الفروسية المحمدية ط عالم الفوائد
ابن القيم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رَاجَعَ هذا الجُزْءَ سليمان بن عبد الله العمير علي بن محمد العمران
مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية الطبعه الأولى 1428 هـ دَار عَالم الفوَائد للنشر والتَّوزيْع مكة المكرمة ص. ب 2928 - هاتف 5505305 - فاكس 5542309 الصف وَالإخراج دَار عَالم الفوَائد للنشر والتَّوزيْع
مقدمة التحقيق
مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فهذا كتاب "الفروسية المحمدية" للإمام العلَّامة أبي عبد الله محمَّد بن أبي بكر بن أيوب بن قيِّم الجوزية، ألَّفه بعد ما وقع له امتحان من بعض علماء عصره بسبب ما كان يفتي به من عدم اشتراط المحلِّل في السباق والنضال، فأظهر الموافقة للجمهور إخمادًا ودرءًا للفتنة. فألَّف هذا الكتاب وأورد فيه مسألة اشتراط المحلل في السباق، واستوفى أدلَّة الفريقين، ثمَّ أشار إلى مَنْ أنكر عليه هذا القول والإفتاء به، وأن سبب ذلك الركون إلى التقليد، ثمَّ ذكر أحكام الرهن في مسائل كثيرة تتعلق بالرمي والسبق كما سيأتي بيانه. وكل هذا إحقاقًا للحق - فيما يعتقده - وبيانًا بعدم رجوعه عن القول بذلك، والله أعلم. ولما أمر الله سبحانه وتعالى بجدال الكفار والمنافقين، وجلاد أعدائه المشاقِّين والمحاربين؛ فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)} [التحريم: 9]، وقال: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]،
طرف من المصنفات في موضوع الفروسية
صارت الفروسية فروسيَّتان: - فروسية العلم والبيان. - وفروسية الرمي والطعان. ولهذا كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل الخلق في الفروسيتين، ففتحوا القلوب بالحُجَّة والبرهان، والبلاد بالسيف والسِّنان. فعِلْم الجدال والجلاد من أهم العلوم وأنفعها للعباد، في المعاش والمعاد، ولا يعْدِل مِدَاد العلماء إلا دم الشهيد، والرفعة وعلو المنزلة في الدارين إنما هي لهاتين الطائفتين، وسائر الناس رعية لهما، منقادون لرؤسائهما (¬1). ولهذا كانت عامَّة مؤلَّفات العلماء في هذا الباب تدور على هذين النوعين. ونحن نذكر طرفًا مما أُلِّف في النوع الثاني: فروسية الرمي والطعان على سبيل الاختصار (¬2): ¬
1 - "الخيل" لأبي عبيدة معمر بن المثنَّى (ت: 209 هـ). ط - الأولى (1358 هـ) بمطبعة دائرة المعارف العثمانية - بحيدر أباد الدكن - بالهند. 2 - "السبق والرمي" لابن أبي الدنيا (ت: 281 هـ). وقد نقل منه المؤلف في (ص/ 268 - 270). 3 - "فضل الرمي" للطبراني (ت: 360 هـ). وقد طبع مرتين، واقتبس منه المؤلف كثيرًا. راجع (فهرس الكتب). 4 - "السبق" لأبي الشيخ الأصبهاني (ت: 369 هـ). وقد نقل منه المؤلف في (ص/ 138 - 140). 5 - "فضائل الرمي" للقرَّاب (ت: 429 هـ) ط - الأولى (1409 هـ) مكتبة المنار - بتحقيق/ مشهور بن حسن آل سلمان. ¬
وقد نقل منه المؤلف في (ص/ 67 - 69). 6 - "تبصرة أرباب الألباب في كيفية النجاة في الحروب من الأنواء، ونشر أعلام الأعلام في العدد والآلات المعينة على لقاء الأعداء". لمرضي بن علي بن مرضي الطرسوسي (ت: 589 هـ). ط - الأولى - دار صادر (1998 م) تحقيق/ كارين صادر. 7 - "مستند الأجناد في آلات الجهاد". لبدر الدين محمَّد بن إبراهيم بن جماعة الكناني الحموي (ت: 733 هـ). وهو من منشورات وزارة الثقافة والإعلام (1983 م) بالجمهورية العراقية - تحقيق/ أسامة ناصر النقشبندي. 8 - "فرج المكروب في أحكام الحروب ومعاناتها، ومداراتها، ولوازمها، وما يسوء بأمرها". ليوسف بن أحمد المعروف بابن "سليماناه (¬1) ". ألَّفه قبل سنة (830 هـ). 9 - "الفروسية والمناصب الحربية" (¬2). ¬
لنجم الدين حسن الرمَّاح المعروف "بالأحدب" (ت: 695 هـ) ط - دار الحرية للطباعة - بغداد - (1404 هـ) تحقيق/ عيد ضيف العبادي. 10 - الجهاد. للإمام عبد الله بن المبارك (ت: 181 هـ). ط - الأولى - المكتبة العصرية - (1409 هـ). 11 - الجهاد. لأبي بكر أحمد بن عمرو الضحاك النبيل الشيباني المعروف "بابن أبي عاصم" (ت: 287 هـ). ط - الأولى - دار القلم - (1409 هـ). تحقيق: مساعد بن سليمان الراشد الحميد. ¬
دراسة كتاب "الفروسية المحمدية" والتعريف به.
- دراسة كتاب "الفروسية المحمدية" والتعريف به. ويتضمن ما يلي: 1 - اسم الكتاب وعنوانه. 2 - إثبات نسبته إلى المؤلف. 3 - تأريخ تأليفه، والسبب الذي دعاه إلى ذلك. 4 - هل هذا الكتاب مختصر من كتابٍ كبير له؟ 5 - إفادة العلماء منه، وثناؤهم عليه. 6 - موارد المؤلف في الكتاب. 7 - موضوعه ومحتواه. 8 - بين يوسف بن أحمد "ناسخ الكتاب" وكتاب "الفروسية المحمدية". 9 - مطبوعات الكتاب. 10 - وصف النسخ المعتمدة في التحقيق. 11 - المنهج في تحقيق الكتاب. 12 - نماذج من النسختين الخطَّيتين المعتمد عليهما في التحقيق.
