الفصل والوصل في القرآن الكريم

منير سلطان

تمهيد

تمهيد: هذه الطبعة شغلت بهذا البحث منذ أربعة عشر عامًا، وهو أحب البحوث إلى قلبي، فبعد اثني عشر عاما من حصولي على الدكتوراة1، وثماني سنوات من عملي في كلية البنات مدرسا للبلاغة العربية2، لم يكن لي منهج واضح، ولا طريق مدروس، ولا سمة علمية محددة. كنت موزعا بين البلاغة التقليدية التي تربيت في أحضانها، ودرستها في الجامعة، وبين البلاغة الحديثة التي أطوق إلى تطبيقها، وتحقيق ما تعلمته منها على يد البلاغي المجدد، شيخ الأمناء الجليل: الشيخ أمين الخولي، والفاضل الأستاذ العلامة الدكتور مصطفى الجويني، والفاضل الأديب الشاعر العالم الدكتور يوسف خليف، والحجة، سيوطي العصر الحديث، الأستاذ الدكتور شوقي ضيف. ولكني كنت عاجزا عن تكوين شخصية علمية، قادرة على الاختيار والإضافة، واعية بمسالك الطريق ومزالقه. ومرت بي أزمة فكرية نفسية طاحنة، أريد أن أحقق شيئا ولكني لا أدري كيف أمسك به، كيف أتحكم فيه؟ كيف أعلنه بشكل علمي جدير بالالفتات إليه؟ فما كنت بمستطيع أن أكون بلاغيا تقليديا أردد كلاما يغيظني، وأملي أن أجدد، لكن قلمي عاجز. فهداني الله سبحانه أن أبدأ بداية صغيرة محدودة تضعني على الطريق، وتحول الحلم إلى حقيقة، فكان هذا البحث3.

_ 1 حصلت على الدكتوراة ببحث "إعجاز القرآن بين المعتزلة والأشاعرة" في كلية الآداب جامعة القاهرة. سنة 1971م. 2 عينت مدرسا للبلاغة والنقد بكلية البنات، جامعة عين شمس سنة 1975م. 3 طبعته بدار المعارف بالإسكندرية، وكان بعنوان "الفصل والوصل في القرآن الكريم".

الجديد فيه أكثر من التقليدي، والحلم فيه أكبر من الواقع، والخطأ فيه وارد، ولكنه يقول شيئا واضحا: إن هذا البلاغي يريد أن يجدد، ويعد نفسه ليضيف شيئا في الدرس البلاغي، إن أخفق فلا ترجموه، فسيقوم من عثرته، ويحاول تصحيح خطته. وأعتقد أن هذا ما حدث، فقدت خطوت خطوات لا بأس بها في الدرس البلاغي، وتمثل لي منهج واضح المعالم "التأصيل والتجديد" الذي صار سمة معروفة لي، وهدفا أسعى إلى تحقيقه بإصرار، وما زلت أواصل الدرس، والمحاولة، والخطأ، والتجريب، والتصحيح. واليوم أعود إلى هذا البحث الحبيب إلى قلبي، الذي شهد بداية الطريق وترقب النتائج، والخوف من التحطيم، أعود إليه بعدما نفد من المكتبات، واحتاج الباحثون أن يطلعوا عليه، ويناقشوا ما ورد فيه، فرأيت أن أغير في ترتيب الفصول، وكنت أتمنى أن أعيد الانشغال به ثانية، وأن أتوسع فيه، وأنقيه من الشوائب، وأن أضيف إضافات حقيقية، ولكني مشغول ببحث عن "بديع التراكيب في شعر أبي تمام" بعد أن انتهيت من إعادة طبع "البديع في شعر المتنبي" باسم "تشبيهات المتنبي ومجازاته"، وأواصل البحث والدرس والإشراف على الرسائل العلمية من خلال منهج "التأصيل والتجديد في البلاغة العربية"، فهذا دَيْنٌ في رقبتي للبلاغة العربية، أن أمسك التراث البلاغي بيميني، والتجديد الحقيقي بشمالي، ومعي كوكبة من خيرة شباب مصر والعالم العربي، إلى أن يقضي الله أمره، فيكمل تلاميذي المسيرة: تأصيل بلا تعقيد، وتجديد بلا تخريب. والله من وراء القصد منير سلطان 68 ش السيد محمد كريّم, الجمرك, الإسكندرية, 1997م.

2- حياة المصطلح 1- مرحلة عدم استقرار المصطلح. 2- مرحلة الاستقرار. 3- مرحلة تشعب المصطلح. مقدمة: المصطلح هو المسمى المتفق عليه بين جمهور الدارسين رمزا لموضوع بعينه، وهو ضرب من الإيجاز يغني عن الشرح والتفصيل بما يدل عليه من مقاصد وغايات. ومن المتوقع ألا ينشأ المصطلح جامعًا مانعا متفقا عليه بين الجمهور، إنما يمر بمرحلة الاختلاف في صلاحيته، ثم تأتي مرحلة الاتفاق المجمع عليه، وقد يستمر بحاله هذه وقد يتشعب إلى مصطلحات منبثقة منه. وبعض المصطلحات تنبت في علم من العلوم ملبية غرضا من أغراضه، وتكون وقفا عليه، كما نرى في مصطلحات علم الكلام وأصول الفقه والنحو والصرف وعلم القراءات والنقد والأدب والبلاغة، وبعضها يستعار من علم آخر لتشابه المضمون وتقارب المدلول في العلمين. ومدلول الفصل والوصل وجد في علم الخط العربي والنحو وعلم القراءات بالإضافة إلى وجوده في البلاغة. وقد تختلف المسميات ولكنها في النهاية تعني بالفصل: القطع سواء في رسم اللفظ أو في المعنى، وتعني بالوصل: الربط سواء بين حروف اللفظ أو بين الألفاظ أو بين معنى ومعنى آخر. ففي علم الخط العربي نرى الفصل والوصل، متمثلا في رسم الكلمة حين تكتب موصولة الحروف أو مفصولا بعضها عن بعض1، في "همزة الوصل

_ 1 الزركشي، البرهان في علوم القرآن، 1/ 417 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط2 بيروت.

وهمزة القطع"، وفي علامات الترقيم: "الفاصلة: لفصل بعض أجزاء الكلام عن بعض، والفصلة المنقوطة: ليقف القارئ عندها وقفة أطول من وقفة الفاصلة، والنقطتان: للتوضيح والتبيين، أما النقطة: وتسمى "الوقفة" فتوضع بعد نهاية الجملة التي تم معناها واستوفت كل مقوماتها"1. وفي البرهان للزركشي "ت 794هـ" فصل بعنوان "في الفصل والوصل" يتكلم فيه عن وصل الكلمات في الخط وعن فصلها يقول: "اعلم أن الموصول في الوجود توصل كلماته في الخط. كما توصل حروف الكلمة الواحدة، والمفصول معنى في الوجود يفصل في الخط كما تفصل كلمة عن كلمة، فمنه "إنما" بالكسر، كله موصول إلا واحدا {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ} 2 لأن حرف "ما" هنا وقع على مفصل، فمنه خير موعود به لأهل الخير ومنه شر موعود به لأهل الشر، فمعنى "ما" مفصول في الوجود والعلم ... "3. وقبل الزركشي كتب الصولي "ت 336هـ" في كتابه "أدب الكُتَّاب" فصلا بعنوان "ما يقطع وما يوصل" من الكلمات، يقول فيه: "يكتبون: أُحِب "أن لا" تفعل كذا، بألف ونون، وتكون "لا" مقطوعة منها وهو أجود؛ لأن القارئ ربما احتاج أن يقف على النون، والكتَّاب على الوقف، فمنهم من يكتب بألف ولام موصولة؛ لأن النون ترغم في اللام إذا نطق بها وكتبت على اللفظ4. ولابن قتيبة "ت 276هـ" حديث في كتابه "أدب الكاتب" عن ألف الوصل في الأسماء "يقول " ... فتكتب "بسم الله" إذا افتتحت بها كتابا أو

_ 1 الكردي، محمد طاهر، تاريخ الخط العربي وآدابه، 416 الطبعة الأولى. 2 الأنعام: 134. 3 الزركشي، البرهان، 1/ 417 وانظر ابن الجزري، النشر في القراءات العشر 1/ 259 باب "اختلافهم في البسملة" تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ط دار المعرفة، بيروت. 4 الصولي، أدب الكتاب، 258 تحقيق محمد بهجة الأثري ط المطبعة السلفية.

ابتدأت بها كلاما بغير ألف ... " وله حديث آخر عن "ألف الفصل" ويقصد بها الألف التي تزاد بعد واو الجمع مخافة التباسها بواو النسق في مثل "ردوا، وكفروا" يقول " ... ألا ترى أنهم لو لم يدخلوا الألف بعد الواو ثم اتصلت بكلام بعدها ظن القارئ أنها "كفر وفعل" و"رد وفعل" فحيزت الواو لما قبلها بألف الفصل، ولما فعلوا ذلك في الأفعال التي تنقطع واوها من الحروف قبلها نحو "ساروا وجاءوا" فعلوا ذلك في الأفعال التي تتصل واوها بالحروف قبلها نحو "كانوا وباتوا" ليكون حكم هذه الواو في كل موضع حكما واحدا"1. وفي النحو يبرز "الفصل والوصل" في درس العطف والتوكيد وعطف البيان والحال وضمائر الفصل وضمائر الوصل وأنواع الجمل وأدوات الربط ومعاني الحروف وغير ذلك من ضوابط. أما علم القراءات فهو عماد "الفصل والوصل". وهو العلم الذي أعار المصطلح للبلاغة لأن المجال متصل، ما كتب يحتاج إلى الفصل أو الوصل ليقرأ بعيدا عن اللبس، وليفهم ويتذوق بعيدا عن الغموض والجفاف. وسنعرض الآن كيف كان علم القراءات مصدرا لمصطلح "الفصل والوصل" وماذا حدث له حين انتقل إلى الدرس البلاغي.

_ 1 ابن قتيبة، أدب الكاتب، 189 تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ط4، 1963م.

3- مصطلح "الفصل والوصل" مصدره علم القراءات: ودليلي على ذلك سبق وجوده في علم القراءات، وتعريف علماء القراءات به، وتشابه المدلول والغرض، فالقراءة أيًّا كان نوعها تحويل للألفاظ المكتوبة إلى أصوات منطوقة تؤدي نفس الدلالات، وفي أداء "نفس الدلالات" تكمن المشكلة، القارئ الذي لا يفهم معنى ما يقرأ ولا يتذوقه، سيقرؤه بطريقة تؤدي إلى إفساد معناه مهما كان عميقا رائعا، والخطيب إذا لم يكن متمكنا من لغته ومن معانيه التي يريد أن يوصلها إلى المستمع سيكون إلقاؤه مساعدا على تفتيت معانيه وتشتيت ذهن من يستمع له. وإذا كان الأمر كذلك في القراءة والخطابة فهو في القرآن أشد أهمية وأعظم ضرورة. يقول الزركشي "ت 794هـ" في كتابه البرهان "النوع الرابع والعشرون"، في معرفة "الوقف والابتداء"، "وهو فن جميل وبه يعرف كيف أداء القرآن، ويترتب على ذلك فوائد كثيرة واستنباطات غزيرة، وبه يتبين معاني الآيات، ويؤمن الاحتزاز في الوقوع في المشكلات، وقد صنف فيه "الزجاج" قديما كتاب "القطع والاستئناف" وابن الأنباري وابن عباد والداني وغيرهم، وقد جاء عن ابن عمر أنهم كانوا يعلمون ما ينبغي أن يوقف عنده كما يتعلمون القرآن، وروى ابن عباس {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} 1 قال: فانقطع الكلام"2. ولم يكن الأمر مقصورا على مؤلفات القراءات، فقد وجدت مصطلحات "الوقف والوصل"، و"القطع والابتداء"، و"الوقف والابتداء"، و"القطع والوصل" في كتب النحو والتفسير، ولن نتعقب هذه الظاهرة ويكفينا بعض الأمثلة، فنجد سيبويه "ت 180هـ" يتكلم عن "الحروف

_ 1 النساء: 83. 2 الزركشي، البرهان، 1/ 342 وما بعدها.

التي يسمع معها الصوت والنفخة في الوقف لا يكونان في الوصل إذا سكن لأنك لا تنظر أن ينبو لسانك ولا يفتر الصوت حتى تبتدئ صوتا"1. والفراء "ت 207هـ" يستعمل مصطلح "القطع والابتداء"2 و"الوقف والاستئناف"3 و"الوقف والوصل"4. والطبري "ت 310هـ" في تفسيره لقوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} 5 يتكلم عن الهاء الزائدة في {يَتَسَنَّهْ} " ... فإن العرب قد تصل الكلام بزائد فتنطق به على نحو منطقها به في حالة القطع، فيكون وصلها إياه وقطعها سواء، وذلك من فعلها دلالة على صحة قراءة من قرأ جميع ذلك بإثبات الهاء في الوصل والوقف ... "6. وابن مجاهد "ت 324هـ" في كتابه "السبعة في القراءات" يورد مصطلح "الوصل والوقف"7، وكذا ابن جني "ت 392هـ" في الخصائص8. أما الزمخشري "ت 538هـ" فقد استعمل مصطلح "الوقف والابتداء"9 و"الوقف والوصل"10 و"القطع والوصل"11. ففي تفسيره لقوله تعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} يقول وقرئ: (ثُمَّ هْوَ) بسكون الهاء كما قيل "عضْد" في "عضُد"، تشبيها

_ 1 سيبويه، الكتاب، 4/ 175 تحقيق عبد السلام هارون ط دار القلم 1966م. 2 الفراء، معاني القرآن، 1/ 184 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ط2 سنة 1980م. 3 الفراء، معاني القرآن 1/ 9. 4 الفراء، معاني القرآن 1/ 172. 5 البقرة: 259. 6 الطبري، جامع البيان، 5/ 463 تحقيق محمود محمد شاكر وأحمد محمد شاكر ط دار المعارف. 7 ابن مجاهد، السبعة في القراءات، 391 تحقيق د. شوقي ضيف ط دار المعارف 1400هـ. 8 ابن جني، الخصائص، 1/ 69، 240، 305 - 2/ 11، 12، 331 وغيرها، تحقيق محمد علي النجار، ط بيروت، دار الهدى للطباعة والنشر. 9 الزمخشري، الكشاف، 4/ 52 ط الحلبي القاهرة 1968م. 10 نفسه 1/ 301، 392 + 2/ 392 + 4/ 152، 180. 11 نفسه 2/ 284.

للمنفصل بالمتصل، وسكون الهاء في "فهو وهو ولهو" أحسن؛ لأن الحرف لا ينطق به وحده فهو كالمتصل"1. ويعرف ابن الجزري "الوقف" بأنه: عبارة عن قطع الصوت على الكلمة زمنا، يتنفس فيه عادة بنية استئناف القراءة، إما بما يلي الحرف الموقوف عليه أو بما قبله ويأتي في رءوس الآي وأوساطها، ولا يأتي في وسط كلمة وفيما اتصل رسما ولا بد من التنفس معه"2. وفي الفرق بين الوقف والقطع والسكت يقول: هذه العبارات جرت عند كثير من المتقدمين مرادا بها الوقف غالبا، ولا يريدون بها غير الوقف إلا مقيدة3". وينقسم الوقف عنده إلى اختياري واضطراري، لأن الكلام إما أن يتم أو لا، فإن تم كان اختياريا، وكونه تاما، لا يخلو إما أن لا يكون له تعلق بما بعده ألبتة، أي: لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى، فهو الوقف الذي اصطلح عليه الأئمة بـ "التمام" لتمامه المطلق، يوقف عليه ويبتدأ بما بعده4 وإن كان له تعلق فلا يخلو هذا التعلق إما أن يكون من جهة المعنى فقط، وهو الوقف المصطلح عليه بـ "الكافي" للاكتفاء عما بعده واستغناء ما بعده عنه. وهو كالتام في جواز الوقف عليه والابتداء بما بعده5، وإن كان التعلق من جهة اللفظ فهو الوقف المصطلح عليه بـ "الحسن" لأنه في نفسه حسن مفيد، يجوز الوقف عليه دون الابتداء بما بعده للتعلق اللفظي6، وإن لم يتم الكلام كان

_ 1 نفسه 3/ 187 والآية من سورة القصص: 61. 2 ابن الجزري، النشر، 1/ 240. 3 نفسه 1/ 238. 4 ومثال الوقف التام: الوقف على {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} والابتداء {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} البقرة: 5، 6، ونحو {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} والابتداء {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} البقرة: 20، 21. 5 ويكثر في الفواصل وغيرها نحو {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وعلى {مِنْ قَبْلِكَ} و {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} البقرة: 3، 4، 5. 6 نحو الوقف على {بِسْمِ اللَّهِ} وعلى {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وعلى {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وعلى {الرَّحْمَنِ} .

الوقف عليه اضطراريا وهو المصطلح عليه بـ "القبيح" ولا يجوز تعمد الوقف عليه إلا لضرورة مِن انقطاع نفس أو نحوه لعدم الفائدة أو لفساد معنى1. فالوقف بأنواعه، أو القطع أو الفصل، إنما يعني شيئا واحدا هو "الوقف" وتراه هنا يدور حول تمام المعنى واكتفائه بنفسه عن أن يوصل بما بعده وإن لم يتوافر التمام المطلق، فالشبيه بالتمام، أي: أن يكون المعنى الثاني له فضل تعلق بالمعنى الأول، وهذا هو "الوقف الكافي" و"الوقف الحسن"، وكأننا نقرأ عن "كمال الانقطاع" و"شبه كمال الانقطاع". ومن الطريف أن يشير ابن الجزري إلى أن القراءة الصحيحة البليغة هي القراءة التي تراعي مواضع الفصل والوصل، بقول: "من الأوقاف ما يتأكد استحبابه لبيان المعنى المقصود، وهو ما لو وصل طرفاه لأوهم معنى غير المراد، فمن التام: الوقف على قوله: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} والابتداء {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} 2؛ لئلا يوهم أن ذلك من قولهم. وقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} عند الجمهور، وعلى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} 3 مع وصله عند الآخرين لما تقدم. وقوله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} والابتداء {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} 4 لئلا يوهم العطف. ونحو قوله: {أَصْحَابُ النَّارِ} والابتداء {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ} 5 لئلا يوهم النعت. وقوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} والابتداء {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} 6 لئلا يوهم وصل "ما" وعطفها ... "7.

_ 1 نحو الوقف على {بِسْمِ} وعلى {الْحَمدُ} وعلى {رَبِّ} و {مَالِكِ يَوْمِ} و {إِيَّاكَ} ... فكل هذا لا يتم عليه كلام ولا يفهم منه معنى، الجزري، النشر، 1/ 225-228. 2 يونس: 65. 3 آل عمران: 7. 4 الزمر: 32. 5 غافر: 6، 7. 6 إبراهيم: 38. 7 النشر: 1/ 232.

1- مرحلة عدم استقرار المصطلح: مر بنا كيف استأثر علم القراءات وعلم الخط العربي بمصطلح "الوقف والابتداء" و"الوقف والوصل" و"الفصل والوصل" ويبدو -فيما أرى- أن هذا ما أخر استقلال مصطلح "الفصل والوصل" في البلاغة بمفهومه المتعارف عليه، فالاهتمام بقراءة القرآن وكيفية كتابته أسبق من تدوين المصطلحات البلاغية والمؤلفات البلاغية نفسها. وإلى أن استقرت الحال على مصطلح "الفصل والوصل" عنوانا على ربط المعاني وقطعها لأغراض بلاغية مرت مرحلة أسميها مرحلة "عدم استقرار المصطلح"، والسبب في ذلك أن النحويين والمفسرين والبلاغيين كانوا متأرجحين بينالأخذ بالمصطلح النحوي "العطف وتركه" والأخذ بمصطلح القراءات "الوصل والقطع" وبين شرح الفكرة بغض البصر عن المصطلح، لأن علم القراءات قد استحوذ على "الفصل والوصلط ولأن المضمون كان في أذهان هؤلاء العلماء أهم من المصطلح، ولنر ما حدث: فسيبويه "ت 180هـ" يتكلم عن الوصل فيقول: " ... لم يجز أن تدخل الفاء، ... ولو قلتها بالواو حسنت"1 ويستعمل مصطلح "قطع" للفصل، يقول "باب بدل المعرفة من النكرة، والمعرفة من المعرفة وقطع المعرفة من المعرفة المبتدأة"2 بينما يستعمل "الفصل" بمعناه اللغوي مع ضمائر الفصلن يقول "باب ما يكون فيه "هو وأنت وأنا ونحن وأخواتهن فصلا"3 وينقل أبو حيان عن سيبويه "جواز عطف المختلفتين بالاستفهام والخبر"4.

_ 1 سيبويه، الكتاب 1/ 399. 2 الكتاب 2/ 176، 178. 3 الكتاب 1/ 394، 395. 4 السبكي، عروس الأفراح 3/ 26، 27 ط السعادة الثانية، 1343هـ.

والفراء "ت 207هـ" يتكلم عن "يُذَبِّحُون" و"ويُذَبِّحُون" يقول: فمعنى الواو أنه ... ، ومعنى طرح الواو كأنه طرح لصفات العذاب ... وإذا كان الخبر من العذاب أو الثواب مجملا في كلمة ثم فسرته فاجعله بغير الواو. وإذا كان أوله غير آخره فبالواو1. ويستعمل للجملة الثانية المستأنفة عبارة "الكلام المكتفى يأتي له جواب". ويشرحه: "لأنه جواب يستغنى أوله عن آخره بالوقفة عليه، فيقال: ماذا قال لك؟ فيقول: قال كذا وكذا، وكأن حسن السكوت يُجَوَّزُ به طرح الفاء ... 2. والجاحظ "ت 255هـ" ينفرد بذكر مصطلح "الفصل والوصل" وأن معرفتهما هي البلاغة"3. وابن وهب "ت 272هـ" في كتابه "البرهان" يفرد بابا بعنوان في "القطع والعطف" ويقصد به الفصل بالجمل المعترضة"4. والمبرد "ت 285هـ" يتكلم عن الفصل بأنه "بغير الواو" والوصل "بالواو" ثم يستعمل مصطلح "القطع والاستئناف" في قوله: "فإذا قلت: مررت بزيدٍ عمرو في الدار، فهو محال، إلا على قطع خبر واسئناف آخر"5. وعن الاستثناء المنقطع يقول الطبري "ت 310هـ" "إنما يكون ذلك

_ 1 الفراء، معاني القرآن 2/ 67، 69. 2 نفسه 1/ 44. 3 الجاحظ، البيان والتبيين 1/ 88 تحقيق عبد السلام هارون، ط الخانجي، الرابعة، 1968م. 4 ابن وهب، البرهان ص124، 125 تحقيق د. حفني شرف مطبعة الرسالة. 5 المبرد، المقتضب 4/ 125 تحقيق محمد عبد الخالق عضيمة، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة 1388هـ.

كذلك في كل موضع حسن أن يوضع فيه مكان "إلا" "لكن"، فيعلم حينئذ انقطاع معنى الثاني عن معنى الأول"1. والصولي "ت 336هـ" يقف أمام بيت امرئ القيس: الله أنجح ما طلبت به ... والبر خير حقيبة الرحل يقول: "ألا ترى أن قوله: "الله أنجح ما طلبت به" كلام مستغن بنفسه وكذلك باقي البيت على أن في البيت واوا عطفت جملة على جملة، وما ليس فيه واو عطف أبلغ2. والجرجاني "ت 392هـ" أبو الحسن علي بن عبد العزيز في شرح ما أنكره العلماء على المتنبي في بيته: جللا كما بي فليك التبريح ... أغذاء ذا الرشأ الأغن الشيح3 يقول: ... وأنكر أصحاب المعاني قطع المصراع الثاني عن الأول في اللفظ والمعنى، فقال المحتج عنه يسوغ الإنكار، لو قطع قبل الإتمام وابتدأ بالثاني وقد غادر من الأول بقية، فأما أن يستوفى مراده ثم ينتقل إلى غيره فليس بعيب ... 4. ويتكلم ابن جني "ت 393هـ" عن "حذف حرف العطف" في نحو

_ 1 الطبري، جامع البيان، 2/ 264. 2 المرزباني، الموشح 36 تحقيق علي محمد البجاوي، نهضة مصر 1965م. 3 ديوانه: "1/ 243" والتبريح: الشدة، والجلل: الأمر العظيم، والرشأ: ولد الظبية، والأغن: الذي في صوته غنة وهي صوت من الخيشوم "هـ ص441" من الوساطة. 4 الجرجاني، الوساطة، 441، 442، تحقيق وشرح محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، ط3 الحلبي.

قولهم: "أكلت لحما سمكا تمرا"1، ويقول: "وأنت لا تقول: جاء القوم وزيد، وقد جاء زيد معهم، لأن الشيء لا يعطف على نفسه"2. والعسكري "ت 295هـ" في "الصناعتين" يخصص الباب العاشر لـ "ذكر المقاطع والقول في الفصل والوصل" ويقصد بالمقاطع الوقوف عند مقاطع الكلام، أما "الفصل والوصل" عنده فله جانبان؛ أحدهما: مرتبط بالوقوف والابتداء في الخطابة، والآخر مرتبط بكتابة الرسائل ووضع الفواصل بين الكلام3. وفي هجوم الباقلاني "ت 403هـ" على البحتري في أبياته: لمحمد بن علي الشرف الذي ... لا يلحظ الجوزاء إلا من عل وسحابة لولا تتابع مُزْنِها ... فينا لراح غير منخل والجود يعذله عليه حاتم ... سرفا ولا جود لمن لم يعذل يقول " ... البيت الأول منقطع عما قبله على ما وصفنا به شعره من قطعه المعاني وفصله بينها وقلة تأتيه لتجويد الخروج والوصل وذلك نقصان في الصناعة وتخلف في البراعة"4. وفي مقدمة كتابه يتكلم عن الوجه الثالث من وجوه إعجاز القرآن قائلا "والوجه الثالث: أنه بديع النظم عجيب التأليف ... فالذي يشمل عليه بديع

_ 1 ابن جني، الخصائص 2/ 280. 2 ابن جني، المحتسب، 2/ 53 ط المجلس الأعلى للشئون الإسلامية. 3 العسكري، الصناعتين 458 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي ط الحلبي. 4 الباقلاني، إعجاز القرآن، 232 ط تحقيق السيد أحمد صقر ط دار المعارف 1963 ويقول المحقق في "غير مبخل" كذا في الأصول، وفي ديوانه: "وسحابة لولا ... غير منخل" وفي عبث الوليد 188 "وسماحة" قال المعري: الرواية بالباء وهو المعنى المتعارف الذي يتردد في الشعر -أي: أنه جاد جودا غزيرا بخل معه الغمام- إذ كان قد يمسك في بعض الأعوام وطالما هلكت السائمة والأنيس لفقد المطر وهذا الممدوح ليس كذلك إذ كان يجود في كل الأوقات والسنين ... ".

نظمه المتضمن للإعجاز وجوه: منها ... و ... وأن كلام الفصحاء يتفاوت تفواتا بينا في الفصل والوصل والعلو والنزول"1. والقاضي عبد الجبار "ت 415هـ" يفسر آية {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} قائلا: "إن الأولى أن يكون "والراسخون" عطفا على ما تقدم"2، ويردد الشريف المرتضى "ت 456هـ" هذا الرأى في نفس الآية الكريمة3، وابن رشيق القيرواني "ت 456هـ" يتكلم عن المقاطع والمطالع قائلا: اختلف أهل المعرفة في المقاطع والمطالع، فقال بعضهم: هي الفصول والوصول بعينها، فالمقاطع: أواخر الفصول والمطالع أوائل الوصول -وهذا القول هو الظاهر من فحوى الكلام، والفصل آخر جزء من القسيم الثاني: وقال غيرهم: المقاطع منقطع الأبيات، وهي القوافي، والمطالع أوائل الأبيات4". أقول: إن مرحلة عدم استقرار المصطلح قد استمرت طوال فترة ما قبل الجرجاني، والذي أبهم المسألة أن الفصل بما تغذى به من معان في علم القراءات كان شِبْهَ واضح في أذهان المتحدثين عنه في البلاغة، لكن لم يتصد واحد منهم ويفصله عن معانيه في علم القراءات وعلم الخط، تلك التي لا تحتاج إليها بلاغة الأسلوب، ثم يحاول رسم الحدود وإبراز المضمون، لم يفعل ذلك سوى عبد القاهر الجرجاني. حتى ابن سنان الخفاجي "ت 466هـ" معاصر الجرجاني، راح يدافع عن أن البلاغة قد لا تكون في معرفة الفصل

_ 1 الباقلاني، إعجاز القرآن 38. 2 القاضي عبد الجبار، المغني 16/ 378 تحقيق أمين الخولي ط وزارة الثقافة والإرشاد القومي، 1960م. 3 الشريف المرتضي، أمالي المرتضي 2/ 94، 96 ط السعادة. 4 ابن رشيق القيرواني، العمدة 1/ 215 تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ط بيروت الرابعة 1972م.

والوصل1 ثم يشير من بعد إلى أن أحد الأصول في حسن التأليف وضع الألفاظ موضعها حقيقة ... فمن وضع الألفاظ موضعها ألا يكون في الكلام تقديم وتأخير ... أو سلوك الضرورات حتى يفصل فيه بين ما يقبح فصله في لغة العرب كالصلة والموصول وما أشبههما وبين الصلة والموصوف، والأمر وجوابه ... 2. وتناول الجرجاني "ت 471هـ" مصطلح الفصل والوصل. 2- مرحلة استقرار المصطلح: جعل الجرجاني المصطلح النحوي قاعدة له، وانطلق منها إلى رحاب البلاغة مطبقا منهجه في "النظم"، فحافظ على قواعد "عطف النسق" واستمد منها ما يخدم "الفصل والوصل". فالباب المخصص لهذا الحديث في كتابه "الدلائل" مصدر بـ "القول في الفصل والوصل"3 ومقدمته توضح أن الذي ينبغي "أن يصنع في الجمل من عطف بعضها على بعض، أو ترك العطف فيها والمجيء بها منثورة، تستأنف واحدة منها بعد الأخرى، من أسرار البلاغة4 تلك التي لا يفهمها إلا "الأعراب الخلص" و"الأقوام طبعوا على البلاغة" و"الأفراد في ذوق الكلام" أما الذين إذا "رأوا جملة قد ترك فيها العطف قالوا: إن الكلام قد استؤنف وقطع عما قبله لا تطلب أنفسهم منه زيادة على ذلك، قد غفلوا غفلة شديدة"5. فـ "الفصل والوصل" هو "العطف وترك العطف" من الوجهة البلاغية -وهذه مرحلة دقيقة يمر بها المصطلح البلاغي، فالصل والوصل قد

_ 1 ابن سنان الخفاجي، سر الفصاحة، ص50 تحقيق عبد المتعال الصعيدي ط صبيح 1969م. 2 نفسه 101. 3 الجرجاني، دلائل الإعجاز 222، تحقيق شاكر، ط المدني، الأولى، 1984م. 4 نفسه والصفحة. 5 نفسه 231.

انطلق -مستندا إلى العطف النحوي- يستشف الأسرار الجمالية للتراكيب والمفردات. وقد التزم الجرجاني أن ينطلق من القاعدة النحوية، ولكنه لم يسمح لها أن تستولي على مساحة أكبر من المقدر لها. أ- الأساس النحوي في المصطلح البلاغي عند الجرجاني: يقول: "واعلم أن سبيلنا أن ننظر إلى فائدة العطف في المفرد ثم نعود إلى الجملة فننظر فيها ونتعرف حالها ... "1 و"معلوم أن فائدة العطف في المفرد أن يشرك الثاني في إعراب الأول، وأنه إذا أشركه في إعرابه فقد أشركه في حكم ذلك الإعراب، نحو أن المعطوف على المرفوع بأنه فاعل مثله ... "2 و"إذا كان هذا أصله في المفرد فإن الجمل المعطوف بعضها على بعض على ضربين ... 3 و"اعلم أنه إنما يعرض الإشكال في الواو دون غيرها من حروف العطف، وذاك لأن تلك تفيد مع الإشراك معاني مثل أن "الفاء" توجب الترتيب من غير تراخ و"ثم" ... 4 و"اعلم أنه كما كان في الأسماء ... ، وذلك كالصفة التي لا تحتاج في اتصالها بالموصوف إلى شيء يصلها به، وكالتأكيد الذي لا يفتقر كذلك إلى ما يصله بالمؤكد، كذلك يكون في الجمل ... 5. وفي هذه النصوص ما يكفي لإثبات التزام الجرجاني بالأساس النحوي لدراسة الفصل والوصل، ومهما يكن من صرامة القواعد وجورها أحيانا فغالبا ما تضفي على الدرس سمة الوضوح ومعرفة الحدود فيسهل الفهم.

_ 1 الدلائل 220. 2 الدلائل 220 و221. 3 الدلائل 223. 4 الدلائل 224. 5 الدلائل 220-227.

ب- الأساس الفني في المصطلح البلاغي عند الجرجاني: لم يغفل الجرجاني مناسبة إلا ويوضح أن الأمر ليس "عطف جملة على جملة"، وإنما هو وصل معنى بمعنى لاعتبارات جمالية. ففصل معنى عن آخر، ووصل معنى بآخر يحتاج إلى أقوام ذوي ذوق، هم به أفراد، ويحتاج إل تأمل ونظر، لذا نراه في تحليله الجمالي يستند إلى معرفة "الجاري في العرف والعادة" وإلى "ما يحرك السامعين لأن يعملوا" و"يحرك السامع لأن يسأل" وإلى أن "المعاني كالأشخاص" بالإضافة إلى صبره المعروف في تحليل خيوط نسيج كل تركيب. جـ- المصطلحات التي وردت في بحث الجرجاني: لا يفوتني أن أوضح هنا أن الجرجاني كان متكلما أشعريا نحويا بلاغيا، وهذا -مع أسباب أخرى- أدى إلى وجود الجانب الجدلي والجانب التعليمي في تحليله للنكت البلاغية، وقد خففت براعته من جفاف الجانب التعليمي، واستمر هذا بدرجة مقبولة عند الزمخشري، حتى إذا جاءت المدرسة السكاكية انطلق الجفاف لا يلوي على شيء. فترى الجرجاني يصدر معظم فقراته بـ "اعلم أن" ويكثر من سوق الشواهد على ما يقول، ثم ينهى شرحه بقوله " ... فاعرفه" أو " ... فاعرف ذلك" وفي نهاية الفصل يلخص ما عرضه في صفحات من فصل ووصل قائلا: "وإذا قد عرفت هذه الأصول والقوانين في شأن فصل الجمل ووصلها فاعلم أنَّا ... " ثم يعيد تلخيص التلخيص قائلا "فترك العطف يكون إما للاتصال إلى الغاية، أو للاتصال إلى الغاية، والعطف لما هو واسطة بين الأمرين، وكان له حال بين حاليين فاعرفه". أرأيت وقد خص الجرجاني الفصل والوصل بـ "العطف وترك العطف" فصار

المصطلح علما على ذلك. وتحددت معالمه وأبقى على مصطلح "القطع" ومصطلح "الاستئناف" وعرف الاستئناف بأنه جعل الكلام جوابا في التقدير، ثم حدد سبب ترك العطف بأنه، يكون إما "للاتصال إلى الغاية" وهذا ما سمي بعد ذلك بـ "كمال الاتصال" و"الانفصال إلى الغاية" وهذا ما سمي بـ "كمال الانفصال" وحدد سبب العطف لما هو واسطة بين الأمرين وكان له حال بين حالتين وهذا ما سمي بعد ذلك بـ "التوسط بين الكمالين". 3- مرحلة تشعب المصطلح: ليست القضية تشعب المصطلح أو ندرته، إنما هي مدى حاجتنا إلى المصطلح وإلى تشعبه. أما الجرجاني "ت 471هـ" فلم يشغل نفسه في البحث عن مصطلحات بقدر ما انشغل بما وراء وصل الموصول وفصل المفصول من أغراض ومبررات منطقية ونفسية وجمالية، حتى القانون الذي وضعه في النهاية لم يضع له مصطلحا، مكتفيا بتخصيص المصطلح العام "الفصل والوصل" بالموضوع وما يندرج تحته من أفكار. وجاء الزمخشري ولم يكن يفصل بين "الفصل والوصل" في القراءات و"الفصل والوصل" في البلاغة. ووضح ذلك في تفسيره لقوله تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} 1 إذ رأى أن "الفصل: التمييز بين الشيئين، ومعنى فصل الخطاب: البين من الكلام الملخص الذي يتبينه من يخاطب به لا يلتبس عليه، ومن فصل الخطاب وملخصه أن لا يخطئ صاحبه مظان الفصل والوصل، فلا يقف في كلمة الشهادة على المستثنى منه، ولا يتلو قوله: {وَيْلٌ لِلْمُصَلِّين} 2 إلا موصولا بما بعده. ولا {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ} 3 حتى يصله بقوله: {لَا تَعْلَمُونَ} ونحو ذلك، وكذلك مظان

_ 1 ص: 20. 2 الماعون: 4. 3 النور: 19.

