الفصول المفيدة في الواو المزيدة

صلاح الدين العلائي

بسم الله الرحمن الرحيم

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا أما بعد حمد الله على نعمه الَّتِي لَا ينسى ذكرهَا وَلَا يقدر قدرهَا وَلَا يُؤدى بِشَيْء من الْأَنْوَاع شكرها وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد الَّذِي أَضَاء بهداه فِي حنادس الضلال فجرها وَظَهَرت معجزاته فأربى على مَا عَداهَا فخرها وعَلى آله وَصَحبه الفئة الَّتِي فضل الْأَزْمَان عصرها وعطر بأخبارهم فِي كل نَاد نشرها فَهَذِهِ فُصُول عديدة مباحثها مفيدة وعوائدها فريدة ومحاسنها فِي كل حِين جَدِيدَة تَتَضَمَّن الْكَلَام على الْوَاو المزيدة علقتها لأولي النَّهْي تذكرة عتيدة تجلو من أبكارها كل خريدة وَالله تَعَالَى المسؤول أَن ينفع بهَا عَاجلا وآجلا وَيجْعَل التَّوْفِيق لما قصدت مِنْهَا شَامِلًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يرد سَائِلًا وَلَا يخيب آملا

فصل أقسام الواو

1 - فصل أَقسَام الْوَاو الْوَاو على قسمَيْنِ أَصْلِيَّة وزائدة والزائدة على ثَلَاثَة أضْرب زَائِدَة فِي بِنَاء الْكَلِمَة تلْزم حروفها غَالِبا وزائدة بِمَعْنى مَقْصُود تَزُول الْوَاو عَن حُرُوف الْكَلِمَة الْأُصُول بِزَوَال ذَلِك الْمَعْنى وزائدة فِي أول الْكَلِمَة لَا تعد من حروفها كواو الْعَطف وواو الْحَال وَنَحْوهمَا مِمَّا سَيَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَهُوَ الضَّرْب الَّذِي يتَصَدَّى لبسط الْكَلَام فِيهِ

فَمن الضَّرْب الأول وَاو الْجمع فِي نَحْو ضربوا والمسلمون وواو الاستنكار كَمَا إِذا قلت جَاءَ الْحسن فَيُقَال لَك الحسنوه على وَجه الاستنكار وَالْهَاء للْوَقْف وواو الإشباع كالبرقوع فِي البرقع وَنَحْو ذَلِك قَالَ الشَّاعِر (وإنني حَيْثُ مَا يدني الْهوى بَصرِي ... من حَيْثُ مَا سلكوا أدنوا فأنظوا) فأشبع أنظر بِزِيَادَة الْوَاو وَلَكِن هَذَا لَا يخْتَص بِالْوَاو بل يَجِيء فِي الحركات الثَّلَاث جَمِيعهَا فتشبع الفتحة بِالْألف والكسرة بِالْيَاءِ وواو الْعِوَض كَمَا فِي ثبون فَإِن الْوَاو عوض عَن الْهَاء المحذوفة من

ثبة وواو النِّسْبَة كَقَوْلِهِم فِي النِّسْبَة إِلَى عَليّ علوي وَإِلَى ابْن بنوي وَنَحْو ذَلِك وَبَعضهَا من بَاب وَاو التعويض

فصل الواو المزيدة في بناء الكلمة

2 - فصل الْوَاو المزيدة فِي بِنَاء الْكَلِمَة لَا تزاد أَولا أما المزيدة فِي بِنَاء الْكَلِمَة فَإِنَّهَا لَا تزاد أَولا إِذْ لَو زيدت أَولا لم تكن إِلَّا متحركة فَإِنَّهُ لَا يبتدأ بساكن وَحِينَئِذٍ فإمَّا أَن تكون مَفْتُوحَة أَو مَضْمُومَة أَو مَكْسُورَة فَلَو زيدت مَضْمُومَة لساغ قَلبهَا همزَة واطرد ذَلِك فِيهَا كَمَا قَالُوا أقتت فِي وقتت وأجوه فِي وُجُوه

وَكَذَلِكَ لَو كَانَت مَكْسُورَة على حد وسَادَة وإسادة ووشاح وإشاح وَإِن كَانَ الأول أَعنِي فِي حَالَة الضَّم أَكثر وَقد قَرَأَ سعيد بن جُبَير {ثمَّ استخرجها من وعَاء أَخِيه} وَلَو زيدت مَفْتُوحَة لجَاز ضمهَا إِن كَانَ اسْما فَفِي حَالَة التصغير وَإِن كَانَ فعلا فَفِيمَا إِذا بني للْمَفْعُول وَإِذا ضمت الْوَاو انقلبت همزَة وَحِينَئِذٍ فَيتَعَيَّن لَفظهَا وَيَقَع الْإِشْكَال فِيهَا هَل هِيَ أَصْلِيَّة أَو مبدلة من وَاو مَعَ أَن زِيَادَة الْحَرْف إِنَّمَا الْمَطْلُوب مِنْهُ نَفسه فَإِذا لم يسلم لم يحصل الْغَرَض فَأَما ورنتل فِي قَوْلهم وَقع الْقَوْم فِي ورنتل وَهُوَ الشَّرّ فالواو فِيهِ من نفس الْكَلِمَة وَالنُّون زَائِدَة ووزنه فعنلل مثل سفرجل وأصل الْكَلِمَة ربَاعِية وَإِن كَانَت الْوَاو لَا تكون أصلا مَعَ بَنَات الثَّلَاثَة فَصَاعِدا وَلَكِن تعَارض هُنَا شَيْئَانِ كل مِنْهُمَا على خلاف الأَصْل

أَحدهمَا جعل الْوَاو مزيدة فِي أول الْكَلِمَة وَالثَّانِي جعلهَا أصلا فِي الرباعي والتزام الثَّانِي أولى لِأَن القَوْل بِالْأَصَالَةِ أولى من الزِّيَادَة وَأَيْضًا فَإِن الْوَاو قد جَاءَت أصلا مَعَ الثَّلَاثَة إِذا كَانَ هُنَاكَ تَكْرِير للمضاعفة وَلم تقع زَائِدَة فِي أول الْكَلِمَة أصلا وَأَيْضًا فَإِن جعلهَا زَائِدَة يُؤَدِّي إِلَى بِنَاء غير مَوْجُود وَهُوَ وفنعل وَجعلهَا أَصْلِيَّة يُؤَدِّي إِلَى بِنَاء مَوْجُود وَهُوَ فعنلل نَحْو جحنفل وَالله أعلم

فصل متى تكون الواو أصلية ومتى تكون زائدة

3 - فصل مَتى تكون الْوَاو أَصْلِيَّة وَمَتى تكون زَائِدَة إِذا كَانَ مَعَ الْوَاو حرفان فَقَط قضي عَلَيْهَا بِالْأَصَالَةِ إِذْ لَا بُد فِي الْكَلِمَة من ثَلَاثَة أحرف وَتَقَع حِينَئِذٍ فَاء وعينا ولاما نَحْو وعد وَمَوْت ودلو وَإِن كَانَ مَعهَا أَزِيد من حرفين فإمَّا أَن يكون مَعهَا ثَلَاثَة أحرف مَقْطُوع بأصالتها أَو حرفان مَقْطُوع بأصالتهما وَمَا عداهما مَقْطُوع بِزِيَادَتِهِ أَو يكون مَا عداهما مُحْتملا للأصالة وَالزِّيَادَة فَإِن كَانَ مَعهَا ثَلَاثَة أحرف فَصَاعِدا مَقْطُوع بأصالتها قضيت على الْوَاو بِأَنَّهَا مزيدة لِأَنَّهَا لَا تكون أصلا فِي بَنَات الْخَمْسَة وَلَا بَنَات الْأَرْبَعَة إِلَّا فِي المضاعف نَحْو قوقيت وضوضيت فَإِن الْوَاو فِيهِ أصل لقَوْل الْعَرَب

ضوضاء وغوغاء وَلَا يقْضِي لَهَا بِالْأَصَالَةِ إِلَّا أَن يقوم دَلِيل على ذَلِك كَمَا تقدم فِي ورنتل وَبَعْضهمْ يَجْعَلهَا اسْم بَلْدَة وَإِن كَانَ مَعهَا حرفان مَقْطُوع بأصالتهما وَمَا عداهما مَقْطُوع بِزِيَادَتِهِ قضيت للواو بِالْأَصَالَةِ إِذْ لَا بُد من ثَلَاثَة أحرف كَمَا فِي وَاعد ووافد وشبههما وَإِن كَانَ مَا عداهما مُحْتملا للأصالة وَالزِّيَادَة فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون الْمِيم أَو الْهمزَة أَولا أَو غير ذَلِك من حُرُوف الزِّيَادَة فَإِن كَانَت الْمِيم أَولا أَو الْهمزَة كَذَلِك قضيت عَلَيْهِمَا بِالزِّيَادَةِ وعَلى الْوَاو بِالْأَصَالَةِ لِكَثْرَة زِيَادَة الْهمزَة وَالْمِيم فِي أول الْكَلِمَة إِلَّا أَن يقوم دَلِيل على أَصَالَة الْهمزَة من اشتقاق أَو تصريف أَو غير ذَلِك فَيقْضى على الْوَاو بِالزِّيَادَةِ كَمَا قيل فِي أولق وَهُوَ الْجُنُون قَالَه جمَاعَة

وَقَالَ ابْن سيدة الأولق الأحمق وَالْأول أصح لقَوْل الشَّاعِر (ألم بهَا من طائف الْجِنّ أولق) قَالَ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي يحْتَمل أولق من الْوَزْن ضَرْبَيْنِ أَحدهمَا أَن يكون فوعل وهمزته أصل من قَوْلهم تألق الْبَرْق وَالْآخر أَنه أفعل وهمزته زَائِدَة من قَوْلهم ولق يلق إِذا أسْرع لِأَن ذَا الْجُنُون يُوصف بالسرعة وَرجح ابْن عُصْفُور وَغَيره القَوْل الأول بِدَلِيل قَوْلهم مألوق وَلَو كَانَت الْوَاو أَصْلِيَّة لقالوا مولوق وَلَا يُقَال تقدر الْهمزَة فِي مألوق بَدَلا من الْوَاو لِأَن مثل هَذِه الْوَاو لَا تقلب همزَة وَإِن قلبت فَلَا تستمر فِي تصاريف الْكَلِمَة

وَيُمكن الْجَواب عَن ذَلِك بِأَنَّهُ إِنَّمَا قلبت الْوَاو همزَة عِنْدَمَا بني للْمَفْعُول وَأَصله ولق فقلبت حِينَئِذٍ الْوَاو همزَة قِيَاسا مطردا لانضمامها ثمَّ أجريت الْهمزَة مجْرى الْأَصْلِيَّة فالتزموها فِي تصاريف الْكَلِمَة كَمَا فِي عيد وأعياد فَإِن يَاء عيد منقلبة عَن وَاو لِأَنَّهُ من عَاد يعود ثمَّ التزموها فِي الْجمع فَقَالُوا أعياد وَكَذَلِكَ أرياح وَكَانَ قِيَاسه أَرْوَاح وأعواد فَكَذَلِك قاولوا مألوق وَالْقَوْلَان محتملان وَأما إِذا كَانَ مَعَ الْوَاو والحرفين الأصليين غير الْمِيم والهمزة من حُرُوف الزِّيَادَة وَهُوَ مُحْتَمل لِأَن يكون أَصْلِيًّا وَأَن يكون زَائِدا فَإِنَّهُ يقْضى على الْوَاو بِالزِّيَادَةِ لِكَثْرَة مجيئها زَائِدَة وعَلى ذَلِك الْغَيْر بِالْأَصَالَةِ إِلَّا أَن يقوم دَلِيل على أَصَالَة الْوَاو نَحْو عزويت وَهُوَ اسْم بلد فَإِن الْوَاو فِيهِ أصل وَالْيَاء وَالتَّاء زائدتان ووزنه فعليت ك عفريت لِأَنَّهُ من العفر

وَبَيَان ذَلِك أَنه لَا يجوز أَن تكون الْيَاء من عزويت أصلا أَيْضا مَعَ الْوَاو لِأَنَّهُ يلْزم أَن يكون الْوَاو أصلا مَعَ بَنَات الْأَرْبَعَة وَقد تقدم أَنه غير جَائِز وَلَا أَن تكون التَّاء أصلا مَعَ الْوَاو وَيكون وَزنه فعليلا لما ذكرنَا أَيْضا وَلَا أَن تكون الْوَاو وَالْيَاء زائدتين وَالتَّاء أَصْلِيَّة لِأَنَّهُ يصير وَزنه فعويلا وَهُوَ بِنَاء غير مَعْرُوف فَلَا يحمل عَلَيْهِ فَتعين أَن تكون الْوَاو أَصْلِيَّة وَالْيَاء وَالتَّاء زائدتين كَمَا فِي عفريت وَالله أعلم

فصل مواقع زيادة الواو

4 - فصل مواقع زِيَادَة الْوَاو تقرر أَن الْوَاو لَا تزاد أَولا وَإِنَّمَا تقع مزيدة بعد ذَلِك فَتكون ثَانِيَة كَمَا فِي جَوْهَر وكوثر وعوسج إِلْحَاقًا لَهَا بِجَعْفَر وأصل جَوْهَر من الجهارة وَهِي الْحسن والزينة قَالَ الشَّاعِر (وَأرى الْبيَاض على النِّسَاء جهارة)

وَأَصله من الْجَهْر وَهُوَ إِظْهَار الشَّيْء وَأما كوثر فَهُوَ من الْكَثْرَة قَالَ الشَّاعِر (وَأَنت كثير يَابْنَ مَرْوَان طيب ... وَكَانَ أَبوك ابْن العقائل كوثرا) وَأما العوسج فَهُوَ شجر لَهُ شوك وجناه أَحْمَر وقضوا على واوه بِأَنَّهَا مزيدة وَكَأن أَصله مَعَ العسج وَهُوَ مد الْعُنُق فِي الْمَشْي فَكَأَن الْإِبِل تمد أعناقها إِلَى هَذَا الشّجر عِنْدَمَا تَأْكُل مِنْهُ فَقيل فِيهِ عوسج وَيحْتَمل أَن يكون الْقَضَاء على واوه بِالزِّيَادَةِ بِنَاء على الْقَاعِدَة الْمُتَقَدّمَة أَنه إِذا كَانَ مَعَ الْوَاو ثَلَاثَة أحرف أصُول فَهِيَ مزيدة وَإِن لم يكن مأخوذا من العسج وتزاد الْوَاو ثَالِثَة كَمَا فِي جهور وقسور وقرواح ودهور أما جهور فَهُوَ من الْجَهْر كَمَا تقدم وَكَذَلِكَ قسور من القسر وَهُوَ الْقَهْر وقرواح من القراح وَهُوَ الْموضع الَّذِي لَا شجر فِيهِ

وَيُقَال دهور الرجل اللُّقْمَة يدهورها إِذا كبرها وَالْوَاو فِيهِ مزيدة بِنَاء على الْقَاعِدَة الْمَذْكُورَة أَيْضا وَكَذَلِكَ تزاد ثَالِثَة فِي عَجُوز وعمود وَنَحْوهمَا وَوَجهه ظَاهر وتزاد رَابِعَة فِي نَحْو ترقوة وعرقوة وعنفوان فالترقوة الْعظم الَّذِي بَين ثغرة النَّحْر والعاتق وَالتَّاء فِيهِ أَصْلِيَّة قَالَ الْجَوْهَرِي حكى أَبُو يُوسُف ترقيت الرجل ترقاة إِذا أصبت ترقوته وَالْألف فِيهَا إلحاقية كَمَا فِي سلقيت والعرقوة الصَّلِيب الَّذِي يكون فِي الدَّلْو يشد بِهِ الْحَبل وَالْوَاو فِيهَا مزيدة لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَنَّهَا مَعَ ثَلَاثَة أصُول كَمَا تقدم وَالثَّانِي لَو كَانَت أصلا لكَانَتْ على فعللة وَلَا نَظِير لَهُ وَأما عنفوان وَهُوَ الشَّبَاب فالواو فِيهِ مزِيد ة لِأَنَّهُ من العنف إِذْ لَا بُد فِي الشَّبَاب من العنف وإيضا فَلَيْسَ فِي كَلَامهم فعللان فَحكم بِالزِّيَادَةِ

وتزاد الْوَاو خَامِسَة فِي مثل قلنسوة وقمحدوة وَهِي أَعلَى الرَّأْس وَدَلِيل زيادتها مَعَ مَا تقدم من الْقَاعِدَة أَنه لَيْسَ فِي كَلَامهم فعنللة وَلَا فعللة وَكَذَلِكَ هِيَ أَيْضا زَائِدَة فِي عضرفوط لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامهم سداسي حُرُوفه كلهَا أصُول وَالله أعلم

فصل الواو الداخلة على أول الكلمة أنواعها

5 - فصل الْوَاو الدَّاخِلَة على أول الْكَلِمَة أَنْوَاعهَا أما الْوَاو الَّتِي تدخل على أول الْكَلِمَة وَلَيْسَت مَعْدُودَة مِنْهَا وَهِي الْمَقْصُودَة بِهَذَا الْكتاب فَهِيَ على أَنْوَاع وَاو الْعَطف وواو الْحَال وواو الْقسم وواو رب وواو الْجمع مثل اسْتَوَى المَاء والخشبة وواو الصّرْف مثل قَوْلهم (لَا تنه عَن خلق وَتَأْتِي مثله) فَهَذِهِ السِّتَّة هِيَ الَّتِي يعْمل الْكَلَام عَلَيْهَا إِن شَاءَ الله وتجيء أَيْضا زَائِدَة فِي الْجَواب بِحَيْثُ لَو حذفت لما اخْتَلَّ الْكَلَام كَمَا

أنْشد الْفراء (حَتَّى إِذا قملت بطونكم ... ورأيتم أبناكم شبوا) (وقلبتم ظهر الْمِجَن لنا ... إِن اللَّئِيم الْعَاجِز الخب) قَالَ أَرَادَ قلبتم وَقد تَجِيء كَذَلِك فِي غير الْجَواب أَيْضا قَالَ أَبُو كَبِير الْهُذلِيّ

(فَإِذا وَذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا حِينه ... وَإِذا مضى شَيْء كَأَن لم يفعل) قَالَ الْأَزْهَرِي أَرَادَ فَإِذا ذَلِك يَعْنِي شبابه وَمَا مضى من أَيَّام تمتعه وَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ جُمْهُور الْبَصرِيين أَنَّهَا لَيست زَائِدَة وَإِنَّمَا هِيَ عاطفة على مَحْذُوف مُقَدّر وَسَيَأْتِي تَتِمَّة الْكَلَام فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله

فصل النوع الأول

6 - فصل النَّوْع الأول الْكَلَام على الْوَاو العاطفة وَهِي إِمَّا أَن تعطف مُفردا على مُفْرد أَو جملَة على جملَة فَإِذا عطفت جملَة على أُخْرَى اشْترط أَن يكون بَينهمَا تناسب يَقْتَضِي الْمُشَاركَة بالْعَطْف فَلَا يحسن أَن تَقول زيد قَائِم وَعَمْرو شَاعِر لعدم الْمُنَاسبَة بَينهمَا إِلَّا أَن يكون ذَلِك جَوَابا لمن أنكر هذَيْن الْحكمَيْنِ أَو شكّ فيهمَا فَتكون قرينَة كَلَامه الْمُتَقَدّم هِيَ الْمُقْتَضِيَة لجَوَاز الْعَطف بَين هَاتين الجملتين وَقد عيب على أبي تَمام قَوْله (لَا وَالَّذِي هُوَ عَالم أَن النَّوَى ... صَبر وَأَن أَبَا الْحُسَيْن كريم)

إِذْ لَا مُنَاسبَة بَين هَاتين الجملتين وَلِهَذَا قَالَ النُّحَاة فِي الْوَاو الَّتِي تعطف جملَة مُبتَدأَة على كَلَام مُتَقَدم تَامّ إِنَّهَا وَاو الِاسْتِئْنَاف كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {ويسألونك عَن الْجبَال فَقل ينسفها رَبِّي نسفا} وَإِن كَانَت صورتهَا صُورَة الْعَطف وَبَعْضهمْ يعدها مُغَايرَة للواوات الْمُتَقَدّم ذكرهَا وَالصَّحِيح أَنَّهَا وَإِن كَانَت للاستئناف فَلم تخرج عَن معنى الْعَطف وَلَكِن لَا تشرك بَين مَا بعْدهَا وَمَا قبلهَا إِلَّا فِي أصل الْإِخْبَار دون شَيْء آخر فَكَأَن الْقَائِل بعد كَلَامه الْمُتَقَدّم قَالَ وأخبرك أَيْضا بِكَذَا أما إِذا عطفت مُفردا على مُفْرد فَهِيَ على قسمَيْنِ جَامِعَة مُشركَة وجامعة غير مُشركَة فَالْأول هُوَ الْأَكْثَر مثل قَامَ زيد وَعَمْرو لِأَنَّك لَو قلت قَامَ زيد وَقَامَ عَمْرو

العامل في المعطوف

جَازَ فشركت بِالْوَاو بَينهمَا فِي إِسْنَاد الْفِعْل إِلَيْهِمَا وَمِثَال الثَّانِي قَول الْقَائِل اخْتصم زيد وَعَمْرو مِمَّا لَا يكون الْفِعْل فِيهِ إِلَّا للاثنين فَهِيَ جَامِعَة وَلم تشرك الْفِعْل فِي إِسْنَاده إِلَى كل وَاحِد مِنْهُمَا بمفرده إِذْ لَو قلت اخْتصم زيد واختصم عَمْرو لم يَصح وَكَذَلِكَ إِذا قلت هَذَانِ زيد وَعَمْرو فالواو فِيهِ جَامِعَة غير مُشركَة لِأَنَّهُ لَا يَصح هَذَانِ زيد هَذَانِ عمر إِذْ لَا يخبر عَن الِاثْنَيْنِ بِوَاحِد بِخِلَاف هَذَانِ ضاحكان وَهَذَانِ قائمان الْعَامِل فِي الْمَعْطُوف وَهَذَا يَسْتَدْعِي الْكَلَام فِي شَيْء اخْتلف فِيهِ أَئِمَّة الْعَرَبيَّة وَهُوَ الْعَامِل فِي الْمَعْطُوف وَفِيه ثَلَاثَة أَقْوَال أَحدهَا وَهُوَ قَول سِيبَوَيْهٍ وَجُمْهُور الْمُحَقِّقين أَن الْعَامِل فِيهِ الْعَامِل فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فاذا قلت ضربت زيدا وعمرا فقد انتصبا جَمِيعًا ب ضربت والحرف العاطف دخل بِمَعْنَاهُ وشرك بَينهمَا وَإِنَّمَا عمل الْفِعْل فيهمَا بِوَاسِطَة حرف الْعَطف وَحجَّة هَذَا القَوْل اخْتِلَاف الْعَمَل لاخْتِلَاف الْعَامِل الْمُتَقَدّم من رفع وَنصب وخفض وَجزم

وَقَالَ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي وَأَبُو الْفَتْح بن جني الْعَامِل فِي الْمَعْطُوف حرف الْعَطف لِأَنَّهُ إِنَّمَا وضع لينوب عَن الْعَامِل ويغني عَن إِعَادَته فَلَمَّا أغنت الْوَاو فِي مثل قَامَ زيد وَعَمْرو عَن إِعَادَة قَامَ مرّة أُخْرَى قَامَت مقَامه فَرفعت مَا بعْدهَا وَكَذَلِكَ فِي النصب والخفض والجزم وَهَذَا اخْتِيَار ابْن السراج أَيْضا وَاعْترض الْجُمْهُور عَلَيْهِ بِأَن الْحَرْف لَا يعْمل عِنْد الْبَصرِيين حَتَّى يخْتَص وحروف الْعَطف غير مُخْتَصَّة فَلَا تصلح للْعَمَل لِأَنَّهَا تدخل على الْأَسْمَاء وَالْأَفْعَال وَالْقَوْل الثَّالِث أَن الْعَامِل فِي الْمَعْطُوف فعل مَحْذُوف مُقَدّر بعد حرف

الْعَطف من جنس الْفِعْل الْعَامِل فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ وحرف الْعَطف دَال على ذَلِك الْمُقدر وَذكر ابْن يعِيش أَن هَذَا اخْتِيَار الْفَارِسِي وَابْن جني وَهُوَ الْأَصَح عَنْهُمَا وَاخْتَارَهُ أَيْضا أَبُو الْقَاسِم السُّهيْلي فِي نتائج الْفِكر وَاحْتج عَلَيْهِ بِالْقِيَاسِ وَالسَّمَاع أما الْقيَاس فَإِن مَا بعد حرف الْعَطف لَا يعْمل فِيهِ مَا قبله وَلَا يتَعَلَّق بِهِ إِلَّا فِي بَاب الْمَفْعُول مَعَه كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ وَأَيْضًا فَإِن النَّعْت هُوَ المنعوت فِي الْمَعْنى وَلَيْسَ بَينه وَبَين المنعوت وَاسِطَة وَمَعَ ذَلِك فَلَا يعْمل فِيهِ مَا يعْمل فِي المنعوت فِي أصح الْقَوْلَيْنِ فَكيف بالمعطوف الَّذِي هُوَ غير الْمَعْطُوف عَلَيْهِ وَبَينهمَا وَاسِطَة وَهُوَ الْحَرْف وَأما السماع فالاتفاق على أَنه يجوز إِظْهَار الْفِعْل ثَانِيًا بعد حرف الْعَطف

فَتَقول قَامَ زيد وَقَامَ عَمْرو وَضربت زيدا وَضربت عمرا وَمِنْه قَول الْأنْصَارِيّ (بل بَنو النجار إِن لنا ... فيهم قَتْلَى وَإِن تره) وَالْمرَاد قَتْلَى وتره ثمَّ أظهر إِن فَدلَّ على ذَلِك وَاعْترض الْجُمْهُور على هَذَا القَوْل بِأَن الأَصْل عدم التَّقْدِير إِلَّا أَن يقوم دَلِيل وَلَا دَلِيل هُنَا وَبِأَن حذف الْفِعْل بعد الْحَرْف إِنَّمَا كَانَ لضرب من الإيجاز والاختصار وإعماله يُؤذن بإرادته وَذَلِكَ يُنَاقض الْغَرَض من حذفه وَقَول السُّهيْلي إِن مَا بعد حرف الْعَطف لَا يعْمل فِيهِ مَا قبله هُوَ عين الْمُتَنَازع فِيهِ فَكيف يَجْعَل دَلِيلا وَكَذَلِكَ قَوْله إِن الصّفة لَا يعْمل فِيهَا الْعَامِل فِي المنعوت مَمْنُوع بل الْأَظْهر أَنه الْعَامِل فِيهَا هُوَ أولى بِالْعَمَلِ فِيهَا من الْمَعْطُوف وَأما ظُهُور الْفِعْل بعد حرف الْعَطف فَهُوَ فِي حَالَة الظُّهُور غير النَّوْع الأول لِأَن حَالَة ظُهُوره يكون من بَاب عطف الْجُمْلَة على الْجُمْلَة وَالْأول من بَاب عطف الْمُفْرد على الْمُفْرد وَالْفرق بَين المقامين أَنَّك إِذا قلت قَامَ زيد وَعَمْرو كَانَ ذَلِك مقتضيا تَثْنِيَة الدَّعْوَى بقيامهما لَا على وَجه التَّصْرِيح بذلك وَإِذا قلت قَامَ زيد وَقَامَ عَمْرو كَانَ فِيهِ التَّصْرِيح بتثنية الدَّعْوَى بقيامهما لقُوَّة التَّأْكِيد بِإِعَادَة الْفِعْل ثَانِيًا وَحِينَئِذٍ

فليسا على السوَاء وَمِمَّا احْتج بِهِ الْأَولونَ على عدم تَقْدِير الْفِعْل مَا تقدم فِي مثل اخْتصم زيد وَعَمْرو فَإِنَّهُ لَا يَصح أَن يكون فِيهِ الْفِعْل مُقَدرا بعد الْوَاو لِأَنَّهُ يفْسد الْمَعْنى كَمَا تقدم وَكَذَلِكَ جَلَست بَين زيد وَعَمْرو والسهيلي رَحمَه الله اسْتثْنى هَذَا الْموضع من جملَة أَنْوَاع الْمَعْطُوف وَجعل الْوَاو فِيهِ تجمع بني الاسمين فِي الْعَامِل فكأنك قلت اخْتصم هَذَانِ وَاجْتمعَ الرّجلَانِ إِذا قلت اخْتصم زيد وَعَمْرو وطرد مَا اخْتَارَهُ من تَقْدِيره الْفِعْل بعد الْحَرْف العاطف فِيمَا عدا ذَلِك فَيُقَال لَهُ الأَصْل عدم الِاخْتِصَاص وَإِذا تبين فِي هَذَا الْموضع أَن الْعَامِل فِي الْمَعْطُوف هُوَ الْعَامِل فِيمَا قبله فَكَذَلِك فِي سَائِر الْمَوَاضِع لِئَلَّا يخْتَلف الحكم فِي الْعَطف وَهُوَ ظَاهر وَالْمَقْصُود أَن الْوَاو انْفَرَدت عَن جَمِيع حُرُوف الْعَطف بِهَذَا الْموضع فَإِنَّهُ لَا يَصح اخْتصم زيد فعمرو اَوْ ثمَّ عَمْرو وَلَا هَذَا المَال بَين زيد فعمرو وَكَذَلِكَ بَقِيَّة حُرُوف الْعَطف وَلَا يَجِيء فِي هَذَا الْموضع إِلَّا بِالْوَاو فَأَما قَول امْرِئ الْقَيْس (بَين الدُّخُول فحومل)

فَإِنَّمَا عطف بِالْفَاءِ فَإِن الْكَلَام على حذف مُضَاف تَقْدِيره بَين نواحي الدُّخُول وَمثله قَول الآخر (رُبمَا ضَرْبَة بِسيف صقيل ... بَين بصرى وطعنة نجلاء) يُرِيد بَين نواحي بصرى قَالَ السُّهيْلي وَمَعْرِفَة هَذِه الْوَاو الجامعة أصل تنبني عَلَيْهِ فروع كَثِيرَة مِنْهَا أَنَّك تَقول رَأَيْت الَّذِي قَامَ زيد وَأَخُوهُ على أَن تكون الْوَاو جَامِعَة وَإِن كَانَت عاطفة لم يجز لِأَن التَّقْدِير قَامَ زيد وَقَامَ أَخُوهُ فخلت الصِّلَة من عَائِد يعود على الْمَوْصُول وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَجمع الشَّمْس وَالْقَمَر} غلب الْمُذكر على الْمُؤَنَّث لاجتماعهما وَلَو قلت طلع الشَّمْس وَالْقَمَر لقبح ذَلِك إِلَّا أَن تُرِيدُ الْوَاو الجامعة وَأما فِي الْآيَة فَلَا بُد أَن تكون جَامِعَة لِأَن لفظ جمع يدل عَلَيْهَا

فصل الغرض من تكرار العامل في العطف

7 - فصل الْغَرَض من تكْرَار الْعَامِل فِي الْعَطف تقدم الْفرق بَين قَامَ زيد وَعَمْرو وَقَامَ زيد وَقَامَ عَمْرو وَقد يكون تكْرَار الْفِعْل لبَيَان أَن قيامهما لم يَقع فِي حَالَة وَاحِدَة أَو وَقت وَاحِد كَمَا ذهب إِلَيْهِ سِيبَوَيْهٍ فِي حَالَة النَّفْي فَإِن الْوَاو اخْتصّت عِنْده دون حُرُوف الْعَطف فِي حَالَة النَّفْي بخاصية أُخْرَى غير مَا تقدم فِي اخْتصم زيد وَعَمْرو وَنَحْوه وَذَلِكَ أَن الْكَلَام يكون بعد دُخُول حرف النَّفْي عَلَيْهِ كحاله قبل دُخُوله فَإِذا قلت قَامَ زيد فعمرو ومررت بزيد ثمَّ عَمْرو كَانَ النَّفْي مَا قَامَ زيد فعمرو وَمَا مَرَرْت بزيد ثمَّ عَمْرو وَكَذَلِكَ الْبَقِيَّة قَالَ سِيبَوَيْهٍ إِلَّا الْوَاو فَإِنَّهُ إِذا قَالَ الْقَائِل مَرَرْت بزيد وَعَمْرو فإمَّا أَن يكون بني الْكَلَام على فعل وَاحِد أَو على فعلين فَإِن كَانَ الْكَلَام مَبْنِيا على فعل وَاحِد أَي يكون مروره بهما وَاحِدًا فَتَقول فِي النَّفْي مَا مَرَرْت بزيد وَعَمْرو وَإِن كَانَ الْكَلَام مَبْنِيا على فعلين أَي يكون مر بزيد على حِدته وبعمرو على حِدته لزم تَكْرِير الْعَامِل فَتَقول مَا مَرَرْت بزيد وَمَا مَرَرْت بِعَمْرو وليزول اللّبْس لِأَنَّهُ إِذا لم يُكَرر الْعَامِل احْتمل أَنه لم يمر بهما وَلَا بِوَاحِد مِنْهُمَا وَاحْتمل أَن يُرِيد أَنه لم يمر بهما مَعًا بل مر بِأَحَدِهِمَا فَلَمَّا كَانَ النَّفْي من غير

إِعَادَة الْعَامِل مسببا إِلَى ذَلِك لم يجز حذفه وَلم يكن بُد من إِعَادَته وَقد خَالفه الْمَازِني فِي ذَلِك وَقَالَ لَا يلْزم تَكْرِير الْعَامِل كَمَا فِي بَقِيَّة حُرُوف الْعَطف وَلِأَن حرف النَّفْي لَا يُغير مَا بعده عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قبل دُخُوله وَضعف هَذَا ظَاهر مِمَّا ذَكرْنَاهُ من حُصُول اللّبْس وَأَيْضًا فقد وجد النَّفْي مغيرا لما دخل عَلَيْهِ عَن حَاله قبل ذَلِك أَلا ترى أَنَّك تَقول فِي نفي سيفعل لن يفعل وَفِي نفي قد فعل لما يفعل وَفِي نفي فعل لم يفعل فَإِذا كَانُوا يغيرون مَا بعد حرف النَّفْي عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مَعَ أَنه لم تدع إِلَيْهِ ضَرُورَة فالأحرى أَن يجوز ذَلِك إِذا دعت إِلَيْهِ ضَرُورَة وَهُوَ خوف اللّبْس وَذكر ابْن مَالك أَنه لَا يتَعَيَّن إِعَادَة الْعَامِل فِي النَّفْي عِنْد بِنَاء الْكَلَام على فعلين بل يَكْتَفِي بِدُخُول لَا بَين الْوَاو وَمَا بعْدهَا فَتَقول مَا مَرَرْت بزيد وَلَا عَمْرو وَيَزُول بذلك اللّبْس الْمَحْذُور كَمَا يَزُول بتكرار الْعَامِل

فصل عود الضمير على المعطوف والمعطوف عليه

8 - فصل عود الضَّمِير على الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ إِذا تقدم مَعْطُوف ومعطوف عَلَيْهِ وَتَأَخر عَنْهُمَا ضمير يعود عَلَيْهِمَا وَكَانَ الْعَطف بِالْوَاو لزم عود الضَّمِير على حسب مَا تقدم من إِفْرَاد وتثنية وَجمع تَقول زيد وَعَمْرو قاما وَزيد وَعمر وَبكر قَامُوا وَلَا يجوز أَن تفرد الضَّمِير وتجعله عَائِدًا على الْأَخير إِلَّا حَيْثُ سمع وَيكون مَا دلّ على الْحَذف من الأول لدلَالَة الثَّانِي عَلَيْهِ نَحْو قَوْله تَعَالَى {وَالله وَرَسُوله أَحَق أَن يرضوه} فَإِنَّهُ كَانَ الْوَجْه أَن يَجِيء يرضوهما وَلكنه أفرد على تَقْدِير وَالله أَحَق أَن يرضوه وَرَسُوله أَحَق أَن يرضوه فَحذف الْخَبَر من الأول لدلَالَة الثَّانِي عَلَيْهِ وَهُوَ أولى من أَن يَجْعَل الْمَحْذُوف خبر الثَّانِي لما فِيهِ من التَّفْرِيق بَين الْمُبْتَدَأ وَخَبره وَلِأَن فِي ذَلِك التَّقْدِير جعل الْخَبَر للأقرب إِلَيْهِ وَيدل عَلَيْهِ قَول الشَّاعِر (نَحن بِمَا عندنَا وَأَنت بِمَا ... عنْدك رَاض والرأي مُخْتَلف)

فأفرد رَاض لِأَنَّهُ خبر عَن أَنْت وَكَانَ الْمُقدر هُوَ الْخَبَر عَن الأول وَلَو كَانَ الملفوظ بِهِ خَبرا عَن الأول لقَالَ راضون وَمِنْهُم من جعل أَحَق أَن يرضوه خَبرا عَن الاسمين لِأَن أَمر الرَّسُول تَابع لأمر الله تَعَالَى وَلِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَائِم عَن الله تَعَالَى كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {إِن الَّذين يُبَايعُونَك إِنَّمَا يبايعون الله} وَهَذَا فِيهِ نظر وَلَا يَسْتَقِيم مثله فِي قَول الشَّاعِر (إِن شرخ الشَّبَاب وَالشعر الْأسود ... مَا لم يعاص كَانَ جنونا) فَإِنَّهُ كَانَ الْوَجْه أَن يُقَال مَا لم يعاصيا وَلكنه أفرد وَحذف من الأول لدلَالَة الثَّانِي عَلَيْهِ وَالْمَقْصُود أَن مثل هَذَا يقْتَصر بِهِ على مَا سمع وَلَا يكون قِيَاسا وَلَيْسَ هَذَا الحكم من إِفْرَاد الْوَاو بل إِذا كَانَ الْعَطف بحتى فَالْحكم أَيْضا كَذَلِك وَأما إِذا كَانَ الْعَطف بِالْفَاءِ فَإِنَّهُ يجوز تَثْنِيَة الضَّمِير كَمَا تقدم فِي الْوَاو وَيجوز إِفْرَاده وَيكون الضَّمِير عَائِدًا إِلَى الثَّانِي وَخبر الأول مَحْذُوف لدلَالَة الثَّانِي عَلَيْهِ وَجَاز ذَلِك لِأَن الْفَاء لما فِيهِ من التَّرْتِيب يَقْتَضِي إِفْرَاد خبر الأول عَن خَبرا الثَّانِي وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ الْعَطف بثم لَكِن الْأَحْسَن إِفْرَاد الضَّمِير لما فِي ثمَّ من المهلة الْمُقْتَضِيَة لفصل خبر الأول عَن الثَّانِي وَفِي بَقِيَّة حُرُوف الْعَطف كَلَام لسنا بصدده

فصل دلالة الواو العاطفة

9 - فصل دلَالَة الْوَاو العاطفة اخْتلف الْعلمَاء فِي الْوَاو العاطفة على مَاذَا تدل وَلَهُم فِي ذَلِك أَقْوَال الأول أَنَّهَا تدل على مُطلق الْجمع من غير إِشْعَار بخصوصية الْمَعِيَّة أَو التَّرْتِيب وَمعنى ذَلِك أَنَّهَا تدل على التَّشْرِيك بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ فِي الحكم الَّذِي أسْند إِلَيْهِمَا من غير أَن يدل على أَنَّهُمَا مَعًا بِالزَّمَانِ أَو أَن أَحدهمَا قبل الآخر وَلَا يُنَافِي هَذَا احْتِمَال أَن يكون ذَلِك وَقع مِنْهُمَا مَعًا أَو مُرَتبا على حسب مَا ذكرا بِهِ أَو على عَكسه وَلَا يفهم شَيْء من ذَلِك من مُجَرّد الْوَاو العاطفة وَهَذَا قَول الْجُمْهُور من أَئِمَّة الْعَرَبيَّة وَالْأُصُول وَالْفِقْه وَنَصّ عَلَيْهِ

والقول الثاني

سِيبَوَيْهٍ فِي بضعَة عشر موضعا فِي كِتَابه وَنقل أَبُو عَليّ الْفَارِسِي اتِّفَاق أَئِمَّة الْعَرَبيَّة عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي وَفِيه نظر وَالْقَوْل الثَّانِي أَنَّهَا للتَّرْتِيب مُطلقًا سَوَاء كَانَت عاطفة فِي الْمُفْردَات أَو فِي الْجمل وَهُوَ قَول بعض الْكُوفِيّين مِنْهُم ثَعْلَب وَابْن درسْتوَيْه حَكَاهُ عَنْهُم جمَاعَة من النُّحَاة وَعَزاهُ جمَاعَة إِلَى الإِمَام الشَّافِعِي رَحمَه الله عَلَيْهِ وَذكر بعض الْحَنَفِيَّة

أَنه نَص عَلَيْهِ فِي كتاب أَحْكَام الْقُرْآن وَبَعْضهمْ أَخذه من لَازم قَوْله فِي اشْتِرَاط التَّرْتِيب فِي الْوضُوء وَالتَّيَمُّم وَمَسْأَلَة الطَّلَاق وَالْحق أَن ذَلِك لَيْسَ قولا لَهُ بل هُوَ وَجه فِي الْمَذْهَب قَالَ بِهِ جمَاعَة من الْأَصْحَاب كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه فِي الْمسَائِل المبينة على هَذَا الأَصْل إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَالَّذِي قَالَه الإِمَام الشَّافِعِي فِي آيَة الْوضُوء مَا هُوَ نَصه وَتَوَضَّأ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا أَمر الله وَبَدَأَ بِمَا بَدَأَ الله بِهِ فَأشبه وَالله أعلم أَن يكون على الْمُتَوَضِّئ شَيْئَانِ يبْدَأ بِمَا بَدَأَ الله بِهِ ثمَّ رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيَأْتِي بِهِ على إِكْمَال مَا أَمر الله بِهِ ثمَّ شبهه بقول الله عز وَجل {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} وَبَدَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالصفا وَقَالَ نبدأ بِمَا بَدَأَ الله بِهِ قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله وَذكر الله الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ مَعًا فَأحب أَي يبْدَأ باليمنى وَإِن بَدَأَ باليسرى فقد أَسَاءَ وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ هَذَا لَفظه وَلَيْسَ فِيهِ أَنه أَخذ التَّرْتِيب من مُجَرّد الْآيَة بل مِنْهَا مَعَ فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ مُرَتبا مَعَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي السَّعْي نبدأ بِمَا بَدَأَ الله بِهِ وَهَذَا فِيهِ إِشَارَة إِلَى مَا قَالَه سِيبَوَيْهٍ إِن الْعَرَب يقدمُونَ فِي كَلَامهم مَا هم بِهِ أهم وببيانه أعنى وَإِن كَانَا جَمِيعًا يهمانهم ويعنيانهم وَأما مَسْأَلَة الطَّلَاق إِذا قَالَ لغير الْمَدْخُول بهَا أَنْت طَالِق وَطَالِق وَطَالِق

والقول الثالث

فَسَيَأْتِي الْكَلَام فِيهَا فِي الْفَصْل الْآتِي فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَالْقَوْل الثَّالِث أَن الْوَاو للْجمع بِقَيْد الْمَعِيَّة فَإِذا اسْتعْملت فِي غير ذَلِك يكون مجَازًا ويعزى هَذَا إِلَى بعض الْحَنَفِيَّة وَأنْكرهُ عَنْهُم إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَغَيره وَقَالُوا إِنَّهُم لم يتَعَرَّضُوا لغير كَون الْوَاو للْجمع من غير تعرض لاقتران وَلَا تَرْتِيب وَبَعْضهمْ ينْسب هَذَا القَوْل إِلَى أبي يُوسُف وَمُحَمّد بن الْحسن وَأَخذه من قَوْلهمَا فِيمَا إِذا عقد رجل لغيره نِكَاح أُخْتَيْنِ فِي عقد وَاحِد من غير إِذْنه فَإِنَّهُمَا قَالَا إِذا بلغه الْخَبَر فَإِن أجَاز نِكَاحهمَا مَعًا بَطل فيهمَا وَإِن أجَاز نِكَاح إِحْدَاهمَا ثمَّ نِكَاح الْأُخْرَى بَطل النِّكَاح فِي الثَّانِيَة وَإِن قَالَ أجزت نِكَاح فُلَانَة وفلانة فَهُوَ كَمَا لَو أجَاز نِكَاحهمَا مَعًا فَيلْزم من ذَلِك أَن يكون الْوَاو للْجمع بِقَيْد الْمَعِيَّة كَمَا لَو أجَاز نِكَاحهمَا مَعًا

والقول الرابع

وَكَذَلِكَ قَالَا أَيْضا فِيمَا إِذا قَالَ لغير الْمَدْخُول بهَا أَنْت طَالِق وَطَالِق وَطَالِق إِن دخلت الدَّار فَدخلت إِنَّه يَقع عَلَيْهِ الثَّلَاث كَمَا لَو قَالَ أَنْت طَالِق ثَلَاثًا وَلَو قَالَ لَهَا أَنْت طَالِق ثمَّ طَالِق لم تقع إِلَّا طَلْقَة فَيلْزم من ذَلِك أَن يكون الْوَاو للْجمع بِقَيْد الْمَعِيَّة وَهُوَ أَيْضا مَذْهَب أَحْمد وَبَعض الْمَالِكِيَّة فَيكون ذَلِك أَيْضا قولا لَهُم وَالْحق أَنه لَا دلَالَة فِي هَاتين الْحَالَتَيْنِ على القَوْل بِأَن الْوَاو للْجمع بِقَيْد الْمَعِيَّة كَمَا أَنه لَا يُؤْخَذ من قَول الشَّافِعِي وَأبي حنيفَة فِي مَسْأَلَة الطَّلَاق أَنه تقع وَاحِدَة كَون الْوَاو عِنْدهمَا للتَّرْتِيب كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي مَسْأَلَة النِّكَاح أَيْضا وَقد قَالُوا فِيمَن تزوج أمتين بِغَيْر إِذن الْمولى ثمَّ إِن الْمولى أعتقهما مَعًا إِنَّه لَا يبطل النِّكَاح مُطلقًا وَإِن أعتقهما مُتَفَرقًا بَطل فِي الثَّانِيَة وَلَو قَالَ هَذِه حرَّة وَهَذِه حرَّة كَانَ التَّفْرِيق فَيلْزم على هَذَا أَن يكون الْوَاو عِنْدهم للتَّرْتِيب وَلَيْسَ كَذَلِك كَمَا سَيَأْتِي أَيْضا بَيَانه وَالْقَوْل الرَّابِع أَن الْوَاو للتَّرْتِيب حَيْثُ يَسْتَحِيل الْجمع كَقَوْلِه تَعَالَى {ارْكَعُوا واسجدوا}

) وَهُوَ مَذْهَب الْفراء فِيمَا حَكَاهُ عَنهُ كَثِيرُونَ وَبَعْضهمْ نقل عَنهُ القَوْل بالترتيب مُطلقًا كالقول الثَّانِي فَهَذَا خُلَاصَة مَا نقل من أَقْوَالهم فِي الْوَاو وَحكى الإِمَام أَبُو المظفر بن السَّمْعَانِيّ عَن القَاضِي أبي الْحسن الْمَاوَرْدِيّ من أَئِمَّة أَصْحَابنَا أَنه قَالَ الْوَاو لَهَا ثَلَاثَة مَوَاضِع حَقِيقَة ومجاز ومختلف فِي حَقِيقَته ومجازه فالحقيقة أَن تسْتَعْمل فِي الْعَطف للْجمع والاشتراك كَقَوْلِك جَاءَنِي زيد وَعَمْرو وَالْمجَاز أَن تسْتَعْمل بِمَعْنى أَو كَقَوْلِه تَعَالَى {فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع} والمختلف فِي حَقِيقَته ومجازه أَن تسْتَعْمل فِي التَّرْتِيب كَقَوْلِه تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ} فَذهب جُمْهُور أهل اللُّغَة وَالْفُقَهَاء إِلَى أَنَّهَا تكون إِذا اسْتعْملت فِي التَّرْتِيب مجَازًا وَذهب بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي إِلَى أَنَّهَا تكون حَقِيقَة فِيهِ فَإِذا اسْتعْملت فِي مَوضِع يحْتَمل الْأَمريْنِ حملت على التَّرْتِيب دون الْجمع لزِيَادَة الْفَائِدَة قَالَ الْفراء تحمل على الْجمع إِذا احتملت أَمريْن وعَلى التَّرْتِيب إِذا لم تحْتَمل غَيره يَعْنِي حَيْثُ يَسْتَحِيل الْجمع

