما هو حكم إعادة عضو قطع في حد أو قصاص؟ إن هذه المسألة من النوازل المعاصرة وقد درست وصدر فيها فتوى اللجنة الدائمة في السعودية رقم (3339) بأنه لا يجوز للسارق استرداد يده المقطوعة، وصدر فيها قرار "المجمع الفقهي المنبثق من منظمة المؤتمر الإِسلامي رقم (58) ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني (3/ 181)، وضعف إسناده ابن حجر في التلخيص وأورد ما يقويه (4/ 68). (¬2) أخرجه الدراقطني (3/ 181)، وضعف ابن حجر إسناده، التلخيص (4/ 68).

ثانيا: رد المسروق

لعام 1410 هـ وقد جاء فيه: 1 - لا يجوز شرعًا إعادة العضو المقطوع تنفيذًا للحد لأن في بقاء أثر الحد تحقيقًا كاملًا للعقوبة المقررة شرعًا، ومنعًا للتهاون في استيفائها وتفاديًا لمصادمة حكم الشرع في الظاهر. 2 - بما أن القصاص قد شرع لإقامة العدل وإنصاف المجني عليه وصون حق الحياة للمجتمع، وتوفر الأمن والاستقرار، فإنه لا يجوز إعادة عضو استؤصل تنفيذًا للقصاص إلا في الحالات التالية: أ- أن يأذن المجني عليه بعد تنفيذ القصاص بإعادة العضو المقطوع. ب- أن يكون المجني عليه قد تمكن من إعادة العضو المقطوع منه. ج- يجوز إعادة العضو الذي استؤصل في حد أو قصاص بسبب خطأ في الحكم أو في التنفيذ. ثانيًا: رد المسروق: إذا كان المسروق قائمًا وجب رده باتفاق الفقهاء لما روى سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" (¬1). واختلف الفقهاء في حال تلف المسروق وقد قطع السارق فيه: 1 - فذهب الحنفية إلى أن السارق لا يغرمه لحديث عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 8)، وأبو داود (3561)، والترمذيُّ (1266) والحاكم (2/ 47)، قال الترمذيُّ: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ"، توضيح الأحكام لابن بسام (4/ 571). (¬2) رواه النسائي (8/ 92)، وقال أبو حاتم هو منكر، بلوغ المرام لابن حجر (1074).

جحد الوديعة والعارية

2 - وذهب المالكية إلى وجوب رد المسروق من السارق إذا كان موسرًا يوم القطع وعدم رده إن كان معسرًا ويكفي قطع يده. 3 - وذهب الشافعية والحنابلة إلى وجوب الضمان مطلقًا ويجب على السارق رد مثل المسروق أو قيمته سواء كان موسرًا أو معسرًا، فالقطع هو الحق العام، والضمان لحق العبد فإن كان موسرًا فيغرمه في ماله، وإن كان معسرًا فبذمته كبقية الديون والمتلفات (¬1). قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬2). جحد الوديعة والعارية: اتفق الفقهاء على أنه لا قطع على جاحد الوديعة، وإنما اختلفوا في جاحد العارية هل يقطع أم لا؟ 1 - فذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية وهو رواية عند الحنابلة، إلى أنه لا يقطع، لحديث: "لا قطع على خائن" (¬3). والقطع الذي جاء به القرآن والسنة إنما هو للسارق، وجاحد العارية ليس سارقًا حيث لم يسرق من حرز وإنما هو خائن. 2 - وذهب الحنابلة في رواية وغيرهم إلى أنه يقطع وذلك لما ورد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها" (¬4). وهذا مخصص لحديث: "لا قطع على خائن" (¬5). ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي (9/ 156)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 390)، ونهاية المحتاج للرملي (7/ 465)، وكشاف القناع للبهوتي (6/ 149). (¬2) سورة البقرة: 188. (¬3) سبق تخريجه (ص: 128). (¬4) أخرجه البخاريُّ (6788)، ومسلمٌ [3/ 1316 (1688)]. (¬5) شرح فتح القدير لابن الهمام (5/ 136)، وبداية المجتهد لابن رشد (2/ 446)، والإقناع للشربيني (4/ 223)، والمبدع لابن مفلح (9/ 115).

قطع الطرار أو النشال

الراجح: أنه لا قطع على جاحد العارية، والمرأة المخزومية إنما قطعت يدها لسرقتها لا لجحودها، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمَّد سرقت لقطعت يدها" (¬1). وإنما عرفتها عائشة -رضي الله عنها- بجحدها العارية لشهرتها بذلك (¬2). قطع الطرار أو النشال: هو الذي يسرق الناس في يقظتهم بشق الجيب بمهارة وخفة يد. وقد اختلف الفقهاء في قطع الطرار أو النشال: 1 - فيرى الجمهور من المالكية والشافعية وهو رواية عند الحنابلة وهو قول أبي يوسف من الحنفية أنه يقطع الطرار أو النشال. 2 - ويرى أبو حنيفة أنه إن كانت الدراهم مصرورة في داخل كمه فطرها فعليه القطع لإخراجه من الحرز. 3 - وفي رواية عند الحنابلة أنه لا يقطع الطرار لأنه لا يسمى سارقًا (¬3). الاشتراك في السرقة: إذا اشترك جماعة في سرقة شيء، وأخذ كل واحد منهم نصاب السرقة فإن الفقهاء يتفقون على وجوب قطع كل واحد منهم، أما إذا سرق الجميع ما قيمته ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (6788)، ومسلمٌ (1688). (¬2) شرح فتح القدير لابن الهمام (5/ 136)، وبداية المجتهد (2/ 446)، والإقناع للشربيني (4/ 223)، والمبدع لابن مفلح (9/ 115). (¬3) المبسوط للسرخسي (9/ 161)، وجواهر الإكليل (2/ 293)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1750)، والمبدع لابن مفلح (9/ 115).

سرقة الخمر والخنزير وآلات اللهو

نصاب واحد فقد اختلف فيه الفقهاء: 1 - فذهب الحنفية والشافعية إلى أنه لا قطع عليهم؛ لأن الجناية لم تكتمل بسرقة النصاب لكل واحد منهم. 2 - وذهب المالكية والحنابلة إلى أنهم يقطعون جميعًا لأنهم سرقوا جميعًا مقدار النصاب (¬1). سرقة الخمر والخنزير وآلات اللهو: لا يقطع سارق الخمر والخنزير والميتة وآلات اللهو؛ لأنها ليست مالًا محترمًا في نظر الشرع ولا يغرم قيمتها عند جمهور الفقهاء، وقال المالكية إن كانت الخمر والخنزير لذمي فإنه يغرمها لأنها مال مقوم عندهم وإن كانت لمسلم فلا يغرمها (¬2). سقوط القطع في السرقة: يسقط القطع بأحد أمور: 1 - العفو عن السارق: يسقط حد السرقة بالعفو عن السارق سواء كان بشفاعة أو تنازل من المسروق منه إذا كان الأمر لم يرفع إلى الحاكم، فإن رفع فإنه لا يجوز العفو فيه، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب" (¬3). ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لأسامة بن زيد حينما شفع في المخزومية التي سرقت: ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي (9/ 143)، وبداية المجتهد لابن رشد (2/ 448)، ونهاية المحتاج للرملي (7/ 458)، وكشاف القناع للبهوتي (6/ 133). (¬2) بدائع الصنائع للكاساني (9/ 4234)، وحاشية الدسوقي (4/ 336)، ونهاية المحتاج للرملي (7/ 442)، والمغني لابن قدامة (12/ 457). (¬3) أخرجه النسائي (8/ 70).

2 - رجوع السارق عن إقراره

"أتشفع في حد من حدود الله" (¬1). 2 - رجوع السارق عن إقراره: اتفق الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على أن رجوع السارق عن إقراره قبل القطع يسقط عنه الحد لأن ذلك شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات. 3 - التوبة: أ- يرى الشافعية في قول لهم والحنابلة في رواية أن التوبة تسقط الحد في السرقة لقوله تعالى بعد أن بين جزاء السارق والسارقة: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2). وهو يدل على أن التائب لا يقام عليه الحد، إذ لو أقيم عليه الحد بعد التوبة لما كان لذكرها فائدة. ب- ويرى الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية في أحد القولين والحنابلة في إحدى الروايتين أن التوبة لا تسقط حد السرقة لأن الآية لم تفرق في إقامة حد السرقة بين تائب وغيره حيث قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬3)، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام حد السرقة على عمرو بن سمرة حين أتاه تائبًا يطلب التطهير من سرقته جملًا، وقد جاء الكلام عن ذلك في الفتوى رقم (9000) من فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية وهذا هو الراجح إن شاء الله لما ذكره الجمهور ولأن الحد كفارة فلم يسقط بالتوبة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ الفتح (12/ 87)، ومسلمٌ (3/ 1315). (¬2) سورة المائدة: 39. (¬3) سورة المائدة: 38.

4 - تملك السارق المسروق قبل الحكم

4 - تملك السارق المسروق قبل الحكم: أ- يرى الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة أن القطع يسقط عن السارق إذا تملك السارق المسروق قبل الحكم به لأن المطالبة شرط للحكم بالقطع، وقد أصبح ملكه فليس هنالك مطالبة. ب- ويرى المالكية أن ذلك لا يسقط القطع لأن المطالبة ليست شرطًا عندهم وإنما وجود السرقة كاف لإقامة الحد دون مطالبة (¬1). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني (9/ 4278)، وحاشية الدسوقي (4/ 347)، ونهاية المحتاج (7/ 443)، والمغني لابن قدامة (12/ 466).

باب حد قطاع الطريق (المحاربين)

باب حد قطاع الطريق (المحاربين) التعريف لغة: الحرابة: من الحرب وهي نقيض السلم، يقال: حاربه محاربة وحرابًا، أو من الحرَب بفتح الراء: وهو السلب (¬1). واصطلاحًا: قطاع الطرق أو المحاربون هم: الذين يعرضون للناس بالسلاح فيغصبونهم المال مجاهرة (¬2). الأصل في تحريم الحرابة وقطع الطريق وجزائها: الأصل في ذلك الكتاب والسنة والإجماع. فأما الكتاب: فقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (¬3). قال ابن عباس نزلت في قطاع الطرق من المسلمين لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (¬4). وأما السنة: فما روى أنس -رضي الله عنه- قال: قدم رهط من عكل على النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا في الصفة، فاجتووا المدينة فقالوا: يا رسول الله أبغنا رسلًا، فقال: "ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بإبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" فأتوها فشربوا من ألبانها وأبوالها حتى صحوا وسمنوا وقتلوا الراعي واستاقوا الذود فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصريخ، فبعث الطلب في آثارهم، فما ترجل النهار حتى أتى بهم، فأمر بمسامير فأحميت فكحَّلهم ¬

_ (¬1) تاج العروس مادة: "حرب". (¬2) سورة المائدة: 33. (¬3) سورة المائدة: 33. (¬4) كشاف القناع للبهوتي (6/ 149).

شروط الحرابة (قطع الطريق)

وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم، ثم ألقوا في الحرة يستسقون، فما سقوا حتى ماتوا (¬1). وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على قتل من عرض للناس بالسلاح وأخاف السبيل وأفسد بالقتل والسلب (¬2). شروط الحرابة (قطع الطريق): يشترط لإقامة الحرابة شروط: 1 - التكليف: (البلوغ والعقل) اتفق الفقهاء على أن التكليف شرط في اعتبار الحرابة، واختلفوا في حد من اشترك مع الصبي والمجنون في قطع الطريق. أ- فذهب الأحناف إلى أن الحد يسقط عن الجميع لأنه إذا سقط عن البعض فإنه يسقط عن الجميع لأنها جناية واحدة وهم متضامنون في المسؤولية. ب- وذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن الحد إذا سقط عن الصغير والمجنون فإنه لا يسقط عن غيره من المكلفين بل يحدون حد قاطع الطريق (¬3). 2 - أن يكون مع المحاربين سلاح: أ- يشترط الحنفية والحنابلة أن يكون مع المحارب سلاح ولو كان حجارة أو عصى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ، الفتح (12/ 111). (¬2) الإجماع لابن عبد البر (ص: 292)، دار القاسم، الرياض. (¬3) بدائع الصنائع للكاساني (9/ 4283)، شرح الزرقاني (8/ 109)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1763)، والمغني لابن قدامة (486).

3 - يشترط الحنفية الذكورة في المحارب

ب- ولا يشترط المالكية والشافعية حمل السلاح بل يكفي عندهم القهر والغلبة وأخذ المال ولو باللكز والضرب (¬1). 3 - يشترط الحنفية الذكورة في المحارب: فلا تحد المرأة وإن وليت القتال وأخذ المال؛ لأن المحاربة والمغالبة لا تتحقق في النساء عادة لرقة قلوبهن وضعف بنيتهن فلا يكن من أهل الحرابة، ولا يحد من يشاركهن في القطع من الرجال. ويرى الجمهور عدم اشتراط المذكورة في المحاربة، فقد يكون للأنوثة من القوة والتدبير ما للرجل فيجري عليها ما يجري على الرجل من أحكام المحاربة (¬2)، وهذا هو الصحيح إن شاء الله لعموم الآية، ولأنها مكلفة يلزمها القصاص وسائر الحدود. 4 - البعد عن العمران: وذلك بأن يكونوا في الصحراء؛ لأن الواجب عليهم يسمى حد قطاع الطريق، وقطع الطريق إنما هو في الصحراء، أما داخل الأمصار فيمكن أن يغاثوا فتذهب شوكة المعتدين فلا يكون قاطعًا للطريق فلا يقام عليه الحد، وبهذا قال الحنفية وهو المذهب عند الحنابلة. وقال الجمهور من المالكية والشافعية وهو رواية عند الحنابلة أنه لا يشترط البعد عن العمران؛ لأن الآية عامة تتناول كل محارب، ولأن ذلك إذا وجد في العمران والأمصار أعظم خوفًا وأكثر ضررًا فكان بذلك أولى بحد الحرابة. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني (9/ 4283)، والمدونة للإمام مالك (6/ 303)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1764)، والمغني لابن قدامة (12/ 474). (¬2) بدائع الصنائع للكاساني (9/ 4284)، وروضة الطالبين (ص: 1764)، والمغني لابن قدامة (12/ 486).

5 - أن يأخذ قطاع الطريق المال جهرا

5 - أن يأخذ قطاع الطريق المال جهرًا: فإن كان أخذهم خفية فهم سراق وإن نهبوا وهربوا فهم منتهبون ولا قطع عليهم (¬1). 6 - أن يبلغ ما أخذه كل منهم النصاب الذي تقطع فيه السرقة: وهذا عند الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة وأما المالكية فيرون أنه يقطع المحارب مطلقًا ولو كان دون نصاب السرقة؛ لأنه محارب لله ورسوله، وساع في الأرض بالفساد فيدخل في عموم الآية (¬2). عقوبة الحرابة (قطع الطريق): اتفق الفقهاء على أن عقوبة المحارب حد من حدود الله لا يسقط ولا يقبل العفو عنها ما لم يتوبوا قبل القدرة عليهم وهي القتل أو الصلب أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض، واختلفوا هل عقوبات المحارب الواردة في الآية والمعطوفة بحرف "أو" على التخيير أم على التنويع؟ 1 - فذهب بعض الفقهاء إلى أن الحاكم مخير بين أي عقوبة من هذه العقوبات حسبما تقتضيه المصلحة، ويرى مالك أن قاطع الطريق إن قتل فلا بد من قتله، وله الخيار بين قتله بلا صلب أو بصلبه على خشبة ونحوها حيًا ثم يقتله قبل نزوله ... ، وأما إن أخذ المال ولم يقتل فالإمام مخير بين قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف، وأما إذا أخاف السيل فقط فالإمام مخير بين قتله أو صلبه أو قطعه أو ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني (9/ 4287)، وروضة الطالبين (ص 1764)، والمغني لابن قدامة (12/ 474). (¬2) بدائع الصنائع للكاساني (9/ 4586)، وحاشية الدسوقي (4/ 348)، والإقناع للشربيني (4/ 228)، والمغني (1/ 481).

الاشتراك في الحرابة (قطع الطريق)

نفيه فيما يرى فيه مصلحة للمجتمع، والتخيير الوارد في الآية هو مقتضى اللغة العربية، قال ابن عباس - صلى الله عليه وسلم -: ما كان في القرآن "أو" فصاحبه بالخيار. 2 - وذهب الجمهور من الشافعية والحنابلة وصاحبي أبي حنيفة إلى أن "أو" في الآية للتنويع وأن هذه العقوبات على ترتيب الجرائم وليست على التخيير، فمن قتل وأخذ المال فإنه يقتل ويصلب، ومن اقتصر على أخذ المال قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى ومن أخاف الطريق ولم يقتل ولم يأخذ مالًا فإنه ينفى من الأرض، قال ابن عباس: "من أخاف السيل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، وإن أخذ المال وقتل قطعت يده ورجله ثم صلب، فإذا قتل ولم يأخذ المال قتل، وإن هو لم يأخذ المال ولم يقتل نفي" (¬1). كما أن العقوبات تختلف باختلاف الإجرام وقطع الطريق جرائم متنوعة فتتنوع العقوبة وفقًا لتنوع الجريمة، ومما يدل على أنه لا يمكن الأخذ بظاهر التخيير إجماع الأمة على أن قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال لا يكون جزاؤهم النفي وحده وإنما القتل والصلب. الراجح: يترجح ما ذهب إليه الجمهور لما أوردوه من الأدلة، ولأن المعهود من القرآن الكريم البدأ بالأخف لما أريد به التخيير، والبدأ بالأغلظ فيما أريد به الترتيب ككفارة الظهار والقتل (¬2). الاشتراك في الحرابة (قطع الطريق): إذا اشترك جماعة في قطع الطريق بحيث باشر بعضهم القتل وأخذ بعضهم ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقيُّ في باب قطاع الطرق (8/ 283). (¬2) بدائع الصنائع للكاساني (9/ 4289)، وبداية المجتهد لابن رشد (2/ 455)، والإقناع للشربيني (4/ 227)، والمغني لابن قدامة (475).

بم تثبت الحرابة (قطع الطريق)

المال وكان بعضهم ردءًا ومساعدًا لهم بالمراقبة أو الحراسة أو غيرها، فإن جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة يرون أنه يقام عليهم الحد جميعًا؛ لأن المحاربة تحققت بعملهم جميعًا. ويرى الشافعية: أن الردء والمساعد يستحق التعزير؛ لأنه لم يرتكب المعصية التي يجب بها الحد (¬1). الراجح: أنه يجب الحد عليهم جميعًا؛ لأن المحاربة تحققت بعملهم جميعًا فلا يتمكن المباشر من فعله إلا بقوة المساعد له. بم تثبت الحرابة (قطع الطريق): تثبت جريمة الحرابة بأمور: 1 - الإقرار: فاعتراف قاطع الطريق على نفسه معتبر؛ لأنه غير متهم في حق نفسه. 2 - البينة: وذلك بشهادة رجلين مسلمين عدلين ولا بد من التفصيل في الشهادة من تعيين قاطع الطرق ومن قتله أو أخذ ماله، وتقبل شهادة الرفقة إذا شهدا لغيرهما عند الشافعي وعند مالك تقبل شهادة المسلوبين على من سلبهم وقطع عليهم الطريق (¬2). ¬

_ (¬1) روضة الطالبين للنووي (ص: 1765)، والمغني لابن قدامة (12/ 486)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 392). (¬2) بدائع الصنائع للكاساني (9/ 4288)، وبداية المجتهد لابن رشد (2/ 458)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1769)، والمغني لابن قدامة (12/ 492).

كيفية تنفيد العقوبة

كيفية تنفيد العقوبة: لجريمة قطع الطريق عقوبات مختلفة حسب الفعل الذي وقع منه، وتنفيذ ذلك على الوجه الآتي: 1 - القتل: يرى جمهور الفقهاء أن القاطع إذا قتل فقط فاستحق القتل بموجبه فإنه ينفذ فيه القتل ولا يشترط التكافؤ بين القاتل والمقتول فيقتل الحر بالعبد والمسلم بالذمي. ويرى الشافعية في الراجح عندهم وهو رواية عند الحنابلة أنه يشترط التكافؤ بين القاتل والمقتول فلا يقتل حر بعبد ولا مسلم بذمي لقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} (¬1)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقتل مسلم بكافر" (¬2). ويغرم المسلم دية الذمي والحر قيمة الرقيق (¬3). 2 - الصلب: يرى الحنفية والمالكية أنه يصلب حيًا ويقتل مصلوبًا؛ لأن ذلك أبلغ في الزجر، ومدة صلبه عند الحنفية ثلاثة أيام وعند المالكية تحدد مدة الصلب باجتهاد الإِمام. ويرى الشافعية والحنابلة أنه يصلب بعد القتل لأن الله تعالى قدم القتل على الصلب لفظًا فيقدم الفعل ومدة صلبه ثلاثة أيام. 3 - القطع: يقطع قاطع الطريق إذا أخذ المال ولم يقتل، ويكون ذلك بقطع يده اليمنى ورجله اليسرى وهذا هو معنى قوله تعالى: {مِنْ خِلَافٍ} (¬4)، وقطع ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 178. (¬2) أخرجه البخاريُّ برقم (111). (¬3) بدائع الصنائع للكاساني (9/ 4285)، وحاشية الدسوقي (4/ 350)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1766)، والمغنى لابن قدامة (12/ 477). (¬4) سورة المائدة: 33.

سقوط عقوبة الحرابة (قطع الطويق)

اليد اليمنى كقطع يد السارق، وقطع رجله اليسرى ليتحقق بذلك المخالفة، وذلك أرفق به من قطع رجله اليمنى لكي يستطيع المشي، فيبدأ بقطع يده اليمنى وتحسم ثم رجله اليسرى وتحسم؛ لأن الله تعالى بدأ بذكر الأيدي. 4 - النفي: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن عقوبة النفي تكون في حال إذا أخاف الطريق ولم يأخذ مالًا ولم يقتل نفسًا، ويرى الحنفية أن نفيه يكون بحبسه حتى تظهر توبته أو يموت؛ لأن نفيه إلى محل آخر فيه إيذاء لأهلها والمحبوس منفي من الأرض لأنه لا ينتفع بلذات الدنيا. ويرى المالكية أن المراد بالنفي إبعاده عن بلده إلى مسافة البعد ويسجن. ويرى الشافعية أن المراد بالنفي الحبس أو غيره كالتغريب في الزنى. ويرى الحنابلة أن النفي يكون بأن يشردوا ولا يتركوا يستقرون في بلد (¬1). سقوط عقوبة الحرابة (قطع الطويق): يسقط الحد عن الحاربين بالتوبة قبل القدرة عليهم فيما كان حقًا لله تعالى من وجوب القتل والصلب أو القطع أو النفي وذلك باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2). أما حقوق الآدميين فلا تسقط بالتوبة فيغرمون ما أخذه من المال ويقتص منهم إذا قتلوا ولا يسقط ذلك إلا بعفو صاحب الحق في مال أو قصاص (¬3). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (4/ 123)، وحاشية الدسوقي (4/ 349)، والإقناع للشربيني (4/ 228)، والمغني لابن قدامة (12/ 482). (¬2) سورة المائدة: 34. (¬3) شرح فتح القدير لابن الهمام (5/ 181)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 392)، والإقناع للشربيني (4/ 229)، والبدع لابن مفلح (9/ 151).

دفاع الإنسان عن نفسه وعن غيره (دفاع الصائل)

دفاع الإنسان عن نفسه وعن غيره (دفاع الصائل): الصيال: مصدر صال، إذا قدم بجراءة وقوة وهو الاستطالة والوثوب، ودفاع الصائل: دفع الإنسان الأذى عن نفسه أو حريمه أو ماله بالأخف فالأخف. الأصل في مشروعية دفع الصائل: قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (¬1)، وحديث سعيد بن زيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد" (¬2). حكم دفع الصائل: 1 - يرى الجمهور من الحنفية والمالكية في الأصح وفي قول عند الشافعية أنه يجب دفع الصائل على النفس وما دونها، وسواء كان الصائل كافرًا أو مسلمًا، وفي قول ثان للشافعية يجب إذا كان الصائل كافرًا فقط وهو رأي الحنابلة إذا كان الصيال في غير وقت الفتنة. واستدلوا بقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬3)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد" (¬4). ولأن المصول عليه قدر على إحياء نفسه فوجب عليه فعل ذلك. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 194. (¬2) أخرجه أحمد (1/ 190)، وأبو داود (4772). (¬3) سورة البقرة: 195. أخرجه الترمذيُّ (4/ 30)، رقم (1440) من حديث سعيد بن زيد -رضي الله عنه- وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ". (¬4) أخرجه أحمد (1/ 190)، وأبو داود (4772).

ضمان قتل الصائل

2 - ويرى الشافعية أنه إذا كان الصائل مسلمًا فلا يجب دفعه ويجوز له الاستسلام وهو رأي الحنابلة في وقت الفتنة واستدلوا بما روى سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كن كابن آدم" يعني هابيل (¬1). وقال حديثٌ حسنٌ، ولأن عثمان -رضي الله عنه- ترك القتال مع إمكانه، ومع علمه بأنهم يريدون نفسه، واشتهر ذلك في الصحابة -رضي الله عنهم فلم ينكر عليه أحد. ضمان قتل الصائل: إذا قتل المصول عليه الصائل دفاعًا عن نفسه ونحوها بعد محاولته دفعه بما يستطيع من وسائل فلم يمكن إلا قتله، فلا ضمان عليه بقصاص ولا دية ولا كفارة ولا قيمة ولا إثم عليه؛ لأنه مأمور بذلك لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخد مالي؟ قال: "فلا تعطه مالك"، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "قاتله"، قال أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد"، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: "هو في النار" (¬2). والقاتل إنما قتله لدفع شره ولو منع من ذلك لتسلط الناس بعضهم على بعض. الدفاع عن الغير: على المسلم أن يدافع عن نفس الإنسان المعصوم وعرضه إذا تعرض لاعتداء بالقتل أو أخذ المال أو هتك العرض لحديث: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" (¬3). ويشترط بعض الفقهاء أن يأمن المدافع على نفسه الهلاك، كما يشترط ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذيُّ (4/ 486)، ورقم (2194). (¬2) أخرجه مسلمٌ (1/ 342). (¬3) أخرجه البخاريُّ من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- (12/ 323)، فتح الباري لابن حجر.

بعضهم ألا يكون ذلك في فتنة، حرصًا على دماء المسلمين وما قد يدفع إليه الدفاع من عواقب كثرة القتل وضعف الأمن (¬1). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (5/ 351)، وحاشية الدسوقي (4/ 357)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1779)، والمبدع لابن مفلح (9/ 154).

باب قتال أهل البغي

باب قتال أهل البغي التعريف: البغي لغة: مصدر بغى يبغي أي ظلم واعتدى وبغى: سعى بالفساد (¬1). وسموا بذلك لمجاوزتهم الحد. واصطلاحًا: هم الخارجون من المسلمين عن طاعة الإِمام الحق بتأويل ولهم شوكة (¬2). أنواع البغي: 1 - البغي على الإِمام والخروج عليه سيأتي الكلام فيه. 2 - البغي باقتتال طائفتين من المسلمين كل منهما باغ، فيجب أن يمشي بينهما بالصلح، فإن لم يصطلحا وأقامتا على البغي فإنه يصار إلى مقاتلتهما جميعًا حتى يرجعا إلى الحق. 3 - البغي من أحدهما على الأخرى فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن ترجع فإن فعلت أصلح بينهما بالقسط والعدل (¬3). حكم البغي: البغي حرام والأصل في حرمته الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ¬

_ (¬1) لسان العرب لابن منظور مادة: "بغي". (¬2) حاشية ابن عابدين (4/ 282)، وانظر حاشية الدسوقي (4/ 298). (¬3) تفسير القرطبي (16/ 317).

شروط تحقق البغي

فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ} (¬1). فأوجب الله تعالى في هذه الآية على المؤمنين قتال الباغين إذا لم يقبلوا الصلح. وأما السنة: فما جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه" (¬2). وأما الإجماع: فقد أجمع الصحابة على قتال الباغي. ويرى العلماء أنه مع وجوب قتالهم فإنهم لا يكفرون بالبغي وأنه يسقط قتالهم إذا رجعوا ولا يحاسبون عما أتلفوه في قتالهم وهذا ما دلت عليه الآية (¬3). شروط تحقق البغي: يشترط لتحقق البغي: 1 - أن يكون الناس قد اجتمعوا على إمام وصاروا به آمنين، فيجب طاعته ويحرم الخروج عليه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬4). 2 - أن يكون الخروج عن الطاعة من جماعة قوية لها شوكة وقوة هذا عند الجمهور ويرى الشافعية أنه يشترط أن يكون لهم رئيس مطاع. 3 - أن يكون للخارجين تأويل سائغ يدعوهم إلى الخروج على حكم الحاكم أو يعتنقوا رأي الخوارج الذين يكفرون بالذنب ويستحلون دماء المسلمين ¬

_ (¬1) سورة الحجرات: 9. (¬2) أخرجه مسلمٌ (3/ 1480)، ورقم (1825). (¬3) المغني لابن قدامة (12/ 238)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1718)، وحاشية ابن عابدين (4/ 283). (¬4) سورة النساء: 59.

كيفية معاملة البغاة

وأموالهم إلا من خرج معهم. 4 - أن يكون خروجهم على وجه المغالبة وإظهار القوة (¬1). كيفية معاملة البغاة: على الإِمام أن يدعو البغاة الخارجين عليه إلى العودة إلى الجماعة والدخول في طاعته وأن يبعث إليهم من يسألهم عن سبب خروجهم ويبين لهم الصواب، وإن ذكروا مظالم أزالها أو شبهة كشفها، وإذا سألوا الإِمام مهلة فعليه إجابتهم ما لم يترتب عليه خطر على أهل العدل قال ابن المنذر: "وأجمعوا أن أهل البغي إذا سألوا الإِمام النظر في أمورهم، ورجا رجوعهم عما هم عليه إلى طريق أهل العدل فعليه أن يفعل" (¬2). فإن أصروا بعد ذلك قاتلهم حينئذ؛ لأن الله تعالى بدأ بالأمر بالصلح قبل القتال في قوله {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ} (¬3). وقد بعث علي بن أبي طالب عبد الله بن عباس -رضي الله عنهم- إلى الخوارج فوعظهم وذكرهم حتى رجع بعضهم (¬4). وذلك لأن المقصود كفهم ودفع شرهم لا قتلهم، لما في القتال من الضرر بالفريقين، ثم قاتل عليٌّ المصّرين منهم، وإذا قاتلهم أهل العدل فإن على من دعاهم الإِمام إلى مقاتلة البغاة الاستجابة، وذلك لحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (4/ 284)، وحاشية الدسوقي (4/ 298)، والإقناع للشربيني (4/ 235)، والمبدع لابن مفلح (9/ 159). (¬2) الإجماع لابن المنذر (ص: 179). (¬3) سورة الحجرات: 9. (¬4) أخرجه الإِمام أحمد في المسند (1/ 86)، البيهقي في السنن الكبرى (8/ 180).

ويتبع في قتال البغاة ما يأتي

قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أعطى إمامًا صفقة يده وثمرة قلبه فيلطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر" (¬1). ويتبع في قتال البغاة ما يأتي: 1 - مقاتلة من قاتل منهم. 2 - عدم قتل من أدبر منهم أو ألقى السلاح لأن القصد ردعهم لا قتلهم. 3 - ألا يجهز على جريحهم، ويرى الحنفية أنه إن كانت لهم فئة يرجعون إليها فتقوى شوكتهم فإنه يجوز الإجهاز على جريحهم واتباع موليهم وإلا فلا. 4 - ألا يقتل أسيرهم، ومن أسر يحبس حتى تنقضي الحرب ثم يرسل. 5 - ألا تغنم أموالهم ولا تسبى ذراريهم. 6 - ألا يقاتلوا بما يعم إتلافه كالقذائف والصواريخ وغيرها (¬2). إلا أن فعل ذلك البغاة فيرد عليهم بمثله. وذلك لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل تدري يا ابن أم عبد، كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال: "لا يجهز جريحها ولا يقتل أسيرها ولا يطلب هاربها، ولا يقسم فيئوها" (¬3). ضمان الإتلاف: لذلك حالتان: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ (3/ 1473)، رقم (1844). (¬2) شرح فتح القدير لابن الهمام (5/ 337)، قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 393)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1721)، والمبدع لابن مفلح (9/ 163). (¬3) رواه البزار والحاكم وصححه عن علي من طرق نحوه موقوفًا (2/ 155).

الأولى: أن يكون الإتلاف حال الحرب والقتال

الأولى: أن يكون الإتلاف حال الحرب والقتال: وبيان ذلك وفقًا للآتي: 1 - ما أتلفه أهل العدل: ما أتلف من الأنفس والأموال فإنه لا ضمان فيه لأنه فعل ما أمر به. 2 - ما أتلفه أهل البغي فقد اختلف فيه الفقهاء: أ- فيرى الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعيُّ في أحد قوليه والحنابلة أنه لا ضمان عليهم لما روى الزهري أنه قال: "كانت الفتنة العظمى بين الناس وفيهم البدريون، فأجمعوا على أن لا يقام حد على رجل ارتكب فرجا حرامًا بتأويل القرآن، ولا يغرم ما أتلفه بتأويل القرآن" (¬1). ولأنها طائفة ممتنعة بتأويل سائغ، فلم تضمن ما أتلفت على الأخرى، كأهل العدل، ولأن تضمينهم يقضي إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة فلا يشرع. ب- وذهب الشافعي في أحد قوليه إلى تضمينهم لقول أبي بكر -رضي الله عنه- لأهل الردة: "ترون قتلانا ولا نرى قتلاكم" (¬2). ولأنها نفوس وأموال معصومة أتلفت بغير حق فوجب ضمانها كالتي أتلفت في غير حال الحرب. الراجح: يتبين من ذلك أن الراجح هو عدم التضمين لما ذكره الجمهور من الأدلة، وأما قول أبي بكر -رضي الله عنه- فقد رجع عنه ولم يمضه، فإن عمر -رضي الله عنه- قال: قتلانا قتلوا في سبيل الله تعالى، فوافقه أبو بكر ورجع إلى قوله. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقيُّ (8/ 174). (¬2) أخرجه البيهقيُّ (8/ 183).

الثانية: أن يكون الإتلاف في غير الحرب والقتال

الثانية: أن يكون الإتلاف في غير الحرب والقتال: وبيان ذلك وفقًا للآتي: 1 - يرى الشافعية والحنابلة أن ما أتلفه أهل العدل وأهل البغي مضمون على كل منهم، ولذلك لما قتل الخوارج عبد الله بن حباب أرسل إليهم علي -رضي الله عنه-: "أقيدونا من عبد الله بن حباب" (¬1). 2 - ويرى الحنفية والمالكية أنه لا ضمان عليهم جميعًا لأن أهل العدل على حق والبغاة خرجوا بتأويل ثم إن المطالبة بالضمان قد يزيد الفتنة ويجعل البغاة يتمسكون بموقفهم. قتلى المعارك (أهل العدل والبغاة): أولًا: قتلى أهل العدل: من قتل من أهل العدل كان شهيدًا لأنه قتل في قتال أمر الله به حيث قال: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} (¬2). ولا يغسل ولا يصلى عليه أشبه بشهيد معركة الكفار وهذا هو قول بعض الفقهاء، وقال بعضهم هو شهيد ولكن يغسل ويصلى عليه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أمر بالصلاة على من قال: لا إله إلا الله" (¬3)، وهو ليس كقتيل الكفار إذ أن قتيل الكفار أعظم أجرًا. ¬

_ (¬1) أخرجه الدراقطني (3/ 131). (¬2) سورة الحجرات: 9. (¬3) أخرجه الدارقطني (2/ 56).

ثانيا: قتلى البغاة

ثانيًا: قتلى البغاة: من قتل من البغاة فإن جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة يرون أنهم يغسلون ويكفنون ويصلى عليهم لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا على من قال لا إله إلا الله" (¬1). ولأنهم مسلمون فيصلى عليهم. ويرى الحنفية أنه لا يصلى عليهم ولكن يغسلون ويكفنون ويدفنون لأن عليًا -رضي الله عنه- لم يصل على أهل حروراء (¬2). بيع السلاح لأهل الفتنة: 1 - ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى تحريم بيع السلاح للبغاة وأهل الفتنة، لأن في هذا سدًا لذريعة الإعانة على المعصية لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن بيع السلاح في الفتنة" (¬3). 2 - ويرى الحنفية أنه يكره بيع السلاح من أهل البغي لأنه إعانة لهم على المعصية (¬4). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في نفس الصفحة. (¬2) بدائع الصنائع للكاساني (9/ 4399)، وحاشية الدسوقي (4/ 300)، وروضة الطالبين (ص: 1721)، والمغني لابن قدامة (12/ 250). (¬3) أخرجه البيهقيُّ (5/ 327). (¬4) بدائع الصنائع للكاساني (9/ 4401)، ومواهب الجليل للخطاب (4/ 254)، والمغني لابن قدامة (6/ 319).

باب أحكام الردة

باب أحكام الردة التعريف: الردة في اللغة: الرجوع عن الشيء، وقد تطلق على الامتناع من أداء الحق كمانعي الزكاة (¬1). واصطلاحًا: الردة: هي كفر المسلم مختارًا بقول أو اعتقاد أو فعل (¬2). حكل الردة والأصل فيه: الردة أعظم أنواع الكفر وأغلظها حكمًا وتبطل جميع الأعمال التي عملها قبل كفره والأصل في عقاب الردة الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬3). وأما السنة: فما روى عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه" (¬4)، وحديث ابن مسعود -رضي الله عنه-: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق الجماعة" (¬5). ¬

_ (¬1) العجم الوسيط مادة: "ردة"، وانظر نهاية المحتاج للرملي (7/ 413). (¬2) كشاف القناع (6/ 167). (¬3) سورة البقرة: 217. (¬4) رواه البخاري (6922). (¬5) أخرجه البخاريُّ [6/ 2521 (6484)]، فتح الباري (12/ 201).

ما يوجب الردة

وأما الإجماع: فقد أجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتدين روى ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلى -رضي الله عنهم- ولم ينكر ذلك فكان إجماعًا (¬1). وأما المعقول: فإن الإِسلام نظام شامل وكامل للحياة والدخول فيه سعادة الدنيا والآخرة، ولا بد لكل نظام من سياج يحميه ويردع من يخرج عليه كما في كل الدول فإن من يخرج على نظامها يتهم بالخيانة العظمى، والخيانة جزاؤها الإعدام، ولذلك شرع الإِسلام عقوبة القتل للمرتد حماية لنظامه وكيانه ووقاية له مما يعتري غيره من التصدع وعدم الاستقرار. ما يوجب الردة: الردة تقع إما باعتقاد أو قول أو فعل. 1 - الردة بالاعتقاد: اتفق الفقهاء على أن من أشرك بالله أو جحده أو نفى صفة ثابتة من صفاته أو أثبت لله الولد، أو جحد شيئًا من القرآن، أو اعتقد كذب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو اعتقد أن حل شيء مجمع على تحريمه كالزنا وشرب الخمر أو أنكر أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة أو اعتقد أن العمل بالقوانين الوضعية أصلح وأفضل من الشريعة الإِسلامية فإنه يكفر ويكون مرتدًا عن الإِسلام. 2 - الردة بالأقوال: اتفق الفقهاء على أن من سب الله تعالى وكذلك من سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو سب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنه يكفر بأي شيء من ذلك ويكون مرتدًا سواء كان مازحًا أو جادًا أو مستهزئًا، وذلك لقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة (12/ 264).

3 - الردة بالأفعال

لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (¬1). 3 - الردة بالأفعال: اتفق الفقهاء على أن من سجد لصنم أو للشمس أو للقمر أو قام بأي فعل يدل على الاستخفاف بالقرآن أو أتى بفعل صريح في الاستهزاء بالإِسلام أو ترك الصلاة أو الزكاة أو الصوم أو الحج جاحدًا لها فإنه يكفر بذلك ويكون مرتدًا عن الإِسلام (¬2). شروط الردة: يشترط لاعتبار الردة شروط هي: 1 - التكليف: وذلك بأن يكون من تصدر عنه الردة مكلفًا (بالغًا عاقلًا) لأن البلوغ والعقل مناط التكليف، فلا تصح الردة من الصبي والمجنون لأنهما غير مكلفين وكذلك من زال عقله بإغماء أو نوم أو مرض أو شرب دواء يباح شربه لحديث: "رفع القلم عن ثلاث، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق" (¬3). قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المجنون إذا ارتد في حال جنونه أنه مسلم (¬4). ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 65 - 66. (¬2) حاشية ابن عابدين (4/ 240)، وجواهر الإكليل (2/ 277)، والإقناع (4/ 340)، والمبدع لابن مفلح (9/ 171). (¬3) أخرجه أبو داود (4/ 141)، ورقم (4403) والترمذيُّ (4/ 34)، ورقم (1423)، وقال: "حديثٌ حسنٌ". (¬4) المغني لابن قدامة (12/ 266)، وانظر الإجماع لابن المنذر (ص: 174).

ثبوت الردة

2 - الاختيار: وذلك بأن يكون من يصدر منه ما يوجب الردة، مختارًا طائعًا غير مكره، فإن كان مكرها لم يحكم بردته، ولا يخرج من الإِسلام ما دام أنه مطمئن بالإيمان، لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ} (¬1). ولما روى أن عمارًا -رضي الله عنه- أخذه المشركون، فضربوه حتى تكلم بما طلبوا منه، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -وهو يبكي فأخبره، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن عادوا فعد" (¬2). ثبوت الردة: تثبت الردة بأحد أمرين: 1 - الإقرار: وذلك بأن يقر بما يوجب الردة. 2 - شهادة رجلين عدلين: ويجب التفصيل في الشهادة على الردة بأن يبين وجه كفره لاختلاف العلماء فيما يوجبها. استتابة المرتد وكيفية توبته: اختلف الفقهاء في استتابة المرتد هل هي واجبه أم مستحبة؟ 1 - فذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يجب استتابة المرتد ثلاثًا وذلك لما جاء في الحديث أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإِسلام، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - "أن يعرض عليها الإِسلام، فإن رجعت وإلا قتلت" (¬3). ¬

_ (¬1) سورة النحل: 106. (¬2) أخرجه الحاكم (2/ 357)، بدائع الصنائع للكاساني (9/ 4382)، وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 394)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1728)، والمغني لابن قدامة (12/ 266، 292). (¬3) أخرجه الدارقطني (3/ 118)، طبعة دار المحاسن وضعفه ابن حجر إسناده في التلخيص (4/ 49).

عقوبة المرتد

2 - وذهب الحنفية وهو قول للشافعي ورواية عن أحمد أن استتابة المرتد مستحبة وذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه" (¬1)، ولم يذكر استتابة. الراجح: أن المرتد يستتاب لما ذكره الجمهور، ولما روى مالك في الموطأ: "عن عبد الرحمن بن محمَّد بن عبد الله القارئ، عن أبيه أنه قدم على عمر رجل من قبل أبي موسى فقال له عمر: هل كان من مغربة خير؟ قال: نعم رجل كفر بعد إسلامه، فقال ما فعلتم به؟ قال: قربناه، فضربنا عنقه، فقال عمر فهلا حبستموه ثلاثًا، فأطعمتموه كل يوم رغيفًا، واستتبتموه، لعله يتوب، أو يراجع أمر الله؟ اللَّهم أني لم أحضر، ولم أرض إذ بلغني" (¬2). ولو لم تجب استتابته لما برئ من فعلهم، ولأنه أمكن استصلاحه، فلم، يجز إتلافه قبل استصلاحه. كيفية توبته: تتحقق توبة المرتد بنطقه بالشهادتين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" (¬3)، وإذا كانت ردته بجحد شيء من ضروريات الدين فتوبته تكون بالشهادتين والإقرار بما أنكر وبذلك يسقط عنه حد القتل. عقوبة المرتد: اتفق الفقهاء على أن حد المرتد هو قتله بعد استتابته، كما جاءت بذلك فتوى اللجنة الدائمة في السعودية رقم (21166) وذلك للإمام أو نائبه، ويكون قتله بالسيف. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (6/ 180). (¬2) أخرجه مالك في الموطأ (10/ 165). (¬3) أخرجه البخاريُّ (3/ 33)، ومسلمٌ (1/ 156).

أثر الردة على المرتد

فإذا قتل فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين (¬1)، وقتله لحديث بن عباس -رضي الله عنهما-: "من بدل دينه فاقتلوه" (¬2). أما المرأة المرتدة فيرى جمهور الفقهاء، أنها كالرجل لعموم حديث: "من بدل دينه فاقتلوه"، ولما جاء في شأن أم مروان التي ارتدت فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - "أن يعرض عليها الإِسلام فإن تابت وإلا قتلت" (¬3). ويرى الحنفية أن المرتدة لا تقتل بل تحبس حتى تتوب أو تموت لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الكافرة التي لا تقاتل أو تحرض على القتال، فتقاس المرتدة عليها. الراجح: ما ذهب إليه الجمهور لما ذكروه من أدلة. أثر الردة على المرتد: 1 - أتر الردة على الزواج: إذا ارتد أحد الزوجين فإنه يفرق بينهما فإن تاب المرتد منهما قبل انقضاء العدة رجع إليه الآخر، وإن انقضت العدة قبل التوبة بانت منه الزوجة ويعتبر ذلك فسخًا لا طلاقًا وذلك عند الشافعية ورواية عند الحنابلة، ولا يصح عقد زواجه لأنه لا ملة له. ويرى المالكية أنه إذا ارتد أحد الزوجين المسلمين كان ذلك طلقة بائنة فإن رجع إلى الإِسلام لم ترجع له إلا بعقد جديد. ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (4/ 243، 365)، وبداية المجتهد لابن رشد (2/ 459)، والإقناع للشربيني (4/ 240)، وكشاف القناع للبهوتي (6/ 174). (¬2) أخرجه البخاريُّ (3017). (¬3) سبق تخريجه (ص: 67).

2 - أثر الردة في تصرفات المرتد

ويرى الحنفية وهو رواية عند الحنابلة أن ردة أحدهما تكون فسخًا عاجلًا، لأن الردة تنافي النكاح. 2 - أثر الردة في تصرفات المرتد: أ- يرى المالكية والحنابلة والشافعية في الأظهر وأبو حنيفة أن تصرفه موقوف على مآله قال ابن المنذر: "أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم"، فإن مات أو قتل زال ملكه وصار فيئًا، وإن عاد إلى الإِسلام عاد إليه ماله وجاز تصرفه، وذلك لأن ملكه تعلق به حق غيره مع بقاء ملكه فيه فكان تصرفه موقوفًا. ب- ويرى الشافعية في قول وأبو بكر من الحنابلة أن تصرفه باطل لأنه ملكه قد زال بردته. ج- ويرى الشافعية في قول آخر لهم وأبو يوسف ومحمَّد من الحنفية أن ملكه لا يزول بردته؛ لأن الملك كان ثابتًا له حالة الإِسلام والكفر لا ينافي الملك كالكافر الأصلي، وبناء عليه تكون تصرفاته جائزة كما تجوز من المسلم. 3 - أثر الردة على الإرث: اتفق الفقهاء على أن المرتد لا يرث أحدًا من أقاربه المسلمين لانقطاع الصلة بالردة، كما لا يرث كافرًا لأنه لا يقر على الدين الذي صار إليه، ثم اختلفوا في مال المرتد إذا قتل أو مات على الردة على أقوال: أ- يكون جميع ماله فيئًا لبيت المال وهذا قول المالكية والشافعية والحنابلة. ب- يكون ماله لورثته من المسلمين سواء اكتسب المال في الإِسلام أو ردته، وهذا قول أبي يوسف ومحمَّد من الحنفية. ج- يكون ما اكتسبه في حال إسلامه لورثته وما اكتسبه في حال ردته لبيت

إطلاق الكفر على المسلم

المال وهذا قول أبي حنيفة (¬1). إطلاق الكفر على المسلم: لا يجوز إطلاق الكفر على المسلم لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما" (¬2). وذكر النووي في شرحه لصحيح مسلم وجوهًا متعددة لتأويل الحديث: 1 - فإن كان أطلق لفظ الكفر على المسلم وهو يعتقد استحلال ذلك أو بطلان دين الإِسلام فإنه يكفر بذلك ويكون مرتدًا حده القتل إن لم يتب. 2 - إذا كان يقصد بالكفر كفر النعمة أو نحوه فلا يكفر ويكون عاصيًا يستحق التعزير عليه (¬3). كفر الساحر وردته: السحر هو عقد ورقي وكلام يتكلم به أو يكتبه، أو يعمل شيئًا يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له، ومن السحر ما يقتل ومنه ما يمرض وغير ذلك، وتعلم السحر وتعليمه وفعله حرام ليس في هذا خلاف بين أهل العلم. هل يعد الساحر كافرًا ومرتدًا؟ اختلف في ذلك الفقهاء: 1 - ذهب الحنفية والحنابلة في المذهب إلى أن الساحر يكفر بسحره سواء اعتقد تحريمه أو لا. ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي (5/ 48)، وانظر المبسوط (10/ 101، 104، 106)، وحاشية الدسوقي (2/ 270)، وانظر حاشية الدسوقي (4/ 306)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 173)، والمغني لابن قدامة (12/ 173، 174). (¬2) أخرجه مسلمٌ (1/ 79)، ورقم (111). (¬3) صحيح مسلم بشرح النووي (2/ 50)، وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية (22/ 186).

استتابة الساحر

2 - وذهب أحمد في رواية إلى أن الساحر لا يكفر. 3 - وذهب المالكية إلى تكفير الساحر إذا كان سحره مشتملًا على كفر. 4 - وذهب الشافعية إلى أنه إن اعتقد إباحة السحر أو وصفه بما هو كفر فهو كافر وإن وصفه بما ليس بكفر فليس بكافر. استتابة الساحر: 1 - ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة في رواية إلى أن الساحر لا يستتاب وهو ما نقل عن الصحابة فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه استتاب ساحرا. 2 - وذهب بعض العلماء وهو رواية عن أحمد إلى أن الساحر يستتاب، فإن تاب قبلت توبته لأنه ليس بأعظم من الشرك، وقد قبل الله توبة سحرة فرعون. حد الساحر وعقوبته بعد ثبوت سحره: 1 - حد الساحر القتل وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمدُ وذلك لحديث جندب بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "حد الساحر ضربه بالسيف" (¬1). وما جاء في كتاب عمر -رضي الله عنه- قبل موته بسنة: اقتلوا كل ساحر فقتلنا ثلاث سواحر في يوم، وهذا اشتهر فلم ينكر، فكان إجماعًا. 2 - لا يقتل الساحر بمجرد السحر وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق". ولم يصدر منه أحد الثلاثة، فوجب ألا يحل دمه وإنما يستتاب فإن تاب خلى سبيله وإلا فيحبس لعله يرجع. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذيُّ (4/ 60)، ورقم (1460)، عارضه الأحوذي (6/ 346).

حد الكاهن والعراف

الراجح: يتبين مما ذكره الجمهور أن الراجح هو القول بقتل الساحر لما أوردوه من الأدلة، ولكن يكون القتل بعد الاستتابة فإن تاب وإلا قتل. حد الكاهن والعراف: الكاهن: هو الذي يتخذ من الجن من يأتيه بالأخبار. وقيل هو من يتعاطى الخبر عن الكائنات في المستقبل ويدعي معرفة الأسرار. والعراف: هو الذي يتحدث بالحدس والظن مدعيًا أنه يعلم الغيب. وقال الخطابي: هو الذي يتعاطى معرفة مكان المسروق والضالة ونحوها. وتعلم الكهانة والعرافة وتعليمهما حرام. حد الكاهن والعراف وعقوبتهما: 1 - يرى الحنفية وهو رواية عن أحمد أن الكاهن والعراف يقتلان إذا لم يتوبا لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمَّد" (¬1). 2 - ويرى الإِمام أحمد في رواية أنهما يستتابان فإن تابا وإلا حبسا حتى يتوبا (¬2). وإنما كان حد الكاهن القتل لادعائه الغيب وهو مما استأثر الله به قال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا الله} (¬3). قال ابن المنذر: "والكل مذموم شرعًا محكوم عليهم وعلى مصدقهم بالكفر" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أصحاب السنن الأربعة وصححه الحاكم. (¬2) حاشية ابن عابدين (4/ 262)، والمغني لابن قدامة (12/ 305). (¬3) سورة النمل: 65. (¬4) حاشية ابن عابدين (4/ 262).

باب التعزير

باب التعزير التعريف: التعزير في اللغة: مصدر عزَّر، وهو الردُّ والمنع، والتعزير: ضرب دون الحد، وسُمِّيت العقوبة تعزير؛ لأن شأنها أن تمنع الجاني وترده عن معاودة الجرائم (¬1). وفي الاصطلاح: هو عقوبة غير مقدرة تجب حقًا لله أو لآدمي في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة (¬2). حكم التعزير والأصل فيه: التعزير مشروع في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة والأصل في ذلك السنة (¬3). ومنها ما ورد عن أبي برده الأنصاري -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى" (¬4). حيث جاء فيه مشروعية التأديب في غير الحدود المقدرة وهذا إثبات لمشروعية مبدأ التعزير. حكمة مشروعية التعزير: قرر الإِسلام العقوبات المحددة وهي: الزنا، والقذف، وشرب الخمر، والسرقة، وقطع الطريق، والمرتد، وبين مقدار جزائها، والمعاصي التي لم يقدر لها حدود هي أكثر مما قدر وحدد. ¬

_ (¬1) القاموس المحيط مادة: "عزر". (¬2) كشاف القناع (6/ 121). (¬3) فقه السنة للسيد سابق (2/ 590). (¬4) أخرجه البخاريُّ (6848)، ومسلمٌ (1708).

المعاصي التي يعاقب فيها بالتعزير

ولذلك شرع الإِسلام التأديب فيها ليكون ذلك رادعًا وزاجرًا للعصاة ومن تسول له نفسه الإساءة للأفراد والعبث بنظام المجتمع ومصالحه وأمنه. المعاصي التي يعاقب فيها بالتعزير: يتفق الفقهاء على أن ترك الواجب أو فعل المحرم معصية يستحق التعزير عليها إذا لم يكن فيها حد مقدر ويكون ترك الواجب في مثل منع الزكاة وترك قضاء الدين وغيرها. ويكون فعل المحرم في مثل سرقة ما لا قطع فيه لعدم توافر شروط النصاب أو الحرز والجرائم التي لا تكتمل شروط تنفيذ الحد فيها كالزنا والقذف وقطع الطريق والغش في الأسواق (¬1). وقد جاء في الفتوى رقم (6687) من فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية أن باشر امرأة فوق اللباس فعليه التعزير. ومن الجرائم التي يعاقب عليها بالتعزير: الرشوة: وهي تقديم شيء له قيمة كالمال والهدايا لمن في يده قضاء منفعة معينة للناس وفي مقابل ذلك يخل هذا الشخص بقيمه الإِسلامية والشرعية من أجل أن يستفيد الراشي (¬2). وهي جريمة محرمة في الإِسلام قال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (¬3)، وذلك أن اليهود أكالون السحت من الرشوة. ¬

_ (¬1) الموسوعة الفقهية الكويتية مادة: تعزير. (¬2) الموسوعة الفقهية الكويتية مادة: رشوة. (¬3) سورة المائدة: 42.

التزوير

وجاء في حديث أبي هريرة قال: "لعن الله الراشي والمرتشي والرائش (¬1) " (¬2). التزوير: والتزوير هو العبث بوثيقة مكتوبة بهدف الغش أو الاحتيال، وتتضمن أنواع التزوير: التوقيع تحت اسم شخص آخر إما على شيك أو على وصية أو عقد أو أوراق الهوية والشهادات العلمية وغيرها، وهي جريمة محرمة في الإِسلام لما يترتب عليها من إبطال حق وإثبات باطل وقد قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (¬3). الفرق بين الحد والتعزير: 1 - أن الحدود واجبة التنفيذ وأما التعزير فيرى أبو حنيفة ومالك وأحمدُ أنه يجب التنفيذ إن كان لحق لله تعالى إلا أن يغلب على ظن الإِمام أن غير الضرب أولى كالكلام واللوم ونحوها، ويرى الشافعي أنه غير واجب بل النظر للإمام إن شاء أقامه وإن شاء تركه حسب المصلحة وذلك لما ثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لم يعزر الأنصاري الذي قال له في حق الزبير، أن كان ابن عمتك، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يعزره على مقالته " (¬4). 2 - أن الحدود مقدرة وعلى القاضي تنفيذها كما جاءت بعد ثبوتها، أما التعزير فإن القاضي يختار من العقوبات الشرعية ما يناسب الحال، وذلك يختلف باختلاف الجنايات وأحوال الناس. ¬

_ (¬1) الراشي: هو دافع للرشوة، والمرتشي: هو طالبها أو الأخذ لها، والرائش: هو الوسيط والساعي بينهما. (¬2) أخرجه الترمذيُّ (3/ 663)، والحاكم (4/ 102)، وصححه. (¬3) سورة الحج: 30. (¬4) أخرجه البخاريُّ (3/ 145).

أنواع التعزير

3 - أن الحدود لا تسقط بالتوبة إلا الحرابة لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (¬1). أما التعزير فيسقط بالتوبة، قال في الفروق (¬2): "ما علمت في ذلك خلافا". 4 - أن الحدود تثبت بالبينة أو بالاعتراف بشروطها أما التعزير فيثبت بذلك وبغيره. 5 - أن من أقيم عليه الحد فمات من ذلك فدمه هدر، أما التعزير فقد اختلفوا فيه: فيرى الحنفية والمالكية والحنابلة أنه كالحد لا يجب ضمانه، ويرى الشافعية أن عليه الضمان لأن عمر -رضي الله عنه- "ضمن المرأة التي أجهضت جنينها حين أرسل إليها (¬3) " (¬4). أنواع التعزير: يجوز التعزير بعقوبات مختلفة يختار منها الحاكم في كل حالة ما يراه مناسبًا ومحققًا لأغراض التعزير وهذه العقوبات يمكن ذكرها بالآتي: أولًا: العقوبات البدنية ومنها: 1 - التعزير بالقتل: ويجيز الفقهاء التعزير ولكنهم يختلفون في الجريمة التي تستحق القتل فأجاز أبو حنيفة التعزير بالقتل فيما تكرر من الجرائم التي يجب في جنسها القتل، مثل القتل بالمثقل وقتل السارق سياسة إذا تكرر منه (¬5). ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 34. (¬2) الفروق للقرافي (4/ 177). (¬3) حاشية ابن عابدين (4/ 67)، والفروق للقرافي (4/ 177)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1772)، والمغني لابن قدامة (12/ 526). (¬4) أخرجه البيهقيُّ (6/ 123). (¬5) حاشية ابن عابدين (4/ 67).

2 - التعزير بالجلد

ويرى بعض الفقهاء أن من تلك الجرائم قتل الجاسوس وقتل المفرق لجماعة المسلمين، والداعي إلى غير كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وغير ذلك مما لا يندفع إلا بالقتل (¬1). 2 - التعزير بالجلد: وهو مشروع لحديث أبي بردة الأنصاري -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى" (¬2). وقد اختلف الفقهاء في مقدار الجلد في التعزير: أ- ذهب أحمد في المشهور من مذهبه والشافعيُّ في وجه عنده إلى أن المعاصي التي لم يقدر لها حد فإن عقوبة مرتكبها عشرة أسواط فما دون لمن كان قد فعل المعصية، ولا يزاد عن ذلك إلا ما ورد به نص كما روى النعمان بن بشير -رضي الله عنه- في "الذي وطئ جارية امرأته بإذنها أنه يجلد مائة" (¬3). ب- وذهب أبو حنيفة والشافعيُّ وهو رواية عن أحمد إلى أنه لا يبلغ بالتعزير بالجلد الحدود المقدرة فلا يزاد تعزير حر عن تسع وثلاثين جلدة، وذلك أن أقل الحدود أربعون جلدة للعبد في القذف والشرب. ج- وذهب مالك إلى أنه يجوز للإمام أن يزيد عن الحد في التعزير مع مراعاة المصلحة التي لا يشوبها الهوى. الراجح: نرى أن التعزير يكون بحسب المصلحة وعلى قدر الجريمة وما يراه الحاكم زاجرًا ورادعًا لمن ارتكب الجريمة، وهو ما ذهب إليه مالك وأبو ثور وهو ¬

_ (¬1) السياسة الشرعية لابن تيمية (ص: 99)، والملخص الفقهي، صالح الفوزان (2/ 547). (¬2) أخرجه البخاريُّ [6/ 2512 (6458)]، ومسلمٌ [3/ 1332 (1708)]. (¬3) أخرجه أبو داود (2/ 467)، والترمذيُّ (6/ 232)، عارضه الأحوذي.

3 - التعزير بالحبس

اختيار ابن تيمية وابن القيم (¬1)، غير أنهما يريان ألا يبلغ التعزير فيما فيه حد مقدر ذلك المقدر. وأما الحديث: "ألا يجلد فوق عشرة أسواط"، فيحمل على أن المقصود به التأديب فيما لا يتعلق بمعصية كتأديب الولد ونحوه (¬2). 3 - التعزير بالحبس: وهو مشروع بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ في الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلًا} (¬3). وأما السنة: فما رواه بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "حبس في التهمة" (¬4). وأما الإجماع: فقد سجن عمر -رضي الله عنه- الحطيئة على هجائه وسجن علي -رضي الله عنه- بالكوفة ولم يخالفهم أحد فكان إجماعًا. ويرجع تقدير مدة الحبس للحاكم حسب الجريمة وحال المجرم. 4 - التعزير بالنفي والتغريب: وهو مشروع بالكتاب والسنة والإجماع. ¬

_ (¬1) الحسبة في الإِسلام (ص: 39)، والسياسة الشرعية (ص: 54). (¬2) حاشية ابن عابدين (4/ 65)، وتبصرة الحاكم لابن فرحون (2/ 204)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1772)، والمغني لابن قدامة (12/ 524). (¬3) سورة النساء: 15. (¬4) أخرجه أبو داود (3630)، والترمذيُّ (1421).

ثانيا: التعزير بالمال

أما الكتاب: فقوله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (¬1). وأما السنة: فما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى برجل قد خضب يديه ورجليه بالحناء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما بال هذا؟ " فقيل: يا رسول الله، يتشبه بالنساء فأمر به فنفي إلى النقيع (¬2). وأما الإجماع: فإن عمر -رضي الله عنه- نفى نصر بن حجاج لافتتان النساء به، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فكان إجماعًا (¬3). ثانيًا: التعزير بالمال: اختلف الفقهاء في التعزير بالمال: 1 - يرى جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية في الجديد والحنابلة أنه لا يجوز التعزير بالمال لأنه لم يرد الشرع بذلك. 2 - ويرى المالكية والشافعية في القديم وأبو يوسف من الحنفية أنه يجوز التعزير بالمال إذا رؤيت فيه مصلحة (¬4). الراجح: أنه يجوز التعزير بالمال أخذًا وإتلافا وهو ما أخذ به ابن تيمية وابن القيم وذلك لأقضية قضاها النبي - صلى الله عليه وسلم - كأمره بكسر دنان الخمر، وكقوله - صلى الله عليه وسلم - في حق مانع الزكاة: "من أعطاها وهو مؤتجرا فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا" (¬5)، كما أن اللجنة الدائمة للفتوى في السعودية ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 33. (¬2) أخرجه أبو داود (5/ 224). (¬3) المبسوط للسرخسي (9/ 45). (¬4) حاشية ابن عابدين (4/ 66)، وتبصرة الحكام لابن فرحون (2/ 204)، وكشاف القناع للبهوتي (6/ 125)، وحاشية الشبراملي على شرح المنهاج (7/ 174). (¬5) أخرجه أبو داود [2/ 101 (1575)].

ثالثا: التعزير بالقول وغيره

قد أخذت بجواز التعزير بالمال وذلك في الفتوى رقم (6185). ولكن يتم ذلك وفق ضوابط محددة منها: 1 - أن يكون بحكم الحاكم الشرعي. 2 - أن تكون المصادرة لبيت المال. 3 - أن لا تكون فيه وسيلة رادعة أخرى وتحتم المصلحة الحكم بذلك تأديبًا للمخالف وزجرًا لغيره، والله أعلم. ثالثًا: التعزير بالقول وغيره: يكون التعزير بالقول: مثل التوبيخ والزجر والوعظ، فمن التوبيخ ما روى أن أبا ذر -رضي الله عنه- ساب رجلًا فعيره بأمه، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا ذر أعيرته بأمه! إنك امرؤ فيك جاهلية" (¬1). وقد يكون التعزير بالنيل من عرضه ومن ذلك ما رواه أحمد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته" (¬2). ومن النيل من العرض قول: يا ظالم يا معتد. وقد يكون التعزير بالهجر وذلك بمقاطعة الجاني والامتناع عن معاملته بأي نوع حيث قد هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه الثلاثة الذين تخلفوا عنه في غزوة تبوك (¬3). سقوط التعزير: تسقط عقوبة التعزير بأسباب منها: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (1/ 20)، رقم (30)، انظر فتح الباري (1/ 84). (¬2) مسند الإِمام أحمد [4/ 222 (17975)]. (¬3) تفسير القرطبي (8/ 281).

1 - الموت: إذا كانت العقوبة بدنية كالتوبيخ والحبس والضرب والقتل، فإنها تسقط بالموت لعدم إمكانية تنفيذ ذلك. 2 - العفو: لولي الأمر العفو في التعزير فيما كان حقًا لله تعالى إذا كان في ذلك مصلحة كأن يكون المذنب رجلًا كريمًا ولم يعرف عنه حصول التعدي أو يكون في العفو مصلحة للفرد والمجتمع يقدرها ولي الأمر. وإذا كان التعزير لحق آدمي وعفا الآدمي فإن العفو يسري عن حقه الخاص له ويقدر ولي الأمر المصلحة العامة في التعزير من عدمه. 3 - التوبة: ويختلف الفقهاء في اعتبار التوبة مسقطة للتعزير: أ- فيرى الشافعية وهو رواية عند الحنابلة أن التوبة تسقط التعزير فيما هو حق لله تعالى لما ورد في حديث أنس -رضي الله عنه- قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حدًا فأقمه علي ولم يسأله عنه، فحضرت الصلاة فصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - قام إليه الرجل فأعاد قوله: فقال: "أليس قد صليت هنا؟ "، قال: نعم، قال: "فإن الله -عَزَّ وجَلَّ- قد غفر لك ذنبك" (¬1)، وفي هذا دليل على أن الجاني غفر له لما تاب. وبهذا يقول ابن تيمية وابن القيم. ب- ويرى الحنفية والمالكية وبعض الشافعية وهو رواية عند الحنابلة أن التعزير لا يسقط بالتوبة لعموم أدلة العقوبة بلا تفرقة بين تائب وغيره عدا المحاربة، وإسقاط العقوبة بالتوبة يجعل كل شخص يدعيها ليفلت من العقاب (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (6/ 2501)، رقم (6437)، وأخرجه مسلمٌ (4/ 2117)، ورقم (2764). (¬2) حاشية ابن عابدين (3/ 188)، ومواهب الجليل للحطاب (6/ 316)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1773)، وكشاف القناع (6/ 124)، وإعلام الموقعين لابن القيم (2/ 197).

كتاب الجهاد

الفِقهُ الميَسَّر كتاب الجهاد

الأصل في مشروعية الجهاد

كتاب الجهاد التعريف في اللغة: الجِهاد بكسر الجيم مصدر جاهد العدو مجاهدة وجهادًا: أي قاتله وجاهد في سبيل الله، وهو المبالغة واستفراغ الوسع في الحرب أو اللسان أو ما أطاق من شيء (¬1). وفي الاصطلاح: قتال مسلم كافرًا غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله تعالى (¬2). وفي تعريف آخر: هو الدعاء إلى الدين الحق وقتال من لم يقبله (¬3). الأصل في مشروعية الجهاد: الأصل في مشروعية الجهاد الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. أما الكتاب: فمنه قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} (¬4). وقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬5)، وغيرها من الآيات كثير. وأما السنة: فمنها: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق" (¬6). ¬

_ (¬1) لسان العرب لابن منظور مادة: جهد. (¬2) جواهر الإكليل للأزهري (1/ 250). (¬3) حاشية ابن عابدين (4/ 131). (¬4) سورة البقرة: 216. (¬5) سورة التوبة: 41. (¬6) أخرجه مسلمٌ (3/ 1517).

وحديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله" (¬1)، كما وردت أحاديث كثيرة تدعو إلى الجهاد وترغب فيه. وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على مشروعية الجهاد (¬2). وأما المعقول: أمر الله بتبليغ دينه ونشر شريعته لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وقد تقف قوة ما في وجه الإِسلام وتصد الناس عنه، كما أن بعض الأقليات المسلمة وغيرها من المستضعفين قد يضطهدون في دينهم، وقد تنقض بعض الدول عهدها مع المسلمين وتتربص بهم شرًا، هذا علاوة على أنه يمكن أن يهاجم المسلمون في عقر دارهم وتستباح الأنفس والحرمات والأموال، فشرع الله الجهاد ليحقق الغاية التي يسعى إليها الإِسلام بأن يكون الدين كله لله وأن يترك الخيار بين الناس والإِسلام، ويعلم أعداء الإِسلام أنهم لا يمكن تحقيق مآربهم السيئة ضده، ويتخلوا عن محاربته والوقوف في طريقه، وبذلك يعم الخير والسلام ويأمن الناس جميعًا على دينهم وأنفسهم وأموالهم وحرماتهم. ولا يمكن أن يكون لأي أمة مكانة وعزة ورفعة إلا بقتال أعدائها وحماية بيضتها والذود عن كيانها، والتاريخ خير شاهد على ذلك، والواقع يؤكده حيث لا قيمة ولا كلمة إلا لمن يبني قوته ويدافع عن وجوده ومكتسباته لتحقيق مآربه ومصالحه، وشتان ما بين الجهاد في الإِسلام وما تفعله بعض الدول في العصر الحاضر، فالإِسلام في جهاده يقوم على أسس ومبادئ أخلاقية تحترم الإنسان وتنشر العدل والحق وتزيل الظلم، وغيره لا يقيم لذلك وزنا في الحرب. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ، الفتح (3/ 262). (¬2) بداية المجتهد لابن رشد (1/ 380)، والكافي في فقه أحمد (4/ 258) المكتب الإِسلامي.

حكم الجهاد

حكم الجهاد: اتفق الفقهاء على أن الجهاد فرض عين وذلك في الحالات الآتية: 1 - حضور المكلف صف القتال: ويتعين عليه في ذلك القتال ويحرم عليه تركه، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} (¬1). 2 - هجوم العدو على أي مكان يقيم فيه المسلمون، فيجب على أهل البلد جميعًا الدفع بالممكن، ولا يجوز لأحد التخلف إلا من يحتاج لحفظ الأهل والمكان والمال، ومن يمنعه القائد من الخروج لقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} (¬2)، ولأنهم في معنى حاضر الصف، فتعين عليهم كما تعين عليه. 3 - إذا استنفر الإِمام قومًا فإنه يلزمهم النفير ولا يجوز لأحد أن يتخلف إلا من عذر، فإن كان منهم كفاية وإلا وجب على القريب منهم نصرتهم لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} (¬3). ولما جاء في حديث ابن عباس -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا" (¬4). والإمام هو الذي يرعى مصالح الناس ويقدر ما يحقق الخير لهم فعلى الناس السمع والطاعة له في ذلك. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: 45. (¬2) سورة التوبة: 41. (¬3) سورة التوبة: 38. (¬4) أخرجه البخاريُّ، الفتح (6/ 23)، ومسلمٌ (3/ 1487).

ويختلف الفقهاء في حكم الجهاد في غير تلف الحالات على النحو الآتي: 1 - يرى عامة الفقهاء أن الجهاد فرض كفاية، فإذا قام به من يكفي ويتحقق به كسر شوكة المشركين فإنه يسقط عن الباقين قال في الإفصاح: "واتفقوا على أن الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به قوم سقط عن باقيهم ولم يأثموا بتركه" (¬1). أما إذا لم يقم به من يكفي فإن جميع الناس يأثمون لتخلفهم عنه ويستدل لذلك بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (¬2). 2 - يرى سعيد بن المسيب أن الجهاد فرض عين لقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬3)، وغيرها من الآيات (¬4). ولما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق" (¬5). الراجح: إن الجهاد فرض كفاية في غير الحالات المحددة لفرض العين المتفق عليها، وذلك لما أورده عامة الفقهاء من أدلة ومنها قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ ¬

_ (¬1) الإفصاح لابن هبيرة (2/ 273). (¬2) شرح فتح القدير لابن الهمام (5/ 189)، وبداية المجتهد لابن رشد (1/ 380)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1787)، والمغني لابن قدامة (13/ 6). (¬3) سورة التوبة: 122. (¬4) سورة التوبة: 41. (¬5) أخرجه مسلمٌ (3/ 1517)، ورواه أبو داود (2/ 10).

شروط وجوب الجهاد

بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬1). وفي هذا دلالة على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث السرايا ويقيم هو وسائر أصحابه، وأما الآية التي احتج بها سعيد بن المسيب فقد قال ابن عباس -رضي الله عنهما- (¬2): نسخها قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} (¬3). شروط وجوب الجهاد: يشترط لوجوبه شروط: 1 - الإسلام: لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} (¬4)، فالمخاطبة للمؤمنين دون غيرهم، ولحديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين فقال له: "تؤمن بالله ورسوله"، قال: لا، قال: "فارجع فلن أستعين بمشرك" (¬5). ولأن الكافر غير مأمون في الجهاد لبني دينه أو قومه ويخشى مكره. 2 - التكليف: وذلك بأن يكون المسلم بالغًا عاقلًا، فالصبي لا يجب عليه الجهاد لأنه غير ¬

_ (¬1) سورة النساء: 95. (¬2) رواه أبو داود (2/ 10). (¬3) سورة التوبة: 122. (¬4) سورة التوبة: 123. (¬5) أخرجه مسلمٌ (3/ 1450).

3 - الذكورة

مكلف ولحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "عرضت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يحزني في المقاتلة" (¬1). وكذلك المجنون لا يجب عليه القتال لأنه لا يتأتى منه وهو غير مكلف، وقد ورد في ذلك حديث علي -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل" (¬2). 3 - الذكورة: وتشترط الذكورة للجهاد لما روت عائشة -رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ فقال: "جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة" (¬3). 4 - السلامة من الضرر: وذلك بألا يكون أعمي أو أعرج أو مريضًا لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} (¬4). 5 - الاستطاعة بالنفقة ومؤنة الجهاد: لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬5)، فإن بذل الإِمام وسيلة النقل والنفقة وجب عليه (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ الفتح (5/ 2276)، ومسلمٌ (3/ 1490). (¬2) أخرجه البخاريُّ (7/ 59)، ورواه أبو داود (2/ 451)، والترمذيُّ (6/ 195). (¬3) أخرجه ابن ماجه (2/ 968)، وصححه ابن خزيمة (4/ 359). (¬4) سورة النور: 61. (¬5) سورة التوبة: 91. (¬6) شرح فتح القدير لابن الهمام (5/ 193)، ومواهب الجليل للحطاب (3/ 349)، والإقناع للشربيني (5/ 5)، والمغني لابن قدامة (13/ 8).

6 - الحرية

6 - الحرية: لما روى جابر -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يبايع الحر على الإِسلام والجهاد، ويبايع العبد على الإِسلام دون الجهاد" (¬1). فضل الجهاد: إن الجهاد في سبيل الله أعظم تضحية، حيث يقدم المسلم نفسه وماله تقربًا إلى الله بإعلاء كلمته ورفعة دينه، فهو ذروة سنام الإِسلام (¬2) وهو ثمرة حقيقية للإيمان واليقين والتوكل والتصديق بوعد الله، وبما أعد الله للمجاهدين من الثواب العظيم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬3). وجاء في السنة من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلًا ما نال من أجر أو غنيمة" (¬4). وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي تلخيص الحبير لابن حجر (4/ 91). (¬2) جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأس الأمر الإِسلام وعاموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله"، رواه أحمد برقم (21511) والترمذيُّ برقم (2616). (¬3) سورة التوبة: 111. (¬4) أخرجه البخاريُّ (1/ 15)، ومسلمٌ (3/ 1495). (¬5) أخرجه البخاريُّ (4/ 20).

مراتب الجهاد

ويتحقق في الجهاد للأمة الإِسلامية العزة والرفعة والمنعة، وما وقع في المسلمين من الذل والضعف وتسلط الأعداء إلا بتركهم الجهاد وإخلادهم إلى الدعة والراحة. عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" (¬1)، فبالجهاد يتحقق للمسلمين خير الدنيا والآخرة. مراتب الجهاد: 1 - جهاد النفس: وذلك بالقيام بأوامر الله وترك نواهيه ومصابرة النفس على ذلك، والعمل والمثابرة على تعلم العلم والعمل به، وإقامة الطاعات من صلاة وصيام وصدقة وغيرها، طلبًا لثواب الله وخوفًا من عقابه. 2 - جهاد الشيطان: إن الشيطان يعمل جاهدًا بصد الإنسان عن دين الله وإغوائه حتى يبعده عن الصراط المستقيم ويرديه في جهنم والعياذ بالله، فعلى المسلم أن يجاهده بدفع ما يلقي إليه من الشبهات والشكوك التي تقدح في إيمانه، وما يلقي إليه من الشهوات وترك الطاعات، وأن يبعد كيد الشيطان عنه ليكون من عباد الله المتقين وينجو من عذاب الله الأليم. 3 - جهاد أهل الظلم والبغي من المسلمين: وذلك وفقًا لما جاء في الإِسلام من تغيير للمنكر حسب الطاقة والإمكان، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2/ 296)، ورقمه (3462).

4 - جهاد الكفار أعداء الإسلام الذين يكيدون له ويتربصون به، وهو أنواع

مع نهج أسلوب الحكمة والعمل بالتي هي أحسن. 4 - جهاد الكفار أعداء الإِسلام الذين يكيدون له ويتربصون به، وهو أنواع: أ- الجهاد بالنفس والمال جميعًا: وذلك أعلى مراتب الجهاد لأن المسلم قد جاد بنفسه وماله، وهو دليل إيمانه ويقينه بوعد الله، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (¬1). وروى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قيل يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ فقال: "مؤمن مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله" (¬2). وقد ورد مقرونًا بالنفس في كثير من الآيات، لأن الجهاد في سبيل الله لا يتحقق ولا يقوم إلا بههما معًا، قال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬3). ب- الجهاد بالنفس: وهو من أعلى مراتب الجهاد لأن صاحبه جاد بنفسه لله تعالى رجاء ما أعده الله للمجاهدين من حسن الثواب ورفع الدرجات في الجنة، قال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (¬4)، وذلك بقتالهم. ج- الجهاد بالمال: بدأ الله بالجهاد بالمال في كثير من الآيات لأهميته وعموم ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 20. (¬2) أخرجه البخاريُّ (4/ 18)، ومسلمٌ (3/ 1503). (¬3) سورة التوبة: 41. (¬4) سورة التوبة: 36.

آداب الجهاد

فائدته وشمول نفعه قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬2). وجاء في الحديث الذي رواه زيد بن خالد -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازيًا بخير فقد غزا" (¬3). وذلك لأن الجهاد بالمال يستطيعه أكثر المسلمين على حين أن الجهاد بالنفس لا يستطيعه أكثرهم، كما أن الحاجة إلى الجهاد بالمال قد تكون أكثر لتأمين حاجة المجاهدين من الأسلحة والغذاء وغيرها (¬4). د- الجهاد باللسان: وذلك بالدعوة إلى دين الإِسلام بالعلم والحكمة، والذب عن الإِسلام قولًا وكتابة وتأليفًا ونحو ذلك. يدل لذلك حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم" (¬5). آداب الجهاد: للجهاد آداب حث عليها الإِسلام ومنها: 1 - الإخلاص في النية: وأن يكون الهدف من الجهاد إعلاء كلمة الله ورد كيد الأعداء عن المسلمين. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 195. (¬2) سورة الصف: 10 - 11. (¬3) مواهب الجليل للحطاب (3/ 347)، والمغني لابن قدامة (13/ 10). (¬4) أخرجه البخاريُّ (3/ 1045)، ومسلمٌ (3/ 1507). (¬5) أخرجه أحمد (3/ 124)، وأبو داود برقم (2504).

2 - المشورة بين القائد وأهل الرأي من الجيش قبل بدء المعركة

2 - المشورة بين القائد وأهل الرأي من الجيش قبل بدء المعركة: وذلك فيما يخص الاستعداد للمعركة وتحديد المسؤوليات، كما حدث ذلك في غزوة بدر وأحد والخندق وغيرها وأن يعمل على تقوية إيمانهم وما أعد الله للمجاهدين في الجنة ورفع منزلتهم وعلو درجاتهم. 3 - اللجوء إلى الله تعالى والاستعانة به: وهذه سنة مضى عليها الأنبياء والرسل كما فعل نوح -عليه السلام- قال تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} (¬1). وكان رسول - صلى الله عليه وسلم - يكثر من دعاء الله والاستعانة به قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (¬2). 4 - دعوة الكفار إلى الإِسلام قبل القتال: إن الهدف من القتال في الإِسلام هو رفع راية الإِسلام وهداية الناس إلى الله، وعلى المسلمين إبلاغ الإِسلام ومحاسنه للناس بكافة الوسائل الممكنة، وأنه الدين الحق الذي اختاره الله خاتمًا للأديان وشاملًا لما فيها من الخير، وأنه لا يقبل دينًا سواه قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (¬3)، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬4). وقد اتفق الفقهاء على وجوب الدعوة إلى الإِسلام لمن لم تبلغهم دعوته قبل قتالهم، وذلك لما روى بريدة الأسلمي -رضي الله عنه- قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أميرًا ¬

_ (¬1) سورة القمر: 10. (¬2) سورة الأنفال: 9. (¬3) سورة آل عمران: 19. (¬4) سورة آل عمران: 85.

5 - عدم قتل النساء والصبيان والمجانين

قال له: "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى الإِسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ... " (¬1). أما إذا كانت الدعوة قد بلغتهم فإن الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة وقول عند المالكية يرون عدم وجوب دعوتهم، وأنه يجوز قتالهم لما ثبت من فعله - صلى الله عليه وسلم - حيث ورد في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أغار على بني المصطلق وهم غارون آمنون ... " (¬2). ويرى المالكية في قول لهم أنه يجب دعوتهم قبل قتالهم لحديث بريدة المذكور. 5 - عدم قتل النساء والصبيان والمجانين: اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز قتل النساء والصبيان والمجانين (¬3) لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- "أن امرأة وُجدت في بعض مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقتولة، فنهى عن قتل النساء والصبيان" (¬4). وقد أومأ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه العلة في المرأة التي وجدت مقتولة في بعض مغازيه، فقال: "ما كانت هذه لتقاتل" (¬5). 6 - عدم الغدر والغلول والمثلة: الغدر: الخيانة ونقض العهد، والغلول: من المغنم في الجهاد خاصة بأن يخفي ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ (3/ 1357). (¬2) أخرجه البخاريُّ (3/ 194)، ومسلمٌ (3/ 1356). (¬3) شرح فتح القدير لابن الهمام (5/ 197)، وجواهر الإكليل للأزهري (1/ 252)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1801)، والمغني لابن قدامة (13/ 29). (¬4) أخرجه البخاريُّ برقم (3014). (¬5) أخرجه أبو داود (3/ 122)، والحاكم (2/ 122)، وصححه.

7 - إتلاف الأموال وقطع الأشجار والزرع

ما وقع في يده، أما المثلة: فهي التنكيل والعقوبة كقطع الأنف والأذن ونحو ذلك (¬1). ويحرم ذلك كله لما ورد في حديث بريدة -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: "اغزوا على اسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا ... " الحديث (¬2). 7 - إتلاف الأموال وقطع الأشجار والزرع: إذا كانت الحاجة تدعو إلى إتلاف شيء من أموالهم أو قطع أشجارهم وزرعهم فهذا يجوز بغير خلاف بين الفقهاء. أما إذا لم يكن في إتلافه حاجة بل يكون في إبقائه مصلحة للمسلمين وفي قطعه ضرر بهم كأن يقوم أعداؤهم بالمعاملة بالمثل فهذا لا يجوز. وما عدا ذلك مما ليس في إتلافه أو بقائه حاجة ومصلحة للمسلمين فقد اختلف فيه الفقهاء: أ- فذهب الحنفية والمالكية والشافعية وهو رواية عن أحمد أنه يجوز إتلاف الأموال والأشجار والزروع لقوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} (¬3). ولما روي ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "حرق نخل بني النضير وقطع" (¬4). ¬

_ (¬1) مختار الصحاح للرازي مادة: (غدر، غلَّ، ومثل). (¬2) أخرجه مسلمٌ (1731). (¬3) سورة الحشر: 5. (¬4) أخرجه البخاريُّ (3/ 136)، ومسلمٌ (3/ 1365).

8 - عدم إنزال المحاربين على ذمة الله وذمة رسوله أو إنزالهم على حكم الله ورسوله

ب- وذهب أحمد في رواية والأوزاعي والليث وأبو ثور إلى أنه لا يجوز لقوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (¬1). ولأثر أبي بكر -رضي الله عنه- ووصيته حيث قال لزيد بن أبي سفيان وهو يوصيه حين بعثه أميرًا على الشام (¬2): "ولا تحرقن نحلًا ولا تغرقنه" (¬3). 8 - عدم إنزال المحاربين على ذمة الله وذمة رسوله أو إنزالهم على حكم الله ورسوله: المراد بذمة الله وذمة رسوله: عهد الله تعالى وعهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، سواء كان ذلك بطلب الأعداء أو التزام من المسلمين بذلك. وقد ورد النهي عن ذلك في حديث بريدة وفيه: "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تفعل، ولكن اجعل لهم ذمتك، وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا" (¬4). وذلك لأنه قد يتبين للمسلمين ما يدل على أن الكفار يعدون للهجوم على المسلمين، وفي هذه الحال يحق للمسلمين مبادرتهم بالقتال ويكون نقض العهد في ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 205. (¬2) المبسوط للسرخسي (10/ 31)، وجواهر الإكليل للأزهري (1/ 255)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1809)، والمغني لابن قدامة (13/ 142). (¬3) أخرجه سعيد في سننه (2/ 148)، وعبد الرزاق في مصنفه (5/ 199). (¬4) أخرجه مسلمٌ [3/ 1357 (1731)].

9 - عدم قتل الرسل

مثل ذلك نقضًا لعهد المسلمين لا نقضًا لعهد الله وعهد نبيه - صلى الله عليه وسلم -. 9 - عدم قتل الرسل: إن مهمة الرسل كبيرة حيث يقومون بإبلاغ المتحاربين بما يطلبه كل منهم، ولهذا فإنه يجب أن يكون الرسول آمنا على نفسه وماله فلا يعتدي عليه ليؤدي ما كلف به، وقد جاء ذلك في حديث نعيم بن مسعود الأشجعي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قرأ كتاب مسيلمة الكذاب قال للرسولين: "فما تقولان أنتما"، قال: نقول كما قال، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما" (¬1). وقال في عون المعبود: "فيه دليل على تحريم قتل الرسل الواصلين من الكفار وإن تكلموا بكلمة الكفر في حضرة الإِمام" (¬2). 10 - الرفق بالأسرى وحسن معاملتهم: الإِسلام دين الرحمة والمحبة جاء لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، والأسرى لا يملكون من أمرهم شيئًا، وهم قد صاروا إلى ما هم عليه، كما أن من الأسرى من يهديه الله للإسلام ومنهم من يرجى منه أن يبلغ قومه برسالة الإِسلام وحسن تعامل المسلمين، وقد يدعوهم ذلك إلى الدخول في الإِسلام. جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خيلًا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ما عندك ياثمامة؟ " فقال: عندي خير يا محمَّد إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، فكررها النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا: وهو ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في المسند (3/ 487)، وأبو داود (3/ 191). (¬2) عون المعبود (7/ 442).

دعوة الكفار إلى الإسلام أو الجزية أو الحرب

يجيبه بذلك فقال: "أطلقوا ثمامة" (¬1). ثم أسلم ثمامة وحسن إسلامه، وقد كان لحسن المعاملة، أثر في نفسه فهداه الله (¬2). دعوة الكفار إلى الإسلام أو الجزية أو الحرب: إذا تم دعوة الكفار إلى الإِسلام ودخلوا فيه كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم فإن لم يقبلوا الدخول فيه فلا يخلو أن يكونوا من أهل الكتاب أو من غيرهم: 1 - فإن كانوا من أهل الكتاب أو المجوس فقد اتفق الفقهاء على أنه يطلب منهم الجزية فإن دفعوها كف عنهم وإلا ينتقل إلى القتال وذلك لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬3). أما المجوس فإن لهم شبهة كتاب فيكون حكمهم حكم أهل الكتاب لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" (¬4). 2 - وإما أن يكونوا من المشركين غير أهل الكتاب أو المجوس فقد اختلف الفقهاء في ذلك: أ- فذهب الشافعي وهو رواية عن أحمد إلى أنه لا تقبل منهم الجزية وأن عليهم إما القتال، لعموم الأدلة، منها قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬5)، وقول ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (4/ 1589). (¬2) الجهاد في الإِسلام، د. عبد الله القادري (1/ 250). (¬3) سورة التوبة: 29. (¬4) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 272). (¬5) سورة التوبة: 5.

النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" (¬1). وإنما خص منهم أهل الكتاب والمجوس للأدلة المخصصة لهم ويبقي الباقي على عمومه. ب- وذهب الحنفية ومالك في رواية وأحمدُ في رواية إلى أن الجزية تقبل من المشركين إلا مشركي العرب، قال ابن جرير الطبري: "أجمعوا على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبى أخذ الجزية من عبدة الأوثان من العرب ولم يقبل منهم إلا الإِسلام أو السيف" (¬2). ج- وذهب مالك في قول هو الراجح عند المالكية والأوزاعي إلى أن الجزية تقبل من جميع الكفار سواء كانوا عربًا أم عجمًا، واستدلوا بحديث بريدة الأسلمي قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصة نفسه بتقو ى الله ... وقال: "اغزو باسم الله ... وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال" وذكر من هذه الخصال الجزية، وذلك يدل على قبول الجزية من المشركين عمومًا (¬3). الراجح: يظهر أن الراجح والله أعلم أن الجزية تؤخذ من جميع المشركين لعموم حديث بريدة -رضي الله عنه- إذ هو عام لا مخصص له وإلحاقًا لهم بمن تقبل منهم الجزية. قال ابن القيم: "لأن المجوس أهل شرك لا كتاب لهم فأخذها منهم دليل على أخذها من جميع المشركين، وإنما لم يأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - من عبدة الأوثان من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (6/ 2538)، رقمه (6526). (¬2) اختلاف الفقهاء للطبري (ص: 200). (¬3) شرح فتح القدير لابن الهمام (5/ 228)، والمدونة الكبرى للإمام مالك (2/ 46)، والإقناع للشربيني (5/ 24)، والمغني لابن قدامة (13/ 31).

الجهاد من حيث الدفاع والطلب

الحرب لأنهم أسلموا كلهم قبل نزول آية الجزية فإنها إنما نزلت بعد غزوة تبوك، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد فرغ من قتال العرب، واستوثقت كلها بالإِسلام، وإن كفر المجوس أشد من كفر عبدة الأوثان من العرب، ذلك أنهم يقرون بإلهين أحدهما للخير والثاني للشر". قال ابن العربي: "والصحيح قبولها من كل أمة وفي كل حال عند الدعاء إليها والإجابة بها" (¬1). الجهاد من حيث الدفاع والطلب: جاءت آيات الجهاد وأحاديثه عامة تشمل الحرب الدفاعية وتشمل الطلب والهجوم قال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (¬2)، وغيرها من الآيات. وجاء في السنة حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإِسلام وحسابهم على الله" (¬3). وغزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - المختلفة فيها ما هو طلب ومبادأة كغزوة بدر وحنين وخيبر وغيرها، وفيها ما هو دفاع كغزوة أحد والأحزاب وغيرها، وقد قام الصحابة -رضي الله عنهم - بفتح فارس والعراق والشام ومصر وغيرها، وذلك إجماع منهم على أن الجهاد يقوم على الطلب والمبادأة كما يقوم على الدفاع والذود عن حمى الإِسلام والمسلمين. ¬

_ (¬1) أحكام القرآن (2/ 910). (¬2) سورة التوبة: 36. (¬3) أخرجه البخاريُّ (1/ 17)، رقمه (25)، ومسلمٌ (1/ 53)، ورقمه (22).

والباحث في كتب الفقه يعلم أن فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة يرون أن الجهاد يشمل الطلب والدفاع حسب الأحوال: جاء في حاشية ابن عابدين (¬1) في تعريف الجهاد: "وشرعًا: الدعاء إلى الدين الحق وقتال من لم يقبله"، ثم قال: "هو فرض كفاية ابتدأ إن لم يبدءونا"، ثم قال: "فإن حاصرناهم دعوناهم إلى الإِسلام فإن أسلموا وإلا فإلى الجزية، فإن قبلوا ذلك فلهم ما لنا وعليهم ما علينا"، ويتضح من ذلك القول بجهاد الطلب. وجاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (¬2): "الجهاد فرض كفاية ويكون في أهم جهة كل سنة، أي أن يوجه الإِمام كل سنة طائفة ويخرج بنفسه معها أو يخرج بدله من يثق به ليدعوهم إلى الإِسلام ويرغبهم فيه ثم يقاتلهم إذا أبوا منه"، وهذا من جهاد الطلب والمبادأة. وجاء في الإقناع (¬3): "وكان الجهاد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة فرض كفاية، وأما بعده - صلى الله عليه وسلم - فللكفار حالتان: الحال الأول: أن يكونوا ببلادهم ففرض كفاية، إذا فعله من فيهم كفاية سقط الحرج عن الباقين"، وهذا هو جهاد الطلب، ثم قال: "والحال الثاني من حالي الكفار: أن يدخلوا بلدة لنا مثلًا، فيلزم أهلها الدفع بالممكن منهم، ويكون الجهاد حينئذ فرض عين"، وهذا هو جهاد الدفاع. وجاء في المغني (¬4): "ويُبْعَثُ في كل سنة جيش يغيرون على العدو في بلادهم"، ثم قال: "فيجب في كل مرة إلا من عذر، مثل أن يكون بالمسلمين ضعف من عدد أو عدة ... أو يعلم من عدوه حسن الرأي في الإِسلام، فيطمع في ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (4/ 131)، وما بعدها. (¬2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2/ 173). (¬3) الإقناع للشربيني الخطيب الشافعي (5/ 5 - 7). (¬4) المغني (13/ 8 و 10).

إسلامهم إن أخر قتالهم، ونحو ذلك مما يرى المصلحة معه في ترك القتال"، وهذا هو جهاد الطلب. وجاء في توضيح الأحكام (¬1): "إن قتال الكفار في الإِسلام ليس مدافعة فقط، بل هو حركة جهادية حتى يكون الدين كله لله". وقد جاء الكلام عن طبيعة الجهاد في فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية رقم (6426) ونصها: "شرع الله تعالى الجهاد لنشر الإِسلام وتذليل العقبات التي تعترض الدعاة في سبيل الدعوة إلى الحق، والأخذ على يد من تحدثه نفسه بأذى الدعاة إليه والاعتداء عليهم، حتى لا تكون فتنة ويسود الأمن ويعم السلام وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفرو السفلى، ويدخل الناس في دين الله أفواجا ... "، ثم جاء فيها: "وللدفاع أيضًا عن حوزة الإِسلام"، وكذلك الفتوى رقم (7122)، ورقم (10719). وقد ذكر الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي عام المملكة -رحمه الله-: أن الجهاد لغزو الأعداء وللدفاع عن الإِسلام والمسلمين، وقد جاء ذلك في محاضرة له عنوانها: (ليس الجهاد للدفاع فقط)، وقال فيها: "فلما كان الكثير من كتاب العصر قد التبس عليهم الأمر في أمر الجهاد، وخاض كثير منهم في ذلك بغير علم وظنوا أن الجهاد إنما شرع للدفاع عن الإِسلام وعن أهل الإِسلام، ولم يشرع ليغزو المسلمون أعداءهم في بلادهم ويطالبوهم بالإِسلام ويدعوهم إليه ... فإن استجابوا وإلا قاتلوهم على ذلك حتى تكون كلمة الله هي العليا" (¬2). ¬

_ (¬1) توضيح الأحكام (6/ 335). (¬2) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة الشيخ بن باز (18/ 101)، طباعة رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء ط. الثانية 1423 هـ.

يكون الجهاد طلبا ومبادأة وحربا وقائية في حالات منها

وإنما سقنا هذه النصوص من الكتب الفقهية لبيان حقيقة قول الفقهاء بأن الجهاد نوعان: طلب ودفاع، وكل منهما يتم القيام به وفق شروطه وضوابطه الفقهية، وفي ذلك رد على بعض الكتاب والباحثين الذين يذكرون أن الجهاد في الإِسلام دفاع فقط وليس فيه طلب أو مبادأة، وذلك ناتج إما عن عدم الرجوع إلى أقوال الفقهاء في كتب الفقه المعتبرة وهي مليئة بما يؤكد أن الجهاد طلب ودفاع، أو أنهم اتبعوا بحسن نية أو سوئها ما يردده بعض المغرضين الذين يكيدون للإسلام ويقفون في سبيل نشره وفهم البشرية لحقيقته ومبادئه السامية. يكون الجهاد طلبًا ومبادأة وحربًا وقائية في حالات منها: 1 - قيام المشركين بالصد عن دين الله ومنع دخول الناس فيه وأن تكون كلمة الله هي العليا. 2 - تعرض بعض المسلمين للاضطهاد والتعذيب في دينهم والتضييق عليهم في ممارسة شعائرهم. 3 - علم المسلمين أن الأعداء يخططون للهجوم عليهم والاستيلاء على بلادهم وخيراتهم. 4 - محاولة الأعداء إثارة العداوة والبغضاء وإشعال الحرب بين المسلمين أو بينهم وبين غيرهم من الأمم الأخرى. ويكون الجهاد دفاعيًا في حالات منها: 1 - إذا دخل المشركون شيئًا من بلاد المسلمين واستباحوا حرمتها. 2 - إذا احتل الأعداء جزءًا من أرض الإِسلام.

إذن الوالدين في الجهاد

3 - قيام الأعداء بنشر مبادئهم ومعتقداتهم في البلاد الإِسلامية والدعوة إليها أو التشكيك في الإِسلام عقيدة أو شريعة. ويقوم أعداء الإِسلام بمحاولة تحريف وتوجيه مفاهيم الجهاد في الإِسلام وفق ما يروق لهم وذلك لأنهم يدركون ويعرفون حقيقة طبيعة الجهاد ونتائجه وثمراته للأمة الإِسلامية. ولكن أنى لهم ذلك وقد نزل بتشريعه آيات بينات، وقد تكفل الله بحفظ القرآن فهي محفوظة بحفظ الله لكتابه البين، والأعداء يجيزون لأنفسهم ما يأبونه للمسلمين، حيث يقومون بالهجوم على من يزعمون أنهم أعداؤهم، أو قتال غيرهم بسبب وبدون سبب تحقيقًا لأهدافهم ومصالحهم. والإِسلام إنما يبيح القتال لإعلاء كلمة الله والتخلية بين الناس والإِسلام لمن أراد الدخول فيه ولا يبيح الإِسلام القتال لأسباب عدائية أو مقاصد مادية أو اقتصادية فقط أو غيرها. إذن الوالدين في الجهاد: إذا كان الجهاد فرض عين فلا يعتبر إذنهما، وعلى المسلم الجهاد ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. أما إذا لم يكن الجهاد فرض عين فإنه لا يجاهد إلا بإذنهما إذا كانا مسلمين، فإن لم يأذنا له فلا يصح جهاده، لأن طاعة الوالدين فرض عين وهو مقدم على فرض الكفاية، لما روى عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في الجهاد، فقال: "أحي والداك؟ " قال: نعم، قال: "ففيهما فجاهد" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (3/ 1094)، ومسلمٌ (4/ 1975)، ورقمه (2549).

إذن الإمام في الجهاد

وهذا قول الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم (¬1). وقد جاء الكلام عن ذلك في فتوى اللجنة الدائمة للفتوى في السعودية رقم (2461). إذن الإمام في الجهاد: 1 - يرى الحنابلة أن أمر الجهاد موكول إلى الإِمام المسلم واجتهاده، وأنه لا يجوز الجهاد إلا بإذنه؛ لأنه أعرف بمصالح المسلمين وما ينفعهم وما يضرهم وذلك بمشاورة أهل الحل والعقد ومن لهم خبرة في مثل ذلك، إلا إذا فاجأ العدو المسلمين، أو كانت فرصة يخشون فواتها فلا يجب الإذن حينئذ. 2 - ويرى الشافعية أنه يكره الجهاد بغير إذن الإِمام ولا يحرم لما في التقيد بإذنه من مصلحة (¬2). الاستعانة بغير المسلمين في قتال الأعداء: 1 - ذهب الحنفية وهو رواية عن مالك وعن أحمد إلى جواز الاستعانة بالكفار عند الحاجة. 2 - وذهب المالكية وهو رواية عن أحمد إلى عدم جواز الاستعانة بالمشركين في القتال، ويستثنى من ذلك المالكية الخدمة فقط. 3 - وذهب الشافعية إلى جواز الاستعانة بالكفار بشروط: أ- أن يعرف الإِمام حسن رأيهم في المسلمين. ¬

_ (¬1) فتح القدير لابن الهمام (5/ 194)، وجواهر الإكليل للأزهري (1/ 252)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1789)، والمغني لابن قدامة (13/ 25)، الإفصاح لابن هبيرة (2/ 273). (¬2) روضة الطالبين للنووي (ص: 1800)، والمغني لابن قدامة (13/ 16)، والعدة شرح العمدة لبهاء الدين المقدسي (ص: 570).

الأدله

ب- أن يأمن خيانتهم وإلا لم يجز، لأن يمنع الاستعانة بمن لا يؤمن من المسلمين كالمخذل والمرجف والكافر أولى. ج- أن يكثر المسلمون بحيث لو خان المستعان بهم، وانضموا إلى الأعداء لأمكن مقاومتهم جميعًا. الأدله: استدل القائلون بالجواز بما يأتي: 1 - ما روى الزهري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "استعان بناس من اليهود في حربه، فأسهم لهم" (¬1). 2 - أن صفوان بن أميه خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين وهو على شركه وشارك في المعركة فأسهم له وأعطاه من سهم المؤلفة (¬2). وقد أجاز المؤتمر الإِسلامي العالمي المنعقد في الفترة من 12 - 13 صفر 1411 هـ والذي دعمت إليه رابطة العالم الإِسلامي وفي الفقرة خامسًا: الاستعانة بالقوات الأجنبية وذلك للضرورة الشرعية. وقد أجاز مفتي عام المملكة الشيخ ابن باز -رحمه الله- الاستعانة ببعض الكفار في قتال الكفار عند الحاجة أو الضرورة، قال: "وفي هذا جمع بين الأدلة الشرعية" (¬3). ثانيًا: استدل القائلون بعدم الجواز بما يأتي: 1 - حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل بدر، فلما كان ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذيُّ رقم (1558)، وسعيد في سننه (2/ 284). (¬2) أخرجه مسلمٌ (4/ 1706). (¬3) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (18/ 435).

بحرة الوبرة أدركه رجل من المشركين، كان يذكر منه جرأة ونجدة، فسر المسلمون به، فقال يا رسول الله، جئت لأتبعك، وأصيب معك، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: "فارجع فلن أستعين بمشرك"، قالت: ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بالبيداء أدركه ذلك الرجل، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتؤمن بالله ورسوله؟ " قال: نعم، قال: "فانطلق" (¬1). 2 - ما روى عبد الرحمن بن خبيب، قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يريد غزوة، أنا ورجل من قومي ولم نسلم، فقلنا إنا لنستحي أن يشهد قومنا مشهدًا لا نشهده معهم، قال: فأسلمتما؟ قلنا: لا، قال: "فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين"، قال: فأسلمنا، وشهدنا معه (¬2). الراجح: الراجح هو القول بجواز الاستعانة بغير المسلمين على قتال الأعداء ولكن بشروط: 1 - أن تكون فيه حاجة لذلك. 2 - أن يؤمن جانبهم بحيث لا يظن منهم الخيانة والكيد للإسلام والمسلمين. 3 - ألا تكون للمشركين والكفار قوة وشوكة، بحيث تكون مشاركتهم للمسلمين في القتال سببًا وبلاء على المسلمين من حيث التدخل في شؤونهم وبث الفرقة والعداوة بينهم ونهب خيراتهم وصدهم عن دينهم (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلمٌ (3/ 1449). (¬2) أخرجه أحمد في المسند (3/ 454)، والحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه (2/ 121). (¬3) حاشية ابن عابدين (4/ 160)، ومواهب الجيل للحطاب (3/ 352)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1801)، والمغني لابن قدامة (13/ 98).

تترس الكفار بالنساء والذرية من المسلمين أو منهم

تترس الكفار بالنساء والذرية من المسلمين أو منهم: الترس: بضم التاء ما يتوقى به في الحرب، وهو جعل النساء والذرية وقاية عنهم في الحرب مع المسلمين، اتفق الفقهاء على أنه يجوز رمي الكفار إذا تترسو بالمسلمين من النساء والذرية أو غيرهم، قال في الإفصاح (¬1): "إذا تترس المشركون بالمسلمين، جاز لبقية المسلمين الرمي ويقصدون المشركين"، وذلك للضرورة، حيث قد يكون في تركهم تأثير على نتيجة المعركة وانهزام المسلمين، ويكون قصد المسلمين قتل الكفار لا المسلمين. الرباط في سبيل الله: هو: مرابطة الجنود وإقامتهم أمام العدو لحفظ حدود وثغور البلاد المسلمة لمنع دخول الأعداء إليها (¬2). وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الرباط في سبيل الله منها: حديث سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها" (¬3). ¬

_ (¬1) الإفصاح لابن هبيرة (2/ 275). (¬2) حاشية ابن عابدين (4/ 140)، ومواهب الجليل للحطاب (3/ 351)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1803)، والمغني لابن قدامة (13/ 140). (¬3) أخرجه البخاريُّ (3/ 224).

الهدنة

الهدنة تعريف الهدنة: هي الاتفاق على ترك القتال مدة معينة بعوض أو بغير عوض. وتسمى مهادنة وموادعة ومعاهدة ومصالحة ومسالمة. حكمها: ثبتت مشروعية الهدنة بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬1). وأما السنة: فما روى مروان والمسور بن مخرمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "صالح سهل ابن عمرو بالحديبية على وضع القتال عشر سنين" (¬2). وأما الإجماع. فقد أجمع الفقهاء على مشروعية الهدنة إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين. مدة الهدنة والصلح: اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فيرى الحنفية والمالكية وهو رواية عن أحمد أن الهدنة تجوز بالمدة التي يرى الإِمام فيها مصلحة ولو زادت عن عشر سنين، لأنه عقد يجوز في العشر فجاز على الزيادة عليها كعقد الإجارة، فإن المصلحة قد تكون في الصلح أكثر منها في الحرب. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: 61. (¬2) أخرجه البخاريُّ (2/ 967)، ومسلمٌ (3/ 1411)، وأبو داود (2/ 78).

من له عقد الهدنة

2 - ويرى الشافعية وهو رواية عن أحمد أن الهدنة تجوز إلى عشر سنين ولا تجوز الزيادة عليها لأن قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (¬1)، عام خص منه مدة العشر لمصالحة النبي - صلى الله عليه وسلم - قريشًا يوم الحديبية عشرًا، ففيما زاد يبقى مقتضى العموم وهو المنع. الراجح: القول الأول أرجح: قال ابن القيم: "يجوز صلح أهل الحرب على وضع القتال عشر سنين ويجوز فوقها للحاجة والمصلحة الراجحة، كما إذا كان في المسلمين ضعف وعدوهم أقوى منهم" (¬2). من له عقد الهدنة: يعقد الهدنة الإِمام أو نائبه لأنه عقد مع جملة الكفار، وليس ذلك لغيره؛ لأنه يقدر المصلحة، كما أن إجازته من غير الإِمام تتضمن تعطيل الجهاد بالكلية. عقد الذمة: الذمة في اللغة: الأمان والعهد (¬3)، وعقد الذمة: هو إقرار بعض الكفار على كفره بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الإِسلام الدنيوية. من يتولى عقد الذمة: يتولى عقد الذمة الإِمام أو من ينوب عنه لأن تقدير المصلحة يعود إليه، ولأن عقد الذمة مؤبد فلا يجوز عقده بدون الإِمام أو نائبه، ويعقد عقد الذمة مع من يجوز أخذ الجزية منه فمن الفقهاء من قصر ذلك على أهل الكتاب والمجوس ومنهم من أجاز أخذها من جميع المشركين. ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 5. (¬2) توضح الأحكام لابن بسام (6/ 410). (¬3) الصباح المنير مادة: ذمم.

شروط عقد الذمة

شروط عقد الذمة: 1 - أن يكون عقد الذمة مؤبدًا، وبذلك يقول جمهور الفقهاء وفي قول عند الشافعية يجوز مؤقتًا. 2 - التزام أحكام الإِسلام في غير العبادات من حقوق الآدميين في المعاملات وغرامة المتلفات وما يعتقدون تحريمه كالزنى والسرقة. 3 - ألا يذكروا ما فيه غضاضة على المسلمين وهو ذكر ربهم أو كتابهم أو دينهم أو رسولهم بسوء. 4 - ألا يظهروا منكرًا. 5 - ألا يصدر منهم ما فيه ضرر على المسلمين أو يعينوا عليه (¬1). حقوق أهل الذمة: إذا تم عقد الذمة ترتب عليه حرمة قتالهم والحفاظ على أموالهم وأعراضهم وأن يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين وفق الشروط الخاصة بعقد الذمة، وذلك لما روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا من ظلم معاهدًا أو نقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة" (¬2). وقال علي -رضي الله عنه-: "إنما قبلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا" (¬3). ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير لابن الهمام (5/ 196)، وجواهر الإكليل للأزهري (1/ 266)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1841)، والمغني لابن قدامة (13/ 347). (¬2) أخرجه أبو داود (3/ 437). (¬3) بدائع الصناع للكاساني (6/ 111)، وبداية المجتهد لابن رشد (1/ 388)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1836)، والمغني لابن قدامة (13/ 135)، وانظر في الأثر نصب الراية (3/ 381).

وقد تؤدي مخالطتهم للمسلمين ووقوفهم على محاسن الإِسلام إلى الدخول فيه كما حدث في تاريخ الإِسلام، وهذا هو ما يهدف إليه الإِسلام من سن الجزية بدليل سقوطها عمن يسلم منهم.

الجزية

الجزية التعريف في اللغة: الجزية فعله من الجزاء قال الجوهري هي ما يؤخذ من أهل الذمة (¬1). واصطلاحًا: مال يؤخذ من أهل الذمة لاتفاق بينهم وبين المسلمين. وعرفها المالكية: بأنها ما لزم الكافر من مال لأمنه باستقراره تحت حكم الإِسلام وصونه (¬2). الأصل في مشروعية الجزية: ثبتت مشروعية الجزية بالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬3). وأما السنة: فمنها حديث بريدة -رضي الله عنه- أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى الإِسلام فإن أجابوك فأقبل منهم"، إلى أن قال: "فإن أبوا فاسألهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم" الحديث (¬4)، فهذا يدل على مشروعية الجزية. ¬

_ (¬1) لسان العرب لابن منظور مادة: "جزى". (¬2) الفتاوى الهندية لجماعة من العلماء (2/ 244)، وجواهر الإكليل (1/ 266). (¬3) سورة التوبة: 29. (¬4) أخرجه مسلمٌ (1731).

حكمة مشروعيتها

وحديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- أنه قال لجند كسرى يوم نهاوند: "أمرنا نبينا رسول ربنا أن نقاتلكم حتى تعبدو الله وحده، أو تؤدوا الجزية" (¬1). وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على جواز أخذها في الجملة، وقد أخذها أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- وسائر الخلفاء دون إنكار من أحد من المسلمين فكان إجماعًا (¬2). حكمة مشروعيتها: فرض الإِسلام الزكاة على المسلمين لتعود في مصالحهم، أما الذميون وقد استظلوا بكنف الإِسلام ويتمتعوا بحمايته لهم والدفاع عنهم فقد نص الفقهاء على أنه لو استولى على أهل الذمة أهل الحرب وسبوهم وأخذوا أموالهم ثم هزم المحاربون فإن حريتهم وأموالهم تعاد إليهم، وحكم أموالهم حكم أموال المسلمين في حرمتها، قال علي -رضي الله عنه-: إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا (¬3). وقد تسامح الإِسلام مع المخالفين في العقيدة والشريعة فلم يجبرهم على الدخول فيه بل ترك لهم حرية الاختيار. وينتفع أهل الذمة بمرافق الدولة كالمسلمين فلذا يوجب عليهم الجزية لقاء ذلك، ويمنحهم فرصة التفكير والنظر، ولا غرابة فإن كثير من الدول تقوم بفرض ضرائب على مواطنيها لقاء الانتفاع بالخدمات والحقوق فلكل أمة منهج تسير عليه في بناء كيانها والمحافظة عليه. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (4/ 118). (¬2) المغني لابن قدامة (13/ 252). (¬3) المغني لابن قدامة (13/ 135).

شروط أخذ الجزية

شروط أخذ الجزية: تؤخذ الجزية بشروط متفق عليها بين الفقهاء هي: 1 - الذكورة: فلا تؤخذ الجزية من المرأة. 2 - التكليف: بأن يكون بالغًا عاقلًا فلا تؤخذ من الصبي والمجنون. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: "خذ من كل حالم دينارًا" (¬1). وقد كتب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى أمراء الأجناد "أن اضربوا الجزية ولا تضربوها على النساء والصبيان ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي" (¬2). 3 - الحرية: فلا تؤخذ الجزية من العبد، لما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا جزية على العبد"، ذكر ابن حجر أنه رُوي مرفوعًا وموقوفًا على عمر (¬3). قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أنه لا جزية على العبد (¬4). ومن وجبت عليه الجزية وأسلم قبل أن تؤخذ منه سقطت عنه الجزية. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي (5/ 17). (¬2) رواه في سننه (2/ 240). (¬3) تلخيص الحبير (4/ 123). (¬4) بدائع الصنائع للكاساني (9/ 4330)، وجواهر الإكليل (1/ 266)، والإقناع للشربيني (5/ 23)، والمغني لابن قدامة (13/ 216).

الفيء

الفيء التعريف في اللغة: الفيء: الرجوع وهو ما رد الله على أهل دينه من أموال من خالف دينه بلا قتال (¬1). وفي الاصطلاح: هو ما يحصل عليه المسلمون من أعدائهم بلا قتال. حكمه: الفيء مشروع بالكتاب والسنة: فأما الكتاب: فقوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬2). وأما السنة: فما ورد في الأثر عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة وما بقي يجعله في الكراع والسلاح" (¬3). قسمة الفيء: 1 - ذهب الشافعي في الجديد وهو رواية عن أحمد إلى أن الفيء يُخمَّس، وما ذكر في الآية هم أهل الخمس كلهم، ويصرف خمسه وجوبًا على من يصرف عليهم ¬

_ (¬1) لسان العرب لابن منظور مادة: فئ. (¬2) سورة الحشر: 6 - 7. (¬3) أخرجه البخاريُّ فتح الباري (6/ 293)، ومسلمٌ (3/ 1376).

خمس الغنيمة، ويعطى أربعة أخماسه للمقاتلة وفي مصالح المسلمين (¬1). 2 - ذهب الحنفية والمالكية والشافعيُّ في القديم وأحمدُ في رواية "إلى أن الفيء لا يخمس وإنما كله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن ذكروا معه في قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬2)، فقد جعله الله لهم ولم يذكر خمسًا، وقد قرأ عمر هذه الآية فقال: هذه استوعبت المسلمين عامة وليس أحد إلا ولهُ فيها حق، ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير (¬3) نصيبه فيها لم يعرق فيها جبينه" (¬4). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (4/ 149)، وحاشية الدسوقي (2/ 183)، والإقناع للشربيني الخطيب (5/ 21)، والعدة شرح العمدة لبهاء الدين المقدسي (ص: 588). (¬2) سورة الحشر: 7. (¬3) موضع في اليمن. (¬4) تفسير ابن كثير (6/ 610)، دار الفكر، لبنان الطبعة الثانية.

الأنفال

الأنفال التعريف في اللغة: الأنفال من النفل بسكون الفاء أي الزيادة (¬1). وفي الاصطلاح: زيادة مال على سهم الغنيمة يشترطه الإِمام أو أمير الجيش لمن يقوم بما فيه نكاية زائدة على العدو (¬2). حكم التنفيل: 1 - ذهب جمهور الفقهاء إلى مشروعية التنفيل لأنه نوع من التحريض على الجهاد. 2 - وذهب عمرو بن شعيب إلى أنه لا نفل بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬3)، فخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - بها. الراجح: ما ذهب إليه جمهور الفقهاء هو الراجح لما روى حبيب بن مسلمة الفهرى، قال: "شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفل الربع في البداءة والثلث في الرجعة" (¬4). وما ثبت للنبي - صلى الله عليه وسلم - يثبت للأئمة من بعده. أقسام النفل: 1 - أن يبعث الإِمام أمَامَ الجيش سرية تغير على العدو ويجعل لهم شيئًا مما يغنمون كالربع أو الثلث. 2 - أن ينفل الإِمام أو القائد بعض أفراد الجيش لما أبداه في القتال من شجاعة وإقدام. ¬

_ (¬1) لسان العرب مادة: "نفل". (¬2) المغني لابن قدامة (13/ 53). (¬3) سورة الأنفال: 1. (¬4) رواه أبو داود (2/ 72).

مم يكون النفل

3 - أن يقول الإمام: من قام بعمل معين فله كذا كهدم سور ونحوه، ومن ذلك حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه" (¬1). مم يكون النفل: اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - يرى الحنفية والحنابلة أن النفل يكون من أربعة أخماس الغنيمة بعد أخذ الخمس وذلك لما روى معن بن يزيد السلمي قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا نفل إلا بعد الخمس" (¬2). 2 - ويرى المالكية أن النفل لا يكون إلا من الخمس (¬3). 3 - ويرى الشافعي أن النفل لا يكون إلا من خمس الخمس (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (4/ 112)، وسلم (3/ 1370). (¬2) رواه أبو داود (2/ 74). (¬3) حاشية ابن عابدين (4/ 164)، وبداية المجتهد (1/ 396)، تكملة المجموع للمطيعي (19/ 348)، والمغني لابن قدامة (13/ 53، وما بعدها). (¬4) الأم (4/ 68)، ومغني المحتاج (2/ 102).

باب الغنيمة

باب الغنيمة التعريف في اللغة: الغنيمة والمغنم مترادفان يقال: غنم المغازي في الحرب إذا ظفر على عدوه (¬1). واصطلاحًا: مال مأخوذ من أهل الحرب على سبيل القهر والغلبة (¬2). حكمها: الغنيمة مشروعة وقد أحلها الله لهذه الأمة وهي من خصائصها، والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} (¬3). وقال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬4). وأما السنة: فما روى جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي ... "، وذكره منها: "وأحلت لي الغنائم" (¬5). وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على أن الغنيمة منها خمس للإمام وأربعة أخماسها للغانمين (¬6). ¬

_ (¬1) القاموس المحيط مادة: غنم. (¬2) حاشية ابن عابدين (4/ 149). (¬3) سورة الأنفال: 41. (¬4) سورة الأنفال: 69. (¬5) أخرجه البخاريُّ (335)، ومسلمٌ (1/ 370). (¬6) بداية المجتهد لابن رشد (1/ 390).

أقسام الغنيمة وما يترتب عليها

قال في الإفصاح: "واتفقوا على أن أربعة أخماس الغنيمة يقسم على من شهد الواقعة إذا كان من أهل القتال" (¬1). أقسام الغنيمة وما يترتب عليها: أولًا: الأموال المنقولة: وتعد الأموال التي تؤخذ بالقوة والغلبة في القتال غنيمة، ويؤخذ خمسها للإمام لصرفها في مصالح المسلمين وأربعة أخماسها للغانمين. ثانيًا: الأرض: وهي على ضربين: 1 - ما فتح عنوة وقوة: وقد اختلف فيها الفقهاء على النحو الآتي: أ- فذهب الحنفية وهو رواية عن أحمد: إلى أن الإِمام مخير بين أن يقسمها على المسلمين المقاتلين، أو يضرب على أهلها الخراج ويقرها بأيديهم، وذلك لأن كلاًّ من الأمرين قد ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقد ظهر على مكة عنوة فلم يقسمها، وكذلك بني قريظة وبني النضير، وقسَّم نصف خيبر على المسلمين ووقف النصف. ب- وذهب المالكية وهو رواية عن أحمد: إلى أن الأرض لا تقسَّم وتكون وقفًا يصرف خراجها في مصالح المسلمين لفعل عمر في العراق، حيث لم يقسمها وكان بمحضر من الصحابة ولم يخالفه أحد فصار إجماعًا. ج- وذهب الشافعية وهو رواية عن أحمد: إلى أن الأرض تُقسَّم على المقاتلة كما يقسم المنقول، لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (¬2)، حيث يفهم منه أن أربعة أخماسها للغانمين، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك. ¬

_ (¬1) الإفصاح لابن هبيرة (2/ 278). (¬2) سورة الأنفال: 41.

2 - ما فتح صلحًا: وهو ضربان: أ- أن يتم مصالحتهم على أن الأرض لهم ويؤدون عنها خراجًا معلومًا، فهذه الأرض ملك لهم، يملكون التصرف فيها، ويدفعون الخراج فإذا أسلموا سقط عنهم. ب- أن يتم مصالحتهم على أن الأرض للمسلمين ويقرون عليها بدفع الجزية، وتكون الأرض وقفًا على المسلمين ولا تقسم بينهم (¬1). ¬

_ (¬1) البحر الرائق لابن نجيم (5/ 89)، والأحكام السلطانية للماوردي (ص: 138)، وبداية المجتهد لابن رشد (1/ 401)، وكشاف القناع (3/ 88، 94)، والكافي لأبي محمَّد المقدسي (4/ 328).

باب الأمان والمستأمن

باب الأمان والمستأمن تعريف الأمان في اللغة: يقال أمن أمانًا، وأصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف، والمستأمِن بالكسر هو طالب الأمان وبالفتح المعطى الأمان (¬1). واصطلاحًا: الأمان: رفع استباحة دم الحربي ورقِّه وماله حين قتاله أو العزم عليه مع استقراره تحت حكم الإِسلام مدة ما، والمستأمِن من يدخل إقليم غيره بأمان مسلمًا كان أو حربيًا (¬2). حكم الأمان: إعطاء المستأمن الأمان مشروع بالكتاب والسنة والمعقول: فأما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (¬3)، والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى الإِسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب أمانًا أعطى ما دام مترددًا في دار الإِسلام وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه، لكن قال العلماء: لا يجوز أن يمكَّن من الإقامة في دار الإِسلام سنة بل أقل منها (¬4). وأما السنة: فما روى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم" (¬5). ¬

_ (¬1) لسان العرب مادة: أمن. (¬2) مواهب الجليل للحطاب (3/ 360)، وحاشية ابن عابدين (4/ 146). (¬3) سورة التوبة: 6. (¬4) تفسير ابن كثير (3/ 366)، طبعة دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية. (¬5) أخرجه البخاريُّ (فتح الباري 3/ 279)، ومسلمٌ (2/ 998).

من يملك إعطاء الأمان

ويتفق الفقهاء على أن من طلب الأمان، ليسمع كلام الله ويعرف شرائع الإِسلام وجب أن يعطاه ثم يرد إلى مأمنه قال في المغني: "لا نعلم في هذا خلافًا" (¬1). وأما المعقول: فإن مصلحة المسلمين قد تقتضي إعطاء الأمان لاستمالة الكافر إلى الإِسلام أو لترتيب أمر المسلمين أو غير ذلك من المصالح (¬2). من يملك إعطاء الأمان: يملك إعطاء الأمان للمستأمن الإِمام أو نائبه لمستأمن واحد أو جماعة، وذلك أن الإِمام ومن ينوب عنه موكول إليه تقدير مصلحة المسلمين وما يعود عليهم بالخير فيعمل به وما يعود عليهم بالمفسدة فيجتنبه. وقد بيَّن الفقهاء من يملك إعطاء الأمان من أفراد المسلمين على النحو الآتي: 1 - ذهب المالكية والشافعية في الأصح والحنابلة إلى أنه يصح أمان أي أحد من المسلمين بشرط البلوغ والعقل ولعدد قليل من الكفار لأن عمر -رضي الله عنه- أجاز أمان العبد لأهل الحصن ولا يصح لأهل بلدة كبيرة لأن ذلك يفضي إلى تعطيل الجهاد والتدخل في عمل الإِمام. 2 - وذهب الحنفية إلى أنه يجوز الأمان من الواحد لجماعة أو مدينة، ولا يجوز لأحد من المسلمين قتال المؤَمَّنين إلا إذا كانت في ذلك مفسدة فينبذ إليهم أمانهم (¬3). ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة (13/ 79). (¬2) روضة الطالبين للنووي (ص: 1817). (¬3) الفتاوى الهندية لجماعة من العلماء (2/ 198)، وحاشية الدسوقي (2/ 185)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1817)، والعدة شرح العمدة (ص: 590).

ما يترتب على إعطاء الأمان

ما يترتب على إعطاء الأمان: إذا حصل الأمان بشروطه وجب على المسلمين جميعًا الوفاء به، فلا يجوز قتل المستأمن ولا أسره ولا أخذ شيء من ماله أو التعرض لأذيته بغير حق. مدة الأمان: 1 - يرى الحنفية وفي قول للشافعية أن مدة الأمان تجوز إلى سنة فقط وما زاد عليها فلا. 2 - ويرى الحنابلة أن مدة الأمان تجوز إلى عشر سنين ولا يجوز الزيادة عليها (¬1). ما ينتهي به الأمان للمستأمن: ينتهي بأمور منها: 1 - إذا رأى الإِمام أن المصلحة؛ في إنهائه، ولكن عليه أن يخبرهم بذلك وإعادتهم إلى ما كانوا عليه قبل الأمان لئلا يكون من المسلمين غدر قال تعالى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} (¬2). 2 - انقضاء مدة الأمان المحددة في إعطاء الأمان. 3 - إذا رد المستأمن الأمان الذي أعطى له. 4 - عودة المستأمن إلى دار الحرب واستيطانه بها. ¬

_ (¬1) البحر الرائق لابن نجيم (5/ 109)، دار المعارف لبنان، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1819)، وكشاف القناع للبهوتي (3/ 104). (¬2) سورة الأنفال: 58.

5 - ارتكاب المستأمن الخيانة، لأنها نقيض الأمان، إما بقيامه بالتجسس أو غيره مما يعد ناقضًا لأمانه (¬1). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (4/ 187)، وحاشية الدسوقي (2/ 187)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1819)، وكشاف القناع للبهوتي (3/ 106).

العهد ونقضه

العهد ونقضه التعريف في اللغة: العهد: الأمان والموثق والذمة واليمين، وكل ما عوهد الله عليه، وكل ما بين العباد من المواثيق فهو عهد (¬1). حكم العهد: يوجب الإِسلام احترام العهد والميثاق قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} (¬2)، وقا ل تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (¬3). وجاء في حديث أبي رافع -رضي الله عنه- قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "إني لا أخيس (¬4) بالعهد، ولا أحبس الرسل" (¬5). وقد عاهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - اليهود بعد الهجرة عهدًا أقرهم فيه على دينهم وأمنهم على أموالهم بشرط ألا يعينوا عليه المشركين، فنقضوا العهد فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} (¬6). ولقد لمس الصحابة -رضي الله عنهم - منافع الوفاء بالعهد، ولعل منها تفرغ المسلمين لأعمال أخرى وإعطاء الوقت لغير المسلمين لفهم الإِسلام. ولا يجوز للمسلمين نقض العهد ما دام من اتفقوا معه ملتزمًا به. ¬

_ (¬1) لسان العرب لابن منظور مادة: عهد. (¬2) سورة التوبة: 4. (¬3) سورة الإسراء: 34. (¬4) أي لا أنقض العهد ولا أخونه. (¬5) رواه أبو داود (2758)، وصححه ابن حبان (1630). (¬6) سورة الأنفال: 55 - 56.

ومن الأمور التي ينتقض بها العهد

جاء في حديث عمرو بن عبسة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء" (¬1). لكن إذا نقض العدو العهد إما بقتال أو بإعانة عدو أو قتل مسلم أو أخذ مال انتقض عهدهم لقوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} (¬2). وإذا ظهرت بوادر الغدر والخيانة وما يدل على نقض العهد من المشركين جاز لولي الأمر أن ينبذ إليهم عهدهم لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (¬3). وذلك بإعلامهم بنقض العهد حتى يكون معلومًا لهم كما هو معلوم للمسلمين. وقد نقضت قريش العهد مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث أعانوا بني بكر على خزاعة أحلاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقاتلهم وفتح مكة. وقد جاء الكلام عن الوفاء بالعهد مع غير المسلمين في الفتوى رقم (17030) من فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية وأن الوفاء بالعهد فيما لا يخالف شرع الله تعالى واجب، ما لم يحدث إخلال بالعهد. ومن الأمور التي ينتقض بها العهد: 1 - إذا لم يلتزم الكتابي حكم الإِسلام. 2 - إذا قاتل المعاهد المسلمين. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (3/ 190)، والترمذيُّ (4/ 143)، وقال حسنٌ صحيحٌ. (¬2) سورة التوبة: 12. (¬3) سورة الأنفال: 58.

الأسري

3 - إذا سب الله أو رسوله أو كتابه أو دينه. 4 - إذا تجسس على المسلمين أو أعان عليهم. 5 - إذا لم يؤد الجزية المتفق عليها (¬1). الأسري: جمع أسير وهم من يظفر بهم من المقاتلين ومن في حكمهم. والأسر مشروع، ويدل على مشروعيته قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} (¬2). وفي أسر الأعداء كسر شوكتهم ودفع شرهم وإبعادهم عن ساحة المعركة ومبادلة الأسرى المسلمين بهم. حكم الأسرى من المقاتلين: اتفق الفقهاء على أن النساء والذرية لا يقتلون، وليس لهم إلا الاسترقاق أو الفداء، أما المقاتلون فقد بين الفقهاء حكمهم وفق الآتي: 1 - ذهب الحنفية إلى أن الإِمام مخير بين ثلاثة أمور فقط: القتل، أو الاسترقاق أو المن عليهم بجعلهم أهل ذمة على الجزية. 2 - وذهب المالكية إلى أن الإِمام يخير في الأسرى حسبما يحقق المصلحة بين خمسة أشياء: فإما أن يقتل وإما أن يسترق وإما أن يعتق وإما أن يأخذ الفداء فيه، وإما أن يعقد عليه الذمة ويضرب عليه الجزية لفعل عمر -رضي الله عنه- (¬3). ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (4/ 230)، طبعة مصطفى الحلبي وقوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 175)، وروضة الطالبين للنووي (ص: 1826)، والمغني لابن قدامة (13/ 236). (¬2) سورة محمَّد: 4. (¬3) أثر عمر -رضي الله عنه- أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (6/ 69).

3 - وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الإِمام مخير بين أربعة أشياء: القتل أو الفداء أو المن أو الاسترقاق. فالفقهاء يتفقون على أن الإِمام مخير في ثلاثة منها: القتل أو الرق أو المن ويختلفون في غيرها. ويستدلون للقتل بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} (¬1). "وقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط" (¬2)، قال ابن حجر في بلوغ المرام ورجاله ثقات (¬3). وأما المن والفداء فقد جاء في قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (¬4). ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "منَّ على أبي العاص بن الربيع وعلى ثمامة بن أثال" (¬5)، "وفادى أسيرًا برجلين من أصحابه" (¬6)، "وفادى أساري بدر بالمال" (¬7). وأما الرق فلم يثبت الاسترقاق بنص من القرآن أو السنة وإنما جاء الترغيب في العتق بالسنة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أيما رجل اعتق امرءًا مسلمًا استنقذ الله بكل عضو منه عضوًا منه من النار" (¬8). ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: 67. (¬2) أخرجه أبو داود في المراسيل (337). (¬3) بلوغ المرام (1118). (¬4) سورة محمَّد: 4. (¬5) توضيح الأحكام لابن بسام (3/ 392). (¬6) أخرجه مسلمٌ (3/ 1262). (¬7) أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عون المعبود (3/ 14). (¬8) رواه البخاري (2517).

انتهاء القتال والحرب

ولكن ثبت أن الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم - استرقوا بعض الأسرى أسوة بما يفعله أعداؤهم، وكان الرق موجودًا قبل الإِسلام في مختلف الديانات والأمم وجاء الإِسلام بالحث على العتق وضيق أسباب الرق الكثيرة التي كانت موجودة قبله وحصرها في المحاربين من أعداء المسلمين الذين يقاتلونهم وجعل العتق مصرفًا من مصارف الزكاة وقسمًا من أقسام الكفارات وأكد على حسن معاملة الأرقاء. انتهاء القتال والحرب: ينتهي القتال بأحد الأمورالآتية: 1 - إسلام المقاتلين ودخولهم في دين الله، وفي هذه الحال يكونون مسلمين لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم. 2 - انقضاء مدة المعاهدة المتفق عليها في الهدنة مع الأعداء، وذلك لفعله - صلى الله عليه وسلم - مع المشركين في صلح الحديبية، حيث اتفق معهم على هدنة لمدة عشر سنين. 3 - التزام المشركين بدفع الجزية وكتابة عقد الذمة بينهم وبين المسلمين. 4 - انتصار المسلمين وهزيمة الأعداء واستسلامهم. 5 - إعطاء الأمان بشرطه من الإِمام لجهة أو غيرها، وإعطاء الأمان من آحاد المسلمين لأفراد من الأعداء (¬1). قتلى الحرب من المسلمين: شرع الله الجهاد لإعلاء كلمته وتحقيق الأمن والعدل في ربوع الأرض، واستجاب لذلك عباده المؤمنون وبذلوا أرواحهم وأموالهم في سبيل الله ابتغاء لما ¬

_ (¬1) شرح فتح القدير لابن الهمام (5/ 218)، وجواهر الإكليل للأزهري (1/ 269)، والإقناع للشربيني (5/ 24)، وكشاف القناع (3/ 111).

أعده لهم في الآخرة من علو الدرجات وحسن الجزاء، وقد أطلق عليهم اسم (الشهداء) تكريمًا لهم. قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة النساء: 69.

الشهيد

الشهيد التعريف في اللغة: الشهيد: الحاضر والشاهد، ويطلق الشهيد على المقتول في سبيل الله والجمع شهداء لأن الله شهد له بالجنة (¬1). وفي الاصطلاح: من مات من المسلمين في قتال الكفار وبسببه (¬2). منزلة الشهيد: جاء القرآن الكريم والسنة النبوية ببيان ما أعد الله من منزلة عالية للشهداء، قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3). ومن السنة: ما روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة" (¬4). من يطلق عليه شهيد: الشهيد هو من قتل في معركة في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، سواء قتله غير المسلم أو أصابه سلاح مسلم خطأ أو عاد إليه سلاحه أو سقط عن دابته أو وجد في المعركة قتيلًا ولم يعلم سبب موته أو جرح في المعركة ومات بسبب جرحه. ¬

_ (¬1) لسان العرب لابن منظور مادة: "شهد". (¬2) حاشية ابن عابدين (2/ 262). (¬3) سورة آل عمران: 169 - 171. (¬4) أخرجه البخاريُّ (3/ 1037)، ومسلمٌ (3/ 1498).

غسل الشهيد والصلاة عليه

جاء في الحديث الذي رواه أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذِّكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله" (¬1). ويطلق الشهيد على بعض الحالات التي وردت فيها أحاديث منها: حديث جابر بن عتيك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما تعدون الشهيد فيكم؟ " قالوا: من يقتل في سبيل الله. . . وورد فيه: "المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والحريق وصاحب ذات الجنب والمرأة تموت بِجُمْع (¬2) " (¬3). ومنها حديث سعيد بن زيد مرفوعًا: "من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد" (¬4). وقد جاء الكلام عن الشهيد في الفتوى رقم (6564) من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في السعودية: "الشهيد الحقيقي: من يموت في معركة في سبيل الله، أو يصاب فيها ويموت بجرحه". غسل الشهيد والصلاة عليه: اتفق الفقهاء على أن الشهيد المقتول في المعركة لا يغسل (¬5)، وإنما تنزع منه آلة الحرب ويدفن في ثيابه التي كانت عليه في المعركة لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ [3/ 1137 (2958)]. (¬2) أن تموت المرأة بِجُمْع: أي وفي بطنها ولد. لسان العرب لابن منظور مادة: جمع. (¬3) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 233). (¬4) أخرجه أحمد (1/ 190)، وأبو داود (4772). (¬5) الإفصاح لابن هبيرة (1/ 183).

واختلفوا في الصلاة عليه

النبي - صلى الله عليه وسلم - "أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم" (¬1) واختلفوا في الصلاة عليه: 1 - فذهب أبو حنيفة وأحمدُ في رواية له إلى أنه يصلى عليه لما ورد من أحاديث في ذلك، منها حديث عقبة بن عامر قال: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا وصلى على أهل أحد صلاته على الميت" (¬2). وقالوا إن الصلاة على الميت شرعت إكرامًا له والطاهر من الذنب لا يستغنى عنها كالنبي والصبي. 2 - وذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية وهو رواية عن أحمد إلى أنه لا يصلى عليه للأحاديث الواردة في ذلك، ومنها حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أمر في قتلى أحد بدفنهم، ولم يغسلوا ولم يصل عليهم" (¬3)، ولأن الشهيد قد نال من الشرف بحيث لا يلائم تشفع من هو دونه فيه. ومن السنة أن يدفن الشهداء في مكان قتلهم لما روى جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - "أمر أن يدفن القتلى في أحد في موقع المعركة" (¬4). عمليات الفدائيين في الأعداء من الكفار المحاربين: حكم القيام بها: اختلفت أساليب الحرب وفنون القتال من عصر إلى آخر، ولكنها أكثر تغيرًا وفتكًا في هذا العصر، ومن أساليب القتال تلك قيام المسلم بقتل مجموعة من ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3134). (¬2) أخرجه البخاريُّ (فتح الباري 3/ 209)، ومسلمٌ (4/ 1795). (¬3) أخرجه البخاريُّ (1278). (¬4) أخرجه أحمد (3/ 398).

المحاربين ويتم ذلك بتفجير نفسه وسط الأعداء المقاتلين من الكفار فيموت هو ومن حوله، كما يحدث في فلسطين، وقد اختلف العلماء المعاصرون في مثل هذا الأسلوب: 1 - فذهب بعضهم إلى أن هذا الأسلوب لا يجوز وهو نوع من الانتحار وأنه لم يكن معهودًا من قبل، وفيه إلقاء بالنفس إلى التهلكة والله يقول: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬1). ويقول تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (¬2). 2 - وذهب آخرون إلى جواز ذلك، فقد صرح الحنفية بأنه إن علم أنه يقتل إذا قاتل جاز بشرط أن ينكي في العدو، أما إذا علم أنه لا ينكي فيهم، فإنه لا يحل له أن يحمل عليهم، لأنه لا يحصل بحملته شيء من إعزاز الدين. وقال محمَّد بن الحسن: لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في قتل أو نكاية في العدو. كما ذهب المالكية إلى جواز إقدام الرجل المسلم على الكثير من الكفار إن كان قصده إعلاء كلمة الله، وكان فيه قوة وظن تأثيره فيهم ولو علم ذهاب نفسه، ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثرًا ينتفع به المسلمون فجائز أيضًا، وقيل إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل لأن مقصوده واحد منهم (¬3). وذلك بيَّن في قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 195. (¬2) سورة النساء: 19. (¬3) حاشية ابن عابدين (4/ 137)، وحاشية الدسوقي (2/ 183)، وتفسير القرطبي (2/ 363)، وروضة الطالبين (ص: 229)، والعدة شرح العمدة لبهاء الدين المقدسي (ص: 117). وانظر فقه السنة للسيد سابق (1/ 347).

مَرْضَاتِ اللَّهِ} (¬1). وقد قال رجل من المسلمين يوم اليمامة لما تحصنت بنو حنيفة بالحديقة ضعوني في الحَجَفة (¬2) وألقوني إليهم، ففعل الصحابة وقاتلهم وحده وفتح الباب. ونقل الرازي (¬3) رواية عن الشافعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الجنة، فقال له رجل: أرأيت إن قتلت في سبيل الله فأين أنا؟ قال: "في الجنة"، فألقى تمرات في يديه ثم قاتل حتى قتل (¬4)، وقال ابن العربي (¬5): والصحيح عندي جوازه لأن فيه أربعة أوجه: الأول: طلب الشهادة. الثاني: وجود النكاية. الثالث: تجرئة المسلمين عليهم. الرابع: ضعف نفوس الأعداء ليروا أن هذا صنيع واحد منهم فما ظنك بالجميع. وجاء في توضيح الأحكام: "قال الحافظ: ذهب جمهور العلماء إلى أنه يجوز للرجل الشجاع أن يحمل على الكثير من العدو، إذا كان له قصد حسن، كأن يرهب العدو، أو يجرّئ المسلمين على الإقدام أو نحو ذلك من المقاصد" (¬6). ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 207. (¬2) الرجل هو البراء بن مالك أخو أنس بن مالك. والحَجَفة: ترس يتخذ من الجلود، تفسير القرطبي (2/ 364). (¬3) التفسير الكبير لفخر الدين الرازي (5/ 150). (¬4) أخرجه مسلمٌ (3/ 1309). (¬5) أحكام القرآن لابن العربي (1/ 116). (¬6) توضيح الأحكام لابن بسام (6/ 376).

وجاء في الموسوعة الفقهية: "وربما يشبه ذلك لبس الحزام الناسف وإلقاء النفس أمام دبابات العدو للقضاء عليها مع علمه بأنه سيقتل" (¬1). الراجح: يتبين مما ذكر من أقوال الفقهاء أن تلك الحالة وما يماثلها جائزة لما ذكروه من فوائد للمسلمين، بل هي مرتبة عالية إن تحققت فيها الرغبة الصادقة لإعلاء دين الله وكسر شوكة الكفر ودفع المسلمين إلى الجرأة على أعدائهم، والنيل منهم بتحقيق الشهادة في سبيل الله ولا سيما في هذا العصر الذي اختلت فيها موازين القوى وأصبح للأعداء اليهود في فلسطين وغيرها قوة حربية كبيرة، قد لا يستطيع المسلمون التصدي لهم حاضرًا ولم يبق أمامهم إلا مثل تلك العمليات الاستشهادية قال القرطبي (¬2): "وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت نفسه لإعزاز دين الله وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (¬3). وأما الآية التي استدل بها المانعون فيجاب عنها بما جاء في حديث أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- عندما غزا المسلمون القسطنطينية، فحمل رجل على عسكر العدو، فقال قوم: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: لا، إن هذه الآية نزلت في الأنصار حين أرادوا أن يتركوا الجهاد، ويعمروا أموالهم. وأما هذا، فهو الذي قال الله فيه (¬4): {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} (¬5). ¬

_ (¬1) الموسوعة الفقهية (6/ 11). (¬2) تفسير القرطبي (2/ 363). (¬3) سورة التوبة: 111. (¬4) أخرجه أبو داود (2512)، والترمذيُّ (2972) وصححه، وقال الحاكم: "على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي على تصحيحه، توضيح الأحكام لابن بسام (6/ 375). (¬5) سورة البقرة: 207.

فالتهلكة هي ترك الجهاد وما فيه من عظيم الأجر وحلول النصر، والركون إلى الدنيا وما يترتب على ذلك من ضعف المسلمين وقوة أعدائهم وتسلطهم عليهم وغزوهم في عقر دارهم وإذلالهم، وهو ما يؤدي إلى التهلكة للفرد والأمة، وأما من أفتدى المسلمين والإِسلام بنفسه فقد باعها لله رغبة فيما عنده من عظيم الأجر وجزيل الثواب للشهداء والمجاهدين في سبيله. ويجاب عن الآية الثانية بأنها لا تتناول موضوع الاستدلال، وإنما المراد بها أن يقتل الناس بعضهم بعضا، قال القرطبي (¬1): أجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضا، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل والحرص على الدنيا وطلب المال بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي للتلف ويحتمل أن يقال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، في حال ضجر أو غضب، فهذا كله يتناوله النهي. وليست تلك العمليات انتحارًا، إذ الانتحار قتل للنفس وتخلص منها بعد أن ضاقت الدنيا في وجهه لأي سبب من أسباب الحياة، فهو لا يقصد أبعد من ذلك، وإنما الفداء بالنفس لإعلاء كلمة الله وعز الإِسلام والمسلمين وقهر الأعداء والنكاية بهم شراء للآخرة بالحياة الدنيا فهو لم يقدم على إزهاق نفسه سخطًا لأمر من أمور الدنيا، وإنما أرخصها لهدف أسمى وأعلى ألا وهو الشهادة في سبيل الله، فقد باع نفسه وما يفنى بما يبقى من رضوان الله والدرجات العلى. وقد حققت مثل هذه العمليات نتائج طيبة بالنيل من العدو ورفع الروح المعنوية للمسلمين وأنه يمكن النصر على الأعداء إذا صدق المسلمون مع الله وحققوا عوامل النصر وإن لم يكونوا مثل الأعداء عددًا وعدة كما هي شواهد التاريخ. ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي (5/ 156).

ونرى أن يقيد هذا الجواز بشروط هي: 1 - ألا يقصد قتل نفسه والخلاص من الدنيا. 2 - أن يحاول تنفيذ العملية الفدائية مع المحافظة على نفسه ما أمكن. 3 - أن تكون تلك العمليات موجهة إلى أعداء المسلمين المحاربين من الكفار فقط. 4 - أن يكون فيه مصلحة ظاهرة للمسلمين ونكاية مؤثرة في العدو. 5 - أن تكون تلك العمليات مقرَّة من علماء البلد الذي يحارب العدو؛ لأنهم أدرى بما فيه مصلحة الإِسلام والمسلمين عندهم. وبتحقيق تلك الشروط يتم البعد عن السلبيات التي يمكن أن تقع إذا قيل بالجواز مطلقًا. والله أعلم.

المراجع والمصادر 1 - اختلاف الفقهاء، للطبري طبعة عام 1933 م. 2 - إعانة الطالبين، لأبي بكر السيد البكري، دار إحياء الكتب العربية بمصر. 3 - إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن قيم الجوزية، محمَّد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي أبو عبد الله المتوفى سنة 751 هـ. 4 - الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، محمَّد الشربيني الخطيب، دار إحياء الكتب العربية بمصر. 5 - الاختيارات، لابن تيمية طبعة دار العاصمة. 6 - الأم للشافعي، المطبعة الكبرى الأميرية بمصر 1321 هـ. 7 - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي المتوفى سنة 885، الطبعة الأولى 1376 هـ، مطبعة السنة المحمدية. 8 - البحر الرائق شرح كنز الدقائق، لابن نجيم الحنفي، المطبعة العلمية، الطبعة الأولى. 9 - التفسير الكبير للرازي، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية. 10 - الجامع الصحيح المختصر، محمَّد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي، المتوفى سنة 256. 11 - الجهاد في الإِسلام، د. عبد الله القادري الطبعة الثانية عام 1412 هـ دار المنارة جدة.

12 - السنن الكبرى، لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي المتوفى 458 هـ مطبعة مجلس دائرة المعارف بالهند 1350 هـ. 13 - الشرح الكبير على المقنع، لابن قدامة، شمس الدين عبد الرحمن بن محمَّد بن أحمد بن قدامة أبو الفرج، المتوفى 682 هـ. 14 - العدة شرح العمدة، بهاء الدين المقدسي. 15 - الفتاوى الكبرى، لابن تيمية، مطبعة كردسان العلمية، 1329 هـ. 16 - الفتاوى الهندية، لجماعة من علماء، دار المعرفة للطباعة بيروت. 17 - القاموس المحيط، مجد الدين محمَّد بن يعقوب الفيروزآبادي ط دار الفكر بيروت. 18 - القوانين الفقهية، لابن جزي، محمَّد أحمد الكبلي الغرناطي، المتوفى 741 هـ. 19 - الكافي في فقه الإِمام أحمد المقدسي المكتب الإِسلامي الطبعة الخامسة، 1408 هـ. 20 - المبدع في شرح المقنع، أبو إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمَّد بن عبد الله بن محمَّد بن مفلح، المتوفى 884 هـ، المكتب الإِسلامي بيروت 1400 هـ. 21 - المبسوط للسرخسي، شمس الدين محمَّد بن أحمد بن أبي سهلب أبو بكر، المتوفى 483 هـ. 22 - المجموع شرح المهذب، للنووي. 23 - المستدرك، للحافظ أبي عبد الله محمَّد المعروف بالحاكم، مطبعة مجلس دائرة المعارف بالهند، الطبعة الأولى 1334 هـ.

24 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، للرافعى أحمد المقري المكتبة العلمية بيروت. 25 - المغني، لابن قدامة. أبي محمَّد عبد الله بن أحمد بن محمَّد بن قدامة المقدسي، المتوفى سنة 620، مكتبة الرياض الحديثة بالرياض. 26 - الملخص الفقهي، للشيخ صالح الفوزان نشر رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء الطبعة الأولى 1423 هـ. 27 - الموسوعة الفقهية الكويتية. 28 - الموطأ، للإمام مالك رواية يحيي بن يحيى الليثي، دار النفائس بيروت. 29 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدين أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني المتوفى سنة 587 هـ، المطبعة الجمالية بالقاهرة، سنة 1328 هـ. 30 - بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لمحمد بن رشد الحفيد القرطبي، دار الفكر بيروت. 31 - بلغة السالك لأقرب المسالك، للشيخ أحمد الصاوي، المكتبة التجارية الكبرى بمصر. 32 - بلوغ المرام من أدلة الأحكام، الحافظ بن حجر العسقلاني، المطبعة التجارية بمصر. 33 - تفسير القرطبي، دار الكتاب العربي القاهرة، 1387 هـ. 34 - تكملة المجموع شرح المهذب، محمَّد نجيب المطيعي، المكتبة السلفية، المدينة المنورة.

35 - تكملة فتح القدير على شرح الهداية، شمس الدين أحمد المعروف بقاضي زاده أفندي المكتبة التجارية بمصر. 36 - تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير لشهاب الدين ابن حجر العسقلاني، شركة الطباعة الفنية المتحدة بالقاهرة 1384 هـ. 37 - توضيح الأحكام من بلوغ المرام، لابن بسام. 38 - جواهر الإكليل شرح مختصر خليل، صالح عبد السميع الأزهري، دار إحياء الكتب العربية. 39 - حاشية ابن عابدين المسمى رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، محمَّد أمين بن عابدين مطبعة مصطفى الحلبي بمصر الطبعة الثانية 1386 هـ. 40 - حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، الدسوقي، للدردير، دار الفكر بيروت. 41 - روضة الطالبين، للنووي. وعمد المفتين، النووي، أبو زكريا يحيى بن شرف، المتوفى سنة 676 هـ. 42 - سنن ابن ماجة، الحافظ أبي عبد الله محمَّد بن زيد القزويني 207 - 279 هـ مطبعة الحلبي بمصر. 43 - سنن الدارقطني، علي بن عمر، دار المحاسن للطباعة الفنية القاهرة 1386 هـ. 44 - سنن النسائي، أبو عبد الرحمن بن شعيب النسائي، مطبعة الحلبي بمصر، الطبعة الأولى 1383 هـ.

45 - شرح الخرشي على مختصر خليل، لأبي عبد الله محمَّد الخرشي المتوفى 1101 هـ دار صادر بيروت. 46 - شرح فتح القدير، لكمال الدين محمَّد بن عبد الواحد السيواسى ثم السكندرلاى المعروف بابن الهمام أبي الحسن، المطبعة الكبرى الأميرية بمصر الطبعة الأولى 1316 هـ. 47 - شرح منتهى الإرادات، لمنصور البهوتي، مطبعة أنصار السنة المحمدية 1366 هـ. 48 - صحيح ابن حبان بترتيب بن بلبان، محمَّد بن حبان أحمد أبو القاسم التميمي، المتوفى سنة 354. 49 - صحيح البخاري، لأبي عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاري، مطبعة الحلبي بمصر. 50 - صحيح الجامع الصغير، ناصر الدين الألباني، المكتبة الإِسلامية بمصر. 51 - صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري، المتوفى سنة 261. 52 - ضعيف سنن أبي داود، الشيخ محمَّد ناصر الدين الألباني، المكتب الإِسلامي الطبعة الأولى 1412 هـ. 53 - عون المعبود شرح سنن أبي داود، وللمباركفوري، طبعة دار الكتب العلمية، لبنان. 54 - فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية.

55 - فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأحمد بن حجر العسقلاني، المطبعة السلفية بالمدينة. 56 - فقه السنة، للسيد سابق دار الكتاب العربي، بيروت لبنان الطبعة الثالثة 1397 هـ. 57 - قوانين الأحكام الشرعية، لمحمد بن جزي الكلبي المتوفى 741 هـ مكتبة عالم الفكر، القاهرة. 58 - كشاف القناع عن متن الإقناع، البهوتي، منصور بن يونس بن إدريس البهوتي. 59 - مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية، مطابع الرياض. 60 - مسند أحمد، الطبعة الحديثة المحققة بإشراف الدكتور عبد الله التركي. 61 - مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج، محمَّد الشربينى الخطيب، مطبعة الحلبي 1377 هـ. 62 - مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، لأبي عبد الله محمَّد بن محمَّد بن عبد الرحمن المغربي المعروف بالخطاب المتوفى 902 - 954 هـ، دار الفكر الطبعة الثالثة 1412 هـ. 63 - نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، للرملي، شمس الدين محمَّد بن أبي العباس أحمد بن حمزه بن شهاب الرملي. 64 - نصب الراية، للزيلعي المكتبة الإِسلامية.

الفِقهُ الميَسَّر القضاء - المحماة - التحكيم مَوسُوعة فقهيَّة حَديثَة تتناوَل أحكام الفقه الإسلامي بأسُلوب وَاضح للمختصّين وغيرهم تَأليف أ. د/عبد الله بن محمّد المطلق عضو هَيئة كبار العُلَماء، وعضو اللجنة الدَّائمة للإفتاء د/محمَّد بن إبراهيم الموسَى عضو مجلس الشورى سابقًا، والمجلس الأعلى للأوقاف أ. د/عَبد الله بن محمد الطيّار أستَاذ الدِّراسات العليا بكليَّة الشَّريعة والدِّراسات الإسلامية بجامعة القصيم الجزء الثَّامن مدار الوطن للنشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الفِقهُ الميَسَّر القضاء - المحاماة - التحكيم

حقُوق الطَّبع محفُوظَة الطَّبعَة الثانيَة 1433 هـ - 2012 م مَدَارُ الوَطن للنَّشر المملكة العربية السعودية - المقر الرئيسي: الرياض - الملز ص. ب: 245760 - الرمز البريدي 11312 - هاتف 4792042 (5 خطوط) - فاكس 4723941 البريد الإلكتروني: [email protected] موقعنا على الإنترنت: www.madaralwatan.com الرياض: 0503269316 الغربية: 0504143198 الشرقية: 0503193268 الشمالية والقصيم: 0504130728 التوزيع الخيري للشرقية والجنوبية: 0503193269 التوزيع الخيري لباقي جهات المملكة: 0506436804 التسويق للجهات الحكومية: 0500996987 مبيعات المكتبات الخارجية: 0503193269

مقدمة الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم وبارك على نبي الهدى والرحمة محمَّد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين وبعد: فهذا هو الجزء الثامن من كتابنا المسمى (الفقه الميسر) وفيه نتناول أحد أهم السلطات التي لا تقوم الدولة إلا بها وهي السلطة القضائية وما يتعلق بها من مباحث ومسائل. ومعلوم أنه لا يوجد على وجه الأرض قديمًا وحديثًا مجتمع تستقيم أمور أفراده بدون القضاء؛ إذ لا يوجد مجتمع بشري مثالي يعيش أفراده كما تعيش الملائكة لا يجد الغل طريقًا إلى قلوبهم؛ فالإنسان مجبول بطبعه على الجور والظلم وحب الذات والأنانية، ومن البدهي عندما يتعامل مع بني جنسه من أفراد مجتمعه أن تنشأ عن ذلك خلافات ونزاعات، ولا يمكن فض ذلك إلا عن طريق القضاء، كما أنه لا يمكن ردعه وزجره عن الظلم والعدوان إلا بواسطة العقوبات التي يحكم بها عن طريق القضاء؛ ولهذا قال تعالى في محكم كتابه: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (¬1). فالقضاء بدون أدنى شك من أهم وسائل دفع الفساد في الأرض وحقن الدماء وحفظ الأموال ودفع الظلم وفض النزاعات والخصومات وإظهار الحقوق وردها إلى أربابها، وبه يتحقق نصرة الظالم والمظلوم كما في حديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلومًا أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: "تحجزه ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 251.

أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره" رواه البخاري (¬1)، فهو بالنسبة إلى الضعيف بمثابة سلاح يدرأ به غائلة القوي ويحد من سطوته وبالنسبة إلى القوي بمثابة سراج يضيء له طريق الحق ويحذره من الزيغ عنه. والنظام القضائي الإِسلامي نظام متكامل لأنه جزء من المنظومة الشرعية الإِسلامية التي قال عنها الله سبحانه وتعالي: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬2)، وقال عنِ أحد أهم مصادره: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (¬3)، فهو نظام متكامل وصالح لكل زمان ومكان؛ لأنه يستقي أحكامه من كتاب الله المنزل من خالق السموات والأرض العليم بخلقه والخبير بما يصلحه في جميع أحواله منذ أن خلقه على وجه الأرض إلى أن تقوم الساعة، والحكيم في شرعه لكل ما يصلح البشر في العاجل والآجل قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (¬4)، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6/ 2550) في كتاب المظالم، باب أعن أخاك ظالمًا أو مظلومًا، برقم (6552). (¬2) سورة المائدة: 3. (¬3) سورة النحل: 89. (¬4) سورة السجدة: 4 - 6. (¬5) سورة الأنعام: 73.

كما أنه يستقي أحكامه من سنة نبيه محمَّد - صلى الله عليه وسلم - المبلغ عن الله تعالى وهي المصدر الثاني للتشريع. قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (¬1). (¬2). نسأل الله تعالى أن يوفقنا في هذا العمل ويسددنا للصواب وأن ينفع به. وصلى الله على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم. المؤلفون ¬

_ (¬1) سورة النجم: 3 - 4. (¬2) وقد تناولنا ما يستلزمه القضاء من الدعاوى والمرافعات وطرق الإثبات وكذلك المحاماة والتحكيم وكلها متصلة بالقضاء أداء ونتيجة.

كتاب القضاء

الفِقهُ الميَسَّر كتاب القضاء

القضاء لغة

كتاب القضاء القضاء لغة: الإحكام والإنفاذ: قال ابن فارس: القاف والضاد والحرف المعتل أصل صحيح يدل على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته، ولذلك سمي القاضي قاضيًا؛ لأنه يُحكِمُ الأحكام، ويُنفِّذها (¬1). وقال ابن منظور: أصل معناه: القطع والفصل، يقال: قضى يقضي قضاء إذا حكم، وفصل، وقضاءُ الشيء: إحكامه، وإمضاؤه، والفراغ منه. . والقاضي: القاطع للأمور المحكم لها (¬2). ومنه قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (¬3)، أي حكم ربك ألا تعبدوا إلا إيَّاه (¬4). وقوله تعالى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} (¬5). أي: لفُصِل في الحكم بينهم. واصطلاحًا: عرفه الحنفية بأنه: فصل الخصومات وقطع المنازعات على وجه مخصوص (¬6). وعرفه المالكية بأنه: الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام (¬7). وعرفه الشافعية بأنه: إظهار حكم الشرع في الواقعة ممّن يجب عليه إمضاؤه فيما يرفع إليه. ¬

_ (¬1) مقاييس اللغة (5/ 99). مادة: "قضى". (¬2) لسان العرب (15/ 186). مادة: "قضى". (¬3) سورة الإسراء: 23. (¬4) تفسير الطبري (15/ 62). (¬5) سورة الشورى: 14. (¬6) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين (5/ 352)، لسان الحكام (1/ 218). (¬7) تبصرة الحكام (1/ 9)، مواهب الجليل (6/ 86)، شرح ميارة (1/ 18)، حاشية العدوي (2/ 439).

مشروعية القضاء

وعرفه الحنابلة بأنه: تبيين الحكم الشرعي، والإلزام به، وفصل الخصومات (¬1). وهذه التعريفات متقاربة المعاني وكلها تفيد أن القضاء هو نظر القاضي في خصومة المترافعين وبيان الحكم الشرعي فيها وإلزام الخصوم به. وعرف ابن خلدون منصب القضاء بأنه منصب الفصل بين الناس في الخصومات، حسمًا للتداعي، وقطعًا للتنازع، بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة (¬2). مشروعية القضاء: يدل على مشروعية القضاء الكتاب والسنة والإجماع. فمن الكتاب قول الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} (¬3)، وقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (¬4) .. وقال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬5). فقد جعل الله الحكم بين الناس والفصل في الخصومات جزءًا من مهام الرسل عليهم الصلاة والسلام، والأمر للرسل أمر للخلفاء بعدهم. وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ¬

_ (¬1) شرح منتهى الإرادات (3/ 485). (¬2) مقدمة ابن خلدون (1/ 220). (¬3) سورة النساء: 105. (¬4) سورة المائدة: 49. (¬5) سورة ص: 26.

ومن السنة: أدلة فعلية وقولية

ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬1). فقد ربط الله تعالى الإيمان بقبول التحاكم إليه وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كما وصف الله تعالى المؤمنين بقبول التحاكم إليه، فقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬2). ومن السنة: أدلة فعلية وقولية: 1 - أما الفعلية فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتولى القضاء بنفسه ويولي بعض أصحابه فعن أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سمع جَلَبَةَ خَصْمٍ (¬3) بِبَاب حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فقال: "إنما أنا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِيني الخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَهُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ من بَعْض، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ، فَأقْضِي له، فَمَنْ قَضَيْتُ له بحَقِّ مُسْلِمٍ، فَإِنَّما هِيَ قِطْعَةٌ من النّارِ، فَليَحْمِلهَا، أو يَذَرْهَا" (¬4). وروى أبو داود بسنده عن عَليٍّ -رضي الله عنه- قال: بَعَثَنِي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليَمَنِ قَاضِيًا، فقلت: يا رَسُولَ الله، تُرْسِلُنِي وأنا حَدِيثُ السِّنِّ ولا علمَ لي بِالقَضَاءِ؟ فقال: "إِنَّ الله سَيَهْدِي قَلبَكَ، وَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ، فإذا جَلَسَ بين يَدَيْكَ الخَصْمَانِ، فلا تَقْضِيَنَّ حتى تَسْمَعَ من الآخَرِ كما سَمِعْتَ من الأَوَّلِ، فإنه أَحْرَى أَنْ يَتبَيَّنَ لك القَضَاءُ" قال: فما زِلتُ قَاضِيًا، أو ما شَكَكْتُ في قَضَاءٍ بَعْدُ (¬5). ¬

_ (¬1) سورة النساء: 65. (¬2) سورة النور: 51. (¬3) جلبة خصم: اختلاط الأصوات، والخصم هنا: الجماعة وهو من الألفاظ التي تقع على الواحد والجمع. صحيح مسلم (3/ 1337). (¬4) صحيح مسلم (3/ 1337)، كِتَاب الأَقْضِيَةِ، بَاب الحُكْمِ بِالظَّاهِرِ وَاللَّحْنِ بِالحُجَّةِ، برقم (1713). (¬5) سنن أبي داود، برقم (3582)، وهو في مسند أحمد بن حنبل (1/ 111)، وفي سنن النسائي الكبرى (5/ 117)، برقم (8420)، وفي سنن الترمذيُّ، برقم (1331)، وقال: هذا حَدِيثٌ

حكم القضاء

2 - وأما القولية فمنها ما رواه البخاري ومسلمٌ عن عَمْرِو بن العَاصِ -رضي الله عنه- أنَهُ سمع رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وإذا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطأ، فَلَهُ أَجْرٌ" (¬1). وأمَّا الإجماع: فقد نقله غير واحد منهم ابن قدامة حيث قال: أجمع المسلمون على مشروعية نصب القضاء والحكم بين الناس (¬2). ومنهم النووي حيث جاء في روضة الطالبين: القضاء فرض كفاية بالإجماع (¬3). حكم القضاء: القضاء فرض كفاية على الأمة فإذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وإذا امتنع عنه الجميع أثموا. أما كونه فرضًا فلقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} (¬4). ولأن طباع الناس مجبولة على التظالم، ومنع الحقوق، وقل من ينصف من نفسه، ولا يقدر الإِمام على فصل الخصومات بنفسه، فدعت الحاجة إلى تولية القضاة. وأما كونه على الكفاية؛ فلأنه من الأمر بالمعروف أو من النهي عن المنكر، وهما من فروض الكفاية (¬5). ¬

_ = حَسَنٌ، وفي الأحاديث المختارة (2/ 388)، برقم (774)، وقال: إسناده حسن. وحسَّنه الحافظ في فتح الباري (13/ 171). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 288)، برقم (1300)، وحسّنه في صحيح سنن أبي داود (2/ 393)، برقم (3582). (¬1) صحيح البخاري، برقم (6919)، صحيح مسلم، برقم (1716). (¬2) المغني (10/ 89). (¬3) روضة الطالبين (ص: 1904). (¬4) سورة النساء: 135. (¬5) مغني المحتاج (4/ 372)، كتاب أدب القضاء لابن أبي الدم (ص: 84).

حكم تولي القضاء

حكم تولي القضاء: يعتري تولي القضاء الأحكام الشرعية الخمسة من الوجوب والندب والإباحة والتحريم والكراهة. أولًا: الوجوب: يكون تولي القضاء واجبًا على المسلم في أحوال يتناولها فقهاء المذاهب الفقهية: 1 - قال الحنفية: إذَا كان لا يَصْلُح للقضاء في البلد إلا رَجُلٌ وَاحِدٌ فإنه يجب عليه القَبُولُ إذَا عُرِضَ عليه، لأنَّهُ إذَا لم يَصْلُحْ له غَيْرُهُ تَعَيَّنَ هو لإِقَامَةِ هذه العِبَادَةِ، فَصَارَ فَرْضَ عَيْنٍ عليه، إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ من التَّقْلِيدِ (التعيين) فإذا قُلِّدَ أُفْتُرِضَ عليه القَبُولُ على وَجْهٍ لو امْتَنَعَ من القَبُولِ يَأْثَمُ كما في سَائِرِ فُرُوضِ الأَعْيَانِ (¬1). 2 - وقال المالكية: يجب إذا كان المرشح للقضاء من أهل الاجتهاد، أو من أهل العلم والعدالة ولا يكون هناك قاض، أو ليس في البلد من يصلح للقضاء غيره أو لكونه إن لم يل القضاء وليه من لا تحل ولايته، وكذلك إن كان القضاء بيد من لا يحل بقاؤه عليه ولا سبيل إلى عزله إلا بتصدي هذا إلى الولاية فيتعين عليه التصدي لذلك والسعي فيه إذا قصد بطلبه حفظ الحقوق وجريان الأحكام على وفق الشرع، كما يجب أيضًا قبول القضاء على من يخاف فتنة على نفسه، أو ماله، أو ولده، أو على الناس، إن لم يتول، أو يخاف ضياع الحق له، أو لغيره إن امتنع (¬2). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (7/ 4)، معين الحكام (1/ 20). (¬2) تبصرة الحكام (1/ 14)، الشرح الكبير (4/ 131)، التاج والإكليل (6/ 100)، حاشية العدوي (2/ 439).

ثانيا: الندب

3 - وقال الشافعية: إن تعيَّن للقضاء واحد في ناحية بأن لم يصلح غيره، لزمه طلبه إن لم يعرض عليه للحاجة إليه ولا يعذر لخوف ميل منه بل يلزمه أن يطلب ويقبل ويحترز من الميل كسائر فروض الأعيان ... فإن عرض عليه لزمه القبول فإن امتنع عصى وللإمام إجباره على الأصح؛ لأن الناس مضطرون إلى علمه ونظره فأشبه صاحب الطعام إذا منعه المضطر (¬1). 4 - وقال الحنابلة: يجب على من يصلح للقضاء إذا طلب له ولم يوجد غيره ممّن يوثق به أن يدخل فيه؛ لأن القضاء فرض كفاية ولا قدرة لغيره على القيام به إذن فتعين عليه كغسل الميت، ولئلا تضيع حقوق الناس (¬2). وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض على الكفاية. . . ومثلُ إمارةِ حرب، وقضاء، وحسبة وفروع هذه الولايات إنما شرعت للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. . . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مدينته النبوية يتولى جميع ما يتعلق بولاة الأمور ويولى في الأماكن البعيدة عنه. . . والمقصود هنا أن هذه الأعمال التي هي فرض على الكفاية متى لم يقم بها غير الإنسان صارت فرض عين عليه لا سيما إن كان غيره عاجزًا عنها (¬3). ثانيًا: الندب: ويكون القضاء مندوبًا إليه وقد جاء ذكر ذلك في المذاهب الفقهية: 1 - قال الحنفية (¬4): يكون مستحبًا إذا وجد من يَصْلُحُ للقضاء لَكِنَّهُ هو أَصْلَحُ وَأَقْوَمُ بِهِ. ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (4/ 373). (¬2) شرح منتهى الإرادات (3/ 486)، كشاف القناع (6/ 287). (¬3) مجموع الفتاوى (28/ 80 - 82). (¬4) الفتاوى الهندية (3/ 306).

2 - وعند المالكية يستحب في حالتين، قال ابن فرحون المالكي: ويستحب إذا كان هناك عالم خفي علمه عن الناس فأراد الإِمام أن يشهره بولاية القضاء ليعلم الجاهل، ويفتي المسترشد، أو كان هناك خامل الذكر لا يعرفه الإِمام ولا الناس فأراد السعي في القضاء؛ ليعرف موضع علمه فيستحب له تحصيل ذلك والدخول فيه بهذه النية (¬1). 3 - وقال الشافعية (¬2): يندب له طلب القضاء في ثلاث حالات: إن كان خاملًا (غير مشهور بين الناس) يرجو بالقضاء نشر العلم لتحصل المنفعة بنشره إذا عرفه الناس، أو لم يكن خاملًا لكن كان محتاجًا إلى الرزق فإذا ولي حصل له كفايته من بيت المال بسبب هو طاعة لما في العدل من جزيل الثواب، ويندب الطلب أيضًا إذا كانت الحقوق مضاعة؛ لجور أو عجز، أو فسدت الأحكام بتولية جاهل فيقصد بالطلب تدارك ذلك. 4 - وعند الحنابلة يكون مستحبًا في حالتين: إحداهما إذا طلب منه مع خموله وفقره، جاء في الإنصاف للمرداوي الحنبلي: قَوْلُهُ وإن طُلِبَ فالأفضل أن لا يُجِيبَ إلَيْهِ. . . وَقيلَ: الأفضل الإجابة إليه مع خُمُولِهِ قاله المُصَنِّفُ في المغنى وَالكَافِي وَالشَّارِح. وقال ابن حَامِدٍ: إن كان رَجُلًا خَامِلًا لَا يُرْجَعُ إلَيْهِ في الأحكام فَالأَوْلَى له التَّوْلِيَة لِيُرْجَعَ إليه في ذلك وَيَقُومَ الحَقُّ بِهِ وَينْتَفِعَ بِهِ المُسْلِمُونَ. والحالة الثانية: إذا قصد بطلبه نصر الحَقِّ وَدَفْعِ غَيْرِ المُسْتَحِقِّ وهو وجه عندهم، جاء في الإنصاف: قَوْلُهُ فإن وُجِدَ غَيْرُهُ كُرِهَ له طَلَبُهُ بِغَير خِلَافٍ في المَذْهَبِ يعني فِيمَا إذا اطّلَعَ عليه وهو المَذْهَبُ وعليه الأصحاب وَقَطَعَ به كَثِيرٌ ¬

_ (¬1) تبصرة الحكام (1/ 14 - 15)، التاج والإكليل (6/ 102). (¬2) مغني المحتاج (4/ 374).

منهم، وَعَنْهُ لَا يكره له طَلَبُهُ لِقَصْدِ الحَقِّ وَدَفْعِ غَيْرِ المُسْتَحِقِّ، وَقيلَ: يكره مع وُجُودِ أصلح منه أو غناه عنه أو شُهْرَتِهِ ذكره في الرِّعَايَةِ. قال في الفُرُوع: وُيتَوَجَّهُ وَجْهٌ بَل يُسْتَحَبُّ طلبه لِقَصْدِ الحَقِّ وَدَفْعِ غَيْرِ المُسْتَحِقِّ (¬1). ثالثًا: الإباحة: ويكون القضاء مباحًا في حالات تناولها الفقهاء: قال الكاساني من الحنفية: ويكون القَضَاءُ مباحًا إذَا عُرِضَ على من يَصْلُحُ له من أَهْلِ البَلَدِ وكان في البَلَدِ عَدَدٌ يَصْلُحُونَ له فلَا يُفْتَرَضُ عليه القَبُولُ بَل هو في سَعَةٍ من القَبُولِ وَالتَّرْكِ (¬2). وقال المالكية: يباح إذا كان الطالب للقضاء فقيرًا، وَلَهُ عِيَالٌ، فَيَجُوزُ لَهُ السَّعْيُ في تَحْصِيلهِ؛ لِيَسُدَّ خَلَّتَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَقْصِدُ بِهِ دَفْعَ ضَرَرٍ عَنْ نَفْسِهِ فَيُبَاحُ لَهُ أَيْضًا (¬3). وقال الشافعية: إن كان غيره مثله وسئل عن توليه للقضاء بلا طلب فله القبول؛ لأنه من أهله، ولا يلزمه على الأصح؛ لأنه قد يقوم به غيره (¬4). قال الماوردي: الحالة الثالثة أن لا يكون في القضاء ناظر (قاض) وهو خال من وال عليه فيراعى حاله في طلبه فإن كان لحاجته إلى رزق القضاء المستحق في بيت المال كان طلبه مباحًا (¬5). ¬

_ (¬1) الإنصاف للمرداوي (11/ 156). (¬2) بدائع الصنائع (7/ 3)، معين الحكام (1/ 20). (¬3) تبصرة الحكام (1/ 14). (¬4) مغني المحتاج (4/ 373). (¬5) الأحكام السلطانية (1/ 83).

وقال البهوتي من الحنابلة: "ومن كان من أهله أي القضاء ويوجد غيره مثله في الأهلية فله أن يليه ولا يجب عليه الدخول فيه؛ لأنه لم يتعين عليه، والأولى أن لا يجيب إذا طلب إذَن؛ لما فيه من الخطر والشقة الشديدة ولما في تركه من السلامة وذلك طريقة السلف، وقد أراد عثمان تولية ابن عمر القضاء فأبى" (¬1). رابعًا: التحريم: يحرم تولي القضاء في حالات ونبينها فيما يأتي: 1 - قال الحنفية: يحرم أن يسعى في طلب القضاء إنْ عَلِمَ من نَفْسِهِ العَجْزَ عنه، وَعَدَمَ الإِنْصَافِ فيه لمِا يَعْلَمُ من بَاطِنِهِ من اتِّبَاعِ الهَوَى ما لَا يَعْرِفُونَهُ (¬2). 2 - وقال المالكية: يحرم أَنْ يَسْعَى في طَلَبِ القَضَاءِ وَهُوَ جَاهِلٌ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ القَضَاءِ، أَوْ يَسْعَى فِيهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ العِلمِ لَكِنَّهُ مُتَلَبِّسٌ بِما يُوجِبُ فِسْقَهُ، أَوْ كَانَ قَصْدُهُ بِالوِلَايةِ الِانْتِقَامَ مِنْ أَعْدَائِهِ، أَوْ قَبُولَ الرِّشْوَةِ مِنْ الخُصُومِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ المَقَاصِدِ، فَهَذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ السَّعْيُ في القَضَاءُ (¬3). 3 - وقال الشافعية: يحرم ذلك إذا كان القضاء في مستحقه ومن هو أهله، ويريد أن يعزله عنه إما لعداوة بينهما، وإما ليجرَّ بالقضاء إلى نفسه نفعًا فهذا الطلب محظور وهو بهذا الطلب مجروح (¬4). قال الماوردي: ويحرم إذا قصد انتقامًا من الأعداء أو اكتسابًا بالارتشاء، وجعل من المكروه طلبه للمباهاة والاستعلاء ونوزع في ذلك، وجرى بعضهم على الحرمة؛ للأحاديث الدالة عليه وهو ظاهر (¬5). ¬

_ (¬1) كشاف القناع (6/ 287). (¬2) الفتاوى الهندية (3/ 306)، معين الحكام (1/ 21). (¬3) تبصرة الحكام (1/ 14)، التاج والإكليل (6/ 102). (¬4) الأحكام السلطانية (1/ 83). (¬5) 4/ 374.

4 - قال الحنابلة: يحرم تولي القضاء على من لا يحسنه ولم تجتمع فيه شروطه؛ لعدم صحة قضائه فيعظم الغرر والضرر (¬1). خامسًا: الكراهة: ويكون تولي القضاء مكروها في حالات أوردها الفقهاء: 1 - قال الحنفية: أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلقَضَاءِ لَكِن غَيْرَهُ أَصلَحُ منه فيكره توليه له (¬2). 2 - وقال المالكية: يكره أن يكون سعيه في طلب القضاء لتحصيل الجاه والاستعلاء على الناس، ولو قيل: إنه يحرم كان وجهه ظاهرًا لقوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬3). (¬4). 3 - وقال الشافعية: إن قصد بطلب القضاء المباهاة والمنزلة فقد اختلف في كراهية ذلك مع الاتفاق على جوازه. فكرهته طائفة؛ لأن طلب المباهاة والمنزلة في الدنيا مكروه قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬5)، وذهبت طائفة أخرى إلى أن طلبه لذلك غير مكروه؛ لأن طلب المنزلة مما أبيح ليس بمكروه وقد رغب نبي الله يوسف -عليه السلام- إلى فرعون في الولاية والخلافة فقال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (¬6) فَطَلَبَ الولايةَ ووصف نفسه بما يستحقها به من ¬

_ (¬1) كشاف القناع (6/ 287)، منتهى الإرادات (3/ 487). (¬2) الفتاوى الهندية (3/ 306). (¬3) سورة القصص: 83. (¬4) تبصرة الحكام (1/ 14)، مواهب الجليل (6/ 103). (¬5) القصص: 83. (¬6) سورة يوسف: 55.

الحكمة من مشروعية القضاء

قوله: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (¬1). قال الخطيب الشربيني: "وإذا لم يكن خاملًا بل مشهورًا ولا محتاجًا للرزق بل مكفيًا، فالأولى له ترك طلب القضاء لما فيه من الخطر من غير حاجة، وينشر العلم والفتيا، قلت كما قال الرافعي في الشرح: ويكره له حينئذ الطلب على الصحيح، وكذا قبول التولية أيضًا. والثاني لا كراهة في طلب ولا قبول بل هما خلاف الأولى" (¬2). 4 - وقال الحنابلة: يكره له طلب القضاء، وكذلك الإمارة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن سمرة: "لَا تَسْأَل الإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْألةٍ وُكِلتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْألةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا" متفق عليه (¬3). (¬4). الحكمة من مشروعية القضاء الحكمة من مشروعية القضاء أنه وسيلة الدولة في قمع الظالم، ونصرة المظلوم، وَقَطْعِ الخُصُومَاتِ وإيصال الحقوق إلى أهلها وإقامة الحدود (¬5). قال الخرشي: "القَضَاءُ مِنْ أَعْظَمِ المَرَاتِبِ لمِا فِيهِ مِنْ فَصْلِ الخُصُومَاتِ، وَإِقَامَةِ الحُدُودِ، وَنَصْرِ المَظْلُومِ، وَكَفِّ الظَّالِمِ" (¬6). وقال ابن قدامة: "إنّ في القضاء أمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر، ونصرة المظلوم، وأداء الحق إلى مستحقه، وردًا للظالم عن ظلمه، وإصلاحًا بين الناس، ¬

_ (¬1) الأحكام السلطانية (1/ 83). (¬2) مغني المحتاج (4/ 374). (¬3) صحيح البخاري، برقم (6248)، صحيح مسلم (1652). (¬4) كشاف القناع (6/ 288). (¬5) معين الحكام (1/ 11)، درر الحكام شرح مجلة الأحكام (4/ 516)، تبصرة الحكام (1/ 15). (¬6) شرح مختصر خليل (9/ 435).

من يملك تولية القضاة؟

وتخليصا لبعضهم من بعض وذلك من أبواب القرب" (¬1). وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "والمقصود من القضاء وصول الحقوق إلى أهلها، وقطع المخاصمة" (¬2). من يملك تولية القضاة؟ يتفق الفقهاء على أن الذي يملك ولاية تقليد القضاء هو الإِمام؛ لأن هذه الولاية من المصالح العامة التي يختص بها الإِمام بعموم ولايته؛ إذ هو المستخلف على الأمة والقائم بأمرها والمتكلم بمصلحتها والمسئول عنها، ولا يجوز الافتيات عليه في ذلك، ولا خلاف أن ذلك متعين عليه عند الحاجة وله أن ينيب غيره في ذلك، وله أن يتولاه بنفسه كما كان يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). قال الإِمام أحمد: "لا بد للناس من حاكم (قاض) أتذهب حقوق الناس؟ " (¬4). وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "يجب على الإِمام أن ينصب حاكمًا (قاضيًا) عند الحاجة والمصلحة إذا لم تصل الحقوق إلى مستحقيها، أو لم يتم فعل الواجب وترك المحرم إلا به، وقد يستغنى عنه الإِمام إذا أمكنه مباشرة الحكم بنفسه، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يباشر الحكم، واستيفاء الحساب بنفسه، وفيما بعد عنه يولى من يقوم بالأمر، ولما كثرت الرعية على عهد أبى بكر وعمر والخلفاء استعملوا القضاة" (¬5). ¬

_ (¬1) المغني (10/ 89). (¬2) مجموع الفتاوى 35/ 355. (¬3) روضة القضاة (1/ 61، 73)، معين الحكام (ص: 10)، أدب القاضي للماوردي (1/ 137، 139)، كتاب أدب القضاء لابن أبي الدم (ص: 28)، تبصرة الحكام (1/ 21)، المغني (10/ 153)، الكافي في فقه ابن حنبل (4/ 435)، كشاف القناع (6/ 288). (¬4) المغني (10/ 89)، المبدع (10/ 4). (¬5) مجموع الفتاوى (31/ 87).

الترغيب في القضاء

الترغيب في القضاء: إن مكانة القضاء من الدين عظيمة، فهو يقوم على العدل بين الناس به قامت السموات والأرض وهو من جملة ما كُلّفَ به الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام قال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1). وقال الله تعالى مخاطبًا خاتم رسله - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (¬2). وقال سبحانه: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬3). فولاية القضاء رتبة دينية ومنصب شرعي، وفيه فضل عظيم لمن قوي على القيام به وأدى الحق فيه، والواجب اتخاذ ولاية القضاء دينًا، وقربة فإنها من أفضل القربات إذا وُفِيَتْ حقها فقد بين الله تعالى في الآية السابقة أنه سبحانه يحب المقسطين وأي شرف أعظم من هذا؟ وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ المُقْسِطينَ عِنْدَ الله على مَنَابِرَ من نُورٍ عن يَمِينِ الرحمن -عَزَّ وَجَلَّ-، وَكِلتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فيَ حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وما وَلُوا" (¬4). وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولاية القضاء من النعم التي يباح الحسد والغبطة عليها، فعن عَبْدَ الله بن مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَا حَسَدَ إلا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتاهُ الله مَالًا فَسُلِّطَ على هَلَكَتِهِ في الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ الله الحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْفِي بها وَيُعَلِّمُهَا" (¬5). ¬

_ (¬1) سورة ص: 26. (¬2) سورة المائدة: 49. (¬3) سورة المائدة: 42. (¬4) صحيح مسلم (3/ 1458)، كِتَاب الإمَارَةِ، بَاب فَضِيلَةِ الإِمَامِ العَادِلِ وَعُقُوبَةِ الجائِرِ وَالحَثِّ على الرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ وَالنَّهْي عن إِدْخَالِ المَشَقَّةِ عليهم، برقم (1827). (¬5) صحيح البخاري، برقم (73)، صحيح مسلم، برقم (816).

التحذير من تولي القضاء

ولعلو رتبة القضاء وعظيم فضله جعل الله لمن حكم بين الناس مع أهليته أجرًا على اجتهاده وإن لم يصب في حكمه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وإذا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطأَ فَلَهُ أَجْرٌ" (¬1)، وإنما أُجر على اجتهاده وبذل وسعه لا على خطئه (¬2). وقد جاء بذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} (¬3) فَأثنَى عَلَى دَاوُد بِاجْتِهَاده، وَأثنَى عَلَى سُلَيمانَ بِإِصَابَتِهِ وَجْهَ الحُكْمِ. وقد قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (¬4). التحذير من تولي القضاء: كان بعض أئمة السلف يحجم عن القضاء ويمتنع عنه أشد الامتناع حتى لو لحقه أذى في ذلك خوفًا على نفسه من خطره والوعيد الشديد الذي وردت السنة به على من تولى القضاء ولم يؤد الحق فيه (¬5)، ومن ذلك: 1 - ما رواه عبد الله بن أَوْفَى -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ مع القَاضِي ما لم يَجُرْ فإذا جَارَ تَخَلَّى الله عنه وَلَزِمَهُ الشَّيْطَانُ" (¬6). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، برقم (6919)، صحيح مسلم، برقم (1716). (¬2) معين الحكام (ص: 12)، تبصرة الحكام (1/ 12 - 13)، كتاب أدب القضاء لابن أبي الدم (ص: 57)، كشاف القناع (6/ 286). (¬3) سورة الأنبياء: 78 - 79. (¬4) سورة العنكبوت: 69. (¬5) كأبي قلابة، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة، والشافعيُّ كتاب أدب القضاء لابن أبي الدم (ص: 63)، مغني المحتاج (4/ 373)، المغني (10/ 89). (¬6) سنن الترمذيُّ، برقم (1330)، سنن ابن ماجه، برقم (2312)، المستدرك على الصحيحين (4/ 105)، برقم (7026)، وقال: الإسناد صحيح، ووافقه الذهبي، صحيح ابن حبان

2 - وما رواه أبو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من وَليَ القَضاءَ، أو جُعِلَ قَاضِيًا بين الناس فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ" (¬1). 3 - وما رواه بريْدَةَ عن أبيه -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلم قال: "القضاة ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس عن جهل فهو في النار" (¬2). ¬

_ = (11/ 448)، برقم (5062)، وحسنه محققه شعيب الأرنؤوط. قال الحافظ: رواه الترمذيُّ وابن ماجه وابن حِبَّانَ وَالحاكِمُ من حديث عبد الله بن أبي أَوْفَى. وزاد ابن ماجه: "فإذا جَارَ وَكَّلَهُ اللهُ إلَى نَفْسِه"، وَلِلحَاكِم: "فهذا جَارَ تَبْرَأَ اللهُ منهَ" وقال التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا من حديث عِمْرَانَ القَطَّانِ. قُلتُ: وَفِيهِ مَقَالٌ إلَّا أنَّهُ ليس بالمَتْرُوكِ، وقد اسْتَشْهَدَ بِهِ البُخَارِيُّ، وَصَحَّحَ له ابن حبَّانَ. تلخيص الحبير (4/ 181). وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/ 269)، برقم (1253). (¬1) مسند أحمد بن حنبل (2/ 365)، سنن أبي داود، برقم (3572)، سنن النسائي الكبرى (3/ 462)، برقم (5923)، سنن ابن ماجه، برقم (2308)، سنن الترمذيُّ، برقم (1325)، سنن الدارقطني (4/ 203)، المستدرك على الصحيحين (4/ 103)، برقم (7018)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. قال الحافظ العراقي: إسنادُهُ صحيحٌ. المغني عن حمل الأسفار (2/ 939)، برقم (3435). وقال ابن الملقن: هذا الحديث حسن. البدر المنير (9/ 546). وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 391)، برقم (3572). وقال الحافظ: أَعَلَّهُ ابن الجوْزِيِّ فقال: هذا حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ، وَلَيْسَ كما قال وَكَفَاهُ قُوَّةً تَخْرِيجُ النَّسَائِي له، وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ الخِلَافَ فيه على سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ قال وَالمَحْفُوظُ عن سَعِيدٍ المَقبُرِيّ عن أبي هُرَيْرَةَ. التلخيص الحبير (4/ 184). (¬2) سنن النسائي الكبرى (3/ 461)، برقم (5922)، سنن أبي داود، برقم (3573)، قال أبو دَاوُد: وَهَذَا أَصَحُّ شَيْءٍ، سنن ابن ماجه، برقم (2315)، سنن الترمذيُّ، برقم (1322)، سنن البيهقي الكبرى (10/ 117)، برقم (20142)، المستدرك على الصحيحين (4/ 101)، برقم (7012)، المعجم الكبير (2/ 21)، برقم (1156)، المعجم الأوسط (4/ 63)، برقم (3616).

وقد أجاب بعض العلماء عن ذلك بأن الوعيد إنما هو خاص بقضاة الجور قال ابن فرحون: إن كل ما جاء من الأحاديث التي فيها تخويف ووعيد لمن تولى القضاء إنما هي في حق قضاة الجور أو الجهّال الذين يُدْخِلُون أنفسهم في هذا المنصب بغير علم ففي هذين الصنفين جاء الوعيد. أما الحديث الأول فإنه يتضمن شرف القضاء وأن الله مع القاضي العادل، وأما الحديث الثاني ففيه دليل على فضيلة القاضي بالحق؛ إذ جعله ذبيح الحق امتحانا له؛ لِتَعْظُمَ له المثوبة امتنانًا ويبلغ بذلك حال الشهداء الذين لهم الجنة (¬1). وَأَمَّا الحديث الثالث فإن الوعيد فيه خاص بالجائر والجاهل بخلاف المجتهد في طلب الحق والحكم به ففيه بيان فضله وقد تقدم أن المجتهد في طلب الحق له أجر ولو أخطأ ولم يصب الحق. ولقد تولى رسول - صلى الله عليه وسلم - القضاء وتولى بعده الخلفاء الراشدون -رضي الله عنهم -، وقضوا بين الناس بالحق، ودخولهم فيه دليل على علو قدره، ووفور أجره، ومن بعدهم تبع لهم، ووليه بعد الصحابة أكابر التابعين وتابعيهم. ومن كره الدخول في القضاء من العلماء مع فضلهم وصلاحيتهم، وصلاحهم فهو محمول على المبالغة في ورعهم وسلوك طريق السلامة فإن الأمر فيه خطير، ولعلهم رأوا من أنفسهم فتورًا، أو خافوا التقصير فيه أو أن لا يُنَفَّذَ ما حكموا به، أو أنه لم يتعين عليهم؛ لوجود غيرهم، أو خافوا من الاشتغال به الإقلال من وظائفهم في العبادات وتحصيل العلم وغير ¬

_ = قال الحافظ العراقي: إسنادُهُ صحيحٌ. المغني عن حمل الأسفار (1/ 40)، برقم (152). وقال ابن الملقن: هذا الحديث صحيح. البدر المنير (9/ 552). وقال ابن عبد الهادي: إسناده جيد. المحرر في الحديث (1/ 637)، برقم (1170). وقال أيضًا في تنقيح تحقيق أحاديث التعليق (3/ 531): حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد (4/ 196). وقال أيضًا ورواه الطبراني في الكبير ورجال الكبير ثقات. مجمع الزوائد (4/ 193). وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 391)، برقم (3573). (¬1) تبصرة الحكام (1/ 13).

الجور في الحكم

ذلك من احتمالات (¬1). الجور في الحكم: إن الجور في الحكم من الكبائر وهو مردود على من قضى به قال أبو عمر بن عبد البر: "أجمع العلماء على أن الجور في الحكم من الكبائر لمن تعمد ذلك عالمًا به"، وقال: "وأجمع العلماء أن الجور البين والخطأ الواضح المخالف للإجماع والسنة الثابتة المشهورة التي لا معارض لها مردود على كل من قضى به" (¬2). أركان القضاء يذكر الفقهاء للقضاء أركانًا خمسة وهي كالآتي (¬3): 1 - القاضي: وهو من يقوم بفصل الخصومة المعروضة أمامه. وقد تقدم أن تعيينه من اختصاص ولي الأمر أو من ينيبه. 2 - المقضي به: وهو الحكم الذي يصدر عن القاضي لأجل حسم النزاع، وقطع المخاصمة، وهو إما بإلزام المحكوم عليه فيقول: حكمتُ عليك بكذا، وهذا يسمى قضاء إلزام مثل ما يقع من القضاة في القسمة الجبرية، وإما بمنع المنازعة بقوله للمدعي: ¬

_ (¬1) معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام (1/ 12 - 19)، تبصرة الحكام (1/ 12 - 16)، كتاب أدب القضاء لابن أبي الدم (ص: 62 - 64)، مغني المحتاج (4/ 373 - 374)، المغني (10/ 89 - 90). (¬2) التمهيد لابن عبد البر (5/ 74)، والاستذكار للمؤلف نفسه (8/ 568). (¬3) تبصرة الحكام (1/ 64، 93، 96)، درر الحكام (4/ 518 - 523)، معين الحكام (1/ 5، وما بعدها)، حاشية ابن عابدين (5/ 352 - 354)، كشاف القناع (6/ 285)، الموسوعة الفقهية (33/ 291، 326، 327)، القضاء في الإِسلام (ص: 16 - 18). للدكتور محمَّد سلام مدكور.

3 - المقضي فيه

ليس لك حق قبل خصمك بعد عجزك عن الإثبات، وحلف المدعى عليه، وهذا يسمى بقضاء التَّرْك، ويسمى صرف النظر عن الدعوى، ولا بد من أن تكون عبارة الحكم واضحة قاطعة في الدلالة. 3 - المقضي فيه: ويسمى بالقضية أو الواقعة أو الحادثة، ويُقَسَّمُ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: القِسْمُ الأوَّلُ: دعوى يَكُونُ الحَقُّ فيها لله تعالى كَحَدِّ الزِّنَا وَحَدِّ الشُّرْبِ. القِسْمُ الثَّانِي: يَكُونُ الحَقُّ فيها للعَبْدِ كدَعْوَى زيدٍ عَلَى عَمْرٍو أنه يطلبه مبلغًا محددًا من المال. القِسْمُ الثَّالِثُ: دعوى يَجْتَمِعَ فيها الحَقَّانِ مَعًا وَيَكُونُ حَقُّ العَبْدِ غَالِبًا كَالقِصَاصِ وَالتَّعْزِيرِ. القِسْمُ الرابع: دعوى يَجْتَمِعَ فيها الحقَّانِ مَعًا وَيَكُونُ حَقُّ الله غَالِبًا كَحَدِّ القَذْفِ وَحَدِّ السِّرقَةِ. 4 - المحكوم عليه: وهو من يصدر الحكم ضده وهو الإنسان دائمًا إذ هو الذي يستوفى منه حقوق الشرع، أو حقوق العباد، وأما حقوق الشرع فتستوفى منه سواء وجد مدع عليه أو لا بخلاف حقوق العباد. 5 - المحكوم له (المقضي له): وهو الذي يدعي الحق، ولا بد أن يدعي الحق المحكوم به، ويطلب الحكم له به، سواء بنفسه أم بواسطة نائب عنه، وكذا لا بد من أن يكون حاضرًا هو أو نائبه. وإذا كان الحق خالصًا لله أو حق الله فيه غالب فإن المحكوم له هو الشرع،

أنواع القضاء

وهنا لا تشترط الدعوى من شخص معين يكون صاحب حق وإنما تكون دعوى حسبة يتقدم بها المحتسب ممّن عين رسميًا أو أحد أعوانه أو أي شخص محتسب. وذهب ابن فرحون (¬1) والطرابلسي (¬2) إلى أن أركان القضاء ستة؛ لأنهم جعلوا السادس (كيفية القضاء) أو طرق القضاء (من الدعوى ووسائل الإثبات) والحقيقة أن طرق القضاء أو كيفية القضاء ليست ركنًا من أركان القضاء فهي ليست جزءًا من أجزائه وإنما هي شرط فيه لتوقفه عليها فعدها ركنًا من أركان القضاء من باب التسامح والتوسع في معنى الركن، إذ يريدون به ما يتوقف عليه الشيء وهو أعم من كونه شرطًا أو ركنًا (¬3). أنواع القضاء: القضاء في الشريعة الإِسلامية علي أربعة أنواع هي: أولًا: القضاء العادي: 1 - فصل الخصومات، والمنازعات بين الناس إما عن صلح، أو تراض، أو إجبار بحكم بات. 2 - إقامة حدود الله تعالى. 3 - النظر في الدماء والجروح والتعازير. 4 - تصفح حال الشهود والأمناء، واختيار الأوصياء. ¬

_ (¬1) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام (1/ 4). (¬2) معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام (1/ 4). (¬3) القضاء في عهد عمر بن الخطاب (1/ 41). للدكتور ناصر الطريفي، المرافعات الشرعية لنفس المؤلف (ص: 33).

ثانيا: قضاء التحكيم

5 - استيفاء الحقوق وإيصالها إلى مستحقيها، وقمع الظالمين عن التعدي والغصب وغير ذلك. 6 - الولاية على من كان ممنوع التصرف لجنون أو صغر، والحجر على السفيه والمبذر، ورعاية اليتامى والقاصرين، وحفظ أموالهم واستثمارها بالطرق المشروعة. 7 - تزويج الأيامى، ومن لا ولي لها؛ لأن القاضي ولي من لا ولي له. 8 - تنفيذ الوصايا بحسب شروط الموصي إذا كانت في حدود ما أباحه الشرع. وقد صدر نظام القضاء في المملكة العربية السعودية بالمرسوم الملكي رقم م / 64، وتاريخ 14/ 7 / 1395 هـ وهو يشتمل على خمس وثمانين مادة وهي تنظيم القضاء واختصاصاته وتعيين القضاء ونقلهم وعزلهم وجميع ما يحقق رسالة القضاء على الوجه المناسب شرعًا وقد نص في مادته الأولى على استقلال القضاء وأنه لا سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإِسلامية والأنظمة المرعية التي تحقق المصلحة ولا تتعارض مع أحكام الشريعة الإِسلامية وأنه ليس لأحد التدخل في القضاء. ثانيًا: قضاء التحكيم: وهو: تولية الخصمين فأكثر شخصًا آخر أو أكثر للحكم بينهم بشرع الله (¬1). ويدل على مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع. فمن الكتاب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ¬

_ (¬1) البحر الرائق (7/ 24)، درر الحكام (4/ 523)، معجم لغة الفقهاء (1/ 123)، القضاء في الإِسلام للدكتور محمَّد سلام مدكور (ص: 131).

{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬1). وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (¬2). ومن السنة ما رواه البخاري ومسلمٌ عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- قال: لما نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ على حُكْمِ سَعْد بن مُعَاذٍ، بَعَثَ (إليه) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان قَرِيبًا منه، فَجَاءَ على حِمَارٍ، فلما دَنَا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُومُوا إلى سَيِّدِكُمْ" فَجَاءَ فَجَلَسَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: "إِنَّ هَؤُلَاءِ نَزَلُوا على حُكْمِكَ" قال: فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ المُقَاتِلَةُ، وَأَنْ تسبي الذُّرِّيَّةُ، قال: "لقد حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ المَلِكِ" (¬3). وفي لفظ لمسلم: "قضيت بحكم الله". وما رواه أبو داود بسنده عن شُرَيْحٍ عن أبيه هَانِئٍ أنَّهُ لَمَّا وَفَدَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع قَوْمِهِ، سَمِعَهُمْ يَكْنُونَهُ بأَبِي الحَكَمِ، فَدَعَاهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إِنَّ الله هو الحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الحُكْمُ؛ فَلِمِ تُكْنَّى أَبَا الحَكَمِ؟ " فقال: إِنَّ قَوْمِي إذا اخْتَلَفُوا في شَيْءٍ أَتَوْنِي، فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ فرَضِيَ كِلَا الفَرِيقَيْنِ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أَحْسَنَ هذا" (¬4). ومحل الشاهد إقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتحسينه لتحكيم أبي شريح بين قومه. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 95. (¬2) سورة النساء: 35. (¬3) صحيح البخاري (3/ 1107)، كتاب الجهاد، بَاب إذا نَزَلَ العَدُوُّ على حُكْمِ رَجُلٍ، برقم (2878)، وصحيح مسلم (3/ 1388)، كتاب الجهاد والسير، بَاب جَوَازِ قِتَالِ من نَقَضَ العَهْدَ، وَجَوَازِ إِنْزَالِ أهْلِ الحِصْنِ على حُكْمِ حَاكِمٍ عَدْلٍ أَهْلٍ لِلحُكْمِ، برقم (1768). (¬4) سنن أبي داود (4/ 289)، كتاب الأدب، بَاب في تَغْيِيرِ الِإسْمِ القَبِيحِ، برقم (4955). وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 216)، برقم (4655). وصححه أيضًا في صحيح سنن النسائي (3/ 433)، برقم (5402). وهو في سنن النسائي (المجتبى) (8/ 226)، برقم (5387)، وروا الطبراني في المعجم الكبير (22/ 179)، برقم (466). قال في تحفة المحتاج (2/ 570): صححه ابن حبان.

الفروق بين القضاء والتحكيم

وأما الإجماع فقد حكاه غير واحد قال النووي: "وقد أجمع العلماء على التحكيم ولم يخالف فيه إلا الخوارج فإنهم أنكروا على علي -رضي الله عنه- التحكيم وأقام الحجة عليهم" (¬1). قال ابن فرحون: "وِلَايَةُ التَّحْكِيمِ بَيْنَ الخَصْمَيْنِ هِيَ وِلَايةٌ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ آحَادِ النَّاسِ، وَهِيَ شُعْبَة مِنْ القَضَاءِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالأَمْوَالِ دُونَ الحُدُودِ، وَاللِّعَانِ، وَالقِصَاصِ" (¬2). وقال ابن نجيم -رحمه الله-: "التَّحْكِيم مِنْ فُرُوع القَضَاءِ وهو أَحَطَّ رُتْبةً مِنْ القَضَاءِ" (¬3). الفروق بين القضاء والتحكيم: 1 - اختلاف الجهة: فالمحكم من قبل شخصين أو أكثر، والقضاء من قبل السلطان فلا يجوز أن يتولى القضاء شخص من قبل نفسه، أو مجموعة من الأشخاص. 2 - التحكيم ولاية خاصة قاصرة على المتخاصمين فيما حكّماه فيه، على حين أن ولاية القضاء ولاية عامة تتفرع عن ولاية الإِمام فولايته عامة، ودائرتها أوسع من دائرة التحكيم فتشمل جميع الأشخاص المتقدمين للقاضي. 3 - القاضي أعلى مرتبة من المحكَّم، فله الحق أن ينظر فيما يحكم المحكم فيه ولا يحق للمحكَّم ذلك. ¬

_ (¬1) شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 92). (¬2) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام (1/ 32)، وانظر: معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام (1/ 28). (¬3) البحر الرائق (7/ 24).

ثالثا: قضاء المظالم

4 - لا يشترط في القضاء رضا الخصمين فالقاضي له سلطة ملزمة ويعاقب المخالف على حين أن المحكم يشترط لسلطته في الحكم رضا الخصمين وبعد الرضا يكون الحكم ملزمًا لهما فقط. 5 - القاضي لا يعزل إلا من قبل السلطان، وأما المحكم فبمجرد انتهاء التحكيم تنتهي مهمته (¬1). ثالثًا: قضاء المظالم: المظالم لغة: جمع مظلمة، والظلم الجور ومجاوزة الحد، ووضع الشيء في غير موضعه (¬2) وقضاء المظالم في الاصطلاح هو: قَوْدُ المُتظَالمَيْنِ إلَى التّنَاصُفِ بالرَّهْبَةِ، وَزَجْرُ المتنَازِعَيْنِ عَنْ التَّجَاحُدِ بِالهَيْبَةِ (¬3). والأصل فيها ما رواه البخاري بسنده عن عُرْوَة بن الزُّبَيْر: أَنَّ الزُّبَيْرَ كان يحدث: أَنَّهُ خَاصَمَ رَجُلًا من الأَنْصَارِ -قد شَهِدَ بَدْرًا- إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شِرَاجٍ (¬4) من الحَرَّةِ، كَانَا يَسْقِيَانِ بِهِ كلاهما، فقال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِلزُّبَيْرِ: "اسْقِ يا زبيْرُ، ثُمَّ أَرْسِل إلى جَارِكَ" فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ، فقال: يا رَسُولَ الله، آنْ كان ابن عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قال: "اسْقِ، ثُمَّ احْبِسْ حتى يَبْلُغَ الجَدْرَ" (¬5) فَاسْتَوْعَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حِينَئِذٍ للزبير حَقَّهُ، وكان قبل ذلك أَشَارَ على الزُّبَيْرِ بِرَأْيٍ ¬

_ (¬1) القضاء في الإِسلام وآداب القاضي للدكتور جبر محمود الفضيلات (ص: 165). (¬2) لسان العرب (12/ 373 - 375). (¬3) الأحكام السلطانية للماوردي (ص: 86)، الأحكام السلطانية للبعلي (ص: 73). (¬4) الشرج: مسيل الماء من العَسِر إلى السهل. عمدة القاري (12/ 201). (¬5) قوله: أحبس الماء حتى يبلغ الجدر فبلغ ذلك إلى الكعبين. فتح الباري (5/ 40).

سَعَةٍ له وَللأَنْصَارِيِّ، فلما أَحْفَظَ (¬1) الأَنصَارِيُّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - اسْتَوْعَى لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ في صَرِيحِ الحُكْمِ (¬2). ومنْ صفات النَّاظِرِ في المظالم: أَنْ يَكُونَ جَلِيلَ القَدْرِ، نَافِذَ الأَمْرِ، عَظِيمَ الهَيْبةِ ظَاهِرَ العِفَّةِ، قَلِيلَ الطَّمَعِ، كَثِيرَ الوَرَعِ؛ لِأنهُ يَحْتَاجُ في نَظَرِه إلَى سَطْوَةِ الحُمَاةِ وَثَبْتِ القُضَاةِ، فَيَحْتَاجُ إلَى الجَمْعِ بَيْنَ صِفَاتِ الفَرِيقَيْنِ، وَأَنْ يَكُونَ بجَلَالَةِ القَدْرِ نَافِذَ الأَمْرِ في الجِهَتين (¬3). وولاية المظالم سلطة قضائية أعلى من سلطة القاضي والمحتسب، والنظر في المظالم موضوع في الأصل لما عجز عنه القضاة، وينظر قاضي المظالم في ظلامات الناس من الولاة والجباة والحكام، أو من أبناء الخلفاء أو الأمراء، أو القضاة. ويشتمل نظر المظالم على عشرة أشياء (¬4). الأَوَّلُ: النَّظَرُ في تَعَدِّي الوُلَاةِ عَلَى الرَّعِيَّةِ، فيبحث عن أحوالهم؛ لِيُقَوِّيَهُمْ إنْ أَنْصَفُوا وَيَكُفَّهُمْ إنْ عَسَفُوا، وَيَسْتَبْدِلَ بِهِمْ إنْ لَمْ يُنْصِفُوا. الثَّانِي: جَوْرُ الموظفين فِيمَا يَجِبُونَهُ مِنْ الأَمْوَالِ، فَيَرْجِعُ فِيهِ إلَى القَوَانِينِ العَادلَةِ في دَوَاوِينِ الأَئِمَّةِ، فَيَحْمِلُ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَيَأْخُذُ الموظفين بِهَا، وَيَنْظُرُ فِيمَا اسْتَزَادُوهُ، فَإِنْ رَفَعُوهُ إلَى بَيْتِ المَالِ أَمَرَ بِرَدِّهِ، وَإِنْ أَخَذُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ اسْتَرْجَعَهُ لِأَرْبَابِهِ. ¬

_ (¬1) أحفظه: أغضبه. المعجم الوسيط (1/ 185). (¬2) صحيح البخاري (2/ 964)، كتاب الصلح، بَاب إذا أَشَارَ الإِمَامُ بِالصُّلحِ فَأَبَى حَكَمَ عليه بِالحُكْمِ البيِّنِ، برقم (2561). (¬3) الأحكام السلطانية للماوردي (ص: 133)، الأحكام السلطانية للبعلي (ص: 73). (¬4) الأحكام السلطانية للبعلي (ص: 76 - 78). وانظر: الأحكام السلطانية للماوردي (ص: 139 - 141).

الثَّالِثُ: كُتَّابُ الدَّوَاوِينِ لِأَنَّهُمْ أُمَنَاءُ المُسْلِمِينَ عَلَى بيُوتِ أَمْوَالهِمْ فِيمَا يَسْتَوْفُونَهُ، وَيُوفُونَهُ، فَيَتَصَفَّحُ أَحْوَالَهم فيمَا وُكِلَ إلَيْهِ من زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ. الرَّابعُ: تَظَلُّمُ المُسْتَرْزِقَةِ مِنْ نَقْصِ أَرْزَاقِهِمْ، أَوْ تَأَخُّرِهَا عَنْهُمْ، وَإجْحَافِ النَّظَرِ بِهِمْ فَيَرْجِعُ إلَى دِيوَانِهِ في فَرْضِ العَطَاءِ العَادِلِ، فَيُجْرِيهِمْ عَلَيْهِ، وَيَنْظُرُ فِيمَا نَقَصُوهُ، أَوْ مَنَعُوهُ مِنْ قَبْلُ، فَإِنْ أَخَذَهُ وُلَاةُ أُمُورِهِمْ اسْتَرْجَعَهُ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذُوهُ قَضَاهُ مِنْ بَيْتِ المَالِ. الخَامِسُ: رَدُّ الغُصُوبِ، وَهِيَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: غُصُوبٌ سُلطَانِيَّةٌ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا وُلَاةُ الجَوْرِ كَالأَمْلَاكِ المَقْبُوضَةِ عَنْ أَرْبَابِهَا، إمَّا لِرَغْبَةٍ فِيهَا، وَإِمَّا لِتَعَدٍّ عَلَى أَهْلِهَا، فَهَذَا إنْ عَلِمَ بِهِ وَالِي المَظَالِمِ عِنْدَ تَصَفُّحِ الأُمُورِ أَمَرَ بِرَدِّهِ قَبْلَ التَّظَلُّمِ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى تَظَلُّمِ أَرْبَابِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا تَغَلَّبَ عَلَيْهَا ذَوُو الأَيْدِي القَوِيَّةِ، وَتَصَرَّفُوا فِيهِ تَصَرُّفَ المُلَّاكِ بِالقَهْرِ وَالغَلَبَةِ، ورفعه مَوْقُوفٌ عَلَى تَظَلُّمِ أَرْبَابِهِ. السَّادِسُ: مُشَارَفَةُ الوُقُوفِ وَهِيَ ضَرْبَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ، فَأَمَّا العَامَّةُ فَيَبْدَأُ بِتَصَفُّحِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُتَظَلِّمٌ لِيُجْرِيَهَا عَلَى سَبِيلِهَا وَيُمْضِيَهَا عَلَى شُرُوطِ وَاقِفِهَا، لِأَنَّهُ لا يَتَعَيَّنُ الخَصْمُ فِيهَا فكَانَ الحُكْمُ فيها أَوْسَع مِنْهُ في الوُقُوفِ الخَاصَّةِ. وَأَمَّا الوُقُوفُ الخَاصَّةُ فَإِنَّ نَظَرَهُ فِيهَا مَوْقُوفٌ عَلَى تَظَلُّمِ أَهْلِهَا عِنْدَ التَّنازُعِ فِيهَا لِوَقْفِهَا عَلَى خُصُوم مُتَعَيِّنِينَ فَيَعْمَلُ عِنْدَ التَّشَاجُرِ فِيهَا عَلَى مَا تَثْبُتُ بِهِ الحُقُوقُ عِنْدَ الحَاكِمِ وَلَا يَجُوزُ أَن يَرْجِعَ فيها إلَى دِيوَانِ السَّلطَنَةِ، وَلَا إلَى مَا يَثْبُتُ مِنْ ذِكْرِهَا في الكُتُبِ القَدِيمَةِ إذا لَمْ يَشْهَدْ بِهَا شُهُودٌ مُعَدَّلُونَ.

الفرق بين قضاء المظالم والقضاء العادي

السَّابعُ: تَنْفِيذُ مَا وَقَفَ من أحكام القُضَاةُ لِضَعْفِهِمْ عَنْ إنْفَاذِهَا، وَعَجْزِهِمْ عَنْ المَحْكُومِ عَلَيْهِ؛ لِتَعَزُّزِهِ وَقُوَّةِ يَدِهِ، أَوْ لِعُلُوِّ قَدْرِهِ وَعِظَمِ خَطَرِهِ، فَيَكُونُ نَاظِرُ المَظَالِمِ أَقْوَى يَدًا وَأَنْفَذَ أَمْرًا فَيُنَفِّذُ الحُكْمَ عَلَى مَنْ تَوَجَّهَ علَيْهِ بِانْتِزَاعِ مَا في يَدِهِ أَوْ بِإِلزَامِهِ الخُرُوج مِمَا في ذِمَتِهِ. الثَّامِنُ: النَّظَرُ فِيمَا عَجَزَ عَنْهُ النَّاظِرُونَ في الحِسْبةِ في المَصَالِحِ العَامَّةِ، كَالمُجَاهَرَةِ بِمُنكرٍ ضَعُفَ عَنْ دَفْعِهِ، وَالتَّعَدِّي في طَرِيقٍ عَجَزَ عَنْ مَنْعِهِ وَالتَّحَيُّفِ في حَق لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ فَيَأْخُذُهُمْ بِحَقِّ الله تَعَالَى في جَمِيعِهِ وَيَأْمُرُ بِحَمْلِهِمْ عَلَى مُوجَبِهِ. التَّاسِعُ: مُرَاعَاةُ العِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ كَالجُمَعِ وَالأَعْيَادِ وَالحجِّ وَالجِهَادِ مِنْ تَقْصِيرٍ فِيهَا وَإِخْلَالٍ بِشُرُوطِهَا فَإِنَّ حُقُوقَ الله أَوْلَى أَنْ تُسْتَوْفَى وَفُرُوضَهُ أَحَقُّ أَنْ تُؤَدَّى. العَاشِرُ: النَّظَرُ بَيْنَ المتشَاجِرِينَ وَالحُكْمُ بَيْنَ المُتنَازِعِينَ فَلَا يخرُجُ في النَّظَرِ بَيْنَهُمْ عَنْ مُوجَبِ الحقِّ وَمُقْتَضَاهُ، وَلَا يَجوز أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إلَّا بِمَا يَحْكُمُ بِهِ القُضَاةُ. الفَرْقُ بَيْنَ قضاء المظالم والقضاء العادي: الفرق بينهما مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُه هي (¬1): الأول: أَنَّ لِنَاظِرِ المَظَالِمِ مِن الهيبةِ وَقُوَّةِ اليَدِ مَا لَيْسَ لِلقُضَاةِ في كَفِّ الخُصُومِ عَنْ التَّجَاحُدِ وَمَنع الظَّلَمَةِ مِنْ التَّغَالُبِ وَالتَّجَاذُبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ نَظَرَ المَظَالِمِ يَخْرُجُ مِنْ ضِيقِ الوُجُوبِ إلَى سِعَةِ الجوَازِ فَيَكُونُ النَّاظِرُ فِيهِ أَفْسَحَ مَجَالًا وَأَوْسَعَ مَقَالًا. ¬

_ (¬1) معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام (2/ 345 - 346)، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام (4/ 268 - 269)، الأحكام السلطانية للماوردي (ص: 144 - 145)، الأحكام السلطانية لأبي يعلى (ص: 79).

وَالثَّالِثُ: أنهُ يَسْتَعْمِلُ مِنْ الإِرْهَابِ وَكَشْفِ الأَسْبَابِ بِالأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ وَشَوَاهِدِ الأَحْوَالِ اللَّائِحَةِ مَا يُضَيِّقُ عَلَى الحُكَّامِ فَيَصِلُ بِهِ إلَى ظُهُورِ الحق وَمَعْرِفَةِ المُبْطِلِ مِنْ المُحِقِّ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يُقَابِلَ مَنْ ظَهَرَ ظُلمُهُ بِالتَّأدِيبِ وَيأْخُذَ مَنْ بَانَ عِدْوَانُهُ بِالتَّقْوِيمِ وَالتَّهْذِيبِ. وَالخَامِسُ: أَنَّ لَهُ مِنْ التَّأنَي في تَرْدَادِ الخُصُومِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ أُمُورِهِمْ وَاسْتِبْهَامِ حُقُوقِهِمْ، لِيُمْعِنَ في الكَشْفِ عَنْ أَسْبَابِهِمْ وَأَحْوَالهِمْ مَا لَيْسَ لِلحُكَّامِ إذَا سَأَلَهُمْ أَحَدُ الخَصْمَيْنِ فَصْلَ الحُكْمِ فَلَا يَسُوغُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ الحَاكِمُ وَيَسُوغُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ وَالِي المَظَالَمِ. وَالسَّادِسُ: أَنَّ لَهُ رَدَّ الخُصُومِ إذَا عَضَلُوا إلى وَاسطة الأُمَنَاءِ لِيَفْصِلُوا التّنَازُعَ بَيْنَهُمْ صُلحًا عَنْ تَرَاضٍ، وَلَيْسَ لِلقَاضِي ذَلِكَ إلَّا عَنْ رَضِيَ الخَصْمَيْنِ بِالرَّدِّ. وَالسَّابِعُ: أَنْ يُفْسِحَ في مُلَازَمَةِ الخَصْمَيْنِ إذا وَضَحَتْ أَمَارَاتُ التَّجَاحُدِ، وَيَأْذَنَ في إلزَامِ الكَفَالَةِ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ التَكفُّلُ لِيَنْقَادَ الخُصُومُ إلَى التّنَاصُفِ وَيَعْدِلُوا عَنْ التَّجَاحُدِ وَالتَكَاذُبِ. وَالثَّامِنُ: أنهُ يَسْمَعُ مِنْ شَهَادَاتِ المَسْتُورِينَ مَا يَخْرُجُ عَنْ عُرْفِ القُضَاةِ في شَهَادَةِ المُعَدَّلِينَ. التَّاسِعُ: لَهُ أَنْ يحلِّفَ الشُّهُودَ إذَا ارْتَابَ فِيهِمْ بِخِلَافِ القُضَاةِ. العَاشِرُ: لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِاسْتِدْعَاءِ الشُّهُودِ وَيسْأَلَهُمْ عَمَّا عِنْدَهُمْ في القَضِيَّةِ، بِخِلَافِ القُضَاةِ.

رابعا: قضاء الحسبة

وقد صدر نظام قضاء المظالم في المملكة العربية السعودية بمرسوم ملكي رقم م / 78، وتاريخ 19/ 9 / 1428 هـ، وهو يشتمل على ست وعشرين مادة تنظم أعمال قضاء المظالم واختصاصاته وتعيين القضاء فيه وترتيب جميع ما يتعلق به رابعًا: قضاء الحسبة: قال ابن منظور: الحسبة مصدر احتسابك الأجر على الله تقول: فعلته حسبة، واحتسب فيه احتسابا، والاحتساب: طلب الأجر، والاسم الحسبة بالكسر وهو الأجر. والمحتسب: طالب الأجر والثواب من الله تعالى (¬1). والحسبة في الاصطلاح: أمر بالمعروف إذا ظهر تركة، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله (¬2). وولاية الحسبة منصب يتولاه رئيس يشرف على الشؤون العامة من مراقبة الأسعار ورعاية الآداب ونحوها. والأصل في مشروعية الحسبة الكتاب والسنة: فمن الكتاب قول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬3)، وقول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (¬4)، وقول الله تعالى: ¬

_ (¬1) لسان العرب (1/ 314)، وانظر: المصباح المنير (1/ 135). (¬2) الأحكام السلطانية للماوردي (ص: 270)، الأحكام السلطانية لأبي يعلى (ص: 284). (¬3) سورة آل عمران: 104. (¬4) سورة آل عمران: 110.

اختصاص والي الحسبة

{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (¬1). ومن السنة ما رواه مسلم بسنده عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ على صُبْرَةِ طَعَامٍ (¬2)، فأدخل يَدَهُ فيها فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فقال: "ما هذا يا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ " قال: أصَابَتْهُ السَّمَاءُ (¬3) يا رَسُولَ الله، قال: "أفَلَا جَعَلتَهُ فَوْقَ الطَّعَام كَي يَرَاهُ الناس؟ من غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي" (¬4). وما رواه مسلم أيضًا بسنده عن أبي سعيد قال: سمعت رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من رَأَى مِنكُمْ مُنكرًا فَليُغَيِّرْهُ بيده، فَإِنْ لم يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لم يَسْتَطِعْ فَبِقَلبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ" (¬5). اختصاص والي الحسبة: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحمل الناس على المصالح العامة، ويمنع كل ما يكون من شأنه المضايقة في الطرقات، والتعدي على الجيران، ويمنع معلمي الصبية من ضربهم ضربًا مبرحًا، ويجوز رفع الشكوى إليه وسماع الدعوى في ¬

_ (¬1) سورة المائدة: 78 - 79. (¬2) قوله: صُبْرَةِ طَعَامٍ: هي بضم الصاد وإسكان الباء قال الأزهري: الصبرة: الكومة المجموعة من الطعام، سميت صبرة لإفراغ بعضها على بعض، ومنه قيل للسحاب فوق السحاب: صبير. النووي على صحيح مسلم (2/ 109). (¬3) أصابته السماء: أي: المطر. شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 109). (¬4) صحيح مسلم (1/ 99)، كتاب الإيمان؛ بَاب قَوْلِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا"، برقم (102). (¬5) صحيح مسلم (1/ 69)، كتاب الإيمان, بَاب بَيَانِ كَوْنِ النَّهْيِ عن المُنْكَرِ من الإِيمَانِ، وَأَنَّ الإِيمان يَزِيدُ وَينْقُصُ، وَأَنَّ الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عن المُنْكَرِ وَاجِبَانِ، برقم (49).

الأشياء التي تدخل في وظيفته وفي حدود اختصاصه ومن اختصاصه المحافظة على الآداب والأخلاق، ومنع التعدي على الحرمات، ومنع التعدي على حدود الله، والأخذ على يد السفهاء، والمعونة على استيفاء الحقوق. فوظيفة القاضي الحكم بين الناس بطريق الإلزام، أما وظيفة المحتسب فهي النظر فيما يتعلق بالنظام العام والآداب مما لا ينبغي لأحد مخالفته، أو الخروج عليه. وليس له أن يسمع بينة على إثبات الحق، ولا أن يحلف يمينا على نفيه فهذا من اختصاص المحاكم العامة. ومن شروط المحتسب أن يكون خبيرًا عالمًا عدلا ذا رأي وصرامة ومهابة في الدين وعلم بالمنكرات الظاهرة (¬1). والفرق بين والي الحسبة والقاضي العادي من وجهين: أحدهما: قصور والي الحسبة عن سماع عموم الدعاوى الخارجة عن ظواهر المنكرات كالدعاوى في العقود، والمعاملات، وسائر الحقوق والمطالبات. والوجه الثاني: أن نظر والي الحسبة مقصور على الحقوق المعترف بها، فأما ما يدخله التجاحد والتناكر فلا يجوز له النظر فيها. وأما الفرق بين قضاء الحسبة ووالي المظالم فمن وجهين أيضًا: أحدهما: أن النظر في المظالم موضوع لما عجز عنه القضاة، والنظر في الحسبة موضوع لما رفه عنه القضاة، ولذلك كانت رتبة المظالم أعلى من القضاء، ورتبة الحسبة أخفض من القضاء. ¬

_ (¬1) الأحكام السلطانية للماوردي (ص: 300).

الثاني: أنه يجوز لوالي المظالم أن يحكم، ولا يجوز لوالي الحسبة أن يحكم (¬1) ¬

_ (¬1) الأحكام السلطانية للبعلي (ص: 285 - 287)، الأحكام السلطانية للماوردي (ص: 300 - 302)، الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام (1/ 30)، معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام (ص: 26)، القضاء في الإِسلام للدكتور محمَّد سلام مدكور (ص: 47 - 153).

القاضي

القاضي القاضي لغة: قال الزبيدي: "هو القاطِعُ للأُمُورِ المُحْكِم لها، والجَمْعُ قُضَاةٌ" (¬1). وفي الإصلاح: هو شخص نُصِّبَ مِنْ قِبَلِ السُّلطَانِ؛ لِأَجْلِ فَصْل الخصومات الوَاقِعَةِ بَيْنَ النَّاسِ وِفْقًا لِلأَحْكَامِ الشرعية (¬2). قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "القاضي: اسم لكل من قضى بين اثنين وحكم بينهما، سواء كان خليفةً، أو سلطانًا، أو نائبًا عنه، أو واليًا، أو كان منصوبًا ليقضي بالشرع" (¬3). شروط القاضي: يجب على إمام المسلمين أو نائبه أن يجتهد في اختيار القاضي لنفسه وللمسلمين، ولا يحابي أحدا, ولا يقصد بالتولية إلا وجه الله تعالى (¬4). يشترط الفقهاء شروطًا يجب توافرها فيمن ينصب قاضيًا: 1 - البلوغ: اتفق الفقهاء (¬5) على وجوب توافر شرط البلوغ في القاضي فلا يصح تقليد ¬

_ (¬1) تاج العروس (39/ 315). (¬2) انظر: درر الحكام شرح مجلة الأحكام (4/ 518). (¬3) مجموع الفتاوى (28/ 254). (¬4) تبصرة الحكام (1/ 25)، النظام القضائي في الفقه الإِسلامي (ص: 69). (¬5) حاشية رد المحتار على الدر المختار (5/ 354)، مغني المحتاج (4/ 375)، تبصرة الحكام (1/ 26)، كشاف القناع (6/ 294).

الصبي القضاء؛ لأن الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالاستعاذة من إمارة الصبيان فقد روى أحمد بسنده عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: سمعت رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تَعَوَّذُوا بِالله من رَأْسِ السَّبْعِينَ (¬1)، وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ" (¬2). والتعوذ لا يكون إلا من شر فيكون تقليد الصبيان للقضاء شرًا وفسادًا في الأرض ونحن ممنوعون من ارتكاب الشر والفساد فتكون توليتهم ممنوعة. ولأن الصبي ناقص الأهلية لا ولاية له على نفسه فلا ولاية له على غيره (¬3). ويعتبر البلوغ شرطًا لممارسة التكاليف الشرعية في العبادات والمعاملات، ومرحلة البلوغ هي مرحلة القدرة على تحمل التكاليف والأعباء وهي الاحتلام عند الرجال، ونزول الحيض عند النساء، ويترتب عليه القدرة على الإنجاب وتحمل مسئولية الغير، ووظيفة القضاء تحتاج إلى العقل الناضج المدرك ولا يتأتى هذا قبل البلوغ، ولا يشترط في القاضي أن يكون طاعنًا في السن بل المدار على اجتماع الشروط المعتبرة في ولايته بعد بلوغه، وإن كان الأفضل والأولى أن يكون كبير السن؛ لأن ارتفاع السن يعتبر من باب الوقار والهيبة التي استحبها العلماء (¬4). ¬

_ (¬1) قال الشوكاني: أَمَرَهُ - صلى الله عليه وسلم - بِالتَّعَوُّذِ من رَأْسِ السبْعِينَ لَعَلَّهُ لما ظَهَرَ فيها من الفِتَنِ العَظِيمَةِ منها قَتْلُ الحُسَيْنِ -رضي الله عنه-، وَوَقْعَةُ الحرَّةِ وَغَيْرِ ذلك مِمَّا وَقَعَ في عَشْرِ السَّبْعِينَ. نيل الأوطار (9/ 168). (¬2) مسند أحمد بن حنبل (2/ 326)، وهو في مصنف ابن أبي شيبة (7/ 461، 37235). قال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح غير كامل بن العلاء وهو ثقة. مجمع الزوائد (7/ 220). وصححه الألباني في السلسلة "الصحيحة" برقم (3191). (¬3) بدائع الصنايع (7/ 3)، تبصرة الحكام (1/ 26)، الأحكام السلطانية للماوردي (ص: 83)، الأحكام السلطانية لأبي يعلى (ص: 60). (¬4) النظام القضائي في الفقه الإِسلامي للدكتور محمَّد عثمان (ص: 74)، نظام القضاء في الإِسلام للدكتور محمَّد الغرايبة (ص: 154).

2 - العقل

2 - العقل: اتفق الفقهاء (¬1) على اعتبار هذا الشرط فلا يجوز تقليد المجنون، أو المعتوه، أو غير ممحص النظر؛ لكبر أو مرض قياسًا على الصبي؛ لأن القضاء من أعظم وأخطر الولايات فكان لا بد من توفر شرط العقل، وإذا قلد غير العاقل لا يصح قضاؤه ولا ينفذ؛ لأن القضاء يحتاج إلى العاقل الناضج المدرك وهو منعدم مع الجنون (¬2). قال الماوردي: "ولا يكتفى بالعقل الذي يتعلق به التكليف من علمه بالمدركات الضرورية حتى يكون صحيح التمييز جيد الفطنة بعيدًا عن الهوى والغفلة، يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل وفصل ما أعضل" (¬3). فلا بد أن يكون القاضي على قدر من الذكاء والفطنه المؤدية إلى استطاعته التمييز السليم لأنه سيتعامل مع معظم فئات المجتمع باختلاف أفهامهم ومداركهم وأساليبهم وطبائعهم فما لم يكن على درجة من الذكاء فقد يخدع. ولا يقلد الساذج الذي يخدع في تصرفاته وهو المعروف بالمغفل في اصطلاح الحنفية (¬4)؛ لأن تقليده يترتب عليه الإخلال بالمصلحة المقصودة من القضاء فلا يجوز تقليده؛ لأنه تنطلي عليه حيل الشهود، وأكثر الخصوم وفي التاريخ أمثلة كثيرة تثبت أن العقل والفطنه كانا سببًا في انتزاع الحقوق من الظالمين (¬5). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (7/ 3)، بداية المجتهد (2/ 344)، مغني المحتاج (4/ 375)، المغني (14/ 14). (¬2) نظام القضاء في الشريعة الإِسلامية للدكتور عبد الكريم زيدان (ص: 23). (¬3) الأحكام السلطانية (ص: 83). (¬4) البحر الرائق (7/ 78). (¬5) مذكرة في علم القضاء للدكتور عبد العال عطوة (ص: 56).

3 - الحرية

3 - الحرية: فلا يصح تقليد غير الحر للأمور التالية: 1 - لأن القضاء من باب الولاية، وغير الحر لا ولاية له على نفسه فلا تكون له ولاية على غيره ففاقد الشيء لا يعطيه، والقضاء من أعلى درجات الولايات. 2 - ولأنه لم يجز أن يكون شاهدًا فالأولى ألا يكون قاضيا. 3 - ولأنه لا يجد وقتا للقضاء لانشغاله بخدمة سيده فلا تتحقق المصلحة بتوليته. 4 - ولأن الأحرار يستنكفون عادة من ولاية غير الأحرار عليهم فتسقط هيبتهم وذلك يخل بالقضاء، فلا يجوز تقليدهم (¬1). 4 - الإسلام (¬2): أ - القضاء بين المسلمين: هذا الشرط مجمع عليه بالنسبة للقضاء بين المسلمين فلا يجوز تقليد الكافر القضاء بين المسلمين وإن ولي فلا يصح قضاؤه ولا ينفذ. ويدل على ذلك ما يأتي: 1 - أن القضاء ولاية ولا ولاية لغير المسلم على المسلم: لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (¬3) فالآية خبر لفظا إنشاء معنى أي: أن الله ينهى أن يكون للكافرين على المؤمنين سبيلا، أو يكون المراد ولن يجعل الله ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (7/ 3)، الأحكام السلطانية للماوردي (ص: 83)، الأحكام السلطانية لأبي يعلى (ص: 61). (¬2) بدائع الصنائع (7/ 3)، القوانين الفقهية (ص 195)، مغني المحتاج (4/ 375)، كشاف القناع (6/ 295). (¬3) سورة النساء: 141.

للكافرين على المؤمنين سبيلًا مشروعا، فإن وجد فخلاف الشرع (¬1). 2 - قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (¬2) فقد بينت الآية أن الولاية للمسلم على المسلم. 3 - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} (¬3) فقد نهى الله عن اتخاذ البطانة (¬4) من غير المؤمنين وذلك يدل على عدم جواز اتخاذ الكافر قاضيا. 4 - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬5) فلفظ منكم يدل على أن صاحب الولاية أيا كانت ينبغي أن يكون مسلما. 5 - نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التكافؤ بين المسلمين وأن غيرهم ليسوا بأكفاء لهم فقال: "المُؤْمِنُونَ تَتكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ على من سِوَاهُمْ ألا لاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلاَ ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ" (¬6). ¬

_ (¬1) فتح القدير (1/ 528). (¬2) سورة الأنفال: 72. (¬3) سورة آل عمران: 118. (¬4) بطانة الرجل: خاصته الذين يفضي إليهم بأسراره، شبه ببطانة الثوب؛ لأنه يلي البدن. المعجم الوسيط (1/ 62). (¬5) سورة النساء: 59. (¬6) مسند أحمد بن حنبل (1/ 119)، سنن أبي داود، برقم (2751)، سنن النسائي الكبرى (5/ 208)، برقم (8681)، سنن ابن ماجه، برقم (2683)، المستدرك على الصحيحين (2/ 153)، برقم (2623)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، المنتقى لابن الجارود

عن سماك بن حرب قال سمعت عياض الأشعري يقول: إن أبا موسى -رضي الله عنه- وفد إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ومعه كاتب نصراني، فأعجب عمر -رضي الله عنه- ما رأى من حفظه، فقال: قل لكاتبك: يقرأ لنا كتابا، قال: إنه نصراني لا يدخل المسجد، فانتهره عمر -رضي الله عنه- وهم به وقال: لا تكرموهم إذ أهانهم الله، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله، ولا تأتمنوهم إذ خونهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- (¬1). ب- أما بالنسبة للقضاء بين غير المسلمين: أولًا: فذهب الجمهور (¬2) إلى اشتراط الإِسلام في القاضي أيضًا. ثانيًا: وذهب الأحناف إلى أنه يجوز أن يكون القاضي بينهم غير مسلم فيقضي الذمي بين الذميين ويصح قضاؤه وينفذ. قال ابن عابدين: وتقليد الذمي ليحكم بين أهل الذمة صحيح لا بين المسلمين (¬3). الأدلة: استدل الجمهور بما يلي: 1 - قال الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬4) وجه الاستدلال: أن تقليدهم القضاء يفضي إلى نفوذ الأحكام منهم وهو ينفي الصغار عنهم فلا يجوز. ¬

_ = (1/ 194)، برقم (771)، صحيح ابن حبان (13/ 340 - 341)، برقم (5996)، وحسنه محققه شعيب الأرنؤوط. قال ابن الملقن: هذا الحديث صحيح أخرجه أبو داود، والنسائيُّ، والحاكم. البدر المنير (9/ 158). وصححه الألباني في الإرواء (7/ 265)، برقم (2208). (¬1) سنن البيهقي الكبرى (10/ 127)، برقم (20196). وصححه الألباني في الإرواء (8/ 255)، برقم (2630). (¬2) بداية المجتهد (2/ 344)، الأحكام السلطانية للماوردي (ص: 84)، الشرح الكبير مع الإنصاف (28/ 298). (¬3) حاشية رد المحتار على الدر المختار (5/ 428)، وانظر: فتح القدير لابن الهمام (5/ 499). (¬4) سورة التوبة: 29.