1 - اسم الكتاب وعنوانه
1 - اسم الكتاب وعنوانه: لم يختلف الذين ذكروا الكتاب أن اسمه "الفروسية المحمدية". - سواء ما جاء مُثْبتًا على النسخ الخطيَّة: - كالظاهرية، ونسخة حائل، والنسخة العراقية. - وسواء الذين ترجموا للمؤلف: - كالصفدي في "الوافي بالوفيات" (2/ 196). - وابن تغري بردي في "المنهل الصافي" (3/ 63). - والبغدادي في "هدية العارفين" (2/ 158). - وسواء الذين نقلوا عن الكتاب واقتبسوا منه: - كابن النحاس (ت: 814 هـ). - والسخاوي (ت: 902 هـ). - والسفاريني (ت: 1188 هـ). (كما سيأتي بيانه). فثبت أنَّ اسمه "الفروسية المحمدية". ولا يعكِّر على ذلك ما جاء عن المؤلف في هذا الكتاب (ص/ 7) من قوله: (. . مختصر في الفروسية الشرعية النبوية. .)، ولا ما جاء في إعلام الموقِّعين (4/ 22) (في الفروسية الشرعية. .) = لأنه ذكرهما على وجه الوصف، لا على جهة تقرير اسمه، كما هو ظاهر من
2 - إثبات نسبته إلى المؤلف
عبارته (¬1). والله أعلم. 2 - إثبات نسبته إلى المؤلف: لا ريب في صحة نسبة هذا الكتاب إلى ابن القيم، وذلك لعدَّة دلائل منها: 1 - ذكر المؤلف له في إعلام الموقعين كما تقدم قريبًا. 2 - ورود نسبته إلى المؤلف مصرحًا به على النسخ الخطية كما تقدم. 3 - ذكر اسمه عند بعض من ترجم للمؤلف كالصفدي وغيره كما تقدم. 4 - نقل بعض العلماء عن الكتاب: كابن النحاس والسخاوي والسفاريني، كما تقدم. 5 - نقول المؤلف عن شيخيه: أبي العباس ابن تيمية وأبي الحجاج المزي (¬2). 6 - إشارة المؤلف فيه إلى مَنْ أنكر عليه (¬3) في مسألة عدم اشتراط المحلل في السباق أو النضال، وهو يوافق ما حدث للمؤلف من محنة بسبب إفتائه في هذه المسألة. ¬
3 - تأريخ تأليف الكتاب والسبب الذي دعاه إلى ذلك
3 - تأريخ تأليف الكتاب والسبب الذي دعاه إلى ذلك: لم يشر المؤلف رحمه الله إلى وقت تأليفه الكتاب، ولم أجد أحدًا نصَّ على تاريخ تأليف هذا الكتاب. لكن بعد التأمُّل في هذا الكتاب، وربطه بسبب التأليف وما وقع فيه للمؤلف من محنة = ظهر لي أنَّه ألَّفه في أثناء سنة 746 هـ أو بعدها بقليل على أكثر تقدير. ويدل على ذلك ما يلي: 1 - ما ذكره الحافظ عماد الدين ابن كثير (ت: 774 هـ) في كتابه "البداية والنهاية" (¬1). قال: "ثمَّ دخلت سنة ست وأربعين وسبعمائة. . . . ووقع كلام وبحث في اشتراط المحلل في المسابقة، وكان سببه أن الشيخ شمس الدين ابن قيِّم الجوزية صنَّف فيه مصنَّفًا من قبل ذلك (¬2) ونصر فيه ما ذهب إليه الشيخ تقي الدين ابن تيمية في ذلك، ثمَّ صار يفتي به جماعة من الترك ولا يعزوه إلى الشيخ تقي الدين ابن تيمية، فاعتقد مَنْ اعتقد أنَّه قوله - وهو مخالف للأئمة الأربعة - فحصل عليه إنكار في ¬
ذلك، وطلبه القاضي (¬1)، وحصل كلام في ذلك، وانفصل الحال، على أن أظهر الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية الموافقة للجمهور (¬2) ". 2 - ما ذكره المؤلف في الكتاب (ص/ 284). بعد أن ذكر مسألة المحلل في السباق، واستوفى أدلة الفريقين، ثمَّ بيَّن عددًا من الأوجه التي تقدح في استدلال مَنْ قال باشتراط المحلل في كيفية بذل السبق. قال: "فتأمَّل أيها المُنْصِف هذه المذاهب، وهذه المآخذ، لتعلم ضعف من قمَّش شيئًا من العلم من غير طائل، وارتوى من غير مورد، وأنكر غير القول الذي قلَّده بلا علم، وأنكر على مَنْ ذهب إليه، وأفتى به، وانتصر له، وكأنَّ مذهبه وقول مَنْ قلَّده عيارًا على الأمة، بل عيارًا على الكتاب والسنة. . .". فإذا ضُمَّ هذا النص الصريح مع ما قبله ظهرت تلك النتيجة التي توصلنا إليها أنَّه ألَّفه في عام 746 هـ أو بعدها بقليل. والله أعلم. ¬
4 - هل هذا الكتاب مختصر من كتاب كبير للمؤلف؟
4 - هل هذا الكتاب مختصر من كتاب كبير للمؤلف؟ قبل الخوض في هذه القضية نشير إلى أن القول بأن للمؤلف كتابين: كبير ومختصر منه لا أعلم أحدًا قال به إلا في هذا العصر الحديث. ولعل عُمْدة هؤلاء ما يلي: 1 - ما جاء في هذا الكتاب (ص/ 7): "فهذا مختصر في الفروسية الشرعية النبوية ... ". 2 - ما جاء في إعلام الموقعين (4/ 22): (... وذكرناها في كتابنا الكبير في الفروسية الشرعية" فمن خلال هذين النصَّين: استُنْبِط أنّ للمؤلف كتابًا كبيرًا ومختصرًا (¬1). لكن الذي يظهر لي من خلال كتب التراجم، وما ورد في هذا الكتاب - كما سيأتي - أن هذا الكتاب هو بعينه الذي وصفَهُ المؤلف بقوله "كتابنا الكبير" (¬2). وذلك لعدة أوجه: 1 - أنَّه وَصَفَهُ بالكبير للتفريق بينه وبين كتابه الآخر المفْرد في مسألة اشتراط المحلل في السباق، وذلك لاشتراكهما في ذكر هذه ¬
المسألة، وزاد عليه هذا الكتاب أبحاثًا كثيرة تقرب من ثلثي الكتاب، كما سيأتي في محتوى الكتاب. 2 - ما ذكره ابن القيم في إعلام الموقعين (4/ 21 - 22)، بقوله: " ... في كتابنا الكبير في الفروسية الشرعية وذكرنا فيه، وفي كتاب "بيان الاستدلال على بطلان اشتراط محلل السباق والنضال" بيان بطلانه من أكثر من خمسين وجهًا، وبيَّنا ضعف الحديث الذي احتجَّ به من اشترطه، وكلام الأئمة في ضعفه، وعدم الدلالة منه على تقدير صحَّته". أقول: إن جميع ما ذكره ابن القيم هنا موافق لما جاء في هذا الكتاب (¬1). 3 - أن قوله في هذا الكتاب "فهذا مختصر في الفروسية الشرعية النبوية ... " لا يدل على أنَّه مختصر من كتاب كبير. وذلك من وجوه: أ - أنَّه لم يقل "مختصر الفروسية الشرعية ... " أو "اختصار للفروسية الشرعية .. " ونحوها. ب - أنَّه لم يُشر في كتابه هذا - ولو إشارة واحدة - إلى الأصل الذي اختصر منه هذا الكتاب. ج - أنَّه في كتابه هذا أشار إلى مَنْ أنكر عليه في هذه المسألة وهو ¬
القاضي الشافعي وذلك سنة 746 هـ، فيلزم من يقول إنه مختصر أن يثبت تاريخ تأليفه الكتاب الكبير والسبب في اختصاره. د - أن طريقته وإسهابه في الرد - وخاصة في بيان ضعف حديث المحلل - لا يشبه الاختصار بحال من الأحوال. هـ - أن كلامه على بابه وأنه مختصر في الفروسية، فهو لم يستوعب الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب بل اكتفى ببعضها، ولعل هذا ما جعل ناسخ الأصل (ظ) يُنكر على المؤلف في عدم ذكره بعض الأحاديث المعروفة. 4 - أن العلماء أطبقوا على أنَّه له كتاب "الفروسية المحمدية" ولم يشيروا إلى وجود كتاب كبير أو مختصر، ومن هؤلاء العلماء: قريْنُهُ: الصفدي، ومن جاء بعده: كابن النحاس والسخاوي والسفاريني، وكذلك ما جاء على ظهر جميع النسخ (الظاهرية والعراقيَّة والحائلية) (¬1). 5 - أن جميع ما نقله ابن النحاس والسخاوي والسفاريني موجود في هذا الكتاب كما سيأتي. 6 - أنَّه لا يُعرف إلى الآن نُسخة باسم "الفروسية الشرعية" كأصل لهذا الكتاب. 7 - أن ابن كثير لما ذكر ما وقع للمؤلف من فتنة في أحداث سنة ¬
5 - إفادة العلماء منه، وثناؤهم عليه
746 هـ، ذكر أنَّه صنّف في هذه المسألة مصنَّفًا من قبل ذلك. (قلت: وهذا المصنَّف هو ما ذكره المؤلف وتلميذه ابن رجب، وقرينه الصفدي - بيان الاستدال على بطلان اشتراط محلل السباق والنضال)، وفي هذا الكتاب أشار المؤلف إلى مَنْ أنكر عليه افتاءَه بذلك، ولم يشر ابن كثير إلى وجود كتاب كبير في ذلك. وهذا يعني أن لابن القيم مؤلّفان فقط هما: كتاب "بيان الاستدلال ... " ألَّفه قبل سنة 746 هـ، وكتابنا هذا ألَّفه في هذه السنة (746 هـ) كما تقدم. والله أعلم. 5 - إفادة العلماء منه، وثناؤهم عليه: 1 - أحمد بن إبراهيم بن محمَّد الدمشقي ثمَّ الدمياطي، المشهور (بابن النحاس) (ت: 814 هـ) في كتابه "مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق، ومثير الغرام إلى دار السلام" نقل عن "الفروسية المحمدية" في موضعين: أ - ما نقله ابن القيم عن شيخه ابن تيمية، في الحديث: إن قومًا كانوا يتناضلون فقيل يا رسول الله حضرت الصلاة، فقال: "هم في صلاة" ...) (1/ 462). وهو موجود بنصه في الفروسية (ص/ 77). ب - ما نقله عن الإمام أحمد حيث قال: "نص الإمام أحمد على أن العمل بالرمح أفضل من الصَّلاة النافلة في الأمكنة التي يحتاج فيها إلى الجهاد" (1/ 494). وهو موجود بنصِّه في الفروسية (ص/ 82).