فصل في الأدلة الدالة على القول الأول

10 - فصل فِي الْأَدِلَّة الدَّالَّة على القَوْل الأول بِأَن الْوَاو لمُطلق الْجمع وَهُوَ الْمَشْهُور الَّذِي رَجحه الْمُحَقِّقُونَ وَهِي وُجُوه أَولهَا النَّقْل عَن أَئِمَّة اللُّغَة الْعَرَبيَّة وَقَوْلهمْ حجَّة وَقد وَقد قَالَ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي أجمع البصريون والكوفيون على أَنَّهَا للْجمع الْمُطلق وَكَأَنَّهُ مَا اعْتد بِخِلَاف الْفراء وَفِي ذَلِك نظر وَقَالَ أَبُو سعيد السيرافي أجمع النحويون واللغويون من الْكُوفِيّين والبصريين إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم وَجُمْهُور الْفُقَهَاء على أَن الْوَاو للْجمع من غير تَرْتِيب

وثانيها

وَهَذِه الْعبارَة أَشد من عبارَة الْفَارِسِي وَهَذَا الْوَجْه هُوَ الَّذِي عول عَلَيْهِ أَبُو عَمْرو بن الْحَاجِب وَغَيره وَهُوَ يتَخَرَّج إِمَّا على عدم الِاعْتِبَار بالمخالف إِذا شَذَّ عَن الْجَمَاعَة بِأَن يكون وَاحِدًا أَو اثْنَيْنِ وَنَحْو ذَلِك وَإِمَّا على أَنه وَإِن اعْتبر خِلَافه فَالْأَظْهر أَن قَول الْجُمْهُور يكون حجَّة لِأَنَّهُ يبعد عَادَة أَن يكون الرَّاجِح هُوَ مَا ذهب إِلَيْهِ الْأَقَل النَّادِر وَقد تقدم أَن سِيبَوَيْهٍ نَص على أَن الْوَاو للْجمع الْمُطلق فِي سَبْعَة عشر موضعا من كِتَابه وَثَانِيها الاستقراء التَّام من كَلَام الْعَرَب فِي مجيئها لما لَا يحْتَمل التَّرْتِيب أَو يَقْتَضِي خِلَافه فَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وادخلوا الْبَاب سجدا وَقُولُوا حطة} وَفِي الْآيَة الْأُخْرَى {وَقُولُوا حطة وادخلوا الْبَاب سجدا} والقصة وَاحِدَة فَلَو كَانَت الْوَاو تَقْتَضِي التَّرْتِيب لوقع التَّنَاقُض بَين مدلولي الْآيَتَيْنِ وَقَوله تَعَالَى {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا نموت ونحيا} وَلَيْسَ مُرَادهم حَيَاة بعد الْمَوْت لأَنهم لم يَكُونُوا يعترفون بِهِ فَلم يبْق مُرَادهم إِلَّا

الْحَيَاة الَّتِي قبل الْمَوْت وَلَو كَانَت الْوَاو مرتبَة لتناقض كَلَامهم هَذَا مَعَ وُرُوده فِي الْقُرْآن الْعَظِيم وَقَوله تَعَالَى {يَا مَرْيَم اقنتي لِرَبِّك واسجدي واركعي مَعَ الراكعين} وَمَا يُقَال على هَذِه من أَنه يحْتَمل أَن يكون فِي شرعهم السُّجُود قبل الرُّكُوع جَوَابه أَن الأَصْل اسْتِوَاء الشَّرَائِع فِي كَيْفيَّة أَدَاء الصَّلَاة فمجرد هَذَا الِاحْتِمَال لَا يقْدَح فِي الأَصْل حَتَّى يثبت بِدَلِيل أَنه كَانَ فِي شرعهم كَذَلِك وَكَذَلِكَ مَا قَالَه السُّهيْلي أَن المُرَاد بِكُل من السُّجُود وَالرُّكُوع الْبعيد عَن الصَّلَاة نَفسهَا من إِطْلَاق الْجُزْء على الْكل فَكَأَنَّهُ قيل لَهَا صلي مُنْفَرِدَة فِي بَيْتك وَهُوَ المُرَاد بقوله {واسجدي} وَصلي مَعَ النَّاس جمَاعَة وَهُوَ المُرَاد بقوله {واركعي مَعَ الراكعين} فَهَذَا التَّأْوِيل فِيهِ صرف للْعَطْف عَن حقيقتة إِلَى مجازه وَتَقْيِيد لَهُ فَلَا يُصَار إِلَيْهِ أَيْضا إِلَّا بِدَلِيل وَلم يقم دَلِيل على إِرَادَة مَا ذكره وَمن ذَلِك قَول حسان بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ (بهاليل مِنْهُم جَعْفَر وَابْن أمه ... عَليّ وَمِنْهُم أَحْمد المتخير)

وَلَو كَانَت الْوَاو للتَّرْتِيب لقدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ابْني عَمه عَليّ وجعفر رَضِي الله عَنْهُمَا وَقَالَ الآخر (فملتنا أننا مُسلمُونَ ... على دين صديقنا وَالنَّبِيّ) وَلَو كَانَت الْوَاو للتَّرْتِيب لقدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيْضا وَقَالَ امْرُؤ الْقَيْس (فَقلت لَهُ لما تمطى بجوزه ... وَأَرْدَفَ أعجازا وناء بكلكل) وَلَو كَانَت للتَّرْتِيب لقدم الكلكل وَهُوَ الصَّدْر ثمَّ الْجَوْز وَهُوَ الْوسط ثمَّ الأعجاز وَهِي المآخر وَقَالَ أَبُو النَّجْم (تعله من جَانب وتنهله) والعلل لَا يكون إِلَّا بعد النهل بِدَلِيل قَول الْجَعْدِي

(وشربنا عللا بعد نهل) وَذكر بَعضهم ذَلِك من قَول لبيد (أغلي السباء بِكُل أدكن عاتق ... أَو جونة قدحت وفض ختامها) والجونة الخابية المطلية بالقار وقدحت غرفت بالمغرفة وَهِي المقدحة وَيُقَال مزجت وَقيل بزلت وفض ختامها أَي كسر طينها قَالُوا وَمَعْلُوم أَنَّهَا لَا تقدح إِلَّا بعد فض ختامها

قلت وَفِي هَذَا الْبَيْت نظر لِأَنَّهُ يجوز أَن تكون الْوَاو حَالية وَقد مقدرَة بعْدهَا وَيكون مَعْنَاهُ قدحت وَقد فض ختامها كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {جاؤوها وَفتحت أَبْوَابهَا} وَسَيَأْتِي ذَلِك فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله وَقد يعْتَرض على جَمِيع هَذِه الأبيات الْمُتَقَدّمَة بِأَن التَّرْتِيب ترك فِيهَا لضَرُورَة الْوَزْن والقافية فَتكون الْوَاو اسْتعْملت فِي غير التَّرْتِيب مجَازًا لذَلِك لَكِن يُجَاب عَنهُ بِأَن الأَصْل عدم الْمجَاز إِلَّا أَن يقوم عَلَيْهِ دَلِيل فَإِن قيل دَلِيله الْأَدِلَّة الَّتِي يحْتَج بهَا على أَن الْوَاو للتَّرْتِيب فستأتي تِلْكَ الْأَدِلَّة مَعَ الْجَواب عَنْهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَبِهَذَا أَيْضا اعْترض على الْآيَتَيْنِ الْمُتَقَدّم ذكرهمَا أَولا وَجَوَابه مَا ذكرنَا وَيُمكن تَحْرِير الدَّلِيل على وَجه ينْدَفع عَنهُ الِاعْتِرَاض بِأَن يُقَال لَو كَانَت الْوَاو للتَّرْتِيب للَزِمَ من هَذِه الْآيَات الْكَرِيمَة والأبيات الْمُتَقَدّمَة إِمَّا التَّنَاقُض وَإِمَّا الْخُرُوج عَن موضوعها بالمجاز أَو يلْزم الِاشْتِرَاك وكل من ذَلِك على خلاف الأَصْل وَقيل أَيْضا فِي قَوْله تَعَالَى (نموت ونحيا) إِن المُرَاد بهَا يَمُوت من مضى وَيحيى من يُولد وَهُوَ تَأْوِيل أَيْضا على خلاف مُقْتَضى الدَّهْر وَالَّذِي يظْهر أَنهم مَا أَرَادوا إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَات كل شخص فيهم وقصدوا بذلك إِنْكَار الْبَعْث وَقدمُوا ذكر الْمَوْت لِأَن الْوَاو لَا يَقْتَضِي ترتيبا فَإِن قيل فقد قَالَ سِيبَوَيْهٍ عَنْهُم إِنَّهُم يقدمُونَ مَا هم بِهِ أهم وببيانه أعنى

الوجه الثالث

فَلم عدل هُنَا إِلَى خلاف ذَلِك قُلْنَا هَذَا وَإِن كَانَ سجيتهم فَذَلِك فِي الْغَالِب وَلَيْسَ بضربة لازب عَلَيْهِم وَأَيْضًا فقد يكون مَا قدم من ذَلِك أهم عِنْدهم فِي ذَلِك الْمقَام وَإِن لم يكن أهم مُطلقًا وَمِمَّا جَاءَ من هَذَا الْوَجْه أَيْضا فِي الْقُرْآن الْعَظِيم قَوْله تَعَالَى {كذبت قبلهم قوم نوح وَعَاد وَفرْعَوْن ذُو الْأَوْتَاد وَثَمُود وَقوم لوط وَأَصْحَاب الأيكة} وَفِي الْآيَة الْأُخْرَى {كذبت قبلهم قوم نوح وَأَصْحَاب الرس وَثَمُود وَعَاد وَفرْعَوْن وإخوان لوط وَأَصْحَاب الأيكة وَقوم تبع} فَقدم فِي آيَة مَا أَخّرهُ فِي الْأُخْرَى وَلم يلْتَزم التَّرْتِيب فَدلَّ على أَن الْوَاو لَا تَقْتَضِيه وَدلّ أَيْضا على أَن تَقْدِيم الأهم هُوَ فِي الْغَالِب وَالْأَكْثَر وَلَيْسَ بِلَازِم الْوَجْه الثَّالِث أَن الْوَاو اسْتعْملت فِي مَوَاضِع لَا يسوغ فِيهَا التَّرْتِيب نَحْو تقَاتل زيد وَعَمْرو واختصم بكر وخَالِد وجمعت زيدا وعمرا وَالْمَال بَين هَذَا وَهَذَا وسيان قيامك وقعودك وَلَا يتَصَوَّر التَّرْتِيب فِي شَيْء من ذَلِك لِأَن المفاعلة لَا تكون إِلَّا من اثْنَيْنِ جَمِيعًا وَكَذَلِكَ بَقِيَّة مَا ذكر وَلَا يَصح الْإِتْيَان فِي شَيْء مِنْهَا بِالْفَاءِ وَلَا ثمَّ فَلَا تَقول تقَاتل زيد فعمرو وَلَا المَال بَين هَذَا ثمَّ هَذَا وَلَا سيان قيامك فقعودك فَلَو كَانَت الْوَاو تَقْتَضِي التَّرْتِيب لكَانَتْ فِي هَذِه الصُّور أَو لجَاز دُخُول الْفَاء وَثمّ فِيهَا

وَإِذا ثَبت أَنَّهَا اسْتعْملت فِي مَوَاضِع لَا يَصح فِيهَا التَّرْتِيب وَلَا تكون فِيهَا إِلَّا للْجمع الْمُطلق امْتنع اسْتِعْمَالهَا فِي التَّرْتِيب لِأَن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى الِاشْتِرَاك وَهُوَ على خلاف الأَصْل وَهَذَا الْوَجْه هُوَ الَّذِي عول جُمْهُور أَئِمَّة الْعَرَبيَّة عَلَيْهِ وَقد اعْترض عَلَيْهِ بِأُمُور أَحدهَا مَا تقدم أَن التَّرْتِيب لما امْتنع فِي هَذِه الصُّور لم يمْتَنع جعلهَا فِي الْجمع الْمُطلق على وَجه الْمجَاز بِدَلِيل تعذر التَّرْتِيب وللأدلة الدَّالَّة على أَنَّهَا للتَّرْتِيب وَثَانِيها أَنه لَا يلْزم من التَّجَوُّز بِالْوَاو فِي هَذِه الْأَمْثِلَة فِي غير التَّرْتِيب أَن يتجوز فِيهَا بِالْفَاءِ وَثمّ إِذْ لَو قيل بذلك لَكَانَ قِيَاسا فِي اللُّغَة وَلَو سلمنَا جَرَيَان الْقيَاس فِيهَا فَهُنَا لَا يلْزم ذَلِك لقِيَام الْفرق وَهُوَ أَن الْفَاء وَثمّ يقتضيان التَّرْتِيب بطرِيق التعقيب والتراخي وَالْوَاو لَيْسَ كَذَلِك بل هِيَ لمُطلق التَّرْتِيب على أَنه قد دخلت الْفَاء فِي بَيت كَمَا تقدم من قَول امْرِئ الْقَيْس (بَين الدُّخُول فحومل) وَغَيره وَدخلت أَو فِي سيان فِي قَول الشَّاعِر (وَكَانَ سيان أَن لَا يسرحوا نعما ... أَو يسرحوه بهَا واغبرت السوح)

فَلم يتَعَيَّن الْوَاو فِي ذَلِك وَثَالِثهَا أَن هَذَا الدَّلِيل يقلب بصورته فَيُقَال اسْتعْملت الْوَاو فِي مَوَاضِع كَثِيرَة للتَّرْتِيب كَقَوْلِه تَعَالَى {ارْكَعُوا واسجدوا} {وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا} والفصال بعد الْحمل (وغيض المَاء وَقضي الْأَمر واستوت على الجودي) واستواؤها كَانَ بعد غيض المَاء وَكَذَلِكَ قَوْله {إِذا زلزلت الأَرْض زِلْزَالهَا وأخرجت الأَرْض أثقالها} إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول تعداده وَإِذا كَانَت فِي هَذِه الْمَوَاضِع للتَّرْتِيب فَتكون فِي تِلْكَ الصُّور الَّتِي لَا يُمكن التَّرْتِيب فِيهَا مجَازًا وَإِلَّا لزم الِاشْتِرَاك وَاحْتِمَال الْمجَاز أَحَق مِنْهُ وَالْجَوَاب عَن الأول مَا تقدم أَن الأَصْل فِي الاطلاق الْحَقِيقَة وَمَا تَدعُونَهُ من الْأَدِلَّة الْمُقْتَضِيَة لكَون الْوَاو للتَّرْتِيب وَأَنَّهَا الحاملة على جعلهَا مجَازًا فِي هَذِه الصُّور فَسَيَأْتِي الْجَواب عَن ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَعَن الثَّانِي أَن الِاسْتِدْلَال بِعَدَمِ جَوَاز الْفَاء وَثمّ فِي هَذِه الصُّور لَيْسَ ذَلِك بطرِيق الْقيَاس فِي اللُّغَة بل هُوَ اسْتِدْلَال بِعَدَمِ جَوَاز اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي معنى عدم جَوَاز اسْتِعْمَال مَا هُوَ مثله فِيهِ وَلَيْسَ ذَلِك من الْقيَاس فِي شَيْء بل هُوَ كاطراد أَسمَاء الفاعلين والمفعولين وَنَحْو ذَلِك وَالصَّحِيح قيام كل من

المترادفين مقَام الآخر إِذا كَانَا من لُغَة وَاحِدَة فَحَيْثُ لَا يَصح ذَلِك يكون دَلِيلا على عدم الترادف وَمَا ذَكرُوهُ من الْفرق فَغير مَانع من الِاسْتِدْلَال لِأَن امْتنَاع دُخُول الْفَاء وَثمّ فِي هَذِه الْمَوَاضِع لِكَوْنِهِمَا دالتين على التَّرْتِيب الْمنَافِي للمعية لَا بخصوصية التعقيب والتراخي وَالْوَاو بِتَقْدِير أَن يكون للتَّرْتِيب يشاركهما فِي ذَلِك فيكونان مترادفين من هَذِه الْحَيْثِيَّة فَإِذا امْتنع دخولهما مَعَ صِحَة دُخُول الْوَاو لزم من ذَلِك أَلا يكون الْوَاو مثلهمَا وَأما دُخُول الْفَاء فِيمَا بعد بَين فقد تقدم الْجَواب عَنهُ وَأَن المزاد نواحي الدُّخُول وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مثله وَأما دُخُول أَو بعد سيان فَهُوَ من الشاذ الَّذِي لَا يُقَاس عَلَيْهِ وَقد أول ذَلِك على أَن السراح وَعَدَمه لما كَانَا متعاقدين وَلَا يكون إِلَّا أَحدهمَا جِيءَ فِيهِ بِأَو وَالْمرَاد بهَا التَّقْسِيم لتشمل الْقسمَيْنِ جَمِيعًا وَلَا تعلق لهَذَا بِكَوْن الْوَاو للتَّرْتِيب وَعَن الثَّالِث أَن التَّرْتِيب فِي هَذِه الْمَوَاضِع مَعَ اللَّفْظ لِأَن اللَّفْظ اسْتعْمل فِيهِ وَلَا يلْزم من وُقُوع الْمَعْنى مَعَ اللَّفْظ اسْتِعْمَاله فِيهِ وَالدَّلِيل على أَن اللَّفْظ غير مُسْتَعْمل فِيهِ مَا تقدم من الْآيَات الَّتِي جَاءَت الْوَاو فِيهَا وَلَا تَقْتَضِي التَّرْتِيب فَكَانَ التَّرْتِيب هُنَا وَاقعا مَعَ الْوَاو وَعلم ذَلِك من دَلِيل خارجي لِأَن الْوَاو مستعملة فِيهِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يلْزم كَونهَا حَقِيقَة فِيهِ حَتَّى تكون مجَازًا فِي تِلْكَ المواطن بل الْعَكْس أولى كَمَا بَيناهُ

الوجه الرابع

الْوَجْه الرَّابِع أَن الْقَائِل جَاءَ زيد وَعَمْرو يحسن أَن يُقَال لَهُ جَاءَا مَعًا أَو تقدم زيد أَو تقدم عَمْرو وَلَو كَانَت الْوَاو تَقْتَضِي التَّرْتِيب لما حسن هَذَا الاستفسار وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن حسن الاستفسار لاحْتِمَال اللَّفْظ لَهُ على جِهَة الْمجَاز وَجَوَابه أَن الاستفسار لَا يحسن إِلَّا عِنْد دلَالَة اللَّفْظ على شَيْئَيْنِ وَاحْتِمَال إِرَادَة أَحدهمَا مَعَ تساويهما كَمَا هُنَا فِي الْوَاو فَإِنَّهَا لما اقْتَضَت مُطلق الْجمع كَانَ اللَّفْظ مُحْتملا لمجيئهما مَعًا ومترتبا إِمَّا على حسب اللَّفْظ أَو على عَكسه فَأَما إِذا كَانَ اللَّفْظ حَقِيقَة وَاحِدَة فَإِنَّهُ لَا يحسن الاستفسار من أجل احْتِمَال الْمجَاز إِذْ أَنْوَاع الْمجَاز مُتعَدِّدَة وَلَيْسَ ثمَّ مَا يدل على صرف اللَّفْظ عَن حَقِيقَته فَلَا وَجه للاستفسار نعم لَو قَامَت قرينَة تدل على أَن الْحَقِيقَة غير مُرَادة وَكَانَ هُنَاكَ مجازات مُحْتَملَة حسن الاستفسار وَلَيْسَ مَا نَحن فِيهِ من ذَلِك الْوَجْه الْخَامِس قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الَّذِي صَححهُ الْحَاكِم (لَا تَقولُوا مَا شَاءَ الله وَشاء فلَان قُولُوا مَا شَاءَ الله ثمَّ شَاءَ فلَان) فَهَذَا يدل على أَن الْوَاو للْجمع لَا للتَّرْتِيب

وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من حَدِيث قتيلة بنت صَيْفِي عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسَنَد صَحِيح وَفِيه قصر وَالْأول رَوَاهُ أَيْضا أَبُو دَاوُد من حَدِيث حُذَيْفَة رَضِي الله عَنْهُمَا والْحَدِيث مَجْمُوع الطَّرفَيْنِ يَنْتَهِي إِلَى دَرَجَة الصِّحَّة القوية وَهُوَ وَإِن كَانَ خبر وَاحِد لَا يُفِيد إِلَّا الظَّن فيلتقي فِي هَذِه الْمَسْأَلَة لِأَنَّهَا ظنية وَقد احْتج جمَاعَة من الْأَئِمَّة بأدلة أُخْرَى لَا تَخْلُو عَن اعْتِرَاض مُؤثر فنذكرها وَمَا يرد عَلَيْهَا أَحدهَا لَو كَانَت الْوَاو للتَّرْتِيب لَكَانَ قَول الْقَائِل رَأَيْت زيدا وعمرا بعده تَكْرَارا لِأَن بعدية رُؤْيَة عَمْرو علمت من الْوَاو على تَقْدِير أَنَّهَا للتَّرْتِيب وَلَا يعد

النَّاس ذَلِك تَكْرَارا فَلَا يكون الْوَاو للتَّرْتِيب وَثَانِيها أَنه يلْزم أَيْضا من جعلهَا للتَّرْتِيب أَن يكون قَول الْقَائِل رَأَيْت زيدا وعمرا قبله متناقضا لِأَن الْوَاو تَقْتَضِي نقيض مَا تَقْتَضِيه قبل وَلَا يعد هَذَا الْكَلَام تناقضا وَثَالِثهَا أَن السَّيِّد إِذا قَالَ لعَبْدِهِ اشْتَرِ خبْزًا وَلَحْمًا وائت بزيد وَعَمْرو وَنَحْو ذَلِك فالاتفاق على أَنه لَا يجب عَلَيْهِ مُرَاعَاة التَّرْتِيب فِي الشِّرَاء والإتيان على حسب مَا تَقْتَضِيه الْوَاو لَو كَانَت للتَّرْتِيب وَرَابِعهَا وَقد عول عَلَيْهِ جمَاعَة من النُّحَاة أَن وَاو الْعَطف فِي الْأَسْمَاء الْمُخْتَلفَة كواو الْجمع فِي الْأَسْمَاء المتفقة فَالْأَصْل فِي الْجمع أَن يُؤْتى بالأسماء منسوقة نَحْو زيد وَزيد وَزيد لكنه قيل الزيدون تَخْفِيفًا واختصارا وواو الْجمع لَا يُفِيد ترتيبا اتِّفَاقًا فَكَذَلِك وَاو الْعَطف لَا يفِيدهُ أَيْضا وخامسها أَن الْجمع الْمُطلق معنى مَعْقُول تمس الْحَاجة إِلَى التَّعْبِير عَنهُ فَالظَّاهِر أَن الْوَاضِع وضع لَهُ لفظا وَلَيْسَ ذَلِك غير الْوَاو بِالْإِجْمَاع فَتكون هِيَ الْمَوْضُوعَة لذَلِك وسادسها أَن الْوَاو أفادت التَّرْتِيب لدخلت فِي جَوَاب الشَّرْط وَلَا يَصح دُخُولهَا فِيهِ فَلَا يُقَال إِن قَامَ زيد وأكرمه كَمَا يُقَال إِن قَامَ زيد فَأكْرمه فَلَمَّا لم يَصح ذَلِك لم تكن للتَّرْتِيب وَاعْترض على الأول أَنه إِن أَرَادَ التاكرار من غير فَائِدَة فالملازمة مَمْنُوعَة فَإِنَّهُ لم يخل عَن فَائِدَة وَهِي رفع احْتِمَال توهم الْمجَاز كَمَا فِي الْأَلْفَاظ الْمُؤَكّدَة فَإِن الْقَائِل جَاءَ الْقَوْم يُفِيد مَجِيء كلهم لما تَقْتَضِيه الْألف

وَاللَّام من الِاسْتِغْرَاق فَقَوله بعد ذَلِك كلهم وأجمعون تَأْكِيد لرفع توهم الْمجَاز وَأَنه أَرَادَ بالقوم بَعضهم فَكَذَلِك هُنَا جَاءَ بقوله بعده تَأْكِيدًا لرفع توهم أَنه أَرَادَ الْمَعِيَّة تجوزا فَلم تخل عَن فَائِدَة وَإِن أَرَادَ التّكْرَار مَعَ الْفَائِدَة فَلَا نسلم بطلَان اللَّازِم وَذَلِكَ ظَاهر وعَلى الْوَجْه الثَّانِي يمْنَع لُزُوم التَّنَاقُض وَإِنَّمَا يلْزم لَو لم تكن كلمة قبله قرينَة لارادة جِهَة التَّجَوُّز فِي تِلْكَ الصُّورَة كَمَا فِي قَول الْقَائِل رَأَيْت أسدا يَرْمِي وعَلى الثَّالِث بِأَن أَمْثَال هَذِه القضايا الْعُرْفِيَّة متعارضة وَإِنَّمَا لم يحمل مَا تقدم على التَّرْتِيب لقِيَام الْقَرِينَة الدَّالَّة على أَن مُرَاد السَّيِّد الْجمع بَين شرائهما على أَي وَجه كَانَ وَكَذَلِكَ بَين مَجِيء من طلبهما وَقد تقدم قرينَة تَقْتَضِي التَّرْتِيب كَمَا إِذا قَالَ السَّيِّد لعَبْدِهِ اسْقِنِي مَاء واشتر كَذَا أَو اسْقِنِي واطلب فلَانا فَإِن الْقَرِينَة هُنَا تَقْتَضِي التَّرْتِيب بَين الشَّيْئَيْنِ وَتَقْدِيم سقيه لَا لمدلول الْوَاو وَأَنَّهَا اقْتَضَت ذَلِك بل لقَرِينَة الْعَطش المحوج إِلَى تَقْدِيم السَّقْي فَالْحق أَنه لَا يحْتَج بِشَيْء من هَذِه القضايا الْعُرْفِيَّة على أحد هذَيْن الطَّرفَيْنِ وعَلى الْوَجْه الرَّابِع بِأَن تَشْبِيه الشي بالشَّيْء لَا يَقْتَضِي اشتراكهما فِي كل الْأُمُور بل يَكْفِي اشتراكهما فِي أهمها وَكَذَلِكَ هُنَا فَإِنَّهُ لَا مَانع من كَون الْوَاو العاطفة جَارِيَة مجْرى وَاو الْجمع مَعَ كَونهَا مُخْتَصَّة بالترتيب كَمَا فِي الْفَاء وَثمّ كَيفَ وَإِن الْوَاو العاطفة تَقْتَضِي التَّشْرِيك فِي الْإِعْرَاب إِمَّا بِنَفسِهَا أَو بتسليط الْفِعْل الَّذِي قبلهَا أَو بإضمار فعل بعْدهَا على الْخلاف الْمُتَقَدّم

وواو الْجمع لَا تَقْتَضِي شَيْئا من ذَلِك فَدلَّ على أَنَّهَا لَيست بالسواء فِي جَمِيع الْأُمُور وعَلى الْخَامِس بِأَنَّهُ مُقَابل بِمثلِهِ وَهُوَ أَن التَّرْتِيب الْمُطلق أَيْضا معنى مَعْقُول تمس الْحَاجة إِلَى التَّعْبِير عَنهُ وَلَيْسَ إِلَّا بِالْوَاو فَتكون مَوْضُوعَة لَهُ وعَلى السَّادِس أَن الْفَاء الدَّاخِلَة عل جَوَاب الشَّرْط لَيست العاطفة حَتَّى يلْزم قيام الْوَاو مقَامهَا إِذا كَانَت للتَّرْتِيب بل هِيَ رابطة بَين الشَّرْط وَالْجَزَاء وَلَو سلم بطرِيق التنازل أَنَّهَا العاطفة فينتقض مَا ذَكرُوهُ بثم فَإِنَّهَا لَا تدخل على جَوَاب الشَّرْط فَلَا يدل عدم دُخُول الْوَاو فِيهِ على شَيْء

فصل فيما احتج به للقائلين بأن الواو للترتيب

11 - فصل فِيمَا احْتج بِهِ لِلْقَائِلين بِأَن الْوَاو للتَّرْتِيب وَذَلِكَ وُجُوه أَحدهَا مَا تقدم من الْآيَات الَّتِي وَقع التَّرْتِيب على مُقْتَضى مَا فِيهَا من تَقْدِيم وَتَأْخِير كَقَوْلِه تَعَالَى {ارْكَعُوا واسجدوا} وَمَا ذكر مَعَه وَجَوَابه مَا تقدم أَن التَّرْتِيب لَيْسَ مستفادا من هَذِه الْآيَات بل بِدَلِيل من خَارج مثل فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرُّكُوع قبل السُّجُود وَقَوله (صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) فالترتيب وَقع مَعَ اللَّفْظ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمل فِيهِ وَثَانِيها قَوْله تَعَالَى {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} الْآيَة وَثَبت فِي حَدِيث جَابر رَضِي الله عَنهُ الَّذِي سَاقه فِي صفه الْحَج بقوله إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

لما خرج إِلَى السَّعْي قَرَأَ هَذِه الْآيَة وَقَالَ (نبدأ بِمَا بَدَأَ الله بِهِ) هَكَذَا فِي صَحِيح مُسلم بِصفة الْخَبَر وَهُوَ عِنْد النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي رِوَايَة بِصِيغَة الْأَمر (ابدأوا بِمَا بَدَأَ الله بِهِ) وَسَنَد ذَلِك جيد صَحِيح يحْتَج بِهِ وَجَوَابه أَن الْوَاو لَو اقْتَضَت التَّرْتِيب لما احْتِيجَ إِلَى ذَلِك ولكان التَّعْلِيل وَقع بمدلول الْوَاو لابتداء الله تَعَالَى بالصفا وَأما مَا يُوجد فِي كتب أَئِمَّة الْأُصُول أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم قَالُوا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَ نبدأ فَقَالَ ابدأوا بِمَا بَدَأَ الله بِهِ فَإِنَّهُ لَا يُوجد هَكَذَا فِي شَيْء من كتب الحَدِيث وَالْجَوَاب على تَقْدِير صِحَة هَذِه الرِّوَايَة ظَاهر فَإِنَّهُ لَو كَانَت الْوَاو للتَّرْتِيب لفهم الصَّحَابَة مدلولها وَمَا احتاجوا إِلَى سُؤال

وَثَالِثهَا مَا جَاءَ فِي صَحِيح مُسلم أَن خَطِيبًا قَامَ بَين يَدي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ (من يطع الله وَرَسُوله فقد رشد وَمن يعصهما فقد غوى) وَالدّلَالَة من هَذَا ظَاهِرَة فَإِنَّهَا لَو كَانَت لمُطلق الْجمع لم يكن بَين الْكَلَامَيْنِ فرق وَأجَاب عَنهُ جمَاعَة من أَئِمَّة الْأُصُول وَغَيرهم بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا أنكر عَلَيْهِ لإتيانه بالضمير الْمُقْتَضِي للتسوية فَأمره بالْعَطْف وإفراد اسْم الله تَعَالَى تَعْظِيمًا لَهُ بِتَقْدِيم اسْمه بِدَلِيل أَن مَعْصِيّة الله مَعْصِيّة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَذَلِكَ الْعَكْس فَلَا تَرْتِيب بَينهمَا بل كل مِنْهُمَا مستلزمة لِلْأُخْرَى وَهَذَا الْجَواب يرد عَلَيْهِم شَيْئَانِ أَحدهمَا قَوْلهم إِن معصيتهما لَا تَرْتِيب فِيهَا فَإِن كَانَ المُرَاد التَّرْتِيب الزماني فَمُسلم وَلَا يلْزم مِنْهُ عدم التَّرْتِيب مُطلقًا فَإِن التَّرْتِيب تَارَة يكون بِالزَّمَانِ وَتارَة يكون بالرتبة وَإِن كَانَ المُرَاد بِهِ عدم التَّرْتِيب مُطلقًا فَلَيْسَ ذَلِك بِصَحِيح لِأَن فِيهَا التَّرْتِيب بالرتبة إِذْ لَا شكّ أَن مَعْصِيّة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرتبَة على مَعْصِيّة الله تَعَالَى وَإِن كَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا يسْتَلْزم الْأُخْرَى

الثَّانِي مَا روى أَبُو دَاوُد فِي سنَنه بِسَنَد صَحِيح عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ (علمنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خطْبَة الْحَاجة) فَذكرهَا وفيهَا (من يطع الله وَرَسُوله فقد رشد وَمن يعصهما فَإِنَّهُ لَا يضر إِلَّا نَفسه وَلَا يضر الله شَيْئا) وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ أَيْضا (وَمن يعصهما فقد غوى) من قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقيل فِي الْجمع بَين هَذِه الْأَحَادِيث وُجُوه أَحدهَا أَن هَذَا خَاص بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ يُعْطي مقَام الربوبية حَقه وَلَا يتَوَهَّم فِيهِ تسويته لَهُ بِمَا عداهُ أصلا بِخِلَاف غَيره من الْأَئِمَّة فَإِنَّهُ مَظَنَّة التَّسْوِيَة عِنْد الْإِطْلَاق وَالْجمع فِي الضمائر بَين مَا يعود إِلَى اسْم الله تَعَالَى وَغَيره فَلهَذَا جَاءَ بالإتيان بِالْجمعِ بَين الاسمين بضمير وَاحِد من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْحَدِيثين الْمشَار إِلَيْهِمَا وَفِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيْضا (من كَانَ الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا) وَغير ذَلِك

وَأمر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك الْخَطِيب بِالْإِفْرَادِ لِئَلَّا يُوهم كَلَامه التَّسْوِيَة وَهُوَ مثل الحَدِيث الْمُتَقَدّم من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا تَقولُوا مَا شَاءَ الله وشئت قُولُوا مَا شَاءَ الله ثمَّ شِئْت) وَهَذَا يرد عَلَيْهِ أَن حَدِيث ابْن مَسْعُود الْمُتَقَدّم فِيهِ تَعْلِيم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمته تِلْكَ الْخطْبَة ليقولوها عِنْد الْحَاجة وَفِيه (وَمن يعصهما) فَيدل على عدم الخصوصية بِهِ إِلَّا أَن يُقَال يُؤْخَذ من مَجْمُوع الْحَدِيثين أَن يَقُولُوا فِي خطْبَة الْحَاجة (وَمن يعْص الله وَرَسُوله) كم علم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك الْخَطِيب وَيكون حَدِيث ابْن مَسْعُود فِيهِ تَعْلِيم أصل خطْبَة الْحَاجة لَا بِجَمِيعِ ألفاظها وَفِيه نظر وَثَانِيها أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ أنكر على ذَلِك الْخَطِيب كَانَ هُنَاكَ من يتَوَهَّم مِنْهُ التَّسْوِيَة بَين المقامين عِنْد الْجمع بَين الاسمين بضمير وَاحِد فَمنع من ذَلِك وَحَيْثُ لم يكن هُنَاكَ من يلبس عَلَيْهِ أَتَى بضمير الْجمع وَهَذَا لَعَلَّه أقرب من الَّذِي قبله وَثَالِثهَا أَن ذَلِك الْمَنْع لم يكن على وَجه التحتم بِدَلِيل الْأَحَادِيث الآخر بل على وَجه النّدب والإرشاد إِلَى الْأَوْلَوِيَّة فِي إِفْرَاد اسْم الله تَعَالَى بِالذكر من التَّعْظِيم اللَّائِق بجلاله وَهَذَا يرجع فِي الْحَقِيقَة إِلَى مَا قَالَه أَئِمَّة الْأُصُول أَولا لَكِن بِزِيَادَة أَن ذَلِك لَيْسَ حتما وَحِينَئِذٍ فَلَا تكون الْوَاو مقتضية للتَّرْتِيب وَرَابِعهَا أَن ذَلِك الْإِنْكَار كَانَ مُخْتَصًّا بذلك الْخَطِيب وَكَأن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فهم عَنهُ أَنه لم يجمع بَينهمَا فِي الضَّمِير إِلَّا لتسويته بَينهمَا فِي الْمقَام فَقَالَ لَهُ (بئس الْخَطِيب أَنْت) فَيكون ذَلِك مُخْتَصًّا بِمن حَاله كَذَلِك وَلَعَلَّ هَذَا الْجَواب هُوَ الْأَقْوَى لِأَن هَذِه الْقِصَّة وَاقعَة عين وَمَا ذَكرْنَاهُ مُحْتَمل ويؤثر هَذَا الِاحْتِمَال فِيهَا أَن يحمل على الْعُمُوم فِي حق كل أحد

فَإِذا انْضَمَّ إِلَى ذَلِك حَدِيث أبي دَاوُد الَّذِي علم فِيهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمته كَيْفيَّة خطْبَة الْحَاجة وفيهَا {وَمن يعصهما} بضمير التَّثْنِيَة قوي ذَلِك الِاحْتِمَال وَهَذَا مثل مَا قيل فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا تفضلُونِي على مُوسَى) مَعَ قَوْله (أَنا سيد ولد آدم) فَقيل فِي الْجمع بَينهمَا وُجُوه مِنْهَا أَن الَّذِي مَنعه من التَّفْضِيل فهم مِنْهُ غضا من منصب مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام عِنْد التَّفْضِيل عَلَيْهِ فَمَنعه مِنْهُ فَيكون ذَلِك مُخْتَصًّا بِمن هُوَ مثل حَاله وَالْعلم عِنْد الله وَرَابِعهَا مَا رُوِيَ أَن عمر رَضِي الله عَنهُ أنكر على سحيم عبد بني الحسحاس قَوْله (كفى الشيب وَالْإِسْلَام للمرء ناهيا) وَقَالَ لَو قدمت الْإِسْلَام على الشيب

وَأَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَنْكَرُوا على عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أمره بِتَقْدِيم الْعمرَة على الْحَج وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} فلولا أَنهم فَهموا من الْآيَة التَّرْتِيب لما أَنْكَرُوا ذَلِك عَلَيْهِ وَفهم الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم حجَّة فِي مثل ذَلِك لأَنهم أهل اللِّسَان وَهَذَا الْأَثر ذكره جمَاعَة من أَئِمَّة الْأُصُول وَلم أَجِدهُ فِي شَيْء من كتب الحَدِيث بعد كَثْرَة الْبَحْث عَنهُ وَكَذَلِكَ أَيْضا لم أجد لإنكار عمر رَضِي الله عَنهُ على سحيم سندا وَلكنه مَشْهُور فِي كثير من الْكتب وَقد أُجِيب عَنهُ بِأَن ذَلِك الْإِنْكَار على وَجه الْأَدَب فِي تَقْدِيم الأهم فِي الذّكر وَإِن كَانَت الْوَاو لَا تَقْتَضِي ترتيبا فَإِن التَّرْتِيب لَهُ سَبَب إِرَادَة لفظية كالفاء وَثمّ وطبيعة زمانية فالنطق الْوَاقِع فِي الزَّمَان الأول مُتَقَدم بالطبع على النُّطْق الْوَاقِع فِي الزَّمَان الَّذِي بعده وَهُوَ السِّرّ فِيمَا حكى سِيبَوَيْهٍ عَن الْعَرَب أَنهم يبدأون بِمَا هُوَ الأهم عِنْدهم وَكَانَت الْعِنَايَة بِهِ أَشد فَكل مَا قدم بِالزَّمَانِ دلّ على أَن الْمُتَكَلّم قصد الاهتمام بِهِ أَكثر مِمَّا بعده وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَفْضِيلًا فإنكار عمر رَضِي الله عَنهُ لهَذَا الْمَعْنى وَأما إِنْكَار الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم على ابْن عَبَّاس فَأجَاب عَنهُ فَخر

الدّين بِأَن فهمهم معَارض لفهم ابْن عَبَّاس وَفِيه نظر لِأَن الْكَثْرَة مقتضية للترجيح وَأجَاب عَنهُ الْآمِدِيّ بِأَنَّهُ لم يكن مُسْتَند إنكارهم أمره بِتَقْدِيم الْعمرَة على الْحَج كَون الْآيَة مقتضية للتَّرْتِيب حَتَّى تتأخر الْعمرَة على الْحَج بل لِأَنَّهَا مقتضية للْجمع الْمُطلق وَأمره بالترتيب مُخَالف لمقْتَضى الْآيَة وَأجَاب غَيره بِمَا تقدم من الاهتمام بِذكر الأول فَإِنَّهُم فَهموا من الْآيَة الاهتمام بِأَمْر الْحَج فتقديم الْعمرَة عَلَيْهِ فِي الْفِعْل يُنَاقض ذَلِك الاهتمام وَإِن لم تكن الْوَاو مقتضية للتَّرْتِيب وخامسها أَن التَّرْتِيب على سَبِيل التعقيب وضعُوا لَهُ الْفَاء وعَلى سَبِيل التَّرَاخِي وضعُوا لَهُ ثمَّ وَمُطلق التَّرْتِيب وَهُوَ الْقدر الْمُشْتَرك بَين الخاصتين معنى مَعْقُول أَيْضا فَلَا بُد لَهُ من لفظ يدل عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ لِأَن الْمُقْتَضِي لذَلِك قَائِم وَالْمَانِع

مُنْتَفٍ وَيلْزم من ذَلِك أَن تكون الْوَاو هِيَ الْمَوْضُوعَة لَهُ إِذْ لَا غَيرهَا مَوضِع لَهُ بالِاتِّفَاقِ وَجَوَابه الْمُعَارضَة بِمثلِهِ كَمَا تقدم فِي الْجمع الْمُطلق وَالْحَاجة إِلَيْهِ أَعم فَيكون أَكثر فَائِدَة فَكَانَ أولى بِالْوَضْعِ وَاعْترض على هَذَا بِأَنا إِذا جعلنَا الْوَاو حَقِيقَة فِي التَّرْتِيب كَانَ الْجمع الْمُطلق جُزْءا من الْمُسَمّى ولازما لَهُ فَيجوز جعله مجَازًا فِيهِ لما بَينهمَا من الْمُلَازمَة بِخِلَاف الْعَكْس فَإنَّا إِذا قُلْنَا إِنَّهَا حَقِيقَة فِي الْجمع الْمُطلق لَازِما لَهُ فَلَا يتجوز بهَا فِيهِ لعدم الْمُلَازمَة وَبِعِبَارَة أُخْرَى أَنه تعَارض احْتِمَالَانِ أَحدهمَا كَون اللَّفْظ حَقِيقَة فِي الْأَخَص مجَازًا فِي الْأَعَمّ وَالْآخر كَونه حَقِيقَة فِي الْأَعَمّ مجَازًا فِي الْأَخَص وَالْأول أولى لِأَن الْأَخَص يسْتَلْزم الْأَعَمّ وَلَا ينعكس وَجَوَابه هَذَا يمْتَنع أَنه لَا يَصح التَّجَوُّز بهَا فِي التَّرْتِيب إِذا كَانَت حَقِيقَة فِي الْجمع الْمُطلق بل هَذَا هُوَ الْأَقْوَى لِأَن إِطْلَاق اللَّفْظ الْأَعَمّ وَإِرَادَة الْأَخَص كثير سَائِغ وَلَيْسَت وُجُوه العلاقة الْمُقْتَضِيَة للتجوز منحصرة فِي التلازم حَتَّى يلْزم مَا ذَكرُوهُ بل لَهَا وُجُوه كَثِيرَة غير ذَلِك وَالله تَعَالَى أعلم

فصل في مسائل فقهية

12 - فصل فِي مسَائِل فقهية تتخرج على أَن الْوَاو للْجمع الْمُطلق أَو للتَّرْتِيب فَمِنْهَا إِذا قَالَ لغير الْمَدْخُول بهَا أَنْت طَالِق وَطَالِق وَطَالِق فمذهب الْحَنَفِيَّة وَالْمَشْهُور من مَذْهَب الشَّافِعِي أَنه لَا يَقع عَلَيْهِ إِلَّا طَلْقَة وَاحِدَة بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ أَنْت طَالِق ثَلَاثًا فَإِنَّهَا تطلق لَهَا وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذهب

إِلَيْهِ جمَاعَة من الْمَالِكِيَّة وَذهب آخَرُونَ مِنْهُم إِلَى أَنَّهَا تطلق ثَلَاثًا فِي هَذِه الْوَاو وَهُوَ مَذْهَب أحمدبن حَنْبَل وَاللَّيْث بن سعد وَابْن أبي ليلى وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب من الْمَالِكِيَّة وَحَكَاهُ بعض الْأَصْحَاب قولا قَدِيما للْإِمَام الشَّافِعِي وَبَعْضهمْ ذكره وَجها أَيْضا للأصحاب وَهَؤُلَاء مأخذهم أَن الْكَلَام كُله فِي حكم جملَة وَاحِدَة لَا أَن الْوَاو تَقْتَضِي الْمَعِيَّة بل لَا فرق بَين قَوْله أَنْت طَالِق ثَلَاثًا وَبَين الصُّورَة الْأُخْرَى بالْعَطْف بِالْوَاو بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ أَنْت طَالِق ثمَّ طَالِق أَو طَالِق فطالق فَإِن ابْن شَاس حكى عَن مَذْهَب مَالك أَنه لَا يَقع إِلَّا طَلْقَة وَاحِدَة لِأَنَّهَا تبين بِالْأولَى فتجيء الثَّانِيَة بعد الْبَيْنُونَة لما تَقْتَضِيه الْفَاء من التَّرْتِيب وَثمّ من المهلة بِخِلَاف الْوَاو وَذكر بعض الْمُتَأَخِّرين من الْمَالِكِيَّة عَن مَذْهَبهم أَنه لَا فرق بَين الْوَاو وَبَين الْفَاء وَثمّ فِي وُقُوع الثَّلَاث وَإِن كَانَت غير مَدْخُول بهَا وَغلط ابْن شَاس فِيمَا

فائدة

نقل فيحرر ذَلِك من كتبهمْ وَأما الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَقع إِلَّا وَاحِدَة فمأخذهم أَنه إِذا قَالَ أَنْت طَالِق ثَلَاثًا فَإِن قَوْله ثَلَاثًا تَفْسِير لقَوْله أَنْت طَالِق وَالْكَلَام بِهِ جملَة وَاحِدَة وَهُوَ مُعْتَبر بِآخِرهِ فَتَقَع الثَّلَاث وَأما إِذا نسق بِالْوَاو فقد عدد الْجمل فَكَانَت الْجُمْلَة الأولى غير مُقَيّدَة بِشَيْء فتقتضي وُقُوع الطَّلَاق بهَا فتصادفها الْجُمْلَة الثَّانِيَة وَهِي بَائِنَة فَلَا تُؤثر لعدم تأثر الْمحل بهَا وَالْوَاو لَا تَقْتَضِي الْجمع بِقَيْد الْمَعِيَّة بل الْمَوْجُود من هَذَا الْكَلَام ثَلَاث إيقاعات مُتَوَالِيَات من غير أَن يكون للْبَعْض تعلق بِالْبَعْضِ وَهِي مترتبة بِالزَّمَانِ ضَرُورَة التَّلَفُّظ بهَا فَتبين بِالْجُمْلَةِ الأولى وَلَا يلْحقهَا شَيْء بعْدهَا وَلَا يلْزم من ذَلِك أَن تكون الْوَاو للتَّرْتِيب فَائِدَة ذكر الشَّيْخ أَبُو عمر بن الْحَاجِب فِي مُخْتَصره فِي أصُول الْفِقْه عَن مَالك رَحمَه الله أَنه قَالَ فِي الْوَاو الْأَظْهر أَنَّهَا مثل (ثمَّ) ثمَّ حمله على أَنه لم يرد بذلك أَنَّهَا مثل ثمَّ فِي إِفَادَة التَّرْتِيب بل مُرَاده فِي الْمَدْخُول بهَا أَنه لَا ينوى