أدلة الحنفية

2 - روى الدارقطني بسنده عن عائذ بن عمرو المزني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الإِسلام يعلو ولا يعلى" (¬1)، فمنع هذا الخبر من أن يكون في الإِسلام ولاية لغير المسلم. 3 - أن الفاسق المسلم أحسن حالًا من الكافر لجريان أحكام الإِسلام عليه وحيث منع الفاسق من ولاية القضاء فإن من الأولى أن يمنع منها الكافر (¬2). 4 - أن القضاء في الدولة الإِسلامية يعتبر جزءًا من الولاية العامة التي يقوم بها رئيس الدولة أو ينيب عنه غيره للقيام بها، فالقاضي يتولى حل النزاعات القائمة بين غير المسلمين؛ لأنه يمثل الولاية العامة التابعة لرئيس الدولة الإِسلامية (¬3). وبناء على ذلك فلا يجوز أن يتولى منصب القضاء إلا مسلم. أدلة الحنفية: 1 - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (¬4) فقد أفادت الآية ولاية بعضهم على بعض فيتناول ذلك ولاية القضاء. 2 - أن العمل في البلاد الإِسلامية من فجر التاريخ الإِسلامي قد جرى على تعيين قضاة من أهل الذمة ليحكموا بينهم (¬5). 3 - أنه تجوز شهادة الذمي على مثله فيجوز قضاء الذمي على مثله؛ لأن ¬

_ (¬1) سنن الدارقطني (3/ 252)، برقم (30)، وهو في سنن البيهقي الكبرى (6/ 205)، برقم (11935). قال الحافظ: أخرجه الدارقطني من حديث عائذ بن عمرو المزني بسند حسن. (¬2) الحاوي الكبير (16/ 158). (¬3) النظام القضائي في الفقه الإِسلامي للدكتور محمَّد عثمان (ص: 72). (¬4) سورة المائدة: 51. (¬5) رد المحتار (5/ 355).

أهلية القضاء تتبع أهلية الشهادة (¬1). الراجح: هو قول الجمهور لما استدلوا به ولأن الحكم في بلاد الإِسلام لشريعة الإِسلام حتى لو ترافعوا إلينا حكمنا بينهم بشريعتنا، وغير المسلم لا يؤمن على تطبيق شرع الإِسلام حيث لا يؤمن به. ولكن لو حكم بعضهم فيما بينهم من النزاعات ورضوا به ولم يترافعوا إلينا لم نتعرض لهم. 5 - سلامة الحواس: التي لها اتصال بالقضاء وهي السمع، والبصر، والكلام، فإذا اجتمعت الآفات الثلاث في شخص فلا يجوز تقليده القضاء حينئذ؛ لأنه لا تقبل شهادته، فلا تقبل ولايته؛ لأن الشهادة ولاية خاصة والقضاء ولاية عامة (¬2). وأما التفصيل فيها فكما يلي: أما السمع: فيشترط في القاضي أن يكون سميعا فلا تصح ولاية الأصم القضاء؛ لأنه لا يسمع كلام الخصوم فلا يفرق بين إقرار وإنكار ولا يميز بين أصوات الخصوم والشهود ولا يستطيع أن يتحقق من أصوات كل منهم من أجل التحقق من الصدق أو الكذب في الادعاء المقام أمامه أو مدى صدق الشهود أو كذبهم (¬3). أما ثقيل السمع: وهو الذي يسمع عالي الأصوات ولا يسمع خافتها ويسمى الأطرش فتقليده جائز صحيح؛ لأنه يسمع الكلام عند الأئمة الثلاثة وهو أصح القولين عند الحنفية وإن كان الأفضل تقليد كامل السمع (¬4). ¬

_ (¬1) فتح القدير لابن الهمام (5/ 499). (¬2) بدائع الصنائع (7/ 3)، قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي (ص: 195)، الحاوي الكبير (16/ 155)، المغني (14/ 13). (¬3) المرجع السابق. (¬4) الدر المختار مع حاشيته رد المحتار (5/ 359 - 360)، تبصرة الحكام (1/ 26)، الحاوي الكبير (16/ 155)، الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/ 517).

وأما البصر (¬1): فإن به يمكن التمييز بين الخصوم من مدع ومدعى عليه أو مقر ومقر له، بالإضافة إلى استطاعة القاضي التمييز بين الشهود وحاسة البصر لها أهمية كبرى في بيان ما يظهر على الماثلين أمام القاضي من تأثيرات تبدو على وجوههم وتصرفاتهم نتيجة الاطمئنان أو الخوف أو الذعر وهذا كله يساعد على إثبات صدقهم أو كذبهم سواء في الادعاء أو الشهادة فلا يصح تقليد الأعمى القضاء عند الجمهور؛ لأنه لا يعرف المدعي من المدعى عليه، ولا المقر من المقر له، ولا الشاهد من المشهود له أو عليه، فيدخل الخلل على المقصود من القضاء فلا يجوز تقليده. قال ابن فرحون: "وأما سلامة السمع والبصر، فإن القاضي عياض حكى فيه الإجماع من العلماء، مالك وغيره وهو المعروف إلا ما حكاه الماوردي (¬2) عن مالك أنه يجوز قضاء الأعمى وذلك غير معروف، ولا يصح عن مالك؛ ولأنه لا يتأتى قضاء ولا ضبط ولا ميز محق من مبطل ولا تعيين طالب من مطلوب ولا شاهد من مشهود عليه من الأعمى" (¬3). قال الخطيب الشربيني: "لا يولى أعمى ولا من يرى الأشباح ولا يعرف الصور؛ لأنه لا يعرف الطالب من المطلوب فإن كان يعرف الصور إذا قربت منه صح، وخرج بالأعمى الأعور فإنه يصح توليته وكذا من يبصر نهارًا فقط دون من يبصر ليلًا فقط وهو الأعشى" (¬4). ويلاحظ عمليًا أنه قد تولى بعض الأكفاء القضاء في المملكة العربية ¬

_ (¬1) المغني (14/ 13)، مغني المحتاج (4/ 375). (¬2) الأحكام السلطانية (ص: 84). (¬3) تبصرة الحكام (1/ 22 - 23). (¬4) مغني المحتاج (4/ 375).

السعودية وغيرها قديما وحديثا وأثبتوا كفاءات عالية مما يجعلنا نقول بجواز تولي الأعمى لمنصب القضاء إذا كان بصيرًا بقلبه حاذقًا فطنًا قادرًا على إدراك خفايا الأمور. وأما الكلام: فهو شرط فلا يصح تقليد الأخرس القضاء؛ لأنه لا يمكنه النطق بالحكم ولا يفهم جميع الناس إشارته فيدب الخلل إلى القضاء (¬1). وجوز أبو العباس ابن سريج ولايته وتقليده إذا كانت إشارته مفهمة (¬2). وهذا رأي مردود؛ فإن إشارته لا يفهمها كل من يتقاضى إليه، فالناس يتقاضون إليه من كل مكان فلا يفهم الناس قضاءه فيمتنع تقليده (¬3). وقد يقال بجواز تقليده للقضاء بين المصابين بالخرس فقط. وقد استدل الجمهور على عدم جواز تولية أصحاب هذه العاهات الثلاث بأن هذه العاهات تمنع من قبول الشهادة فتمنع من تولية القضاء من باب أولى؛ لأن الشهادة دون القضاء لخصوصها وعموم القضاء (¬4). أما سلامة الأعضاء من العاهات الأخرى: فلا تشترط قال الماوردي: "أما سلامة الأعضاء فغير معتبرة فيه وإن كانت معتبرة في الإمامة فيجوز أن يقضي وإن كان مقعدًا ذا زمانه وإن كانت السلامة من الآفات أهيب لذوي الولاية، ومثل هذا يقال في شأن ضعيف النطق أو السمع أو البصر لعدم فوات المقصود من ولايته القضاء" (¬5). ¬

_ (¬1) المغني (13/ 14). (¬2) الحاوي الكبير (16/ 155). (¬3) المغني (14/ 13). (¬4) المرجع السابق. (¬5) الأحكام السلطانية (ص: 84)، نظام القضاء في الإِسلام للمرصفاوي (ص: 15).

6 - العدالة

6 - العدالة: العدالة لغة: مأخوذة من العدل بمعنى الاستواء والعدل من الناس المرضيّ المستوي الطريقة (¬1). واصطلاحًا: هي استواء أحوال الشخص في دينه، واعتدال أقواله، وأفعاله، ويعتبر للعدالة شيئان: إحداهما: الصلاح في الدين، وهو نوعان: إحداهما: أداء الفرائض أي: الصلوات الخمس والجمعة بسننها الراتبة، فلا تقبل الشهادة ممّن داوم على تركها؛ لأن تهاونه بالسنن يدل على عدم محافظته على أسباب دينه، وكذا المحافظة على ما وجب من صوم وزكاة وحج. الثاني: اجتناب المحارم، بأن لا يأتي كبيرة ولا يدمن على صغيرة، والكبيرة: ما فيه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو غضب، أو نفي الإيمان, أو لعنة مثل: أكل الربا وأكل مال اليتم وشهادة الزور وعقوق الوالدين، والصغيرة ما دون ذلك من المحرمات كسب الناس بما دون القذف، واستماع كلام النساء الأجانب على وجه التلذذ به، والنظر المحرم (¬2). قال الماوردي: "والعدالة أن يكون صادق اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفًا عن المحارم متوقيًا للمآثم، بعيدًا من الريب، مأمونًا في الرضا والغضب، مستعملًا لمروءة مثله في دينه ودنياه" (¬3). آراء الفقهاء في اشتراط العدالة: 1 - ذهب الشافعية والحنابلة والمالكية في الأصح والحنفية في رواية إلى ¬

_ (¬1) مقاييس اللغة (4/ 246 - 247). (¬2) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم: (7/ 593 - 596). (¬3) الحاوي الكبير (16/ 158).

أدلة الجمهور

اشتراط العدالة بحيث إذا ولي الفاسق القضاء أثم موليه ولم تصح، وبطلت ولايته، ولا ينفذ شيء من قضائه ولو صادف الحق (¬1). 2 - وذهب الحنفية في ظاهر الرواية ومعهم طائفة من المالكية (¬2) إلى أن العدالة شرط كمال لا شرط جواز وصحة بمعنى أنه إذا ولي الفاسق القضاء أثم موليه ولكن تصح ولايته وينفذ قضاؤه رغم ذلك، على أن نفاذ كل قضاء مشروط بموافقة الشرع، فهذا الشرط متفق على اعتباره في جواز التقليد. قال الكاساني: "العَدَالَةُ عِنْدَنَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجوَازِ التَّقْلِيدِ لَكِنَّهَا شَرْطُ الكَمَالِ فَيَجُوزُ تَقْلِيدُ الفَاسِقِ وَتَنْفُذُ قَضَايَاهُ إذَا لم يجاوِزْ فيها حَدَّ الشَّرْعِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ شَرْطُ الجوَازِ فَلَا يَصْلُحُ الفَاسِقُ قَاضِيًا عِنْدَهُ بِنَاءً على أَنَّ الفَاسِقَ ليس من أَهْلِ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ فَلَا يَكُونُ من أَهْلِ القَضَاءِ، وَعِنْدَنَا هو من أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَيَكُونُ من أَهْلِ القَضَاءِ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ الفَاسِقُ؛ لِأَنَّ القَضَاءَ أَمَانَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ أَمَانَةُ الأَمْوَالِ وَالأَبْضَاع وَالنُّفُوسِ فَلَا يَقُومُ بِوَفَائِهَا إلَّا من كَمُلَ وَرَعُهُ وَتمَّت تَقْوَاهُ إلَّا أنَّهُ مع هذا لو قُلِّدَ جَازَ التَّقْلِيدُ في نَفْسِهِ وَصَارَ قَاضِيًا؛ لِأَنَّ الفَسَادَ لِمَعْنًى في غَيْرِهِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازُ تَقْلِيدِهِ القَضَاءَ في نَفْسِهِ" (¬3). أدلة الجمهور: 1 - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (¬4). ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (4/ 375)، المغني (14/ 13)، تبصرة الحكام (1/ 26)، حاشية ابن عابدين (5/ 356). (¬2) فتح القدير لابن الهمام (5/ 454)، حاشية ابن عابدين (5/ 356)، تبصرة الحكام (1/ 26). (¬3) بدائع الصنائع (7/ 3). (¬4) سورة الحجرات: 6.

وجه الاستدلال: إن الله تعالى أمر بالتبيّن والتثبت عند إخبار الفاسق وهذا يقتضي تأخير قبوله إلى حين التبيّن والتثبت فلو صح تقليد القاضي الفاسق لأدى إلى تأخير قبول حكمه إلى حين التبيّن وهذا لا يجوز لما فيه من تأخير للقضاء الذي يجب أن ينفذ على الفور (¬1). 2 - قال تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (¬2). إن الله تعالى اشترط العدالة في الذي يتولى الحكم في الصيد فكذلك يشترط في القاضي الذي سيتولى الحكم في جميع القضايا بما فيها الصيد. 3 - قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (¬3). فالله أمر بأداء الأمانات إلى مستحقيها والقضاء أمانة والفاسق غير مؤتمن فلا يصح تقلده القضاء؛ لأنه ليس أهلًا للتولية. 4 - قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬4). إن الله اشترط العدالة في الشاهد في مسائل المعاملات فلا شك أن اشتراط العدالة فيمن يتولى الحكم في هذه الأمور من باب الأولى. 5 - إن الفاسق لا يصلح شاهدًا لقوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬5). ¬

_ (¬1) المغني (14/ 14). (¬2) سورة المائدة: 95. (¬3) سورة النساء: 58. (¬4) سورة الطلاق: 2. (¬5) سورة النور: 4.

أدلة من قال بصحة ولاية الفاسق

فلا يصلح قاضيًا؛ لأن الشهادة أقل رتبه من القضاء لخصوصها وعموم القضاء وما لا يصلح للأدنى لا يصلح للأعلى (¬1). أدلة من قال بصحة ولاية الفاسق: 1 - قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (¬2). وجه الاستدلال: إن الأمر بالتبيّن عند إخبار الفاسق دليل على قبول خبره بعد التبيّن وإلا لما كان للأمر بالتبين معنى. وأجيب: أنه ليس المراد بالتبيّن التثبت كما قال بذلك الحنفية وإنما المراد أن شهادة الفاسق تثير ظنًا وشبهةً ولكن هذا الظن لا يكفي للقبول فهو محمول على غير القضاء أما القضاء، فإنه يترتب عليه تأخير تنفيذ حكم القاضي إلى بعد التبين، وهذا لا يليق بمنصب القضاء لوجوب صدور الحكم فورًا (¬3). 2 - ما رواه مسلم بسنده عن أبي ذَرٍّ قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيْفَ أنت إذا كانت عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عن وَقْتِهَا، أو يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ (¬4) عن وَقْتِهَا؟ " قال قلت: فما تَأْمُرُني؟ قال: "صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَدْرَكتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ، فَإِنَّهَا لك نَافِلَةٌ". وفي رواية لمسلم أيضًا عن أبي ذَزٍّ أيضًا قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أَبا ذَرٍّ أنه سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ، فَصَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، ¬

_ (¬1) المغني (14/ 14). (¬2) سورة الحجرات: 6. (¬3) نظام القضاء في الإِسلام للمرصفاوي (ص: 18). (¬4) معنى يميتون الصلاة: يؤخرونها فيجعلونها كالميت الذي خرجت روحه، والمراد بتأخيرها عن وقتها أي: عن وقتها المختار لا عن جميع وقتها فإن المنقول عن الأمراء المتقدمين والمتأخرين إنما هو تأخيرها عن وقتها المختار ولم يؤخرها أحدٌ منهم عن جميع وقتها فوجب حمل هذه الأخبار على ما هو الواقع. شرح النووي على صحيح مسلم (5/ 147).

فَإِنْ صَليْتَ لِوَقْتِهَا كانت لك نَافِلَةً وَإِلَّا كنْتَ قد أَحْرَزْتَ (¬1) صَلَاتَكَ" (¬2). وجه الاستدلال: إن تأخير الصلاة عن وقتها من غير عذر فسق ومع ذلك صحح النبي - صلى الله عليه وسلم - توليتهم على الإمارة والقضاء. وقد أجيب عن هذا: بأن الحديث سيق للإخبار بوقوع ذلك بعده - صلى الله عليه وسلم - وهذا لا يدل على مشروعية فعلهم ومع هذا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بكونهم أمراء لا بصحة توليتهم على القضاء (¬3). 3 - إذا قبلت شهادة الفاسق صح قضاؤه؛ لأن أهلية القضاء مستفادة من أهلية الشهادة (¬4). وأجيب عنه بأن المقيس عليه معدوم: لأن شهادة الفاسق لا تصح، ومع تسليمنا بقبول شهادة الفاسق، فإن قياس القضاء على الشهادة قياس أدنى؛ لأن القضاء أعلى مرتبة من الشهادة والقياس مع الفارق لا يصح. 4 - وَلأَنَّ الصَّحَابَةَ -رضي الله عنهم - أَجَازُوا حُكْمَ من تَغَلَّبَ من الأُمَرَاءِ وَجَارَ وَتَقَلَّدُوا منه الأَعْمَالَ وَصَلَّوْا خَلفَهُ وَلَوْلَا أَنَّ تَوْلِيَتَهُ صَحِيحَةٌ لمَا فَعَلُوا ذلك (¬5). وأجيب عن هذا: بأن الصحابة فعلوا ذلك للأدلة الدالة على طاعة الإِمام ولو كان فاسقا وهذا لا يدل على مشروعية فعل الأمراء في تغلبهم وجورهم ¬

_ (¬1) قد أحرزت صلاتك بفعلك في أول الوقت أي: حصلتها وصنتها واحتطت لها. شرح النووي على صحيح مسلم (5/ 148). (¬2) صحيح مسلم (1/ 448)، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، بَاب كَرَاهِيَةِ تأْخِيرِ الصلاةِ عن وَقْتِهَا المخْتَارِ وما يَفْعَلُهُ المَأمُومُ إذا أَخَّرَهَا الإِمَامُ، برقم (648). (¬3) المغني (14/ 14)، مذكرة في علم القضاء للدكتور عبد العال عطوة (ص: 70). (¬4) شرح العناية على الهداية المطبوع بهامش فتح القدير (5/ 453). ط: دار صادر. (¬5) تبيين الحقائق (4/ 176).

والنزاع في صحة ولايتهم لا توليتهم (¬1). 5 - لو اعتبرنا العدالة شرطًا في صحة الولاية لانسد باب القضاء خصوصًا في هذا الزمان الذي قل عدوله (¬2). أجيب عن هذا: بأن فقدان العدول وخلو الزمان منهم لا نسلمه؛ للأدلة الدالة على ذلك كقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬3) فحفظ القرآن والدين يقتضي وجود فئة من الناس تتعلمه وتعي أحكامه ومن ثم تطبقه في واقعها وتنشره في الأمة وهذا شاهد على مر العصور. وكذلك ما رواه البخاري بسنده عن المُغِيرَةِ بن شُعْبة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَا تزال طَائِفَةٌ من أُمَّتي ظَاهِرِينَ حتى يَأتِيَهُمْ أَمْرُ الله وَهُمْ ظَاهِرُونَ" (¬4). وعلى فرض وجود العدل في جماعة من المسلمين في مكان أو زمان ما وجواز قضاء الفاسق للضرورة فلا يلزم من ذلك جواز قضائه لما علم أنه يجوز في الضرورة ما لا يجوز في غيرها، قال الغزالي: فإن تعذرت الشروط وغلب على الولايات متغلبون فسقه فكل من ولاه صاحب شوكة نفذ حكمه للضرورة كما ينفذ حكم البغاة وإن لم يصدر عن رأي الإِمام (¬5). الترجيح: الراجح -والله أعلم- هو مذهب الجمهور لقوة أدلتهم؛ ولأن القضاء أمانة عظيمة مرهون به الحفاظ على الضرورات الخمس فلا يستطيع القيام ¬

_ (¬1) المغني (14/ 14). (¬2) حاشية ابن عابدين (5/ 356). (¬3) سورة الحجر الآية: 9. (¬4) صحيح البخاري (6/ 2667)، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَا تَزَالُ طَائِفَة من أُمَّتي ظَاهِرِينَ على الحَقِّ" وَهُمْ أَهْلُ العِلمِ، برقم (6881). (¬5) الوجيز (2/ 237 - 238).

7 - الاجتهاد

بها على الوجه المطلوب شرعًا إلا من كان عدلًا يرعى الأمانة ويخشى مسئولية التضييع لها، والفاسق ليس أهلا لذلك لجرأته على فعل ما نهي عنه، أو ترك ما أمر الله به إذ القضاء هو الحكم بين الناس بالحق والفاسق ليس من أهل الحق؛ لأن النفوس تطمئن إلى العدل ولا تطمئن إلى الفاسق فأولى أن لا يطمئنوا إلى حكمه (¬1). وقد جمع شيخ الإِسلام ابن تيميه بين القولين فقال: "إن اشتراط العدالة يعتبر بحسب الإمكان" (¬2). وقال في موضع أخر: "فليس عليه -أي ولي الأمر- أن يستعمل إلا أصلح الموجود وقد لا يكون في موجوده من هو أصلح لتلك الولاية فيختار الأمثل، فالأمثل في كل منصب بحسبه وإذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام وأخذه للولاية بحقها فقد أدى الأمانة" (¬3). 7 - الاجتهاد: أن يكون القاضي عالمًا بالأحكام الشرعية علمًا يصل به إلى درجة الاجتهاد. وقد عرف الغزالي الاجتهاد بأنه: بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة. والاجتهاد التام أن يبذل الوسع في الطلب بحيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد طلب (¬4). وقال ابن النجار: "هو استفراغ الفقيه وسعه في درك حكم شرعي" (¬5). ¬

_ (¬1) أحكام ولاية القضاء في الشريعة الغراء للدكتور عبد الحميد عويس (ص: 49). (¬2) مجموع الفتاوى (18/ 169). (¬3) مجموع الفتاوى (28/ 252). (¬4) المستصفى (1/ 342)، وانظر: روضة الناظر (1/ 352). (¬5) شرح الكوكب المنير (4/ 458).

قال النووي: "المجتهد هو من عرف من القرآن والسنة ما يتعلق بالأحكام: خاصه، وعامه ومجمله، ومبينه، وناسخه، ومنسوخه، ومتواتر السنة وغيره، والمتصل والمرسل، وحال الرواة قوةً وضعفا, ولسان العرب لغةً ونحوا، وأقوال العلماء من الصحابة فمن بعدهم إجماعًا واختلافا، والقياس بأنواعه" (¬1). وعلى هذا فالاجتهاد يتحقق بتحصيل ما يلي (¬2): 1 - عليه بكتاب الله -عَزَّ وجَلَّ- على الوجه الذي تصح به معرفة ما تضمنه من الأحكام ناسخًا ومنسوخا ومحكمًا ومتشابها، وعمومًا وخصوصا ومجملًا ومفسرا عالمًا بآيات الأحكام وبما يمكنه من الرجوع إلى أي منها متى شاء. 2 - علمه بسنة رسول الله الثابتة من أقواله وأفعاله وتقريراته وطرق ورودها والتواتر والأحاد وما كان عن سبب أو إطلاق، عالمًا بمظان أحاديث الأحكام متنًا وسندا وحال الرواة والجرح والتعديل فيها. 3 - علمه بتأويل السلف فيما اجتمعوا عليه واختلفوا فيه ليتبع الإجماع ويجتهد برأيه في الاختلاف. 4 - علمه بالقياس الموجب لرد الفروع المسكوت عنها إلى الأصول المنطوق بها أو المجمع عليها حيث يجد طريقًا إلى العلم بأحكام النوازل وتمييز الحق من الباطل. 5 - علمه باللغة العربية علمًا يؤهله لمعرفة معاني الألفاظ. ¬

_ (¬1) منهاج الطالبين (1/ 148)، مغني المحتاج (4/ 376). (¬2) المستصفى (2/ 350 - 352)، شرح مختصر الروضة (3/ 575)، الموافقات (4/ 56)، الأحكام للآمدي (4/ 162 - 164)، الأحكام السلطانية للماوردي (ص: 84 - 85)، شرح الكوكب المنير (4/ 459 - 464)، الأحكام السلطانية لأبي يعلى (ص: 61 - 62).

آراء الفقهاء في اشتراط الاجتهاد للقضاء

6 - علمه بأصول الفقه وقواعده العامة وأدلته الإجمالية وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد، ليزن نفسه بهذه المقاييس فيقدم على الاجتهاد إذا تحققت شروطه ويحجم عنه إذا اختلفت الشروط. 7 - أن يكون عالمًا بمقاصد الشريعة في وضع الأحكام ومدركًا لأسرارها ومراميها خبيًرا بمصالح الناس وأعرافهم حتى تكون اجتهاداته ملائمة لمقاصد الشرع مراعية لمصالح الناس بدفع المفاسد وجلب المنافع. 8 - أن يكون عارفا بشئون عصره؛ لأن الاجتهاد مرادف للإفتاء ولا بد للمفتي من معرفة واقعة الاستفتاء؛ لتكون الفتوى جديدة تعالج الواقع القائم. وهذا القدر المطلوب في الاجتهاد المطلق أما الاجتهاد الجزئي الخاص بمسألة فالمطلوب تحصيل ما يخص الجزئية المستفتى فيها والمجتهد فيها. آراء الفقهاء في اشتراط الاجتهاد للقضاء: اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في شأن الاجتهاد هل هو شرط جواز وصحة؟ أو أنه شرط أولوية واستحباب. أ- ذهب الشافعية والحنابلة وجماهير المالكية وبعض الحنفية إلى أنه يشترط في القاضي أن يكون مجتهدًا أي له أهلية استنباط الأحكام من الأدلة، وبناء على هذا فلو ولي المقلد أو الجاهل لم يصح تقليده وأحكامه غير نافذة ولو صادفت الحق، إذ لا ولاية له فإن لم يوجد مجتهد فهذا هو مكان قضاء الضرورة (¬1). ¬

_ (¬1) رد المحتار (5/ 360 - 361)، تبصرة الحكام (26 - 27)، الأحكام السلطانية للماوردي (ص: 85)، الأحكام السلطانية لأبي يعلى (ص 61 - 62).

الأدله

الأدله: 1 - قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬1). وجه الاستدلال: فإن الرد إلى الله معناه الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول معناه الرد إلى سنته ولا يتأتى الرد إلى الكتاب والسنة إلا من المجتهد فلا بد أن يكون من يفصل في النزاع مجتهدا. 2 - قال تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2)، وقوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬3). وجه الاستدلال: أن الآيتين تأمران بالقضاء بالحق والعدل، والقضاء بهما لا يتحقق على وجه الكمال إلا من المجتهد؛ لأنه هو الذي يستطيع الوصول إلى الحكم الشرعي الذي هو الحق؛ لأن الجاهل لا يعرف الحق ولو قيل: إنه يسأل غيره، فإن الأمر سوف يختلط عليه؛ لأنه لا يستطيع تحديد ما يسأل فيه أو موضوع السؤال كما أنه لا يعرف من يسأل ومن لا يسأل والمقلد لا يعرف الحق كذلك؛ لأن الحق لا يعرف إلا بدليل، ثم إن الحوادث كثيرة والنصوص محدودة والقاضي لا يجد في كل حادثة نصًا خاصًا بها فيضطر إلى الاستنباط للوصول إلى الحكم فلو لم يكن مجتهدًا لما استطاع الوصول إليه ويؤيد ذلك قوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ ¬

_ (¬1) سورة النساء: 59. (¬2) سورة ص: 26. (¬3) سورة المائدة: 42.

مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (¬1). فبين أن الذين يستطيعون الوصول إلى النصوص والقادرين على ذلك هم المجتهدون (¬2). 3 - من السنة حديث معاذ بن جَبَلٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَه إلى اليَمَنِ قال: "كيْفَ تَقْضي إذا عَرَضَ لك قَضَاءٌ؟ " قال: أَقْضِي بِكِتَابِ الله قال: "فَإِنْ لم تَجِدْ في كِتَابِ الله؟ " قال: فَبِسُنَّةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فَإِنْ لم تَجِدْ في سُنَّةِ رسول الله ولا في كتَابِ الله؟ " قال: أَجْتَهِدُ رَأْيِي ولا آلُو، فَضَرَبَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صَدْرَهُ وقاَل: "الحَمْدُ لله الذي وَفَّقَ رَسُولَ رسول الله لمِا يُرْضِي رَسُولَ الله" (¬3) فهذا واضح في أن القاضي لا بد أن يكون مجتهدًا، إذ إقرار الرسول لمعاذ على الاجتهاد بيان للصفة المعتبرة في القاضي دون غيرها إذ لو كان التقليد والحكم بقول الغير جائزًا لبينة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو قال له: "فإن لم يمكنك ذلك"؛ لأن الاقتصار في مقام ¬

_ (¬1) سورة النساء: 83. (¬2) المهذب (2/ 291). (¬3) رواه أبو داود (3/ 303)، كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء، برقم (3592). وهو في مسند أحمد بن حنبل (5/ 236)، وفي سنن الترمذيُّ، برقم (1327)، وفي المعجم الكبير (20/ 170)، برقم (362)، وفي سنن البيهقي الكبرى (10/ 114)، برقم (20126). قال ابن الملقن: هذا الحديث كثيرًا ما يتكرر في كتب الفقهاء والأصول والمحدثين ويعتمدون عليه وهو حديث ضعيف. البدر المنير (9/ 534). وقال ابن حجر: قال التِّرْمذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ إلَّا من هذا الوَجْهِ وَلَيْسَ إسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ، وقال البُخَارِيُّ في تَارِيخِهِ: الحَارِثُ بن عَمْرٍو عن أَصْحَابِ مُعَاذٍ وَعَنْهُ أبو عَوْنٍ، لَا يَصِحُّ وَلَا يُعْرَفُ إلَّا بهذا، وقال الدَّارَقُطْنِيُّ في العِلَلِ: رَوَاهُ شُعْبةُ عن أَبي عَوْنٍ هَكَذَا وَأَرْسَلَهُ ابن مَهْدِيٍّ وَجَمَاعَاتٌ عنه، وَالمُرْسَلُ أَصَحُّ. التلخيص الحبير (4/ 182). قال شعيب الأرنؤوط: الحديث ضعيف لإبهام أصحاب معاذ وجهالة الحارث بن عمرو لكن مال إلى القول بصحته غير واحد من المحققين من أهل العلم منهم أبو بكر الرازي، وأبو بكر بن العربي، والخطيب البغدادي، وصححه ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 202) مسند الإِمام أحمد (36/ 333). تحقيق شعيب الأرنؤوط.

البيان يفيد الحصر وتأخيره عن وقت الحاجة لا يجوز. 4 - العامي جاهل بالحكم فهو يقضي بجهل ويدخل في الذم الوارد فيما رواه بُرَيْدَةَ عن أبيه -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "القضاة ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس عن جهل فهو في النار" (¬1). 5 - التقليد ضرورة لا يباح إلا لمضطر للتقليد فإذا كانت لدى الإنسان الأهلية لأخذ الأحكام من مصادرها الأصلية فإنه يحرم عليه أن يقلد إماما؛ لأن الله سبحانه لم يتعبد الناس يقول فلان أو فلان. أما إذا كان الشخص غير قادر على أخذ الأحكام من مصادرها الأصلية: فإنه يكون مضطرًا إلى التقليد، والضرورة تقدر بقدرها فهي مقصورة على المقلد ومن ثم لا يكون له أن يلزم المتقاضين بما التزمه هو من رأي من قلده؛ لأنه إذا ألزمهم بذلك يكون فيه تعدية للضرورة إليهم (¬2). ب- وذهب الحنفية إلى عدم اشتراط الاجتهاد في القاضي فيجوز تقليد المقلد. قال الكاساني: "وَأَمَّا العِلمُ بِالحلَالِ وَالحَرَامِ وَسَائِرِ الأَحْكَامِ فَهَل هو شَرْطُ جَوَازِ التَّقْلِيدِ عِنْدَنَا ليس بِشَرْطِ الجوَازِ بَل شَرْطُ النَّدْب وَالِاسْتِحْبَابِ وَعِنْدَ أَصْحَابِ الحديث كَوْنُهُ عَالِمًا بِالحلَالِ وَالحَرَامِ وَسَائِرِ الأحْكَامِ مع بُلُوغِ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ في ذلك شَرْطُ جَوَازِ التَّقْلِيدِ كما قالوا في الإِمَامِ الأَعْظَمِ وَعِنْدَنَا هذا ليس بِشَرْطِ الجَوَازِ في الإِمَامِ الأَعْظَمِ, لِأَنهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْضيَ بِعِلمِ غَيْرِهِ بِالرُّجُوعِ إلَى ¬

_ (¬1) تقدم (ص: 16). (¬2) نظام القضاء في الإِسلام للمرصفاوي (ص: 21).

الأدلة

فَتْوَى غَيْرِهِ من العُلَمَاءِ فَكَذَا في القَاضِي لَكِنْ مع هذا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ الجاهِلُ بِالأَحْكَامِ، لِأَنَّ الجاهِلَ بِنَفْسِهِ ما يُفْسِدُ أَكْثر مِمَّا يُصْلِحُ بَل يَقْضِي بِالبَاطِلِ من حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ. . . إلَّا أنَّهُ لو قُلِّدَ جَازَ عِنْدَنَا، لِأنَّهُ يَقْدِرُ على القَضَاءِ بِالحقِّ بعِلمِ غَيْرِهِ بِالِاسْتِفْتَاءِ من الفُقَهَاءِ فَكَانَ تَقْلِيدُهُ جَائِزًا. . . حتى يَنْفُذَ قَضَايَاهُ التي لم يجاوِزْ فيها حَدَّ الشَّرْعِ" (¬1). الأدلة: 1 - ما رواه أبو داود بسنده عن عليٍّ -رضي الله عنه- قال بَعَثَني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليَمَنِ قَاضِيًا، فقلت: يا رَسُولَ الله، تُرْسِلُنِي وأنا حَدِيثُ السِّنِّ، ولاَ علم لي بِالقَضَاءِ، فقال: "إِنَّ الله سَيَهْدِي قَلبَكَ، وَيُثبتُ لِسَانَكَ، فإذا جَلَسَ بين يَدَيْكَ الخَصْمَانِ، فلا تَقْضِيَنَّ حتى تَسمَعَ من الآخَرِ كما سَمِعْتَ من الأوَّلِ، فإنه أَحْرَى أَنْ يَتبيَنَ لك القَضَاءُ" قال: فما زِلتُ قَاضِيًا، أو ما شَكَكْتُ في قَضَاءٍ بَعْدُ (¬2). وجه الاستدلال: أن الإِمام عليًا -رضي الله عنه- كان غير متأهل من الناحية العلمية وكان ينقصه الاجتهاد وقد ولاه النبي - صلى الله عليه وسلم - القضاء، وذلك يدل على عدم وجوب توفر شرط الاجتهاد. 2 - إن تقليد المقلد أو حتى الجاهل يحصل به الغرض من القضاء، وهو فصل الخصومات وقطع المنازعات وإيصال الحق إلى مستحقه، إذ يمكن أن يقضي بعلم غيره بالرجوع إلى قوله ورأيه وفتواه (¬3). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (7/ 3). (¬2) تقدم (ص: 6). (¬3) بدائع الصنائع (7/ 3).

3 - أن المقلد بالتزامه الحكم بمذهب معين ينفي عن نفسه تهمة الحكم بالهوى فضلا عما فيه من سرعة وصول القاضي إلى الحكم ومعرفة المتقاضيين بما يقضي به القاضي فيكون تقليده جائزًا لما فيه من هذه المصالح (¬1). الترجيح: ومما تقدم يتبين لنا ما يلي: رجحان رأي القائلين باشتراط الاجتهاد عند توفره وإمكانية شغل مناصب القضاء من المجتهدين. أما إذا لم يوجد المجتهد حقيقةً أو حكما، فإن الفقهاء متفقون على صحة تقليد المقلد أو الإلزام بالحكم بمذهب معين وذلك للضرورة عند الجمهور، ولجواز تقليد المفضول مع وجود الفاضل عند الفريق الثاني، لكن لا يلزم من ذلك جواز تولية القاضي الجاهل بناء على أنه يمكنه الحكم بفتوى غيره؛ لأنه وإن عرف الحكم بفتوى غيره إلا أنه لا يعرف إيقاعه وتطبيقه على موضوع القضية المعروضة عليه؛ لأن ذلك يحتاج إلى زيادة نظر لا تتوفر عنده وعليه فأقل درجات المقلد من التأهل في العلم والفهم ويستطيع استخراج الحكم من كتب المذهب. وينبغي أن نعلم أن مراد الحنفية بالجاهل في بعض كتبهم هو ما يقابل المجتهد، فلا يقصدون بالجاهل العامي المحض كما قد يتوهم، وإنما يقصدون الذي يكون على علم ولكنه مقلد لإمام معين. على أن الاجتهاد في زماننا هذا أيسر مما كان في أي عصر مضى فقد جمعت العلوم وحررت ودونت ولكن المشكلة أين الهمم والنفوس العالية. قال السفاريني: "إن الاجتهاد المطلق الآن أيسر منه في الزمن الأول؛ لأن الحديث والفقه قد دونا وكذا كل ما يتعلق بالاجتهاد من الآيات القرآنية والآثار ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (7/ 3).

8 - الذكورة

النبوية وأصول الفقه والعربية ولكن الهمم قاصرة والرغبة فاترة ونار الجد خامدة وعين الخشية والفكر جامدة اكتفاء بالتقليد وخلود إلى الراحة وعدم التسديد" (¬1). وقال ابن حجر: "قال أبو علي الكرابيسي صاحب الشافعي: وهذا وإن كنا نعلم أنه ليس على وجه الأرض أحد يجمع هذه الصفات ولكن يجب أن يطلب من أهل كل زمان أكملهم وأفضلهم" (¬2). 8 - الذكورة: اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في اشتراط الذكورة في القاضي على أقوال: الأول: ذهب جمهور الفقهاء -المالكية والشافعية والحنابلة وزفر من الحنفية- إلى أنه لا يجوز توليه المرأة القضاء وإذا وليت أثم موليها وبطلت ولايتها ولا ينفذ قضاؤها ولو وافق الحق (¬3). الثاني: نسب إلى ابن جرير الطبري (¬4) وابن القاسم من المالكية (¬5) وبه قال ابن حزم الظاهري (¬6) أن الذكورة ليست شرط جواز ولا صحة فيجوز تولية المرأة ¬

_ (¬1) نظام القضاء في الإِسلام للمرصفاوي (ص: 24). (¬2) فتح الباري (13/ 146). (¬3) تبصرة الحكام (1/ 21)، الشرح الصغير (4/ 187)، الحاوي الكبير (16/ 156)، السراج الوهاج (1/ 588)، المغني (10/ 92)، الأحكام السلطانية لأبي يعلى (ص: 60). (¬4) قال ابن العربي: نُقل عن محمَّد بن جرير الطبري إمام الدين أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية ولم يصح ذلك عنه. أحكام القرآن لابن العربي (3/ 482). (¬5) ورد في مواهب الجليل: روى ابن أبي مريم عن ابن القاسم جواز ولاية المرأة، قال ابن عرفة: قال ابن زرقون: أظنه فيما تجوز فيه شهادتها، قال ابن عبد السلام: لا حاجة لهذا التأويل لاحتمال أن يكون ابن القاسم قال يقول الحسن والطبريُّ بإجازة ولايتها القضاء مطلقا، قلتُ: الأظهر قول ابن زرقون. مواهب الجليل (6/ 87). (¬6) قال ابن حزم: مَسْأَلةٌ: وجَائِزٌ أَنْ تِليَ المَرْأةُ الحُكْمَ، وقد رُوِيَ عن عُمَرَ بن الخَطَّابِ أنَّهُ وَلَّى الشِّفَاءَ امْرَأَةً من قَوْمِهِ السُّوقَ. المحلى (9/ 429).

الأدلة

القضاء وإذا وليت لا يأثم موليها وتكون ولايتها صحيحة وأحكامها نافذة. الثالث: ذهب أكثر الحنفية ما عدا زفر إلى أنه يجوز للمرأة أن تتولى القضاء في الأموال ولا يجوز أن تتولاه في الحدود والقصاص. قال في الهداية: يجوز قضاء المرأة في كل شيء إلا في الحدود والقصاص اعتبارًا بشهادتها فيهما (¬1). قال الكاساني: "وَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ من شَرْطِ جَوَازِ التَّقْلِيدِ في الجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ المَرْأَةَ من أَهْلِ الشَّهَادَاتِ في الجُمْلَةِ إلَّا أنها لَا تَقْضي بِالحُدُودِ وَالقِصَاصِ؛ لأنها لَا شَهَادَةَ لها في ذلك وَأَهْلِيَّةُ القَضَاءِ تَدُورُ مع أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ" (¬2). قال ابن الهمام: "وأما الذكورة فليست بشرط إلا للقضاء في الحدود والدماء فتقضي المرأة في كل شيء إلا فيهما" (¬3). وهناك اتجاه آخر في المذهب الحنفي يجيز قضاءها في غير حد وقود مع إثم المولى لها. قال في مجمع الأنهر: "ويجوز قضاء المرأة في جميع الحقوق لكونها من أهل الشهادة لكن يأثم المولي لها للحديث "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" وتقضي في غير حد وقود إذ لا يجري فيهما شهادتها" (¬4). الأدلة: استدل الجمهور بما يلي: ¬

_ (¬1) الهداية شرح البداية (3/ 107). (¬2) بدائع الصنائع (7/ 3). (¬3) فتح القدير (7/ 253). (¬4) مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (3/ 234)، وانظر: فتح القدير (7/ 298).

1 - قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (¬1). وجه الاستدلال: إن الآية أفادت حصر القوامة في الرجال؛ لأن المبتدأ المعرف بأل منحصر في خبره حصرًا إضافيًا، ومعناه القوامة للرجال على النساء لا العكس وهذا يفيد عدم جواز تولية المرأة القضاء وإلا كانت الولاية للنساء على الرجال، فالمرأة إذا لم تمنح القوامة في البيت فكيف يحق لها أن تتولى الوظائف الكبرى ومنها القضاء (¬2). 2 - السنة: ما رواه البخاري بسنده عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- قال خَرَجَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أَضْحَى أو فِطْرٍ إلى المُصَلَّى، فَمَرَّ على النَسَاءِ، فقال: "يا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتكُنَّ أَكْثر أَهْلِ النَّارِ" فَقُلنَ: وَبِمَ يا رَسُولَ الله؟ قال: "تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ، ما رأيت من نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِمِ من إِحْدَاكُنَّ" قُلنَ: وما نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يا رَسُولَ الله؟ قال: "أَليْسَ شَهَادَةُ المَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ " قُلنَ: بَلَى، قال: "فَذَلِكِ من نُقْصَانِ عَقْلِهَا أَليْسَ إذا حَاضَتْ لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ؟ " قُلنَ: بَلَى، قال: "فَذَلِكِ من نُقْصَانِ دِينِهَا" (¬3). وجه الاستدلال: أن المرأة غير صالحة لتولي الولايات العامة ومنها القضاء، إذ هي ولاية تحتاج إلى عقل راجح متزن لا يتأثر بالعاطفة. ¬

_ (¬1) سورة النساء: 34. (¬2) تفسير القرطبي (5/ 168)، حكم تولي المرأة الإمامة الكبرى والقضاء للأمين الحاج (ص: 40). (¬3) صحيح البخاري (1/ 116)، كتاب الحيض، بَاب تَرْكِ الحائِضِ الصَّوْمَ، برقم (298).

أدلة القائلين بالجواز

3 - حديث بريدة عن أبيه -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار" (¬1). وجه الاستدلال: وصف القاضي بكونه رجلًا دل بمفهومه على إخراج المرأة. 4 - روى البخاري بسنده عن أبي بَكْرَةَ قال: لَما بَلَغَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قد مَلَّكُوا عليهم بِنْتَ كِسْرَى، قال: "لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلوْا أَمْرَهُمْ امْرَأة" (¬2). وجه الاستدلال: أن الحديث خبر في معنى النهي وكلمة "أَمْرَهُمْ" تشمل جميع أمور الأمة باعتبار أنها صيغة عامة، فيفيد الحديث النهي عن تولية المرأة شيئًا من الولايات إلا ما دل الدليل على استثنائه وهو الولايات الخاصة وبما أن القضاء ولاية عامة؛ لذا فإن الحديث يدل على تحريم تولية المرأة القضاء، وبطلان قضائها؛ لأنه خبر تضمن عدم فلاح من تولى امرأة أمورهم، وهو ضرر، والضرر يجب اجتنابه، فيجب اجتناب ما يؤدي إليه وهو تولية المرأة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ولو قلنا: إنه خبر لفظا إنشاء معنى فهو عام في جميع الولايات إلا الولايات الخاصة فهي متفق عليها. أدلة القائلين بالجواز: 1 - استدلوا من الكتاب بقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬3). ¬

_ (¬1) تقدم (ص: 16). (¬2) صحيح البخاري (4/ 1610)، برقم (4163)، صحيح ابن حبان (10/ 375، 4516). (¬3) سورة البقرة: 228.

وجه الاستدلال: إن الآية أفادت المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات وهي مساواة عامة لم يرد عليها استثناء. وقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (¬1). وجه الاستدلال: أن الآية نصت على اشتراك الجنسين في الولاية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك يؤدي إلى مشاركة النساء في جميع السلطات ومنها ولاية القضاء. 2 - الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يقم دليل المنع فكل من يصلح للفصل في الخصومة فإنه تصح ولايته للقضاء والمرأة صالحة وقادرة على الفصل في الخصومة وليس بها مانع من ذلك وعليه يصح توليتها القضاء؛ لأن أنوثتها لا تحول دون فهمها للحجج وإصدار الحكم (¬2). 3 - إن المرأة يجوز أن تكون فقيهة فيجوز أن تكون قاضية (¬3). 4 - القياس على الحسبة فقد روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ولى امرأة -تدعى الشِّفَاءَ- الحسبة على السوق فيجوز أن تتولى القضاء؛ لأن كلًا منهما من الولايات العامة (¬4). 5 - القياس على بيت الزوجة فقد أثبت الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمرأة ولاية بيت ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 71. (¬2) المحلى (9/ 429). (¬3) المحلى (9/ 431). (¬4) المحلى (9/ 429). أحكام القرآن لابن العربي (3/ 482)، تفسير القرطبي (13/ 183).

زوجها والقيام على إدارته وتدبير شئونه فقال: والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها فدل ذلك على أنها أهل لسائر الولايات. الترجيح: لم تتول امرأة منصبًا إداريًا على طول عصور الإِسلام المختلفة ولم تتشوق لذلك دعك عن توليها منصب القضاء أو الحكم مع وجود أعداد كبيرة من النساء الصالحات العالمات العاملات في تلك العصور المختلفة ابتداءً بعصر النبوة والخلافة الراشدة وانتهاء بالقرن الماضي، فقد كانت أم المؤمنين عائشة عالمة فقيهة فلم تتول هي ولا غيرها أي منصب إداري بل لم تتطلع إحداهن لذلك؛ لعلمهن أن ذلك مما خص به الرجال، والمرأة المسلمة مطالبة أن تساهم في تطوير المجتمع وتنميته من خلال إتقانها للتخصصات التي تهمها وتتناسب مع وظيفتها تعلمًا وتعليمًا وتطبيبًا لبنات جنسها كما كانت النساء في عصور الإِسلام الزاهرة تساهم مساهمة فعالة في دفع عجلة التعلم، بل قد فاق بعضهن الرجال وعشن في سعادة واستقرار دون مطالبة بتولي الوظائف المناسبة للرجال، أو تأوه من ظلم لهن لعدم تحقق ذلك (¬1). ¬

_ (¬1) المغني (14/ 13)، حكم تولي المرأة الإمامة الكبرى والقضاء للأمين الحاج (ص: 45)، الأحكام السلطانية للماوردي (ص: 83).

آداب القاضي

آداب القاضي يقصد بآداب القاضي: الصفات الواجبة والمندوبة التي يتحلى بها القاضي، وما عليه الأخذ به هو وأعوانه من أحكام ونظم تحفظهم عن الميل إلى الهوى وتسير بالقضاء إلى غايته المنشودة من تحقيق العدل والقضاء على الظلم (¬1). أولًا: آداب متعلقة بشخص القاضي وصفاته: لقد ذكر الفقهاء الكثير من الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها القاضي، يقول ابن فرحون (¬2) وعلاء الدين الطرابلسي (¬3): اعْلَمْ: أنهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ وَلِيَ القَضَاءَ أَنْ يُعَالِجَ نَفْسَهُ عَلَى آدَابِ الشَّرْعِ وَحِفْظِ المروءَةِ وَعُلُوِّ الِهمَّةِ، وَيَتَوَقَّى مَا يَشِينُهُ في دِينهِ وَمُرُوءَتِهِ وَعَقْلِهِ، أَوْ يَحُطُّهُ في مَنْصِبِهِ وَهِمَّتِهِ، فَإِنَّهُ أَهْلٌ لَأَنْ يُنْظَرَ إلَيْهِ وَيُقْتَدَى بِهِ، وَلَيْسَ يَسَعُهُ في ذَلِكَ مَا يَسَعُ غَيْرَهُ فَالعُيُونُ إلَيْهِ مَصرُوفَةٌ، وَنُفُوسُ الخَاصَّةِ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ مَوْقُوفَةٌ وَلَا يَجْعَلُ حَظَّهُ مِنْ الوِلَايَةِ المُبَاهَاةَ بِالرِّيَاسَةِ وَإِنْفَاذَ الأَوَامِرِ وَالتَّلَذُّذَ بِالمَطَاعِمِ وَالمَلَابِسِ وَالمَسَاكِنِ فَيَكُونُ مِمَّنْ خُوطِبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} (¬4)، وَليَجْتَهِدْ أَنْ يَكُونَ جَمِيلَ الهَيْئةِ ظَاهِرَ الأُبَّهَةِ، وَقُورَ المِشْيَةِ وَالجِلسَةِ حَسَنَ النُّطْقِ وَالصَّمْتِ مُحترِزًا في كَلَامِهِ مِنْ الفُضُولِ وَمَا لَا حَاجَةَ بِهِ، كَأنَّمَا يَعُدُّ حُرُوفَهُ عَلَى نَفْسِهِ عَدًّا، فَإِنَّ كَلَامَهُ مَحْفُوظٌ وَزَلله في ذَلِكَ مَلحُوظٌ، وَليُقْلِل عِنْدَ كَلَامِهِ من الإِشَارَةَ بِيَدِهِ وَالِالتِفَاتَ بِوَجْهِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ المُتكَلِّفِينَ وَصُنعِ غَيْرِ المتأَدِّبِينَ، وَليَكُنْ ضَحِكُهُ تبسُّمًا، وَنَظَرُهُ فِرَاسَةً وَتَوَسُّمًا، وَإِطْرَاقُهُ تَفَهُّمًا، وَليَلزَمْ مِنْ السَّمْتِ الحَسَنِ وَالسَّكِينَةِ وَالوَقَارِ مَا يَحْفَظُ بِهِ مُرُوءَتَهُ، ¬

_ (¬1) نظام القضاء في الإِسلام للمرصفاوي (ص: 132). (¬2) تبصرة الحكام (1/ 31 - 32). (¬3) معين الحكام (1/ 45 - 46). (¬4) سورة الأحقاف: 20.

ثانيا: آداب متعلقة بنزاهته وحفظ كرامته

فَتَمِيلَ الهِمَمُ إلَيْهِ، وَيَكْبُرَ في نُفُوسِ الخُصُومِ مِنْ الجُرْأَةِ عَلَيْهِ، مِنْ غَيْرِ تكبُّرٍ يُظْهِرُهُ وَلَا إعْجَابٍ يَسْتَشْعِرُهُ، وَكِلَاهُمَا شَيْنٌ في الدِّينِ، وَعَيْبٌ في أَخْلَاقِ المُؤْمنينَ، متواضعا من غير ضعف كثير التحرز من الحيل لا يطلع الناس منه على عورة ولا يخشى في الله لومه لائم. وقال ابن قدامة: "يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الحَاكِمُ قَوِيًّا مِنْ غَيْر عُنْفٍ، لَيِّنًا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ، لا يَطْمَعُ القَوِيُّ في بَاطِلِهِ، وَلَا يَيْأَسُ الضَّعِيفُ مِنْ عَدْلِهِ، وَيَكُونَ حَلِيمًا، مُتَأنِّيًا، ذَا فِطْنَةٍ وَتَيقُّظٍ، لا يُؤْتَى مِنْ غَفْلَةٍ، وَلَا يُخْدَعُ لِغِرَّةٍ، صَحِيحَ السَّمْعِ وَالبَصَرِ، عَالِمًا بِلُغَاتِ أَهْلِ وِلَايَتهِ، عَفِيفًا وَرعًا، نَزِهًا، بَعِيدًا مِنْ الطَّمَعِ، صَدُوقَ اللَّهْجَةِ، ذَا رَأْيٍ وَمَشُورَةٍ، لِكَلَامِهِ لِينٌ إذَا قَرُبَ، وَهَيْبَةٌ إذَا أَوْعَدَ، وَوَفَاءٌ إذا وَعَدَ، وَلا يَكُونُ جَبَّارًا، وَلا عَسُوفًا، فَيقْطِعُ ذَا الحُجَّةِ عَنْ حُجَّتِهِ، قَالَ عَليٌّ -رضي الله عنه-: "لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ القَاضِي قَاضِيًا حَتى يكُونَ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ عَفِيفٌ، حَلِيمٌ, عَالِمٌ بِمَا كَانَ قَبْلَهُ، يَسْتَشِيرُ ذَوِي الأَلبَابِ، لَا يَخَافُ في الله لَوْمَةَ لَائِمٍ"، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ -رضي الله عنه-، قَالَ: "يَنْبَغِي لِلقَاضِي أَنْ تَجْتَمِعَ فِيهِ سَبعُ خِلَالٍ، إنْ فَاتَتْهُ وَاحِدَةٌ كَانَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ: العَقْلُ، وَالفِقْهُ، وَالوَرَعُ، وَالنَّزاهَةُ، وَالصَّرَامَةُ، وَالعِلمُ بِالسُّنَنِ، وَالحِكَمِ" (¬1)، وَأن يَكُونُ فَهِمَا، حَلِيمًا، عَفِيفًا، صُلبًا، سَآلًا عَمَّا لَا يَعْلَمُ، وَلَا يَكُونُ ضَعِيفًا، مَهِينًا، لِأَنَّ ذَلِكَ يَبْسُطُ المتخَاصِمِينَ إلَى التَّهَاتُرِ، وَالتَّشَاتُمِ بَيْنَ يَدَيْهِ" (¬2) ثانيا: آداب متعلقة بنزاهته وحفظ كرامته: حرصت الشريعة على أن تكون كرامة القاضي محفوظة، ونزاهته مضمونة؛ لأنه يفصل بين الناس فينبغي أن يكون محل ثقة الناس واحترامهم له، والاطمئنان إلى عدالته في الحكم، وهذا يستوجب منه أن يبتعد عن الشبهات وأن يكون قدوة حسنة. ¬

_ (¬1) السنن الكبرى للبيهقي (10/ 110). (¬2) المغني (14/ 17 - 18).

1 - التنزه عن طلب الحوائج

فمما يحفظ كرامته ويصون له نزاهته أمور منها: 1 - التنزه عن طلب الحوائج: ينبغي للقاضي أن يتنزه عن طلب الحوائج من الناس كالماعون، والآلة، والسيارة؛ ليكون موفور الكرامة محفوظًا من ألسنة الناس ملحوظًا بعين الإجلال والإكرام بعيدًا عن استغلال الآخرين (¬1). ويجتنب أخذ القرض إلا أن لا يجد بدا من ذلك فلا يكون من عند الخصوم، أو ممّن هم من جهتهم (¬2). 2 - كراهة البيع والشراء: يكره للقاضي أن يبيع أو يشتري شيئًا لنفسه في مجلس الحكم أو غيره إلا بوكيل لا يعرف أنه وكيله لئلا يحابي والمحاباة في حكم الهبة فتكون مكروهة. قال ابن قدامة: لَا يَنْبَغِي لِلقَاضِي أَنْ يَتَوَلَّى البَيعَ وَالشِّرَاءَ بِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ يُعْرَفُ فَيُحَابَى، فَيَكُونُ كَالهَدِيَّةِ، وَلأَنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُهُ عَنْ النَّظَرِ في أُمُورِ النَّاسِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي الله عنه- أَنَّهُ لَمَّا بُويع، أَخَذَ الذِّرَاعَ وَقَصْدَ السُّوقَ، فَقَالُوا: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لَا يَسَعُك أَنْ تَشْتَغِلَ عَنْ أُمُورِ المُسْلِمِينَ، قَالَ: فَإِنِّي لَا أَدَعُ عِيَالِي يَضِيعُونَ، قَالُوا: فَنَحْنُ نَفْرِضُ لَك مَا يَكْفِيك، فَفَرَضُوا لَهُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ (¬3)، فَإِنْ بَاعَ وَاشْتَرَى، صَحَّ البَيْعُ؛ لِأَنَّ البَيع تَمَّ بِشُرُوطِهِ وَأَرْكَانِهِ. ¬

_ (¬1) تبصرة الحكام (1/ 34). (¬2) المرجع السابق. (¬3) قال ابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 194): حَدِيثُ أَنَّ أبا بَكْرٍ كان يَأْخُذُ من بَيْتِ المَالِ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ لم أَرَهُ هَكَذَا. وقال في فتح الباري ج 4 / ص 305: روى ابن سعد بإسناد مرسل رجاله ثقات قال: لما استخلف أبو بكر أصبح غاديا إلى السوق على رأسه أثواب يتجر بها، فلقيه

3 - تحريم قبول الرشوة

وَإِنْ احْتَاجَ إلَى مُبَاشَرَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَكْفِيهِ، جَازَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُكْرَهْ؛ لِأَنَّ أَبا بَكْرٍ -رضي الله عنه- قَصْدَ السُّوقَ لِيَتَّجِرَ فِيهِ، حَتَّى فَرَضُوا لَهُ مَا يَكْفِيهِ؛ وَلِأَنَّ القِيَامَ بِعِيَالِهِ فَرْضُ عَيْنٍ، فَلَا يَتْرُكُهُ لِوَهْمِ مَضَرَّةٍ، وَأَمَّا إذا اسْتَغْنَى عَنْ مُبَاشَرَتِهِ، وَوَجَدَ مَنْ يَكْفِيهِ ذَلِكَ كُرِهَ لَهُ؛ لمِا ذَكَرْنَا مِنْ المَعْنيَيْنِ، وَينْبَغِي أَنْ يُوَكِّلَ في ذَلِكَ مَنْ لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ وَكِيلُهُ؛ لِئَلَّا يُحَابَى. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ قَالَ: "لَا يُكْرَهُ لَهُ البَيعُ وَالشِّرَاءُ وَتَوْكِيلُ مَنْ يُعْرَفُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَضِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ -رضي الله عنه-" (¬1). وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ، أنَّهُ قَالَ: "شَرَطَ عَلَيَّ عُمَرُ حِينَ وَلَّانِي القَضَاءَ أَنْ لَا أَبِيعَ، وَلَا أَبتَاعَ". وَقَضِيَّةُ أَبِي بَكْرٍ حُجَّةٌ لمنع البيع والشراء، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ، فَاعْتَذَرَ بِحِفْظِ عِيَالِهِ عَنْ الضَّيَاعِ، فَلمَّا أَغْنَوْهُ عَنْ البَيع وَالشِّرَاءِ بِمَا فَرَضُوا لهمْ، قَبِلَ قَوْلَهُمْ، وَتَرَكَ التِّجَارَةَ، فَحَصَلَ الِاتِّفَاقُ مِنْهُمْ عَلَى تَرْكِهَا عِنْدَ الغِنَى عَنْهَا (¬2). 3 - تحريم قبول الرشوة: قال ابن قدامة: فأما الرشوة في الحكم ورشوة العامل فحرام بلا خلاف، قال الله تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (¬3) قال الحسن وسعيد بن جبير في تفسيره: هو الرشوة، وقالا: إذا قبل القاضي الرشوة بلغت به إلى الكفر، وروى عبد الله بن ¬

_ = عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة ابن الجراح فقال: كيف تصنع هذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالوا: نفرض لك، ففرضوا له كل يوم شطر شاة. الطبقات الكبرى (3/ 184). (¬1) روضة القضاة (1/ 658). (¬2) المغني (14/ 60 - 61)، وانظر: الحاوي الكبير (16/ 42)، روضة القضاة (1/ 658). (¬3) سورة المائدة: 42.

4 - تحريم قبول الهدية

عمرو قال لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراشي، والمرتشي. قال الترمذيُّ: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ، ورواه أبو هريرة وزاد في الحكم (¬1)؛ ولأن المرتشي إنما يرتشي ليحكم بغير الحق أو ليوقف الحكم عنه وذلك من أعظم الظلم (¬2). فإن قضى في حادثة برشوة لا ينفذ قضاؤه في هذه الحادثة وإن قضى بالحق؛ لأن القضاء عبادة والعبادة يجب أن تكون خالصة لله، فإذا أخذ على القضاء رشوة فقد قضى لنفسه لا لله فلا يصح قضاؤه في هذه الحادثة وينعزل بأخذ الرشوة ويعزره الإِمام بما يرى (¬3). 4 - تحريم قبول الهدية: يحرم على القاضي قبول الهدية ممّن لم يكن يهدي إليه قبل ولايته وإن لم تكن له خصومه؛ لأن المهدي يقصد بها في الغالب استمالة القاضي إليه ليكون الحكم في جانبه فتشبه الرشوة حينئذ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "هدايا العمال غلول" (¬4). ولما روى أبو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قال اسْتَعْمَلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا من الأَسْدِ يُقَالُ له: ابن اللُّتْبِيَّةِ (قال عَمْرٌو وبن أبي عُمَرَ: على الصَّدَقَةِ) فلما قَدِمَ قال: هذا ¬

_ (¬1) سنن الترمذيُّ (3/ 622)، كتاب الأحكام، بَاب ما جاء في الرَّاشِي وَالمُرْتَشي في الحُكْمِ، برقم (1336، 1337)، وفي سنن أبي داود، برقم (3580). قال ابن حجر: قال ابن العربي: الرشوة كل مال دفع ليبتاع به من ذي جاه عونا على ما لا يحل، والمرتشي قابضه، والراشي: معطيه، والرائش: الواسطة وقد ثبت حديث عبد الله بن عمرو في لعن الراشي والمرتشي أخرجه الترمذيُّ وصححه وفي رواية والرائش. فتح الباري (5/ 221). (¬2) المغني (14/ 59 - 60)، تفسير الطبري (6/ 239)، تفسير القرطبي (6/ 183). (¬3) مغني المحتاج (4/ 392). (¬4) مسند أحمد بن حنبل (5/ 424)، السنن الكبرى للبيهقي (10/ 138). قال ابن الملقن: حديث هدايا العمال غلول رواه أحمد والبيهقيُّ من رواية أبي حميد الساعدي بإسناد حسن. خلاصة البدر المنير (2/ 430).

5 - عدم إجابة الدعوة الخاصة

لَكُمْ، وَهَذَا لي، أُهْدِيَ لي، قال: فَقَامَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المِنْبَرِ، فَحَمِدَ الله وَأثنَى عليه، وقال: "ما بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فيقول: هذا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لي، أَفلَا قَعَدَ في بَيْتِ أبيه أو في بَيْتِ أُمِّهِ حتى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إليه أَمْ لَا، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيده، لَا يَنَالُ أحدٌ مِنكُمْ منها شيئًا إلا جاء بِهِ يوم القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ على عُنُقِهِ، بَعِيرٌ له رُغَاءٌ، أوبقَرَةٌ لها خُوَارٌ، أو شَاةٌ تَيْعِرُ" ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْه حتى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ ثُمَّ قال: "اللَّهم هل بَلَّغْتُ" ثلاثًا (¬1). أما من كان يهدى إليه قبل ولايته فيباح له قبولها إذا لم تكن له خصومة أمامه؛ لانتفاء التهمة حينئذ وإن كان ردها أولى، فإذا أخذ القاضي الهدية ممّن لم يكن يهدي إليه، أو ممّن كان يهدي إليه وله عنده خصومة وجب ردها عليه، وكذا يجب رد الرشوة للمرتشي لأنه أخذها بغير حق وذلك كالمأخوذ بعقد فاسد (¬2). 5 - عدم إجابة الدعوة الخاصة: لا يجوز للقاضي إجابة الدعوة الخاصة؛ لأن إجابتها لا تخلو من التهمة، إلا إذا كان صاحب الدعوة قريبًا له أو جرت العادة بدعوته قبل القضاء بشرط ألا يكَون لأحدهما خصومة عنده؛ لانعدام التهمة فإن عرف القاضي أن لأحدهما خصومة عنده امتنع عن حضورها ومرجع تحديد الدعوة الخاصة إلى العرف. أما الدعوة العامة: فإن كانت مشروعة كوليمة العرس فإنه يجيبها، فإن إجابتها امتثال للسنة ولا تهمة في إجابتها، وإن كانت غير مشروعة فلا يجيبها. لكن للقاضي أن يعود المريض؛ لأنه حق للمسلم على المسلم ولا تلحقه التهمة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، برقم (6753)، صحيح مسلم، برقم (1832). (¬2) تبصرة الحكام (1/ 33)، مغني المحتاج (4/ 392)، المغني (14/ 58 - 59)، القضاء في الإِسلام (ص: 77).

6 - عدم جواز القضاء لنفسه وأقاربه

بذلك، وكذلك له تشييع الجنازة؛ لأن ذلك حقًا للميت على المسلمين فلم يكن متهما في أداء هذه السنة كما أن له زيارة القادمين من سفر وتوديع المسافرين وزيارة إخوانه الصالحين من الناس؛ لأن ذلك قربة وطاعة ولا تهمة فيها (¬1). 6 - عدم جواز القضاء لنفسه وأقاربه: لا يجوز للقاضي أن يحكم لنفسه وإن حكم كان حكمه باطلًا ولو صادف الحق، وذلك؛ لأن القضاء عبادة والعبادة يجب أن تكون خالصة لله فإذا قضى لنفسه انتفى خلوصه لله، فبطل قضاؤه؛ ولأن حكمه لنفسه فيه تهمه الميل إلى مصلحته وإيثارها على مصلحة الخصم وهذا مبطل للقضاء. فإن عرضت له خصومة مع غيره تحاكم إلى الإِمام أو إلى قاض آخر سواء كان من زملائه أو من نوابه أو من غيره أو تحاكما إلى شخص آخر يرضيان حكمه من غير القضاة فقد تحاكم عثمان وطلحه إلى جبير بن مطعم وتحاكم علي مع اليهودي إلى القاضي شريح. 7 - عدم الفتوى فيما قد يعرض عليه: لا يجوز للقاضي أن يفتي في حادثة قد تعرض له، وهي الحوادث، والوقائع التي تدخل في اختصاصه فلا يجوز له أن يفتي في موضوع يتعلق بالنكاح إذا كان مختصًا بالنظر في الأنكحة فقط ولا في موضوع يتعلق بالأموال إذا كان مختصًا بالنظر في المعاملات فقط؛ لأنه قد تعرض عليه هذه الحادثة في خصومة قضائية فيكون قد أبدى رأيه فيها وهذا يخل بنزاهة القاضي؛ ولأنه قد يتغير رأيه أثناء نظر القضية لسبب من الأسباب فلو قضى برأيه الأخير أدخل الشك في نفس الخصوم ولو قضى برأيه الأول يكون قد حكم بخلاف ما يعتقد صحته. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (7/ 10)، المغني (14/ 61)، القضاء في الإِسلام (ص: 79).

8 - أن يتجنب بطانة السوء

قال ابن قدامة: قال ابن المنذر: يكره للقاضي أن يفتي في الأحكام، كان شريح يقول: أنا أقضي ولا أفتي، وأما الفتيا في الطهارة وسائر ما لا يحكم في مثله فلا بأس بالفتيا فيه (¬1). 8 - أن يتجنب بطانة السوء: لأن أكثر القضاة إنما يؤتى عليهم من ذلك (¬2). بل عليه أن يتخذ بطانة من أهل الدين والأمانة والعدالة والنزاهة ليستعين بهم في اجتهاده ويخففوا عنه الأعباء التي يمكنهم القيام بها (¬3). ثالثًا: آداب متعلقة بجلوس القاضي للحكم (¬4): 1 - ينبغي أن يكون لجلوسه أيامًا معلومة يعلم بها الناس، وقد حدد ذلك في هذا العصر بحيث يبدأ في وقت معين وينتهي كذلك في وقت محدد وهذا مناسب؛ لأنه من باب التنظيم. 2 - يستحب للقاضي أن يصلي قبل دخوله لمجلس الحكم ركعتين. 3 - يكون جلوسه علانية فلا يمنع أحدًا من دخوله عليه. 4 - يسلم على الخصوم ومن بالمجلس قبل أن يجلس ولا يخص أحدًا منهم بالسلام. ¬

_ (¬1) المغني (10/ 153)، مواهب الجليل (6/ 119)، فتاوى ابن الصلاح (1/ 45)، أدب المفتي والمستفتي (1/ 108)، مذكرة في علم القضاء د. عبد العال عطوة (ص: 80). (¬2) تبصرة الحكام (1/ 35 - 36). (¬3) المرجع السابق. (¬4) بدائع الصنائع (7/ 9)، تبصرة الحكام (1/ 40)، مغني المحتاج (4/ 391)، كتاب أدب القضاء لابن أبي الدم (ص: 66)، المغني (14/ 25)، يثرح منتهى الإرادات (3/ 497)، مطالب أولي النهي (6/ 475)، الموسوعة الفقهية (33/ 305).

5 - يسن له أن يدعو عند ابتدائه النظر في القضايا بالتوفيق بالحق والعصمة من الزلل في القول والعمل، وأن يستعين بالله تعالى وأن يفوض أمره إليه كما ينبغي أن يكون دعاؤه سرًا؛ لأنه أرجى للإجابة والبعد عن الرياء. 6 - أن لا يتضاحك في مجلسه ويلزم السمت من غير غضب ويمنع من رفع الصوت عنده. 7 - أن لا يتشاغل بالحديث في مجلسه. 8 - يجلس مستقبل القبلة إن أمكن. 9 - يجلس في حالة اعتدال نفسية وجسمية، فلا يجلس للقضاء وهو غضبان أو قلق أو ضجر أو حاقن أو في حالة جوع شديد أو شبع زائد أو عطش شديد أو هم أو كسل أو نعاس أو برد مؤلم أو حر مزعج لما رواه مسلم بسنده عن عبد الرحمن بن أبي بَكْرَةَ قال: كَتَبَ أبي وَكَتَبْتُ له إلى عُبَيْدِ الله بن أبي بَكْرَةَ وهو قَاضٍ بِسِجِسْتَانَ أَنْ لَا تَحْكُمَ بين اثْنين وَأَنْتَ غَضْبَانُ فَإنِّي سمعت رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "لَا يَحْكُمْ أحدٌ بين اثْنينِ وهو غَضْبَانُ" (¬1). فقد نهى عن الحكم عند الغضب لما فيه من تشويش الفكر ويلحق به ما ذكر؛ لأنه في معناه، ولقول عمر في كتابه إلى أبي موسى: إياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس (¬2). ولأن هذه الأمور كلها تمنع الحكم؛ لأنها تمنع حضور القلب واجتماع الفكر الذي يتوصل بهما إلى إصابة الحق، في الغالب فتمنع القاضي من القضاء وهو متصف به. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (3/ 1342)، كتاب الأقضية، بَاب كَرَاهَةِ قَضَاءِ القَاضي وهو غَضْبَانُ، برقم (1717). (¬2) سنن الدارقطني (4/ 206)، سنن البيهقي الكبرى (10/ 106).

ما الحكم إذا قضى في حالة غضب؟

ما الحكم إذا قضى في حالة غضب؟ ذهب جمهور الفقهاء إلى صحة القضاء مع الكراهة لما رواه البخاري بسنده عن عُرْوَة بن الزُّبَيْر: أَنَّ الزُّبَيْرَ كان يحدث: أنَّه خاصَمَ رَجُلًا من الأنصَار -قد شَهِدَ بَدْرًا- إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شِرَاجٍ (¬1) من الحَرَّةِ، كَانَا يَسْقِيَانِ بِهِ كلاهما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِلزُّبَيْرِ: "اسْقِ يا زُبيْرُ، ثمَّ أَرْسِل إلى جَارِكَ" فَغَضِبَ الأنصَارِيُّ، فقال: يا رَسُولَ الله، أن كان ابن عَمَّتِكَ؟ فتلَونَ وَجْهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قال: "اسقِ، ثُمَّ احْبِسْ حتى يَبْلُغَ الجَدْرَ" (¬2) فَاسْتَوْعَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حِينَئِذٍ حَقَّهُ لِلزُّبَيْرِ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك أَشَارَ على الزُّبَير بِرَأْيٍ سَعَةٍ له وَللأنصَارِيِّ، فلما أَحْفَظَ (¬3) الأنصَارِيُّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - اسْتَوْعَى لِلزُّبَيْرِ حَقّهُ في صَرِيحِ الحُكْمِ (¬4). فقد حكم الرسول في حالة غضبه وهذا يدل على الصحة وأن النهي يفيد الكراهية. وذهب القاضي من الحنابلة: إلى أنه لا يصح حال الغضب ولا ينفذ؛ لأنه منهي عنه والنهي يقتضي الفساد. وأجاب عن الحديث بأن القضاء عند الغضب خاص بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكن التخصيص لم يقم عليه دليل؛ ولذا فلا يعتبر، وكتاب عمر -رضي الله عنه- إلى أبي موسى ينهاه عن ذلك؛ ولأنه إذا غضب تغير عقله ولم يستوف رأيه وفكره. وذهب فريق إلى أن الغضب يمنع القاضي من الحكم إذا كان الغضب قبل أن يتضح له الحكم في المسألة أما إذا اتضح له الحكم ثم عرض الغضب، فإن ذلك ¬

_ (¬1) الشرج: مسيل الماء من العَسِر إلى السهل. عمدة القاري (12/ 201). (¬2) قوله: احبس الماء حتى يبلغ الجدر فبلغ ذلك إلى الكعبين. فتح الباري (5/ 40). (¬3) أحفظه: أغضبه. المعجم الوسيط (1/ 185). (¬4) صحيح البخاري (2/ 964)، كتاب الصلح، بَاب إذا أَشَارَ الإِمَامُ بِالصُّلحِ فَأَبَى حَكَمَ عليه بِالحُكْمِ البَيِّنِ، برقم (2561).

لا يمنعه؛ لأن الحق قد استبان قبل الغضب فيه وقد رجح ابن جر هذا التفصيل، وقال: وهو تفصيل معتبر (¬1). 10 - أن ينظر في أمر المحبوسين؛ لأن الحبس عذاب وربما كان فيه من لا يستحق البقاء فيه بل ينبغي أن ينظر في المحبوسين من قبل القضاة الذين سبقوه. 11 - على القاضي أن يقدم الخصوم بحسب ترتيبهم في الحضور فيقدم من حضر أولًا من المدعين ثم من حضر بعده وهكذا ويستثنى من هذا ثلاثة أصناف: 1 - الغرباء فيقدم قضاياهم على أهل المقر إلا إذا كانوا كثيرين فيخلطهم بأهل المقر. 2 - الشهود فيقدمهم على من ليس معهم شهود؛ لأن إكرام الشهود واجب وليس من الإكرام حبسهم على باب القاضي فإن كانوا كثيرين أقرع بينهم فقدم من خرجت قرعته. 3 - النساء فإنه يقدمهن على الرجال حتى لا يطول وقوفهن خارج البيوت، فإن خروجهن ضرورة وتقع الفتنة فيما لو خلطهن بالرجال (¬2). 12 - يسوى بين الخصمين في الجلوس فيجلسهما بين يديه ولا يجلسهما عن يمينه أو يساره؛ لأن في ذلك تقريب أحدهما من مجلسه ولا يجلس أحدهما عن اليمين والآخر عن اليسار؛ لأن لليمين فضلًا عن اليسار، وفي النظر فلا يقبل بوجهه على أحدهما دون الآخر، وفي الكلام فلا يكلم أحدهما بلسان لا يعرفه الآخر ولا يشاور أحدهما دون الآخر، وفي الإشارة فلا يؤشر إلى ¬

_ (¬1) فتح الباري (13/ 138)، المغني (14/ 25 - 26). (¬2) بدائع الصنائع (7/ 13)، تبصرة الحكام (1/ 44)، كتاب أدب القضاء لابن أبي الدم (ص: 71)، مغني المحتاج (4/ 402)، المغني (14/ 22).

أحدهما دون الآخر، وفي الخلوة فلا يخلو بأحدهما دون الآخر (¬1). ولا يرفع صوته على أحدهما دون خصمه ولا يضيف أحدهما ولا يلقن أحد الخصمين حجته لحديث أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهما في لحظه وإشارته ومقعده ومجلسه، ولا يرفع صوته على أحد الخصمين مالا يرفعه على الآخر" (¬2). وقد اختصم عمر وأبي بن كعب -رضي الله عنهما- إلى زيد بن ثابت -رضي الله عنه- فألقى لعمر وسادة فقال عمر -رضي الله عنه-: "هذا أول جورك وجلس بين يديه" (¬3). 13 - ينبغي للقاضي أن يكرم الشهود فلا يجوز أن يعنف الشاهد أو يداخله في كلامه؛ لأن ذلك يشوش عليهم عقولهم فلا يمكنهم من أداء الشهادة على وجهها. 14 - ذهب الحنفية إلى أن للقاضي أن يأمر بالصلح في أي مرحلة من مراحل التقاضي واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (¬4). وهذا مطلق يتناول الصلح في أي مرحلة من مراحل نظر القضية. كما استدلوا على ذلك أيضًا بقول عمر -رضي الله عنه-: "ردوا الخصوم حتى يصطلحوا: فإن فصل القضاء يورث بين القوم الضغائن" (¬5). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (7/ 9)، الحاوي الكبير (16/ 275)، الإنصاف للمرداوي (11/ 205). (¬2) سنن البيهقي الكبرى (10/ 135)، المعجم الكبير (23/ 284). قال ابن حجر: في إسْنَادِهِ عَبَّادُ بن كَثِيرٍ وهو ضَعِيفٌ. التلخيص الحبير (4/ 193). (¬3) المحلى (9/ 381). (¬4) سورة النساء: 128. (¬5) مصنف ابن أبي شيبة (4/ 534)، برقم (22896)، سنن البيهقي الكبرى (6/ 66)، برقم (11142). قال ابن حزم: قد جاء عن عُمَرَ أَنَّهُ قال رَدِّدُوا الخُصُومَ حتى يَصْطَلِحُوا فإن فَصْلَ

وهذا مطلق يشمل جميع الحالات وفي الصلح حصول المقصود من غير ضغينة فكان جائزًا في أي مرحلة (¬1). قال ابن قدامة: "قال أبو عبيد: إنما يسعه الصلح في الأمور المشكلة، أما إذا استنارت الحجة لأحد الخصمين وتبين له موضع الظالم فليس له أن يحملهما على الصلح، ونحوه قول عطاء واستحسنه ابن المنذر" (¬2). 15 - أن يبدأ بالمدعي فيسأله البينة، فإن أنكر المدعى عليه ولم يكن للمدعي بينة، فإن كان في مال وجبت اليمين على المدعى عليه باتفاق، وإن كانت في طلاق أو نكاح أو قتل وجبت عند الشافعي بمجرد الدعوى، وقال مالك: لا تجب إلا مع شاهد (¬3). 16 - أن يحيل الخصوم على قاض آخر عند خشية الجور فإذا أشكل على القاضي أمر تركه وله أن يرشدهما إلى الصلح، أو يصرفهما إلى قاض آخر مخافة أن يظلم، وكذا كلما استشعر الحرج وخاف على نفسه الميل والجور (¬4). 17 - أن يسأل القاضي عن حال الشهود وإن لم يطعن الخصم (¬5). ¬

_ = القَضَاءِ يُوَرِّثُ بين القَوْمِ الضَّغَائِنَ. قلنا: هذا لاَ يَصِحُّ عن عُمَرَ أَصْلًا لأَنَّنَا إنَّمَا رُوِّينَاهُ من طَرِيقِ مُحَارِب بن دِثَارٍ عن عُمَرَ وَعُمَرُ لم يُدْرِكْهُ مُحَارِبٌ وَمُحَارِبٌ ثِقَةٌ فَهُوَ مُرْسَلٌ. المحلى (8/ 164). (¬1) المبسوط للسرخسي (16/ 61)، بدائع الصنائع (7/ 13). (¬2) المغني (10/ 101). (¬3) بداية المجتهد (2/ 353). (¬4) نظام القضاء في الإِسلام للمرصفاوي (ص: 124). (¬5) بدائع الصنائع (7/ 10)، مغني المحتاج (4/ 403)، المغني (14/ 51).

أعوان القضاة

أعوان القضاة يحتاج القاضي في عمله إلى أن يتخذ أعوانًا يعينونه للوصول إلى الحق وهم: 1 - الكتَّابُ: يستحب للقاضي أن يتخذ كُتَّابًا؛ لأن في ذلك إعانة له لأن القاضي ينشغل بالدعاوى والإجابات والألفاظ التي تصدر فيصعب عليه الكتابة بنفسه، وقد اتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - كُتَّابًا منهم علي وزيد بن ثابت ومعاوية. وقد اشترط الفقهاء في الكاتب شروطًا منها: الإِسلام، والعدالة، والفقه، وجودة الخط، ونصوا على أنه ينبغي أن يجلس الكاتب بحيث يرى القاضي ما يكتب وما يصنع؛ لأن ذلك أقرب للاحتياط وعليه أن يرتب أوراق القضايا ويصونها من العبث (¬1). 2 - محضروا الخصوم: وسماهم ابن رشد باسم الشرطة وهم الذين يقومون بإحضار الخصوم واستدعائهم وحفظ النظام ومنع تقديم غير ذوي الدور، ومنع التهاريج ورفع الصوت ويقفون بين يدي القاضي في انتظار أمره، واستكمالًا لهيبة مجلس القضاء، وهذا أمر استدعته ظروف الناس وأحوالهم نتيجة ضعف الوازع الديني عند البعض، وتغير أخلاق الناس وقد كان الإِمام الحسن البصري ينكر ذلك على القضاة فلما ولي القضاء وشوش عليه ما يقع من الناس عنده قال: لا بد للسلطان من وَزَعَةٍ وإن استغنى عن الأعوان كان أحسن (¬2). ¬

_ (¬1) تبصرة الحكام (1/ 35)، المهذب (2/ 294)، المغني (14/ 52 - 53)، نظام القضاء في الإِسلام للمرصفاوي (ص: 62). (¬2) تبصرة الحكام (1/ 36)، كتاب أدب القضاء لابن أبي الدم (ص: 63)، نظام القضاء في الإِسلام للمرصفاوي (ص: 65)، القضاء في الإِسلام (ص: 120)، الموسوعة الفقهية (33/ 310).

3 - الحاجب

3 - الحاجب: وينبغي أن يكون من أهل الأمانة حتى لا يسيء استعمال وظيفته فيحول بين القاضي وبين وصول أصحاب الظلامات إليه أو يقدم أو يؤخر، وعلى القاضي أن يتتبع أفعاله باستمرار (¬1). 4 - الترجمان: ينبغي اتخاذه لجواز أن يحضر مجلس القضاء من لا يعرف القاضى لغته من مدع أو مدعى عليه أو شاهد، ويشترط فيه العدالة ليؤتمن في نقله. وقد اختلف الفقهاء في اشتراط التعدد فيه (¬2): فألحقه الشافعية والمذهب عند الحنابلة ومحمَّد بن الحسن بالشهادة على الإقرار واعتبروا العدد؛ لأن الترجمة نقل ما خفي على القاضي فيما يتعلق بالخصوم فوجب فيه العدد كالشهادة، وبأن الترجمة إثبات قول يتوقف الحكم عليه فلا يقبل إلا من متعدد كالإقرار. وذهب الحنفية عدا محمَّد بن الحسن والمالكية ورواية عند الحنابلة إلى الاكتفاء بواحد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود، وكان يكتب له إذا كتب إليهم ويقرأ له إذا كتبوا إليه (¬3)، والترجمة خبر لا شهادة، فتقاس ¬

_ (¬1) تبصرة الحكام (1/ 37)، نظام القضاء في الإِسلام للمرصفاوي (ص: 65)، القضاء في الإِسلام د. فخري أبو صفية (ص: 119)، نظام القضاء في الشريعة الإِسلامية د. عبد الكريم زيدان (ص: 48). (¬2) بدائع الصنائع (7/ 11)، درر الحكام شرح مجلة الأحكام (4/ 603)، التاج والإكليل (4/ 174)، الحاوي الكبير (16/ 176)، روضة الطالبين (8/ 353)، فتح الباري (13/ 186)، المغني (14/ 84)، الموسوعة الفقهية (33/ 311 - 312). (¬3) صحيح البخاري (6/ 2631)، كتاب الأحكام، بَاب تَرْجَمَةِ الحُكَّامِ.

5 - الخبراء

على أخبار الديانات والأذان في الاكتفاء بالواحد. ورد بأن حديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه- ليس في القضاء ولا صلة له بذلك. وبأن القياس مع الفارق؛ لأن شأن القضاء أخطر. 5 - الخبراء: والقاضي بحاجة إلى الاستعانة بأهل الخبرة في جميع المجالات الطبية والزراعية والصناعية والتجارية، ومن الخبراء القاسم الذي يستعين به القاضي في التثبت مما يدعيه المتخاصمون في المساحات والمقادير وفي التسمية وتحديد الحدود ونحو ذلك (¬1) , وقد استعان عمر -رضي الله عنه- بحسان بن ثابت ولبيد قبل أن يحكم على الحطيئة حين هجا الزبرقان بن بدر -رضي الله عنه- (¬2). 6 - الوكلاء أو المحامون: فمن حق الخصوم أن يوكلوا عنهم من يرون الاستعانة بهم في خصوماتهم باعتبار أنهم وكلاء في الخصومة. وعند الحنابلة وبعض المالكية امتناع الوكالة بالخصومة مع علم أو ظن ظلم الموكل، واستنبط القاضي أبو يعلى من قوله تعالى: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} (¬3) منع الخصومة عن الغير إثباتًا أو نفيًا دون معرفة الحقيقة ومثله قال ¬

_ (¬1) المغني (14/ 114)، نظام القضاء في الإِسلام للمرصفاوي (ص: 71)، القضاء في الإِسلام د. فخري أبو صفية (ص: 123). (¬2) انظر: العقد الفريد للأندلسي (2/ 318)، تخريج الدلالات السمعية على ما كان في عهد رسول الله من الحرف لأبي الحسن الخزاعي (1/ 323)، الاستيعاب لابن عبد البر (2/ 562)، الفروع لابن مفلح (6/ 112). (¬3) سورة النساء: 105.

ابن العربي المالكي: واشترط أبو حنيفة رضا الطرف الآخر في الخصومة بالتوكيل، فقد يكون الوكيل ألحن بحجته فيتضرر الخصم (¬1). ¬

_ (¬1) أحكام القرآن لابن العربي (1/ 626)، الفروع (4/ 267)، البدع (4/ 378)، الإنصاف للمرداوي (5/ 395)، المبسوط للسرخسي (19/ 7)، بدائع الصنائع (6/ 22)، البحر الرائق (7/ 143)، الهداية شرح البداية (3/ 136).

تعيين القضاة

تعيين القضاة على ولي الأمر أن يجتهد في اختيار القضاة فهم نوابه في فصل الخصومات والنظر للقصار وحفظ أموالهم ومراقبة الأوقاف، وينبغي أن تكون لديه لجان متخصصة مهمتها دراسة أحوال من سيقع عليهم الاختيار وجمع المعلومات عنهم قبل ترشيحهم لجهة الاختصاص التي تسعى إلى تعيينهم قال موفق الدين ابن قدامة: "إِذَا أَرَادَ الإِمَامُ (أو من ينوب عنه) تَوْلِيةَ قَاضٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ خِبْرَةٌ بِالنَّاسِ وَيعْرِفُ مَنْ يَصْلُحُ لِلقَضَاءِ، وَلَّاهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ، سَأَل أَهْلَ المَعْرِفَةِ بِالنَّاسِ، وَاسْتَرْشَدَهُمْ عَلَى مَنْ يَصْلُحُ، وَإِنْ ذُكِرَ لَهُ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُهُ، أَحْضَرَهُ وَسَأَلهُ، فَإِنْ عَرَفَ عَدَالَتَهُ وَإِلَّا بَحَثَ عَنْ عَدَالَتِهِ، فَإِذَا عَرَفَهَا وَلَّاهُ، وَيَكْتُبُ لَهُ عَهْدًا يَأْمُرُهُ فِيهِ بِتَقْوَى الله، وَالتثبتِ في القَضَاءِ، وَمُشَاوَرةِ أَهْلِ العِلمِ، وَتَصَفُّحِ أَحْوَالِ الشُّهُودِ، وَتَأَمُّلِ الشَّهَادَاتِ وَتَعَاهُدِ اليَتَامَى، وَحِفْظِ أَمْوَالِهمْ وَأَمْوَالِ الوُقُوفِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاج إلَى مُرَاعَاتِهِ" (¬1). ويحسن أن يدربهم على القضاء بملازمة القضاة الأكفاء وتدريبهم عندهم على القضايا الصغيرة ثم يترقون في ذلك مع الدربة والخبرة. ¬

_ (¬1) قال في مغني المحتاج (4/ 386): وتكفي الاستفاضة في الأصح. وانظر: الأحكام السلطانية للماوردي (ص: 89).

عزل القضاة

عزل القضاة للقضاء في الإِسلام هيبته ومكانته، وهو ولاية شرعية ووظيفة إسلامية يطرأ عليها ما يطرأ على غيرها من الوظائف عند اقتضاء المصلحة من العزل والنقل والتخصص ونحو ذلك وسوف نلخص أحوال القاضي من حيث العزل فيما يأتي: أولًا: إذا وَلَّى الإِمَامُ قَاضِيًا، ثُمَّ مَاتَ الإِمام فلا يَنْعَزِل؛ لِأَنَّ الخُلَفَاءَ الراشدين -رضي الله عنهم - وَلَّوْا حُكَّامًا في زَمَنِهِمْ، فَلَمْ يَنْعَزِلُوا بِمَوْتِهِمْ، وَلأَنَّ في عَزْلِهِ بِمَوْتِ الإِمَامِ ضَرَرًا عَلَى المُسْلِمِينَ، فَإِنَّ البُلدَانَ تَتَعَطَّلُ مِنْ الحُكَّامِ، وَتَقِفُ أَحْكَامُ النَّاسِ إلَى أَن يُوَلِّيَ الإِمَامُ الثَّانِي حَاكِمًا، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ. ثانيًا: لا ينعزل القاضي إذا عزل الإِمام الذي ولاه بل يستمر في وظيفته حتى يعزله الإِمام الخلف إن شاء لما يلحق المسلمين من ضرر في عزله. ثالثًا: إن عزله الإِمام الذي ولاه أو خلفه فإنه ينعزل وهو قول الحنفية، والمالكية (¬1) لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ -رضي الله عنه- أنَّهُ قَالَ: لَأَعْزِلَنَّ أبَا مَرْيَمَ، وَأُوَلِّيَنَ رَجُلًا إذَا رَآهُ الفَاجِرُ فَرِقَهُ (¬2)، فَعَزَلَهُ عَنْ قَضَاءِ البَصْرَةِ، وَوَلى كَعْبَ ابْنَ سَوَّارٍ مَكَانَهُ، وَوَلَّى عَليٌّ -رضي الله عنه- أبَا الأَسْوَدِ، ثُمَّ عَزَلَهُ، فَقَالَ: لِمَ عَزَلتنِي، وَمَا خُنْت، وَلَا جَنيت؟ فَقَالَ: إنِّي رَأَيتُك يَعْلُو كَلَامُك عَلَى الخَصْمَيْنِ، ولأن القضاء ولاية من ولايات السلطنة والإمام يَمْلِكُ عَزْلَ أُمَرَائِهِ وَوُلَاتِهِ عَلَى البُلدَانِ، فَكَذَلِكَ قُضَاتُهُ. وَقَدْ كَانَ عُمَرُ -رضي الله عنه- يُوَلِّي وَيَعْزِلُ، فَعَزَلَ شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ عَنْ وِلَايَتهِ في الشَّامِ وَوَلَّى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَهُ شُرَحْبِيلُ: أَمِنْ جُبْنٍ عَزَلتنِي، أَوْ خِيَانَةٍ؟ قَالَ: مِنْ كُلٍّ ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (7/ 16)، تبصرة الحكام (1/ 62). (¬2) السنن الكبري للبيهقي (10/ 108).

لَا، وَلَكِنْ أَرَدْت رَجُلًا أَقْوَى مِنْ رَجُلٍ، وَعَزَلَ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ، وَوَلَّى أَبا عُبَيْدة. وَقَدْ كَانَ يُوَلِّي بَعْضَ الوُلَاةِ الحُكْمَ مَعَ الإِمَارةِ، فَوَلَّى أبَا مُوسَى البَصْرَةَ قَضَاءَهَا وَإِمْرَتهَا ثُمَّ كَانَ يَعْزِلُهُمْ هُوَ، وَمَنْ لَمْ يَعْزِلهُ، عَزَلَهُ عُثْمَانُ بَعْدَهُ إلَّا القَلِيلَ مِنْهُمْ، فَعَزْلُ القَاضِي أَوْلَى. وَيُفَارِقُ عَزْلَهُ بِمَوْتِ مَنْ وَلَّاهُ أَوْ عَزله (أو خلعه)، لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا، وَهَا هُنَا لَا ضَرَرَ فِيهِ، لِأنَّهُ لَا يَعْزِلُ قَاضِيًا حَتَّى يُوَلِّيَ آخَرَ مَكَانَهُ، وَلِهَذَا لَا يَنْعَزِلُ الوَالِي بِمَوْتِ الإِمَامِ، وَينْعَزِلُ بِعَزْلِهِ. رابعًا: إنْ تَغَيَّرَتْ حَالُ القَاضِي، بِفِسْقٍ، أَوْ زَوَالِ عَقْلٍ، أَوْ مَرَضٍ يَمْنَعُهُ مِنْ القَضَاءِ، أَوْ اخْتَلَّ فِيهِ بَعْضُ شُرُوطِهِ، فَإنَّهُ يَنْعَزِلُ بذَلِكَ، وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الإمَامِ عَزلُهُ (¬1). قال ابن فرحون: "وعلى القاضي إذا أقر بأنه حكم بالجور، أو ثبت ذلك عليه بالبينة، العقوبة الموجعة ويعزل ويشهر ويفضح ولا يجوز ولايته أبدا، لما أجرم في حكم الله تعالى ويكتب أمره في كتاب حتى لا ينسى أمره على مرّ الزمان" (¬2). ¬

_ (¬1) المغني (14/ 87 - 88). (¬2) تبصرة الحكام (1/ 69 - 70).

الدعوى

الدعوى تمهيد: إن الدعوى هي الوسيلة الأساسية للوصول إلى الحق المتنازع فيه أو المعتدى عليه، وهي الوسيلة الأساسية للدفاع عن النفس، وحفظ الأموال، وحماية الأعراض من الاعتداء، ومن الأخطار المتوقعة، والإِسلام قد أقر حق التملك للإنسان، ثم بين له الطريق للوصول إلى حقه عن طريق رفع الدعوى إلى القضاء. تعريف الدعوى لغةً واصطلاحا: الدعوى لغة: الطلب، يقال: ادعى الشيء إذا طلبه لنفسه وزعمه له (¬1). وجَمْعُ الدّعْوَى دَعاوِي بكسْرِ الواوِ وفتْحها (¬2). قال في المطلع (¬3): الدعوى: هي طلب الشيء زاعما ملكه. وسميت دعوى؛ لأن المدعي يدعو صاحبه إلى مجلس الحكم ليخرج من دعواه (¬4). وأما في الاصطلاح: فهي قول مقبول عند القاضي يقصد به طلب حق قبل غيره، أو دفع الخصم عن حق نفسه (¬5). الحكم التكليفي للدعوى: لما كانت الدعوى في حقيقتها إخبارًا يقصد به طلب حق أمام القضاء، وهي ¬

_ (¬1) المعجم الوسيط (1/ 286). (¬2) تاج العروس (38/ 52). (¬3) (1/ 403). (¬4) مغني المحتاج (4/ 461). (¬5) الدر المختار (5/ 541).

مشروعية الدعوى

تحتمل الصدق والكذب، فقد تكون محرمة إذا كانت دعوى كاذبة، وكان المدعي يعلم ذلك، أو يغلب ذلك على ظنه، أما إذا كان يعلم أنه محق في دعواه أو يغلب على ظنه، فهو تصرف مباح؛ لأن رفع الدعوى هي الوسيلة لوصول الإنسان إلى حقه عند الإنكار والتجاحد وعند الاعتداء والظلم قد تدخل في مقدمة الواجب، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (¬1). مشروعية الدعوى: جاءت مشروعية الدعوى في السنة والإجماع: أما السنة فقد روى مسلم بسنده عن عَلقَمَةَ بن وَائِلٍ عن أبيه قال جاء رَجُلٌ من حضرموت، وَرَجُلٌ من كِنْدَةَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يختصمان في أرض، فقال الحضْرَمِيُّ: يا رَسُولَ الله إِنَّ هذا قد غَلَبَنِي على أَرْضٍ لي كانت لِأَبِي، فقال الكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي في يَدِي أَزْرَعُهَا ليس له فيها حَقٌّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِلحَضْرَمِيِّ: "أَلَكَ بَيِّنَهٌ" قال: لا قال: "فَلَكَ يَمِينُهُ" قال: يا رَسُولَ الله إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي على ما حَلَفَ عليه وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ من شَيْءٍ، فقال: "ليس لك منه إلا ذلك" فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أَدْبَرَ: "أَمَا لَئِنْ حَلَفَ على مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلمًا لَيَلقَيَنَّ الله وهو عنه مُعْرِضٌ" (¬2). وروى البخاري ومسلمٌ واللفظ للبخاري عن الأشعث بن قيس -رضي الله عنه- قال: كانت بَيْني وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ في بِئْرٍ فَاخْتَصَمْنَا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شَاهِدَاكَ أو يَمِينُهُ" قلت: إنه إِذًا يَحْلِفُ، ولا يُبَالِي، فقال رسول ¬

_ (¬1) الموسوعة الفقهية (20/ 271)، التنظيم القضائي للدكتور محمَّد الزحيلي (ص: 294). (¬2) صحيح مسلم (1/ 123)، كتاب الأيمان، بَاب وَعِيدِ من اقْتَطَعَ حَقَّ المسلم بِيَمِينٍ فَاجِرَةٍ بِالنَّارِ، برقم (139).

أركان الدعوى

الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حَلَفَ على يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بها مَالًا هو فيها فَاجِرٌ لَقِيَ اللهَ وهو عليه غَضْبَانُ" فَأَنْزَلَ الله تَصدِيقَ ذلكَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬1). (¬2). فالحديثان صريحان في رفع الدعوى إلى القضاء بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النزاع والخصومة التي وقعت بين الحضرمي والكندي، وبين الأشعث بن قيس وبين رجل آخر، وسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدعوى والإجابة، ونظر فيها، ثم طلب الإثبات من المدعي، ثم اليمين من المدعى عليه؛ حيث لم يكن لدى المدعي بينة، وفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -تشريع للمسلمين. وأما الإجماع: فقد جاء قول ابن المنذر: وأجمعوا على أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه (¬3). أركان الدعوى: يرى جمهور الفقهاء أن أركان الدعوى أربعة: وهي: المدعي، والمدعى عليه، والمدعى به، والصيغة؛ لأن الدعوى تتوقف على هذه الأمور الأربعة، فالمدعي والمدعى عليه هما طرفا الدعوى، والمدعى به هو الحق المتنازع عليه، أو المطالب به، ويسمى عند البينة: محل الإثبات، ويسمى في نهاية الدعوى: المحكوم به، ويشترط أن يكون مما يقره الشرع، والصيغة: هي الطلب المقدم إلى القاضي للنظر فيه، والحكم به، والمطالبة به من الخصم. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: 77. (¬2) صحيح البخاري (2/ 889)، برقم (2380)، صحيح مسلم (1/ 122)، برقم (138). (¬3) الإجماع لابن المنذر (ص: 86).

التمييز بين المدعي والمدعى عليه

ويرى الحنفية أن ركن الدعوى هو الصيغة والطلب فقط، أو هو القول وما يقوم مقامه، المرفوع إلى القاضي للنظر فيه، وللمطالبة بحق من الحقوق؛ لأن هذا الطلب هو الذي يكون به قوام الدعوى ويعدُّ جزءًا داخلًا فيها، أما المدعي، والمدعى عليه، فهي من مقومات الدعوى، أو هي أطراف الدعوى؛ لأنه لا يتصور وجود الدعوى إلا بها (¬1). التمييز بين المدعي والمدعى عليه: يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "البينة على المدعي، واليمينُ على من أنكر" (¬2). وفي رواية: "قَضَى النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ اليَمِينَ على المُدَّعَى عليه" (¬3). فمن هو المدعي المكلف بالبينة؟ ومن هو المدعى عليه المكلف باليمين؟ إن المدعي والمدعى عليه هما طرفا الخصومة في الدعاوى، وقد تنقلب الدعوى فيكون المدعي مدعى عليه، وبما أنه يترتب على كل منهما واجبات والتزامات، فيجب التفريق بينهما، وتمييز المدعي من المدعى عليه. وإن التمييز بينهما من الأهمية بمكان؛ لأنه يسهّل على القاضي النظر في الدعوى، والسير فيها، وتكليف كل طرف الإثبات الذي يجب عليه شرعًا، بل إن ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (6/ 222)، البحر الرائق (7/ 191)، الحاوي الكبير (17/ 292)، المغني (9/ 271)، نظرية الدعوى للدكتور محمَّد نعيم ياسين (ص: 171)، الموسوعة الفقهية (20/ 272)، الوجيز في الدعوى والإثبات للدكتور شوكت عليان (ص: 13)، الدعوى وطرق الإثبات للدكتور عبد الحميد عويس (ص: 12). (¬2) سنن البيهقي الكبرى (10/ 252)، سنن الدارقطني (3/ 111). وحسنه النووي وابن حجر. شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 3)، فتح الباري (5/ 283). (¬3) صحيح البخاري (2/ 888)، كتاب الرهن، بَاب إذا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالمُرْتَهِنُ وَنَحْوُهُ فَالبَيِّنَةُ على المُدَّعِي وَاليَمِينُ على المُدَّعَى عليه، برقم (2379).

التمييز بينها يحدد مسار الدعوى كلها من الأساس، لذلك اهتم الفقهاء كثيرًا في وضع الضوابط والمعايير لتمييز المدعي من المدعى عليه ومن أشهرها ما يلي: الأول: أن المدعي من إذا ترك الخصومة ترك، والمدعى عليه من إذا ترك الخصومة لم يترك (¬1). ويعتمد هذا التعريف على آثار الاعتراف بالحق، وأن صاحب الحق غير بين المطالبة بحقه، أو تأجيله، أو إسقاطه، أو إبراء المدعى عليه منه، أو إعفائه عنه، فإن اختار ترك الخصومة والدعوى والمطالبة، فله ذلك، ويترك وشأنه ولا يلاحقه القضاء، ولا يجبر على رفع الدعوى ومخاصمة الآخرين، أما إن اختار المطالبة بحقه، وسعى للحصول عليه، فإن المدعى عليه ملزم بالحضور لبيان رأيه، والجواب عن الدعوى، وبيان موقفه سلبًا أو إيجابًا، ويجبر على الحضور إلى المحكمة إن امتنع، ويجب عليه الاشتراك في الخصومة للتأكد من براءة ذمته أو شغلها، ومن ثم أداء الحق لصاحبه. الثاني: المدعي من يخالف قوله الظاهر والمدعى عليه، من يوافق قوله الظاهر (¬2). وهذا المعيار مبني على ظواهر الأمور، ومجريات الحياة، وغالب الأحوال وهو أن من يضع يده على حق، أو يتصرف به، أو يتفق حاله مع قواعد الشرع، ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (6/ 224)، روضة القضاة للسمناني (1/ 165 - 166)، الشرح الصغير للدردير (4/ 208، 211)، أدب القضاء لابن أبي الدم (ص: 131)، مغني المحتاج (4/ 464)، فتح الباري (5/ 283)، المغني (10/ 241)، الموسوعة الفقهية (20/ 275)، الفقه الإِسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي (8/ 6278)، التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي للدكتور محمَّد الزحيلي (ص: 297)، نظرية الدعوى (ص: 177). (¬2) المراجع السابقة.

شروط الدعوى

واستقرار الأوضاع، فإنه في الغالب والظاهر صاحب الحق، ويتفق قوله وفعله مع هذه الظواهر، حتى يثبت العكس. ومن يدعي خلاف ذلك، وينكر وجودها، ويثير الشبه نحوها فهو المدعي، ولذلك كان جَانبُ المدعي ضعيفًا؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر، ويكلف بالإثبات، وكان جانبُ المدعى عليه قويًا؛ لأنه يستند إلى الظاهر، ويتفق قوله مع الظاهر، ويكتفى منه باليمين. شروط الدعوى: تعريف الشرط: الشرط لغة: العلامة، واصطلاحًا: ما يتوقف عليه الشيء، ويكون خارجًا عن ماهيته (¬1). أهم شروط الدعوى (¬2): يشترط في الدعوى شروطًا كثيرة لاعتبارها شرعًا, وللنظر فيها, ولإنتاجها الأثر المطلوب منها، وتنقسم هذه الشروط إلى شروط في المدعي، وشروط في المدعى عليه، وشروط في المدعى به، وشروط في الصيغة، وإجمالها كما يلي: 1 - الأهلية: والمراد بها أهلية الأداء، فيشترط في كل من المدعي والدعى عليه أن يكون أهلًا لرفع الدعوى، والجواب عنها، والقيام بإجراءاتها بأن يكون بالغًا عاقلًا، فلا تصح الدعوى من الصغير والمجنون، ولا تصح الدعوى عليهما؛ ¬

_ (¬1) معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية (2/ 326). (¬2) بدائع الصنائع (6/ 222 - 223)، المبسوط (17/ 39)، الدر المختار (4/ 438)، البحر الرائق (7/ 191)، الموسوعة الفقهية (20/ 291 - 292)، نظرية الدعوى للدكتور محمَّد نعيم ياسين (ص: 274)، الفقه الإِسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي (8/ 6275)، الدعوى وطرق الإثبات (ص: 15 - 17)، روضة القضاة للسمناني (1/ 166)، التنظيم القضائي للدكتور محمَّد الزحيلي (ص: 301).

2 - الصفة

لأن الدعوى تصرف شرعي يترتب عليه آثار ونتائج شرعية، فيشترط فيها ما يشترط في التصرفات الشرعية. لكن إذا كان غير أهل فيقوم عنه وليّه في رفع الدعوى، أو الجواب عنها. 2 - الصفة: يشترط في كل من المدعي والمدعى عليه أن يكون له صفة في الدعوى، بأن يكون ذا شأن، وعلاقة، وارتباط في القضية التي أثيرت حولها الدعوى، وأن يعترف الشرع لكل منهما بهذه الصفة، بأن يخول المدعي حق الادعاء والمطالبة، ويكلف المدعى عليه بالجواب والمخاصمة، وذلك بأن يكون المدعي يطلب الحق لنفسه، أو يدعي الحق لغيره نيابة عنه، أو بالوكالة، وأن يكون المدعى عليه طرفًا في القضية وفي المدعى به، بحيث إذا أقر به يلزمه القاضي بالأداء والتنفيذ والالتزام بموجب إقراره، كالمدين في الدين، والمتهم في الجنايات، وواضع اليد في الأعيان، واحد الأطراف في العقد. 3 - الحضور: اشترط الحنفية في الدعوى أن تكون على خصم حاضر، فلا تسمع الدعوى على غائب، ولا تقبل البينة والأدلة أثناء غياب المدعى عليه، ولا يصدر الحكم إلا بحضوره. وقال جمهور الفقهاء بجواز الدعوى على الغائب والقضاء عليه (¬1). 4 - مشروعية المدعى به: يشترط في المدعى به أن يكون مشروعًا، أي يقره الشارع، أو أن يكون المدعى به جائزًا شرعًا، بأن يكون فيه مصلحة للمدير، وأن تكون هذه المصلحة محمية بالقضاء؛ لأن القضاء يرعى الأحكام التي أقرها الشرع لأصحابها ويحميها لهم، ويدافع عن الاعتداء عليها، وتسمى الأحكام ذات الاعتبار القضائي. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (6/ 222)، بداية المجتهد (2/ 460)، المهذب (2/ 3)، المغني (9/ 110).

5 - المعلومية

أما إذا كان المدعى به لا يقره الشرع كالخمر، ومال الربا، والقمار، والآثار المترتبة على الفاسد والباطل فلا يحميه الشرع، ولا تقبل الدعوى به. وكذلك الأحكام التي يقرها الشرع، ولكن لا يلزم الناس بها, ولا يكلفهم أداءها وجوبًا، بل جعل جزاءها في الآخرة، فلا تقبل فيها الدعوى على آخر كالامتناع عن الإقراض، أو مساعدة الجار، أو الإحسان إلى الآخرين، أو قبول الوكالة، أو التبرع بمال، أو صلة ذوي القربى والأرحام، وإنما يُطالب بها الشخص ديانة، فيما بينه وبين الله تعالى. 5 - المعلومية: يشترط في المدعى به أن يكون معلومًا، وذلك بتمييزه عن غيره، إما بالإشارة إليه كهذه السيارة، أو بيان حدوده كالعقار، أو تعيين أوصافه بالجنس والنوع والصفة والمقدار، وتختلف المعلومية بحسب المدعى به من عقار، أو منقول أو نقود، أو أعيان وذلك حتى يتحدد المدعى به في الدعوى، ويتم الادعاء والإجراءات والخصومة عليه، ومن ثم يحكم به القاضي، ويتم عليه تنفيذ الحكم؛ لأن فائدة الدعوى هي الحكم والإلزام، والحكم، والتنفيذ، ولا يتحقق ذلك في المجهول. ويستثنى من هذا الشرط عدة حالات تقبل فيها الدعوى مع جهالة المدعى به، أو عدم تقديره، كالدعوى بالإقرار، والوصية، وكذلك تجوز الدعوى مع جهالة المدعى به إذا كان يتوقف على تقدير القاضي كدعوى الإتلاف والضمان والنفقة وغيرها. 6 - أن يكون المدعى به مما يحتمل الثبوت عقلًا أو عادة: فلا تقبل الدعوى بما يكذبه العقل أو العادة، كمن يدعي نسب شخص لا يُولد مثله لمثله، أو أن يدعي فقير على غني بأنه أقرضه مبلغًا كبيرًا من المال لا يُعهد له بمثله، أو يدعي رجل عادي على وجيه أنه استأجره لخدمة في بيته ولم يكمل عمله ومثله لا يخدم.

7 - مجلس القضاء

7 - مجلس القضاء: يشترط أن تكون الدعوى في مجلس القضاء، أي مكان جلوس القاضي عادة ولذلك ذكره كثير من الفقهاء في تعريف الدعوى؛ لأن الهدف من الدعوى إنهاء النزاع وإصدار الحكم من القاضي فيها لإلزام المحكوم عليه بالتنفيذ، وهذا لا يتحقق إلا إذا وقعت الدعوى أمام القاضي، وسمع أقوال الخصمين، وطلب منهم الأدلة والحجج ليصدر حكمه فيها، بخلاف الفتوى وبيان الرأي غير الملزم فإنها تصح في كل مكان. 8 - الجزم: يشترط في صيغة الدعوى أن تكون بعبارة جازمة تدل على رغبة صاحبها في مدعاه وإضافته لنفسه بشكل جازم، أما إذا قال: أشك، أو أظن، فلا تسمع دعواه، أو أنه لفلان فلا تقبل الدعوى. 9 - شروط في الصيغة: ذكر الفقهاء عدة شروط أخرى في صيغة الدعوى وهي: أن يذكر في الدعوى مطالبة خصمه بالحق، وأن يطلب من القاضي إحضار الخصم، وأن يطالبه بالجواب، وأن لا تكون متناقضة مع كلام سابق. واشترط الحنفية أن تكون الدعوى بلسان المدعي، فلا تصح الوكالة في رفع الدعوى إلا بموافقة المدعى عليه (¬1). أنواع الدعوى: تنقسم الدعاوى باعتبارات متعددة، أهمها: ¬

_ (¬1) البحر الرائق (7/ 191)، الموسوعة الفقهية (20/ 291 - 292)، نظرية الدعوى للدكتور محمَّد نعيم ياسين (ص: 274)، الفقه الإِسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي (8/ 6275)، الدعوى وطرق الإثبات (ص: 15 - 17)، روضة القضاة للسمناني (1/ 166)، التنظيم القضائي للدكتور محمَّد الزحيلي (ص: 301).

أولا: أقسام الدعوى بحسب الشروط والأركان

أولًا: أقسام الدعوى بحسب الشروط والأركان: تنقسم الدعوى بحسب توافر شروطها وأركانها، وعدمه، إلى ثلاثة أنواع، وهي: 1 - الدعوى الصحيحة: وهي الدعوى التي توافرت فيها جميع الأركان والشروط، ويترتب عليها وجوب قبولها من القاضي، ووجوب سماعها والنظر فيها والسير في إجراءاتها ووجوب إصدار الحكم بعد ذلك فيها. 2 - الدعوى الباطلة: وهي الدعوى التي فقدت أحد أركانها، أو كانت متنافية مع الشروط الأساسية فيها، وهي الشروط التي لا يمكن تداركها أو تصحيحها، أو تصويبها، كالدعوى التي يكذبها العقل، أو تتعارض مع الأحكام الشرعية، أو لا يمكن الإلزام فيها، وهذه الدعوى يجب ردها وعدم سماعها أو النظر فيها، مثل دعوى المجنون، ومثل الدعوى في ثمن خمر أو مخدرات. 3 - الدعوى الناقصة: وهي الدعوى التي استكملت أركانها, ولكن ينقصها شرط أو أكثر يمكن تداركه أو تصحيحه, وهذه الدعوة موقوفة حتى يصححها صاحبها، ويكمل شروطها, ولا ينظر فيها القاضي إلا بعد تمامها فإن تمت شروطها صارت صحيحة، وإلا ردت إن لم تكمل الشروط (¬1). ¬

_ (¬1) الفقه الإِسلامي وأداته (8/ 6277)، نظرية الدعوى (ص: 229 - 230).

ثانيا: أقسام الدعوى بحسب موضوعها

ثانيًا: أقسام الدعوى بحسب موضوعها: تنقسم الدعوى بحسب موضوعها إلى قسمين أساسيين: 1 - دعوى التُهمة التي يكون محلها محرمًا، أو ممنوعًا، ويرتب الشارع على فاعله عقوبة في الدنيا، كالقتل، والسرقة، والرشوة، والظلم، والسب، ويختص هذا النوع بإجراءات التحقيق التي تسبق السير في الدعوى، ويمكن حبس المتهم، أو توقيفه ريثما تتم محاكمته والنظر في الدعوى، كما يمكن تعزيره بالضرب والحبس والتوقيف أثناء التحقيق إذا كان مشبوهًا، أو ممّن يقوم بمثل هذه الأفعال. وتختص دعوى التُهمة بمنهج خاص في الإجراءات وفي الإثبات، فإن الشريعة تلزم القاضي وأعوانه باحترام الكرامة الإنسانية، والحفاظ على حقوق المتهم، وتشدد في إثبات دعوى التُهمة غالبًا، فيشترط مثلًا أربعة رجال في الزنا، ورجلان في بقية الحدود والقصاص، بل إن من قواعد الشريعة أن الحدود تدرأ بالشبهات، وتكون نتيجة الدعوى توقيع العقوبة إن ثبت الفعل المحرم، أن البراءة أو الصلح وخاصة في الدماء والأمور المشتبهة. وقد صدر نظام الإجراءات الجزئية في المملكة العربية السعودية بتاريخ 28/ 7 / 1422 هـ وهو يشتمل على مائتين وخمس وعشرين مادة تنظم الإجراءات المتبعة في تطبيق الجزاءات على المخالفين، وقد جاء في المادة الأولى منه أن تطبق المحاكم على القضايا المعروضة أمامها أحكام الشريعة الإِسلامية وفقًا لما دل عليه الكتاب والسنة وما يصدره ولي الأمر من أنظمة لا تتعارض مع الكتاب والسنة وتتقيد في إجراءات تظهرها بما ورد في هذا النظام. 2 - دعوى غير التهمة، وهي الدعوى التي يكون محلها مباحًا أو مشروعًا وجائزًا, ولكن حصل الاختلاف في هذا الفعل، أو في آثاره ونتائجه، أو أساء أحد

الأطراف حقه في الاستعمال، أو تجاوز حدوده، كدعوى البيع، والشركة، والنكاح، والطلاق، وتكون نتيجة الدعوى رد الدعوى وبراءة المدعى عليه مما نسب إليه، أو الحكم بالدين، أو العين، أو الحق الشخصي للمدعي كالولاية والحضانة، أو الصلح (¬1). قال ابن القيم: "الدعاوى قسمان: دعوى تهمة ودعوى غير تهمة فدعوى التهمة أن يدعى فعل محرم على المطلوب يوجب عقوبته مثل قتل أو قطع طريق أو سرقة أو غير ذلك من العدوان الذي يتعذر إقامة البينة عليه في غالب الأحوال، وغير التهمة أن يدعي عقدًا من بيع أو قرض أو رهن أو ضمان أو غير ذلك" (¬2). وتنقسم دعوى غير التهمة بحسب المدعى به إلى عدة أقسام: 1 - دعوى الدين: وهو ما ثبت في الذمة، كالدعوى بالثمن، أو القرض، أو الأجرة، أو أداء عمل، وكل ما يثبت في الذمة من المثليات التي يمكن ضبطها بالوصف، سواء أكان الدين بسبب عقد، أم إتلاف، أم نص شرعي كالنفقة. 2 - دعوى العين: وهي الدعوى التي يكون محلها عينًا موجودة، تدرك بإحدى الحواس، سواء كانت العين منقولة كالسيارة، والأثاث، والكتب، أم كانت العين غير منقولة كما لعقارات من بساتين، وبيوت، وأراضٍ. ¬

_ (¬1) تبصرة الحكام (2/ 156 - 161)، معين الحكام (2/ 358)، نظرية الدعوى (ص: 234 - 235)، التنظيم القضائي في الفقه الإِسلامي (ص: 306 - 307). (¬2) الطرق الحكمية (1/ 136).

إجراءات النظر في الدعوي

3 - دعوى الحقوق الشرعية: وهي التي يكون محلها حقًا شرعيًا مجردًا، دون أن يكون عينًا أو دينًا، كالنسب، والنكاح، والطلاق، والحضانة، والشفعة، وتظهر الفائدة من هذه التقسيمات في معرفة الخصم الذي ستوجه إليه الدعوى، في الدين والعين والحق، وفي كيفية العلم بكل نوع من هذه الأنواع، وفي معرفة القاضي أو المحكمة المختصة (¬1). إجراءات النظر في الدعوي (¬2): إذا رفعت الدعوى إلى القاضي فيجب عليه أن ينظر فيها، ويبت في شأنها ويسير فيها على مراحل، ويتبع في ذلك إجراءات معينة، وهي: 1 - النظر في الدعوى عند تقديمها للتأكد من صحتها، وتوافر أركانها وشروطها، ومعرفة المدعي والمدعى عليه والمدعى به، ومدى اختصاص القاضي في النظر في هذه الدعوى ومحلها، فإن وجد الدعوى باطلة ردها، وإن كانت ناقصة طلب إكمالها، وإن وجدها صحيحة قرر متابعة السير فيها. 2 - متى قرر القاضي السير في الدعوى فلا بد من إحضار الخصمين أو من يقوم مقامهما للسير في إجراءات الدعوى أمامهما، ليستمع أقوالهما، ويستجوب كلًا منهما، ويسمع جواب كل خصم في أقوال خصمه وطلباته، فإن كان المدعى ¬

_ (¬1) أدب القضاء لابن أبي الدم (ص: 194، 190)، نظرية الدعوى (ص: 238 - 241)، التنظيم القضائي في الفقه الإِسلامي (ص: 308). (¬2) المبسوط (16/ 80)، بد ائع الصنائع (8/ 417)، الخرشي (7/ 148)، الذخيرة (10/ 68)، مغني المحتاج (6/ 410)، المغني (14/ 69)، الشرح الكبير والإنصاف على المقنع (28/ 407)، الفروع (6/ 403)، المبدع (10/ 56)، نظرية الدعوى (ص: 467)، التنظيم القضائي في الفقه الإِسلامي (ص: 309)، القضاء في عهد عمر بن الخطاب للدكتور ناصر الطريفي (1/ 380).

التعجيل بالحكم

عليه غائبًا من البلد، أو ممتنعًا عن الحضور، نظر القاضي في الدعوى، وقضى عليه عند الجمهور، واشترط الحنفية حضور الغائب. 3 - الإثبات: إذا سمع القاضي أقوال الخصوم، وميز بين المدعي والمدعى عليه، فإما أن يقر المدعى عليه بالحق، فهنا يأمره القاضي بإبراء ذمته، وتنفيذ ما أقر به، وتسليم الحق للمدعي، وإن أنكر المدعى عليه طلب القاضي من المدعي الأدلة والبينات التي تثبت حقه، فإن فعل وتأكد القاضي من صحة الأدلة والبينات فقد ثبت الحق على المدعى عليه، وإن عجز المدعي عن البينة طلب القاضي -بناء على طلب المدعي- أداء اليمين من المدعى عليه، وإن طلب أحدهما مهلة لإحضار بينته أو لمراجعة حسابه أمهل فترة كافية لذلك. 4 - الحكم: بعد الانتهاء من الإثبات الإيجابي أو السلبي من المدعي أو المدعى عليه، يصدر القاضي الحكم بالمدعى به للمدعي، أو يحكم ببراءة المدعى عليه، أو إنهاء الدعوى بصرف النظر وترك المدعى به في يد المدعى عليه، وتسمى الحالة الأخيرة: (قضاء ترك). 5 - التنفيذ: بعد صدور الحكم من القاضي يلتزم المحكوم عليه بتنفيذه، فإن كان الحكم عقوبة فيقع عبء التنفيذ على الأجهزة المختصة في ذلك، وإن كان الحكم مدنيًا فالمحكوم عليه ينفذه اختيارًا، وإلا أجبر على ذلك بإجراءات خاصة في دائرة التنفيذ. التعجيل بالحكم: يتعلق بإجراءات النظر في الدعوى وجوب الحكم فيها لإنهاء النزاع والخلاف فيها، ورد الحق لأصحابه، ومنع المعتدي من عدوانه، وكف يده عن حق غيره، ويجب على القاضي التعجيل بإصدار الحكم بعد استكمال الإجراءات

المطلوبة شرعًا؛ لأنه انتهى منها، وظهر له الحق، فيجب عليه الإسراع في الحكم على الفور، من دون تأخير أو مماطلة، وإلا كان القاضي آثمًا عند الله تعالى؛ لأنه يقر الظالم على ظلمه، ويمنع الحق عن صاحبه، وهذا الأمر أحد ميزات القضاء في الإِسلام، وخصائصه، أما التأجيل بدون سبب، والمماطلة الطويلة، فهذا يؤدي إلى بقاء الدعاوى الشهور والسنين دون إصدار الحكم، وكثيرًا ما يمل أصحاب الحقوق فيتركونها، ويفتح أمام الخصوم أبواب التحايل والرشوة والطرق الملتوية، فيصبح القضاء وسيلة لأكل أموال الناس بالباطل، وهذا ما بينه القرآن الكريم، فقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬1). وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجل الحكم بعد فهم القضية ووضوح الحق، فقضى بين الزبير والأنصاري فورًا في جلسة واحدة (¬2)، وقضى بالصلح الفوري بين كعب بن مالك وعبد الله بن أبي حدرد، وطلب التنفيذ مباشرة (¬3)، وفي قصة العسيف قال عليه الصلاة والسلام: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها" (¬4) ولم يأمره أن يأتي بها، أو يحبسها، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا موسى إلى ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 188. (¬2) تقدم (ص: 26). (¬3) روى البخاري ومسلمٌ بسنديهما عن كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيته فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى: "يا كعب" قال: لبيك يا رسول الله، قال: "ضع من دينك هذا" وأومأ إليه أي: الشطر، قال: لقد فعلت يا رسول الله، قال: "قم فاقضه". صحيح البخاري، برقم (445)، صحيح مسلم، برقم (1558). (¬4) روى البخاري ومسلمٌ بسنديهما عن أبي هريرة وزيد بن خالد قالا كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام رجل فقال: أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه وكان أفقه منه فقال: اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي قال: "قل" قال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة

حالات تأجيل الحكم

اليمن قاضيًا وأميرًا، ثم أتبعه معاذ بن جبل فلما قدم عليه ألقى له وسادة قال: أنزل وإذا رجل عنده موثق قال: ما هذا قال: كان يهوديًا فأسلم ثم تهود، قال: اجلس قال: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله ثلاث مرات فأمر به فقتل (¬1). وقال عمر -رضي الله عنه- في كتابه إلى أبي موسى: "وأنفذ الحق إذا وضح فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له" (¬2)، فأمر بالتنفيذ عند حصول الفهم للقضية وكل ذلك للتعجيل بإيصال الحق إلى صاحبه (¬3). حالات تأجيل الحكم: ويستثنى مما سبق جواز تأجيل الحكم في ثلاث حالات، وهي: 1 - رجاء الصلح بين المتخاصمين، وخاصة بين الزوجين والأقارب وذوي الأرحام، أو عند خوف الفتنة، وفي الدماء رجاء العفو، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالا" (¬4) وهو نص حديث رواه الترمذيُّ، وقال حديثٌ حسنٌ صحيحٌ (¬5). وقال عمر -رضي الله عنه- أيضًا: "ردوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء ¬

_ = شاة وخادم ثم سألت رجالا من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله جل ذكره، المائة شاة والخادم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" فغدا عليها فاعترفت فرجمها. صحيح البخاري، برقم (6440)، صحيح مسلم، برقم (1697). (¬1) صحيح البخاري، برقم (6525)، صحيح مسلم، برقم (1733). (¬2) سنن الدارقطني (4/ 206). (¬3) نظرية الدعوى (ص: 470 - 473)، التنظيم القضائي في الفقه الإِسلامي (ص: 310). (¬4) سنن الدارقطني (4/ 206). (¬5) سنن الترمذيُّ، برقم (1352)، سنن أبي داود، برقم (3594).

يُحدث بين القوم الضغائن" (¬1)، قال أبو عبيد: إنما يسعه الصلح في الأمور المشكلة، أما إذا استنارت الحجة لأحد الخصمين وتبين له موضع الظالم فليس له أن يحملهما على الصلح (¬2). 2 - الإمهال لإحضار بينة غائبة أو دفع دعوى، كما جاء في كتاب عمر -رضي الله عنه-: "ومن ادعى حقًا غائبًا أو بينة فاضرب له أمدا ينتهي إليه" (¬3). 3 - إذا اشتبه الأمر على القاضي، وأراد أن يبحث القضية بعمق، أو أن يستشير غيره فله تأخير الحكم ويجتهد في ذلك بحسب قدرته حتى يتبيّن حقيقة الأمر في تلك الدعوى أو تنتفي عنه الشبهة (¬4)، وإنما جاز التأخير؛ لأن القاضي مأمور بفهم القضية قبل إصدار الحكم فيها وممنوع من المجازفة خصوصًا فيما لا نص فيه من الحوادث وهو ما أكده عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في رسالته إلى أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- حيث قال: "الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة" (¬5)، والفهم هو بذل الجهد لإصابة الحق (¬6). وقد صدر نظام المرافعات الشرعية في المملكة العربية السعودية بتاريخ 20/ 6 / 1421 هـ وهو يشتمل على مائة وإحدى وثلاثين مادة، وينظم سير الدعوى والإجراءات المتبعة عند الترافع مع القضاء وتتناول الأمور التنظيمية التي تساعد على توضيح وتيسير أعمال القضاء. ¬

_ (¬1) مصنف ابن أبي شيبة (4/ 534)، مصنف عبد الرزاق (8/ 303)، سنن البيهقي الكبرى (6/ 66). (¬2) المغني (10/ 101). (¬3) سنن الدارقطني (4/ 206)، سنن البيهقي الكبرى (10/ 150)، المحلى (9/ 423). (¬4) تبصرة الحكام (1/ 47)، المغني (9/ 52). (¬5) أخبار المدينة (1/ 412)، الأحكام لابن حزم (7/ 442). (¬6) المبسوط للسرخسي (16/ 84)، نظرية الدعوى (ص: 473 - 478)، التنظيم القضائي في الفقه الإِسلامي (ص: 311).

طرق الإثبات

طرق الإثبات الإثبات لغة: من ثبت الشيء يثبت ثبوتا: دام واستقر فهو ثابت. وثبت الأمر صح (¬1). والثبوت والثبات كلاهما مصدر ثبت إذا دام والمثبت بفتحتين بمعنى الحجة (¬2). تقول لا أحكم بكذا إلا بثبت بفتح الباء أي: بحجة، فالإثبات إقامة الثبت وهو الحجة (¬3). وأَثْبَتَه إِثْباتًا إِذا عرَفَهُ حقَّ المَعْرِفَةِ (¬4). وفي الاصطلاح: يطلق على معنيين: الأول: معنى عام وهو إقامة الحجة مطلقًا سواء كان ذلك عند التنازع أو قبله حتى أطلقوه على توثيق الحق وتأكيده عند إنشاء الحقوق والديون وعلى كتابة المحاضر والسجلات عند كاتب العدل. الثاني: معنى خاص وهو إقامة الحجة أمام القضاء بالطرق التي حددتها الشريعة على حق أو واقعة تترتب عليه آثار شرعية (¬5). اتجاهات الفقهاء في طرق الإثبات: للعلماء في طرق الإثبات اتجاهان: ¬

_ (¬1) المصباح المنير (1/ 80). (¬2) المغرب في ترتيب المعرب (1/ 112)، مقاييس اللغة (1/ 399). (¬3) مختار الصحاح (1/ 35). (¬4) تاج العروس (4/ 473). (¬5) موسوعة الفقه الإِسلامي (2/ 136).

الأول: حصر طرق الإثبات في عدد معين يتقيد بها الخصوم فلا يقبل منهم غيرها، ويتقيد بها القاضي فلا يحكم إلا بناء عليها وهذا رأي الجمهور من العلماء. جاء في الدر المختار وحاشيته رد المحتار أن طرق القضاء سبعة: البينة، والإقرار، واليمين، والنكول عنه، والقسامة، وعلم القاضي، والسابع قرينة قاطعة كأن ظهر من دار خالية إنسان خائف بسكين متلوث بدم فدخلوها فورًا فرأوا مذبوحًا لحينه أخذ به إذ لا يمتري أحد أنه قاتله (¬1). الثاني: أنها غير محصورة في طرق معينة يتقيد بها القاضي أو الخصوم فكل ما يثبت الحق ويدل عليه فهو طريق للحكم على القاضي أن يحكم به. وهذا مذهب الأئمة ابن تيمية (¬2)، وابن القيم (¬3)، وابن فرحون (¬4)، والشوكاني (¬5). قال ابن القيم: "فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين وليست مخالفة له. وقد ذكر ستًا وعشرين طريقا" (¬6). ¬

_ (¬1) الدر المختار (5/ 550)، موسوعة الفقه الإِسلامي (2/ 136). (¬2) مجموع الفتاوى (35/ 230). (¬3) الطرق الحكمية (1/ 19). (¬4) تبصرة الحكام (1/ 240). (¬5) نيل الأوطار (8/ 290). (¬6) الطرق الحكمية (1/ 19).

أنواع طرق الإثبات

أنواع طرق الإثبات الطريق الأول: الشهادة. الشهادة لغة: الحضور، وهي اسم من المشاهدة: وهي الإطلاع على الشيء عيانًا، والمشهد: المحضر (¬1). وفي الاصطلاح: إخبار عن عيان بلفظ الشهادة في مجلس القاضي بحق للغير على آخر (¬2). مشروعية الإثبات بالشهادة: الإثبات، بالشهادة مشروع بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. أما الكتاب: فقول الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬3)، ثم قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (¬4)، وقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬5). وأما السنة: فقد روى مسلم بسنده عن عَلْقَمَةَ بن وَائِلٍ عن أبيه قال جاء رَجُلٌ من حضرموت، وَرَجُلٌ من كِنْدَةَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال الحْضْرَمِيُّ: يا رَسُولَ الله إِنَّ هذا قد غَلَبَني على أَرْضٍ لي كانت لِأَبِي، فقال الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي في يَدِي أَزْرَعُهَا ليس له فيها حَقٌّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِلْحَضرَمِيِّ: "أَلكَ بَيِّنَةٌ" قال: لا، ¬

_ (¬1) المصباح المنير (1/ 324). (¬2) التعريفات للجرجاني (ص: 170). (¬3) سورة البقرة: 282. (¬4) سورة البقرة: 282. (¬5) سورة الطلاق: 2.

أركان الشهادة

قال: "فَلَكَ يَمِينُهُ" الحديث (¬1). وروى البخاري ومسلمٌ واللفظ للبخاري عن الأشعث بن قيس -رضي الله عنه- قال: كانت بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ في بئْرٍ فَاخْتَصَمْنَا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "شَاهِدَاكَ أو يَمِينُهُ" الحديثَ (¬2). فالحديثان صريحان في مشروعية الشهادة وأنها طريق من طرق الإثبات. وقد أجمع العلماء على مشروعية إثبات الحقوق بالشهادة (¬3). قال ابن قدامة: "ولأن الحاجة داعية إلى الشهادة لحصول التجاحد بين الناس فوجب الرجوع إليها، قال شريح: القضاء جمر فنحه عنك بعودين يعني الشاهدين وإنما الخصم داء والشهود شفاء فأفرغ الشفاء على الداء" (¬4). أركان الشهادة أركان الشهادة عند الجمهور خمسة: الشاهد، والمشهود له، والمشهود عليه، والمشهود به، والصيغة (¬5). وعند الحنفية ركن واحد وهو الصيغة وهو اللفظ الخاص بها لفظ: "أشهد" (¬6). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (1/ 123)، كتاب الأيمان، بَاب وَعِيدِ من اقْتَطَعَ حَقَّ المسلم بِيَمِينٍ فَاجِرةٍ بِالنَّارِ، برقم (139). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) المغني (10/ 154)، الموسوعة الفقهية (26/ 218). (¬4) المغني (10/ 154)، وانظر: الموسوعة الفقهية (26/ 218). (¬5) مغني المحتاج (4/ 426)، الموسوعة الفقهية (26/ 218). (¬6) بدائع الصنائع (6/ 266)، فتح القدير (6/ 2)، تبيين الحقائق (4/ 207).

شروط الشهادة

شروط الشهادة: الشرط الأول: أن يكون الشاهد مسلمًا فلا تقبل شهادة الكافر عند الجمهور لقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬1). والكافر لا نرضاه. وقال الحنابلة والظاهرية: "تقبل شهادة الكافر في الوصية في السفر إذا لم يوجد غيره وحضر الموصي الموتُ وقال الحنفية: تقبل شهادة الذمي على الذمي" (¬2). الشرط الثاني: أن يكون الشاهد عاقلًا وقت التحمل فلا يصح التحمل من المجنون والصبي الذي لا يعقل؛ لأن تحمل الشهادة عبارة عن فهم الحادثة وضبطها ولا يحصل ذلك إلا بآلة الفهم والضبط وهي العقل (¬3). قال ابن قدامة: "لا تقبل شهادة من ليس بعاقل إجماعًا" (¬4). الشرط الثالث: أن يكون الشاهد بالغًا فلا تقبل شهادة الصبي المميز قبل البلوغ عند الجمهور، وعند المالكية والحنابلة في رواية أن شهادة الصبي المميز تقبل على مثله في الجراح قبل الافتراق عن الحالة التي تجارحوا عليها، فإن تفرقوا لم تقبل شهادتهم (¬5). الشرط الرابع: أن يكون الشاهد حرًا فلا تقبل شهادة العبد عند الجمهور ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 282. (¬2) الشرح الكبير والإنصاف على المقنع (29/ 327)، المحلى (9/ 405)، بدائع الصنائع (6/ 280). (¬3) بدائع الصنائع (6/ 266). (¬4) المغني (14/ 145). (¬5) بدائع الصنائع (6/ 267)، الشرح الصغير (2/ 330)، مغني المحتاج (4/ 427)، المغني (14/ 146).

وعند الحنابلة تقبل شهادته في غير الحدود (¬1). الشرط الخامس: اليقظة والسلامة من الغفلة فلا تقبل شهادة مغفل (¬2). الشرط السادس: أن يكون الشاهد عدلًا وهذا مما لا خلاف فيه؛ لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬3). قال ابن رشد: "أما العدالة فإن المسلمين اتفقوا على اشتراطها في قبول شهادة الشاهد؛ لقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬4)، ولقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬5) " (¬6). فلا تقبل شهادة الفاسق وشهادة مستور الحال. وقد حدد عمر بن الخطاب العدالة المطلوبة الاعتبار في الشهادة من معرفة حال الشاهد من التعامل معه ومعاشرته وعدم الاكتفاء بظاهره فروى البيهقي بسنده عن خرشة بن الحر قال: شهد رجل عند عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بشهادة فقال له: لست أعرفك، ولا يضرك أن لا أعرفك، أئت بمن يعرفك فقال رجل من القوم: أنا أعرفه، قال: بأي شيء تعرفه؟ قال: بالعدالة والفضل فقال: فهو جارك الأدنى الذي تعرفه ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: فمعاملك بالدينار والدرهم اللذين بهما يستدل على الورع؟ قال: لا، قال: فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (6/ 267)، الشرح الصغير (2/ 325)، مغني المحتاج (4/ 427)، المغني (14/ 185). (¬2) الشرح الصغير (2/ 324)، الشرح الكبير والإنصاف على المقنع (29/ 335)، مغني المحتاج (4/ 427). (¬3) سورة الطلاق: 2. (¬4) سورة البقرة: 282. (¬5) سورة الطلاق: 2. (¬6) بداية المجتهد (2/ 346).

الأخلاق؟ قال: لا، قال: لست تعرفه، ثم قال للرجل: أثبت بمن يعرفك (¬1). الشرط السابع: أن يكون الشاهد بصيرًا وقت التحمل عند الحنفية وقال المالكية والحنابلة تجوز شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت (¬2). الشرط الثامن: أن يكون الشاهد ناطقًا فلا تقبل شهادة الأخرس عند الجمهور وعند المالكية تقبل شهادة الأخرس ويؤديها بالإشارة المفهمة والكتابة. وسبب الخلاف أن الجمهور يشترطون لفظ: أشهد في الشهادة والأخرس لا يستطيع أن ينطق بها إلا إذا كان له إشارة مفهومة أو كان يكتب وكتب شهادته (¬3). قال ابن عبد البر: وإذا فهمت شهادة الأخرس جازت شهادته (¬4). الشرط التاسع: أن لا يكون محدودًا في قذف لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬5). واختلف العلماء في قبول شهادته بعد التوبة فقال الحنفية لا تقبل شهادته بعد التوبة وعند الجمهور تقبل شهادته بعد التوبة (¬6). ¬

_ (¬1) سنن البيهقي الكبرى (10/ 125)، وحسنه العجلوني في كشف الخفاء (1/ 549). (¬2) بدائع الصنائع (6/ 266)، المغني (14/ 178). (¬3) بدائع الصنائع (6/ 268)، التاج والإكليل (6/ 154)، مغني المحتاج (4/ 427)، المغني (14/ 180). (¬4) الكافي لابن عبد البر (1/ 464). (¬5) سورة النور: 4، 5. (¬6) المبسوط للسرخسي (26/ 110)، بدائع الصنائع (6/ 271)، البحر الرائق (7/ 56)، الذخيرة (10/ 199)، الأم (6/ 209)، روضة الطالبين (11/ 245)، النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر (2/ 254).

حكم تحمل الشهادة وأدائها

قال مهنا: قال أحمد: تجوز شهادة الحدود في القذف إذا عرفت توبته. الشرط العاشر: أن تكون الشهادة عن علم ويقين فلا تقبل إذا كان يصحبها الظن والتخمين قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (¬1). الشرط الحادي عشر: أن يسبق الشهادة إنكار؛ لأن البينة لا تقام على مقر، فإذا أنكر المدعى عليه طلب القاضي من المدعي الشهادة. الشرط الثاني عشر: أن تكون بلفظ خاص وهو لفظ الشهادة وما اشتق منها كشهدت أو أشهد ونحو ذلك (¬2). قال ابن قدامة: "ويعتبر لفظ الشهادة في أدائها، فيقول: أشهد أنه أقر بكذا ونحوه، ولو قال: أعلم، أو أحق أو أتيقن، أو أعرف لم يعتد به؛ لأن الشهادة مصدر شهد يشهد شهادة، فلا بد من الإتيان بفعلها المشتق منها, ولأن فيها معنى لا يحصل في غيرها من الألفاظ؛ بدليل أنها تستعمل في اليمين فيقال: أشهد بالله، ولهذا تستعمل في اللعان، ولا يحصل ذلك من غيرها، وهذا مذهب الشافعي، ولا أعلم فيه خلافا" (¬3). حكم تحمل الشهادة وأدائها: تحمل الشهادة وأداؤها فرض على الكفاية؛ لقول الله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (¬4)، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (¬5) وقال تعالى: ¬

_ (¬1) سورة الإسراء: 36. (¬2) شرح منتهى الإرادات (3/ 575)، كشاف القناع (6/ 404). (¬3) المغني (10/ 203). (¬4) سورة البقرة: 282. (¬5) سورة الطلاق: 2.

نصاب الشهادة

{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (¬1) وإنما خص القلب بالإثم؛ لأنه موضع العلم بها؛ ولأن الشهادة أمانة فلزم أداؤها كسائر الأمانات، فإن دعي إلى تحمل شهادة في نكاح أو دين أو غيره لزمته الإجابة، وإن كانت عنده شهادة فدعي إلى أدائها لزمه ذلك، فإن قام بالفرض في التحمل أو الأداء اثنان سقط عن الجميع وإن امتنع الكل أثموا وإنما يأثم الممتنع إذا لم يكن عليه ضرر وكانت شهادته تنفع فإن كان عليه ضرر في التحمل أو الأداء أو كان ممّن لا تقبل شهادته أو يحتاج إلى التبذل في التزكية ونحوها لم يلزمه لقول الله تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} (¬2). وقد يكون تحملها وأداؤها فرض عين إذا لم يوجد هناك غير ذلك العدد من الشهود الذي يحصل به الحكم وخيف ضياع الحق (¬3). نصاب الشهادة: يختلف نصاب الشهادة وفقًا للموضوع المطلوب الشهادة فيه وذلك كما يأتي: أولًا: ما يثبت بأربعة شهود وهو الزنا. فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن نصاب الشهادة على الزنا أربعة رجال عدول مسلمين فلا يقبل أقل من أربعة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 283. (¬2) سورة البقرة: 282. (¬3) الدر المختار (4/ 369)، القوانين الفقهية (ص: 205)، مغني المحتاج (4/ 450)، المغني (14/ 180)، الموسوعة الفقهية (26/ 217).

ثانيا: ما يثبت بثلاثة شهود.

وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬1)، وقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (¬2). (¬3). ثانيًا: ما يثبت بثلاثة شهود. قال ابن قدامة: "لو ادعى الفقر من عرف بالغنى لم يقبل قوله إلا ببينة تشهد بأن ماله تلف أو نفد لما روى مسلم بسنده عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أسأله فيها فقال: "أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها" قال: ثم قال: "يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة، رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش"، أو قال: "سدادًا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوى الحجا من قومه لقد أصابت فلانًا فاقةً فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش" أو قال: "سدادًا من عيش فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا" (¬4). وهل يعتبر في البينة على الفقر ثلاثة أو يكتفى باثنين؟ فيه وجهان أحدهما: لا يكفي إلا ثلاثة لظاهر الخبر. والثاني يقبل قول اثنين؛ لأن قولهما يقبل في الفقر بالنسبة إلى حقوق الآدميين المبنية على الشح والضيق ففي حق الله تعالى أولى، والخبر إنما ورد في حل المسألة فيقتصر عليه" (¬5). ¬

_ (¬1) سورة النور: 4. (¬2) سورة النور: 13. (¬3) المغني (14/ 125)، تبصرة الحكام (1/ 263). (¬4) صحيح مسلم (2/ 722)، كتاب الزكاة، باب من تحل له المسألة، برقم (1044). (¬5) المغني (6/ 325)، وانظر المبدع (2/ 428).

ثالثا: ما يقبل فيه شاهدان.

ثالثا: ما يقبل فيه شاهدان. وهو ما سوى الزنى من الحدود والقصاص، كالقطع في السرقة وحد الحرابة، والجلد في الخمر وهذا باتفاق الفقهاء. وذهب جمهور الفقهاء إلى أن ما يطلع عليه الرجال غالبا مما ليس بمال ولا يقصد منه مال كالنكاح والطلاق والرجعة والإيلاء والظهار ونحو ذلك فإنه أيضًا يثبت بشهادة شاهدين لا امرأة فيهما (¬1). ودليلهم في ذلك: أن الله تعالى نص على شهادة الرجلين في الطلاق والرجعة والوصية أما الطلاق والرجعة فقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬2). وأما الوصية فقوله تعالى: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬3). وقيس عليها ما شاركها في الشرط. وقال الحنفية: "ما يقبل فيه شاهدان أو شاهد وامرأتان هو ما سوى الحدود والقصاص سواء أكان الحق مالًا أم غير مال كالنكاح والطلاق والعتاق والوكالة والوصاية" (¬4). ودليلهم: قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬5). ¬

_ (¬1) تبصرة الحكام (1/ 265)، روضة الطالبين (11/ 253)، المغني (12/ 6). (¬2) سورة الطلاق: 2. (¬3) سورة المائدة: 106. (¬4) المبسوط (16/ 115)، الهداية (3/ 17)، فتح القدير (6/ 7). (¬5) سورة البقرة: 282.

والحكمة في عدم قبول شهادة النساء في جرائم الحدود والقصاص

وقصر الجمهور قبول شهادة الرجل والمرأتين على ما هو مال أو بمعنى المال، كالبيع والإقالة، والحوالة والضمان ونحو ذلك (¬1). قال ابن المنذر: "وأجمعوا على شهادة النساء جائزة مع الرجال في الدين والأموال وأجمعوا على أن شهادتهن لا تقبل في الحدود" (¬2). والحكمة في عدم قبول شهادة النساء في جرائم الحدود والقصاص: أن ذلك من باب توزيع الاختصاصات حيث تختص المرأة بشؤون البيت ورعاية الأولاد، ولأن هذه الجرائم غالبًا ما تقع في جو من الرعب والفزع أو في جو قذر مخز لا تتمكن المرأة فيه غالبًا من الاستعداد لتحمل الشهادة، ولأنها بطبعها أكثر تأثرًا بالعاطفة لرقتها مما يؤثر في ضبط الشهادة وأدائها وهذه الجرائم يحتاط فيها حيث تدرأ بالشبهات. كما أن جنس الرجال أقدر على تحمل الأذى من المشهود عليه بعد أداء الشهادة وأقدر على دفع الظلم عند مضارة المشهود عليه للشهود (¬3). والحكمة من جعل شهادتها على النصف من شهادة الرجال: أن جنس النساء أكثر نسيانًا للقضايا التي تحصل فيها منازعات الناس غالبًا (¬4). رابعا: شهادة النساء. وهي أن يؤدي الشهادة أمام القاضي نساء ليس معهن رجل. قال ابن قدامة: "لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في قبول شهادة النساء المنفردات في الجملة". ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي (4/ 187)، مغني المحتاج (4/ 441)، المغني (12/ 9). (¬2) الإجماع لابن المنذر (ص: 89). (¬3) شهادة المرأة في الفقه الإِسلامي د. عبد الله بن محمَّد المطلق (ص: 66). (¬4) المرجع السابق (ص: 56).

خامسا: الشاهد واليمين.

والذي تقبل فيه شهادتهن منفردات أشياء منها: الولادة، والاستهلال والرضاع والعيوب تحت الثياب، والبكارة، والثيابة والبرص وانقضاء العدة. وقال: وتقبل فيما ذكرنا شهادة المرأة الواحدة، وعن أحمد رواية ثانية لا تقبل فيه إلا شهادة امرأتين (¬1). وقال الماوردي: "اختلف الفقهاء في عدد النساء فيما يشهدن فيه منفردات على أربعة مذاهب. أحدها: وهو مذهب الشافعي وعطاء أنه لا يقبل منهن أقل من أربع. والثاني: وهو مذهب الحسن البصري وعثمان البتي أنه يقبل منهن ثلاث. والثالث: وهو مذهب مالك أنه يقبل فيه امرأتان. والرابع: وهو مذهب الأوزاعي أنه يقبل فيه شهادة الواحدة" (¬2). خامسًا: الشاهد واليمين. وهو أن يؤدي الشهادة أمام القاضي شاهد واحد، ويتعذر على المدعي إقامة شاهد ثان لتكميل النصاب الشرعي في الشهادة فيكلفه القاضي بأن يحلف على حقه، وتقوم هذه اليمين مقام الشاهد الآخر فتكمل الشهادة الشرعية، ويحكم القاضي بذلك. لما روى مسلم بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قضى بيمين وشاهد (¬3). ¬

_ (¬1) المغني (10/ 161). (¬2) الحاوي الكبير (11/ 402)، وانظر المغني (14/ 135). (¬3) صحيح مسلم (3/ 1337)، كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد، برقم (1712).

الطريق الثاني: الإقرار.

وروى الدارقطني بسنده عن علي -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بشهادة شاهد واحد ويمين صاحب الحق. وقضى به علي بالعراق (¬1). وقد روي عن جماعة من الصحابة أنهم قضوا باليمين مع الشاهد، ولم يرو عن أحد منهم أنه كره ذلك، كما روي عن جماعة من التابعين منهم الفقهاء السبعة (¬2). وهذا مذهب المالكية والشافعية والحنابلة، وذلك في المال وما يؤول إلى المال (¬3). وأنكر الحنفية القضاء بالشاهد واليمين وقالوا: لا بد من شاهد آخر وإلا حلف المدعى عليه؛ لأنه لم يرد في القرآن، ولأن اليمين إنما جعلت للنفي لا للإثبات (¬4). والراجح: هو قول الجمهور لما استندوا إليه. الطريق الثاني: الإقرار. الإقرار سيد الأدلة إذ هو حاسم في فصل النزاع أمام القاضي فهو حجة في الإثبات وبه تظهر سائر الحقوق؛ لأن المدعى عليه إذا أقر يقطع النزاع ويعفي المدعي عن عبء الإثبات لعدم الحاجة إليه لذا اعتبرته الشريعة وسيلة من وسائل الإثبات شأنه في ذلك شأن البينة بل هو أقوى منها فالإنسان قد يتهم في حق غيره ما لا يتهم في حق نفسه؛ لأن العاقل لا يكذب على نفسه. ¬

_ (¬1) سنن الدارقطني (4/ 212). (¬2) الاستذكار لابن عبد البر (7/ 111). (¬3) تبصرة الحكام (1/ 312)، مواهب الجليل (6/ 18)، المهذب (2/ 335)، مغني المحتاج (4/ 443)، المغني (9/ 150)، كشاف القناع (4/ 269). (¬4) بدائع الصنائع (6/ 225).

تعريفه لغة واصطلاحا

تعريفه لغة واصطلاحًا: أما في اللغة: فالإِقْرارُ الاعتراف حيث يثبت الإنسان به على نفسه الحق، يقال: أقر بالحق أي اعترف به (¬1). وأما في الاصطلاح: فقد عرفه الحنفية بأنه إخْبَارٌ عن ثُبُوتِ حَقِّ الْغَيْرِ على نَفْسِهِ (¬2). وعرفه المالكية بأنه خَبَرٌ يُوجِبُ حُكْمَ صِدْقِهِ على قَائِلِهِ فَقَطْ بلَفْظِهِ أو بلَفْظِ نَائِبِهِ (¬3). وعرفه الشافعية بأنه إخبار عن حق ثابت على المخبر (¬4). وعرفه الحنابلة بأنه إظهار المكلف الرشيد المختار ما عليه لفظًا أو كتابة أو إشارة أو على موكله أو موروثه أو موليه بما يمكن صدقه فيه (¬5). وهذه التعاريف متقاربة المعاني. مشروعية الإقرار: الإقرار مشروع بالكتاب والسنة والإجماع. فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} (¬6). ¬

_ (¬1) لسان العرب (5/ 88)، تاج العروس (13/ 396). (¬2) تبيين الحقائق (5/ 2). (¬3) مواهب الجليل (5/ 216)، شرح ميارة (2/ 377)، الفواكه الدواني (2/ 246). (¬4) مغني المحتاج (2/ 238). (¬5) المبدع (10/ 294)، الإنصاف للمرداوي (12/ 125). (¬6) سورة البقرة: 84.

وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (¬1). ومن السنة: ما رواه البخاري ومسلمٌ عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني -رضي الله عنهما- أنهما قالا: إن رجلًا من الأعراب أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه: نعم فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قل" قال: إن ابني كان عسيفًا على هذا فزنى بامرأته وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت، فارجمها" قال: فغدا عليها فاعترفت، فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت (¬2). وما رواه البخاري ومسلم أيضًا عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو في المسجد، فناداه فقال يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه حتى ردد عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أبك جنون؟ " قال: لا، قال: "فهل أحصنت؟ " قال: نعم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اذهبوا به فارجموه" (¬3). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: 81. (¬2) صحيح البخاري، برقم (2575)، صحيح مسلم، برقم (1697). (¬3) صحيح البخاري، برقم (6430)، صحيح مسلم، برقم (1691).

أركان الإقرار

وأما الإجماع: فإن الأمة أجمعت على صحة الإقرار؛ ولأن الإقرار إخبار على وجه ينفي عنه التهمة والريبة، فإن العاقل لا يكذب على نفسه كذبا يضر بها؛ ولهذا كان آكد من الشهادة فإن المدعى عليه إذا اعترف لا تسمع عليه الشهادة وإنما تسمع إذا أنكر (¬1). أركان الإقرار أركان الإقرار عند الجمهور أربعة: مُقِر، ومُقَر له، ومُقَر به، وصيغة (¬2). وأما عند الحنفية فهو الصيغة فقط. قال الكاساني: "أما ركن الإقرار (الصيغة) فنوعان: صريح، ودلالة، فالصريح نحو أن يقول: لفلان عليَّ ألف درهم؛ لأن كلمة عليَّ كلمة إيجاب لغةً وشرعًا، وكذا إذا قال لرجل: لي عليك ألف درهم، فقال الرجل: نعم؛ لأن كلمة نعم خرجت جوابًا لكلامه وجواب الكلام إعادة له لغة كأنه قال: لك علي ألف درهم. وأما الدلالة فهي أن يقول له رجل: لي عليك ألف، فيقول: قد قضيتها؛ لأن القضاء اسم لتسليم مثل الواجب في الذمة فيقتضي أسبقية الوجوب فكان الإقرار بالقضاء إقرارًا بالوجوب ثم يدعي الخروج عنه بالقضاء، فلا يصح إلا بالبينة" (¬3). شروط الإقرار: 1 - أن يكون المقِرّ مكلفًا، فلا يصح إقرار الصبي والمجنون والسكران لحديث علي -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على ¬

_ (¬1) المغني (7/ 262). (¬2) التاج والإكليل (5/ 216)، أسنى المطالب (2/ 287 - 288)، الموسوعة الفقهية (6/ 49). (¬3) بدائع الصنائع (7/ 207 - 208).

عقله حتى يعقل، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم" (¬1). ويقبل إقرار الصبي المميز المأذون له بالتجارة للضرورة إذا أقر بحق مالي أما إذا أقرّ بما يوجب عقوبة بدنية فلا يقبل إقراره عند الجمهور (¬2). وقال الشافعية في السكران إن كان سكره حصل بطريق محرم كما لو تناول الخمر مختارًا وهو يعلم أنه خمر وجب أن يؤاخذ بإقراره؛ لأنه تناول ما يزيل عقله مع علمه أنه مسكر فوجب أن يتحمل كل ما يتولد من فعله ويترتب عليه، لينزجر عما نهي عنه وذلك تغليظًا عليه، وإن كان سكره حصل بطريق غير محرم كأن شرب الخمر قسرًا أو عن غير قصد فلا يؤاخذ بإقراره حال سكره، لعدم تعديه (¬3). 2 - ألا يكون المقِرّ متهما في إقراره كإقرار المريض لأحد الورثة بدين عليه، لأنه متهم بمحاباة هذا الوارث، والتهمة تخل برجحان جانب الصدق على جانب الكذب (¬4). 3 - أن يكون المقِر مختارًا فلا يصح إقرار المكره بالمال أو بالطلاق أو بغيرهما (¬5). لما روى ابن ماجه، والطبرانيُّ عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن ¬

_ (¬1) سنن أبي داود، برقم (4401)، سنن الترمذيُّ، برقم (1423)، المستدرك على الصحيحين (2/ 67)، برقم (2350)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، الأحاديث المختارة (2/ 229)، برقم (608)، وقال: إسنادُهُ صحيحٌ. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 56)، برقغ (4401). (¬2) المغني (7/ 263). (¬3) مغني المحتاج (2/ 238)، (3/ 269). (¬4) بدائع الصنائع (7/ 223). (¬5) المغني (7/ 264).

الرجوع عن الإقرار

الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬1). 4 - ألا يكذب المُقَر له المُقِر في إقراره فإن كذبه بطل الإقرار (¬2). الرجوع عن الإقرار: قال ابن قدامة: لا يقبل رجوع المقر عن إقراره إلا فيما كان حدا لله تعالى يدرأ بالشبهات ويحتاط لإسقاطه فأما حقوق الآدميين وحقوق الله تعالى التي لا تدرأ بالشبهات كالزكاة والكفارات فلا يقبل رجوعه بها ولا نعلم في هذا خلافًا (¬3). حكم مؤاخذة الشخص بإقرار غيره عليه: يلزم الشخص بإقراره على نفسه ولا يؤاخذ بإقرار غيره عليه وهذا مما لا خلاف فيه بين الفقهاء. قال ابن عبد البر: "وقد أجمع المسلمون على أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره" (¬4). الطريق الثالث من طرق الإثبات: اليمين. اليمين لغة: لفظ مشترك يطلق على اليد اليمنى، وعلى القوة، وعلى القسم. . . والمقصود به هنا الحلف؛ لأن العرب كانوا إذا تحالفوا يتماسحون بأيمانهم (¬5). ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه (2045)، المعجم الأوسط (8/ 161)، برقم (8273). قال ابن كثير: إسناده جيد. تحفة الطالب (1/ 271)، وصححه الألباني في الإرواء (1/ 123)، برقم (82). (¬2) المغني (9/ 153). (¬3) المغني (5/ 95). (¬4) التمهيد (8/ 187)، الاستذكار (7/ 168). (¬5) ترتيب القاموس المحيط (4/ 682)، مادة: "يمن"، لسان العرب (3/ 462)، مادة: "يمن".

مشروعية الإثبات باليمين

وفي الاصطلاح: توكيد الحكم المحلوف عليه بذكر معظم على وجه مخصوص (¬1). مشروعية الإثبات باليمين: اليمين مشروعة لتأكيد جانب الصدق على جانب الكذب في إثبات الحقوق أو نفيها وقد دل على مشروعية القضاء بها الكتاب والسنة وإجماع الأمة. فمن الكتاب: أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالحلف في ثلاثة مواضع في إثبات الحق وهي: * قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} (¬2). * وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} (¬3). * وقوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} (¬4). ومن السنة: وروى البخاري ومسلمٌ واللفظ لمسلم عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه" (¬5). أما الإجماع: فقد قال ابن قدامة: "أجمعت الأمة على مشروعية اليمين وثبوت أحكامها" (¬6). ¬

_ (¬1) كشاف القناع (6/ 228)، شرح منتهى الإرادات (3/ 437). (¬2) سورة يونس: 53. (¬3) سورة سبأ: 3. (¬4) سورة التغابن: 7. (¬5) صحيح البخاري، برقم (4277)، صحيح مسلم، برقم (1711). (¬6) المغني (9/ 385).

شروط اليمين وصيغتها

شروط اليمين وصيغتها: يشترط في اليمين أن يكون الحالف بالغًا، عاقلًا، مختارًا، وأن يكون المدعى عليه منكرًا لحق المدعي، وأن يطلب الخصم اليمين من القاضي، فهي حق له، وأن يوجهها القاضي إلى الحالف، وأن تتصل اليمين بالحالف مباشرة، فلا يحلف إنسان عن غيره، ولا تجوز الوكالة في اليمين، وأن لا يكون المدعى به حقًا خالصًا لله تعالى كالحدود فلا توجه فيها اليمين، وأن يكون المدعى به مما يحتمل الإقرار به شرعًا من المدعى عليه؛ لأنه مخير بين الإقرار فيلزم بموجبه، أو اليمين ليستحق بها، أو يدفع بها (¬1). قال ابن قدامة: "تصح اليمين من كل مكلف مختار قاصدًا إلى اليمين، ولا تصح من غير مكلف كالصبي والمجنون والنائم لقوله عليه الصلاة والسلام رفع القلم عن ثلاثة (¬2)؛ ولأنه قول يتعلق به وجوب حق فلم يصح من غير مكلف" (¬3). ويشترط في صيغة اليمين أن تكون بالله تعالى أو بصفة من صفاته، وأن تكون جازمة ليس فيها تردد، أو ظن، أو تخمين حتى تحسم النزاع، وتنهي الخلاف (¬4). ويجب أن يحلف الحالف على البت والقطع على فعل نفسه، سواء أكان إثباتًا أو نفيا، أما إذا كانت اليمين على فعل غيره فيحلف على سبيل القطع في الإثبات ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (6/ 227)، تبصرة الحكام (1/ 46)، مغني الحتاج (4/ 470)، المغني (9/ 385)، كشاف القناع (4/ 286). (¬2) تقدم (ص: 128). (¬3) المغني (9/ 385). (¬4) المرجع السابق.

حكم الحلف باليمين

على أنه باع، أو اشترى، أو استأجر، أو طلق، ويحلف على نفي العلم في النفي فيقول: لا أعلم أنه اقترض أو باع. . . ولا بد أن تكون اليمين حسب الجواب في الدعوى عن سبب المدعى به، أو عن الحاصل والنتيجة، وتكون اليمين على نية القاضي المحلِّف فلا يجوز فيها التورية. وهل يصح حلف الكافر ومن لا يؤمن بالله؟ نعم يصح حلفه ويحلف ويكون ذلك بحسب ملته. حكم الحلف باليمين: الحلف باليمين عند الحاجة إليه كإثبات حق وتأكيد أمر مهم، أو إنكار ادعاء ونحو ذلك جائز لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير أو أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني" (¬1). وروى البخاري بسنده عن عبد الله قال: أكثر ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحلف "لا ومقلب القلوب" (¬2). ويكره كثرة الحلف بالله تعالى من غير حاجة؛ لقول الله تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} (¬3)؛ إذ أن هذا ذم له يقتضي كراهة فعله؛ ولأنه قد يعجز الحالف عن الوفاء بما حلف عليه قال حرملة سمعت الشافعي يقول: "ما حلفت بالله صادقًا ولا كاذبًا" (¬4). وقد يكون مستحبًا إذا توقف عليه فعل مندوب، أو ترك مكروه كما لو قال: والله إن حفظت كذا حديثًا لأعطينك كذا. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، برقم (6249)، صحيح مسلم، برقم (1649). (¬2) صحيح البخاري (6/ 2691)، كتاب التوحيد، باب مقلب القلوب، برقم (6956). (¬3) سورة القلم: 10. (¬4) سير أعلام النبلاء (10/ 36).

الوعيد الشديد على من يحلف كاذبا

وقد يكون حرامًا فيما لو حلف على فعل معصية كأن قال: والله لأشربن الخمر (¬1). الوعيد الشديد على من يحلف كاذبًا: اليمين لها أثر ديني ودنيوي لما يترتب عليها من الأجر والثواب، أو المحق والعقاب ولما تفضي إليه من فض النزاع واكتساب الحق، أو نفيه ودفع الدعوى الباطلة في الاعتبار القضائي. ويتجلى في اليمين أثر الوازع الديني وخشية الله تعالى؛ لأن الحق معلق في ذمة الحالف، ومبلغ إيمانه؛ لذلك شدد الشارع الحكيم في شأن الأيمان وحث على التثبت فيها قبل الحلف، وتوعد الحالف كذبًا بالهلاك في الدنيا، والعذاب في الآخرة إن لم يتب، اليمين الكاذبة من الكبائر، وتغمس صاحبها في النار حيث روى مسلم والنسائيُّ عن أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة"، فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: "وإن كان قضيبا من أراك" (¬2). وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من اقتطع مال امرئٍ مسلمٍ بيمينٍ كلاذبة، لقي الله وهو عليه غضبان" قال عبد الله: ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصداقه من كتاب الله جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬3). (¬4). ¬

_ (¬1) المغني (9/ 332). (¬2) صحيح مسلم، برقم (137)، سنن النسائي (المجتبى)، برقم (5419). (¬3) سورة آل عمران: 77. (¬4) صحيح البخاري (6/ 2710)، كتاب التوحيد، باب (24)، برقم (7007).

فوائد أداء اليمين

وروى البخاري أيضًا عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم: رجل حلف على سلعة لقد أعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماء فيقول الله يوم القيامة: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك" (¬1). وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: "الإشراك بالله" قال: ثم ماذا؟ قال: "ثم عقوق الوالدين" قال: ثم ماذا؟ قال: "اليمين الغموس" قلت: وما اليمين الغموس؟، قال: "الذي يقتطع مال امرئ مسلم هو فيها كاذب" (¬2). فوائد أداء اليمين: 1 - تخويف المدعى عليه سوء عاقبة الحلف الكاذب فيحمله ذلك على الإقرار بالحق. 2 - القضاء عليه بنكوله عنها. 3 - انقطاع الخصومة والمطالبة في الحال وتخليص كل من الخصمين من ملازمة الآخر ولكنها لا تسقط الحق ولا تبرئ الذمة باطنًا ولا ظاهرًا فلو أقام المدعي بينة بعد حلف المدعى عليه سمعت وقضى بها وكذا لو ردت اليمين على المدعي فنكل ثم أقام المدعي بينة سمعت وحكم بها. 4 - إثبات الحق بها إذا ردت على المدعي أو أقام معها شاهدًا واحدًا (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (6/ 2710)، كتاب التوحيد، باب (24)، برقم (7008). (¬2) صحيح البخاري (6/ 2535)، برقم (6522). (¬3) الطرق الحكمية (1/ 164).

تغليظ اليمين وهو أنواع

تغليظ اليمين وهو أنواع: 1 - تغليظ اليمين باللفظ. اختلف العلماء في جواز تغليظ اليمين بأسماء وصفات الله تعالى التي تقتضي تعظيمه على قولين: القول الأول: يجوز تغليظ اليمين بأسماء وصفات الله تعالى وإليه ذهب إلى الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. بأن يقول: أقسم بالله الذي لا إله إلا هو، أو أحلف بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية (¬1). واستدلوا بما يلي: أ - ما رواه أبو داود والنسائيُّ عن ابن عباس قال جاء خصمان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فادعى أحدهما على الآخر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمدعي: "أقم بينتك" قال: يا رسول الله ليس لي بينة، فقال للآخر: "احلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عليك أو عندك شيء" (¬2). ب- وروى أبو داود عن ابن عباس أن رجلين اختصما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - الطالب البينة، فلم تكن له بينة، فاستحلف المطلوب فحلف بالله الذي لا إله إلا هو فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بلى قد فعلت ولكن قد غفر لك بإخلاص قول لا إله إلا الله" (¬3). ¬

_ (¬1) المبسوط (16/ 119)، البدائع (6/ 227)، تبصرة الحكام (1/ 184)، مغني المحتاج (4/ 472)، كشاف القناع (4/ 287). (¬2) سنن أبي داود، برقم (3620)، السنن الكبرى (3/ 489)، برقم (6007). الحديث ضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود (ص: 290)، برقم (3620). (¬3) سنن أبي داود (3/ 228)، كتاب الأيمان والنذور، باب فيمن يحلف كاذبًا متعمدًا، برقم

ج- أن عمر وأُبيًا تحاكما إلى زيد في نخل ادعاه أُبي، فتوجهت اليمين على عمر، فقال زيد: اعف أمير المؤمنين، فقال عمر: ولم يعفي أمير المؤمنين؟ إن عرفت شيئًا استحققته بيميني، وإلا تركته، والله الذي لا إله إلا هو، إن النخل لنخلي، وما لأُبي فيه حق (¬1). القول الثاني: أنه لا يجوز تغليظ اليمين ولكن يكتفى بلفظ الجلالة، وإليه ذهب ابن حزم الظاهري. واستدل لذلك بأدلة من الكتاب والسنة، أما الكتاب فإن الآيات الكريمة اقتصرت على لفظ الجلالة قال الله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} (¬2). وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} (¬3). فلا يجوز الزيادة عليه؛ لأن لفظ الجلالة يتضمن معاني الترغيب والترهيب. وأما السنة: فقد روى البخاري ومسلمٌ عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله"، وكانت قريش تحلف بآبائها، فقال: "لا تحلفوا بآبائكم" (¬4). وهذا نص جلي على إبطال الزيادة (¬5). وقد أجاب الجمهور بأنه: لا تعارض بين أحاديث الاقتصار على لفظ الجلالة وأحاديث التغليظ؛ لحمل الأحاديث المقتصر على لفظ الجلالة على الوجوب والأحاديث الأخرى على الندب. ¬

_ = (3275). الحديث صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 319)، برقم (3275). (¬1) السنن الكبرى للبيهقي (10/ 144)، المغنى (13/ 442). (¬2) سورة المائدة: 107. (¬3) سورة المائدة: 53. (¬4) صحيح البخاري، برقم (3624)، صحيح مسلم، برقم (1646). (¬5) المحلى (9/ 389).

2 - التغليظ في الزمان والمكان

2 - التغليظ في الزمان والمكان: التغليظ في الزمان هو أن تكون اليمين بعد صلاة العصر؛ لأنه وقت معظم تجتمع فيه ملائكة الليل والنهار، وعند الحنابلة بعد صلاة العصر، أو بين الأذان والإقامة؛ لأنه وقت يرجى فيه إجابة الدعاء فيخاف الكاذب من الحلف. والتغليظ في المكان يكون بين المقام والركن في مكة، وفي المسجد النبوي عند المنبر أو فوقه في سائر البلدان، ويحلف أهل الذمة في الأماكن التي يعظمونها. وقد اختلف الجمهور القائلون بجواز تغليظ اليمين في الألفاظ في تغليظ اليمين في الزمان والمكان على قولين: القول الأول: أن التغليظ بالزمان والمكان جائز، وهو مذهب الشافعية والحنابلة في رواية والمالكية في قول. القول الثاني: أن التغليظ في الزمان والمكان غير جائز، وهو مذهب الحنفية والحنابلة في رواية (¬1). الأدله: أدلة القول الأول: استدل أصحاب القول الأول على جواز تغليظ اليمين في الزمان والمكان بالكتاب والسنة. أولًا: الكتاب: قال الله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} (¬2). ¬

_ (¬1) تبيين الحقائق (4/ 304)، القوانين الفقهية (ص: 335)، تبصرة الحكام (1/ 186)، الأم (7/ 33)، كشاف القناع (4/ 288). (¬2) سورة المائدة: 106.

وجه الدلالة: صريح في القسم بعد الصلاة وهي صلاة العصر كما قال ابن عباس وشريح والشعبي وسعيد بن جبير وغيرهم، وقال المفسرون؛ لأنه وقت اجتماع الناس، ولأن أهل جميع الأديان يعظمون ذلك الوقت؛ ولأن ملائكة الليل والنهار تجتمع في هذا الوقت (¬1). قال القرطبي: الآية أصل في التغليظ (¬2). ثانيا: من السنة: ما رواه البخاري ومسلمٌ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع إمامًا لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها رضي وإن لم يعطه منها سخط، ورجل أقام سلعته بعد العصر، فقال: والله الذي لا إله غيره لقد أعطيت بها كذا وكذا فصدقه رجل، وهو على غير ذلك" (¬3). وجه الدلالة: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - اعتبر اليمين بعد العصر أشد في النكال والإثم من غيرها فدل على اعتبار هذا الوقت مناسبًا للتغليظ. وروى أبو داود عن جَابِر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَحْلِفُ أَحَدٌ عِنْدَ مِنْبَرِي هذا على يَمِينٍ آثِمَةٍ وَلَوْ على سِوَاكٍ أَخْضَرَ إلا تبَوَّأَ مَقْعَدَهُ من النَّارِ أو وَجَبَتْ له النَّارُ" (¬4). ¬

_ (¬1) تفسير الطبري (7/ 110)، تفسير القرطبي (6/ 353)، تفسير ابن كثير (2/ 112)، أحكام القرآن لابن العربي (2/ 716). (¬2) تفسير القرطبي (6/ 353). (¬3) صحيح البخاري (2/ 831)، برقم (2230)، صحيح مسلم (1/ 103)، برقم (108). (¬4) سنن أبي داود (3/ 221)، كتاب الأيمان والنذور، بَاب ما جاء في تَعْظِيمِ الْيَمِينِ عِنْدَ مِنْبَرِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم (3246). وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 313)، برقم (3246).

وجه الدلالة: أن الحديث صريح في جواز التغليظ بالحلف بالمكان وهو في الحديث مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحول منبره ويقاس عليه بقية المساجد والمنابر؛ لأنها أماكن للعبادة والتعظيم. أدلة القول الثاني: استدل أصحاب القول الثاني على عدم جواز تغليظ اليمين في الزمان والمكان بالسنة والأثر. أولًا: السنة: روى البخاري ومسلمٌ عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه" (¬1). فالحديث دل على اليمين مطلقًا ولم يقيد بزمان أو مكان. ثانيًا: الأثر: ما روى الإِمام مالك عن دَاوُدَ بن الحصَيْنِ أنه سمع أَبَا غَطَفَانَ بن طَرِيفٍ المُرِّيَّ يقول: اخْتَصَمَ زَيْدُ بن ثَابِتٍ الأنصَارِيُّ، وابن مُطِيعٍ في دَارٍ كانت بَيْنَهُمَا إلى مَرْوَانَ بن الحكَمِ وهو أَمِيرٌ على المدِينَةِ، فَقَضَى مَرْوَانُ على زيدِ بن ثَابِتٍ بِالْيَمِينِ على المنْبَرِ، فقال زَيْدُ بن ثَابِتٍ: أحلف له مَكَانِي، قال: فقال مَرْوَانُ: لاَ وَالله إلا عِنْدَ مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ، قال: فَجَعَلَ زَيْدُ بن ثَابِتٍ يَحلِفُ أن حَقَّهُ لَحَقٌّ وَيَأْبَى أن يَحْلِفَ على المنْبَرِ، قال: فَجَعَلَ مَرْوَانُ بن الحكَمِ يَعْجَبُ من ذلك (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، برقم (2379)، صحيح مسلم، برقم (1711). (¬2) موطأ مالك (2/ 728)، كتاب الأقضية، باب جَامِعِ ما جاء في الْيَمِينِ على المنْبَرِ، برقم (1410). ورواه البخاري تعليقًا بصيغة الجزم. صحيح البخاري (2/ 950)، كتاب الشهادات، باب يحلف المدعى عليه حيثما وجبت عليه اليمين ولا يصرف من موضع إلى غيره، رقم الباب (23). ووصله الحافظ ابن حجر في كتابه تغليق التعليق (3/ 392).

الطريق الرابع: القضاء بالنكول.

وجه الدلالة: أن زيد بن ثابت امتنع عن الحلف على المنبر، ولو كانت واجبة لما امتنع. والراجح: جواز التغليظ في الزمان والمكان لكن يكون ذلك في الحالات العظيمة والوقائع الخطيرة وتختلف باختلاف الأشخاص ويخول القاضي سلطة تقديرها وتطبيقها. الطريق الرابع: القضاء بالنكول. النكول في اللغة: مصدر نكل بفتح الكاف وكسرها يدل على منع وامتناع يقال: نكل الرجل عن الأمر وعن العدو إذا جبن وامتنع. ونكل عن اليمين: هابها وترك الإقدام عليها وامتنع منها (¬1). وفي الاصطلاح: امتناع من وجبت اليمين عليه من أدائها (¬2). حكم القضاء بالنكول: إذا نكل عن اليمين فهل يحكم عليه؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أربعة أقوال: القول الأول: أن النكول طريقة من طرق الحكم، وهذا مذهب الحنفية ورواية عند الحنابلة، ويندب أن يقول له ثلاث مرات احلف وإلا قضيت عليك لجواز أن يكون المدعى عليه ممّن لا يرى القضاء بالنكول، أو يكون نكوله بسبب مهابة مجلس الحكم؛ لأن المدعى عليه مخير بين الإقرار، وأداء اليمين الموجهة إليه فلما ¬

_ (¬1) مقاييس اللغة (5/ 473)، لسان العرب (11/ 678)، المصباح (2/ 859)، المعجم الوسيط (2/ 953). (¬2) منح الجليل (8/ 571).

نكل عن اليمين حمل نكوله على الإقرار؛ ولأنه لو كان صادقًا في إنكاره لحلف اليمين لحفظ حقوقه من الضياع (¬1). وقد استدلوا بما يلي: 1 - روى البخاري ومسلمٌ عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه" (¬2). وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل جنس اليمين على المدعى عليه؛ لأن الألف واللام للاستغراق. 2 - روى الإِمام مالك بسنده عن سَالِمِ بن عبد الله أَنَّ عَبْدَ الله بن عُمَرَ بَاعَ غُلاَمًا له بثمانمائة دِرْهَمٍ، وَبَاعَهُ بِالْبَرَاءَةِ، فقال الذي ابْتَاعَهُ لِعَبْدِ الله بن عُمَرَ: بِالْغُلاَمِ دَاءٌ لم تُسَمِّهِ لي، فَاخْتَصَمَا إلى عُثْمَانَ بن عَفَّانَ، فقال الرَّجُلُ: بَاعَنِي عَبْدًا وَبِهِ دَاءٌ لم يُسَمِّهِ، وقال عبد الله: بِعْتُهُ بِالْبَرَاءَةِ، فَقَضَى عُثْمَانُ بن عَفَّانَ على عبد الله بن عُمَرَ أَنْ يَحْلِفَ له لقد بَاعَهُ الْعَبْدَ وما بِهِ دَاءٌ يَعْلَمُهُ، فَأَبَى عبد الله أَنْ يَحْلِفَ، وَارْتجَعَ الْعَبْدَ، فَصَحَّ عِنْدَهُ فَبَاعَهُ عبد الله بَعْدَ ذلك بِألفٍ وخمسمائة دِرْهَمٍ (¬3). وجه الدلالة: أنه لما أبى عبد الله أن يحلف حكم عليه عثمان بالنكول فارتجع العبد ورد ثمنه. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (6/ 227)، تبيين الحقائق (4/ 295)، المغني (10/ 260)، المبدع (10/ 72)، الطرق الحكمية (ص: 116). (¬2) صحيح البخاري (2/ 888)، برقم (2379)، صحيح مسلم (3/ 1336)، برقم (1711). (¬3) موطأ مالك (2/ 613)، برقم (1274)، وهو في مصنف عبد الرزاق (8/ 163)، برقم (14722)، وفي السنن الكبرى للبيهقي (5/ 328)، برقم (10568). وقال ابن الملقن: هذا الأثر صحيح. البدر المنير (6/ 558).

القول الثاني

3 - قال الكاساني: "إنَّ نُكُولَ المدَّعَى عليه دَلِيلُ كَوْنِهِ كَاذِبًا في إنْكَارِهِ؛ لِأَنَّهُ لو كان صَادِقًا لمَا امْتَنَعَ من الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ فَكَانَ النُكولُ إقْرَارًا دَلَالَةً" (¬1). القول الثاني: أنه لا يقضى على المدعى عليه بالنكول وإنما ترد اليمين على المدعي، فإن حلف قضي له بما ادعاه، وإن لم يحلف لم يقض له بشيء وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة (¬2). استدلوا بما يلي: 1 - استدلوا بآية الوصية في السفر وفيها: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} (¬3). حيث أفادت رد اليمين من الشاهدين اللذين كتما وخانا إلى أقرب اثنين من الورثة إلى الميت، وهذا يدل على مشروعية رد اليمين ممّن وجبت عليه أولًا إلى غيره، ورد اليمين من المدعى عليه إذا نكل إلى المدعي ينطبق على ذلك فيكون مشروعًا (¬4). 2 - روى الحاكم والدارقطنيُّ والبيهقيُّ عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد اليمين على طالب الحق (¬5). ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (6/ 227). (¬2) الفروق (4/ 92)، مغني المحتاج (4/ 477)، حاشية البجيرمي (4/ 403)، حواشي الشرواني (10/ 320)، الإنصاف (11/ 254 - 255). (¬3) سورة المائدة: 107. (¬4) الأم (7/ 38). (¬5) المستدرك على الصحيحين (4/ 113)، برقم (7057)، سنن الدارقطني (4/ 213)، برقم (34)، سنن البيهقي الكبرى (10/ 184)، برقم (20528). قال ابن حجر: فِيهِ محمَّد بن مَسْرُوقٍ لَا يُعرَفُ، وَإِسْحَاق بن الْفُرَاتِ مختلَفٌ فيه. التلخيص الحبير (4/ 209).

القول الثالث

قال ابن قدامة: "اختار أبو الخطاب رد اليمين على المدعي إذا نكل المدعى عليه حلف المدعي وحكم له بما ادعاه قال: وقد صوبه أحمد فقال: ما هو ببعيد يحلف ويستحق وقال: هو قول أهل المدينة روي ذلك عن علي -رضي الله عنه- وبه قال شريح والشعبي والنخعي وابن سيرين ومالك في المال خاصة وقاله الشافعي في جميع الدعاوى لما روي عن نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد اليمين على طالب الحق؛ ولأنه إذا نكل ظهر صدق المدعي وقوي جانبه فتشرع اليمين في حقه كالمدعى عليه قبل نكوله وكالمدعي إذا شهد له شاهد واحد؛ ولأن النكول قد يكون لجهله بالحال وتورعه عن الحلف على ما لا يتحققه أو للخوف من عاقبة اليمين أو ترفعًا عنها مع علمه بصدقه في إنكاره ولا يتعين بنكوله صدق المدعي فلا يجوز الحكم له من غير دليل فإذا حلف كانت يمينه دليلًا عند عدم ما هو أقوى منها" (¬1). القول الثالث: أن المدعى عليه لا يقضى عليه بالنكول ولا ترد اليمين على المدعي بل يؤدب حتى يقر أو يحلف وهو قول ابن حزم. قال ابن حزم: "فإن لم يكن للطالب بينة وأبى المطلوب من اليمين أجبر عليها أحب أم كره بالأدب ولا يقضي عليه بنكوله" (¬2). القول الرابع: أنه إذا كان المدعي عالمًا بما يدعيه قطعًا لا يقضى له بمجرد نكول المدعى عليه وإنما ترد اليمين على المدعي فإن حلف استحق ما يدعيه، وإن نكل لم يحكم له ¬

_ (¬1) المغني (10/ 216). (¬2) المحلى (9/ 373).

الطريق الخامس: القضاء بالقرائن.

بنكول المدعى عليه بل لا بد من بينة أو إقرار، وإن كان المدعي لا يعلم بما يدعيه قطعًا بل المدعى عليه هو المنفرد بمعرفته ونكل المدعى عليه عن اليمين حكم بالنكول ولم ترد اليمين على المدعي. وبه قال ابن تيمية وابن القيم (¬1). الترجيح: ولعل القول الأخير هو الراجح؛ لما فيه من العمل بالأدلة كلها. الطريق الخامس: القضاء بالقرائن. القرينة لغة: مأخوذة من قرن الشيء بالشيء أي سنده إليه ووصله به، كجمع البعيرين في حبل واحد، وكالقران بين الحج والعمرة، أو كالجمع بين التمرتين عند الأكل، وتأتي المقارنة بمعنى المرافقة والمصاحبة، ومنه ما يطلق على الزوجة قرينة، وعلى الزوج قرين (¬2). وفي الاصطلاح: أمارة يستدل بها على المطلوب (¬3). وقال في موسوعة الفقه الإِسلامي: "القرينة: هي التي توجد عند الإنسان علمًا بموضوع النزاع والاستدلال يكاد يكون مماثلًا للعلم الحاصل من الشاهد والعيان" (¬4). مشروعية الحكم بالقرائن: الأدلة على مشروعية القرائن من الكتاب والسنة. ¬

_ (¬1) الطرق الحكمية (ص: 87، 122 - 124). (¬2) لسان العرب (13/ 335)، المصباح (2/ 686)، المعجم الوسيط (2/ 730). (¬3) انظر: التعريفات (ص: 174)، شرح مجلة الأحكام العدلية (1/ 353). (¬4) موسوعة الفقه الإِسلامي (2/ 168).

فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} (¬1). قال القرطبي: "لما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم قرن الله بهذه العلامة علامة تعارضها وهي سلامة القميص من التنييب إذ لا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لابس القميص ويسلم القميص من التخريق ولما تأمل يعقوب -عليه السلام- القميص فلم يجد فيه خرقًا ولا أثرًا استدل بذلك على كذبهم، وقال لهم: متى كان هذا الذئب حكيمًا يأكل يوسف ولا يخرق القميص" (¬2). قال ابن فرحون: "استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات في مسائل كثيرة من الفقه" (¬3). وقوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} (¬4). هذه الآيات أصل في الحكم بالقرائن. قال الشنقيطي: "يفهم من هذه الآية لزوم الحكم بالقرينة الواضحة الدالة على صدق أحد الخصمين وكذب الآخر؛ لأن ذكر الله لهذه القصة في معرض تسليم الاستدلال بتلك القرينة على براءة يوسف يدل على أن الحكم بمثل ذلك حق وصواب؛ لأن كون القميص مشقوقًا من جهة دبره دليل واضح على أنه هارب عنها وهي تنوشه من خلفه" (¬5). ¬

_ (¬1) سورة يوسف: 18. (¬2) تفسير القرطبي (9/ 149). (¬3) تبصرة الحكام (2/ 117). (¬4) سورة يوسف: 26 - 28. (¬5) أضواء البيان (2/ 215 - 216).

ومن السنة: ما رواه البخاري ومسلمٌ من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن" قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت" (¬1). وجه الدلالة من الحديث: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جعل صمات البكر قرينة على رضاها، ويعتبر هذا الحديث من أقوى الأدلة على الحكم بالقرائن. وروى البخاري ومسلمٌ أيضًا عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر نظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما تمنيت لو كنت بين أضلع منهما فغمزني أحدهما فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل قال: قلت: نعم وما حاجتك إليه يا ابن أخي قال: أخبرت أنه يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا قال: فتعجبت لذلك فغمزني الآخر فقال: مثلها قال: فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت: ألا تريان هذا صاحبكما الذي تسألان عنه قال: فابتدراه فضرباه بسيفيهما حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه فقال: "أيكما قتله" فقال كل واحد منهما: أنا قتلته فقال: "هل مسحتما سيفيكما" قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: "كلاكما قتله" وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. والرجلان: معاذ ابن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء (¬2). فإن نظر الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى السيفين عمل بالقرينة ليرجح من القاتل بما يراه من أثر الطعان وصبغ الدم فأعطى السلب لمعاذ بن عمرو بن الجموح لوجود علامات على سيفه تشير إلى أن سيفه أنفذ مقاتل أبي جهل فكان هو المؤثر في قتله. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، برقم (4843)، صحيح مسلم، برقم (1419). (¬2) صحيح البخاري، برقم (2972)، صحيح مسلم، برقم (1752).

ومن أمثلة الحكم بالقرينة

وإنما قال: "كلاكما قتله" وإن كان أحدهما هو الذي أثخنه ليطيب نفس الآخر (¬1). ومن أمثلة الحكم بالقرينة: * الرجل يتزوج المرأة من غير أن يراها سابقًا فتزفها إليه ولائد لا يثبت بشهادتهن أن هذه هي فلانة التي وقع عليها العقد فيجوز له جماعها من غير احتياج إلى بينة تشهد على عينها أنها هي التي وقع العقد عليها اعتمادًا على قرينة النكاح. * وكالرجل ينزل ضيفًا عند قوم فيأتيه الخادم بالطعام فيجوز له الأكل من غير احتياج إلى ما يثبت إذن مالك الطعام له في الأكل اعتمادًا على القرينة. * وكقول مالك -رحمه الله- ومن وافقه: "إن من شم في فيه ريح الخمر يحد حد الشارب اعتمادًا على القرينة؛ لأن وجود ريحها في فيه قرينة على أنه شربها" (¬2). تعارض القرائن: القاعدة العامة أن القرائن إذا تعارضت فإن العمل يكون بأقواها، يدل على ذلك قوله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (¬3)، حيث إن إخوة يوسف لما جعلوا يوسف في غيابة الجب جعلوا على قميصه دم سخلة ليكون قرينة على صدقهم في دعواهم أنه أكله الذئب، ولكن يعقوب أبطل قرينتهم هذه بقرينة أقوى منها وهي عدم شق القميص فقال: سبحان الله متى كان الذئب حليمًا كيسًا ¬

_ (¬1) فتح الباري (6/ 248). (¬2) أضواء البيان (2/ 215 - 216). (¬3) سورة يوسف: 18.

ما يقضى فيه بالقرائن

يقتل يوسف ولا يشق قميصه؟ ولذا صرح بتكذيبه لهم في قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (¬1). ما يقضى فيه بالقرائن: أولًا: اتفق الفقهاء على جواز العمل بالقرائن في المسائل التي تنعدم فيها البينات، أو تكون القرينة فيها أقوى من البينة، كما لو شهد على رجل أربعة أنه زنا بامرأة فحكم برجمه فإذا هو مجبوب أو المرأة عذراء (¬2). ثانيًا: ذهب المالكية ورواية عن الإِمام أحمد إلى أنه يقضى بالقرينة في حد الزنا بالحبل، وفي حد الخمر بالرائحة (¬3). ثالثًا: ذهب ابن القيم إلى القضاء بالقرائن في جميع الحقوق (¬4). رابعًا: ذهب الجمهور إلى أنه لا يقضى بالقرينة في الحدود والقصاص. القرائن الحديثة: وهي قرائن في العصر الحديث أمكن بواسطة العلم اكتشاف وسائل وأجهزة متنوعة ومتعددة يتوصل بها إلى بيان الحقيقة وكشف الجريمة وتعتبر نتائجها من نوع القرائن المثبتة؛ فمن هذه القرائن: 1 - بصمات اليد: وهي خطوط في أطراف الأصابع وفي باطن اليدين على أشكال عدة تتميز ¬

_ (¬1) أضواء البيان (2/ 215 - 216). (¬2) الطرق الحكمية (1/ 88)، تبصرة الحكام (2/ 93). (¬3) بدائع الصنائع (7/ 40)، البحر الرائق (7/ 205)، حاشية الدسوقي (4/ 319)، مغني المحتاج (4/ 190)، المغني (10/ 193). (¬4) الطرق الحكمية (ص: 12).

2 - التحاليل المخبرية للبصمة الوراثية (DNA) بالحمض النووي

بها بصمة كل شخص عن الآخر، إذ من الثابت استحالة تشابه وتطابق بصمتين لشخصين في العالم حتى في التوأمين، وهذا برهان قاطع على قدرة الله -عَزَّ وَجَلَّ- وعظيم خلقه. والبصمات وسائل علمية استعملتها الأجهزة الأمنية في الكشف عن المجرمين وغير ذلك، وأثبتت التجارب صحة نتائجها، وقد درج الناس على العمل بها في الإقرارات، والمعاملات والعقود وما إلى ذلك مما تكون مفيدة فيه. فإذا تبين للقاضي أن هذه بصمة أصبع لشخص معين اعتمدها في الحكم إذا كان من قد أجراها عدلًا، وعلى القاضي حين اعتماده في الحكم على البصمة أن يحترس من الاحتمالات التي من شأنها القدح في العمل بالبصمة كالتزوير وما أشبه ذلك (¬1). 2 - التحاليل المخبرية للبصمة الوراثية (DNA) بالحمض النووي: يقوم خبراء المختبرات بتحليل الدم والبول وغير ذلك ممّا يمكن تحليله لتحديد البصمة الوراثية لما هو موجود على مسرح الجريمة ومقارنة ذلك بما لدى المتهم ويكون قرينة قوية عند توافق النتيجة، فيمكن تحليل الدم الموجود على الآلة المستعملة في تنفيذ الجريمة، أو الموجود على الثياب، أو غير ذلك مما يكون قريبًا من مكان الحادثة في سبيل الكشف عن المجرم، وقد تكون نتائج التحاليل مفيدة إلا أن القطع بدقتها وصحتها موضع نظر؛ لأن تشابه فصائل الدم بين شخص وآخر أمر وارد مع إمكانية خطأ التحليل وتزويره فعلى القاضي سؤال أهل الخبرة الثقات حتى يستفيد من هذه القرينة في التوصل إلى الحق. ¬

_ (¬1) طرائق الحكم (ص: 347)، أسس علم البصمات (ص: 15).

3 - الصور الفوتوغرافية

3 - الصور الفوتوغرافية: من الوسائل التي يستند عليها في الإثبات، أو النفي في الخصومات الصور الفوتوغرافية ومن المعلوم أن من الصور ما يكون لأشخاص، أو وقائع، أو مستندات مكتوبة وغير ذلك مما يشمله التصوير وهو يُعد قرينة حديثة ودليلًا من أدلة الإثبات، ويعتمدها المحققون في تحقيقاتهم الجنائية إلا أنه من المسلّم به إمكانية تزوير الصور وتغييرها وتشابهها وتعديلها ولذلك لا تكون بينة إلا إذا صدّقت تلك الصور من مصادر رسمية على أنها مطابقة للأصل، وعلى القاضي المسلم أن يكون دقيقًا وحذرًا وعليه أن يستعين بأهل الخبرة الثقات حين نظره في هذه الصور، وليس في الشريعة الإِسلامية ما يمنع من الاستعانة بها (¬1). الطريق السادس: القيافة. القيافة لغة: مصدر قاف بمعنى تتبع أثره ليعرفه وهي حرفة القائف (¬2). ويقال: هو أقوف للأثر: بالغ المعرفة به ونهاية في تتبعه (¬3). قال ابن منظور: "القائف: هو الذي يتتبع الآثار ويعرفها، ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه" (¬4). ويظهر من هذا التعريف أن القيافة نوعان: معرفة الآثار، ومعرفة الشبه. وفي الاصطلاح: هي معرفة الشبه بين الولد والوالد ليلحق الولد بأبيه عند التنازع في استلحاقه أكثر من واحد وذلك من خلال معرفة أثر الأقدام. ¬

_ (¬1) طرائق الحكم (ص: 351 - 352). (¬2) المصباح (2/ 713). (¬3) المعجم الوسيط (2/ 766). (¬4) لسان العرب (9/ 293)، مادة: "قوف".

مشروعية القضاء بالقيافة

قال الجرجاني: "القائف هو الذي يعرف النسب بفراسته ونظره إلى أعضاء المولود" (¬1). مشروعية القضاء بالقيافة: الأصل في مشروعية الأخذ بالقيافة ما رواه البخاري ومسلمٌ عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم وهو مسرور فقال: "يا عائشة ألم ترى أن مجززًا المدلجي دخل فرأى أسامة وزيدًا وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض" (¬2). وحديث أنس -رضي الله عنه- قال: "قدم أناس من عكل، فاجتووا المدينة فأمر لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلقاح وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا فلما صحوا قتلوا راعي النبي - صلى الله عليه وسلم - واستاقوا النعم فجاء الخبر في أول النهار فبعث في آثارهم فلما ارتفع النهار جيء بهم فأمر فقطع أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا، وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله" رواه البخاري ومسلمٌ (¬3). فقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بتتبع آثار الأقدام في البحث عن هؤلاء الجناة حتى جيء بهم إليه. وما قيل في البصمات من لزوم الاحتياط والتثبت، يقال هنا في تتبع آثار الأقدام (¬4). ¬

_ (¬1) التعريفات (ص: 171). (¬2) صحيح البخاري، برقم (6389)، صحيح مسلم، برقم (1459). (¬3) صحيح البخاري، برقم (231)، صحيح مسلم، برقم (1671). (¬4) طرائق الحكم (ص: 349).

إثبات النسب بالقيافة

إثبات النسب بالقيافة: اختلف الفقهاء في مشروعية القضاء بالقيافة في إثبات النسب على قولين: القول الأول: إن النسب يثبت بقول القافة وبه قال المالكية والشافعية والحنابلة (¬1). القول الثاني: أن النسب لا يثبت بقول القافة وبه قال الحنفية (¬2). الأدلة: استدل الجمهور على مشروعية العمل بالقيافة بما يلي: 1 - روى البخاري ومسلمٌ عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم وهو مسرور فقال: "يا عائشة ألم ترى أن مجززًا المدلجي دخل فرأى أسامة وزيدًا وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض" (¬3). قال أبو داود: كان أسامة أسود وكان زيد أبيض (¬4). وجه الاستدلال من الحديث: أن القائف ألحق أسامة بأبيه زيد بناء على ما رآه من شبه بينهما وقد سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فدل سروره على مشروعية القيافة إذ لا يسر إلا بحق. 2 - روى البخاري عن سهل بن سعد الساعدي في قصة عويمر العجلاني وقذف امرأته إلى أن قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "انظروها فإن جاءت به أحمر قصيرًا مثل ¬

_ (¬1) الفروق (4/ 164)، تبصرة الحكام (2/ 91)، مغني المحتاج (4/ 488)، المغني (5/ 776 - 777). (¬2) بدائع الصنائع (6/ 244). (¬3) صحيح البخاري، برقم (6389)، صحيح مسلم، برقم (1459). (¬4) سنن أبي داود (2/ 280)، برقم (2267).

وحرة فلا أراه إلا قد كذب، وإن جاءت به أسحم أعين ذا إليتين فلا أحسب إلا قد صدق عليها" فجاءت به على الأمر المكروه (¬1). وجه الدلالة: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ألحق الولد بمن يشبهه وهذا هو حقيقة القيافة فدل ذلك على مشروعية العمل بها. 3 - روى البخاري ومسلمٌ عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام فقال سعد: هذا يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أنه ابنه انظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى شبهه فرأى شبهًا بينًا بعتبة فقال: "هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة" قالت: فلم ير سودة قط (¬2). وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رتب على شبه الولد بعتبة أنه ليس ابنًا لزمعة ولذلك أمر سودة بالاحتجاب منه فدل على مشروعية العمل بالقيافة. أدلة الحنفية: 1 - ما رواه البخاري ومسلمٌ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن أعرابيًا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، وإني أنكرته، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل لك من إبل؟ " قال: نعم، قال: "فما ألوانها؟ " قال: حمر، قال: "هل فيها من أورق؟ " قال: إن فيها لورقًا، قال: "فأنى ترى ذلك جاءها؟ " قال: يا رسول الله، عرق نزعها، قال: "ولعل هذا عرق نزعه" ولم يرخص له في الانتفاء منه (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (6/ 2653)، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلو في الدين والبدع، برقم (6874). (¬2) صحيح البخاري، برقم (6431)، صحيح مسلم (2/ 1080)، برقم (1457). (¬3) صحيح البخاري، برقم (6884)، صحيح مسلم (2/ 1137)، برقم (1500).

شروط العمل بالقيافة

وجه الدلالة: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبطل الاعتماد على الشبه في اللون الذي يكون بين الأصل والفرع فدل ذلك على بطلان الاعتماد على القيافة؛ لأنها تقوم على اعتبار الشبه. ونوقش هذا: بأنه يدل على اعتبار العمل بالقيافة؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ألحق الإبل بأصلها البعيد اعتمادًا على الشبه بينها وهذا هو معنى القيافة. 2 - روى البخاري ومسلمٌ عن عائشة -رضي الله عنها- أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" (¬1). وجه الدلالة: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حصر طريق ثبوت النسب في الفراش دون غيره فدل ذلك على نفي اعتبار القيافة طريقًا لثبوت النسب. وقد أجيب عنه: بأن هذا الدليل لا ينفي القيافة إلا عند وجود الفراش؛ لأن الفراش أقوى منها. الراجح: هو قول الجمهور لقوة ما استندوا إليه. شروط العمل بالقيافة: 1 - أن يوجد تنازع في ادعاء الولد كما لو ادعى اثنان نسب مولود وليست هناك بينة أو قرينة لأحدهما فيعمل بالقيافة في هذه الحالة. 2 - أن لا يكون مع أحد المتداعيين دليل أقوي من القيافة، فإن وجد مع أحدهما دليل أقوى من القيافة فإنه يعمل به ولا عبرة بالقيافة حينئذ. فلو ادعى الولد اثنان وجاء أحدهما بشهود يشهدون أنه ابنه وجاء الآخر بقافة ألحقوا الولد به، حكم القاضي لمن أقام البينة؛ لأنها أقوى من القيافة. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، برقم (6431)، صحيح مسلم (2/ 1080)، برقم (1457).

الطريق السابع: قضاء القاضي بعلمه.

3 - أن لا يكون مع أحد المتداعيين قرينة أقوي من القيافة، فإذا ادعى شخص ولدًا ولد على فراش رجل فإنه يحكم بالولد لصاحب الفراش ولا عبرة للقيافة. ومن الوسائل الحديثة كما تقدم الحمض النووي (DNA) قد تستخدم هذه التقنية عند الاختلاف في النسب كما إذا ولدت امرأتان في مستشفى واختلط الأولاد وتعذر تمييزهم فيمكن تمييزهم عن طريق الحمض النووي. الطريق السابع: قضاء القاضي بعلمه. المقصود بقضاء القاضي بعلمه أن يعتمد في حكمه على ما علمه اليقيني أو ظنه المؤكد (¬1). حكم قضاء القاضي بعلمه: أولًا: لا اختلاف بين الفقهاء أن للقاضي أن يحكم بعلمه في الجرح والتعديل (¬2). ثانيًا: لا يختلف المذاهب الأربعة في عدم، جواز قضاء القاضي بعلمه في الحدود التي هي خالصة لله تعالى كالزنا وشرب الخمر (¬3)؛ لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في المتلاعنين، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو رَجمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجمْتُ هذه" (¬4). وذلك لعلمه - صلى الله عليه وسلم - بزناها. ¬

_ (¬1) انظر: نهاية المحتاج (8/ 259)، إعانة الطالبين (4/ 235)، حاشية الجمل على شرح المنهج (5/ 349). (¬2) الاستذكار (7/ 93)، بداية المجتهد (2/ 351)، الحاوي الكبير للماوردي (16/ 321). (¬3) فتح القدير (7/ 314)، حاشية ابن عابدين (5/ 423)، بداية المجتهد (2/ 351)، الحاوي الكبير (16/ 324)، مغني الحتاج (4/ 190)، الغني لابن قدامة (10/ 101). (¬4) رواه البخاري (5/ 2036) في كتاب الطلاق، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت راجمًا بغير بينة" برقم (5004).

وأثر أبي بكر -رضي الله عنه- أنه قال: "لو رأيت رجلًا على حد من حدود الله -تعالى- ما أخذته، ولا دعوت له أحدًا حتى يكون معه غيري" (¬1). ولأن مبناها على الستر والاحتياط والدرء بالشبهات. ثالثًا: اختلفوا فيما عدا ذلك هل يقضي بعلمه على أحد دون بينة أو إقرار: القول الأول: أن القاضي لا يحكم بعلمه في حقوق الآدميين، وسواء في ذلك علمه قبل الولاية وبعدها. وهو مذهب المالكية وغير الأظهر عند الشافعية، وظاهر مذهب الحنابلة، والمفتى به عند الحنفية لفساد الزمن (¬2). واستدلوا بأدلة كثيرة أهمها ما يأتي: 1 - حديث أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما أنا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلي وَلَعَلَّ بَعْضَكُم أَنْ يَكُونَ أَلحنَ بِحُجَّتِهِ من بَعْضٍ فَأَقْضِي على نَحْوِ ما أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ له بحق أخِيهِ شيئًا فلا يَأْخُذْهُ فَإِنَّما أَقْطَعُ له قِطْعَةً من النَّارِ" (¬3). فدل الحديث على أنه إنما يقضي بما يسمع لا بما يعلم. 2 - حديث وَائِلِ بن حُجْرٍ -رضي الله عنه- قال: كنت عِنْدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَاهُ رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ في أَرْضٍ فقال أَحَدُهُمَا: إِنَّ هذا انْتَزَى على أَرْضِي يا رَسُولَ الله في الجاهِلِيَّةِ -وهو أمرؤ الْقَيْسِ بن عَابِسٍ الْكِنْدِيُّ وَخَصْمُهُ رَبِيعَةُ بن عِبْدَانَ- قال: "بَيِّنَتُكَ"، قال: ليس لي بَيِّنَةٌ، قال: "يَمِينُهُ"، قال: إِذَنْ يَذْهَبُ بها! قال: "ليس لك ¬

_ (¬1) قال ابن الملقن في البدر المنير (9/ 609): "رواه أحمد وإسنادُهُ صحيحٌ إليه". (¬2) حاشية ابن عابدين (5/ 423)، الاستذكار (7/ 94)، بداية المجتهد (2/ 352)، الحاوي الكبير (16/ 321)، المغني لابن قدامة (10/ 101)، الإنصاف للمرداوي (11/ 250). (¬3) رواه البخاري (6/ 2622) في كتاب الأحكام، باب موعظة الإِمام للخصوم برقم (6748).

إلا ذَاكَ"، قال: فلما قام لِيَحْلِفَ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من اقْتَطَعَ أَرْضًا ظَالِمًا لَقِيَ اللهَ وهو عليه غَضْبَانُ" (¬1). 3 - عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا جهم على صدقة فلاحاه رجل في فريضة فوقع بينهما شجاج فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه فأعطاهم الأرش ثم قال عليه الصلاة والسلام: "إني خاطب الناس ومخبرهم أنكم قد رضيتم أرضيتم" قالوا: نعم، فصعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر فخطب الناس وذكر القصة وقال: "أرضيتم" قالوا: لا، فهم بهم المهاجرون فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاهم ثم صعد المنبر فخطب ثم قال: "أرضيتم" قالوا: نعم، فهذا بين في أنه لم يحكم عليهم بعلمه - صلى الله عليه وسلم -. 4 - عن الضحاك قال: اختصم رجلان إلى عمر بن الخطاب ادعيا شهادته فقال لهما عمر -رضي الله عنه-: "إن شئتما شهدت ولم أقض بينكما وإن شئتما قضيت ولم أشهد" (¬2). 5 - ولأن علمه كشهادته والشهادة لا تجوز بأقل من اثنين فلو جاز للقاضي أن يحكم بعلمه لصار إثبات الحق بشهادة واحد. 6 - ولأنه لو صار القاضي كالشاهدين لصح عقد النكاح بحضوره وحده لقيامه مقام شاهدين وفي امتناع هذا دليل على منعه من الحكم بعلمه. 7 - ولأن العلة في القضاء بالبينة أو الإقرار انتفاء التهمة والحاكم إذا قضى بعلمه كان مدعيًا علم ما لم يعلم إلا من جهته فكان متهما. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1/ 124)، في كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حق المسلم بيمين فاجرة بالنار، برقم (139). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (4/ 441)، برقم (21930).

القول الثاني: يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه سواء في ذلك علمه قبل ولاية القضاء أم بعدها. وهو مذهب أبي يوسف ومحمَّد من الحنفية وهو المعتمد عندهم والأظهر عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة (¬1). واستدلوا بأدلة كثيرة أهمها ما يأتي: قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (¬2)، فدل على أنه يجوز أن يقفوا ما له به علم. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (¬3). 1 - حديث عائشة -رضي الله عنها- أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ قالت: يا رَسُولَ الله إِنَّ أَبا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي ما يَكْفِينِي وَوَلَدِي إلا ما أَخَذْتُ منه وهو لَا يَعْلَمُ؟ فقال: "خُذِي ما يَكْفِيكِ وَوَلدَكِ بِالمَعْرُوفِ" (¬4). فلم يكلفها النبي - صلى الله عليه وسلم - البينة؛ لأنه يعلم صدقها وحال زوجها. 2 - أنه إذا جاز أن يقضي بالشهادة وهي تفيد غلبة الظن، فلأن يجوز قضاؤه بعلمه الذي يفيد اليقين من باب أولى. ¬

_ (¬1) الحاوي الكبير (16/ 322)، المغني لابن قدامة (10/ 101). (¬2) سورة الإسراء: 36. (¬3) سورة النساء: 135. (¬4) رواه البخاري (5/ 2052) في كتاب النفقات، باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف، برقم (5049).

القول الثالث: أنه يجوز للقاضي أن يقضي في حقوق الآدميين بما يعلمه في زمن توليه القضاء وفي المكان الذي تسري فيه ولايته، ولا يجوز له القضاء بما يعلمه في غير زمن توليه للقضاء ولا في مكانه ولايته وهو مذهب أبي حنيفة (¬1). وعلل ذلك بأن علمه زمن توليه القضاء وفي مكان ولايته علم حاصل في حالة هو مكلف فيها بالقضاء فأشبه البينة القائمة عنده، بخلاف علمه قبل زمن توليه القضاء وخارج مكان ولايته إذ هو غير مكلف بالقضاء في هذه الحالة. الترجيح: الراجح قول الجمهور لما استندوا إليه وسدًا لباب الفساد لا سيما في الزمن الحاضر، وليس أحد من القضاة كرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهما بلغ من الورع والعدل. ¬

_ (¬1) فتح القدير (7/ 314)، حاشية ابن عابدين (5/ 423)، مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (3/ 233 - 234).

كتاب المحاماة

الفِقهُ الميَسَّر كتاب المحاماة

كتاب المحاماة المحاماة في اللغة: مصدر حامى عنه يحامي محاماةً وحِماءً إذا منع ودافع عنه، يقال: الضروس تحامي عن ولدها أي تمنع عنه، ويقال أيضًا: حمى الرجلَ يحميه حِمايةً إذا منع عنه (¬1). وفي الاصطلاح: المحاماة هي النيابة عن الخصوم في إجراءات التقاضي بالحضور والدفاع عنهم مشافهة أو كتابة بتقديم المذكرات لشرح وجهة نظرهم وتقديم ما يؤيدها من أوراق ومستندات (¬2). وعرف النظام السعودي مهنة المحاماة بأنها: الترافع عن الغير أمام المحاكم وديوان المظالم واللجان المشكلة بموجب الأنظمة والأوامر والقرارات لنظر القضايا الداخلة في اختصاصها ومزاولة الاستشارات الشرعية والنظامية (¬3). والمحامي وفق هذا النظام هو من يزاول مهنة المحاماة (¬4). والمحاماة في ظل الأنظمة الوضعية المعاصرة رسالة ذات غايات قومية وإنسانية نبيلة تستهدف الدفاع عن الحقوق الطبيعية والموضوعية للأفراد والأمة والوطن والإنسانية (¬5). ويقابلها في الفقه الإسلامي الوكالة بالخصومة، وتعرف بأنها: إنابة شخص ¬

_ (¬1) انظر: جمهرة اللغة (2/ 1052)، لسان العرب مادة: "حما" (14/ 200)، القاموس المحيط مادة: "حمى" (1/ 1648)، تاج العروس مادة: "حمي" (37/ 483). (¬2) قواعد المرافعات والقضاء في الإسلام (ص: 147). (¬3) المادة الأولى من اللائحة التنفيذية لنظام المحاماة السعودي الصادر عام 1422 هـ. (¬4) المرجع السابق. (¬5) المحاماة في ضوء الشريعة الإسلامية والقوانين العربية د. مسلم محمد جودت اليوسف (ص: 62).

مشروعيتها

لآخر ليقوم مقام نفسه أمام المحكمة المختصة (¬1)، وقيل: تفويض شخص لآخرَ ليقوم مقامه بالدعوى ابتداءً أو الجواب عنها اعتراضًا أمام المحكمة المختصة في تصرف معلوم قابل للنيابة ممّن يملكه غير مشروط بموته (¬2). مشروعيتها: لا خلاف بين الفقهاء في مشروعية الوكالة في الخصومة والأصل في ذلك الكتاب والسنة والإجماع والمعقول. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} (¬3) حيث طلب موسى إرسال أخيه هارون معه عونًا له فقد قال قتادة وغيره: ردءًا أي عونًا، وقال ابن إسحاق: أي يبين لهم ما أكلمهم فإنه يفهم عني ما لا يفهمون (¬4). وقد استجاب الله له ذلك في قوله: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} (¬5)، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءًا ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه فآتاه سؤله" (¬6). وفي ذلك دليل على مشروعية الاستعانة بالمعين في الإفصاح عن الحق وإظهار الحجة. ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) نظام المحاماة في الفقه الإِسلامي وتطبيقاته في المملكة العربية السعودية، د. محمَّد بن علي آل خريف (ص: 75). (¬3) سورة القصص: 34. (¬4) تفسير ابن أبي حاتم (9/ 29977)، تفسير عبد الرزاق (3/ 91)، تفسير ابن كثير (3/ 148). (¬5) سورة طه: 36. (¬6) تفسير ابن كثير (3/ 148).

وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} (¬1). ومن السنة: حديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلومًا أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: "تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره" رواه البخاري (¬2). فقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بنصرة المسلم وهو عام في جميع أوجه النصرة فدخلت المحاماة في هذا العموم. وعن سهل بن أبي حثمة -رضي الله عنه- قال: انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة ابن مسعود بن زيد إلى خيبر وهي يومئذ صلح فتفرقا فأتى محيصة إلى عبد الله ابن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلًا فدفنه ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن ابن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال: "كبر كبر" -وهو أحدث القوم- فسكت، فتكلما، فقال: "تحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم؟ " قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال: "فتبرئكم يهود بخمسين"، فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله النبي - صلى الله عليه وسلم - من عنده، متفق عليه (¬3). قال أبو جعفر في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كبر كبر": "يريد يلي الكلام في ذلك أكبر سنًا فتكلم حويصة ثم محيصة وكان الوارث عبد الله بن سهل دونهما فكانا وكيلين. (¬4) ¬

_ (¬1) سورة النساء: 105. (¬2) صحيح البخاري (6/ 2550)، برقم (6552). (¬3) صحيح البخاري [3/ 1158 (3002)]، وصحيح مسلم [3/ 1294 (1669)]. (¬4) مختصر اختلاف العلماء (4/ 68).

ومن الآثار: عن عبد الله بن جعفر قال: "كان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يكره الخصومة فكان إذا كانت له خصومة وكل فيها عقيل بن أبي طالب، فلما كبر عقيل وكلني" (¬1). وعن محمَّد بن إسحاق عن رجل من أهل المدينة يقال له جهم عن علي -رضي الله عنه-: "أنه وكل عبد الله بن جعفر بالخصومة فقال: إن للخصومة قحما (¬2) " (¬3). وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على جواز التوكيل في المطالبة بالحقوق والخصومة ونحوها، قال ابن المنذر: "وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن للمريض العاجز عن الخروج إلى مجلس الحكم والغائب عن المصر أن يوكل كل واحد منهما وكيلًا يطلب له حقه ويتكلم عنه" (¬4). وقال ابن هبيرة: "واتفقوا على أن الوكالة من العقود الجائزة في الجملة وأن كل ما جازت به النيابة من الحقوق جازت الوكالة فيه كالبيع والشراء والإجارة وقضاء الدين والخصومة في المطالبة بالحقوق والتزويج والطلاق وغير ذلك" (¬5). وقال السرخسي: "وقد جرى الرسم على التوكيل على أبواب القضاة من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا من غير نكير منكر ولا زجر زاجر" (¬6). ¬

_ (¬1) رواه البيهقي (6/ 81). (¬2) القحم المهالك وأصلها من التقحم؛ لأنه يتقحم المهالك. وقال ابن الأثير: هي الأمور العظيمة الشاقة واحدتها قحمة. انظر: غريب الحديث لأبي عبيد (3/ 451)، النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (4/ 19). (¬3) رواه البيهقي (6/ 81). (¬4) الإجماع (ص: 128). (¬5) الإفصاح (1/ 452). (¬6) المبسوط للسرخسي (19/ 4).

أقوال علماء العصر في واقع المحاماة

وقال الكاساني: "لا خلاف أنه يجوز التوكيل بالخصومة في إثبات الدين والعين وسائر الحقوق برضا الخصم حتى يلزم الخصم جواب التوكيل" (¬1). أما المعقول: فإن الحاجة تدعو إليها؛ إذ ليس كل أحد يهتدي إلى وجوه الخصومات التي بها يثبت حقه أو يندفع بها عنه ما يدعيه الآخر (¬2). وقد صدر نظام المحاماة في المملكة العربية السعودية بتاريخ 28/ 7 / 1422 هـ وهو يشتمل على ثلاث وأربعين مادة وهي تنظم عمل المحاماة وإجراءاتها وما لها وما عليها وقد جاء في المادة الأولى من النظام: يقصد بمهنة المحاماة في هذا النظام الترافع عن الغير أمام المحاكم وديوان المظالم واللجان المشكلة بموجب الأنظمة والأوامر والقرارات لنظر القضايا الداخلة في اختصاصاتها ومزاولة الاستشارات الشرعية والنظامية ويسمى من يزاول هذه المهنة محاميًا. أقوال علماء العصر في واقع المحاماة: اختلف العلماء المعاصرون في حكم المحاماة بواقعها المعاصر في البلاد الإِسلامية وغيرها على قولين: الأول: أنها محرمة وممن قال بذلك الشيخ أبو الأعلى المودودي والشيخ عبد الله عزام والدكتور خادم حسن وغيرهم. واستدلوا بأدلة كثيرة أقواها ما يأتي: 1 - أن المحامين لا يهمهم سوى نصرة موكلهم بما لديهم من الخبرة وقوة الحجة ولا يهمهم كونه على حق أو على باطل، وكثيرًا ما يقلب المحامي الحق باطلًا والباطل حقا. ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع (6/ 22). (¬2) انظر: الهداية شرح بداية المبتدي (3/ 136)، شرح فتح القدير (7/ 504)، المغني (5/ 53).

ويؤيد هذا أن الله نهى عن الخصومة للخائن في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} (¬1). قال القرطبي: "وفي هذا دليل على أن النيابة عن المبطل في الخصومة لا تجوز؛ فلا يجوز أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق" (¬2). 2 - أن فيها الترافع أمام الطاغوت مما يستلزم الحكم بغير الإِسلام وتبجيل القوانين الوضعية وقضاتها. 3 - أن الأجر الذي يستحقه المحامي غالبًا ما يكون مجهولًا يحيط به الغرر من كل وجه وأصول الشريعة لا تبيح صفقات الغرر. الثاني: ذهب أكثر العلماء إلى مشروعيتها واستدلوا بما تقدم من أدلة مشروعية الوكالة بالخصومة (¬3). الترجيح: الراجح هو القول الثاني بشرط أن يكون القصد إحقاق الحق وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة في الملكة العربية السعودية في فتواها رقم 3532 حيث قالت: "إذا كان في الاشتغال بالمحاماة أو القضاء إحقاق للحق وإبطال للباطل شرعا ورد الحقوق إلى أربابها ونصر للمظلوم -فهو مشروع؛ لما في ذلك ¬

_ (¬1) سورة النساء: 105 - 107. (¬2) تفسير القرطبي (5/ 377). (¬3) انظر: المحاماة في ضوء الشريعة الإِسلامية والقوانين العربية د. مسلم محمَّد جودت اليوسف (ص: 73، وما بعدها)، نظام المحاماة في الفقه الإِسلامي وتطبيقاته في المملكة العربية السعودية، د. محمَّد بن علي آل خريف (ص: 117، وما بعدها).

أركان الوكالة

من التعاون على البر والتقوى، وإلا فلا يجوز؛ لما فيه من التعاون على الإثم والعدوان، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ". ومن يقول بمنعها بناء على أسباب ذكرها فإنه يفهم منه التقاؤه مع المجيزين إذا تم إبعاد المحذور. أركان الوكالة: أركان الوكالة بالخصومة أربعة وهي: الموكل، والوكيل، والموكل فيه أو محل الوكاله، والصيغة. الركن الأول: الموكِّل وهو الخصم الذي يقوم بالتوكيل ويشترط فيه ما يأتي: 1 - أهلية التصرف: لما كان التوكيل تصرفًا شرعيًا يترتب عليه آثار معينة فيشترط فيمن يقوم به أن يتوافر فيه أهلية التصرف بأن يكون عاقلًا بالغًا، أما العقل فلا خلاف في اشتراطه فلا يصح توكيل المجنون والمعتوه ونحوهما. وأما البلوغ فقد اختلف الفقهاء في اشتراطه على أقوال: الأول: أنه شرط لصحة الوكالة فلا يصح للصبي أن يوكل غيره مطلقًا لفقدان الأهلية، وهو مذهب الشافعية وبعض المالكية. الثاني: أنه ليس شرطًا وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة ولكنهم اختلفوا من حيث التفصيل فذهب الحنفية وبعض المالكية إلى جواز توكيل الصبي المميز لغيره في التصرفات النافعة نفعًا محضًا دون إذن وليه. واشترطوا إذن وليه فيما هو دائر بين النفع والضر.

وذهب الحنابلة والمالكية في ظاهر مذهبهم إلى جواز توكيل الصبي المميز لغيره بإذن وليه. 2 - الرضا: لا خلاف بين الفقهاء في اشتراط رضا الموكل في صحة عقد الوكالة بينه وبين وكيله؛ لأن الوكالة عقد من العقود يترتب عليها آثار شرعية فلا بد من رضا المتعاقدين فيها. والأصل في اشتراط الرضا في العقود قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (¬1). رضا الخصم: اختلف الفقهاء في اشتراط رضا الخصم في صحة الوكالة ولزومها على قولين: القول الأول: أنه يشترط لصحة الوكالة ولزومها رضا الخصم إذا كان حاضرا ولم يكن معذورًا بالمرض أو السفر ونحو ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة وزفر. قال الجصاص: "في وكالة الحاضر قال أبو حنيفة وزفر: لا يجوز توكيل الحاضر بالخصومة إلا برضاء خصمه أو عذر من مرض" (¬2). وجاء في فتح القدير: "وقال أبو حنيفة -رحمه الله- لا يجوز التوكيل بالخصومة من قبل المدعي أو المدعى عليه إلا برضا الخصم إلا أن يكون الموكل مريضًا أو غائبًا مسيرة ثلاثة أيام فصاعدًا وقالا يجوز ذلك بغير رضا الخصم وهو قول الشافعي -رحمه الله-" (¬3). ¬

_ (¬1) سورة النساء: 29. (¬2) مختصر اختلاف العلماء (4/ 128). (¬3) (7/ 507). وانظر: تبيين الحقائق (4/ 255)، والبحر الرائق (7/ 143 - 144).

وعللوا ذلك بأن الجواب مستحق على الخصم ولهذا يطلب حضوره فلو قلنا بلزومه فقد يتضرر ولذا فيتوقف على رضاه كالعبد المشترك إذا كاتبه أحدهما يتخير الآخر بخلاف المريض والمسافر لأن الجواب غير مستحق عليهما هنالك (¬1). القول الثاني: أنه لا يشترط لصحة الوكالة ولزومها رضا الخصم وهو مذهب أبي يوسف ومحمَّد من الحنفية وجمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة. قال الجصاص: "وقال أبو يوسف ومحمَّد وابن أبي ليلى والشافعيُّ: يقبل من كل أحد بغير رضا الخصم" (¬2). وفي المدونة الكبرى: "قلت: أرأيت الوكالات في الخصومات كلها والموكل حاضر، أيجوز -ولم يرض خصمه بالوكالة- في قول مالك؟ قال: نعم، الوكالة جائزة وإن كره خصمه، ولكل واحد منهما أن يوكل وإن كان حاضرًا إلا أن يكون ذلك رجلًا قد عرف أذاه، وإنما أراد بذلك أذاه، فلا يكون ذلك له، كذلك قال مالك" (¬3). وقال الشافعي: "وأقبل الوكالة من الحاضر من النساء والرجال في العذر وغيره وقد كان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وكل عند عثمان عبد الله بن جعفر وعلي بن أبي طالب حاضر فقبل ذلك عثمان -رضي الله عنه- وكان يوكل قبل عبد الله بن جعفر عقيل بن أبي طالب" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: الهداية شرح بداية المبتدي (3/ 137 - 138)، البحر الرائق (7/ 144). (¬2) مختصر اختلاف العلماء (4/ 128). (¬3) المدونة الكبرى. (¬4) الأم (3/ 233).

الركن الثاني: الوكيل

وقال البهوتي: "ويصح التوكيل في كل حق آدمي من العقود؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - وكل في الشراء والنكاح وسائر العقود كالإجارة والقرض والمضاربة والإبراء في معناه ومن الفسوخ؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك أشبه البيع حاضرًا كان الموكل أو غائبًا صحيحًا كان أو مريضًا، ولو كان التوكيل في خصومة بغير رضا الخصم حتى في صلح وإقرار فيصح التوكيل فيهما كغيرهما" (¬1). ودليلهم في ذلك ما تقدم من أن علي كان يوكل في الخصومة غيره وهو حاضر من غير نكير فهو كالاتفاق منهم على جواز توكيل الحاضر من غير اشتراط الرضا. ولأن التوكيل تصرف في خالص حقه فلا يتوقف على رضا غيره كالتوكيل في تقاضى الديون (¬2). والراجح: هو قول الجمهور لما ذكروه. الركن الثاني: الوكيل وهو المحامي ويشترط فيه شروط أهمها ما يأتي: 1 - أهلية التصرف: كما هو الحال في الموكل بأن يكون عاقلًا فلا يجوز وكالة المجنون ولا الصبي لأنهما مرفوع عنهما القلم فتصرفاتهما غير معتبرة شرعًا. أما الصبي المميز فقد ذهب جمهور المالكية والحنفية والحنابلة إلى صحة توكيله إلا أن المالكية والحنابلة اشترطوا لذلك إذن وليه. وذهب الشافعية إلى عدم جواز توكيله. 2 - الرضا: فيشترط رضا الوكيل لصحة الوكالة؛ لأنها عقد من العقود كما تقدم فاشترط فيها الرضا كسائر العقود. ¬

_ (¬1) كشاف القناع (3/ 463). (¬2) الهداية شرح بداية المبتدي (3/ 137 - 138)، البحر الرائق (7/ 144).

3 - الإِسلام: يصح توكيل المسلم الذمي في التصرف له مع الكراهة عند الحنفية؛ لأنه لا يتحرز عن المحرمات وقد يقصد إيذاء المسلم (¬1). وعند المالكية لا يصح توكيله على المسلم ويصح على غير المسلم كالذمي مثله، فلا يصح توكيل الذمي على استخلاص دين على مسلم ويصح على استخلاص دين من الذمي؛ وذلك لعموم قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (¬2)؛ إذ في توكيله جعل السبيل له على المؤمن. ويجوز أن يوكل على الذمي مثله. ولأنه قد يغلظ على المسلمين إذا وُكِّل عليهم قصدًا لأذاهم فيحرم على المسلم إعانتُه على ذلك (¬3). ولأنه بالنسبة لإثبات الحقوق قد لا يعرف أحكام المعاملات الإسلامية. 4 - أن يكون عدلًا: فلا بد أن يكون المحامي عدلًا والعدالة كما تقدم هي الصلاح في الدين والمروءة. 5 - أن لا يكون عدوًا لخصم موكله: ينص المالكية على اشتراط أن لا يكون الوكيل عدوا لخصم موكله. جاء في حاشية الدسوقي: "قوله: إلا لعداوة أي بين الوكيل والخصم. . قال ابن القاسم: وللحاضر أن يوكل من يطلب شفعته أو يخاصم عنه خصمه وإن لم يرض بذلك إلا أن يوكل عليه عدوًا له فلا يجوز" (¬4). 6 - أن يكون معينًا: فلا يجوز توكيل مجهول. جاء في شرح مجلة الأحكام ¬

_ (¬1) انظر: المبسوط (12/ 216). (¬2) سورة النساء: 141. (¬3) الذخيرة (8/ 5)، جامع الأمهات (ص: 398)، مواهب الجليل (5/ 119)، حاشية الدسوقي (3/ 386). (¬4) (3/ 378).

العدلية: "كون الوكيل معلومًا شرط يعني أنه يشترط ألا يكون الوكيل مجهولًا جهالة فاحشة. فإذا كان الوكيل مجهولًا فلا تصح الوكالة" (¬1). وقال البهوتي: "ويعتبر لصحة الوكالة تعيين وكيل فلو قال وكلت أحد هذين لم تصح للجهالة، وقال في الانتصار: فلو وكل زيدًا وهو لا يعرفه لم تصح لوقوع الاشتراك في العلم فلا بد من معرفة المقصود إما بنسبة أو إشارة إليه أو نحو ذلك مما يعينه" (¬2). وعليه فيجب أن يكون المحامي معلومًا أمام القضاء قبل بداية جلسات القضية. أما جهل الخصم بالوكيل أي محامي خصمه فلا يؤثر في صحة الوكالة (¬3). 7 - أن لا يكون وكيلًا للخصمين في الدعوى نفسها: نص الشافعية على عدم جواز أن يكون الوكيل في الخصومة واحدًا عن الطرفين لما في ذلك من تناقض (¬4). وعليه فلو وكل المحامي طرفا الخصومة لم يصح التوكيل وله أن يختار أيهما شاء. وقد نص نظام المحاماة السعودي على هذا الشرط حيث نص في المادة الخامسة عشرة من لائحته التنفيذية في الفقرة الثالثة على أن على المحامي ألا يقبل الوكالة عن طرفين في قضية واحدة. 8 - أن يكون المحامي عالمًا بأحكام التقاضي وطرق إثبات الحق ودفع التهم: وذلك لأن القصد من توكيله هو إثبات حق الموكل أو دفع التهمة عنه، فإذا كان الوكيل المحامي مثل موكله لا يهتدي إلى وسائل تحقيق ذلك لم يكن في توكيله فائدة. ¬

_ (¬1) (3/ 520). (¬2) كشاف القناع (3/ 462). وانظر شرح منتهى الإرادات (2/ 185). (¬3) انظر: درر الحكام شرح مجلة الأحكام العدلية (3/ 546). (¬4) انظر: روضة الطالبين (4/ 305)، مغني المحتاج (2/ 225).

الركن الثالث: الموكل فيه

قال الإِمام النووي: "الوكيل بالخصومة من جهة المدعي يدعي ويقيم البينة ويسعى في تعديلها ويحلف ويطلب الحكم والقضاء ويفعل ما هو وسيلة إلى الإثبات، والوكيل من جهة المدعى عليه ينكر ويطعن في الشهود ويسعى في الدفع بما أمكنه" (¬1). وقد نصت المادة الثالثة من اللائحة التنفيذية لنظام المحاماة السعودي في فقرة (ب) على اشتراط أن يكون المحامي حاصلًا على شهادة كلية الشريعة أو شهادة البكالوريوس تخصص أنظمة من إحدى جامعات المملكة أو ما يعادل أي منهما خارج المملكة أو دبلوم دراسات الأنظمة من معهد الإدارة العامة بعد الحصول على الشهادة الجامعية. ونصت في الفقرة (ج) من المادة نفسها على اشتراط أن تتوافر لديه خبرة في طبيعة العمل لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات وتخفف المدة حسب مؤهلاته العلمية المتخصصة. الركن الثالث: الموكل فيه وهو محل التوكيل وموضوعه ويشترط فيه عدة شروط أهمها ما يأتي: 1 - أن يكون حق التصرف فيه ثابتًا للموكل عند التوكيل: وذلك بأن يكون مالكًا للمحل أو تكون له علاقة شرعية به تمكنه من التصرف فيه (¬2). قال ابن مفلح: "ولا يجوز التوكيل والتوكل في شيء إلا ممّن يصح تصرفه فيه؛ لأن من لا يصح تصرفه بنفسه فنائبه أولى" (¬3). وهذا مما لا خلاف فيه بين الفقهاء. ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (4/ 320). (¬2) المحاماة في ضوء الشريعة الإِسلامية والقوانين العربية د. مسلم محمَّد جودت اليوسف (ص: 151). (¬3) المبدع (4/ 356).

2 - أن يكون معلومًا: قال ابن عبد البر: "والوكالة في الخصومة جائزة من الحاضر والغائب برضى الخصم وبغير رضاه إذا كان على أمر معروف" (¬1)، فلو قال وكلتك في بيع أموالي واستيفاء ديوني ونحو ذلك صحت الوكالة دون ما لو قال: وكلتك ولا يحدد موضوع الوكالة فإن ذلك لا يجوز لما فيه من الجهالة والغرر (¬2). قال ابن قدامة: "ولا تصح الوكالة إلا في تصرف معلوم. فإن قال: وكلتك في كل شيء. أو في كل قليل وكثير. أو في كل تصرف يجوز لي. أو في كل مالي التصرف فيه لم يصح" (¬3). 3 - أن يكون قابلًا للنيابة: فلا يصح التوكيل إلا فيما تصح النيابة فيه، ومن ذلك حقوق الآدميين كالأموال والقصاص فلا خلاف بين الفقهاء في جواز التوكيل في إثباتها؛ لأنها حق للعبد يملك إثباته بنفسه فملك إثباته بغيره. قال ابن هبيرة: "واتفقوا على أن الوكالة من العقود الجائزة في الجملة وأن كل ما جازت به النيابة من الحقوق جازت الوكالة فيه كالبيع والشراء والإجارة وقضاء الدين والخصومة في المطالبة بالحقوق والتزويج والطلاق وغير ذلك" (¬4). وقال المرداوي: "قوله: "ويجوز التوكيل في حق كل آدمي من العقود، والفسوخ، والعتق، والطلاق، والرجعة". يشمل كلامه: الحوالة، والرهن، والضمان، والكفاله، والشركة، والوديعة، والمضاربة، والجعاله، والمساقاة، والإجارة، والقرض، والصلح، والهبة، والصدقة، والوصية، والإبراء، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) الكافي (1/ 394). (¬2) المحاماة في ضوء الشريعة الإِسلامية والقوانين العربية د. مسلم محمَّد جودت اليوسف (ص: 151). (¬3) المغني (5/ 55). (¬4) الإفصاح (1/ 452).