2 - يوسف بن أحمد المعروف بابن سليماناه (¬1). - فقد قال في آخر تعقُّباته على المؤلف: (... فربما أدَّى ما ذكرته بعض من لم ير من كلام هذا الإمام العالم إلا هذا الكتاب = إلى حطِّ مرتبته، فليس الأمر كذلك، فالمذكور أحد الأئمة الأعلام في فنون العلم، وعليك بمؤلفاته في فنون النظريات: شرعيَّة وعقليَّة، وقد سارت بها الرُّكبان، وتهافت على تحصيلها حذَّاق أهل الزمان، والحسن مطلوب في كل وقت، فلا يزال كلام هذا العالم يطلبه الموافق والمخالف، والحقُّ معرب عن نفسه، رضي الله عنه، وشكر سعيه، ورفع في الصالحين درجته، ونفعه بما قدمه، وجعلنا ممن يقول الحق ويعمل به، قاصدين بذلك ما عند الله تعالى ... ". - وقال أيضًا: " ... وبالجملة، فشكر الله تعالى سعيه، فلو لم يحقق العالم من فنًّ إلا مسألة مقررة فيها تحصيلًا، فكيف بما أورد رضي الله عنه، وبالله تعالى التوفيق". 3 - محمَّد بن عبد الرحمن السخاوي (ت: 902 هـ). فقد نقل عنه في كتابه "القول التام في فضل الرمي بالسهام، (57 ق/ أ - ب) ما نقله ابن القيم عن شيخه ابن تيمية: "وقد روي أنَّ قومًا كانوا يتناضلون، فقيل يا رسول الله، قد حضرت الصلاة، فقال: "إنهم في صلاة". فشبه رمي النشاب بالصلاة، وكفى بذلك فضلًا. وهو موجود بنصِّه في الفروسية (ص/ 77). ¬
4 - السفاريني (1181 هـ) فقد نقل عنه في كتابه "شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد" فقد نقل عنه: 1 - في أول من رمى بقوس اليد (2/ 799). وهو في هذا الكتاب (ص/ 393). 2 - في إجماع الرماة من الأمم أن أصول الرمي خمسة .... (2/ 800). وهو في هذا الكتاب (ص/ 395). 3 - في المناضلة على ضربين ... (2/ 798 و 804 - 805). وهو في هذا الكتاب (ص/ 302).
6 - موارد المؤلف في كتابه هذا
6 - موارد المؤلف في كتابه هذا: يمكن تقسيم الموارد التي اعتمد عليها المصنف من حيث تصريحه بها وعدمه إلى قسمين: الأول: مصادر صرَّح بأسمائها. الثاني: مصادر صرَّح بأسماء مؤلفيها. * القسم الأوّل: المصادر التي صرَّح بأسمائها: اسم الكتاب (¬1) - مؤلفه - الصفحة 1 - التاريخ (¬2) - لابن أبي خيثمة - 169 2 - التاريخ الكبير - للطبري - 384، 387، 393 3 - التاريخ* - لحنبل - 208 4 - التمهيد - لابن عبد البر - 53، 171 5 - تهذيب الكمال - للمزي - 10 6 - تهذيب الآثار (¬3) - للطبري - 270 7 - الجواهر - لابن شاس - 165 ¬
8 - الحماسة (الديوان) - 460 9 - الرعاية لابن حمدان - 377 10 - الزبور * - 86 11 - السبق * - لابن أبي الدنيا - 268، 270 12 - السبق والرمي * - لأبي الشيخ الأصبهاني - 138، 140 13 - السنن (الجامع) - للترمذي - 17، 81، 20، 63، 65 14 - السنن - لأبي داود - 8، 10، 14، 59، 61، 63، 65، 141، 153، 170، 244، 363 15 - السنن - للنسائي - 54، 55، 59، 63، 65 16 - السنن - لابن ماجه - 73، 81، 153، 244 17 - السنن - للدارقطني - 363 18 - السنن الكبرى - للبيهقي - 216 19 - شرح مجمع البحرين * - لابن الساعاتي (¬1) - 137، 280 ¬
20 - شرح مختار الفتوى (¬1) - لابن بلدجي - 137، 280 21 - الصحيح - للبخاري - 11، 12، 15، 16، 41، 58، 63، 70، 75، 86، 146، 147، 149، 161، 174، 384، 393، 456 22 - الصحيح - لمسلم - 9، 11, 12، 41، 64، 70، 75، 86، 149، 244، 456 23 - الصحيح - لابن حبَّان - 159 24 - الضعفاء - لابن حبَّان - 178، 228 25 - العلل - لابن أبي حاتم - 169 26 - العلل - للدارقطني - 155، 210 27 - فضائل المسند وخصائصه/ لأبي موسى المديني - 203 28 - فضل الرمي - للطبراني - 42، 47، 49، 50, 51 - 52، 64، 66 ¬
70، 72، 73، 347 29 - فضل الرمي - للقرَّاب - 67 - 69 30 - الكامل في ضعفاء الرجال - لابن عديّ - 211، 216 31 - الكتب الأولى - 86 32 - المادح والممدوح * - لعبد القادر الرهاوي - 214 33 - المترجم للجوزجاني * - 90، 159، 262، 267، 283 34 - المختصر - للخرقي - 364 35 - مختصر سنن أبي داود - للمنذري - 135 36 - المدخل - للحاكم - 186 37 - المراسيل - لأبي داود - 139 38 - المسائل للإمام أحمد - رواية حرب (¬1) - 188، 191 39 - المسائل للإمام أحمد - رواية الميموني * - 189 40 - المسائل للإمام أحمد - رواية مهنأ * - 190، 192، 194، 196، 197 41 - المسائل للإمام أحمد - رواية المروذي * - 190، 191 ¬
42 - المسائل للإمام أحمد - رواية أبي داود - 192، 196 43 - المسائل للإمام أحمد - رواية أحمد الأنطاكي * - 193 44 - المسائل للإمام أحمد - رواية حنبل * - 195، 200، 201 45 - المسائل للإمام أحمد - رواية أبي طالب * - 197، 209 46 - المسائل للإمام أحمد - رواية عبد الله - 198 47 - المسائل للإمام أحمد - رواية الأثرم * - 199 48 - المسائل للإمام أحمد - رواية صالح (¬1) - 228 49 - المسند - للإمام أحمد - 8، 12، 13، 80، 94، 153، 251، 362 50 - المستدرك - للحاكم - 153، 213 51 - المستوعب - للسامري - 145 52 - المغازي (¬2) - لابن إسحاق - 71، 78 53 - المغازي * - لموسى بن عقبة - 78 54 - المغازي - للأموي - 78 55 - المغني - لابن قدامة - 315، 323، 367 ¬
56 - الموطأ لمالك - رواية يحيى - 54، 170، 244 57 - الموطأ لمالك * - رواية القعنبي (¬1) - 127 58 - الميسر والقداح * - لابن قتيبة - 247 59 - النسب - للزبير بن بكار - 11 60 - النهاية (¬2) - للجويني - 135، 308 ¬
* القسم الثاني مصادر صرح بأسماء مؤلفيها
* القسم الثاني مصادر صرَّح بأسماء مؤلفيها 1 - أبو بكر الطرطوشي. نقل عنه في (ص/ 273 - 274). 2 - أبو زرعة الدمشقي. نقل عنه من "تاريخه" في (ص/ 156). 3 - أبو عبيد القاسم بن سلَّام. نقل عنه من "غريب الحديث" (ص/ 171، 366)، ومن "الأموال" في (ص/ 366). 4 - أبو علي بن خيران. نقل عنه (ص/ 134) ولم أقف على كتابه. 5 - أبو الفرج بن الجوزي. نقل عنه من "الضعفاء والمتروكين" في (ص/ 154). 6 - أبو محمَّد بن حزم. نقل عنه في (ص/ 153، 164) ولم أقف عليه في "المحلى". 7 - البخاري. نقل عنه من "تاريخه الكبير" في: (ص/ 156). 9 - الدارقطني.