فِي التَّأْكِيد إِذا ادَّعَاهُ فِي قَوْله أَنْت طَالِق وَطَالِق كَمَا لَا يقبل مِنْهُ أَيْضا فِي قَوْله أَنْت طَالِق ثمَّ طَالِق وَقد تخبط شرَّاح كتاب الْمُخْتَصر فِي هَذَا الْموضع بِكَلَام مُخْتَلف لَا فَائِدَة فِي الإطالة بِهِ وَيعرف ذَلِك بِبَيَان مَذْهَب مَالك رَحمَه الله فِي هَذِه الْمسَائِل فقاعدته أَنه إِذا قَالَ للمدخول بهَا أَنْت طَالِق أَنْت طَالِق أَنْت طَالِق وَنوى تَأْكِيد الأولى لم يَقع عَلَيْهِ غَيرهَا وَيقبل مِنْهُ دَعْوَى نِيَّة التَّأْكِيد فَإِن كَانَ ذَلِك بِالْفَاءِ أَو بثم لم يقبل مِنْهُ نِيَّة التَّأْكِيد وَلَا تَنْفَعهُ وَيَقَع عَلَيْهِ الثَّلَاث وَإِن كَانَ الْعَطف بِالْوَاو قَالَ ابْن الْقَاسِم توقف عَنْهَا مَالك وَقَالَ فِي النسق بِالْوَاو إِشْكَال قَالَ وَرَأَيْت الْأَغْلَب على رَأْيه أَنَّهَا مثل ثمَّ وَلَا ينوى وَهُوَ رَأْيِي هَذَا نقل صَاحب الْجَوَاهِر عَن ابْن الْقَاسِم

وَالَّذِي نَقله عَنهُ ابْن يُونُس أَنه قَالَ أَعنِي ابْن الْقَاسِم قَالَ مَالك وَفِي النسق بِالْوَاو إِشْكَال قَالَ ورأيته يَعْنِي مَالِكًا يُرِيد بقوله إِنَّهَا ثَلَاث تَطْلِيقَات وَلَا ينوى وَهُوَ رَأْيِي فَظهر بِهَذَا أَن معنى كَون الْوَاو بِمَعْنى ثمَّ عِنْد مَالك فِي هَذِه الصُّورَة الْخَاصَّة إِذا خَاطب الْمَدْخُول بهَا لَا فِي كل الصُّور وَأما فِي غير الْمَدْخُول بهَا فقد تقدم الْكَلَام فِيهِ وَالله أعلم 2 - وَمِنْهَا مَا إِذا قَالَ لغير الْمَدْخُول بهَا إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق وَطَالِق وَطَالِق فَدخلت فِيهَا وَجْهَان لِأَصْحَابِنَا وَخلاف بَين الْحَنَفِيَّة أَيْضا أحد الْوَجْهَيْنِ وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة لَا يَقع بِالدُّخُولِ إِلَّا وَاحِدَة وَالثَّانِي وَبِه قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد بن الْحسن يَقع بِهِ الثَّلَاث وَهُوَ الَّذِي رَجحه الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ

وَوجه أَصْحَابنَا الأول بِالْقِيَاسِ على مَا إِذا نجز ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يَقع بِهِ إِلَّا وَاحِدَة كَمَا تقدم وَالثَّانِي بِأَن الثَّلَاث جَمِيعًا مُتَعَلقَة بِالدُّخُولِ وواقعة عِنْده فَلَا تقدم وَلَا تَأَخّر وَقَالَ صَاحب التَّتِمَّة يُمكن بِنَاء الْوَجْهَيْنِ على الْخلاف بَين أَصْحَابنَا فِي أَن الْوَاو للْجمع الْمُطلق أَو للتَّرْتِيب قلت وَفِي هَذَا الْبناء نظر من جِهَة أَن مُقْتَضى مَا وجهوه أَن يكون الْوَاو للْجمع بِقَيْد الْمَعِيَّة لَا لمُطلق الْجمع وَأما الْحَنَفِيَّة فمأخذ الْخلاف عِنْدهم الْبناء على كَيْفيَّة تعلق الْجَزَاء الثَّانِي وَالثَّالِث بِالشّرطِ لَا لِأَن الْوَاو اقْتَضَت الْمُقَارنَة أَو التَّرْتِيب فَقَالَ أَبُو حنيفَة الْجَزَاء الأول تعلق بِالشّرطِ بِلَا وَاسِطَة وَالثَّانِي تعلق بِهِ بِوَاسِطَة الأول وَالثَّالِث تعلق بِهِ بواسطتين وَالْمُعَلّق تطليق عِنْد وجود الشَّرْط والوسائط من ضَرُورَة صِحَة

الْعَطف فَينزل الْمُعَلق حَيْثُ ينزل مُتَفَرقًا وَمن ضَرُورَته أَن تبين بِالْأولِ فَلَا يُصَادف الثَّانِي وَالثَّالِث محلا قَابلا للوقوع وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد مُوجب اللَّفْظ التَّشْرِيك بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ وَالْجُمْلَة الأولى تَامَّة لوُجُود الشَّرْط وَالْجَزَاء وَقَوله طَالِق جملَة نَاقِصَة وَكَذَلِكَ الثَّالِثَة فتشارك كل وَاحِدَة مِنْهُمَا الأولى فِي التَّعْلِيق لَا فِي التَّطْلِيق فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الأجزية مَا يُوجب صفة التَّرْتِيب إِذْ الْوَاو لَا يَقْتَضِي ذَلِك وَلما تعلّقت غير مَوْصُوفَة بالترتيب وَقعت كَذَلِك أَيْضا بِخِلَاف مَا إِذا نجز الطَّلَاق فَإِنَّهُ يَقع بِالْجُمْلَةِ الأولى وَتَكون الثَّانِيَة كالمعادة للإيقاع وَقد بَانَتْ بِالْأولَى وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة بسط مَا وَجه بِهِ أَصْحَابنَا وُقُوع الثَّلَاث وَقَالَ بعض الْحَنَفِيَّة فِي تَوْجِيهه أَيْضا إِن عطف الْجُمْلَة النَّاقِصَة على الْكَامِلَة يُوجب إِعَادَة مَا فِي الْكَامِلَة لتصير النَّاقِصَة مثلهَا بِخِلَاف عطف الْجُمْلَة الْكَامِلَة أَلا ترى إِذا قَالَ هَذِه طَالِق ثَلَاثًا وَهَذِه طلقت الْأُخْرَى ثَلَاثًا لِأَن خبر الأولى يصير معادا فِي حَقّهَا بِخِلَاف مَا لَو قَالَ هَذِه طَالِق ثَلَاثًا وَهَذِه طَالِق فَإِن الثَّانِيَة لَا تطلق إِلَّا وَاحِدَة لِأَن جُمْلَتهَا مفيدة بِنَفسِهَا فَلَا تَقْتَضِي ذكر الْخَبَر مرّة أُخْرَى فَقَوله وَطَالِق بعد قَوْله إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق جملَة نَاقِصَة لَا شَرط لَهُ فَيصير الشَّرْط كالمذكور مرّة أُخْرَى فَكَأَنَّهُ قَالَ إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق وَطَالِق إِن دخلت الدَّار فَيَقَع ثَلَاث تَطْلِيقَات بدخلة وَاحِدَة وَيصير فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة كَمَا لَو كرر الشَّرْط صَرِيحًا

أما إِذا قدم الْجَزَاء فَقَالَ أَنْت طَالِق وَطَالِق وَطَالِق إِن دخلت الدَّار فَفِيهَا طَرِيقَانِ عِنْد أَصْحَابنَا إِحْدَاهمَا أَنه على الْخلاف الْمُتَقَدّم وَالأَصَح أَنه تقع الثَّلَاث إِذا دخلت وَالطَّرِيق الثَّانِي الْقطع بالأصح وَهُوَ مَذْهَب الْحَنَفِيَّة كلهم لِأَنَّهَا جَمِيعًا تعلّقت بِالدُّخُولِ فَتَقَع جملَة بِخِلَاف مَا إِذا تقدم الشَّرْط إِذْ يُمكن أَن يُقَال إِن الْمُعَلق فِيهِ بِالدُّخُولِ الطَّلقَة الأولى والأخريان معطوفتان ومترتبتان عَلَيْهَا كَمَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَذَلِكَ لَا يتخيل هُنَا وَلِهَذَا جمع بعض أَصْحَابنَا بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ وَذكر فيهمَا ثَلَاثَة أوجه وَالثَّالِث الْفرق بَين تقدم الشَّرْط وتأخره وَالأَصَح فيهمَا جَمِيعًا مَا تقدم أَنه تقع الثَّلَاث بِالدُّخُولِ وَالله أعلم 3 - وَمِنْهَا إِذا قَالَ الرجل لعَبْدِهِ إِذا مت وَدخلت الدَّار فَأَنت حر فَإِنَّهُ يشْتَرط الدُّخُول بعد الْمَوْت إِلَّا أَن يُصَرح بِأَنَّهُ أَرَادَ الدُّخُول قبله هَكَذَا نَقله الرَّافِعِيّ وَلم يحك فِيهِ خلافًا وَحكى أَيْضا عَن أَكثر الْأَصْحَاب مثله فِيمَا إِذا قَالَ إِذا مت وشئت الْحُرِّيَّة أَو شَاءَ فلَان فَأَنت حر كَمَا إِذا قَالَ إِذا مت ثمَّ دخلت الدَّار فَأَنت حر وَمُقْتَضى هَذَا كُله الْجَزْم بِأَن الْوَاو للتَّرْتِيب إِلَّا أَن يُقَال إِن قرينَة التَّعْلِيق هُنَا صرفت الْوَاو عَن حَقِيقَتهَا إِلَى الْمجَاز وَفِيه نظر 4 - وَمِنْهَا مَا إِذا قَالَ إِن كلمت زيدا وَدخلت الدَّار فَأَنت طَالِق فَفِيهِ وَجْهَان لِأَصْحَابِنَا أصَحهمَا أَنه مَتى وجد الفعلان وَقع الطَّلَاق سَوَاء وجدا مَعًا أَو أَحدهمَا قبل الآخر على وفْق مَا قَالَ أَو على عَكسه لِأَن الْوَاو إِنَّمَا تَقْتَضِي مُطلق الْجمع كَمَا تقدم وَالثَّانِي أَنه لَا تطلق حَتَّى يتَقَدَّم تكليمها زيدا على دُخُول الدَّار فَإِذا وجدا كَذَلِك طلقت وَهَذَا ذهَاب من قَائِله إِلَى أَن الْوَاو

تَقْتَضِي التَّرْتِيب وَهُوَ وَجه مَشْهُور وَلَكِن الرَّاجِح خِلَافه 5 - وَمِنْهَا إِذا وكل رجلا فِي المخالعة فَقَالَ خُذ مَالِي ثمَّ طَلقهَا لم يجز تَقْدِيم الطَّلَاق على أخد المَال وَلَو قَالَ خُذ مَالِي وَطَلقهَا فَهَل يشْتَرط تَقْدِيم المَال كَمَا فِي الصُّورَة الأولى أم لَا يشْتَرط ذَلِك وَيجوز تَقْدِيم الطَّلَاق كَمَا لَو قَالَ طَلقهَا وَخذ مَالِي مِنْهَا فِيهِ وَجْهَان حَكَاهُمَا الرَّافِعِيّ وَقد رجح صَاحب التَّهْذِيب مِنْهُمَا الأول يَعْنِي الِاشْتِرَاط للتقديم وَهَذَا يحْتَمل أَن يكون ذَهَابًا من الْبَغَوِيّ إِلَى أَن الْوَاو تَقْتَضِي التَّرْتِيب وَيحْتَمل أَن يكون اعْتِبَارا للِاحْتِيَاط للْمُوكل فِي تَقْدِيم أَخذ المَال لِأَن الرَّافِعِيّ حكى عقيب ذَلِك أَنه لَو قَالَ طَلقهَا ثمَّ خُذ مَالِي أَنه يجوز تَقْدِيم أَخذ المَال على الطَّلَاق فَإِنَّهُ زِيَادَة خير فَدلَّ على أَن الْمُعْتَبر لَيْسَ مُرَاعَاة التَّقْدِيم اللَّفْظِيّ بل شَيْئا آخر 6 - وَمِنْهَا على مَذْهَب الْحَنَفِيَّة إِذا زوج رجل أمتين برضاهما من رجل بِغَيْر إِذْنه وَبِغير إِذن الْمولى فَالنِّكَاح عِنْدهم مَوْقُوف على إجَازَة كل وَاحِد مِنْهُمَا فَإِن

أجَاز أَحدهمَا يُوقف على إجَازَة الآخر فَإِن اعتقهما الْمولى قبل الْإِجَازَة بِلَفْظ وَاحِد لم يبطل النِّكَاح فيهمَا مُطلقًا لِأَنَّهُ لم يتَحَقَّق الْجمع بَين الْحرَّة وَالْأمة لَا فِي حَال العقد وَلَا فِي حَال الْإِجَازَة لَكِن لم يبْق لاجازة الْمولى أثر وَإِن أعتقهما مفترقا فِي زمانين سقط حق الْمولى من الْإِجَازَة فِي حق الأولى وَبَقِي مَوْقُوفا على إجَازَة الزَّوْج وَبَطل النِّكَاح فِي الثَّانِيَة لِأَنَّهُ يلْزم قبل عتقهَا الْجمع بَين الْحرَّة وَالْأمة حَالَة الْإِجَازَة إِذْ كَانَ حق الْمولى بَاقِيا فِي إجَازَة نِكَاحهَا إِلَى أَن أعْتقهَا وَلَو قَالَ هَذِه حرَّة وَهَذِه حرَّة كَانَ كَمَا لَو أعتقهما فِي وَقْتَيْنِ وَهَذَا مشْعر بِأَن الْوَاو عِنْدهم للتَّرْتِيب قَالُوا وَلَيْسَ ذَلِك لهَذَا الْمَعْنى بل لِأَنَّهُ لما عتقت الأولى وَحدهَا خرج نِكَاح الثَّانِيَة عَن أَن يكون محلا للْوَقْف فَإِنَّهُ إِذا تزوج أمة نِكَاحا مَوْقُوفا بَطل نِكَاح الْأمة وَإِذا خرجت الْأمة الَّتِي لم تعْتق عَن عَن أَن تبقى محلا للنِّكَاح الْمَوْقُوف

بَطل نِكَاحهَا وَذَلِكَ أَمر زَائِد غير كَون الْوَاو للتَّرْتِيب أَو للمعية 7 - وَمِنْهَا على مَا عِنْدهم أَيْضا إِذا زوج أُخْتَيْنِ فِي عقدين من رجل غَائِب بِغَيْر إِذْنه ثمَّ بلغه الْخَبَر فَإِن أجَاز نِكَاحهمَا مَعًا بطلا كَمَا لَو بَاشر العقد بِنَفسِهِ وَإِن أجَاز نِكَاح كل مِنْهُمَا مُتَفَرقًا بَطل فِي الثَّانِيَة وَإِن قَالَ أجزت نِكَاح هَذِه وَهَذِه بطلا أَيْضا كَمَا لَو أجَاز نِكَاحهمَا مَعًا وَهَذَا يشْعر بِأَن الْوَاو للمعية وَهِي عكس الَّتِي قبلهَا فِيمَا إِذا قَالَ هَذِه حرَّة وَهَذِه حرَّة وَفرقُوا بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ بِأَن الْكَلَام إِذا كَانَ آخِره يُغير أَوله فَلِأَنَّهُ يتَوَقَّف أَوله عَلَيْهِ كَمَا هُوَ يتَوَقَّف على الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء وَإِذا لم يُغير آخِره أَوله لم يتَوَقَّف عَلَيْهِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَة الأولى فَإِن إِعْتَاق الْأمة الثَّانِيَة لَا يُغير إِعْتَاق الأولى لِأَن نِكَاح الأولى يبْقى صَحِيحا مَوْقُوفا كَمَا كَانَ وَإِنَّمَا أثر الثَّانِي فِي صِحَة نَفسه لَا فِي تَغْيِير الأول لَو صَحَّ فَلم يتَوَقَّف الْكَلَام عَلَيْهِ وَإِذا لم يتَوَقَّف فسد الثَّانِي وَأما فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فَقَوله أجزت نِكَاح هَذِه وَهَذِه آخر الْكَلَام يُغير أَوله لِأَنَّهُ إِذا لم يضم الثَّانِيَة إِلَى الأولى يَصح نِكَاح الأولى وَإِذا ضم الاجازة إِلَيْهَا بَطل نِكَاحهمَا للْجمع بَينهمَا فَينزل ذَلِك منزلَة الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء المتصلين بالْكلَام بِخِلَاف مَا إِذا أجَاز نِكَاح كل وَاحِدَة مِنْهُمَا فِي وَقت فَإِنَّهُ لم يتَّصل بآخر الْكَلَام مَا غير أَوله إِذْ كل اجازة مُنْفَرِدَة بِنَفسِهَا فاقتصر الْبطلَان على الثَّانِيَة

هَذَا حَاصِل مَا وجهوا بِهِ هَذِه الْمَسْأَلَة وَفرقُوا بَينهمَا وَبَين الَّتِي قبلهَا وَلَا يخفى مَا فِي ذَلِك من الضعْف وَالْفرق ظَاهر بَين هَذِه وَبَين اتِّصَال الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء بِمَا قبله لِأَن مَا اتَّصل بِهِ الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء الْكَلَام فِيهِ جملَة وَاحِدَة فَاعْتبر بآخرها بِخِلَاف قَوْله أجزت نِكَاح هَذِه وَنِكَاح هَذِه فَإِنَّهُمَا جملتان وَإِن كَانَتَا معطوفتين فَلم يحصل تدافع كَمَا فِي قَوْله أجزت نِكَاحهمَا فيبطلان جَمِيعًا لِأَنَّهُ لَيْسَ إِحْدَاهمَا بِتَعْيِين الصِّحَّة أولى من الْأُخْرَى فَيبْطل فيهمَا وَأما فِي هَذِه الصُّورَة فقد تعيّنت الأولى للصِّحَّة بإفرادها بالاجازة فَيَنْبَغِي أَن تتَعَيَّن الْأُخْرَى للبطلان وَلَا أثر لاتصال الْكَلَام وإلزامهم من هَذِه الْمَسْأَلَة أَن الْوَاو عِنْدهم يَقْتَضِي الْجمع بِقَيْد الْمَعِيَّة ظَاهر وَالله أعلم 8 - وَمِنْهَا على قاعدتهم أَيْضا إِذا قَالَ من مَاتَ أَبوهُ عَن ثَلَاثَة أعبد قيمتهم على السوَاء أعتق أبي هَذَا وَهَذَا وَهَذَا فَإِن قَالَه بِكَلَام مُتَّصِل عتق من كل وَاحِد ثلثه على قاعدتهم وَلَا قرعَة وَإِن أقرّ بذلك فِي زمن متفرق عتق الأول بِكَمَالِهِ وَنصف الثَّانِي وَثلث الثَّالِث أما عتق الأول بِكَمَالِهِ فَلِأَن الْوَارِث أقرّ بِعِتْقِهِ وَحده وَالثلث يحْتَملهُ بِعِتْق من غير استسعاء ثمَّ لما أقرّ بِالثَّانِي مُنْفَصِلا عَن الأول وَلم يُغير ذَلِك حكم الأول لِأَن الْكَلَام غير مُتَّصِل فَلم يُغير آخِره أَوله لكنه بِمُقْتَضى إِقْرَاره زعم أَن الثُّلُث بَينه وَبَين الأول نِصْفَيْنِ وَلم يصدق فِي إبِْطَال حق الأول لما ذَكرْنَاهُ وَصدق فِي إِثْبَات حق الثَّانِي فَيعتق مِنْهُ نصفه ثمَّ لما أقرّ بِعِتْق الثَّالِث زعم أَن الثُّلُث بَينهم أَثلَاثًا لكنه لم يصدق فِي إبِْطَال حق الْأَوَّلين لعدم اتِّصَال الْكَلَام فَيعتق من الثَّالِث ثلثه

وَأما إِذا أقرّ بذلك بِكَلَام مُتَّصِل فَمُقْتَضى قَوْله إِنَّه يعْتق من كل وَاحِد ثلثه أَن يكون الْوَاو للْجمع بِقَيْد الْمَعِيَّة عِنْدهم وَقد انفصلوا عَنهُ بِمَا تقدم فِي الَّتِي قبل هَذِه أَن آخر الْكَلَام يُغير أَوله فاعتد بجملته كَمَا فِي حَالَة الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء وَذَلِكَ أَنه لَو سكت على الْإِقْرَار بِعِتْق الأول نفذ فِيهِ وَحده فَإِذا وصل بِكَلَامِهِ الْإِقْرَار بِعِتْق الثَّانِي وَالثَّالِث تغير حكم الأول من عتق إِلَى تشقيص واستسعاء فَكَانَ دافعا لحكم الأول وَكَذَا حكم الثَّانِي مَعَ الثَّالِث بِالنِّسْبَةِ إِلَى قدر مَا يتَعَلَّق مِنْهُ كَمَا تقدم فَلَمَّا كَانَ كَذَلِك توقف أول الْكَلَام وأوسطه على آخِره وَعتق من كل وَاحِد ثلثه هَذَا حَاصِل مَا وجهوا بِهِ هَذِه الْمَسْأَلَة وفيهَا النّظر الْمُتَقَدّم 9 - وَمِنْهَا إِذا قَالَ فِي مرض مَوته سَالم حر وغانم حر وَكَانَ الثُّلُث لَا يحْتَمل إِلَّا أَحدهمَا فَإِنَّهُ ينفذ عتق الأول لَا لِأَن الْوَاو للتَّرْتِيب بل لِأَن عتق الأول نفذ عَن غير مَوْقُوف على شَيْء فَلم يُصَادف عتق الثَّانِي محلا للنفوذ هَذَا مَا جزم بِهِ أَصْحَابنَا وَمُقْتَضى قَاعِدَة الْحَنَفِيَّة الْمَذْكُورَة آنِفا أَن الثُّلُث يتقسط عَلَيْهِمَا بالتشقيص لِأَنَّهُ باتصال كَلَامه دفع آخِره أَوله فاعتبرا كَالْكَلَامِ الْوَاحِد

أما إِذا قَالَ سَالم وغانم وواثق أَحْرَار وَلم يَحْتَمِلهُمْ الثُّلُث فَإِنَّهُ يقرع بَينهم على قَاعِدَة الشَّافِعِي الَّتِي دلّ عَلَيْهَا الحَدِيث وَيعتق من كل مِنْهُم ثلثه عِنْد الْحَنَفِيَّة على قاعدتهم وَلَيْسَ ذَلِك لِأَن الْوَاو للمعية بل لِأَن الْأَخْبَار بحريتهم كَانَ بعد تسميتهم فَهُوَ كَمَا لَو عينهم جَمِيعًا بِكَلِمَة وَاحِدَة مُخَاطبا لَهُم وَذَلِكَ قدر زَائِد على كَون الْوَاو للْجمع بِقَيْد الْمَعِيَّة كَمَا أَن فِي الأول لَا يُؤْخَذ مِنْهُ أَنَّهَا للتَّرْتِيب وَالله سُبْحَانَهُ أعلم

فصل الأسباب المقتضية للتقديم والاهتمام

13 - فصل الْأَسْبَاب الْمُقْتَضِيَة للتقديم والاهتمام تقدم كَلَام سِيبَوَيْهٍ أَنهم يقدمُونَ فِي كَلَامهم مَا هم بِهِ أهم وببيانه أعنى وَإِن كَانَا جَمِيعًا يهمانهم ويعنيانهم وَهَذَا ذكره بعد بَيَانه أَن الْوَاو لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيب قَالَ فَتَقول صمت شعْبَان ورمضان وَإِن شِئْت صمت رَمَضَان وَشَعْبَان بخلال الْفَاء وَثمّ وَقَالَ عقيبة إِلَّا أَنهم يقدمُونَ فِي كَلَامهم إِلَى أَخّرهُ وَهَذَا يَسْتَدْعِي بَيَان الْأَسْبَاب الْمُقْتَضِيَة للتقديم والاهتمام ليترتب عَلَيْهَا مُنَاسبَة الْمَوَاضِع المعطوفة فِي مَوَاضِع من الْكتاب وَالسّنة قدم بَعْضهَا على بعض لحكمة تَقْتَضِي التَّقْدِيم فِي ذَلِك الْمقَام من حَيْثُ الْمَعْنى أما من حَيْثُ اللَّفْظ فقد يُرَاعى سَبَب ذَلِك فَيقدم بعض الْأَلْفَاظ على بعض بِحَسب الخفة والثقل كَقَوْلِهِم ربيعَة وَمُضر وَكَانَ تَقْدِيم مُضر أولى لشرفها بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولاتساع قبائلها وَكَثْرَة فضائلها وَلَكِن قدمت ربيعَة لِكَثْرَة الحركات وتواليها فِي لفظ مُضر فَإِذا أخرت وقف عَلَيْهَا بِالسُّكُونِ فتقل حركاتها وَلَكِن اعْتِبَار هَذَا قَلِيل جدا وَالْأَكْثَر الْغَالِب إِنَّمَا هُوَ اعْتِبَار الْمَعْنى وَذَلِكَ بِأحد خَمْسَة أَشْيَاء وَهِي

الزَّمَان والطبع والرتبة وَالسَّبَب وَالْفضل فَإِذا سبق معنى من هَذِه الْمعَانِي إِلَى الْخلد والفكر سبق اللَّفْظ الدَّال على ذَلِك الْمَعْنى وَكَانَ ترَتّب الْكَلَام بِحَسب ذَلِك وَهَذَا كُله على وَجه الْأَوْلَوِيَّة وَبَيَان الْمُنَاسبَة لَا على وَجه اللُّزُوم وَأَنه لَا يجوز غَيره بل وَقع خلاف ذَلِك مَعَ عدم الْمُنَاسبَة وَقد يكون فِي اللَّفْظ مَعْنيانِ من هَذِه الْخَمْسَة فَيقدم بِسَبَب أَحدهمَا فِي مَوضِع وَيُؤَخر بِسَبَب الآخر فِي مَوضِع آخر لتقدم مَا يكون أهم مِنْهُ فِي ذَلِك الْموضع بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِك الْمَعْنى فمثال التَّقْدِيم بِالزَّمَانِ قَوْله تَعَالَى {وَإِن يُكذِّبُوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَقوم إِبْرَاهِيم وَقوم لوط وَأَصْحَاب مَدين وَكذب مُوسَى فأمليت للْكَافِرِينَ} فَإِن تَرْتِيب هَذِه السَّبْعَة وَقع بِحَسب الزَّمَان وَكَذَلِكَ أَكثر مَا ورد فِي الْقُرْآن من سِيَاق هَذِه الْقَصَص مبسوطة كَمَا فِي الْأَعْرَاف وَهود وَالشعرَاء وَغَيرهَا وَكَذَلِكَ حَيْثُ يذكر عَاد وَثَمُود غَالِبا وَقد جَاءَ فِي مَوَاضِع يسيرَة على خلاف ذَلِك حَيْثُ كَانَ الْمَقْصُود تعدادهم مَعَ قطع النّظر عَن التَّقْدِيم بِحَسب الزَّمَان وَمِنْه أَيْضا قَوْله تَعَالَى {وَجعل الظُّلُمَات والنور} فَإِن الظلمَة سَابِقَة على النُّور بِالزَّمَانِ كَمَا دلّ عَلَيْهِ الحَدِيث (إِن الله خلق خلقه فِي ظلمَة ثمَّ ألْقى عَلَيْهِ من نوره) وَقَالَ تَعَالَى {فِي ظلمات ثَلَاث} يَعْنِي ظلمَة الرَّحِم وظلمة الْبَطن وظلمة المشيمة وَكَذَلِكَ تقدم الظلمَة المعقولة وَهِي الْجَهْل

مَعْلُوم بضرورة الْعقل كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وَالله أخرجكم من بطُون أُمَّهَاتكُم لَا تعلمُونَ شَيْئا وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة} وَمِثَال التَّقْدِيم بالطبع قَوْله تَعَالَى {مثنى وَثَلَاث وَربَاع} وَكَذَلِكَ سَائِر مَا يتَقَدَّم من الْأَعْدَاد بَعْضهَا على بعض إِنَّمَا يتَقَدَّم بالطبع لِأَن كل رُتْبَة مِنْهُ إِنَّمَا تتركب مِمَّا قبلهَا كتقديم الْجِسْم على الْحَيَوَان وَالْحَيَوَان على الْإِنْسَان وَمِنْه أَيْضا تَقْدِيم الْعَزِيز على الْحَكِيم وَرُبمَا كَانَ من تَقْدِيم السَّبَب على الْمُسَبّب وَقد رُوِيَ أَن أَعْرَابِيًا لَا يحفظ الْقُرْآن سمع قَارِئًا يقرآ / إِن الله حَكِيم عَزِيز / فَقَالَ مَا هَكَذَا أنزلت فَقَرَأَ ذَلِك {عَزِيز حَكِيم} فَقَالَ هَذَا صَحِيح عز فَلَمَّا عز حكم وَمثل هَذَا فِي الْقُرْآن الْعَظِيم وَالْكَلَام كثير كَقَوْلِه تَعَالَى {إِن الله يحب التوابين وَيُحب المتطهرين} لِأَن التَّوْبَة سَبَب الطَّهَارَة وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {كل أفاك أثيم} و {كل مُعْتَد أثيم} لِأَن الأول سَبَب الْإِثْم وَكَذَلِكَ الاعتداء وَأما التَّقْدِيم بالرتبة فكقوله تَعَالَى {هماز مشاء بنميم} لِأَن الْمَشْي مُرَتّب على الْقعُود فِي الْمَكَان والهماز العياب وَذَلِكَ لَا يفْتَقر إِلَى حَرَكَة وانتقال من مَوْضِعه بِخِلَاف النميمة

وَكَذَلِكَ قَوْله {مناع للخير مُعْتَد} لِأَن المناع يمْنَع خير نَفسه والمعتدي يعتدي على غَيره وَنَفسه فِي الرُّتْبَة قبل غَيره وَكَذَلِكَ قَوْله {يأتوك رجَالًا وعَلى كل ضامر} لِأَن الْغَالِب أَن من يَأْتِي رَاجِلا يكون من مَكَان قريب والراكب يَأْتِي من مَكَان بعيد على أَنه قد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ وددت أَنِّي حججْت رَاجِلا لِأَن الله تَعَالَى قدم الرجالة على الركْبَان فِي الْقُرْآن فَجعله ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ من بَاب تَقْدِيم الْفَاضِل على الْمَفْضُول وَمَا قدم أَيْضا اعْتِبَارا بِالسَّبَبِ فِي تَقْدِيمه على الْمُسَبّب قَوْله تَعَالَى {حب الشَّهَوَات من النِّسَاء والبنين} وَمِثَال التَّقْدِيم بِالْفَضْلِ والشرف قَوْله تَعَالَى {من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ} وَمِنْه تَقْدِيم السّمع على الْبَصَر وَتَقْدِيم سميع على بَصِير وَجعل السُّهيْلي رَحمَه الله من ذَلِك تَقْدِيم الْجِنّ على الْإِنْس فِي غَالب الْمَوَاضِع قَالَ لِأَن الْجِنّ يَشْمَل الْمَلَائِكَة وَغَيرهم مِمَّا اجتن على الْأَبْصَار قَالَ تَعَالَى {وَجعلُوا بَينه وَبَين الْجنَّة نسبا} وَالْمرَاد بهم الْمَلَائِكَة

وَقَالَ الْأَعْشَى (وسخر من جن الملائك سَبْعَة ... قيَاما لَدَيْهِ يعْملُونَ بِلَا أجر) فَأَما قَوْله تَعَالَى {لم يطمثهن إنس قبلهم وَلَا جَان} وَقَوله تَعَالَى {فَيَوْمئِذٍ لَا يسْأَل عَن ذَنبه إنس وَلَا جَان} وَقَوله تَعَالَى {أَن لن تَقول الْإِنْس وَالْجِنّ على الله كذبا} فَإِن لفظ الْجِنّ فِي هَذِه الْآيَات لَا يتَنَاوَل الْمَلَائِكَة لبراءتهم عَن الْعُيُوب وَأَنَّهُمْ لَا يتَوَهَّم عَلَيْهِم الْكَذِب وَلَا سَائِر الذُّنُوب فَلَمَّا لم يتناولهم عُمُوم لفظ الْجِنّ لهَذِهِ الْقَرِينَة بَدَأَ بِلَفْظ الْأنس لشرفهم وفضلهم قلت وَهَذَا يرد عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس ألم يأتكم رسل مِنْكُم يقصون عَلَيْكُم آياتي} الْآيَة فَإِن الْمَلَائِكَة لَا يدْخلُونَ فِي لفظ الْجِنّ فِي هَذِه الْآيَة قطعا وَقد قدمهم فِي اللَّفْظ فَالَّذِي يظْهر أَن تَقْدِيم الْجِنّ

على الْإِنْس من التَّقَدُّم بِالزَّمَانِ لأَنهم خلقُوا قبل بني آدم وَحَيْثُ قدم الْإِنْس فِي تِلْكَ الْآيَات يكون تَقْدِيمًا بالشرف والكمال وَهَذَا كَمَا فِي تَقْدِيم السَّمَاء على الأَرْض غَالِبا فَإِنَّهُ بِالْفَضْلِ والشرف وقدمت الأَرْض عَلَيْهَا فِي مثل قَوْله {وَمَا يعزب عَن رَبك من مِثْقَال ذرة فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء} بالرتبة لِأَنَّهَا مسوقة لإحصاء أَعمال المخاطبين لما تقدم من قَوْله {وَلَا تَعْمَلُونَ من عمل إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُم شُهُودًا} فَنَاسَبَ ذَلِك هُنَا تَقْدِيم الأَرْض الَّتِي هم أَهلهَا ومستقرون فِيهَا وَهِي أقرب إِلَيْهِم من السَّمَاء وَهَكَذَا أَيْضا تَقْدِيم السَّمِيع على الْعَلِيم فِي قَوْله {سميع عليم} فِي مَوَاضِع فَإِنَّهُ خبر يتَضَمَّن التخويف والتهديد فَبَدَأَ بالسميع لتَعَلُّقه بِمَا قرب كالأصوات وهمس الحركات فَإِن من يسمع حسك وخفي صَوْتك أقرب إِلَيْك فِي الْعَادة مِمَّن يُقَال لَك إِنَّه يعلم وَإِن كَانَ علم الْبَارِي سُبْحَانَهُ مُتَعَلقا بِمَا ظهر وبطن وَقرب وَبعد وَلَكِن ذكر السَّمِيع أوقع فِي بَاب التخويف من الْعَلِيم فَكَأَنَّهُ مُتَقَدم بالرتبة وَأما تَقْدِيم الغفور على الرَّحِيم فِي الْغَالِب فَهُوَ بالطبع لِأَن الْمَغْفِرَة سَلامَة وَالرَّحْمَة غنيمَة والسلامة مَطْلُوبَة قبل الْغَنِيمَة وَجَاء فِي سُورَة سبأ تَقْدِيم الرَّحِيم على الغفور وَذَلِكَ تَقْدِيم إِمَّا بِالْفَضْلِ والكمال وَإِمَّا بالطبع أَيْضا لِأَن الْآيَة منتظمة ذكر أَصْنَاف الْخلق من الْمُكَلّفين وَغَيرهم من الْحَيَوَان فالرحمة تشملهم وَالْمَغْفِرَة تخص بعض الْمُكَلّفين والعموم مُتَقَدم بالطبع على

الْخُصُوص كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَاكِهَة ونخل ورمان} و {من كَانَ عدوا لله وَمَلَائِكَته وَرُسُله وَجِبْرِيل وميكال} وَقَوله تَعَالَى {ارْكَعُوا واسجدوا} التَّقْدِيم فِيهِ بِالزَّمَانِ وبالطبع لِأَنَّهُ انْتِقَال من علو إِلَى خفض والعلو بالطبع من حق الْقَائِم قبل الانخفاض وَأما {واسجدي واركعي مَعَ الراكعين} فالتقديم فِيهِ بِالْفَضْلِ لِأَن السُّجُود أفضل من الرُّكُوع لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أقرب مَا يكون العَبْد من ربه وَهُوَ ساجد) وَقد تقدم عَن السُّهيْلي أَنه جعل السُّجُود وَالرُّكُوع فِي هَذِه الْآيَة من بَاب التَّعْبِير بالجزء عَن الْكل وَأَن المُرَاد بِالسُّجُود صلَاتهَا فِي بَيتهَا وبالركوع صلَاتهَا مَعَ النَّاس فِي الْمَسْجِد لقَوْله {واركعي مَعَ الراكعين} وَقدم الأول لفضله لِأَن أفضل صَلَاة الْمَرْأَة فِي بَيتهَا وَكَذَلِكَ عبر عَنهُ بِالسُّجُود لِأَنَّهُ أفضل من الرُّكُوع وَذكر أَيْضا فِي قَوْله تَعَالَى {وطهر بَيْتِي للطائفين والقائمين والركع السُّجُود} أَن التَّقْدِيم فِيهِ بالرتبة فَبَدَأَ بالطائفين لقربهم من الْبَيْت ثمَّ بالقائمين وَالْمرَاد بهم العاكفين كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا مَا دمت عَلَيْهِ قَائِما} أَي مواظبا ملازما وهم كالطائفين فِي الْقرب من الْبَيْت بل يَصح ذَلِك فِي كل مَكَان مَعَ اسْتِقْبَال الْبَيْت

قَالَ وَلم يعْطف السُّجُود بِالْوَاو لأَنهم هم الركع وَالشَّيْء لَا يعْطف على نَفسه وَلِأَن من لم يسْجد فِي الصَّلَاة لَا يعْتد بركوعه وَأَيْضًا فلئلا يظنّ أَن المُرَاد بِالسُّجُود الْمصدر دون النَّعْت الَّذِي هُوَ جمع فَهَذِهِ الْمَوَاضِع تنبه على مَا وَرَاءَهَا فِي الْحِكْمَة لتقديم بعض الْأَشْيَاء فِي الذّكر على بعض وَالله أعلم

14 - فصل قَاعِدَة الْحَنَفِيَّة فِي عطف الْجمل تقدم من قَاعِدَة الْحَنَفِيَّة أَن الْجُمْلَة إِذا عطفت على أُخْرَى قبلهَا فَإِن كَانَت الْجُمْلَة الثَّانِيَة تَامَّة اسْتَقَلت بِنَفسِهَا وَكَانَت الْمُشَاركَة فِي أصل الحكم لَا فِي جَمِيع صِفَاته وَقد لَا تَقْتَضِي مُشَاركَة أصلا وَهِي الَّتِي تسمى وَاو الِاسْتِئْنَاف كَقَوْلِه تَعَالَى {فَإِن يَشَأْ الله يخْتم على قَلْبك ويمح الله الْبَاطِل ويحق الْحق بكلماته} فَإِن قَوْله {ويمح الله الْبَاطِل} جملَة مستأنفة لَا تعلق لَهَا بِمَا قبلهَا وَلَا هِيَ دَاخِلَة فِي جَوَاب الشَّرْط وَحذف الْوَاو من {ويمح} اتبَاعا للرسم وَإِلَّا فالفعل مَرْفُوع بِدَلِيل الْعَطف عَلَيْهِ بقوله {ويحق الْحق} أما إِذا كَانَت الْجُمْلَة المعطوفة نَاقِصَة فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّة أَنَّهَا تشارك الأولى فِي جَمِيع ماهي عَلَيْهِ فَإِذا قَالَ هَذِه طَالِق ثَلَاثًا وَهَذِه طلقت الثَّانِيَة ثَلَاثًا أَيْضا

بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ وَهَذِه طَالِق فَإِنَّهَا لَا تطلق إِلَّا وَاحِدَة لاستقلال الْجُمْلَة بِتَمَامِهَا وعَلى هَذَا بنوا بحثهم الْمَشْهُور فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا يقتل مُؤمن بِكَافِر وَلَا ذُو عهد فِي عَهده) فِي تَخْصِيص الْجُمْلَة الأولى بالكافر الْحَرْبِيّ لعطفه الثَّانِيَة عَلَيْهَا وَهِي عِنْدهم مُقَيّدَة بِتَقْدِير الْكَافِر الْحَرْبِيّ وَقَالُوا حرف الْعَطف يَجْعَل الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ كالشيء الْوَاحِد وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَة فيهمَا فِي الحكم وتفاصيله وَإِذا شاركت الْجُمْلَة النَّاقِصَة الأولى التَّامَّة فِيمَا تمت بِهِ بِعَيْنِه فَلَا حَاجَة إِلَى تَقْدِير شَيْء آخر من إِعَادَة شَرط أَو تَقْدِير خبر لِأَن الثَّانِيَة بعطفها أفادت مَا تفيده الأولى فَلَا فَائِدَة فِي التَّقْدِير وَلِهَذَا إِذا قَالَ إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق وَطَالِق كَانَ الثَّانِي مُعَلّقا بذلك الشَّرْط بِعَيْنِه وَلَا حَاجَة إِلَى تَقْدِير إِعَادَته وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ أَنْت طَالِق إِن دخلت هَذِه الدَّار وَإِن دخلت هَذِه الدَّار الْأُخْرَى فعلق بِدُخُول الدَّار الثَّانِيَة تِلْكَ التطليقة لَا تَطْلِيقَة أُخْرَى حَتَّى لَو دخلت الدَّاريْنِ لم تطلق إِلَّا وَاحِدَة وَلَو قدر الشَّرْط معادا لطلقت ثِنْتَيْنِ وَهَذَا يرد عَلَيْهِ الْمَسْأَلَة الْمُتَقَدّمَة إِذا قَالَ هَذِه طَالِق ثَلَاثًا وَهَذِه فَإِن مُقْتَضى الشّركَة أَن تطلق كل وَاحِدَة ثِنْتَيْنِ لانقسام الثَّلَاث عَلَيْهِمَا وتكميل النَّاقِص

وَلَو قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم وَلفُلَان جعلت الْألف منقسمة عَلَيْهِمَا عِنْدهم تَحْقِيقا للشَّرِكَة وَلَا تجْعَل كالمعاد حَتَّى يكون لكل مِنْهُمَا ألف وَقد اعتذروا عَن ذَلِك بِأَن فِي مَسْأَلَة الطَّلَاق فهم مَقْصُود الزَّوْج وَهِي الْبَيْنُونَة الْكُبْرَى بخطاب الأولى فَكَانَت الثَّانِيَة كَذَلِك وَفِي مَسْأَلَة الْإِقْرَار لم يُعَارض ذَلِك شَيْء مَعَ اعْتِقَاده بِأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة وَقَالُوا فِيمَا إِذا قَالَ إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق وفلانة إِنَّه يَقْتَضِي تَعْلِيق طَلَاق الثَّانِيَة بِدُخُول الأولى حَتَّى إِذا دخلت الأولى الدَّار طلقتا جَمِيعًا وَمُقْتَضى قَوْلهم إِن عطف الْجُمْلَة النَّاقِصَة على الْكَامِلَة يتَضَمَّن مشاركتهما فِي الحكم أَن يكون طَلَاق الثَّانِيَة مُعَلّقا على دُخُول نَفسهَا لَا على دُخُول الأولى لكِنهمْ بنوا ذَلِك على مَا تقدم لَهُم من عدم تَقْدِير الشَّرْط الثَّانِي فَلَا يتَعَلَّق طَلاقهَا إِلَّا بِدُخُول الأولى وَقد الْتزم ابْن الْحَاجِب فِي أثْنَاء كَلَام لَهُ فِي مُخْتَصره الأصولي أَن قَول الْقَائِل ضربت زيدا يَوْم الْجُمُعَة وعمرا يتَقَيَّد بِيَوْم الْجُمُعَة أَيْضا وَهَذَا يَقْتَضِي أَن عطف الْجُمْلَة النَّاقِصَة عِنْده على الْكَامِلَة تَقْتَضِي مشاركتها فِي أصل الحكم وتفاصيله وَذكر لي بعض الْفُضَلَاء أَن ابْن عُصْفُور اخْتَار ذَلِك أَيْضا وَلم أظفر بِهِ فِي كَلَامه أما أَصْحَابنَا فقد اخْتلف حكمهم فِي ذَلِك فَقَالُوا فِي مَسْأَلَة الشَّرْط الْمُتَقَدّمَة إِذا قَالَ إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق وفلانة إِن الثَّانِيَة تتقيد أَيْضا بِالشّرطِ وَكَذَلِكَ لَو قدم الْجَزَاء على الشَّرْط وَهُوَ ظَاهر وَقَالُوا فِيمَا إِذا قَالَ لفُلَان عَليّ ألف وَدِرْهَم وَنَحْو ذَلِك إِنَّه لَا يكون الدِّرْهَم مُفَسرًا للألف بل لَهُ

تَفْسِيرهَا بِمَا شَاءَ وَهُوَ مَذْهَب مَالك أَيْضا وَقَالَت الْحَنَفِيَّة إِن كَانَ الْمَعْطُوف مَكِيلًا أَو معدودا أَو مَوْزُونا تفسرت الْألف بِهِ وَهُوَ جَار على مَا تقدم من قاعدتهم فَإِن كَانَ الْمَعْطُوف مُتَقَوّما كَالثَّوْبِ وَالْعَبْد بَقِي الْعدَد الأول على إبهامه وَهَذَا وَارِد عَلَيْهِم وَبَالغ بعض أَصْحَابنَا حَتَّى قَالَ إِذا قَالَ الْمقر لَهُ عَليّ خَمْسَة وَعِشْرُونَ درهما إِن الْخَمْسَة تكون مُبْهمَة وَالْعشْرُونَ هِيَ المفسرة بالدرهم وَلِأَن الرَّاجِح تَفْسِير الْكل بِهِ لِأَنَّهُ لَا يجب بِذكر الدِّرْهَم شَيْء زَائِد فَيكون مُفَسرًا للْكُلّ بِخِلَاف قَوْله ألف وَدِرْهَم وَلَو قَالَ كل امْرَأَة أَتَزَوَّجهَا فَهِيَ طَالِق وَأَنت يَا أم أَوْلَادِي قَالَ أَبُو عَاصِم الْعَبَّادِيّ لَا يَقع عَلَيْهِ الطَّلَاق قبل لِأَنَّهُ النِّكَاح لَغْو وَقد رتب طَلاقهَا عَلَيْهِ قبله وَحَكَاهُ عَنهُ الرَّافِعِيّ مقررا لَهُ ثمَّ قَالَ وَيقرب من هَذَا مَا ذكره غَيره أَنه لَو قَالَ لزوجته نسَاء الْعَالمين طَوَالِق وَأَنت يَا فَاطِمَة لَا يَقع بِهِ شَيْء لِأَنَّهُ عطف طَلاقهَا على طَلَاق نسْوَة لَا يَقع طلاقهن وَمُقْتَضى تَعْلِيل هَاتين الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنه إِذا عطف الطَّلَاق على طَلَاق نَافِذ يَقع وَلَكِن الظَّاهِر أَن ذَلِك يكون كِنَايَة فتشترط النِّيَّة مَعَه بِدَلِيل أَنه لَو طلق إِحْدَى امرأتيه ثمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى اشتركت مَعهَا أَو أَنْت كهي أَو مثلهَا قَالُوا

إِن نوى طَلَاق الثَّانِيَة طلقت وَإِلَّا فَلَا وَلَو طلق إِحْدَى امرأتيه ثَلَاثًا ثمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى اشتركت مَعهَا وَلم ينْو الْعدَد قَالَ اسماعيل البوشنجي جرت مَسْأَلَة بَين يَدي أَبُو بكر الشَّاشِي فَأفْتى أَنَّهَا تطلق وَاحِدَة ثمَّ توقف البوشنجي فِي ذَلِك وَقَالَ قد أوقع على الأولى ثَلَاثًا والتشريك يَقْتَضِي أَن يكون لَهَا مثل ذَلِك فَهَذَا يَقْتَضِي أَن يكون قَوْله هَذِه طَالِق ثَلَاثًا وَهَذِه لَا يَقع بِهِ الثَّلَاث على الثَّانِيَة إِلَّا بِالنِّيَّةِ وَحكى الرَّافِعِيّ عَن كتب الْحَنَفِيَّة أَنه إِذا حلف لأدخلن هَذِه الدَّار الْيَوْم أَو هَذِه بر بِدُخُول إِحْدَاهمَا ذكر ذَلِك فِيمَا ألحقهُ تماثل أَصْحَابنَا من كتبهمْ مِمَّا لَا يُخَالف أصولنا وَتَبعهُ النَّوَوِيّ على ذَلِك وَمُقْتَضى ذَلِك الحاق الْجُمْلَة المعطوفة فِي التَّقْيِيد بِالْيَوْمِ الَّتِي قبلهَا وَالله أعلم