الركن الرابع: الصيغة

لا نعلم فيه خلافًا. وكذا المكاتبة، والتدبير، والإنفاق، والقسمة. والحكومة، وكذا الوكالة في الوقف: ذكره الزركشي، وابن رزين. وحكاه في الجميع إجماعًا" (¬1). وأما الحدود فقد اختلفوا في التوكيل فيها على ثلاثة أقوال: الأول: ذهب الشافعية إلى عدم جواز التوكيل في الحدود لأنها حق لله تعالى ولأنها مبنية على الدرء بالشبهات، واستثنوا القذف لما فيه من حق العبد. الثاني: ذهب المالكية والحنابلة إلى جواز التوكيل في الحدود كلها لحديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني -رضي الله عنهما- في قصة العسيف وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأنيس: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"، قال: فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت، متفق عليه (¬2)، فقد وكل - صلى الله عليه وسلم - أنيسًا في إثبات حد الزنا على المرأة وعمل بما أثبته من إقرارها في ذلك. الثالث: وذهب الحنفية إلى جوز التوكيل فيما يحتاج إلى دعوى لإقامتها من الحدود فقط دون غيرها كالسرقة والقذف لما فيها من حق العبد. وقد نص نظام المحاماة السعودي في المادة الأولى منه ونصت لائحته التنفيذية الفقرة الثالثة على أن للمحامي الدفاع عن المتهم في الجرائم الكبيرة بشرط حضوره وله الدفاع عن المتهم في الجرائم الأخرى ولو لم يحضر ما لم تأمر المحكمة بحضوره شخصيًا أمامها في أي حال كان حسب المادة 140 من نظام الإجراءات الجزائية. الركن الرابع: الصيغة: جمهور الفقهاء على أن الوكالة لا تنعقد إلا بالإيجاب والقبول؛ لأنه عقد تعلق به حق كل واحد منهما فافتقر إلى الإيجاب والقبول كالبيع ¬

_ (¬1) الإنصاف للمرداوي (5/ 356). (¬2) صحيح البخاري (6/ 2502)، برقم (6440)، صحيح مسلم (3/ 1325)، برقم (1697).

الشروط العامة للوكالة بالخصومة

والإجارة. ويصح ذلك بلفظ الوكالة وكل ما يدل عليها عرفًا كوكلتك أو فوضت إليك في كذا أو أذنت لك فيه أو بعه أو أعتقه أو كاتبه ونحو ذلك كأقمتك مقامي أو جعلتك نائبًا عني؛ لأنه لفظ دال على الإذن فصح كلفظها الصريح فلا يتشرط لانعقادها لفظ مخصوص. ويصح قبول الوكالة بكل قول أو فعل من الوكيل يدل على القبول؛ لأن وكلاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل عنهم سوى امتثال أوامره، ولأنه إذن في التصرف فجاز قبوله بالفعل كأكل الطعام (¬1). ويصح القبول على الفور والتراخي نحو أن يبلغه أن رجلًا وكله في بيع شيء منذ سنة فيبيعه أو يقول: قبلت أو يأمره بفعل شيء فيفعله بعد مدة طويلة؛ لأن قبول وكلاء النبي لوكالته كان بفعلهم وكان متراخيًا عن توكيله إياهم، ولأنه إذن في التصرف والإذن قائم ما لم يرجع فيه أشبه الإباحة فجاز القبول (¬2). الشروط العامة للوكالة بالخصومة: يشترط إلى جانب ما تقدم ذكره من الشروط في أركان الوكالة ما يأتي: 1 - أن يعلم صدق الموكل في الظاهر وأنه لا يقصد من التوكيل الإضرار بخصمه: وقد ذكر هذا الحنابلة وبعض الحنفية فلا بد أن يعلم الوكيل في الظاهر أن الموكل صادق في الخصومة ولا يقصد بتوكيله الإضرار بخصمه. قال السرخسي: "وإذا علم من الموكل القصد إلى الإضرار بالمدعي في التوكيل لا يقبل ذلك منه إلا برضا الخصم فيصير إلى دفع الضرر من الجانبين" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: مواهب الجليل (5/ 190)، المهذب (1/ 350)، المغني (5/ 55)، كشاف القناع (3/ 461). (¬2) انظر: المهذب (1/ 350)، المغني (5/ 55)، كشاف القناع (3/ 462). (¬3) المبسوط (19/ 8).

وقال المرداوي: "قال في الفنون: لا يصح ممّن علم ظلم موكله في الخصومة واقتصر عليه في الفروع. وهذا مما لا شك فيه. قال في الفروع: وظاهره يصح إذا لم يعلم ظلمه. فلو ظن ظلمه جاز. ويتوجه المنع. قلت: وهو الصواب. . وكذا قال المصنف في المغني، والشارح، في الصلح عن المنكر: يشترط أن يعلم صدق المدعي فلا تحل دعوى ما لم يعلم ثبوته" (¬1). ويؤيد هذا قوله تعالى: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} (¬2)، قال القاضي أبو يعلى: "يدل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حق أو نفيه، وهو غير عالم بحقيقة أمره، وكذا قال المصنف في المغني، والشارح، في الصلح عن المنكر: يشترط أن يعلم صدق المدعي فلا تحل دعوى ما لم يعلم ثبوته" (¬3). ولقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬4). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أعان على خصومة بظلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع" (¬5). وفي لفظ: "من أعان على خصومة بغير حق كان في سخط الله حتى ينزع" (¬6). ¬

_ (¬1) الإنصاف (5/ 394). (¬2) سورة النساء: 105. (¬3) انظر: الفروع (4/ 267)، الإنصاف (5/ 394)، شرح منتهي الإرادات (2/ 201)، كشاف القناع (3/ 483). (¬4) سورة المائدة: 2. (¬5) رواه ابن ماجه [2/ 778 (2320)]. صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه [2/ 35 (22320)]. (¬6) رواه الحاكم في المستدرك [4/ 111 (7051)]، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أعان ظالمًا بباطل ليدحض بباطله حقا فقد بريء من ذمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). وقد نصت المادة الحادية عشرة من اللائحة التنفيذية لنظام المحاماة السعودي في الفقرة الأولى على أنه يجب على المحامي ألا يتوكل عن غيره في دعوى أو نفيها وهو يعلم أن صاحبها ظالم مبطل، ولا أن يستمر فيها إذا ظهر له ذلك أثناء التقاضي. 2 - أن يسبق التوكيل بدء جلسات النظر في الخصومة أمام القضاء: حيث يشترط المالكية لصحة التوكيل في الخصومة أن يتم قبل بدء القاضي بنظر القضية ومضي ثلاث جلسات على ذلك، فإذا بدأ القاضي بنظر الخصومة ومضت ثلاث جلسات لم يحق للموكل التوكيل فيها إلا من عذر أو رضا الخصم. قال ابن عبد البر: "وإذا شرع المتخاصمان في المناظرة بين يدي الحاكم لم يكن لأحدهما أن يوكل لأنه عند مالك ضرب من اللدد إلا أن يخاف من خصمه استطالة بسبب أو نحوه فيجوز له حينئذ أن يوكل من يناظر عنه" (¬2). وفي الشرح الكبير: "لا إن قاعد الموكل خصمه عند حاكم وانعقدت المقالات بينهما كثلاث من المجالس ولو في يوم واحد؛ فليس له حينئذ أن يوكل من يخاصم عنه؛ لما فيه من الإعنات وكثرة الشر، إلا لعذر؛ من مرض أو سفر ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في المعجم الكبير [11/ 114 (11216)]، و [11/ 215 (11539)]، والمعجم الأوسط [3/ 211 (2944)]، والمعجم الصغير [1/ 147 (224)]. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 205): "رواه الطبراني في الثلاثة وفي إسناد الكبير حنش وهو متروك وزعم أبو محصن أنه شيخ صدق وفي إسناد الصغير والأوسط سعيد بن رحمة وهو ضعيف". (¬2) الكافي لابن عبد البر (1/ 394).

من آداب مهنة المحاماة

ومن العذر ما لو حلف أن لا يخاصمه لكونه شاتمه ونحو ذلك لا إن حلف لغير موجب" (¬1). وقال الخرشي: "ويجوز للشخص أن يوكل في الخصومة قبل الشروع فيها وإن كره خصمه أو القاضي ذلك؛ لأن الحق في التوكيل للموكل في حضور الخصم أو غيبته إلا أن يقاعد الموكل خصمه ثلاث مجالس ولو في يوم واحد وتنعقد المقالات بينهما فليس له أن يوكل من يخاصم عنه إلا أن يحصل للموكل عذر من مرض أو سفر ونحوهما فله حينئذ أن يوكل من يخاصم عنه وإذا ادعى إرادة سفر حلف أنه ما قصده ليوكله" (¬2). من آداب مهنة المحاماة: 1 - يجب على المحامي أن يلتزم بآداب مجلس القضاء عند المحاكمة من حيث احترام المجلس وصون لسانه عن الألفاظ الجارحة والابتعاد عن إضاعة الوقت ونحو ذلك. وقد جاء في المادة 11/ 4 من اللائحة التنفيذية لنظام المحاماة السعودي ما نصه: على المحامي أن يلتزم بالأدب أثناء الترافع فلا يظهر لددًا أو شغبًا أو إيذاءً لخصمه أو غيره في مجلس الترافع. 2 - ويتوجب على المحامي حفظ أسرار موكله؛ لأنه ائتمنه على هذه الأسرار فلا يجوز أن يخونه بإفشاء شيء منها سواء كان ذلك لصالح خصمه أو لغيره وسواء كان ذلك أثناء المحاكمة أو بعد انتهاء الخصومة وصدور الحكم فيها؛ لعموم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (¬3). ¬

_ (¬1) الشرح الكبير للدردير (3/ 378). (¬2) شرح الخرشي على مختصر خليل (6/ 69). ومثله في التاج والإكليل (5/ 185)، ومواهب الجليل (5/ 185). (¬3) سورة النساء: 58.

حكم توكيل المحامي لمحام آخر في القضية الموكل فيها

وقد نصت المادة 15 من اللائحة التنفيذية لنظام المحاماة السعودي على أنه لا يجوز للمحامي بنفسه أو بواسطة أن يقبل الوكالة عن خصم موكله أو أن يبدي له أي معونة ولو على سبيل الرأي في دعوى سبق له أن قبل الوكالة فيها أو في دعوى ذات علاقة بها ولو بعد انتهاء وكالته. كما نصت المادة 15/ 2 على أنه يسري المنع الوارد في هذه المادة على من اطلع على أوراق ومستندات أحد الخصوم ولم يقبل الوكالة وكذا تقديم الاستشارة لأحد الخصوم. بل وقد ألزمت المادة 14/ 2 المحامي الذي يعمل لموكله بصفة جزئية بموجب عقد بالامتناع عن قبول أي دعوى أو إعطاء أي استشارة ضد موكله قبل مضي ثلاث سنوات على انتهاء العقد. حكم توكيل المحامي لمحام آخر في القضية الموكل فيها: لا خلاف بين الفقهاء أن المحامي الوكيل في الخصومة لا يجوز له أن يوكل شخصًا آخر في القضية التي وكل فيها، إلا إذا أذن الموكل له بذلك؛ وذلك لأن الموكل إنما رضي بهذا الوكيل الذي وكله في خصومته وجعل ثقته وأمانته فيه فلا يجوز للوكيل أن يجعل ذلك في غيره إلا برضاه (¬1). وقد نص على ذلك نظام المحاماة السعودي في الفقرة الثانية من المادة الحادية عشرة من لائحته التنفيذية حيث جاء فيها ما نصه: على المحامي أن يباشر المهنة بنفسه، وألا يوكل عن موكله فيما وكل فيه أو بعضه إلا إذا جعل ذلك إليه صراحة في صك الوكالة .... الخ. ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة (5/ 56، 57).

أجرة المحامي

أجرة المحامي: يجوز أن تكون الوكالة في الخصومة بأجرة وبغير أجرة، أما كونه بأجرة فلأنه تصرف لغيره لا يلزمه فجاز أخذ العوض عنه كرد الآبق (¬1). قال ابن قدامة: "ويجوز التوكيل بجعل وغير جعل؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكل أنيسًا في إقامة الحد، وعروة في شراء شاة، وعمرًا وأبا رافع في قبول النكاح بغير جعل. وكان يبعث عماله لقبض الصدقات ويجعل لهم عمالة. . فإن كانت بجعل استحق الوكيل الجعل بتسليم ما وكل فيه إلى الموكل إن كان مما يمكن تسليمه كثوب ينسجه أو يقصره أو يخيطه، فمتى سلمه إلى الموكل معمولًا فله الأجر" (¬2). يجب أن تكون الأجرة معلومة المقدار قطعًا للنزاع، وإذا تم إبرامها دون تحديد الأجرة وقام الوكيل المحامي بواجبه حتى انتهت القضية فرض له أجرة المثل. قال المرداوي: "لا يصح التوكيل بجعل مجهول ولكن يصح تصرفه بالإذن ويستحق أجرة المثل" (¬3). وقال البهوتي: "ولا يصح التوكيل بجعل مجهول لفساد العوض ويصح تصرفه أي الوكيل بعموم الإذن في التصرف، وله أي الوكيل حينئذ أجرة مثله؛ لأنه عمل بعوض لم يسلم له" (¬4). ولو علق ذلك على ثبوت الحق لم يصح جاء في المدونة الكبرى: "في جعل الوكيل بالخصومة قلت: أكان مالك يكره أن يوكل الرجل بالوكالة على أن يخاصم له فإن أدرك فله جعله وإلا فلا شيء له عليه؟ قال: نعم كان يكره هذا ¬

_ (¬1) انظر: الكافي لابن قدامة (2/ 252). (¬2) المغني (5/ 55). (¬3) الإنصاف (5/ 404). (¬4) كشاف القناع (3/ 489).

انتهاء الوكالة بالخصومة

ولا يراه من الجعل الجائز. قلت: فإن عمل على هذا فأدرك أيكون له على صاحبه أجر مثله؟ قال: نعم. قال سحنون: وقد روى أكثر الرواة عن مالك أنه جائز" (¬1). وقال ابن عبد البر: "ولا يجوز أن يستأجر خصمًا على أنه إن أدرك حقه كان له ما جعل له وإن لم يدركه فلا شيء له عليه بل يجعل له جعلًا معلومًا على كل حال وإلا فيكون له أجر مثله" (¬2). انتهاء الوكالة بالخصومة: الوكالة من العقود غير اللازمة وعليه فكل من طرفي العقد إنهاؤه إلا إذا قيد هذا الحق فيجب الوفاء بذلك. قال ابن هبيرة: واتفقوا على أنه إذا عزل الموكل الوكيل وعلم بذلك انعزل (¬3). ويراعى في ذلك ما قرره الفقهاء من أن العقود الجائزة متى تضمن فسخها الضرر على أحد المتعاقدين أو غيرهما ممّن له تعلق بالعقد لم يجز ولم ينفذ إلا إذا أمكن تدارك الضرر بضمان وتعويض (¬4). ولا خلاف في أن الوكالة تنتهي بموت الموكل والوكيل؛ لفوات أحد أركانها. قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن الموكل إذا مات أن وكالته تنفسخ بموته" (¬5). واختلف الفقهاء هل العلم بالموت أو العزل شرط لانفساخ عقد الوكالة بحيث يعتبر تصرف الوكيل قبل علمه بذلك لا بعده أو لا؟ قال ابن هبيرة: واختلفوا فيما إذا عزل ولم يعلم أو مات الموكل ولم يعلم بموته الوكيل. فقال أبو ¬

_ (¬1) (11/ 462). (¬2) الكافي (1/ 394). (¬3) الإفصاح (1/ 452). (¬4) القواعد لابن رجب (ص: 110). (¬5) الإجماع (ص: 128).

حنيفة: لا ينعزل إلا بعد العلم بالعزل، وينعزل بالموت وإن لم يعلم. وقال أحمد في إحدى الروايتين: ينعزل في الحالين وإن لم يعلم اختارها الخرقي، والأخرى: لا ينعزل إلا بعد العلم في الحالين. وعن الإِمام الشافعي قولان. ولأصحاب مالك وجهان كالمذهبين (¬1). ¬

_ (¬1) الإفصاح (1/ 452).

كتاب التحكيم

الفِقهُ الميَسَّر كتاب التحكيم

مشروعية التحكيم

التحكيم التّحكيم في اللّغة: مصدر حكّمه يحكّمه إذا جعل إليه الحكم، تقول: حَكَّمَهُ في الأَمْرِ تَحْكِيمًا إذا أَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ بينهم أو أَجازَ حُكْمَه فيما بَيْنَهُم (¬1). ومن ذلك كله قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (¬2) أي يجعلونك حكمًا بينهم في خصوماتهم. وفي الاصطلاح: تولية الخصمين حاكمًا يحكم بينهما (¬3). مشروعية التحكيم: يدل على مشروعية التحكيم الكتاب والسنة والإجماع. أمّا الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} (¬4)، فقد أمر الله تعالى بتحكيم حكمين للفصل بين الزوجين عند خوف الشقاق بينهما، قال القرطبيّ: "وفي هذه الآية دليل على إثبات التحكيم" (¬5). وأمّا السُّنَّة: فما رواه البخاري ومسلمٌ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- قال: لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ على حُكْمِ سَعْد بن مُعَاذٍ، بَعَثَ (إليه) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان قَرِيبًا منه، فَجَاءَ على حِمَارٍ، فلما دَنَا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُومُوا إلى سَيِّدِكُمْ" فَجَاءَ ¬

_ (¬1) انظر: جمهرة اللغة، مادة "حكم" (1/ 564)، الحكم والمحيط الأعظم (3/ 49)، مختار الصحاح، مادة: "حكم" (ص: 62)، تاج العروس (31/ 511)، مادة: "حكم". (¬2) سورة النساء: 65. (¬3) البحر الرائق (7/ 24). (¬4) سورة النساء: 35. (¬5) تفسير القرطبي (5/ 179).

فَجَلَسَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: "إِنَّ هَؤُلَاءِ نَزَلُوا على حُكْمِكَ" قال: فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ المقَاتِلَةُ، وَأَنْ تسبي الذُّرِّيَّةُ، قال: "لقد حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الملِكِ" (¬1). وفي لفظ لمسلم: "قضيت بحكم الله". وما رواه أبو داود بسنده عن شُرَيْحٍ عن أبيه هَانِيءٍ أنَّهُ لَمَّا وَفَدَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع قَوْمِهِ، سَمِعَهُمْ يَكْنُونَهُ بأَبِي الحكَمِ، فَدَعَاهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إِنَّ الله هو الحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الحُكْمُ؛ فَلِمَ تُكْنَّى أَبَا الحكَمِ؟ " فقال: إِنَّ قَوْمِي إذا اخْتَلَفُوا في شَيْءٍ أَتوْنِي، فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ فرَضِيَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أَحْسَنَ هذا" (¬2). ووجه ذلك تحسينه - صلى الله عليه وسلم - تحكيم قوم شريح وإقراره ذلك. وقد ثبت التحكيم من أفعال الصحابة -رضي الله عنهم - وأقوالهم ومن ذلك ما رواه الشعبي قال: "كان بين عمر وأُبي بن كعب -رضي الله عنهما- خصومة فجعلا بينهما زيد بن ثابت فأتياه فضربا الباب فخرج إليهما فقال: ألا أرسلت إلي يا أمير المؤمنين؟ فقال: في بيته يؤتى الحكم، فدخلا فقال: في الرحب والسعة وألقى له وسادة، فقال: هذا أول جورك، فتكلما فقال لأُبي: بينتك وإن رأيت أن تعفي أمير المؤمنين من اليمين فافعل، فقال أُبي: نعفيه ونصدقه، فقال عمر -رضي الله عنه-: أيقضى علي باليمين ثم لا أحلف فحلف فلما وجبت له الأرض وهبها لأُبي" وفي لفظ: "فحلف عمر -رضي الله عنه- ثم أقسم: لا يدرك زيد بن ثابت القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء" (¬3). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في أقسام القضاء. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) أخرجه ابن شبة في أخبار المدينة [1/ 400 (1268)]، والبيهقيُّ في السنن الكبرى (10/ 136، 145، 144)، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق (19/ 318). وقال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (4/ 18): رواه الْبَيْهَقِيُّ من حديث عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، وسكت عليه.

منزلة التحكيم من القضاء

وعن ابن أبي مليكة "أن عثمان ابتاع من طلحة بن عبيد الله أرضًا بالمدينة ناقله بأرض له بالكوفة فلما تباينا ندم عثمان ثم قال: "بايعتك ما لم أره، فقال طلحة: إنما النظر لي إنما ابتعتُ مغيبًا وأما أنت فقد رأيت ما ابتعتَ، فجعلا بينهما حكمًا فحكما جبير بن مطعم فقضى على عثمان أن البيع جائز وأن النظر لطلحة أنه ابتاع مغيبًا" (¬1). وأما الإجماع: فقد حكاه النووي قال: وقد أجمع العلماء على التحكيم ولم يخالف فيه إلا الخوارج فإنهم أنكروا على علي -رضي الله عنه- التحكيم وأقام الحجة عليهم (¬2). منزلة التحكيم من القضاء: التحكيم شعبة من القضاء إلا أنه أحط رتبة منه، وولايته مستفادة من طرفي الخصومة ولهذا كان نطاقه أضيق من نطاق القضاء، إذ هو قاصر على الأموال. قال ابن الهمام الحنفي: "هذا أيضًا من فروع القضاء، والمحكم أحط رتبة من القاضي فإن القاضي يقضي فيما لا يقضي فيه الحكم" (¬3). وقال ابن فرحون المالكي: "وأما ولاية التحكيم بين الخصمين فهي ولاية مستفادة من آحاد الناس، وهي شعبة من القضاء متعلقة بالأموال دون الحدود، واللعان والقصاص" (¬4). وقد تقدم ذكر الفروق بين قضاء التحكيم والقضاء العادي. ¬

_ (¬1) رواه البيهقي (5/ 268)، وقال: وروي في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح. وذكره الحافظ في التلخيص (4/ 186)، وسكت عليه. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم (12/ 92). (¬3) شرح فتح القدير (7/ 315). (¬4) تبصرة الحكام (1/ 32)، وانظر: معين الحكام للطرابلسي (1/ 28).

أركان التحكيم

وقد صدر نظام التحكيم في المملكة العربية السعودية بتاريخ 12/ 7 / 1403 هـ وهو يشتمل على خمس وعشرين مادة تبين التحكيم وشروطه والإجراءات التي تتبع في تنفيذه. أركان التحكيم: أركان التحكيم أربعة وهي كما يأتي: الركن الأول المحكِّمان: وهما طرفا النزاع وقد يكون الطرفان شخصين اثنين وقد يكونان أكثر من ذلك. ويشترط فيهما أهلية التعاقد بأن يكونا مكلفين؛ لأن التحكيم نوع من العقود فلا يجوز التحكيم من مجنون ولا صغير ولا محجور عليه ونحوهم (¬1). وقد نصت المادة (2) من نظام التحكيم السعودي لعام 1403 هـ على أنه لا يصح الاتفاق على التحكيم إلا ممّن له أهلية التصرف. ونصت مادة (2) من لائحته التنفيذية على أنه: لا يصلح الاتفاق على التحكيم إلا ممّن له أهلية التصرف الكاملة، ولا يجوز للوصي على القاصر أو الولي المقام أو ناظر الوقف اللجوء إلى التحكيم ما لم يكن مأذونًا له بذلك من المحكمة المختصة. ويشترط رضاهما بالتحكيم؛ لأنه كما تقدم عقد من العقود فاشترط فيه الرضا كالبيع، وقد نصت المادة الأولى من نظام التحكيم السعودي لعام 1403 هـ على أنه يجوز الاتفاق على التحكيم في نزاع معين قائم، كما يجوز الاتفاق مسبقًا على التحكيم في أي نزاع يقوم نتيجة لتنفيذ عقد معين. ونصت المادة (6) من لائحته التنفيذية على أنه: يتم تعيين المحكم أو المحكمين باتفاق المحتكمين في وثيقة تحكيم يحدد فيها موضوع النزاع تحديدًا كافيًا، وأسماء المحكمين، ويجوز الاتفاق على التحكيم ¬

_ (¬1) انظر: البحر الرائق (7/ 24)، حاشية ابن عابدين (5/ 430)، مغني المحتاج (4/ 379).

الركن الثاني المحكم

بمقتضى شرط في عقد بشأن المنازعات التي تنشأ عن تنفيذ هذا العقد. الركن الثاني المحكَّم: وهو الذي يفصل الخصومة في القضية المتنازع عليها. ويشترط فيه ما يأتي: 1 - الأهلية لولاية القضاء: وذلك بأن تتوافر فيه شروط القاضي في الجملة على نحو ما تقدم بيانها وإن اختلفت المذاهب في بعض ذلك من حيث التفصيل. جاء في البحر الرائق: "ويشترط في المحكَّم بالفتح صلاحيته للقضاء بكونه أهلًا للشهادة فلو حكما عبدًا أو صبيًا أو ذميًا أو محدودًا في قذف لم يصح وتشترط الأهلية وقته ووقت الحكم جميعًا" (¬1). وقال ابن فرحون: "قال اللخمي: إنما يجوز التحكيم إذا كان المحكم عدلًا من أهل الاجتهاد أو عاميًا واسترشد العلماء، فإن حكم ولم يسترشد رد وإن وافق قول قائل؛ لأن ذلك تخاطر منهما وغرر. وقال المازري: لا يحكم إلا من يصح أن يولي القضاء" (¬2). وقال النووي: "ولو حكم خصمان رجلًا في غير حد الله تعالى جاز مطلقًا بشرط أهلية القضاء" (¬3). قال الخطيب الشربيني: "واحترز بقوله بشرط أهلية القضاء عما إذا كان غير أهل فلا ينفذ حكمه قطعًا، والمراد بالأهلية الأهلية المطلقة لا بالنسبة إلى تلك الواقعة، ولهذا قال في المحرر: ويشترط فيه صفة القاضي" (¬4). وقال ابن قدامة: "إذا تحاكم رجلان إلى رجل حكماه بينهما ورضياه وكان ¬

_ (¬1) البحر الرائق (7/ 24). (¬2) تبصرة الحكام (1/ 63)، ومثله في مواهب الجليل (6/ 112). وانظر: الذخيرة للقرافي (10/ 38). (¬3) منهاج الطالبين (ص: 148). (¬4) مغني المحتاج (4/ 378).

ممّن يصلح للقضاء فحكم بينهما جاز ذلك ونفذ حكمه عليهما" (¬1). ونصت المادة (4) من نظام التحكيم السعودي على ما نصه: يشترط في المحكم أن يكون من ذوي الخبرة، حسن السيرة والسلوك، كامل الأهلية. ونصت المادة (4) من لائحتها التنفيذية على أنه: لا يجوز أن يكون محكمًا من كانت له مصلحة في النزاع ومن حكم عليه بحد أو تعزير في جرم مخل بالشرف أو صدر بحقه قرار تأديبي بالفصل من وظيفة عامة أو حكم بشهر إفلاسه ما لم يكن قد رد إليه اعتباره. 2 - أن يكون معلومًا: فلا يجوز تحكيم المجهول كما لو قال الطرفان: حكمنا أول شخص يصادفنا في الطريق أو أول من يدخل المسجد أو البيت ونحو ذلك إلا إذا حصل منهما الرضا به بعد معرفته وحصول العلم به؛ إذ يصير بذلك تحكيمًا جديدًا للمعلوم. ولا يشترط أن يكون المحكم شخصًا يعرفه الطرفان أو من معارفهما فلو عين المتخاصمان شخصًا لا يعرفانه حكما فهو جائز إذا توافر فيه الشروط الأخرى (¬2). وقد نصت المادة (6) من اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم السعودي على أنه: يتم تعيين المحكم أو المحكمين باتفاق المحتكمين في وثيقة تحكيم يحدد فيها موضوع النزاع تحديدًا كافيًا، وأسماء المحكمين. ويجوز أن يكون المحكمون جماعة فإن كانوا كذلك فقد نصت المادة (16) من نظام التحكيم على أن حكمهم في القضية يجب أن يصدر بأغلبية الآراء، وإذا كانوا مفوضين بالصلح وجب صدور الحكم بالإجماع. ¬

_ (¬1) المغني (10/ 137). وانظر الإنصاف (11/ 197). (¬2) انظر: البحر الرائق (4/ 7 / 26)، شرح مجلة الأحكام العدلية لعلي حيدر (4/ 696).

الركن الثالث المحكم فيه

الركن الثالث المحكَّم فيه: وهي القضية المتنازع عليها، ويشترط فيها أمران: 1 - أن تكون محددة ومعلومة فلا يجوز التحكيم في قضية مجهولة. وقد نصت المادة (6) من نظام التحكيم السعودي على أنه يحدد في وثيقة التحكيم موضوع النزاع تحديدًا كافيًا. 2 - وأن تكون مما يجوز التحكيم فيها. وقد اختلف الفقهاء فيما يجوز التحكيم فيه مما لا يجوز على قولين: القول الأول: أن التحكيم يجوز في كل ما يتحاكم فيه الخصمان دون استثناء في المال والقصاص والحد والنكاح واللعان وغيرها قياسًا على قاضي الإِمام، وهو مذهب الحنابلة (¬1). القول الثاني: أن التحكيم يجوز في بعض الحقوق دون بعض وهو مذهب الجمهور واختلفوا في تحديد ذلك: 1 - فذهب الحنفية إلى أن التحكيم يجوز في سائر المجتهدات غير الحدود والقصاص، أما الحدود فلأنه من اختصاص الوالي العام وليس لهما ولاية على سائر الناس، ولأنها تدرأ بالشبهات، وأما القصاص وحد القذف؛ فلأن حكم المحكم بمنزلة الصلح ولا يجوز استيفاء القصاص وحد القذف بالصلح، ولأنهما يدرآن بالشبهات وفي حكمه شبهة؛ لأنه حكم في حقهما لا في حق غيرهما وأي شبهة أعظم من هذا (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: المغني لابن قدامة (10/ 137)، الكافي للمؤلف نفسه (4/ 436)، الإنصاف (11/ 197). (¬2) انظر: بدائع الصنائع (7/ 3)، شرح فتح القدير (7/ 318)، البحر الرائق (7/ 27)، الفتاوى الهندية (3/ 397).

2 - وذهب المالكية إلى أنه يجوز فيما يصح لأحدهما ترك حقه فيه كالأموال وما في معناها، ولا يجوز فيما يتعلق به حق لغير المتخاصمين وهي سبعة أمور: الحدود، واللعان، والقتل، والولاء لشخص على آخر، والنسب، والطلاق، والعتق، فلا يجوز التحكيم في واحد من هذه السبعة؛ لأنه يتعلق بها حق لغير الخصمين إما لله تعالى وإما لآدمي كما في اللعان والولاء والنسب لما في ذلك من قطع النسب، وفي الطلاق والعتق حق لله تعالى؛ إذ لا يجوز بقاء المطلقة البائن في العصمة ولا رد العبد في الرق، وأما الحد والقتل فالحق فيهما لله تعالى؛ لأن الحدود زواجر وهي حق لله (¬1). 3 - وذهب الشافعية في الصحيح من مذهبهم إلى جوازه في جميع الحقوق غير حدود الله تعالى وتعزيراته؛ لأنه ليس لها طالب معين (¬2). 4 - وذهب بعض الحنابلة إلى أنه يجوز في الأموال خاصة وما في حكمها ولا يجوز في أربعة أشياء النكاح واللعان والقذف والقصاص؛ لأنها مبنية على الاحتياط فيعتبر للحكم فيها قاضي الإِمام كالحدود (¬3). الراجح: أن التحكيم لا يجوز إلا في نطاق ضيق حرصًا على استقرار أحكام الناس في لجوئهم إلى القضاء العام، فلا يجوز إلا في الأموال وما في معناها مما للخصمين إسقاط الحق فيه؛ لأن غير ذلك يتعلق به عادة حق لطرف آخر غيرهما وهو إما آدمي أو الله تعالى ومبنى ذلك الاحتياط. ¬

_ (¬1) انظر: التاج والإكليل (8/ 360)، تبصرة الحكام (1/ 63)، الشرح الكبير (4/ 136)، شرح الخرشي على مختصر خليل (7/ 145)، منح الجليل (8/ 284). (¬2) روضة الطالبين (11/ 121)، مغني المحتاج (3/ 378)، نهاية المحتاج (8/ 242). (¬3) انظر: المغني لابن قدامة (10/ 137)، الكافي للمؤلف نفسه (4/ 436)، الإنصاف (9/ 241)، كشاف القناع (6/ 309).

الركن الرابع الصيغة

وقد نصت المادة (2) من نظام التحكيم السعودي والمادة (1) من لائحتها التنفيذية على أنه: لا يجوز التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح كالحدود واللعان بين الزوجين وكل ما هو متعلق بالنظام العام. الركن الرابع الصيغة: لا يشترط في التحكيم التقيد بلفظ التحكيم وما اشتق منه، بل يجوز التحكيم بكل لفظ دال عليه كأن يقولا له: احكم بيننا أو افصل بيننا جعلناك حكمًا أو قاضيًا أو الفاصل بيننا أو حكمناك في كذا ونحو ذلك فيقبل المحكم ذلك (¬1). الشروط العامة للتحكيم: يشترط في التحكيم ما يأتي: 1 - أن يقوم نزاع بين طرفين: فلو لم يكن هناك نزاع لم ينعقد التحكيم. فلو قال شخصان إذا اختلفنا فأنت الحكم بيننا ونحو ذلك لم ينعقد التحكيم حتى يقع النزاع فيحكمانه من جديد. 2 - رضا الطرفين على قبول الحكم؛ لأن الحق لهما وهذا في غير من يحكمه القاضي بين الطرفين أما ما يحكمه فلا يشترط رضاهما به لأنه نائب عنه فيقوم مقامه. وهل يشترط تقدم الرضا؟ لا يشترط عند الحنفية فلو رضيا بحكم المحكم بعد صدوره جاز، وعند الشافعية لا بد من تقدم الرضا به قبل حكمه؛ لأن رضا الخصمين هو المثبت ¬

_ (¬1) البحر الرائق (7/ 24)، رد المحتار (5/ 428).

للولاية فلا بد من تقدمه (¬1). وهل يشترط استمرار الرضا حتى صدور الحكم؟ اختلف الفقهاء في ذلك: 1 - فذهب الحنفية والشافعية وبعض المالكية إلى اشتراط ذلك فيجوز عندهم لكل من طرفي التحكيم الرجوع عن التحكيم قبل صدور الحكم لا بعده؛ لأنه مقلد من جهتهما فلهما عزله قبل أن يحكم كالقاضي المقلد من قبل الإِمام فله عزله قبل حكمه للناس، فإن رجعا عنه أو رجع أحدهما قبل صدور الحكم ولو بعد إقامة البينة والشروع فيه بطل التحكيم وانعزل المحكم، أما إن رجعا بعد صدوره أو رجع أحدهما فإن الحكم ماض ولا يبطل لأنه صدر مستوفيًا شروطه كحكم القاضي (¬2). 2 - وذهب المالكية في الراجح عندهم: إلى عدم اشتراط دوامه فليس لأحدهما الرجوع بعد بدء الخصومة أمام الحكم (¬3). بل وذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك فقال بعدم جواز الرجوع لأحدهما بعد التحكيم ولو قبل بدء الخصومة أمام المحكم (¬4). 3 - وذهب الحنابلة والشافعية في وجه إلى أن لكل من المحكمين الرجوع قبل الشروع في الحكم؛ لأنه لا يلزم حكمه إلا برضا الخصمين أشبه رجوع الموكل ¬

_ (¬1) فتح القدير (5/ 502)، البحر الرائق (7/ 25)، مغني المحتاج (3/ 378). (¬2) انظر: بدائع الصنائع (7/ 3)، شرح فتح القدير (7/ 317)، تبيين الحقائق (4/ 193)، البحر الرائق (7/ 26)، تبصرة الحكام (1/ 43)، الحاوي الكبير (16/ 325)، مغني المحتاج (3/ 378). (¬3) انظر: تبصرة الحكام (1/ 43)، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (4/ 121)، منح الجليل (8/ 301). (¬4) انظر: تبصرة الحكام (1/ 43).

لزوم الحكم ونفاذه

عن التوكيل قبل التصرف فيما وكل فيه، أما بعده وقبل تمامه ففيه وجهان أحدهما: له ذلك؛ لأن الحكم لم يتم أشبه ما قبل الشروع. والثاني: ليس له ذلك كرجوع الموكل بعد صدور ما وكل فيه من وكيله. ولأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما إذا رأى من الحكم ما لا يوافقه رجع فبطل المقصود به، قال المرداوي وهو الصواب (¬1). 3 - رضا الحَكَم وقبوله التحكيم: فيشترط أن يقبل الحكم التحكيم في القضية المتنازع عليها فلو رفضه فلا يصح حكمه فيها حتى يجدد تحكيمه فيقبل (¬2). 4 - أن لا يعلق التحكيم على شرط أو يضاف إلى وقت في المستقبل: وهذا على قول عند الحنفية وهو المفتى به عندهم. فلو قال المتخاصمان إذا جاء الشهر الفلاني فاحكم بيننا أو إذا جاء الغد فاحكم بيننا فلا يصح (¬3). لزوم الحكم ونفاذه: إذا صدر حكم المحكم مستوفيًا شروطه كان نافذًا ورفع الخلاف بين الخصوم ولم يتوقف على رضاهما؛ لأن الحكم صدر عن ولاية شرعية صحيحة عليهما كالقاضي المولى من الإِمام، ولأنه لا يكون دون الصلح وبعد أن يتم الصلح ليس لواحد أن يرجع (¬4). ¬

_ (¬1) المغني (10/ 137)، الإنصاف (11/ 199)، كشاف القناع (6/ 309)، الحاوي الكبير للماوردي (16/ 326). (¬2) شرح مجلة الأحكام العدلية لعلي حيدر (4/ 696). (¬3) شرح مجلة الأحكام العدلية لعلي حيدر (4/ 696). (¬4) بدائع الصنائع (7/ 3)، شرح فتح القدير (7/ 317)، فتح العلي مالك (2/ 45)، الحاوي الكبير (16/ 326).

قال الزيلعيُّ: "فإن حكم لزمهما؛ لأن حكمه صدر عن ولاية شرعية عليهما كالقاضي إذا حكم لزم" (¬1). وقال ابن فرحون: "إذا حكم المحكم فليس لأحد أن ينقض حكمه، وإن خالف مذهبه إلا أن يكون جورًا بيِّنًا لم يختلف فيه أهل العلم" (¬2). وقال الخطيب الشربيني: "ولا يشترط الرضا بعد الحكم في الأظهر كحكم المولى من جهة الإِمام". وقال ابن قدامة: "إذا تحاكم رجلان إلى رجل حكماه بينهما ورضياه وكان ممّن يصلح للقضاء فحكم بينهما جاز ذلك ونفذ حكمه عليهما" (¬3). والراجح: نرى أن حكم المحكم ملزم، وإلا لم تكن هناك فائدة من التحكيم وهو مذهب الجمهور، على أن لزوم الحكم قاصر على الخصوم ولا يتعداهم إلى من سواهم. وله أن يشهد على ما ثبت من الحق عنده في المجلس قبل التفرق؛ إذ لا يقبل قوله بعد الافتراق كالقاضي بعد العزل (¬4). وقد أخذ بلزوم حكم المحكم نظام التحكيم السعودي لعام 1403 هـ حيث نص في المادة (20) منها على ما نصه: يكون حكم المحكمين واجب التنفيذ عندما يصبح نهائيًا. واشترط في المادة (17) أن تشتمل وثيقة الحكم بوجه خاص على وثيقة التحكيم وعلى ملخص أقوال الخصوم ومستنداتهم وأسباب الحكم ومنطوقه وتاريخ صدوره وتوقيعات المحكمين وإذا رفض واحد منهم أو أكثر التوقيع على الحكم أثبت ذلك في وثيقة الحكم. ¬

_ (¬1) تبيين الحقائق (4/ 193). (¬2) تبصرة الحكام (1/ 63). (¬3) المغني (10/ 137). (¬4) مغني المحتاج (4/ 378).

تنفيذ الحكم

تنفيذ الحكم: أما تنفيذ الحكم الصادر من المحكم في القضية فليس أمره إليه؛ إذ مهمته أن يصدر الحكم في القضية محل التحكيم فقط (¬1). وقد نص نظام التحكيم السعودي على ذلك في المادة (20) حيث جاء فيه: يكون حكم المحكمين واجب التنفيذ عندما يصبح نهائيًا. وذلك بأمر من الجهة المختصة أصلًا بنظر النزاع ويصدر هذا الأمر بناء على طلب أحد ذوي الشأن بعد التثبت من عدم وجود ما يمنع من تنفيذه شرعًا. الاعتراض على حكم المحكم: من حق أحد الخصمين إن كان له اعتراض أن يقدمه للقضاء للفصل في ذلك. وقد أثبت نظام التحكيم السعودي له هذا الحق في المادة (19) حيث نصت على أنه: إذا قدم الخصوم أو أحدهم اعتراضًا على حكم المحكمين خلال المدة المنصوص عليها في المادة السابقة تنظر الجهة المختصة أصلًا بنظر النزاع في الاعتراض وتقرر إما رفضه وتصدر الأمر بتنفيذ الحكم أو قبول الاعتراض وتفصل فيه. نقص الحكم: أولًا: إذا رفع إلى قاض حكم المحكم فوافق رأيه أمضاه ولا فائدة من نقضه ثم إبرامه من جديد، وعليه فلو رفع إلى قاض آخر الحكم لم يجز له نقضه لأن إمضاء القاضي الأول بمنزلة الحكم فيه ابتداء (¬2). واختلفوا فيما إذا خالف الحكم رأي القاضي هل يجوز له نقضه أو لا؟ ¬

_ (¬1) تبيين الحقائق (4/ 193). (¬2) تبيين الحقائق (4/ 193 - 194).

1 - ذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن حكم المحكم لا ينقض إلا بما ينقض به حكم القاضي صاحب الولاية الخاصة؛ لأنه حكم صحيح لازم فلم يجز فسخه لمخالفته رأيه كحكم من له ولاية (¬1). قال ابن فرحون: "إذا حكم المحكم فليس لأحد أن ينقض حكمه وإن خالف مذهبه إلا أن يكون جورًا بيِّنًا لم يختلف فيه أهل العلم" (¬2). وقال النووي: "وإذا رفع حكم المحكم إلى القاضي لم ينقضه إلا بما ينقض قضاء غيره" (¬3). وقال ابن قدامة: "إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز نقض حكمه فيما لا ينقض به حكم من له ولاية" (¬4). 2 - وقال الحنفية: إذا رفع إلى القاضي وكان رأيه يخالف ذلك فله نقضه (¬5)؛ لأن حكم المحكَّم لا يلزم القاضي لعدم التحكيم منه؛ إذ هو باصطلاح الخصمين فلا يكون له ولاية على غيرهما فلا يلزمه حكمه بمنزلة اصطلاحهما في المجتهدات حيث له نقض ذلك إذا رأى خلافه. وهذا بخلاف حكم القاضي المعين من قبل السلطان لعموم ولايته لأنه نائب عنه فكان قضاؤه حجة على الكل فلا يجوز لقاض آخر نقضه وإن خالف مذهبه إلا إذا خالف الكتاب أو السنة أو الإجماع. ولعل الرأي الأول هو الراجح؛ لأن الحكم إذا صدر باجتهاد مستوفيًا ¬

_ (¬1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (4/ 136)، روضة الطالبين (11/ 123)، مغني المحتاج (4/ 279)، المغني (10/ 137). (¬2) تبصرة الحكام (1/ 50)، مواهب الجليل (6/ 112). (¬3) روضة الطالبين (11/ 123). وراجع مغني المحتاج (4/ 378). (¬4) المغني (10/ 137). (¬5) انظر: بدائع (7/ 3)، العناية شرح بداية المبتدي (10/ 296)، تبيين الحقائق (4/ 193 - 194).

أتعاب المحكمين

شروطه لم يجز نقضه باجتهاد مثله. أتعاب المحكمين: لا خلاف بين الفقهاء أن المحكم له أخذ الأجر على التحكيم؛ قياسًا على عمل القاضي لا سيما وأن الخصومة قد تستمر لفترة طويلة قبل التوصل إلى صدور الحكم فيها. فإذا تم الاتفاق بين الأطراف المعنية في القضية على الأجر وإلا فيصار إلى أجر المثل. وقد نصت المادة (22) من نظام التحكيم السعودي على أن تحديد أتعاب المحكمين يتم باتفاق الخصوم ويودع ما لم يدفع منها لهم خلال خمسة أيام من صدور القرار باعتماد وثيقة التحكيم لدى الجهة المختصة أصلًا بنظر النزاع ويصرف خلال أسبوع من تاريخ صدور الأمر بتنفيذ الحكم. ونصت المادة (23) على أنه: إذا لم يوجد اتفاق حول أتعاب المحكمين وقام نزاع بشأنها تفصل فيه الجهة المختصة أصلًا بنظر النزاع ويكون حكمها في ذلك نهائيًا. عزل المحكم: ينعزل المحكم في الحالات الآتية: 1 - إذا اختل شرط من شروط أهلية المحكم للقضاء قبل الحكم. 2 - عزل الخصمين له قبل صدور حكمه كما تقدم. أما موت أحد طرفي الخصومة فلا يترتب عليه عزل المحكم كما نصت عليه المادة (13) حيث جاء فيها: لا ينقضي التحكيم بموت أحد الخصوم وإنما يمد الميعاد المحدد للحكم ثلاثين يومًا ما لم يقرر المحكمون تمديد المدة بأكثر من ذلك. تم بحمد الله وتوفيقه، وصلى الله على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

قسم النوازل

الفِقهُ الميَسَّر النَّوازل في العبادات الطَّهارة - المسَاجد - الصَّلاة - الجنَائز - الزَّكاة - الصِّيام - الحجّ مَوسُوعة فقهيَّة حَديثَة تتناوَل أحكام الفقه الإسلامي بأسُلوب وَاضح للمختصّين وغيرهم تَأليف أ. د/عَبد الله بن محمد الطيّار أستَاذ الدراسات العليا بكليَّة الشَّريعة والدِّراسات الإسلامية بجامعة القصيم أ. د/عبد الله بن محمّد المطلق عضو هَيئة كبار العُلَماء، وعضو اللجنة الدَّائمة للإفتاء د/محمَّد بن إبراهيم الموسَى عضو مجلس الشورى سابقًا والمجلس الأعلى للأوقاف الجزء التَّاسع مدار الوطن للنشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

النوازل في العبادات

الفِقهُ الميَسَّر النَّوازل في العِبَادات الطَّهارة - المسَاجد - الصَّلاة - الجنَائز - الزَّكاة - الصِّيام - الحجّ

حقُوق الطَّبع محفُوظَة الطَّبعَة الثانيَة 1433 هـ - 2012 م مَدَارُ الوَطن للنَّشر المملكة العربية السعودية - المقر الرئيسي: الرياض - الملز ص. ب: 245760 - الرمز البريدي 11312 - هاتف 4792042 (5 خطوط) - فاكس 4723941 البريد الإلكتروني: [email protected] موقعنا على الإنترنت: www.madaralwatan.com الرياض: 0503269316 الغربية: 0504143198 الشرقية: 0503193268 الشمالية والقصيم: 0504130728 التوزيع الخيري للشرقية والجنوبية: 0503193269 التوزيع الخيري لباقي جهات المملكة: 0506436804 التسويق للجهات الحكومية: 0500996987 مبيعات المكتبات الخارجية: 0503193269

المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد: فقد جاءت شريعة الإِسلام كاملة وافية شاملة لجميع مناحي الحياة، وقد اشتملت على قواعد ومبادئ عامة تتصف بالعدالة والمرونة، وهذا يجعلها تفي بمتطلَّبات البشر في كل عصر ومصر. وكل من يتفيَّأ ظلال الإِسلام ويَدين بدينه يجد الراحة والطمأنينة، بل إن من لا يدينون بدين الإِسلام يجدون في الإِسلام كل ما يحتاجون فلا يُظلَمون ولا يُعتَدى عليهم، بل حقوقهم مضمونة يكفلها لهم الإِسلام ما داموا قائمين بما اتفقوا عليه مع المسلمين. وقد بذل الفقهاء جهودًا مباركة لاستيعاب المسائل التي جرت في عصرهم، فبينوا أحكامها حسب ما ظهر لهم. والحياة متجددة ويتجدد معها من القضايا والمسائل والنوازل ما يتطلب أحكامًا، وهذه مسؤولية أهل العلم في كل عصر. وقد كان من توفيق الله لنا أن أتممنا الموسوعة الفقهية، وهي (الفقه الميسر)، وألحَّ علينا الكثيرون أن نتبعها، بنفس الأسلوب، ببيان لحكم بعض النوازل الفقهية والقضايا المعاصرة التي جدَّت في الساحة العلمية، وبعد تفكير ومشاورة عقدنا العزم على إخراج أجزاء متممة تحمل اسم النوازل.

وهذا هو القسم الخاص بالعبادات نضعه بين أيدي القرَّاء، وقد حرصنا على ذكر آراء المجامع الفقهية ولجان الفتوى، ومتى ظهر لنا ترجيح في تلك المسائل أبديناه، وقد يكون لغيرنا رأي يخالفه، ولا حرج في ذلك؛ فكل ينتهي إلى ما يراه، لا سيما في هذه القضايا المتجددة التي يحتاج الحكم عليها إلى النظر لها من زوايا مختلفة. ولنا رجاء من كل من يطلع على هذه الموسوعة، أن يوافينا بما يراه من مسائل إضافية أو ملحوظات أو اقتراحات؛ فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه. نسأل الله أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. المؤلفون

أولا: نوازل الطهارة، وما يتعلق بها

أولًا: نوازل الطهارة، وما يتعلق بها استعمال مياه الصرف الصحي: لقد أصبحت مياه المجاري في الوقت الحاضر تعالج عبر عمليات كيميائية عن طريق أجهزة متقدمة، وقد ذكر أهل الاختصاص أنها تمر بأربع مراحل؛ بالتنقية، ثم التهوية، وقتل الجراثيم، والتعقيم، هذه هي المراحل التي تمر بها مياه المجاري لتنقيتها. وباستخدام هذه المراحل لا يبقى للنجاسة أي أثر من جهة اللون، ولا من جهة الطعم، ولا من جهة الرائحة، فهل نقول: إن هذه المياه بعد هذه المعالجة أصبحت طاهرة يجوز التطهر بها؟ بناء على ما ذكره أهل العلم من أن الماء الكثير المتغير بنجاسة يطهر إذا زال تغيره بنفسه أو بإضافة ماء طهور إليه، أو زال تغيره بطول مُكْثٍ، أو تأثير الشمس ومرور الرياح عليه أو نحو ذلك؛ لزوال الحكم بزوال علته. وحيث إن المياه المتنجسة يمكن التخلص من نجاستها بعدة وسائل، وحيث إن تنقيتها وتخليصها مما طرأ عليها من النجاسات بواسطة الطرق الفنية الحديثة لأعمال التنقية يعتبر من أحسن وسائل الترشيح والتطهير، حيث يُبذَل الكثير من الأسباب المادية لتخليص هذه المياه من النجاسات كما يشهد بذلك ويقرره الخبراء المختصون بذلك ممّن لا يتطرق الشك إليهم في عملهم وخبرتهم وتجارِبهم. وبنًاء على ذلك فإننا نرى طهارتها بعد تنقيتها التنقية الكاملة بحيث تعود إلى خلقتها الأولى لا يرى فيها تغير بنجاسة في طعم ولا لون ولا ريح، ويجوز استعمالها

أثر الأسنان الصناعية على الوضوء

في إزالة الأحداث والأخباث، وتحصل الطهارة بها منها، كما يجوز شربها إلَّا إذا كانت هناك أضرار صحية تنشأ عن استعمالها فيمتنع ذلك محافظة على النفس، وتفاديًا للضرر لا لنجاسته (¬1). أثر الأسنان الصناعية على الوضوء: تعريفها: هي أسنان يحتاج إليها بعض الناس للاستعاضة عن الأسنان الطبيعية، وهي إما أن تكون متحركة، أي تخرج من الفم، وإما أن تكون ثابتة تحل محل ما تم نزعه من الأسنان. لكن هل تأخُذ هذه الأسنان حكم الأسنان الطبيعية من حيث عدم نزعها عند الوضوء؟ الجواب: تركيبة الأسنان أو الأسنان الصناعية لا يجب على الإنسان أن يزيلها إذا أراد الوضوء ويشبه هذا الخاتم، والخاتم لا يجب نزعه عند الوضوء، بل الأفضل أن يحركه، لكن ليس عل سبيل الوجوب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلبسه ولم يُنْقَل أنه كان ينزعه عند الوضوء، مع أنه قد يحجب الخاتمُ شيئًا من الماء، ولم يثبت أنه كان يحركه، فلما لم يَرِدْ ذلك دلَّ على أن هذا يعفى عنه. ومثل ذلك أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عرفجة بن سعد -رضي الله عنه- أن يتخذ أنفًا من ذهب (¬2)، وهذا الأنف سيحجب شيئًا من مواضع الماء ولم يأمره - صلى الله عليه وسلم - أن يزيل هذا الأنف عند الوضوء أو عند الغسل. ولذلك نقول: إن مثل هذه التركيبة وإن كانت متحركة قد يكون في خلعها شيء من المشقة فلا تنزع ولا تتحرك (¬3). ¬

_ (¬1) أبحاث هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية (6/ 217). (¬2) رواه أبو داود (4232)، والترمذيُّ (1770). وصححه الألباني في الصحيحة (4/ 480) رقم (1865). (¬3) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين -رحمه الله- (4/ 140).

طلاء الأظفار بالمواد الكيميائية

طلاء الأظفار بالمواد الكيميائية: تتعمد بعض النساء أن تضع على أظفارهن ما يسمى بطلاء الأظافر (المناكير والإكلادور)، وهذا على ما فيه من ضرر يصيب المرأة نتيجة لاتخاذه، إلَّا أنه كذلك يؤثر على المرأة في عبادتها وبخاصة الصلاة التي هي أعظم الشعائر العملية؛ وذلك لأنه يحجب وصول الماء إلى البشرة التي يجب استيعاب العضو فيها بالغسل. وهذا مما اتفق عليه أئمة المذاهب؛ حيث اتفقوا على أن من شروط صحة الوضوء إزالةَ ما يمنع وصول الماء إلى البشرة. وإن من العجب أن يفتي بعض الناس بأن استخدام هذه الأشياء لا يؤثر على الوضوء لأنها تشبه الحناء أو الجبيرة في المسح عليها، وهذا خطأ بلا شك؛ لأن الحناء ليس لها جُرمٌ بخلاف هذه الأشياء المستحدثة فإن لها جرمًا واضحًا، وأما الجبيرة فيمسح عليها للحاجة، فإذا وضعها الإنسان بلا حاجة أو برأ من مرضه أو جرحه إن كان به جرح، لزمه إزالتها. وعلى ذلك نقول بأنه يحرم على المرأة أن تتخذ مثل هذه الأشياء وقت الوضوء أو وقت الغسل؛ لأن استيعاب العضو بالغسل واجب. فإذا توضَّأت أو اغتسلت بعد إزالة هذه الأشياء فلها أن تضع هذه الأشياء؛ إذ لا ينتقض الوضوء بها، ولكن عندما ينتقض الوضوء بأي ناقض من نواقضه فإنه يجب عليها قبل الشروع في الوضوء أو الغسل إزالةُ هذه القشرة الرقيقة الناتجة عن هذا الطلاء؛ لأنها تعتبر مادة عازلة تمنع وصول الماء إلى الظفر (¬1). ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين -رحمه الله- (4/ 140).

أثر تركيبة الأظافر الصناعية على الوضوء، أو الغسل

أثر تركيبة الأظافر الصناعية على الوضوء، أو الغسل: الأظافر الصناعية هي عبارة عن أظافر بلاستيكية تشبه الأظافر الخلقية؛ تأخذها المرأة وتصبغها بأصباغ مختلفة متنوعة، ثم بعد ذلك تضعها على ظفرها أو تلزقها على ظفرها بمادة لاصقة. وحكم هذه الأظافر حكم ما تقدم من الأصباغ الكيميائية، فهي إن كان اتخاذها وقت الوضوء أو الغسل فهو محرم ولا يجوز لما ذكرنا؛ لأنها تمنع وصول الماء إلى الظفر، وقد تقدم باتفاق الفقهاء أن من شروط صحة الوضوء إزالةَ ما يمنع وصول الماء إلى البشرة من طين أو عجين وغيره. أثر أصباغ الشعر على الوضوء أو الغسل: تنقسم أصباغ الشعر من حيث التركيبات الكيميائية إلى قسمين: القسم الأول: تركيبات كيميائية لا جرم لها وإنما هي عبارة عن أصباغ نباتية تشبه الحناء، فهي مجرد لون لا تكوِّن جرمًا على الشعر ولا تعتبر طبقة عازلة، فهذه استخدامها من حيث الوضوء أو الغسل لا بأس به؛ لأن مثل هذه الأصباغ لا تمنع وصول الماء إلى الشعر وإنما هي مجرد لون يَكسو الشعر بلون آخر. القسم الثاني: أصباغ معدنية عبارة عن مركبات معدنية لها جُرم تمنع وصول الماء إلى الشعر بحيث تكون الشعرة سميكة، وهذه الأصباغ كثيرة، فهذه استخدامها اختلف فيه أهل العلم المعاصرون: فقال بعضهم: لا يجوز استخدام هذا النوع من الأصباغ؛ لأنه يمنع وصول الماء إلى الشعر، ولأن فترته تطول والمرأة بحاجة إلى الغسل عن الحدث الأكبر كالجنابة والحيض.

الرموش الصناعية

وقال بعضهم: إنه يجوز المسح على هذا النوع من الأصباغ، فإن شعر الرأس يجوز المسح فيه على العمامة والخمار، وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبَّد شعره وهو محرم، فدلَّ مجموع ذلك على أن الأمر فيه سعةٌ، وأن تطهير الرأس فيه شيء من التسهيل. الرموش الصناعية: تعريفها: هي عبارة عن شعيرات رقيقة تُصْنَعُ من المواد البلاستيكية تلصق على الجفن بواسطة مادة لاصقة على طرف الرمش الأعلى ليبدو رمش المرأة في عينها طويلًا أو ثخينًا. أما حكم أثرها على الوضوء أو الغسل: فالظاهر أن هذه الرموش لا تمنع وصول الماء إلى شيء من الأعضاء التي يجب غسلها؛ وذلك لأنها تتحلل ولها فتحات من جهة الأسفل لا تمنع وصول الماء إلى داخل رمش العين. وعلى ذلك فيعتبر الوضوء معها صحيحًا وكذلك الغسل. أثر استعمال المواد الدهنية أو الكريمات والمساحيق على الوضوء والغسل: المواد الدهنية أو الكريمات وغيرها مما يستخدم لترطيب جلد البشرة للوجه والرجلين واليدين. هذه المساحيق وغيرها بعضها خاص بالنساء دون الرجال وبعضها يشترك فيه الرجال والنساء، وهي لا تخلو من قسمين: الأول: دهونات وكريمات ومساحيق تكون عبارة عن مجرد لون أو رطوبة؛ فهذه الأنواع وما كان على هيئتها لا تمنع من وصول الماء إلى البشرة، فاستخدام مثل هذه الأشياء لا يؤثر على الوضوء والغسل. القسم الثاني: أن تكون لهذه الأشياء كثافة دهنية وطبقة شمعية بحيث تجد لهذه الأدهان أثرًا على الجلد متراكمًا على البدن، فمثل هذه الأدهان والكريمات يمنع من وصول الماء إلى البشرة فيجب إزالته قبل الغُسْل أو الوضوء.

القسطرة

القَسطَرة، ومثل ذلك ما يسمى بالشَّرْج الصناعي، وأثرهما على الطهارة: القسطرة: هي أن يوضع للمريض في مجرى البول قِسْطار -ماسور بلاستيكي- يسبب إخراج البول دون إرادة المريض، ويتجمع هذا البول في كيس ويكون معلقًا في المكان الذي ينام فيه الريض، وإنما يلجأ الطبيب بأن يضع للمريض هذا القسطار: إما لأن المريض لا يقدر أن يتبول تبولًا طبيعيًّا وإما أن المريض يشق عليه أن يذهب لبيت الخلاء، ويكون البول في كيس بجانب المريض. أما الشَّرج الصناعي: فهو أن يُبْتَلَى المريض بسرطان القُولون بحيث لا يتمكن من أن يتبرز تبرزًا طبيعيًّا، أو أن المريض يكون فيه تشوُّهات خَلقيةٌ لا يتمكن من أن يتبرز تبرزًا طبيعيًّا؛ فيعمد الطبيب إلى أن يفتح في جدار البطن فتحةً يسهل خروج البراز دون إرادة المريض عن طريق أنبوب، ويكون هناك علبة يتجمع فيها هذا البراز تزال بين فترة وأخرى. فما أثر هذا البول وغيره على طهارة المريض؟ هذه المسألة تنبني على مسألة تكلم عليها العلماء -رحمهم الله- وهي صاحب الحدث الدائم "مَن حَدَثُه دائم لفرضه"، هل يجب عليه الوضوء أو لا يجب عليه الوضوء؟ وإذا قلنا بوجوب الوضوء هل يجب عليه أن يتوضأ لوقت كل صلاة أو يجب عليه أن يتوضأ لكل صلاة؟ هذه المسألة موضع خلاف بين العلماء -رحمهم الله-، وأقرب الأقوال فيها هو أن الذي يخرج منه الحدث الدائم لا يجب عليه أن يتوضأ لكل صلاة ولا ينقض الوضوء إلَّا إذا خرج منه حدث آخر غير هذا الحدث الدائم فإنه يجب عليه أن يتوضأ، فمثلًا: هذا المريض الذي يخرج منه بول دائم لا يجب عليه أن يتوضأ،

غسيل الكلى وأثره على الطهارة

لكن لو خرج منه ريح فيجب عليه أن يتوضأ لهذه الريح، أو خرج منه غائط يتوضأ لهذا الغائط. وإذا عرفنا ذلك نقول: هذا الذي يخرج منه البول على سبيل الدوام لا يجب عليه الوضوء حتى يخرج حدث آخر غير هذا البول. كذلك هذا الذي حصل له فرج طبيعي، إذا كان خروج الغائط مستمرًّا لا يجب عليه أن يتوضأ له حتى يأتي حدث آخر غير هذا الحدث الطارئ، وإن كان خروج هذا الغائط غير مستمر وإنما هو أمر معتاد، كعادة الناس يخرج في اليوم مرة أو مرتين، فهذا يجب عليه أن يتوضأ لخروج هذا الغائط. غسيل الكلى وأثره على الطهارة: أمراض فشل الكلى عن عملها يُعد من الأمراض المنتشرة في وقتنا الحاضر، والكلى تقوم بعمل رئيس في بدن الإنسان، فهي تقوم بتخليص الدم من السموم والفضلات السائلة والأملاح الزائدة، وإذا مرض الإنسان بهذا المرض وفشل عنده عمل الكلى فإن هذا من الأمراض الخطيرة المخوفة على حياته، وعدم تدارك عمل الكلى هذا يؤدي بحياة المريض إلى الهلاك، ومع تطور الطب ورُقيِّه ظهر في وقتنا الحاضر ما يسمى بغسيل الكلى، والغسيل الكلوي ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الغسيل الدموي أو التنقية الدموية: وهذا هو الذي يكثر في وقتنا الحاضر، والغسيل الدموي طريقته هو أن الطبيب يقوم بسحب دم المريض عن طريق إبرة توضع في أحد الأوردة، ثم بعد ذلك يمر هذا الدم مع الجهاز الذي يقوم بتنظيفه من السموم والفضلات السائلة والأملاح الزائدة، الذي يعمل عمل الكلية الطبيعية، ويضاف إلى هذا الجهاز أثناء عمله شيء من الأدوية والعلاجات والأغذية التي يحتاجها المريض.

القسم الثاني: الغسيل البريتوني

ويكون هذا العمل ثلاث مرات أو أربع مرات في الأسبوع، وتقدَّر كل جلسة بما يقرب من ثلاث أو أربع ساعات على حسب حاجة المريض. فهل يُعَدُّ خروج هذا الدم ثم بعد ذلك دخوله إلى البدن مرة أخرى بعد تنقيته ناقضًا للوضوء أم ليس ناقضًا للوضوء؟ هذه مسألة خلافية اختلف فيها أهل العلم -رحمهم الله-: هل خروج الدم ينقض أو ليس ينقض؟ والصواب في هذه المسألة: أن خروج الدم من بدن الإنسان ليس ناقضًا. وعلى هذا نقول بأن من يعمل هذا الغسيل الكلوي؛ وهو ما يسمى بالغسيل الدموي أو التنقية الدموية، نقول خروج الدم هذا منه ثم تنقيته ثم إرجاعه إلى البدن مرة أخرى لا يؤثر على الوضوء ولا يجب عليه أن يتوضأ. القسم الثاني: الغسيل البريتوني: تعريفه: هو عبارة عن أنبوب يوضع في جوف بطن المريض، وهذا الأنبوب يوضع بين السرة والعانة، ويعطى المريض بعض السوائل والأدوية الخاصة التي تساعد الجسم على التخلص من السموم والفضلات السائلة والأملاح الزائدة، ثم بعد ذلك هذه السموم والفضلات السائلة والأملاح الزائدة تظلُّ تجتمع في هذا الأنبوب ما يقرب من ثماني ساعات مع أن المريض يباشر سائر أعماله الحياتية بطريقة معتادة، ثم بعد اجتماعها يقوم المريض بتفريغ هذا الأنبوب في كيس خارجي، ثم بعد ذلك يُبْعَثُ بهذا الكيس ويُؤْتَى بكيس آخر، وهكذا. وهذه الطريقة يستعملها المريض ما يقرب من ثلاث مرات في اليوم، على حسب حاجته.

حكم التطهر بالمنظفات

وقد ذكر بعض الباحثين أن من يستعمل الغسيل البريتونيَّ في الغالب أنه يستغني عن التبول الطبيعي، وأن هذه العملية تقوم باستغنائه عن التبول الطبيعي. حكمه: الأقرب في هذه المسألة أن الغسيل البريتوني ينقض الوضوء؛ لأن هذا الخارج لا يأخذ حكم الدم، وإنما يأخذ حكم البول لأن فيه صفات البول من الفضلات والأملاح والسموم. حكم التطهر بالمنظفات: حكم التطهر بالمنظفات التي يكون في تراكيبها شيء من النجاسات كدهن الخنزير أو الكحول وغيره: ما يتعلق بالصابون وسائر المنظفات التي يدخل في تركيبها شيء من النجاسات، وكذلك بعض أدوات التجميل التي يستخدم في تركيبها شيء من النجاسات كدهن الخنزير مثلًا، نقول: هذه النجاسات لا تخلو من أمرين: الأمر الأول: إذا اضْمَحَلَّتْ هذه المركبات النجسة وذابت واستهلكت بسبب خلطها بالمواد الأخرى، فاستخدام مثل هذا الصابون الذي فيه مثل هذه الأشياء بنسب يسيرة من دهن الخنزير وغيره، واضمحلت واستهلكت، فهذا جائز ولا بأس به؛ لأن هذا الدهن أصبح لا أثر له، والقاعدة في ذلك: "أن العين التي تنغمر في غيرها وتستهلك فإنه لا حكم لها". الأمر الثاني: إذا استحالت هذه المركبات النجسة وانقلبت إلى عين أخرى، فهذه أيضًا محل خلاف بين الفقهاء، والصحيح أن الاستحالة تُصَيِّرُ الأعيان النجسة إلى أعيان طاهرة، أي تنقلها من العين النجسة إلى العين الطاهرة. الأمر الثالث: إذا كانت هذه التركيبات لا تزال باقية، كدهن الخنزير أو

الصلاة في الحدائق التي تسقى بماء المجاري

دهن الميتة لا يزال باقيًا لم يَسْتَحِل ولم يُسْتَهْلَكْ في غيره، فهل يجوز استعمال مثل هذا الصابون أو مثل هذا المنظف الذي دخل في تركيبه هذه النجاسة التي لا تزال باقية فيه؟ هذا موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله في حكم استعمال النجاسة على وجه لا يتعدى، وفي ذلك رأيان لأهل العلم. والصحيح أن استعمال مثل هذا الصابون غير جائز، وهو رأي أكثر العلماء، وبه أفتت اللجنة الدائمة (¬1). الصلاة في الحدائق التي تُسْقَى بماء المجاري: مياه المجاري هي عبارة عن مياه ناتجة عن استخدام الإنسان للماء في الأنشطة الحياتية العادية؛ مثل ما يتعلق بالغسيل والتنظيف والاستنجاء ونحو ذلك، وهذه المياه لا يجوز استعمالها في الحدائق والمتنزهات التي يقصدها الناس، اللَّهم إلَّا إذا تمت تنقيتها عبر وسائل التنقية الحديثة ومرت بمراحل التنقية النهائية، وذلك لأن هذه المياه نجسة، إذا سُقيت بها هذه الحدائق نَجَّستْها، وهذه الحدائق والمتنزهات يحتاجها الناس للجلوس فيها والصلاة فيها، فإذا قصدها الناس وهي على ذلك تنجَّست ثيابهم وفسدت صلاتهم؛ لأن طهارة الثوب والبقعة شرط لصحة الصلاة. إزالة النجاسة بالبخار: إزالة النجاسة ليست مما يتعبد به قصدًا، أي أنها ليست عبادة مقصودة، وإنما إزالة النجاسة هو التخلي من عين خبيثة نجسة، فبأي شيء أزال النجاسة وزالت وزال أثرها، فإنه يكون ذلك الشيء مطهِّرًا لها، سواء كان بالماء أو بالبنزين، أو أي مزيل يكون. ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (22/ 282).

حكم استعمال الكحول في تعقيم الجروح وخلط بعض الأدوية به

فمتى زالت عين النجاسة بأي شيء يكون، فإنه يعتبر ذلك تطهيرًا لها؛ لأنها عين نجسة خبيثة، متى وجدت صار المحل متنجِّسًا بها، ومتى زالت عاد المكان إلى أصله، أي إلى طهارته، فكل ما تزول به عين النجاسة وأثرها فإنه يكون مطهرًا لها (¬1)، علمًا أنه يعفى عن اللون المعجوز عنه. حكم استعمال الكحول في تعقيم الجروح وخلط بعض الأدوية به: الكحول مادة مطهرة للجروح، وركن من أركان الصيدلة، والعلاجِ الطبي، والصناعات الكثيرة، وتدخل فيما لا يحصى من الأدوية، وتحريم استعمالها على المسلمين يحول دون إتقانهم لعلوم وفنون وأعمال كثيرة هي من أعظم أسباب تفوق غيرهم عليهم؛ كالكيمياء والصيدلة والطب والعلاج والصناعة، وتحريم استعمالها في ذلك أيضًا قد يكون سببًا لموت كثير من المرضى والمجروحين أو يطول مرضهم وتزيد آلامهم، وخلط بعض الأدوية بشيء من الكحول لا يقتضي تحريمها إذا كان الخلط يسيرًا لا يظهر له أثر مع المخلوط، كما نص على ذلك أهل العلم، وبناءً علي ذلك نقول: استعمال الكحول في تعقيم الجروح لا بأس به؛ للحاجة لذلك (¬2). حكم دخول الحمام بالمصحف أو أشرطة القرآن: الدخول بالمصحف إلى المرحاض والأماكن القذرة صرَّح العلماء بأنه حرام؛ لأن ذلك ينافي احترام كلام الله -سبحانه وتعالى-، إلَّا إذا خاف أن يسرق لو وضعه خارج المرحاض، أو خاف أن ينساه؛ فلا حرج أن يدخل به لضرورة حفظه. أما الأشرطة فليست كالمصاحف؛ لأن الأشرطة ليس فيها كتابة، غاية ما هنالك أن ذبذباتٍ معينةً موجودةً في الشريط إذا مرت بالجهاز المعين ظهر الصوت؛ فلذلك يدخل بها ولا إشكال في ذلك. ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين -رحمه الله- (11/ 86). (¬2) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين -رحمه الله- (11/ 192).

من فقد أحد أعضائه واستبدلها بعضو صناعي

من فقد أحد أعضائه واستبدلها بعضو صناعي: إذا فقد الإنسان عضوًا من أعضاء الوضوء، فإنه يسقط عنه فرضه إلى غير تيمم؛ لأنه فقد محل الفرض فلم يجب عليه، حتى لو رُكِّب له عضو صناعي، فإنه لا يلزمه غسله، ولا يقال إن هذا مثل الخفين يجب عليه مسحهما لأن الخفين قد لبسهما على عضو موجود يجب غسله، أما هذا فإنه صنع له على غير عضو موجود. لكن أهل العلم يقولون: إنه إذا قُطع من المفصل، فإنه يجب عليه غسل رأس العضو، فمثلًا لو قطع من المرفق، وجب عليه غسل رأس العَضُد، ولو قُطعت رجلُه من الكعب، وجب عليه غسل طرف الساق (¬1) والله أعلم. حكم وضوء من يعيشون لحظات غيبوبة: هذا فيه تفصيل: وهو مثل النوم إن كان شيء يسير لا يزيل الوعي، ولا يمنع الإحساس بخروج الحدث، فلا يضر، كالنائم الذي ينعس نعاسًا خفيفًا لا يستغرق في نومه، فهو يسمع كلام الناس ويسمع حركاتهم، هذا طهارته صحيحة حتى يعلم أنه خرج منه شيء. وهكذا إذا كانت الغيبوبة لا تمنع الإحساس إن تعاطى بعض الأدوية وبعض الأشياء التي قد يحصل بها شيء من الغيبوبة لكنها غير تامة، يحس معها بالحدث، فهو مثل الناعس. أما إن كانت غيبوبة تمنع شعوره بما يخرج منه، كالسكران، والمصاب بمرض أفقده شعوره صار في غيبوبة، هذا ينتقض وضوءه كالإغماء، كمن أغمي عليه بأي سبب من الأسباب فإنه أعظم من النوم ينتقض معه الوضوء، والمصاب بالصرع كذلك يكون أعظم إذا صرع، ثم عافاه الله وزال عنه الصرع يتوضأ. ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين -رحمه الله- (11/ 106).

من عجز عن غسل عضو أو مسحه

من عجز عن غسل عضو أو مسحه: إذا كان في موضع من مواضع الوضوء جرح ولا يمكن غسله ولا مسحه؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن هذا الجرح يزداد أو يتأخر برؤه، فالواجب على هذا الشخص هو أن يتيمم، فمن توضأ تاركًا موضع الجرح ودخل في الصلاة وذكر في أثنائها أنه لم يتيمم، فإنه يتيمم ويستأنف الصلاة؛ لأن ما مضى من صلاته قبل التيمم غير صحيح، ومنه تكبيرة الإحرام، فلم يصح دخوله في الصلاة أصلًا؛ لأن الطهارة شرط من شروط صحة الصلاة وترك موضع من مواضع الوضوء أو ترك جزء منه، لا يكون الوضوء معه صحيحًا (¬1). حكم طهارة المياه المستخدمة في إطفاء الحريق: إذا كانت هذه الرغويات التي تخلط مع ماء إطفاء الحريق مُصنَّعة من مواد نجسة وغيرت الماء، فإنه لا يصح الوضوء به. وأما إذا كانت مُصنَّعة من مواد طاهرة، فلا بأس بالوضوء بالماء الذي خلط بها، ما لم تغلب عليه ويتحول من مسمى الماء إلى مسمى غيره. الولادة القيصرية هل لها نفاس؟ النفاس هو الدم الخارج من المرأة مع الولادة، أو بعدها، أو قبلها بيسير سواء كانت ولادة طبيعية أو قيصرية، ولا يلزمها مع خروج هذا الدم صلاة ولا صوم وغير ذلك من العبادات التي يشترط لها الطهارة. أما إذا استخرج الجنين بأي طريقة ولم يحصل مع المرأة دم فلا نفاس عليها وتؤدي سائر العبادات. ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 357)، الفتوى رقم (296).

حكم استعمال حبوب منع الحيض

حكم استعمال حبوب منع الحيض: استعمال المرأة حبوب منع الحيض إذا لم يكن عليها ضرر من الناحية الصحية، فإنه لا بأس به، بشرط أن يأذن الزوج بذلك، ولكن حسب ما علمنا أن هذه الحبوب تضر المرأة. قال ابن مفلح -رحمه الله-: "نص أحمد في رواية صالح وابن منصور في المرأة تشرب الدواء يقطع عنها دم الحيض، أنه لا بأس به إذا كان دواءً يعرف" (¬1). لكن من المعلوم أن خروج دم الحيض خروجٌ طبيعي، والشيء الطبيعي إذا مُنع في وقته، فإنه لا بد أن يحصل من منعه ضرر على الجسم. وكذلك أيضًا من المحذور في هذه الحبوب أنها تخلط على المرأة عادتها، فتختلف عليها، وحينئذ تبقى في قلق وشك من صلاتها ومن مباشرة زوجها وغير ذلك. لكن كما سبق لا مانع من استعمالها في حال العمرة أو الحج أو الصيام للحاجة فقط، ولا ينبغي للمرأة أن تستعملها خوفًا من الضرر عليها، وينبغي للمرأة أن ترضى بما قدَّر الله لها (¬2). نزول دم بسبب اللَّوْلَب: إذا كان هذا اللولب معروفًا بأنه يؤثر في الحيض فيطيل مدته، فتعتبر تلك الأيام الزائدة حيضًا تترك لها المرأة الصلاة والصيام، ولا يحل فيها الوطء، وإذا كان الذي ينزل بعد الطهر، وبعد انقطاع الحيض من أثر اللولب فقط، فلا يعتبر حيضًا وتجب فيه الصلاة، ويجوز فيه الوطء. ¬

_ (¬1) الآداب الشرعية (3/ 62) (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 400) الفتوى رقم (1367)، مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين -رحمه الله- (11/ 283).

اضطراب الدورة بسبب حبوب الحمل

اضطراب الدورة بسبب حبوب الحمل: المرأة التي تستخدم حبوبًا لتنظيم الحمل ثم اضطربت معها الدورة، فأصبحت تأتيها في الشهر أكثر من مرة، وخلال أوقات متعددة، فمتى تيقنت أنه حيض -ما لم يتجاوز أكثر الحيض-؛ وهو خمسة عشرة يومًا- فهو حيض، وما لم تتيقن أنه حيض فلا تجلسه؛ لأن الأصل وجوب الصلاة عليها ما لم تتيقن ما يسقطها؛ والذي هو الحيض أو النفاس. نزول الدم من المرأة بسبب الفحص: إذا خضعت المرأة للعلاج بالإبر التي تُعطَى في العضل لعملية تنشيط المبايض، ثم تخضع لفحص داخلي، وقد ينزل الدم أثناء الفحص، فهذه الدماء التي تعرض للمرأة لا تفسد صيامها، فلا يُفسِد الصوم إلَّا دم الحيض الصريح ودم النفاس فقط. اضطراب الدورة بعد تركيب اللولب: إذا اضطربت دورة المرأة بسبب تركيب اللولب وأصبحت حيضتها غير منتظمة ولم تنضبط، فإنها تعود إلى التمييز، بمعنى أنها تنظر إلى الدم الخارج منها، فما وجدته بلون الحيض أو رائحته المعتادة فهو حيض تترك الصلاة والصيام عند مجيئه، وإذا ذهب عنه هذا الوصف فتعتبره دم فساد، فتصلي بعد أن تتطهر وتصوم ولا يؤثر في الصوم ولا الصلاة؛ وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت أبي حبيش -رضي الله عنها-: "إذَا كانَ دَمُ الحَيْضِ فَإِنَّهُ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَمْسِكِي عَن الصَّلاةِ" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (304)، والنسائيُّ (215)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (765).

ثانيا: النوازل المتعلقة بالمساجد

ثانيًا: النوازل المتعلقة بالمساجد حضور من ابتلي بشرب الدخان لصلاة الجماعة في المسجد: نرى أن رائحة الدخان كريهة يستقذرها الناس وخاصة من لا يشرب الدخان ويتضايق منها، والملائكة يتأذَّون مما يتأذَّى منه بنو آدم. وعليه فنرى إلحاق ذلك بما ورد في النهي عمن أكل كرَّاثًا أو بصلًا أو ثومًا من الإتيانِ للمسجدِ، وأنه يأثم إذا أتى بتلك الرائحة؛ لما يسببه من تضايق للمصلين والملائكة. وقد سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- سؤالًا حول هذه النازلة جاء فيه: هناك حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنْ أكلَ بصلًا أو ثومًا أو كرَّاثًا فلا يقربَنَّ مساجدَنا ثلاثةَ أيامٍ، فإنَّ الملائكةَ تتأذَّى مما يتأذَّى مِنْهُ بنو آدمَ" أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -. هل معنى ذلك أن من أكل أيًّا من هذه الأشياء لا تجوز له الصلاة في المسجد حتى تمضي عليه تلك المدة، أم يعتبر أكلها غير جائز لمن تلزمه صلاة الجماعة؟ فأجاب -رحمه الله-: "هذا الحديث وما في معناه من الأحاديث الصحيحة يدل على كراهة حضور المسلم لصلاة الجماعة ما دامت الرائحة توجد منه ظاهرةً تؤذي من حوله، سواء كان ذلك من أكل الثوم أو البصل أو الكرَّاث أو غيرها من الأشياء المكروهة الرائحة كالدخان حتى تذهب الرائحة، مع العلم بأن الدخان مع قبح رائحته هو محرم لأضراره الكثيرة وخبثه المعروف، وهو داخل في قوله سبحانه عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - في سورة الأعراف: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ

أثر المرض المعدي في حضور الجمعة والجماعات

الْخَبَائِثَ} (¬1)، ويدل على ذلك أيضًا قوله سبحانه في سورة المائدة: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (¬2)، ومعلوم أن الدخان ليس من الطيبات فعلم بذلك أنه من المحرمات على الأمة. أما التحديد بثلاثة أيام فلا أعلم له أصلًا في شيء من الأحاديث الصحيحة وإنما الحكم متعلق بوجود الرائحة؛ فمتى زالت -ولو قبل ثلاثة أيام- زالت كراهية الحضور في المساجد؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، ولو قيل بتحريم حضوره المساجدَ ما دامت الرائحة موجودة لكان قولًا قويًا؛ لأن ذلك هو الأصل في النهي، كما أن الأصل في الأوامر الوجوب إلَّا إذا دل دليلَّ خاصٌّ على خلاف ذلك، والله ولي التوفيق" (¬3). أثر المرض المعدي في حضور الجمعة والجماعات: اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: يمنع المريض بمرض مُعْدٍ من المسجد وحضور الجمعة والجماعات، وهذا هو قول جمهور الفقهاء من الشافعية، والحنابلة، وبعض المالكية (¬4)، وقد استدل أصحاب هذا القول بعدة أدلة منها: 1 - حديث: "لاَ عَدْوَى وَلاَ طيَرَةَ وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ" (¬5). ووجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن مخالطة المريض بمرض ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: 157. (¬2) سورة المائدة: 4. (¬3) مجموع فتاوى سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله- (12/ 82). (¬4) مواهب الجليل (2/ 184)، حاشية الدسوقي (1/ 389)، التاج والإكليل (2/ 556)، نهاية المحتاج (2/ 160)، مغني المحتاج (1/ 476)، أسنى المطالب (1/ 215)، مطالب أولي النهى (3/ 699). (¬5) أخرجه البخاريُّ معلقًا، كتاب الطب، باب الجذام، حديث رقم (5707)، ومسلمٌ كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيره ولا هامه، حديث رقم (2220).

معد للأصحاء، لئلا يكون قدر الله على المختلط به مثل دائه، وحضور المريض لأداء الصلوات جماعة مظنة لهذا الاختلاط. 2 - حديث: "لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ" (¬1): حيث إن المصلين يتأذون من المريض المصاب بمرض معد أشد من تأثرهم بمن يأكل البصل والثوم، وقد أمرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن لا يقربا المسجد. القول الثاني: لا يمنع المريض بمرض معد من المسجد وحضور الجمعة والجماعات كصلاة العيد وأداء الحج والعمرة، وهو قول عند المالكية (¬2). واستدلوا: بالأثر الذي رواه مالك في الموطأ: عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه مرَّ بامرأة مجذومة وهي تطوف بالبيت فقال لها: يا أمة الله، لا تؤذي الناس. لو جَلَسْتِ في بيتِكِ! فجَلَسَتْ، فمر بها رجل بعد ذلك قال لها: إن الذي كان نهاك قد مات فاخرجي، فقالت: "ما كنت لأطيعه حيًّا وأعصيه ميتًا" (¬3). وجه الاستدلال به: أن عمر -رضي الله عنه- لم يعزم عليها بالنهي عن الطواف ودخول البيت، وإنما خاطبها على سبيل الرفق من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. القول الثالث: تسقط عنهم صلاة الجمعة والجماعات إذا لم يجدوا موضعًا يتميزون فيه عن الناس، وأما لو وجدوا وجبت عليهم ومنعت المخالطة. وهذا ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد (5/ 326)، وابن ماجه في الأحكام، باب من بني في حقه ما يضر بجاره (2340) عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-، وأخرجه الإمام أحمد (1/ 313)، وابن ماجه (2341) عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. وأخرجه مالك (2/ 745) مرسلًا، وللحديث طرق كثيرة يتقوَّى بها، ولذلك حسنه النووي في الأربعين (32)، وابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/ 210)، والألباني في الإرواء (896). (¬2) مواهب الجليل (2/ 184)، حاشية الدسوقي (1/ 389). (¬3) الموطأ (1603).

فصل مصلى النساء عن مصلى الرجال في المساجد

أحد الأقوال عند المالكية (¬1). واستدلوا: بأنهم يُمنَعون من حضور المسجد لتضرُّر الناس بهم، فإذا وجدوا مكانًا يصلون فيه ولا يلحق ضررهم بالناس، فإن الجمعة والجماعات واجبة عليهم. الرأي الراجح: وبعد عرض هذه الأقوال الذي يظهر لنا -والله تعالى أعلم- رجحان قول أصحاب الرأي الأول في منع المريض بمرض معد كالأنفلونزا وغيرها من حضور المسجد والجمعة والجماعات، مظنَّة لنقل العدوى وتفشَّي الوباء بين الناس فتحصل لهم الضرر الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ". ويمكن أن يستدل أيضًا لهذا القول بما أخرجه الإِمام مسلم في صحيحه أنه كان هناك رجلٌ مجذومٌ في وفد ثقيف الذي جاء مبايعًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجعْ" (¬2). فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمنع هذا الرجل من دخول المسجد فحسب بل منعه من دخول المدينة حماية لها من الوباء. فصل مُصَلَّى النِّساء عن مُصَلَّى الرجال في المساجد: كانت النساء يشهدن الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد الذي يصلي فيه كما دلت على ذلك نصوص السنة، وكنَّ يصلين خلف صفوف الرجال، وقد بوَّب أبو داود -رحمه الله- في سننه (باب اعتزال النساء في المسجد عن الرجال) (¬3)، ¬

_ (¬1) مواهب الجليل (2/ 184)، حاشية الدسوقي (1/ 389)، الطرق الحكمية، (ص: 279). (¬2) أخرجه مسلمٌ كتاب السلام، باب اجتناب المجذوم ونحوه حديث رقم (2231). (¬3) رواه أبو داود (462)، وصححه الألباني في سنن أبي داود (1/ 126).

بناء مصلى خاص للنساء

وذكر حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَوْ ترَكنَا هَذَا البَابَ لِلنِّسَاءِ"، قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات. فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ ترَكنَا هَذَا البَابَ لِلنِّسَاءِ"، يدل على ترك هذا الباب الخاص بالنساء يدخلن منه ويخرجن منه، وأنه يشرع أن يكون مصلى للنساء خاصًّا بهن. ومن الأدلة أيضًا حديث أم سلمة -رضي الله عنها-: "أَنَّ النِّسَاءَ في عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كُنَّ إِذَا سَلَّمْنَ مِنَ المَكْتُوبَةِ قُمْنَ وَثَبَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَنْ صَلَّى مِنَ الرِّجَالَ مَا شَاءَ اللهُ، فَإِذَا قَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ الرِّجَالُ" (¬1). وهذا الحديث يدل على منع اختلاط الرجال بالنساء في المسجد. فهذه الأدلة وغيرها تدل دلالة واضحة على اعتزال النساء في مكان خاص بهنَّ وأنهن لا يختلطن بالرجال. وما يحصل في بعض البلدان من اختلاط صفوف الرجال بالنساء في المساجد، بل وتقدُّمِ صفوف النساء على صفوف الرجال كل ذلك وغيره مخالف لنصوص الشريعة. بناء مصلى خاص للنساء: إذا كان مصلى النساء داخل المسجد صحَّ اقتداؤهن بالإمام إذا سمعن صوته بالتكبير، وإن لم يرينه فيه ولا من وراءه، وإن كان مصلاهن خارج المسجد مفصولًا عنه بطريق ونحوه، لم يجز إقتداؤهن بالإمام، ولهن أن يخترن مَنْ تصلي بهن، وإن صلَّت كل واحدة منهن منفردة جاز لها ذلك؛ لأن الصلاة في جماعة ليست واجبة في حقهن. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (866).

بناء المسجد من دورين أو أكثر

بناء المسجد من دورين أو أكثر: يجوز أن يقام المسجد من دورين أو أكثر إذا دعت الحاجة إلى ذلك، ويلاحظ أثناء الصلاة فيه تأخُّرُ المأمومين عن الإِمام مع القرب منه حسب الإمكان للأدلة الدالة على أفضلية الصف الأول فالأول، والدنو من الإِمام. البناء على المسجد: إذا أنشئ بناء مسجد مستقلًّا كان سقفه وما علاه تابعًا له جاريًا عليه حكمه، فلا يجوز بناء سكن عليه لأحد. أما إذا كان المسجد طارئًا على المسكن، مثل ما لو أُصلِحت الطبقة السفلى من منزل ذي طبقات وعُدِّلتْ لتكون مسجدًا، جاز إبقاء ما عليه من الطبقات مساكن لسبق تملُّكها على جعل الطبقة السفلى مسجدًا، فلم يكن ما فوقه تابعًا له. وهكذا لو احتاج الناس إلى مصلى داخل المبنى فلا بأس بتخصيص جزء من المبنى يصلى فيه. استخدام الكفار لبناء المساجد: المساجد بيوت الله أنشئت لذكره -تعالى- وعبادته وإقامة شعائره وإعلاء كلمته، فأولى الناس بتصميمها وبنائها من يؤمن بدين الله ويتعبد فيها، أما من لا يؤمن بدين الإِسلام فلا يحق له ذلك، والكفار أعداء لله، وأعداء دينه وشريعته والمسلمين، فلا يجوز أن يستخدم أعداء الله في وضع تصميم هندسي يقام على رسمه بناؤها، ولا أن يتولوا بناءها أو تركيب كهربائها أو أبوابها أو أدواتها الصحية أو إصلاح ما فسد فيها ونحو ذلك. ولأنه يوجد في المسلمين من يستطيع عمل ذلك.

المساجد التي تبنيها دولة كافرة لشعبها

وقد صدر قرار من مجلس هيئة كبار العلماء في هذا الموضوع: "حكم دخول الكفار مساجد المسلمين والاستعانة بهم في عمارتها"، ومما جاء فيه: "ولما اطلع المجلس على البحث الذي أعدَّتْه في الموضوع، واستمع إلى كلام أهل العلم فيه، رأى بالإجماع أنه لا ينبغي أن يتولى الكفار تعمير المساجد؛ حيث يوجد من يقوم بذلك من المسلمين، وأن لا يستقدموا لهذا الغرض أو غيره؛ تنفيذًا لوصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن لا يجتمع في الجزيرة العربية دينان، وعملًا بما يحفظ لهذه البلاد دينها وأمنها واستقرارها وإبعادًا لها عن الخطر الذي أصاب البلدان المجاورة بسبب إقامة الكفار فيها وتولِّيهم لكثير من أمورها، ولأن الكفار لا يؤمنون من الغشِّ عند تصميم مخططات المساجد أو تنفيذها، فقد يصممونها على هيئة قريبة أو مشابهة لهيئة الكنائس كما حدث من بعضهم، وقد يغشون كذلك في التنفيذ والبناء؛ لأنهم أعداء لهذا الدين ولمن يدين به من المسلمين، ويوصي المجلس بأن ينبه على الجهات الحكومية في وزارة الأشغال ووزارة الحج والأوقاف وغيرها ممّن يتولى عمارة المساجد والإشراف عليها، أن تلاحظ ذلك بدقة وعناية، وأن تشترط في كل العقود التي تبرمها لإقامة المساجد مع المقاولين أن لا يستعينوا في التصميم أو التنفيذ بأحد من غير المسلمين" (¬1). المساجد التي تبنيها دولة كافرة لشعبها: من المعلوم أن الحقوق على اختلاف أنواعها، مالية وبدنية ومعنوية، متبادلة بين الحكومات وشعوبها ومن تحت رعايتها، فإذا كانت الحكومة غير إسلامية وتحت رعايتها مسلمون، فالواجب عليها أن تقوم بإنشاء مساجد في الأحياء الإِسلامية، وهي بذلك تقوم بما عليها من الحقوق الواجبة لرعاياها عليها، وتحقق ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (6/ 266)، الفتوى رقم (5361).

دخول غير المسلم المساجد

لهم الرغبات وتيسر لهم المرافق العامة دينية ودنيوية مقابل ما يؤدونه لها من حقوق وما تكسبه من ورائهم من أنواع المصالح والمنافع، وليس على المسلمين غَضاضة أن يقبلوا ما أنشأته لهم من المساجد قيامًا بما عليها من واجب نحوهم، دون أن يكون لها في ذلك مِنَّةٌ عليهم أو يد تطلب جزاءها أو التعويض عنها، بل ينبغي لهم أن يقبلوا تلك المساجد ويطالبوا بأمثالها وبإنشاء مدارس إسلامية دون أن يثنيهم عن عزمهم في استيفاء حقوقهم دينية ودنيوية أو مصالح مادية أو معنوية. والواجب على جميع المسلمين أن يتعاونوا فيما بينهم في إنشاء مرافق أخرى من مساجد ومدارس إسلامية وغير ذلك مما يحتاجون إليه، مع العناية بأن تكون الولاية والإشراف على المساجد والمدارس ونحوها التي تبنيها لهم الحكومة، للمسلمين لا لغيرهم؛ حتى لا يحدثوا فيها ما يخالف الشرع (¬1). دخول غير المسلم المساجد: يحرم على المسلمين أن يمكنوا أي كافر من دخول المسجد الحرام وما حوله من الحرم كله؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬2)، أما غيره من المساجد فقال بعض الفقهاء: يجوز؛ لعدم وجود ما يدل على منعه، وقال بعضهم: لا يجوز؛ قياسًا على المسجد الحرام. والصواب: جوازه لمصلحة شرعية أو لحاجة تدعو إلى ذلك لسماع ما قد يدعوه للدخول في الإِسلام، أو حاجته إلى الشرب من ماء في المسجد أو نحو ذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ربط ثُمَامَة بن أُثَالٍ الحنفيَّ في المسجد قبل أن يسلم، وأنزل ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (6/ 262)، الفتوى رقم (1679). (¬2) سورة التوبة: 128.

إقامة التمرينات الرياضية في قاعة تحت المسجد

وفد ثقيف ووفد نصارى نجران قبل أن يسلموا في المسجد؛ لما في ذلك من الفوائد الكثيرة؛ وهي: سماعهم خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومواعظه، ومشاهدتهم المصلين والقراء، وغير ذلك من الفوائد العظيمة التي تحصل لمن لازم المسجد. إقامة التمرينات الرياضية في قاعة تحت المسجد: إذا كانت هذه القاعة لا يحتاج إليها لأمر أهم من التمرينات الرياضية، وكانت التمرينات تحت إشراف أمناء من المسلمين خالية من ارتكاب محرم، غير شاغله عن أداء واجب من صلاة في وقتها جماعة، ودراسة لما هو ضروري من أحكام الإِسلام ونحو ذلك، فلا بأس بها؛ لما فيها من نفعهم واستمالتهم، وربط نفوسهم بأهل الخير وصدهم عن مجامع أهل الشر، وحمايتهم من غوائل الدعايات المنحرفة والفتن المهلكة دون أن يصيبهم ضرر أو تفريط في شؤون دينهم. نسأل الله السلامة من كل سوء للجميع، والاستقامة على الطريق المستقيم. قفل المساجد بعد الصلاة: لم تكن المساجد تقفل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما علمنا، وكانت غير مفروشة، وكان الناس أتقى لله من أن يفسدوا فيها أو يقذروها، فلما فرشت المساجد ووجد فيها ما يخاف عليه من السُرَّاق، وكثر جهل الناس وحصل من بعضهم الفساد في المساجد، جاز لولي الأمر قفل ما يرى منها إذا رأى المصلحة في ذلك، صيانةً وحمايةً لها وحفاظًا على ما يوجد فيها. وضع الدفايات الكهربائية أمام المصلين: هذه المسألة للعلماء فيها ثلاثة آراء: الرأي الأول: يكره إذا كان لها لهب مثل أن يكون لها نار حطب أو شمع أو سراج، وأما إذا كان ليس لها لهب وإنما مجرد جمر، فإنه لا يكره.

زخرفة جدران المسجد بالآيات

الرأي الثاني عكس هذا القول: إذا كانت جمرًا يكره، وإذا كانت لهبًا فلا يكره. الرأي الثالث: الأصل في ذلك الجواز سواء كان لهبًا أو كان جمرًا، ولا دليل على الكراهة، فالكراهة حكم شرعي يفتقر إلى الدليل الشرعي ولم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على كراهة ذلك. والأقرب في هذه المسألة أنه لا بأس بذلك للحاجة، وهو ما ذهبت إليه اللجنة الدائمة (¬1). زخرفة جدران المسجد بالآيات: يكره زخرفة المساجد وكتابة الآيات القرآنية على جدرانها؛ لما في ذلك من تعريض القرآن للامتهان، ولما فيه من زخرفة المساجد المنهي عنها، وإشغال المصلين عن صلاتهم بالنظر في تلك الكتابات والنقوش. فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتبَاهَى النَّاسُ بِالمَسَاجِدِ" (¬2)، وقال أبو سعيد: "كان سقف المسجد من جريد النخل"، وأمر عمر ببناء المسجد، وقال: "أَكِنَّ الناسَ من المطر، وإياك أن تُحمِّر أو تصفِّر فتفتنَ الناس". وقال أنس: يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلَّا قليلًا، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى". وعن عائشة -رضي الله عنها-: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى في خَمِيصَةٍ لها أَعْلاَمٌ، فَنَظَرَ إِلَى أَعْلاَمِهَا نَظْرَةً، فَلمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ وَأْتُونِي بِأَنبِجَانِيَّةِ أَبِي ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية (7/ 88)، الفتوى رقم (4769). (¬2) المعجم الكبير (1/ 259)، حديث رقم (752)، وصححه الألباني في الثمر المستطاب (1/ 465).

تعليق الإعلانات بالمساجد

جَهْمٍ فَإِنَّهَا أَلهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلاَتِي" (¬1). (¬2). تعليق الإعلانات بالمساجد: تعليق إعلانات المحاضرات والندوات والدروس الشرعية في المساجد جائز شرعًا؛ لأن المسجد هو مركز تجمع المسلمين في اليوم خمس مرات، وهو أكثر مكان يجتمع فيه المسلمون في الوقت الحاضر؛ لذا فهو المكان الملائم لإخبار المسلمين بهذه الدروس والندوات، ولأن هذه الدروس والندوات في خدمة الإِسلام والمسلمين، وتقدم لهم الفقه والنصح والإرشاد فيما يتعلق بأمور دينهم، فإن كانت هذه الإعلانات ليس لها مقصد شرعي، كأن تكون دعاية لمؤسسة، فلا يجوز تعليقها داخل المسجد ولا خارج المسجد على جدرانه. مكبرات الصوت والتشويش على المصلين: جرت العادة في هذا الزمن في كثير من المساجد صلاة الأئمة بقرب مكبرات الصوت من باب المصلحة؛ لإسماع الناس تكبيرات الصلاة وقراءة القرآن في الصلوات الجهرية، حتى اعتاد بعض المصلين عدم الذهاب إلى المسجد إلَّا بعد سماع شروع الإِمام في الصلاة والقراءة، ولو لم يسمع ذلك فاتته الصلاة أو بعضها. لكن ينبغي مراعاة عدم التشويش على المصلين في المساجد القريبة؛ لأن في ذلك مفسدة وضررًا، ويكون ذلك من خلال عدم رفع صوت تلك المكبرات فوق الحاجة، أو تأخر المسجد المجاور في إقامة الصلاة لبعض الوقت. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (366)، مسلم (1267). (¬2) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة (21/ 190)، الفتوى رقم (20608).

مضاعفة الصلوات في مساجد مكة

مضاعفة الصلوات في مساجد مكة: مكة منها ما يقع داخل حدود الحرم، ومنها ما هو خارج حدود الحرم؛ وهي الأجزاء الحديثة التي امتدت إليها المدينة بسبب التوسع العمراني، وحدود الحرم معروفة وهي أمور مقررة ثابتة دلت عليها الشريعة. ومكة الواقعة داخل حدود الحرم يصدق عليها أنها المسجد الحرام كما ورد في كتاب الله الكريم في قصة الإسراء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ...} (¬1)، ومن المعلوم أن الإسراء به - صلى الله عليه وسلم - لم يكن من المسجد وإنما كان من بعض بيوت مكة، وبناءً على هذا فما ثبت من مضاعفة أجر الصلاة للمسجد فإنه يثبت لبقية أجزاء مكة الداخلة في حدود الحرم، وما كان من المساكن خارج حدود الحرم فلا تشمله المضاعفة (¬2). تحويل المسجد إلى منزل: إذا تعطلت منافع الموقف كالمسجد جاز نقله أو بيعه واستبداله بموضع آخر، فالوقف إذا تعطلت منافعه جاز نقله إلى موقع آخر إن أمكن، وإلا جاز بيعه ووضع ثمنه في مسجد آخر، وعليه يجوز تمليك المسجد الذي تعطلت منافعه ببناء مسجد بديل له، وهذه المعاوضة نوع من البيع. والدليل على نقل المسجد والتصرف فيه للصالح العام إذا تعطلت منافعه ما ثبت عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه كتب إلى واليه سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- لما بلغه أن بيت المال بالكوفة قد نقب -أي لغرض سرقته- أن انقل المسجد الذي بالتمارين؟ -اسم موضع-، واجعل بيت المال في قبلة المسجد فإنه ¬

_ (¬1) سورة الإسراء: 1. (¬2) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة (21/ 176)، الفتوى رقم (16527).

مصلى المدرسة هل يأخدة أحكام المسجد؟

لا يزال في المسجد مصل، وكان هذا بمشهد الصحابة -رضي الله عنهم -، ولم يخالف فيه أحد فصار إجماعًا، ووجه الاستدلال أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أمر بنقل المسجد من مكانه إلى جوار بيت المال لمصلحة بيت المال (¬1). مصلى المدرسة هل يأخدة أحكام المسجد؟ المصلى الذي لم يتخذ مسجدًا على سبيل الدوام، ليس مسجدًا يأخذ أحكام المسجد، وعلى هذا فلا تصلى فيه تحية المسجد وقت النهي، وإذا صلاها أحد في وقت النهي فإنه ينهى عن ذلك؛ لأنها أصبحت من التطوع المطلق، وليست من ذوات الأسباب، والتطوع المطلق لا يفعل في أوقات النهي؛ لحديث أبي سعيد -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا صَلاةَ بعْدَ صَلاَةِ العَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَلاَ صَلاةَ بَعْدَ صَلاَةِ الفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَمْسُ" (¬2). جعل المراحيض في الطابق العلوي من المسجد: أماكن العبادة ينبغي أن تنزه عن النجاسات وما يكون عرضة للتنجيس من قريب أو بعيد، والنهي ورد عن الصلاة في الحش أو الحمام، أو معاطن الإبل، ولكن هل أَسْطِحَتُهَا تكون مثلها، أو تُخُومُهَا وما تحتها يأخذ حكمها؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم؛ فبعض أهل العلم قصر التحريم على هذه الأماكن دون تخومها -وهو ما تحتها- ودون أسطحتها، وبعضهم عدَّى الحكم إلى ما كان تحتها وما فوقها، وقال: إن القرار يتبعه الهواء، وكذلك تخومه -وهو ما تحته- يأخذ حكمه. وبعضهم قال: إن المنع إنما هو للنجاسة، والنجاسة إذا لم تكن موجودة فلا حرج حينئذ. ¬

_ (¬1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (30/ 405). (¬2) رواه البخاري (1864)، مسلم (1960).

تأجير جزء من المسجد

والذي ننصح به هو أن وجود دورات المياه والمراحيض فوق جزء من المسجد، حتى لو احتاطوا لذلك بالمواد العازلة، فإنه بعد سنوات سيوجد شيء من التسرُّب إلى هذا السقف الذي يصلي الناس تحته، وهذا يؤدي إلى تنجيسهم وتنجيس مصلَّاهم، فالذي ننصح به أن تكون المواضئ والمراحيض في أماكن خارج المسجد، وإذا لم يكن هناك وسيلة فكونها في الدور الأرضي ولا يتسرب منها شيء إلى ما تحتها قد يكون أخفَّ مما لوكانت في مكان يصلي الناس تحته. تأجير جزء من المسجد: لا يصح التصرُّف في أي جزء من أجزاء المسجد إلَّا بعد مراجعة إدارة الأوقاف والمساجد؛ لأنها هي الجهة التي جعل لها ولي الأمر رعاية المساجد. بناء دورات المياه أسفل المسجد: الأفضل أن تكون دورات المياه خارج المسجد، وأن تكون منعزلة عن المصلى، فإن لم يتيسر ذلك، إما لشحِّ النفقة أو العقار، أو غير ذلك، فلا بأس أن تكون دورات المياه في الدور الأول، والمصلى يكون في الدور الثاني، والصلاة على النجاسة إذا كان هناك حائل لا بأس به؛ لأن المصلي إنما صلى على أرض طاهرة، وفي حديث جابر -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وَجُعِلَتْ ليَ الأَرْضُ مَسْجدًا وَطَهُورًا" (¬1). تحديد القبلة بالأجهزة الحديثة: إذا ثبت لدى أهل الخبرة الثقات من المسلمين أن جهازًا أو آلةً تضبط القبلة وتبينها عينًا، أو جهة، لم يمنع الشرع من الاستعانة بها في ذلك وفي غيره، بل قد ¬

_ (¬1) رواه البخاري (335)، ومسلمٌ (1191).

حكم عمل خط على الحصير أو السجاد بالمسجد

يجب العمل بها في معرفة القبلة إذا لم يجد مَنْ يريد الصلاةَ دليلًا سواها (¬1). حكم عمل خط على الحصير أو السجاد بالمسجد: الأمر بتسوية الصفوف وارد في أحاديث كثيرة مشهورة، منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاةِ" (¬2). ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ الله بَيْنَ وُجُوهِكُمْ" (¬3). فينبغي للإمام أن يأمر الناس بالتسوية، وأن يتعاهدهم في ذلك. ووضع خط على الحصير أو السجاد للمساعدة في تسوية الصف لا حرج فيه، وليس هو من البدع. وقد سُئلت اللجنة الدائمة للإفتاء: ما حكم عمل خط على الحصير أو السجاد بالمسجد نظرًا إلى أن القبلة منحرفة قليلًا بقصد انتظام الصف؟ فأجابت: "لا بأس بذلك، وإن صلوا في مثل ذلك بلا خط فلا بأس؛ لأن الميل اليسير لا أثر له" أ. هـ (¬4). حكم حفلات الزواج في المساجد: عقد النكاح في المسجد مندوب، نطقت باستحبابه الأحاديث، ولكن ما يصحبه من الرقص والغناء، فلا يجوز أصلًا، فإن كانت حفلات الزواج لا تخلو من هذه المنكرات، فلتجنب المساجد منها (¬5). ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (6/ 315)، الفتوى رقم (4254). (¬2) رواه البخاري (717)، ومسلمٌ (436). (¬3) رواه البخاري (723)، ومسلمٌ (433). (¬4) فتاوى اللجنة الدائمة (6/ 315)، الفتوى رقم (6391). (¬5) مجلة مجمع الفقه الإِسلامي (2/ 2210).

وهل المواظبة على عقد عقود الزواج في المساجد يعتبر من السنة المستحبة، أم يعتبر من البدع؟ نقول: الأمر في إبرام عقد النكاح في المساجد وغيرها واسع شرعًا, ولم يثبت فيما نعلم دليل يدل على أن إيقاعها في المساجد خاصة سنة، فالتزام إبرامها في المساجد بدعة (¬1). ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (18/ 110)، الفتوى رقم (9388).

ثانيا: النوازل المتعلقة بالصلاة

ثانيًا: النوازل المتعلقة بالصلاة أولًا: النوازل المتعلقة بشروط الصلاة: هل ينوب مناب العلامات الكونية الأفقية شيء -كالحساب- أو لا؟ التقويم من الأمور الاجتهادية، والذين يضعونه بشر يخطئون ويصيبون، ولا ينبغي أن تناط به أوقات الصلاة والصيام من جهة الابتداء والانتهاء؛ لأن ابتداء هذه الأوقات وانتهاءها جاء في القرآن والسنة؛ فينبغي الاعتماد على ما دلت عليه الأدلة الشرعية. ولكن هذه التقاويم الفلكية قد يستفيد منها المؤذنون والأئمة في أوقات الصلاة على سبيل التقريب، أما في الصوم والإفطار فلا يعتمد عليها من جميع الوجوه؛ لأن الله سبحانه علَّق الحكم بطلوع الفجر إلى الليل ولأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "صُومُوا لِرُؤيتهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتهِ، فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكمِلُوا العَدَدَ" (¬1). صلاة الرجل بالبنطال: البنطال لم يكن موجودًا في الأزمنة السابقة، ولهذا اختلف المتأخرون في حكم الصلاة فيه، والصحيح أن من صلى في هذا البنطال فإن صلاته صحيحة وجائزة، لكن لبس البنطال الضيق أقل أحواله الكراهة؛ لأن العلماء -رحمهم الله- كرهوا ذلك. فمن ابتلي بهذا البنطال كمن اعتاد لبسه، أو مثل أصحاب الوظائف المهنية، نقول بأنه يجتهد بأن يوسع هذا البنطال ولا يجعله يصف العورة ويحجمها. ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (6/ 141) الفتوى رقم (4100)، وانظر في ذلك: مجلة البحوث العلمية (2/ 204).

صلاة المرأة بالبنطال

قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: صلاة الرجل بالبنطال لا بأس بها إذا تمكن من إقامة الصلاة من التجافي في موضعه، والاعتدال في السجود، والجلوس بشرط أن لا يكون ضيقًا يصف حجم البدن (¬1). صلاة المرأة بالبنطال: صلاة المرأة في (البنطال) صحيحة إذا لم يكن عند المرأة رجال أجانب وغطَّت جميع بدنها، وكلما كان اللباس ساترًا ولا يبين تقاطيع جسم المرأة فهو أفضل، علمًا أن -البنطال- لا يستر جميع جسم المرأة، بل يظهر شيئًا من محاسنها، وقد يحسن القبيح ولا يستر جميع الجسم؛ لأن كل المرأة الحرة عورة في الصلاة، إلَّا الوجه إذا لم يكن عندها رجال أجانب، فإذا كان عندها رجال أجانب وجب عليها أن تستر الوجه وجميع البدن، والصلاة هي أهم أركان الإِسلام بعد الشهادتين، والواجب على المسلم والمسلمة الاعتناء بها والمحافظة عليها وعلى ما يلزم لها من طهارة وستر وطمأنينة وخشوع وإقبال على الله تعالى. حمل المصلي للصور: قد يكون حمل الصور في البطاقات وقد يكون حمل الصور في النقود، وقد يكون حمل الصور في بطاقات الوظائف، كما أن بعض الموظفين قد يضع الصورة في جيبه أو أمامه. فما حكم حمل هذه الصور في الصلاة؟ الأقرب في هذه المسألة: أن حمل مثل هذه الصور جائز ولا بأس به؛ فالإنسان مضطر إلى تملكها وحفظها في بيته أو حملها معه للانتفاع بها بيعًا وشراءً وهبةً وصدقةً وتسديد دين ونحو ذلك من المصالح المشروعة، فلا حرج عليه، وليست ممتهنة، بل مصونة تبعًا لصيانة ما هي فيه من النقد، وإنما ارتفع الحرج عنه ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين -رحمه الله- (13/ 348).

حكم الصلاة بالثوب الذي عليه صورة

من أجل الضرورة (¬1). حكم الصلاة بالثوب الذي عليه صورة: تصوير ذوات الأرواح حرام، وجعل صور ذوات الأرواح في الحيطان ونحوها حرام كذلك، والصلاة في المكان الذي فيه تلك الصور غير جائزة إلَّا للضرورة مع أنها صحيحة مجزئة، وهكذا الصلاة في الملابس التي تشتمل على صور لحيوان لا تجوز، لكن لو صلى صحت مع التحريم (¬2). الأذان عن طريق المسجل: الاعتماد على مثل هذا المسجل يفوت كثيرًا من سنن المؤذن وآدابه وأحكامه، لأن المؤذن له سنن وله آداب وله شروط، فمن السنن: الالتفات يمينًا وشمالا، والطهارة واستقبال القبلة وغير ذلك، فلا توجد هذه الأشياء في هذا المسجل، ومن شروط الأذان أن يكون الأذان من مسلم ذكر عاقل، وهذا لا ينطبق على المسجل. ولفوات هذه الأمور التي ذكرت، فالأذان من هذا المسجل غير صحيح ولا يُكتفى به في فرض الكفاية، ولا يكتفى به في المشروعية إذا كان هناك من يؤذن وسقط فرض الكفاية، ولا تترتب عليه أحكام الآذان من إجابة المؤذن إلى غير ذلك من الآداب. فالأذان فرض كفاية بالإضافة إلى كونه إعلامًا بدخول وقت الصلاة ودعوة إليها، فلا يكفي عن إنشائه عند دخول وقت الصلاة إعلانه مما سجل به من قبل، وعلى المسلمين في كل جهة تقام فيها الصلاة أن يعيِّنوا مِنْ بينهم مَنْ يحسن أداءه ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 704) الفتوى رقم (4380). (¬2) المرجع السابق، الفتوى رقم (6127).

عند دخول وقت الصلاة (¬1). قال سماحة الشيخ محمَّد بن إبراهيم -رحمه الله- في فتوى له حول استبدال الأذان الشرعي بأسطوانات مسجلة قال: " ... وللأذان شروط منها (النية)؛ ولهذا لا يصح من النائم والسكران والمجنون لعدم وجود النية، والنية أَن ينوي المؤذن عند أَدائه الأَذان أَن هذا أَذان لهذه الصلاة الحاضرة التي دخل وقتها. ومن أَين للأُسطوانات أَن تؤدي هذه المعاني السامية، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِذا حَضرَتَ الصَّلاةُ فَليؤذِّنَ لَكُمْ أَحَدُكُمْ" [متفق عليه]. فهل الأُسطوانة تعتبر كواحد من المسلمين. والحقيقة أَننا نستنكر استبدال الأَذان بالأسطوانات. وننكر على من أَجاز مثل هذا لما تقدم، ولأَنه يفتح على الناس باب التلاعب بالدين، ودخول البدع على المسلمين في عباداتهم وشعائرهم" (¬2). ومما قاله المجمع الفقهي حول هذه النازلة: " ... وبعد استعراض ما تقدم من بحوث وفتاوى، والمداولة في ذلك، فإن مجلس المجمع الفقهي الإِسلامي تبين له ما يلي: 1 - أن الأذان من شعائر الإِسلام التعبدية الظاهرة، المعلومة من الدين بالضرورة بالنص وإجماع المسلمين، ولهذا فالأذان من العلامات الفارقة بين بلاد الإِسلام وبلاد الكفر، وقد حُكِيَ الاتفاق على أنه لو اتفق أهل بلد على تركه لقوتلوا. 2 - التوارث بين المسلمين من تاريخ تشريعه في السَّنَة الأولى من الهجرة وإلى الآن، ينقل العمل المستمر بالأذان لكل صلاة من الصلوات الخمس في كل مسجد، وإن تعددت المساجد في البلد الواحد. ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (6/ 66) الفتوى رقم (4091)، ورقم (10189). (¬2) فتاوى ورسائل محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ (2/ 84).

3 - في حديث مالك بن الحويرث -رضي الله عنه-، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَليُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَليَؤُمَّكُمْ أَكبَرُكمْ" [متفق عليه]. 4 - أن النية من شروط الأذان، ولهذا لا يصح من المجنون ولا من السكران ونحوهما؛ لعدم وجود النية في أدائه فكذلك في التسجيل المذكور. 5 - أن الأذان عبادة بدنية، قال ابن قدامة -رحمه الله- في المغني (1/ 425): "وليس للرجل أن يبني على أذان غيره؛ لأنه عبادة بدنية فلا يصح من شخصين كالصلاة" أ. هـ. 6 - أن في توحيد الأذان للمساجد بواسطة مسجل الصوت على الوجه المذكور، عدةَ محاذير ومخاطر منها ما يلي: أ - أنه يرتبط بمشروعية الأذان أن لكل صلاة في كل مسجد سننًا وآدابًا، ففي الأذان عن طريق التسجيل تفويت لها وإماتة لنشرها مع فوات شرط النية فيه. ب- أنه يفتح على المسلمين باب التلاعب بالدين، ودخول البدع على المسلمين في عباداتهم وشعائرهم؛ لما يفضي إليه من ترك الأذان بالكلية والاكتفاء بالتسجيل. وبناء على ما تقدم فإن مجلس المجمع الفقهي الإِسلامي يقرر ما يلي: أن الاكتفاء بإذاعة الأذان في المساجد عند دخول وقت الصلاة بواسطة آلة التسجيل ونحوها لا يجزئ ولا يجوز في أداء هذه العبادة، ولا يحصل به الأذان المشروع، وأنه يجب على المسلمين مباشرة الأذان لكل وقت من أوقات الصلوات في كل مسجد، على ما توارثه المسلمون من عهد نبينا ورسولنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - إلى الآن" (¬1). ¬

_ (¬1) قرار رقم: 41 (1/ 9).

هل يشرع متابعة المؤذن الذي يؤذن عن طريق الآلات مثل المذياع؟

قلنا: فهذه المسألة الحكم فيها ظاهر؛ وهو أن الأذان عن طريق المسجل لا يجوز ولا يجزئ وغير مشروع، بل هو من البدع المنكرة، إذا كان يُسْتَعَاضُ به عن الأذان عن طريق أحد الناس، ويفتح باب التلاعب بالدين. فائدة: هل معنى هذا أنه لا يجوز الأذان عن طريق المسجل مطلقًا؟ نقول: الذي قصدناه في بحث هذه النازلة أن يستعاض بالأذان عن طريق المسجل عن الأذان من أحد الناس في المساجد، لكن لو جعل الأذان عن طريق المسجل في بعض الأماكن العامة، كالمطارات والمستشفيات وبعض الدوائر الحكومية، نقول: هذا لا بأس به إذا كان يقصد به التذكير، لكن لا بد أن يؤذن أحد الناس، فإذا كان ذلك المستشفى فيه مسجد أو مصلى، أو ذلك المطار أو ذلك المرفق فيه مسجد أو مصلى فلا بد أن يؤذن أحد الناس، ولا يكتفى بالأذان عن طريق المسجل. هل يشرع متابعة المؤذن الذي يؤذن عن طريق الآلات مثل المذياع؟ نقول هذا الأذان الذي ينقل له حالتان: الأولى: أن يكون منقولًا نقلًا مباشرًا، فهذا يتابع، فإذا سمعتَ المؤذن فإنك تتابعه وتجيبه، ودليل ذلك عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ المُؤَذِّنُ". وهذا يشمل ما إذا أذن في بلد الإنسان أو أذن في بلد آخر. الثانية: أن يكون هذا الأذان تسجيلًا كما تقدم كما تسلكه بعض الإذاعات، نقول: هذا لا تشرع إجابته، وذكرنا فيما تقدم أن أصل هذا الأذان غير مشروع وأنه يخشى أن يكون بدعة؛ لأن العبادات توقيفية.

الالتفات أثناء الأذان في مكبرات الصوت هل يشرع أم لا؟

الالتفات أثناء الأذان في مكبرات الصوت هل يشرع أم لا؟ يشرع للمؤذن الذي يؤذن في غير (ميكرفون) أن يلتفت يمينًا وشمالًا عند الحيعلة مع ثبوت قدميه؛ لأن ذلك ثبت من فعل مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (بحضرته)، ولأنه أبلغ في إسماع النداء للصلاة لمن بَعُدَ عن المسجد (¬1). وهل يشرع الالتفات مع وجود مكبرات الصوت؟ هذا محل خلاف بين العلماء المعاصرين: فقد قال بعضهم: الحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا، والعلة بالالتفات هو انتشار الصوت وهي منتفية مع وجود المكبرات. وقال بعضهم: بل المؤذن يستحب له الالتفات حال أذانه عبر مكبرات الصوت حفاظًا على السُّنَّة، لكن يكون التفاته قليلًا؛ لئلا يبتعد عن اللاقط، وهذا أقرب. حكم توحيد الأذان في المدينة الواحدة: معنى توحيد الأذان في المدينة الواحدة، أي ربط جميع مساجد المدينة الواحدة بشبكة للأذان الموحد، ويؤذن مؤذن واحد ويبث الأذان من جميع المساجد، وهذه الطريقة معمول بها في بعض الدول. حكم هذا العمل؟ الأذان شعيرة من شعائر الإِسلام، وينبغي المحافظة على شعائر الإِسلام، وعدم إدخال أي تغيير أو تبديل فيها؛ لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى الابتداع في الدين. ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (6/ 58) الفتوى رقم (9854).

وتوحيد الأذان، وجعل جميع مساجد المدينة الواحدة مربوطة بشبكة موحدة للأذان، ويؤذن مؤذن واحد فيها، ويبث أذانه في جميع المساجد، لا يجوز العمل بها, لما يأتي: أولًا: إن تعدد المؤذنين نظرًا لتعدد المساجد أمر معروف ومشروع، وجرى عليه العمل عند المسلمين منذ عهد بعيد جدًّا، حتى ولو كانت المساجد متقاربة. ثانيًا: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بالأذان لكل جماعة عند حضور الصلاة كما في حديث مالك بن الحويرث قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - في نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ رَحِيمًا رَفِيقًا، فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلَى أَهَالِينَا قَالَ: "ارْجِعُوا فكُونُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَصَلُّوا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَليؤذِّنْ لكُمْ أَحَدُكُمْ وَليَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ" (¬1)، والأذان الموحد فيه مخالفة لنص هذا الحديث، حيث إن مسجدًا واحدًا فقط يؤذن فيه، وبقية المساجد لا يؤذن فيها. ثالثًا: إن الأذان الموحد فيه تفويت الأجر والثواب على المؤذنين، وقصر الأجر على مؤذن واحد، ومن المعلوم أن ثواب الأذان عظيم؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا في النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأوّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا في التَّهْجيرِ لاسْتبقوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا في العَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا" (¬2). رابعًا: احتمال انقطاع التيار الكهربائي أو حصول عطل في أجهزة البث، وتغيب المؤذن ونحو ذلك، مما يؤدي إلى تعطُّل الأذان. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (628). (¬2) رواه البخاري (615)، مسلم (1059).

التبليغ خلف الإمام مع وجود مكبرات الصوت

خامسًا: إن ادِّعاء بعض الناس بحصول التشويش بسبب كثرة المساجد والمؤذنين غير صحيح؛ لأن هذا أمر شرعي ولا بد من الالتزام به، وقد أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء "بعدم جواز إذاعة الأذان من المساجد، ولا بد من الأذان في كل مسجد وإن تعددت المساجد". التبليغ خلف الإِمام مع وجود مكبرات الصوت: التبليغ وراء الإِمام يشرع إذا احتيج إليه بأن يكون المأمومون كثيرين ولا يسمعون تكبير الإِمام، ويركعون ويسجدون ويسلمون على صوت المبلغ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صلى بالناس في مرضه الأخير كان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- هو الذي يبلغ الناس عنه؛ لضعف صوته - صلى الله عليه وسلم - بسبب المرض وعدم سماع المأموم له. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "لا يشرع الجهر بالتكبير خلف الإِمام الذي هو المبلغ لغير حاجة باتفاق الأئمة؛ فإن بلالًا لم يكن يبلغ خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - هو ولا غيره، ولم يكن يبلغ خلف الخلفاء الراشدين، لكن لما مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالناس مرة وصوته ضعيف وكان أبو بكر يصلي إلى جنبه يسمع الناس التكبير، فاستدل العلماء بذلك على أنه يشرع التكبير عند الحاجة مثل ضعف صوته، فأما بدون ذلك فاتفقوا على أنه مكروه غير مشروع" (¬1) أ. هـ. وقال في موضع آخر: "أما التبليغ خلف الإِمام لغير حاجة فهو بدعة غير مستحبة باتفاق الأئمة، وإنما يجهر بالتكبير الإِمام كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه يفعلون، ولم يكن أحد يبلغ خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن لما مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - وضعف صوته، فكان أبو بكر -رضي الله عنه- يسمع بالتكبير" (¬2) أ. هـ. ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية (23/ 402 - 403). (¬2) المرجع السابق.

صدى الصوت

وقال ابن عابدين في حاشيته على الدر المختار وفي حاشية أبي السعود: واعلم أن التبليغ عند عدم الحاجة إليه بأن بلغهم صوت الإِمام مكروه، وفي السيرة الحلبية: اتفق الأئمة الأربعة على أن التبليغ حينئذ بدعة منكرة، أي مكروهة، وأما عند الاحتياج إليه فمستحب" (¬1) أ. هـ. وجاء في فتاوى المالكية: "ولا ينبغي فعله من غير حاجة إليه، ولا إشكال حينئذ في كونه منهيًا عن الإقدام عليه ابتداء ويبقى النظر إذا وقع من غير ضرورة في صحة الصلاة، فأما المأمومون إذا كانوا يسمعون صوت الإِمام فلا كلام في صحة صلاتهم؛ لأن اقتداءهم حينئذ بصلاة إمامهم، وأما المسمع فالصواب صحة صلاته؛ لأن الفقهاء قالوا: إن الذكر إذا كان في محله من الصلاة وجهر به المصلي قاصدًا للتفهيم فإنه مغترٌّ" (¬2) أ. هـ. وقال ابن مفلح في الفروع: "ويستحب جهر إمام به -أي بالتكبير- بحيث يسمع من خلفه وأدناه سماع غيره، ويكره جهر غيره به ولا يكره لحاجة ولو بإذن إمام بل يستحب به وبالتحميد لا بالتسميع" (¬3) أ. هـ. صدى الصوت: صدى الصوت يعني وضع جهاز يفخم صوت القارئ أو صوت المؤذن، وهذا الصدى ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يترتب على هذا الصدى ترديد وتكرار للحرف، فنقول بأن هذا لا يجوز لما في ذلك من عدم احترام كتاب الله -عَزَّ وجَلَّ- وتعظيمه حق التعظيم، ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (1/ 320). (¬2) (المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب)، أبو العباس أحمد بن يحيى الونشريسي (1/ 152). (¬3) الفروع (1/ 410).

مواقيت الصلاة في الدائرة القطبية

وأيضًا فيه شيء من الابتذال بهذا العمل. قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "نعم، أفتيت بأن الصدى حرام، وأرجو ممّن سمع مقالي هذا أن يبلغه؛ ... لا بأس إن اكتفى بالميكرفون الداخلي خاصة دون المنارة، لا بأس إذا كان هذا أبين لصوتك وأهون لك أنت؛ لأن الإنسان في التراويح إذا لم يكن صوته قويًا جدًا ربما يزداد في رفع الصوت فيتكلف ويشق عليه، فإذا جعل مكبر الصوت مكبرًا عاديًا أعانه على ذلك، هذا لا بأس لكن بشرط: ألَّا يكون في المنارة، وبشرط أن يكون مكبر الصوت بلا صدى" (¬1). القسم الثاني: أن لا يترتب عليه ترديد للحرف وتكرار له وهذا لا بأس به وجائز، والأولى أن تكون عناية المصلي وكذلك أيضًا الإِمام هي ما يتعلق بالتدبر والتذكر وعدم التعلق بالظاهر دون الباطن. مواقيت الصلاة في الدائرة القطبية: تنقسم الجهات التي تقع على خطوط العرض ذات الدرجات العالية إلى ثلاث: الأولى: تلك التي يستمر فيها الليل أو النهار أربعًا وعشرين ساعة فأكثر، بحسب اختلاف فصول السنة. ففي هذه الحال تقدر مواقيت الصلاة والصيام وغيرهما في تلك الجهات على حسب أقرب الجهات إليها، مما يكون فيها ليل ونهار متمايزان في ظرف أربع وعشرين ساعة. الثانية: البلاد التي لا يغيب فيها شفق الغروب حتى يطلع الفجر، بحيث لا يتميز شفق الشروق من شفق الغروب، ففي هذه الجهات يقدر وقت العشاء الآخرة والإمساك في الصوم وقت صلاة الفجر بحسب آخر فترة يتمايز فيها الشفقان. ¬

_ (¬1) اللقاء الشهري لابن عثيمين -رحمه الله- رقم (22).

ثانيا: النوازل المتعلقة بصلاة الجماعة

الثالثة: تلك التي يظهر فيها الليل والنهار خلال أربع وعشرين ساعة، وتتمايز فيها الأوقات إلَّا أن الليل يطول فيها في فترة من السنة طولًا مفرطًا ويطول النهار في فترة أخرى طولًا مفرطًا. ومن كان يقيم في بلاد يتمايز فيها الليل من النهار بطلوع فجر وغروب شمس، إلَّا أن نهارها يطول جدًّا في الصيف ويقصر في الشتاء، وجب عليه أن يصلي الصلوات الخمس في أوقاتها المعروفة شرعًا لعموم قوله سبحانه وتعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (¬1)، وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (¬2). ثانيًا: النوازل المتعلقة بصلاة الجماعة: صلاة الجماعة في الاستراحات: الاستراحة إما أن تكون قريبة بحيث من كان فيها يسمعون الأذان، وإن لم يكن بالمكبر، مكبر الصوت، فعليهم الحضور إلى المسجد على القول الراجح ليحضروا جماعة، أما إذا كانت الاستراحة بعيدة بحيث لولا المكبر ما سمعوا الأذان، فلهم الصلاة جماعة في أماكنهم. قراءة الضاد (ظاءً) في الفاتحة: تسامح العلماء في إخراج الضاد (ظاء) ما دام أن الإنسان لا يفرق بين مخرج الحرفين لتقارب مخرجهما، لكن إذا كان الإنسان إمامًا فالأحسن له أن يتعلَّم، فإذا كان الإنسان يجهل فإن هذا معفوٌّ عنه، وخصوصًا فيما يتعلّق بعامة الناس، وعلى ¬

_ (¬1) سورة الإسراء: 78. (¬2) سورة النساء: 103.

حكم إمامة المقعد للمصلين

هذا إذا صلى إنسان يعرف مخرج الحرفين ويفرق بينهما، خلف إمام لا يعرف ذلك، فإن هذا جائز ولا بأس به؛ فالعلماء - رحمهم الله- يسروا إذا كان الإنسان يجهل التفريق بين مخارج الحروف وصحَّحوا صلاته. حكم إمامة المقعد للمصلين: إذا كان لا يقدر على القيام فلا تجوز إمامته للقادرين على القيام؛ قال في المغني: "ولا يؤم القاعد من يقدر على القيام إلا بشرطين: أحدهما: أن يكون إمامَ الحي، نص عليه أحمد. الثاني: أن يكون مرضه يرجى زواله؛ لأن إمامة من لا يرجى زوال علته يفضي إلى ترك القيام على الدوام". المرض المعدي هل يسقط صلاة الجماعة؟ من الأعذار المسقطة للجماعة والجمعة المرض المعدي الذي يتعدى ضرره إلى الآخرين، فهذا الإنسان معذور بمثل هذا العذر، فلا تجب عليه صلاة الجماعة باعتبار المرض وباعتبار العدوى، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى مَنْ أكل ثومًا أو بصلًا أن يأتي للمسجد؛ لئلا يؤذي الناس برائحته وهذا -فيما يظهر- أشد ضررًا ممّن يأكل شيئًا له رائحة كريهة. صلاة المأمومين أمام الإِمام في المسجد الحرام: للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال: الأول: أن الصلاة لا تصح أمام الإِمام مطلقًا، سواء كان لعذر أو لغير عذر. الثاني: أن الصلاة تصح أمام الإِمام -ولو لغير عذر- مع الكراهة. الثالث: أن الصلاة لا تصح أمام الإِمام إلَّا لضرورة، إما لضيق المكان، أو

متابعة الإمام عبر وسائل الإعلام الموجودة اليوم سواء كانت هذه الوسائل مرئية أو كانت مسموعة

لزحام ... ، فتصح الصلاة للعذر، والواجب يسقط بالعذر؛ ولهذا يسقط عن المصلي ما يعجز عنه من القيام والقراءة واللباس الساتر للعورة، والطهارة ونحو ذلك، ودليل ذلك الآيات والأحاديث الدالة على رفع الحرج، وعلى التكليف بقدر الاستطاعة، كما في قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬1)، وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬2)، وحديث عمران بن حصين -رضي الله عنه-: "صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا ... "، وهذا القول هو رواية عن مالك (¬3) -رحمه الله- وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬4)، وما يقع في الحرم المكي في موسم الحج مُنَزَّلٌ على هذا القول؛ لأنه مظنة الزحام، والله تعالى أعلم. متابعة الإِمام عبر وسائل الإعلام الموجودة اليوم سواء كانت هذه الوسائل مرئية أو كانت مسموعة: إذا كانت الصلاة تنقل نقلًا مباشرًا حيًّا على الهواء، فهل تصح الصلاة خلف هذا الإِمام الذي تنقل صلاته؟ نقول: من صلى في بيته أو مزرعته أو مَتْجَرِهِ جماعة مع إمام المسجد على صوت المذياع مثلًا وتخلَّف عن شُهود الجماعة في بيت الله، دلَّ ذلك على فتوره عن امتثالِه أوامرَ الشريعة، وصدودِه وعُزوفِ نفسه عما يضاعف له به الحسنات، ويرفعه الله به إلى أعلى الدرجات، ويغفر له به السيئات، وخالفَ الأوامرَ الدالةَ على وجوب أدائها في المساجد، واستحقَّ الوعيد الذي توعَّد الشارع به المتخلفين عن شهود الجماعة في المساجد. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 286. (¬2) سورة التغابن: 16. (¬3) الكافي لابن عبد البر (1/ 211 - 212). (¬4) مجموع الفتاوى لابن تيمية (23/ 404 - 405).

متابعة المأموم للإمام إذا كان يسمعه عن طريق مكبرات الصوت وكذلك المرأة التي تصلي في بيتها مع الإمام من خلال مكبرات الصوت، هل لهما أن يصليا بصلاة الإمام؟

ثم إنه قد تقع صلاته على أحوال لا تصح معها صلاته، عند جماعة من أهل العلم، مثل كونه منفردًا خلف الصف مع إمكان دخوله في صف لو كان بالمسجد، وكونه أمام الإِمام، وقد يعرض ما لا يمكنه معه الاقتداء بالإمام كخَلَل في جهاز الاستقبال أو الإرسال، أو انقطاع التيار الكهربائي، وهو في أمن من هذا؛ لو صلى في مكان يرى فيه الإِمام والمأمومين. وبهذا نرى أنه لا يجوز أن يصلي في بيته منفردًا أو في جماعة مستقلَّة عن جماعة المسجد أو مقتديًا بإمام المسجد عن طريق الإذاعة (¬1). متابعة المأموم للإمام إذا كان يسمعه عن طريق مكبرات الصوت وكذلك المرأة التي تصلي في بيتها مع الإِمام من خلال مكبرات الصوت، هل لهما أن يصليا بصلاة الإِمام؟ هذه المسألة لها حالتان: الحالة الأولى: أن يكون بيت جار المسجد ملاصقًا للمسجد وبين المسجد والبيت منفذ. فالجمهور يقولون بصحة متابعة الإِمام وأن صلاته صحيحة، ولا تشترط الرؤية، وإنما يكفي سماع الصوت. الحالة الثانية: أن تكون هذه البيوت غير ملاصقة كما يوجد الآن في عصرنا أن أغلب البيوت ليست ملاصقة للمساجد. فهل يصح لأصحاب هذه البيوت أن يصلوا فيها وهم يسمعون الإِمام أو نقول ليس لهم ذلك؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء -رحمهم الله- على ثلاثة آراء: ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 213) الفتوى رقم (2437).

إذا انقطع التيار الكهربائي أثناء الصلاة

* الرأي الأول: أن الصلاة في هذه البيوت تصح ما دام أنهم يتمكنون من الاقتداء سواء كان الاقتداء بالتكبير أو بالرؤية. * الرأي الثاني: أنه يشترط مع إمكان الاقتداء اتصال الصفوف. وهذا قول ابن قدامة. * الرأي الثالث: أنه لا يشترط اتصال الصفوف، بل لا بد من شرطين: 1 - الرؤية للإمام أو لبعض المأمومين ولو في بعض الصلاة. 2 - سماع التكبير. والصحيح في هذه المسألة: أن الصفوف إذا اتصلت فلأصحاب البيوت أن يصلوا، أما إذا كانت لم تتصل فهذا محل نظر عند أهل العلم؛ لأن منهم من يشترط مع إمكان الاقتداء اتصالَ الصفوف. والدليل على ما ذكرنا أن الجماعة لها هيئة شرعية والعبادات توقيفية، وهيئتها الشرعية كما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة أنهم يجتمعون في مكان واحد وزمان واحد، هذه هي الهيئة الشرعية، لكن إذا اتصلت الصفوف فإنها تأخذ حكم هذا المكان، فيصبح المكانان في حكم المكان الواحد؛ لاتصال الصفوف، ففي هذه الحالة نقول بأنه لا بأس أن يصلوا في بيوتهم ويتابعوا الإِمام، أما ما عدا ذلك فالصواب أن المتابعة لا تصح. إذا انقطع التيار الكهربائي أثناء الصلاة: إذا انقطع صوت المكبر عمن هم بعيدون عن الإِمام فإنهم يكملون الصلاة فُرادى؛ كل يكمل لنفسه، ولهم أن يقدموا واحدًا منهم يكمل بهم الصلاة.

من يعملون في إطفاء الحرائق

من يعملون في إطفاء الحرائق: إذا وقع حادث حريق في وقت صلاة تجْمَعُ مع غيرها، كالظهر مع العصر، أو المغرب مع العشاء، جاز تأخيرها وجمعها مع الصلاة التي تجمع إليها، فتؤخر الظهر وتصلى مع العصر، وتؤخر المغرب وتصلى مع العشاء. وأما إذا وقع الحادث في وقت صلاة الفجر أو العصر أو العشاء فتؤخر الصلاة عن أول وقتها, ولكن لا تؤخر حتى يخرج الوقت، بل الواجب صلاتها في وقتها ولو بالتَّناوُب بين العاملين في الحادث فيما لو استمر، فتصلي فرقة والأخرى تباشر العمل في الحادث، ثم يباشر العمل الذين صلوا وتصلي الفرقة الأخرى. ثانيًا: إذا كان البلاغ عن الحادث من ثقة، وكان خطيرًا؛ جاز قطع الصلاة والتوجه إلى مقر الحادث، وتقضى الصلاة حسبما ذكر في الفقرة الأولى. ثالثًا: إذا حصل للعاملين في الإطفاء والإنقاذ في الحوادث مشقَّة لا تحتمل أثناء الصيام في نهار رمضان، جاز لهم أن يأخذوا من الطعام ما يُذْهِبُ المشقة عنهم، ثم يمسكوا بقية اليوم، ويقضوا يومًا بدله (¬1). العذر في ترك الجماعة بسبب الخطر: يجوز للأشخاص المرابطين على الحدود صلاة الجماعة في مواقعهم على الحدود، ولا يجب عليهم الذَّهاب إذا كان في ذَهابهم إلى المسجد خطر، أما إن لم يكن هناك خطر فالواجب الصلاة في المسجد لوجوب الصلاة جماعة في المسجد؛ عملًا بالأدلة الشرعية، ولا مانع من إبقاء مَنْ تدعو الحاجة إلى إبقائه ليكون حارسًا للمكان (1). ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 52) الفتوى رقم (13457).

حكم صلاة موظفي البنك في محل العمل

حكم صلاة موظَّفي البنك في محل العمل: جرت السنة الفعلية والقولية من الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أداء الصلاة جماعة في المسجد، وقد همَّ - صلى الله عليه وسلم - أن يحرِّق على المتخلفين عنها بيوتهم بالنار، وجرى على أدائها جماعة في المساجد خلفاؤه والصحابة -رضوان الله عليهم- وأتباعهم. فالواجب على موظفى البنك أن يصلوا الظهر جماعة في المسجد المجاور لهم؛ عملًا بالسنة، وأداءً للواجب، وسدًّا لذريعة التحايل للتخلف عن أداء الصلاة في المساجد، وابتعادًا عن مشابهة أهل النفاق. وأما إذا كان العدد كبيرًا، أو خاف المسؤول أن يختل العمل، أو تتعطل حاجة الناس، فهنا لا مانع من صلاتهم في مقر عملهم. ثالثًا: النوازل المتعلقة بصلاة المسافرين: الصلاة في السفينة والطائرة: إذا حان وقت الصلاة في الطائرة أو السفينة وجب على مَنْ فيها مِنَ المسلمين أن يصلي الصلاة في وقتها على حسب حاله وقدرته، فإن وجد ماءً وجب عليه التطهر به، وإن لم يجد ماءً أو وجده وعجز عن استعماله، تيمَّم، إن وجد ترابًا أو نحوه، فإن لم يجد ماء ولا ترابًا ولا ما يقوم مقام التراب، سقط عنه ذلك وصلى على حسب حاله؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬1)، وعليه أن يتوجه للقبلة، ويدور مع الطائرة أين دارت، في صلاة الفرض حسب الطاقة، أما النافلة فيصلي إلى جهة سير الطائرة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في السفر يصلي النافلة على راحلته حيث كان وجهه، وثبت في حديث أنس ما يدل على شرعية استقبال القبلة عند الإحرام ¬

_ (¬1) سورة التغابن: 16.

من صلى جمع تقديم ثم أدرك وقت الثانية عند الوصول

من حيث التنفُّل في السفر (¬1). من صلى جمع تقديم ثم أدرك وقت الثانية عند الوصول: المسافر إذا أدى فرضه، ثم سافر فأدرك هذا الفرض في البلد الذي سافر إليه، فإنه لا يجب عليه أن يعيد صلاة ذلك الفرض، بل ولا يشرع له أن يعيده، إلَّا إذا صلاه بنية النافلة؛ وذلك لأنه قد أدى ما عليه على الصفة المشروعة، فسقط عنه الواجب، وبرئت ذمته، والقاعدة في ذلك أن: "من فعل العبادة كما أُمِرَ فلا إعادة عليه". تأخير الصلاة لراكب الحافلة أثناء فريضة الحج: أداء الصلاة في وقتها هو آكَدُ فرائض الصلاة، فلا يجوز لأحد أن يؤخر الصلاة عن وقتها لتحصيل شرط آخر من شروطها، فلا يجوز تأخيرها لجنابة، ولا لحدث، ولا لنجاسة ثوب، ولا لعدم القدرة على أدائها قيامًا. وعلى هذا فيجب على من أدركتْه الصلاة -وهو في الحافلة-, وخشي أن يخرج وقتها لو أخرها حتى يصل إلى المزدلفة أو منى- عليه أن يصليها في وقتها على حسب استطاعته؛ لعموم قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬2)، فيصليها قائمًا، فإن لم يستطع فقاعدًا حيثما توجهت به الحافلة، ولا يجوز له أن يؤخرها عن وقتها لأجل أنه لا يستطيع أن يؤديها على صفتها الكاملة. وُيستثنَى من ذلك صلاة الظهر والمغرب؛ لأنه يرخص للمسافر أن يؤخرهما فيجمعهما مع ما بعدهما، فيصلي الظهر مع العصر جمع تأخير، وكذا المغرب مع العشاء. ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 121) الفتوى رقم (6275). (¬2) سورة التغابن: 16.

الجمع بين الصلاتين في المدرسة

وكثير من الناس يخطئون في هذه المسألة، فيظنون أن تعذُّر أداء الصلاة على هيئتها الكاملة الواجبة يبيح لهم تأخيرها إلى حين الاستطاعة ولو بعد خروج الوقت، وإنما أُتوا من جهلهم بكون الوقت آكد من فرائض الصلاة. فالحاصل أنه لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها لجنابةٍ ولا حدثٍ ولا نجاسةٍ ولا غيرِ ذلك، بل يصلي في الوقت بحسب حاله، فإن كان محدثًا وقد عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله، تيمم وصلى. وكذلك الجنب يتيمم ويصلي إذا عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله لمرض أو لبرد، وكذلك العريان يصلي في الوقت عريانًا, ولا يؤخر الصلاة حتى يصلي بعد الوقت في ثيابه. وكذلك إذا كان عليه نجاسة لا يقدر أن يزيلها فيصلي في الوقت بحسب حاله. وهكذا المريض يصلي على حسب حاله في الوقت، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمران ابن حصين -رضي الله عنه-: "صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ"، فالمريض -باتفاق العلماء- يصلي في الوقت قاعدًا أو على جنب، إذا كان القيام يزيد في مرضه، ولا يصلي بعد خروج الوقت قائمًا. وهذا كله لأن أداء الصلاة في وقتها فرض، والوقت أوكد فرائض الصلاة، كما أن صيام شهر رمضان واجب في وقته، ليس لأحد أن يؤخره عن وقته. الجمع بين الصلاتين في المدرسة: يجب على من كان بالمدرسة أو الجامعة أداء كل صلاة في وقتها إلَّا إذا كانوا ممّن يشملهم رخص السفر، فإذا قصروا الصلاة جاز لهم الجمع.

الجمع في البرد والضباب

ولهم أن يؤخروا صلاة الظهر إلى آخر وقتها، ويقدموا العصر في أول وقتها، ولعل ذلك يتسنَّى لهم بالتنسيق مع القائمين على الدراسة، ويكون هذا الوقت الذي يشمل آخر الظهر وأول العصر هو وقت راحتهم. الجمع في البرد والضباب: شدة البرد بدون ريح ولا مطر لا يجوز معها الجمع؛ لأن البرد يمكن أن يتقى بكثرة الملابس الواقية، ثم قد يكون طيلة أيام الشتاء -أي أنه معتاد-, لكن إذا كان الضباب يأتي أحيانًا بشكل غير معتاد بحيث يكون الخروج مع وجوده قد يؤدي إلى خطورة بسبب عدم الرؤية لا سيما في السيارات، فهنا يجوز الجمع لوجود المشقة الظاهرة، أما إذا كان الضباب لا يسبب إلَّا البرد فقط فهذا لا يجوز معه الجمع كما سبق، والله أعلم. الجمع بين الصلاتين للفشل الكلوي: أصحاب الغسيل الكلوي لهم الجمع تقديمًا أو تأخيرًا حسب دخولهم للغسيل؛ فإن كان دخولهم بعد دخول وقت صلاة الظهر مثلًا فليجمعوا تقديمًا بلا قصر إذا كانوا في بلدهم، وإذا كانوا مسافرين فلهم الجمع والقصر، وإذا كان دخولهم للغسيل قبل دخول وقت صلاة الظهر فليؤخروا الظهر ويجمعوها مع العصر، ولا يجوز تأخيرهما إلى ما بعد الغروب، والله أعلم. صلاة من خرجوا للنزهة: إذا كان خروجهم يعد سفرًا فلهم القصر ولهم الجمع، لكن صلاة كل فريضة في وقتها أفضل. وإذا كانت المسافة بين البلد وبين محل النزهة مسافة قصر وهي (ثمانون كيلو متر) في أصح قولي العلماء، وصاروا يقيمون إقامة يحملون من أجلها الزاد والمزاد

من أحكام صلاة بعض المسافرين للدراسة في الخارج

كاليومين والثلاثة، فهم مسافرون، يترخصون برخص السفر. وقد ذكر الفقهاء أنه لا فرق بين أن يكون السفر لعبادة، كسفر الحج والعمرة، أو لتجارة، أو لزيارة صديق أو لنزهة؛ لأن النصوص جاءت مطلقة غير مقيدة، وأما من يخرج يومًا ويرجع في يومه، أو في أول الليل ويرجع في آخره فلا يترخص إذا لم تكن المسافة مسافة سفر (80 كم). من أحكام صلاة بعض المسافرين للدراسة في الخارج: المغتربون عن بلادهم لهم ثلاث حالات: الحال الأولى: أن ينووا الإقامة المطلقة في بلاد الغربة كالعمال المقيمين للعمل، والتجار المقيمين للتجارة، وسفراء الدول ونحوهم ممّن عزموا على الإقامة إلَّا لسبب يقتضي نزوحهم إلى أوطانهم، فهؤلاء في حكم المستوطنين، في وجوب الصوم عليهم وإتمام الصلاة الرباعية والاقتصار على يوم وليلة في المسح على الخفين. الحال الثانية: أن ينووا إقامة لغرض معين غير مقيدة بزمن، فمتى انتهى غرضهم عادوا إلى أوطانهم -أي لا يعلمون متى تنتهي مهمتهم-, كالتجار القادمين لبيع السلع أو شرائها أو القادمين لمهمات تتعلق بأعمالهم الرسمية، أو لمراجعة دوائر حكومية، ونحوهم ممّن عزموا على العودة إلى أوطانهم بمجرد انتهاء غرضهم -فهؤلاء في حكم المسافرين وإن طالت مدة انتظارهم-، فهم لا يعلمون متى تنتهي، فلهم الترخص برخص السفر من الفطر في رمضان، وقصر الصلاة الرباعية، ومسح الخفين ثلاثة أيام، وغير ذلك، وهذا قول جمهور العلماء.

دوريات حرس الحدود

لكن لو ظن هؤلاء أن غرضهم لا ينتهي إلَّا بعد المدة التي ينقطع بها حكم السفر، كما لو ظنوا أنه لا ينتهي إلَّا بعد أربعة أيام مثلًا، فهل لهم الترخص؟ على قولين كما سيأتي في الحالة الثالثة. الحال الثالثة: أن ينووا إقامة لغرض معين مقيدة بزمن، ومتى انتهى غرضهم عادوا إلى أوطانهم، فقد اختلف أهل العلم -رحمهم الله- في حكم هؤلاء. والذي نرجحه في هذه الحالة أن المسافر الذي نوى الإقامة ببلد أكثر من أربعة أيام لا يقصر الصلاة، وإذا كانت الإقامة دون هذه المدة فإنه يقصر الصلاة. وهذا هو اختيار اللجنة الدائمة (¬1). دوريات حرس الحدود: الدوريات التي تعمل في نطاق ثمانين كيلو متر فأكثر من محل إقامتها، تقصر الصلاة خلال القيام بالدورية، أما إن كانت المسافة أقل من ذلك أو لم تقصد الدورية ما يبلغ المسافة المذكورة؛ لأنها لا تدري هل تكون مسافة دوريتها طويلة أو قصيرة، فإن أفرادها يتمون الصلاة، وأما أثناء الإقامة فإن كانوا يقصدون إقامة أربعة أيام فأقل أو لا يعرفون مدة إقامتهم، فإنهم يقصرون الصلاة في الحالتين إذا كانت المسافة التي قطعوها ثمانين كيلو فأكثر، أما إن كانوا يقصدون إقامة أكثر من أربعة أيام فإنهم يتمون الصلاة (¬2). من أحكام صلاة العاملين بالبحرية أثناء قيامهم بالعمل: أولًا: ليس على العاملين من العسكريين على السفن جُمُعة؛ لأنهم ليسوا مستوطنين بها كأهل القرى والأمصار، إلَّا من كان منهم مقيمًا على الرصيف ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 95) الفتوى رقم (2852). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 395)، الفتوى رقم (20866).

رابعا: النوازل المتعلقة بصلاة الجمعة

وليس في حكم السفر، فإنها تلزمهم صلاة الجمعة في المساجد التي تقام فيها الجمعة، وأما التراويح فلا بأس بفعلها في السفر. ثانيًا: من صلى من أهل السفن جمعًا بين الظهر والعصر لكونه في حكم المسافر، فليس له التنفل بعد صلاة العصر ولو كان الجمع جمع تقديم؛ لعموم الأحاديث الناهية عن الصلاة بعد صلاة العصر، وهي تعم المسافرين وغيرهم، أما الجمع بين المغرب والعشاء فلا يمنع من التنفل بعده ولو كان الجمع جمع تقديم. رابعًا: النوازل المتعلقة بصلاة الجمعة: صلاة الجمعة في المصليات الصغيرة: من أعظم مقاصد صلاة الجمعة اجتماع المسلمين في مسجد واحد، ويجوز تعددها في البلد الواحد إذا كانت هناك حاجة؛ كازدحام المسجد، وعدم كفايته للمصلين، أو تباعد المنازل كثيرًا مما يكون فيه مشقة على المصلين ونحو ذلك، فإنه يجوز حينئذٍ تعدد الجمع بقدر الحاجة، وإذا وجدت الحاجة، فإنه لا يشترط لأداء الجمعة مكان مخصوص، فتصلى في المساجد الكبيرة، والمصليات وغيرها من الأماكن الطاهرة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ... جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجدًا وَطَهُورًا ... " (¬1). طلب التبرعات أثناء الخطبة: هذا الفعل لا يجوز؛ لأن فيه إشغالًا للحاضرين عن سماع وتدبر الخطبة؛ وذلك لأن الإنصاف واجب على الجميع، فالواجب منع مثل ذلك مهما كانت المبررات لجمع المال. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (438).

الطواف بالكعبة أثناء خطبة الجمعة

الطواف بالكعبة أثناء خطبة الجمعة: الواجب على المسلم إذا صعد الإِمام المنبر أن يستمع إلى ما يقوله الخطيب، وأن يكف عن الحركة، ولو كانت هذه الحركة عبادة؛ كقراءة القرآن، والصلاة والطواف، ما لم تكن الحركة تحية المسجد للداخل والإمام يخطب. الخطبة بالعامِّية: إذا كان المصلون أو أغلبهم لا يفهمون العربية الفصحى أو يخفى عليهم كثير من معاني ألفاظها ودلالاتها، وكان وعظهم بالعامية أقوى تأثيرًا فيهم وأبلغ، فلا بأس أن يخطب الخطيب فيهم باللهجة العامية الدارجة؛ لأن المقصود هو الوعظ والتذكير، فإذا حصل المقصود بالعامية جازت الخطبة. ولأنه إذا جاز للخطيب أن يخطب بغير العربية فيمن لا يفهمونها، كانت الخطبة بالعامية التي هي أقرب للعربية أولى بالجواز. على أن الأولى للخطباء ألا يتوسَّعوا في ذلك فيأخذوا بالأسهل ويتركوا الأجزل والأبلغ؛ فإن الأصل أن يخطب الخطيب باللغة العربية، فهي تشتمل على ألفاظ سهلة ميسرة يفهمها كل عربي، فلا ينبغي أن يتركها إلى العامية إلَّا إذا رأى أن أكثر المصلين لا يفهمونها ولا ينتفعون بخطابها كما هو الشأن في كثير من القرى والبادية. حكم تبكير الإِمام إلى الجمعة أسوة بالمأمومين: المشروع في حق الإِمام إذا دخل أن يسلم أول ما يدخل على من حول الباب، ثم يصعد المنبر ويتوجه إلى الناس ويسلم عليهم عامة، ثم يجلس إلى فراغ الأذان، ثم يقوم فيخطب الخطبة الأولى، ثم يجلس، ثم يخطب الخطبة الثانية، ثم ينزل فيصلي بالناس، هذا هو المشروع للإمام في يوم الجمعة، ولا ينبغي للإمام أن

النداء لصلاة العيد

يتقدم إلى المسجد قبل حلول وقت الخطبة والصلاة، كما يفعله بعض الناس المحبين للخير الذين يرغبون في السبق إلى الطاعات؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يفعل هذا، فلم يكن - صلى الله عليه وسلم -، يتقدم إلى المسجد في يوم الجمعة ينتظر الخطبة والصلاة، وخير الهدي هدي محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فالذي ينبغي للإنسان أن يكون متحرِّيًا لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه خير الهدي. النداء لصلاة العيد: من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا ينادى لصلاة عيد الفطر ولا لصلاة عيد الأضحى قبلها، من أجل أن يحضروا إلى المصلى ولا من أجل إفهامهم حكم الصلاة، ولا ينبغي فعل ذلك لا بالميكرفون ولا بغيره؛ لأن وقتهما معلوم والحمد لله، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (¬1)، وينبغي لأولي الأمر من الحكام والعلماء أن يبينوا للمسلمين حكم هذه الصلاة قبل يوم العيد، وأن يبينوا لهم كيفيتها وما ينبغي لهم فيها، فيما قبلها وما بعدها؛ حتى يتأهَّبوا للحضور إلى المصلى في وقتها، ويؤدوها على وجهها الشرعي. حجز مكان في المسجد يوم الجمعة: إذا كان المرء داخل المسجد فلا حرج عليه أن يحجز مكانًا في الصف الأول، أو الصفوف المتقدمة. أو كان في المكان وخرج لحاجة كالوضوء فله أن يحجز المكان. وأما إن حجز المكان وخرج لحاجة من حوائج الدنيا، أو لوقت طويل، أو للنوم، فلا يجوز له حجز المكان؛ لأن غيره أحقّ به منه. ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب: 21.

استئجار مكان لأداء صلاة الجمعة

استئجار مكان لأداء صلاة الجمعة: المسلمون الذين يكونون في بلد غير إسلامية ولا يجدون مكانًا مناسبًا لإقامة صلاة الجمعة، فلا بأس باستئجارهم مكانًا لأداء صلاة الجمعة، وفعلهم هذا يُؤجَرون عليه -إن شاء الله- لإقامة شعيرة من شعائر الإِسلام في بلاد الكفر، وفعلهم هذا داخل في معنى قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬1)، ولا يسمى ما استأجروه مسجدًا وإنما هو مصلى مؤقت، والمصلى لا يأخذ أحكام المسجد في الجملة، فلا تؤدى تحية المسجد عند الدخول؛ لكونه غير مسجد، وإنما تصلى ركعتان أو أكثر لا بنيَّة تحية المسجد وإنما سنة مطلقة؛ لحديث: "بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاةٌ" (¬2)، أي ما بين الأذان والإقامة، كما تؤدى فيه أربع ركعات بعد صلاة الجمعة؛ لأنها سنة تابعة للصلاة لا للمسجد، كما تؤدى سائر الطاعات من قراءة القرآن وتعليمه والصدقة وغير ذلك. ترجمة خطبة الجمعة: لم يثبت في حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أنه يشترط في خطبة الجمعة أن تكون باللغة العربية، وإنما كان - صلى الله عليه وسلم - يخطب باللغة العربية في الجمعة وغيرها؛ لأنها لغته ولغة قومه، فوعظ من يخطب فيهم وأرشدهم وذكَّرهم بلغتهم التي يفهمونها, لكنه أرسل إلى الملوك وعظماء الأمم كتبًا باللغة العربية، وهو يعلم أن لغتهم غير اللغة العربية، ويعلم أنهم سيترجمونها إلى لغتهم ليعرفوا ما فيها. وعلى هذا يجوز لخطيب الجمعة في البلاد التي لا يعرف أهلها أو السَّواد الأعظم من سكانها اللغةَ العربية، أن يخطب باللغة العربية ثم يترجمها إلى لغة بلاده؛ ليفهموا ما نصحهم وذكرهم به، فيستفيدوا من خطبته، وله أن يخطب خطبة الجمعة بلغة ¬

_ (¬1) سورة التغابن: 16. (¬2) رواه البخاري (624)، مسلم (838).

الطبيب المناوب له ترك الجمعة

بلاده مع أنها غير عربية، وبذلك يتم الإرشاد والتعليم والوعظ والتذكير ويتحقق المقصود من الخطبة، غير أن أداء الخطبة باللغة العربية ثم ترجمتها إلى المستمعين أَوْلَى؛ جمعًا بين الاهتداء بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبه وكتبه، وبين تحقيق المقصود من الخطبة؛ خروجًا من الخلاف في ذلك (¬1). الطبيب المناوب له ترك الجمعة: الطبيب المناوب قائم بأمر ينفع المسلمين، ويترتب على ذهابه إلى الجمعة خطر، فلا حرج عليه في ترك صلاة الجمعة، وعليه أن يصلي الظهر في وقتها، ومتى أمكن أداؤها جماعة وجب ذلك؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬2)، فإذا كان من الموظفين من يتناوب معه وجب عليهم أن يصلوا الظهر جماعة. إقامة الجمعة على دفعتين لضيق المسجد: إنشاء جماعتين في مسجد واحد غير جائز شرعًا, ولا نعلم له أصلًا في دين الله، والأصل أن تقام جمعة واحدة في البلد الواحد، ولا تتعدد الجمع إلَّا لعذر شرعي؛ كبعد مسافة على بعض من تجب عليهم، أو يضيق المسجد الأول الذي تقام فيه عن استيعاب جميع المصلين، أو نحو ذلك مما يصلح مسوغًا لإقامة جمعة ثانية؛ فعند ذلك يقام جمعة أخرى في مكان يتحقق بإقامتها فيه الغرض من تعددها، حتى ولو لم يكن مسجدًا؛ كالمساكن الخاصة وكالحدائق والميادين العامة التي تسمح الجهات المسؤولة عنها بإقامة الجمعة فيها (¬3). ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 254)، الفتوى رقم (1495). (¬2) سورة التغابن: 16. (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 263)، الفتوى رقم (2369).

تعدد الجمعة في البلد الواحد

تعدد الجمعة في البلد الواحد: لم يكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مسجد تقام فيه صلاة الجمعة بالمدينة إلَّا مسجد واحد هو المسجد النبوي، وكان المسلمون يأتون إليه لصلاة الجمعة به، من أطراف المدينة وضواحيها، كالعوالي، واستمر الحال على ذلك في عهد الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم -، وذلك دليل عملي منه - صلى الله عليه وسلم - على قصد جمع المسلمين في صلاة الجمعة في البلد الواحد على إمام واحد، إشعارًا بوحدة القيادة، وجمعًا للقلوب، وتأليفًا للنفوس، وزيادة في التعارف، وتأكيدًا لمعاني الأخوة، ولو كان تعدد الجمع في البلد الواحد من غير مبرر شرعي مباحًا، لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه -رضي الله عنهم -، أن يصلي كل منهم الجمعة في مسجده بأطراف المدينة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم -: "ما خُيِّرَ بين أمرين إلَّا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه" وفي ذلك تيسيرٌ على أمته وتخفيفٌ عنها، وعملٌ بعموم قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬1)، وعموم قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (¬2)، فلما لم يأمرهم بالتعدد، ولم يأذن لهم فيه، دلَّ ذلك على قصده - صلى الله عليه وسلم -، إلى توحيد الجمعة في البلد الواحد، وجَمْعِهم على إمام واحد فيها؛ لما تقدم بيانه من الحكمة في ذلك. لكن إذا كانت المساجد التي تقام فيها صلاة الجمعة تضيق بمن يصلي فيها الجمعة حتى أن كثيرًا منهم يصلي في الشمس الشديدة الحرارة وفي الطرق وفوق السقوف، فلا مانع من أن تقام الجمعة في مساجد أخرى زيادة على المساجد التي تقام فيها الجمعة، حسب ما تقتضيه الحاجة؛ تيسيرًا على الناس، ودفعًا للحرج عنهم، ولهذا لما كثر المسلمون بعد عهد الخلفاء الراشدين وازدحمت المساجد بمن ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 158. (¬2) سورة النساء: 28.

المواعظ بعد صلاة الجمعة

يصلي فيها الجمعة، صلوا الجمعة في أكثر من مسجد في المدينة الواحدة؛ عملًا بأدلة التيسيرِ ورفعِ الحرج، ولنا فيهم أُسوة حسنة (¬1). المواعظ بعد صلاة الجمعة: لا نعلم دليلًا يمنع الموعظة بعد صلاة الجمعة، ومعلوم أن الدواعي لإلقاء الموعظة تختلف باختلاف الأحوال، فمن أراد الجلوس للاستماع جلس، ومن أراد الخروج فعل ولا حرج في ذلك، فالأمر في هذا واسع والحمد لله. لكن من الحكمة عدم إلقاء الموعظة بعد خطبة الجمعة إذا لم تدع لذلك الحاجة، فإن الخطبة موعظة وقد سبقت فلا تكرر، ومعلوم أن المواعظ والخطب إذا كثرت وتوالت سُئِمَتْ، وقلَّل ذلك من شأنها (¬2). الحديث أثناء خطبة الجمعة من قِبَل القائمين على المسجد: المساجد الكبار التي تؤدى فيها صلاة الجمعة بعضها قد يكون له أناس يقومون عليه، ينظمون الناس ويرتبونهم، إلى آخره. فما هو حكم حديثهم حال خطبة الإِمام؟ لا يجوز لمن في المسجد أن يتكلم أثناء خطبة الجمعة مع آخر مطلقًا، سواء كان في تعديل صفوف أو إسكات النساء أو إرشاد بعض المصلين إلى أماكن الوضوء أو غير ذلك، أما الإِمام فله أن يتكلم بما يرى فيه المصلحة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى رجلًا دخل المسجد وجلس ولم يصل التحية قال وهو يخطب: "قُمْ فَصَلِّ رَكعَتَيْنِ" (¬3)، وهكذا يجوز لأحد الجماعة أن يسأل الخطيب فيما تدعو الحاجة إليه؛ ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 256)، الفتوى رقم (2212). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (12/ 262)، الفتوى رقم (18612). (¬3) رواه البخاري (931).

وقت نداء الجمعة الأول

لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على الذي طلب منه الاستسقاء وهو يخطب، بل أجابه واستغاث - صلى الله عليه وسلم - (¬1). قلنا: لكن يستثني من هذا الحكم أمران: الأول: الحرمان الشريفان. كما أفتت بذلك اللجنة أيضًا حيث قالت: "إذا كان الأمر كما ذكر فلا حرج عليكم في الكلام أثناء الخطبة؟ لعظم المصلحة في ذلك" (¬2). الثاني: العمل على إصلاح مكبرات الصوت في أثناء الخطبة وأن هذا لا يعتبر من اللَّغوِ، أو العمل على تسجيل الخطبة أو العمل على نقل الخطبة إلى مكان آخر، فهذا كله جائز ولا بأس به لما في ذلك من دفع حصول الضرر بانقطاع مكبرات الصوت في أثناء الخطبة ولما يحصل من النفع بتسجيل الخطبة أو نقل الخطبة إلى مكان آخر. وقت نداء الجمعة الأول: الوقت الذي يفصل بين أذان الجمعة الأول والثاني هو الوقت الكافي للناس في أن يتهيئوا لصلاة الجمعة ويذهبوا إليها، فالأذان الأول لتنبيه الناس على قرب وقت صلاة الجمعة حتى ينتبه الناس وينتهوا عن بيعهم وشرائهم وأعمالهم الدنيوية ويتجهوا إلى صلاة الجمعة. وأما الأذان الثاني، فهذا إنما يكون إعلامًا بدخول وقت الصلاة، وهو عند دخول الإِمام وجلوسه على المنبر، كما كان في وقت النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 201)، الفتوى رقم (4260). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 247)، الفتوى رقم (12349).

إذن ولي الأمر بقنوت النوازل

إذن ولي الأمر بقنوت النوازل: القنوت عند النوازل يتوقف على ولي الأمر، كما هو المشهور في مذهب الإِمام أحمد أنهم قالوا: يقنت الإمام فقط، الإِمام الأعظم، أي: الحاكم، أو من ينوب عنه، ومتى أمر بالقنوت قنت الناس وإلا فلا. والأَولى في مثل هذا أن يُنتَظَر أمر الدولة بذلك، إذا أَمَرَ به ولي الأمر أو من ينوب عنه قنتنا سواء كان من جهة رسمية كالأوقاف أو غيرها، وإلا فلا، وبقاء الأمة على مظهر واحد خير من التفرق؛ لأنه مثلًا: أقنت أنا والمسجد الذي بجانبي لا يقنت، أو نحن أهل بلد نقنت والبلاد الأخرى لا تقنت، ففيه تفريق للأمة وتوزيع، وجمع الشتات من أحسن ما يكون، ونحن نعلم أن عثمان -رضي الله عنه- في آخر خلافته صار يتم الصلاة في منًى، يعني: يصلي الرباعية أربعًا، فأنكر الصحابة عليه، حتى إن ابن مسعود لما بلغه ذلك استرجع، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فجعل هذا من المصائب، وكانوا يصلون خلفه أربعًا، فقيل لابن مسعود: "يا أبا عبد الرحمن، كيف تصلي أربعًا وأنت قد أنكرتَ عليه؟ فقال: إن الخلاف شر" فكون الأمة على حال واحدة أفضل؛ لأن طلبة العلم تتسع صدورهم للخلاف؛ لكن العامة لا تتسع صدورهم للخلاف أبدًا. فالذي ننصح به إخواننا أن لا يتعجلوا في أمر كانت لهم فيه أَنَاةٌ، مع أن باب الدعاء مفتوح، يدعو لهم الإنسان في حال السجود، وبعد التشهد الأخير، وفي قيام الليل، وبين الأذان والإقامة، أي: لا يتعين الدعاء في القنوت فقط، صحيح أن القنوت مَظْهَرٌ عام، ويجعل الأمة كلها تتهيأ للدعاء وتتفرغ له؛ لكن كوننا نترك كل واحد بهواه ونفرِّق الناس هذا أمر مرفوض (¬1). ¬

_ (¬1) لقاء الباب المفتوح -اللقاء الثاني- (ص: 58).

الدعاء على عموم النصارى في قنوت النوازل

قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: إذا نزل بالمسلمين نازلة فالمشروع أن يقنت الإِمام الأعظم -أي رئيس الدولة- ويقنت أيضًا من يأمره رئيس الدولة بالقنوت، وإذا لم يأمر رئيس الدولة بالقنوت فلا قنوت؛ لأن الأمر في القنوت في النوازل يرجع إلى رئيس الدولة لا إلى أفراد الناس، بدليل أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قنت في النوازل ولم نحفظ أنه أمر الناس بذلك -أي أمر بقية المساجد-؛ فالأمر في قنوت النوازل إلى الإِمام -يعني رئيس الدولة-، إن أمر به فسمعًا وطاعة وإن لم يأمر به فلا، والحمد لله، الدعاء ليس خاصًا بالقنوت، تدعو الله تعالى وإن كنت في السجود وإن كنت بين الأذان والإقامة وليس الدعاء المستجاب محصورًا في دعاء القنوت (¬1). الدعاء على عموم النصارى في قنوت النوازل: المشروع هو الدعاء على النصارى المحاربين والظالمين والحاقدين الذين يتربَّصون بالمؤمنين الدوائر، ويعتدون على المؤمنين في أعراضهم وأموالهم ودمائهم وحرماتهم، أو يناصرون غيرهم من الكافرين في ظلم المؤمنين والاعتداء عليهم. وأما النصارى الذين لم يظلموا المسلمين أو يحاربوهم أو يناصروا عليهم عدوهم، فلا ينبغي الدعاء عليهم، خصوصًا إذا كان ذلك في مقام الدعوة، تأليفًا لقلوبهم، وطمعًا في إسلامهم. ¬

_ (¬1) فتاوى نور على الدرب لفضيلة الشيخ محمَّد بن صالح العثيمين -رحمه الله-.

رابعا: النوازل المتعلقة بالجنائز

رابعًا (*): النوازل المتعلقة بالجنائز الصلاة على المنتحر والترحم عليه: كل من مات على الإِسلام فإنه يصلى عليه؛ لأن المقصود بالصلاة هو الشفاعة له والدعاء له بالمغفرة والرحمة والنجاة من النار، وكل مسلم من أهل الشفاعة له والاستغفار له، وإنما تحرم الصلاة على الكفار والمشركين، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} (¬1)، وكذلك من علم نفاقه لا تجوز الصلاة عليه؛ لأنه سبحانه نهى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي على المنافقين فقال: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (¬2). والمسلم إذا قتل نفسه أو كان معروفًا بارتكاب بعض الكبائر، فإن ذلك لا يخرجه عن الإِسلام ولا يحرمه من دعوة المسلمين، ولكن ينبغي لأهل العلم وأهل الخير المعروفين أن يتركوا الصلاة على أمثال هؤلاء؛ تنفيرًا من أفعالهم وزجرًا عنها، دليل ذلك حديث جابر بن سمرة قال: "أُتِىَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ" (¬3). فهو لم يصل عليه ولكنه لم يَنْهَ عن الصلاة عليه، فتَرَكَ الصلاة زجزًا عن فعله المنكر، ولم يَنْهَ عن الصلاة عليه؛ لأنه مسلم. ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 113. (¬2) سورة التوبة: 84. (¬3) رواه مسلم (2309). (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كذا بالمطبوع، وحقه أن يكون (ثالثا) لا (رابعا)

دفن المسلم في مقابر النصارى

دفن المسلم في مقابر النصارى: اتفق الفقهاء على أنه لا يدفن مسلم بمقابر الكفار، ولا كافر في مقابر المسلمين، وإذا دفن أحدهما في مقبرة الآخر نبش وجوبًا ما لم يتغير؛ لأن الكفار يُعذبون في قبورهم، والمسلم يتأذى بمجاورتهم. فإذا لم تكن في بعض البلاد التي يسكنها مسلمون مقابرُ خاصة بهم، فإنه يُنقل وجوبًا إلى بلاد المسلمين، إن أمكن ذلك ماديًّا وسمحت سلطات بلاد المسلمين، ولم يُخَفْ تغير جثة الميت، وإلا جاز دفنه في مقابر الكفار على أن يخصَّص للمسلمين جانبٌ منها لهم، لا يشاركهم فيه غيرهم. فإن لم يمكن جاز دفنه؛ للضرورة، وبه أفتى مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي. واقترح أحد أعضاء المجمع أن تراعى عند دفنه في مقابر الكفار درجاتُ الكفر، فمقابر النصارى عند الضرورة أولى من مقابر اليهود، ومقابر اليهود أولى من مقابر الوثنيين والملحدين، وهكذا (¬1). السفر للصلاة على الميت: لا مانع من السفر للصلاة على قريب أو عزيز، ولا دليل على منع ذلك، وليس هو من نوع ما قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إِلَى ثَلاَثةِ مَسَاجِدَ" (¬2). فالمقصود من الحديث أنه لا يصار إلى أي موضع على وجه التقرب بزيارته إلَّا هذه المساجد الثلاثة، أما السفر للصلاة على قريب، أو تعزية قريب أو عزيز، فإنه لا بأس به، ولا نعلم مانعًا يمنع منه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) مجلة المجمع, العدد الثالث (2/ 1104، 1161، 1193، 1400). (¬2) رواه البخاري (1189)، ومسلمٌ (1397).

حكم وضع الزهور على القبور

حكم وضع الزهور على القبور: وضع الزهور على قبور الشهداء أو قبور غيرهم، أو عمل قبر الجندي المعلوم أو المجهول- من البدع التي أحدثها بعض المسلمين في الدول التي اشتدت صلتها بالدول الكافرة؛ استحسانًا لما لدى الكفار من صنيعهم مع موتاهم، وهذا ممنوع شرعًا لما فيه من التشبه بالكفار، واتباعهم فيما ابتدعوه لأنفسهم في تعظيم موتاهم (¬1). الوقوفُ دَقِيقَةَ صمتٍ: إقامة احتفال للشهداء ووقوف من حضروا الاحتفال على أقدامهم مدةَ دقيقةِ صمتٍ؛ ترحُّمًا على أرواح الشهداء- بدعةٌ منكرة؛ لم يفعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا خلفاؤه الراشدون، ولا سائر الصحابة -رضي الله عنهم -، ولا أئمة المسلمين في القرون الأولى، التي شهد لها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها خير القرون، رحمهم الله تعالى، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوْ رَدٌّ" (¬2). حكم النعي في الصحف ووسائل الإعلام: لا بأس بنشر خبر وفاة بعض الأشخاص المشهورين بالخير والصلاح عبر الصحف ووسائل الإعلام ليحصل الترحم عليهم والدعاء لهم من المسلمين، ولكن لا يجوز مدحهم بما ليس فيهم؛ فإنَّ ذلك كذب صريح، ولا يجوز الجزم لأحدهم بأنه من أهل الجنة يقينًا؛ فإنَّ أهل السنة لا يجزمون لأحد بجنة ولا نار، ولكن نرجو للمحسنين ونخاف على المذنبين. هذا إذا لم يكن في ذلك كلفة، فإن كان فيه كلفة فتركه أولى؛ لأن الرسول نهى عن إضاعة المال، وهذا من إضاعة المال، ويكفي الكتابة بالخط إليهم، أو بَرْقِيَّةٍ، أو مكالمة تلفونية ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (9/ 91)، الفتوى رقم (4023). (¬2) رواه البخاري (2697)، ومسلمٌ (4589).

دفن الميت في تابوت (صندوق خشبي)

دفن الميت في تابوت (صندوق خشبي): السنة ألا يدفن الميت في تابوت مغلق عليه، أو مفتوح؛ لأن ذلك لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عملًا ولا قولًا, ولم ينقل عن أصحابه -رضي الله عنهم -. والخير كله في الاتباع والشر في الابتداع، ولأن فيه تشبهًا بالكفار، فإن كانت التربة رخوة وغير متماسكة، أو كان جسد الميت مهترِّئًا بالاحتراق، أو مقطعًا، أو أشلاءً بحيث لا يضبطه إلَّا الصندوق، فقد أجازه الفقهاء (¬1). ما يتعلق بحجز جثة الميت: حجز جثة الميت من قبل المستشفى مقابل تسديد ما عليه من مبالغ مالية، عمل محرم ولا يجوز، والدليل على ذلك: أن الأصل هو الإسراع والمبادرة بتجهيز الميت وتغسيله وتكفينه؛ ففيه تعطيل لهذه السنة، دليل ذلك حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا مَاتَ أَحَدُكُم فَلَا تَحْبِسُوهُ وَأَسْرِعُوا بهِ إِلَى قَبْرِه" (¬2). وأيضًا حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَسْرِعُوا بِالجِنَازَة؛ فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ"، وأيضًا فعل الصحابة كما في قصة المرأة التي تقمُّ المسجد أو الرجل الذي كان يقم المسجد؛ مات في الليل، ومع ذلك لم ينتظر به الصحابة لصلاة الفجر، بل جهزوه وغسلوه وصلوا عليه، فدفنوه في الليل. فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هَلَا آذَنْتُمُونِي"، فدلُّوه على قبرها أو قبره فصلى عليه (¬3). ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 428)، الفتوى رقم (3913). (¬2) رواه البخاري (1189)، مسلم (1397). (¬3) رواه البخاري (1189)، مسلم (1397).

ما يتعلق بتشريح جثة الميت

أما بالنسبة لهذه الديون فهي: إما أن يكون الميت دخل بكفالة -يعني كفله شخص-، فنقول: ليس هناك داعٍ لحبس جثة الميت، وإنما الكفيل هو الذي يقوم بتسديد المبلغ الذي عليه ثم بعد ذلك يرجع على التركة. وإما أن يكون الميت معسرًا ليس عنده شيء، فالآن فسدت ذمته، يعني ليس له ذمة صحيحة، فكيف يطالب وليس هناك مسوِّغ شرعي لحبس جثة الميت؛ لأنه ليس عنده شيء، وورثته لا يجب عليهم أن يسددوا الديون ولا يُطالَب الورثة باتفاق العلماء؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬1). وإما أن يكون مُوسرًا له تركة، فإن حقه يتعلق بمال الميت في التركة ولا يتعلق ببدن ولا بجثة الميت، فنقول: المستشفى كسائر من له دين على هذا الميت؛ فيرجع على التركة ويأخذ حقه من تركته؛ كما قال الله-عَزَّ وجَلَّ-: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (¬2)، فتقدم الديون والوصايا ثم بعد ذلك إن بقي شيء فيكون للورثة. ما يتعلق بتشريح جثة الميت: ينقسم التشريح إلى ثلاثة أقسام: * الأول: التشريح لغرض التحقق عن دعوى جنائية. * الثاني: التشريح لغرض التحقق عن أمراض وبائية؛ لتتخذ على ضوئه الاحتياطات الكفيلة بالوقاية منها. * الثالث: التشريح للغرض العلمي تعلُّمًا وتعليمًا. ¬

_ (¬1) سورة فاطر: 18. (¬2) سورة النساء: 11.

حكم هذه الاقسام الثلاثة؟ بالنسبة للقسمين الأول والثاني: فحكمهما الجواز؛ تحقيقًا لمصالح كثيرة في مجالات الأمن والعدل ووقاية المجتمع من الأمراض الوبائية، ومفسدةُ انتهاك كرامة الجثة المشرحة مغمورةٌ في جنب المصالح الكثيرة والعامة المتحققة بذلك. وأما بالنسبة للقسم الثالث، وهو التشريح للغرض التعليمي، فنظرًا إلى أن الشريعة الإِسلامية قد جاءت بتحصيل المصالح وتكثيرها، وبدَرْءِ المفاسد وتقليلها، وبارتكاب أدنى الضررين لتفويت أشدهما، وأنه إذا تعارضت المصالح أخذ بأرجحها. وحيث إن تشريح غير الإنسان من الحيوانات لا يغني عن تشريح الإنسان. وحيث إن في التشريح مصالح كثيرة ظهرت في التقدم العلمي في مجالات الطب المختلفة. فإننا نرى: جواز تشريح جثة الآدمي في الجملة، إلَّا أنه نظرًا إلى عناية الشريعة الإِسلامية بكرامة المسلم ميتًا كعنايتها بكرامته حيًّا؛ وذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كسْرُ عَظْمِ المَيِّتِ كَكَسْرِه حَيًّا" (¬1)، ونظرًا إلى أن التشريح فيه امتهان لكرامته، وحيث إن الضرورة إلى ذلك منتفية بتيُّسر الحصول على جثث أموات غير معصومة: فإننا نرى الاكتفاء بتشريح مثل هذه الجثث وعدم التعرض لجثث أموات معصومين والحال ما ذكر (¬2). قلنا: ومع القول بجواز التشريح إلَّا أن هناك شروطًا لا بد منها وهي: ¬

_ (¬1) رواه أحمد (24783)، ابن ماجه (1616)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4478). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (8/ 428)، الفتوى رقم (3913).

أولا: الشروط المعتبرة للتشريح من أجل التعلم

أولًا: الشروط المعتبرة للتشريح من أجل التعلُّم: 1 - أن يكون التشريح بقدر الحاجة، فإذا احتجنا أن نشرّح اليد فلا نشرِّح بقية الجسم، أو احتجنا أن نشرح الرأس فلا نشرح بقية الجسم، فمثلًا الطلاب الذين يدرسون طب العيون بحاجة إلى تشريح العين وليسوا بحاجة إلى القدم أو الرجل، فالتشريح يكون بقدر الحاجة. 2 - أن تشريح جثث النساء يكون من قبل النساء، وأما تشريح جثث الرجال فإنه يكون من قبل الرجال، ويرى بعض أهل العلم جوازه للحاجة للرجال والنساء. 3 - أن هذه الأجزاء تدفن بعد تشريحها. ثانيًا: الشروط المعتبرة للتشريح الجنائي: الشرط الأول: أن يكون هناك متهم يتهم بالاعتداء على هذا الشخص وقتله، فإن لم يكن هناك متهم فلا حاجة إلى التشريح. الشرط الثاني: قيام الضرورة لتشريح هذه الجثة وذلك لضعف الأدلة الجنائية؛ لأن الأصل في التشريح أنه محرم ولا يجوز؛ لما في ذلك من انتهاك هذه الحرمة ولما في ذلك من التمثيل، والنبي - صلى الله عليه وسلم - "نَهَى عَنِ المُثْلَةِ" (¬1)، وأما إذا لم تَقُمْ ضرورة -بأن كانت الأدلة الجنائية واضحة في أن المعتدي هو زيد من الناس، أو إنَّه قد مات موتًا طبيعيًا- فإنه لا يلجأ إلى التشريح. الشرط الثالث: إذْن القاضي الشرعي. الشرط الرابع: أن يكون هناك طبيب ماهر يتمكن من معرفة ما يبين حال الجناية. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4192).

نبش قبر الميت

الشرط الخامس: أن لا يُسقط الورثة حقهم، فلو أن الورثة أسقطوا حقهم من المطالبة بدم الجاني، فإنه لا فائدة من التشريح حينئذ. نبش قبر الميت: الأصل أنه لا يجوز نبش قبر الميت وإخراجه منه؛ لأن الميت إذا وضع في قبره فقد تبوَّأ منزلًا وسبق إليه، فهو حبس عليه ليس لأحد التعرض له، ولا التصرف فيه، ولأن النبش قد يؤدي إلى كسر عظم الميت وامتهانه، وإنما يجوز نبش قبر الميت وإخراجه منه إذا دعت الضرورة إلى ذلك، أو مصلحة إسلامية راجحة يقررها أهل العلم (¬1). نقل الميت من بلد إلى بلد آخر: أولًا: هناك مواضع لا يجوز فيها نقل الميت من بلد إلى بلد آخر: الموضع الأول: إذا أدى ذلك إلى هَتْكِ حرمة الميت أو تغيير جثته، فنقول: هذا لا يجوز، كما لو كان النقل لفترة طويلة وسيسبب ذلك أن تتغير جثة الميت مما يؤدي إلى هتك حرمته، فنقول بأن هذا غير جائز ويجب أن يدفن في محله. الموضع الثاني: الشهداء لا يجوز نقلهم، ويجب دفنهم في مواضعهم. ودليل ذلك حديث جابر -رضي الله عنه-: "أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بقَتْلَى أُحُد أَنْ يُرَدُّوا إِلَى مَصَارِعِهِمْ، وَكَانُوا نُقِلُوا إِلَى المَدِينَةِ" (¬2). الموضع الثالث: نقل الميت للضرورة: هذا جائز ولا بأس به، كما لو مات في بلاد كفار وخشي على هذا الميت من أن يعبث الكفار بجثته بالتمثيل أو بالتحريق أو بالتقطيع أو البيع ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (9/ 122). (¬2) رواه ابن ماجه (1516)، وصححه الألباني في سنن ابن ماجه (1/ 486).

الجلوس للعزاء

أما في غير هذه المواضع الثلاثة فهل ينقل الميت أم لا ينقل؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم، والراجح أن نقل الميت من قبره إلى قبر آخر يدفن فيه، لا يجوز إلَّا لضرورة تقتضي ذلك شرعًا (¬1). الجلوس للعزاء: اختلف فيه العلماء - رحمهم الله- على قولين: القول الأول: لا يشرع الجلوس للعزاء، وذهب إليه بعض العلماء، وممن ذهب إليه من المتأخرين الشيخ محمَّد بن عثيمين -رحمه الله- (¬2). القول الثاني: أن هذا جائز لا بأس به؛ يعني كون أهل الميت يجتمعون في مكان ويقصدهم الناس للتعزية. قال الخلَّال -رحمه الله-: سهَّل الإِمام أحمد -رحمه الله- في الجلوس للعزاء، وممن أخذ بهذا من المتأخرين الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (¬3). الموعظة في المقبرة: الموعظة التي تعتبر كلام مجلس، هذه لا بأس بها، فإنه قد ثبت في السنن أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - خرج أو أتى بقيع الغرقد، وفيه ناس يدفنون ميتًا لهم، لكن الميت لمَّا يلحدْ، يعني معناه أنهم يحفرون القبر، فجلس وجلس حوله أصحابه وجعل يحدثهم بحال الإنسان عند موته، وحال الإنسان بعد دفنه حديثًا هادئًا ليس على سبيل الخطبة. ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (9/ 95). (¬2) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين -رحمه الله- (17/ 397). (¬3) مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (13/ 373).

إحضار المشروبات إلى المقبرة

وكذلك ثبت عنه في صحيح البخاري وغيره أنه قال: "مَا مِنكمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ"، فَقُلنَا: يَا رَسُولَ الله، أَفلاَ نَتَّكِلُ؟ قَالَ: "لا. اعْمَلُوا فكُلٌّ مُيَسَّرٌ" ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}، إلى قوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (¬1). والحاصل أن الموعظة التي هي قيام الإنسان يخطب عند الدفن أو بعده، ليست من السنة ولا تنبغي؛ لما عرفت. وأما الموعظة التي ليست كهيئة الخطبة، كإنسان يجلس ومعه أصحابه فيتكلم بما يناسب المقام، فهذا طيب اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). إحضار المشروبات إلى المقبرة: الأحوط للمسلم أنه لا يفعل مثل هذه الأشياء، ويؤيد ذلك أنه لم يفعل في عهد النبي ولا الصحابة، والعبادات توقيفية. أما ما يتعلق بالماء والحاجة إليه، فمن يحتاج إليه فإنه يخرج من المقبرة ويشرب من البرادات التي بجانب المقبرة، ويؤيد ذلك أنه ربما يتوسع في الأمر ويكبر ويترتب محاذير شرعية، ولو أحضر الماء إلى المقبرة في السيارات ومن احتاج إليه أخذ منه، فلا بأس بذلك، المهم أن الماء يختلف عن غيره؛ لشدة الحاجة إليه. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6605)، مسلم (2647). (¬2) لقاءات الباب المفتوح للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- (2/ 55 - 56).

خامسا: النوازل المتعلقة بالزكاة

خامسًا: النوازل المتعلقة بالزكاة ما يتعلق بزكاة الأوراق النقدية: اختلف المتأخرون في تكييف هذه الأوراق النقدية، والصواب أن هذه الأوراق النقدية عبارة عن نقد مستقل قائم بذاته يجري عليه ما يجري على الذهب والفضة من الأحكام. وهذا القول هو قول أكثر العلماء، وبه أفتت هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، حيث قالت: "لذلك كله فإن هيئة كبار العلماء تقرر بأكثريَّتها أن الورق النقدي يعتبر نقدًا قائمًا بذاته، كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان، وأنه أجناس تتعدد بتعدد جهات الإصدار؛ بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس، وأن الورق النقدي الأمريكي جنس، وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته، فيجب زكاتها إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الاثمان والعروض المعدة للتجارة إذا كانت مملوكة لأهل وجوبها" (¬1). نصاب الأوراق النقدية: اختلف العلماء -رحمهم الله تعالى- في نصاب الأوراق النقدية: هل يقدر بالذهب أو يقدر بالفضة أو يقدر بالأحظِّ للفقراء من الذهب والفضة؟ على ثلاثة أقوال: فقال بعضهم: نصاب الأوراق النقدية يقدر بالفضة، يعني: إذا بلغ نصاب الفضة وجبت فيه الزكاة، وإذا لم يبلغ نصاب الفضة لا تجب فيها الزكاة. ¬

_ (¬1) مجلة البحوث الإِسلامية، العدد الأول (1/ 221).

زكاة الديون

وقال آخرون: بأن نصاب الأوراق النقدية يقدر نصابها بالذهب. القول الثالث، وهو الأقرب: أنه ينظر إلى الأحظ للفقراء من الذهب أو الفضة. زكاة الدُّيون: الدُّيون التي في ذمة الناس -سواء كانت ثمنًا لمبيع، أو أجرة، أو قرضًا، أو قيمة متلف أو أرش جناية، أو غير ذلك مما يثبت في الذمة- تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: لا زكاة فيه: وهو ما إذا كان الدَّين مما لا تجب الزكاة في عينه، مثل أن يكون في ذمة شخص لآخر أصواع من البر أو كيلوات من السكر أو من الشاي وما أشبه ذلك، فهذا لا زكاة فيه حتى ولو بلغ النصاب. القسم الثاني: الدَّين الذي تجب الزكاة في عينه كالذهب والفضة، ولكنه على معسر، فهذا لا زكاة فيه إلَّا إذا قبضه. وهل يزكيه لسنة واحدة ثم يستأنف به حولًا، أم أنه يستأنف به حولًا على كل حال؟ على قولين: أرجحهما أنه يزكيه لسنة واحدة بمجرد قبضه. القسم الثالث: ما فيه الزكاة كل عام، وهو الدَّين الذي تجب فيه الزكاة لعينه، وهو على موسر، فهذا فيه الزكاة كل عام، ولكن إن شاء صاحب الدَّين أن يخرج زكاته مع ماله، وإن شاء أخرها حتى يقبضه من المدين. وقد صدر قرار من مجمع الفقه الإِسلامي بشأن زكاة الديون جاء فيه: * "أولًا: أنه لم يرد نص من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله يفصل زكاة الدُّيون. * ثانيًا: أنه قد تعدد ما أثر عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، من وجهات نظر في طريقة إخراج زكاة الديون.

زكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية

* ثالثًا: أنه قد اختلفت المذاهب الإِسلامية بناءً على ذلك اختلافًا بيِّنًا. * رابعًا: أن الخلاف قد انبنى على الاختلاف في قاعدة: هل يُعطَى المال الذي يمكن الحصول عليه صفةَ المال الحاصل؟ وقد قرر ما يلي: * أولًا: تجب زكاة الدين على رب الدين عن كل سنة إذا كان المدين مليئًا باذلًا. * ثانيًا: تجب الزكاة على رب الدَّين بعد دوران الحول من يوم القبض إذا كان المدين معسرًا أو مماطلًا" (¬1). زكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية: لا زكاة على الإنسان فيما يقتنيه من الأواني والفرش، والمعدات، والسيارات، والعقارات، وغيرها، حتى وإن أعده للإجارة، فلو كان عند الإنسان عقارات كثيرة تساوي قيمتها الملايين، ولكنه لا يتّجر بها، أي لا يبيعها ويشتري بدلها للتجارة مثلًا، وإنما أعدها للاستغلال، فإنه لا زكاة في هذه العقارات ولو كثرت، وإنما الزكاة فيما يحصل منها من أجرة أو نماء، فتجب الزكاة في أجرتها إذا تم عليها الحول من العقد، فإن لم يتم عليها الحول فلا زكاة فيها؛ لأن هذه الأشياء -ما عدا الأصناف الأربعة السابقة- الأصل فيها براءة الذمة حتى يقوم دليل على الوجوب , بل قد دل الدليل على أن الزكاة لا تجب فيها، في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِ في عَبْدِهِ وَلاَ فَرَسِهِ صَدَقَةٌ". فإنه يدل على أن ما اختصه الإنسان لنفسه من الأموال غير الزكوية، ليس فيه صدقة، أي ليس فيه زكاة، والأموال التي أعدها الإنسان للاستغلال من العقارات وغيرها لا شك أن الإنسان قد أرادها ¬

_ (¬1) مجلة المجمع (ع 2، ج 1/ 61).

صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي

لنفسه ولم يُرِدْها لغيره؛ لأنه لا يبيعها بل يستبقيها للاستغلال والنماء، وهذا ما أقره مجلس مجمع الفقه الإِسلامي حيث جاء في قراره ما يلي: "أولًا: أنه لم يؤثر نص واضح يوجب الزكاة في العقارات والأراضي المأجورة. ثانيًا: أنه لم يؤثر نص كذلك يوجب الزكاة الفورية في غلة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية. وقد قرر ما يلي: أولًا: أن الزكاة غير واجبة في أصول العقارات والأراضي المأجورة. ثانيًا: أن الزكاة تجب في الغلة، وهي ربع العشر، بعد دوران الحول من يوم القبض مع اعتبار توافر شروط الزكاة، وانتفاء الموانع" (¬1). صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإِسلامي: أولًا: تعريف صندوق التضامن الإِسلامي: تأسس صندوق التضامن الإِسلامي بموجب قرار صادر عن مؤتمر القمة الإِسلامي الثاني المنعقد في مدينة لاهور بباكستان عام 1394 هـ الموافق لعام 1974 م، كصندوق دائم له شخصية اعتبارية مستقلة. وصادق المؤتمر الخامس المنعقد بمدينة (كوالالمبور) عاصمة ماليزيا في شهر جمادي الثانية 1394 هـ الموافق لشهر يوليو 1974 م، على النظام الأساسي للصندوق. ثانيًا: أهداف الصندوق: بالرجوع إلى المادة الثانية من النظام الأساسي لصندوق التضامن الإِسلامي يتضح أن أهدافه هي العمل على تحقيق كل ما من شأنه رفع مستوى المسلمين في العالم، والمحافظة على عقيدتهم، ودعم تضامنهم وجهادهم في جميع المجالات، ¬

_ (¬1) مجلة المجمع (ع 2، ج 1/ 115).

وخاصة في المجالات الآتية: "أ- التخفيف من أثر نتائج الأزمات والمحن والكوارث الطبيعية والظروف الاجتماعية التي تتعرض لها البلاد والمجتمعات الإِسلامية، وتوجيه المساعدات اللازمة لذلك. ب- تنظيم منح المساعدات والمعونات المادية للبلاد والأقليات والجاليات الإِسلامية، بُغْيَةَ رفع مستواها الديني والثقافي وإلاجتماعي، والمساهمة في بناء المساجد والمستشفيات والمدارس التي تحتاج إليها. ج- تنظيم نشر الدعوة الإِسلامية ورسالتها وتعاليم الإِسلام ومُثُله العليا، ودعم المراكز الإِسلامية داخل الدول الإِسلامية وخارجها؛ لأجل خير المجتمعات الإِسلامية ونشر الفكر الإِسلامي. د- تشجيع البحث العلمي والتقني وإنشاء وتمويل الجامعات الإِسلامية، استجابة لاحتياجات العالم الحديث، حيثما كان ذلك مطلوبًا، ودعم الجامعات القائمة فعلًا. هـ - دعم وتنظيم نشاط الشباب المسلم في العالم روحيًّا واجتماعيًّا ورياضيًّا. و- تنظيم الحلقات الدراسية التي تضم نخبة من الخبراء والمختصين في قضايا التشريع والتقنية والإدارة والاقتصاد والثقافة والعلوم، التي يحتاج العالم الإِسلامي إلى بَلوَرَةِ الفكر الإِسلامي بشأنها. ز- تنفيذ جميع المشروعات التي يقرها المؤتمر الإِسلامي، ويعتبر تنفيذها من اختصاص صندوق التضامن الإِسلامي".

ثالثا: حكم دفع الزكاة للصندوق

ثالثًا: حكم دفع الزكاة للصندوق: نقول: لا يجوز دفع الزكاة إلى صندوق التضامن الإِسلامي؛ لأن في ذلك حبسًا للزكاة عن مصارفها الشرعية المحددة في الكتاب الكريم، ولكنه يمكن أن يكون وكيلًا عن الأشخاص والهيئات في صرف الزكاة في وجوهها الشرعية بالشروط التالية: 1 - أن تتوافر شروط الوكالة الشرعية بالنسبة للموكل والوكيل. 2 - أن يدخل الصندوق على نظامه الأساسي وأهدافه، التعديلاتِ المناسبةَ التي تمكِّنه من القيام بهذا النوع من التصرفات. 3 - أن يخصِّص صندوق التضامن حسابًا خاصًا بالأموال الواردة من الزكاة، بحيث لا تختلط بالموارد الأخرى التي تنفق في غير مصارف الزكاة الشرعية، كالمرافق العامة ونحوها. 4 - لا يحق للصندوق صرف شيء من هذه الأموال الواردة للزكاة في النفقات الإدارية ومرتبات الموظفين وغيرها من النفقات التي لا تندرج تحت مصارف الزكاة الشرعية. 5 - لدافِع الزكاة أن يشترط على الصندوق دفع زكاته فيما يحدده من مصارف الزكاة الثمانية، وعلى الصندوق -في هذه الحالة- أن يتقيد بذلك. 6 - يلتزم الصندوق بصرف هذه الأموال إلى مستحقِّيها في أقرب وقت ممكن؛ حتى يتيسر لمستحقيها الانتفاع بها، وفي مدة أقصاها سنة (¬1). ¬

_ (¬1) مجلة المجمع (ع 4، ج 1/ 517).

زكاة الأسهم في الشركات

زكاة الأسهم في الشركات: أولًا تعريفها: أسهم الشركات يراد بها الحصة التي يملكها الشريك في شركات المساهمة، وهذه الحصة تمثل جزءًا من رأس مال الشركة. وقال بعض العلماء في تعريف السهم في الشركات: أنه صَكٌّ يمثِّل نصيبًا عينيًا أو نقديًا في رأس مال الشركة، قابِلٌ للتداول، يُعطي مالكه حقوقًا خاصة. ثانيًا: كيفية إخراج زكاة الأسهم؟ قد اختلف المتأخرون في كيفية إخراج زكاة الأسهم، وذكروا في ذلك تفصيلات، ولهم أقوال كثيرة. وقد صدر بشأنها قرار من مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ , الموافق 6 - 11 فبراير 1988 م. قرار رقم (3). جاء فيه: "أولًا: تجب زكاة الأسهم على أصحابها، وتخرجها إدارة الشركة نيابة عنهم إذا نُصَّ في نظامها الأساسي على ذلك، أو صدر به قرار من الجمعية العمومية، أو كان قانون الدولة يلزم الشركات بإخراج الزكاة، أو حصل تفويض من صاحب الأسهم لإخراج إدارة الشركة زكاة أسهمه. ثانيًا: تخرج إدارة الشركة زكاة الأسهم كما يخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله، بمعنى أن تعتبر جميع أموال المساهمين بمثابة أموال شخص واحد، وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال الذي تجب فيه الزكاة، ومن حيث النصاب، ومن حيث المقدار الذي يؤخذ، وغير ذلك مما يراعى في زكاة

زكاة الأسهم المقتناة بفرض الاستفادة من ريعه

الشخص الطبيعي، وذلك أخذًا بمبدأ الخلطة عند من عمَّمه من الفقهاء في جميع الأموال. ويطرح نصيب الأسهم التي لا تجب فيها الزكاة، ومنها أسهم الخزانة العامة، وأسهم الوقف الخيري، وأسهم الجهات الخيرية، وكذلك أسهم غير المسلمين. ثالثًا: إذا لم تُزَكِّ الشركةُ أموالهَا لأي سبب من الأسباب، فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم، فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة، لو زكت الشركة أموالها على النحو المشار إليه، زكَّى أسهمه على هذا الاعتبار؛ لأنه الأصل في كيفية زكاة الأسهم وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك. وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد التجارة، زكاها زكاة عروض التجارة، فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه، زكى قيمتها السوقية، وإذا لم يكن لها سوق، زكى قيمتها بتقويم أهل الخبرة، فيخرج ربع العشر (2. 5 %) من تلك القيمة ومن الربح، إذا كان للأسهم ربح. رابعًا: إذا باع المساهم أسهمه في أثناء الحول ضم ثمنها إلى ماله وزكَّاه معه عندما يجيء حول زكاته. أما المشتري فيزكي الأسهم التي اشتراها على النحو السابق (¬1). زكاة الأسهم المقتناة بفرض الاستفادة من رِيعه: ذكرنا فيما سبق أسهم الشركات وما يتعلق بها من أحكام الزكاة، ويمكن أن يقال بأن الأسهم عمومًا تنقسم إلى ثلاثة أقسام: ¬

_ (¬1) مجلة المجمع (ع 4، ج 1/ 705).

أسهم قَصَدَ منها المساهم المتاجرة فيها: فهذه لا خلاف فيها أنها تكتسب سمة العروض التجارية، بشرط ألا تكون فيها غلبة الديون والنقود، وفي كل الأحوال جميع موجوداتها تعتبر زكوية. أسهم قصد منها المساهم المشاركة: أي أنه يظل شريكًا في شركة ما لمدة معينة أو إلى حين التصفية، ويسري على هذا النوع حكم زكاة أموال المشاركة والمضاربة، فقد تكون هناك أصول ثابتة لا تخضع للزكاة، وهي ربما تدخل في مرحلة إنشاء الشركة فقط. أسهم قصد منها المساهم الحصول على الرِّيع فقط: بمعنى أن نشاط الشركة المساهمة يدور في العقارات والأراضي المأجورة، وفي هذه الصورة لا زكاة إلَّا في رِيعها؛ إذ لا يتصور في الغالب أن تكون هناك موجودات زكوية أخرى في مثل هذه الأسهم. وقد صدر من مجمع الفقه الإِسلامي الدولي قرار بشأن هذه النازلة؛ ففي الفقرة الثالثة منه ما نصه: "إذا لم تُزَكِّ الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب، فالواجب على المساهمين زكاة أموالهم، فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة لو زكت الشركة أموالها على النحو المشار إليه، زكَّى أسهمه على هذا الاعتبار؛ لأنه الأصل في كيفية زكاة الأسهم. وإذا لم يستطع المساهم معرفة ذلك -فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من رِيع السهم السنوي، وليس بقصد التجارة- فإنه يزكيها زكاة المستغلات؛ فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما تجب الزكاة في الريع، وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم قبض الريع، مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع إذا كانت الشركات لديها أموال تجب فيها

زكاة الزراعة

الزكاة كنقود وعروض تجارة وديون مستحقة على المدينين الأملياء، ولم تزك أموالها ولم يستطع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الموجودات الزكوية، فإنه يجب عليه أن يتحرَّى ما أمكنه، ويزكي ما يقابل أسهمه من الموجودات الزكوية، وهذا ما لم تكن الشركة في حالة عجز كبير بحيث تستغرق ديونُها موجوداتِها. أما إذا كانت الشركات ليس لديها أموال تجب فيها الزكاة، فإنه ينطبق عليها ما جاء في القرار رقم 28 (3/ 4) من أنه يزكي الريع فقط ولا يزكي أصل السهم" (¬1). والله أعلم. زكاة الزراعة: إنه مما لا شك فيه أن الزراعة قد اتسعت دائرتها، وتطورت مشاريعها الإنتاجية، بسبب اختراع وسائل حديثة في هذا الميدان، وهذا قد يقتضي إمعان النظر من جديد في بعض الأحكام المستحدثة المتعلقة بزكاة الزراعة، في ضوء آراء واجتهادات الفقهاء. وليس بِخَافٍ أنه قد تعددت الاتجاهات الفقهية في عدد من المسائل المنوطة بزكاة الزروع والثمار. ونظرًا لهذه التطورات الحاصلة في مجال الزراعة وما ينتج عنها من بعض الأحكام المستحدثة، صدر قرار من مجمع الفقه الإِسلامي بشأن الزراعة بالوسائل الحديثة. ومما جاء فيه: "أولًا: لا يحسم من وعاء الزكاة النفقات المتعلقة بسقي الزرع؛ لأن نفقات السقي مأخوذة في الشريعة بالاعتبار في المقدار الواجب. ثانيًا: لا تحسم من وعاء الزكاة نفقات إصلاح الأرض وشق القنوات ونقل التربة. ¬

_ (¬1) قرارات مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي (1/ 174).

زكاة مكافأة نهاية الخدمة والراتب التقاعدي بالنسبة للموظف والعامل

ثالثًا: النفقات المتعلقة بشراء البذور والسماد والمبيدات لوقاية الزرع من الآفات الزراعية ونحوها مما يتعلق بموسم الزرع، إذا أنفقها المزكِّي من ماله لا تحسم من وعاء الزكاة، أما إذا اضطر للاستدانة لها لعدم توافر مال عنده، فإنها تحسم من وعاء الزكاة، ومستند ذلك الآثار الواردة عن بعض الصحابة ومنهم: ابن عمر وابن عباس -رضي الله عنهما-، وهو أن المزارع يخرج ما استدان على ثمرته ثم يزكي ما بقي. رابعًا: يحسم من مقدار الزكاة الواجبة في الزروع والثمار النفقات اللازمة؛ لإيصالها لمستحقيها" (¬1)، والله أعلم. زكاة مكافأة نهاية الخدمة والراتب التقاعدي بالنسبة للموظف والعامل: أولًا: التعريف بها: 1 - تعريف مكافأة نهاية الخدمة: هي حق مالي أوجبه ولي الأمر بشروط محددة على رب العمل لصالح الموظف -سواء كان موظفًا ضمن مؤسسات الدولة أو ضمن الشركات الأخرى- عند انتهاء خدمته، فإنه يستحق هذا الحق المالي عند تركه للعمل، سواءٌ كان سبب الترك هي الاستقالة أو التقاعد أو الوفاة. 2 - تعريف مكافأة التقاعد: هي مبلغ مالي مقطوع تؤديه الدولة أو المؤسسات المختصة إلى الموظف أو العامل المشمول بقانون التأمينات الاجتماعية إذا لم تتوافر جميع الشروط المطلوبة لاستحقاق الراتب التقاعدي. 3 - تعريف الراتب التقاعدي: هو مبلغ مالي، يستحقه شهريًا الموظف أو العامل على الدولة أو المؤسسة المختصة بعد انتهاء خدمته، بمقتضى القوانين والأنظمة إذا توافرت الشروط المحددة فيها. ¬

_ (¬1) قرارات مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي (1/ 208).

ثانيا: حكم الزكاة لهذه المذكورات

ثانيًا: حكم الزكاة لهذه المذكورات: لما كانت هذه المذكررات حقوقًا مالية توجبها الدولة للموظف نقول: إن هذه المكافأة التي يقبضها الموظفون سواء كانوا تابعين لمؤسسات الدولة أو تابعين للشركات الأخرى، لا تجب فيها الزكاة إلا بعد أن يحول عليها الحول، فإذا قبضوا هذه المكافأة بعد نهاية خدمتهم فإنهم يستأنفون بها حولًا مستقلًا، فإن استهلكوها قبل الحول فلا زكاة فيها، وإن حال عليها الحول وهي عندهم فإن فيها الزكاة؛ وذلك لما يلي: أولًا: أن الموظف لا يستحقها إلَّا عند نهاية خدمته، أما قبل ذلك فإنه لا يستحقها ولا يجوز له أن يتنازل عنها ولا يجوز له أن يتصرف فيها بشراء ونحو ذلك؛ فإنه لا يستحقها إلَّا عند نهاية خدمته، وإن كان كذلك فلا تجب فيها الزكاة إلَّا بعد أن يحول عليها الحول. ثانيًا: أن الموظف لا يملك أن يتصرف في هذه المكافأة ولا يملك أن يشتري فيها، فمثلًا لو كان يستحق عند نهاية خدمته مبلغ مئة ألف ريال لا يملك أن يشتري فيه ولا يملك أن يتنازل عنها، مما يدل على أنه لا يملكها إلَّا عند نهاية خدمته، وحينئذٍ تدخل في ملكه وبالتالي فإنه يحتاج إلى أن يحول عليها الحول. ثالثًا: أن الموظف لو كان سبب ترك وظيفته هو الوفاة فإنه لا يستحق هذه المكافأة، وإنما يستحقها من يعولهم هذا الموظف. رابعًا: أن هذه المكافأة غير مستقرة فقد يحرمها الموظف حسب الشروط والأنظمة التي سنَّت هذه المكافأة؛ فقد يكون عند الموظف أخطاء تقتضي أن يحرم من هذه المكافأة. ولقد صدر قرار من مجمع الفقه الإِسلامي بخصوص ذلك، ومما جاء فيه ما يلي:

أ- مكافأة نهاية الخدمة

أ- مكافأة نهاية الخدمة: هي حق مالي يوجبه القانون أو العقد للعامل أو الموظف بشروط، ويقدر بحسب مدة الخدمة وسبب انتهائها وراتب العامل والموظف ويدفع عند انتهاء الخدمة للعامل أو للموظف أو لعائلتهما. ولا تجب زكاتها على الموظف أو العامل طوال مدة الخدمة؛ لعدم تحقق الملك التام، وإذا صدر قرار بتحديدها وتسليمها للموظف أو العامل دفعة واحدة أو على فترات دورية، أصبح ملكه لها تامًا فيضمها إلى موجوداته الزكوية. ب- الراتب التقاعدي: هو مبلغ مالي يستحقه الموظف أو العامل شهريًا على الدولة أو المؤسسة المختصة بعد انتهاء خدمته بمقتضى القوانين والأنظمة وعقود العمل، ويزكى على النحو المشار إليه بشأن مكافأة نهاية الخدمة (البند سادسًا/ أ). ج- مكافأة التقاعد: هي مبلغ مالي مقطوع تؤديه الدولة أو المؤسسة المختصة إلى الموظف أو العامل المشمول بقانون التأمينات الاجتماعية إذا لم تتوافر فيه شروط استحقاق الراتب التقاعدي، وتزكى طبقًا للبند (سادسًا/ أ). د- مكافأة الادخار: هي نسبة محددة تستقطع من الراتب أو الأجر يضاف إليها نسبة محددة من المؤسسة، وهي تستثمر وتستحقها الموظف أو العامل دفعة واحدة في نهاية خدمته أو حسب النُظم السائدة. ويختلف حكم زكاتها بحسب نوع الحساب الذي تودع فيه، فإن كانت في حساب خاص لصالح الموظف أو العامل وله الحق في اختيار استثمارها، فإنها تضم إلى موجوداته الزكوية من حيث الحول والنصاب. أما إذا لم يكن له على هذا الحساب سلطة فلا زكاة عليه؛ لعدم ملكه التام له، إلَّا بعد قبضه فيزكيه عن سنة واحدة.

زكاة الحسابات الاستثمارية -الودائع الآجلة- والحسابات الجارية والحسابات المحتجزة لتوثيق التعامل

زكاة مستحقات نهاية الخدمة، بالنسبة للمؤسسات والشركات: مكافأة نهاية الخدمة، ومكافأة التقاعد والراتب التقاعدي لدى المؤسسات الخاصة أو الشركات، ومكافأة الادخار التي تظل في حسابات المؤسسات الخاصة أو الشركات، لا تخرج من ملكها فلا تحسم من موجوداتها الزكوية، بل تزكى معها. وإذا كانت هذه المبالغ لدى المؤسسات العامة -الحكومية- فإنها لا تزكى؛ لأنها من المال العام (¬1)، والله أعلم. زكاة الحسابات الاستثمارية -الودائع الآجلة- والحسابات الجارية والحسابات المحتجزة لتوثيق التعامل: أولًا: التعريف والتكييف الفقهي لها: 1 - الحسابات الاستثمارية -الودائع الآجلة-: ويقصد بها الودائع التي يضعها أصحابها في المصرف بناء على اتفاق بعدم السحب منها إلَّا بعد انقضاء فترة محددة. ويهدف أصحاب هذه الودائع إلى الحصول على الكسب المتمثل بالفائدة في المصارف الربوية أو الربح الحلال بها المصارف الإِسلامية التي تقوم باستثمارها في الأوجه المناسبة وبالطرق التي يراها دون تدخل من المودع. ويستثمرها المصرف بنفسه أو مع شركاء آخرين، ويقوم المصرف بها نهاية كل مدة محددة لعمله بتوزيع الأرباح الناجمة عن نشاطه لأصحاب هذه الحسابات. وعادة ما يتوقف هذا على إعداد حسابات ختامية للمصرف وتقرير نسبة الأرباح التي ستوزع. ¬

_ (¬1) قرارات مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي (1/ 265).

وبالرغم من وجود اتفاق بعدم السحب من هذه الحسابات إلَّا بعد انقضاء الفترة المحددة، فقد يطلب صاحب الحساب سحب وديعته كلها أو بعضها قبل انقضاء موعد الاستحقاق. وللمصرف في هذه الحالة رد الحساب لصاحبه أو الامتناع عن ذلك، وغالبًا ما يعيد المصرف الحساب لصاحبه حفاظًا على سمعته، وتسير المصارف الربوية على رد الحساب دون أن يكون له فوائد خلال المدة التي انقضت والمال في حوزته، أو إقراض المودع بضمان حسابه مبلغًا في حدود وديعته وبفائدة أعلى من فائدة الإيداع. أما في المصارف الإِسلامية فإن الأمر يبحث في إدارة النشاط الذي وظف فيه المال، فإن رأت الإدارة أن ظروف المودع تقتضي إجابته إلى طلبه بدون ضرر يلحق الآخرين، فإنها تعيد المال لصاحبه إقالة لعثرة قد يكون المودع تعرض لها. وعادة ما يلتزم المصرف أن يعطيه الربح الذي يستحقه خلال فترة الإيداع إن كان هناك ربح، مقابل أن يتعهد صاحب الحساب بتحمل الخسارة إن تبين من خلال الحساب الختامي أن هناك خسارة. ويمكن تكييف هذا النوع من الحساب بأنه عقد شركة بين المودع والمصرف، وأن المصرف يتصرف بالحساب كتصرف العامل في المضاربة، فما يأخذه صاحب الحساب من الأرباح المتحققة هو جزء مما نتج عن هذا العمل الاستثماري يستحقه باعتباره شريكًا للمصرف، وما يأخذه المصرف من هذه الأرباح باعتباره شريكًا لصاحب الحساب وعاملًا في ماله، وبهذا نصل إلى تحديد يد المصرف على المال. وبالتأمل في تكييف هذا الحساب بأنه مضاربة بين المصرف وصاحب المال: يتضح أن يد المصرف على هذه الودائع يد أمانة، ولا تضمن إلَّا بالتعدي. فالمودع

يستحق جزءًا من الربح إن تحقق، وفي حالة الخسارة فإن المصرف لا يتحمل أي شيء منها، بل هي على المودعين فقط؛ انسجامًا مع قواعد المضاربة الشرعية. 2 - الحسابات الجارية: الحساب الجاري في البنوك هو: القائمة التي تقيد بها المعاملات المتبادلة بين العميل والبنك، وتكون هذه المعاملات متشابكة يتخلل بعضها بعضًا بحيث تكون مدفوعات كل من الطرفين مقرونة بمدفوعات من الطرف الآخر، ويتميز هذا الحساب بأنه قابل للسحب منه عند الطلب، ولذلك يسمى في بعض الأحيان بالحساب تحت الطلب؛ ولا تمنح البنوك عادة على هذا النوع من الحسابات أي عائد، وإنما قد تطلب من العميل في بعض الأحيان رسومًا قليلة نظير الخدمات المؤدَّاة له. وعادة ما يقترن الحساب الجاري في البنوك التقليدية بنوع واحد من أنواع التكييف القانوني وهو (القرض)، فيعتبر الإيداع في هذا الحساب من الناحية القانونية كقرض من العميل للبنك. أما بالنسبة للبنوك الإِسلامية فيتبع بعضها نفس هذا الأسلوب، ويشترط اعتبار صفة الإيداع في الحساب الجاري كقرض حسن من العميل إلى البنك، أما البعض الآخر فيفضل إضفاء صفة الوديعة المأذون باستعمالها على هذا الحساب، رغم أنه من الناحية الشرعية لا فارق بين هاتين الصورتين للحساب؛ فمن المعروف أن الوديعة المأذون باستعمالها تؤول في حالة النقود إلى القرض. وتفسير ذلك يرجع إلى اعتبار الفقهاء هذه الوديعة كعارية، ويطبق عليها أحكامها إلَّا أنه لكون أن هذا الوصف يختص بإعارة الأعيان التي ينتفع بها, ولأن الأمر في حالة أرصدة الحسابات الجارية يتعلق بالنقود، وهي بطبيعتها لا ينتفع بها إلَّا باستهلاكها فإن إطلاق صفة الإعارة عليها تعتبر من طريق المجاز وبالتالي فهي في حقيقتها قرض.

ثانيا: حكم زكاة هذا النوع من المعاملات

بناء على ذلك فأن التكييف الفقهي للحساب البخاري المعمول به حاليًا لدى البنوك الإِسلامية، هو عقد قرض بين العميل والبنك، ويترتب على هذا النوع من التكييف كل من الأحكام التالية: * أن عقد الإيداع يعتبر عقدًا غير لازم في حق البنك (المقترض)، فله في أي وقت رد رصيد الحساب إلى العميل (المقرض)، كما أنه يعتبر عقدًا غير لازم في حق العميل (المقرض)، فله المطالبة برصيد حسابه (الدَّين) من البنك (المدين) في أي وقت شاء. * انتقال ملكية الأموال المودعة في الحساب من العميل -الدَّائن- إلى البنك -المدين- بحيث يمتلكها الثاني ملكًا تامًا يخوِّله حق التصرف فيه. * يتفق الفقهاء على أن المقترض في عقد القرض بمجرد تملكه للعين المثلية أن يثبت في ذمته مثلها لا عينها وبالتالي يصير ملتزمًا برد بدل مثلها. ثانيًا: حكم زكاة هذا النوع من المعاملات: لقد صدر من مجمع الفقه الإِسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإِسلامي المنعقد في دورته السادسة عشرة بدبي (دولة الإمارات العربية المتحدة) 30 صفر- 5 ربيع الأول 1426 هـ، الموافق 9 - 14 نيسان (إبريل) 2005 م، قرارٌ بشأن هذا النوع من الحسابات جاء فيه ما يلي: "بشأن زكاة الحسابات المقيدة وشركات التأمين الإِسلامية والتأمينات النقدية ومكافآت نهاية الخدمة. أولًا: زكاة الحسابات الاستثمارية: أ - تجب الزكاة في أرصدة الحسابات الاستثمارية، وفي أرباحها، على أصحاب هذه الحسابات، إذا تحققت فيها شروط الزكاة، سواء أكانت طويلة الأجل أم

ثانيا: زكاة الحسابات المحتجزة لتوثيق التعامل

قصيرة الأجل ولو لم يقع السحب من أرصدتها بتقييد من جهة الاستثمار، أو بتقييد من صاحب الحساب. ب- تجب الزكاة في مبالغ الحسابات الجارية، ولا أثر لكون الأموال مرصدة لحاجة مالكها أو في تنفيذ مشاريع استثمارية، ما لم تكن لحاجة سداد الديون المترتبة عليه. ثانيًا: زكاة الحسابات المحتجزة لتوثيق التعامل: أ - مبالغ هامش الجدية: وهو المبلغ المقدم تأكيدًا للوعد الملزم لتغطية ضرر النكول عنه. إذا لم يودع في حساب استثماري، والتأمينات الابتدائية للدخول في المناقصات، تحسم من الموجودات الزكوية بالنسبة للجهة المودعة لديها، ويزكيها مالكها مع موجوداته، وإذا مرت عليها سنوات فإنها تُزكى لسنة واحدة إذا أعيدت لأصحابها، أما إذا كانت هذه المبالغ في حساب استثماري فيطبق عليها البند (أولًا/ أ). ب- مبالغ التأمينات التنفيذية للمناقصات، والتأمينات النقدية التي تؤخذ من الأفراد والمؤسسات مقابل الحصول على خدمات معينة، مثل الهاتف والكهرباء وتأمينات استئجار الأماكن أو المعدات، يزكيها من يقدمها لسنة واحدة إذا قبضها. ج- مبلغ العربون لا يحسمه البائع من موجوداته الزكوية بل تجب تزكيته عليه؛ لأنه يملكه سواء فسخ المشتري العقد أو أمضاه. ثالثًا: الوديعة القانونية: هي ما تشترط الجهات المختصة إيداعه لدى بنك لمنح الترخيص للشركة، فإذا كانت محتجزة بصفة مؤقتة تزكيها الشركة مع موجوداتها، وأما إذا كانت محتجزة بصفة مستمرة فإنها تزكى لسنة واحدة إذا أُعيدت إلى الشركة.

رابعا: الاحتياطيات والأرباح المرحلة -المستبقاة أو المدورة-

رابعًا: الاحتياطيات والأرباح المرحلة -المستبقاة أو المدورة-: تزكيها الشركة مع موجوداتها، في حال تطبيق طريقة الموجودات -الأصول- المتداولة عند حساب زكاة الشركات. خامسًا: زكاة شركات التأمين الإِسلامية: أ- المخصصات الفنية والأرصدة الدائنة لمعيدي التأمين والمطالبات المستحقة السداد والمطالبات تحت التسوية، لا تزكيها الشركة بل تحسم من موجوداتها الزكوية؛ لأنها ديون عليها. ب- الاحتياطيات ومخصصات الأخطار السارية، والمخصص الإضافي، واحتياطي التأمين على الحياة، والمبالغ المحتجزة عن إعادة التأمين، لا تحسم من الموجودات الزكوية، بل تزكيها الشركة؛ لأنها لم تخرج من ملكها (¬1). ما يتعلق بزكاة السندات: السندات: هي عبارة عن صكوك تُصْدِرُها بعض الدول أو بعض الشركات تمثل قرضًا عليها، تلتزم بسداد هذا القرض الذي عليها في زمن محدد وبفوائد ثابتة. مثال ذلك: شركة بحاجة إلى أموال لكي تتلافى هذه الخسارة، أو أن هذه الشركة تريد أن تنمي استثماراتها فتقوم بإصدار مثل هذه السندات فتطلب من الناس أموالًا، فتعطيهم هذه السندات بفائدة، ولا شك أن هذه السندات محرمة ولا تجوز؛ لأنها من الربا؛ فهي قرض بفائدة. فهي داخلة في الربا المحرم. ¬

_ (¬1) قرارات مجمع الفقه الإِسلامي (1/ 265).

حكم الزكاة في السندات

حكم الزكاة في السندات: بالرغم من تحريم التعامل بالسندات فإن الزكاة واجبة فيها؛ لأنها تمثل دَيْنًا لصاحبها، والدَّيْن الذي يُرجى تحصيله تجب فيه الزكاة عند جمهور العلماء، فيحسب زكاته كل عام، ولكن لا يلزمه إخراجها إلَّا إذا قبض قيمة السند، أما الفائدة التي يأخذها مقابل السند فهي مال خبيث محرم، يجب عليه التخلص منه في أوجه البر المتنوعة، والقدر الواجب إخراجه من الزكاة هو 2. 5 %. زكاة الصناديق الاستثمارية: أولًا: تعريف الصناديق الاستثمارية: هي صندوق له ذمة مالية مستقلة يهدف إلى تجميع الأموال واستثمارها في مجالات محددة، وتدير الصندوق عادة شركة استثمار تمتلك تشكيلة من الأوراق المالية، وذلك من خلال قيام جهة تسمى (الكفيل) بشراء تشكيلة من الأوراق المالية (السندات) غالبًا أو العمليات بالنسبة للصناديق الإِسلامية: التأجير، المرابحات، الاستصناع، السلم الموازي، وتقوم هذه الشركة بجانب جهة الإصدار التي ينتهي دورها ببناء التشكيلة جهات أخرى لكل منها دور خاص، فهناك الأمين الذي يتولى إصدار الشهادات مع الجهة التي تتعهد بتغطية الإصدار، وكذلك، هناك الجهة التي تقوم بالاسترداد والتعهد بإعادة الشراء فضلًا عن الجهة التي تقوم بالتسويق؛ ولذلك من أجل هذا التعدد الذي يجعل الشكل القانوني لتلك الجهات المختلفة اتحادًا وليس شركة، سمي ما يباع للمستثمر من حصة في الصندوق (وحدة) ولا يسمى (سهمًا)، كما هو الحال في الشركات، وهذا الاتحاد قد يكون عمره محدودًا: ستة أشهر، سنة، سنتان، وهكذا حسب النظام الأساسي الذي ينشأ من خلاله هذا الصندوق.

ثانيا زكاة الصناديق الاستثمارية

ثانيًا زكاة الصناديق الاستثمارية: فبالنسبة لرب المال فإنه يزكي زكاة عروض تجارته، ينظر إلى قيمة الأسهم السوقية ويخرج ربع العشر، وإذا قبض شيئًا من الربح أخرج ربع عشره؛ لأن الربح هذا حوله حول الأصل. وأما بالنسبة للقائمين على هذه الصناديق فما يأخذونه هو أجرة على عملهم. والصحيح من أقوال أهل العلم: أن الأجرة لا تجب فيها الزكاة حتى يحول عليها الحول من حين العقد، فنقول: إذا حال الحول على هذه الأجرة من حين العقد، فتجب فيها الزكاة. زكاة أجور العقار: أولًا: تعريف العقار هو كل ما يملكه الإنسان من الأراضي، وما أنشئ عليها من المساكن الفردية، أو قصور للسكنى، أو قصور للولائم، أو الفنادق، أو العمائر ذات المساكن الكثيرة، أو الاستراحات، أو المجمعات التي في الطرقات، أو بالقرب من مداخل المدن، وكذا الحدائق التجارية التي جعلت للنزهة، وما زرع فيها يسمى الكل عقارًا تبعًا لأصله وتغليبا له. ثانيًا: حكم الزكاة في العقار: اختلف العلماء في زكاة عروض التجارة -ومنها العقار- على رأيين: والصحيح: هو ما ذهب إليه جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم إلى وجوبها، وهو ما ذهب إليه المجمع الفقهي الإِسلامي برابطة العالم الإِسلامي، وقد صدر منه قرار بشأنها جاء فيه:

حكم زكاة الأرض التي يتردد صاحبها في بيعها ولم يجزم بشيء

"أولًا: العقار المعد للسكنى، هو من أموال القُنْيَة، فلا تجب فيه الزكاة إطلاقًا، لا في رقبته ولا في قدر أجرته. ثانيًا: العقار المعد للتجارة، هو من عروض التجارة، فتجب الزكاة في رقبته، وتقدر قيمته عند مضي الحول عليه. ثالثًا: العقار المعد للإيجار، تجب الزكاة في أجرته فقط، دون رقبته. رابعًا: نظرًا إلى أن الأجرة تجب في ذمة المستأجر للمؤجر، من حين عقد الإجارة، فيجب إخراج زكاة الأجرة، عند انتهاء الحول، من حين عقد الإجارة بعد قبضها. خامسًا: قدر زكاة رقبة العقار، إن كان للتجارة، وقدر زكاة غلته، إن كان للإجارة، هو ربع العشر، إلحاقًا له بالنقدين (¬1). حكم زكاة الأرض التي يتردد صاحبها في بيعها ولم يجزم بشيء: الأرض التي يتردد صاحبها في بيعها ولم يجزم بشيء: إذا أعدها للبيع وجبت فيها الزكاة، وإن لم يعدَّها للبيع أو تردد في ذلك ولم يجزم بشيء، أو أعدها للتأجير، فليس عليه فيها زكاة، كما نص على ذلك أهل العلم؛ لما روى أبو داود -رحمه الله- عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: " ... إِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنَ الَّذِي نُعِدُّ لِلبَيع" (¬2). حكم الزكاة على السيارات والجمال والحمير المعدة للنقل: ليس على السيارات والجمال والحمير المعدة لنقل الحبوب والأمتعة وغيرها من بلاد إلى بلاد، زكاةٌ؛ لكونها لم تعد للبيع وإنما أعدت للنقل والاستعمال، أما إن ¬

_ (¬1) قرارات المجمع الفقهي الإِسلامي (1/ 60). (¬2) مجلة البحوث الإِسلامية (56/ 124).

زكاة مساهمة الأراضي

كانت السيارات معدة للبيع، وهكذا غيرها من الجمال، والحمير، والبغال، وسائر الحيوانات التي يجوز بيعها إذا كانت معدة للبيع، فإنها تجب فيها الزكاة؛ لأنها صارت بذلك من عروض التجارة، فوجبت فيها الزكاة، لما روى أبو داود وغيره عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: " ... إِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنَ الَّذِي نُعِدُّ لِلبَيع"، وإلى هذا ذهب جماهير أهل العلم (¬1). زكاة مساهمة الأراضي: من كان له مساهمة في أراضٍ أو نحوها للبيع، فإنه يزكيها كل سنة حسب قيمتها، حسب قيمة الأرض أو غيرها من السلع، كل سنة تقوم ويزكي هو وأصحابه من الشركاء، كل يزكى حصته، فإذا بيعت زكى السنوات الماضية بحيث يحسب زكاتها ويخرجها بعد ذلك، ولكن لا يلزمه أن يزكيها بحساب السنة الأخيرة، وإنما كل سنة بحسابها، السنة الأولى على قدر قيمتها، والسنة الثانية على قدر قيمتها، وهكذا؛ لأن القيمة تختلف بحيث تكون في أول الأمر رخيصة، ثم تزيد قيمتها، أو العكس، فيلزمه أن يزكي القيمة في كل سنة بحسبها، وهي ربع العشر من القيمة (¬2). حكم إخراج الزكاة عروضًا عن العروض وعن النقود: الزكاة مواساة من الأغنياء للفقراء، فجاز لهم أن يواسوهم من القماش بقماش، كما يواسونهم من الحبوب والتمور والبهائم الزكوية من نفسها، ويجوز أيضًا أن يخرج عن النقود عروضًا من الأقمشة والأطعمة وغيرها، إذا رأى المصلحة لأهل الزكاة في ذلك مع اعتبار القيمة، مثل أن يكون الفقير مجنونًا أو ضعيف العقل أو سفيهًا أو ¬

_ (¬1) مجلة البحوث الإِسلامية (56/ 127). (¬2) مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (14/ 190).

استثمار أموال الزكاة

قاصرًا، فيخشى أن يتلاعب بالنقود، وتكون المصلحة له في إعطائه طعامًا أو لباسًا ينتفع به من زكاة النقود بقدر القيمة الواجبة، وهذا كله في أصح أقوال أهل العلم (¬1). استثمار أموال الزكاة: الزكاة مصرفها بيَّنه الله -عَزَّ وجَلَّ- في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬2)، هذه هي مصارف الزكاة، ولم يكن استثمار أموال الزكاة معروفًا على مدار أربعة عشر قرنًا، بل كانت تدفع لهؤلاء الأصناف الثمانية، أو لبعضهم. ولكن في الوقت الحاضر، مع وجود الجمعيات الخيرية والمراكز الإِسلامية، طُرحت فكرة استثمار أموال الزكاة، فيقول القائمون على تلك المراكز والمؤسسات والهيئات، يقولون: نحن نجمع من الناس أموالًا كبيرة من الزكاة ربما تكون بالألوف بل ربما بالملايين، فلماذا لا تستثمر أموال الزكاة هذه وتوضع في مشاريع خيرية يكون ريعها للفقراء والمساكين؟ نقول: اختلف العلماء المعاصرون في حكم استثمار أموال الزكاة، فمن العلماء من أجاز استثمار أموال الزكاة وقالوا: إن في هذا الاستثمار مصلحة عظيمة، وفيه نفع كبير للفقراء والمساكين وأصحاب الزكوات. وأيضًا قالوا: الشريعة الإِسلامية قد أتت بتحصيل المصالح، وما كان فيه تحصيل المصلحة فإن الشريعة لا تمنع منه، وهذا الاستثمار فيه مصلحة تعود بالدرجة الأولى إلى الفقراء وبقية أصناف الزكاة. ¬

_ (¬1) مجلة البحوث الإِسلامية (56/ 124). (¬2) سورة التوبة: 60.

قالوا: فهذا الاستثمار هو استثمار لصالح أهل الزكاة، فهو أشبه باستثمار أموال اليتامى ونحوهم، قالوا: ومما يدل لذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع عنده إبل الصدقة ويسمِّنها، وهذا نوع استثمار؛ لأنها تتكاثر بالتوالد، هذه هي وجهة أصحاب هذا القول. القول الثاني في المسألة: أنه لا يجوز استثمار أموال الزكاة مطلقًا، وهذا القول هو الذي عليه أكثر العلماء، وأدلة هذا القول: أولًا: أن الله -عَزَّ وجَلَّ- خص الزكاة بثمانية أصناف، ذكرهم في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ...}، إلى آخر الآية، وختم الآية بقوله: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬1)، وحينئذ يجب أن تصرف الزكاة في هذه المصارف الثمانية على الفور؛ لأن الأصل في الأمر الفورية، والزكاة عبادة والأصل في العبادات التوقيف. ثانيًا: استدلوا بقول الله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬2)، قالوا: والمراد بذلك الزكاة، وهذا أمر والأمر مطلق يقتضي الفورية، وقوله: {يَوْمَ حَصَادِهِ} آتوا حقه يوم حصاده هذا يدل على وجوب إخراج الزكاة على الفور وعدم تأخيرها لأجل استثمارها، وهذه الآية نزلت في مكة، نزلت في الفترة المكية، لما كانت الزكاة واجبة من غير تحديد، فإن الزكاة في مكة فرضت في مكة لكن من غير تحديد، وإنما كان الإنسان يدفع شيئًا من ماله، ثم في المدينة بُيِّنَتْ أنصباؤها، والشاهد هو قوله: {يَوْمَ حَصَادِهِ}، فهذا فيه إشارة إلى أن الزكاة إنما تخرج يوم الحصاد، يعني وقت وجوبها على الفور. ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 60. (¬2) سورة الأنعام: 141.

