الفروق الفقهية والأصولية
يعقوب الباحسين
الفروق الفقهية والأصولية مُقوّمَاتُها- شرُوطُهَا- نشأتُهَا- تطوّرُهَا دراسَة نظريَّة - وَصفيَّة- تَاريخيّة للدّكتور يَعقُوب بن عبد الوهاب البَاحسين كليّة الشريعَة - جَامعَة الإمَام محمَّد بن سعُود الإسلاَميَّة مكتبة الرشد الرياض شركَة الرياض للنشر وَالتوزيع
جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى 1419 هـ - 1998 م (ح) مكتبة الرشد، 1418 هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الباحسين، يعقوب عبد الوهاب الفروق الفقهية والأصولية: مقوماتها، شروطها، نشأتها - الرياض. ... ص؛ ... سم ردمك 7 - 093 - 01 - 9960 1 - الفقه المقارن أ- العنوان ديوي 6، 251 1849/ 18 رقم الإيداع: 1849/ 18 ردمك: 7 - 093 - 01 - 9960 مكتبة الرشد للنشر والتوزيع المملكة العربية السعودية - الرياض - طريق الحجاز ص ب 17522 الرياض 11494 هاتف 4583712 تلكس 405798 فاكس ملي 4573381 فرع القصيم: بريدة - حي الصفراء - طريق المدينة ص ب 2376 هاتف 3242214 - فاكس ملي 3241358 فرع المدينة المنورة - شارع أبي ذر الغفاري- هاتف 8340600 شركة الرياض للنشر والتوزيع ص ب: 33620 - الرياض: 11458 - هَاتف: 4594779
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
مقَدّمَة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فإِن البحث في الفروق يُعَدّ من مكمّلات العلوم، إِن لم يكن من ضروراتها، إِذ به يقع التمييز بين المتشابهات، وإليه يستند التفريق بين الأحكام، وعليه يعتمد العلماء في كثير من القضايا والواقعات. وقد استهوى البحث عن الفروق العلماء من كلّ صنف، فظهرت فيه المؤلفات المتنوّعة، والأبحاث الكثيرة، في العلوم الشرعيّة، والعلوم اللغويّة، والعلوم الأخرى (1).
وكان الاهتمام بذلك في العلوم الشرعية كبيرًا, ولاسيّما في ميداني الفقه والأصول. وقد جعل الزركشي (ت 794 هـ) الفرق والجمع واحدًا من أنواع الفقه العشرة، بحسب ما رآه، والتي هي: 1 - معرفة أحكام الحوادث نصًا واستنباطًا. 2 - معرفة الجمع والفرق. 3 - بناء المسائل بعضها على بعض، لاجتماعها في مأخذ واحد. 4 - المطارحات. 5 - المغالطات. 6 - الممتحنات. 7 - الألغاز. 8 - الحيل. 9 - معرفة الأفراد، أي معرفة ما لكلّ من الأصحاب من الأوجه القريبة.
10 - معرفة الضوابط والقواعد (1). وترجع أهمية ذلك إِلى أنّ معرفة الفروق ممّا تترتب عليها معرفة الأحكام الشرعية والمآخذ التي تتوجه إِلى ما يبدو أنه جامع بين أحكام الفروع الفقهية، حتى أنّهم جعلوه من أقوى الاعتراضات على العلّة، وأجدرها بالاعتناء به (2). وعلى الرغم من وفرة الكتب المؤلفة في المجال التطبيقي لهذا العلم، إِلا أنّني لم أجد دراسة مستقلة تبحث عن هذا العلم، من حيث هو، بحيث أنّها تبين موضوعه ومقوّماته، ونشأته، وتطوّره, ومناهجه. وجلّ ما رأيته كان مقدّمات لكتب محقّقة، تتناول هذا الموضوع، بتعريفه، وبيان أهمّيّته، وتعداد طائفة من مؤلفاته. وهي مقدّمات ليست بمستوى واحد، منها ما تتّصف بالسطحية والعجلة في التأليف، ومنها ما كانت مقدمات فيها نوع من الجديّة والالتزام بالمنهج العلمي. وأورد كثير من الباحثين كلامهم عن الفروق، في ضمن كلامهم عن القواعد الفقهية، بعَدِّها نوعًا منها، أو متفرّعة عنها. وقد يكون لما فعله علماء السلف، من جمعهم بين القواعد والفروق، في كتبهم المؤلّفة في الأشباه والنظائر، سندٌ في صنيعهم هذا، وليس ذلك ببعيد؛ للعلاقة القائمة بين الجمع والفرق. ولذلك رأيت أنّ الكتابة في هذا الموضوع، على وجه الاستقلال، بإِقامة دعامة له، تُؤصّله وتبيّن حدوده، وموضوعه، ومباحثه، ونشأته، وتطوره،
من الأمور المفيدة - إِن شاء الله. وأغلب ما في هذا الموضوع الذي أقدّمه للقاريء، كان في ثمرات تدريسي لموضوع القواعد الفقهية لطلبة الدراسات العليا في كلية الشريعة في جامعة الإِمام محمَّد بن سعود الإِسلامية، خلال أعوام كثيرة. وهو وإِن لم يكن من الموضوعات التي درّستها, لكنه كان يأتي ضمنًا وتبعًا، من خلال اطلاعي على مباحث العلماء في القواعد والضوابط الفقهية، وفي أحيان أخرى على مباحث التخريج والتفريع عند العلماء. وقد رأيت أنّ موضوع البحث في الفروق الفقهية يختلف عن موضوع البحث في الفروق الأصولية، وإِن كان يجمعهما المعنى العامّ للفروق. ولهذا فقد جعلت هذا البحث في فصلين، أحدهما لعلم الفروِق الفقهية، وآخرهما لعلم الفروق الأصوليّة، وجعلتُ في كلّ فصل تمهيدًا وطائفة من المباحث تناسب مسائله، وما يتناوله هذا العلم. وقد شجّعني على نشر هذا البحث وإِخراج مسوداته من أدراج مكتبتي، أنني لم أجد، في حدود اطلاعي، بحثًا مستقلًا يتناول هذا الموضوع، كما أشرت إِلى ذلك آنفًا. وإِنّني على ثقة بأن هذا الموضوع في حاجة إِلى دراسة أوسع ممّا قدّمت، وأنّ بحثي هذا ربّما كان نواة لبحوث أكثر تجلية لمسائل هذا العلم. على أنه مهما يكن من أمر هذا البحث، فإِني لم أقصد منه غير النفع، وتنبيه الباحثين إِلي أهميته، وضرورة العناية به. فإِن تحققّ منه ذلك فلله الحمد أولًا وآخرًا، وإِن كانت الأخرى فنعتذر لمن لم يجد فيه ذلك، وأن ينظر إِلى ما قصدناه منه، والأعمال بالنيّات، وصلّى الله على نبينا محمَّد. د. يعقوب عبد الوهاب الباحسين
الفصل الأول: علم الفروق الفقهية
الفصل الأول: علم الفروق الفقهية
تمهيد
تمهيد تعريف علم الفروق الفقهية - موضوعه- مسائله ومباحثه- الفائدة منه- العلوم التي استمدّ منها- حكمه. التعريف: تُعَد معرفة علم الفروق الفقهية تابعة لمعرفة الفروق الفقهية نفسها وما يعتدّ بها منها، وما لا يُعْتَدّ. ولهذا فلا بُدّ من تقديم تعريف الفروق الفقهية في اللغة والاصطلاح. معنى الفروق في اللغة: الفروق في اللغة جمع فَرْق، وهو ما يُميَّزُ به بين الشيئين. وذكر ابن فارس (ت 395 هـ) (¬1). أن مادة الكلمة أي الفاء والراء والقاف أصل صحيح يدلّ على تمييز وتزييل (¬2). وفي هذه المادة كلمات كثيرة تدل على معانٍ مُتعددة (¬3)، يُحتاج في إدخالها في المعنى الذي ذكره ابن فارس إلى نوع من التفسير والتأويل المتعسف، إضافة إلى المعاني التي ذكر ابن فارس أنها مما شذّت عن الأصل. ¬
على أنه مهما يكن الأمر فإن الكثير من كلمات هذه المادة، تدل على التمييز بين الأشياء، والفصل بينها. وللعلماء آراء مختلفة بشأن تخفيف المادة وتثقيلها، فيرى بعضهم أن فَرَق فَرْقاً بالتخفيف للصلاح، وفَرَّق تفريقاً للإفساد (¬1): ويرى آخرون أنه بالتخفيف للمعاني والألفاظ، وبالتثقيل للأجسام. قال الجوهري (ت 393 هـ) (¬2). فَرَقْتُ أفرق بين الكلام، وفرّقت بين الأجسام (¬3). وهذا المعنى هو ما ذكره القرافي (ت 684 هـ) (¬4) عن بعض مشايخه الذين ذكر عنهم، أيضاً، أن وجه المناسبة في ذلك أن كثرة المبني، عند العرب، تدل على كثرة المعنى (¬5). لكنَّ ¬
هذه الدعوى يخدشها وينقضها استعمالات القرآن الكريم. قال تعالى: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ) (¬1). فخفف في البحر، وهو جسم، وقال تعالى: (فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (¬2)، فخفف في ذلك، مع أنه في الأجسام. الفروق في الاصطلاح: لم أجد للفقهاء الذين تكلموا عن الفروق، تعريفاً لها، أو بياناً لمعناها، وإن كان بعضهم قد أشار إلى العلم نفسه، وذكر ما يشبه التعريف له، كما سنعلم ذلك فيما بعد. ويغلب على الظن أنهمي قصدون بالفروق وجوه الاختلاف بين الفروع الفقهية التي يشبه بعضها بعضاً في الصورة، ولكنها تختلف فيما بينها في الأحكام. وقد تكلم الأصوليون والجدليون عن الفروق كثيراً، إذ هي من الأمور المتفرعة عن مباحث القياس عندهم، فالفروق من قوادح العلة، المانعة من جريان حكمها في الفرع (¬3). ولهذا فإن تعريف الفروق الفقهية ينبغي أن يبحث عنه في هذه المواضع، أي مباحث العلة في القياس. وقد ¬
اختلفت عبارات العلماء في تعريفها، وإن تلاقى أكثرها في المعنى. وقبل أن نذكر بعض تعريفات الفرق، ننبه إلى أن الفرق عندهم يعني الأمر المانع من إلحاق الفرع بالأصل في الحكم، مع وجود الوصف المشترك المدعي علة، سواء كان ذلك لوجود وصف مختصّ بالأصل هو شرط للعلّة، ولم يوجد في الفرع، أو لوجود وصف في الفرع هو مانع، ولم يوجد في الأصل (¬1)، وفيما يأتي نذكر طائفة من عبارات العلماء في تعريف الفرق: 1 - قال إمام الحرمين (ت 478 هـ) (¬2) الفرق (هو المعارضة المتضمِّنة لمخالفة الفرع الأصل في علة الحكم) (¬3)، وقال: (إن حقيقة الفرق هي الفصل بين المجتمعين في موجب الحكم، بما يخالف بين حكميهما) (¬4). وفي هذين التعريفين اقتصار على ذكر الاختلاف بين الأصل والفرع ¬
في علة الحكم أو موجبه، دون بيان لنوع هذا الاختلاف. ولهذا نجد إمام الحرمين (ت 478 هـ) - رحمه الله- أتْبَعَ تعريفيه ببيان ضروب الفرق، فقال: (ثم هو على ضربين: أحدهما: فصل الحكم عن العلة. والثاني: فصل الفرع عن الأصل بمعنى يفرّق بينهما بيّن) (¬1). ولم يكشف لنا عن هذا المعنى بإعطاء صفاته أو شروطه. 2 - وقال القرافي (ت 684 هـ): (هو إبداء معنى مناسب للحكم في إحدى الصورتين، مفقود في الأخرى) (¬2). وفي هذا التعريف قصرٌ للفارق على المعنى الذي ذكره، وهو المناسبة في إحدى الصورتين دون الأخرى، وفيه احتراز عن الفروق الفاسدة التي لا يُعْتَدّ بها للتفريق بين الصورتين، أو المسألتين. وقد ذكر القرافي (ت 684 هـ) في شرحه أمرين يقابلان المعنى المناسب للحكم، هما: أ- المعنى غير المناسب، كقياس الأرز على البرّ، في حكم الربا، فيقول المعترض: الفرق بينهما أن الأرز أشد بياضاً، أو أيسر تقشيراً في سنبله، من البر (¬3). فمثل هذا يُعَد في الأوصاف الطردية غير المعتد بها (¬4). ¬
ب- المعنى المناسب لحكم آخر غير الحكم المذكور. كقياس المساقاة على القراض في جواز المعاملة على جزء مجهول. فيعترض على ذلك بوجود الفرق بينهما، إذ الشجر إذا ترك العمل فيه هلك، بخلاف النقدين فإنّ تركهما لا يؤدي إلى هلاكهما، وهذا معنى مناسب لأن يكون عقد المساقاة لازماً، وليس مناسباً لجوازه، لأن القول بجواز عقد المساقاة، وعدم لزومه يؤدي إلى جواز ردّه، بعد مدة، من غ ير عمل، مما يترتب عليه هلاك الشجر. وهذا الوصف لا مدخل له في الفرق بينهما باعتبار الغرر (¬1). 3 - وقال القاضي البيضاوي (ت 685 هـ) (¬2): هو جعل تعيّن الأصل علة، والفرع مانعاً (¬3). ومقتضى هذا التعريف أن الفرق ضربان: الضرب الأول: تعيّن أصل القياس، وما فيه من خصوصية علة ¬
لحكمه، فلا يلحق به الفرع. والضرب الثاني: تعيّن الفرع، أو خصوصيته مانعاً من ثبوت حكم الأصل. مثال الأول قول الحنفية إن الخارج النجس من غير السبيلين ناقضٌ للوضوء، قياساً على الخارج منهما، والوصف الجامع بينهما خروج النجاسة. فيقول خصومهم إن بينهما فرقاً؛ لأن العلة الناقضة للوضوء في الأصل هي خروج النجاسة من السبيلين، لا مطلق خروج النجاسة وهذا المعنى غير متحقق في الفرع. ومثال الثاني قول الحنفية يجب القصاص على المسلم بقتل الذمي، قياساً على غير المسلم، والجامع هو القتل العمد العدوان. فيقول خصومهم إن بينهما فرقاً؛ لأن كون القاتل مسلماً مانعٌ من وجوب القصاص عليه، لشرفه (¬1). فقد جعل تعين الفرع مانعاً من الإلحاق. 4 - وقال صفي الدين الهندي (ت 715 هـ) (¬2): (الفرق عبارة عن إبداء ¬
وصف في الأصل يصلح أن يكون علة مستقلة للحكم، أو جزء علة) (¬1). وفي هذا التعريف قَصْرُ الفرق على إبداء الخصوصية في الأصل، بإبداء وصف فيه يصلح أن يكون علة مستقلة، أو جزء علة، ولم يتطرق إلى ما في الفرع من خصوصية، تصلح أن تكون مانعاً من حكم العلة، كما هو في التعريفات السابقة. وبذلك يكون الفرق عنده، راجعاً إلى المعارضة في الأصل فقط. 5 - وقال عضد الدين الإيجي (ت 756 هـ) (¬2): (الفرق إبداء خصوصية في الأصل، هو شرط ... أو إبداء خصوصية في الفرع، هي مانع) (¬3). والمراد من ذلك هو أن يُظْهر المعترض خصوصية في الأصل تُجْعَل شرطاً للحكم، بأن تُجعل من علته، أو إبداء خصوصية في الفرع تُجْعَلُ مانعاً من الحكم، فالفرق على هذا راجع إلى إحدى المعارضتين، المعارضة في الأصل في الحالة الأولى، والمعارضة في الفرع ¬
في الحالة الثانية (¬1). وما ذكر مبنيٌّ على أنه ليس على المعترض أن يتعرض لعدم الخصوصية، الموجودة في الأصل، في الفرع، ولا أن يتعرض لعدم الخصوصية، الموجودة في الفرع، في الأصل. لكن بعض العلماء ذهبوا إلى اشتراط ذلك فيكون الفرق مجموع المعارضتين المذكورتين (¬2). وقد ذكر الآمدي (ت 631 هـ) (¬3) أن القول بأن الفرق لا يخرج عن المعارضة في الأصل، أو الفرع، هو عند أبناء زمانه، أما المتقدمون فكانوا يرون أن الفرق هو مجموع الأمرين حتى لو اقتصر على أحدهما لا يكون فرقاً. وبنى اختلافهم في قبول الفرق ورفضه على ذلك (¬4). 6 - وجاء في كشاف اصطلاحات الفنون: إن الفرق، عند الأصوليين وأهل النظر، هو: (أن يُفرِّق المعترضُ بين الأصل والفرع، بإبداء ما يختص ¬
بأحدهما، لئلا يصح القياس، ويقابله الجمع) (¬1). وهذا التعريف يصور الفرق، عند الأصوليين وأهل النظر، ويعبر عن ذلك بوضوح. وقد صوَّر إمام الحرمين (ت 478 هـ) ذلك، من قبل، بعبارة جامعة، بيّنت معنى الفرق والغاية منه، قال: (والقول الوجيز فيه أن قصد الجمع يَنْتَظِم بأصلٍ وفرعٍ، ومعنى رابط بينهما، على شرائط بينة، والفرق معنى يشتمل على ذكر أصل وفرع، وهما يفترقان فيه، وهذا يقع على نقيض غرض الجمع. ومن ضروراته معارضة معنى الأصل والفرع، ولكن الغرض منه مضادة الجمع بوجه فقه، أو بوجه شبه، إن كان القياس في فن الشبه، وعلى هذا لو سمى مسمٍّ الفرق معارضة لم يكن مبعداً، ولكن ليس الغرض من الإتيان بمعارضة على الطرد والعكس، لاتصال أحدهما بالآخر، بل القصد منه فقهٌ، ينتظم معارضتين، يشعر بمفارقة الأصل للفرع على مناقضة الجمع، فهذا سرّ الفرق) (¬2). وقد سبق أن ذكرنا ما قاله الآمدي (ت 631 هـ) من أن الفرق، عند المتقدمين، هو مجموع الأمرين، أي المعارضة في الأصل وفي الفرع. (حتى أنه لو اقتصر على أحدهما لم يكن فرقاً) (¬3)، وأنه - أي الفرق- على ما انتهى إليه علماء زمانه، هو إحدى المعارضتين (3). تعريف علم الفروق الفقهية: لم يتكلم الأصوليون عما يُسمى علم أو فن الفروق الفقهية، بل اقتصر ¬
حديثهم عنها، خلال كلامهم عن قوادح العلة في القياس، أو خلال كلامهم في موضوع الجدل، كما في الكافية في الجدل لإمام الحرمين (ت 478 هـ)، والجدل على طريقة الفقهاء لأبي الوفاء ابن عقيل (ت 513 هـ) (¬1). وعَلَم الجذل في علم الجدل لسليمان بن عبد القوي الطوفي (ت 716 هـ) (¬2)، وكالمعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي (ت 476 هـ) (¬3). ¬
والمنهاج في ترتيب الحجاج لأبي الوليد الباجي (ت 474 هـ) (¬1)، والإيضاح لقوانين الاصطلاح لأبي محمد يوسف بن عبد الرحمن بن الجوزي (ت 656 هـ) (¬2)، وسائر كتب أصول الفقه الباحثة عن قوادح ¬
العلة في القياس. أما الفقهاء الذين ألفوا في الأشباه والنظائر، والتي من محتوياتها الفروق الفقهية، فقد أشار بعضهم إلى شيء من ذلك، وذكروا ما يشبه التعريف لهذا العلم، وأوردوا شيئاً من أوصافه، لكن هؤلاء كانوا محدودين وقليلي العدد، وفيما يأتي نذكر بعض تلك التعريفات التي اطلعنا عليها: 1 - قال جلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) (¬1)، عن علم الفروق: إنه الفن (الذي يذكر فيه الفرق بين النظائر المتحدة تصويراً ومعنى، المختلفة حكماً وعلة) (¬2). ولم يورد هذا الكلام على أنه تعريف فني، وإنما ذكره على أنه وصف لهذا العلم، استثمره بعضهم، وحوّله إلى تعريف له، بإجراء بعض التعديل اليسير في الصياغة. ¬
2 - وقال الشيخ محمد الفاذاني (ت 1410 هـ) (¬1): (هو معرفة الأمور الفارقة بين مسألتين متشابهتين، بحيث لا نسوي بينهما في الحكم) (¬2). وقال عن الجمع والفرق: (أي معرفة ما يجتمع مع آخر في حكم، ويفترق معه في حكم آخر، كالذمي والمسلم يجتمعان في أحكام ويفترقان) (2). 3 - واعترض بعض الباحثين على التعريفين السابقين بأنهما غير مانعين من دخول الفروق بين المسائل المتشابهة، في أي علم من العلوم، في التعريف؛ إذ لم تُقَيّد المسائل المتشابهة بالفقهية. وذكر تعريفاً من عنده، رأى أنه جامع مانع، هو قوله: (العلم ببيان الفرق بين مسألتين فقهيتين متشابهتين صورة، مختلفتين حكماً) (¬3). والذي يبدو أن العلماء إنما كانوا يقصدون تعريف الفروق، بوجه عام، لا الفروق الفقهية، كما عرّفوا القاعدة بأنها قضية كلية، دون أن ¬