فصل إضمار حرف العطف

15 - فصل إِضْمَار حرف الْعَطف اخْتلفُوا فِي إِضْمَار حرف الْعَطف فالأكثرون على أَنه لَا يضمر لِأَن الْحُرُوف أَدِلَّة على معَان فِي نفس الْمُتَكَلّم فَلَو أضمرت لم يكن شَيْء يدل عَلَيْهَا فَلَا يهتدى إِلَى مُرَاد الْمُتَكَلّم وكما أَن حُرُوف النَّفْي والتوكيد وَالتَّمَنِّي والترجي وَنَحْوهَا لَا تضمر فَكَذَلِك حُرُوف الْعَطف وَإِمَّا إِضْمَار حُرُوف الِاسْتِفْهَام فِي بعض الْمَوَاضِع فَلِأَن للمستفهم هَيْئَة تخَالف هَيْئَة الْمخبر فَفِي الْكَلَام مَا يدل عَلَيْهِ وَذهب أَبُو عَليّ الْفَارِسِي وَجَمَاعَة من الْمُتَأَخِّرين كَابْن مَالك وَابْن عُصْفُور وَنَحْوهمَا إِلَى جَوَاز ذَلِك وَقَيده الْمُحَقِّقُونَ عِنْد فهم الْمَعْنى وَاسْتدلَّ

الْفَارِسِي لَهُ بقوله تَعَالَى {وَلَا على الَّذين إِذا مَا أتوك لتحملهم قلت لَا أجد مَا أحملكم عَلَيْهِ توَلّوا} الْآيَة قَالَ تَقْدِيره وَقلت لَا أجد مَا أحملكم عَلَيْهِ كَانَ جَوَاب {إِذا} قَوْله {توَلّوا} وَذكر أَبُو الْقَاسِم اللورقي أَن الإِمَام الشَّافِعِي حمل على هَذَا مَا اخْتَارَهُ من التَّشَهُّد (التَّحِيَّات المباركات الصَّلَوَات الطَّيِّبَات لله) بِغَيْر وَاو على مَا رَوَاهُ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ وروى أَبُو زيد أَن الْعَرَب تَقول أكلت لَحْمًا لَبَنًا تَمرا وَجعل ابْن مَالك من هَذَا قَوْله تَعَالَى {وُجُوه يَوْمئِذٍ ناعمة} بعد قَوْله {وُجُوه يَوْمئِذٍ خاشعة} وَمِنْه أَيْضا قَول الشَّاعِر (كَيفَ أَصبَحت كَيفَ أمسيت مِمَّا ... يزرع الود فِي فؤاد السقيم)

وَقَول الآخر (مَا لي لَا أبْكِي على علاتي ... صبائحي غبائقي قيلاتي) وَقَول الآخر (ضربا طلخفا فِي الطلى شخيتا) يُرِيد ضربا طلخفا وشخيتا والطلخف الشَّديد والشخيت دونه فِي الشدَّة والطلى جمع طلية وَهِي صفحات الْأَعْنَاق وأنشدوا أَيْضا قَول الآخر (فَأَصْبَحْنَ ينشرن آذانهن فِي ... الطرح طرفا شمالا يَمِينا) (وأمت بِنَا مشرقا مغربا ... غبارا وحبسا صحارى حزونا) تَقْدِيره شمالا ويمينا ومشرقا ومغربا

وَمنع السُّهيْلي ذَلِك فِي الْآيَة الْمُتَقَدّمَة وَجعل جَوَاب {إِذا} فِي قَوْله تَعَالَى {قلت لَا أجد} وَقَوله {توَلّوا وأعينهم} إِخْبَارًا عَنْهُم وثناء عَلَيْهِم لِأَنَّهَا نزلت فِي قوم مخصوصين عرفُوا بأعيانهم قَالَ وَالْكَلَام غير مُحْتَاج إِلَى الْعَطف بِالْوَاو لِأَنَّهُ مُرْتَبِط بِمَا قبله كالتفسير لَهُ قلت وَكَذَلِكَ الْمَنْع أَيْضا مُتَوَجّه فِي قَوْله {وُجُوه يَوْمئِذٍ ناعمة} إِذْ لَا ضَرُورَة إِلَى الْعَطف وَيجوز أَن يكون ذَلِك جملَة ابتدائية مستأنفة وَأما الأبيات وَإِن تَضَمَّنت إِضْمَار حرف الْعَطف فَفِيهَا كلامان أَحدهمَا أَنَّهَا قَليلَة جدا بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِي الْكَلَام فَلَا يَقْتَضِي ذَلِك جَوَازًا عَاما وَالثَّانِي أَنَّهَا وَإِن اقْتَضَت الْجَوَاز فَيَنْبَغِي أَن يقْتَصر بِهِ على مَا كَانَ مثلهَا حَيْثُ يكون المعطوفان متجاور غير متراخ بعضهما عَن بعض كَمَا روى أَبُو زيد من قَوْلهم أكلت لَحْمًا لَبَنًا تَمرا ليدل ذَلِك دلَالَة ظَاهِرَة على تَقْدِير العاطف بِخِلَاف مَا إِذا تخَلّل فصل فَإِنَّهُ لَا يبْقى فِي قُوَّة الْكَلَام دلَالَة على تَقْدِيره وَقد ذكر السُّهيْلي أَن الْبَيْت الْمُتَقَدّم (كَيفَ أَصبَحت كَيفَ أمسيت) لم يرد الشَّاعِر فِيهِ الْعَطف إِذْ لَو أَرَادَ ذَلِك لانحصر إِثْبَات الود فِي هَاتين الْكَلِمَتَيْنِ من غير مواظبة وَلَا اسْتِمْرَار عَلَيْهَا وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن يَجْعَل أول الْكَلَام تَرْجَمَة على سَائِر الْبَاب يُرِيد الِاسْتِمْرَار على هَذَا الْكَلَام والمواظبة عَلَيْهِ وعَلى مثله هُوَ الجالب للود وَالله أعلم

فصل الفصل والوصل

16 - فصل الْفَصْل والوصل يتَّصل بِهَذَا الْكَلَام القَوْل فِي الْمَوَاضِع الَّتِي يحسن فِيهَا الْإِتْيَان بِالْوَاو العاطفة وَالَّتِي يحسن فِيهَا حذفهَا أويتعين وَهُوَ الْفَنّ الْمُسَمّى بِالْفَصْلِ والوصل فِي علم الْبَيَان وَهُوَ من أدق أبوابه وأغمضها مسلكا وَلَا يقوم بِهِ إِلَّا من أُوتِيَ فِي فهم كَلَام الْعَرَب فهما دَقِيقًا وطبعا سليما ورزق فِي إِدْرَاكه ذوقا صَحِيحا وَلِهَذَا سُئِلَ بعض الْعلمَاء عَن البلاغة فَقَالَ معرفَة الْفَصْل من الْوَصْل وَإِنَّمَا الْإِشْكَال فِي هَذَا الْبَاب فِي الْوَاو دون غَيرهَا من حُرُوف الْعَطف لِأَن تِلْكَ تفِيد مَعَ التَّشْرِيك شَيْئا زَائِدا كالترتيب فِي الْفَاء والتراخي فِي ثمَّ وكإفادة أَو أَن المُرَاد أحد الشَّيْئَيْنِ وَكَذَلِكَ الْبَقِيَّة بِخِلَاف الْوَاو فَإِنَّهَا تفِيد مُطلق الْجمع كَمَا تقدم وَهُوَ التَّشْرِيك فِي أصل الحكم أَو فِي بعض صِفَاته أَو فِي لَازم الْمُسَمّى إِمَّا ذهنا أَو عرفا وَنَحْو ذَلِك من الْجِهَات الجامعة لاقْتِضَاء الْعَطف عطف الْجمل وَالَّذِي يتَصَدَّى النّظر فِيهِ الْكَلَام فِي عطف الْجمل بَعْضهَا على بعض وَتَركه وَقد ذكر جمَاعَة من النجَاة لما تكلمُوا فِي إِضْمَار الْوَاو العاطفة أَن الْمُتَكَلّم بِالْخِيَارِ فِي الْجمل إِن شَاءَ عطفها وَإِن شَاءَ لم يعْطف ومثلوا ذَلِك بقوله

عطف جملة لها محل على أخرى

تَعَالَى {سيقولون ثَلَاثَة رابعهم كلبهم وَيَقُولُونَ خَمْسَة سادسهم كلبهم} ثمَّ قَالَ {وَيَقُولُونَ سَبْعَة وثامنهم كلبهم} وَهَذَا لَيْسَ بالهين وَلَا الْأَمر فِيهِ سهل كَمَا سنبينه إِن شَاءَ الله وَلَيْسَ حذف الْوَاو وإثباتها فِي هَذِه الْجمل الثَّلَاثَة على السوَاء كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى عطف جملَة لَهَا مَحل على أُخْرَى ثمَّ الْجُمْلَة إِذا عطفت على جملَة أُخْرَى فإمَّا أَن تكون الأولى لَهَا مَحل من الْإِعْرَاب أَولا فَإِن كَانَ لَهَا مَحل من الْإِعْرَاب وَقصد التَّشْرِيك بَينهَا وَبَين الثَّانِيَة فِيهِ عطفت عَلَيْهَا كعطف الْمُفْرد على الْمُفْرد فَإِن الْجُمْلَة لَا يكون لَهَا مَحل من الْإِعْرَاب حَتَّى تكون وَاقعَة موقع الْمُفْرد فَكَمَا يشْتَرط فِي عطف الْمُفْردَات أَن يكون بَينهَا جِهَة جَامِعَة كَذَلِك يشْتَرط فِي الْجمل كَقَوْلِك زيد يكْتب ويشعر أَو يُعْطي وَيمْنَع وَعَلِيهِ حمل قَوْله تَعَالَى {وَالله يقبض ويبسط} وَلذَلِك عيب على أبي تَمام فِي بَيته الْمُتَقَدّم ذكره (لَا وَالَّذِي هُوَ عَالم أَن النَّوَى ... صَبر وَأَن أَبَا الْحُسَيْن كريم) لعدم الْمُنَاسبَة بَين الجملتين فَإِن لم يقْصد التَّشْرِيك بَين الجملتين فِي الْإِعْرَاب كَانَ لَهُ الْخِيَار فِي الْعَطف وَعَدَمه لكنه يتَقَيَّد بِمَا سَيَأْتِي ذكره وَرُبمَا وَرُبمَا تعين الْوَصْل أَو عدم الْعَطف كَمَا سَيَأْتِي

عطف جملة لا محل لها على أخرى

عطف جملَة لَا مَحل لَهَا على أُخْرَى أما إِذا كَانَت الْجُمْلَة لَا مَحل لَهَا من الْإِعْرَاب فَلَا بُد فِي الْعَطف من أَن تكون الجملتان كالنظيرين والشريكين بِحَيْثُ إِذا عرف السَّامع حَال الأولى عناه أَن يعرف الثَّانِي أَو مَا يقرب من ذَلِك كَقَوْلِك زيد كَاتب وَعَمْرو شَاعِر فَإِن هَذَا خطاب لمن هُوَ متشوق لمعْرِفَة حَالهمَا فِي هَذَا الْأَمر الْمَخْصُوص وَكَذَلِكَ زيد طَوِيل وَعَمْرو قصير فَلَو قلت زيد طَوِيل الْقَامَة وَعَمْرو شَاعِر لم يكن ذَلِك حسنا إِلَّا إِذا تقدم سُؤال من مُتَكَلم عَن حَال كل مِنْهُمَا فِي ذَلِك الشَّيْء الْمَخْصُوص وَلَو قلت خرجت الْيَوْم من دَاري وَأحسن الَّذِي يَقُول كَذَا كَانَ كلَاما متهجنا لِأَن الثَّانِي لَيْسَ من الأول فِي شَيْء بِخِلَاف قَوْلك الْعلم حسن وَالْجهل قَبِيح لِأَن كَون الْعلم حسنا مضموم فِي الْعُقُول إِلَى كَون الْجَهْل قبيحا التَّعَلُّق بَين الجملتين بالتأكيد أَو الصّفة يُوجب الْفَصْل ثمَّ هَذِه الْجمل على قسمَيْنِ الأول أَن يكون معنى إِحْدَى الجملتين لذاته مُتَعَلقا بِمَعْنى الْأُخْرَى كَمَا إِذا كَانَت كالتوكيد لَهَا أَو الصّفة فَلَا يجوز إِدْخَال العاطف بَينهمَا لِأَن التَّأْكِيد وَالصّفة متعلقان بالمؤكد والموصوف لذاتهما والتعلق الذاتي يُغني عَن لفظ يدل على التَّعَلُّق فَمثل ذَلِك قَوْله تَعَالَى {الم ذَلِك الْكتاب لَا ريب فِيهِ} فَإِن وزان {لَا ريب فِيهِ} فِي الْآيَة وزان نَفسه فِي قَوْلك جَاءَنِي الْخَلِيفَة نَفسه فَهُوَ بَيَان وَتَحْقِيق مُؤَكد لِأَنَّك لم ترد بِقَوْلِك جَاءَنِي الْخَلِيفَة الْمجَاز فَكَذَلِك الْآيَة فَإِنَّهُ لما بولغ فِي وَصفه

بالكمال وبلوغه الدرجَة القصوى مِنْهُ لجعله الْمُبْتَدَأ ذَلِك وَتَقْدِير الْخَبَر بِاللَّامِ فَكَانَ نفي الريب عَنهُ تَأْكِيدًا لكماله كَأَنَّهُ قَالَ هُوَ ذَلِك الْكتاب وَمثله قَوْله {سَوَاء عَلَيْهِم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لَا يُؤمنُونَ} فَإِن معنى قَوْله تَعَالَى {لَا يُؤمنُونَ} معنى مَا قبله وَكَذَلِكَ أَيْضا قَوْله تَعَالَى بعده {ختم الله على قُلُوبهم} تَأْكِيد ثَان لِأَن عدم التَّفَاوُت بَين الانذار وَعَدَمه لَا يَصح إِلَّا فِي حق من لَيْسَ لَهُ قلب يخلص إِلَيْهِ الْحق وَسمع تدْرك بِهِ حجَّة وبصر تثبت بِهِ عِبْرَة وَقَوله تَعَالَى {يخادعون الله وَالَّذين آمنُوا} كَذَلِك أَيْضا تَأْكِيد لما قبله لِأَن المخادعة لَيست شَيْئا غير قَوْلهم {آمنا} مَعَ أَنهم غير مُؤمنين فَلذَلِك لم يقل ويخادعون وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {قَالُوا إِنَّا مَعكُمْ إِنَّمَا نَحن مستهزؤون} وَقَوله تَعَالَى {ولى مستكبرا كَأَن لم يسْمعهَا كَأَن فِي أُذُنَيْهِ وقرا} وَإِن كَانَ الثَّانِي أبلغ من الأول لِأَن حَال من لَا يَصح السّمع مِنْهُ أبلغ فِي عدم الِانْتِفَاع بالْكلَام من حَال من يَصح ذَلِك مِنْهُ فَأَما قَوْله تَعَالَى {مَا هَذَا بشرا إِن هَذَا إِلَّا ملك كريم} فَإِنَّهُ يحْتَمل أَن يكون من التَّأْكِيد من حَيْثُ إِن الْمُرْتَفع عَن جنس البشرية من الْمَخْلُوقَات

عدم التعلق بين الجملتين ووجود اللبس بالعطف يوجب الفصل

لَيْسَ إِلَّا الْملك فِي عرف المستحسن الْمُعظم لذَلِك وَيحْتَمل أَن يكون من الصّفة فَإِن إِخْرَاجه من جنس البشرية تَتَضَمَّن لَا محَالة دُخُوله فِي جنس آخر وَالْقِسْمَة غير منحصرة فِي الْملك والبشر فَكَانَ جعله ملكا لِسَان الْمَقْصُود من ذَلِك الْجِنْس والتمييز عَن غَيره وَمن مَوَاضِع التوكيد أَيْضا قَوْله تَعَالَى {وَمَا علمناه الشّعْر وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِن هُوَ إِلَّا ذكر وَقُرْآن مُبين} وَقَوله {وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} عدم التَّعَلُّق بَين الجملتين وَوُجُود اللّبْس بالْعَطْف يُوجب الْفَصْل الْقسم الثَّانِي أَلا يكون بَين الجملتين تعلق ذاتي فإمَّا أَن يعرض لبس من الْعَطف أَولا فَإِن عرض لبس وَجب ترك الْعَطف كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {قَالُوا إِنَّا مَعكُمْ إِنَّمَا نَحن مستهزؤون الله يستهزئ بهم} فَإِنَّهُ لَو عطف {الله يستهزئ بهم} على مَا قبله لأوهم أَنه من مقول الْمُنَافِقين وَلَيْسَ مِنْهُ فَترك الْعَطف لذَلِك وَمثله أَيْضا قَوْله تَعَالَى {قَالُوا إِنَّمَا نَحن مصلحون أَلا إِنَّهُم هم المفسدون} فَترك الْعَطف لبَيَان أَن هَذِه الْجُمْلَة من قَول الله تَعَالَى ردا عَلَيْهِم وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {قَالُوا أنؤمن كَمَا آمن السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُم هم السُّفَهَاء} وَهَذِه الْجمل فِي الْحَقِيقَة جَوَاب عَن سُؤال مُقَدّر لِأَنَّهُ تَعَالَى لما أخبر عَنْهُم بِأَنَّهُم قَالُوا كَيْت وَكَيْت شوق السَّامع إِلَى الْعلم بمصير أَمرهم وَمَا حكم بِهِ

عَلَيْهِم فَكَأَنَّهُ قيل وماذا يفعل الله بهم فَقَالَ {الله يستهزئ بهم ويمدهم فِي طغيانهم يعمهون} أَو مَاذَا حكمهم فَقَالَ {أَلا إِنَّهُم هم السُّفَهَاء} فحصر السَّفه فيهم وَمِنْه قَول الشَّاعِر (زعم العواذل أنني فِي غمرة ... صدقُوا وَلَكِن غمرتي لَا تنجلي) فَإِنَّهُ لما حكى عَن العواذل أَنهم قَالُوا هُوَ فِي غمرة وَكَانَ ذَلِك مِمَّا يُحَرك السَّامع لِأَن يَقُول لَهُ فَمَا جوابك عَن ذَلِك أخرج الْكَلَام مخرجه فَقَالَ صدقُوا إِلَّا أَن ترك الْعَطف هُنَا لَا يتَعَيَّن لعدم الايهام واللبس بِخِلَاف الْآيَات الْمُتَقَدّمَة وَأَيْضًا فَلَو عطف قَوْله {الله يستهزئ بهم} على مَا قبله لأوهم مشاركته فِي الِاخْتِصَاص بالظرف الْمُتَقَدّم وَهُوَ قَوْله {وَإِذا خلوا إِلَى شياطينهم} لِأَنَّهُ الْوَقْت الْمَقُول فِيهِ {إِنَّا مَعكُمْ إِنَّمَا نَحن مستهزؤون} وَلَا شكّ أَن استهزاء الله بهم وَهُوَ خذلانه إيَّاهُم واستدراجه لَهُم من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ مُتَّصِل لَا يَنْقَطِع بِكُل حَال خلوا إِلَى شياطينهم أم لم يخلوا إِلَيْهِم أما إِذا لم يحصل من الْعَطف لبس وَلَا إِيهَام فإمَّا أَن يكون بَين الجملتين انْقِطَاع إِمَّا كَامِل أَو بِمَنْزِلَتِهِ أَو اتِّصَال كَامِل أَو بِمَنْزِلَتِهِ

الانقطاع بين الجملتين يوجب الفصل

الِانْقِطَاع بَين الجملتين يُوجب الْفَصْل فَإِن كَانَت الثَّانِيَة مُنْقَطِعَة عَن الأولى أَو فِي معنى ذَلِك حذفت الْوَاو لِأَن الْجمع بَين الشَّيْئَيْنِ يَقْتَضِي مُنَاسبَة بَينهمَا كَمَا تقدم وَمن هَذَا الضَّرْب اخْتِلَاف الجملتين خَبرا وإنشاء كَقَوْلِك مَاتَ فلَان اللَّهُمَّ ارحمه أَو رَحمَه الله لِأَنَّهُ بِمَعْنى الْإِنْشَاء وَجعل السكاكي مِنْهُ قَول اليزيدي (ملكته حُبْلَى وَلكنه ... أَلْقَاهُ من زهد على غاربي) (وَقَالَ إِنِّي فِي الْهوى كَاذِب ... انتقم الله من الْكَاذِب)

كمال الاتصال يوجب الفصل

وَحمله الْجِرْجَانِيّ على الِاسْتِئْنَاف وَقَول السكاكي أقوى كَمَال الِاتِّصَال يُوجب الْفَصْل وَإِن كَانَ بَينهمَا كَمَال الِاتِّصَال فَكَذَلِك أَيْضا لَا يعْطف إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى وَذَلِكَ بِأَن تكون الْجُمْلَة الثَّانِيَة بَدَلا من الأولى أَو عطف بَيَان أَو صفة حَقِيقِيَّة لِئَلَّا يلْزم من ذَلِك عطف الشَّيْء على نَفسه الِاسْتِئْنَاف يُوجب الْفَصْل وَإِن لم يكن شَيْء من ذَلِك فَإِن قصد الِاسْتِئْنَاف لم يكن عطف لِأَنَّهُ نوي بِهِ مُبْتَدأ كَقَوْلِه تَعَالَى {وَمَا أبرئ نَفسِي إِن النَّفس لأمارة بالسوء} وَكَذَلِكَ إِذا سيقت الْجُمْلَة الثَّانِيَة فِي معرض جَوَاب سَائل سَأَلَ كَمَا تقدم فِي الْآيَات وَالْبَيْت الْمُتَقَدّم (صدقُوا وَلَكِن غمرتي لَا تنجلي) وَمثله قَول أبي الطّيب

يجب العطف لدفع توهم خلاف المقصود

(وَمَا عفت الرِّيَاح لَهُ محلا ... عفاه من حدا بهم وساقا) فَإِنَّهُ لما نفى الْفِعْل الْمَوْجُود عَن الرِّيَاح كَانَ مظنه لِأَن يسْأَل عَن الْفَاعِل يجب الْعَطف لدفع توهم خلاف الْمَقْصُود وَأما مَا عدا ذَلِك فيقوى فِيهِ الْعَطف بِالْوَاو وَيتَعَيَّن ذَلِك عِنْد دفع إِيهَام خلاف الْمَقْصُود كَقَوْل الْقَائِل لَا وأيدك الله وَالْوَاو فِي مثل هَذَا متعينة نَظِير تعين حذفهَا فِي تِلْكَ الْآيَات الْمُتَقَدّمَة يحسن الْعَطف لِاتِّفَاق الجملتين فِي الْخَبَر إو الْإِنْشَاء وَمَتى اتّفقت الجملتان فِي الْخَبَر أَو الْإِنْشَاء حسن الْعَطف كَقَوْلِه تَعَالَى {إِن الْأَبْرَار لفي نعيم وَإِن الْفجار لفي جحيم} وَقَوله {يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت وَيخرج الْمَيِّت من الْحَيّ} وَقَوله {وكلوا وَاشْرَبُوا وَلَا تسرفوا} وَمثله أَيْضا إِذا اتفقتا معنى لَا لفظا كَقَوْلِه تَعَالَى {وَإِذ أَخذنَا مِيثَاق بني إِسْرَائِيل لَا تَعْبدُونَ إِلَّا الله وبالوالدين إحسانا وَذي الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين وَقُولُوا للنَّاس حسنا}

تقسيم الجامع إلى عقلي ووهمي وخيالي

) بعطف {قُولُوا} على {لَا تَعْبدُونَ} لِأَنَّهُ بِمَعْنى لَا تعبدوا وَأما قَوْله تَعَالَى {وبالوالدين إحسانا} فتقديره إِمَّا وتحسنون بِمَعْنى أَحْسنُوا وَهَذَا أبلغ من صَرِيح الْأَمر وَالنَّهْي لِأَنَّهُ كَأَنَّهُ قد سورع فِيهِ إِلَى الِامْتِثَال والانتهاء فَهُوَ يخبر عَنهُ وَالْحَاصِل أَنه مَتى كَانَت الْجُمْلَة الثَّانِيَة مُطَابقَة للأولى لم يعْطف وَكَذَلِكَ إِذا كَانَت مُغَايرَة لَهَا إِلَّا أَن يكون نوع ارتباط بِوَجْه جَامع تَقْسِيم الْجَامِع إِلَى عَقْلِي ووهمي وخيالي وَقد قسم السكاكي الْجَامِع بَين الشَّيْئَيْنِ إِلَى عَقْلِي ووهمي وخيالي أما الْعقلِيّ فَهُوَ أَن يكون بَينهمَا اتِّحَاد فِي التَّصَوُّر أَو تماثل مَعَ تبَاين يَقْتَضِي التَّعَدُّد أَو يكون بَينهمَا تضايف كَمَا فِي الْعلَّة والمعلول وَالسَّبَب والمسبب والسفل والعلو والأقل وَالْأَكْثَر فَإِن الْعقل يَأْبَى أَلا يجتمعا فِي الذِّهْن وَأما الوهمي فَهُوَ أَن يكون بَين تصورهما شبه تماثل كلون الْبيَاض ولون الصُّفْرَة فَإِن الْوَهم يبرزهما فِي معرض المثلين وَلذَلِك حسن قَول الشَّاعِر (ثَلَاثَة تشرق الدُّنْيَا ببهجتها ... شمس الضُّحَى وَأَبُو اسحاق وَالْقَمَر)

أَو تضَاد كالسواد وَالْبَيَاض والتحرك والسكون وَالْقِيَام وَالْقعُود وَالْعلم وَالْجهل وَالْحسن والقبح أَو شبه تضَاد كالسماء وَالْأَرْض والسهل والجبل فَإِن الْوَهم ينزل المتضادين والشبيهين بهما بِمَنْزِلَة المتضايفين فَيجمع بَينهمَا فِي الذِّهْن وَأما الخيالي فَأن يكون بَين تصورهما تقارن فِي الخيال سَابق فَيجمع بَينهمَا لذَلِك وَيخْتَلف هَذَا باخْتلَاف الصُّور الثَّابِتَة فِي الخيالات ترتبا ووضوحا وَعَلِيهِ يتَخَرَّج قَوْله تَعَالَى {أَفلا ينظرُونَ إِلَى الْإِبِل كَيفَ خلقت} وَمَا بعْدهَا فَإِنَّهَا نزلت بِمَكَّة وَالْخطاب مَعَ أَهلهَا وَسَائِر الْعَرَب وَجل انتفاعهم فِي معاشهم بِالْإِبِلِ فَتكون عنايتهم أَولا مصروفة إِلَيْهَا وانتفاعهم مِنْهَا لَا يحصل إِلَّا بِأَن ترعى وتشرب وَذَلِكَ بنزول الْمَطَر فيكثر تقلب وُجُوههم فِي السَّمَاء ثمَّ لَا بُد لَهُم من مأوى يؤويهم وَمن حصن يتحصنون بِهِ وَلَا شَيْء لَهُم فِي ذَلِك كالجبال ثمَّ لَا غنى لَهُم لتعذر طول مكثهم فِي منزل عَن التنقل من أَرض إِلَى سواهَا فَإذْ فتش البدوي فِي خياله وجد صُورَة هَذِه الْأَشْيَاء حَاضِرَة فِيهِ على التَّرْتِيب الْمَذْكُور بِخِلَاف الحضري فَإِنَّهُ لَا يستحضر ذَلِك فِي خياله هَكَذَا فيظن النسق بجهله معيبا فَإِن قيل قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَك عَن الْأَهِلّة قل هِيَ مَوَاقِيت للنَّاس وَالْحج وَلَيْسَ الْبر بِأَن تَأْتُوا الْبيُوت من ظُهُورهَا} أَي رابطة بَين الْأَهِلّة وَبَين إتْيَان الْبيُوت

وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} الْآيَة بكمالها ثمَّ قَالَ عقيبها {وآتينا مُوسَى الْكتاب} الْآيَة قُلْنَا أما الْآيَة الأولى فسؤالهم إِنَّمَا كَانَ عَن الْحِكْمَة فِي نُقْصَان الْأَهِلّة وتمامها فَكَأَنَّهُ قيل لَهُم مَعْلُوم أَن كل مَا يَفْعَله الله سُبْحَانَهُ فَهُوَ حِكْمَة ظَاهِرَة وَفِيه الْمصلحَة لِعِبَادِهِ فدعوا السُّؤَال عَنهُ وانظروا إِلَى وَاحِدَة تفعلونها أَنْتُم لَيْسَ فِيهَا شَيْء من الْبر وَأَنْتُم تحسبونها برا وَيحْتَمل أَن يكون ذكر ذَلِك على وَجه الاستطراد فَإِنَّهُ لما بَين أَن من الْحِكْمَة فِي الْأَهِلّة مَوَاقِيت الْحَج ذكر مَا يعتاده بَعضهم من شَيْء كَانَ يَظُنّهُ سنة وَهُوَ أَنه إِذا قدم من الْحَج لَا يدْخل بَيته إِلَى من ظَهره على وَجه الاستطراد عِنْد ذكر الْحَج كَمَا فِي قَول مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {هِيَ عصاي أتوكأ عَلَيْهَا وأهش بهَا على غنمي ولي فِيهَا مآرب أُخْرَى} وَأما آيَة الْإِسْرَاء فَالْمَعْنى فِيهَا أطلعناه على الْغَيْب عيَانًا وأخبرناه بوقائع من سلف ليَكُون ذَلِك تنويعا فِي معجزاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي سُبْحَانَ الَّذِي أطلعك على بعض آيَاته وأخبرك بِمَا جرى لمُوسَى وَقَومه ليَكُون فِيهَا آيَة أُخْرَى وَجَمِيع مَا فِي الْقُرْآن من الْجمل المعطوفة الْمُنَاسبَة فِيهَا ظَاهِرَة لمن تأملها وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق

فصل عطف الصفات بعضها على بعض

17 - فصل عطف الصِّفَات بَعْضهَا على بعض وَمِمَّا يتَّصل بذلك أَيْضا الْكَلَام فِي عطف الصِّفَات بَعْضهَا على بعض وَقد تقدم أَن الْجُمْلَة إِذا كَانَت فِي معنى الصّفة لَا تعطف فالصفة الْحَقِيقِيَّة أولى بذلك لِأَنَّهَا متحدة بالموصوف والعطف يَقْتَضِي الْمُغَايرَة وَلِهَذَا جَاءَت صِفَات الله تَعَالَى غير معطوفة غَالِبا كَقَوْلِه تَعَالَى {الرَّحْمَن الرَّحِيم} {الْملك القدوس السَّلَام الْمُؤمن الْمُهَيْمِن الْعَزِيز الْجَبَّار المتكبر} {الْخَالِق البارئ المصور} لِأَنَّهَا صِفَات أزلية أبدية وَافَقت الذَّات فِي الْقدَم وَلَيْسَت مُغَايرَة وَجَاء فِي الْقُرْآن الْعَظِيم {هُوَ الأول وَالْآخر وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن} وَقَوله تَعَالَى {غَافِر الذَّنب وقابل التوب شَدِيد الْعقَاب ذِي الطول} بعطف (قَابل التوب) دون غَيرهَا وَقَوله تَعَالَى {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بِالْمَعْرُوفِ والناهون عَن الْمُنكر والحافظون لحدود الله} وَقَوله تَعَالَى {أَزْوَاجًا خيرا مِنْكُن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات}

ثيبات وأبكارا) وَقَول الشَّاعِر (إِلَى الْملك القرم وَابْن الْهمام ... وَلَيْث الكتيبة فِي المزدحم) وَلِهَذَا كُله جوز جمَاعَة عطف الصِّفَات بِالْوَاو مُطلقًا وَحمل عَلَيْهِ من يَقُول إِن الصَّلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر مَا جَاءَ فِي الحَدِيث عَن عَائِشَة وَحَفْصَة رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ عَلَيْهِمَا (حَافظُوا على الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى وَصَلَاة الْعَصْر) فَقَالُوا هُوَ من بَاب عطف الصِّفَات وَلَا شكّ أَن تَجْوِيز هَذَا على الْإِطْلَاق ينْقض قاعدتين كبيرتين إِحْدَاهمَا

واو الثمانية والرد على القول بها

أَن الصّفة والموصوف كالشيء الْوَاحِد وَالثَّانيَِة أَن الْعَطف يَقْتَضِي الْمُغَايرَة وَاو الثَّمَانِية وَالرَّدّ على القَوْل بهَا وَذكر جمَاعَة أَن الْوَاو فِي قَوْله تَعَالَى {الآمرون بِالْمَعْرُوفِ والناهون عَن الْمُنكر} وَقَوله {ثيبات وأبكارا} وَاو الثَّمَانِية لِأَن السَّبْعَة عدد كَامِل فَيُؤتى بعْدهَا بِالْوَاو إشعارا بذلك وحملوا عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَيَقُولُونَ سَبْعَة وثامنهم كلبهم} وَهُوَ قَول لَا دَلِيل لَهُ وَلَا أصل لَهُ وأعجب من ذَلِك أَنهم قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى {حَتَّى إِذا جاؤوها وَفتحت أَبْوَابهَا} إِنَّهَا وَاو الثَّمَانِية لِأَن الْجنَّة كلهَا ثَمَانِيَة أَبْوَاب وَهُوَ تخيل عَجِيب وَالْوَاو هُنَا للْحَال كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ التَّحْقِيق أَن الصِّفَات إِذا قصد تعدادها من غير نظر إِلَى جمع أَو انْفِرَاد لم يكن ثمَّ عطف وَإِن أُرِيد الْجمع بَين الصفتين أَو التَّنْبِيه على تغايرهما عطف بالحرف وَكَذَلِكَ إِذا أُرِيد التنويع لعدم اجْتِمَاعهمَا فَإِنَّهُ يُؤْتى بالْعَطْف أَيْضا وَكَذَلِكَ إِذا قصد رفع استبعاد اجْتِمَاعهمَا لموصوف وَاحِد فَإِنَّهَا

تعطف أَيْضا كَمَا فِي الْبَيْت الْمُتَقَدّم (إِلَى الْملك القرم وَابْن الْهمام ... ) فَإِن الْعَطف جَاءَ هُنَا رفعا لاستبعاد من يستبعد اجْتِمَاع هَذِه الصِّفَات فِيهِ فَقَوله تَعَالَى {هُوَ الأول وَالْآخر وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن} إِنَّمَا عطفت لِأَنَّهَا أَسمَاء متضادة الْمعَانِي فِي أصل الْوَضع فَرفع الْوَهم بالْعَطْف عَن من يستبعد ذَلِك فِي ذَات وَاحِدَة فَإِن الشَّيْء الْوَاحِد لَا يكون بَاطِنا ظَاهرا من وَجه وَاحِد فَكَانَ الْعَطف هَا هُنَا أحسن وَأما قَوْله تَعَالَى {ثيبات وأبكارا} فَإِن الْمَقْصُود بِالصِّفَاتِ الأول ذكرهَا مجتمعة وَالْوَاو توهم التنويع لاقتضائها الْمُغَايرَة فَترك الْعَطف بَينهَا لبيانا اجتماعها فِي وَقت وَاحِد بِخِلَاف الثيوبة والبكورة فَإِنَّهُمَا متضادان لَا يَجْتَمِعَانِ على مَحل وَاحِد فِي آن وَاحِد فَأتى بِالْوَاو لتضاد النَّوْعَيْنِ وَقَوله تَعَالَى {غَافِر الذَّنب وقابل التوب} قد يظنّ أَنَّهُمَا يجريان مجْرى الْوَصْف الْوَاحِد لتلازمهما فَمن غفر الذَّنب قبل التوب فَبين الله سُبْحَانَهُ بعطف أَحدهمَا على الآخر أَنَّهُمَا مفهومان متغايران ووصفان مُخْتَلِفَانِ يجب أَن يعْطى لكل وَاحِد حكمه وَذَلِكَ مَعَ الْعَطف أبين وأوضح وَأما {شَدِيد الْعقَاب} و {ذِي الطول} فهما كالمتضادين فَإِن شدَّة الْعقَاب تَقْتَضِي أَيْضا الضَّرَر والا تُضَاف بالطول يَقْتَضِي اتِّصَال النَّفْع فحرف الْعَطف لبَيَان أَنَّهُمَا مجتمعان فِي ذَاته وَهِي مَوْصُوفَة بهما على الِاجْتِمَاع ليتعبد العَبْد على الرَّجَاء وَالْخَوْف دَائِما فَحسن ترك الْعَطف لهَذَا الْمَعْنى وَأما قَوْله {الآمرون بِالْمَعْرُوفِ والناهون عَن الْمُنكر} فَكل صفة تقدّمت غير مسبوقة بِالْوَاو مُغَايرَة لِلْأُخْرَى وَالْغَرَض أَنَّهَا فِي اجتماعها كالوصف

الْوَاحِد لموصوف وَاحِد فَلم يحْتَج إِلَى عطف فَلَمَّا ذكر الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وهما متلازمان أَو كالمتلازمين يستمدان من مَادَّة وَاحِدَة كغفران الذَّنب وَقبُول التوب حسن الْعَطف ليبين أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُعْتَد بِهِ على حِدته لَا يَكْفِي مِنْهُ مَا يحصل فِي ضمن الآخر بل لَا بُد من أَن يُؤْتى بِكُل مِنْهُمَا بمنفرده فَحسن الْعَطف لذَلِك وَأَيْضًا فَلَمَّا كَانَ الْأَمر وَالنَّهْي ضدين من جِهَة أَن أَحدهمَا طلب الإيجاد وَالْآخر طلب الإعدام كَانَا كالنوعين المتغايرين فِي قَوْله {ثيبات وأبكارا} فَحسن الْعَطف لذَلِك فَأَما قَوْله {سَبْعَة وثامنهم كلبهم} فَإِن الْوَاو لم يدْخل هُنَا دون مَا قبله إِلَّا لفائدة وَهِي التَّقْدِير لِأَن عدتهمْ سَبْعَة فَقَوله فِي الجملتين الْأَوليين {رابعهم كلبهم} {سادسهم كلبهم} هما من تَتِمَّة الْمَقُول وَلذَلِك أتبعه بقوله تَعَالَى {رجما بِالْغَيْبِ} وَالْوَاو فِي قَوْله تَعَالَى {وثامنهم كلبهم} قَائِمَة مقَام التَّصْدِيق لذَلِك تَقْدِيره نعم وثامنهم كلبهم كَمَا إِذا قَالَ الْقَائِل زيد كَاتب فَتَقول لَهُ وشاعر وَيكون ذَلِك تَحْقِيقا لقَوْله الأول وَلذَلِك لم يقل سُبْحَانَهُ بعده {رجما بِالْغَيْبِ} كَمَا قَالَ فِي الْأَوليين وَقَالَ {قل رَبِّي أعلم بِعدَّتِهِمْ مَا يعلمهُمْ إِلَّا قَلِيل} وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ أَنا من الْقَلِيل وَنَظِير هَذَا قَوْله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} بعد قَوْله {وَجعلُوا أعزة}

أَهلهَا أَذِلَّة) فَلَيْسَتْ الْوَاو للثمانية كَمَا يَقُوله من يزْعم ذَلِك وَلَا دُخُول الْوَاو فِي الْأَخِيرَة وَتركهَا فِي الْأَوليين على السوَاء كَمَا قَالَه بعض أَئِمَّة النُّحَاة وَالله أعلم

فصل زيادة الواو العاطفة

18 - فصل زِيَادَة الْوَاو العاطفة اخْتلفُوا فِي جَوَاز زِيَادَة الْوَاو العاطفة لغير معنى فجوزه الْكُوفِيُّونَ احتجاجا بقوله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيم ملكوت السَّمَاوَات وَالْأَرْض وليكون من الموقنين} وَقَوله {فَلَمَّا أسلما وتله للجبين وناديناه} وَجعلُوا مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى إِذا جاؤوها وَفتحت أَبْوَابهَا} وَقَول الشَّاعِر الْمُتَقَدّم أول الْكتاب (وقلبتم ظهر الْمِجَن لنا) بعد قَوْله (حَتَّى إِذا قملت بطونكم ... ورأيتم أبناءكم شبوا) فتقديره قلبتم وَالْوَاو زَائِدَة وَذهب البصريون إِلَى أَنَّهَا لَيست زَائِدَة فِي شَيْء من ذَلِك وَلَا تجوز

زيادتها لِأَن الْحُرُوف وضعت للمعاني فَذكرهَا بِدُونِ مَعْنَاهَا يَقْتَضِي مُخَالفَة الْوَضع وَيُورث اللّبْس وَأَيْضًا فَإِن الْحُرُوف وضعت للاختصار نائبة عَن الْجمل كالهمزة فَإِنَّهَا نائبة عَن أستفهم وزيادتها ينْقض هَذَا الْمَعْنى وَتلك الْمَوَاضِع الْوَاو فِيهَا عاطفة على مَحْذُوف مُقَدّر يتم بِهِ الْكَلَام تَقْدِيره لنبصره أَو لنرشده وَنَحْو ذَلِك ثمَّ عطف عَلَيْهِ (وليكون من الموقنين) وَكَذَلِكَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى تَقْدِيره عرفنَا صبره وانقياده {وناديناه أَن يَا إِبْرَاهِيم} وَكَذَلِكَ قيل فِي قَوْله {وَفتحت أَبْوَابهَا} تَقْدِيره عرفُوا صِحَة مَا وعدوا بِهِ {وَفتحت أَبْوَابهَا} والأقوى أَن تكون الْوَاو حَالية كَمَا تقدم وَسَيَأْتِي ذَلِك وَبَيَان فَائِدَته إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأما الْبَيْت فتقديره عرف غدركم وقلبتم ظهر الْمِجَن وَحذف الْجَواب كثير

وَفِي التَّهْذِيب لِلْبَغوِيِّ من أَئِمَّة أَصْحَابنَا أَنه إِذا قَالَ إِن دخلت الدَّار وَأَنت طَالِق إِن قَالَ أردْت التَّعْلِيق فأقمت الْوَاو مقَام الْفَاء قبل قَوْله وَإِن قَالَ أردْت التَّنْجِيز ينجز الطَّلَاق يَعْنِي وَتَكون الْوَاو زَائِدَة وَزَاد غَيره انه إِذا قَالَ لم أقصد شَيْئا يقْضِي بِوُقُوع الطَّلَاق فِي الْحَال ويلغى حرف الْوَاو كَمَا لَو قَالَ ابتدأء وَأَنت طَالِق حَكَاهُ الرَّافِعِيّ عَن إِسْمَاعِيل البوشنجي مقررا لَهُ وَاعْترض عَلَيْهِ النَّوَوِيّ وَاخْتَارَ أَنه عِنْد الاطلاق يكون تَعْلِيقا بِدُخُول الدَّار إِن كَانَ قَائِلهَا لَا يعرف الْعَرَبيَّة وَإِن عرفهَا فَلَا يكون تَعْلِيقا وَلَا غَيره إِلَّا لِأَنَّهُ عِنْده غير مُفِيد وَهَذَا الَّذِي قَالَه النَّوَوِيّ رَحمَه الله جَار على الْقَاعِدَة وَالله سُبْحَانَهُ أعلم

فصل تقدير معطوف عليه محذوف في القرآن

19 - فصل تَقْدِير مَعْطُوف عَلَيْهِ مَحْذُوف فِي الْقُرْآن تقدم فِيمَا ذكر آنِفا عَن الْبَصرِيين أَنهم يقدرُونَ محذوفا يعْطف عَلَيْهِ وَهَذَا التَّقْدِير كثير فِي الْقُرْآن الْعَظِيم فَمِنْهُ مَا يتَوَقَّف صِحَة الْكَلَام عَلَيْهِ كَقَوْلِه تَعَالَى {فَمن اضْطر غير بَاغ وَلَا عَاد فَلَا إِثْم عَلَيْهِ} أَي فَأكل فَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَقَوله {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر} أَي فَأفْطر فَعدَّة من أَيَّام آخر وَكَذَلِكَ {فأوحينا إِلَى مُوسَى أَن اضْرِب بعصاك الْبَحْر فانفلق} تَقْدِيره فَضرب فانفلق وَيُسمى هَذَا عِنْد الْأُصُولِيِّينَ دلَالَة الِاقْتِضَاء أَي إِن صِحَة الْكَلَام اقْتَضَت هَذَا الْمُقدر وَمِنْه مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ تَمام البلاغة لتجري على الْقَوَاعِد الْعَرَبيَّة كَمَا

قَالَ صَاحب الْكَشَّاف فِي قَوْله تَعَالَى {لَئِن لم تَنْتَهِ لأرجمنك واهجرني مَلِيًّا} إِن الْعَطف على مَحْذُوف يدل عَلَيْهِ قَوْله {لأرجمنك} تَقْدِيره فاحذرني واهجرني مَلِيًّا لِأَن قَوْله {لأرجمنك} تهديد وتقريع وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْبَقَرَة {وَبشر الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} إِن الْمُعْتَمد بالْعَطْف هُوَ جملَة وصف ثَوَاب الْمُؤمنِينَ فَهِيَ معطوفة على جملَة وصف عَذَاب الْكَافرين كَمَا تَقول زيد يُعَاقب بالقيد والإرهاق وَبشر عمرا بِالْعَفو وَالْإِطْلَاق قَالَ وَلَك أَن تَقول هُوَ مَعْطُوف على قَوْله {فَاتَّقُوا النَّار الَّتِي وقودها} كَمَا قَالَ يَا بني تَمِيم احْذَرُوا عُقُوبَة مَا جنيتم وَبشر يَا فلَان بني أَسد بإحساني إِلَيْهِم وَقَالَ أَيْضا فِي قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الصَّفّ {وَبشر الْمُؤمنِينَ} إِنَّه مَعْطُوف على {تؤمنون} لِأَنَّهُ بِمَعْنى آمنُوا

وَالَّذِي اخْتَارَهُ السكاكي فِي هَاتين الْآيَتَيْنِ أَن الْعَطف فيهمَا على قل مرَادا مُقَدرا قبل {يَا أَيهَا النَّاس} و {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} قَالَ لِأَن إِرَادَة القَوْل بِوَاسِطَة انصباب الْكَلَام إِلَى مَعْنَاهُ كثير وَذكر مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وأنزلنا عَلَيْكُم الْمَنّ والسلوى كلوا} وَقَوله {وَإِذ أَخذنَا ميثاقكم ورفعنا فَوْقكُم الطّور خُذُوا} وَقَوله {وَإِذ جعلنَا الْبَيْت مثابة للنَّاس وَأمنا وَاتَّخذُوا} أَي قُلْنَا أَو قائلين وَنَحْو ذَلِك وَفِي هَذَا الَّذِي قَالَه السكاكي نظر لِأَنَّهُ لَا يلْزم من إِضْمَار القَوْل مَوضِع الْحَال تَقْدِيره أمرا أول الْكَلَام من غير دَلِيل يدل عَلَيْهِ وَاخْتَارَ بعض شُيُوخنَا أَن يكون الْأَمر فِي الْآيَتَيْنِ مَعْطُوفًا على مُقَدّر يدل عَلَيْهِ مَا قبله وَهُوَ فِي الْآيَة الأولى فَأَنْذر أَو نَحوه أَي فأنذرهم وَبشر الَّذين آمنُوا وَفِي الثَّانِيَة فأبشر أَو نَحوه أَي فأبشر يَا مُحَمَّد وَبشر الْمُؤمنِينَ وَهَذَا كَمَا قدر الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى {لأرجمنك واهجرني مَلِيًّا}