نقل عنه من "الضعفاء والمتروكين" في: (ص/ 184). 10 - سيبويه: نقل عنه من "الكتاب" في (ص/ 62). 11 - الشافعي. نقل عنه من "الأم" وغيره في: (ص/ 173). 12 - شيخ الإِسلام ابن تيمية. نقل عنه في خمسة مواضع (ص/ 24, 77, 95, 253, 257) وبعض تلك النقول في "الفتاوى المصرية" كما في "مختصره" (ص/ 533). 13 - الصيدلاني. نقل عنه في (ص/ 339)، ولم أقف عليه. 14 - الطبري. عبد الرحمن بن أحمد نقل عنه من كتابه "الواضح في الرمي والنشاب" في (ص 403 فما بعده). 15 - عباس الدوري. نقل عنه من "تاريخه" في (ص/ 153, 177). 16 - عبد الرحمن بن أبي حاتم.
نقل عنه من "الجرح والتعديل" في: (ص/ 156، 176، 178). 17 - عثمان بن سعيد الدارمي. نقل عنه من "تاريخه" (سؤالاته يحيى بن معين) في: (ص/ 156). 18 - محمَّد بن عبد الواحد المقدسي. نقل عنه في (ص/ 154) ولم أقف عليه. 19 - المروذي. نقل عنه من "العلل ومعرفة الرجال" في (ص/ 177). 20 - النسائي. نقل عنه من "الضعفاء والمتروكين" في (ص/ 184).
7 - موضوعه ومحتواه
7 - موضوعه ومحتواه: يمكن تقسيم محتوى الكتاب إلى خمسة أقسام رئيسة: القسم الأوّل: ابتدأه المؤلف - بعد خطبة الكتاب - بذكر ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعض أصحابه في شأن الفروسية على وجه الاختصار: ويتضمن: - المسابقة على الأقدام. - والمسابقة بالخيل والإبل. - وحضوره - صلى الله عليه وسلم - النضال بين أصحابه. - ورميه - صلى الله عليه وسلم - بالقوس. - وطعنه - صلى الله عليه وسلم - بالرمح. - ومراهنة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - بعلمه - صلى الله عليه وسلم - وإذنه. القسم الثاني: في أحكام الرهان في المسابقة، وصوره المتفق عليها والمختلف فيها. فذكر اتفاق العلماء على جوازه - في الجملة - في المسابقة بالخيل والإبل والسهام. وذكر أنهم اختلفوا في فصلين:
1 - الباذل للرهن مَنْ هو؟ 2 - في حكم عَوْد الرهن، إلى مَن يعود؟ * - ثمَّ ذكر المسألة الكبيرة التي لأجلها صنَّف هذا الكتاب، وبسببها وقعت له الفتنة وهي: هل يجب المحلل في الرهان؟ فأسهب في سرد حجج الفريقين خاصة القول الأوّل، وما ردَّ به الفريق الآخر. - فذكر ما يقرب من خمسين دليلًا - من الأثر والنظر - على جواز الرهن من غير محلِّل، وقال في خاتمة هذا القول: "فهذه نبذة من أدلتنا على عدم اشتراط المحلل في السباق". - وذكر لأصحاب القول الثاني ستة أدلة. ثمَّ ردَّ على هذه الأدلة الستة ردًّا طويلًا مفصَّلًا. * ثمَّ ذكر فصلًا في: تحرير مذاهب أهل العلم فيما يجوز بذل السبق فيه من المغالبات، وما لا يجوز؟ حيث صدَّره ببيان أقسام المغالبات، وبيان حكم كل قسم منها، مع ذكر شيءٍ من أمثلته. ثمَّ ذكر (12) مسألة في المسابقة بِعِوَض وهي: 1 - المسابقة على البغال والحمير بِعِوَض. 2 - المسابقة بالحمام وعلى الفيل والبقر.