يحددوا مشتملاتها (¬1). لكن الذي يؤخذ على التعريفين المذكورين، وعلى تعريف المعترض د. عمر السبيل، أنها أدخلت في مادة التعريف ألفاظ المعرف، مما ترتب عليه أن يكون فيها الدور الممنوع، ولهذا فإنه لو أبدل لفظ الفرق أو الفارق، بغيره من الألفاظ التي تؤدي معناه، زال مثل ذلك الاعتراض، كأن يقال، مثلاً، هو العلم بوجوه الاختلاف بين مسألتين فقهيتين متشابهتين صورة، مختلفتين حكماً. على أن هذا لا يُعد تعريفاً، أو قولاً شارحاً لعلم الفروق نفسه، لأن العلم المذكور أوسع دائرة من ذلك، ولهذا فإننا نقترح تصوير هذا العلم بأنه: العلم الذي يُبْحَثُ فيه عن وجوه الاختلاف، وأسبابها، بين المسائل الفقهية المتشابهة في الصورة، والمختلفة في الحكم، من حيث بيان معنى تلك الوجوه، وماله صلة بها، ومن حيث صحتها وفسادها، وبيان شروطها ووجوه دفعها، ونشأتها وتطورها، وتطبيقاتها، والثمرات والفوائد المترتبة عليها. وإنما قلنا إن هذا تصوير لهذا العلم، بسبب أنه يفتقد لبعض شروط الحد أو الرسم، لما فيه من التفصيلات، وذكر ما لا يذكر من ذلك، عند المنطقيين، ولكننا وجدنا أن التصريح بذلك قد يُلقي ضوءاً يزيد ما نريده من علم الفروق الفقهية وضوحاً والله أعلم. ¬
موضوعه (¬1): إن بيان موضوع العلم يُعَدّ من الأمور الهامة، عند العلماء، وقد أولوه عنايتهم، وجعلوه أحد المبادئ العشرة، أو الرؤوس الثمانية في اصطلاحاتهم (¬2) ويعود ذلك إلى أنه المميز للعلم عن غيره، والمحدد لمجالاته التي لا ينبغي أن تتداخل مع غيرها. ويريدون بموضوع العلم ما يُبْحَث في ذلك العلم عن عارضه الذاتية، كالكلمة فإنها موضوع علم النحو، إذ يبحث فيه عما يعرض لها من حيث الإعراب والبناء، وأنواع الإعراب من رفع ونصب وجر وجزم، وكالأدلة، أو الأدلة والأحكام، فإنها موضوع أصول الفقه؛ إذ يبحث فيه عما يعرض لها من حيث الحجية وعدمها، وكيفية الاحتجاج بها، وغير ذلك (1). ¬
وعلى هذا يكون موضوع علم الفروق الفقهية هو الفروع أو المسائل الفقهية المتشابهة في الصورة، والمختلفة في الحكم، من حيث بيان أسباب الافتراق، أو الاجتماع، فيما بينها، وما يتعلق بذلك من الأمور. * * *
مسائله ومباحثه: (¬1) يمكن القول إن مباحث ومسائل علم الفروق الفقهية ذات صلة وثيقة بموضوعه، لأن موضوعات المسائل والمباحث هي نفسها موضوعات العلم، أو أنواعها أو أعراضها الذاتية، أو ما تركب من هذه الأمور، أو بعضها. ولما كان موضوع العلم، كما عرفنا، هو ما يبحث فيه عن الأحوال العارضة له، فإنَّ مسائله ومباحثه هي معرفة هذه الأحوال. وكما أن بدن الإنسان الذي هو موضوع علم الطب، بسبب أنه يبحث فيه عن الأعراض اللاحقة له، لا يدخل في حقيقة العلم، فكذلك المسائل الفقهية التي هي موضوع علم الفروق الفقهية، لا تدخل في حقيقة هذا العلم، لأن الذي يبحث فيه هو ما يعرض لها من الصفات الجامعة، أو المفرقة بينها. ومهما يكن من أمر فإن ما كتبه العلماء في هذا الشأن، يدخل ضمن ما يأتي: 1 - الفروق بين أحكام الجزئيات الفقهية، أو بين المسائل الفقهية، كالفرق بين اشتراط إذن الولي في انعقاد إحرام الصبي في الحج، وعدم اشتراطه في الصلاة (¬2). واشتراط الطهارة في صحة الطواف، وعدم ¬
اشتراطها في السعي (¬1). وكانتقاض الوضوء بأكل لحم الجزور، وعدم انتقاضه بأكل لحم الغنم (¬2). 2 - الفرق والاستثناء: وهذا النوع من المسائل داخل في موضوع الفروق بين أحكام المسائل الجزئية، لكن طريقة عرضه تتخذ صورة أخرى، هي ذكر القاعدة أو الضابط، أو المسائل الفقهية وبيان ما يستثنى منها، وإنما كان التأليف في هذا المجال داخلاً في الفروق؛ لكون حكم المستثنى مخالفاً لحكم ما استثني منه. وقد يذكر سبب الاستثناء، وقد يهمل بأن يقتصر على ذكر المستثنيات التي تفارق حكم ما استثني منه، نحو قولهم: من وجبت عليه الجمعة اسْتُحِبَّ له التبكير فيها ... إلا في مسألتين: إحداهما: من به سلس البول. المسألة الثانية: إمام الجمعة يُسَنُّ في حقه الحضور لوقت الصلاة (¬3). أما الفروق بين المصطلحات الفقهية، أو الأصولية من حيث اختلاف ما يترتب عليها من أحكام، كالفرق بين الخطأ والنسيان، وبين الجهل الذي يُعْذر فيه والجهل الذي لا يُعْذر فيه، وبين الخبر والإنشاء، وبين الشرط والمانع، وبين العلة والسبب، وبين الشهادة والرواية وغير ذلك. فهو مما يدخل في الفروق الأصولية، التي سيرد الكلام عنها في الفصل الثاني من هذا البحث. * * * ¬
الفائدة من دراسة علم الفروق (¬1): للتعرف على الفروق الفقهية فوائد متعددة، سواء كان ذلك للمجتهد، أو لمن هو دونه في المرتبة. ونذكر فيما يأتي بعض هذه الفوائد: 1 - إن في دراستها تتحقق إزالة الأوهام التي أثارها بعض من اتهموا الفقه بالتناقض، بسبب إعطائه الأمور المتماثلة أحكاماً مختلفة، وتسويته بين المختلفات. كقولهم إن الشارع فرض الغسل من المنيّ وأبطل به الصوم بإنزاله عمداً، وهو طاهر، دون البول والمذي وهو نجس، وأوجب غسل الثوب من بول الصبية، والنَّضح من بول الصبي، من تساويهما، فبمعرفة أسباب التفريق في الحكم بين الصور المتشابهة، يُدْرَكُ وَهَنُ مثل هذه الاعتراضات وسقوطها. 2 - إن التعرف على هذه الفروق يُبَصِّرُ العالم بحقائق الأحكام وينير الطريق أمامه، لينقذه من التعثر في الاجتهاد، فهي شَحْذٌ للذهن، وتنبيه له، لئلا يقع في الوهم، ويتسرّع فيما يفتيه، ويصدره من الأحكام، بناء على الشَّبَه الظاهري. ولهذا نجد أبا عبد الله المازري (ت 536 هـ) (¬2)، عدَّ معرفة الفروق من جملة ما ينبغي أن يتوفّر في ¬
الفقيه الذي يفتي في زمانه (¬1). لئلا يقع في الخطأ، عند التخريج. قال أبو عبد الله القاسم البرزلي (ت 844 هـ) (¬2): (وقد يطرأ من يظن أنه بلغ رتبة الاجتهاد، فينظر المسائل بعضها ببعض، ويخرّج، وليس بصيراً بالفروق) (¬3). 3 - إن هذا العلم بكشفه عن الفروق بين المسائل يحققُ وضوحاً في علل الأحكام وما يعارض هذه العلل، ويدفعها، مما يهيئ للفقيه القياس الصحيح، ويحقّق له غلبة الظن في إلحاق الفروع بغيرها من الأصول. ويجعله مطمئناً إلى تخريجه. ¬
حكم معرفة الفروق الفقهية: لم أجد من العلماء من تكلم عن حكم معرفة علم الفروق الفقهية، بل إن العلماء قد اختلفوا في قبول قدح العلة بالفرق، ومنع الجمع بين الأصل والفرع، عند وجوده، فالمحققون من العلماء قبلوه، وخالفت طائفة أخرى فلم تقبله (¬1). وفصّل بعضهم في ذلك، فاختار القاضي البيضاوي (ت 685 هـ) أن الفرق، عند المعارضة في الأصل قادحٌ في العلة المستنبطة، دون المنصوصة، وأنه غير قادح في الفرع، لاختياره تبعاً لصاحب الحاصل، عدم جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستقلتين، إن كانتا مستنبطتين، ولأنه يرى أن النقض لمانع غَيْرُ قادحٍ في العلة (¬2). ولكلِّ طائفةٍ من هؤلاء العلماء أدلتها، وما بنت عليه وجهة نظرها، وذكر هذه الاستدلالات والمناقشات ليس من مقصود هذا البحث؛ لأن ما نريده من ذلك تصوير الفرق، عند الأصوليين. وقد أتينا من ذلك بما يحقق المقصود ويبين المراد. ومما ينبغي التنبيه إليه أن أبا الربيع الطوفي (ت 716 هـ) تكلم عما يشبه بيان حكم الفروق. وإنما قلنا إنه يشبه الحكم، لأنه تكلم عن الاعتداد بالفرق واعتباره، وذكر ما يدل على ذلك (¬3). ولكنه لم يتكلم ¬
عن هذا الاعتداد، أهو مباح، أو مندوب إليه، أو جائز؟ أهو شرط أو غير ذلك من الأحكام، ولهذا قلنا إننا لم نجد من تكلم عن حكمه من الفقهاء والأصوليين. وما كتب في الفروق، أو الجمع والفرق يُعَدُّ المجال التطبيقي لهذا القادح؛ إذ إن هذه الكتب تذكر الفروع الفقهية المتشابهة، وما يجمع بينها، وما يفرق بعضها عن بعض في الحكم، وبتعبير آخر إنها تبحث عن مبررات عدم إلحاق الفروع بالأصول، مع وجود التشابه الظاهري بينها، ولاشتراكها ببعض الأوصاف التي تقتضي الجمع. والذي يبدو لنا أن تقصّي ما يذكر في هذه الكتب، من العلل الجامعة، وما ينقضها في الجزئيات المختلفة، يحتاج إلى نظر دقيق، فما يذكر من المعاني المشتركة، ربما لم ينطبق على معنى العلة في اصطلاحهم، أو لم يكن ثابتاً بالطرق المعتد بها عندهم، كما أن ما به التفريق ربما لا يكون من الأمور المقبولة في رأيهم. وعلى هذا فإن تحديد حكم معين لتعلم الفروق الفقهية بإطلاق ليس كما ينبغي، ونجد أن المناسب هو تنوع الحكم باختلاف الحالات فهو بالنسبة لغير المجتهد أو المفتي جائز، وأما بالنسبة للمجتهد أو المفتي فهو واجب؛ لأنه داخل في شروط المجتهد والمفتي العلمية، لئلا تتناقض، ¬
أحكامه، ويقع في الخطأ أو السهو، وهو معدود من آلات ومكملات الاقتدار على الاستنباط والتخريج، كما أنه من مستلزمات القياس الذي يُعَدّ الاقتدار عليه من الشروط الأساسية في المجتهد- والله أعلم. * * *
المبحث الأول أقسام الفروق وشروطها
المبحث الأول أقسام الفروق وشروطها المطلب الأول: أقسام الفروق الفقهية. المطلب الثاني: شروط الفروق.
المطلب الأول أقسام الفروق الفقهية الفرع الأول: أقسامها من حيث موضوع التفريق. الفرع الثاني: أقسامها من حيث الاستقلال وعدمه. الفرع الثالث: أقسامها من حيث الصحة والفساد. الفرع الرابع: أقسامها من حيث تعين الأصل والفرع في العلة والمانعية. الفرع الخامس: أقسامها من حيث أقسام القياس.
المطلب الأول أقسام الفروق الفقهية
المطلب الأول أقسام الفروق الفقهية في كلام العلماء عن الفروق ذكروا لها أقساماً متعددة، ولكنها كانت تختلف بحسب الحيثيات والاعتبارات التي لوحظت عند التقسيم والتنويع، وسنذكر فيما يأتي أهم ما وجدناه في كلامهم من ذلك: الفرع الأول: أقسامها من حيث موضوع التفريق. وتنقسم بهذا الاعتبار إلى قسمين: القسم الأول: الفرق بين الأصل والفرع أو بين المقيس والمقيس عليه. وهذا القسم هو المتبادر إلى الناظر في معنى القياس، لأن أساس القياس هو الجمع بين الأصل والفرع في الحكم لاتفاقهما في العلة، ولهذا فإن هذا القسم من الفروق هو الأكثر من قسيمه الآخر، ومع ذلك فقد وقع الاختلاف في صحته (¬1). وهو أنواع، لأنه قد يكون معارضة في الأصل، أو معارضة في الفرع، أو معارضة فيهما. القسم الثاني: الفرق بين الوصف والحكم: وهذا القسم من الفروق اختلف فيه العلماء القائلون بصحة القسم السابق، ومن ردّه قال: إن الفرق هو نقيض الجمع وضده، والجمع يقع بين الأصل والفرع، لا بين الوصف والحكم، فينبغي أن يكون اعتراض المعترض متجهاً إلى ما قصده ¬
المستدل في إثبات الجمع بين الأصل والفرع. ثم إن جمع الجامع يبقى بعد القدح بالفرق بين الوصف والحكم، إذ لا يؤثر ذلك في الجمع بين الأصل والفرع (¬1)، وهو الأساس الذي قام عليه القياس. وذهب القاضي أبو بكر (ت 403 هـ) (¬2). وإمام الحرمين (ت 478 هـ) إلى أن هذا الفرق صحيح، وأن الفارق إذا فرّق بين الوصف والحكم، وقطع ارتباط الحكم بالعلة، وجب انقطاع الفرع عن الأصل لا محالة (¬3). ووضح فخر الدين الرازي (ت 606 هـ) (¬4) هذا النوع في الجانب ¬
التطبيقي بقوله: (إن من استدل في مسألة ظهار الذمي، مثلاً، فقال: صح طلاقه فصح ظهاره كالمسلم، إن لم يتقرر، عنده، أولاً أن الطلاق والظهار متقاربان متلائمان، حتى يلحق الفرع بالأصل لمشاركة الأصل في أحدهما. فيدل على ثبوت الثاني للمقاربة والارتباط. وإذا قطع الفارق هذا الارتباط بينهما، بإظهار فارق يوجب المباينة، ينقطع الفرع عن الأصل، في الحكم المطلوب استواؤهما فيه، إذ الحكم إنما يرتبط بعلته في الأصل والفرع جميعاً) (¬1). وتوضيحاً لما تقدم نقول في مسألة قياس الذمي على المسلم، في صحة الظهار، إن الوصف هو صحة الطلاق، وأن الحكم هو صحة الظهار، والأصل هو المسلم، والفرع هو الذمي. فإذا بيّن المعترض الفرق بين صحة الطلاق وصحة الظهار فإن ذلك يترتب عليه عدم جواز قياس الفرع على الأصل في حكم صحة الظهار، لعدم العلة الرابطة بينهما. ووجه الفرق بين الطلاق والظهار: أن (يقول إنما صح طلاق الذمي، لأنه لا يتضمن معنى يستحيل مع الكفر، وهو التكفير بالصوم، بل هو التحريم فحسب، والظهار منه لا يصح، لأنه يتضمن ما لا يصح معه الكفر) (¬2). ¬
الفرع الثاني: أقسامها من حيث الاستقلال وعدمه
ومثل مسألة ظهار الذمي، قولهم بشأن زكاة الصبي: شخص تجب زكاة الفطر في ماله، فتجب زكاة المال في ماله كالبالغ (¬1). ويكثر هذا الفرق في الأقيسة التي تكون الجوامع فيها أحكاماً شرعية (1). الفرع الثاني: أقسامها من حيث الاستقلال وعدمه، وتنقسم بهذا الاعتبار إلى قسمين: القسم الأول: الفارق المستقل، أي الذي يصلح أن يكون علة، وحده، دون حاجة إلى أن ينضم إليه شيء آخر، ومثل هذا الفارق لا يؤثر، إذا جوّزنا تعليل الحكم بعلتين (¬2). لأن عدم إحدى العلتين في الفرع لا يضر، لاشتراكهما في العلة الأخرى. مثال ذلك: تعليل ولاية الإجبار في النكاح بالصغر والبكارة. فإذا انفردت البكارة في المعنسّة تثبت ولاية الإجبار، وإذا انفرد الصغر في الثيب الصغيرة تثبت ولاية الإجبار، فإيراد المعترض الفرق بوجود أحد الوصفين في الأصل دون الفرع، غير مقبول (¬3). القسم الثاني: الفارق غير المستقل، كالفارق بمزيد المشقة، ومزيد الضرر، وكثرة الحاجة وما أشبه ذلك. فمثل هذه الأمور لا تصلح أن تكون علة مستقلة؛ لأنها من باب صفة الصفة، التي لا تصلح للتعليل المستقل (¬4). وقد قالوا إن مثلها يفيد المعترض ويتوجه فارقاً (¬5). ¬
الفرع الثالث: أقسامها من حيث الصحة والفساد
الفرع الثالث: أقسامها من حيث الصحة والفساد. وتنقسم بهذا الاعتبار إلى قسمين: القسم الأول: الفروق الصحيحة، وهي الفروق التي تتحقق فيها الشروط الآتية: 1 - أن يكون ما يُبْدَي من فرق معنى مناسباً للحكم، في إحدى الصورتين، مفقوداً في الصورة الأخرى (¬1). وقد ذكر الطوفي (ت 716 هـ) أن طريق النظر في الجمع والفرق بين الصور، هو أن يُنْظَرَ في الجامع والفارق، فيعتبر المناسب منهما، ويُلْغَى الطردي، بطريق تنقيح المناط (¬2). وقد نقل الزركشي (ت 794 هـ) (¬3) عن كتاب (الفرق والجمع) ¬
لنجم الدين المقدسي (ت 638 هـ) (¬1) أنه إذا تمت المناسبة بشروطها فهذا الفرق الصحيح (¬2). ومثال ذلك التفريق بين الهبة والبيع، في مسألة حصول الغرر، فعندما يقول المستدل لا تجوز الهبة مع الغرر قياساً على البيع، يُعْتَرَضُ عليه بالفرق بينهما، لأن البيع عقد معاوضة، والمعاوضة مكايسة يخل بها الغرر، بخلاف الهبة فإنها عقد فيه إكرام وإحسان محض، فلا يخل به الغرر، وكذلك أن الموهوب له، إذا لم يحصل على شيء، فلا يتضرر، بخلاف المشتري الذي يلحقه الضرر (¬3). 2 - تغليب الأنسب للحكم، إذا كان كلٌّ من الجامع والفارق مناسباً له. سواء كان الأنسب جامعاً أو فارقاً، فمثال الأنسب جامعاً ما ذكره ¬
الطوفي (ت 716 هـ) بشأن قتل الأب ولده، إذ لا فرق في قتله بين أن يضربه بالسيف، أو يرميه بسهم، أو يذبحه. فإنه لا يقتل تغليباً للمعنى الجامع، وهو الإشفاق الوازع. وقد غلّب هذا المعنى المناسب على ما ورد عن مالك – رحمه الله- (ت 179 هـ) (¬1) في تفريقه بين القتل بالسيف والقتل بالذبح، فإنه رأى أن الذبح معنى مناسبٌ للقود، فيقاد به الأب، بخلاف القتل بالطرق الأخرى. ووجه التفريق والأرجحية عنده، هو أن القتل فيما سوى الذبح، يحتمل أنه أراد به ترويع ولده لتأديبه، فأفضى إلى القتل خطأ، بخلاف الذبح الذي لا يتحقق به معنى التأديب، فيجب القود – حينئذٍ – قياساً على الأجنبي، فرجّح مناسب القتل العمد العدوان، على مناسبة الإشفاق الوازع- بينما لم يعتد الجمهور بهذا الفرق واعتبروه وصفاً طردياً. ومثال الأنسب فارقاً، في المسألة المتقدمة، أن يقال إن المعنى المناسب الجامع بين الأب والأجنبي أنهما قاتلان، فينبغي أن يقاد الأب بالولد، كما هو الأمر في الأجنبي، لاشتراكهما في العلة المناسبة. فيقال: وصف الأبوّة معنى مناسب لإسقاط القود، وهو أكثر ¬