العطف وتركه، والإضمار والإظهار والحذف والتكرار، وإن شئت كان الفصل بمعنى الفاصل من الخطاب الذي يفصل بين الصحيح والفاسد والحق والباطل والصواب والخطأ1. وكأنه يرى أن ما يؤدي فصله إلى فساد وخلل وجب فيه الوصل، وما يؤدي وصله إلى فساد وخلل وجب فيه الفصل، في القراءات كان أو في البلاغة. ولم يكن الزمخشري -شأنه شأن الجرجاني- في أثناء تطبيقه الفني لنظرية النظم منشغلا بالبحث عن "مصطلح" لأنه لا حاجة له فيه. وحين انتهت ممارسة التطبيق على يد الزمخشري، صارت مهمة السكاكي -الذي لم يجد في نفسه قدرة الجرجاني أو الزمخشري على الإبداع والإمتاع2- أن ينظم ويرتب هذا البناء الشامخ. ومن طبيعة التنظيم والترتيب أن تجمع الجزئيات بعضها إلى بعض، وكذا الأشباه والنظائر ويستغنى عن الفضول والاستطراد وهنا يحتاج الأمر إلى المصطلح الذي يوجز الإطناب ويوفر الجهد ويساعد على الاستذكار، وقد كان. وأطلق السكاكي "ت 626هـ" مصطلح "كمال الاتصال" على ما سماه الجرجاني "الاتصال إلى الغاية" وذلك إذا كانت الجملة الثانية موضحة للأولى أو مبينة لها أو مؤكدة لها ومقررة، ويجب فيها الفصل3 وأبقى على مصطلح "القطع" وجعله نوعين؛ أحدهما: أن يكون للكلام السابق حكم وأنت لا تريد أن تشركه الثاني في ذلك فتقطع، وثانيهما: أن يكون الكلام السابق بفحواه كالمورد للسؤال، فتنزل ذلك منزلة الواقع ويطلب بهذا الثاني وقوعه جوابا له فيقطع عن الكلام السابق لذلك -ثم قسم النوع الأول من

_ 1 الكشاف، 3/ 365. 2 د. أحمد مطلوب، البلاغة عند السكاكي، 217 وما بعدها ط العراق، بغداد. 3 السكاكي، المفتاح 141 ط الحلبي الثانية، 1990م.

القطع إلى قطع على وجه الاحتياط وقطع على وجه الوجوب، وأبقى على الثاني اسمه، وهو "الاستئناف"1. وأطلق مصطلح "كمال الانقطاع" على ما سماه الجرجاني "الانفصال إلى الغاية" وهو أن تختلف الجملتان خبرًا وطلبًا أو أن تتفقا خبرًا2. وأطلق مصطلح "التوسط بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع" على ما سماه الجرجاني "ما هو واسطة بين الأمرين، وكان له حال بين الحالين" وذلك إذا اختلفت الجملتان خبرًا وطلبًا"3. وخرج ابن الأثير "ت 637هـ" عن دائرة "الفصل والوصل" وكمال الاتصال وكمال الانقطاع، لأنه قد اعتد بكتاب "سر الفصاحة" لابن سنان الخفاجي "ت 466هـ" الذي كان يبحث في شروط الفصاحة في اللفظة الواحدة وشروطها في الألفاظ، وهاجم من يرى البلاغة في معرفة الفصل من الوصل4 فقط وفي حديث ابن الاثير عن "الحروف العاطفة والجارة" يقول: "هذا موضع لطيف المأخذ دقيق المغزى وما رأيت أحدا من علماء هذه الصناعة تعرض له، وما أقول إنهم لم يعرفوه"5! ثم يحلل قوله تعالى: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} 6 مستعملا للفصل عبارة "حذف الواو" وللوصل "إثباتها"7. وجاء القزويني "ت 739هـ" وهو رجل سيطرت عليه النزعة التعليمية، فأحال البلاغة إلى قواعد يحفظها الدارسون8 فأضاف مصطلحين

_ 1 السكاكي، المفتاح 142. 2 نفسه والصفحة. 3 نفسه 112. 4 ابن سنان، سر الفصاحة، وانظر ص50. 5 ابن الأثير، المثل السائر 2/ 235 تحقيق الحوفي وطبانة ط 1959م. 6 الشعراء: 79-81، والمثل السائر 2/ 235، 236. 7 المثل السائر 2/ 329. 8 د. أحمد مطلوب، القزويني وشراح التلخيص 283 ط1 سنة 1967 بغداد.

جديدين هما "شبه كمال الاتصال" و"شبه كمال الانقطاع" وذلك في أثناء حديثه في تلخيصه عن مواطن الفصل يقول: "فإن كان للأولى حكم لم يقصد إعطاؤه للثانية فالفصل نحو {وَإِذَا خَلَوْا} الآية، وإلا، فإن كان بينهما كمال الانقطاع بلا إيهام أو كمال الاتصال أو شبه أحدهما، فكذلك، وإلا، فالوصل1 ويقصد بـ "شبه كمال الانقطاع" أن تكون الثانية بمنزلة المنقطعة عن الأولى لكون عطفها عليها موهمًا لعطفها على غيرها2 ويقصد بـ "شبه كمال الاتصال" أن تكون الثانية بمنزلة المتصلة بالأولى لكونها جوابا عن سؤال اقتضته الأولى3. والطريف أن القزويني لم يلتزم بهذين المصطلحين في كتاب "الإيضاح" إنما الذي روج لهما هم شراح التلخيص4. وبهذا صار لدينا مصطلح "الفصل والوصل" وخمسة مصطلحات تشعبت منه. وأرى أننا لسنا بحاجة إلى هذه المصطلحات الخمسة فهي ليست جامعة مانعة، وقد تشكلت تلبية للحاجة التعليمية، وكانت ترجمة لمنهج البلاغة المتفلسفة العقيمة، وأرى أن نقتصر منها على المصطلح الأساسي "الفصل والوصل" ويكون: الفصل: هو قطع معنى عن معنى بأداة لغرض بلاغي. والوصل: هو ربط معنى بمعنى بأداة لغرض بلاغي.

_ 1 شروح التلخيص، متن التلخيص 3/ 21 ط السعادة الثانية، 1343هـ. 2 القزويني، الإيضاح 254 تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي، ط الخامسة دار الكتاب اللبناني، 1980م. 3 نفسه 255. 4 شروح التلخيص 3/ 21 وما بعدها.

الفصل الأول: الفصل والوصل قبل الجرجاني

الفصل الأول: الفصل والوصل قبل الجرجاني مدخل ... الفصل الأول: الفصل والوصل قبل الجرجاني: من الطبيعي ألا تكون مادة "الفصل والوصل" من ابتكارات الجرجاني، إنما وجد الرجل تراثا مبعثرا فجمع شتاته وضم أوصاله، وأضاف ما أضاف حتى استوى فن "الفصل والوصل" شكلا بارزا له أبعاده وبناء متماسكا له قسماته. وقد رجع الجرجاني في كتابيه "الدلائل" و"الأسرار" إلى العديد من العلماء ومنهم من تكلم في "الفصل والوصل" من مثل سيبويه والمبرد والجاحظ والعسكري والقاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني والصولي، ومعهم غيرهم1. وسأعرض هنا للجهد الذي بذله بعض السابقين للجرجاني "ت 471هـ" من نحويين من مثل سيبويه "ت 180هـ" والفراء "ت 207هـ" والمبرد "ت 285هـ" وابن جني "ت 392هـ" وبلاغيين ونقاد مثل: الجاحظ "ت 255هـ" وابن وهب إسحاق بن إبراهيم "ت 272هـ" والصولي "ت 336هـ" والعسكري أبي هلال "ت 395هـ" وابن سنان الخفاجي "ت 466هـ" ومفسرين مثل الطبري "ت 310هـ" والشريف المرتضى "ت 436هـ" ومتكلمين مثل القاضي عبد الجبار "ت 415هـ". ولا أقصد إلى تعقب التأثير والتأثر فيما بين هؤلاء أو فيما بين بعض منهم وعبد القاهر الجرجاني، فالذي يهمني رصد ما يمكن رصده من شذرات "الفصل والوصل" التي تبعثرت في مختلف البحوث ثم تحولت بطريق مباشر أو غير مباشر -على يد الجرجاني إلى شكل بارز وبناء متماسك يتميز بظهور روح الجرجاني وفنه وفكره.

_ 1 انظر د. منير سلطان، إعجاز القرآن بين المعتزلة والأشاعرة، 121 ط3 منشأة المعارف بالإسكندرية.

أولا: في الفصل

أولا: في الفصل: أ- قد يكون الفصل في موضع أبلغ من الوصل: يروي المرزباني عن الصولي "ت 336هـ" تعليقه على بيت امرئ القيس: الله أنجح ما طلبت به ... والبر خير حقيبة الرحل يقول الصولي: "ألا ترى أن قوله: "الله أنجح ما طلبت به" كلام مستغن بنفسه، وكذلك باقي البيت، على أن في البيت واو عطف عطفت جملة على جملة، وما ليس فيه واو عطف أبلغ في هذا وأجود، وهو مثل قوله النابغة: ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المذهب1 فقوله في أول البيت: كلام مستغن بنفسه، وكذلك آخره، حتى لو ابتدأ مبتدئ فقال: "أي الرجال المهذب" لاعتذار أو غيره لأتى بكلام مستوفى لا يحتاج إلى سواه"2. ب- للفصل أدوات منها: -ضمير الفصل يقول سيبويه في باب ما يكون فيه "هو وأنت وأنا ونحن وأخواتهن، فصلا": "اعلم أنهن لا يكن فصلا إلا في الفعل ولا تكون كذلك إلا في كل اسم، الاسم الذي بعده بمنزلته في حال الابتداء، واحتياجه إلى ما بعده كاحتياجه إليه في الابتداء، إعلامًا بأنه قد فصل الاسم، وإنه فيما ينتظر المحدث ويتوقعه منه، مما لا بد له أن يذكره المحدث لأنك إذا ابتدأت الاسم فإنما تبتدئه لما

_ 1 الشعث: التفرق والفساد، تلمه: تجمعه وتصلحه. الديوان 17، هامش الموشح 36. 2 المرزباني، الموشح 36.

بعده، فإذا ابتدأت فقد وجب عليك مذكور بعد المبتدأ لا بد منه وإلا فسد الكلام"1. وضرب المبرد مثلا لضمير الفصل "كان زيد هو العاقل"2 ويسمه الكوفيون "العماد" لأنه يعتمد عليه في الفائدة، إذ تبين أن الثاني خبر لا تابع3 وضرب الفراء مثلا لذلك قوله تعالى في سورة الأنفال: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ... } 4 أما الطبري فضرب مثلا آخر. قوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} 5. -الجملة المعترضة: ويفرد ابن جني للجملة المعترضة بابًا في الخصائص فهي من طرق الفصل بين أركان الجملة الواحدة، وبين الجملة والجملة يقول: اعلم أن هذا القبيل من العلم كثير قد جاء في القرآن وفصيح الشعر ومنثور الكلام، وهو جار عندهم مجرى التوكيد، فلذلك لا يشنع عليهم ولا يستنكر عندهم أن يعترض به بين الفعل وفاعله، وغير ذلك، مما لا يجوز الفصل فيه بغيره إلا شاذا أو متأولا، قال سبحانه وتعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ} 6 فهذا فيه اعتراضان، أحدهما قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} ... والآخر قوله تعالى: {لَوْ تَعْلَمُونَ} ، فذانك

_ 1 الكتاب، 1/ 394 وانظر أيضا 1/ 395. 2 المبرد، المقتضب 4/ 103، 104، 105. 3 انظر ابن هشام، المغني 2/ 104 "شرح حال الضمير المسمى فصلا أو عمادا" ط الحلبي، وابن الأنباري، الإنصاف في مسائل الخلاف 2/ 706 تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، وعباس حسن، النحو الوافي 1/ 242 ط دار المعارف، الخامسة. 4 سورة الأنفال: 32. والفراء، معاني القرآن 1/ 409 وانظر 1/ 51، 52. 5 سورة البقرة: 85. والطبري، جامع البيان 2/ 312، 313، 374 ويسميه الطبري "العماد". 6 الواقعة: 75-77.

اعتراضان كما ترى، ولو جاء الكلام غير معترض فيه لوجب أن يكون، فلا أقسم بمواقع النجوم، إنه لقرآن كريم، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم1." ومثله ما أشار إليه ابن وهب صاحب البرهان في باب "في القطع والعطف" ويقصد به الفصل بالجمل المعترضة يقول: "مما قطع الكلام فيه وأخذ في فن آخر من القول ثم عطف عليه بتمام القول الأول، قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ ... } 2 ثم قطع وأخذ في كلام آخر، فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} ثم رجع إلى الكلام الأول فقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3 ومثل ذلك ما حكاه عن لقمان في وصيته لابنه4. الاستثناء المنقطع: ويذكر الطبري في تفسيره لقوله تعالى: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} 5 يقول: ويخرج "بإلا" ما بعدها من معنى ما قبلها ومن صفته وإن كان كل واحد منهما من غير شكل الآخر ومن غير نوعه، ويسمى ذلك بعض أهل العربية "استثناء منقطعًا" لانقطاع الكلام الذي يأتي بعد "إلا" عن معنى ما قبلها، وإنما يكون ذلك في كل موضع حسن أن يوضع فيه مكان "إلا" "لكن" فيعلم حينئذ انقطاع معنى الثاني عن معنى الأول، ألا ترى أنك إذا قلت: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} ثم أردت وضع "لكن" مكان "إلا" وجدت الكلام صحيحا معناه صحته وفيه "إلا" وذلك إذا قلت: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب لكن أماني يعني لكنهم يتمنون،

_ 1 ابن جني، الخصائص 1/ 335 وما بعدها. 2 المائدة: 3، والمنخنقة: التي خنقوها حتى ماتت أو انخنقت بسبب، والموقوذة: التي أثخنوها ضربًا بعصا أو حجر متى ماتت. 3 ابن وهب، البرهان في وجوه البيان 124، 125. 4 نفسه 73. 5 البقرة: 78.

وكذلك يتبعون الظن، وكذلك جميع هذا النوع من الكلام على ما وصفنا"1. طرح الواو وهو المشهور. حـ- قد يكون الفصل ... للتفسير: وذكره الفراء في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} 2 وقد جاءت جملة "يذبحون" مرة بالواو ومتصلة بما قبلها3 وأخرى بدون واو ومنفصلة عما قبلها، ويفسر الفراء معنى طرح الواو: كأنه طرح لصفات العذاب، وإذا كان الخبر من العذاب، وإذا كان الخبر من العذاب أو الثواب مجملا في كلمة ثم فسرته فاجعله بغير الواو، وإذا كان أوله غير آخره فبالواو"4. للإيجاز: وذلك بإبدال ما هو أعرف بما هو أعرف منه، يقول سيبويه في باب "بدل المعرفة من النكرة، والمعرفة من المعرفة، وقطع المعرفة من المعرفة مبتدأة" ... أما بدل المعرفة من النكرة فقولك: "مررت برجل عبد الله" فكأنه قيل له: بمن مررت؟ أو يظن أنه يقال له ذلك، فأبدل مكانه ما هو أعرف منه، ومثل ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ} 5 ... ، وكذلك قول الشاعر:

_ 1 الطبري، جامع البيان 2/ 264. 2 البقرة: 49. 3 إبراهيم: 6. 4 الفراء، معاني القرآن 2/ 68، 69. 5 الشورى: 52، 53.

ولقد خبطن بيوت يشكر خبطة ... أخوالنا وهم بنو الأعمام1 كأنه حين قال: خبطن بيوت يشكر، قيل: ما هم؟ فقال: أخوالنا وهم بنو الأعمام، وقد يكون: مررت بعبد الله أخوك، كأنه قيل له من هو؟ أو من عبد الله؟ فقال "أخوك" ... ، وتقول: ومررت برجل الأسد شدة، كأنك قلت: مررت برجل كامل، لأنك أردت أن ترفع شأنه، وإن شئت استأنفت، كأنه قيل له: ما هو؟ 2. ومثله ما ذكره الفراء في قوله تعالى: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} 3 فإسقاط الفاء من {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ} وهو كثير في القرآن بغير الفاء، وذلك لأنه جواب يستغني أوله عن آخره بالوقفة عليه فيقال: ماذا قال لك؟ فيقول القائل: قال كذا كذا. فكأن حسن السكوت يجوز معه طرح الفاء وأنت تراه في رءوس الآيات لأنها فصول، حسنًا، ومن ذلك قوله تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ، قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا ... } 4 وقوله تعالى حكاية عن فرعون: {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ، قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} 5 وغير ذلك فيما لا أحصيه6. ويرى الجاحظ: أن آية {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} 7 جواب لقول القائل: خبرني عن أهل الجنة بأي شيء يتشاغلون؟ 8.

_ 1 "بعض أبيات القصيدة في الأصمعيات 156، والعقد 5/ 220 وليس منها، وانظر سمط اللآلئ 341 - خبطن: يعني الخيل وفرسانها، والخبط: الضرب الشديد والمراد بالبيوت القبائل والأحياء، وإنما ذكر العمومة لأنه من تغلب بن وائل، ويشكر من بكر بن وائل" هامش الكتاب 2/ 16. 2 الكتاب 2/ 14-16. 3 البقرة: 67. 4 الذاريات: 31، 32. 5 الشعراء: 24، 25. 6 الفراء، معاني القرآن 1/ 44. 7 يس: 55. 8 الجاحظ، الحيوان 4/ 276.

ويضرب المبرد لذلك مثلا: آية {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1 فكأنه قيل: فإذا قال لكما ما شانكما؟ فقولا ذلك2. والفصل للإيجاز يكون بين المفردات أيضا: ويكمل الفراء حديثه في الكلام المكتفي يأتي له جواب متمثلا في المفردات أيضا، في آية التوبة {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ... } 3 وذلك بعد قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ... } 4 ثم يعلق: "فاعرف بما جرى تفسير ما بقي، فإنه لا يأتي إلا على الذي أنبأتك به من الفصول، أو الكلام المكتفى يأتي له جواب5. ويذكر ابن جني مثلا آخر لحذف الواو بين الذي هو أعرف والذي هو أعرف منه، (البدل والمبدل منه) ... ما أنشده ابن الأعرابي: وكيف لا أبكي على علاتي ... صبائحي غبائقي قيلاتي6 أي: صبائحي وغبائقي وقيلاتي. ويجوز أن يكون بدلا، أي: كيف لا أبكي على علاتي التي هي صبائحي وهي غبائقي وهي قيلاتي، فيكون هذا من بدل الكل7. للإيضاح من ذلك ما قاله الشريف المرتضى في "أماليه"، في تأويل قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} يقول: ويمكن أيضا على هذا الوجه مع عطف "الراسخين" على ما تقدم وإثبات العلم بالمتشابه لهم، أن يكون قوله: "يقول آمنا به" استئناف جملة استغني فيها عن حرف العطف، كما استغني في قوله: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ} 8 ونحو ذلك مما للجملة الثانية فيه التباس في الجملة الأولى، فيستغنى به عن حرف العطف، ولو عطف بحرف العطف، كان يُنَزِّل الملتبس منزلة غير الملتبس9.

_ 1 الشعراء: 16. 2 ابن الزملكاني، التبيان في علم البيان 63 تحقيق د. أحمد مطلوب ط بغداد 1964م. 3 التوبة: 112. 4 التوبة: 111. 5 الفراء، معاني القرآن 1/ 43-44. 6 العلة: الشرب بعد الشرب، أو ما يتلهى به "القاموس المحيط: مادة: العل" 4/ 20 والصبوح: ما يشرب أو يؤكل في الصباح وهو خلاف الغبوق، والقيلات ما يشرب في وسط النهار. 7 ابن جني، الخصائص 1/ 335 وما بعدها. 8 الكهف: 22 {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ... } . 9 الشريف المرتضى، أمال المرتضى 2/ 94، 96 ط السعادة.

في الوصل

2 في الوصل: "أ" للواو موضع لا تصلح فيه الفاء: يقول سيبويه في وصل المفردات، لو قلت: "مررت بزيد أخيك وصاحبك" كان حسنًا، ولو قلت: مررت بزيد أخيك فصاحبك، والصاحب زيد لم يجز، وكذلك لو قلت: زيد أخوك فصاحبك ذاهب، لم يجز، ولو قلتها بالواو حسنت، كما أنشد كثير من العرب لأمية ابن أبي عائذ: ويأوي إلى نسوة عطل ... وشعث مراضيع مثل السعالي1 ولو قلت: فشعث، قَبُح2.

_ 1 وصف صائدا يسعى لعياله فيعزب عن نسائه في طلب الوحش ثم يأوي إليهن، والعطل: جمع عاطل وهي التي لا شيء لها، أو التي لا حلي لها والثاني أوفق، لا كما زعم البغدادي، والشعث: جمع شعثاء، وهي التي تغير شعرها وتلبد لبعد تعهده بالدهن. والمراضيع: جمع مرضاع، وهي الكثيرة الإرضاع، والسعالي جمع سعلاة، وهي الغول. والشاهد فيه عطف "شعث" على "عطل" بالواو لا بالفاء لأنها تفيد التفرقة. هامش الكتاب بسيبويه. تحقيق هارون 1/ 399. 2 الكتاب 1/ 399.

ويعلل "الأعلم" سبب الحسن مع وجود الواو، وسبب القبح مع دخول الفاء لقوله: "حمل شعث على عطل لأنهما صفتان ثابتتان معا في الموصوف. فعطفت إحداهما على الأخرى بالواو، لأن الواو معناها الاجتماع ولو عطفت بالفاء لم يجز لأن الفاء للتفرقة1. "ب" الجملة تأتي موصولة مرة ومفصولة أخرى للتفسير: وذلك في قوله تعالى في سورة إبراهيم: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} 2. فجملة "يذبحون" جاءت مرة بالواو ومتصلة بما قبلها، وأخرى بدون الواو ومنفصلة عما قبلها3، ويفسر الفراء ذلك بقوله: "فمعنى الواو أنه يمسهم العذاب غير التذبيح، كأنه قال: يعذبونكم بغير الذبح وبالذبح، ومعنى طرح الواو، كأنه طرح لصفات العذاب، وإذا كان الخبر من العذاب أو الثواب مجملا في كلمة ثم فسرته، فاجعله بغير الواو، وإذا كان أوله غير آخره فبالواو4، ويضرب مثلا آخر للمجمل قوله عز وجل: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} 5، فالآثام فيه نية العذاب قليله وكثيره، ثم فسره بغير الواو فقال: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 6، ولو كان غير مجمل لم يكن ما ليس به تفسيرا له، ألا ترى أنك تقول: عندي دابتان بغل وبرذون ولا يجوز: عندي دابتان وبغل وبرذون، وأنت تريد تفسير الدابتين بالبغل والبرذون. ففي هذا كفاية عما نترك من ذلك فقس عليه7.

_ 1 الكتاب 1/ 199 ط الأميرية 1318هـ. 2 إبراهيم: 6. 3 البقرة: 49، {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ... } . 4 الفراء، معاني القرآن 2/ 68 و69. 5 الفرقان: 68. 6 الفرقان: 69. 7 معاني القرآن 2/ 69.

"ج" جواز وصل الجملة الخبرية بالجملة الإنشائية خلافًا للمشهور: ذكر السبكي أن الشيخ "أبا حيان" نقل عن سيبويه جواز عطف المختلفتين بالاستفهام والخبر مثل: هذا زيد ومن عمرو؟ وقد تكلموا على ذلك في قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} 1، ويعقب السبكي "لا خلاف بين الفريقين لأنه عند من جوزه يجوز لغة ولا يجوز بلاغة"2. ويعلق الدكتور عبد القادر حسين "ولا ندري لماذا لم يأخذ البلاغيون بجواز عطف الإنشاء على الخبر أو العكس، وإن وجدوا شيئا من ذلك أولوه، وقدروا عطف خبر على خبر أو إنشاء على إنشاء3، ولماذا لم يكن شأن البلاغيين شأن النحاة في قبول هذا الرأي ولو كان البلاغيون رفضوا هذا النوع لأنهم لم يجدوا إلا أمثلة من صنع النحاة لالتمسوا لهم العذر في هذا الرفض. ولكن القرآن شاهد بهذه الآية على وجود هذه الصورة، ولا نقتنع بقول السبكي: إن هذا يجوز لغة ولا يجوز بلاغة ... وقد ساورني الشك أول الامر على اعتبار أن الواو في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} ربما تكون للحال وليست للعطف فتخرج الآية عن صحة الاستدلال بها في عطف الخبر على الإنشاء ... ففتشت في تفسير الطبري والكشاف والقرطبي والبيضاوي فما وجدت أحدًا قد عرض لهذه الواو في كونها للعطف أو للحال"4. "د" قد يكون الوصل - لأمن اللبس: ذكر الجاحظ القصة المشهورة عن أبي بكر. قال: ومر رجل بأبي بكر رضي الله تعالى عنه ومعه ثوب. فقال: أتبيع الثوب؟ فقال: لا عافاك الله، فقال

_ 1 الأنعام: 121. 2 السبكي، عروس الأفراح 3/ 27. 3 رجع د. عبد القادر إلى "السيالكوني" على المطول 20 و21 ط استانبول. 4 د. عبد القادر حسين، أثر النحاة في البحث البلاغي 97 و98 ط دار نهضة مصر للطبع والنشر.

أبو بكر: لقد علمتم، لو كنتم تعلمون، قل: لا وعافاك الله1، وكذا قصة المجاشعي، أن الحسن البصري كان يخطب في دم كان فيهم، فأجابه رجل بأن قال: قد تركت ذلك لله ولوجوهكم، فقال الحسن: لا تقل هكذا، بل قل: لله ثم لوجوهكم وآجرك الله2. - للتمييز تشريفًا: ولا يبيح ابن جني عطف الخاص على العام إلا لميزة يتمتع بها ذلك الخاص، لأنه يدخل في جملة العام، والشيء لا يعطف على نفسه، يقول: "وأنت لا تقول: جاء القوم وزيد، وقد جاء زيد معهم، لأن الشيء لا يعطف على نفسه. كذلك قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} 3 لا يكون جبريل وميكال داخلين في جملة الملائكة، لأنهما معطوفان عليهم، فلا بد أن يكونا خارجين منهم، مازَ "جبريل" و"ميكال" من جملة الملائكة تشريفًا لهما4، وقد وضح هذا المغزى البلاغي قبل ابن جني أستاذه أبو علي الفارسي "377هـ" مستشهدا في بيانه بعديد من الآيات القرآنية3. - لتوكيد تفرد العلم الإلهي بالتأويل: يقف القاضي عبد الجبار أمام القصد من عطف {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} على {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ، وكيف لا يتعارض علم هؤلاء الراسخين بتأويل متشابه القرآن مع تفرده سبحانه بالعلم الإلهي، وذلك في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ

_ 1 الجاحظ، البيان والتبيين 1/ 261 تحقيق عبد السلام هارون، ط4. 2 نفسه والصفحة. 3 البقرة: 98. 4 ابن جني، المحتسب 2/ 53 المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ط الحلبي. 5 أبو علي الفارسي، الحجة، 1/ 13 دار الكتاب العربي.

تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} 1، يقول القاضي: "اعلم أن الأولى في معنى قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} أن يكون عطفا على ما تقدم، ودالا على أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله بإعلام الله تعالى إياهم، ونصبه الأدلة على ذلك، فيكون قوله تعالى: {يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ} دلالة على أنهم برسوخهم في العلم يجمعون بين الاعتراف والإقرار، وبين المعرفة، لأنه تعالى مدحهم بذلك ولا يتكامل مدحهم إلا بضم الإيمان والتصديق وإظهار ذلك، إلى المعرفة بتأويله"2. هذا لو كان واو "الراسخون" للعطف، ولكن كبيرا من شيوخ المعتزلة رأى أنها للاستئناف، ولو كانت عطفا لشارك الراسخون ربهم -سبحانه- في العلم بالتأويل. فيجيب القاضي: فإن قال "قائل" أليس قد قال كبير من شيوخكم: إن قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} يقتضي تمام الكلام، وأنه تعالى المتفرد بعلم تأويله، ثم استأنف قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا} ، ولذلك علق بذكرهم خبرا، ولو كان عطف على ما تقدم لم يصح ذلك فيه، أفما يدلكم ذلك على بطلان ما قدمتم، قيل له: إن من يذهب في تأويله الآية إلى هذه الطريقة "يقصد ذلك المعتزلي" لا يمنع من أن يعلم العلماء المراد بالمتشابه، لكنه يقول: إنه أراد بقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} على نحو قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} 3، أراد بالتأويل المتأول، وهو عز وجل المتفرد بالعلم بالمتأول وأوقاته وأحواله"4. وبعد، فهذا ما تمكنت من جمعه من نصوص تبعثرت في ثنايا البحوث المختلفة بعضها في الفصل والآخر في الوصل، ولم أقصد أن أقول: إن الجرجاني تأثر بها

_ 1 آل عمران: 7. 2 عبد الجبار، المغني 16/ 378 تحقيق أمين الخولي، ط وزارة الثقافة 1960م. 3 الأعراف: 53. 4 المغني 16/ 379.

هي في ذاتها بقدر ما أحاول أن أرصد حركة المادة نفسها، شكل الحياة التي عاشتها قبل أن تمتد إليها يد الجرجاني، بغض النظر عن تأثره بها في ذاتها أو بغيرها الذي لم يصل إلينا أو وصل، لأنه لم ينص على شيء في ذلك. والظاهرة الملموسة فيما عرضت من جهود أنها تميل إلى رصد القاعدة، وأنها عَدَّدَتْ أدوات الفصل، ولم تقصره على طرح الواو فقط، وأنها لم تتوقف عند التحليل الجمالي بقدر ما كانت تحاول الشرح وضرب الأمثلة، بالإضافة إلى أنها كانت تعرض للفصل والوصل بالقدر الذي يحتاجه الموضوع الرئيسي الذي يعالجه صاحبه من تفسير أو نحو أو كلام أو موضوعات بلاغية، ولم يلتفت أي منهم إلى ضم الأجزاء وعرضها في سياق متصل كما فعل الجرجاني، وبالرغم من ذلك فإن لهم فضل السبق والتمهيد.

الفصل الثاني: الفصل والوصل والجرجاني

الفصل الثاني: الفصل والوصل والجرجاني أولا: إعادة التشكيل مادة الفصل ... أولا: إعادة التشكيل: "أ" مادة الفصل: "أ" الجرجاني يعيد تشكيل مادة الفصل: سأعتمد هنا نفس ألفاظ الجرجاني مع إيجاز الإطناب، والتقديم والتأخير بما يخدم عرض الموضوع، ناظرًا بعين الاعتبار لما عرضت سابقًا من جهود العلماء السابقين على الجرجاني. 1- الجرجاني يعرف بالفصل والوصل ويبين أهميتهما: يقول: "الوصل في الجمل عطف بعضها على بعض، والفصل ترك العطف فيها، والمجيء بها منثورة تستأنف واحدة منها بعد الأخرى"1، ثم يقول: "إن معرفة الفصل من الوصل مما لا يتأتى لتمام الصواب فيه إلا للأعراب الخلص وإلا قوم طبعوا على البلاغة، وأوتوا من المعرفة في ذوق الكلام هم بها أفراد"2، و" ... اعلم أنه ما من علم من علوم البلاغة أنت تقول فيه: "إنه خفي غامض، ودقيق صعب" إلا وعلم هذا الباب أغمض وأخفى وأدق وأصعب"3. 2- من أدوات الفصل عند الجرجاني: "أ" ضمير الفصل: ... في مثل: وأرضى بها من بحر آخر إنه ... هو الري أن ترضى النفوس ثمادها4 "ب" الفصل بالجملة المعترضة: في مثل قول الشاعر: وإني "على إشفاق عيني من العدا ... لتجمح مني نظرة ثم أطرق5

_ 1 الدلائل 222. 2 نفسه 222. 3 نفسه 231. 4 أرضى أي: أقنع بالقليل، ومن بحر آخر: من بمعنى بدل، والثماد هو القليل الذي لا مادَّ له، الدلائل، هامش 208 تحقيق المراغي، وانظر الدلائل 318 تحقيق خفاجي وص318 تحقيق شاكر. 5 الدلائل 98، والبيت لابن المعتز.

"ج" طرح الواو وهو المشهور. 3- الفصل في المفردات مدخل إلى الفصل في الجمل: يقول: "كما كان في الأسماء ما يصله معناه بالاسم قبله، فيستغنى بصلة معناه له عن واصل يصله ورابط يربطه، وذلك كالصفة التي لا تحتاج في اتصالها بالموصوف إلى شيء يصلها به، وكالتأكيد لا يفتقر كذلك إلى ما يصله بالمؤكَّد، كذلك يكون في الجمل ما تتصل من ذات نفسها بالتي قبلها، وتستغنى بربط معناها لها عن حرف عطف يربطها. فإذا قلت: "جاءني زيد الظريف" و"جاءني القوم كلهم" لم يكن "الظريف" و"كلهم" غير زيد وغير القوم1. 4- الفصل في الجمل: ويكون في الجمل ما تتصل من ذات نفسها بالتي قبلها، وتستغنى بربط معناها لها عن حرف عطف بربطها وهي: "أ" كل جملة كانت مؤكدة للتي قبلها ومبينة لها، وكانت إذا حصلت لم تكن شيئا سواها، كما لا تكون الصفة غير الموصوف، والتأكيد غير المؤكد، ومثال ما هو من الجمل كذلك. مثل قوله تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} 2 قوله: {لا رَيْبَ فِيهِ} بيان وتوكيد وتحقيق لقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} وزيادة تثبيت له وبمنزلة أن نقول: "هو ذلك الكتاب هو ذلك الكتاب"3. ومثله قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ

_ 1 نفسه 227. 2 البقرة: 1، 2. 3 الدلائل 227.

وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1، قوله: {لا يُؤْمِنُونَ} تأكيد لقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} ، وقوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} توكيد ثانٍ أبلغ من الأول2. - وكذلك قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، يُخَادِعُونَ اللَّهَ} 3، إنما قال: {يُخَادِعُونَ} ولم يقل: "ويخادعون" لأن هذه المخادعة ليست شيئا غير قولهم "آمنا" من غير أن يكونوا مؤمنين. فهو إذن، أُكِّد به كلام آخر هو في معناه وليس شيئا سواه4. 5- الجمل المفصولة المؤكدة للجمل المنفية: "ومما جاء فيه الإثبات بـ "إن وإلَّا" على هذا الحد قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ} 5، وقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} 6. أفلا ترى أن الإثبات في الآيتين جميعا تأكيد وتثبيت لنفي ما نفي، فإثبات ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأوحى إليه ذكرًا وقرآنًا تأكيد وتثبيت لنفي أن يكون قد علم الشعر -وكذلك إثبات ما يتلوه عليهم وحيًا من الله تعالى تأكيد وتقرير لنفي أن يكون نطق به عن هوى"7.

_ 1 البقرة: 6، 7. 2 الدلائل 228. 3 البقرة: 8، 9. 4 الدلائل 224. 5 يس: 69. 6 النجم: 3. 7 الدلائل 230.