ثالثًا: ما جاء في صحيح البخاري عن عقبة بن الحارث -رضي الله عنه- قال: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - العَصْرَ، فَلَمَّا سلَّمَ قَامَ سَرِيعًا دَخَلَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ وَرَأَى مَا في وُجُوهِ القَوْمِ مِنْ تَعَجُّبِهِمْ لِسُرْعَتِهِ. فَقَالَ: "ذَكرْتُ وَأنا في الصَّلاةِ تِبْرًا عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يُمسِيَ أَوْ يَبِيتَ عِنْدَنَا فَأمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ". قالوا: ففي انصراف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد صلاة العصر بسرعة على وجهٍ ملفت للنظر حتى إن الصحابة سألوه عن سبب إسراعه، في هذا دليل على أن الزكاة إنما تخرج على الفور وأنه ينبغي المبادرة بإخراجها، إذ أنه لو جاز التراخي في دفعها لما أسرع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولما قال: "كرهت أن أبيت قبل أن تقسم". رابعًا: قالوا: إن هذا المال المستثمر هو مال مستحق للفقراء والمساكين وسائر أصحاب الزكاة، وهؤلاء هم الذين يجب تمليكهم هذا المال، وهم إن أرادوا أن يستثمروا أموال الزكاة التي تدفع لهم، فهذا راجع إليهم. أما أن يريد الجامع لأموال الزكاة استثمار أموال الزكاة نيابة عنهم، فليس له ذلك، فالأموال الزكوية حق للفقراء والمساكين وسائر الأصناف الثمانية. فالاستثمار في الحقيقة إنما هو راجع لهم إذا ملكوا هذه الأموال، فلو أننا ملَّكنا الفقير أو المسكين مال الزكاة فأراد هذا الفقير أو المسكين أن يستثمره، فهذا راجع إليه. أما أن يأتي أحد من الناس أو مؤسسة أو جمعية أو هيئة خيرية ويتدخل ويريد أن يحبس أصل مال الزكاة الواجب تمليكه لهؤلاء ويعطيهم فقط من ريعه حتى يستثمره، فليس له ذلك؛ لأنه تصرف في حقهم، ومَنِ الذي خوَّله لكي يستثمر حقهم الذي فرضه الله لهم؟! خامسًا: إن الاستثمار لا يكون مشروعًا إلَّا إذا كان فيه مخاطرة؛ إذ أن الاستثمار

زكاة المال المحرم

لو كان فيه ضمان لعدم المخاطرة، وذلك بأن يكون فيه ضمان عدم الخسارة أو ضمان الربح، فإن هذا الاستثمار غير جائز، فالاستثمار الذي تضمن معه عدم الخسارة يضمن معه الربح غير جائز، وهذا الاستثمار المبني على المخاطرة في الحقيقة يعرض أموال الزكاة للخسارة. ربما تستثمر أموال الزكاة في مشروع من المشاريع فيخسر ذلك المشروع، فتضيع حقوق هؤلاء الفقراء والمساكين، ثم إن حاجة الفقراء ناجزة، فيجب إخراجها على الفور، ولا شك أن استثمارها يحتاج إلى وقت طويل. إذن فالقول الصحيح في هذه المسألة هو ما عليه أكثر أهل العلم من أنه لا يجوز استثمار أموال الزكاة (¬1). وهذا هو ما أفتت به اللجنة الدائمة حيث قالت: "لا يجوز لوكيل الجمعية استثمار أموال الزكاة، وإن الواجب صرفها في مصارفها الشرعية المنصوص عليها بعد التثبت في صرفها في المستحقين لها؛ لأن المقصود منها سد حاجة الفقراء وقضاء دين الغرماء؛ ولأن الاستثمار قد يفوِّت هذه المصالح أو يؤخِّرها كثيرًا عن المستحقين" (¬2) انتهى. زكاة المال المحرم: المال المحرم: هو كل ما حرم الشارع على المسلم تملُّكه والانتفاع به. والمال المحرم ينقسم إلى قسمين: 1 - محرم لذاته. 2 - محرم لوصفه. ¬

_ (¬1) يرى الدكتور الموسى جواز استثمار أموال الزكاة، وعضَّد رأيه بقرار المجمع الفقهي، ويقيد الدكتور المطلق استثمار أموال الزكاة خلال العام فقط. (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (9/ 454 - 455).

أولا: المحرم لذاته

أولًا: المحرم لذاته: هو الذي ذاته وعينه محرمة مثل الخمر، فالخمر ذاته وعينه محرمة، ومثل الدخان والخنزير، وغير ذلك. ثانيًا: المحرم لكسبه: وهو المال الذي ذاته مباحة ليست محرمة لكن طرأ عليه التحريم بسبب مخالفة الشرع في وجوه الاكتساب. مثال ذلك: هذه الريالات ذاتها وعينها مباحة لكن قد يطرأ عليها التحريم فتكون جاءت من جهة محرمة كالربا مثلًا، أو من جهة بيع المحرمات، أو مثلًا عن طريق الرشوة، فهذا نسميه محرم لكسبه. حكم الزكاة في الأموال المحرمة؟ المال الحرام: إما أن يكون حرامًا بأصله وبذاته كما ذكرنا كالخمر والخنزير، فهذا لا يملك بالقبض والحيازة وليس مالًا زكويًا فلا زكاة فيه، ويجب التخلص منه بإتلافه كما أمر - صلى الله عليه وسلم - بإراقة دنان الخمر بعد تحريمها، وإما أن يكون المال الحرام حرامًا بوصفه لا بذاته لكنه مقبوض بغير حق ولا عقد، وإنما كان قبضه على سبيل التعدي كالأموال المغصوبة والمسروقة والودائع والعواري المجحودة، فهذا النوع من الأموال الحرام لا يخلو الحال فيه من أمرين: إما أن يكون أهله معروفين معينين فيجب رده إليهم، ولا تبرأ الذمة بغير ذلك، ويقوم أهله بإخراج زكاته لعام واحد على القول الراجح. وهل يزكيه من هو بيده على سبيل الغصب والتعدي؟ خلاف بين العلماء في ذلك وقد تقدمت الإشارة إليه. وإما أن يكون أهله مجهولين فيجب التصدق به على نية أنه عن أصحابه، فإن ظهروا بعد ذلك خيروا بين إمضاء التصدق به، أو ضمانه لهم ممّن أخذه بغير حق، وإخراج الزكاة منه أدنى قدر مما يجب على من بيده هذا المال.

زكاة الفوائد الناتجة عن الربا

وإذا كان المال حرامًا بوصفه لكنه مقبوض بعقد فاسد كالبيوع الربوية إلَّا أن قابضه يعتقد جوازه، فيقول شيخ الإِسلام ابن تيمية: من كان قد عامل معاملات ربوية يعتقد جوازها ثم تبين له أنها لا تجوز، وكانت من المعاملات التي تنازع فيها المسلمون، فإنه لا يحرم عليه ما قبضه بتلك المعاملة على الصحيح. أهـ, وعليه فتجب الزكاة في هذا المال (¬1). زكاة الفوائد الناتجة عن الربا: الفوائد الناتجة عن الربا كلها محرمة، وليست مالًا لصاحبها، بل يجب صرفها في وجوه الخير إذا كان قد قبضها وهو يعلم حكم الله في ذلك، أما إن كان لم يقبضها فليس له إلَّا رأس ماله؛ لقول الله -عَزَّ وجَلَّ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (¬2). أما إن كان قد قبضها قبل أن يعرف حكم الله في ذلك فهي له، ولا يجب عليه إخراجها من ماله؛ لقول الله -عَزَّ وجَلَّ-: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬3). وعليه زكاة أمواله التي ليست من أرباح الربا كسائر أمواله التي يجب فيها الزكاة، ويدخل في ذلك ما دخل عليه من أرباح الربا قبل العلم، فإنها من جملة ماله (¬4). ¬

_ (¬1) مجلة البحوث الإِسلامية (42/ 268). (¬2) سورة البقرة: 278 - 279. (¬3) سور البقرة: 275. (¬4) مجلة البحوث الإِسلامية (44/ 174).

زكاة الأموال العامة

زكاة الأموال العامة: المال العام: هو المال المرصد للنفع العام دون أن يكون مملوكًا لشخص معين، والأموال العامة تشمل الأموال التابعة لبيت مال المسلمين، والأموال التابعة للجهات الخيرية كجمعية تحفيظ القرآن، وجمعيات البر، والمكاتب التعاونية للدعوة، والأموال الموصى بها في جهات عامة، ومثلها الأوقاف التي تكون على جهات عامة مثل ما يوقفه بعض أهل الخير على جهة عامة كطلاب العلم والفقراء، وغير ذلك من الجهات الخيرية. هذه الأموال العامة التي ليس لها مالك معين، لا تجب فيها الزكاة. وهل إذا استثمرت هذه الأموال تجب فيها الزكاة؟ اختلفوا في ذلك على رأيين: الرأي الأول: إذا استثمرت هذه الأموال فإن الزكاة تجب فيها، وهذا قال به بعض المتأخرين. استدلوا على هذا بأن بيت المال قبل أن تستثمر لا زكاة فيه؛ لأن مصرف بيت المال يختلف عن مصرف الزكاة، أما الآن بِيعَ واشتُريَ فأصبحت أموالًا زكوية. الرأي الثاني: لا تجب فيه الزكاة، وهذا ما عليه أكثر المتأخرين، وبه أفتت الندوة الثالثة عشر لقضايا الزكاة المعاصرة في الكويت بالأكثرية. استدلوا بأدلة منها ما تقدم من أنه يشترط لوجوب الزكاة أن تكون مملوكة ملكًا تامًا لمعين، وكونه عمل بها الآن هذا لا يخرجها عن أن تكون غير مملوكة. وهذا القول أنه لا زكاة فيها هذا هو الأقرب.

زكاة المصانع

ويترتب على هذا القول: * أولًا: أن الشركات الاستثمارية التي تكون ملكًا للدولة لا زكاة فيها. * ثانيًا: أن الشركات الاستثمارية التي تملك الدولة فيها أسهمًا، فنصيبها من هذه الأسهم لا زكاة فيها. زكاة المصانع: الفقهاء في الزمن السابق تحدثوا عن زكاة المستغلات، والمراد بالمستغلات هي كل أصل ثابت يدر دخلًا تتجدد منفعته. وفي زماننا هذا خاض الفقهاء في الهيئات والمؤتمرات الفقهية في الحديث عن زكاة المستغلات، وخصوصًا فيما يتعلق بالمصانع؛ لأن المصانع نشأت حديثًا وتطورت سريعًا، وهي من أكبر قنوات الاستثمار في العصر الحاضر؛ لضخامة رؤوس أموالها وكثرة إنتاجها. كيفية زكاة المصانع: مباني الشركات ومعداتها الثقيلة والخفيفة وسياراتها التي تستخدم لنقل البضائع أو العاملين بالشركة، لا زكاة فيها. وقد نص العلماء السابقون على أن آلات الصنَّاع كالنجار والبنَّاء والحداد ونحوهم، لا زكاة فيها. "وتضخم هذه الآلات وزيادة حجمها وكثرة إنتاجها لا يغير من حكمها شيئًا، بل هي باقية على أصلها، وأحكام الشريعة تبقى على أن أصولها الأولى ما دامت هي هي، فقطع المسافات البعيدة بالسيارات والطائرات لا يغير شيئًا من أحكام رخص السفر، وهكذا فإن تغيير أدوات الصناعة لا يغير شيئًا من حكمها" (¬1). ¬

_ (¬1) مجلة البحوث الإِسلامية (14/ 722).

قال سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "بالنسبة للمشاريع الحديثة التي خرجت للناس في هذه الأيام -وهي مشاريع الإنتاج الحيواني وإنتاج الألبان ومشاريع الإنتاج الزراعي ومشاريع العقارات الكبيرة مثل العمائر-، إذا كانت هذه المشاريع للبيع والشراء وطلب الربح، فإن مالكها يزكيها كلما حال الحول عليها، إذا كان أعدها للبيع، سواء كانت تلك الأموال عمائر أو أرضًا أو دكاكين أو حيوانات في مزرعته أو ما أشبه ذلك، فإنه يزكيها إذا حال عليها الحول بحسب القيمة، أما الأدوات التي ليست للبيع فلا زكاة فيها، ونفس الأرض التي فيها المزرعة لا تزكى إذا كانت لم تعد للبيع، وإنما يربي فيها صاحبها الحيوانات للبيع أو يزرعها ونحو ذلك، فالزكاة في الإنتاج، أما عين الأرض ورقبة الأرض التي أعدها ليزرع فيها أو ينمي فيها الحيوانات، فهذه لا زكاة فيها، وهكذا النجار والحداد لا زكاة في الأدوات التي عنده للاستعمال، كالقَدوم والمنشار وجميع الأدوات لا زكاة فيها، إنما الزكاة في الأموال التي أعدها للبيع والآلات المعدة للبيع -كما تقدم- إذا حال الحول عليها زكاها بحسب قيمتها، كما يزكي السيارة التي أعدها للبيع والأرض التي أعدها للبيع" (¬1) انتهى. خلاصة ما يتعلق بزكاة المصانع فيما يتعلق بأعيانها وغلاتها أنها تنقسم إلى قسمين: 1 - أعيان الغلات من آلات ونحوها هذه لا تجب فيها الزكاة. 2 - ما يتعلق بالغلات التي تنتجها هذه الآلات فهذه تجب فيها الزكاة إذا حال عليها الحول من حين إنتاجها, لأنها مال واحد يتقلب والربح فيه تابع لأصله في حوله ونِصابه. ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (14/ 184).

زكاة السلع المصنعة

فمتى باعت المصانع هذه السلع التي صنعتها فإنها تزكيها إذا حال عليها الحول من حين الإنتاج؛ فيُنظر إلى صافي الأرباح ويُخْرَج قدر زكاة تجارة ربع العشر. زكاة السلع المصنعة: إذا كان هناك سلع أُنتجت ولم تُبع، كأن تكون في المستودعات، فهل تجب فيها الزكاة أو لا تجب فيها الزكاة؟ هذا موضع خلاف بين المتأخرين على رأيين: الرأي الأول: أنه تجب فيها الزكاة وإن لم تبع؛ لأنها عروض تجارة تراد للبيع، فإذا بقيت حولًا من حين إنتاجها فإنه يجب أن يخرج فيها ربع العشر. وهذا ما عليه أكثر العلماء المتأخرين. الرأي الثاني: ذهب بعض المتأخرين إلى أنه لا تجب فيها الزكاة في مثل هذه البضائع التي لم تبع. الترجيح: والصواب هو الرأي الأول، وأنه تجب الزكاة فيها إذا صُنّعت وجاء وقت زكاة المصنّع فتقدر كم قيمتها ويُخْرج ربع العشر. زكاة المواد الخام: ويقصد بالمواد الخام: المواد الأولية التي تتركب منها السلع المصنعة مثل الحديد للسيارات، والقطن والصوف للمنتجات، والخشب للدواليب، والألمنيوم للأبواب والنوافذ، وغير ذلك. فهل تجب الزكاة في هذه المواد الخام أو لا تجب فيها الزكاة؟ هذا موضع خلاف بين المتأخرين، والصحيح أن المواد الخام -المواد الأولية- المعدَّة للدخول في تركيب المادة المصنوعة، كالحديد في صناعة السيارات، والزيوت

زكاة المواد المساعدة في التصنيع

في صناعة الصابون، تجب الزكاة فيها بحسب قيمتها التي يمكن الشراء بها في نهاية الحول، وينطبق هذا أيضًا على الحيوانات (المعدة للتعليب)، والنباتات المعدَّة للتصنيع. زكاة المواد المساعدة في التصنيع: المراد (بالمواد المساعدة في التصنيع): هي المواد التي لا تدخل في تركيب المصنوعات ولكن يحتاج إليها في التصنيع، مثل الوقود، ومثل الزيوت والغاز، ونحو ذلك. فإذا تم اقتناء مثل هذه المواد فهل تجب فيها الزكاة أو لا تجب فيها الزكاة؟ هذه الأشياء لا تجب فيها الزكاة، فهي كالأصول الثابتة كما تقدم لنا. وهذا قول أكثر المتأخرين، فلو حال عليها الحول وهي عند الإنسان فإنه لا يجب عليه أن يخرج الزكاة، وأما ما تحتاج إليه هذه المصنوعات من العلب والكراتين ومواد البلاستيك والعلب التي توضع فيه هذه الأشياء، نقول: هذه داخلة في السلع التي تصنع فتجب فيها الزكاة، فهي تختلف عن الوقود؛ لأن هذه تذهب، فهي لا تبقى. زكاة جمعية الموظفين: الداخل في هذه الجمعية لا يخلو من ثلاث حالات: الأولى: أن يكون في أول القائمة، يعني يأخذ الجمعية في أول القائمة، فهذا لا زكاة عليه إلَّا إذا ترك هذه الدراهم حتى حال عليها الحول، فلو فرضنا أن زيدًا هو الأول ثم أخذ هذه الدراهم وتركها عنده حتى حال عليها الحول فنقول: يجب عليه أن يخرج الزكاة عند حَوَلان الحول، لكن لو استهلكها -وهذا هو الغالب-

دفع الزكاة للجمعيات الخيرية

فالغالب أن من يلجأ إلى مثل هذه الجمعية أنه يستهلكها في بناء البيت أو الزواج أو شراء سيارة أو نحو ذلك، فإذا استهلكها فإنه لا شيء عليه. الثانية: أن يكون في آخر الجمعية، وهذا لا يخلو من أمرين: أن يأخذ الجمعية بعد تمام الحول بحيث يكون عددهم اثني عشر، فهذا يجب عليه أن يخرج عن الشهر الأول الذي دفعه؛ فإذا كانت الجمعية من ألفي ريال فيجب عليه أن يخرج عن ألفي ريال إذا قبض الجمعية بعد اثني عشر شهرا، ثم بعد ذلك إن استهلكها لا شيء عليه، لكن إن بقيت عنده يخرج عن زكاة الشهر الثاني؛ لأن الشهر الثاني أيضًا حال عليه الحول؛ فإذا مرَّ عليه شهر آخر أخرج عن زكاة الشهر الثالث وهكذا .. ؛ فإذا مرَّ الشهر الأول أخرج عن زكاة الشهر الثاني، وإذا مرَّ الشهر الثاني أخرج عن زكاة الشهر الثالث، وهكذا. والاحتياط أن يزكي عن المبلغ الذي قبضه كله ما دام حدد يومًا معينًا يزكي فيه. الثالثة: أن يكون في وسط الجمعية، كما لو كان ترتيبه السابع وقبض هذه الجمعية، فهذا لا شيء عليه إذا استهلكها, لكن لو بقيت عنده حتى مضى حول من الشهر الذي دفعه، يعني الآن مضى سبعة أشهر، فإذا مضى خمسة أشهر والدراهم عنده أخرج عن الشهر الأول، فإذا مضى ستة أشهر أخرج عن الشهر الثاني، وهكذا. دفع الزكاة للجمعيات الخيرية: إذا كان القائمون عليها ثقات مأمونين، يقدمون الزكاة في مصرفها الشرعي، فلا بأس بدفع الزكاة إليهم؛ لما في ذلك من التعاون على البر والتقوى.

نوازل في مصارف الزكاة

نوازل في مصارف الزكاة: مصارف الزكاة ثمانية: لا يجوز صرفها إلى غيرهم، وهم المذكورون في قول الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬1). لما ذكر الله تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وَلمزَهم إياه في قسم الصدقات، بيَّن تعالى في هذه الآية أنه هو الذي قسمها، وبين حكمها، وتولى أمرها بنفسه، ولم يَكِل قسمها إلى أحد غيره، سواء كان عالمًا أو حاكمًا أو غيرهما؛ لقصور آراء البشر وعدم أمنهم من الحيف والهوى، فجاءت هذه الآية مصدرة بأقوى أدوات الحصر (إنما)، وهو إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه، وحصر الصدقات في هذه الأصناف الثمانية وأنها تصرف إليهم ولا تصرف إلى غيرهم فعرف الطامعون من المنافقين وضعفاء الإيمان أنه لا حق لهم فيها وانقطعت مطامعهم فيها، وجاء في الحديث النبوي وهو ما رواه أبو داود عن زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبايعته -وذكر حديثًا طويلًا-, فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِىٍّ وَلاَ غَيْرِهِ في الصَّدَقَاتِ حَتَّى حَكَمَ فِيهَا هُوَ فَجَزَّأَهَا ثَمانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإنْ كُنْتَ مِنْ تِلكَ الأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ" (¬2). ففي هذا الحديث أكد - صلى الله عليه وسلم - تحديد مصارف الزكاة بهذه الأصناف الثمانية، وأَعْلَمَ السائلَ بأنه لا يجوز صرفها إلى غيرهم. ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 60. (¬2) رواه أبو داود (1632)، وضعفه الألباني في سنن أبي داود (2/ 117).

ومما مضى وبما يأتي من الأدلة تظهر لنا عناية القرآن والسنة بمصارف الزكاة. لكن قد استجدَّت في العصور المتأخرة أمور توجب النظر فيها؛ وذلك لكثرة وقوعها والحاجة إلى بيانها، وهل تلحق بمصارف الزكاة أم لا؟ ومن قرارات مجمع الفقه الإِسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإِسلامي المنعقد في دورته الثامنة عشرة في بوتراجايا (ماليزيا) من 24 - 29 جمادى الآخرة 1428 هـ، الموافق 9 - 14 يوليو 2007 م. قرار رقم 165 (3/ 18) الخاصة بمصارف الزكاة، ما يلي: "أولًا: الأموال غير المنصوص عليها محل اجتهاد بشأن زكاتها أو عدمه، إذا توافرت في الاجتهاد الشروط والضوابط الشرعية. ثانيًا: ليس على المزكي تعميم الأصناف الثمانية عند توزيع أموال الزكاة، أما إذا تولى الإِمام أو من ينوب عنه توزيع أموال الزكاة فينبغي مراعاة تعميم الأصناف عند توافر المال وقيام الحاجة وإمكان الوصول لتلك الأصناف. ثالثًا: الأصل أن تصرف الزكاة فور استحقاقها أو تحصيلها، ويجوز تأخير الصرف تحقيقًا للمصلحة، أو انتظارًا لقريب فقير، أو لفعلها دوريًا لمواجهة الحاجات المعيشية المتكررة للفقراء ذوي العجز. رابعًا: مصرف الفقراء والمساكين: يصرف للفقراء والمساكين ما يسد حاجتهم، ويحقق لهم الكفاية ولمن يعولون ما أمكن، وذلك وفق ما تراه الجهات المسؤولة عن الزكاة. ويصرف للفقير -إذا كان عادته الاحتراف- ما يشتري به أدوات حرفته، وإن كان فقيرًا يحسن التجارة أعطي ما يتَّجر به، وإن كان فقيرًا يحسن الزراعة أعطي مزرعة تكفيه غلتها على الدوام، واستئناسًا بذلك يمكن توظيف أموال

الزكاة في مشروعات صغيرة كوحدات النسيج والخياطة المنزلية والورش المهنية الصغيرة، وتكون مملوكة للفقراء والمساكين. ويجوز إقامة مشروعات إنتاجية أو خدمية من مال الزكاة وفقًا لقرار المجمع (15) (3/ 3). خامسًا: مصارف الزكاة الأخرى: أ- العاملون عليها: يدخل في (العاملين على الزكاة) في التطبيق المعاصر المؤسسات والإدارات ومرافقها المنتدبة لتحصيل الزكاة من الأغنياء وتوزيعها على الفقراء وفق الضوابط الشرعية. ضرورة أن تتمتع مؤسسة الزكاة باستقلال مالي وإداري عن بقية أجهزة الدولة الأخرى، مع خضوعها للإشراف والرقابة، ضمانًا للشَّفافية ولتنفيذ ضوابط الإرشاد الإداري. المؤسسات المخولة نظامًا بجمع الزكاة وتوزيعها يدها يد أمانة لا تضمن هلاك المال الذي في يدها إلَّا في حالتي التعدي أو التقصير، وتبرأ ذمة المزكي بتسليم الزكاة إلى تلك المؤسسات. ب- المؤلفة قلوبهم: سهم المؤلفة قلوبهم باقٍ ما بقيت الحياة لم يسقط ولم يُنسَخ، ويكون حسب الحاجة والمصلحة؛ فحيثما وجدت المصلحة أو دعت إليه الحاجة، عُمِلَ بهذا السهم. يجوز إعطاء الزكاة لتأليف قلوب من أسلم حديثًا؛ تثبيتًا لإيمانه وتعويضًا له عما فقده، وكذلك إعطاء الكافر إذا رجي إسلامه، أو دفعًا لشره عن المسلمين. يجوز تقديم الدعم من أموال الزكاة للمنكوبين من غير المسلمين في مناطق الكوارث والزلازل والفيضانات والمجاعات، تأليفًا لقلوبهم.

ج- في الرقاب: يشمل سهم في الرقاب افتداء الأسرى المسلمين. يجوز دفع الزكاة لتحرير المختطفين من المسلمين وتحرير أسراهم ممّن اختطفوهم. د- الغارمون: يشمل سهم الغارمين من ترتبت في ذمتهم ديون لمصلحة أنفسهم، ومن استدان لإصلاح ذات البَيْن بالضوابط الشرعية، ويلحق بذلك تسديد الديات المترتبة على القاتلين خطأ ممّن ليس لهم عاقلة وديون الميت إن لم يكن له تركة يوفي منها دينه، وهذا إذا لم يتم دفعها من بيت المال (الخزانة العامة). هـ - في سبيل الله: يشمل المجاهدين في سبيل الله والمدافعين عن بلادهم ومصالح الحرب المختلفة المشروعة. و- ابن السبيل: ابن السبيل هو المسافر في غير معصية وليس بيده ما يرجع به إلى بلده، ولو كان غنيًّا في بلده. * تقديم العون المالي من خلال إنشاء صندوق يخصص لمساعدة النازحين داخل أوطانهم أو خارجها بسبب الحروب أو الفيضانات أو الزلازل أو غير ذلك. * مساعدة الطلبة الفقراء الذين ليس لهم مِنَحٌ دراسية خارج بلادهم وفق المعايير المعمول بها في هذا الخصوص. * المهاجرون المقيمون إقامة غير نظامية في غير بلدانهم وانقطعت بهم السبل، فيعطون من الزكاة ليعودوا إلى بلدانهم. * سد حاجة المنقطعين من طلبة العلم والمسافرين ممّن لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم (¬1). ¬

_ (¬1) قرارات المجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي بمكة المكرمة (1/ 316).

في قوله تعالي: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}: هل يقصر معناه على الغُزاة في سبيل الله، أم أن سبيل الله عام لكل وجه من وجوه البر؟ هذه النازلة مما اختلف فيها الفقهاء قديمًا وحديثًا، وقد صدر من مجلس المجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي بمكة المكرمة قرار رقم: 38 (4/ 8) بشأنها، جاء فيه ما يلي: "وبعد إطلاع المجلس على ترجمة الاستفتاء الذي يطلب فيه الإفادة؛ هل أحد مصارف الزكاة الثمانية، المذكورة في الآية الكريمة، وهو: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} يقصر معناه على الغزاة في سبيل الله، أم أن سبيل الله عام لكل وجه من وجوه البر، من المرافق، والمصالح العامة، من بناء المساجد، والربط، والقناطر، وتعليم العلم، وبَثِّ الدعاة ... إلخ. وبعد دراسة الموضوع ومناقشته، وتداول الرأي فيه، ظهر أن للعلماء في المسألة قولين: أحدهما: قصر معنى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} في الآية الكريمة على الغزاة في سبيل الله، وهذا رأي جمهور العلماء، وأصحاب هذا القول يريدون قصر نصيب {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} من الزكاة على المجاهدين الغزاة في سبيل الله تعالى. القول الثاني: أن سبيل الله شامل، عام لكل طرق الخير، والمرافق العامة للمسلمين: من بناء المساجد وصيانتها، وبناء المدارس، والربط، وفتح الطرق، وبناء الجسور، وإعداد المؤَن الحربية، وبث الدعاة، وغير ذلك من المرافق العامة، مما ينفع الدين، وينفع المسلمين، وهذا قول قلَّة من المتقدمين، وقد ارتضاه واختاره كثير من المتأخرين.

وبعد تداول الرأي ومناقشة أدلة الفريقين، قرر المجلس بالأكثرية ما يلي: نظرًا إلى أن القول الثاني قد قال به طائفة من علماء المسلمين، وأن له حظًّا من النظر في بعض الآيات الكريمة مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى} (¬1)، ومن الأحاديث الشريفة، مثل ما جاء في سنن أبي داود: أن رجلًا جعل ناقة في سبيل الله، فأرادت امرأته الحج، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ارْكبِيها فإنَّ الحَجَّ في سَبِيلِ الله". ونظرًا إلى أن القصد من الجهاد بالسلاح هو إعلاء كلمة الله تعالى، وأن إعلاء كلمة الله تعالى، كما يكون بالقتال يكون -أيضًا- بالدعوة إلى الله تعالى، ونشر دينه: بإعداد الدعاة، ودعمهم، ومساعدتهم على أداء مهمتهم، فيكون كلا الأمرين جهادا؛ لما روى الإِمام أحمد والنسائيُّ وصححه الحاكم، عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "جَاهِدُوا المُشْرِكينَ بِأمْوَالِكُمْ وَأنفُسِكُمْ وَأَلسِنَتِكُمْ". ونظرًا إلى أن الإِسلام محارب بالغزو الفكري والعقدي، من الملاحدة واليهود والنصارى، وسائر أعداء الدين، وأن لهؤلاء من يَدعَمهم الدعم المادي والمعنوي، فإنه يتعين على المسلمين أن يقابلوهم بمثل السلاح الذي يغزون به الإِسلام، وبما هو أَنْكَى منه. ونظرًا إلى أن الحروب في البلاد الإِسلامية، أصبح لها وزارات خاصة بها، ولها بنود مالية في ميزانية كل دولة، بخلاف الجهاد بالدعوة، فإنه لا يوجد له في ميزانيات غالب الدول مساعدة ولا عون. لذلك كله فإن المجلس يقرر -بالأكثرية المطلقة- دخول الدعوة إلى الله تعالى، وما يعين عليها، ويدعم أعمالها، في معنى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} في الآية الكريمة" (¬2). ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 262. (¬2) قرارات المجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي بمكة المكرمة (1/ 38).

ومن قراراته أيضًا بشأن موضُوعَي الاستفادة من أموال الزكاة لبناء المدارس والمستشفيات في البلاد الأوربية وتأسيس صندوق للزكاة فيها، قالوا: " ... وبعد النظر والاستماع إلى كلمات الأعضاء ومناقشاتهم قرر المجلس تأكيد ما ذهب إليه في الدورة الثامنة من دخول الدعوة إلى الله تعالى، وما يعين عليها ويدعم أعمالها، في مصرف: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}، وهو أحد المصارف الثمانية المنصوص عليها في كتاب الله تعالى (الآية 60 من سورة التوبة) اعتمادًا على أن الجهاد في الإِسلام لا يقتصر على القتال بالسيف، بل يشمل الجهاد بالدعوة وتبليغ الرسالة، والصبر على مشاقِّها، وقد قال تعالى مخاطبًا رسوله - صلى الله عليه وسلم - في شأن القرآن: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (¬1)، وجاء في الحديث الشريف: "جَاهِدُوا المُشْرِكينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأنفُسِكُمْ وَأَلسِنَتِكُمْ" (¬2)، ويتأكد هذا المعنى في عصرنا الحاضر أكثر من أي وقت آخر، فالمسلمون يُغزَون فيه في عقر دارهم من الملل والنحل والفلسفات الباطلة، وبالفكر والثقافة لا بالسيف والمدفع، وبالمؤسسات التعليمية، والاجتماعية، لا بالمؤسسات العسكرية. (ولا يفلُّ الحديدَ إلَّا حديدٌ مثلُه)، فلا بد أن تقاوَم الدعوة إلى الطاغوت بالدعوة إلى الله، ويقاوم تعليم الباطل بتعليم الحق، والفكر المشحون بالكفر بالفكر المشحون بالإِسلام. كما قال أبو بكر الصديق لخالد -رضي الله عنه-: "حَارِبْهُمْ بِمِثْلِ مَا يُحَارِبُونَكَ بِهِ: السَّيفُ بِالسَّيفِ، وَالرُّمْحُ بِالرُّمْحِ ... ". وقد تنوعت وسائل الدعوة وأساليبها في عصرنا تنوعًا بالغًا، فلم تعد مقصورة على كلمة تقال، أو نشرة توزع، أو كتاب يؤلف -وإن كان هذا كله مهمًّا-, بل أصبح من أعظم وسائلها أثرًا وأشدها خطرًا المدرسةُ التي تصوغ عقول الناشئة وتصنع أذواقهم وميولهم، وتغرس فيها من الأفكار والقيم ما تريد، ومثل ذلك المستشفى ¬

_ (¬1) سورة الفرقان: 52. (¬2) رواه أحمد (12246)، وأبو داود (2506)، والنسائيُّ (3096)، وابن حبان (4708)، والحاكم (2427)، وصححه، وصححه الألباني في المشكاة (3821).

الذي يستقبل المرضى، ويحاول التأثير فيهم باسم الخدمات الإنسانية. وقد استغل هذه الوسائل أعداء الإِسلام من دعاة التنصير وغيرهم؛ لغزو أبناء الأمة الإِسلامية، وسلخهم من شخصيتهم، وإضلالهم عن عقيدتهم فأنشئوا المدارس والمستشفيات وغيرها؛ لهذا الغرض الخبيث، وأنفقوا عليها العشرات والمئات من الملايين، وأكثر ما يتعرض المسلمون وشبابهم خاصة لهذا الخطر حينما يكونون خارج ديار الإِسلام. ولهذا يقرر المجلس أن المؤسسات التعليمية والاجتماعية من المدارس والمستشفيات ونحوها، إذا كانت في بلاد الكفر، تعتبر اليوم من لوازم الدعوة، وأدوات الجهاد في سبيل الله، وهي مما يدعم الدعوة ويعين على أعمالها، بل هي لازمة للمحافظة على عقائد المسلمين وهُويَّتهم الدينية، في مواجهة التخريب العقائدي والفكري الذي تقوم به المدارس والمنشآت التنصيرية واللادينية على أن تكون هذه المؤسسات إسلامية خالصة، ممحضة لأغراض الدعوة والرسالة والنفع لعموم المسلمين، وليست لأغراض تجارية تخص أفرادًا أو فئة من الناس، أما ما يتعلق بتأسيس صندوق للزكاة، لجمعها من المكلفين بها، وصرفها في مصارفها الشرعية، ومنها ما ذكرناه أعلاه، فهو أمر محمود شرعًا، لما وراءه من تحقيق مصالح مؤكدة للمسلمين، بشرط أن يقوم عليه الثقات المأمونون العارفون بأحكام الشرع في تحصيل الزكاة وتوزيعها" (¬1). والذي يترجح لنا أن {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} خاصًا بالغزاة المتطوعين (*)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) قرارات المجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي بمكة المكرمة (1/ 45). (*) ويرى الدكتور الموسى أن مصرف في سبيل الله عام وليس خاصًا بالغزاة، كما يرى الدكتور المطلق دخول الدعوة إلى الله وطبع الكتب وغيرها في هذا المصرف.

حكم فرش المسجد وترميمه من الزكاة

حكم فرش المسجد وترميمه من الزكاة: ذكرنا فيما سبق أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير من عيَّنهم الله، وهم الأصناف الثمانية المذكورون في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬1)، ومن ذلك يتضح أن المساجد ليست جهة من الجهات الثمان المذكورة في الآية، والمحصور إخراج الزكاة فيها. ولا يخفى أن شؤون المساجد متعلقة بوزارة الشؤون الإِسلامية والأوقاف، فهي الجهة المسؤولة عن إصلاح المساجد وفرشها وتأمين ما تحتاجه، فإن كانت إمكانيات الوزارة عاجزة عن القيام بجميع متطلبات المساجد، وصارت تبدأ بالأهم فالمهم، وتأخرت الوزارة لذلك عن إصلاح المسجد، ورغب أهله عدم الانتظار، فينبغي لهم أن يقوموا بإصلاحه من أموالهم، أو يجمعوا له من الصدقات العامة من غير الزكاة. حفر الأبار للفقراء من الزكاة: يوجد اليوم عند كثير من الجمعيات الخيرية، وخصوصًا الجمعيات الخيرية التي تعمل خارج البلاد ويحتاج المسلمون في تلك البلاد إلى حفر الآبار، فهل لهذه الجمعيات الخيرية أن تقوم بحفر الآبار من الزكاة أو لا؟ ذكرنا فيما سبق أنه يشترط في الزكاة أن يُمَلَّك الفقير الزكاة ويدل لهذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِائِهِمْ وَتُردُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ". وأن الزكاة لها مصارف محددة في الشرع بيَّنها الله-عَزَّ وجَلَّ- في كتابه فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 60.

شراء السيارة للفقير من مال الزكاة

عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، وبناءً على ذلك نقول: إن الزكاة لا تصح فيما يتعلق بحفر الآبار، لانعدام شرط الملكية ولكونها غير منصوص عليها في الآية، واستثنى بعض المتأخرين إذا لم يمكن حفر الآبار إلَّا بمال الزكاة. وهذا يكون داخلًا تحت قاعدة (الضرورات تبيح المحذورات). شراء السيارة للفقير من مال الزكاة: إذا كانت السيارة سيعمل عليها بالتحميل والتنزيل وينفق على أهله، فيجوز في مثل هذه الحالة، وإذا كان سيركبها فهنا لا يجوز أن نعطيه من الزكاة ما يشتري به سيارة؛ لأنه بإمكانه أن يأخذ من الزكاة ما يستأجر به. لكن لو أن هذا الفقير اشترى سيارة ولحقه غرم بشرط أن تكون هذه السيارة لمثله، فحينئذٍ نعطيه من الزكاة؛ لكونه أصبح من الغارمين. شراء المواد الدراسية للفقير من أموال الزكاة: لا بأس أن نعطي الفقير زكاة ويقوم بشراء مواد الدراسة؛ لأن هذا داخل في الحوائج الأصلية، وكما أسلفنا أنه يعطى من الزكاة ما يحتاج إليه لمدة عام من النفقات الشرعية، وكذلك أيضًا الحوائج الأصلية. صرف الزكاة لنفقة الزواج: دفع الزكاة للمتزوج جائز ولا بأس به، بشرط ألا يكون له أحد ينفق عليه قادر أن يزوجه ممّن يجب عليه أن ينفق عليه؛ فالأب يجب عليه أن يزوج ولده ولا يجوز له أن يمتنع؛ لأن هذا داخل في النفقة، وإن كان الأب قادرًا فإن الولد لا نعطيه من الزكاة؛ لأنه يجب على أبيه أن يزوجه، اللَّهم إلَّا إذا امتنع الأب فحينئذٍ

شراء بيت للفقير من مال الزكاة

لا بأس أن نعطيه من الزكاة، لكن الأب يأثم في هذه الحالة. وإذا كان ليس له أب ينفق عليه أو جَدٌّ أو نحو ذلك أو له أب لكنه فقير لا يستطيع، فإننا نعطيه كفاية الزواج، وهي ما يتزوج به، مثله أو تمام الكفاية. شراء بيت للفقير من مال الزكاة: الراجح في هذه المسألة أنه لا يجوز أن يشترى للفقير بيتٌ من الزكاة؛ لأن الفقير نستطيع أن نعطيه كفايته بأن نعطيه مقدار الأجرة، قد يكون البيت يساوي مئة ألف فنعطيه ما يستأجر مثله بعشرة آلاف ريال، فنعطيه عشرة آلاف ريال ولا نعطيه مئة ألف أو مئتي ألف لكي يشتري بذلك منزلًا. وهناك طريق آخر ذهب إليه بعض المتأخرين؛ أنه لا بأس أن الفقير يشتري المنزل وحينئذٍ يكون من أصناف الغارمين، فحينئذٍ يعطى من الزكاة لكي يسدد غرمه؛ لأنه غارم لنفسه في أمر يتعلق بحاجته. صرف الزكاة لعلاج الفقراء: يجوز صرف الزكاة للفقراء بشروط: الشرط الأول: ألا يتوفر علاجه مجانًا. الشرط الثاني: أن يكون العلاج مما تمس الحاجة إليه، وأما الأمور التي لا تمس الحاجة إليها كأمور التجميل أو الأمور الكمالية، فهذا ليس له ذلك. الشرط الثالث: أن يراعى في مقدار تكاليف العلاج عدم الإسراف بحيث يبحث عن أقل المصحات تكلفة، فإذا توفرت مثل هذه الشروط فإن هذا جائز ولا بأس به.

حكم (صرف سهم المجاهدين من الزكاة في تنفيذ مشاريعهم الصحية والتربوية والإعلامية)

حكم (صرف سهم المجاهدين من الزكاة في تنفيذ مشاريعهم الصحية والتربوية والإعلامية): قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1). يقول ابن الأثير: "السبيل في الأصل: الطريق، وسبيل الله: -لفظ- عام، يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله -عَزَّ وجَلَّ-، بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد، حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه". ودلالة مفهوم {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} على الجهاد، هو محل اتفاق بين العلماء وإجماع بين الفقهاء. ولكن القضية المستجدة هي: هل هذا المفهوم مقصور على الجهاد أم يتجاوزه ليشمل المعنى الأصلي اللغوي؟ فالموسِعون أخذوا المدلول اللغوي الأصلي، وجمهور الفقهاء أخذوا المدلول العرفي للكلمة. والعمل بالمدلول اللغوي -وبخاصة في هذا الزمان- لا مانع منه، لكونه يحقِّق المصالح العليا للمسلمين، فالجهاد يكون بالقلم واللسان، كما يكون بالسيف والسنان، فهناك الجهاد الفكري، والتربوي، والاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، والعسكري، وكل هذه الأنواع من الجهاد تحتاج إلى الإمداد والتمويل. ¬

_ (¬1) سورة التوبة: 60.

"المهم أن يتحقق الشرط الأساسي لذلك كله، وهو أن يكون {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}، أي في نصرة الإِسلام وإعلاء كلمته في الأرض، فكل جهاد أريد به أن تكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، أيًّا كان نوع هذا الجهاد وسلاحه". ولما كان المجاهدون يحتاجون إلى الدعم المادي والمعنوي كان ولا بد من النظر إلى حاجياتهم التي تقوي عزائمهم، ولا يكون ذلك إلَّا بتوفير ما يحتاجونه، ومساعدتهم على أداء مهمتهم، وكذلك توفير ما تحتاجه أسرهم من الرعاية الصحية والتربوية. ونظرًا لأهمية هذا الأمر صدر من المجمع الفقهي الإِسلامي قرارٌ بشأنه جاء فيه: "وما صدر عن هيئة كبار العلماء في المملكة، واستمع إلى المناقشات حول الموضوع، قرر أن الصرف في الجهات التي تضمنها السؤال جائز من أكثر من جهة: أولًا: من جهة الاستحقاق بالحاجة، فهم -مجاهدين ومهاجرين- فقراء أو مساكين أو أبناء سبيل، فإن من كان من ذوي الأرض والعقار في بلده أصبح بالهجرة والتشريد من أبناء السبيل بعد انقطاعه. والإنفاق على الفقراء والمحتاجين من أموال الزكاة لا يقتصر على إطعامهم وكسوتهم فقط، بل يشمل كل ما تتم به كفايتهم وتنتظم به حياتهم، ومنها المشاريع الصحية والمدارس التعليمية ونحوها مما يعتبر من ضرورات الحياة المعاصرة. وقد نقل الإِمام النووي عن أصحابه من الشافعية: أن المعتبر في الكفاية: المطعم والملبس والمسكن، وسائر ما لا بد له منه، على ما يليق بحاله، لنفس الشخص ولمن هو في نفقته" (¬1). وقوله: "سائر ما لا بد له منه" كلمة عامة مرنة تتسع للحاجات المتجددة والمتغيرة بتغير الزمان والمكان والحال، ومن ذلك في عصرنا: المنشآت الصحية ¬

_ (¬1) المجموع (6/ 190).

والتعليمية التي تعتبر من تتمات المحافظة على النفس والعقل وهما من الضروريات الخمس، وقد اعتبر الفقهاء الزواج من تمام الكفاية، وكتب العلم لأهله من تمام الكفاية، نقل في (الإنصاف): أنه يجوز للفقير الأخذ من الزكاة لشراء كتب يحتاجها من كتب العلم التي لا بد منها لمصلحة دينه ودنياه (¬1). ثانيًا: من جهة أخرى يعتبر الإنفاق على المشاريع المسؤول عنها داخلًا في مصرف {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}. حتى مع التضييق في مدلوله وقصره على الجهاد بالمعنى العسكري، فإن الجهاد اليوم لم يعد مقصورًا على أشخاص المجاهدين وحدهم، بل أصبح تأمين الجهة الداخلية وقوتها جزءًا لا يتجزأ مما يسمونه (الإستراتيجية العسكرية)، والمهاجرون بكل معاناتهم ومآسيهم هم بعض ثمار الحرب وإفرازها ونتاجها، فلا بد من رعايتهم وتوفير ما يلزم لحياتهم الحياة المناسبة، وتعليم أبنائهم وعلاجهم حتى يطمئن المجاهدون إلى أن أهليهم وراءهم غير مضيعين، فيستمروا في جهادهم أقوياء صامدين، وأي خلل أو ضعف في هذه الجهة يعود على الجهاد بالضرر. ومما يؤيدنا في هذا من النصوص ما جاء في الصحيح من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ خَلَفَ غَازِيًا في أَهْلِه بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا". فاعتبر رعاية أسرة الغازي المجاهد غزوًا وجهادًا، فلا غرو أن يكون الإنفاق فيه من باب الجهاد في سبيل الله. وعلى هذا نص بعض الفقهاء: أن الغازي يُعطَى من سهم {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} نفقتَه ونفقةَ عياله ذهابًا ومقامًا ورجوعًا (¬2). وأما ما يتعلق بالنشاط الإعلامي، فقد غدا من لوازم الحرب الناجحة في عصرنا، كما يقرر ذلك المختصون من العسكريين؛ فهو لازم لتقوية الروح المعنوية ¬

_ (¬1) الإنصاف (3/ 165، 218). (¬2) المجموع (6/ 227).

للمجاهدين وتحريضهم على القتال، وهو لازم لزرع الثقة والأمل في نفس من وراءهم من المدنيين والمساعدين، وهو لازم لبث الرعب في قلوب أعدائهم، وقد يكون النصر بالرعب، وهو لازم لتجنيد الرأي العام العالمي للوقوف بجانبهم ونصرة قضيتهم. والقاعدة الشرعية: "أن ما لا يتم الواجب إلَّا به فهو واجب". ثم هو بعد ذلك من أنواع الجهاد باللسان، الداخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "جَاهِدُوا المُشْرِكينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأنفُسِكُمْ وَأَلسِنَتِكُمْ". وبناء على هذا يرى المجلس جواز صرف أموال الزكاة فيما جاء في السؤال. والله أعلم" (¬1). ¬

_ (¬1) قرارات المجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي بمكة المكرمة (1/ 47).

سادسا: النوازل المتعلقة بالصيام

سادسًا: النوازل المتعلقة بالصيام أولًا: النوازل المتعلقة بدخول الشهر وخروجه: إذا قدم الإنسان من بلد تأخر صومه، إلى بلد تقدم صومه، فمتى يفطر؟ إذا قدم الإنسان من بلد تأخر صومه، إلى بلد تقدم صومه، فإنه يجب عليه إذا أفطر أهل البلد الذي قدم إليه أن يفطر معهم؛ لأن هذا البلد ثبت فيه دخول الشهر، فكان هذا اليوم يوم عيد، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صيام العيدين. وعلى هذا فيجب على هذا الرجل الذي قدم من بلد تأخر صومه عن أهل هذا البلد الذي قدم إليه، يجب عليه أن يفطر مع أهل البلد الذي قدم إليه، وما نقص فإنه يقضيه بعد العيد، فإذا كان قد صام ثمانية وعشرين يومًا، فإنه إذا أفطر يقضي يومًا، والعكس بالعكس، يعني لو قدم من بلد صاموا قبل البلد الذي قدم إليه، فإنه يبقى حتى يفطروا؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ" (¬1). وقال بعض العلماء: إنه إذا أتم ثلاثين يومًا فإنه يفطر سرًّا؛ لأن الشهر لا يمكن أن يزيد على ثلاثين يومًا, ولا يعلن إفطاره؛ لأن الناس صائمون (¬2). اختلاف مطالع الأهلة: صدر قرار من هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في بيان ابتداء وقت الصيام ونهايته هذا نصٌّ مضمونهُ (¬3): ¬

_ (¬1) رواه الترمذيُّ (697)، وصححه الألباني في جامع الترمذيُّ (3/ 80). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (10/ 123)، الفتوى رقم (2665)، مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (19/ 209). (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة (10/ 134)، الفتوى رقم (2623).

"أولًا: اختلاف مطالع الأهلة من الأمور التي علمت بالضرورة حسًا وعقلًا، ولم يختلف فيها أحد من العلماء، وإنما وقع الاختلاف بين علماء المسلمين في اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتباره. ثانيًا: مسألة اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتباره من المسائل النظرية التي للاجتهاد فيها مجال، والاختلاف فيها واقع ممّن لهم الشأن في العلم والدين وهو من الخلاف السائغ الذي يُؤْجَرُ فيه المصيب أجرين؛ أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، ويؤجر فيه المخطئ أجر الاجتهاد. وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين: فمنهم من رأى اعتبار اختلاف المطالع، ومنهم من لم يَرَ اعتباره، واستدل كل فريق منهما بأدلة من الكتاب والسنة، وربما استدل الفريقان بالنص الواحد، كاشتراكهما في الاستدلال بقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (¬1)، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صُومُوا لِرُؤيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤيته" (¬2) الحديث. وذلك لاختلاف الفهم في النص وسلوك كل منهما طريقًا في الاستدلال به. ونظرًا لاعتبارات رَأَتْها الهيئة وقدَّرتها، ونظرًا إلى أن الاختلاف في هذه المسألة ليست له آثار تخشى عواقبها، فقد مضى على ظهور هذا الدين أربعة عشر قرنًا، لا نعلم منها فترة جرى فيها توحيد الأمة الإِسلامية على رؤية واحدة، فإن أعضاء مجلس هيئة كبار العلماء يرون بقاء الأمر على ما كان عليه، وعدم إثارة هذا الموضوع، وأن يكون لكل دولة إسلامية حق اختيار ما تراه بواسطة علمائها من الرأيين المشار إليهما في المسألة؛ إذ لكل منهما أدلته ومستنداته. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 189. (¬2) رواه البخاري (1810)، ومسلمٌ (1081).

فيما إذا تيقن شخص من دخول الشهر برؤية الهلال ولم يستطع إبلاغ الجهات المختصة

ثالثًا: نظر مجلس الهيئة في مسألة ثبوت الأهلة بالحساب وما ورد في ذلك من أدلة من الكتاب والسنة، واطَّلعوا على كلام أهل العلم في ذلك فقرروا بإجماع عدم اعتبار حساب النجوم في ثبوت الأهلة في المسائل الشرعية؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤيته" (¬1) الحديث، وقوله: "لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ" (¬2) الحديث، وما في معنى ذلك من الأدلة. انتهى. وأما ابتداء وقت الصوم ونهايته لكل يوم فقد بيَّنه الله -جل وعلا- في قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (¬3)، والآية عامة للمسلمين في كل مكان، وكل بلد لهم حكمهم في ليلهم ونهارهم. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمَّد وآله وصحبه وسلم". فيما إذا تيَّقن شخص من دخول الشهر برؤية الهلال ولم يستطع إبلاغ الجهات المختصة: اختلف العلماء في هذه النازلة؛ فمنهم من يقول: إنه لا يلزمه الصوم، وذلك بناء على أن الهلال هو ما استهل واشتهر بين الناس. ومنهم من يقول: إنه يلزمه؛ لأن الهلال هو ما رُئِيَ بعد غروب الشمس، سواء اشتهر بين الناس أم لم يشتهر. والذي يظهر لنا أن من رآه وتيقن رؤيته وهو في مكان ناءٍ لم يشاركه أحد في الرؤية، أو لم يشاركه أحد في الترائي فإنه يلزمه الصوم؛ لعموم قوله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص: **). (¬2) رواه مسلم (1081). (¬3) سورة البقرة: 187.

في حكم الاستعانة بآلات الرصد الحديثة واعتبار الحساب في إثبات الهلال

وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا" (¬2). فإن كان في البلد وشهد به عند المحكمة، وردَّت شهادته، فهل يلزمه الصوم؟ قولان لأهل العلم، والصواب أنه لا يجوز له أن يصوم وحده، ولا أن يفطر وحده، بل عليه أن يصوم مع الناس ويفطر معهم؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ" (¬3)، وهذا هو اختيار اللجنة الدائمة (¬4)، والشيخ عبد العزيز بن باز (¬5). في حكم الاستعانة بآلات الرصد الحديثة واعتبار الحساب في إثبات الهلال: تجوز الاستعانة بآلات الرصد في رؤية الهلال ولا يجوز الاعتماد على العلوم الفلكية في إثبات بدء شهر رمضان المبارك أو الفطر؛ لأن الله لم يشرع لنا ذلك، لا في كتابه ولا في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وإنما شرع لنا إثبات بدء شهر رمضان ونهايته برؤية هلال شهر رمضان في بدء الصوم ورؤية هلال شوال في الإفطار والاجتماع لصلاة عيد الفطر وجعل الأهلة مواقيت للناس وللحج، فلا يجوز لمسلم أن يوقِّت بغيرها شيئًا من العبادات من صوم رمضان والأعياد وحج البيت، والصوم في كفارة القتل الخطأ وكفارة الظهار ونحوها، قال الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 185. (¬2) رواه البخاري (1801)، ومسلمٌ (2556). (¬3) سبق تخريجه (ص:**). (¬4) فتاوى اللجنة الدائمة (10/ 96). (¬5) مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (15/ 73).

حكم الاعتماد على خبر المذياع أو التلفاز في دخول الشهر وخروجه

وَالْحَجِّ}، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤيتهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاِثينَ" (¬1)، وعلى ذلك يجب على من لم يَرَ الهلال في مطلعهم في صَحْو أو غَيْم أن يتموا العدة ثلاثين إن لم يره غيرهم في مطلع آخر، فإن ثبت عندهم رؤية الهلال في غير مطلعهم، لزمهم أن يتبعوا ما حكم به ولي الأمر العام المسلم في بلادهم من الصوم أو الإفطار؛ لأن حكمه في مثل هذه المسألة يرفع الخلاف بين الفقهاء (¬2). حكم الاعتماد على خبر المذياع أو التلفاز في دخول الشهر وخروجه: لا ريب أن الحكومة إذا ثبت عندها دخول الشهر أو خروجه من طريق المحكمة الشرعية، أخبرت الناس من طريق الإذاعة وصامت أو أفطرت بذلك، وبذلك يجب على كل من سمع الخبر من الرعية التابعة للحكومة السعودية، أن يعتمد خبر الإذاعة إذا سمعه ثقة أو أكثر في الدخول، وثقتان أو أكثر في الخروج، فيصوم بذلك ويفطر تبعًا لإمامه وإخوانه المسلمين، واعتماد المذياع والتلفاز في ذلك أولى وأقرب إلى الأدلة الشرعية من اعتماد البرقية. ثانيًا: النوازل المتعلقة بالمفطرات: بخَّاخ الرّبو: تعريفه: هو عبوة مضغوطة تحتوي على ثلاثة أشياء (الماء- غاز الأكسجين- المواد العلاجية). النسبة الكبرى فيها للماء، والباقي للاكسجين والمواد العلاجية، واستعمالها هو بأن يضع الإنسان هذا البخاخ في فمه ثم يأخذ شهيقًا عميقًا ثم يطلق بخةً واحدة يستنشقها المريض، وهذه البخة في الغالب أو عامتها يذهب إلى الجهاز ¬

_ (¬1) سبق تخريجه، (ص: **). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (10/ 98) الفتوى رقم (319).

الأقراص التي توضع تحت اللسان

التنفسي؛ تبدأ بالفم ثم ما يسمى البلعوم ثم القصبات الهوائية ثم يذهب إلى الرئة، لكن هناك جزء يسير جدًا من هذه المواد يعلق بجدران البلعوم، والبلعوم كما هو معروف أعلى الجهاز الهضمي، فربما يبتلع الإنسان شيئًا منه فيذهب إلى المعدة. فما أثر هذا البخاخ على صيام المريض؟ نقول: اختلف أهل العلم المعاصرون في هذه المسألة: والراجح: أن بخاخ الربو حكمه الإباحة إذا اضطر إلى ذلك؛ لقول الله -عَزَّ وجَلَّ-: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ...} (¬1)، ولأنه لا يشبه الأكل والشرب، فأشبه سحب الدم للتحليل والإبر غير المغذية، وهذا هو اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز (¬2)، والشيخ محمَّد بن صالح العثيمين (¬3)، وبه أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء في المملكة العربية السعودية (¬4). ومع القول بالإباحة فالخروج من الخلاف مستحب، فإذا أمكن لمريض الربو مثلًا أن يؤخر تعاطي هذا البخاخ ولا يترتب على ذلك مشقة ولا ضرر، فالأفضل أنه يؤخره إلى الإفطار، خروجًا من الخلاف، لكن إذا احتاج إليه فإننا نقول: إنه لا يحصل الفطر به. الأقراص التي توضع تحت اللسان: التعريف بها: هي أقراص توضع تحت اللسان لعلاج بعض الأزمات القلبية، وهي تمتصُّ مباشرة بعد وضعها بوقت قصير، ويحملها الدم إلى القلب، فتُوقِف أزماته المفاجئة، ولا يدخل إلى الجوف شيء من هذه الأقراص. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: 119. (¬2) مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (15/ 264). (¬3) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين -رحمه الله- (19/ 209). (¬4) مجلة البحوث الإِسلامية (43/ 155).

منظار المعدة

حكمها: هذه الأقراص لا تفطر الصائم؛ لأن الأصل صحة الصيام، ولا نترك هذا الأصل إلَّا بيقين، وهذه الأقراص ليست أكلًا ولا شربًا ولا في معنى الأكل أو الشرب؛ فإنها لا تصل إلى المعدة، ولا يحصل للبدن بها من القوة والنشاط ما يحصل بالطعام والشراب، فهي ليست طعامًا ولا شرابًا ولا في معنى الطعام أو الشراب. ولهذا نقول: إن هذه الأقراص لا يحصل بها الفطر، لكن بشرط أن ما يتحلَّل من هذا القرص لا يبتلعه الإنسان؛ لأن هذه الأقراص إذا وضعت تحت اللسان ربما يتحلل شيء منها يبقى في اللعاب، فهذا الذي يتحلل لا يبتلعه الإنسان وإنما يمجُّه. فهذا ما أفتى به مجمع الفقه الإِسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإِسلامي في دورته العاشرة المنعقدة في عام 1418 هـ (¬1). منظار المعدة: التعريف به: هو جهاز طبي يدخل عبر الفم إلى البلعوم، ثم إلى المريء، ثم المعدة، ويستفاد منه في تصوير ما في المعدة؛ ليعلم ما فيها من قرحة ونحوها، أو لاستخراج عيِّنة صغيرة لفحصها، أو لغير ذلك من الأغراض الطبية. وقال بعض الأطباء: إنه لا علاقة له بالمعدة، بمعنى أنه لا يصل إلى داخل المعدة. وهذه النازلة اختلف فيها أهل العلم المعاصرون: والصحيح من أقوالهم أن المنظار لا يفطر؛ لأنه ليس بأكل أو شرب ولا بمعناهما، فالصيام معه صحيح إلَّا إذا كان يدخل معه مادة سائلة إلى جوف الإنسان، فهنا يفطر (¬2). ¬

_ (¬1) مجلة مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي (4/ 5891). (¬2) مجلة مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي، قرار رقم: 93 (1/ 10).

القطرة عن طريق الأنف

القطرة عن طريق الأنف: الأنف منفذ إلى الحلق، كما هو معلوم بدلالة السنة، والواقع، والطب الحديث. فمن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَبَالِغْ في الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائمًا" (¬1)، فدل هذا الحديث على أن الأنف منفذ إلى الحلق، ثم المعدة، والطب الحديث أثبت ذلك؛ فإن التشريح لم يَدَعْ مجالًا للشك باتصال الأنف بالحلق. اختلف الفقهاء المعاصرون في التفطير بالقطرة في الأنف على قولين: القول الأول: أنه لا يفطر؛ لأنها ليست أكلًا ولا شربًا ولا في معناهما، وأيضًا لأن الواصل منها أقل بكثير من المتبقي من المضمضة، فهي أولى بعدم التفطير، وهذا ما ذهب إليه مجمع الفقه الإِسلامي (¬2). القول الثاني: أن القطرة في الأنف تفطر، وهو الراجح، وقال به الشيخ عبد العزيز بن باز (¬3)، وقيد ذلك بقوله: "إن وجد طعمها في حلقه"، والشيخ محمَّد بن عثيمين (¬4)، وقيد ذلك بقوله: "إذا وصلت إلى المعدة". دليل ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث لقيط بن صبرة: "وَبَالِغْ في الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تكُونَ صَائِمًا" (¬5). فالحديث يدل على أنه لا يجوز للصائم أن يقطر في أنفه ما يصل إلى معدته، فإن وَضْعَ القطرة في الأنف أبلغ من المبالغة في الاستنشاق؛ لأن المبالغة في الاستنشاق يحتمل أن يصل بها إلى حلقة شيء من الماء ويحتمل أن لا يصل، لكن القطرة آكَدُ؛ لأن الإنسان يضعها بحيث لا تخرج. ¬

_ (¬1) رواه الترمذيُّ (788)، وأبو داود (142)، وصححه الألباني في الإرواء (ج 4 ح 935). (¬2) مجلة مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي، قرار رقم 93 (1/ 10). (¬3) مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (15/ 261). (¬4) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين -رحمه الله- (19/ 206). (¬5) سبق تخريجه، (ص: **).

القطرة عن طريق الأذن

القطرة عن طريق الأذن: يقول الأطباء: إن الأذن ليست منفذًا إلى الحلق إلَّا إذا وُجد في طبلة الأذن خرق، فإن هناك قناةً تصل من الأذن إلى الحلق، فإذا وضع الإنسان في أذنه شيئًا فمن الممكن أن يصل إلى حلقه، أما إذا كانت طبلة الأذن غير مخرقة فإنه لا يمكن أن يصل شيء من الأذن إلى الحلق. وقد اختلف أهل العلم قديمًا فيما إذا وضع الإنسان في أذنه دهنًا أو ماءً أو نحو ذلك، هل يفطر بذلك أو لا يفطر؟ فمن أهل العلم من قال: إنه يفطر بذلك بناءً على أنه لو وضع في أذنه شيئًا فإنه ربما وجد طعمه في حلقة، ومعنى ذلك أنه منفذ، ومن أهل العلم من قال: إنه لا يفطر بما يصل إلى أذنهِ؛ وذلك أن الأذن ليست منفذا للحلق، فهذا ليس أكلًا ولا شربًا ولا في معناهما، والشرع إنما جاء بالفطر بالأكل والشرب والمفطرات المعروفة. والصواب أن يقال: إذا كانت طبلة الأذن غير مخرقة فإن قطرة الأذن لا تفطر، وإن كانت طبلة الأذن مخرقة فالخلاف فيها كالخلاف في قطرة الأنف. وما قيل في قطرة الأنف يقال في الأذن المخرقة، فإن كان هذا يصل إلى الحلق والجوف فإنه يفطر به؛ لحديث لقيط بن صبره: "وَبَالِغْ في الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا"، فهذا يعتبر في حكم الأكل والشرب، فيفطر به. القطرة عن طريق العين: ذهب أكثر أهل العلم -ومنهم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (¬1)، والشيخ محمَّد بن صالح بن عثيمين (¬2)، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (15/ 264). (¬2) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين -رحمه الله- (19/ 209).

الحقن العلاجية

والإفتاء (¬1) - إلى أنه لا يفطر الصائم بوضع قطرة في عينه؛ لأنه ليس بأكل ولا شرب، ولا بمعنى الأكل والشرب، والدليل إنما جاء في منع الأكل والشرب، فلا يلحق فيها ما ليس في معناهما، ولأن الصيام ثبت بيقين فلا يرفع إلَّا بيقين، وما يصل مما يوضع في العين من قطرة لو وصل فإنه لا يزيد على ما يعفى عنه مما يتبقى بعد المضمضة. الحقن العلاجية: الحقن العلاجية التي تؤخذ عن طريق (الجلد- العضل- الوريد) لا تصل إلى المعدة، بل تكون عن طريق الجلد أو عن طريق الدم، ولا تأخذ حكم الأكل ولا الشرب فيما يحصل بها من تقوية للبدن ونشاط وحيوية وغير ذلك؛ ولهذا فإننا نقول بأن الصيام صحيح ولا تأثير لها عليه، وأن هذه الحقن ليست من المفطرات التي نص الشرع على التفطير بها، وليست في معناها، وبهذا قال أعضاء مجمع الفقه الإِسلامي في دورته العاشرة (¬2)؛ فقد اتخذوا قرارًا بالإجماع أن هذه الحقن لا تفطر، وهو قول الشيخين، ابن باز (¬3)، وابن عثيمين (¬4). الحقن المغذية الوريدية: هي حقن تعطى لبعض المرضى؛ عبارة عن محلول مائي يحتوي على السكر والأملاح والماء، وربما أضيف إليه بعض العلاجات، تعطى عن طريق الوريد، فهي تدخل إلى الدم مباشرة ولا تصل إلى الجوف والمعدة. ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (10/ 250). (¬2) مجلة مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي قرار رقم: 99/ 1 / د 10. (¬3) مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (15/ 257). (¬4) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين -رحمه الله- (19/ 213).

غسيل الأذن

لكن هذه الإبر المغذية في معنى الأكل والشرب؛ حيث إننا نرى في بعض الأحيان أن بعض المرضى يجلس الساعات أو الأيام يتغذَّى على هذه الإبر، فقط لا يعطى أي طعام أو شراب، وهذا يدل دلالة أكيدة على أنها في معنى الأكل والشرب؛ ولهذا أفتى مجمع الفقه الإِسلامي (¬1) وأكثر العلماء المعاصرين، منهم الشيخ عبد العزيز بن باز (¬2)، والشيخ ابن عثيمين (¬3)، على أنها تفطر؛ وذلك لأنها وإن لم ينص على أنها من المفطرات إلَّا أنها في معنى المنصوص، فقد نص الكتاب الكريم والسنة النبوية على أن الصائم يفطر بالأكل والشرب {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (¬4)، وفي الحديث: "يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ" (¬5)، فالأكل والشرب منصوص على التفطير بهما، وهذه الإبر في معنى المنصوص عليه؛ ولهذا فإنه يحصل الفطر بها. غسيل الأذن: قد يحصل للأُذن إفرازات شمعية عند بعض الناس فتُؤثر على سمعه ألمًا أو سمعًا مما تضطره إلى عمل غسيل لها، فما حكم ذلك لمن كان صائمًا؟ نقول: قد سبق بيان حكم قطرة الأُذن، وهذه النازلة متفرعة على ما قبلها، والقول فيها كما سبق؛ أي إذا كانت طبلة الأذن سليمة وغير مخرقة فإنه لا يحصل الفطر بذلك؛ لما سبق. وأما إذا كانت طبلة الأذن مخرقة ثم غسلت هذه الأذن بماء أو نحوه ثم وصل إلى الحلق والمعدة، فإنه يفطر. والقول بأنه لا يفطر، لا شك، قول ضعيف، والصحيح -والله أعلم- أنه إذا حصل غسيل الأذن وهي مخرقة ¬

_ (¬1) مجلة مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي، قرار رقم: 99/ 1 / د 10. (¬2) مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (15/ 257). (¬3) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين -رحمه الله- (19/ 209). (¬4) سورة البقرة: 187. (¬5) أخرجه البخاريُّ (1894)، ومسلمٌ (2707).

أثر الحجامة على الصيام

الطبلة فإنه حينئذٍ يفطر بذلك؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - للقيط بن صبره -رضي الله عنه- في السنن: "وَبَالِغْ في الاِسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تكونَ صَائِمًا"؛ لأن هذا في معنى الاستنشاق إذا كانت الأذن قناة تصل إلى الحلق وإلى المعدة. أثر الحجامة على الصيام: تعريفها: الحجامة هي استخراج الدم المحتقن في الجسم، والحاجم هو الذي يحجم غيره، والمحجوم هو الذي يطلب الحجامة من غيره. حكمها: اختلف الفقهاء في هذه المسألة: والراجح عندنا أنه يفسد الصوم بها، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬1)، والشيخين ابن باز (¬2)، وابن عثيمين (¬3)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ" (¬4). لكن هناك بعض النوازل المتعلقة بالحجامة نذكرها على وجه الإجمال: 1 - هل يلحق بالحجامة الفصد، والشرط، والإرعاف؟ الراجح عندنا أن هذه الأشياء المذكورة لا تفطر إلَّا إذا أضعفت الشخص مثل الحجامة، فإنه يفطر بها. 2 - الحجامة بالآلات الحديثة لا يفطر بها الحاجم، أما المحجوم فإنه يفطر بها؛ وذلك لأن المحجوم رُبَّما أعْجَزَته الحجامة عن الصَّوْم، وأمَّا الحاجِم فلاَ يَأمَنُ ¬

_ (¬1) الاختيارات الفقهية (ص: 193). (¬2) مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (15/ 258). (¬3) الشرح الممتع على زاد المستقنع (6/ 378). (¬4) أخرجه أبو داود (2367)، والترمذيُّ (774)، وابن ماجه (1680)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (2074).

أن يَصِلَ إلى حَلقه شيء من الدَّمِ فيَبْتَلِعَه، أو مِن طَعْمِه، وهو متعذِّر مع الآلات الحديثة. أما التبرع بالدم فالأحوط تأجيله إلى ما بعد الإفطار؛ لأنه في الغالب يكون كثيرًا، فيشبه الحجامة (¬1). والصواب: أنه يفطر إذا كان كثيرًا، والكثير حده أن يؤثر على البدن. فهذا يفطر به الصائم؛ إلحاقًا له بالحجامة على أحد القولين، إلَّا أن توجد ضرورة لا تندفع إلَّا بتبرعه، فإنه يتبرع بالدم إذا لم يكن عليه ضرر ويفطر ذلك اليوم ويقضي يومًا مكانه؛ لأن الفطر صار وسيلة لتحقيق واجب؛ وهو إنقاذ النفس المعصومة عن طريق هذا الشخص، وما لا يتم الواجب إلَّا به فهو واجب. يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية: " ... وقد بيّنا أن الفطر بالحجامة على وفق الأصول والقياس، وأنه من جنس الفطر بدم الحيض والاستقاءة وبالاستمناء، وإذا كان كذلك، فبأيِّ وجه أراد إخراج الدم أفطر" (¬2). لكن لا يسوغ التبرع بالدم إلَّا بثلاثة أمور: أ- أن لا يتضرر المتبرع. ب- الحاجة الماسة للمتبرَّع له. ج- أن يكون بدون عوض؛ لأنه لا يجوز بيع الدم. والدم الذي يفطر هو الكثير الذي في معنى الحجامة، أما القليل مثل إبرة تحليل السكر فلا تفطر. ¬

_ (¬1) مجلة البحوث الإِسلامية (43/ 154). (¬2) مجموع الفتاوى (25/ 257).

غازات التخدير

غازات التخدير: التخدير يتم بطرق، منها: استنشاق غازات تؤثر في الشعور بالإحساس أو بواسطة حقنة عبر الأوردة الدموية أو بهما أو بغير ذلك، وينقسم إلى قسمين: 1 - تخدير جزئي يقتصر مفعوله على جزء من البدن، ويبقى الوعي وإدراك المعالج لما يجري حوله طبيعيًا، وهذا لا يؤثر في الصيام. 2 - تخدير كامل للبدن، بحيث يفقد المعالج معه الوعي بما حوله، مع الحرص على أن يستمر على هذه الحالة حسب ما يقرره الفريق الطبي، وهي حالة أقرب ما تكون إلى الإغماء، فيقرر لها من الأحكام ما قرر في الإغماء، والذي رجَّحَه المجمع الفقهي (¬1) أن التخدير لا يوجب قضاء اليوم الذي خُدِّر فيه المريض، سواء استغرق كامل اليوم أو لم يستغرق، ما دام قد بيت الصيام من الليل لذلك اليوم أو للشهر، ما لم ينقطع الصيام لعذر. والصحيح فيها: إن أفاق جزءًا من النهار صح صيامه على الراجح؛ لأنه جمع بين ركني الصيام؛ النية، والإمساك عن المفطرات، وإن لم يُفِقْ فإنه يقضي بلا خلاف، قاله ابن قدامة (¬2). الدهانات والمراهم واللصقات العلاجية: في داخل الجلد أوعية دموية، فما يوضع على سطح الجلد يمتص عن طريق الشعيرات الدموية إلى الدم، وهو امتصاص بطيء جدًا. وقد سبق أن حَقْنَ العلاج حقنًا مباشرًا في الدم لا يُفطِر، فمن باب أولى هذه الدهانات والمراهم ونحوها، بل حكى بعضُ المعاصرين الإجماعَ على أنها لا تفطر، ¬

_ (¬1) مجلة مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي، قرار رقم: 93 (1/ 10). (¬2) المغني بالشرح الكبير (3/ 21).

الغسيل الكلوي

وهو من قرارات المجمع الفقهي (¬1). الغسيل الكلوي: التعريف به: غسيل الكلى عبارة عن إخراج دم المريض إلى آلة، وهي ما تسمى بالكلية الصناعية تتولى تنقية الدم ثم إعادته إلى الجسم بعد ذلك، وأنه يتم إضافة بعض المواد الكيمياوية والغذائية كالسكريات والأملاح وغيرها إلى الدم. طرقه: هناك طريقتان لغسيل الكلى: الطريقة الأولى: يتم غسيل الكلى بواسطة آلة تسمى (الكلية الصناعية)، حيث يتم سحب الدم إلى هذا الجهاز، ويقوم الجهاز بتصفية الدم من المواد الضارة، ثم يعيد الدم إلى الجسم عن طريق الوريد، وقد يحتاج إلى سوائل مغذية تعطى عن طريق الوريد. الطريقة الثانية: تتم عن طريق الغشاء البريتواني في البطن، حيث يدخل أنبوب عبر فتحة صغيرة في جدار البطن فوق السّرَّة، ثم يدخل عادة ليتران من السوائل التي تحتوي على نسبة عالية من سكر الغلوكوز إلى داخل جوف البطن، وتبقى في جوف البطن لفترة، ثم تسحب مرة أخرى، وتكرر هذه العملية عدة مرات في اليوم الواحد، ويتم أثناء ذلك تبادل الشوارد والسكر والأملاح الموجودة في الدم عن طريق البريتوان، ومن الثابت علميًا أن كمية السكر الغلوكوز الموجود في هذه السوائل تدخل إلى دم الصائم عن طريق الغشاء البريتواني. حكمه: اختلف المعاصرون في غسيل الكلى على قولين: أحدهما: أنه لا يفسد الصيام. ¬

_ (¬1) مجلة مجمع الفقه الإِسلامي (10/ 289) ج 2.

القسطرة

ثانيهما: وهو أرجحهما، أنه يفسد الصيام، وذلك بسبب هذه الإضافات، وإلا مجرد التنقية قد نقول إنها لا تفسد الصوم، لكن هذه الإضافات لها أثر في إفساد الصوم، وهذا هو قول الشيخ عبد العزيز بن باز (¬1)، وبه أفتت اللجنة (¬2). القسطرة: تعريفها: القسطرة هي إدخال جهاز أو أنبوب عن طريق الوريد حتى يصل الأوردة والشرايين المتصلة بالقلب أو في أي مكان في البدن، ويستعمل هذا النوع من العلاج أحيانا لأغراض تشخيصية لاكتشاف التجلطات في الأوردة والشرايين، وأحيانًا لأغراض علاجية مثل فتح بعض الشرايين المغلقة أو التي فيها تجلط. حكمها: ذهب أكثر أهل العلم المعاصرين، وهو أحد قرارات مجمع الفقه الإِسلامي (¬3)، أنه لا يحصل الفطر بها لأن هذه القسطرة ليس مما ورد به النص مما يفطر وليست مما في معنى المنصوص. وهذا الكلام مشروط بأن لا يكون هناك أمور مصاحبة كما في مسألة المنظار، فإن المنظار لو وضع عليه مادة هلامية أو مادة دهنية حصل الفطر به، فكذلك القسطرة، فإذا كانت عملية القسطرة بدون إضافات فإنه لا يحصل الفطر بها؛ لأنها ليست مما نص الشارع على الفطر به وليست في معنى المنصوص، لكن لو حصل مع هذه القسطرة أن أعطي المريض بعض الإبر أو الحقن أو المحاليل المغذِّية في الدم، فإنا نقول حينئذ: إنها تُبْحَثُ؛ إذا كانت أشياء علاجية مثل الإبر، وإن كانت مغذية، فتأخذ حكم الإبر المغذية، لكن القسطرة بذاتها إذا لم يصاحبها إدخال أشياء أخرى إلى جسم المريض، فإنها لا تفطر؛ لأنها ليست من المنصوص على التفطير به ولا في معنى المنصوص. ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (15/ 275). (¬2) مجلة البحوث الإِسلامية (43/ 156). (¬3) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإِسلامي، قرار رقم: 93 (1/ 10).

الغسول المهبلي

الغسول المهبلي: تعريفه: الغسول المهبلي هو محاليل مطهرة أو علاجية تتعاطاها المرأة عن طريق الفرج (القبل). حكمه: لا يعد الفرج منفذًا إلى الجوف كما أثبت ذلك الطب الحديث، وليس هناك قناة بين الفرج وبين المعدة، وبالتالي فإن هذا الغسول ليس أكلًا ولا شربًا، ولا مما يحصل الفطر به بالنص، ولا في معنى ما ورد النص بالفطر به، ولهذا اتخذ مجمع الفقه الإِسلامي قرارًا بالإجماع بأن الغسول والتحاميل المهبلية والمنظار المهبلي وأدوات الفحص المهبلية وغير ذلك، لا يعد مفطرًا للصيام (¬1)؛ لأنها ليست مما ورد النص بالفطر به، ولا في معنى المنصوص. الحقنة الشرجية: اختلفت أقوال الفقهاء المتقدمين والمعاصرين في حكم استعمال الصائم الحقنة الشرجية إلى ثلاثة أقوال: الأول: أن الحقنة الشرجية تفسد الصوم، سواء كانت للتداوي أو للتغذية أو لغير ذلك؛ لأنها تدخل من منفذ طبيعي، وتصل إلى الجوف (¬2). القول الثاني: أن الحقنة الشرجية لا تبطل الصوم مطلقًا؛ لأنها لا تصل إلى المعدة. وهذا هو اختيار شيخ الإِسلام (¬3)، وابن حزم (¬4)، والشيخ عبد العزيز بن باز (¬5). ¬

_ (¬1) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإِسلامي، قرار رقم: 93 (1/ 10). (¬2) الهداية للمرغيناني (1/ 25)، الشرح الكبير للدردير (1/ 258)، المجموع للنووي (6/ 361)، المغني، لابن قدامة (3/ 105). (¬3) حقيقة الصيام لابن تيمية، (ص: 55). (¬4) المحلى لابن حزم (6/ 300 - 351). (¬5) مجلة البحوث الإِسلامية (43/ 155).

التحاميل الشرجية

القول الثالث: التمييز بين الحقنة الشرجية التي تدخل مادة غذائية في الجسم، فهذه تعتبر مفسدة للصوم، وبين الحقنة الشرجية التي تحمل مادة ملينة للأمعاء، كالماء والصابون وغير ذلك، وهذه لا تفسد الصوم؛ لأنها قد لا تمتصُّ، والهدف منها إخراج الفضلات من الجسم. والصواب أن يقال: إن الأولى في حق الصائم تأخير استعمال الحقنة الشرجية إلى ما بعد الإفطار؛ احتياطًا للعبادة، سواء كانت تحمل موادَّ غذائية أو سوائل أخرى، ما دام العلم قد أثبت أن الأمعاء الغليظة لها قدرة على امتصاص السوائل، وأن الأمعاء الدقيقة هي التي يحدث فيها معظم الامتصاص، ولا نظن أن هناك ضرورة ملحَّة تقضي باستعمال الحقنة الشرجية أثناء فترة الصوم، لا سيما وأن كثيرًا من أساتذة الطب ينصحون بعدم إجراء الحقن الشرجية أثناء الصوم؛ لأنها تسبب ضعفًا في عضلات الأمعاء وغشائها وتخرش القولون، وتنهك المريض، وتستهلك قواه. والله أعلم. التحاميل الشرجية: تعريفها: التحاميل الشرجية: هي ما يوضع في دبر المريض لعلاج بعض الأمراض مثل البواسير، ولتخفيض الحرارة، وهي معروفة. حكمها: محل خلاف بين أهل العلم باعتبار أنها تصل إلى الجوف وبالتالي هل يحصل بها التفطير لوصولها إلى الجوف أم لا يحصل بها التفطير؟ والصحيح: أنه لا بأس أن يستعمل الصائم التحاميل التي تُجعَل في الدبر إذا كان مريضًا؛ لأن هذا ليس أكلًا ولا شربًا، ولا بمعنى الأكل والشرب، والشارع إنما حرم علينا الأكل والشرب، فما كان قائمًا مقام الأكل والشرب أعطي حكم الأكل والشرب، وما ليس كذلك فإنه لا يدخل في الأكل والشرب لفظًا ولا معنًى،

المنظار الشرجي وأصبع الفحص الطبي

فلا يثبت له حكم الأكل والشرب. والله أعلم. المنظار الشرجي وأصبع الفحص الطبي: قد يدخل الطبيب المنظار من فتحة الشرج؛ ليكشف على الأمعاء أو غيرها، وقد سبق الكلام على منظار المعدة، وهو ينطبق على المنظار الشرجي وأصبع الفحص الطبي، إلَّا أن القول بعدم التفطير في المنظار الشرجي وأصبع الفحص الطبي، أولى وأقوى؛ لما سبق تقريره من أن الجوف هو المعدة، أو ما يوصل إليها، وليس كل تجويف في البدن يعتبر جوفًا، فعلى هذا يكون المنظار الشرجي والإصبع أبعد أن يفطر من منظار المعدة. فخلاصة حكم المنظار الشرجي، وأصبع الفحص الطبي، أنهما لا يفطران؛ فهو لا يصل إلى المعدة، ولا يحصل للجسم به تقوًّ، ولا تغذٍّ. ما يدخل عبر مجرى البول: قد يستدعي فحص المسالك البولية لشخص تقطيرَ مواد سائلة أو ملونة عن طريق مجرى البول، تستقر في المثانة؛ لتوضح الصور التي تلتقطها الأشعة، وقد بحث الفقهاء من قديم حكم الصوم مع إدخال مثل هذه السوائل في الإحليل، فرأى البعض أن ذلك يفطر الصائم، ولو لم يصل إلى المثانة؛ قياسًا على حكم الحقنة الشرجية، ورأى آخرون أن التقطير في الإحليل لا يفطر الصائم إلَّا إذا وصل إلى المثانة؛ لأنه أدخل شيئًا إلى جوف، والرأي الغالب أن الصيام صحيح إذًا قطر في إحليله؛ لأن هناك فرقًا بين الإحليل وبين فتحة الشرج، من حيث ضيق الأول (الإحليل) واتساع الثانية (فتحة الشرج). وعلم التشريح الحديث والطب الحديث يثبت أن مسالك البول ليست منفذًا إلى المعدة ولا إلى الأمعاء الغليظة أو الدقيقة أو مراكز الامتصاص أو الجهاز

حكم استعمال معجون الأسنان

الهضمي، وهذا هو الراجح، أي أن هذه التي تدخل من مجاري البول لا تعد مفطرةً. وهذا هو الذي أفتى به أعضاء مجمع الفقه الإِسلامي في دورته العاشرة (¬1). حكم استعمال معجون الأسنان: تنظيف الأسنان بالمعجون لا يفطر به الصائم كالسواك، وعليه التحرُّز من ذهاب شيء منه إلى جوفه، فإن غلبه شيء من ذلك بدون قصد فلا قضاء عليه (¬2). ¬

_ (¬1) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإِسلامي قرار رقم: 93 (1/ 10). (¬2) نشر في كتاب: تحفة الإخوان، لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، (ص: 175)، وفي جريدة: الجزيرة، العدد: 9589، بتاريخ 12/ 9 / 1419 هـ.

سابعا: النوازل المتعلقة بالحج

سابعًا: النوازل المتعلقة بالحج: العجز عن الحصول على تصريح الحج: المشاعر المقدسة لها طاقة استيعابية محدودة والجميع يشاهد الآن ما آلَتْ إليه هذه المشاعر من الزحام الشديد الذي قد تعجز الطاقات البشرية عن تنظيمه أو الإنفاق عليه، وقد وفَّق الله بلاد الحرمين وولاة أمرها للإنفاق على هذه المشاعر بسخاء، فجنى الحجاج والعمَّار ثمرات هذه الجهود تيسيرًا وتسهيلًا في أداء هذه المناسك، وهذه مِنًى قد استغلت بالكامل، ومزدلفة في ليلة جمع تمتلئ بالكامل، وعرفات ليست منها ببعيد، والمسجد الحرام في يوم الثاني عشر والثالث عشر لا يحتمل المزيد، ومن أجل ذلك نظر الفقهاء والعلماء وولاة الأمر في تحديد نِسَبِ الحجيج في كل بلد إسلامي، فوضعت السلطات في المملكة العربية السعودية نظامًا لتنظيم الحج بالنسبة للمواطنين والمقيمين بالمملكة، يقضي بأن الفرد يجب أن يحصل على تصريح بالحج من الجهات المختصة، وهذا التصريح لا يتم منحه إلَّا كل خمس سنوات، أي أنه وفقًا للنظام فإن الشخص لا يستطيع أن يحج إلَّا كل خمس سنوات أو أكثر. الراجح: أن تصريح الحج شرط في وجوب الحج، ومن عجز عن إخراجه فهو داخل في عموم قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (¬1)، ومن حج بدون تصريح أو تحايل على إخراجه ممّن ليس له الأحقية بالحج بكذب أو خداع أو برشوة أو بطرق ملتوية، فإنه يأثم بذلك؛ لمخالفته التنظيم الذي وضع لمصلحة الأمة، لكن حجه صحيح، ومن مات قبل أن يحصل ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: 97.

هل جدة ميقات أم لا؟

على التصريح فإنه غير آثم عند الله -سبحانه وتعالى-، وغير مسؤول عن ذلك، والله -عَزَّ وجَلَّ- أرحم من أن يكلف عباده ما لا يستطيعون. هل جدّة ميقات أم لا؟ هذه المسألة قد تكون نازلة باعتبار أن جدة لم تكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما هي الآن، مدينةً مأهولة وعامرة، وباعتبار أيضًا أن الناس إلى عهد قريب كان كثير منهم يأتي إلى الحج عن طريق البر، وحتى الذين يأتون عن طريق البحر كانوا ربما نزلوا عن طريق ينبع أو عن طريق الشعيبة، وهذه كلها لا إشكال فيها، فالذي يأتي من ينبع يحرم من الجحفة، والذي يأتي من الشعيبة يحرم من يَلَمْلَمَ، أما في هذه الأزمنة فأكثر من نصف الحجاج يأتي عن طريق جدة، إما عن طريق الطيران، أو عن طريق البحر، فبالنسبة إلى هؤلاء هل نقول لهم إن جدة ميقات، بحيث إن الواحد منهم لا يحرم حتى يصل إلى جدة وينزل فيها ثم بعد ذلك يحرم، أم نقول إن الإحرام واجب عليهم قبل أن يصلوا إلى جدة؟ نقول: اختلف أهل العلم المعاصرون في هذه النازلة: فذهب بعضهم إلى أن جدة ميقات لمن نزل بها جوًا أو بحرًا. وقال آخرون: إنها ليست ميقاتًا إلَّا لأهلها. والراجح عندنا: أن جدة ليست ميقاتًا إلَّا لأهلها المقيمين بها، أو مَنْ نزل إليها لا يريد الحج أو العمرة ثم بدا له ذلك، أما من قدم إليها مريدًا للحج أو العمرة وجعلها ميقاتًا له أو جعلها ميقاتًا لمن قدم إليها عن طريق الجو والبحر، فإنه قد أخطأ في ذلك، وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة (¬1). ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (11/ 125) الفتوى رقم (2279).

الإحرام بالإزار المخيط

الإحرام بالإزار المخيط: الإزار المخيط هو: الإزار الذي يخاط جانباه ويوضع في أعلاه تِكَّة؛ إما من خيط أو مطاط أو سير أو نحو ذلك، وهو يشبه تمامًا ما تلبسه النساء في هذا الزمن بما يسمى التنورة. فما حكم لبس هذا الإزار بالنسبة للمُحرِم من الرجال؟ نقول: اختلف أهل العلم المعاصرون في جواز لبسه: ذهب بعضهم إلى جواز لبسه، وممن قال به الشيخ محمَّد العثيمين (¬1)، وذهب غيرهم إلى عدم جواز لبسه، والذي نراه أنه لا ينبغي استعماله؛ لأنه لما خِيطَ خرج عن كونه إزارًا؛ لأمرين: الأول: من جهة اللغة، فقد ذكر في تاج العروس (¬2) أن الإزار غير مخيط، ومن ذلك قول الشاعر: النازلين بكل معتركٍ ... والطيبين معاقد الأُزُرِ فالإزار يعقد على الحقوين ولا يخاط. الثاني: حديث جابر -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إِذَا كَانَ وَاسِعًا فَخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ، وَإِذَا كَانَ ضَيِّقًا فَاشْدُدْهُ عَلَى حِقْوِكَ" (¬3) متفق عليه. فبين له - صلى الله عليه وسلم - كيفية لباس الصلاة، وهو أنه إن كان الثوب واسعًا ستر به جميع البدن، وإن كان ضيقًا اكتفى بستر أسفل البدن، ومعلوم أنه لو كان مخيطًا لما أمكن فيه ذلك، فدل على أن الإزار اسم لما يستر أسفل البدن وليس مخيطًا. ¬

_ (¬1) الشرح الممتع على زاد المستقنع (7/ 67). (¬2) تاج العروس (3/ 11). (¬3) رواه البخاري (361)، ومسلمٌ (3010)، واللفظ له.

لبس الكمامات حال الإحرام

لبس الكمامات حال الإحرام: الكمامات: هي ما يوضع على الأنف والفم من قطن أو قماش أو نحو ذلك؛ ليمنع دخول الدخان والغبار والروائح الكريهة وغيرها، وقد انتشر استعماله في أوقات الحج بسبب كثرة السيارات وعوادمها والغبار وغير ذلك، فأصبح كثير من الناس يلبسونها بكثرة، فما حكم لبس هذه الكمامات؟ اختلف أهل العلم المعاصرون في هذه النازلة، وذلك بسبب اختلافهم في حكم تغطية وجه المحرم. قال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:"لا ينبغي ولا يجوز هذا؛ لأنه غطى حوالي نصف الوجه، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلاَ وَجْهَهُ" (¬1)، يعني للمحرم الذي وقَصَتْهُ راحلته (¬2)، والذي يظهر لنا جواز ذلك؛ لأن المحرم ممنوع من تغطية رأسه دون وجهه، ولأن الحاجة تدعو لذلك، لا سيما مع وجود الأمراض المعدية وكثرة الزحام. استعمال المنظفات المعطرة للمحرم: المنظفات المعطرة: مثل الشامبو، أو الصابون المعطر بالليمون، أو التفاح، أو بالفواكه، أو ببعض الروائح، تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: منظفات معطرة بروائح طيبة، ولكن هذه الروائح ليست مما يتخذه الناس طيبًا، مثل الصابون بنكهة الليمون أو التفاح أو السفرجل أو النعناع مثلًا، فهذه كلها وما كان على شاكلتها لا بأس باستعمالها. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1265)، مسلم (1206). (¬2) مجموع فتاوى العلامة الشيخ ابن باز -رحمه الله- (17/ 117).

الطواف والسعي في الدورين: الأول والسطح

القسم الثاني: الصابون أو المنظفات المعطرة بروائح عطرية مما يتخذه الناس طيبًا وعطرًا. فهذه اختلف فيها أهل العلم، فذهب بعضهم إلى أن المحرم ممنوع من ذلك، وهذا القول هو الذي رجحه الشيخ محمَّد بن صالح العثيمين (¬1) -رحمه الله-. وذهب بعضهم، وهو اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز (¬2)، إلى أنه لا حرج في ذلك -إن شاء الله-؛ لأنه لا يسمى طيبًا ولا يعتبر مستعمله متطيبًا، لكن لو ترك ذلك واستعمل صابونًا آخر من باب الورع، كان أفضل وأحسن، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:"دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ" (¬3). الطواف والسعي في الدورين: الأول والسطح: يجوز الطواف وكذا السعي في الأدوار العلوية؛ لأن الهواء تابع للأرض وللقرار، فهواء المطاف وهواء المسعى تابع لقراره ولأصله؛ ولهذا إذا طاف الإنسان على الأرض، أو طاف في الدور الأول، أو طاف في السطح، فإنه يصدق عليه أنه طاف في المسعى بين الصفا والمروة. وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (¬4). المبيت بعرفة ليلة عرفة: ذهب جمهور أهل العلم إلى أن السُّنَّة أن يبيت الحاج بمنًى ليلة التاسع، لكن في هذه الأزمنة كثر الحجاج فقد يصل عددهم إلى ما يقرب من ثلاثة ملايين وقد ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين -رحمه الله- (22/ 155). (¬2) مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (17/ 126). (¬3) رواه الترمذيُّ (2518)، النسائي (5711)، وصححه الألباني في الإرواء (ج 1 رقم 12). (¬4) فتاوى اللجنة الدائمة (11/ 232).

الإفاضة من عرفات قبل غروب الشمس لمن وقف نهارا

يزيد على ذلك مستقبلًا، وأصبح هؤلاء الحجاج والقائمون على العناية بأمورهم وترتيب أحوالهم إذا طبقوا هذه السنة وهي المبيت ليلة التاسع بمنى والانصراف أو الدفع من منى إلى عرفات بعد طلوع الشمس من يوم عرفة، يجدون مشقة وعسرًا شديدًا، وبعض الحملات ربما لا يصلون إلى عرفات إلَّا في حدود الساعة الثانية أو الثالثة أو حتى الرابعة ظهرًا أو بعد العصر، فما يصل الحجاج إلى عرفات إلَّا وهم في حالة من التعب شديدةٍ، ثم إذا وصلوا عرفات وجاء وقت الدعاء والتضرُّع الذي هو أعظم المواقف التي يقول فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -:"خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ" (¬1)، إذا بهذا الحاج في قمة الإنهاك والتعب والمشقة، وإذا هو يبحث عن الراحة، ولو أنه جاهد نفسه ودعا فإنه لا يكون في حالة من الإقبال على الله -سبحانه وتعالى-، واستحضار التضرع والخشوع والإنابة إلى الله -عَزَّ وجَلَّ-، والطمع فيما عنده، فمن أجل ذلك يرى بعض أهل العلم أن الأولى لهم أن يتركوا المبيت بمنى ليلة التاسع؛ من أجل أن يحصلوا على أعظم مقاصد الحج وهو الإقبال والدعاء والتضرع والإخبات إلى الله -سبحانه وتعالى-، في يوم عرفة. والذي يظهر لنا أن الأمر يختلف حسب قدرة الحجاج وتيسُّر وصولهم إلى عرفات، ونحن نشاهد كثيرًا من الحجاج يصلون في زمن قياسي إلى عرفات ولا يأخذون في الطريق من منى إلى عرفات إلَّا في حدود الساعة فقط. الإفاضة من عرفات قبل غروب الشمس لمن وقف نهارًا: قال أهل العلم: إذا خرج الحاج قبل غروب الشمس من عرفة تعيَّن عليه الرجوع، فإن لم يرجع ففيه خلاف بين أهل العلم، ذهب بعضهم إلى أن عليه دمًا، وقال آخرون: لا دم عليه؛ إذا لا دليل على ذلك، لكنه أخطأ وخالف السنة. ¬

_ (¬1) رواه الترمذيُّ (3585)، وصححه الألباني في المشكاة (ج 2 ح رقم 2598).

لكن مع وجود هذا العدد الكبير والكم الهائل من الحجيج وكثرة ما يحصل من الزحام وشدته -حيث نرى طوال الليل الحافلات والسيارات يأتي عليها الفجر وهي ما زالت تحمل الحجاج إلى مزدلفة، بل بعضها يمر بها مرورًا فقط- فهل نقول بجواز النفر قبل غروب الشمس لمن كان بعرفة؟ قال بعض أهل العلم: لو قيل بجوازه في ظل هذه الأوضاع المذكورة لكان لذلك وجه، لا سيما والمسألة محل خلاف بين أهل العلم، وهذا هو الأرفق بالناس، ومن أَوْجَهِ الأدلة على ذلك ما رواه أبو داود والنسائيُّ عن عروة بن مضرس قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بجمع فقلت: يا رسول الله، إني أقبلت من جبلي طيئ لم أَدع جبلًا إلَّا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَلَّى هَذِهِ الصَّلاةَ مَعَنَا وقَدْ وَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بعَرَفَةَ لَيلًا أو نهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُهُ وَقَضَى تَفَثَهُ" (¬1). فقوله: "وَقَدْ وَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ لَيْلا أَوْ نَهارًا" يعني وقف ثم دفع ليلًا أو نهارًا فقد تم حجَّه وقضى تفثهُ، وليس بعد التمام نقصٌ، وليس مع التمام نقص. هذا هو الذي يظهر عندنا. والله أعلم. قلنا: والصحيح أن الوقوف بعرفة إلى الغروب واجب؛ للأدلة الآتية: أولًا: مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها إلى الغروب مع أنه لو دفع بالنهار لكان أرفق بالناس؛ لأنه لو دفع بالنهار كان ضوء النهار معينًا للناس على السير، وإذا دفع بعد الغروب حل الظلام، ولا سيما في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - والناس يمشون على الإبل والأقدام فينتشر الظلام قبل الوصول إلى مزدلفة. فتأخير الرسول - صلى الله عليه وسلم - الدفع من عرفة إلى ما بعد الغروب، وتركه للأيسر، يدل على أنه الأفضل، ودليل ذلك قول عائشة -رضي الله عنها-: "ما خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ ¬

_ (¬1) رواه النسائي (3041)، وصححه الألباني في سنن النسائي (5/ 263).

العجز عن المبيت بمزدلفة

أَمْرَيْنِ إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثمًا" (¬1). ثانيًا: أن الدفع قبل الغروب فيه مشابهة لأهل الجاهلية، حيث يدفعون قبل غروب الشمس، إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال كعمائم الرجال على رؤوس الرجال، فلو دفع إنسان في مثل هذا الوقت لشابههم، ومشابهة الكفار في عباداتهم محرمة. ثالثًا: أن تأخير الرسول - صلى الله عليه وسلم - الدفع إلى ما بعد غروب الشمس، ثم مبادرته به قبل أن يصلي المغرب -مع أن وقت المغرب قد دخل- يدل على أنه لا بد من البقاء إلى هذا الوقت، وأنه - صلى الله عليه وسلم - ممنوع من الدفع حتى تغرب الشمس، ولذلك بادر، فلو كان الدفع قبل غروب الشمس جائزًا لدفع قبل غروب الشمس، ووصل إلى مزدلفة في وقت المغرب، وصلى فيها المغرب مطمئنًا. أما حديث عروة وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَقَدْ وَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا" فهو مطلق، وقد قيد بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أنه وقف إلى الغروب، والمقيد يحكم على المطلق. العجز عن المبيت بمزدلفة: المبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج، اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد بات بها - صلى الله عليه وسلم - وصلى الفجر بها وأقام حتى أسفر جدًا، وقال: "لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ" (¬2)، وإذا لم يبت الحاج في مزدلفة فعليه دم، جبرًا لتركه الواجب، والخلاف بين أهل العلم -رحمهم الله- في كون المبيت في مزدلفة ركنًا أو واجبًا أو سنة، مشهورٌ معلوم، وأرجح الأقوال الثلاثة أنه واجب على من تركه، وعليه دم وحجّه صحيح، وهذا ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6786)، ومسلمٌ (2327) عن عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) رواه مسلم (1297).

هو قول أكثر أهل العلم، ولا يرخص في ترك المبيت إلى النصف الثاني من الليل إلَّا للضَّعَفَة، أما الأقوياء الذين ليس معهم ضعفة فالسنة لهم أن يبقوا في مزدلفة حتى يصلوا الفجر بها ذاكرين الله داعينه سبحانه حتى يسفروا، ثم ينصرفوا قبل طلوع الشمس؛ تأسِّيًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن لم يصلها إلَّا في النصف الأخير من الضعفة كفاه أن يقيم بها بعض الوقت ثم ينصرف أخذًا بالرخصة. هذا هو حكم المبيت بها. لكن قد يعجز البعض عن المبيت بمزدلفة؛ نظرًا لكثرة أعداد الحجيج في هذه السنوات، التي تصل إلى ما يقرب من ثلاثة ملايين والسيارات الكبيرة والصغيرة تصل إلى الآلاف، والطرق محدودة؛ ولهذا يظهر بعض المشاكل في خطة السير فيتعرقل جزء كبير من الحجيج، وفي بعض السنوات تعرقل بعض الحجاج فلم يبلغُوا مزدلفة إلَّا بعد طلوع الشمس، وهذه لا شك أنها نازلة. فهل نقول بلزوم الدم على من لم يَبِتْ بها مع وجود هذا العذر؟ نقول بأن الأولى والأحوط للإنسان أن يجتنب ما فيه خلاف بين أهل العلم ويقوم بأداء ما تبرأ به الذمة ولا يدخل بمسألة هل أتى بالواجب أو لم يأت به، ويحتاط لنفسه، لكن لو أن الإنسان حصل له مثل ما يحصل كثيرًا في أيامنا هذه من أنه دخل متأخرًا في مزدلفة وما استطاع أن يبقى فيها بعد امتلاء مواقفها وساحاتها ونحو ذلك، فإننا نقول: مجرد دخوله إلى مزدلفة من طريق وخروجه من الطريق الآخر وبقائه فيها مدة من الزمن، أنه يصدق عليه أنه أتى بما أوجبه الله -سبحانه وتعالى-عليه، وأن هذا القدر يكفي في رفع الإثم عنه؛ لأن هذا هو غاية ما في وسعه، ولو لم يصلها إلَّا بعد طلوع الفجر نقول: يكفيه ذلك وهو معذور ولا يكلف الله نفسًا إلَّا وسعها.

العجز عن المبيت بمنى ليالي التشريق

لكن هل يلزمه دم مع انتفاء الإثم عنه؟ نقول: اختلف في ذلك أهل العلم، والراجح أن من ترك المبيت لعجزه عن الوصول إلى مزدلفة حتى فات وقتها، كأن يكون في حافلة مثلًا وفي الطريق يتوقف السير ما يستطيع أن يذهب، وإذا جلس انتهى وقت الوقوف بمزدلفة قبل أن يصل إليها- فهذا عاجز عن الوقوف بها وترك الوقوف بها لهذا العذر الذي أصابه، الراجح أنه لا يلزمه شيء؛ لأنه ما ترك المبيت إلَّا عجزًا. العجز عن المبيت بمنى ليالي التشريق: ذهب جمهور أهل العلم إلى وجوب المبيت بمنى ليالي التشريق، وذهب طائفة من أهل العلم إلى أن المبيت سنة وليس بواجب، والراجح أنه واجب من واجبات الحج، لو تُرك كان فيه هَدْيٌ، ومهما يكن من أمر فإن جميع الواجبات الشرعية مَنوطة بالاستطاعة كما قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬1)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ... إِذَا أَمَرْتكُمْ بِأَمْرٍ فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" (¬2). فإذا ضاقت منى عن الحجاج أو لم يجدوا مكانًا يصلح للنزول فيها غير الطرقات أو الأرصفة أو المرافق، فإنه يسقط عنهم وجوب المبيت، ولهم أن ينزلوا حيث تيسر لهم ولا شيء عليهم. الرمي قبل الزوال أيام التشريق: هذه النازلة من نظر إليها باعتبار الزمن يرى أنها ليست نازلة؛ وذلك لاختلاف أهل العلم فيها من قديم الزمان، أما الآن ونحن نشاهد ما يحصل بسبب الرمي من هلاك للأنفس الناتج عن شدة الزحام، فهي نازلة بهذا الاعتبار؛ حيث لم ¬

_ (¬1) سورة التغابن: 16. (¬2) رواه البخاري (7288)، مسلم (1337).

يكن قد عُرف من قبل أن الناس يقتل بعضهم بعضًا من أجل الرمي، فهي بهذا تعتبر نازلة. فهل نقول بجواز الرمي قبل الزوال نتيجة لما يحصل وقت الرمي؟ نقول: أولًا: اختلف أهل العلم في هذه المسألة كما ذكرنا، والراجح من أقوالهم أنه لا يجوز الرمي في أيام التشريق (الحادي عشر والثاني عشر، والثالث عشر) قبل الزوال؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يَرْمِ إلَّا بعد الزوال، وقال للناس: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم "، وكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - يؤخر الرمي -إلى هذا الوقت- مع أنه في شدّة الحر، ويدع أول النهار مع أنه أبرد وأيسر، دليل على أنه لا يحل الرمي قبل هذا الوقت، ويدل لذلك أيضًا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يرمي من حين تزول الشمس قبل أن يصلي الظهر، وهذا دليل على أنه لا يحل أن يرمي قبل الزوال وإلا لكان الرمي قبل الزوال أفضل، لأجل أن يصلي الصلاة -صلاة الظهر- في أوّل وقتها؛ لأن الصلاة في أول وقتها أفضل، والحاصل أن الأدلة تدل على أن الرمي في أيام التشريق لا يجوز قبل الزوال. هذا على اعتبار أنها ليست بنازلة، أما على اعتبار أنها نازلة هل نقول به مع ما يحصل من قتل الناس بعضهم بعضًا بسبب التدافع والزحام الشديد؟ قال بعض أهل العلم بجواز الرمي قبل الزوال، لا سيما والحاجة داعية إلى القول بالجواز، خصوصًا في يوم النفر الأول، وهو ثاني أيام التشريق، لشدة الزحام وعظيم الضرر الحاصل من جرَّاء تدافع الناس واجتماعهم لتحيُّن وقت الرمي، كما لا يخفى. فلا يخلو عام من الأعوام تقريبًا من وقوع وفيات وإصابات بسبب هذا الاكتظاظ والتزاحم عند رمي الجمار يوم الثاني عشر من ذي الحجة، ولا ريب أن حفظ النفس من مقاصد الشريعة وكلِّيَّاتها، فحفظ النفس ودفع الضرر عنها أولى بالاعتبار. ويرى الدكتور الموسى جواز الرمي قبل الزوال؛ لأن الحاجة داعية إليه، ويرى الدكتور المطلق جوازه؛ لأن الأدلة تجيز ذلك.

السعي فوق السقف الكائن فوق المسعى والصفا والمروة

قلنا: والصواب (¬1) في هذه النازلة ما ذهب إليه هيئة كبار العلماء (¬2) من أنه لا يجوز الرمي قبل الزوال، وما ذهبوا إليه من تعليلات لجواز الرمي قبل الزوال هي في الواقع غير مقبولة؛ لأن الحرج والضيق يحصل باستعجال الناس في الذهاب، وليس بسبب ضيق فترة الرمي؛ ولذلك لو ذهبت إلى الجمرات بعد الزوال بساعتين فقط، فإنك لا تجد زحامًا، بل بعد العصر لا تجد زحامًا عند الجمرات، إنما تجد الزحام وقت الزوال، والسبب في هذا تعجُّل كثير من الحجاج في الذهاب. ثم على فرض القول بجواز الرمي قبل الزوال، فإن هذا الزحام الذي يكون عند الزوال، سوف ينتقل للزحام عند طلوع الفجر. تنبيه: سبق أن قلنا بأن المسألة خلافية، والقول بجواز الرمي قبل الزوال قول قوي، مع أننا نقول بخلافه، لكننا نقول لمن قال بجواز الرمي قبل الزوال نتيجة لما ذكروه من الزحام الشديد وقتل الناس بعضهم بعضًا بسبب التدافع والزحام، نقول لهم: بعد هذه التوسعات الكبيرة التي قامت بها المملكة وبخاصة عند الجمار، حيث يقوم الناس برمي الجمار بكل يسر وسهولة، وقد ذهب الضرر عنهم، نقول بأن الأمر اختلف كثيرًا بعد هذه المشروعات العملاقة في الجمرات. السعي فوق السقف الكائن فوق المسعى والصفا والمروة: لقد بحثت هيئة كبار العلماء هذه النازلة وصدر عنها قرار، ومما جاء فيه (¬3): وبعد تداول الرأي والمناقشة انتهى المجلس بالأكثرية إلى الإفتاء بجواز السعي فوق سقف المسعى عند الحاجة، بشرط استيعاب ما بين الصفا والمروة، ¬

_ (¬1) ويرى الدكتور الموسى جواز الرمي قبل الزوال؛ لأن الحاجة داعية إليه، ويرى الدكتور المطلق جوازه؛ لأن الأدلة تجيز ذلك. (¬2) أبحاث هيئة كبار العلماء (2/ 388) قرار رقم (3). (¬3) أبحاث هيئة كبار العلماء (1/ 40)، قرار رقم (21).

وأن لا يخرج عن مسامتة المسعى عرضا؛ لما يأتي: 1 - لأن حكم أعلى الأرض وأسفلها تابع لحكمها في التملك والاختصاص ونحوهما، فللسعي فوق سقف المسعى حكم السعي على أرضه. 2 - لما ذكره أهل العلم من أنه يجوز للحاج والمعتمر أن يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة راكبًا لعذر باتفاق، ولغير عذر على خلاف من بعضهم، فمن يسعى فوق سقف المسعى يشبه من يسعى راكبًا بعيرًا ونحوه، إذ الكل غير مباشر للأرض في سعيه، وعلى رأي من لا يرى جواز السعي راكبًا لغير عذر، فإن ازدحام السُّعاة في الحج يعتبر عذرًا يبرر الجواز. 3 - أجمع أهل العلم على أن استقبال ما فوق الكعبة من هواء في الصلاة كاستقبال بنائها، بناء على أن العبرة بالبقعة لا بالبناء، فالسعي فوق سقف المسعى كالسعي على أرضه. 4 - اتفق العلماء على أنه يجوز الرمي راكبًا وماشيًا، واختلفوا في الأفضل منهما، فإذا جاز رمي الجمرات راكبًا جاز السعي فوق سقف المسعى، فإن كلًّا منهما نسك أدى من غير مباشرة مؤدية للأرض التي أداه عليها، بل السعي فوق السقف أقرب من أداء أي شعيرة من شعائر الحج أو العمرة فوق البعير ونحوه؛ لما في البناء من الثبات الذي لا يوجد في المراكب. 5 - لأن السعي فوق سقف المسعى لا يخرج عن مسمى السعي بين الصفا والمروة؛ ولما في ذلك من التيسير على المسلمين والتخفيف مما هم فيه من الضيق والازدحام، وقد قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬1)، ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 185.

في حكم السعي في المسعى الجديد

وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬1)، مع عدم وجود ما ينافيه من كتاب أو سنة، بل إن فيما تقدم من المبررات ما يؤيد القول بالجواز عند الحاجة. وقد ذكر ابن حجر الهيتمي -رحمه الله- رأيه في المسألة، فقال في حاشيته على الإيضاح (¬2): "ولو مشى أو مرَّ في هواء المسعى فقياس جعلهم هواء المسجد مسجدًا، صحة سعيه"أ. هـ. في حكم السعي في المسعى الجديد: من قديم الزمان وهذه النازلة موضع بحث عند أهل العلم المتقدمين والمعاصرين، وقد تباينت الآراء حول هذه النازلة، فمنهم من أجاز توسعة المسعى، ومنهم من لم يُجِزْهُ، وسبب الخلاف بين أهل العلم في المسألة: هل المكان الذي يسعى فيه الناس مكان مقصور محدود أم أنه ممدود؟ وهل عرض المسعى المذكور في كتب تاريخ مكة -مثل كتاب الأزرقي والفاكهي وغيرهما، وقد ذرعوه بخمسة وثلاثين ونصف ذراع- هو المكان المعدّ للسعي، أم أنّ هذا الإخبار عن الأمر الواقع فحسب، والمكان الذي يجزئ السعي فيه أوسع من ذلك، وأنّ السعي ما دام واقعًا بين جبلي الصفا والمروة فهو صحيح ومجزئ، وإن هُجر السعي فيه فترة من الزمن، لعدم احتياج الناس لذلك؟ وقد صدر في ذلك أقوال عديدة حتى إننا لنجد للشيخ محمَّد بن إبراهيم -رحمه الله- أجوبةً عديدة بخصوص هذه النازلة (¬3). والذي نراه أن الخلاف في ذلك ليس خلافًا في حكم واحد لحقيقة واحدة، بل هو اختلاف في حكم لحقيقتين مختلفتين. ¬

_ (¬1) سورة الحج: 78. (¬2) الإيضاح، لمحيي الدين النووي، (ص: 131). (¬3) فتاوى ورسائل محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ (4/ 115).

إقامة طابق على شارع الجمرات

فالعلماء متفقدن على أنه لا يجوز السعي خارج الحد الذي ينتهي إليه الصفا والمروة، ومتفقون على أنه يجوز ويصح لما كان واقعًا بين حدود الصفا والمروة، ولكنهم يختلفون هل التوسعة داخله بحيث تكون بين الصفا والمروة، أم أنها خارجة عن حد الصفا والمروة. فمن رآها داخلة أجاز السعي فيها، ومن رآها خارجة عن الحد الذي ينتهي إليه الصفا والمروة، منع ذلك. إقامة طابق على شارع الجمرات: من نظر إلى ما آلت إليه المشاعر يرى أن هناك تحولات كثيرة حدثت بها، وأعظم دليل على ذلك ما نراه في الجمرات. فمنذ عهد قريب تم توسيع مداخل ومخارج الجمرات ثم تم بناء طابق علوي آخر، ثم نرى اليوم قد جعل لها أربع طوابق، وما كان ذلك كله إلَّا بسبب ما يحصل عندها من الزحام الشديد الذي كان يحصل بسببه موت العديد من الحجاج، مما دفع الدولة السعودية، وهي المعنية بشؤون الحرمين، إلى التفكير لوضع حد لما يحصل بسبب هذا الزحام، فأعدت لذلك أبحاثًا تم عرضها على هيئة كبار العلماء، ومما أقرته الهيئة ما يلي: أما رمي الجمرات من فوق الطابق، فإن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- رمى جمرة العقبة من فوقها خشية الزحام، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة -رضي الله عنهم -. وأما ما روى عبد الرحمن بن يزيد من أنه مشى مع عبد الله بن عمر وهو يرمي الجمرة، فلما كان في بطن الوادي أعرضها فرماها، فقيل له: إن ناسًا يرمونها من فوقها، فقال: "من ها هنا، والذي لا إله إلَّا هو رأيت الذي أنزلت عليه سورة البقرة رماها"، فإنه حث على الفضيلة في الرمي من جهة بطن الوادي عند السعة، فإذا رماها الحاج في الحوض من فوق طابق أقيم على بطن الوادي -ولو في السعة-

فقد أتى بالفضيلة، فإنه رمى من الجهة التي رمى منها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكب راحلته، والذي اسُتنكِر إنما هو رمي جمرة العقبة في الحوض من الخلف والناس في سعة، وأما عند الضيق وشدة الزحام فللحاج أن يرمي في الحوض ولو من غير جهة بطن الوادي، سواء كان في مكان مساوٍ لبطن الوادي أو أعلى منه. ثم إن القاعدة المقررة عند الفقهاء: "أن من ملك أرضًا ملك تخومها وما فوقها من الفضاء"، فما فوق بطن الوادي تبع له، فمن رمى من أعلى الطابق الذي بني على الوادي فهو في حكم من رمى من بطن الوادي، وبهذا يكون قد أتى بفضيلة الرمي من الجهة التي رمى منها". 2، 3 - وأما بناء طابق على شارع الجمرات ورفع الشاخص وجدار الجمرة فيمكن أن يقال: ليس فيه مخالفة للشريعة، بل سماحة الشريعة توجبه وتقتضيه في هذه السنوات التي تزايد فيها عدد الحجاج إلى حد يوقع في الحرج، بل تزهق فيه الأرواح، ففي إقامة مثل هذا الطابق دفع للحرج، وحفظ للنفوس، وتيسير لأداء النسك على حجاج بيت الله الحرام. وليس هذا البناء من جنس البناء بمنى للتملك أو الارتفاق الخاص، بل هو من المرافق العامة التي تسهل أداء نسك الرمي مع الراحة وسلامة النفوس، وفي رفع الشاخص وجدار حوض الجمرة إلى حد يمكن معه الرمي من أعلى الطابق ومن أسفله، إعانة لمن فوق الطابق على معرفة مكان رمي الحصيات، وسهولة رميها من غير أن يخل ذلك بسهولة الرمي على من كان أسفل الطابق. 4 - وأما توسعة دائرة المرمى -بحيث تتسع لوقوف أكثر عدد ممكن من الحجاج، وأن تبقى دائرة المرمى الحالية كما هي عليه من السابق، أي: أن المقصود هو عمل حوض خارجي أوسع من الحالي تتجمع فيه الجمرات التي لا يستوعبها

إقامة أكشاك في منى

الحوض الحالي -فإن حكم ذلك يتبين من الكلام على سبب مشروعية الرمي وبيان موضع الرمي. والأصل في مشاعر الحج، وبيان المستند لبقاء الوضع الحالي للجمار باعتبار مساحة الأرض- لهو الأساس لامتناع بناء حوض خارجي أوسع من الحالي تتجمع فيه الجمرات التي لا يستوعبها الحوض الحالي (¬1). قلنا: وإذا كانت اللجنة لم تقر توسعة دائرة المرمى إلَّا أننا نرى أن الأظهر -والله أعلم- هو جواز توسعة مرمى الجمرات؛ لأن الحاجة ماسة؛ لضيق دائرة المرمى، ولما يحصل فيها من الزحام الشديد، والحاجة تنزل منزلة الضرورة. ثم في توسعة الجمرات تيسير ورفع للحرج، وقد قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ...} (¬2)، فلو بقيت سعة الجمرات على وضعها لحصل للناس ضيق وحرج شديد؛ لشدة الزحام الحاصل في هذا الزمان. ثم من نظر إلى مواضع تجمُّع الحصى يجد أنها تجتمع في موضع واحد، فليس هناك ما ينافي هذا القول ولا ما يدل على بطلانه، فلا ينبغي المصير إلى ما فيه تشديد وتضييق على الناس وترك ما فيه توسعة ورفع للحرج والأصول تقضي به. إقامة أكشاك في منًى: نظرًا للأعداد الهائلة التي تتدفق لأداء مناسك الحج والتي يزيد فيها العدد عامًا بعد أخر، مما جعل منى تضيق على الحجاج، اقترح بعض المطوفين إقامة أكشاك في منى من دورين؛ لاستيعاب قدر أكبر من الحجاج. وتم عرض الاقتراح على هيئة كبار العلماء وقد صدر عنها فتوى، ومما قالته فيها: "وبعد الدراسة والمناقشة وتداول الرأي رأى المجلس بأغلبية الأصوات أنه لا يجوز إقامة أكشاك ¬

_ (¬1) أبحاث هيئة كبار العلماء (3/ 276). (¬2) سورة الحج: 78.

في حكم نقل مقام إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وقت الزحام

بمنى على الصفة الموضحة بالمخطط المرفق بالمعاملة، فإنها متى أقيمت على هذه الصفة، وكان تأسيسها مبنيًا على تصميمات فنية، وأسس قوية يرتاح إلى متانتها وتحملها -كما جاء في قرار لجنة الحج العليا رقم (6) وتاريخ: 23/ 2 / 1393 هـ - فهي إذن في حكم البناء، إذ لا فرق فيما أقيم على وجه من شأنه الثبات والدوام وبين أن يكون من حجارة أو لَبِن أو أخشاب أو غير ذلك. ومع هذا فإنها قد تفضي على مر الأيام وطول العهد إلى الإبقاء عليها في مكانها، وتنتهي إلى الطمع في تملكها أو الاختصاص بها على الأقل، ودعوى أنها لا تكون ثابتة، وأنها يسهل فكُّها بعد تركيبها- لا تتفق مع إقامتها على الصفة الموضحة في المخطط، ولا مع الشرط الذي ذكرته لجنة الحج العليا في قرارها، بل إقامتها كذلك من شأنه ثباتها وبقاؤها؛ تفاديًا من متاعب إقامتها كل عام، وحرصًا على عدم النفقات المتكررة، وحفظًا للمال من الخسائر التي تنشأ عن تلف بعض ما أقيم على هذه الصفة عند فكها، وطمعًا في الانتفاع بها، ثم الوصول إلى دعوى الاختصاص بها على الأقل (¬1)، (¬2). في حكم نقل مقام إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وقت الزحام: قال الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬3)، فإنه لما كثر الوافدون إلى بيت الله الحرام في عصرنا هذا -الذي توفرت فيه من وسائل نقلهم ما لم يتوفر قبلُ، وازدادوا زيادة لم تعهد فيما مضى- أدى ذلك إلى وقوع الطائفين في حرج شديد فيما بين المقام وبين البيت، وفي خلف المقام ممّن يصر على إقامة صلاة الطواف منه وما يحصل من الازدحام، فهل يشرع نقل المقام عن موضعه الذي فيه ¬

_ (¬1) أبحاث هيئة كبار العلماء (3/ 354). (¬2) ويرى الدكتور المطلق جواز إقامة مبانٍ ذات أدوار على سفوح الجبال؛ للحاجة الماسة ولكثرة الحجاج. (¬3) سورة البقرة: 125.

لكي يتسنَّى للحجاج أداء الطواف بيسر وسهولة؟ وهل الأفضل أداء ركعتي الطواف في وسط هذا الزحام الهائل تحقيقًا لقوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}؟ أما حكم تأخير المقام اليوم نظرًا للحرج فقد أجازه مفتى الديار السعودية محمَّد بن إبراهيم -رحمه الله- ومما جاء في فتواه ما يلي: "أثبتنا فيما تقدم أن مقام إبراهيم -عليه السلام- كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر الصديق وبعض خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- في سقع البيت، ثم أخره عمر أول مرة مخافة التشويش على الطائفين، ورده المرة الثانية حين حمله السيل إلى ذلك الموضع الذي وضعه فيه أول مرة، وما دام الأمر كذلك فلا مانع من تأخير المقام اليوم عن ذلك الموضع إلى موضع آخر في المسجد الحرام يحاذيه ويقرب منه؛ نظرًا إلى ما ترتب اليوم على استمراره في ذلك الموضع من حرج أشد على الطائفين من مجرد التشويش عليهم، الذي حمل ذلك الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على أن يؤخره عن الموضع الذي كان فيه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر بتأخيره. نظرًا لما ذكرنا نكون مقتدين بعمر بن الخطاب المأمور بالاقتداء به، ونرفع الحرج من ناحية أخرى عن الأمة المحمدية التي دلت النصوص القطعية على رفع الحرج عنها. أما عن حكم الصلاة عند المقام فهي سنة بعد الطواف، والأفضل أن تكون خلف مقام إبراهيم بالقرب منه إن لم يتأذَّ أو يُؤذِ أحدًا، وإلا ففي مكان بعيد يبعد به عن الأذية. ونقول لأولئك الذين يصلون خلف المقام، ويصرون على أن يصلوا هناك مع احتياج الطائفين إلى مكانهم، بأنهم قد ظلموا أنفسهم، وظلموا غيرهم، وهم

حج الخادمات بلا محرم

آثمون معتدون ظالمون، ليس لهم حق في هذا المكان، وكونهم يصرون على أنهم يكونون في هذا المكان من جهلهم؛ لأن ركعتي الطواف تجوز في كل المسجد. حج الخادمات بلا محرم: لا يجوز للخادمة ولا غيرها من النساء الحج بلا محرم، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَا تُسَافِرِ المَرْأَةُ إلا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ" (¬1)، وهو يعم سفر الحج وغيره، وليس على المرأة حج إذا لم تجد محرمًا يسافر معها، فإذا حج أهل بيت وعندهم خادمة وليس معها محرم، فليحجوا بها؛ وذلك لأن حجهم بها أحفظ لها من أن تبقى في البيت وحدها، أو يعيروها لأحد من الناس. وقول بعض العلماء بجواز حجها بلا محرم إذا كانت مع رفقة من النساء بصحبة رجال محارم لهن، فهو قول ليس عليه دليل، والصواب خلافه؛ للحديث المذكور. فيمن خاف أن يحجب عن أداء النسك: الاشتراط عند خوف المنع: اختلف العلماء -رحمهم الله- في الاشتراط عند الدخول في النسك. والصواب (*) في هذه المسألة أنه لا يسن الاشتراط إلَّا لمن خاف ما يمنعه من أداء النسك، وهذا القول به تجتمع الأدلة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتمر مرات عديدة ولم يعرف أنه كان يشترط عند الإحرام، وكذا في حجة الوداع، ولم يأمر أصحابه به، وإنما أمر من جاءت تستفتيه؛ لأنها خشيت أن يشتد بها المرض فيمنعها من أداء النسك، كما في حديث ضباعة بنت الزبير -رضي الله عنها-. ¬

_ (¬1) أبحاث هيئة كبار العلماء (3/ 354). (*) ويرى الدكتور الموسى أن الاشتراط جائز لمن خاف أو لم يخف.

الاستظلال بالشمسية وما كان في معناها للمحرم

ويلحق في هذه المسألة من خاف من منع قوات الأمن له من أداء الحج وفقًا لترتيبات الحج الأمنية التي طبقتها السلطات في المملكة، فمن خشي أن يمنع من أداء النسك فله أن يشترط عند الإحرام ويقول: "اللَّهم إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني"، ومن لم يخف فليس له أن يشترط. الاستظلال بالشمسية وما كان في معناها للمحرم: يجوز للمحرم الاستظلال بالشمسية والمحمل والثوب وغير ذلك مما يستظل به عن المطر أو الحر، دليل ذلك حديث أم حصين -رضي الله عنها-: أنها رأت النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر على راحلته ومعه أسامة وبلال، أحدهما يقودها، والثاني قد رفع ثوبًا ليظلله من الحر حتى رمى جمرة العقبة. وبناءً على هذا: يجوز للإنسان المسلم أن يركب السيارة المسقوفة؛ لأن هذا تظليل وليس تغطية. لبس النظارة أو ساعة اليد وغير ذلك للمحرم: يجوز للمحرم لبس النظارة، أو ساعة اليد، وسماعة الأذن، والحزام، والحذاء الذي فيه خيوط، فقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يحرم على المحرم لبسه كما في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رجلًا قال: يا رسول الله، ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَلبَسُ القُمُصَ وَلا العَمائِمَ وَلا السَّرَاوِيلاتِ وَلا البَرَانِسَ وَلا الخِفَافَ، إلَّا أَحَدٌ لا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَليَلبَسْ خُفَّيْنِ وَليقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ، وَلا تَلبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ وَرْسٌ" (¬1). والنظارة والسماعة وساعة اليد والحزام، وضبابة اليد أو الرجل، والحذاء المخروز الذي فيه خيوط، لا تدخل في هذه الخمسة لفظًا ولا معنى. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1543)، مسلم (2849).

استخدام مكائن الحلاقة في الأخذ من شعر الرأس

استخدام مكائن الحلاقة في الأخذ من شعر الرأس: هل الأخذ من شعر رأس المحرم بهذه المكائن يكون حلقًا أم تقصيرًا؟ نقول: الحلق في اللغة: هو أخذ شعر الرأس من أصله بالموسي، وما لا يمكن معه القص فهو الحلق، وهذا مُنْتَفٍ في مكائن الحلاقة؛ إذ إنه بمختلف درجات ماكينة الحلاقة يبقى من الشعر شيء بعد الأخذ منه. وعلى ذلك نقول بأن الحلق بالماكينة يعد تقصيرًا، حتى لو كانت الماكينة تأخذ شيئًا كثيرًا من الرأس، وأن الحلق يختص بالحلق بالموسي إلَّا إذا كان الحلق بالماكينة بدرجة صفر، فهذا حلق. حكم الاستعاضة عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته: قال البعض بجواز الاستعاضة عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته؛ نظرًا لصعوبة تنظيم الذبح في الوقت الحاضر، وهذا بلا شك معارض لنصوص الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين؛ ولذا أصدرت اللجنة الدائمة قرارًا (¬1) بشأن هذه النازلة، ومما جاء فيه: "لا يجوز أن يستعاض عن ذبح هدي التمتع والقران بالتصدق بقيمته؛ لدلالة الكتاب والسنة والإجماع على منع ذلك مع أن المقصود الأول من ذبح الهدي هو التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدماء، كما قال الله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (¬2)؛ ولأن من القواعد المقررة في ¬

_ (¬1) أبحاث هيئة كبار العلماء (2/ 301). (¬2) سورة الحج: 37.

الشريعة سدَّ الذرائع، والقول بإخراج القيمة يفضي إلى التلاعب بالشريعة، فيقال -مثلًا-: تخرج نفقة الحج بدلًا من الحج لصعوبته في هذا العصر، ولأن المصالح ثلاثة أقسام: مصلحة معتبرة بالإجماع، ومصلحة ملغاة بالإجماع، ومصلحة مرسلة، والقول بإخراج القيمة مصلحة ملغاة؛ لمعارضتها للأدلة، فلا يجوز اعتبارها".

الفِقهُ الميَسَّر النَّوازل الفقهيَّة في المعَاملات مَوسُوعة فقهيَّة حَديثَة تتناوَل أحكام الفقه الإسلامي بأسُلوب وَاضح للمختصّين وغيرهم تَأليف د/محمَّد بن إبراهيم الموسَى عضو مجلس الشورى سابقًا والمجلس الأعلى للأوقاف أ. د/عبد الله بن محمّد المطلق عضو هَيئة كبار العُلَماء، وعضو اللجنة الدَّائمة للإفتاء أ. د/عَبد الله بن محمد الطيّار أستَاذ الدراسات العليا بكليَّة الشَّريعة والدِّراسات الإسلامية بجامعة القصيم الجزء العاشِر مدار الوطن للنشر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

النوازل الفقهية في المعاملات

الفِقهُ المُيَسَّر النَّوازل الفقهيَّة في المعَاملات

حقُوق الطَّبع محفُوظَة الطَّبعَة الثانيَة 1433 هـ - 2012 م مَدَارُ الوَطن للنَّشر المملكة العربية السعودية - المقر الرئيسي: الرياض - الملز ص. ب: 245760 - الرمز البريدي 11312 - هاتف 4792042 (5 خطوط) - فاكس 4723941 البريد الإلكتروني: [email protected] موقعنا على الإنترنت: www.madaralwatan.com الرياض: 0503269316 الغربية: 0504143198 الشرقية: 0503193268 الشمالية والقصيم: 0504130728 التوزيع الخيري للشرقية والجنوبية: 0503193269 التوزيع الخيري لباقي جهات المملكة: 0506436804 التسويق للجهات الحكومية: 0500996987 مبيعات المكتبات الخارجية: 0503193269

المقدمة الحمد لله شرع لعباده ما يصلحهم في دينهم ودنياهم وأرسل خير رسله نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ليبين للناس ما فيه سعادتهم وفلاحهم، فجاءت شريعة الإِسلام كاملة وشاملة لجميع نواحي الحياة بما وضع فيها من قواعد ومبادئ عامة تتصف بالعدالة والمرونة والمساواة، فمهما وجد الإنسان وفي أي عصر يستطيع أن يعيش حياة مليئة بالسكينة والاستقرار وهو يتفيأ ظلال دين الإِسلام الذي شرعه الله ليحقق مصالح العباد في الدنيا والآخرة {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]. إن الفقهاء منذ العصر الأول في الإِسلام وهم ينهلون من معين الإِسلام الصافي، ويطبقون قواعده وأصوله على شئون الحياة المختلفة، ولم يكن الإِسلام ولن يكون إلا دافعًا قويًا لنمو الحياة وتطورها بما يحقق السعادة والرخاء للبشرية جمعاء. إن الحياة دائمًا متجددة ومتطورة، ويحدث فيها من القضايا والنوازل ما يحتاج إلى بيان الحكم الشرعي وبيان ما يجوز وما لا يجوز فيها، وإيجاد البديل الشرعي المناسب لغير الجائز منها. وقد تم بحمد الله وتوفيقه إكمال كتاب موسوعة الفقه الميسر بأسلوب وترتيب مناسب لكل من يبحث عن الحكم الشرعي من المختصين وغيرهم في كل أبواب الفقه، وها نحن نتناول دراسة القضايا والنوازل الفقهية المعاصرة فيما يخص العاملات، ونبين الحكم الشرعي لها عند من قال به، مع التطرق إلى ما صدر من المجامع الفقهية ولجان الفتوى ما أمكن ذلك، مع بيان ما نراه راجحًا لنا

إن ظهر لنا وجه الترجيح، وقد يرى غيرنا خلاف ما رأيناه، ولكل وجهة ولا تثريب على الجميع؛ ونأمل من كل من يرى إضافة أمور لم ترد في الكتاب أو تقديم اقتراح أن يتفضل ببيانه لنا، وله كل الشكر والدعاء، ونرجوا أن يكون في ذلك الفائدة والأجر. والله الموفق وهو نعم المولى ونعم الوكيل. المؤلفون

كتاب البيوع

الفِقهُ الميَسَّر كتاب البيوع

كتاب البيوع

كتاب البيوع تتجدد معاملات الناس حسب ظروف الزمان والمكان، والبيع من الأمور التي يحتاجها الناس في حياتهم، وقد جدت نوازل وقضايا في العصر الحاضر، ومن ذلك: 1 - البيع عن طريق وسائل الاتصال الحديثة: حيث إن وسائل الاتصال من مرئية ومسموعة من هاتف وحاسب وغيرها قد تطورت كثيرًا، وقد جرى العمل بها في إبرام العقود رغبة في إنجاز المعاملات المالية والتصرفات، فيصح انعقاد العقد بها لتحقيق الإيجاب والقبول، وقد صدر بذلك قرار المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي رقم (107)، والمنعقد في الفترة من 17 - 23 شعبان 1410 هـ وقد جاء فيه: "إذا تم التعاقد بين غائبين لا يجمعهما مكان واحد، ولا يرى أحدهما الآخر معاينة ولا يسمع كلامه، وكانت وسيلة الاتصال بينهما الكتابة أو الرسالة، أو السفارة (الرسول)، وينطبق ذلك على البرق والتلكس والفاكس، وشاشات الحاسب الآلي (الكمبيوتر)، ففي هذه الحالة ينعقد العقد عند وصول الإيجاب إلى الموجه إليه وقبوله". 2 - بيع الأسهم: يعد البيع والشراء في أسهم الشركات بمختلف أنواعها من أهم أنواع التجارة في العصر الحاضر في أنحاء العالم، وتقام لذلك الأسواق الخاصة بها (البورصة) (¬1). ¬

_ (¬1) الجامع في فقه النوازل د. صالح بن حميد (ص: 83).

3 - البيع على المكشوف في الأسهم

ولا بد أن يكون المسلم على علم بما يصح من أنواعها وما لا يصح، وذلك يختلف حسب نوع الشركة وطبيعة عملها، وهي تنقسم إلى قسمين: 1 - الشركات التي تزاول نشاطًا مباحًا: كالشركات الزراعية والصناعية والتجارية إذا لم ينص في أنظمتها على التعامل بالربا أو غيره من المحرمات، وهذا القسم يجوز للمسلم المساهمة فيه والتعامل بيعًا وشراء. 2 - الشركات التي تزاول نشاطًا ممنوعًا: كالبنوك الربوية والشركات التي تؤسس لمزاولة أعمال محرمة كصناعة الخمور والمخدرات وغيرها أو المتاجرة بها، وهذا القسم لا يجوز للمسلم التعامل فيه مساهمةً أو بيعًا أو شراءً أو توسطًا أو غير ذلك من أنواع التعامل، وهو ما قرره مجمع الفقه الإِسلامي بجدة والبنك الإِسلامي للتنمية من حيث المساهمة في الشركات عام 1412 هـ، وكذلك مجمع الفقه الإِسلامي بمكة المكرمة في دورته الرابعة عشرة لعام 1415 هـ، وقد جاءت بذلك الفتوى من اللجنة الدائمة في السعودية رقم (12187) ورقم (16766). 3 - البيع على المكشوف في الأسهم: وهو أن يبيع أسهمًا بسعر محدد مستقبلًا وهو لا يملكها وإنما يتلقى وعدًا من السمسار بإقراضه الأسهم في موعد التسليم، فإذا جاء موعد التسليم اقترض الأسهم وباعها واحتفظ السمسار بالثمن ضمانًا لقرض الأسهم، فإذا انخفضت أسعارها اشترى ذلك البائع الأسهم من السوق وأعادها إلى السمسار، وقبض الفرق بين سعر الشراء وسعر البيع، أما إذا ارتفعت هذه الأسعار فسوف يخسر بمقدار ذلك الارتفاع.

حكم البيع على المكشوف في الأسهم

حكم البيع على المكشوف في الأسهم: لا يجوز هذا البيع لأنه من بيع الإنسان ما لا يملك، وقد صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة في دورته السابعة عام 1412 هـ بعدم جواز ذلك، حيث جاء فيه: "لا يجوز بيع سهم لا يملكه البائع وإنما يتلقى وعدًا من السمسار بإقراضه السهم في موعد التسليم؛ لأنه من بيع ما لا يملكه البائع". 4 - البيع بالتقسيط: هو جعل ثمن السلعة موزعًا على أقساط محددة. حكمه: يجوز البيع بالتقسيط مع تحديد الثمن كاملًا في العقد دون ربط الفائدة بالأجل، سواء اتفق العاقدان على نسبة الفائدة أم ربطاها بالفائدة السائدة، وقد جاء الكلام عن ذلك في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد بجدة بالقرار رقم 51 / (2/ 6) بتاريخ 17 - 23/ 1 / 1410 هـ , وكذلك قراره رقم 64 (2/ 7) وتاريخ 12/ 11 / 1412 هـ المنعقد بجدة. كما جاءت الفتوى بجوازه بفتوى اللجنة الدائمة للفتوى في السعودية رقم (4910). 5 - اشتراط حلول الأقساط المتبقية على المشتري إذا لم يسدد خلال الوقت المحدد: اختلف في ذلك على النحو الآتي: 1 - فذهبت اللجنة الدائمة للفتوى في السعودية في فتواها رقم (18796) إلى أن الشرط غير صحيح, لأنه ينافي مقتضى العقد وهو التأجيل الذي استحق به الزيادة.

6 - اشتراط بعض الباعة على المشترين أن البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل

2 - وذهب مجمع الفقه الإِسلامي بجدة بقراره رقم (51 / (2/ 6) وقراره رقم (64/ 2 / 7) إلى أنه يجوز اتفاق المتداينين على حلول سائر الأقساط عند امتناع المدين عن وفاء أي قسط من الأقساط المستحقة عليه. واتفقوا على أنه يجب إنظار المدين إذا كان معسرًا، وهو من لا يتوفر لديه مال زائد عن حوائجه الأصلية يفي بدينه نقدًا أو عينًا، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]. 6 - اشتراط بعض الباعة على المشترين أن البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل: لا يجوز اشتراط ذلك بعمومه, لأنه يخالف ما ورد في الشريعة الإِسلامية من إعطاء حق الخيار إذا كانت السلعة معيبة، أو في البيع غبن فاحش، ويترتب على إلزام المشتري بالبضاعة ضرر. وقد صدرت بذلك فتوى اللجنة الدائمة للفتوى في السعودية رقم (13788)، وكذلك إذا اتفق البائع مع المشتري على الرد لكن لا يسترجع الثمن وإنما يشتري به من عنده من جنس السلعة أو غيرها، فإن الشرط باطل وللمشتري أخذ الثمن بعد إرجاع السلعة. أما إذا لم تكن السلعة معيبة وليس فيها غبن فاحش وقد أخذ المشتري السلعة واستعملها فإنه لا يحق للمشتري إرجاعها لما في ذلك من الضرر على البائع، حيث لا يقبلها أحد إذا كانت مستعملة.

7 - بيع الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية

7 - بيع الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية (¬1): هذه الأسماء من البيوع المستحدثة في العصر الحاضر، حيث أصبحت هذه حقوقًا لها قيمة مالية معتبرة لميول الناس لها، وقد اعتبر مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي المنعقد في الكويت في مؤتمره الخامس أن تلك الحقوق يعتد بها شرعًا ولا يجوز الاعتداء عليها، وأنه يجوز نقل أي منها بعوض مالي إذا انتفى الغرر والتدليس والغبن باعتبار أنها أصبحت حقًّا ماليًّا، جاء ذلك بقراره رقم 43 (5/ 5) (¬2). 8 - بيع السندات: السند في اللغة ما قابلك من الجبل، وكل ما يستند إليه ويعتمد عليه من حائط أو غيره فهو سند، ومنه قيل لصك الدين وغيره سند. واصطلاحًا: هو الحجة المكتوبة التي توثق بها الحقوق (¬3). والمقصود هنا: تعهد مكتوب من المصرف (البنك) أو الشركة أو الحكومة، لحامله بسداد مبلغ مقدر في تاريخ معين نظير فائدة مقدرة (¬4). ¬

_ (¬1) الاسم التجاري: هو الاسم الذي يستخدمه التاجر فردًا كان أو شركة ليتميز محله التجاري عن نظائره، الموسوعة العربية الميسرة (1/ 258). العلامة التجارية: ما يتخذه الصانع أو التاجر شعارًا لمنتجاته أو بضائعه تمييزًا لها عن غيرها من المنتجات أو البضائع المماثلة، وتعتبر علامة تجارية: الأسماء المتخذة شكلًا مميزًا والإمضاءات والرموز، الموسوعة العربية الميسرة (2/ 1224). (¬2) مجلة المجمع العدد الخامس (3/ 2267). (¬3) الموسوعة الفقهية الكويتية (25/ 262). (¬4) فقه الزكاة د. يوسف القرضاوى (1/ 519).

الحكم الشرعي للسندات

الحكم الشرعي للسندات: يعد التعامل بالسندات من الأمور الحادثة، ولذا يتطلب الحكم عليها ليكون المسلم على بينة من أمره. والسند وفقًا لتعريفه يشتمل على تعامل محظور، حيث يتم السداد له مع فائدة محددة وهو من الربا المحرم فلا يجوز التعامل به. وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي رقم 60 (11/ 6) بتحريم التعامل بها سواء أكانت مصدرة من جهة خاصة أو عامة، ومهما اختلفت تسميتها بحيث يطلق عليها شهادات أو صكوك استثمارية أو ادخارية أو كانت تسمية الفائدة ربحًا أو ريعًا أو عمولة أو عائدًا، واقترح "المجمع بدائل عن السندات المحرمة بإصدار سندات أو صكوك قائمة على أساس المضاربة بمشروع أو نشاط استثماري معين، بحيث يكون لمالكيها نسبة من ريع هذا المشروع بقدر ما يملكون من هذه السندات أو الصكوك. وقد صدرت فتوى اللجنة الدائمة رقم (19278) بعدم جواز بيع وشراء السندات لأنها معاملة ربوية. 9 - الوعد بالبيع: الوعد معناه: الالتزام للغير بما لا يلزم ابتداء. وقد جاء ذكر الوعد وأنه ملزم للواعد في المذهب المالكي، حيث جاء في حاشية الدسوقي: "إذا قال الآمر اشترها لي بعشرة نقدًا. لزمت السلعة الآمر بالعشرة إن قال: اشترها لي" (¬1). ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (3/ 89)، وانظر: جواهر الإكليل شرح مختصر خليل (2/ 33).

10 - البيع بواسطة بطاقة الائتمان

وقد جاء تعريفه وحُكمه: في قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي 40 - 41 (2/ 5 و 3/ 5) في الدورة الخامسة المنعقدة في عام 1409 هـ: (الوعد هو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد). ويرى المجمع أن الوعد يكون ملزمًا للواعد ديانة إلا لعذر، ويكون ملزمًا قضاءً إذا كان الوعد معلقًا على سبب ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد، ويتحدد أثر الالتزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر. ويدخل ضمن هذا النوع المواعدة: وقد عرفها المجمع المذكرر في القرار نفسه (البند الثالث) بأنها "هي التي تصدر من الطرفين، وهي جائزة في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما، فإذا لم يكن هناك خيار فلا تجوز لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكًا للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الإنسان ما ليس عنده". 10 - البيع بواسطة بطاقة الائتمان: حيث إن أمور التجارة قد كثرت وتنوعت وأصبح التعامل بالنقود والشيكات بين الناس بيعًا وشراء أمرًا قد يكتنفه بعض الصعوبات والملابسات، لذا فقد توجه الفكر الاقتصادي إلى إيجاد وسيلة للدفع تسهيلًا على الناس وتيسيرًا في التعامل أخذًا وعطاء، واصطلح على تسميتها (بطاقة الائتمان)، وانتشر التعامل بها في جميع دول العالم، وتأتي تسميتها من حيث إن الجهة المصدرة للبطاقة تأتمن الشخص الممنوحة له على تأدية الحق الذي اؤتمن عليه (¬1). ¬

_ (¬1) قضايا فقهية معاصرة في المال والاقتصاد، د. نزيه حماد (ص: 142).

أنواع بطاقة الائتمان

أنواع بطاقة الائتمان: 1 - بطاقة الخصم الفوري (Debit card): وهي تعتمد على وجود رصيد كاف لدى مصدرها لحاملها يكفي لتغطية كافة حسابات استخدامها. 2 - بطاقة الاعتماد (Charge card): ولا يتطلب منحها واستخدامها وجود حسابات لحاملها لدى مصدرها, ولكن يلتزم حاملها بالسداد خلال مدة يجري تحديدها بين الطرفين، فإذا انتهت المهلة دون سداده كان لمصدرها حق إلغائها وفرض فوائد على حاملها. ومن أمثلة ذلك بطاقة أمريكان اكسبريس. 3 - بطاقة الائتمان (Credit card): ولا يعتمد استخدامها على وجود حساب جار لحاملها لدى مصدرها، وإنما يعطى مهلة ليقوم بالسداد خلالها وبعدها يجري عليه احتساب الفوائد. ولها ميزات النوع الثاني؛ وإنما تختلف في أنها لا يجب على صاحب البطاقة تسديد مبلغ الدين كله، بل هو مخير في الباقي بين أن يقضي أو يُربي، ومن أمثلة ذلك بطاقة فيزا وماستر كارد. الحكم الشرعي: 1 - جواز التعامل ببطاقة الخصم الفوري بيعًا وشراء، حيث لا يترتب على التعامل بها الوقوع بالربا. 2 - جواز التعامل ببطاقة الاعتماد وصحته بيعًا وشراء، وصحة الرسوم المستحصلة لقاء تقديمها, لأنها أجرة مقابل خدمة، بشرط أن تكون ثابتة غير مرتبطة بالمبلغ، أما الغرامات المترتبة على التأخير فلا تصح لأنها من الربا، وهو محظور شرعًا (¬1). ¬

_ (¬1) يتحفظ الدكتور الطيار على ذلك إذا كان البنك يأخذ من العميل أي مبلغ قل أو كثر.

11 - التورق كما يتم التعامل فيه من قبل بعض المصارف في الوقت الحاضر

3 - أما النوع الثالث وهو بطاقة الائتمان فنظرًا لاعتمادها على الفائدة الربوية بعد مضي مدة المهلة دون تسديد المبالغ المستحقة واشتراط تحمل الفائدة بعد نهاية المدة شرط ربوي، وهو باطل لا يجوز اشتراطه. ولو استبعد من بطاقة الاعتماد وبطاقة الائتمان اشتراط تحمل الفائدة بعد نهاية المهلة المحددة له واكتفى بالرسوم الثابتة التي تؤخذ لقاء إصدارها وما يستفيده المصدر للبطاقة من التاجر لكان ذلك جائزًا، لكونه من باب أخذ الأجرة على الضمان، وهو جائز عند بعض الفقهاء (¬1). 11 - التورق كما يتم التعامل فيه من قبل بعض المصارف في الوقت الحاضر: بيان كيفيته: هو قيام المصرف بعمل يتم فيه ترتيب بيع سلعة من أسواق السلع العالمية على طالب التورق بثمن آجل على أن يلتزم المصرف بأن ينوب عنه في بيعها على مشتر آخر بثمن حاضر أقل. الحكم الشرعي: نرى عدم جواز التورق المصرفي على هذه الصفة؛ لأن عملية التورق في ذلك صورية وغير حقيقية، فالبنك لا يملك السلعة، وإنما يشتريها بعد الاتفاق ثم يبيعها بمبلغ أكثر من قيمتها قبل أن يشتريها ويقبضها، ثم بعد ذلك يكون المصرف هو البائع لها وكيلًا عن البائع (المستورق)، فقد يحابي في بيعها بسعر أقل كثيرًا إما لسرعة بيعها أو تواطؤًا مع المشتري، وذلك العمل يجعلها شبيهة بالعينة وتحايلًا على الربا؛ وبهذا أخذ مجمع الفقه الإِسلامي بمكة المكرمة في دورته السابعة عشرة لعام 1424 هـ حيث قال: ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى وبحوث الشيخ عبد الله المنيع (3/ 333).

12 - تحديد أرباح التجار

"إن واقع هذه المعاملة يقوم على منح تمويل نقدي بزيادة لما سمي بالمستورق فيها من المصرف في معاملات البيع والشراء التي تجري فيه، والتي هي صورية في معظم أحوالها، هدف البنك من إجرائها أن تعود عليه بزيادة على ما قدم من تمويل، وهذه المعاملة غير التورق الحقيقي المعروف عند الفقهاء". ونرى أنه يمكن تصحيح تلك العمليات بالآتي: 1 - أن يشتري المصرف السلعة قبل الاتفاق بينه وبين طالب التورق. 2 - بعد البيع يتولى طرف آخر غير البنك بيعها على مشتر آخر غير المصرف، وهذا ممكن إذا قامت المصارف بالترتيب لهذه الأعمال فيما بينها، وبهذا تبتعد هذه العملية عن المشابهة لبيع العينة المحرم. والله أعلم. 12 - تحديد أرباح التجار: الأصل أنه لا تحديد لأرباح التجار عند جمهور الفقهاء لكن إذا اقتضت المصلحة تسعير الأشياء لحاجة الناس عند من يقول بجواز التسعير فإنه لا بد من تحقق صفة العدل، وهو ما يحقق مصلحة البائع والمشتري بأن يربح البائع دون مضرة الناس. ولهذا اشترط مالك عندما رأى التسعير على الجزارين أن يكون التسعير منسوبًا إلى قدر شرائهم. ولعل القول بأن للبائع الحق في الربح إلى الثلث هو ما يحقق مصلحة الطرفين، والاستئناس لذلك لما ورد في بعض الأمور التي أشير فيها إلى الثلث كما جاء في حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- في الوصية حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الثلث، والثلث كثير" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الوصايا برقم (2).

وما ورد في الفقه من التسامح في جريان الغبن بيعًا أو شراء إلى الثلث جاء في المغنى (¬1): عند الكلام على مقدار الغبن المسموح به وحدَّه أبو بكر من الحنابلة بالثلث وهو قول مالك (¬2)؛ لأن الثلث كثير بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والثلث كثير"، وقيل: السدس. وقيل: ما لا يتغابن الناس به في العادة, لأن ما لا يرد به الشرع يُرجع فيه إلى العرف". وفي رواية: إن ما كان دون الثلث من الجوائح في الثمار فهو من ضمان المشتري، وهو مذهب مالك والشافعيُّ في القديم. والثلث قد رأينا الشرع اعتبره في مواضع منها: الوصية، وعطايا المريض، وتساوي جراح المرأة جراح الرجل إلى الثلث. قال الأثرم: "قال أحمد إنهم يستعملون الثلث في سبع عشرة مسألة" (¬3)، ولأن الثلث حد الكثرة وما دونه حد القلة، بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوصية به: "الثلث، والثلث كثير" فيدل هذا على أنه آخر حد الكثرة فلهذا قدر به (¬4). وقد تناول مجمع الفقه الإِسلامي بجدة في قراره رقم 46 (8/ 5) الحديث عن تحديد أرباح التجار، وأشار إلى أن الأصل ترك التحديد مع مراعاة ما تقضي به الآداب الشرعية من الرفق والقناعة والسماحة والتيسير، وأنه يجب الابتعاد عن التعامل بأسباب الحرام كالغش والخديعة والتدليس والاستغفال وتزييف حقيقة الربح والاحتكار الذي يعود بالضرر على العامة والخاصة، وهم يرون أنه لا يتدخل ولي الأمر بالتسعير إلا حيث يجد خللًا واضحًا في السوق ناشئًا عن ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة (6/ 36). (¬2) مواهب الجليل للحطاب (4/ 472). (¬3) المغني لابن قدامه (6/ 179). (¬4) ويرى الدكتور الطيار أن ذلك يختلف حسب العرض والطلب وحسب الزمان والمكان والسلع.

13 - القبض في المعاملات المعاصرة

عوامل مصطنعة، فإن لولي الأمر حينئذ التدخل بالوسائل العادلة الممكنة التي تقضي على تلك العوامل وأسباب الخلل والغلاء والغبن الفاحش. جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للفتوى في السعودية رقم (61615): "ليست الأرباح في التجارة محدودة بل تتبع أحوال العرض والطلب كثرة وقلة، لكن يستحسن للمسلم تاجرًا أو غيره أن يكون سمحًا في بيعه وشرائه وألا ينتهز فرصة غفلة صاحبه فيغبنه في البيع أو الشراء، بل يراعي حقوق الأخوة الإِسلامية". ومع شديد الأسف فإن التعامل في الوقت الحاضر قد بعد عن التعامل بما تقضي به الآداب الشرعية وشابه الغش والخداع وغيرها من الصفات السلبية، ومعنى ذلك أنه ينبغي التسعير في كل ما يحتاجه الناس مع مراعاة مصلحة البائع والمشتري وتوخي العدل في ذلك، والله أعلم. 13 - القبض في المعاملات المعاصرة: أجمع العلماء على أن القبض واجب في بيع الأطعمة واختلفوا فيما عدا ذلك، ونظرًا لتطور الحياة وتشعب التعامل فقد اقتضى الأمر دراسة القبض في الوقت المعاصر وبيان الحكم الشرعي له، والقبض نوعان: حسي وحكمي: وقد تم بيان كلام الفقهاء على القبض الحسي في كتاب البيع في قسم المعاملات. أما الحكمى: وهو التخلية بين المبيع والمشترى ليتصرف فيه فله صور كثيرة، وقد صدر قرار مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإِسلامي في دورته الحادية عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في بعض التطبيقات المعاصرة للقبض الحكمي للأموال وجاء فيه:

أولًا: يقوم تسليم الشيك مقام القبض عند توفر شروطه في مسألة صرف النقود في المصارف. ثانيًا: يعتبر القيد في دفاتر المصرف في حكم القبض لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى، سواء كان الصرف بعملة يعطيها الشخص للمصرف أو بعملة مودعة فيه. وقد صدر قرار مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإِسلامي رقم 53 (4/ 6) في دورة مؤتمره السادس بجدة بخصوص موضوع صور القبض وخاصة المستجدة منها وأحكامها، وقد جاء فيه: أولًا: قبض الأموال كما يكون حسيًّا في حالة الأخذ باليد أو الكيل أو الوزن في الطعام أو النقل والتحويل إلى حوزة القابض يتحقق اعتبارًا وحكمًا بالتخلية مع التمكين من التصرف ولو لم يوجد القبض حسيًّا، وتختلف كيفية قبض الأشياء بحسب حالها واختلاف الأعراف فيما يكون قبضًا لها. ثانيًا: إن من صور القبض الحكمي المعتبرة شرعًا وعرفًا: 1 - القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل (في حالات ذكرها). 2 - تسليم الشيك إذا كان له رصيد قابل للسحب بالعملة المكتوب بها عند استيفائه وحجزه للمصرف. وقد جاءت الفتوى رقم (4721) من اللجنة الدائمة للفتوى في السعودية باعتبار قبض الشيك أو ورقة الحوالة قائمًا مقام القبض في المجلس. "فلا تجوز لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكًا للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الإنسان ما ليس عنده".

14 - بيع المزايدة

14 - بيع المزايدة: تعريفه في اللغة: التنافس في زيادة ثمن السلعة المعروضة للبيع. وفي الاصطلاح: دعوة الراغبين نداء أو كتابة للمشاركة في المزاد، وتباع السلعة لمن يدفع الثمن الأكثر. أنواعه: لبيع المزاد أنوع متعددة منها ما كان موجودًا من قبل، ومنها ما هو حادث قد جد في الوقت المعاصر، وهي: 1 - المزاد المعتاد بين الأفراد: وهو عرض البائع سلعته في السوق ويزايد المشترون فيها، فتباع لمن يدفع الثمن الأكثر. 2 - المزاد المقرر من القضاء: كبيع مال المفلس ونحوه مما يصدر فيه حكم قضائي. 3 - المزاد الذي تطلبه بعض الجهات الحكومية والمؤسسات: لبيع ما لا تحتاجه من عقار ومنقول وغيره. وهذه الأنواع من العقود هي المتعامل فيها في الوقت الحاضر، وهي من النوازل التي لم تكن موجودة من قبل، وقد وضعت لهذا العقد ضوابط وشروط معينة كي يحقق الهدف من إقامته (¬1). حكمه الشرعي: 1 - ذهب جمهور الفقهاء إلى إباحة بيع المزايدة واستحب الحنابلة بيع مال المفلس في المزايدة لما فيه من توقع زيادة الثمن وتطييب نفوس الغرماء. لأن النبي ¬

_ (¬1) المعجم الوسيط مادة: "زيد"، وانظر: عقد البيع، مصطفى الزرقاء (ص: 166).

شروط بيع المزايدة

- صلى الله عليه وسلم - قد باع حلسًا وقدحًا حيث قال: "من يشتري هذا الحلس والقدح" (¬1)، فقال رجل: أخذتهما بدرهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من يزيد على درهم؟ " فأعطاه رجل درهمين فباعه منه (¬2). وقال ابن قدامه: "وهذا إجماع المسلمين يتبايعون في أسواقهم بالمزايدة" (¬3). 2 - وذهب الحسن البصري وابن سيرين والأوزاعي وغيرهم إلى كراهيته فيما عدا بيع الغنائم والمواريث. وذهب النخعي إلى كراهيته مطلقًا وبكل أنواعه: الراجح: هو القول بجواز بيع المزايدة مطلقًا للحديث، وقد رد ابن العربي على من خصه بالغنائم والمواريث بقوله: "لا معنى لاختصاص الجواز بالغنيمة والمواريث، فإن الباب واحد والمعنى مشترك"، وقد أخذ بذلك مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بقراره رقم 73 (4/ 8) وكذلك اللجنة الدائمة للفتوى في السعودية في فتواها رقم (7520). شروط بيع المزايدة: يشترط لجواز النوع الثالث من بيع المزايدة وهو الحادث منها شروط: 1 - أن تكون الإجراءات المتبعة في عقود المزايدات من تحرير كتابي وتنظيم وضوابط وشروط إدارية أو قانونية غير مخالفة لأحكام الشريعة الإِسلامية. ¬

_ (¬1) الحلس كل ما ولي ظهر البعير والدابة تحت الرحل والقتب والسرج، والقدح وعاء الشرب، لسان العرب مادة: "حلس". (¬2) أخرجه أبو داوود (2/ 292)، والترمذيُّ (3/ 522)، ونقل ابن حجر في تلخيص الحبير (3/ 15)، تضعيف عن ابن القطان. (¬3) المغني لابن قدامه (4/ 236).

تقديم الضمان للمتقدم للمزاد

2 - أن تكون الرسوم المستوفاة لدخول المزايدة مناسبة ولا تزيد عن القيمة الفعلية لدفتر الشروط وما شابهه من عمل ونحوه. تقديم الضمان للمتقدم للمزاد: يجوز طلب الضمان ممّن يريد الدخول في المزايدة على أن يرد لكل مشارك لم يرس عليه المزاد ويحتسب الضمان المالي جزءًا من الثمن لمن رسي عليه المزاد (¬1). التواطؤ على ترك المزايدة: إن تم التواطؤ على ترك المزايدة بين أحد الحاضرين وآخر فلا بأس به وهو قول شيخ الإِسلام ابن تيمية، فمتى قال أحد الحاضرين للآخر: "كف عن المزايدة ونحن شريكان في السلعة أو لك من المال كذا وكذا" فهذا لا بأس به, لأن باب المزايدة مفتوح، وإنما ترك أحدهما مزايدة الآخر. أما إن تم التواطؤ بين جميع الحاضرين على الكف عن الزيادة فهذا لا يجوز لما فيه من الضرر على البائع (¬2). النجش في المزايدة: النجش في اللغة بفتح الجيم مصدر، وأصل النجش الاستتار لأن الناجش يستر قصده، وفيه يقال للصايد ناجش لاستتاره (¬3). ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي في شرح الدردير (3/ 159)، ومغني المحتاج للشربيني (2/ 37)، وفتح القدير لابن الهمام (6/ 8)، وكشاف القناع للبهوتى (4/ 432). (¬2) الفتاوى لابن تيمية (29/ 304). (¬3) لسان العرب مادة: "نجش".

حكم النجش في المزايدة

وفي الاصطلاح: هو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ليغرّرَ بغيره (¬1). حكم النجش في المزايدة: النجش في المزايدة حرام، قال البخاري عن ابن أبي أوفي: "الناجش آكل ربا خائن"، وهو خداع باطل لا يحل فقد روي ابن عمر -رضي الله عنه- "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النجش"، ولأن فيه تغريرًا بالمشتري وخديعة له (¬2). حكم البيع في حال النجش: يرى المالكية وأحمدُ في رواية أن البيع باطل للحديث. ويرى الحنفية والشافعية وأحمدُ في رواية أخرى وغيرهم أن البيع صحيح. الراجح: أن البيع صحيح، وهو مذهب جمهور الفقهاء؛ لأن النجش فعل الناجش لا العاقد فلم يؤثر في البيع لكن مع إثم الناجش، وثبوت الخيار للمشتري إن كان في البيع زيادة فاحشة لم تجر العادة بها، وهو ما أخذت به اللجنة السعودية للفتوى في الفتوى رقم (19637)، حيث جاء فيها: "وإذا ثبت النجش وكان في البيع غبن لم تجر العادة بمثله فللمشتري الخيار بين الفسخ وإمضاء البيع, لأن ذلك داخل في خيار الغبن" (¬3). 15 - عقد المناقصة: المناقصة عكس المزايدة حيث يتم فيه دعوة الراغبين كتابة للمشاركة في ¬

_ (¬1) جواهر الإكليل شرح مختصر خليل (2/ 26). (¬2) المغني لابن قدامة (6/ 304)، وحديث ابن عمر أخرجه البخاريُّ في باب النجش. (¬3) حاشية الدسوقي (3/ 68)، والمغني لابن قدامة (6/ 304).

أنواعه

المناقصة، وهو أن يعلن راغب الشراء طلبه لشراء سلعة أو تنفيذ مشروع ليتزاحم الباعة والمقاولون على البيع أو التنفيذ بثمن أنقص من غيره، ويتم ترسية المشروع لمن يقدم الثمن الأقل مع الالتزام بالشروط والمواصفات. وهو عكس المزايدة وهو جائز لأن أحكامه لا تختلف عن أحكام البيع المطلق. ويتم غالبًا بطريق الظرف المختوم بأن يرسل المتزاحمون معروضاتهم في الأسعار دون أن يعلم أحدهم بما قدم الآخر ثم تفتح هذه المعروضات، وتعتبر هذه المعروضات بحكم إيجابات متعددة فيصح للطرف المشتري أن يعين قبوله على ما شاء منها فيلزم صاحبه. ويتم عقد المناقصات في مشتريات الدولة أو تنفيذ مشروعاتها، وكذا في عقود الإيجارات وتعهدات الأعمال، وله شروط تحددها الأنظمة والقرارات الحكومية، كتقديم مبلغٍ تأمينًا للقيام بعمله، وأن يكون ذلك خلال مدة معينة (¬1). أنواعه: للمناقصة نوعان: أولًا: عقد التوريد: وهو أن يعلن راغب الشراء طلبه شراء سلعة ليتزاحم الباعة على البيع بثمن أقل من غيره وفق شروط ومواصفات محدودة. حكم عقد التوريد: لعقد التوريد صور: 1 - أن يكون خاصًا بتوريد سلع معلومة حالة لطرف آخر مقابل مبلغ معين. وهي جائزة شرعًا وليس فيها مخالفة تقضي بمنعها، ومن أمثلة ذلك توريد القمح والشعير والأرز ونحوها. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقى (3/ 68)، والمغنى لابن قدامة (6/ 304).

ثانيا: عقد المقاولة والإنشاء والنقل

2 - أن يكون عقد التوريد خاصًا بتوريد سلع معلومة لا تتطلب تصنيعًا وتكون مؤجلة بصفة دورية خلال فترة معينة لطرف آخر مقابل مبلغ معين، ومن أمثلة ذلك توريد الأغذية للمدارس والمستشفيات، وكذلك توريد الخدمات مثل توريد الماء والكهرباء والغاز وفي تلك الحال فإنه لا يخلو من أمرين: أ- أن يكون قد دفع الثمن بكامله عند العقد فله حكم السلم وهو ما جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي رقم 85 (2/ 9). ب- أن لا يكون العاقد قد دفع الثمن كاملًا عند العقد. وفي تلك الحال يرى المجمع نفسه أنه لا يجوز لأنه من بيع الكالئ بالكالئ (بيع الدين بالدين). ونرى أن ذلك ليس من بيع الدين بالدين، بل هو ما تقتضيه مصلحة الطرفين إذ أن في تأخير بعض الثمن مصلحة، إما في ضمان توريد السلعة في الوقت المتفق عليه أو في التحقق من توفر الصفات المطلوبة فيها، وذلك مما يحتاج إليه في التعامل في هذا العصر، لكن لا بد من ضبط الشروط والمواصفات بما يؤدي إلى تحقيق الالتزام والبعد عن الغرر والجهالة، والله أعلم. 3 - أن يكون عقد التوريد يتطلب صناعة سلعة وفق شروط محدودة تقدم لطالب الشراء مثل توريد الأثاث بعد تصنيعه وفق الشروط المطلوبة، فهنا يرى المجمع نفسه أن العقد استصناع تنطبق عليه أحكام عقد الاستصناع وفقًا لما جاء في قرار المجمع رقم 65 (3/ 7). ثانيًا: عقد المقاولة والإنشاء والنقل: وهو عقد يتعهد أحد طرفيه بمقتضاه بأن ينشئ مشروعًا: طريقًا أو مبنيً، أو يتعهد بالنقل بحرًا أو برًا أو جوًا مقابل بدل يلتزم به الآخر.

حكم عقد مقاولة إنشاء المباني والطرق والنقل

حكم عقد مقاولة إنشاء المباني والطرق والنقل: بدراسة ذلك يتبين جواز عقد مقاولة إنشاء المباني والطرق والنقل إذ أن له نظيرًا في الفقه الإِسلامي وهو عقد الاستصناع، إذا كان الاتفاق على إنشاء وعمل مع تأمين المواد، أما إذا كان الاتفاق على العمل فقط فإنه يكون من باب الإجارة، وما ورد في العقد من شروط ومواصفات وإجراءات يتطلبها العمل ومصلحة الطرفين فلا مانع منها ما دام أنها لا تخالف القواعد الشرعية. وهذا هو ما أخذ به مجمع الفقه الإِسلامي في جدة في قرار رقم 129 (3/ 14). وما دام أن تلك العقود لا تخالف القواعد والأصول الشرعية فلا مانع منها، سواء قلنا أن لها شبهًا بعقد الاستصناع أو الإجارة أو غيرها. أو أنها عقود جديدة لا تدخل ضمن العقود المسماة في الفقه الإِسلامي، بل وجدت نتيجة للتعامل في الحياة المعاصرة وما تتطلبه من وسائل وأمور تحقق المصلحة للفرد والمجتمع والأمة ولا تخالف المبادئ والقواعد المقررة شرعًا، والله أعلم. 16 - بيع المرابحة للأمر بالشراء: وهو أن يطلب العميل من المصرف شراء سلعة معينة يحدد أوصافها وقيمتها بعد إضافة الربح المتفق عليه بينهما ويعده بشرائها بعد حيازة المصرف لها. حكم بيع المرابحة للأمر بالشراء: اختلف العلماء في ذلك تبعًا للاختلاف في الوعد بالشراء هل هو ملزم أم غير ملزم: 1 - فذهب الجمهور إلى أن الوفاء بالوعد لا يلزم مطلقًا, لأن الوعد

معروف محض ولا يلزم الوفاء بالوعد المعروف لا ديانة ولا قضاء. 2 - وذهب عمر بن عبد العزيز وابن شبرمة إلى القول بوجوب الوفاء بالوعد مطلقًا لعموم الأمر بالوفاء بالوعد فمن الكتاب: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3]. ومن السنة حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان" (¬1)، وقد أجمع المسلمون على أن الوفاء بالوعد محمود، وأن إخلاف الوعد وعدم الوفاء به مذموم. 3 - إنه يلزم الوفاء بالوعد إن أدخل الموعود في ورطة، وإلا فلا يلزم الوفاء به، وذلك لحديث: "لا ضرر ولا ضرار" (¬2). الراجح: نرى أن الراجح أن الوفاء بالوعد ملزم مطلقًا, لأن الواعد قد التزم برغبته وإرادته، ولما ورد في ذلك من أدلة للقائلين بلزومه، وهو يحقق المصلحة ويحتاج إليه في التعامل في الوقت الحاضر وبناء عليه فإنه يجوز بيع المرابحة للآمر بالشراء شريطة أن يملك المصرف السلعة ويقبضها بالطريق الشرعي (¬3)، وقد أخذ بذلك مجمع الفقه الإِسلامي بجدة في قراره رقم 40 - 41 (2/ 5 و 3/ 5) (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ عن أبي هريرة في باب علامات النفاق ورقمه (33). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد وابن ماجه الجامع الصغير للسيوطى (2/ 749). (¬3) بحوث في الاقتصاد الإِسلامي للشيخ عبد الله المنيع (ص: 139)، وفقه النوازل، د. بكر أبو زيد (2/ 70)، والجامع في فقه النوازل، د. صالح بن حميد (ص: 61). (¬4) ويرى الدكتور الطيار أن الوفاء بالوعد ملزم ديانة لا قضاء.

17 - التعويض عن الضرر

17 - التعويض عن الضرر: التعويض لغة: العوض وهو البدل، تقول عوضته تعويضًا إذا أعطيته بدل ما ذهب منه. واصطلاحًا: هو دفع ما وجب على الإنسان من بدل بسبب إلحاق ضرر بالغير. والضرر: اسم من الضر وقد أطلق على كل نقص يدخل الأعيان أو الأنفس، يقال: ضره يضره إذا فعل به مكروهًا (¬1). الحكم الشرعي للتعويض عن الضرر: جاء الإِسلام بتحريم الضرر ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" (¬2)، وهو يشمل كل أنواع الضرر. ويتحقق الضرر بإتلاف العين أو المنفعة أو النفس أو ما دونها أو الإساءة الأدبية للمرء أو التفريط في الأمانة وغيرها، ويكون التعويض إما بدفع مال مقدر أو مصالح عليه لمن أصابه الضرر بدلًا لما فقد وقطعًا للخصومة بين الناس. وقد يكون التعويض عن الإتلاف للمال أو المنفعة سواء أكان عن طريق الغصب أم الإتلاف أم كان عن طريق الاعتداء على النفس وما دونها وذلك موضح في كتاب الجنايات. أم يكون عن طريق الضرر الأدبي والمعنوي، وقد ورد في الإِسلام الجزاء عن إيقاع الضرر الأدبي وذلك بالتوبيخ، ومن ذلك ما روى أبو ذر -رضي الله عنه- أنه سابّ ¬

_ (¬1) لسان العرب مادة: "عوض"، ومادة: "ضرر" وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية. (¬2) أخرجه مالك في الموطأ (2/ 745)، مرسلًا وله شواهد موصولة يتقوى بها ذكرها ابن رجب في جامع العلوم والحكم.

18 - التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها

رجلًا فعيره بأمه، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أعيرته بأمه! إنك امرؤ فيك جاهلية" (¬1). أو الجزاء بالجلد كما في حد القذف، فإن القاذف يجب عليه حد القذف بشروط لما سببه من إيذاء أدبي ومعنوي للمقذوف وغيره، ولم نر من تكلم عن التعويض المالي للضرر المعنوي فهو من النوازل الحادثة. والتعويض المالي مقابل الضرر الأدبي والمعنوي معمول به في بعض القوانين. ونرى أن التعويض المالي مقابل ما أوقعه من أضرّ بغيره ضررًا أدبيًا ومعنويًا لا مانع منه إذا كان ذلك يتم عن طريق القضاء، بحيث يكون التعويض كثرة أو قلة يتناسب مع حجم الضرر الأدبي والمعنوي الذي وقع على المضرور، ولا سيما أن التعويض المالي في كثير من المجتمعات أقوى وأبلغ في الردع من السجن أو العقوبة الجسدية، وقد يكون ذلك من باب التعزير بالمال إمعانًا في الردع والزجر، وهو هدف معتبر عند إقامة العقوبات والجزاءات في الشريعة الإِسلامية كي يمنع تكرار مثل ذلك الضرر ويزجر في الابتعاد عنه، والله أعلم. 18 - التمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها: منذ القدم والعقارات تباع وتشترى، وحيث إن البشرية قد كثرت بحيث أصبح السكن غير متوفر إلا لبعض الناس، وليس كل أحد يستطيع شراء سكنه بالنقد، فقد أصبح من الضروري في هذا العصر أن توجد وسائل وطرق يستطيع الناس من خلالها تملك المساكن وفقًا للإمكانات المتاحة لهم، ومن تلك الوسائل والأساليب: 1 - أن تقوم الشركات والمؤسسات ببناء مساكن من الفلل والشقق وتباع بأقساط ميسرة تمكن الراغبين في تملك المساكن من دفعها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الإيمان برقم (22)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان (38).

19 - الشرط الجزائي في العقود

2 - أن تقوم الشركات والمؤسسات ببيع المساكن وفقًا للمخططات من حيث الموقع أو الإنشاء أو التوزيع، ويكون ذلك موصوفًا وصفًا دقيقًا ينفي الجهالة المؤدية إلى النزاع، وتكون القيمة موزعة على دفعات يتفق بشأنها قبل البدء بالعمل، وهذا من قبيل عقد الاستصناع الوارد في الفقه الإِسلامي. 3 - أن تقوم الدولة حسب إمكاناتها ببناء المساكن وتبيعها للراغبين في تملك المساكن بأقساط ميسرة وتتم وفقًا للضوابط الشرعية. 4 - أن تقدم الدولة للراغبين في تملك المساكن قروضًا مناسبة تسترد على أقساط محددة وبدون فوائد، وهو معمول به في بعض الدول كالمملكة العربية السعودية حيث أنشأت لهذا الغرض صندوق التنمية العقارية. 5 - أن تقوم البنوك بتقديم قروض بدون فوائد لأن أخذ الفوائد ربا وهو محرم، وإنما تقوم بذلك مشاركة منها في التنمية حيث إنها تستفيد من كل الميزات التي توفرها الدول دون أن يكون لها دور إيجابي في تقديم ما يخدم حاجة المواطنين من سكن وغيره. 6 - أن تقوم البنوك بالتعاون مع بعض الشركات والمؤسسات بحيث تقدم البنوك الأموال ويكون التنفيذ والإشراف على الشركات وذلك من باب المشاركة مضاربة وفي هذا فوائد كثيرة للفرد والمجتمع والأمة، وقد تناول مجمع الفقه الإِسلامي بجدة في قراره رقم 50 (1/ 6) موضوع التمويل لبناء المساكن وشرائها وما يجوز منها وما لا يجوز. 19 - الشرط الجزائي في العقود: هو اتفاق بين المتعاقدين على تقدير التعويض الذي يستحقه من شرط له عن الضرر الذي يلحقه إذا لم ينفذ الطرف الآخر ما التزم به، أو تأخر في تنفيذه

حكم الشرط الجزائي

ويعمل به كثيرًا في عقود المقاولات وعقود التوريد وعقد الاستصناع، وفيما إذا ارتفعت أسعار المواد كالحديد والإسمنت وغيرها ارتفاعًا كبيرًا. حكم الشرط الجزائي: الشرط الجزائي إنما وضع بموافقة الطرفين ورضاهما وهو من مصلحة العقد لما يترتب عليه من إنجاز ما تم التعاقد عليه في وقته؛ والأصل في الشروط الجواز والصحة إلا ما ورد الشرع بمنعه، وقد جاء بذلك الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمون عند شروطهم" (¬1). ولذلك فهو شرط صحيح يلزم الأخذ به، وقد جاء في صحيح البخاري عن ابن سيرين "أن رجلًا قال لكريّه أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم فلم يخرج" فقال شريح: "من شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه". ويرى مجمع الفقه الإِسلامي في جدة أن التعويض عن الضرر إنما يشمل الضرر المالي الفعلي ولا يشمل الضرر الأدبي والمعنوي، وأنه لا يعمل بالشرط الجزائي إذا أثبت من شرط عليه إن إخلاله بالعقد كان لسبب خارج عن إرادته، أو أثبت أن من شرط له لم يلحقه أي ضرر من الإخلال بالعقد (¬2). ونرى أن التعويض يشمل الضرر الأدبي والمعنوي الواقع فعلا، ذلك أن الضرر في ذلك قد يكون أشد وقعًا وضررًا من الضرر المالي، إذ أن المالي يمكن تعويضه، أما الضرر الأدبي والمعنوي فلا يمكن تعويضه. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود برقم (3594)، وصححه الألباني في الإرواء (5/ 142) برقم (1303). (¬2) فقه النوازل، د. صالح بن حميد (ص: 64)، وفقه النوازل، د. محمَّد الجيزاني (3/ 78).

20 - نزع الملكية للمصلحة العامة

وأما إلغاء الشرط الجزائي إذا أثبت من شرط عليه أن ذلك لم يلحق ضررًا بمن شرط له فهذا مدعاة إلى عدم احترام الشروط والتقيد بها، وهو سبيل إلى المنازعات والخصومات مما يترتب عليه التأثير على استقرارات التعامل. وإذا كان الشرط الجزائي فيه مبالغة بحيث يتجاوز العدل المطلوب لمصلحة العاقدين فيمكن النظر في ذلك بما يحقق العدالة لهما، وكذلك إذا كان الإخلال بالشرط ناتجًا عن أمر خارج عن إرادة الملتزم به ويقدر ذلك القضاء عند الاختلاف وبذلك صدر قرار هيئة كبار العلماء في السعودية عام 1395 هـ وبه أخذ مجمع الفقه الإِسلامي في جدة بقراره رقم 109 (3/ 12). 20 - نزع الملكية للمصلحة العامة: إن التطور الذي يشهده العالم وما صاحبه من إقامة المرافق العامة وتوسعة الشوارع والطرق كي تستوعب الناس وما يستخدمونه من وسائل النقل فقد أدى ذلك إلى كثرة إزالة المباني والأملاك التي تعترض مسار الشوارع والطرق والخدمات العامة، وهذا يتطلب بيان الحكم الشرعي لهذا العمل وما يترتب عليه. المقصود بنزع الملكية للمصلحة العامة: هو قيام الدولة بالاستيلاء على أملاك بعض الناس، وذلك بغرض توسعة الطرق أو إقامة المرافق العامة التي يحتاجها المجتمع مع دفع تعويض عادل لأصحاب العقارات، مراعاة للمصلحة العامة والخاصة. وقد جاء نظام نزع الملكية للمصلحة العامة السعودي في سبع وعشرين مادة تتناول بيان النزع ومتى يكون وكيفية التعويض وأسلوب تطبيق ذلك.

الحكم الشرعي لنزع الملكية للمصلحة العامة

الحكم الشرعي لنزع الملكية للمصلحة العامة: الإِسلام يقرر المحافظة على الضروريات الخمس ومنها حفظ المال، ويحترم الملكية الخاصة ويوجب المحافظة عليها، فإذا احتاجت الأمة إلى توسعة طرق أو إقامة مرافق لخدمة الجميع فإن لها الحق في انتزاع ما يعوق ذلك، ولكن بالشروط التالية: 1 - أن يتحقق بنزعه مصلحة عامة. 2 - أن يكون نزع الملكية من قبل ولي الأمر. 3 - أن يدفع لمالك العقار تعويض عادل ودون تأخير. وفي حال الاستغناء عن العقار فإن مالكه أولى باسترداده مقابل تعويض عادل. وقد جاء الكلام عن ذلك في قرار مجمع الفقه الإِسلامي بجدة رقم 29 (4/ 4). وأنه يجب رعاية الملكية الفردية وصيانتها من أي اعتداء عليها، وإذا تم نزع الملكية للمصلحة العامة فإنه لا يجوز أن يؤول العقار المنتزع من قبل مالكه إلى توظيفه في الاستثمار العام أو الخاص، وألا يعجل نزع ملكيته قبل الأوان، وبدون مراعاة الضوابط المحددة لجواز نزع الملكية للمصلحة العامة فإن ذلك يعد ظلمًا وغصبًا للمال بغير حق وهو حرام.

21 - الأسواق المالية والسلع التجارية (البورصة)

21 - الأسواق المالية والسلع التجارية (البورصة) (¬1): المالية: وهي أسواق يتم فيها بيع وشراء الأسهم والسندات والصكوك. والتجارية: يتم فيها بيع السلع التجارية الرئيسية: كالقمح والقطن والسكر والنفط وغيرها، وذلك وفق تنظيم إداري وأنظمة خاصة بها. أنواع الأسواق المالية والسلع التجارية (البورصة): للأسواق (البورصة) أنواع متعددة، ومنها: 1 - سوق البضائع التجارية: ويكون التعامل فيها ببضائع كالقمح والسكر والقطن والنفط وغيرها. 2 - سوق الأوراق المالية: وهو سوق يتم فيها بيع وشراء الأسهم والسندات والصكوك والاستثمارات التي تصدرها الشركات أو الحكومات (¬2). الحكم الشرعي للأسواق المالية والسلع التجارية: تقوم الأسواق بدور هام في الحياة الاقتصادية في هذا العصر وتلبي حاجة الناس للبيع والشراء وتوفير الحاجات، وهي من النوازل الحادثة التي يحتاج المسلم إلى بيان الحكم الشرعي لأساليب وطرق البيع فيها, ولا ريب أن لتلك الأسواق فوائد إيجابية من حيث إنها تيسر التعامل بين البائعين والمشترين، وتتميز بسهولة حصول كل من البائعين والمشترين على رغباتهم من الأموال والسلع دون مشقة أو عناء، كما أن لها آثارًا سلبية من حيث إنه يتم التعامل في بعضها بطرق لا يقرها الشرع الإِسلامي كحصول الاحتكار أو بيع الشيء قبل قبضه، وينبغي ¬

_ (¬1) بورصة كلمة أعجمية وهي تعني السوق المنظمة لإجراء الصفقات في الأوراق المالية أو السلع التجارية الرئيسية كالسكر أو القمح أو النفط وغيرها. (¬2) الموسوعة العربية العالمية (13/ 249) الطبعة الثانية.

أولا- سوق الأوراق المالية

التعامل فيها وفق ما يقرره الشرع الإِسلامي من حيث الجواز أو المنع، وقد تم دراسة تلك النازلة وبيان الحكم الشرعي لها في كل من مجمع الفقه الإِسلامي بجدة بقراره رقم 59 (10/ 6)، ومجمع الفقه الإِسلامي بمكة المكرمة في عام 1404 هـ. أولًا- سوق الأوراق المالية: وتنقسم العمليات فيها إلى قسمين: 1 - عاجلة: وهي عمليات يتم فيها دفع الثمن وتسلم الأوراق المالية حالًا وهذه جائزة شرعًا. 2 - آجلة: وهي عمليات يتم فيها دفع الثمن وتسلم الأوراق المالية مؤجلًا، وهذا النوع غير جائز شرعًا لأن فيه بيع الشخص ما لا يملك. وقد يكون الغرض منها الاستفادة من فروق الأسعار من البائعين والمشترين غير الفعليين، وهو غير جائز شرعًا لأنه من باب المقامرة وأكل أموال الناس بالباطل. 3 - العقود العاجلة أو الآجلة: التي تتم على سندات القروض بفائدة بمختلف أنواعها غير جائزة شرعًا لأنها ربًا وهو محرم. ثانيًا- سوق السلع والبضائع التجارية: وتنقسم العمليات فيها إلى قسمين: 1 - عقود عاجلة على السلع الحاضرة في ملك البائع ويدفع فيها الثمن ويتم القبض وفقًا لأحكام القبض الشرعية وهذه جائزة، أما إذا لم يكن المبيع في ملك البائع فيجب أن تتوافر فيه شروط بيع السلم، ولا يجوز بيعه قبل قبضه.

22 - بيع الخيارات

2 - عقود آجلة: وهي عمليات يتم فيها دفع الثمن وتسليم السلع التي لم يتم تملكها آجلا، وهذا النوع غير جائز شرعًا لأن الشخص قد باع ما لا يملك، لكن لو تم تسليم الثمن في مجلس العقد وكانت السلعة موصوفة وصفًا لا جهالة فيه، فإن ذلك يندرج تحت باب السلم، ولا بد أن يتم تطبيق شروطه عليه حتى يتم البيع ويبعد المحذور الشرعي (¬1). 22 - بيع الخيارات: هو عقد يشتري بموجبه حق شراء عدد محدد من أسهم شركة معينة عند سعر معين هو السعر الحالي خلال مدة معينة، أو يشتري حق بيع عدد محدد من أسهم شركة معينة عند سعر معين هو السعر الحالي، ويدفع ثمنًا لهذا الحق. وعرفه مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بجدة بقراره الصادر في دورته السابعة بقوله: "هو الاعتياض عن الالتزام ببيع شيء محدد موصوف أو شرائه بسعر محدد خلال فترة زمنية أو في وقت معين، إما مباشرة أو من خلال هيئة ضامنة لحقوق الطرفين". حكم بيع الخيارات: عقود الخيارات تنقسم إلى قسمين: 1 - خيارات في العملات. 2 - خيارات في غير العملات. أولًا: بيع الخيارات في غير العملات: اختلف العلماء المعاصرون في حكمها في غير العملات على أقوال: ¬

_ (¬1) الجامع في فقه النوازل، د. صالح بن حميد (ص: 3)، وفقه النوازل، د. محمَّد الجيزاني (3/ 56).

القول الأول: ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى تحريم جميع أنواع عقود بيع الخيارات في غير العملات، وهو ما أخذ به مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بجدة، فقد جاء في قراره: "إن عقود الاختيارات كما تجري اليوم في الأسواق المالية العالمية هي عقود مستحدثة لا تنضوي تحت عقد من العقود الشرعية المسماة، وبما أن المعقود عليه ليس مالًا ولا منفعة ولا حقًا ماليًا يجوز الاعتياض عنه، فإنه عقد غير جائز شرعًا، وبما أن هذه العقود لا تجوز ابتداءً فلا يجوز تداولها" (¬1). وقد علل القائلون بالمنع بوجود الغرر المؤثر في هذا العقد، وبأن هذا العقد قائم على القمار والميسر، كما أن السلعة غير مقصودة في العقد، وإنما يتضمن العقد إسقاط حق خيار المجلس، وإسقاط هذا الحق قبل استحقاقه ليس بمعتبر. كما أن العقد يتضمن إسقاط الرضا الذي يعتبر شرطًا لصحة العقود. القول الثاني: وذهب بعضهم إلى إباحة جميع أنواع عقود الخيارات، وذلك لأن الخيارات حقوق يجوز بيعها، وهي كبيع العربون وخيار الشرط فيكون حكمها الجواز. القول الثالث: وذهب غير أولئك إلى القول بإباحة خيار الشراء أو الخيار المركب وتحريم خيار البيع. وذلك أن خيار الشراء مثل بيع العربون. وأما الخيار المركب فإنه مساومة تنتهي إلى عقد شرعي. وأما خيار البيع فهو اشتراط عقد هبة في عقد البيع، واشتراط عقد في عقد لا يجوز. ¬

_ (¬1) مجلة المجمع. العدد السابع (1/ 711). ورقم القرار (63).

ثانيا: بيع الخيارات في العملات

الراجح: نرى أن الراجح هو القول الأول لما أورده المانعون لتلك الخيارات، ولا يصح قياسها على بيع العربون, لأن العربون مقابل حق الفسخ للعقد، وليس مقابل إنشائه. ثانيًا: بيع الخيارات في العملات: اختلف العلماء المعاصرون في حكمها على قولين: القول الأول: عدم جواز عقود الخيارات على العملات، وهو قول عامة الفقهاء المعاصرين؛ لأنه إذا كانت عقود الخيارات لا تجوز على السلع فمن باب أولى لا تجوز على العملات. فبيع العملات يشترط فيه القبض والتساوي إذا كانت من جنس واحد، ويشترط فيه القبض إذا كانت من جنس مختلف. القول الثاني: جواز التعامل بعقود الخيارات في العملات وبه قال بعض الباحثين المعاصرين، وذلك استنادًا إلى قاعدة رفع الحرج، وإلى صحة المعاوضة على الالتزامات ذات النفع المقصود، وهذه العقود تأخذ حكمها.

باب الربا والصرف

باب الربا والصرف جدت نوازل وقضايا في تعامل الناس، وهي تندرج تحت باب الربا والصرف، وهي: 1 - أحكام النقود الورقية: النقود لغة: جمع نقد، والنقد من الذهب والفضة وغيرهما مما يتعامل به (¬1). واصطلاحًا: اسم لكل ما يستعمل وسيطًا للتبادل أو لقياس التقويم، سواء كان من ذهب أو فضة أو نحاس أو ورق أو غير ذلك (¬2). مشروعية التعامل بالنقود: جاء الإِسلام والناس يتعاملون بالنقود فأقرهم على التعامل بها قال تعالى: {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف: 19]. وجاءت السنة بجواز ذلك قولًا وفعلًا وإقرارًا ومن ذلك ما ورد عن عروة البارقي -رضي الله عنه-، قال: دفع إليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دينارًا لأشتري له شاة، فاشتريت له شاتين فبعت إحداهما بدينار وجئت بالشاة والدينار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر له ما كان من أمره، فقال له: "بارك الله لك في صفقة يمينك" (¬3). وفي جعل النقود أثمانًا حكم ومصالح، إذ حاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا لسعر تعرف به القيمة ويستمر ¬

_ (¬1) المعجم الوسيط مادة: "نقد". (¬2) روضة الطالبين للنووي (3/ 363). (¬3) أخرجه الترمذيُّ في البيوع (34).

حكم النقود الورقية

على حالة واحدة ولا يقوم هو بغيره (¬1). حكم النقود الورقية: الذهب والفضة هما أصل النقد والأثمان. وعلة جريان الربا فيهما هو مطلق الثمنية، وهو قول كثير من العلماء المحققين منهم ابن تيمية (¬2)، وابن القيم (¬3)، خلافًا لمن يرى أن العلة فيهما الوزن. والعملة الورقية قد أصبحت ثمنا، وبها تقوم الأشياء ويحصل الوفاء والإبراء بها، فيكون لها حكم الذهب والفضة وتعتبر نقدًا قائمًا بذاته، وبناء على ذلك فيترتب عليه الأحكام الآتية: 1 - جريان الربا بنوعيه (الفضل والنسيئة) في الأوراق النقدية وغيرها من الأثمان كالفلوس، وهذا يقتضي ما يأتي: أ- لا يجوز بيع الورق النقدي بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى نسيئة مطلقًا، كبيع ريال سعودي بعملة أخرى نسيئة بدون تقابض. ب- لا يجوز بيع الجنس الواحد من العملة الورقية بعضه ببعض متفاضلًا، كبيع عشرة ريالات سعودية بأحد عشر. ت- يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقًا إذا كان ذلك يدًا بيد، كبيع الريال السعودي بالدولار بأربعة أو أقل أو أكثر. 2 - وجوب الزكاة في الأوراق النقدية إذا بلغت قيمتها نصابًا أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان أو العروض المعدة للتجارة. ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم (2/ 155). (¬2) الفتاوى لابن تيمية (29/ 473). (¬3) إعلام الموقعين لابن القيم (2/ 137).

2 - بيع العملات بعضها ببعض

3 - جواز جعل الأوراق النقدية رأس مال في بيع السلم والشركات. وهذا هو ما قرره مجلس هيئة كبار علماء السعودية بقراره رقم 10 لعام 1393 هـ , وأخذ به مجمع الفقه الإِسلامي بمكة المكرمة بقراره السادس لعام 1402 هـ , وكذلك مجمع الفقه الإِسلامي بجدة بقراره 21 (9/ 3)، وتبعهم في ذلك مجمع الفقه الإِسلامي بالهند بقراره الصادر في 11/ 1989 م. 2 - بيع العملات بعضها ببعض: وهو أن يبيع عملة بأخرى كأن يبيع جنيهًا إسترلينيًا بريالات سعودية ونحو ذلك. الحكم الشرعي: إن القيام ببيع العملات ببعضها يعد من باب الصرف وهو جائز بشروط: 1 - أن يتم القبض بين البائع والمشتري في مجلس العقد لحديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد" (¬1). 2 - ألا يكون فيه تفاضل ولا زيادة إذا كانت العملة واحدة كريال سعودي بريال سعودي دون زيادة, لأنه من ربا الفضل وهو محرم، وذلك لحديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة ... " الحديث (¬2). فإذا اختل شرط منها فلا يجوز البيع والعقد باطل، كما إذا تم عقد الصرف ¬

_ (¬1) حديث عبادة أخرجه مسلمٌ 3 م 1211 رقم 1587. (¬2) حديث عبادة أخرجه مسلمٌ 3 م 1211 رقم 1587.

3 - بيع الذهب المصاغ

مع الاتفاق على تأجيل قبض البديلين أو أحدهما إلى تاريخ معلوم في المستقبل، وقد قرر ذلك مجمع الفقه الإِسلامي بمكة المكرمة في دورته الثالثة عشرة، المنعقدة بتاريخ 5/ 8 / 1412 هـ , وكذلك مجمع الفقه الإِسلامي بجدة بقراره رقم 93 (5/ 11)، وقد جاء فيه: لا يجوز شرعًا البيع الآجل للعملات ولا تجوز المواعدة على الصرف فيها، وهذا بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الأمة. كما صدرت بذلك فتوى اللجنة الدائمة في السعودية رقم (6337)، وقد جاء فيها: "يجوز الاتجار بالعملات بشرط التقابض في مجلس العقد سواء اتحد الجنس أو اختلف، وبشرط التماثل إذا اتحد الجنس". 3 - بيع الذهب المصاغ: يجوز بيع الذهب المصاغ بالنقد من أي العملات وحسب السعر المتفق عليه بين البائع والمشتري وفقًا لأسعار الذهب، لكن يشترط التقابض في مجلس العقد ولا يجوز البيع والشراء بدون قبض لأنه ربا والربا حرام، وقد صدرت بذلك فتوى اللجنة الدائمة في السعودية رقم (4518). 4 - المصارف والبنوك: المصرف: مؤسسة يودع الناس فيها أموالهم وتستخدم المصارف هذه الأموال المودعة في استثماراتها. نشأة المصارف والبنوك: الخدمات المصرفية قديمة قدم الحضارة الإنسانية فقد كان في الحضارة الرومانية نظام مصرفي أسهم في توسيع الحركة التجارية فيها وهو يلبي الحاجة

أسباب إقامة المصارف والبنوك

آنذاك، أما النظام المصرفي الحديث فقد بدأ نموه في إيطاليا خلال الفترة بين القرنين الثالث عشر والسابع عشر الميلادي، ونشأت شركات مصرفية في عدد من المدن الإيطالية مثل روما والبندقية، ومنها انتشرف الخدمات المصرفية في أوروبا، ومنذ السبعينات من القرن العشرين أصبحت المصارف تؤدي دورًا عالميًا أكبر على مستوى الأفراد والشركات والدول. أسباب إقامة المصارف والبنوك: من أهم تلك الأسباب: 1 - إيداع النقود في المصارف آمن لها من بقائها في المنزل أو المؤسسة. 2 - سهولة استخدام الحسابات الجارية لتسديد الفواتير الشخصية أو التجارية. 3 - حصول بعض المودعين على فوائد ربوية عند إيداعهم أموالهم في المصارف. 4 - تقديم القروض للراغبين من أفراد ومؤسسات أو شركات بل وحكومات. 5 - يسر انتقال الأموال داخل الوطن وخارجه دون مشقة أو خوف. الأعمال المصرفية التي تقدمها المصارف (البنوك): أولًا: أعمال خدمية يقدمها المصرف للعملاء بأجر ولا تدخلها الفوائد وهي: 1 - قبول الودائع الجارية (حساب تحت الطلب)، ويحفظها لأصحابها مقابل أجر معين إذا كانت المبالغ قليلة، ودون مقابل إذا كانت الودائع مبالغ تزيد عن الحد الأدنى الذي حدده البنك. 2 - توفير وسائل الدفع من شيكات وغيرها، بحيث يتم صرفها من حساب العميل بمجرد اطلاع البنك عليها.

ثانيا: منح القروض

3 - إصدار خطابات الضمان. 4 - بيع العملات وشراؤها. 5 - القيام بإجراء الحوالات المالية داخل البلد وخارجه. 6 - الخدمات المصرفية الإلكترونية: وذلك نتيجة للتقدم التقني الكبير فقد طورت المصارف أسلوب تعاملها: أ- المصرف الآلي: وهي وحدات حاسوب طرفية تنتشر في الأماكن الهامة، ويستخدمها العملاء لسحب النقود أو إيداعها أو الاستفسار عن بعض المعلومات، وذلك عن طريق بطاقة خاصة. ب- نظام المقاصة الآلي: ويتيح لمستخدميه الإيداع الآلي للمبالغ المنتظمة، وذلك بنقل المبالغ آليًا من حساب العميل في مصرفه إلى حسابات أصحاب الالتزامات في مصارفهم. ج- نظام دفع المشتريات الآلي: ويمكن عن طريقه أن تقوم المحلات التجارية من نقل ثمن ما يشتريه عملاؤها في الحال من حساباتهم في مصارفهم لحساب المحل في مصرفه، وذلك باستخدام بطاقة يقدمها العميل للمحل التجاري لسداد مشترياته. ثانيًا: منح القروض: وذلك بأن يقدم المصرف للأفراد أو الشركات أو الدول مبالغ مالية يسددها وفق الاتفاق الموقع عليه مع زيادة نسبة معينة يتم الاتفاق عليها في العقد. كذلك المصرف يقبل الودائع عنده مقابل دفع فوائد معينة للمودع يتم الاتفاق عليها في العقد.

الحكم الشرعي لأعمال المصارف (البنوك)

كما أن المصرف يقوم بالإقراض في حال تقديم الاعتماد المصرفي أو خصم الأوراق التجارية مقابل فوائد محددة. الحكم الشرعي لأعمال المصارف (البنوك): إن التعامل مع المصارف بالأعمال الخدمية التي يقدمها المصرف والتي جاء ذكرها في البند الأول جائزة شرعًا بشروط: 1 - أن لا يتم فيها دفع الفوائد من البنك أو العميل. 2 - إن ما يأخذه البنك إنما هو أجرة على عمله كما في خطاب الضمان والحوالات ويجب تحديده بقدر العمل الذي يؤديه البنك ولا يكون نسبة مئوية تزيد وتقل حسب المبلغ المطلوب الضمان فيه. 3 - أن يكون بيع العملات وشراؤها متفقًا مع ما جاء في أحكام الصرف في الشريعة الإِسلامية من حيث التماثل في العملة الواحدة وتمام القبض حالًا إذا اختلفت العملات. وقد تطرق مجمع الفقه الإِسلامي بجدة في قراره رقم 86 (3/ 9) إلى أعمال البنوك وما يجوز منها وما لا يجوز منها، كما أجاز مجمع البحوث الإِسلامية بالقاهرة في عام 1385 هـ أعمال البنوك من حسابات جارية وصرف الشيكات وخطابات الاعتماد والكمبيالات الداخلية التي يقوم عليها العمل بين التجار والبنوك في الداخل وأن ما يؤخذ من مال نظير هذه الأعمال ليس من الربا. كما صدرت الفتوى رقم (222) من اللجنة الدائمة في السعودية بجواز الإيداع في البنوك التي تتعامل بالربا لكن بدون فائدة بشرط أن يخاف عليها من الضياع بسرقة أو نصب ونحوها.

أما التعامل مع المصرف البنك وفقًا لما جاء في البند (ثانيًا) وهو منح القروض أو قبول الودائع بفائدة أو تقديم الاعتماد للمصرف وخصم الأوراق التجارية مقابل فوائد، فإن ذلك غير جائز شرعًا, لأنه من الربا وهو محرم، جاء في قرار مجمع البحوث الإِسلامية بالقاهرة عام 1385 هـ. الفائدة على أنواع القروض كلها محرم لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي, لأن نصوص الكتاب والسنة في مجموعها قاطعة في تحريم النوعين. وجاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي بجدة رقم 10 (10/ 2) أن كل زيادة أو فائدة على الدين الذي حل أجله وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة أو الفائدة على القرض منذ بداية العقد، هاتان الصورتان ربا محرم شرعًا. فينبغي للمسلم أن يحرص على أن يكون تعامله موافقًا للشريعة الإِسلامية، وأن يبتعد عن الربا, لأن الله حرمه؛ كما ينبغي عليه أن يتعامل مع المصارف التي تلتزم بأحكام الشريعة الإِسلامية حيث إنها لا تقبل التعامل بالربا أخذًا أو إعطاء. وبدلًا من إيداع الأموال لأجل أو حسابات التوفير مقابل فائدة معينة فإن للمسلم إيداع ما توفر لديه عن طريق المضاربة وهي الاشتراك في الربح وتحمل الخسارة، وهو معمول به في بعض المصارف التي تلتزم بالأحكام الشرعية في أعمالها (¬1). ¬

_ (¬1) الموسوعة العربية العالمية (23/ 363)، والجامع في فقه النوازل، د. صالح بن حميد (ص: 91)، وانظر قرار مجمع الفقه الإِسلامي بجدة رقم 86 (3/ 9).

5 - أخد الفوائد والاستثمار في المصارف

5 - أخد الفوائد والاستثمار في المصارف: تعطي البنوك فوائد بنسبة معينة على الأموال المودعة لديها إذا رغب المودع ذلك، ويتم الاتفاق على المدة والنسبة والشروط. كما أنها تقدم أموالًا إلى الراغبين في الاقتراض بشروط محددة ونسبة يتفق عليها الطرفان. وقد تم دراسة ذلك من قبل المجامع الفقهية الإِسلامية فجاء عن مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإِسلامي في دورته الثانية بجدة في 10/ 6 / 1406 هـ إن كل زيادة (فائدة) على المدين الذي حل أجله وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة (الفائدة) على القرض منذ بداية العقد هاتان الصورتان ربا محرم. كما أصدر مجمع البحوث الإِسلامي بالقاهرة والمؤتمر العلمي للاقتصاد الإِسلامي بمكة المكرمة ومؤتمر الفقه الإِسلامي بالرياض فتاوى بأن الفوائد هي الربا المحرم. وكذلك أفتى كثير من علماء المسلمين في هذا العصر بأن الفوائد البنكية محرمة، وأنها عين الربا، ومنهم أصحاب السماحة: الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبد الله بن محمَّد بن حميد، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ أبو الأعلى المودودي وغيرهم (¬1). لكن إذا حدثت فوائد من الودائع أو الاستثمار بفائدة فإنه لا يجوز للمسلم ¬

_ (¬1) توضيح الأحكام شرح بلوغ المرام لابن بسام (4/ 375). قرار المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإِسلامي بالأزهر (ص: 401)، وأبحاث هيئة كبار العلماء، وانظر فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية رقم (4047) رقم (222).

6 - الغرامة المالية الجزائية إذا تأخر عن السداد

أخذها بقصد تملكها, ولكن يتم توزيم الفوائد على الفقراء وفي وجوه الإحسان الأخرى (¬1). 6 - الغرامة المالية الجزائية إذا تأخر عن السداد: وهو أن يشترط الدائن (مصرفًا أو غيره) على المدين أن يدفع له مبلغًا من المال إذا تأخر عن السداد. الحكم الشرعي للشرط الجزائي بغرامة مالية على المدين عند تأخره عن السداد: لا يجوز للدائن سواء أكان مصرفًا أم غيره أن يشترط على المدين إذا تأخر عن السداد في المدة المحددة أن يدفع غرامة مالية جزائية محددة أو بنسبة معينة, لأن ذلك ربًا محرم. قرر مجمع الفقه الإِسلامي بمكة المكرمة في دورته الحادية عشرة لعام 1409 هـ عدم جواز ذلك، وقد أخذ به مجمع الفقه الإِسلامي في جدة بقراره 109 (3/ 12). وحيث إن الدائن سواء أكان البنك أو غيره يتطلب ضمانًا للعميل بوفاء ما التزم به، فإنه يمكن أن يتم الاتفاق بين العاقدين بتقديم رهن من المدين وعند إخلال المدين بوفائه مما التزم به من السداد فإن الدائن يبيع الرهن بما يستحقه، ويستلم استحقاقه ويعيد له الباقي. وكذلك يجوز اتفاق المتداينين على حلول سائر الأقساط عند امتناع المدين ¬

_ (¬1) ويرى الدكتور الطيار إنها تصرف في الأمور الممتهنة كدورات المياه والجسور والأنفاق ورصف الطرق ونحوها.

عن وفاء أي قسط من الأقساط المستحقة عليه ما لم يكن معسرًا وهو من لا يتوفر لديه مال زائد عن حوائجه الأصلية يفي بدينه نقدًا أو عينا.

باب السلم

باب السلم يندرج من النوازل الفقهية في باب السلم ما يأتي: 1 - السلم الموازي: يطلق السلم الموازي على عقد السلم الذي يلتزم فيه البائع بتسليم سلعة موصوفة في الذمة تنطبق مواصفاتها على السلعة التي يكون قد اشتراها بعقد السلم الأول ليتمكن من الوفاء بالتزامه دون أي ربط بين العقدين. ويعمل بالسلم الموازي في البنوك الإِسلامية، وذلك بأن تشتري البنوك مثلًا كمية محددة من القطن من المزارعين ثم تقوم باتفاق في عقد سلم جديد بصفتها بائعًا بعقد مع مصانع الغزل والنسيج، فتبيع لهم عن طريق السلم قطنًا بمواصفات البيع نفسها الذي اشترته في العقد الأول دون ربط بين العقدين، وهو عقد جديد حيث لم يكن معمولًا به في الماضي، وإنما استحدث نتيجة لتطور التجارة والصناعة وما اقتضاه التعامل بين الناس في هذا العصر. الحكم الشرعي للسلم الموازي: اختلف الفقهاء المعاصرون وفقًا لما يأتي: 1 - ذهب بعضهم إلى عدم جواز عقد السلم الموازي، وذلك أنه حيلة لبيع المسلم فيه قبل قبضه، ولأنه وسيلة لرفع الأسعار على المستهلكين. 2 - وذهب الجمهور منهم إلى جواز السلم الموازي، بشرط عدم الربط بين العقدين الأول والآخر الموازي له. الراجح: نرى أن الراجح هو القول بجواز السلم الموازي لأنه عقد مستقل لا علاقة له بالعقد الأول، وهو يحقق مصلحة المتعاملين فيه ولا يترتب عليه

مخالفة للقواعد الشرعية، بل إنه بديل جيد عن القروض الربوية التي يلجأ إليها أصحاب المشروعات وأصحاب المصانع في تمويل مشاريعهم، وليس في السلم الموازي بيع للمسلم فيه قبل قبضه لأنه لا يبيع السلع موضوع السلم الأول بذاتها، وإنما هو يتفق في عقد السلم الموازي على موصوف في الذمة تنطبق عليه مواصفات السلم الأول. وقد لا يتمكن من استلام المسلم فيه فيؤمن للمشتري سلعة أخرى من السوق بالمواصفات نفسها.

باب الاستصناع

باب الاستصناع يندرج تحت باب الاستصناع من النوازل ما يأتي: الاستصناع الموازي: وهو عقد استصناع سلعة معينة محددة الصفات تنطبق مواصفاتها على السلعة والبضاعة التي يكون قد استصنعها في العقد الأول دون ربط بين العقدين. ويعمل بالاستصناع الموازي في الوقت الحاضر بين المصارف الإِسلامية والمستثمرين، فهو لم يكن موجودًا من قبل، وإنما هو عقد جديد اقتضته ظروف التجارة والصناعة وحاجات الناس في هذا العصر. الحكم الشرعي لعقد الاستصناع الموازي: نرى أنه يجوز التعامل بعقد الاستصناع الموازي لأنه عقد مستقل لا علاقة له بالعقد الأول وهو عقد جديد اقتضته حاجة الناس في الوقت المعاصر، ولكن يجب أن يلتزم بالشروط الآتية: 1 - عدم الربط بين العقدين المتوازيين. 2 - أن يتملك السلعة ويقبضها قبضًا حقيقيًا قبل أن يسلمها للمستصنع في العقد الموازي. 3 - إبعاد العقدين عن التعامل بالربا المحرم. شراء العملات بالهامش (المارجن): ويقصد بذلك شراء العملات بسداد جزء من قيمتها نقدًا، ويتم تسديد الباقي بقرض مع رهن العملة محل الصفقة.

الحكم الشرعي لشراء العملات بالهامش

والهامش هو التأمين النقدي الذي يدفعه العميل للسمسار ضمانًا لتسديد الخسائر التي قد تنتج عن تعامل العميل مع السمسار. ويتم في هذه المعاملة فتح حساب بالهامش لدى أحد سماسرة سوق المال، يضع فيه العميل تأمينًا ويقرض السمسار العميل لتغطية الفرق بين قيمة الصفقة وبين القيمة المدفوعة كهامش. الحكم الشرعي لشراء العملات بالهامش: نرى أن التعامل بذلك لا يجوز لما يترتب عليه من مخالفات شرعية منها أن العقد جمع سلفًا وهو القرض وبيعًا وهو السمسرة بأجرة، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع رواه الخمسة. وهو ما أخذ به مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بجدة في دورته السابعة 1412 هـ وقد جاء فيه: "أنه لا يجوز شراء السهم بقرض ربوي يقدمه السمسار أو غيره للمشتري لقاء رهن السهم لما في ذلك من المراباة وتوثيقها بالرهن، وهما من الأعمال المحرمة بالنص على لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه"، وأخذ به كذلك المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإِسلامي في دورته الثامنة عشرة التي عقدت في مكة المكرمة بتاريخ 10 - 14/ 3 / 1427 هـ.

باب القرض

باب القرض 1 - حكم تغير قيمة العملة وأثره في سداد الدين أو القرض: وذلك بأن تكون في عصر بقيمة مرتفعة ثم تقل قيمتها وقت السداد، مما يؤدي إلى خفض قيمة النقود وقوتها الشرائية (¬1)، أو يحدث تضخم وهو زيادة متواصلة في الأسعار في كل جوانب اقتصاد الدولة. اختلف الفقهاء في ذلك كما يأتي: 1 - ذهب بعض العلماء إلى أن على المدين أو المقترض أن يسدد قيمة العملة وقت الاستدانة أو الاستقراض، قال ابن عابدين في رسائله (¬2): "عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض وعليه الفتوى". جاء في حاشية الروض المربع: "واختار شيخ الإِسلام ابن تيمية وابن القيم رد القيمة" (¬3). 2 - وذهب الجمهور من الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى أن على المدين أو المقترض رد مثل ما استدانه أو اقترضه ولا تأثير لتغير قيمة العملة زيادة أو نقصًا (¬4). وهو ما أخذ به مجمع الفقه الإِسلامي بجدة بقراره رقم 42 (4/ 5) وقد ¬

_ (¬1) الموسوعة العربية العالمية (التضخم المالي) (6/ 469) الطبعة الثانية. (¬2) رسائل ابن عابدين (2/ 60). (¬3) حاشية الروض المربع، عبد الرحمن بن قاسم (5/ 43). (¬4) رسائل ابن عابدين (2/ 60)، وبدائع الصنائع للكاساني (5/ 542)، والمدونة للإمام مالك (8/ 153)، والمغني لابن قدامه (6/ 441). وانظر: بحوث في الاقتصاد الإِسلامي للشيخ عبد الله المنيع (ص: 454).

2 - تسديد القرض بعملة أخرى غير المقترضة أكثر مما اقترضه

جاء فيه: "العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما، هي بالمثل وليس بالقيمة, لأن الديون تقضى بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة، أيًا كان مصدرها بمستوى الأسعار". الراجح: أن الرد يكون بالمثل لا بالقيمة، لكن لو كان التغير في السعر فاحشًا فإنه ينبغي أن ينظر إلى مصلحة الطرفين، بحيث يكون الرد بالقيمة فيما زاد عن الثلث, لأن الشارع اعتبر الثلث معيارًا في كثير من الأمور كالوصية وحدوث الجائحة وغيرها، وفي هذا توسط بين القائلين برد المثل مطلقًا وقول من قال برد القيمة مطلقًا. والله أعلم. 2 - تسديد القرض بعملة أخرى غير المقترضة أكثر مما اقترضه: إذا اقترض شخص مبلغًا من المال كعشرة آلاف ريال سعودي مثلا لمدة معينة وجب عليه أن يرد القرض بالعملة نفسها والمبلغ نفسه فقط، وذلك ابتعادًا عن الربا المحرم، لكن لو أن المقترض رد أكثر من القرض من غير شرط ولا طلب من المقرض وكان بطيب نفس من المقترض فذلك جائز لحديث: "خياركم أحسنكم قضاء للدين" (¬1). وإذا قبل الطرفان عند السداد الرد بعملة أخرى غير العملة المقترضة فلا مانع من ذلك، على أن يكون الرد بقيمة العملة يوم السداد، وأن يتم القبض في ¬

_ (¬1) انظر فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية (3197) ورقم (4047) حيث جاء فيها: "أن الفائدة التي تأخذها البنوك من المقترضين والفوائد التي تدفعها للمودعين عندها من الربا الذي ثبت تحريمه بالكتاب والسنة والإجماع"، والحديث أخرجه الترمذيُّ والنسائيُّ كلاهما عن أبي هريرة حديث حسن الجامع الصغير للسيوطى (2/ 616)، ورقمه (3989).

3 - خصم الأوراق التجارية: (الكمبيالة- السند- حق مالي آخر)

المجلس قبل التفرق، وذلك كأن يقترض عشرة آلاف ريال سعودي ويردها بما يساويها مصريًّا وقت السداد. وقد ورد جواز ذلك في الفتوى (6903) من اللجنة الدائمة في السعودية. 3 - خصم الأوراق التجارية: (الكمبيالة- السند- حق مالي آخر): وهو أن يتقدم المستفيد بالورقة التجارية ذات الأجل المحدد قبل حلول موعد وفائها إلى بنك معين ليحصل على قيمتها فيدفعها له البنك مقابل حسم مبلغ معين يتكون من فائدة المبلغ المذكور في الورقة التجارية من يوم الدفع حتى يوم الاستحقاق ومن عمولة خاصة يتقاضاها البنك نظير الخدمة التي يؤديها، ومن مصاريف التحصيل التي يتقاضاها البنك إذا كانت الورقة تدفع في مكان غير المكان الموجود به. حكم خصم الأوراق التجارية: إن عملية خصم الأوراق التجارية من قبيل تقديم قرض من البنك إلى المستفيد في الكمبيالة مثلًا مع تحويل المستفيد (البنك) على محرر الكمبيالة، ويترتب على ذلك الحكم الشرعي الآتي: 1 - إن ما يقتطعه البنك من قيمة الكمبيالة لقاء الأجل الباقي لموعد حلول الدفع مثلًا فائدة يتقاضاها على تقديم القرض للمستفيد وهو محرم, لأنه ربا (¬1). 2 - ما يقتطعه البنك كعمولة لقاء الخدمة جائز فهو مقابل عمل وخدمة، فهي أجرة له على قيامه بذلك، وتكون مبلغًا مقطوعًا لا نسبة ثابتة من المبلغ. ¬

_ (¬1) انظر فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية رقم (2933).

قبول الأوراق التجارية

3 - ما يأخذه البنك من العمولة لقاء تحصيل المبلغ في مكان آخر غير مكان البنك جائز, لأنها مقابل عمل وإجراءات لتحصيل الأوراق التجارية (¬1). قبول الأوراق التجارية: الاعتماد بالقبول: هو الاعتماد الذي يقدم فيه المصرف توقيعه وضماناته ليستفيد منها المعتمد له في الحصول على المال الذي يحتاج إليه. وذلك أن عملاء المصارف قد يجدون عند تحريرهم الشيك أو الكمبيالة أو السند الإذني أن من مصلحتهم تعزيز تلك الأوراق وإكسابها ثقة عن طريق الحصول على قبول المصرف وتوقيعه عليها. الشيك: ورقة تتضمن أمرًا صادرًا من شخص هو الساحب إلى شخص يسمى المسحوب عليه بأن يدفع بمجرد الاطلاع عليها مبلغًا من النقود لشخص ثالث هو المستفيد أو لإذنه أو لحامله. الكمبيالة: هي ورقة تجارية تتضمن أمرًا من شخص يسمى الساحب إلى شخص آخر هو المسحوب عليه، بأن يدفع مبلغًا معينًا من النقود في تاريخ معين، أو بمجرد الاطلاع لإذن شخص ثالث هو المستفيد أو حامل الورقة. السند الإذني: هو ورقة يتعهد محررها بمقتضاها بأن يدفع مبلغًا من النقود في تاريخ معين أو بمجرد الإطلاع لإذن شخص آخر هو المستفيد (¬2). ¬

_ (¬1) البنك اللاربوي في الإِسلام، محمَّد باقر الصدر (ص: 153)، دار التعارف للمطبوعات، بيروت الطبعة السابعة 1400 هـ. (¬2) الموسوعة العربية الميسرة (ص: 1107، 1479).

الحكم الشرعي للأوراق التجارية

الحكم الشرعي للأوراق التجارية: 1 - بالنسبة لقبول المصرف للشيكات التي يقدمها إليه ساحبوها لكي يعززها بتوقيعه تسهيلًا لتداولها حيث يتحمل مسؤوليتها أمام من سوف يستلمها كوفاء لدينه، ويعد تعهدًا من المصرف بقيمة الشيك للمستفيد، وهذا العمل تتقاضى عليه البنوك أجرًا، وهو بمثابة الوكالة والحوالة، وكلاهما جائز فيجوز ما قيس عليهما، وأخذ البنك الأجر هو مقابل أعمال إدارية فلا مانع منه. 2 - الكمبيالة والسند الإذني: من الباحثين من يلحق الكمبيالة بالحوالة، وما دام عقد الحوالة جائزًا فكذا ما ألحق فيه، ويكيف السند الإذني على أنه وثيقة بدين، وهذا جائز لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. ولكن الأولى هو القول بأن الكمبيالة والسند الإذني نوع من التعهد والالتزام من قبل البنك، يلزم البنك بموجب تعهده أن يدفع ما يستحق للدائن إذا تخلف المدين عن الوفاء. وقد انضمت ذمة الضامن وهو البنك إلى ذمة المدين، وترتب على ذلك وجوب الأداء لتخلف المدين عن الوفاء، ويبقى الدين في ذمة المدين الأصلي، ويرجع به البنك على المدين، وهذا هو معنى الضمان في الفقه الإِسلامي، غير أنه يجب استبعاد الفائدة لأنها ربا. شراء العملات بالهامش (المارجن): ويقصد بذلك شراء العملات بسداد جزء من قيمتها نقدًا، ويتم تسديد الباقي بقرض مع رهن العملة محل الصفقة. والهامش هو التأمين النقدي الذي يدفعه العميل للسمسار ضمانًا لتسديد الخسائر التي قد تنتج عن تعامل العميل مع السمسار.

الحكم الشرعي لشراء العملات بالهامش

ويتم في هذه المعاملة فتح حساب بالهامش لدى أحد سماسرة سوق المال، يضع فيه العميل تأمينًا، ويقرض السمسار العميل لتغطية الفرق بين قيمة الصفقة وبين القيمة المدفوعة كهامش. الحكم الشرعي لشراء العملات بالهامش: نرى أن التعامل بذلك لا يجوز لما يترتب عليه من مخالفات شرعية منها أن العقد جمع سلفًا وهو القرض، وبيعًا وهو السمسرة بأجرة، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سلف وبيع رواه الخمسة. وهو ما أخذ به مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بجدة في دورته السابعة 1412 هـ، وقد جاء فيه: "أنه لا يجوز شراء السهم بقرض ربوي يقدمه السمسار أو غيره للمشتري لقاء رهن السهم، لما في ذلك من المراباة وتوثيقها بالرهن وهما من الأعمال المحرمة بالنص على لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وأخذ به كذلك المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإِسلامي في دورته الثامنة عشرة التي عقدت في مكة المكرمة بتاريخ 10 - 14/ 3 / 1427 هـ. 5 - كفالة الاستقدام: نتيجة لحاجة بعض الدول استقدام عمال فنيين وغيرهم للمساعدة في تنمية وتطوير تلك البلاد حيث إن سكان تلك الدول قد لا يستطيعون القيام ببعض الأعمال إما لأنها تحتاج تخصصات معينة أو لأن عدد السكان لا يكفي للوفاء بمتطلبات التنمية في أوجهها المختلفة، فلذلك وضعت الأنظمة والتنظيمات التي تنظم وجود غير المواطنين في أراضيها ممّن قدموا لأداء أعمال معينة.

الحكم الشرعي لكفالة الاستقدام

وكفالة الاستقدام ليس فيها نص يعرفها وما يراد منها، ولكن يمكن صياغة تعريف لها من التعليمات والشروط الخاصة بها فيقال: "هي عقد بمقتضاه يكفل شخص تنفيذ التزام المكفول وما عليه من واجبات إذا لم يف بذلك المكفول، والتزام إحضاره عند الطلب". الحكم الشرعي لكفالة الاستقدام: بدراسة الأنظمة والتعليمات الواردة في كفالة الاستقدام يتضح أنها من قبيل كفالة النفس، وكفالة النفس جائزة في الفقه الإِسلامي فكذا ما ألحق فيها. والأمور التي أصدرتها الجهات المختصة لتنظيم الاستقدام وما يجب فيه من شروط هي أمور تنظيمية تخدم مصلحة العامل ورب العمل، وتوفر الأمن والطمأنينة للمجتمع، فيجب التزامها وتطبيقها من الكفلاء المستقدمين والعمال. ويتفرع على القول بكفالة الاستقدام وصحتها ما يأتي: 1 - أنه قد يتفق الكفيل مع العامل على أن يعمل عنده بسعر أقل من السعر السائد، وهذا جائز لأنه اتفاق عن رضا منهما. 2 - أنه قد يتفق الكفيل مع العامل على أن يقوم الكفيل بالأعمال الإدارية وتأمين ما يحتاج إليه العمل من أدوات وأخشاب وغيرها، وأن يقوم العامل بالعمل ببدنه ويتفقا على نسبة معينة من الدخل للكفيل، وهذا جائز لأنه من باب المشاركة، والأصل في العقود الإباحة والجواز، وذلك إن لم يخالف نظامًا قد وضع لمصلحة البلد الذي يعملان فيه. 3 - أنه قد يتفق الكفيل مع العامل على أن يترك الكفيلُ العاملَ يعملُ كيف يشاء وعند من شاء، ويأخذ الكفيل مقابل ذلك مبلغًا من المال أو نسبة من دخل

6 - جمعيات الموظفين

العامل، وهذا لا يجوز لأنه يقلل عامل المشاركة بين الكفيل والعامل، فيكون أخذًا للمال دون استحقاق له. كما أن ولي الأمر قد منع ذلك، ووضع تعليمات وضوابط للحد منه، وذلك إبعادًا لما يترتب عليه من مشاكل اقتصادية وأمنية، فيجب التقيد به وعدم مخالفته رعاية للمصالح ودرءًا للمفاسد، وطاعة ولي الأمر واجبة فيما فيه المصلحة وليس فيه معصية لله ورسوله (¬1). 6 - جمعيات الموظفين: وهي أن يتفق عدد من الموظفين على أن يدفع كل واحد منهم مبلغًا من المال مساويًا في العدد لما يدفعه الآخرون شهريًا، ثم يدفع المبلغ كله لواحد منهم، وفي الشهر الثاني يدفع للآخر، وهكذا حتى يتسلم كل واحد منهم مثل ما تسلمه من قبله دون زيادة أو نقص. حكم التعامل بجمعيات الموظفين: 1 - ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى عدم جوازها لأنها من باب قرض جر نفعًا، وقد ورد في الحديث: "كل قرض جر نفعًا فهو ربا" (¬2). 2 - وذهب عامة العلماء المعاصرون ومنهم هيئة كبار العلماء في السعودية ¬

_ (¬1) بحث أُعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء وذلك بناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الرابعة عشرة المنعقدة في شهر شوال 1399 هـ بمدينة الطائف. وانظر في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية رقم (4505)، ورقم (11617)، ورقم (13081) حيث منعت ذلك لأنه أكل للمال بالباطل ولأنه مخالفة لأنظمة الدولة التي وضعت لرعاية المصلحة العامة. (¬2) رواه أبو الجهم والحارث في مسنده عن علي بن أبي طالب مرفوعًا، نصب الراية (4/ 60)، قال الألباني: "ضعيف جدًا" الإرواء (5/ 236).

بالأغلبية إلى جوازها لأنها من التكافل والتعاون على الخير، وليس فيها مخالفة شرعية، لأن المنفعة التي تحصل للمقرض لا تنقص المقترض شيئًا من ماله، وإنما يحصل المقترض على منفعة مساوية لها، ولأن فيها مصلحة لهم جميعًا من غير ضرر على واحد فيهم، والشرع المطهر لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها على أحد، إنما ورد بمشروعيتها، بل ذهب بعض المعاصرين إلى القول بأنها مندوب إليها لما فيها من التعاون على البر والتقوى (¬1). الراجح: نرى أن التعامل بذلك جائز شرعًا حيث أنه يحقق المصلحة ولا يترتب عليه مضرة والله أعلم. ¬

_ (¬1) فقه النوازل، د. محمَّد الجيزاني (2/ 325).

باب الرهن

باب الرهن يندرج تحت هذا الباب نوازل منها: 1 - رهن الشيك: يقوم بعض الناس بشراء سلعة ما أو اقتراض مبلغٍ ورهن شيك على أحد المصارف مؤجل الدفع إلى مدة معينة، وعند ذلك يجوز رهن الشيك إذا كان المصرف المحول عليه الشيك قد التزم بالسداد في وقت محدد في الشيك. جاء في فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية رقم (7944): "إذا كان الشيك مصدقًا بالقبول من البنك المحول عليه جاز جعله رهنا". 2 - رهن الأسهم: التعامل بالأسهم بيعًا وشراء من الأمور المستجدة، وقد بينا حكم ذلك في باب البيع، ومما يندرج تحت بحث التعامل بالأسهم رهنها، وحيث إن ملكية الأسهم وهي جزءٌ مشاعٌ من رأس مال الشركة يجوز بيعه كما أن الصحيح من قولي العلماء أنه يجوز رهن المشاع، فيجوز رهن الأسهم لقوله تعالي: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، والآية عامة تشمل المشاع وغيره. والقاعدة أن كل ما جاز بيعه جاز رهنه، جاء في المغني: "وكل عين جاز بيعها جاز رهنها، لأن مقصود الرهن الاستيثاق بالدين للتوصل إلى استيفائه من ثمن الرهن إن تعذر استيفاؤه من ذمة الراهن، وهذا يتحقق في كل عين جاز بيعها" (¬1). ¬

_ (¬1) المغنى لابن قدامة (6/ 455).

رهن الأسهم المحرمة

وقد قرر مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بجدة في مؤتمره السابع المنعقد في الفترة من 7 - 12 ذي القعدة 1412 هـ جواز رهن الأسهم إذا كانت الشركة ذات أنشطة وأغراض مشروعة. رهن الأسهم المحرمة: إذا كانت الأسهم في مصارف ربوية أو في شركات تتعامل في إنتاج المحرمات أو المتاجرة بها فهي أسهم محرمة فلا يجوز التعامل بها بيعًا أو شراءً أو رهنا. وقد أخذ بذلك مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي في مؤتمره السابع المنعقد بتاريخ 7 - 12 ذي القعدة 1412 هـ، وقد جاء فيه لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم كالتعامل بالربا أو إنتاج المحرمات أو المتاجرة بها. وجاء فيه كذلك: "لا يجوز شراء السهم بقرض ربوي يقدمه السمسار أو غيره للمشتري لقاء رهن السهم"، وحيث إنه لا يجوز بيع تلك الأسهم ولا شراؤها فإنه لا يجوز رهنها.

باب الضمان والكفالة

باب الضمان والكفالة من النوازل في هذا الباب: 1 - ضمان المتلفات في حال نشوب الحريق: إذا قام رجال الإطفاء أو غيرهم بمباشرة الحادث لإطفاء النار وترتب على عملهم هذا تلف بعض محتويات المنازل والمتاجر من غير قصد فإنه لا ضمان فيه، لأن مباشرة العمل لإطفاء الحريق مأذون به شرعًا، وما يترتب على المأذون فيه فإنه غير مضمون. وقد جاءت بذلك الفتوى رقم (19773) من فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية. 2 - كفالة من يقترض من المصرف (البنك): إذا كان الاقتراض من البنك بفائدة فإنه لا يجوز كفالة المقترض، لأن القرض بفائدة ربا، والكفالة مساعدة للمقترض وهي من التعاون على الإثم، فلا تجوز لقوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. 3 - الضمان في الاعتمادات المصرفية التي تقدمها البنوك: الاعتماد المستندي: هو تعهد البنك للمستفيد بناء على طلب فاتح الاعتماد وبموجبه يعتمد البنك مبلغًا من المال للمستفيد يدفع له مقابل سندات محددة تبين شحن سلعة معينة خلال فترة معينة. والاعتماد المستندي عملية مهمة تعرفها التجارة الخارجية على وجه الخصوص، وسمي بذلك لأنه يتوجب تقديم مستندات ووثائق تثبت انتقال الملكية في السلعة

مستحقات البنك لقاء عمله

من البائع للمشتري، وهو قسمان، اعتماد استيراد واعتماد تصدير. مستحقات البنك لقاء عمله: يستفيد البنك مبلغًا لقاء ذلك، وهو نوعان: 1 - ما يعد أجرًا لقاء ما قام به من الخدمات والأعمال الإدارية ومتابعة العملية حتى نهايتها. 2 - ما يعد فائدة على المبلغ المغطى من قيمة البضاعة التي دفعها البنك إلى المصدر على أساس أن هذا المبلغ غير المغطى يعتبر قرضًا من قبل البنك يتعاطى عليه فائدة (¬1). الحكم الشرعي للاعتماد المستندي: اختلفت آراء الباحثين في طبيعة هذا العقد: فمنهم من يلحقه بعقد الضمان والكفالة ومنهم من يلحقه بالوكالة ومنهم من يلحقه بعقد الحوالة، ومنهم من يرى أنه عقد جديد غير مسمى، فهو عقد من نوع خاص وله أحكامه الخاصة، ونشأ وتطور لخدمة حاجات التجارة، ومن آثاره أنه ينشئ التزامًا لصالح البائع يصبح مستقلًا عن مصدره. الراجح: بدراسة ذلك نرى أن الاعتماد إنما يقوم أساسًا على الضمان وكفالة البنك للمشتري، وهو أقرب العقود وإن كان به شبه من عقود أخرى. ولا مانع من قيام البنك بذلك والتعهد للبائعين بسداد الثمن المستحق لهم على المشترين بعد استيفاء المطلوب وما يأخذه البنك لقاء القيام بتلك الأعمال الإدارية والخدمات التي يقدمها لا بأس به شرعًا، لأنه لقاء خدمات فعليه. ¬

_ (¬1) المصارف والأعمال المصرفية د. غريب الحمال (ص: 100).

4 - الاعتماد المصرفي بالضمان

أما ما يتقاضاه البنك من فوائد لقاء قيامه بضمان المشتري وإقراضه فإنه غير جائز، وهو من الربا المحرم ويتعين استبعاده. 4 - الاعتماد المصرفي بالضمان: ويندرج تحته وسائل هي: 1 - الكفالة: وهي عقد بمقتضاه يكفل البنك تنفيذ التزام عميله إذا لم يف به العميل نفسه. والكفالة مشروعة غير أنه لا بد من إبعاد ما هو مخالف للشريعة الإِسلامية، مما يدخل ضمنا في كفالة البنك لعملائه، كالنسبة الثابتة التي تؤخذ فائدة على الكفالة وتتعامل بها البنوك، ويكون ما يأخذه البنك من أجرة على قيامه بالأعمال والخدمات البنكية فقط، لأنها خدمات فعلية (¬1). 2 - خطابات الضمان (الضمانات البنكية): وهي عبارة عن تعهد كتابي يتعهد بمقتضاه البنك بكفالة أحد عملائه في حدود مبلغ معين تجاه طرف ثالث بمناسبة التزام ملقى على عاتق العميل المكفول، وذلك ضمانًا لوفاء هذا العميل بالتزامه تجاه ذلك الطرف خلال مدة معينة، على أن يدفع البنك المبلغ المطلوب عند أول مطالبة خلال سريان خطاب الضمان رغم معارضة المدين. وخطابات الضمان أنواع: فمنها خطاب الضمان الابتدائي، وخطاب الضمان النهائي، وخطاب الضمان للتمويل عن دفعات مقدمة، وخطابات الضمان الأخرى (¬2). الحكم الشرعي لخطابات الضمان: ذهب بعض الباحثين إلى تحريم أخذ البنك أجرة وعمولة على قيامه بإصدار خطابات الضمان، وذهب آخرون إلى جواز أخذ البنك عمولة وأجرة على ¬

_ (¬1) أعمال البنوك والشريعة الإِسلامية د. محمَّد مصلح (ص: 45). (¬2) الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإِسلامية (2/ 309).

خطابات الضمان لقاء ما يؤديه من خدمة وأعمال (¬1). وقد جاء الكلام عن ذلك بقرار مجمع الفقه الإِسلامي بجدة رقم 12 (12/ 2). الراجح: يجوز أخذ البنك أجرة على قيامه بخطابات الضمان، وذلك مقابل قيامه بالأعمال الإدارية اللازمة لذلك. ولا يجوز للبنك أخذ فائدة على المبالغ التي يسددها عن عميله في حالة السداد، لأن الفائدة ربا وقد حرم الله الربا فيجب اجتنابه. ¬

_ (¬1) نظرية الضمان الشخصي (الكفالة) د. محمَّد الموسى (ص: 695).

باب الحوالة

باب الحوالة يندرج تحت هذا الباب من النوازل ما يأتي: 1 - تحويل العملات من بلد إلي آخر: يجوز تحويل عملة دولة إلى عملة دولة أخرى ولو تفاوت السعر بينهما لاختلاف الجنس، ويشترط في ذلك التقابض في المجلس، ويقوم قبض الشيك أو سند الحوالة مقام القبض في المجلس، وقد جاءت بذلك فتوى اللجنة الدائمة في السعودية رقم (4721). 2 - الحواله البنكية (السفتجة) (¬1): وهي أن يدفع الإنسان نقودًا للبنك ثم يعطيه شيكًا لاستلام النقود في بلد آخر بذات العملة نفسها، أو بقيمتها عملة أخرى، وقد يتم التحويل عن طريق الفاكس أو التليفون أو غيرها من أجهزة الاتصال الحديثة. وتلك الأعمال تشبه السفتجة التي تكلم الفقهاء عنها، واختلفوا في حكمها وفقًا للآتى: * يرى جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية ورواية عن أحمد أن السفتجة لا يجوز العمل بها لكونها قرضًا جر نفعا، فهي عندهم من باب القرض الذي جر نفعًا، فكأنه أقرض المال واستفاد أمن خطر الطريق فلا يجوز. * ويرى الحنابلة في رواية أنها جائزة لأنها ليست من باب القرض وإنما هي من باب الحوالة، والحوالة جائزة لكونها مصلحة لهما جميعًا، والأصل في العقود ¬

_ (¬1) السفتجة: بضم السين وسكون الفاء وهي كلمة فارسية معربة، وصورتها: أن يدفع شخص مالًا إلى آخر ليعطيه به خطابًا ليقبض بدلها في بلد آخر وكان الدافع لهم على عمل ذلك الأمن من خطر الطريق حيث يكون في نقل النقود خوفًا عليها وعلى حياة من هي معه.