مناسبة من المعنى الجامع، وهو القتل، ووجه ذلك أن شفقة الأب تمنع من تعمد قتل الولد، بخلاف الأجنبي (¬1). القسم الثاني: الفروق الفاسدة، وإلى جانب الفروق الصحيحة توجد فروق فاسدة، غير معتدّ بها عند العلماء، ولا تبنى عليها أحكام، وهي كثيرة نذكر بعضها فيما يأتي: 1 - الفرق بالأوصاف الطردية: والمقصود بالأوصاف الطردية التي لم يعلم كونها مناسبة ولا مستلزمة للمناسب (¬2). وقيل أنها الأوصاف التي لم يلتفت إليها الشارع، فيما عهد في تصرفه، كالطول والقصر، في عموم الأحكام، والذكورية والأنوثية في باب العتق (¬3). فلو قيل صحّ بيع الحبشي فيصح بيع التركي، فلو فرق بينهما بأن هذا أسود، وذاك أبيض، لكان تفريقاً باطلاً. قال في البحر المحيط: (ولو فتح هذا الباب لم يتم قياس، لأنه ما من صورتين إلا وبينهما فرق) (¬4). ومما عدّ من الأوصاف الطردية قول الحنفي بشأن عدم افتقار الوضوء إلى النية، عنده، طهارة بالماء فلم تفتقر إلى النية، كإزالة النجاسة. فيقول الفارق المعنى في الأصل أنها طهارة عينية والوضوء طهارة حكمية. فيصير الجامع طردياً (¬5). ¬
2 - الفرق بوصف مصطلح على ردّه بين العلماء. كما لو قيل في الزاني المحصن، يجب رجمه قياساً على ماعز (¬1). فيعترض بالفرق بينهما، بأن الرجم في ماعز وجب تطهيراً له، وهذا المعنى معدوم فيما قيس عليه، لأن الرجم في عقوبة الزاني المقصود منها الزجر. فمثل هذا الفرق باطلٌ غير معتد به (¬2)؛ لأن العلماء اصطلحوا على رد أن علة رجم ماعز هي التطهير. 3 - الفرق يون الأصل مجمعاً عليه، والفرع مختلفاً فيه، ومثلوا لذلك بما لو قيل: إن الحاجة إلى وجوب الزكاة على البالغ أكثر منها على الصبي، لأنها مما اتفق عليه في البالغ، ومما اختلف فيه في الصبي، ولو كانت الصورتان متساويتين في المصلحة لكانتا متساويتين في الاجتماع وعدمه (¬3). 4 - الفرق بكون الأصل منصوصاً على حكمه، والفرع مختلفاً فيه، وهو قريب مما سبق. قال الزركشي (ت 794 هـ): (لو صح الفرق بذلك بطلت الأقيسة كلها) (¬4). 5 - الفرق بما هو نتيجة افتراق الأصل والفرع في الاجتماع والخلاف، ومثلوا لذلك بما إذا قاس الفقيه النبيذ المشتدّ على الخمر، فاعتُرِض عليه بالفرق بينهما في أنَّ مُستْحِلَّ الخمر كافرٌ ومُستحِلّ النبيذ لا يفسق. ¬
الفرع الرابع: أقسامها من حيث تعين الأصل والفرع في العلية والمانعية
قال إمام الحرمين (ت 478 هـ): (وهذا يرجع حاصله إلى أن تحريم الخمر متَّفق عليه ثابت من جهة الشرع قطعاً، ومنكر ذلك جاحدٌ للشرع، وتحريم النبيذ مختلف فيه) (¬1). ومثل ذلك أيضاً، قياس المستولدة على المدَبّرة، في نقض القضاء بالبيع، إذ اعترض بالفرق بينهما، وذلك لكون الحكم في الأصل ظاهراً، وفي الفرع مجتهداً فيه (¬2). الفرع الرابع: أقسامها من حيث تعين الأصل والفرع في العلّية والمانعية. وتنقسم بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام هي: القسم الأول: تعين أصل القياس علة لحكمه، كقياس الشافعية الوضوء على التيمم في وجوب النية، بجامع أن كلاً منهما طهارة عن حدث، فيعترض الحنفي بالفرق بينهما، وهو أن وجوب النية في التيمم عائد إلى خصوصية التيمم في أنه طهارة بالتراب عن حدث، فافترقا (¬3). وكقياس الحنفية الخارج النجس من غير السبيلين في نقض الوضوء، على الخارج النجس من السبيلين، فيعترض الشافعية بالفرق بينهما، بأن العلة هي خروج النجاسة من أحد السبيلين، لا مطلق خروجها. القسم الثاني: تعيّن فرع القياس مانعاً من ثبوت حكم الأصل فيه، كقياس الحنفية المسلم على الذمي في وجوب القصاص عليه عند قتله الذمي، بجامع القتل العمد العدوان، فيعترض الشافعية على ذلك بالفرق بينهما؛ لأن الخصوصية في الفرع، وهي كونه مسلماً، مانعة من ثبوت ¬
الفرع الخامس: أقسامها من حيث أقسام القياس
حكم الأصل فيه (¬1). القسم الثالث: الجمع بين الأمرين السابقين، بأن يجعل المعترض تعين كل من الأصل والفرع مانعاً من ثبوت الحكم (¬2). ويرى بعضهم أن الفرق لا يتحقق إلا بذلك، أي مجموع المعارضتين، وقد ضّعف ذلك المحققون، ولكن إذا كان المقصود من المعارضة في الفرع انتفاء خصوصية الأصل، وفي الأصل انتفاء خصوصية الفرع، وإن لم يتعرض لانتفائها عن الفرع في الأول، وعن الأصل في الثاني، فهو قريب. ولكن إذا كانت المعارضة في الفرع معناها إبداء مانع يقتضي نقيض الحكم، وفي الأصل إبداء شرط فيه، فهو بعيد، لأنه لا يلزم في إبداء شرط في الأصل التعرض لإبداء مانع في الفرع وعكسه (¬3). الفرع الخامس: أقسامها من حيث أقسام القياس. وتنقسم الفروق، من هذه الحيثية، بحسب ما ينقسم إليه القياس، إذ قد يكون قياس علة، وقد يكون قياس دلالة، وقد يكون قياس شبه. القسم الأول: الفرق بقياس العلة: والفرق في هذا القياس، بعد استيفاء شروطه، يكون بمثل ما لو كانت العلة مبتدأة. فينظر الفارق إلى علة الأصل ويتكلم عليها، ومثلوا لذلك بما استدل به الشافعي على تعليق الطلاق قبل النكاح. أي أن المطلق، قبل النكاح لا يملك مباشرة التطليق، فلا يصح منه اللاق كالمجنون. فيفرّق الحنفي بينهما بأن المعنى في الأصل، أي المجنون، أنه غير مكلّف، وهذا مكلّف. فيتكلم الشافعية ¬
عن ذلك بمقابلة علة الأصل بمثلها في الحكم، فيقولون لا فرق بين غير المكلف وغير المالك، بدليل البيع وغيره (¬1). القسم الثاني: الفرق بقياس الدلالة. والفرق في هذه الحالة قد يكون بحكم، وقد يكون بنظير، ومما مثلوا له بالتفريق بالحكم أن يقول الحنفي في سجود التلاوة: سجود يجوز فعله في الصلاة فيكون واجباً كسجود الصلاة. فيقول الشافعيةُ في التفريق بينهما، إن المعنى في الأصل أنه سجود لا يجوز أداؤه على الراحلة من غير عذر، فهو كسجود النفل. ومما مثلوا له بالتفريق بالنظير، أن يقول الشافعي في إيجاب الزكاة في مال الصبي: حرٌّ مسلم فتجب الزكاة في ماله كالبالغ. فيقول الحنفي في التفريق بينهما: إن البالغ يتعلق الحج بماله، فجاز أن تتعلق الزكاة بماله أيضاً، بخلاف الصبي (¬2). القسم الثالث: الفرق بقياس الشبه. ومثلوا لذلك بأن يقول الشافعية في عدم وجوب نفقة غير الوالد والولد، إن قرابتهما لا تجب بها النفقة مع اختلاف الدين، فلا تجب مع اتفاقه، كقرابة ابن العم. فيقول المعترض بالفرق بينهما، لأن الأصل، وهو قرابة ابن العم لا يتعلق بها تحريم المناكحة، وقرابة الفرع يتعلق به تحريم المناكحة، فهي كقرابة الولادة (¬3). ومن الملاحظ أن أبا الوليد الباجي (ت 474 هـ)، أدخل هذا القسم ضمن قسمين ذكرهما هما الفرق بعلة الحكم، والفرق بدلالة الحكم. والفرق بعلة الحكم عنده، هو كالفرق بقياس العلة المذكور سابقاً، أي إن ¬
والفرق بعلة الحكم عنده، هو كالفرق بقياس العلة المذكور سابقاً، أي إن المعنى الذي يتعلق به الحكم في الشرع موجود في الأصل وليس موجوداً في الفرع، وذكر أمثلة له، بعضها في حالة الاتفاق ع لى علة الأصل، وبعضها في حالة الاختلاف عليها. أما الفرق بدلالة الحكم فقد جعلها أربعة أضرب، هي: 1 - التفريق بين الفرع والأصل بحكم يختص بالفرع لا يفارقه. 2 - أن يفرّق بنفس الحكم في غير موضع الخلاف. 3 - أن يفرّق بحكم يشاكل الحكم المختلف فيه. 4 - أن يفرّق بضرب من الشبه (¬1). * * * ¬
المطلب الثاني شروط الفروق الفقهية الشرط الأول: صلاحية الفرق للإخلال بثبوت الحكم. الشرط الثاني: ذكر أصل يشهد له بالاعتبار. الشرط الثالث: أن يكون الوصف الفارق أخص من الوصف الجامع. الشرط الرابع: أن يرد إلى أصل. الشرط الخامس: أن يعكس ذلك في الفرع.
المطلب الثاني شروط الفروق الفقهية
المطلب الثاني شروط الفروق الفقهية لم يُفْرِد العلماء الذين تكلّموا عن الفروق الفقهية، شروطها ببحث خاص، بل كانت تَرِدُ عَرَضاً، أو ضمناً، خلال كلامهم عن الموضوع، بوجه عام. ويغلب على من ذكر ذلك عدم استقصاء هذه الشروط، وقد سبق لنا أن ذكرنا بعض هذه الشروط خلال كلامنا عن أقسام الشروط، وما قالوه عن الشروط الصحيحة والشروط الفاسدة. ونذكر فيما يأتي طائفة مما اطلعنا عليه في كلامهم عن ذلك. والمراد من الشرط في الاصطلاح (¬1): هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، ويكون خارجاً عن ماهيته، ولا يكون مؤثراً في وجوده (¬2). أو هو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجودٌ ولا عدم لذاته (¬3). وفيما يأتي بعض هذه الشروط: الشرط الأول: صلاحية الفرق للإخلال بثبوت الحكم، سواء كان بإبداء خصوصية في الأصل هي شرط فيه، أو خصوصية في الفرع هي مانع من ثبوت حكم الأصل فيه. ¬
الشرط الثاني: ذِكْرُ أصل يَشْهَدُ للفرق بالاعتبار، حتى لو كان صالحاً للإخلال بثبوت الحكم، وذلك لأننا لا نعلم التفات الشارع إليه (¬1). وهذا الشرط مما اختلف فيه العلماء، وبعض من اشترطه قال بوجوب ردّه إلى أصل، في جانبي الفرع والأصل جميعاً. وبعضهم أوجب ردّه إلى أصل في جانب الفرع دون الأصل، ولكلّ فريق أدلته. الشرط الثالث: أن يكون الوصف الفارق أخص من الوصف الجامع، وهذا شرط أورده بعض العلماء. وعلَّلوا ذلك بأنه (لو كان أعم منه لكان جمع الجامع بالوصف الأخص مقدماً على فرق الفارق بالأعم، بل الأخص يتضمن الأعم) (¬2). الشرط الرابع: أن يُرد الفرق إلى أصل، وهو شرط أورده بعض العلماء أيضاً، وهؤلاء منهم من اشترط ذلك في رد علة الأصل إلى أصل، وعلة الفرع إلى أصل أيضاً (¬3). ومنهم من قال إن علة الأصل لا تحتاج إلى أصل تُرَد إليه، ولكن علة الفرع محتاجة إلى ذلك (¬4). ورجح الرأي الأول أبو الوليد الباجي (ت 474 هـ)، وعلل ذلك بقوله: (الدليل على ذلك أنه متى لم يُرَد كلٌ منهما إلى أصلٍ كان مدعياً في الأصل والفرع علتين واقفتين، ومسلماً لعلة المسؤول وهي متعدية والمتعدية أولى من الواقفة) (¬5). ورجّح ابن عقيل (ت 513 هـ)، وأبو إسحاق ¬
الشيرازي (ت 476 هـ) الرأي الآخر القائل بأن علة الأصل لا تحتاج إلى أصل تُرَد إليه، أما علة الفرع فتحتاج إلى الرد إلى أصل (¬1). وعلل ابن عقيل (ت 513 هـ) ذلك، بأن حكم الأصل المقيس عليه ثبت بالنص، لا بالقياس، والعلة مستنبطة منه، بخلاف الفرع، فإن حكمه ثبت بغير النص (¬2). ولم تر طائفة أخرى من الأصوليين اشتراط ذلك، ومنهم ابن القصّار (ت 398 هـ) (¬3). الشرط الخامس: أن يعكس ذلك في الفرع: إذ اشترط بعض العلماء عند المعارضة بعلة الأصل، أن يعكس ذلك في الفرع، ليتبين ما يوجب الفرق بين الأصل والفرع، كأن يذكر معنىً في الأصل ويعكسه في الفرع. وخالفهم آخرون، وقالوا بعدم الحاجة إلى ذلك (¬4). وقد خطأ أبو الوليد الباجي (ت 474 هـ) هذا الرأي، وقال إنه غير صحيح، وعلل ذلك بقوله: (لأنه إذا لم يعكس في الفرع، لم يحصل الفرق، ولأنه إذا اقتصر على تعليل الأصل، ولم يعكس ذلك في الفرع، لم يَضُرَّ ذلك المستدل، لأنه إما أن يقول بالعكس على طريقة بعض أهل النظر، وإما أن يقول: علتك في الأصل لا تنافي ما ذكرت ...) (¬5). ¬
المبحث الثاني نشأة الفروق الفقهية وتطورها
المبحث الثاني نشأة الفروق الفقهية وتطورها
المبحث الثاني نشأة الفروق الفقهية وتطورها ليس لدينا ما نستطيع أن نحدد به على وجه قاطع، بداية صيرورة معرفة الفروق بين الفروع الفقهية، أو القواعد، علماً أو فناً متميزاً، ولكن طبيعة الموضوع تقتضي أن يكون نشوؤه مقارناً أو مقارباً لنشوء القواعد والضوابط الفقهية؛ إذ كما ينظر العالم إلى الفروع التي تتشابه في أحكامها، فإنه ينقدح عنده ذلك فيما يفارق غيره من الأحكام. وقد وردت عن الشارع طائفة من الأحكام المختلفة لفروع قد تلتبس على الناس لما بينها من تشابه ظاهري، كالبيع والربا الذين اشتبه أمرهما على اليهود، فقالوا إنما البيع مثل الربا، لكن الشارع نص على التفرقة بينهما بقوله: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (¬1). وكما هو الشأن في بول الجارية وبول الصبي والتفريق بينهما بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما يغسل من بول الجارية ويرشّ على بول الغلام" (¬2). وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نماذج كثيرة، فرّق فيها النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين ¬
"هي لك أو لأخيك أو للذئب" (¬1). وقوله في ضالة الإبل: "مالك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها" (¬2). ففرّق بينهما بامتناع الإبل من صغار السباع، دون الغنم (¬3). وفرق صلى الله عليه وسلم بين الشاب والشيخ الصائمين، بتجويز القبلة للشيخ دون الشاب، لوجود قوة الشبيبة ودافع الشهوة عند الشاب، دون الشيخ (¬4). وقال في طعام تُصُدِّق به على بريرة (¬5): "هو لها صدقة ولنا هدية" (¬6). ففرّق بين الحكمين لاختلاف الجهتين (¬7). وقال جواباً لمن سأله عن رجلين عَطَسا عنده، فشمّت أحدهما، دون الآخر: "إن هذا حمد الله، وإن هذا ¬
عَطَسا عنده، فشمّت أحدهما، دون الآخر: "إن هذا حمد الله، وإن هذا لم يحمد الله" (¬1)، ومثل ذلك غير قليل في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وفي كلام السلف، وعلماء الأمة الكبار، الشيء الكثير من تلك الفروع، المتفقة في الصورة، والمختلفة في الحكم. كاستحباب الإمام مالك – رحمه الله- (ت 179 هـ) للمرضع أن تتخذ ثوباً للصلاة، وعدم استحبابه ذلك لذي الدمل والجرح (¬2). وقوله بعدم إعادة مسح الرأس، إذا حلقه صاحبه، وبغسل رجليه، إذا نزع خفّيه، بعد أن مسح عليهما (¬3). وقوله يتوضأ الجنب، إذا أراد النوم، ولا تتوضأ الحائض، مع أن كلا المانعين موجب للغسل (¬4). وقوله: لا يجوز الخيار في النكاح ويجوز الخيار في البيع، مع أن كلاً منهما عقد معاوضة (¬5). وقوله: إذا أخطأ الدليلُ كان له أُجرة، وإذا عطبت السفينة لم يستحق الأجرة (¬6). ¬
وكقول أبي حنيفة – رحمه الله- (ت 150 هـ) (¬1): إذا خرج الدود من أحد السبيلين ينتقض الوضوء، وإن خرج من الجرح لم ينتقض (¬2). وقول محمد بن الحسن الشيباني (ت 189 هـ) (¬3) في النوادر: إذا نزل الدم إلى قصبة الأنف انتقض وضوؤه، وإذا وقع البول في قصبة الذكر لم ينتقض (¬4). وقوله في الأصل: إذا نقب البيت، وأدخل يده، وأخرج ¬
المتاع، وذهب، لم يقطع، ولو شق الجوالِق (¬1)، وأدخل يده، وأخرج المتاع قطع (¬2). ومثل ذلك يقال عن سائر الأئمة ممن لم نذكرهم، والأمثلة على ذلك كثيرة سواء كانت من منصوصات الأئمة، أو مما خُرّج لهم بأي وجه من وجوه التخريج. فمثل هذه الصور المتشابهة، ذات الأحكام المختلفة، أوجدت الحاجة إلى بيان الفروق بين المسائل، توضيحاً وكشفاً عن معانيها، ودفعاً للالتباس وما قد يساور بعضهم من وجود التناقض بين فتاوى العلماء، ومما ساعد على ذلك أمران: الأمر الأول: ما ظهر من نقد للقياس في الأحكام الشرعية، والقول أن القياس أساسه الجمع بين المتشابهات، والتفريق بين المختلفات، وهذا الأمر غير متحقق في الأحكام الشرعية، لأن الأحكام الشرعية والفقهية، في أحيان متعددة، تفرّق بين المتشابهات، وتجمع بين المتفرقات، فكان التنبيه على الفروق لبيان أن عدم إعطاء المتشابهات حكماً واحداً بالقياس، يعود إلى أن التشابه ظاهري يقابله اختلاف وفروق أوجبت اختلاف الحكم. والأمر الثاني: هو ضد الأمر السابق، وكأنه للتنبيه على الفروق بين المسائل، منعاً لقياس بعضها على بعض، وإعطائها حكماً واحداً، فيكون ذلك قياساً مع الفارق. غير أن إظهار الفروق بين الفروع الفقهية المتشابهة في الصورة والمختلفة في الأحكام كان في مجال الدرس، وفي مجال المناظرات والجدل، ولم ¬
يعرف طريقه إلى التدوين. وحين نشطت حركة التدوين في الفقه، وظهرت المباحث المفردة ذات الموضوع الواحد واتجه العلماء إلى التأصيل واستنباط القواعد، كانت الظروف مهيئة للتدوين في الفروق. وذكر بعض الباحثين أن محمد بن الحسن (ت 189 هـ) هو أوّل من ألّف في الفروق في الفقه الإسلامي، وقال: (ونجد ذلك واضحاً في كتابه (الجامع الكبير) حيث كان أسلوبه ونهجه وطريقة عرضه للمسائل كلها تظهر الفرق بين المسألتين المتشابهتين، مما لا يدع مجالاً للشك أو اللبس) (¬1). وفي الحق أن في هذا الكلام نوعاً من المبالغة، فكتاب محمد بن الحسن (ت 189 هـ) المذكور في الفقه بعامة، وليس خاصاً بالفروق، وتنبيهاته إلى الفروق، في بعض المسائل، كان يأتي عند عرض أمثال تلك المسائل، وهي محدودة في نطاق الفقه الواسع، وقد عاصره الشافعي (ت 204 هـ) (¬2)، ومالك (ت 179 هـ) – رحمهما الله – وهما ممن نُقل ¬