6- جمل الحال المفصولة: "أ" فصل جمل الحال الاسمية: إن كان الخبر في جملة من المبتدأ والخبر ظرفًا، ثم كان قُدِّم على المبتدأ كقولنا: "عليه سيف" و"في يده سوط" كثر فيها أن تجيء بغير واو. فمما جاء منه قول بشار في مدح خالد بن برمك: إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها ... خرجت مع البازي على سواد يعني: علي بقية من الليل وقد يجيء ترك "الواو" فيما ليس الخبر فيه كذلك، ولكنه لا يكثر، فمن ذلك قولهم: "كلمته فوه إلى في"، و"رجع عوده على بدئه" في قول "من رفع" ومنه بيت الإصلاح1. نصف النهار الماء غامره ... ورفيقه بالغيب لا يدرى2 "ب" فصل جمل الحال الفعلية: 1- جملة الحال ذات المضارع المثبت: وهذه لا تكاد تجيء بالواو، بل ترى الكلام على مجيئها عارية من الواو، كقولك: "جاءني زيد يسعى غلامه بين يديه"، وكقول الشاعر: وقد علوت قتود الرحل يسفعني ... يوم قُدَيْدِيمَة الجوزاء مسموم3

_ 1 أي كتاب "إصلاح المنطق" لابن السكيت "ت244هـ". 2 يصف غواصًّا يغوص في الماء لاستخراج الدر، أي ظل في الماء غائصًا من الصباح حتى الظهر، وصديقه واقف على البر ممسك بالحبل، لا يدري عنه شيئا، الدلائل 202 و203. 3 هو لعلقمة بن عبدة الشاعر الجاهلي المشهور: القتود: جمع قتد وهو خشب الرحل المعهود، سفعه: لفحة بحره فغير لونه وسفعته النار كذلك، قديديمة تصغير قدام، الجوزاء: من منازل الشمس، ويوم مسموم هبت فيه ريح السموم بكثرة وهي ريح حارة، الدلائل 205.

2- ذات المضارع المنفي: ومع هذه يتغير الحكم، فتجيء الواو، وتترك كثيرا، وذلك مثل قولهم: "كنت ولا أخشى بالذئب"1، وقول مالك بن رفيع وكان جنى جناية فطلبه مصعب بن الزبير: بغاني مصعب وبنو أبيه ... فأين أحيد عنهم؟ لا أحيد أقادوا من دمي وتوعدوني ... وكنت وما ينهنهني الوعيد2 فأما مجيء المضارع منفيًا حالا من غير الواو، فيكثر أيضا ويحسن، فمن ذلك قوله: مضوا لا يريدون الرواح وغالهم ... من الدهر أسباب جرين على قدر3 3- ذات الماضي: ولا تقع حالا إلا مع "قد" مظهرة أو مقدرة -أما مجيئها "بالواو"، فالكثير الشائع، كقولك: "أتاني وقد جهده السير"، وأما بغير "الواو"، فكقوله: متى أرى الصبح قد لاحت مخايله ... والليل قد مزقت عنه السرابيل4

_ 1 أي: ولا أخوف بالذئب. 2 أقادوا من دمي: أهدروا دمي. 3 الدلائل 207. 4 الدلائل 209-210.

مادة الوصل

ب- مادة الوصل: 1- منزلة الواو بين أدوات الوصل: إنه إنما يعرض الإشكال في الواو دون غيرها من حروف، وذاك، كما يقول الجرجاني - لأن تلك تفيد مع الإشراك معاني مثل أن "الفاء" توجب الترتيب من غير تراخ، و"ثم" توجبه مع تراخ، و"أو" تردد الفعل بين شيئين وتجعله لأحدهما لا بعينه ... وليس "للواو" معنى سوى الإشراك في الحكم الذي يقتضيه الإعراب الذي أتبعت فيه الثاني الأول ... ولا يتصور إشراك بين شيئين حتى يكون هناك معنى يقع ذلك الإشراك فيه، وإذا كان كذلك -ثبت إشكال المسألة1. 2- الواو تصل بين الأشباه والنظائر: وذلك ألا تقول: "زيد قائم وعمرو قاعد" حتى يكون عمرو بسبب من زيد، وحتى يكونا كالنظيرين والشريكين، وبحيث إذا عرف السامع حال الأول عناه أن يعرف حال الثاني، وجملة الأمر، أنها لا تجيء حتى يكون المعنى لِفْقًا لمعنى في الآخر، ومضاما له، مثل، زيد وعمرو، إذا كانا أخوين أو نظيرين أو مشتبكي الأحوال على الجملة، فلو قلت: "خرجت اليوم من داري" ثم قلت: "وأحسن الذي يقول بيت كذا" قلت ما يضحك منه، ومن هنا عابوا أبا تمام في قوله: لا والذي هو عالم أن النوى صبر ... وأن أبا الحسين كريم وذلك لأنه لا مناسبة بين كرم أبي الحسين ومرارة النوى ولا تعلق لأحدهما بالآخر2.

_ 1 الدلائل 224 2 صبر بوزن "كتف" عصارة شجر مر، وقبله: زعمت هواك عفا الغداة كما عفت ... عنها طلول باللوى ورسوم لا والذي هو عالم أن النوى ... صبر وأن أبا الحسين كريم ما زلت عن سنن الوداد ولا غدت ... نفسي على إلف سواك تحوم 3/ 289 و290 / 5-7

3- وتصل بين النقائض لعلاقة: "وكذلك ينبغي أن يكون الخبر عن الثاني مما يجري مجرى الشبيه والنظير أو النقيض للخبر عن الأول. فلو قلت: "زيد طويل القامة وعمرو شاعر"، كان خلفا، لأنه لا مشاكلة، ولا تعلق بين طول القامة وبين الشعر، وإنما الواجب أن يقال: "زيد كاتب وعمر شاعر"، و"زيد طويل القامة وعمرو قصير"، ... وكذا السبيل أبدا، والمعاني في ذلك كالأشخاص1. 4- الوصل ليس بحروف العطف فقط: الوصل بـ "إنَّ": يقول الجرجاني: "اعلم أن من شأن "إن" أن تغني غناء الفاء العاطفة وأن تفيد من ربط الجملة بما قبلها أمرا عجيبا، فأنت ترى الكلام بها مستأنفا غير مستأنف، ومقطوعا موصولا معا، أفلا ترى أنك لو أسقطت "إن" من قول الشاعر: بكرا صاحبيَّ قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير ومثله قول بعض العرب: فغنها وهي لك الفداء ... إن غناء الإبل الحداء فانظر إلى قوله: ... ... ... ... ... إن غناء الإبل الحداء

_ ولماذا لا يكون أبو تمام قد عمد إلى هذا التنافر بجامع أن الله تعالى لا تخفى عليه خافية، ولعلاقة أن كرم أبي الحسين هو ما سيخفف عنه مرارة النوى، لأنه ما يبعد عن صاحبته إلا ليقصد أبا الحسين؟ انظر كتابي: "بديع التراكيب في شعر أبي تمام". ط دار منشأة المعارف، جملة القَسَم. 1 الدلائل 225 و226.

وإلى ملاءمته الكلام قبله، وحسن تشبهه بهن وإلى حسن تعطف الكلام الأول عليه ثم انظر إذا تركت "إن" فقلت: فغنها وهي لك الفداء ... غناء الإبل الحداء كيف تكون الصورة؟ وكيف ينبو أحد الكلامين عن الآخر حتى تجتلب لهما الفاء، فتقول: فغنها وهي لك الفداء ... فغناء الإبل الحداء وهذا الضرب كثير في التنزيل جدًّا1. واعلم أن الذي قلنا في "إن" ... لا يطرد في كل شيء وكل موضع بل يكون في موضع دون موضع، وذلك فيما لا يحصى2.

_ 1 ومن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1] ، وقوله عز اسمه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] ، وقوله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] ن ومن أبين ذلك قوله تعالى: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 37، والمؤمنون: 27] ، وقد يتكرر في الآية الواحدة، كقوله عز وجل: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} الدلائل: 316. 2 كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} ذاك أن قبله {إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان: 50، 52] ، ومعلوم أنك لو قلت: "إن هذا ما كنتم به تمترون فالمتقون في جنات وعيون" لم يكن كلاما، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 100 و101] ، فالذين سبقت لهم منا الحسنى" لم تجد لإدخالك "الفاء" فيه وجها - وكذا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} {الَّذِينَ آَمَنُوا} اسم "إن" وما بعده معطوف عليه، وقول: {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} جملة في موضع الخبر، ودخول الفاء فيها محال، لأنه الخبر لا يعطف على المبتدأ - ومثله سواء {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} . الدلائل 231-233.

5- الوصل في المفردات مدخل لمعرفة الوصل في الجمل: يقول: "ومعلوم أن فائدة العطف في المفرد أن يشرك الثاني في إعراب الأول، وأنه إذا أشركه في إعرابه فقد أشركه في حكم ذلك الإعراب، نحو: أن المعطوف على المرفوع بأنه فاعل مثله. والمعطوف على المنصوب بأنه مفعول به أو فيه أو له شريك له في ذلك1. 6- الوصل في الجمل على ضربين: "وإذا كان هذا أصله في المفرد، فإن الجمل المعطوف بعضها على بعض على ضربين: الضرب الأول: أن يكون للمعطوف عليها موضع من الإعراب، وإذا كان كذلك كان حكمها حكم المفرد، وكان وجه الحاجة إلى الواو ظاهرا، والإشراك بها في الحكم موجودا. فإذا قلت: مررت برجل خلقه حسن وخلقه قبيح، كنت قد أشركت الجملة الثانية في حكم الأولى. وذلك الحكم كونها في موضع جر بأنه صفة للنكرة. والضرب الثاني: وذلك بأن تعطف على الجملة العارية الموضع من الإعراب جملة أخرى، كقولك "زيد قائم وعمرو قاعد"، وإذا كان كذلك فينبغي أن تعلم المطلوب من هذا العطف والمغزى منه، ولِمَ لَم يستو بين أن تعطف وبين أن تدع العطف، فتقول: "زيد قائم وعمرو قاعد" بعد أن لا يكون هنا أمر معقول يؤتى بالعاطف ليشرك بين الأولى والثانية فيه؟ "2. وإذا كان المخبَر في الجملتين واحدًا، ازداد المعنى قوة بالواو "كقولنا هو يقول ويفعل، وينفع ويضر، فتكون أوجبت له الفعلين جميعا، وجعلته يفعلهما

_ 1 الدلائل 222. 2 الدلائل 223.

معا، ولو قلت: يضر ينفع من غير واو لم يجب ذلك بل قد يجوز أن يكون قولك: "ينفع" رجوعا عن قولك: "يضر" وإبطالا له1. الصلة تزيد الفعلين اقترانا "فإذا وقع الفعلان في مثل هذا2 في الصلة3 ازداد الاشتباك والاقتران، حتى لا يتصور تقدير إفراد أحدهما عن الآخر، وذلك في مثل قولك: "العجب من أني أحسنت وأسأت، ويكفيك ما قلت وسمعت"4. 7- وصل مجموع جمل بمجموع جمل أخرى: وهذا فن خاص دقيق، مما يقل نظر الناس فيه من أمر "العطف" أنه قد يؤتى بالجملة فلا تعطف على ما يليها، ولكن تعطف على جملة بينها وبين هذه التي تعطف، جملة أو جملتان، مثال ذلك قول المتنبي: تولوا بغتة فكأن بينا ... تهيبني ففاجأني اغتيالا فكان مسير عيسهم ذميلا ... وسير الدمع إثرهم انهمالا قوله: "فكان مسير عيسهم ذميلا" معطوف على "تولوا بغتة" دون ما يليه من قوله "ففاجأني" لأنا إن عطفناه على هذا الذي يليه أفسدنا المعنى من حيث إنه يدخل في معنى كأن، وذلك يؤدي إلى أن لا يكون مسير عيسهم حقيقة، ويكون متوهما، كما كان تهيب البين كذلك، والسبب أن الجملة المتوسطة بين المعطوفة أخيرا وبين المعطوف عليها الأولى "تولوا بغتة"، وذلك أن الثانية مسبب والأولى سبب، ألا ترى أن المعنى: "تولوا بغتة فتوهمت أن بينا تهيبني"، ولا شك أن هذا التوهم كان بسبب أن كان التولي بغتة، وإذا كان كذلك كانت مع الأولى كالشيء الواحد، وكان منزلتها منها منزلة المفعول والظرف، وسائر ما

_ 1 نفسه 226. 2 أي فيما إذا كانت الثانية بسبب من الأولى. 3 المراد بالصلة - الصلة التي تكون لموصول اسمي أو حرفي يؤول بمصدر. 4 الدلائل 226.

يجيء بعد تمام الجملة من معمولات الفعل مما لا يمكن إفراده على الجملة، وأن يعتد كلاما على حدته1. وشيء آخر دقيق: وهو أنك إذا نظرت إلى قوله: "فكان مسير عيسهم ذميلا" وجدته لم يعطف هو وحده على ما عطف عليه، ولكن تجد العطف قد تناول جملة البيت مربوطا آخره بأوله، ألا ترى أن الغرض من هذا الكلام أن يجعل توليهم بغتة، وعلى الوجه الذي توهم من أجله أن البين تهيبه، مستدعيا بكاءه، وموجبا أن ينهمل دمعه، فلم يعنه أن يذكر ذملان العيس إلا ليذكر هملان الدمع، وأن يوفق بينهما، ... ، فأمر العطف إذن موضوع على أنك تعطف تارة جملة على جملة، وتعمد أخرى إلى جملتين أو جمل فتعطف بعضا على بعض، ثم تعطف مجموع هذي على مجموع تلك2. 8- العطف على جمل الحال: الحال تجيء مفردة وجملة، والقصد هنا -يقول الجرجاني- إلى الجملة، وأول ما ينبغي أن يضبط من أمرها أنها تجيء تارة بالواو وأخرى بغير الواو. فمثال مجيئها مع الواو، قولك: أتاني وعليه ثوب ديباج. ومثال مجيئها بغير الواو قولك: جاءني زيد يسعى غلامه بين يديه. وفي تمييز ما يقتضي الواو مما لا يقتضيه صعوبة. فإذا كانت الجملة من مبتدأ وخبر، فالغالب عليها أن تجيء مع الواو كقولك: "جاءني زيد وعمرو أمامه"، وإذا كان المبتدأ من الجملة ضمير ذي الحال، لم يصلح بغير الواو ألبتة، وذلك كقولك: "جاءني زيد وهو راكب"3.

_ 1 الدلائل 244. 2 الدلائل 245، وفي هامش ص 159 من تحقيق المراغي يعلق المحقق "كقصة المنافقين في سورة البقرة {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا ... } إلخ فإنها معطوفة على قصة الذين كفروا قبلها -كما تعطف الجمل على الجمل". 3 الدلائل 202.

9- جمل الشرط المعطوفة على جمل الجزاء: وينبغي أن يجعل ما يصنع في الشرط والجزاء من هذا المعنى أصلا يعتبر به، وذلك أنك ترى، متى شئت، جملتين قد عطفت إحداهما على الأخرى، ثم جعلتا بمجموعهما شرطا، ومثال ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} 1 [النساء: 112] . ويقول: الشرط كما لا يخفى في مجموع الجملتين لا في كل واحدة منهما على الانفراد، ولا في واحدة منهما دون الأخرى، لأنا إن قلنا: إنه في كل واحدة منهما على الانفراد جعلناهما شرطين اقتضتا جزائين، وليس معنا إلا جزاء واحد2، وإن قلنا: إنه في واحدة منهما دون الأخرى لزم منه إشراك ما ليس بشرط في الجزم بالشرط، وذلك ما لا يخفى فساده. ثم إنا نعلم من طريق المعنى أن الجزاء الذي هو احتمال البهتان والإثم المبين، أمر يتعلق إيجابه لمجموع ما حصل من الجملتين، فليس هو لاكتساب الخطيئة على الانفراد ولا لرمي البريء بالخطيئة والإثم على الإطلاق، بل لرمي الإنسان البريء بخطئية أو إثم كان من الرامي. وكذلك الحكم أبدًا. فقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} لم يعلق الحكم فيه بالهجرة على الانفراد، بل بها مقرونا إليها أن يدركه الموت عليها3.

_ 1 لأنه يكسب الإثم آثم ويرمي البريء باهت فهو جامع بين الأمرين، الدلائل هامش 160، المراغي. والدلائل 246، تحقيق شاكر. 2 يعلق المراغي على هذا قائلا: هذا دليل غير تام ولا ينتج ما يدعيه، الدلائل هامش 106، تحقيق المراغي، وانظر في هذا "أحكام توالي شرطين أو أكثر وتوالي شرط واستفهام" عباس حسن، النحو الوافي، 4/ 489. 3 الدلائل 245 وما بعدها.

10- العطف عل جواب الشرط بالواو: متى عطفت على جواب الشرط بالواو، كان ذلك على ضربين: أحدهما: أن يكونا شيئين يتصور وجود كل منهما دون الآخر، ومثاله قولك: إن تأتني أكرمك أعطك وأكسك. والثاني: أن يكون المعطوف شيئا لا يكون حتى يكون المعطوف عليه، ويكون الشرط لذلك سببا فيه بواسطة كونه سببا للأول، ومثاله قولك: إذا رجع الأمير إلى الدار استأذنته وخرجت، فالخروج لا يكون حتى يكون الاستئذان، فيكون المعنى في مثل هذا على كلامين، نحو: إذا رجع الأمير استأذنته وإذا استأذنته خرجت1.

_ 1 نفسه 233 و234.

ثانيا: الجرجاني يبرز المضمون ويحلل عناصر الجمال

ثانيا: الجرجاني يبرز المضمون ويحلل عناصر الجمال: ليس الشكل بمعزل عن المضمون، ولا الصياغة بمنأى عن معناها، فهما وجهان لفكرة نبتت في كيان صاحبها حتى إذا نضجت خرجت تؤدي دورها في شكل ألفاظ وجمل وفقرات، وكلما تميز الشكل وتحددت معالمه وضح المضمون وأفصح عن مقاصده، ونضج المضمون يؤدي إلى اختيار الشكل الدقيق القادر على التلبيغ والتأثير، فهما معا يخدمان الغاية التي قصد إليها المتكلم. والجرجاني هنا أراد أن يبرز بلاغة الفصل والوصل فيسلك سبيلين: أحدهما: ضبط القواعد لإحكام الشكل. الآخر: تحليل عناصر الجمال. وكان ذلك من خلال عرض فني برع في نسج خيوطه، معتمدا على حسن اختيار للشواهد، وعلى التريث أمام مواطن الجمال والصبر على التحليل. أما حسن الاختيار: فنراه قد تبدى فيه ذوق الجرجاني المعروف -والاختيار جزء من صاحبه- فهو ذوق فيه رفاهية وثراء وخصوبة، فتارة يستشهد بالآيات القرآنية الكريمة التي ظهر فيها الفصل أو الوصل، بدرجة من الوضوح والجمال تؤكد عمق فهم الجرجاني لفن الفصل والوصل، وتارة يتمثل بأبيات من الشعر اتسمت بالصنعة الفنية المتقنة. ويبدو أنه قد تأنق في اختيارها وامتحن قدرتها على العطاء قبل تقديمها، انظر إليه يتحدث عن الشعر الشاعر والكلام الفاخر قائلا: ومنه ما أنت ترى الحسن يهجم عليك منه دفعة، ويأتيك منه ما يملأ العين ضربة، حتى تعرف من البيت الواحد مكان الرجل في الفضل، وموضعه من الحذق، وتشهد له بفضل المنة وطول الباع، وحتى تعلم -إن لم تعلم القائل- أنه من قيل شاعر فحل، وأنه خرج من تحت يد صناع، وذلك ما إذا أنشدته وضعت فيه اليد على شيء

فقلت: هذا، هذا! وما كان كذلك فهو الشعر الشاعر والكلام الفاخر ... ، ثم إنك تحتاج إلى أن تستقري عدة أبيات، بل أن تفلي ديوانا من الشعر، حتى تجمع منه عدة أبيات، وذلك مثل قول الأول، وتمثل به أبو بكر الصديق رضوان الله عليه حين أتاه كتاب خالد بالفتح في هزيمة الأعاجم: تمنانا ليلقانا بقوم ... تخال بياض لأمهم السرابا فقد لاقيتنا فرأيت حربا ... عوانا تمنع الشيخ الشرابا انظر إلى موضع "الفاء" في قوله: "فقد لاقيتنا فرأيت حربا"1. بهذا المفهوم يقدم لنا شواهد فن الفصل والوصل قائلا: "ومما له مأخذ لطيف في هذا الباب قول أبي تمام ... "2 أو "من النادر أيضا في ذلك قول الآخر ... "3 أو "من الحسن البين في ذلك قول المتنبي ... "4 أو قال "أرطاة بن سهية وهو لطيف جدا"5. ومع الآيات القرآنية يقول: "ومن الواضح البين في هذا المعنى، قوله تعالى ... "6 أو "ومما هو في غاية الوضوح، قوله تعالى ... "7. وأحيانا يلجأ إلى جفاف علم الكلام، ويوغل في عرض فكرته من خلال "فإن قلت: ... فالجواب: أن السبب في ذلك ... ، وإن قلت: ... قيل: ... ، ومما يدل على فساد ذلك ... إلخ"8.

_ 1 الدلائل 89 واللأم: جمع لأمة وهي الدرع. وهذا من شعر الصحابي زياد بن حنظلة التميمي. 2 نفسه 227. 3 نفسه 238. 4 نفسه 238. 5 نفسه 209. 6 الدلائل 228. 7 نفسه 241. 8 نفسه 215 و217.

ولكن هذا لا يقلل من حسن الاختيار وجمال العرض، فالجرجاني له طريقة خاصة في عرض موضوعاته، تعتمد على إقناع القارئ بإثارته وترغيبه واستدراج اهتمامه بمختلف الأدلة والعديد من الشواهد مع الصبر على التحليل، والتكرار الذي يصل إلى درجة الإلحاح في بيان مدى أهمية الفكرة وقيمتها وأسرارها البلاغية، هو لا يُعلِّم قارئه، إنما يسامره في مجلس علم ... إن الحديث من القرى. وهو بارع في التحليل الفني. ومن الصعوبة اختيار مثال على ذلك، فجلها مثير وطويل، ولنأخذ مثالا مختصرا. حين يحلل كيف تأتي الجملة الثانية مفصولة لتؤكد المعنى في الجملة الأولى، يقول: ومن الواضح البين في هذا المعنى قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا ... } 1 لم يأت معطوفا نحو "وكأن على أذنيه وقرا" لأن المقصود من التشبيه بمن في أذنيه وقر هو بعينه المقصود من التشبيه بمن لم يسمع، إلا أن الثاني أبلغ وآكد في الذي أريد، وذلك أن المعنى في التشبيهين جميعا أن ينفى أن يكون لتلاوة ما تلي عليه من الآيات فائدة معهن ويكون لها تأثير فيه، وأن يجعل حاله إذا تليت عليه كحاله إذا لم تتل، ولا شبهة في أن التشبيه بمن "في أذنيه وقر" أبلغ وآكد في جعله كذلك من حيث كان لا يصلح منه السمع -إن أراد ذلك- أبعد من أن يكون لتلاوة ما يتلى عليه فائدة من الذي يصح منه السمع، إلا أنه لا يسمع إما اتفاقا وإما قصدا إلى أن لا يسمع -فاعرفه وأحسن تدبره2. وفي بيان سبب فصل قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} 3 عن {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} يسطر الصفحات، ويدور مع الآية، ويفتن في التحليل، ثم لا يكتفي بما فعل، فيعلق قائلا "وإذا استقريت وجدت هذا -الذي ذكرت لك، من تنزيلهم الكلام إذا جاء بعقب ما يقتضي سؤالا منزلته إذا صرح بذلك السؤال- كثيرا، فمن لطيف

_ 1 لقمان: 7. 2 الدلائل 229. 3 البقرة: 14 و15.

ذلك ... "، ويأتي على سبعة أبيات مختارات، ويتولى شرح جمال الفصل فيها1. أما عن ضبط القواعد، فهو لا يترك الأمر إلى التحليل والاستحسان، إنما نراه يخلص إلى قاعدة محددة يبرزها ويدور حولها شرحا وتحليلا. ونستطيع أن نشير إلى بعض تلك القواعد التي بنى عليها شكلا محكما للفصل والوصل. - فالواو لها منزلة خاصة بين أدوات الوصل وهي تصل بين الأشباه والنظائر وأيضا بين النقائض لعلاقة. - الوصل ليس بحروف العطف فقط بل بها وبـ "إنَّ". - الوصل يكون في المفردات كما هو في الجمل. أما عن وصل الجمل: - فإذا كانت الجملة الثانية مع التي قبلها حال الاسم، يكون غير الذي قبله إلا أنه يشاركه في الحكم، ويدخل معه في معنى، مثل أن يكون كلا الاسمين فاعلا أو مفعولا أو مضافًا أو مضافًا إليه، فيكون حقها العطف والغاية إشراك الثانية في حكم الأولى. - وإذا أخبرت الجملتان عن مسند إليه واحد مثل "هو ينفع ويضر" ازداد المعنى بالوصل قوة وازداد اقترابا بينما يؤدي الفصل إلى نقيض هذا المعنى. - جملة جواب الشرط يعطف عليها المعنى المستقل عنها مثل "إن تأتني أكرمك أعطك وأكسك"، وأيضا المعنى المترتب عليها مثل "إذا رجع الأمير أستأذنت وخرجت" فالخروج لا يكون حتى يكون الاستئذان. - وكما يكون الوصل بين جملة وجملة، يكون بين مجموع جمل ومجموع جمل

_ 1 الدلائل 231-235.

أخرى، وكذلك جمل الشرط إذا توالت يوصل مجموعها بمجموع جمل الجزاء مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 112] . وأما عن الفصل: فهو استئناف معنى جديد، غير المعنى الذي سبقه، لكنه يتصل به في الاشتراك في المعنى العام للموضوع، فالوصل ربط المعنى الثاني بالأول وهما معا بالموضوع العام. والفصل قطع المعنى الثاني عن الأول اللذين يرتبطان معا بالموضوع العام. ومن أدواته ترك العطف وضمير الفصل والجملة الاعتراضية. - ويفصل بين المفردات كما يفصل بين الجمل. - والجملة الثانية تفصل عن الأولى، إذا كانت صفة لها أو مؤكدة لها أو بدلا منها، فترك العطف، إما للاتصال إلى الغاية أو للانفصال إلى الغاية. - ويكون الفصل بين الجمل إذا كانت الثانية منقطعة عن الأولى ولكنها تجيب عن سؤال منبثق من الأولى ... إلخ. وهكذا فثمة قواعد ثابتة يدور حولها الكلام، قواعد العطف والتوكيد والجملة الحالية، وكلها تهدف إلى خدمة المعنى، فاستحالة الفصل توجب الوصل والعكس، والمعنى الذي نضج عند صاحبه وأراد له الوصول إلى المخاطب لا بد أن يكتسى ما يوضحه أو يؤكده أو يثبته أو يوجزه بحيث يكون مؤثرا. وهنا قد يكون الوصل أفضل أو الفصل أبلغ، والحكم هو جلاء المعنى وفاعليته مع ذكاء المتكلم, لاستجابة المستمع.

تحليل عناصر الجمال: وقد تمثلت عناصر الجمال في: 1- الجانب المنطقي. 2- مراعاة مقتضى حال المخاطب. أقول، إن تحليل جمال المضمون يساعد على مزجه بالشكل، فالشكل جزء من المضمون وليس إطارا خارجيا له، والمضمون مؤثر في الشكل وليس جزأه الداخلي، وتفصيل جوانب جمال المضمون تفصيل للعوامل التي أثرت في المعنيين المتتاليين ففصلت بينهما أو وصلت، والمعاني في ذلك -يقول الجرجاني- كالأشخاص1 يفيدهم الالتحام لهدف كما يفيدهم الانفصال لهدف. وهدفهما وضوح المعنى في أحسن صورة من اللفظ، فيخرج من النفس ليستقر في النفس. 1- الجانب المنطقي: استحالة الوصل توجب الفصل، والعكس، يقول الجرجاني "ومما هو أصل في هذا الباب أنك ترى الجملة وحالها مع التي قبلها حال ما يعطف ويقرن إلى ما قبله، مثال ذلك، قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} 2 إنما جاء {إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} مستأنفا مفتتحا بألا، لأنه خبر من الله تعالى بأنهم كذلك -والذي قبله من قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} حكاية عنهم، فلو عطف للزم عليه مثل الذي قدمت ذكره من الدخول في الحكحاية، ولصار خبرا من اليهود ووصفا منهم لأنفسهم بأنهم مفسدون، ولصار كأنه قيل: "قالوا إنما نحن مصلحون، وقالوا إنهم هم المفسدون"، وذلك ما لا يشك في فساده3.

_ 1 الدلائل 226. 2 البقرة: 11، 12. 3 الدلائل 232.

وكذلك يأتي الوصل لاستحالة الفصل: وذلك إذا قلت "جاءني وغلامه يسعى بين يديه"، و"رأيت زيدا وسيفه على كتفه". يقول الجرجاني - كان المعنى على أنك بدأت فأثبت المجيء والرؤية ثم استأنفت خبرا، وابتدأت إثباتا ثانيا لسعي الغلام بين يديه، ولكون السيف على كتفه، ولما كان المعنى على استئناف الإثبات احتيج إلى ما يربط الجملة الثانية بالأولى، فجيء بالواو، كما جيء بها في قولك: زيد منطلق وعمرو ذاهب ... فإن قلت: قد علمنا أن علة دخول "الواو" على الجملة أن تستأنف الإثبات ولا تصل المعنى الثاني بالأول في إثبات واحد، ولا تنزل الجملة منزلة المفرد، ولكن بقي أن تعلم ... ، وما الذي منع في قولك: جاءني زيد وهو يسرع أو هو مسرع أن يدخل الإسراع في صلة المجيء، ويضامه في الإثبات ... فالجواب: أن السبب في ذلك أن المعنى في قولك: جاءني زيد وهو يسرع، على استئناف إثبات للسرعة، ولم يكن ذلك في "جاءني زيد يسرع"، وذلك أنك إذا أعدت ذكر زيد، فجئت بضميره المنفصل لمرفوع، كان بمنزلة أن تعيد اسمه صريحا فتقول "جاءني زيد وزيد يسرع" في أنك لا تجد سبيلا إلى أن تدخل "يسرع" حتى صلة المجيء وتضمه إليه في الإثبات، وذلك أن إعادتك ذكر زيد لا يكون حتى تقصد استئناف الخبر عنه بأنه يسرع، وحتى تبتدئ إثباتا للسرعة، لأنك إن لم تفعل ذلك تركت المبتدأ -الذي هو ضمير "زيد" أو اسمه الظاهر- بمضيعة، وجعلته لغوا في البين "أي: بينهما"، وجرى مجرى أن تقول: "جاءني زيد وعمرو يسرع أمامه"، ثم تزعم أنك لم تستأنف كلاما، ولم تبتدئ للسرعة إثباتا، وأن حال "يسرع" ها هنا حاله إذا قلت: "جاءني زيد يسرع"، فجعلت السرعة له، ولم تذكر "عمرا"، وذلك محال1.

_ 1 الدلائل 214-216.

2- مراعاة مقتضى حال المخاطب: وذلك: "أ" بإيضاح المعنى له عن طريق التوكيد: والتوكيد لا يأتي إلا بجملة مفصولة، تحمل نفس معنى الجملة الأولى ولا غرض لها سوى أن تثبت المعنى في نفس المخاطب، مثلما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} ، {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 6 و7] ، فقوله تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ} تأكيد لقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} ، وقوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} تأكيد ثانٍ أبلغ من الأول، لأن من كان حاله إذا أنذر مثل حاله إذا لم ينذر، كان في غاية الجهل، وكان مطبوعا على قلبه لا محالة1. "ب" بإشباع حاجة نفسه إلى المعرفة: فالشاعر اليزيدي يحكي لنا: ملكته حبلى ولكنه ... ألقاه من زهد على غاربي وقال: إني في الهوى كاذب ... ... ... ... ... ... وكأنه أحس أن المستمع يتشوف إلى معرفة رأي الشاعر فيمن اتهمه بالكذب، ماذا سيفعل به؟ أيعاقبه أم يدعو عليه؟ فيجيب اليزيدي بمعنى مستأنف مفصول عما قبله جوابا لهذا السؤال المتوقع، ويكون: ... ... ... ... ... ... انتقم الله من الكاذب2

_ 1 الدلائل 228. 2 الدلائل 237.

ومثله قول المتنبي: وما عفت الرياح له محلا ... ... ... ... ... .. ولما نفى أن يكون الذي يرى به من الدروس والعفاء من الرياح، ... ، وكان في العادة إذا نفي الفعل الموجود الحاصل من واحد، أن يسأل المستمع: فما عفاه إذا؟ فيجيب المتنبي مستأنفا معنى جديدا مفصولا عن المعنى الأول: . ... ... ... ... ... ..عفاه من حدا بهم وساقا1 وفي القرآن من هذا القبيل قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} 2، يقول الجرجاني: وها هنا أمر سوى ما مضى يوجب الاستئناف وترك العطف، وهو: أن الحكاية عنهم بأنهم قالوا: كيت وكيت، تحرك السامعين لأن يعلموا -مصير أمرهم وما يصنع بهم، أتنزل بهم النقمة عاجلا أم لا تنزل ويمهلون- وتوقع في أنفسهم التمني لأن يتبين لهم ذلك، وإذا كان كذلك، كان هذا الكلام الذي هو قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} في معنى ما صدر جوابا عن هذا المقدر وقوعه في أنفس السامعين وإذا كان مصدره كذلك، كان حقه أن يؤتى به مبتدأ غير معطوف ليكون في صورته إذا قيل: فإن سألتم قيل لكم: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} 2. ويبدو هذا أيضا في التنزيل في لفظ "قال" الذي يأتي مفصولا غير موصول، ففي قوله تعالى في قصة ضيف إبراهيم: - {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} . - {فَقَالُوا سَلَامًا} .

_ 1 الدلائل 238. 2 البقرة: 14، 15. 3 الدلائل 235.

- {قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} . - {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} . - {قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} . - {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} . - {قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} 1. يقول الجرجاني: جاء على ما يقع في أنفس المخلوقين من السؤال. فلما كان في العرف والعادة فيما بين المخلوقين، إذا قيل لهم: "دخل قوم على فلان، فقالوا كذا" أن يقولوا: "فما قال هو؟ " ويقول المجيب "قال كذا ... " أخرج الكلام ذلك المخرج. لأن الناس خوطبوا بما يتعارفونه، وسلك باللفظ معهم المسلك الذي يسلكونه، وكذلك في قوله: {قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} وذلك أن قوله: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} يقتضي أن يتبع هذا الفعل بقول: فكأنه قيل والله أعلم: "فما قال حين وضع الطعام بين أيديهم؟ " فأتى قوله: {قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} جوابا عن ذلك. وكذا: {قَالُوا لَا تَخَفْ} لأن قوله: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} يقتضي أن يكون من الملائكة كلام في تأنيسه وتسكينه مما خامره، فكأنه قيل: "فما قالوا حين رأوه، وقد تغير ودخلته الخيفة؟ " فقيل: {قَالُوا لَا تَخَفْ} وذلك -والله أعلم- المعنى جميع ما يجيء منه على كثرته، كالذي يجيء في قصة فرعون عليه اللعنة، في رد موسى عليه السلام2، ومما هو في غاية الوضوح في سورة الحجر3، وفي سورة

_ 1 الذاريات: 24-28. 2 قال تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} . {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} . {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ} . {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} . {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ... } إلخ، [الشعراء: من 23-31] . 3 قال تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} . {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الحجر: 57 و58] .