الإباحة، وقد ورد أن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- كان يقبض النقود من الرجل في مكة ويكتب له خطابًا إلى أخيه مصعب في العراق ليسلمه بدلها، وحكاه ابن المنذر عن علي وابن عباس والحسن وابن الزبير وابن سيرين والثوري وأحمدُ وإسحاق (¬1). الراجح: نرى أن الراجح من ذلك هو جواز هذا العمل لأنه من باب الحوالة وليس من باب القرض، يؤيد ذلك أنه يطلق عليها الآن في العمليات البنكية (الحوالة البنكية)، وقد أجاز ذلك مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإِسلامي في قراره المتخذ في دورته الحادية عشرة برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-. وقد جاء في القرار: 1 - يقوم تسليم الشيك مقام القبض عند توفر شروطه في مسألة صرف النقود بالتحويل في المصارف. 2 - يعتبر القيد في دفاتر المصرف في حكم القبض لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى، سواء كان الصرف بعملة يعطيها الشخص للمصرف، أو بعملة مودعة فيه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) حاشية بن عابدين (5/ 370)، وحاشية الدسوقى (3/ 225)، ونهاية المحتاج (4/ 225)، والمغنى لابن قدامة (6/ 437).

باب الشركة

باب الشركة يندرج تحت هذا الباب النوازل الآتية: 1 - الشركة المتناقصة: هي شركة بين طرفين في مشروع ذي دخل يتعهد فيها أحدهما بشراء حصة الطرف الآخر تدريجيًا سواء كان ثمن الشراء من حصة الطرف المشتري في الدخل أم غيره. خصائص الشركة المتناقصة: 1 - أساس قيامها هو العقد ويسهم فيه كل منهما بحصة في رأس مال الشركة، سواء أكان إسهامه نقدًا أم عينًا بعد تقويمها. 2 - تختص الشركة بوجود وعد ملزم من أحد الطرفين بأن يتملك حصة الطرف الآخر على أن يكون للطرف الآخر الخيار. 3 - أن يتحمل كل من الشريكين الخسارة بقدر حصته في الشركة، وأن يتم توزيع الأرباح بينهما بنسب شائعة وفقًا لاتفاقهما. الحكم الشرعي: هذا النوع من الشركات يعد من النوازل وهي جائزة ومشروعة إذا تم فيها التقيد بالشروط والضوابط الواردة في الشركات المقرة شرعًا. وقد أجازها مجمع الفقة الإسلامي بجدة في قراره رقم 136 (2/ 15) شريطة أن تلتزم بالأحكام العامة للشركات وأن تراعي ضوابط ذكرها.

2 - الشركة القابضة

2 - الشركة القابضة: هي الشركة التي تملك أسهمًا أو حصصًا في رأس مال شركة أو شركات أخرى مستقلة عنها بنسبة تمكنها قانونًا من السيطرة على إدارتها ورسم خططها العامة. الحكم الشرعي لهذه الشركة: نرى أن هذا النوع من الشركات جائز، لأنها تنطبق عليها القواعد والشروط الشرعية لإقامة الشركات، ويجب أن تلتزم بما ورد في الشريعة الإِسلامية وتعاملها أخذًا وعطاء. 3 - الشركة متعددة الجنسيات: هي شركة تتكون من مجموعة من الشركات الفرعية، لها مركز أصلي يقع في إحدى الدول، على حين تقع الشركات التابعة له في دول أخرى مختلفة وتكتسب جنسية تلك الدولة، ويرتبط المركز مع الشركات الفرعية من خلال استراتيجية اقتصادية متكاملة ترمي إلى تحقيق أهداف استثمارية معينة. الحكم الشرعي لهذه الشركة: الأصل في إقامة الشركات الجواز والصحة، وما دام أنها تنطبق عليها قواعد وشروط الشركات الواردة في الفقه الإِسلامي وتلتزم في تعاملها بما ورد الشرع بجوازه، فلا مانع من القول بجوازها وصحتها. 4 - المضاربة عن طريق المصارف أو المؤسسات المالية: وهي التي يعهد فيها المشاركون (المساهمون) إلى المصرف باستثمار أموالهم بما يراه محققًا للمصلحة.

الحكم الشرعي

الحكم الشرعي: تجوز المضاربة عن طريق المصارف أو المؤسسات المالية، وقد أشار الفقهاء إلى جواز تعدد أرباب المال وجواز اشتراك المضارب معهم في رأس المال على أن يتم التقيد فيها بالشروط والضوابط الشرعية المقررة في المضاربة. 5 - سندات أو صكوك المقارضة: هي أداة استثمارية تقوم على تجزئة رأس مال المضاربة بإصدار صكوك ملكية برأس مال المضاربة على أساس وحدات متساوية القيمة ومسجلة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصًا شائعة في رأس المال. وقد اشترط مجمع الفقه الإِسلامي بجدة بقراره رقم 30 (5/ 4) شروطًا وعناصر كي تكون مقبولة شرعًا. ونرى أنه يمكن تصحيح التعامل بالسندات بعد استبعاد الفائدة الثابتة وإنما يكون الدخول في المشروع أيًا كان بالاشتراك فقط بما يشتريه كرأس مال. ويستفيد من الأرباح المتحققة بنسبة ما يملكه في رأس المال، وإن لم يتحقق الربح فلا يستحق شيئًا، والله أعلم. 6 - التنضيض والتقويم للأموال المشتركة: في اللغة يقال نضَّ الماء سال قليلًا قليلًا، وأنضَّ الحاجة أنجزها وتنضيض الشيء إخراجه شيئًا فشيئًا يقال: تنضضَّ منه حقه، استوفاه شيئًا بعد شيء (¬1). واصطلاحًا: هو نوعان: حقيقي وحكمي. ¬

_ (¬1) المعجم الوسيط مادة: "نضَّ".

الحكم الشرعي للتنضيض والتقويم الحكمي للشركات وغيرها

التنضيض الحقيقي: هو بيع الموجودات وتحصيل الديون بحيث تتم التصفية النهائية للمنشآت والصناديق الاستثمارية وغيرها. التنضيض الحكمي: هو تقويم الموجودات من عروض وديون بقيمتها النقدية لتحديد أو توزيع أرباح المضاربة المشتركة أو الشركات بوجه عام. الحكم الشرعي للتنضيض والتقويم الحكمي للشركات وغيرها: التنضيض الحكمي من الأمور النازلة حيث لم يكن موجودًا من قبل وقد تناوله العلماء: 1 - ذهب بعضهم إلى أنه لا يكفي التنضيض الحكمي لاعتبار توزيع الربح نهائيًا بمقتضى التقويم، لأنه لا يلزم إلا بالقسمة، والقسمة لا يمكن أن تتم إلا بعد التنضيض الحقيقي، ذلك أنه يترتب على توزيع الربح نهائيًا ظلم إذا بيعت العروض بخلاف ما قومت به. 2 - وذهب الأكثرون إلى جواز العمل بالتنضيض الحكمي ويكون هذا التوزيع نهائيًا، على أن يتحقق الإبراء بين الشركاء صراحة أو ضمنًا، ومستند ذلك الأحاديث الواردة ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا" (¬1)، وما يحدث من تقويم عروض التجارة للزكاة وقسم الأموال المشتركة، ويتم إجراء التنضيض الحكمي من قبل أهل الخبرة في كل مجال بحيث لا يقل عددهم عن ثلاثة، وإن تباينوا في التقدير أخذ في التقدير المتوسط فيهم. جاء ذلك بقرار مجمع الفقه الإِسلامي بمكة المكرمة في دورته السادسة عشرة لعام 1422 هـ. الراجح: نرى أن القول بالتنضيض الحكمي واعتباره أولى لأنه يتمشى مع ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في الحدود وكذلك مسلم في الحدود.

ما جاء في الشريعة الإِسلامية ولا يخالفه, وهو يحقق المصلحة كما أن الحاجة إليه في هذا العصر موجوة بل قوية أحيانًا, والله أعلم.

باب الإجارة

باب الإجارة 1 - التأجير المنتهى بالتمليك: الإجارة المنتهية بالتمليك وموقف العلماء منها: أولًا: تعريفها: لم تكن الإجارة المنتهية بالتمليك معروفة من قبل، ولكنها أحدثت في هذا العصر، وأصبح الناس يتعاملون فيما بينهم بهذا النوع من الإجارة، ولا سيما البنوك والشركات، ولا بد من الوقوف على حقيقة هذا النوع من الإجارة وبيان حكم الشرع فيه، وقد اختلفت أقوال العلماء المعاصرين في بيان تعريفها. وأحسن ما ذكر في تعريفها أنها: "عقد بين طرفين يؤجر فيه أحدهما الآخر سلعة معينة مقابل أجرة معينة يدفعها المستأجر على أقساط خلال مدة محددة تنتقل بعدها ملكية السلعة للمستأجر عند سداده لآخر قسط بعقد جديد" (¬1). والهدف من هذا التعامل هو ضمان حق المصرف أو الشركة أو المؤسسة لتسديد الطرف الثاني ما التزم به من مبالغ للطرف الأول. ثانيًا: صورة هذا النوع من الإجارة: هي أن يتفق طرفان على أن يقوم أحدهما بتأجير الآخر سلعة معينة (عقار- آلة- سيارة) مقابل أجرة معينة تدفع على أقساط مفرقة في مدة محددة وعند نهاية المدة وسداد جميع الأقساط المتفق عليها في عقد الإجارة ينتهي عقد الإجارة بتملك المستأجر لتلك السلعة، بناء على شرط اقترن بعقد الإجارة (¬2). ¬

_ (¬1) الإجارة المنتهية بالتمليك، خالد عبد الله الحاف (ص: 48). (¬2) المرجع السابق (ص: 5).

ثالثا: بيان الحكم الشرعي لهذا النوع من العقود

ثالثًا: بيان الحكم الشرعي لهذا النوع من العقود: هذا العقد محل خلاف بين العلماء المعاصرين، وقد صدرت فتوى من هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية بالأغلبية في عدم جواز هذا النوع من العقود، وهذا هو رأي سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمَّد بن صالح العثيمين رحمهما الله. وصدر قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي المنعقد بالكويت عام 1409 هـ، وبقراره رقم 44 (6/ 5) بشأن الإيجار المنتهي بالتمليك، وجاء فيه: "الأولى الاكتفاء عن صور الإيجار المنتهي بالتمليك ببدائل أخرى وذكرها، وحجة من منع التعامل بهذا العقد لما فيه من جمع بين عقدين مختلفين (إجارة وبيع) في وقت واحد على عين واحدة وفي زمن واحد". وقد أخذ بذلك مجمع الفقه الإِسلامي في جدة بقراره رقم 110 (4/ 12)، وكذلك هيئة كبار العلماء في السعودية بقرارها رقم 198 وتاريخ 6/ 11 / 1420 هـ، وإن التعامل في مثل ذلك أدى إلى تساهل الفقراء في الديون حتى أصبحت ذمم كثير منهم مشغولة منهكة، وأنه ربما يؤدي إلى إفلاس بعض الدائنين لضياع حقوقهم في ذمم الفقراء. وهو يفهم كذلك مما صدر عن الندوة الفقهية الأولى لبيت التمويل الكويتي الصادرة في عام 1407 هـ من توصيات وفتاوى. وقد جاء فيما صدر عن هيئة كبار العلماء في السعودية صورة لتصحيح العقد، وذلك بأن يكون العقد في مثل ذلك بيعًا ويرهن السلعة المشتراة والاحتفاظ بوثيقة العقد واستمارة السيارة ونحو ذلك حتى يتم السداد ثم يسلمها البائع للمشتري.

2 - صكوك (سندات) الإجارة

أما مجمع الفقه الإِسلامي بجدة فقد وضع لإجازة الإيجار المنتهي بالتمليك ضوابط منها: 1 - أن يكون العقدان منفصلين ليستقل كل منهما عن الآخر زمانًا، بحيث يكون إبرام عقد البيع بعد عقد الإجارة، أو وجود وعد بالتمليك في نهاية مدة الإجارة، أو وجود خيار للمستأجر بعد إنهاء تسديد الأجرة في شراء محل العقد أو تركه وضوابط غيرها مبنية على أن العين المؤجرة هي ملك للمؤجر وليست للمستأجر، ويبنى على ذلك ما هو مقرر في عقد الإجارة من ضمان للعين المؤجرة على المالك ما لم يتعد المستأجر أو يفرط وما يتبع ذلك من صيانة للعين المؤجرة، وكذلك التأمين على العين المؤجرة من المالك إن تطلب الأمر شريطة أن يكون تأمينًا تعاونيًا لا تجاريا. ونرى أنه بعد دراسة الموضوع فإنه ينبغي أن يكون العقد بيعًا مقسطًا، ويأخذ المصرف أو غيره ما يتوثق به للسداد من رهن أو كفالة ولا داعي لسلوك مثل هذا العمل، لا سيما أن الهدف هو دفع المشتري للالتزام بالسداد في وقته المتفق عليه، وفي حال التخلف عن السداد يلجأ إلى الإجراءات المتعلقة بالرهن أو الكفالة حسب الاتفاق في العقد بين الطرفين، والله أعلم. 2 - صكوك (سندات) الإجارة: وهي سندات ذات قيمة متساوية تمثل حصصًا شائعة في ملكية أعيان أو منافع ذات دخل كعقار أو باخرة أو طائرة ونحوها. الغرض من صكوك الإجارة: هو تحويل الأعيان والمنافع التي يتعلق بها عقد الإجارة إلى أوراق مالية (صكوك) يمكن أن تجري عليها عمليات التبادل، ويمكن أن تكون صكوك

شروط صكوك (سندات) الإجارة

الإجارة اسمية تحمل اسم حامل الصك ويتم انتقال ملكيتها بالقيد في سجل معين أو كتابة اسم حاملها الجديد عليها كلما تغيرت ملكيتها، ويمكن أن تكون سندات لحاملها بحيث تنتقل الملكية فيها بالتسليم، ويجوز لمالك الصك بيعه بالثمن المتفق عليه بين البائع والمشتري سواء أقل عن الثمن الذي اشترى به أو زاد عليه، وذلك لخضوع أثمان الأعيان لعوامل السوق من عرض وطلب. ويستحق مالك الصك حصته من الأجرة في الوقت المحدد في شروط الإصدار وحسم ما يترتب على المؤجر من نفقة ومؤنة وفقًا لأحكام عقد الإجارة. شروط صكوك (سندات) الإجارة: 1 - أن تتوفر في الأعيان الشروط التي يصح فيها أن تكون محلًا لعقد الإجارة كعقار أو باخرة أو طائرة ونحو ذلك. 2 - ألا يضمن مصدر الصكوك أو مديرها أصل قيمة الصك أو ربحه، وإذا هلكت الأعيان المؤجرة فإن الغرم على حملة الصكوك. الحكم الشرعي لصكوك (سندات الإجارة): يجوز إصدار صكوك تمثل ملكية الأعيان المؤجرة وتداولها إذا توافرت فيها الشروط المطلوبة، كما يجوز للمستأجر الذي له حق الإجارة من الباطن أن يعيد صكوك إجارة تمثل حصصًا شائعة في المنافع التي ملكها بالاستئجار، على أن يتم ذلك قبل إبرام العقود مع المستأجرين، أما إذا تم إبرام العقود مع المستأجرين فلا يجوز إصدار الصكوك، لأنها أصبحت ديونًا للمصدر على المستأجرين. وهذا هو ما قرره مجمع الفقه الإِسلامي بجدة بقراره رقم 137 (3/ 15).

3 - بدل الخلو

3 - بدل الخلو: هو مبلغ مالي يدفع من المالك أو المستأجر للطرف الآخر. حكم بدل الخلو: لبدل الخلو صور منها: 1 - أن يدفع المستأجر الجديد للمستأجر الأول أثناء مدة الإجارة مبلغًا من المال مقابل التنازل عن بقية المدة، فهذا البدل جائز شرعًا إذا كان عقد الإيجار مطلقًا لم يقيد المستأجر بالرجوع إلى المالك أو كان مقيدًا ورضي المالك بما تم بين المستأجر الأول والمستأجر الجديد. وقد جاءت بذلك فتوى اللجنة الدائمة في السعودية رقم (19702) والفتوى رقم (5157). أما إذا كان الاتفاق بين الطرفين إنما تم بعد انقضاء المدة فلا يحل بدل الخلو لانقضاء حق المستأجر الأول في منفعة العين. 2 - أن يدفع المالك للمستأجر مبلغًا من المال مقابل تنازله عن حقه في العقد بقية المدة، وهذا البدل جائز لأنه مقابل التنازل عن حقه في المنفعة بقية المدة، وقد جاءت بذلك فتوى اللجنة الدائمة للفتوى في السعودية رقم (6007). 3 - أن يدفع المستأجر للمالك مبلغًا مقطوعًا غير قيمة الأجرة وذلك يسمى في بعض البلاد خلوًا، وهو نوع من الضمان وهذا جائز شرعًا على أن يعد جزءًا من أجرة المدة المتفق عليها، وفي حالة الفسخ تطبق على هذا المبلغ أحكام الإجارة. وقد أخذ بذلك مجمع الفقه الإِسلامي بجدة، كما جاء في قراره رقم 31 (6/ 4).

4 - الإضراب عن العمل لتحقيق زيادة الأجور ونحوها

4 - الإضراب عن العمل لتحقيق زيادة الأجور ونحوها: في اللغة: الإضراب مصدر أضرب يقال أضربت عن شيء كففت عنه وأعرضت (¬1). واصطلاحًا: توقف مجموعة من الموظفين أو العمال عن أداء عملهم، ويمكن أن يشترك في الإضراب جميع أو بعض العاملين بأي شركة وذلك وسيلة للمساومة في الحصول على مطالبهم من رفع أجورهم أو تحسين شروط عملهم أو أي منافع أخرى (¬2). الحكم الشرعي: إن العامل قد اتفق مع رب العمل سواء أكان حكوميًا أم غير حكومي كالعمل عند الشركات والمؤسسات والأفراد وعلى كل من الطرفين الوفاء بما التزم به في العقد. ويقع في بعض البلاد قيام بعض العمال أو أصحاب المهن بترك العمل مطالبين بتحقيق مطالبهم وتجيز أنظمة بعض الدول القيام بذلك وفق ضوابط محددة. وتمنعه أنظمة بعض الدول الأخرى لما يترتب عليه من مفاسد وسلبيات، وهذا الفعل من النوازل الفقهية المندرجة تحت باب الإجارة، ونرى جواز ذلك حيث لم يرد في الشرع ما يؤيده أو يمنعه، والأصل الجواز لكن وفق الشروط والضوابط الآتية: 1 - أن يسمح بذلك نظام البلد الذي يقام فيه الإضراب. ¬

_ (¬1) لسان العرب مادة: "ضرب". (¬2) الموسوعة العربية العالمية (2/ 265).

5 - عقد الصيانة

2 - ألا يترتب على ذلك أضرار ومساوئ تلحق بالمصلحة العامة من مبانٍ ومنشآت وغيرها. 3 - أن تكون منضبطة وفق التعليمات المحددة لذلك. 4 - أن يكون تحقيق المصلحة لمن يقوم بها بعيدًا عن المفاسد الخاصة أو العامة (¬1). 5 - عقد الصيانة: وهو عقد يلتزم فيه طرف بفحص وإصلاح ما تحتاجه آله أو مبنى أو طرق أو غيرها بصفة دورية أو طارئة لمدة معلومة مقابل عوض معلوم، وهو من العقود الجديدة المستخدمة. أنواع عقد الصيانة: 1 - أن يلتزم من يقوم بالصيانة بالعمل فقط دون المواد. 2 - أن يلتزم من يقوم بالصيانة بالعمل والمواد مدة العقد. 3 - أن يلتزم من يبيع شيئًا عقارًا أو آلة أو غيرها بصيانتها مدة معلومة كسنة مثلًا. 4 - أن يلتزم المؤجر أو المستأجر بالصيانة خلال مدة عقد الإيجار. 5 - عقود الصيانة التي تطرحها الدولة أو المؤسسات والشركات لصيانة المباني والمدارس والطرق والمستشفيات وغيرها. الحكم الشرعي لعقد الصيانة: 1 - 2: في النوعين الأولين يجوز الاتفاق على ذلك، سواء أكان الاتفاق على ¬

_ (¬1) ويرى الدكتور الطيار منع ذلك مطلقًا لما له من الآثار السلبية.

العمل فقط وذلك من باب الإجارة أم على العمل وتوريد المواد وتركيبها على أن يكون العمل والأجرة والمواد كلها معلومة ومعينة تعيينًا نافيًا للجهالة المؤدية إلى النزاع. 3 - وفي النوع الثالث وهو التزام البائع لعقار أو سيارة أو أدوات كهربائية كثلاجة مثلًا بصيانتها مدة معلومة، فهذا جائز؛ لأن فيه مصلحة للطرفين ولا تشتمل على ضرر أو جهالة. 4 - يرى مجمع الفقه الإِسلامي بجدة (¬1)، أن الصيانة إذا كانت من النوع الذي يتوقف على استيفاء المنفعة فإنها تلزم مالك العين المؤجرة ولا يجوز اشتراطها على المستأجر، أما الصيانة التي لا يتوقف عليها استيفاء المنفعة فيجوز اشتراطها على أي من المؤجر أو المستأجر إذا عينت تعيينًا نافيًا للجهالة. ونرى أنه يجوز اشتراط تلك الصيانة، إما على المؤجر أو على المستأجر ما دام أنهما قد اتفقا برضاهما وأنها واضحة ومحددة ولا جهالة فيها. 5 - وفي النوع الخامس نرى أنه يجوز الاتفاق بمثل تلك العقود لأنها تحقق مصلحة ولا ضرر فيها وهو ما يحتاجه العمل في الوقت الحاضر، غير أنه لا بد أن تكون الشروط والمواصفات واضحة ومعينة تعيينًا يبعدها عن الضرر والجهالة وما يترتب على ذلك من خلاف ومنازعات (¬2). ¬

_ (¬1) القرار رقم 94 (6/ 11). (¬2) فقه النوازل د. محمَّد الجيزاني (3/ 323).

الفِقهُ الميَسَّر كتاب السبق

كتاب السبق

كتاب السبق يندرج تحت هذا الباب النوازل الآتية: 1 - المسابقات والحوافز التشجيعية: تعريف المسابقات: المسابقة في اللغة: المتقدم في الشيء والغلبة فيه. وفي الاصطلاح: عقد بين فردين أو فريقين أو أكثر على المغالبة بينهما من أجل معرفة السابق من المسبوق في أي مجالات السبق المباحة. أنواع المغالبات: وهي ثلاثة أنواع: أ- محبوب مُرضٍ لله ورسوله، كالسباق بالخيل والإبل والرمي، وهذا النوع مشروع برهن وبدون رهن (العوض). ب- مبغوض مسخوط لله ورسوله، كسائر المغالبات التي توقع العداوة والبغضاء وتبعد عن ذكر الله وعن الصلاة كالنرد والشطرنج، وهذا النوع محرم برهن وبدون رهن. ج- وقسم ليس بمحبوب ولا مسخوط بل هو مباح لعدم المضرة فيه، كالسباق على الأقدام والسباحة والمصارعة التي لا تلحق ضررًا، وهذا النوع يشرع بنفسه لكن بدون رهان، أما ما يفعل في حلبات المصارعة فهو ضرر ظاهر.

القاعدة في العوض

القاعدة في العوض: المسابقة بلا عوض جائزة في كل أمر لم يرد في تحريمه نص ولم يترتب عليه ترك واجب أو فعل محرم. إذا كان العوض من الإِمام أو أجنبي جاز، وإن كان من أحد المتسابقين جاز، وقد جاءت بذلك الفتوى رقم (3219) من فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية وإن كان منهما بأن قال: "إن سبقتني فلك كذا وإن سبقتك فلي كذا"، فهذه محل خلاف بين أهل العلم، فالجمهور يمنعونها، والحنفية وشيخ الإِسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهم يجيزونها ما دام فيها مصلحة للإسلام والمسلمين. 2 - المسابقة في حفظ القرآن الكريم وتحصيل العلم: يجوز المسابقة في ذلك وإعطاء الجوائز لما فيه من نفع للإسلام وتحصيل العلم، قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "المغالبة بالجائزة تحل بالعوض إذا كانت مما ينتفع فيه بالدين كما في مراهنة أبي بكر -رضي الله عنه- في انتصار الروم على فارس في بضع سنين". وقد جاءت بذلك الفتوى رقم (436)، ورقم (5966) من فتاوى اللجنة الدائمة للفتوى بالسعودية. 3 - المسابقة فى وسائل الإعلام والمؤسسات والشركات: كثرت في الآونة الأخيرة هذه المسابقات وتفنن الناس في أنواعها بهدف الفائدة أحيانًا وبهدف كسب الربح المادي فقط أحيانًا وبهدف إيصال المعلومة

أ- المسابقات في الإذاعة أو التليفزيون أو غيرهما

إلى أكبر شريحة من المجتمع في بعض الأحيان، وعلى كل حال فهذه المسابقات تحكمها قواعد في باب المعاملات إذا سلمت منها فالأصل جوازها، فهذه المسابقات والمغالبات إذا خلت من الربا والغرر والميسر والقمار والظلم فالأصل جوازها، ولذا متى كان المتسابق غانمًا أو سالمًا فهي جائزة، أما إذا كان غانمًا أو غارمًا فهنا لا تجوز، ومن أمثلة ذلك: أ- المسابقات في الإذاعة أو التليفزيون أو غيرهما: إن كان المتسابق يدفع نقودًا ليحصل على المسابقة أو ليتم الاتصال بالجهة صاحبة المسابقة فهذه لا تجوز، لأنه هنا إما غانم أو غارم فإما أن يكسب المسابقة ويكون غانمًا أو لا يكسب ويكون غارمًا قيمة المسابقة أو قيمة الاتصال بالجهة المعنية، لأنه من أكل أموال الناس بالباطل، لكن لو كانت المسابقة مجانية أو كان الاتصال مجانًا فالأصل الجواز. ب- المسابقات الصحفية: وهذه إذا لم تشترط الصحيفة شراءها ولم تشترط نموذجًا (كوبونا) معينًا فالأصل الجواز ما دام فيها فائدة ثقافية، أما إذا اشترطت الصحيفة شراءها أو اشترطت وضع (الكوبون) ضمن الإجابة فهنا نقول لا تجوز هذه المسابقة إلا لمن كان يشتري الصحيفة قبل المسابقة، أو كانت تأتيه من دون قيمة، لأنه هنا إما أن يكون غانمًا أو سالمًا. وقد صدرت بذلك فتوى اللجنة الدائمة في السعودية رقم (18172).

ج- الحوافز في المؤسسات والمحلات والشركات

ج- الحوافز في المؤسسات والمحلات والشركات: هذا النوع جائز بشروط: 1 - ألا يزيد صاحب المحل في قيمة السلعة. 2 - ألا يوقع الضرر على غيره من المحلات المماثلة. 3 - ألا يشترط الشراء بل يسمح لكل من رغب في دخول المسابقة. 4 - ألا يكون في الترويج غش أو خداع أو خيانة للمستهلكين. 5 - أن لا يشتري المتسابق سلعة لا يحتاج إليها، وبهذا يعلم أن الهدايا التشجيعية عند المحلات التجارية لا حرج فيها إن شاء الله، لأن المتسابق إما أن يكون غانمًا للهدية أو سالمًا لم يخسر شيئًا. وقد جاء بيان الحكم الشرعي لتلك المسابقات بقرار مجمع الفقه الإِسلامي بجدة رقم 127 (1/ 14)، ومما جاء فيه: "بطاقة الفنادق وشركات الطيران والمؤسسات التي تمنح نقاطًا تجلب منافع مباحة جائزة إذا كانت مجانية، وأما إذا كانت بعوض فإنها غير جائزة لما فيه من الغرر". 4 - عملية اليانصيب: وهي لعبة يسهم فيها عدد من الناس بأن يدفع كل منهم مبلغًا صغيرًا ابتغاء كسب النصيب، وهو عبارة عن مبلغ كبير أو أي شيء آخر يوضع تحت السحب، ويكون لكل مساهم رقم، ثم توضع أرقام المساهمين في مكان ويسحب منها عن طريق الحظ رقم أو أرقام، فمن خرج رقمه كان هو الفائز بالنصيب.

الحكم الشرعي لعملية اليانصيب

الحكم الشرعي لعملية اليانصيب: اليانصيب من القمار لأن كل واحد من المساهمين فيها إما أن يغنم النصيب كله أو يغرم ما دفعه، وهو محرم. ولا يبرر جوازه دفع جزء من مبالغه للأعمال الخيرية لأن الناس في الجاهلية كان الفائز منهم يفرق ما كسبه على الفقراء، ومع هذا النفع للميسر حرمه الإِسلام لأن إثمه أكبر من نفعه، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]. وقد جاء تحريم اليانصيب في قرار المجمع الفقهي بمكة المكرمة في دورته الرابعة عشرة عام 1995 م، وكذلك الفتوى رقم (2218) من فتاوى اللجنة الدائمة للفتوى في السعودية. 5 - المراهنة بين طرفين أو أكثر على حدوث نتيجة في أمر أو عدم حدوثها: لا تجوز المراهنة على حدوث نتيجة فعل لغيرهم سواء أكانت مادية أو معنوية، لعموم الآيات والأحاديث الواردة في تحريم الميسر. 6 - المسابقات الرياضية: وهي التسابق في الفوز بأنواع الرياضة من كرة قدم وألعاب قوى وغيرها، فإن كانت تقام على مال أو جوائز فهي لا تجوز، أما إذا كانت بدون

7 - المسابقة في لعب الورق (البلوت)

مال أو عوض من جوائز وحوافز فلا مانع من إقامتها ومشاهدتها، بشرط ألا ترد عن واجب أو تشتمل على محظور ممنوع شرعًا. وقد جاءت بذلك الفتوى رقم (18951) من فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية. 7 - المسابقة في لعب الورق (البلوت): وهي قطع من الأوراق وعليها صور وأعداد مختلفة. الحكم الشرعي: إذا كان اللعب بها على عوض فهو محرم وأخذ العوض فيها من أكل أموال الناس بالباطل وهو نوع من الميسر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]. وقد يكون اللعب بها بدون عوض ولكن يحدث فيها سباب ولغو بل قد تقع العداوة والبغضاء بسببها فإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يجوز لعبها، فالإِسلام يريد لأبنائه المحبة والوئام. وينطبق عليها قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]. وقد جاءت الفتوى رقم (432) من فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية بتحريمها بعوض أو بدون عوض.

8 - المسابقة في لعب الشطرنج ونحوه

8 - المسابقة في لعب الشطرنج ونحوه: الشطرنج فارسي معرب مأخوذ من المشاطرة وهي المقاسمة لأن كلًا من الطرفين له شطر ما يستحقه من اللعب وهو النصيب، وهي لعبة تلعب على رقعة ذات أربعة وستين مربعًا وتمثل في دولتين متحاربتين باثنتين وثلاثين قطعة تمثل الملكين والوزيرين والخيالة والقلاع والفيلة والجنود (¬1). الحكم الشرعي: إذا كان اللعب بها على عوض فهو محرم لأنه الميسر الذي نهى الله عنه، وإذا كان بدون عوض فإنه لا ينبغي للمسلم أن يضيع وقته في مثل ذلك لما يترتب على هذا اللعب من خصام وعداوة وبغضاء بين المسلمين، والإِسلام يحث على المحبة والوئام ويمنع كل ما يخالف ذلك، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]. وقد جاءت الفتوى رقم (2342) من فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية بتحريم ذلك مطلقًا، سواء أكان بعوض أم بغير عوض. ¬

_ (¬1) المعجم الوسيط (1/ 482).

باب الوديعة

باب الوديعة يندرج تحت هذا الباب النوازل الآتية: 1 - الودائع المصرفية: وتتنوع من حيث موعد استردادها إلى نوعين: الوديعة الحالة: وتسمى الودائع الجارية أو المتحركة أو الحسابات الجارية كما تسمى الودائع تحت الطلب، وهي عبارة عن المبالغ التي يودعها أصحابها في البنوك بحيث ترد بمجرد الطلب دون توقف على إخطار سابق، وذلك عن طريق الشيكات أو أوامر التحويل المصرفي أو بطاقات الصرف الآلي ونحو ذلك. الوديعة الآجلة: وتسمى الودائع الثابتة وغير الجارية، وهي الودائع التي لا يلتزم المصرف بردها إلا عند أجل معين حسب الشروط المتفق عليها, ولا يحق للمودع طلب استردادها قبل هذا الأجل وعرفت بأنها "عبارة عن المبالغ التي يودعها أصحابها في البنك بقصد الحصول على دخل عن هذا الطريق، يتمثل فيما يتقاضونه من الفوائد". وتنقسم الودائع الآجلة إلى أقسام منها: أ- الودائع لأجل ثابت معين: وهي عبارة عن المبالغ التي يضعها صاحبها في البنك بناء على اتفاق بينهما بعدم سحب المودع لها أو شيئًا منها إلا بعد مضي فترة معينة ثابتة من الزمن مقابل فائدة ثابتة.

ب- الودائع بشرط الإخطار

ب- الودائع بشرط الإخطار: وهي الودائع التي يمكن لصاحبها أن يسحبها, ولكن بعد أن يعطى إشعارًا بذلك إلى البنك يحدد له مهلة معينة لسحبها ابتداء من تاريخ الإخطار لقاء نسبة معينة من المال المودع. ج- ودائع التوفير: ولها صور متعددة منها: * أن يقوم صاحب هذا النوع بإداع مبالغ متفرقة بين الحين والآخر، بحيث إنه إذا أودع مبلغًا استحق فائدة عليه من حين الإيداع. *ودائع الادخار: وهي عبارة عن مبالغ تودع لدى البنك ويكون لهم حق السحب منها في فترات محددة كمرة في الأسبوع مثلًا لقاء فائدة معينة وقد تحدد بعض البنوك حدًا أعلى للسحب في كل مدة كنسبة مئوية أو مبلغ ثابت. * ومن الصور ما يودعه الموفر في البنك من مبالغ ينشئون بها حسابًا في دفتر خاص توضح به إيداعات ومسحوبات صاحبه مقابل نسبة فائدة ثابتة وتوجد حدود للسحب اليومي من الرصيد في هذا الدفتر، ولا يمكن لصاحبه سحب كامل رصيده دفعة واحدة (¬1). حكم الودائع المصرفية: 1 - الودائع الحالة: إن الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) هي قرض بالمنظور الفقهي، حيث إن المصرف المستلم لهذه الودائع يده يد ضمان لها وهو ملزم شرعًا بردها عند الطلب، وعليه فإن أرصدة ودائع الحساب الجاري تنتقل إلى المصرف فيجوز له التصرف فيها وقد صدر بذلك قرار مجمع الفقه ¬

_ (¬1) عمليات البنوك من الوجهة القانونية، على عوض (ص: 31)، والبنك اللا ربوي، محمَّد باقر الصدر (ص: 23).

2 - الودائع الآجلة

الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي رقم 86 (3/ 9) وجاء فيه: "أولًا: الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) سواء أكانت لدى البنك الإِسلامي أو البنوك الربوية هي قرض بالمنظور الفقهي، حيث إن المصرف المستلم لهذه الودائع يده يد ضمان لها وهو ملزم بالرد عند الطلب". 2 - الودائع الآجلة: إن تلك الودائع بأنواعها يعطي البنك عليها فائدة ثابتة على المبالغ المودعة، وحيث إن تلك المبالغ المودعة تعتبر من القروض ولا يجوز شرعًا إعطاء الفائدة على القروض (¬1)، وقد صدر بتحريم ذلك قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي في مكة المكرمة في دورته التاسعة 1406 هـ , كما صدر قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي في جدة رقم 86 (3/ 9) وقد جاء فيه: "ثانيًا: إن الوداع المصرفية تنقسم إلى نوعين حسب واقع التعامل المصرفي: أ- الودائع التي تدفع لها فوائد كما هي الحال في البنوك الربوية، هي قروض ربوية محرمة، سواء أكانت من نوع الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) أم الودائع لأجل، أم الودائع بإشعار، أم حسابات التوفير". وبناء عليه فإنه ينبغي إيجاد بدائل عن تلك الودائع الممنوع أخذ فوائد عليها، ومن ذلك أن تكون تلك الودائع بغرض الاستثمار في أشياء مشروعة، بحيث تكون رأس مال مضاربة تستثمر باتفاق بين البنك والمودع بحصته من الربح لمودع، وبذلك تخرج عن أحكام القرض إلى أحكام المضاربة، وقد جاء ¬

_ (¬1) المنفعة في القرض، عبد الله العمراني (ص: 447).

2 - وديعة الوثائق والمستندات

الحديث عن ذلك بقرار مجلس المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي رقم 86 (3/ 9). وديعة الوثائق والمستندات: وفيه يتم تسليم الموع الوثائق إلى البنك لحفظها بأعيانها ويعطي صاحبها إيصالًا بها ويقوم البنك بردها عند طلبها أو نهاية الأجل المحدد، وذلك مقابل أجرة يتفقان عليها. حكم وديعة الوثائق والمستندات: إن هذا النوع من الودائع جائز لأنه يعتبر عقد إجارة على حفظ ودائع بأجرة معلومة للطرفين (¬1). 1 - العقود غير المسماة: وردت عقود كثيرة في التعاملات المعاصرة لم تكن موجودة من قبل، وحيث إنها مما يحتاجه الناس في شؤون حياتهم، والفقه الإِسلامى شامل لكل نواحي الحياة بما يحويه من قواعد ومبادئ فإنه ينبغي على العلماء تطبيق ذلك على كل ما يجدّ، وإصدار الأحكام الشرعية المناسبة من حيث إجازتها أو عدمه، وبيان البدائل التي تغني عنها، ومن تلك النوازل ما يأتي: 1 - حق التأليف والابتكار: وفي معنى ذلك: حق الإبداع، وحق الإنتاج العلمي، والحق الأدبى، والحق المعنوي، وحق الاختراع. ¬

_ (¬1) البنوك الإِسلامية بين النظرية والتطبيق د. عبد الله الطيار (1/ 191).

الحقوق الواردة على التأليف والابتكار

وهو استئثار ذي الكفاية بالاستفادة المالية أو المعنوية مما أخرجه بقدرته المتخصصة في حال حياته وورثته من بعده. الحقوق الواردة على التأليف والابتكار: تنقسم إلى قسمين من حيث العموم والخصوص: 1 - حق خاص: ويختص بالمؤلف أو المبتكر أو المنتج وورثته من بعده. 2 - حق عام: وهو حق الأمة في هذا المؤلف أو الابتكار أو المنتج من حيث الاستفادة منه، وينبغي مراعاة ذلك وعدم كتم العلم أو منع ما يفيد الإِسلام والمسلمين. وتنقسم الى قسمين من حيث كونه حقًا أدبيًا أو ماليًا: (1) الحق الأدب (المعنوي): وذلك من حيث نسبة المؤلف أو المنتج إلى صاحبه ونشره ومنع التعدي عليه وحمايته، وحق الدولة في منع المؤلف أو المنتج إذا كان فيه ضرر على الأمة ويخالف الشريعة الإِسلامية ومبادءها السامية. (2) الحق المالي (المادي): وهو حق استفادة المؤلف أو المنتج من إنتاجه ماليًا بالطرق المشروعة في حياته وورثته من بعده. الحكم الشرعي لهذه الحقوق: 1 - يرى بعض العلماء المعاصرين أن المؤلف ليس له حق مالي فيما يؤلفه أو ينشره من كتب علمية، ذلك أن العلم لا يجوز شرعًا حجره على الناس وإنما يجب على العلماء بذله، وليس للمؤلف حق في منع ذلك.

2 - عقود الإذعان

2 - ويرى غيرهم أن كل مؤلف لكتاب أو بحث أو عمل فني أو مخترع لآلة نافعة أن له الحق وحده في استثمار مؤلفه أو اختراعه نشرًا أو إنتاجًا وبيعًا، وليس لأحد أن يعتدي على شيء من ذلك. الراجح: نرى أنه لا بد أن يعتبر للمؤلف أو المبتكر وغيرهم حق فيما أنتجه، ولا يجوز لأحد أن يعتدي عليه دون إذنه، وذلك بشرط أن لا يلحق ذلك المنتج ضررًا على المجتمع أو الأمة وألا يكون فيه مخالفة للقواعد والمبادئ الشرعية، وهو حق يستأثر به المنتج حيًا ويورث عنه بعد وفاته. وهذا هو المعمول به عالميًا, وليس في القول به ضرر أو مخالفة شرعية، بل هو دافع قوي للمؤلفين والمنتجين ونحوهم لتقديم الأشياء المفيدة، وقد كلفه ذلك الكثير من وقته وماله وجهده (¬1)، وقد أخذ بذلك مجمع الفقه الإِسلامي التابع للرابطة في قراره الرابع عام 1406 هـ , وكذلك اللجنة الدائمة للفتوى في السعودية بالفتوى رقم (18453) حيث جاء فيها: "لا يجوز نسخ البرامج التي يمنع أصحابها نسخها إلا بإذنهم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه" (¬2). 2 - عقود الإذعان: هي العقود التي يتفرد الطرف الموجب بوضع تفاصيل العقد وشروط دون أن يكون للطرف الآخر حق في مناقشتها أو تعديل شيء فيها أو إلغائه. ¬

_ (¬1) الجامع في فقه النوازل، د. صالح بن حميد (ص: 99)، وفقه النوازل، د. بكر أبو زيد (2/ 150)، وفقه النوازل، د. محمَّد الجيزاني (3/ 127). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد فى المسند (5/ 72)، والدارقطنيُّ في البيوع (3/ 26).

أقسام عقود الإذعان وحكمها الشرعي

وهو مصطلح حديث، ومن الأشياء التي يتم فيها عقود الإذعان الماء والكهرباء والغاز والهاتف وغيرها. أقسام عقود الإذعان وحكمها الشرعي: 1 - عقود تظهر فيها سيطرة المالك للسلع أو المنافع أو المرافق واحتكارها احتكارًا قانونيًا أو فعليًا، أو سيطرته بشكل يجعل المنافسة فيها محددة النطاق. وينطوي على ذلك ظلم بالطرف المذعن لأن الثمن فيه غير عادل من حيث كون الغبن فيه فاحشًا أو تضمن شروطًا تعسفية ضارة به، فهذا النوع يجب تدخل الدولة بالتسعير العادل الذي يدفع الظلم والضرر عن الناس المضطرين إلى تلك السلعة أو المنفعة، وذلك أن لولي الأمر شرعًا دفع الضرر الناتج عن الاحتكار بما يحقق مصلحة الطرفين. 2 - عقود تظهر فيها سيطرة المالك لتلك الأمور إلا أنه لم ينطو على ذلك ظلم بالطرف المذعن؛ لأن الثمن فيه عادل ولم تتضمن شروطه ظلمًا بالطرف المذعن، وهذا النوع صحيح شرعًا وليس للدولة أو القضاء حق التدخل في شأنه بإلغاء أو تعديل؛ لأن الطرف المالك والمسيطر على السلعة أو المنفعة باذل لها بالثمن العادل، وهو عوض المثل أو مع غبن يسير باعتباره معفوًا عنه شرعًا. وقد جاء بيان ما يتعلق بعقود الإذعان والوكالات الحصرية في قرار مجمع الفقه الإِسلامي بجدة رقم 132 (6/ 14).

3 - عقد التأمين

3 - عقد التأمين: عقد التأمين من العقود الحادثة التي لم تكن موجودة في عصور الفقه الإِسلامي السابقة ولذلك تعددت آراء. أنواعه: للتأمين صيغتان: 1 - التأمين التعاوني (التبادلى): ويتم عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية تخصص لتعويض من يصيبه الضرر تعاونًا منهم على تفتيت الأخطار والاشتراك في تحمل المسؤولية عند نزول الكوارث. 2 - التأمين التجاري: وهو عقد يلزم فيه أحد الطرفين وهو المؤمن أن يؤدي إلى الطرف الآخر وهو المؤمن له عوضًا ماديًا يتفق عليه يدفع عند وقوع الخطر وتحقق الخسارة المبينة في العقد، وذلك نظير رسم يسمى (قسط التأمين) يدفعه المؤمن له حسب ما ينص عليه عقد التأمين (¬1). حكم التأمين: 1 - التأمين التعاوني: يجوز التأمين التعاوني (التبادلي) وكذا إعادة التأمين القائم على أساس التأمين التعاوني لأنه يقصد به التعاون على تفتيت الأخطار والاشتراك في تحمل المسؤولية عند نزول الكوارث وهو يتماشى مع الأصول والقواعد الشرعية ولا يخالفها وهو مبني على التبرع والتكافل. وقد قال بجواز التأمين التعاوني مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية ¬

_ (¬1) توضيح الأحكام لابن بسام (4/ 269)، حكم الشريعة الإِسلامية في عقود التأمين د. حسين حسان (ص: 33)، ونظام التأمين، مصطفى الزرقاء (ص: 19).

السعودية بقراره رقم (51) وتاريخ 4/ 4 / 1397 هـ , وجاءت حيثيات القرار بأنه من عقود التبرع وخلوه من الربا بنوعيه ربا الفضل وربا النسأ، كما أنه لا يضر جهل المساهمين لأنهم متبرعون فلا مخاطرة ولا غرر ولا مقامرة. وقال بجوازه مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنبثق من منظمة المؤتمر الإِسلامي، وقد جاء في قراره: "إن العقد البديل الذي يخدم أصول التعامل الإِسلامي هو عقد التأمين التعاوني القائم على أساس التبرع والتعاون". كما قال بجوازه مجلس مجمع الفقه الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي في دورته الأولى المنعقدة في شعبان 1398 هـ بمكة المكرمة. 2 - التأمين التجاري: اتفق أكثر الباحثين على عدم جواز التأمين التجاري. وقد صدر قرار مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية رقم (55) وتاريخ 4/ 4 / 1397 هـ بعدم جواز التأمين التجاري، وجاء في حيثيات القرار، أنه من عقود المعاوضات المالية المشتملة على الغرر الفاحش وأنه ضرب من ضروب المقامرة وأنه من الرهان المحرم. وقد قرر مجلس المجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي في دورته الأولى المنعقدة في مكة المكرمة حرمة التأمين التجاري بجميع أنواعه، سواء كان على النفس أو البضائع التجارية أو غير ذلك وجاء في حيثيات القرار علاوة على ما جاء في قرار هيئة كبار علماء السعودية: "إن عقد التأمين التجاري يشتمل على ربا الفضل والنسأ، كما أن فيه أخذ مال الغير بلا مقابل".

4 - العقود المستقبلية

كما أن مجلس المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي قرر حرمة التأمين التجاري فجاء في قراره رقم 9 (9/ 2): "إن عقد التأمين التجاري ذي القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري عقد فيه غرر كبير للعقد ولذا فهو حرام شرعًا". 4 - العقود المستقبلية: هي عقود قياسية تجري في الأسواق المنظمة بين طرفين بائع ومشترٍ، يلتزم فيها البائع بتسليم المشتري محل التعاقد (سواء أكان سلعة أم ورقة مالية أم عملة) مقابل ثمن محدد يلتزم المشتري بتسليمه بتاريخ محدد. العقود الأمامية (الآجلة): هي عقود غير قياسية تجري في الأسواق غير المنظمة بين طرفين بائع ومشترٍ، يلتزم فيه البائع بتسليم المشتري محل التعاقد (سواء أكان سلعة أم ورقة مالية أم عملة) مقابل ثمن محدد يلتزم المشتري بتسليمه للبائع بتاريخ محدد. الفرق بين العقود المستقبلية والعقود الأمامية (الآجلة): 1 - يجري التعامل في العقود المستقبلية في السوق الرسمية على حين يجري التعامل في العقود الآجلة في السوق غير الرسمية. 2 - العقود المستقبلية قياسية في بنودها وشروطها يطبق عليها كل ما يطبق على العقود المتداولة في البورصة. أما العقود الأمامية (الآجلة) فلا تخضع لذلك، بل تخضع لرغبة المتعاقدين، وهما اللذان يحددان كل شيء.

حكم العقود المستقبلية والعقود الأمامية (الآجلة) في غير العملات

حكم العقود المستقبلية والعقود الأمامية (الآجلة) في غير العملات: يرى عامة العلماء المعاصرين تحريم هذه العقود؛ لأنها بيع دين بدين، وحقيقة هذه العقود أنها من قبيل المراهنة على فروقات الأسعار وليس المقصود منها البيع والشراء الحقيقي، وهذا نوع من القمار، كما أن فيها غررًا ظاهرًا يؤثر في العقد، وهو كذلك من بيع الإنسان ما لا يملك. جاء في قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإِسلامي سنة 1404 هـ: "إن العقود الآجلة التي تجري في هذه السوق ليست في معظمها بيعًا حقيقيًا ولا شراءً حقيقيًا؛ لأنه لا يجري فيها التقابض بين طرفي العقد فيما يشترط له التقابض في العوضين، أو في أحدهما شرعًا. ثانيًا: أن البائع غالبًا يبيع ما لا يملك". كما يرى بعض المعاصرين جواز التعامل في عقود مستقبلية على أصول حقيقية، يحتاج المتعامل أن يواجه مخاطر تقلبات الأسعار وقت حاجته إلى السلعة في المستقبل، وذلك جائز شرعًا بشرط أن يكون التعامل في أسواق لا تقع في مخالفات شرعية (¬1). حكم العقود المستقبلية والآجلة على العملات: يرى عامة الفقهاء المعاصرين عدم جواز ذلك؛ لأنه من بيع الدين بالدين، ويتم في هذه العقود الربا المجمع على تحريمه وهو ربا النسيئة؛ لأنه يشترط في بيع العملات الحلول والتقابض. ¬

_ (¬1) العقود المستقبلية والشريعة الإِسلامية، د. أحمد محمَّد خليل الإِسلام بولي، البنك الإِسلامي بجدة.

5 - الربح بالنسب المتغيرة في البيع والإجارة والسلم

وقد جاء قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإِسلامي المنعقدة بمكة المكرمة بتاريخ 1412 هـ: "إذا تم عقد الصرف مع الاتفاق على تأجيل قبض البدلين أو أحدهما إلى تاريخ معلوم في المستقبل بحيث يتم تبادل العملتين معًا في وقت واحد في التاريخ المعلوم، فالعقد غير جائز لأن التقابض شرط لصحة تمام العقد ولم يحصل". وجاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي المنعقدة في جدة 1412 هـ: "يتم التعامل بالعملات في الأسواق المنظمة بإحدى الطرق الأربع المذكورة في التعامل بالسلع ولا يجوز شراء العملات وبيعها بالطريقتين الثالثة والرابعة (¬1). والطريقة الثالثة والرابعة تنطبق على التعامل بالعملات المعمول به حاليًا في العقود المستقبلية والآجلة". 5 - الربح بالنسب المتغيرة في البيع والإجارة والسلم: والمقصود به عدم ثبوت الأرباح بل تكون متغيرة في صعود أو نزول. الحكم الشرعي: شروط صحة البيع والإجارة والسلم أن تكون القيمة معلومة عند العقد، وذلك يشمل التكلفة والربح، ولا يجوز أن يكون الثمن أو الربح مجهولًا؛ بل إن ذلك يؤثر على سلامة العقد ويجعله غير صحيح. ¬

_ (¬1) رقم القرار 63 (1/ 7). انظر مجلة المجمع العدد السابع (2/ 1273).

المراجع والمصادر

المراجع والمصادر 1 - أبحاث هيئة كبار العلماء بالسعودية- الطبعة الأولى 1423 هـ. 2 - الإجارة المنتهية بالتمليك خالد عبد الله الحافي. المطابع الوطنية الحديثة الطبعة الأولي 1420 هـ. 3 - إعلام الموقعين عن رب العالمين. لابن القيم الجوزية، محمَّد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي المتوفي سنة 751 هـ. 4 - أعمال البنوك والشريعة الإِسلامية د. محمَّد صالح الدين دار البحوث العلمية الطبعة الأولي 1976 م. 5 - بحوث في الاقتصاد الإِسلامي للشيخ عبد الله المنيع - المكتب الإِسلامي بيروت الطبعة الأولي 1416 هـ. 6 - بدائع الصانع في ترتيب الشرائع، علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاساني مطبعة الجمالية القاهرة 1328 هـ. 7 - البنك اللاربوي في الإِسلام، محمَّد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات، بيروت الطبعة السابقة 1400 هـ. 8 - البنوك الإِسلامية بين النظرية والتطبيق د. عبد الله الطيار. 9 - الجامع في فقه النوازل د. صالح بن حميد- مكتبة العبيكان الطبعة الأولى 1424 هـ. 10 - توضيح الأحكام شرح بلوغ المرام لابن بسام-مكتبة الأسدي مكة المكرمة- الطبعة الخامسة 1423 هـ.

11 - جواهر الإكليل شرح مختصر خليل، صالح عبد السميع الأزهري- دار إحياء الكتب العربية. 12 - حاشية ابن عابدين المسمى رد المحتار على الدر المختار، محمَّد أمين عابدين، مطبعة مصطفى الحلبي بمصر الطبعة الثانية 1386 هـ. 13 - حاشية الدسوقي على الشرح الكبير -دار الفكر- بيروت. 14 - حاشية الروض المربع، عبد الرحمن بن قاسم- الطبعة الرابعة 1410 هـ. 15 - روضة الطالبين للنووي المتوفي سنة 676 هـ. 16 - شرح فتح القدير لابن الهمام- المطبعة الكبرى الأميرية بمصر الطبعة الأولى 1316 هـ. 17 - صحيح البخاري لأبي عبد الله محمَّد إسماعيل البخاري- مطبعة الحلبي بمصر. 18 - صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج القشيري المتوفي 261 هـ. 19 - عقد البيع، مصطفى الزرقاء -دار القلم- دمشق. 20 - عمليات البنوك من الوجهة القانونية د. علي عوض -دار النهضة العربية- القاهرة 1981 م. 21 - فقه الزكاة د. يوسف القرضاوي- مكتبة وهبه بمصر الطبعة السادسة عشرة 1406 هـ. 22 - فقه النوازل د. بكر أبو زيد -مؤسسة الرسالة- بيروت الطبعة الأولى 1422 هـ.

23 - فقه النوازل د. محمد الجيزاني دار ابن الجوزي- الطبعة الثالثة 1429 هـ. 24 - قرار المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر. 25 - كشاف القناع عن متن الإقناع، منصور بن يونس بن إدريس البهوتي. 26 - لسان العرب لابن منظور. 27 - مجموع فتاوى وبحوث للشيخ عبد الله المنيع -دار العاصمة بالرياض- الطبعة الأولى 1420 هـ. 28 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية- الطبعة الأولى 1398 هـ. 29 - مجلة المجمع الفقهية العدد الخامس. 30 - المدونة للإمام مالك -رواية سحنون- مطبعة السعادة بمصر. 31 - المصارف والأعمال المصرفية د. غريب الجمال- مؤسسة الرسالة القاهرة. 32 - المعجم الوسيط د. إبراهيم أنيس وزملاؤه مجمع اللغة العربية- مطابع دار المعارف بمصر الطبعة الثانية 1393 هـ. 33 - المغني لابن قدامه أبي محمد عبد الله بن أحمد المقدسي- مكتبة الرياض الحديثة. 34 - مغني المحتاج للشربيني الخطيب- مطبعة الحلبي 1377 هـ. 35 - المنفعة في القرض، عبد الله العمراني- دار ابن الجوزي للنشر الطبعة الأولى 1424 هـ. 36 - مواهب الجليل شرح مختصر خليل لأبي عبد الله محمد بن محمد المعروف بالحطاب- مطبعة دار الفكر الطبعة الثانية 1412 هـ.

37 - الموسوعة العربية العالمية- الطبعة الثانية. 38 - الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية- إصدار الإتحاد الدولي للبنوك الإسلامية الطبعة الأولى 1398 هـ. 39 - الموسوعة العربية الميسرة -دار إحياء التراث العربي- بيروت لبنان. 40 - الموسوعة الفقهية الكويتية. 41 - نصب الراية لأحاديث الهداية، للزيلعي -مؤسسة الرياض- الطبعة الثانية 1424 هـ. 42 - نظرية الضمان الشخصي (الكفالة) د. محمد الموسى- مكتبة العبيكان الطبعة الأول.

الفِقهُ الميَسَّر النَّوازلُ المُعاصرة في فقهِ الأسْرة مَوسُوعة فقهيَّة حَديثَة تتناوَل أحكام الفقه الإسلامي بأسُلوب وَاضح للمختصّين وغيرهم تَأليف أ. د/عَبد الله بن محمد الطيّار أستَاذ الدراسات العليا بكليَّة الشَّريعة والدِّراسات الإسلامية بجامعة القصيم أ. د/عبد الله بن محمّد المطلق عضو هَيئة كبار العُلَماء، وعضو اللجنة الدَّائمة للإفتاء د/محمَّد بن إبراهيم الموسَى عضو مجلس الشورى سابقًا - المجلس الأعلى للأوقاف الجزء الحادي عشر مدار الوطن للنشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

النوازل المعاصرة في فقه الأسرة

الفِقهُ الميَسَّر النَّوازلُ المُعاصرة في فقهِ الأسْرة

حقُوق الطَّبع محفُوظَة الطَّبعَة الأولى 1432 هـ - 2011 م مَدَارُ الوَطن للنَّشر المملكة العربية السعودية - المقر الرئيسي: الرياض - الملز ص. ب: 245760 - الرمز البريدي 11312 - هاتف 4792042 (5 خطوط) - فاكس 4723941 البريد الإلكتروني: [email protected] موقعنا على الإنترنت: www.madaralwatan.com الرياض: 0503269316 الغربية: 0504143198 الشرقية: 0503193268 الشمالية والقصيم: 0504130728 التوزيع الخيري للشرقية والجنوبية: 0503193269 التوزيع الخيري لباقي جهات المملكة: 0506436804 التسويق للجهات الحكومية: 0500996987 مبيعات المكتبات الخارجية: 0503193269

بِسمِ اللَّهِ الرَّحمنِ الرّحِيمِ المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد: في ظل المستجدات العصرية التي أحاطت بالإنسان من كل جانب فأثرت عليه في حياته اليومية، فلا يخلو يوم يمر على الإنسان إلا ويحدث له نازلة، إما في عباداته أو معاملاته أو في حياته الأسرية، وقد يقف البعض أمام هذه النوازل فلا يعرف كيف يتعامل معها. والعبد مأمور بأن يتعامل مع كل نازلة بما يقتضيه الشرع المطهر بعيدًا عن هوى النفس وبعيدًا عن فتاوى من لا يعرف للنوازل قدرًا فيفتي فيها بغير علم ولا بينة من الشرع. ولقد تناولنا -بفضل الله وكرمه- جملة من النوازل في العبادات والمعاملات، واستكمالًا لما قد تم إنجازه نضع بين يد إخواننا جملة من نوازل فقه الأسرة. وقد حرصنا فيه كسابقه على ذكر آراء المجامع الفقهية ولجان الفتوى، ومتى ظهر لنا الترجيح في تلك المسائل أيدناه، وقد يكون لغيرنا رأي يخالفه ولا حرج في ذلك، فكل ينتهي إلى ما يراه؛ لا سيما في هذه القضايا المستجدة التي يحتاج الحكم عليها إلى النظر لها من زوايا مختلفة.

ولنا رجاء من كل من يطلع على هذه الموسوعة أن يوافينا بما يراه من مسائل إضافية أو ملحوظات أو اقتراحات، فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه. نسأل الله أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. المؤلفون

النوازل المتعلقة باستخدام الوسائل الحديثة في النكاح

النوازل المعاصرة في فقه الأسرة النوازل المتعلقة باستخدام الوسائل الحديثة في النكاح الخطبة عن طريق الإنترنت: لقد أصبحت وسائل الاتصال الحديثة والتقنيات المتقدمة في هذا الزمان لها أهمية كبيرة، وقد استخدمت هذه الوسائل في كل ما يفيد وما لا يفيد، بل وفي كل ما يجوز وما لا يجوز، ومن الأمور التي استخدمت فيها هذه الوسائل الخطبة عن طريق الإنترنت، فقد انتشرت في شبكة الإنترنت مواقع كثيرة يسهل من خلالها للراغب في الزواج إعلان رغبته، وتتيح له فرصة عرض نفسه على الطرف الآخر، وفرصة البحث عمن تتحقق فيه الصفات التي يرغبها. والذي نراه في هذه النازلة أن الاستفادة من الإنترنت عن طريق جمعيات متخصصة في هذا الشأن أو عن طريق الأولياء بالنسبة للمرأة بحيث يظهر فيها وجود من يرغب الزواج، فإنه لا شيء فيه إذ هو من الوسائل التي يمكن التواصل عن طريقها بعد أن كثر الناس وصعب معرفة بعضهم لبعض. أما أن يكون الاتصال من المرأة بالرجال الأجانب عن طريق الإنترنت وغيرها من الوسائل الحديثة؛ فلا يجوز للمرأة أن تعرض نفسها للخطبة من خلال هذه المواقع وذلك لما في ذلك من المخاطر الجمة، ومنها صعوبة معرفة الحقيقة، وكثرة ارتياد أهل الفسوق والفساد لمثل هذه المواقع، مما قد يغير نية الباحث عن زوجة أو الباحثة عن زوج من قصد بريء مشروع إلى مقصد سيئ، فخير للمرأة أن لا تعرف ولا تخاطب الرجال الأجانب إلا في حال الضرورة؛ كالعلاج، أو الاستفتاء، وما شابه ذلك من الحاجات المشروعة.

الخطبة عق طريق الفيديو والصورة

أما التعارف بينهما عن طريق الإنترنت فهو بوابة للشر، واستدراج من الشيطان، كما وقع في حبائل ذلك كثير من العفائف، بعد أن زال عنهن جلباب الحياء (¬1). الخطبة عق طريق الفيديو والصورة: لا مانع لمن ترغب في الزواج أن تبحث عنه بالطرق المشروعة، وكذلك وليها له أن يبحث عن زوج لابنته بالطرق المشروعة، فقد فعل ذلك عمر -رضي الله عنه- حيث عرض حفصة على أبي بكر وعثمان -رضي الله عنهما-، أما كونه يقتصر أو تقتصر الفتاة لمن يريد خطبتها على صورة لها، فالذي نراه أنه لا يجوز إعطاء من يريد خطبة فتاة صورتها من أجل خطبتها (¬2) أو إعطائه شريط فيديو قد عرضت فيه هذه الفتاة؛ وذلك لأمور منها: * أولًا: أنه قد يشاركه غيره في النظر إليها: *" ثانيًا: أن الصورة لا تحكي الحقيقة تماما، فكم من صورة رآها الإنسان فإذا شاهد المصوَّر وجده مختلفًا تماما. * ثالثًا: أنه ربما تبقى هذه الصورة عند الخاطب، ويعدل عن الخطبة، وتبقى الصورة عنده فيعبث بها كما شاء. والبديل عن ذلك هو الرؤية الشرعية التي أمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنكُمَا" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر في ذلك منكرات الأفراح وآثارها السيئة على الفرد والمجتمع، لمجموعة من العلماء (ص: 20)، ورسالة ماجستير (أثر التقنية الحديثة على أحكام النكاح)، عبد الله بن سبيل بن عايض الرشيدي (ص: 20). (¬2) انظر في ذلك: منكرات الأفراح وآثارها السيئة على الفرد والمجتمع، لمجموعة من العلماء (ص: 20)، ورسالة ماجستير (أثر التقنية الحديثة على أحكام النكاح)، عبد الله بن سبيل بن عايض الرشيدي، (ص: 20). (¬3) رواه أحمد (4/ 245)، والترمذيُّ في النكاح، باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة (1087) والنسائيُّ في النكاح، باب إباحة النظر قبل التزويج (6/ 69)، وابن ماجه في النكاح، باب النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها (1865) عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-، وحسنه الترمذيُّ، وقال البوصيري: هذا إسنادٌ صحيحٌ رجاله ثقات، وصححه الحاكم (2/ 165)، على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

حكم تزين المخطوبة عند خطبتها

حكم تزين المخطوبة عند خطبتها: ذهب عامة أهل العلم إلى إباحة نظر الخاطب إلى مخطوبته عند عزمه على الزواج، ومنهم من قال باستحبابه، وله تكرار النظر للحاجة. أما حدود النظر: فهو كما تقرر لدى جمهور الفقهاء أنه يجوز النظر إلى الوجه والكفين فقط، ولا يجوز النظر إلى ما سواهما؛ لأن الحاجة تنقضي بذلك، فالوجه دليل على جمال البدن، واليدان دليل على نضرته. ويجوز تزين المخطوبة لمن يريد خطبتها عند النظرة الشرعية من الزينة المباحة كالكحل وما شابهه من أدوات التجميل، بشرط ألا يصل تزينها بأدوات التجميل إلى حدِّ التغرير والتدليس، بحيث تخفي عنه بعض العيوب التي لو رآها على حقيقتها لكان باعثًا على الإعراض عنها، فيكون هذا من الغش المنهي عنه. وذلك لأن المطلوب من النظرة الشرعية هو أن ينظر الخاطب إلى ما يدعوه إلى نكاحها، فتستعد وتتهيأ بإصلاح نفسها بما يُرغبه فيها، ويدعوه إلى نكاحها. قال الشيخ الحطاب المالكي -رحمه الله-: "قَالَ ابْنُ القَطَّانِ: وَلَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ لِلنَّاظِرِينَ، بَل لَوْ قِيلَ: بِأنَّهُ مَنْدُوبٌ مَا كَانَ بَعِيدًا وَلَوْ قِيلَ: إنَّهُ يَجُوزُ لَهَا التَّعَرُّضُ لِمَنْ يَخْطُبُهَا إذًا سَلِمَتْ نِيَّتُهَا في قَصْدِ النّكَاحِ لَمْ يَبْعُدْ" (¬1) انتهى. ونرى أنه يجوز للمرأة التزين باللباس الساتر ووضع شيء من أدوات التجميل على وجهها وما يظهر منها كاليدين والرجلين بما لا يصل إلى التغرير والتدليس (¬2). ¬

_ (¬1) مواهب الجليل (5/ 22). (¬2) يرى الشيخ الطيار أنه لا يجوز للمرأة أن تتزين للخاطب، بل يباح لها أن تكشف عن وجهها ويدها وعن رأسها وما يظهر غالبًا، لكن دون أن تضع شيئًا من مساحيق التجميل والزينة, لأن هذا قد ينتج نتيجة عكسية.

حكم التحدث عبر الهاتف بين المخطوبين

حكم التحدث عبر الهاتف بين المخطوبين: قد يحتاج الخاطب إلى محادثة المخطوبة خاصة في الحالات التي لا يمكن فيها رؤية مخطوبته، فيحادثها عن طريق الهاتف ليتعرف على صوتها وليقف على رأيها فيما له أثر في الحياة الزوجية المقبلة. وقد منع من المحادثة عبر الهاتف والإنترنت بعض أهل العلم لما يفضي إليه سدًا للذريعة ولما يخشى من المحادثة التي قد تجر إلى أمور محرمة. وذهب أكثر أهل العلم إلى جواز ذلك لكن قيدوها بقيود منها: 1 - أن تكون المحادثة بعلم أهل المخطوبة. 2 - أن تكون بقدر الحاجة، قياسًا على الرؤية الشرعية. 3 - أن تكون بعيدة عن منكر القول، وفي حدود المعروف من القول. والذي يظهر أنه لا حرج في محادثة الخاطب للمخطوبة عبر الهاتف لكن بالقدر الذي أباحه الشرع، مثل أن يقول لها مثلًا: هل تشترطين كذا؟ أو أشترط لزواجك كذا، وما أشبه ذلك، ويكون ذلك وفق القيود المذكورة آنفًا، وبعلم أهلها. فإن كان كلام الخاطب مع مخطوبته عبر الهاتف أو غير ذلك من وسائل الاتصال، فيه خضوع بالقول، مثير للعواطف، مهيج للمشاعر، فيكون الكلام محرمًا؛ قال تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 32]. لأن المخطوبة لا تزال أجنبية عن الخاطب، وهي لا تختلف في هذا الحكم عن المرأة الأجنبية (¬1). ¬

_ (¬1) انظر كتاب: مستجدات فقهية في قضايا الزواج والطلاق، أسامة عمر سليمان الأشقر (ص: 103).

ما يسمى بـ (خاتم الخطوبة)

ما يسمى بـ (خاتم الخطوبة): تاريخ هذه النازلة: خاتم الخطبة من التقاليد الفرعونية القديمة، وأول من اتبع ذلك هم قدماء المصريين؛ والسبب في ذلك أن النقود التي كانوا يتعاملون بها كانت على هيئة حلقات ذهبية، وكون الخاطب يضع هذه الحلقات في إصبع المخطوبة يعني أنه قد وضع كل أمواله وكل ما يملك تحت تصرفها (¬1). أما الدبلة التي توضع في يد العروسين: فهي عادة نصرانية أيضًا مصحوبة باعتقاد أن هناك عرقًا توجد في الأصبع (البنصر)، يتصل بالقلب، مباشرة، وأنها أي (الدبلة) تسبب محبة بين الزوجين. ومجموع ما يعطى للمخطوبة من ذهب؛ كخاتم، ودبلة، وأسورة، ونحو ذلك هي ما تسمى (الشبكة). الحكم الشرعي في لبس الدبلة: قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: "لا أعلم له أصلًا، ولم يكن من عادة المسلمين، والذي سمعناه أنه من عادة النصارى، وأنه ورد إلى الناس من لبنان وغيره، فالذي أرى أن ترك ذلك هو الذي ينبغي، هو أسلم وأبعد عن مشابهة الكفرة، ولم يبلغنا عن سلفنا الصالح أنهم كانوا يفعلون شيئًا من ذلك، وإنما يخطب المرأة ويقدم ما تيسر من المهر ويكفي هذا، أما الدبلة والشبكة فليس لها أصل" (¬2). وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "لبس الدبلة للرجال أو النساء من الأمور المبتدعة، وربما تكون من الأمور المحرمة؛ لأن بعض الناس يعتقدون أن الدبلة سبب لقاء المودة بين الزوج والزوجة، ولهذا يذكر لنا أن بعضهم يكتب على دبلته اسم ¬

_ (¬1) انظر: أحكام الزفاف في السنة المطهرة، محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله-، (ص: 214). (¬2) مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (11/ 341).

زوجته وتكتب على دبلتها اسم زوجها، وكأنهما بذلك يريدان دوام العلاقة بينهما وهذا نوع من الشرك؛ لأنهما اعتقدا سببًا لم يجعله الله سببًا لا قدرًا ولا شرعًا، فما علاقة هذه الدبلة بالمودة أو المحبة، وكم من زوجين بدون دبلة وهما على أقوى ما يكون من المودة والمحبة! وكم من زوجين بينهما دبلة وهما في شقاء وعناء وتعب! ". فهي بهذه العقيدة الفاسدة نوع من الشرك، وبغير هذه العقيدة تشبه بغير المسلمين؛ لأن هذه الدبلة متلقاة من النصارى، وعلى هذا فالواجب على المؤمن أن يبتعد عن كل شيء يخل بدينه. أما لبس خاتم الفضة للرجل من حيث هو خاتم لا باعتقاد أنه دبلة تربط بين الزوج وزوجته، فإن هذا لا بأس به؛ لأن الخاتم من الفضة للرجال جائز والخاتم من الذهب محرم على الرجال؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى خاتم ذهب في يد أحد الصحابة -رضي الله عنهم - فطرحه وقال: "يعمد أحدكم إلى جمرة من النار فيضعها في يده" (¬1). فالذي يظهر لنا أنه لا يجوز تقديم الخاطب لمخطوبته ما يسمى بدبلة الخطوبة وذلك لما يلي: 1 - أن لبسها فيه تشبه بالكفار، فهو عادة عندهم كما سبق. 2 - أن لبس الدبلة كما سبق فيه نوع اعتقاد أنها سبب لجلب المحبة والمودة، أو أنه يذهب العداوة بين الزوجين وهذا من الشرك. 3 - أن ذلك أمر محدث لم يكن في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا عهد أصحابه. فإذا كانت هذه الشبكة (الحلي) من قلادة وأسورة وخواتم من غير دبلة فلا مانع من ذلك حيث لا يترتب عليه محذور، فإذا قدمت للزوجة على أنها هدية فلا ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- (18/ 100).

إقامة حفل الخطوبة

يحق للزوج الرجوع فيها، فإنها تجري عليها أحكام الهبة والهدية التي تلزم بالقبض، وتكون ملكًا للمخطوبة، وإن قدمت لها على أنها جزء من الصداق يبقى مودعًا عندها حتى يتم العقد فيصير ملكًا لها فإنها لا تملكها إلا بالعقد، وعليه فالواجب إرجاعها إلى الخاطب إذا حصل تراجع عن الخطبة، ولا أثر لكون التراجع عن الخطبة من جهة الزوج أو من جهة الزوجة؛ لأن الخطوبة ليست عقدًا ملزمًا، فلكل من الطرفين التراجع عنه متى شاء، لكن ينبغي الوفاء به ديانة إذا لم يكن هناك سبب مقبول شرعًا يدعو إلى الترك. وإذا كانت الهدايا من غير الحلي، وقد استهلكت من قبل المخطوبة فليس للخاطب استرداد قيمتها. إقامة حفل الخطوبة: من العادات التي انتشرت في المجتمعات الإسلامية ما يسمى بحفل الخطبة، فيجتمع فيه أهل الخطيبين وغيرهما تعبيرًا منهم عن الفرحة التي غمرت مشاعرهم، ويقوى داعي الاجتماع حينما تتأخر إحدى الفتيات عن الزواج ويتقدم سنها، فما أن يأتي إليهم الخاطب لخطبة الفتاة، إلا ويحصل عندهم نوع فرح يحصل من خلاله ما يسمى بحفل الخطبة. والخطبة ما هي إلا وعد بالزواج، ولا يترتب عليها أي أمر آخر من أمور الشرع. والفرح بالخطبة أمر لا حرج فيه، لكن حفل الخطبة قد يحصل فيه أمور محرمة من اختلاط وغناء ورقص كما هو موجود في بعض البلدان الإسلامية، بل ويحصل فيه من أن الخاطب يلبس المخطوبة الأساور وما يسمى بدبلة الخطوبة، وهذا كله من الأمور المحرمة؛ وذلك لأن المخطوبة قبل أن يتم العقد عليها تعتبر أجنبية عن الخاطب لا صلة لها به، فلا يجوز له أن يخلو بها ولا أن يصافحها، فضلًا عن أن يراها

نشر إعلانات الزواج عن طريق الإنترنت

في كامل زينتها، كما هو الحال في مثل هذه الحفلات. وأما بعد العقد فهي زوجته ولهما أن يقيما حفلة لإعلان هذا النكاح، مع مراعاة أن تكون هذه الحفلة غير مشتملة على محرم، كالاختلاط والغناء المصحوب بالآلات الموسيقية والكلام الفاحش، ونحو ذلك من المحرمات. نشر إعلانات الزواج عن طريق الإنترنت: تقوم بعض النساء عبر الإنترنت إذا أرادت زوجًا بإرسال بعض الكلام، وذلك بوصف نفسها مثلًا فتصف شعرها وبدنها وبياضها أو أي شيء منها. والحقيقة الذي لا تخفى عن الجميع أن مواقع الزواج على الإنترنت كثرت، وهي بين مواقع متخصصة، وخدمات تقدمها بعض المواقع رغبة في تكثير عدد متصفحيها. وانتشار هذه الظاهرة يدل على حجم وعمق المعاناة التي تعيشها المرأة المسلمة في مجتمعاتنا، التي جعلت الزواج صعبًا، فصار الحرام أسهل من الحلال، حتى طلَّ علينا شبح العنوسة، وصار يهدد أمل الشباب في إقامة أسر سعيدة، ويقضي عليهم باليأس والقنوط، كل ذلك بسبب حيدة المجتمع عن الأخذ بأحكام الإسلام في تيسيره أمر الزواج، في هذا الوضع المزري الذي لولاه لما باحت العذراء ذات الخدر بسرها -والذي وجدت في الإنترنت سبيلًا للبوح به- مما يدل على عمق المأساة وحجم المشكلة. حكم هذه النازلة: الحكم عليها يختلف باختلاف المواقع: فمنها الجاد الذي هدفه التوفيق بين الجنسين ويتخذ احتياطات جيدة في ذلك، فيقوم باستقبال الطلبات من الطرفين، ثم يقوم بالمطابقة بينها، ثم يُعْلِم الطرفين بذلك دون أن ينشر شيئًا من بياناتهما، وهذه الطريقة لا حرج فيها، بل هي من التعاون على البر والتقوى، مع التنبيه إلى أن الأمر

حفلات الزواج ليلة العرس

بعد موافقة الطرفين يعتبر مجرد خطبة له أحكام الخطبة، أما الزواج فله شروطه التي يجب توافرها للحكم بصحته. ومن المواقع ما هو هازل، أو ما يتخذ مسرحًا للفارغين، وذلك بأن ينشر الطرفان بياناتهما وعنوانهما، وهذا ما يجعل القضية محفوفة بالمخاطر، وسبيلًا للعب بعواطف البنات، والتغرير بهن، فينبغي اجتناب هذه الطريقة سدًّا للذريعة المفضية إلى ما لا تحمد عقباه. حفلات الزواج ليلة العرس: حفلات الزواج في الإسلام: حفلات تجمع بين إدخال الفرح والسرور على الحاضرين، لكن لا بد من التزام العفة والصيانة والبعد عن المحرمات. فالنساء يحتفلن بالزواج بمعزل عن الرجال، يفعلن كل ما من شأنه أن يدخل السرور على الزوجة ومَنْ حولها، من لهو ومرح وغناء مصحوب بالدف، وأكل وشرب وغير ذلك مما يختلف باختلاف العادات والأعراف، إذا كان داخلًا في دائرة المباح. وكذلك الرجال، يجتمعون في مكان خاص بهم، يتبادلون التهنئة، ويدعون للزوجين بالبركة، ويسن أن يصنع الزوج وليمة يأكل منها الحاضرون، من غير إسراف. فالغرض من حفلة الزواج إعلانه وإظهاره، وتمييزه عن السفاح المحرم، وإدخال السرور على الزوجين وأهاليهما وأصدقائهما، مع تحقيق العبودية لله تعالى في ذلك كله. لكن لا بد من التنبيه على أنه لا يجوز ظهور الزوج على المنصة بجوار زوجته أمام النساء الأجنبيات عنه اللاتي حضرن حفلة الزواج، وهو يشاهدهن وهن يشاهدنه، وكل متجمل أتم تجميل، وفي أتم زينة فهذا منكر يجب إنكاره، والقضاء

التصوير الفوتوغرافي ليلة العرس

عليه من ولي الأمر الخاص للزوجين وأولياء أمور النساء اللاتي حضرن حفل الزواج، فكل يأخذ على يد من جعله الله تحت ولايته، ويجب إنكاره من ولي الأمر العام، من حكام وعلماء وهيئات الأمر بالمعروف، كل بحسب حاله من نفوذ أو إرشاد، وكذلك يحرم إقامة الحفلات المشتملة على الرقص والغناء المثير للغرائز والذي يدعو إلى المجون، وكذا سائر المحرمات التي ترتكب في مثل هذا الحفل (¬1). التصوير الفوتوغرافي ليلة العرس: لقد اعتاد الناس في هذه الأزمنة أمورًا لا ينظرون إليها من جهة الحل والحرمة وبخاصة ليلة العرس مقلدين بذلك غير المسلمين، فكم يحصل في هذه الليلة من مخالفات للشرع من تصوير العروسين عن طريق التصوير الفوتوغرافي أو عبر التصوير بالفيديو من أجل الذكرى وغير ذلك. ووجه كون ذلك نازلة أن هذا النوع من أجهزة التصوير، أي: التصوير الفوتوغرافي لم يكن موجودًا ولا معروفًا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا في زمن الصحابة، ولا عهد ازدهار المدارس الفقهية، وإنما اكتشف مؤخرًا، وقد اختلف العلماء المعاصرون في حكم التصوير الفوتوغرافي، فقال بعضهم بحرمة هذا النوع من التصوير كسائر أنواع التصوير، ولا يباح منه إلا ما تدعو إليه الضرورة، أو تقتضيه المصلحة العامة؛ لعموم أدلة التحريم وصراحتها وشمولها لكل ما يسمى صورة، وقال بعضهم بجواز هذا النوع من التصوير؛ لأن الآلة هي التي تخرج الصورة فورًا, وليس للإنسان في الصورة أي عمل، إنما هذا من باب نقل صورة صورها الله -عَزَّ وجَلَّ- بواسطة هذه الآلة، فهي انطباع لا فعل للعبد فيه من حيث التصوير، والأحاديث الواردة إنما هي في التصوير الذي يكون بفعل العبد ويضاهي به خلق ¬

_ (¬1) انظر: آداب الخطبة والزفاف وحقوق الزوجين، عبد الله ناصر العلوان، (ص: 76 - 77).

ما يسمى بزفة العروسين

الله، ولكن إذا كان هذا التصوير الفوتوغرافي لغرض محرم، فإنه يكون حرامًا تحريم الوسائل. والذي يظهر لنا أن تصوير حفلات الأعراس بالفيديو، أو بالتصوير الفوتوغرافي لا يخلو من: أولًا: أن يشتمل على تصوير النساء فهذا محرم، سواء كان المصور رجلًا أو امرأة، لما في الأول من اطلاع هذا الرجل على عورات النساء وزينتهن، ولما في الثاني من مظنة اطلاع الرجال على هذه الصور أثناء تحميضها وإعدادها أو بعد ذلك. ثانيًا: أن يقتصر على تصوير الرجال، فهذا مما اختلف العلماء في تحريمه (¬1)، ونرى جوازه ما دام أنه لا يترتب عليه محذور ومخالفات شرعية (¬2). ما يسمى بزفة العروسين: اعتاد الناس في هذه الأزمنة بأن تكون هناك زفة للعروسين جميعًا، فإن كانت هذه الزفة خالية عن المحاذير الشرعية؛ كالموسيقى، وكشف العورات، والتبذير الشديد، واختلاط الرجال بالنساء، بحيث تكون النساء مع بعضهن والرجال كذلك فلا بأس بها؛ لأنها من جملة المباحات، ولأنه يستحب إعلان النكاح والضرب بالدف. أما إن كانت الزفة مشتملة على أحد المحاذير الشرعية؛ كدخول الرجل وامرأته بين النساء، أو تواجد أقارب الزوجين من الرجال والنساء وهن في كامل زينتهن. فكل هذا لا يجوز مطلقًا؛ لما فيه من الفتنة بدخول الرجل على نساء أجنبيات منه، وقد يكون سببًا لفتنة بعضهن، أو افتتانه بهن، وهكذا إذا كان مصحوبًا بالغناء أو الرقص، أو تقبيل الزوجة أمام الحضور أو ما أشبه ذلك من الأعمال المحرمة، أو ¬

_ (¬1) انظر: آداب الخطبة والزفاف وحقوق الزوجين، عبد الله ناصر العلوان، (ص: 76 - 84). (¬2) ويرى الشيخ الطيار أن السلامة ترك التصوير بلا شك.

حكم لبس الفستان الأبيض ليلة العرس

ظهور الزوج على المنصة بجوار زوجته أمام النساء الأجنبيات عنه اللاتي يحضرنَ حفل الزواج وهو يشاهدهنَ وهنَ يشاهدنه، وكل متجمل أتم تجمل وفي أتم زينة فلا شك أن الزفة في تلك الحالة لا تجوز. حكم لبس الفستان الأبيض ليلة العرس: لا حرج على المرأة أن تلبس فستان الزفاف الأبيض، بشرط ألا تظهر به أمام الرجال الأجانب عنها؛ لأن الغالب أن فستان الزفاف يكون مزخرفًا ومزينًا، لكن بشرط ألا يكون ذلك الفستان عاريًا يبدي مفاتن المرأة، وألا يكون على هيئة ثياب الرجال. وفستان العرس الأبيض مع كونه لم يكن معهودًا من قبل في بلاد المسلمين بل هو مأخوذ عن غيرهم، إلا أنه أصبح غير قاصر عليهم، وإنما عمت به البلوى عند المسلمين، ومن ثم فلا يعتبر من التشبه الممنوع (¬1). قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "المرأة يجوز لها أن تلبس الثوب الأبيض، بشرط ألا يكون على تفصيل ثياب الرجل، وأما كونه تشبهًا بالكفار فقد زال الآن هذا التشبه، لكون كل المسلمين إذا أرادت النساء الزواج يلبسنه، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فإذا زال التشبه وصار هذا شاملًا للمسلمين والكفار، زال الحكم، إلا أن يكون الشيء محرمًا لذاته لا للتشبه، فهذا يحرم على كل حال" (¬2). حكم رقص العروس في حفل عرسها وسط المدعوين بفستان الزفاف: من بين التقاليد والعادات الدارجة عند بعض المسلمين أن تقوم العروس في حفل عرسها بالرقص وسط المدعوين بفستان الزفاف، الذي عادة ما يكون غير ¬

_ (¬1) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (17/ 218). (¬2) مجموعة أسئلة تهم المرأة، (ص: 92).

قضاء شهر العسل بعد الزواج

ساتر لجسمها، فإذا كان ذلك بين النساء فقط وليس للرجال، فلا حرج أن ترقص بينهم مع التستر، بحيث لا يبدو منها إلا ما جرت العادة بظهوره كالرأس واليدين والقدمين ونحو ذلك، وتكون متسترة في بقية جسمها، أما إذا كان هناك رجال فلا يجوز (¬1). قضاء شهر العسل بعد الزواج: ما يسميه الناس بـ (شهر العسل)، وهو أن يصحب الزوج زوجته ويسافر بها إلى مدينة أو بلد آخر فلا يخلو أن يكون السفر إلى أماكن اللهو والمعصية، وهذا لا يجوز، بل كيف يبدأ الزوجان طريق حياة الزوجية بمثل هذه العادات المنكرة والظواهر السيئة. ويزيد هذا السفر قبحًا إذا كان إلى بلاد غير المسلمين، إذ يترتب عليه مفاسد كثيرة وأضرار تعود على الزوج والزوجة معًا، فقد يتأثر الزوج بعادات الكفار وتقاليدهم فيزهد في دينه وعاداته الطيبة، وتتأثر الزوجة كذلك بالكافرات فتخلع ربقة الدين وتاج الحياء، وتزهد في أخلاق وعادات أهلها الطيبة، وتنجرف في تيار الفساد والخلاعة والتبرج. قال الشيخ صالح الفوزان: "وما تعورف عليه في هذا الزمان لدى كثير من المترفين من الشباب وذوي الثروة من السفر صبيحة الزواج إلى البلاد الخارجية الكافرة لإمضاء شهر العسل كما يسمونه، وهو في الواقع شهر السم؛ لأنه شهر محرم، يؤدي إلى شرور كثيرة؛ من خلع الحجاب، والتزيي بزي الكفار، ومشاهدة أفعال الكفار وتقاليدهم السخيفة، وزيارة أمكنة اللهو، حتى ترجع المرأة متأثرة بتلك الأخلاق الرذيلة، زاهدة بأخلاق مجتمعها المسلم، فإن هذا السفر حرام شديد ¬

_ (¬1) المنتقى من فتاوى الفوزان، الشيخ صالح بن فوزان الفوزان (8/ 60).

الاحتفال السنوي بالزواج

التحريم، يجب الأخذ على يد مرتكبيه، ومنعهم منه، ويجب على أولياء المرأة منعها من ذلك السفر" (¬1) انتهى. وأما أن يكون السفر إلى أماكن تتسم بالطهارة والنقاء بقصد الترفيه، ولم يكن في هذا السفر شيء من المنكرات وكان السفر مشروعًا، كالسفر لأداء العمرة مثلًا، فإن هذا السفر لا بأس به بل قد يكون مناسبًا للزوجين في أول حياتهما (¬2). الاحتفال السنوي بالزواج: مما تأثرت به المجتمعات الإسلامية اليوم ما عليه الغرب بما يسمى بعيد الزواج كما تأثروا بهم من قبل فيما يسمى بعيد الحب وعيد الأم وعيد الميلاد، وغير ذلك من الأعياد التي أحدثت في بلاد المسلمين وتحقق في المسلمين ما وعد به النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ"، قُلنَا: يَا رَسُولَ اللهِ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: "فَمَنْ؟ " (¬3). وقال الله سبحانه وتعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] , وقال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18 - 19] , وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ" (¬4). وقد بين - صلى الله عليه وسلم - أن الأعياد الإسلامية ثلاثة، وهي: يوم الجمعة وعيدا الفطر والأضحى، وما عداها فهي أعياد باطلة مبتدعة، كما أنها لم تكن من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) الملخص الفقهي (2/ 581). (¬2) انظر في ذلك: منكرات الأفراح، عبد العزيز بن عبد الله الغامدي، (ص: 65). (¬3) رواه البخاري، كتاب الاعتصام، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لتتبعن سنن من كان قبلكم (7320) , ومسلمٌ، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى (2669). (¬4) رواه مسلم، في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، رقم (1718).

ولا صحابته الكرام، ولا عرفت مثل هذه الأعياد إلا بعد القرون الثلاثة الفاضلة؛ مما يدل على أنها محرمة، وليس لها أصل في الإسلام؛ ولذلك لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما؛ قال: "ما هذان اليومان" قالوا كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الفِطْرِ، وَيَوْمَ النَّحْرِ" (¬1). ولو كانت الأعياد مجرد عادات ما أبدلها بأعياد المسلمين. ثم إن هذه الاحتفالات عادة دخلت على المسلمين من اليهود والنصارى ففعلها تقليد لأعداء الله تعالى وتشبه بهم، والمسلم يجب أن يكون قدوة يتَّبَع لا أن يكون تابعًا يقوده غيره. والأعياد يجب فيها الاتباع، لا الابتداع؛ لأنها قضية دينية عقدية، وليست عادات دنيوية محضة؛ قال الله تعالى في صفة عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ...} [الفرقان: 72] الآية، وقد فسرها كثير من العلماء بأعياد المشركين، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا" (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإن هذا يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم، كما لما قال: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148]، وقال: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، أوجب ذلك اختصاص كل قوم بوجهتهم وبشرعتهم، وذلك أن اللام تورث الاختصاص، فإذا كان لليهود عيد وللنصارى عيد؛ كانوا مختصين به فلا نشركهم فيه، كما لا نشركهم في قبلتهم وشرعتهم، وكذلك أيضًا -على هذا-: لا ندعهم يشركوننا في عيدنا" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود، في كتاب الصلاة، باب صلاة العيدين، رقم (1134). (¬2) رواه البخاري، في (الجمعة)، باب سنة العيدين لأهل الإسلام، برقم (952)، ومسلمٌ، في كتاب (صلاة العيدين)، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد برقم (892). (¬3) اقتضاء الصراط المستقيم لخالفة أصحاب الجحيم (1/ 501).

وقال: "وللنبي - صلى الله عليه وسلم - خطب وعهود ووقائع في أيام متعددة، مثل: يوم بدر، وحنين، والخندق، وفتح مكة، ووقت هجرته، ودخوله المدينة، وخطب له متعددة يذكر فيها قواعد الدين، ثم لم يوجب ذلك أن يتخذ أمثال تلك الأيام أعيادًا، وإنما يفعل مثل هذا النصارى الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى أعيادًا، أو اليهود، وإنما العيد شريعة، فما شرعه الله اتبع، وإلا لم يحدث في الدين ما ليس منه" (¬1). وخلاصة حكم هذه النازلة أن الاحتفال بذكرى الزواج لا أصل له في عادات المسلمين، وإنما هو من عادات غير المسلمين، فالواجب على المسلم اجتناب ذلك. ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 123).

نوازل عقد النكاح

نوازل عقد النكاح إجراء النكاح عبر الوسائل الحديثة: اختلف أهل العلم المعاصرون في إجراء عقد النكاح بالوسائل الحديثة كالهاتف والإنترنت: فمنهم من منع ذلك؛ لعدم وجود الشهادة، مع التسليم بأن وجود شخصين على الهاتف في نفس الوقت له حكم المجلس الواحد، وهذا ما اعتمده مجمع الفقه الإسلامي. ومنهم من منع ذلك احتياطًا للنكاح؛ وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة للإفتاء ومما ورد في فتواها بخصوص هذه النازلة ما يأتي: "نظرًا إلى ما كثر في هذه الأيام من التغرير والخداع، والمهارة في تقليد بعض الناس بعضًا في الكلام وإحكام محاكاة غيرهم في الأصوات حتى إن أحدهم يقوى على أن يمثل جماعة من الذكور والإناث صغارًا وكبارًا، ويحاكيهم في أصواتهم وفي لغاتهم المختلفة محاكاة تلقي في نفس السامع أن المتكلمين أشخاص، وما هو إلا شخص واحد، ونظرًا إلى عناية الشريعة الإسلامية بحفظ الفروج والأعراض، والاحتياط لذلك أكثر من الاحتياط لغيرها من عقود المعاملات رأت اللجنة أنه ينبغي ألا يعتمد في عقود النكاح في الإيجاب والقبول والتوكيل على المحادثات التليفونية؛ تحقيقًا لمقاصد الشريعة، ومزيد عناية في حفظ الفروج والأعراض حتى لا يعبث أهل الأهواء ومن تحدثهم أنفسهم بالغش والخداع" (¬1)، ومنهم من جوز ذلك إذا أُمن التلاعب. ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (18/ 90).

الزواج العرفي

ونرى أنه يجوز العقد بوسائل الاتصال الحديثة ما دامت هذه الوسائل فيها رؤية ومحادثة ويمكن أن يكون فيها شهود عند المرأة وشهود عند الرجل لزيادة التوثيق (¬1) " (¬2). الزواج العرفي: يعد الزواج العرفي من أكثر الأنكحة المعاصرة انتشارًا وبخاصة في هذه الأزمنة، فقد ازداد وانتشر في الآونة الأخيرة في كثير من البلدان الإسلامية. أولًا: تعريف الزواج العرفي: اختلفت تعريفات الفقهاء المعاصرين في تعريفه، فقيل في تعريفه: "هو عقد زواج غير موثق بوثيقة رسمية، سواء أكان مكتوبًا أو غير مكتوب". وقيل أيضًا: "هو عقد مستكمل لشروطه الشرعية، إلا أنه لم يوثق، أي: بدون وثيقة رسمية كانت أو عرفية". وتُظهر هذه التعريفات للزواج العرفي أنّه لا فرق بينه وبين الزواج الشرعي، ولكن هناك فرقًا بينه وبين الزواج الرسمي، فالزواج حتى يكون رسميًّا لا بدَّ من توثيقه في الدائرة الخاصة بالتوثيق في الدولة، أما الزواج الشرعي فلا يلزم التوثيق فيه إلا إذا ألزم ولي الأمر في ذلك. ¬

_ (¬1) انظر كتاب: مستجدات فقهية في قضايا الزواج والطلاق، أسامة عمر سليمان الأشقر (ص: 104 - 111)، ورسالة ماجستير "أثر التقنية الحديثة على أحكام النكاح"، عبد الله بن سبيل بن عايض الرشيدي، (ص: 82). (¬2) ويرى الشيخ الطيار أنه لا يجوز عقد النكاح عن طريق الهاتف والإنترنت وغيرها من وسائل الاتصال الحديثة لما يحضه من مخاطر كثيرة وعقد النكاح يجب فيه الاحتياط، ويمكن الخروج من ذلك بأن يوكل الشخص الذي يريد النكاح شخصًا آخر يقوم بإجراء العقد نيابة عنه.

ثانيا: الفرق بين الزواج العرفي والشرعي والرسمي ونكاح السر

ثانيًا: الفرق بين الزواج العرفي والشرعي والرسمي ونكاح السر: 1 - الفرق بين الزواج العرفي والزواج الشرعي: من خلال التعريفات السابقة يظهر بوضوح أن الزواج العرفي هو زواج شرعي بعينه، وعلى ذلك ينطبق على الزواج العرفي التعريف الذي عرفنا به الزواج سابقًا، وقد صرحت التعريفات التي سبق ذكرها بهذه الحقيقة، وممن صرح بها فضيلة الشيخ حسنين مخلوف -رحمه الله-، حيث قال: "عقد الزواج إذا استوفى أركانه وشروطه الشرعية تَحِلُّ به المعاشرة بين الزوجين، وليس من شرائطه الشرعية إثباته كتابة في وثيقة رسمية ولا غير رسمية، وإنما التوثيق لدى المأذون أو الموظف المختص نظام أوجبته اللوائح والقوانين الخاصة بالمحاكم الشرعية خشية الجحود وحفظًا للحقوق، وحذّرت من مخالفته لما لهُ من النتائج الخطيرة عند الجحود". 2 - الفرق بين الزواج العرفي والزواج الرسمي: كل من الزواج العرفي والزواج الرسمي يعتبر عقدًا شرعيًّا كما سبق بيانه، والفارق بينهما أن الزواج الرسمي تصدر به وثيقة رسمية من الدولة، بخلاف الزواج العرفي الذي يعقد مشافهة أو تكتب فيه ورقة عرفية، وقد عرف رجال القضاء المعاصرون الوثيقة الرسمية بأنها "التي تصدر من موظف مختص بمقتضى وظيفته بإصدارها". والوثيقة الرسمية لا تقبل الإنكار، ولا يجوز الطعن فيها بحال، وبناءً على ذلك يثبت بها عقد النكاح قطعًا. أما عقد الزواج العرفي ولو أثبت بالشهود، أو وثيقة عرفية فإنه يقبل الطعن فيه، ويقبل الإنكار. 3 - الفرق بين النكاح العرفي ونكاح السر: يظهر الفرق بين النكاح العرفي ونكاح السرّ في النقاط التالية:

ثالثا: نظرة في تاريخ توثيق العقود بالكتابة

أ- إذا كان النكاح العرفي قد تم بإيجاب من الولي وقبول من الزوج، وشهد عليه شاهدان على الأقل، وجرى الإعلان عنه، فهذا زواج شرعي صحيح وإن لم يسجل في الدوائر الرسمية، ولم تصدر به وثيقة رسمية. ب- العقد العرفي الذي تمّ بإيجاب وقبول بين الرجل والمرأة من غير ولي ولا شهود ولا إعلان فهو زواج باطل باتفاق أهل العلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأما نكاح السر الذي يتواصون بكتمانه ولا يشهدون عليه أحدًا؛ فهو باطل عند عامة العلماء، وهو من جنس السفاح، قال الله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] " (¬1). وهذا النوع لا يجوز في هذه الحالة تسميته بالزواج العرفي. ج- إذا تم عقد النكاح العرفي بإيجاب من الولي وقبول من الزوج، وشهد عليه شاهدان، وتواصى الزوجان والولي والشهود على كتمانه وعدم إذاعته، فهذا زواج باطل عند بعض الفقهاء، وذهب الجمهور إلى صحة العقد الذي شهد عليه شاهدان وإن تواصى الجميع بكتمانه؛ لأن السرية عندهم تزول بالإشهاد، وإشهاد رجلين هو الحد الأدنى للإعلان الذي يصح به النكاح. ثالثًا: نظرة في تاريخ توثيق العقود بالكتابة: اكتفى المسلمون في سابق عصورهم بعقد الزواج بألفاظ مخصوصة، وتوثيقه بالشهادة، ولم يروا آنذاك حاجة لتوثيقه بالكتابة، ومع تطور الحياة وتغير الأحوال، وما يحتمل أن يطرأ على الشهود من عوارض الغفلة والنسيان والموت، وما يقتضيه واقع الحال في تدوين كافة العقود المتعلقة بأحوال الناس وتوثيقها أصبحت هناك حاجة لتوثيق عقود الزواج بالكتابة، مما اقتضى النص في العديد من القوانين على ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (33/ 158).

الإلزام بالتوثيق، وفق تنظيم معين. ابتدأت كتابة العقود عند المسلمين عندما بدؤوا يؤخرون المهر أو شيئًا منه، وأصبحت هذه الوثائق التي يدون فيها مؤخر الصداق أحيانًا وثيقة لإثبات الزواج. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "لم يكن الصحابة يكتبون (صداقات) لأنهم لم يكونوا يتزوجون على مؤخر، بل يعجلون المهر، وإن أخّروه فهو معروف، فلما صار الناس يزوجون على المؤخر، والمدة تطول وينسى صاروا يكتبون المؤخر، وصار ذلك حجة في إثبات الصداق وفي أنها زوجة له" (¬1). وفي العصر الحاضر ألزمت قوانين الأحوال الشخصية بتسجيل عقود الزواج. ولتوثيق العقود عمومًا منافع كبيرة، وقد شرعه الله لمصلحة عباده حفظًا لحقوقهم، وقد وثّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكثير من معاملاته ومراسلاته، وأمر بالكتابة في الصلح مع المشركين، وتوالى التوثيق بالإشهاد والكتابة منذ عهده، وعهد من بعده - صلى الله عليه وسلم - استشعارًا منهم لأهميته. أما عن توثيق عقد الزواج فقد دلت السنة على وجوب توثيقه بالشهادة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل"، وقد أخذ بهذا جمهور الفقهاء، أي أن النكاح لا ينعقد إلا بشاهدين، والعلة في وجود الإشهاد على الزواج واضحة في كونها تدل على إشهاره وإعلانه عن طريق النقل والتسامع بين الناس مما ينفي التهمة ويحفظ حقوق الزوجة والأولاد، ودفع احتمالات الإنكار. ومما سبق يظهر بجلاء أهمية التوثيق في الشريعة الإسلامية سواء منه ما كان بالشهود أو بالكتابة. وإذا كان التوثيق بالشهود سببًا لإشهار الزواج وإعلانه فإن توثيقه بالكتابة سبب أيضًا لإشهاره وإعلانه. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (32/ 131).

رابعا: حكم الزواج العرفي

ولا مراء في أن هذا التوثيق أدعى في هذا العصر الذي تعقدت فيه المشكلات، وتعددت فيه أسباب النزاع مما يقتضي توثيق العقود بالكتابة، ولا مراء في أن لهذا التوثيق منافع عدة، منها إمكانية حفظ العقد المكتوب مدة طويلة وغير محدودة، ومنها سهولة الرجوع إليه عند النزاع مما لا يتوافر في الشهود، ومن هذه المنافع أيضًا معرفة الأمة لتاريخها وتسلسل أجيالها، وحفظ أنسابها، ناهيك عما يستلزمه تخطيط تنميتها واقتصادها من توثيق زيجاتها. فالإلزام بتسجيل عقود الزواج هو من "باب السياسة الشرعية" التي يمكن لولي الأمر إلزام رعيته بها لما يراه في ذلك من مصالح، فالتوثيق لدى المأذون أو الموظف المختص نظام أوجبته اللوائح والقوانين الخاصة بالمحاكم الشرعية؛ خشية الجحود وحفظًا للحقوق، وحذرت من مخالفته لما له من نتائج خطيرة من النكران. وإذا كان الزواج العرفي زواجًا صحيحًا استوفى شروطه، فللحاكم المعاقبة على عدم توثيق عقد الزواج؛ لأنه خالف أمرًا أوجب الله طاعته فيه لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]. رابعًا: حكم الزواج العرفي: من مقاصد الشريعة المطهرة العظمى حماية حقوق الفرد والمجتمع، والمحافظة على الأنساب، وأخذ كل الاحتياطات لمنع اختلاطها. من أجل كل ذلك وضعت للزواج الشرعي شروطا وضوابط؛ لحماية حق الرجل والمرأة والولد. فاشتراط الولي والشهود والإشهار للزواج هو لحماية الزوج أن ينسب إليه ولد هو منه براء في الحقيقة، وحماية للمرأة أن ينكر الرجل -متى شاء- ولده منها، وحماية للولد أن ينتفي منه أبوه متى حلا له ذلك. ولعل الحكمة من هذه الشروط والضوابط

الشرعية يدركها جليًّا من تساهلوا في الأخذ بها، فحصل ما حصل من مشاكل متشابكة وضياع للحقوق وظلم للآخرين. لذلك فالواجب على المسلمين جميعًا أن يلتزموا بشرع الله تعالى، ويحكموه في كل أمور حياتهم ليسعدوا في الدنيا والآخرة. فالزواج الصحيح شرعًا: هو ما اجتمعت فيه شروط الصحة، وانتفت عنه موانعها، وبناءً على ذلك نقول: 1 - إذا كان الزواج قد حصل بدون علم الولي وموافقته فهو باطل على الصحيح خلافًا للحنفية الذين لم يشترطوا وجود الولي في الزواج؛ وذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ... " (¬1). فالواجب أَن يفرّق بين الرجل والمرأة، ويفسخ العقد لبطلان هذا النكاح، فإن وافق الولي على زواج هذا الرجل من تلك المرأة بعد ذلك، فليكن بعقد جديد بعد ما تستبرئ المرأة، إن كان هذا الرجل قد وطئها. 2 - إذا اكتملت الشروط المطلوبة لصحة النكاح إلا أنه لم يحصل إعلان وإشهار له، فإن كان ذلك عن غير تواطؤ من الأطراف المعنية فهو صحيح، وعليهم أن يعلنوه ويشهروه؛ ليبتعد عن مشابهة الزنا في صفاته. أما إن كان عدم الإشهار حاصلًا عن تواطؤ، فإن النكاح مختلف فيه بين أهل العلم، فمنهم من قال: إنه يفسخ لمشابهته للزنا من حيث التواطؤ على الكتمان. ومنهم من قال: إنه صحيح لا يفسخ لتوافر شروط الصحة فيه، فهو مثل ما لم يحصل فيه تواطؤ على كتمانه. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد (6/ 47)، وأبو داود في النكاح، باب في الولي (2083) والترمذيُّ في النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي (1102)، وابن ماجه في النكاح، باب لا نكاح إلا بولي (1879)، عن عائشة -رضي الله عنها-، وحسنه الترمذيُّ، وصححه ابن حبان (4074)، والحاكم (2/ 168)، وقال: صحيح على شرط الشيخين.

زواج فريند

ونحن هنا ننصح إخواننا المسلمين بالبعد عن الزواج العرفي، والحرص على الزواج الصحيح الموثق؛ بعدًا عما يترتب عليه من إشكالات وقضايا. كما ننبه إلى صورة محرمة منكرة يقع فيها بعض الناس وهي: "أن يلتقي الرجل بالمرأة ويقول لها: زوجيني نفسك، فتقول زوجتك نفسي، ويكتبان ورقة بذلك، ويعاشرها معاشرة الأزواج بحجة أنهما متزوجان زواجًا عرفيًّا". فهذه الصورة ليست زواجًا لا عرفيًّا ولا غيره، بل هي زنا؛ لأنها تمت دون وجود الولي والشاهدين، وعلى من فعل ذلك التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، وإذا أراد الزواج فليتزوج وفق الضوابط الشرعية المعتبرة في الزواج (¬1). زواج فريند: اشتهر في الغرب ما يسمى بالعشيق والعشيقة، وهو الصديق المعاشر معاشرة الأزواج حتى أصبح أمرًا عاديًا بل أصبح الفتى أو الفتاة الذين ليس لهم عشيق أو عشيقة يعد عند بعضهم مريضًا نفسيًا يذهب به إلى العيادات والمستشفيات. ومن الأسباب التي تسببت في انتشار وباء الزنا، الجو الجنسي السائد، وتعليم جنسي تحت مسمى الثقافة الجنسية مما أحال الحياة في بعض الدول غير الإسلامية إلى حياة جنسية تظهر آثارها المدمرة في كل زاوية من زواياها. ومن المعلوم أن كثيرًا من الجاليات الإسلامية تعيش في بلدان غربية، وهي بلا شك قد تتأثر ببعض قيم وأخلاقيات هذه المجتمعات الموبوءة أخلاقيًا، وخاصة الجيل الناشئ في تلك الديار، فإنه سيرى المغريات والمشاهد الجنسية تحيط به من كل ¬

_ (¬1) انظر: كتاب مستجدات فقهية في قضايا الزواج والطلاق، أسامة عمر سليمان الأشقر (ص: 127).

أولا: تصوير زواج فريند

اتجاه مما قد يضعفه وتخور قواه إذا ما استمر في كبت هذه الغريزة، ونفس الكلام يقال في الفتاة. وإن كان الزواج في مثل هذه الحالات واجبًا لمن قدر عليه إلا أن هؤلاء القادرين حين تبحث عنهم تجدهم قلة قليلة جدًا، ذلك أن القدرة تعني: المهر وتكاليف العرس، والسكن وما يحمله من كماليات نزلها بعضهم منزلة الضروريات ونفقة وغيرها مما يعجز عنها الكثير من شباب اليوم، زد على ذلك جشع بعض الآباء الذي جعل من ابنته مغنما وسلعة يساوم ويزايد عليها، ويدفعها لمن يدفع أكثر، مما جعل الزواج أمرًا بعيد المنال إن لم يكن مستحيلا، وهذا يفضي إلى مفاسد خطيرة جدًا تؤدي إلى خراب المجتمع، ولعل من أبرزها وأهمها انتشار الفاحشة بكل أشكالها، فعندما يحاط الفتى أو الفتاة بالجو الجنسى المشحون ويأخذه اليأس، ولا يستطيع الزواج ليستر به نفسه ويجتنب هذا الوباء، ولضعف في الوازع الديني، فإنه غالبًا ما يقع فيما حرم الله. أولًا: تصوير زواج فريند: خروجًا من مفاسد العشق وأن يفاجأ الأب بصديق ابنته في غرفتها ومواجهته بالحرية الشخصية، ومن أن يفاجأ بابنته تدخل عليه مثقلة البطن أو اليدين بطفل لا يدري مصدره. وتعاملًا مع الواقع المتأزم الذي يصعب فيه تكوين أسرة مستقرة في بيت يتولى الزوجان فيه مباشرة أعمالهما المنوطة بهما، وبذل كامل الحقوق التي عليه للطرف الآخر. جاءت فكرة الزواج بين الفتى والفتاة ولكن بدون أن يلتزم الزوج بتبعات الزواج المالية كالنفقة والسكنى، إذ يعقد بين الزوجين، ثم إذا ما أرادا المعاشرة فلهما

ثانيا: حكم زواج فريند أو الزواج الميسر

أن يذهبا إلى أي مكان يطمئنان فيه، إما منزل الأبوين أو الأقارب، أو صديق، أو أي مكان آخر. ثانيًا: حكم زواج فريند أو الزواج الميسر: بعد أن تناقلت وسائل النشر الإلكتروني وغيرها فتوى الشيخ عبد المجيد الزنداني بجواز هذا الزواج، اختلف علماء العصر اختلافًا شديدًا حول هذه الفتوى: فمنهم من قال بصحة هذا النكاح، ودلل لصحته بما يلي: 1 - توافر كل أركان وشروط عقد النكاح من الولي والشاهدين والمهر، بل وتوثيقه في المحاكم، وهذا يعني صحة هذا العقد بإجماع أهل العلم. 2 - من حق المرأة أن تتنازل عن حقها في المبيت والنفقة والمأوى كما سبق بيانه. 3 - فيها علاج مشكلة كبيرة وهي: تجاوز تكاليف الزواج قدرة الشباب والفتيات، والذي أدى في نهاية المطاف إلى بروز ظاهرة العنوسة مع ما تحمله من مفاسد جمة. 4 - أنه يحقق مقصدًا من مقاصد النكاح وهو (العفة). ومنهم من قال بأن هذا النوع من الزواج باطل، واستند أصحاب هذا القول إلى ما يلي: 1 - أن من مقاصد الزواج الأساسية السكن والمودة بين الزوجين، فإذا لم تتحقق هذه المقاصد فقد الزواج قيمته الأساسية، وأصبح مجرد شهوة يتساوى فيها الإنسان والحيوان. 2 - أنه يؤدي إلى الإفساد، وخلط الأنساب، ومخالفة الشرع، وارتكاب الفواحش، وكثير من الجرائم والمفاسد الاجتماعية والأخلاقية.

الزواج الصوري بغية الحصول على الأوراق الرسمية

3 - له شبهة بنكاح المتعة الذي نهى عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهيًا قطعيًّا، حيث المقصود الأصلي منها هو مجرد قضاء الوطر دون الاستمرار في السكنى والمودة والرحمة. وعقد الزواج الأصل فيه الاستمرارية والاستقرار؛ ولذلك فإن كل عقد مقيد بمدة معينة هو عقد باطل، والعقد الصحيح مطلوب فيه تحقيق الآثار الشرعية المترتبة عليه في الحال، فلا يوجد في الإسلام زواج موقوف، ولكن زواج نافذ وجائز مستمر (¬1). والذي يظهر لنا عدم صحة هذا الزواج إذا تم من غير علم ولي الزوجة، فهو زواج غير معلن، وليس فيه ولي ولا شاهدان، وما يترتب عليه من المفاسد أكثر مما يتحقق من المصالح (¬2). الزواج الصوري بغية الحصول على الأوراق الرسمية: أولًا: تعريف الزواج الصوري: الزواج الصوري هو الزواج الذي لا يقصد به أطرافه حقيقة الزواج الذي شرعه الله ورسوله، فلا يتقيدون بأركانه وشرائطه، ولا يحرصون على انتفاء موانعه، بل ويتفق أطرافه على عدم المعاشرة صراحة أو ضمنًا، فهو لا يعدو أن يكون إجراءً إداريًّا لتحصيل بعض المصالح أو دفع بعض المفاسد، فهو أشبه ما يكون بنكاح التحليل لا يراد به النكاح حقيقة بل لتحليل المرأة لمطلقها ثلاثًا. ¬

_ (¬1) انظر: فتوى زواج فريند تفجر خلافًا فقهيًّا بين علماء الأزهر، جريدة الشرق الأوسط, العدد (9027) شعبان 1424 هـ. (¬2) ويرى الشيخان (المطلق- والموسى): أن هذا النوع من الزواج يعني (زواج فريند) إذا تم بعلم الولي وموافقته، وتوفر فيه الشاهدان، فإنه زواج صحيح؛ لتوافر الأركان والشروط.

ثانيا: حكم الزواج الصوري

ثانيًا: حكم الزواج الصوري: الزواج في الإسلام له أركانه المعروفة من الإيجاب والقبول والولي ونحوه، وله كذلك مقاصده الشرعية المعهودة من العفة والإحصان وابتغاء الولد ونحوه، ولا يجوز الخروج بالزواج عن هذه المقاصد، وصرفه عنها لأغراض نفعية مصلحية بحتة. وبناءً على ذلك نقول بأن الزواج الصوري على هذا النحو محرم؛ لعدم توجه الإرادة إليه، ولخروجه بهذا العقد عن مقاصده الشرعية، ولما يتضمنه من الشروط المنافية لمقصوده، فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه. أما حكمه ظاهرًا فإنه يتوقف على مدى ثبوت الصورية أمام القضاء: فإن أقر الطرفان بصورية العقد أو تيقن القاضي بذلك من خلال ما احتف به من ملابسات وقرائن قضى ببطلانه، أما إذا لم تثبت، فإنه يحكم بصحته متى تحققت أركان الزواج وانتفت موانعه. فمتى مست الحاجة إلى تحصيل بعض المصالح التي لا يتسنى تحصيلها إلا من خلال الزواج، فإن السبيل إلى ذلك هو الزواج الحقيقي الذي تتجه إليه الإرادة حقيقة، فتستوفى فيه أركانه وشرائطه، وتنتفي موانعه، ويجري على وفق الشريعة المطهرة، فلا يصرح فيه بالتوقيت، ولا يعبث فيه أحد بغاياته ومقاصده (¬1). الزواج المدني: أولًا: تعريف الزواج المدني وأنواعه: هو مؤسسة قانونية ناشئة عن عقد رسمي بين رجل وامرأة طليقي الإرادة، ولا ارتباط لأحد منهما، فهو زواج خارج إطار القوانين الشرعية، ويعتمد على القوانين ¬

_ (¬1) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (18/ 448).

الوضعية كأن يكون في دار البلدية كما في أوروبا وليس في المحاكم الشرعية كما عندنا. فيتزوج الرجل وتتزوج المرأة ممّن يريدان دون الرجوع إلى الضوابط الشرعية والتحليل والتحريم؛ حيث يكون العقد كأي عقد مقاولة أو عقار حيث يشترط فيه تقسيم الأبناء والبنات والصلاحيات. وخلاصة تعريف هذا النوع من الأنكحة أن الزواج المدني هو مفهوم تطبيقي أو عملي للزواج دون الخضوع لأي لوائح أو قوانين أو شرائع سوى التعايش والتوافق ما بين رجل وامرأة، وهو بالتأكيد زواج لا علاقة له بالإسلام ولا بغيره من الأديان السماوية. والزواج المدني نوعان: النوع الأول: يكون من خلال أوراق قانونية توثق في دار للزواج مخصصة لمثل هذا النوع من الزيجات ومعترف به قانونيًّا كزواج مدني، ويتيح للزوج والزوجة حقوقًا قانونية من حيث إثبات النسب وخلافه وذلك في أوروبا بالطبع، وهو مختلف تمامًا عن الزواج العرفي المتبع في بعض الدول العربية، وكذا زواج المسيار والمتعة والفريند وخلافه من المسميات. أما النوع الثاني: فهو زواج مدني فعلي ولكن دون أوراق، أي: أن يتوافق رجل وامرأة على العيش معًا دون أي وثائق قانونية، وما دام بينهما مودة وتعايش جيد يستمران ويتعامل كل منهما مع الآخر كزوج بكافة حقوقه الكاملة جسديًّا ومعنويًّا، وأي علاقة خارج نطاق الشريك تعتبر خيانة أيضًا, ولا يخضع لحرية كما يظن الكثيرون، وإنما هو زواج رسمي توافقي غير موثق في الدوائر الرسمية، ويتعاون الشريكان في الحياة، ويمكن للزوج أن يتحمل كافة مستلزمات الحياة، وهي ربة للمنزل كأي زوجين، لكنه دينيًّا وشرعيًّا مرفوض لدى المسلمين، أما في أوروبا فهو

ثانيا: نبذة عن نشأة الزواج المدني

لا يتفق مع الدين المسيحي وإن كان المجتمع لا يعترض البتة على مثل هذا الزواج بل يباركه أحيانًا. ثانيًا: نبذة عن نشأة الزواج المدني: أصل نشأة الزواج المدني في العالم كانت تعبيرًا عن ردة فعل تجاه تصرفات الكنيسة التي ظلت صاحبة السلطان المطلق في الزواج بشتى أنحاء أوربا، وبدأت الخطوة الأولى حين قامت الثورة الفرنسية عام 1798 م، فبدأ سلطان الكنيسة بالتقلص إلى أن تخلص الناس من سيطرة رجال الكنيسة على الزواج، وتحولت زمام الأمور إلى السلطة المدنية، وقد خدم السلطة المدنية اعتبارات عدة. أهمها: المعارضة التي أعلنها مارتين لوثر في القرن السادس عشر ضد النظرة الكنسية الكاثوليكية للزواج، بأنه سر من الأسرار السبعة، التي تختص بالكنيسة. ومع ذلك فإن الزواج المدني لا يزال في كثير من أحكامه ملتزمًا بالإطار التشريعي الكنسي، وأن النظرة الكنسية لا تزال هي المسيطرة عليه. وقد بوشر بتطبيق قانون الزواج المدني سنة: 1804 م، وكان ذلك باجتهاد وتشجيع من نابليون بونابرت في أعقاب الثورة الفرنسية، ثم انتشر في الدول الأوربية وغالبية دول الأمريكيتين، ثم لحقت العدوى تركيا، وذلك في عام: 1926 م، وتونس في عام: 1956 م، أما في لبنان فقد بقي مشروع قانون الزواج المدني بين أخذ ورد حتى اعتمد كقانون اختياري في عام 1994 م. ثالثًا: حقيقة الزواج المدني: الزواج المدني عقد موثق بشاهدين في مقر رسمي مختص، والوثيقة لضمان حقوق كلا الزوجين بالعدل والمساواة في حال وقع الطلاق، وهو لا يعترف للمرأة بالمهر؛ لأنه يعد بنظره امتهانًا لها، كأنها تبيع نفسها به، مقابل دخول الرجل بها.

رابعا: صورة الزواج المدني

وهذا الزواج يقبل باقتران كل رجل وامرأة مهما كانت ديانتهما، فيقبل زواج النصراني أو الدرزي أو غيرهم من المسلمة. والطلاق في هذا الزواج يقرره القاضي في المحكمة بعد رفع دعوى طلب الطلاق من أحد الطرفين، فيطّلع القاضي على حيثيات الدعوى ويسمع من كلا الطرفين، ثم يعطي المدعي الوقت الكافي لمراجعة نفسه والعودة عما عزم عليه، وإذا بقي الطرف صاحب الدعوى مصرًّا على طلبه، يصدر القاضي حكمه بالطلاق، ثم ينظر القاضي في جلسات أخرى في مسألة توزيع الممتلكات بالعدل بين الزوجين، وهذا في الدول التي تسمح بالطلاق، إذ أن العديد من الدول التي تطبق الزواج المدني ليس فيها ما يُدعى دعوى طلب التفريق أو الطلاق، مع العلم بأن هذا الزواج يمنع تعدد الزوجات منعًا باتًّا. ولعل السبب في قوة انتشاره؛ تناغمه مع مظاهر التحلل الأخلاقي المنتشر في شتى أرجاء العالم. رابعًا: صورة الزواج المدني: هو أن يتفق رجل وامرأة دون النظر إلى ديانتهما، فيتفقان على إنشاء علاقة زوجية بينهما، ثم يقومان بتوثيق هذا الاتفاق في الدائرة المختصة بحضور شاهدين ضمن مجموعة من ذوي طرفي الاتفاق. ويتم هذا الاقتران بينهما بحسب ما اتفقا عليه، والذي غالبًا ما يكون على أساس المساواة التامة بينهما، فلا مهر لها, ولا قوامة له، ولا طاعة عليها, ولا طلاق له، بل هي حياة دائمة قائمة على الاحترام المتبادل -من وجهة نظرهم- لا تنقطع إلا بالموت، ولا يحق للزوج بموجب هذا الزواج أن يعدد من الزوجات مطلقًا، أما بالنسبة للنفقة والسكنى فبحسب الاتفاق الذي جرى بينهما.

خامسا: حكم هذا النوع من الأنكحة

خامسًا: حكم هذا النوع من الأنكحة: من نظر إلى هذا الزواج يرى أنه يصادم أحكام الشريعة الإسلامية، ولا يتفق معها بحال من خلال أمور منها: 1 - لم يعتبر الآخذون بالزواج المدني الدينَ مانعًا من موانع النكاح ولا من موانع الميراث، معارضين بذلك ما أمر الله -عَزَّ وجَلَّ- به عباده. 2 - الطلاق: فقد حرّمته الشرائع الآخذة بالزواج المدني، مع تفاوت بينها من حيث الشدة والتراخي، إلا أن جميعها اتفقت على تحريمه من حيث الجملة، رغم إباحة الله -عَزَّ وجَلَّ- له، لكن بقيود وضوابط معلومة. 3 - التبني: وهو مما قامت الشرائع التي تعتد بالزواج المدني بإباحته، رغم تحريم الله -عَزَّ وجَلَّ- له بنصوص صريحة قاطعة، لا تقبل النظر والتأويل. 4 - العدة: تلاعب الآخذون بالزواج المدني بمدة العدة التي فرضها الله -عَزَّ وجَلَّ- على المرأة، رغم وجود النصوص التي بين فيها ربنا سبحانه وتعالى مدة العدة على وجه التفصيل. 5 - التعدد: حرّم الآخذون بالزواج المدني على الرجل أن يعدد في الزوجات، رغم إباحة الله سبحانه وتعالى له ذلك، لكن مع وجود ضوابط تضبط هذه الإباحة. 6 - الرضاع: رغم اعتباره من قبل الله -عَزَّ وجَلَّ- مانعًا من موانع النكاح، كالمحرمية والمصاهرة، لم تأت القوانين التي تأخذ بالزواج المدني على ذكره واعتباره مانعًا من موانع النكاح (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: هذه النازلة في كتاب الزواج المدني، دراسة فقهية مقارنة، محمد رمضان، وكتاب الزواج المدني ومشروع قانون الأحوال الشخصية اللبناني، عبد الفتاح كبار.

عادة الدوطة التي في الهند

وبهذا يعلم حرمة هذا النوع من الأنكحة؛ لأنه مصادم صراحة للشريعة الإسلامية، ومما جاء بخصوص هذا النكاح ما ورد في بيان اللجنة الدائمة وهذا نصه: فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية نظرت في البيانات الصادرة عن المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في لبنان، وعن مجلس المفتين برئاسة سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ/ محمد رشيد قباني، المتضمنة رفض مشروع قانون الأحوال الشخصية الاختياري (نظام الزواج المدني) الصادر من رئاسة الجمهورية اللبنانية؛ لما يتضمنه هذا المشروع من أمور كثيرة مخالفة للشريعة الإسلامية بل وللشرائع السماوية كلها؛ حيث يسمح للمسلمة أن تتزوج بغير المسلم، وللأخ أن يتزوج أخته من الرضاع، ولا يسمح للرجل بالطلاق، ولا يجعل اختلاف الدين مانعًا من التوارث بين الزوجين، ويمنع من تعدد الزوجات، إضافة إلى أنه لا يرجع في هذا العقد إلى حكم الشرع، وإنما يرجع فيه إلى القانون المدني. وبناء على ذلك فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية تؤيد ما صدر عن المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، وعن مجلس المفتين في لبنان من رفض هذا القانون وإبطاله شرعًا، وتحذر المسلمين منه؛ لأنه قانون مخالف للشريعة الإسلامية فلا يترتب عليه شيء من أحكام الزواج الشرعي، من حل الوطء والتوارث وإلحاق الأولاد وغير ذلك" (¬1). عادة الدوطة التي في الهند: تعريفها: الدوطة هي عادة عند نصارى الهند وهي: مال تدفعه المرأة للزوج كالمهر عند المسلمين، وإذا ماتت الزوجة تعتبر تركة تقسم قسمة الميراث. وقد صدر ¬

_ (¬1) مجلة البحوث الإسلامية (55/ 377).

بخصوص هذه العادة قرار من المجمع الفقهي الإسلامي المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي ومما جاء فيه: قرار رقم: 33 (4/ 7) حول تفشي عادة الدوطة في الهند. الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد اطلع على ترجمة خطاب الأخ عبد القادر الهندي، الذي جاء فيه قيامه في محاربة (الدوطة)، وهو المبلغ الذي تدفعه العروس في مجتمع الهند الإسلامي، مقابل الزواج، وأن يكتفي المسلمون الهنود فقط بتدوين المهر في سجل الزواج، دون أن يدفعوه إلى الزوجة فعلًا, ولقد كتبت الكثير في هذا الصدد في كثير من صحف (التاميل) الإسلامية، ثم يستطرد الأخ عبد القادر في خطابه فيقول: "ومن ثم فإن هذا الزواج حرام، كما أن المواليد الناشئين عن هذا الزواج غير شرعيين، طبقًا للكتاب والسنة". كما اطلع المجلس على خطاب فضيلة الشيخ أبي الحسن الندوي الموجه إلى معالي الأمين العام للرابطة بتاريخ 16/ 3 / 1404 هـ والذي جاء فيه: "إن قضية الدوري قضية متفشية في سكان الهند، وهي قضية الهندوس بالدرجة الأولي، دخلت على المسلمين بسبب احتكاك بناخهم ببنات الهنود، ويحارب قادة المسلمين هذه العادة، وبدأت الحكومة الهندية كذلك تستبعد هذه العادة أخيرًا .. وأرى أنه يكفي لمجلسنا الفقهي إصدار فتوى وبيان حول هذه القضية، ينهى المسلمين عن اتباع عادة جاهلية ظالمة، مثل الدوري، تسربت إليهم من غيرهم، وأرجو أن قادة المسلمين في الهند جميعًا إذا بذلوا جهودهم في ذلك، لكان نجاحًا كبيرًا في إزالة هذه العادة. والله ولي التوفيق). أهـ كلامه. وبعد أن اطلع المجلس على ما ذكره قرر ما يلي: أولًا: شكر فضيلة الشيخ أبي الحسن الندوي، وشكر الأخ عبد القادر على ما أبدياه نحو عرض الموضوع، وعلى غيرتهما الدينية، وقيامهما بمحاربة هذه البدعة

والعادة السيئة، والمجلس يرجو منهما مواصلة العمل في محاربة هذه العادة وغيرها من العادات السيئة، ويسأل الله لهما وللمسلمين التوفيق والتسديد، وأن يثيبهما على جدهما واجتهادهما. ثانيًا: ينبه المجلس الأخ عبد القادر وغيره، بأن هذا الزواج -وإن كان مخالفًا للزواج الشرعي من هذا الوجه- إلا أنه زواج صحيح، معتبر شرعًا عند جمهور علماء المسلمين، ولم يخالف في صحته إلا بعض العلماء في حالة اشتراط عدم المهر. أما الأولاد الناشئون عن هذا الزواج، فهم أولاد شرعيون، منسوبون لآبائهم وأمهاتهم، نسبة شرعية صحيحة، وهذا بإجماع العلماء، حتى عند الذين لا يرون صحة هذا النكاح، المشروط فيه عدم المهر، فقد صرحوا في كتبهم بإلحاق الأولاد بآبائهم وأمهاتهم بهذا الزواج المذكور. ثالثًا: يقرر المجلس: أن هذه العادة سيئة منكرة، وبدعة قبيحة، مخالفة لكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع العلماء، ومخالِفة لعمل المسلمين في جميع أزمانهم. أما الكتاب؛ فقد قال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]. وقال تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10]. وقال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24]. وغير ذلك من الآيات. وأما السنة؛ فقد جاءت مشروعية المهر في قوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله وتقريره؛ فقد جاء في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود، عن جابر، -رضي الله عنه-، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَو أنَّ رجلًا أَعطَى امرأةً صَدَاقًا مِلءَ يَدَيْهِ طَعَامًا، كانت له حَلالًا" (¬1). فهذا من أقواله. وأما فعله؛ فقد جاء في صحيح مسلم وغيره من كتب السنن عن عائشة قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونصف أوقية .. فهذا فعله. وأما تقريره؛ فقد ¬

_ (¬1) رواه أحمد (3/ 355)، وأبو داود (2110) ورجح وقفه، والدارقطني (3/ 243)، والخطيب في تاريخ بغداد (6/ 365)، والبيهقيُّ في الكبرى (7/ 238) (14149). وانظر: تلخيص الحبير (3/ 190) (1551).

جاء في الصحيحين وغيرهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة. فقال: "ما هذا؟ ". قال: تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب. قال: "بارك الله لك". فهذا من تقريره، وهو إجماع المسلمين وعملهم، في كل زمان ومكان، ولله الحمد. وبناء عليه فإن المجلس يقرر: أنه يجب أن يدفع الزوج لزوجته صداقًا سواء كان الصداق معجَّلًا، أو مؤجلًا، أو بعضه معجل وبعضه مؤجل، على أن يكون تأجيلًا حقيقيًّا يراد دفعه عند تيسره، وأنه يحرم أن يجرى الزواج بدون صداق من الزوج لزوجته. ويوصي المجلس بأن السنة: تخفيف الصداق وتسهيله، وتيسير أمر النكاح، وذلك بترك التكاليف والنفقات الزائدة، ويحذر من الإسراف والتبذير؛ لما في ذلك من الفوائد الكبيرة. رابعًا: يناشد المجلس العلماء والأعيان والمسؤولين في الهند وغيرهم، محاربة هذه العادة السيئة (الدوطة)، وأن يجدوا ويجتهدوا في إبطالها وإزالتها من بلادهم، وعن ديارهم، فإنها مخالفة للشرائع السماوية، ومخالفة للعقول السليمة، والنظر المستقيم. خامسًا: أن هذه العادة السيئة -علاوة على مخالفتها للشرع الإسلامي- هي مضرة بالنساء ضررًا حيويًّا، فالشباب لا يتزوجون عندئذ إلا الفتاة التي يقدم أهلها لهم مبلغًا من المال يرغبهم ويغريهم، فتحظى بنات الأغنياء بالزواج، وتقعد بنات الفقراء دون زواج، ولا يخفي ما في ذلك من محاذير ومفاسد، كما أن الزواج عندئذ يصبح مبنيًّا على الأغراض والمطامع المالية، لا على أساس اختيار الفتاة الأفضل والشاب الأفضل. والمشاهد اليوم في العالم الغربي أن الفتاة غير الغنية تحتاج أن تقضي ربيع شبابها، في العمل والاكتساب، حتى تجمع المبلغ الذي يمكن به ترغيب الرجال في الزواج منها،

عقد الزواج داخل المساجد

فالإسلام قد كرم المرأة تكريمًا، حين أوجب على الرجل الراغب في زواجها أن يقدم هو إليها مهرًا تُصلح به شأنها وتهيئ نفسها، وبذلك فتح بابًا لزواج الفقيرات؛ لأنهن يكفيهن المهر القليل، فيسهل على الرجال غير الأغنياء الزواج بهن (¬1). عقد الزواج داخل المساجد: استحب جمهور الفقهاء عقد النكاح في المسجد؛ للبركة، ولأجل شهرته، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَعْلِنُوا هَذَا النّكَاحَ، وَاجْعَلُوهُ في المَسَاجِدِ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ" (¬2). وأما المعنى: فهو قولهم بأن عقد النكاح في المسجد بركة، لكن يُشْكِل على ذلك أنه لو كان الأمر كذلك لحرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على عقد الأنكحة لنفسه في المسجد، ولحرص على تبيين ذلك لأصحابه وعليه، فالأظهر هنا أن يقال: إن إنشاء عقد الزواج في المسجد جائز من حيث الأصل؛ لا سيما إن كان ذلك في بعض الأحيان، أو كان أبعد لهم عن المنكر، مما لو عقد في مكان آخر، وأما التزام ذلك في كل عقد، أو اعتقاد أن له فضلًا خاصًّا: فهو بدعة، ينبغي التنبيه عليها، ونهي الناس عن فعله على هذا الوجه. ¬

_ (¬1) رقم القرار: 4، رقم الدورة: 7 (حول تفشي عادة الدوطة في الهند)، مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن رابطة العالم الإسلامي. (¬2) رواه الترمذيُّ (1089)، والبيهقيُّ (7/ 290) من طريق عيسى بن ميمون، عن القاسم بن محمد، عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعلنوا هذا النكاح، واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف". وهو ضعيف الإسناد، قال البيهقي بعد إخراجه: (عيسى بن ميمون ضعيف)، قال الترمذيُّ: (هذا حديث غريب حسن في هذا الباب، وعيسى بن ميمون الأنصاري يُضَعَّف في الحديث)، وفي ميزان الاعتدال (3/ 326): قال البخاري: "عيسى بن ميمون الذي يروي "أعلنوا النكاح" ضعيف ليس بشيء، وقال عبد الرحمن بن مهدي: استعديت عليه، وقلت: ما هذه الأحاديث التي تروى عن القاسم عن عائشة -رضي الله عنها-، فقال: لا أعود! ". وقد ضعفه الألباني في الإرواء (1993) (7/ 50)، وفي السلسلة الضعيفة (978).

الزواج المؤقت بحصول الإنجاب

وإن كان أثناء العقد وُجد اختلاط بين الرجال والنساء، أو حصل استعمال للمعازف، صار عقده في المسجد أشد حرمة من عقده خارجه؛ لا في ذلك من التعدي على حرمة بيت الله. ودليل مشروعية عقد النكاح في السجد، من حيث الأصل: حديث الواهبة نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والذي رواه البخاري ومسلمٌ؛ حيث ثبت أنه زوجها لأحد أصحابه في المسجد، ولا يُحفظ أنه كرر ذلك في عقدٍ غيره. ومما جاء في فتاوى اللجنة الدائمة بخصوص ذلك ما نصه: "الأمر في إبرام عقد النكاح في المساجد وغيرها: واسع شرعًا, ولم يثبت فيما نعلم دليل يدل على أن إيقاعها في المساجد خاصة سنَّة، فالتزام إبرامها في المساجد: بدعة" (¬1). وقالوا أيضًا: "ليس من السنَّة عقد النكاح بالمساجد، والمداومة على عقد النكاح داخل المسجد واعتقاده من السنَّة: بدعة من البدع؛ لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ" (¬2) " (¬3). الزواج المؤقت بحصول الإنجاب: أولاً: تعريفه: هو أن تبدي امرأة رغبتها في الزواج من رجل تنتهي العلاقة بينهما متى تحقق لها الإنجاب؛ إذ إنها لا تريد استدامة هذا الزواج، غير أنها لجأت إليه رغبة في الولد ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (18/ 110، 111). (¬2) رواه البخاري تعليقًا بصيغة الجزم، كتاب البيوع، باب النجش، ومن قال: لا يجوز ذلك البيع، انظر رقم (2142)، ووَصَلَهُ مسلمٌ، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، رقم (1718) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة (18/ 111، 112).

ثانيا: الفرق بين الزواج بقصد الإنجاب وبين زواج المتعة

بداعي الفطرة الدافعة للإنجاب، أو خوفًا من ضياع ثروتها, ولا يستقيم أمرها باستدامة هذا الزواج مع هذا الرجل. ثانيًا: الفرق بين الزواج بقصد الإنجاب وبين زواج المتعة: نكاح المتعة أن يتفق رجل مع امرأة على زواج مؤقت بلفظ المتعة أو الاستمتاع مدة أسبوع أو شهر مثلًا، أما الزواج بقصد الإنجاب فهو أيضًا زواج مؤقت لكن بعد تحقق الغرض منه وهو الإنجاب؛ فبقاء العقد مرتبط بحصول حدث، وهذا الحدث لا يرتبط بتاريخ، فالفرقة في هذا النكاح مرتبطة بحصول الإنجاب الذي قد يتأخر شهورًا. ثالثًا: حكمه: هذا النكاح، أي: الزواج المؤقت بالإنجاب من نظر إليه وجده نكاحًا قد استوفى جميع الأركان والشروط، إلا أن أحد العاقدين يشترط في العقد أنه إذا أنجبت المرأة فلا نكاح بينهما، أو أن يطلقها، وهذا الزواج فاسد؛ لوجود معنى المتعة فيه؛ لأن التوقيت كما يكون بمدة معلومة كشهر، فإنه يكون كذلك بتحديده بالإنجاب، فالتوقيت يكون بمدة معلومة كشهر، أو بمدة مجهولة كالإنجاب، وهذا يصيره نكاح متعة وهو محرم (¬1). الزواج بنية الطلاق: أولًا: تعريفه: هو زواج توفرت فيه أركان النكاح وشروطه، ولكن أضمر الزوج في نفسه طلاق المرأة بعد مدة معلومة، أو مدة مجهولة، كإتمام دراسته، أو تحقيق الغرض الذي قدم من أجله، أو نحو ذلك مع عدم علم الزوجة. ¬

_ (¬1) عقود الزواج المستحدثة وحكمها في الشريعة، د. وهبة الزحيلي، (ص: 14).

ثانيا: حكمه

ثانيًا: حكمه: اختلف الفقهاء في حكم هذا النوع من الأنكحة، وقد ذهب أكثر العلماء إلى صحته وقالوا: إذا نكح المرأة نكاحًا صحيحًا ولكنه نوى في حين عقده عليها ألا يمكث معها إلا شهرًا أو مدة معلومة فإنه لا بأس به، ولا تضره في ذلك نيته إذا لم يكن شرط ذلك في نكاحه. قال مالك: "وليس على الرجل إذا نكح أن ينوي حبس امرأته إن وافقته وإلا يطلقها" (¬1)، ومن أشهر من قال بصحة وجواز هذا النكاح سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز. حيث قال -رحمه الله-: "أما الزواج بنية الطلاق ففيه خلاف بين العلماء، منهم من كره ذلك كالأوزاعي، وجماعة، وقالوا إنه يشبه المتعة، فليس له أن يتزوج بنية الطلاق عندهم، وذهب الأكثرون من أهل العلم، كما قال الموفق بن قدامة في المغني إلى جواز ذلك إذا كانت النية بينه وبين ربه فقط وليس بشرط، كأن يسافر للدراسة أو أعمال أخرى وخاف على نفسه، فله أن يتزوج ولو نوى طلاقها إذا انتهت مهمته، وهذا هو الأرجح إذا كان ذلك بينه وبين ربه فقط من دون مشارطة ولا إعلام للزوجة ولا وليها بل بينه وبين الله، فجمهور أهل العلم يقولون: لا بأس بذلك كما تقدم وليس من المتعة في شيء؛ لأنه بينه وبين الله، ليس في ذلك مشارطة" (¬2). القول الثاني: أنه نكاح غير صحيح، وهذا القول هو الذي ذهب إليه الإمام الأوزاعي (¬3)، وبعض أصحاب الإمام أحمد ابن حنبل (¬4)، وابن حزم الظاهري؛ حيث قال: "والعجب أن المخالفين لنا يقولون فيمن تزوج امرأة وفي نيته أن لا يمسكها إلا شهرًا ثم يطلقها إلا أنه لم يذكر ذلك في عقد النكاح، فإنه نكاح صحيح لا داخلة فيه، وهو مخير إن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها، وأنه لو ذكر ذلك في نفس العقد ¬

_ (¬1) الاستذكار (5/ 507). (¬2) مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (4/ 30). (¬3) المغني لابن قدامة (7/ 179). (¬4) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (8/ 163).

لكان عقدًا فاسدًا مفسوخًا. فأي فرق بين ما أجازوه، وبين ما منعوا منه، وليس هذا قياسًا لأحد الناكحين على صاحبه، لكنه كله باب واحد" (¬1). وممن ذهب إلى هذا القول اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية. حيث قالت: "الزواج بنية الطلاق زواج مؤقت، والزواج المؤقت زواج باطل؛ لأنه متعة والمتعة محرمة بالإجماع، والزواج الصحيح: أن يتزوج بنية بقاء الزوجية والاستمرار فيها، فإن صلحت له الزوجة وناسبت له وإلا طلقها، قال تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] " (¬2). وممن ذهب إليه أيضًا الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين -رحمه الله- حيث قال: "هذا النكاح بنية الطلاق لا يخلو من حالين: إما أن يشترط في العقد بأنه يتزوجها لمدة شهر أو سنة أو حتى تنتهي دراسته؛ فهذا نكاح متعة وهو حرام. وإما أن ينوي ذلك بدون أن يشترطه، فالمشهور من مذهب الحنابلة أنه حرام، وأن العقد فاسد؛ لأنهم يقولون: إن المنوي كالمشروط لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى"، ولأن الرجل لو تزوج امرأة من شخص طلقها ثلاثًا من أجل أن يحلها ثم يطلقها، فإن النكاح فاسد، وإن كان ذلك بغير شرط؛ لأن المنوي كالمشروط، فإذا كانت نية التحليل تفسد العقد، فكذلك نية المتعة تفسد العقد هذا هو قول الحنابلة. والقول الثاني لأهل العلم في هذه المسألة: أنه يصح أن يتزوج المرأة وفي نيته أن يطلقها إذا فارق البلد كهؤلاء الغرباء الذين يذهبون إلى الدراسة ونحو ذلك، قالوا: لأن هذا لم يشترط، والفرق بينه وبين المتعة، أن المتعة إذا تم الأجل حصل الفراق ¬

_ (¬1) المحلى بالآثار (9/ 433). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (18/ 448).

زواج المسيار

شاء الزوج أم أبى، بخلاف هذا فإنه يمكن أن يرغب في الزوجة وتبقى عنده وهذا أحد القولين لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-. وعندي أن هذا صحيح ليس بمتعة؛ لأنه لا ينطبق عليه تعريف المتعة، لكنه محرم من جهة أنه غش للزوجة وأهلها، وقد حرم النبي الغش والخداع، فإن الزوجة لو علمت بأن هذا الرجل لا يريد أن يتزوجها إلا لهذه المدة ما تزوجته، وكذلك أهلها" (¬1). ونرى جواز هذا النوع من النكاح لأنه تتوفر فيه أركان وشروط النكاح، والنية ليست ثابتة بل قد تتغير بعد الزواج فيستمر النكاح بينهما، كما أن كل من يتزوج يضمر في نفسه أنه إذا صلحت له المرأة فإنه سيستمر معها، وإن لم تصلح فإنه سيفارقها (¬2)، (¬3). زواج المسيار: أولاً: تعريفه: زواج المسيار: هو زواج ومصطلح اجتماعي نشأ في العقود الأخيرة، ويسميه البعض بالزواج الميسر حيث تتنازل فيه الزوجة عن بعض حقوقها برضى منها كالمبيت أو النفقة أو السكن وغيره من حقوقها, ولكنه زواج شرعي مكتمل الشروط والأركان. زواج المسيار في الاصطلاح: زواج يقوم على إبرام عقد شرعي بين رجل وامرأة يتفقان على المعاشرة من دون العيش معًا بصورة دائمة. ¬

_ (¬1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، العدد (3). (¬2) ويرى الشيخ الطيار أن هذا النوع من النكاح غير جائز، بل هو أجدر بالبطلان من نكاح المتعة وذلك لأنه يشتمل على الغش والخداع وتترتب عليه مفاسد أخرى من العداوة والبغضاء وذهاب الثقة حتى بالصادقين الذين يريدون الزواج حقيقة. (¬3) انظر: هذه النازلة في كتاب مستجدات فقهيه في قضايا الزواج والطلاق، أسامة عمر سليمان الأشقر، (ص: 217 - 228)، وكتاب الزواج بنية الطلاق حقيقته وحكمه وآثاره د. أحمد بن موسى السهلي.

ثانيا: بيان كون زواج المسيار نازلة

ثانيًا: بيان كون زواج المسيار نازلة: لم يكن هذا النوع من النكاح معروفًا عند الفقهاء المتقدمين بصيغته الحالية وبمسماه الحالي، وإن كان الفقهاء يبحثون مسائله مفردة، كما في قولهم (نكاح النهاريات والليليات)، وهو أن يتزوج رجل من امرأة تعمل خارج منزلها، وترجع إلى زوجها نهارًا، أو العكس: تعمل نهارًا وترجع إلى منزل زوجها ليلًا. أما اجتماع صوره، وبهذا الاعتبار فإنه لم يكن موجودًا من قبل، ولذا اعتبر نازلة تحتاج إلى نظر، وإلى دراسة من فقهاء العصر. ثالثًا: صور هذا الزواج: لنكاح المسيار صورتان: الأولى: أن يتم عقد الزواج بين الزوجين مستوفيًا جميع الأركان والشروط المطلوبة في العقد من وجود المهر والولي وشاهدي عدل، إلا أن الزوج يشترط في العقد إسقاط النفقة أو المسكن، بحيث تسكن هي في مسكنها ويأتي الزوج إليها في مسكن مخصص لها، فيكون الزوج غير مكلف بالسكنى والنفقة عليها، هذه صورة. الصورة الثانية: ألا يشترط الزوج إسقاط النفقة، لكن يشترط عدم الالتزام بالقسم في المبيت، وهو الأكثر؛ لأن الحامل على مثل هذا الزواج هو رغبة الزوج في إخفاء أمر هذا الزواج عن أهله وأولاده؛ درءًا للمشاكل المحتملة منهم إذا علموا بذلك، والأول قد يكون الحامل عليه رغبة الزوجة التي لم يتيسر لها زوج ترضى به، في أن ترزق بذرية وأن تحمي نفسها من الوقوع في الحرام. رابعًا: حكم نكاح المسيار: قبل الشروع في بيان حكم هذا النوع من الأنكحة نقول: 1 - ينبغي أن يعلم كل مسلم أن الله قد شرع الزواج لأهداف متعددة منها:

تكاثر النسل، والحفاظ على النوع الإنساني، وإنجاب الذرية، ومنها: تحقيق العفاف، وصون الإنسان عن التورط في الفواحش والمحرّمات، ومنها: التعاون بين الرجل والمرأة على شؤون العيش وظروف الحياة، والمؤانسة، ومنها: إيجاد الود والسكينة والطمأنينة بين الزوجين، ومنها: تربية الأولاد تربية قويمة في مظلة من الحنان والعطف. قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]. قال السعدي حول هذه النازلة: "بما رتب على الزواج من الأسباب الجالبة للمودة والرحمة فحصل بالزوجة الاستمتاع واللذة والمنفعة بوجود الأولاد وتربيتهم، والسكون إليها، فلا تجد بين أحد في الغالب مثل ما بين الزوجين من المودة والرحمة" (¬1) انتهى. 2 - أن الأسباب التي أدت إلى ظهور هذا النوع من الزواج متعددة منها: أ - كثرة عدد العوانس والمطلقات، والأرامل، وصواحب الظروف الخاصة. ب - رفض كثير من الزوجات لفكرة التعدد، فيضطر الزوج إلى هذه الطريقة حتى لا تعلم زوجته الأولى بزواجه. ج - رغبة بعض الرجال في الإعفاف والحصول على المتعة الحلال مع ما يتوافق وظروفهم الخاصة. د- تهرّب البعض من مسؤوليات الزواج وتكاليفه، ويتضح ذلك في أن نسبة كبيرة ممّن يبحث عن هذا الزواج هم من الشباب صغار السن. 3 - حكم نكاح المسيار: ¬

_ (¬1) تفسير السعدي (1/ 639).

هذا النوع من الأنكحة جائز وصحيح إذا توفرت له شروطه وأركانه، من التراضي، ووجود الولي والشهود ... إلخ، لكنه ليس هو الصورة المثلى والمطلوبة من الزواج، وهذا هو ما أفتى به سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (¬1) -رحمه الله-: وذلك لأن من حق المرأة أن تتنازل عن حقوقها أو بعضها المُقَرَّرة لها شرعًا، ومنها النفقة والمسكن والقَسْم في المَبيت ليلًا، وقد ورد في الصحيحين أن سَودة وَهَبَتْ يومَها لعائشة -رضي الله عنها-، ولو كان هذا غيرَ جائز شرعًا، لمَا أقره الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكل شرط لا يُؤثر في الغرض الجوهريّ والمقصود الأصليّ لعقد النكاح فهو شرط صحيح، ولا يَخِلُّ بعقد الزواج ولا يبطله. وقد صدر قرار من المجمع الفقهي برابطة العالم الإِسلامي (¬2) جاء فيه قرار رقم: 106 (5/ 18): بشأن عقود النكاح المستحدثة: "يؤكد المجمع أن عقود الزواج المستحدثة وإن اختلفت أسماؤها وأوصافها وصورها لا بد أن تخضع لقواعد الشريعة المقررة وضوابطها من توافر الأركان والشروط وانتفاء الموانع، وقد أحدث الناس في عصرنا الحاضر بعض تلك العقود المبينة أحكامها فيما يأتي: إبرام عقد زواج تتنازل فيه المرأة عن السكن والنفقة والقسم أو بعض منها وترضى بأن يأتي الرجل إلى دارها في أي وقت شاء من ليل أو نهار. ويتناول ذلك أيضًا إبرام عقد زواج على أن تظل الفتاة في بيت أهلها، ثم يلتقيان متى رغبا في بيت أهلها أو في أي مكان آخر، حيث لا يتوفر سكن لهما ولا نفقة. ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (20/ 432). (¬2) قرارات المجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي بمكة المكرمة قرار رقم: 106 (5/ 18).

تحديد المهور

هذان العقدان وأمثالهما صحيحان إذا توافرت فيهما أركان الزواج وشروطه وخلوه من الموانع، ولكن ذلك خلاف الأولى" أ. هـ. إلى أن قالوا: "ولذا ننصح بعدم اللجوء إليه؛ لأن أضراره أكثر من منافعه، ولما فيه من هدم المعاني السامية للزواج بل هو قائم على المتعة المؤقتة التي يعقبها كثير من المشاكل للرجل والمرأة، وتكوين الأسرة الصغير؛ إحدى لبنات المجتمع الكبير". تحديد المهور: قد يحدث بها وقت من الأوقات زيادة في مهور النساء مما يؤدي إلى عزوف الكثير من الشباب عن الزواج، فهل يشرع لولي الأمر أن يجعل لمهور النساء حدًّا لا يمكن تجاوزه لكي يتمكن الشباب من الزواج؟ نقول ليس هناك أدلة من القرآن ولا من السنة تدل على تحديد المهور، وإنما جاءت الأدلة من السنة ترغب في التقليل من المهور، ولا تدل نصوص التخفيف على لزوم ذلك، وإنما هذه النصوص ترغب فقط في التقليل. قال القرطبي: "وقد أجمع العلماء على أن لا تحديد في أكثر الصداق" (¬1). وقال ابن قدامة: "وأما أكثر الصداق فلا توقيت فيه بإجماع أهل العلم، قاله ابن عبد البر" (¬2) انتهى. ومما جاء بخصوص هذه النازلة قرار هيئة كبار العلماء رقم (52) وتاريخ: 4/ 4 / 1397 هـ، وقد جاء فيه: 5 - يرى المجلس: الحث على تقليل المهور، والترغيب في ذلك على منابر المساجد ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي (5/ 99). (¬2) المغني (7/ 211).

زواج المعاقين ذهنيا وبدنيا

وفي وسائل الإعلام، وذكر الأمثلة التي تكون قدوة في تسهيل الزواج إذا وجد من الناس من يرد بعض ما يدفع إليه من مهر أو اقتصر على حفلة متواضعة؛ لما في القدوة من التأتير (¬1). ومع القول بأنه لا توجد أدلة بتحديد صداق المرأة إلا أنه ينبغي عدم المغالاة في المهور، فأعظم النكاح بركة أيسره مؤونة، وكلما كان المهر قليلًا صار أقرب إلى الألفة بين الزوجين، وأيسر في الفراق إذا لم تتم الألفة. زواج المعاقين ذهنيًّا وبدنيًّا: أولًا: تعريف المعاق ذهنيًا (عقليًا): هناك العديد من التغيرات التي طرأت على تعريف الإعاقة العقلية -أو التأخر العقلي- خلال السنوات الماضية، فمن ذلك: 1 - التعريف الطبي: التأخر العقلي هو حالة توقف أو عدم اكتمال نمو الدماغ، نتيجة لمرض أو إصابة قبل سن المراهقة أو بسبب عوامل جينية. 2 - التعريف القانوني: الشخص المعاق ذهنيًّا هو شخص غير قادر على الاستقلالية في تدبير شؤونه، بسبب حالة الإعاقة الدائمة أو توقف النمو العقلي في سن مبكرة. ثانيًا: الحكم الشرعي في زواج المعاقين عقليًّا وبدنيًّا: نقول إن زواج المعاقين عقليًّا أو بدنيًّا يتناول أمورًا نجملها فيما يلي: 1 - يجوز زواج المعاقين والمتخلفين عقليًّا، وسدُّ احتياجاتهم العضوية والنفسية حق مكفول لهم كغيرهم، وهذا من أصول رعاية المعاق ومساعدته على ممارسة حياته بأقرب صورة إلى الحالة الطبيعية للإنسان. ويكون ذلك وفق الشروط التالية ¬

_ (¬1) أبحاث هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية (2/ 492).

مع شروط الزواج المعلومة: أ - اطلاع الطرف الآخر على حاله ومعرفته بوضعه تمامًا، فإن عدم اطلاعه غش له وخيانة محرمة. ب - ألا يكون الطرف الآخر مجنونًا ولا زائل العقل، بل يتزوج المتخلف عقليًّا امرأة سليمة العقل، وتتزوج المتخلفة عقليًّا برجل سليم العقل، وسبب ذلك أن اجتماع زائلي العقل لا يحقق أي مصلحة، وهو مع ذلك سبب لضرر بينهما كما هو ظاهر. ج- أن يكون سقيم العقل منهما مأمونًا، أما الذي يتصف بالعدوانية بالضرب أو الإفساد فلا يجوز له الزواج؛ لأن زواجه سبب لحصول الضرر، والضرر مرفوع في الشريعة الإِسلامية. د- أن يرضى أولياء المرأة بهذا الزواج؛ لأن فيه ضررًا قد يلحقهم. 2 - الإعاقة أنواع متفاوتة، ولكن القول الجامع فيها أن كل إعاقة لا يكون العقل فيها زائلًا مثل الصمم، والبكم، وشلل اليد أو الرجل، فهذه يجوز لصاحبها الزواج، وحكمه حكم الصحيح سواء، إلا أنه يشترط أن يطلع الطرف الآخر على الإعاقة، ويرضى بها، حتى ولو كان مصابًا بمثل تلك الإعاقة، فإن إصابته بإعاقة مماثلة لا تكفي عن أخذ رأيه في الزواج من معاق. أما المتخلف عقليًّا وصاحب الإعاقة التي تزيل العقل، فالمصاب بها حكمه حكم المجنون، والمجنون يجوز له الزواج، لكن يشترط في زواجه ما ذكرناه سابقًا. 3 - في زواج المعاق أيًّا كانت نوعية إعاقته تحقيق لمصلحة مهمة، وهي أن يوجد للسقيم منهما من يعتني به، ويقوم بشؤونه، ويهتم به، فإن عقد النكاح في الإِسلام يهدف إلى ما هو أكبر من مجرد الاستمتاع، الذي هو من مقاصد النكاح المهمة، بل يراد معه أيضًا تحقيق الرعاية والتكافل والتراحم بين الزوجين.

تحديد سن الزواج ومدى إجبار الأسر على ذلك

4 - أن الذي يزوج سقيمي العقل وليهم؛ لأنه هو الراعي لمصلحتهم، لعدم قدرتهم على إدارة شؤونهم، ولا تصريف أحوالهم، ورعاية المعاق فرض كفاية على المجتمع لمساعدته ليعود عضوًا فعالًا في المجتمع، وليتخلص من الآثار النفسية التي قد تنشأ عنده. تحديد سن الزواج ومدى إجبار الأسر على ذلك: لم تأت الشريعة الإِسلامية بتحديد سن معين لعقد الزواج، بل أجاز جمهور الفقهاء المتقدمين زواج الصغير والصغيرة، أي: دون البلوغ، إلا أن قوانين الأحوال الشخصية في البلاد الإِسلامية حددت سنًّا للزواج بعضها حدد بسن الخامسة عشرة والبعض الآخر رفعه إلى الثامنة عشرة. ولا شك أن تأخير الزواج وفقًا لما تنادي به القوانين الوضعية التي تنادي بها المنظمات النسوية ومنظمات حقوق الإنسان يؤدى إلى مضار كثيرة منها: احتمال انزلاق الفتاة إلى الفاحشة، أو أن يفوتها الزوج الكفؤ، أو حتى يفوتها قطار الزواج بالكلية، بالإضافة إلى كراهية وليها الذي أخر زواجها بعدم قبوله من تقدم إليها من الخطّاب الأكفاء، وقد يصدر منها ما لا تحمد عقباه، وأحيانًا أخرى قد يصيب نفسها شيء من التعقيد والسخط على كل من حولها. ومما ينبغي التنبيه عليه أن النداءات في المؤتمرات من قبل المؤسسات النسوية ومؤسسات حقوق الإنسان، التي تطالب بين الحين والآخر بضرورة سن قوانين وضعية تحدد سن الزواج وتجرم زواج الفتاة قبل سن الثامنة عشرة، ليست وليدة اللحظة؛ وإنما هي قديمة. وهذه الحملات في الحقيقة الهدف منها النيل من الإِسلام والإساءة له ليس أكثر، وهي مجرد مدخل تسعى من خلاله منظمات حقوق الإنسان للطعن في الإِسلام.

وبذلك نقول بأن الحكم الشرعي لهذه النازلة: أنه لا يجوز لأي جهة أن تحرم المباح أو أن تجرم من فعل خلافه، أو أن تعلق فعله على إذنها وترخيصها، وإنما دلت الأدلة الشرعية على أنه يجوز لولي أمر المسلمين الإلزام بفرد من أفراد المباح مؤقتًا، أو المنع منه كذلك بشرط أن لا يكون عامًّا لكل الناس، وأن يكون مخصوصًا بحال معينة وفق ضوابط ذكرها أهل العلم. والكتاب والسنة يدلان على ذلك؛ لأن فيهما الحث على الزواج والترغيب فيه من دون تقييد بسن معينة، قال الله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] الآية، فأجاز نكاح اليتيمة، وهي التي لم تبلغ سن البلوغ وهو تمام خمسة عشر عامًا على الأرجح، وقد تبلغ بأقل من ذلك بغير السن, وقد تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة -رضي الله عنها- ولها ست أو سبع سنين ودخل بها وهي ابنة تسع، وفعله تشريع لهذه الأمة كما أن الصحابة -رضي الله عنهم - كانوا يتزوجون في الصغر وفي الكبر دون تحديد سن معينة، فليس لأحد أن يشرع غير ما شرعه الله ورسوله ولا أن يغير ما شرعه الله ورسوله؛ لأن فيه الكفاية، ومن رأى خلاف ذلك فقد ظلم نفسه وشرع للناس ما لم يأذن به الله، وقد قال -عَزَّ وجَلَّ- ذامًّا لهذا الصنف من الناس: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ...} [الشورى: 21] الآية، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ" (¬1)، (¬2)، فلا يجوز للدولة تحريم المباح، أو إيجاب فعله، أو تقييده بإذنها كتشريع عام، وإنما يجوز لها التدخل بالمنع، أو الإلزام في بعض أفراد المباح، وفي حالات مخصوصة بهدف تحقيق مقصد شرعي من ذلك ¬

_ (¬1) رواه البخاري تعليقًا بصيغة الجزم، كتاب البيوع: باب النجش، ومن قال: لا يجوز ذلك البيع، انظر رقم (2142)، ووَصَلَهُ مسلمٌ، كتاب الأقضية: باب نقض الأحكام الباطلة، رقم (1718) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (18/ 111، 112).

اشتراط الولي على الزوج ألا يتزوج على ابنته زوجة ثانية

وبالضوابط التي سبق بيانها؛ لأن الإباحة حكم من خالق العباد وربهم، ومتى ثبت بالدليل الشرعي إباحة الفعل، فليس لمخلوق المنع، أو الإلزام به على وجه العموم والإطلاق. وللقاضي التدخل في الحالات التي يقع فيها إشكال، فيمنع ما يراه غير مناسب، ويمضي ما يراه مناسبًا. اشتراط الولي على الزوج ألا يتزوج على ابنته زوجة ثانية: قد تشترط المرأة أو يشترط وليها على الزوج ألا يتزوج على ابنته زوجة ثانية، وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة، فذهب بعضهم إلى ثبوت هذا الشرط، فمتى اشترطت الزوجة عند الخطبة مثلًا أو عند العقد أن لا يتزوج عليها أخرى فلها ذلك، ووجب الوفاء به لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلتُمْ بِهِ الفُرُوجَ" (¬1). فإذا خالف الزوج فتزوج عليها أخرى فإنه من حقها أن تفسخ النكاح، ويكون المهر لها، ويمضي العقد على الوجه الذي تمّ بينهما. وقال بعض أهل العلم: هذا الشرط باطل والعقد صحيح، لما فيه من مخالفة ما أباح الله من التعدد، فالله تعالى أحل للمسلم تعدد الزوجات، قال الله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]. ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ في كِتَابِ اللهِ فَهْوَ بَاطِلٌ وَإِنِ اشْتَرَطَ مِئة شَرْطٍ، شَرْطُ اللهِ أَحَقُّ وأوثَقُ" (¬2) فالله ندب إلى تعدد الزوجات ورغب في ذلك؛ لأن هذا من الرفق بالنساء، فالمرأة قد تكون عانسة، أو مطلقة، أو مات عنها زوجها فتضم إلى بيت من البيوت ¬

_ (¬1) رواه البخاري في الشروط، باب الشروط في المهر عند عقدة النكاح (2721)، ومسلمٌ في النكاح، باب الوفاء بالشروط في النكاح (1418)، عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه-. (¬2) رواه البخاري، كتاب الشَّروط: باب الشرط في الولاء، رقم (2561، 2562)، ومسلمٌ، كتاب العتق: باب إنما الولاء لمن أعتق، رقم (1504)، من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-.

تحت رجل يستر عرضها، ويقوم على شأنها ويرفق بها، فإذا اشترطت عليه هذه المرأة أو وليها مثل هذا الشرط فقد آذت المسلمين وأضرت بهم، بل وأضرّت بالزوج أيضًا فقد يقع في الحرام، وهذا موجود في بعض البيئات التي يرون نفاذ هذا الشرط فإنها تقع فيهم مصائب عظيمة، ثم إن الرجل يتزوج المرأة وتشترط عليه ذلك ثم تنجب له الأولاد، وقد يذهب جمالها فيخاف على نفسه الحرام وقد يصيبها شيء من العاهات والآفات فيخاف على نفسه الحرام، فلا يستطيع أن يطلقها ولا يستطيع أن يتزوج عليها، وإذا بقي ربما يقع في الحرام، فهذا الشرط لا شك أنه يضر بالزوج ويضر بالمرأة ويضر بالنساء، فمن باب الرفق بالجميع أنه لا يعتبر هذا الشرط ولا يعتد به، وإن كان هناك من خالف. ومع ذلك فإننا نرى أنه إذا رضي الزوج بهذا الشرط فيلتزم به ويحاول إقناع زوجته بالتنازل عنه؛ لا سيما إذا حصلت عوارض تقتضي ذلك ليتم الأمر برضاها وموافقتها؛ لئلا تحصل مشاكل تضر بالأسرة وتنقلب الراحة والسكن إلى جحيم لا يطاق، فإن لم ترض ولم توافق فيثبت لها حق الفسخ وزواجه صحيح. وأما الاستدلال بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلتُمْ بِهِ الفُرُوجَ" (¬1)، فالجواب عليه بأن هذا إنما يكون بشرط أن يكون موافقًا لشرع الله لا معارضًا له، فمثلًا: لو اشترطت عليه أن يكون لها بيت داخل المدينة، فهذا شرط استحلَّ به الفرج فلا بد أن يفي لها، أو يشترط وليها فيقول: أشترط أن تؤثث بيتها من الفراش الفلاني، أو أن تكون لها شقة، فيشترط شروطًا في كتاب الله وفيها رفق بالمرأة، وفيها أيضًا رفق بالزوج، فإذا كان على هذا الوجه فهذا من كتاب الله وموافق لشرع الله. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه، (ص: 58).

اشتراط ولي المرأة مواصلتها للدراسة

اشتراط ولي المرأة مواصلتها للدراسة: هذه النازلة متفرعة عن التي قبلها؛ لدخول هذا الشرط في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلتُمْ بِهِ الفُرُوجَ" (¬1). فيجوز العقدُ على امرأةٍ أو الدخولُ بها مع التزامِ شرط وَليِّها في مواصلة الدِّراسة حتى تنتهيَ منها؛ بشرط خروجها بالضوابط الشرعية وخلوِّ دراستها من محذورٍ شرعيٍّ؛ إذ لا منافاةَ بين الزواج والدِّراسة لإمكانية الجمع بينهما. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه، (ص: 58).

نوازل الحمل والولادة

نوازل الحمل والولادة تحديد موعد الولادة: من الأمور التي اعتادها النساء الحوامل أن الأطباء يقومون بتحديد موعد ولادتهن، وبالتالي تنتظر المرأة هذا الموعد الذي حدد لها من قبل الأطباء، فما مدى مشروعية هذا التحديد؟ وهل هو مصادم لقوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات: 20 - 23]، حيث ذكر أهل التفسير في معنى قوله تعالى: {إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ} هو وقت الولادة، فإذا كان وقت الولادة قد استأثر الله تعالى بعلمه ووقته، فهل يسوغ تحديده من قبل الأطباء؟ نقول: لكي نوضح حكم هذه النازلة لا بد من بيان معنى تحديد موعد الولادة عند الأطباء، فقد ذكر أهل الطب أن معرفة موعد الولادة هو تقريبي حيث يتم ذلك عن موعد انقطاع الحيض عن المرأة الحامل، ثم يبدأ حساب المدة من تاريخ انقطاع الحيض. وقد أكد الطب الحديث ما ذهب إليه الفقهاء من أن أقل مدة الحمل ستة أشهر إلا أن المولود لها نادرًا ما يعيش في الأحوال العادية (¬1). ولكن لما كان الحكم يبنى على الغالب دائمًا فإن الأطباء يحددون موعد الولادة على الشيء المتعارف عليه وهي التسعة أشهر، أي: (280) يومًا، وهذه المدة تقريبية لا يقينية كما يقول أهل الطب. وإذا كان الأمر كذلك، فلا يوجد مانع شرعي يمنع من تحديد موعد الولادة للمرأة. ¬

_ (¬1) انظر: نازلة رأي الطب في مدة الحمل.

الطلق الصناعي للجنين الحي في وقت الولادة

الطلق الصناعي للجنين الحي في وقت الولادة: أولًا: التعريف بالطلق الطبيعي والطلق الصناعي والفرق بينهما: الطلق الطبيعي: هو تقلصات رحمية طبيعية تشعر بها الحامل، وتكون هذه الانقباضات مؤلمة في البطن أو أسفل الظهر بدون أي تدخل صناعي، تحدث بشكل منتظم ومستمر بفارق زمني قصير ومتزايد، يترافق معها ازدياد قساوة الرحم، ثم تراجع في الحدة، ثم انقباض آخر بنفس المواصفات، فيؤدي ذلك إلى إخفاء عنق الرحم ونزول الجنين نحو القسم السفلي من الرحم ليخرج. أما الطلق الصناعي أو ما يسمى بـ (تحريض الولادة): فهو تدخل خارجي بحقن الحامل مادة تقوم بتحريض ألياف الرحم العضلية لتحدث التقلصات فتدفع الجنين للخارج وفي وقت لا يكون لديها آلام وضع، وهو إما قبل موعد ولادتها أو بعد مرور الوقت المحدد لولادتها لأسباب يشرحها الطبيب. ثانيًا: حكم استخدام الطلق الصناعي عند الولادة: لا تخلوا المرأة عند ولادتها من أمور: الأول: أن يستخدم الطلق الصناعي قبل الولادة وذلك لأمور قد تستوجب على الأطباء ذلك كأن تكون هناك حالة تسمم للمرأة أو لارتفاع ضغطها أو لإصابة الأم بمرض السكر، أو غير ذلك مما يكون فيه نوع خطر على الأم أو الجنين، فمتى قرر الأطباء أن هناك خطرًا على الأم أو الجنين واستلزم الأمر استعجال الولادة للمحافظة على سلامة الأم أو الجنين فهنا يكون استعمال الطلق الصناعي واجبًا حفظًا لحياة الجنين، أو حفظًا لحياة الأم، بشرط أن لا يكون هناك ضرر من استعمال الطلق الصناعي. أما إذا لم يكن هناك خطر على أحد فالأولى هنا ترك الأمر على طبيعته، وإن استعجل ذلك بالطلق الصناعي فلا حرج ما دام أنه ليس هناك ضرر على الأم أو الجنين.

العمليات القيصرية

الثاني: أن يستخدم الطلق الصناعي وقت الولادة وذلك بسبب تأخر وضع المرأة، فيقرر الأطباء استخدام الطلق الصناعي؛ لعدم وجود الطلق الطبيعي. فالحكم في هذه الحالة أنه إذا رأى الطبيب الثقة أنه لا بد من استخدام الطلق الصناعي؛ لفوات الولادة وأن هناك خطورة على الجنين فهنا يجب استخدام الطلق الصناعي، وإن لم يكن هناك خطورة على الجنين مع تأخر موعد الولادة فلا حرج من استخدام الطلق الصناعي بشرط أن لا يترتب على الطلق الصناعي ضرر على الأم وعلى الجنين، والأولى لها أن تصبر لتلد ولادة طبيعية. الثالث: أن يكون الجنين الذي في بطن الأم قد مات، ورأى الأطباء أنه لا بد من إخراجه حتى لا يسبب تسممًا للأم فهنا لا بد من حصول أحد أمرين: الأول: أن تستخدم الأم الطلق الصناعي الذي من خلاله يتم طرد ما في بطنها من هذا الجنين الميت. الثاني: أن يقوم الأطباء بإجراء العملية القيصرية لإخراج الجنين الميت من بطن الأم، ولا عدول للمرأة عن هذين الأمرين إذا كان هناك خطر عليها، فالواجب عليها استعمال إحدى الطريقتين (¬1). العمليات القيصرية: تعريف العملية القيصرية: هي عملية جراحية يقصد منها إخراج الجنين من الرحم عبر شق بطن الحامل وهذه العملية يلجأ إليها الأطباء عند حصول بعض الأمور التالية: أولًا: أن يقرر الأطباء أن هناك خطورة على الجنين لا على الأم، ويستلزم ذلك ¬

_ (¬1) الأحكام الفقهية المتعلقة بالولادة، رسالة ماجستير، د. محمَّد بن عبد الله بن محمَّد الطيار (ص: 181 - 186).

المبادرة لإجراء العملية القيصرية لإنقاذ الجنين ولا يوجد غير هذه الطريقة، فهنا يجب الأخذ بها حفاظًا على الجنين؛ لأن حفظ النفس واجب وهو من الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة بالحفاظ عليها. ثانيًا: أن يخشى على أحدهما الهلاك لو لم تتم العملية؛ فهذا الأمر راجع إلى رأي الطبيب، فمتى وجد المصلحة في الإقدام عليها فلا حرج في ذلك. ثالثًا: أن لا تكون هناك حاجة إلى إجراء العملية القيصرية، ولكن تقوم المرأة الحامل بإجراء العملية، تخلصًا من آلام الوضع والولادة، أو تخلصًا من القلق الذي يلازم بعض الحوامل في نهاية فترة الحمل أو غير ذلك، وهذا موجود عند بعض النساء، تقوم بفعل ذلك دون حاجة طبية له. فهذه الحالة لا يجوز للمرأة اللجوء إليها؛ لأن المرأة لا يجوز لها أن تتصرف في بدنها إلا بما يوافق الشرع، فلا يجوز لأي إنسان أن يؤذي نفسه، أو يقطع جزءًا من بدنه، أو يقتل نفسه، لعموم قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]. وأيضًا لما فيها من سلبيات تحدث للمرأة من جرائها، حيث يعتري هذه المرأة ما يعتري العمليات الجراحية الأخرى، وبقاء أثر الجرح بعد الولادة. رابعًا: أن تقوم بعمل العملية القيصرية من أجل إخراج الجنين الميت ولا خلاص لها إلا بذلك، فهذه الحالة يجب إجراء العملية القيصرية لسلامة الأم. خامسًا: أن تموت الأم والجنين الذي في بطنها حي، وهذه الحالة اختلف فيها الفقهاء قديمًا وحديثًا، والذي يظهر لنا: أنه متى اتفق الأطباء على أن حياة الجنين الذي في بطن الأم المتوفاة مستقرة، ويمكن أن يرجى له العيش، فهنا يجب شرعًا شق بطن الأم لإخراج الجنين، لوجوب حياة النفس، وحفظ الحياة الإنسانية، وفي عدم

استخدام جهاز الشفط أو الملقط لإخراج الجنين

إخراجه هلاك له وقتل للنفس المعصومة وهو محرم شرعًا، والقاعدة هنا هي ارتكاب أخف الضررين، وأخف الضررين هو شق بطن الأم للعملية الذي هو أهون من هلاك ولدها الحي، كما أن انتهاك حرمتها أخف من جريمة قتل النفس (¬1). استخدام جهاز الشفط أو الملقط لإخراج الجنين: تنوعت أنواع الولادة وبخاصة في هذه الأزمنة التي تقدم فيها مجال الطب، فهناك ثلاثة أنواع للولادة، ويحدد الطبيب بأي طريقة تتم الولادة. النوع الأول: وهو الولادة الطبيعية، وهي أكثر أنواع الولادة شيوعًا، وهي التي يخرج فيها الجنين بدون أي مساعدات من الأجهزة الحديثة، وبدون أي مضاعفات للجنين أو الأم. النوع الثاني: الولادة القيصرية حيث يتم إخراج الجنين عن طريق فتح البطن والرحم، وتتم تحت التخدير النصفي أو الكلي، وقد سبق بيان حكمها سابقًا. النوع الثالث: الولادة المساعدة، وهي التي تتم كالولادة الطبيعية، لكن باستخدام أجهزة مساعدة مثل جهاز شفط الجنين أو الملقط، وهذه الطريقة يلجأ إليها الطبيب في حالات خاصة مثل ضيق الحوض، أو كبر حجم الجنين. وطريقة إخراج الجنين بواسطة شفطه بجهاز الشفط أو عن طريق الملقط المرجع فيها إلى الطبيب؛ فهو الذي يقدر المصلحة في استخدامه وعدم استخدامه لجهاز الملقط أو شفط الجنين، فمما علمنا عن أهل الطب أن جهاز شفط الجنين قد يؤدي إلى تأثيرات سلبية على رأس الجنين، وقد يؤدى إلى الوفاة أو الإعاقة بسبب التأثير المباشر على الدماغ. ¬

_ (¬1) على عتبات الأمومة، د. محمَّد فتحي، (ص: 240)، وكتاب صحة الحامل، د. سامية حمدان، (ص: 169)، والأحكام الفقهية المتعلقة بالولادة، رساله ماجستير، د. محمَّد بن عبد الله بن محمَّد الطيار، (ص: 188).

تفتيت الجنين الميت

والواجب على الطبيب أن يتقي الله في تقدير الحاجة لهذا الجهاز، فليس المطلوب خروج الجنين فقط، بل أهم ما يراعى في خروج الجنين أن يكون سليمًا صحيحًا، فمتى لم يجد الطبيب بُدًّا من استخدام هذا الجهاز، جاز له استخدامه؛ لعموم قوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]. والقاعدة في هذه النازلة أنه: "إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما". فإذا كان هناك ضرر على الأم أو ضرر على الجنين، ولم يكن بُد من استخدام هذا الجهاز، فإنه يجوز استخدامه لدفع أعظم الضررين كموت الأم أو الجنين. ولا بد للطبيب قبل شروعه في استخدامه لهذا الجهاز مراعاة ما يلي: 1 - متى كانت هناك فرصة لإخراج الجنين عن طريق الولادة الطبيعية بدون ضرر على الأم أو الجنين لزمه الانتظار وعدم استخدام جهاز الشفط. 2 - متى أمكن إخراج الجنين بطريق أقل ضرر من استخدام جهاز الشفط لزمه استخدام ما هو أخف ضررًا، كما لو كان إخراجه عن طريق العملية القيصرية أخف ضررًا من استخدام جهاز الشفط، فهنا يلزمه إخراجه عن طريق العملية القيصرية (¬1). تفتيت الجنين الميت: المراد بتفتيت الجنين: هو إخراجه متقطعًا من رحم المرأة كأن يحتاج إلى قطع عضو من أعضائه كرأسه أو جوفه أو غير ذلك مما لا يمكن إخراجه إلا بقطعه. ¬

_ (¬1) على عتبات الأمومة، د. محمَّد فتحي، (ص: 243)، وكتاب صحة الحامل، د. سامية حمدان، (ص: 167)، والأحكام الفقهية المتعلقة بالولادة، رسالة ماجستير، د. محمَّد بن عبد الله بن محمَّد الطيار، (ص: 214 - 217).

حكم هذه النازلة

وهذه الطريقة يلجأ إليها الأطباء عند تعثر إخراج الجنين الميت عن طريق الطلق الطبيعي أو الطلق الصناعي أو غير ذلك مما تعطاه المرأة لإخراجه. حكم هذه النازلة: نقول متى أمكن إخراج الجنين الميت بغير تقطيعه كإخراجه عن طريق العملية القيصرية مثلًا وجب إخراجه عن طريق ذلك إلا إذا كان هناك ضرر على الأم. أما إذا لم يكن هناك سبيل لإخراجه إلا عن طريق تفتيته أو إخراجه بوسيلة أخرى يكون فيها الضرر على الأم أكبر من هذه الحالة، فهنا يجوز إخراجه متقطعًا ما دامت الحاجة تدعو إلى ذلك، مع مراعاة تجميعه بعد تقطيعه ودفنه والصلاة عليه وغير ذلك من الأمور الشرعية إذا كان ممّن يراعى فيه ذلك. والدليل على جواز إخراج الجنين متقطعًا ما يلي: 1 - قوله -عَزَّ وجَلَّ- عن النفس: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. وجه الدلالة من الآية أنه إذا خيف على الأم من الموت، ولم يكن هناك سبيل لاستنقاذها إلا بتقطيع هذا الجنين الميت لزم فعل ذلك لإنقاذ حياة الأم. 2 - أن القاعدة الأصولية في هذه النازلة (إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمها ضررًا بارتكاب أخفهما). وبناء على ذلك إذا كان هناك مفسدتان أحدهما موت الأم أو إصابتها بضرر، والأخرى تقطيع الجنين الميت لزم الثاني دون الأول؛ لأن مراعاة حرمة الحي أعظم من حرمة الميت، فتكون المفسدة التي في جانبه أعظم، فيرتكب أخف المفسدتين وهو تقطيع الجنين الميت (¬1). ¬

_ (¬1) فتاوى يسألونك، د. حسام الدين بن موسى عفانة (5/ 545)، والأحكام الفقهية المتعلقة بالولادة،

رأي الطب في أكثر مدة الحمل

رأي الطب في أكثر مدة الحمل: قبل الشروع في بيان هذه النازلة نقول بأن هذه المسألة ليس فيها نص من القرآن أو السنة، وإنما هي اجتهادات لأهل العلم المرجع فيها إلى الوجود، أي: أن من قال بقول ما، ذكر أنه قد وجد في الواقع ما يشهد له ويؤيده. قال ابن عبد البر -رحمه الله-: "وهذه مسألة لا أصل لها إلا الاجتهاد، والرد إلى ما عُرف من أمر النساء"، ولبيان هذه النازلة نقول: أولًا: تنازع الفقهاء والأطباء والباحثون قديمًا وحديثًا في أكثر مدة للحمل بعد اتفاقهم على أن أقل مدة للحمل ستة أشهر، لكنهم تنازعوا في أكثر المدة التي تقضيها المرأة وهي حامل على قولين: الأول: أن أقصى مدة الحمل هي المدة المعهودة تسعة أشهر. الثاني: أنه يمكن أن يمتد الحمل أكثر من تسعة أشهر، وأصحاب هذا القول اختلفوا في أكثر الحمل على أقوال منها: أن أقصى مدة الحمل سنة واحدة لا أكثر، وفي قول آخر: إن الحمل قد يستمر إلى سنتين، وفي قول ثالث: إن أقصى الحمل أربع سنين، وهناك أقوال أخرى في هذه المسألة: وهذه الأقوال المتعددة إنما حكيت على ما توارد على السمع عندهم من أن هناك حملًا امتد لهذا الأمد. ثانيًا: موقف الطب من أكثر الحمل: الذي يظهر من خلال أقوال الأطباء أنهم لا يقبلون بأن ثمة حمل يمتد لسنة فضلًا عن سنوات طويلة، وقالوا بأن الفقهاء الذين تعددت آراؤهم في المسألة قد بنوا ¬

_ = رسالة ماجستير، د. محمَّد بن عبد الله بن محمَّد الطيار، (ص: 223).

ثالثا: ثمرة الخلاف

على ما توارد على أسماعهم وما بلغهم عن نساء امتد عندهن الحمل لفترات طويلة. ثالثًا: ثمرة الخلاف: ثمرة الخلاف تظهر في إثبات النسب للزوج المتوفى أو المطلق، وكذلك الإلزام بالنفقة عند من يقول به والميراث للطفل المولود، ولزوم العدة للمرأة وإقامة حد الزنا وغيرها من الأحكام الهامة. رابعًا: بيان القول الراجح في هذه المسألة: الذي يظهر لنا أن أقصى مدة الحمل التي تبنى عليها الأحكام الشرعية هي المدة المعهودة تسعة أشهر، وقد تزيد أسابيع محدودة كما هو الواقع، أما المدد الطويلة فهي نادرة، والقاعدة الفقهية أن "الاحتمالات النادرة لا يلتفت إليها"، وأيضًا "العبرة بالغالب، والنادر لا حكم له". قال ابن رشد الحفيد في هذه المسألة: "وهذه المسألة مرجوع فيها إلى العادة والتجربة، وقول ابن عبد الحكم والظاهرية هو أقرب إلى المعتاد، والحكم إنما يجب أن يكون بالمعتاد لا بالنادر، ولعله أن يكون مستحيلًا" (¬1). قلنا: ولا يعني هذا القطع بنفي وقوع حمل امتد طويلًا كسنة أو سنتين أو ثلاث أو أربع مع كونه نادرًا جدًّا، وذلك للأمور الآتية: 1 - حديث ابن صياد والذي ثبت أنه ولد لسنة: ففي حديث أبي ذر -رضي الله عنه- قال: لأن أحلف عشر مرارًا أن ابن صائد هو الدجال أحب إلي من أن أحلف مرة واحدة أنه ليس به، قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثني إلى أمه: "سلها كم حملت؟ "، قال: فأتيتها فسألتها فقالت: حملت به اثني عشر شهرًا، قال: ثم أرسلني إليها فقال: ¬

_ (¬1) بداية المجتهد (2/ 437).

"سلها عن صيحته حين وقع". قال: فرجعت إليها فسألتها، فقالت: صاح صيحة الصبي ابن شهر (¬1). وعامة العلماء على أن الدجال غير ابن صياد، فقد دخل مكة والمدينة وله ابن من التابعين الأجلاء الذي روى بعض الأحاديث، ومن الثابت أن الدجال لا يولد له ولا يدخل مكة والمدينة إنما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبعض الصحابة يشكون في أمره، وكان فيه شيء من تلبس الجان. 2 - أنه بين حين وآخر يوجد حمل وصلت مدته ثلاث سنوات أو أكثر أو أقل (¬2). 3 - وجود الشواذ في الخلق مقطوع به، فقد ثبت ولادة سبعة توائم في بطن واحد بخلاف المعهود، ووجود أطفال ولدوا برأسين، وغير ذلك كثير مما هو نادر وواقع، ولا يمتنع أن توجد على جهة الشذوذ مشيمة لها قدرة على إمداد الطفل لفترة طويلة على غير المعهود كما هو حال المعمرين في هذا الزمان والذين تجاوزت أعمار بعضهم قرنًا ونصفًا من الزمان. 4 - ما جاء عن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (¬3) مفتي عام المملكة العربية السعودية حيث ثبت لديه حمل دام سبع سنين حين كان يشغل منصب القضاء، وحين أورد ذلك على الأطباء في مناقشات مجمع الفقه الإِسلامي بالرابطة حاروا في الجواب. وهذا ما تناقلته وسائل الإعلام. ¬

_ (¬1) أحمد في المسند (5/ 148) برقم (21357)، وابن أبي شيبة (7/ 493) برقم (37485)، والطبرانيُّ في الأوسط (8/ 242) برقم (8520)، قال الهيثمي في المجمع (8/ 2): "ورجال أحمد رجال الصحيح غير الحارث بن حصيرة وهو ثقة"، وسكت عنه الحافظ في الفتح (6/ 173). (¬2) انظر: الموسوعة الفقهية الطبية لأحمد كنعان، (ص: 376)، وعزاه لموسوعة المعلومات العامة للأرقام القياسية لغينيس، (ص: 18). (¬3) ذكر ذلك: الدكتور عبد الرشيد بن محمَّد أمين بن قاسم في بحث حول هذه النازلة، من خلال مقابلته للشيخ -رحمه الله- بمكة المكرمة في ذي الحجة 1420 هـ.

إثبات براءة الرحم من خلال تحليل الدم أو البول

فإذا أضفنا هذه الأخبار المعاصرة لما ورد في كتب الفقه والتاريخ من وجود نساء حملن لمدد طويلة، أفادت هذه الأخبار وجود هذا النوع من الحمل وإن كان شاذًّا ونادرًا. والخلاصة: أن الذي يمكن أن يقال في هذه المسألة: إنه إذا ثبت طبيًّا ثبوتًا أكيدًا لا شبهة فيه أن الحمل لا يمكن أن يبقى كل هذه السنوات الطويلة، فلا مفر من القول بذلك؛ لأن الشرع لا يمكن أن يأتي بما يخالف الواقع أو الحس، فهما يشهدان على أن أقصى الحمل هي المدة المعهودة تسعة أشهر، والتي قد تزيد بضعة أسابيع، وهو الذي يبنى عليه الأحكام الشرعية. فإذا ادعت المرأة وجود حمل تجاوز المدة المعهودة يلزم أن تثبت ذلك بالبينة الموجبة لتصديق قولها، كأن تشهد النساء بوجود هذا الحمل وظهور علاماته الواضحة -التي لا تلتبس مع الحمل الكاذب- كحركة الجنين، أو تثبت ذلك عن طريق تحليل البول أو الدم أو الموجات الصوتية (السونار) أو غير ذلك مما يقطع بوجود الحمل من عدمه؛ لأن الأصل عدم امتداد الحمل عن المدة المعهودة، ولقطع باب الادعاء، ولكون هذا الحمل ينبني عليه أحكام كثيرة، ويمكن للقضاة في هذا الزمان الاعتماد على الأجهزة الطبية الحديثة التي تحدد عمر الجنين بدقة، إضافة إلى البصمة الوراثية والتي تحدد الأبوين بنسبة 99 %. إثبات براءة الرحم من خلال تحليل الدم أو البول: قبل الشروع في حكم النازلة نوضح أن العدة التي أمر الله النساء بها أنواع منها: 1 - عدة المرأة التي تحيض وهي ثلاثة قروء، كما قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ ...} [البقرة: 228]. 2 - عدة الصغيرة أو اليائسة وهي ثلاثة أشهر، لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ

الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]. 3 - عدة الحامل وهي وضع حملها، كما قال تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ} [الطلاق: 4]. 4 - المتوفى عنها وهي أربعة أشهر وعشرًا ما لم تكن حاملًا وإلا كان وضع الحمل، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. 5 - أما التي طلقت قبل الدخول فلا عدة لها؟ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]. واستثنى العلماء من ذلك عدة الوفاة لما يترتب عليها من الإرث، وللمصيبة أخذًا من عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يَحِل لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآْخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجِهَا فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا" (¬1). * أما التي كانت تحيض ثم توقف عنها الحيض وأشكل عليها الأمر فلا تدري هل هي حامل أم انقطع عنها الحيض، فإنها تنتظر تسعة أشهر، ثم تستبرئ بثلاثة أشهر احتياطًا، وتلك هي عدتها؛ لقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم رفعتها حيضتها، فإنها تنتظر تسعة أشهر، فإن بان بها حمل فذلك وإلا اعتدت بعد التسعة الأشهر بثلاثة أشهر ثم حلت" (¬2). وبناءً على ما ¬

_ (¬1) رواه البخاري في الجنائز، باب إحداد المرأة على غير زوجها (1280)، ومسلمٌ في الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة .. (1486)، عن أم حبيبة -رضي الله عنها- زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) الموطأ، كتاب الطلاق (2/ 580) رقم (70).

ذكرناه فإنه لا يمكن إثبات براءة الرحم بالوسائل الحديثة وذلك لما يلي: أولًا: أنه أمر إلهي يجب تنفيذه أدركنا العلة منه أم لم ندركها، قال تعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]، أي: مدته، وهي المبينة سابقًا. ثانيًا: أن هذه الأحكام ربطها الله تعالى بعلامات محددة يستوي فيها الحاضر والباد ومن لديه معامل ومن ليست له، وهي صالحة في كل زمان ومكان، والأحكام إنما تعلل بالعلل المنضبطة. ثالثًا: أن من حكمة معرفة براءة الرحم من الحمل الحفاظ على الأنساب حتى لا تختلط، هذا مع ملاحظة الفرق بين الحكمة والعلة، فالحكمة لا يمكن أن يعلل بها لعدم انضباطها بخلاف العلة. وبهذا ندرك أن في تشريع العدة حكمًا متعددة منها: التأكد من براءة الرحم، والحرص والحفاظ على الأنساب والأعراض، وإمكانية المراجعة في حال الطلاق، كما أن هذا الانتظار فيه تقدير واحترام لتلك العشرة السابقة معه، وحتى لو كان حيًا، مما قد يكون له الأثر النفسي على المرأة نفسها حتى تستطيع أن تتقبل حياة جديدة مع إنسان جديد، ومن أجل أن يحصل النسيان حتى يمكن التآلف مع هذا الشخص الجديد الذي ربما يكون يختلف عن الأول في جوانب عديدة؛ ولهذا فإن المعرفة بثبوت أو بنفي الحمل مبكرًا بالوسائل الحديثة لا تكفي للنصوص الصريحة؛ ولتلك الحكم الظاهرة (¬1). ¬

_ (¬1) أحكام النوازل في الإنجاب، د. محمَّد بن هائل بن غيلان المدحجي، (ص: 1118).

نوازل في الفرقة بين الزوجين

نوازل في الفرقة بين الزوجين نشوز المرأة من أجل طلب الخلع: قد يحصل سوء معاشرة من الرجل لزوجته فلا يعاشرها بالمعروف وذلك بأن جفاها أو ترفع عليها، أو قصر فيما وجب لها عليه من نفقة أو بيت مثلًا، أو توقع من نفسه حصول ما يسوؤها، فإن لم يكن ذلك عن إساءة منها إليه، فهذا نوع نشوز منه لها، والواجب عليه أن يمسك عن ذلك، ويعاشرها بمعروف أو يفارقها بإحسان، ولا يجوز له أن يعضلها أو يضارها ليأخذ منها شيئًا أو لتتنازل له عن بعض حقوقها، لقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، وقوله: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]. وللزوجة إذا تحققت من زوجها النشوز أو الإعراض عنها، أو توقعت ذلك منه، ورغبت في البقاء معه لمصلحة تراها: أن تصالح زوجها على التنازل عن بعض حقوقها عليه، أو على مال تدفعه إليه ليبقيها في عصمته، لقوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]. ولقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]. ولأن سودة تنازلت عن ليلتها لعائشة لتبقى زوجة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأقر ذلك، ولا حرج على الزوج فيما تصالحا عليه إلا أن يكون عن مضارة منه لها (¬1). فإذا كانت المرأة هي التي نشزت فتركت الحقوق التي ألزمها الله بها لزوجها دون أن يكون منه إليها ما يسوؤها وعظها ثم هجرها ثم أدبها، فإن أطاعته عاشرها بالمعروف، وإلا جاز له أن يضارها حتى تفتدي نفسها منه، فيطلقها أو يخالعها على ¬

_ (¬1) أحكام الخلع في الفقه الإِسلامي، تقي الدين الهلالي، (ص: 62).

عوض، سواء كان نشوزها ترفعًا عليه، أم امتناعها من فراشه، أم قولها له: لا أغتسل لك من جنابة، ولا أطأ لك فراشًا, ولا أبر لك قسمًا، أم كان خروجًا من بيته بغير إذنه، أم تمكينًا لأحد من فراشه، أم زناها، إلى غير هذا مما يدل على سوء العشرة. لكن قد تسوء العشرة بين الزوجين ولا تتمكن المرأة من التخلص من زوجها إلا عن طريق المحاكم الشرعية، فما الذي ينبغي على القاضي مراعاته عند وصول الأمر إليه؟ نقول: لقد صدر بذلك قرار من هيئة كبار العلماء (¬1)؛ ومما جاء فيه بخصوص هذه النازلة: قرار هيئة كبار العلماء رقم (26)، وتاريخ: 21/ 8 / 1394 هـ: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فبناء على ما تقرر في الدورة الرابعة لهيئة كبار العلماء من اختيار موضوع النشوز ليكون من جملة الموضوعات التي تعد فيها اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحوثًا، أعدت في ذلك بحثًا، وعرض على مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة الخامسة المنعقدة بمدينة الطائف فيما بين الخامس من شهر شعبان عام 1394 هـ والثاني والعشرين منه. وبعد اطلاع المجلس على ما أعد من أقوال أهل العلم وأدلتهم ومناقشتها، وبعد تداول الرأي في ذلك قرر المجلس بالإجماع ما يلي: أن يبدأ القاضي بنصح الزوجة، وترغيبها في الانقياد لزوجها، وطاعته، وتخويفها من إثم النشوز وعقوبته، وأنها إن أصرت فلا نفقة لها عليه، ولا كسوة، ولا سكنى، ونحو ذلك من الأمور التي يرى أنها تكون دافعة للزوجة إلى العودة لزوجها، ورادعة لها من الاستمرار في نشوزها، فإن استمرت على نفرتها وعدم الاستجابة عرض عليهما الصلح، فإن لم يقبلا ذلك نصح الزوج بمفارقتها، وبين له أن ¬

_ (¬1) أبحاث هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية (1/ 655).

سب الدين وأثره على النكاح

عودتها إليه أمر بعيد، ولعل الخير في غيرها ونحو ذلك مما يدفع الزوج إلى مفارقتها، فإن أصر على إمساكها وامتنع من مفارقتها، واستمر الشقاق بينهما، بعث القاضي حكمين عدلين ممّن يعرف حالة الزوجين من أهلهما حيث أمكن ذلك، فإن لم يتيسر فمن غير أهلهما ممّن يصلح لهذا الشأن، فإن تيسر الصلح بين الزوجين على أيديهما فبها، وإلا أفهم القاضي الزوج أنه يجب عليه مخالعتها، على أن تسلمه الزوجة ما أصدقها، فإن أبى أن يطلق حكم القاضي بما رآه الحكمان من التفريق بعوض أو بغير عوض، فإن لم يتفق الحكمان، أو لم يوجدا وتعذرت العشرة بالمعروف بين الزوجين نظر القاضي في أمرهما، وفسخ النكاح حسبما يراه شرعًا بعوض أو بغير عوض ... " إلى أن قالوا: "فإن بقاءها ناشزًا مع طول المدة أمر غير محمود شرعًا؛ لأنه ينافي المودة والإخاء، وما أمر الله من الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان، مع ما يترتب على الإمساك من المضار والمفاسد والظلم والإثم، وما ينشأ عنه من القطيعة بين الأسر، وتوليد العداوة والبغضاء". سب الدين وأثره على النكاح: من الأمور المقلقة والمنكرة انتشار سب الدين وسب الرب في بعض البلاد الإِسلامية، وهذه الظاهرة المنكرة تحتاج إلى علاج شامل لتستأصل من أوساط الناس وعلاج هذه الظاهرة يحتاج إلى تضافر الجهود من أئمة المساجد والخطباء والمربين والمدرسين والآباء والأمهات وغيرهم. ولا بد أن نغرس معاني الإيمان في نفوس أبنائنا وبناتنا، ونعلمهم أن سب الدين وشتم الذات الإلهية من نواقض الإيمان. والأسرة والبيت لهما دوركبير في ذلك وكذلك المدرسة؛ فالمربون من المدرسين والمدرسات عليهم واجب كبير في هذه القضية، خاصة نحو صغار الأطفال الذين

قد يسمعون هذه الشتائم لأول مرة في المدرسة من زملائهم أو في الشارع. ويجب أن يعلم أن العلماء قد بينوا أن سب الدين أو سب الرب أو سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - يُعد كفرًا مخرجًا من الملة وهو ردة عن دين الإِسلام إذا كان الساب يعلم ما يصدر عنه حتى لو كان مستهزئًا. يقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66]. قال القاضي عياض -رحمه الله-: "لا خلاف أن سابَّ الله تعالى من المسلمين كافر حلال الدم" (¬1). ونقل شيخ الإِسلام عن إسحق بن راهوية قوله: "أجمع المسلمون على أن من سب الله، أو سب رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو دفع شيئًا مما أنزل الله -عَزَّ وجَلَّ-، أو قتل نبيًّا من أنبياء الله -عَزَّ وجَلَّ- أنه كافر بذلك، وإن كان مقرًّا بكل ما أنزل الله" (¬2). إذا تقرر أن سب الذات الإلهية وسب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسب الدين كفر مخرج من الملة، فيجب الانتباه إلى الفرق بين كون الشيء كفرًا وتكفير الشخص الذي حصل منه ذلك بعينه، فلا نستطيع أن نحكم بكفر إنسان إذا صدر منه ما يقتضي كفره إلا بعد أن نتثبت من عدم وجود موانع التكفير وهي الخطأ والجهل والعجز والإكراه. وخلاصة الأمر أن سب الدين والرب ردة في حق من ارتكبه عامدًا قاصدًا عالمًا به غير جاهل ولا مكره. وأما من لم يتحقق فيه ذلك فهو مرتكب لذنب عظيم وعليه التوبة بشروطها ولا يفسخ زواجه (¬3). ¬

_ (¬1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 267). (¬2) الصارم المسلول على شاتم الرسول، (ص: 9). (¬3) للمزيد من الحصول عن فقه هذه النازلة: يمكن الرجوع إلى كتاب إسلام أحد الزوجين ومدى تأثيره على عقد النكاح، عبد الله بن يوسف الجديع.

إرسال طلاق الزوجة برسالة الجوال

وبناءً على ما تقدم؛ فإن كثيرًا من الناس الذين يسبون الدين والرب في بلاد المسلمين وتجري هذه الكلمة على ألسنتهم، لا نستطيع أن نحكم عليهم بالكفر وفسخ زواجهم؛ لأن هؤلاء يجهلون ما يترتب على التلفظ بالسب والشتم من نتائج، وكذلك فإن السب والشتم يصدر منهم من غير قصد ولا إرادة، وما كان كذلك فإن الله سبحانه وتعالى لا يؤاخذ عليه كما في يمين اللغو التي يتلفظ بها الإنسان، ولكنه لا يقصد اليمين فهو غير مؤاخذ بذلك، يقول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]. ولا يفهمنَّ أحدٌ أن في هذا الكلام تهوينًا من هذه الجريمة المنكرة والعادة القبيحة ألا وهي سب الدين والذات الإلهية والرسول - صلى الله عليه وسلم -، فعلى من وقع منه ذلك أن يتوب إلى الله توبة صادقة، وأن يكثر من الاستغفار ومن فعل الخيرات، فلعل الله أن يتوب عليه، يقول سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]. إرسال طلاق الزوجة برسالة الجوال: لقد تعددت وسائل الاتصال الحديثة، وتعددت نظرة الناس في الانتفاع بها، فمنهم من استخدمها بطريقة سليمة، فاستفاد منها وأفاد، ومنهم من استخدمها بطريقة غير سليمة فأضر بنفسه وأضر غيره، ومن هذه الوسائل رسائل الجوال، فكم كانت هذه الرسائل وسيلة فعالة في الإصلاح، وعلى العكس من ذلك كم كانت هذه الرسائل سببًا في ضياع الأسر والمجتمعات ومن ذلك مسألة الطلاق، فكم نسمع أن فلانًا قد أرسل رسالة لزوجته على سبيل المزح أنه طلقها، فما أن تقرأ الزوجة رسالة زوجها إلا وتصاب بالفزع والبكاء ظنًّا منها أن زوجها قد فارقها، فبينما هي على هذه الحالة إذا بزوجها يذهب إلى بيته لينظر أثر هذه الرسالة على زوجته، فحينما يرى

حالة زوجته إذا به يقول لها إني كنت أمزح، فما مدى مشروعية هذا الفعل؟ وهل تعد زوجته طلقت بهذا الفعل؟ نقول أولًا: إن من يفعل هذا العمل لا شك أنه أتى بأمر لا يجوز شرعًا وهو ترويع هذه المرأة، وقد حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ترويع المسلم لأخيه المسلم، ولو مازحًا، كما في حديث عبد الله بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ لَا لَاعِبًا وَلَا جَادًّا، وَإِذَا أَخَذَ أَحَدُكُمْ عَصا أَخِيهِ فَليَرُدَّهَ" (¬1). وفي حديث ابن أبي ليلى قال: "حدثنا أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يسيرون مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه ففزع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحِلُّ لمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا" (¬2). فإذا كان هذا في حق من ليس بينك وبينه قرابة نسب، فكيف بمن يكون بينك وبينه نسب؟ بل فكيف لو كانت هذه زوجتك؟ ثانيًا: أما عن حكم هذا الطلاق فنقول لا يقع طلاق الرجل لامرأته بمجرد النية، فإذا أظهر نيته على لسانه بالنطق -أو بالإشارة المفهمة للأخرس- أو بالكتابة سواء على ورقة أو على رسائل الجوال أو بالبريد الإلكتروني، فإن كل ذلك يجعل الطلاق واقعًا، على أن تكون الكتابة ثابتة عنه؛ لأن مجال التزوير في هذه الأمور سهل ومتيسر. ثالثًا: لا خلاف بين العلماء في وقوع طلاق الجاد: ¬

_ (¬1) رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب من يأخذ الشيء على المزاح (5003)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2808). (¬2) رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب من يأخذ الشيء على المزاح (5004)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2805).

وأما الهازل، فإذا طلق طلاقًا صريحًا: (أنت طالق) بالقول لا بالكتابة فقد ذهب جمهور العلماء إلى وقوعه، واستدلوا بما رواه أبو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلهُنَّ جِدٌّ: النكِّاحُ، وَالطَّلاقُ، وَالرَّجْعَةُ" (¬1). رابعًا: وأما كتابة الطلاق، سواء كتبه الزوج على ورقة أو على رسالة بالهاتف المحمول أو البريد الإلكتروني، فلا يقع بها الطلاق حتى ينويه. وقد سئل الشيخ ابن باز -رحمه الله- عن رجل كتب طلاق امرأته على ورقة ثم دفعها إليها. فأجاب: "هذا الطلاق غير واقع على المرأة المذكورة إذا كان لم يقصد به طلاقها، وإنما مجرد الكتابة أو أراد شيئًا آخر غير الطلاق، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّما الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" (¬2) الحديث. وهذا قول جمع كثير من أهل العلم وحكاه بعضهم قول الجمهور، لأن الكتابة في معنى الكناية، والكناية لا يقع بها الطلاق إلا مع النية في أصح قولي العلماء، إلا أن يقترن بالكتابة ما يدل على قصد إيقاع الطلاق فيقع بها الطلاق" (¬3) أ. هـ. وبناءً على ما ذكرناه يمكننا أن نقول: يشترط لحصول الطلاق عن طريق الجوال أو أجهزة الإرسال الحديثة ما يلي: 1 - أن يكون الزوج هو مرسل الرسالة، أو من وكله الزوج بذلك وكالةً خاصة. 2 - أن يكون لدى الزوج النية والعزم على تطليق زوجته كأن تكون الرسالة ¬

_ (¬1) رواه أبو داود في الطلاق، باب في الطلاق على الهزل (2194)، والترمذيُّ في الطلاق، باب ما جاء في الجد والهزل والطلاق (1184)، وابن ماجه في الطلاق، باب من طلق أو نكح ... (2039) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال الترمذيُّ: "حسن غريب"، وحسنه الحافظ في التلخيص (3/ 210). (¬2) رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رقم (1)، ومسلمٌ، كتاب الإِمارة، باب قوله: "إِنما الأعمال بالنيات"، رقم (1907) عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. (¬3) فتاوى إسلامية (3/ 278).

الأحكام المتعلقة بزوجة المفقود

جوابًا لسؤالها الطلاق. 3 - أن تكون عبارة الطلاق في الرسالة صريحة ولا تحتمل تأويلها بمعانٍ مختلفة بعيدة عن الطلاق. 4 - أن يعلم الزوج زوجته بالرسالة. خامسًا: نود أن نوصي إخواننا الأزواج بخصوص هذه النازلة أن يتقوا الله تعالى، وأن لا يتخذوا أحكام الله هزوًا ولعبًا, وليعلموا أنه بالطلاق تتشتت الأسرة، ويضيع الأولاد، ويعرِّض زوجته للذل والفتن، فليتقوا الله تعالى، وليحافظوا على أُسَرهم، وليتحلوا بالصبر والحلم قبل الإقدام على الطلاق. الأحكام المتعلقة بزوجة المفقود: أولًا: التعريف بالمفقود: المفقود لغة: الضائع، وشرعًا: "هو الغائب الذي انقطع خبره، وخفي أثره وجُهل مكانه، ولا تعرف حياته أو مماته". ثانيًا: ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالمفقود: 1 - أنه لا تزوّج امرأته، ولا يورّث ماله، ولا يتصرف في استحقاقه إلى أن يعلم حاله ويظهر أمره من موت أو حياة، أو تمضي مدّة يغلب على الظن أنه مات فيها ويحكم القاضي بموته. 2 - إذا غاب الرجل عن امرأته لم يخل من حالين: أحدهما: أن تكون غيبته غير منقطعة يعرف خبره، ويمكن الاتصال به، فهذا ليس لامرأته أن تتزوج بإجماع أهل العلم، إلا أن يتعذر الإنفاق عليها من ماله فلها أن تطلب من القاضي الفسخ.

الحال الثاني: أن يفقد وينقطع خبره، ولا يعلم له موضع، فهل لزوجته أن تتزوج من غيره؟ اختلف الفقهاء في المدة اللازمة لاعتبار المفقود ميتًا في هذه الحال والذي نرجحه أن تقدير المدة يرجع إلى اجتهاد الحاكم، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمان وقرائن الأحوال، فيُحدّد القاضي باجتهاده مدّة يغلب على الظن موته بعدها، ثم يحكم بموته إذا مضت هذه المدة، وتعتد بعدها امرأته عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا، وبعد ذلك تحلّ للأزواج. 3 - إن من حق زوجة المفقود أن تصبر وتنتظر ولا تطلب التفريق؛ حتى يتبين حال زوجها من حيث الحياة أو الموت. 4 - إنّ غيبة المفقود تسبب لزوجته ضررًا مؤكدًا؛ لكون فقدانه يفوت على الزوجة أغراض الزواج، والضرر يزال عملًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" (¬1)، وإذا كان تشريع الإيلاء والتفريق للإنفاق أو لعدم الإنفاق على الزوجة أو لعنة الزوج لدفع الضرر عنها؛ فالتفريق لفقد الزوج أحق وأولى بالأخذ، ولها الخيار بين الحقين السابقين وهما أن تصبر وتنتظر حتى يتبين حال زوجها أو الأخذ بمبدأ التفريق، والأفضل أن ترجح ما يدفع عنها الضرر ويحقق لها مصلحتها. 5 - اختلف الفقهاء في ابتداء مدة التربص لزوجة المفقود، فقيل بأنّها تبدأ من حين انقطاع خبر الزوج المفقود؛ لأنَّ الانقطاع ظاهر في موته، فكانت ابتداء المدة منه ولا يفتقر الأمر إلى الحاكم، فلو مضت المدة والعدة تزوجت بلا حاكم، وفي قول ¬

_ (¬1) رواه أحمد (5/ 326 - 327)، وابن ماجه، كتاب الأحكام: باب من بنى في حقِّه ما يضرّ بجاره، رقم (2340) من حديث عبادة بن الصامت. ورُوي أيضًا من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة، وجابر، وابن عباس، وعائشة وغيرهم. قال النووي: "حديثٌ حسنٌ ... وله طرق يَقْوَى بعضها بعض". قال ابن رجب: "وهو كما قال". قال ابن الصَّلاح: "هذا الحديث أسنده الدارقطني من وجوه، ومجموعها يقوي الحديث ويحسِّنه، وقد تقبله جماهير أهل العلم، واحتجُّوا به".

آخر إنَّ بداية التربص من حين قرار الحاكم لضبط القضايا والأحكام، ولكون تاريخ مراجعة الزوجة للقاضي ثابتًا ومحددًا ولا مجال فيه للاجتهاد والاختلاف، مع العلم أنّ للقاضي تحديد بدء المدة من أيام أعمال التحري والتفتيش على المفقود، ولأنَّ الثابت عن عمر -رضي الله عنه- أنّه أمر زوجة من فقدت زوجها أن تتربص أربع سنوات من حين رفع أمرها إلى الحاكم. 6 - بعد مضي المدة المذكورة فإنَّ الزوجة تعتد عدة الوفاة إذا لم تتيقن حياته، لأن المفقود بعد مضي المدة في حكم الميت، وقد تقرر هذا الحكم قضائيًا، وفي مدة التربص نفقتها من مال زوجها؛ لأنّها لا تزال زوجته المحبوسة من أجله، وأمواله تابعة للحكم بموته وتقسم بين الورثة وهي منهم، فإن ظهر حيًّا أخذ ما بقي من أمواله بأيدي الورثة. 7 - إذا عاد الزوج قبل مضي تربص الزوجة أو قبل عدتها فإنّها زوجته؛ لأن التفريق لم يقع، فإن انتهى أجلها وعدتها قبل تزوجها من آخر فتبقى امرأته؛ لأنّه إذا أبيح لها الزواج فذلك محمول على الحكم بموته، فإذا ظهر حيًّا بطل ذلك الظاهر وكان النكاح بحاله. 8 - إذا عاد الزوج المفقود بعد أن تزوجت، فإمَّا أن يكون قد دخل بها الزوج الثاني أم لا، فإن كان قبل الدخول ترد إلى زوجها الأول بنكاحها الأول كما لو لم تتزوج؛ لأنَّ النكاح إنّما صح في الظاهر دون الباطن، فلما ظهر المفقود فإنّ النكاح صادف امرأة ذات زوج فكان باطلًا. وإن كانت عودته بعد الدخول فله التخيير بين أخذها فتكون زوجته بالعقد الأول؛ لأن نكاح الثاني كان باطلًا في الباطن، ويجب على زوجها الأول اعتزالها حتى تقضي عدتها من الثاني، وبين أخذ صداقها فتكون زوجة الثاني، ويرجع بالصداق

منع الزوج زوجته من زيارة أهلها

الذي أصدقها هو، فإن لم يدفع إليها صداقًا فلا يرجع بشيء (¬1). منع الزوج زوجته من زيارة أهلها: جاءت الشريعة الإِسلامية لتحافظ على الأسر، ولترسم لها أرقى صور الحياة الكريمة، وقد بينت الغاية من الزواج، وهو حصول الرحمة بين الزوجين، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]. وإذا كان الأمر كذلك، فلا شك أن مما يساهم في دوام العشرة بين الزوجين هو دوام الصلة بين أقارب كل من الزوجين، لكن لا يجوز للمرأة الخروج من بيت زوجها لصلة أقاربها إلا بإذنه، ولو كان ذلك لزيارة والديها، وينبغي له أن يأذن لها، حتى تتمكن من صلة رحمها, لكن إن منعها من الزيارة لزمها طاعته، وليس له أن يمنع والديها من زيارتها أو الكلام معها. وقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة: "لا يجوز للمرأة الخروج من بيت زوجها إلا بإذنه، لا لوالديها ولا لغيرهم؛ لأن ذلك من حقوقه عليها، إلا إذا كان هناك مسوغ شرعي يضطرها للخروج" (¬2). ومع القول بذلك فإن الأولى كما ذكرنا أن يسمح الزوج لزوجته بزيارة والديها ومحارمها، وألا يمنعها من ذلك إلا عند تحقق الضرر بزيارة أحدهم؛ لما في منعها من قطيعة الرحم، وربما حملها عدم إذنه على مخالفته، ولما في زيارة أهلها وأرحامها من تطييب خاطرها، وإدخال السرور عليها، وعلى أولادها، وكل ذلك يعود بالنفع على الزوج والأسرة. ¬

_ (¬1) الموسوعة الفقهية الكويتية، التابعة لوزارة الأوقاف والشئون الإِسلامية الكويتية (48/ 268). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (19/ 165).

طلاق الرجل زوجته بأمر والديه

طلاق الرجل زوجته بأمر والديه: لا شك أن الوالدين هما أحق الناس بالبر والطاعة والإحسان والمعاملة الحسنة، وقد قرن الله سبحانه الأمر بالإحسان إليهما بعبادته حيث قال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]. وطاعة الوالدين واجبة على الولد فيما فيه نفعهما ولا ضرر فيه على الولد، أما ما لا منفعة لهما فيه، أو ما فيه مضرة على الولد فإنه لا يجب عليه طاعتهما حينئذ. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ويلزم الإنسان طاعة والديه في غير المعصية، وإن كانا فاسقين ... وهذا فيما فيه منفعة لهما, ولا ضرر عليه" (¬1) أ. هـ. والطلاق من غير سببٍ يبيحه يكرهه الله تعالى، لما فيه من هدر لنعمة الزوجية، وتعريض الأسرة للضياع والأولاد للتشتت، وقد يكون فيه ظلم للمرأة أيضًا. جاء في سؤال للجنة الدائمة للإفتاء عن مطالبة الوالدة لابنها طلاق زوجته دون سبب أو عيب في دينها بل لحاجة شخصية، فأجابت بما نصه: "إذا كان الواقع كما ذكر السائل من أن أحوال زوجته مستقيمة وأنه يحبها، وغالية عنده، وأنها لم تسئ إلى أمه وإنما كرهتها لحاجة شخصية، وأمسك زوجته وأبقى على الحياة الزوجية معها، فلا يلزمه طلاقها طاعة لأمه، لما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "إنما الطاعة في المعروف"، وعليه أن يبر أمه ويصلها بزيارتها والتلطف معها، والإنفاق عليها ومواساتها بما تحتاجه وينشرح به صدرها، ويرضيها بما يقوى عليه سوى طلاق زوجته" (¬2) أ. هـ. ¬

_ (¬1) الاختيارات، (ص: 114). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (20/ 29).

نوازل في اللباس والزينة

نوازل في اللباس والزينة الألبسة الحديثة: لقد دعا الإِسلام إلى التزين والتجمل لكن في توازن واعتدال، منكرًا على الذين يحرمون زينة الله التي أخرج لعباده؛ لهذا جعل أخذ الزينة من مقدمات الصلاة، قال تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [الأعراف: 31]. وإذا كان الإِسلام شرع التجمل للرجال والنساء جميعًا، فإنه قد راعى فطرة المرأة وأنوثتها فأباح لها من الزينة ما حرم على الرجل من لبس الحرير والتحلي بالذهب. وفي مقابل ذلك حرم الإِسلام بعض أشكال الزينة التي فيها خروج على الفطرة، وتغيير لخلق الله الذي هو من وسائل الشيطان في إغوائه للناس، قال تعالى حكايته عما قاله إبليس: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]. وعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى: "عَنِ الوَاشِمَةِ وَالمُسْتَوْشِمَةِ، وَالوَاصِلَةِ وَالمُسْتَوْصِلَةِ، وَالنَّامِصَةِ وَالمتنَمِّصَةِ" (¬1). بل ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن من فعل ذلك كما في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "لعَن رَسوْل الله - صلى الله عليه وسلم - الوَاشِمَاتِ وَالمُسْتوْشِمَاتِ، وَالمُتنمصاتِ، وَالمُتفلجَاتِ لِلحُسْن المُغيرَاتِ لخِلق اللهِ" (¬2). والوشم معروف من قديم، وهو النقش -عن طريق الوخز- باللون الأزرق. والنمص هو إزالة شعر الحاجبين لترفيعهما أو تسويتهما أو نحو ذلك. ¬

_ (¬1) رواه البخاري، في كتاب النكاح، باب مهر البغي والنكاح الفاسد (5181)، ومسلمٌ، في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة (2107). (¬2) رواه البخاري في التفسير، باب: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (4886)، ومسلمٌ في اللباس، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة (2125).

والوصل المراد به: وصل الشعر بشعر آخر طبيعي أو صناعي كالباروكة، وكل ذلك محرم ملعون من فعله. وعن عمرو بن مرة، سمعت سعيد بن المسيب، قال: "قَدِمَ مُعَاوِيَةُ المَدِينَةَ، آخِرَ قَدْمَةٍ قَدِمَهَا، فَخَطَبَنَا، فَأَخْرَجَ كُبَّةً مِنْ شَعَرٍ، قَالَ: مَا كُنْتُ أَرَى أَحَدًا يَفْعَلُ هَذَا غَيْرَ اليَهُودِ، إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمَّاهُ الزُّورَ، يَعْنِي: الوَاصِلَةَ في الشَّعَرِ". وفي رواية أخرى وهو يقول، وتناول قصة من شعر كانت بيد حرسي: "أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ، وَيَقُولُ: "إِنَّما هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَ هَذِهِ نِسَاؤُهُمْ" (¬1). فقد بين هذا الأثر أمرين: * الأول: أن اليهود هم مصدر هذه الرذيلة وأساسها من قبل، كما كانوا مروجيها من بعد. * الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمى هذا العمل (زورًا)، ليشير إلى حكمة تحريمه، فهو ضرب من الغش والتزييف والتمويه، والإِسلام يكره الغش، ويبرأ من الغاش في كل معاملة مادية أو معنوية. ويدخل في ذلك لبس الباروكة فهو محرم وداخل في الوصل، ولو كان في البيت؛ لأن الواصلة ملعونة أبدًا، فإذا كان في الخارج وليس على رأسها غطاء فهو أشد حرمة. لكن إن لم يكن علي رأس المرأة شعر أصلًا فلا حرج من استعمال الباروكة؛ لأن إزالة العيوب جائز، ولهذا أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن قطعت أنفه في إحدى الغزوات أن يتخذ أنفًا من ذهب. ¬

_ (¬1) رواه البخاري، كتاب اللباس، باب الوصل في الشعر (5938).

حظر الحجاب في المدارس العامة في بعض البلاد غير الإسلامية

حظر الحجاب في المدارس العامة في بعض البلاد غير الإسلامية: لا تزال بعض الدول غير المسلمة تصر على حظر الحجاب على المسلمات في اعتداء صارخ على الحرية الشخصية والحرية الدينية، على الرغم من كل المناشدات من مختلف الشخصيات الفكرية والسياسية والحزبية في أنحاء العالم الإِسلامي لهذه الدول من عدم التعرض لهذه الأقليات وتركهم يمارسون شعائرهم، ولكن لم تفلح هذه المناشدات والدعوات في ثني هذه الحكومات عن هذا القرار، ولا زالت هذه الدول تماراس ضغوطها على المسلمات في هذه الأقليات بنزع حجابها، فما الواجب على الجاليات المسلمة تجاه قرار حظر الحجاب؟ نقول: الحجاب فريضة الله على المرأة المسلمة حيثما كانت، شأنه شأن الصلاة والصيام والزكاة وسائر شرائع الإِسلام، وهو ستر العورة بما لا يشف ولا يصف، وجسد المرأة كله عورة على خلاف في الوجه والكفين. وما حدث في بعض البلاد الغربية من حظر الحجاب على الفتيات المسلمات في المدارس والوظائف العامة ظلم صارخ تدينه الشرائع السماوية، والدساتير الوضعية، ووثائق حقوق الإنسان العالمية؛ لا يتضمنه من عدوان على حرية التدين وهو من آكد حقوق الإنسان التي كفلتها له الأرض والسماء، ولا اعتبار لمن زعم أن ذلك حق للبلاد تقرره كيف تشاء. وعلى المسلمين في هذه البلاد إعلان النكير على ذلك ومقاومته بالوسائل القانونية المتاحة، ويتعين عليهم السعي المبكر لتوفير المدارس الإِسلامية التي توفر المناخ الملائم لحسن تربية الناشئة، وتستر فيها عورات بناتهم، وعلى بقية الأمة إقدارهم على ذلك وإعانتهم عليه، وإعلان النكير العام على كل من يصادر على المسلمات هذا الحق فوق كل أرض وتحت كل سماء (¬1). ¬

_ (¬1) حظر الحجاب في فرنسا علمانية متشددة أم عداء للإسلام؟ د. عمرو الشوبكي.

كشف المرأة وجهها داخل السيارة

كشف المرأة وجهها داخل السيارة: يلاحظ أن بعض النساء إذا ركبت السيارة أو الحافلة (الباص) لغرض توصيلهن إلى المدارس أو لبيوتهن يقمن بكشف وجوههن داخل السيارة أو الحافلة؛ وحجتهن في ذلك أنه لا يراهن أحد، وهذا منكر فلا يحل للمرأة أن تكشف وجهها سواء كانت معلمة أو طالبة، وسواء كانت في السيارة أو كانت تمشي في السوق على قدميها على قول من يرى عدم جواز كشف الوجه والكفين، لكن لو كانت في السيارة وكان خلف الزجاج مستورًا، وكان بين النساء والسائق ستره بحيث لا يراها أحد، فلا حرج عليهن في هذه الحال أن يكشفن وجوههن؛ لأنهن كاللاتي في حجرة منفردة عن الرجال. أما إذا كان الزجاج شفافًا يرى من وراءه، أو كان غير شفاف لكن ليس بينهن وبين السائق حاجز، فإنه لا يجوز لهن كشف وجوههن؛ لئلا يراهن السائق أو أحد من الرجال في السوق وغيره. استعمال العدسات الملونة: حينما صنعت العدسات اللاصقة كان الغرض منها أن تكون بديلًا للعدسات الموجودة في المنظار (النظارة) فيستغنى بها عن الإطارات (الشنابر) التي تؤثر على بعض مواضع في الوجه، وقد تقع أو تضيع فتكون الحيرة عند من يعتادها. وفي أول استعمال العدسات اللاصقة كانت تحتاج إلى إجراءات في تركيبها وقد تحدث مضايقات للعين كجسم غريب ليس من جنسها، وحاول المختصون تسهيل هذه الإجراءات والتقليل من المضايقات، وكان استعمالها -أولًا- لإصلاح النظر الطويل أو القصير، ولم يعلق عليها الناس بمدح ولا ذم كما لا يعلقون على (النظارة العادية).

قص الشعر للنساء

ولكن جاء التعليق عليها عندما روعي فيها ناحية الجمال، فاختيرت لها ألوان لتبدو العين في شكل جذاب يلفت النظر ويزيد من عدد المعجبين بالعيون الخضراء التي لا يفرق الناظر إليها بين ما هو طبيعي وبين ما هو صناعي. حكم استعمال العدسات الملونة: لا يخلو استعمال العدسات اللاصقة من حالين: الحال الأول: إذا كان استعمال العدسات اللاصقة لإصلاح النظر، فهذا أمر مشروع، مثله مثل (النظارة العادية). وكذلك إذا كانت عين المرأة مشوهة فلا حرج عليها أن تلبس عدسة تجعلها جميلة؛ لأن هذا ليس من تغيير خلق الله. الحال الثاني: إذا استعملت هذه العدسات للزينة ولفت الأنظار، أو كان القصد مباهاة وفخرًا، أو جذبًا لأنظار الجنس الآخر كان ذلك ممنوعًا شرعًا دون خلاف في ذلك، والعدسات اللاصقة التي يختار لها اللون الأخضر تحرص عليها الفتيات بالذات، وهنا يدخل عامل النية والقصد في الحكم، فإن كانت النية الفتنة والإغراء، أو كانت النية التدليس والتغرير فلا شك في حرمتها، مثلها في ذلك الأصباغ التي تلون بها وجهها والأهداب الصناعية والأظافر الملونة والعطور النفاذة وما يماثل ذلك (¬1). قص الشعر للنساء: لقد دعت شريعة الإِسلام إلى عناية الشخص بمظهره، ومن أهم ما رغبت فيه العناية بجمال الشعر: ترجيلًا، أي: تمشيطًا، وتصفيفًا، أي: تنظيمًا في ضفائر وغدائر ¬

_ (¬1) انظر هذه النازلة: في كتاب الفتاوى الشرعية في المسائل الطبية لفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، جمع وإعداد: إبراهيم بن عبد العزيز الشثري.

الأحوال التي يجوز للمرأة فيها كشف وجهها

ونحوها، وتهذيبًا بالتقصير والتطويل والتلميع، وتطييبًا بالدهن المعطر والروائح الطيبة، وهو عام في الرجال والنساء. فقص الشعر للمرأة ليس هناك ما يمنعه شرعًا، فقد كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذن من شعر رؤوسهن حتى تكون كالوفرة، كما رواه مسلم، والوفرة ما قصر عن اللّمة أو طال عنها، وقد قصر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من شعورهن بعد وفاته، لتركهن التزين واستغنائهن عن تطويل الشعر، وتخفيفًا لمؤونة رؤوسهن. لكن محل جواز تقصير شعرها له شروطه وضوابطه وهي: * أولًا: ألا يكون هذا القص شديدًا بحيث تشبه الرجل. * ثانيًا: ألا يكون هذا القص تشبهًا بالكافرات. * ثالثًا: أن يكون ذلك بإذن الزوج، فهو صاحب حق فيه لمتعته. * رابعًا: ألا يكون التقصير بيد رجل أجنبي أو إطلاعه عليه. هذا، ولا يجوز أن تحلق المرأة رأسها، والحلق هو إزالته بالمرة، وذلك لا يليق بالمرأة فهو من خصائص زينتها والحلق خاص بالرجال (¬1). الأحوال التي يجوز للمرأة فيها كشف وجهها: اختلف أهل العلم في وجوب تغطية المرأة لوجهها: والراجح وجوب تغطية المرأة وجهها لحصول الفتنة به (¬2). ولكن هناك حالات خاصة متعددة تستدعي الحاجة فيها كشف وجه المرأة ¬

_ (¬1) انظر: هذه النازلة في كتاب فتاوى يسألونك، أ. د. حسام الدين بن موسى عفانة (1/ 167). (¬2) انظر: كشف الوجه بين المبيحين والمانعين المسمى بـ (طهارة القلوب في مسألة ضرب الخمار على الجيوب)، محمَّد بن خالد الحميد.

نص الفقهاء على أنه يجوز للمرأة عندها كشف وجهها أمام الرجال الأجانب عندما تدعو الحاجة إلى كشفه أمامهم، كما يجوز لهؤلاء أن ينظروا إليه، شريطة أن لا يتجاوز الأمر في الحالتين مقدار الحاجة؛ لأن ما أبيح للضرورة أو الحاجة يقدر بقدرها. ونجمل هذه الحالات فيما يلي: أولًا: الخِطبة: يجوز للمرأة كشف وجهها وكفيها أمام مريد خطبتها, لينظر إليهما في غير خلوة ودون مسّ، لدلالة الوجه على الدمامة أو الجمال، والكفين على نحافة البدن أو خصوبته. ثانيًا: المعاملة: ويجوز لها كشف وجهها وكفيها عند حاجتها إلى ذلك في بيع أو شراء، كما يجوز للبائع أن ينظر إلى وجهها لتسليم المبيع، والمطالبة بالثمن، ما لم يؤد إلى فتنة، وإلا منع من ذلك. ثالثًا: المعالجة: يجوز للمرأة كشف مكان العلة من وجهها، أو أي موضع من بدنها لطبيب يعالج علتها، شريطة حضور محرم أو زوج أو امرأة أخرى، هذا إذا لم توجد امرأة تداويها؛ لأن نظر الجنس إلى الجنس أخفّ، وأن لا يكون الطبيب غير مسلم مع وجود طبيب مسلم يمكنه معالجتها, ولا يجوز لها كشف ما يزيد عن موضع المرض. ولا يجوز للطبيب نظر أو لمس ما يزيد على ما تدعو الحاجة إليه، قصْرًا للأمر على الضرورة التي تقدر بقدرها. رابعًا: الشهادة: يجوز للمرأة كشف وجهها في الشهادة أداءً وتحملًا، كما يجوز للقاضي النظر إليه لمعرفتها؛ صيانة للحقوق من الضياع. خامسًا: القضاء: يجوز للمرأة كشف وجهها أمام قاض يحكم لها أو عليها, وله -عند ذلك- النظر إلى وجهها لمعرفتها، إحياء للحقوق، وصيانة لها من الضياع.

سادسًا: الصبي المميّز غير ذي الشهوة: يباح للمرأة أن تُبدي أمام الصبي المميز غير ذي الشهوة ما تبديه أمام محارمها, لعدم رغبته في النساء، وله أن يرى ذلك كله منها شريطة أن يكون النظر من غير شهوة منه ومنها. سابعًا: عديم الشهوة: يجوز للمرأة أن تُظهر لعديم الشهوة ما تظهره أمام محارمها, ولكونه لا أرَب له في النساء، ولا يفطن لأمورهن، وله أن يرى ذلك كله منها. ثامنًا: العجوز التي لا يُشتهى مثلها: يجوز للعجوز التي لا تُشتهى كشف وجهها وما يظهر غالبًا منها أمام الأجانب، والستر في حقها أفضل. تاسعًا: يجب على المرأة أن تكشف وجهها وكفيها حالة إحرامها بالحج أو العمرة: ويحرم عليها -عند ذلك- لبس النقاب والقفازين؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنتقب المرأة المُحرمة، ولا تلبس القفازين"، فإن احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال بقربها، أو كانت جميلة وتحققت من نظر الرجال إليها، سدلت الثوب من فوق رأسها على وجهها؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها-، قالت: "كان الركبان يمرون بنا ونحن محُرمات مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه". عاشرًا: حالة الإكراه: فرضت بعض الأنظمة المتسلطة أحكامًا جائرة، وقوانين ظالمة، خالفت بها دين الإِسلام، وتمردت على الله ورسوله، ومنعت بموجبها المرأة المسلمة من الحجاب، بل وصل الحال ببعضها إلى إزاحته عنوة عن وجوه النساء، ومارست ضدهن أسوأ أنواع التسلط والقهر والإرهاب. كما حدثت مضايقات للمنتقبات في بعض البلاد الأوربية، وتعرض بعضهن إلى الإيذاء تارة، والتعرض للإسلام أو الرسول - صلى الله عليه وسلم - تارة أخرى.

حجاب المرأة أمام المعاق ذهنيا

وإزاء ذلك فإنه يجوز للمرأة في حال الضرورة التي تتيقّن فيها أو يغلب على ظنّها حصول الأذى الذي لا تُطيقه أن تكشف وجهها، وإن الأخذ بقول مرجوح أولى من تعرضها للفتنة على أيدي رجال السوء. ولئن جاز للمرأة كشف وجهها وكفيها في الحالات المتقدمة التي لا تصل إلى حد الإكراه، فإن جواز كشفهما لأذى يلحقها في نفسها أو دينها من باب أولى، خاصة إذا كان نقابها سيعرضها إلى عدوان عليها، والضرورات تبيح المحظورات، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، كما نص على ذلك أهل العلم. وحيث جاز للمرأة كشف وجهها وكفيها في الحالات الاستثنائية المتقدمة، فلا يجوز لها ذلك مع الزينة بالمساحيق والحلي الظاهر، إذ يحرم عليها إظهارها أمام الرجال الأجانب عند جميع الفقهاء، ولعدم وجود ضرورة أو حاجة ماسة تدعو إلى ذلك. حجاب المرأة أمام المعاق ذهنيًا: المعاق ذهنيًّا إن كان لا يدري أمور النساء، وليس له ميل نحوهن لكونه لا شهوة لديه لا للجماع ولا لمقدماته، فلا حرج من وضع الحجاب أمامه؛ لأنه داخل في عموم قوله تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور: 31]. وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن حكم غير أولي الإربة حكم المحارم في النظر إلى النساء، يرون منهن موضع الزينة مثل الشعر والذراعين وحكمهم في الدخول عليهن مثل المحارم أيضًا. أما إن كان يعلم أمور النساء وله شهوة لهن، فلا يجوز للمرأة أن تلقي حجابها أمامه، كما تحرم الخلوة بينهما إلا مع ذي محرم. والأولى أن تستر المرأة نفسها، فالسلامة لا يعدلها شيء.

الشروط الواجب توفرها في لباس المرأة

الشروط الواجب توفرها في لباس المرأة: الشرط الأول: أن يكون مستوعبًا لجميع بدنها الذي يجب ستره. الثاني: ألا يكون زينة في نفسه بمعنى: ألا يكون مزينًا بحيث يلفت إليه أنظار الرجال؛ لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31]. الثالث: أن يكون صفيقًا لا يشف؛ لأن المقصود من اللباس هو الستر، والستر لا يتحقق بالشفاف، بل الشفاف يزيد المرأة زينة وفتنة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كأَذْنَابِ البَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كاسِيَاتٌ عَارِياتٌ مُمِيلاَتٌ مَائِلاَتٌ رُؤوسُهُنَّ كأَسنِمَةِ البُخْتِ المَائِلَةِ لاَ يَدْخُلنَ الجَنّةَ وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا ليوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا" (¬1). الرابع: أن يكون فضفاضًا غير ضيق، فإن الضيق يفصل حجم الأعضاء والجسم، وفي ذلك من الفساد ما لا يخفى. الخامس: ألا يكون مبخرًا أو مطيبًا؛ لأن المرأة لا يجوز لها أن تخرج متطيبة لورود الخبر بالنهي عن ذلك. قال - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ، فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوا رِيحَهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ" (¬2). السادس: ألا يشبه لباس الرجال؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بالرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ، وَلاَ مَنْ تَشَبَّهَ بِالنِّسَاءِ مِنَ الرِّجَالِ" (¬3). السابع: ألا يشبه لباس نساء الكفار إذا كان اللباس خاصًا بهن، لما ثبت أن ¬

_ (¬1) رواه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات (5704). (¬2) رواه النسائي، كتاب الزينة، باب ما يكره للنساء من الطيب (5126)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (323). (¬3) رواه أحمد (19985)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5433).