3 - المسابقة على الأقدام. 4 - المسابقة بالسباحة. 5 - المسابقة بالصراع. 6 - المسابقة بالمشابكة بالأيدي. 7 - المسابقة بالسيف والرمح والعمود. 8 - المسابقة بالمقاليع. 9 - المسابقة بحمل الأثقال. 10 - المسابقة بالمثاقفة. 11 - المسابقة على حفظ القرآن والحديث والفقه وغيره، والإصابة في مسائل العلم. 12 - المسابقة بالسهام على بُعْد الرمي لا على الإصابة. حيث ذكر اختلاف أهل العلم من المذاهب الأربعة في كل تلك المسائل. - ثمَّ عقد فصلًا في بيان مأخذ تلك الأقوال في المسائل المختلف فيها، وقال: "فمذهب أبي حنيفة في هذا الباب أوسع المذاهب، ويليه مذهب الشافعي، ومذهب مالك أضيق المذاهب، ويليه مذهب أحمد". * ثمَّ ذكر فصلًا في تحرير المذاهب: في كيفية بذل السبق، وما يحل منه، وما يحرم؟
فبيَّن أن للمسألة ثلاث صور، ثمَّ ذكرها، ثمَّ ذكر ثمانية أقوال في كيفية بذل السبق، ناسِبًا كل قول إلى مَنْ قال به، ثمَّ يذكر دليله ومأخذه، ثمَّ يعقبه بمناقشةٍ لهذا القول - في الغالب - وما يدخل عليه ويعترضه في الاستدلال. ثمَّ ختمه بقول المنكرين للمحلل الدخيل: "تأمل هذه الأقوال والطرق واختلافها في المحلل، ومصادمة بعضها لبعض، ومناقضة بعضها لبعض، وفساد الفروع واللوازم يدلّ على فساد الأصل والملزوم، وكل ما كان من عند غير الله؛ فلا بُدَّ أن يقع فيه اختلاف كثير ... " ثمَّ قال: "ونحن نقول كما قال جابر بن زيد، وإنهم كانوا أفقه من ذلك". * ثمَّ عقد فصلًا بيَّن فيه أنَّه عقد قائم بنفسه. - ثمَّ أبطل كونه من عقود الإجارات من عشرة أوجه. - ثمَّ أعقبه بإبطال كونه من عقود الجعَالات (¬1) من أربعة أوجه. - ثمَّ أبطل كونه من باب النذور (نذر التبرُّر) من عشرة أوجه. - وأتبعه بإيراد أنَّه من باب (نذر اللجاج والغضب) ثمَّ أبطله. ثمَّ ختم الفصل بإبطال كونه من باب العِدَات والتَّبرُّعات من أربعة أوجه. * ثمَّ عقد فصلًا: هل عقد الرهان عقد لازم أو جائز. ¬
القسم الثالث
فذكر اختلاف العلماء في ذلك، وتعليل كل قول. ثم أعقبه بتفريعات - وهي مسائل عديدة متفرعة - على هذا الخلاف، ثم ختمه بفصل: في إلحاق الزيادة والنقصان في الجعل وعدد الرشق .. مع بيان صور ذلك، والاختلاف مع الترجيح. القسم الثالث: في المناضلة: فذكر أنواعها، وحكم كل نوع، وشروطها، وحكم التناضل بسهام متعددة ... - ثم ذكر تحزُّب الرماة - فعدَّد أنواعه، وبسط مسائل كثيرة متفرعة عنه. - ثم ذكر الشروط الفاسدة في هذا العقد. - ثم ذكر أقسام المناضلة وهي قسمان. 1 - مناضلة على الإصابة. 2 - ومناضلة على البُعْد. - ثم ذكر أنواع كل قسم وحكمه، وأشار إلى حصر الرمي بعدد معلوم. - ثم ذكر الموقف والاختلاف فيه، وحكم التقدم والتأخر، وبيَّن أن التأخر أحسن موقعًا، وأعظم قدرًا، ثم بيَّن الحِكَم في التأخر من سبعة أوجه، ثم ختمه ببيان أن السنة تعدد الأغراض (الأهداف). * ثم عقد فصلًا في صفات الإصابة، وأنواعها، وما تحته من مسائل. - وفصلًا في البُعْد والقُرْب، وما يتضمنه من مسائل.
القسم الرابع
- وفصلًا فيما يطرأ من النكبات والعوارض من جهة القوس وغيره، وحكم كل ذلك. * ثم عقد فصلًا في الجلب والجنب: ذكر فيه الأحاديث الواردة في ذلك، ثم أعقبه بكلام الفقهاء في معنى: الجلب والجنب، مع التعقيب والترجيح. - ثم عقد فصولًا في تعيين نوع القسي، وفروع ذلك. ثم ذكر فصلًا فيما يعرف به السبق في الخيل والإبل، والاختلاف في ذلك، والترجيح بينها. - وفصلًا في أنواع السلاح، ومنافعه، والتفضيل بين أنواعه: فابتدأه بأنواع القسي، وأصناف كل نوع، ومادتها المصنوع منها، وصفاتها. - ثم ذكر فصلًا في المفاضلة بين قوس اليد وقوس الرجل، وختمه بأنواع الفروسية. القسم الرابع: في عدد أصول الرمي، وفروعه، وما يحتاج إلى تعلمه. أورد فيه الاختلاف في عدد أصول الرمي، ثم ذكر فروعه، وما يحتاج إليه المتعلم ثم ذكر آداب الرمي، وما ينبغي للرامي أن يعتمده. * ثم ختمه بفصل في الخصال التي بها كمال الرمي، وهذا الفصل نقله
القسم الخامس
بتمامه من كتاب "الواضح في الرمي والنشاب" لأبي محمَّد عبد الرحمن بن أحمد الطبري - (¬1). حيث نقل منه: كيفية الرمي، ومقدار السهم، وفصلًا في النكاية، وفصلًا في أسرار الرمي وهي عشرون سِرًّا، وفصلًا في القيام والجلوس في الرمي. * ثم عقد فصلًا في طب الرمي، وعلاج علله وآفاته: فأورد عددًا من العلل والآفات وعلاج ذلك أو ما يصلحه. - وذكر فصلًا في أركان الرمي، وصفة كل واحد فيها، والاختلاف في ذلك. * ثم ذكر فصلًا في النظر وأحكامه، وميزانه، ثم ذكر الإطلاق ووجوهه. ثم ختم ذلك النقل بفصلٍ في مرِّ السهم على اليد، وأنه أربعة أنواع، وذكر سبب ارتفاع السهم في الجو، ونزوله، وسداده، والاختلاف في ذلك. القسم الخامس: تحدث فيه عن الشجاعة والقوة وما ورد فيها - فعقد فصلًا في مدح القوة والشجاعة، وذم العجز والجبن، حيث استهلَّه بذكر الآيات الكريمة، ثم الأحاديث النبوية في ذلك، ثم ذكر ما جاء عن الشعراء بشأن الشجاعة كقطري بن الفجاءة وغيره. ¬
8 - بين يوسف بن أحمد "ناسخ الكتاب" وابن القيم في كتاب "الفروسية المحمدية".
- ثم عقد فصلًا فيه بيان أن الجبن والشجاعة غرائز وأخلاق. - ثم أعقبه بفصلٍ في الفرق بين القوة والشجاعة. - ثم تلاه مراتب الشجاعة والشجعان، والأمور المترتبة عليها. وأخيرًا ختم الكتاب بآية من كتاب الله وهي قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [الأنفال: 45، 46] حيث قال "فأمر المجاهدين بخمسة أشياء ثم ذكرها. ثم قال: "فهذه خمسة أشياء تبتني عليها قُبَّة النصر، ومتى زالت أو بعضها، زال من النصر بحسب ما نقص منها ... وهو نهاية الكتاب. 8 - بين يوسف بن أحمد "ناسخ الكتاب" وابن القيم في كتاب "الفروسية المحمدية". لما كان ناسخ هذا الكتاب له باع طويل ومشاركة - فيما يظهر - ودُرْبة ومعرفة بالحروب والقتال وله مؤلف في ذلك = كانت له عِدَّة تعقُّبات ومؤاخذات على كتاب الفروسية، وهي وإن كانت تدور حول عدم مطابقة عنوان الكتاب لمادَّته وما يحويه وأنَّ تسميته بـ "أحكام الفروسية" أولى من "الفروسية" = إلا أنها لا تخلو من فوائد في الجملة، مع ما في عبارته من شدَّة وغلظة. ونحن نذكر جملة من كلامه تبيِّن مؤاخذاته عليه:
1 - كتب قبل بداية نَسْخ "الفروسية" مقدمة (ويسميها هو: فهرستًا)، بيَّن فيها جملة المؤاخذات والاستدراكات العامة وقال في آخره: " ... من أحبَّ الاطلاع عليه مفصَّلا فليطلبهُ في كتابنا "الذخيرة الفاخرة للدار الآخرة"، وكتابنا "فرج المكروب في مدارات الحروب" (¬1) وإنما قدَّمت هذا في صدر الكتاب = ليلوح الحق من قُربٍ لطالبه وبالله تعالى التوفيق. ثم قال: "فصل: وقد نبهت في هذا الكتاب في فصول منه على ما [...] (¬2) إليه في ما خلا من هذا الفهرست، ثم ختمت الكتاب بمقولة في ذلك مُعْلِم بحال الكتاب، وحال المؤلف رضي الله عنه، واعتذارنا عنه، بما هو من حقِّه، فقد كان رضي الله عنه إمامًا [...] (¬3) حامل فنون من العلوم رضي الله عنه وشكر سعيه، ورفع في الصالحين درجاته ... ". 2 - وقال في (ص/ 47) بعد علامة النجمة (*) (¬4) ما نصُّه: "أقول: ودفعه البُعد في الرمي بحجر شديد فيما لم يحط علمًا بنفعه، وإرادة الشباك والسباحة والمسابقة بالمراكب فيه [...] (¬5) عن الفروسية المطلوبة التي تعرفها فرسان العرب. ¬
والحقُّ أن الشيخ رحمه الله تعالى ألّف هذا الكتاب من كتب الفقه، وصدَّر من الأحاديث النبوية عنه - صلى الله عليه وسلم - بما صدَّر، ثم ختمه بما رآه في كتاب الطبري من اختياره واختيار غيره، فإن لم يكن الأمر كما ذكرناه: فما باله لم يذكر ما يفعله الراكب للخيل من المحاسن المعدودة كلفِّ الساق إلى بطن الفرس، وإثبات القَدَم في الرِّكابِ، والمَلَكَة المطلقة في تحركاته راكبًا من سائر الجهات، ولهذا مكان يبسط فيه أملك به. وما باله لم يذكر حكم الضرب بالسيف وما يحذر منه الضارب إذا كان فارسًا من إصابة فرسه ونفسه أو عدم الإصابة مطلقًا، وتمكن منه خصمه مجيبًا على ضربته التي إن لم تكن أفسدت من فرسه، أو شغلته بإصابتها له، قد ذهبت ضياعًا، وإنْ كان داخلًا فقد يصيب نفسه. وشهرة هذا تغني عن الإيغال فيه. وما باله لم يذكر مضارب الفرسان وأجوبتها، فلم يذكر الاستقبال ولا جوابه، ولا الرد ولا جوابه، ولا الكف ولا جوابه، ولا الشريط الذي تسميه فرسان المغاربة: الضب (¬1)، فلم يتعرض لشيء من ذلك، ولهذا أيضًا مكان تبسط فيه. وما باله لم يذكر حكم الرمح من بنوده التي المطلوب منها تمرين الأعضاء، وقبولها للعمل في الطعن والتبطيل، وأحكام جَوَلَان الخيل فيه، وما يجب منه وما يحذر = وإنما لم يذكر رضي الله عنه كل هذا ¬
لأنه لم يعثر عند تأليفه على تدوين في ذلك (¬1). أما في الوصايا في الركوب: فما علمنا به ألبتَّة. وأما في الضرب بالسيف وما في معناه: فكذلك، وأعلم الناس به بعد المغاربة أهل كيلان والبغادِدَة؛ لأنهم يحسنون الثقاف المخلص، ولأهل كيلان فيه يد، وكذلك في المطبر. وأما العمل بالرمح: فقد رأينا فيه تأليفات في تعيين بنوده، وأحكام الطعن والتبطيل إنما يؤخذ عملًا. وأيضًا فعند ملاقاة الخصوم تلوح للفرسان فرص قدر كونها لا تعلم فتحصر بالوصية. وأيضًا فلم يذكر رضي الله عنه من أحكام الحروب التي تنصب لأجلها شيئًا ألبتة، وقد أثبثُّ فيها في كتابنا الذي وسمناه بـ "فرج المكروب في مدارات الحروب" ما يفتح الباب (¬2)، والتبحّر فيه، فالشيء بالشيء يذكر. وبالجملة فشكر الله تعالى سعيه، فلو لم يحقق العالم من فنّ إلا مسألة مقررة فيها تحصيلًا ... (¬3) فكيف بما أورد رضي الله عنه، وبالله ¬
تعالى التوفيق". 3 - وقال في (ص/ 76) ما نصُّه: "أقول: أما عمله في اليمين والشمال ووراء وأمام وفوق فحق، فأما عمله في الأسفل فغير محقق؛ إلا أن يذهب السهم في الأرض، ولعل الشيخ إنما حمله على ذلك: ذكر السفل مع العلو، واليمين مع الشمال، وإن أراد بالسفل الرمي على الاستواء فقوله [أمام] يعطي ذلك، وعذر الشيخ مبسوط لعدم مباشرته لما ألَّف فيه، وعدم اختلاطه بالعلماء المباشرين له وبالله تعالى التوفيق". 4 - وقال في (ص/ 77) ما نصُّه: "أقول: وليس هذا على ظاهره, لأنا نجزم بأن الرمي ليس بمساوٍ لفريضة الصلاة حتى تُتْرك له، وإنما المعنى: أن الوقت إذا حضر للصلاة وهم في النضال أتمُّوا وصلُّوا، فلو كان النضال وهم في آخر الوقت، فالحقُّ أنهم مخاطبون بترك النضال". 5 - وقال في (ص/ 77) ما نصّه: "أقول: وما عدده الشيخ من وجوهه العشرين يأتي عليه هذا، وهو ظاهر". 6 - وقال في (ص/ 84) ما نصُّه: "أقول: ومن حق هذا التأصيل أن يكون مقدمًا في صدر التأليف، فإنَّه مما يُبنى عليه وينقاد إليه، فاعلمه".
7 - وقال في (ص/ 166) ما نصُّه: "أقول: ... ، ولخصمك أن يقول: إنما يطلب الحق من الأدلة الراجعة إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو إلى إجماع متيقن، وغاية ما أوردته على خصمك ينازعك فيه، وكيف تسمِّي قول خصمك شاذًّا وأنت قررت فيه موردًا ما أثبت، وهل رجح لديك أن الصواب ما علمت، فمن أين لك أنك [لن] (¬1) تعثر على ما ينقضه عليك، أو يأتي به سواك. وأيضًا فلو قال لك معترض إن كل ما [أوردته] في هذه الفصول، وفيما قبلها هو من وظيفة الفقيه المعلم للأمور الشرعية في هذه المسائل الفرعيَّة النظرية، وأنت إنما بنَيْت [الكتاب على] تعليم الفروسية الشرعية، وهذه إنما هي مسائل فقهية، فأنَّى ساغ أن تجعلها فروسية لتعلقها بأمورٍ حرام، فأين أحكام المغانم [ومسائل] قسم الفيء، فهو أيضًا بهذا النظر لازم، وتتعدد هذه المطلوبات. وقد جعلتُ لهذا الكتاب فهرستًا، ذكرت فيه جملة، ونبهتُ ثم على [أمور] توضح هذا، وهو لازم. والكتاب على ما اشتمل عليه من الفوائد قليل الحظّ من الفوائد الحربية، ومن نظر كتابنا الذي وسمناه بـ "فرج المكروب في أحكام الحروب ومعاناتها ولوازمها وما يسوء بأمرها" علم يقينًا أن هذا الكتاب أن يسمى "أحكام الفروسية" أولى به من أن يعلم الفروسية أو يدل ¬