يس1 وغيرها2، والجمل المستأنفة المفصولة تقوم بهذا الغرض خير قيام. وبعد، فقد أقام الجرجاني صرحه هذا على قاعدتين أساسيتين في إعادته تشكيل المادة. - أنه ضبط قواعد الفصل والوصل ليحكم ويحدد المعالم، ثم انطلق يحلل عناصر الجمال التي تمثلت في نظره في الجانب المنطقي الذي يخاطب العقول والمعقول عند المستمع أو القارئ ... ثم راعى: - جانب التأثير النفسي الذي يهتم بمراعاة مقتضى حال السامع بإيضاح المعنى له بطريق التوكيد، وبطريق الإجابة عن سؤاله المتوقع لإشباع حاجة نفسه إلى المعرفة. ومع الجرجاني نلحظ أنه لم يقصر الفصل والوصل على الجمل بل جعل المفردات مدخلا لها -بالرغم من أنه لم يتوقف عند هذا الجانب. ولم يقصر الوصل على حرف الواو فقط، ولم يكن الوصل عنده بين المفردات والجمل فقط، بل كان أيضا بين مجموع جمل ومجموع جمل أخرى، وكان بمجموع جمل الشرط على مجموع جمل الجزاء -الأمر الذي لم يلتفت إليه أحد من البلاغيين التالين. ورأى الجرجاني أن الواو في وصلها تجمع بين الأشباه والنظائر، وتجمع أيضا بين النقائض لعلاقة، والعلاقة تتضح من السياق، أي أن الجمال عنده موضعي، وقد كان هذا كافيا ليعلم من يريد تقعيد البلاغة أن البلاغة ليس من طبيعتها احتمال كل ما بها من قواعد راسخة، وإنما هي أيضا تطبيقات واجتهادات تسمح باجتهادات أخرى أوسع وأعمق، وسنرى هذا الجانب واضحا عند

_ 1 قال تعالى: {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} . {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ... } [يس: من 15-16] . 2 الدلائل 240-242.

الزمخشرى الذي فتح آفاقا عجيبة في فن الفصل والوصل، وطوف ما طوف، فجنى ما جنى، وكانت ثمارا طيبة. وبقدر ما كان للجرجاني فضل على درس الفصل والوصل لكنه أضر بالفصل والوصل. فالعنصر الكلامي في معاجلة الجرجاني المتكلم الأشعري قد تسرب منه إلى كل من عالج الدرس البلاغي، كل قدر ما يستطيع أو قدر ما يستسيغ، كما أنه لم يلفت النظر إلى ضرورة الخروج إلى رحاب القرآن الكريم للتحرر من قيد الشواهد التعليمية الراسخة، فما أن اختارها للتطبيق حتى صارت ثوابت لا يجوز الخروج عليها، وعذره أنه كان يضع الأسس التي انتظرت المطبق لها، المضيف إليها، والمعترض عليها أيضا، من علمه وذوقه، الأمر الذي قام به الزمخشري كما قلنا. ومما سببه الجرجاني أيضا بدون قصد -أن اللاحقين تصوروا أنه قد وضع الشكل النهائي لفن الفصل والوصل. فراحوا يطبقون ويشرحون ويلخصون، ولم يتصوروا أن الجرجاني قد وضع الأساس لكي يرتفع البناء، فضاعت منهم -ومنا- أجمل سني عمرهم وأروع ثمرات جهدهم في الشروح والتلخيص.

الفصل الثالث: الفصل والوصل بعد الجرجاني

الفصل الثالث: الفصل والوصل بعد الجرجاني: أولا: الزمخشري: الزمخشري والفصل: تمهيد: 1- تعريف الفصل والوصل: سأدع النصوص تكشف عن جهود الزمخشري في رسم معالم الفصل والوصل وجمالياته، وأقصد من وراء هذا إلى تفتيق جوانب الموضوع حين طرح على صعيد القرآن الكريم بيد صناع، وأقصد أيضا إلى تبيان أن البلاغة تذوق مبني على أحكام عامة متفق عليها، على ألا تطغى الأحكام أو تنفرد الأذواق -وسيكون لي تعليق على جهود الزمخشري في نهاية التجوال. في تعريفه للفصل والوصل يقول في تفسيره لقوله تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} 1. "الفصل: التمييز بين الشيئين، وقيل للكلام البين، فصل بمعنى المفصول، لأنهم قالوا: كلام ملتبس وفي كلامه لبس، والملتبس المختلط، فقيل في نقيضه فصل، أي مفصول بعضه من بعض، فمعنى فصل الخطاب، البين من الكلام الملخص الذي يتبينه من يخاطب به لا يلتبس عليه، ومن فصل الخطاب وملخصه، أن لا يخطئ صاحبه مظان الفصل والوصل، فلا يقف في كلمة الشهادة على المستثنى منه، ولا يتلو قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} 2، إلا موصولا بما بعده، ولا {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ} حتى يصله بقوله: {لَا تَعْلَمُونَ} 3 ونحو ذلك، وكذلك مظان العطف وتركه، والإضمار والإظهار، والحذف والتكرار، وإن شئت كان الفصل بمعنى الفاصل ... "4.

_ 1 ص: 20. 2 الماعون: 4. 3 البقرة: 216. 4 الكشاف 3/ 365 ط البابي الحلبي، القاهرة 1968م.

2- الفصل وصل تقديري: يلفتنا الزمخشري إلى أن الفصل وصل تقديري خفي، ففي قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} 1 فإدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل، ونزعها وصل خفي تقديري بالاستئناف، الذي هو جواب لسؤال مقدر، كأنهم قالوا: "فماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت؟ " فقال: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فوصل تارة بالفاء2 وتارة بالاستئناف للتفنن في البلاغة، كما هو عادة بلغاء العرب، وأقوى الوصلين وأبلغهما: الاستئناف، وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه3. أولا: من بلاغة الفصل: 1- قد يكون الفصل أبلغ من الوصل: فالجملة التي تتوارد عل سبيل البيان، لا حاجة فيها إلى ذكر لفظ يدل على الربط، لأنها ما دامت كذلك فهي شيء واحد، أو جسم واحد، فإذا دخلها حرف وصل كان غريبا وشاذا، فآية الكرسي4 قد ترتبت الجمل فيها من غير حرف عطف، فما من جملة إلا وهي واردة على سبيل البيان لما ترتبت عليه، والبيان متحد بالمبين، فلو توسط بينهما عاطف لكان كما تقول العرب بين العصا ولحائها، فالأولى: بيان لقيامه بتدبير الخلق، وكونه مهيمنا عليه غير ساه عنه، والثانية: لكونه مالكا لما يدبره، والثالثة: لكبرياء شأنه، والرابعة:

_ 1 هود: 93. 2 يقصد إلى قوله تعالى في سورة الأنعام: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} -135. 3 الكشاف 2/ 290. 4 البقرة: 255 {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} .

لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة وغير المرتضى، والخامسة: لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها أو لجلاله وعظم قدره1. 2- التناسق الداخلي للجمل أقوى من وصلها برابط: ففي قوله تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} 2، يقول الزمخشري: "والذي هو أرسخ عرقا في البلاغة أن يضرب عن هذه المحال صفحا، وأن يقال: إن قوله {الم} جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها، و {ذَلِكَ الْكِتَابُ} جملة ثانية، و {لا رَيْبَ فِيهِ} جملة ثالثة"، و {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} رابعة، وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة. وموجب حسن النظم حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها، وهلم جرا إلى الثالثة والرابعة3. 3- الفصل يزيد الأسلوب جزالة وفخامة: ويلحظ الزمخشري ذلك في قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} يقول: فإن قلت: كيف ابتدئ قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} ، ولم يعطف على الكلام قبله؟ قلت: هو استئناف في غاية الجزالة والفخامة، وفيه أن الله عز وجل هو الذي يستهزئ بهم الاستهزاء الأبلغ الذي ليس استهزاؤهم إليه باستهزاء، ولا يؤبه له في مقابلته لما ينزل بهم من النكال ويحل بهم من الهوان والذل، وفيه أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاما للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين أن يعارضوهم باستهزاء مثله5.

_ 1 الكشاف 1/ 386. 2 البقرة: 1، 2. 3 الكشاف 1/ 121. 4 البقرة: 15. 5 الكشاف 1/ 187.

4- ويضفي عليه حسنا وقوة تأثير: ويضرب الزمخشري لذلك مثلا قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} 1 اللام: جواب قسم محذوف، وهذه الجملة في حسن استئنافها غاية، وفي أسلوبها قول القائل: وجارة جساس أبأنا بنابها ... كليبا غلت ناب كليب بواؤها2 وفي فحوى هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ التعجب، ألا ترى أن المعنى: "ما أشد استكبارهم، وما أكبر عتوهم، وما أغلى نابا بواؤها كليب"3. ثانيا: من أدوات الفصل: 1- الفصل بالواو: والواو تقع بين الجملتين لتفصل بين معنييهما، فتكون كل واحدة ذات معنى مستقل عن الآخر ومتميز عنه، فإذا تكررت الجملتان في مقام آخر وسقطت هذه "الواو"، كان الكلام واحدا، يقرر بعضه بعضا، يقول في قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} 4. فإن قلت: هل اختلف المعنى بإدخال الواو ها هنا وتركها في قصة ثمود5، قلت: إذا أدخلت "الواو" فقد قصد معنيان كلاهما مناف للرسالة عندهم، التسحير والبشرية،

_ 1 الفرقان: 21. 2 جساس: قاتل كليب، وجارته بسوس: امرأة يقال إنها خالته، وقتل للبسوس الناقة التي بها أهاجت الحرب بين بكر وتغلب، رماها كليب فقتلها. أبأنا: أي قابلنا، من البواء وهو التساوي في القصاص، تقول: اقتل هذا بقتيلك فإنه بواء به أي يعادله. الناب: الناقة. ومعناه: ما أغلى نابا بواؤها كليب. شرح شواهد الكشاف، ذيل الجزء الرابع ص561 ط البابي الحلبي، القاهرة 1968م. 3 الكشاف 3/ 88. 4 الشعراء: 185، 186. 5 الشعراء: 153، 154. {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} .

وأن الرسول لا يجوز أن يكون مسحرا، ولا يجوز أن يكون بشرا، وإذا تركت "الواو" فلم يقصد إلا معنى واحدا وهو كونه مسحرا ثم قرر بكونه بشرا مثلهم"1. 2- الفصل بضمير الفصل: يعرف الزمخشري ضمير الفصل بأنه "مختص بالوقوع بين جزأي الجملة2 وبأنه عند البصريين "فصل"، وعند الكوفيين "عماد"3، وأن فائدته: الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة، ويفيد التوكيد، وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره4، وأشار إلى هذا المعنى في تفسيره الآيات التي فصلت بضمير الفصل من مثل {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} 5، و {كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} 6، و {هُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} 7، و {إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} 8، و {الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} 9، وغيرها. 3- الفصل بالجملة الاعتراضية: فقد تقع الجملة أو الجمل المعترضة في أثناء الكلام فتكون بين المبتدأ وخبره، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ -لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا- أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 10. يقول: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} جملة معترضة بين المبتدأ والخبر للترغيب في اكتساب ما لا

_ 1 الكشاف 3/ 127. 2 الكشاف 2/ 283. تفسير آية {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] . 3 الكشاف 3/ 496. تفسير آية {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76] . 4 الكشاف 1/ 146. تفسير آية {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] . 5 الكشاف 1/ 434. آل عمران: 62. 6 الكشاف 2/ 191. التوبة: 40. 7 الكشاف 2/ 263. هود: 19. 8 الكشاف 2/ 103. الأعراف: 115. 9 الكشاف 3/ 280. سبأ: 6. 10 الأعراف: 42.

يكتنهه وصف الواصف من النعيم الخالد1، وتكون بين الفعل ومعموله2 وبين البدل والمبدل منه3 وبين القسم والمقسم عليه4. ولا بد لها من الاتصال بالكلام الذي وقعت معترضة فيه لأنها مسوقة لتوكيده وتقريره، يقول الزمخشري في قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} 5، وجملة: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وقعت فاصلا معترضا غير أجنبي من المعدود، وذلك أن الله عز وجل منَّ على عباده بإنشاء الأنعام لمنافعهم وبإباحتها لهم، فاعترض بالاحتجاج على ما حرمها والاحتجاج على من حرمها تأكيد وتسديد للتحليل، والاعتراضات في الكلام لا تساق إلا للتوكيد6. لقد أورد الزمخشري العديد من أنماط هذه الجمل الاعتراضية7.

_ 1 الكشاف 2/ 79. 2 في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ -كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ- يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ} [النساء: 73] . والكشاف 1/ 541. 3 في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ -إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا-، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ} [مريم: 41] . والكشاف 2/ 510. 4 في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ -لَوْ تَعْلَمُونَ- عَظِيمٌ} [الواقعة: 75] . والكشاف 4/ 58. 5 الأنعام: 143، 144. 6 الكشاف 2/ 57. 7 منها: في قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ، -يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 19] . يقول: وهذه الواو تسمى "واو اعتراضية" ليست حالية ولا عاطفة. الكشاف 1/ 218. وكذا تعليق ابن المنير بهامش الصفحة -وفي قوله سبحانه: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا -وَلَنْ تَفْعَلُوا- فَاتَّقُوا النَّارَ} [البقرة: 24] والكشاف 1/ 248، وتعليق ابن المنير، وكذا قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى -تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ- قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة: 111] ، والكشاف 1/ 304، وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ -آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ ... وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 11، 12] والكشاف 1/ 509، وقوله تعالى: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ -لَا رَيْبَ فِيهِ- مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 37] ، والكشاف 2/ 237، وقوله تعالى: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ -رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ- فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88] ، والكشاف 2/ 250، وأيضا الكشاف 3/ 42، 3/ 384.

4- الفصل بالاستثناء المنقطع: في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} 1. يقول: {إِلَّا أَمَانِيَّ} إلا ما هم عليه من أمانيهم وأن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم ... "، {إِلَّا أَمَانِيَّ} من الاستثناء المنقطع2. 5- الفصل بـ "بل": وتكون للإضراب وللاستدراك. أما الإضراب، فلا يتوقف على إلغاء الصفة وإثبات أخرى مثل ما في الآية الكريمة {فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} 3 فلما نكر عليهم الإمداد، وعلل إنكاره، أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه"4 بل يكون الإضراب بإلغاء الصفة الجديدة التي أثبتت، بصفة أخرى أقوى منها وأشد، ففي قوله تعالى: {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} 5 فالإضراب الأول معناه: رد أن يكون حكم الله أن يتبعوهم وإثبات الحسد، والثاني: إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى وصفهم بما هو أطم منه وهو الجهل وقلة الفقه"6. أما الاستدراك: ففي قوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ,

_ 1 البقرة: 78. 2 الكشاف 1/ 292. 3 النمل: 36. 4 الكشاف 3/ 148 وانظر إلى تفسيره قوله تعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} [ق: 2 و5] ، والكشاف 4/ 4. 5 الفتح: 15. 6 الكشاف 3/ 545.

نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} 1. يقول الزمخشري بل استدراك لقوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ} ، يعني بل هم أشباه البهائم لا فطنة بهم ولا شعور حتى يتأملوا ويتفكروا في ذلك أو استدراج أم مسارعة في الخير2. 6- الفصل بـ "أم" المنقطعة: وسميت المنقطعة، لوقوعها بين جملتين مستقلتين، ولا يفارقها حينئذ معنى الإضراب3، وفي الكشاف يتوقف الزمخشري عند قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} 2. يقول: أم حسبتم "أم" منقطعة، ومعنى الهمزة فيها للتقرير وإنكار الحسبان واستبعاده، ولما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف على النبيين بعد مجيء البينات تشجيعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر مع الذين اختلفوا من المشركين وأهل الكتاب وإنكارهم لآياته وعدوانهم له، قال لهم على طريقة الالتفات التي هي أبلغ {أَمْ حَسِبْتُمْ} 3.

_ 1 المؤمنون: 55، 65. 2 الكشاف 3/ 35. 3 انظر حاشية الصبان على شرح الأشموني 3/ 104، ط الحلبي، وشرح ابن عقيل 2/ 286، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ط السعادة، وانظر النحو الوافي لعباس حسن - 3/ 597 ط4، دار المعارف. 4 البقرة: 213، 214. 5 الكشاف 1/ 355، ومثلها في هذا، قوله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} [آل عمران: 142] ، والكشاف 1/ 466. وقوله تعالى: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [التوبة: 15 و16] ، والكشاف 2/ 178. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [هود: 12 و13] ، والكشاف 2/ 261.

ثالثا: في تذوق الفصل: 1- الفصل لتثبيت المعنى وتوكيده ويكون: "أ" بعطف البيان1: لأن البيان يعني: أن المبين هو عين الشيء المتقدم، لأنه تفسير له وتبيين، وبهذا يتكرر ذكره، وقد يكون في المعطوف عليه معنى من المعاني التي يتميز بها فيصير هذا المعنى وصفا للمعطوف وعلامة له، يقول الزمخشري في قوله تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، قَوْمَ فِرْعَوْنَ} 2 سجل عليهم الظلم بأن قدَّم القوم الظالمين، ثم عطفهم عليهم عطف البيان، كأن معنى القوم الظالمين وترجمته: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ} 3. ويقول في قوله تعالى: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} 4 {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ} مجرى المعطوف عطف البيان من المعطوف عليه في البيان والوضوح"5. "ب" وبالبدل: وفائدة البدلية هنا التوكيد، يقول الزمخشري في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ

_ 1 عطف البيان: تابع. جامد -غالبا- يخالف متبوعه في لفظه ويوافقه في معناه المراد منه الذات، مع توضيح الذات إن كان المتبوع معرفة، وتخصيصها إن كان نكرة، وبينه وبين بدل الكل من الكل مشابهة كاملة. عباس حسن، النحو الوافي 3/ 541. 2 الشعراء: 10. 3 الكشاف 3/ 106. 4 الأعراف: 12. 5 الكشاف 3/ 384، ومثله قوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة: 102] ، والكشاف 11/ 301، وقوله تعالى: {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} [إبراهيم: 28] ، والكشاف 2/ 377، وقوله تعالى: {أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60] ، والكشاف 2/ 278، وقوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ، مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} [غافر: 30 و31] ، والكشاف 3/ 426، وقوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} [فصلت: 28] ، والكشاف 3/ 452، وغيرها.

الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 1: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بدل من {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وهو في حكم تكرير العامل كأنه قيل: "اهدنا الصراط المستقيم اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم"، كما قال {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ} ، وفائدة البدل هنا، التوكيد، لما فيه من التثنية والتكرير والإشعار بأن الطريق المستقيم بيانه وتفسيره صراط المسلمين، ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده، كما تقول: هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم؟ فلان، فيكون ذلك في أبلغ في وصفه بالكرم والفضل من قولك: هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل، لأنك ثنيت ذكره مجملا أولا ومفصلا ثانيا، وأوقعت "فلانا" تفسيرا وإيضاحا للأكرم الأفضل فجعلته علما في الكرم والفضل، فكأنك قلت: من أراد رجلا جامعا للخصلتين فعليه بفلان، فهو المشخص المعين لاجتماعهما غير مدافع ولا منازع3. "ج" وبالتوكيد: ومن دواعي التوكيد التي ذكرها الزمخشري، ذلك الذي يكون لتقرير المعنى في نفس المخاطب وتثبيته، كما في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا} 4، يقول: تكرير الضمير بعد إيقاعه اسما لإن تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل ليتقرر في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان هو المنزل لم يكن تنزيله على أي وجه نزل إلا حكمة وصوابا"5. ومثله قوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} 6، يقول الزمخشري: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} توكيد لـ {إِنَّا مَعَكُمْ} لأن قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} معناه الثبات على اليهودية، وقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ

_ 1 الفاتحة: 6، 7. 2 الأعراف: 75 {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} . 3 الكشاف 1/ 68، 69. 4 الإنسان 23. 5 الكشاف 4/ 200. 6 البقرة: 14.

مُسْتَهْزِئُونَ} رد للإسلام. ودفع له منهم، لأن المستهزئ بالشيء المستخف به منكر له ودافع لكونه معتدا به، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته أو بدل منه لأنه من حقر الإسلام فقد عظم الكفر"1. 2- الفصل لإيضاح المعنى وبيانه: وذلك في قوله تعالى: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} 2. فقوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} جار مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدرتين بأما {فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} و {أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} ، وأن فريق العالمين بأنه الحق وفريق الجاهلين المستهزئين به كلاهما موصوف بالكثرة، وأن العلم بكونه حقا من باب الهدي الذي ازداد به المؤمنون نورا إلى نورهم، وأن الجهل بحسن مورده من الضلالة التي زادت الجهلة خبطا في ظلماتهم3، ومثله قوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} 4 "أنزله بعلمه" معناه أنزله متلبسا بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان، وموقعها مما قبلها، موقع الجملة المفسرة، لأنه بيان للشهادة وأن شهادته بصحته أنه أنزله بالنظم المعجز الفائت للقدرة5.

_ 1 الكشاف 1/ 186 ومثله قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] وانظر الكشاف 1/ 155. 2 البقرة: 26. 3 الكشاف 1/ 267. 4 النساء: 166. 5 الكشاف 1/ 584 ومثله قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [البقرة: 9] والكشاف 1/ 173، وقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} [البقرة: 187] ، والكشاف 1/ 338، وقوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ... نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 222] والكشاف 1/ 362، وقوله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ... } [آل عمران: 15] والكشاف 1/ 416، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس: 9] والكشاف 2/ 226، وانظر أيضا الكشاف 1/ 473، 2/ 331، 4/ 82.

3- الفصل للتفصيل بعد الإجمال: في آية الحث على الحج {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 1 يقول: في هذا الكلام أنواع من التوكيد والتشديد منها قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} يعني أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته، ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل عنه من استطاع إليه سبيلا، وفيه ضربان من التأكيد، أحدهما أن الإبدال تثنية للمراد، وتكرير له، والثاني: أن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال، إيراد له في صورتين مختلفتين2، ومثله قوله تعالى: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} 3 بالغ في تنبيهم على نعم الله حيث أجملها ثم فصلها مستشهدا بعلمهم، وذلك حين قال: {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} ثم عددها عليهم، وعرفهم المنعم بتعديد ما يعلمون من نعمته، وأنه كما قدر أن يتفضل عليكم بهذه النعمة فهو قادر على الثواب والعقاب، فاتقوه"4، وأيضا في قوله تعالى: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَا هُنَا آَمِنِينَ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هضِيمٌ} 5 {فِي مَا هَا هُنَا} في الذي استقر في هذا المكان من النعيم ثم فسره بقوله: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} وهذا أيضا إجمال ثم تفصيل"6.

_ 1 آل عمران: 97. 2 الكشاف 1/ 448. 3 الشعراء: 132-134. 4 الكشاف 3/ 122. 5 الشعراء: 146-148. 6 الكشاف 3/ 123.

4- الفصل للاستطراد: وذلك في قوله: {وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ، لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} 1، و"ثم" للتراخي في المرتبة لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليهم الأدبار، أما جملتا {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ} ، و {لَنْ يَضُرُّوكُمْ} فهما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب، كما يقول القائل "وعلى ذكر فلان، فإن من شأنه كيت وكيت" ولذلك جاءا من غير عاطف2. 5- الفصل للإجابة عن سؤال مقدر "الاستئناف": يعرف الزمخشري الاستئناف، بأنه: جواب لسؤال مقدر 3 ويكون الجواب لإفادة السامع معلومة تزيل الغموض الذي أدى إلى حاجته إلى السؤال، وقد يخرج عن هذا الإطار إلى أغراض أخرى بأن يجاب عن السؤال بما يفيد: - التعليل أو - التعجب أو - التوكيد أو - بيان السبب. ولنبدأ بالاستئناف الذي يزيل الغموض ويوضح الإبهام: ومن أمثلته قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 4، وموقع {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} استئناف، كأنه قيل: كيف

_ 1 آل عمران: 110، 111 2 الكشاف 1/ 455. 3 الكشاف 2/ 290. 4 آل عمران: 107.

يكونون فيها؟ فقيل: هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون1، ومثله قوله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} 2، و {رَضُوا} استئناف، كأنه قيل: ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء؟ فقيل: رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف3. وكذلك قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ، و {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} كلام مستأنف، كأنهم لما شبهت حالهم بحال المستوقد الذي طفئت ناره، اعترض سائل فقال: ما بالهم أشبهت حالهم حال هذا المستوقد؟ فقيل له: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} 5. "ب" الاستئناف للتعليل: في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} 6. يقول الزمخشري يجوز أن يكون {لَا يَأْلُونَكُمْ} صفة للبطانة وكذلك {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ} كأنه قيل: بطانة غير آليكم خبالا بادية بغضاؤهم -وأما وقد بينا، فكلام مبتدأ، وأحسن منه أن تكون مستأنفات كلها على وجه التعليل، للنهي عن اتخاذهم بطانة"7. ومثله قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ

_ 1 الكشاف 1/ 454. 2 التوبة: 93. 3 الكشاف 2/ 208. 4 البقرة: 17. 5 الكشاف 1/ 199، ومن أمثلة قوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] ، والكشاف 1/ 186، وقوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ} [البقرة: 19] ، الكشاف 1/ 216. 6 آل عمران: 118. 7 الكشاف 1/ 458.

فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} 1 {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} كلام مستأنف جار مجرى التعليل بعد استئناف إبليس من الساجدين، كأن قائلا قال: ما له لم يسجد؟ فقيل: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} 2. "ج" الاستئناف للتعجب: وقد تنطوي الإجابة على تعجب، كما في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} 3 يفسر الزمخشري: اللام جواب قسم محذوف، وهذه الجملة في حسن استئنافها غاية وفي أسلوبها قول القائل: وجارة جساس أبأنا بنابها ... كليبا غلت ناب كليب بواؤها4 وفي فحوى هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ التعجب، ألا ترى: ما أشد استكبارهم، وما أكبر عتوهم، وما أغلى نابا بواؤها كليب"5. "د" الاستئناف للتوكيد: وذلك في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} 6. يقول الزمخشري المعتزلي: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} جملة مستأنفة مؤكدة للجملة الأولى، فإن قلت: ما فائدة هذا التوكيد؟ قلت: فائدته أن قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} توحيد، وقوله: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} تعديل، فإذا أردفه قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} فقد آذن أن الإسلام هو العدل والتوحيد، وهو الدين عند الله، وما عداه فليس عنده في شيء من الدين7.

_ 1 الكهف: 50. 2 الكشاف 2/ 487. 3 الفرقان: 21. 4 انظر ص92 من الكتاب. 5 الكشاف 3/ 88. 6 آل عمران: 18 و19. 7 الكشاف 1/ 418.

"هـ" الاستئناف لبيان السبب: يقول في قوله تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} 1 {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى} الجملة في محل الرفع إن كان {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} مبتدأ، وإلا فلا محل لها، ونظم الكلام على الوجهين: أنك إذا نويت الابتداء بالذين يؤمنون بالغيب، فقد ذهبت به مذهب الاستئناف، وذلك أنه لما قيل {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} واختص المتقون بأن الكتاب لهم هدى، اتجه لسائل أن يسأل فيقول: ما بال المتقين مخصوصين بذلك؟ فوقع قوله {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إلى ساقته، كأنه جوب لهذا السؤال المقدر، ... ، وإن جعلته تابعا للمتقين وقع الاستئناف على {أُولَئِكَ} ، كأنه قيل: ما للمستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى، فأجيب: بأن أولئك الموصوفين غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلا وبالفلاح آجلا -واعلم أن هذا النوع من الاستئناف يجيء تارة بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث، كقوله: "قد أحسنت إلى زيد، وزيد حقيق بالإحسان"، وتارة بإعادة صفته كقوله "أحسنت إلى زيد صديقك القديم" فيكون الاستئناف بإعادة الصفة أحسن وأبلغ، لانطوائها على بيان الموجب وتلخيصه2.

_ 1 البقرة: 2-5. 2 الكشاف 1/ 138-140.

الزمخشري والوصل

ثانيا: الزمخشري والوصل: 1- الوصل اللفظي والوصل المعنوي: وذلك في قوله تعالى في سورة الرحمن: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} 1 فكيف اتصلت الجملتان بـ "الرحمن؟ "- يقول الزمخشري: استغني فيها عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي لما علم أن الحسبان حسبانه والسجود له لا غيره2، كأنه قيل: الشمس والقمر بحسبانه والنجم والشجر يسجدان له3. 2- أحوال الواو: "أ" "الواو" للوصل وللفصل أيضا. "ب" "الواو" تجمع بين المتشابهات. "ج" "الواوات" المتداخلة. "د" "الواو" الحال. "هـ" "الواو" لتوكيد معنى النفي. "و" الوصل "بالواو" لإثبات بشرية المسح وعبوديته. "ز" حكم الشرع يقتضي الوصل "بالواو" دون "أو". "أ" الواو للوصل وللفصل أيضا: في قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} 4. يقول الزمخشري: "ويستخلف" كلام مستأنف: يريد ويهلككم الله ويجيء بقوم آخرين. يخلفونكم في دياركم وأموالكم"5.

_ 1 الرحمن: 5، 6. 2 هكذا في النص. هل هي "لا لغيره"؟ 3 الكشاف 4/ 44. 4 هود: 57. 5 الكشاف 2/ 277.

"ب" الواو تجمع بين المتشابهات: في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ ... أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} 1. وهذا العطف، عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع، فكأن معناه أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما2. "ج" الواوات المتداخلة: في قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 3. أي: أنه تعالى الأول: القديم الذي كان قبل كل شيء، والآخر: الذي يبقى بعد هلاك كل شيء، والظاهر: بالأدلة الدالة عليه، والباطن: لكونه مدرك بالحواس. أما هذه الواوات، فالواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية، والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء، وأما الوسطى فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الآخريين فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية، وهو في جميعها ظاهر وباطن جامع للظهور بالأدلة والخفاء فلا يدرك. ويكمل الزمخشري المعتزلي حديثه قائلا: "وفي هذا حجة على من جوَّز إدراكه في الآخرة بالحاسة"4. "د" واو الحال: هي واو العطف استعيرت للوصل5، وفي قوله تعالى: {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} 6 الواو الأولى للحال، والثانية لعطف الجملة على الجملة الواقعة حالا. قد انتظمتهما معًا ما في

_ 1 الأحزاب: 35. 2 الكشاف 3/ 261. 4 الكشاف 4/ 61. 5 الكشاف 2/ 67. 6 البقرة: 247.

حكم واو الحال"1، وكذلك "واو" {لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} 2. "هـ" الواو لتوكيد معنى النفي: في قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} 3. يقول الزمخشري: "إذا وقعت الواو في النفي قرنت بها لتأكيد معنى النفي"4. "ز" الوصل بالواو لإثبات بشرية المسيح وعبوديته: وذلك في قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} 5. فعطف {مَنْ فِي الْأَرْضِ} على المسيح، لأنهما من جنسهم، لا تفاوت بينهما وبينهم في البشرية6. "ح" حكم الشرع يقتضي الوصل بـ "الواو" دون "أو": في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} 7، فالعطف بالواو، كما جاء بالواو في قولك للجماعة: "اقتسموا هذا المال، وهو ألف درهم: درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة" ولو ذهبت تقول: اقتسموا هذا المال درهمين درهمين، أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة -علمت أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموا إلا على أحد أنواع هذه القسمة، وليس أن يجمعوا بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو،

_ 1 الكشاف 1/ 379. 2 البقرة: 266 الكشاف 1/ 396. 3 فاطر 19. 4 الكشاف 3/ 306. 5 المائدة: 72. 6 الكشاف 1/ 601. 7 النساء: 3.

وتحريره أن الواو دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع، إن شاءوا مختلفين في تلك الأعداد، وإن شاءوا متفقين فيها محظورا عليهم ما وراء ذلك1. 3- الوصل ليس بالواو فقط: ولكن: بها وبالفاء وبثم، وبعلى، بلام الجر، وبإلى وببقية أدوات الربط. "أ" الوصل بـ "الفاء": 1- يفيد التسبيب والتعقيب: في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 2. فما معنى هذه الفاءات؟ يجيب الزمخشري: الأولى للتسبيب لا غير: لأن الظلم سبب التوبة، والثانية للتعقيب: لأن المعنى فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم من قبل الله تعالى، جعل توبتهم قتل أنفسهم والثالثة: متعلقة بمحذوف3 ... وكذلك في قوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} 4. 2- ويفيد الشرطية: وذلك في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 5، ودخول الفاء ضمنتها معنى الشرط، لأن المعنى والذي سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما6.

_ 1 الكشاف 1/ 497. 2 البقرة: 54. 3 الكشاف 1/ 281. 4 الأنفال 68، الكشاف 2/ 169. 5 المائدة 38. 6 الكشاف 1/ 611.

3- ويفيد المفاجأة: ففي قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا} 1. يقول الزمخشري: هذه المفاجأة بالاحتجاج والإلزام حسنة رائعة وخاصة إذا انضم إليها الالتفات وحذف القول، ونحوها قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} 2، وقول القائل: قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم الفقول فقد جئنا خراسانا3 ويكرر هذا التحليل في قوله تعالى: {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} 4. 4- ويفيد الترتيب في الوجود أو في الفضل أو في الوصف: في سورة الصافات يقول تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا، فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا، إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} 5 فهذه الفاءات العاطفة للصافات إما أن تدل على ترتيب معانيها في الوجود كقوله: يالهف زيابة للحرث الصا ... بح فالغانم فالآيب6

_ 1 الفرقان: 19. 2 المائدة: 19. 3 الكشاف 3/ 86. 4 الروم: 56، الكشاف 3/ 227. 5 الصافات: 1-3. 6 هو من أبيات الحماسة والشعر لابن زيابة في جواب الحارث بن همام حين قال: أيا ابن زيابة إن تلقني ... لا تلقني في النعم العازب والمعنى: يا حسرة أمي من أجل الحارث، الحارث اسم من غزاهم وصبحهم وغنم منهم وآب إلى قومه سالما، وقيل تهكم به بمعنى: أنه لم يحصل له تلك الأوصاف، فإن الحارث توعد ابن زيابة بالقتل ثم نكص عن جزائه وقيل هو على ظاهره. شرح شواهد الكشاف بزيل الكشاف 4/ 325، وانظر الحماسة لأبي تمام بشرح التبريزي 1/ 39 ط بيروت، واللام في الحارث للتعليل.

كأنه قيل: الذي صبح فغنم فآب، وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه، كقولك: خذ الأفضل فالأكمل، واعمل الأحسن فالأجمل، وإما على ترتب موصوفاتها في ذلك كقولك: رحم الله المحلقين والمقصرين، فإن قلت: فعلى أي هذه القوانين هي فيما أنت بصدده؟ قلت: إن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتب الصفات في التفاضل، وإن ثلثته فهي للدلالة على ترتب الموصوفات فيه، بيان ذلك أنك إذا أجريت هذه الأوصاف على الملائكة وجعلتهم جامعين لها فعطفها بالفاء يفيد ترتبا لها في الفضل، إما أن يكون الفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة. وإما على العكس1. "ب" الوصل بـ "ثم" يفيد: 1- التراخي في الحال: في قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 2، "ثم" ليس معناها التراخي في الوقت ولكن في الحال، كما تقول: هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل ثم كريم الفعل3، وكذلك في قوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 4، وقوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} 5، وقوله تعالى: {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى، ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} 6.

_ 1 الكشاف 3/ 334. 2 هود: 1. 3 الكشاف 2/ 258. 4 الحج 33، الكشاف 3/ 14. 5 الزمر: 6، الكشاف 3/ 188. 6 الأعلى: 4، الكشاف 4/ 244.

2- والاستبعاد: والاستبعاد يكون إذا كان ما بعد "ثم" أمرًا مستبعد الوقوع بالنسبة لما قبلها، أو بعبارة أخرى، إذا كان ما قبلها من الأحداث والأفعال مهيئا لعدم حصول ما بعدها، وذلك مثل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} 1. يقول الزمخشري: "في قوله: {ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} للاستبعاد: والمعنى أن الإعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل والعدل، كما تقول لصاحبك: وجدت مثل تلك الفرصة ثم لم تنتهزها، استبعادا لتركه الانتهاز، ومنه "ثم" في بيت الحماسة: لا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها2 استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدتها3، وقد تكرر هذا في قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} 4، وكذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} 5. 3- إذا تكررت فالكرة الثانية أبلغ من الأولى: فقد تكررت "ثم" في قوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} 6. فما معنى "ثم" الداخلة في

_ 1 السجدة: 22. 2 أي لا يكشف الخصلة الشديدة إلا رجل كريم يرى قحم الموت ثم يتوسطها لا يعدل عنها، وإنما قال ابن حرة ليصير مهيجا لأنفته -وفي إيثار لفظ "الزيارة" وإشعاره بأنه يلاقيها لقاء معظم لمحبوبه من المبالغة ما لا يخفى "شرح شواهد الكشاف" 4/ 417. 3 الكشاف 3/ 246. 4 النحل: 83، والكشاف 2/ 423. 5 البقرة: 84، والكشاف 1/ 293. 6 المدثر: 17/ 20.