لبس السلاسل وأساور الفضة للرجال

مخالفة أهل الكفر وترك التشبه بهم من مقاصد الشريعة. قال - صلى الله عليه وسلم -: "وَمَنْ تَشَبَّهَ بقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ" (¬1). الثامن: ألا يكون لباس شهرة، وهو كل ثوب يقصد به الاشتهار بين الناس. وهذه الشروط دلت عليها نصوص الكتاب والسنة كما سبق بيان بعض هذه الأدلة، فوجب على المسلمة أن تلتزمها في لباسها إذا خرجت من بيتها, ولا تختص تلك بلباس دون آخر، فينطبق ذلك على العباءة العمانية أو السعودية أو القطرية أو غير ذلك، أما إذا خالفت العباءة هذه الشروط، بأن كانت مطرزة تطريزًا يضفي جمالًا، أو ذات ألوان ملفتة، أو مبخرة أو تصف -لضيقها- حجم أعضاء جسمها، أو على نحو عباءة الرجل فلا يجوز لبسها. لبس السلاسل وأساور الفضة للرجال: اتخاذ الرجال السلاسل أو الأساور للزينة لا يجوز، سواء أكانت من الفضة أم من غيرها؛ لما فيه من التشبه بالنساء، فكل ما اختص به الرجال شرعًا أو عرفًا منع منه النساء، وكل ما اختصت النساء به شرعًا أو عرفًا منع منه الرجال. قال النووي: "قال أصحابنا: يجوز للرجل خاتم الفضة بالإجماع، وأما ما سواه من حلي الفضة؛ كالسوار، والدملج، والطوق، ونحوها فقطع الجمهور بتحريمها، وقال المتولي والغزالي في الفتاوى: يجوز؛ لأنه لم يثبت في الفضة إلا تحريم الأواني وتحريم التشبه بالنساء، والصحيح الأول؛ لأن في هذا التشبه بالنساء وهو حرام" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أحمد (5667)، وأبو داود، كتاب اللباس، باب في لبس الشهرة، رقم (4031) عن ابن عمر، بإِسنادٍ قال فيه ابنُ تيمية: "وهذا إِسناد جيد، فإن ابن أبي شيبة، وأبا النضر، وحسان بن عطية ثقات مشاهير أجلاء من رجال الصحيحين، وهم أجلُّ من أن يحتاج أن يُقال: هم من رجال الصحيحين". انظر: الاقتضاء، (ص: 82). (¬2) المجموع شرح المهذب (4/ 444).

فحلي الفضة من خواص النساء كما هو معلوم عرفًا، وورود الدليل بجواز تختم الرجل بالفضة يلغي هذه الخصوصية في باب التختم، وأما ما عداه فيبقى على أصل الحرمة بالنسبة للرجل، وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء. فالحاصل أن مطلق استخدام السلاسل والأساورة بالنسبة للرجال محرم على كل حال، فإذا انضاف إلى ذلك كونها من الفضة فإنها تحرم من جهة أخرى، وهي استعمال الفضة للرجال في غير ما أذن فيه من التختم أو ما دعت إليه حاجة التداوي بها. والله أعلم.

نوازل الاختلاط

نوازل الاختلاط حكم عمل المرأة: الأصل للمرأة هو قرارها في بيتها، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]. فدورها الأساسي في الحياة هو تربية أبنائها ورعايتهم، وإعداد الأجيال للأمة. لكن قد تحتاج المرأة إلى عمل؛ وذلك نتيجة لظروف قد تطرأ لها في حياتها، كأن يموت الزوج أو أن يمرض مرضًا يقعده عن العمل، أو أن يكون راتب الزوج لا يكفي الأسرة، أو غير ذلك من الأمور التي تجعل المرأة محتاجة إلى العمل، فإذا كانت المرأة في حاجة للعمل؛ جاز لها ذلك، لكن ذلك له شروط، ومن هذه الشروط: 1 - أن يكون هذا العمل مما يتناسب مع طبيعة المرأة وفطرتها، ويوافق أنوثتها؛ كالتعليم، والتطبيب للنساء، والإدارة لبنات جنسها، وما شابه. أما امتهانها وظائف لا تناسب طبيعتها، وتؤدي بها إلى مفاسد عظيمة؛ فلا يجوز. 2 - أن يكون العمل في أصله مباحًا، فلا يجوز لها أن تعمل في أماكن يكون فيها اختلاط بين الرجال والنساء مما يعرضها أو يعرض الرجال للفتنة. 3 - موافقة زوجها على خروجها لهذا العمل؛ لأن طاعته واجبة عليها، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34]. لكن إذا كانت قد اشترطت عليه العمل في عقد الزواج فلا يشترط موافقته؛ لأنه قد وافق على عملها مقدمًا. 4 - ألا يؤدي الخروج للعمل إلى الإخلال بمهمتها الأصلية، من تربية الأبناء، ورعايتهم، والعناية بهم، والقيام بحقوق الزوج على أكمل وجه.

تحويل الجنس وأثره على الخلوة بالنساء

5 - التزام الآداب الإِسلامية عند خروجها؛ من غض البصر، والحجاب الشرعي، وعدم الاختلاط، وغيرها، قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]، وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53]. ب- يجب ألا يكون عمل المرأة في كل الأحوال مزاحمًا للرجل، مما يؤدي إلى انتشار البطالة بين الرجال بحيث يختل دور كل منهم في الحياة (¬1). تحويل الجنس وأثره على الخلوة بالنساء: أولًا: هؤلاء الذين يشعرون بكراهية الجنس الذي خلقوا عليه، ويتمنون أن يكونوا من الجنس الآخر، هم في الحقيقة مرضى نفسيون، دفعهم سوء التربية أحيانًا، وطبيعة المجتمع الذي نشؤوا فيه أحيانًا أخرى إلى كراهية ما هم عليه، فاعترضوا على مشيئة الله تعالى، ورغبوا في تحويل جنسهم إلى جنس آخر. وعملية تحويل الجنس من ذكر إلى أنثى لها أسباب، محرمة شرعًا عند جميع من يعتد بقولهم من العلماء المعاصرين، وإن لم يكن للسابقين فيها كلام، فذلك لأنها لم تكن معروفة أو ممكنة في زمانهم، ويدل على تحريمها عدة أدلة، منها: 1 - قول الله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} ¬

_ (¬1) انظر: هذه النازلة في كتاب عمل المرأة في الميزان, محمَّد البار.

[النساء: 117 - 121]. ولا شك أن إجراء مثل تلك العمليات هو نوع من العبث، وتغييرٌ لخلق الله تعالى. 2 - حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "لَعَنَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرِّجَال بِالنسَاء والمتشبهات من النِّسَاء بِالرِّجَالِ" (¬1). 3 - نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن دخول المخنث على النساء، إذا فطن إلى المرأة ومحاسنها، بل أمر بإخراجه من البيوت، إلى حيث يُتَّقى شره. 4 - أنه قد ثبت بشهادة المختصين من الأطباء أن هذا النوع من الجراحة لا تتوفر فيه أي دواع أو دوافع معتبرة من الناحية الطبية، وأنه لا يعدو كونه رغبة للشخص. ثانيًا: الميول الأنثويّة عند رجل كامل الأجهزة المحدّدة لنوعه هي أعراض نفسيّة لا تنقله إلى حقيقة الأنثى، ويحرم القيام بعملية جراحية لتحويل الجنس لمجرّد الرغبة في التغيير دون دواعٍ جسديّة صريحة غالبة كما سبق، ومن أجريت له جراحة مع تحقق كمال ذكوريته فهذا يحرم الخلوة معه؛ لأن هذه الجراحة لا تقطع عنه حكم الذكورة بل يتعامل مع هذا الإنسان على أنه ذكر (¬2). وقد صدر بشأن تحويل الذكر إلى أنثى وبالعكس قرار من المجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي جاء فيه: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإِسلامي، برابطة العالم الإِسلامي، في دورته ¬

_ (¬1) رواه البخاري، كتاب اللباس، باب المتشبهون بالنساء والمتشبهات بالرجال، رقم (5885) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬2) انظر: الفتاوى المصرية (9/ 478)، موقع وزارة الأوقاف المصرية.

الحادية عشرة، المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من يوم الأحد 13 رجب 1409 هـ الموافق 19 فبراير 1989 م إلى يوم الأحد 20 رجب 1409 هـ الموافق 26 فبراير 1989 م قد نظر في موضوع تحويل الذكر إلى أنثى، وبالعكس. وبعد البحث والمناقشة بين أعضائه قرر ما يلي: أولًا: الذكر الذي كملت أعضاء ذكورته، والأنثى التي كملت أعضاء أنوثتها، لا يحل تحويل أحدهما إلى النوع الآخر، ومحاولة التحويل جريمة يستحق فاعلها العقوبة؛ لأنه تغيير لخلق الله، وقد حرَّم سبحانه هذا التغيير، بقوله تعالى، مخبرًا عن قول الشيطان: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]. فقد جاء في صحيح مسلم، عن ابن مسعود، أنه قال: "لعَن اللهُ الوَاشِمَاتِ والمُسْتَوْشِمَاتِ، والنَّامِصاتِ والمتنَمِّصاتِ، والمتفَلِّجَاتِ للحُسْنِ، المُغيِّراتِ خَلقَ اللهِ -عَزَّ وجَلَّ-". ثم قال: ألا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو في كتاب الله -عَزَّ وجَلَّ-، يعني: قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. ثانيًا: أما من اجتمع في أعضائه علامات النساء والرجال، فينظر فيه إلى الغالب من حاله، فإن غلبت عليه الذكورة جاز علاجه طبيًّا بما يزيل الاشتباه في ذكورته، ومن غلبت عليه علامات الأنوثة جاز علاجه طبيًّا، بما يزيل الاشتباه في أنوثته، سواء أكان العلاج بالجراحة، أم بالهرمونات؛ لأن هذا مرض، والعلاج يقصد به الشفاء منه، وليس تغييرًا لخلق الله -عَزَّ وجَلَّ-. وصلى الله على سيدنا محمَّد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. والحمد لله رب العالمين (¬1). ¬

_ (¬1) قرارات المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإِسلامي قرار رقم: 5 رقم الدورة: 11 بشأن تحويل الذكر إلى أنثى وبالعكس.

حكم سفر المرأة بالطائرة من غير محرم

حكم سفر المرأة بالطائرة من غير محرم: اختلف أهل العلم المعاصرون في هذه المسألة. ونرى أنه يجوز سفر المرأة في الطائرة بلا محرم في حالات معينة كذهاب المرأة لزوجها خارج المملكة وكذلك رجوعها إذا كان لا يستطيع مرافقتها، وكذلك السفر داخل المملكة على أن يكون أحد محارمها مودعًا لها في نفس مطار المغادرة والآخر مستقبلًا لها في مطار الوصول (¬1). تحفيظ الرجال القرآن الكريم للنساء والضوابط الشرعية لهذا الأمر: أولًا: قبل الشروع في بيان الحكم الشرعي لهذه النازلة لا بد من بيان بعض ما يتعلق بها: 1 - إن صوت المرأة ليس بعورة بشرط ألا يكون الحديث فيه تكسر وميوعة وخضوع بالقول: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]. والخضوع بالقول والتبرج كلاهما حرام في التعامل مع الرجل الأجنبي حماية لسمع الرجل ونظره. 2 - مخالطة النساء للرجال ينبغي ألا تحصل لما يترتب على المخالطة من محاذير شرعية كثيرة ناتجة عن الاعتياد والألفة من نظر وخلوة ورفع للكلفة وغيرها. 3 - إن تعامل الرجل مع النساء وإن كان مشروعًا إلا أنه لو خشي على نفسه فتنة أو وجد في قلبه فإنه يصير حرامًا حتى ولو كان مع المحارم. . وحتى ولو كان بتعليم القرآن {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53]. ¬

_ (¬1) ويرى الشيخ الطيار أنه لا يجوز سفرها من غير محرم، فقد تتعطل الطائرة في مطار آخر، وقد تتغير وجهتها، وقد تحصل عوارض كثيرة لها، وهذا أمر مشاهد ومعروف، ومع ذلك فحالات الاضطرار لها حكمها الخاص بها. والله أعلم.

مزاحمة النساء في المواصلات

4 - إن النظر إلى النساء منهي عنه خاصة إذا حرك في النفس الشهوات والغرائز: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]. ثانيًا: الحكم الشرعي لهذه النازلة: من خلال ما ذكرناه يمكننا أن نقول: إن الأولى أن تقوم النساء بتحفيظ النساء حذرًا من الوقوع في المحاذير الشرعية، فإن لم يكن ثمة نساء يقمن بذلك وأمكن أن يكون الحفظ عن طريق التسجيلات والحواسب الإلكترونية فإن ذلك يكون أفضل، أما إن كان هناك حاجة لأن يقوم الرجل بذلك فإنه يجوز بلا حرج مع مراعاة الشروط الآتية: أ- أن تكون المخالطة والحديث على قدر الحاجة ودون خضوع بالقول. ب- أن يكون ذلك في جمع من النساء أو مع وجود المحارم؛ حذرًا من الخلوة المنهي عنها. ج- أن ترتدي النساء الزي الشرعي مع مراعاة غض البصر من كلا الطرفين. د- أن يكون معلم القرآن معروفًا بالتدين والورع وحبذا لو كان كبير السن ومتزوجًا. هـ - أن يراقب المحفظ نفسه وقلبه، فإن وجد فيه ميلًا ينبغي أن يسارع بترك هذا العمل حذرًا من أن يتمكن هذا الميل من قلبه فيرفعه إلى المخالفة. مزاحمة النساء في المواصلات: من الأمور المؤسفة ما نراه اليوم من الاختلاط ومزاحمة النساء للرّجال، وهو من الأمور التي عمّت بها البلوى في هذا الزّمان في أكثر الأماكن كالأسواق والمستشفيات والجامعات وغيرها، وينبغي أن تُتخذ الوسائل المناسبة لتلافي هذا الاختلاط مع تحقيق

ما أمكن من المصالح، مثل عزل مكان الرجال عن النساء، وتخصيص أبواب للفريقين، واستعمال وسائل الاتّصالات الحديثة لإيصال الصوت. فاجتماع الرجال والنساء في مكان واحد، ومزاحمة بعضهم لبعض، وكشف النّساء على الرّجال، كلّ ذلك من الأمور المحرّمة في الشريعة؛ لأن ذلك من أسباب الفتنة وثوران الشهوات، ومن الدّواعي للوقوع في الفواحش والآثام، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53]. وقد راعى النبي - صلى الله عليه وسلم - منع اختلاط الرّجال بالنساء حتى في أحبّ بقاع الأرض إلى الله وهي المساجد وذلك بفصل صفوف النّساء عن الرّجال، والمكث بعد السلام حتى ينصرف النساء، وتخصيص باب خاص في المسجد للنساء، عن أم سَلَمَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ وَمَكَثَ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ". قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: "فَأُرَى -واللهُ أَعْلَمُ- أَنَّ مُكْثَهُ لِكَيْ يَنْفُذَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ مَنْ انْصَرَفَ مِنْ القَوْمِ" (¬1). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلهُا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلهُا" (¬2). وإذا كانت هذه الإجراءات قد اتّخذت في المسجد وهو مكان العبادة الطّاهر الذي يكون فيه النّساء والرّجال أبعد ما يكونون عن ثوران الشهوات، فاتّخاذها في غيره ولا شكَّ من باب أولى، ومعلوم ما في اختلاط الرجال بالنساء في وسائل المواصلات أو العمل أو الدراسة من مفاسد عظيمة لا تخفى. ولكن ما العمل إذا اضطر الإنسان لركوب وسيلة من وسائل المواصلات المختلطة؟ ¬

_ (¬1) رواه البخاري، كتاب الأذان، باب صلاة النساء خلف الرجال (870). (¬2) رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها (440) (132).

الخلوة بأكثر من رجل

نقول: عليه أن يتقي الله تعالى ما استطاع، وأن يغض بصره عن الحرام، وأن يتجنب الجلوس بجوار النساء، مهما أمكنه ذلك، حتى ولو بالوقوف على قدميه، ابتغاء مرضات الله تعالى، وتجنبًا للفتنة التي حذر منها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "مَا ترَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ" (¬1)، وقد يتفادى الإنسان هذا الجلوس بتبديل مقعده، ونحو ذلك. فإذا اضطر الإنسان للركوب ولم يستطع تغيير المكان، ولا تغيير السيارة، ولا الوقوف على قدميه لكونه أشد زحامًا وملامسة للنساء، فلا حرج عليه حينئذ من الجلوس بجوار امرأة على أن يبتعد عنها بقدر المستطاع، وعليه بتقوى الله وغض البصر، وإذا خاف على نفسه الفتنة وبدأ الشيطان يوسوس له وأشغل فكره فالواجب عليه أن ينزل فورًا مهما ترتب على ذلك من تأخير؛ لأنه ليس هناك أغلى على المرء من دينه ليحافظ عليه (¬2). الخلوة بأكثر من رجل: اختلف الفقهاء، في خلوة رجل بأكثر من امرأة، وفي خلوة امرأة بأكثر من رجل: هل تدخل في دائرة الخلوة المحرمة شرعًا أوْ لا؟ نقول أولًا: لا يجوز للمرأة أن تخلو مع أجنبي عنها, ولا يجوز لها الركوب مع سائق ليس محرمًا لها وليس معهما غيرهما؛ لأن هذا في حكم الخلوة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ" (¬3). وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، فَإِن ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري، كتاب النكاح، باب ما يتقى من شؤم المرأة (5096)، ومسلمٌ، كتاب الذكر والدعاء، باب أكثر أهل الجنة الفقراء ... وبيان الفتنة بالنساء (2740) (94). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (26/ 341) فتوى رقم (4564). (¬3) رواه البخاري في الجهاد والسير، باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة (3006)، ومسلمٌ في الحج، باب سفر المرأة مع المحرم إلى حج وغيره (1341) عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬4) رواه أحمد (1/ 26)، والترمذيُّ في الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة (2165) عن عمر -رضي الله عنه-، وصححه ابن حبان (4557) ط. الأفكار الدولية، والألباني في الصحيحة (430).

حكم الاشتراك في مجموعات الفيس بوك المختلطة

ثانيًا: أما إن كان معهما رجل آخر أو أكثر أو امرأة أخرى أو أكثر، فلا حرج في ذلك إذا لم يكن هناك ريبة؛ لأن الخلوة تزول بوجود الثالث أو أكثر، وإذا تيسر أن يكون معهن رجل فذلك خير وأصلح، ولكن لا يجب ذلك؛ لأن وجود المحرم قد لا يتيسر في كل وقت لكل أحد. بشرط أن يكون السائق مأمونًا وأن يكون في غير سفر. ويستثنى مما سبق أهل الريبة، أي: أن وجودَ عدد من الرجال الذين لا ثقة بدينهم وأخلاقهم، لا يمنع الخلوةَ، وكذلك وجود عدد من النسوة سيئات السلوك، لا يمنع الخلوةَ، بل ربما ساعد العددُ هؤلاء وهؤلاء على الفساد. حكم الاشتراك في مجموعات الفيس بوك المختلطة: لا زال التقدم العلمي يأتي إلينا كل يوم بجديد وها هو اليوم أتى إلينا بما يسمى بالفيس بوك وغيرها الذي أصبح من خلاله العالم كقرية واحدة، والفيس بوك شبكة عالمية ضخمة، مثلها مثل شبكة الإنترنت عمومًا، حسنها حسن وقبيحها قبيح، فالقول المطلق بفسادها قول بعيد عن الحقيقة، والقول المطلق بصلاحها قول غير صحيح. فمن أراد الخير وسعى إليه، واستغل هذه التقنية شخصيًّا أو دعويًّا وجد له مكانًا وسبيلًا، ومن ابتغى الشر وطلبه سيجد مكانًا ولا بد. وسنذكر هنا جملة من أضراره، وكذا منافعه ليكون المسلم على وعي تام به: * أنه يحصل في هذا الموقع نوع من أنواع التعارف بين الجنسين، وتبادل الصور المحرَّمة، وكذا الارتباط العاطفي بين الشاب والفتاة، فكم جرَّت مواقع الفيس بوك وغيرها من الشرور على البيوت، وكم هتكت الحرمات بسبب الدخول على مثل هذه المواقع.

حكم الدخول على الفيس بوك وغيره

* الفيس بوك وغيره فرصةٌ للاتصال بالدعاة وطلبة العلم في مختلف أنحاء العالم ويمكنهم من خلاله التناقش حول القضايا المستجدة التي يحتاجها الناس مباشرةً دون وسائط، وتكثر على صفحاته عدد هائل من المجموعاتِ الدعوية والثقافية والإعلامية المفيدة. * يتيح الفيس بوك وغيره لأعضائه إمكانية التدوين وكتابة الخواطر البسيطة، وهو وسيلة لنشر الأحاديث الصحيحة، والنقولات المفيدة للعلماء وطلاب العلم، والتذكير بفضائلِ الأعمالِ والأقوالِ الصالحة، ونشر الملفات الصوتية والمرئية النافعة، وغير ذلك مما هو فيه نفع للأفراد والمجتمعات. * الفيس بوك وغيره: فرصةٌ ذهبية لطلاّب العلم والدعاة إلى الله والآمرين بالمعروف والناهين عنِ المنكر، حيث يحسن ويجدر الدخول إلى هذه الأماكن للدعوة والتعليم ونفع النّاس وتغيير المنكرات، وإنشاء الصفحات والمجموعات الدعوية والاجتماعية المناسبة، والتي أثبتت جدواها وفائدتها في أكثرِ من تجربة. فهذه هي بعض أضرار وفوائد الفيس بوك. حكم الدخول على الفيس بوك وغيره: الفيس بوك وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي هو كغيره من التقنيات الحديثة التي يخضع الحكم الشرعي فيها على المستخدم، فإن استخدمها لما فيه نفع له فلا حرج في ذلك، وإن استخدمها فيما يضر في الدين أو الدنيا فلا يجوز له استخدامه. أما بخصوص الاشتراك في مجموعات الفيس بوك وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي المختلطة، فإن كان هذا التجمع يدور وفق الضوابط الشرعية التي سنذكرها فلا حرج فيه شرعًا، وهذه الضوابط هي:

1 - أن يكون الحوار دائرًا حول موضوع يستفيد منه الجميع. 2 - يكون من باب تعليم العلم وتعلمه. 3 - أن لا يخرج الحضور عن دائرة آداب الإِسلام في استعمال الألفاظ واختيار التعابير غير المريبة أو المستكرهة الممقوتة، كما هو شأن كثير من أهل الأهواء والشهوات. 4 - أن لا يكون الحوار مضرًّا بالإِسلام والمسلمين، بل عونًا لهم؛ ليتعلموا دينهم عن طريق القنوات الجديدة، فكما أن غير المسلمين يصرفون أوقاتهم لنشر الباطل، فإن المسلم ينبغي أن يصرف كل جهوده في سبيل نشر الفضيلة والخير والصلاح. 5 - أن يكون بينهما ثقة بالنفس للوقوف عند ثبوت الحق لا يتجاوزه أحدهما انتصارًا للنفس، فإن ذلك يؤدي إلى طمس الحقائق وركوب الهوى والعياذ بالله من شرور النفس الأمارة بالسوء. 6 - أن يكون الحوار يشارك فيه جمع من الناس، وليس حوارًا خاصًّا بين الرجل والمرأة لا يطلع عليه غيرهما. 7 - أن تلتزم المرأة في مثل هذه اللقاءات بالزي الشرعي، فلا تكشف عن وجهها، فإن هذا باب من أبواب الفتنة، فإذا توفرت تلك الضوابط في الحوار فلا حرج فيه. والأولى ترك ذلك وسد هذا الباب؛ لأنه قد يجر الإنسان إلى المحرم، فالشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم (¬1). ¬

_ (¬1) لمزيد المعرفة بمزايا وعيوب الفيس بوك وتأثيراته بالسلب والإيجاب على الشباب العربي، وما قد ينجم عن استخدامه من آثار، أو مشكلات يمكن مراجعة كتاب (حقيقة الفيس بوك ... عدو أم صديق؟)، د. جمال مختار.

الشات (المحادثة) بين الجنسين

الشات (المحادثة) بين الجنسين: الشات: هو ما يسمى بمواقع الدردشة بالإنترنت، فالإنترنت ولوازمه من المحادثة عبر الشات والماسنجر وسيلة قد تكون سببًا في تحصيل الخير، من تبادل العلوم النافعة، والدعوة إلى الله، والتعرف على أحوال المسلمين، وقد تكون سببًا للمفاسد والشرور، وذلك حينما تكون بين الرجل والمرأة. ولذلك لا يجوز تكوين صداقات بين الرجال والنساء عبر هذه الوسائل للأسباب التالية: 1 - لأن هذا من اتخاذ الأخدان الذي نهى الله -عَزَّ وجَلَّ- عنه في كتابه الكريم، فقال: {وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: 5]. 2 - لأنه ذريعة إلى الوقوع في المحظورات بداية من اللغو في الكلام، ومرورًا بالكلام في الأمور الجنسية وما شابهها، وختامًا بتخريب البيوت، وانتهاك الأعراض، والواقع يشهد بذلك. 3 - لأنه موطن تنعدم فيه الرقابة، ولا توجد فيه متابعة ولا ملاحقة، فيفضي كلا الطرفين إلى صاحبه بما يشاء دون خوف من رقيب ولا حذر من عتيد. 4 - لأنه يستلزم الكذب إن عاجلًا أو لاحقًا، فإذا دخل الأب على ابنته، وسألها ماذا تصنع، فلا شك في أنها ستلوذ بالكذب وتقول: إنني أحدث إحدى صديقاتي، وإذا سألها زوجها في المستقبل عما إذا كانت مرت بهذه التجربة فإنها لا شك ستكذب عليه. 5 - لأنه يدعو إلى تعلق القلوب بالخيال والمثالية؛ حيث يصور كل طرف لصاحبه أنه بصفة كذا وكذا، ويخفي عنه معايبه وقبائحه حيث الجدران الكثيفة، والحجب المنيعة التي تحول دون معرفة الحقائق، فإذا بالرجل والمرأة وقد تعلق كل

مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية

منهما بالوهم والخيال، ولا يزال يعقد المقارنات بين الصورة التي طبعت في ذهنه، وبين من يتقدم إلى الزواج به، وفي هذا ما فيه. أما ما توجبه الضرورة، أو تستدعيه الحاجة مثل الحديث بين المراسلين الإخباريين، وبين العالم والمربي ومن يقوم على تربيتهن أو دعوتهن، والحديث الذي تقتضيه دواعي العمل بين الجنسين فليس حرامًا ما دام لم يخرج عن المعروف، ولم يدخل دائرة المنكر، ولم يخرج عما تقتضيه الحاجة، وتفرضه الضرورة (¬1). مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية: المصافحة: هي الأخذ باليد، والمرأة الأجنبية هي التي يحل للشخص نكاحها، وقد اتفق علماء الأمة من السلف والخلف على تحريم مصافحة المرأة الأجنبية، ومع اتفاقهم على التحريم إلا أننا وجدنا في هذا الزمان من يتهاون في هذه المسألة، بل وجد من ينقض هذا الاتفاق ويقول بجواز ذلك إذا أمن الفتنة والأدلة متضافرة على تحريم ذلك، فمنها: 1 - عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كَانَتِ المُؤْمِنَاتُ إِذَا هَاجَرْنَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُمْتَحَنَّ بِقَوْلِ اللهِ -عَزَّ وجَلَّ- {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ} [الممتحنة: 12] إِلَى آخِرِ الآيَةِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَنْ أقرَّ بِهَذَا مِنَ المُؤْمِنَاتِ، فَقَدْ أَقَرَّ بِالمِحْنَةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلهِنَّ، قَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "انْطَلِقْنَ، فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ" وَلَا وَالله مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ، غَيْرَ أنَّهُ يُبَايِعُهُنَّ بِالكَلَامِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَالله، مَا أَخَذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى النِّسَاءِ قَطُّ إِلَّا بِمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى، وَمَا مَسَّتْ كَفُّ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَفَّ امْرَأَةٍ قَطُّ، وَكَانَ يَقُولُ ¬

_ (¬1) مجلة الوعي الإِسلامي، وزارة الأوقاف الإِسلامية الكويتية، العدد (532)، عنوان المقال: "ولا متخذات أخدان".

حكم مشاركة المرأة في فرق الرقص الشعبي

لَهُنَّ إِذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ: "قَدْ بَايَعْتُكُنَّ" كَلَامًا (¬1). 2 - عن أميمة بنت رقيقة -رضي الله عنها- قالت: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - في نِسْوَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ نُبايِعُهُ، فَقُلنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، نُبايِعُكَ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِالله شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلَا نَعْصِيَكَ في مَعْرُوفٍ، قَالَ: "فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ، وَأَطَقْتُنَّ". قَالَتْ: قُلنَا اللهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا، هَلُمَّ نبايِعْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ، إِنَّمَا قَوْلِي لمِائَةِ امْرَأَةٍ كقَوْلي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ مِثلُ قَوْلي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ" (¬2). 3 - عن معقل بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَأَنْ يُطْعَنَ في رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأةً لا تَحِلُّ لَهُ" (¬3). 4 - ثم إن الإِسلام حرم النظر إلى المرأة الأجنبية من غير سبب مشروع، وإذا كان النظر محرمًا فمن باب أولى اللمس؛ لأن اللمس أعظم أثرًا في النفس من مجرد النظر؛ حيث إن اللمس أكثر إثارة للشهوة وأقوى داعيًا للفتنة من النظر بالعين، وكل منصف يعلم ذلك (¬4). حكم مشاركة المرأة في فرق الرقص الشعبي: لا يجوز شرعًا للفتاة المسلمة أن تشترك في فرق الرقص الشعبي وفرق الدبكة، وهذا الفعل حرام شرعًا؛ لما يترتب عليه من المفاسد والمحرمات، فمن ذلك: ¬

_ (¬1) رواه البخاري، في كتاب الطلاق، باب إذا أسلمت المشركة أو النصرانية تحت الذمي أو الحربي (5288)، ومسلمٌ في كتاب الإمارة، باب كيفية بيعة النساء رقم (1866). (¬2) رواه النسائي، في كتاب البيعة، باب بيعة النساء (4181)، وابن ماجة، كتاب الجهاد، باب بيعة النساء (2874)، وصححه الألباني في الصحيحة (529). (¬3) رواه الطبراني في المعجم الكبير (20/ 213)، وابن أبي شيبة في المصنف (4/ 341)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (226). (¬4) انظر: رسالة أدلة تحريم مصافحة المرأة الأجنبية، د. محمَّد بن إسماعيل المقدم.

ظاهرة تحرش المحارم

1 - إن هذه الفرق تكون مختلطة في الغالب، فهي تتكون من شباب وشابات وهذا عمل منكر ومحرم شرعًا. 2 - إن هذه الفرق حتى لو كانت خاصة بالفتيات لا يجوز الاشتراك فيها؛ لأنها تعرض رقصاتها على الناس في الأماكن العامة وهذا حرام شرعًا. 3 - إن مثل هذه الفرق رقصاتها مصحوبة بالموسيقى المحرمة شرعًا. 4 - إن هذه الفرق وأمثالها مظهر من مظاهر الإنحلال والميوعة ومحاربة الفضيلة. 5 - وكذلك فإنها مظهر من مظاهر الغزو الفكري الذي يركز على إحياء ما يعرف بالفلكلور الشعبي، وإظهاره على أنه من تراث الأمة المسلمة، مع أن تراث الأمة المسلمة أعظم وأجل من هذه الترهات وسفاسف الأمور. إن تراث هذه الأمة يتمثل بعقيدتها ودينها وما خلفه عظماؤها وقادتها الأماجد. وبناءً على ذلك كله يحرم على الفتاة المسلمة أن تشترك بمثل هذه الفرق، ولا يحل للآباء ولأولياء الأمور أن يسمحوا لبناتهم أو أخواتهم أو زوجاتهم بالمشاركة بمثل هذه الفرق وأمثالها (¬1). ظاهرة تحرش المحارم: لقد كثرت الشكايات من قبل النساء وبخاصة في التحرش بهن، وقد يهون الأمر عند البعض، ولكن حينما يسمع أن أحد محارم الفتاة هو الذي تحرش بها، وهذا بلا شك إيذان بخراب الأخلاق؛ إذ كيف يأمن الواحد منا على عرضه بعد أن فقدت الثقة عند البعض في خال البنت أو عمها أو أحد أقاربها ممّن هو محرم لها. ¬

_ (¬1) لمزيد من المعرفة بهذه النازلة انظر: فتاوى يسألونك، أ. د. حسام الدين بن موسى عفانة (1/ 167).

اختيار الرجل سكرتيرة للعمل

وبخصوص هذه النازلة نقول: أولًا: الأصل أن الخال والعم محرم لجميع بنات إخوانه وأخواته وبناتهن؛ لقوله -عَزَّ وجَلَّ- في بيان المحرمات في سورة النساء: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} [النساء: 23]. ثانيًا: ذهب بعض السلف -كعكرمة والشعبي- إلى أن الخال والعم وإن كان يحرم عليه أن يتزوج بابنة أخته، وابنة أخيه إلا أنه لا يجوز لها أن تبدي زينتها أمامه، ويلزمها الحجاب معه، واستدلوا على ذلك بدليلين: 1 - أن الخال والعم لم يُذكرا في آية سورة الأحزاب التي تبيح للمرأة أن تبدي زينتها أمام المحارم، قال الله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [الأحزاب: 55]، فلم يذكر الله تعالى العم والخال. 2 - لأن الخال والعم قد يصفان المرأة لأبنائهم: وذهب عامة أهل العلم إلى أن الخال والعم من المحارم الذين يجوز للمرأة أن تبدي زينتها أمامهم، وهذا هو الصواب. ثالثًا: لا حرج في زيارة الخال لبنت أخته وخلوته بها، وسفره معها، ما لم تكن هناك ريبة، كما لو كان فاسقًا غيرَ مأمونٍ علي بنت أخته، فإن وجدت ريبة، مُنع من الخلوة بها وزيارتها في غياب أبيها أو أمها أو زوجها إن كانت متزوجة. اختيار الرجل سكرتيرة للعمل: أولًا: لا يجوز للمرأة أن تعمل في مكان تختلط فيه مع الرجال؛ لما يترتب على ذلك من مفاسد ومحاذير، كالخلوة والنظر والمصافحة، وتعلق القلب بأصحاب

العمل أو زملائها فيه، وغير ذلك مما هو معلوم، ولا يكاد يسلم العمل المختلط من هذه المحاذير أو بعضها. ثانيًا: لا يجوز لصاحب العمل أن يوظف امرأة تعمل بين الرجال، سواء كانت في السكرتارية أو في النظافة أو غير ذلك، لما فيه من الإعانة على الاختلاط المحرم. وكون هذه الظاهرة موجودة في بعض البلدان؛ فإن هذا لا يعتبر مسوغًا له من جهة الشرع، بل الواجب إخضاع العوائد لأحكام الشرع، وضبطها على وَفقه. والادعاء بأن المرأة أقدر على أمور السكرتارية وأعمال الكمبيوتر ليس صحيحًا، ففي الرجال من يحسن ذلك أيضًا، والأمر راجع إلى حسن الاختيار، والرجل أحق وأولى بالعمل؛ لأنه الذي يقوم على الأسرة ويرعاها، وهو المطالب بالنفقة شرعًا. والمرأة إن تيسر لها عمل مباح خال من المحاذير فذاك، وإلا فبيتها خير لها. ثالثًا: الخلوة بين الرجل والمرأة محرمة؛ وقد سبق بيان الأدلة في نوازل سابقة. وأما الاختلاط: فقد يكون بلا خلوة، كاجتماع عدد من الرجال بعدد من الإناث، والمحرم منه ما ترتب عليه شيء من المحاذير؛ كالنظر، واللمس، والخضوع بالقول، وتعلق القلب، وهذا لا يكاد يسلم منه عمل مختلط؛ لأن كثرة اللقاء وطول الجلوس، يسقطان الكلفة، ويوجبان التوسع في المعاملة، خاصة في المكان الضيق، محدود الأشخاص، كحالة السكرتارية (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: مجلة البحوث الإِسلامية (17/ 152)، فتاوى النساء، الشيخ محمَّد متولي الشعراوي (ص: 523).

نوازل في وسائل التغريب الحديثه في الأسرة المسلمة

نوازل في وسائل التغريب الحديثه في الأسرة المسلمة شبهات حول نظام الأسرة في الإسلام والرد عليها: منذ أن ظهر الإِسلام وأعداؤه في كل زمان ومكان يتربصون به الدوائر، ويتلمسون كل طريق ليبعدوا المسلمين عن دينهم بتشويههم مبادئ هذا الدين، ولقد حرص الإِسلام كل الحرص على تكوين الأسرة المسلمة وكثرة أفرادها بالزواج، ليعيش الطفل المسلم بين أبويه ينهل من رعايتهما وعطفهما. وقد أثبتت الأبحاث العلمية الحديثة أن الأطفال الذين يعيشون بين أبويهم أقوى جسمًا وعقلًا وعاطفةً من أطفال الملاجئ. ولا تقتصر حكمة الزواج في الإِسلام على ذلك، بل تتعداه إلى حِكم أخرى لاشتمال الزواج على مصالح كثيرة منها: تحصين الزوج والزوجة، وتكثير الأمة، وتحقيق مباهاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكثرة أمته. ولقد أثار أعداء الإِسلام بعض الشبه عن الزواج في الإِسلام منها: أولًا: شبهة تعدد الزوجات: لما عجز أعداء الإِسلام عن مواجهة الإِسلام بالطرق والأساليب المشروعة راحوا يطعنون في الإِسلام وتشريعاته التي تعتبر إعجازًا وليست شبهات، ولقد جد أعداء الإِسلام في ذلك وسيلة للنيل منه، فمن شبهاتهم حول تعدد الزوجات ما يلي: 1 - إن نظام التعدد يكاد يكون مقصورًا على الأمم التي تدين بالإِسلام، وأنه لا ينتشر إلا في الشعوب المتأخرة في الحضارة.

2 - إن نظام التعدد هو مسايرة لدواعي الشهوات عند الرجال، وأنه إهدار لكرامة المرأة وإجحاف بحقوقها، كما أنه إهدار لمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة الذي يقتضي أن يكون الزوج خالصًا لزوجته كما هي خالصة له. 3 - إن تعدد الزوجات مدعاة للتنازع الدائم بين الزوج وزوجاته، وبين الزوجات بعضهن مع بعض، كما أنه مصدر للشقاق والتنافر مما يؤدي إلى إشاعة الفوضى والاضطراب في حياة الأسر، ويعيش الأولاد في جو فاسد. 4 - إن تعدد الزوجات فيه إهانة للمرأة. وللرد على هذه الشبه نقول: 1 - الإِسلام أباح التعدد ولم يأمر به أو يحث عليه، وفرقٌ بين إباحة الشيء والأمر به، فالإِسلام أباح التعدد حلًّا لكثير من المشاكل الاجتماعية التي تحصل من جرَّاء منع التعدد وتحريمه، فهو في ذلك مراعٍ للفطرة الإنسانية السليمة التي تتطلب ذلك. 2 - اشتراط الإِسلام العدل بين الزوجات في الإنفاق والمعاملة، فمن يتزوج بأكثر من واحدة ولم يعدل بين زوجاته كان آثمًا في عمله كله. لقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]، وعن أَبي هريرة -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأتانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا، جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ" (¬1). 3 - عندما تكون الزوجة عقيمًا، فالتعدد حلٌّ لمشكلتها مع زوجها الذي قد يرغب بإنجاب الأولاد، ولا شك أن زواج زوجها بأخرى مع بقائها معه خيرٌ لها من ¬

_ (¬1) رواه الإِمام أحمد (2/ 347)، وأبو داود في النكاح، باب في القسم بين النساء (2133)، والترمذيُّ في النكاح، باب ما جاء في التسوية بين الضرائر (1141)، والنسائيُّ في النكاح، باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض (7/ 63)، وابن ماجه في النكاح، باب القسمة بين النساء (1969)، قال الحافظ في البلوغ (978): سنده صحيح.

ثانيا: شبهة الطلاق

أن يطلقها ويتزوج بأخرى فتكون عالة على المجتمع. 4 - عندما تكون الزوجة مريضة أو غير قادرة على القيام بواجباتها تجاه زوجها إما لمرض جسمي أو غيره، فإن زواج زوجها بأخرى مع بقائها معه وفي كفالته خير لها من فراقها وهي على هذه الحالة، بل يكون مسؤولًا عنها ورعايتها والمحافظة عليها. 5 - عندما تكون نسبة النساء في مجتمعٍ ما أكثر من نسبة الرجال؛ لحروبٍ طحنت الرجال أو لغيرها من الأسباب، فإنه لا يوجد حل لمشكلة ذلك المجتمع وحفظه من براثن الفساد والفتن سوى التعدد كما حدث عبر التاريخ, ومن ذلك الحربان العالميتان حيث قتل كثير من الرجال وزادت أعداد النساء كثيرًا، وكما يحدث الآن في الحروب الدائرة بين البلدان، وذلك علاج اجتماعي مناسب شرعه الحكيم الخبير. 6 - وأخيرًا، فإن الإِسلام قد جاء والتعدد كان نظامًا اجتماعيًّا معروفًا عند العرب وغيرهم من الأمم الأخرى، وكان بدون تحديد لعدد معين، فجعله الإِسلام لا يزيد على أربع زوجات، واشترط العدل بينهن إذا كان ممكنًا؛ حفظًا لحقوق المرأة وكرامتها. ثانيًا: شبهة الطلاق: قد تحصل بين الزوجين أمور لا يمكن حلها إلا بالطلاق، ومع ذلك اتخذ أعداء الإِسلام من إباحة الإِسلام للطلاق منطلقًا للتهجم عليه، وزعموا أن في ذلك إهانة لكرامة المرأة وسببًا في تشرد الأولاد. وللرد على هذه الشبهة نقول: 1 - إن الإِسلام حينما أباح الطلاق بغَّض به، وجعله الرسول أبغض الحلال إلى الله.

2 - رغب الإِسلام في الصلح بين الزوجين وإيجاد الحل لمشاكلهما قبل البتِّ في الطلاق. فقد يكون سبب النزاع عوامل خارجية عن حياة الزوجين الخاصة يمكن إيجاد حل لها وتستقيم الأمور، يقول تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]. فإن انسدت أبواب الإصلاح، ولم يمكن التوفيق بينهما فالطلاق هو الحل الأخير، وسيوفق الله إلى الطريق الأصلح لكل واحد منهما {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130]. ومع ذلك ترك الإِسلام للرجل والمرأة فرصة للتفكير؛ فشرع الطلاق الرجعي ليستطيع الرجل أن يراجع فيه امرأته بدون مهر أو عقد جديد إذا كانت لا زالت في عدتها. 3 - إن الإِسلام حينما أباح الطلاق إنما وافق بذلك الفطرة السليمة بجعله حلًّا لمشكلة اجتماعية قد تحصل بوجود خلاف وعدم التئام بين الزوجين ولا حل لهما إلا بالطلاق، فذلك أفضل للزوجين من حياة تعيسة يشقى فيها الزوجان بل ويتعدى ذلك للأهل والأقارب. 4 - ما زعمه أعداء الإِسلام أن الطلاق سبب لتشرد الأولاد في البلاد الإِسلامية، هذا غير صحيح ولا دليل له من الواقع. ذلك أن إحصائيات الطلاق في العالم الإِسلامي أشارت إلى أن أكثره يقع في السنة الأولى من الزواج وقبل الإنجاب بسبب فشل اختيار أحدهما للآخر. وقد ورد في تلك الإحصائيات أن 77 % من وقائع الطلاق تقع قبل إنجاب أي ولد، وأن 17 % تقع بعد إنجاب طفل واحد، ثم تتدنى النسبة كلما كثر عدد الأولاد. وحينما يقع الطلاق مع وجود الأولاد كفل الإِسلام الحياة الكريمة للأولاد -في رعاية أحد الأبوين- وأوجب النفقة على الأب، بل أوجب الإِسلام على الأب

الرد على المنادين بحرية وتحرير المرأة

إعطاء الأم أجرًا حتى على إرضاع ولدها. يقول تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6]. وأخيرًا، نقول لكل المدافعين عن قضايا المرأة في الإِسلام: قبل كلامكم عن قضايا المرأة في الإِسلام يجب أن تبدؤوا جميعكم بجملة واحدة وهي "كيف كانت المرأة قبل الإِسلام؟ " وأن تذكروا وضعها المتدني قبل الإِسلام وفي الحضارات القديمة وفي أوروبا في العصور الوسطى، وذلك لكي تثبتوا للعالم أن الإِسلام أنصف المرأة وحسن وضعها (¬1). الرد على المنادين بحرية وتحرير المرأة: لقد ارتفعت أصوات دعاة تحرير المرأة وسيطر كثير منهم على كثير من وسائل الإعلام، وشككوا في الثوابت الشرعية، وشنوا بلا هوادة حربًا على عادات المجتمع المسلم، وهو بلا شك دعوة إلى الفساد بعينه، وهو الشر المستطير والانحلال التام، والميل الجامح عن الفطرة السوية، وفعل ذلك كفيل بهدم كيان المجتمع، وتقطيع أواصره، وضياع الحقوق فيه، ويخرج المولود إلى دنيا لا يجد له فيها أبًا يرعاه وينفق عليه، والبشرية في جاهليتها وانحطاطها قبل ورود نور الوحي إليها لم تصل إلى ما وصل إليه دعاة تحرير المرأة؛ حيث أخرجوها من حيائها وبيتها، وعملوا على تدمير خلقها، وجعلها تلهث في وسط مجتمع الذئاب المفترسة بحثًا عن لقمة عيشها، بعد أن كانت مصونة في بيتها يسترها حياؤها، ويكفيها الرجل أبًا أو زوجًا أو ابنًا أو أخًا متاعب الحياة، وهي متفرغة لبناء بيتها، وتربية أولادها. ويا للأسف وجدت هذه الدعوة أذهانًا خالية من الحق، فتشربت بها، وأخذت تنعق بما لا تفهم! ¬

_ (¬1) مجلة البيان العدد: (8)، (ص: 51).

أولا: التعريف بحركة تحرير المرأة

أولًا: التعريف بحركة تحرير المرأة: حركة تحرير المرأة: هي حركة علمانية نشأت في مصر في بادئ الأمر، ثم انتشرت في أرجاء البلاد العربية والإِسلامية. تدعو إلى تحرير المرأة من الآداب الإِسلامية والأحكام الشرعية الخاصة بها مثل الحجاب، وتقييد الطلاق، ومنع تعدد الزوجات، والمساواة في الميراث، وتقليد المرأة الغربية في كل أمر، ونشرت دعوتها من خلال الجمعيات والاتحادات النسائية في العالم (¬1). ثانيًا: الرد على المنادين بحرية وتحرير المرأة: 1 - لقد أقام الإِسلام سياجًا حول المرأة المسلمة فأمرها بعدم الخروج من بيتها لغير ضرورة، لكن دعاة تحرير المرأة وأعداء الإِسلام فسروا ذلك بأنه عدم ثقة بالمرأة وإهانة لها، وأنه يدل على عدم قيمتها وأهميتها في المجتمع، وهذا كلام باطل فإن وظيفة المرأة في البيت أعظم وأهم عمل في الحياة، وما قرارها في البيت إلا لحمايتها ولعدم تحميلها مهام إضافية قد تؤثر على نفسيتها وصحتها، وتجاهلوا أن السياج والحراسة لا تكون إلا على ثمين وهام. نهى الله تعالى النساء عن التبرج، فقال سبحانه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]. لكن أعداء الإِسلام لم يقبلوا ذلك فأساؤوا الفهم، وفسروا ذلك بأنه إهانة للمرأة وحرمان لها من حريتها، فلكي تكون المرأة حرة عندهم لا بد لها من أن تعرض زينتها وجسمها في الشوارع والأسواق، ولا شك أن أبا جهل وأبا لهب لم يكونوا يرضون لنسائهم ذلك، إن المرأة المسلمة تعتبر الحجاب حقًّا من حقوقها وليس تقييدًا وتضييقًا عليها. ¬

_ (¬1) الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، (ص: 2/ 101).

لم يضع الإِسلام حدًا لا تُبدي الزوجة لزوجها، كما سمح لها بإبداء ما لا يتنافى مع حيائها أمام محارمها، وسمح الإِسلام للمرأة بإبداء زينتها أمام النساء، وبذلك فلا يبقى إلا الأجانب، فهل في هذا ظلم أم حماية للمرأة؟ إنه حماية وتكريم للمرأة. 2 - لقد ساوى الله سبحانه وتعالى بين النساء والرجال في التكاليف والعقاب والثواب في جميع أمور الدين، وكما أن للرجل حقوقًا على زوجته فإن للزوجة حقوقًا عليه، فقال -عَزَّ وجَلَّ-: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]. 3 - حثت شريعة الإِسلام على حسن تربية البنات، بل جعلت ذلك في مقابل الجنة فقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ عَالَ ابْنَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثَ بَنَاتٍ، أَوْ أُخْتين أَوْ ثَلاَثَ أَخَوَاتٍ، حَتَّى يَبِنَّ أَوْ يَمُوتَ عَنْهُنَّ، كنْتُ أنَّا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ" وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى (¬1). 4 - جعل الله سبحانه وتعالى للمرأة حظًّا من الميراث، لكن أعداء الإِسلام وكعادتهم طعنوا في عدالة نصيب المرأة بالنسبة للرجل. إن الرجل الذي يرث ضعف ما ترث المرأة في بعض الأحوال ينفق ذلك المال على زوجته وأولاده ونفسه، وربما على والديه وإخوانه، أما المرأة فإنها ليست مجبرة على الإنفاق على أحد. فمن الرابح إذن؟ 5 - ولقد حفظ الإِسلام حق المرأة على أساس من العدل والإنصاف والموازنة، فنظر إلى واجبات المرأة والتزامات الرجل، وقارن بينهما، ثم بين نصيب كل واحدٍ فمن العدل أن يأخذ الابن ضعف الابنة للأسباب التالية: أ - فالرجل عليه أعباء مالية ليست على المرأة مطلقًا؛ فالرجل هو الذي يدفع المهر، والمهر حق خالص للزوجة وحدها لا يشاركها فيه أحد فتتصرف فيه كما تتصرف في أموالها الأخرى كما تشاء متى كانت بالغة عاقلة رشيدة. ¬

_ (¬1) رواه الإِمام أحمد (3/ 147، 148)، وابن أبي شيبة (8/ 551)، ورواه مسلم بلفظ: "مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا، جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ" وَضَمَّ أصَابِعَهُ، في البر والصلة: باب فضل الإحسان إلى البنات (2629).

ب- والرجل مكلف بالنفقة على زوجته وأولاده؛ لأن الإِسلام لم يوجب على المرأة أن تنفق على الرجل ولا على البيت حتى ولو كانت غنية إلا أن تتطوع بمالها عن طيب نفس، يقول الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]، وقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]. على حين أن المرأة مكفية المؤونة والحاجة، فنفقتها واجبة على ابنها أو أبيها أو أخيها شريكها في الميراث أو عمِّها أو غيرهم من الأقارب. 6 - ومما يدعيه دعاة تحرير المرأة أن الإِسلام وصفها بأنها ناقصة عقل ودين؛ حيث ورد ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد حث النساء على التصدق، وذلك لأن أغلب أهل النار من النساء، وعندما سُئل عن سبب ذلك أجاب بأنهن ناقصات عقل ودين. وينتهي هنا كلام أعداء الإِسلام فيقولون إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصف النساء بنقصان العقل والدين، ويسقطون بقية الحديث الشريف الذي يوضح معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أن المسلمة تضطرها طبيعة خلقتها إلى ترك الصلاة عدة أيام شهريًّا، وإلى ترك الصيام عدة أيام في شهر رمضان المبارك وتكفر زوجها، وبذلك ينقص دينها. أما نقصان العقل فقد فسره - صلى الله عليه وسلم - بأن شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، وليس في هذا إهانة للمرأة؛ لأن رسالتها في الحياة تستلزم بقاءها في غالب الأوقات في منزلها وخاصة أوقات البيع والشراء حيث تجري المعاملات المالية بين الناس وهذا لا يقع إلا نادرًا وما كان كذلك فليس من شأنها أن تحرص على تذكره حين شاهدته، فإنها غالبًا ما تمر عابرةً لا تلقي له بالًا فإذا جاءت تشهد كان احتمال نسيانها، فإذا شهدت معها أخرى زال احتمال النسيان. كما أن المرأة يغلب عليها الجانب العاطفي بحيث يفوتها التركيز على بعض

الأمور المطلوب الشهادة فيها، ومشاركتها لغيرها يذكرها ويقوي موقفها من الإدلاء بالشهادة. والمرأة لا تكون شهادتها دائمًا نصف شهادة الرجل، فهناك حالات تتساوى كلا شهادتي المرأة والرجل، وهناك حالات لا تُقبل فيها شهادة غير شهادة المرأة. وهل ينطبق ذلك على جميع النساء؟ كلا؛ فإن المرأة التي تنطبق عليها تلك الصفات هي امرأة لم تؤد من نوافل الصلاة ما عوضت به نقص صلاتها, ولم تقض ما فاتها من صيام، وآذت زوجها وبذلك استحقت عذاب جهنم. أما من عوضت ما فاتها من الطاعات وأدت حق زوجها؛ فإنها بذلك تستحق الكرامة وما أعده الله لعباده المؤمنين بحول الله وقوته. 7 - المهر: يدعي أعداء الإِسلام أن المهر هو ثمن للزوجة يدفعه الزوج ويشتريها به، وهذا قول باطل؛ فالنفس الإنسانية لا تُقدر بثمن، كما أن الإِسلام لم يُحدد مبلغًا محددًا للمهر، بل إن نبينا - صلى الله عليه وسلم - قال: "التمس ولو خاتمًا من حديد" (¬1). فهل خاتم الحديد ثمن للزوجة؟ إن المهر دليل ورمز على أن المرأة ستكون موضع رعاية الزوج، وبأنه سيتكفل بكل ما تحتاج إليه، فتطيب نفسها به وتأنس وترضى أن تقترن به، بل وتسعد برياسته وقوامته. 8 - الطلاق: لقد نفّر الإِسلام من الطلاق، ووردت أحاديث وآيات قرآنية كثيرة تحث كلا الزوجين على حسن معاشرة أحدهما للآخر، ووعدت بالأجر العظيم للصبر على ما قد يقع عليه من أذى من الآخر، بل إن سورة قرآنية كاملة خُصصت لموضوع الطلاق مما يدل على عظيم أهميته، وما ذلك إلا لأهمية الأسرة في الإِسلام، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ في النكاح، باب التزويج على القرآن وبغير صداق (5149)، ومسلمٌ في النكاح، باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد (1425).

زواج المسلمة بغير مسلم

وللمحافظة عليها من التفكك، وما يجر ذلك من ضياع لجميع أفرادها. جعل الشارع حق الطلاق في يد الرجل، ووضع له ضوابط عليه أن يلتزم بها قبل أن يوقع الطلاق، وهنا أيضًا اعتبر أعداء الإِسلام ذلك إهانة للمرأة، وفي الحقيقة لقد جعل الإِسلام الطلاق بيد الرجل؛ لما يحتاجه شأن الأسرة من قوة وحزم وصلابة وقوة في الرأي، ولما جبل الله عليه المرأة من تغليب العاطفة، ونحو ذلك. ولأن المرأة يعتريها ما خلقها الله عليه من تغيرات فسيولوجية من طبيعة النساء من الحمل والولادة والحيض والنفاس يتغير معها مزاجها ويتكدر خاطرها، فيصعب حينها تصرفها في أمر مصيري كهذا. زواج المسلمة بغير مسلم: أجمع العلماء على أنه لا يحل للمسلمة أن تتزوج غير المسلم، ودليل ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة: 10]. وحكمة ذلك أن للرجل حق القوامة على زوجته، وأن عليها طاعته فيما يأمرها به من معروف، وفي هذا معنى الولاية والسلطان عليها، وما كان لكافر أن يكون له سلطان على مسلم أو مسلمة، يقول الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]. كما أنه يخشى على المرأة المسلمة أن تتأثر من زوجها بترك دينها إما إلى دينه أو التشكيك في دينها, ولذا جاء المنع من باب سد الذرائع.

الكشافة في المدارس والجامعات النسوية

وفي الختام، فإن المنهج الإِسلامي يتبع الفطرة في تقسيم الوظائف بين الرجل والمرأة بحيث تتناسب مع ما أودعه الخالق -عَزَّ وجَلَّ- في كل منهما من خصائص (¬1). الكشافة في المدارس والجامعات النسوية: أولًا: تعريف الكشافة وموقف المملكة منها: الكشافة هي أنشطة شبيهة بالنظام العسكري -فهي باختصار عسكرية مصغرة-. ومن المتعارف عليه أن الكشافة في المملكة محصورة على الشباب كغيره من الأنشطة التي لا تناسب طبيعة الفتيات أسوة بالألعاب الرياضية وغيرها. وتمر بلاد الإِسلام -وبخاصة مجتمعنا- بهجمة تغريبية تستهدف المرأة السعودية وجرّها إلى ما لا يحمد عقباه، فنجد التهوين وبخاصة في هذه الأيام من موضوع الاختلاط، ومحاولة إيجاد المبررات الشرعية لنشر هذا المفهوم وتسويغه بين كافة فئات المجتمع، لا سيما وأننا نقرأ كل يوم في الصحف مطالبات حثيثة وجريئة لإدراج مادة التربية البدنية في مدارس البنات، وحضور النساء لمدرجات الملاعب وغيرها من محاولة إقحام المرأة في ميادين وبيئات مختلطة. ثانيًا: المحاذير الشرعية والأخلاقية للتربية البدنية والكشافة في المدارس والجامعات النسوية: المحاذير الشرعية والأخلاقية لهذا الأمر ستكون خطيرة على بناتنا وفتياتنا ومنها: ¬

_ (¬1) انظر: هذه النازلة في كتاب أسس حرية المرأة في التشريع الإِسلامي، د. سامية عبد المولى الشعار، وكتاب من أجل تحرير حقيقي للمرأة، محمَّد رشيد العويد، والمرأة بين القرآن وواقع المسلمين، الشيخ راشد الغنوشي، وكتاب المرأة المسلمة بين الشريعة الإِسلامية والأضاليل الغربية، فدى عبد الرزاق القصير، وكتاب المرأة في الإِسلام، د. علي وافي.

النوادي الرياضية النسانية

1 - أن غالبية أنشطة الكشافة تمُارس في المعسكرات وفي البراري وخارج المدن وهذه البيئات لا تناسب المرأة وستعرّضها لمخاطر حقيقية. 2 - أن الكشافة في المملكة مرتبطة ببرامج ومشاركات عالمية وعربية سواء في التجمعات العالمية أو العربية؛ كالمخيمات واللقاءات والدورات التدريبية التي تكون في الغالب خارج البلاد، وكل هذه المناسبات مختلطة بين الجنسين على كافة المستويات والمراحل العمرية، ويستطيع أي شخص أن يطلع على ذلك في الصحف والمواقع الإلكترونية التي تهتم بأنشطة الكشافة. 3 - أن الكشافة وبرامجها تقوم على التدريب والدورات المستمرة للعاملين فيه مما يتطلب كثرة البرامج والمشاركات وفي أماكن متباعدة، وهذا بلا شك سيساهم في كثرة خروج المرأة وسفرها إلى تلك الأماكن واختلاطها بالرجال في تلك البرامج. 4 - أن تجارب الدول في مشاركة الفتيات في الكشافة تعدّ تجارب سيئة؛ حيث الاختلاط والبرامج المشتركة بين الجنسين، ويمكن لأي شخص أن يدخل على المواقع الإلكترونية لجمعيات الكشافة، ويرى بعينيه كيف وصل الحال بهذه الدول من الاختلاط بين الشباب والفتيات وتكشفهن، وهذه الصور من الاختلاط في تلك الدول ستصبح صورًا مستنسخة عندنا لو تمت الموافقة على مشاركة الفتيات في الكشافة. النوادي الرياضية النسانية: الأصل في الرياضة: الجواز والأصل عموم الأحكام الشرعية للرجال والنساء، ومما يدل على أن هذا هو الأصل في ممارسة الرياضة للنساء حديث عائشة -رضي الله عنها- أنها كانت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "هَذِهِ بِتِلكَ السَّبْقَةِ" (¬1). وبناءً على هذا الأصل فإن ¬

_ (¬1) رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في السبق على الرجل (2580)، قال الشيخ الألباني: صحيح.

للمرأة أن تمارس من الرياضة ما تحتاج إليه في تنشيط جسمها، فإن للرياضة أثرًا في نشاط البدن وحيويته. أما عن ممارسة المرأة للرياضة خارج بيتها "في النوادي والمدارس مثلًا" فلا يجوز وإن كان بعض أهل العلم أجازه بشروط؛ إلا أننا نقول إن شريعة الإِسلام حرصت كل الحرص على ستر المرأة، وأن تنفصل قدر الإمكان عن الاحتكاك بالرجال، وبالتالي فقد حبذ لها الشرع البقاء في بيتها، وألا تخرج إلا وهي محتشمة وغير مبدية للزينة الظاهرة وغير متطيبة مع عدم الضرب بالأرجل ليعلم ما تخفي من زينتها. وبهذا لا يمكن أن تمكن المرأة من الخروج لهذه الأندية؛ لما فيها من الشر، وهذا ما ذهب إليه الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- حيث قال: "أمَّا نوادي مُستقلَّة يَذهبُ إليها النساءُ من بيوتهنَّ ليجتمعن هناك للعب الكرة، وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز عندي؛ لأنه قد يُفضي إلى شرٍّ كثير" (¬1). وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "نصيحتي لإخواني ألا يمكنوا نساءهم من دخول نوادي السباحة والألعاب الرياضية؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حث المرأة أن تبقى في بيتها فقال وهو يتحدث عن حضور النساء للمساجد وهي أماكن العبادة والعلم الشرعي: "لا تمنعوا إماءَ اللهِ مساجدَ اللهِ، وبيوتُهُنَّ خيرٌ لَهُنَّ" (¬2). وذلك تحقيقًا لقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33]. ثم إن المرأة إذا اعتادت ذلك تعلقت به تعلقًا كبيرا؛ لقوة عاطفتها وحينئذ تنشغل به عن مهماتها الدينية والدنيوية، ويكون حديث نفسها ولسانها في المجالس ... " (¬3). ¬

_ (¬1) ذكر ذلك عبر محاضرة وجوب العمل بالسنة. (¬2) رواه البخاري في الجمعة، باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم؟ (900)، ومسلمٌ في الصلاة، باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة (442) (137) عن ابن عمر -رضي الله عنهما- دون قوله "وبيوتهن خير لهن"، وأخرجه أحمد (2/ 76)، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد (567). (¬3) من فتاوي الشيخ محمَّد بن صالح العثيمين -رحمه الله- لمجلة الدعوة العدد (1765/ 54).

مؤتمرات ختان البنات

وبناءً على ذلك؛ فإن للمرأة أن تمارس الرياضة المناسبة لها في بيتها، أما خارج بيتها فلا يجوز لها ذلك (¬1). مؤتمرات ختان البنات: انعقدت مؤتمرات عديدة أهمها: مؤتمر بكين، ومؤتمر القاهرة من أجل النظر في قضية ختان المرأة، وقد أصدرت هذه المؤتمرات عددًا من القرارات أهمها تجريم من يقوم بختان ابنته، وكذا تجريم من فعل ذلك، فما مدى مشروعية هذه القرارات التي اتخذت بشأن ختان المرأة؟ وقبل الجواب عن هذه المسألة لا بد من بيان الحكم الشرعي لختان المرأة، وهل له أصل في شريعتنا أم لا؟ فنقول: اختلف الفقهاء في حكم الختان لكل من الذكر والأنثى هل هو واجب أو سنة؟ فذهب الشافعية كما في المجموع للنووي (¬2): إلى أنه واجب في حق الذكر والأنثى، وهو إحدى الروايتين في مذهب أحمد (¬3)، وفي رواية أخرى عند الحنابلة كما في المغني (¬4) لابن قدامة أنه واجب في حق الذكور، وليس بواجب بل هو سنة وتكرمة في حق الإناث، وهو قول كثير من أهل العلم. وذهب الحنفية (¬5). والمالكية (¬6). إلى أنه سُنَّة، وليس بواجب في حقهما، وهو من شعائر الإِسلام. فتَلَخَّص من ذلك أن أكثر أهل العلم على أن ختان الأنثى ليس واجبًا، وهو قول الحنفية والمالكية والحنابلة كما سبق، فلا يُوجِب تَرْكه الإثم، وإذا كان الأمر ¬

_ (¬1) انظر: الرِّياضةُ والكشَّافةُ للبنات في المدارسِ والجامعاتِ حُكْمُهُما وآثارُهُما، عبد الرحمن بن سعد بن علي الشثري. (¬2) المجموع (1/ 300). (¬3) الإنصاف (1/ 124). (¬4) المغني (1/ 85). (¬5) حاشية ابن عابدين (5/ 479)، والاختيار (4/ 167). (¬6) الشرح الصغير (2/ 151).

ارتياد النساء للمسابح العامة

كذلك فلا يسوغ لهذه المنظمات المشبوهة أن تجرم الناس بالاختتان وتعده جريمة يعاقب عليها، مع أن هناك من الفقهاء من جرم من لم تختتن من النساء، فقد قال الشعبي وربيعة والأوزاعي ويحيى بن سعيد الأنصاري ومالك والشافعيُّ وأحمدُ بأنه واجب، وشدد فيه مالك حتى قال: "من لم يختتن لم تجز إمامته ولم تقبل شهادته". ونقل كثير من الفقهاء عن مالك، أنه سنة، حتى قال القاضي عياض: الاختتان عند مالك وعامة العلماء سنة، ولكن السنة عندهم يأثم تاركها، فهم يطلقونها على مرتبة بين الفرض والندب (¬1). فالحاصل أنه لا يسوغ لهؤلاء الناس أن يعدوا هذه جريمة يعاقب عليها، فمن قديم الزمان كان ختان النساء يعامل على الحرية لا الإلزام وإن كان هناك إلى وقت قريب من يجرم من لم تختتن، فهل نترك شرعنا وننظر إلى أقوال أصحاب هذه المؤتمرات المغرضة التي ليس من ورائها إلا كل شر؟ ارتياد النساء للمسابح العامة: جاءت الشريعة الإِسلامية بالعناية التامة بالمرأة المسلمة، والحفاظ على حيائها وسترها وبعدها عن مواطن الفتن، وأمرت الشريعة كذلك بقرار المرأة في البيت وعدم الخروج لغير حاجة؛ صيانةً لعفتها، ورعايةً لكرامتها، وحفظًا لها من كل سوء. وخروج المرأة المسلمة للأندية العامة والمسابح مما ينبغي أن تنهى عنه أشد النهي؛ لما فيه من منكرات وفساد. فإذا كانت هذه المسابح في الأندية العامة التي يغشاها الرجال والنساء فهذا منكر عظيم، فعَنْ أَبِي المَلِيح الهُذَلِيِّ أَنَّ نِسَاءً مِنْ أَهْلِ حِمْصَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ دَخَلنَ عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ: أَنْتُنَّ الَلَّاتِي يَدْخُلنَ نِسَاؤُكُنَّ الحَمَّامَاتِ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) انظر: المراجع السابقة.

يَقُولُ: "مَا مِنْ امْرَأَةٍ تَضَعُ ثِيَابَهَا في غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلَّا هَتَكَتْ السِّتْرَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا" (¬1). وعَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بالله وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلَا يُدْخِل حَلِيلَتَهُ الحَمَّامَ" (¬2). والمراد بالحمام هنا: الحمامات التي كانت موجودة قديمًا، لما كانت البيوت ليس فيها حمامات. وسبب منع المرأة من دخولها: ما فيها من كشف للعورات، ونظر محرم، وتعرض للفتن، ولم تكن الحمامات يومئذ مختلطة. فما بالك بالحمامات المختلطة والمسابح العامة التي تتكشف فيها العورات وتبدو السوءات؟ وإذا كانت هذه المسابح تخص النساء وحدهن فلا يجوز ارتيادها أيضًا، وذلك لأن النساء سيكشفن عوراتهن، ولو سترت المرأة المسلمة بدنها فإنها سوف تنظر إلى هؤلاء العاريات، ودرءً للمفاسد التي قد تقع نتيجة ذلك، ولن تستطيع أن تنهاهن عن المنكر. فالحاصل أنه لا يجوز ارتياد المرأة لمثل هذه المسابح، ولا يجوز لزوجها أو وليها أن يذهب بها إلى مثل هذه المسابح، وهذا ما أفتت به اللجنة الدائمة (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الترمذيُّ، كتاب الأدب، باب دخول الحمام (2803)، وصححه الألباني في صحيح، ابن ماجه (3750). (¬2) رواه الترمذيُّ، كتاب الأدب، باب دخول الحمام (2801)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (6506). (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة في المملكة العربية السعودية (26/ 342 - 343).

تسمي الزوجة باسم عائلة الزوج

تسمي الزوجة باسم عائلة الزوج: لقد شاع بين كثير من الناس انتساب المرأة إلى زوجها لا إلى أبيها، وهذا من التقاليد الوافدة إلى بلاد المسلمين، وهي تقاليد غريبة عن المجتمع المسلم، وهذا الأمر صار شائعًا ومنتشرًا بين الناس ومستعملًا في كثير من المعاملات، وهو تقليد لغير المسلمين، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن هذه الأمة تتبع الأمم الأخرى في كثير من أمورها فقال: "لتَتبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ شِبرًا شِبْرًا وذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ" قُلنَا: يَا رَسُولَ الله، اليَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: "فَمَنْ؟ " (¬1). وانتساب المرأة لاسم زوجها أو عائلته والاستغناء بذلك عن اسم أبيها لا يجوز، قال الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]. وقال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم: 12]. ولم تنسب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه مع عظم منزلته عند الله وعند الناس، فكان يقال: عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وزينب بنت جحش وهكذا. وإذا أضيفت المرأة لزوجها فتضاف إليه إضافة زوجية لا نسبية، كما في الآية: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} [التحريم: 10]. فيقال فلانة امرأة فلان أو زوجة فلان، وفي النسب والأوراق الثبوتية لا يقال: إلا فلانة بنت فلان. وإذا كانت الزوجة منكرة لنسبها فقد يكون ذلك كفرًا، فقد ورد في جملة من الأحاديث ما يدل على ذلك منها: ¬

_ (¬1) رواه البخاري، الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لتتبعن سنن من كان قبلكم" (6889)، ومسلمٌ، العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى رقم (2669).

1 - عن أبي ذر -رضي الله عنه- أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبيهِ وَهْوَ يَعْلَمُهُ إِلَّا كفَرَ، وَمَنِ ادَّعَى قَوْمًا لَيْسَ لَهُ فِيهِمْ فَليَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار" (¬1). والتعبير بالرجل جرى مجرى الغالب وإلا فالمرأة كذلك. 2 - وعن واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الفِرَى أَنْ يَدَّعِيَ الرَّجُلُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ" (¬2)، والفرى: جمع فرية وهي الكذب. 3 - وعن أبي بكر وسعد -رضي الله عنهما- كلاهما يقول: سمعته أذناي ووعاه قلبي أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيرِ أَبِيهِ وَهْوَ يَعْلَمُ فَالجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ" (¬3). وهذه الأحاديث تحمل على من انتسب لغير أبيه واستحل ذلك. وأما الشائع اليوم من انتساب المرأة لزوجها وإن كان لا إنكار فيه للأبوة وللعائلة إلا أنه محرم أيضًا؛ لأن فيه تشبهًا بغير المسلمين، وفيه تلبيس على الناس، فعلى المرأة أن تتسمى باسم أبيها فتقول: فلانة بنت فلان وزوجة فلان. لكن إن ألجأت بعض سلطات بعض الدول التي يعيش فيها بعض المسلمين إلى أن تنسب الزوجة إلى زوجها ولم يكن بد من فعله، فنرجو ألا يكون في ذلك بأس لقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]. على أن يبقى ذلك في الأوراق، ولا يتعداه إلى استعماله عند المحادثة. ¬

_ (¬1) رواه البخاري، في كتاب المناقب، باب نسبة اليمن إلى إسماعيل (3317)، ومسلمٌ في الإيمان, باب بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم، رقم (61). (¬2) رواه البخاري، في كتاب المناقب، باب نسبة اليمن إلى إسماعيل (3318). (¬3) رواه البخاري، كتاب الفرائض، باب من ادعى إلى غير أبيه (6385)، ومسلمٌ في الإيمان, باب بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم، رقم (63).

خروج الزوجة للعمل

خروج الزوجة للعمل: ناقش مجمع الفقه الإِسلامي في دورته السادسة عشرة هذا الموضوع، ومما جاء فيه: "ثالثًا: عمل الزوجة خارج البيت: 1 - من المسؤوليات الأساسية للزوجة رعاية الأسرة وتربية النشء والعناية بجيل المستقبل، ويحق لها عند الحاجة أن تمارس خارج البيت الأعمال التي تتناسب مع طبيعتها واختصاصها بمقتضى الأعراف المقبولة شرعًا مع طبيعتها واختصاصها بشرط الالتزام بالأحكام الدينية، والآداب الشرعية، ومراعاة مسؤوليتها الأساسية. 2 - إن خروج الزوجة للعمل لا يسقط نفقتها الواجبة على الزوج المقررة شرعًا، وفق الضوابط الشرعية، ما لم يتحقق في ذلك الخروج معنى النشوز المُسقط للنفقة". تسمية الأولاد بالأسماء الأجنبية: إن من حقوق الأولاد على الآباء أن يختاروا لهم أسماء حسنة، فقد ورد في الحديث عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبائِكُمْ فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ" (¬1). ولقد أتت السنة ببعض الأسماء التي يستحب التسمية بها كما في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللهِ تَعَالَى عَبْدُ اللهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ" (¬2)، فهذا الحديث يفيد أن هذين الاسمين: (عبد الله وعبد الرحمن) أفضل الأسماء. ومن الأسماء المستحبة أيضًا أسماء الأنبياء كإبراهيم، وموسى، وعيسى، ونوح، ويونس، وغيرها، ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- ¬

_ (¬1) رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في تغيير الأسماء (4950). (¬2) رواه مسلم، كتاب الآداب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم، وبيان ما يستحب من الأسماء (2132).

قال: "وُلدَ لِي غُلاَمٌ، فَأتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ وَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ" (¬1). ولما ورد في الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الأنْبِيَاءِ، وَأَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى الله عَبْدُ الله وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ، وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّةُ" (¬2). ومن الأسماء التي لا يجوز تسمية الأولاد بها كل اسم معبد لغير الله سبحانه وتعالى مثل: عبد علي، وعبد الحسين، وعبد النبي ونحوها، ومنها أسماء الفراعنة والجبابرة كفرعون، وقارون، ونحوهما. وأما الأسماء الأجنبية فإنه لا يجوز للمسلمين أن يسموا أبناءهم بها، ويشتد المنع إذا كان فيها ما يرمز لدينهم أو قادتهم، ويكون التحريم أغلظ إذا كان فيها تعبيدًا لغير الله تعالى، كعبد المسيح. والأسماء في الإِسلام لها أهمية خاصة؛ لما لها من تأثير على نفسية المسمى، فهي بمنزلة العنوان أو الشعار والواجهة للمسمى، ولهذا فقد غير النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الأسماء التي تنافي العقيدة كما غير أسماء مستقبحة. كما في حديث عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - غَيَّرَ اسْمَ عَاصِيَةَ وَقَالَ: "أَنْتِ جَمِيلَةُ" (¬3). وعَنْ يَزِيدَ -يَعْنِي ابْنَ المِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ- عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِيهِ هَانِئٍ أَنَّهُ لمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ قَوْمِهِ، سَمِعَهُمْ يَكْنُونَهُ بأَبِي الحَكَمِ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "إِنَّ الله هُوَ الحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الحُكْمُ، فَلِمَ تُكْنَى أباَ الحَكَمِ؟ ". فَقَالَ: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا في شَيءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ، فرَضِىَ كِلاَ الفَرِيقَيْنِ. فَقَالَ ¬

_ (¬1) رواه مسلم، كتاب الآداب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته وحمله إلى صالح يحنكه (2145). (¬2) رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في تغيير الأسماء (4952)، والنسائيُّ، كتاب الخيل، ما يستحب من شية الخيل (4391). (¬3) رواه مسلم، كتاب الآداب، باب استحباب تغيير الاسم القبيح إلى حسن. . . (2139).

رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا أَحْسَنَ هَذَاَ فَمَا لَكَ مِنَ الوَلَدِ؟ ". قَالَ: لي شُرَيْحٌ وَمُسْلِمٌ وَعَبْدُ الله. قَالَ "فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ". قُلتُ: شُرَيْحٌ، قَالَ: "فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ" (¬1). وقد نهى عن تسميته برة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمُ اللهُ أَعْلَمُ بأَهْلِ البِرِّ مِنكُمْ". فقال له ما نسميها؟ قال: "سَمُّوهَا زينَبَ" (¬2). أما إذا كان الاسم ليس مستقبحًا, ولا يتنافى مع العقيدة، وليس شعارًا لغير المسلمين؛ فلا مانع من التسمية به ولو تسمى به غير المسلمين، مع أن المسلمين ينبغي أن يتميزوا عن غيرهم في مظهرهم ومخبرهم (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في تغيير الاسم القبيح (4957)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1845). (¬2) رواه مسلم، كتاب الآداب، باب استحباب تغيير الاسم القبيح إلى حسن. . . (2142). (¬3) لمزيد من الحصول عن فقه هذه النازلة يمكن الرجوع إلى كتاب تسمية المولود للشيخ: بكر أبو زيد رحمه الله.

نوازل في القضايا الماليه في فقه الأسرة

نوازل في القضايا الماليه في فقه الأسرة انفصال الذمَّة المالية بين الزوجين: أصبحت الذمّة المالية للمرأة قضية تتناولها صفحات الصحف، رغم أن شريعة الإِسلام بينت هذه القضية بيانا واضحًا، وفصلت بين ذمة المرأة المالية وذمة أموال زوجها, لكن مع انعدام الثقة بين الزوجين أحيانًا، وطمع كل منهما في مال صاحبه أحدث مثل هذه الإشكالية، فتحولت العلاقات الزوجية من المودة والرحمة إلى السب والشتم، وقد تنتهي إلى قاعات المحاكم. أولًا: تعريف الذمة: في اللغة: تطلق الذمة في اللغة على عدة معان منها: العهد، أو الحرمة، أو الضمان والكفالة، أو الحق. أما في الاصطلاح: فقد اختلف تعريفها عند كثيرٍ من الفقهاء، فقيل في تعريفها: الذمَّة: معنى شرعي مقدَّر في المكلف قابل للالتزام واللزوم، وهذا المعنى جعله الشرع مبنيًّا على أمور، منها البلوغ، فلا ذمة للصغير ومنها الرشد فمَن بلغ سفيهًا لا ذمة له. وقيل أيضًا في تعريفها: الذمة في الفقه الإِسلامي هي وصف شرعي يفترض الشارع وجوده في الإنسان، ويصير به أهلًا للإلزام والالتزام، أي: صالحًا لأن يكون له حقوق وعليه واجبات. تعريف الذمة المالية: الذمة المالية هي مجموعة من الحقوق والالتزامات ذات قيمة مالية تعود لشخص سواء كان ذكرًا أو أنثى، أما الحقوق والالتزامات غير المالية كحق الانتخاب أو واجب الابن في طاعة أبيه فهي لا تعد من عناصر الذمة المالية.

ثانيا: تتألف الذمة المالية من عنصرين

ثانيًا: تتألف الذمة المالية من عنصرين: 1 - عنصر إيجابي: يتضمن الحقوق المالية التي تكون للشخص، سواء أكانت هذه الحقوق حقوقًا عينية كملكية شيء معين، أو حقوقًا شخصية كالديون التي تترتب لصاحبها تجاه الغير. 2 - عنصر سلبي: يتضمن الالتزامات المالية التي تترتب على الشخص كالتزامه بمبلغ من المال أو القيام بعمل لمصلحة شخص آخر. والذمة المالية ليست حاصل الفرق بين عنصري الحقوق والالتزامات وإنما هي عبارة عن مجموعهما معًا. فكأن هذه الحقوق والالتزامات جميعًا تؤلف وحدة قائمة بذاتها أو مجموعة قانونية يطلق عليها الذمة المالية. الحكم الشرعي لهذه النازلة: أكدت الشريعة الإِسلامية على انفصال الذمة المالية بين الزوجين، فلا سلطان للزوج على تصرفات الزوجة المالية، وراتبها حق لها, ولا يجوز للرجل أن ينظر إلى مالها أو يأخذ منه، ولها أن تتصرف بهذه الذمة المالية تمام التصرف دون أن يسألها الرجل، وهي ليست ملزمة بالإنفاق من مالها على البيت أو الأولاد بل على الزوج أن ينفق عليها وعلى أولادها. وهذا ما أكدت عليه المجامع والمجالس الفقهية التي ناقشت هذه القضايا، فقد أصدر مجلس مجمع (¬1) الفقه الإِسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإِسلامي قرارًا وفتوى عن اختلافات الزوج والزوجة الموظفة، وعن انفصال الذمة المالية بين الزوجين، جاء فيه: ¬

_ (¬1) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي. قرار رقم: 144 (2/ 16).

اشتراك الزوجين في التملك

1 - للزوجة الأهلية الكاملة والذمة المالية المستقلة التامة، ولها الحق المطلق في إطار أحكام الشرع مما تكسبه من عملها, ولها ثروتها الخاصة، ولها حق التملك وحق التصرف بما تملك، ولا سلطان للزوج على مالها, ولا تحتاج لإذن الزوج في التملك والتصرف بمالها. اشتراك الزوجين في التملك: من أعظمِ أسباب النِّزاع بيْن الزوجين المال، وكثيرٌ مِن حالات الطلاق سببُها النِّزاع المالي، لا سيَّما إذا كانتِ الزوجة موظَّفة، أو كان هناك عقار مشترك بينهما فيحصل بذلك النزاع والشقاق الذي غالبًا ما يكون نهايته الفرقة بين الزوجين. ولا بد قبل بيان الحكم الشرعي في هذه النازلة أن نوضح بعض الأمور وهي: أولًا: تَصرُّف المرأةِ الرشيدة المتزوِّجة في مالِها لا يخْلو من حالَيْن: الأولى: أن يكون بعِوَضٍ؛ كأنْ تشتري أو تبيع أو تؤجِّر، وغير ذلك مِن عقودِ المعاوضات، فتصرفها بعوض جائزٌ بإجماع أهلِ العلم، وليس لزوجِها الاعتراضُ عليها, ولا يجب عليها استئذانُه أو إخبارُه بذلك. الثانية: أن تتصرَّف بغيرِ عوض؛ كأنْ تُهدي، أو تتصدَّق، أو تُعطي أقاربها أو غيرَهم، فأصحُّ الأقوال جوازُ ذلك، ولو لم يَرضَ زوجُها، أو يعلم؛ لدَلالة الكتاب والسُّنة؛ فدلالة الكتاب قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، وجه الدلالة من الآية أن الله تعالى جعل الحجر على اليتيم -سواء كان ذكرًا أو أنثى- ويزول هذا الحجر ببلوغِهما ورُشْدهما، ولا يعود عليهما الحجر مرَّة أخرى إلا بدليل صحيح صريح، وهذا لم يوجدْ في حقِّ المرأة المتزوِّجة.

وعن ميمونةَ بنتِ الحارث -رضي الله عنها- أنَّها أعْتَقتْ وليدة، ولم تستأذنِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فلمَّا كان يومُها الذي يدور عليها فيه، قالت: أشعُرتَ يا رسولَ الله، أنِّي أعتقتُ وليدتي؟ قال: "أَوَ فَعَلتِ" قالت: نعَم، قال: "أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكِ" (¬1). قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "ميمونة كانتْ رشيدةً، وأعتقَتْ قبل أن تستأمِرَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فلم يستدركْ ذلك عليها، بل أرْشدَها إلى ما هو الأَوْلى، فلو كان لا ينفذ لها تصرُّفٌ في مالها لأَبْطَله (¬2). ثانيًا: مِن أسبابِ النِّزاع بيْن الزوجة الموظَّفة أو العاملة وزوجها: حاجةُ الزوج لمالهِا، فربَّما طلب منها مالًا، أو طلَب قرْضًا من البنك باسمِها، فاعتذرتْ، وهذا من حقِّها؛ فليس للزوج حقّ في مالها، فإنْ فعلت فهذا إحسانٌ منها، وإذا رفضتْ لم ترتكبْ خطأً تستحقُّ عليه العتبَ والتعييرَ والهجر. ثالثًا: وهو موضوع نازلتنا وهو أن البعضُ يشترك مع زوجتِه الموظَّفة في شِراء عقار، أو بناء بيت، وهذا الأمر مباح شرعًا، ويكون للزوجة الربح من العقار إن حصل له ربح، وكذلك عليها من الخسارة ما على الزوج ما داما اشتركا في هذا العقار ومما جاء في قرارات (¬3) مجلس مجمع الفقه الإِسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإِسلامي بخصوص هذه النازلة ما يلي: رابعًا: اشتراك الزوجة في التملّك: إذا أسهمت الزوجة فعليًّا من مالها أو كسب عملها في تملك مسكن أو عقار أو مشروع تجاري، فإن لها الحق في الاشتراك في ملكية ذلك المسكن أو المشروع بنسبة المال الذي أسهمت به. ¬

_ (¬1) رواه البخاريُّ، كتاب العتق، باب هبة المرأة لغير زوجها وعتقها إذا كان لها زوج، فهو جائز إذا لم تكن سفيهة، فإذا كانت سفيهة لم يجز (2592)، ومسلمٌ، كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين (999). (¬2) فتح الباري (5/ 219). (¬3) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي. قرار رقم: 144 (2/ 16).

الاستفادة من مال الأب المرابي

ومما يجب التنبيه عليه أنه قد يكتب العقار باسمِ الزَّوج ويبقَى على ذلك، ولا يتمُّ التوثيق والإشهاد، فالزوجة قد تستحي مِن طلب ذلك مِن الزوج، والزوج عندَه طولُ الأمَل كغيرِه، فربَّما فجَأَه الموتُ، وصعُب على الزوجة إثباتُ حقِّها، ومثله حينما يقترض الزوجُ باسمِها ثم يموت قبلَ تمامِ سدادِ الأقساط، فتتحمَّل الزوجةُ سدادَ الدَّين، فلا بُدَّ مِن الإشهاد في القليل والكثيرِ؛ حفظًا للحقوقِ، فالمال مِن الضرورات التي أتتِ الشرائعُ كلّها بحفظه. الاستفادة من مال الأب المرابي: ذكر أهل العلم قاعدة هامة مفيدة في حكم الاستفادة من الحرام، وهي: "ما حُرِّم لكسبه فهو حرام على الكاسب فقط، وأما ما حرم لعينه فهو حرام على الكاسب وغيره". فلو أن أحدًا أخذ مال شخص بعينه، وأراد أن يعطيه آخر لبيع أو هبة قلنا: هذا حرام؛ لأن هذا المال محرم بعينه. أما الكسب الذي يكون محرمًا كالكسب عن طريق الربا أو عن طريق الغش -أو ما أشبه ذلك- فهذا حرام على الكاسب، وليس حرامًا على من أخذه بحق، ودليل ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل من اليهود، ويجيب دعوتهم، ويأكل من طعامهم، ويشتري منهم، ومعلوم أن اليهود يتعاملون بالربا كما ذكر الله عنهم في القرآن. وبناء على هذه القاعدة ليس على أولاد المرابي إثم إذا أكلوا من ماله الربوي البحت، أو لبسوا منه، أو سافروا به إذا لم يوجد لهم طريق آخر يتكسبون منه، فلهم أخذ جميع ما يحتاجونه من مال أبيهم وهو حلال لهم وليس بحرام، وإنما الإثم على الأب. لكن يجب على الأولاد نصح والدهم بالطريق التي يغلب على ظنهم نفعها، فإذا تيسرت طرق أخرى للكسب ولم يحتاجوا إلى هذا المال في ضروريات حياتهم: وجب عليهم الاستغناء عنه.

حق الرجل في راتب زوجته وما يجب على الزوج من النفقة

وإذا مات الوالد المرابي وجب على ورثته التخلص من المال الربوي بإرجاعه إلى أهله إن عرفوهم، وإلا فعليهم التخلص منه بتوزيعه في المصارف العامة والخاصة، فإن تعسر عليهم تحديد المبلغ الربوي في مال والدهم: قسموه نصفين فيأخذون النصف ويوزعون النصف الآخر، وقد سئل شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله عن رجل مرابٍ خلف مالًا وولدًا، وهو يعلم بحاله، فهل يكون المال حلالًا للولد بالميراث أم لا؟ فأجاب: "أما القدْر الذي يعلم الولد أنه ربًّا: فيخرجه، إما أن يرده إلى أصحابه إن أمكن، وإلا تصدق به، والباقي لا يحرم عليه، لكن القدْر المشتبه يستحب له تركه إذا لم يجب صرفه في قضاء دين أو نفقة عيال، وإن كان الأب قبضه بالمعاملات الربوية التي يرخص فيها بعض الفقهاء، جاز للوارث الانتفاع به، وإن اختلط الحلال بالحرام وجهل قدر كل منهما، جعل ذلك نصفين" (¬1). حق الرجل في راتب زوجته وما يجب على الزوج من النفقة: أولًا: ذكر الله تعالى في كتابه أن القوامة إنما تكون للرجال، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34]، أي: قوَّامون عليهن بإلزامهن بحقوق الله تعالى، من المحافظة على فرائضه، وكفهن عن المفاسد وإلزامهن بذلك، وقوَّامون عليهن أيضًا، بالإنفاق عليهن، والكسوة، والمسكن. فالزوج هو المسؤول عن الإنفاق على أسرته، حتى ولو كانت الزوجة غنية، إلا في حالة العجز؛ فإذا عجز الرجل عن الإنفاق وكانت المرأة غنية لزمها أن تنفق عليه وعلى الأسرة؛ لأن الحقوق بينهما متبادلة، قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (29/ 307).

لكن الأصل في هذه النازلة أنه لا يجب على الزوجة أن تُنفِق على بيتها ولا على زوجها وأولادها، وإن فَعَلَتْ فهي محُسِنة. فعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَصَدَّقْنَ يَا مَعْشرَ النِّسَاءِ وَلَوْ مِنْ حُلِيَكُنَّ". قالت: فَرَجَعتُ إلى عبد الله فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمرنا بالصدقة، فأته فاسأله فإن كان ذلك يجزي عنّي وإلَّا صرفتها إلى غيركم. قالت: فقال لي عبد الله: بل ائتيه أنت. قالت: فانطلقت، فإذا امرأة من الأنصار بِبَاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجتي حاجتها. قالت وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أُلقِيَت عليه المهابة. قالت: فخرج علينا بلال، فقلنا له: ائت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك: أتجزي الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما؟ ولا تخبره من نحن. قالت: فدخل بلال على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله, فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من هما؟ "، فقال: امرأة من الأنصار وزينب "مَنْ هُمَا". فَقَالَ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَزينَبُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَىُّ الزَّيَانِبِ". قَالَ امْرَأَةُ عَبْدِ اللهِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لهُمَا أَجْرَانِ: أَجْرُ القَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَة" (¬1). ثانيًا: لا يجب على الزوج ما زاد عن النفقة الواجبة، مثل: العلاج، وفواتير الهاتف، وقيمة المواصلات، ولو كان ذلك مِن أجل زيارة أهلها، والنفقة الواجبة تكون في المأكل والمشرَب والسُّكَنى والكسوة. فقد سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: "أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكتَسَيْتَ -أَوِ اكتَسَبْتَ -وَلاَ تَضْرِبِ الوَجْهَ، وَلاَ تُقَبِّحْ، وَلاَ تَهْجُرْ إِلَّا في البَيْتِ" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب (1466)، ومسلمٌ، كتاب الزكاة باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين (1000). (¬2) رواه أبو داود، كتاب النكاح، باب في حق المرأة على زوجها (2144) وصححه الألباني في صحيح سنن

قَالَ أَبُو دَاوُدَ: "وَلاَ تُقَبِّحْ" أَنْ تَقُولَ: قَبَّحَكِ اللهُ. وقال - صلى الله عليه وسلم - في خطبته يوم عرفة، فقال: "وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ" (¬1). ثالثًا: إذا كان خروج المرأة للعمل كأن تكون موظفة وخروجها يكلِّف الزوج جهدًا ووقتًا وغيره، ففي هذه الحالة يمكن أن تساهم في نفقة البيت، كما هو الحال في كثير من البلاد، فإن الزوج يتزوج الزوجة الموظفة ليتعاونا جميعًا في تكوين بيت مسلم؛ وذلك لأن الرجل لا يستطيع وحده أن ينفق على الأسرة ولا الزوجة وحدها فهما يتفقان على ذلك. ومما جاء في قرارات (¬2) مجلس مجمع الفقه الإِسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإِسلامي ما يلي: رابعًا: مشاركة الزوجة في نفقات الأسرة: 1 - لا يجب على الزوجة شرعًا المشاركة في النفقات الواجبة على الزوج ابتداء، ولا يجوز إلزامها بذلك. 2 - تطوع الزوجة بالمشاركة في نفقات الأسرة أمر مندوب إليه شرعًا؛ لما يترتب عليه من تحقيق معنى التعاون والتآزر والتآلف بين الزوجين. 3 - يجوز أن يتم تفاهم الزوجين واتفاقهما الرضائي على مصير الراتب أو الأجر الذي تكسبه الزوجة. 4 - إذا ترتب على خروج الزوجة للعمل نفقات إضافية تخصها فإنها تتحمل تلك النفقات. ¬

_ = أبي داود (2/ 402). (¬1) رواه مسلم في الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (1218) عن جابر -رضي الله عنه-. (¬2) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي. قرار رقم: 144 (2/ 16).

حقوق الأيتام على الأوصياء

حقوق الأيتام على الأوصياء: حينما كانت الشريعة الإِسلامية هي السائدة في المجتمعات الإِسلامية كانت حقوق الأوصياء من الأيتام وغيرهم محفوظة مصانة، وهذا ناتج عن وجود الوازع الديني عند الأوصياء أو لوجود الحكومات الرادعة للأوصياء الذين يجنون على حقوق الأيتام، ولكثرة المشاكل بخصوص هذا الأمر فلا بد من بيان بعض ما يلزم الأوصياء تجاه القصر والأيتام؛ فمن هذه الأمور: أولًا: من مقتضيات الولاية على النفس: أن الولي أو الوصي مسؤول عن رعاية من هم تحت ولايته من تعليم، وتأديب، وتطبيب، وتزويج، وتعلم حرفة، أو صنعة ونحو ذلك. ثانيًا: من مقتضيات الولاية على المال: الحفاظ على أموال القصّر والأيتام، وتنميتها بالطرق المشروعة، والحرص على استثمارها بنفسه، أو بأيد أمينة، والنفقة على القاصر تكون من ماله -إن كان له مال- وإلا فنفقته على من تجب عليه نفقته. ولا تقف المسؤولية عند هذا الحد، ولكن الولي أو الوصي مسؤول عن تصرفات الصغير وما ينشأ عنها من أضرار تلحق بالآخرين، والمسؤولية تعني: التزام الولي أو الوصي بالتعويض عن ضرر يصيب الآخرين ضررًا ماليًّا واقعًا فعلًا، يمس المال أو النفس أو الأعضاء؛ بسبب فعل الذين تحت الولاية أو الوصاية. هذا خلاصة ما جاء في قرار المجمع الفقهي بمكة المكرمة (¬1). تفضيل الابن الذي يعمل في تجارة أبيه دون إخوته: يحدث كثيرًا أن أحد الأبناء يعمل مع والده في تجارته أو مصنعه أو مزرعته ¬

_ (¬1) قرارات المجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي بمكة المكرمة قرار رقم: 75 (1/ 14).

أو غير ذلك، ويكون لهذا الابن دور واضح في تنمية أموال أبيه دون بقية إخوته، فهل يجوز لهذا الوالد أن يخص هذا الولد بشيء من المال في مقابل عمله معه؟ نقول: الوالد في هذه المسألة مخيّر بين واحد من ثلاثة أمور هذا في حال وقوع الحالة، ولكن الأولى هو الاتفاق على ما للابن من نسبة بحيث يكون شريكًا منذ البداية، ويكون ذلك مكتوبًا لئلا يقع الاختلاف: الأول: أن يعامل الابن في هذه الحالة معاملة الأجنبي بدون محاباة، فيقدر لهذا الابن جهد أمثاله في عمل مشابه لعمل أبيه، فيقوم اثنان أو أكثر من أهل الخبرة والمعرفة بتقدير جهد المثل للابن عن اشتغاله مع أبيه، وبالتالي يكون الابن شريكًا لأبيه في المحل التجاري حسب النسبة التي يقدرها أهل الخبرة كالربع أو الثلث أو غير ذلك، وبناءً على ذلك إذا توفي الأب فإن حصة الأب من المحل التجاري تكون حقًّا للورثة، ويكون الابن الأكبر أحد الوارثين. الثاني: أن يقدر أهل الخبرة والمعرفة للابن الذي عمل مع أبيه أجر المثل فيعامل مثل العامل الأجنبي، فيعطى الابن أجرًا مماثلًا لأجر عامل يقوم بمثل عمله، فيصرف له ذلك الأجر، وفي حال وفاة الأب كان الابن الذي عمل مع أبيه كغيره من الورثة. الثالث: أن ينصف الأب ابنه الذي عمل معه بأن يخصه بعطية من المال تقابل عمل الابن معه بشرط أن تنفذ العطية حال حياة الأب ولا تكون مضافة لما بعد الموت، وهذا الأمر جائز شرعًا على القول الصحيح، وهو قول جماعة من أهل العلم وغير مخالف لمبدأ العدل في العطايا والهبات للأبناء، فقد قرر جماعة من الفقهاء جواز تخصيص أحد الأبناء بالهبة لسبب مشروع، قال ابن قدامة -رحمه الله-: "يجب على الإنسان التسوية بين أولاده في العطية إذا لم يختص أحدهم بمعنى يبيح التفضيل ...

فإن خص بعضهم لمعنىً يقتضي تخصيصه، مثل اختصاصه بحاجة أو زمانة أو عمى، أو كثرة عائلة أو اشتغاله بالعلم، أو نحوه من الفضائل، أو صرف عطيته عن بعض ولده لفسقه أو بدعته أو لكونه يستعين بما يأخذه على معصية الله أو ينفقه فيها. فقد روي عن أحمد ما يدل على جواز ذلك لقوله في تخصيص بعضهم بالوقف: لا بأس به إذا كان لحاجة وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة، والعطية في معناه ويحتمل ظاهر لفظه المنع من التفضيل أو التخصيص على كل حال؛ لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل بشيرًا في عطيته، والأول أولى إن شاء الله؛ لحديث أبي بكر -رضي الله عنه-، ولأن بعضهم اختص بمعنى يقتضي العطية، فجاز أن يختص بها كما لو اختص بالقرابة ... " (¬1). ومما جاء في فتاوى اللجنة الدائمة السعودية: "المشروع في عطية الأولاد هو التسوية بينهم في العطاء على السواء، ولا يجوز التفضيل إلا لمسوغ شرعي؛ لكون أحدهم مقعدًا أو صاحب عائلة كبيرة أو لاشتغاله بالعلم، أو صرف عطية عن بعض ولده لفسقه أو بدعته، أو لكونه يعصي الله فيما يأخذه ... " (¬2). فالقول بجواز تفضيل بعض الأولاد لمسوغ شرعي لا بأس به، ولا يخالف الأدلة الواردة في وجوب العدل بين الأولاد في العطية، أما حديث النعمان بن بشير وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: "اتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا في أَوْلاَدِكُمْ" (¬3). فهذا الحديث وغيره من الأحاديث الأخرى تحمل على التفضيل بين الأولاد لغير مسوغ شرعي، أما إذا وجد مسوغ شرعي فلا حرج. ¬

_ (¬1) المغني (6/ 51 - 53). (¬2) فتاوى اللجنة الدائمة (16/ 193). (¬3) رواه البخاري في كتاب الهبة، باب الإشهاد في الهبة (2587)، ومسلمٌ في الهبات، باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة (1623) عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما-.

نوازل الخدم في البيوت

نوازل الخدم في البيوت حكم عمل الخادمات في البيوت: أولًا: يحتاج بعض الأُسر إلى وجود الخادمات للعمل في منازلهم فما حكم ذلك؟ حكم الخدم الذين يعملون في البيوت حكم الأجير الخاص الذي استُؤجر ليعمل عند المستأجِر فقط، كالموظف ليسوا أرقاء ولا إماء. ثانيًا: ما يقع من ظلم من بعض أصحاب البيوت لبعض الخدم أمر لا يقره الإِسلام، بل ينهى عنه ويحذر منه، ولا يجوز أن يتخذ من ذلك وسيلة للطعن في الإِسلام أو تشويه صورته؛ لأن هذه أخطاء من بعض المسلمين وقد حرمها الإِسلام نفسه. عن أَبي ذَرٍّ قَالَ: سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يَا أَبَا ذَرٍّ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ! إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ؛ فَليُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَليُلبِسْهُ مِمَّا يَلبَسُ، وَلا تكلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ" (¬1). فإذا كان هذا عدل الإِسلام مع العبيد الذين هم ملك للإنسان، فكيف يكون الحال مع الخدم الذين لا يملكهم، وإنما استأجرهم للعمل فقط؟! ثالثًا: الخدم من النساء لا يجوز الخلوة بهن ولا النظر إليهن؛ لأنهن أجانب عن الرجال من أهل البيت، وكذلك الخدم من الرجال أجانب عن أهل البيت فلا يجوز للنساء الكشف عليهم ولا الخلوة بهم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري، كتاب الإيمان, باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك (30)، مسلم في الإيمان والنذور باب إطعام المملوك مما يأكل رقم (1661).

ضوابط استقدام الأسرة المسلمة للخدم

قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: "السائق والخادم حكمهما حكم بقية الرجال يجب التحجب عنهما إذا كانا ليسا من المحارم، ولا يجوز السفور لهما ولا الخلوة بكل واحد منهما" (¬1). (¬2). ضوابط استقدام الأسرة المسلمة للخدم: لقد راعت الشريعة الإِسلامية حاجة الناس وما فيه نفع لهم في العاجلة قبل الآجلة، لكنها وضعت لذلك ضوابط وشروطًا؛ صيانة للأسر والمجتمعات، وحفظًا منها على ما يصونها من أسباب الزيغ والانحراف. وإن مما راعته الشريعة في هذا المجال استجلاب الخدم بالشروط والضوابط الشرعية، فإن انتفت تلك الشروط والضوابط فيكون ذلك محرمًا: * الشرط الأول: أن يكون الخادم مسلمًا، وكذلك الخادمة. * الشرط الثاني: مراعاة الخدم في الالتزام بأوامر الدين. * الشرط الثالث: تجنب الخلوة المحرمة. * الشرط الرابع: الالتزام بالحجاب الشرعي بالنسبة للخادمة أمام الزوج والأولاد البالغين. * الشرط الخامس: عدم الاعتماد عليهم في تربية الأولاد. * الشرط السادس: يحسن أن يستقدم محرمها سواء كان على كفالة الشخص أو على كفالة غيره. ¬

_ (¬1) التبرج وخطره للشيخ ابن باز. (¬2) للمزيد من الوقوف على هذه النازلة انظر كتاب: ظاهرة استقدام السائقين والخدم وخطرها على الأسرة والمجتمع، عبد الله بن صالح القصير.

والخلاصة: أن استقدام الخادمة أو الخادم يجوز بالضوابط الشرعية المذكورة، مع الحرص والعناية وأداء ما أوجب الله لهم وتطبيق ما تم معهم من عقد، وعدم الإخلال بذلك حفاظًا للحقوق ومراعاة للواجبات.

نوازل متفرقة في فقه الأسرة

نوازل متفرقة في فقه الأسرة نوازل وأحكام ابن الزنا: أولًا: الولد من الزنا لا ينسب إلى الزاني بل ينسب إلى أمه، فإن أضيف إليه في بعض الأوراق رغمًا عنه كما في بعض البلدان الغربية وذلك من خلال الحمض النووي أو عن طريق البصمة الوراثية فلا إثم عليه في ذلك، لكن الواجب عليه أن يكتب في وثائق شخصية ويشهد عليها أن هذا الولد ليس ولدًا له حتى لا تحفظ له حقوق البنوة الشرعية، من وجوب النفقة والمسكن والإرث ونحو ذلك. ثانيًا: الولد من الزنا ليس بينه وبين أبيه من الزنا نسب ولا توارث كما سبق، وإنما ينسب إلى أمه وعائلتها نسبة شرعية تثبت بها الأحكام من ثبوت المحرمية ويرث منها وترث منه وغير ذلك. قال الترمذيُّ: "والعمل على هذا عند أهل العلم أن ولد الزنا لا يرث من أبيه" (¬1). وقال صاحب تبيين الحقائق: "ويرث ولد الزنا واللعان بجهة الأم فقط؛ لأن نسبه من جهة الأب منقطع فلا يرث به" (¬2)، وقال في مطالب أولي النهي: "وكذا الزاني وعصبته لا يرثون ولد الزنا" (¬3). وقال الشوكاني في نيل الأوطار: "وأحاديث الباب تدل على أنه لا يرث ابن الملاعَنة من الملاعِن له ولا من قرابته شيئًا، وكذلك لا يرثون منه، وكذلك ولد الزنا، وهو مجمع على ذلك" (¬4). ثالثًا: لا مانع من أن يتفق الزاني على ولده من الزنا وله أن يكفله، لكن كما سبق ¬

_ (¬1) سنن الترمذيُّ (3/ 499). (¬2) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشِّلبِيِّ (6/ 241). (¬3) مطالب أولي النهي في شرح غاية المنتهى (4/ 550). (¬4) نيل الأوطار (6/ 80).

لا يجب عليه تجاهه ما يجب على الأب تجاه ولده. رابعًا: الولد من الزنى لا ينسب إلى الزاني ولو تزوج الزاني بالزانية، ولا يكون محرمًا لبنات الرجل الزاني من غير أمه، بل هو أجنبي عنهن فيلزمهن الاحتجاب منه، ومع كونه غير محرم لهن، إلا أنه لا يجوز له أن يتزوج بواحدة منهن. خامسًا: إذا حصل جماع بين رجل وامرأة في حال الكفر، فإن كانوا يعتقدون أن هذا الجماع حصل عن عقد يرونه صحيحًا فالأولاد للرجل، كأن يكون قد تزوج حال كفره بامرأة واتفقا على أن يكون زوجًا لها مع عدم وجود الولي والشهود وغير ذلك من شروط النكاح فوافقت، وكانوا يرون هذا عقدًا صحيحًا على المعمول به في بلادهم، ثم أسلم الرجل والمرأة فهما على نكاحهما, ولا يحتاج إلى تجديد العقد، وما حصل بينهما من أولاد فهم لهما، إلا إذا كانت الزوجة في حال الإِسلام لا تحل للزوج، كأن يكون قد تزوج بأخته في حال الكفر ثم أسلم، وأسلمت هي الأخرى وجب التفريق بينهما؛ لأن المرأة لا تحل للرجل. سادسًا: يحرم على الإنسان أن يتزوّج ببنته من الزّنا لعموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23]؛ لأنّها بنته حقيقةً ولغةً ومخلوقة من مائه، ولهذا حرّم ابن الزّنا على أمّه. قال شيخ الإِسلام: "مذهب الجمهور من العلماء أنه لا يجوز التزويج بها، وهو الصواب المقطوع به" (¬1) انتهى. سابعًا: الحمل من سفاح ليس عذرًا لإباحة الإجهاض، بل فعل ذلك يؤدي إلى حصول إثمين: الأول: الزنا: قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (32/ 134).

من أحكام التبني

الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 68 - 69]. الثاني: القتل: فإسقاط الجنين هو من الوأد المنهي عنه، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8، 9]. وإذا أسقطت المرأة جنينها ميتًا فالواجب عليها في هذه الجناية غرة؛ والغرة عشر دية أمه، أي: خمس من الإبل، ويجب عليها أيضًا الكفارة مع الغرة؛ لأنها إنما تجب حقًّا لله تعالى لا لحق الآدمي، ولأنه نفس مضمونة بالدية، فوجبت فيه الكفارة. أما لو سقط حيًّا فمات ففيه الدية كاملة والكفارة. من أحكام التبني: التبني: هو نسبة الابن إلى غير أبيه، بحيث يأخذ أحكام الابن من الصلب في المحرمية، والإرث والصلة، وغير ذلك من أحكام البنوة، كالخلوة، والمصافحة، والرؤية لمن لا يحل له. ولقد كثر في هذه الأزمنة اللقيط؛ نظرًا لكثرة الوقوع فيما حرَّم الله من جريمة الزنا التي كثر بسببها وجود اللقيط مما جعل الأمر يتطلب وجود دور خاصة برعاية اللقيط. لكن قد يجد بعض الناس لقيطًا ولا يذهب به إلى دور الرعاية الخاصة باللقيط ويقوم هذا الشخص برعاية شؤون هذا اللقيط وتربيته، وهذا أمر يرجى لصاحبه الخير والمثوبة من الله تعالى، ولكن لا بد من بيان بعض المحاذير الشرعية التي يجب أن ينتبه لها عند القيام بهذا العمل الطيب منها: أولًا: يحرم على آخذ اللقيط أن يتبناه، أي: أن ينسبه لنفسه، فقد جاءت الشريعة بتحريم التبني كما في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ

بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 4، 5]، فيحرم أن ينسب الشخص إلى نفسه طفلًا يعرف أنه ولد غيره، فينسبه إلى نفسه نسبة الابن الصحيح وُيثبت له أحكام البنوة من استحقاق إرْثه بعد موته، وحُرمة تزوُّجه بحليلته، وهذا شأنٌ كان يعرفه أهل الجاهلية، وكان سببًا من أسباب الإرْث التي كانوا يُورِّثون بها، فلمَّا جاء الإِسلام -وبيَّن الوارثين والوارثات بالعناوين التي قرَّرها سببًا في استحقاق الإرث- أسقطه من أسباب التوارث، وحصرها في البنوة والأُبوَّة والأمومة والزوجية والأخوة والأرحام على ترتيب بينهم كما في قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6]. ثانيًا: يجوز بل يستحب أن يقوم شخص برعاية الطفل اللقيط من حيث الإعالة بالنفقة في المطعم والكسوة والتعليم وحسن التربية، حتى إذا بلغ السن التي يقوى فيها على إعانة نفسه إن كان ولدًا أو تزوجت البنت التي كانت تحت رعايته تركهما وشأنهما، مع استمرار الإحسان إليهما بشرط عدم نسبتهما إليه كما مر بنا في أي شهادة ميلاد رسمية، بل يختار لهما اسمًا آخر يناسبهما مثل عبد الله أو عبد الرحمن وسواها من الأسماء الصادقة في حقيقتها ومعناها والمقبولة عرفًا، مع مراعاة عدم الدمج الكامل في الأسرة لئلا تختلط الأنساب ويرث مالًا لا حق له فيه. ثالثًا: عند بلوغ اللقيط، فإنه يفرق بينهم في المضاجع، وتحتجب المحارم كالزوجة والبنت الحقيقية عن الذكر منهما، والبنت منهما عن الذكر من أولاد القائم بشؤونهما؛ لأن الحرمة قائمة بين الجميع كالأجانب حيث هم كذلك في الواقع، إلا إذا كان قد تم لهما رضاع من الزوجة فيأخذون حكم الرضاع في الحرمة وجواز الدخول. رابعًا: إن كانت الدولة لا تبيح كفالتهم إلا إذا نسب المتبني الولد إليه، وإن

كان ترك هذا التبني يجعل النصارى واليهود يأخذون أبناء المسلمين ويتبنونهم، ما يترتب على ذلك أن ينشأ الأولاد على غير ملة الإِسلام، فإنه لا مانع من تسجيل هؤلاء الأبناء بأسماء من يتبنونهم من المسلمين على أن تكتب ورقة يوضح فيها أن هذا الولد ليس لمن ينسب له، ولا مانع من أن يكتب المتبني لمن تبناه وصية من ماله على ألا يتجاوز الثلث بدلًا من الميراث، وذلك عملًا بأخف الضررين؛ فإن نسبة الأولاد إلى غير أبيهم مع وجود ورقة توضح الحقيقة ترفق بشهادة الميلاد أو الورق الرسمي أخف ضررًا من أن يتبدل دين أبناء المسلمين. خامسًا: يمكن لزوجة المتبني أن ترضعه، حتى يكون ابنها من الرضاع، وإن لم تكن تلد، فيمكن إدرار اللبن عبر بعض الوسائل الحديثة، بإشراف أطباء حتى لا يكون هناك ضرر عليها أو أن ترضعه أخته ليكون محرمًا لبناتها ويزول المحذور من دخوله عليهن. سادسًا: على كافل هذا اليتيم أن يعلمه حينما يبلغ رشده بنسبه وكامل هويته وطبيعة العلاقة بينه وبين بيت كافله لتجنب المفاسد التي أشرنا إليها. وفي حال رغبة الكافل أن يساعد المكفول بعد بلوغه سن الرشد، فله أن يوصي له بوصية في حدود الثلث الذي له أن يتصرف فيه، وبذلك يعينه دون أن يأخذ من حق الورثة الآخرين شيئًا. سابعًا: على جميع القادرين من المسلمين أن لا يتركوا أبناء الأمة نهبًا للفقر والتشرد وضياع الدين والهوية، وأن يكفل القادرون كل من يستطيعون كفالته، وبذلك تكون الأمة قد أدت واجبها تجاه أبنائها الذين تقطعت بهم السبل ونزلت عليهم نوائب الدهر. قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].

حكم تصوير الفتيات خلسة بكاميرا الجوال وتداولها عبر التقنيات الحديثة

حكم تصوير الفتيات خلسة بكاميرا الجوال وتداولها عبر التقنيات الحديثة: من الظواهر التي انتشرت بين المجتمعات الإِسلامية: تصوير الفتيات خلسة بكاميرا الجوال واستخدامها في أغراض خبيثة، وهذا أمر محرم شرعًا؛ لأنه مشتمل على مفاسد عديدة منها: أولًا: الإطلاع على العورات وكشفها، وهو أمر محرم شرعًا. ثانيًا: إيذاء الناس وإلحاق الضرر بهم، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58]. ولا شك أن تصوير الفتيات وتداول صورهن فيه أذى وضررٌ كبير وتتبع لعوراتهم. ثالثًا: أن نشر صور الفتيات وتداولها عبر التقنيات الحديثة -وخاصة المتبرجات منهن- فيه إشاعة للفاحشة بين المؤمنين، ولا شك في تحريم ذلك، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19]. كما أن فيه فسادًا وإفسادًا حيث يقوم بعض الناس بعمل دبلجة للصور ونشرها في أوضاع مخلة بالآداب الشرعية، وهذا الأمر صار ميسورًا مع التقدم العلمي واستخدامه استخدامًا سيئًا. رابعًا: إن نشر صور الفتيات وتداولها عبر التقنيات الحديثة يحرم أيضًا؛ لأنه يدخل في باب التجسس على الناس، وقد قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12]. خامسًا: إن نشر صور الفتيات وتداولها عبر التقنيات الحديثة يتسبب في وقوع كثير من المشكلات العائلية، وخاصة إذا كانت الفتاة التي نشرت صورتها متزوجة، فقد يتسبب ذلك في وقوع الطلاق وتشريد الأطفال.

أساليب التربية في الأسرة

وخلاصة الأمر أن تصوير الفتيات ونشر صورهن وتداولها عبر التقنيات الحديثة أمر محرم شرعًا؛ لاشتماله على مفاسد عظيمة كما بينا ذلك، وعلى من يفعلون ذلك أن يتقوا الله -عَزَّ وجَلَّ- في أعراضهم، وعلى المسلم أن يحسن التعامل مع الأجهزة الحديثة وألا يسيء استخدامها بل ينتفع بها الانتفاع الحسن. أساليب التربية في الأسرة: تعددت طرق وأساليب تربية الصغار ومنها الضرب، والمقصود به الضرب غير المبرح، فهو بشكل عام عقوبة يجوز استعمالها شرعًا، فقد شرع الضرب في الحدود وفي التعزير وشرع ضرب الزوج لزوجته في حال النشوز، وشرع ضرب الأولاد تأديبًا لهم على ترك الصلاة وغير ذلك من الحالات، ولكن ضرب الأولاد يحتاج إلى تفصيل وتوضيح. ولا ينبغي للأب أن يضرب ولده لمجرد وقوع المخالفة منه، وإنما يلجأ إلى الضرب بعد أن يستنفذ أساليب التربية الأخرى، فالأصل في معاملة الأولاد اللين والرحمة والرفق بهم، ثم يتدرج من الأخف إلى الأشد إن لم ينفع الأخف كوسيلة للتربية، فعلى الأب أن يرشد ابنه إلى الخطأ بالتوجيه أو بالملاطفة أو بالإشارة كما في حديث وَهْبَ بْنَ كَيْسَانَ أنَهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ يَقُولُ: كُنْتُ غُلاَمًا في حَجْرِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ في الصَّحْفَةِ، فَقَال لِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَا غُلاَمُ، سَمِّ الله وَكُل بِيَمِينِكَ، وَكُل مِمَّا يَلِيكَ، فَمَا زَالَتْ تِلكَ طِعْمَتِي بَعْدُ" (¬1). ويجوز للأب أن يوبخ ابنه المخطئ بالكلام الهادئ أولًا، ويجوز أن يعنفه بشدة فإذا لم تفلح هذه الأساليب ولم تأت بالثمرة المرجوة منها فحينئذ يجوز استعمال ¬

_ (¬1) رواه البخاري في الأطعمة، باب التسمية على الطعام والأكل باليمين (5376)، ومسلمٌ في الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما (2022).

التمثيل وأثره على الأسرة المسلمة

الضرب كوسيلة من وسائل التربية وتقويم السلوك؛ فقد ورد في الحديث قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "مُرُوا أبناءَكم بالصَّلاة لسبع، واضربُوهم عليها لعشرٍ" (¬1). والضرب: المقصود هو الضرب غير المبرح وغير المؤلم، وخاصة إذا كان الولد قد وقع في الخطأ للمرة الأولى، ولا يجوز الضرب على الوجه أو الرأس والمواضع الحساسة من الجسم حتى لا يلحق الضرر بالمضروب. وينبغي للأب ألا يضرب وهو في حالة الغضب؛ لئلا يفقد السيطرة على نفسه فيضرب الولد ضربًا مبرحًا يلحق به الأذى. التمثيل وأثره على الأسرة المسلمة: أهل العلم في هذه النازلة منهم من لا يبيح التمثيل مطلقًا فلا يجوز عندهم بأي حال من الأحوال ومنهم من أجازه، ولكن وضع له بعض الضوابط وتساهل في بعضها، ومنهم من أجازه وفق ضوابط شرعية متى اختل منها شرط حرم، والذي نراه في هذه النازلة ما يلي: 1 - يجوز التمثيل بشروط وضوابط شرعية سيأتي بيانها، ومن قال بالتحريم، فقوله يتوجه إلى التمثيل المتحلل من كل القيود والضوابط الشرعية. 2 - من أهم ضوابط جواز التمثيل بعد تجريده من سائر المحرمات الموجودة في التمثيل الهابط الموجود في الساحة، عرض الأعمال الدينية أو التاريخية وغيرها على لجان علمية شرعية متخصصة واعية للفكر الذي تحمله تلك الأعمال. ¬

_ (¬1) رواه أحمد (2/ 180)، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، رقم (495) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده به مرفوعًا. قال النووي: "رواه أبو داود بإسناد حسن"، "الخلاصة" رقم (687). ورواه أحمد (3/ 404)، وأبو داود، الموضع السابق، رقم (494)، والترمذيُّ، أبواب الصلاة، باب ما جاء متى يؤمر الصبي بالصلاة، رقم (407)، والحاكم (1/ 201) من حديث سَبرة بن معبد الجُهني. والحديث صححه الترمذيُّ، وابن خزيمة، والحاكم وغيرهم.

3 - كون التمثيل يأتي في مرحلة متأخرة بعد البيان بالكتاب والسنة وانتهاج منهج السلف الصالح في الدعوة إلى الله، وأنه متى تيسر دعوة الناس بهذه الأصول ففيها غنية عن سواها. 4 - تحريم تمثيل الذات الإلهية، وأن هذا من الكفر البواح، كما يحرم تمثيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما يحرم تمثيل الصحابة كلهم، وتحريم تمثيل سائر ما يتعلق بعالم الغيب من ملائكة أو شياطين أو ما يتعلق باليوم الآخر. 5 - تحريم تمثيل القصص الأسطوري والخيالي، إلا ما كان نافعًا في أمر من أمور الدنيا، كالأعمال الهندسية أو الطبية، والتي لا يحيلها العقل أو العلم الحديث. 6 - أنه لا يجوز بحال التلفظ بأي لفظ من ألفاظ الكفر، من سب لله تعالى أو لرسوله أو لكتابه أو لدينه أو اللمز بشيء من شرائع الإِسلام، وأن هذا موجب لردة قائله، مهما كانت المصالح المنشودة من وراء تلك الأعمال، حيث كانت مفسدة التلفظ بالكفر أعظم من تلك المصلحة، وقد جاءت الشريعة بجلب المصالح ودفع المفاسد. 7 - أن الممثل الكافر لا يكون مسلمًا بمجرد النطق بالشهادتين، دون تصديقهما أو العمل بمقتضاهما، من الالتزام بسائر أحكام الإِسلام الأخرى، من صلاة وزكاة وصيام وحج، مع الإقرار التام والإذعان لشرع الله. 8 - أنه لا يجوز إقرار الممثل الكافر على قول أو فعل الكفر، أو إظهار أي شعيرة من شعائر دينه الباطلة. 9 - أن بيع الممثل وسائر ما يجريه من عقود مالية من بيع أو شراء أو إقرار ونحو ذلك أثناء العمل التمثيلي لا يلزمه شيء منها على الراجح من أقوال أهل العلم، بخلاف نكاحه وطلاقه فإن هزله بها واقع على ما عليه الأكثرون.

10 - تحريم وقوع عقد النكاح أو الطلاق أثناء العمل التمثيلي، لما لهذه العقود من خطر واحترام في الشرع. 11 - تحريم نسبة الممثل إلى غير أبيه ابتداء لتحريم التبني، أما إذا كان قد اشتهر بهذه النسبة، ولم يذكر إلا على وجه التعريف، ولم ينسلخ من أبيه كما جاء في الصور المحرمة شرعًا، أو كان ذلك في العمل التمثيلي وينتهي بمجرد إنهاء العمل فلا بأس بذلك. 12 - أن يمين الممثل يمين منعقدة على الصحيح، وذلك أنه قصد اللفظ، وهو السبب الذي جعله الشارع موجبًا، فإما أن يبر بيمينه أو يخالف ويُكَفِّر، فالأسلم بالنسبة للممثل في حال قسمه بالله، إما أن يقسم على شيء يمكنه فعله ويفعله؛ ليكون قد التزم بيمينه، أو يترك الحلف مطلقا؛ إذ لا حاجة إليه. 13 - أنه لا يجوز الحلف بغير الله، أو بملة غير الإِسلام، أو باللات والعزى، أو هو يهودي أو نصراني ونحو ذلك من صور الحلف المحرم، أو الحلف الكاذب، وإذا وقع شيء من ذلك أثناء التمثيل كان حرامًا، وهو مما لا يجوز أن يدخله الهزل. 14 - لا يجوز تقليد الحيوانات في أي شيء من خصائصها، سواء في أصواتها أو حركاتها، إلا ما وقع على وجه المداعبة للصغار لإدخال السرور عليهم، فإذا ما فعله الممثل على هذا الوجه المذكور كان جائزًا، وهو عام يشمل ما إذا كان في أصواتها أو هيئتها. 15 - لا يجوز للممثل السجود لغير الله، وقد جاءت الشريعة بتحريم التشبه بالكفار في كل ما هو من خصائصهم، ولا شك أن السجود لغير الله من أعظم خصائصهم.

16 - يحرم على الممثل التزيي بزي الكفار بناء على الأصل من تحريم التشبه بهم، إلا ما زال عن كونه شعارًا للكفار؛ فإنه يجوز فعله ما لم يكن محرمًا لعينه. 17 - إذا كان هناك مصلحة في التزيي ببعض أزياء الكفار، كبيان صورة انهزام العدو، وفراره وهروبه من صف المعركة وانخذاله، والصورة لا تكون كاملة إلا بأن يظهر هؤلاء الكفاركما لو كانوا حقيقة، فقد تسوغ هذه المصلحة هذا الفعل. 18 - يحرم التشبه بالفساق، وقد جاءت نصوص الشريعة بذلك، والممثل في تشبهه بالفساق له أحوال: * الأولى: إما أن يكون على وجه الدعوة إلى هذا الفسوق، فهذا حرام. * الثانية: ألا يكون على وجه الدعوة، لكن يعرض العمل ويقر هذا النوع من الفسوق فيه، وهو حرام أيضًا. * الثالثة: أن يكون للتنفير منه وبيان عاقبته وسوئها، فهذا جائز بشروط وضوابط، أهمها ألا تكون الجريمة مشتهرة معروفة عند الناس، فالأولى حينئد عدم تناولها بالعرض. 19 - لا يجوز الاستعانة بغير المسلم في الوظائف الخطيرة، كالإخراج والتأليف وكتابة الحوار والإنتاج، أما إذا كانت الأعمال التي يستعان بهم عليها من الأعمال التي لا تؤثر، ولا يكونون فيها إلا مجرد عناصر غير فاعلة، كالمصور، ومصمم اللوحات، ومسجل الصوت، فالأقرب جواز الاستعانة بهم في نحو ذلك. 20 - أنه لا يجوز للمرأة مطلقًا المشاركة في الأعمال التمثيلية، سواء كانت من القواعد أم من الشابات، وسواء كانت بحجاب أم لا، وسواء في ذلك المرئية أم الإذاعية سدًا للذريعة، سوى ما قد يكون بينها وبين النساء خاصة في المجامع النسائية كالمدارس النسائية، ونحوها.

تمثيل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ومشاهدة الأسرة المسلمة لذلك

21 - أنه يجوز للمرأة مشاهدة الأعمال التمثيلية الهادفة التي تقدم عبر شاشات التلفاز أو المسرح، إلا أن هذا مشروط بعدم الفتنة أو قصد التلذذ بالنظر إليهم، فإذا وجد ذلك كان محرمًا عليهن، كما يجوز لهن مشاهدة البرامج الدينية أو العلمية النافعة. 22 - أنه لا بأس في أخذ الممثل أجرًا على عمله التمثيلي المباح، الملتزم بشروط الجواز فيه، إذ هذا ما تقتضيه قواعد الشرع. 23 - أن الممثل إذا تاب من التمثيل المحرم، فإن كانت توبته بمجرد علمه بالحكم، وكان جاهلًا بالتحريم قبل البيان، فإن أمواله حلال له، وأما إذا كان الممثل عالمًا بالتحريم ابتداءً، أو كان جاهلًا به ثم علم وأصر ولم يتب، ثم تاب بعد ذلك، وقد جمع مالًا، فهو مال محرم ينبغي التخلص منه. 24 - الممثل إذا أراد أن يتخلص من أمواله التي جمعها من أعمال تمثيلية محرمة لا يردها على الذي أخذها منه، من منتج أو موزع أو شركة إسطوانات ونحوه، بل يجب التخلص منها، وذلك بإنفاقها في وجوه الخير. تمثيل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ومشاهدة الأسرة المسلمة لذلك: من أعظم الجرأة على الله في هذه الأزمنة ما نراه من الجرأة على أنبيائه وذلك بتكذيبهم، والافتراء عليهم، أو رسمهم في الصحف على وجه السخرية منهم وتنقيصهم، وهذا بلا شك من الكفر البواح. ولقد تعددت وسائل وطرق الاستهزاء بالأنبياء والمرسلين عبر أجهزة الإعلام المقروءة والمرئية على حد سواء، وأقرب دليل على ذلك ما يعرض عبر الشاشات من مسلسل يوسف عليه الصلاة والسلام، حيث تعرض من خلاله قصة يوسف؛ بطريقة فاضحة كاذبة فيها من الافتراء على الله وعلى نبيه يوسف ما الله به عليم.

وإن مما يؤسف له أن ترى كثيرًا من المسلمين شيبًا وشبابًا يتهافتون لرؤية مثل هذه المسلسلات التي يتقمص فيها الممثل دور نبي من الأنبياء مع أن الواجب على المسلمين عمومًا أن ينكروا مثل هذه الأعمال وأن يقاطعوها. ولقد صدرت مجموعة من الفتاوى بخصوص هذه النازلة وضحت فيها حرمة هذه الأعمال، وأنه لا يجوز تمثيل الأنبياء ولا الصحابة رضوان الله عليهم وذلك لرفعة منزلتهم، وأن الممثلين ليسوا أهلًا للقيام بأدوارهم، لما يعرف عن أشخاصهم وسلوكهم، فهم بذلك يسيئون إلى الأنبياء والرسل والصحابة. ومن أول من وضح حكم هذه المسلسلات علماء الأزهر، ومما جاء في فتواهم: "من أجل ذلك يجب أن ينقى هذا المسلسل وغيره من المناظر المصورة التي يمثل الأنبياء فيها بأشخاص ظاهرين، أو يمثل فيها أصولهم كالأم أو زوجاتهم وأولادهم، بل إن هذا الحظر يمتد إلى الأصحاب الذين عاصروا الرسالة وأسهموا في إبلاغها؛ لأن القدوة من بعد النبي في هؤلاء الأصحاب، ومن ثم كان لزامًا صونهم عن التمثيل والتشخيص، ويكفي أن نسمع أقوالهم مرددة من خلال الأصوات التالية لها" (¬1). ومن الفتاوى أيضًا بخصوص هذه النازلة ما جاء في فتوى اللجنة الدائمة بالمملكة العربية السعودية حيث أفتت بحرمة مثل هذه المسلسلات وذلك: "لأن المعهود فيها طابع اللهو وزخرفة القول والتصنع في الحركات ونحو ذلك مما يلفت النظر، ويستميل نفوس الحاضرين، ويستولي على مشاعرهم، ولأن الذين يشتغلون بالتمثيل يغلب عليهم عدم تحري الصدق وعدم التحلي بالأخلاق الإِسلامية الفاضلة، وفيهم جرأة على المجازفة وعدم مبالاة بالانزلاق إلى ما لا يليق ما دام في ¬

_ (¬1) فتوى الأزهر، فتوى الشيخ جاد الحق علي جاد الحق (7/ 209) الموضوع (1292).

حكم قراءة القصص الجنسية بين الزوجين

ذلك تحقيق لغرضه من استهواء الناس وكسب للمادة ومظهر نجاح في نظر السواد الأعظم من المتفرجين، ولأن الذي يمثل الكافرين سيقوم مقامهم ويتكلم بألسنتهم فينطق بكلمات الكفر ويوجه السباب والشتائم للأنبياء ويرميهم بالكذب والسحر والجنون .. الخ" (¬1). حكم قراءة القصص الجنسية بين الزوجين: لا يزال الناس بخير ما ربوا أنفسهم على الحياء والعفة والطهر. وإن مما يؤسف له أن نرى أخلاق بعض المسلمين تتأثر بوسائل الانحراف المقروءة والمسموعة، فبدلًا من أن يربوا أنفسهم على معاني الأخلاق الجميلة، ربوا أنفسهم على الرذائل وما لا يفيدهم في العاجل والآجل، ومن ذلك قراءة القصص الجنسية. والذي ننصح به أوُلئك -والزوجين خصوصًا- أن يبتعدوا عن قراءة مثل هذه القصص التي تورث فيهم الدياثة وتفقدهم الحياء؛ وذلك لأن في قراءة هذه القصص مفاسد كثيرة منها: 1 - الحصول على هذه القصص سيكون إما بشرائها أو استعارتها، وذلك لا يجوز لما فيه من ضياع المال فيما لا فائدة فيه، ولما في إعارتها من التعاون على الإثم والعدوان، وقد قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. 2 - أن هذه القصص إنما يكتبها أهل الفسق والمجنون، وكثير منها يكتبها الكفار، وهم لا يرعون دينًا ولا أدبًا ولا خلقًا فيما يكتبون، وقراءة ذلك وسيلة لنقل انحلالهم وعاداتهم السيئة بين الناس من حيث يشعرون أو لا يشعرون. 3 - ما في هذه القصص من الكذب والمبالغات وتخييل الأحداث مما يؤثر على ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/ 268) فتوى رقم (4723).

الصور على الفرش والبطانيات

نفس القارئ بالسلب والإثم والحرج وضعف رضا كل من الطرفين بشريكه. 4 - لا يؤمن من وقوع هذه القصص في أيدي الأبناء فتفسد أخلاقهم وتجرهم إلى الرذيلة أو يسيئون ظنهم بوالديهم، وقد لا يشعر الأبوان بذلك فيتحملون وزر أبنائهم ولا ينفع الندم حينئذٍ. لهذه المفاسد وغيرها لا يجوز قراءة هذه القصص أبدًا، وفي الحلال غنية وفي ما فتح الله من أبواب المباح ما يكفي للمتعة التي يرضى عنها الله، وتحفظ الفرد والمجتمع من انتشار الفساد والرذيلة. الصور على الفرش والبطانيات: إن مما ابتلي به المسلمون في بيوتهم هذه الصور التي في الثياب والفُرُش والبطانيات، وكذا الكتب والمجلات وغيرها، التي يكون فيها رسمًا لحيوانات، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تَدْخُلُ المَلاَئكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ"، وهذا الحديث عام وإذا أخذنا بعمومه فإنه يشمل كل شيء فيه صورة؛ ولكن جمهور أهل العلم يقولون: إن الصورة التي تُمْتَهَن -وهي التي في الفرش- لا بأس بها، ويجوز أن يستعملها الإنسان؛ ولكن مع ذلك نقول: إن الأولى للإنسان أن يدعها حتى في الأشياء التي تُمْتَهَن؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- حينما رأى نمرقة -يعني: وسادة- فيها صورة، فوقف، وعُرِفَت الكراهية في وجهه، فقالت عائشة -رضي الله عنها-: "إني أتوب إلى الله ورسوله، ماذا صنعتُ يا رسول الله؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يَوْمَ القِيَامَةِ يُعَذَّبُونَ فَيُقَالُ لهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ، وَقَالَ: إِنَّ البيتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لاَ تَدْخُلُهُ المَلاَئِكَةُ"، ثم أمرها - صلى الله عليه وسلم - أن تشقها نصفين، فهذا يدل على أنه حتى وإن كانت في الأشياء التي تُمْتَهَن فإنَّ تجنبها أولى، فتجنب هذه الصور أولى بكل حال؛ حتى في الفرش والمَخاد والمساند (¬1). ¬

_ (¬1) جلسات وفتاوى لابن عثيمين -رحمه الله- (4/ 103).

الفِقهُ الميَسَّر النَّوازلُ الطِّبيَّة المعَاصرَة مَوسُوعة فقهيَّة حَديثَة تتناوَل أحكام الفقه الإسلامي بأسُلوب وَاضح للمختصّين وغيرهم تَأليف أ. د/عَبد الله بن محمد الطيّار أستَاذ الدراسات العليا بكليَّة الشَّريعة والدِّراسات الإسلامية بجامعة القصيم أ. د/عبد الله بن محمّد المطلق عضو هَيئة كبار العُلَماء، وعضو اللجنة الدَّائمة للإفتاء د/محمَّد بن إبراهيم الموسَى عضو مجلس الشورى سابقًا - المجلس الأعلى للأوقاف الجزء الثَّاني عشر مدار الوطن للنشر

حقُوق الطَّبع محفُوظَة الطَّبعَة الأولى 1432 هـ - 2011 م مَدَارُ الوَطن للنَّشر المملكة العربية السعودية - المقر الرئيسي: الرياض - الملز ص. ب: 245760 - الرمز البريدي 11312 - هاتف 4792042 (5 خطوط) - فاكس 4723941 البريد الإلكتروني: [email protected] موقعنا على الإنترنت: www.madaralwatan.com الرياض: 0503269316 الغربية: 0504143198 الشرقية: 0503193268 الشمالية والقصيم: 0504130728 التوزيع الخيري للشرقية والجنوبية: 0503193269 التوزيع الخيري لباقي جهات المملكة: 0506436804 التسويق للجهات الحكومية: 0500996987 مبيعات المكتبات الخارجية: 0503193269

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد: فمازال الطب الحديث يأتي إلينا بكل جديد، وبعد أن كان الناس في قديم الزمان لا يستطيع الواحد منهم أن يتعرف على نوعية مرضه ليقوم بعلاجه، فقد أصبح في هذه الأزمنة -مع تطور الطب الحديث- يستطيع أن يتعرف على ما يؤلمه من خلال الأجهزة الحديثة التي يتمكن من خلالها أن يرصد ما يحصل داخل جسمه، ثم يقوم بعلاجه، ويزداد الأمر تطورًا ويتقدم الطب في عمليات تخص الأسرة، فهذه عمليات الإنجاب تكثر طرقها ووسائلها، وهذه طريقة إنجاب من خلال الأنابيب، وطريقة أخرى من خلال زرع البويضات في رحم الزوجة، وأخرى عن طريق استئجار الرحم، وغير ذلك من طرق الإنجاب، وغيرها من الأمور المستجدة. بل قد يحصل للإنسان أمور تفرض عليه فرضًا, ولا يستطيع أن يهرب منها كما نراه في التشخيص المبكر قبل الزواج أو أخذ جرعات مضادة لبعض الأمراض المعدية ومدى الإلزام بذلك. ويحتاج الإنسان في ظل هذا التقدم الهائل إلى وقفة شرعية لمثل هذه الأمور كلها التي تحتاج إلى حكم شرعي، وحرصًا منا على بيان بعض الأحكام المتعلقة بهذه النوازل جمعنا جملة من النوازل الطبية، وبينا الحكم الشرعي فيها استكمالًا لما قد تم إنجازه من النوازل في العبادات والمعاملات وفقه الأسرة والقضاء وغيرها.

وقد حرصنا فيه كسابقه على ذكر آراء المجامع الفقهية ولجان الفتوى، ومتى ظهر لنا الترجيح في تلك المسائل أيدناه، وقد يكون لغيرنا رأي يخالفه ولا حرج في ذلك، فكل ينتهي إلى ما يراه لا سيما في هذه القضايا المستجدة التي يحتاج الحكم عليها إلى النظر لها من زوايا مختلفة. ولنا رجاء من كل من يطلع على هذه الموسوعة أن يوافينا بما يراه من مسائل إضافية أو ملحوظات أو اقتراحات؛ فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه. نسأل الله أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمَّد. المؤلفون

أولا: حكم التداوي

أولًا: حكم التداوي قبل الشروع ببيان بعض الأحكام المتعلقة بالنوازل الطبية المعاصرة نذكر بعض الأمور المتعلقة بهذه النوازل. اختلف الفقهاء في حكم التداوي: فذهب جمهور أهل العلم من الحنفيَّة (¬1)، والمالكية (¬2)، والشافعية (¬3)، والحنابلة (¬4) إلى عدم وجوب التداوي. قال شيخ الإِسلام -رحمه الله-: "ليس بواجب عند جماهير الأئمة، إنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمدُ" (¬5). وذهب بعض الفقهاء إلى وجوبه إذا خشي الإنسان على نفسه التلف بتركه. قال في تحفة المحتاج: "ونقل عياض الإجماع على عدم وجوبه، واعتُرض بأن لنا وجهًا بوجوبه إذا كان به جرح يخاف مثله التلف" (¬6) انتهى. وفي حاشيته: "عن البغوي أنه إذا علم الشفاء في المداواة وجبت" (¬7) انتهى. وفي حاشية قليوبي وعميرة: "وقال الإسنوي: يحرم تركه في نحو جرح يظن فيه التلف" (¬8). انتهى. ¬

_ (¬1) العناية شرح الهداية (8/ 500). (¬2) الثمر الداني في تقريب المعاني، (ص: 534). (¬3) مغنى المحتاج (1/ 357). (¬4) الروض المربع (ص: 172). (¬5) غذاء الألباب للسفاريني (1/ 459). (¬6) تحفة المحتاج (3/ 182). (¬7) حاشية تحفة المحتاج (1/ 459). (¬8) حاشية قليوبي وعميرة (1/ 403).

وذهب مجمع الفقه الإِسلامي (¬1) التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي إلى القول بوجوب التداوي إذا كان تركه يفضي إلى تلف النفس أو أحد الأعضاء أو العجز، أو كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره، كالأمراض المعدية. والذي يظهر لنا أن التداوي على أقسام: الأول: إذا غلب على الظن نفع الدواء مع احتمال الهلاك بتركه فالتداوي واجب، فيدخل في ذلك إيقاف النزيف، وخياطة الجروح، وبتر العضو التالف المؤدي إلى تلف بقية البدن، ونحو ذلك مما يجزم الأطباء بنفعه وضرورته، وأن تركه يؤدي إلى التلف أو الهلاك. الثاني: إذا غلب على الظن نفع الدواء، ولكن ليس هناك احتمال للهلاك بترك الدواء، فالتداوي أفضل. وأما حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في الذين يدخلون الجنة بغير حساب (¬2)، وفعل بعض الصحابة حيث تركوا العلاج، ومنهم أبو بكر، وأبو الدرداء -رضي الله عنهم -. فقيل: الحديث محمولٌ على من اعتقد أن الأدوية تنفع بطبعها أو على الرقى التي لا يعقل معناها لاحتمال أن يكون كفرًا, ولكن ذلك مردود بأن هذا لا يختص بالسبعين ألفًا الوارد ذكرهم في الحديث. وقيل: محمولٌ على من فعله في الصحة خشية وقوع الداء. وقيل: محمولٌ على من تركه رضًا بقدر الله واعتمادًا عليه لا أنه ليس بجائز. ¬

_ (¬1) قرار المجمع في جواب السؤال رقم (2148) مجلة المجمع (ع 7، (3/ 563). (¬2) رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب من يتوكل على الله فهو حسبه (5420)، ومسلمٌ في كتاب الإيمان, باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب (220).

ثانيا: مسؤولية الطبيب

ثانيًا: مسؤولية الطبيب أ- الطبيب مسؤولٌ أخلاقيًّا ودينيًّا، ومسؤولٌ مسؤوليةً جنائية لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ" (¬1). ومن القياس: يضمن الطبيب الجاهل والمتعدي ما أتلفت يداه كما يضمن الجاني سراية جنايته بجامع كون كلٍّ منهما فعل محرمًا. ب- على من تكون المسؤولية إذا تعدى الطبيب؟ تكون المسؤولية على أربعة نفر هم: 1 - السائل وهو من يملك حق مساءلة الطبيب ومساعديه كالقاضي ونحوه. 2 - المسؤول وهو من يوجه إليه السؤال ويكلف الجواب عن مضمونه سواء كان فردًا كالطبيب أو جهةً كالمستشفى. 3 - المسؤول عنه، وهو: الضرر وسببه الناشئان عن فعل الطبيب ومساعديه، أو عنهما معًا. 4 - صيغة السؤال، وهي: العبارة المتضمنة للسؤال الوارد من السائل إلى المسؤول. ج- موجبات المسؤولية المهنية أربعة أمور وهي: 1 - عدم اتباع الأصول العلمية وهي: الأصول الثابتة والقواعد المتعارف عليها نظريًّا وعمليًّا بين الأطباء والتي يجب أن يُلم بها كل طبيب وقت قيامه بالعمل ¬

_ (¬1) رواه النسائي في سننه في كتاب القسامة (4830)، وأبو داود في كتاب الديات (4586)، وابن ماجه في كتاب الطب (3466).

الطبي سواء كانت هذه العلوم ثابتة أو مستجدة، ويشترط في المستجدة أن تكون صادرة من جهةٍ معتبرة كالمدارس الطبية المتخصصة بالأبحاث والدراسات الطبية، وأن يشهد أهل الخبرة بكفاءتها وصلاحيتها للتطبيق. وأما إجراء التسجيل العلمي للطريقة العلاجية قبل استخدامها على الإنسان فلا يشترط إلا إذا اعتذرت الجهات الطبية عن تسجيلها لخللٍ فنيٍّ يوجب ردها. 2 - الخطأ: وعرفه بعضهم بأنه ما ليس للإنسان فيه قصد. وهذا النوع لا إثم فيه إلا أنه من موجبات المسؤولية. 3 - الجهل: سواءٌ كان كليًّا أو جزئيًّا. 4 - الاعتداء: وهو أن يقدم على فعل ما يوجب الضرر بالمريض قصدًا. وهذا النوع هو أشدها ويصعب إثباته بغير الإقرار، إلا أنه يمكن الاهتداء إليه بالقرائن القوية كوقوع العداوة أو سبق التهديد من الطبيب المتهم للمريض (¬1). ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: الخطأ الطبي مفهومه وآثاره، د. وسيم فتح الله.

النازلة الأولى: مدى مشروعية الإذن في إجراء العمليات الطبية

النازلة الأولى: مدى مشروعية الإذن في إجراء العمليات الطبية إذا أراد الطبيب علاج المريض، فهل يشترط إذن هذا المريض؟ نقول: إن الشريعة الإِسلامية تهتم بإرادة الإنسان ورضاه في كل ما يخصه إلَّا ما استثنى من ذلك بدليل خاص، ولذلك يعتبر الطبيب ملزمًا بأخذ الإذن من المريض لأجل العلاج، أو الجراحة، أو الاختبار إذا كان عاقلًا، وبإذن وليّ أمره إذا كان قاصرًا، أو مغمى عليه، سواء كان الإذن مطلقًا أو مقيدًا وأن يكون الإذن معبرًا عنه بإحدى وسائل التعبير من النطق، أو الكتابة، أو الإشارة الواضحة، وإلاّ فيكون الطبيب آثمًا؛ لأنه تصرف فيما يخص غيره دون رضاه، إذ ليس له الحق في التصرف ببدنه إلَّا بإذنه، فيكون ضامنًا لو نتج عنه أي ضرر مهما بذل من جهد، ومهما كانت نيته طيبة، ومهما كان حاذقًا متخصصًا. ولا يستثنى من ذلك إلَّا بعض حالات تقتضيها الضرورات منها: 1 - إذا كان المرض من الأمراض المتعدية التي يتعدى ضررها إلى الآخرين كالأمراض المعدية السارية، والأمراض الجنسية المعدية فإنه لا يعتبر إذن المريض بل يداوى وإن لم يأذن إذا كان مكلفًا، أو يأذن وليّه إذا كان غير مكلف؛ لأن آثار مرضه تتجاوز إلى المجتمع، فحينئذٍ يحل الإذن الحكومي المتمثل في قرارات الجهة المتخصصة (كوزارة الصحة) محل إذنه، حيث تحدد الجهة المختصة بترتيب مستشفيات أو أقسام خاصة بتلك الأمراض، وتوجب التبليغ عنها، ومداواتها ومتابعتها. 2 - الحالات النفسية أو العصبية الخطيرة التي قد يضر صاحبها بنفسه أو بغيره. 3 - إذا تعذر استئذان المريض أو تعذر استئذان وليّه، وفي تأخير المداواة ضرر على المريض، فلا يشترط الإذن في هذه الحالة، كحالات الطوارئ، والحوادث التي

تستدعي تدخلًا طبيًّا بصفة فورية لإنقاذ حياة المصاب، أو إنقاذ عضو من أعضائه وتعذر الحصول على موافقة المريض أو من يمثله في الوقت المناسب، حيث يجب في هذه الحالات إجراء العمل الطبي دون انتظار الحصول على موافقة المريض أو من يمثله، وكذلك إذا كان ولي غير المكلف بعيدًا، وانتظار إذنه يسبب ضررًا على هذا المصاب فإنه يعالج ويسقط الإذن في هذه الحال. وقد قرر ذلك مجلس مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي حيث قال بشأن هذه النازلة ما يلي: ثالثًا: إذن المريض: أ- يشترط إذن المريض للعلاج إذا كان تام الأهلية، فإذا كان عديم الأهلية أو ناقصها اعتبر إذن وليّه، حسب ترتيب الولاية الشرعية ووفقًا لأحكامها التي تحصر تصرف الولي فيما فيه منفعة المولى عليه ومصلحته ورفع الأذى عنه. على أنه لا عبرة بتصرف الولي في عدم الإذن إذا كان واضح الضرر بالمولى عليه، وينتقل الحق إلى غيره من الأولياء ثم إلى ولي الأمر (¬1). ¬

_ (¬1) مجلة مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بجدة (العدد: 7)، (3/ 563) قرار رقم: 67 (5/ 7).

النازلة الثانية: في حكم تضمين الطبيب

النازلة الثانية: في حكم تضمين الطبيب الطب: ذلك العمل الإنساني الخطير قد ينتحله بعض من لا يحسنه، وقد يقوم به من لا خلاق له من دين أو خلق، ومن أجل ذلك بين الفقه الإِسلامي الأحكام الصارمة الرادعة لمن يزاوله ولا يتقنه، ومن لا يرعى فيه الحقوق الإنسانية حق رعايتها. ومن ذلك هذه النازلة التي تكلم عليها العلماء في الزمن السابق، وكذلك تكلم عليها العلماء في الوقت الحاضر، وعقد لها شيء من المؤتمرات والندوات، وكثر فيها الكتابات؛ لأن الطب الآن بسبب كثرة الناس وترقي الاكتشافات الطبية أصبح الناس يحتاجون إليه كثيرًا، وأصبح يرد على عيادة الطبيب كثير من المرضى، وقد يقوم بإجراء عمليات يوميًا أو أسبوعيًّا، فقد يحدث من هؤلاء الأطباء شيء من الأخطاء، فقد تكون هذه الأخطاء مقرونة بالتعدي والتفريط وقد لا تكون كذلك. والمراد بهذه النازلة (تضمين الطبيب): أي تضمينه ما حصل من تلف تحت يده سواء كان هذا التلف لنفس أو عضو أو منفعة. ولا تخلو هذه النازلة من أحوال: الحالة الأولى: أن يكون المتطبب جاهلًا ولا يعلم المريض بعدم حذقه، وقد يكون الطبيب حاذقًا في مرض غير حاذق في مرض آخر، فيقدم على العلاج في هذا المرض وهو غير حاذق فيه والمريض لا يعلم، فقام بالمداواة فتلف تحت يده نفس أو عضو أو منفعة. وحكم هذه الحالة أنه يضمن ما أتلفه بالإجماع. والدليل على ذلك: قول الله -عَزَّ وجَلَّ-: {فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193]، وهذا ظالم، فكونه يباشر مداواة هذا المرض وهو لا يعلمه يعدُّ ظالمًا، وكذلك الحديث

المتقدم فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيد عدم الضمان بالعلم، فمتى لم يوجد العلم ضمن. الحالة الثانية: أن يكون المتطبب جاهلا والمريض يعلم أنه جاهل. وقداختلف فيها العلماء على قولين: فذهب أكثر أهل العلم أنه ضامن؛ واحتجوا لذلك بالأدلة السابقة فالله -عَزَّ وجَلَّ- يقول: {فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} وهذا ظالم، ولكونه أقدم على المعالجة وهو جاهل لا يعلم، وكذلك ما تقدم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وذهب البعض أنه لا يضمن، واستدل بالحديث المتقدم وفيه قوله: "وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ" (¬1)، فدل ذلك على أنه إذا كان المريض يعلم حاله فإنه لا ضمان عليه. والأقرب عندنا في هذه المسألة هو القول الأول، وهو قول الجمهور من أهل العلم. الحالة الثالثة: أن يكون الطبيب حاذقًا، وقد أذن له وأعطى الصنعة حقها، لكنه أخطأ، وهذه الحالة هي التي يكثر فيها أخطاء الأطباء. وهذه يقسمها العلماء إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون هناك تعدٍّ أو تفريط من الطبيب. وضابط التعدي: "فعل ما لا يجوز"؛ كأن يزيد في جرعة المخدر أو في كمية الدواء تهاونًا منه، وضابط التفريط: "ترك ما يجب"، كما لو لم يشخص حالة المريض كما ينبغي. وحكم هذه الحالة، أي: فيما إذا تعدى أو فرط أنه يضمن بالاتفاق للأدلة السابقة. فقوله تعالى: {فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193]، فهذا الطبيب ظالم لكونه ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص: 9).

تعدى أو فرط فيضمن، وكذا ما تقدم من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-، فإذا كان الجاهل يضمن فكذلك من باب أولى أن يضمن المتعدي أو المفرط. القسم الثاني: أن لا يتعدى الطبيب ولا يفرط. فهو لم يفعل شيئًا لا يجوز، ولم يترك شيئًا وجب عليه، بل اجتهد وفعل الواجب عليه. والحكم في هذه الحال أنه اختلف فيها أهل العلم هل يضمن الطبيب أو لا؟ على قولين: والأقرب في هذه المسألة عدم الضمان للأدلة السابقة؛ ولأن الطبيب مؤتمن على بدن هذا المريض فلا ضمان عليه، والأمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط، وهنا لم يحصل منه تعد ولا تفريط. الحالة الرابعة: إذا كانت مداواة الطبيب بلا إذن من المريض أو وليه. وهذه الحالة يقسمها العلماء رحمهم الله إلى قسمين: الأول: أن يكون الطبيب غير متبرع بأن يكون مستأجرًا، فإذا كان كذلك فلا بد من رضا المريض وأهليته للإذن بأن يكون بالغًا عاقلًا، فإن لم يكن أهلًا للإذن فلا بد من إذن وليّه؛ لأن عقد الإجارة يعتبر فيه الرضا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، والإجارة تجارة. وكذلك يعتبر فيه أهلية العاقد، فلا يصح عقد الإجارة من الصبي أو المجنون؛ لأنه محجور عليهما في تصرفاتهما. وعلى هذا إذا كان الطبيب مستأجرًا وداوى غير المكلف بلا إذن وليّه، أو داوى

المكلف بلا إذنه فإنه يضمن. الثاني: أن يكون الطبيب متبرعًا غير مستأجر، فداوى المريض بلا إذنه أو داوى الصغير أو المجنون بلا إذن وليه فهل يضمن لو حصل تحت يده تلف أو لا يضمن؟ فيه قولان لأهل العلم: الأقرب؛ أنه لا ضمان عليه، والدليل على ذلك قوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]، وهذا محسن. وأيضًا لأمره - صلى الله عليه وسلم - بالمداواة فقال: "تَدَاوَوْا؛ فَإِنَّ الله لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضْعَ لَه دَوَاءً" (¬1)، والطبيب امتثل أمر الشارع، فالشارع قد أذن له بالمداواة. ¬

_ (¬1) رواه الترمذيُّ في كتاب الطب (2038)، وأبو داود في كتاب الطب (3855)، وابن ماجه الطب (3436).

النازلة الثالثة: في الأحكام المتعلقة بموت الدماغ

النازلة الثالثة: في الأحكام المتعلقة بموت الدماغ قبل بيان الحكم الشرعي لهذه النازلة لا بد من توضيح لبعض المسائل المتعلقة بهذه النازلة: المسألة الأولى: تعريف الموت وعلاماته عند الفقهاء: أولًا: تعريف الموت عند الفقهاء: الموت عند الفقهاء هو مفارقة الروح للبدن وقد دلت الأدلة الشرعية على ذلك: كما في قوله تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء: 91]. وقوله {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [التحريم: 12]. فالحياة حصلت بنفخ الروح، فدل ذلك على أن الموت يحصل بمفارقة الروح للبدن كما يدل عليه مفهوم المخالفة (¬1). وأما من السنة فحديث البراء بن عازب -رضي الله عنه- وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن قبض روح المؤمن: "فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ القَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَيَأْخُذُهَا، فَإذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا في يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ" (¬2). ¬

_ (¬1) المسائل الطبية المعاصرة للدكتور خالد المشيقح (2/ 15). (¬2) الحديث أصله في البخاري في كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر (1303) وكتاب تفسير القرآن، باب (يثبث الله الذين آمنوا) (4422)، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه (2871)، وأبو داود في كتاب السنة، باب المسألة في القبر وعذاب القبر (4753)، وكتاب الجنائز، باب الجلوس عند القبر (3212)، والترمذيُّ في كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة إبراهيم -عليه السلام- (3120)، والنسائيُّ في كتاب الجنائز، باب الجلوس قبل أن توضع الجنازة (2001) مختصرًا، وابن ماجه في كتاب ما جاء في الجنائز، باب ما جاء في الجلوس في المقابر (1549)، -واللفظ له- نحوه، كلهم عن البراء بن عازب.

ثانيا: علامات الموت عند الفقهاء

فدل هذا على أن الموت في الأدلة الشرعية، وعند الفقهاء المراد به: مفارقة الروح للبدن، وهذا ما يذكره الفقهاء رحمهم الله في تعريف الموت، فإنهم متفقون على أن الموت هو مفارقة الروح للبدن. قال الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله-: "هذه هي حقيقة الوفاة عند الفقهاء، وتكاد كلمتهم تتوارد على هذا, ولم يتم الوقوف على خلافه في كلامهم من أنه: مفارقة الروح للبدن، بل هو حقيقة شرعية، لا يُعلم فيها خلاف" أ. هـ. (¬1). ثانيًا: علامات الموت عند الفقهاء: المراد بعلامات الموت عند الفقهاء، أي العلامات التي تدل على أن الروح قد فارقت البدن، وهذه العلامات التي يذكرها الفقهاء في كتاب الجنائز وقفوا عليها من خلال التجربة واستقراء الحوادث، فهي ليست من قبيل المقطوع بالنص الشرعي ولكنها من قبيل الأمور الظاهرة التي تُدرك بالحس والمشاهدة، وهي وإن كانت كذلك إلا أنهم يستدلون بها على مفارقة الروح للبدن وهذه العلامات هي: 1 - توقف النفس. 2 - استرخاء القدمين بعد انتصابهما. 3 - انفصال الكفين عن الذراعين. 4 - ميل الأنف واعوجاجه. 5 - امتداد جلدة الوجه. 6 - انخساف صدغيه إلى الداخل. 7 - تقلص خصيتيه إلى الأعلى مع تدلي الجلدة. ¬

_ (¬1) فقه النوازل (1/ 222).

المسألة الثانية: علامة الموت عند الأطباء في الوقت الحاضر

8 - برودة البدن. 9 - إحداد البصر: كما في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ البَصَرُ". فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ فَقَالَ: "لاَ تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ فَإِنَّ المَلاَئِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ". ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَبِى سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ في المَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ في عَقِبِهِ في الغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لنَا وَلَهُ يَا رَبَّ العَالمِينَ، وَافْسَحْ لَهُ في قَبْرِهِ, وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ" (¬1). وفي حديث شداد بن أوس -رضي الله عنه- مرفوعًا: "إِذَا حَضَرتمْ مَوْتَاكُمْ، فَأَغْمِضُوا البَصَرَ؛ فَإِنَّ البَصَرَ يَتْبَعُ الرُّوحَ، وَقُولُوا خَيْرًا؛ فَإِنَّ المَلاَئكَةَ تُؤَمِّنُ عَلَى مَا قَالَ أَهْلُ البَيْتِ" (¬2). المسألة الثانية: علامة الموت عند الأطباء في الوقت الحاضر: علامة الموت عند الأطباء في الوقت الحاضر هي "موت الدماغ" كما سيأتي -إن شاء الله بيان ذلك-. وأول من نبه على هذا مجموعة من الأطباء الفرنسيين عام 1959 م حيث تكلموا عن موت الدماغ وأنه علامة من علامات الموت فيما أسمي بمرحلة ما بعد الإغماء، وكذا جامعة هارفارد في أمريكا تكلموا في هذه المسألة أيضًا عام 1967 م، ثم بعد ذلك في بريطانيا اجتمعت لجنة مكونة من الكليات الملكية ووضعت ضوابط ¬

_ (¬1) رواه مسلم، في كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت (920). (¬2) رواه أحمد (4/ 125، رقم 17176)، وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في تغميض الميت (1/ 468، رقم 1455)، قال البوصيري (2/ 23): هذا إسناد حسن. والحاكم (1/ 503، رقم 1301)، وقال: صحيح الإسناده ووافقه الذهبي، والطبرانيُّ (7/ 291، رقم 7168)، وأخرج أيضًا: البزار (8/ 402، رقم 3478)، والديلمي (1/ 267، رقم 1039)، قال الشيخ الألباني: "حسن" انظر: حديث رقم (492) في صحيح الجامع.

لما يسمى بموت الدماغ (¬1). وحتى يتم تكييف هذه النازلة فقهيًّا، لا بد من بيان الآتي: أولًا: الأجزاء الرئيسية للدماغ ووظيفة كل جزء وكيفية حدوث موت الدماغ. يتكون الدماغ من ثلاثة أجزاء رئيسية: 1 - المخ. 2 - المخيخ. 3 - جذع المخ. وكل واحد من هذه الأجزاء له وظائف تخصه رئيسية إذا عرفناها استطعنا أن نعرف أي هذه الأجزاء الذي إذا مات يكون علامة على موت البدن كما هو عند الأطباء. فالجزء الأول المخ: ووظيفته تتعلق بالتفكير والذاكرة والإحساس. والجزء الثاني المخيخ: ووظيفته تتعلق بتوازن الجسم. والجزء الثالث جذع المخ: وهو أهم هذه الأجزاء ووظائفه أساسية فهي تتعلق بالتنفس والتحكم في القلب ونبضاته والتحكم بالدورة الدموية ... إلخ. فعند أكثر الأطباء يحصل الموت إذا أصيب جذع المخ فهذه علامة من علامات الموت عند الأطباء، وبعض الأطباء يخالف في ذلك. فالمخ إذا أصيب لا يعني حصول الموت؛ لأن وظيفة المخ تتعلق بالذاكرة والإحساس والتفكير، فيفوت عليه التفكير والإحساس، وتفوت عليه الذاكرة فيحيا ¬

_ (¬1) فقه النوازل (1/ 219).

كما يسميها الأطباء حياة جسدية نباتية، يتغذى ويتنفس وقلبه ينبض، ويمكث على هذه الحال سنوات، وقد وجد من المرضى من مكث عشر سنوات لأن جذع المخ الذي يتحكم في التنفس ونبضات القلب والدورة الدموية لا يزال حيًّا، لكنه فقد وعيه الكامل. وكذلك المخيخ لو مات فإنه يفقد توازن الجسم، ولا أثر له في موت الإنسان، فالأطباء يقولون: إذا مات المخ أو المخيخ أمكن للإنسان أن يحيا حياة غير عادية يعني حياة نباتية جسدية فيفقد وعيه الكامل، لكنه لا يزال يتنفس وقلبه ينبض ويتغذى والغالب أن موت جذع المخ هو الذي يكون علامة على الوفاة عند الأطباء، والغالب أن موته أو إصابته تكون بسبب الحوادث؛ حوادث السيارات، أو القطارات، أو الطائرات، وما يحصل فيها من الارتطامات والاصطدام الذي يحصل في هذا الجزء من الدماغ فتحدث فيه النزيف الداخلي. ثانيًا: علامات موت جذع المخ: ولما كان إصابة جذع الخ عند أكثر الأطباء دليلًا على موت الإنسان، فإن الأطباء يذكرون لموت جذع المخ علامات منها: 1 - الإغماء الكامل. 2 - عدم الحركة. 3 - عدم التنفس وانقطاعه؛ ولهذا يحتاج إلى أجهزة الإنعاش. 4 - عدم وجود أي انفعالات انعكاسية، والتي تدل على نشاط الجهاز العصبي مثل:

1 - عدم حركة حدقتي العينين مع الضوء الشديد. 2 - لا يرمش المصاب رغم وضع قطعة من القطن على قرنية العين. 3 - لا تتحرك مُقلة العين رغم إدخال ماء بارد في الأذن. 5 - لا يُقطِّب المصاب جبينه رغم الضغط على الجبين بالإبهام. 6 - عدم التحكم أو الكحة عند لمس الحنك وباطن الحلق بالإبهام، كظهور آثار الحزن أو السرور. 7 - وهي من أهمها مع عدم التنفس عدم وجود نشاط كهربائي في رسم المخ بطريقة معروفة عند الأطباء، فالأطباء يرسمون المخ فقد يوجد عند هذا المصاب شيء من الرسم الكهربائي، قد يكون قويًا وقد يكون ضعيفًا، وقد لا يوجد فإذا لم يوجد أي نشاط كهربائي عند رسم المخ بآلاتهم المعروفة فهذا مما يستدلون به على أن جذع المخ قد مات. فالحاصل: أن هذه العلامات وغيرها يستدل بها الأطباء على موت جذع المخ وبالتالي موت الإنسان. واختلف أهل الاختصاص الطبي في تحديد هذا التوقف على رأيين: الرأي الأول: أن موت الدماغ هو توقف جميع وظائف الدماغ (المخ، والمخيخ، وجذع الدماغ) توقفًا نهائيًّا لا رجعة فيه، وهذا رأي المدرسة الأمريكية. الرأي الثاني: أن موت الدماغ هو: توقف وظائف جذع الدماغ فقط توقفًا نهائيًّا لا رجعة فيه، وهذا رأي المدرسة البريطانية. هذا بالنسبة لكلام الأطباء لكن يبقى كلام علماء الشريعة الفقهاء في الوقت الحاضر.

فنقول: هذه النازلة نعني: (موت الدماغ) من أشد النوازل المشْكِلة والشائكة في الوقت الحاضر؛ لأنها تتعلق بحياة نفس محترمة مصونة، ولأن ما يترتب عليها خطير وعظيم، ولذا حدث فيها تردد واضطراب، ليس على مستوى كبار العلماء وحسب، وإنما على مستوى المجامع الفقهية الدولية، ففي الوقت الذي يرى فيه مجمع الفقه الإِسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي (¬1) أنَّ موت الدماغ يعتبر موتًا حقيقيًّا تترتب عليه آثاره، لا يرى ذلك مجمع الفقه التابع لرابطة العالم الإِسلامي (¬2)، وتفتي بعض لجان الفتوى المعتبرة باعتباره موتًا، إذ بلجان أخرى أيضًا معتبرة لا تعتبره كذلك، بل إنَّ بعض اللجان اعتبرته في وقت سابق ليس موتًا حقيقةً، ثم إذا هي بعد ذلك تقول إن الأمر يحتاج إلى مزيد من البحث، وهذا إن دلَّ فإنما يدل على خطورة هذه النازلة، وأنها جدُّ خطيرة؛ ولذا اعترف بعض الباحثين والأساتذة الذين تعرضوا لها بأنها تحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة؛ إذْ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وهذه النازلة تحتاج إلى تصور دقيق، ودقة نظر وفهم، ودراسة ميدانية دقيقة، لواقع وأحوال المرضى الذين حكم عليهم بالموت دماغيًّا، ثم بعد ذلك يأتي الحكم الشرعي. وبعد النظر والدراسة لهذه النازلة الذي يترجح عندنا أن الموت الدماغي ليس نهاية للحياة الإنسانية، ولا تترتب عليه آثاره بل يعتبر الميت دماغيًّا من الأحياء؛ وهذا هو قول أكثر الفقهاء، وهو الذي قرره المجمع الفقهي لرابطة العالم الإِسلامي (¬3) في دورته العاشرة بمكة المكرمة عام 1408 هـ، وقرره أيضًا مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، وعليه الفتوى في لجنة الإفتاء بوزارة الأوقاف الكويتية (¬4). ¬

_ (¬1) مجلة مجمع الفقه الإِسلامي القرار رقم (5) د 3/ 07 / 86. (¬2) مجلة مجمع الفقه الإِسلامي ع 2 (ج 1/ 484، 498، 506). (¬3) المرجع السابق. (¬4) مجلة مجمع الفقه لمنظمة المؤتمر الإِسلامي (ع 3 / ج 2/ 545)، جامع الفتاوى الطبية (343).

والأدلة على ذلك كثيرة منها: 1 - قاعدة: اليقين لا يزول بالشك، واليقين أن هذا الإنسان حي وموته مشكوك فيه، فقد وجدت وقائع يقرر فيها موت الدماغ ثم بعد ذلك تستمر الحياة. يقول الدكتور محمَّد سليمان الأشقر: "سمعت مؤخرًا سنة 1998 م من هيئة الإذاعة البريطانية أن إنسانًا بقى تحت أجهزة الإنعاش لثماني سنوات، وأنه بعد ذلك بدأ يستعيد وعيه، ثم استعاد عافيته بعد أن قرر الأطباء أنه لا يمكن عودته إلى الحياة" أ. هـ. (¬1). ويقول الدكتور بكر أبو زيد -رحمه الله-: "حكم جمع من الأطباء على شخصية مرموقة بالوفاة؛ لموت جذع الدماغ لديه، وأوشكوا على انتزاع بعض الأعضاء منه، لكنَّ ورثته منعوا من ذلك، ثم كتب الله له الحياة، وما زال حيًّا إلى تاريخه" (¬2). ويؤكد ذلك أن هناك أطفالًا يولدون بلا مخّ أصلًا، وعاش بعضهم على حالته أكثر من عشر سنوات، بل في بلادنا نحن في المملكة العربية السعودية عند زيارتنا لبعض المستشفيات نجد عددًا من المرضى ممّن يكون تحت أجهزة الإنعاش لعدة سنوات وقد قرر الأطباء موته دماغيًّا ثم تكتب له الحياة. وهذا يدل دلالة واضحة على أن موت الدماغ لا يعتبر موجبًا للحكم بالوفاة؛ إذ لو كان كذلك لما عاش هؤلاء لحظة واحدة بدون المخ الذي يعتبر موته أساسًا في الحكم بموت الدماغ (¬3). ¬

_ (¬1) أبحاث اجتهادية في الفقه الطبي للأشقر، هامش (ص: 85). (¬2) حكم الانتزاع لعضو من مولود حي عديم الدماغ للدكتور بكر أبو زيد (ص: 3). (¬3) انظر في ذلك: أحكام الجراحة الطبية للدكتور محمَّد بن محمَّد المختار الشنقيطي، (ص: 353)، الإفادة الشرعية في بعض المسائل الطبية د. وليد راشد السعيدان (ص: 69).

2 - أن الشرع يتطلع لإحياء النفوس وإنقاذها، وأن أحكامه لا تبنى على الشك وخصوصًا ما يتعلق بالأنفس. 3 - أنه من أصول الشريعة المحافظة على المصالح الضرورية التي اتفقت الشرائع على المحافظة عليها، ومن ذلك حفظ النفس. 4 - أن تعطل الإحساس أو توقف النفس ونحو ذلك لا يدل على فقد الحياة. فأكثر الأطباء الاستشاريين الذين كتبوا عن الموت الدماغي يرون أن الميت دماغيًّا لم يصل إلى مرحلة الموت النهائي، وأنه لا تطبق عليه أحكام الموت الشرعية. ومن قرارات المجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي بمكة المكرمة قرار رقم: 49 (2/ 10) حول حصول الوفاة، ورفع أجهزة الإنعاش من جسم الإنسان. "المريض الذي ركبت على جسمه أجهزة الإنعاش، يجوز رفعها إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطُّلًا نهائيًّا، وقررت لجنة من ثلاثة أطباء اختصاصيين خبراء أن التعطل لا رجعة فيه، وإن كان القلب والتنفس لا يزالان يعملان آليًّا بفعل الأجهزة المركبة، لكن لا يحكم بموته شرعًا، إلا إذا توقف التنفس والقلب توقُّفًا تامًّا بعد رفع هذه الأجهزة" (¬1). ¬

_ (¬1) قرارات المجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي بمكة المكرمة قرار رقم: 49 (2/ 10) تقرير حصول الوفاة، ورفع أجهزة الإنعاش من جسم الإنسان.

النازلة الرابعة: رفع أجهزة الإنعاش الصناعي

النازلة الرابعة: رفع أجهزة الإنعاش الصناعي أولًا: تعريف الإنعاش: الإنعاش عند الأطباء هو: المعالجة المكثفة التي يقوم بها الفريق لمساعدة الأجهزة الحياتية عند الإنسان وهي: (المخ- القلب- التنفس- الكلى- الدم) حتى تقوم بوظائفها أو لتعويض بعض الأجهزة المعطلة بقصد الوصول إلى تفاعل منسجم بينها (¬1). ثانيًا: حكم الإنعاش: الذي يظهر لنا من خلال تعريف الإنعاش أن حكمه الوجوب؛ وذلك لخطورة حالة المريض، ولأن حاجته لأجهزة الإنعاش أصبحت أمرًا ضروريًّا كحاجته للطعام والشراب بحيث لو تركه فقد عرض نفسه للهلاك. ثالثًا: آلات الإنعاش عند الأطباء: آلات الإنعاش عند الأطباء هي: 1 - المنفسة: وهي عبارة عن جهاز يقوم بعمل الجهاز التنفسي بتحريك القفص الصدري فيحدث للمريض ما يسمى بالشهيق والزفير. 2 - مانع الذبذبات: وهو جهاز من أجهزة إنعاش القلب يقوم بإعطاء القلب صدمات كهربائية لإعادة ما ضعف من دقات القلب أو ما انقطع منها. 3 - جهاز منظم ضربات القلب: وهو من أجهزة إنعاش القلب يحتاج إليه حينما تكون ضربات القلب بطيئة بحيث لا يصل الدم إلى الدماغ بكمية كافية، أو أن الدم بسبب بطء ضربات القلب ينقطع عن الدماغ لمدة دقيقة أو ثوان. ¬

_ (¬1) الإنعاش للشيخ محمَّد المختار الإِسلامي ضمن مجلة مجمع الفقه الإِسلامي ع 2/ 1 / 481، موت الدماغ لندى الدقر (ص: 211).

رابعا: حكم رفع أجهزة الإنعاش

4 - مجموعة العقاقير والأدوية: معروفة عند الأطباء. رابعًا: حكم رفع أجهزة الإنعاش: يختلف حكم رفع أجهزة الإنعاش من مريضٍ لآخر حسب الأحوال التالية: الحالة الأولى: عودة أجهزة المصاب إلى حالتها الطبيعية بحيث لا يحتاج معها لأجهزة الإنعاش، فهنا يقرر الطبيب رفع أجهزة الإنعاش لسلامة المريض وعدم حاجته إليها. ولا ينبغي الاختلاف في هذه الحالة فهذا هو المعتبر شرعًا، وقد أخذ به أهل القانون في جميع دول العالم. الحالة الثانية: تحسن المريض مع حاجته لأجهزة الإنعاش وهو في طريقه إلى النقاهة والسلامة، فهنا تبقى أجهزة الإنعاش عليه حتى يستغنى عنها ويبرأ البرء التام وحينئذٍ ترفع عنه أجهزة الإنعاش كما في الحالة الأولى. الحالة الثالثة: مريض ميئوس من حالته الطبية، أي: لا أمل في شفائه طبيًّا مع بقاء عمل الدماغ، فهنا لا يجوز رفع أجهزة الإنعاش عن هذا المريض وذلك لما يلي: 1 - أن سحب الأجهزة عنه كترك إنقاذ غريق في البحر وحريق يحترق في النار. 2 - أن حياته لا تزال موجودةً فيه فلا يجوز رفع أجهزة الإنعاش عنه. 3 - لأن في رفع أجهزة الإنعاش قتلًا لهذا المريض أو زيادة في مرضه وكلاهما لا يجوز. 4 - أن الرأي الطبي في البلاد العربية والإِسلامية بالنسبة إلى سحب أجهزة الإنعاش من مريض ميئوس من حالته، أي: لا أمل في شفائه طبيًّا يعتبر جريمة لا تغتفر (¬1). ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: مجلة مجمع الفقه الإِسلامي ع 2 (ج 1/ 500).

الحالة الرابعة: وهي حالة موت الدماغ التي سبق بيانها: فمع وجود أجهزة الإنعاش لا يزال القلب ينبض، والنفس مستمر نبضًا وتنفسًا صناعيين لا حقيقيين. وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: لا يجوز رفع أجهزة الإنعاش عن الميت دماغيًّا، وهو اختيار الشيخ عبد العزيز ابن باز (¬1) -رحمه الله-، وذلك للأدلة الدالة على حفظ النفس، وأن الشريعة جاءت بحفظ الضروريات الخمس. القول الثاني: وهو قرار كل من مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي (¬2)، والمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإِسلامي (¬3) أنه يجوز رفع أجهزة الإنعاش عن الميت بموت الدماغ، وذلك لأنه لا يوقف علاجًا يرجى منه شفاء المريض، وإنما يوقف إجراء لا طائل من ورائه في شخص محتضر، بل يتوجه أنه لا ينبغي إبقاء آلة الطبيب والحالة هذه؛ لأنه يطيل عليه ما يؤلمه من حالة النزع والاحتضار (¬4). وخلاصة الأمر في هذه الحالة: أنه إذا تعطلت جميع الوظائف الدماغية تعطلًا نهائيًّا، وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه، وأخذت دماغه في التحلل، ففي هذه الحال يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص وإن كان بعض الأعضاء كالقلب لا يزال يعمل آليا بفعل الأجهزة المركبة. ومثل ذلك أيضًا جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي لرابطة العالم الإِسلامي، لكن مجمع الرابطة قيد ذلك بأن تُقرر لجنة من ثلاثة أطباء فأكثر. وقد سبق الإشارة إلى نص القرار وهو: "المريض الذي ركبت على جسمه ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: مجلة مجمع الفقه الإِسلامي ع 3 (ج 2/ 809). (¬2) المرجع السابق. (¬3) في دورته العاشرة المنعقدة في مكة المكرمة (1408 هـ) بواسطة الطبيب أدبه وفقهه، (ص: 198). (¬4) فقه النوازل (1/ 234)، موت الدماغ لندى الدقر، (ص: 216 - 217).

أجهزة الإنعاش، يجوز رفعها إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلًا , نهائيًّا، وقررت لجنة من ثلاثة أطباء اختصاصيين خبراء أن هذا التعطل لا رجعة فيه وإن كان القلب والتنفس لا يزالان يعملان آليًّا بفعل الأجهزة المركبة" (¬1). وأيضًا مثل هذا ورد في قرار هيئة كبار العلماء: إذا قرر ثلاثة أطباء فأكثر متخصصون رفع أجهزة الإنعاش عن المريض -الموضح حالته- فإنه يجوز اعتماد ما يقررونه من رفع أجهزة الإنعاش. فتكاد آراء العلماء المعاصرين تتفق على أنه يجوز رفع أجهزة الإنعاش عن هذا الميت دماغيًّا أو من كان في معناه ممّن حكم الأطباء بتعطل الوظائف عنده، وأنه ميئوس من رجوعه، أو ميئوس من أن يُشفى في علم الأطباء وإلا فالله تعالى على كل شيء قدير، لكن عندهم أن مثل هذه الحالة ميئوس منها، فإذا قرر ثلاثة أطباء فأكثر ذلك، جاز رفع أجهزة الإنعاش عنه؛ لأنه لا يلزم استنقاذ هذا المريض الذي هذه حاله، ولأن وضع هذه الأجهزة لا يفيد في هذا الاستنقاذ، وقد يكون له كلفة كبيرة وضع هذه الأجهزة عليه مدة طويلة، قد يكون فيها نفقات وكلفة لإنسان قد تعطلت الوظائف عنده، أو تعطل الدماغ عنده، ولهذا فإن آراء العلماء المعاصرين تكاد تتفق على هذا (¬2). ونرى جواز نقل أجهزة الإنعاش عن المريض وفق الضوابط والشروط الواردة في قرارات المجامع الفقهية وقرار هيئة كبار العلماء (¬3). ¬

_ (¬1) قرارات المجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي بمكة المكرمة قرار رقم: 49 (2/ 10) تقرير حصول الوفاة، ورفع أجهزة الإنعاش من جسم الإنسان. (¬2) لمعرفة المزيد عن هذه النازلة يمكن مراجعة كتاب: نقل الأعضاء الآدمية بين التحليل والتحريم د. رضاء الطيب- وكتاب رد شبه المجيزين لنقل الأعضاء من الناحيتين الدينية والطبية د. محمود محمَّد عوض سلامة. (¬3) ويرى الشيخ الطيار أنه لا يسوغ رفع الأجهزة عنه ما دام فيه أدنى حياة؛ لأنه أولى من غيره بها.

النازلة الخامسة: في حكم نقل أجهزة الإنعاش من شخص إلى آخر

النازلة الخامسة: في حكم نقل أجهزة الإنعاش من شخص إلى آخر إذا كان هناك شخصان أحدهما توضع عليه أجهزة الإنعاش لحاجته إليها وآخر أشد احتياجًا لها من الأول، فهل يشرع نقلها من الأول إلى الثاني نظرًا لشدة الحالة؟ اختلف في حكم هذه الحالة أهل العلم، والراجح عندنا أنه لا يجوز نقل الأجهزة من شخص إلى آخر بل تترك الأجهزة على الأول ما دام أنه ممّن لا يجوز رفعها عنه ولو كان الثاني أشد حاجة لها؛ وذلك لأن في رفع الأجهزة عن الأول ارتكابًا لمحظور، وارتكاب المحظور أعظم حرمةً من ترك المأمور، والقاعدة تقول: درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة. ولأن الأصل في المسلمين أنهم مستوون في العصمة ووجوب المحافظة على الحياة، ومن هنا فلا يقدم أحدهم على الآخر إلا بسبب وكون انتفاع الثاني أكبر من الأول، فهذا من المرجحات، لكن مع الاستواء وهو غير متحقق هنا، فإن الأول يترجح جانبه بالسبق فهو أحق بهذه الحاجة واعتبار السبق في الاستفادة منها، ومن تنقل له ليس بأولى ممّن هي عليه، والله أعلم.

النازلة السادسة: نقل الأعضاء من الشخص الميت أو الحي وزرعها في الإنسان الحي

النازلة السادسة: نقل الأعضاء من الشخص الميت أو الحي وزرعها في الإنسان الحي أولًا: نبذة تاريخية عن هذه النازلة: إن عمليات نقل الأعضاء الآدمية ليست أمرًا جديدًا, وليست وليدة القرن العشرين كما يتبادر إلى الذهن، وإنما هي قديمة قدم التاريخ وإن كانت البدايات فيها متواضعة وبدائية وليست على تلك الدرجة المبهرة من التطور والتقدم الذي نعيشه في هذا العصر. فمنذ ما يقرب من ثلاثة آلاف عام عرف قدماء المصريين عمليات زرع الأسنان ونقلها عنهم اليونانيون والرومان كما عرفها أيضًا سكان الأمريكتين الأصليين. وفي القرن السادس عشر للميلاد قام الطبيب الإيطالي (كوزي) بإعادة تركيب أنف مقطوع بواسطة رقعة مأخوذة من ذراع المريض. وفي باريس قام الطبيب (جان هنتر) بإجراء العديد من عمليات زرع الأعضاء وخاصة الأسنان. وفي القرن التاسع عشر تمت عمليات نقل كثيرة للأعضاء مثل الأوتار، والعضلات، والجلد، والأعصاب، والغضاريف، والقرنيات، وغيرها. ثم جاء النصف الثاني من القرن العشرين ليشهد تطورًا مذهلًا في العلوم الطبية والإنجازات العلمية عامة وفي مجال (نقل الأعضاء الآدمية) خاصة. وقد تجسد هذا التطور في عام (1967 م) في مدينة (كيب تاون) بجنوب أفريقيا حين استطاع جراح القلب الفرنسي الشهير (كريستيان برنارد) إجراء أول عملية لنقل

ثانيا: التكييف الطبي لهذه النازلة

قلب في التاريخ لمريض كان على وشك الهلاك لتلف قلبه تلفًا شديدًا، وكانت هذه العملية هي الإعلان عن بداية عصر جديد في مجال نقل الأعضاء الآدمية. ثانيًا: التكييف الطبي لهذه النازلة: نقل الأعضاء إنما يكون من الميت إذا كان ميتًا دماغيًّا؛ لأن الأعضاء لا زالت حية كما سبق بيانه. وإذا نزعت الأجهزة فتوقف القلب فإن الدماغ لا يستطيع أن يعيش أكثر من أربع دقائق، والقلب لبضع دقائق، والكلى لمدةٍ أقصاها (خمس وأربعون) إلى (خمسين) دقيقة قبل أن تصبح ميتة ولا تصلح للزرع، والكبد لمدة أقصاها ثمان دقائق، وإذا مات الدماغ ففي الغالب أن القلب يتوقف بعدها لساعات أو أيام قلائل، أما العظام فتتحمل نقص التروية عنها أو انقطاعها لمدة يوم أو يومين، وإذا أخذت الأعضاء وهي تعمل فيمكن تبريدها والاحتفاظ بها، ويحتفظ بالقلب مبردًا ساعتين والكبد ثمان ساعات، والكلى (اثنان وسبعون) ساعة، وتبلغ نسبة النجاح في نقل الكلية (خمس وثمانون في المائة) في السنة الأولى وتفشل (خمس في المائة) من الحالات سنويًّا و (خمسون في المائة) لمدة خمس سنوات، وهي مكلفة وتنقذهم هذه العملية إلى وقت محدود. وزرع الرئتين والكبد والبنكرياس لا تزال نسبة النجاح فيها محدودة وكلفتها باهظة ولا تزال حكرًا على بعض المراكز المتقدمة. ثالثًا: التكييف الفقهي لهذه النازلة: لما كانت هذه النازلة (نقل الأعضاء من الشخص الميت أو الحي وزرعها في الإنسان الحي) عملًا مستحدثًا في هذا العصر نتيجة للتقدم العلمي، لم يتحدث عنه الفقهاء المسلمون السابقون، ولم يعالجوه بصورة مباشرة في نصوصهم الفقهية، وكل ما وجدناه في هذه النصوص بعض صور من التصرف في الجسد الإنساني ذكرت في

رابعا: الحكم الشرعي لهذه النازلة

باب البيع عند تحديد شروط المبيع، وعند الحديث عن مدى جواز الانتفاع بأجزاء هذا الجسد سواء كان هذا الانتفاع لصاحب الجسد نفسه أو لغيره، وعند الكلام عن بعض القواعد الفقهية كقاعدة الضرورات تبيح المحظورات، وقاعدة ارتكاب أخف الضررين. رابعًا: الحكم الشرعي لهذه النازلة: لا تخلو هذه النازلة من صورتين: الصورة الأولى: نقل الأعضاء من إنسان حي إلى آخر. الصورة الثانية: نقل الأعضاء من إنسان ميت إلى آخر حي. أما الصورة الأولى فقد اختلف الفقهاء المعاصرون في حكمها على قولين: القول الأول: الجواز فلا مانع شرعًا من أخذ عضو من إنسان حي لزرعه في إنسان آخر محتاج إليه لإنقاذ حياته إذا اضطر إلى ذلك، وأمنت الفتنة في نزعه لمن أخذ منه، وغلب على الظن نجاح زرعه ممّن سيزرع فيه. وقد صدرت فتاوى كثيرة من المجامع الفقهية ودوائر الإفتاء والهيئات العلمية (¬1) تبيح كلها نقل الأعضاء من إنسان حي إلى آخر بشروط هي: 1 - الضرورة القصوى للنقل، بحيث تكون حالة المريض سيئة للغاية، ولا ينقذه من ذلك إلا نقل عضو سليم إليه من إنسان آخر. 2 - أن يكون المأخوذ منه وافق على ذلك حالة كونه بالغًا عاقلًا مختارًا. ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: فتوى المجمع الفقهي لرابطة العالم الإِسلامي، الدورة الثامنة المنعقدة في مكة المكرمة في 28/ 4 - إلى 7/ 5 / 1405 هـ , وقرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رقم 99 في 6/ 12 / 1402 هـ , وفتوى مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي في مؤتمره الرابع المنعقد في مدينة جدة من 18 - 23 جمادي الآخرة 1408 هـ.

3 - أن يكون نقل العضو محققًا لمصلحة مؤكدة للمتلقي أو يغلب على الظن تحقيق هذه المصلحة. 4 - ألا يضر أخذ العضو من المتبرع به ضررًا يخل بحياته العادية، فلا يجوز مثلًا نقل الأعضاء المفردة كالكبد أو القلب من حي إلى مريض؛ لأن في ذلك هلاكًا للأول، والقاعدة الشرعية تقول: إن الضرر لا يزال بمثله، ولا بأشد منه، ولأن التبرع حينئذ يكون من قبيل الإلقاء بالنفس إلى التهلكة، وهو أمر غير جائز شرعًا. 5 - أن يكون هذا النقل بدون مقابل. 6 - ألا يكون العضو المنقول مؤديًا إلى اختلاط الأنساب بأي حال من الأحوال، فلا يجوز نقل الخصية والمبيض منعًا لاختلاط الأنساب. 7 - صدور إقرار كتابي من اللجنة الطبية قبل النقل بالعلم بهذه الضوابط مع إعطائه لذوي الشأن من الطرفين، المنقول منه العضو والمنقول إليه قبل إجراء العملية الطبية، على أن تكون هذه اللجنة متخصصة ولا تقل عن ثلاثة أطباء عدول وليس لأحد منهم مصلحة في عملية النقل. وقد استدل أصحاب هذا القول، أي -المجيزون لنقل الأعضاء- بما فهموه من عموم قواعد الشريعة مثل الضرورات تبيح المحظورات، والضرر يزال، وتحقيق أعلى المصلحتين، وارتكاب أخف الضررين، وإذا تعارضت مفسدتان تدرأ أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما ضررًا، إلى غير ذلك من الأدلة. القول الثاني: لا يجوز للإنسان أن يتصرف في أعضاء جسده ولو بالتبرع؛ لأن أعضاء جسد الإنسان هي جميعها ملك لله سبحانه. والقاعدة في ذلك: "من لا يملك التصرف لا يملك الإذن فيه" (¬1). ¬

_ (¬1) وممن ذهب إلى هذا القول من الفقهاء: سماحة شيخنا ابن باز، وشيخنا ابن عثيمين، والدكتور أنور محمود

ومما قاله سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله- في هذه النازلة: "المسلم محترم حيًّا وميتًا، والواجب عدم التعرض له بما يؤذيه أو يشوه خلقته، ككسر عظمه وتقطيعه، وقد جاء في الحديث: "كسْرُ عَظْمِ الميتِ ككَسْرِهِ حَيًّا" (¬1). ويستدل به على عدم جواز التمثيل به لمصلحة الأحياء، مثل أن يؤخذ قلبه أو كليته أو غير ذلك؛ لأن ذلك أبلغ من كسر عظمه. وقد وقع الخلاف بين العلماء في جواز التبرع بالأعضاء وقال بعضهم: إن في ذلك مصلحة للأحياء لكثرة أمراض الكلى وهذا فيه نظر، والأقرب عندي أنه لا يجوز للحديث المذكور، ولأن في ذلك تلاعبًا بأعضاء الميت وامتهانًا له، والورثة قد يطمعون في المال، ولا يبالون بحرمة الميت، والورثة لا يرثون جسمه، وإنما يرثون ماله فقط" (¬2). والذي يترجح عندنا هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، أي: يجوز نقل الأعضاء من إنسان حي إلى آخر، ولا يكون ذلك إلا بالشروط المذكورة عند أصحاب هذا القول. أما الصورة الثانية وهي: نقل الأعضاء من إنسان ميت إلى آخر حي. والمراد بالميت هنا هو من فارقت روحه بدنه بانقطاعها عن بدنه انقطاعًا تامًا من توقف دقات قلبه واستكمال أمارات الموت الأخرى التي سبق بيانها في نازلة الموت الدماغي، فهذه هي الوفاة التي تترتب عليها أحكام مفارقة الإنسان للدنيا من انقطاع أحكام التكليف، وخروج زوجته من عهدته، وماله لوارثه، وتغسيله، وتكفينه، ¬

_ = دبور، والدكتور عبد الرحمن العدوي، والدكتور صفوت حسن لطفي وغيرهم كثير. (¬1) رواه أحمد (6/ 58)، وأبو داود، كتاب الجنائز: باب في الحفَّار يجد العظم هل يتنكب ذلك المكان؟ رقم (3207)، وابن ماجه، كتاب الجنائز: باب النهي عن كسر عظام الميت، رقم (1616) من حديث عائشة. قال النووي: "رواه أبو داود وابن ماجه والبيهقيُّ بأسانيد صحيحة". قال ابن حجر: "رواه أبو داود بإِسناد على شرط مسلم". انظر: الخلاصة، رقم (3694)، بلوغ المرام، رقم (576). (¬2) مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (13/ 363).

والصلاة عليه، ودفنه. أما الميت دماغيًّا كما يعبر عنه أهل المعرفة بالطب، فقد سبق أنه لا يسمى ميتًا شرعيًّا؛ ولذلك هو ليس مرادًا في هذه النازلة. حكم نقل الأعضاء في هذه الصورة: اختلف فيها الفقهاء على قولين: الأول: لا يجوز نقل الأعضاء من ميت إلى حي حتى لو أوصى بذلك قبل موته، بل لو أذن ورثة الميت بذلك لا يجوز؛ وذلك لأن جسد الآدمي ملك لله سبحانه وتعالى، وبالتالي لا يجوز للإنسان وهو حي أن يوصي أو يتبرع بشيء من أعضائه بعد موته، كما لا يجوز لأحد أقاربه أو النيابة العامة أو أي جهة أخرى الإذن بالمساس بجسد هذا الميت لأخذ عضو منه أو أكثر. ومما قاله الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في هذه المسألة "نرى أنه لا يجوز، لا قبل الموت ولا بعد الموت، حتى لو أوصى به الميت وقال: إذا مت فأعطوا قرنية عيني فلانًا، أو كليتي فلانًا، أو كبدي فلانًا أو ما أشبه ذلك، فإنه لا يجوز أن تنفذ هذه الوصية؛ لأنها وصية بمحرم، والوصية بمحرم لا تنفذ، وقد ذكر ذلك أهل العلم. . ." إلى أن قال: "فالحاصل أن هذا هو رأيي، وكذلك هو رأي سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز كما سألته في مجلس هيئة كبار العلماء وقال هكذا: إنه حرام. كل من تأمل النصوص وجد أنه حرام، ثم فيه مفسدة الآن: في بلادٍ أخرى يسطون على الصغار في الأسواق، يأخذ الصغير ويذبحه ويأخذ كبده ويبيعها بملايين الدراهم؛ لأنهم لا يخافون الله ولا يرحمون عباد الله" (¬1). القول الثاني: يجوز نقل أي عضو من إنسان ميت إلى إنسان حي في حاجة إليه بشروط معينة هي: ¬

_ (¬1) انظر: مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (13/ 363).

1 - موافقة الميت على نزع عضو من أعضائه بعد وفاته، أو موافقة ورثته على ذلك. 2 - موافقة ولي أمر المسلمين أو من ينوب عنه في حالة الجثة المجهولة. 3 - أن يغلب على ظن الطبيب استفادة المريض بالجزء المنقول إليه. 4 - أن تكون المصلحة المترتبة على نقل العضو أعظم من المفسدة التي اقتضت حظره. 5 - أن يكون القصد من ذلك رعاية المصلحة للمريض المتلقي وأن يكون ضروريا لذلك. 6 - ألا يترتب على الاستقطاع تشويه كبير بالجثة. 7 - أن لا يكون المضطر ذميًّا، أو معاهدًا، أو مستأمنًا إذا كانت جثة الميت لمسلم. 8 - أن يكون المنقول له مسلمًا إذا كان العضو المنقول من مسلم. ومما جاء في قرارات مجمع الفقهي الإِسلامي التابع لمنظمة مؤتمر العالم الإِسلامي (¬1) ما يلي: من حيث الأحكام الشرعية: أولًا: يجوز نقل العضو من جسم الإنسان إلى مكان آخر من جسمه، مع مراعاة التأكد من أن النفع المتوقع من هذه العملية أرجح من الضرر المترتب عليها، وبشرط أن يكون ذلك لإيجاد عضو مفقود أو لإعادة شكله أو وظيفته المعهودة له، أو لإصلاح عيب أو إزالة دمامة تسبب للشخص أذى نفسيًّا أو عضويًّا. ثانيًا: يجوز نقل العضو من جسم إنسان إلى جسم إنسان آخر، إن كان هذا العضو يتجدد تلقائيًّا، كالدم والجلد، ويراعى في ذلك كون الباذل كامل الأهلية، ¬

_ (¬1) مجلة مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بجدة، ع 4، (1/ 89) قرار رقم 26 (1/ 4) بشأن انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حيًّا كان أو ميتًا.

وتحقق الشرعية المعتبرة. ثالثًا: تجوز الاستفادة من جزء من العضو الذي استؤصل من الجسم لعلة مرضية لشخص آخر، كأخذ قرنية العين لإنسان ما عند استئصال العين لعلة مرضية. رابعًا: يحرم نقل عضو تتوقف عليه الحياة كالقلب من إنسان إلى إنسان آخر. خامسًا: يحرم نقل عضو من إنسان حي يعطل زواله وظيفة أساسية في حياته وإن لم تتوقف سلامة أصل الحياة عليها، كنقل قرنية العينين كلتيهما، أما إن كان النقل يعطل جزءًا من وظيفة أساسية فهو محل بحث ونظر كما يأتي في الفقرة الثامنة. سادسًا: يجوز نقل عضو من ميت إلى حي تتوقف حياته على ذلك العضو، أو تتوقف سلامة وظيفة أساسية فيه على ذلك، بشرط أن يأذن الميت قبل موته أو ورثته بعد موته، أو بشرط موافقة وليّ أمر المسلمين إن كان المتوفى مجهول الهوية أو لا ورثة له. سابعًا: وينبغي ملاحظة: أن الاتفاق على جواز نقل العضو في الحالات التي تم بيانها مشروط بأن لا يتم ذلك بوساطة بيع العضو، إذ لا يجوز إخضاع الإنسان للبيع بحال ما. أما بذل المال من المستفيد؛ ابتغاء الحصول على العضو المطلوب عند الضرورة أو مكافأة وتكريمًا، فصل اجتهاد ونظر. ثامنًا: كل ما عدا الحالات والصور المذكورة مما يدخل في أصل الموضوع فهو محل بحث ونظر، ويجب طرحه للدراسة والبحث في دورة قادمة على ضوء المعطيات الطبية والأحكام الشرعية. الراجح هو: القول بجواز نقل الأعضاء وفقًا لما جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمجلس التعاون الإِسلامي. ويرى الشيخ الطيار تقييد الجواز بكون المنقول منه العضو كافرًا وذلك للأسباب الآتية:

أولًا: صحة ما ذكره القائلون بجواز النقل من وجود الحاجة التي بلغت مقام الضرورة، وما في حكمها، وهذا المقام شهدت نصوص الشرع وقواعده باعتباره مستثنى من التحريم، ولكن بقدر ما تندفع به تلك الضرورة والحاجة. واعتبار هذه النصوص والقواعد الفقهية محلّ إجماع بين أهل العلم -رحمهم الله- فكم استثنوا بها من المحرمات المتعلقة بالعبادات والمعاملات. ثانيًا: أن حديث جابر -رضي الله عنه- في قصّة الرجل الذي قطع براجمه واضح في الدلالة على عدم اعتبار المصلحة الحاجية بقطع شيء من الجسد، وأن ذلك يوجب نوعًا من العقوبة في الآخرة، ومن ثم فإنه لا يجوز الإقدام على قطع شيء من جثة المسلم طلبًا لدفع الحاجة المتعلقة بالغير؛ لأنه إذا لم يجز ذلك للشخص نفسه فمن باب أولى ألا يجوز لغيره ... وأما الكافر فإنه لا يدخل ضمنه؛ لأنّ تعذيبه في الآخرة مقصود شرعًا، فمن ثم جاز أخذ شيء من جثته لسد حاجة المسلم. ثالثًا: أن الأصل يقتضي حرمة المساس بجسد المسلم بالجرح والقطع حيًّا أو ميتًا، فوجب عليه البقاء عليه حتى يوجد الدليل الموجب للعدول والاستثناء منه. رابعًا: أن أدلة القائلين بالمنع لم تسلم من ورود القوادح عليها، وإن سلمت فإن جلها يتعلق بالمسلم، وأما الكافر فإنه يمكن نقل العضو منه إعمالًا للدليل المخالف وبهذا يمكن الجمع بين الأدلة (¬1). والله أعلم. ¬

_ (¬1) لمعرفة المزيد عن هذه النازلة يمكن مراجعة كتاب نقل الأعضاء الآدمية بين التحليل والتحريم د. رضاء الطيب، رد شبه المجيزين لنقل الأعضاء من الناحيتين الدينية والطبية د. محمود محمَّد عوض سلامة.

النازلة السابعة: زراعة الأعضاء بعد قطعها في حد أو قصاص

النازلة السابعة: زراعة الأعضاء بعد قطعها في حد أو قصاص قد يقع شخص في معصية توجب حدًّا كقطع يد في سرقة، أو قصاص مثلًا فهل يجوز له إعادتها شرعًا؟ قبل البدء في المسألة من الناحية الشرعية نوضحها من الناحية الطبية فنقول: أولًا: التكييف الطبي للنازلة: تقوم هذه المهمة على تهيئة الطرفين الذين يراد وصلهما ثم يقوم الطبيب الجراح بتوصيل الأوعية الدموية وخياطة الأعصاب والأوتار. وليس كل الأعضاء المبتورة يمكن إعادتها إلى موضعها، بل ذلك مختص بأعضاء معينة وشروط لا بد من توفرها في ذلك العضو المبتور من أهمها عدم تلوثه بصورة تمنع من إعادته وعدم وجود فاصل زمني طويل؛ لأنّ ذلك يحول دون نجاح عملية الوصل التي تحتاج إلى طراوة الموضع وقرب عهده بحادث البتر. وهذه النازلة متعلقة بمن وجب عليه الحد وبالجاني، أما المجني عليه فيجوز له إعادة العضو المقطوع منه؛ لأنّ ذلك متفق مع رفع الحرج الذي جاءت به الشريعة، ولأنه إذا جاز بتر العضو وإبانته من الجسم عند الحاجة فلأن يجوز ردها عند وجودهما أولى. ثانيًا: حكم إعادة العضو المقطوع حدًّا أو قصاصًا: اختلف أهل العلم المعاصرين في هذه النازلة على قولين: القول الأوّل: لا يجوز إعادة العضو المقطوع وبه صدر قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية (¬1)، واختاره جمعٌ من العلماء. واستدلوا لذلك بأدلة منها: ¬

_ (¬1) قرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية. قرار رقم (136) وتاريخ 17/ 6 / 1406 هـ.

1 - أن الله تعالى قال: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2]، وقال سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38]، فلا تشرع الرأفة بإعادة ما أبين منه بعد إقامة حدّ الله -عَزَّ وجَلَّ- عليه، كما أن الجزاء لا يتم إلا بالقطع، والنكال لا يتم إلا برؤية اليد المقطوعة. ثم إن هذا الحكم بالقطع يوجب فصلها عن البدن على التأبيد، وفي إعادتها مخالفة لحكم الشرع فلا يجوز فعلها. 2 - قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]، وقوله سبحانه: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، وإعادة العضو تؤدي إلى عدم المماثلة. 3 - من السنة حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في السارق: "اذْهَبُوا بِهِ فاقْطَعُوهُ، ثُمَّ احْسِمُوهُ" (¬1). والحسم مانع من إعادتها. 4 - ولحديث فضالة -رضي الله عنه- قال "أُتِىَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِسارِقٍ فَقُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ أُمِرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ في عُنُقِهِ" (¬2). فتعليق يد السارق في عنقه حكم شرعي يعتبر من تمام العقوبة والحد، وإعادتها توجب تفويت ذلك فلا يجوز فعلها. 5 - أن الإعادة مفوتة للحكمة من إيجاب الحد والقصاص وهي الردع والزجر، كما أنها تشجع أهل الإجرام على فعل الجرائم وارتكابها. ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني (3/ 102) من حديث أبي هريرة بلفظ: أن رسول الله أتي بسارق سرق شملة، فقالوا: يا رسول الله إن هذا سرق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه، ثم ائتوني به"، فقطع فأتي به ... ، وأخرجه موصولًا أيضًا الحاكم (8150) وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. والبيهقيُّ -كتاب السرقة- باب السارق يعود فيسرق ثانيًا وثالثًا ورابعا (17031). (¬2) رواه أحمد (2/ 181)، وأبو داود في كتاب الحدود، باب في السارق تعلق يده في عنقه (4413)، والترمذيُّ وحسنه، كتاب الحدود باب ما جاء في تعليق يد السارق (1447).

6 - أن بقاء اليد مقطوعة يذكر الجاني بالعقوبة فيرتدع عن تكرارها. 7 - أن إعادتها ليس من حق المقطوع منه بعد أن حكم الشرع بإبانته. 8 - أن الله تعالى قد أمر بقطع اليد في الحرابة ثم بقطع الرجل، وهذا يعني أن اليد غير موجودة. القول الثاني: يجوز إلا أنه يشترط في القصاص رضى المجني عليه، وهو قول الشيخ وهبة الزحيلي (¬1). ومن العلماء من أجازه في القصاص ومنع منه في الحد، واستدلوا لقولهم بأدلة منها: 1 - قياسًا على ما لو نبتت سن جديدة أو أصبع جديدة بعد القصاص أو الحد فإنها لا تستأصل وليس للمجني عليه قلعها وليس هو في حكم المقطوع كذلك هنا. ويجاب عليهم بأن هذه نعمة متجددة، ولم يرد النص بقطعها وهذا بخلاف ما نحن فيه. 2 - أنه لا سلطان للحاكم على المحكوم بعد تنفيذ الحد، كما لا يحق له منعه من تركيب يدٍ صناعية. ويجاب عليهم بأن هذا قياس مع الفارق؛ لأنّ العضو المعاد ثبت بالنص إبعاده عن الجسم. 3 - أن النص الشرعي أمر بمجرد الحد فيبقى ما عداه على أصل الإباحة الشرعية. 4 - أن الأهداف من الحد وهي الزجر والإيلام والتشهير قد تحققت. 5 - القياس على نقل الأعضاء من إنسانٍ لإنقاذ آخر فمن باب أولى أن يجوز للإنسان أن يعيد ما قطع من أعضائه. ¬

_ (¬1) الفقه الإِسلامي وأدلته (7/ 163).

6 - أن في الإعادة مصلحة ضرورية لصاحبها ولا تتصادم مع نصٍّ شرعي. 7 - أن حقوق الله تعالى مبنية على الدرء والإسقاط والمسامحة خلافًا لحقوق الآدميين. الذي يترجح عندنا عدم جواز إعادة العضو المقطوع من حدّ أو قصاص وذلك لما يلي. 1 - لأنّ في بقاء أثر الحد تحقيقًا كاملًا للعقوبة المقررة شرعًا، ومنعًا للتهاون في استيفائها، وتفاديًا لمصادمة حكم الشرع في الظاهر. 2 - أن القصاص إنما شرع لإقامة العدل وإنصاف المجني عليه، وصون حق الحياة للمجتمع وتوفير الأمن والاستقرار، وإعادة العضو المقطوع يخالف هذه المعاني التي راعاها الشارع الحكيم. 3 - أن القصاص إنما شرع؛ لأنّ المقصود منه الزجر والردع لا الإيلام فقط. وإبقاء المراد من العقوبة بدوام أثرها للعبرة والعظة وقطع دابر الجريمة، وفي إعلان هذه العقوبات ببقائها يتحقق أثرها في الجاني وغيره ممّن شاهد الحد أو بلغته إقامته. وهذا هو ما قررته هيئة كبار العلماء بالمملكة (¬1)، وهو أيضًا ما قرره مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: نص قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية في مجلة مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بجدة العدد 6، (3/ 2161 - 2179). (¬2) مجلة مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بجدة، العدد 6، (3/ 2161).

النازلة الثامنة: حكم التشريح

النازلة الثامنة: حكم التشريح لم ينص الفقهاء قديمًا على حكم هذه النازلة ولم يتطرقوا إليها في مؤلفاتهم ومصنفاتهم وفق الصورة الحديثة لها، وهي من نتاج التقدم العلمي الحديث، ومن فروع الطب الذي يرتبط بالقضايا القانونية والجنائية. ولما كانت الشريعة الإِسلامية لا تجيز العبث والتمثيل بجثث الموتى، فإنه يرد السؤال عن حكمها في هذا النوع من الجراح، وهو سؤال يعد من النوازل الفقهية التي جدت، وطرأت في عصرنا الحاضر؛ إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره. أغراض التشريح: 1 - التشريح الجنائي ومصلحته ظاهرة لردع المجرمين، وإظهار براءة المتهم ولمعرفة سبب الوفاة في حوادث القتل، وكذا في حالة القتل والوفاة المجهولة السبب كوجود ميتٍ على شاطئ البحر لمعرفة المدة التي كانت الضحية فيها بالماء، وهل كانت على قيد الحياة قبل إلقائها، وتحديد العمر والجنس من خلال جمع الأعضاء. 2 - التشريح المرضي لمعرفة الأمراض وتأثيرها والتعرف على المرض وعلاجه، ومعرفة ما إذا كان هناك وباء فيتقى شره بوسائل الوقاية المناسبة. 3 - التشريح التعليمي حيث يمكن الطالب في الطب معرفة تركيب جسم الإنسان ووظائف الأعضاء وأقسامها، ويتدرب على استعمال أدوات الجراحة ليقوم بعد ذلك بإجراء العمليات الجراحية للأحياء. 4 - التشريح لمعرفة مدى العلاقة بين الأعراض التي ظهرت على المريض والتشخيص، وبين ما يكشف عنه التشريح من بيان الأسباب الحقيقية للوفاة، وبهذا يمكن أن يتقدم علم الطب حيث تكتشف الأمراض غير المعروفة.

حكم التشريح

5 - التشريح لأغراض الانتفاع بأعضاء الميت لمصلحة الأحياء. حكم التشريح: ذهب جمهور الفقهاء المعاصرين إلى جواز التشريح في الجملة لا بالجملة؛ وذلك لما يترتب عليه من مصالح جمة تفوق المضار والمفاسد، والأحكام الشرعية إنما تبنى على الغالب، إذ ما من فعل إلا وتحيطه وتجتمع فيه المصالح والمفاسد، وبناء الحكم الشرعي وفق الراجح من النوعين، فليس في الكون مصلحة محضة ولا مفسدة محضة؛ ولأن مراعاة حرمة الحي أعظم من مراعاة حرمة الميت، واستدلالًا بقاعدة: "إذا تعارضت مصلحتان قدم أقواهما، وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما تفاديًا لأشدهما". فالتشريح فيه مصلحة عامة متعارضة مع مصلحة قاصرة خاصة وهي حرمة الميت، فتقدم المصلحة العامة. وتشريح الميت مفسدة خاصة؛ لما فيها من انتهاك لحرمته، وتركه فيه مفسدة عامة منتشرة على مجموع الناس، فترتكب المفسدة الأخف وهي التشريح درءًا وتلاشيًا من وقوع المفسدة الأعم والأشد، وهذا هو القول الأوّل في هذه النازلة. ومما جاء في قرارات هيئة كبار العلماء بخصوص التشريح ما يلي: "كما جرى استعراض البحث المقدم في ذلك من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وظهر أن الموضوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأوّل: التشريح لغرض التحقق من دعوى جنائية. الثاني: التشريح لغرض التحقق من أمراض وبائية لتتخذ على ضوئه الاحتياطات الكفيلة بالوقاية منها. الثالث: التشريح للغرض العلمي تعلمًا وتعليمًا: وبعد تداول الرأي والمناقشة ودراسة البحث المقدم من اللجنة المشار إليه أعلاه قرر المجلس ما يلي:

* بالنسبة للقسمين الأوّل والثاني: فإن المجلس يرى أن في إجازتهما تحقيقًا لمصالح كثيرة في مجالات الأمن والعدل ووقاية المجتمع من الأمراض الوبائية ومفسدة انتهاك كرامة الجثة المشرحة مغمورة في جنب المصالح الكثيرة والعامة المتحققة بذلك، وإن المجلس لهذا يقرر بالإجماع إجازة التشريح لهذين الغرضين سواء كانت الجثة المشرحة جثة معصوم أم لا. * وأما بالنسبة للقسم الثالث -وهو- التشريح للغرض التعليمي: فنظرًا إلى أن الشريعة الإِسلامية قد جاءت بتحصيل المصالح وتكثيرها، وبدرء المفاسد وتقليلها، وبارتكاب أدنى الضررين لتفويت أشدهما، وأنه إذا تعارضت المصالح أخذ بأرجحها، وحيث إن تشريح غير الإنسان من الحيوانات لا يغني عن تشريح الإنسان، وحيث إن في التشريح مصالح كثيرة ظهرت في التقدم العلمي في مجالات الطب المختلفة، فإن المجلس يرى جواز تشريح جثة الآدمي في الجملة إلا أنه نظرًا إلى عناية الشريعة الإِسلامية بكرامة المسلم ميتًا كعنايتها بكرامته حيا؛ وذلك لما روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كَسْرُ عَظْمِ المَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا" (¬1). ونظرًا إلى أن التشريح فيه امتهان لكرامته، وحيث إن الضرورة إلى ذلك منتفية بتيسير الحصول على جثث أموات غير معصومة، فإن المجلس يرى الاكتفاء بتشريح مثل هذه الجثث وعدم التعرض لجثث أموات معصومين والحال ما ذكر (¬2). ومما جاء أيضًا في قرارات المجمع الفقهي لرابطة العالم الإِسلامي في دورته العاشرة في مكة: "بناء على الضرورات التي دعت إلى تشريح جثث الموتى، والتي ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص: 35). (¬2) مجلة البحوث الإِسلامية (61/ 123) الفتوى رقم (8693).

يصير بها التشريح مصلحة تربو على مفسدة انتهاك كرامة الإنسان الميت؛ قرر مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإِسلامي ما يلي: أولًا: يجوز تشريح جثث الموتى لأحد الأغراض التالية: أ- التحقيق في دعوى جنائية؛ لمعرفة أسباب الموت، أو الجريمة المرتكبة، وذلك عندما يُشْكل على القاضي معرفة أسباب الوفاة، ويتبين أن التشريح هو السبيل لمعرفة هذه الأسباب. ب- التحقق من الأمراض التي تستدعي التشريح؛ ليتخذ على ضوئه الاحتياطات الواقية، والعلاجات المناسبة لتلك الأمراض. ج- تعليم الطب وتعلمه، كما هو الحال في كليات الطب. ثانيًا: في التشريح لغرض التعليم تراعى القيود التالية: أ- إذا كانت الجثة لشخص معلوم، يشترط أن يكون قد أذن هو قبل موته بتشريح جثته، أو أن يأذن بذلك ورثته بعد موته، ولا ينبغي تشريح جثة معصوم الدم إلا عند الضرورة. ب- يجب أن يقتصر في التشريح على قدر الضرورة؛ كيلا يعبث بجثث الموتى. ج- جثث النساء لا يجوز أن يتولى تشريحها غير الطبيبات، إلا إذا لم يوجدن. ثالثًا: يجب في جميع الأحوال دفن جميع أجزاء الجثة المشرحة" (¬1). القول الثاني في هذه النازلة: لا يجوز تشريح جثة الميت لغرض التعليم، وهو لجماعة من العلماء والباحثين، واستدلوا لذلك بأدلة منها: ¬

_ (¬1) قرارات المجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي بمكة المكرمة. قرار رقم: 48 (1/ 10) بشأن موضوع (تشريح جثث الموتى).

أ- قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]. وجه الدلالة: أن الآية الكريمة دلت على تكريم الله تعالى لبني آدم، وهذا التكريم عام شامل لحال حياتهم ومماتهم، وتشريح جثث الموتى فيه إهانة لها. ب- أحاديث النهي عن المثلة، كما في حديث بريدة -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا ثم قال: "اغْزُوا بسْمِ الله وَفِي سَبيلِ الله، قاتِلُوا مَنْ كفَرَ بالله، اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا، وَلا تَغْدِرُوا، وَلا تُمَثِّلُوا" (¬1). وجه الدلالة: أن تشريح جثة الميت فيه تمثيل ظاهر، فهو داخل في عموم النهي الوارد في هذا الحديث وغيره من الأحاديث التي ورد فيها نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - الموجب لحرمة التمثيل ومنعه. ج- حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أنه قال: "إِنَّ كَسْرَ عَظْمِ المُؤْمِنِ مَيْتًا مِثْلُ كَسْرِ عَظْمِهِ حَيًّا" (¬2). وجه الدلالة: أن هذا الحديث دلّ على حرمة كسر عظام المؤمن الميت والتشريح مشتمل على ذلك فلا يجوز فعله. د- وكذلك قالوا بأن القواعد العامة التي جاءت بها الشريعة تدل على المنع ¬

_ (¬1) رواه مسلم، كتاب الجهاد، باب تأمير الإِمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها (4619). (¬2) رواه أحمد (6/ 58)، وأبو داود، كتاب الجنائز: باب في الحفَّار يجد العظم هل يتنكب ذلك المكان؟ رقم (3207)، وابن ماجه، كتاب الجنائز: باب النهي عن كسر عظام الميت، رقم (1616) من حديث عائشة -رضي الله عنها-. قال النوويّ: "رواه أبو داود وابن ماجه والبيهقيُّ بأسانيد صحيحة" قال ابن حجر: "رواه أبو داود بإِسناد على شرط مسلم" انظر: الخلاصة، رقم (3694)، بلوغ المرام، رقم (576).

من التشريح مثل قاعدة "الضرر لا يزال بالضرر"، وقاعدة "لا ضرر ولا ضرار". فقد دلت القاعدتان على أن مفسدة الضرر ينبغي ألا تزال بمثلها، والتشريح فيه إزالة ضرر بمثله، وعلى حرمة الإضرار بالغير، والتشريح فيه إضرار بالميت فلا يجوز فعله. والراجح هو جواز تشريح جثة غير المعصوم، وهذا هو اختيار سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (¬1)؛ وذلك لما يلي: أولًا: لأنّ الأصل عدم جواز التصرف في جثة المسلم إلا في الحدود الشرعية المأذون بها والتشريح ليس منها، فوجب البقاء على الأصل المقتضي للمنع، وهذا الأصل يسلم به القائلون بجواز التشريح وإن كانوا يستثنون التشريح اعتبارًا منهم للحاجة الداعية إليه. ثانيًا: أن تشريح جثة المسلم يعطل عن فعل كثير من الفروض المتعلقة بها بعد الوفاة، من تغسيلها وتكفينها، والصلاة عليها، ودفنها، وهو مخالفة لما ثبتت به السنة من الأمر بالمبادرة بالجنائز والإسراع بها، فلا يجوز تعطيل جثة المسلم وتأخير هذه المصالح المطلوب فعلها بعد الوفاة مباشرة لمصلحة لا تتعلّق بالميت، ولم يتسبب في موجبها، وإنما هي من مصالح الغير المنفكة عنه (¬2). ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (22/ 349) (¬2) لمزيد بحث هذه النازلة يمكن مراجعة التشريح الجثماني والنقل والتعويض الإنساني للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، (ص: 21)، حكم تشريح الميت. فتوى: للشيخ يوسف الدجوي. نشرت في: مجلة الأزهر عام 1355 هـ. العدد/ 7 و 8، المجلد/ 9، حرمة التشريح. للشيخ: محمَّد عبد الوهاب بحيري. نشر في: مجلة نور الإِسلام. وهو رد على مقال: الشيخ الدجوي.

النازلة التاسعة: جراحة التجميل

النازلة التاسعة: جراحة التجميل جراحة التجميل هي: جراحة تجري لتحسين منظر جزءٍ من أجزاء الجسم الظاهرة، أو وظيفته إذا ما طرأ عليه نقصٌ أو تلف أو تشوه (¬1). وتنقسم إلى نوعين: 1 - جراحة التجميل الحاجية. 2 - جراحة التجميل التحسينية. أولًا: جراحة التجميل الحاجية: وهي التي يراد بها إزالة عيب سواء كان في صورة نقصٍ، أو تلفٍ، أو تشوه، فهو ضروري، أو حاجي بالنسبة لدواعيه الموجبة لفعله، وتجميلي بالنسبة لآثاره ونتائجه. وتنقسم العيوب التي يراد علاجها إلى قسمين: القسم الأوّل: عيوبٌ ناشئة في الجسم لا من سببٍ خارجٍ عنه وهي على نوعين: أ- العيوب الخلقية التي ولد بها الإنسان، كالتصاق أصابع اليدين والرجلين، وانسداد فتحة الشرج. ب- العيوب الناشئة من الآفات المرضية التي تصيب الجسم، ومن أمثلتها: انحسار اللثة بسبب الالتهابات المختلفة، وعيوب صيوان الأذن الناشئة عن الزهري والجذام والسل. القسم الثاني: عيوب مكتسبة طارئة: وهي العيوب الناشئة بسببٍ من خارج الجسم كما في العيوب والتشوهات الناشئة من الحوادث والحروق، ومن أَمثلتها: ¬

_ (¬1) أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها، محمَّد المختار الشنقيطي، (ص: 173 - 188).

ثانيا: جراحة التجميل التحسينية

كسور الوجه الشديدة التي تقع بسبب حوادث السير، وتشوه الجلد بسبب الحروق والآلات القاطعة، والتصاق أصابع الكف بسبب الحروق. ثانيًا: جراحة التجميل التحسينية: وهي: جراحة تحسين المظهر وتجديد الشباب. وتنقسم إلى نوعين: عمليات الشكل، وعمليات التشبيب. النوع الأوّل: عمليات الشكل، ومن أشهر صوره ما يلي: * تجميل الأنف بتصغيره، وتغيير شكله من حيث العرض والارتفاع. * تجميل الذقن، وذلك بتصغير عظمها إن كان كبيرًا، أو تكبيره بوضع ذقن صناعية تلحم بعضلات، وأنسجة الحنك. * تجميل الثديين بتصغيرهما إذا كانا كبيرين، أو تكبيرهما بحقن مادة معينة مباشرة في تجويف الثديين أو بحقن الهرمونات الجنسية. * تجميل الأذن بردها إلى الوراء إن كانت متقدمة. * تجميل البطن بشد جلدتها وإزالة القسم الزائد بسحبه تحت الجلد جراحيًّا. النوع الثاني: ما يجرى لكبار السن، ويقصد منه إزالة آثار الكبر والشيخوخة، ومن أشهر صوره: * تجميل الوجه بشد تجاعيده. * تجميل الأرداف. * تجميل الساعد، وذلك بإزالة القسم الأدنى من الجلد والشحم.

ثالثا: حكم الجراحة التجميلية

ثالثًا: حكم الجراحة التجميلية: 1 - حكم الجراحة التجميلية الحاجية: هذا النوع من الجراحة لا بأس به ولا حرج فيه؛ لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لعرفجة ابن أسعد لما قطع أنفه في الحرب أذن له أن يتخذ أنفًا من ذهب (¬1)، لإزالة التشويه الذي حصل بقطع أنفه، ومن تجرى له عملية التجميل ليس قصده إلا أن يزيل عيبًا حدث عنده لا بغرض التجميل الذي يقصد منه زيادة تحسين لمنظره وشكله، فلو كان أنف الإنسان مائلًا فيجوز أن يقوم بعملية لتعديله؛ لأنّ هذا إزالة عيب، وكذلك الحول في العين عيب لو أراد الإنسان أن يعمل عملية لتعديل العيب جاز له ذلك، ولأن هذه العيوب تشتمل على ضرر حسي ومعنوي فيحتاج إلى إزالته والقاعدة تقول: (الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة). 2 - الحكم الشرعي للجراحة التحسينية: لما كان هذا النوع من الجراحة لا يشتمل على دوافع ضرورية، ولا حاجية، بل غاية ما فيه هو التجميل الزائد، أي: ليس من أجل إزالة العيب بل لزيادة الحسن، وفيه نوع من تغيير خلقة الله، والعبث بها حسب أهواء الناس وشهواتهم، فهو غير مشروع، لكن هناك أنواعًا لا بأس بها مما لا يكون فيه غش أو تغيير لخلق الله كعمليات التقشير التي تتم لتجمل المرأة لزوجها برغبته فليس فيها تغيير لخلق الله ولا يدخل ضمن الأدلة التي يستدل بها المانعون. ويرى الشيخ الطيار أنه لا يجوز فعله (¬2)، وذلك للأدلة التالية: ¬

_ (¬1) رواه أحمد (5/ 23)، وأبو داود، كتاب الخاتم: باب ما جاء في ربط الأسنان بالذهب، رقم (4232)، والنسائيُّ، كتاب الزينة: باب من أصيب أنفه هل يتخذ أنفًا من ذهب (8/ 163)، والترمذيُّ كتاب اللباس: باب ما جاء في شد الأسنان بالذهب، رقم (1770). قال الترمذيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ. (¬2) ورجح الشيخان (المطلق- والموسى): أن هناك أنواعًا لا بأس بها مما لا يكون فيه غش أو تغيير لخلق الله

1 - أنه تغيير لخلق الله عبثًا بلا دوافع ضرورية ولا حاجية وهو محرم، قال سبحانه وتعالى حكايةً عن إبليس اللعين في معرض الذم {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]. 2 - ما جاء من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلعن المتنمصات والمتفلجات للحسن اللاتي يغيرن خلق الله" (¬1). فالحديث دلّ على لعن من فعل هذه الأشياء، وعلل ذلك بتغيير الخلقة التجميلية التحسينية. 3 - أن هذا النوع من التجميل يحتوي في عددٍ من صوره على الغش والتدليس وهو محرم شرعًا، ففيها إعادة صورة الشباب للكهل والمسن في وجهه وجسده وذلك يؤدي لغش الأزواج والزوجات. 4 - أن هذه الجراحة لا تخلو من محظورات ومنها قيام الرجال بمهمة الجراحة للنساء الأجنبيات وكشف العورة بلا حاجة، ومنها تخدير المريض وهو محرم إلا عند الحاجة ولا حاجة هنا، وقد يترتب عليها ترك الطهارة لفترةٍ من الزمن بسبب تغطية العضو الذي أجريت له العملية. 5 - أنها لا تخلو من الأضرار والمضاعفات النفسية والجسدية، فكثيرًا ما تنتهي هذه العمليات إلى عقبى غير محمودة (¬2). ¬

_ = كعمليات التقشير التي تتم لتجمل المرأة لزوجها أو غيرها مما يتم للزوجة برغبة زوجها وليس فيه تغيير لخلق الله. (¬1) رواه النسائيُّ، كتاب الزينة، باب المتفلجات (5108)، وصححه الألباني في آداب الزفاف (115). (¬2) انظر في ذلك: الموسوعة الطبية الحديثة، لمجموعة من الأطباء (3/ 455)، وأحكام جراحة التجميل في الفقه الإِسلامي الدكتور محمَّد عثمان شبير كلية الشريعة والدراسات الإِسلامية، جامعة الكويت.

النازلة العاشرة: العلاج الجيني ومدى مشروعيته

النازلة العاشرة: العلاج الجيني ومدى مشروعيته أولًا: التكييف الطبي لهذه النازلة: أ- يولد الإنسان بمجموعة من الصفات والأمراض محمولة على جينات، وهذه الجينات عبارة عن مجموعة من التتابعات (النيكلوتيدية) التي تشفر وتعطى مجموعة من الأحماض الأمينية البروتينية، وهذه التتابعات النيوكلوتيدية لها ترتيب معين، فإذا ما اختل هذا الترتيب ينتج حمض أميني آخر، مما يؤدى إلى تغير الشكل والوظيفة المسؤول عنها هذا الجين، وربما يصاب الإنسان بتشوه خلقي أو مرض معين نتيجة الخلل في تكوين هذا الجين. وهذه الجينات محمولة على عدد معين من (الكروموسومات) يبلغ عددها ستة وأربعون (كروموسوم) في كل خلية من خلايا الجسم، ما عدا الحيوان المنوي والبويضة، فيحمل كل منهما ثلاثة وعشرين (كروموسوم) حتى إذا ما التقيا فإنهما يكوِّنان خلية كاملة من الأب والأم بها ستة وأربعين (كروموسوم). ومن خلال التقدم الكبير الذي حدث خلال عشر سنوات في مجال المناعة والهندسة الوراثية، أمكن معرفة الكثير من أسرار بعض الأمراض التي كان من الصعب علاجها، لأنها ناتجة من عيوب وراثية غير قابلة للعلاج. ب- ما هو العلاج الجيني؟ هو أحد تطبيقات الهندسة الوراثية فهو يقوم على إصلاح الخلل في الجينات، أو تطويرها، أو استئصال الجين المسبب للمرض واستبدال جين سليم به، وذلك بإحدى الطريقتين التاليتين:

أهم الأمراض التي تناولها العلاج الجيني.

الطريقة الأُولى: عن طريق الخلية العادية، وذلك بإدخال التعديلات المطلوبة وحقنها للمصاب. الطريقة الثانية: وتتم بإدخال تعديلات مطلوبة على الحيوان المنوي أو البويضة، وقد أثيرت الشبهات حول الطريقتين؛ حيث أثيرت على الأُولى شبهة أخلاقية وهي: هل البصمة الوراثية لهذا الشخص ستكون مطابقة لابنه؟ كما أثيرت على الثانية شبهة تأثير إدخال التعديلات على الحيوان المنوي أو البويضة؟ ج- أهم الأمراض التي تناولها العلاج الجيني. من أهم الأمراض التي تناولها العلاج الجيني هو مرض السرطان حيث نجح العلماء مؤخرًا في علاج فئران مصابة بالسرطان عن طريق العلاج الجيني، ويقول العلماء: إن التقنية ذاتها من الممكن وقد بدأت بالفعل بعض التطبيقات تأخذ طريقها إلى النجاح. د- منافع العلاج الجيني: 1 - الاكتشاف المبكر للأمراض الوراثية، وحينئذٍ التمكن من منع وقوعها أصلًا بإذن الله، أو الإسراع بعلاجها، أو التخفيف منها قبل استفحالها، حيث بلغت الأمراض الوراثية المكتشفة أكثر من ستة آلاف مرض، وبالتالي استفادة الملايين من العلاج الجيني. 2 - تقليل دائرة المرض داخل المجتمع وذلك عن طريق الاسترشاد الجيني، والاستشارة الوراثية. 3 - إثراء المعرفة العلمية عن طريق التعرف على المكونات الوراثية، ومعرفة التركيب الوراثي للإنسان بما فيه القابلية لحدوث أمراض معينة كضغط الدم والنوبات القلبية، والسكر ونحوها.

سلبيات العلاج الجيني وأخطاره

4 - الحد من اقتران حاملي الجينات المريضة، وبالتالي الحد من الولادات المشوهة. 5 - إنتاج مواد بيولوجية، وهرمونات يحتاجها جسم الإنسان للنمو والعلاج. هـ - سلبيات العلاج الجيني وأخطاره: تترتب على العلاج الجيني بعض السلبيات في عدة نواحي اجتماعية ونفسية، منها: 1 - من خلال كشف بعض الأمراض الوراثية للفرد يترتب عليه آثار كبيرة على حياته الخاصة، فيتعرض لعدم القبول في الوظائف، أو التأمين بصورة عامة، والامتناع عن الزواج منه رجلًا كان أو امرأة، فقراءة جينومه تؤثر فعلًا على عمله الوظيفي، وعلى زواجه، وعلى كثير من أموره الخاصة به، مما يترتب عليه إضرار به دون ذنب اقترفه، بل قد لا يصبح مريضًا مع أنه حامل الفيروس، أو جين مريض، فليس كل حامل للمرض مريض، ولا كل مرض متوقع يتحتم وقوعه. 2 - التأثير على ثقة الإنسان بنفسه، والخوف والهلع من المستقبل المظلم مما يترتب عليه أمراض نفسية خطيرة قد تقضي عليه بسبب الهموم، مع أن الإنسان مكرم لا يجوز إهدار كرامته، وخصوصيته الشخصية وأسراره. 3 - إن هناك عوامل أخرى بجانب الوراثة لها تأثير كبير على إحداث الأمراض الناتجة عن تفاعل البيئة ونمط الحياة، إضافة إلى الطفرات الجينية التي تحدث في البويضة أو الحيوان المنوي، أو فيهما بعد التلقيح. 4 - وهناك مفاسد أخرى إذا تناول العلاج الجيني الصفات الخلقية -بفتح الخاء- من الطول والقصر، والبياض والسواد، والشكل، ونحو ذلك، أو ما يسمى بتحسين السلالة البشرية، مما يدخل في باب تغيير خلق الله المحرم.

ثانيا: الحكم الشرعي للعلاج الجيني

5 - أن النقل الجيني في الخلايا الجرثومية التي ستولد خلايا جنسية لدى البالغين (حيوانات منوية وبويضات)، وذلك لأنّ التلاعب الوراثي لهذه الخلايا يمكن أن يوجد نسلًا جديدًا غامض الهوية ضائع النسب. 6 - الدمج الخلوي بين خلايا الأجنة في الأطوار المبكرة. 7 - احتمالية الضرر أو الوفاة، بسبب الفيروسات التي تستخدم في النقل الجيني. 8 - الفشل في تحديد موقع الجينة على الشريط الصبغي للمريض حيث قد يسبب مرضًا آخر ربما أشد ضررًا. 9 - احتمال أن تُسبب الجينة المزروعة نموًّا سرطانيًّا. 10 - استخدام المنظار الجيني في معالجة الأجنة قبل ولادتها قد يؤدي ذلك إلى مضاعفات خطيرة على حياة الأم والجنين. 11 - أخطار أخرى تخص الجينة المزروعة، والكائنات الدقيقة المهندسة وراثيًّا. 12 - استخدام العلاج الجيني في صنع سلالات تستخدم في الحروب البيولوجية المدمرة. ثانيًا: الحكم الشرعي للعلاج الجيني: أولًا: لما كان العلاج الجيني من حيث هو علاج للأمراض الوراثية فينطبق عليه من حيث المبدأ الحكم الشرعي التكليفي للعلاج التي سبق بيانها في حكم التداوي (¬1). ثانيًا: بالنظر إلى العلاج الجيني من حيث ما له من خصوصية، وما له من آثار وما يترتب عليه من مصالح أو مفاسد أو مخالفات للنصوص الشرعية، فبهذا الاعتبار ¬

_ (¬1) انظر المرجع السابق.

لا ينبغي أن نصدر حكمًا عامًا لجميع أنواع العلاج الجيني وحالاته؛ وذلك لأنّ الحكم الشرعي إنما يكون دقيقًا إذا كان متعلق الحكم معلومًا مبينًا واضحًا؛ لأنّ الحكم على الشيء فرع من تصوره. وبناءً على ما ذكرناه نقول بأن العلاج الجيني يسير تحت مستويين: المستوى الأوّل: حيث يتم معالجة أعراض المرض للفرد نفسه دون التعرض للأجيال التالية، أي: لا يكون هناك تغيير أو تبديل في الجينات، أو ما يترتب عليه من آثار إن كان في حدود العلاج أو منع المرض، أو إصلاح الخلل، أو العيب وعدم تغيير الشكل الفطري فهذا جائز وفق الضوابط التي سنذكرها في العلاج الجيني، وإن كان فيه عبث بالجينات، أو تغيير للهيئة، فهو محرم. المستوى الثاني: هو أن يتم العلاج في جينات داخل خلايا مشيجية، ومن هنا يمكن أن ينتقل العلاج إلى الأبناء، فهذا العلاج غير جائز شرعًا؛ لما فيه من غموض وعدم معرفة بالنتائج التي تترتب عليه. وقد صدر قرار من المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإِسلامي على ذلك ومما جاء فيه: وبعد النظر والتدارس والمناقشة فيما كتب حولها، وفي بعض القرارات والتوصيات التي تمخضت عنها المؤتمرات والندوات العلمية. يقرر المجلس ما يلي: أولًا: تأكيد القرار الصادر عن مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بشأن الاستنساخ برقم 100/ 2 / د/ 10 في الدورة العاشرة المنعقدة بجدة في الفترة من 23 - 28 صفر 1418 هـ. ثانيًا: الاستفادة من علم الهندسة الوراثية في الوقاية من المرض أو علاجه، أو تخفيف ضرره بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر أكبر.