عنهما فقه كثير وفيه تنبيهات على طائفة من الفروق، كما هو الشأن في كتب محمد بن الحسن (ت 189 هـ). إن المقصود من الكلام عن الفروق هنا، هو الكلام عن الفروق، على أنها عَلَمٌ على عِلْمٍ أو فن خاص، وعلى التدوين في ذلك استقلالاً، سواء كان منفرداً، أو ضمن متون أخرى. ويعزو ابن خلدون (ت 808 هـ) (¬1) الاهتمام بالفروق إلى نشوء المذاهب، وصيرورة كلّ مذهب علماً مخصوصاً، الأمر الذي جعل العلماء في حاجة إلى تنظير المسائل في الإلحاق، وتفريقها عند الاشتباه، مما يُحتاجُ معه إلى ملكة راسخة، يُقْتَدَرُ بها على التنظير والتفرقة (¬2). وعلى هذا فإنه من المستبعد أن ينشأ التأليف في الفروق، قبل ذلك. ¬
إن الذي يبدو، من خلال النظر في المؤلفات في هذا العلم، أن القرن الرابع الهجري كان بداية للتدوين في هذا المجال، سواء كان على سبيل الانفراد، أو على سبيل دخوله ضمن باب أوسع. ففي هذا القرن ذكرت طائفة من المؤلفات، نذكر منها: 1 - الفروق لأبي العباس أحمد بن عمر بن سريج الشافعي المتوفي سنة (306 هـ) (¬1). 2 - المسكت للزبير بن أحمد بن سليمان الشافعي، المتوفي سنة (317 هـ) (¬2). ¬
3 - الفروق لأبي الفضل محمد بن صالح الكرابيسي الحنفي المتوفي سنة (322 هـ) (¬1). وقد ذكرت إلى جانب ما تقدم كتب أُخرى، على سبيل التوهم أو الخطأ، نذكر منها: 1 - كتاب (الفروق) لأبي عبد الله محمد بن علي الحكيم الترمذي المتوفي سنة (320 هـ) (¬2). 2 - كتاب (المطارحات) الذي نسبوه خطأ إلى أحمد بن محمد البغدادي المعروف بابن القطان المتوفي سنة (359 هـ) (¬3). ¬
أما كتاب الحكيم الترمذي (ت 320 هـ) فلم يتضح لنا وجه في عدة من المؤلفات في الفروق الفقهية، بل هو في مجال آخر. لقد ذكره صاحب كشف الظنون (¬1) وأحال في معلومته عنه إلى كتاب طبقات الشافعية الكبرى للإمام ابن السبكي (ت 771 هـ) (¬2)، الذي قال عنه في ترجمته له (ومن تصانيف الترمذي (ت 320 هـ)، كتاب الفروق لا بأس به، بل ليس في بابه مثله، يفرق فيه بين المداراة والمداهنة، والمحاجة والمجادلة، والمناظرة والمغالبة، والانتصار والانتقام، وهلم جرّا من أمور متقاربة المعنى) (¬3). ومثل هذا الوصف، يبعد هذا الكتاب عن المجال الذي نتحدث عنه. ¬
وأما كتاب المطارحات فقد نسبوه إلى أحمد البغدادي المعروف بابن القطان المتوفي سنة (359 هـ) ويبدو أن هؤلاء قد وقعوا في الوهم؛ لأن الكتاب المذكور هو لأبي عبد الله الحسين بن محمد القطان (¬1)، الذي ترجم له ابن السبكي (ت 771 هـ) فيمن توفي بين الأربعمائة والخمسمائة (¬2)، فهو غير داخل في الفترة التاريخية التي نتحدث عنها، وعلى الرغم من ذلك فإن كتاب (المطارحات) ليس في الفروق الفقهية، بل هو في فنٍّ آخر يتصل بالألغاز وامتحان المسؤول وإحراجه. قال عنه الأسنوي (ت 772 هـ) (¬3) (إنه تصنيف لطيف، وضع للامتحان، ولهذا لقب بالمطارحات) (¬4). وقد يقال إن المطالبة ببيان ¬
الفروق ربما كانت من مجالات الامتحان والألغاز، ولكن المنهج الذي اتبع في الكتاب، كما يتضح مما عرضه ابن السبكي (ت 771 هـ) في ترجمة المؤلف (¬1)، وما بينه صاحب كشف الظنون (¬2)، ليس كمنهج الكتب المعهودة في الفروق، وأياً ما كان الأمر، فإن الكتاب ليس داخلاً، كما ذكرنا، في الفترة التاريخية التي نتحدث عنها ويبقى بعد ذلك، الحديث عن الكتب الثلاثة التي ذكرناها أولاً، وهي كتاب الفروق لابن سُريج (ت 306 هـ) وكتاب المسكت للزبير بن أحمد (ت 317 هـ)، وكتاب الفروق لمحمد بن صالح الكرابيسي (ت 322 هـ). أما كتاب (الفروق) لأبي العباس ابن سُرَيج (ت 306 هـ)، فقد ذكره صاحب كشف الظنون باسم (الفروق في فروع الشافعية)، وقال إنه مشتمل على أجوبة عن أسئلة متعلقة بمختصر المزني (¬3). وما قاله معلومات غير كافية للحكم على طبيعة الكتاب. وأكثر من ترجم لابن سُرَيج، لم يذكروا الكتاب، وإن كانوا قد ذكروا كثرة مؤلفاته، وأنها ¬
أربعمائة مصنف ولكنها كانت غير منتشرة، وعزيزة الوجود حتى في زمن ابن السبكي (ت 771 هـ) (¬1). وأما كتاب (المسكت) للزبير بن أحمد الشافعي المتوفي سنة (317 هـ)، فقد ذكره بعض من ترجم له، كابن السبكي (ت 771 هـ)، والأسنوي (ت 772 هـ) وابن قاضي شهبة (ت 851 هـ) (¬2)، وليس في كلامهم ما يدل على أنه في الفروق بخاصة، بل كلامهم ينعته بأنه كالألغاز. قال الأسنوي: هو كالألغاز وكتاب غريب اختصره بعض الفضلاء) (¬3)، ونقل ذلك عنه صاحب كشف الظنون (¬4)، وقال ابن قاضي شهبة (ت 851 هـ): (والمسكت كالألغاز قليل الوجود) (¬5). وما نقله ابن السبكي (ت 771 هـ) عن الكتاب لا يعطى تصوراً واضحاً عنه (¬6). فما نقله عنه مسألة فيها فرق، وكلام آخر طويل ليس فيه شيء من ذلك. ¬
وما نقله محقق إيضاح الدلائل عن مطالع الدقائق للأسنوي (ت 772 هـ) (¬1). لا يكفي في الحكم على أنه كتاب في الفروق، فالقول بأنه اشتمل على فروق، وعلى فنون أخرى، وصف مبهم ينطبق على كثير من الكتب التي ليست في الفروق، على أن الأسنوي (ت 772 هـ) نفسه نعته في الطبقات بما يشبه أنه في الألغاز (¬2). وأما كتاب الفروق لأبي الفضل محمد بن صالح الكرابيسي (ت 322 هـ)، فقد ذكر بأن مصنفة رتبه على أبواب الفقه (مورداً في كل باب طائفة من المسائل المتشابهة، موضحاً الفرق بين كل مسألتين متشابهتين منها، بأسلوب سهل وعبارة واضحة) (¬3). وبعد هذه الفترة، أي القرن الرابع، كثرت المؤلفات في الفروق الفقهية، وحظي هذا العلم، أو الفن باهتمام العلم والمؤلفين. وقد وجدنا أن من العلماء من أفرد هذا الموضوع بكتاب خاص، ومنهم من أدخله في ضمن مجموعة من العلوم والفنون. على أنه مهما يكن الأمر، فإن هذه الكتب تشهد لميلاد إفراد التأليف في الفروق الفقهية، في القرن الرابع الهجري. ومما يقوي ذلك أن ¬
أبا محمد عبد الله بن يوسف الجويني المتوفي سنة (438 هـ) (¬1)، ذكر في مقدمة كتابه (الفروق) أنه رأى لبعض مشايخه المتقدمين، مجموعاً في هذا الباب، لكنه قال إنه كان مشتملاً على مسائل معدودة قليلة، ولا يكاد يحصل مقصود هذا الباب إلا بالزيادة على ما جمع المتقدمون. وليس لدينا تصور واضح وأكيد، عن ظهور التأليف في هذا المجال، أي الفروق في الفقه، قبل القرن الرابع الهجري. وما يذر من أسماء لبعض الكتب، ربما كان في ميادين أُخَر، فضلاً عن أنه من الصعب أن يحكم عليها من العناوين. ويظهر من استقراء المؤلفات في هذا الموضوع أن القرن الخامس الهجري كان العصر الذهبي لهذا العلم، ففيه ظهرت أبرز المؤلفات في هذا المجال، كما كان العصر الذهبي لهذا العلم، ففيه ظهرت أبرز المؤلفات في هذا المجال، كما كان عدد المؤلفات فيه أكثر من أي عصر آخر. ويليه في ذلك القرنان السابع والثامن. وبعد ذلك أخذ التأليف في الفروق الفقهية بالضمور، وقلت المؤلفات التي تناولت موضوعه، واعتمد العلماء على مؤلفات السابقين. ولم نعلم في القرن العاشر كتاباً يتناول هذا الموضوع، بانفراد، غير كتاب (عدة ¬
البروق) لأبي العباس الونشريسي (ت 914 هـ) (¬1). ثم لم نعلم بعد ذلك، شيئاً غير مؤلفات قليلة، مجهولة المؤلف، وغير واضحة في زمن تأليفها، مما لا يفيدنا في الحكم على فترات التأليف. ولكننا نذكر هنا أن موضوع الفروق الفقهية لم يهمل كليّاً، فقد ذكرت الفروق في ضمن الكتب المؤلفة في القواعد، أو الأشباه والنظائر، كما هو الشأن في كتابي الأشباه والنظائر لجلال الدين السيوطي (ت 911 هـ)، والأشباه والنظائر لابن نجيم (ت 970 هـ) (¬2). وما جاء من المؤلفات في القواعد أو شروحها كان عيالاً عليهما، في الغالب. وفي العصر الحاضر ظهر اتجاه إلى استخراج الفروق الفقهية الواردة، تبعاً في كتب الفقه سواء كان باستخراج الفروق من كتاب معين، أو باستخراج الفروق، عند أحد العلماء، من خلال النظر في مؤلفاته، كما سنذكر ذلك فيما بعد. ¬
المبحث الثالث المؤلفات في الفروق الفقهية
المبحث الثالث المؤلفات في الفروق الفقهية المطلب الأول: المؤلفات في الفروق الفقهية استقلالاً. المطلب الثاني: المؤلفات في الفرق والاستثناء. المطلب الثالث: المؤلفات في مسألة واحدة، أو مسائل محدودة. المطلب الرابع: المؤلفات التي تناولت الفروق الفقهية تبعاً. المطلب الخامس: المؤلفات المعاصرة. الخاتمة:
المبحث الثالث المؤلفات في الفروق الفقهية من الملاحظ أن الكتب المؤلفة من الفروق الفقهية، قد اتخذت صوراً عدة، وتنوعت مناهجها في عرض ما تذكره من الفروق، ومن الممكن بعد استقراء ما اطلعنا عليه من الكتب المؤلفة في ذلك، أن نذكر أن المؤلفات في الفروق بين الفروع الفقهية، قد اتخذت الصور الآتية: 1 - أنها جميعاً اتفقت في تناولها الكلام عن الفروع الفقهية المتشابهة في الصورة، والمختلفة في الأحكام. سواء كان ذلك بالاقتصار على ذكر الفرق، أو إضافة ذكر الجامع إليه، ولهذا فإن الكثير من الكتب الداخلة في هذا المجال تحمل عناوينها اسم الفرق والجمع، وهما أمران متصلان غير منفكين في هذا الموضوع. 2 - اتبعت هذه الكتب، في عرضها للفروق- بحسب ما اطلعنا عليه- ترتيب ذلك وفق الأبواب الفقهية، بدءً بكتاب الطهارة، ثم الصلاة، ثم ما يلي ذلك، بحسب مناهج ترتيبها في كتب الفقه. 3 على الرغم من اتفاق هذه الكتب في الموضوع الذي تناوله، لكنها تنوعت صور تناولها لهذا الموضوع، ومن الممكن أن نلحظ في ذلك المناهج الآتية: أ- منهج ذكر الفروع الفقهية المتشابهة في الصورة، والمختلفة في الحكم، مع بيان الفرق بينها، دون التعرض إلى أكثر من ذلك، إلا نادراً، سواء كانت تلك الفروع من باب واحد، أو من بابين أو أكثر من أبواب
الفقه، كما هو الشأن في كتاب (الفروق) لأسعد بن محمد النيسابوري الكرابيسي (ت 570 هـ) (¬1)، وعدة البروق لأبي العباس أحمد الونشريسي المتوفي سنة (914 هـ)، والفروق الفقهية لأبي الفضل مسلم بن علي الدمشقي المتوفي في القرن الخامس الهجري (¬2). وإيضاح الدلائل في الفرق بين المسائل لعبد الرحيم الزريراني المتوفي سنة (741 هـ) (¬3)، وغيرها. وكان المؤلفون – في ¬
الغالب- يطلقون على مؤلفاتهم عنوان (الفروق)، وربما أطلق عليها بعضهم عنوان (النظائر). ومن الملاحظ أن أكثر هؤلاء تعرضاً للجامع هو أبو الفضل الدمشقي، مع صغر حجم كتابه (¬1). ب- ذكر الفروق بعد التعرّض إلى قواعد وضوابط الباب الفقهي، ثم ذكر ما يستثنى من الدخول في تلك الضوابط والقواعد، ولا يتعرض إلى بيان وجه الفرق إلا في مسائل محدودة من ذلك. يوردها على هيئة اعتراض وجواب. والكتب المؤلفة وفق هذا المنهج يرد في عنوانها ذكر الفرق والاستثناء، كما في كتاب الاستغناء في الفرق والاستثناء لبدر الدين البكري (ت؟) (¬2)، وأحياناً لا يرد الفرق في عنوانها، ككتاب المناقضات في الحصر والاستثناء لأحمد بن الحسين الفنّاكي المتوفي سنة (448 هـ) (¬3). ويبدو أن تسمية هذا النوع بالحصر والاستثناء ¬
أقرب إلى تصوير واقع ما هو موجود في كتاب الاستغناء في الفرق والاستثناء للبكري (ت؟)، لأنها كانت تذكر ما هو حاصرٌ للفروع الفقهية في مجال معين كالضوابط والقواعد الخاصة، عند بدء الكلام، ثم تذكر ما يستثني منها. أما الفروق فكان التعرّض إليها، كما سبق الكلام، غير كثير، والذي نقصده من ذلك هو بيان وجه الفرق أو علله وأسبابه، وإلا فإن الاستثناء نفسه يعني الاختلاف، وافتراق ما استثنى عما استثني منه في الحكم. ج- منهج الاقتصار على بيان الفروق في مسألة معينة، أو عدد محدود من المسائل، في رسائل صغيرة. د- منهج تناول الفروق بين المسائل، لا على وجه الاستقلال في التأليف، بل في ضمن كتب أخرى، معدودة من المؤلفات في القواعد الفقهية. وسنذكر فيما يأتي ما اطلعنا عليه من التأليف، وفقاً لهذه المناهج.، ¬
المطلب الأول المؤلفات في الفروق الفقهية استقلالا
المطلب الأول المؤلفات في الفروق الفقهية استقلالاً وفي هذه المؤلفات ذكرت الفروع الفقهية المتشابهة في الصورة والمختلفة في الأحكام، ويغلب أن يكون ذلك بين صورتين متشابهتين، مختلفتين في الحكم، كالتفريق بين إلزام المرأة بالتلبية، وعدم إلزامها بالإقامة (¬1). وكالتفريق بين جواز التنفل قاعداً، وعدم جوازه مضطجعاً (¬2)، وكالتفريق بين انعقاد نكاح الصبي، وبيعه، وعدم انعقاد طلاقه وعتقه (¬3)، والتفريق بين صحة بيع صبرة لم ير المشتري باطنها، وعدم صحة بيع ثوب لم يُرَ باطنه (¬4)، والتفريق بين صحة الوضوء للصلاة، قبل دخول وقتها، وعدم صحة ذلك في التيمم (¬5). ومن المؤلفات التي ذكرت في هذا المجال (¬6): ¬
1 - الفروق لأبي العباس أحمد بن سريج الشافعي المتوفي سنة (306 هـ). وقد سبق الكلام عنه، عند الكلام عن نشأة الفروق وتطورها. 2 - الفروق لأبي الفضل محمد بن صالح الكرابيسي الحنفي المتوفي سنة (322 هـ) (¬1) وهو كسابقه، مما تقدم ذكره في الحديث عن نشأة الفروق وتطورها. 3 - فروق مسائل مشتبهة في المذهب، لأبي القاسم عبد الرحمن بن محمد الكناني المالكي المعروف بابن الكاتب. المتوفي سنة (408 هـ) (¬2). وقد ذكر محققاً الفروق الفقهية لأبي الفضل مسلم الدمشقي ¬
(ت القرن الخامس) أن القاضي عياض (ت 544 هـ) (¬1) ذكر في المدارك أنه وقف على تلك الفروق في جزء منطوٍ على واحد وأربعين فرقاً (¬2). وليست لدينا معلومات كافية عنه. 4 - الجموع والفروق للقاضي عبد الوهاب بن علي البغدادي المالكي المتوفي سنة (422 هـ) (¬3). ذكره تلميذه أبو الفضل مسلم بن علي الدمشقي، في كتابه الفروق الفقهية. قال: (وقد كان القاضي- رحمه الله- حدثني أنه عمل كتاباً سماه بالجموع والفروق، وأنه تلف له، ولم يَعْمل غيره) (¬4). لكن ذكر محققاً كتاب الدمشقي، أن للقاضي عبد الوهاب (ت 422 هـ) كتاب (الفروق في مسائل ¬
الفقه)، وأن الموّاق نقل عنه في شرحه على المختصر الخليلي (¬1). كما ذكره الطوفي (ت 716 هـ) في كتابه (علم الجذل)، وقال عنه إنه كتاب لطيف لكنه كثير الفائدة (¬2). 5 - النظائر الفقهية لأبي عمران موسى بن عيسى الفاسي القيرواني المتوفي سنة (430 هـ) (¬3). ولسنا نعلم عن منهجه ولا طبيعة محتواه شيئاً. وقد ذكر أنه مخطوط في دار الكتب الوطنية بتونس، ضمن مجموع رقمه (1694)، ولكن لم نطلع عليه. 6 - الفروق الفقهية لأبي الفضل مسلم بن علي الدمشقي المالكي المتوفي في القرن الخامس الهجري، وهو كتاب صغير الحجم، انتهج فيه المؤلف الإيجاز في العرض، مع وضوح العبارة، ودقتها. وكان يورد ¬
الفرق مبتدئاً بقوله: (فرق بين مسألتين)، ثم يذكر المسألتين، ويتبع ذلك ببيان الفرق. والكتاب مطبوع نشرته دار الغرب بتحقيق محمد أبو الأجفان، وحمزة أبو فارس. وقد ذكرا بأنهما اختارا من بين نسخة المخطوطة ما كانت أكثر فروقاً. وبلغت الفروق فيها (128) فرقاً، ولم يكن للمؤلف منهج معين في ترتيب تلك الفروق. 7 - الفروق لأبي محمد عبد الله بن يوسف الجويني الشافعي المتوفي سنة (438 هـ). وهو والد إمام الحرمين. وقد صدّره مؤلفه بمقدمة عن علم الفروق، وسبب تأليف الكتاب. وهو مرتب على أبواب. الفقه احتوى على فروع كثيرة، ودقيقة. ويَعُده بعضهم أوفى كتاب في الفروق، إذ جمع ما يزيد على (1200) فرق (¬1). وربما أورد من الفروق ما لا يوجد في كتاب غيره (¬2). قال عنه الطوفي (ت 716 هـ)، بعد أن ذكر أن المؤلف صدر كتابه بيسير من الفروق الأصولية: هو أكبر ما رأيت في كتب الفروق، وأكثرها مسائل، وأجودها مدارك، وألطفها مآخذ) (¬3). وقد حقق قسماً منه الباحث عبد الرحمن المزيني لنيل درجة الماجستير من كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سنة (1405/ 1406 هـ). وقد ذُكِر لهذا الكتاب اسم آخر هو (الجمع والفرق) (¬4). ¬
8 - الأجناس والفروق لأبي العباس أحمد بن محمد الناطفي الطبري الحنفي المتوفي سنة (446 هـ) (¬1). 9 - النكت والفروق لمسائل المدونة، لأبي محمد عبد الحق بن محمد بن هارون القرشي الصقلي المالكي المتوفي سنة (466 هـ) (¬2). وقد ألّفه صاحبه في فروق المدونة، ونعت بأنه (كتاب قيّم به فوائد جمّة) (¬3). 10 - الوسائل في فروق المسائل لسلامة بن إسماعيل بن جماعة المقدسي الشافعي المتوفي سنة (480 هـ) (¬4). ذكره الأسنوي (ت 772 هـ) في ¬