تكرار الدعاء -يقول الزمخشري: هي للدلالة على أن الكرة الثانية أبلغ من الأولى ونحوه قوله: ألا يا سلمى ثم اسلمي ثمت اسلمي فإن قلت: ما معنى المتوسطة بين الأفعال التي بعدها؟ قلت: للدلالة على أنه قد تأنى في التأمل وتمهل، وكان بين الأفعال المتناسقة تراخ وتباعد1. كما في قوله تعالى: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ، ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} 2. 4- وتفيد بيان التفاضل: وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} 3 "ثم" في هذين الموضعين لبيان تفاضل الأمور الثلاثة: كان الثاني أعظم من الأول، والثالث أعظم منهما تشبيها لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت4. "ج" الوصل بـ "أو": "أو" في أصلها لتساوي شيئين فصاعدا في الشك ثم اتسع فيها فاستعيرت للتساوي في غير الشك، وذلك قولك: "جالس الحسن أو ابن سيرين" تريد أنهما سيان في استصواب أن يجالسا، ومنه قوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا} 5، أي الآثم والكفور متساويان في وجوب عصيانهما، وكذلك قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} 6. معناه: "أن

_ 1 الكشاف 4/ 183. 2 التكاثر: 6-8، والكشاف 4/ 281. 3 الفرقان: 45 و46. 4 الكشاف 3/ 94. 5 الإنسان: 24، والكشاف 4/ 200. 6 البقرة: 19.

كيفية قصة المنافقين مشبهة لكيفيتي هاتين القصتين، وأن القصتين سواء في استقلال كل واحدة منهما بوجه التمثيل، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب، وإن مثلتها بهما جميعا فكذلك"1، وفي "أو" التي بمعنى "الواو" قوله تعالى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا} 2. 5- أدوات أخرى للوصل: "أ" على: وتفيد الاستعلاء، ففي قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 3. فشهادة الرسول لهم لا عليهم، لكن لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له جيء بكلمة الاستعلاء. ومثله {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} 4، وأيضا: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ... } 5. "ب" لام الجر: ويستشف منها الزمخشري معنى أدبيًّا خلابا في قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} 6، يقول: فما معنى اللام في قوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} ، وما الفرق بينه وبين قولك: "كان عند الناس عجبا" معناه: أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها ونصبوه علما لهم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم، وليس في "عند الناس" هذا المعنى7.

_ 1 الكشاف 1/ 131. 2 الأنعام 146، والكشاف 2/ 58، أو الحوايا: أو ما اشتمل على الأمعاء. 3 المائدة: 117. 4 القلم: 21/ 22، وانظر الكشاف 4/ 144 وصارمين: حاصدين. 5 البقرة: 5، والكشاف 1/ 143. 6 يونس: 2. 7 الكشاف 2/ 224.

"ج" إلى: فإذا كان الفعل يتعدى مرة باللام ومرة بـ "إلى" فيبين الزمخشري دلالة كل في موضعه، يقول في قوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} 1، وقد عدي الفعل بـ "إلى" وفي قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} 2 قد عدي بـ "اللام" ومع اللام جعل وجهه وهو ذاته سالما لله أي خالصا له ومع "إلى" أنه أسلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه، والمراد المتوكلي عليه والتفويض إليه3. "د" قد: وتدل على التوقع، وإذا دخلت على المضارع كانت بمعنى "ربما" فوافقتها في الخروج إلى معنى التكثير، يقول في قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} 4. أدخل "قد" ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق، ومرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد، وذلك أن "قد" إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى "ربما" فوافقت "ربما" في خروجها إلى معنى الكثير في نحو قوله: فإن تمس مهجور الفناء وربما ... أقام به بعد الوفود وفود5 ونحو قول زهير: أخي ثقة لا تهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله6

_ 1 لقمان: 22. 2 البقرة: 112. 3 الكشاف 3/ 235. 4 النور: 64. 5 البيت لأبي العطاء السندي في ابن هبيرة، وكان قد قتله المنصور بواسط غدرا. الحماسة لأبي تمام 1/ 331. 6 الكشاف 3/ 79.

ويكرر هذه الفكرة في قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} 1. "هـ" ربما: وتكون بمعنى التقليل، كما في قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} 2، والقليل وارد على مذهب العرب في قولهم: "لعلك ستندم على فعلك، وربما ندم الإنسان على ما فعل"، ولا يشكون في تندمه ولا يقصدون تقليله، ولكنهم أرادوا لو كان الندم مشكوكا فيه أو كان قليلا لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل، لأن العقلاء يتحرزون من التعرض للغم المظنون، كما يتحرزون من المتيقن، ومن القليل منه كما من الكثير، وكذلك معنى الآية الكريمة: "لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة فبالحريِّ أن يسارعوا إليه، فكيف وهم يودونه في كل ساعة"3. "و" أداتا الشرط "إن" و"إذا": يقرر الزمخشري فيهما هذا المعنى المشهور، وهو أن "إن" للشرط المشكوك فيه، و"إذا" للشرط المتيقن، ويجتهد ليبين هذه الدلالة ومدى إصابتها للغرض، والمقام، ويفسر في ضوئها خصوصيات الكلمات في التركيب، يقول في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} 4، يتسائل: كيف قيل: "وإذا جاءتهم الحسنة" بـ "إذا" وتعريف "الحسنة" و {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} بـ "إن" وتنكير السيئة؟ ويجيب "لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه، أما السيئة فلا تقع إلا في الندرة ولا يقع إلا شيء منها، ومنه قول بعضهم: قد عددت أيام البلاء فهل عددت أيام الرخاء؟ "5.

_ 1 الأنعام: 33، والكشاف 2/ 14. 2 الحجر: 2. 3 الكشاف 2/ 386. 4 الأعراف: 131. 5 الكشاف 2/ 106.

وقد يرمز الذكر الحكيم باستعمال "إن" إلى شيء مما كانت تحتويه الحياة العربية من أخلاق وعادات في شيء من اللوم والتعنيف، ثم نجد الزمخشري يلتفت إلى هذا ويلفتنا إليه، يقول في قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 1، فإذا قلت: لم أقحم قوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} ؟ قلت: لأن الإكراه لا يتأتى إلا مع إرادة التحصن، وآمر الطيعة المواتية للبغاء لا يسمى مكرها ولا أمره إكراها، وكلمة "إن" وإيثارها على كلمة "إذا" إيذان بأن المساعيات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن"2. 4- الوصل بين الصفات المتعددة: "أ" لبيان تعدد الصفات للموصوف. "ب" لكمال الصفات في الموصوف. "ج" لبلوغ أحد الموصولين شهرة الآخر في الصفة. "أ" الوصل لبيان تعدد الصفات للموصوف: ففي قوله تعالى: {وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} 3 يعني ذلك أنه الجامع بين كونه كتابا منزلا وفرقانا يفرق بين الحق والباطل، يعني: التوراة، كقولك: رأيت الغيث والليث، تريد الرجل الجامع بين الجود والجرأة، ونحوه قوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} 4. يعني الكتاب الجامع بين كونه فرقانا وضياء وذكرا"5.

_ 1 النور: 33. 2 الكشاف 3/ 66. 3 البقرة: 53. 4 الأنبياء: 48. 5 الكشاف 1/ 281.

"ب" لكمال الصفات في الموصوف: وقد تقع الواو بين الصفات للإشارة إلى أن الموصوف بلغ الكمال في كل صفة منها، يقول في قوله تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} 1، والواو المتوسطة بين الصفات: للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها2. "ج" الوصل لبلوغ أحد الموصولين شهرة الآخر في الصفة: وأحد الموصولين هنا قد بلغ في الوصف المراد بيانه مبلغ الآخر الذي عرف وشهر ببلوغه الغاية في هذا الوصف، يقول الزمخشري في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} 3 وقد أذن عز وجل إذ قرن الأرحام باسمه أن صلتها منه بمكان، كما قال تعالى: {أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} 4، وأيضا في قوله تعالى: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} 5 جعل قتلهم الأنبياء قرينة له وإيذانا بأنهما في العظم أخوان6. 5- الوصل بين الصفات بعد الفصل بينها: وذلك: "أ" للجمع بين صفتين خاصتين منها. "ب" للتباين بين صفتين منها. "أ" للجمع بين صفتين خاصتين منها: وذلك في قوله تعالى: {حم، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، غَافِرِ

_ 1 آل عمران: 17. 2 الكشاف 1/ 417. 3 النساء: 1. 4 البقرة: 83، والكشاف 1/ 493. 5 آل عمران: 181. 6 الكشاف 1/ 184.

الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} 1. فما بال "الواو" في قوله {وَقَابِلِ التَّوْبِ} ؟ فيها نكتة، وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين، بين أن تقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات، وأن يجعلها محاءة للذنوب، كأن لم يذنب، كأنه قال: "جامع المغفرة والقبول"2. "ب" للتباين بين صفتين منها: والوصل هنا للإشارة إلى أن الموصوف يجمع بين صفتين، ولكن للإشارة إلى أنه لا يمكن الجمع بينهما لتنافي المعنى فيهما، ففي قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} 3. الصفات قد أخليت عن العاطف ووسط بين الثيبات والأبكار، لأنهما صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما اجتماعهن في سائر الصفات، فلم يكن بد من "الواو"4. 6- من أغراض ترتيب المفردات الموصولة: وخضعت المفردات الموصولة لقاعدة تقديم الأصل في المسألة على ما هو فرع، والأشد فيها على ما هو أخف، وكذا الأدل على القدرة الإلهية. "أ" تقديم الأدل على القدرة الإلهية: وذلك في قوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} 5. فقد قدمت الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز لأنها جماد والطير حيوان إلا أنه غير ناطق"6.

_ 1 الزمر: 1. 2 الكشاف 3/ 413. 3 التحريم: 5. 4 الكشاف 4/ 128. 5 الأنبياء: 79. 6 الكشاف 2/ 580.

"ب" تقديم الأصل على الفرع: في سورة "النور" تأتي كلمة "الزانية" قبل "الزاني" ثم تأتي ثانية ومعكوسة في ترتيبها، لماذا؟ يقول الزمخشري، في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} 1 لأن المرأة هي المادة التي منها نشأت الجناية، لأنها لو لم تطمع الرجل ولم تومض له، ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن، فلما كانت أصلا وأولا في ذلك بدئ بذكرها - أما في قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} 2 فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه لأنه هو الراغب والخاطب ومنه يبدأ الطلب3. "ج" تقديم الأشد على الأخف على الممكن: قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} 4، وقدمت هذه الأحوال بهذا الترتيب لبيان أنواع المضرورين، فمنهم من هو أشد حالا: وهو صاحب الفراش، ومنهم من هو أخف: وهو القادر على القعود، ومنهم المستطيع للقيام، وكلهم لا يستغنون عن الدعاء - وإذا جعلنا المضرور شخصا واحدا كان الترتيب لبيان أنه لا يزال داعيا الله تعالى في جميع حالاته: مضطجعا أو قاعدا أو قائما5. 7- من أغراض الوصل بين الجمل: "أ" الوصل للإشراك في الحكم الإعرابي: من ذلك قوله تعالى: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ، وَإِذْ قَالَتْ

_ 1 النور: 2. 2 الأنبياء: 3. 3 الكشاف 3/ 50.ج 4 يونس: 12. 5 الكشاف 2/ 227.

أُمَّةٌ مِنْهُمْ} 1، و {إِذْ يَعْدُونَ} في محل جر بدل من القرية، و {إِذْ تَأْتِيهِمْ} منصوب بـ {يَعْدُونَ} أما {وَإِذْ قَالَتْ} فمعطوف على {إِذْ يَعْدُونَ} وحكمه حكمه في الإعراب2. "ب" الوصل للتناسب: في قوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} 3، فبالرغم من أن الشمس والقمر سماويان، والنجم والشجر أرضيان، فيرى الزمخشري أن بين القبيلين تناسبا من حيث التقابل، وأن السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين، وإن جرى الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله، فهو مناسب لسجود الشمس والقمر4. "ج" الوصل للتفسير: وذلك في قوله تعالى: {كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} 5. أما قوله تعالى: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ} فهو نتيجة قوله: {كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ} ، وأما قوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} فجار مجرى البيان والتفسير لقوله تعالى: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ} كقولك: رزق زيد المال فمنع المعروف ولم يحسن إلى الفقراء6.

_ 1 الأعراف: 163، 164، وشرعا: ظاهرة على وجه الماء. 2 الكشاف 2/ 126. 3 الرحمن: 5، 6. 4 الكشاف 4/ 44. 5 الأعراف: 82، 83. 6 الكشاف 1/ 253.

"د" الوصل لتقرير المعنى: ففي قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1، والفرق بين {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 2. أن الخبرين قد اختلفا ها هنا، فلذلك دخل العاطف، بخلاف الخبرين ثمة، فإنهما متفقان لأن التسجيل عليهم بالغفلة، وتشبيههم بالبهائم شيء واحد، فكانت الجملة الثانية مقررة لما في الأولى فهي من العطف بمعزل و"هم" فصل3. "هـ" الوصل للاختصاص: ومن ذلك أن المعطوف عليه لا يكون مقصودا بالحكم، وإنما يذكر للدلالة على قوة اختصاصه بالمعطوف، ومن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} 4. يقول الزمخشري: "يجوز أن يجري مجرى قولك: سرني زيد وحسن حاله، وأعجبت بعمرو وكرمه، وفائدة هذا الأسلوب الدلالة على قوة الاختصاص، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بالمكان الذي لا يخفى، سلك به ذلك المسلك5، وفي قوله تعالى: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} 6 أراد ليحطمنكم جنود سليمان، فجاء بما هو أبلغ ونحوه: "أعجبت من نفسي ومن إشفاقها"7. "و" الوصل للتوكيد: وقد توصل الجملة الواقعة صفة للنكرة وحينئذ تفيد تأكيد وصل الموصوف

_ 1 البقرة: 5. 2 الأعراف: 179. 3 الكشاف 1/ 145. 4 الحجرات: 1. 5 الكشاف 3/ 553. 6 النمل: 18. 7 الكشاف 3/ 142.

بالصفة، يقول الزمخشري في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} 1. فإن قلت: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة، ولم دخلت عليها دون الأولين؟ قلت: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة، كما تدخل على الواقعة حالا عن المعرفة، في نحو قولك: جاءني رجل ومعه آخر، ومررت بزيد وفي يده سيف، ومنه قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} 2. وفائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على اتصافه بها أمر ثابت مستقر، وهذه الواو هي التي أذنت بأن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم قالوا عن ثبات وعلم، وطمأنينة نفس، ولم يرجموا بالظن، كما قال غيرهم، والدليل عليه أن الله سبحانه أتبع القولين الأولين قوله: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} وأتبع القول الثالث قوله: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} ، وقال ابن عباس: "حين وقعت الواو انقطعت العدة: أي لم يبق بعدها عدة عاد يلتفت إليه"3، ويكرر الزمخشري هذا التحليل في قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} 4. "ز" الوصل للفت إلى معنى يحدده سياق الكلام: ومن ذلك أن المعطوف قد لا يراد تشريكه في الحكم مع المعطوف عليه، وإنما يراد اللفت إلى معنى يحدده سياق الكلام، يقول الزمخشري في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} 5. قرأ جماعة "وأرجلكم" بالنصب، فدل على أن الأرجل مغسولة، فإن قلت: فما تصنع بقراءة الجزم ودخولهما في حكم المسح؟ قلت: الأرجل من بين الأعضاء المغسولة، تغسل بصب الماء عليها، فكانت مظنة الإسراف المذموم المنهي عنه، فعطف على الثالث الممسوح لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها"6.

_ 1 الكهف: 22. 2 الحجر: 4. 3 الكشاف 2/ 478. 4 الكشاف 2/ 487. 5 المائدة: 6. 6 الكشاف 1/ 597.

الزمخشري يتابع الجمهور في عدم وصل الخبرية بالإنشائية: وهنا يدور الزمخشري ويواكب النحويين والبلاغيين الذين يمنعون وصل الجملة الخبرية بالجملة الإنشائية. فيكره الحقيقة التي أقرها الأسلوب القرآني على أن تؤيد ما ذهبوا إليه. يقول في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ} 1. فإن قلت: علام عطف هذا الأمر ولم يسبق أمر ولا نهي يصح عطفه عليه؟ قلت: ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له كل من أمر أو نهي يعطف عليه، إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين، فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين، كما تقول: "زيد يعاقب بالقيد والإرهاق، وبشِّر عمرا بالعفو والإطلاق"2!! 8- من أغراض ترتيب الجمل الموصولة: "أ" تقديم الأعرق في القدوة: ففي قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} 3. فقد جاءت الأجناس الثلاثة على هذا الترتيب. كما يقول الزمخشري: لتقديم ما هو أعرق في القدرة وهو الماشي بغير آلة مشي من أرجل أو قوائم، ثم الماشي على الرجلين، ثم الماشي على أربع4. "ب" تقديم الأكثر في العدد: وقد تكون درجة الأهمية في كثرة العدد، ففي قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ

_ 1 البقرة: 24. 2 الكشاف 1/ 253. 3 النور: 45. 4 الكشاف 3/ 71.

سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1. قدم الظالم ثم المقتصد ثم السابق، للإيذان بكثرة الفاسقين وغلبتهم وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم والسابقون أقل من القليل2. "ج" تقديم الأقوى أثرا في حياة الناس: كما في قوله تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} 3، وقد قدم إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي لأن حياة الأناسي بحياة أرضهم وحياة أنامهم، فقدم ما هو سبب حياتهم وتعيشهم على سقيهم، ولأنه إذا ظفروا بما يكون سقيا أرضهم، ومواشيهم لم يعدموا سقياهم4. وكما في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآَنَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} 5. عدد الله عز وعلا آلاءه فأراد أن يقدم أول شيء ما هو أسبق قدما من ضروب آلائه وأصناف نعمائه وهي نعمة الدين، فقدم من نعمة الدين ما هو في أعلى مراتبها، وأقصى مراقبها وهو إنعامه بالقرآن.. وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره ثم أتبعه إياه ليعلم أنه إنما خلقه للدين ... ثم ذكر ما تميز به عن سائر الحيوان من البيان وهو: المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير"6. "د" تقديم الأسرع ورودا إلى النفس: كما في قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ} 7، وقدم

_ 1 فاطر: 32. 2 الكشاف 3/ 309. 3 الفرقان: 40. 4 الكشاف 3/ 95. 5 الرحمن: 1-5. 6 الكشاف 4/ 43. 7 النساء: 147.

الشكر هنا على الإيمان، لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع، فيشكر شكرا مبهما، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به، ثم شكر شكرا مفصلا، فكان الشكر متقدمًا على الإيمان وكأنه أصل التكليف ومداره2. "هـ" إحكام ترتيب الجمل بقصد تهذيب النفس: ففي مواقف تهذيب النفس وإرشادها إلى طريق البر وأخذ الوسائل التي تبعد بها عن مواطن الرذيلة يلمح الزمخشري: ترتيبا بين الجمل يلائم طبيعة النفس ويتسق مع أحوالها حيث تتوالى الأوامر وتتصاعد حسب الأحوال والشئون، يقول في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ... } إلى قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} 2. ما أحسن ما رتب هذه الأوامر حيث أمر أولا بما يعصم من الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية وهو غض البصر، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين، ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام، ثم بالحمل على النفس بالسوء وعزفها عن الطموح إلى الشهرة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه"3. "و" إغفال ترتيب الجمل بقصد تصوير اضطراب النفس: والآيات هنا يختلف ترتيبها في الظاهر موافقة لأحوال النفس، وما يعرض لها في المواقف الصعبة من مشاعر وخواطر، يسأل الزمخشري في قوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} 4. فهلا قرن الجواب بما هو جواب له وهو قوله: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ

_ 1 الكشاف 1/ 575. 2 النور: 30-33. 3 الكشاف 3/ 65. 4 الزمر: 56-59.

هَدَانِي} ولم يفصل بينهما بآية؟ ويجيب: "لا يخلو إما أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث، فيفرق بينهن، وإما أن تؤخر القرينة الوسطى. فلم يحسن الأولى لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن، وأما الثاني فلما فيه من نقص الترتيب، وهو التحسر على التفريط في الطاعة ثم التعلل بفقد الهداية ثم تمني الرجعة، فكان الصواب ما جاء عليه وهو: أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب"1. "ز" إغفال ترتيب الجمل بقصد تصوير سوء الطوية: ففي تقريع اليهود في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ... } 2، وقوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ... } 3 فإن قلت: فما للقصة لم تقص على ترتيبها وكان حقها أن يقدم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها وأن ما قص من قصص بني إسرائيل إنما قص تعديدا لما وجد منهم من الجنايات وتقريعا لهم عليها. ولما جدد فيهم من الآيات العظام، وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع، وإن كانتا متصلتين متحدتين، فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك، والثانية للتقريع على قتال النفس المحرمة، وما يتبعه من الآية العظيمة، وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل، لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة، ولذهب الغرض من تثنية التقريع، ولقد روعيت نكتة بعدما استؤنفت الثانية استئناف قصة برأسها، أن وصلت بالأولى دلالة على اتحادهما بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله: {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} حتى تبين أنها قصتان فيما يرجع إلى

_ 1 الكشاف 3/ 405. 2 البقرة: 67-71. 3 البقرة: 72-73.

التقريع، وتثنيته بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها، وإنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة1. 9- الوصل والنسق القرآني: يلتفت الزمخشري إلى ظاهرة أسلوبية دقيقة في نظم القرآن، يلتفت إلى الجملة التي تأتي في نسق مفصولة عما قبلها من جمل، وتأتي في نسق آخر، وقد وصلت بما قبلها، وذلك لأن المعنى قد لا يتسق إلا بالوصل أو لا يتسق إلا بالفصل، فما الفصل والوصل إلا وسيلة فنية لتحقيق أهداف المعنى المقصود. في سورة الحج ترد جملة {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} 2، ثم تمضي ثلاثون آية وتأتي نفس الجملة وهي مفصولة {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} 3، ويتساءل الزمخشري: لم جاءت نظيرة هذه الآية معطوفة بالواو وقد نزعت عن هذه؟ فيجيب: لأن تلك وقعت مع ما يدانيها ويناسبها من الآي الواردة في أمر الناسك فعطفت على أخواتها4، وأما هذه فواقعة مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفا5. ومثال آخر موصول بالفاء مرة ومفصول عنها أخرى: في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} 6. وفي نفس السورة جاءت {لَهُمْ

_ 1 الكشاف 1/ 290. 2 الحج: 34. 3 الحج: 67. 4 يقصد قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ ... } من 30-33. 5 يقصد قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ، لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} [الحج: 65] ، والكشاف 3/ 21. 6 البقرة: 262.

أَجْرُهُمْ} "بالفاء" {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} 1. يقول الزمخشري: الموصولة لم تضمن معنى الشرط وضمنته المفصولة -والفرق بينهما من جهة المعنى أن الفاء فيهما دلالة على أن الإنفاق به استحق أجرهم عند ربهم"2. وقد تجيء الجملة موصولة برابط واحد في مكانين مع: تقديم وتأخير يقتضيه السياق: وذلك في قوله تعالى في سورة يونس: {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} 3، وفي سورة سبأ: {عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 4، وحق السماء أن تقدم على الأرض -ولكنه تعالى- لما ذكر شهادته على شئون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم ووصل بذلك قوله: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ} لازم ذلك أن قدم الأرض على السماء، على أن العطف بالواو حكمه حكم التثنية"5. وقد تجيء موصولة برابطين لاختلاف القصد في المرتين: وذلك في قوله تعالى في سورة الأنعام: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا

_ 1 البقرة: 274. 2 الكشاف 1/ 394. 3 يونس: 61. 4 سبأ: 3. 5 الكشاف 2/ 243 ومثلها قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} [الشعراء: 208] ، وقوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} [الحجر: 4] ، انظر الكشاف 3/ 130، وقوله تعالى: {يُذَبِّحُونَ} في سورة البقرة - 49، {ويُذَبِّحُونَ} في سورة إبراهيم - 14، وانظر الكشاف 2/ 368 وما بعدها.

كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} 1، وقوله تعالى في سورة آل عمران: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} 2. يقول الزمخشري: جعل النظر مسببا عن السير في قوله {فَانْظُروا} فكأنه قيل: سيروا لأجل النظر ثم انظروا ولا تسيروا سير الغافلين، وأما قوله: {ثُمَّ انْظُرُوا} فمعناها: إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ونبه على ذلك بـ "ثم" لتباعد ما بين الواجب والمباح3. الوصل والقصص القرآني: ويقوم الوصل بدور مهم في الربط بين عناصر القصة، أو في الربط بينها ما يشبهها في المضمون أو الهدف، لتتحول إلى قصة طويلة متعددة الأجزاء - ففي سورة البقرة عطف قصة المنافقين من أول قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} 4 إلى قوله: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} 5 على قصة الذين كفروا، من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} 6 إلى قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 7 لأن المنافقين جبناء يظهرون غير ما يبطنون فلا يناسبهم في المقام إلا أن يعطفوا بقصتهم على قصة الكفار وتصير القصتان قصة طويلة لها جزآن. ومر بنا كيف أبرز الوصل عناصر قصة الخبث اليهودي وجناياتهم، فالجنايات كلها في درجة واحدة من الإثم، فلا مبرر للتسلسل المنطقي للأحداث فإغفال الترتيب أصدق تصوير للنفس غير السوية التي لا قرار لها ولا إيمان8.

_ 1 الأنعام: 11. 2 آل عمران: 137. 3 الكشاف 2/ 7. 4 البقرة: 8. 5 البقرة: 20. 6 البقرة، 6/ 11 {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} . 7 البقرة: 7، والكشاف 1/ 165. 8 الكشاف 1/ 290.

وقد تعمد القصة إلى ترديد صيغة تصلح خاتمة وبداية لفصل آخر كما في سورة هود، وفيها قصص الأنبياء عليهم السلام، نجد صيغة {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} قد تكررت أربع مرات3، مرتان موصولة بالواو ومرتان بالفاء، ويسأل الزمخشري: فإن قلت ما بال ساقتي قصة عادة وقصة مدين جاءتا بالواو، والساقتان الوسطيان بالفاء، قلت: وقعت الوسطيان بعد ذكر الوعيد، وذلك قوله: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْح} {ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} فجيء بالفاء الذي هو للتسبب، كما تقول: وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت، وأما الأخريان فلم تقعا بتلك المثابة، وإنما وقعتا مبتدأتين فكان حقهما أن تعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما، كما تعطف قصة على قصة2. وتسجل الواو السؤال والجواب الدائر بين شخصيتين في القصة بما يتناسب وقيمة الحدث، كما في قصة سليمان عليه السلام وبلقيس ملكة سبأ، يقول تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} 3، يقول الزمخشري: "وأوتينا العلم من كلام سليمان وملئه، فإن قلت: علام عطف هذا الكلام وبم اتصل؟ قلت: لما كان المقام الذي سئلت فيه عن عرشها وأجابت بما أجابت به، مقاما أجرى فيه سليمان وملؤه ما يناسب قولهم وأوتينا العلم نحو أن يقولوا عند قولهم كأنه هو: قد أصابت في قولها وطبقت المفصل، وهي عاقلة لبيبة وقد رزقت الإسلام وعلمت قدرة الله وصحة النبوة بالآيات التي تقدمت عند وفدة المنذر، وبهذه الآية العجيبة من أمر عرشها عطفوا على ذلك قولهم -وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته وبصحة ما جاء من عنده قبل علمها ... "4.

_ 1 سورة هود: "أ" {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا} -آية 58. "ب" {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا} -آية 66. "ج" {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} -آية 82. "د" {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا} -آية 94. 2 الكشاف 2/ 290، الساقة: المؤخر من الشيء. 3 النمل: 42. 4 الكشاف: 3/ 150.

11- الوصل في مسألة كلامية: كثر الاختلاف في تفضيل الأنبياء على الملائكة بين المعتزلة والأشاعرة، فذهب جمهور الأشعرية إلى تفضيل الأنبياء، وذهب جماعة المعتزلة إلى تفضيل الملائكة، ودار النقاش حول هذه الآية الكريمة: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} 1، ويفسر الزمخشري "ولا من هو أعلى منه قدرا وأعظم منه خطرا وهم الملائكة المقربون الذين حول العرش كجبريل وميكائيل وإسرافيل ومن في طبقتهم، فإن قلت: من أين دل قوله: {وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} على أن المعنى ولا من فوقه؟ قلت: من حيث أن علم المعاني2 لا يقتضي غير ذلك، وذلك أن الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن منزلة العبودية، فوجب أن يقال لهم لن يترفع عيسى عن العبودية، ولا من هو أرفع منه درجة؟ كأنه قيل: لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية، فكيف بالمسيح؟ ... ، ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية قوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى} 3 حتى يعترف بالفرق البيِّن4. ويرد ابن المنير السكندري على قول الزمخشري قائلا: "وقد كثر الاختلاف في تفضيل الأنبياء على الملائكة، فذهب جمهور الأشعرية إلى تفضيل الأنبياء، وذهب القاضي أبو بكر والحليمي وجماعة المعتزلة إلى تفضيل الملائكة -واتخذ المعتزلة هذه الآية عمدتهم في تفضيل الملائكة من حيث الوجه الذي استدل به الزمخشري، ونحن بعون الله نشبع القول في المسألة من حيث الآية فنقول: ... أولا ... وثانيا ... وثالثا....: أنه عطف الملائكة على المسيح بالواو وهي لا تقتضي ترتيبا ... "5.

_ 1 النساء: 172. 2 لاحظ أن السكاكي لم يأت بمصطلح "علم المعاني" ولا بمصطلح "علم البيان"، من عنده ومصدرهما الزمخشري. انظر الكشاف 1/ 16 و2/ 290 وانظر البحث ص90. 3 البقرة: 120. 4 الكشاف 1/ 585 وما بعدها. 5 الكشاف هامش 1/ 585 وما بعدها.

وبعد. فقد تحول فن الفصل والوصل على يد الزمخشري إلى ينابيع تفيض معاني ذت أشكال ومضامين وأبعاد لا يغيض لها معين، إن فصلا وإن وصلا. لم يضف الزمخشري شيئا على حقيقة فن الفصل والوصل، لكنه اجتهد في أن يبرز مكنوناته من خلال وجوده في ثنايا الأسلوب القرآني. وحاول أن يفتق ما يفتق من أكمامه. فهذا جهد الزمخشري وذاك جهد الجرجاني ثم يأتي ما صنعه السكاكي والقزويني والسبكي ويظل الباب مفتوحا لكل جهد ولكل إضافة. وجد الزمخشري أن الفصل وصل تقديري، وأن لا بلاغة لوصل دون فصل، فقد يكون فصلا وأبلغ منه الوصل، وأن التناسق الداخلي للجمل أقوى من وصلها برابط، وهذه من اللفتات اللماحة التي لا يصل إليها إلا من كان على شاكلة الزمخشري. وللفصل أدوات عديدة مثلما للوصل، وله أغراض مختلفة مثلما للوصل، ومن أدق ما وصل إليه الزمخشري كشف سر الصفات المتعددة الموصولة، فهي لبيان مواطن القوة لدى الموصوف، أو للتقرير على أنه قد بلغ الكمال في الصفات التي وصف بها أو أن صفة قد بلغت شهرة صفة أخرى فوصلت بها، ثم يأتي دور الزمخشري في بيان بلاغة ترتيب المفردات الموصولة {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 79] . تقدم ذكر الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة، وأدخل في الإعجاز، لأنها جماد والطير حيوان، إلا أنه غير ناطق1. كما يقدم الأصل على الفرع أيضا والأشد على الأخف وعلى الممكن كذلك. وعند وصل الجمل لا يتقيد الزمخشري بقاعدة سوى ما بين يديه من نص نابض يستوجبه ويستخرج طاقاته، فيكون الوصل للتفسير ولتقرير المعنى وللتوكيد، وأيضا يأتي الفصل للتوكيد والإيضاح والتفصيل بعد الإجمال - النص

_ 1 الكشاف 2/ 580.

هو الْحَكم وهو الْحُكم، والذوق السليم هو الأداة، والخبرة والمران هما الوسيلة الْمُعينة، والتقليد البليد لا محل له في مجال الإبداع. ومع ترتيب الجمل يلتفت الزمخشري إلى الروائع، وكأنه يقول: أنتم لم تقرءوا القرآن كما يريد القرآن أن يقرأ، عودوا إليه لتكتشفوا غرائبه وعجائبه، فالجمل لا يقع ترتيبها عشوائيا، وهي ليست جملا مرصوصة، بل لها هندسة مرسومة يحار في شأنها المتأمل، فالجمل إذا تعددت تتقدم ما تفيد في معناها: الأعرق في القدرة على غيرها من جمل، وتتقدم ما تفيد الأقوى أثرا في حياة الناس، وكذا الأسرع ورودا في النفس، وحين تتماسك الجمل في ترابطها وتتعانق في معانيها فهي قاصدة إلى تهذيب النفس وإرشادها إلى الطريق السوي، ثم -وهذا هو العجيب- حين نرى الجمل بمعانيها وقد أخذت شكلا لا يوصف بالترتيب الدقيق يكتشف الزمخشري أنه مقصود لذاته لأنه يصور اضطراب النفس أو يصورها، وقد ساءت دخيلتها وبارت نواحيها، وينظر الزمخشري إلى النسق القرآني ويلحظ فيه أنه لا يفضل فصلا على وصل إنما يؤثر الوضوح والجلاء والجمال. والذي يؤدي الغرض يتبوأ مكانه لا خلط ولا لبس. وفي القصص القرآني. وهو درس يحتاج إلى وقفة طويلة، قد لعب الوصل دورا مهما في تصوير أحداث القصة وفي ربط عناصرها بعد تحويلها إلى مشاهد قصيرة تتحول في النهاية إلى رواية طويلة، وفي تسجيل الحوار يبرز الفصل والوصل، فيكون الحوار موصولا مصورا دقائق الموقف أو يكون مفصولا موجزا مصورا جوانب منه. والفصل والوصل في كل ميادينه يراعي الجانب المنطقي ويراعي مقتضى حال المخاطب نفسا وعلما وذوقا. ومع الوصل، يقف المتكلمون يفسرون الآية لتؤيد مذهبهم، والفقهاء يستخرجون منها حكما يوافق ما ذهبوا إليه في الشرع، وهنا يبحثون لأداة الربط عن معان ومعان بل ويحولون الربط إلى قطع حتى يستقيم المضمون مع الغرض،

وإن كانت هذه المسائل قليلة في ميدان التشريع والكلام لكنها طريفة حين يتحكم النص في القضية المذهبية ويجتهد معه كل فريق يطوعه لأهدافه. جوانب عديدة تلك التي للفصل والوصل، فنا وكلاما، شرعة وبيانا، وخيالا وقصصا وجمالا. ولنتابع جهد البلاغيين التالين.