ثالثا: ضوابط العلاج الجيني

ثالثًا: لا يجوز استخدام أي من أدوات علم الهندسة الوراثية ووسائله في الأغراض الشريرة وفي كل ما يحرم شرعًا. رابعًا: لا يجوز استخدام أي من أدوات علم الهندسة الوراثية ووسائله للعبث بشخصية الإنسان، ومسؤوليته الفردية، أو للتدخل في بنية المورثات (الجينات) بدعوى تحسين السلالة البشرية. خامسًا: لا يجوز إجراء أي بحث، أو القيام بأية معالجة، أو تشخيص يتعلق بمورثات إنسان ما إلَّا بعد إجراء تقويم دقيق وسابق للأخطار والفوائد المحتملة المرتبطة بهذه الأنشطة، وبعد الحصول على الموافقة المقبولة شرعًا مع الحفاظ على السرية الكاملة للنتائج، ورعاية أحكام الشريعة الإِسلامية الغراء القاضية باحترام حقوق الإنسان وكرامته. سادسًا: يجوز استخدام أدوات علم الهندسة الوراثية ووسائله في حقل الزراعة وتربية الحيوان شريطة الأخذ بكل الاحتياطات لمنع حدوث أي ضرر -ولو على المدى البعيد- بالإنسان، أو الحيوان، أو البيئة. ثالثًا: ضوابط العلاج الجيني: ذكرنا فيما سبق جواز العلاج عن طريق العلاج الجيني، لكن لا بد أن يكون الجواز الشرعي مرتبطًا بأخذ كل الاحتياطات العلمية والتقنية والفنية والمعملية والاحترازية، لتفادي كل الأضرار التي يمكن أن تترتب على العلاج الجيني وضرورة تفادي ما يترتب على الحيوانات المحورة وراثيًّا من الجينات الغريبة، فهذه الشريعة الإِسلامية مبنية على تحقيق المصالح ودرء المفاسد فأينما تكن المصلحة الحقيقية فثَمَّ شرع الله تعالى فهي عدل كلها، ورحمة كلها، وخير كلها، فأي شيء فيه الضرر والقسوة، أو الظلم والجور، أو المفسدة والمضرة فليس من هذه الشريعة، ومن هذه الضوابط ما يلي:

1 - أن تكون المنافع المتوخاة من العلاج محققة في حدود الظن الغالب، أما إذا كانت آثاره الإيجابية مشكوكًا فيها، أو بعبارة الفقهاء (مصالح موهومة)، فلا يجوز إجراؤه على الإنسان. 2 - أن تكون نتائج العلاج الجيني مأمونة لا يترتب عليه ضرر أكبر، فلا يؤدي إلى هلاك أو ضرر بالبدن، أو العقل، أو النسل، أو النسب. 3 - أن يكون العلاج في حدود الأغراض الشريفة، وأن يكون بعيدًا عن العبث والفوضى، وذلك بأن لا يكون لأجل إثبات قوة العلم فقط دون أن يترتب عليه منافع للبشرية. 4 - أن لا يكون العلاج الجيني في مجال التأثير على السلالة البشرية وعلى فطرة الإنسان السليمة شكلًا وموضوعًا، وبعبارة أخرى لا يؤدي إلى تغيير خلق الله -كما سبق- لأنّ الله تعالى خلق هذا الكون على موازين ومقادير وموازنات ثابتة فلا يجوز التلاعب بها. 5 - أن يكون العلاج بالطيبات لا بالمحرمات إلا في حالات الضرورة التي تقدر بقدرها. 6 - أن لا يؤدي العلاج إلى الإضرار بالبيئة، وإلى تعذيب الحيوان. 7 - أن لا يتجاوز التعامل بالعلاج الجيني حدود الاعتدال فلا يصل إلى حدود التبذير والإسراف. 8 - أن لا يجري أي علاج جيني على الإنسان إلّا بعد التأكد من نجاحه بنسبة كبيرة. 9 - أن يكون القائمون بهذه التجارب وبالعلاج الجيني من ذوي الإخلاص والاختصاص والتجربة والخبرة.

10 - أن تكون المختبرات الخاصة بالجينات والعلاج تحت مراقبة وإشراف الدولة، أو الجهات الموثوق بها؛ وذلك لخطورة هذه الاختبارات الجينية وآثارها المدمرة إن لم تكن تحت المراقبة، حتى إن بعض العلماء يخافون من هذه الاختبارات أكثر من مجال الذرة (¬1). ¬

_ (¬1) يرجع في ذلك: كتاب العلاج الجيني من منظور الفقه الإِسلامي أ. د. علي محيي الدين القره داغي، ود. محمَّد الروكي: "الاستفادة من الهندسة الوراثية في الحيوان والنبات" بحثه المقدم إلى الندوة الحادية عشرة للمنظمة الإِسلامية للعلوم الطبية.

النازلة الحادية عشرة: حكم تغيير الخلقة عن طريق العلاج الجيني

النازلة الحادية عشرة: حكم تغيير الخلقة عن طريق العلاج الجيني تناولنا فيما سبق نازلة في حكم جراحة التجميل، فما مدى العلاقة بين هذه النازلة وتغيير الخلقة عن طريق العلاج الجيني؟ نقول هناك فرق بين ذلك التغيير الحاصل على بعض أجزاء البدن عن طريق الجراحة التجميلية والتغيير عن طريق العلاج الجيني، فالأول يتم عن طريق إجراء عمليات تجميلية واقعة على الأعضاء المصابة بالآفة أو القبح، أما العلاج الجيني فيتم عن طريق التحكم في المصادر المتحكمة والأجهزة المتحكمة في الأعضاء، والمسؤولة عنها شكلًا ولونًا وكيفًا وكمًّا حسب سنة الله، وذلك بالتدخل في الجينات، أو الاستئصال أو التبديل بين جزئياتها، ومن هنا نقول: أولًا: إن أي علاج جيني يستهدف علاج الجينات المريضة والمشوهة لإعادتها إلى شكل أو وظيفة العضو السوية المعهودة له جائز شرعًا، وكذلك العلاج الجيني الذي يستهدف إصلاح عيب أو دمامة تسبب للشخص أذى عضويًّا أو نفسيًّا. ثانيًا: لا يجوز العلاج الجيني الذي يستهدف خروج الجسم أو العضو عن خلقته السوية. ثالثًا: لا يجوز تغيير الجنس، أو اللون، أو الشكل؛ لأنها من آيات الله تعالى التي تقوم على الحكم والتوازن والموازنات والسنن الربانية (¬1). ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: المراجع السابقة.

النازلة الثانية عشرة: استخدام الأجنة مصدرا لزراعة الأعضاء

النازلة الثانية عشرة: استخدام الأجنة مصدرًا لزراعة الأعضاء سبق أن بينا مدى مشروعية العلاج الجيني والضوابط المعتبرة عند استخدامه كطريقة مستحدثة من طرق العلاج. وأمَّا عن مسألة حكم استخدام الأجنة مصدرًا لزراعة الأعضاء، فقد بحثها مجلس المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بجدة وبعد الاطلاع على التقارير والتوصيات المقدمة بشأن هذه المسألة قرر ما يلي: أولًا: لا يجوز استخدام الأجنة مصدرًا للأعضاء المطلوب زرعها في إنسان آخر إلا في حالات بضوابط لا بد من توافرها: أ- لا يجوز إحداث إجهاض من أجل استخدام الجنين لزرع أعضائه في إنسان آخر، بل يقتصر الإجهاض على الإجهاض الطبيعي غير المتعمد والإجهاض للعذر الشرعي، ولا يلجأ لإجراء العملية الجراحية لاستخراج الجنين إلا إذا تعينت لإنقاذ حياة الأم. ب- إذا كان الجنين قابلًا لاستمرار الحياة، فيجب أن يتجه العلاج الطبي إلى استبقاء حياته والمحافظة عليها، لا إلى استثماره لزراعة الأعضاء، وإذا كان غير قابل لاستمرار الحياة فلا يجوز الاستفادة منه إلا بعد موته بالشروط الشرعية. ثانيًا: لا يجوز أن تخضع عمليات زرع الأعضاء للأغراض التجارية على الإطلاق. ثالثًا: لا بد أن يسند الإشراف على عمليات زراعة الأعضاء إلى هيئة مخصصة موثوقة. والله أعلم (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي. مجلة مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بجدة ع (6) قرار رقم (58/ 7)

النازلة الثالثة عشرة: التلقيح الاصطناعي

النازلة الثالثة عشرة: التلقيح الاصطناعي أولًا: تعريفه: التلقيح الاصطناعي هو: أن يؤخذ مني الرجل ويحقن داخل المهبل، أو يؤخذ مني الرجل والمرأة معًا ويوضع في طبق اختبارٍ ثم يزرع في الرحم. ثانيًا: طرق التلقيح الاصطناعي: الطريقة الأولى: التلقيح الاصطناعي الداخلي: وهو ما أُخذ فيه ماء الرجل وحقن في محله المناسب داخل رحم المرأة زوجة أو غيرها، ويسمى أيضًا بالإخصاب الداخلي أو التلقيح الإخصابي الذاتي. الطريقة الثانية: التلقيح الاصطناعي الخارجي (طفل الأنبوب): حيث يتم الإخصاب في وسط معملي: وهو ما أخذ فيه الماءان من رجل وامرأة زوجين أو غيرهما وجعلا في أنبوب أو طبق اختبار ثم تزرع في مكانها المناسب من رحم المرأة. ويسمى أيضًا: الإخصاب المعملي حيث يتم الإخصاب في وسط معملي. ثالثًا: الأسباب الداعية إلى التلقيح الاصطناعي: 1 - الأسباب الداعية إلى التلقيح الاصطناعي الداخلي: أ- ضعف الحيوانات المنوية لدى الزوج فيجمع المني ويركز ويتم إدخاله إلى داخل الرحم في فترة الإخصاب لدى الزوجة. ب- إذا كانت حموضة المهبل تقتل الحيوانات المنوية للزوج بصورة غير اعتيادية. ج- إذا كان هناك تضاد مناعي بين خلايا الزوج والزوجة.

رابعا: صور التلقيح الاصطناعي

د- إذا أصيب الزوج بالإنزال السريع أو العنة (عدم القدرة على الإيلاج). هـ - إذا كانت إفرازات عنق الرحم تعيق ولوج الحيوانات المنوية. و- إذا أصيب الزوج بمرض (سرطان) ويستدعي ذلك العلاج بالأشعة والعقاقير التي تؤدي إلى العقم، فتؤخذ دفعات من المني وتحفظ ثم تلقح الزوجة في الوقت المناسب. 2 - الأسباب الداعية إلى التلقيح الاصطناعي الخارجي: أ- قفل أو إصابة الأنابيب في الجهتين، وفشل محاولة إصلاحها جراحيّا، وهذا أهم الأسباب. ب- حدوث انتباذ في بطانة الرحم. ج- حدوث تضاد مناعي في جهاز المرأة التناسلي (الزوجة). د- حدوث تضاد مناعي في جهاز الرجل التناسلي (الزوج). هـ - عيوب شديدة في مني الزوج (قلة المني -قلة الحركة- كثرة الحيوانات المنوية الميتة. . . إلخ). و- أسباب مجهولة لدى الرجل أو لدى المرأة تسبب قلة الخصوبة. ز- إفرازات عنق الرحم المعادية للحيوانات المنوية. رابعًا: صور التلقيح الاصطناعي: 1 - صور التلقيح الاصطناعي الداخلي: أ- أن تؤخذ النطفة الذكرية من رجل متزوج (ولو كان ميتًّا) وتحقن في الموضع المناسب داخل مهبل الزوجة أو رحمها.

ب- أن تؤخذ نطفة من رجل وتحقن في الموضع المناسب من زوجة رجل آخر حتى يقع التلقيح داخليًّا، ويلجأ لهذه الصورة إذا كان الزوج عقيمًا. 2 - صور من التلقيح الاصطناعي الخارجي: أ- أن تؤخذ نطفة من زوج وبويضة من مبيض زوجته، فتوضعا في أنبوب اختبار طبي بشروط فيزيائية معينة حتى تلقح نطفة الزوج بويضة زوجته في وعاء الاختبار، ثم بعد أن تأخذ اللقيحة بالانقسام والتكاثر تنقل في الوقت المناسب من أُنبوب الاختبار إلى رحم الزوجة نفسها صاحبة البويضة لتعلق في جداره وتنمو. وهذه هي ما يسمى (طفل الأُنبوب)، ويلجأ لها عندما تكون الزوجة عقيمًا بسبب انسداد القناة التي تصل بين مبيضها ورحمها (قناة فالوب). ب- أن يجري تلقيح خارجي في أُنبوب الاختبار بين نطفة مأخوذة من زوج وبويضة مأخوذة من مبيض امرأة ليست زوجته يسمونها متبرعة ثم تزرع اللقيحة في رحم زوجته، ويلجأ إلى هذا الأسلوب عندما يكون مبيض الزوجة مستأصلًا أو معطلًا ولكن رحمها سليم قابل لعلوق اللقيحة فيه. ج- أن يجري تلقيح خارجي في أُنبوب اختبار بين نطفة رجل وبويضة امرأة ليست زوجته يسمونها متبرعة ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة متزوجة، ويلجأ إلى ذلك حينما تكون المرأة المتزوجة التي زرعت اللقيحة فيها تعطل مبيضها لكن رحمها سليم. د- أن يجرى تلقيح خارجي في وعاء الاختبار بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأةٍ تتطوع بحملها، ويلجأ لذلك حينما تكون الزوجة غير قادرة على الحمل لسبب في رحمها ولكن مبيضها سليم منتج، أو تكون غير راغبة في الحمل ترفًا فتتطوع امرأةٌ أخرى بالحمل عنها.

خامسا: الحكم الشرعي للتلقيح الاصطناعي

هـ - هذه الصورة كسابقتها إلّا أن المتبرعة بحمل اللقيحة هنا هي ضرة الزوجة. خامسًا: الحكم الشرعي للتلقيح الاصطناعي: أما الصورة الثانية من صور التلقيح الاصطناعي الداخلي وكذلك الصورة الثانية والثالثة والرابعة من صور التلقيح الخارجي فهي محرمة؛ لأنّ مصدر اللقيحة فيها متكون من مصدرين غير متزوجين، أو لأنها وضعت في عنق رحم امرأة ليست زوجةً. ويبقى الكلام في الصورة الأولى من صور التلقيح الاصطناعي الداخلي وكذلك الصورة الأولى من صور التلقيح الاصطناعي الخارجي فهذه اختلفت فيها أقوال العلماء: القول الأوّل: الجواز عند الحاجة بشروط هي: أ- أن يكون كشف العورة بقدر الضرورة. ب- وأن تتولى العلاج امرأة مسلمة إن أمكن وإلَّا فامرأةٌ غير مسلمة وإلَّا فطبيب مسلم ثقة، وإلَّا فغير مسلم. ج- عدم الخلوة عند العلاج. د- إتلاف ما زاد من الماءين. هـ - أن تتم عملية التلقيح بوجود الزوج نفسه ورضاه. و- اتخاذ كافة الاحتياطات اللازمة خشية اختلاط الأنساب، ويفضل التلقيح مباشرة. القول الثاني: التحريم مطلقًا. القول الثالث: إن هذه الصورة من مواطن الضرورة فلا يفتى فيها بفتوى عامة.

وأما مجمع الفقه الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي بمكة المكرمة (¬1) فقد أجازها عند الحاجة، إلَّا أنه نصح المسلمين الغيورين على دينهم ألَّا يلجؤوا إلى ممارستها (أي الصور الجائزة) إلَّا في حالة الضرورة القصوى، وبمنتهى الاحتياط والحذر من اختلاط النطف أو اللقاح؛ نظرًا لما في الصناعي بوجهٍ عام من ملابسات في الصور الجائزة شرعًا، ومن احتمال اختلاط النطف واللقاح في أوعية الاختبار، ولا سيما إذا كثرت ممارسته وشاعت وانتشرف. وأما أخذ الماء من الزوجين ووضعه في رحم زوجةٍ أخرى له بتلقيحٍ داخلي أو خارجي، فقد أجازها مجلس المجمع الفقهي بمكة المكرمة (¬2) التابع لرابطة العالم الإِسلامي في قراره الخامس الذي أصدره في دورته السابعة؛ وعلل ذلك بالحاجة، ثم تراجع عن هذا القرار وعلل سبب تراجعه بأن الزوجة التي زرعت فيها لقيحة بييضة الزوجة الأولى قد تحمل ثانيًا قبل انسداد رحمها على حمل اللقيحة من معاشرة الزوج لها في فترة متقاربة مع زرع اللقيحة، وهذا يوجب اختلاط الأنساب لجهة الأم الحقيقية لكل من الحملين والتباس ما يترتب على ذلك من أحكام، وذلك في الأمرين التاليين: 1 - أنه قد تلد في هذه الحالة توأمين، ولا نستطيع أن تميز ولد اللقيحة من ولد معاشرة الزوج، كما أننا لا نستطيع أن نعرف أم ولد اللقيحة التي أخذت منها البييضة من أم ولد معاشرة الزوج. 2 - أن أحد الحملين قد يموت علقة أو مضغة ولا يسقط إلَّا مع ولادة الحمل الآخر الذي لا يعلم أيضًا أهو ولد اللقيحة أم حمل معاشرة الزوج. ¬

_ (¬1) مجلة مجمع الفقه الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي (2/ 154) قرار رقم: 36 (2/ 8) بشأن التلقيح الاصطناعي وأطفال الأنابيب. (¬2) مجلة مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بجدة قرار رقم: ع 2/ 20 (4/ 5).

أما مجلس الفقه الإِسلامي المنبثق من منظمة المؤتمر الإِسلامي (¬1) فقد ذهب إلى تحريم هذه الحالة، ومنعها منعًا باتًّا لذاتها، أو لما يترتب عليها من اختلاط الأنساب وضياع الأمومة وغير ذلك من المحاذير الشرعية، ومما جاء في القرار ما يلي: * إن الأسلوب السابع (الذي تؤخذ فيه النطفة والبويضة من زوجين، وبعد تلقيحهما في وعاء الاختبار، تزرع اللقيحة في رحم الزوجة الأخرى للزوج نفسه حيث تتطوع بمحض اختيارها بهذا العمل عن ضرتها المنزوعة الرحم) يظهر لمجلس المجمع أنه جائز عند الحاجة، وبالشروط العامة المذكورة. * قلنا وقد تراجع المجمع عن الحكم بجواز الأسلوب السابع في القرار رقم (36) (¬2). ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) للمزيد بمعرفة هذه النازلة يمكن الرجوع إلى الأحكام الطبية المتعلقة بالنساء، د. محمَّد خالد منصور، وكتاب فقه القضايا الطبية المعاصرة للقره داغي والمحمدي، ومجلة مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بجدة قرار رقم: ع 2/ 20 (4/ 5) حول موضوع التلقيح الصناعي وأطفال الأنابيب.

النازلة الرابعة عشرة: استعمال أدوية منع الحيض والحمل

النازلة الرابعة عشرة: استعمال أدوية منع الحيض والحمل للمرأة الحائض أحكام تخصها، فهي مثلًا لا تصلي ولا تصوم ولا تطوف بالبيت، لكن قد تستعمل بعض النساء أدوية وطرقًا تمنع الحيض أو الحمل أو تنظمه لتتمكن من الصوم والطواف أو غير ذلك، فهل يجوز لها فعل ذلك؟ نقول أولًا: حكم استخدام الأدوية لمنع الحيض: لا حرج أن تأخذ المرأة حبوب منع الحيض أيام رمضان حتى تصوم مع الناس وفي أيام الحج حتى تطوف مع الناس ولا تتعطل عن أعمال الحج، وإن وجد غير الحبوب شيء يمنع الدورة فلا بأس بشرط أن يأذن الزوج بذلك (¬1) وألا يترتب على ذلك ضرر من الناحية الصحية. ثانيًا: منع الحمل وتنظيمه وتحديد النسل: 1 - الفرق بين منع الحمل وتنظيمه وتحديد النسل: أ- منع الحمل: هو استعمال الوسائل التي يظن أنها تحول بين المرأة وبين الحمل؛ كالعزل، وتناول العقاقير، ووضع اللبوس ونحوه في الفرج، وترك الوطء في وقت الإخصاب، ونحو ذلك. ب- تحديد النسل: هو التوقف عن الإنجاب عند الوصول إلى عدد معين من الذرية باستعمال وسائل يظن أنها تمنع من الحمل. ج- تنظيم الحمل: هو استعمال وسائل معروفة لا يراد من استعمالها إحداث العقم أو القضاء على وظيفة جهاز التناسل، بل يراد بذلك الوقوف عن الحمل فترة ¬

_ (¬1) هذا في الحالات العادية، أما حالات الخلاف بين الزوجين كحال المعلقة فلها وضع خاص.

ثالثا: حكم استخدام وسائل منع الحمل أو تنظيمه

من الزمن لمصلحة ما يراها الزوجان أو من يثقان به من أهل الخبرة. فالقصد من الأوّل: عدم التناسل أصلًا، سواء أصيب جهاز التناسل بعقم أم لا. والقصد من الثاني: تقليل عدد النسل بالوقوف به عند غاية، سواء أصيب جهاز التناسل بعد هذه الغاية بعقم أم لا. والقصد من الثالث: مراعاة حال الأسرة وشؤونها من صحة أو قدرة على الخدمة مع مراعاة الإبقاء على استعداد جهاز التناسل للقيام بوظيفته. 2 - بيان حكم هذه الحالات الثلاث: نقول أولًا: اختلف العلماء في حكم العزل (وهو أن الرجل إذا جامع زوجته ثم قرب إنزاله نزع من الجماع حتى يكون الماء خارج المكان لئلا تحمل). فقال بعضهم يجوز بلا كراهة، وقال غيرهم هو محرم، وقال آخرون يجوز مع الكراهة إن لم تكن هناك حاجة وأما معها فيجوز بلا كراهة. والصواب في هذه المسألة أنه يجوز للزوج أن يعزل عن زوجته برضاها، وذلك لأنّ لها حقًّا في الولد كما للرجل حق فيه، ولهذا كانت أحق بحضانته منه. ثالثًا: حكم استخدام وسائل منع الحمل أو تنظيمه: أما منع الحمل وقطعه بالكلية فهذا لا يجوز إلا إذا قرر الأطباء أن الحمل يسبب موت المرأة، أو تعب الأم بسبب الولادات المتتابعة، أو ضعف بنيتها، أو غير ذلك، ومما يدلّ على عدم الجواز ما يلي: 1 - ما علم من حث الشريعة على الإكثار من النسل والترغيب فيه. 2 - نهي الرسول عن الاختصاء والتبتل، فهذا وإن كان في حق الرجل فيقاس عليه المرأة.

وأما تنظيم الحمل فيجوز عند الحاجة قياسًا على العزل، إذا احتاجت المرأة إليه، إذا كانت صحتها لا تتحمل توالي الحمل المتقارب، أو كان الحمل يضر بطفلها الذي ترضعه، وكانت الحبوب لا تقطع الحمل وإنما تؤخره؛ فلا بأس بذلك بقدر الحاجة، ويكون ذلك بعد مراجعة الطبيب المختص. وقال بعض العلماء: لها أن تستعمل ما يمنع الحمل مدة الحولين إن أرادت أن تتم الرضاعة، والله أعلم. وقد صدر قرار مجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي بمكة المكرمة (¬1) حيث جاء فيه: "لا يجوز تحديد النسل مطلقًا، ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق؛ لأنّ الله تعالى هو الرازق ذو القوة المتين {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، أما إذا كان منع الحمل لضرورةٍ محققة ككون المرأة لا تلد ولادة عادية، وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الولد أو كان تأخيره لفترة لمصلحة يراها الزوجان، فإنه لا مانع حينئذ من منع الحمل أو تأخيره؛ عملًا بما جاء في الأحاديث الصحيحة وما روي عن جمع من الصحابة -رضوان الله عليهم- من جواز العزل، وتمشيًا مع ما صرح به الفقهاء من جواز شرب الدواء لإلقاء النطفة قبل الأربعين، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرورة المحققة" أ. هـ. وأيضًا قد صدر من مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بجدة (¬2) قرار جاء فيه: "أن مقاصد الزواج في الشريعة الإِسلامية الإنجاب والحفاظ على النوع ¬

_ (¬1) قرارات المجمع الفقهي الإِسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي بمكة المكرمة قرار رقم: 9 (1/ 3). (¬2) قرار رقم: 39 (1/ 5)، بشأن تنظيم النسل. انظر: مجلة المجمع العدد 4، (1/ 73).

الإنساني، وأنه لا يجوز إهدار هذا المقصد؛ لأنّ إهداره يتنافى مع نصوص الشريعة وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل والحفاظ عليه والعناية به باعتبار حفظ النسل أحد الكليات الخمسة التي جاء في الشرائع رعايتها قرر ما يلي: 1 - لا يجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب. 2 - يحرم استئصال القدرة على الإنجاب بين الرجل أو المرأة وهو ما يعرف بالإعقام أو التعقيم ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية. 3 - يجوز التحكم المؤقت للإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل، أو إيقافه لفترة معينة من الزمان إذا دعت إليه حاجة معتبرة شرعًا بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراض بشرط ألَّا يترتب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة، وألَّا يكون فيها عدوان على حمل قائم والله أعلم" أ. هـ.

النازلة الخامسة عشرة: ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالجراحة الطبية

النازلة الخامسة عشرة: ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالجراحة الطبية الجراحة الطبية في العصر الحديث تنوعت وتطورت بطريقة لم يسبق لها مثيل من قبل، وكل ذلك راجع إلى فضل الله ورحمته ثم إلى الجهود التي يقوم بها أهل الطب لخدمة الإنسانية. غير أن هذه العمليات الجراحية لها ضوابط شرعية تضبطها أشار إليها الفقهاء وهي مستقاة من أصول الشرع وقواعده سنعرضها في هذه النازلة. أولًا: شروط جواز الجراحة الطبية: 1 - أن تكون الجراحة مشروعة: فإن كانت غير مشروعة كجراحة التجميل التحسينية التي سبق الإشارة إليها في نازلة التجميل فلا يجوز للمريض أن يطلب فعلها ولا يجوز للطبيب إن يجيبه إلا بعد أن تكون تلك الجراحة مأذونًا بفعلها شرعًا؛ لأنّ الجسد ملك لله فلا يجوز للإنسان أن يتصرف فيه إلا بإذن المالك الحقيقي. 2 - أن يكون المريض محتاجًا إلى الجراحة: كأن يخاف على نفسه الهلاك أو تلف عضو من أعضاء جسده أو تخفيف الألم ونحو ذلك. 3 - أن يأذن المريض أو وليه بفعل الجراحة: فإذا رفض المريض ولو كان يتألم فلا يجوز للطبيب أن يجري الجراحة حتى يأذن له. 4 - أن تتوفر الأهلية في الطبيب الجراح: ويتحقق هذا الشرط بوجود أمرين: أن يكون ذا علم وبصيرة بالعملية المطلوبة، وأن يكون قادرًا على تطبيقها وأدائها على الوجه المطلوب، فإن كان جاهلًا بالكلية كأن تكون خارجة عن اختصاصه أو جاهلًا ببعضها فإنه يحرم عليه فعلها، ويعتبر إقدامه عليها في حال جهله بمثابة الجاني المعتدي على الجسم المحرم بالقطع والجرح.

5 - أن يغلب على ظن الطبيب الجراح نجاح الجراحة: بمعنى أن تكون نسبة نجاح العملية ونجاة المريض من أخطارها أكبر من نسبة عدم نجاحها وهلاكه، فإذا غلب على ظنه هلاك المريض بسببها فإنه لا يجوز له فعلها. 6 - ألا يوجد البديل الذي هو أخف ضررًا من الجراحة: كالعقاقير والأدوية، فإن وجد البديل لزم المصير إليه صيانة لأرواح الناس وأجسادهم؛ حتى لا تتعرض لأخطار الجراحة وأضرارها ومتاعبها كالقرحة الهضمية، في بدايته يتم علاجه بالعقاقير والتي ثبت مؤخرًا تأثيرها على القرحة وأنها أنجح العلاجات وأفيدها. أما إذا كان الدواء أشد خطرًا وضررًا ولا ينفع في علاج الداء أو زواله، فإنه لا يعتبر موجبًا للصرف عن فعل الجراحة كبعض الأمراض العصبية حيث يمكن علاج المريض بالعقاقير المهدئة، لكنها لا تنفع في زوال الداء، وقد تسبب الإدمان فوجود البديل على هذا الوجه وعدمه سواء. 7 - أن تترتب المصلحة على فعل الجراحة (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: المغني لابن قدامة (5/ 538)، وشرح السُّنَّة للبغوي (12/ 147)، وقواعد الأحكام (1/ 4). وأحكام الجراحة الطبية: محمَّد بن محمَّد المختار الشنقيطي، والوجيز في أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها: فهد بن عبد الله الحزمي.

النازلة السادسة عشرة: في الاستنساخ

النازلة السادسة عشرة: في الاستنساخ هذه النازلة تعد من أهم النوازل التي ينبغي النظر فيها بنظرة متأنية؛ حيث كثر اللغط فيها وتناولتها وسائل الإعلام جميعها المقروءة منها والمسموعة، وقبل بيان حكم هذه النازلة لا بد من التعريف بها من منظور علمي أولًا ثم عرضه بعد ذلك على الإِسلام حتى يتبين حكم الإِسلام فيها. أولًا: تعريفه: الاستنساخ هو: زرع خلية إنسانية أو حيوانية جسدية تحتوي على المحتوى الوراثي كاملًا في رحم طبيعي أو صناعي؛ وذلك بغرض إنتاج كائن حي (حيوان أو إنسان) صورة طبق الأصل من نظيره صاحب الخلية الأولى (¬1). ثانيًا: أقسامه: ينقسم الاستنساخ إلى قسمين: أ- الاستنساخ البشري. ب- الاستنساخ الحيواني والنباتي. والاستنساخ البشري هو محاولة تقديم كائن أو خلية أو جزيء بحيث تستطيع من غير نقصٍ ولا إضافة لمحتوياتها الوراثية أن تتكاثر عن غير طريق التكاثر التلقيحي، ويطلق عليه النسخ والتكاثر الخضري أو العذري أو اللاجنسي والتكاثر بالخلايا الجسدية، وخلاصته طلب التكاثر بغير الاتصال المشروع وإنما بطرق مخصوصة وهو ثلاثة أنواع: ¬

_ (¬1) انظر: الاستنساخ البشري لتوفيق علوان، (ص: 13).

ثالثا: ذكر بعض فوائد الاستنساخ كما يقرره المؤيدون له

1 - الاستنساخ الجنيني: وهو العمل على فصل خلايا بييضة ملقحة بخلية منوية بعد انقسامها إلى خليتين أو أكثر لتصبح كل خلية منها أيضًا صالحة للانقسام أيضًا بعد تهيئة ظروف نموها وانقسامها، وهكذا يتوالى الانقسام والفصل في كل خلية ثم تزرع بعض هذه الخلايا في رحم الأم، ويتم تبريد الباقي ليحتفظ به إلى وقت اللزوم. 2 - الاستنساخ العضوي: وهو العمل على استنساخ العضو الذي يحتاج إليه الإنسان في حياته حال حدوث عطب في هذا العضو. 3 - الاستنساخ الخلوي: وهو زرع خلية جسدية (تحتوي على 46 كروموزوم) مكان نواة منزوعة من بييضة ليتولى السيتوبلازم المحيط بالنواة الجديدة حثها على الانقسام والتنامي من طور إلى طور من أطوار الجنين الذي يكون بعد ولادته صورة مطابقة لصاحب تلك الخلية الجسمية من الناحية المظهرية (¬1). ثالثًا: ذكر بعض فوائد الاستنساخ كما يقرره المؤيدون له: ذهب من يؤيد الاستنساخ إلى إمكانية الاستفادة منه بضوابط هي: 1 - أنه حل فاعل للرجال المصابين بالعقم الذين لا يوجد في منيهم خلايا منوية، وكذلك للنساء اللواتي لا تقبل بيضاتهن التلقيح، فالاستنساخ هو الحل الوحيد حتى الآن لأمثال هؤلاء. 2 - أن بعض الرجال والنساء يفقدون قدرتهم على الإنجاب؛ نتيجة تلقيهم علاجًا كيميائيًّا أو إشعاعيًّا بسبب إصابتهم بمرض السرطان، وتعتبر هذه الوسيلة الوحيدة لهم كي ينجبوا كما في الحالة الأولى. ¬

_ (¬1) انظر: رؤية إسلامية لبعض المشكلات الطبية المعاصرة بحث الاستنساخ لحسين الشاذلي (2/ 267)، وبحث الاستنساخ البشري بين الإقدام والإحجام لأحمد رجائي الجندي (2/ 133 - 135).

3 - أن الاستنساخ يمكن أن يكون حلًا لبعض المرضى من الرجال والنساء الذين يعانون من الفشل الكلوي؛ حيث إن هؤلاء يعانون بشدة من نقص الأعضاء المتوفرة ويحتاجون لثلاث جلسات أسبوعية على الأقل لعمل الغسيل الكلوي الذي يستغرق ساعات طويلة، ولو حالفهم الحظ ووجدوا متبرعين للكلية فسوف تعمل بأجسادهم لعدة سنوات فقط ثم سيحتاجون بعدها لعملية نقل كلى أخرى بسبب رفض جسمهم لها بسبب اختلاف فصائل الأنسجة. على حين لو تمكن الإنسان من عمل نسخة منه فإنه يضمن الحصول على أعضاء كثيرة خلقها الله مزدوجة عند الإنسان مثل الكلى والرئتين والمبايض أو الخصيتين، بل حتى يمكنه الحصول على جزء من الكبد أو نخاع العظم دون التأثير على الإنسان المنسوخ مع ضمان استمرار عمل الأعضاء المنقولة في المريض بكفاءة؛ لأنها من نفس الفصيلة. 4 - أن العباقرة في عالمنا محدودون، وهم يقدمون للبشر خدمات كبيرة وربما مات العالم وترك فراغًا لا يسد إلا بعد فترة من الزمان، فلو أمكن أخذ عدة نسخ منه لأمكن إنجاب عباقرة آخرين لمصلحة البشرية. 5 - في حالة فقدان أي زوجين لطفل أو أكثر من أطفالهم بسبب المرض أو الحوادث يمكن التخفيف من هذه المصيبة بأخذ خلية ومن ثم زرعها في الرحم بعد إجراء العمليات المناسبة فتحصل على نسخة طبق الأصل من الطفل المفقود. 6 - اختيار جنس الجنين في المستقبل حسب الظروف العائلية؛ لأنّ الطفل يكون نسخة طبق الأصل من الخلية الملقحة بالبييضة. هذه أبرز الفوائد التي يمكن الحصول عليها من خلال هذه التقنية -بغض النظر عن حكمها الشرعي-.

رابعا: الاعتراضات الواردة على الاستنساخ

رابعًا: الاعتراضات الواردة على الاستنساخ: 1 - أن الاستنساخ مدعاة لتكثير الجريمة وانتشار الفساد وتضييع الحقوق حيث يصعب التعرف على الجاني في الجريمة التي يكون الدليل فيها بصمات الأصابع أو حمض النوويك وهو دليل يفي بتحديد شخص واحد تمامًا حتى الآن، وكذلك في القضاء حيث يلتبس على الشهود الجاني، والزوجة قد يتعذر عليها التفريق لا سيما إذا كانت حديثة الزواج وهكذا الأمور الأخرى. 2 - أن هناك التباسًا وإشكالًا كبيرًا في علاقة المستنسخ، فلو صنعت عذراء نسخة لها من أحد خلاياها ثم أودعت في رحمها لحملت هذه العذراء، فكيف يكون الحمل شرعيًّا وهي لا زوج لها؟ وما علاقتها بالمولودة؟ هل ولدت نسختها أو توأمتها (أختها) أو ابنتها؟ 3 - أن الاستنساخ مدعاة لفتح أبواب شائكة وقضايا معقدة وأمور تتنافى مع الشرع ومن ذلك: 1 - إحداث نسخة بعد موت الشخص ولو بعد عشرات السنين وبعد توزيع التركة. 2 - قد تستغني المرأة عن الزواج الشرعي للحصول على الولد؛ حيث يتم تخصيب بيضتها بخلية من جسدها ثم الحصول على الطفل بلا حاجة للأب، وهذا يؤدي لخلخلة اجتماعية ونفسية معقدة حيث يفقد الطفل العواطف الأبوية. 3 - أن ذلك مدعاة لشيوع الفاحشة، حيث ترغب النساء في الحصول على طفل لها طبق الأصل من رجل مميز كلاعب أو فنان أو عالم بالحصول على خلية منه والقيام بالتخصيب كما هو حاصل في بنوك العباقرة في الغرب!

خامسا: الحكم الشرعي في الاستنساخ

4 - ينجم عن الاستنساخ اختلال التوازن السكاني بسبب الاستغناء عن أحد الجنسين وفقدان التنوع الذي هو أساس المجتمع فالاختلاف حكمة إلهية. 5 - قد يؤدي الاستنساخ إلى إنتاج أشخاص مشوهين أو مجرمين لديهم الاستعداد للإفساد أو التخريب. 6 - إمكانية التلاعب بالجينات والخلايا والأجنة حسب الرغبات والأهواء واستعمالها للكسب والتجارة، وهذا كله مسخ للإنسان وامتهان لكرامته. 7 - احتمال حدوث خلل تقني أثناء إجراء عملية الاستنساخ مما ينتج عنه تشوهات جسمية وعقلية ونفسية لم نسمع بها من قبل. 8 - استبدال الطريقة الطبيعية للتكاثر وعمارة الأرض، واختلال النظم الاجتماعية كالزواج والأسرة والأبوة والبنوة والميراث وغير ذلك من أسس النسيج الاجتماعي (¬1). خامسًا: الحكم الشرعي في الاستنساخ: أولًا: الاستنساخ النباتي والحيواني: يختلف الاستنساخ النباتي والحيواني كثيرًا عن الاستنساخ البشري؛ لأنّ هذه المخلوقات جاءت لمصلحة البشر ومسخرة لخدمته والانتفاع بها، بخلاف بني آدم الذين كرمهم الله سبحانه. وقد ذهب عامة الفقهاء المعاصرين إلى جواز الاستفادة من تقنية الاستنساخ في غير البشر بما يعود عليهم بالنفع؛ لأنّ الشريعة جاءت بتحصيل مصالح العباد وتكثيرها ودفع المفاسد وتقليلها. ¬

_ (¬1) انظر: كتاب قضايا طبية معاصرة (2/ 97 - 99) مجلة مجمع الفقه الإِسلامي ع 10 (3/ 324 - 327) بحث الاستنساخ صالح الكريم.

ثانيا: الاستنساخ البشري

وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي: "يجوز شرعًا الأخذ بتقنيات الاستنساخ والهندسة الوراثية في مجالات الجراثيم وسائر الأحياء الدقيقة والنبات والحيوان في حدود الضوابط الشرعية بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد" (¬1). ثانيًا: الاستنساخ البشري: يحرم شرعًا هذا النوع من الاستنساخ، فلا يجوز البتة أن يدخل الإنسان تحت هذه العملية المحرمة، ولا نعلم أحدًا من علماء المسلمين أفتى بالجواز، بل حتى رهبان النصارى وعقلاء الغرب قد وقفوا في وجهها أيّما وقوف، وقد اتفقت كلمة المجامع الفقهية على تحريم الاستنساخ البشري كما في مجمع الفقه الإِسلامي في دورته العاشرة المنعقد بجدة والممثلة فيه جميع الدول الإِسلامية قد منعوا الاستنساخ البشري منعًا باتًا، وأكدوا ذلك المنع في أول قرارات ذلك المجلس الموقر في دورته الخامسة عشرة والمنعقدة في مكة المكرمة. والأدلة على تحريمه كثيرة جدًّا ونذكر لك طرفًا منها: الأوّل: قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)} [الإنسان: 2]. ووجه الدلالة أن النطفة الأمشاج هي لقيحة مكونة من حيوان منوي ذكري وبويضة أنثوية والله تعالى يبين أن سنته في إيجاد الإنسان منحصرة في ذلك بهذه الطريقة فيكون مخالفتها حرامًا؛ ذلك أنه متى ما أمكن إيجاد الإنسان بطريقة أخرى خرجت الآية عن كونها خبرًا إلى أنها بيان حكم شرعي كما في قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]. ¬

_ (¬1) مجلة مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بجدة (ع 10، قرار رقم: 94 (2/ 10).

الثاني: قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]، ووجه الدلالة أن الزواج هو أساس التكاثر في الشرع وهو سبيل إيجاد المودة والرحمة، وفي الاستنساخ مساس بالعلاقة المتينة التي أوجدها الله تعالى في هذا الزواج ليكون من آثاره حصول الأولاد وانتسابهم. الثالث: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 189]، ووجه الدلالة أن الله تعالى يخبر هنا عن الطريق الشرعي للحمل وهو غشيان الرجل لزوجته، وهذا فيه بيان أن كل طريق يخالف ذلك ويضاده فإنه جنوح عن المسلك الشرعي، والاستنساخ حقيقته أنه خروج عن هذا الهدي الشرعي وتنكب عن الصراط المستقيم ودخول في طرق هوجاء عوجاء لا علاقة لها بالآداب الشرعية ولا المناهج المرعية. الرابع: قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72]، ووجه الدلالة أن الله تعالى جعل لنا طريقًا واحدًا للتكاثر وهو التزاوج فقط، فالبنون والحفدة لا طريق شرعًا لتحصيلهم إلا بذلك وهذا من نعمة الله تعالى وقوله تعالى: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} دليل على أن كل طريق لطلب التكاثر بغير المقرر شرعًا في أول هذه الآية فإنه من الباطل الذي يجب علينا أن لا نؤمن به؛ والاستنساخ البشري من ذلك الباطل فإنه يدخل تحت عموم لفظة (الباطل)؛ لأنه طلب للتكاثر بغير الطريق الشرعي وهو التزاوج، فالاستنساخ باطل بنص القرآن والباطل لا يكون إلا حرامًا.

الخامس: قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187]. والمراد بما كتب الله لنا، أي: الولد على قول الجمهور، ومعلوم أن الولد لا يطلب إلا بالمباشرة في الفرج لقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} فدلّ ذلك على أن كل طريق لطلب الولد غير هذه المباشرة المأمور بها شرعًا فإنه لا يجوز، فابتغاء ما كتب الله لنا من الولد لا يكون إلا بذلك وهذا هو الطريق الشرعي وما عداه فباطل زائف ومن ذلك الاستنساخ البشري فإنه طلب للنسل بغير المباشرة فهو حرام. السادس: حديث معقل بن يسار -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ فَإِنِّي مُكاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ" (¬1). فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - للتكاثر طريقًا واحدًا وهو التزوج فقط، فلا تطلب المكاثرة بأي طريق من الطرق التي يمليها علينا أطباء الغرب الذين لا يحكمهم دين ولا تؤدبهم شريعة، فالأمر بالتزوج والإخبار بأنّه - صلى الله عليه وسلم - سيكاثر بنا الأمم يوم القيامة دليل على أنه لا تكاثر شرعًا إلا بهذا الطريق الوحيد، والاستنساخ لا يحمل هذه الخاصية فهو حرام لأنه يفضي إلى ترك المأمور به شرعًا والله أعلم. السابع: أن النسب والمحافظة عليه يعتبر إحدى الضرورات الخمس التي جاءت كل الشرائع بالمحافظة عليها، وهو أحد الضوابط الجوهرية التي تعصم من اقتحام المخاطر غير المحصورة، والإقدام على تطبيق الاستنساخ في الإنسان لا ينفك عن الوقوع في تجهيل الأنساب وانقطاع التناسل الذي ناط الله تعالى به القرابة بأنواعها، وقد تناول الحظر صورًا عديدة تؤدي لجهالة النسب أو لإدخال التنازع فيه ¬

_ (¬1) رواه أحمد (3/ 158)، وابن حبّان (4028)، والطبرانيُّ في الأوسط (5099) عن أنس -رضي الله عنه-، انظر: خلاصة البدر المنير (1908)، والإرواء (1784). ورواه أبو داود في النكاح، باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء (2050)، والنسائيُّ في النكاح، باب كراهية تزويج العقيم (6/ 65) عن معقل بن يسار -رضي الله عنه- بلفظ: "الأمم" بدل "الأنبياء"، وصححه الحاكم (2/ 162) ووافقه الذهبي.

فالاستنساخ البشري يفضي إلى اختلاط الأنساب وانقطاع التناسل وهذا محرم شرعًا وقد تقرر في القواعد أن ما أفضى إلى الحرام فهو حرام. الثامن: أن الطريق الشرعي في الإنجاب هو التزاوج، وأي طريقة للإنجاب بغير ذلك فإنها تكون مصادمة لمقصود الشارع، والاستنساخ يحصل به الإنجاب من غير اتصالٍ بين الذكر والأنثى على الوجه الشرعي فيكون مصادمًا لمقصود الشارع وما صادم مقصود الشارع فهو حرام لا يجوز الإقدام عليه. التاسع: أن الله تعالى قد كرم الإنسان فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء: 70]، فأي فعل ينافي هذا التفضيل والتكريم فإنه ينهى عنه، وبناء عليه فلا بد من استشعار خطورة النظر إلى الإنسان وكأنه مما يتخذ للتكاثر بما يشبه التمول، وكأنه من السلع الخاضعة للتنمية، فلا يجوز أن يجعل الإنسان محلًّا للتصرفات المهينة القبيحة المستهجنة كما هو حاصل في مسألة الاستنساخ البشري، وعلى ذلك فهو حرام؛ لأنه مفضي إلى إهانة هذا الإنسان، ولأنه منافٍ لمقتضى تكريمه وتفضيله على سائر الخلق. العاشر: أنه قد تقرر شرعًا أن سد الذرائع المفضية إلى الممنوع أصل من أصول هذا الدين الحنيف، فأي وسيلة تفضي إلى الوقوع في الحرام فإنها حرام، والاستنساخ البشري يفضي إلى استئجار الأرحام وهو حرام، ويفضي إلى ضياع النسب وهو حرام ويفضي إلى إهانة الإنسان وهو حرام، ويفضي إلى ترك التزوج وليس ترك الزواج من دين الإِسلام في شيء، ويفضي إلى تعطيل النفقة الواجبة؛ لأنّ هؤلاء المستنسخين لا يعرفون لهم إبًا ولا أمًا، فمن الذي سينفق عليهم، وهذا وقوع في إهمالهم وعدم وجود من يراعيهم ويتفطن لأحوالهم فيبقون همجًا رعاعًا عالة على المجتمع وهذا كله لا يجوز، ويفضي أيضًا إلى الانتساب لغير الأب وهو محرم التحريم القاطع في شريعتنا،

ويفضي أيضًا إلى انقطاع العلائق بين الأصول والفروع؛ فلا تراحم ولا توادد ولا شفقة ولا إحسان، ويفضي أيضّا إلى تفكك المجتمع لنشوء شريحة فيه لا يعرفون لهم أبًا ولا أمًا، وهذا يفضي إلى تصدع نواة المجتمع ووهنه وضعفه وذهاب هيبته وكلمته، ويفضي أيضًا إلى تعطيل المواريث أو إعطائها من لا يستحقها شرعًا، ويفضي إلى انتهاك حرمة المرأة وإهانتها وكشف عورتها لزرع هذه اللقيحات فيها، ويفضي إلى افتتان العقول الضعيفة في شأن انفراد الله تعالى بالخلق والإيجاد فهذه بعض ما يفضي له الاستنساخ البشري؛ وحيث كان يفضي إلى هذه الأشياء فلا شك حينئذٍ في تحريمه. الحادي عشر: أن المتقرر شرعًا أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والمفاسد في الاستنساخ البشري كثيرة كما ذكرنا لك طرفًا منها، ولو نظرنا إلى مصالحه لما وجدنا أنها معتبرة شرعًا، فلو سلمنا جدلًا وتنزلًا أن فيه مصلحة فإنها تكون مغمورة وليست بشيء في جنب هذه المفاسد التي لا يقوم لها شيء فتنزيلًا على هذه القاعدة فإن الواجب سده وإغلاق أبوابه بإحكام وزجر فاعليه وتعزيرهم ومعاقبتهم العقوبة البليغة التي تردعهم وأمثالهم عن معاودة مثل ذلك. الثاني عشر: أن المتقرر شرعًا أن الشريعة جاءت لتقرير المصالح وتكميلها وتقليل المفاسد وتعطيلها، وحيث كان الاستنساخ البشري يحمل المفاسد الكثيرة فإن الواجب شرعًا منعه؛ لأننا بمنعه نعطل المفاسد التي يتضمنها هذا الأمر. ومما جاء في قرارات المجمع الفقهي (¬1) بعد تعريفه للاستنساخ والأبحاث التي قدمت بصدده ما يلي: وبناء على ما سبق من البحوث والمناقشات والمبادئ الشرعية التي طرحت على مجلس المجمع، قرر ما يلي: ¬

_ (¬1) مجلة مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بجدة (ع 10، قرار رقم: 94 (2/ 10).

أولًا: تحريم الاستنساخ البشري بطريقتيه المذكورتين أو بأي طريقة أخرى تؤدي إلى التكاثر البشري. ثانيًا: إذا حصل تجاوز للحكم الشرعي المبين في الفقرة (أولًا) فإن آثار تلك الحالات تعرض لبيان أحكامها الشرعية. ثالثًا: تحريم كل الحالات التي يقحم فيها طرف ثالث على العلاقة الزوجية سواء أكان رحمًا أم بييضة أم حيوانًا منويًّا أم خلية جسدية للاستنساخ. رابعًا: يجوز شرعًا الأخذ بتقنيات الاستنساخ والهندسة الوراثية في مجالات الجراثيم وسائر الأحياء الدقيقة والنبات والحيوان في حدود الضوابط الشرعية بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد. خامسًا: مناشدة الدول الإِسلامية إصدار القوانين والأنظمة اللازمة لغلق الأبواب المباشرة وغير المباشرة أمام الجهات المحلية أو الأجنبية والمؤسسات البحثية والخبراء الأجانب للحيلولة دون اتخاذ البلاد الإِسلامية ميدانًا لتجارب الاستنساخ البشري والترويج لها (¬1). ¬

_ (¬1) للمزيد من التعرف على هذه النازلة انظر: الاستنساخ قنبلة العصر للمؤلف د. صبوي الدمرداش، دار النشر، مكتبة العبيكان، والاستنساخ هل بالإمكان تنسيل البشر للمؤلف د. محمَّد صادق صبور. دار النشر، دار الأمين، وكتاب برمجة الجنس البشري والحيواني والنباتي للمؤلف د. خليل البدوي، دار النشر، دار الأمين، وكتاب الاستنساخ بين العلم والدين للمؤلف د. عبد الهادي مصباح، دار النشر، الدار المصرية اللبنانية، وقرارات المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بجدة والأبحاث التي قدمت بصدده، العدد 10، قرار رقم: 94 (2/ 10).

النازلة السابعة عشرة: البييضات الملقحة الزائدة على الحاجة

النازلة السابعة عشرة: البييضات الملقحة الزائدة على الحاجة لقد سبق بيان الحكم الشرعي في التلقيح الصناعي وذكرنا ذلك مفصلًا، وقد ضمنا هذا الحكم الشرعي قرار المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بخصوص هذه النازلة، لكن قد يبقى بعد إتمام عملية التلقيح الاصطناعي بويضات زائدة، فهل يمكن الاحتفاظ بها للاستفادة منها مرة أخرى؟ نقول بأنّه لا مانع من الاحتفاظ بها لإجراء عملية أخرى للتلقيح صناعيًّا لصاحب النطفة أو صاحبة البويضة، أو لإجراء الفحوصات التي قد يحتاج إليها صاحب النطفة أو صاحبة البويضة، بشرط أمن وقوع بعض التجاوزات؛ لأنه قد يؤدي الاحتفاظ بهذه الأشياء في الأماكن المخصصة لها في أحيانٍ كثيرة إلى تلاعب بعض عادمي الوازع الديني والأخلاقي من الأطباء. على أن التخلص من هذه النطفة أو البويضة فور انتهاء عملية التلقيح أولى وأسلم على كل حال، ومما جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي بشأن هذه النازلة ما يلي: أولًا: في ضوء ما تحقق علميًّا من إمكان حفظ البييضات غير الملقحة للسحب منها، يجب عند تلقيح البييضات الاقتصار على العدد المطلوب للزرع في كل مرة؛ تفاديًا لوجود فائض من البييضات الملقحة. ثانيًا: إذا حصل فائض من البييضات الملقحة بأي وجه من الوجوه تترك دون عناية طبية إلى أن تنتهي حياة ذلك الفائض على الوجه الطبيعي. ثالثًا: يحرم استخدام البييضة الملقحة في امرأة أخرى، ويجب اتخاذ الاحتياطات الكفيلة بالحيلولة دون استعمال البييضة الملقحة في حمل غير مشروع (¬1). ¬

_ (¬1) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي، مجلة المجمع ع 6 (3/ 1791) قرار رقم: 55 (6/ 6).

النازلة الثامنة عشرة: التأمين الصحي واستخدام البطاقات الصحية

النازلة الثامنة عشرة: التأمين الصحي واستخدام البطاقات الصحية تمهيد: الإِسلام أكثر الشرائع كلها حرصًا على الدعوة إلى التعاون والتآزر في تفريج الكروب وتخفيف وقعها، فمن شعائره أن من نفَّس عن مؤمن كربة في الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، وأن على المؤمن أن يكون للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وأن على المؤمنين في توادهم تراحمهم وتعاطفهم أن يكونوا كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. ولم يقف الإِسلام في الأمر بالتعاون والتكافل عند حدّ المشاركة الوجدانية، بل إنه أرسى مبادئ تخطى بها هذه الحدود، وانفرد بها عن أي نظام آخر، ويكفي مثلًا لذلك أن يشار إلى نظام التآخي بين المهاجرين والأنصار، ونظام تكافل العاقلة، ونظام كفالة الغارمين بإعطائهم سهمًا من مصارف الزكاة المفروضة فرضًا. أولًا: تعريف التأمين الصحي: التأمين الصحي نوع من أنواع التأمين الاجتماعي يقوم على أساس تقديم مزايا للمؤمن عليهم في الحالات التي يحددها نظام التأمين نظير اشتراكات، أو أقساط تدفع مقدمًا، وبصفة دورية، ويساهم في دفعها العامل، وصاحب العمل، وفي بعض الدول تساهم الدولة في ذلك. وقيل أيضًا في تعريفه: التأمين الصحي هو نمط من أنماط التأمين الاجتماعي الذي يهتم مباشرة بالعوارض الاجتماعية ذات المنشأ الفسيولوجي، كالمرض المؤقت والعجز الصحي والشيخوخة، ويأخذ هذا الاهتمام مظهر الرعاية الطبية العينية من جهة، وتوفير البديل النقدي خلال فقدان الدخل من جهة أخرى.

ثانيا: أنواع التأمين الصحي

ثانيًا: أنواع التأمين الصحي: ينقسم التأمين الصحي إلى خمسة أنواع: النوع الأول: التأمين الصحي الاجتماعي: وهو الذي تقوم به الدولة لمصلحة الموظفين والعمال، فتؤمنهم من إصابة المرض والشيخوخة ويسهم في حصيلته كل من المستفيدين وأرباب الأعمال والدولة بنسب محددة، ويكون -في الغالب- إجباريًّا لا يقصد من ورائه تحقيق الربح. النوع الثاني: التأمين الصحي التجاري (التأمين من المرض): وهو عقد بين فرد أو مؤسسة وبين شركة تأمين تجاري، تلتزم شركة التأمين بمقتضاه أن تدفع مبلغًا معينًا دفعة واحدة أو على أقساط، وبأن ترد مصروفات العلاج وثمن الأدوية كلها أو بعضها من المستفيد من التأمين إذا مرض خلال مدة محددة، وذلك في مقابل التزام المؤمن له بدفع أقساط التأمين المتفق عليها. النوع الثالث: التأمين الصحي التعاوني: وهو عقد بين فرد أو مؤسسة وبين شركة تأمين تعاوني ينص على أن يدفع المؤمن له مبلغًا أو عدة أقساط، مقابل أن تلتزم هذه الشركة بأن تدفع له مصاريف العلاج وثمن الأدوية -كلها أو بعضها- إذا مرض خلال مدة التأمين، وفي الأماكن المحددة بالوثيقة، وبأن توزع على حملة الوثائق -وفق نظام معين- كل أو بعض الفائض الصافي السنوي الناتج من عمليات التأمين. النوع الرابع: التأمين الصحي التبادلي: وهو اتفاق بين جماعة على التبرع بمقادير متساوية أو متفاوتة بغرض علاج من يمرض منهم من هذه الأموال. النوع الخامس: التأمين الصحي المباشر: وهو: عقد بين طرفين يلتزم به الطرف الأول (المستشفى) بعلاج الطرف الثاني (فردًا كان أو جماعة) من مرض معين أو

ثالثا: حكم كل نوع من أنواع التأمين الصحي

الوقاية من المرض عامة، مقابل مبلغ مالي محدد يدفعه إلى الطرف الأول دفعة واحدة أو على أقساط). ثالثًا: حكم كل نوع من أنواع التأمين الصحي: النوع الأول: التأمين الصحي الاجتماعي: لا حرج على المستفيد منه فقد اتفقت الآراء على أن هذا النوع من التأمين جائز شرعًا، وذلك لأنه يكون إجباريًّا تفرضه الدولة عملًا بالقاعدة الفقهية (تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة). والمصلحة هنا تتمثل في تحقيق التكامل الاجتماعي على أساس من التبرع، بعيدًا عن غرض الربح؛ ولذا يغتفر فيه من الجهالة والغرر ما لا يغتفر في المعاوضات. النوع الثاني: التأمين الصحي التجاري: هذا النوع من التأمين حرام بكل صوره وأشكاله، وقد صدر قرار بتحريمه من المجمع الفقهي الإِسلامي برابطة العالم الإسلامي (¬1)، ومجمع الفقه الإسلامي المنعقد في جدة (¬2)، وصدرت بتحريمه عدة فتاوى من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (¬3)، كل هؤلاء يفتون بتحريم التأمين التجاري بكل صوره وأشكاله وذلك لما يلي: 1 - أنه معاملة مبنية على المخاطرة، وقد تقرر في القواعد أن كل معاملة مبنية على المخاطرة فهي قمار، والقمار من الميسر والميسر قد ورد تحريمه في القرآن بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ. . .} [المائدة: 90]، والقمار والميسر من أكل المال بالباطل، وهذا حرام كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وبيان ذلك أن المبلغ المدفوع من المستأمن ليحصل به على ¬

_ (¬1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي قرار رقم 9 (219). (¬2) قرار رقم: 9 (9/ 2) بشأن التأمين وإعادة التأمين مجلة المجمع- (ع 2، ج 1/ 545). (¬3) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (32/ 467) فتوى رقم (20587).

خصم لمدة سنة أو أكثر أو أقل قد لا يستفيد منه مطلقًا؛ لعدم حاجته إلى الجهة المؤمنة تلك المدة فيغرم بهذا ماله الذي دفعه ويغنمه الجهة المؤمنة، وقد يستفيد منه كثيرًا ويفوق ما دفعه مضاعفًا فيغنم هو ويغرم الجهة المؤمنة فالغانم منهما كاسب في رهانه، والغارم خاسر فيه، وهذا العمل هو عين المقامرة المحرمة الوارد تحريمها في الآية السابقة. 2 - أن هذه المعاملة فيها غرر ظاهر، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-"أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الغرر" (¬1)، وقد تقرر في القواعد أن كل معاملة فيها غرر وجهالة فيما يقصد فهي باطلة. وبالجملة فالأدلة من الكتاب والسنة والأصول تدل على تحريم التأمين التجاري بكل صوره وأشكاله، أي: سواءً أكان على الممتلكات أو كان على الحياة أو كان على حفظ الصحة ونحو ذلك فكل ذلك حرام. النوع الثالث: التأمين الصحي التعاوني: استقر رأي علماء العصر على أن التأمين التعاوني مشروع ينبغي التوسع فيه؛ لأن مقصده الأساسي التعاون على تفتيت الأخطار وتحمل المسؤولية، سواء كان القيام بإدارة هذا العمل تبرعًا أو مقابل أجر معين، ولا يؤثر في مشروعية العقد جهل المساهمين بتحديد ما يعود عليهم من النفع؛ لأنهم متبرعون، فلا مخاطرة ولا مقامرة ولا غرر. وعلى ذلك يكون استخدام بطاقات التأمين الصحي التعاوني مشروع ولا حرج على المستفيد منها. النوع الرابع: التأمين الصحي التبادلي: وتقوم به في الغالب جمعيات خيرية لتأمين المنتسبين إليها من غوائل المرض، على سبيل التبرع والمؤازرة؛ لذلك اتفقت ¬

_ (¬1) رواه مسلم، في البيوع، باب بطلان بيع الحصاة (1513).

الآراء على جوازه ومشروعية استخدام بطاقاته. النوع الخامس: التأمين الصحي المباشر: سبق تعريف هذا النوع من التعاقد بأنه عقد بين طرفين يلتزم فيه الطرف الأول (المستشفى) بعلاج الطرف الثاني (وحده أو مع أفراد عائلته) من المرض، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين، وقد يتضمن الالتزام بالدواء والعمليات ونحوها. وهذا النوع من عقود التأمين الصحي عقد صحيح نافذ، لاكتمال أركانه وتوافر شروطه لأن الجهالة التي ترد على محل العقد تعتبر من الجهالة اليسيرة التي تغتفر ولا يكون لها أثر في المعقود عليه. ولهذا نرى -والله أعلم- أن عقد العلاج الطبي بين شخص وبين مستشفى بتقديم العناية له ولأفراد عائلته، والقيام بالعمليات اللازمة، وصرف الدواء طيلة فترة معينة لقاء مبلغ معين عقد صحيح شرعًا يلزم كلا طرفيه بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه (¬1). ¬

_ (¬1) انظر في ذلك: التأمين المعاصر في ميزان الشريعة الإسلامية، جمع وإعداد علي بن عبد المحسن التويجري، ومجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي قرار رقم 9 (219) قرار رقم: 9 (9/ 2) بشأن التأمين وإعادة التأمين مجلة المجمع (ع 2، ج 1/ 545).

النازلة التاسعة عشرة: الخلايا الجذعية ومدى مشروعية العلاج بها

النازلة التاسعة عشرة: الخلايا الجذعية ومدى مشروعية العلاج بها أولًا: تعريف الخلايا الجذعية: هي عبارة عن خلايا غير متخصصة وغير مكتملة الانقسام، وتكمن أهميتها في قدرتها على التشكل على شكل أي نوع من خلايا الجسم الأخرى. من وظائف هذه الخلايا إصلاح تعويض خلايا الجسم التالفة بشكل مستمر. ولهذه الخلايا القدرة على البقاء على حالتها الأساسية أو التخصص لتصبح خلايا أكثر تعقيدًا مثل خلايا العظم أو العضلات. ثانيًا: أهم خصائص الخلايا الجذعية: أ- لديها القدرة على الانقسام والتجدد. ب- ليست متخصصة في أي نوع من الوظائف الحيوية. ج- لديها القدرة على إنتاج خلايا تخصصية جديدة. ثالثًا: أهم أنواع الخلايا الجذعية: هناك نوعان أساسيان من الخلايا الجذعية وآخر فرعي: أ- الخلايا الجذعية الجنينية: وهي عبارة عن خلايا جذعية مستأصلة من البييضة الملقحة في المختبرات الطبية وهي في طورها الجنيني (عمرها أربعة أو خمسة أيام) ويتم استخدامها للأغراض البحثية. ب- الخلايا الجذعية البالغة: هذه الخلايا عبارة عن خلايا جذعية متواجدة مع الخلايا المتخصصة في الأجسام كاملة النمو، تكمن وظيفتها في استبدال وتعويض

رابعا: الاستخدامات المحتملة للخلايا الجذعية

الخلايا المتضررة أو الخلايا الميتة (¬1). ج- تاريخ اكتشافها: اكتشفت الخلايا الجذعية البالغة قبل ستين عامًا، وكان ذلك في نخاع العظم، وكان اكتشافها عبارة عن مفاجأة سارة للعلماء حيث يعتقد الكثير من الباحثين أنه يمكن استخدام هذه الخلايا كبديل لعمليات زرع الأعضاء. والآن استطاع الباحثون من إيجاد خلايا جذعيه بالغة في كل من الدماغ، الأوعية الدموية، الجلد، الأسنان، القلب، الكبد، الخلايا العضلية وغيرها. د- كيفية عملها داخل الجسم: تبقى هذه الخلايا من غير انقسام لفترات طويلة إلى أن يأتيها أمر انقسام من الخلايا المتخصصة المجاورة عند الحاجة للمزيد من هذا النوع من الخلايا التخصصية. مثال ذلك عند الجروح وتمزق الجلد. يوجد نوع ثالث من الخلايا الجذعية وهي الخلايا الجذعية الموجودة في دم الحبل السري (خلايا الحبل السري) تصنف كنوع آخر من الخلايا الجذعية البالغة لأنها تتشابه كثيرًا من ناحية التركيب والوظيفة. رابعًا: الاستخدامات المحتملة للخلايا الجذعية: هناك العديد من الاستخدامات للخلايا الجذعية، ومن هذه الاستخدامات مايلي: 1 - دراسة الخلايا الجذعية الجنينية تساعد العلماء على فهم كيفية تطور نمو الإنسان من خلية واحدة إلى جسم كامل. وهذه الدراسات سوف تساعد العلماء على فهم كيفية حدوث الأمراض الوراثية والتشوهات الخلقية. ¬

_ (¬1) الخلايا الجذعية نظرة علمية، د. صالح كريم، بحوث المجمع الفقهي الإسلامي بمكة الدورة السابعة من 19 - 24 شوال 1424 هـ / 2003 م.

خامسا: العلاج بالخلايا الجذعية

2 - تتيح الخلايا الجذعية للعلماء والباحثين القدرة على تجربة الأدوية الطبية بطريقة متميزة، فبمساعدة هذه الخلايا يستطيعون تجربة الأدوية مباشرة على خلايا جسم الإنسان في المعامل الطبية دون أية مخاطر وبتكلفة قليلة؛ ذلك لأنهم قادرون على إنتاج خلايا متخصصة داخل المختبرات بالتأثير على الخلايا الجذعية وجعلها تنقسم على الشكل الذي يريدونه. 3 - ومن أهم استخدام الخلايا الجذعية هو استخدامها في إنتاج خلايا متخصصة جديدة يمكن زرعها داخل أعضاء جسم الإنسان المصاب واستبدال الخلايا التالفة، فقد وجد العلماء أنه عند زرع الخلايا الجذعية في العضو المصاب تقوم هذه الخلايا باستبدال وإصلاح الخلايا التالفة في ذلك العضو مما يغني الأطباء عن استبداله بعملية زرع للأعضاء. خامسًا: العلاج بالخلايا الجذعية: يتوقع الأطباء أنهم يمكنهم علاج الكثير من الأمراض باستخدام هذه الخلايا ومنها ما يلي: داء الزهايمر، والأمراض الناتجة عن إصابة الحبل الشوكي، والجلطات والسرطان، وأمراض القلب، والسكري، والحروق والتهاب المفاصل. سادسًا: حكم العلاج بالخلايا الجذعية: من القضايا التي أثارت الجدال بين العلماء، سواء الطبيين منهم أم الشرعيين قضية "الخلايا الجذعية"، ومدى إمكانية استخدامها في علاج كثير من الأمراض المستعصية اليوم، كالزهايمر، والسرطان، والسكر، .. إلخ. وللبحث في مدى مشروعية استخدام الخلايا الجذعية من الوجهة الشرعية

والأخلاقية، ينبغي شرعًا الرجوع إلى المصدر الذي أخذت منه هذه الخلايا: أ- إذا كان مصدر هذه الخلايا الجذعية عن طريق إهلاك الأجنّة البشرية وتدميرها لاستخدامها في ما يعرف بالعلاج الخلوي، أو تحت مسمى الاستنساخ العلاجي (باتباع تكنولوجيا الاستنساخ المعروفة)، فإن الإسلام يمنع انتهاك حرمة الجنين الآدمي، ولا يسمح بإجراء تجارب الاستنساخ البشري، ولو كان المبرر وجود الحاجة للتداوي والمعالجة لأمراض مستعصية أو خطيرة، فإنه يمنع شرعًا استنساخ الأجنّة للحصول على الخلايا الجذعية الجينية، كما أنه لا يجوز إسقاط الحمل بدون عذر شرعي، أو التبرع بالنطف المذكرة أو المؤنثة لإنتاج بويضات مخصّبة، تتحول بعد ذلك إلى جنين بغرض الحصول على الخلايا الجذعية منه. ب- أما إذا كان الحصول على هذه الخلايا الجذعية عن طريق الأجنة المجهضة تلقائيًّا، أو بسبب علاجي مشروع أو من الحبل السري، أو من المشيمة للمواليد، فإنه يجوز ذلك في إطار المباح، على أساس الموازنة الشرعية بين المفاسد والمصالح، بأن تكون الأبحاث والتجارب العلمية أو الطبية جادة وهادفة، وأن تقف عند الحد الشرعي، مع مراعاة الأحكام الشرعية المعتبرة. ج- يجوز أيضًا استخدام الخلايا الجذعية المأخوذة من الأطفال والبالغين على حدّ سواء من خلايا أنسجة البالغين؛ كنخاع العظام، والخلايا الدهنية، إذا عبَّر الشخص موضوع البحث أو التجريب عن قبوله لذلك، وموافقة ممثله الشرعي (إذا كان طفلًا)، وكان أخذها منه لا يشكل ضررًا عليه، وأمكن تحويلها إلى خلايا علاجية ذات فائدة لشخص مريض، وكان الاستخدام يحقق مصلحة علاجية معتبرة. د- وأما فيما يتعلق بمسألة استخدام الفائض من اللقاح والأمشاج الآدمية في

مشاريع أطفال الأنابيب (التلقيح الصناعي) للحصول على الخلايا الجذعية، فإنّ المجمع الفقهي الإسلامي منع تخزين وتجميد اللقائح الآدمية؛ منعًا لاختلال الأنساب، وسدًّا لذريعة العبث أو التلاعب بها. ومن قرارات المجمع الفقهي (¬1) بخصوص هذه النازلة ما جاء في قراره رقم: 99 (3/ 17): الخلايا الجذعية. أولًا: يجوز الحصول على الخلايا الجذعية وتنميتها واستخدامها بهدف العلاج أو لإجراء الأبحاث العلمية المباحة إذا كان مصدرها مباحًا، ومن ذلك -على سبيل المثال- المصادر الآتية: 1 - البالغون إذا أذنوا، ولم يكن في ذلك ضرر عليهم. 2 - الأطفال إذا أذن أولياؤهم لمصلحة شرعية، وبدون ضرر عليهم. 3 - المشيمة أو الحبل السري، وبإذن الوالدين. 4 - الجنين السقط تلقائيًّا أو لسبب علاجي يجيزه الشرع، وبإذن الوالدين. مع التذكير بما ورد في القرار السابع من دورة المجمع الثانية عشرة بشأن الحالات التي يجوز فيها إسقاط الحمل. 5 - اللقائح الفائضة من مشاريع أطفال الأنابيب إذا وجدت وتبرع بها الوالدن، مع التأكيد على أنه لا يجوز استخدامها في حمل غير مشروع. ثانيًا: لا يجوز الحصول على الخلايا الجذعية واستخدامها إذا كان مصدرها محرمًا، ومن ذلك على سبيل المثال: ¬

_ (¬1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة قرار رقم: 99 (3/ 17).

1 - الجنين المسقط تعمدًا بدون سبب طبي يجيزه الشرع. 2 - التلقيح المتعمد بين بييضة من متبرعة وحيوان منوي من متبرع. 3 - الاستنساخ العلاجي (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: الخلايا الجذعية من دون قتل الأجنة ملحق مجلة العربي العلمي، العدد الثالث، الخلايا الجذعية والقضايا الأخلاقية الفقهية، د محمَّد على البار، مجلة الصحة العدد (32) زراعة الأجنة في ضوء الشريعة الإسلامية، د هشام جميل عبد الله، مجلة الرسالة الإسلامية العدد (232).

النازلة العشرون: زراعة خلايا المخ والجهاز العصبي

النازلة العشرون: زراعة خلايا المخ والجهاز العصبي منذ عدة سنوات ابتدأت فكرة زراعة خلايا وأنسجة داخل المخ من مختلف الأنواع من البحوث الأكاديمية في عمليات تجريبية على حيوانات المعامل من فئران وغيرها لتجربة تأثير عقاقير مختلفة عليها، وكذلك مراقبة تصرف هذه الخلايا في الظروف البيئية المختلفة، كذلك في مجال دراسة الأورام السرطانية وإجراء الدراسات عليها. فما مدى مشروعية زراعة هذه الخلايا داخل مخ الإنسان؟ نقول: إن هذه النازلة كغيرها من النوازل ينظر فيها بما تقتضيه الأدلة الشرعية أو القواعد العامة التي عليها مبنى الشريعة، وكذا القواعد الكلية التي تناسبها، ثم إبداء الحكم عليها وصدوره ممّن نظر فيها. وقد صدر حولها قرار من مجمع الفقه الإسلامي (¬1) التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي جاء فيه: أولًا: إذا كان المصدر للحصول على الأنسجة هو الغدة الكظرية للمريض نفسه، وفيه ميزة القبول المناعي؛ لأن الخلايا من الجسم نفسه، فلا بأس من ذلك شرعًا. ثانيًا: إذا كان المصدر هو أخذها من جنين حيواني، فلا مانع من هذه الطريقة إن أمكن نجاحها ولم يترتب على ذلك محاذير شرعية. وقد ذكر الأطباء أن هذه الطريقة نجحت بين فصائل مختلفة من الحيوان ومن المأمول نجاحها للإنسان باتخاذ الاحتياطات الطبية اللازمة لتفادي الرفض المناعي. ¬

_ (¬1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة (ع 6 قرار رقم (56/ 5 / 6).

ثالثًا: إذا كان المصدر للحصول على الأنسجة هو خلايا حية من مخ جنين باكر في الأسبوع العاشر أو الحادي عشر فيختلف الحكم على النحو التالي: أ- الطريقة الأولى: أخذها مباشرة من الجنين الإنسائي في بطن أمه، بفتح الرحم جراحيًّا، وتستتبع هذه الطريقة إماتة الجنين بمجرد أخذ الخلايا من مخه، ويحرم ذلك شرعًا إلَّا إذا كان بعد إجهاض طبيعي غير متعمد أو إجهاض مشروع لإنقاذ حياة الأم وتحقق موت الجنين، مع مراعاة الشروط التي سترد في موضوع الاستفادة من الأجنّة في القرار رقم 59 (8/ 6) لهذه الدورة. ب- الطريقة الثانية: وهي طريقة قد يحملها المستقبل القريب في طياته باستزراع خلايا المخ في مزارع للإفادة منها، ولا بأس في ذلك شرعًا إذا كان المصدر للخلايا المستزرعة مشروعًا وتم الحصول عليها على الوجه المشروع. رابعًا: المولود اللادماغي: طالما ولد حيًّا، لا يجوز التعرض له بأخذ شيء من أعضائه إلى أن يتحقق موته بموت جذع المخ، ولا فرق بينه وبين غيره من الأسوياء في هذا الموضوع، فإذا مات فإن الأخذ من أعضائه تراعى فيه الأحكام والشروط المعتبرة في نقل أعضاء الموتى من الإذن المعتبر، وعدم وجود البديل، وتحقق الضرورة وغيرها، مما تضمنه القرار رقم 26 (1/ 4) من قرارات الدورة الرابعة لهذا المجمع، ولا مانع شرعًا من إبقاء هذا المولود اللادماغي على أجهزة الإنعاش إلى ما بعد موت جذع المخ، والذي يمكن تشخيصه للمحافظة على حيوية الأعضاء الصالحة للنقل، توطئة للاستفادة منها بنقلها إلى غيره بالشروط المشار إليها. والله أعلم.

النازلة الحادية والعشرون: زراعة الأعضاء التناسلية

النازلة الحادية والعشرون: زراعة الأعضاء التناسلية لا يجوز نقل الأعضاء التناسلية من إنسان إلى آخر كالخصيتين أو المبيضين، لأن الخصيتين والمبيضين فيها سر الوراثة، وفيها سر الإمناء، إذ زرع الخصية من شخص لآخر يعني: انتقال الحيوانات المنوية من المتبرع إلى المتلقي. فالوليد الذي يأتي من المنقول إليه يعد آتيًا من المنقول منه، وهذا يؤثر على الإنسان تأثيرًا مباشرًا، ولا فرق بينه وبين الزنا والبغاء، إذ العلة ذاتها بين الزاني وبين المنقول إليه، وكذلك الحال في الإفتاء بحرمة نقل المبيض؛ لأن المبيض فيه سر الخلق والوراثة، إذ الجنين لا يتكون إلا من اجتماع (الحيمن) والبييضة التي تكون أمشاجًا بعد اختلاطها بالحيامن المنوية، فكأن البييضة التي خرجت من المنقول إليها قد خرجت من المنقول منها، وهي أجنبية لا زوجة، ولهذا يتحقق الزنا والبغاء بسبب اختلاط الأنساب، ومن هنا قلنا بتحريم نقل الخصيتين والمبيضين تحريمًا قطعيًّا. وكذلك يحرم نقل الذكر أو الفرج من شخص لآخر، فإنه في حالة زرع الفرج يكون الرجل قد وطئ فرجًا لا يملكه لكونه فرج غير امرأته، وفي حالة زرع الذكر تكون المرأة قد وطئت بذكر غير زوجها، ويكون الوطء اللاحق لذلك من قبيل الوطء المحرم شبيهًا بالزنا المحرم. وقد رجح الدكتور محمَّد المختار الشنقيطي (¬1) حرمة نقل الخصيتين خاصة لعدة أمور منها: 1 - أن جواز النقل يؤدي إلى اختلاط الأنساب، وهو أمر محرم شرعًا. ¬

_ (¬1) أحكام الجراحات الطبية والآثار المترتبة عليها (392 - 398).

2 - أن المعتبر قوله في هذه المسائل من الناحية الطبية هم أهل الاختصاص والمعرفة من الأطباء، وقد شهدوا بأن نقل الخصيتين يوجب انتقال الصفات الوراثية الموجودة في الشخص المنقولة منه إلى أبناء الشخص المنقولة إليه الخصية، وهذه شبهة موجبة للتحريم. 3 - أن الخصية إذا نقلت من الحي أو الميت لا بد من بقاء قدر من الحيوانات المنوية فيها، ومن ثم يختلط الماء القديم والماء الجديد، وعند جماع الرجل الثاني وإنزاله لا ندري أي الماءين أنزل، ونحن على يقين باشتراكهما، ولا يدرى بعد ذلك هل الحمل متخلق من ماء الأول، أم من ماء الثاني؟ وهذا خلط للأنساب ظاهر، فوجب تحريمه والمنع منه ... إلخ. ومن قرارات مجلس مجمع الفقه الإسلامي (¬1) في هذه النازلة ما يلي: أولًا: زرع الغدد التناسلية: بما أن الخصية والمبيض يستمران في حمل وإفراز الصفات الوراثية (الشفرة الوراثية) للمنقول منه حتى بعد زرعهما في متلقًّ جديد؛ فإن زرعهما محرم شرعًا. ثانيًا: زرع أعضاء الجهاز التناسلي: زرع بعض أعضاء الجهاز التناسلي التي لا تنقل الصفات الوراثية -ما عدا العورات المغلظة- جائز لضرورة مشروعة ووفق الضوابط والمعايير الشرعية المبينة في القرار رقم 26 (1/ 4) لهذا المجمع (¬2). ¬

_ (¬1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة العدد 6، (3/ 1975). (¬2) انظر كتاب: حكم الانتفاع بالأعضاء البشرية والحيوانية، دراسة في الفقه الإسلامي مقارنة بالتشريعات اليهودية والنصرانية والقوانين الوضعية، د. كمال الدين جمعة بكرو، حكم نقل الأعضاء في الفقه الإسلامي، د. عقيل بن أحمد بن العقيلي، وأحكام الجراحات الطبية والآثار المترتبة عليها (392 - 398).

النازلة الثانية والعشرون: التحكم في جنس الجنين

النازلة الثانية والعشرون: التحكم في جنس الجنين أولًا: توصيف هذه النازلة طبيًّا: لقد شغلت هذه النازلة العالم قديمًا وحديثًا، وتوصيف هذه النازلة طبيًا أن علماءَ الطبِّ قد توصلوا إلى سببِ حصول الأنوثة والذكورة في جنينِ الإنسان، وتوصيفُه أن بويضةَ المرأةِ تحملُ صبغة (x) وماءُ الرجلِ يحملُ صبغتين (x) و (y) فإذا لُقحت بويضةُ المرأةِ بحيوان منوي (x) خُلق المولودُ أنثى، وإذا لقحت بحيوان منوي (y) خُلق المولودُ ذكرا. وبعد أن توصلوا إلى هذا السببِ وعرفوه انتقلوا إلى مرحلة ثانية، وهي دعوى قدرتُهم على اختيارِ جنس الجنين، وذلك عن طريقِ التخصيب الداخلي أو الخارجي بإحدى صبغتي الرجل (x) و (y)، فمن يرغبُ في ذكر يُخصب له بالصبغة (y)، ومن يرغبُ في أنثى يُخصب له بالصبغةِ (x)، وقالوا إن نسبةَ نجاحِ التخصيبِ والعلوقِ (25 %) فإذا تم التخصيبُ والعلوقُ كانت نسبةُ النجاحِ (99 %)، وقالوا إن هذا لا ينافي الإرادةَ الإلهيةَ، بل هو من جملةِ الأسبابِ. ثانيًا: الحكم الشرعي في تحديد جنس المولود: نقول اختلف العلماء المعاصرون في هذه المسألة على قولين: الأول: أنه يجوز التدخل الطبي لاختيار أحد الجنسين، وهو أمر لا يخالف الشرع وما هو إلا اكتشاف لسنة من سنن الله الكونية، وهو من الأسباب التي خلقها الله وقدرها، ولا يكون تأثيرها إلا بإذن الله، وأن الأصل في اختيار جنس الجنين هو الإباحة، ومن الأدلة الشرعية على جواز تحديد جنس المولود ما يلي: الدليل الأول: أن الأصل في الأشياء الإباحة والحل حتى يقوم دليل المنع والحظر؛

في قول جمهور أهل العلم؛ وليس لدى من قال بمنع العمل على تحديد جنس الجنين دليل يستند إليه، فيبقى الأصل محفوظًا مستصحبًا. الدليل الثاني: أن طلب جنس معين في الولد لا محظور فيه شرعًا، فالله تعالى قد أقرَّ بعض أنبيائه الذين سألوه في دعائهم أن يهب لهم ذكورًا من الولد. فهذا نبي الله إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- سأل الله تعالى أن يرزقه ولدًا ذكرًا صالحًا، فأجابه الله تعالى، وكذلك نبي الله زكريا -عليه الصلاة والسلام- دعا ربه أن يهبه غلامًا زكيًا، فأجابه الله تعالى ولو كان هذا الدعاء سؤالًا لمحرم لكان محرمًا ولمنعه الله تعالى ولما أقرَّه، فإن الدعاء بالمحرم محرم. فلما جاز الدعاء بطلب جنس معين في الولد، وهو سبب من الأسباب التي تُدرك بها المطالب، دل ذلك على أن الأصل جواز العمل على تحديد جنس الجنين بالأسباب المباحة؛ لأن ما جاز سؤاله وطلبه جاز بذل السبب لتحصيله. الدليل الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن السبب الطبيعي الذي يُوجِب الإذكار أو الإيناث بإذن الله كما في صحيح الإمام مسلم من حديث ثوبان أن يهوديًّا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الولد. قَال - صلى الله عليه وسلم -: "مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ، وَمَاءُ المَرْأَةِ أَصْفَرُ، فَإِذَا اجْتَمَعَا فَعَلاَ مَنيُّ الرَّجُلِ مَنيَّ المَرْأَةِ أَذْكرَا بِإِذْنِ الله، وَإِذَا عَلاَ مَنيُّ المَرْأَةِ مَنيَّ الرَّجُلِ آنَثَا بِإِذْنِ الله". قَالَ اليَهُودِىُّ: لَقَدْ صَدَقْتَ وإنَّكَ لَنَبِيٌّ ثُمَّ انْصَرَفَ فَذَهَبَ. فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَقَدْ سَأَلَني هَذَا عَنِ الَّذِي سَأَلَني عَنْهُ وَمَا لِي عِلمٌ بِشَيءٍ مِنْهُ حَتَّى أَتَانِىَ اللهُ بِهِ" (¬1). وهذا يفيد أن الإذكار والإيناث في الجنين أمرٌ يستند إلى سبب طبيعي معلوم. وليس في الحديث ما يشعر بأنه مما استأثر الله به، بل هو كسائر الأسباب الطبيعية التي متى قدر الخلق على إيجادها، فقد أدركوا المقدمة التي يمكن أن يصلوا بها إلى النتيجة. ¬

_ (¬1) رواه مسلم، كتاب الحيض، باب بيان صفة مني الرجل والمرأة وأن الولد مخلوق من مائهما (473).

الدليل الرابع: قياس السعي في تحديد جنس الجنين على معالجة العقم الذي يمكن معالجته، فإنه لا خلاف بين أهل العلم في جواز السعي في معالجة العقم مع كونه سعيًا في إيجاد الحمل وأخذًا لأسباب حصوله، بل جواز أخذ أسباب تحديد جنس الجنين من باب أولى؛ لأنه عمل بالأسباب الممكنة لإدراك صفة في الجنين، وهو أسهل من أخذ أسباب الإيجاد والتكوين. الدليل الخامس: قياس السعي في تحديد جنس الجنين على جواز العزل. وقالوا بأن القول بجواز التدخل الطبي لاختيار أحد الجنسين إذا كان ذلك بالضوابط التالية: الأول: أن لا يكون ذلك سياسة عامة للدولة ولكن يكون أمرًا فرديًّا؛ حتى لا يؤدي ذلك إلى الخلل في التوازن بين الإناث والذكور. الثاني: أن يكون ذلك للحاجة كأن يكون الشخص قد أنجب مجموعة من أحد الجنسين دون الجنس الآخر أو بسبب مرض وراثي، أما من غير حاجة فلا يجوز، فمن فعل ذلك ابتداء من أول زواجه أو مع إنجابه لكلا الجنسين فلا يجوز. الثالث: اتخاذ الضمانات اللازمة والتدابير الصارمة لمنع أي احتمال لاختلاط المياه المفضي إلى اختلاط الأنساب. الرابع: التأكيد على حفظ العورات وصيانتها من الهتك، وذلك من خلال قصر الكشف على موضع الحاجة قدرًا وزمانًا، وأن يكون من الموافق في الجنس درءًا للفتنة ومنعًا لأسبابها. الخامس: المراقبة الدائمة من الجهات ذات العلاقة لنسب المواليد وملاحظة الاختلال في النسب واتخاذ الإجراءات المناسبة من القوانين والتنظيمات لمنعه وتوقيه.

السادس: أن يكون تحديد جنس الجنين بتراضي الوالدين: الأب والأم؛ لأن لكل واحد منهما حقًّا في الولد فإن اختلفا، فالأصل بقاء الأمر على حاله دون تدخل في التحديد درءًا لمفسدة الشقاق. السابع: اعتقاد أن هذه الوسائل ما هي إلا أسباب وذرائع لإدراك المطلوب لا تستقل بالفعل، ولا تخرج عن تقدير الله وإذنه، فلله الأمر من قبل ومن بعد {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49 - 50]. الثامن: إذا كانت المحاولات يسيطر عليها الغرور بالعلم لحل المشكلات وعدم الإيمان بأن إرادة الله غالبة، كما هو شأن الماديين، كانت محرمة باتفاق؛ لأنها إن لم تكن كفرًا فهي تؤدى إليه. التاسع: إذا كان الغرض من هذه العملية هو الإكثار من أحد النوعين إلى الحد الذي يختل فيه التوازن ويؤدى إلى ارتكاب الفواحش والمنكرات كالمتعة بين الجنس الواحد، أو يؤدى إلى إرهاب الغير بكثرة الذكور مثلًا، أو إلى استغلال النوع الآخر لأغراض خبيثة كان ذلك حرامًا لا شك فيه. العاشر: إذا كان من وسائل التحكم في نوع الجنين التعقيم النهائي الذي لا يكون بعده إنجاب كان ذلك محرمًا؛ لأن فيه تعطيلًا لقوة لازمة لعمارة الكون، وتظهر فيه المعارضة لحكم الله وتقديره. القول الثاني: لا يجوز تحديد جنس الجنين واستدلوا لقولهم بأدلة منها: الدليل الأول: أن العمل على تحديد جنس الجنين يتضمن منازعة الله تعالى في خلقه ومشيئته، وما اخْتَص به من علم ما في الأرحام، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 6]. قال جماعة من

المفسرين منهم ابن مسعود وقتادة وغيرهما: ذكورًا وإناثًا. الدليل الثاني: أن العمل على تحديد جنس الجنين ضرب من ضروب تغيير خلق الله تعالى الذي هو من عمل الشيطان كما دل عليه قوله تعالى عن إبليس: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء: 119]. وكذلك حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "لَعَنَ اللهُ الوَاشِمَاتِ وَالمُوتَشِمَاتِ وَالمتنَمِّصَاتِ وَالمُتَفَلِّجَاتِ لِلحُسْنِ المُغَيِّرَاتِ خَلقَ الله" (¬1). فإذا كان التغيير في صورة الخلقة على النحو الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - محرمًا فكيف بالتغيير في الجنس؟ لا شك أنه أحق بالتحريم وأولى بالمنع. الدليل الثالث: أن القول بجواز العمل على تحديد جنس الجنين يفضي إلى عدة مفاسد ومخاطر منها: أ- الإخلال بالتوازن الطبيعي البشري في نسب الجنسين الذي أجراه الله تعالى في الكون لحكمة ورحمة؛ فإن كثيرًا من الناس قد يميل إلى جنس الذكور في المواليد. ب- فتح المجال أمام العبث العلمي في خلق الإنسان وتكوينه، وهو أمر اتفق الناس على خطورته وشؤم عاقبته على البشرية. ج- ما يمكن أن يقع من جراء بعض الطرق في عملية تحديد جنس الجنين من اختلاط الأنساب، وهذا من المفاسد الكبرى الناتجة عن هذه العملية. د- هتك العورات بكشفها وعدم حفظها، وذلك أن من طرق تحديد جنس الجنين ما يتطلب كشف المرأة عن العورة المغلظة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في التفسير، باب {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (4886)، ومسلمٌ في اللباس، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة (2125).

الترجيح: بعد ذكر القولين في هذه النازلة نقول بأن الذي يترجح لنا أن تحديد جنس المولود يمكن أن يتم بثلاث طرق: الأولى: باستعمال أمور طبيعية كالنظام الغذائي، وهذا لا حرج فيه، إن أثبت أهل الاختصاص جدوى ذلك، دون أن تترتب عليه محاذير شرعية. الثانية: بالتدخل الطبي لاختيار جنس الجنين، وهذا لا يجوز إلا في حال الضرورة العلاجية في الأمراض الوراثية، كما نص عليه قرار مجمع الفقه الإسلامي الآتي نصه: ووجه المنع: أن التدخل الطبي بالتلقيح المجهري يترتب عليه محاذير شرعية، كالاستمناء، وكشف العورة المغلظة والنظر إليها، مع احتمال اختلاط الحيوانات المنوية أو البويضات في حالة إيداعها في بنوك مما يترتب عليه اختلاط الأنساب. الثالثة: تحديد جنس الجنين أثناء عملية التلقيح الصناعي لمن احتاج إليه لعدم إمكان الإنجاب بالطريقة المعتادة، والظاهر أنه لا حرج فيه تبعًا لجواز التلقيح، فحيث وجد السبب المبيح للتلقيح الصناعي وروعيت فيه ضوابطه، فإنه يجوز تبعًا التدخل لتحديد جنس الجنين (¬1). ومما جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي: أولًا: يجوز اختيار جنس الجنين بالطرق الطبيعية؛ كالنظام الغذائي، والغسول الكيميائي، وتوقيت الجماع بتحري وقت الإباضة؛ لكونها أسبابًا مباحة لا محذور فيها. ثانيًا: لا يجوز أي تدخل طبي لاختيار جنس الجنين، إلا في حال الضرورة العلاجية في الأمراض الوراثية، التي تصيب الذكور دون الإناث أو بالعكس، ¬

_ (¬1) انظر كتاب: رؤية شرعية في تحديد جنس الجنين، د. خالد المصلح، المختصر المفيد في تحديد جنس الوليد، د. عبد الرحمن عبد الله اليحيى.

فيجوز حينئذٍ التدخل بالضوابط الشرعية المقررة، على أن يكون ذلك بقرار من لجنة طبية مختصة، لا يقل عدد أعضائها عن ثلاثة من الأطباء العدول، تقدم تقريرًا طبيًّا بالإجماع يؤكد أن حالة المريضة تستدعي أن يكون هناك تدخل طبي حتى لا يصاب الجنين بالمرض الوراثي، ومن ثَمَّ يعرض هذا التقرير على جهة الإفتاء المختصة لإصدار ما تراه في ذلك. ثالثًا: ضرورة إيجاد جهات للرقابة المباشرة والدقيقة على المستشفيات والمراكز الطبية، التي تمارس مثل هذه العمليات في الدول الإسلامية؛ لتمنع أي مخالفة لمضمون هذا القرار. وعلى الجهات المختصة في الدول الإسلامية إصدار الأنظمة والتعليمات في ذلك.

النازلة الثالثة والعشرون: منع الزوج زوجته من تناول العلاج الموصوف لها لمرض الصرع

النازلة الثالثة والعشرون: منع الزوج زوجته من تناول العلاج الموصوف لها لمرض الصرع قال ابن القيم -رحمه الله- في كتابه (زاد المعاد في هدي خير العباد) (¬1) ما نصه: "الصرع صرعان: صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الرديئة. والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء؛ في سببه وعلاجه. وأما صرع الأرواح فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به، ولا يدفعونه، ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة، فتدافع آثارها، وتعارض أفعالها وتبطلها. وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم، ومن يعتقد بالزندقة فضيلة فأولئك ينكرون صرع الأرواح، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك، والحس والوجود شاهد به. وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط هو صادق في بعض أقسامه لا في كلها. . . إلى أن قال: وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم. وعلاج هذا النوع يكون بأمرين: أمر من جهة المصروع، وأمر من جهة المعالج، فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه، وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها، والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان، فإن هذا نوع محاربة، والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين: أن يكون السلاح صحيحًا في نفسه جيدًا، وأن يكون الساعد قويًّا، فمتى تخلف أحدهما لم يغن ¬

_ (¬1) زاد المعاد في هدي خير العباد (4/ 66 - 69).

السلاح كثير طائل" انتهى. ومن خلال ما ذكره ابن القيم -رحمه الله- يتبين لنا أنه إذا كان نوع الصرع من الأرواح الخبيثة الأرضية فإن العلاج الطبي قد لا يكون نافعًا له، لكن لا يجوز للرجل أن يمنع زوجته من تناول العلاج الطبي؛ لأنها قد تجد راحة في أخذه، ولعل ما يكون عندها هو عوارض نفسية أو قد يكون ما عندها من الصرع هو من النوع الذي يحتاج إلى علاج طبي، وقد صدر بخصوص هذه النازلة قرار من مجمع الفقه الإسلامي (¬1) جاء فيه: "ليس للزوج منع زوجته من تناول العلاج المناسب، المباح شرعًا، الموصوف لها من الطبيب الثقة المؤتمن؛ لأن في منعها من العلاج إلحاقًا للضرر بها، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عن الضرر فقال: "لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ". وهذالحكم ينطبق أيضًا على كل ولي، فلا يجوز له منع المولَّى عليه من العلاج المباح له شرعًا". ¬

_ (¬1) قرارات مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة قرار رقم: 112 (6/ 19).

النازلة الرابعة والعشرون: حكم إسقاط الجنين المشوه خلقيا

النازلة الرابعة والعشرون: حكم إسقاط الجنين المشوه خلقيًّا لقد أصبح من الممكن من خلال العلم الحديث في الوقت الحاضر معرفة تشوه الجنين عن طريق الأشعة، وأصبح بإمكانه معرفة ما إذا كان هذا الجنين سيولد مشوهًا أم لا، وذلك عن طريق الأشعة بأنواعها، فهل يجوز إسقاطه في هذه الحال أو لا يجوز؟ وهذه النازلة -إسقاط الجنين المشوه- بحثت في مجلس هيئة كبار العلماء (¬1)، وفي مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي (¬2)، وصدر فيها قرار من مجلس الهيئة، وقرار من المجمع، والقراران متقاربان في تقرير الحكم الشرعي ومما جاء في القراران ما يلي: أولًا: لا يجوز إسقاط الحمل في مختلف مراحله إلا لمبرر شرعي، وفي حدود ضيقة جدًا؛ حتى في طور الأربعين لا بد من مبرر شرعي، وأما إسقاط الحمل؛ خشية المشقة في تربية الأولاد، أو العجز عن تكاليف معيشتهم، أو الاكتفاء بما لدى الزوجين من أولاد، فهذا لا يعتبر مبررًا شرعيًّا، فيكون الإسقاط لأجل هذا الغرض غير جائز، وقد نص على هذا في قرار الهيئة: أن الإسقاط خشية المشقة في تربية الأولاد أو العجز عن تكاليفهم أو الاكتفاء بما لدى الزوجين من أولاد أنه غير جائز ولو كان في طور الأربعين الأولى. ثانيًا: أن يكون في طور الأربعين الأولى، فيجوز إسقاطه إذا وجد في ذلك مصلحة شرعية، أو دفع ضرر متوقع، ومن ذلك أن يكون هذا الجنين لو عاش لكان مشوهًا خلقيًّا، فهنا لا بأس بإسقاطه في طور الأربعين الأولى. ¬

_ (¬1) فتاوى هيئة كبار العلماء (19/ 302) فتوى رقم (6457). (¬2) قرارات مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة قرار رقم: 71 (4/ 12).

ثالثًا: إذا كان ذلك بعد الأربعين وقبل مرور مائة وعشرين يومًا على الحمل فالأمر فيه أهون، يمكن أن يسقط ويعمل إجهاض؛ لأنه الآن ليس إنسانًا، لم تنفخ فيه الروح، فمتى أثبت الأطباء بأن الجنين في هذه المرحلة مشوه تشويهًا خطيرًا، وغير قابل للعلاج، وأنه إذا بقي فستكون حياته سيئة وآلامًا عليه وعلى أهله، أو قالوا: إن بقاءه يكون سببًا لهلاك أمه، فحينئذٍ لا حرج أن نجهض هذا الحمل بناء على طلب الوالدين؛ وذلك لأن هذا الجنين في هذه المرحلة لم تنفخ فيه الروح، وليس بإنسان، إنما هو مضغة أو علقة فيجوز إسقاطه. رابعًا: إذا كان الحمل قد بلغ مائة وعشرين يومًا، فإنه لا يحل إسقاطه ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنه مشوه الخلقة؛ وذلك لأنه قد نفخت فيه الروح، وأصبح إنسانًا فإسقاطه هو في الحقيقة قتلٌ لإنسان، ولكن إذا كان بقاؤه فيه خطر مؤكد على حياة الأم فهل يجوز إسقاطه في هذه الحال؟ اختلف العلماء المعاصرون في هذه المسألة على قولين: القول الأول: أنه لا يجوز إسقاطه ما دام أنه قد نفخت فيه الروح ولو كان فيه خطر محقق، ولو ماتت أمه ببقائه لا يحل إسقاطه بأي حال من الأحوال، حتى لو قرر الأطباء أنه إن لم يسقط ماتت أمه، فإنه لا يحل إسقاطه وهذا هو قول الشيخ محمَّد العثيمين (¬1) -رحمه الله- وغيره، وعللوا لذلك: بأنه لا يجوز لنا أن نقتل نفسًا لاستبقاء نفس أخرى، وإسقاطه بعد مائة وعشرين يومًا هو قتل لنفس. القول الثاني: أنه إذا ثبت من الأطباء الموثوقين أن بقاء الجنين فيه خطر مؤكد على حياة الأم، وأنه سوف يتسبب في موتها لو بقي بعد استنفاذ كافة الوسائل لإنقاذ حياته، فإنه يجوز إسقاطه في هذه الحال، وقد أخذ بهذا القول مجلس هيئة كبار العلماء ¬

_ (¬1) لقاءات الباب المفتوح، لقاء رقم (97).

بالمملكة (¬1)، ومجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي (¬2)؛ وعللوا ذلك بأن إسقاطه في هذه الحال فيه دفع لأعظم الضررين، وجلب لأعظم المصلحتين، وذلك لأن عندنا في هذه المسألة ضررين: وهو موت الأم، أو موت هذا الجنين، وموت الأم أعظم ضررًا من موت الجنين، وذلك أن حياة الأم متيقنة، وبقاء هذا الجنين حيًّا بعد الولادة أمر مشكوك فيه، فموت الأم أعظم ضررًا، قالوا: فيجوز إسقاطه دفعًا لأعظم الضررين. والراجح عندنا هو القول الأخير بشرط أن يكون هناك اتفاق بين الأطباء بأن بقاء هذا الجنين فيه خطر مؤكد على حياة الأم، وأنه لو بقي فسوف يتسبب في وفاتها، فإذا اتفق الأطباء على ذلك، واستنفذت جميع الوسائل لإنقاذ حياته، ولم يمكن ذلك إلا بإسقاطه؛ استنقاذًا لحياة الأم جاز إسقاطه في هذه الحال. وقد صدر بخصوص هذه النازلة قرار المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي، وقد جاء فيه ما يلي: "إذا كان الحمل قد بلغ مائة وعشرين يومًا، لا يجوز إسقاطه، ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنه مشوه الخلقة إلا إذا ثبت بتقرير لجنة طبية، من الأطباء الثقات المختصين أن بقاء الحمل فيه خطر مؤكد على حياة الأم، فعندئذ يجوز إسقاطه سواء كان مشوهًا أم لا، دفعًا لأعظم الضررين. أما قبل مرور مائة وعشرين يومًا على الحمل، فإذا ثبت وتأكد بتقرير لجنة طبية من الأطباء المختصين الثقات -وبناء على الفحوص الفنية بالأجهزة والوسائل المختبرية- أن الجنين مشوه تشويهًا خطيرًا، غير قابل للعلاج، وأنه إذا بقي وولد في ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة (21/ 451) الفتوى رقم (20532). (¬2) قرارات مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة قرار رقم: 71 (4/ 12).

موعده، ستكون حياته سيئة، وآلامًا عليه وعلى أهله، فعندئذ يجوز إسقاطه بناء على طلب الوالدين، والمجلس إذ يقرر ذلك يوصي الأطباء والوالدين بتقوى الله، والتثبت في هذا الأمر. والله ولي التوفيق.

النازلة الخامسة والعشرون: حكم الانتفاع بالمشيمة

النازلة الخامسة والعشرون: حكم الانتفاع بالمشيمة تعريف المشيمة: يقول أهل الطب في تعريفها: المشيمة عضو شبه أسطواني ينمو متصلًا بباطن جدار الرحم عند معظم الثدييات. تمد المشيمة الجنين بالطعام والأكسجين، وتسحب نتاج نفايات الجنين، كما أن العضو ينتج كيميائيات تُسمى هورمونات تحافظ على الحمل وتنظم نمو الجنين. وللمشيمة ثلاث وظائف رئيسية هي: 1 - تغذية الجنين: إذ تمد المشيمة الجنين بالطعام والأكسجين، وتسحب نتاج نفايات الجنين، كما أن العضو ينتج كيميائيات تُسمى هورمونات تحافظ على الحمل وتنظم نمو الجنين. 2 - التنفس: إذ أن المشيمة تقوم بوظيفة الرئتين، فيحصل الجنين بواسطتها على الأكسجين ويطرح ثاني أكسيد الكربون 3 - تثبيت الحمل: وذلك بفرزها هرمون البروجسترون الذي يساعد على استمرار الحمل. مدى الانتفاع بالمشيمة في الطب الحديث: بفضل التقدم العلمي أمكن الانتفاع بالمشيمة لعلاج السرطان ولإزالة تجاعيد الوجه وغير ذلك، وهذا أولى من إهدارها، وكما يقال: إذا وجدت المصلحة فثم شرع الله، وذلك فيما لم يرد فيه نص قاطع ولم يعارض حكمًا مقررًا. ومن القرارات التي اتخذت بشأن هذه النازلة قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم

الإسلامي (¬1) ومما جاء فيه: "لا مانع من الانتفاع بها (المشيمة) في الأغراض الطبية، أما الأدوية التي تستخرج من المشيمة، وتؤخذ عن طريق الفم أو الحقن، فلا تجوز إلا للضرورة. والله ولي التوفيق". ومما جاء في فتوى الأزهر حول الانتفاع بالمشيمة: "وبفضل التقدم العلمي أمكن الانتفاع بهذه الفضلات، وهذا أولى من إهدارها، وكما يقال: إذا وجدت المصلحة فثم شرع الله، وذلك فيما لم يرد فيه نص قاطع ولم يعارض حكمًا مقررًا" (¬2). ولذلك نرى أنه لا مانع من استغلال هذه الفضلات في المنفعة. ¬

_ (¬1) قرارات مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة قرار رقم: 2 رقم الدورة: 13 بشأن موضوع المشيمة. (¬2) فتاوى الأزهر (10/ 124).

النازلة السادسة والعشرون: السر في المهن الطبية

النازلة السادسة والعشرون: السر في المهن الطبية لا شك أن مهنة الطب فيها اطلاع على الأسرار، وأهم ما يعتمد عليها في مهنة الطب قضية الأمانة التي يسميها الغربيون "شرف المهنة"، ونحن نسميها "أمانة" أوصانا الله -عَزَّ وجَلَّ- بحفظها. فقد يطلع الطبيب على ما لا يطلع عليه غيره فالواجب عليه أن يحافظ على الأسرار التي قد علم بها أثناء كشفه على المريض أو أثناء إجراء عملية جراحية له. لكن قد يحتاج أحيانًا إلى إفشاء بعض الأسرار في بعض الأمور منها: 1 - إذا كان أحد الزوجين مصابًا بمرض جنسي معد (ينتقل بالمباشرة)، فإنه يجب إبلاغ الطرف الآخر. 2 - إذا كان المريض غير لائق بعمل معين كالمصاب بالاضطرابات العصبية أو ضعف الرؤية الشديد فلا بد من إبلاغ جهة عمله فيما لو كان سائقًا مثلًا. 3 - إذا علم بوجود مرض معد سارٍ. 4 - عند الكشف الطبي قبل الزواج، إذا تبين عدم توافق أحد الزوجين مع الآخر فلا بد من إبلاغه. 5 - إذا تبين له أن وفاة الشخص قد حصلت نتيجة جريمة. 6 - إذا علم بإصابة الزوج بمرض غير معد، ولا تعلم به الزوجة مثلًا فإنه لا يجوز له إخبارها لعدم الموجب. ومما جاء في القوانين الطبية في المادة الثالثة والعشرين ما نصه: يجب على الطبيب أن يحافظ على الأسرار التي علم بها عن طريق مهنته ولا يجوز له إفشاؤها إلا في الأحوال التالية:

1 - إذا كان الإفشاء مقصودًا به الإبلاغ عن وفاة ناجمة عن حادث جنائي، أو الحيلولة دون ارتكاب جريمة، ولا يجوز الإفشاء في هذه الحالة إلا للجهة الرسمية المختصة. 2 - إذا كان الإفشاء بقصد التبليغ عن مرض سار أو معد. 3 - إذا كان الإفشاء بقصد دفع الطبيب لاتهام موجه إليه من المريض أو ذويه يتعلق بكفاية أو بكيفية ممارسته المهنة. 4 - إذا وافق صاحب السر كتابة على إفشائه، أو كان الإفشاء لذوي المريض مفيدًا لعلاجه. 5 - إذا صدر له أمر بذلك من جهة قضائية. وقد صدر قرارٌ من مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي (¬1) بخصوص هذه النازلة ومما جاء فيه: ج- الأصل حظر إفشاء السر، وإفشاؤه بدون مقتض معتبر موجب للمؤاخذة شرعًا. د- يتأكد واجب حفظ السر على من يعمل في المهن التي يعود الإفشاء فيها على أصل المهنة بالخلل، كالمهن الطبية، إذ يركن إلى هؤلاء ذوو الحاجة إلى محض النصح وتقديم العون، فيفضون إليهم بكل ما يساعد على حسن أداء هذه المهام الحيوية، ومنها أسرار لا يكشفها المرء لغيرهم حتى الأقربين إليه. 2 - تستثنى من وجوب كتمان السر حالات يؤدي فيها كتمانه إلى ضرر يفوق ضرر إفشائه بالنسبة لصاحبه، أو يكون في إفشائه مصلحة ترجح على مضرة كتمانه، ¬

_ (¬1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي العدد 8، (3/ 15) قرار رقم: 79 (10/ 8).

وهذه الحالات على ضربين: أ- حالات يجب فيها إفشاء السر بناء على قاعدة ارتكاب أهون الضررين لتفويت أشدهما، وقاعدة تحقيق المصلحة العامة التي تقضي بتحمل الضرر الخاص لدرء الضرر العام إذا تعين ذلك لدرئه. وهذه الحالات نوعان: * ما فيه درء مفسدة عن المجتمع. * وما فيه درء مفسدة عن الفرد. ب- حالات يجوز فيها إفشاء السر لما فيه: * جلب مصلحة للمجتمع. * أو درء مفسدة عامة. وهذه الحالات يجب الالتزام فيها بمقاصد الشريعة وأولوياتها من حيث حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. ج- الاستثناءات بشأن مواطن وجوب الإفشاء أو جوازه ينبغي أن ينص عليها في نظام مزاولة المهن الطبية وغيره من الأنظمة، موضحة ومنصوصًا عليها على سبيل الحصر، مع تفصيل كيفية الإفشاء، ولمن يكون، وتقوم الجهات المسؤولة بتوعية الكافة بهذه المواطن.

النازلة السابعة والعشرون: ضوابط كشف العورة أثناء علاج المريض

النازلة السابعة والعشرون: ضوابط كشف العورة أثناء علاج المريض أولًا: تعريف العورة والتحذير من إبدائها وبيان حدها: العورة هي ما يجب تغطيته، ويقبح ظهوره، ويستحيى منه، أي: ما يسوء الإنسان إخراجه، والنظر إليه؛ لأنها من العور وهو العيب، وكل شيء يسوؤك النظر إليه، فإن النظر إليه يعتبر من العيب. وقد كان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت عراة، ويزعمون أن ذلك من الدين فأبطل الله ادِّعاءهم وسمى كشف العورة فاحشة في قوله عنهم: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28]، فكشف العورة والنظر إليها يجر إلى شر خطير، ووسيلة إلى الوقوع في الفاحشة وهدم الأخلاق؛ كما هو مشاهد في المجتمعات المتحللة التي ضاعت كرامتها وهدمت أخلاقياتها؛ فانتشرف فيها الرذيلة، وعدمت فيها الفضيلة. وفي المقابل؛ فإن ستر العورة إبقاء على الفضيلة والأخلاق، ولهذا يحرص الشيطان على إغراء بني آدم بكشف عوراتهم، وقد حذرنا الله منه في قوله: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف: 27]، فكشف العورات مكيدة شيطانية قد وقع فيها كثير من المجتمعات البشرية اليوم، وربما يسمون ذلك رقيا وتفننا، فتكونت نوادي العراة، وتفشى السفور في النساء، فعرضت أجسادها أمام الرجال بلا حياء ولا خجل. وإنه لمن المؤسف المحزن ما وصل إليه كثير من نساء العصر المسلمات من تهتك وتساهل في الستر، وتسابق إلى إبراز مفاتنهن، واتخاذ اللباس الذي لا يستر؛ تقليدًا لنساء الكفرة والمرتدين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

[ثانيا] حكم كشف العورة عند الطبيب المعالج

وتنقسم العورة إلى ثلاثة أقسام: مغلظة، ومخففة، ومتوسطة. فالمخففة: عورة الذكر من سبع إلى عشر سنوات، وهي الفرجان فقط، أي: إذا ستر قبله ودبره فقد أجزأه الستر، ولو كانت أفخاذه بادية. والمغلظة: عورة الحرة البالغة؛ فكلها عورة إلا وجهها؛ فإنه ليس عورة في الصلاة، وإن كان عورة في النظر. والمتوسطة: ما سوى ذلك، وحدها ما بين السرة والركبة، فيدخل فيها الذكر من عشر سنوات فصاعدًا. [ثانيًا] (*) حكم كشف العورة عند الطبيب المعالج: ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يجوز عند الحاجة الملجئة كشف العورة من الرجل أو المرأة، لأي من جنسهما أو من الجنس الآخر، وقالوا: إنه يجوز للقابلة النظر إلى الفرج عند الولادة أو لمعرفة البكارة في امرأة العنين أو نحوها، ويجوز للطبيب المسلم إن لم توجد طبيبة أن يداوي المريضة الأجنبية المسلمة، وينظر منها ويلمس ما تلجئ الحاجة إلى نظره أو لمسه، فإن لم توجد طبيبة ولا طبيب مسلم جاز للطبيب الذمي ذلك. ويجوز للطبيبة أن تنظر وتلمس من المريض ما تدعو الحاجة الملجئة إلى نظره إن لم يوجد طبيب يقوم بمداواة المريض. لكن اشترطوا لذلك شروطًا منها: 1 - أن توجد حاجة ماسة للعلاج ونحوه، كمرض أو ألم، وألحقوا بذلك حاجات أخرى منها الختان للرجال والنساء؛ لأنه سنة في حق الرجال ومكرمة في حق النساء، ومن ذلك أيضًا الولادة تعتبر حاجة مبيحة لنظر القابلة إلى موضع الفرج وغيره من المرأة؛ لأنه لا بد منه لاستقبال المولود، وبدونه يخشى على الولد،

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: كلمة [ثانيا] ليست بالمطبوع

2 - أن يكون النظر بقدر الضرورة أو الحاجة

ومن ذلك أيضًا إعطاء الحقنة للعلاج، فإنها نوع من المداواة، فيباح النظر إلى موضع الحقن. 2 - أن يكون النظر بقدر الضرورة أو الحاجة فما لزم لدفعها جاز، وما زاد عن قدر الضرورة بقي على أصل التحريم، فالطبيب لا يعدو نظره مواضع المرض وما يلزم لمعرفته؛ ففي الختان لا ينظر إلا إلى موضع الختان، وفي الحقنة لا ينظر إلا إلى موضع الحقن، وفي الفصد والحجامة يقتصر في إباحة النظر على موضعهما، وكذلك النظر لتحديد البكارة والثيوبة والبلوغ لا يحل النظر إلا إلى المواضع اللازمة لهذا الغرض. 3 - عند اختلاف الجنس يشترط لإباحة النظر للعلاج أن لا تكون خلوة بين الرجل والمرأة؛ لأن الحاجة تسوغ النظر، ولا تسوغ الخلوة، فتبقى محرمة، إلا إذا تعذر وجود مانع للخلوة من محرم أو زوج أو خيف الهلاك قبل حضوره. 4 - أن يتعذر دفع الحاجة باللجوء إلى الجنس المشابه، فلا يعالج الرجل المرأة مع وجود امرأة أخرى تستطيع القيام بذلك على النحو الذي يدفع الحاجة، وكذلك لا تعالج المرأة الرجل مع وجود رجل يمكنه القيام بالعلاج المطلوب؛ وذلك لأن نظر الإنسان إلى جنسه أخف من نظره إلى غير جنسه، فإن لم يوجد المعالج من الجنس الواحد أو وجد وكان لا يحسن العلاج، جاز نظر الرجل إلى المرأة وعكسه. 5 - أن لا يكون المعالج ذميًا إذا وجد مسلم يقوم مقامه، فلو لم يوجد لعلاج المرأة إلا طبيبة كافرة وطبيب مسلم تقدم الكافرة؛ لأن نظرها ومسها أخف من الرجل. 6 - أن يكون الطبيب المعالج أمينًا غير متهم في خلقه ودينه، فإن تعذر وجود الأمين جاز الرجوع إلى غيره بقدر الضرورة، ويشترط في معالجة الرجل للمرأة

وجواز نظره إليها أن يأمن الافتتان بها إن لم يتعين، فإن تعين فينبغي أن يعالجها ويكف نفسه ما أمكن. وقد صدر بخصوص هذه النازلة قرار من مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي (¬1)، ومما جاء فيه: 1 - الأصل الشرعي أنه لا يجوز كشف عورة المرأة للرجل، ولا العكس، ولا كشف عورة المرأة للمرأة، ولا عورة الرجل للرجل. 2 - يؤكد المجمع على ما صدر من مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بقراره رقم 85/ 12 / 85. في 1 - 7/ 1 / 1414 هـ وهذا نصه: "الأصل أنه إذا توافرت طبيبة مسلمة متخصصة يجب أن تقوم بالكشف على المريضة، وإذا لم يتوافر ذلك، فتقوم طبيبة غير مسلمة، فإن لم يتوافر ذلك يقوم به طبيب مسلم، وإن لم يتوافر طبيب مسلم يمكن أن يقوم مقامه طبيب غير مسلم، على أن يطلع من جسم المرأة على قدر الحاجة في تشخيص المرض ومداواته، وألا يزيد عن ذلك، وأن يغض الطرف قدر استطاعته، وأن تتم معالجة الطبيب للمرأة هذا بحضور محرم أو زوج أو امرأة ثقة خشية الخلوة" انتهى النقل. 3 - في جميع الأحوال المذكورة، لا يجوز أن يشترك مع الطبيب إلا من دعت الحاجة الطبية الملحة لمشاركته، ويجب عليه كتمان الأسرار إن وجدت. 4 - يجب على المسؤولين في الصحة والمستشفيات حفظ عورات المسلمين والمسلمات من خلال وضع لوائح وأنظمة خاصة تحقق هذا الهدف، وتعاقب كل من لا يحترم أخلاق المسلمين، وترتيب ما يلزم لستر العورة وعدم كشفها أثناء العمليات إلا بقدر الحاجة من خلال اللباس المناسب شرعًا. ¬

_ (¬1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة قرار رقم: 82 (8/ 14).

5 - ويوصي المجمع بما يلي: أ- أن يقوم المسؤولون عن الصحة بتعديل السياسة الصحية فكرًا ومنهجًا وتطبيقًا بما يتفق مع ديننا الإسلامي الحنيف وقواعده الأخلاقية السامية، وأن يولوا عنايتهم الكاملة لدفع الحرج عن المسلمين، وحفظ كرامتهم وصيانة أعراضهم. ب- العمل على وجود موجه شرعي في كل مستشفى للإرشاد والتوجيه للمرضى. وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله رب العالمين.

النازلة الثامنة والعشرون: استفادة المسلمين من عظم الحيوانات وجلودها في صناعة الجيلاتين

النازلة الثامنة والعشرون: استفادة المسلمين من عظم الحيوانات وجلودها في صناعة الجيلاتين: أولاً: التعريف بالجلاتين: الجلاتين مادة هلامية تميل إلى اللون الأصفر الغامق، وأحيانًا تكون ذات لون أبيض به لون أصفر، وهي شفافة هشة وليس لها طعم، وتستخرج المادة من بروتين الكولاجين خلال مراحل من التصنيع من جلد وعظام الحيوانات المختلفة (بما فيها الخنزير). ثانيًا: أنواع الجيلاتين: 1 - الجلاتين (أ): وهو يستخرج غالبًا من جلود الخنازير، فيستخلص بمحلول حمضي، وله القدرة على امتصاص ثلاثة أمثال وزنه من الماء. 2 - الجيلاتين (ب): ويستخرج من فضلات المدابغ (جلود الأبقار والعظم)، ويستخلص بمحلول قلوي، ويمتاز بقدرته على امتصاص ثمانية أمثال وزنه من الماء. 3 - الجيلاتين المستخلص من جلود الأسماك القشرية: وأكثر استخدامات الجلاتين تكون من جلد الخنزير، والسبب يعود لسهولة استخلاصه بطريقة النقع في الحامض مدةً بسيطة وبتكلفة أقل بكثير من طريقة الاستخلاص من العظام أو جلود الأبقار بالطريقة القاعدية. ثالثًا: فوائد الجيلاتين: يستخدم في تحضير بعض الحلويات، وبعض أنواع اللبان أو العلك، ومنتجات الروب، ومسحوق الهلام (الجيلي)، ومسحوق حلوى المهلبية، والعجائن، والكعك، والفطائر، وهلام (جيلي) حفظ الفاكهة، ومنتجات الأسماك، واللحم، و (كبسولات)

الأدوية، وكسوة الحبيبات لتصبح غير قابلة للذوبان السريع، والأقراص، وتحضير التحاميل بأنواعها؛ لأنه يذوب بفعل حرارة الجسم، ومعاجين الأسنان، والمراهم، والكريمات. وهنا ننبه إلى أمر هام وهو ما يقوله المختصون بصناعة الجلاتين من أن تحديد نوع الحيوان الذي هو منشأ الجيلاتين أمر لا يمكن تحقيقه بإتباع إجراءات التفتيش الغذائي أو طرق التحليل المعتمدة في الوقت الحاضر. وبناءً على قولهم فإن أي ملصق على أي منتج غذائي في حالة تم ذكر أنه حلال أو حرام (كذب) لعدم وجود أجهزة مخبرية تكشف أصل الجيلاتين لأي حيوان ينتمي إليه. حكم استفادة المسلمين من عظام الحيوانات وجلودها في صناعة الجيلاتين: نقول يتوقف الحكم في هذه النازلة على نوع الحيوان الذي أخذت منه المادة، وكيف تمت ذكاته. فإن أخذت من حيوان مأكول اللحم، مذكى ذكاة شرعية (وهو ما ذكاه المسلم أو الكتابي -يهوديًّا كان أو نصرانيًّا- وكانت ذكاته بقطع الحلقوم، والودجين) فهي طاهرة، يجوز استعمالها فيما ذكرناه في فوائد استعمال الجيلاتين. وإن أخذت من ميتة، أو حيوان لم يذك ذكاة شرعية، أو من حيوان لا يحل أكله كالخنزير، فهي موضع خلاف بين أهل العلم، فقال بعضهم: أنه إذا استحالت النجاسة طَهُرت، وبناء عليه فإن ما يكون عينه نجسة كالخنزير مثلًا أو كان من حيوان مأكول اللحم غير أنه لا يجوز الأكل منه لكونه لم يذك، فإنه إذا استحال أصبح مادة أخرى فيجوز استعماله في الأكل والشرب وكل شيء؛ لأن عينه النجسة تحولت إلى شيء آخر، والحكم يدور مع عِلّته وجودًا وعدمًا، فالعِلَّة لم تعد موجودة هنا.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن النجاسة لا تطهر بالاستحالة، وعلى ذلك يحرم الانتفاع بها في الأكل أو الإدهانات؛ لنجاستها. والذي يظهر لنا أنه لا يجوز الاستفادة من عظام أو جلود الحيوانات إلا إذا اجتمع فيه وصفان: الأول: أن يكون مباحًا أكله حال الحياة، أي: مما تحله الذكاة. الثاني: أن يذكى ذكاة شرعية، وتكون بالتسمية، وبقطع الحلقوم، والودجين. وقد صدر من مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي (¬1) قرار بخصوص هذه النازلة، ومما جاء فيه ما يلي: أولًا: يجوز استعمال الجيلاتين المستخرج من المواد المباحة، ومن الحيوانات المباحة، المذكَّاة تذكية شرعية، ولا يجوز استخراجه من محرم؛ كجلد الخنزير وعظامه وغيره من الحيوانات والمواد المحرمة. ثانيًا: يوصي المجلس الدول الإسلامية والشركات العاملة فيها وغيرهما أن تتجنب استيراد كل المحرمات شرعًا، وأن توفر للمسلمين الحلال الطيب. ¬

_ (¬1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة قرار رقم: 85 (3/ 15).

النازلة التاسعة والعشرون: في البصمة الوراثية

النازلة التاسعة والعشرون: في البصمة الوراثية أولًا: التعريف بالبصمة الوراثية: لقد دلَّت الاكتشافات الطبية أنه يوجد في داخل النواة التي تستقر في خلية الإنسان (ستة وأربعون) من الصبغيات (الكروموسومات)، وكل واحد من الكروموسومات يحتوي على عدد كبير من الجينات الوراثية قد تبلغ في الخلية البشرية الواحدة إلى مئة ألف مورثة جينية تقريبًا، وهذه المورثة هي التي تتحكم في صفات الإنسان، والطريقة التي يعمل بها، بالإضافة إلى وظائف أخرى تنظيمية للجينات. وقد أثبتت التجارب الطبية الحديثة بواسطة وسائل تقنية في غاية التطور والدقة: أنَّ لكل إنسان جينومًا بشريًّا يختص به دون سواه، لا يمكن أن يتشابه فيه مع غيره أشبه ما يكون ببصمة الأصابع في خصائصها بحيث لا يمكن تطابق الصفات الجينية بين شخص وآخر حتى وإن كانا توأمين. ولهذا جرى إطلاق عبارة (بصمة وراثية) للدلالة على تثبيت هوية الشخص أخذًا من عينة الحمض النووي المعروف بـ (دنا- DNA) الذي يحمله الإنسان بالوراثة عن أبيه وأمه إذ أنَّ الكروموسومات، لـ (ستة وأربعين) التي يحملها كل شخص داخل كل خلية من خلايا جسمه، يرث نصفها وهي (ثلاثة وعشرين) كروموسومًا عن أبيه بواسطة الحيوان المنوي، والنصف الآخر وهي (ثلاثة وعشرين) كروموسومًا يرثها عن أمه بواسطة البويضة، وكل واحدة من هذه الكروموسومات والتي هي عبارة عن جينات الأحماض النووية (دنا) ذات شقين، يرث الشخص شقًا منها عن أبيه والشق الآخر عن أمه، فينتج عن ذلك كروموسومات خاصة به، لا تتطابق مع كروموسومات أبيه من كل وجه، ولا مع كروسومات أمه من كل وجه، وإنما جاءت

خليطًا منهما، وبهذا الاختلاط اكتسب صفة الاستقلالية عن كروموسومات أي من والديه مع بقاء التشابه معهما في بعض الوجوه، لكنه مع ذلك لا يتطابق مع أي من كروموسومات والديه فضلًا عن غيرهما. وعلماء الطب الحديث يرون أنهم يستطيعون إثبات الأبوة أو البنوة لشخص ما أو نفيه عنه من خلال إجراء فحوصات على جيناته الوراثية؛ حيث دلَّت الأبحاث الطبية التجريبية على أن نسبة النجاح في إثبات النسب قد تصل إلى قريب من القطع وذلك بنسبة (99 %) تقريبًا، وفي حالة نفي النسب تصل إلى حدِّ القطع، أي: بنسبة (100 %). وطريقة معرفة ذلك: أن يؤخذ عينة من أجزاء الإنسان بمقدار رأس الدبوس من البول، أو الدم، أو الشعر، أو المني، أو العظم، أو اللعاب، أو خلايا الكلية، أو غير ذلك من أجزاء جسم الإنسان، وبعد أخذ هذه العينة يتم تحليلها وفحص ما تحتوي عليه من كروموسومات -صبغيات- تحمل الصفات الوراثية، فبعد معرفة هذه الصفات الوراثية الخاصة بالابن وبوالديه يمكن بعد ذلك أن يثبت أنَّ بعض هذه الصفات الوراثية في الابن موروثة له عن أبيه، لاتفاقهما في بعض هذه الجينات الوراثية فيحكم عندئذ بأبوته له، أو يقطع بنفي أبوته عنه لعدم تشابههما في شيء من هذه الجينات الوراثية، فيحكم عندئذ بنفي أبوته له وكذلك الحال بالنسبة للأم. ويرى المختصون في المجال الطبي وخبراء البصمات أنه يمكن استخدام البصمات الوراثية في مجالات كثيرة، ترجع في مجملها إلى مجالين رئيسين هما: 1 - المجال الجنائي: وهو مجال واسع يدخل ضمنه الكشف عن هوية المجرمين في حالة ارتكاب جناية قتل أو اعتداء، وفي حالات الاختطاف بأنواعها، وفي حالة انتحال شخصيات آخرين وغير ذلك.

ثانيا: مدى مشروعية العمل بالبصمة الوراثية

2 - مجال النسب: وذلك في حالة الحاجة إلى إثبات البنوة أو الأبوة لشخص، أو نفيه عنه، وفي حالة اتهام المرأة بالحمل من وطء شبهة أو زنا. ثانيًا: مدى مشروعية العمل بالبصمة الوراثية (¬1): البصمة الوراثية ومدى العمل بها والاستفادة منها ومدى بناء الحكم الشرعي عليها تناولته الكثير من الأبحاث والندوات والمؤتمرات وصدرت بخصوصها القرارات العدة. والذي نراه في هذه النازلة ما قرره مجمع الفقهي الإسلامي (¬2) التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة وهذا نص القرار: أولًا: لا مانع شرعًا من الاعتماد على البصمة الوراثية في التحقيق الجنائي، واعتبارها وسيلة إثبات في الجرائم التي ليس فيها حد شرعي ولا قصاص؛ لخبر: "ادْرَؤوا الحُدُودَ بالشُّبُهاتِ". وذلك يحقق العدالة والأمن للمجتمع، ويؤدي إلى نيل المجرم عقابه وتبرئة المتهم، وهذا مقصد مهم من مقاصد الشريعة. ثانيًا: إن استعمال البصمة الوراثية في مجال النسب لا بد أن يحاط بمنتهى الحذر والحيطة والسرية، ولذلك لا بد أن تقدم النصوص والقواعد الشرعية على البصمة الوراثية. ثالثًا: لا يجوز شرعًا الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب، ولا يجوز تقديمها على اللعان. رابعًا: لا يجوز استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من صحة الأنساب ¬

_ (¬1) انظر في ذلك كتاب: البصمة الوراثية ومدي مشروعية استخدامها في النسب والجناية، د. عمر بن محمَّد السبيل -رحمه الله-. (¬2) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة قرار رقم: 95 (7/ 16).

الثابتة شرعًا، ويجب على الجهات المختصة منعه وفرض العقوبات الزاجرة؛ لأن في ذلك المنع حماية لأعراض الناس وصونًا لأنسابهم. خامسًا: يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات التالية: أ- حالات التنازع على مجهول النسب بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء، سواء أكان التنازع على مجهول النسب بسبب انتفاء الأدلة أو تساويها، أم كان بسبب الاشتراك في وطء الشبهة ونحوه. ب- حالات الاشتباه في المواليد في المستشفيات، ومراكز رعاية الأطفال ونحوها، وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب. ج- حالات ضياع الأطفال واختلاطهم، بسبب الحوادث أو الكوارث أو الحروب، وتعذر معرفة أهلهم، أو وجود جثث لم يمكن التعرف على هويتها، أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحروب والمفقودين. سادسًا: لا يجوز بيع الجينوم البشري لجنس، أو لشعب، أو لفرد، لأي غرض، كما لا تجوز هبتها لأي جهة؛ لما يترتب على بيعها أو هبتها من مفاسد. سابعًا: يوصي المجمع بما يلي: أ- أن تمنع الدولة إجراء الفحص الخاص بالبصمة الوراثية إلا بطلب من القضاء، وأن يكون في مختبرات للجهات المختصة، وأن تمنع القطاع الخاص الهادف للربح من مزاولة هذا الفحص؛ لما يترتب على ذلك من المخاطر الكبرى. ب- تكوين لجنة خاصة بالبصمة الوراثية في كل دولة، يشترك فيها المتخصصون الشرعيون، والأطباء، والإداريون، وتكون مهمتها الإشراف على نتائج البصمة

الوراثية، واعتماد نتائجها. ج- أن توضع آلية دقيقة لمنع الانتحال والغش، ومنع التلوث وكل ما يتعلق بالجهد البشري في حقل مختبرات البصمة الوراثية؛ حتى تكون النتائج مطابقة للواقع، وأن يتم التأكد من دقة المختبرات، وأن يكون عدد المورثات (الجينات المستعملة للفحص) بالقدر الذي يراه المختصون ضروريًّا دفعًا للشك. والله ولي التوفيق، وصلى الله على نبينا محمَّد.

النازلة الثلاثون: بنوك الحليب

النازلة الثلاثون: بنوك الحليب تمهيد: بنوك الحلِيب فكرة مُسْتَحْدَثَة لم تكن معهودة من قبل، ثم أصبحت من قضايا العصر، وقد عقدت لأجلها عدَّة ندوات، فما هي فكرة بنوك الحليب، وما مدى مشروعيتها؟ أولًا: نشأتها والتعريف بها: نشأت بنوك الحلِيب منذ ما يقرب من ثلاثين عامًا في دول أوربا وأمريكا، وتتلخص الفكرة: في جمع اللَّبن من أمهات متبرعات، أو بأجر، ويؤخذ هذا اللَّبن بطريقة معقَّمة، ويحفظ في قوارير معقَّمة بعد تعقيمه مرَّة أخرى في بنوك الحلِيب. فالبنك إذًا يقوم بجمع لبن الأمَّهات عن طريق التَّبَرُّع، أو البيع ثم تبريده، وحفظه في ثلاجات لمدَّة تصل إلى ثلاثة أشهر، أو تجفيفه، وإعطائه للأطفال المحتاجين للرَّضاعَة الطَّبيعيَّة. ثانيًا: الحكم الشرعي لهذه النازلة: لما كانت هذه المسألة من المسائل الحديثة، فقد اختلفت فيها أنظار أهل العلم فمنهم من أجازها بلا قيد ومنهم من أجازها بقيود منها: 1 - أن تكون الأم صاحبة اللَّبن سليمة البدن ذات عقل راجح؛ لأن للرضاع تأثيرًا في نمو عقل الأطفال، فالمرضعة السكرى، أو المجنونة، أو الَّتي تتغذى على لحوم الخنازير، أو الَّتي تتناول المخدرات، وما إلى ذلك يجب اجتناب لبنها. 2 - يجب التأكد بواسطة العلماء المختصِّين من احتواء اللَّبن على كل عناصر الغذاء المطلوبة لنمو الطِّفل وإلا لا فائدة من استعماله.

3 - ألَّا يؤخذ من لبَن الأم المتبرعة أو المستأجرة أكثر من مرَّتين، حتَّى لا يكون في ذلك إضرار بالطِّفل صاحب اللبن، أما إذا فطمت الأم ولدها أو توفي أو أصيب بمرض منعه الرَّضاع، فلا حرج على الأم عندئذ أن تهب أو تبيع لبنها. 4 - تدوين أسماء الأمهات المتبرعات، أو عمل سجل خاص بكل أم إن أمكن ذلك؛ لتتأكد الجهة المختصة من خلاله استيفاء جميع الضوابط المذكورة سابقًا، وحبذا استعمال أجهزة الحاسوب في ذلك. 5 - تقوم الجهة المختصة بتقسيم اللَّبن إلى نوعين: الأول: اللَّبن الطازج: وهو نوعان: أ- نوع خاص: وذلك بجمع لبن كل أم في قارورة خاصة مع كتابة اسمها، وبياناتها عليها، أو تدوين ذلك في شهادة ميلاد الطِّفل بحيث يمكنه التحري -فيما بعد- من الوقوع في حرمة الزَّواج من أخواته من الرَّضاع وفي هذا النوع -إذا تم- لا تكون بحاجة إلى بيان حكم التحليل، أو التَّحريم ألبتة. ب- الثَّاني نوع عام: وذلك بجمع لبن الأمهات مختلطًا عند تعذر الكتابة والتدوين، واستعماله حال الضرورة فيما لو كان اللَّبن الصناعي غير كاف، أو ملوثًا بمواد سامة، أو غير مناسب لتغذية هؤلاء الأطفال، أو عقب الكوارث الَّتي يقدرها الله سبحانه وتعالى على بعض الأقطار الإسلاميَّة كالزلازل الشديدة الَّتي تحول دون وصول المساعدات العاجلة، أو الحروب الَّتي تمنع وصول الألبان الصِّناعيَّة ... إلخ. الثَّاني: اللَّبن المجفف: وهو ما يمكن الاحتفاظ به لفترات طويلة بعد معالجته، والاحتفاظ به في صورة (بودرة) تخلط بالماء عند الاستعمال، أو يخلط بالطعام أو الدواء، فيأخذ حكم اللَّبن

المشروب ويستعمل ضرورة للأطفال الخدج، أو الطبيعيين مع مراعاة الضوابط المذكورة سابقًا. والذي نراه بعد النظر في الأقوال وأدلتها أن الصواب هو التحريم، فلا يجوز إنشاء هذه البنوك وذلك لعدة أوجه: الأول: بإنشاء مثل هذه البنوك تعم الفوضى، فقد يتزوج الرجل امرأة يكون قد ارتضع منها أو من لبن ابنتها أو من لبن أمها وهذه مفسدة عظيمة تفضي إلى اختلاط الأنساب، فتمنع سدًّا للذريعة، وقد تقرر في القواعد أن سد الذريعة من أصول هذه الشريعة. الثاني: أن حفظ النسل من الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة بها، فأي سببٍ يفضي إلى ضياع النسل واختلاطه، فإنه لا بد أن يمنع محافظة على هذه الضرورة، وهذا اللبن في البنوك المسماة لا يعرف لبن أي امرأة ولا ندري من الطفل الذي سيرتضع منه، وحفظ النسل واجب والتسبب في اختلاطه وإضاعته محرم، وقد تقرر في القواعد أن ما لا يتم ترك الحرام إلا به فتركه واجب وفعله محرم. الثالث: أن القول بجواز إنشاء هذه البنوك فيه إقدام على مفاسد متحققة من أجل مراعاة مفاسد متوهمة، فإن ارتضاع الطفل يمكن باستئجار مرضعة إن لم تكن أمه موجودة، أو عن طريق الحليب الصناعي فإنه يسد الغرض مع أنه لا يقوم مقام لبن الأم، وبناءً عليه فإنشاء هذه البنوك لا ضرورة تدعو له ولا حاجة لها أصلًا فالإقدام عليها إقدام على مفاسد متحققة من أجل دفع مفاسد متوهمة، والمتقرر في القواعد أنه لا يجوز الإقدام على المفاسد المتحققة من أجل دفع المفاسد المتوهمة وهذا واضح. الرابع: أن الفائدة من إنشاء هذه البنوك إغاثة الأطفال ونفعهم بحليب النساء فإنه لا يقوم مقامه شيء في فائدته وله عوائده الطيبة في الحال والمآل، وهذا من باب

تحقيق المصلحة، فالقول بإنشائها فيه تحقيق مصلحة، والقول بإلغائها وسد أبوابها فيه دفع لمفسدة عظيمة وهي اختلاط النسل وضياع الأمور وفساد المجتمع، فالقول بجوازها فيه تحقيق مصلحة، والقول بعدمها فيه درء للمفسدة، وقد تقرر في القواعد أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح (¬1). وقد صدر من مجمع الفقه الإسلامي (¬2) قرار بحرمة بنوك الحليب ومما جاء فيه ما نصه: 1 - أن بنوك الحليب تجربة قامت بها الأمم الغربية، ثم ظهرت مع التجربة بعض السلبيات الفنية والعلمية فيها فانكمشت وقل الاهتمام بها. 2 - أن الإسلام يعتبر الرضاع لحمة كلحمة النسب، يحرم به ما يحرم من النسب بإجماع المسلمين، ومن مقاصد الشريعة الكلية المحافظة على النسب، وبنوك الحليب مؤدية إلى الاختلاط أو الريبة. 3 - أن العلاقات الاجتماعية في العالم الإسلامي توفر للمولود الخداج -إلقاء المرأة ولدها قبل أوانه لغير تمام الأيام، وإن كان تام الخلق- أو ناقص الوزن أو المحتاج إلى اللبن البشري في الحالات الخاصة ما يحتاج إليه من الاسترضاع الطبيعي، الأمر الذي يغني عن بنوك الحليب. وبناء على ذلك قرر: أولًا: منع إنشاء بنوك حليب الأمهات في العالم الإسلامي. الثاني: حرمة الرضاع منها. ¬

_ (¬1) انظر كتاب: بنوك الحلِيب في ضوء الشريعة الإسلامية، دراسة فقهية مقارنة، د. عبد التواب مصطفى خالد معوض. (¬2) مجلة المجمع (ع 2، ج 1/ 383) قرار رقم 6 (6/ 2).

النازلة الحادية والثلاثون: نقل الدم

النازلة الحادية والثلاثون: نقل الدم إذا مرض إنسان واشتد ضعفه ولا سبيل لتقويته أو علاجه إلا بنقل دم من غيره إليه، فهل يشرع لغيره أن يتبرع له من دمه؟ نقول إذا مرض إنسان واشتد ضعفه ولا سبيل لتقويته أو علاجه إلا بنقل دم من غيره إليه وتعين ذلك طريقًا لإنقاذه، وغلب على ظن أهل المعرفة انتفاعه بذلك، فلا بأس بعلاجه بنقل دم غيره إليه، ولو اختلف دينهما، فينقل الدم من كافر ولو حربيًّا لمسلم، وينقل من مسلم لكافر غير حربي، أما الحربي فنفسه غير معصومة فلا تجوز إعانته، بل ينبغي القضاء عليه إلا إذا أُسِر؛ فلإمام المسلمين أو نائبه أن يفعل به ما يراه مصلحة للمسلمين؛ من قتل أو استرقاق، أو مَنٍّ عليه، أو قبول فداء منه أو من أوليائه، وإلا إذا أمّن فيجار حتى تبيّن له الحجة، فإن آمن فيها وإلا بلغ مأمنه. الأصل في هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]. وقوله سبحانه: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]، وقال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]. وجه الدلالة من هذه الآيات أنها أفادت أنه إذا توقف شفاء المريض أو الجريح وإنقاذ حياته على نقل الدم إليه من (شخص) آخر بأن لا يوجد من (الأغذية والأدوية المباحة) ما يقوم مقامه في شفائه وإنقاذ حياته جاز نقل الدم إليه، وهذا في الحقيقة من باب الغذاء لا من باب الدواء (واستعمال الغذاء المحرّم عند الضرورة جائز كأكل الميتة للمضطر)، ولا يكون هذا التبرع إلا بشروط هي:

1 - ألا يترتب على المتبرع عند نقله منه ضرر فاحش؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ" (¬1). 2 - أن يكون المتبرع له معصوم الدم فينقل الدم من كافر ولو حربيًّا لمسلم، وينقل من مسلم لكافر غير حربي، أما الحربي فنفسه غير معصومة فلا يجوز نقل الدم له. 3 - أن يكون الدم خاليًا من الأمراض المعدية. 4 - أن تكون هناك ضرورة للمتبرع له بحيث تتوقف حياته إذا كان مريضًا أو جريحًا على نقل الدم؛ وذلك لأن الدم عند أكثر أهل العلم نجس، فلا يجوز التداوي به إلا إذا خشي على نفسه الهلاك فيجوز، مثل الميتة. 5 - أن يكون الدم بلا عوض، فإن كان بعوض حرم أخذ العوض؛ لأن الله إذا حرَّم شيئًا حرم ثمنه، فإن تعذر حصوله على الدم بلا عوض جاز له أن يشتري ويدفع الثمن للضرورة، لكن الذي يبيع الدم هو الذي يأثم ولا يجوز له أن يأخذ الثمن. وقد صدرت عدة قرارات بخصوص مدى مشروعية التبرع بالدم منها مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن رابطة العالم الإِسلامي (¬2)، ومما جاء فيه: "نقل الدم لا يحصل به التحريم، وأن التحريم خاص بالرضاع. أما حكم أخذ العوض عن الدم وبعبارة أخرى: بيع الدم، فقد رأى المجلس: أنه لا يجوز؛ لأنه من المحرمات ¬

_ (¬1) رواه أحمد (5/ 326 - 327)، وابن ماجه، كتاب الأحكام: باب من بني في حقِّه ما يضرّ بجاره، رقم (2340) من حديث عبادة بن الصامت. ورُوي أيضًا من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة، وجابر، وابن عباس، وعائشة وغيرهم. قال النووي: "حديثٌ حسنٌ ... وله طرق يَقْوَى بعضها ببعض". قال ابن رجب: "وهو كما قال". قال ابن الصَّلاح: "هذا الحديث أسنده الدارقطني". (¬2) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة قرار رقم: 62 (3/ 11).

المنصوص عليها في القرآن الكريم، مع الميتة ولحم الخنزير، فلا يجوز بيعه وأخذ عوض عنه، وقد صح في الحديث: "إنَّ الله تعالى إذا حرَّم شيئًا حرَّم ثَمَنَهُ". كما صح أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الدم، ويستثنى من ذلك حالات الضرورة إليه؛ للأغراض الطبية ولا يوجد من يتبرع به إلا بعوض، فإن الضرورات تبيح المحظورات، بقدر ما ترفع الضرورة، وعندئذ يحل للمشتري دفع العوض، ويكون الإثم على الآخذ، ولا مانع من إعطاء المال على سبيل الهبة أو المكافأة؛ تشجيعًا على القيام بهذا العمل الإنساني الخيري؛ لأنه يكون من باب التبرعات، لا من باب المعاوضات".

النازلة الثانية والثلاثون: إنشاء بنوك الدم

النازلة الثانية والثلاثون: إنشاء بنوك الدم من الأشياء المستحدثة في هذا العصر ما يسمى ببنوك الدم، وهي من ضرورات العصر لدعاء الضرورة الملحة له، وهو المعمول به في كل بلاد الدنيا؛ لا سيما مع كثرة الحوادث والحروب في هذه الأزمنة، ويدخل هذا الفرع تحت تحقيق مقصد حفظ النفوس، وقد تواترت الأدلة على ضرورة حفظ النفس. وصدر من هيئة كبار العلماء قرار ومما جاء فيه (¬1): أولًا: يجوز أن يتبرع الإنسان من دمه بما لا يضره عند الحاجة إلى ذلك لإسعاف من يحتاجه من المسلمين. ثانيًا: يجوز إنشاء بنك إسلامي لقبول ما يتبرع به الناس من دمائهم وحفظ ذلك لإسعاف من يحتاج إليه من المسلمين، على أن لا يأخذ البنك مقابلا ماليًا عن المرضى أو أولياء أمورهم عوضًا عما يسعفهم به من الدماء، وألا يتخذ ذلك وسيلة تجارية للكسب؛ لما في ذلك من المصلحة العامة للمسلمين. ¬

_ (¬1) أبحاث هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية (7/ 39).

النازلة الثالثة والثلاثون: منع الحمل الجراحي

النازلة الثالثة والثلاثون: منع الحمل الجراحي عمليات منع الحمل الجراحي: وهي التي تعرف بعمليات التعقيم التي تجري في الأغلب للنساء وفي الأقل للرجال، فهذه العمليات من المحدثات التي ظهرت في عصرنا الحاضر. وهذا النوع من التعقيم؛ الناس فيه على صنفين: الصنف الأول: وهو ما يلجأ إليه الطبيب حين يتبين له أن حملًا جديدًا لامرأة بذاتها هو بمثابة إلقاء بالمرأة إلى التهلكة، ومواضع ذلك أمور فنية يعلمها الأطباء. حكم هذا الصنف: يجوز فيه إجراء التعقيم إن قبلت به المرأة وزوجها بعد البيان الشافي والنصح الوافي من الطبيب، فإن رفضا فقد أبرأ الطبيب ذمته وترك الأصلح لما يليه. الصنف الثاني: وهو ما يلجأ إليه الزوجان من أجل تحديد حجم الأسرة بما تم إنجابه من أطفال لأسباب اجتماعية أو اقتصادية. حكم هذا الصنف: لا يجوز إجراء الجراحة التي تؤدي إلى عقم المرأة، وقد سبق بيان ذلك مفصلًا في نازلة الحكم الشرعي في تحديد النسل، بل لا يجوز للطبيب إجراء مثل هذه العملية حتى لو قبل المريض وتحمل المسؤولية ودفع الأتعاب؛ لأن هذا من التعاون على فعل محرم، وقد قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

النازلة الرابعة والثلاثون: رتق غشاء البكارة

النازلة الرابعة والثلاثون: رتق غشاء البكارة أولًا: التعريف بغشاء البكارة: البكارة: فعالة من البكر، وهو أوّل كلِّ شيء، والمرأة البكر هي العذراء، وهي التي لم تجامع بنكاح ولا غيره، وعلامة ذلك غشاء رقيق يغلق الفتحة الفرجية لدى الفتاة يزول عند الوطء، وينتج عن ذلك نقطة أو نقطتان من الدم. وليس وجود الغشاء أو عدم وجوده دليل حتمي قاطع على حصول الوطء، فإن بعض البنات يولدن دون غشاء بكارة، كما قد تكون فتحة غشاء البكارة واسعة خلقةً لا تتأثر بالوطء، كما أن تمزقه قد يحصل نتيجة حادث عادي، وقد تحتاج المرأة لإجراء عملية لفتح غشاء بكارة مقفل يمنع خروج دم الحيض، ولكنه مع ذلك قرينة تدل على حصول الوطء من عدمه. ثانيًا: حكم رتق غشاء البكارة: اتفق الفقهاء أنَّه إذا تمزق غشاء البكارة بسبب وطء في عقد نكاح صحيح أنَّه يحرم رتقه سواء كانت المرأة متزوجة أو مطلقة أو أرملة؛ لأنه بذلك لا مصلحة فيه. وكذلك اتفقوا أيضًا أنه إذا تمزق غشاء البكارة بسبب زنى اشتهر بين الناس إما نتيجة صدور حكم على الفتاة بالزنى أو لتكرره منها واشتهارها به، فإنه يحرم على الطبيب رتق عشاء البكارة، لعدم المصلحة واشتماله على المفسدة. واختلفوا في حكم رتق غشاء البكارة إذا كان سبب التمزق حادثًا ليس وطئًا، أو إذا كان بسبب زنى لم يشتهر بين الناس على قولين: الأول: أنه لا يجوز الرتق مطلقًا، واستدلوا على ذلك بأدلة منها:

1 - أن رتق غشاء البكارة يسّهل ارتكاب الزنى، وفيه اطلاع على العورة دون موجب ضروري. 2 - أنه قد يؤدي إلى اختلاط الأنساب، إذ قد تحمل المرأة من جماع سابق، ثم تتزوج بعد الرتق فيلحق الحمل بالزوج. 3 - أنه نوع من غش الزوج والغش محرم. 4 - أنه إذا اجتمعت المصالح والمفاسد فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك، وإن تعذر الدرء والتحصيل، فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة. وتطبيقًا لهذه القاعدة فإننا إذا نظرنا إلى رتق غشاء البكارة وما يترتب عليه من مفاسد حكمنا بعدم جواز الرتق لعظيم المفاسد المترتبة عليه. 5 - أن من قواعد الشريعة الإِسلامية أن الضرر لا يزال بالضرر، وبناء على ذلك لا يجوز للفتاة أن تزيل الضرر عنها برتق الغشاء وتلحقه بالزوج. 6 - أن مبدأ رتق غشاء البكارة مبدأ غير شرعي؛ لأنه نوع من الغش، والغش محرم شرعًا. 7 - أن رتق غشاء البكارة يفتح الباب للأطباء أن يلجؤوا إلى إجراء عمليات الإجهاض، وإسقاط الأجنّة بحجة السّتر. وأما الضرر اللاحق بالمرأة فيكفي في منعه إعطاؤها شهادة طبيّة بحقيقة حالها. القول الثاني: أنه يجوز في هذه الحالات، أي: (إذا كان سبب التمزق حادثًا ليس وطئًا أو إذا كان بسبب زنى لم يشتهر بين الناس)، واستدلوا لقولهم بأدلة منها: 1 - أن النصوص الشرعية دالة على مشروعية الستر وندبه، ورتق غشاء البكارة معين على تحقيق ذلك في الأحوال التي حكمنا بجواز فعله فيها.

2 - أن المرأة البريئة من الفاحشة إذا أجزنا لها فعل جراحة الرتق قفلنا باب سوء الظن فيها، فيكون في ذلك دفع للظلم عنها، وتحقيق لما شهدت النصوص الشرعية باعتباره وقصده من حسن الظن بالمؤمنين والمؤمنات. 3 - أن رتق غشاء البكارة يوجب دفع الضرر عن أهل المرأة، فلو تركت المرأة من غير رتق واطلع الزوج على ذلك لأضرها، وأضر بأهلها، وإذا شاع الأمر بين الناس فإن تلك الأسرة قد يمتنع من الزواج منهم؛ فلذلك يشرع لهم دفع الضرر لأنهم بريئون من سببه. 4 - أن قيام الطبيب المسلم بإخفاء تلك القرينة الوهمية في دلالتها على الفاحشة له أثر تربوي عام في المجتمع، وخاصة فيما يتعلق بنفسية الفتاة. 5 - أن مفسدة الغش في رتق غشاء البكارة ليست موجودة في الأحوال التي حكمنا بجواز الرتق فيها. والذي يترجح عندنا هو القول بجواز رتق غشاء البكارة وبخاصة للمغصوبة والتائبة لما يترتب عليه من مصلحة هي أعلى من المفسدة (¬1). ¬

_ (¬1) ويرى الشيخ الطيار أنه لا يجوز رتق غشاء البكارة مطلقًا لأن رتقها يسّهل ارتكاب الزنى وفيه اطلاع على العورة دون موجب ضروري وأنه قد يؤدي إلى اختلاط الأنساب، إذ قد تحمل المرأة من جماع سابق ثم تتزوج بعد الرتق فيلحق الحمل بالزوج، ولأنه نوع من غش الزوج والغش محرم.

النازلة الخامسة والثلاثون: ما يسمى بموت الرحمة

النازلة الخامسة والثلاثون: ما يسمى بموت الرحمة المقصود بموت الرحمة: هو الموت السهل أو الرحيم، أو الموت الهادئ بدون ألم، أو بمعنى آخر هو تيسير موت الشخص الميئوس من شفائه، وهو في انتظار موته المحقق لا يتحمل الألم، فيلح على الطبيب المعالج إنهاء حياته بطريقة خالية من الألم. ويعرف موت الرحمة من الناحية القانونية تحت اصطلاح (قتل الرحمة)، وهو فعل أو ممارسة ما يسهل موت الأشخاص الذين يعانون من أمراض مستعصية من شفائها فهو: (القتل بدافع الشفقة أو الرحمة)؛ لتخليص مريض لا يرجى شفاؤه من آلامه المبرحة التي لا تطاق .. الحكم الشرعي لما يسمى بموت الرحمة: لا يجوز قتل المريض الذي يأس من شفائه إشفاقًا له أو لمنع انتقال مرضه إلى غيره، بل ويحرم على المريض أن يقتل نفسه تخلصًا من الألم والواجب عليه الصبر، ويحرم على غيره قتله حتى لو أذن له في قتله، فالأول انتحار، والثاني عدوان على الغير بالقتل، وإذنه لا يحلل الحرام، فهو لا يملك روحه حتى يأذن لغيره أن يقضي عليها. فقتل الرحمة ليس من الحق، بل من المحرم قطعًا وفقًا للنصوص الشرعية. والواجب على الطبيب تقديم العلاج اللازم له والنتائج بعد ذلك على الله -عَزَّ وجَلَّ-. وقد قرر المجمع الفقهي الإسلامي (¬1) في دورته السابعة المنعقدة بجدة رفضه بشدة لما يسمى (قتل الرحمة)، بأي حال من الأحوال، وأن العلاج في الحالات ¬

_ (¬1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة (ع 2/ 67 / 5/ 17).

الميئوس منها يخضع للتداوي والعلاج، والأخذ بالأسباب التي أودعها الله -عَزَّ وجَلَّ- في الكون. ولا يجوز شرعًا اليأس من روح الله أو القنوط من رحمته، بل ينبغي بقاء الأمل في الشفاء بإذن الله.

النازلة السادسة والثلاثون: الترقيع الجلدي

النازلة السادسة والثلاثون: الترقيع الجلدي ترقيع الجلد: هي طريقة جراحية لتغطية الجروح التي على سطح الجسم بالجلد، أو هي عمليات جراحية يقصد منها نقل الجلد السليم من أحد أعضاء جسم المريض؛ لتغطية الجرح في جزء آخر من الجسم. حكم هذه النازلة: يجوز ترقيع جلد الآدمي بأجزاء من جلده، بشرط أن تكون المصلحة في ذلك أعظم من ترك الجزء. أما ترقيع جلد الآدمي بجلد إنسان آخر فهو محل خلاف بين أهل العلم كما سبق بيان ذلك في نازلة حكم التبرع بالأعضاء، والذي يظهر لنا جواز ذلك، وهو ما أوصت به بعض المنظمات الإسلامية ومنها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت (¬1)؛ حيث جاء في توصياتها ما يلي: أولًا: الترقيع الجلدي: 1 - للآدمي مسلمًا وغير مسلم حرمة ذاتية. وتكريم الآدمي والحفاظ على حرمته مقصد من مقاصد الشريعة؛ لذا فإن عمليات الترقيع الجلدي الجائزة بالشروط المبينة فيما يلي، لا تتنافى مع هذا المقصد بل تحققه وترسخه. 2 - الجلد عضو حي ينطبق عليه من حيث النقل ما ينطبق على نقل الأعضاء وزرعها طبقًا لما قررته المجامع الفقهية. ¬

_ (¬1) انظر: القرار في كتاب الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي (7/ 209).

3 - عمليات الترقيع الجلدي برقعة من مصدر آدمي ربما تكون ضرورة شرعية تخضع في أحكامها للشروط العامة للضرورة. 4 - الرقعة الجلدية المأخوذة من مصدر آدمي حي أو ميت، ذاتية (من الشخص لنفسه)، أو مثلية (من آدمي لآدمي) طاهرة شرعًا. 5 - يتوقف جواز عمليات الترقيع الجلدي برقعة من مصدر آدمي على توافر الشروط التالية: أ - أن يكون الترقيع الجلدي هو الوسيلة الطبية الوحيدة الممكنة لعلاج المريض. ب- أن لا يتسبب نزع الجلد في حالة التبرع من الحي في ضرر يماثل ضرر المتبرع له أو يفوقه. ج- أن يبلغ نجاح عملية الترقيع حد غلبة الظن. د- أن يكون الحصول على الجلد الآدمي عن غير طريق البيع أو الإكراه أو التغرير، ولا مانع من بذل المال من قبل المحتاج من أجل الحصول على الجلد اللازم إذا لم يجد متبرعًا. 6 - الرُّقَع الجلدية المأخوذة من حيوان طاهر مذكىً حسب الشروط الشرعية مصدر يبيحه الشرع. 7 - الرُّقَع الجلدية المأخوذة من حيوان غير مأكول (باستثناء الكلب والخنزير) يجوز الترقيع بها إن ذكيّ تذكية شرعية. 8 - الرقع الجلدية المأخوذة من الميتة أو من حيوان حي نجسة لا يجوز استخدامها إلا عند الضرورة.

9 - الرقع الجلدية المأخوذة من الكلب أو الخنزير لا يجوز استخدامها إلا عند عدم وجود البديل الجائز شرعًا وعند الضرورة، شريطة أن تكون مؤقتة. 10 - يجوز إنشاء بنك لحفظ جلد الآدمي مع مراعاة ما يلي: أ- أن يكون البنك بيد الدولة أو هيئة مؤتمنة تحت إشراف الدولة. ب- أن يكون الاختزان للجلود الآدمية على قدر الحاجة، الواقعية والمتوقعة. ج- أن تحترم قطع الجلد التي يستغنى عنها، فتدفن ولا تلقى في مصبِّ الفضلات.

النازلة السابعة والثلاثون: أحكام التخدير الجراحي

النازلة السابعة والثلاثون: أحكام التخدير الجراحي أولًا: تعريف التخدير وأنواعه: التخدير: هو وضع المريض بحالة فقدان الوعي بحيث يتمكن الطبيب الجراح من القيام بالعملية الجراحية. ويعتبر التخدير وسيلة مساعدة في مجال الجراحة وليس وسيلة علاجية حيث يخدم في: 1 - تجنيب المريض الإحساس بالألم، وبالتالي تجنيب الجراح بذل جهد أكبر كي لا يسبب مزيدًا من الألم للمريض، وبالتالي يوجه كل جهده وتركيزه على العملية الجراحية. 2 - ارتخاء العضلات يسهل عمل الجراح. أما مهمة طبيب التخدير: فهي تكون بوضع المريض تحت تأثير التخدير قبل العملية الجراحية، والحفاظ على التخدير خلال فترة العملية، ثم إفاقة المريض من التخدير بعد العملية الجراحية، ويتم ذلك بواسطة استنشاق المريض لخليط من الأوكسجين وعوامل التخدير باستخدام جهاز التخدير. يعتبر جهاز التخدير من أجهزة الخطورة العالية ويتواجد في غرف العمليات. أنواع التخدير: * الموضعي: وهو الذي يسبب زوال الحس في منطقة محدودة من الجسم. * العام: وهو الذي يسبب ضياع الإدراك وفقدان الحس التام في سائر الجسم.

ثانيا: الحكم الشرعي

ثانيًا: الحكم الشرعي: بالنسبة لمشروعية التخدير الجراحي فإن الطبيب يحتاج أثناء قيامه بمهمة الجراحة الطبية إلى سكون المريض وعدم حركته كي يستطيع القيام بمهمته، ولا تخلو الحاجة إلى التخدير في الجراحة الطبية من ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تصل إلى مقام الضرورة: وهي الحالة التي يستحيل فيها إجراء الجراحة الطبية بدون تخدير كما في جراحة القلب المفتوح ونحوها من أنواع الجراحة الخطيرة والتي إذا لم يخدر فيها المريض فإنه سيموت في أثناء الجراحة أو بعدها بقليل. وحكم هذه الحالة: جواز فعل التخدير؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات. الحالة الثانية: أن تصل إلى مقام الحاجة: وهي الحالة التي لا يستحيل فيها إجراء الجراحة الطبية بدون تخدير، ولكن المريض يلقى فيها مشقة فادحة لا تصل به إلى درجة الموت والهلاك، وهي الحالة المتوسطة، ومن أمثلتها جراحة بتر الأعضاء. وحكم هذه الحالة: جواز فعل التخدير أيضًا؛ لأن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة. الحالة الثالثة: وهي التي لا تصل إلى مقام الضرورة والحاجة: حيث يمكن فيها إجراء الجراحة الطبية دون أن يخدر الشخص المريض ويلقى فيها بعض الآلام البسيطة التي يمكنه الصبر عليها دون أن تلحق به مشقة فادحة في الغالب، ومن أمثلتها: قلع السن في بعض حالاته. وحكم هذه الحالة: أنه يرخص في اليسير من المخدر في التداوي بناء على نص الفقهاء المتقدمين على جواز استعمال المخدر في التداوي.

ثالثا: بعض الأحكام المترتبة على التخدير

وهنا لا بد من التنبيه على أنه لا يجوز للمخدر أن يختار طريقة أشد ضررًا من غيرها متى أمكن التخدير بالطريقة التي هي أقل منها ضررًا، كما لا يجوز له أن يعدل إلى التخدير عن طريق العورة "فتحة الشرج" متى أمكن التخدير عن طريق الوريد ونحوه؛ لأن العورة لا يستباح كشفها إلا عند الحاجة وانعدام البديل. ثالثًا: بعض الأحكام المترتبة على التخدير: خلاصة هذه الأحكام فيما يلي: الأول: أن الأصل في التخدير المنع إلا إذا دعت له الضرورة أو الحاجة المنزلة منزلة الضرورة، فيجوز منه المقدار الذي يندفع به الضرر ويتحقق معه المقصود. الثاني: لا يعتبر إقرار المريض أثناء التخدير الجراحي وبعيد الإفاقة إقرارًا صحيحًا؛ نظرًا لأن شرط صحة الإقرار أن يكون المقر عاقلًا يدري ما يقول، ومن المعلوم أن المخدر فاقد للإدراك والشعور، ومن ثم فلا يصح إقراره لتخلف شرط القبول. الثالث: لو أن المريض في حال تخديره تلفظ بكلمة الردة فإنه لا ينطبق عليه حكمها؛ لأنه غير مدرك لما يقول؛ لأن التقرر في شروط التكفير أن تصدر كلمة الكفر من العاقل والمخدر زائل العقل في حال تخديره. الرابع: متى طلق المريض أثناء تخديره فإن طلاقه غير معتبر، وذلك لكونه فاقدًا لعقله على وجهٍ يعذر فيه شرعًا، ومن ثم فإن طلاقه لا يقع ولا يصح منه؛ لأنه كالمجنون والنائم، وقد أجمع أهل العلم على أن طلاق المجنون والنائم لا يقع فكذلك المريض المخدر بجامع فقد كل منهما للعقل بسبب مباح ومعذورٍ فيه شرعًا.

الخامس: المريض إذا خدره الأطباء تخديرًا كاملًا، وفاتت عليه بعض فروض الصلاة، فإنه يجب عليه إذا أفاق ورجع له ذهنه أن يبادر بقضائها، والأمر بالقضاء على الفورية؛ وذلك لأن المريض حال تخديره بمنزلة النائم، وإذا أمكن ألا يخدر المريض إلا بعد الصلاة إذا كان الوقت قريبًا فهو الأفضل، وإذا كانت هذه الصلاة تجمع لما بعدها وكانت مدة التخدير ستطول إلى ما بعد وقت الفريضة الثانية، فللمريض أن يجمع بين الصلاتين جمع تقديم قبل تخديره؛ لأن الجمع رخصة عارضة لرفع الحرج (¬1). ¬

_ (¬1) لزيادة بحث هذه النازلة يمكن الرجوع إلى كتاب: أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها د. محمَّد الشنقيطي.

النازلة الثامنة والثلاثون: حكل التصوير بالأشعة

النازلة الثامنة والثلاثون: حكل التصوير بالأشعة التصوير بالأشعة: هو تصوير تلتقط من خلاله صور عن طريق آلات التصوير التي تقوم برسم الأجزاء الداخلية من جسم الإنسان. وقد ثبت علميًّا من خلال ما ذهب إليه أهل الطب ضرر الأشعة السينية على الجلد والنخاع الشوكي والغدد الجنسية، بل أشارت بعض المصادر الطبية المختصة إلى أنها قد تتسبب في الإصابة بالسرطان. ونظرًا لوجود هذه الأضرار، فإن الأصل حرمة استعمالها إلا لحاجة فعلى الطبيب أن يتولى النظر في مفسدة تعريض المريض للأشعة ومفسدة المرض المشتكى منه ثم يقارن بينهما فإن غلبت مصلحة الأشعة أقدم وإلا فلا، وإذا احتيج إلى الأشعة فيقتصر على القدر الكافي دون زيادة.

النازلة التاسعة والثلاثون: الكحت وتوسيع الرحم

النازلة التاسعة والثلاثون: الكحت وتوسيع الرحم أولًا: التعريف بهذه النازلة: تشير كلمة التوسيع إلى توسيع عنق الرحم، أما الكحت فهو إجراء جراحي يقوم فيه الجراح بإزالة جزء من بطانة الرحم أو محتويات الرحم سواء عن طريق الكشط أو الشفط. ويعتبر التوسيع والكحت إجراء تشخيصي لبعض أمراض الرحم. ثانيًا: مدى الحاجة لإجراء هذه العملية: يستخدم التوسيع والكحت في تشخيص وعلاج العديد من أمراض النساء مثل عدم انتظام الطمث (الدورة الشهرية)، وكذلك يستخدم في إزالة الزيادات في بطانة الرحم والتي تنتج عن بعض الأمراض مثل تكيس المبايض الذي يسبب اضطرابات هرمونية تؤدى إلى زيادة نمو بطانة الرحم. ويستخدم الكحت أيضًا في إزالة أسباب النزيف المهبلي الأخرى مثل الإجهاض الخفي أو المفقود (عدم نزول الجنين بالرغم من وفاته داخل الرحم)، وأيضًا نزيف ما بعد الولادة والذي يسببه عدم نزول المشيمة أو جزء منها بعد الولادة، وكذلك يستخدم في علاج حالات أخرى منها الإجهاض في الشهور الثلاثة الأولى من الحمل. ثالثًا: الحكم الشرعي لهذه النازلة: لا تعدو هذه النازلة عن كونها عملية جراحية، فهي جائزة بشرط تعذر علاج هذه الحالات بالبدائل الأخرى، أو كانت البدائل تتضمن مفسدة كشف العورة والإيلاج في الفرج، فيعدل عنها إلى فعل الكحت.

وينبغي أن يقوم بهذا العمل النساء، وأن يسعى المرضى في طلب ذلك ما أمكن، كما ينبغي على المستشفيات أن يهتموا بذلك، وألا يسند شيء منه إلى الرجال إلا في الضرورة القصوى.

النازلة الأربعون: المواد المحرمة والنجسة في الدواء

النازلة الأربعون: المواد المحرمة والنجسة في الدواء أولًا: إن قضية المواد المحرمة والنجسة: المستخدمة في الأدوية وما يتفرع عنها من المسائل والجزئيات من الأمور المهمة التي تشغل بال كثير من المسلمين في هذا الزمان، ويتكرر السؤال عنها والاستفتاء فيها في سائر الديار التي يعيش فيها المسلمون وخصوصًا في البلدان الغربية؛ لملابستها لمعيشتهم وصلتها باحتياجاتهم، وتعذر الانفكاك عن العلاقة بها في كثير من الأحيان، بداعي الضرورة، أو عموم البلوى، أو مسيس الحاجة، أو غير ذلك. ثانيًا: الحكم الشرعي لهذه النازلة: نقول: لما كان الكحول مادة مسكرة فلا يجوز خلط الأدوية بها، لكن لو خلطت بالكحول جاز استعمالها إن كانت نسبة الكحول قليلة ولم يظهر أثرها في لون الدواء ولا طعمه ولا ريحه ريثما يتحقق ما يتطلع إليه المسلمون من تصنيع أدوية لا يدخل الكحول في تركيبها ولا سيما أدوية الأطفال والحوامل؛ وذلك لأن المسكر إذا خلط بنسبة قليلة مع الماء أو الدواء، فإنه يستهلك ولا يبقى له أثر، فلا يصير الشراب المشتمل على نسبة كحول (5 %) مثلًا مسكرًا، والإسكار هو علة التحريم في الخمر، فإذا انتفت عن ذلك المخلوط، لم يأخذ حكم التحريم الوارد في الخمر؛ لا من حيث حرمة تناوله، ولا من حيث نجاسته. فالحاصل أنه لا مانع شرعًا من تناول الأدوية التي تصنع حاليًا ويدخل في تركيبها نسبة ضئيلة من الكحول؛ لغرض الحفظ، أو إذابة بعض المواد الدوائية التي لا تذوب في الماء مع عدم استعمال الكحول فيها مهدئًا، وهذا حيث لا يتوافر بديل عن تلك الأدوية.

ومما جاء من قرارات بخصوص هذه النازلة ما جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإِسلامي بمكة المكرمة (¬1)، ومما جاء فيه: "وبعد النظر في الأبحاث المقدمة عن الأدوية المشتملة على الكحول والمخدرات، والمداولات التي جرت حولها، وبناء على ما اشتملت عليه الشريعة من رفع الحرج، ودفع المشقة، ودفع الضرر بقدره، وأن الضرورات تبيح المحظورات، وارتكاب أخف الضررين لدرء أعلاهما، قرر ما يلي: 1 - لا يجوز استعمال الخمرة الصرفة دواء بحال من الأحوال؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله لم يَجْعَل شِفَاءَكمْ فِيمَا حَرَّم عَلَيْكُمْ" (¬2). ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله أنزَل الدَّاءَ وجعَل لِكُلِّ داءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا، ولا تَتَدَاوَوْا بحَرَامٍ" (¬3)، وقال لطارق بن سويد، لما سألة عن الخمر يُجعَلُ في الدواء: "إنَّ ذلك لَيْسَ بِشِفَاءٍ، ولَكِنَّه دَاءٌ" (¬4). 2 - يجوز استعمال الأدوية المشتملة على الكحول بنسب مستهلكة تقتضيها الصناعة الدوائية التي لا بديل عنها، بشرط أن يصفها طبيب عدل، كما يجوز استعمال الكحول مطهرًا خارجيًّا للجروح، وقاتلًا للجراثيم، وفي الكريمات والدهون الخارجية. 3 - يوصي المجمع الفقهي الإِسلامي شركات تصنيع الأدوية والصيادلة في الدول الإسلامية، ومستوردي الأدوية، بأن يعملوا جهدهم في استبعاد الكحول من ¬

_ (¬1) قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة قرار رقم: 94 (6/ 16). (¬2) رواه أحمد في الأشربة، رقم (159)، والطبرانيُّ (23 / رقم 749)، وابن حبان رقم (1391) من حديث أم سلمة. وفيه حسان بن مخارق لم يوثقه إلا ابن حبان. ورواه البخاري، كتاب الأشربة: باب شراب الحلوى والعسل، رقم (5614) موقوفًا على عبد الله بن مسعود تعليقًا بصيغة الجزم. (¬3) رواه أبو داود، كتاب الطب، باب في الأدوية المكروهة (3874) عن أبي الدرداء -رضي الله عنه-. (¬4) رواه مسلم، كتاب الأشربة، باب تحريم التداوى بالخمر وبيان أنها ليست بدواء (1984) عن وائل بن حجر- رضي الله عنه-.

الأدوية، واستخدام غيرها من البدائل. 4 - كما يوصي المجمع الفقهي الإِسلامي الأطباء بالابتعاد عن وصف الأدوية المشتملة على الكحول ما أمكن".

النازلة الحادية والأربعون: الطب الصيني (الوخز بالإبر)

النازلة الحادية والأربعون: الطب الصيني (الوخز بالإبر) أولًا: التعريف بها: الإبر الصينية هي إبر رفيعة جدًّا تغرز في أماكن محددة من الجسم لعلاج بعض الأمراض أو الوقاية منها. والصينيون هم أول من استعمل الإبر للعلاج، وكان ذلك منذ أكثر من ألف عام. والإبر الصينية تستخدم لعلاج الكثير من الحالات المرضية من أهمها: أنها تساعد في تخفيف ألم عمليات السرطان، بل تعمل على إيقاف الإحساس بالألم والمعالجة للاكتئاب، وهي مفيدة في تقليل ضغط الدم وأمراض القلب، وتعمل على إنقاص الوزن مع الالتزام بالسعرات الحرارية، وعلاج الصداع النصفي وغير ذلك من الأمراض. ثانيًا: الحكم الشرعي لهذه النازلة: بعد الاطلاع على كثير من المقالات العلمية المختصة بالوخز بالإبر الصينية، من الأطباء العاملين بها، والممارسين لها من المختصين، ثبت لدينا أن استخدام الإبر المذكورة للعلاج مأمون تمامًا، ولم تسجل لها أية مضاعفات، أو أعراض جانبية أثناء العلاج أو بعده؛ ولذا لم نر مانعًا من استعمالها في العلاج، وعلى المسلم أن يحذر من العلاج عند الأدعياء لها، وعليه أن يتحرى في أمر علاجه بها، كما يتحرى في العلاج بالطرق الأخرى.

النازلة الثانية والأربعون: حكم شق بطن الأم الميتة لإخراج ولدها الحي

النازلة الثانية والأربعون: حكم شق بطن الأم الميتة لإخراج ولدها الحي اختلفت آراء الفقهاء في هذه النازلة والذي يترجح عندنا أنه متى رجي حياة الجنين في بطن الأم الميتة، وجب شرعًا شق جوفها لإخراجه. فإذا علم أن الجنين حي بتحركه واضطرابه، وجب إخراجه بشق بطن الميتة لوجوب إحياء النفس، وحفظ الحياة الإنسانية، وفي عدم إخراجه هلاك له وقتل للنفس وهو محرم لا يجوز شرعًا. والقاعدة الشرعية في ذلك ارتكاب أخف الضررين وأهون الشرّين: فأحد الشرّين هو شق بطن الميتة وانتهاك حرمتها، والثاني هلاك الولد الحي، فوجب شرعًا شق بطن الأم الميتة لإخراج ولدها الحي الذي هو أهون من إهلاك ولدها الحي، كما أن انتهاك حرمتها هو أخف من جريمة قتل للنفس البريئة؛ ولأنه يشق بطن الأم الميتة (بالعمليات الجراحية) إذا خرج بعض الجنين حيًّا ولم يمكن خروج بقيته إلا بشق، فجاز الشق بالوسائل الطبية الحديثة (فإنه يشق بطنها طولًا)؛ فجاز ذلك لأنه إتلاف جزء من الميت لإبقاء الحي وهو أولى بالجواز شرعًا. قال الشيخ أحمد محمَّد شاكر -رحمه الله-: "أما إخراج الولد الحي من بطن الحامل إذا ماتت فإنه واجب، وأما كيف يخرج فهذا من شأن أهل هذه الصناعة من الأطباء والقوابل" (¬1). ¬

_ (¬1) المحلى لابن حزم، تحقيق الشيخ أحمد محمَّد شاكر (5/ 167).

النازلة الثالثة والأربعون: حكم الانتفاع بالجنين الميت

النازلة الثالثة والأربعون: حكم الانتفاع بالجنين الميت المقصود بالجنين الميت: هو الجنين الذي لم تنفخ فيه الروح، إذا كان ميتًا حقيقة أو حكمًا، أي: بمعني صيرورة خلايا جسده عاجزة عن النمو والتطور والانقسام. ومن علامات وفاة الجنين في بطن أمه توقف حركته تمامًا، أي: عدم شعور الأم بالحركة داخل بطنها مطلقًا، ويمكن الاستعانة بالأجهزة الطبية للتأكد من ذلك (¬1). وحكم استخدام الجنين الميت الذي لم تنفخ الروح فيه في الأبحاث والتجارب العلمية يتضح فيما يأتي: إن استخدام الجنين الميت الذي لم تنفخ فيه الروح في الأبحاث والتجارب العلمية يستوجب شرعًا احترام الضوابط الشرعية التي قررها الفقهاء، ووافق عليها المجمع الفقهي الإسلامي (¬2) في دورته السادسة المنعقدة في جدة من 14 إلى 20 مارس 1990 م. وهي أن يكون استخدام الجنين بإذن أبويه ورضاهما كليهما، وأن لا توجد طريقة أخرى لتحقيق المصالح المبتغاة إلا باستخدام الجنين الآدمي، وأن يتيقن أهل الاختصاص (وهم الأطباء المختصون) بتحقيق مصالح معتبرة للآدمي الذي ينتقل إليه جزء من الجنين، وأن يتم الاحتياط للأنساب من الاختلاط والمفاسد، وأن لا يكون الغرض من استعمال أعضاء الجنين هو العبث أو التجارة أو التلاعب بالأجنة بما يتنافى مع مقاصد الشرع وكرامة الآدمي بإهانة أصله ومادته (¬3). ¬

_ (¬1) رؤية إسلامية لقضايا طبية، د. عبد الله باسلامة، (ص: 235). (¬2) القرارات 56، 57، 58، 59 و 60 الصادرة عن المجمع الفقهي الإسلامي أباحت استخدام الأجنة مصدرًا لزراعة الأعضاء وزراعة خلايا المخ والجهاز العصبي والبويضات الملقحة الزائدة عن الحاجة. (¬3) انظر: التجارب على الأجنة المجهضة، د. محمَّد علي البار، (ص: 9، وما بعدها)، أطفال الأنابيب، زياد أحمد سلامة، (ص: 214، وما يليها).

النازلة الرابعة والأربعون: حكم عملية شد البطن بعد الولادة، وهل تعد انتحارا؟

النازلة الرابعة والأربعون: حكم عملية شد البطن بعد الولادة، وهل تعد انتحارًا؟ بعد الولادة قد يحدث للمرأة تدلي في الجلد الذي فوق بطنها، فهل يجوز لها إجراء عملية لشد ذلك الجلد وعودته إلى حالته قبل الولادة؟ نقول: قد سبق بيان الحكم الشرعي في العمليات الجراحية، وقلنا بأن العمليات الجراحية إما أن تكون جراحة تجميل حاجية، وهي التي يراد بها إزالة عيب سواء كان في صورة نقصٍ أو تلفٍ أو تشوه، فهو ضروري أو حاجي بالنسبة لدواعيه الموجبة لفعله، وتجميلي بالنسبة لآثاره ونتائجه، وإما أن تكون جراحة تجميل تحسينية، أي: من أجل تحسين المظهر وتجديد الشباب، فغاية ما فيه هو التجميل الزائد، أي: ليس من أجل إزالة العيب بل لزيادة الحسن وفيه نوع من تغيير خلقة الله، والعبث بها حسب أهواء الناس وشهواتهم، فهو غير مشروع، ولا يجوز فعله. وبناءً على ما ذكرناه نقول بخصوص هذه النازلة: إنه إذا كان هذا التدلي بسيطًا وعاديًا، وكان المراد من إجراء العملية مجرد التجمل واختيار الحجم الذي يناسب الذوق، فلا ينبغي إجراء العملية؛ لأنه قد يكون من تغيير خلق الله تعالى دون ضرورة أو حاجة. وإن كان التدلي شديدًا أو ملفتًا أو مؤذيًا أو مضرًّا، أو نحو ذلك، فلا بأس بإجراء العملية لإزالته إذا لم يترتب عليه تغيير الخلقة.

النازلة الخامسة والأربعون: حكم إجراء عملية تجميل للجفون المنتفخة

النازلة الخامسة والأربعون: حكم إجراء عملية تجميل للجفون المنتفخة سبق أن ذكرنا أن تجميل الأعضاء بتغيير هيئتها بالتصغير أو التكبير، أو الزيادة أو النقصان، إذا كان العضو في حدود الخلقة المعهودة فالأصل فيه عدم الجواز لحديث: "لَعَنَ اللهُ الوَاشِمَاتِ، وَالمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالمتنَمِّصَاتِ، وَالمتفَلِّجَاتِ لِلحُسْنِ المُغَيِّرَاتِ خَلقَ الله" (¬1). قال ابن حجر -رحمه الله-: "قال الإمام الطبري: لا يجوز للمرأَة تغيِير شيء من خلقتها التي خلقها الله عليها بزيادة أَو نقص التماس الحسن لا للزوج ولا لغيره" (¬2) أ. هـ. وقال ابن العربي: "إن الله سبحانه خلق الصور فأحسنها في ترتيب الهيئة الأصلية، ثم فاوت في الجمال بينها، فجعلها مراتب، فمن أراد أن يغير خلق الله فيها ويبطل حكمته، فهو ملعون؛ لأنه أتى ممنوعا" (¬3). وبناءً على ذلك فلا يجوز الإقدام على تغيير خلق الله بقصد التجميل وزيادة الحسن، لكن إذا كان الإنسان على صورة مشوهة مشينة، وكانت الجفون منتفخة بما يخرج عن المعتاد بحيث يكون شكل المرأة مشوهًا بالنسبة لطبيعة عمرها وسنها، فلا بأس بالاقتصار على الضروري من عملية التجميل بحيث تجعلها في حد الاعتدال، بشرط ألا يكون في هذا تدليس وغش وخداع، فلا يجوز للمرأة العجوز إجراء عملية جراحية بقصد إظهار صغر السن. وأما إن كان العلاج لهذه الجفون المنتفخة والمتهدلة من غير تدخل جراحي ينتج عنه تغيير للخلقة بل عن طريق حقن بعض المواد التي تزيل التجاعيد وتشد المكان الذي تحقن فيه، فالظاهر أن ذلك جائز ما دام لم يترتب عليه ضرر جانبي. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص: 105). (¬2) فتح الباري (11/ 375). (¬3) فيض القدير (5/ 283).

النازلة السادسة والأربعون: حكم إجراء عملية لتجميل الثدي المتهدل

النازلة السادسة والأربعون: حكم إجراء عملية لتجميل الثدي المتهدل يقال في هذه النازلة كسابقتها، فإذا كان هذا التهدل في حدود المعتاد المعهود حدوثه للنساء من جراء الحمل والوضع والرضاعة، ولم يصل إلى حد التشوه والخروج عن المألوف، فلا يجوز إجراء تلك العملية. وإذا كان تهدل الثديين على سورة مشوهة مشينة، وكانت بما يخرج عن المعتاد بحيث يكون شكل المرأة مشوها بالنسبة لطبيعة عمرها وسنها، فلا بأس بالاقتصار على الضروري من عملية التجميل بحيث تجعلها في حد الاعتدال، بشرط ألا يكون في هذا تدليس وغش وخداع كما سبق.

النازلة السابعة والأربعون: حكم إزالة أو إضافة حبة الخال على وجه المرأة

النازلة السابعة والأربعون: حكم إزالة أو إضافة حبَّة الخال على وجه المرأة ما يسمى بحبة الخال: قد تكون خلقة في الإنسان، أي: أوجدها الله بها، وهي ملفتة للنظر بحيث تشوه الوجه وتوجب أن ينفر الناس من مشاهدتها فهنا لا حرج في إزالتها والقاعدة كما سبق في أن ما كان للتجميل والتحسين فحرام وما كان لإزالة العيب فحلال. أما وضع حبَّة الخال: وذلك بأن تجعلها المرأة في وجهها بقصد الزينة فلها حالان: الحال الأول: أن تكون فعلت ذلك بطريق الوشم، أي: بغرز الجلد بلونٍ أسود أو أخضر أو نحو ذلك من الزركشة التي نراها في أيدي بعض الناس أو وجوههم لتجميلها، فظاهر النصوص صريحة في أن ذلك محرم بل من الكبائر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن فاعله بقوله: "لَعَنَ اللهُ الوَاشِمَاتِ وَالمُسْتَوْشِمَاتِ وَالمتنَمِّصَاتِ وَالمتفَلِّجَاتِ لِلحُسْنِ المُغَيِّرَاتِ خَلقَ الله" (¬1). الحال الثاني: أن يكون وضعها عن طريق استخدام قلم أو لون ونحو ذلك، فهذا لا حرج فيه بشرط إزالته عند الوضوء أو الغسل إذا كان له جرم حتى يباشر الماء الوجه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص: 105).

النازلة الثامنة والأربعون: حكم زراعة شعر صدر الرجل

النازلة الثامنة والأربعون: حكم زراعة شعر صدر الرجل نقول في هذه النازلة كما قلنا سابقًا أنه إذا كانت زراعة الشعر يقصد بها إزالة العيب ورد ما خلقه الله فالراجح جوازها. وأما زراعة الشعر التي يقصد بها طلب الحسن والتجمل فلا تجوز؛ لما فيها من تغيير خلق الله، ولأن هذه العملية تستلزم التخدير والأصل منعه لغير ضرورة أو حاجة معتبرة؛ لما فيه من إزالة العقل. ومن المحاذير المترتبة على العملية -أيضًا- أنها تضيع فيها أموال لغير حاجة، وقد روى البخاري في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الَمالِ" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري، كتاب في الاستقراض: باب ما يُنهى عن إِضاعة المال، رقم (2408)، ومسلمٌ، كتاب الأقضية: باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة، رقم (1715) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

النازلة التاسعة والأربعون: حكم زراعة شعر المصاب بالصلع وذلك بأخذ شعر من خلاف الرأس وزرعه في المكان المصاب

النازلة التاسعة والأربعون: حكم زراعة شعر المصاب بالصلع وذلك بأخذ شعر من خلاف الرأس وزرعه في المكان المصاب نقول: قد سبق بيان حكم الجراحة التجميلية، وهذا النوع من النوع الجائز شرعًا لأنه داخل في الجراحة التجميلية الحاجية الضرورية، فيجوز له ذلك؛ لأن هذا من باب رد ما خلق الله -عَزَّ وجَلَّ- ومن باب إزالة العيب، وليس هو من باب التجميل أو الزيادة على ما خلق الله -عَزَّ وجَلَّ- فلا يكون من باب تغيير خلق الله. بل هو من رد ما نقص وإزالة العيب، وقد جاء في قصة الثلاثة النفر الذي كان أحدهم أقرع وأخبر أنه يحب أن يَرُدَّ الله -عَزَّ وجَلَّ- عليه شعره فمسحه الملَك فرد الله عليه شعره فأُعطي شعرًا حسنًا.

النازلة الخمسون: فيما يختص به طب الأسنان

النازلة الخمسون: فيما يختص به طب الأسنان أولًا: تلبيس الأسنان: نقول بأن تلبيس الأسنان لا يخلو إما أن يكون ذلك للمرأة، وإما أن يكون للرجل، فأما إن كان للمرأة فلا بأس سواءً للحاجة أو للزينة كل ذلك جائز لها لا سيما إذا كان ذلك هو عادة قومها، فإن العلماء قرروا أنه يجوز للمرأة من الذهب والفضة ما جرت العادة بلبسه. وأما إذا كان رجلًا فلا يخلو إما أن يكون ذلك من باب ضرورة شد الأسنان، وإما أن يكون من باب الزينة المجردة، فإن كان من باب الزينة المجردة فإنه لا يجوز؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحرير والذهب: "هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لإِنَاثِهَا" (¬1). وأما إذا كان من باب ضرورة شد الأسنان وربطها فإنه يجوز بالقدر الذي تندفع به الضرورة، فيجوز للرجل ربط أسنانه بالذهب وتلبيسها به عند الضرورة أو الحاجة المنزلة منزلة الضرورة استدلالًا بحديث عرفجة -رضي الله عنه- "أنه قطع أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفًا من فضة فأنتن عليه، فاتخذ أنفًا من ذهب" (¬2)؛ لأن الذهب له خاصية حيث لا يصدأ في الفم. ثانيًا: تسوية الأسنان: نقول بأنه إذا كان بعضها زائدًا فذلك جائز إذا كان من باب إزالة العيب الحادث، وإذا كان طولها يؤدي صاحبها فيزيل ما يتحقق به إزالة الأذى والضرر؛ لأن المتقرر شرعًا أن الضرر يزال، وليس هذا داخلًا تحت النهي عن وشر الأسنان ¬

_ (¬1) رواه أحمد (750)، والنسائيُّ في كتاب الزينة، باب تحريم الذهب على الرجال (9445). (¬2) رواه أحمد (5/ 23) وأبو داود في الخاتم، باب ما جاء في ربط الأسنان بالذهب (4232) والنسائيُّ في الزينة، باب من أصيب أنفه ... (8/ 163) والترمذيُّ في اللباس، باب ما جاء في شد الأسنان بالذهب (1770) عن عرفجة -رضي الله عنه-، وصححه ابن حبان (5462) وانظر التلخيص (2/ 176).

ثالثا: تركيب طقم الأسنان الصناعي

ولا عن تفليجها؛ لأن صاحب هذه الأسنان الزائدة لا يقصد التجمل وإنما يقصد به إزالة العيب وهذا جائز. ثالثًا: تركيب طقم الأسنان الصناعي: نقول بأن من يضع طقم الأسنان الصناعي بسبب سقوط أسنانه أو ما شابه ذلك فلا حرج عليه في وضعه؛ لأنه من التداوي بالمباح وفي الحديث: "تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إلَّا وَضْعَ لَهُ دَوَاءً" (¬1)، وهذا نوع من التداوي، ولا يلزمه أن يضع خلاله أسنان ذهب؛ لأنه لا يجوز استعمال الذهب للرجال إلا للحاجة كما سبق. وأما من كانت أسنانه طبيعية فلا يسوغ أن يضع الطقم عليها بشكل الأسنان الطبيعية؛ لما فيه من التدليس وتغيير الخلق. رابعًا: هل تخلع أسنان الميت إذا كانت من الذهب أو كانت صناعية؟ نقول: أما إن كانت أسنان الميت من الذهب فنعم تخلع هذه الأسنان؛ لأنها مال يستحقه الوارث، والأحياء أحوج إلى هذا الذهب من الأموات، ولعموم قوله: "مَنْ ترَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ" (¬2)، ومجرد تركيبها في حياته لا يكسبها حرمة الأعضاء الأصلية، لكن يشرط أن يكون نزعها بسهولة ومن غير عملية جراحية أو أذية للميت. وأما إن كانت هذه الأسنان صناعية، فهي نوع مال قد يستفيد منه الأحياء وقد لا يستفيدون، فإن كان مما يمكن الاستفادة منه، فلا بأس بخلعها بشرط أن يكون لها قيمة وأن يمكن نزعها دون تأثير على ما حولها، وأما إن كان مما لا يمكن الاستفادة منه ولا يمكن نزعه إلا بمشقة فلا يشرع خلعه. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود -كتاب الطب- باب في الرجل يتداوى (3857)، والترمذيُّ في كتاب الطب، باب الدواء والحث عليه (2038)، وقال الترمذيُّ حسنٌ صحيحٌ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2930). (¬2) رواه البخاري، كتاب الكفالة، باب الدين (2176)، ومسلمٌ في الفرائض باب من ترك مالًا فلورثته، رقم (1619).

خامسا: حكم تقويم الأسنان

خامسًا: حكم تقويم الأسنان: نقول لا يخلو تقويم الأسنان من حالين: الأول: أن يكون المقصود به زيادة التجمُّل فهذا حرام ولا يحل، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ اللهُ الوَاشِمَاتِ وَالمُوتَشِمَاتِ وَالمتنَمِّصَاتِ وَالمتفَلِّجَاتِ لِلحُسْنِ المُغَيِّرَاتِ خَلقَ الله" (¬1)، هذا مع أن المرأة مطلوب منها أن تتجمل وهي من يُنشأ في الحلية، والرجلُ من باب أولى أن يُنهَى عن ذلك. الثاني: إذا كان تقويمها لعيب، فلا بأس بذلك فيها فإن بعض الناس قد يبرز شيء من أسنانه إما الثنايا أو غيرها تبرز بروزًا مُشينًا بحيث يستقبحه من يراه، ففي هذه الحالة لا بأس من أن يُعدلها الإنسان؛ لأن هذا إزالة عيب وليس زيادة تجميل، ويدل لهذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الرجل الذي قُطع أنفه أن يتخذ أنفًا من وَرِق، أي: فضة ثم أنْتَنَ، فأمره أن يتخذ أنفًا من ذهب؛ لأن في هذا إزالة عيب وليس المقصود زيادة تجمُّل. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص: 105).

النازلة الحادية والخمسون: في حكم سفر المرأة خارج بلادها بلا محرم بغرض دراسة الطب

النازلة الحادية والخمسون: في حكم سفر المرأة خارج بلادها بلا محرم بغرض دراسة الطب وحكم اختلاطها أثناء دراسة الطب وحكم حضورها الندوات التي تعقد من أجل دراسة الطب نقول أولًا: أما سفر المرأة بلا محرم فإنه لا يجوز البتة لعموم حديث: "لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إلا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا" (¬1). وليس هناك ضرورة لهذا السفر، ودراسة الطب في البلاد الإسلامية كافٍ في تحصيل المقصود، أعني في بلد هذه المرأة، ولا ينبغي للمرأة أن تخالف أمر الشارع من أجل دراسةٍ ولا غيرها، وهي مسؤولة يوم القيامة عن عملها في الدنيا، ومن خالفت في ذلك فإنها تعرض نفسها لعقوبة ربها -عَزَّ وجَلَّ-. ثانيًا: أما الدراسة المختلطة: فإنها لا تجوز مطلقًا؛ لما في ذلك من الفتنة والمفسدة المتحققة، فلا يجوز للفتاة الدراسة المختلطة، ولا يجوز لها أصلًا أن تدرس في مدرسة يتولى التدريس فيها الرجال إذا كان تدريسهم وجهًا لوجه؛ لما في ذلك من العواقب السيئة. ثالثًا: أما حضور الندوات: فإن كان الملقي من النساء وسائر الحضور من النساء فلا بأس بذلك، وأما إن كان الحضور مختلطًا فلا يجوز حضورها؛ درءًا للفتنة ودفعًا للفساد ولا ضرورة تدعو لذلك، فإنه يمكن للمسؤولين أن يخصصوا محاضرات للنساء لا رجال فيها، ومحاضرات للرجال لا نساء فيها، ويمكن أيضًا تسجيل المحاضرات المختلطة والاستفادة منها، أو متابعتها على الشبكة العنكبوتية، ومتابعة ما يكتب في ذلك من المقالات والرسائل والتقارير. ¬

_ (¬1) رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب في كم يقصر الصلاة (1038)، ومسلمٌ، كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره (1339).

النازلة الثانية والخمسون: حكم زراعة الرموش

النازلة الثانية والخمسون: حكم زراعة الرموش نقول: إذا كان تركيب الرموش لضرورة كمن أصيب بمرضٍ أو حرق أو نحوه من الآفات، فأتلف هدب (رموش) العين مما أدى إلى تغير شكله وقبح صورته، فهذا لا حرج فيه إذا كان بالقدر المطلوب، فالضرورات تقدر بقدرها. أما إذا كانت هذه الرموش للزينة فقد حصل بها مفسدتان: الأولى: أنها تغيير لخلق الله، وقد سبق بيان ذلك مفصلًا في الجراحة التجميلية التحسينية. الثانية: أن هذا داخل تحت النهي العام الوارد في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ اللهُ الوَاصِلَةَ وَالمُسْتَوْصِلَةَ"، والواصلة: هي التي تصل شعرها بشعر غيرها، والرموش الصناعية داخلة في هذا الوعيد؛ لأنها تشبه الوصل.

النازلة الثالثة والخمسون: حكم أخذ إبرة لتصغير الأنف

النازلة الثالثة والخمسون: حكم أخذ إبرة لتصغير الأنف لا حرج في تصغير الأنف إذا كان ذلك عن طريق أخذ إبرة إن كان هذا الأمر ثابتًا علميًّا، إن لم يترتب عليه ضرر؛ لأن ذلك ليس فيه تدخل يد الإنسان بالجراحة، وسواء كان الباعث عليها هو ضرورة أو حاجة، أو كانت بقصد التجميل. وأما إزالتها عن طريق العمليات الجراحية، فقد ذكرنا أنها إنما تباح إذا كان في ذلك ضرر معتبر، لا إن كان الغرض من إزالتها هو مجرد التجميل.

النازلة الرابعة والخمسون: حكم أخذ أعضاء الميت لإنشاء بنوك الأعضاء

النازلة الرابعة والخمسون: حكم أخذ أعضاء الميت لإنشاء بنوك الأعضاء من المعروف طبيًّا أن أعضاء الميت بعد اقتطاعها من الجثة تحفظ في سائل معين، وفي درجة برودة معينة، ويمكن أن تبقى حية محفوظة في بنوك الأعضاء لفترة من الزمن كما سبق بيان ذلك. وقد أجاز جماعة من العلماء اقتطاع أعضاء الميت؛ كالعيون والكليتين مثلًا، ووضعها في بنوك الأعضاء لمداواة الأحياء بها إذا دعت إليه الضرورة، وصدرت في هذا الخصوص الفتوى المشهورة رقم (73/ 1966) من دار الإفتاء المصرية التي قررت بأن الاستيلاء على عين الميت لتحقيق مصلحة راجحة للحي الذي حرم نعمة البصر عقب وفاته، وحفظها في بنك يسمى "بنك العيون" لاستعمالها في ترقيع قرنية المكفوفين الأحياء الذين حرموا نعمة البصر، ليس فيه اعتداء على حرمة الميت، وهو جائز شرعًا؛ لأن الضرورة دعت إليه، فإذا كان أخذ عين الميت لترقيع قرنية عين المكفوف الحي مصلحة ترجح المحافظة على الميت جاز ذلك شرعًا؛ لأن الضرر الذي يلحق بالحي المضطر لهذا العلاج أشد من الضرر الذي يلحق الميت الذي تؤخذ منه عينه بعد وفاته، غير أنه ونظرًا لأن الضرورة شرعًا تقدر بمقدارها، فإنه يجب الاقتصار في هذا الاستيلاء على أخذ عين الميت، الذي لا أهل له قبل دفنه لاستخدامها في هذا الغرض العلاجي، أما الأموات الذين لهم أهل، فإن أمر الاستيلاء على عيون موتاهم يكون بيدهم، فإن أذنوا جاز ذلك، وإلا فلا يجوز بدون إذنهم" (¬1) ¬

_ (¬1) الشيخ محمَّد حسنين مخلوف، فتاوى شرعية، (ص: 364).

والذي يظهر لنا: أنه يجوز إنشاء بنوك للأعضاء وفق ما رجحناه في نازلة حكم التبرع بالأعضاء مع ملاحظة أن هذه البنوك يجب أن تكون تحت إشراف هيئة رسمية متخصصة موثوقة في دينها وعلمها وخبرتها، وأن تحاط بجملة من الاحتياطات اللازمة، وأن تكون مراقبة بأجهزة فعالة، بحيث لا يدخل شيء من الأعضاء أو الأنسجة، أو أجزاء الأعضاء، ولا يخرج منها إلا أن يكون تحت نظر المراقبين، وذلك لضمان ألَّا تستعمل أعضاء الآدمي في أغراض التجارة بما يتنافى مع حرمة وكرامة الإنسان.

النازلة الخامسة والخمسون: حكم إنشاء بنوك للأجنة وبنوك للمني

النازلة الخامسة والخمسون: حكم إنشاء بنوك للأجنة وبنوك للمني ما يسمى ببنوك الأجنة المجمدة وبنوك المني: قد أفرزته تقنية التلقيح الصناعي (طفل الأنبوب)؛ حيث تقوم فكرة البنك على أخذ النطف سواء الذكرية (المني) أم الأنثوية (البييضات) وتقوم بحفظها في مخازن ذات خصائص فيزيائية وكيميائية مناسبة فترة من الزمان قد تصل لربع قرن، ثم يتم استرجاعها وقت الطلب. ففي عام 1998 م استخدم الأطباء حوالي 17228 بييضة ملقحة في محاولات لإحداث حمل، لكن 19. 3 % تمخضت عن حدوث حمل وولادة، ثم تطورت التقنية مؤخرًا وارتفعت النسبة إلى 83 %، وقد انتشرت هذه البنوك في أوربا وأمريكا انتشارًا واسعًا حتى أنهم ليجنون من خلالها أرباحًا خيالية، بل إن لها مواقع على الإنترنت يمكن من خلاله إرسال العينات أو طلبها أو حتى طلب الأرحام لحمل اللقيحة المطلوبة، وقد تطورت الفكرة فأصبحت البنوك تشتري النطف من المتميزين في المجتمع كلاعب مشهور أو مغني ذائع الصيت أو الفائزين في مسابقة كمال الأجسام وهكذا، وتم أيضًا شراء بييضات النساء المتميزات كملكات الجمال، فيمكن للراغب عندهم في شراء بييضة ذات مواصفات معينة دفع الثمن وإجراء التلقيح الصناعي وانتظار المولود. وقد يحصل في هذه البنوك ما لا يتوقعه العميل، فقد تقدمت امرأة إلى المحاكم تشتكي أحد بنوك المني؛ لأنها حصلت على مني معتوه أو مجنون أو مصاب بالأمراض الجينية، وهناك من طلبت ماء رجل أبيض فولدت مولودًا أسودًا، وقد اعترفت أحد المستشفيات في استراليا بأن أربعة من النساء اللائي خصبن بهذه الطريقة تلقين فيروس مرض الإيدز عندما تم تخصيبهن بماء رجل مصاب بالإيدز بل إن عائلة في أمريكا اعتمدت في إنجابها على هذه البنوك فأنجبت ثلاثة أطفال

ثانيا: الخطوات التي يتم فيها الحفظ

حيث جاءت الفتاة الكبيرة قمة في الذكاء والتوهج، والثانية اتصفت بالرشاقة والخفة حيث كانت نطفها من راقصة مشهورة في نيويورك، أما الثالث فكان صبيًّا ولد أصمًا أخرسًا. بل قام بعض أصحاب هذه الفكرة بابتكار فكرة بنك خاص للعباقرة، فهو يهدف إلى إنجاب الأطفال المتفوقين عقليًّا والنوابغ والعباقرة، ويشترط في المتبرع أن يكون من الحاصلين على جائزة نوبل في أحد المجالات العلمية. وبنفس النظام في أخذ بييضات المرأة فلا بد أن تكون من المتفوقات في الذكاء منذ الطفولة بموجب اختبارات الذكاء التي أجريت لها، أو تكون فازت بجائزة علمية عالية، وقد أعلنت جامعة بيل الأمريكية مؤخرًا عن توفر السائل المنوي لبعض العباقرة وبييضات لملكات سعر البييضة 15 ألف دولار. وقد أوضحت دراسة جديدة متعلقة ببنوك المني والأجنة المجمدة، قامت بها صحيفة (نيوزويك) الأمريكية بتاريخ: 18/ 3 / 1985 م، وجود ربع مليون طفل أمريكي لا يعرف لهم أب أصلًا ولا أم من ناحية النسب، وإنما الذي حملته امرأة استخدمت رحمًا مؤجرًا أو رحم ظئر أو أمًّا مستعارة، حملت الجنين عن طريق ما يسمى بالرحم المستأجر ولو بعد وفاة الأبوين. ثانيًا: الخطوات التي يتم فيها الحفظ: 1 - تجميد السائل المنوي بواسطة سائل النتروجين تحت درجة منخفضة جدًّا (- 169) تحت الصفر في ثلاجة خاصة، ثم إن السائل المنوي يوضع في علبة أو قارورة مصنوعة من رصاص خاص لحفظ المنويات ووقايتها من الأشعة والتلوث. 2 - يؤخذ السائل المنوي من أناس أصحاء أقوياء وذوي مواصفات معينة.

ثالثا: حكم إنشاء بنوك للأجنة وبنوك للمني

3 - توضع الخلايا المنوية داخل أنابيب، ويحتفظ البنك ببيانات سرية وخاصة إلى أن يولد الجنين، ثم يقوم بحرق جميع المعلومات الخاصة المتعلقة بالمتبرع. 4 - تفتح هذه البنوك للراغبين على وجهين: أ - خاصة: وهي التي يفتحها عميل واحد بالذات يرغب في حفظ نطفه لاستعمالها في المستقبل أيام شيخوخته أو يهبها لأحد أولاده أو أحفاده إذا كان لديه عقم، ويدفع مبلغًا ماليًا محددًا رسم افتتاح الحساب. ب- عامة: وهي التي تحفظ فيها تلك المصارف نطف المتبرعين ليبيعها المصرف إلى الراغبين أو الراغبات مقابل مبلغ مالي حسب نوع المني وهو يتخذ الأسلوب التجاري. ثالثًا: حكم إنشاء بنوك للأجنة وبنوك للمني: يحرم إنشاء هذه البنوك والتعامل معها وذلك للأدلة التالية: أولًا: حديث ابن عمر -رضي الله عنه- قال: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عسب الفحل" (¬1). وجه الدلالة من الحديث أن الشارع نهى عن بيع مني الحيوان الذي لا ينظر لنسبه، فكيف بالإنسان المكرم الذي ينبني على النسب أحكام مهمة. ثانيًا: إن هذه البنوك تعيش فوضى عارمة في تضييع نسب الإنسان، ومن الضرورات التي عظمتها الشريعة (النسب)، وقد ذكرت المصادر الغربية أن بنوك المني تستخدم مني رجل واحد لتلقيح مئة امرأة، بل ذكر أحد المراكز أن هناك حالات تكون فيها أم الطفل جدته وأخته في وقت واحد، وقد صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي الدولي ومجمع الفقه الإسلامي بالرابطة أن طفل الأنبوب يكون ¬

_ (¬1) رواه البخاري، كتاب الإجارة، باب عسب الفحل (2164).

جائزًا إذا كان من الزوجين فقط وأثناء قيام العلاقة الزوجية وفي رحم الزوجة، وإذا اختل أحد الأركان الأربعة كان محرمًا، وهذا الحاصل في هذه البنوك. ثالثًا: إن اختيار المرأة أن تلقح نفسها بمني معين ذات خصائص معينة يقوم مقام نكاح الاستبضاع الذي كان في الجاهلية، وجاء الإسلام بتحريمه، والاستبضاع كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه فيعتزلها زوجها ولا يمسها أبدًا حتى يتبين حملها؛ ويفعل ذلك رغبة في نجابة الولد. رابعًا: إن دخول المني لفرج المرأة -غير الزوجة وملك اليمين- من الكبائر فهو في حكم الزنا؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 5 - 7]. خامسًا: أن أساس هذه البنوك تتعارض مع أصول الشرع ومبادئ الفطرة حيث يولد أبناء بلا آباء مع العبث بماء الرجل والمرأة وإحداث مسائل معقدة كما لو حملت الزوجة بلقاح زوجها بعد ربع قرن من الزمان، فكيف تنضبط قضية الميراث والحقوق الأخرى؟ فالحاصل أن إنشاء هذه البنوك بهذه الطريقة يتعارض مع أصول الدين وهو محرم قطعًا.

النازلة السادسة والخمسون: طبيعة التزام الطبيب بالعلاج ومدى جواز المشارطة على البرء

النازلة السادسة والخمسون: طبيعة التزام الطبيب بالعلاج ومدى جواز المشارطة على البرء إن من أهم ما تتميز به عقيدة كل مسلم ومسلمة أن الشافي من المرض هو الله تعالى، وأنه يجب الالتجاء إليه والتوكل عليه، إيمانًا بقوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]. غير أنه لا يحق أن يكون هناك جدل في أن العلاج والتداوي لا يتعارض مع هذا التوكل، فالأخذ بالأسباب في جلب المصالح ودرء المفاسد لا يتنافى معه، والمكلف إنما يتعاطى السبب امتثالًا لأمر الله، مع يقينه بأنه لا يقع في ملك الله إلا ما شاء الله أن يقع. أما اشتراط البرء من المرض لاستحقاق الطبيب المقابل، وهو ما يطلق عليه في الفقه الإسلامي (المشارطة على البرء)، فالأمر فيه محل خلاف: فذهب بعضهم إلى أنه لا تجوز مشارطة الطبيب على البرء أصلًا؛ لأنه بيد الله، لا بيد أحد، وإنما الطبيب يعالج من مقو للطبيعة بما يقابل الداء، ولا يعرف كمية قوة الدواء من كمية الداء، فالبرء لا يقدر عليه إلا الله تعالى (¬1). ويرى بعضهم جواز المشارطة على البرء وأنها من باب الإجارة فلا يستحق الطبيب الأجرة إلا بحصوله، فإن ترك قبل البرء فلا شيء له إلا أن يتمم غيره فله بحسب كرائه الأول. ويرى فريق آخر أن المشارطة على البرء سائغة، ولكنها تخرج العقد من باب الإجارة لتدخله في باب الجعالة، فلا يستحق الطبيب شيئًا حتى يتحقق البرء، أي: حتى يبرأ من جرحه أو مرضه أو رمده. ¬

_ (¬1) المحلى لابن حزم (8/ 196).

والذي يترجح عندنا جواز المشارطة على البرء، وأنها من باب الجعالة لا من باب الإجارة؛ لأنها تحمل معنى عدم استحقاق المقابل إلا عند البرء فكأن المريض قال: إذا عالجتني فشفاني الله على يديك كان لك عندي كذا، وهذه صيغة واضحة في معنى الجعالة التي لا تعدو أن تكون التزامًا بعوض معلوم على عمل معين أو مجهول. وبناء على اعتبار المشارطة على البرء جعالة فإنه يثبت ما يأتي: أ- أنه لا يجوز اشتراط تقديم الأجرة، وإن جاز دفعها مقدمًا دون شرط، فهذا ما تقتضيه طبيعة الجعالة، فضلًا عن أن تقديم الأجرة يجعلها تتردد بين السلف والجعالة وذلك ممنوع شرعًا. ب- إنه يجوز لكل من طرفي الجعالة فسخ العقد؛ لأنه عقد على عمل مجهول بعوض، فجاز لكل واحد منهما فسخه كالمضاربة، فإن فسخ الطبيب لم يستحق شيئًا؛ لأن الجعل يستحق بالفراغ من العمل وقد تركه فسقط حقه، وإن فسخ المريض، فإن كان قبل العمل لم يلزمه شيء، وإن كان بعد ما شرع الطبيب في العمل لزمه أجر المثل لما عمل، وهنا نؤكد أن الاشتراط على البرء في العصر الحالي يجب أن يكون واضحًا وضوحًا لا لبس فيه، إذ العرف يجري على اعتبار التزام الطبيب في عقد العلاج؛ لأنه التزام ببذل عناية، وليس التزامًا بتحقيق الشفاء، وبالتالي فإن الإقرار بعدم استحقاق المقابل إلا عند البرء هو على خلاف الأصل، فلا يفترض، ولا يحق أن يكون نتيجة تفسير موسع لما اتفق عليه الطرفان.

النازلة السابعة والخمسون: الحجر الصحي

النازلة السابعة والخمسون: الحجر الصحي الحجر الصحي: هو عزل أشخاص بعينهم وأماكن أو حيوانات قد تحمل خطر العدوى. وتتوقف مدة الحجر الصحي على الوقت الضروري لتوفير الحماية من مواجهة الأمراض الوبائية. ولقد جاءت نصوص السنة بكيفية احتواء انتشار الأمراض الوبائية، فعن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا سَمِعْتُمْ بالطَّاعُونِ في أَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا" (¬1)، وَفي رواية: "الطَّاعُونُ آيَةُ الرِّجْزِ، ابْتَلَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بهِ نَاسًا مِنْ عِبَادِهِ، فَإذَا سَمِعْتُمْ بِهِ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَفِرَّوا مِنْهُ" (¬2). ويعتبر الحجر الصحي من أهم وسائل مقاومة انتشار الأمراض الوبائية والوقاية منها والحد من انتشارها، وهو من المطالب المهمة التي تحمي صحة البشر، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ" (¬3)؛ وذلك حتى لا يكون وروده سببًا في انتشار المرض وإصابة قوم آخرين، والوقاية خير من العلاج، لذلك فلا ينبغي تجاهل الإرشادات الصحية المتعلقة بمرض (أنفلونزا الخنازير)، أو (أنفلونزا الطيور) مثلًا، والصادرة من الجهات المتخصصة، ولا بد من التجاوب معها. وقد طبق هذا المنهج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يوم أن خرج إلى الشام، وعندما علم أن الوباء قد وقع بها، عاد عملًا بحديث أسامة بن زيد المتقدم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري في كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون (5729)، ومسلمٌ في كتاب الطب، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها (2219)، عن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-. (¬2) رواه مسلم، في كتاب الطب، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها (2218). (¬3) رواه البخاري في كتاب الطب، باب لا هامة، برقم 5328، ومسلمٌ في كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء، برقم (2221).

فالحاصل أن الضروريات الخمس وهي: (حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، والعرض) قد شدد الإسلام عليها، كقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]، ومنها قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، والحجر الصحي هو وسيلة من الوسائل التي تحافظ على إحدى هذه الضروريات وهي النفس" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر في ذلك الحجر الصحي/ عبد الله عبد الرازق السعيد.

النازلة الثامنة والخمسون: التشخيص المبكر قبل الزواج ومدى الإلزام به

النازلة الثامنة والخمسون: التشخيص المبكر قبل الزواج ومدى الإلزام به أولًا: التعريف به: هو إجراء الفحص للمقبلين على الزواج لمعرفة وجود الإصابة أو الحمل لصفة بعض الأمراض الوراثية بغرض إعطاء المشورة حول إمكانية نقل الأمراض الوراثية للأبناء، وإعطاء الخيارات والبدائل أمام الخطيبين؛ من أجل التخطيط لبناء أسرة سليمة صحيا. وعرفته وزارة الصحة بأنه: إجراء الفحص للمقبلين على الزواج لمعرفة وجود الإصابة لصفة بعض أمراض الدم الوراثية، وذلك بغرض إعطاء المشورة الطبية حول احتمالية انتقال تلك الأمراض للطرف الآخر في الزواج أو الأبناء في المستقبل، وإعطاء الخيارات والبدائل أمام الخطيبين؛ من أجل مساعدتهما على التخطيط لأسرة سليمة صحيًّا. ثانيًا: الآثار الفقهية للتشخيص المبكر قبل الزواج: تظهر الآثار الفقهية للتشخيص المبكر قبل الزواج في الأمور التالية: 1 - إذا ظن البعض أن هذا الأمر فيه كلفة ومشقة على الراغبين في الزواج، فإن التأكد من السلامة أمر أكثر أهمية حتى لا يقع ما يندم عليه، وذلك يخضع تحت قاعدة: "الضرر يزال"، وأيضًا: "وإذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمها بارتكاب أخفهما"، فإنه ينبغي الكشف الطبي قبل النكاح؛ دفعًا للأضرار وجلبًا للمصالح. 2 - أن الأدلة الشرعية يفهم منها الوصية بإعلام أحد الزوجين الآخر بما فيه من العيوب منعًا للتدليس والغش.

ثالثا: مدى الاستفادة من التشخيص المبكر قبل الزواج

ثالثًا: مدى الاستفادة من التشخيص المبكر قبل الزواج: 1 - تعتبر التشخيصات المبكرة قبل الزواج من الوسائل الوقائية الفعالة جدًا في الحد من الأمراض الوراثية والمعدية والخطرة. 2 - تحاول هذه الفحوصات أن تضمن -بإذن الله- إنجاب أطفال أصحاء سليمين عقليًا وجسديًا من تزاوج الخاطبين المعنيين، وعدم انتقال الأمراض الوراثية التي يحملها أو يظهرها أحد الخاطبين أو كلاهما. 3 - تحديد قابلية الزوجين المؤهلين للإنجاب من عدمه بصورة عامه وإلى حد ما؛ لأن أسباب العقم ليست معروفة كلها، ويحقق رغبة الخاطبين لمعرفة الأسباب المحتملة للعقم. 4 - يهدف التشخيص المبكر إلى التحقق من قدرة كل من الزوجين المؤهلين على ممارسة علاقة جنسية سليمة مع الطرف الآخر بما يشبع رغبات كل منهما بصورة طبيعية، والتأكد من عدم وجود عيوب عضوية تقف أمام هذا الهدف المشروع لكل من الزوجين. 5 - يهدف التشخيص المبكر للتحقق من وجود أمراض مزمنة مؤثرة على مواصلة الحياة بعد الزواج مثل السرطانات وغيرها، مما له دور في إرباك استقرار الحياة الزوجية. رابعًا: سلبيات التشخيص المبكر قبل الزواج: 1 - قد يؤدي هذا الفحص إلى الإحباط الاجتماعي، فلو أثبتت الفحوصات أن هناك احتمالا لإصابة المرأة بالعقم، أو سرطان الثدي، واطلع الآخرون على ذلك فإن ذلك يسبب لها ضررًا نفسيًّا واجتماعيًّا، وفي هذا قضاء على مستقبلها خاصة أن الأمور الطبية تخطئ وتصيب.

خامسا: التكييف الفقهي للتشخيص المبكر قبل الزواج

2 - نتائج التحليل تبقى احتمالية في العديد من الأمراض، وهي ليست دليلًا صادقًا لاكتشاف الأمراض المستقبلية. 3 - قد تحرم هذه الفحوصات البعض فرصة الارتباط بزواج نتيجة فحوصات قد لا تكون أكيدة. خامسًا: التكييف الفقهي للتشخيص المبكر قبل الزواج: التشخيص المبكر قبل الزواج مسألة حادثة لم يتطرق لها الفقهاء السابقون؛ وذلك لعدم وجود المختبرات والإمكانات لديهم، خصوصًا فيما يتعلق بالأمراض الوراثية، وكذلك ما يتعلق بالمقدرة على الإنجاب، أما فيما يتعلق بالأمراض فقد تكلم الفقهاء عن بعضها إلا أنهم لم يتكلموا عن الفحص لأجلها، ولعل مسألة التشخيص المبكر قبل الزواج تخضع للمصالح المرسلة، إذ أن التشخيص المبكر قبل الزواج مسألة حادثة لم يتطرق لها الفقهاء السابقون، ولا يمكن إدراجها تحت فرع من فروعهم، وتسمى في العصر الحديث التشخيص المبكر قبل الزواج أو الفحص قبل الزواج. سادسًا: الحكم الشرعي للتشخيص المبكر قبل الزواج: اختلف أهل العلم المعاصرون في هذه النازلة؛ فذهب جمهورهم إلى مشروعية هذا الفحص، وذهب بعض الفقهاء إلى عدم مشروعية التشخيص المبكر قبل الزواج. الراجح في هذه النازلة: الذي يظهر لنا هو جواز التشخيص قبل الزواج، وهو قول جمهور العلماء كما سبق، حيث أن الأدلة الشرعية تقتضي ذلك، وقد وافقتها المقاصد الشرعية في الجواز، وهذا الحكم من حيث العموم لكن قد يلفه عوارض تنقله للوجوب أو

سابعا: حكم الإلزام به

التحريم، فلو اشترط أحد الزوجين على صاحبه إجراء الفحص فإنه يكون واجبًا، ولو أن بلدًا من البلاد يتضرر فيه المقبلون على الزواج بإفشاء أسرارهم فهنا قد ينهى عنه، والله تعالى أعلم. سابعًا: حكم الإلزام به: بعد أن تبين لنا جواز إجراء التشخيص المبكر قبل الزواج، واتضحت فوائد إجرائه، فهل لولي الأمر أن يلزم به، فلا يمكن المقدم على الزواج من إتمام زواجه حتى يجري التشخيص؟ نقول: اختلف العلماء في مشروعية الإلزام بالتشخيص المبكر قبل الزواج على قولين: القول الأول: أنه لا مانع شرعًا أن يصدر ولي الأمر نظامًا يلزم الناس بإجراء التشخيص المبكر قبل الزواج، واستدلوا لذلك بأمرين: الأول: أن من القواعد المقررة شرعًا أن تصرف الإِمام على الرعية منوط بالمصلحة، ومنع إجراء الزواج قبل إجراء الزوجين للتشخيص الطبي عليهما وثبوت سلامتهما من الأمراض الخطيرة يعد من المصالح البينة القائمة على منع الفساد؛ إذ فيه حماية للنسل وغيره مما سبق ذكره من المصالح. ثانيًا: أن عقد النكاح يدخله خيار العيب كغيره من العقود المدنية، وإن اختلفوا في تحديد العيوب التي يفسخ بها العقد، مما يدلل على أنه من الواجب على الخاطبين معرفة عيوب كل منهما الجسدية لكي لا يحدث الفسخ وما ينبني عليه من إشكالات مادية ونفسية وإنسانية. القول الثاني: لا يجوز إجبار أي شخص لإجراء الاختبار الوراثي، ويجوز

تشجيع الناس ونشر الوعي بالوسائل المختلفة بأهمية التشخيص المبكر، وذهب إلى هذا القول المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإِسلامي، واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها: أولًا: أن أركان النكاح وشروطه التي جاءت بها الأدلة الشرعية محددة، وليس منها وجوب إجراء التشخيص المبكر، وإيجاب أمر على الناس وجعله شرطًا للنكاح زيادة على شرع الله وهو باطل. ثانيًا: أن النكاح لا يلزم منه الذرية، فقد يتزوج الرجل لأجل المتعة فقط، فلا وجه للإلزام بالتشخيص المبكر. الترجيح: الذي يظهر لنا -والله أعلم- أن الإلزام بالفحوص الطبية قبل الزواج وربط توثيق العقد بها أمر غير جائز؛ لأن عقد النكاح من العقود التي تولى الشارع الحكيم وضع شروطها، فلا يليق فتح الباب للزيادة على ما جاء به الشرع، ومع اختيارنا لهذا القول إلا أنه قد صدر قرار من مجلس الوزراء السعودي بالإلزام، ومعلوم أن حكم الحاكم يرفع الخلاف، وبناء على ذلك يجب على كل مقبل على الزواج تطبيق هذا القرار طاعةً لولي الأمر. وقد صدر من المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإِسلامي (¬1) قرار بهذه النازلة، ومما جاء فيه: "أولًا: إن عقد النكاح من العقود التي تولى الشارع الحكيم وضع شروطها، ورتب عليها آثارها الشرعية. . . وفتح الباب للزيادة على ما جاء به الشرع، كالإلزام ¬

_ (¬1) رواه البخاري في كتاب الطب، باب لا هامة، برقم 5328، ومسلمٌ في كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء، برقم (2221). مجلة مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بجدة قرار رقم: 94/ 7 / د 9.

بالفحوص الطبية قبل الزواج أمر غير جائز. ثانيًا: يوصي المجلس الحكومات والمؤسسات الإِسلامية بنشر الوعي بأهمية الفحوص الطبية قبل الزواج، والتشجيع على إجرائها، وتيسير تلك الفحوصات للراغبين فيها، وجعلها سرية، لا تفشى إلا لأصحابها المباشرين" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: الفحص الطبي قبل الزواج ومدى مشروعيته، عبد الرحمن بن حسن النفيسة، الفحص قبل الزواج، د. عبد الرشيد قاسم.

النازلة التاسعة والخمسون: أثر الأمراض المعدية الحديثة في الخيار بين الزوجين وفي حق المعاشرة وفي حضانة الولد

النازلة التاسعة والخمسون: أثر الأمراض المعدية الحديثة في الخيار بين الزوجين وفي حق المعاشرة وفي حضانة الولد أولًا: تعريف المرض المعدي: عرَّفَت منظمة الصحة العالمية المرض المعدي بأنَّه: المرض الذي ينتج من الإصابة بعدوى بعامل مُسبِّب يمكن انتقاله من إنسانٍ لإنسان، أو من حيوان لإنسان، أو من البيئة للإنسان والحيوان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. ثانيًا: أثر الأمراض المعدية في الخيار بين الزوجين: تكلَّم الفقهاء -رحمهم الله- عن أسباب كثيرة للفرقة بين الزوجين، واختلفوا في حد العيب الذي يثبت به الخيار، والذي يظهر لنا أن أي ضرر أو عيب أو مرض يضر بأحد الزوجين أو يخالف مقصود النكاح فإن له حق طلب الفسخ. ثالثًا: حكم التفريق بين الزوجين بسبب الأمراض المعدية الحديثة: لقد فشت بعض الأمراض الخطيرة في هذا الزمان التي لم تكن في العصور السابقة، فما حكم الفسخ بالأمراض المعدية الحديثة التي استجدت في هذا العصر؟ أ- رأي الأطباء: قرر الأطباء تقسيم الأمراض المعدية إلى حالتين: الحالة الأولى: المرض المعدي الذي يمكن علاجه: فالذي يظهر أن المرض حينئذٍ لا يكون عيبًا يُسوغ الخيار في النكاح لأحد الزوجين، ويمكن عند النزاع بين الزوجين أن يضرب القاضي مدةً يُنتظر فيها زوال

العيب من عَدِمه، كما ذكر الفقهاء في مسألة العِنِّين. الحالة الثانية: المرض المعدي المستعصي الذي لا يمكن علاجه: فلو نظرنا إلى مرض (الإيدز) مثلًا، لوجدنا أن من تقريرات الأطباء فيه ما يلي: * احتمالات انتقال العدوى من الزوج المريض إلى الزوج السليم واردة، ولا سيما إذا كان المريض يرفض استعمال العازل الذكري. * معدَّل الحياة بعد ظهور أعراض المصاب بالإيدز ما بين عامين إلى ثلاثة أعوام فقط، وهو مرض لا يمكن الشِّفاء منه إلا بإذن الله؛ حيث لم يوجد لقاح حتى الآن معالج لفيروس الإيدز. * طرق العدوى بمرض الإيدز محصورة في الاتصال الجنسي ونقل الدم. * الأطباء ينصحون بالابتعاد عن الاتصال الجنسي ما أمكن، فإن أصرا على الاتصال الجنسي فيكون ذلك عن طريق استعمال العازل الذكري أو الأنثوي؛ لمنع ملامسة الإفرازات الجنسية لكل من الطرفين مما يقلل نسبة الإصابة للسليم. ب- رأي الفقهاء: بناءً على ما تقدم من معلومات طبية فقد اختلف الفقهاء المعاصرون في هذه المسألة على قولين: القول الأول: جواز طلب الفرقة من أي طرف متى طلب ذلك ويثبت له خيار العيب، ولا يجوز للمصاب إجبار زوجته على البقاء أو المعاشرة الجنسية. وقد جاء في بحث إجراءات الوقاية الزوجية في الفقه الإِسلامي (¬1) من مرض الإيدز: "أن يمتنع الطرف الآخر عن المعاشرة ويبقى معافى من الإصابة، وهذا يجوز ¬

_ (¬1) مجلة مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بجدة قرار رقم: 94/ 7 / د 9.

له أن يطلب التفريق حماية لنفسه ومستقبله، ومستقبل أولاده من العدوى الممكنة في كل وقت بالدم أو المعاشرة أو اللبن". القول الثاني: إجبار الزوجين على الفرقة ولو رضي السليم بالبقاء، فإذا كانت المرأة هي السليمة فعلى الأولياء أن يأخذوا على يدها؛ لما تقرر شرعًا من الضرر الحاصل ببقائها معه. وإذا كان السليم هو الزوج، فيجب على الحاكم منعه وحجره عن ذلك، إن لم يبتعد عما هو فيه؛ لأن تزوج الرجل المعافى من مريض بمرض خطير ضار -كالإيدز والبرص والجذام- أولى من سفه التصرف بالمال، فالسفه في التصرف في النفس وإهلاكها أشد خطرًا من السفه في التصرف بالمال. وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي (¬1) ما نصه: "حق السليم من الزوجين في طلب الفرقة من الزوج المصاب بعدوى مرض نقص المناعة المكتسبة الإيدز: للزوجة طلب الفرقة من الزوج المصاب باعتبار أن مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) مرض معدٍ تنتقل عدواه بصورة رئيسية بالاتصال الجنسي". ويستدل على ذلك بما يلي: 1 - قوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [النساء: 185]، وفي بقاء الزوجة السليمة مع زوجها المريض بهذا المرض عسر وحرج ومشقة لا تطاق. 2 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَفِرَّ مِنْ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنْ الأَسَدِ" (¬2)، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالبعد ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) رواه الإِمام أحمد (2/ 443) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، والبخاريُّ في الطب، باب الجذام (5707) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- معلقًا، ولفظه: "كما تفر من الأسد".

رابعا: أثر الأمراض المعدية الحديثة في المعاشرة بين الزوجين

عن المريض بالمرض المعدي كالجذام وهذا منه. 3 - أن هذا المرض يحول دون تحقيق مقاصد النكاح من الاستمتاع وتحقيقه من الولد والإحصان والمودة والرحمة؛ لما يسببه من نفره تمنع قربانه، قياسًا على الجذام والبرص. 4 - من القواعد الشرعية المعتبرة: (أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) وهذا المرض متعدي إلى من يخالط صاحبه، بل قد يتعدى إلى النسل. 5 - ومن القواعد الشرعية: أن (الضرر يزال)، وفي بقاء الزوجة السليمة ضرر كبير عليها، وإزالته واجب شرعي. ولذلك فإن الذي يترجح في هذه المسألة أن هذه الأمراض المعدية المستعصية تدخل من ضمن أسباب التفريق، وأنه يثبت بها خيار العيب بين الزوجين، هذا من حيث الأصل، ومعلوم أن النظر في مثل هذه المسائل مرهون بالمصلحة والمفسدة، فإن رأى الحاكم أن التفريق بين الزوجين فيه المصلحة -وإن رضيا بالبقاء- فرق بينهما، لكن الأصل هو الرجوع إلى الطرف السليم فإن رضي بالبقاء فله ذلك؛ لأن الخيار له، بشرط التزامهما بالضوابط والتوجيهات الصحية اللازمة لحماية السليم منهما من المرض، والله أعلم. رابعًا: أثر الأمراض المعدية الحديثة في المعاشرة بين الزوجين: إذا قرر كل من الرجل والمرأة استمرار الزوجية بينهما فلا بد لهما من الأخذ بالأسباب التي تكون معينةً -بإذن الله- على عدم نقل العدوى من المصاب إلى السليم، لكن هل يبقى حق التمتع والمعاشرة بين الزوجين على حاله؟ أم أنه يعد خطرًا على السليم منهما؟

أ- آراء الأطباء في المسألة: يقرر الأطباء أنه من الممكن انتقال المرض المعدي بأحد طريقين: الأول: عن طريق الاتصال الجنسي بين الزوجين. الثاني: عن طريق تقرُّحات أو جروح في بدن المُصَاب، سواءٌ كان الجرح في الأعضاء التناسلية أو غيرها. ب- رأي الفقهاء: بناءً على ما ذكره الأطباء يمكن تقسيم المعاشرة بين الزوجين على قسمين: القسم الأول: معاشرة في الفرج. القسم الثاني: معاشرة في ما دون الفرج. أما حكم القسم الأول وهو المعاشرة في الفرج، فإنه يحرم شرعًا إذا كان هذا المرض المعدي مما ينتقل بالاتصال الجنسي، فإذا طلب المصاب من الزوجين ذلك وجب على السليم الامتناع من ذلك، ولا تعد الزوجة السَّليمة ناشِزَةً، وكذا الزوج لا يُعدُّ مولِيًا لو امتنع. ودليل ذلك: قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، وفي المعاشرة في الفرج إلقاء للنفس في التهلكة، ويغلب على الظن انتقال المرض بها، وكذا فإن قواعد الشرع ونصوصه جاءت بسد باب الضرر ودفعه وسد الوسائل الموصلة إليه، فلا ضرر ولا ضرار، وإذا ثبت حق الفسخ بسبب الضرر، فالامتناع مع البقاء أولى. أما في حال استخدام الزوجين للعازل أو الواقي فالمسألة مشكلة، خاصة إذا عرفنا أنه في أحدى الدراسات الطبية التي شملت العلاقة بين المتزوجين بعد حوالي (15000) اتصال جنسي هي (صفر) ولذلك فإن المسألة يتنازعها أصلان، أصل

الجواز والإباحة، وأصل المنع، أخذًا للحيطة والحذر؛ لأن الاحتمال يبقى قائمًا ولو كان ضعيفًا، وكل يدرك خطورة الإصابة بمرض كالإيدز لا يوجد له علاج إلى الآن، والسلامة لا يعدلها شيء والله أعلم. أما القسم الثاني وهو المباشرة في ما دون الفرج، فقد اختلف الفقهاء فيه على قولين: القول الأول: أن المباشرة فيما دون الفرج أمر محرم، واستدلوا بقول الله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، وهذه قاعدة عامة منع الله تعالى فيها الناس من إلقاء أنفسهم إلى الضرر والتهلكة. وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من إيقاع الضرر على النفس أو الغير، في قوله: "لاَ ضَرَر وَلَا ضِرَارَ" (¬1). وهذا الأمر بلا شك من أعظم الضرر؛ لأنه يعود بمفسدة كبيرة على النفس. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذ بالأسباب دفعًا للضرر، فعندما جاء وقد ثقيف يبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان فيهم رجل مجذوم أرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ" (¬2). ومعلوم أن الأمراض المعدية وخاصة الإيدز يحتاج معها إلى الابتعاد عمن هو مصاب به، دفعًا للضرر الحاصل من الاختلاط به، وعلى ذلك فلا تجوز المعاشرة حتى ولو كانت فيما دون الفرج. القول الثاني: أن المباشرة فيما دون الفرج جائزة، لكن مع استخدام كافة الاحتياطات، كالواقي الذكري أو العازل، حيث أجاز هؤلاء المعاشرة الزوجية ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص: 137). (¬2) رواه مسلم، كتاب السلام، باب اجتناب المجذوم ونحوه (5958).