فصل تقديم المعطوف على المعطوف عليه

20 - فصل تَقْدِيم الْمَعْطُوف على الْمَعْطُوف عَلَيْهِ لَا يجوز تَقْدِيم الْمَعْطُوف على الْمَعْطُوف عَلَيْهِ إِلَّا فِي الْوَاو خَاصَّة بِثَلَاثَة شُرُوط أَحدهَا أَن لَا يُؤَدِّي إِلَى وُقُوع حرف الْعَطف صَدرا فَلَا تَقول وَعَمْرو زيد قائمان فِي زيد وَعَمْرو قائمان وَثَانِيها أَن لَا يُؤَدِّي إِلَى مُبَاشرَة حرف الْعَطف عَاملا غير متصرف مثل إِن وعمرا زيدا قائمان وَثَالِثهَا أَن لَا يكون مجرورا فَلَا تَقول مَرَرْت وَعَمْرو بزيد وَعند خلوه من هَذِه الثَّلَاثَة يجوز كَقَوْل الشَّاعِر (أَلا يَا نَخْلَة من ذَات عرق ... عَلَيْك وَرَحْمَة الله السَّلَام)

وَقَول الآخر جمعت وفحشا غيبَة ونميمة ... ثَلَاث خلال لست عَنْهَا بمرعوي) وَقَول ذِي الرمة كأنا على أَوْلَاد أحقب لاحها ... وَرمي السفا أنفاسها بسهام) (جنوب ذوت عَنْهَا التناهي فأنزلت ... بهَا يَوْم ذُبَاب السبيب صِيَام) يُرِيد لاحها جنوب وَرمي السفا وَقَوله أَيْضا

(وَأَنت غَرِيم لَا أَظن قَضَاءَهُ ... وَلَا الْعَنزي القارظ الدَّهْر جائيا) قَالُوا يُرِيد لَا أَظن قَضَاءَهُ جائيا هُوَ وَلَا الْعَنزي وَالَّذِي يظْهر أَن هَذَا جَمِيعه ضَرُورَة اضْطر الشَّاعِر إِلَيْهَا الْوَزْن والقافية وَأَن مثله لَا يَجِيء فِي سَعَة الْكَلَام لَكِن أَئِمَّة الْعَرَبيَّة لم يخصصوه بالشعر فَإِن قيل فقد جَاءَ التَّقْدِيم مَعَ أَو فِي قَول الشَّاعِر فلست بنازل إِلَّا ألمت ... برحلي أَو خيالتها الكذوب) يُرِيد إِلَّا ألمت الكذوب أَو خيالتها فَجَوَابه أَن الكذوب صفة لخيالتها وَقَوله أَو خيالتها عطف على المستكن فِي ألمت وَلم يحْتَج إِلَى تَأْكِيد لطول الْكَلَام بفصل الْجَار وَالْمَجْرُور والمضاف إِلَيْهِ وَالله أعلم

21 - فصل النَّوْع الثَّانِي الْكَلَام على وَاو الْحَال وَتسَمى أَيْضا وَاو الِابْتِدَاء وَهِي الدَّاخِلَة على الْجُمْلَة الَّتِي تقع حَالا وكل مَا صَحَّ من الْجمل أَن يكون خَبرا لمبتدأ أَو صلَة لموصول أَو صفة صَحَّ أَن تقع حَالا ثمَّ لَا تَخْلُو تِلْكَ الْجُمْلَة من أَن تكون اسمية أَو فعلية فَإِن كَانَت اسمية فتجئ على ثَلَاثَة أَقسَام أَحدهَا وَهُوَ الْأَكْثَر أَن تكون بِالْوَاو وفيهَا ضمير يعود على صَاحب الْحَال كَقَوْلِك جَاءَ زيد وَهُوَ ضَاحِك وَجَاء وَهُوَ يضْحك قَالَ الله تَعَالَى {وتحسبهم أيقاظا وهم رقود} وَالثَّانِي أَن تحذف الْوَاو ويكتفى بالضمير الرابط مثل جَاءَ زيد وَجهه مسرور وَجَاء زيد وَعَلِيهِ قلنسوة قَالَ الله تَعَالَى {وَيَوْم الْقِيَامَة ترى الَّذين كذبُوا على الله وُجُوههم مسودة}

وَالثَّالِث أَن يحذف الضَّمِير ويكتفى بِالْوَاو كَقَوْلِك جَاءَ زيد وَالشَّمْس طالعة قَالَ الله تَعَالَى {يغشى طَائِفَة مِنْكُم وَطَائِفَة قد أهمتهم أنفسهم} وَأما الْجُمْلَة الفعلية فَإِن كَانَ الْفِعْل مضارعا مثبتا لم يكن فِيهِ وَاو وَلَا بُد فِيهِ من ضمير رابط يعود على ذِي الْحَال مثل قَوْلك جَاءَ زيد يضْحك قَالَ الله تَعَالَى {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهمَا تمشي على استحياء} وَقَالَ الشَّاعِر (مَتى تأته تعشو إِلَى ضوء ناره ... تَجِد خير نَار عِنْدهَا خير موقد) وَالْمرَاد عاشيا وَلم تكن هُنَاكَ حَاجَة إِلَى الْوَاو لما بَين الْفِعْل الْمُضَارع وَاسم الْفَاعِل من الْمُنَاسبَة ثمَّ لَا بُد وَأَن يكون ذَلِك الْفِعْل يُرَاد بِهِ الْحَال فَأَما الْفِعْل المخلص للاستقبال فَلَا يَقع موقع الْحَال لِأَنَّهُ لَا يدل عَلَيْهَا لَا تَقول جَاءَ زيد سيركب وَكَذَلِكَ الْفِعْل الْمَاضِي أَيْضا لَا يجوز أَن يَقع حَالا لعدم دلَالَته عَلَيْهَا إِلَّا أَن يكون مَعَه مَا يدل على الْحَال كَمَا يَأْتِي وَإِن كَانَ الْفِعْل الْمُضَارع منفيا كنت مُخَيّرا فِيهِ بَين الْإِتْيَان بِالْوَاو وحذفها تَقول قعد زيد لَا يحدثنا وَجلسَ وَمَا يُكَلِّمنَا وَلَا بُد من الضَّمِير كَمَا تقدم قَالَ الله تَعَالَى {فَاضْرب لَهُم طَرِيقا فِي الْبَحْر يبسا لَا تخَاف دركا وَلَا تخشى} وَقَالَ الشَّاعِر

(بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم ... وَلم تكْثر الْقَتْلَى بهَا حِين سلت) وَأما الْفِعْل الْمَاضِي الْقَرِيب من الْحَال فَإِن كَانَ مثبتا فَالْوَجْه أَن يُؤْتى بِالْوَاو وَقد سَوَاء كَانَ فِي الْجُمْلَة ضمير عَائِد أَو لم يكن تَقول جَاءَ زيد وَقد قضى حَاجته جَاءَ وَقد طلعت الشَّمْس قَالَ الشَّاعِر (ذكرتك والخطي يخْطر بَيْننَا ... وَقد نهلت منا المثقفة السسمر) فموضع قد نهلت نصب على الْحَال وَالتَّقْدِير ناهلة وَقد يحذف الْوَاو إِذا كَانَ فِي الْجُمْلَة ضمير كَقَوْلِك جَاءَ زيد قد تَعب وَجَاء قد أتعب دَابَّته قَالَ الشَّاعِر (وَإِنِّي لتعروني لذكراك هزة ... كَمَا انتفض العصفور بلله الْقطر)

فَقَوله بلله الْقطر جملَة حَالية من العصفور قَالَ امْرُؤ الْقَيْس (إِذا التفتت نحوي ذوى لي رِيحهَا ... نسيم الصِّبَا جَاءَت بريا القرنفل) وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {أَو جاؤوكم حصرت صُدُورهمْ} فِي أحد الْأَقْوَال أما إِذا لم يكن فِيهَا ضمير فَلَا بُد من الْوَاو كَقَوْلِك جَاءَ زيد وَقد طلعت الشَّمْس وَقد تكون الْوَاو فَقَط وَقد مقدرَة كَقَوْلِه تَعَالَى {كَيفَ تكفرون بِاللَّه وكنتم أَمْوَاتًا} وَقَوله {حَتَّى إِذا جاؤوها وَفتحت أَبْوَابهَا} التَّقْدِير وَقد فتحت أَبْوَابهَا وَذَلِكَ لِأَن من تَتِمَّة إكرام أهل الْجنَّة أَن تفتح لَهُم أَبْوَابهَا قبل الْوُصُول إِلَيْهَا فَلَا يتنغصون بِالْوُقُوفِ عَلَيْهَا وليجدوا رِيحهَا قبل الْوُصُول إِلَيْهَا

كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث بِخِلَاف جَهَنَّم أعاذنا الله مِنْهَا فَإِن أَبْوَابهَا تفتح حَالَة وصولهم إِلَيْهَا ليفجأهم الْعَذَاب بَغْتَة فَيكون ذَلِك أَشد عَلَيْهِم وعَلى هَذَا يكون جَوَاب الشَّرْط محذوفا تَقْدِيره دخلوها وَقَالَ لَهُم خزنتها وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ الْفِعْل الْمَاضِي منفيا فَلَا بُد فِيهِ من الْوَاو سَوَاء كَانَ فِيهِ ضمير أَو لم يكن تَقول ذهب عَمْرو وَمَا كلم أحدا وَمر وَمَا نطق بِكَلِمَة وَنزل وَمَا طلع الْفجْر وَكَذَلِكَ الْمَاضِي الْمَنْفِيّ بِلَفْظ الْمُضَارع مثل جَاءَ زيد وَمَا يُكَلِّمنَا وَذهب وَلم تطلع الشَّمْس هَذِه الْمَوَاضِع الَّتِي يشْتَرط دُخُول الْوَاو فِيهَا وضابطه أَنه مَتى خلت الْجُمْلَة عَن رابط فَلَا بُد من الْوَاو ليَكُون رابطة كَمَا يرْبط الضَّمِير

وسيبويه يقدر هَذِه الْوَاو بإذ فَكل مَوضِع صلح أَن يخلفها إِذْ كَانَت للْحَال وَالْجُمْلَة الَّتِي تَلِيهَا حَالية وَذَلِكَ لِأَن الْحَال تشبه الظّرْف فَإنَّك إِذا قلت جَاءَ زيد وَعَمْرو منطلق كَانَ مَعْنَاهُ وَقت انطلاق عَمْرو وَكَذَلِكَ عطف الظّرْف عَلَيْهَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لتمرون عَلَيْهِم مصبحين وبالليل} فلولا الشّبَه لما صَحَّ الْعَطف وَلَا شكّ أَن الأَصْل فِي الْحَال المنتقلة أَن تكون بِغَيْر الْوَاو لِأَن إعرابها لَيْسَ يتبع وَمَا لَيْسَ إعرابه يتبع لَا يدْخلهُ وَاو الْعَطف وَهَذِه الْوَاو وَإِن كَانَت تسمى وَاو الْحَال فأصلها الْعَطف وَأَيْضًا فَإِن الْحَال فِي الْمَعْنى حكم على ذِي الْحَال كالخبر بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُبْتَدَأ إِلَّا أَن الْفرق بَينه وَبَينهَا أَن الحكم بالْخبر يحصل بِالْأَصَالَةِ لَا فِي ضم شَيْء آخر وَالْحكم بِالْحَال إِنَّمَا يحصل فِي ضم غَيرهَا فَإِن قَوْلك جَاءَ زيد رَاكِبًا مَحْكُوم بِهِ على زيد لَكِن لَا بِالْأَصَالَةِ بل بالتبعية بِأَن وصل بالمجيء وَجعل قيدا لَهُ بِخِلَافِهِ فِي قَوْلنَا زيد رَاكب

وَأَيْضًا فالحال فِي الْحَقِيقَة وصف لذِي الْحَال فَلَا يدخلهَا الْوَاو كالنعت إِلَّا أَنه خُولِفَ هَذَا الأَصْل فِيمَا إِذا كَانَت جملَة لِأَنَّهَا بِالنّظرِ إِلَيْهَا من حَيْثُ هِيَ جملَة مُسْتَقلَّة بالإفادة فتحتاج إِلَى مَا يربطها بِمَا جعلت حَالا عَنهُ وكل وَاحِد من الضَّمِير وَالْوَاو صَالح للربط وَالْأَصْل الضَّمِير بِدَلِيل الِاقْتِصَار عَلَيْهِ فِي الْحَال المفردة وَالْخَبَر والنعت فَإِذا عرف ذَلِك فلتعلم أَنه وَقع للزمخشري فِي كِتَابه الْمفصل كَلَام ضَعِيف وَتَبعهُ عَلَيْهِ ابْن الْحَاجِب فِي مقدمته بِزِيَادَة على الضعْف وَلم يعْتَرض عَلَيْهِ كثير مِمَّن شرح كَلَامه فَنَذْكُر ذَلِك للتّنْبِيه عَلَيْهِ قَالَ فِي الْمفصل وَالْجُمْلَة تقع حَالا فَإِن كَانَت اسمية فالواو إِلَّا مَا شَذَّ من قَوْلهم كَلمته فوه إِلَى فِي وَمَا عَسى أَن يعثر عَلَيْهِ فِي الندرة وَأما قَوْله لَقيته عَلَيْهِ جُبَّة وشي فَمَعْنَاه مُسْتَقِرَّة عَلَيْهِ جُبَّة وشي انْتهى كَلَامه وَمُقْتَضى كَلَامه أَن الِاقْتِصَار على الضَّمِير فِي الْجُمْلَة الاسمية دون الْوَاو شَاذ ونادر لَا يعثر عَلَيْهِ إِلَّا قَلِيلا لما أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله وَمَا عَسى أَن يعثر عَلَيْهِ فِي الندرة وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بالشذوذ من جِهَة الْقيَاس وكل ذَلِك لَيْسَ بِصَحِيح

أما الْقيَاس فقد بَينا أَن الأَصْل الضَّمِير وَأَن الْمُعْتَبر إِنَّمَا هُوَ الرابط بَين الجملتين حَتَّى تكون الثَّانِيَة حَالا والربط فِي الضَّمِير أقوى مِنْهُ فِي الْوَاو وَأما الِاسْتِعْمَال فَلَيْسَ بنادر كَمَا ذكر فقد تقدم مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَيَوْم الْقِيَامَة ترى الَّذين كذبُوا على الله وُجُوههم مسودة} وَكَذَلِكَ أَيْضا قَوْله تَعَالَى {وَقُلْنَا اهبطوا بَعْضكُم لبَعض} فِي سُورَة الْبَقَرَة وَكَذَلِكَ فِي الْأَعْرَاف وَسورَة طه وَقَوله تَعَالَى {نبذ فريق من الَّذين أُوتُوا الْكتاب كتاب الله وَرَاء ظُهُورهمْ كَأَنَّهُمْ لَا يعلمُونَ} فَإِنَّهُم قَالُوا فِي قَوْله {كَأَنَّهُمْ لَا يعلمُونَ} إِنَّهَا فِي مَوضِع الْحَال تَقْدِيره مشبهين بِمن لَا يعلم وَمثله أَيْضا قَوْله {ولى مستكبرا كَأَن لم يسْمعهَا كَأَن فِي أُذُنَيْهِ وقرا}

وَقد صرح الزَّمَخْشَرِيّ فِي الْكَشَّاف بِأَن قَوْله تَعَالَى {فِيهِ هدى وَنور} جمله حَالية من الانجيل فِي قَوْله {وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيل فِيهِ هدى وَنور} وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى قبل هَذِه الْآيَة {إِنَّا أنزلنَا التَّوْرَاة فِيهَا هدى وَنور} وَلَا وَاو فِيهَا وَقَالَ الشَّاعِر (فلولا جنان اللَّيْل مَا آب عَامر ... إِلَى جَعْفَر سرباله لم يمزق) فَكل هَذِه الشواهد ترد كَونه شاذا أَو ضَعِيفا كَمَا قَالَ ابْن الْحَاجِب فَإِنَّهُ قَالَ وَتَكون جملَة خبرية فالاسمية بِالْوَاو وَالضَّمِير أَو بِالْوَاو أَو بالضمير على ضعف فَجعل الِاقْتِصَار على كل وَاحِد من الْوَاو وَالضَّمِير دون الآخر ضَعِيفا وَقد بَينا مَا يتَعَلَّق بالاقتصار على الضَّمِير دون الْوَاو وَأَنه غير ضَعِيف وَلَا شَاذ وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَمَا أهلكنا من قَرْيَة إِلَّا لَهَا منذرون} وَمَا رَوَاهُ سِيبَوَيْهٍ من قَوْلهم كَلمته فوه إِلَى فِي وَرجع عوده على بدئه بِالرَّفْع ولقيته عَلَيْهِ جُبَّة وشي وَمَا قدره الزَّمَخْشَرِيّ من الِاسْتِقْرَار فَلَا حَاجَة إِلَيْهِ وَقَول بشار

(إِذا أنكرتني بلذة أَو نكرتها ... خرجت مَعَ الْبَازِي عَليّ سَواد) بِمَعْنى عَليّ بَقِيَّة من اللَّيْل وَقَول أُميَّة بن أبي الصَّلْت (فَاشْرَبْ هَنِيئًا عَلَيْك التَّاج مرتفقا ... فِي رَأس غمدان دَارا مِنْك محلالا) وَقَول الآخر (وَقد صبرت للذل أَعْوَاد مِنْبَر ... تقوم عَلَيْهِ فِي يَديك قضيب) وَأنْشد الْجِرْجَانِيّ مِنْهُ أَيْضا قَول الشَّاعِر (إِذا أتيت أَبَا مَرْوَان تسأله ... وجدته حاضراه الْجُود وَالْكَرم) وَجعل وجدت هُنَا لَيست المتعدية إِلَى مفعولين بل بِمَعْنى أصبت

تتعدى إِلَى مفعول وَاحِد فَقَوله حاضراه الْجُود وَالْكَرم جملَة حَالية وَلَيْسَ فِيهَا وَاو فَكل هَذِه الشواهد تمنع الضعْف والشذوذ وَكَذَلِكَ الِاقْتِصَار على الْوَاو دون الضَّمِير فقد تقدم قَوْله تَعَالَى {وَطَائِفَة قد أهمتهم أنفسهم} وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {كَمَا أخرجك رَبك من بَيْتك بِالْحَقِّ وَإِن فريقا من الْمُؤمنِينَ لكارهون} وَقَالَ امْرُؤ الْقَيْس (وَقد أغتدي وَالطير فِي وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل) وَقَالَ الآخر أنْشدهُ ابْن مَالك سرينا وَنجم قد أَضَاء فمذ بدا ... محياك أخْفى ضوؤه كل شارق) وَكَذَلِكَ الْبَيْت الْمُتَقَدّم (ذكرتك والخطي يخْطر بَيْننَا ... ) فَاكْتفى فِيهَا رابطا بِالْوَاو عَن الضَّمِير كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ وَالله أعلم

فصل الربط بالواو أو بالضمير في جملة الحال

22 - فصل الرَّبْط بِالْوَاو أَو بالضمير فِي جملَة الْحَال تقرر أَن الْجُمْلَة الاسمية إِذا وَقعت حَالا فَإِنَّهَا تكون تَارَة بِالْوَاو وَتارَة بالضمير وَإِن كَانَ الْأَكْثَر الْجمع بَينهمَا وَقد ذكر الْجِرْجَانِيّ أَن الْمُبْتَدَأ من الْجُمْلَة مَتى كَانَ ضمير ذِي الْحَال لم تصلح بِغَيْر الْوَاو الْبَتَّةَ كَقَوْلِك جَاءَنِي زيد وَهُوَ رَاكب ورأيته وَهُوَ جَالس وَلَو جِئْت بهَا بِغَيْر الْوَاو لم يكن كلَاما وَقَالَ هُوَ وَغَيره أَيْضا إِن صَاحب الْحَال مَتى كَانَ نكرَة مُقَدّمَة عَلَيْهَا وَجَبت الْوَاو مثل جَاءَنِي رجل وعَلى كتفه سيف وَإِنَّمَا وَجَبت الْوَاو لِئَلَّا يشْتَبه بالنعت وَعَلِيهِ خرج السكاكي قَوْله تَعَالَى {وَمَا أهلكنا من قَرْيَة إِلَّا وَلها كتاب مَعْلُوم} وَاعْترض على الزَّمَخْشَرِيّ فِي جعل قَوْله وَلها كتاب صفة

لقرية وَأَن الْوَاو توسطت لتأكيد لصوق الصّفة بالموصوف وعَلى هَذَا فَقَوله تَعَالَى {وَمَا أهلكنا من قَرْيَة إِلَّا لَهَا منذرون} أولى بجعله صفة وَإِن كَانَ غَيره جعلهَا حَالا وَيكون حرف الِاسْتِثْنَاء أغْنى عَن الْوَاو وَقَالَ السكاكي وَصَحَّ وُقُوع الْحَال هُنَا من النكرَة لِأَن الْقرْيَة فِي حكم الموصوفة نازلة منزلَة قَوْله وَمَا أهلكنا من قَرْيَة من الْقرى وَذكر الْجِرْجَانِيّ أَيْضا أَن الْجُمْلَة الاسمية مَتى كَانَ الْخَبَر فِيهَا ظرفا مقدما على الْمُبْتَدَأ فالأكثر فِيهَا أَن تَجِيء بِغَيْر وَاو مثل الأبيات الْمُتَقَدّمَة (خرجت مَعَ الْبَازِي على سَواد ... ) (فَاشْرَبْ هينئا عَلَيْك التَّاج مرتفقا ... ) (تقوم عَلَيْهِ فِي يَديك قضيب ... ) ثمَّ اخْتَار فِي هَذِه الْمَوَاضِع أَن يكون الثَّانِي مرتفعا بالظرف لَا بالإبتداء وَهُوَ مَحل اتِّفَاق سِيبَوَيْهٍ والأخفش لِأَن سِيبَوَيْهٍ يعْمل الظّرْف إِذا كَانَ مُعْتَمدًا وَهنا لما جرت الْحَال مجْرى الصّفة كَانَ اعْتِمَادًا كَافِيا فِي أَن يرْتَفع

الظَّاهِر بالظرف قَالَ وَيَنْبَغِي أَن يكون الظّرْف هَا هُنَا خَاصّا فِي تَقْدِير اسْم فَاعل تَقْدِيره كَائِنا وَيجوز أَن يكون أَيْضا فِي تَقْدِير فعل مَاض مَعَ قد وَلَا يَصح أَن يكون مُقَدرا بِفعل مضارع وَإِنَّمَا اخْتَار تَقْدِيره باسم فَاعل لرجوع الْحَال حِينَئِذٍ إِلَى أَصْلهَا فِي الافراد وَلِهَذَا كثر مجيئها بِلَا وَاو يَعْنِي إِذا كَانَت الْجُمْلَة مصدرة بالظرف وَجوز التَّقْدِير بِفعل مَاض أَيْضا لمجيئها بِالْوَاو قَلِيلا وَإِنَّمَا امْتنع تقديرها بالمضارع لِأَنَّهَا إِذا تقدرت بِهِ يمْتَنع مجيئها بِالْوَاو وَهنا لَا يمْتَنع ذَلِك ثمَّ ذكر فِي قَوْله فِي الْبَيْت الْمُتَقَدّم (وجدته حاضراه الْجُود وَالْكَرم ... ) إِن حذف الْوَاو هُنَا حسنه تَقْدِيم الْخَبَر الَّذِي هُوَ حاضراه وَلَو قَالَ وجدته الْجُود وَالْكَرم حاضراه لم يحسن كَالْأولِ لِأَن ذَلِك بِمَنْزِلَة قَوْله حَاضرا عِنْده الْجُود وَالْكَرم قَالَ وَمِمَّا يحسن فِيهِ مَجِيء الاسمية بِلَا وَاو دُخُول حرف على الْمُبْتَدَأ كَمَا فِي قَول الشَّاعِر (فَقلت عَسى أَن تبصريني كَأَنَّمَا ... بني حوالي الْأسود الحوارد)

ثمَّ قَالَ فَإِنَّهُ لَوْلَا دُخُول كَأَن عَلَيْهِ لم يحسن الْكَلَام إِلَّا بِالْوَاو قلت وَمثله مَا تقدم من قَوْله تَعَالَى {كَأَنَّهُمْ لَا يعلمُونَ} {كَأَن لم يسْمعهَا} {كَأَن فِي أُذُنَيْهِ وقرا} ثمَّ شبه الْجِرْجَانِيّ بِهَذَا أَيْضا أَن تقع الاسمية حَالا بعد مُفْرد فَإِنَّهُ يلطف موقعها بِخِلَاف مَا إِذا أفردت كَقَوْل ابْن الرُّومِي (وَالله يبقيك لنا سالما ... برداك تبجيل وتعظيم) فَإِنَّهُ لَو قَالَ يبقيك لنا برداك تبجيل لم يحسن وَأما الْجُمْلَة الفعلية فقد تقدم أَن الْمُضَارع الْمُثبت يمْتَنع مَجِيئه بِالْوَاو لما بَين الْفِعْل الْمُضَارع وَاسم الْفَاعِل من الْمُنَاسبَة وَتَقْرِير ذَلِك أَن أصل الْحَال المتنقلة أَن تدل على حُصُول صفة غير ثَابِتَة مُقَارنَة لما جعلت قيدا لَهُ والمضارع الْمُثبت كَذَلِك أما دلَالَته على حُصُول صفة غير ثَابِتَة فَلَا بُد من فعل مُثبت وَالْفِعْل يدل على التجدد وَعدم الثُّبُوت وَأما دلَالَته على الْمُقَارنَة فَلِأَنَّهُ مضارع غير مخلص للاستقبال فَلهَذَا وَجب أَن يكون بالضمير وَحده كالحال المفردة وَامْتنع نَحْو جَاءَ زيد وَتكلم عَمْرو

وَأما مَا جَاءَ من قَول بعض الْعَرَب قُمْت وأصك عينه وَقَول عبد الله بن همام السَّلُولي (فَلَمَّا خشيت أظافيرهم ... نجوت وأرهنهم مَالِكًا) فَقيل إِنَّه على حذف الْمُبْتَدَأ أَي وَأَنا أصك وَأَنا أرهنهم وَقيل الأول شَاذ وَالثَّانِي ضَرُورَة وَقَالَ الْجِرْجَانِيّ رَحمَه الله لَيست الْوَاو فيهمَا للْحَال بل هِيَ فيهمَا للْعَطْف وأرهن وأصك بِمَعْنى رهنت وصككت وَلَكِن الْغَرَض فِي إخراجهما على لفظ الْحَال أَن يحكيا الْحَال فِي أحد الْخَبَرَيْنِ ويدعا الآخر على أَصله فِي الْمُضِيّ كَمَا فِي قَول الشَّاعِر (وَلَقَد أَمر على اللَّئِيم يسبني ... فمضيت ثمت قلت لَا يعنيني)

فَكَمَا أَن أَمر هُنَا بِمَعْنى مَرَرْت فَكَذَلِك فِي وأرهنهم وأصك وَيبين ذَلِك أَن الْفَاء تَجِيء مَكَان الْوَاو فِي مثله كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَر عَن عبد الله بن عتِيك رَضِي الله عَنهُ حِين دخل على أبي رَافع الْيَهُودِيّ حصنه قَالَ فانتهيت إِلَيْهِ فاذا هُوَ فِي بَيت مظلم لَا أَدْرِي أَيْن هُوَ من الْبَيْت فَقلت أَبَا رَافع فَقَالَ من هَذَا فَأَهْوَيْت نَحْو الصَّوْت فأضربه بِالسَّيْفِ وَأَنا دهش قَالَ قَوْله فأضربه مضارع عطفه بِالْفَاءِ على مَاض لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنى مَاض قلت وَمثله أَيْضا قَول تأبط شرا (أَلا من مبلغ فتيَان فهم ... بِمَا لاقيت يَوْم رَحا بطان)

(بِأَنِّي قد لقِيت الغول تهوي ... بسهب كالصحيفة صحصحان) (فشدت شدَّة نحوي فَأَهوى ... لَهَا كفي بمصقول يمَان) (فأضربها بِلَا دهش فخرت ... صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وللجران) فَأتى بقوله فأضربها ليصور لِقَوْمِهِ الْحَالة الَّتِي فِيهَا تشجع على ضرب الغول حَتَّى كَأَنَّهُ يبصرهم إِيَّاهَا فَكَذَلِك مَا تقدم من قَوْلهم قُمْت وأصك وَجهه وأرهنهم مَالِكًا وَالظَّاهِر أَن مثل هَذَا لَا يُقَاس عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَة الحالية وَإِن أُرِيد بِهِ حِكَايَة الْحَال وَأما إِذا كَانَ الْفِعْل منفيا فَإِنَّهُ يجوز دُخُول الْوَاو وَعدمهَا وهما سَوَاء لِأَنَّهُ يدل على الْمُقَارنَة لكَونه مضارعا وَلَيْسَ فِيهِ دلَالَة على الْحُصُول لكَونه منفيا وَقد اسْتثْنى ابْن مَالك الْمُضَارع الْمَنْفِيّ بلم فَجعل الْوَاو فِيهِ وَاجِبَة وَجوز خلوه عَن الضَّمِير مثل جَاءَ زيد وَلم تطلع الشَّمْس وَكَذَلِكَ أَيْضا فِي الْمَاضِي

لفظا أَو معنى يجوز الْوَجْهَانِ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ مثبتا وَيشْتَرط أَن يكون غَالِبا مَعَ قد إِمَّا ظَاهِرَة أَو مقدرَة حَتَّى تقربه إِلَى الْحَال فَيدل على المقاربة وَمُقْتَضى هَذَا أَن يجب الْوَاو فِي الْمَاضِي الْمَنْفِيّ لانْتِفَاء الْمَعْنيين لكنه لم يجب فِيهِ بل كَانَ مثل الْمُثبت أما الْمَنْفِيّ بلما فَلِأَنَّهَا للاستغراق وَأما الْمَنْفِيّ بغَيْرهَا فَلِأَنَّهُ لما دلّ على انْتِفَاء مُتَقَدم وَكَانَ الأَصْل اسْتِمْرَار ذَلِك حصلت الدّلَالَة على الْمُقَارنَة عِنْد إِطْلَاقه بِخِلَاف الْمُثبت فَإِن وضع الْفِعْل على إِفَادَة التجرد وَتَحْقِيق هَذَا أَن اسْتِمْرَار الْعَدَم لَا يفْتَقر إِلَى سَبَب بِخِلَاف اسْتِمْرَار الْوُجُود وَالله أعلم

فصل ملخص من كلام عبد القاهر في سر الربط بالواو

23 - فصل ملخص من كَلَام عبد القاهر فِي سر الرَّبْط بِالْوَاو) ذكر الإِمَام عبد القاهر الْجِرْجَانِيّ هُنَا فصلا بديعا فِي سر امْتنَاع الْوَاو من بعض الْجمل الحالية ودخولها على بَعْضهَا إِمَّا على وَجه اللُّزُوم أَو الْأَوْلَوِيَّة أَو يكون دُخُولهَا وَعدمهَا على السوَاء ملخصة أَن الْخَبَر يَنْقَسِم إِلَى مَا هُوَ خبر من الْجُمْلَة لَا تتمّ الْفَائِدَة إِلَّا بِهِ كَخَبَر الْمُبْتَدَأ وَالْفِعْل للْفَاعِل وَإِلَى مَا هُوَ زِيَادَة فِي خبر آخر سَابق لَهُ وَهُوَ الْحَال فَإِنَّهَا خبر فِي الْحَقِيقَة من حَيْثُ إِنَّك تثبت بهَا الْمَعْنى لذِي الْحَال كَمَا تثبته بِخَبَر الْمُبْتَدَأ للمبتدأ وبالفعل للْفَاعِل إِلَّا أَن الْفرق بَينهمَا أَنَّك فِي خبر الْمُبْتَدَأ أثبت الْمَعْنى لَهُ ابْتِدَاء وجردته لَهُ بِالْمُبَاشرَةِ من غير وَاسِطَة وَفِي الْحَال مثل جَاءَ زيد رَاكِبًا جِئْت بِهِ لتريد معنى خَاصّا فِي إخبارك عَنهُ بالمجيء وَهُوَ أَن تَجْعَلهُ بِهَذِهِ الْهَيْئَة فِي مَجِيئه وَلم تجرد إثباتك للرُّكُوب وَلم تباشره بِهِ ابْتِدَاء بل على سَبِيل التبع لغيره فَإِذا عرف ذَلِك فَكل جملَة جَاءَت حَالا ثمَّ امْتنعت من الْوَاو فَذَاك لِأَنَّك عَمَدت إِلَى الْفِعْل الْوَاقِع فِي صدرها فضممته إِلَى الْفِعْل الأول فِي إِثْبَات وَاحِد وكل جملَة وَقعت حَالا ثمَّ اقْتَضَت الْوَاو فَأَنت مُسْتَأْنف بهَا خَبرا غير قَاصد إِلَى أَن تضمها إِلَى الْفِعْل الأول فِي إِثْبَات وَاحِد

فَإِذا قلت جَاءَ زيد يسْرع كَانَ بِمَنْزِلَة قَوْلك مسرعا فِي أَنَّك تثبت مجيئا فِيهِ إسراع وَتجْعَل الْكَلَام خَبرا وَاحِدًا فكأنك قلت جَاءَنِي بِهَذِهِ الْهَيْئَة وَكَذَلِكَ قَوْله (مَتى أرى الصُّبْح قد لاحت مخايله ... ) هُوَ فِي تَقْدِير مَتى أرى الصُّبْح لائحا باديا بَينا وعَلى هَذَا الْقيَاس وَإِذا قلت جَاءَنِي زيد وَغُلَامه يسْعَى بَين يَدَيْهِ وَرَأَيْت زيدا وسيفه على كتفه كَانَ الْمَعْنى أَنَّك أثبت الْمَجِيء والرؤية ثمَّ استأنفت خَبرا وابتدأت إِثْبَاتًا لسعي الْغُلَام بَين يَدَيْهِ وَلكَون السَّيْف على عَاتِقه فَلَمَّا كَانَ الْمَعْنى أَنَّك استأنفت خَبرا آخر احتجت إِلَى مَا يرْبط الْجُمْلَة الثَّانِيَة بِالْأولَى فجيء بِالْوَاو كَمَا جِيءَ بهَا فِي قَوْلك زيد منطلق وَعَمْرو ذَاهِب وتسميتها وَاو الْحَال لَا تخرجها عَن أَن تكون مجتلبة لضم جملَة إِلَى جملَة ونظيرها الْفَاء فِي جَوَاب الشَّرْط فَإِنَّهَا وَإِن لم تكن عاطفة بِمَعْنى أَنَّهَا تدخل مَا بعْدهَا فِي حكم الشَّرْط الْمُعَلق عَلَيْهِ بالْخبر لَا يُخرجهَا أَن تكون بِمَنْزِلَة العاطفة بِمَعْنى أَنَّهَا جَاءَت لتربط جملَة لَيْسَ من شَأْنهَا أَن ترتبط بِنَفسِهَا وكما أَن الْمُضَارع إِذا وَقع جَوَابا للشّرط لم يحْتَج إِلَى الْفَاء فِي الْجَزَاء فَكَذَلِك لَا يحْتَاج إِلَى الْوَاو فِي الْحَال قِيَاسا سويا وَإِنَّمَا امْتنع فِي قَوْلك جَاءَ زيد وَهُوَ يسْرع أَن يدْخل الْإِسْرَاع فِي صلَة الْمَجِيء ويضامه فِي الْإِثْبَات كَمَا كَانَ ذَلِك فِي جَاءَ زيد يسْرع لِأَنَّك إِذا أعدت ذكر زيد فَجئْت بضميره الْمُنْفَصِل كَانَ بِمَنْزِلَة أَن تعيد اسْمه صَرِيحًا فَتَقول جَاءَنِي زيد وَزيد يسْرع فَلَا تَجِد سَبِيلا إِلَى أَن تدخل يسْرع فِي صلَة الْمَجِيء وتضمه إِلَيْهِ فِي الْإِثْبَات لِأَن إِعَادَة ذكر زيد إِنَّمَا يكون لقصد اسْتِئْنَاف الْخَبَر عَنهُ وَإِلَّا كنت تَارِكًا اسْمه الَّذِي جعلته مُبْتَدأ بمضيعة كَمَا لَو

قلت جَاءَنِي زيد وَعَمْرو يسْرع أَمَامه وَجعلت يسْرع لزيد وَحَالا مِنْهُ وَجعلت عمرا لَغوا وَذَلِكَ الْحَال فَإِن قلت إِنَّمَا اسْتَحَالَ ذَلِك من حَيْثُ كَانَ فِي يسْرع ضمير لعَمْرو وتضمنه ضمير عَمْرو يمْنَع أَن يكون لزيد وَأَن يقدر حَالا لَهُ وَلَيْسَ كَذَلِك جَاءَنِي زيد وَهُوَ يسْرع لِأَن السرعة هُنَاكَ لزيد لَا محَالة فَلَا يُقَاس إِحْدَاهمَا بِالْأُخْرَى فَجَوَابه أَن الْمَانِع لَيْسَ هُوَ أَن يكون يسْرع فِي قَوْلك جَاءَنِي زيد وَعَمْرو يسْرع أَمَامه حَالا من زيد وَهُوَ فعل لعَمْرو فَإنَّك لَو أخرت عمرا فَرَفَعته بيسرع وَقلت جَاءَنِي زيد يسْرع عَمْرو أَمَامه صَحَّ جعله حَالا من زيد مَعَ أَنه فعل لعَمْرو فَتعين أَن يكون الْمَانِع تَركك عمرا بمضيعة إِذْ جعلته حَالا مُبْتَدأ لَا خبر لَهُ ويفضي بك ذَلِك إِلَى أَن يكون يسْرع فِي مَوضِع نصب لكَونه حَالا من زيد وَفِي مَوضِع رفع لكَونه خَبرا عَن عَمْرو الْمَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَذَلِكَ بَين التدافع وَهَذَا الْمَانِع لَا تَجدهُ إِذا أخرت عمرا وَصَارَ بِمَثَابَة قَوْلك جَاءَنِي زيد مسرعا عَمْرو أَمَامه ثمَّ ذكر الْجِرْجَانِيّ بعد ذَلِك أَنه يَنْبَغِي على هَذَا الأَصْل أَن لَا تَجِيء جملَة من مُبْتَدأ وَخبر حَالا إِلَّا مَعَ الْوَاو وَقَالَ هَذَا هُوَ الأَصْل وَمَا جَاءَ من ذَلِك بِغَيْر وَاو فمؤول بالمفرد مثل كَلمته فوه إِلَى فِي أَي مشافها وَرجع عوده على بدئه أَي ذَاهِبًا فِي طَرِيقه وَكَذَلِكَ بَقِيَّة أَمْثَاله وَلَيْسَ الْحمل على الْمَعْنى وتنزيل الشَّيْء منزلَة غَيره قَلِيلا فِي كَلَامهم وَقد قَالُوا زيد اضربه فأجازوا أَن يكون الْأَمر فِي مَوضِع الْخَبَر لِأَن الْمَعْنى اضْرِب زيدا وَوضع الْجُمْلَة من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر مَوضِع الْفَاعِل وَفعله فِي نَحْو قَوْله تَعَالَى {أدعوتموهم أم أَنْتُم}

صامتون) لِأَن الأَصْل فِي المعادلة أَن تكون الثَّانِيَة كالأولى نَحْو أدعوتموهم أم صمتم ثمَّ قَالَ وَيجوز أَن يكون مَا جَاءَ من قَوْلك إِنَّمَا جَاءَ على إِرَادَة الْوَاو كَمَا جَاءَ الْمَاضِي على إِرَادَة قد قلت وَهَذَا فِيهِ نظر لَا يخفى وَالْأولَى تَأْوِيله بالمفرد لِأَن الأَصْل فِيهِ حِينَئِذٍ أَلا تكون فِيهِ وَاو وَالله أعلم

فصل استعمال الواو في الحال عند الأصوليين

24 - فصل اسْتِعْمَال الْوَاو فِي الْحَال عِنْد الْأُصُولِيِّينَ ذكر الْبَزْدَوِيّ وَغَيره من أَئِمَّة الْحَنَفِيَّة أَن اسْتِعْمَال الْوَاو فِي الْحَال على وَجه الْمجَاز والاستعارة والعلاقة مُطلق الْجمع وَهَذَا مُقْتَضى مَا تقدم قَرِيبا عَن الْجِرْجَانِيّ أَن وَاو الْحَال لَا تنفك عَن معنى الْعَطف لما تضمن من ضم جملَة إِلَى جملَة وَالَّذِي صرح بِهِ الإِمَام فَخر الدّين فِي بعض مباحثه أَنَّهَا مُشْتَركَة بَين الْعَطف وَالْحَال وَمُقْتَضى كَلَامه كَمَا سَيَأْتِي أَنَّهَا لَا تكون مُشْتَركَة فِي غير هذَيْن تقليلا للاشتراك وَفِي ذَلِك نظر لِأَن وَاو الْقسم وواو رب لَا جَامع بَينهمَا وَبَين العاطفة فادعاء الِاشْتِرَاك بَين هَذِه الْمعَانِي وَأَن تكون مجَازًا فِي الْحَال أولى لوُجُود العلاقة بَين العاطفة وواو الْحَال وَقد قصر بعض المصنفين القَوْل بالاشتراك على قسم الْأَسْمَاء وَالْأَظْهَر أَنه يجْرِي أَيْضا فِي الْأَفْعَال والحروف

وَصرح فَخر الدّين وَجُمْهُور أَصْحَابه بِوُقُوع الِاشْتِرَاك فِي الْحُرُوف محتجين بإطباق أَئِمَّة الْعَرَبيَّة على ذَلِك والبحث الَّذِي أَشَرنَا إِلَيْهِ عَن الإِمَام فَخر الدّين هُوَ على قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ وَإنَّهُ لفسق} فَإِنَّهُ احْتج بهَا على حل مَتْرُوك التَّسْمِيَة عكس مَا تعلق بِهِ الْمُخَالف وَوجه استدلاله بِهِ أَن الْوَاو للْعَطْف أَو للْحَال لِأَن الِاشْتِرَاك خلاف الأَصْل فتقليله أقل مُخَالفَة للدليل والعطف هُنَا ضَعِيف لِأَن عطف الْجُمْلَة الاسمية على الْجُمْلَة الفعلية قَبِيح لَا يُصَار إِلَيْهِ إِلَّا لضَرُورَة كَمَا فِي آيَة الْقَذْف وَالْأَصْل عدمهَا هُنَا وَإِذا تعين أَن يكون للْحَال كَانَ تَقْدِير الْآيَة وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ حَال كَونه فسقا لَكِن الْفسق هُنَا غير مُبين وَبَيَانه فِي الْآيَة الْأُخْرَى وَهِي قَوْله تَعَالَى {أَو فسقا أهل لغير الله بِهِ} فَصَارَ الْفسق مُفَسرًا بِأَنَّهُ الَّذِي أهل لغير الله بِهِ فَيبقى تَقْدِير الْآيَة وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ حَال كَونه مهلا بِهِ لغير الله ثمَّ استفتح القَوْل على حل مَتْرُوك التَّسْمِيَة من أَن تَخْصِيص التَّحْرِيم بِالصّفةِ يَقْتَضِي نفي الحكم عَمَّا عدهَا وَمن قَوْله تَعَالَى {قل لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ محرما على طاعم يطعمهُ} الْآيَة وَمن غير ذَلِك هَذَا ملخص بَحثه

وَاعْترض عَلَيْهِ الْمجد الروذراوي بِأُمُور أَحدهَا منع انحصار الِاشْتِرَاك فِي الْعَطف وَالْحَال فقد يَجِيء للاستئناف كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَقَد مننا على مُوسَى وَهَارُون} وَأَمْثَاله وَكَذَلِكَ فِي هَذِه الْآيَة فِي موضِعين أَحدهمَا {وَإِن الشَّيَاطِين ليوحون إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} وَالثَّانِي {وَإِن أطعتموهم إِنَّكُم لمشركون} وَثَانِيها منع أَنَّهَا وَاو الْحَال قَالَ وَلَا يلفى فِي كَلَام الْعَرَب وَاو مقترنة بإن وَاللَّام فِي خَبَرهَا وَهِي للْحَال وَثَالِثهَا منع الْإِجْمَال فِي لفظ الْفسق فَإِنَّهُ مُطلق الْخُرُوج عَن الطَّاعَة وَلَو سلم فِيهِ الْإِجْمَال فَمَا الدَّلِيل على أَن بَيَانه فِي قَوْله {أَو فسقا أهل لغير الله بِهِ} وَرَابِعهَا أَن الضَّمِير فِي {وَإنَّهُ لفسق} لَا يَصح عوده إِلَى الْمَذْبُوح لِأَنَّهُ مجَاز مَحْض وَالظَّاهِر أَنه يعود إِلَى الْأكل الَّذِي دلّ عَلَيْهِ قَوْله {وَلَا تَأْكُلُوا} فَيبْطل الِاسْتِدْلَال بِهِ على كَونه مُبَاحا لِأَن النَّهْي عَنهُ يدل على تَحْرِيمه فَيكون أكله محرما وفسقا فَلَا يكون مُبَاحا وخامسها أَن مَا ذكره من تَقْدِير الْآيَة {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ} حَال كَونه مهلا بِهِ لغير الله أخص مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ لانقسام ذَلِك إِلَى مَا يهل بِهِ لغير الله وَإِلَى مَا لَا يهل بِهِ لأحد وَالْحمل على الْأَعَمّ أولى لِأَنَّهُ أَعم فَائِدَة وسادسها أَن التَّمَسُّك بِهِ فِي الْإِبَاحَة بِمَفْهُوم الصّفة إِثْبَات متنازع فِيهِ لِأَن الْخصم يُخَالف فِي ذَلِك أَيْضا وَهُوَ اخْتِيَار فَخر الدّين فِي الْمَحْصُول فَكيف يحْتَج بِهِ هُنَا وَذكر كلَاما كثيرا لَا فَائِدَة فِي مثله وَلَيْسَ من غرضنا وَمَعَ ذَلِك فَلَا بُد من إِثْبَات عَمَّا فِي هَذِه الاعتراضات

أما الأول فواو الِاسْتِئْنَاف هِيَ أحد نَوْعي العاطفة وَلَيْسَت شَيْئا غَيرهَا حَتَّى يلْزم بهَا وَلَا شكّ أَن نَفْيه محامل الْوَاو الَّتِي يَأْتِي ذكرهَا من الَّتِي بِمَعْنى مَعَ وواو الصّرْف الناصبة للمضارع وواو الْقسم وواوات لَا يَصح مِنْهَا شَيْء فِي هَذِه الْوَاو فَتعين الْحصْر بَين وَاو الْعَطف وواو الْحَال وَيلْزم من وَاو الْعَطف مَا ذكره من الْمُخَالفَة بعطف الْجُمْلَة الاسمية على الْجُمْلَة الفعلية وَإِن كَانَت للاستئناف فيترجح كَونهَا للْحَال وَأما الْجُمْلَة بإن وَاللَّام فَقَالَ لَا يمْنَع وُقُوعهَا حَالا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {كَمَا أخرجك رَبك من بَيْتك بِالْحَقِّ وَإِن فريقا من الْمُؤمنِينَ لكارهون} فَإِن هَذِه الْجُمْلَة مُتَّفق على أَنَّهَا حَالية وفيهَا إِن وَاللَّام وَذَلِكَ يرد قَوْله إِنَّه لَا يلفى فِي كَلَام الْعَرَب وَأما بَيَان الْفسق بِتِلْكَ الْآيَة فَذَلِك جَار على قَاعِدَة تَقْيِيد الْمُطلق لِأَن سِيَاق الْآيَتَيْنِ فِي مَا يُؤْكَل وَقد قيدت تِلْكَ الْآيَة الْفسق بِمَا أهل بِهِ لغير الله فَتحمل هَذِه الْآيَة عَلَيْهِ وَالتَّقْيِيد فِي الْحَقِيقَة بَيَان المُرَاد الْمُتَكَلّم وَأما عود الضَّمِير فَلَا يتَعَيَّن أَن يعود إِلَى الْأكل بل الْأَظْهر عوده إِلَى الْفِعْل وَهُوَ ذكر اسْم غير الله تَعَالَى على الذَّبِيحَة فَيكون الْوَصْف بِكَوْنِهِ فسقا هُوَ ذَلِك الْفِعْل وَالنَّهْي عَن الْأكل مُقَيّدا بِوُجُودِهِ فَأَما الْحمل على الْأَعَمّ فَلَا يلْزم إِلَّا إِذا لم يمْنَع مِنْهُ مَانع وَهنا قد قَامَ الدَّلِيل على أَن مَا نهي عَنهُ هُوَ مَا أهل بِهِ لغير الله فَلَمَّا عرف ذَلِك من عَادَة أهل ذَلِك الزَّمَان وَهُوَ أَن من لم يذكر اسْم الله سُبْحَانَهُ على الذَّبِيحَة يذكر اسْم مَا كَانُوا يشركُونَ بِهِ ثمَّ إِن سِيَاق الْآيَة أَيْضا ترشد إِلَى ذَلِك وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَإِن الشَّيَاطِين ليوحون إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ليجادلوكم وَإِن أطعتموهم إِنَّكُم لمشركون}