ثانيا: تقعيد السكاكي

ثانيا: تقعيد السكاكي مدخل ... ثانيا: تقعيد السكاكي: تمهيد: لست بحاجة إلى تبرير القول حين أقول: إن عهد ازدهار فن البلاغة قد ولى برحيل جهود الزمخشري وأساتذته، وأن عهدا جديدا قد بدأ على يد السكاكي وتلامذته، الذي اهتم بأن يضع البلاغة في قوالب، ويضبطها في أحكامها ويبوبها في مقدمات ونتائج. فكان له ما أراد. وكان "مفتاح السكاكي" مفتاح هذا العصر، والنموذج المحتذى بما فيه من تعقيد وتبويب، ونال الفصل والوصل حظه، غير منقوص من التنظيم والترتيب - وجاء الخطيب القزويني "739هـ" فألف كتابه "تلخيص المفتاح" و"الإيضاح" الذي جعله شرحا لتلخيص المفتاح. وإذا كان الجرجاني قد أعاد تشكيل مادة الفصل والوصل وأبرز مضمونها، ثم أخذ الزمخشري في ضوئها وبهدي من موهبته وقدراته الفنية، يحلل آيات القرآن الكريم، فإن القزويني - بعد أن جرد السكاكي المادة من الفضول والعطور- قد وضع الصورة النهائية لثبات قواعد الفصل والوصل. وكانت هذه جريرة الشراح الذين داروا في فلك القزويني وتلخيصه، فانقطعت الأواصر بين "فصل ووصل" الزمخشري، ومن سبقه وبين "فصل ووصل" السكاكي والقزويني ومن تبعه. ومع السكاكي أقدم الفصل والوصل كاملا، كما حدده وقعد له، لأنه بداية مرحلة جديدة وأيضا نهاية مرحلة مجيدة عاش في ربوعها الفصل والوصل وازدهر. عن أحوال الجملة عند السكاكي: يقول: ليس يمتنع بين مفهومي جملتين: "أ" اتحاد بحكم التآخي وارتباط لأحدهما بالآخر، "ب" ولا أن يباين أحدهما الآخر مباينة الأجانب لانقطاع الوشائج بينهما، "ج" ولا أن يكونا بين بين لآصرة رحم، فيتوسط حالهما بين الأولى والثانية. والفصل والوصل، ترك العاطف وذكره على الجهات1 الثلاث السابقة.

_ 1 السكاكي -مفتاح العلوم- 139 وما بعدها، ط الحلبي، الثانية، 1990م.

أولا: السكاكي وفن الفصل

أولا: السكاكي وفن الفصل: يعرض السكاكي لضرورة الفصل بين الجملتين اللتين بينهما اتحاد بحكم التآخي، فيتدرج بالفكرة إلى أن يصل بالقارئ إلى أن الفصل لا بد أن يقع بين هاتين الجملتين ليستقيم المعنى، يقول: 1- الإعراب صنفان: صنف ليس بتبع، وصنف تبع، والصنف الثاني منحصر في البدل والوصف والبيان والتأكيد، وإتباع الثاني الأول في الإعراب. 2- وفي هذه التوابع، يقرر أئمة النحو أن المتبوع في نوع البدل في حكم المنحى والمضروب عنه، وفي الوصف والبيان، التابع فيها هو المتبوع، فالعالم في "زيد العالم عندك" ليس غير زيد، وعمرو في "أخوك عمرو عندي" ليس غير "أخوك"، ونفسه في "جاء خالد نفسه" ليس غير خالد. 3- ولأن حرف "الواو" يستدعي معناه أن لا يكون معطوفه هو المعطوف عليه، لامتناع أن يقال "جاء زيد وزيد" وأن يكون زيد الثاني هو زيد الأول. حصل لك سبب ترك العطف في هذا الصنف من الجمل، فالفصل في جمل البدل لفوات شرط حكم "الواو" وفي جمل الوصف

والبيان والتوكيد لفوات شرط فائدة "الواو" وفيها جميعا لفوات شرط القبول، وهو أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه جهة جامعة مثل ما ترى "الشمس والقمر" و"السماء والأرض" بخلاف "الشمس ومرارة الأرنب" و"سورة الإخلاص والرجل اليسرى من الضفدع"1. 1- الفصل لكمال الاتصال: كمال الاتصال: أن تكون الجملة الثانية قد نزلت من الأولى منزلة نفسها، بأن تكون موضحة لها أو مبينة أو مؤكدة لها ومقررة أو بدلا منها. "أ" الفصل للإيضاح والتبيين: والحالة المقتضية لذلك أن يكون بالكلام السابق نوع خفاء والمقام مقام إزالة لهذا الخفاء. ومن أمثلة الإيضاح والتبيين: قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، يُخَادِعُونَ اللَّهَ} 2 لم يعطف "يخادعون" على ما قبله لكونه موضحا له ومبينا من حيث إنهم حين كانوا يوهمون بألستنتهم أنهم آمنوا وما كانوا مؤمنين بقلوبهم، قد كانوا في حكم المخادعين، وقوله تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} 3 لم يعطف "قال" على "وسوس" لكونه تفسيرا له وتبيينا4. "ب" الفصل للتوكيد: والحالة المقتضية لذلك ظاهرة، ومن أمثلته، قوله تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} 5 لم يعطف {لا رَيْبَ فِيهِ} على {ذَلِكَ

_ 1 المفتاح 140، 141 وقد تدخلت في سياق النص لأقرب مفهومه. 2 البقرة: 8، 9. 3 طه: 120. 4 المفتاح 150. 5 البقرة: 2، المفتاح 150.

الْكِتَابُ} حين كان وزانه في الآية وزان "نفسه" في قولك "جاءني الخليفة نفسه" أو وزان "بينا" في قولك "هو الحق بينا" يدلك على ذلك أنه حين بولغ في وصف الكتاب ببلوغه الدرجة القصيا من الكمال والوفرة في شأنه تلك المبالغة، حيث جعل المبتدأ لفظة "ذلك" وأدخل على الخبر حرف التعريف بشهادة الأصول -كما سبقت- كان عند السماع قبل أن يتأمل مظنة أن ينظمه في سلك ما قد يرمي به على سبيل الجزاف من غير تحقق وإيقان، فأتبعه {لا رَيْبَ فِيهِ} نفيا لذلك، وقد أصيب به المحز اتباع "نفسه" "الخليفة"، إزالة لما عسى يتوهم السامع أنك في قولك "جاءني الخليفة" متجوز أو ساه، وتقرير كونه حالا مؤكدة ظاهر. وكذلك فصل {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} لمعنى التقرير فيه للذي قبله، لأن قوله {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} مسوق لوصف التنزيل بكمال كونه هاديا، وقوله {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} تقديره كما لا يخفى "هو هدى" وأن معناه: نفسه هداية محضة بالغة درجة لا يكتنه كنهها، وأنه في التوكيد والتقرير لمعنى: أنه كامل في الهداية كما ترى"1. "ج" الفصل للبدل: والحالة المقتضية للإبدال أن يكون الكلام السابق غير واف، والمقام مقام اعتناء بشأنه، إما لكونه مطلوبا في نفسه أو غريبا أو فظيعا أو عجيبا أو لطيفا. فيعيده المتكلم بنظم أوفى منه. ومن أمثلته: قول الشاعر: أقول له ارحل لا تقيمن عندنا ... وإلا فكن في السر والجهر مسلما فصل "لا تقيمن" عن "ارحل" لقصد البدل، لأن المقصود من كلامه

_ 1 المفتاح 151.

هذا كمال إظهار الكراهة لإقامته بسبب خلاف سره العلن، وقوله: لا تقيمن عندنا، أوفى بتأدية هذا المقصود من قوله: "ارحل" لدلالة ذاك عليه بالتضمن مع التجرد عن التأكيد، ودلالة هذا عليه بالمطابقة مع التأكيد، كذلك قوله تعالى: {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} 1 فصل {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا} عن {قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ} لقصد البدل، ولك أن تحمله على الاستئناف، لما في قوله: {مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ} من الإجمال المحرك للسامع أن يسأل ماذا قالوه2. الفصل لكمال الانقطاع: وذلك حين يكون بين الجملتين جهة جامعة بأن: "أ" تختلفا خبرا وطلبا: مثل قوله: وقال رائدهم أرسوا نزاولها ... فكل حتف امرئ يجري بمقدار3 وقوله: ملكته حبلى ولكنه ... ألقاه من زهد على غاربي4 وقال إني في الهوى كاذب ... انتقم الله من الكاذب لأنه أراد الدعاء بقوله "انتقم الله" وكذا قولهم "مات فلان رحمه الله".

_ 1 المؤمنون: 81 و82. 2 المفتاح 150. 3 الرائد: الدليل الذي يتقدم القوم، أرسوا: أمر من أرسيت السفينة أي حبستها ووقفتها، أو بمعنى: ثبتوا أقدامكم، تزاولها: نحاولها وتعالجها والضمير: قيل للحرب وقيل للخمر، حتف: موت، مقدار: قدر وانظر المفتاح 151. 4 ملكته حبلى: تخصصت له، الغارب: الكاهل وإلقاء الحبل على الغارب كناية عن الإهمال.

"ب" ألا يكون بين الجملتين مناسبة: كأن تكون في حديث ويقع في خاطرك بغتة حديث آخر، لا جامع بينه وبين ما أنت فيه بوجه فتفصل، ومثال ذلك: أن تكون في حديث مثل "كان معي فلان فقرأ -ثم خطر ببالك أن صاحب حديثك جوهري ولك جوهرة لا تعرف قيمتها، فتعقب كلامك قائلا: "لي جوهرة لا أعرف قيمتها هل أرينكها". أو تكون في حديث ويقع في خاطرك بغتة حديث آخر بينهما جامع غير ملتفت إليه لبعد مقامك عنه ويدعوك إلى ذكره داع فتورده مفصولا، ومثال ذلك: وجدت أهل مجلسك في ذكر خواتم لهم يقول واحد منهم خاتمي كذا -يصفة بحسن صياغة وملاحة نقش ونفاسة فص وجودة تركيب وارتفاع قيمة، ويقول آخر: كذا ... ، ويقول آخر: ... وإن خاتمي بديع الشكل خفيف الوزن لطيف النقش ثمين الفص إلا أنه واسع لا يمسكه إصبعي، وأنت حين قلت: إن خاتمي ضيق تذكرت ضيق خفك وعناءك منه، فلا تقول: وخفي ضيق، لنبو مقامك عن الجمع بين الخاتم وذكر الخف، فتختار القطع قائلا: خفي ضيق، قولوا ماذا أفعل؟ ومثله قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} من هذا القبيل، قطع {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} عما قبله، ولكون ما قبله حديثا عن القرآن، وإن من شأنه كيت وكيت، وكون الذين كفروا حديثا عن الكفار وعن تصميمهم في كفرهم. والفصل لازم للانقطاع، لأن الواو معناه الجمع. ومن هنا عابوا أبا تمام في قوله: لا والذي هو عالم أن النوى ... صبر وأن أبا الحسن كريم1 "ج" أن تريد قطع الجملة الثانية عن الأولى2:

_ 1 المفتاح 152 و153. 2 نفسه 147 و148.

والحالة المقتضية للقطع نوعان: أحدهما: أن يكون للكلام السابق حكم وأنت لا تريد أن تشركه الثاني في ذلك فتقطع، ويسمى "قطعا". وثانيهما: أن يكون الكلام السابق بفحواه، كالمورد للسؤال فتنزل ذلك منزلة الواقع، ويطلب بهذا الثاني وقوعه جوابا فيقطع عن الكلام السابق لذلك، ويسمى "استئنافا". 1- القطع: وهذا القطع إما أن يأتي على وجه الاحتياط، وإما على وجه الوجوب، ووجه الاحتياط: إذا وجد قبل الكلام السابق كلام غير مشتمل على مانع من العطف عليه، مثل قوله: وتظن سلمى أنني أبغي بها ... بدلا أراها في الضلال تهيم لم يعطف "أراها" كيلا يحسب السامع العطف على "أبغي" دون "تظن" ويعد "أراها في الضلال تهيم" من مظنونات سلمى في حق الشاعر وليس هو بمراد، إنما المراد: أنه حكم الشاعر عليها بذاك، ... ، وإياك أن ترى الفصل لأجل الوزن، فما هو هناك1. ومن أمثلة القطع للوجوب: قوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} 2 لم يعطف {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} للمانع عن العطف، بيان ذلك، أنه لو عطف لكان المعطوف عليه، إما جملة "قالوا" وإما جملة {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} لكن لو عطف على {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}

_ 1 المفتاح 147. 2 البقرة: 14، 15.

لشاركه في حكمه، وهو كونه من قولهم، وليس هو المراد، ولو عطف على "قالوا" لشاركه في اختصاصه بالظرف المقدم، وهو {إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} وليس هو المراد، فإن استهزاء الله بهم وهو أن خذلهم فخلاهم وما سولت لهم أنفسهم بكل حال، خلوا إلى شياطينهم أم لم يخلوا إليها -ومثله قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} 1، وكذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} 2. 2- القطع للاستئناف: وهو الإجابة عن سؤال مقدر في الجملة الأولى: ولا يصار إليه إلا لجهات لطيفة، إما لتنبيه السامع على موقعه، أو لإغنائه أن يسأل، أو لئلا يسمع منه شيء، أو لئلا ينقطع كلامك بكلامه، أو للقصد إلى تكثير المعنى بتقليل اللفظ، ومن أمثلته العديدة قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 3. فصل {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ} ليقع جوابا للسؤال الذي يخطر من قوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} وهو: إي والله نبئنا على أي مخلوق تنزل؟ " ومن الآيات الواردة على الاستئناف قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ، قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ... } 4. فإن الفصل في جميع ذلك بناء على أن السؤال الذي يستصحبه تصور مقام المقاولة من نحو، فماذا قال موسى؟ فماذا قال فرعون؟ وكذلك قوله: {قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ، قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} 5 الفصل على: ماذا قال؟ وماذا قالوا؟.

_ 1 البقرة: 11، 12. 2 البقرة: 13. 3 الشعراء: 221، 222. 4 الشعراء: 23-26. 5 الأنبياء: 53-55.

ومثله قول الشعر: زعم العواذل أن ناقة جندب ... بجنوب خبت عريت وأجمت كذب العواذل لو رأين مناخنا ... بالقادسية قلن لج وذلت1 فصل "كذب العواذل" فلم يعطفه ليقع جوابا لسؤال اقتضاه الحال عند شكواه من النساء العاذلات بقوله: "زعم العواذل أنه كان كيت وكيت. وهو هل كذب العواذل في ذلك أم صدقن؟ ... إلخ"2. 3- فصل جمل الحال3: ويقول السكاكي: وإذا لخصنا الكلام في الفصل والوصل إلى هذا الحد، فبالحري أن نلحق به الكلام في الحال التي تكون جملة، لمجيئها تارة مع الواو وأخرى لا معها، فنقول وبالله التوفيق: "واو" الحال أصلها العطف -ولأن حكم الحال مع ذي الحال أبدا نظير حكم الخبر مع المخبر عنه، ... ، والخبر ليس موضعا لدخول الواو، لذا امتنعت الواو عن الحال المؤكدة، وأصلها أن تكون وصفا ثابتا نحو "هو الحق بينا" و"زيد أبوك شفيقا"، وفي التنزيل {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} 4، وأيضا عن الحال المطلقة وأصلها أن تكون وصفا غير ثابت كاسم الفاعل واسم المفعول نحو "جاء زيد راكبا" و"سلم عليَّ قاعدا".

_ 1 جندب: هو الشاعر، وهو ممن شهدوا واقعة القادسية في فتح بلاد الفرس، خبت: موضع، أو المتسع المطمئن من الأرض، أجمت: تركت للراحة. وهو والفعل قبله كناية عن تبطله، وإقامته دون غاية، مناخنا: مبرك إبلنا. ولج الأمر: لازمه وأبى أن ينصرف عنه، ذلت: انقادت. انظر الإيضاح هامش 285، تحقيق د. خفاجي. 2 المفتاح 148-150. 3 المفتاح 153-150. 4 يوسف: 2.

"أ" الجملة الحالية ذت المضارع المثبت: إذا جاءت فعلية ومضارعها مثبت نحو "جاءني زيد يسرع" أو "يتكلم" أو "يعدو فرسه" فالوجه ترك الواو. "ب" الجملة الحالية ذات المضارع المنفي: ويجوز فيها الفصل والوصل، والفصل أرجح، نحو "جعلت أمشي ما أدري أين أضع رجلي" وقول الشاعر: مضوا لا يريدون الرواح وغالهم ... من الدهر أسباب جرين على قدر1 وقول الشاعر: أقادوا من دمي وتوعدوني ... وكنت وما ينهنهني الوعيد2 "ج" الجملة الحالية ذات الماضي المثبت والمنفي: يجوز فيها الفصل والوصل، والفصل أرجح، نحو قولك: أتاني وقد جهده السير، أو: أتاني قد جهده السير، وأيضا، أخذتُ أجتهد ما كان يعنيني أحد، وأخذت أجتهد وما كان يعنيني أحد. "د" الجملة بعد النكرة إن وصلت تكون حالا وإن فصلت تكون صفة: في مثل قولك: جاءني رجل وعلى كتفه سيف، بالواو عند إرادة الحال، وتركها عند إرادة الصفة، نحو جاءني رجل على كتفه سيف، لامتناع عطف الصفة على موصوفها.

_ 1 الرواح: الرجوع، غالهم: أهلكهم، والشاعر من شعراء الحماسة. 2 أقادوا: ثأروا وأخذوا القود، ينهنهني: يكفني ويخيفني.

"هـ" الجملة الاسمية المنفية بـ "ليس": تأتي مفصولة وموصولة، ولكنها مع "الواو" أدور مثل قولك "أتاني وليس معه غيره" و"أتاني ليس معه غيره" وقول الشاعر: إذا جرى في كفه الرشاء ... خلى القليب ليس فيه ماء "و" الحال الظرف: ويجوز فيها الفصل والوصل، نحو قولك: رأيته على كتفه سيف، ورأيته وعلى كتفه سيف.

ثانيا: السكاكي وفن الوصل

ثانيا: السكاكي وفن الوصل1: 1- يقسم السكاكي الجمل إلى قسمين "جمل لها محل من الإعراب" وأخرى "لا محل لها من الإعراب"، ويبين أن عطف جملة على ما لها محل من الإعراب ليس مشكلا، إنما المشكل أن تعطف جملة على أخرى لا محل لها من الإعراب. 2- وسهولة العطف بحروف العطف جميعا تتحقق من اتباع ثلاثة أصول هي: معرفة الموضع الصالح له حرف العطف، ومعرفة فائدة هذا الحرف في ربط الجملتين -إذا كان الفاء أو ثم أو حتى أو بل ... إلخ - ومعرفة كونه مقبولا في مكانه لا مردودا - واتباع هذه الأصول مع الواو يحتاج إلى بصر بالحاجة إلى الوصل بها أو طرحها. 3- وإذا كان كل واحد من وجوه الإعراب دالا على معنى كما تشهد لذلك قوانين علم النحو، فإن فائدة الواو هي مشاركة المعطوف والمعطوف عليه في ذلك المعنى، وشرط كون العطف بالواو مقبولا أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه جهة جامعة، بخلاف نحو: الشمس ومرارة الأرنب، وسورة الإخلاص والرجل اليسرى من الضفدع. 4- سبب دقة مسلك الوصل بين الجمل التي لا محل لها من الإعراب أن الأصول الثلاثة السابقة في شأنه غير ممهدة، وهذا ما جعل أئمة علم الأصول يقصرون البلاغة على معرفة الفصل والوصل.

_ 1 المفتاح 141 وما بعدها.

أولا: الوصل للتوسط بين كمال الاتصال وكما الانقطاع: وهي أن تختلفا خبرا وطلبا، وأن يكون المقام مشتملا على ما يزيل الاختلاف من تضمين الخبر معنى الطلب، أو الطلب معنى الخبر ومشركا بينهما في جهات جامعة، ومثله قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَأَلْقِ عَصَاكَ} 1. فإن الكلام مشتمل على تضمين الطلب معنى الخبر، وذلك أن قوله: {وَأَلْقِ عَصَاكَ} معطوف في على قوله {أَنْ بُورِكَ} والمعنى: فلما جاءها قيل بورك وقيل ألق عصاك، لما عرفت في علم النحو أن هذه لا تأتي إلا بعد فعل في معنى القول، وإذا قيل: كتبت إليه أن ارجع، وناداني أن قم، كان بمنزلة: قلت له ارجع وقال لي قم. ومن ذلك: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا} 2 أي وقلنا: اتخذوا، إلى غيرها من الشواهد التي عددها السكاكي. أو أن تتفق الجملتان خبرا، والمقام على حال إشراك بينهما في جوامع، ثم كلما كانت الشركة أكثر وأظهر كان الوصل بالقبول أجدر، وذلك مثل قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} 3، وقوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} 4، وغير ذلك"5.

_ 1 النمل: 8-10. 2 البقرة: 125. 3 سبأ: 2، الحديد: 4. 4 الانفطار: 13-14. 5 المفتاح 146 و147.

ثانيا: الثبوت والتجدد مع الجملتين الموصولتين: يقول السكاكي: واعلم أن الوصل من محسناته أن تكون الجملتان متناسبتين ككونهما اسميتين أو فعليتين، وما شاكل ذلك. فإذا كان المراد من الإخبار مجرد نسبة الخبر إلى المخبر عنه من غير التعرض لقيد زائد، كالتجدد والثبوت، وغير ذلك لزم أن تراعي ذلك فتقول: قام زيد وقعد عمرو، أو: زيد قائم وعمرو قاعد، وكذا: زيد قام وعمرو قعد، وأن لا تقول: قام زيد وعمرو قاعد، وكذا: قام زيد وعمرو قعد ... إلخ. كما سبق في علم النحو أمثال ذلك، أما إذا أريد التجدد في أحدهما والثبوت في الأخرى، كما إذ كان زيد وعمرو قاعدين، ثم قام زيد دون عمرو، وجب أن تقول "قام زيد وعمرو قاعد بعد"، وعليه قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} 1. المعنى سواء عليكم "أحدثتم الدعوة لهم أم استمر عليكم صمتكم عن دعائهم" لأنهم كانوا إذا حزبهم أمر دعوا الله دون أصنامهم، وكانت حالهم المستمرة أن يكونوا عن دعوتهم صامتين، وكذلك قوله تعالى: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} 2، المعنى: أجددت وأحدثت عندنا تعاطي الحق فيما نسمعه منك أم اللعب، أي أحوال الصبا بعد استمرارها عليك؟ استبعادا منهم أن تكون عبادة الأصنام من الضلال. وبعد فلم يكن تقعيد السكاكي جافا كله، معقدا كله، فثمة مسحة من الذوق والأسلوب الطريف في المعالجة كانت تبزغ هنا أو هناك، ثم تغيب في لجة الضبط والتقعيد، وجاء القزويني ليقضي على هذا المسحة، بل ويقضي على كل شيء ... وليس فيما فعله السكاكي ما يستحق الوقوف لديه، سوى أننا سنعيش مع المصطلح وتشعب المصطلح والخلافات الجانبية بعد أن ودعنا الفن ساعة تركنا الزمخشري والجرجاني ومن سبقوهما.

_ 1 الأعراف: 193. 2 الأنبياء: 55.

ثالثا: تلخيص القزويني وشرح السبكي

ثالثا: تلخيص القزويني وشرح السبكي أولا: تلخيص القزويني ... أولا: تلخيص القزويني: - شبه كمال الانقطاع وشبه كمال الاتصال: لخص القزويني تلخيص السكاكي، هذه هي القضية، وخالفه في قشور ورد في مسائل جانبية، فلا مبرر لاستعراض ما فعل، ويكفي أنني اضطررت إلى عرض الفصل والوصل كاملا عند السكاكي لأنه الأصل الذي اعتمد عليه القزويني ومن جاء بعده، والقزويني هو صاحب مصطلح "شبه كمال الانقطاع"، و"شبه كمال الاتصال" فلم يخرج في تعريف كمال الاتصال وكمال الانقطاع عما ذكره السكاكي1، ولم يخرج في تعريف التوسط بين الكمالين عما قاله السكاكي أيضا2، وفي أثناء حديثه عن مبررات الفصل يقول في "التلخيص" "فإن كان للأولى حكم لم يقصد إعطاؤه للثانية فالفصل، نحو "وإذا خلوا" لم تعطف "الله يستهزئ بهم" على "قالوا" لئلا يشاركه في الاختصاص بالظرف كما مر، وإلا، فإن كان بينهما كمال الانقطاع بلا إيهام أو كمال الاتصال أو "شبه أحدهما" فكذلك، وإلا، فالوصل3. وهذا النص يشرحه في كتابه "الإيضاح" بقوله: "وإن لم يكن للأولى حكم، كما سبق، فإن كان بين الجملتين كمال الانقطاع وليس في الفصل إيهام خلاف المقصود كما سيأتي، أو كمال الاتصال أو كانت الثانية بمنزلة المنقطعة عن الأولى، أو بمنزلة المتصلة بها، فكذلك يتعين الفصل"1. في "التلخيص" لم يذكر القزويني مصطلح "شبه كمال الانقطاع" أو "شبه كمال الاتصال"، واستعمل مصطلح السكاكي قائلا "أما كون الجملة الثانية كالمنقطعة عن الأولى فلكون عطفها عليها موهما عطفها على غيرها، ويسمى الفصل بذلك قطعا"5، وكذلك في ذكر الحال المقتضية لشبه كمال الاتصال

_ 1 تلخيص المفتاح ص30 من شروح التلخيص الجزء الثالث، ط السعادة 343هـ، الطبعة الثانية. 2 تلخيص المفتاح 31. 3 تلخيص المفتاح 69. 4 الإيضاح 249 تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتاب اللبناني 1980م، الخامسة. 5 التلخيص 50 الجزء الثالث من شروح التلخيص.

يقول عن الجملة الثانية "أما كونها كالمتصلة فلكونها جوابا لسؤال اقتضته الأولى فتنزل منزلتها فتفصل عنها كما يفصل الجواب عن السؤال"1. إذًا فالمصطلحان قد ذاع أمرهما على يد الشراح، ولم يلجأ إليهما القزويني -فيما أظن- في تلخيصه إلا من باب الاختصار، ونفي الزوائد، لكي يكون تلخيصا دقيقا، احتاج بعد ذلك إلى "إيضاح"2.

_ 1 التلخيص 53. 2 انظر شرح التفتازاني ص49 وبها شرح السبكي وكذا شرح يعقوب المغربي وشرح الدسوقي الجزء الثالث من شروح التلخيص.

ثانيا: شرح السبكي

ثانيا: شرح السبكي: 1- الفصل والوصل بين المفردات1: تميز السبكي في أثناء شرحه للتلخيص بتوقفه عند فصل المفردات ووصلها، وهذا الأمر ليس جديدا فقد تكلم فيه الجرجاني ومن سبق الجرجاني من نحاة وبلاغيين، ولكن حين تصدر "المفتاح" ساحة البلاغة وتزعم "التلخيص" الدراسات البلاغية، صار الجديد أن يعاد ذكر المطموس، ويزاح عن المطمور، ومن ذلك ما فعله السبكي مع وصل المفردات، يقول: قد علم حكم الجملتين في الفصل والوصل - أما المفردات فلم يتعرضوا لها في ذلك، والظاهر أنهم إنما تركوا ذلك لأنه في الغالب واضح، أو لأنه يعلم حكمه من الجملتين، ولذلك تجد -في أمثلة "المفتاح" وغيره حين يمثل بوصل أحد الجملتين- كثيرا من المفردات، والذي ينبغي، التعرض لذلك فنقول: الأصل في المفرد فصله مما قبله، لأن ما قبله إما عامل فيه "زيد قائم" فلا يعطف المعمول على عامله، أو معمول فلا يعطف العامل على معموله، أو كلاهما معمول والفعل يطلبهما طلبا واحدا فلا يمكن عطفه، لأنه يلزم قطع العامل عن الثاني مثل "علمت زيدا قائما" ونحو ذلك، إلا ما سنذكره في عطف أحد الخبرين على الآخر، لكن قد يأتي ذلك في بعض المفردات، فلا بد له من ضابط فنقول: إذا اجتمع مفردان، وأمكن من جهة الصناعة، عطف أحدهما على الآخر، فإن كان بينهما جامع وصلت وإلا فصلت، ولنمش على اصطلاحهم في الجمل، فنقول في ذلك أقسام: أحدها: أن يكون بين المفردين: "كمال انقطاع بلا إيهام غير المراد" مثل: "زيد عالم قائم" فإنه لا جامع -بين هذين الخبرين معتبر، وكذلك "جاء زيد لابسا ثوبا ضاربا عمرا"- وكذلك الأسماء قبل التركيب نحو: واحد، اثنان، ثلاثة، وحروف الهجاء: نحو ألف باء ... وكذلك: جاء زيد راضيا وضاحكا، يتحدان باعتبار المناسبة بين الضحك والرضى، وليسا هنا -مسندين، بل هما متعلقان بصاحب الحال. أو الاتحاد بمعنى عمل الفعل السابق فيهما، ولا حرج عليك في تسمية ذلك إسنادا- إن

_ 1 السبكي، عروس الأفراح، 3/ 113 وما بعدها ضمن شروح التلخيص.

شئت -فقد سبق نظيره عن سيبويه والسكاكي، وتارة يقع الاتحاد في المسند فقط، وإن لم يوافق على تسمية ذلك إسنادا، فقل في النسبة: جاء زيد وعمر ضاحكا وباكيا، فقد اشتركا في "جاء"، وتارة يقع الاتحاد في المنسد إليه فقط مثل: زيد عالم آكل. 2- الفصل والوصل بين جملة ومفردة1: يقول السبكي: وإذا علمت حكم الفصل والوصل بالنسبة إلى الجملتين، وبالنسبة إلى المفردين، فلا يخفى حالهما عليك بالنسبة إلى جملة ومفرد، وقد جوز أكثر النحاة عطف الفعل على الاسم، وعطف الاسم على الفعل، إذا كان كل منهما في تقدير الآخر، وقال السهيلي: يحسن عطف الفعل على الاسم إذا كان اسم فاعل ويقبح عطف الاسم على الفعل، قال: فمثل "مررت برجل يقوم قاعد" ممتنع إلا على قبح، وجوزه "الزجاج" كعطف الفعل على الاسم، والأكثرون على الجواز، قال تعالى: {صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} 2، وقال تعالى: {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} 3. وبعد فإن ما فعله السكاكي والقزويني والسبكي ممن لف لفهم كان عظيما في عصرهم مفيدا في نظرهم موافقا لذوقهم، ولكنه ليس بهذه الدرجة لا في منهجنا ولا في أذواقنا. الثاني: أن يكون "كمال الانقطاع وفي الفصل إيهام غير المراد" نحو "ظننت زيدا ضاربا وعالما" فيجب العطف، إذ لو لم يعطف لتوهم أن "عالما" معمول لقولك "ضاربا". الثالث: كمال الاتصال: بأن يكون تأكيدا معنويًّا أو لفظيًّا أو عطف بيان أو بدلا، نحو: جاء زيد نفسه، وجاء زيد زيد أبو عبد الله، وجاء زيد القائم،

_ 1 السبكي، عروس الأفراح 3/ 113 وما بعدها ضمن شروح التلخيص. 2 الملك 19 والآية: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} . 3 العاديات: 1-4، والآية: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} .

فلا يعطف شيء من ذلك، أو يكون بمنزلة خبر واحد كقولك: هذا حلو حامض، إذا جعلناهما خبرين. الرابع: شبه كمال الانقطاع: بأن يكون للمفرد الأول حكم لا يقصد إعطاؤه للثاني، نحو: زيد مجيب -إن قصد- صالح، إذا أردت الإخبار بأنه صالح مطلقا، فإن عطف "صالح" على "مجيب" يوهم أنه "صالح" إن قصد، لأن الشرط في أحد المتعاطفين شرط في الآخر، بخلاف الشرط في واحد من خبري المبتدأ، وتارة يكون عطفه على المفرد قبله يوهم عطفه على غيره، نحو، "كان زيد ضاربا عمرا قائما" فلو قلت: وقائما، لأوهم أنه معطوف على "عمرا" المفعول. الخامس: أن يكون بينهما التوسط بين كمال الانقطاع وكمال الاتصال كقولك: زيد معط مانع، على أن يكونا خبرين فإنك إذا أردت جعل الثاني صفة تعين الوصل. ثم ذلك في المفردات يكون أيضا بالاتحاد، فتارة يتحد فيه باعتبار المسند، ونعني به مدلول المفرد، والمسند إليه: وهو العامل في المفردين، مثل: زيد كاذب ومائن، أو قاعد وجالس. فإنه يجوز عطف أحدهما على الآخر مع اتحاد اللفظ، كقوله: فقدمت الأديم لراهشيه ... وألفى قولها كذبا ومينا1

_ 1 الأديم: الجلد المدبوغ، والراهشان: عرقان في باطن الذراعين: ومينا: كذبا، والبيت لعدي بن زيد.

الفصل الرابع: تذوق الفصل والوصل في القرآن الكريم

الفصل الرابع: تذوق الفصل والوصل في القرآن الكريم: أولا: أوجه القصور في قواعد البلاغيين للفصل والوصل: 1- قواعد الفصل: حددوا للفصل قواعد خمسا: الأولى: أن تتحد الجملتان اتحادًا تامًّا بحيث تنزل الثانية من الأولى منزلة نفسها، بأن تكون مؤكدة لها مثل قوله تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} 1، أو موضحة ومبينة لها مثل قوله تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} 2، أو بدلا منها، بدل كل، مثل قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ، قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} 3، أو بدل بعض، مثل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} 4، أو بدل اشتمال، مثل قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 5. وسموا ذلك "كمال الاتصال". والثانية: أن يكون بين الجملتين تباين تام، وذلك باختلاف الجملتين، خبرا وإنشاء لفظا ومعنى، كقوله تعالى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 6، أو معنًى فقط "نجح خالد وفقه الله"، وألا تكون بينهما مناسبة، بشرط ألا يوهم الفصل خلاف المقصود نحو قول الشاعر: الفقر فيما جاوز الكفافا ... من اتقى الله رجا وخافا وسموا ذلك: "كمال الانقطاع". والثالثة: أن تكون الجملة الثانية جوابا عن سؤال يفهم من الأولى، فتفصل الثانية عن الأولى كما يفصل الجواب عن السؤال، لما بينهما من الاتصال مثل قوله تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} 7.

_ 1 الطارق: 17. 2 طه: 120. 3 المؤمنون: 81-82. 4 الشعراء: 132، 133. 5 يس: 20، 21. 6 الحجرات: 9. 7 هود: 46.

وسموا ذلك "شبه كمال الاتصال". والرابعة: أن تسبق جملة بجملتين يصح عطفها على إحداهما ولا يصح عطفها على الأخرى لفساد المعنى، فيترك العطف دفعا لتوهم أن تكون الجملة معطوفة على التي لا يصح العطف عليها، مثل قوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} 1 لأنه لو عطف، لعطف {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} إما على جملة {قَالُوا} وإما على جملة {إِنَّا مَعَكُمْ} وكلاهما لا يصح. وسموا ذلك "شبه كمال الانقطاع". والخامسة: أن تكون الجملتان متفقتين خبرا أو إنشاء، وبينهما رابطة قوية، ولكن يمنع من العطف مانع، وذلك بأن يكون للجملة الأولى حكم لم يقصد إعطاؤه للثانية، نحو قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} 2 فإنهم مفسدون في جميع الأحوال قيل لهم لا تفسدوا أو لا. وسموا ذلك "التوسط بين الكمالين" مع قيام المانع من الوصل3. 2- قواعد الوصل: حددوا للوصل قواعد ثلاثا: أولاها: أن تكون الجملة الأولى لها موقع من الإعراب وأريد إعطاء الثانية هذا الحكم الإعرابي، وكان هناك مناسبة ولا مانع من الوصل مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 4.

_ 1 البقرة: 13، 14. 2 البقرة: 11، 12. 3 القزويني، الإيضاح 246 وما بعدها، وشروح التلخيص 3/ 2-159. 4 البقرة: 245.

ثانيها: أن تتفق الجملتان خبرا أو إنشاء، لفظا ومعنى أو معنى فقط، مع وجود المناسبة بينهما، وليس هناك مانع من الوصل، ومثال الخبريتين قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} 1، ومثال الإنشائيتين قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} 2، ومثال الإنشائية معنى قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} 3. وسموا ذلك "التوسط بين الكمالين". ثالثها: أن يكون بين الجملتين كمال الانقطاع مع إيهام الفصل خلاف المقصود مثل: "لا وعافاك الله"4. هذه هي القواعد التي رسخت بيننا، واكتسبت حصانة ضد المساس بها بالرغم من صعوبتها، حتى صارت عنوانا على جمود البلاغة وعقمها. وقد قصر البلاغيون المتفلسفون حين داروا في فلك تقعيد السكاكي ولم يكلفوا أنفسهم عناء الإلمام بما قدم الجرجاني والزمخشري وسابقوهما من جهد ممتاز، لفاقة كانت في ذوقهم وثقافتهم وعصرهم وحضارتهم5. وقصرنا نحن -بالرغم من تغير الظروف والإمكانات- حين عشنا عالة عليهم، لا نفكر في الخروج على ما ورثناه منهم، ورحنا نهاجم السكاكي ونمجد البلاغيين البلغاء من الجاحظ حتى الزمخشري، ونحن مكبلون في أصفاد "المفتاح"، ... ، إلى اليوم ونحن نمزق البلاغة إلى علوم ثلاثة كما فعل السكاكي وتلميذه، ... ، إلى اليوم ونحن ندرس موضوعات المعاني والبيان والبديع بالشكل الذي قرره السكاكي وتلاميذه ... والغريب بل المحير، أن الدراسات الجامعية في

_ 1 الانفطار: 13، 14. 2 الأعراف: 31. 3 البقرة: 83. 4 القزويني، الإيضاح 260 وما بعدها وشروح التلخيص 3/ 2-159. 5 د. شوقي ضيف، البلاغة تطور وتاريخ 271 وما بعدها، دار المعارف 1965م.