عليها، أو يذكر أسبابها، والذي يظهر من شأنه رضي الله عنه أنَّه ضمَّ إلى كتابه في أحكام رماية السهم ما يتعلق بذلك من مسائل الفقه التي اختلفت الناس فيها، وسنبينه عند انقضاء كلامه في هذه المسائل [التي] (¬1) ابتدأ بالكلام في العمل. وبالجملة فقد ترك اللازم قريبًا، وتعلق بلازمٍ أبعد، فإن جانب الفروسية إنما تلزم بيان ما تولَّت هي [فعله]، وذلك يرجح ميزان طلبه، أعني: في كيفية العمل بها في الحروب، وما أورده الشيخ هو وصفة الفقيه المبيّن حكم ما إذا نَقَل مَنْ له بالصِّناعة [فَهْم عن] غيره فعلًا على نهجٍ شرعيٍّ، ما الحكم فيه؟ وهذا إنما يتمُّ بعْد إحكامه وصْفًا، ثم إذا قام به، وتلبَّس بعمل بنصَّ الشرع بعد تحكُّم، وذاك أمر زائد على العِلْم بالصناعة، ونحن نرى في آخره أن الفروسية إنما هي طلب الظَّفَر على وجهٍ سائغ، وبالله تعالى التوفيق". 8 - وقال في (ص/ 176) ما نصه: "أقول: فتح الشيخ الاحتجاج بالذوق ليس بجيد (¬2)، وما ينتج منه ظاهر". 9 - وقال في (ص/ 176) ما نصُّه: ¬
"أقول: وفي هذا أيضًا مقال، وإذا لم تستو الأذواق فبم تقوم الحجة على الخصم، وانفراد الخصم بدعوى الذوق وخصمه ينازعه بالحجة فيه، اللهم إلا أن يكون هذا الذوق بيانه وظهوره يحمل عند سامعه كالذي عند [الخصم] الأوّل القائل، وبالجملة فكان ترك هذا الذي ختم به الفصل أولى (¬1) وبالله تعالى التوفيق". 10 - وقال في (ص/ 178) ما نصُّه: "أقول: ابن اسحاق روى له مسلم في غير موضع" (¬2)! 11 - وقال في (ص/ 208) ما نصُّه: "أقول: وبعض هذا الإسهاب في هذا الباب معني لأول الباب، وعلى ما أوردته مناقشات كثيرة تركناها لظهورها للمتدبر، وبالله تعالى التوفيق". 12 - وقال في (ص/ 210) ما نصُّه: "أقول: ..... وهذا التأليف [أن يكون] كتاب فقه أولى به من أن يكون كتاب فروسية، وبالله تعالى التوفيق". 13 - وقال في (ص/ 225) ما نصُّه: "أقول: ... كل ما قررته بالنسبة إلى تعليم الأعمال [الحربية] ¬
الفروسية العملية غير متعلق بالأمر العملي. وأيضًا فلو أن الكتاب قد أوردته بتقرير هذه المسائل وتحقيق الصواب فيها (¬1) صحة الدليل كنت أيضًا قد فعلت بما لا يليق من هذا النحو إلا بمبسوط المؤلَّفات بتعليم الفروسية، وإنما الذي يبديه في ترجيح ما يراه صوابًا في المسألة التي تتعلّق ببحث جرى، هل يجوّز الشرع [مع] الرهان أم لا، وقد أضربت عن تعليم الأبضاع التي بها إذا أتقنت على ما قررها أهلها ساغ منها بالقيام بذلك (¬2) غير عالم بكيفية العمل بالصناعة، فكيف يسوغ له الرهان، وهب أن الأمر في اللزوم على ما (¬3) وهو على غير ذلك مع الصحيح من المذهب الذي تراه باختصار ملائم، وبالله تعالى التوفيق". 14 - وقال في (ص/ 312) ما نصُّه: "أقول: لكل حسن شيء ما يشينه، وإنما شان هذا التأليف طول هذا التكليف عن هذه المبرمات مما لا يتعلق بالعمل الحربي ولا بالفروسية العملية، وقد قدمنا عنه أنَّه أسهب وأطال فمثل (¬4) هذا من وظيفة الفقيه أو طالب فقه هذه الأعمال، أما نفس الفروسية فهي الشيء الذي إذا عمل على أوضاع تغير منها هذه الأحكام وغيرها. أما نفس ما يقوم به ذلك العمل فهو: أعني حكمه اللازم شرعًا، ¬
فتعيَّن أن حُكمَ عِلْم الشيء الوضعي غيرُ حكمه بعد علمه، وذلك الحكم بعد علمه يتوقف على مسوّغه الشرعي أو العقلي، وقد كان يغني عنه إن كان لا بد له من وضع تعليمي شرعي في هذا التأليف، فليكن بقدر الحاجة الداعية إلى ذلك فإن من وقف على كتاب فقه في هذه المسائل لم يجدها اشتملت على مجموع ما ضم فيه من هذه المسائل الشرعية، وكان الأولى بالتأليف أن يكون هذا الإسهاب في كيفية العمل بأوضاع الفروسية، وقد كان مع هذا تام (¬1) فلِلتأليف في كل فن حكم هو حذقه، والوقوف عنده في التأليف أنسب، وبالله تعالى التوفيق". 15 - وقال في (ص/ 394) ما نصُّه: "أقول: قد كان الحكم للبحث النظري، وكنا نقول لجنابك: إن هذا من وظيفة المفتي المسؤول عن حكم المسألة علمًا، وكنا نقول: إن الأليق بما وضعت له التأليف القول في العلم العملي الحربي، وقد برحنا مما لا يعني العامل للفروسية، والمقصد الأقصى منه تعليمها، وأما الاختلاف في أحكام ذلك من العلوم (¬2) فشيء من حقِّه إلى الفقيه القائم بذلك، وذكرنا أن الذي وضعت له الكتاب إنما هو الفروسية ولم يعلم منها فيما يعني شيئًا. وبالجملة فقد أوردت ما يقرب من مئة فصل لا تعلّق لها بشيء من ¬
العمل الحربي ألبتة، وبعد ذلك أنشأت في ذلك المفاخرة بين القوسين بألفاظ كان اللائق بالقائم بالبلاغة ترك إيرادها، فإنها ... غير قائمة على ساق البرهان، وإنها مع ذلك عريت عن تقليد يخبر قائله عن أمر لا يصح إلا بوحي من المعصوم، ... فما الذي دعاك إلى الاحتجاج بما لا تراه حجة بدون (¬1) ذلك؟ - هذا الموْرَد في شريعتك - فكيف بأمرٍ أتى عليه آلاف من السنين، وأنت لا تجعل مثله حجة مع قرب العهد. وأيضًا فإنَّ قوس اليد لمن هو على ظهر نسرين طائرين يطيران به إلى الجوّ علوًا أرمى من قوس الرجل، لما في ذلك من المشقة على من حاله حال راكب على تابوت على ظهر نسرين، لا بد له من مدّ رجله ليؤيّد سهمه في محله، ثم يرمي به، فلله عاقبة الأمور. وقد أوردت أن القوس المحمود أنزلها الله تعالى على آدم ومعها الوتر، وأنزل سهمين، وقررت أن قوس الرجل من موضوع نمرود! أو علمت أن علم القوس المحمودة لديك صار إلى إبراهيم ثم إلى إسماعيل، أفتراه كان علم قوس اليد كان مدخورًا عند إبراهيم لم يكن عند غيره لأنه قاله بوحي كوحي الله تعالى، فالقوس المذكورة لآدم، أو كان علم ذلك شائعًا، فإن جنحت إلى الاختصاص طولبت بدليله النقلي، وما أعزُّه عليك وإن ملت إلى إذاعة علم تلك القوس، فما الذي أدى نمرود إلى تكلف حملها مع نقلها كما قلت كنصف طاحون معه في الجو وترك الأخفّ مع شياعه في الناس حينئذ؟ ما أوهى ما ¬