الطبقات (¬1). وأثنى عليه الزركشي (ت 794 هـ) وأدخله مع كتاب أبي محمد الجويني في كلامٍ واحد قال بعد أن ذكر النوع الثاني من أنواع الفقه، وهو الجمع والفرق: (ومن أحسن ما صُنِّف فيه كتاب الشيخ أبي محمد الجويني، وأبي الخير ابن جماعة المقدسي) (¬2) ونقل عنه في البحر المحيط في أكثر من موضع (¬3)، وذكره الطوفي (ت 716 هـ) في علم الجذل (¬4). 11 - الفروق لأبي العباس أحمد بن محمد الجرجاني الشافعي المتوفي سنة (482 هـ) (¬5). واشتهر كتابه باسم (المعاياة). وكان المؤلف إذا ذُكِر، قيل: صاحب المعاياة (¬6). وذكره في كشف الظنون باسم (المعاياة في العقل) (¬7). وقال ابن قاضي شهبة (ت 851 هـ) ¬
عن هذا الكتاب إنه (يشتمل على أنواع من الامتحان كالألغاز، والفروق، والاستثناءات من الضوابط) (¬1). وقد رتبه المؤلف على أبواب الفقه، وعنون لها بعناوين الفقه. ويذكر د. محمد طموم أن مسائله (ليست كلها على نهج واحد، فالبعض ذكر لإظهار الفرق بين كل مسألتين، والبعض لإظهار الحكم ب التفصيل، والبعض الآخر ذكر على طريقة السؤال والجواب، وصيغته كالألغاز) (¬2). 12 - الكفاية في الفروق لأبي عبد الله الحسين بن عبد الله الطبري (¬3) المتوفي في مطلع القرن الخامس الهجري. وقد ذكر هذا الكتاب الأسنوي (ت 772 هـ) في طبقاته (4)، وذكر أن كتابه هذا يقارب المختصر المعروف بالتبريزي، وأنه يعرف بـ (الكفاية في الفروق واللطائف) (¬4). ونسب حاجي خليفة في كشف الظنون هذا ¬
الكتاب لأبي عبد الله الحسين بن محمد الحناطي الطبري (¬1)، وتابعه على ذلك البغدادي في هدية العارفين (¬2). لكن ما اطلعنا على من ذكر للحناطي كتاباً في الفروق، من أصحاب الطبقات، وقد أدى هذا إلى وقوع وهم في نسبة هذا الكتاب، عند بعض الباحثين. 13 - الفروق لأبي المظفر أسعد بن محمد بن الحسين النيسابوري الحنفي المتوفي سنة (570 هـ). جعله مؤلفه في (779) بحثاً، اشتمل كل بحث منها على مسألتين، أو المسائل المختلفة في الحكم والمتشابهة في الصورة، وقد رتّب المباحث وفق ترتيب الأبواب الفقهية، وألحق في آخره مسائل متفرقة، تنتمي إلى أكثر من باب. وبين المؤلف في مقدمة كتابه أن ما فيه من مسائل التقطها من الكتب، ليس فيها قياس واستحسان، وأنه سمع الفروق بينها من أبي العلاء صاعد بن محمد البخاري النيسابوري المتوفي سنة ¬
(502 هـ) (¬1)، فاستحسنها، وأراد إفرادها ليسهل حفظها، واستعان بالله على إتمامها (¬2). 14 - الفروق لأبي المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني الطبري الشافعي المتوفي سنة (502 هـ) (¬3). ويبدو أن هذا الكتاب على نمط المعاياة، وقد نقل عنه ابن السبكي (ت 771 هـ) في مواضع متعددة من الأشباه والنظائر، وكان في غالب نقله عنه يذكره مع الجرجاني (ت 482 هـ)، ويقول: قال الجرجاني في المعاياة، والروياني في الفروق (¬4)، وطريقته أنه يورد الضوابط الفقهية، ثم يذكر ما استثني منها (4). ¬
15 - الفروق في المسائل الفقهية لإبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي الحنبلي المتوفي سنة (614 هـ) (¬1). وقد ذكره ابن رجب في ذيل الطبقات (¬2)، كما ذكره صاحب شذرات الذهب (¬3). 16 - الفروق لأبي عبد الله محمد بن عبد الله السامري الحنبلي المتوفي سنة (616 هـ) (¬4)، وهو المعروف بابن سُنَيْنَة. وقد عُني ببيان الفروق المشتبهة صورها المختلفة أحكامها. رتبه على أبواب الفقه وجعله كتباً، وجعل الكتب في فصول يذكر فيها الفروع الفقهية، ويفرق بينها. وقد أفاد كثيراً من كتاب الفروق للكرابيسي (ت 570 هـ)، وتأثر بمنهجه وسلك طريقته في عرض المادة العلمية ¬
للكتاب) (¬1). ويذكر محقق إيضاح الدلائل للزريراني د. عمر بن محمد السبيل من ذلك أنه (نقل عنه فصولاً كثيرة، حتى أنه لا يكاد يخلو باب من أبواب الكتاب، دون أن ينقل عنه فصلاً أو أكثر، مشيراً إلى ذلك في مواضع يسيرة) (¬2). وقد حقّق قسماً منه، وهو الباب المتعلق بالعبادات محمد بن إبراهيم اليحيى للحصول على درجة الماجستير من كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلام. 17 - تلقيح العقول في فروق المنقول، لأحمد بن عبيد الله المحبوبي الحنفي المتوفي سنة (630 هـ) (¬3) رتبه مؤلفه على أبواب الفقه، والغرض منه التفريق بين الفروع الفقهية. وقد أخطأ البغدادي (ت 1329 هـ) في هدية العارفين في نسبة هذا الكتاب لأسعد بن محمد الكرابيسي (¬4)، ولعل الذي أوقعه في ذلك ما ذكره ابن نجيم (ت 970 هـ) في الفن السادس من الأشباه والنظائر (¬5). وقد حقق الكتاب عبد الهادي شير الأفغاني للحصول على درجة الماجستير في كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر سنة (1405 هـ) (¬6). ¬
18 - الفصول والفروق لأبي العباس نجم الدين أحمد بن محمد بن خلف ابن راجح المقدسي الحنبلي ثم الشافعي المتوفي سنة (638 هـ). وقد ذكره الأسنوي في طبقات الشافعية (¬1)، وابن قاضي شهبة في طبقات الشافعية (¬2)، وعمر كحالة في معجم المؤلفين (¬3). وذكره الزركشي في البحر المحيط باسم (الفرق والجمع)، ونقل عنه ما يفهم منه أنه تكلم عن الفرق في الأصول، أيضاً كقوله: (إذا تمت المناسبة بشروطها فهو الفرق الصحيح، وأما الفروق الفاسدة فكثيرة ...) ثم ذكر بعضها (¬4). 19 - الفروق لأبي العباس كمال الدين أحمد بن كشاسِب الشافعي المتوفي سنة (643 هـ) (¬5). ذكره ابن السبكي (ت 771 هـ) في الطبقات الكبرى (¬6) والأسنوي ¬
(ت 772 هـ) في طبقات الشافعية (¬1). وابن قاضي شهبة (ت 851 هـ) في طبقات الشافعية (¬2). ولم يذكروا اسم الكتاب في ترجمته، بل ذكروا أن له كتاباً في الفروق. وليست لدينا معلومات كافية عنه. 20 - الفروق لأبي عبد الله محمد بن عبد القوي بن بدران المقدسي الحنبلي المتوفي سنة (699 هـ) (¬3). ذكره ابن رجب في الذيل على طبقات الحنابلة (¬4). كما ذكره ابن العماد في شذرات الذهب (¬5). ولم نطلع على معلومات تبين منهجه وطريقته، في عرض مادته، ولا محتوى الكتاب أيضاً. 21 - الجمع والفرق. لسراج الدين يونس بن عبد المجيد بن علي الهذلي الأرمنتي الشافعي المتوفي سنة (725 هـ) (¬6). ¬
ذكره ابن السبكي في الطبقات الكبرى (¬1)، والأسنوي في طبقات الشافعية (¬2). وابن العماد في شذرات الذهب (¬3). لكنهم لم يقدموا لنا وصفاً له يوضح منهجه في تناوله لموضوعه. 22 - إيضاح الدلائل في الفرق بين المسائل، لأبي محمد شرف الدين عبد الرحيم بن عبد الله الزريراني البغدادي الحنبلي، المتوفي سنة (741 هـ). وسماه بعضهم تنقيح الفروق، ويعود ذلك إلى ما ذكره المؤلف في مقدمة كتابه من أنه ألفه استجابة لمن طلب منه تنقيح كتاب (الفروق) للسامري (ت 616 هـ). وقد زاد على هذا التنقيح طائفة من النكت والفوائد، وعزا أحاديثه إلى مشهور الصحاح والمسانيد (¬4). وقد رتب الكتاب على أبواب الفقه، وبحث الفروق بين كل مسألتين ¬
متشابهتين في الصورة، مختلفتين في الحكم تحت عنوان (فصل). وكانت الفروق في بعض المسائل مبنية على قواعد أصولية، وفي بعضها على قواعد فقهية، وفي بعضها على نص ظاهر في التفريق. وقد أبدى المؤلف تعقيبات على السامري صاحب الأصل المنقح (¬1). بلغت فصوله الممثلة للفروق (825) فصلاً. حققه د. عمر بن محمد السبيل للحصول على درجة الماجستير من جامعة أم القرى، ونشره مركز إحياء التراث الإسلامي بمكة المكرمة في جزئين سنة (1414 هـ). 23 - الفروق لتاج الدين أحمد بن عثمان بن إبراهيم التركماني المارديني الحنفي المتوفي سنة (744 هـ) (¬2). ذكره في كشف الظنون، خلال تعرضه للتعريف بكتاب الفروق لأسعد الكرابيسي (ت 570 هـ) (¬3). ¬
وليست لدينا معلومات عنه، ولم يُذْكر فيما اطلعنا عليه من الكتب التي ترجمت للمؤلف. 24 - الفروق لأبي أمامة شمس الدين محمد بن علي بن عبد الواحد المغربي المصري الشافعي المعروف بابن النقاش المتوفي سنة (763 هـ) (¬1). ذكره ابن حجر (ت 852 هـ) (¬2)، وابن قاضي شهبة (ت 851 هـ)، ¬
لكنه ذكر أن اسم الكتاب (النظائر والفروق) (¬1). وفي شذرات الذهب مثل ذلك (¬2). 25 - مطالع الدقائق في تحرير الجوامع والفوارق، لجمال الدين عبد الرحيم ابن الحسن الأسنوي الشافعي المتوفي سنة (772 هـ). وقد رتبه على أبواب الفقه، وكان من منهجه أن يذكر فرعين متشابهين، ويذكر الجامع بينهما، إن لم يكن واضحاً، ثم يذكر وجه الفرق، فهو كما جاء في عنوان لبيان الجوامع والفوارق. وقد ضمّن كتابه (394) فرق (¬3). وقد حقق هذا الكتاب د. نصر فريد محمد واصل للحصول على درجة الدكتوراه من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر سنة (1392 هـ). 26 - الجمع والفرق. لعلي بن يحيى بن راشد الوشلي الزيدي اليمني المتوفي سنة (777 هـ) (¬4). ذكره محقق إيضاح الدلائل، ونقل عن مقدمة محقق كتاب مطالع ¬
الدقائق للأسنوي ص 179، أن بعض العلماء قال عنه (وأتى بالجمع والفرق بما لم يأت به أحد) (¬1). 27 - الفروق للشيخ بايزيد بن إسرائيل بن حاجي داود مرغايتي المتوفي في أوائل القرن التاسع الهجري (¬2). وهو كتاب موجز يقع في (32) ورقة، سقط من النسخة التي اطلعنا عليها عشرة أوراق من أولها. رتب مسائله على الأبواب الفقهية، وكان ما يعرضه في الفروق في كل باب ليس كثيراً، كان يبين الفرق بين مسألتين متشابهتين في الصورة، مختلفتين حكماً، تارة بذكر ذلك مباشرة، وتارة بذكره في معرض سؤال كأنما هو لغز وامتحان، كقوله: شخص قتل ولده وجب عليه القصاص بقتله كيف يُتَصَوّر هذا؟ جوابه: هذا قتل ابنه من الرضاع يجب عليه القصاص (¬3). وكقوله في كتاب النفقات، تلزمه نفقة زوجته ولا تلزم نفقة أولاده، كيف يُتَصوّر هذا؟ جوابه: عبدٌ أو مكاتب تزوج بزوجة وأتت منه بأولاد، فإنه تلزمه نفقة الزوجة، دون الأولاد (¬4). 28 - الفروق لأبي عبد الله محمد بن يوسف العبدري الموّاق الغرناطي المالكي المتوفي سنة (897 هـ). وقد ذكره محققاً الفروق الفقهية للدمشقي، دون أية معلومات ¬
عنه (¬1). 29 - عدة البروق في جمع ما في المذهب من الفروق، لأبي العباس أحمد ابن يحيى الونشريسي المالكي المتوفي سنة (914 هـ). ذكر مؤلفه في مقدمته أنه ألّفه ليستعان به على حل كثير من المناقضات الواقعة في المدونة وغيرها من أمهات الروايات (¬2) وقد رتبه وفق ترتيب الأبواب الفقهية، بدءاً بكتاب الطهارة وانتهاء بكتاب الجراحات والديات. وذكر فيه (1155) مسألة بيّن فيها وجه الفرق بين حكمين مختلفين في فرعين متشابهين، وكانت طريقته في العرض أنه يبدأ بقوله: (إنما)، قال مالك، أو (إنما) لم يجز، أو أي لفظ آخر بعد (إنما)، ويقابله بالفرع المختلف معه في الحكم ثم يُظهر وجه الفرق بينهما. ولمحقق الكتاب طائفة من الملحوظات، أوردها في مقدمة تحقيقه، استدرك بها على المؤلف، ونبّه على بعض وجوه الخلل، كما نبّه إلى بعض محاسنه. قام بتحقيقه حمزة أبو فارس، ونشرته مطبوعاً دار الغرب الإسلامي سنة (1410 هـ/ 1990 م). ¬
30 - وقد ذكرت كتب غير ذلك في الفروق، ولكنها لم تتضح فترتها الزمنية، لعدم معرفتنا بتاريخ وفاة مؤلفيها، أو لعدم معرفة المؤلف نفسه، ومن هذه الكتب: أ- الفروق لأحمد بن محمد الأردستاني (¬1). ذكره محقق إيضاح الدلائل، ووصفه بأنه مؤلف صغير سلك مؤلفه فيه منهج أسعد الكرابيسي في فروقه (¬2). ب- تحرير الفروق لنجم الدين علي بن أبي بكر النيسابوري (¬3). ذكره البغدادي في الجزء الأول من إيضاح المكنون باسم (تحرير الفروق)، وقال: إن أوله: الحمد لله الذي هدانا بالإسلام (¬4)، ثم ذكره في الجزء الثاني من كتابه المذكور باسم (الفروق في الفرع)، وأن أوله: الحمد لله الذي هدانا بالإسلام (¬5). وليست لدينا معلومات أخرى عن الكتاب، ولا عن تاريخ وفاة المؤلف أو عن حياته. ج- الفروق على مذهب أبي حنيفة. وهو لمؤلف مجهول. ذكر محقق إيضاح الدلائل في مقدمته لهذا ¬
الكتاب الذي حقّقه أنه صغير الحجم اتبع فيه مؤلفه منهج أسعد الكرابيسي في فروقه (¬1). د- الفروق في الأحكام على مذهب المالكية. وهو لمؤلف مجهول أيضاً. ذكره محقق إيضاح الدلائل، وقال إنه مرتب على أبواب الفقه (¬2). هـ- وذكر بعض الباحثين كتباً في الفروق الفقهية، لكنهم ذكروها توهماً، إذ هي ليست في الفروق الفقهية، ونكتفي من ذلك بذكر كتاب واحد ذكره محقق إيضاح الدلائل في مقدمته. وهو كتاب (قرة العين والسمع في بيان الفرق والجمع) (¬3) لبدر الدين محمد بن عمر العادلي المتوفي سنة (970 هـ) (¬4). لكن هذا الكتاب هو في بيان الفرق والجمع في مذهب الصوفية، لا الفرق والجمع في الأحكام الفقهية. ¬
و- الفروق لمحمد بن يوسف الأندلسي الأنصاري المالكي ذكره الطوفي (ت 716 هـ) وقال عنه أنه (كتاب جامع كبير الفوائد والمسائل) (¬1). * * * ¬
المطلب الثاني المؤلفات في الفروق والاستثناء
المطلب الثاني المؤلفات في الفروق والاستثناء والمؤلفات في هذا النوع داخلة في موضوع الفروق الفقهية، وتُعدُّ واحدة من صورها، التي ذكرناها في بداية هذا المبحث. والأساس في هذه الكتب هو ذكر القاعدة، أو الضاب، أو الحكم الفقهي العام، ثم ذكر الجزئيات المستثناة من ذلك. وهذا الاتجاه موجود في كتب القواعد الفقهية بوجه عام، بل في بعض كتب الفقه أيضاً، ولكن الذي نقصده منها هو الكتب المؤلفة أصالة في هذا الموضوع، وهي كتب قليلة جداً، إذا قيست بغيرها من الأنواع. وما عرفناه من ذلك كتابان، هما: 1 - المناقضات في الحصر والاستثناء لأحمد بن الحسين الفنّاكي المتوفي سنة (448 هـ). 2 - الاستغناء في الفرق والاستثناء لبدر الدين محمد بن أبي بكر بن سليمان البكري الشافعي المتوفي في أوائل القرن التاسع الهجري. وما عدا ذلك، فإدخاله في هذا المجال فيه نوع تساهل، وسأكتفي بذكر كتابين قيل إنهما من هذا الباب، وهما: (كتاب القواعد في فروع الشافعية) للشيخ شرف الدين عيسى بن عثمان الغزي (ت 799 هـ) (¬1)، ¬
وآخرهما كتاب (التلخيص) لأبي العباس أحمد المعروف بابن القاصّ المتوفي سنة (335 هـ) (¬1). وفيما يأتي تعريف بهذه الكتب: 1 - كتاب (المناقضات) لأحمد بن الحسين الفنّاكي الرازي المتوفي سنة (448 هـ). وذكره بعضهم باسم (المناقضات في الحصر والاستثناء). وهي تسمية تعبر عن هذا النوع من التأليف بما هو أقرب إلى تصويره من تعبير الفرق والاستثناء. قال ابن الصلاح (ت 643 هـ) (¬2): (رأيت له كتاب ¬
"المناقضات"، ومضمونه الحصر والاستثناء، شبه موضوع تلخيص ابن القاص (ت 335) (¬1). ومن أمثلته ما ذكره ابن السبكي (ت 771 هـ) في طبقاته. قال: وفيه يقول الفناكي (ت 448 هـ): من اشترى شيئاً شراءً صحيحاً لزمه الثمن إلا في مسألة واحدة، وهي المضطر يشتري الطعام بثمن معلوم، فإنه لا يلزمه الثمن، وإنما تلزمه القيمة. ذكره أبو علي الطبري (ت 350 هـ) (¬2)، واحتج بأن النبي- صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع المضطر (¬3). وفي تشبيه كتاب (المناقضات) بالتلخيص لابن القاص (ت 335 هـ) يضعف عد هذا الكتاب، من الكتب المؤلفة في ذلك أصالة، أو استقلالاً. 2 - الاستغناء في الفرق والاستثناء لبدر الدين محمد بن أبي بكر بن سليمان البكري الشافعي المتوفي في أوائل القرن التاسع الهجري. ¬
رتبه مؤلفه على أبواب الفقه مبتدئاً بكتاب الطهارة، ومنتهياً بكتاب أمهات الأولاد، وفي كل كتاب كان يذكر الأركان والشروط لما يريد أن يتحدث عنه، ثم يذكر ما فيه من ضوابط، مطلقاً عليها اسم القواعد، ثم يذكر ما يستثنى منها، وإذا وجد خلال عرضه للأحكام، ما يثير تساؤلاً في وجه الافتراق بين حكمي مسألتين متشابهتين، بيّن وجه الفرق، ولم يكن ذلك في كل ما عرضه، بل في بعض منه. فمادة الكتاب في الضوابط والقواعد وما يستثنى منها، أما التنبيه على الفروق فكان يأتي تابعاً، ولم يكن متناولاً لجميع المسائل. وقال المؤلف – رحمه الله- إنه جعل قواعده ستمائة قاعدة أصلية. حقق الدكتور سعود بن مسعد الثبيتي قسم العبادات منه للحصول على درجة الدكتوراه من كلية الشريعة في جامعة أم القرى، ونشر هذا القسم مركز إحياء التراث الإسلامي بمكة المكرمة في جزئين سنة (1408 هـ/1988 م)، كما حققه كاملاً باسم (الاعتناء في الفرق والاستثناء) عادل أحمد عبد الموجود، وعلى محمد معوض، ونشرته دار الكتب العلمية في بيروت، في مجلدين سنة (1411 هـ/1991 م). وما عدا هذين الكتابين، كان تناول الاستثناء من الأحكام أو القواعد، يرد تبعاً، ولم يكن من أهداف المؤلفين ذلك. وهذه ظاهرة موجودة، كما ذكرنا، في سائر كتب القواعد والضوابط الفقهية، ولكننا سنكتفي بذكر كتابين أشير إليهما في كلام العلماء بهذا الشأن، أحدهما معدود في كتب القواعد والضوابط الفقهية، وآخرهما معدود في كتب الفقه.