البلاغة تتوصل إلى حقائق طيبة ثم لا تأخذ طريقها إلى التطبيق والذيوع، فمازلنا في معبد السكاكي ومفتاحه. 3- أوجه القصور: فن الفصل والوصل في القرآن الكريم يكشف عما في القواعد من قصور، فهي: أولا: قد خصت الفصل والوصل بالجمل، والقرآن الكريم قد فصل ووصل بين الجمل وبين المفردات أيضا. ثانيا: أنها قد حصرت الفصل في أداة واحدة وهي "طرح الواو" بينما فصل القرآن بـ "واو الاستئناف" و"الفاء" و"ثم" و"بل" و"أم المنقطعة" و"ضمائر الفصل" و"الجملة المعترضة" و"الاستثناء المنقطع"، كما حصرت الوصل في "الواو" فقط بينما وصل القرآن الكريم بجميع حروف العطف وجميع حروف الربط. ثالثا: أنها سمت الفصل بين الخبرية والإنشائية كمال الانقطاع وجعلت الاتفاق بين ركني الجملة خبرًا أو إنشاء مبررًا للوصل، بينما جوز سيبويه وبعض أئمة النحو عطف الخبرية على الإنشائية1، وعدد الدكتور محمد عبد الخالق عضيمة اثنى عشر موضعًا في القرآن الكريم عطفت فيها الخبرية على الإنشائية والعكس، من مثل قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} 3، و {وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} 3، و {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا

_ 1 السبكي، عروس الأفراح، وانظر محمد عبد الخالق عضيمة، دراسات في أسلوب القرآن، القسم الأول، الجزء الثالث، ص537 وما بعدها، ط دار الحديث، القاهرة، 1972م. 2 الأنعام: 121. 3 الأعراف: 77، 78.

تَعْضُلُوهُنَّ} 1، و {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} 2، وغيرها3. رابعا: أن ما أطلق عليه كمال الانقطاع مع إيهام الفصل خلاف المقصود، وضربوا له مثلا "لا وعافاك الله" يعتبر دليلا على عطف الإنشائية على الخبرية و"لا" بمعنى "أنفي ذلك" فهي جملة خبرية، و"عافاك الله" جملة خبرية لفظا إنشائية معنى "دعاء"، هذا، بالإضافة إلى أنها تصلح أن تؤدي المعنى بطرح الواو، فالمتكلم حين يقول للمخاطب "لا" ثم يتوقف لحظة ثم يستأنف كلامه داعيا له بقوله "عافاك الله" يكون قد أدى المعنى بلا لبس. خامسا: أن هذه القواعد لم تراع المعنى العام ولا السياق الجامع المتجانس الذي اقتضى فصلا هنا ووصلا هناك. وانكمشت في أمثلة تعليمية، وشواهد محدودة، غاضة الطرف عن رحاب القرآن الفسيحة، الذي يخضع لوحدة موضوعية فنية، وصورة كلية أجزاؤها السور مجتمعة، ثم كل سورة على حدة لما حوت من آيات، وكل آية بما حوت من ألفاظ، بل وكل لفظة بما حوت من حروف. وبعيدا عن تشعب هذه القوانين وتداخلها أقول -إن المقياس الحقيقي لقبول الفصل أو الوصل هو أن تؤدي العبارة- في إطار السياق العام- الغرض من صياغتها في إيصال المعنى إلى المخاطب في أوضح صورة وأحلاها، فإذا أدى الوصل بين مفردين أو جملتين إلى معنى غير المقصود، أو إلى المعنى المقصود بصورة رديئة أو بصورة لا يقبلها العقل وجب الفصل، وإذا كان الفصل سببا في الإيهام بغير المقصود أو في فقدان المنطقية الفنية أو العقلية أو فقدان الرشاقة في الأسلوب وجب الوصل.

_ 1 النساء: 14. 2 مريم: 46. 3 النور: 57، النمل: 9، 10، الحجرات: 12، نوح: 24، الكوثر: 1، 2، البقرة: 4، 25، الصف: 13، مريم: 75، 76، دراسات لأسلوب القرآن: ق1 ج3 ص537 وما بعدها.

لذا لم يبعد من رأي أن البلاغة في معرفة الفصل من الوصل، فالبلاغة معرفة كيف نصوغ ما يدور في أنفسنا من معان بألفاظ لا تحتمل اللبس، موصوفة بالصفاء مزدانة بالجمال والخصوبة، لأنها وصلت فيما بينها وكان يجب أن توصل، وفصلت فيما بينها وكان يجب أن تفصل. والناس في معرفة هذا وتذوقه ... درجات.

ثانيا: تذوق الفصل والوصل في القرآن الكريم

ثانيا: تذوق الفصل والوصل في القرآن الكريم ... فصل القرآن الكريم بين المفردات، وفصل بين أركان الجملة الواحدة، وفصل بين الجملتين وفصل بين عدة جمل. أولا: الفصل بين المفردات بطرح الواو: وذلك في قوله {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} 1، وفي قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} 2، وفي قوله: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} 3. ثانيا: الفصل بين أركان الجملة الواحدة: وكان ذلك بضمائر الفصل أو بالجملة المعترضة. "أ" الفصل بضمائر الفصل: وقد أشار إليه سيبويه4 والفراء5 والمبرد6 والجرجاني7 والزمخشري8 وغيرهم، ويشرح المالقي معنى ضمائر الفصل بقوله: "اعلم أن هذه الألفاظ "أنا وأنتَ وأنتِ وأنتما وأنتن" ضمائر منفصلة ... وإنما سماه البصريون باب الفصل لأن هذه الألفاظ المذكورة يفصل بها بين الخبر وذي الخبر من غير اعتداد بها في الإعراب ولا احتياج إليها في العودة على الأسماء، وإنما وضعت تأكيدا ... ومنها قوله تعالى: {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} 9، وقوله: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} 10، وقوله: {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} 11، وقوله:

_ 1 الحشر: 24. 2 ص: 65. 3 التحريم: 5. 4 انظر ص38 من البحث. 5 انظر ص39 من البحث. 6 انظر ص39 من البحث. 7 انظر ص57 من البحث. 8 انظر ص93 من البحث. 9 الأنبياء: 64. 10 الأنفال: 32. 11 القصص: 58.

يوجد سقط في الأصل. "ب" الفصل بالجملة المعترضة: وأشار إليها ابن جني2 وابن وهب3 والجرجاني4 والزمخشري5، ويعرفها الزركشي بأن "يؤتى في أثناء كلام أو كلامين متصلين معنى، بشيء يتم الغرض الأصلي بدونه، ولا يفوته بفواته، فيكون فاصلا بين الكلام والكلامين لنكتة"6، ومثال الفصل بين أركان الجملة الواحدة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} 7، و {أُولَئِكَ} خبر، و {إِنَّا لَا نُضِيعُ} اعتراض"8 وأيضا قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا -وَلَنْ تَفْعَلُوا- فَاتَّقُوا النَّارَ} 9، {ولَنْ تَفْعَلُوا} اعتراض بين فعل الشرط وجوابه، وأيضا قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ- قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} 10 فاعترض بين "إذا" وجوابها، بقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} فكأنه أراد أن يجيبهم عن دعواهم فجعل الجواب اعتراضا11.

_ 1 المائدة: 117، والمالقي، رصف المباني في شرح حروف المعاني 128-130، تحقيق أحمد محمد الخراط، 1975م، ط دمشق. 2 انظر ص39 من البحث. 3 انظر ص40 من البحث. 4 انظر ص57 من البحث. 5 نظر ص93 من البحث. 6 البرهان 3/ 56. 7 الكهف: 30، 31. 8 البرهان 3/ 58. 9 البقرة: 24، وانظر ابن أبي الإصبع 42، تحقيق د. حفني شرف ط2، نهضة مصر، القاهرة. 10 النحل: 101. 11 البرهان 3/ 59.

ثالثا: الفصل بين الجملتين، ومن أدواته: 1- واو الاستئناف: أشار إليها الزمخشري1، وعنها يقول الزركشي: وتسمى "واو القطع"، وهي التي يكون بعدها جملة غير متعلقة بما قبلها في المعنى ولا مشاركة في الإعراب ويكون بعدها الجملتان، فالاسمية كقوله تعالى: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} 2، والفعلية كقوله تعالى: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ} 3 ... وإنما سميت واو الاستئناف لئلا يتوهم أن ما بعدها من المفردات معطوف على ما قبلها4. 2- الفاء: أورد الدكتور محمد عبد الخالق عضمية مثالين لفاء الاستئناف في "دراسات لأسلوب القرآن" قائلا "وتحتمل الفاء الاستئناف في قوله تعالى: "أ" {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم: 4] في العكبري 2/ 35 "فيضل" بالرفع، ولم ينصب على المعطوف على "ليبين" لأن العطف يجعل معنى المعطوف كمعنى المعطوف عليه. والرسل أرسلوا للبيان لا للضلال، وقال الزجاج: ولو قرئ بالنصب على أن تكون اللام للعاقبة لجاز، وانظر ما قاله السمين: الجمل 2/ 507".

_ 1 انظر ص92 من البحث. 2 الأنعام: 2. 3 الحج: 5. 4 البرهان 4/ 437، والمالقي، رصف المباني 416، وابن هشام، المغني 470 ط بيروت المحققة سنة 1992م، ودراسات لأسلوب القرآن 3/ 526 وما بعدها.

"ب" {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ} [النحل: 28] في العكبري 2/ 43 "فألقوا" يجوز أن يكون معطوفا على {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} ، ويجوز أن يكون معطوفا على {تَتَوَفَّاهُمُ} ويجوز أن يكون مستأنفا، البحر "5/ 486"1. والمالقي في رصف المباني يذكر أننا إذا أردنا الاستئناف بعدها من غير تشريك بجملتين، كانت حرف ابتداء، إما للكلام، وإما يأتي بعدها المبتدأ وخبره نحو: قام زيد فهل قمت، وقام زيد فعمرو منطلق ... ومنه قوله تعالى: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2، وقوله تعالى: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} 3. 3- ثم: وتأتي للاستئناف، كقوله تعالى: {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} 4، ومنها قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 5، ثم قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} 6. 4- أم المنقطعة: وأشار إليها الزمخشري7، وعنها يقول الزركشي: وهي بمعنى "بل" وتقدر بـ "بل" و"الهمزة" واختلفوا في كونها عاطفة أو غير عاطفة، ومن أمثلتها قوله تعالى: {الم، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ} 8، ثم قال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} تقديره: بل أيقولون؟ "9.

_ 1 دراسات لأسلوب القرآن، ق1 ج2 ص242. 2 الأنبياء: 108. 3 الروم: 28 ورصف المباني 378. 4 آل عمران: 111. 5 المؤمنون: 14. 6 المؤمنون: 15، 16، والبرهان 4/ 269، ورصف المباني 175، و. 7 انظر ص من البحث. 8 السجدة: 1-3. 9 البرهان 4/ 180، ورصف المباني 95، والمغني 65 الطبعة المحققة.

5- بل: وأشار إليها الزمخشري1، وعنها يقول الزركشي: "حرف يفيد الإضراب عن المعنى الأول وإثبات المعنى الثاني"، فهو يقطع ويفصل، ولأن إثبات الثاني لم يجيء إلا بإبطال الأول، فهو مرتبط به موصول بوجوده، أي أنه فصل موصول، أو قطع مربوط، نحو قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} 2. ومن أنواع الإضراب الانتقال من حديث إلى حديث آخر، والخروج من قصة إلى قصة من غير رجوع عن الأولى، وهي في هذه الحالة عاطفة -كما قال الصفار- كقوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} 3، وكقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} 4. انتقل من القصة الأولى إلى ما هو أهم منها -ومن أنواع الإضراب القطع الصريح، بأن تكون "بل" استئنافية، كقوله تعالى: {ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ، بَلْ عَجِبُوا} 5، وقوله تعالى: {ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} 6. 6- الجملة الاعتراضية: وتفصل بين الجملة للتنزيه -كما يقول الزركشي- كقوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ -سُبْحَانَهُ- وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} 7. فاعتراض سبحانه بغرض التنزيه والتعظيم، وفيه الشناعة على من جعل البنات لله، ومنها كون الثاني بيانا للأول، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} 8، فإنه

_ 1 انظر ص95 من البحث. 2 الأنبياء: 26. 3 الكهف: 48. 4 السجدة: 3. 5 ق: 1، 2. 6 ص: 1، 2، وانظر في "بل" البرهان 4/ 258، ورصف المباني 153، والمغني 1/ 151. 7 النحل: 57. 8 البقرة: 222.

اعتراض وقع بين قوله "فأتوهن" وبين قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} 1، وهما متصلان معنى لأن الثاني بيان للأول، كأنه قيل: فأتوهن من حيث يحصل منه الحرث، وفيه اعتراض بأكثر من جملة ... إلخ2. 7- الاستثناء المنقطع: أشار إليه الطبري3 والزمخشري4، وعنه يقول المالقي: اعلم أن "إلا" حرف معناه الاستثناء ولفظه موضوع لذلك ... وهي تنقسم إلى قسمين: قسم يخرج بعض الشيء من كله وهو الذي يسمى "الاستثناء المتصل"، وقسم بمعنى "لكن" ويسمى ما يكون له كذلك "الاستثناء المنفصل، والاستثناء المنقطع"، وضرب الزركشي أمثلة له منها قوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} 5، وقوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} 6، وقوله: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} 7 ... إلخ8. رابعا: الفصل بين عدة جمل: مثل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} 9.

_ 1 البقرة: 223. 2 البرهان: 3/ 56 وما بعدها. 3 انظر ص40 من البحث. 4 انظر ص95 من البحث. 5 الغاشية: 22، 23. 6 الفرقان: 57. 7 يونس 98. 8 انظر في الاستئناف المنقطع، البرهان 4/ 236، ورصف المباني 85، ودراسات لأسلوب القرآن 1/ 243. 9 آل عمران: 118.

وقوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} 1، وقوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ، أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ، إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} 2.

_ 1 البروج: 4-6. 2 القلم: 10-16.

ثانيا: مواضع الوصل: "1" الوصل بين المفردات: وصل القرآن الكريم بأدوات الربط، ولم يقتصر على حروف العطف كما سنرى، وقد توقف الجرجاني عند "إن" التي تغني غناء الفاء العاطفة، وضرب أمثلة عديدة من القرآن الكريم منها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} 1، وقوله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} 2 وغيرها3. وتوقف أيضا عند الوصل بـ "الذي" ليكون وصلة إلى وصف المعارف بالجمل، كما اجتلب الحرف "ذو" ليتوصل إلى الوصف بأسماء الأجناس: نحو: مررت بزيد الذي أبوه منطلق، ونحو: مررت برجل ذي مال4. وتوقف الزمخشري عند حرف الجر "على"5، و"لام الجر"6 و"إلى"7 و"قد"8 و"ربما"9 وأداتي الشرط "إن" و"إذا"10. والمتتبع لمعاني أدوت الربط في القرآن يلحظ ظاهرة جديرة بالدرس، وهي أن الأداة بمعناها العام حيث تربط بين معنيين أو تفصل بينهما تكتسب معنى جديدا إضافيا، مما نستطيع معه أن نحدد المعنى الأصلي للأداة -بلا اطراد- والمعاني الإضافية التي اكتسبتها من وصلها أو قطعها. يقول الزركشي في الكلام على المفردات من الأدوات " ... ولهذا توزع الكلام على حسب مواقعها"، "أي

_ 1 الحج: 1. 2 لقمان: 17. 3 الدلائل 316، 317. 4 الدلائل 199. 5 انظر ص115 من البحث. 6 انظر ص115 من البحث. 7 انظر ص116 من البحث. 8 انظر ص116 من البحث. 9 انظر ص117 من البحث. 10 انظر ص117 من البحث.

مواقع الحروف"، وترجح استعمالها في بعض المحال على بعض بحسب مقتضى الحال"1، وقد امتلأت كتب معاني الحروف والنحو والتفسير باجتهادات العلماء في هذا المضمار. فمثلا "الواو"2 يقول فيها الزركشي "الواو -حرف يكون عاملا وغير عامل، فالعامل قسمان: جار وناصب ... وأما الواو غير العاملة فلها معان: الأول: وهو أصلها - العاطفة تشرك في الإعراب والحكم وهي لمطلق الجمع على الصحيح، ولا تدل على أن الثاني بعد الأول، بل، قد يكون كذلك وقد يكون قبله وقد يكون معه- فمن الأولى {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} 3 فإن الإخراج متأخر عن الزلزال، وذلك معلوم من قضية الوجود من "الواو"، ومن الثاني {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} 4، والركوع قبل السجود، ولم ينقل أن شرعهم كان مخالفا لشرعنا في ذلك ... إلخ، والمعنى الثاني: واو الاستئناف: وتسمى واو القطع، والثالث: واو الحال: كقوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 5، والرابع: للإباحة: نحو، جالس الحسن وابن سيرين لأنك أمرت بمجالستهما معا، وعلى هذا أخذ مالك قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} 6، والخامس: واو الثمانية: نحو قوله تعالى: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} 7، والسادس: للتوكيد، كقوله تعالى: {إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} 8، بدليل الآية الأخرى9.

_ 1 البرهان 4/ 175. 2 انظر في "الواو" المغني 463 ورصف المباني 409. 3 الزلزلة: 1، 2. 4 آل عمران: 43. 5 البقرة: 22. 6 التوبة: 60. 7 الحاقة: 7. 8 الحجر: 4. 9 الشعراء: 208.

فالمعنى الأصلي للواو، كما يقرر الزركشي وغيره، أن تكون عاطفة تشرك في الإعراب والحكم وهي لمطلق الجمع، أما المعاني الإضافية فتلك التي اكتسبتها من وصلها بين مفردين أو جملتين أو فصلها بينهما. وقد وصل القرآن الكريم بين المفردات "بالواو" كقوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} 1، و"بالفاء" في قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا، فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} 2، وبـ "أو" كقوله تعالى: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا، عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} 3، وبـ "أم" المتصلة كقوله تعالى: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 4، وبحروف الجر نحو: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} 5، وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} 6 ... إلخ. "2" الوصل بين الجمل. "أ" الوصل بين الجملة والمفرد: وصل القرآن بين الجملة والمفرد، كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} 7، وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ} 8، وكذا قوله تعالى: {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا، فَأَثَرْنَ

_ 1 الحديد: 3. 2 الصافات: 1-3، والبرهان 4/ 294. 3 المرسلات: 5، 6، والبرهان: 4/ 208. 4 يوسف: 39، والبرهان 4/ 180، وانظر دراسات لأسلوب القرآن "عطف الصفات"، ق1 ج3 ص562 وما بعدها. 5 الإسراء: 1 وانظر في حروف الجر: شرح ابن عقيل 2/ 109، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد وحاشية الصبان على شرح الأشموني 2/ 203، وشذور الذهب 317، وتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، والنحو الوافي 2/ 431. 6 البقرة: 48. 7 الملك: 19. 8 الحديد: 18.

بِهِ نَقْعًا} 1، وغيرها2. "ب" الوصل بين الجملة والجملة: وصلهما القرآن الكريم بالعديد من الروابط، وصلهما "بالفاء"، و"ثم"، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ، ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} 3، وبـ "أو"، قال تعالى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} 4، وبـ "أم" المتصلة، قال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ، أَمْ أَمِنْتُمْ} 5، وبـ "أن" ناصبة المضارع، قال تعالى: {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} 6، و"أن" المخففة من الثقيلة، قال تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} 7، وهي في ربطها أضيفت إليها معان أخرى8، وكذا "أن" وتكون للتوكيد كالمكسورة المشددة، نحو قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ} 9، وتأتي بمعنى لعل10، و"إن" الشرطية، نحو {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} 11، و"إذًا": وتدل على إنشاء السببية والشرط بحيث لا يفهم الارتباط من غيرها12 نحو قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} 13، ومثلها "إذا": الشرطية، نحو قوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} 14، "ومن": نحو قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ

_ 1 العاديات: 1-4. 2 انظر دراسات لأسلوب القرآن، ق1 ج3 ص528. 3 عبس: 21، 22. 4 المائدة: 33. 5 الملك: 16، 17. 6 المائدة: 52. 7 المزمل: 20. 8 البرهان: 4/ 223. 9 فصلت: 39. 10 البرهان 4/ 230، ورصف المباني 127. 11 الأنعام: 29. 12 البرهان: 4/ 187. 13 المؤمنون: 91. 14 الأنفال: 45.

بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} 1، "وما": نحو: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} 2، و"مهما": نحو: {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} 3، و"أي": نحو: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 4، "وأينما": نحو: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ} 5، و"لو" نحو: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} 6، و"لولا": نحو: {لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} 7، و"قد": وتأتي للتوكيد إذا دخلت على المضارع، قال الزمخشري: "قد" في قوله تعالى: {لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} 8. معناه التوكيد، كأنه قال: تعلمون علما يقينا لا شبهة لكم فيه9. وكذا وصل القرآن بين عدة جمل، كقوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ، وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ، وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ، وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ10، وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ، وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ، وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ، وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} 11، وقوله تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ... } 12.

_ 1 الأنعام: 160. 2 فاطر: 2. 3 الأعراف: 132. 4 الإسراء: 110. 5 النساء: 78. 6 الأعراف: 176. 7 سبأ: 31. 8 الصف: 5. 9 البرهان 4/ 307، والكشاف 4/ 419. 10 سجرت: أي ملئت وفجر بعضها إلى بعض حتى تعود بحرا واحدا، الكشاف 4/ 221. 11 التكوير: 1-14. 12 عبس: 25-27.

"ج" الوصل بين مجموع جمل ومجموع جمل أخرى: وإليه أشار الجرجاني بقوله "فأمر العطف إذا موضوع على أنك تعطف تارة جملة على جملة، أو تعمد أخرى إلى جملتين أو جمل فتعطف بعضا على بعض، ثم تعطف مجموع هذه على مجموع تلك، وضرب لذلك مثلا، قول المتنبي: تولوا بغتة فكأن بينا ... تهيبني ففاجأني اغتيالا فكان مسير عيسهم زميلا ... وسير الدمع إثرهم انهمالا1 وأيضا أشار إلى جمل الشرط المعطوفة على جمل الجزاء بقوله: "وينبغي أن يجعل ما يصنع في الشرط والجزاء من هذا المعنى أصلا يعتبر به، وذلك أنك ترى متى شئت جملتين قد عطفت إحداهما على الأخرى ثم جعلتا بمجموعهما شرطا، ومثال ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} 2، الشرط كما لا يخفى في مجموع الجملتين لا في كل واحدة منهما على الانفراد، ولا في واحدة منهما دون الأخرى، لأنا إذا قلنا: أنه في كل واحدة منهما على الانفراد جعلناهما شرطين، وإذا جعلناهما شرطين اقتضتا جزاءين وليس معنا إلا جزاء واحد3. وكما تربط أيضا بين أداة الربط وبين مجموع جمل ومجموع جمل أخرى، تربط أيضا بين عناصر القصة، أو تربط بينها وبين ما يشبهها في المضمون أو الهدف، ليتحولا إلى قصة طويلة متعددة الأجزاء، ففي سورة البقرة عطف قصة المنافقين من أول قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} 4، إلى قوله تعالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} 5 على

_ 1 الدلائل 244، وانظر ص69 من البحث. 2 النساء: 112. 3 الدلائل 245، 246 وانظر ص70 من البحث. 4 البقرة: 8. 5 البقرة: 20.

قصة الذين كفروا، من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} 1 إلى قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2 لأن المنافقين جبناء يظهرون غير ما يبطنون، فلا يناسبهم في المقام إلا أن يعطفوا بقصتهم على قصة الكفار، وبذا تصير القصتان قصة طويلة لها جزآن3.

_ 1 البقرة: 6. 2 البقرة: 7. 3 الكشاف: 1/ 165 وانظر ص128 من البحث.

ثالثا: فن الفصل والوصل

ثالثا: فن الفصل والوصل 1- مقدمة: عاش فن الفصل والوصل في وجدان الناطق العربي، الذي احتاج أن يربط بين معنى ومعنى برابط، أو يقطع معنى عن معنى بقاطع، وهو في فصله ووصله يهدف إلى تحقيق غاية جمالية يسموا إليها، لأنه يحرص على أداء فكرته في وضوح لا لبس فيه لتصل إلى المخاطب في جمال وجلاء. والنصوص تشهد أن الحس العربي المصفى كان يتوقع الوصل حين لا يجد وصلا، ويبحث عن الفصل حين يفتقده، وكان يفاضل بين رابط ورابط حتى يستقيم الشكل مع المضمون، وقصة أبي بكر الذي رفض من الأعرابي قوله "لا عافاك الله" وطالبه بأن يقول "لا وعافاك الله" تدل على ذلك. وهذا الزبرقان بن بدر يهجوه المخبل، فيتحول الهجاء مدحا بوصل جاء مكان فصل، قال المخبل يهجو الزبرقان بن بدر: وأبوك بدر كان ينتهس الحصى ... وأبي ربيعة بن قبال1 فقال الزبرقان: لا بأس، شيخان اشتركا في ضيعة2. فقد تنبه الزبرقان إلى أن المخبل وصل بين الأبوين بالعاطف وكان يجب أن يفصل، فانتهزها فرصة ووصم أبا المخبل بأنه كان يشترك في الصناعة التي هجى بها أبوه. والحسن البصري يفرق بين "الواو" و"ثم" حين قال له رجل "قد تركت ذلك لله ولوجوهكم"، فقال: "لا تقل هكذا، بل قل: لله ثم لوجوهكم، وآجرك الله"3.

_ 1 انتهاس الحصى: كانتهاس اللحم، وهو أخذه بمقدم الأسنان ونتفه. 2 العسكري، الصناعتين 463 تحقيق البجاوي وأبو الفضل ط الحلبي 1971م. 3 الجاحظ، البيان والتبيين 1/ 279.

و"الواو" تجعل الحكم شركة بين الله والناس، و"ثم" تخصصه لله أولا ثم تتركه للناس بعد ذلك. فهي للتراخي الزمني وللتفاوت بين المراتب. وحين يتحول الأمر إلى قواعد وأحكام وفن له ضوابط، يمتحن العلماء بعضهم بعضا فيه -يروى أن الرشيد قال لأبي يوسف: "أيش تقول في رجل قال لامرأته: أنت طالق طالق طالق؟ قال: واحدة، قال: فإن قال لها: أنت طالق أو طالق أو طالق؟ قال: واحدة، قال: فإن قال لها: أنت طالق ثم طالق ثم طالق؟ قال: واحدة، قال: وإن قال لها: أنت طالق وطالق وطالق؟ قال: واحدة. وكان الكسائي حاضرا، فقال: يا أمير المؤمنين: أخطأ يعقوب في اثنين وأصاب في اثنين، أما قوله: أنت طالق طالق طالق فواحدة لأن الباقيين توكيد، وأما قوله: أنت طالق أو طالق أو طالق، فهذا شاك، فوقعت الأولى التي يتعين بها، أما قوله: أنت طالق ثم طالق ثم طالق فثلاث لأنه انسق، وكذلك: طالق وطالق وطالق1. والقرآن الكريم الذي خاطب هذه الطبيعة العربية كان يفصل بين المعاني ويربط بينها، وكان يلون العبارة مزاوجا بين فصل ووصل ثقة بفهم المخاطب أو مراعاة منه لمقتضى الحال. ولم يتقيد في فصله بطرح الواو، بل استخدم معه أدوات أخرى، كما لم يقتصر في وصله على الواو أو على حروف العطف بل استخدم معها أدوات الربط الأخرى حسبما اقتضت الحاجة. وهو في كل هذا يرمي إلى إبراز جمال المعنى لتحقيق "كمال الفائدة" فحين يصف مشاهد الجنة أو النار، أو يصور الثواب والعقاب، أو يتحدث عن الأخيار أو الفجار، أو غير ذلك من معان، لا يعرضها عرضا مسطحا، إنما يتخذ الوسائل التي تبرز كل طاقاتها من إثارة الخيال والوجدان والمنطق. ومن قدرة على الإحاطة والشمول، حتى إذا وصلت إلى المخاطب جعلته جزءا متمما لها بما أوحت إليه وبما أثرت فيه، وبما صورت له، وبما أمتعته وأفادته.

_ 1 ابن الأنباري، نزهة الألباء 73 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط دار نهضة مصر.

وهنا يبرز جمال المعنى المقصود حين يوجد مكتملا ناضجا موحيا ليحقق كمال الفائدة، وكمال الفائدة في ألا يفتقد شيئا من أوجه الجمال السابقة، وفي أن يظل نابضا قادرا على الإفادة، مؤديا إلى معان ومعان تنبثق من معينه. وتنبعث من إيحائه، ثم تترابط -هذه المعاني الجزئية- لتصور المعنى الكلي، لتصور الحكمة المنشودة، أو الفكرة المقصودة أو الجوهر المطلوب. والفصل والوصل وسيلة من وسائل إبراز الجمال مع غيره من الأساليب، وله أدوات، إن فصلا وإن وصلا، وطرق لأداء وظيفته، فقد يفصل القرآن الكريم بين معنيين أو يربط بينهما، متخذا الإيضاح وسيلة لإبراز جمال المعنى فيعرضه جليا لا شركة فيه ولا لبس، ليكون خالصا بذاته أمام المخاطب ليتدبره حق التدبر، أو يتخذ الإيجاز وسيلة في عرضه كيلا يتشتت الذهن في استيعاب المعنى، أو يحاول تثبيته وتقريره لأهميته وخطره، أو يعرضه في نسق ملفت مثير، أو يقطع الموضوع إلى أجزاء موصولة أو يعرضه بأشكال متعددة أو يقف أمام الهيئة المنفصلة أو الهيئة المتصلة ليرصد حركتها ويصور أبعادها أو يناسب بين الإيقاع الصوتي والإيقاع الدلالي أو غير ذلك. والفصل والوصل في كل هذا يراعي دائما إثارة عقول المخاطبين بمختلف درجات استيعابهم وإثارة أنفسهم بمختلف نزعاتها وميولها، وكذا وجدانهم وأذواقهم. وليس الفصل والوصل بمستقل بأدواته وطرقه عن "القصر" أو "الحذف والذكر" أو "التقديم والتأخير" أو غيرها من فنون، وهي جميعا تتآزر لإبراز جمال المعنى في أبهى صوره الفنية لتحقيق كمال الفائدة.

1- الإيضاح: والإيضاح يتخذ صورا عديدة في الفصل والوصل منها التفسير والاستطراد، والتفصيل بعد الإجمال، واللفت إلى معنى يحدده سياق الكلام ... وحشد لنا الزمخشري نماذج للفصل غرضها إيضاح المعنى وبيانه وتفسيره، مثل قوله تعالى: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} 1، فقوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} جار مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدرتين بأما {فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} و {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} وأن فريق العالمين بأنه الحق وفريق الجاهلين المستهزئين به كلاهما موصوف بالكثرة، وأن العلم بكونه حقا من باب الهدى الذي ازداد به المؤمنون نورا إلى نورهم، وأن الجهل بحسن مورده من باب الضلالة التي زادت الجهلة خبطا في ظلماتهم2. وفي الوصل، مثل قوله تعالى: {كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} 3، يقول الزمخشري: أما قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} فجار مجرى البيان والتفسير بقوله تعالى: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ} ، كقولك: "رزق زيد المال فمنع المعروف فلم يحسن إلى الفقراء"4. "أ" ويكون الإيضاح بالاستطراد: وذلك في قوله تعالى: {وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ، لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ

_ 1 البقرة: 26. 2 الكشاف 1/ 267 وانظر ص99 من البحث. 3 غافر: 82، 83. 4 الكشاف 3/ 440 وانظر ص122 من البحث.

الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} 1. فـ "ثم" للتراخي في المرتبة، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار -أما جملتا {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ} و {لَنْ يَضُرُّوكُمْ} فهما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب، كما يقول القائل: "وعلى ذكر فلان، فإن من شأنه كيت وكيت". ولذلك جاءا من غير عاطف2. "ب" ويأتي التفصيل بعد الإجمال للإيضاح: وذلك في آية الحث على الحج: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 3، وآية: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} 4، وآية: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} 5. "ج" ويكون الإيضاح باللفت إلى معنى يحدده سياق الكلام: وذلك في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} 6. يقول الزمخشري: قرأ جماعة "وأرجلكم" بالنصب، فدل على أن الأرجل مغسولة، فإن قلت: فما تصنع بقراءة الجر ودخولها في حكم المسح؟ قلت: الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة -تغسل بصب الماء عليها. فكانت مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه، فعطفت على الثالث الممسوح لا لتمسح، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها"7.

_ 1 آل عمران: 110، 111. 2 الكشاف 1/ 455. 3 آل عمران: 97 والكشاف 1/ 448. 4 الشعراء: 132، 133، والكشاف 3/ 122. 5 الشعراء: 146-148، والكشاف 3/ 123. 6 المائدة: 6. 7 الكشاف1/ 597.

2- الإيجاز: ويكون بين الجمل مثل ما ذكره سيبويه ... "فقولك مررت برجل عبد الله فكأنه قيل: بمن مررت؟ أو يظن أنه يقال له ذلك فأبدل مكانه من هو أعرف منه، ومثل ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ} 1، وكذلك ما ذكره الفراء في قوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} 2، وذلك بعد قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ... } 3. يقول: فاعرف بما جرى تفسير ما بقي، فإنه لا يأتي إلا على الذي أنبأتك به من الفصول -أو الكلام المكتفي يؤتى له بجواب"4. 3- تثبيت المعنى: ويكون بتوكيد المعنى في نفس المخاطب وتثبيته، ويكون في الفصل مثل قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا} 5. يقول الزمخشري: تكرير الضمير بعد إيقاعه اسما لإن تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل ليتقرر في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه إذا كان هو المنزل لم يكن تنزيل على أي وجه نزل إلا حكمة وصوابا6. وفي الوصل، كما في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} 7، وقوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} 8. ويكون بعطف البيان، كقوله تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ

_ 1 الشورى: 52، 53 وانظر البحث ص41. 2 التوبة: 112. 3 التوبة: 111. 4 معاني القرآن 1/ 43، 44. 5 الإنسان: 23. 6 الكشاف 4/ 200. 7 الكهف: 22. 8 الحجر: 4، الكشاف 2/ 478.

ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، قَوْمَ فِرْعَوْنَ} 1، وبالبدل مثل قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 2، وبالاختصاص، ومن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} 3. يقول الزمخشري: ويجوز أن يجري مجرى قولك: "سرني زيد وحسن حاله، وأعجبت بعمرو وكرمه، وفائدة هذا الأسلوب، الدلالة على قوة الاختصاص، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بالمكان الذي لا يخفى، سلك به ذلك المسلك"4. 4- حسن النسق: وكما يبرز جمال الصياغة في الإيضاح والإيجاز وتثبيت المعنى في نفس المخاطب، يقوم حسن الترتيب بدوره في إضفاء البهاء والفخامة على العبارة، وقد رأينا كيف نسقت المفردات في الجملة نسقا محكما، فقدم الأدل على القدرة الإلهية في قوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} 5، وقدم الأصل على الفرع في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} 6، وقدم الأشد على الأخف على الممكن في قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} 7، وكذلك في الجمل، قدم الأعرق في القدرة على ما دون ذلك8، وقدم الأكثر في العدد على

_ 1 الشعراء: 10، والكشاف 3/ 106. 2 الفاتحة: 6، 7. 3 الفاتحة: 1. 4 الكشاف 3/ 553. 5 الأنبياء: 79، والكشاف 2/ 580. 6 النور: 2، والكشاف 3/ 50. 7 يونس: 12، والكشاف: 2/ 227. 8 كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45] ، والكشاف 3/ 71.