خامسا: أثر الأمراض المعدية الحديثة في حق الحضانة

والمساس حال الرضا. واستدلوا بأن الأصل هو بقاء الزوجية وعدم التفريق، فمتى ثبتت لا يجوز التفريق إلا بدليل من كتاب أو سنة وإلا فلا. وأيضًا، فإن حصول المرض بالمباشرة فيما دون الفرج مشكوك فيه، ولا يزول اليقين بالشك، وتبعًا للأصل، والأصل بقاء ما كان على ما كان. وأيضًا، إن التدابير الوقائية يجب أن تقتصر على طرق انتقال المرض، وما دامت هذه المباشرة ليست ناقلة، فما الداعي لحظرها؟ والذي يظهر لنا بعد ذكر القولين جواز العشرة الزوجية، والمباشرة فيما دون الفرج بالضوابط التالية: 1 - أن يكون احتمال انتقال العدوى بها ضئيلًا جدًّا. 2 - التزام الزوجين باستعمال كافة الاحتياطات التي يوصيهم بها الطبيب، ومنها استخدام العازل بكل انتظام ودقة. 3 - الاستمرارية في استعمال العازل حتى مع طول المدة، وعدم التساهل في تركه، ولا سيما أن الحياة الزوجية الأصل فيها الدوام. فإذا لم تتوفر هذه الضوابط فالأولى في ذلك المنع؛ لأنه الأحوط نظرًا لخطورة الأمراض المعدية. خامسًا: أثر الأمراض المعدية الحديثة في حق الحضانة: صورة المسألة: أن يكون أحد الزوجين مُصابًا بمرضٍ معدٍ، فهل يؤثر ذلك على استحقاقه لحضانة الطفل؟

وهذا فيما إذا لم يترتَّب ضرر ظاهرٌ على المحضون؛ إذ قِيَام الحضانة على مصلحة المحضون، وليس ثمة مصلحة إذا عُلِمَ انتقال المرض إليه، أو كانَ المُصَاب لا يقوى على شؤون الحضانة بسبب مرضه. أ- آراء الأطباء: للأطباء في هذه المسألة رأيان: الرأي الأول: من رأى منهم أنه لم يثبت طبيًّا انتقال العدوى بسبب المخالطة العادية والاختلاط بين الأفراد، وجاء ذلك في بحث معلومات أساسية حول مرض الإيدز (¬1): "ولم يثبت انتقال العدوى في العائلات حتى ولو لم تتخذ احتياطات إضافية إلا بين الزوج والزوجة، فإذا راعت الأم الأساسيات البسيطة لنقل العدوى فلن تكون مصدر خطر على طفلها". الرأي الثاني: يرى أن الصلة الحميمة تفترق عن الممارسات العادية، فالصلة الحميمة قد تسبب انتقال المرض. ب- آراء الفقهاء: اختلف الفقهاء المعاصرون في هذه المسألة بناء على اختلاف الأطباء فيها على قولين: القول الأول: لا يجوز إسقاط الحضانة من المصاب بمرض معدي. وممن قال بذلك مجمع الفقه الإِسلامي، وكذا الندوة الفقهية الطبية. جاء في قرار مجمع الفقه الإِسلامي (¬2): "لما كانت المعلومات الطبية الحاضرة تدل على أنه ليس هناك خطر مؤكد من حضانة الأم المصابة بعدوى مرض نقص المناعة المكتسبة الإيدز لوليدها السليم وإرضاعها له، شأنها في ذلك شأن المخالطة ¬

_ (¬1) رؤية إسلامية للمشكلات الاجتماعية لمرض الإيدز، د. عبد الرزاق الشايجي، (ص: 395). (¬2) مجلة مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي بجدة قرار رقم: 94/ 7 / د 9.

والمعايشة العادية، فإنه لا مانع شرعًا من أن تقوم الأم بحضانته ورضاعته ما لم يمنع من ذلك تقرير طبي". القول الثاني: التوقف في إعطاء حق حضانة للمريض المصاب بالمرض المعدي حتى يتضح الأمر، ويقطع بعدم الانتقال، إن وجد من يقوم بحضانته غير المصاب. جاء في كتاب الإيدز (¬1) أحكامه وعلاقة المريض الأسرية والاجتماعية: "ولكن الذي أميل إليه والحالة هذه من عدم وضوح وسائل انتقاله: أنه يأخذ حكم الجذام والبرص حتى يقطع بعدم الانتقال بالمعايشة إن وجد من يقوم بحضانته غير المصاب، وإلا وجب بقاؤه مع المريض". والذي يترجح عندنا أن الأصل في هذه الحالة سقوط الحضانة حتى يتضح الأمر، ويكون المرجع في هذه الحالة إلى القضاء ليحكم في كل حالة بما يناسبها (¬2). ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) انظر كتاب: الإيدز وباء العصر، (ص: 70)، ورؤية إسلامية للمشكلات الاجتماعية لمرض الإيدز، ص (98 - 116)، وكتاب أثر الأمراض المعدية في الفرقة بين الزوجين، (ص: 89 - 120).

النازلة الستون: الأحكام المتعلقة بمرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز)

النازلة الستون: الأحكام المتعلقة بمرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) أولًا: التعريف به: الإيدز اعتلال خطير جدًّا ينتج عن عجز مقدرة أجهزة المناعة في الجسم على محاربة كثير من الأمراض، وغالبًا ما يقود هذا المرض في نهاية المطاف إلى الموت. وتعني كلمة إيدز متلازمة عوز المناعة المكتسب، ويشير اسم هذا المرض إلى حقيقة أنه يصيب جهاز المناعة لدى المريض، ورغم أن بعض الباحثين كانوا يتابعون حالات هذا المرض منذ عام 1959 م إلا أن أول اكتشاف للإيدز كان في أمريكا في عام 1981 م، ثم تتابع تشخيص حالات هذا المرض في جميع أنحاء العالم. ثانيًا: طرق العدوى بمرض الإيدز: تكمن العدوى بهذا المرض الخطير في عدة أمور منها: 1 - الاتصال الجنسي، وهو السبب الرئيسي لانتقال فيروس الإيدز. 2 - عن طريق نقل الدم أو مشتقاته الملوث بالفيروس. 3 - زراعة الأعضاء من متبرع مصاب. 4 - استخدام إبر أو أدوات حادة أو ثاقبة للجلد ملوثة مثل أمواس الحلاقة أو أدوات الوشم. 5 - عن طريق المشيمة من الأم الحامل.

ثالثا: التكييف الشرعي لمرض الإيدز من جهة مرض الموت

ثالثًا: التكييف الشرعي لمرض الإيدز من جهة مرض الموت: إن مرض الموت عُرفًا هو: المرض الذي يستشعر فيه الإنسان بدنوّ أجله، وقد حكم الشارع في هذه الحالة بالحجر على تصرفات المريض التي تضرّ بحقوق الدائنين والورثة. وبما أن مرض الإيدز -على ما ذكره الأطباء- يكمن في الجسم عدة سنوات قد تبلغ عشر سنين أو أكثر يكون فيها المصاب بالمرض عاديًا في كل تصرفاته في أكثر هذه المدة، إذًا لا يمكن أن يحكم على المريض بمرض الإيدز أنه في حالة مرض الموت. فإذا وصل المريض إلى مراحله المتأخرة من العدوى التي يستفحل فيها المرض وتصاحب المريض تغييرات سلوكية مصحوبة بالخرف، وتقعده عن ممارسة الحياة اليومية، وتتصل هذه التغييرات بالموت، ففي هذه المراحل يحكم على المريض بأنّ مرضه مرض الموت، حيث إنّه في هذه الحالة الشديدة يستشعر بدنوّ أجله، وبهذا ينطبق عليه عنوان (مرض الموت)، فتتقيّد تصرفاته المضرّة بحقوق الديان والورثة. رابعًا: حكم عزل المصاب بالإيدز: إن عزل المريض فيه نفع للمجتمع وللمريض معًا، أما للمجتمع فيتصور في الوقاية من انتشار المرض، وأما للمريض فيتصور في حفظ المريض من أن تسري إليه العدوى بأمراض الآخرين وهو في حالة منهكة، وتقديم الرعاية المركزة له. وبناء على ما ذكرناه آنفًا من أسباب نقل العدوى بمرض الإيدز فلا مسوّغ لعزل المريض بالإيدز من المجتمع في مصحّات خاصة؛ لعدم وجود أي احتمال أساسي لانتقال المرض عن طريق الطعام أو الشراب أو المرافق الصحية أو المسابح أو التنفس أو المقاعد أو أدوات الطعام أو الملابس أو اللمس.

خامسا: حكم تعمد نقل العدوى بمرض الإيدز

ولكن هنا أمر يتوجه إلى المريض نفسه وهو: أن يتجنب طرق العدوى للآخرين ممّن هو محترم النفس؛ لما ثبت من نصوص الشرع الحنيف من حرمة الإضرار وإلقاء الأنفس إلى التهلكة. خامسًا: حكم تعمد نقل العدوى بمرض الإيدز: إن تعمد نقل العدوى إلى الآخرين عمل محرم؛ وذلك لحرمة الإضرار بالآخرين وبخاصة الأضرار المؤدية إلى الموت. وتعمد نقل العدوى بمرض الإيدز له أحوال: الأول: أن يتعمد نقل العدوى إلى شخص سليم بغرض قتله: فالحكم هنا أنه يأثم بفعله هذا، فإن مات ذلك الشخص كان جزاء الجاني أن يقتل قصاصًا لقوله تعالى: {وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]، وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ في الْقَتْلَى} [البقرة: 178]، وإن لم يمت عوقب الجاني بعقوبة تعزيرية تتفق مع فظاعة الجرم. الثاني: أن يتعمد نقل العدوى بقصد إشاعة المرض في المجتمع، فهذا الجرم يعد نوعًا من الحرابة تستوجب عقوبتها، وذلك دفاعًا عن النفوس التي يجب حفظها عن المرض المهلك؛ لقول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ في الدُّنْيَا وَلَهُمْ في الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)} [المائدة: 23]. الثالث: أن يكون قصد المعدِي هو قتل المُعدَى، وقد تحقق القتل بعد أن مات المُعدَى، فالحكم هو ثبوت الديّة فيما تركه المُعدِى؛ وذلك لعدم إمكان القصاص فنتنزل إلى الدية.

سادسا: حكم إجهاض الأم المصابة بعدوى الإيدز

الرابع: أن يكون قصد ناقل المرض هو قتل من ينقل إليه المرض، وقد حصلت العدوى فقط، فهنا لا يجوز قتل الناقل (المصاب)؛ وذلك لعدم جواز القصاص قبل وقوع الجناية (القتل)، لكن يستحق الناقل للمرض التعزير من قبل الحاكم الشرعي حسب ما يراه مناسبًا. الخامس: أن يكون قصد حامل الفيروس نقل المرض لفرد معين واعترف بذلك ولم تحصل الإصابة، فينطبق عليه عنوان التجري وحكمه فلا يبعد استحقاقه التعزير بسبب قصده الإيذاء وإيقاع الفساد. السادس: أن يكون قصد المصاب العدوى، وقد حصلت في الخارج، فيكون عمله خطأ، فإذا مات المنقول إليه المرض بسبب العدوى فقد حصل القتل الخطأ فتثبت الدية على العاقلة. سادسًا: حكم إجهاض الأم المصابة بعدوى الإيدز: ذكر الأطباء أنّ نسبة انتقال المرض إلى الجنين أثناء الحمل ضئيلة لا تتجاوز 10 %، وبناءً عليه لا يجوز قتل الجنين أو إجهاضه، كما سبق بيانه في نازلة حكم الإجهاض. ومن قرارات مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي (¬1)، بخصوص هذه النازلة: أولًا: تؤكد المعلومات الطبية المتوافرة حاليًا أن العدوى بفيروس العوز المناعي البشري مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) لا تحدث عن طريق المعايشة أو الملامسة أو التنفس أو الحشرات أو الاشتراك في الأكل والشرب أو حمامات السباحة ¬

_ (¬1) مجلة المجمع الفقهي الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي العدد 8، (5/ 9) قرار رقم: 82 (13/ 8) بشأن مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز).

أو المقاعد أو أدوات الطعام، ونحو ذلك من أوجه المعايشة في الحياة اليومية العادية، وإنما تكون العدوى بصورة رئيسية بإحدى الطرق التالية: 1 - الاتصال الجنسي بأي شكل كان. 2 - نقل الدم الملوث أو مشتقاته. 3 - استعمال الإبر الملوثة، ولا سيما بين متعاطي المخدرات، وكذلك أمواس الحلاقة. 4 - الانتقال من الأم المصابة إلى طفلها في أثناء الحمل والولادة. وبناء على ما تقدم فإن عزل المصابين إذا لم تخش منه العدوى عن زملائهم الأصحاء غير واجب شرعًا، ويتم التصرف مع المرضى وفق الإجراءات الطبية المعتمدة. ثانيًا: تعمد نقل العدوى بمرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) إلى السليم منه بأية صورة من صور التعمد عمل محرم، ويعد من كبائر الذنوب والآثام، كما أنه يستوجب العقوبة الدنيوية، وتتفاوت هذه العقوبة بقدر جسامة الفعل وأثره على الأفراد وتأثيره على المجتمع. فإن كان قصد المتعمد إشاعة هذا المرض الخبيث في المجتمع، فعمله هذا يعد نوعًا من الحرابة والإفساد في الأرض، ويستوجب إحدى العقوبات المنصوص عليها في آية الحرابة (¬1). وإن كان قصده من تعمد نقل العدوى إعداء شخص بعينه وتمت العدوى ولم يمت المنقول إليه بعد، عوقب المتعمد بالعقوبة التعزيرية المناسبة، وعند حدوث ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية (33).

الوفاة ينظر في تطبيق عقوبة القتل عليه، وأما إذا كان قصده من تعمد نقل العدوى إعداء شخص بعينه ولكن لم تنتقل إليه العدوى، فإنه يعاقب عقوبة تعزيرية. ثالثًا: نظرًا لأن انتقال العدوى من الحامل المصابة بمرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) إلى جنينها لا تحدث غالبًا إلا بعد تقدم الحمل (نفخ الروح في الجنين) أو أثناء الولادة، فلا يجوز إجهاض الجنين شرعًا. رابعًا: حضانة الأم المصابة بمرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) لوليدها السليم وإرضاعه: أ- لما كانت المعلومات الطبية الحاضرة تدل على أنه ليس هناك خطر مؤكد من حضانة الأم المصابة بعدوى مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) لوليدها السليم، وإرضاعها له، شأنها في ذلك شأن المخالطة والمعايشة العادية، فإنه لا مانع شرعًا من أن تقوم الأم بحضانته ورضاعته ما لم يمنع من ذلك تقرير طبي. خامسًا: للزوجة طلب الفرقة من الزوج المصاب باعتبار أن مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) مرض مُعْد تنتقل عدواه بصورة رئيسية بالاتصال الجنسي. سادسًا: يعد مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) مرض موت شرعًا إذا اكتملت أعراضه، وأقعد المريض عن ممارسة الحياة العادية، واتصل به الموت.

الفِقهُ الميَسَّر قِسْمِ النَّوازل (مبادئ وقواعد في النَّوازل - النَّوازل في الأشربة والأطعمة - النَّوازل في الإيمان والنِّذور - النَّوازل في الجنايات - الديات - الحدود - الجهاد - القضاء) النَّوازلُ العَامَّة مَوسُوعة فقهيَّة حَديثَة تتناوَل أحكام الفقه الإسلامي بأسُلوب وَاضح للمختصّين وغيرهم تَأليف د/محمَّد بن إبراهيم الموسَى عضو مجلس الشورى سابقًا - المجلس الأعلى للأوقاف أ. د/عبد الله بن محمّد المطلق عضو هَيئة كبار العُلَماء، وعضو اللجنة الدَّائمة للإفتاء أ. د/عَبد الله بن محمد الطيّار أستَاذ الدراسات العليا بكليَّة الشَّريعة والدِّراسات الإسلامية بجامعة القصيم الجزء الثَّالث عشر مدار الوطن للنشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الفِقهُ الميَسَّر قِسْمِ النَّوازل

حقُوق الطَّبع محفُوظَة الطَّبعَة الأولى 1432 هـ - 2011 م مَدَارُ الوَطن للنَّشر المملكة العربية السعودية - المقر الرئيسي: الرياض - الملز ص. ب: 245760 - الرمز البريدي 11312 - هاتف 4792042 (5 خطوط) - فاكس 4723941 البريد الإلكتروني: [email protected] موقعنا على الإنترنت: www.madaralwatan.com الرياض: 0503269316 الغربية: 0504143198 الشرقية: 0503193268 الشمالية والقصيم: 0504130728 التوزيع الخيري للشرقية والجنوبية: 0503193269 التوزيع الخيري لباقي جهات المملكة: 0506436804 التسويق للجهات الحكومية: 0500996987 مبيعات المكتبات الخارجية: 0503193269

مبادئ وقواعد في النوازل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مبادئ وقواعد في النوازل الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أجمعين. وبعد: تمهيد: فإن من سنن الله القائمة في كونه تبدل الأحوال وتغير الظروف، فلكل عصر أدواته ووسائله، ولكل أهل زمان عاداتهم وأعرافهم الخاصة، وقد تميز هذا العصر عن العصور السابقة بالتطور المادي الكبير الذي شمل كافة نواحي الحياة، وبخاصة في مجال العلوم والتكنولوجيا؛ حيث نشهد هذه الأيام ثورة عارمة وتقدمًا مذهلًا في وسائط الإعلام والاتصال وتقنية المعلومات، إلى درجة أن المرء بات عاجزًا عن ملاحقة ما يستجد في هذا المجال. وكان لانتشار هذه الوسائل دور هام في تيسير أمور الناس وقضاء احتياجاتهم، فصاروا يعتمدون عليها في أغلب شؤون حياتهم، ولم يعد بإمكان أحد الاستغناء عنها في هذا الزمن، وقد أفرز هذا التطور جملة من النوازل والمسائل الجديدة التي تتطلب من علماء الشريعة بذل الجهد واستفراغ الوسع في استنباط أحكامها. ولقد اهتم علماء الشريعة بما يستجد من النوازل الفقهية، وحظيت هذه النوازل باهتمام علماء العصر اهتمامًا بالغًا، فقاموا ببيان المنهج الشرعي في استنباط أحكامها، وبذل الوسع في بيان حكم ما وقع منها. ونبين معنى فقه النوازل وأهميته، والضوابط التي ينبغي لأهل العلم أن يسلكوها عند حصول النازلة، وبيان الحكم الشرعي فيها. أولًا: تعريف فقه النوازل لغة واصطلاحًا: أ- تعريف الفقه لغة: الفِقه بالكسر: فهم الشيء. وفي الاصطلاح: معرفة الأحكام الشرعية العملية بأدلتها التفصيلية.

ب- تعريف النوازل: النوازل جمع نازلة، وهي لغة: تدل على هبوط شيء ووقوعه. واصطلاحًا: يختلف مفهوم النازلة عند أهل العلم في القديم والحديث: ففي القديم كانت تطلق ويراد بها: الشديدة من شدائد الدهر تنزل بالناس ومن ذلك مشروعية القنوت في النوازل، أما في الحديث فقد عرفت النازلة بعدة تعريفات منها: أ- الوقاع والمسائل المستجدة، والحادثة التي تحتاج إلى حكم شرعي. فيكون تعريف فقه النوازل بناء على ما سبق: معرفة الحوادث التي تحتاج إلى حكم شرعي. فقولنا معرفة: يشمل العلم والظن، فخرج بذلك الجهل والوهم والشك؛ لأن إدراك الأحكام الفقهية قد يكون يقينيًّا وقد يكون ظنيًّا. وقولنا الحوادث: يراد بها الشيء الذي يقع ولم يكن له ما يماثله، ولها عدة صور: 1 - حوادث جديدة تقع لأول مرة، مثل: النقود الورقية، وزراعة الأعضاء. 2 - حوادث جديدة تغيّر حكمها؛ لتغير ما اعتمدت عليه من عرف، مثل: صور قبض المبيع المعاصرة. 3 - حوادث اشترك في تكوينها أكثر من صورة من الصور القديمة، مثل: عقد الاستصناع، بيع المرابحة للآمر بالشراء. وقولنا تحتاج إلى حكم شرعي: يخرج بهذا القيد الحوادث التي لا تحتاج إلى حكم شرعي، مثل، الزلازل والكوارث والبراكين. ويطلق على العلم الذي يُعنى بالنازلة عدة مصطلحات منها: 1 - فقه النوازل.

ثانيا: أهمية دراسة فقه النوازل

2 - فقه الواقع: يعني: فقه الحياة التي يعيشها الشخص. 3 - فقه المقاصد: فالنوازل أحكامها تستنبط من مقاصد الشريعة وتعلل بها. 4 - فقه الأولويّات: يعني أن النازلة سواء كانت للفرد أو المجتمع، فهي أولى بالبحث والاستقصاء وإبراز الحكم من غيرها، فهي من الأولويات في هذا الجانب. 5 - فقه الموازنات: أي إن من أبرز الوسائل لإيضاح فقه النازلة الموازنة بينها وبين ما يشبهها أو يقاربها. ثانيًا: أهمية دراسة فقه النوازل: سبق أن قلنا بأن تغير الأحوال والظروف أنتج كمًّا هائلًا من القضايا الفقهية المعاصرة، ولا تخفى أهمية الموضوع وضرورته للمهتمين بعلوم الشريعة بخاصة، ولجميع المسلمين بعامة، وتكمن أهمية دراسة النوازل الفقهية في عدة أمور منها: 1 - معالجة القضايا الفقهية المستجدة المطروحة على الساحة، وما هي الأسس والقواعد والضوابط التي يجب اعتمادها للوصول إلى الحكم الشرعي الصحيح في تلك النوازل. 2 - أن فقه النوازل يقوم على الدراسة الشاملة لجميع ما يتعلق بالنازلة من كافة أبعادها الشرعية، التاريخية، القانونية، الاجتماعية، النفسية، ومن ثم إعطاء الحكم الشرعي المناسب لها. 3 - إبراز قدرة الفقه الإِسلامي وفاعليته لتقديم الحلول الناجحة التي تستجيب لواقع العصر وتحدياته. 4 - صدق الإِسلام وخلوده وصلاحيته للقيادة والريادة والتوجيه إلى يوم الدين. 5 - أنه يظهر كمال الشريعة الإِسلامية، وقدرتها على استيعاب كافة المستجدات والحوادث، فإنها امتازت عن الشرائع السماوية والقوانين الأرضية بكونها صالحة لكل

ثالثا: أنواع النوازل

زمان ومكان. 6 - أنه يتعلق بعلم أصول الفقه، هذا العلم العظيم الذي جعلت المعرفة به شرطًا من شروط الاجتهاد والفتوى. 7 - حاجة الناس الماسة إلى بيان أحكام هذه النوازل؛ خصوصًا بعد انتشارها، واعتماد أغلب المسلمين عليها، وكونها واقعًا لا مفر منه. 8 - إنارة السبيل أمام الناس بإيضاح حكم هذه النازلة؛ حتى يعبدوا الله على بصيرة وهدى ونور في منهج إسلامي واضح، فلو تُرك التصدي لتلك النوازل دون إيضاح لأحكامها لصار الناس في تخبّط، ثم استفتوا من لا يصل إلى رتبة الاجتهاد، وهذا قد يفتي بغير علم فيَضِلّ ويُضِلّ. 9 - كسب الأجر والمثوبة من الله -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فإن الدارس (للنازلة) المتجرد الذي يريد أن يصل إلى حكمها الشرعي إذا بذل جهده ووصل إلى حكم فيها فهو مأجور، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر. 10 - الحرص على تأدية الأمانة التي حمّلها اللهُ العلماءَ؛ فقد أخذ اللهُ الميثاقَ على العلماء ببيان الأحكام الشرعية وعدم كتمانها، وقد حصر التكليف بهم؛ فكان لزامًا عليهم التصدي للفتوى في النوازل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا؛ إبراء للذمة بإبلاغ العلم وعدم كتمانه. ثالثًا: أنواع النوازل: النوازل تتنوع باعتبارات شتى؛ فمن هذه الاعتبارات: 1 - بالنظر إلى أبواب الفقه: أ- نوازل في العبادات: وتتميز بالقلة إذا ما قورنت بنوازل المعاملات، مثل: تطهير المياه الملوثة بالوسائل الحديثة، والصلاة في الطائرة.

رابعا: حكم دراسة النازلة

ب- النوازل في المعاملات: وتتميز بالكثرة والتوسع، مثل: المرابحة للآمر بالشراء، والمصارف الإِسلامية، والأوراق المالية. ج- نوازل في حكم الأسرة في كتاب النكاح: وتتميز بالخطورة؛ لأن الأصل في الأبضاع الحظرُ والمنع، ولما يترتب على إهمالها من اختلاط الأنساب مثل: قضايا الإجهاض، وموانع العمل كاللولب، وما يتعلق بأطفال الأنابيب. د- نوازل في الجنايات والحدود والأطعمة: مثل إعادة العضو المقطوع حدًّا أو قصاصًا سواء لصاحبه أو لغيره، والأطعمة المستوردة، والقتل بالصعق الكهربائي. 2 - النوازل المتعلقة بالرجل والمرأة: أ- نوازل خاصة بالرجل، مثل: نوازل الخلافة والإمامة ونحوها. ب- نوازل خاصة بالمرأة، مثل: موانع الحمل كاللولب ونحوه. 3 - النوازل المتعلقة بالإفراد والتركيب: أ- نوازل مفردة، مثل: غسيل الكلى وأثره في الطهارة. ب- نوازل مركبة، مثل: المراصد الفلكية وأثرها في تحديد أوقات العبادات. رابعًا: حكم دراسة النازلة: الاجتهاد في النوازل له حالات: 1 - كونه فرض عين: وذلك في حالين: أ- في حق المجتهد الذي تعين عليه الاجتهاد واستفتاه من لا يسعه سؤال غيره. ب- والاجتهاد في حق نفسه في ما نزل به؛ لأن المجتهد لا يجوز له تقليد غيره. 2 - كونه فرض كفاية: وذلك في حالين.

أ- ألا يخاف من ذوات الحادثة، وذلك بحيث تكون قابلة للتأخير. ب- إمكانية سؤال غيره من المجتهدين. 3 - كون الاجتهاد مندوبًا إليه أو مستحبًا، وذلك في حالين: أ- الاجتهاد من العالم نفسه قبل نزول الحادثة محل الخلاف. ب- أن يفترض المقلد سؤالًا عن حادثة لم تقع بعد. فالاجتهاد في هاتين الحالتين عند بعض العلماء من باب المستحب، وهما من باب ما يسمى بالفقه الافتراضي، وهو أن يفترض الشخص حادثة لم تقع، ثم يبين حكمها ويجتهد فيما افترضه وتخيّله، ويصدر الحكم على هذا الأساس. 4 - الاجتهاد المحرم، وله صور: أ- الاجتهاد في مقابل النص القاطع. ب- الاجتهاد في مقابل الإجماع الثابت بالتواتر. ج- الاجتهاد من غير أهله؛ سواء من المقلدين أو ممّن لم يبلغوا درجة الاجتهاد. د- الاجتهاد الذي هو نتيجة التشهي وطلب الشهرة والتعالي. قال ابن القيم -رحمه الله-: "الفائدة السبعون: إذا حدثت حادثة ليس فيها قول لأحد من العلماء فهل يجوز الاجتهاد فيها بالإفتاء والحكم أم لا؟ فيه ثلاثة أوجه: * أحدها: يجوز. * الثاني: لا يجوز له الإفتاء ولا الحكم، بل يتوقف حتى يظفر فيها بقائل. * والثالث: يجوز ذلك في مسائل الفروع لتعلقها بالعمل وشدة الحاجة إليها وسهولة خطرها، ولا يجوز في مسائل الأصول.

خامسا: الشروط المعتبرة في المتصدي للنازلة

والحق التفصيل، وأن ذلك يجوز بل يستحب أو يجب عند الحاجة، وأهلية المفتي والحاكم؛ فإن عدم الأمران لم يجز، وإن وجد أحدهما دون الآخر؛ احتمل الجواز والمنع، والتفصيل فيجوز للحاجة دون عدمها. والله أعلم" (¬1). خامسًا: الشروط المعتبرة في المتصدي للنازلة: يشترط فيمن يتصدى لفقه النوازل أن يكون مجتهدًا: أ- تعريف المجتهد. لغة: مأخوذ من الجهد ومادته (ج هـ د) تدور على بذل الجهد والطاقة في أمر ما. واصطلاحًا: بذل المجهود في العلم بأحكام الشرع. ب- شروط المجتهد: 1 - إحاطته بمدارك الأحكام (الكتاب والسنة والإجماع). 2 - أن يكون عالمًا باللغة العربية. 3 - معرفة مقاصد الشريعة. 4 - أن يكون عارفًا باستنباط معاني الأصول ليعرف بها حكم الفروع. 5 - أن يكون عارفًا بمراتب الأدلة، وما يجب تقديمه، وما يجب تأخيره. 6 - أن يكون على معرفة بالواقع والظروف التي تحيط به؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. 7 - أن يكون مأمونًا، ثقة في دينه. ج - مراتب المجتهدين: ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 265).

سادسا: خطوات دراسة النازلة

وهي في الجملة أربع مراتب: 1 - المجتهد المطلق: وهو مَن بلغ رتبة الاجتهاد، واستقل بإدراك القواعد لمذهب معين، دون تقليد أو تبعية لأحد. 2 - المجتهد المطلق المنتسب: وهو مَن بلغ رتبة الاجتهاد المطلق، لكنه لا زال منتسبًا إلى مذهب غيره، ولم يؤسس قواعد وضوابط للاستنباط. 3 - المجتهد المذهبي: وهو مَن يقوم بتقرير أصول الإِمام والتخريج عليها غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول ذلك الإِمام وقواعده، فهو مجتهد داخل المذهب. 4 - المجتهد الخاص: أو المجتهد الجزئي: وهو المجتهد في بعض أبواب الفقه أو في بعض مسائله لا في كله، وهو ما يعبر عنه بتجزئة الاجتهاد. ولذلك قال ابن قدامة: "ليس من شرط الاجتهاد في مسألة بلوغ رتبة الاجتهاد في جميع المسائل، بل متى علم أدلة المسألة الواحدة، وطرق النظر فيها، فهو مجتهد فيها، وإن جهل حكم غيرها" (¬1). ولعلّ المجتهد الخاص هو المناسب لدراسة النوازل لا سيما في هذا العصر، وخاصة في الاجتهاد الجماعي الذي يضم مجموعة من العلماء قد يكون من بينهم متخصصون غير شرعيين، وإنما يستفاد منهم في كشف أكثر من علم مثل قضايا الطب ونحوها. سادسًا: خطوات دراسة النازلة: ذكر العلماء خطوات لدارسة النازلة ينبغي الإلمام بها، وهي: 1 - التجرد في دراسة النازلة والإخلاص لله في ذلك. 2 - الإلحاح بالدعاء، وطلب الفتح من الله أن يلهمه رشده وصوابه وتوفيقه إلى السداد وإصابة الحق في هذا الأمر. قال ابن القيم: الفائدة العاشرة: ينبغي للمفتي الموفق إذا نزلت به المسألة أن ينبعث من قلبه الافتقار الحقيقي الحالي؛ لا العلمي المجرد ¬

_ (¬1) روضة الناظر (1/ 353).

إلى ملهم الصواب ومعلم الخير وهادي القلوب أن يلهمه الصواب ويفتح له طريق السداد، ويدله على حكمه الذي شرعه لعباده في هذه المسألة، فمتى قرع هذا الباب فقد قرع باب التوفيق، وما أجدر من أمّل فضل ربه أن لا يحرمه إياه .. (¬1). وقال أيضًا: الفائدة الحادية والستون: حقيق بالمفتي أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح اللَّهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم وكان شيخنا -أي ابن تيمية- كثير الدعاء بذلك (¬2). 3 - فقه حقيقة النازلة: من خطوات دارسة النازلة التي ينبغي له الإلمام بها فقه حقيقة النازلة، وذلك بتصورها تصورًا واضحًا، وتصويرها تصويرًا دقيقًا يدور على الإحاطة بها من جميع الجوانب؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ويتحقق ذلك بثلاثة أمور: أ- جمع المعلومات المتعلقة بموضوع النازلة، فيعرف حقيقتها وأقسامها ونشأتها والظروف التي أحاطت بها وأسباب ظهورها وغير ذلك. ب- الاتصال بأهل الاختصاص في موضوع النازلة. ج- تحليل القضية المركبة إلى عناصرها الأساسية. 4 - تكييف النازلة تكييفًا فقهيًّا: من خطوات دراسة النازلة التي ينبغي له الإلمام بها تكييف النازلة تكييفًا فقهيًّا، وهذا التكييف يفيد في تحديد مسار البحث بتعيين مصادره المُعِينة في معرفة الحكم؛ كما أنه يضيق دائرة البحث في المصادر والمراجع الواسعة. ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين (4/ 172). (¬2) إعلام الموقعين (4/ 357).

5 - عرض النازلة على المصادر الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع؛ كما فعل الصحابة والتابعون. وقد لا يجد الباحث نصًّا صريحًا في المسألة؛ لأنها نازلة، ولكنه يجد دلالة النصوص عليها بالالتزام أو التضمن، فقد يدل النص على النازلة بدلالة المفهوم. 6 - عرض النازلة على أقوال الصحابة واجتهاداتهم، فقد كان عمر ينظر في كتاب الله وسنة رسوله، فإن لم يجد نظر في قضاء أبي بكر. 7 - البحث عن حكم النازلة في اجتهادات أئمة المذاهب الفقهية، فإن لم يجد نصًّا في النازلة بذاتها، فإنه يمكنه أن يجد نصًّا قريبًا منها؛ فحينئذ يتمكن بواسطته من فهم النازلة، ويسهل الحكم عليها. 8 - البحث في قرارات المجامع الفقهية والندوات الفقهية المتخصصة، وذلك مما يسمى بالاجتهاد الجماعي، فلا بد من النظر في مثل هذه المجامع العلمية. 9 - البحث في الرسائل العلمية المتخصصة كرسائل الدكتوراه والماجستير في علوم الشريعة الإِسلامية، وخاصة فيما يتعلق بالنوازل المعاصرة. 10 - إذا لم يجد الباحث حكمًا للنازلة فيما سبق من خطوات، فإنه يعيد النظر في النازلة، ثم يفترض فيها أقسام الحكم التكليفي من وجوب أو ندب أو إباحة أو كراهة أو تحريم، ويبحث في كل افتراض ما يترتب عليه من مصالح ومفاسد، ويوازن بينهما مراعيًا عند إجراء تلك الموازنة النظرات التالية: أ- عدم مصادمة النصوص الشرعية. ب- اعتبار مقاصد الشريعة الإِسلامية. ج- اعتبار أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح عند التعارض. د- اعتبار موافقة القواعد الشرعية الكبرى.

سابعا: الضوابط التي ينبغي أن يراعيها المجتهد قبل الحكم في النازلة

11 - إذا لم يتوصل الباحث إلى حكم شرعي في النازلة توقف فيها؛ لعل الله يهيئ مِن العلماء مَن يتصدى للإفتاء فيها. سابعًا: الضوابط التي ينبغي أن يراعيها المجتهد قبل الحكم في النازلة: لا شك أن دراسة فقه النوازل والبحث فيه أمر ليس بالهين، ولا بد له من ضوابط يحتاج إليها الناظر في النوازل قبل الحكم أو الفتيا في الواقعة وما يتعلق بها، يتمكن من خلالها الوصول إلى الحكم الصحيح -إن شاء الله تعالى- فمن هذه الضوابط ما يلي: أولًا: أن يبذل المجتهد وسعه في البحث عن الحكم الشرعي للنازلة، وذلك بتتبع طرق الاستنباط المعروفة، فقد يجد الحكم منصوصًا عليه أو قريبًا منه، وقد يلجأ إلى القياس على الأدلة، أو التخريج على أقوال الأئمة، لكن لا بد له من مراعاة الآتي: أولًا: أن يذكر دليل الحكم في الفتوى النازلة: وليس هذا على إطلاقه، أي: ليس كل نازلة لا بد من مراعاة ذكر الدليل فيها، بل ذكر الدليل في الفتوى يرجع إلى حال السائل وطبيعة الفتوى أو النازلة؛ فإذا كان السائل له علم بالشرع، ودراية في معاني الأدلة، أو طلب معرفة الدليل، فينبغي للمفتي أو الناظر ذكر الدليل والحجة أو الحكمة من المشروعية؛ تطمينًا لقلب السائل، وزيادة في علمه وتوثيقًا لفهمه، أما لو كان المستفتي أمِّيًّا لا يفقه معنى الدليل، فذكره له مضيعة للوقت وخطاب لمن لا يفهم. وكذلك لو كانت النازلة تتعلق بمهام الدين ومصالح المسلمين أو بها غموض قد يطرأ في الذهن، فينبغي كذلك للمفتي ذكر الدليل والحجة، والاهتمام ببسط الأدلة ما أمكنه ذلك. ثانيًا: أن يبين البديل المباح عند المنع من المحظور: وذلك لأن كثيرًا من المستجدات الواقعة في مجتمعنا المسلم قادمة من مجتمعات

ثالثا: التمهيد في بيان حكم النازلة

كافرة أو منحلة لا تراعي القيم والثوابت الإِسلامية؛ فتغزو مجتمعاتنا بكل قوة مؤثرة ومغرية كالمستجدات المالية والفكرية والإعلامية وغيرها، فيحتاج الفقيه إزاءها أن يقرّ ما هو مقبول مباح شرعًا، حماية للدين، وإصلاحًا للناس، ويمنع ما هو محظور أو محرم، وهذا من أعظم الفقه. ثالثًا: التمهيد في بيان حكم النازلة: ينبغي للناظر في النوازل التمهيد للحكم المستغرب بما يجعله مقبولًا لدى السائلين، كما ينبغي أيضًا للناظر في النازلة أن يعدل عن جواب المستفتي عما سأله عنه إلى ما هو أنفع له منه؛ ولا سيما إذا تضمن ذلك بيان ما سأل عنه، وذلك من كمال علم المفتي وفقهه ونصحه، وشاهده قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]. وينبغي له أيضًا أن يجيب السائل بأكثر مما سأله عنه، وهذا من كمال العلم والنصح والإرشاد في بيان أحكام النوازل؛ وذلك لما فيها من تكميل موضوع السؤال أو لعلةٍ ترتبط بينهما قد يحتاج إليها السائل فيما بعد أو يستفيد منها عموم أهل الواقعة. وقد بوب الإِمام البخاري لذلك في صحيحه فقال: باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله عنه، ثم ساق حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-؛ ما يلبس المحرم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يلبس القميص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا الخفاف، إلا أن لا يجد نعلين؛ فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل الكعبين" (¬1). رابعًا: مراعاة مقاصد الشريعة: 1 - تعريفها ومدى أهميتها في فقه النوازل: هذه قاعدة هامة من القواعد الكلية التي يحتاج إليها المجتهد وطالب العلم ¬

_ (¬1) رواه البخاري في كتاب العلم، باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله رقمه (234).

لضبط مناهج الاستدلال والبعد عن مواطن الزلل في الاجتهاد والنظر. ومعنى هذه القاعدة كما يقول الفقهاء المعاصرون هي: المعاني والحكم الملحوظة في الأحكام الشرعية والمترتبة عليها سواء أكانت تلك المعاني حكمًا جزئيًّا أو مصالح كلية أو سمات إجمالية، وهي تتجمع ضمن هدف واحد هو تقرير عبودية الله ومصلحة الإنسان في الدارين. إذن؛ فعلم المقاصد الشرعية يتناول حكم الأحكام، وأسرار التشريع، وغايات الدين، ومقاصد الشرع، ومقصود المكلف ونيته. وقد أولى العلماء المقاصد الشرعية عناية كبيرة؛ لما لها من شأن عظيم في حسن الفهم عن الله -عَزَّ وَجَلَّ- ورسوله، ومن ثم حسن الامتثال للتكاليف الشرعية، وإيقاعها على الوجه المطلوب شرعًا، فينال العبد ما أمله من الأجر والثواب والقبول عند الله تعالى، ويسلم من مغبة التقصير والتفريط والانحراف في تحقيق العبودية، ويأمن من المخالفات المحظورة والبدع المذمومة. ولذلك كان الناظر في النوازل في أمس الحاجة إلى مراعاتها عند فهم النصوص؛ لتطبيقها على الوقائع، وإلحاق حكمها بالنوازل والمستجدات، وكذلك إذا أراد التوفيق بين الأدلة المتعارضة فإنه لا بد أن يستعين بمقصد الشرع، وإن دعته الحاجة إلى بيان حكم الله في مسألة مستجدة عن طريق القياس أو الاستصلاح أو الاستحسان أو العرف المعتبر، تحرى بكل دقة أهداف الشريعة ومقاصدها. فينبغي عندئذٍ أن يراعي الناظر في النوازل تحقيق المصالح في حكمه وفتواه حتى لا يخرج عن كليات الشريعة ومقاصدها العليا. 2 - ذكر بعض الجوانب المهمة التي ينبغي أن يدركها الناظر في النوازل من خلال قاعدة مراعاة مقاصد الشريعة.

الجانب الأول: تحقيق المصلحة الشرعية عند النظر في النازلة: إن اعتبار تحقيق المصلحة الشرعية عند النظر هو من مقصود الشرع الذي حافظ على ما يجلب فيه النفع ويدفع فيه الضرر، وكثيرًا ما يكون اجتهاد الناظر في النوازل بناءً على اعتبار حجِية المصلحة المرسلة التي لم يرد في الشرع نصٌّ على اعتبارها بعينها أو بنوعها ولا على استبعادها، ولكنها داخلة ضمن مقاصد الشرع الحنيف، وجمهور العلماء على اعتبار حجيتها. وواقعنا المعاصر يشهد على اعتبار المصلحة المرسلة في كثير من المسائل المستجدة في الأنظمة المدنية والدولية وصورٍ من التوثيقات اللازمة لبعض العقود المالية والزوجية وغيرها. وإذا لم يكن للفقيه فهم وإدراك لمقاصد الشرع وحفظ ضرورياته؛ وإلا أغلق الباب بالمنع على كثير من المباحات، أو فتحه على مصراعيه بتجويز كثير من المحظورات. لكن المصالح المرسلة ليست بابًا مفتوحًا على مصراعيه يأخذ منه الشخص ما تهواه نفسه ويترك ما لا تهواه، بل لذلك ضوابط، نذكرها بإيجاز: 1 - اندراج المصلحة ضمن مقاصد الشريعة. 2 - أن لا تخالف نصوص الكتاب والسنة. 3 - أن تكون المصلحة قطعية أو يغلب على الظن وجودها. 4 - أن تكون المصلحة كلية. 5 - ألا يفوت اعتبار المصلحة مصلحة أهم منها أو مساوية لها. ومما ينبغي للناظر في النوازل في هذا المقام؛ أنه إذا أفتى في واقعة بفتوى مراعيًا فيها مصلحة شرعية ما، فإن عليه أن يعود في فتواه ويغير حكمه فيها في حالة تغيّر

المصلحة التي روعيت في الفتوى الأولى، ولا يخفى أن تغير الفتوى هنا إنما هو تغيُّر في حيثيات الحكم لا تغير في الشرع، والحكم يتغير بحسب حيثياته ومناطه المتعلق به، وهذا أمر ظاهر. الجانب الثاني: اعتبار قاعدة رفع الحرج: أي: من الجوانب المهمة التي ينبغي أن يدركها الناظر في النوازل من خلال قاعدة مراعاة مقاصد الشريعة اعتبار قاعدة رفع الحرج: نتناول في هذه القاعدة ما يلي: 1 - تعريفها وذكر أدلتها ومدى أهميتها في فقه النوازل: يقصد بالحرج: كل ما يؤدي إلى مشقة زائدة في البدن أو النفس أو المال حالًا أو مآلًا. إذن؛ فالمراد برفع الحرج: التيسير على المكلفين بإبعاد المشقة عنهم في مخاطبتهم بتكاليف الشريعة الإِسلامية. وقد دلت الأدلة على رفع الحرج من الكتاب والسنة حتى صار أصلًا مقطوعًا به في الشريعة، كما في قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ" (¬1). فإذا تبين لنا قطعية هذا الأصل، وجب على المجتهد أن يراعي هذه القاعدة فيما ينظر فيه من وقائع ومستجدات، بحيث لا يفتي أو يحكم بما لا يطاق شرعًا من المشاق، كما يجب عليه أن يراعي الترخيص في الفعل أو الترك على المكلفين الذين تتحقق فيهم الأعذار والمسوغات الشرعية المبيحة لذلك، كما في الترخيص في الضروريات أو التخفيف لأصحاب الأعذار ورفع المؤاخذة عنهم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب الدين يسر، رقمه (38).

2 - الشروط المعتبرة لقاعدة رفع الحرج: لا بد لمن ينظر في فقه النوازل من تحقيق بعض الشروط عند اعتباره قاعدة رفع الحرج فيما يعرض له من نوازل وواقعات، وهي: 1 - أن يكون الحرج حقيقيًّا، وهو ما له سبب معين واقع؛ كالمرض والسفر، أو ما تحقق بوجوده مشقة خارجة عن المعتاد، ومن ثمَّ فلا اعتبار بالحرج التوهمي وهو الذي لم يوجد السبب المرخص لأجله؛ إذ لا يصح أن يبني حكمًا على سبب لم يوجد بعد، كما أن الظنون والتقديرات غير المحققة راجعة إلى قسم التوهمات. 2 - أن لا يعارض نصًّا، فالمشقة والحرج إنما يعتبران في موضع لا نص فيه، وأما في حال مخالفته النص فلا يعتد بهما. 3 - أن يكون الحرج عامًّا وهو الذي لا قدرة للإنسان على الانفكاك عنه فإذا كان في نازلة عامة في الناس فإنه يسقط. قال ابن العربي: إذا كان الحرج في نازلة عامة في الناس فإنه يسقط. وقد فسره الشاطبي: بأنه: هو الذي لا قدرة للإنسان على الانفكاك عنه (¬1). 3 - الأسباب المؤدية إلى رفع الحرج: هناك أسباب تؤدي إلى رفع الحرج، وهي على سبيل الإجمال: 1 - السفر. 2 - المرض. 3 - الإكراه. 4 - النسيان. 5 - الجهل. 6 - العسر. 7 - عموم البلوى. 8 - النقص. ¬

_ (¬1) أحكام القرآن لابن العربي (3/ 310).

الجانب الثالث: النظر إلى العواقب: أي: ومما ينبغي أن يدركه الناظر في النوازل من خلال قاعدة مراعاة مقاصد الشريعة، أن ينظر إلى ما تؤول إليه عواقب الأمور، فينظر المجتهد في تطبيق النص؛ هل سيؤدي إلى تحقيق مقصده أم لا؟ فلا ينبغي للناظر في النوازل والواقعات التسرع بالحكم والفتيا إلا بعد أن ينظر إلى ما يؤول إليه الفعل، وهذا أصل ثابت في الشريعة دلت عليها النصوص الكثيرة بالاستقراء التام، كما في قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ} [البقرة: 188]. وقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوَا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]. وما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أشير إليه بقتل من ظهر نفاقه قوله: "أخاف أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه" (¬1). وقوله: "لولا قومك حديث عهدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم" (¬2). إلى غيرها من النصوص المتواترة في اعتبار هذا الأصل. يقول الإِمام الشاطبي: النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا كانت الأفعال موافقة أو مخالفه؛ وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل؛ فقد يكون مشروعًا لمصلحة قد تستجلب أو لمفسدة قد تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع، لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحه تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى ¬

_ (¬1) رواه البخاري: كتاب المناقب، باب ما ينهى عن دعوة الجاهلية (3257)، ومسلمٌ: كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا (4682). (¬2) رواه البخاري: كتاب العلم، باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه (126).

خامسا: فقه الواقع المحيط بالنازلة

مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية، ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة مثلها أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب، جارٍ على مقاصد الشريعة (¬1). خامسًا: فقه الواقع المحيط بالنازلة: هذا هو الضابط الخامس من الضوابط التي يحتاج إليها الناظر في النوازل قبل الحكم أو الفتيا في الواقعة وما يتعلق بها: بيان المقصود بهذا الضابط، وما ينبغي مراعاته عند تغيّر الأزمنة أو الأمكنة: 1 - المقصود بهذا الضابط: يقصد بهذا الضابط أن يراعي الناظر في النوازل عند اجتهاده تغيّر الواقع المحيط بالنازلة سواءً كان تغيرًا زمانيًّا أو مكانيًّا، أو تغيرًا في الأحوال والظروف وعلى الناظر تبعًا لذلك مراعاة هذا التغير في فتواه وحكمه. وذلك أن كثيرًا من الأحكام الشرعية الاجتهادية تتأثر بتغير الأوضاع والأحوال الزمنية والبيئية؛ فالأحكام تنظيمٌ أوجبه الشرع يهدف إلى إقامة العدل وجلب المصالح ودرء المفاسد، فهي ذات ارتباط وثيق بالأوضاع والوسائل الزمنية وبالأخلاق العامة، فكم من حكم كان تدبيرًا أو علاجًا ناجحًا لبيئة في زمن معين، فأصبح بعد جيل أو أجيال لا يوصل إلى المقصود منه، أو أصبح يفضي إلى عكسه بتغير الأوضاع والوسائل والأخلاق. ومن أجل هذا أفتى الفقهاء المتأخرون من شتى المذاهب الفقهية في كثير من المسائل بعكس ما أفتى به أئمة مذاهبهم وفقهاؤهم الأولون، وصرّح هؤلاء المتأخرون ¬

_ (¬1) الموافقات (5/ 178).

بأن سبب اختلاف فتواهم عمن سبقهم هو اختلاف الزمان وفساد الأخلاق في المجتمعات، فليسوا في الحقيقة مخالفين للسابقين من فقهاء مذاهبهم، بل لو وُجِدَ الأئمة الأولون في عصر المتأخرين، وعايشوا اختلاف الزمان وأوضاع الناس لعدلوا إلى ما قال المتأخرون. قال ابن القيم: فصل: تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد: هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى مراتب المصالح لا تأتي به؛ فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، ومن الرحمة إلى ضدها، ومن المصلحة إلى المفسدة ومن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل (¬1). ثانيًا: ما ينبغي أن يراعيه الناظر عند تغيّر الأزمنة أو الأمكنة: 1 - أن الأحكام الشرعية ثابتة لا تتغير بمرور الزمان ولا بتغير الأحوال وكون الحكم الشرعي يختلف من واقعة إلى واقعة بسبب تغير الزمان أو المكان أو الحال ليس معناه أن الأحكام مضطربة ومتباينة؛ بل لأن الحكم الشرعي لازم لعلته وسببه وجارٍ معه؛ فعند اختلاف أحوال الزمان والناس تختلف علة الحكم وسببه فيتغير الحكم بناءً عليه. 2 - أن الفتوى لا تتغير بحسب الهوى والتشهي واستحسان العباد واستقباحهم، بل لوجود سبب يدعو المجتهد بإعادة النظر في مدارك الأحكام، ومن ثمَّ تتغير الفتوى تبعًا لتغير مدركها نتيجةً لمصالح معتبرة وأصول مرعية تُرَجَّح على ما سبق الحكم به. ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين (3/ 11).

سادسا: مراعاة العوائد والأعراف

3 - أن تغير الفتوى يجب أن يكون مقصورًا على أهل الاجتهاد والفتوى وليس لأحدٍ قليل بضاعته في العلم أن يتولى هذه المهمة الصعبة، وكلما كان النظر جماعيًّا من قِبل أهل الاجتهاد كان أوفق للحق والصواب. سادسًا: مراعاة العوائد والأعراف: هذا هو الضابط السادس الذي يحتاج إليه الناظر في النوازل قبل الحكم أو الفتيا في الواقعة وما يتعلق بها. ولبيان هذا الضابط لا بد من توضيح جانبين: الجانب الأول: المقصود به مع بيان أهمية هذا الجانب لمن نظر إلى فقه النوازل: المقصود بالعرف أو العادة: هو ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول. وقد جرى الفقهاء على اعتبار العادة والعرف والرجوع إليها في تطبيق الأحكام الشرعية في مسائل لا تعد لكثرتها، كسن الحيض، والبلوغ، والإنزال، والأفعال المنافية للصلاة، والنجاسات المعفو عنها، وفي لفظ الإيجاب والقبول، وفي أحكامٍ كثيرة جدًّا من مسائل البيوع والأوقاف والأيمان والإقرارات والوصايا وغيرها. فإذا كانت العادة والعرف لهما اعتبار في الشرع، مع كثرة ما يطرأ عليهما من تغير وتبديل بحسب الأزمنة والأمكنة وتطور أحوال الناس؛ فإن على العلماء مراعاة ذلك التغير بقدر الإمكان. يقول الإِمام القرافي في ذلك: إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة (¬1). وقال أيضًا: ينبغي للمفتي إذا ورد عليه مستفتٍ لا يعلم أنه من أهل البلد الذي منه المفتي وموضع الفتيا أن لا يفتيه بما عادته يفتي به حتى يسأله عن بلده، وهل حدث ¬

_ (¬1) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، (ص: 218).

لهم عرف في ذلك البلد في هذا اللفظ اللغوي أم لا؟ وإن كان اللفظ عرفيًّا فهل عُرف ذلك البلد موافق لهذا البلد في عرفه أم لا؟ وهذا أمر متعين واجب لا يختلف فيه العلماء، وأن العادتين متى كانتا في بلدين ليستا سواءً أن حكمهما ليس سواء (¬1). الجانب الأول: الشروط المعتبرة لهذا الضابط: 1 - أن يكون العرف مطردًا أو غالبًا، بحيث لا يكون مضطربًا؛ لأنه إذا كان مضطربًا غير غالب، فلا يقال له عرف، وهذا ما يعبرون عنه بقولهم: العبرة للغالب الشائع دون النادر. 2 - أن يكون العرف المراد تحكيمه في التصرفات سابقًا غير لاحق، فنعمل بالعرف السابق المقارب دون العرف اللاحق. مثال ذلك: لو اشترى إنسان من غيره بستين ريالًا قبل مائة سنة، فإننا لا نحكم على ذلك بالريالات الموجودة بيننا الآن، بل بما يسمى ريالًا في ذلك الزمان، فقد كانت الريالات في ذلك الزمان من فضة، والآن من ورق فيعمل بحكم العرف السابق. 3 - أن لا يعارض العرفَ تصريحٌ بخلافه. مثال ذلك: لو كان العرف أن الإجارة يسلم نصف إجارة البيت في أول السنة، والنصف الآخر في وسط السنة فاتفق المستأجر والمؤجر على تسليم الدفعة الأولى في وسط السنة، فهنا العرف لا يعمل به؛ لأنه وجد تصريح يخالف العرف فالمخالف للشريعة لا عبرة به. 4 - أن لا يعارض العرفَ نص شرعي بحيث يكون العمل بالعرف تعطيلًا له؛ فالعرف المخالف للشريعة لا عبرة به. مثال ذلك: إذا تعارف الناس على استعمال العقود الباطلة كالاستقراض بالربا ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (ص: 232).

سابعا: الوضوح والبيان في الإفتاء

من المصارف، أو من الأفراد، ومثل اعتيادهم الميسر كاليانصيب، وغير ذلك مما تكون فيه المراهنة على المال ونحو ذلك من العادات والأعراف التي تصادم الشريعة فلا عبرة بهذا كله. وبهذا يتبين لنا أن مراعاة العوائد والأعراف المتعلقة بالأشخاص والمجتمعات عند النظر والاجتهاد أمر مهم ومطلب ضروري لا بد منه لكل مجتهد ومفتٍ، وهو في عصرنا الحاضر آكد لتشعب الناس في البلاد الواسعة المختلفة الظروف والعوائد، وتيسر وسائل الاتصال الحديثة للانتقال إلى مكان المفتي أو سماعه؛ مما يجب عليه أن لا يطلق الجواب حتى يعرف أعراف السائلين وما يليق بهم من أحكام الشرع. وليحذر من إطلاق الفتاوى معممة دون تخصيص ما يحتاج منها إلى تخصيص بسبب ظروف السائل وعوائده، وخاصة إذا كانت شريحة المتلقي أو المستمع لهذه الفتوى واسعة الانتشار في أكثر من بلد كما هو الحاصل في برامج الفتيا في الإذاعة والتلفاز. سابعًا: الوضوح والبيان في الإفتاء: وهذا الضابط مهم في تبليغ الحكم المتعلق بالنازلة، فلا يكفي الإخبار وحده بحكم الواقعة، بل لا بد أن يكون ذلك الإخبار واضحًا بينًا لا غموض فيه ولا إبهام فيه، وألا يفضي إلى الاضطراب والاختلاف في معرفة المعنى المقصود بالفتوى. قال ابن القيم: لا يجوز للمفتي الترويج وتخيير السائل وإلقاؤه في الإشكال والحيرة، بل عليه أن يبين بيانًا مزيلًا للإشكال متضمنًا لفصل الخطاب، كافيًا في حصول المقصود لا يحتاج معه إلى غيره، ولا يكون كالمفتي الذي سئل عن مسألة في المواريث فقال: يقسم على الورثة على فرائض الله -عَزَّ وَجَلَّ- وكتبه فلان، وسئل آخر عن صلاة الكسوف فقال: يصلي على حديث عائشة. . . وسئل آخر فقال: فيها قولان ولم يزد. . (¬1). ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين (4/ 136).

ويدخل ضمن هذا الأدب أن يخاطب الناس بما يفهمون من الكلام فالملاحظ عند بعض أهل العلم التزام لهجة عامية لا يتكلم بها إلا بعض أهل البلاد الإِسلامية، وقد يكون السائل من بلاد أخرى لا يفهم هذه اللهجة ولا يعرف مقصد الشيخ من خطابه. وقد يكون هذا الشيخ يفتي على الملأ أو يلقي درسًا في الحرم أو في الإذاعة التي تبث في أصقاع مختلفة أو غير ذلك مما هو عام للناس كلهم وليس لبعضٍ دون بعض. وقد جاء عن الإِمام علي بن أبي طالب: "حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله؟! " (¬1). فمراعاة حال السائلين من حيث فهم الخطاب وإدراك معنى الحكم مطلبٌ مهم يجب على الناظر مراعاته وتوخيه دون أن يكون قاصرًا على فهم طائفة معينة. ¬

_ (¬1) رواه البخاري، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا (124).

النوازل في الأشربة والأطعمة

النوازل في الأشربة والأطعمة حدثت نوازل في الأشربة والأطعمة لم تكن موجودة من قبل، ونتكلم في بيانها والحكم الشرعي لها: المرطبات والمشروبات الغازية: تعددت المشروبات الغازية في هذا العصر، وأصبح الناس يتناولونها بكثرة فهل هي من المشروبات المباحة أو الممنوعة؟ إن المشروبات الغازية من النوازل التي وجدت في هذا العصر، ويحتاج الحكم عليها إلى معرفة حقيقتها ومضارها ومنافعها إن وجدت. جاء في الموسوعة العربية العالمية (¬1) المرطبات: مشروبات غير كحولية تضاف إليها نكهة، وتحضر من الماء المشبع بثاني أكسيد الكربون، وتسمى المرطبات بهذا الاسم للتفريق بينها وبين المشروبات الكحولية، وتسمى المرطبات أيضًا بالمياه الغازية أو الصودا، ويعد مشروب الكولا أكثر المرطبات استهلاكًا إلى حد بعيد، والمرطبات رائجة في كثير من بلاد العالم، وتحتوي المرطبات على ماء مشبع بثاني أكسيد الكربون وعصير مركز، ويصنع الماء المشبع بثاني أكسيد الكربون بإضافة غاز ثاني أكسيد الكربون إلى الماء تحت الضغط، ويجعل الغاز ماء فوارًا له فقاقيع وصوت كالأزيز ومن هذا جاءت تسميتها غازية. الحكم الشرعي للمرطبات أو المشروبات الغازية: اختلفت أراء أهل العلم المعاصرين: 1 - فمنهم من يرى عدم جوازها لأسباب أوردوها. ¬

_ (¬1) (23/ 121) الطبعة الثانية.

2 - وأكثر أهل العلم المعاصرين يرون جوازها لأدلة ذكروها. الأدلة والأسباب التي استند عليها كل من المانعين والمجيزين: أولًا: الأسباب التي أدت بالمانعين إلى القول بعدم جوازها: 1 - دخول الكحول فيها لغرض إذابة المواد الأولية فيها، يقول الدكتور محمَّد على البار (¬1): لعل كثيرًا لا يعلمون أن المشروبات الغازية مثل (البيبسي كولا) وغيرها قد أذيبت موادها الأولية بشيء من الكحول، والكحول هو روح الخمر (spirit) أو (سبيرتو) كما يسميها العامة. انتهى. 2 - دخول مادة الهضمين واسمها اللاتيني (الببسين) في مكوناته، وهي تنتج بمادة من غشاء أمعاء الخنزير، جاء في الموسوعة العربية العالمية (¬2): الهضمين أو الببسين إنزيم هاضم يوجد في عصارة المعدة يقوم بتحويل الأطعمة البروتينية إلى مواد تسمى (ببتيدات)، والهضمين يشبه الإنزيمات في التركيب الكيميائي، وتنتج مادة الهضمين بتجفيف الغشاء المخاطي لمعدة الخنزير والعجول. انتهى. 3 - وجود بعض الأضرار الصحية مثل هشاشة العظام وأمراض الكلى وغيرها، وقد أصدرت وزارة التربية والتعليم بالتعاون مع وزارة الصحة في المملكة العربية السعودية توجيهات للمدارس عمومًا بمنع بيع المشروبات الغازية واستبدالها بالحليب والعصائر؛ تفاديًا لما تسببه من أمراض. ثانيًا: الأدلة التي استند إليها المجيزون: 1 - أن الأصل في الأطعمة والأشربة الإباحة حتى يثبت تحريمها بنص أو ثبوت مضره. ¬

_ (¬1) الخمر بين الطب والفقه (ص: 65). (¬2) (26/ 108) الطبعة الثانية.

2 - أن استعمال الكحول والببسين المشتق من الخنزير غير لازم في جميع المشروبات، فقد تستعمل مواد أخرى في الإذابة، وفي كثير من البلاد الإِسلامية يتم اجتناب استعمال الكحول في الإذابة واستبداله بمواد أخرى خالية من الشبهة، وأما الببسين فقد يشتق من أمعاء العجول كما يمكن تصنيعه في المختبرات بطرق كيميائية أخرى، وفي بعض البلاد الإِسلامية يتم اجتناب استعمال المواد المصنعة من أمعاء الخنزير. 3 - وأما الأضرار الصحية فقالوا بأنه لم يثبت وجود هذه الأضرار في هذه المشروبات، وغاية ما هنالك أخبار تنقل هنا وهناك، وإن رافقها شيء من الحجة العلمية؛ غير أنها لا ترقى لمستوى إثبات الضرر العام الذي يصل بحكمها إلى التحريم. الراجح: بدراسة ما ورد من أسباب كل من المانعين والمجيزين يتضح ما يأتي: 1 - أن كلًّا من المانعين والمجيزين يتفقون على أنه إذا ثبت إضافة شيء من الكحول أو غشاء أمعاء الخنزير إلى المشروبات الغازية فإنه لا يجوز تناولها. 2 - أنه إذا ثبت ضرر المشروبات الغازية على الصحة فإنه لا يجوز شربها؛ لأن الشارع الحكيم ينهي عن كل ما يؤدي إلى الضرر، فعلى الجهات المختصة بالشؤون الصحية أن تقوم بدراسة ذلك وبيان مدى ضرره على الإنسان كي يقال بمنعه أو إباحته. 3 - أما والحال ما ذكر فإنه يبقى على الإباحة حتى يرد ما يدل على منعه، وقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للفتوى في السعودية رقم (1413): "أما ما يختص بالبيبسي فلم يتبين لنا فيها ما يقتضي التحريم؛ لأن الأصل في الأشياء الحل حتى يتبين ما يوجب الحرمة، لكن من حصل في نفسه ما يريبه فليدعه إلى ما لا يريبه للحديث الوارد في ذلك" انتهى.

مشروبات الطاقة

ونرى أن الأولى ترك المشروبات التي يظن فيها المضرة أو التقليل منها ما أمكن؛ تفاديًا لضررها فيما لو كان ذلك واقعًا. مشروبات الطاقة: تعريفها: هي المشروبات الخفيفة التي تحتوي على بعض المواد بتركيزات مرتفعة، مثل: الكافيين، والتورين، وجلوكوز، ونولاكتون، وغيرها من المواد المضافة (¬1). أنواع مشروبات الطاقة: لمشروبات الطاقة أنواع كثيرة متداولة في الأسواق منها: باور هورس ومنها بايسن وغيرها. وسميت مشروبات الطاقة؛ لأنها يظن أنها تساعد في الأداء والقدرة على التركيز والأداء العضلي، ويترتب عليها أضرار للأطفال والنساء الحوامل والمرضعات والناس الذين يعانون من ارتفاع ضغط الدم والسكر. وقد ذكر كثيرون من أساتذة علوم الأغذية أن مشروبات الطاقة مضرة بصحة الإنسان؛ لما تحتويه من مواد منبهه قد تسبب أضرارًا لجسم الإنسان، وأن أضرارها تفوق منافعها بكثير (¬2). حكم تناول مشروبات الطاقة: بدراسة ما ذكر من ذلك وما قد يترتب عليها من أضرار يتبين ما يأتي: 1 - أن من يترتب عليه ضرر من شربها كالأطفال والحوامل والمرضعات والمرضى وغيرهم؛ فإنه لا يجوز له شربها دفعًا للضرر والمفسدة المترتبة على ذلك. ¬

_ (¬1) مشروبات الطاقة، إعداد مجموعة من مستشاري قطاع الغذاء بالهيئة العامة للغذاء والدواء السعودية (ص: 1). (¬2) المرجع السابق (ص: 4 - 8)، مشروبات الطاقة وعلاقتها بالنشاط والحيوية، د. محمود علي الصعيدي (ص: 51)، وانظر: النوازل في الأشربة، د. زين العابدين الشنقيطي (ص: 164).

المنشطات الرياضية

2 - أما من لا يترتب عليه ضرر من شربها ويتناولها باعتدال فيبقى الأمر على الإباحة كما هو الأصل في الأشربة والأطعمة. 3 - أن أهل الخبرة قد ذكروا أن لها أضرارًا كثيرة من بينها السمنة لما تحتوي عليه من مواد سكرية وغيرها، وما دام الأمر كذلك فإنه ينبغي تجنبها؛ حفظًا للنفس البشرية من الأمراض، ودرءًا للمفاسد التي تترتب على تناولها، وقد جعل الله فيما أحل مما ينفع ولا يضر غنى عما يترتب عليه الضرر والمفسدة. المنشطات الرياضية: وهي عبارة عن عقاقير مصنعة، وقد تكون موادًّا طبيعية تؤخذ بكميات غير طبيعية وبطرق غير معتادة تساهم في رفع اللياقة البدنية (¬1). وقد أثبتت الأبحاث الطبية أن تعاطي المنشطات الرياضية يؤدي إلى أمراض نفسية، كاضطراب المزاج والشعور بالكآبة، والرغبة في العدوانية، وأمراض عصبية كالجنون، وأمراض الكلى والخلل الهرموني وغيرها (¬2). حكم تناول المنشطات الرياضية: ما دام ثبت أنها ضارة فإنه لا يجوز تناولها لحديث: "لا ضرر ولا ضرار" (¬3). فإذا كان استخدامها من أجل التأثير على نتائج المنافسة الرياضية فهو نوع من الخداع والغش، وقد حرم الإِسلام ذلك فقد جاء في الحديث: "من غش فليس منا" (¬4). فيكون متناولها مرتكبًا لأمرين ممنوعين ومحرمين في الإِسلام. ¬

_ (¬1) الموسوعة العربية العالمية (21/ 244). (¬2) النوازل في الأشربة، زين العابدين الشنقيطي (ص: 244). (¬3) أخرجه مالك في الموطأ (2/ 452)، وأحمدُ في مسنده حديث (2865)، وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم، المستدرك (2/ 74). (¬4) أخرجه الترمذيُّ عن أبي هريرة في باب ما جاء في كراهية الغش في البيوع ورقمه (1315)، وهو حديث صحيح، الجامع الصغير للسيوطي (2/ 626)، ورقمه (8879).

المنشطات الجنسية

المنشطات الجنسية: وهي عبارة عن عقاقير مصنعة تؤخذ عن طريق الفم أو الحقن وغيرها، وقد تكون عن طريق أجهزة مساعدة تتم بعملية جراحية، وهذه المنشطات يصاحب بعضها آثار جانبية. الحكم الشرعي لاستعمال هذه المنشطات: حيث إنه يترتب على استعمالها بعض الآثار الجانبية، فإنه لا ينبغي تناولها واستعمالها إذا لم يكن هناك حاجة داعية لذلك من نحو كبر أو مرض من عنة ونحوها، فإن كانت حاجة فلا مانع من ذلك، ولكن يتم ذلك بشروط: 1 - أن يكون ذلك بعد استشارة طبيب مختص. 2 - أن يقتصد في استعمالها لما يترتب على الإسراف فيها من أضرار قد تؤدي إلى مرض الإنسان أو موته. حكم المشروبات العصرية المسكرة (الويسكي والجن والشمبانيا وغيرها): المشروبات الكحولية هي: المشروبات التي تحتوي على نسبة معينة من الكحول، وقد تكون مخمرة مثل البيرة أو مقطرة مثل الويسكي سواء أكان مصدرها الفواكه كالعنب والتمر والتفاح أو من الحبوب مثل الحنطة والشعير والذرة وغيرها، والمركب الرئيسي في الخمر هو الكحول الإثيلي أو الإيثانول (الاسم العلمي للكحول)، وهو سائل طيار عند الحرارة العادية أقل كثافة من الماء ويختلط بالماء بجميع النسب، كما أنه لاذع الطعم قابل للاشتعال. ظهرت أنواع من المسكرات مختلفة المصادر متنوعة الأسماء مثل الويسكي والجن والشمبانيا وغيرها وذلك مصداق حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى:

"ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ... " (¬1) الحديث. إن القاعدة الشرعية الواردة في الحديث الصحيح: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام (¬2) " تقضي بحرمة جميع أنواع المسكرات مهما تنوعت أسماؤها وتعددت أشكالها. قال الأستاذ محمَّد رشيد رضا في تفسيره بعد تفسير آية الخمر في المائدة: قد ظهر في الناس من عهد بعيد مصداق ما ورد في الحديث من استحلال أناس لشرب الخمر بتسميتها بغير اسمها، وقد اخترع الناس بعد زمن التنزيل أنواعًا كثيرة من الخمور أشد من خمرة العنب ضررًا في الجسم والعقل باتفاق الأطباء وأشد إيقاعًا في العداوة والبغضاء وصدًّا عن ذكر الله وعن الصلاة (¬3). ولهذا فإن جميع ما ينتج ويصنع من أنواع المسكرات من أي نوع كان وبأي اسم أو لقب هو حرام ما دام أنه يسكر الكثير منه، وذلك تطبيقًا للأدلة الشرعية الواردة في الكتاب والسنة والتي بيناها سلفًا، وهو ما ورد في فتوى اللجنة الدائمة في السعودية رقم (17386). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في باب العقوبات ورقمه (4020)، قال السيوطي في الجامع الصغير رواه عن أبي مالك الأشعري ابن ماجه وابن حبان في صحيحه، والطبرانيُّ في الكبير، والبيهقيُّ في شعب الإيمان، وقال: حديث صحيح. الجامع الصغير للسيوطي (2/ 169). (¬2) أخرجه مسلمٌ (3/ 1588)، وأبو داوود (2/ 293). (¬3) الفقه على المذاهب الأربعة، عبد الرحمن الجزيري (5/ 43).

المخدرات

المخدرات وهي مادة ذات مفعول مؤثر بشدة على جهاز الإنسان العصبي وتشمل المخدرات: الحشيش، والأفيون، والمورفين، والهيروين وغيرها، وقد يؤدي تناول كميات كبيرة من المخدرات إلى الموت (¬1). وقد صدرت فتوى فضيلة مفتي الديار المصرية الشيخ عبد المجيد سليم (¬2): "بأنه لا يشك شاك ولا يرتاب مرتاب في أن تعاطي هذه المواد حرام؛ لأنها تؤدي إلى مضارٍّ جسيمةٍ ومفاسد كثيرةٍ، فهي تفسد العقل وتفتك بالبدن إلى غير ذلك من المضار والمفاسد الخطيرة، ولأنه لما كان الكثير من هذه المواد يخامر العقل ويغطيه، ويحدث من الطرب واللذة عند متناولها ما يدعوهم إلى تعاطيها والمداومة عليها، كانت داخلة فيما حرمه الله تعالى في كتابه العزيز وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الخمر والمسكر". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الحشيشة حرام يحد متناولها كما يحد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من حيث إنها تفسد العقل والمزاج، وأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهي داخلة فيما حرمه الله ورسوله من الخمر والمسكر لفظًا ومعنى" (¬3). وكما يتناول التحريم جميع أنواع المخدرات التي حدثت ولم تكن معروفة من قبل سواء أكانت على هيئة حبوب أو مسحوق أو حقن أو غيرها؛ لما فيها من أضرار صحية واجتماعية واقتصادية مثل الخمر بل تزيد عليه، والشريعة الإِسلامية مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد والمضار، والمخدرات مفاسد ومضار يجب منعها وعقوبة متعاطيها كالخمر. كما أنه لا يجوز بيعها والاتجار بها ويكون ثمنها حرامًا؛ لأنه قد ورد في أحاديث ¬

_ (¬1) الموسوعة العربية العالمية كلمة (المخدر) الطبعة الثانية. (¬2) مجلة الأزهر عام 1360 هـ عدد شعبان. (¬3) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (34/ 210).

كثيرة تحريم بيع الخمر، منها ما ورد عن جابر -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله حرم بيع الخمر، والميتة والخنزير والأصنام" (¬1). وإذا حرم الإسلام الانتفاع بشيء، فإنه يحرم بيعه وزراعته وصناعته وأكل ثمنه، فيتناول التحريم بيع هذه المخدرات؛ لما يترتب على ترويجها من المفاسد والمضار بين أفراد الأمة من قتل للأنفس وضياع للأموال والأخلاق، والمخدرات تفتك بالأمة أكثر من فتك الأسلحة، فهي سلاح خطير يوجهه الأعداء للأمة بقصد إفساد عقولها وإضعاف شبابها وضياع مقدراتها؛ حتى يستفيد الأعداء من ضعفها قوة لهم من كافة الوجوه، فعلى الأمة التعاون للتصدي لذلك بجميع الوسائل الإعلامية والتربوية وغيرها؛ حتى تكون أمة قوية عزيزة الجانب تسمو إلى معالي الأمور وتنأى عن سفاسفها. وقال الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي السعودية سابقًا: "المخدرات داء عضال وشرها عظيم وعقوبتها وخيمة، والواجب التعاون في محاربة جميع المخدرات بالنصيحة والتوجيه الإِسلامي والتحذير بالقول والعمل" (¬2). وجاء في فتوى اللجنة الدائمة للفتوى في السعودية رقم (5001) المخدرات من الخبائث، وقد حرم الله على عباده جميع الخبائث، قال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]. ولما روى أبو داود عن أم سلمة -رضي الله عنها-، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن كل مسكر ومفتر" (¬3)، ومعلوم أن المخدرات من المفترات ولما في المخدرات من الأضرار العظيمة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار" (¬4)، وقد صدرت فتوى اللجنة الدائمة في السعودية بأن القات (¬5) محرم ولا يجوز ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ (2/ 779)، رقم (2121) ومسلمٌ (3/ 1207)، رقم (1581). (¬2) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، عبد العزيز بن باز (22/ 392). (¬3) أخرجه أبو داود (4/ 90)، رقم (3686) والإمام أحمد في المسند (6/ 309). (¬4) أخرجه مالك في الموطأ (2/ 745)، سنن ابن ماجه (2/ 784). (¬5) القات: نبات يزرع في بعض الأماكن يؤكل فينتج عنه الفتور والخدر.

لمسلم أن يتعاطاه أكلًا وبيعًا وشراء وغيرها وذلك في الفتوى رقم (2159)، وقد اعتبرته منظمة الصحة العالمية مخدرًا، وهذا يؤكد القول بالتحريم. الكولونيا: سائل مستحضر يستخدمه بعض الناس لتطييب الجسم (¬1)، وقد يشربه بعضهم، وهو يحتوي على مادة مسكرة، فلذلك لا يجوز استعماله للتطيب ولا للشرب. وقد سئل عنه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- فأجاب: بوجوب ترك استعماله (¬2) فإذا كان ذلك في التطيب به فإن حرمته للشرب آكد ما دام يحتوي على مادة مسكرة. ¬

_ (¬1) الموسوعة العربية العالمية (16/ 309) الطبعة الثانية. (¬2) جاء في الفتاوى 1/ 258 لابن باز: "الطيب المعروف بالكولونيا لا يخلو من المادة المعروفة (السبرتو) وهي مادة مسكرة حسب إفادة الأطباء، فالواجب ترك استعماله والاعتياض عنه بالأطياب السليمة" طبع مؤسسة الدعوة الإسلامية، الطبعة الأولى. وقد ذكر الدكتور عبد الله الطيار عن الشيخ بن باز -رحمه الله- أنه سألة عنه فقال: ينبغي اجتنابه ولا يحرمه.

ذبح الحيوان المأكول بواسطة الأجهزة الحديثة

ذبح الحيوان المأكول بواسطة الأجهزة الحديثة كثر الناس واحتاجوا إلى أعداد كبيرة من الحيوانات المأكولة مما يصعب معه إجراء الذبح والتذكية لها بالطرق العادية، وحيث أن أساليب الذبح قد تغيرت عن الأساليب السابقة؛ لكثرة ما يذبح ولسهولة تصديرها، وقد صاحب ذلك استعمال أجهزة كهربائية لصعق الحيوان قبل ذبحة، لذلك فقد درس الموضوع من قبل المجامع الفقهية ومنها المجمع التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته العاشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 24/ 2 / 1408 هـ إلى يوم الأربعاء 28/ 2 / 1408 هـ وصدر قراره باشتراط ما يأتي كي تحل الذبيحة: 1 - إذا صعق الحيوان المأكول بالتيار الكهربائي ثم بعد ذلك تم ذبحه أو نحره وفيه حياة، فقد ذكي ذكاة شرعية وحل أكله لقوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]. 2 - إذا زهقت روح الحيوان المصاب بالصعق الكهربائي قبل ذبحه أو نحره فإنه ميتة يحرم أكله؛ لعموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]. 3 - إذا كان التيار الكهربائي منخفض الضغط وخفيف المس بحيث لا يعذب الحيوان، وكان في ذلك مصلحة كتخفيف ألم الذبح عنه وتهدئة عنفه ومقاومته، فلا بأس بذلك شرعًا مراعاة للمصلحة. وجاء في قرار المجمع الفقهي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي رقم 94 (3/ 10) بشأن الذبح في موضوع الدواجن (د) لا يجوز تدويخ الدواجن بالصدمة الكهربائية؛ لما ثبت بالتجربة من إفضاء ذلك إلى موت نسبة غير قليلة منها قبل التذكية، كما جاء فيه بعض الشروط الفنية لأجهزة الكهرباء والتي تستعمل لتدويخ الحيوان قبل ذبحه فمن شاء فليراجعه.

اللحوم المستوردة

اللحوم المستوردة تستورد بعض البلاد الإِسلامية أنواعًا من اللحوم من بلاد غير إسلامية من أغنام وبقر وغيرها ولذلك حالتان: 1 - أن تكون من بلاد أهل الكتاب، فهي حل للمسلمين بالنص القرآني ما لم يعلم أنها ذبحت على غير الوجه الشرعي، قال الشيخ عبد العزيز بن باز: اللحوم التي تباع في أسواق غير إسلامية، إن علم أنها من ذبائح أهل الكتاب، فهي حل للمسلمين إذا لم يعلم أنها ذبحت على غير الوجه الشرعي؛ إذ الأصل حلها بالنص القرآني، فلا يعدل عن ذلك إلا بأمر محقق يقتضي تحريمها. 2 - أن تكون من بلاد أخرى غير بلاد أهل الكتاب فلا يجوز أكلها، قال الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: أجمع علماء الإسلام على تحريم ذبائح المشركين من عباد الأوثان ومنكري الأديان ونحوهم من جميع أصناف الكفار غير اليهود والنصارى (¬1). قال الدكتور القرضاوي: الحكم في اللحوم المستوردة من عند أهل الكتاب كالدجاج ولحوم البقر المحفوظة، فما داموا يعتبرون هذا حلالًا مذكى، فهو حل لنا وفق عموم الآية، أما اللحوم المستوردة من بلاد شيوعية، فلا يجوز تناولها بحال لأنهم ليسوا أهل كتاب، وهم يكفرون بالأديان كلها، ويجحدون بالله ورسالاته جميعًا (¬2). ¬

_ (¬1) توضيح الأحكام لابن بسام (7/ 48)، وانظر الفتوى رقم (949) من فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية. (¬2) الحلال والحرام (ص: 63) المكتب الإِسلامي، بيروت 1415 هـ.

الأطعمة المحتوية على مواد ومركبات إضافية

الأطعمة المحتوية على مواد ومركبات إضافية يضاف إلى بعض الأطعمة مواد ومركبات إضافية؛ كي يتم حفظها وتحسينها شكلًا ومذاقًا، وقد تم دراسة ذلك من بعض الجهات والمنظمات الإسلامية ومنها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في دورتها الثامنة، وكذلك في دورتها التاسعة المنعقدة في الدار البيضاء عام 1418 هـ، وقد جاء فيها: إن المواد الإضافية في الغذاء والدواء التي لها أصل نجس أو محرم تنقلب إلى مواد مباحة شرعًا بإحدى طريقتين: الأولى: الاستحالة: وهي تغير حقيقة المادة النجسة أو المحرم تناولها وانقلاب عينها إلى مادة مباينة لها في الاسم والخصائص والصفات، ويعبر عنها في المصطلح العلمي الشائع بأنها تفاعل كيميائي يحول المادة إلى مركب آخر، كتحول الزيوت والشحوم على اختلاف مصادرها إلى صابون وتحلل المادة إلى مكوناتها المختلفة كتفكك الزيوت والدهون إلى حموض دسمة وغليسيرين، ويحصل التفاعل الكيميائي كذلك في الصور التي أوردها الفقهاء على سبيل المثال، كالتخلل والدباغة والإحراق، وبناء على ذلك تعتبر: 1 - المركبات الإضافية ذات المنشأ الحيواني المحرم أو النجس التي تتحقق فيها الاستحالة، تعتبر طاهرة حلال التناول في الغذاء والدواء. 2 - المركبات الكيميائية المستخرجة من أصول نجسة أو محرمة كالدم المسفوح أو مياه المجاري التي تتحقق فيها الاستحالة بالمصطلح المشار إليه، لا يجوز استخدامها في الغذاء والدواء، مثل: الأغذية التي يضاف إليها الدم المسفوح كالنقانق المحشوة بالدم. الثانية: الاستهلاك: ويكون ذلك بامتزاج مادة محرمة أو نجسة بمادة أخرى طاهرة حلال غالبة، مما يذهب عنها صفة النجاسة والحرمة شرعًا، إذا زالت صفات ذلك المخالط المغلوب من

الطعم واللون والرائحة؛ حيث يصير المغلوب مستهلكًا بالغالب ويكون الحكم للغالب، ومثال ذلك: 1 - المركبات الإضافية التي يستعمل من محلولها في الكحول كمية قليلة جدًّا في الغذاء والدواء، كالملونات والحافظات والمستحلبات ومضادات الزنخ. 2 - الليستين والكوليسترول المستخرجان من أصول نجسة بدون استحالة يجوز استخدامها في الغذاء والدواء بمقادير قليلة جدًّا مستهلكة في المخالط الغالب الحلال الطاهر. 3 - الأنزيمات الخنزيرية المنشأ، كالببسين وسائر الخمائر الهاضمة ونحوها المستخدمة بكميات زهيدة مستهلكة في الغذاء والدواء الغالب. وترى الندوة ما يلي: إن المذيبات الصناعية والمواد الحاملة للمادة الفعالة في العبوات المضغوطة إذا استخدمت وسيلة لغرض أو منفعة مشروعة جائزة شرعًا، أما استعمالها من أجل الحصول على تأثيرها المخدر أو المهلوس باستنشاقها فهو حرام شرعًا اعتبارًا للمقاصد ومآلات الأفعال. وكذلك ورد عن المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث: إن المركبات الإضافية يزيد عددها عن 350 مركبا، وقد اصطلح على الكتابة عليها بحرف (E) باللغة الإنجليزية مضافًا إليها رقم، وهي إما أن تكون من الحافظات أو الملونات والمحسنات أو المحليات أو غير ذلك. وتنقسم بحسب المنشأ إلى أربع فئات: الفئة الأولى: مركبات ذات منشأ كيميائي صناعي. الفئة الثانية: مركبات ذات منشأ نباتي.

المشروبات والأطعمة المحتوية على الدم

الفئة الثالثة: مركبات ذات منشأ حيواني. الفئة الرابعة: مركبات تستعمل منحلة في مادة (الكحول). وباستعمالها لا تؤثر على حل الطعام أو الشراب، وذلك لما يأتي: أما الفئة الأولى والثانية فلأنها من أصل مباح ولا ضرر يقع باستعمالها فهي جائزة. وأما الفئة الثالثة فإنها لا تبقى على أصلها الحيواني، وإنما تطرأ عليها استحالة كيميائية تغير طبيعتها تغييرًا تامًّا بحيث تتحول إلى مادة جديدة طاهرة وهذا التغير مؤثر على الحكم الشرعي في تلك المواد، فإنها لو كانت عينها محرمة أو نجسة، فالاستحالة إلى مادة جديدة يجعل لها حكمًا جديدًا كالخمر إذ تحولت خلًّا فإنها تكون طيبة طاهرة، وتخرج بذلك التحول عن حكم الخمر. وأما الفئة الرابعة فإنها تكون غالبًا في المواد الملونة، وعادة يستخدم من محلولها كمية ضئيلة جدًّا تكون مستهلكة في المادة الناتجة النهائية وهذا معفو عنه. إذن فما كان من الأطعمة أو الأشربة يتضمن في تركيبه شيئًا من هذه المواد فهو باق على الإباحة الأصلية، ولا حرج على المسلم في تناوله ما دام أنه لا ضرر في استعماله على الإنسان، وديننا يسر وقد نهانا عن التكلف، والبحث والتنقيب عن مثل ذلك ليس مما أمرنا به الله تعالى ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -. المشروبات والأطعمة المحتوية على الدم: الدم هو السائل الأحمر الذي يجري في عروق الإنسان والحيوان (¬1). نظرًا للتقدم الكبير في مجال صناعة الأشربة والأغذية، ورغبة من المتخصصين في تلك الصناعات في أن يستفيدوا من جميع عناصر الحيوانات بما فيها الدم المسفوح الذي يراق عند الذبح؛ حيث يتم إضافته في بعض أنواع الأغذية والأشربة كالنقانق والحساء ¬

_ (¬1) الموسوعة الفقهية (21/ 25)

حكم الجيلاتين المستخرج من جلود الحيوانات وعظامها

والعصائد المدماة (البودينغ الأسود) والهامبرغر المدمي، وأغذية الأطفال المحتوية على الدم. الحكم الشرعي لذلك: اتفق الفقهاء على نجاسة الدم المسفوح وعدم جواز الانتفاع به لقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]. ولذلك فإنه يحرم الطعام أو الشراب المضاف إليه الدم المسفوح امتثالًا لأمر الله بحرمته؛ حيث إنه يترتب عليه أضرار صحية قد يعلم شيء منها ويجهل غيره. حكم الجيلاتين المستخرج من جلود الحيوانات وعظامها: الجيلتين: هي مادة هلامية صلبة وشفافة عديمة الطعم والرائحة موجودة في الحيوانات. وقد نظر المجمع الفقهي التابع للرابطة بمكة المكرمة في موضوع الجيلاتين وأصدر فيه قراره الثالث في دورته المنعقدة بمكة المكرمة بتاريخ 11/ 7 / 1419 هـ، وقد جاء في ذلك القرار: يجوز استعمال الجيلاتين المستخرج من المواد المباحة ومن الحيوانات المباحة المذكاة تذكية شرعية، ولا يجوز استخراجه من محرم كجلد الخنزير وعظامه وغيره من الحيوانات والمواد المحرمة.

شرب الدخان (التبغ) والشيشة

شرب الدخان (التبغ) والشيشة يصنع الدخان من التبغ، وهو نبات تستخدم أوراقه، أساسًا في صناعة السجائر والسيجار، وتشمل منتجات التبغ الأخرى: تبغ الغليون. وتبغ المضغ والسعوط، إلى جانب تبغ الأرجيلة، ويحتوي التبغ على النيكوتين، وهو ينبه الجهاز العصبي وقد يؤدي إلى الإدمان، ومن الممكن أن تؤدي الكميات المستهلكة من نيكوتين السجائر إلى حدوث الأزمات القلبية وقرحة المعدة، ويمكن أن يسبب استعمال الدخان سرطان الرئة (¬1)، والتدخين سحب دخان التبغ من سيجارة أو سيجار أو غليون أو غير ذلك إلى داخل الفم ثم إلى الرئتين ثم نفخه للخارج، وقد وجد علماء الطب والباحثون خلال القرن العشرين دليلًا متزايدًا على أن التدخين يعرض صحة الإنسان للخطر، ويعد التدخين من الأسباب الرئيسية للأمراض العديدة المهددة للحياة. حكم شرب الدخان والشيشة: جاء الإسلام بحل الطيبات وحرمة الخبائث، قال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]. ويعتبر الدخان والشيشة ونحوها من النوازل؛ حيث لم تكن معروفة إلا في عام 1492 م، وبدأ ظهوره في بلاد الإسلام بعد القرن العاشر الهجري. وحيث إن الدخان والشيشة ليست من الطيبات، بل هي من الخبائث، ولا فائدة من استعمالها بل هي مضرة في الصحة، وتسبب كثيرًا من الأمراض الخطيرة؛ والله تعالى يقول: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]. فإنه يتبين حرمته؛ لما له من آثار سيئة وسلبية، صحية واجتماعية واقتصادية وغيرها على الفرد والمجتمع والأمة. ¬

_ (¬1) الموسوعة العربية العالمية (6/ 78).

ومن قواعد الإسلام العامة تحريم ما فيه ضرر؛ لأنه جاء بحفظ الضروريات الخمس، حفظ الدين والنفس والعقل والمال والعرض، وما دام أن الدخان فيه ضرر على الصحة والصحة فيها حفظ للنفس؛ فإنه يحرم ما يؤدي إلى مضرتها أو تلفها، وحكم الإسلام على الشيء بالحرمة أو الكراهة لا يتوقف على وجود نص خاص بذلك الشيء، بل إن لقواعد التشريع وعلل الأحكام قيمتها في معرفة الأحكام، وبهذه القواعد وتلك العلل كان الإسلام ذا أهلية قوية في إعطاء كل شيء يستحدثه الناس حكمه من حل أو حرمة، وذلك عن طريق معرفة الخصائص والآثار الغالبة للشيء؛ فحيث كان الضرر كان الحظر، وحيث خلص النفع أو غلب كانت الإباحة، وإذا استوى النفع والضرر كانت الوقاية خيرًا من العلاج، والدخان والشيشة فيها الضرر ولا نفع فيها ولذلك يقال بحرمتها. قال الدكتور يوسف القرضاوي: (الدخان) ما دام أنه قد ثبت أنه يضر بمتناوله فهو حرام (¬1). وقد أفتى كل من سماحة الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ بن عثيمين وغيرهم بحرمة شرب الدخان؛ لأنه من الخبائث ولما فيه من الأضرار (¬2). ¬

_ (¬1) الحلال والحرام (ص: 77). (¬2) مجموع فتاوى ومقالات (8/ 98).

أثر الأعلاف الصناعية المركبة في الحيوانات المأكول لحمها والحكم الشرعي

أثر الأعلاف الصناعية المركبة في الحيوانات المأكول لحمها والحكم الشرعي حيث إن الناس قد كثروا، وذلك يتطلب زيادة أطعمتهم من اللحوم، وقد ترتب على ذلك أن قامت المشاريع الكبيرة لتلبية هذه الاحتياجات، وأدى ذلك إلى إدخال مواد في الأعلاف المقدمة للحيوانات لتكفي كميتها للأعداد الكبيرة منها وتؤدي إلى تسمينها بشكل أسرع لتخفيف الأعباء الاقتصادية المترتبة على طول مدة تربيتها. فما حكم هذه الأعلاف المركبة التي قد تشتمل على مواد ليست طاهرة أو مواد ضارة كالهرمونات والمضادات الحيوية؟ اختلف الفقهاء المعاصرون ولهم في ذلك قولان: 1 - فريق من المعاصرين يقول بالمنع من استخدام الأعلاف الصناعية المركبة أو التي تشتمل على نجاسة كالهرمونات والمضادات الحيوية، وإذا استخدمت أدت إلى عدم طهارتها وبالتالي عدم جواز أكلها. 2 - وفريق آخر يرى جواز استعمالها، ويعتبرها طاهرة وبناء عليه يحل أكل الحيوان المتناول لها. الأدلة: أولًا: استدل القائلون بالمنع بما يأتي: 1 - حديث ابن عباس -رضي الله عنه-: "لا ضرر ولا ضرار" (¬1)؛ وذلك لأن تلك الأعلاف تجعل الحيوان عرضة للإصابة بالأمراض الخطيرة، وهو بذلك يكون مصدر خطر وضرر على الإنسان فيحرم تناوله. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام في باب من بنى في حقه ما يضر بجاره ورقمه (2340)، وقال السيوطي في الجامع الصغير: رواه أحمد وابن ماجه كلاهما عن ابن عباس ولابن ماجه من حديث عبادة حديثٌ حسنٌ (2/ 749).

2 - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل لحوم الجلاله التي تتغذى على النجاسات وهو لأذى عارض مؤقت، والنهي عن أكل اللحوم التي فيها ضرر دائم أولى. ثانيًا: استدل المبيحون بما يأتي: 1 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1]. والأصل في اللحوم الإباحة إلا ما ورد الشرع بتحريمه ومنعه، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. وقد دلت الآية على أن ما لم يبين تحريمه فهو حلال. 2 - إن المواد المستخلصة من عظام الميتات طاهرة، وعلى القول بنجاستها فإنها لا تؤثر في الحيوانات التي تأكلها لسببين هما: أ - إن نسبتها إلى مجموع خلطة العلفية لا تزيد على 10 % وهذه النسبة لا تؤثر في لحمها؛ لأنها قليلة جدًّا. ب- إن هذه النسبة قد عولجت بوسائل الطهو المتطورة معالجة أزالت منها آثار الميكروبات الضارة وحولتها إلى أشياء أخرى تختلف اسمًا ووصفًا وتركيبًا وحكمًا شرعيًّا وهو ما يسمى بالاستحالة. الراجح: بدراسة أقوال الفريقين وأدلتهما يتبين لنا ما يأتي: 1 - استعمال تلك الأعلاف والمواد جائز ما لم يؤدِ إلى ضرر الحيوان الذي بدوره يؤدي إلى ضرر الإنسان. 2 - أنه ينبغي الاتجاه إلى الأعلاف والمواد المركبة السليمة والبعد عن الأعلاف التي تؤدي إلى الضرر.

3 - أنه لا يجوز استعمال الهرمونات والمضادات الحيوية التي يترتب عليها ضرر الإنسان. 4 - أن ما فيه ضرر على الحيوان وينعكس أثره على الإنسان من الأعلاف المركبة والمواد الأخرى لا يجوز استعماله، فإذا أعطي للحيوان فلا يجوز أكله إبعادًا لضرر على الإنسان، وقد جاء في الحديث الذي رواه ابن عباس: "لا ضرر ولا ضرار" (¬1). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص: 32، 36، 45).

استعمال الأسمدة والمبيدات الكيميائية في زراعة النبات الذي يتغذى به الإنسان

استعمال الأسمدة والمبيدات الكيميائية في زراعة النبات الذي يتغذى به الإنسان اتجه المزارعون الأفراد منهم والشركات إلى زيادة انتاجهم الزراعي وتحسين صفاته وذلك باستعمال الأسمدة والمبيدات الكيميائية. الحكم الشرعي لاستعمال الأسمدة والمبيدات الكيميائية في الزراعة وتنمية المحاصيل المستهلكة للإنسان والحيوان؟ اتجهت بعض الدول بعد دراسات وأبحاث ميدانية إلى استعمال الأسمدة والمبيدات الكيميائية لزيادة كميات المزروعات وتحسينها والقضاء على الحشرات والآفات التي تصيبها وتؤدي إلى قلة الانتاج أو القضاء عليه، وقد وضعت لذلك قواعد ومبادئ يتم استعمال تلك الأشياء على ضوئها، وأنها إذا تم الالتزام بها فإنها لا تؤدي إلى ضرر للإنسان أو الحيوان، وبناء على ذلك فإنا لا نرى ما يمنع من استخدامها لزيادة الانتاج وتحسين نوعيته بشرط أن يلتزم المزارعون بالمواصفات والشروط المحددة لذلك الاستعمال؛ حيث لم يثبت فيها ضرر، أما إذا ثبت أن استخدامها أو نوعًا منها فيه ضرر على الإنسان أو الحيوان، فإنه لا يجوز استعمالها لحديث: "لا ضرر ولا ضرار" (¬1). وعلى المزارعين التقيد بالتعليمات والشروط المحددة لاستعمالها كمًّا ونوعًا وزمنًا فإن أخل بذلك فقد ارتكب محرمًا حيث أنه يؤدي إلى الضرر كما أن ذلك غش للمستهلك حيث لا يعلم بما يحتوي عليه من مواد ممنوعة وضارة وقد جاء منع الغش في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من غش فليس منا" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده وابن ماجة كلاهما عن ابن عباس ولابن ماجة عن عبادة، قال السيوطي حديث حسن، الجامع الصغير (2/ 749)، ورقمه (9899). (¬2) رواه الترمذيُّ في باب ما جاء في كراهية الغش في البيوع ورقمه (1315)، وقال: حديث صحيح، وذكره السيوطي في الجامع الصغير (2/ 626)، ورقمه (8879).

الأغذية المعالجة بالأشعة

الأغذية المعالجة بالأشعة تستعمل الأشعة لحفظ الأغذية مدة أطول، ويطلق على ذلك معالجة الأغذية بالإشعاع، ويقصد بها تعريض الغذاء سواء أكان معبئًا أو غير معبأ إلى كمية محسوبة من الأشعة تحت ظروف محكومة مسيطر عليها تتم مراقبتها بدقة لمدة زمنية معينة، لتحقيق غرض معين يكون مرغوبًا فيه، مثل منع تزريع البطاطس، أو تطهير الحبوب من الحشرات، أو قتل الميكروبات الملوثة للحوم والدواجن والأسماك، وتستعمل هذه الطاقة في القضاء على البكتيريا المسؤولة عن أغلب حالات فساد الأغذية. وقد حددت لجنة الخبراء الدولية عام 1980 م وخبراء منظمة الأغذية والزراعة (FAO) والوكالة الدولية للطاقة الذرية (LAEA) ومنظمة الصحة العالمية أنواع الأشعة المستخدمة في حفظ الأغذية ومصادرها، وأن تعمل هذه المصادر عند مستويات منخفضة لضمان عدم توليد نشاط إشعاعي في الغذاء المعرض للأشعة وعدم تحويله لمادة مشعة أو إكسابه فعالية إشعاعية. أنواع الأشعة المستعملة والمسموح باستخدامها في تشعيع المواد الغذائية: 1 - أشعة جاما (A) وهي عبارة عن موجات كهرومغناطيسية كالضوء إلا أن لها طولًا موجيًا قصيرًا جدًّا ولها طاقة عالية وقدرة على اختراق الأجسام وهي أكثرها استخداما في معالجة الأغذية. 2 - الأشعة السينية، وأشعة إكس (XRey) وهي أشعة كهرومغناطيسية وذات طاقة عالية وقدرتها على النفاذ في الهواء ضعيفة واستخدامها في المجال الطبي أوسع، أما في تشعيع الغذاء فقليلٌ لكثرة كلفتها وتشغيلها. 3 - الأشعة الإلكترونية (E.R). وهي أشعة منتجة للإلكترونات السريعة، وتعد قدرتها على النفاذية والاختراق

الحكم الشرعي لمعالجة الأغذية بالأشعة

ضعيفة مما جعل استخدامها في مجال الأغذية ضعيفًا. وقد وضعت لاستخدام تلك الأشعة معايير وضوابط يتم الالتزام بها حفاظًا على صحة الإنسان. الحكم الشرعي لمعالجة الأغذية بالأشعة: يدور الحكم الشرعي لمعالجة الأغذية بالأشعة بين الجواز والمنع: أولًا: فمن يقول بالجواز يستدل لذلك بما يأتي: 1 - أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما ورد الشرع بتحريمه، ولم يرد بمنع ذلك دليل فيبقى على الجواز. 2 - أن لمعالجة الأغذية بالأشعة فوائد منها: أ- إطالة مدة حفظ الأغذية وفترة تخزينها. ب- مقاومة الحشرات ومسببات الأمراض في الغذاء من فطريات وطفيليات وميكروبات. ج- القضاء على بعض حالات التسمم الغذائي والذي يشكل تهديدًا كبيرًا لصحة الإنسان. د- المساعدة في المشاركة بالتجارة العالمية للأغذية الإقليمية والدولية؛ حيث تستطيع الدولة المعالجة بالإشعاع الوفاء بالشروط المحددة في قوانين الحجر والصحة العامة. 3 - أن في القول بالجواز تيسيرًا على الأمة ورفع الحرج عنها؛ لأن فيه فائدة ومصلحة ولا ضرر فيها، وقد جاء الشارع بجلب المصالح ودرء المفاسد. ثانيًا: أما من يقول بالمنع فيستدل بما يأتي: 1 - الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ضرر

ولا ضرار" (¬1)، وقد جدت أضرار من الغذاء المشع، فقد بينت بعض التقارير أن تناول الغذاء المشع يحدث تطورات غير طبيعية في الكروموزومات (الصبغيات) والشريعة الإسلامية تمنع الضرر؛ فلذلك يقال بمنع استعمال الأشعة في معالجة الأغذية. 2 - أن زيادة جرعة الأشعة يؤدي إلى تلوث الغذاء بالأشعة، وينتج عن ذلك ظهور التسمم على متناولها، فيسبب تلفًا في الأنسجة تظهر على صورة أمراض سرطانية، وإذا كان كذلك فيجب منعها لأضرارها. 3 - أن كثيرًا من الدول لم تقدم على استعمال الأشعة في معالجة الأغذية مما يدل على خطورته وضرره؛ ولذلك يقال بمنعه حفظًا على صحة الإنسان وحياته. الراجح: نرى أن الراجح هو القول بالجواز؛ لأن الأصل في الأشياء الجواز والإباحة وذلك لما يترتب على القيام به من مصلحة تعود على الفرد والمجتمع والدول، ولكن يتم ذلك وفق المعايير والضوابط التي وضعتها منظمة الصحة العالمية والجهات المتخصصة في شؤون الغذاء، وبذلك تتحقق المصلحة والبعد عن المفسدة التي يحذرها المانعون، ولعل في ذلك توفيقًا بين القولين والله أعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ (ص: 454)، وابن ماجه برقم (23409)، والدارقطنيُّ (3/ 77) وقد استدل به الإمام أحمد، وقال ابن الصلاح هذا الحديث أسنده الدارقطني من وجوه مجموعها يقوي الحديث ويحسنه، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به. كشف الخفا للعجلوني (2/ 365).

الأغذية المعدلة وراثيا في النبات والحيوان

الأغذية المعدلة وراثيًا في النبات والحيوان اتجه الإنسان إلى تحسين الإنتاج الزراعي بشتى الوسائل، ومن ذلك أنه استحدث أدوات وتقنيات جديدة لانتقاء أصناف وسلالات نباتية أكثر إنتاجًا وذات صفات أكثر جودة. ومع ظهور علم الهندسة الوراثية أمكن إجراء عمليات التهجين بين أفراد غير متوافقة وراثيًا لإنتاج أفراد ذات صفات مرغوبة عن طريق فصل الجينات المرغوبة من نبات ثم زرعها في كائن آخر للحصول على الصفة المطلوبة لتحقيق الكفاية المتزايدة للإنسان، وبدأ ذلك في الخمسينات من القرن العشرين الميلادي وقد زرعت المحاصيل المعدلة وراثيًّا في مختلف أنحاء العالم. حقيقة التعديل الوراثي: هو تطعيم المحاصيل بجينات مأخوذة من بكتيريا أو من نباتات أخرى. موقف المتخصصين من استخدام الأغذية (النبات-الحيوان) المعدلة وراثيًا: اختلف علماء الأغذية في ذلك: 1 - فريق يرى أنه لا ضرر في استخدامها، بل إن فيها خصائص صحية وبيئية لا تكاد توجد في النباتات غير المعدلة جينيًّا، وأن هذه التقنية تفتح الطريق أمام تحسين كمية ونوع الأغذية المتوفرة حاليًا، وهي تخضع كغيرها من الأغذية في العالم إلى قانون سلامة الغذاء الذي يشترط أن يكون الغذاء صالحًا للاستهلاك الآدمي ولا يضر بالصحة. 2 - وفريق يرى أنها تشكل خطرًا على الإنسان والحيوان والبيئة؛ حيث إنه قد يؤثر نقل جين واحد إلى نبات ما إلى كارثة بيئية وإلى حدوث التلوث الجيني ومن هؤلاء جماعة الخضر وجماعة المحافظة على البيئة.

الحكم الشرعي للأغذية النباتية والحيوانية المعدلة وراثيا

الحكم الشرعي للأغذية النباتية والحيوانية المعدلة وراثيًّا: إن موضوع الهندسة الوراثية يعد نازلة؛ حيث لم يكن موجودًا من قبل فلم يتناوله الفقهاء بالبحث والدراسة وبيان الحكم الشرعي له، وقد اختلف فقهاء العصر في حكمه إلى قولين: 1 - يرى كثير من علماء العصر جواز التعديل الوراثي في النبات، ومن هؤلاء مفتي مصر سابقًا الدكتور نصر فريد واصل، والدكتور وهبه الزحيلي، والدكتور عبد الستار أبو غدة، حيث جاء عنه: "هذا التصرف في النبات لون من ألوان التنمية والتثمير لما سخر الله للإنسان" (¬1). وبذلك قال الشيخ ابن عثيمين حيث نقل عنه: أنا مبدئيًّا مع الاتجاه بإباحة الاستنساخ بالنسبة للنبات والحيوان" (¬2). 2 - يرى بعض علماء العصر عدم جواز إجراء التعديل الوراثي في النباتات ومن هؤلاء الدكتور محمَّد سعيد البوطي، والدكتور على المحمدي حيث جاء عن البوطي قوله: "لا يجوز للإنسان التلاعب والتحكم بهندسة الجينات ومعايير المورثات" (¬3). أدلة كل من الرأيين: أولًا: أدلة الرأي الأول: 1 - أن الله -عَزَّ وجَلَّ- سخر ما في الكون من النبات والحيوان والجماد للإنسان وتسهيل عيشه على الأرض، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، وكل ما يعين الإنسان على الانتفاع بها أو يزيد فيه أو تحسينه فإنه يكون مشروعًا وفقًا لحاجة الإنسان. 2 - إن في التعديل الوراثي مصالح معتبرة شرعًا؛ وذلك لأنها تسد حاجة الإنسان للغذاء. ¬

_ (¬1) بحوث في الفقه الطبي (ص: 82) مجلة هدى الإسلام، الأردن، العدد العاشر مجلد (4) عام 1418 هـ. (¬2) مجلة الشريعة، الأردن العدد (379)، (ص: 45) عام 1997 م. (¬3) جريدة الثورة في سوريا عدد (245) 16/ 3 / 1997 م (ص: 5).

3 - أن الأصل في الأشياء الإباحة، فالقول بجواز الهندسة الوراثية مبني على الأصل وهو الإباحة والجواز. ثانيًا: أدلة الرأي الثاني: 1 - إن الله جعل الإنسان خليفة في الأرض يعمل فيها ما ينفع ولا يضر، وفي القول بالهندسة الوراثية ضرر على الإنسان والبيئة والنبات والحيوان؛ ولهذا قلنا بمنعه. 2 - جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث قوله: "لا ضرر ولا ضرار" (¬1)، والتعديل الوراثي فيه ضرر؛ فيمنع دفعًا للضرر (¬2). الترجيح: بدراسة أقوال المجيزين والمانعين نرى أنه يجوز العمل بالهندسة الوراثية في النبات والحيوان لتحسين الغذاء كمًّا ونوعًا ولكن بشروط وضوابط وهي: 1 - أن يكون في القيام بها مصلحة حقيقية بحيث يترتب عليه زيادة في الغذاء كمًّا ونوعًا. 2 - أن لا يترتب عليها ضرر أكبر من المصالح المستفادة منها؛ وذلك لأن الحكم الشرعي يدور مع المصالح والمفاسد، فمتى تحققت المصلحة وانتفت المضرة تعين القول بالجواز، ومتى وجدت المصلحة والمضرة معًا فينظر إلى الأغلب منهما، فيحكم بالجواز إذا كانت المصلحة راجحة، ويقال بالمنع إذا كانت المفسدة غالبة، وهذا هو ما يتمشى مع القواعد الشرعية في الحكم بالجواز أو المنع. جاء في قواعد الأحكام: وإذا اجتمعت مصالح ومفاسد، فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك، وإن تعذر الدرء والتحصيل؛ فإن كانت المفسدة ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص: 32، 36، 45). (¬2) الاستنساخ وأحكامه د. عبد الله المطلق (ص: 9)، وانظر: النوازل في الأطعمه بدرية مشعل الحارثي (2/ 809) دار كنوز اشبيليا.

أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة (¬1). وجاء في الفتاوى لابن تيمية: فكل ما نفع فهو طيب، وكل ما ضر فهو خبيث، والمناسبة الواضحة لكل ذي لبٍّ أن النفع يناسب التحليل، والضرر يناسب التحريم، فإن التحريم يدور مع المضار وجودًا في الميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها مما يضر، وعدمًا في الأنعام والألبان وغيرها (¬2). وقد ذهب إلى القول بالجواز مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، فقد جاء في قراره رقم (100 / د/ 10): يجوز شرعًا الأخذ بتقنية الاستنساخ والهندسة الوراثية في مجالات الجراثيم وسائر الأحياء الدقيقة والنبات والحيوان في حدود الضوابط الشرعية بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد. وكذلك ذهب إلى القول بالجواز مجمع الفقه الإسلامي التابع للرابطة فقد جاء عنه: "يجوز استخدام أدوات علم الهندسة الوراثية ووسائله في حقل الزراعة وتربية الحيوان شريطة الأخذ بكل الاحتياطات؛ لمنع حدوث أي ضرر ولو على المدى البعيد للإنسان أو الحيوان أو البيئة" (¬3). ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام للعز ابن عبد السلام (1/ 74). (¬2) الفتاوى لابن تيمية (21/ 540). (¬3) جاء ذلك في البند (سادسًا) من القرار الذي أصدره المجلس في دورته الخامسة عشرة المنعقدة في مكة المكرمة عام 1419 هـ.

النوازل في الأيمان والنذور

النوازل في الأيمان والنذور مما حدث في الأيمان أداء القسم ممّن يتولى أعمالا ومواقع إدارية أو مهنية مهمة، وذلك يتطلب بيان حقيقة النازلة وحكمها: أداء اليمين والقسم عند تولي منصب معين في الدولة وقسم الطبيب وغيره من المهن: أداء اليمين والقسم عند تولي منصب في الدولة وقسم الطبيب وغيره من المهن أمر حادث ونازلة تتطلب حكمًا شرعيًّا لها، وصيغة هذا القسم تختلف من دولة إلى دولة. الحكم الشرعي لأداء القسم عند تولي مسؤولية أو منصب وقسم الطبيب وغيره من المهن: نرى أنه يجوز أداء اليمين كما هو متبع بالوقت الحاضر إذ أنه قد يزيد الهيبة والخشية من الله في تحمل المسؤولية وذلك بشروط: 1 - ألا يكون القسم مشتملًا على ألفاظ شركية. 2 - أن يكون القسم بالله تعالى وحده لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت" (¬1). وضع اليد على التوراة والإنجيل للمسلم حين أداء القسم أمام القضاء أو غيره: تقوم الدول عند التعيين في المناصب والمواقع الهامة كالوزراء وغيرهم وكذلك بعض المحاكم بالطلب إلى المسؤول أو المتقاضي بأداء القسم لإعطاء الهيبة والخوف من مخالفة اليمين أو القسم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ عن نافع عن ابن عمر ورقمه (2679).

ولكل دولة صيغة للقسم وطريقة معينة حيث إن كثيرًا من الدول غير الإسلامية تطلب وضع اليد عند أداء القسم على التوراة أو الإنجيل أو كليهما وتتجه بعض الدول الإسلامية إلى طلب وضع اليد على القرآن عند أداء القسم. الحكم الشرعي لذلك: يجوز وضع اليد على القرآن الكريم عند أداء القسم لتولي منصب أو للمتقاضيين أمام القضاء، وهو ليس شرطًا لصحة القسم، ولكن يقصد به إضفاء مزيد من الهيبة والخوف عند أداء القسم؛ ليكون حافزًا للالتزام به وعدم مخالفته وذلك بشروط: 1 - أن يكون القسم بالله تعالى وحده دون غيره لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت" (¬1). 2 - أن يضع المسلم يده عند الحلف على المصحف، ولا يجوز وضعه على التوراة والإنجيل؛ لأن الإسلام ناسخ لما قبله من الشرائع، ولأن التوراة والإنجيل قد أصابهما التحريف والتبديل، فليسا هما أصل الكتابين المنزلين على موسى وعيسى عليهما السلام. 3 - إذا كان أداء القسم أمام القضاء أو غيره في بلاد غير إسلامية، فإنه لا يجوز للمسلم وضع اليد على التوراة والإنجيل، وعليه أن يبين ذلك للمحكمة أو غيرها، فإن لم يستجب له فلا مانع من قيامه بذلك؛ ليس تعظيمًا لهما ولكن من باب الإلزام، وتعد من باب الإكراه، وقد رفع الحرج عن المكره لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إن الله تجاوز لي عن أمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬2). وقد جاء الكلام عن ذلك في القرار الأول من قرارات الدورة الخامسة لمجمع الفقه الإِسلامي التابع للرابطة والمنعقدة سنة 1402 هـ. ¬

_ (¬1) التخريج السابق. (¬2) رواه ابن ماجه، وقال ابن رجب حديثٌ حسنٌ، جامع العلوم والحكم (ص: 350) مكتبة المعارف بالرياض.

كتاب الجنايات

كتاب الجنايات جدت نوازل وحدثت قضايا في هذا العصر من الجنايات التي تصيب الإنسان ومنها: المسؤولية عن أضرار الأشياء من بناء ونحوه: قد يحدث أن ينهار المبنى أو الجسر ونحوهما، ويترتب على ذلك هلاك أنفس ودمار لما حوله من أموال كسيارات وغيرها. الحكم الشرعي لذلك: 1 - أن يكون الانهيار بسبب الإهمال أو التقصير أو إعداد المخططات أو سوء التنفيذ، وفي تلك الحال فإن ضمان تلك الجناية على من حدث منه ذلك من مالك أو غيره. 2 - أن يكون الانهيار بسبب فعل فاعل غير المالك أو المنفذ فإن ضمان ذلك يكون على من تسبب فيه. جاء في القرار الثالث من الدورة الرابعة عشرة المنعقدة عام 1415 هـ لمجمع الفقه الإسلامي التابع للرابطة وفي الفقرة ثانيًا: يكون مالك البناء وناظر الوقف وولي اليتيم والقيم على ناقص الأهلية مسؤولًا إذا شيد البناء من أصله مصحوبًا بالخلل بسبب الإهمال أو التقصير أو الغش، وللمالك الرجوع على من تسبب في ذلك، وكذلك على هؤلاء ضمان التلف بانهيار البناء بسبب الخلل الطارئ عليه. التشريح الجنائي: إن حرمة الميت في الإسلام كحرمة الحي؛ لذلك فإنه لا يجوز تشريح جثث الموتى إلا للضرورة بحيث يكون في ذلك مصلحة راجحة على المفسدة المترتبة على انتهاك

الملاكمة والمصارعة الحرة ومصارعة الثيران

كرامة الإنسان، ومن ذلك التحقيق في أمر جنائي لمعرفة أسباب الموت أو الجريمة في الحالات التي تتطلب معرفة ذلك، ويكون التشريح للجثة بقدر الضرورة وبعد موافقة أهل الميت على التشريح لكشف الأسباب المؤدية للوفاة على أن يتم دفن جميع أعضاء الجسم بعد الانتهاء من التشريح. وقد جاء ذلك في القرار الأول من قرارات الدورة العاشرة لمجمع الفقه الإسلامي التابع للرابطة والذي تم انعقاده في 24/ 2 / 1408 هـ. الملاكمة والمصارعة الحرة ومصارعة الثيران: ظهرت أنواع من الممارسات تم إلحاقها بالرياضة، وهي تقوم على إيذاء كل من الملاكمين أو المصارعين للآخر والتغلب عليه وسط تشجيع الجماهير، وحيث إن في تلك الممارسات من الملاكمة والمصارعة الحرة إيذاءً للإنسان وضررًا يقع عليه، فإنه لا يجوز القيام بها؛ لأن الإسلام قد حرم الإيذاء والضرر، قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]. وقال تعالى: {ولَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" (¬1). أما مصارعة الثيران أو التحريش بين الحيوانات التي تتم في بعض البلاد والتي تؤدي إلى قتل الثور أو الحيوان وقد تؤدي إلى قتل الإنسان؛ فإنه لا يجوز القيام بها لما تؤدي إليه من ضرر وإيذاء للإنسان وللحيوان، والإسلام قد حرم إيذاء الإنسان والحيوان وإلحاق الضرر بأي منهما. وقد جاء الكلام عن ذلك في القرار الثالث من قرارات الدورة العاشرة لمجمع الفقه الإسلامي التابع للرابطة والمنعقدة في 24/ 2 / 1408 هـ. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص: 32، 36، 45).

مسؤولية سائق وسائل النقل الجماعي في القتل الخطأ وتعدد الكفارة

مسؤولية سائق وسائل النقل الجماعي في القتل الخطأ وتعدد الكفارة: تطورت وسائل النقل كثيرًا جدًّا، فوجدت الطائرات والقطارات والسفن الكبيرة والحافلات وغيرها بحيث إذا حصل حادث، فإنه يموت أعداد كبيرة من الركاب، فما مدى مسؤولية السائق عن دياتهم والكفارة المترتبة على ذلك؟ يرى الفقهاء أنه يجب دية لكل مقتول خطأ بأي سبب كان مهما كان عددهم، وتتحمل العاقلة تلك الديات، وليست تلك نازلة من هذا الوجه ولكن تعد نازلة من حيث كثرة أعداد القتلى الذين قد يصلون إلى مئات بسبب تطور وسائل النقل التي تحمل الأعداد الكثيرة، والسائق أو الطيار أو قائد السفينة مسؤول عن ذلك إن كان متعديًا. وقد قرر مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في بروناي دار السلام عام 1414 هـ أن السائق والقائد مسؤول ولا يعفى من المسؤولية إلا في الحالات الآتية: أ - إذا كان الحادث نتيجة لقوة قاهرة لا يستطيع دفعها وتعذر عليه الاحتراز منها، وهي كل أمر عارض خارج عن تدخل الإنسان. ب- إذا كان بسبب فعل المتضرر المؤثر تأثيرًا قويًّا في إحداث النتيجة. ج- إذا كان الحادث بسبب خطأ الغير أو تعديه، فيتحمل ذلك الغير المسؤولية. وإذا أعفي من المسؤولية فإن المسؤول عن التعدي هو من يدفع الديات، بحيث يتم دفعها من قبل شركة التأمين المتعاقد معها على ذلك كما هو متبع في هذا الزمان أو تدفعها عاقلة المتعدي (عصبته) (¬1). ¬

_ (¬1) مسؤولية سائق وسائل النقل الجماعية في القتل الخطأ عن الدية والكفارة بحث أعده د. وهبه الزحيلي مجمع الفقه الإِسلامي الدورة الرابعة عشرة.

الكفارة المترتبة على ذلك

الكفارة المترتبة على ذلك: 1 - يرى الحنفية وبعض الحنابلة أنه تجزئ القاتل خطأ كفارة واحدة إذا تعدد القتل؛ لأن حقوق الله مبنية على المسامحة، ولأن الكفارة جزاء جناية تكرر سببها قبل استيفائها فتتداخل. 2 - ويرى المالكية والشافعية وبعض الحنابلة: أنه لا تجزئ كفارة واحدة وإنما يلزم أكثر من كفارة بعدد القتلى (¬1). الراجح: إن الموضوع قد تم دراسته وبيان حكمه من قبل الفقهاء قديما، ولكن نتيجة لكثرة أعداد المتوفين الذين قد يصل إلى مئات في مثل تلك الحالات، وهذه أمور قد جدت في هذا الزمان، من حيث كثرة العدد وهي من هذا الجانب تعد نازلة، فنرى أنه إذا كان القاتل خطأ في وسائل النقل الجماعي من طائرات وسيارات وسفن وغيرها متعديًا فإن عليه الكفارة ولمرة واحدة؛ لأن السبب في هذه الحوادث واحد لم يتعدد، ولأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة (¬2). فقد يكون القتلى مئة أو أكثر، فلو قيل بالتعدد للكفارة لاستغرق تأديتها عمر المتعدي أو معظمه، وفي ذلك مشقة عظيمة عليه، وقد أخذت بذلك دار الإفتاء المصرية كما جاء في الفتوى 363 وتاريخ 24/ 2 / 2007 م فقد جاء فيها: "ومن المناسب في عصرنا الأخذ بالرأي الأول (¬3)، في حال تعدد القتلى بحادث واحد في وسائل النقل الجماعية؛ لأنه أيسر من الرأي الثاني الذي يلزم بالكفارات بعدد القتلى، وفي هذا حرج ومشقة، والمشقة تجلب التيسير؛ ولا سيما أن القتل حدث خطأً". ¬

_ (¬1) بدائع الصنائع للكاساني (7/ 371) نشر وزارة الشؤون الإسلامية في السعودية، ومواهب الجليل للحطاب (6/ 268) دار الفكر الطبعة الثالثة 1413 هـ، نهاية المحتاج للرملي (7/ 386) مطبعة الحلبي بمصر، والمغني لابن قدامة (12/ 80)، والمبدع في شرح المقنع لابن مفلح (9/ 28) المكتب الإسلامي. (¬2) ويرى الدكتور عبد الله الطيار أنه لا بد لكل شخص من كفارة مستقلة؛ لأن الكفارات لا تتداخل. (¬3) وهو أن الكفارة تكون واحدة ولو تعدد القتلى.

اختطاف الطائرات المدنية واحتجاز الرهائن

اختطاف الطائرات المدنية واحتجاز الرهائن: ظهرت في هذا العصر عملية اختطاف الطائرات المدنية واحتجاز الرهائن لأسباب متعددة، ويترتب على ذلك نشر الخوف والرعب بين الناس، وقد أصدرت كثير من المنظمات الدولية قوانين تجرم وتعاقب من يقوم بذلك فردًا كان أو جماعة، وقد حدت تلك القوانين من تلك الأعمال الإجرامية. الحكم الشرعي لذلك: حيث إن تلك الأعمال تبث الرعب والخوف بين الناس سواء أكانوا ضمن المختطفين والمحتجزين أو من ذويهم، بل وكثير من الناس غيرهم، فإن القيام بشيء من ذلك يعد جريمة يحاسب مرتكبها ومن ساعده على أعماله، ولا يبرر عمل ذلك القبض على مطلوب أو غيره؛ نظرًا لما تحدثه تلك الأعمال من ذعر وخوف وهلع لدى الآخرين، والله تعالى يقول: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15]. القيام بأعمال التفجير والتخريب: حدثت في هذا العصر بعض الأعمال التي يقوم بها بعض الأشخاص أو الجماعات من تفجير للمنشآت والمساكن والجسور وغيرها، وتتطلب تلك النازلة بيان حكمها الشرعي. الحكم الشرعي: لا يجوز القيام بتلك الأعمال من تفجير وتدمير وتخريب للمنشآت والمساكن والجسور في بلاد المسلمين وغيرها ممّن ليسوا محاربين للإسلام والمسلمين. ويعد ذلك في الشريعة الإسلامية جريمة يحاسب عليها القائمون بها تخطيطًا وتنفيذًا، وينطبق عليهم حد الحرابة الوارد في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ

خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] وقد جاء في ذلك بيان لمجمع الفقه التابع للرابطة في دورته السابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة عام 1424 هـ. كما صدر بيان من هيئة كبار العلماء في السعوية يحذر من تلك الأعمال ويجرمها.

كتاب الديات

كتاب الديات جدت حوادث ونوازل في هذا العصر مما يندرج في الديات ومن ذلك: حوادث السير: نظرًا إلى كثرة السيارات وزيادة حوادث السير وما يترتب عليها من وفيات وفقد للأعضاء والممتلكات، وذلك يتطلب دراسة تلك النازلة وبيان الحكم الشرعي لها. الحكم الشرعي لحوادث السير: تقع حوادث السير غالبًا من باب الخطأ، وتأخذ حكم الجنايات من حيث ترتب الحكم على الفعل عمدًا أو شبه عمدٍ أو خطأ. وألحق مجمع الفقه الإِسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في قراره رقم (71) حوادث السير بالجنايات فتطبق عليها أحكامها المقررة في الشريعة الإسلامية، وهي في الغالب من قبيل الخطأ ولا يعفى السائق من المسؤولية إلا في حالات ورد ذكرها في القرار، كما أن مفتي السعودية سابقًا الشيخ محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- قد أفتى بمثل ذلك فيما يحدث من حوادث السيارات وما ينشأ من الأطباء عند إجراء العمليات الجراحية من حوادث الوفيات (¬1). مقدار الدية: ورد في الفقه الإسلامي تحديد مقدار الديات وهي إما: مئة من الإبل أو ألف دينار من الذهب، أو اثنا عشر ألف درهم من الفضة. وقد صدر بتحديد الديات نقدًا قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رقم (50) بتاريخ 3/ 8 / 1396 هـ المتضمن أن مقدارها في العمد وشبه العمد خمسة وأربعون ألف ريال وفي الخطأ أربعون ألف ريال وذلك تقديرًا لقيمة الإبل ¬

_ (¬1) توضيح الأحكام لابن بسام (6/ 149).

العاقلة وتحميلها الدية

في ذلك التاريخ، ثم جرى زيادتها بعد ذلك إلى مائة وعشرة آلاف للعمد وشبه العمد ومائة ألف للخطأ، وذلك استنادًا إلى ارتفاع قيمة الإبل. وحيث إنه قد مضى وقت طويل منذ ذلك التقدير وما صاحبه من ارتفاع قيمة الأشياء وتوفر النقود أكثر من ذي قبل، فإنا نرى إعادة النظر في زيادة مقدار الدية بما يناسب العصر من حيث قيمة الإبل وغيرها مما تم تقدير الدية به، وقد يكون من المناسب أن يكون مقدارها ثلاثمائة ألف ريال سعودي للعمد وشبه العمد، ومائتا ألف ريال سعودي للخطأ أو نحوًا من ذلك، مقارنة بكل الأسباب والحيثيات التي ينبغي مراعاتها عند النظر في زيادتها بما يناسب الوقت الحاضر في المملكة العربية السعودية، أما في البلاد الأخرى فتقدر بما يناسبها حاضرًا مما يقره أهل العلم والخبرة والله أعلم. العاقلة وتحميلها الدية: تتحمل عاقلة القاتل خطأً الدية لولي المجني عليه وهم عصبة القاتل عند الجمهور وأهل ديوانه عند الحنفية، وذلك مبني على التعاون والتكافل بين القاتل خطأً وأولياؤه من العصبة أو أهل ديوانه ومواساتهم له وتخفيفًا عليه لأنه معذور. التطبيقات المعاصرة للعاقلة: نتيجة للتطور وكثرة الناس ووقوع الحوادث فإنه قد تم إيجاد بعض البدائل عن العاقلة في العصر الحاضر، ذلك أن كثيرًا من الشعوب في الدول الإسلامية وغيرها لا يوجد لهم عاقلة، ومن تلك التطبيقات المعاصرة للعاقلة ما يأتي: 1 - شركات التأمين القائمة على مبدأ التعاون والتكافل بحيث تتولى التسديد عن المشترك فيها عند وقوع الحوادث. 2 - النقابات والاتحادات التي تقام بين أصحاب المهنة الواحدة كالطب والهندسة والمحاماة وغيرها معنية بذلك إذا تم الاتفاق بينهم عليه، وتضمن نظامها تحقيق التعاون والتكافل في تحمل المغارم.

3 - الصناديق الخاصة التي يكونها الموظفون والعاملون بالجهات الحكومية وغيرهما معنية بدفع الديات استنادًا على مبدأ التكافل والتعاون بينهم في تحمل المغارم. 4 - بيت المال في حال عدم وجود عاقلة أو من يحل محلها؛ لأن دم المسلم لا يذهب هدرًا في الإسلام، وبيت المال وارث من لا وارث له، فيكون الغرم بالغنم. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين فترك دينًا فعلي قضاؤه، ومن ترك مالًا فلورثته"، وفي رواية: "من ترك مالًا فلورثته ومن ترك كلًّا فإلينا" (¬1)، وقد جاء بيان التطبيقات المعاصرة للعاقلة في تحمل الدية بقرار مجمع الفقه الإِسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي رقم 145 (3/ 16) المنعقد في دورته السادسة عشرة في دبي. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2298)، ورقم (2398).

كتاب الحدود

كتاب الحدود ومن النوازل الحادثة مما له تعلق بالحدود: إعدام الجاني بواسطة الحقن الجرثومي وغيره: يتنوع أسلوب الإعدام بين الدول؛ فمنها ما يتم الإعدام فيها للجاني بالحقن الجرثومي، ومنها ما يتم بواسطة الكرسي الكهربائي، وهذه أمور لم تكن معروفة من قبل وتعتبر نازلة يتطلب الأمر بيان حكمها الشرعي في الإسلام. الحكم الشرعي لوسائل الأعدام الحديثة (الحقن الجرثومي وغيره): ترى بعض الدول أن المقصود هو إعدام الجاني وإزهاق روحه ويرون أن في تلك الأساليب رأفة به. ويرى الباحث في الشريعة الإِسلامية أن هناك اختلافًا بين الفقهاء فيما يتم القتل به من وسائل الإعدام السابقة: فمنهم من يرى أنه يقتل بآلة ماضية كالسيف والسكين، ومنهم من يرى أن الجاني يقتل بما قتل به، فإن غرق المجني عليه أو خنقه أو قتله بالرمي أو غير ذلك، فإنه يقتل بالطريقة نفسها، وقد أورد كل منهم أدلته التي بيناها في صفة القصاص من كتاب الجنايات، واخترنا أن الراجح هو قتل الجاني بما قتل به؛ لأن ذلك يقتضي المساواة والمماثلة، وهو أقوى في الردع والزجر، وبناء عليه فإن كان الجاني قد قتل بواسطة الحقن الجرثومي أو الصعق الكهربائي أو غير ذلك فإنه يقتل بالطريقة نفسها، وإن لم يتيسر بالطريقة ذاتها فإنه يقتل إما بالسيف أو الرمي بالرصاص، وإن لم يكن قتل بالحقن الجرثومي أو الصعق الكهربائي فلا يقتل به وإنما يقتل بما قتل به. والله أعلم. التخدير عند إقامة الحد أو القصاص: هذه من النوازل حيث كان القاتل أو الجاني يقتل أو يقطع دون إعطائه شيئًا من المسكنات أو التخدير وقد اختلف الباحثون في ذلك:

زراعة عضو قطع في حد أو قصاص

1 - من الباحثين من يرى عدم جواز التخدير سواء كان المقام عليه حدًّا أو قصاصًا؛ لأن الإيلام وتأذي الجاني مقصود نكاية به وردعًا لغيره. 2 - ومنهم من يرى جواز ذلك عند إقامة حد القطع والقتل؛ لأن المقصود هو الإتلاف وليس الإيلام، وفي إقامة الحد جلدًا فإنه لا يجوز؛ لأن الإيلام مقصود في ذلك. الراجح: نرى عدم جواز ذلك في الحد مطلقًا؛ لأن الإيلام والشعور بالعذاب مقصود في إقامة الحد، وأما القصاص فإنه حق للمجني عليه على الجاني، فإن وافق المجني عليه أو وليه على التخدير فلا مانع؛ لأنه من حق المجني عليه فإذا أسقطه جاز ذلك، وإن لم يوافق فإنه لا يجوز استخدام التخدير، ويتم التنفيذ مثل ما نفذ بالمجني عليه؛ لأن الألم في ذلك مقصود لتشفي المجني عليه من الجاني معاقبة له بمثل ما فعل، وقد صدر بذلك قرار هيئة كبار العلماء في السعودية بالأكثرية. زراعة عضو قطع في حد أو قصاص: حيث إن الطب قد تقدم بحيث يمكن إعادة العضو المنفصل عن الإنسان في حال الحوادث وغيرها، فما هو حكم إعادة عضو قطع في حد أو قصاص؟ إن هذه المسألة من النوازل المعاصرة، وقد درست وصدرت فيها فتوى اللجنة الدائمة في السعودية رقم (3339) بأنه لا يجوز للسارق استرداد يده المقطوعة، وصدر فيها قرار المجمع الفقهي الدولي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي رقم (58) لعام 1410 هـ وقد جاء فيه: 1 - لا يجوز شرعًا إعادة العضو المقطوع تنفيذًا للحد؛ لأن في بقاء أثر الحد تحقيقًا كاملًا للعقوبة المقررة شرعًا، ومنعًا للتهاون في استيفائها وتفاديًا لمصادمة حكم الشرع في الظاهر.

سرقة المال من آلات الصراف الآلي

2 - بما أن القصاص قد شرع لإقامة العدل وإنصاف المجني عليه وصون حق الحياة للمجتمع، وتوفر الأمن والاستقرار، فإنه لا يجوز إعادة عضو استؤصل تنفيذًا للقصاص إلا في الحالات التالية: 1 - أن يأذن المجني عليه بعد تنفيذ القصاص بإعادة العضو المقطوع. ب- أن يكون المجني عليه قد تمكن من إعادة العضو المقطوع منه. ج- يجوز إعادة العضو الذي استؤصل في حد أو قصاص بسبب خطأ في الحكم أو في التنفيذ. سرقة المال من آلات الصراف الآلي: جدت أمور ونوازل في الأموال والأشياء المسروقة، فمن ذلك سرقة المال من آلات الصراف الآلي إما بكسرها أو الاعتداء عليها بأي شكل كان. حكم سرقة المال من آلات الصراف الآلي: إن كانت مكائن وآلات الصراف الآلي ضمن البنك فإنها تعتبر محرزة، ويقطع بالسرقة منها إذا توافرت شروط القطع الأخرى، أما إذا كانت الآلات في الميادين العامة والشوارع فهل تعتبر محرزة أم لا؟ يرى بعض الباحثين أنها ليست محرزة؛ لأنها ليست أماكن لحفظ المال عادة ولذلك فلا يتم القطع فيها وإنما التعزير بما يراه القضاء. ويرى آخرون أنها تعد محرزة، لأن الحرز يختلف باختلاف البلدان حسب العرف، والعرف في عصرنا على أنها محرزة في حرز مثلها كما أنها مراقبة بآلات التصوير حيث يتم تسجيل ما يتم فيها، وبناء عليه فإن السارق منها يقطع إذا توافرت شروط القطع الأخرى.

سرقة المال من الحساب المصرفي عن طريق الحاسب الآلي (الإنترنت)

سرقة المال من الحساب المصرفي عن طريق الحاسب الآلي (الإنترنت): يعمد بعض المجرمين إلى الدخول إلى الحسابات البنكية عن طريق الحاسب الآلي وسرقة الأموال من الحسابات وتحويلها إلى حساب آخر. الحكم الشرعي لذلك: يعد القيام بذلك من السرقة ويترتب عليه حكمها وهو القطع؛ لأن الأموال محرزة في البنك، والعرف في عصرنا يقضي بكونها محرزة، فإذا توافرت شروط القطع الأخرى فإنه يقطع السارق وإن لم تتوافر فإنه يعزر بما يراه القاضي رادعًا له وزاجرًا لغيره والله أعلم. سرقة السيارات والمعدات: يقدم بعض ضعاف النفوس على سرقة السيارات، ويعد ذلك نازلة تتطلب حكمًا شرعيًّا. الحكم الشرعي لسرقة السيارات والمعدات: لا يخلو الأمر من أن تكون السيارة محرزة بحيث تكون مغلقة الأبواب أو في منزل أو مستودع مغلق الأبواب أو لا، فإن كانت كذلك فإنه يترتب على سرقتها ثبوت القطع متى توافرت الشروط الأخرى للقطع، أما إذا كانت غير محرزة بأن كانت في الشارع خارج المنزل ومفتوحة فإنه لا يترتب على سرقتها القطع؛ لأن مالكها قد فرط وأهمل في حفظها، وإنما يجب في تلك الحال التعزير، وذلك راجع إلى ما يراه القضاء مناسبًا لتلك الجريمة. سرقة الآثار والتحف واللوحات الفنية: أصبحت للآثار والتحف واللوحات الفنية قيمة مالية كبيرة، وتكالب الناس عليها في هذا العصر فما حكم سرقتها؟ وهل يتم قطع يد السارق لها؟

حكم سرقة الآثار والتحف واللوحات الفنية: لا يجوز سرقة الآثار والتحف واللوحات الفنية سواء أكانت ملكًا للدولة أو للأفراد والشركات؛ لأن لها قيمة مالية كبيرة في الوقت المعاصر. ويتم القطع فيها إذا سرقت من حرز، كأن تكون في متحف محصن واستكملت الشروط التي يجب توافرها في قطع يد السارق. أما إذا لم تكتمل الشروط فإن القاضي يعزر السارق بما يراه مناسبًا لجريمته ورادعًا له عن تكرارها وزاجرًا لغيره عن ارتكابها.

إثبات الزنا بالوسائل الحديثة

إثبات الزنا بالوسائل الحديثة يعد الزنا جريمة كبيرة لما يترتب عليه من آثار عظيمة على المتهم وأسرته وعلى الأمة؛ ولذلك فإن إثباته إنما يكون بطرق لا يتطرق إليها الشك، وهي إما أربعة شهود أو إقرار المتهم وما عدا ذلك فلا يعد طريقًا للإثبات. ولا يثبت الزنا بغير ذلك من الوسائل الحديثة، كالفحص الطبي أو التصوير بآلات التصوير والتسجيل، ولا يثبت بالفحص الكيميائي ولا غيره؛ لأن تلك الوسائل أمور محتملة، والإِسلام قد جعل مبدأ درء الحدود بالشبهات كما جاء في الحديث: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" (¬1). جاء في الفتوى رقم (3339) من فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية: أنه لا يصح إثبات جريمة الزنا بالتقرير للفاحص الكيميائي وتقرير إخصائي في بصمات الأصابع والشهادة الظرفية (¬2). وجاء في الفتوى الصادرة من دار الإفتاء المصرية برقم 54 لسنة 2009 م عدم الاعتماد على إثبات الزنا بالوسائل الحديثة؛ لأنها لا ترقى إلى مستوى الدليل اليقيني، وإنما يتطرق الشك إليها؛ لأنه قد يعتريها الخطأ، وإثبات الزنا إنما يكون بأحد أمرين: اعتراف المتهم أو أن يشهد أربعة شهود أنهم رأوا ذلك الفعل يحصل واستشهدت الفتوى بقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]. أ. هـ. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذيُّ في باب ما جاء في درء الحدود بلفظ: "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله ... " ورقمه (1424)، ورواه الحاكم وأبو يعلى عن عائشة مرفوعًا بلفظ: "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة" كشف الخفا ومزيل الإلباس (1/ 73) ورقمه (166)، وأخرجه البيهقيُّ (8/ 238). (¬2) الشهادة الظرفية: هي الشهادة بتواجد الشخصين في مكان معين مع بعضهما.

التزوير

لكن إذا رأى القاضي أن إيًّا منها تصلح قرينة يمكن قبولها بعد الفحص والتأكد، ويبنى على ذلك تعزير المتهم بالزنى بما يراه مناسبًا فلا مانع. والله أعلم. التزوير تعريفه - حكمه: والتزوير: هو العبث بوثيقة مكتوبة أو تقليد التواقيع أو الأختام أو غيرها بهدف الغش أو الاحتيال. وتتضمن أنواع التزوير: التوقيع تحت اسم شخص آخر إما على شيك أو على وصية أو عقد أو أوراق الهوية والشهادات العلمية وغيرها، وهي جريمة محرمة في الإسلام لما يترتب عليها من إبطال حق وإثبات باطل وقد قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30]. وقد جاء الكلام عن جريمة التزوير في نظام مكافحة التزوير في المملكة العربية السعودية الصادر برقم 144 وتاريخ 26/ 11 / 1380 هـ، وجاء في إحدى عشرة مادة تبين تعريف جريمة التزوير المقصودة بالنظام والعقوبات المترتبة على المخالفات التي تضمنها النظام. التعزير بالعمل التطوعي في الجمعيات الخيرية أو تعلم شيء لمصلحة المخالف وخدمة المجتمع: حدثت في هذا العصر في بعض البلاد بعض الجزاءات لمخالفة أنظمة المرور أو وقوع بعض المخالفات، وذلك بتكليف القاضي للمخالف أو المذنب بالقيام ببعض الأعمال إما مع الجمعيات الخيرية أو غيرها؛ وذلك ترويضًا له وتعويدًا على الأخلاق والسلوك الحسن مما يدفعه إلى الامتثال وعدم تكرار المخالفات.

الحكم الشرعي لذلك: نرى أنه يمكن للقاضي عند المجازاة في المخالفات التي ليس لها جزاءات وعقوبات محددة، وليست من الجرائم، أن يجازي المخالف بالعمل التطوعي وخدمة المجتمع أو إدخاله إلى مدرسة لتعليم ما ينفعه ويزيده ثقافة لتلافي تكرار وقوع المخالفة منه، ذلك أن القصد من الجزاء الردع والزجر وتقويم سلوك المخالف بحيث يكون عضوًا نافعًا في المجتمع.

كتاب الجهاد

كتاب الجهاد قد جدت نوازل وقضايا مما يندرج في كتاب الجهاد ومنها: الهدنة مع اليهود في فلسطين: إن اليهود أشد الناس عداوة للمسلمين، قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82]. وقد كان منهم نقض العهود التي أبرمها معهم محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة وساعدوا المشركين عليه، وهم اليوم قد اغتصبوا فلسطين ودنسوا مقدساتها، ولم يبق أمام المسلمين إلا جهادهم وقتالهم لاسترداد حقوقهم والذود عن أراضيهم ومقدساتهم، وقد أفتى بذلك علماء المسلمين في شتى الأقطار وعلى مر العقود الماضية، وحيث إن اليهود اليوم قد أصبحت لهم شوكةٌ ومنعةٌ نتيجة لاستعدادهم ووقوف الدول الاستعمارية معهم ضد المسلمين وهذا هو الحبل الذي أخبر الله عنه بقوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ...} [آل عمران: 112]. والمسلمون اليوم في حالة من الضعف والتفرق، فهل يجوز عقد الهدنة مع اليهود في فلسطين لأجلٍ مسمى، أم أن ذلك غير جائز؟ حكم عقد الهدنة: حيث إن المسلمين في حالة من الضعف كما أن القوى الاستعمارية تقف مع اليهود في الوقت الحاضر تمشيًا مع مصالحهم وحقدهم على الإسلام والمسلمين فإنا نرى أنه لا مانع من عقد الهدنة معهم بشروط: 1 - أن تكون الهدنة لمصلحة المسلمين، كما إذا كان القتال غير ممكن لعجزهم وتفرقهم على أن يتم إعداد العدة وتهيئة الأمة للقتال واسترداد الحقوق ما أمكن ذلك.

2 - أن تكون فترة الهدنة محددة بمدة معينة قدرها بعض الفقهاء ومنهم الشافعية وهو رواية عن أحمد بحدٍّ أقصى عشر سنين؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عقد هدنة مع قريش في الحديبية مدتها عشر سنين، وأجازها بعضهم ومنهم الحنفية وهو رواية عن أحمد حتى لو زادت عن عشر سنين ما دام أن فيها حاجة ومصلحة راجحة للمسلمين، كما إذا كان في المسلمين ضعف وعدوهم أقوى منهم (¬1). قال الشيخ ابن باز: الصلح لا يقتضي تمليك اليهود لما تحت أيديهم تمليكًا مؤبدا، وإنما يقتضي ذلك تمليكهم تمليكًا مؤقتًا حتى تنتهي الهدنة المؤقتة أو يقوى المسلمون على إبعادهم عن ديار المسلمين بالقوة في الهدنة المطلقة (¬2). أما عقد الصلح الدائم معهم فلا يجوز؛ لأنه إقرار لهم على الظلم، وإضاعة لحق المسلمين في بلادهم ومقدساتهم، وإبطال للجهاد الذي شرعه الله لحماية دينه والدفاع عن الحقوق في البلاد وعلى مختلف الأزمان، وإذا كان المسلمون اليوم في ضعف وتفرق، فإنه سيجيء يوم -بحول الله- يكونون على حال من القوة والمنعة والاجتماع، يستطيعون فيها أخذ حقوقهم، واسترداد بلادهم ومقدساتهم، ونصر دين الله بنشره في المعمورة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]. وعقد الصلح الدائم يغلق الباب أمام الأجيال القادمة، فلا ينالون حقوقهم واسترداد مقدساتهم وأراضيهم بما التزم به من سبقهم من اتفاقيات وعقود مع اليهود. ¬

_ (¬1) توضيح الأحكام لابن بسام (6/ 410). (¬2) مجموع فتاوى الشيخ (8/ 22).

العمليات الفدائية في الأعداء من الكفار المحاربين

العمليات الفدائية في الأعداء من الكفار المحاربين اختلفت أساليب الحرب وفنون القتال من عصر إلى آخر، ولكنها أكثر تغيرًا وفتكًا في هذا العصر، ومن أساليب القتال تلك قيام المسلم بقتل مجموعة من المحاربين ويتم ذلك بتفجير نفسه وسط الأعداء المقاتلين من الكفار فيموت هو ومن حوله، كما يحدث في فلسطين، وقد شكلت تلك العمليات عنصرًا مهمًّا وأساسيًّا في إدارة الصراع مع إسرائيل، وأحدثت توازنًا في القوى بين الفلسطينيين واليهود على الرغم من تفوق اليهود في الأسلحة والعتاد. وقد اختلف العلماء المعاصرون في مثل هذا الأسلوب: 1 - فذهب بعضهم إلى أن هذا الأسلوب لا يجوز، وهو نوع من الانتحار وأنه لم يكن معهودًا من قبل، وفيه إلقاء بالنفس إلى التهلكة والله يقول: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]. ويقول تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]. 2 - وذهب آخرون إلى جواز ذلك؛ فقد صرح الحنفية بأنه إن علم أنه يقتل إذا قاتل بشرط أن ينكي في العدو فإنه جائز، أما إذا علم أنه لا ينكي فيهم فإنه لا يحل له أن يحمل عليهم؛ لأنه لا يحصل بحملته شيء من إعزاز الدين. وقال محمَّد بن الحسن: لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في قتل أو نكاية في العدو. كما ذهب المالكية إلى جواز إقدام الرجل المسلم على الكثير من الكفار إن كان قصده إعلاء كلمة الله، وكان فيه قوة وظن تأثيره فيهم ولو علم ذهاب نفسه، ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثرًا ينتفع به المسلمون فجائز أيضًا وقيل إذا طلب

الشهادة وخلصت النية فليحمل؛ لأن مقصوده واحد منهم (¬1). وذلك بيّن في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207]. وقد قال رجل من المسلمين يوم اليمامة لما تحصنت بنو حنيفة بالحديقة ضعوني بالحَجَفة (¬2) وألقوني إليهم، ففعل الصحابة، وقاتلهم وحده وفتح الباب. ونقل الرازي (¬3) رواية عن الشافعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الجنة، فقال رجل. أرأيت إن قتلت في سبيل الله فأين أنا؟ قال: "في الجنة"، فألقى تمرات في يديه، ثم قاتل حتى قتل (¬4). وقال ابن العربي (¬5): والصحيح عندي جوازه؛ لأن فيه أربعة أوجه: * الأول: طلب الشهادة. * الثاني: وجود النكاية. * الثالث: تجرئة المسلمين عليهم. * الرابع: إضعاف نفوس الأعداء ليروا أن هذا صنيع واحد منهم فما ظنك بالجميع. وجاء في توضيح الأحكام "قال الحافظ: ذهب جمهور العلماء إلى أنه يجوز للرجل الشجاع أن يحمل على الكثير من العدو، إذا كان له قصد حسن، كأن يرهب العدو، أو ¬

_ (¬1) حاشية ابن عابدين (4/ 137) وحاشية الدسوقي (2/ 183)، وتفسير القرطبي (2/ 363)، وروضة الطالبين (ص: 229)، والعدة شرح العمدة لبهاء الدين المقدسي (ص: 117)، وانظر: فقه السنة للسيد سابق (1/ 347). (¬2) الرجل هو البراء بن مالك أخو أنس بن مالك والحَجَفة: ترس يتخذ من الجلود، تفسير القرطبي (2/ 364). (¬3) التفسير الكبير لفخر الدين الرازي (5/ 150). (¬4) أخرجه مسلمٌ (3/ 1). (¬5) أحكام القرآن لابن العربي (1/ 116).

يجرئ المسلمين على الإقدام أو نحو ذلك من المقاصد" (¬1). وجاء في الموسوعة الفقهية: "وربما يشبه ذلك لبس الحزام الناسف وإلقاء النفس أمام دبابات العدو للقضاء عليها مع علمه بأنه سيقتل" (¬2). الراجح: يتبين مما ذكر من أقوال الفقهاء أن تلك الحالة وما يماثلها جائزة؛ لما ذكروه من فوائد للمسلمين، بل هي مرتبة عالية إن تحققت فيها الرغبة الصادقة لإعلاء دين الله وكسر شوكة الكفر، ودفع المسلمين إلى الجرأة على أعدائهم، والنيل منهم بتحقيق الشهادة في سبيل الله، ولا سيما في هذا العصر الذي اختلت فيه موازين القوى، وأصبح للأعداء اليهود في فلسطين وغيرها قوة حربية كبيرة، قد لا يستطيع المسلمون التصدي لهم حاضرًا ولم يبق أمامهم إلا مثل تلك العمليات. قال القرطبي (¬3): "وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت نفسه لإعزاز دين الله وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ. . .} [التوبة: 111]. وأما الآية التي استدل بها المانعون فيجاب عنها بما جاء في حديث أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- عندما غزا المسلمون القسطنطينية، فحمل رجل على عسكر العدو، فقال قوم: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: لا، إن هذه الآية نزلت في الأنصار حين أرادوا أن يتركوا الجهاد، ويعمروا أموالهم. وأما هذا، فهو الذي قال الله فيه (¬4): {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ ¬

_ (¬1) توضيح الأحكام لابن بسام (6/ 376). (¬2) الموسوعة الفقهية (6/ 11). (¬3) تفسير القرطبي (2/ 111، 363). (¬4) أخرجه أبو داود (2512)، والترمذيُّ (2972) وصححه، وقال الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي على تصحيحه، توضيح الأحكام لابن بسام (6/ 375).

مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207] فالتهلكة هي ترك الجهاد وما فيه من عظيم الأجر وحلول النصر، والركون إلى الدنيا وما يترتب على ذلك من ضعف المسلمين وقوة أعدائهم وتسلطهم عليهم وغزوهم في عقر دارهم وإذلالهم، وهو ما يؤدي إلى التهلكة للفرد والأمة، وأما من افتدى المسلمين والإِسلام بنفسه، فقد باعها لله رغبة فيما عنده من عظيم الأجر وجزيل الثواب للشهداء والمجاهدين في سبيله. ويجاب عن الآية الثانية بأنها لا تتناول موضوع الاستدلال، وإنما المراد بها أن يقتل الناس بعضهم بعضا. قال القرطبي (¬1): أجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضا، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل والحرص على الدنيا وطلب المال بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي للتلف، ويحتمل أن يقال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} في حال ضجر أو غضب، فهذا كله يتناوله النهي. وليست تلك العمليات انتحارًا؛ إذ الانتحار قتل للنفس وتخلص منها بعد أن ضاقت الدنيا في وجهه لأي سبب من أسباب الحياة، فهو لا يقصد أبعد من ذلك، وإنما الفداء بالنفس لإعلاء كلمة الله وعز الإسلام والمسلمين وقهر الأعداء والنكاية بهم شراء للآخرة بالحياة الدنيا، فهو لم يقدم على إزهاق نفسه سخطًا لأمر من أمور الدنيا، وإنما أرخصها لهدف أسمى وأعلى ألا وهو الشهادة في سبيل الله، فقد باع نفسه وما يفني بما يبقى من رضوان الله والدرجات العلى. وقد حققت مثل هذه العمليات نتائج طيبة بالنيل من العدو ورفع الروح المعنوية للمسلمين، وأنه يمكن النصر على الأعداء إذا صدق المسلمون مع الله وحققوا عوامل النصر، وإن لم يكونوا مثل الأعداء عددًا وعدة كما هي شواهد التاريخ. ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي (5/ 156).

ونرى أن يقيد هذا الجواز بشروط هي: 1 - ألا يقصد قتل نفسه والخلاص من الدنيا. 2 - أن يحاول تنفيذ العملية الفدائية مع المحافظة على نفسه ما أمكن. 3 - أن تكون تلك العمليات موجهة إلى أعداء المسلمين المحاربين من الكفار فقط. 4 - أن يكون فيه مصلحة ظاهرة للمسلمين ونكاية مؤثرة في العدو. 5 - أن تكون تلك العمليات مقرَّة من علماء البلد الذي يحارب العدو؛ لأنهم أدرى بما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين عندهم. وبتحقيق تلك الشروط يتم البعد عن السلبيات التي يمكن أن تقع إذا قيل بالجواز مطلقًا. والله أعلم.

أسلحة الدمار الشامل

أسلحة الدمار الشامل التعريف: أسلحة جمع سلاح، وهو أداة تستخدم في الدفاع عن الأرواح والممتلكات ومواجهة الأعداء. وأسلحة الدمار الشامل أسلحة تؤدي إلى أضرار خطيرة، وتنقسم إلى ثلاثة أنواع: 1 - الأسلحة النووية: السلاح النووي هو سلاح يستمد قدرته التدميرية من تحويل المادة إلى طاقة، وتشمل الصواريخ والقنابل (القنبلة الذرية والقنبلة الهيدروجينية) وقذائف المدفعية والألغام، وهي أكثر تدميرًا من السلاح التقليدي. 2 - الأسلحة الجرثومية أو البيولوجية: وهي إما أن تكون بكتيريا أو فيروسات أو خمائر، وتعد تلك الأوبئة بما يعرف بالقنبلة البيولوجية ثم تلقى على الأعداء لنشر الأوبئة والأمراض. 3 - الأسلحة الكيميائية: وهي تقوم على استخدام الغازات السامة بمختلف أنواعها ومنها غاز الأعصاب وغاز الخردل وغاز السيانيد والجمرة الخبيثة وغيرها (¬1). وهي محرمة دوليًّا، ويعتبر مستخدمها ضد مدنيين مجرم حرب. خصائص أسلحة الدمار الشامل: 1 - التأثير الشديد على البيئة: سواء أكان الإنسان أم الحيوان أم النبات. 2 - امتداد التأثير زمنيًّا: حيث قد يمتد أثرها إلى عقود قادمة. 3 - القوة التدميرية الكبيرة بحيث يمكن أن تدمر مدينة بكاملها بكل من فيها وما تشتمله حتى المباني. ¬

_ (¬1) الموسوعة العربية العالمية (13/ 20) الطبعة الثانية.

الحكم الشرعي لاقتناء أسلحة الدمار الشامل واستعمالها

4 - ليس لها سلاح مضاد يمنع تأثيرها (¬1). الحكم الشرعي لاقتناء أسلحة الدمار الشامل واستعمالها: مبادئ الإِسلام تدعو إلى نشر السلم والعدل وأداء الحقوق؛ ولهذا فإنه يمكن القول إن صناعة تلك الأسلحة واقتناءها ومن ثم استعمالها لا يجوز لما تحدثه من ضرر على البشر والشجر والحيوان وغيرها، ولكن نظرًا لأن كثيرًا من الدول ومنها دول معادية للإسلام والمسلمين تمتلك تلك الأسلحة وغيرها، والمسلمون قد أمروا بإعداد القوة المناسبة حسب الاستطاعة، فإنه ينبغي للدول الإِسلامية امتلاك تلك الأسلحة ليس من أجل استخدامها ولكن من باب الردع والزجر للعدو من أن يستعملها في أي وقت ومكان، فإذا سولت للعدو نفسه استعمالها فإنه يقابل باستعمالها بالمثل لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. وما قيمة المعاهدات الدولية بمنع انتشار الأسلحة تلك إذا كان كثير من الدول يملكها وخاصة دولة إسرائيل، إن الأمر يتطلب إعداد العدة بكل ما يملك المسلمون وما يستطيعون توفيره حاضرًا ومستقبلا. ¬

_ (¬1) أسلحة الدمار الشامل بين المنع والوجوب، محمَّد بن شاكر الشريف.

الإرهاب

الإرهاب الإرهاب في اللغة: يقال أرهب فلانًا إرهابا: خوفه وفزعه. أما في الاصطلاح فإنه لم يتم تعريف الإرهاب المقصود والذي يتحدث عنه في الوقت المعاصر بتعريف جامع مانع يشمل المفردات المراد تعريفها، وإنما هو مصطلح عام وعائم يدخل تحته كل عمل يتم به التخويف والرعب والفزع سواء أكان مشروعًا كحركات التحرير ضد المعتدي الغاصب كما في فلسطين مع اليهود، أم غير مشروع كإخافة الناس الآمنين وإفزاعهم بالقتل والتدمير. وقد جاء الكلام عن الإرهاب في بيان مكة المكرمة الذي أصدره مجمع الفقه الإِسلامي التابع للرابطة في دورته السابعة عشرة المنعقدة بتاريخ 19 - 23/ 10 / 1424 هـ حيث قال: إن الإرهاب مصطلح لم يتفق دوليًّا على تعريفٍ له يضبط مضمونه ويحدد مدلوله. لذا فإن مجلس المجمع يدعو رجال الفقه والقانون والسياسة في العالم إلى الاتفاق على تعريفٍ محددٍ للإرهاب تنزل عليه الأحكام والعقوبات، ليتحقق الأمن وتقام موازين العدالة، وتصان الحريات المشروعة للناس جميعًا. ثم أورد بيانًا لما يتضمنه الإرهاب جاء فيه: "الإرهاب هو العدوان الذي يمارسه أفراد أو جماعات أو دول بغيًا على الإنسان في دينه ودمه وعقله وماله وعرضه ويشمل صنوف التخويف والأذى والتهديد والقتل بغير حق". وذكر صنوفًا متعددة تندرج تحت مسمى الإرهاب، وذكر أن للإرهاب أسبابًا لا بد من أخذها بعين الاعتبار عند المعالجة له، فليراجعه من يرغب المزيد من البيان. الحكم الشرعي للأعمال الإرهابية: إن الأعمال الإرهابية التخريبية من تفجير للمنشآت والمساكن والجسور وغيرها وترويع الآمنين من المسلمين أو من أعطوا العهد والأمان كلها أعمال محرمة وتعد من

كبائر الذنوب، وقد رتب الشارع الحكيم عليها عقوبات رادعة كفيلة بمنعها ومجازاة فاعليها، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33]. أما أعمال المقاومة التي يقوم بها المغلوبون والمعتدي على أرضهم وبلادهم كما في فلسطين فليست إرهابًا ممنوعًا؛ لأن الصهاينة هم المعتدون وإنما هي دفاع عن النفس والمال والعرض أقره الإسلام، وأيدته جميع الشرائع والقوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة، وهي من الإرهاب المشروع، وقد ورد في القرآن الكريم إطلاق الإرهاب على تخويف العدو بامتلاك وسائل الردع قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]. قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسيره لهذه الآية: والعلة إرهاب الأعداء والحكم يدور مع علته، وجاء في بيان مكة الذي أصدره مجمع الفقه الإِسلامي التابع للرابطة في دورته السادسة عشرة التي عقدت في مكة المكرمة: وينبه المجلس إلى أن ما ورد في الآية من ذكر الإرهاب يعني إعداد العدة من قبل المسلمين ليخافهم عدوهم، ويمتنع عن الاعتداء عليهم وانتهاك حرماتهم، وذلك يختلف عن معنى الإرهاب الشائع في الوقت الحاضر، وجاء في الحديث الذي رواه سعيد بن زيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد" (¬1). فقد بين في الحديث أنه تكتب لهم الشهادة ما داموا يدافعون عن ذلك، وهذا يدل على مشروعية عملهم. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده، وأبو داود، والنسائيُّ، والترمذيُّ، وابن حبان في صحيحه، وقال السيوطي في الجامع الصغير: حديثٌ حسنٌ (2/ 631)، ورقمه (8917).

كتاب القضاء

كتاب القضاء ورد من النوازل في القضاء ما يأتي: الإثبات بالبينات والقرائن الحديثة (المعاصرة): البينة: هي كل ما يبين الحقّ ويظهره. ومن تلك البينات والقرائن ما يأتي: 1 - بصمات الأصابع. 2 - البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها. 3 - الكلب البوليسي. 4 - التسجيل الصوتي والصور. أولًا: بصمات الأصابع: أثبت العلم أن بشرة الأصابع مغطاة بخطوط دقيقة على عدة أنواع، وهذه الخطوط لا تتغير مدى الحياة، وهي لا تتشابه بين إنسان وآخر في كل البشر، وقد أشار إليها القرآن الكريم بقوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4]، ولم يتم اكتشاف بصمات الأصابع إلا حديثًا عام 1884 م في إنجلترا، ثم اعتبرت قرينة في جميع البلاد. الحكم الشرعي لها: نرى أنه لا يعتمد على بصمات الأصابع في القصاص أو الحدود لما ورد من درء الحدود بالشبهات، ولكن يمكن الاستفادة من البصمات كأداة وقرينة لدى القاضي لدفع الجاني للاعتراف، فإن لم يعترف فإنه يمكن التعزير بناء على تلك القرينة بما يراه القاضي مناسبًا.

ثانيا: البصمة الوراثية (DNA) ومجالات الاستفادة منها

ثانيًا: البصمة الوراثية (DNA) ومجالات الاستفادة منها: البصمة الوراثية هي البنية الجينية نسبة إلى الجينات (المورثات) التي تدل على هوية كل إنسان بعينه. وقد أفادت البحوث والدراسات العلمية أنها وسيلة تمتاز بالدقة لتسهيل مهمة الطب الشرعي، ويمكن أخذها من أي خلية بشرية من الدم أو اللعاب أو المني أو البول أو غيره. الحكم الشرعي للاعتماد على البصمة الوراثية: البصمة الوراثية أكثر دقة من القيافة التي يبنى عليها شرعًا في إثبات النسب؛ ولذلك فإنه يمكن الاستفادة منها في غير إثبات الحدود الشرعية والقصاص، لحديث: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" (¬1). وقد جاء في القرار السابع من قرارات مجمع الفقه الإِسلامي التابع للرابطة في دورته السادسة عشرة المنعقدة في مكة المكرمة عام 1422 هـ. أوجه الاستفادة من البصمة الوراثية: أولًا: لا مانع شرعًا من الاعتماد على البصمة الوراثية في التحقيق الجنائي، واعتبارها وسيلة إثبات في الجرائم التي ليس فيها حد شرعي ولا قصاص، لخبر: "ادرؤوا الحدود بالشبهات"، وذلك يحقق العدالة والأمن للمجتمع، ويؤدي إلى نيل المجرم عقابه وتبرئة المتهم، وهذا مقصد مهم من مقاصد الشريعة. ثانيًا: إن استعمال البصمة الوراثية في مجال النسب لا بد أن يحاط بمنتهى الحذر والحيطة والسرية، ولذلك لا بد أن تقدم النصوص والقواعد الشرعية على البصمة الوراثية. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص: 70).

ثالثًا: لا يجوز شرعًا الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب ولا يجوز تقديمها على اللعان. رابعًا: لا يجوز استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من صحة الأنساب الثابتة شرعًا، ويجب على الجهات المختصة منعه وفرض العقوبات الزاجرة لأن في ذلك المنع حماية لأعراض الناس وصونًا لأنسابهم. خامسًا: يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات الآتية: 1 - حالات التنازع على مجهول النسب بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء، سواء أكان التنازع على مجهول النسب بسبب انتفاء الأدلة أو تساويها، أم كان بسبب الاشتراك في وطء الشبهة ونحوه. 2 - حالات الاشتباه في المواليد في المستشفيات ومراكز رعاية الأطفال ونحوها وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب. 3 - حالات ضياع الأطفال واختلاطهم بسبب الحوادث أو الكوارث أو الحروب وتعذر معرفة أهلهم، أو وجود جثث لم يمكن التعرف على هويتها أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحروب والمفقودين. سادسًا: لا يجوز بيع الجينوم البشري لجنس أو لشعب أو لفرد لأي غرض كما لا تجوز هبتها لأي جهة؛ لما يترتب على بيعها أو هبتها من مفاسد. سابعًا: يوصي المجمع بما يأتي: أ- أن تمنع الدولة إجراء الفحص الخاص بالبصمة الوراثية إلا بطلب من القضاء، وأن يكون في مختبرات للجهات المختصة، وأن تمنع القطاع الخاص الهادف للربح من مزاولة هذا الفحص، لما يترتب على ذلك من المخاطر الكبرى.

ثالثا: التعرف على المجرم عن طريق الكلب البوليسي

ب- تكوين لجنة خاصة بالبصمة الوراثية في كل دولة، يشترك فيها المتخصصون الشرعيون، والأطباء، والإداريون، وتكون مهمتها الإشراف على نتائج البصمة الوراثية، واعتماد نتائجها. ج- أن توضع آلية دقيقة لمنع الانتحال والغش، ومنع التلوث وكل ما يتعلق بالجهد البشري في حقل مختبرات البصمة الوراثية، حتى تكون النتائج مطابقة للواقع، وأن يتم التأكد من دقة المختبرات، وأن يكون عدد المورثات (الجينات المستعملة للفحص) بالقدر الذي يراه المختصون ضروريًّا دفعًا للشك. ثالثًا: التعرف على المجرم عن طريق الكلب البوليسي: هذه القرينة من النوازل الحديثة التي يعمل بها القانون الوضعي في التعرف على المجرم، وذلك عن طريق الشم؛ بحيث يشم الكلب البوليسي أثرًا من آثار الجريمة، ثم يعرض عليه مجموعة من الناس يتعرف على المجرم من بينهم. الحكم الشرعي: إن الإسلام يشدد في أمر الإثبات، فالمتهم برئ حتى تثبت إدانته، وليس الكلب وهو من الحيوانات بطريقٍ للإثبات؛ ولذلك فإنا نرى أنه لا يعول على ذلك كقرينة في إثبات الجريمة، ويمكن أن يستفاد منها فقط في التعرف على المجرم لحمله على الاعتراف، فإن اعترف أخذ باعترافه، وإلا فلا يبنى على تلك القرينة مطلقًا؛ لأن شهادة بعض الشهود قد ترد وهم بشر فكيف بالحيوان الذي لا يمكن أن ينظر إليه في الشهادة التي من شروطها العقل. رابعًا: التسجيل الصوتي والصور: قد يتم تسجيل الصوت والصورة للمتهم من قبل أحد الأشخاص أو الجهات أو حتى من قبله هو، فهل يعد ذلك قرينة على ارتكاب الجريمة ووسيلة لإثبات وقوعها؟

دور الطب الشرعي في إثبات الجرائم والحقوق

الحكم الشرعي لذلك: لا يعد التسجيل للصوت أو الصورة للمتهم وسيلة للإثبات؛ لأن ذلك قد يتم بالدبلجة أو تقليد الأصوات أو غيرها، ولا يبنى عليها في إدانة المتهم، ولكن إذا كان التسجيل للصورة والصوت قد تم من قبل المتهم نفسه كما في بعض الأحوال واعترف المتهم بجريمته، فإنه يؤاخذ باعترافه لا بتلك الوسيلة، وإنما استفيد منها فقط في مواجهته للاعتراف، فإن أنكر فلا ينظر إليها، فإن وجدت قرائن أخرى تساعد على قوة التهمة، فإن للقاضي أن يعزره بما يراه مناسبًا لردعه وزجره. والله أعلم. دور الطب الشرعي في إثبات الجرائم والحقوق: الطب الشرعي: هو تطبيق علم الطب على مشكلات القانون والقضاء كإثبات البنوة والعته والإصابات والموت المسبب من عوامل العنف (¬1). ويطلق على الطب الشرعي في بعض البلاد الطب العدلي أو الطب القضائي وذلك إشارة إلى الصلة التي تربط بين الطب والقانون والعدالة، وهو أحد الفروع التخصصية في الطب. الموضوعات التي يدرسها المتخصص في الطب الشرعي: 1 - علم التشريح وأسباب الوفيات وجميع الإصابات الجسدية. 2 - الخبرات الطبية في جميع التخصصات. 3 - بعض المبادئ القانونية (القانون الجزائي، المدني، قانون الصحة، أخلاقيات مهنة الطب). 4 - علم السموم. 5 - الجرائم الجنسية. ¬

_ (¬1) الموسوعة العربية الميسرة مادة (طب) (2/ 1152).

الهدف من تقارير الطب الشرعي

6 - علم طب النفس الشرعي. والطب الشرعي عامل مساعد للقضاء في تطبيق العدالة على كثير من الجرائم التي يحتاج القضاء فيها إلى رأي الطب الشرعي وبيان ما يراه وفقًا لمهارته وخبرته متوجًا بضميره ومراقبته لربه -عَزَّ وجَلَّ-. الهدف من تقارير الطب الشرعي: 1 - إثبات وقوع الجريمة من عدمه. 2 - إيجاد العلاقات السببية. 3 - بيان مدى مسؤولية المتهم في الجريمة. 4 - ضبط الآثار المادية والأدلة الجنائية. 5 - اعتبار الطب الشرعي وسيلة لإثبات الحقوق والجرائم. الحكم الشرعي لذلك: نرى أن تطبيق العدالة يتطلب وجود أدلة أو قرائن تعين على إثبات الحقوق والجرائم وتحدد مسؤولية المتهم، وما دام أن تلك المهنة وما تقوم عليه قد تساعد القضاء في تحقيق العدالة وتطبيق الجزاء على مرتكبي الجرائم، فإنه لا مانع من الاستفادة منها بعد التأكد من التقارير والنتائج الطبية وما تؤدي إليه والله أعلم.

تولي المرأة القضاء

تولي المرأة القضاء بحث الفقهاء تولية المرأة القضاء، واختلفوا في ذلك وفقًا لما يأتي: يرى جمهور الفقهاء من الشافعية والحنابلة والمالكية (¬1) أنه لا يجوز تولية المرأة القضاء مطلقًا لحديث: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" (¬2). والقضاء نوع من الولاية فلا يجوز توليها إياه. يرى الحنفية جواز أن تتولى المرأة القضاء في الأمور التي تقبل شهادتها فيها، وذلك في غير القصاص والحدود، قال في شرح القدير (¬3): "وأما الذكورة فليست بشرط إلا للقضاء في الحدود والدماء فتقضي المرأة في كل شيء إلا فيهما". يرى بعض الفقهاء ومنهم ابن جرير الطبري وابن حزم (¬4) أنه يجوز تولية المرأة القضاء مطلقًا، ذلك أن المرأة يجوز لها الاحتساب كما حدث للشفاء بنت عبد الله حيث عينت من قبل عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه- محتسبة على السوق في المدينة، والحسبة نوع من القضاء. واختلف الفقهاء المعاصرون في ذلك، فذهب بعضهم إلى الأخذ برأي الجمهور، وذهب آخرون إلى الأخذ برأي الحنفية، وذهب غيرهم إلى الأخذ برأي الطبري وابن حزم ومنهم الدكتور يوسف القرضاوي وشرط لذلك شروطًا. الترجيح: القول بتولي المرأة القضاء أو منعه لا يعد نازلة، حيث تم بيان الحكم في ذلك ¬

_ (¬1) مغني المحتاج (4/ 375)، والمغني لابن قدامة (14/ 12)، ومواهب الجليل للخطاب (6/ 87). (¬2) أخرجه البخاريُّ في باب كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وقيصر ورقمه (4425). (¬3) شرح فتح القدير لابن الهمام (5/ 454) نشر وزارة الشؤون الإِسلامية في السعودية. (¬4) بداية المجتهد لابن رشد (3/ 445)، والمحلى لابن حزم (9/ 429). وانظر: حكم تولية المرأة القضاء وهو بحث أعده مصطفى محمود سليخ.

قديمًا، ولكن يعد نازلة من حيث التطبيق العملي؛ حيث لم يذكر تولي امرأة للقضاء منذ عصور الإسلام الأولى حتى عصرنا، كما أن القوانين والأنظمة في أكثر الدول تجيز تولي المرأة القضاء، وأمور الحياة تتشابك بين الأمم، ويسهل التواصل بين الحضارات، والمرأة تعمل قاضية في كثير من الدول. ونرى أن ولاية المرأة في شؤون الأسرة وما له علاقة بالنساء جائزة، فما رأى ولي أمر المسلمين أن من المصلحة توليها له فلا بأس به، بشرط أن تتوفر فيها شروط تولي القضاء، وأن عدم توليها ما عدا ذلك إنما هو رحمة بها وشفقة عليها (¬1)، فتولي القضاء إنما هو تكليف قبل أن يكون تشريفًا، فقد ورد في الحديث: "القضاة ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة ... " (¬2)، كما أن كثيرًا من كبار العلماء ومنهم أبو حنيفة امتنع عن تولي القضاء؛ لما يعلمه من عظم مسؤوليته وخطر أمره. والله أعلم. ¬

_ (¬1) ويرى الدكتور عبد الله الطيار عدم جواز تولي المرأة القضاء مطلقا. (¬2) رواه أبو داود والترمذيُّ وابن ماجه والطبرانيُّ، واللفظ له عن أبي موسى مرفوعًا، وصححه الحاكم وغيره كشف الخطأ ومزيل الإلباس للعجلوني (2/ 126)، ورقمه (1778).

حكم اشتراط التحاكم إلى القوانين الوضعية في العقود التجارية

حكم اشتراط التحاكم إلى القوانين الوضعية في العقود التجارية نتيجة للتطور والتقدم الذي تعيشه البشرية وما صاحبه من توسع في المعاملات التجارية وعقود التوريد والمناقصات والمقاولات، بحيث أصبح يتم التعامل في بعضها مع شركات أجنبية، وما يترتب عليه من عقد اتفاقيات تبين ما لكل من الطرفين وما عليه، ومن ذلك طريقة حل النزاعات التي تحدث أثناء أو بعد التنفيذ، فقد يشترط في العقد أنه عند الخلاف يتم اللجوء إلى التحكيم أو القضاء في بلد معين كفرنسا أو بريطانيا مثلًا، وتجيز القوانين الدولية الاتفاق على مثل ذلك، لكن ما حكم الإقدام على هذا العمل في الشريعة الإِسلامية؟ الحكم الشرعي لاشتراط التحاكم إلى القوانين الوضعية في العقود التجارية: للعلماء المعاصرين في ذلك قولان: 1 - قول يرى حرمة النص في العقود على التحاكم إلى هذه القوانين، لكونها مخالفة لشرع الله، وقد وردت الآيات والأحاديث الكثيرة الدالة على حرمة ذلك ومن هؤلاء العلماء الشيخ محمد بن عثيمين (¬1). 2 - قول يرى أن التحاكم إلى غير شرع الله لا يجوز في حال السعة والاختيار، ولكن الحياة الآن تغيرت وتعددت جوانبها التجارية والاجتماعية، بحيث يتعذر على المسلم أن يجد نظامًا تجاريًا يتحقق به المقصود، ولذلك فإنه يجوز القبول بهذا الشرط وتنفيذ مقتضاه عند وجود ما يدعو لذلك استثناءً للضرورة أو الحاجة، ودليلهم آيات الاضطرار، والمسلم الذي يقبل محتاجًا أو مضطرًا بشرط التحاكم إلى القوانين الوضعية ظاهرًا مع عدم رضاه به في نفسه له مندوحة في ذلك. ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ورسائل (6/ 161).

ويستندون في ذلك إلى بعض القواعد الفقهية ومنها: المشقة تجلب التيسير، وقاعدة: إذا عم الحرام جاز استعمال ما يحتاج إليه ولا يقتصر على الضرورة. وذكروا أن القول بمنع ذلك يؤدي إلى انسداد باب التعامل، وهو يفضي إلى مفسدة كبيرة لا تقرها الشريعة، وممن قال بالتحاكم عند الضرورة فقط الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: "ليس له أن يتحاكم إليهم إلا عند الضرورة، إذا لم يتيسر له الحصول على حقه إلا بذلك" (¬1). وأفتت اللجنة الدائمة للفتوى في السعودية: "بعدم جواز التحاكم إلى القوانين الوضعية إلا عند الضرورة، إذا لم توجد محاكم شرعية" (¬2). الترجيح: نرى أنه لا يجوز التحاكم إلى القوانين الوضعية في العقود التجارية ولا غيرها، وأنه يجب على المسلم التحاكم إلى شريعة الله، وقد يضطر المسلم عند الوقوع في المشكلة إلى التحاكم إلى غير شريعة الله مما يساعده على أخذ حقه ومن ذلك: 1 - أن تكون القضية في بلد لا يحكم بشرع الله، ولو لم يلجأ إلى محاكمها لضاع حقه، فله أن يلجأ إلى القضاء للحصول عليه. 2 - أن يكون تنفيذ المشروع أو المقاولة في بلد لا يحكم الشرع الإِسلامي ونشأت مشكلة، فإن للمسلم أن يلجأ إلى القضاء لأخذ حقه إذا لم يدركه إلا بذلك. وليس من الضرورة أن يتفق المسلم مع غيره من الشركاء أو الشركات على تنفيذ ¬

_ (¬1) الفتاوى (23/ 214). (¬2) الفتوى رقم (19504) وانظر بحث في الموضوع د. حمزة بن حسين الفعر، وهو مقدم إلى مجمع الفقه الإِسلامي بالرابطة في دورته العشرين المنعقد عام 1432 هـ، (ص: 1 - 21).

عقد تجاري في بلد يحكم بالشريعة الإِسلامية ثم يقبل بالعقد ابتداء في أنه حال الخلاف سيتم حله وديًّا، فإن لم يحل فإنه يتم التحكيم أو التحاكم إلى القوانين الوضعية في بلد آخر كفرنسا أو غيرها. ولكن على المسلم أن ينص على أن يكون التحكيم أو التحاكم عند وقوع الخلاف وهو في بلد إسلامي إلى الشريعة الإِسلامية عن طريق محاكمها وقضائها. وبذلك يمكن الجمع بين أدلة القولين؛ القائلين بالمنع للأدلة والأسباب التي أوردوها، والمجيزين لأدلتهم ومبرراتهم، وتوجيه كل منها إلى حاله بعينها. والله أعلم.

المحاماة

المحاماة تناول الفقهاء موضوع المحاماة من خلال الحديث عن الوكالة، حيث إن المحامي يكون وكيلًا عن موكله من مدعٍ أو مدعى عليه، وبينوا ما يطلب فيه. والمحاماة تكون نازلة من حيث تسميتها وإصدار الأنظمة واللوائح المبينة حق المحامي وما له وما عليه، والشروط المطلوب توفرها فيه، وذلك وفق ما جاء في الأنظمة والقوانين المنظمة له، ومن تلك الأنظمة نظام المحاماة في المملكة العربية السعودية الذي صدر بتاريخ 28/ 7 / 1422 هـ وهو يشتمل على ثلاث وأربعين مادة جاء الحديث فيها عن تنظيم عمل المحاماة، وقد جاء في المادة الأولى منه: يقصد بمهنة المحاماة في هذا النظام الترافع عن الغير أمام المحاكم وديوان المظالم واللجان المشكلة بموجب الأنظمة والأوامر والقرارات لنظر القضايا الداخلة في اختصاصاتها ومزاولة الاستشارات الشرعية والنظامية، ويسمى من يزاول هذه المهنة محاميًا. الحكم الشرعي لمهنة المحاماة: يرى بعض العلماء المعاصرين ومنهم الشيخ أبو الأعلى المودودي أن مهنة المحاماة محرمة؛ لأن المحامين لا يهمهم سوى نصرة موكلهم سواء أكان محقًّا أو مبطلًا، ولقد نهى الله عن الخصومة للخائن بقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء: 107]. كما أن فيها الترافع أمام المحاكم التي لا تحكم بشرع الله، وفي هذا التحاكم إلى الطاغوت، والأجر الذي يستحقه المحامي قد يكون مجهولًا وفيه غرر، والشريعة الإِسلامية تمنع الغرر. ويرى أكثر العلماء مشروعيتها، ويستدل لذلك بما ورد من أدلة تبين مشروعية الوكالة بالخصومة (¬1)، ومنها قوله تعالى عن موسى -عليه السلام-: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ ¬

_ (¬1) الفقه الميسر (8/ 16).

التحكيم

أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص: 34]، حيث طلب موسى إرسال هارون معه عونًا له. الترجيح: نرى أن الراجح هو القول بجوازها ومشروعيتها إذا كانت للدفاع عن الحق، وبذلك فإن المانعين يتفقون مع المجيزين لها، وما ورد من أنظمة وقوانين تبين الأساليب والإجراءات اللازمة للقيام بالمهنة إنما هو من باب تحقيق المصلحة فلا مانع منه. والله أعلم. التحكيم: تناول الفقهاء قديمًا التحكيم وبيان أحكامه وشروطه، وإنما جد فيه بعض الأمور التنظيمية بما يلائم مستجدات العصر؛ فلهذا يعد نازلة ينبغي بيان حكمها، وقد صدرت بذلك الأنظمة والقوانين واللوائح التنفيذية له في مختلف الدول حيث جاء نظام التحكيم السعودي في خمس وعشرين مادة بينت الشروط والواجبات، وكذلك الإجراءات المتبعة، وصدرت اللائحة التنفيذية له وتحتوي على ثمان وأربعين مادة بينت كيفية تنفيذ النظام وتوضيح ما يحتاج إلى توضيح. الحكم الشرعي لما يعد نازلة في التحكيم من الأنظمة واللوائح والتنظيم: إن تنظيم التحكيم وفق إجراءات وأساليب معينة يندرج تحت باب المصالح وهو يحقق مصلحةً للفرد والمجتمع والأمة فيكون مشروعًا. وقد جاء قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي رقم 91 (8/ 9) بمشروعية التحكيم سواء أكان بين الأفراد أم في مجال المنازعات الدولية. وبين ما لا يجوز التحكيم فيه، وهو ما كان حقًّا لله تعالى كالحدود، أو ما استلزم الحكم فيه إثبات حكم أو نفيه بالنسبة لغير المتحاكمين ممّن لا ولاية للحكم عليه

كاللعان لتعلق حق الولد به، أو ما ينفرد القضاء دون غيره بالنظر فيه. وبين في البند سادسًا أنه: إذا لم تكن هناك محاكم دولية إسلامية، يجوز احتكام الدول أو المؤسسات الإسلامية إلى محاكم دولية غير إسلامية؛ توصلًا لما هو جائز شرعًا.

النوازل العامة

الفِقهُ الميَسَّر النوازل العامة

توزيع نسخ القرآن الكريم في غرف الفنادق

النَّوازل العامة وهي التي لا تدخل تحت مسمى باب من أبواب الفقه المسماة ومنها: توزيع نسخ القرآن الكريم في غرف الفنادق: يعد توزيع نسخ من القرآن الكريم في غرف الفنادق نازلة؛ حيث لم يكن ذلك موجودًا، ومع انتشار الفنادق في البلاد الإسلامية جدت هذه النازلة، إذ أن أصحاب الديانات الأخرى غير الإسلام يوزعون في الفنادق نسخًا من كتبهم كالتوراة والإنجيل، فهل الأولى توزيع نسخ من القرآن الكريم في غرف الفنادق أو منع ذلك لما يظن من إمكانية امتهان المصحف؟ يرى مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي أنه يجوز توزيع نسخ من القرآن الكريم في غرف الفنادق؛ لأن المصلحة ظاهرة في جعله في غرف الفنادق لتعم منه الفائدة، جاء ذلك في قراره رقم 6 في الدورة السادسة عام 1403 هـ. ونرى أنه يمكن توزيع نسخ من ترجمة معاني القرآن الكريم في الفنادق؛ لأنه قد يقيم في الفنادق غير مسلمين وغير عرب فتكون الفائدة أتم، ولا يكون فيه محذور مس المصحف من غير المتطهر بل وغير المسلم أو امتهان المصحف ممّن لا يقدره قدره. والله أعلم.

الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والبلدية

الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والبلدية الانتخابات هي عملية يدلى فيها الناس بأصواتهم للمرشح أو الاقتراح الذي يفضلونه، وتجري الانتخابات لاختيار المسؤولين في كثير من التنظيمات مثل الجمعيات والنقابات العمالية، والنوادي الرياضية والاجتماعية، وكثير من المؤسسات العامة والخاصة. وهناك نوع آخر من الانتخابات يعرف باسم الاستفتاء للبت في مسائل دستورية أو سياسية مهمة. وتختلف إجراءات ونظم الانتخابات من بلد لآخر، إلا أن هناك أسسًا معينة يجري العمل بها في كثير من البلاد، وينتخب رؤساء الدول والحكومات والهيئات التشريعية على فترات منتظمة. ويحق لكل مواطن تجاوز عمره 18 أو 21 سنة حسب النظام الإدلاء بأصواتهم ما داموا مسجلين ولم يفقدوا هذا الحق لسبب أو آخر (¬1). الحكم الشرعي للانتخابات: 1 - يرى بعض المعاصرين من العلماء ومنهم الألباني والشيخ صالح الفوزان وغيرهم أن الانتخابات غير جائزة؛ لأنها تقوم على أساس غير إسلامي، ولأنها تجعل الاختيار لكل الناس والاختيار في الإسلام إنما هو لأهل الحل والعقد. 2 - يرى عامة العلماء المعاصرين ومنهم الشيخ عبد العزيز بن باز (¬2)، والشيخ د. يوسف القرضاوي (¬3)، والشيخ عبد الله بن جبرين وغيرهم أن الانتخابات جائزة، ¬

_ (¬1) الموسوعة العربية العالمية (3/ 160)، (انتخابات). (¬2) مجلة لواء الإسلام العدد الثالث ذو القعدة 1409 هـ. (¬3) مشاركة المسلم في العمل السياسي موقع القرضاوي على الإنترنت.

وتحقق المصلحة للمسلمين، وهي من النوازل التي جدت في العصر الحاضر؛ نتيجة لكثرة الناس، وعدم إمكانية الإحاطة باختياراتهم إلا عن طريق الانتخابات، ولا يمنع إن كانت تطبق في بلاد غير إسلامية، فالحق ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، ويرى الشيخ ابن جبرين أهمية ذلك واختيار الأفضل من المرشحين من أهل الخبرة والمعرفة والصلاحية (¬1). الترجيح: نرى أن الانتخابات جائزة، وأنها تحقق مصلحة راجحة للمسلمين سواء أكانوا في بلادهم أم في بلاد غير إسلامية، بل يرى الشيخ محمَّد بن عثيمين (¬2) أن الدخول في الانتخابات واجب للسعي إلى تعيين من فيه خير وإبعاد أهل الشر وذلك باختيار من يراه المسلم صالحًا للقيام بذلك. ¬

_ (¬1) حكم الانتخابات البلدية والولائية للشيخ ابن جبرين، موقع الإسلام. (¬2) لقاء الباب المفتوح شريط 211.

تطبيق فقه الشورى في الوقت المعاصر

تطبيق فقه الشورى في الوقت المعاصر الشورى لغة: مصدر من شار العسل: استخرجه من الخلية (¬1). والشورى عملية يستخرج بها الآراء المتعددة في الأمر المعروض على من يحسن ذلك، قال البدر العيني: وحاصل معنى شاورته: عرضت عليه أمري حتى يدلني على الصواب فيه (¬2). والشوري اصطلاحًا: قال ابن العربي هي: الاجتماع على الرأي ليستشير كل واحد صاحبه ويستخرج ما عنده. وقد عرفها بعض المعاصرين بأنها: النظر في الأمور من أرباب الاختصاص والتخصص؛ لاستجلاء المصلحة المقصودة شرعًا وإقرارها (¬3). الفرق بين الشورى والديمقراطية: يرى بعض علماء العصر أن فيه اختلافًا بين الشورى والديمقراطية، فالديمقراطية كما هي عند غير المسلمين تستند على مبدأ أن الشعب هو صاحب السيادة ومصدر الشرعية، فالسلطة في النظام الديمقراطي هي للشعب؛ ذلك أن كلمة الديمقراطية مركبة من كلمتين يونانيتين هما ديموس، أي: الشعب، وكراتوس أي: الحكم ومعناها: حكم الشعب، أما الشورى فإنها تستند على أن الحكم في الشورى هو الكتاب والسنة، وهي مبدأ من مبادئ الإسلام في الحكم، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38]، وهو تشريع رباني تقوم عليه الدولة الإسلامية في كل شؤونها، وهي ¬

_ (¬1) لسان العرب لابن منظور مادة (شور). (¬2) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بدر الدين العيني المتوفى سنة 855 هـ (24/ 269) دار الفكر. (¬3) نظام الشورى في الإسلام ونظم الديمقراطية المعاصرة د. زكريا عبد المنعم الخطيب (ص: 16).

ملزمة بذلك شرعًا. لكن نقول: إن الشورى مبدأ عام وقاعدة أساسية في الحكم والتطبيق يختلف من عصر لآخر ومن مكان لغيره، ولا نرى مانعًا في اتخاذ الديمقراطية أو غيرها أسلوبًا تنفيذيًّا لمبدأ الشورى شريطة أن يكون مصدر الحكم الكتاب والسنة وليس الشعب أو من يمثله، لكن يمكن أن يكون للشعب أو من يمثله دور فيما يتعلق بالتشريعات المبنية على المصالح المرسلة مما لا يعارض كتابًا ولا سنة وهو مما يقتضيه التطور في حياة البشرية.

المواطنة في الإسلام

المواطنة في الإسلام المواطنة: اصطلاح يشير إلى الانتماء إلى أمة أو وطن، ويعني ذلك الجنسية. وتسبغ المواطنة حقوقًا وواجباتٍ معينة على المواطنين تشمل حق التصويت وشغل الوظائف العامة، وواجبات تناط بالمواطنين مثل دفع الضرائب، والدفاع عن وطنهم (¬1). الحكم الشرعي لذلك: إن مفهوم المواطنة قد أرسي في الإسلام حيث تشير الصحيفة التي كتبها الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما قدم المدينة المنورة، التي تعد أول دستور في الإسلام، وقد حددت الصحيفة العلاقة بين سكان المدينة المنورة من المسلمين وغيرهم من اليهود، وبينت الحقوق والواجبات، وحققت لهم العدل والمساواة. وبهذا يتضح أن الإسلام يؤيد مبدأ حق المواطنة وما يبنى عليها من حقوق وواجبات، وهو يحقق المصلحة للفرد والمجتمع وللأمة، ولا يترتب عليه مفاسد. والله أعلم. ¬

_ (¬1) الموسوعة العربية العالمية (24/ 320)، (المواطنة).

حقوق الإنسان في الإسلام

حقوق الإنسان في الإسلام تعريف الحقوق في اللغة: قال الجوهري: الحق خلاف الباطل (¬1)، وقال الفيروز آبادي (¬2): الحق من أسماء الله تعالى أو من صفاته، والقرآن، وضد الباطل، والأمر المقضي والعدل، والموجود الثابت وهو واحد الحقوق، والحق هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره. واصطلاحًا: هي مجموعة القواعد والنصوص التشريعية التي تنظم على سبيل الإلزام علائق الناس من حيث الأشخاص أو الأموال. ويستحق الشخص تلك الحقوق بصفته إنسانًا، ويجب أن يتمتع بها منذ ولادته، فمن حق كل إنسان العيش بعزة وكرامة وحرية دون خوف من التعرض إلى الظلم والقمع والمهانة، وانتقاص أي حق منها يعتبر انتقاصًا من إنسانية الشخص وانتهاكًا لكرامته. لقد سبقت الشريعة الإسلامية كافة المواثيق والإعلانات الدولية لحقوق الإنسان في بيان تلك الحقوق وتطبيقها فنعمت الشعوب الإسلامية وغيرها بالعدل والحرية والمساواة. إن حقوق الإنسان الصادرة من الهيئات الدولية إنما هي جهد بشري جاء متأخرًا عن إقرارها والعمل بها في الإسلام، وهي جهد مشكور ينبغي تطبيقه والالتزام به من كافة الدول دون تمييز، وتعد تلك الحقوق متماشية مع الشريعة الإسلامية فيما يحقق المصلحة ولا يعارض نصًّا شرعيًّا، وقد استفاد واضعوها من التعاليم الإسلامية ولا سيما إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي أصدرته الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، وإن قانون نابليون الفرنسي قد تأثر في قواعده العامة ومبادئه بالفقه المالكي الذي كان منتشرًا في بلاد المغرب العربي التي كانت على تواصل مع فرنسا في ذلك العصر. ¬

_ (¬1) مختار الصحاح للرازي مادة (حق). (¬2) القاموس المحيط للفيروز آبادي مادة (الحق) (3/ 221) دار الفكر بيروت.

وقد صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بتاريخ 15/ 12 / 1948 م عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وجاء في ثلاثين مادة لا تتعارض مع ما جاء به الإسلام من مبادئ وقواعد إلا في ناحيتين إحداهما: ما جاء في المادة السادسة عشرة رقم (1) للرجل والمرأة متى بلغا سن الزواج حق التزويج وتأسيس أسرة دون قيد بسبب الجنس أو الدين، ولهما حقوق متساوية عند الزواج وأثناء قيامه وعند انحلاله. وذلك في قوله: "وتأسيس أسرة دون قيد بسبب الجنس أو الدين"؛ ذلك أن الإسلام لا يجيز زواج المسلمة بغير المسلم، لما للزواج من تأثير على دين الزوجة عقيدة وشريعة، ولما للزوج من حقوق على زوجته قد تؤدي إلى الإخلال بحق الله. كما أن المسلم لا يجوز له الزواج بغير المسلمة والمحصنة من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) فلا يجوز زواجه من امرأة تعتنق أي دين أو نحلة غير ذلك؛ لما يؤدي إليه ذلك من التأثير على الأولاد عقيدة وسلوكًا والتزامًا بشعائر الإسلام. وثانيتهما: هو ما جاء في المادة الثامنة عشرة وهي: قوله: "لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته ... " إلى آخر ما جاء فيها. وهي قد أعطت الحق للشخص في تغيير دينه أو عقيدته، وهذا مخالف للإسلام؛ حيث إن الإسلام يتيح الدخول إليه بالرغبة دون إكراه {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]. ودخوله يعني قناعته بدين الإسلام، فإذا فعل ذلك فإنه لا يجيز له تركه بعد أن عرفه واقتنع فيه بل يعتبر مرتدًّا تطبق عليه أحكام الردة. وهذه الصرامة والحزم مع من دخل في الإسلام تجعله يفكر كثيرًا ويتأنى عند دخوله في الإسلام، فلا يقدم عليه إلا عن قناعة تامة ولو ترك الأمر كما جاء في المادة المذكورة لأصبح التدين لعبة يتخذها المرء متى شاء ويتركها متى شاء، ولما لهذا الارتداد من تأثير على عامة الناس من تشكيكهم في دينهم وعقيدتهم كما جاء عن اليهود في أول

الإسلام: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72]. قال ابن سعدي: أي ادخلوا في دينهم على وجه المكر والكيد أول النهار، فإذا كان آخر النهار فاخرجوا منه لعلهم يرجعون عن دينهم فيقولون: لو كان صحيحًا لما خرج منه أهل العلم والكتاب. وكذلك قوله في عجز المادة: "وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سرًّا أم مع الجماعة". حيث أجاز النص إقامة شعائر الدين أي دين، جماعة، وذلك غير جائز في جزيرة العرب؛ لأن التوجيه النبوي الكريم الذي رواه مالك (¬1) عن ابن شهاب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال؛ "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب". فهي مركز الإسلام وخاصته، فلا يجوز أن تقام فيها الشعائر جماعة غير شعائر الإسلام، كما أن الفاتيكان لا يقام فيها غير دين النصارى. ¬

_ (¬1) رواه مالك في الموطأ (1651)، ورواه الإمام أحمد في مسنده (6/ 272).

علاقات الدول الإسلامية بغيرها وبالمواثيق الدولية

علاقات الدول الإسلامية بغيرها وبالمواثيق الدولية الإسلام دين صالح لكل زمان ومكان، فهو يولي العلاقات بين دوله وشعوبه عناية تامة، بحيث يكونون كالجسد الواحد، وأمة واحدة ترعى شؤونها ومصالحها الدينية والدنيوية، وهو يهتم كذلك بالتعامل مع الأمم والشعوب الأخرى، فهو يبني علاقات طيبة تقوم على السلام والاحترام المتبادل، والتعاون فيما يحقق المصالح المشتركة دون التدخل في الشؤون الداخلية لأمة الإسلام أو الدول الأخرى. إن الدولة الإسلامية جزء من هذا العالم، ولا يمكن أن تعيش منفردة لوحدها، بل تبني علاقاتها وتعاملاتها بما يحقق العزة والكرامة لها حكومةً وشعبا، وهي لا تعادي غيرها لاختلاف الدين بينهما، وإنما تسالم من سالمها وتعادي من يعاديها. ويجوز للدولة الإسلامية الدخول في المعاهدات وإبرام الاتفاقيات الثنائية أو الدولية بما لا يتعارض مع مبادئ الإسلام وأحكامه، وبما لا يؤدي إلى هيمنة أي قوة دولية، أو تدخلها في شؤون الدول الإسلامية، وإنما التساوي في الحقوق والالتزامات دون وهن أو ضعف. وقد جاء الكلام عن ذلك في قرار المجمع الفقهي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورته السابعة عشرة في عمان بالأردن عام 1427 هـ.

التسجيل العيني للعقار

التسجيل العيني للعقار يقصد بالتسجيل العيني للعقار: الطريقة التي تجعل من الوحدة العقارية محل الحق أساسًا لقيد الحقوق العقارية، بحيث تخصص صحيفة في السجل العقاري لكل وحدة عقارية توصف فيها الوحدة وصفًا دقيقًا، من حيث موقعها ومساحتها وطبيعتها، وتبين فيها الحقوق والالتزامات الواردة عليها. وقد صدرت بذلك أنظمة في مختلف الدول، ومنها المملكة العربية السعودية، حيث صدر نظام التسجيل العيني للعقار في ثمان وسبعين مادة، وبين النظام الاختصاصات وإجراءات القيود والأحكام الانتقالية والجزاءات، ثم صدرت لائحته التنفيذية في ثلاثمائة مادة، وهي تبين النظام وتفسره وتوضح الطريقة والإجراءات التي يتم بها التسجيل وأهميته وأسباب اكتساب الحقوق العينية. إن هذا النظام وما صدر له من لائحة تنفيذية إنما وضع لمصلحة المجتمع وتنظيم ما يخص العقارات وضبطها لمالكيها، وهو يحقق مصلحة ظاهرة، فعلى المسلم الالتزام به وتنفيذه، إذ هو يندرج تحت باب المصالح المرسلة التي يجوز لولاة الأمر عمل ما يحقق مصلحة الفرد والمجتمع والأمة من خلالها ما لم يخالف نصًّا شرعيًّا.

تجنس المسلم بجنسية دولة غير إسلامية

تجنس المسلم بجنسية دولة غير إسلامية الجنسية: هي مصطلح سياسي جديد، وهي حق الإنسان في أن يكون عضوا في بلد ما وهذا هو التفسير القانوني للكلمة. وتكتسب الجنسية عند الولادة وفقًا لأحد المبدأين: الأول: مبدأ حق الدم الذي يعطي للطفل جنسية أحد الوالدين، وغالبًا ما تكون جنسية الوالد، أما المبدأ الثاني فهو حق مسقط الرأس الذي يجعل من الفرد مواطن البلد الذي ولد فيه (¬1). الجنسية المكتسبة: هي العملية القانونية التي يكتسب من خلالها الأجنبي جنسية الدولة الأخرى التي يريد الانتماء إليها، وتضع كل دولة مجموعة من الشروط التي يجب استيفاؤها لاكتساب الجنسية. الجنسية المزدوجة: يحمل بعض الأشخاص جنسية دولتين، ويطلق على هذه الحالة الجنسية المزدوجة، ويكتسب بعض الأشخاص الجنسية المزدوجة بالميلاد ويكتسبها بعضهم نتيجة للتجنس، وهناك دول تسمح لمواطنيها الاحتفاظ بجنسياتهم الأصلية مع الجنسية التي اكتسبوها، كما تمنع بعض الدول مواطنيها من الجمع بين الجنسيتين (¬2). الحكم الشرعي لذلك: إن المواطن المسلم في البلد غير الإسلامي يعد أصلي الجنسية وعليه التمسك بدينه، وأن يكون قدوة حسنة لغيره، وعليه بيان محاسن الدين الإسلامي، وألا يذوب في المجتمع من حوله، وعليه التمسك بحقوقه والتعاون مع المسلمين في المطالبة بحقوقهم وأداء واجباتهم. ¬

_ (¬1) الموسوعة العربية العالمية (8/ 501). (¬2) الموسوعة العربية العالمية (24/ 321).

أما من كانت جنسيته لبلد إسلامي ويريد الحصول على جنسية بلد غير إسلامي، فإن ذلك لا يخلو من حالات وتفصيلها كما يأتي: 1 - أن يكون طلبه وحصوله على جنسية البلد غير الإسلامي لمجرد الحصول على منافع الدنيا لا غير، وذلك لا يجوز حيث يخشى عليه التأثر في دينه وانتمائه الإسلامي، وما يترتب على ذلك من خطر على أولاده وأهله، ورغبته عن المسلمين، وفي بلاد المسلمين غنية عن غيرها في طلب الرزق والمنافع. 2 - أن يكون حصوله على الجنسية لهدف أسمى، وذلك حرصًا على الدعوة للإسلام، وهو يملك أسباب ذلك من العلم النافع والعمل الصالح، فهذا جائز بل يكون مستحبًّا له، فلعل الله أن يهدي على يديه غيره للإسلام، فقد جاء في الحديث: "فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم" (¬1). 3 - أن يكون حصوله على الجنسية لمصلحة أمته بحيث يتمكن من العلم والخبرة في العمل بما يعود على المسلمين بالمصلحة والخير في حاضرهم ومستقبلهم، فهذا جائز على أن يتمسك بدينه وأخلاقه، وأن يراعي عدم الذوبان في تلك المجتمعات، وأن يعود إلى أمته ليؤدي دوره في نهضتها وتقدمها. 4 - أن يكون حصوله على الجنسية مضطرًّا لذلك، كما لو كان هاربًا من الظلم ويخاف على دينه أو نفسه ونحو ذلك، فهذا يجوز له الحصول على الجنسية مع مراعاة التمسك بدينه وأخلاقه هو ومن يرعاه من أهل وأولاد، وإظهار شعائر دينه دون خوف، وعليه أن يرجع إلى موطنه الأصلي متى ما زال السبب الذي أدى إلى هجرته وهربه وحصوله على الجنسية لتلك الدولة. جاء عن الشيخ عبد الله بن جبرين في الفتوى رقم (6247) قوله: من اضطر إلى طلب جنسية دولة كافرة لمطاردة من بلده ولم يجد مأوى؛ فيجوز له ذلك بشرط أن يظهر ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ عن سهل بن سعد ورقمه (4210)، وأخرجه مسلمٌ عنه كذلك برقم (6223).

دينه ويكون متمكنًا من أداء الشعائر الدينية، وأما الحصول على الجنسية من أجل مصلحة دنيوية محضة فلا أرى جوازه. والله أعلم. وجاء عن اللجنة الدائمة للفتوى في السعودية في الفتوى رقم (2393): لا يجوز لمسلم أن يتجنس بجنسية بلاد حكومتها كافرة؛ لأن ذلك وسيلة إلى موالاتهم، والموافقة على ما هم عليه من الباطل، لكن من أقام من أهل العلم والبصيرة في الدين بين المشركين لإبلاغهم دين الإسلام ودعوتهم إليه، فلا حرج عليه إذا لم يخش الفتنة في دينه، وكان يرجو التأثير فيهم وهدايتهم. وجاء عن مجمع الفقه التابع للرابطة بمكة المكرمة قوله في الموضوع: وقد رأى المجلس أن الموضوع تحف به الاعتبارات المختلفة من سلبية وإيجابية ومصالح ومفاسد وضرورات وعدمها؛ مما يجعل من غير الممكن إصدار رأي عام، وإنما يجب فيه رعاية وضع كل فئة وواقعها وظروفها بحسبها.

خدمة المسلم في جيش غير إسلامي ومشاركته في القتال

خدمة المسلم في جيش غير إسلامي ومشاركته في القتال توجب كثير من الدول على مواطنيها الخدمة الإجبارية في الجيش، وإذا كان المسلم أحد مواطنيها فهل يجوز له الخدمة في الجيش والمشاركة في القتال؟ الحكم الشرعي لذلك: إذا أخذ المسلم جنسية بلد غير إسلامي، كما إذا كان مواطنًا أصليًا، أو بالتجنس، فإنه لا يجوز له العمل في الجيش، إلا إذا كان ذلك ضرورة من حيث كون التجنيد إجباريًّا، وعليه إذا التحق بالجيش ألا يحارب معهم المسلمين مطلقًا، فإن حارب فهو آثم إن قتل أحدًا، وعليه الوعيد الشديد بقتل المؤمن، ولا يجوز أن يحارب غيرهم إذا كان ذلك اعتداءً وظلمًا، وعليه المحافظة على دينه وأخلاقه، وأن يكون مثالًا حيًّا للمسلم الصادق عسى الله أن يهدي به أحدًا ممّن يعمل معهم. والله أعلم.

مقاطعة المنتجات والبضائع الواردة من الدول المعادية

مقاطعة المنتجات والبضائع الواردة من الدول المعادية مقاطعة المنتجات تكون بالتوقف عن شراء البضائع والمنتجات بأنواعها من الدول المعادية للإسلام والمحاربة له، كدولة اليهود في فلسطين ومن يدعمها في حربها على المسلمين. إن الحصار الاقتصادي كان موجودًا عبر التاريخ سواء أكان بالبيع للعدو أو الشراء منه، ثم حدث ذلك في أول الإسلام عندما منع الصحابي الجليل ثمامة بن أثال -رضي الله عنه- قومه في اليمامة من تصدير القمح إلى المشركين في مكة حتى يأذن رسول - صلى الله عليه وسلم -، فكتبت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فكتب إلى ثمامة أن يخلي بينهم وبين التصدير إليهم. إن مقاطعة المنتجات والبضائع الواردة من الدول المعادية كإسرائيل ومن يدعمها أمر مشروع، وهو من الحرب الاقتصادية، وقد كان العرب يقاطعون بعض الشركات التي تدعم اليهود في فلسطين على أهل فلسطين، وكان لها أثر كبير من حيث وقوع تلك الشركات المقاطعة في خسائر كبيرة، وقد أفتى كثير من علماء العصر بأهميتها ومنهم الشيخ ابن عثيمين حيث قال (¬1): المسلمون لو قاطعوا كل أمة من النصارى تساعد الذين يحاربون إخواننا، لكان له أثر كبير، ولعرف النصارى وغير النصارى أن المسلمين قوة، وأنهم يد واحدة. وجاء عن الشيخ ابن جبرين قوله (¬2): وعلى المسلمين أن يقاطعوا بترك التعامل معهم، وبترك شراء منتجاتهم، ففي ذلك إضعاف لاقتصادهم. ونقل عن الشيخ الألباني (¬3): أما إذا كانوا محاربين فلا يجوز التعامل معهم سواء كانوا في الأرض التي احتلوها كاليهود في فلسطين أو كانوا في أرضهم ما داموا أنهم لنا من المحاربين، فلا يجوز التعامل معهم إطلاقًا، أما من كان مسالمًا فهو على الأصل جائز. ¬

_ (¬1) فتوى للشيخ محمَّد بن عثيمين بتاريخ 24/ 5 / 2004 م الموقع الذهبي للإسلام. (¬2) فتوى للشيخ ابن جبرين بتاريخ 27/ 7 / 1421 هـ صادرة من مكتبه. (¬3) انظر فتوى الألباني في الموضوع ذاته في الموقع نفسه.

وبذلك قال الشيخ د. يوسف القرضاوي حيث جاء في موقعه على الإنترنت: هناك جهاد اقتصادي وهو أن تفعّل الفتوى التي أصدرتها وأصدرها معي عدد من علماء الأمة بتحريم التعامل مع البضائع الإسرائيلية والأمريكية، مقاطعة البضائع الإسرائيلية والأمريكية هذا واجب الأمة. وترى اللجنة الدائمة للفتوى بالسعودية جواز المقاطعة إذا كانت صادرة من ولي أمر المسلمين فهو الذي يقدر المصلحة في ذلك، جاء ذلك في الفتوى رقم 21776 بتاربخ 25/ 12 / 1421 هـ. وهذه المقاطعة من التعاون بين المسلمين على البر والتقوى، لكن ينبغي كي تؤتي ثمارها أن تكون مدروسة من حيث كيفية تنفيذها، وماذا يترتب عليها، وتكون مقرة من علماء البلد الذي يريد القيام بتلك المقاطعة حتى تؤدي النتائج والفوائد المراد تحقيقها. والله أعلم.

الحداد على الزعماء وكبار الشخصيات

الحداد على الزعماء وكبار الشخصيات تعتاد الدول اليوم عند موت ملك أو رئيس أو شخصية مهمة أن تقيم الحداد عليه أيامًا قد تطول أو تقصر وفق ما يرونه لائقًا به، وتنكس الأعلام، وقد تعطل الأعمال والدراسة. الحكم الشرعي لذلك: لا يجوز الحداد عند موت ملك أو رئيس أو شخصية مهمة، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحداد مطلقًا، واستثنى من ذلك الزوجة في الحداد على زوجها أربعة أشهر وعشرًا، وكذلك للمرأة أن تحد على قريبها ثلاثة أيام فأقل. فقد جاء في الحديث الذي روته أم حبيبة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا" (¬1). وقد مات في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - قادة غزوة مؤته: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة -رضي الله عنهم- ولم يحد عليهم، ثم توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أفضل الأنبياء والرسل وأشرف الخلق، وموته أعظم المصائب على الأمة ولم يحد عليه الصحابة، ثم مات أبو بكر الصديق وقتل عمر وعثمان وعلي، وهم أفضل الخلق بعد الأنبياء فلم يحد عليهم الصحابة، ومات الصحابة ولم يحد عليهم التابعون، ومات علماء الإسلام الكبار، كسعيد بن المسيب، وعلي بن الحسين زين العابدين، والإمام أبو حنيفة، ومالك والشافعيُّ وأحمدُ وغيرهم فلم يحد عليهم المسلمون فدل ذلك على أن الحداد غير مشروع، ولا يجوز أن يعمله المسلمون، وقد جاءت الفتوى بذلك عن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري برقم (5334)، ومسلمٌ برقم (3725). (¬2) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، الشيخ ابن باز (22/ 229) طبع رئاسة البحوث والإفتاء الطبعة الأولى 1427 هـ.

مشاركة المرأة في العمل السياسي

مشاركة المرأة في العمل السياسي خلق الله الرجل والمرأة لعمارة الأرض والتزود من الدنيا للآخرة، وجعل كلًّا منهما يكمل الآخر في تأدية رسالته في الحياة. وقد كانت الحياة العامة فيما مضى تجعل دور الرجل في الأمور العامة من سياسة وإدارة وتولي الولايات العامة والخاصة، وكانت المرأة تقوم بدورها الأساسي في تربية النشء والقيام بالأعمال المكملة لذلك. وفي هذا العصر نتيجة للتطور البشري في كل المجالات، ومنها المجال السياسي جدت أمور تتطلب بحثها ودراستها وإبداء الحكم الشرعي لها، كنازلة من النوازل التي نزلت بالأمة، ومن ذلك مشاركة المرأة في العمل السياسي ومدى جواز قيامها بذلك، وقد اختلف علماء العصر في ذلك بناء على اختلافهم في جواز تولي المرأة ولاية عامة وذلك على النحو الآتي: 1 - ذهب بعض من المعاصرين إلى أنه لا يجوز للمرأة أن تتولى ولاية وذلك لحديث: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" (¬1)، وهذا يتفق مع رأي الجمهور من فقهاء الشافعية والمالكية والحنابلة في عدم جواز تولي المرأة القضاء. ولأن المرأة لها رسالة ودور في الحياة يختلف عن دور الرجل بحيث يكمل دور كل منهما الآخر. 2 - وذهب بعضهم؛ ومنهم مفتي مصر نصر فريد واصل إلى أنه يجوز للمرأة أن تتولى ولاية خاصة، وتمارس من العمل ما يناسب ويلائم تكوينها، وبناء عليه فتتولى كل الأعمال ما عدا القضاء والإمامة والرئاسة؛ لأنها من الولاية العامة، وذلك لأن الحديث جاء بمناسبة تولي ابنة كسرى رئاسة قومها فيقتصر على ما ورد فيه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريُّ في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى ورقمه (4425).

3 - وذهب آخرون غيرهم ومنهم المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث إلى أنه يجوز أن تتولى المرأة الأعمال العامة والعمل السياسي انتخابًا وترشيحًا؛ لأن الإسلام قد جعل المرأة شقيقة الرجل ومساوية له في الإنسانية وفي حمل أمانة الله وفي تكامل الحقوق والواجبات، قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، وقيام المرأة بتلك الأعمال مشروط بأن يكون وفق أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وآدابها في جميع الأحوال. واستدل المجيزون بأن المبايعة التي جاءت بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ ...} الآية [الممتحنة: 12]، وهذه البيعة بمثابة عملية انتخابية وهي من العمل السياسي (¬1). وبقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ...} [التوبة: 71]. وهي تجعل النساء والرجال سواء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من الحسبة والحسبة من الولاية العامة. ¬

_ (¬1) ويرى الدكتور عبد الله الطيار أنه لا يجوز تولية المرأة العمل السياسي مطلقا.

المظاهرات والاعتصامات

المظاهرات والاعتصامات المظاهرات في اللغة: يقال: ظاهر فلانًا عاونه، وتظاهروا: تعاونوا وتجمعوا ليعلنوا رضاهم وسخطهم عن أمر يهمهم. الاعتصامات: يقال: اعتصم به، امتنع به ولجأ، ومنه اعتصام الطلبة ونحوهم بمعهدهم لا يعملون ولا يخرجون حتى يجابوا إلى ما طلبوا (¬1). واصطلاحًا: المظاهرات: تجمع مجموعة من الناس في مكان وبيان طلباتهم. والاعتصامات: هي تواجد مجموعة من الناس وبقاؤهم في مكان لا يعملون ولا يتركون المكان حتى تتحقق مطالبهم. الحكم الشرعي للمظاهرات والاعتصامات: أولًا: يرى بعض العلماء المعاصرين ومنهم الشيخ يوسف القرضاوي والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في بيانه الذي أصدره بتاريخ 26/ 11 / 2008 م أن المظاهرات والاعتصامات السلمية جائزة، وحق للمسلمين ولغيرهم من البشر إذا كانت سلمية ولا يترتب عليها ارتكاب محرم من قتل أو تخريب أو غيرها. ثانيًا: ويرى بعض العلماء ومنهم الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمَّد بن عثيمين (¬2)، وهيئة كبار العلماء في السعودية وفقًا لما جاء في بيانها الصادر يوم الأحد ¬

_ (¬1) المعجم الوسيط مادة (ظهر) ومادة (عصم). (¬2) مجلة البحوث الإسلامية العدد 38 (ص: 210)، والجواب الأبهر لفؤاد سراج (ص: 75).

1/ 4 / 1432 هـ حيث جاء فيه: أن المظاهرات والاعتصامات غير جائزة لما يترتب عليها من مفاسد وأضرار. أدلة كل من القولين: أولًا: يستدل القائلون بالجواز بما يأتي: 1 - أن المظاهرات والاعتصامات من أمور العادات وشؤون الحياة المدنية والأصل في هذه الأمور هو الإباحة إلا ما جاء الدليل الشرعي بمنعه، ولم يأت دليل شرعي بمنعها فتبقى على الأصل، ولا يطلق على تلك الأمور بدعة؛ لأنها ليست من العبادات، وإنما هي من العادات، والعادات تنطلق من حاجات الناس في كل زمان ومكان، وما دامت تحقق مصلحة ولا يترتب عليها مفسدة فلا مانع منها، وقد أنشأ عمر -رضي الله عنه- الدواوين والأمصار وغيرها وأنشأ المسلمون نظام الحسبة. 2 - أن في المظاهرات والاعتصامات السلمية تعاونًا على الخير وتكاتفًا في دفع الظلم، والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. 3 - أن كون هذه المسيرات والاعتصامات قد نشأت عند غير المسلمين لا يمنع الأخذ بها، فكل مفيد لا يعارض نصًّا شرعيًّا من حق المسلمين الأخذ به، فالحق ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، وقد اقتبس المسلمون أشياء من غيرهم لتنظيم حياتهم، وهكذا الحضارات يستفيد بعضها من بعض على مدار التاريخ بما يحقق مصالح شعبها وينظم شؤونها، وهي تندرج تحت قاعدة المصالح المرسلة. 4 - أن للوسائل أحكام المقاصد، فإذا كان المقصد مشروعًا في هذه الأمور فإن الوسائل إليه تأخذ حكمه، ومن ذلك هذه المسيرات والتظاهرات، إن كان خروجها لتحقيق مقصد مشروع؛ كأن تنادي بتحكيم الشريعة أو بإطلاق سراح المعتقلين بغير تهمة حقيقية أو بتحقيق مطالب للناس، مثل توفير الخبز أو الزيت أو السكر أو غير ذلك من الأهداف المشروعة فإن مثل هذا جائز.

5 - أنه قد حدث في عهد النبوة، وعندما أسلم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، حيث طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: يا رسول الله: ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن، فأخرجناه في صفين حمزة في أحدهما وأنا في الآخر، له كديد ككديد الطحين، حتى دخلنا المسجد قال: فنظرت إليّ قريش وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها، فسماني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ الفاروق، وهذا الذي حدث مسيرة من بيت الأرقم إلى المسجد الحرام، وهو يدل على مشروعية ذلك. 6 - أن في المظاهرات والاعتصامات السلمية أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، حيث يكون عن طريقها تحقيق ما فيه الخير للأمة وإبعاد المنكر، من الظلم والعدوان وضياع الحقوق، ولكل زمان ما يناسبه من الأساليب والطرق المؤدية إلى الخير والصلاح، والله تعالى يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، وفي الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" (¬1). 7 - أن الصحابة الأجلاء طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم أجمعين قد خرجوا بمسيرة إلى العراق لمطالبة علي بن أبي طالب بدم عثمان بن عفان -رضي الله عنهما-، وقد خرج معهم غيرهم، وقد اشتهر ذلك بين الصحابة ولم ينكر أحد عليهم، وهو يدل على مشروعية المسيرة في المظاهرات. 8 - إن إعادة الحقوق وإزالة المنكرات عن طريق المظاهرات والاعتصامات السلمية أسرع وأكثر تجاوبًا من غيرها كما هو شاهد الحال، كما حدث في جنوب أفريقيا وفي تونس ومصر وغيرها. ¬

_ (¬1) رواه مسلم ورقمه (177).

ثانيًا: يستدل القائلون بالمنع بما يأتي: 1 - أن المظاهرات والاعتصامات ليست وسيلة شرعية بل تشمل كثيرًا من المحرمات من قتل وتخريب وإفساد. 2 - أن المظاهرات والاعتصامات بدعة مستحدثة أول من فعلها الغرب وقد نهينا عن اتباع اليهود والنصارى. 3 - أنها باب للخروج على الحكام وفتح لباب الفتنة وفي ذلك من المفاسد الشيء الكثير. 4 - أن الأحاديث التي استدل بها المجيزون للمظاهرات والاعتصامات السلمية كانت قبل الهجرة والعمدة في الأمر والنهي على ما استقرت به الشريعة بعد الهجرة. 5 - أنها تكون سببًا في حدوث الشغب والفوضى ومنح فرص للمفسدين والمخربين. 6 - أن المحافظة على الجماعة من أعظم أصول الإسلام قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يد الله مع الجماعة" (¬1)، وذلك لما يترتب على اجتماع الكلمة ووحدة الصف من مصالح كبرى، وما يترتب على فقدها من مفاسد عظمى يعرفها العقلاء ولها شواهد في القديم والحديث. التوفيق بين الأدلة: إن كلًّا من المانعين والمجيزين قد ذكر أدلةً وأسبابًا يستند إليها في قوله. ونرى في هذا الشأن أن يترك تقدير الجواز من عدمه لعلماء كل بلد، فهم أدرى بما ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذيُّ وقال: حديث غريب لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه ورقمه (2166).

يصلحه ويحقق له الخير وما يؤدي إلى الفساد، وذلك انطلاقًا من مبدأ تقدير المصالح والمفاسد، والأخذ بأعلى المصالح وارتكاب أدنى المفاسد عند التعارض. وفي المملكة العربية السعودية فإنها لا تجوز المظاهرات ما دام أنها قائمة على الكتاب والسنة والبيعة ولزوم الجماعة والطاعة كما جاء في بيان هيئة كبار العلماء فيها (¬1). ¬

_ (¬1) البيان منشور في وسائل الإعلام المختلفة ومنها الإنترنت، فمن رغب الاطلاع عليه فليرجع إلى موقع رئاسة الإفتاء وأمانة هيئة كبار العلماء في السعودية.

إقامة الأحزاب السياسية وتعددها

إقامة الأحزاب السياسية وتعددها الحِزْب: يطلق على الجماعة فيها قوة وصلابة، وكل قوم تشاكلت أهواؤهم وأعمالهم، وحزب الرجل أعوانه وجمعه أحزاب (¬1). والحزب: منظمة سياسية من الناخبين ورجال السياسة يعملون مجتمعين بغية الوصول إلى الحكم وتوجيه سياسة الدولة وإدارتها. ويقصد بذلك إنشاء الأحزاب السياسية والموافقة على تعددها، وهي نازلة من النوازل التي قد جدت في هذا العصر وتتطلب حكمًا شرعيًّا لها. الحكم الشرعي لذلك: أولًا: يرى كثير من العلماء المعاصرين أنه لا يجوز إقامة الأحزاب السياسية وتعددها؛ لأن فيها تفريقًا للأمة، وممن قال بذلك أعضاء اللجنة الدائمة للفتوى في السعودية برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-، وذلك في الفتوى رقم 1674 وتاريخ 7/ 10 / 1397 هـ؛ حيث جاء فيها لا يجوز أن يتفرق المسلمون في دينهم شيعًا وأحزابًا. ومنهم الشيخ محمَّد بن عثيمين حيث جاء عنه: ليس في الكتاب والسنة ما يبيح تعدد الجماعات والأحزاب بل فيه الذم لذلك (¬2). ثانيًا: ويرى بعض العلماء ومنهم الشيخ يوسف القرضاوي ومجمع فقهاء الشريعة بأمريكا أنه يجوز إقامة الأحزاب السياسية وتعددها؛ لأن ذلك من باب السياسة الشرعية وعمل ما فيه مصلحة للأمة ودرء المضار عنها، وهذا أمر جديد لا ينطبق عليه ما ورد من الذم للتفرق. ¬

_ (¬1) المعجم الوسيط مادة (حِزْب). (¬2) الصحوة الإسلامية: ضوابط وتوجيهات (ص: 154).

الأدلة: يستدل كل من المانعين والمجيزين بأدلة وأسباب متعددة وذلك وفقًا للآتي: أولًا: يستدل المانعون بما يأتي: 1 - أن الأحزاب لم تذكر في النصوص الشرعية إلا مقترنه بالذم والوعيد وأشير إلى جماعة المسلمين بصيغة الفرد على أنهم حزب واحد وذلك في موضعين اثنين من القرآن الكريم قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56]، وقال تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]. 2 - ورود الأدلة التي تنهي عن التفرق وتحض على الاجتماع، ومنها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159]. وقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا. . .} [آل عمران: 103]. 3 - ورد في السنة ما يدعوا إلى الجماعة ويذم الفرقة ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة" (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن: السمع والطاعة، والجهاد في سبيل الله، والهجرة والجماعة، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع، ومن ادعى بدعوى الجاهلية فإنه من جثا جهنم"، فقال رجل يا رسول الله: وإن صلى وصام؟ فقال: "وإن صلى وصام، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله" (¬2). ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد 4/ 278. (¬2) أخرجه الترمذيُّ في باب ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة، وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريب ورقمه (2863).

ثانيًا: ويستدل المجيزون بما يأتي: 1 - أن التفرق المذموم إنما هو في الدين، أما إقامة الأحزاب فهي في الأمور الفرعية التي لا ضير في الخلاف فيها والبحث عن الأفضل، وقد ورد مثل ذلك في المذاهب الفقهية المعتبرة، فهم يتفقون على الأصول ويختلفون في الفروع بحثًا عما يرون أنه الأولى من حيث الدليل أو القواعد الشرعية التي يبنى عليها ومن ذلك المصالح المرسلة. 2 - إن إقامة الأحزاب وغيرها من التنظيمات ليست من الأمور التعبدية، وإنما هي من العادات، والأصل في العادات الإباحة إلا ما ورد الشرع بمنعه وتحريمه. 3 - أنه إذا أقيمت الأحزاب على أساس تحكيم شرع الله والعمل بما جاء فيه من أحكام، ويكون التنافس في عمل الأصلح مما يخدم المجتمع والأمة في مجالات الحياة والمبني على قاعدة المصالح المرسلة، فإنه بذلك يكون الاعتصام بكتاب الله والتمسك بسنته دون فرقة فتتحقق بذلك المصلحة وتنتفي المفسدة. 4 - أن التعددية تؤدي إلى منع الاستبداد، وإلى منع الاضطرابات بما تشيعه من الاستقرار النسبي في الأوضاع السياسية وبما تتيحه للمعارضة من التعبير عن رأيها والمشاركة لإنفاذ برامجها، والواقع خير شاهد، إذ أن الاضطرابات والقلاقل تكون أقل في البلاد التي تنشأ فيها الأحزاب المبنية على أمور سليمة وصحيحة (¬1). الرأي في الموضوع: إن هذا الموضوع يعد نازلة، وكل من العلماء المعاصرين ينظر إليه من جوانب، وغيره ينظر إليه من جوانب أخرى، وهي أمور اجتهادية. ¬

_ (¬1) المشاركة السياسية المشروعة مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا- اللقاء الثالث 1427 هـ بحث أعد من د. الدكتور صلاح الصاوي.

وقد يصلح لبلد ما لا يصلح لغيره من التنظيمات والأمور السياسية، وعليه فإنا نرى أن من يحكم في ذلك إنما هو أهل الحل والعقد من العلماء والحكماء في كل بلد، ويقدرون ما فيه مصلحته فيأخذون به، ويبتعدون عما فيه مفسدة تضر بمجتمعهم وأمتهم، وفي المملكة العربية السعودية فقد رأى علماؤها أنه لا يجوز إقامة الأحزاب لمبررات ذكروها، وهو الذي نؤيده والله أعلم.

زيارة الأماكن الأثرية والمتاحف والعناية بالآثار

زيارة الأماكن الأثرية والمتاحف والعناية بالآثار سادت حضارات كثيرة ثم بادت، ومن تلك الأمم من أرسل إليهم الرسل لدعوتهم إلى الإيمان وعبادة الله وحده لا شريك له، ولكنهم كذبوا وعصوا رسلهم فأخذهم الله بعذابه جزاء تكذيبهم وشركهم مع الله غيره، ومن تلك الأمم من بقي لها آثار من مبانٍ وأسواق ومقتنيات ومعابد وغيرها، فهل يجوز للمسلم زيارة تلك الأماكن؟ مثل آثار ثمود (مدائن صالح)، وآثار مدين (مدائن شعيب)، والآثار الفرعونية (الأهرامات والأقصر وغيرها) أم أن زيارتها لا تجوز؟ الحكم الشرعي لذلك: لا يخلو الأمر من إحدى الحالات الآتية ولكل حكمها: 1 - إذا كانت زيارة تلك الأماكن للمتعة والنزهة والتسلية فإنها لا تجوز؛ لأنها كانت مساكن الكافرين الذين كذبوا الله ورسله، وفيها تنزل عليهم العذاب، ودليل ذلك حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: لما مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحجر قال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين"، ثم قنع رأسه وأسرع بالسير حتى أجاز الوادي (¬1). وقد جاءت الفتوى رقم (19592) وتاريخ 16/ 4 / 1418 هـ بذلك من اللجنة الدائمة في السعودية: بأنه لا يجوز زيارة تلك الآثار بقصد الفرجة والاطلاع، قال ابن القيم: أن من مر بديار المغضوب عليهم والمعذبين، لم ينبغ له أن يدخلها ولا يقيم بها، بل يسرع السير ولا يدخل عليهم إلا باكيًا معتبرًا (¬2). 2 - وإذا كانت زيارة تلك الأماكن بقصد الاعتبار والعظة مع تذكر ما حل بمن ¬

_ (¬1) رواه البخاري برقم (4419)، ومسلمٌ برقم (7464). (¬2) زاد المعاد لابن القيم (3/ 560).

عصى الله وخالف أمره مع ذكر الله والاستغفار، فلا بأس بزيارتها والنظر فيما آل إليه المكذبون ممّن كفر بالله وأشرك معه غيره. قال الشيخ بن جبرين في الفتوى رقم 633: لا بأس بزيارتها إذا كان القصد الاعتبار، ولم يكن القصد التعظيم أو التبرك، فإذا وصل إلى بلد فيها شيء من الآثار القديمة جاز له الوقوف عليها؛ لعموم قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [غافر: 82]. 3 - أما إذا كانت تلك الآثار لأمم وحضارات لم يذكر أنه أرسل إليهم رسل وأنهم كفروا بالله وخالفوا أمره، فلا مانع من زيارتها مع قصد الفائدة والاعتبار بحال الأمم التي كانت ثم ذهبت، وأن الدنيا دار ممر لا دار مقر فيزيده ذلك إيمانًا وإقبالًا على الأعمال الصالحة. والله أعلم.

اللجوء السياسي في الدول غير الإسلامية

اللجوء السياسي في الدول غير الإسلامية حق اللجوء السياسي: هو منح المأوى والحماية من دولة ما لشخص هارب من دولة أخرى وفقًا للقانون الدولي، وحق اللجوء تحكمه قوانين وطنية واتفاقيات دولية، ووفقًا لميثاق الأمم المتحدة فإن اللاجئين يمكن أن يطلبوا حق اللجوء إذا كانوا يخشون الاضطهاد لأسباب عرقية أو دينية أو وطنية أو لمعتقدات سياسية أو اجتماعية، والاضطهاد السياسي هو السبب الرئيسي في أن تمنح الدول حق اللجوء (¬1). ويوجد في العالم أكثر من عشرين مليون لاجئ يتواجدون خارج بلدانهم. وتوجد اتفاقية الأمم المتحدة التي وقع عليها أكثر من 130 بلدًا، ويطلق عليها اتفاقية جنيف. الحكم الشرعي لذلك: إن مصطلح حق اللجوء السياسي من المصطلحات الحديثة، فإذا كان الشخص مهددًا بقتله ويخاف على نفسه أو دينه، واضطر إلى طلب اللجوء إلى بلد آخر، فإن عليه أن يبدأ بطلب اللجوء إلى بلد إسلامي، فإن لم يدرك ذلك فلا مانع من لجوئه إلى بلد غير إسلامي بشرط أن يأمن على إقامة دينه، وأن لا يعين على المسلمين وأن ينوي الرجوع إلى بلد الإسلام متى ما تحقق له ذلك إلا إذا كان في بقائه مصلحة للإسلام والمسلمين، ويستدل لذلك بما فعله الصحابة الكرام رضوان الله عليهم لما هاجروا من مكة المكرمة بعد اضطهادهم من مشركي مكة إلى الحبشة ودخولهم بجوار النجاشي وهو حينذاك غير مسلم. وقد ذكر ابن حزم (¬2) أن: من فر إلى أرض الحرب لظلم خافه، ولم يحارب المسلمين ولا أعان عليهم، ولم يجد في المسلمين من يجيره، فهذا لا شيء عليه؛ لأنه مضطر مكره. ¬

_ (¬1) الموسوعة العربية العالمية (9/ 466) الطبعة الثانية. (¬2) المحلى لابن حزم (12/ 125).

حماية البيئة في الإسلام

حماية البيئة في الإسلام البيئة: هي كل ما يحيط بالإنسان من مكونات طبيعية كالماء والهواء والأرض والحيوان والنبات. ويقصد بحماية البيئة: المحافظة عليها من كل ما يؤثر عليها تلوثًا وإفسادًا ويعرضها للضرر أو الإتلاف، وقد خلق الله الكون بتوازن دقيق فلا يؤثر جانب على آخر، ولا يطغى شيء منها على غيره، قال تعالى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر: 19]. وبذلك استمرت الحياة على أحسن حال حتى كان من بعض البشر تدخلًا في الإخلال بهذا التوازن العجيب، مما أدى ويؤدي إلى فساد البيئة والإضرار بالكائنات الحية التي في مقدمتها الإنسان الذي خلقه الله وكرمه، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]. ولقد سبق الإسلام غيره في المحافظة على البيئة ومنع ما يؤدي إلى إفسادها، ثم أنشئ مؤخرًا برنامج الأمم المتحدة للبيئة (اليوتيب) على أثر انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة في ستوكهولم في عام 1972 م، وذلك بهدف أن يكون المشروع رائدًا ومشجعًا لقيام شراكات لرعاية البيئة على نحو يتيح للأمم والشعوب تحسين نوعية حياتها دون إضرار بنوعية حياة الأجيال المقبلة. الحكم الشرعي لحماية البيئة: إن في المحافظة على البيئة نقية كما خلقها الله مصلحة لكل مكوناتها، ويأتي في أولها الكائنات الحية، وأهمها الإنسان الذي خلق الله له تلك الأشياء وسخرها له، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29].

وقال تعالي: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13]. فعلى الإنسان المحافظة على البيئة نظيفة سليمة كما خلقها الله، وأن لا يصدر منه ما يؤدي إلى فساد البيئة والإخلال بها والإضرار بمكوناتها، قال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]، وقال تعالي: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85].

المشاركة في الأيام العالمية كيوم الصحة وأسبوع الشجرة والمرور وغيرها

المشاركة في الأيام العالمية كيوم الصحة وأسبوع الشجرة والمرور وغيرها تقام أيام أو أسابيع عالمية كيوم الصحة وأسبوع الشجرة والمرور وغيرها كثير، ويعد لذلك في وسائل الإعلام رغبة في توعية الناس ومشاركتهم في تلك الأمور. الحكم الشرعي لذلك: لا يخلوا الأمر من ثلاث حالات: 1 - أن يكون إقامة المناسبات العامة للبلد تحت مسمى العيد والاحتفال به كما لو كان عيدًا، وذلك بقصد التقرب أو التعظيم كسبًا للأجر؛ فهذا لا يجوز لأن أعياد المسلمين قد حددت بعيد الفطر وعيد الأضحى وعيد الأسبوع يوم الجمعة، وما عداها فلا يجوز اتخاذه عيدًا لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (¬1). 2 - أن يكون إقامة المناسبات من باب التشبه بالكفار فهذا لا يجوز؛ لأنا قد نهينا عن التشبه بهم في عباداتهم ومناسباتهم لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من تشبه بقوم فهو منهم" (¬2). 3 - أن يكون إقامة تلك المناسبات من باب تنظيم الأعمال وتوعية الأمة بما يصلحها وما يعود عليها بالخير في حاضرها ومستقبلها كأسبوع المرور والنظافة والشجرة وغيرها، ولا يؤدي إلى اعتقاد التقرب به والعبادة والتعظيم، فهذا يعد من أمور ¬

_ (¬1) رواه البخاري برقم (2697). (¬2) رواه أبو داود في باب ما جاء في لبس الشهرة، ورقمه (4031)، ورواه الطبراني في الأوسط عن حذيفة وهو حديثٌ حسنٌ. الجامع الصغير للسيوطي (2/ 590)، ورقمه (8593).

العادات وليس العبادات، ولا مانع منه لما يؤدي إليه من تحقيق المصلحة والبعد عن المفسدة. وقد جاءت فتوى اللجنة الدائمة في السعودية رقم (9403) ببيان ذلك. والله أعلم.

§1/1