) وهم إِنَّمَا يصيرون مُشْرِكين بِذكر اسْم غير الله لَا بترك اسْم الله تَعَالَى وَاسم غَيره فَفِي هَذَا إِشْعَار يرجح أَن المُرَاد بقوله تَعَالَى {مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ} مَا ذكر اسْم غير الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَأما الِاعْتِرَاض بالتمسك بِمَفْهُوم الصّفة فَأمره قريب وَالْمَقْصُود أَن الْآيَة لَا دلَالَة فِيهَا على تَحْرِيم مَا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ فَإِن قَامَ مِنْهَا دَلِيل على إِبَاحَته وَإِلَّا فَلَا يضر وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق

فصل مسائل فقهية في التفريع على واو الحال

25 - فصل مسَائِل فقهية فِي التَّفْرِيع على وَاو الْحَال اخْتلفت مسَائِل الْحَنَفِيَّة فِي التَّفْرِيع على وَاو الْحَال فَقَالُوا إِذا قَالَ لعَبْدِهِ أد إِلَيّ ألفا وَأَنت حر أَو قَالَ لحربي انْزِلْ وَأَنت آمن لَا يعْتق العَبْد مَا لم يؤد وَلَا يَأْمَن الْكَافِر مَا لم ينزل وَلَو قَالَ خُذ هَذَا المَال واعمل بِهِ مُضَارَبَة فِي الْبَز لَا يتَقَيَّد الْمُضَاربَة فِي الْبَز مُطلقًا بل لَهُ أَن يتجر فِي غَيره وَإِذا قَالَ أَنْت طَالِق وَأَنت تصلين أَو مصلية أَو وَأَنت مَرِيضَة طلقت فِي الْحَال وَلَا تتقيد بِتِلْكَ الْحَالة إِلَّا إِذا نوى التَّعْلِيق عَلَيْهَا فَيكون ذَلِك شرطا فِي الْوُقُوع بِالنِّيَّةِ

وَلَو قَالَت طَلقنِي وَلَك عَليّ ألف دِرْهَم لَا يجب شَيْء بِالطَّلَاق عِنْد أبي حنيفَة وأوجبه أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد ومدار الْفرق بَين هَذِه الْمسَائِل يرجع إِلَى مَا تقدم عَنْهُم أَن الْوَاو حَقِيقَة فِي الْعَطف مجَاز فِي الْحَال قَالُوا فَمَتَى صلحت للْعَطْف تعيّنت لَهُ وخصوصا إِذا تعذر حملهَا للْحَال كَمَسْأَلَة الْمُضَاربَة فَإِن حَال الْعَمَل لَا يكون وَقت الْآخِذ وَإِنَّمَا يكون الْعَمَل بعد الْأَخْذ لَهُ وَالْكَلَام صَحِيح بِاعْتِبَار كَونهَا عاطفة وَيكون ذَلِك على سَبِيل المشورة عَلَيْهِ بِالتِّجَارَة فِي هَذَا الصِّنْف لَا شرطا فَلَا حَاجَة إِلَى الْخُرُوج عَن الْحَقِيقَة إِلَى الْمجَاز بِخِلَاف مَسْأَلَة الْعتْق والأمان لِأَن الْجُمْلَة الأولى مِنْهُمَا فعلية طلبية وَالثَّانيَِة اسمية خبرية وَبَينهمَا كَمَال الِانْقِطَاع وَذَلِكَ مَانع من الْعَطف إِذْ لَا بُد لصِحَّته أَو حسنه من نوع اتِّصَال بَين الجملتين فَلذَلِك جعلت للْحَال لتعذر الْحَقِيقَة وَالْأَحْوَال شُرُوط لكَونهَا مُقَيّدَة كالشرط فتعلقت الْحُرِّيَّة بِالْأَدَاءِ والأمان بالنزول كَمَا فِي قَوْله إِن دخلت الدَّار راكبة فَأَنت طَالِق فَإِن الطَّلَاق يتَعَلَّق بالركوب تعلقه بِالدُّخُولِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إِن أدّيت إِلَيّ ألفا فَأَنت حر وَإِن نزلت فَأَنت آمن ووجهوا ذَلِك بِأَن الْجُمْلَة الْوَاقِعَة حَالا قَائِمَة مقَام جَوَاب الْأَمر بِدَلِيل مَقْصُود الْمُتَكَلّم فَأخذت حكمه وَصَارَ تَقْدِير الْكَلَام أد إِلَيّ ألفا تصر حرا وَمِنْهُم من قَالَ لما جعل الْحُرِّيَّة حَالا للْأَدَاء وَالْحَال كالصفة فَلم تثبت

الْحُرِّيَّة سَابِقَة على الْأَدَاء إِذْ الْحَال لَا يسْبق صَاحبه كَمَا أَن الصّفة لَا تسبق الْمَوْصُوف وَمِنْهُم من قَالَ قَوْله وَأَنت حر وَأَنت آمن من الْأَحْوَال الْمقدرَة كَقَوْلِه تَعَالَى {فادخلوها خَالِدين} فَمَعْنَى الْكَلَام أد إِلَيّ ألفا مُقَدرا للحرية فِي حَال الْأَدَاء فَتكون الْحُرِّيَّة معلقَة بِالْأَدَاءِ وَمِنْهُم من قَالَ هُوَ من بَاب الْقلب تَقْدِيره كن حرا وَأَنت مؤد ألفا وَكن آمنا وَأَنت نَازل وَإِنَّمَا حمل على هَذَا لِأَنَّهُ لَا يَصح تَعْلِيق الْأَدَاء وَالنُّزُول بِمَا دخل عَلَيْهِ الْوَاو إِذْ التَّعْلِيق إِنَّمَا يَصح فِيمَا يَصح تنجيزه وَلَيْسَ فِي قدرَة الْمُتَكَلّم تَنْجِيز الْأَدَاء وَالنُّزُول من الْمُخَاطب فَلم يَصح تَعْلِيقه فَلذَلِك قيل إِنَّه من المقلوب وَالْوُجُوه الأول أقوى وَأما قَوْله أَنْت طَالِق وَأَنت مَرِيضَة أَو وَأَنت تصلين فَإِن الْجُمْلَة الأولى تَامَّة بِنَفسِهَا وَالثَّانيَِة تصلح للْحَال فَصحت لَهُ بِالنِّيَّةِ كَمَا فِي نظائرها وَقَوْلها طَلقنِي وَلَك عَليّ ألف قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد يصلح ذَلِك للالزام وتستحق الْألف بِطَلَاقِهَا حملا على الْحَال أَو يكون الْوَاو فِيهِ بِمَعْنى الْبَاء مجَازًا والمقتضي للمجاز قرينَة الْخلْع فَإِنَّهُ مُعَاوضَة كَمَا إِذا قَالَ احْمِلْ هَذَا الطَّعَام وَلَك دِرْهَم فَإِنَّهُ يسْتَحقّهُ بِحمْلِهِ وَقَالَ أَبُو حنيفَة قرينَة الْخلْع لَا تصلح دَلِيلا للمعاوضة حَتَّى يحمل عَلَيْهَا فَإِن الْمُعَاوضَة لَيست بأصلية فِي الطَّلَاق بل هِيَ عارضة فِيهِ بِخِلَاف قَوْله احْمِلْ كَذَا وَلَك دِرْهَم لِأَن الْمُعَاوضَة فِي الْإِجَارَة أَصْلِيَّة وَإِذا لم تكن

قرينَة الْخلْع صَالِحَة لصرف اللَّفْظ عَن حَقِيقَته عمل الطَّلَاق عمله لِأَنَّهُ جملَة تَامَّة منجزة وَكَانَت الْوَاو للْعَطْف هَذَا حَاصِل مَا قرروا بِهِ هَذِه الْمسَائِل وَفرقُوا بِهِ بَينهَا وَهُوَ مَبْنِيّ على مَا ذكرنَا أَن اسْتِعْمَال الْوَاو للْحَال على وَجه التَّجَوُّز وَأما أَصْحَابنَا فَقَالُوا إِذا قَالَت الْمَرْأَة طَلقنِي وَلَك عَليّ ألف فَطلقهَا مجيبا يَقع الطَّلَاق بَائِنا بِالْألف بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ أَنْت طَالِق وَعَلَيْك ألف فَإِنَّهُ يَقع رَجْعِيًا وَلَا يلْزمهَا وَبِهَذَا قَالَ فيهمَا أَيْضا أَصْحَاب مَالك وَأحمد رَحِمهم الله وَفرقُوا بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ بِأَن الَّذِي يتَعَلَّق بِالْمَرْأَةِ من الْخلْع الْتِزَام المَال فَيحمل اللَّفْظ مِنْهَا على الِالْتِزَام عِنْد الطَّلَاق وَأما الزَّوْج فَإِنَّهُ ينْفَرد بِالطَّلَاق فَإِذا لم يَأْتِ بِصِيغَة الْمُعَاوضَة حمل كَلَامه على مَا ينْفَرد بِهِ وَلِهَذَا إِذا قَالَ أردْت بِقَوْلِي وَعَلَيْك ألف الْإِلْزَام ووافقته الْمَرْأَة على ذَلِك كَانَ خلعا ولزمها الْألف على الْأَصَح من الْوَجْهَيْنِ عِنْد أَصْحَابنَا وَفرع عَلَيْهِ أَنه إِذا قَالَ بِعْتُك هَذَا ولي عَلَيْك كَذَا وَنوى البيع أَنه ينْعَقد تَفْرِيعا على انْعِقَاده بِالْكِتَابَةِ وَهَذَا إِذا لم يتَقَدَّم من الْمَرْأَة طلب فَإِن قَالَت طَلقنِي بِبَدَل فَقَالَ طَلقتك وَعَلَيْك ألف صَحَّ ذَلِك وَنزل تَقْدِيم الاستيجاب منزلَة تَمام العقد وَذكر صَاحب التَّتِمَّة أَنه لَو لم يسْبق مِنْهَا طلب وشاع فِي الْعرف اسْتِعْمَال قَوْله أَنْت طَالِق ولي عَلَيْك ألف فِي طلب الْعِوَض وإلزامه كَانَ كَمَا لَو قَالَ طَلقتك على ألف

فَالْحَاصِل أَن الْجُمْلَة الحالية اعْتبرت مُقَيّدَة حَيْثُ لَا يعارضها تقاعد اللَّفْظ عَن الِالْتِزَام والمعاوضة وَكَذَا فِي الْعتْق أَنه إِذا قَالَ أَنْت حر وَعَلَيْك ألف يَقع الْعتْق وَلَا شَيْء على العَبْد وَإِن قيل كَمَا فِي الطَّلَاق وَيُمكن أَن يكون ذَلِك تَفْرِيعا على أَن الْوَاو هُنَا للْعَطْف وَلَا يحمل على الْحَال إِلَّا بِدَلِيل أما إِذا قَالَ أد إِلَيّ ألفا وَأَنت حر وأعطيني ألفا وَأَنت طَالِق فَالَّذِي يظْهر من قَاعِدَة أَصْحَابنَا أَن الطَّلَاق وَالْعِتْق يتقيدان بالاعطاء وَلَا يكون ذَلِك مُنجزا كَمَا تقدم مثله عَن الْحَنَفِيَّة وَتقدم تَوْجِيهه وَقد قَالَ أَصْحَابنَا أَيْضا فِي الْجعَالَة إِنَّه لَا فرق بَين أَن يَقُول إِن رددت عَبدِي فلك كَذَا ورده وَلَك كَذَا فِي اسْتِحْقَاق الْجعل عِنْد وجود مَا علق عَلَيْهِ وَلَو قَالَ ألق متاعك فِي الْبَحْر وَعلي ضَمَانه وَكَانَ الْحَال يَقْتَضِي جَوَاز ذَلِك لخوف الْغَرق فَأَلْقَاهُ لزمَه ضَمَانه وَلَا يتَعَيَّن الْوَاو هُنَا أَن يكون للْحَال بل يجوز أَن تكون عاطفة وَصَحَّ الِالْتِزَام لِأَنَّهُ استدعى إِتْلَاف مَا يعاوض عَلَيْهِ لغَرَض صَحِيح فَلَزِمَهُ كَمَا لَو قَالَ اعْتِقْ عَبدك على ألف فِي ذِمَّتِي بِخِلَاف مَا لَو قَالَ بِعْ مَالك من فلَان بِخَمْسِمِائَة وَعلي خَمْسمِائَة فَإِنَّهُ لَا يلْزمه شَيْء على الْأَصَح وَفِيه وَجه اخْتَارَهُ بعض الْأَصْحَاب أَنه يَصح لِأَن لَهُ غَرضا صَحِيحا فِي مُحَابَاة الْمَبِيع مِنْهُ وَقد تقدم فِي مسَائِل التَّرْتِيب عَن أَصْحَابنَا أَنهم قَالُوا إِذا قَالَ لعَبْدِهِ إِذا مت وَدخلت الدَّار فَأَنت حر أَنه لَا يعْتق حَتَّى يدْخل بعد الْمَوْت إِلَّا أَن يُصَرح السَّيِّد بِأَنَّهُ أَرَادَ الدُّخُول قبله وَهَذَا يَقْتَضِي أَن كَون الْوَاو للْحَال على وَجه الْمجَاز وَإِلَّا فَمَتَى كَانَت مُشْتَركَة بَين الْجمع وَالْحَال يَنْبَغِي التَّوَقُّف لاحْتِمَال أَن يكون أَرَادَ الْحَال وَتَكون قد مقدرَة فَيتَوَقَّف حَتَّى يتَبَيَّن مُرَاده وَالله تَعَالَى أعلم

فصل القسم الثالث من أنواع الواو ما ينتصب بعدها المفعول معه

26 - فصل الْقسم الثَّالِث من أَنْوَاع الْوَاو مَا ينْتَصب بعْدهَا الْمَفْعُول مَعَه لمصاحبة مَعْمُول فعل إِمَّا لفظا أَو معنى لَازِما كَانَ أَو مُتَعَدِّيا مثل جِئْت وزيدا واستوى المَاء والخشبة ت وَالْوَاو هُنَا جَامِعَة غير عاطفة وأصل مَا بعْدهَا أَن يكون مَعْطُوفًا وَلكنه عدل بِهِ إِلَى النصب لما لحظ فِيهِ من معنى الْمَفْعُول بِهِ فَإِذا قلت اسْتَوَى المَاء والخشبة كَانَ مَعْنَاهُ سَاوَى المَاء الْخَشَبَة وَكَذَلِكَ جَاءَ الْبرد والطيالسة مَعْنَاهُ بالطيالسة ثمَّ إِن مسَائِله تتنوع إِلَى خَمْسَة أَنْوَاع الأول مَا يتَعَيَّن فِيهِ الْعَطف وَلَا يجوز غَيره كَقَوْلِك كل رجل وضيعته فَلَا يجوز هُنَا النصب لِأَنَّهُ لَا ناصب لَهُ وَلَا مَا يطْلب الْفِعْل وَالْخَبَر هُنَا مُقَدّر مَعْنَاهُ مقترنان وَنَحْو ذَلِك

وَحكي عَن الصَّيْمَرِيّ أَنه جوز النصب فِي مثل هَذَا وحكموا عَلَيْهِ بالغلط وَقد بَين سِيبَوَيْهٍ أَنه لَا يجوز النصب فِيهِ وَالثَّانِي مَا يتَعَيَّن فِيهِ النصب مثل مشيت والساحل وَسَار زيد والجبل فَلَا يجوز غير النصب لِأَن الْجَبَل والساحل لَا يشاركان فِي الْمَشْي وَالسير فيتعذر الْعَطف لفساد الْمَعْنى وعد بَعضهم من هَذَا الْمَعْنى قَوْلهم اسْتَوَى المَاء والخشبة لِأَن الْخَشَبَة لم تكن معوجة حَتَّى تستوي فيتعذر الْعَطف وَغَيره مِمَّا يَأْتِي بعد هَذَا وَمن هَذَا النَّوْع أَيْضا قَول الشَّاعِر أنْشدهُ سِيبَوَيْهٍ (فكونوا أَنْتُم وَبني أبيكم ... مَكَان الكليتين من الطحال) أَي مَعَ بني أبيكم لِأَنَّهُ أَمرهم بموافقة بني أَبِيهِم وَلم يَأْمر بني أَبِيهِم بِالدُّخُولِ مَعَهم فِي الْأَمر فَوَجَبَ نصبهم على الْمَفْعُول مَعَه وَلَو كَانُوا بني أَبِيهِم مأمورين لكانوا مرفوعين بالْعَطْف على الضَّمِير فِي كونُوا لِأَنَّهُ مُؤَكد

بقوله أَنْتُم فَكَانَ يُمكن الْعَطف فَلَمَّا عدل عَنهُ مَعَ إِمْكَانه دلّ على أَن الْأَمر لأولئك وحدهم فَتعين النصب وَمِنْه أَيْضا قَول كَعْب بن جعيل شَاعِر تغلب (فَكنت وَإِيَّاهَا كحران لم يفق ... عَن المَاء إِذْ لاقاه حَتَّى تقددا) يُرِيد أَنه لما اجْتمع مَعَ صاحبته اعتنقها وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى هلك كالحران وَهُوَ العطشان الَّذِي لم يرو من المَاء حَتَّى هلك وَالشَّاهِد فِيهِ نصب إِيَّاهَا على الْمَفْعُول مَعَه وَإِنَّمَا كَانَ مُتَعَيّنا لقبح الْعَطف على الْمُضمر الْمَرْفُوع مُتَّصِلا من غير تَأْكِيد وَالنَّوْع الثَّالِث مَا يجوز فِيهِ الْعَطف وَالنّصب لَكِن الْعَطف أقوى مثل قَوْلهم مَا أَنْت وَزيد وَمَا أَنْت وَالْفَخْر وَقَول الشَّاعِر (وَمَا جرم وَمَا ذَاك السويق ... ) وَإِنَّمَا كَانَ الرّفْع أَجود لبعد الْعَامِل فِي اللَّفْظ وَجَاز النصب لدلَالَة الِاسْتِفْهَام على الْعَامِل وَالرَّابِع مَا يجوز فِيهِ الْأَمْرَانِ وَالنّصب هُوَ الْأَقْوَى والعطف مَرْجُوح مثل مَالك

وزيدا وَمَا شَأْنك وعمرا وَكَذَلِكَ قُمْت وزيدا فَمن جوز الْعَطف على الْمُضمر الْمَجْرُور من غير إِعَادَة الْخَافِض وعَلى الْمُضمر الْمَرْفُوع مُتَّصِلا من غير تَأْكِيد جوزه هُنَا وَحسن النصب قبح ذَلِك وَطلب الِاسْتِفْهَام للْفِعْل وَجوز ابْن أبي الرّبيع أَن تكون الْوَاو فِي مثل قَوْلك مَالك وزيدا للْعَطْف وَالنّصب بعْدهَا بإضمار الملابسة وعطفت الملابسة على الْخَبَر كَأَنَّك قلت مَا كَانَ لَك وملابستك زيدا أَو مَا كَانَ لَك تلابس زيدا الْخَامِس مَا يكون فِيهِ الْعَطف وَالنّصب على السوَاء مثل جَاءَ الْبرد والطيالسة لِأَن الْمَجِيء يَصح لكل وَاحِد مِنْهُمَا وعد بَعضهم مِنْهُ قَوْلهم اسْتَوَى المَاء والخشبة لِأَن مُسَاوَاة كل مِنْهُمَا للْآخر على السوَاء فَهُوَ مثل اخْتصم زيد وَعَمْرو وَقد ضبط ابْن الْحَاجِب الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة الأول بِأَن الْفِعْل إِمَّا أَن يكون لفظا أَو معنى وعَلى كل مِنْهُمَا إِمَّا يجوز الْعَطف أَو يمْتَنع فَإِن كَانَ لفظا وَجَاز

الْعَطف جَازَ الْوَجْهَانِ مثل جِئْت أَنا وزيدا يَعْنِي وَإِن كَانَ النصب أرجح وَإِن لم يجز الْعَطف تعين النصب مثل جِئْت وزيدا وَإِن كَانَ معنى وَجَاز الْعَطف تعين ذَا مثل مَا لزيد وَعَمْرو وَإِلَّا تعين النصب مثل مَالك وزيدا وَسكت عَمَّا اسْتَوَى فِيهِ الْأَمْرَانِ إِمَّا لدُخُوله فِي الْقسم الأول مَعَ قطع النّظر عَن التَّرْجِيح أَو لِأَن جَوَاز كل من النصب والعطف إِنَّمَا يَجِيء عِنْد إِرَادَة مَعْنَاهُ وَهُوَ مُخْتَلف فَإنَّك إِذا قلت جَاءَ زيد وَعَمْرو لم يكن الْكَلَام مقتضيا سوى مجيئهما مَعَ قطر النّظر عَن كَونهمَا جَاءَا مصطحبين أَو مفترقين فَإِذا قلت وعمرا بِالنّصب لم يكن إِلَّا على أَنَّهُمَا جَاءَا مَعًا فَفِي النصب مَا فِي الْعَطف من الِاشْتِرَاك فِي الْمَجِيء وَزِيَادَة الاصطحاب وَالْمَقْصُود من النصب نِسْبَة الْفِعْل إِلَى الأول مَعَ مصاحبته للثَّانِي وَلذَلِك قيل إِن الْوَاو بِمَعْنى مَعَ قَالَ ابْن بري الْوَاو الَّتِي مَعَ الْمَفْعُول مَعَه لَهَا فَائِدَتَانِ أحداهما أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي مُشَاركَة الثَّانِي للْأولِ فِي الْفِعْل مثل سَار زيد والنيل وواو الْعَطف تَقْتَضِي ذَلِك وَالثَّانِي أَنَّهَا تجمع بَين الاسمين فِي زمن وَاحِد وَلَا كَذَلِك وَاو الْعَطف قلت أما الْفَائِدَة الأولى فَإِنَّهَا لَا تعم جَمِيع صور الْمَفْعُول مَعَه فَإِن مثل اسْتَوَى المَاء والخشبة وَجَاء الْبرد والطيالسة الْمُشَاركَة حَاصِلَة لكل مِنْهُمَا فِي الْفِعْل وَإِنَّمَا يخْتَص بذلك بعض الصُّور الَّتِي يتَعَيَّن فِيهَا النصب كَمَا تقدم وَأما الثَّانِيَة فَكَأَن مُرَاده أَن العاطفة لَا تَقْتَضِي الْمَعِيَّة بوضعها وتدل عَلَيْهِ

بِخِلَاف هَذِه وَإِلَّا فالعاطفة لَا يُنَافِي مدلولها الْجمع بَين الاسمين فِي زمن وَاحِد وَذكر النيلي أَن هَذِه الْوَاو لَهَا شبه بالعاطفة من وَجه وبمع من وَجه وتخالفهما من وَجه فشبهها بالعاطفة من حَيْثُ لَا يجوز تَقْدِيم الْمَفْعُول مَعَه على الْفِعْل كَمَا لَا يتَقَدَّم الْمَعْطُوف على الْمَعْطُوف عَلَيْهِ وَشبههَا بمع لما فِيهَا من معنى المصاحبة ومخالفتها لَهما من جِهَة أَن مَا عدي بالعاطفة تَابع لما قبله وَمَا بعد مَعَ مجرور وَمَا بعد هَذِه مَنْصُوب يَعْنِي غَالِبا قلت أما تَقْدِيمهَا على الْفِعْل فَهُوَ مُمْتَنع فِيهَا وَفِي العاطفة أَيْضا إِذْ لَا يَصح قَوْلك وَعَمْرو جلس زيد وَقد تقدم أَنه يجوز على وَجه الضَّرُورَة أَو الشذوذ أَن يتَقَدَّم الْمَعْطُوف على الْمَعْطُوف عَلَيْهِ بِمَا تقدم من الشُّرُوط وَكَذَلِكَ هُنَا قد جَاءَ تقدم مَا بعد وَاو المصاحبة على مَا قبله كَمَا تقدم من قَوْله (جمعت وفحشا غيبَة ونميمة) فَإِن ابْن جني جعله مَفْعُولا مَعَه وَجوز تَقْدِيمه على المصاحبة محتجا بِهَذَا الْبَيْت وَغَيره خَالفه فِي ذَلِك وَذكر الشَّيْخ جمال الدّين بن مَالك فِي التسهيل هُنَا مَوَاضِع كَثِيرَة مِمَّا يتَرَجَّح فِيهِ الْعَطف ويترجح النصب على الْمَعِيَّة أَو على إِضْمَار فعل مُقَدّر يَلِيق بالْكلَام وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع بَسطه لِئَلَّا يطول بِهِ الْكَلَام وَالله ولي التَّوْفِيق

فصل الناصب للمفعول معه

27 - فصل الناصب للْمَفْعُول مَعَه اخْتلف النُّحَاة فِي الناصب للْمَفْعُول مَعَه بعد الْوَاو على خَمْسَة أَقْوَال الأول مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ وَجُمْهُور الْمُحَقِّقين أَن نَصبه بالعامل فِيمَا قبله من الْفِعْل أَو مَا فِي مَعْنَاهُ بوساطة الْوَاو فَهِيَ الَّتِي صححت وُصُول الْفِعْل إِلَى مَا بعْدهَا كَمَا فِي همزَة النَّقْل والتضعيف وَالْبَاء المعدية وَنَحْو ذَلِك وَالثَّانِي قَول أبي الْحسن الْأَخْفَش وَجَمَاعَة مَعَه أَن الناصب فِيهِ على الظّرْف لِأَن الْوَاو قَائِمَة مقَام مَعَ وَكَانَت مَعَ منتصبة على الظّرْف فَلَمَّا وضعت الْوَاو موضعهَا فَلم يكن إِثْبَات الْإِعْرَاب فِيهَا كَانَ ذَلِك فِيمَا بعْدهَا فانتصبت على الظَّرْفِيَّة وَنَظِيره جعلهم إِلَّا مَكَان غير كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا} لِأَنَّهُ كَانَت غير مَرْفُوعَة فَلَمَّا وضعت إِلَّا مَكَانهَا وَلَا تصلح للرفع ارْتَفع مَا بعْدهَا على مَا كَانَت غير مُرْتَفعَة بِهِ وَهُوَ النَّعْت وَمثله قَول الشَّاعِر (وكل أَخ مُفَارقَة أَخُوهُ ... لعمر أَبِيك إِلَّا الفرقدان)

وَالتَّقْدِير غير الفرقدين وَالْقَوْل الثَّالِث قَالَه الزّجاج أَنه مَنْصُوب بِفعل مَحْذُوف يدل عَلَيْهِ السِّيَاق فَفِي مثل اسْتَوَى المَاء والخشبة يقدر ولابس الْخَشَبَة وَكَذَلِكَ فِي الْبَقِيَّة قَالَ لِأَن الْفِعْل لَازم وَالْوَاو غير معدية بل فِيهَا معنى الْعَطف بَاقٍ بِدَلِيل عدم جَوَاز تَقْدِيمهَا مَعَ مصاحبها على الْفِعْل فَلَا يُقَال وزيدا قُمْت فَيقدر بعد الْعَطف فعل يَقْتَضِيهِ الْكَلَام كَمَا فِي الْأَمْثِلَة وَالرَّابِع وَهُوَ مَذْهَب الْكُوفِيّين أَنه مَنْصُوب على الْخلاف لِأَن الاسْتوَاء مثلا مَنْسُوب إِلَى الْخَشَبَة وَكَانَ حَقه اسْتَوَى المَاء والخشبة بِالرَّفْع فَلَمَّا خَالفه صَار التَّقْدِير سَاوَى المَاء الْخَشَبَة وَالْخلاف ينصب كَمَا ينصب فِي الظّرْف إِذا كَانَ خَبرا للمبتدأ أَو مَا الحجازية فَإِن الأَصْل فِيهِ أَن يجر بِالْبَاء فَلَمَّا خَالف الأَصْل نصب

وَالْخَامِس قَالَه الْجِرْجَانِيّ أَن الناصب لَهُ الْوَاو وَحدهَا لِأَن صِحَة الْكَلَام لما دارت مَعَ الْوَاو وجودا وعدما دلّ على أَنَّهَا هِيَ العاملة كإلا فِي الِاسْتِثْنَاء وَهُوَ أَضْعَف هَذِه الْمذَاهب أما أَولا فَلِأَنَّهُ منتقض بالتضعيف وبهمزة النَّقْل والتعدية لِأَن صِحَة الْكَلَام فِي النصب دَائِرَة مَعَ هَذِه وَلَيْسَ شَيْء مِنْهَا عَاملا وَثَانِيا فَلِأَنَّهُ لَو كَانَت الْوَاو عاملة لم يفْتَقر إِلَى وجود عَامل قبلهَا ولاتصلت الضمائر بهَا كَمَا تتصل بالحروف العاملة نَحْو لَك وَإنَّك وَامْتنع الِانْفِصَال فِي نَحْو لَو تركت الفصيل وَأمه لرضعها وَأَيْضًا فالحروف لَا يعْمل شَيْء مِنْهَا حَتَّى يخْتَص وَالْوَاو غير مُخْتَصَّة بل تدخل على الِاسْم وَالْفِعْل وَأما مَذْهَب الْأَخْفَش فَيرد عَلَيْهِ أَن الْأَسْمَاء المنتصبة هُنَا لَيست ظروفا وَلَا تصلح مَعَه بالِاتِّفَاقِ فَكيف تنتصب على الظَّرْفِيَّة وَأَيْضًا لَو كَانَ كَذَلِك لجَاز أَن تَقول كل رجل مَعَ ضيعته وَلَا يُقَال هَذَا إِلَّا بِالرَّفْع لِأَنَّهُ مَعْطُوف سد مسد

الْخَبَر وَقد تقدم أَن الصَّيْمَرِيّ أجَاز النصب فِيهِ وَأَنَّهُمْ غلطوه وَنَقله ابْن بزيزة عَن ابْن كيسَان أَيْضا وَأما قَول الزّجاج فضعيف من جِهَة أَن تَقْدِير الْفِعْل لَا يُصَار إِلَيْهِ إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة وَلَا ضَرُورَة هُنَا وَقَوله إِن الْفِعْل لَا يعْمل فِي مفعول بَينهمَا الْوَاو جَوَابه أَن الْوَاو لما كَانَ هُنَا بهَا إرباط الِاسْم بِالْفِعْلِ أثرت فِيهِ من حَيْثُ الْمَعْنى فَلَا يمْتَنع أَن يُؤثر فِيهِ من جِهَة اللَّفْظ وَأَيْضًا فَإِنَّهَا فِي الْعَطف لم تمنع الْعَمَل لِأَن الناصب فِي مثل ضربت زيدا وعمرا هُوَ الْفِعْل بتوسط الْوَاو لما اقْتَضَاهُ الْمَعْنى فَكَذَلِك هُنَا وَأما مَذْهَب الْكُوفِيّين فينتقض بالْعَطْف الَّذِي فِيهِ الْمُخَالفَة مثل قَامَ زيد لَا عَمْرو ونظائر ذَلِك مِمَّا لم يقتض الْخلاف فِيهِ نصبا فَدلَّ على أَن الْمُخَالفَة لَا أثر لَهَا وَأَيْضًا يلْزم من اعْتِبَارهَا جَوَاز نصب الأول لِأَنَّهُ مُخَالف للثَّانِي إِذْ لَو اعْتبرنَا الْخلاف فَلَيْسَ مُخَالفَة الثَّانِي للْأولِ أولى بِالِاعْتِبَارِ من عَكسه وَوجه قَول سِيبَوَيْهٍ رَحمَه الله بِأَنَّهُ لَا فرق بَين تَعديَة الْفِعْل بِالْبَاء أَو بِالْوَاو إِلَّا أَن حرف الْجَرّ عَامل مُسْتَقل وَالْوَاو لَا تعْمل بالاستقلال لعدم اختصاصها بِعَمَل الْعَامِل الأول فِي الِاسْم الَّذِي بعد الْوَاو كَمَا عمل فِي مَوضِع الْجَار

وَالْمَجْرُور وَلما خرجت الْوَاو عَن أَصْلهَا بجعلها مقوية للْعَمَل وموصلة لَهُ إِلَى مَا بعْدهَا لَزِمت طَريقَة وَاحِدَة وَهَذَا شَأْنهمْ فِيمَا أَخْرجُوهُ عَن أَصله وكما أَن الْفِعْل اللَّازِم إِذا قوي بِالْهَمْزَةِ عمل النصب وَالْعَمَل لَيْسَ للهمزة بل للْفِعْل بتقوية الْحَرْف إِيَّاه فَكَذَلِك هُنَا وَإِنَّمَا حذفت مَعَ اختصارا وتوسعا وأقيمت الْوَاو مقَامهَا لِأَنَّهَا أخصر مِنْهَا وتوافقها فِي الْمَعْنى لِأَن الْجمع فِيهِ معنى المصاحبة وَكَانَ فِيهَا مَعْنيانِ الْجمع والعطف فَلَمَّا خلع مِنْهَا معنى الْعَطف بَقِي الْجمع كَمَا أَن الْفَاء فِيهَا معنى الْعَطف والاتباع فَإِذا وَقعت فِي جَوَاب الشَّرْط خلع مِنْهَا الْعَطف وَبَقِي الِاتِّبَاع فَإِن قيل فَلم لم ينجر مَا بعد الْوَاو بهَا كَمَا ينجر بمع لِأَنَّهَا هُنَا بمعناها وقائمة مقَامهَا فَجَوَابه أَنه لما كَانَ أَصْلهَا هُنَا الْعَطف وَالْوَاو العاطفة لَا تعْمل إِنَّمَا يعْمل فِيمَا بعْدهَا الْفِعْل الَّذِي قبلهَا تركت هُنَا على أَصْلهَا وَقد ذكر ابْن جني وَجَمَاعَة من أَئِمَّة الْعَرَبيَّة أَن الْمَفْعُول مَعَه إِنَّمَا يجوز

حَيْثُ يصلح الْعَطف فَكل مَوضِع لَا يصلح فِيهِ الْعَطف لم يجز فِيهِ النصب على الْمَفْعُول مَعَه فَلَا يَصح قَوْلك انْتَظَرْتُك وطلوع الشَّمْس أَي مَعَ طُلُوع الشَّمْس لعدم صِحَة الْعَطف فِيهِ وَهَذَا الْكَلَام كَأَنَّهُ فِي الْغَالِب وَإِلَّا فقد تقدم قَوْلهم سرت والجبل وَلَا يَصح الْعَطف هُنَا وَهُوَ مِمَّا يجب فِيهِ النصب كَمَا تقدم فَهَذِهِ الْقَاعِدَة غير مطردَة وَقد نبه عَلَيْهَا ابْن خروف وَغَيره وَالله أعلم

فصل النصب على المفعول معه قياسي أو سماعي ومسائل أخرى

28 - فصل النصب على الْمَفْعُول مَعَه قياسي أَو سَمَاعي ومسائل أُخْرَى الَّذِي ذهب إِلَيْهِ أَكثر الْبَصرِيين أَن النصب فِي هَذَا الْبَاب قِيَاس على مجْرى نصب الْمصدر والظرف وَنَحْوهمَا لصِحَّة مَعْنَاهُ وَصِحَّة عَامل النصب فِيهِ وَكَثْرَة مَجِيئه وَمِنْهُم من قصره على السماع وَألا يُقَال مِنْهُ إِلَّا مَا قالته الْعَرَب لما يتَضَمَّن من وضع الْحَرْف فِي غير مَوْضِعه فَإِن الْوَاو أَصْلهَا الْعَطف وَجعلهَا بِمَعْنى مَعَ اتساع لَا سِيمَا وَالنّصب بعْدهَا بالعامل الَّذِي قبلهَا وكل ذَلِك خُرُوج عَن الْقيَاس فَيقْتَصر بِهِ على السماع وَحكى الامام أَبُو بكر الْخفاف فِي شرح الْجمل عَن الْأَخْفَش أَنه قوى هَذَا القَوْل الثَّانِي وَقَالَ إِنَّه الْأَحْوَط

وَالَّذِي حكى ابْن يعِيش فِي شرح الْمفصل عَن أبي الْحسن يَعْنِي الْأَخْفَش وَأبي عَليّ الْفَارِسِي أَنَّهُمَا اختارا كَونه مقيسا وَحكى أَبُو الْقَاسِم اللورقي عَنْهُمَا أَنَّهُمَا ذَهَبا إِلَى أَن مَا جَازَ أَن يسْتَعْمل مَعْطُوفًا كَانَ مقيسا وَمَا لم يصلح جعله مَعْطُوفًا يقْتَصر بِهِ على السماع لِأَن الْمجَاز لَا يُقَاس عَلَيْهِ وَقد تقدم أَنه يَصح قَوْلهم سرت والجبل ومشيت والساحل وَأَنه كَلَام صَحِيح مطرد وَالظَّاهِر الْقيَاس فِي جَمِيع ذَلِك إِلَّا مَا منع مِنْهُ مَانع مثل قَوْلهم كَانَت هِنْد وعمرا ضاحكة فَإِن نصب عَمْرو هُنَا على أَنه مفعول مَعَه لَا يَصح لفساد الْمَعْنى فِي خبر كَانَ وَقد اخْتلفُوا فِي إِعْرَاب قَوْله تَعَالَى {فَأَجْمعُوا أَمركُم} وَفِيه ثَلَاث قراءات إِحْدَاهَا وَهِي المتواترة الَّتِي اتّفق عَلَيْهَا الْقُرَّاء السَّبْعَة بِقطع الْهمزَة وَكسر الْمِيم من أَجمعُوا من الاجماع وَنصب شركاءكم فَالَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي والمحققون أَن شركاءكم مَنْصُوب على أَنه مفعول مَعَه وَالْوَاو بِمَعْنى مَعَ أَي اجْمَعُوا مَعَ شركائكم أَمركُم وَذَلِكَ لِأَن الْعَطف هُنَا مُتَعَذر من جِهَة أَن الاجماع إِنَّمَا يكون فِي الْمعَانِي وَالْجمع فِي الشُّرَكَاء وَمَا يتفرق وَجوز

أَبُو عَليّ وَغَيره أَيْضا أَن يكون هُنَا فعل مُقَدّر ينْتَصب بِهِ الشُّرَكَاء وَيكون من بَاب عطف جملَة على جملَة تَقْدِيره فَأَجْمعُوا أَمركُم واجمعوا شركاءكم وَيكون هَذَا الْمُقدر ثلاثيا وَيكون ذَلِك من بَاب قَوْله (يَا لَيْت زَوجك قد غَدا ... مُتَقَلِّدًا سَيْفا ورمحا) وَقَول الآخر (علفتها تبنا وَمَاء بَارِدًا ... ) تَقْدِيره مُتَقَلِّدًا سَيْفا ومعتقلا رمحا وعلفتها تبنا وسقيتها مَاء بَارِدًا لِأَن المَاء لَا يعلف وَلكنه يسقى

وَرجح جمَاعَة الأول من جِهَة عدم التَّقْدِير قَالَ ابْن بابشاذ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآن مفعول مَعَه أكشف من هَذِه الْآيَة وَرجح الْوَجْه الثَّانِي بِمَا رُوِيَ من قِرَاءَة أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ / فَأَجْمعُوا أَمركُم وَادعوا شركاءكم / وَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْعَامِل فِي شركاءكم {أَجمعُوا} ) وَإِن كَانَ لَا يعْمل فِي المتفرق وَلكنه عمل فِيهِ لمقاربة مَا بَين جمعت وأجمعت) والوجهان الْأَوَّلَانِ أقوى وَالثَّانيَِة قِرَاءَة يَعْقُوب / فَأَجْمعُوا أَمركُم وشركاؤكم / وَالْوَاو فِيهَا عاطفة على الضَّمِير الْمَرْفُوع فِي فَأَجْمعُوا وأغنى عَن تأكيده توسيط الْمَفْعُول وَيجوز أَن يرْتَفع بِفعل مُقَدّر مَعْنَاهُ وليجمعه شركاؤكم وَلَكِن الأول أقوى من جِهَة عدم التَّقْدِير

وَالثَّالِثَة رَوَاهَا الْأَصْمَعِي عَن نَافِع {فَأَجْمعُوا أَمركُم وشركاءكم} بوصل الْهمزَة وَفتح الْمِيم فعلى هَذَا يجوز أَن يكون الشُّرَكَاء مَعْطُوفًا على مَا قبله وَأَن يكون مَفْعُولا مَعَه وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فاستقم كَمَا أمرت وَمن تَابَ مَعَك} فَإِنَّهُ يجوز أَن يكون مَفْعُولا مَعَه فَيكون مَوضِع من نصبا بذلك وَيحْتَمل أَن تكون الْوَاو عاطفة على الْمُضمر فِي فعل الْأَمر وسد الْجَار وَالْمَجْرُور وَمَا اتَّصل بِهِ مسد التَّأْكِيد فَيكون مَوضِع من رفعا وَقَوله تَعَالَى {وَالَّذين تبوؤوا الدَّار وَالْإِيمَان من قبلهم} يحْتَمل أَن يكون الْإِيمَان مَفْعُولا مَعَه أَي مَعَ الْإِيمَان وَيحْتَمل أَن يكون مَعْطُوفًا على وَجه التَّجَوُّز فِي الْإِيمَان فتصوره بِصُورَة الْمسكن الَّذِي يسْتَقرّ فِيهِ ويلجأ إِلَيْهِ وَيجوز أَن يكون مَنْصُوبًا بِفعل مُقَدّر أَي وَأَخْلصُوا الْإِيمَان وَقد اخْتلفُوا فِي أَنه هَل يجوز نصب الْمَفْعُول مَعَه فِي مَوضِع لم يتَقَدَّم فِيهِ قبل الْوَاو عَامل أصلا وَالْجُمْهُور على أَنه لَا يَصح ذَلِك بِنَاء على الْمُخْتَار فِيمَا

تقدم أَن الناصب لَهُ الْفِعْل أَو مَعْنَاهُ بِوَاسِطَة الْوَاو وإيصالها الْعَمَل إِلَيْهِ وَمن قَالَ إِن الْوَاو هِيَ الناصبة كالجرجاني يجوز نَصبه حَيْثُ لم يتَقَدَّم عَامل قَالَ ابْن بزيزة وَقد جَاءَ فِي صَحِيح مُسلم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَنا وَكَثْرَة المَال أخوفني عَلَيْكُم من قلته) وَفِي حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا (وَأَنا وإياه فِي لِحَاف وَاحِد) قلت لَا يلْزم أَن يكون الحَدِيث الأول بِنصب كَثْرَة إِلَّا أَن تكون الرِّوَايَة مضبوطة كَذَلِك بِخِلَاف قَول عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فَإِن الضَّمِير مُتَعَيّن للنصب

فَيحْتَمل أَن يقدر فِيهِ فعل يَصح بِهِ الْإِعْرَاب دلّ عَلَيْهِ سِيَاق الْكَلَام مثل كنت أَنا وإياه وَنَحْو ذَلِك وَالله تَعَالَى أعلم وَمِمَّا يتَخَرَّج من الْمسَائِل الْفِقْهِيَّة مَا إِذا قَالَ إِن دخلت الدَّار وزيدا فَأَنت طَالِق وَكَانَ الْمُتَكَلّم نحويا فَإِن الطَّلَاق إِنَّمَا يَقع بِدُخُولِهَا مَعَ زيد جَمِيعًا لَا بِدُخُول كل وَاحِد مِنْهُمَا وَحده وَإِن اجْتمعَا فِيهَا وَلم يدخلا جَمِيعًا فَفِيهَا احْتِمَال ومجال للنَّظَر وَيَنْبَغِي أَن تعْتَبر نِيَّته فَإِن قصد منع كَونهمَا يَجْتَمِعَانِ فِيهَا حنث بذلك وَإِلَّا فَمُقْتَضى كَلَامه وَهُوَ يحتوي التَّعْلِيق على المصاحبة فِي الدُّخُول أما إِذا لم يكن نحويا وَلم يعرف مُقْتَضى هَذَا التركيت فالمرجع هُنَا إِلَى نِيَّته كَمَا فِي نَظَائِره وَالظَّاهِر حِينَئِذٍ ترَتّب الْوُقُوع على اجْتِمَاعهمَا فِيهَا وَإِن لم يدخلا مَعًا وَلَو حلف لَا يَأْكُل الْخبز وَالْعِنَب قَالَ أَصْحَابنَا لَا يَحْنَث إِلَّا إِذا أكلهما مَعًا إِلَّا إِذا نوى غير ذَلِك لِأَن الْوَاو العاطفة تجْعَل الْجَمِيع كالشيء الْوَاحِد فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا أكلهما فَقَوْلهم إِلَّا إِذا نوى غير ذَلِك مُقْتَضَاهُ أَنه نوى منع أكلهما مَعًا أَنه يتَعَلَّق الْحِنْث بِهِ دون مَا إِذا أكل كل وَاحِد مِنْهُمَا بمفرده وَهَذَا يقوى عِنْدَمَا يكون الْحَالِف نحويا وَقصد أَن يكون الْوَاو بِمَعْنى مَعَ وَوَجهه ظَاهر وَالظَّاهِر أَن غير النَّحْوِيّ إِذا قصد هَذَا الْمَعْنى فِي هَذِه الصُّورَة يعْتَبر مَا نَوَاه بِخِلَاف الَّتِي قبلهَا وَالله أعلم

فصل النوع الرابع من أقسام الواو

29 - فصل - النَّوْع الرَّابِع من أَقسَام الْوَاو الْوَاو الَّتِي ينْتَصب الْفِعْل الْمُضَارع بعْدهَا وَذَلِكَ على وَجْهَيْن الْوَجْه الأول فِي جَوَاب الْأَمر وَالدُّعَاء وَالنَّهْي وَالنَّفْي والاستفهام وَالْعرض والتحضيض وَالتَّمَنِّي وَزَاد ابْن مَالك وَغَيره الترجي أَيْضا وَبَعْضهمْ لَا يعدها إِلَّا سِتَّة فَيجْعَل الدُّعَاء دَاخِلا فِي الْأَمر والترجي فِي التَّمَنِّي والتحضيض دَاخِلا فِي الْعرض والبسط على وَجه الايضاح وَقد ينْتَصب الْفِعْل بعد الْوَاو أَيْضا فِي غير هَذِه فَألْحق بهَا وَسَيَأْتِي فِي الْوَجْه الثَّانِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَذكر أَئِمَّة العربة أَن الْفِعْل ينْتَصب بعد الْوَاو فِي جَوَاب هَذِه الْأُمُور إِذا كَانَت الْوَاو بِمَعْنى الْجمع وَلَيْسَ مُرَادهم بذلك الْجمع الَّذِي يُرَاد فِي بَاب الْعَطف من أَن الْوَاو تشرك الثَّانِي فِي معنى الأول وَلَكِن الْمَقْصُود بِهِ معنى الِاجْتِمَاع بَين الْأَمريْنِ مَعَ قطع النّظر عَن كل وَاحِد مِنْهُمَا وَتَكون الْوَاو بِمَعْنى مَعَ فَإِن كَانَ مَا قبل الْوَاو طلبا أَو مَا فِي مَعْنَاهُ فَالْمُرَاد بِالْوَاو أَن يجْتَمع مَا قبلهَا مَعَ مَا بعْدهَا وَإِن كَانَ نفيا أَو مَا فِي مَعْنَاهُ فَالْمُرَاد أَلا يجْتَمع مَا قبلهَا مَعَ مَا بعْدهَا