الأقل1، وقدم الأقوى أثرا في حياة الناس2، وقدم الأسرع ورودا في النفس على غيره3. بل، عمد إلى الترتيب لتهذيب النفس4، والأروع والأعجب أن يغفل الترتيب بقصد تصوير اضطراب النفس أو تصوير سوء طويتها5. 5- تقطيع الموضوع إلى أجزاء موصولة: حينما يكون الموضوع المقصود التعبير عنه متعدد المراحل، أو متغير الأشكال أو متشعب الأجزاء، فإنه يحتاج إلى عدة جمل أو مفردات لبسطه والإحاطة به، وبطبيعة الحال ستترابط هذه الجمل برباط معنوي واحد، وهو وحدة الموضوع الذي تدور حوله -ومن الممكن أن تترابط كل جملتين برباط لفظي ليكونا وحدة لها خصائصها الذاتية ومرتبطة بالمعنى العام في الوقت نفسه، مثلها مثل الجداول، كل جدول له طبيعته وخصائصه ولكنه عضو في المجرى الكبير. وترى هذه الظاهرة في القرآن الكريم، يعمد أحيانا إلى الفكرة الرئيسية لموضوع ما، ويضعها في شكل جملة قصيرة أو طويلة، ثم ينثرها في أجزاء موصولة مختلفة القرب أو البعد من الفكرة العامة -والقرآن في هذا لا يلتزم وتيرة واحدة في هذا العرض، فقد يجيء بالفكرة الرئيسية أولا ينثرها إلى أجزائها، وقد يقدم الأجزاء ثم يأتي بالفكرة من بعد، ... وهكذا.

_ 1 كما في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32] ، والكشاف 3/ 309. 2 كما في قوله تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان: 49] ، والكشاف 3/ 951. 3 كما في قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ} [النساء: 147] ، والكشاف 1/ 575. 4 كما في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} إلى قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 30-33] ، والكشاف 3/ 65. 5 كما في قوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر: 56-69] ، والكشاف 3/ 405، أما سوء الطوية فكما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ... } [البقرة: 67-71] ، والكشاف 1/ 190.

فلننظر مثلا إلى سورة "المطففين" وتبدأ بآية: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} "1". وهذا هو الموضوع الرئيسي الذي ستتلاحق أجزاؤه لتصب فيه، تقول الآيات: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} "2". {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} "3". {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} "4". ولنأخذ مثلا آخر، قوله تعالى في سورة "الانشقاق" التي بدأت آياتها هكذا: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} "1". {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} "2". {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} "3". {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} "4". {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} "5". {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} "6". فالآية الأولى والثانية في نسق، والثالثة والرابعة والخامسة في نسق، أما السادسة فهي الموضوع الرئيسي "إن هذا المخلوق المغرور مهما أوتى من قوة وجبروت، فإنه يسعى حثيثا لنهاية محتومة، يلقى فيها ذا العرش المجيد، الفعال لما يريد، واللقاء المحقق سيكون يوم القيامة، وفيه تتجلى عظمة الخالق وهوان المخلوق". إذا، انشقاق السماء مشهد من مشاهد يوم القيامة، وزوال الجبال والآكام واستواء ظهرها مشهد، وخلو الأرض من كل ما في باطنها مشهد، أما انقياد السماء لربها وانصياعها لأمره سبحانه فجزء من بيان عظمة ذي القوة المتين، وكذا ما فعلت الأرض -وإذا كان هذا شأن السماء والأرض، فما بال

الإنسان الذي ينتظره الموت ليلقيه أمام خالقه الواحد القهار، أحداث تلو أحداث، تتصاعد إلى أن تصل إلى الذروة، إلى قمة الحدث الأعظم {إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} . والأمثلة عديدة، يلعب فيها فن الوصل دورا بارزا، يقدم لب الموضوع ثم تأتي أجزاؤه، أو تتعدد الأجزاء ثم تنتهي بلب الموضوع، بقمة الحدث. ففي سورة "النبأ" تتحدث الآيات عن النبأ العظيم، عن البعث الذي يتساءل عنه الناس، وبعد تقديم السؤال تأتي الإجابة مصورة عظمة الله تعالى بما يؤكد قدرته على البعث في ميقاته المقدر، تقول الآيات: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} "6". {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} "7". {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} "8". {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} "9". {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} "10". {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} "11". {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} "12". {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} "13". {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} "14". {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا} "15". {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} "16". {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} "17". فالقادر على كل هذه العظائم قادر على بعث الناس يوم القيامة، بل إن بعثهم لأمر هين في قدرة الواحد الأحد الذي جعل الأرض مهادا والجبال أوتادا وخلقنا أزواجا وبنى فوقنا سبعا شدادا.

ونلحظ أن هذه الأجزاء التي جاءت لتؤكد أن يوم البعث حق وأن من ينكره سيعلمه علم اليقين، قد اختتمت بآية {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} ، وهي تكرار عرض الموضوع الرئيسي {النَّبَإِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} ، وقد جاءت -فيما أرى- بعد أن فندت الأجزاء السابقة سبب الاختلاف في يوم البعث فصارت مؤكدة لمجيئه، لذا عادت وقد سمي يوم البعث بـ "يوم الفصل" وأكد مجيئه بـ "إن" ووصف بأنه "ميقات" لا تحول عنه. كل جزء مشهد مستقل، وكل الأجزاء تصل بنا إلى النتيجة النهائية. وفي سورة "الإنسان" تصنف الآية الثانية عشرة ما سينال الصابرين من نعيم، فتقول: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} "12".ثم تأتي الأجزاء الموصولة التي ستقوم بتصوير الجنة، وتوضح أشكال النعيم الذي سيجزى به الصابرون، فتقول في وصف الجنة: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} "13". {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} "14". {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا} "15". {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} "16". {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا} "17". {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} "18". {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} "19". {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} "20". ثم تأتي الآية الحادية والعشرون لتفصل أمر الحرير، فتقول عنه: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} "21".

كل هذا، وكان الموضوع الرئيسي {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} . وتتجلى هذه الظاهرة الجمالية في القصص القرآني أيضا، ففي سورة "نوح" تلخص القصة كلها في أول آية من السورة، في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} "1". هذه هي القصة، وتفصيلها: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} "2". {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} "3". {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} "4". {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} "5". {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} "6". {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} "7". {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا} "8". {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} "9". ثم تميل سلسلة الآيات إلى بيان تفصيلي للدعوة الجهرية وتلك السرية التي كان يدعو بها نوح عليه السلام، قومه، هكذا: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} "10". {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} "11". وبعد أن ينتهي نوح عليه السلام -يتوجه إلى خالقه الأعظم. {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} "21".

ثم يفصل عصيانهم في ثلاث آيات متصلات، وأخيرا يأتي تفصيل العذاب الذي يستحقه قوم نوح فـ: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} "25". وهكذا يعمد القرآن الكريم إلى فن الوصل، ليعرض ما يعرض من صور فنية، فهو لا يفجؤ المخاطب بلب الموضوع ويتركه، بل يعرض عليه الأجزاء، أو الصور الجزئية ليعيها ذهنه ويعيش فيها وجدانه ويستثار بها خياله، ويظل يتنقل من جزء إلى جزء، ومن جانب إلى جانب إلى أن يصل إلى قمة الحدث، وحين يصل المخاطب إليه يكون قد زود به على مراحل. وتارة يعرض القرآن للحدث العام مرة واحدة بإيجاز وتركيز ثم ينتقل منه المخاطب إلى أجزائه -وهو مزود بجوهر الموضوع- ويظل يضيف إليه جزءا جزءا وكأنه يعيده في قطع صغيرة إلى أن تنتهي الأجزاء وينتهي معها عرض الموضوع الرئيسي الذي قدم في مطلع العرض، وقد تبلور واتضح وتكامل في نضوج وجمال. ويأتي دور الفصل، الذي يقوم بعرض الموضوع كاملا مرة ثم يعود يعرضه بشكل ثان وثالث، وكلها هي هي، ولكنها لها غرض فني لا يقوم به إلا فن الفصل. وهذا غير التكرار، فتكرار الصياغة في قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} 1 له غرض بلاغي غير الغرض الذي من أجله يعرض الموضوع بأشكال متعددة، في مثل قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ} 2 فرب الناس سبحانه، هو ملك الناس، هو إله الناس، هو المستعاذ به من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور

_ 1 الانفطار: 17 و18. 2 الناس: 1-3.

الناس -الربوبية والإلهية والملكية صفات للعزيز الجبار، صفات مفصولة متعددة تمثل صفة الإله، ولكنها تختلف في قوة تصويرها، فرب الناس لفظ مشترك، فمن الناس من {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1. وملك الناس صورة أخرى، ولكنها أضيق في الشركة لقلة عدد ملوك الناس عن عدد أحبارهم ورهبانهم، أما إله الناس فخاص لا شركة فيه، لذا جاء متأخرا، وجعل غاية للبيان، كما يقول الزمخشري2. فهذه الصفات صورة واحدة تعرض منفصلة شكلا متصلة مضمونا، وهنا تختلف عن الغرض البلاغي للتكرار في أنها تتصاعد مع المعنى، من الربوبية إلى الملكية إلى الإلهية، من الكثرة إلى القلة إلى التفرد. وترى ذلك في مثال آخر، في قوله تعالى: في الوليد بن المغيرة3 -في سورة القلم: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} "10". {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} "11". {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} "12". {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} "13". {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} "14". فهذه كلها بدائل لابن المغيرة، صور متعددة له، أو هو وقد عرض في أشكال عديدة وفي حالات مختلفة، وفي هذا ما فيه من جمال، فمع كل صفة يذهب العقل في تصورها وتمثلها ثم ينتقل إلى الصورة التالية وقد تزود من الوليد بصفة من صفاته، وتظل النفس تنتقل من صفة إلى صفة حتى تصل إلى درجة

_ 1 التوبة: 31. 2 الكشاف 4/ 302. 3 الكشاف 4/ 142. 4 معتد: مجاوز في الظلم حده، أثيم: كثير الإثم، عتل: غليظ جاف، زنيم: دعي. a

التشبع مع اكتمال الصورة. والغرض هنا ليس التوكيد فقط، إنما هو الإحاطة الشاملة بكل خصائص الموضوع بالإضافة إلى إعطاء المخاطب فرصة التنقل من تصور إلى تصور ومن حال إلى حال، بما في هذا من تلوين وتغيير وتعميق وشمول. وانظر معي إلى صفة الزوجة الخيرة، صفة كل زوجة من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم. فلأنهن زوجات للرسول فكل واحدة منهن مسلمة مؤمنة قانتة تائبة عابدة سائحة، كل واحدة جمعت كل هذه الصفات في حال كونها زوجة للرسول صلى الله عليه وسلم، وإن وقع الطلاق تفرقت الصفات واحتاجت إلى عرضها بالتفصيل، وقد كان يكفي فيها صفة واحدة وهي "زوجة الرسول" يقول تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} 1، صور متعددة، أشكال مختلفة، وكلها بدائل لـ "زوجة الرسول" صلى الله عليه وسلم. وقد تتأخر الصورة الكلية عن جوانبها المتعددة فيقول تعالى في "سورة الأنبياء": {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} "101". {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} "102". {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} "103". وقد تتقدم وتكون في آية واحدة كقوله تعالى في سورة فاطر: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2، أو تتأخر

_ 1 التحريم: 5. 2 فاطر: 1.

كقوله تعالى في سورة الأنعام: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} 1. إن عرض الموضوع بأشكال متعددة من أجمل فنون الفصل في القرآن الكريم، ولا يضارعه في هذا إلا فن الوصل حين يعرض للأجزاء الموصولة ثم يؤلف منها موضوعا متكاملا. 7- تصوير الهيئة المنفصلة والهيئة المتصلة: والهيئة هي الحال التي يكون عليها صاحبها حين وقوع الحدث الأصلي، نحو قوله تعالى: {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} 2، و {لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} 3. فالحدث الأصلي في الآية الأولى: كون الملك له والهيئة المصاحبة له كونهم أحق بالملك منه، وفي الثانية، امتلاكه لكل الثمرات، والهيئة المصاحبة إصابته بالكبر، وهذه الهيئة، التي هي "جملة الحال"، "بمنزلة الخبر من حيث -كما يقول الجرجاني- نثبت بها المعنى لذي الحال كما نثبته بالخبر للمبتدأ، وبالفعل للفاعل، والفرق بينهما أن خبر المبتدأ وفعل الفاعل جزء من الجملة، لا تتم الفائدة دونه، أما الحال، فهي ليست بجزء من الجملة، ولكهنا زيادة في خبر آخر سابق لهذا الجزء"4. ورابط الجملة الحالية التي تصور هيئة صاحبها مرتبطا بحدوث الحدث الأصلي في الجملة، إما أن يكون الواو نحو قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} 5، وإما الضمير نحو قوله تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} 6، أو هما معا مثل: {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} 7.

_ 1 الأنعام: 85. 2 البقرة: 247. 3 البقرة: 266. 4 الدلائل: 212. 5 البقرة: 30. 6 ق: 21. 7 البقرة: 44.

وعن واو الحال يقول الجرجاني: "وتسميتنا لها "واو الحال" لا يخرجها عن أن تكون مجتلبة لضم جملة إلى جملة، ونظيرها في هذا "الفاء" في جواب الشرط نحو "إن تأتني فأنت مكرم" فإنها وإن لم تكن عاطفة فإن ذلك لا يخرجها من أن تكون بمنزلة العاطفة في أنها جاءت لتربط جملة ليس من شانها أن ترتبط بنفسها"1. والذي يهمنا هنا أن ثمة مواضع تقتضي ربط جملة الحال بالواو، وأخرى تقتضي طرح الواو، يوجزها الجرجاني بأن "كل جملة وقعت حالا ثم امتنعت من "الواو" فذاك لأجل أنك عمدت إلى الفعل الواقع في صدرها "أي في صدر جملة الحال" فضممته إلى الفعل الأول في إثبات واحد، وكل جملة جاءت حالا ثم اقتضت "الواو" فذاك لأنك مستأنف بها خبرا وغير قاصد إلى أن تضمها إلى الفعل الأول في الإثبات2، ففصل الهيئة في نحو "جاءني زيد يسرع" قد أدخل "الإسراع" في صلة المجيء وجعلهما شيئا واحدا، موضحا للمجيء، أو مبنيا أو مؤكدا له. وربط الحدث بالهيئة المصاحبة له بالواو أو طرحها، إنما يهدف إلى رصد الحركة التي نتجت عن حدوث الحدث أو صاحبته، فإن طرحنا الواو كان حدثا متحركا، حدثا مصورة هيئته حين وقع، وإن وصلنا كان حدثا صادرا عن فاعل متحرك. ويكون الحدث جزءا من حركته، فلننظر إلى هذه الآية الكريمة {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} 3. فاسوداد وجوههم هيئة تصحبهم في الآخرة لما اقترفوه من إثم ولما سيلقونه من عذاب ولما يحسونه من ندم، والاسوداد هنا توكيد لما صدر عنهم من كذب، والتوكيد والمؤكد شيء واحد، كعطف البيان والبدل، ومثلها كل هيئة جاءت مفصولة عن الحدث

_ 1 الدلائل 214 وانظر الكشاف 2/ 67 في تفسيره لآية: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4] . 2 الدلائل 213. 3 الزمر: 60.

الأصلي في الجملة مثل قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} 1، و {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} 2، و {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} 3 ... إلخ4. والأمر يختلف إذا وصلنا الهيئة بالحدث الأصلي بالواو، فانظر إلى قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} 5. فتسبيح الملائكة تصوير لهيئتهم قبل جعل الخليفة في الأرض وفي أثنائه وفيما بعده إلى يوم القيامة، وهيئة التسبيح مغايرة لحدث جعل الإنسان خليفة في الأرض لذا وصلت بالواو، وحينذاك أضفت عليه عمقا واتساعا وحركة وجمالا -والأمثلة عديدة، خذ مثلا قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} 6، و {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} 7 ... إلخ8. كل هذه الأمثلة إثبات صريح للهيئة الحادثة، إثبات مباشر، وثم إثبات آخر غير مباشر، هو "الإثبات بالنفي". الإثبات بالنفي: وقد يقصد النفي لذاته، لأن المناسبة تقتضيه، كقوله تعالى: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} 9، و {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} 10، وهو النفي الصريح.

_ 1 سبأ: 12. 2 الصف: 4. 3 البقرة: 36. 4 انظر: دراسات لأسلوب القرآن ق1 ج3 ص590. 5 البقرة: 30. 6 البقرة: 187. 7 البقرة: 5. 8 انظر دراسات لأسلوب القرآن ق1 ج3 ص596. 9 الأعراف: 11. 10 الأعراف: 80.

وقد يقصد التعبير به لأنه أقوى من الإثبات الصريح وأبلغ1 نحو قوله تعالى على لسان مريم: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} 2، و {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} أبلغ من "وأنا عزبة" لم أتزوج -وهي كناية رقيقة تتناسب مع أدب القرآن الكريم. كناية عن صفة بها ما بها من الدقة والوضوح والهيئة النابضة بالحياة3 ما لا تستطيع تصويره لفظة "عزبة" التي لم ترد في القرآن مذكرة ولا مؤنثة. وهذا ما ينطبق على الهيئات المنفصلة أو المتصلة التي أثبتت بطريق النفي، وصورت بطريق المخالفة اسمية كانت أو فعلية - فلننظر إلى قوله تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} 4 بدلا من "العروة المتينة"، أو قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ، وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} 5 بدلا من "هو ذكر للعالمين" -أما الفعلية الماضوية المتصلة فمثل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} 6، والمنفصلة نحو {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} 7، والمضارعية المتصلة نحو {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 8، والمنفصلة {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} 9.

_ 1 انظر د/ أحمد ماهر البقري، أساليب النفي في القرآن، ص16 وما بعدها ط دار المعارف، 1980م. 2 مريم: 20. 3 الكشاف 2/ 505. 4 البقرة: 256. 5 القلم: 51، 52. 6 الأعراف: 43. 7 الزخرف: 52. 8 البقرة: 283. 9 آل عمران: 174.

فالجملة الحالية المنفية، أو الهيئة المثبتة بطريق المخالفة قد حوت ما حوته الجملة المثبتة من عمق واتساع وحركة مع انتقال من المباشرة الصريحة إلى غير المباشرة بما في ذلك من تلوين للتعبير وإضفاء جمال. هذا، وإذا أخذنا في الاعتبار أن الجملة الاسمية بطبيعتها تفيد الثبات بينما تفيد الفعلية التجدد والاطراد، أحسسنا بأهمية دور الفصل والوصل في تصوير الهيئة حادثة أو غير حادثة، ثابتة أو متجددة، هادئة أو ثائرة، متحدة أو مغايرة. 8- تناسب الإيقاع الصوتي مع الإيقاع الدلالي: يرى ابن خلدون أن الأذن هي الوسيلة الطبيعية لكل ثقافة لغوية، بل هي خير وسيلة لإتقان اللغة وإجادتها، و"السمع أبو الملكات اللسانية"1. ويحدثنا من كتبوا في علم النفس الموسيقي عن كيفية شعور المرء بنعم الكلام، فيقولون: إن هناك ميلا غرزيا في كل كتلة من عدة مقاطع كشبه الفقرات القصار أو العبارات الصغيرة، فقد نسمع في عشر ثوان ما يكاد يبلغ خمسين مقطعا صوتيا2 تسمعها الأذن فتلتقطها كتلا من المقاطع تطول أو تقصر، فإذا ترددت في أواخر هذه الكتل الصوتية مقاطع بعينها شعرنا بسهولة ترديدها وأحسنا بغبطة وسرور حين سماعها وبعث هذا فينا الرضى والاطمئنان3.

_ 1 ابن خلدون، المقدمة 546 "علم النحو"، ط بيروت، دار إحياء التراث العربي. 2 المقاطع الصوتية عند علماء اللغة المحدثين غيرها عند علماء العروض، فهي عند المحدثين كما يلي مقطع قصير "صوت ساكن + حركة قصيرة، كَ كُ كِ"، مقطع متوسط "صوت ساكن + حركة قصيرة + صوت ساكن، كَمْ كُمْ كِمْ، أو صوت ساكن + حركة كا كو كي"، ومقطع طويل "صوت ساكن + حركة طويلة + صوت ساكن، نار نور نير"، أو "صوت ساكن + حركة + صوتان ساكنان، بحر درج فكر"، د. إبراهيم أنيس، موسيقى الشعر 143، الطبعة الأولى. 3 عن عباس العقاد، اللغة الشاعرة 31 ط دار غريب.

وقد نزل القرآن الكريم في أمة تسمع أكثر مما تكتب، فلم يكن غريبا أن يهتم نص كتابها بالصورة الصوتية المسموعة، فيأتي وفيه من الأسجاع ذلك القدر الكثير الذي يتلى عليهم، ويرتل ترتيلا يسمعون فيه نمطا من الموسيقى لا عهد لهم به، وهم أمة الشعر والموسيقى. وهنا يبرز الوقف والابتداء ثانية، الوقف التام المختار، والكافي الجائز، والحسن المفهوم، والقبيح المتروك1. والمسألة.. أينبغي في الوقف اعتبار المعنى، وإن لم يكن رأس آية، وهو مذهب أكثر القراء -أم نقف على رأس الآية اقتضى المعنى الوقف أم لم يقتضه؟ اختلف العلماء ورجحوا الوقف على رءوس الآي عملا بالسنة النبوية الشريفة، فإن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كان يقف عند كل آية، فيقول "الحمد لله رب العالمين" ويقف، ثم يقول "الرحمن الرحيم" ويقف، وهكذا، روته أم سلمة، ... ، وأكثر أواخر الآي في القرآن تام أو كاف، وأكثر ذلك في السور القصار. ذهب هذا المذهب كل من الأخفش على بن سليمان، والحافظ أبي بكر البيهقي والإمام الزركشي وغيرهم2. إذًا، فرأس الآية هو نهاية المقاطع الصوتية التي تسمى آية، وهي الفاصلة3، وهي أيضا الوحدة القياسية التي سنتخذها لبيان تناسب الإيقاع الموسيقي مع مضمون السورة، فيتكرر متصلا أو يتكرر منفصلا. انظر إلى هذا الإيقاع السريع الذي يصور يوم القيامة ومسميا إياها بـ "الواقعة"، وفي كلمات مختصرة مدوية مع فاصلة على وزن فاعل منتهية بتاء

_ 1 البرهان 1/ 350. 2 نفسه 1/ 350 وما بعدها. 3 محمد الحسناوي، الفاصلة في القرآن، فصل "الإيقاع" 201، وما بعدها، ط دار الأصيل، دمشق.

تأنيث مربوطة، مكررة حرف القاف والعين، تأتي الصور المتلاحقة كأنها طبول حرب قادمة ... تقول: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} "1". {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} "2". {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} "3". {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} "4". {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} "5". {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} "6". {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} "7". {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} "8". {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} "9". {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} "10". {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} "11". {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} "12". ظلت درجة الإيقاع في سرعتها وهي تصف رج الأرض وبس الجبال ثم مالت إلى الهدوء النسبي حين تحدثت عن أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقين إلى أن تصل إلى تقرير جنة النعيم لهؤلاء المقربين. مثال آخر يصور الحركة المتقلبة والتوفز وعدم الاستقرار والإصرار على العناد ثم لمآل الذي ينتظر صاحبه، وقد أدى حرف الراء هذا المعنى خير أداء.

وذلك في سورة "المدثر" يقول تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} "18". {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} "19". {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} "20". {ثُمَّ نَظَرَ} "21". {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} "22". {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} "23". {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} "24". {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} "25". {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} "26". فبعد أن فكر وقدر انتهى به الأمر إلى سقر. وإيقاع آخر هادئ مفصول، يحكي لنا حالة الاسترخاء والنعيم الذي سيناله الأبرار، فتكثر الياء والواو ليمثلا المد الزمني والاسترخاء النفسي، يقول تعالى في سورة "المطففين": {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} "22". {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} "23". {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} "24". {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} "25". {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} "26". وهذه كاف الخطاب التي تعطى موسيقى جريان الماء في الجدول حين ترتطم بحاجز عند المصب ثم تجتازه وتنطلق في الشعاب والوديان، كاف الخطاب هنا فيها تسرية للنفس، نفس النبي الكريم وبعدها تأتي ألف الإطلاق تصور الأمل الذي لا حدود له، كل ذلك في نغمات موصولة هادئة، يقول تعالى في سورة "الشرح".

{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} "1". {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} "2". {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} "3". {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} "4". {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} "5". {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} "6". وتتنوع الإيقاعات بين الشدة والرخاوة في قوله تعالى في سورة "المرسلات"، وفيها يجتمع حرفا المد، الواو والياء، ليصورا غرضين متضادين، يصوران استمهالا للمكذبين وما سيلقونه من جحيم ويصوران ما وعد المحسنون وما سينالونه من نعيم، نعيم متطاول ممدود، ومع العذاب عنف ومع النعيم لين، يقول تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} "39". {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} "40". {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ} "41". {وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} "42". {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} "43". {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} "44". {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} "45". {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} "46". {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} "47". والذي يهمني أن أشير إليه هنا -بإيجاز- أن الفصل والوصل استخدم في ربط تلك النغمات بعضها ببعض، واستخدم أيضا في فصل بعضها عن بعض، وهو في ذلك لا يختلف عما يقوم به في فصل المفردات والجمل أو وصلها. فقد يأتي الإيقاع الثاني مفصولا عن الأول ليوضحه ويبينه، وقد يكون موصولا به لاختلافه عنه وارتباطه به في نفس الوقت، وهكذا ... ثم تضاف عناصر أخرى خاصة بطبيعة الإيقاع الصوتي، كالقصر والطول، والثبات والتغير، والاطراد والتنوع، وهذه لها ما لها من أثر في الإيقاع وفي

وظيفته1، ويأتي عنصر آخر فريد، وهو عنصر "اللازمة"، وهي آية تتكرر مرات على مدى السورة بعد إيقاعات مختلفة لتعمل على ربط الإيقاعات السابقة بتلك اللاحقة إلى أن تأتي "اللازمة" التالية، ... ، وهكذا. وقد تكون "اللازمة" قريبة الموقع مثل آية {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} في سورة الرحمن، التي تكررت إحدى وثلاثين مرة من خلال ثمان وسبعين آية عدد سورة "الرحمن"2. وقد تكون بعيدة الموقع مثل آية {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} التي تكررت ست مرات من خلال سبع وعشرين ومائتي آية عدد سورة "الشعراء"3، ومثلها آية {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} التي تكررت عشر مرات من خلال خمسين آية عدد سورة "المرسلات"4. واللازمة أيضا تكون مفصولة أو موصولة ليتم التكامل بين الإيقاع الصوتي والإيقاع الدلالي في أسلوب القرآن الكريم.

_ 1 انظر التصوير الفني في القرآن، لسيد قطب، ص88 وما بعدها، ط دار الشروق، والفاصلة في القرآن، لمحمد الحسناوي ص253 وما بعدها. 2 رقم 13، 16, 18, 21, 23, 25, 28, 30, 32, 34, 36, 38, 40, 45, 49, 51, 53, 55, 57، 59, 61, 63, 65، 67, 69، 71. 3 رقم 9، 67، 104، 159، 175، 191. 4 رقم 15، 19، 24، 28، 34، 37، 40، 45، 47، 49.

الفهرس

الفهرست التفصيلي تمهيد 11-13 هذه الطبعة "11-12" "حياة المصطلح - مقدمة "13-15" مصطلح الفصل والوصل مصدره علم القراءات "16-19" 1- مرحلة عدم استقرار المصطلح "20-25" 2- مرحلة استقرار المصطلح "25-28" 3- مرحلة تشعب المصطلح "28-31" المصطلح في رأيي "31" الفصل الأول الفصل والوصل قبل الجرجاني 35-49 أولا: في الفصل "37-44" قد يكون الفصل في موضع أبلغ من الوصل "38" للفصل أدوات منها - ضمير الفصل "38" الجملة المعترضة "39" الاستثناء المنقطع "40" طرح الواو "41" قد يكون الفصل للتفسير "41" وللإيجاز "41" والفصل للإيجاز يكون بين المفردات أيضا "43" وللإيضاح "44". ثانيا: في الوصل "44-49" للواو موضع لا تصلح فيه الفاء "44" الجملة تأتي موصولة مرة ومفصولة أخرى للتفسير "45" جواز وصل الجملة الخبرية بالجملة الإنشائية خلافا للمشهور "46"، قد يكون الوصل لأمن اللبس "46" وللتمييز تشريفا "47" ولتوكيد تفرد العلم الإلهي بالتأويل "47-49". الفصل الثاني الفصل والوصل والجرجاني 55-84 أولا: إعادة التشكيل 55-72 "أ" مادة الفصل - الجرجاني يعرف بالفصل والوصل ويبين أهميتهما "57" من أدوات الفصل عند الجرجاني - ضمير الفصل "57" طرح الواو "58" الفصل في المفردات مدخل إلى الفصل في الجمل "58" الفصل في الجمل "58" الجمل المفصولة المؤكدة للجمل المنفية "59" جمل الحال المفصولة "60-61". "ب" مادة الوصل: منزلة الواو بين أدوات الوصل "65" الواو تصل بين الأشباه والنظائر "65" وتصل بين النقائض لعلاقة "66" الوصل ليس بحروف العطف فقط، الوصل بـ "إن" "66"، الوصل في المفردات مدخل لمعرفة الوصل في الجمل "68" الوصل في الجمل على ضربين "68 و69" وصل مجموع جمل

بمجموع جمل أخرى "69" وشيء آخر دقيق "70" العطف على جمل الحال "70" جمل الشرط المعطوفة على جمل الجزاء "71" العطف على جواب الشرط بالواو "72". ثانيا: الجرجاني يبرز المضمون ويحلل عناصر الجمال 73-84 "أ" ضبط القواعد لإحكام الشكل 73-77 "ب" تحليل عناصر الجمال 78-84 الفصل الثالث: الفصل والوصل بعد الجرجاني 86-160 أولا: الزمخشري 87-136 الزمخشري والفصل "89-104" تعريف الفصل والوصل "89" الفصل وصل تقديري "90" أولا: من بلاغة الفصل 1- قد يكون الفصل أبلغ من الوصل "90" 2- التناسق الداخلي أقوى من وصلها برابط "91" 3- الفصل يزيد الأسلوب جزالة وفخامة "91" ويضفي عليه حسنًا وقوة تأثير "92" ثانيا: من أدوات الفصل: الفصل بالواو "92" الفصل بضمير الفصل "93" الفصل بالجملة الاعتراضية "93" الفصل بالاستثناء المنقطع "95" الفصل بـ "بل" "95" الفصل بـ "أم" المنقطعة "96" ثالثا: في تذوق الفصل، الفصل لتثبيت المعنى وتوكيده ويكون بعطف البيان "97" وبالبدل "97" وبالتوكيد "98"، الفصل لإيضاح المعنى وبيانه "99"، الفصل للتفصيل بعد الإجمال "100"، الفصل للإجابة عن سؤال مقدر "الاستئناف" "101" الاستئناف للتحليل "102" الاستئناف للتعجب "103" الاستئناف للتوكيد "103" الاستئناف لبيان السبب "104". الزمخشري والوصل "107-136" الوصل اللفظي والوصل المعنوي "107" أحوال الواو - الواو للوصل وللفصل أيضا "107" الواو تجمع بين المتشابهات "108" الواوات المتداخلة "108" الواو لتوكيد معنى النفي "109" الوصل بالواو لإثبات بشرية المسيح وعبوديته "109" حكم الشرع يقتضي الوصل بـ"الواو" دون "أو" "109" الوصل ليس بالواو فقط، الوصل بـ "الفاء"، يفيد التسبيب والتعقيب "110" ويفيد الشرطية "110" ويفيد المفاجأة "111" ويفيد الترتيب في الوجود أو في الفضل أو في الوصف "111"، الوصل بـ "ثم"، يفيد التراخي في الحال "112" والاستبعاد "113" وإذا تكررت فالكرة الثانية أبلغ من الأولى

"113" وتفيد بيان التفاضل "114" الوصل بـ "أو" "114" أدوات أخرى للوصل، على "115" لام الجر "115" إلى "116" قد "116" ربما "117" أداتا الشرط "إن" و"إذا" "117"، الوصل بين الصفات المتعددة، الوصل لبيان تعدد الصفات للموصوف "118" لكمال الصفات في الموصوف "119" الوصل لبلوغ أحد الموصولين شهرة الآخر في الصفة "119" الوصل بين الصفات بعد الفصل بينها، وذلك للجمع بين صفتين خاصتين منها "119" للتباين بين صفتين منها "120" من أغراض ترتيب المفردات الموصولة - تقديم الأدلة على القدرة الإلهية "120"، تقديم الأصل على الفرع "121" تقديم الأشد على الأخف على الممكن "121" من أغراض الوصل بين الجمل، الوصل للإشراك في الحكم الإعرابي "121" الوصل للتناسب "122" الوصل للتفسير "122" الوصل لتقرير المعنى "123" الوصل للاختصاص "123" الوصل للتوكيد "123" الوصل للفت إلى معنى يحدده سياق الكلام "124" الزمخشري يتابع الجمهور في عدم وصل الخبرية بالإنشائية "125" من أغراض ترتيب الجمل الموصولة، تقديم الأعرق في القدرة "125" تقديم الأكثر في العدد "125" تقديم الأقوى أثرا في حياة الناس "126" تقديم الأسرع ورودا إلى النفس "126" إحكام ترتيب الجمل بقصد تهذيب النفس "127" إغفال ترتيب الجمل بقصد تصوير اضطراب النفس "127" إغفال ترتيب الجمل بقصد تصوير سوء الطوية "128" الوصل والنسق القرآني "129" ومثال آخر موصول بالفاء مرة ومفصول عنها أخرى "129" وقد تجيء الجملة موصولة برابط واحد في مكانين مع تقديم وتأخير يقتضيه السياق "130" وقد تجيء موصولة برابطين لاختلاف القصد في المرتين "130" الوصل والقصص القرآني "131" الوصل في مسألة كلامية "133-136". ثانيا: تقعيد السكاكي 137-152 ثانيا: السكاكي وفن الفصل 137-148 تمهيد "138" عن أحوال الجملة عند السكاكي "139"، السكاكي وفن الفصل "139" الفصل لكمال الاتصال "140" الفصل للإيضاح والتبيين "140" الفصل للتوكيد "140" الفصل للبدل "141" الفصل لكمال الانقطاع "142" أن تختلفا خبرا وطلبا "142" ألا يكون بين الجملتين مناسبة "143"، القطع "144" القطع للاستئناف "145" فصل جمل الحال "146-148".

ثانيا: السكاكي وفن الوصل 150-152 الوصل للتوسط بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع "151" الثبوت والتجدد مع الجملتين الموصولتين "152". ثالثا: تلخيص القزويني وشرح السبكي 154-160 أولا: تلخيص القزويني - شبه كمال الانقطاع وشبه كمال الاتصال "154-155" ثانيا: شرح السبكي، الفصل والوصل بين المفردات "158" الفصل والوصل بين جملة ومفرد "159 و160" الفصل الرابع: تذوق الفصل والوصل في القرآن الكريم 161-217 أولا: أوجه القصور في قواعد الفصل والوصل 164-169 ثانيا: تذوق الفصل والوصل في القرآن الكريم - مواضع الفصل "174-180" مواضع الوصل "182-188" ثالثا: فن الفصل والوصل، مقدمة "191-193"، أدواته "195" من أهدافه، الإيضاح "196 و197" الإيجاز "198" تثبيت المعنى "198" حسن النسق "199" تقطيع الموضوع إلى أجزاء موصولة "200" تصوير الهيئة المنفصلة والهيئة المتصلة "208" تناسب الإيقاع الصوتي مع الإيقاع الدلالي "212-217". نتائج البحث 220 و221 المصادر المراجع 222-227

§1/1