1 - أما أولهما فهو كتاب القواعد في فروع الشافعية للشيخ عيسى بن عثمان الغزي المتوفي سنة (799 هـ). جاء في كشف الظنون عن هذا الكتاب، إنه يذكر القاعدة وما يستثنى منها، وأدخل فيها ألغاز الأسنوي (ت 772 هـ)، وزاد عليها (¬1). ومثل هذا الكلام لا يكفي في إدخال هذا الكتاب في المؤلفات التي اختصت بذكر الفرق والاستثناء، وأبعد من ذلك أن يذهب بعض الباحثين إلى أنه من أكثر المؤلفات في ذكر المستثنيات (¬2). 2 - وأما الكتاب الآخر الذي ذكر في ضمن هذا النوع من التأليف، فهو كتاب (التلخيص) لأبي العباس ابن القاص (ت 335 هـ). وهو في واقعه كتاب في الفقه موجز، لكنه كبير الفائدة، حسن التأليف، دال على دقة مؤلفه وحسن نظره. وهو كثيراً ما يذكر الضوابط والأحكام، ثم يتبع ذلك بما يستثنى منها، وبهذا شُبّه به كتاب (المناقضات) للفناكي (¬3). غير أن مثل هذا الاتجاه يؤدي إلى إضاعة ما بين الأنواع من الفواصل والحدود، ويدخل عشرات الكتب في هذا النطاق، وفي ذلك من التساهل ما فيه. ¬
المطلب الثالث التأليف في بيان الفرق في مسألة معينة أو مسائل قليلة محدودة
المطلب الثالث التأليف في بيان الفرق في مسألة معينة أو مسائل قليلة محدودة والمؤلفات في هذا المجال لا تخرج عن أن تكون رسائل صغيرة في موضوع معين، يرى مؤلفها أنها ربما أوقعت طلبة العلم وغيرهم في الالتباس والخلط بين الأمور المختلفة، على ظن أنها شيء واحد. والتأليف في هذا المجال عمّ مختلف العلوم، ومنها مصطلحات أصول الفقه (¬1). والذي يتصل بموضوعنا هو ذكر ما يتعلق بالفروق الفقهية. ومثل هذا التأليف تصعب الإحاطة به فقد يرد مثل ذلك في ثنايا الكلام للعلماء، أو ضمن فتاوى لهم في مسائل معينة، ونكتفي هنا بذكر نماذج من ذلك: 1 - لمحة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف. لشيخ الإسلام أبي العباس (¬2) ¬
أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية المتوفي سنة (728 هـ). 2 - الفرق بين مطلق الماء والماء المطلق لعلي بن عبد الكافي السبكي المتوفي سنة (756 هـ) (¬1) وهو وارد ضمن فتاويه (¬2). ¬
المطلب الرابع المؤلفات التي تناولت الفروق الفقهية في ضمن مباحثها
المطلب الرابع المؤلفات التي تناولت الفروق الفقهية في ضمن مباحثها وهذا النمط من الكتب ليس تأليفاً خاصاً بالفروق، وإنما هو مؤلفات في القواعد الفقهية، أو الأشباه والنظائر، أي الكتب الجامعة لفنون متعددة، ترتبط فيما بينها برباط معين. وفي مثل هذه الكتب ترد الفروق على صور متعددة، تارة بذكر القواعد أو الضوابط، أو المسائل، وما يستثنى منها، وتارة بإدخال طائفة من فروق المسائل تحت عناوين الفروق، أو النظائر، وتارة بطرق أخرى غير ذلك، كأن تذكر من خلال الألغاز، أو بعض المسائل. وتتبُّع هذه الكتب، واستقصاؤها، لا يحقق فائدة كبيرة، لكونها لم تبحث في الفروق بين الفروع الفقهية أصالةً، ولأنها تقتصر على ذكر نماذج محدودة، تفصح عن المراد، وتبين المقصود، وهي تمثل اختيارات من بعض كتب الفروق. ومما ينبغي التنبيه إليه إن هذه الكتب، حين النظر إلى محتوياتها، نجدها مكررة، وأن بعضها أخذ من بعض، ولهذا فسنكتفي بذكر أهم كتابين، رأيناهما يمثلان هذا الجانب، هما كتاب الأشباه والنظائر للسيوطي (ت 911 هـ)، وكتاب الأشباه والنظائر لابن نجيم (ت 970 هـ)
وفيما يأتي بيان للفروق في هذين الكتابين: أولاً: كتاب (الأشباه والنظائر) لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي الشافعي المتوفي سنة (911 هـ). وقد أدخل الفروق في الكتاب السادس من كتابه الأشباه والنظائر، الذي قسمه إلى سبعة كتب. والكتاب المذكور من أصغر أبواب الأشباه والنظائر، إذ لم يتجاوز ثماني عشرة صفحة من مجموع صفحات الكتاب البالغة (572) صفحة عدا الفهارس. وقد ذكر فيه ما افترق فيه اللمس والمسّ، وما افترق فيه الوضوء والغسل، وما افترق فيه غسل الرجل ومسح الخف، وما افترق فيه الرأس والخف، وما افترق فيه الوضوء والتيمم، وما افترق فيه المني والحيض، وما افترق فيه الحيض والنفاس، وغير ذلك (¬1). وفي الكتاب السابع الذي هو في نظائر شتى، نجد بعض الفروق المتناثرة فيه (¬2). كذلك نجد في الكتاب الخامس، الذي هو في نظائر الأبواب (¬3)، طائفة من الفروق، لكنها وردت على طريقة ذكر الضوابط وما يستثنى منها. ثانياً: كتاب الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان، لزين الدين إبراهيم المشهور بابن نجيم المتوفي سنة (970 هـ). وقد تكلم عن الفروق في أكثر من موضع، منها ما ذكره في الفن ¬
الثالث من كتابه المكون من سبعة فنون، حيث جعله في الجمع والفرق، وكان أكثره في الجمع وفي فوائد متنوعة، لكنه ذكر طائفة من الفروق، كالفرق بين الوضوء والغسل، ومسح الخف وغسل الرجل، ومسح الرأس والخف، والوضوء والتيمم، ومسح الجبيرة ومسح الخف، والحيض والنفاس، والأذان والإقامة، وسجود السهو وسجود التلاوة، وسجود التلاوة وسجود الشكر، والإمام والمأموم، والجمعة والعيد، وغير ذلك من المسائل التي تناولها فيما يقرب من ثماني صفحات. ومن المواضع التي ذكر فيها الفروق، الفن السادس من كتابه هذا، إذ جعله في الفروق، وهي مسائل قليلة لا تتجاوز أربع صفحات (¬1)، وقد ذكر المؤلف أنه جمعها من فروق الكرابيسي، منها ما هي من الحج، ومنها ما هي من النكاح، ومنها ما هي من الطلاق، ومنها ما هي من العتاق (¬2). ¬
المطلب الخامس التأليف في الفروق الفقهية في العصر الحاضر
المطلب الخامس التأليف في الفروق الفقهية في العصر الحاضر لا أعلم نشاطاً هاماً للعلماء المعاصرين، في التأليف في الفروق الفقهية، بل إننا لا نجد- بحسب ما اطلعنا عليه- مَنْ أفردها بالتأليف، بعد القرن العاشر الهجري. فقد اكتفى العلماء بما جاء في كتب من سبقهم، ورددوا ما جاء فيها، دون إضافات تذكر. ومع ضعف نشاط العلماء المعاصرين في هذا المجال، فإن العلم بما تحقق على أيديهم أمر مطلوب، ولا يخلو عن فائدة، وقد رأيت أن ما ألّفوه لا يخرج عن المجالات الآتية: المجال الأول: اختيار عدد من الفروق الفقهية، مما ورد في كتب العلماء السابقين. والذي اطلعنا عليه بهذا الشأن كتاب (القواعد والأصول الجامعة، والفروق والتقاسيم البديعة النافعة) للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي المتوفي سنة (1376 هـ) (¬1). ولم يفرد- رحمه الله- الفروق بالبحث، بل جاءت ضمن ¬
كتابه سالف الذكر. وبلغ عدد الصفحات التي ذكرت فيها تلك الفروق (42) صفحة، من مجموع صفحات الكتاب البالغة (187) صفحة. وكان عمله انتقائياً لفروق استحسنها. وقد ذكر (أن أصل هذا الباب أن تعرف أن الشارع لا يفرق بين المسائل المتشابهات، إلا أن كل واحد منها انفرد بوصف باين به الآخر، لأن الشارع يحكم على المسائل المتماثلات أوصافها بحكم واحد .. ويفرّق بين المسائل المختلفة في أوصافها) (¬1). وقد قسّم الفروق إلى قسمين حقيقية وصورية، وقال: إن (الحقيقية هي المسائل المتباينة في أوصافها) (¬2). وأن الصورية (هي الفروق الضعيفة التي لا تجد فرقاً حقيقياً بين معانيها وأوصافها، بل يفرّق بعض أهل العلم بينهما فرقاً صورياً، عند التأمل فيه لا تجد له حقيقة) (1). وفي المجال التطبيقي جعل الفروق نوعين الفروق الصحيحة، والفروق الضعيفة، وكان ينبه على وجه الضعف، عند ذكره الفروق الضعيفة، وهو يعني بالصحيحة الحقيقية، وبالضعيفة الصورية. المجال الثاني: استخراج الفروق الفقهية من كتاب معين. ومما وجدناه في هذا المجال كتاب (الفروق الفقهية في المذهب ¬
الحنبلي كما يراها ابن قدامة المقدسي) (2). للدكتور عبد الله ابن حمد القطيمل. ففي هذا الكتاب قام المؤلف في الجزء الأول منه (¬1) بالنظر في ثلاثة أجزاء من كتاب المغني لابن قدامة المقدسي (ت 620 هـ)، وهي المتعلقة بالطهارة والصلاة، فاستخرج منها (200) مئتي فرق، وفي الجزء الثاني (¬2) نظر في الجزء الرابع من كتاب المغني الذي تناول موضوعات الزكاة والصيام والاعتكاف فاستخرج منه (138) ثمانية وثلاثين ومئة فرق. وعمل المؤلف استقرائي، اعتمد على تتبع ما في الكتاب من الفروق وجمعها، وليس له عمل وراء ذلك. المجال الثالث: استخراج الفروق الفقهية لبعض العلماء، دون الالتزام بكتاب معين، وهذه الفروق وردت عندهم عَرَضاً في مؤلفاتهم، ولم يكن غرضهم أن تكون هدفاً أساساً لهم في ¬
التأليف، لكن بعض الباحثين المتأخرين نظروا في هذه الكتب وجمعوا ما فيها من الفروق، ورتبوها، ونسبوها إلى من ذكروها عرضاً، في مؤلفاتهم. ومن ذلك كتاب (الفروق لابن قيم الجوزية) (¬1). جمع وترتيب يوسف الصالح. وقد اعتمد الجامع فيه على ما كتبه الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد، في كتابه (التقريب لفقه ابن القيم)، حيث أورد في آخره مبحث الفروق لابن القيم (ت 751 هـ) وأشار إلى مواضعها المنثورة في كتبه. والكتاب ليس خاصاً بالفروق الفقهية، بل تناول الفروق عند ابن القيم (ت 751 هـ) بوجه عام: منها فروق في باب التوحيد، وفروق من باب السلوك، وفروق في باب أصول الفقه، وفروق من باب الفقه، وفروق من باب اللغة. وكان عدد الفروق الفقهية في ذلك عشرة فروق متنوعة، تدخل في أبواب فقهية متنوعة، كالفرق بين الحائض والجنب، والفرق بين الطواف والصلاة، والفرق بين العاجز عن الطهور حساً ¬
والعاجز عنه شرعاً، والفرق بين لمس الذكر وسائر الجسد في نقض الوضوء، والفرق بين النكاح والسفاح، والفرق بين حقوق الملك وحقوق المالك، والفرق بين الأبدال واستباحة المحظور، والفرق بين المتمتع والقارن، والفرق بين دم الشكران ودم الجبران، والفرق بين أن يقول: أنت حر بعد موتي، وبين أن يقول: إن مت وأنت في ملكي فأنت حر بعد موتي (¬1). المجال الرابع: التأليف في بيان الفرق في مسألة معينة، أو مسائل محدودة. وهذا النوع من التأليف ظهر عند العلماء السابقين، وقد ذكرنا بعضاً من الرسائل، أو الفتاوى الواردة في ذلك. وليست لدينا معلومات كافية عن الكتابة في هذا الموضوع، فقد تكون هناك مؤلفات كثيرة على هيئة رسائل، أو فتاوى، لم نطلع عليها، لعدم ذكرها في المظان المتوقع وجودها فيها، وطبيعة هذا التأليف تؤذن بمثل ذلك. ومن الرسائل المعاصرة في هذا الشأن، رسالة (الفرق بين الطلاق البائن والطلاق الرجعي)، لمحمد المهدي العمراني الوزاني المالكي، مفتي فاس المتوفي سنة (1342 هـ) (¬2). ¬
الفصل الثاني علم الفروق الأصولية
الفصل الثاني علم الفروق الأصولية تمهيد في: تعريفه- موضوعه- مسائله- مباحثه- والفائدة منه- والعلوم التي استمدّ منها- وحكمه. المبحث الأول: أنواع الفروق بين القواعد والأصول. المطلب الأول: الفروق بين معاني المصطلحات وحقائقها. المطلب الثاني: الفروق بين الأصول ببيان الفروق بين الأحكام والآثار المترتبة عليها. المبحث الثاني: نشأة الفروق الأصولية وتطورها. المطلب الأول: نشأة الفروق الأصولية بنوعيها. المطلب الثاني: المؤلفات في الفروق الأصولية. الخاتمة.
تمهيد
تمهيد تعريف علم الفروق الأصولية- موضوعه- ومسائله ومباحثه- وفائدته- والعلوم التي استمد منها- وحكمه. تعريفه: لا يوجد تعريف خاص بعلم الفروق الأصولية، أو الفروق بين القواعد والأصول، لأنه لا يوجد علمٌ بهذا المصطلح، بل إنه ليست هناك مؤلفات مقتصرة على تلك الفروق، بالمعنى الدقيق لها. ولكننا ندرك، من خلال كلام العلماء عن التفريق بين القواعد والمصطلحات الأصولية، أنهم يلجؤون إلى ذلك عند يقع اشتباه أو التباس بين معاني مصطلحين أو أكثر، بحسب الظاهر. وعلى هذا فإنه يمكن القول إن ما ذكر في تعريف الفروق الفقهية ينطبق على الفروق الأصولية، ولكن يتميز أحدهما عن الآخر، بنوع ما يقع به التشابه الظاهري، مع الاختلاف في المعنى أو الحكم، وموضوع كل منهما هو المميز لأحدهما عن الآخر. وإذا أردنا أن نتكلم عن الفروق بين القواعد والأصول على أنها علم، نقلنا تعريف علم الفروق الفقهية، إلى هذا المجال، مع استبدال موضوع القواعد والأصول بموضوع المسائل الفقهية، وقلنا: هو العلم بوجوه الاختلاف بين قاعدتين أو مصطلحين أصوليين متشابهين في تصويرهما، أو ظاهرهما، لكنهما مختلفان في عدد من أحكامهما. موضوعه: موضوع علم الفروق الأصولية هو مصطلحات وقواعد وضوابط أصول الفقه المتشابهة في صورتها، أو معناها، من حيث بيان ما
تختلف فيه من الأحكام، أو بيان ما تختلف وتجتمع فيه أيضاً. مسائله ومباحثه: أما مسائل علم الفروق في أصول الفقه فهي القواعد والضوابط والمصطلحات الأصولية المتشابهة في صورتها أو معناها، من حيث ما يعرض لها من وجوه الوفاق أو الاختلاف في الأحكام. الفائدة منه: إن دراسة علم الفروق في أصول الفقه، تحقق فوائد كثيرة، من الصعب حصرها، ولكن يمكن أن نذكر بعضها فيما يأتي: 1 - إن من أهم ما يستفاد من دراسة هذا العلم أنه يكشف عن أن الاختلافات الواقعة بين الفقهاء فيما استنبطوه من أحكام فقهية، لم تكن اختلافات اعتباطية، وإنما هي اختلافات مردودة إلى أسس علمية، ومناهج في الاستنباط مختلفة، وإلى الاختلاف في إقرار بعض الأدلة أو أنواعها، مما يُعدّ من الأمور الطبيعية والإنسانية التي تحصل في أغلب العلوم. وبذل تتحقق فائدة مهمة، وهي إزالة الشكوك عن بعض النفوس التي تَسْتَغْرِب مثل تلك الاختلافات. 2 - إن هذا العلم يمكن المتعلم من الفهم الدقيق لما يدرسه، وذلك بربطه كثيراً من الجزئيات، بعد معرفته مآخذها، في سلك واحد. 3 - إن هذا العلم يُعَرّف المتعلم أسرار الفروق بين أحكام المسائل الفقهية المتشابهة، بمعرفته الفروق بين القواعد والضوابط الأصولية التي بنيت عليها هذه المسائل. 4 - يجنب المتعلم الخلط بين المسائل، والوقوع في الالتباس، والخطأ في الأحكام؛ بسبب جمعه من بين مسائل يظن أنها في ضمن قاعدة أو ضابط معين، مع أنها متنوعة القواعد والضوابط.
5 - إن هذا العلم يوضح معاني المصطلحات والقواعد والضوابط الأصولية بدقة، إذ إن الأشياء تزداد وضوحاً ببيان ما يضادها، ويخالفها في الأحكام. العلوم التي استمد منها: أما المصادر التي تُمِدّ هذا العلم فهي بحسب النظر في طبيعته، واستقراء ما تُطرّق إليه من الفروق المذكورة، تتناول طائفة من العلوم أهمها علم الكلام واللغة العربية وأصول الفقه والأحكام الشرعية. فأما علم الكلام فالاستمداد منه بسبب توقف الأدلة الشرعية على معرفة الباري -سبحانه-، وصدق رسوله -صلى الله عليه وسلم- المبلغ عنه فيما قال، لتعلم حجيتها وإفادتها للأحكام شرعاً. وذكر بعض العلماء أن علم أصول الفقه، الذي يعد مادة الفروق الأصولية، استمد طائفة من مباحثه من علم الكلام، وقد استثمرت طائفة من ذلك في الفروق، كالتمييز بين الحجة والبرهان والدليل (¬1). وقد أضاف الزركشي (ت 794 هـ) إلى ذلك معرفة العلم والظن والنظر وغيرها (¬2). وهي إضافة صحيحة لما يترتب على معرفة ذلك من التفريق بين الأحكام المترتبة على الأدلة القطعية، أو الظنية. وأما علوم اللغة العربية فلأن معرفة دلالة الأدلة متوقفة عليها، وفهمها مستند إلى وجوهها المتعددة، وهذا يعود إلى أن كثيراً من المصطلحات الأصولية معتمدة في فهم معناها، والفروق فيما بينها، على فهم اللغة، كمعنى الأمر والنهي ودلالتهما، وصيغ العموم والخصوص، والمطلق ¬
والمقيد، والمجمل والمبين، والحقيقة والمجاز، والاستثناء والاشتراك، والمنطوق والمفهوم، والاقتضاء والإشارة والتنبيه والإيماء ومعاني الحروف، وغير ذلك. وأما استمداده من أصول الفقه فواضح، لأن موضوع هذا العلم داخل في أصول الفقه، إذ هو يتناول من تلك الأصول ما تشابه منها في الظاهر، واختلف في طائفة من أحكامه. وأما استمداده من الأحكام الشرعية فلأن الفروق بينها مستندةٌ إلى الفروق بين القواعد الأصولية، إذ هي ثمرتها ونتيجتها. ومما استمد منه هذا العلم، طائفة من المصادر الأخرى كالقرآن الكريم، والحديث الشريف، وما اتصل بهما من العلوم. حكمه: وهذا العلم كسابقه- أي علم الفروق الفقهية- من حيث عدم خوض العلماء في حكمه. غير أنه لما كان مبنياً على علم أصول الفقه، فإننا نرشح أن يكون حكمه كحكم أصله، الذي انبنى عليه. وحيث ذهب جمهور العلماء إلى أن تعلم أصول الفقه يُعَد من فروض الكفاية (1)، فإن هذا العلم يكون كذلك، ويكون شأنه شأن الفقه والفروق الفقهية (¬1). وما نقل عن بعضهم من أن تعلم أصول الفقه فَرْضُ عينٍ محمول على أنه للمجتهد (¬2). وعلى هذا فإن الخلاف بينهم يكون لفظياً (¬3). لأن الكلام ¬
عام ولا يتعلق بالمجتهد، أما لو تعلق به فإنه لا يمكن للمجتهد أن يجتهد من دون معرفة أصول الفقه، أو الفروق بينها. ولا نظنّ أحداً لا يقول بأنه فرض عين عليه. وإلى ذلك يشير كلام ابن حمدان (ت 695 هـ) (¬1) في كتابه (صفة الفتوى والمفتي والمستفتي) (¬2). ¬
المبحث الأول أنواع الفروق بين الأصول
المبحث الأول أنواع الفروق بين الأصول المطلب الأول: الفروق بين معاني المصطلحات وحقائقها. المطلب الثاني: الفروق بين الأصول ببيان الفروق بين الأحكام والآثار المترتبة عليها.