وَضبط ابْن عُصْفُور وَغَيره ذَلِك بِأَن يتَعَذَّر الْعَطف بِالْوَاو لمُخَالفَة الْفِعْل الَّذِي بعْدهَا للْفِعْل الَّذِي قبلهَا فِي الْمَعْنى وَهَذَا يتَبَيَّن ببسط الْأَمْثِلَة على الْأَنْوَاع الَّتِي ذَكرنَاهَا فمثال الْأَمر قَوْلك زرني وأزورك بِالنّصب إِذا أردْت لتجتمع الزيارتان مني ومنك قَالَ الشَّاعِر (فَقلت أَدعِي وأدعو إِن أندى ... لصوت أَن يُنَادي داعيان) بِنصب أَدْعُو لِأَن مُرَاده ليجتمع الدعاءان وَالْبَيْت أنْشدهُ سِيبَوَيْهٍ وَعَزاهُ إِلَى ربيعَة بن جشم وَقيل للأعشى وَقيل لغيره وَمعنى أندى أبعد صَوتا والنداء بعد الصَّوْت ومثاله من الدُّعَاء اللَّهُمَّ ارزقني مَالا وتوفقني لعمل الْخَيْر فِيهِ أَي اجْمَعْ لي بَينهمَا وَهُوَ كالأمرسواء وَلَا فرق فِي الدُّعَاء بَين أَن يكون بِصِيغَة افْعَل أَو بِالْفِعْلِ الْمَاضِي أَو الْمُضَارع إِذا أُرِيد بِهِ الدُّعَاء مثل غفر الله لزيد ويدخله الْجنَّة إِذا أُرِيد الْجمع بَينهمَا وَلِهَذَا قَالَ ابْن مَالك فِي التسهيل أَو دُعَاء بِفعل أصيل فِي ذَلِك ليشْمل الْقسمَيْنِ وَشرط ابْن عُصْفُور أَلا يكون الدُّعَاء مناقضا مثل ليغفر الله لزيد وَيقطع

يَده قَالَ لِأَن الأول دُعَاء لَهُ وَالثَّانِي دُعَاء عَلَيْهِ فَلم يجز النصب وَمِثَال النَّهْي قَوْلهم لَا تَأْكُل السّمك وتشرب اللَّبن بِنصب تشرب لِأَنَّك نهيته عَن الْجمع بَينهمَا وَله أَن يفعل كل وَاحِد على انْفِرَاده وَأَن لَا يفعل شَيْئا أصلا وَلَو أردْت النَّهْي عَن كل مِنْهُمَا بمفرده لعطفت وجزمت الثَّانِي وَلَو رفعت تشرب لَكَانَ الْوَاو وَاو الْحَال وَيكون الْمَعْنى قَرِيبا من النصب لَكِن فِيهِ قدر زَائِد عَن النصب لِأَن مُقْتَضى الْحَال التَّلَبُّس بالفعلين فِي آن وَاحِد وَالنَّهْي عَن الْجمع إِذا نصبت أَعم من أَن يكون تناولهما مَعًا أَو يتعاقبا لما فِي ذَلِك من الْفساد وَالضَّرَر وَمِنْه مَا أنْشدهُ سِيبَوَيْهٍ للأخطل (لَا تنه عَن خلق وَتَأْتِي مثله ... عَار عَلَيْك إِذا فعلت عَظِيم) قَالَ سِيبَوَيْهٍ فَلَو دخلت الْفَاء هَا هُنَا لأفسدت الْمَعْنى وَإِنَّمَا أَرَادَ لَا يجمع النَّهْي والاتيان وَذكر غَيره عَن الْأَصْمَعِي أَنه قَالَ لم أسمع هَذَا الْبَيْت إِلَّا وَتَأْتِي بِإِسْكَان الْيَاء

فعلى هَذِه الرِّوَايَة يكون الْوَاو للْحَال وَتَقْدِيره وَأَنت تَأتي مثله لِأَن وَاو الْحَال يطْلب الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر وَالْمعْنَى فِي الرِّوَايَتَيْنِ وَاحِد فَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى {أتأمرون النَّاس بِالْبرِّ وتنسون أَنفسكُم} وَلَا يلْزم على هَذَا قَول الْمُعْتَزلَة إِن النَّهْي عَن الْمُنكر إِنَّمَا يُخَاطب بِهِ من هُوَ غير متلبس بِمَعْصِيَة وَكَذَلِكَ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي هُنَا عَن الْجمع بَين النَّهْي عَن الشَّيْء وإتيان مثله إِنَّمَا هُوَ لبشاعة ذَلِك وَغلظ العتاب عَلَيْهِ لقِيَام الْحجَّة على ذَلِك الْفَاعِل فِي كَونه ينْهَى عَن الشَّيْء ثمَّ هُوَ يَأْتِي مثله كَمَا قَالَ شُعَيْب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {وَمَا أُرِيد أَن أخالفكم إِلَى مَا أنهاكم عَنهُ} لِأَن ذَلِك لَا يَصح إِلَّا من منته عَن ذَلِك الْمنْهِي عَنهُ وَيحْتَمل أَن لَا يقدر مُبْتَدأ على رِوَايَة الرّفْع بل يكون ذَلِك على مَا تقدم من الِاكْتِفَاء فِي الْفِعْل الْمُضَارع الْمُثبت إِذا وَقع حَالا بِالْوَاو وَحدهَا كَمَا فِي الْبَيْت الْمُتَقَدّم (نجوت وأرهنهم مَالِكًا ... ) لكنه شَاذ كَمَا تقدم فتقدير الْمُبْتَدَأ أولى أَو يحْتَمل إسكان الْيَاء على ضَرُورَة الشّعْر مَعَ أَن رِوَايَة النصب صَحِيحَة لنقل سِيبَوَيْهٍ إِيَّاهَا وَهَذَا الْبَيْت نسبه أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام إِلَى أبي

المتَوَكل الْكِنَانِي وَقَالَ جمَاعَة إِن الصَّحِيح نسبه إِلَى أبي الْأسود الدؤَلِي واسْمه ظَالِم بن عَمْرو وَهُوَ من جملَة قصيدة لَهُ مَشْهُورَة أَولهَا (تلقى اللبيب محسدا لم يجترم ... عرض الرِّجَال وَعرضه مثلوم) (حسدوا الْفَتى إِذْ لم ينالوا سَعْيه ... فالقوم أَعدَاء لَهُ وخصوم) (كضرائر الْحَسْنَاء قُلْنَ لوجهها ... حسدا وبغيا إِنَّه لذميم) (وَإِذا عتبت على الصّديق ولمته ... فِي مثل مَا تَأتي فَأَنت مليم) (وابدأ بِنَفْسِك وانهها عَن غيها ... فَإِذا انْتَهَت عَنهُ فَأَنت حَكِيم)

(فهناك يسمع مَا تَقول ويقتدى ... بالْقَوْل مِنْك وينفع التَّعْلِيم) (لَا تنه عَن خلق وَتَأْتِي مثله ... عَار عَلَيْك إِذا فعلت عَظِيم) (وَإِذا طلبت إِلَى كريم حَاجَة ... فلقاؤه وَيَكْفِيك وَالتَّسْلِيم) (وَإِذا طلبت إِلَى لئيم حَاجَة ... فألح فِي رزق وَأَنت مديم) (والزم قبالة بَابه وخبائه ... بأشد مَا لزم الْغَرِيم غَرِيم) (وَعَجِبت للدنيا وحرقة أَهلهَا ... والرزق فِيهَا بَينهم مقسوم) (ثمَّ انْقَضى عجبي لعلمي أَنه ... رزق مواف وقته مَعْلُوم) وَأما النَّفْي فقد مثله سِيبَوَيْهٍ بقَوْلهمْ لَا يسعني شَيْء ويعجز عَنْك وَيَقُول دُرَيْد بن الصمَّة (قتلت بِعَبْد الله خير لداته ... ذؤابا فَلم أَفْخَر بِذَاكَ وأجزعا) أَي لم يجْتَمع الْفَخر مَعَ الْجزع وَلَا يجْتَمع فِي شَيْء وَاحِد أَنه يسعني مَعَ أَنه عَاجز عَنْك وَكثير من مسَائِل نصب الْفِعْل بعد الْوَاو فِي هَذِه الْأَنْوَاع يجوز رَفعه على إِرَادَة الْعَطف أَو الْقطع والاستئناف وَلَا يجوز شَيْء من ذَلِك هُنَا فِي

قَوْلهم لَا يسعني شَيْء ويعجز عَنْك لِأَنَّك إِذا رفعت يكون التَّقْدِير لَا يسعني شَيْء وَلَا يعجز عَنْك شَيْء وَفَسَاد هَذَا مَعْلُوم وَأما على الْقطع والاستئناف فَيكون التَّقْدِير لَا يسعني شَيْء وَهُوَ يعجز عَنْك وَهُوَ أَيْضا فَاسد لِأَن معنى الْكَلَام لَا يسعني شَيْء مَعَ أَنه يعجز عَنْك بل يسعنى ويسعك مَقْصُوده بَيَان أَنَّهُمَا كَالرّجلِ الْوَاحِد قَالَ سِيبَوَيْهٍ وَسَمعنَا من ينشد هَذَا الْبَيْت وَهُوَ لكعب الغنوي (وَمَا أَنا للشَّيْء الَّذِي لَيْسَ نافعي ... ويغضب مِنْهُ صَاحِبي بقؤول) يَعْنِي بِنصب يغْضب قَالَ وَالرَّفْع أَيْضا جَائِز حسن كَمَا قَالَ قيس بن زُهَيْر (فَلَا يدعني قومِي صَرِيحًا لحرة ... لَئِن كنت مقتولا وَيسلم عَامر)

وَقد اعْترض الْمبرد وَجَمَاعَة كَثِيرُونَ بعده على سِيبَوَيْهٍ فِي تَجْوِيز النصب فِي ويغضب فِي الْبَيْت الأول لِأَنَّهُ صلَة الَّذِي وَهُوَ مَعْطُوف على مَوضِع لَيْسَ فَالْوَجْه فِيهِ الرّفْع وَتَقْدِيره وَمَا أَنا للشَّيْء الَّذِي يغْضب مِنْهُ صَاحِبي بقؤول قَالُوا وَالْمرَاد بالشَّيْء القَوْل وَإِذا نصب يكون فِي حكم الْمَعْطُوف على الشَّيْء وَلَيْسَ الشَّيْء بمصدر ظَاهر فيسهل عطفه عَلَيْهِ فَيصير التَّقْدِير وَمَا أَنا للشَّيْء وَالْغَضَب بقؤول وَالْغَضَب لَيْسَ بمقول وَمن وَجه قَول سِيبَوَيْهٍ أول الشَّيْء هُنَا بِمَعْنى القَوْل وَهُوَ مصدر وَنصب الْفِعْل بعد الْوَاو فِي هَذِه الْأَنْوَاع كلهَا تَقْدِير أَن عِنْد سِيبَوَيْهٍ والمحققين كَمَا سَيَأْتِي تَقْدِيره إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأَن وَالْفِعْل بِتَأْوِيل الْمصدر فَيكون قد عطف مصدرا على مصدر فَيرد هُنَا شَيْء آخر وَهُوَ أَن لنصب هُنَا إِنَّمَا يكون بعد وَاو الْجمع وَقد أول الشَّيْء بِمَعْنى القَوْل وَالْجمع بَين الْغَضَب وَالْقَوْل هُنَا مُتَعَذر لِأَن الْغَضَب لَا يُقَال فأجبت عَن هَذَا بِأَن الْغَضَب وَأَن لم يقل وَلَكِن هُنَا شَيْء مَحْذُوف هُوَ الَّذِي يَقع القَوْل عَلَيْهِ وَهُوَ سَبَب الْغَضَب فَحذف لدلَالَة الْكَلَام عَلَيْهِ وَتَقْدِيره وَمَا أَنا للشَّيْء الَّذِي لَيْسَ نافعي وللقول الَّذِي يُوجب غضب صَاحِبي بقؤول وَالشَّيْء هُنَا قَول وَلَا شكّ أَن فِي هَذَا التَّأْوِيل تكلفا كثيرا فَالْوَجْه الرّفْع كَمَا قَالَ الْجَمَاعَة وَقد اعتذر السيرافي عَن سِيبَوَيْهٍ أَنه إِنَّمَا قدم النصب على الرّفْع فِي هَذَا الْبَيْت لِأَنَّهُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْبَاب فقصد إِلَى ذكره لِأَن النصب هُوَ الْمُخْتَار عِنْده لِأَنَّهُ لم يُصَرح بذلك

وَأما الِاسْتِفْهَام فَمثل قَوْلك هَل تَأْتِينَا وتحدثنا أَي هَل يجْتَمع الْأَمْرَانِ الْإِتْيَان والْحَدِيث وَمِنْه قَول الحطيئة أنْشدهُ سِيبَوَيْهٍ (ألم أك جاركم وَيكون بيني ... وَبَيْنكُم الْمَوَدَّة والإخاء) قَالَ أَرَادَ ألم يجْتَمع لي الْجوَار والمودة وقصده يُؤَكد الْحُرْمَة بَينه وَبينهمْ والوسيلة إِلَيْهِم وَمِثَال الْعرض أَلا تنزل عندنَا ونكرمك أَي يجْتَمع مِنْك وَمنا الْأَمْرَانِ وَكَذَلِكَ التحضيض مثل هلا أَتَيْتنَا ونكرمك وَمِثَال التَّمَنِّي قَوْلك ليتك تَزُورنَا وتحدثنا أَي لَيْت الْأَمريْنِ الزِّيَارَة والْحَدِيث يَجْتَمِعَانِ مِنْك وَمِنْه قَوْله تَعَالَى (يَا ليتنا نرد وَلَا نكذب بآيَات رَبنَا ونكون من الْمُؤمنِينَ) على قِرَاءَة حَمْزَة وَحَفْص عَن عَاصِم بِنصب نكذب و

نَكُون على أَنهم تمنوا الْجمع بَين هَذِه الْأُمُور وفيهَا أَيْضا قراءات آخر سَيَأْتِي ذكرهَا فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأما قَول وَرْقَاء بن زُهَيْر الْعَبْسِي (فشلت يَمِيني يَوْم أضْرب خَالِدا ... ويمنعه مني الْحَدِيد الْمظَاهر) فَحَمله بَعضهم على الدُّعَاء وَالْأَكْثَرُونَ حملوه على التَّمَنِّي أَي ليتها شلت لِأَن الدُّعَاء إِنَّمَا يكون لأمر مُسْتَأْنف وَهَذَا تمنى لَو كَانَ مَا وَقع على مَا تمنى فَهُوَ بِهِ أشبه وَالَّذِي يظْهر لي تَرْجِيح كَونه دُعَاء وَأَنه مُتَعَلق بالمستقبل ومقصوده أَنه إِذا ضربه تُؤثر ضَربته وَلَا يمْنَع لبس الْحَدِيد من تأثيرها وَأَنه يَدْعُو على نَفسه بالشلل إِذا لم تُؤثر ضَربته وعَلى ذَلِك يَجِيء النصب لقصده الْجمع بَين الشَّيْئَيْنِ وَالله أعلم

فصل الناصب للفعل المضارع بعد الواو

30 - فصل الناصب للْفِعْل الْمُضَارع بعد الْوَاو ذهب الْجرْمِي إِلَى أَن الناصب للْفِعْل فِي هَذِه الْأَمْثِلَة كلهَا الْوَاو نَفسهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ غَيرهَا وَالتَّقْدِير والاضمار على خلاف الأَصْل وَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ الْخَلِيل وسيبويه وَجُمْهُور أصحابهما أَن النصب فِيهَا بِأَن مقدرَة بعد الْوَاو وَأَن وَالْفِعْل فِي تَأْوِيل الْمصدر وَذَلِكَ أَن الْمصدر فِي مَوضِع رفع بالْعَطْف على مصدر متوهم من الْفِعْل الَّذِي قبلهَا وَلَا ينْتَصب الْفِعْل بعْدهَا إِلَّا بِشَرْط أَن يكون مُخَالفا فِي الْمَعْنى للْفِعْل الْمُتَقَدّم وَأَن يكون الْوَاو بِمَعْنى الْجمع على الْوَجْه الْمُتَقَدّم فَحِينَئِذٍ يَصح تَقْدِير أَن بعد الْوَاو وَقبل الْفِعْل وَوجه هَذَا القَوْل أَن الْوَاو قد ثَبت لَهَا الْعَطف بالِاتِّفَاقِ وحروف الْعَطف لَا تخْتَص بالأسماء وَلَا بالأفعال بل هلي دَاخِلَة عَلَيْهِمَا وأصل عمل الْحُرُوف إِنَّمَا هُوَ بالاختصاص فَوَجَبَ أَن لَا تعْمل كَبَقِيَّة أخواتها وَأَن يكون نصب الْفِعْل

بِحرف من حُرُوف النصب مُقَدرا بعْدهَا وَذَلِكَ الْحَرْف هُوَ أَن إِذْ لَا يقدر شَيْء من نواصب الْفِعْل غَيره كَمَا فِي حَتَّى وَلَام الْجُحُود وَلَام كي وَأَيْضًا لَو كَانَت الْوَاو هِيَ العاملة لجَاز دُخُول حرف الْعَطف عَلَيْهَا كَمَا يدْخل على سَائِر النواصب وعَلى وَاو الْقسم الَّتِي هِيَ عاملة وَفِي امْتنَاع ذَلِك دَلِيل على أَنَّهَا بَاقِيَة على حَالهَا من الْعَطف وَأَن النصب بعْدهَا وَإِن لم يكن ظَاهرا وَقَول الْجرْمِي إِن التَّقْدِير والإضمار على خلاف الأَصْل مُسلم وَلَكِن مُقْتَضى الأَصْل يعدل عَنهُ عِنْد معَارض رَاجِح يمْنَع مِنْهُ وعندما يقوم دَلِيل على الْخلاف وَقد تبين إبِْطَال عمل الْوَاو هُنَا فَتعين الرُّجُوع إِلَى مُقَدّر وَوجدنَا أَن يقدر بعد اللامين فَكَذَلِك هُنَا وَذهب الْكُوفِيُّونَ وَمن تَبِعَهُمْ من البغداديين إِلَى أَن النصب فِي هَذِه الْأَمَاكِن بِالْخِلَافِ ويسمونه الصّرْف وَتسَمى هَذِه الْوَاو عِنْدهم وَاو الصّرْف وَذَلِكَ أَن معنى الثَّانِي لما كَانَ مُخَالفا لِمَعْنى الأول فَإِن الثَّانِي وَاجِب وَالْأول غير وَاجِب خُولِفَ بَينهمَا فِي الْإِعْرَاب فصرف إِعْرَاب الثَّانِي عَن إِعْرَاب الأول فنصب الثَّانِي على الْخلاف وَقد تقدم مثله فِي الْمَفْعُول مَعَه وَبينا هُنَاكَ أَن الْخلاف لَا يَقْتَضِي إعرابا وَلَو كَانَ كَذَلِك لاطرد وانتصب مَا بعد لَا العاطفة وَلَكِن العاطفة وَغَيرهمَا لما فِي ذَلِك من الْخلاف وَكَون االمخالفة هُنَا شرطا لَا يلْزم أَن تكون هِيَ العاملة وَإِذا أمكن تَقْدِير الْعَامِل مَعَ الجري على الْقَوَاعِد فَهُوَ أولى من تقعيد قَاعِدَة فِي عَامل لَا يقوم دَلِيل على إعماله وَلَا يطرد فِي جَمِيع محاله وَذَلِكَ ظَاهر وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق

31 - فصل إِضْمَار أَن وجوبا وجوازا بعد وَاو الْمَعِيَّة لَا يجوز إِظْهَار أَن فِي شَيْء من هَذِه الْمَوَاضِع بالِاتِّفَاقِ وَإِنَّمَا يجوز ذَلِك فِي الْوَجْه الثَّانِي من وَجْهي نصب الْفِعْل الْمُضَارع بعد الْوَاو وَهُوَ مَا إِذا عطف فعل على اسْم ملفوظ بِهِ فَلَا يُمكن ذَلِك لما فِيهِ من الْمُخَالفَة وَلِأَن الْمَقْصُود بِالْوَاو الْجمع بَين الشَّيْئَيْنِ لَا مُجَرّد الْعَطف كَمَا تقدم فِي تِلْكَ الْمَوَاضِع فينتصب الْفِعْل بإضمار أَن لينسبك بذلك مصدر يَصح عطفه على الِاسْم الْمصدر الملفوظ بِهِ كَقَوْل مَيْسُونُ بنت بَحْدَل الْكَلْبِيَّة وَكَانَت تَحت مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ فَدخل عَلَيْهَا يَوْمًا وَهِي تَقول (للبس عباءة وتقر عَيْني ... أحب إِلَيّ من لبس الشفوف)

فَإِن النصب هُنَا بإضمار أَن كَمَا تقدم وَلَو قَالَت وَأَن تقر عَيْني لجَاز لتقدم الْمصدر أَولا وَأَن وَالْفِعْل فِي تَأْوِيل الْمصدر فَلَا يُؤَدِّي ذَلِك إِلَى بشاعة فِي اللَّفْظ بِخِلَاف مَا تقدم إِذْ الْفِعْل الأول هُنَاكَ مؤول بِالْمَصْدَرِ وَلَا يُمكن سبكه فِيهِ والمعني من الْبَيْت إِن لبس الخشن من الملبوس مَعَ قُرَّة الْعين أحب إِلَيّ من لبس الشفوف وَهُوَ الرَّقِيق من الملبوس فالتفضيل إِنَّمَا هُوَ لَهما مُجْتَمعين على لبس الشفوف وَلَو انْفَرد أَحدهمَا لبطل الْمَعْنى المُرَاد فَلَمَّا كَانَ الْمَعْنى ضم تقر عَيْني إِلَى لبس عباءة اضْطر إِلَى إِضْمَار أَن وَالنّصب بهَا وَمثله قَول الآخر (لقد كَانَ فِي حول ثواء ثويته ... تقضي لبانات ويسأم سائم) على رِوَايَة من يروي ويسأم مَنْصُوبًا وَمِنْه قَول الْأُخَر وَلَوْلَا رجال من رزام أعزة ... وَآل سبيع أَو أسوءك علقما)

فَكَأَنَّهُ قَالَ أَو إساءتك علقما وَلَا فرق بَين الْوَاو وأو فِي مثل هَذَا وَمِمَّا يلْتَحق بِهَذَا الْبَاب وينتصب الْفِعْل فِيهِ بعد الْوَاو بِتَقْدِير أَن وَإِن لم يكن من الْأَنْوَاع الْمُتَقَدّم ذكرهَا مَا إِذا وَقع الْفِعْل بعد الْوَاو بَين مجزومي أَدَاة شَرط أَو بعدهمَا وَقصد بِالْوَاو الْجمع مثل إِن تزرني وتحدثني أكرمك وَإِن تزرني أطعمك وأكسوك لِأَن مَقْصُوده فِي الأول تَرْتِيب الْإِكْرَام على الْجمع بَين الزِّيَارَة والْحَدِيث وَفِي الثَّانِي الْجمع فِي الْجَزَاء بَين الْإِطْعَام وَالْكِسْوَة فَلَمَّا كَانَت الْوَاو بِمَعْنى مَعَ انتصب الْفِعْل بعْدهَا على الْوَجْه الْمُتَقَدّم وَكَذَلِكَ إِذا وَقع الْفِعْل الْمُضَارع مَعْطُوفًا بعد الْحصْر بإنما مثل إِنَّمَا هِيَ ضَرْبَة فِي الْأسد وتحطم ظَهره لِأَن الْمَقْصُود الْجمع بَين الضَّرْبَة وحطم ظَهره وَهَذِه النُّكْتَة ذكرهَا الشَّيْخ جمال الدّين بن مَالك رَحمَه الله فِي كِتَابه التسهيل وَجعلهَا قياسية وَالله أعلم

فصل في مواضع من القرآن يتخرج إعرابها على ما نحن فيه

32 - فصل فِي مَوَاضِع من الْقُرْآن يتَخَرَّج إعرابها على مَا نَحن فِيهِ 1 - فَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَلَا تلبسوا الْحق بِالْبَاطِلِ وتكتموا الْحق وَأَنْتُم تعلمُونَ} قَالَ سِيبَوَيْهٍ فِي كِتَابه إِن شِئْت جعلت {وتكتموا} على النَّهْي وَإِن شِئْت جعلته على الْوَاو فَذكر احْتِمَالَيْنِ فِي الْآيَة أَحدهمَا أَن تكون الْوَاو عاطفة و {تكتموا} مَجْزُومًا بِالنَّهْي وَرجح هَذَا الْجِرْجَانِيّ وَغَيره من جِهَة أَن النَّهْي عَن كل وَاحِد مِنْهُمَا على حِدته لَا عَن الْجمع بَينهمَا وَالثَّانِي أَن تكون الْوَاو جَامِعَة و {تكتموا} مَنْصُوبًا على مَا تقدم وَيكون النَّهْي عَن الْجمع بَينهمَا مثل لَا تَأْكُل السّمك وتشرب اللَّبن وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ أَن لايكون كل وَاحِد مِنْهُمَا مَنْهِيّا عَنهُ بمفرده وأجبت بِأَن هَذَا إِنَّمَا يلْزم أَن لَو لم يكن نهي عَنهُ إِلَّا فِي هَذِه الْآيَة بل ذَلِك مَعْلُوم من أَدِلَّة أخر غير هَذِه الْآيَة وَمن رجح هَذَا الْوَجْه استأنس فِيهِ بقوله تَعَالَى {وَأَنْتُم تعلمُونَ} كَأَنَّهُ قَالَ لَا يجْتَمع مِنْكُم لبس وكتمان مَعَ علمكُم بِحَقِيقَة الْحَال وَذَلِكَ أقوى فِي الشناعة عَلَيْهِم لأَنهم إِنَّمَا نهوا عَن شَيْء كَانُوا

يتعاطونه ويكثرون مِنْهُ وَلَا شكّ أَن جمعهم للبس والكتمان مَعَ الْعلم أَشد فِي الشناعة وَلَا يلْزم من ذَلِك أَلا يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا مَنْهِيّا عَنهُ على حِدته بل ذَلِك فِي آيَات كَثِيرَة وَمثل هَذِه الْآيَة أَيْضا قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ وتدلوا بهَا إِلَى الْحُكَّام} فَإِنَّهُ يحْتَمل فِي قَوْله {وتدلوا} أَن يكون مَجْزُومًا وَأَن يكون مَنْصُوبًا كَمَا ذكر فِي {وتكتموا الْحق} وَيُقَوِّي مَعَه الْجمع أَيْضا قَوْله {وَأَنْتُم تعلمُونَ} كَمَا تقدم 2 - وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَلما يعلم الله الَّذين جاهدوا مِنْكُم وَيعلم الصابرين} وَالْقِرَاءَة المتواترة فِيهَا {وَيعلم الصابرين} بِالنّصب على هَذَا الْبَاب أَي وَلما يجْتَمع فِي علم الله تَعَالَى المجاهدون والصابرون وَعلم الله تَعَالَى قديم مُتَعَلق بِجَمِيعِ المعلومات فِي الْأَزَل وَلَكِن مَعْنَاهُ وَلما يجْتَمع فِي علم الله جهادكم وصبركم بارزا فِي الْخَارِج وَقَرَأَ الْحسن {وَيعلم} بِكَسْر الْمِيم مَعْطُوفًا على {يعلم} الأول فَيكون مَجْزُومًا بذلك وَقَرَأَ غَيره بِرَفْع / يعلم الصابرين / على الْقطع والاستئناف أَي وَهُوَ يعلم الصابرين

3 - وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {يَا ليتنا نرد وَلَا نكذب بآيَات رَبنَا ونكون من الْمُؤمنِينَ} وفيهَا ثَلَاث قراءات إِحْدَاهَا قِرَاءَة حَمْزَة وَحَفْص عَن عَاصِم وَعبد الله بن أبي اسحاق بِنصب نكذب ونكون وَتَكون الْوَاو فيهمَا من هَذَا الْبَاب لوقوعها بعد التَّمَنِّي أَي يَا ليتنا يجْتَمع لنا الرَّد وَعدم التَّكْذِيب والكون من الْمُؤمنِينَ فيكونون قد تمنوا الْجمع بَين هَذِه الْأُمُور وَالثَّانيَِة قِرَاءَة ابْن عَامر بِرَفْع نكذب وَنصب نَكُون أما رفع نكذب فعلى الِاسْتِئْنَاف أَي وَنحن لَا نكذب وَلَا يخرج بذلك عَن الدُّخُول فِي حيّز التَّمَنِّي وَأما نصب ونكون فعلى مَا تقدم وَإِرَادَة الْجمع بَينه وَبَين مَا قبله وَالثَّالِثَة قِرَاءَة البَاقِينَ برفعهما جَمِيعًا وَله وَجْهَان أَشَارَ إِلَيْهِمَا سِيبَوَيْهٍ أَحدهمَا اخْتِيَار عِيسَى بن عمر أَنه على الْعَطف فَيكون الْجمع دَاخِلا فِي

التَّمَنِّي وَعطف الفعلان لعدم قصد إِرَادَة الْجمع بل تمنوا كل وَاحِد على حِدته وَثَانِيهمَا أَن ذَلِك على الْقطع والاستئناف وَيكون الَّذِي تمنوه الرَّد فَقَط ثمَّ أخبروا عَن أنفسهم أَنهم إِذا ردوا يكون هَذَا حَالهم وَلِهَذَا كذبهمْ الله تَعَالَى فِي الْآيَة بعْدهَا والتكذيب إِنَّمَا يكون فِي الْإِخْبَار لَا فِي التَّمَنِّي لِأَنَّهُ إنْشَاء وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {أَو يوبقهن بِمَا كسبوا ويعف عَن كثير وَيعلم الَّذين يجادلون فِي آيَاتنَا مَا لَهُم من محيص} وَفِي يعلم قراءتان متواترتان إِحْدَاهمَا بِالرَّفْع وَهِي قِرَاءَة نَافِع وَابْن عَامر وَالثَّانيَِة بِالنّصب وَهِي قِرَاءَة البَاقِينَ وَقُرِئَ شاذا بِكَسْر الْمِيم على أَن يكون مَعْطُوفًا على المجزومات قبله وحركت الْمِيم بِالْكَسْرِ لالتقاء الساكنين حكى هَذِه الْقِرَاءَة أَبُو الْبَقَاء وَغَيره وَوجه قِرَاءَة الرّفْع أَنه على الِاسْتِئْنَاف وَلَا يكون دَاخِلا فِي جَوَاب الشَّرْط وَأما النصب فقد قَالَ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام هُوَ على الصّرْف كَمَا فِي

قَوْله تَعَالَى {وَلما يعلم الله الَّذين جاهدوا مِنْكُم وَيعلم الصابرين} لِأَن الْمَقْصُود الْجمع بَين الشَّيْئَيْنِ وَاعْتِرَاض النّحاس على ذَلِك بِأَن {وَيعلم الصابرين} وَقعت الْوَاو بعد النَّفْي وَهنا لم يتَقَدَّم نفي فَيكون هَذَا جَوَابا لَهُ وَالَّذِي قَالَه أَبُو عبيد لم يرد بِهِ أَن هَذِه الْآيَة مثل تِلْكَ من كل وَجه بل الْمَقْصُود أَن نصب الْفِعْل بعد الْوَاو بإضمار أَن لما كَانَ المُرَاد الْجمع بَين الشَّيْئَيْنِ لَا كل وَاحِد مِنْهُمَا والمقتضي لذَلِك مَعَ إِرَادَة الْجمع وُقُوعه بعد فعل الشَّرْط وَالْجَزَاء المجزومين بِهِ وَإِن كَانَ الزَّمَخْشَرِيّ قد ضعف ذَلِك وَجعله نَحْو قَوْله (وَألْحق بالحجاز فأستريحا ... ) مِمَّا هُوَ شَاذ لَا يُقَاس عَلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا كَمَا زعم بل النصب بعد الْوَاو بإضمار أَن بعد مجزومي الشَّرْط

أَو بَينهمَا مَعْرُوف مَشْهُور كَمَا تقدم عَن ابْن مَالك وَقد أنْشد للأعشى فِي بَيْتَيْنِ لَهُ مَا عطف بِالْوَاو لهَذَا الْمَعْنى (وَمن يغترب عَن قومه لَا يزل يرى ... ) ثمَّ قَالَ فِي الْبَيْت الثَّانِي (وتدفن مِنْهُ الصَّالِحَات ... ) وضبطوه بِنصب تدفن مَعَ أَنه لَا ضَرُورَة إِلَيْهِ لِإِمْكَان الرّفْع فِيهِ وَإِنَّمَا عدل إِلَى النصب لإِرَادَة الْمَعْنى وأنشدوا أَيْضا (فَإِن يهْلك أَبُو قَابُوس يهْلك ... ربيع النَّاس والبلد الْحَرَام)

(ونأخذ بعده بذناب عَيْش ... أجب الظّهْر لَيْسَ لَهُ سَنَام) وَهَذَا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ فِي الْآيَة الزّجاج وَأَبُو عَليّ الْفَارِسِي ومكي والمحققون وتقديرها على هَذِه الْقِرَاءَة إِن يَشَأْ يسكن الرِّيَاح فتقف السفن أَو إِن يَشَأْ يعصف الرّيح فيغرقها وينج قوما بطرِيق الْعَفو عَنْهُم وَحِينَئِذٍ يعلم الَّذين يجادلون فِي آيَاتنَا مَا لَهُم من محيص فالجزاء مُتَضَمّن شَيْئَيْنِ بطرِيق الْجمع الأول أحد شَيْئَيْنِ من التغريق وَالْعَفو أَو مجموعهما وَالثَّانِي علم المجادلين فِي آيَات الله أَنه لَا محيص لَهُم وَيكون كل ذَلِك دَاخِلا فِي حيّز الشَّرْط وَفَائِدَته فِي الْعَفو بَيَان أَنه إِنَّمَا يفعل ذَلِك بمشيئته وإرادته لَا بِاسْتِحْقَاق عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأما الْمَوْصُول وصلته بعد {وَيعلم} فَإِن جعل فَاعِلا ل {يعلم} سهل دُخُوله فِي حيّز الشَّرْط وَإِن قدر مَفْعُولا فَالْمَعْنى يُعلمهُ وَاقعا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِلَّا لنعلم من يتبع الرَّسُول مِمَّن يَنْقَلِب على عَقِبَيْهِ} وَكَونه فَاعِلا أقوى فِي الْإِعْرَاب وأخلص من الْإِشْكَال وَتَكون الْجُمْلَة المنفية من قَوْله تَعَالَى {مَا لَهُم من محيص} سدت مسد مفعولي علمت وَالله أعلم 5 - وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {أَهَؤُلَاءِ الَّذين أَقْسمُوا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم} الْآيَة

وفيهَا ثَلَاث قراءات إِحْدَاهَا قِرَاءَة نَافِع وَابْن كثير وَابْن عَامر يَقُول بِغَيْر وَاو الْعَطف وبرفع اللَّام وَهِي كَذَلِك فِي مصاحف أهل مَكَّة وَالْمَدينَة وَالشَّام وَالثَّانيَِة قِرَاءَة عَاصِم وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ بِالْوَاو وَرفع الْفِعْل وَالثَّالِثَة قِرَاءَة أبي عَمْرو بِالْوَاو أَيْضا لَكِن بِنصب يَقُول فَأَما الأولى فَذكر جمَاعَة من الْأَئِمَّة أَن الْعَطف هُنَا وَتَركه سيان لِأَن الْعَطف هُنَا لم يقتض تشريكا فِي الْإِعْرَاب وَإِنَّمَا هُوَ من عطف الْجمل بَعْضهَا على بعض وَفِي الثَّانِيَة ضمير يعود إِلَى الأول وشبهوا ذَلِك بقوله تَعَالَى {ثَلَاثَة رابعهم كلبهم} وَكَذَلِكَ فِي الَّتِي بعْدهَا ثمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَة {وَيَقُولُونَ سَبْعَة وثامنهم كلبهم} قَالُوا فَلَمَّا كَانَ فِي الْجُمْلَة الثَّانِيَة ذكر مَا تقدم اسْتغنى عَن الْوَاو وَلَو جِيءَ بهَا لَكَانَ حسنا أَيْضا وَفِي هَذَا نظر من وَجْهَيْن أَحدهمَا مَا تقدم فِي الْوَاو العاطفة من مَوَاضِع الْوَصْل والفصل وَأَن لكل مقَام مقَالا يَخُصُّهُ على مَا تَقْتَضِيه قَوَاعِد الفصاحة

وَثَانِيهمَا مَا تقدم أَيْضا أَن دُخُول الْوَاو فِي قَوْله {وثامنهم كلبهم} لَيْسَ على حد عدم دُخُولهَا فِي الْأَوليين بل جِيءَ بهَا لزِيَادَة فَائِدَة كَمَا تقدم فَالْأولى أَن يكون حذف الْوَاو هُنَا من غير هَذِه الْآيَة لِمَعْنى غير الْمَعْنى الْمُقْتَضِي لاثباتها وَهُوَ مَا ذكره صَاحب الْكَشَّاف وَغَيره أَنه على جَوَاب قَائِل يَقُول فَمَاذَا يَقُول الْمُؤْمِنُونَ حِينَئِذٍ فَقيل {وَيَقُول الَّذين آمنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذين أَقْسمُوا} وَذَلِكَ إِمَّا على أَن الْمُؤمنِينَ يَقُوله بَعضهم لبَعض تَعَجبا من حَالهم واغتباطا بِمَا من الله عَلَيْهِم وَإِمَّا أَن يقولوه للْيَهُود لأَنهم حلفوا لَهُم بالمعاضدة والنصرة كَمَا حكى الله عَنْهُم {وَإِن قوتلتم لننصرنكم} قَالَ ابْن عَطِيَّة وَيحْتَمل أَن تكون الْآيَة حِكَايَة لقَوْل الْمُؤمنِينَ فِي وَقت قَول الَّذين فِي قُلُوبهم مرض {نخشى أَن تصيبنا دَائِرَة} إِلَى آخِره يَعْنِي فَيحسن حذف الْوَاو لِأَن الْمقَام يَقْتَضِيهِ وَأما على إِثْبَات الْوَاو وَرفع يَقُول فوجهه ظَاهر لِأَنَّهُ مَعْطُوف على قَول الَّذين فِي قُلُوبهم مرض من بَاب عطف الْجمل بَعْضهَا على بعض كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ وَلَا يكون ذَلِك جَوَابا عَن سُؤال وَلَا حِكَايَة لقَوْل الْمُؤمنِينَ وَاخْتلفُوا فِي تَوْجِيه قِرَاءَة أبي عَمْرو وَمن نصب يَقُول مَعَ الْوَاو فَذكر أَبُو

عَليّ الْفَارِسِي فِيهِ وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن يكون عطفا على أَن يَأْتِي حملا على الْمَعْنى دون اللَّفْظ لِأَن معنى عَسى الله أَن يَأْتِي وَعَسَى أَن يَأْتِي الله وَاحِد وَالتَّقْدِير عَسى أَن يَأْتِي الله بِالْفَتْح وَأَن يَقُول الَّذين آمنُوا وَيكون ذَلِك كَقَوْلِه تَعَالَى {لَوْلَا أخرتني إِلَى أجل قريب فَأَصدق وأكن من الصَّالِحين} على قِرَاءَة من جزم وأكن لِأَنَّهُ لما كَانَ الْمَعْنى أخرني إِلَى أجل قريب أصدق لما يَقْتَضِيهِ التحضيض من معنى الْأَمر حمل أكن على الْجَزْم الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَعْنى فِي قَوْله {فَأَصدق} وَإِنَّمَا حمل على الْمَعْنى دون اللَّفْظ لما فِي الْحمل على اللَّفْظ من الِامْتِنَاع من جِهَة أَنه لَا يَصح عَسى الله أَن يَأْتِي وَعَسَى الله أَن يَقُول الَّذين آمنُوا كَمَا لَا يَصح عَسى زيد أَن يقوم عَمْرو وَالثَّانِي أَن يكون قَوْله {أَن يَأْتِي بِالْفَتْح} بَدَلا من اسْم الله عز وَجل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا أنسانيه إِلَّا الشَّيْطَان أَن أذكرهُ} ثمَّ عطف وَيَقُول على أَن يَأْتِي فَيكون التَّقْدِير عَسى أَن يَأْتِي وَأَن يَقُول الَّذين آمنُوا وَيكون دَاخِلا فِي اسْم عَسى وَاسْتغْنى عَن خَبَرهَا بِمَا تضمنه اسْمهَا من الْحَدث وَذكر غَيره وَجها ثَالِثا وَهُوَ أَن يكون مَعْطُوفًا على لفظ يَأْتِي وَهُوَ خبر عَسى وَيقدر فِي الْمَعْطُوف ضمير مَحْذُوف تَقْدِيره وَيَقُول الَّذين آمنُوا بِهِ وَأما الزَّمَخْشَرِيّ فَلم يقدر شَيْئا من ذَلِك بل أطلق القَوْل بِأَنَّهُ عطف على {أَن يَأْتِي} وَذكر النّحاس وَجها رَابِعا وَهُوَ أَن يكون مَعْطُوفًا على الْفَتْح لِأَن مَعْنَاهُ بِأَن يفتح فأضمر أَن قبل يَقُول فَيكون نَصبه من بَاب مَا نَحن فِيهِ على حد قَوْلهم (للبس عباءة وتقر عَيْني ... ) وَيكون الْمَقْصُود هُوَ الْمَجْمُوع

وَاخْتَارَ ابْن الْحَاجِب وَجها خَامِسًا لَا تكلّف فِيهِ وَهُوَ أَن يكون مَعْطُوفًا على قَوْله {فيصبحوا} لِأَن قَوْله {فيصبحوا} مَنْصُوب بِالْفَاءِ فِي جَوَاب الترجي بعسى قَالَ أَبُو شامة وَهَذَا وَجه للنصب ظَاهر لَا تعسف فِيهِ وَلم أر أحدا ذكره غير الشَّيْخ أبي عمر قلت قد ذكره ابْن عَطِيَّة فِي تَفْسِيره لكنه قَالَ فِيهِ نظر وَلم يبين من أَي جِهَة وَالظَّاهِر أَنه أرجح هَذِه الْوُجُوه ونكته مَا قَالَه أَبُو جَعْفَر النّحاس من النصب على الصّرْف وَالله تَعَالَى أعلم

فصل المعنى الجامع لأنواع الواو

33 - فصل الْمَعْنى الْجَامِع لأنواع الْوَاو هَذِه الْأَنْوَاع الْأَرْبَعَة الَّتِي تقدّمت فِي الْوَاو ترجع كلهَا إِلَى معنى جَامع شملها وَهُوَ مُطلق الْجمع فقد تقدم أَنه لَا يَنْفَكّ عَنهُ وَاو الْحَال وَهُوَ فِي الثَّلَاثَة الْأُخَر ظَاهر بِخِلَاف مَا يَأْتِي من وَاو الْقسم فَإِنَّهُ لَا جَامع بَينهَا وَبَين هَذِه الْأَنْوَاع من جِهَة الْمَعْنى وَقد تقدم عَن الْحَنَفِيَّة أَن الْوَاو حَقِيقَة فِي الْعَطف مجَاز فِي الْحَال فَيحْتَمل أَن يطردوا هَذِه الْحَقِيقَة فِي وَاو الْمَفْعُول مَعَه وواو الصّرْف لِأَن معنى الْجمع فيهمَا ظَاهر وَيحْتَمل أَن لَا يطردوا ذَلِك فيهمَا وَمُقْتَضى كَلَام فَخر الدّين بن الْخَطِيب أَن الْوَاو مُشْتَركَة بَين الْعَطف وَالْحَال كَمَا تقدم وَهَذَا ظَاهر كَلَام أَئِمَّة الْعَرَبيَّة وَلقَائِل أَن يَقُول بِأَنَّهَا فِي هَذِه الْأَنْوَاع الْأَرْبَعَة متواطئة بالاشتراك الْمَعْنَوِيّ لوُجُود معنى جَامع بَين الْكل يشملها وَيُوجد فِي كل وَاحِد مِنْهَا وَهُوَ الْجمع الْمُطلق ويمتاز كل قسم مِنْهَا بعوارض تخصه فَهِيَ مُشْتَركَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِك الْمَعْنى الْكُلِّي الَّذِي يشملها فَتكون متواطئة كالانسان بِالنِّسْبَةِ إِلَى الانسانية الَّتِي تُوجد فِي كل فَرد من أَفْرَاده وَهِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُطلق الْجمع وَالْقسم بهَا مُشْتَركَة اشتراكا لفظيا لعدم الْمَعْنى الْجَامِع الَّذِي يشْتَرك بَينهمَا وَفِي

هَذَا تقليل للاشتراك اللَّفْظِيّ الَّذِي هُوَ على خلاف الأَصْل والتواطؤ خير مِنْهُ وَهَذِه هِيَ الطَّرِيق الَّتِي سلكها الْآمِدِيّ فِي لفظ الْأَمر بِالنِّسْبَةِ إِلَى القَوْل الْمَخْصُوص والشأن وَالصّفة وَالْفِعْل فَجعله متواطئا بَينهَا بِحَسب الْمَعْنى الْكُلِّي الْمُشْتَرك بَينهَا وَإِن كَانَ ابْن الْحَاجِب اعْترض عَلَيْهِ بِمَا هُوَ مَعْرُوف فِي كِتَابه وَالْجَوَاب عَنهُ غير عسير وَقد ذكرته فِي بعض الْمَوَاضِع وَلَيْسَ ذَلِك مِمَّا نَحن فِيهِ حَتَّى نطيل الْكَلَام بِهِ وَيَتَرَتَّب على هَذَا أَن اسْتِعْمَال الْوَاو فِي أحد هَذِه الْأَنْوَاع الْأَرْبَعَة الَّتِي تقدّمت لَيْسَ اسْتِعْمَالا للفظ فِي مجازه وَلَا فِي مُشْتَرك لَفْظِي حَتَّى يتَوَقَّف على الْقَرِينَة المخصصة لذَلِك الْمَعْنى المُرَاد بل فِي حقيقتة كإطلاق الْحَيَوَان على الْإِنْسَان وَالْفرس وَغَيرهمَا من سَائِر الْأَصْنَاف لوُجُود الحيوانية فِي الْجَمِيع وَإِن كَانَ كل نوع مِنْهَا ينْفَرد بخواص تميزه عَن غَيره وَذَلِكَ أولى من الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ وَمن الْمجَاز فَإِن كلا مِنْهُمَا على خلاف الأَصْل وَالله سُبْحَانَهُ أعلم

فصل النوع الخامس من أقسام الواو

34 - فصل النَّوْع الْخَامِس من أَقسَام الْوَاو الْوَاو الَّتِي للقسم وَالْقسم اسْم أقيم مقَام الْمصدر وَكثر اسْتِعْمَاله فِيهِ وَالْفِعْل أقسم ومصدره الْحَقِيقِيّ الإقسام وَالَّذِي ذكره كثير من أَئِمَّة اللُّغَة أَن الْقسم مَأْخُوذ من أَيْمَان الْقسَامَة وَهِي الَّتِي يحلف بهَا فِي الْقَتْل ثمَّ إِنَّه قيل لكل يَمِين قسم وَهَذَا فِيهِ نظر من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن أصل الْقسَامَة مبدؤه من فعل أبي طَالب بِسَبَب الْأَجِير الَّذِي