المبحث الأول أنواع الفروق بين الأصول إن الفروق بين الأصول تختلف عن الفروق بين المسائل الفقهية، لأنها ليست فروقاً بين أصول وفروع، أو مقيس ومقيس عليه، إذ لا قياس في الكلام عن الفروق الأصولية. إن الكلام في الفروق الأصولية يدخل - في الغالب- بحسب ما ظهر لنا في نطاق الأمرين الآتيين: الأمر الأول: التفريق بين معاني المصطلحات الأصولية عن طريق التمييز بين حقائقها، وما تؤديه من المعاني، سواء كان ذلك عن طريق التعريف بالحد أو الرسم، أو عن طريق التقسيم، أو أي طريق آخر. الأمر الثاني: التفريق بين الأصول ببيان أحكام كل منها، وما يترتب عليها من الآثار. وسوف نبحث هذين الأمرين في المطلبين الآتيين:
المطلب الأول: التفريق بين الأصول ببيان معاني المصطلحات والتمييز بين حقائقها
المطلب الأول: التفريق بين الأصول ببيان معاني المصطلحات والتمييز بين حقائقها وهذا النوع من التفريق يكاد يدخل في كل مباحث أصول الفقه، إذ إن جميع قواعده يخالف بعضها بعضاً، وإلا كانت شيئاً واحداً، ولا نعني بذلك أنها متنافرة، بل هي منسجمة، وإن كان بينها اختلاف في المعنى والدلالة، كالفرق بين الفرض والواجب، والمكروه والحرام، والمكروه تحريماً والمكروه تنزيهاً، والوجوب ووجوب الأداء، والأداء والقضاء والإعادة، والواجب المخيّر والواجب المعيّن، والواجب الموسع والواجب المضيق، وفرض العين وفرض الكفاية، وسنة العين وسنة الكفاية، وخطاب التكليف وخطاب الوضع، والسبب والعلة، والسبب والشرط، والصحة والفساد، والرخصة والعزيمة، والمانع والشرط، والشرط الشرعي والشرط الجعلي، وكالفرق بين تنقيح المناط وتحقيقه وتنقيحه، وبين النسخ والتخصيص، والمطلق والعام، وبين أنواع القياس من طرد وعكس وشبه ودلالة، وخفيّ وجليّ، وبين أنواع الإجماع، وبين أنواع الألفاظ، من حيث دلالاتها، كالفرق بين النص والظاهر، والمجمل والمشكل والخفيّ والمتشابه، والحقيقة والمجاز، والمشترك والمترادف، وكالفرق بين العلم والظن، والشك والوهم، وغير ذلك من الأمور التي هي على هذا المنوال. وإننا لنجد مثل ذلك في جميع المباحث الأصولية. وقد لجأ عدد غير قليل من الأصوليين إلى جعل أوائل كتبهم في التعريفات، وبيان معاني المصطلحات
الأصولية، والفرق فيما بينها، كما في العدة للقاضي أبي يعلى (ت 458 هـ) (¬1)، والتمهيد لأبي الخطاب (ت 510 هـ) (¬2). والمنتهى ومختصره لابن الحاجب (ت 646 هـ) (¬3)، وشرح الكوكب ¬
المنير لابن النجار (ت 972 هـ) (¬1). والحدود في الأصول لأبي الوليد الباجي (ت 474 هـ). إن الذي يدعونا إلى أن نجعل الكلام عن التقاسيم وتعريفات المصطلحات، وبيان محترزاتها، كلاماً في الفروق، إن العلماء حينما يوردون التعريفات لا يقتصرون على ذلك، بل يتبعون ذلك بشرحها، وبيان محترزاتها أو قيودها التي تمنع من دخول ما ليس من أفراد المعرّف، وتجمع ما هو من أفراده. وذلك كله يُعَدّ كلاماً في الفروق، وإن لم يكن مقصوداً به ذلك أصالةً. وتوضيحاً لذلك نذكر بعض الأمثلة من كتبهم، تشهد لما نقول. فمما يوضح ذلك من التقاسيم قول الآمدي (ت 631 هـ) ¬
في بيان أقسام الحكم الشرعي: (وإذا عرف معنى الحكم الشرعي فهو إما أن يكون متعلقاً بخطاب الطلب والاقتضاء، أو لا. فإن كان الأول فالطلب إما للفعل أو للترك، وكل واحد منهما إما جازم أو غيره. فما تعلق بالطلب الجازم للفعل أو للترك، وكل واحد منهما إما جازم أو غيره. فما تعلق بالطلب الجازم للفعل فهو الوجوب، وما تعلق بالطلب الجازم للترك فهو الحرمة، وما تعلق بغير الجازم فهو للكراهة. وإن لم يكن متعلقاً بخطاب الاقتضاء فإما أن يكون متعلقاً بخطاب التخيير، أو غيره، فإن كان الأول فهو الإباحة، وإن كان الثاني فهو الحكم الوضعي، كالصحة والبطلان، ونصب الشيء سبباً ...) (¬1). فمثل هذا التقسيم والحصر الذي ذكره الآمدي (ت 631 هـ) تتضح منه الفروق بين الحكمين الوضعي والتكليفي، كما تتضح منه الفروق بين أربعة أنواع من الحكم التكليفي هي: الوجوب، والحرمة، والكراهة، والإباحة. ومما يوضح ذلك من التعريفات، قول الآمدي (ت 631 هـ) أيضاً، في تعريف المحظور أو الحرام: (هو ما ينتهض فعله سبباً للذم شرعاً بوجهٍ ما، من حيث هو فعل له) (¬2). فبعد ذكر هذا التعريف، ذكر قيوده، فقال: (فالقيد الأول فاصلٌ له عن الواجب والمندوب وسائر الأحكام، والثاني فاصل له عن المخيّر ... والثالث فاصل له عن المباح الذي يستلزم فعلُه تَرْكَ واجبٍ، فإنّه يُذَمُّ عليه، لكن لا من جهة فعله، بل لما لزمه من ترك الواجب) (1). وقد يتطرقون، أحياناً، إلى الفروق بالتنصيص عليها من خلال بحثهم في موضع معين، كالذي فعله الآمدي (ت 631 هـ) وغيره، عند الكلام ¬
على النسخ، إذ أفرد فصلاً في بيان الفرق بين النسخ والبداء (¬1)، وفصلاً في بيان الفرق بين التخصيص والنسخ (¬2)، وكالذي فعله القاضي أبو يعلى (ت 458 هـ) في الفرق بين العام والظاهر (¬3)، والفرق بين النسخ والتخصيص (¬4)، وفخر الدين الرازي (ت 606 هـ) في الفرق بين المطلق والعام (¬5)، والطوفي (ت 716 هـ) في الفرق بين التخصيص بالاستثناء والتخصيص بغير الاستثناء والفروق بين الاستثناء والنسخ (¬6). ¬
المطلب الثاني التفريق بين الأصول ببيان الفرق بين الأحكام والآثار المترتبة عليها
المطلب الثاني التفريق بين الأصول ببيان الفرق بين الأحكام والآثار المترتبة عليها ومما يتحقق به التفريق بين الأصول، الأحكام والآثار المترتبة عليها، استدلالاً بالأثر على المؤثر. فالفرق بين الفرض والواجب، عند الحنفية، مثلاً، رتبوا عليه أن ترك القراءة في الصلاة يبطلها، لثبوتها بنص القرآن، قال تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ) (¬1). أما ترك الفاتحة بعينها فلا يبطلها، لأن الأمر بها ثبت بخبر واحد، وهو يفيد الظن (¬2). والزكاة عندهم فرضٌ لثبوتها بالقاطع وهو نص القرآن، وزكاة الفطر واجبة لأنها ثبتت بأخبار الآحاد، فما ثبت بالقاطع يكون منكره كافراً، وما ثبت بما هو دونه فلا يكون كافراً (¬3). ورتبوا على التفريق بين الحرام والمكروه استحقاق العقاب على فاعل الحرام، دون فاعل المكروه (¬4). ورتّب جمهور الحنفية الذين فرقوا بين الوجوب ووجوب الأداء أحكاماً على ذلك، وقالوا: إن الوجوب هو شغل الذمة بالملزوم، وهذا يتوقف على الأهلية، ووجود السبب، أما وجوب الأداء فهو لزوم تفريغ الذمة عن الواجب بواسطة الأداء، وهو يتوقف على الأهلية والسبب والخطاب واستطاعة سلامة الأسباب، وغير ذلك (¬5). ¬
والتفريق بين الصحة والبطلان تترتب عليه آثار في الدنيا والآخرة، فلو كان في العبادات فإنه يقع مجزياً، وتبرأ به ذمة المكلف، وإن كان معاملة فإنه تثبت به الملكية، وإن كان إجازة فإنه يثبت به ملك المنفعة بالعوض، وإن كان إعارة فإنه يثبت به المنفعة من دون عوض، وهكذا. بخلاف البطلان الذي لا تترتب عليه هذه الآثار (¬1). والتفريق بين الفاسد والباطل، عند الحنفية، رتبوا عليه في المعاملات أن العقود الباطلة لا تترتب عليها آثارها التي رتّبها الشارع عليها، فلا يفيد العقد الملك، ولو اتصل بالقبض، فهو عندهم كالمعدوم. أما الفاسد فإنه وإن كان لا تترتب عليه آثاره، ولكنه إن اتصل به القبض، ملكه المشتري، ووجبت عليه قيمته لا ثمنه، مع إثم العاقدين بذلك (¬2). والتفرق بين العلة القاصرة والعلة المتعدية يترتب عليه نشر حكم ما فيه العلة المتعدية إلى جزئيات كثيرة، والاقتصار على الجزئية التي ورد بشأنها النص في القاصرة. إلى غير ذلك من الأمور المنتشرة في مصطلحات وقواعد أصول الفقه. ¬
المبحث الثاني نشأة الفروق بين الأصول وتطورها
المبحث الثاني نشأة الفروق بين الأصول وتطورها المطلب الأول: نشأة الفروق بين الأصول بنوعيها. المطلب الثاني: المؤلفات في الفروق بين الأصول
المطلب الأول نشأة الفروق بين الأصول
المطلب الأول نشأة الفروق بين الأصول ذكرنا في مبحث أنواع الفروق بين المصطلحات والقواعد الأصولية، النطاق الذي يدور حوله الكلام عنها، وعرفنا أن من الممكن أن نجدهافي مجالين، مجال التفريق بين معاني المصطلحات بما يميز بعضها عن بعض بالوصف تارة، وبالتعريف تارة، وبالتقسيم أو غيره تارةً أخرى. أو في مجال التفريق فيها عن طريق التفريق بين الأحكام المترتبة عليها. ولا يعني هذا انعدام التصريح بالفرق في أحيانٍ قليلة. وعلى هذا فمن الممكن القول: إن نشأة الكلام عن الفروق الأصولية هو نشأة الكلام في المجالين السابقين، ويغلب أن يكون ذلك بعد استقرار علم أصول الفقه، وانتشار التمذهب، واتساع نطاق الجدل في ذلك. وهو أمر اتضحت سماته، ونضجت مباحثه في القرن الرابع الهجري، وازداد ذلك وضوحاً ونضوجاً في القرن الخامس الهجري وما بعده. ولكن مع ذلك ظهرت بوادر له قبل هذه الفترة، وعلى وجه تقريبي في القرن الثاني الهجري. ففي رسالة الشافعي (ت 204 هـ) - رحمه الله- شواهد متعددة على ذلك، ككلامه عن الفرق بين رواية الحديث والشهادة. قال: (قال: فكيف يكون الحديث كالشهادة في شيء، ثم يفارق بعض معانيها في غيره؟ فقلت له: هو مخالف للشهادة- كما وصفتُ لك- في بعض أمره، ولو جعله كالشهادة في بعض أمره، دون بعض، كانت الحجة لي فيه بينة -إن شاء الله. قال: وكيف ذلك وسبيل الشهادات سبيل واحدة؟ قال: فقلت: أتعني في بعض أمرها، دون بعض،
أم في كلّ أمرها؟ قال: بل في ل أمرها. قلت: فم أقلّ ما تقبل على الزنا؟ قال: أربعة. قلت: فإن نقصوا واحداً جلدتهم؟ قال: نعم. قلت: فكم تقبل على القتل والكفر وقطع الطريق الذي تَقْتُلُ به كله؟ قال: شاهدين. قلت له: كم تقبل على المال؟ قال: شاهداً وامرأتين. قلت: فكم تقبل في عيوب النساء؟ قال: امرأة. قلت: ولو لم يتموا شاهدين وشاهداً وامرأتين لم تجلدهم كما جلدت شهود الزنا؟ قال: نعم. قلت: أفتراها مجتمعةً ... إلخ (¬1). وهكذا يستمر الشافعي في كلامه. ومثل هذا التفريق وقع في كلامه في مواضع عدة، كتفريقه بين ما هو مقطوع به لا يسع الشك فيه، فيستتاب منكره وما كان محتملاً للتأويل ¬
لا يترتب عليه ذلك؟ (¬1) وكتفريقه بين أنواع المنقطع، وبيان وجه قبول بعضه دون بعض (¬2) وتفريقه في مباحث القياس بين طائفة من الأمور مَنَعَ من قياس بعضها على بعض، وبَيَّنَ وجه المنع في ذلك، واختلاف المقيس عن المقيس عليه (¬3)، وغير ذلك كثير. وكانت طريقته معتمدة على الحجاج والبرهنة، مصحوبة بالجوانب التطبيقية من واقع الأحكام الشرعية. وفي القرن الرابع ظهر الكلام في الفروق الأصولية، من خلال مباحث العلماء وكلامهم في أصول الفقه، وفي كتاب أبي بكر الجصاص الرازي (ت 370 هـ) (¬4) في الأصول، دلالات واضحة على ذلك، سواء كانت بنقله مثل ذلك عن غيره، أو بما أبداه هو في هذا المجال. ونكتفي بأمثلة محدودة تبين ما نقول؛ فقد نقل عن أستاذه أبي الحسن الكرخي ¬
(ت 340 هـ) (¬1) التفريق بين الاستثناء والتخصيص (¬2)، وجواز تأخير بيان المجمل، وعدم جواز تأخير بيان ما يمكن استعمال حكمه (¬3). والتفريق بين الدليل والعلة (¬4) وتجويز التعليل بالعلة المتعدّية وعدم تجويز ذلك بالعلة القاصرة (¬5). وهذا عدا ما كان يذره من التعريفات وبيان صفات المصطلحات، ومحترزاتها، والفرق فيما بينها وبين غيرها، مما جاء في كتابه كثيراً. وفي القرن الخامس نضج علم أصول الفقه، واتضحت مناهجه، وظهرت فيه أمّهات الكتب الأصولية، كما ظهرت فيه طائفة من كتب الجدل وترتيب الحجاج، ووضع الاعتراضات والإجابات عنها، حول القواعد والضوابط الأصولية، كالكافية في الجدل لأبي المعالي إمام الحرمين ¬
(ت 478 هـ). والمعونة في الجدل لأبي إسحاق الشيرازي (ت 476 هـ)، والمنهاج في ترتيب الحجاج لأبي الوليد الباجي (ت 474 هـ). ومما يمكن أن يدخل في هذا المجال كتاب الجدل على طريقة الفقهاء لأبي الوفاء على ابن عقيل، وهو وإن كان قد توفي سنة (513 هـ)، لكن أغلب حياته العلمية كانت من معطيات القرن الخامس. ومع كل هذا النضج في علم أصول الفقه، والتأكيد فيه على جوانب التعريفات والفروق فيما بين المفاهيم، لم نجد من أفرد الفروق بين القواعد والضوابط الأصولية في كتاب، كما فعلوا ذلك في الفروق بين المسائل الفقهية. ولعل ذلك يعود إلى وضوح القواعد والمصطلحات عند الأصوليين، وتميز بعضها عن بعض، بما قدموه لها من التعريفات، وبما اشتملت عليه محترازاتها من التمييز والفصل بين ما تشابه منها. ومن الممكن القول: إن الفروق كانت داخلة في ضمن المباحث الأصولية نفسها، فقلما تذكر العلة، مثلاً، دون ذكر السبب وما يختلف فيه كل منهما عن الآخر، أو يذكر السبب دون أن يفرّق فيما بينه وبين الشرط، أو يذكر الحكم التكليفي دون بيان ما يختلف به عن الحكم الوضعي، أو يذكر النسخ دون بيان ما يفترق به عن التخصيص، إن لم يكن بعنوان الفروق، ففي بيان ما تميز به كل منهما عن الآخر. وتُعَدُّ المباحث الأصولية التي من هذا القبيل قليلةً جداً، وهي محصورة محدودة، بخلاف المسائل الفقهية الكثيرة والمتجددة على مر العصور. ولهذا لم يجد العلماء- على ما يبدو- ما يشجعهم على إفراد الفروق الأصولية في مباحث أو كتب خاصة. وما ورد من ذلك كان قليلاً ومحدوداً، وأغلبه كان رسائل صغيرة
بمسائل معينة، ربما كانت مثار اختلاف أو جدل نتيجة اختلاط مفاهيمها عند بعض العلماء، وسنذكر طائفة منها في المطلب التالي. ولعل كتاب أنوار البروق في أنواء الفروق لأبي العباس القرافي المتوفي سنة (684 هـ) هو الكتاب اليتيم الذي يُذْكر في هذا المجال، ولكنه كان متسع الجوانب متشعباً في فروقه، ولم يكن خاصاً في مجال الفروق بين المصطلحات الأصولية، وعدّ ما فيه فروقاً بين القواعد، أو فروقاً بين الأصول فيه ضرب من التساهل، إذ الكتاب – كما سنعلم ذلك من التعريف به- متنوع الموضوعات، جامع لمصطلحات تدخل في مجالات عدة، منها ما هي في الأصول، ومنها ما هي في الفقه، ومنها ما هي في مجالات أخر. هذا ما يتعلق بالمجال الأول، أما المجال الثاني في التفريق بين الأصول، الذي هو بيان الفروق بين الأصول أو القواعد عن طريق بيان الفروق بين الأحكام، فيكون ذلك بردّ الخلافات في أحكام الفروع إلى أصول، يختلف بعضها عن بعض، فيما يترتب عليه من أحكام، ومن الممكن أن نجد في الكتب المؤلفة في تخريج الفروع على الأصول نموذجاً لها، في طائفة من الأحكام. وقد ظهر هذا النوع من التفريق في القرن الرابع الهجري، وفق المعلومات المتوفرة لدنيا. إذ إن أقدم كتاب عرفناه واطلعناه عليه في هذا المجال هو كتاب (تأسيس النظائر) لأبي الليث السمرقندي الحنفي المتوفي سنة (373 هـ) (¬1). وفي القرن الخامس عرفنا كتاب (تأسيس ¬
النظر) المنسوب إلى أبي زيد الدبوسي المتوفي سنة (430 هـ) (¬1). وهو كتاب مطابق لكتاب تأسيس النظائر للسمرقندي (ت 373 هـ)، عدا زيادة يسيرة في آخره. ولم يُعْرَف لغير الحنفية. كتاب في هذا المجال قبل القرن السابع الهجري، إذ ألّف أبو المناقب الزنجاني المتوفي في سنة (656 هـ) (¬2) ¬
كتابه (تخريج الفروع على الأصول)، وهو كتاب قيمٌ ونافع في بابه. وفي القرن الثامن ألّف الأسنوي (ت 772 هـ) كتاب (التمهيد في تخريج الفروع على الأصول) وكتاب (الكوكب الدّري فيما يتخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية). ثم خمد هذا النوع من التأليف، حتى استجاب محمد بن عبد الله التمرتاشي الحنفي المتوفي سنة (1004 هـ) (¬1) إلى نداء الأسنوي (ت 772 هـ)، ودعوته علماء المذاهب الأخرى بأن يحذوا حذوه، ويؤلفوا على نمط كتابه (التمهيد) في مذاهبهم، فألف كتابه (الوصول إلى قواعد الأصول)، نحا فيه نحو الأسنوي، ونقل عنه الشيء الكثير، وجعل الجانب التطبيقي في مجال المذهب الحنفي. ولا شكّ أنّ هذا النوع من التأليف يُظهر الاهتمام فيه في جانب الاختلاف في القاعدة الأصولية وما ينبني عليها من الأحام، وليس الغرض منه بيان الفروق بين القواعد. والذي دعانا إلى اعتباره ممثلاً لما يؤلف في الفروق الأصولية، أيضاً، ¬
هو أنه قد يرد في المؤلفات التي من هذا القبيل، عند بيان اختلاف العلماء، ذكر بعض الفروق بين القواعد أو المصطلحات الأصولية، من خلال عرض الاختلاف في الأحكام، كالتفريق بين الصحيح والفاسد عند من يقول به، والواجب العيني والواجب الكفائي، والواجب الموسع والواجب المضيق، والفرق بين المكروه تنزيهاً والمكروه تحريماً، والفرق بين الحرام والمكروه تحريماً، وغيرها. فالفروق في الأحكام تقود إلى الكلام عن الفروق بين القواعد والأصول التي أدت إليها. وليس من المستنكر أن يقال إن عدّ مثل هذا ممثلاً للفروق بين القواعد الأصولية ضعيف، لكنه، مع ذلك، يظهر فيه مثل ذلك التمثيل، وإن كان قليلاً وضعيفاً وفي حاجة إلى تأويل، وإنما لجأنا إليه لشحة التأليف في هذا المجال. ولتوضيح ذلك نذكر فيما يأتي بعض الأمثلة التي ينكشف بها معنى ما نقول: 1 - جاء في تأسيس النظر أن الرجل إذا أوجب على نفسه المشي إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام لا تلزمه حجة ولا عمرة عند أبي حنيفة، لأن اللفظ تناولها عن طريق العموم، وهو بخلاف ما لو أوجبهما أو أوجب أحدهما على نفسه على جهة الخصوص. أما صاحباه أبو يوسف (ت 182 هـ) (¬1) ومحمد بن الحسن (ت 189 هـ) فيوجبان ¬