قتل من قُرَيْش كَمَا صَحَّ ذَلِك فِي صَحِيح البُخَارِيّ أَنَّهَا أول قسَامَة كَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة وَكَانَ ذَلِك قبل النُّبُوَّة بِزَمن غير كَبِير وَإِطْلَاق الْقسم على الْيَمين كَانَ مَعْرُوفا عِنْد الْعَرَب قبل ذَلِك على مَا هُوَ مَوْجُود فِي أخبارهم وأشعارهم فَكَانَ الأولى أَن يكون اشتقاق لفظ الْقسَامَة من الْقسم الَّذِي هُوَ الْيَمين الْمُطلقَة وَالثَّانِي أَنه يسْأَل حِينَئِذٍ عَن أَي معنى اشتق مِنْهُ لفظ الْقسَامَة فمهما كَانَ مأخوذا مِنْهُ يُقَال مثله فِي مُطلق الْيَمين إِلَّا أَن يكون ذَلِك أَخذ من معنى خَاص يخْتَص بِالدَّمِ أَو بِالْمَوْتِ أَو بِطَلَب الدِّيَة أَو نَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يعم كل يَمِين يحلف بهَا فيقوى حِينَئِذٍ أَن مُطلق الْقسم مَأْخُوذ من الْقسَامَة لَكِن ذَلِك الشَّيْء الْخَاص لم يعرف وَلَا ذَكرُوهُ وَهَذِه الْمَادَّة الَّتِي هِيَ الْقَاف وَالسِّين وَالْمِيم ترجع إِلَى معَان مِنْهَا الْقِسْمَة وَهِي إِقْرَار النَّصِيب وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَأَن تستقسموا بالأزلام} لأَنهم كَانُوا يطْلبُونَ من جِهَة الأزلام مَا قسم من أحد الْأَمريْنِ اللَّذين يريدونهما وَمِنْهَا وَهِي الْحسن وَقيل الْقِسْمَة الْوَجْه مُطلقًا حَكَاهُ الْأَزْهَرِي وَمِنْهُم من يُقَيِّدهُ بِالْوَجْهِ الْحسن وَيُقَال وَجه قسيم وَامْرَأَة قسيمة أَي حسناء وَمِنْهَا الْقسم وَهُوَ الرَّأْي قَالَ الْأَزْهَرِي يُقَال فلَان جيد الْقسم أَي

الرَّأْي وَقَالَ ابْن سيدة فِي الْمُحكم الْقسم يَعْنِي بِفَتْح الْقَاف وَإِسْكَان السِّين الرَّأْي وَقيل الشَّك وَقيل الْقدر وَجعل الرَّاغِب هَذِه الْمعَانِي كلهَا رَاجِعَة إِلَى الْقِسْمَة الَّتِي هِيَ إِفْرَاز النَّصِيب وَقَوْلهمْ لِلْحسنِ الْقسَامَة أَي كَأَنَّمَا أُوتِيَ من كل حسن نصِيبه فِي مَوْضِعه فَلم يتَفَاوَت وَقيل وَجه قسيم أَي يقسم بحسنه الطّرف فَلَا يثبت فِي مَوضِع دون مَوضِع وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن سيدة فِي قَوْلهم قسم أمره قسما قَالَ أَي قدره وَقيل لم يدر مَا يصنع فِيهِ فَإِذا عرف ذَلِك يحْتَمل أَن يكون الْقسم مَأْخُوذ من الْقِسْمَة أَي إِن الْمقسم أفرز مَا يحلف عَلَيْهِ بتأكيد بِالْيَمِينِ أَو أفرز الْيَمين من جملَة أَنْوَاع الْكَلَام لتأكيد مَا يروم من القَوْل وَأَن يكون مأخوذا من الْقسَامَة الَّتِي هِيَ الْحسن فَكَأَن الْحَالِف حسن مَا يَقُوله بتأكيده باسم الله تَعَالَى وَإِلَى هَذَا مَال الشَّيْخ تَقِيّ الدّين الْقشيرِي رَحمَه الله تَعَالَى فِي شرح الالمام فِي أصل هَذِه اللَّفْظَة

قَالَ ابْن أبي الرّبيع وَقيل مُشْتَقّ من الْبَيْت الْمقسم بِهِ الْمُعظم لأَنهم يعظمون مَا يقسمون بِهِ قلت وَهَذَا معنى آخر غير مَا تقدم وَالْكل مُحْتَمل وَحَقِيقَة الْقسم عِنْد النَّحْوِيين ضم جملَة خبرية إِلَى مثلهَا تكون كل مِنْهُمَا فعلية أَو اسمية أَيْضا توكد الثَّانِيَة بِالْأولَى متضمنة اسْما من أَسمَاء الله تَعَالَى أَو صفة من صِفَاته وَرُبمَا كَانَ ذَلِك باسم غَيره مِمَّا يعظمه الْمقسم وَتَكون الْيَمين لغوية لَا شَرْعِيَّة وَهُوَ فِي الشَّرْع عبارَة عَن تَحْقِيق مَا يحْتَمل الْمُخَالفَة أَو تأكيده بِذكر اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى أَو صفة من صِفَاته وَزَاد

فِيهِ الامام الْغَزالِيّ مَاضِيا كَانَ أَو مُسْتَقْبلا لَا فِي معرض اللَّغْو والمناشدة وَقيد لَا حَاجَة إِلَى هذَيْن الْأَخيرينِ وَالْمَقْصُود من الْقسم إِن كَانَ على مَاض التَّحْقِيق سَوَاء كَانَ إِثْبَاتًا أَو نفيا مثل وَالله لقد دخلت الدَّار أَو وَالله مَا دخلت وَإِن كَانَ على مُسْتَقْبل فالمقصود بِهِ الْحَث إِن كَانَ على ثُبُوت وَالْمَنْع إِن كَانَ على نفي وأصل حُرُوفه الْبَاء الجارة لِأَن الْفِعْل يظْهر مَعهَا تَقول أقسم بِاللَّه وَحلفت بِاللَّه وَلِأَن أَفعَال الْقسم كلهَا لَازِمَة وَالْبَاء هِيَ المعدية لَهَا إِلَى مَا بعْدهَا وَأَيْضًا فَإِنَّهَا تدخل على كل محلوف بِهِ من ظَاهر ومضمر نَحْو بِاللَّه لَأَفْعَلَنَّ وَبِك لَأَفْعَلَنَّ كَقَوْل الشَّاعِر (رأى برقا فَأَوْضَعَ فَوق بكر ... فَلَا بك مَا أسأَل وَلَا أغاما) وَقَالَ الآخر (أَلا نادت أُمَامَة بارتحال ... لتحزنني فَلَا بك مَا أُبَالِي)

ف بك فِي الْبَيْتَيْنِ قسم بالضمير وَهُوَ الْكَاف وَالْبَاء بَاء الْقسم وَقد يحذف الْفِعْل الْمُتَعَلّق بالقسم كَمَا فِي هذَيْن الْبَيْتَيْنِ لكنه قَلِيل وَالْأَكْثَر مجيئة بِالْفِعْلِ مظْهرا وَمِمَّا حمل على الْحَذف أَيْضا قَوْله تَعَالَى {يَا بني لَا تشرك بِاللَّه إِن الشّرك لظلم عَظِيم} فَقَالَ بَعضهم الْوَقْف على (لَا تشرك) وَقَوله (بِاللَّه) قسم على الْجُمْلَة الَّتِي بعده (إِن الشّرك لظلم عَظِيم) وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {ادْع لنا رَبك بِمَا عهد عنْدك لَئِن كشفت عَنَّا الرجز} قيل إِن قَوْله (بِمَا عهد عنْدك) قسم أَي بعهده لَئِن كشفت عَنَّا الرجز لنؤمنن وَقَوله تَعَالَى {ثمَّ جاؤوك يحلفُونَ بِاللَّه إِن أردنَا إِلَّا إحسانا وتوفيقا} ) قيل إِن ابْتِدَاء الْكَلَام (بِاللَّه) والمقسم عَلَيْهِ مَا بعده وَيكون ذَلِك حِكَايَة حلفهم وَأما الْوَاو فَإِنَّهَا بدل من الْبَاء لِأَنَّهَا أشبهتها من جِهَة أَنَّهُمَا من مخرج وَاحِد وَهُوَ الشفتان وَلِأَن الْبَاء تفِيد الإلصاق وَالْوَاو تفِيد الْجمع وَهُوَ نوع من الإلصاق فَلَمَّا كَانَت فرعا عَنْهَا انحطت عَن رتبتها من ثَلَاثَة أوجه أَحدهَا

أَن الْفِعْل لَا يظْهر مَعهَا لما تقدم أَن أَفعَال الْقسم كلهَا لَازِمَة وَإِنَّمَا يصل إِلَى مَا بعْدهَا بِالْبَاء الَّتِي تفِيد ذَلِك وَالْوَاو لَيْسَ لَهَا هَذِه الرُّتْبَة وَالثَّانِي أَنَّهَا لَا تدخل إِلَّا على الظَّاهِر دون الْمُضمر لِأَن الْإِضْمَار يرد الْأَشْيَاء إِلَى أُصُولهَا أَلا ترى أَنَّك تَقول أَعطيتكُم درهما فتحذف الْوَاو وتسكن الْمِيم تَخْفِيفًا فَإِذا أضمرت الْمَفْعُول قلت أعطيتكموه فَترد الْوَاو لأجل اتِّصَال الْفِعْل بالمضمر وَالثَّالِث أَن الْوَاو لَا تَجِيء فِي السُّؤَال المُرَاد بِهِ معنى الْقسم مَجِيء الْبَاء مثل بِاللَّه إِلَّا فعلت وَبِاللَّهِ لَا تفعل كَذَا قَالَ الشَّاعِر (بِدينِك هَل ضممت إِلَيْك ليلى ... وَهل قبلت بعد النّوم فاها) وَإِن كَانَ هَذَا وَمثله لَيْسَ على حَقِيقَة الْقسم وَلكنه فِي معنى ينْعَقد بِهِ الْيَمين إِذا نوى ذَلِك على الرَّاجِح عِنْد أَصْحَابنَا وَأما التَّاء فَإِنَّهَا بدل عَن الْوَاو لِأَنَّهَا تبدل مِنْهَا فِي حُرُوف كَثِيرَة مثل تراث

وتخمة وتكأة وَنَحْوهَا وَلكنهَا لما كَانَت فرعا عَن الْوَاو فِي الْمرتبَة الثَّالِثَة قصرت عَنْهَا فاختصت باسم الله تَعَالَى كَقَوْلِه تَعَالَى {تالله لقد علمْتُم} و {تالله تفتأ} وَلَا تدخل على اسْم غَيره إِلَّا مَا حُكيَ عَن بَعضهم من قَوْلهم ترب الْكَعْبَة وَهُوَ قَلِيل وللقسم أَيْضا حُرُوف آخر لَا تعلق لَهَا بِمَا نَحن فِيهِ فَلذَلِك لَا حَاجَة بِنَا إِلَى ذكرهَا وَكَذَلِكَ فِي الْجمل الَّتِي يُجَاب بهَا الْقسم ومواضعها وشروطها إِذْ لَا اخْتِصَاص بهَا للواو وَلها مَوضِع تذكر فِيهِ وَإِنَّمَا يتَكَلَّم فِيمَا يخْتَص باالواو وَهِي فِي هَذَا الْموضع جَارة بِنَفسِهَا لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِك لِأَنَّهَا اخْتصّت بالأسماء وَلم تنزل منزلَة الْجَرّ مِنْهَا ولصحة دُخُول حُرُوف الْعَطف عَلَيْهَا فَدلَّ على أَنَّهَا هِيَ العاملة وَقد ذكر جمَاعَة من الْأَصْحَاب أَنه إِذا قَالَ وَالله لَأَفْعَلَنَّ كَذَا بِرَفْع الْهَاء أَو بنصبها أَنه يكون يَمِينا سَوَاء نَوَاهَا أَو لم ينوها وَالْخَطَأ فِي الاعراب لَا يمْنَع انْعِقَاد الْيَمين وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وَقَالَ الْقفال فِي قَوْله

وَالله بِالرَّفْع إِنَّه لَا يكون يَمِينا قلت يتَّجه أَن يفرق فِي ذَلِك بَين من يعرف الْعَرَبيَّة وَمن لَا يعرفهَا فَالْقَوْل بالانعقاد مُطلقًا إِنَّمَا يقوى فِي حق من لَا يعرف الْعَرَبيَّة أما إِذا كَانَ يعرفهَا وَقصد الرّفْع أَو النصب وَلم ينْو بِهِ الْيَمين فَالْقَوْل بالانعقاد هُنَا بعيد جدا نعم لَو نوى ذَلِك لصَحَّ وَإِن كَانَ مخطئا باللحن وَيُؤَيّد ذَلِك أَن صَاحب الْحَاوِي حكى عَن أبي إِسْحَاق الْمروزِي قَالَ إِن قَوْله تالله يَعْنِي بِالْمُثَنَّاةِ إِنَّمَا يكون يَمِينا فِي حَتَّى خَواص النَّاس الَّذين يعْرفُونَ أَن التَّاء من حُرُوف الْقسم وَلَا يكون يَمِينا فِي حق الْعَامَّة الَّذين لَا يعْرفُونَ ذَلِك وَقد قَالَ الْأَصْحَاب إِذا قَالَ وَالله لَأَفْعَلَنَّ كَذَا ثمَّ ذكر أَنه أَرَادَ وَالله الْمُسْتَعَان وابتدأ بقوله لَأَفْعَلَنَّ من غير يَمِين إِن ذَلِك يقبل مِنْهُ وَتصير النِّيَّة صارفة لَهُ إِلَى الْمحل الْمَذْكُور وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا اللّحن فِي الاعراب وَمثله أَيْضا مَا إِذا قَالَ بِاللَّه لَأَفْعَلَنَّ ثمَّ قَالَ أردْت اعتصمت بِاللَّه أَو

أستعين وَنَحْو ذَلِك ثمَّ ابتدأت لَأَفْعَلَنَّ فَكَذَلِك يقبل مِنْهُ صرح بهما الْعِرَاقِيُّونَ وَبَعض الخراسانيين واستبعده إِمَام الْحَرَمَيْنِ وعده زللا مِنْهُم أَو خللا من النساخ وَمن الْأَصْحَاب من قطع فِي قَوْله وَالله لَأَفْعَلَنَّ بِأَنَّهُ يَمِين فَكل حَال لَا يَنْفَعهُ فِيهِ التَّأْوِيل وَجعل الْخلاف مُخْتَصًّا بقوله بِاللَّه بِالْبَاء الْمُوَحدَة لقُوَّة صَرَاحَة الْوَاو فِي الْقسم وشهرة اسْتِعْمَالهَا وَهَذَا أقوى أَيْضا من جِهَة الْإِعْرَاب فَإِنَّهُ إِذا قَالَ بِاللَّه وَأَرَدْت استعنت وَنَحْو ذَلِك وابتدأت الْكَلَام كَانَ لكَلَامه وَجه مُحْتَمل للتأويل بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ وَالله بِالْجَرِّ ثمَّ ادّعى أَنه أَرَادَ بِهِ الِابْتِدَاء لَا الْقسم وأضمر الْخَبَر وابتدأ بعده بالْكلَام غير مقسم عَلَيْهِ فَإِن هَذَا بعيد احْتِمَاله مِنْهُ مَعَ جر اسْم الله واللحن هُنَا لَا يعْذر فنه مَعَ قصد الاضمار وَقطع الْكَلَام وَالأَصَح فِي قَوْله تالله بِالْمُثَنَّاةِ من فَوق إِنَّه يَمِين للْعُرْف فِيهِ ولاستعماله فِي الْقُرْآن وَقيل فِيهِ قَول إِنَّه لَا يكون يَمِينا إِلَّا بِالنِّيَّةِ وَمِنْهُم من خصص ذَلِك بالقسامة لما تَتَضَمَّن من إِثْبَات حق لنَفسِهِ من قصاص أَو دِيَة فَلَا يمْنَع مِنْهُ إِلَّا بِلَفْظ قوي مَشْهُور فِي الْقسم وَتقدم عَن أبي إِسْحَاق الْمروزِي التَّفْرِقَة بَين الْعَامَّة وَغَيرهَا وَالله تَعَالَى أعلم

فصل النوع السادس

35 - فصل - النَّوْع السَّادِس الْكَلَام على وَاو رب كَمَا فِي قَول امْرِئ الْقَيْس (وليل كموج الْبَحْر أرْخى سدوله ... عَليّ بأنواع الهموم ليبتلي) أَي رب ليل كموج الْبَحْر وَقَول رؤبة بن العجاج وقاتم الأعماق خاوي المخترق مشتبه الْأَعْلَام لماع الخفق والقاتم المظلم والأعماق جمع عمق وَهُوَ مَا يسْتَدلّ بِهِ على الْمَوَاضِع والطرق من جبل وَبِنَاء وَغَيرهمَا واشتباهها التباس بَعْضهَا بِبَعْض والخفق مَا

تخفق فِيهِ من التُّرَاب عِنْد هبوب الرِّيَاح وَمثله أَيْضا قَول الأعرابية (وَذي حَاجَة قُلْنَا لَهُ لَا تبح بهَا ... فَلَيْسَ إِلَيْهَا مَا حييت سَبِيل) وَهُوَ كثير فِي النّظم والنثر وَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ جُمْهُور الْبَصرِيين وَمن بعدهمْ أَن الْجَرّ فِي هَذِه الْمَوَاضِع بِرَبّ مضمرة بعد الْوَاو لَا بِالْوَاو نَفسهَا بل هِيَ عاطفة وَلذَلِك لم يعدها سِيبَوَيْهٍ فِي حُرُوف الْجَرّ وَذهب الْمبرد والكوفيون إِلَى أَن الْوَاو هِيَ الجارة لكَونهَا عوضا عَن رب كَمَا فِي وَاو الْقسم وَلِأَنَّهَا وَارِدَة فِي أول الْكَلَام وَلَيْسَ قبله شَيْء يعْطف الْوَاو عَلَيْهِ وَظَاهر كَلَام ابْن الْحَاجِب اخْتِيَار هَذَا القَوْل لِأَنَّهُ عدهَا من جملَة الْحُرُوف الجارة وَاحْتج البصريون بِوُجُوه أَحدهَا أَنَّهَا لَو كَانَت هِيَ الجارة لدخلت وَاو الْعَطف عَلَيْهَا كَمَا فِي وَاو الْقسم وَقد تقدم مثله وَثَانِيها أَن ذَلِك لَو كَانَ بطرِيق الْعِوَض عَن رب لما جَازَ أَن تضمر رب مَعهَا كَمَا أَنه لما كَانَت وَاو الْقسم بَدَلا عَن بائه لم يجز الْجمع بَينهمَا وَهنا يجوز ذَلِك بالِاتِّفَاقِ فَيُقَال وَرب رجل عَالم لَقيته وَثَالِثهَا أَن رب قد أضمرت بعد الْفَاء وبل كَقَوْل امْرِئ الْقَيْس

(فمثلك حُبْلَى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عَن ذِي تمائم محول) وَقَول الآخر (فَإِن أهلك فذي حنق لظاه ... عَليّ يكَاد يلتهب التهاب) وَقَول الآخر (وَإِمَّا تعرضن أميم عني ... وتنزعك الوشاة أولو النباط) (فحور قد لهوت بِهن عين ... نواعم فِي المروط وَفِي الرياط) ومثاله فِي بل قَول رؤبة بن العجاج (بل بلد ذِي صعد وأصباب)

وَقَول الآخر (بل بلد ملْء الفجاج قتمة ... لَا يشترى كتانه وجهرمه) (والجر فِي هَذِه الْمَوَاضِع بإضمار رب بالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِك فِي الْوَاو لِأَن كلهَا من حُرُوف الْعَطف وَأما كَون ذَلِك صدر الْكَلَام فالعطف فِيهِ على شَيْء مُقَدّر فِي الضميرفكأنه قَالَ فِي نَفسه رب شَيْء كَانَ مني وَرب قاتم الأعماق وَنَحْو ذَلِك وَكَذَلِكَ الْبَوَاقِي وَلقَائِل أَن يُجيب عَن الْوَجْه الأول بِأَن امْتنَاع دُخُول الْوَاو العاطفة إِنَّمَا كَانَ لعدم مَا تعطف عَلَيْهِ وَأَيْضًا فَلَمَّا فِي اجْتِمَاع الْوَاو من الاستثقال وَإِنَّمَا جَازَ فِي الْقسم الاستثقال لِكَثْرَة دورانه فِي الْكَلَام وَأما الْجمع بَين الْوَاو وَرب فلمانع أَن يمْنَع أَن هَذِه الْوَاو هِيَ تِلْكَ تكون عِنْد عدمهَا بل عِنْد ظُهُور رب هِيَ عاطفة لَيْسَ إِلَّا وَلَيْسَت الَّتِي يعوض بهَا عَن رب فَيجوز حِينَئِذٍ الْجمع وَلَا يكون فِيهِ دَلِيل وَأما الْفَاء وبل فَلَا شكّ أَن ذَلِك قَلِيل نَادِر جدا بِخِلَاف الْوَاو فَإِن الْجَرّ بعْدهَا كثير شَائِع فِي كَلَامهم وكل من الْقَوْلَيْنِ مُحْتَمل وَإِن كَانَ الْأَظْهر قَول الْبَصرِيين فَإِذا عرف ذَلِك فعلى قَول الْبَصرِيين لَيست قسما مغايرا لما تقدم لِأَنَّهَا العاطفة عِنْدهم وعَلى القَوْل الآخر الْمُغَايرَة ظَاهِرَة فَيكون ذَلِك نوعا على مَا تقدم وَيَجِيء على الْبَحْث الْمُتَقَدّم أَن الْوَاو مُشْتَركَة لفظا بَين مُطلق الْجمع وَالْقسم وَهَذِه الَّتِي بِمَعْنى رب ثمَّ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَنْوَاع الْأَرْبَعَة الْمُتَقَدّمَة متواطئة وَالله تَعَالَى أعلم

فصل الأحكام المتعلقة برب

36 - فصل الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة بِرَبّ الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة بِرَبّ كَثِيرَة مَعْرُوفَة فِي موضعهَا من كتب الْعَرَبيَّة وَالَّذِي يتَعَلَّق بِهَذَا الْموضع مِنْهَا ثَلَاثَة أُمُور نذكرها لتعلقها بِمَا نَحن فِيهِ سَوَاء جعلت الْوَاو عوضا عَن رب أَو كَانَت رب بعْدهَا مقدرَة الأول أَنَّهَا للتقليل أَو للتكثير وَلَا شكّ أَنَّهَا جَاءَت للتقليل كثيرا وخصوصا فِي مَوَاضِع لَا تحْتَمل إِلَّا التقليل مِمَّا يَأْتِي ذكره وَجَاءَت فِي مَوَاضِع يسيرَة تَأتي أَيْضا وَالْمرَاد بهَا التكثير وَقد قَالَ سِيبَوَيْهٍ فِي كِتَابه فِي بَاب كم ومعني كم كمعنى رب إِلَّا أَن كم اسْم و (رب) غير اسْم ففهم جمَاعَة من ذَلِك أَن مَعْنَاهَا التكثير كَمَا أَن معنى كم التكثير وَمِنْهُم ابْن مَالك فَقَالَ هِيَ حرف تَكْثِير وفَاقا لسيبويه والتقليل بهَا نَادِر

وَصرح بِأَنَّهَا للتكثير من الْمُتَقَدِّمين صَاحب الْعين وَقَالَ الفارابي فِي كتاب الْحُرُوف إِنَّهَا للتقليل وللتكثير فَجَعلهَا مُشْتَركَة بَينهمَا وَمُقْتَضى كَلَام ابْن مَالك أَن حَقِيقَتهَا التكثير وَالَّذِي صرح بِهِ دهماء أَئِمَّة الْعَرَبيَّة أَنَّهَا للتقليل وَأَنَّهَا ضدكم فِي التكثير قَالَ ابْن السَّيِّد البطليوسي وجدت كبراء الْبَصرِيين ومشاهيرهم مُجْمِعِينَ على أَنَّهَا للتقليل وَأَنَّهَا ضدكم فِي التكثير كالخليل وسيبويه وَعِيسَى بن عمر وَيُونُس وَأبي زيد الْأنْصَارِيّ وَأبي عَمْرو بن الْعَلَاء والأخفش سعيد بن مسْعدَة والمازني وأبى عمر الْجرْمِي والمبرد وَأبي

بكر بن السراج وإبي إِسْحَاق الزّجاج وَأبي عَليّ الْفَارِسِي والرماني وَابْن جني والسيرافي وَكَذَلِكَ جلة الْكُوفِيّين كالكسائي وَالْفراء ومعاذ الهراء وَهِشَام وَابْن سَعْدَان وَلم أجد لَهُم مُخَالفا فِي ذَلِك إِلَّا صَاحب الْعين والفارابي وَلَا شكّ أَن هَؤُلَاءِ رَأَوْا الأبيات الَّتِي وَردت فِيهَا للتكثير فَإِنَّهَا كَثِيرَة ثمَّ ذكر قَول سِيبَوَيْهٍ الْمُتَقَدّم معنى كم معنى رب وَقَالَ لَا حجَّة فِيهِ لِأَنَّهُ قد صرح فِي مَوَاضِع أَن رب للتقليل وَكم للتكثير وَهُوَ يسْتَعْمل ذَلِك أَيْضا فَإِنَّهُ إِذا تكلم فِي كِتَابه على الشواذ يَقُول فِي كثير مِنْهَا وَرب شَيْء هَكَذَا يُرِيد أَنه قَلِيل نَادِر وَقد أنْشد بَيت الفرزدق (فَأَصْبحُوا قد أعَاد الله نعمتهم ... إِذْ هم قُرَيْش وَإِذ مَا مثلهم بشر)

ثمَّ قَالَ وَهَذَا لَا يكَاد يعرف كَمَا أَن {ولات حِين مناص} كَذَلِك وَرب شَيْء هَكَذَا وَقد فسر أَبُو عَليّ الْفَارِسِي وَغَيره قَوْله إِن معنى كم معنى رب على أَن مُرَاده أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّهُمَا يقعان صَدرا وأنهما لَا يدخلَانِ إِلَّا على نكرَة وَأَن الِاسْم المنكور الْوَاقِع بعدهمَا يدل على أَكثر من وَاحِد وَإِن كَانَ الِاسْم الْوَاقِع بعد كم يدل على كثير وَبعد رب على قَلِيل قَالَ وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن درسْتوَيْه والرماني وَغَيرهمَا قلت وَفِي حمل كَلَام سِيبَوَيْهٍ على هَذَا جمع بَين جَمِيع كَلَامه وَدفع التَّنَاقُض عَنهُ وَالْكَلَام الْآن فِي الْمَوَاضِع الَّتِي جَاءَت فِيهَا لَا تحْتَمل إِلَّا التقليل وَفِي مَوَاضِع التكثير ثمَّ فِي الْجَواب عَنْهَا فَمن الأول مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ من قَوْلهم ربه رجلا وَنَصّ عَلَيْهَا سِيبَوَيْهٍ فِي الْكتاب وَهُوَ تقليل مَحْض لِأَن الرجل لَا يمدح بِكَثْرَة النظير بل بقلته وَقَالَ الشَّاعِر (أَلا رب مَوْلُود وَلَيْسَ لَهُ أَب ... وَذي ولد لم يلده أَبَوَانِ) (وَذي شامة غراء فِي حر وَجهه ... مُجَللَة لَا تَنْقَضِي لِأَوَانِ) وَهَذِه الثَّلَاثَة لَا نَظِير لَهَا الثَّلَاثَة لَا فِيمَا ذكر فالمولود الَّذِي لَيْسَ لَهُ أَب عِيسَى عَلَيْهِ

السَّلَام وَالَّذِي لَهُ ولد وَلم تلده أَبَوَانِ آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَصَاحب الشامة هُوَ الْقَمَر شبه الكلف الَّذِي يظْهر فِيهِ بالشامة وَقَالَ الآخر (رب نهر رَأَيْت فِي جَوف خرج ... يترامى بموجه الزخار) (ونهار رَأَيْت نصف اللَّيْل ... وليل رَأَيْت منتصف النَّهَار) يَعْنِي بالخرج الْوَادي الَّذِي لَا منفذ لَهُ وَالنَّهَار فرخ الْحُبَارَى وَاللَّيْل فرخ الكروان وَأنْشد البطليوسي لحاتم طَيء (وَإِنِّي لأعطي سائلي ولربما ... أكلف مَا لَا أَسْتَطِيع فأكلف) وَجعل رب هُنَا للتقليل وَلَيْسَت صَرِيحَة فِي ذَلِك كَالَّذي قبله بل لَعَلَّ مُرَاده التكثير لِأَنَّهُ فِي مقَام التمدح وَمن الْمَوَاضِع الَّتِي جَاءَت للتكثير قَوْله تَعَالَى {رُبمَا يود الَّذين كفرُوا لَو كَانُوا مُسلمين} قَالَ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي لَا معنى للتقليل فِيهَا لِأَنَّهُ لَا حجَّة عَلَيْهِم فِيهِ وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ (يَا رب كاسية فِي الدُّنْيَا عَارِية يَوْم الْقِيَامَة) قَالَ ابْن مَالك لَيْسَ المُرَاد أَن ذَلِك قَلِيل بل المُرَاد أَن المتصف

بِهَذَا من النِّسَاء كثير وَقَالَ حسان بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ (رب حلم أضاعه عدم المَال وَجَهل غطى عَلَيْهِ النَّعيم) وَقَالَ ضابيء البرجمي (وَرب أُمُور لَا تضيرك ضيرة ... وللقلب من مخشاتهن وجيب) وَقَالَ عدي بن زيد (رب مأمول وراج أملا ... قد ثناه الدَّهْر عَن ذَاك الأمل) أنْشد هَذِه الثَّلَاثَة ابْن مَالك وَلَيْسَ التكثير فِيهَا مُتَعَيّنا وَلَا بُد وَلكنه ظَاهر وَقد يدعى فِيهَا التقليل بِخِلَاف قَول أبي كَبِير الْهُذلِيّ

(أزهير إِن يشب القذال فَإِنَّهُ ... رب هيضل لجب لفقت بهيضل) وَقَول أبي عَطاء السندي يرثي عمر بن هُبَيْرَة (فَإِن تمس مهجور الفناء فَرُبمَا ... أَقَامَ بِهِ بعد الْوُفُود وُفُود) وَأنْشد ابْن برهَان عَن أبي زيد لعَمْرو بن الْبَراء (وَذي رحم ذِي حَاجَة قد وصلتهم ... إِذا رحم القطاع نشت بلالها)

وَأنْشد لأوس بن حجر (ونلنا ونال الْقَوْم منا وَرُبمَا ... يكون على الْقَوْم الْكِرَام لنا الظفر) ولجذيمة الوضاح (رُبمَا أوفيت فِي علم ... ترفعن ثوبي شمالات) وللأعشى مَيْمُون بن قيس (رب رفد هرقته ذَلِك الْيَوْم ... وَأسرى من معشر أقيال) ولثمامة بن مخبر

(أَلا رب ملتاث يجر كساءه ... نفى عَنهُ وجدان الرقين العظائما) ولبشر بن أبي خازم (فَإِن أهلك عُمَيْر فَرب زحف ... يشبه نقعه رهوا ضبابا) وَلَا شكّ أَن هَذِه الأبيات كَثِيرَة وبسببها جعل ابْن مَالك التكثير فِي رب هُوَ الْغَالِب وَأنْشد ابْن عُصْفُور فِي ذَلِك أَيْضا قَول الشَّاعِر (فيا رب يَوْم قد لهوت وَلَيْلَة ... بآنسة كَأَنَّهَا خطّ تِمْثَال) وَقَوله (فيا رب مكروب كررت وَرَاءه ... وعان فَككت الغل عَنهُ وفداني)

ثمَّ أجَاب عَن ذَلِك كُله بِأَن رب فِي هَذِه الْمَوَاضِع وأمثالها للمباهاة والافتخار وَذَلِكَ إِنَّمَا يتَصَوَّر فِيمَا يقل نَظِيره من غير المفتخر إِذْ مَا يكثر نَظِيره من المفتخر وَغَيره لَا يتَصَوَّر الافتخار بِهِ فَتكون رب فِي هَذِه الْأَمَاكِن كلهَا لتقليل النظير يَعْنِي فَلَا تنفك عَن التقليل وَتَبعهُ على ذَلِك أَبُو بكر الْخفاف وَغَيره وَإِلَى هَذَا أَشَارَ ابْن أبي الرّبيع بقوله إِن رب لتقليل ذَات الشَّيْء أَو تقليل نَظِيره وسلك البطليوسي فِي هَذَا الْمَعْنى مسلكا آخر وَهُوَ أَن الشَّاعِر بافتحاره يَدعِي أَن الشَّيْء الَّذِي يكثر وجوده مِنْهُ يقل من غَيره فَوضع لَهَا التقليل فِي مَوضِع التكثير لذَلِك كَمَا استعير لفظ الذَّم فِي مَوضِع الْمَدْح فَيُقَال أَخْزَاهُ الله مَا أشعره إشعارا بِأَن الممدوح قد جعل فِي رُتْبَة من يشْتم حسدا لَهُ على فَضله لِأَن الْفَاضِل هُوَ الَّذِي يحْسد وَذكر جَوَابا آخر وَهُوَ أَن قَول الرجل لصَاحبه لَا تعادني فَرُبمَا نَدِمت تَأْوِيله أَن الندامة لَو كَانَت قَليلَة لوَجَبَ أَن يتَجَنَّب مَا يُؤَدِّي إِلَيْهَا فَكيف وَهِي كَثِيرَة قَالَ وعَلى هَذَا تَأَول النحويون قَوْله تَعَالَى {رُبمَا يود الَّذين كفرُوا لَو كَانُوا مُسلمين} وَقَول امْرِئ الْقَيْس (أَلا رب يَوْم لَك مِنْهُنَّ صَالح ... ) اسْتِعَارَة لفظ التقليل هُنَا إِشَارَة إِلَى أَن قَلِيل هَذَا فَخر لفَاعِله فَكيف بكثيره

وَأجَاب اللورقي عَن هَذِه الْمَوَاضِع جَمِيعهَا بِأَن رب اسْتعْملت فِيهَا للتكثير على وَجه التَّجَوُّز من اسْتِعْمَال أحد الضدين فِي الآخر كَمَا فِي قد فَإِنَّهَا للتقليل وَقد تسْتَعْمل للتكثير كَمَا فِي قَول الشَّاعِر (أَخُو ثِقَة لَا تهْلك الْخمر مَاله ... وَلكنه قد يهْلك المَال نائله) وَهَذَا الْجَواب يعم جَمِيع مَا تقدم لَكِن يعكس ابْن مَالك هَذَا فَيَقُول هِيَ فِي هَذِه الْمَوَاضِع حَقِيقَة وَحَيْثُ اسْتعْملت للتقليل يكون مجَازًا فعلى النَّاظر أَن يترقى فِي جَمِيع ذَلِك ويرجح مَا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيل الرَّاجِح قَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْمبرد النحويون كالمجمعين على أَن رب جَوَاب لكَلَام مُتَقَدم فَإِذا قلت رب رجل عَالم لَقيته فَهُوَ جَوَاب لمن سَأَلَ هَل لقِيت رجلا عَالما أَو من يقدر سُؤَاله بذلك فَتَقول لَهُ رب رجل عَالم لَقيته أَي لقِيت من جنس الرِّجَال الْعلمَاء إِلَّا أَن ذَلِك لَيْسَ بِكَثِير قَالَ وَالدَّلِيل على أَن رب جَوَاب أَن وَاو رب عاطفة فيستغنى بهَا عَن رب بِدَلِيل أَنَّهَا لَا يدْخل عَلَيْهَا حرف عطف وَالْعرب تستعملها وَإِن لم يتَقَدَّم

قبلهَا كَلَام فَتَقول وَرجل أكرمته ابْتِدَاء قَالَ (وبلدة لَيْسَ بهَا أنيس ... إِلَّا اليعافير وَإِلَّا العيس) فَدلَّ على أَن رب جَوَاب حَتَّى تكون الْوَاو قد عطفت الْجَواب على السُّؤَال الْمُتَقَدّم أَو الْمُقدر وَلَوْلَا ذَلِك لما سَاغَ وُقُوع حرف الْعَطف أول الْكَلَام انْتهى كَلَامه وَمُقْتَضَاهُ أَنه جعل مَا يسْتَدلّ بِهِ على كَون رب للتقليل وُقُوعهَا موقع الْجَواب وَاسْتدلَّ على وُقُوعهَا موقع الْجَواب بِقِيَام الْوَاو مقَامهَا فعلى هَذَا يكون التقليل فِي حَالَة الْوَاو أولى مِنْهُ فِي حَالَة إِظْهَار رب وَهَذَا قوي جدا فَإِنَّهُ لَا يُوجد شَاهد بِهَذِهِ الْوَاو وَالْمعْنَى فِيهِ التكثير وَإِنَّمَا ذَلِك جَمِيعه عِنْد ظُهُور رب وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم الثَّانِي تقدم أَن رب يتَّصل بهَا الظَّاهِر والمضمر وَأَن هَذِه الْوَاو لَا يتَّصل بهَا إِلَّا ظَاهر وَشرط ذَلِك الظَّاهِر فِيهَا أَن يكون نكرَة مَوْصُوفَة إِمَّا بمفرد أَو بجملة اسمية أَو فعلية مثل رب رجل كريم رَأَيْته وَرب رجل مَاتَ أَبوهُ أَو أَبوهُ ميت لَقيته أما كَونه نكرَة فَلِأَن الْمُفْرد بعْدهَا فِي معنى جمع وَلَا يكون فِي معنى جمع إِلَّا النكرَة وَأَيْضًا فَهِيَ إِمَّا للتقليل أَو للتكثير على مَا تقدم وكل مِنْهُمَا لَا يتَصَوَّر إِلَّا فِيمَا يُمكن فِيهِ ذَلِك وَهُوَ النكرَة وَأما الْمعرفَة فمتعينة لَا تحْتَمل ذَلِك وَقد تدخل على مَا لَفظه لفظ الْمعرفَة إِذا كَانَ نكرَة نَحْو مثل وَأَخَوَاتهَا

مِمَّا لَا يتعرف بِالْإِضَافَة لكَونهَا غير مَحْضَة كَمَا فِي قَول الشَّاعِر (يَا رب مثلك فِي النِّسَاء غريرة ... بَيْضَاء قد متعتها بِطَلَاق) وَقد تقدم قَول امْرِئ الْقَيْس (فمثلك حُبْلَى قد طرقت ومرضع ... ) وَقَالَ الْمبرد إِنَّمَا كَانَ مَعْمُول رب نكرَة لِأَنَّهُ خرج مخرج التَّمْيِيز من حَيْثُ أَنه يدل على الْجِنْس والتمييز يكون بِوَاحِد نكرَة فَكَذَلِك هُنَا وَأما كَون النكرَة مَوْصُوفَة فَلِأَن المُرَاد مِنْهَا التقليل والموصوف أقل مِمَّا لَيْسَ بموصوف فوصفت لذَلِك وَاشْتِرَاط الْوَصْف بهَا هُوَ اخْتِيَار الْمبرد وَكثير من الْمُحَقِّقين وَخَالف فِيهِ ابْن مَالك وَجَمَاعَة فَقَالُوا لَا يشْتَرط ذَلِك بِدَلِيل استعمالهم لَهُ محذوفا كثيرا كَقَوْلِهِم رب عَالم لَقيته وَقَالَ امْرُؤ الْقَيْس (فيا رب يَوْم قد لهوت وَلَيْلَة الْبَيْت

وَقد تقدم وَقَالَ الْأَعْشَى وَقد تقدم أَيْضا (رب رفد هرقته ذَلِك الْيَوْم ... وَأسرى من معشر أقيال) والأولون جعلُوا لَقيته فِي قَوْلهم رب عَالم لَقيته صفة لعالم وَقَالُوا الْفِعْل مَحْذُوف وَتَقْدِيره على حسب الْحَال نَحْو رَأَيْت أَو لقِيت وَمَا أشبه ذَلِك وَإِنَّمَا جعل الْفِعْل هُنَا صفة وَلم يَجْعَل عَاملا لِأَن الصّفة آكِد مِنْهُ وَالْعَامِل يحذف كثيرا للْعلم بِهِ كَمَا فِي قَوْلهم بِسم الله وَنَحْوه وَيكون التَّقْدِير رب عَالم لَقيته رَأَيْت وَمَعْنَاهُ رب عَالم ملقي رَأَيْت وعَلى قَول ابْن مَالك يكون لَقيته هُوَ الْعَامِل وَالصّفة محذوفة وَالْقَوْل الأول أرجح قَالَ السيرافي حاجتنا فِي هَذِه الْأَمَاكِن إِلَى الصّفة أَشد من حاجتنا إِلَى الْعَامِل لِأَن الِاسْم فِي غَايَة الشياع فَأُرِيد تقريبه من التَّخْصِيص بِالصّفةِ مَعَ أَنَّهَا تغني عَنهُ يَعْنِي الْعَامِل لدلَالَة الْكَلَام عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء لَا تحْتَاج رب إِلَى عَامل لِأَن الصّفة لما لَزِمت مجرورها أغنت عَن الْعَامِل وَقَامَت مقَامه

وَقَالَ أَبُو عَليّ إِنَّمَا حذف الْفِعْل الَّذِي يعْمل فِي رب لِأَن الْعَامِل فِي الْجَار وَالْمَجْرُور مَحْذُوف إِذا دلّ الْكَلَام عَلَيْهِ ثمَّ مثله بقوله تَعَالَى {فِي تسع آيَات إِلَى فِرْعَوْن وَقَومه} فَإِن قَوْله {إِلَى فِرْعَوْن} مُتَعَلق بِمَحْذُوف دلّ عَلَيْهِ الْكَلَام تَقْدِيره مُرْسلا وَشبه بَعضهم الِاسْتِغْنَاء بِالصّفةِ عَن الْعَامِل فِي رب وواوها باستغنائهم بِالصّفةِ عَن الْخَبَر فِي قَوْلهم أقل رجل يَقُول كَذَا ف أقل مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَيَقُول صفة لرجل وَخبر الْمُبْتَدَأ مَحْذُوف اسْتغْنَاء بِالصّفةِ لِأَنَّهُ فِي معنى مَا يَقُول ذَلِك رجل فَأَما قَول امْرِئ الْقَيْس أَلا رب يَوْم قد لهوت وَلَيْلَة ... ) فَإِنَّهُ حذفت فِيهِ صفة لَيْلَة لدلَالَة مَا تقدم من صفة يَوْم عَلَيْهَا وَأَيْضًا فلكونه مَعْطُوفًا على مجرور رب اغتفر فِيهِ ذَلِك لتوسط الْمَوْصُوف بَينه وَبَينهَا وَلَا يلْزم أَن يغْتَفر مثله فِي الْمَجْرُور بهَا لاتصاله وَأما قَوْله فِي الْبَيْت الْمُتَقَدّم (وَأسرى من معشر أقيال ... ) فَفِيهِ ثَلَاثَة أجوبة أَحدهمَا أَنَّهَا فِي مَوضِع الصّفة كَأَنَّهُ قَالَ كائنين من معشر أقيال وَثَانِيها أَنَّهَا حذفت الصّفة لدلَالَة مَا تقدم عَلَيْهَا كَمَا فِي الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا فَكَأَنَّهُ قَالَ وَأسرى من معشر أقيال أخذتهم لِأَن هراقته للرفد أَخذ لَهُ فِي الْمَعْنى فَكَانَ فِيهِ دلَالَة على مَا بعده

وَثَالِثهَا أَن يكون من معشر أقيال مُتَعَلقا ب أسرى وَيكون فِي ذَلِك من الِاخْتِصَاص مَا فِي الصّفة لأَنهم إِذا أَسرُّوا من معشر أقيال فهم كائنون مِنْهُم فيؤول الْمَعْنى إِلَى الصّفة وَيكون الْفِعْل الْمُتَعَلّق بِهِ محذوفا لدلَالَة الْكَلَام عَلَيْهِ وَقد اتَّفقُوا على أَنه لَا يجوز حذف الْعَامِل وَالصّفة جَمِيعًا من مجرور رب وَلَا من واوها تَنْبِيه قَوْلهم إِن الصّفة إِذا ذكرت يسْتَغْنى بهَا عَن الْعَامِل فِي رب إِنَّمَا يَجِيء إِذا كَانَت الصّفة فعلا وفاعلا مثل رب رجل عَالم فَلَا بُد من الْفِعْل الْعَامِل فِي رب إِمَّا مَذْكُورا وَإِمَّا مُقَدرا وَكَذَلِكَ فِي الْجُمْلَة الاسمية أَيْضا لِأَن الِاسْم الصَّرِيح لَا يكون بَدَلا عَن الْفِعْل الْعَامِل وَالله تَعَالَى أعلم الثَّالِث ذكرُوا من خَصَائِص رب أَن تكون لما مضى من الزَّمَان وَأَن الْفِعْل الَّذِي يعْمل فِيهَا يجب أَن يكون مَاضِيا وَوجه ذَلِك بِأَن مَا مضى هُوَ الَّذِي تعلم قلته وكثرته وَيحْتَمل ذَلِك فِيهِ وَأما الْمُسْتَقْبل فمجهول الْحَال لَا يعلم أكثير هُوَ أم قَلِيل وَهَذَا جَاءَ أَيْضا فِي الْوَاو النائبة عَنْهَا فَلَا يَصح عِنْدهم رب رجل كريم سألقى وَلَا لالقين وَقد خَالف ابْن مَالك رَحمَه الله فِي ذَلِك أَيْضا وَقَالَ الصَّحِيح أَنه يجوز كَونه مَاضِيا وحاضرا ومستقبلا قَالَ وَقد اجْتمع الْحُضُور والاستقبال فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (يَا رب كاسية فِي الدُّنْيَا عَارِية يَوْم الْقِيَامَة) وَأَيْضًا الْمُضِيّ والاستقبال

فِيمَا حكى الْكسَائي عَن قَول بعض الْعَرَب بعد فرَاغ شهر رَمَضَان رب صَائِمَة لن تصومه وَرب قَائِمَة لن تقومه وَقد انْفَرد الِاسْتِقْبَال فِي قَول أم مُعَاوِيَة (يَا رب قائلة غَدا ... يَا وَيْح أم مُعَاوِيَة) وَفِي قَول جحدر (فَإِن أهلك فَرب فَتى سيبكي ... عَليّ مهذب رخص البنان) وَفِي قَول الآخر (يَا رب يَوْم لي لَا أظلله ... أرمض من تَحت وأضحى من عله) ثمَّ قَالَ وَمَعَ ذَلِك فَالْمَعْنى أَكثر من الْحُضُور والاستقبال وَمن شواهده قَول امْرِئ الْقَيْس (أَلا رب يَوْم صَالح لَك مِنْهُم ... وَلَا سِيمَا يَوْم بدارة جلجل) قلت والأولون لما منعُوا مَجِيء رب للاستقبال أولُوا مَا ذكر من هَذِه

خاتمة

الشواهد على أَنه وضع ذَلِك مَوضِع الْحَال لتحققه كَمَا قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى {رُبمَا يود الَّذين كفرُوا لَو كَانُوا مُسلمين} إِن الَّذِي سوغ ذَلِك قرب الْآخِرَة من الدُّنْيَا مَعَ تحقق الْوُقُوع فَكَأَنَّهُ وَاقع الْآن كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {أَتَى أَمر الله فَلَا تستعجلوه} فَلذَلِك أوقع رب فِي الْآيَة على {يود} وَهُوَ مُسْتَقْبل مُعَاملَة لَهُ مُعَاملَة الْمَاضِي لقُرْبه وَتحقّق وُقُوعه وَالله تَعَالَى أعلم خَاتِمَة الْجُمْهُور على أَنه لَا يجوز الْفَصْل بَين رب ومجرورها بِشَيْء كَسَائِر حُرُوف الْجَرّ وَأَجَازَ خلف الْأَحْمَر الْفَصْل بَينهمَا بالقسم خَاصَّة وَأَن تَقول رب وَالله رجل عَالم لَقيته وَنَحْو ذَلِك وَلم يُوَافقهُ عَلَيْهِ أحد وَهَذَا لايجيء فِي

الْوَاو بالِاتِّفَاقِ لعدم استقلالها فَلَا يفصل بَينهَا وَبَين مجرورها بِشَيْء أصلا وَهُوَ ظَاهر آخر أومن الله سُبْحَانَهُ التَّوْفِيق لَا رب غَيره وَلَا معبود سواهُ وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا

§1/1