عليه حجّاً أو عمرة، لأن البيت يدخل في الحرم في الذكر اللفظي العام، فصار كما لو ذكر بيت الله تعالى - نصاً- وفي هذا تفريق بين ما يتناوله اللفظ، في دلالته، عن طريق العموم، وما يتناوله عن طريق النص والخصوص. ولو لم يكن هناك فرق ما اختلف الحكمان عند الاختلاف في هذا الأصل (¬1). وعلى ذلك بنوا مسائل كثيرة، منها: أنه إذا قال الرجل لامرأته: أنت عليّ كأمي ولا نية له فإنه لا يصير مظاهراً عند أبي حنيفة، وذلك لأن ظهر الأم إنما يدخل بطريق العموم، فلا يجعل كالمخصص به. وعند صاحبيه يصير مظاهراً (1). 2 - ذهب الشافعي (ت 204 هـ) - رحمه الله- إلى أن الخارج النجس من غير السبيلين لا ينقض الوضوء، لأن النص ورد بخروجه من أحد السبيلين، خلافاً لأبي حنيفة (ت 150 هـ) - رحمه الله- الذي ذهب إلى أنه ناقضٌ للوضوء. ومن ذلك عدم إيجاب الكفارة فيمن أفطر في نهار رمضان عامداً بالأكل والشرب، لأن النص ورد بخصوص الجماع، خلافاً للحنفية الذين أوجبوها بذلك أيضاً. وهذا بناء على التفريق بين العلة المتعدية والعلة القاصرة، فالحنفية يمنعون التعليل بالقاصرة متى أمنت المتعدية، والشافعية يجيزون ذلك: ¬
وهذه الأحكام اقتضت التفريق بين العلل القاصرة (¬1). ومبررات تجويز التعليل بالقاصرة، مع إمكان المتعدية وعدم تجويزه عند عدم إمكان ذلك، وفي هذا نوع كلام في الفرق. 3 - ذهب الشافعية إلى أن الإجارة الفاسدة لا تفيد ملك المنافع، وإلى أن بيع المكره وإجارته لا ينعقدان، وإلى أن العاصي بسفره لا يترخص ترخص المسافرين، وخالفهم الحنفية في ذل. والاختلاف في الأحكام، هنا، مبنيّ على التفريق بين الصحيح والفاسد، أو عدمه. فالشافعية الذين لم يفرقوا بينهما أبطلوا جميع هذه التصرفات، والحنفية الذين فرقوا بينهما اعتدوا بذلك بشروط وقيود (¬2). والصحة والبطلان من الأحكام الوضعية، وهي من مباحث علم أصول الفقه. 4 - فرّقت طائفة من العلماء بين ما هو فرضٌ من الأفعال وما هو واجب، ولم تجعلهما شيئاً واحداً، وبنت ذلك على الدليل الأصولي الذي يثبت به كلٌّ منهما. وفي هذا تفريق بين نوعين من الأدلة يختلف ما يترتب عليهما بناء على الاختلاف الواقع بينهما، فالفرض يثبت بالقطعي، والواجب يثبت بما هو دونه، إلى غير ذلك من الأمور. ¬
المطلب الثاني المؤلفات في الفروق الأصولية
المطلب الثاني المؤلفات في الفروق الأصولية يشمل التأليف في مجال الفروق الأصولية القواعد والضوابط والمعاني الواسعة الشاملة التي لا تقف عند حدود المسائل الجزئية، ومنها المصطلحات ذات الدلالات المحددة المعينة، وما تمت إلى ذلك من الأمور، ومثل هذا النوع من التأليف في الفروق ذو فائدة عظيمة لما في معرفة الفروق الأصولية نفسها من الفوائد الكثيرة التي سبق ذكرُ طائفةٍ منها. كما أنه يعطي تصوراً واضحاً ودقيقاً لكثير من المسائل والأحكام، وقد عدَّ القرافي (ت 684 هـ) هذا النوع من الفروق في مرتبة أعلى من مرتبة البحث بين المسائل الجزئية وقال: (فله من الشرف على تلك الكتب شرف الأصول على الفروع) (¬1). والمؤلفات في هذا المجال قليلة جداً، نذكر فيما يأتي أهم ما عرفناه منها: 1 - أنوار البروق في أنواء الفروق، المشتهر باسم الفروق لشهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس القرافي الصنهاجي المالكي المتوفي سنة (684 هـ). وهو من الكتب النفيسة ذات الفوائد العظيمة، ويدل على طول باع مؤلفه في دقة الفهم، وحسن الإدراك. وقد ضمّن كتابه (548) قاعدة وضح كلاً منها بما يناسبها من الفروع الفقهية. ولم تكن القواعد عنده ما عرف في اصطلاح أهل الفن، وإنما هي أوسع من ذلك، فتشمل إلى جانب ما عرف في الاصطلاح، المعاني العامة للأحكام. ومن أمثلة موضوعاته التي فرق بينها: ¬
الفرق بين الشهادة والرواية، والفرق بين قاعدتي الخبر والإنشاء، والفرق بين قاعدتي الشرط والاستثناء في الشريعة ولسان العرب، والفرق بين قاعدتي الشرط والمانع، والفرق بين قاعدتي ما تشرع فيه البسملة وما لا تشرع، والفرق بين قاعدة المقاصد وقاعدة الوسائل، والفرق بين قاعدة اقتضاء النهي الفساد في نفس الماهية وبين قاعدة اقتضاء النهي الفساد في أمر خارج عنها، والفرق بين قاعدة النسيان في العادات لا يقدح، وقاعدة الجهل يقدح. وقد بين المؤلف منهجه في كتابه، فقال: (وجعلت مبادئ البحث في القواعد بذكر الفروق والسؤال عنها بين فرعين أو قاعدتين، فإن وقع السؤال عن الفرق بين الفرعين فبيانه بذكر قاعدة أو قاعدتين يحصل بهما الفرق، وهما المقصودتان، وذكر الفرق وسيلة لتحصيلهما، وإن وقع السؤال عن الفرق بين القاعدتين فالمقصود تحقيقهما، ويكون تحقيقهما بالسؤال عن الفرق بينهما أولى من تحقيقهما بغير ذلك، فإن ضمَّ القاعدة إلى ما يُشاكلها في الظاهر ويضادها في الباطن أولى (¬1). وإنما اعتبرنا هذا الكتاب في الفروق الأصولية لكونه احتوى على كثير من الفروق بين المصطلحات والقواعد الأصولية (¬2)، ولأنه بحث الفروق بين المصطلحات العامة، سواء كانت لغوية أو فقهية أو غيرها، بمنهج تقعيدي، ولم يكن بحثه فيها متعلقاً بجزئيات الأحكام، وأسباب اختلاف بعضها عن بعض، وإن كان مثل ذلك يرد ¬
في كلامه، لكنه كان من آثار الفروق بين المفاهيم والمصطلحات. وعدّ ما يذكره المؤلف فروقاً بين القواعد بإطلاق فيه نوع من التساهل، سواء كان من المؤلف نفسه، أو من الكاتبين الذين جاؤوا بعده. هذا وقد كتب حول هذا الكتاب تعليقات وحواشٍ ومختصرات، نذكر منها ما يأتي: أ- إدرار الشروق على أنواء الفروق لسراج الدين قاسم بن عبد الله الأنصاري المعروف بابن الشاط المتوفي سنة (723 هـ) (¬1). وقد ¬
تعقب فيه القرافي، وصحح بعض معلوماته. ولأهمية تعقيبات ابن الشاط قيل: (عليك بفروق القرافي، ولا تقبل منها إلا ما قبله ابن الشاط، كما في ضوء الشموع) (¬1). ب- تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية للشيخ محمد علي بن حسين المتوفي سنة (1367 هـ) (¬2). وهو تهذيب لفروق القرافي، مع مراعاة ما كتبه ابن الشاط (ت 723 هـ) في إدرار الشروق، وهو تلخيص، كما ذكر المؤلف، للكتابين المذكورين، مع التهذيب والترتيب والتوضيح. وفيه زيادات قليلة، وإجابات عن إشكالات ترك جوابها. ج- مختصر قواعد القرافي (ت 684 هـ) لأبي عبد الله محمد بن إبراهيم البّقوري المتوفي سنة (707 هـ) (¬3). وقد طبع هذا ¬
الكتاب محققاً بجزئين (¬1) باسم (ترتيب الفروق واختصارها). ولعل ذلك يعود على واقع الكتاب نفسه، وإلى أن المخطوطات التي اعتمد عليها المحقق، منها ما ذكر الكتاب باسم ترتيب الفروق، ومنها ما ذكره باسم اختصار الفروق. وقد رتب المؤلف قواعد القرافي في ثلاث مجموعات. هي: القواعد النحوية وما يتعلق بها، والقواعد الأصولية، والقواعد الفقهية، وقدم لها بمجموعة من القواعد الكلية، وهي ثلاث عشرة قاعدة، أفادها من كتاب (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) للشيخ عز الدين بن عبد السلام (ت 660 هـ)، وبذلك تكون مجموعات القواعد فيه أربعاً. ومن الملاحظ أن الشيخ كان يُعَنْوِن مسائله باسم (قاعدة) بدلاً من (الفرق). وفي اختصار القواعد اتبع طريقة حذف بعض الأمثلة، وإسقاط بعض الكلام، وترك الكلام عن طائفة أخرى من القواعد. وكان ما ذكره (221) إحدى وعشرين ومائتي قاعدة، من مجموع القواعد التي وردت في فروق القرافي، والبالغة (548) قاعدة، أوردها في ضمن فروقه البالغة أربعة وسبعين ومائتي فرق. ¬
د- مختصر أنوار البروق لأبي عبد الله محمد بن أبي القاسم الرَّبْعي الملقب بشمس الدين المتوفي سنة (715 هـ) (¬1). هـ- ترتيب مباحث الفروق للقرافي، لعبد العزيز بوعتور التونسي. 2 - الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، وتصرفات القاضي والإمام، لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي المتوفي سنة (684 هـ)، السابق ذكره. وهو كتاب صغير الحجم، نبّه إليه القرافي في مقدمة كتابه الفروق، فهو أسبق في زمن تأليفه من كتاب أنوار البروق. وكان سبب تأليفه مناقشة جرت بين القرافي وبعض فقهاء زمانه، بشأن (الفرق بين الفتيا التي تبقى معها فتيا المخالف، وبين الحكم الذي لا ينقضه المخالف، وبين تصرفات الحكام وتصرفات الأئمة، مثل الاختلاف في إثبات هلال رمضان بالشاهد الواحد، هل يلزم ذلك من لا يرى إثباته إلا بشاهدين أم لا؟ ... إلخ) (¬2). وجعله على هيئة أسئلة يجاب عنها، وكان عدد الأسئلة فيه أربعين سؤالاً، لكنه محصور في الجانب المحدد بالعنوان. وإنما عدّ في قسم المؤلفات في الفروق بين ¬
القواعد لتناوله معاني عامة تدخل في ضمنها كثير من الوقائع الجزئية. 3 - الليث العابث في صدمات المجالس لإسماعيل بن علي الصعيدي القاهري المحلي الشافعي المتوفي- على ما ذكره بعضهم- سنة (880 هـ) (¬1). وهو رسالة صغيرة ذكر فيها طائفة من الفروق بين طائفة من المصطلحات والضوابط الأصولية. وجعلها في القسم الثاني من كتابه، وهو قسم الصدمات. وفي عدّ هذا الكتاب من كتب الفروق بين القواعد نوع من التساهل في المصطلح يجعل المعاني العامة التي لا تقتصر على الجزئيات المحدودة، قواعد، كما كان الشأن عند القرافي. على أن ما ذكر من محتوياته يدل على أنه في الفروق بين المصطلحات الأصولية. كان منهجه ذكر الفروق بين المصطلحات المتشابهة بإيجاز، وإيراد كل فرق بين أمرين تحت عنوان (صَدْمة) (¬2). ومما ذكره من ذلك: الفرق بين الشرط اللازم والشرط غير اللازم، ¬
والفرق بين الشرط والسبب، وبين السبب من حيث الاسم والمعنى، وبين السبب والعلة، وبين العلة والدليل، وبين العلة والحجة، وبين العلل الحسية والعلل الشرعية (¬1). 4 - فروق الأصول: وهو منسوب إلى عوض أفندي، الذي انتهى منه سنة (1234 هـ). كان فرقه الأول بين الشرط اللازم والشرط غير اللازم، ومما ذكره الفرق بين الشرط والسبب (¬2). ومما يوضح طريقته ومنهجه قوله: (فرق آخر بين الشرط والسبب، فنقول: إن الشرط ما لا أثر له، لأنه علم على ثبوت الحكم، كمن قال لامرأته: أنت طالق، إن دخلت الدار، يقع الطلاق عند دخولها بقوله: أنت طالق، وهو سبب لوقوع الطلاق، عند وجود الشرط، وهو دخول الدار. ودخول الدار ¬
ليس بمؤثر في وقوع الطلاق، لكن السبب قد تعلق بالشرط، فأثر عند وجوده، فبان الفرق) (¬1). 5 - وهناك مؤلفات صغيرة في توضيح الفروق في نطاق محدود، منها: أ- رسالة صغيرة بعنوان (الفرق بين الحكم بالصحة والحكم بالموجب) لسراج الدين عمر بن رسلان البلقيني الكناني العسقلاني الشافعي المتوفي سنة (805 هـ) (¬2). وقد ذكر فيها ستة فروق بين هذين الأمرين. ذكر السيوطي (ت 911 هـ) بعضها في كتابه (الأشباه والنظائر) (¬3). وقد حققها د. حمزة الفعر، ونشرها في مجلة البحوث الفقهية المعاصرة (¬4). ب- الفرق بين الحكم بالصحة والحكم بالموجب لولي الدين أحمد ابن عبد الرحيم المعروف بأبي زرعة العراقي المتوفي سنة ¬
(829 هـ) (¬1). ذكر المؤلف فيه أنه وجد لشيخه البلقيني (ت 805 هـ) فروقاً أبداها في الفرق بين الحكم بالصحة، والحكم بالموجب. وقال: كنت سمعتها منه، أو بعضها، وفي كلها أو بعضها نظرٌ سأذكره ... إلخ) (¬2). ج- الفرق بين العلم بالوجه وبين العلم بالشيء من ذلك الوجه، لابن كمال باشا المتوفي سنة (940 هـ) (¬3). وقد نشرها عبد الرحمن ¬
ابن عقيل في (الذخيرة في المصنفات الصغيرة) (¬1). وذكرها بعض الباحثين باسم (فروق الأصول) (¬2). د- إتقان الضبط في الفرق بين السبب والشرط. جاء في آخرها (انتهت على يد ابن مؤلفها محمد الطيب وفقه الله وأسعده برضاه آمين بتاريخ الحادي عشر من ربيع الأنوار عام ست وخمسين ومائتين وألف) (¬3). هـ- فروق الأصول. وهي رسالة لبعض المتأخرين. قال حاجي خليفة (¬4): (إن أولها الحمد لله المحمود، ذي القدم الموجود ..) (¬5). 6 - ومن المؤلفات المعاصرة: ¬
أ- الفروق في أصول الفقه. لعبد اللطيف الحمد. وهو رسالة دكتوراه سُجِّلت في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، ذكر فيها مائة وتسعين فرقاً، نبه عليها الأصوليون. وجعل بحثه في ثلاثة أبواب، الباب الأول في فصلين أولهما في الفروق في المقدمات، وثانيهما في الفروق في الأحكام، ومجموع فروق هذا الباب 64 أربعة وستون فرقاً. والباب الثاني في الفروق في الأدلة والاجتهاد والفتوى. وهو في ثلاثة فصول، الأول في الأدلة النقلية، والثاني في الأدلة الاستنباطية، والثالث في الاجتهاد والتقليد والفتوى والتعارض والترجيح. ومجموع فروق هذا الباب 63 ثلاثة وستون فرقاً. والباب الثالث في ثلاثة فصول، الأول في الألفاظ، والثاني في عوارض الأدلة، والثالث في الأوامر والنواهي، ومجموع فروق هذا الباب 63 ثلاثة وستون فرقاً. ب- الفروق في مسائل الحكم عند الأصوليين للدكتور راشد بن علي الحاي، وهو رسالة دكتوراه قدمت إلى كلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. ومجالها أضيف من مجال الرسالة السابقة.
خاتمة
خاتمة اتضح لنا من خلال ما قدمناه من عرض لموضوع الفروق، في مجالي المسائل الفقهية الفرعية، والقواعد والضوابط الفقهية والأصولية الكلية ما يأتي: 1 - أن الفروق لم تدرس من الجانب النظري على أنها علم من العلوم، سواء كان ذلك في مجال الفقه أو الأصول، بل إن ما اطلعنا عليه من الكتب المؤلفة في الفروق، كان يبدأ ببيان الفروق بين المسائل الفقهية مباشرةً، ووفق ترتيب الأبواب الفقهية، دون بيان معنى الفروق وما يقصد منها. وكان قليل منها يذكر سبق غيره في ذلك، ولكن دون توضيح وبيان لما يقصد منها، وإن كان بعضها يشير إلى أهمية معرفتها، والفائدة المتوخاة منها (¬1). 2 - إن الفقهاء نشطوا في المجال التطبيقي للفروق، وأثروه بطائفة من المؤلفات المبينة للفروق بين المسائل وأسبابها. أما مجال الأصول فكان الكلام عن الفروق فيه يجري من خلال عرض قضايا ومسائل أصول الفقه في مظانها المعلومة، وفق المنهج الذي ذكرناه في موضعه، وما ظهر من مؤلفات كان في مجال محدود، وكانت قليلة جداً، إذا قيست بالمؤلفات في مجال الفروق الفقهية. ولم نعرف كتاباً خاصاً في ذلك. أما كتاب الفروق للقرافي (ت 684 هـ) فعدّه كتاباً خاصاً ¬
في هذا المجال يُعَدّ ضرباً من التساهل، لأن الكتاب واسع التناول للموضوعات، وفيه إطلاق القواعد على طائفة من الأمور لا تُعَدّ في عرف العلماء من القواعد. 3 - ومن الملاحظ أن طائفة من كتب الفروق كان الغرض من تأليفها الدفاع عن المذهب وإزالة ما يرى فيه من تعارض أو تناقض. قال الونشريسي (ت 914 هـ): أما بعد: فإني كنت قد وضعت في الجموع والفروق مجموعاً مطبوعاً وسميته بعدة البروق في جمع ما في المذهب من الجموع والفروق، يستعان به على حل كثير من المناقضات الواقعة في المدونة، وغيرها من أمهات الروايات) (¬1). ويبدو أن هذا كان هو الغرض من المؤلفات الأخرى، وإن لم يصرح أصحابها بذلك. ولهذا فمن المتوقع أن يكون في طائفة منها شيء من التكلف، وضعف التأويل. 4 - اكتفى مؤلفو الفروق ببيان الفرق بين المسائل، دون أن يعيّنوا نوعها، أهي خصوصية في الأصل بإبداء وصف يصلح أن يكون علة مستقلة للحكم أو جزء علة، أو خصوصية في الفرع تصلح أن تكون مانعاً. وعلى هذا فإننا نجد أن أمام العلماء المعاصرين مجالات عدة، للكتابة في الفروق، يمكن أن نجمل بعضها فيما يأتي: أ- دراسة علم الفروق دراسة نظرية موسعة، تتناول المقدمات الأساسية فيه، وتطوره ومساره التاريخي، والتعريف بما أُلّف فيه. ¬
ب- ملاحظة ما يرد في كتب الفقه من الفروق ومقارنتها بما يذكر في كتب الفروق، مما يطلع الباحث على المجالات التي أهمل ذكرها في هذه الكتب، وبذلك تتحقق إضافات مفيدة إلى الكتب الموجودة. ج- دراسة الفروق المذكورة نفسها، وبيان وجاهتها فيما ذكرت فيه. د- بيان نوع الفروق التي وردت في كتب الفروق، أهي خصوصية في الأصل، أو خصوصية في الفرع؟ وما هي هذه الخصوصية. هذا ومن الممكن أن يجد الباحث مجالات أخر للبحث في هذا العلم. ولا يفوتني أن أؤكد ما ذكرته في المقدمة، من أن بحثي هذا ربما كان نواة لبحوث أكثر تجلية لمسائل هذا العلم، وأن ما أردته، هو أن يكون محققاً فائدة للباحثين. والله جل ثناؤه الموفق