أسندت إليه في نصرة ما رجّحته، وهب أنَّه كان راجحًا فما زاده ترجيحك إياه بهذا الاستدلال إلا ضعفًا، يغفر الله لنا ولك، وبالله تعالى التوفيق. وقد قلنا: إنك - رحمك الله تعالى - أضفت إلى كتاب الطبري في الرماية ما استطعته من المسائل التي ذكرها العلماء في ذلك من أحكام تتعلّق بالرماة، وعن قريب أخذتَ بذكر تعليم الرماية، وبذكر القسي ونعوتها = ذكر أجنبي من الفن فلله تعالى عاقبة الأمور. والذي يتعلق بالفروسية إذا أفردناه على العدل ينحصر في قدر أربعين قائمة فقط، ومن تدبَّر هذا بأوّل نظرة وجده ظاهرًا، وبالله تعالى نتأيَّد به". 16 - وقال في (ص/ 473) ما نصّه: "أقول: ربما يرى من ينظر في أثناء فصوله ما أثبتُّه ثمَّ، فلم أُرد إلا الخير مطلقًا، والله تعالى يقول: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)} [ص: 86]، وقد اجتهد رضي الله عنه بمبلغ علمه، ولم يقصد إلا الخير، وقد صح أن المجتهد إذا أصاب أحرز أجرين، وإذا أخطأ أحرز أجرًا واحدًا، نسأل الله تعالى لنا ولَهُ الخير، ولعل من يقف على هذا التأليف لهذا الإمام، ويعتبر وضعه وما أخلَّ (¬1) فيه ما لا ينبغي الإخلال به، مما قد نبّهنا عليه في فهرست الكتاب، الذي جعلناه صدرًا وفي أثناء فصول منه، فقد كررنا أنَّه لم يرد إلا الخير، وهذه قدر ¬
9 - مطبوعات الكتاب
استطاعته في هذا الشأن، فربما أدّى (¬1) ما ذكرته بعض من لم ير من كلام هذا الإمام العالم إلا هذا الكتاب = إلى حطّ مرتبته، فليس الأمر كذلك، فالمذكور أحد الأئمة الأعلام في فنون العلم، وعليك بمؤلّفاته في فنون النظريات: شرعية وعقلية، وقد سارت بها الركبان، وتهافت على تحصيلها حذاق أهل الزمان، والحسن مطلوب في كل وقت، فلا يزال كلام هذا العالم يطلبه الموافق والمخالف، والحق مُعْرِب عن نفسه، رضي الله عنه، وشكر سعيه، ورفع في الصالحين درجته، ونفعه بما قدمه، وجعلنا ممن يقول الحق ويعمل به، قاصدين بذلك ما عند الله تعالى ... ". 9 - مطبوعات الكتاب: 1 - القاهرة: مطبعة الأنوار، (1360 هـ/ 1941 م) - بعناية/ عزَّت العطاء الحسيني وتقع في (134) صفحة. (ط الأولى). - الطبعة الثانية: نشر مكتبة الخانجي، (1414 هـ)، بعناية/ عزت العطار الحسيني وتقع في (134) صفحة. 2 - بيروت: دار الكتب العلمية، (1970 م)، وتقع في (176) صفحة. 3 - القاهرة: مكتبة عاطف، (1978 م)، وتقع في (184) صفحة. ¬
4 - المدينة النبوية: مكتبة دار التراث (1410 هـ/ 1990 م)، تحقيق/ محمَّد نظام الدين الفتح، وتقع في (335) صفحة. (ط الأولى). 5 - حائل: دار الأندلس. - ط الأولى: (1414 هـ/ 1993 م)، تحقيق/ مشهور بن حسن بن محمود بن سلمان، وتقع في (528) صفحة. - ط الثانية: (1417 هـ/ 1996 م) وتقع في (528) صفحة. 6 - القاهرة: دار الآثار للنشر والتوزيع. - ط الأولى (1425 هـ - 2004 م)، تحقيق: أبي عبد الرحمن عادل بن سعد، في (270) صفحة.
10 - وصف النسخ المعتمدة في التحقيق
10 - وصف النسخ المعتمدة في التحقيق: اعتمدت في تحقيق الكتاب على ثلاث نسخ: اثنتين منها خطيَّة، والثالثة: هي الطبعة الثانية.، التي قام بتصحيحها: عزَّت العطار الحسيني. 1 - النسخة الظاهرية (ظ): وهي محفوظة في المكتبة الظاهرية ومنه مصورة في الجامعة الإسلامية بالمدينة برقم (328)، ويقع هذا الكتاب ضمن هذا المجلد من (348 ق - 449 ق) ضمن كتاب "الكواكب الدراري في ترتيب مسند الإمام أحمد على أبواب البخاري" لأبي الحسن علي بن الحسين بن عروة الدمشقي الحنبلي المعروف "بابن زكنون" (¬1) المتوفى في سنة 837 هـ. وتقع هذه النسخة في (100) صفحة مع تعليقات الناسخ، وخطّها واضح مقروء في الغالب ويخلو أحيانًا من النقط. وقد كتبت هذه النسخة عام 830 هـ، بخط يوسف بن أحمد المعروف (بابن سليماناه) (¬2). ¬
وتمتاز هذه النسخة بما يلي: 1 - قدم تاريخها، حيث كتبت بعد وفاة ابن القيم بحوالي (79) سنة. 2 - انفرادها بزيادات عديدة ما بين الكلمة الواحدة إلى الصفحة فأكثر كما هو مبيَّن في حاشية الكتاب، انظر (ص/112 - 113، 165). 3 - قام الناسخ بالتعليق على كلام المؤلف، وإحصاء فصول الكتاب فبلغت (165) فصلًا، وقد قمت بوضع علامة (*) في هذا الكتاب، في نهاية الفصل المتعقب على المؤلف. ¬
2 - نسخة حائل
4 - أنها مقابلة على نسخة أخرى رمز لها الناسخ بـ (خـ)، ويضع علامة المقابلة كـ (بلغ)، والدائرة المنقوطة من الداخل. 2 - نسخة حائل: وهي محفوظة في مكتبة الشيخ/ علي بن يعقوب. وهذه النسخة تقع في (207) صفحة، وخطها نسخي معتاد واضح، وكان الفراغ من نسخها في 20/ 9/ 1318 هـ، وناسخها: إبراهيم بن محمد بن عمر بن سليم (¬1). ولم يشر الناسخ إلى الأصل الذي كتب عنه هذه النسخة. وتتميَّز هذه النسخة بما يلي: 1 - أنها مقابلة على نسخة أخرى كما في (ق 63، ق 90). 2 - ما كان في النص من ألفاظ أو عبارات مشكلة يكتب عليها (كذا) كما في (ق 36، ق 89، ق 90). 3 - عليها تصويبات عديدة كما في (ق 35، ق 41، ق 44، ق 47، ق 55، ق 108). وغيرها. ¬
3 - النسخة المطبوعة (مط)
3 - النسخة المطبوعة (مط): وهي المطبوعة بتصحيح السيد عزَّت العطار الحسيني، وقد طبعت على نفقة عزت العطار ومحمود سكر، ط الثانية - مكتبة الخانجي سنة 1414 هـ. وقد ذكر عزت العطار أنه عثر على هذه النسخة بطريق المصادفة عند أحد الورَّاقين، مكتوبة بخط مقروء ومفهوم، يرجع تاريخ كتابتها إلى القرن التاسع من الهجرة. ثم قابلها على نسخة أخرى عند الشيخ محمد نصيف (¬1). ¬
11 - المنهج في تحقيق الكتاب
11 - المنهج في تحقيق الكتاب: 1 - إثبات الفروق المهمة، بعد مقابلة النص على النسختين الخطيتين والمطبوعة بمكتبة الخانجي. 2 - إنزال أرقام النسختين: الظاهرية (ظ)، وحائل (ح) داخل النص، ووضعهما بين معقوفتين، مع الإشارة إلى مواضع تعليق ناسخ (ظ) على كلام المؤلف بوضع علامة النجمة (*). 3 - عزو المسائل الواردة في النص إلى مصادرها من كتب المذاهب الأربعة. 4 - توضيح بعض الكلمات الغريبة من كتب اللغة. 5 - توثيق النقول التي أوردها المؤلف قدر الإمكان. 6 - تخريج الأحاديث والآثار، والحكم عليها. 7 - وضع فهارس علمية تشتمل على الفهارس اللفظية، والفهارس التفصيلية.
12 - نماذج من النسختين الخطيتين المعتمد عليهما في التحقيق
الورقة الأولى من النسخة الظاهرية (ظ)
الورقة الأخيرة من النسخة الظاهرية (ظ)
عنوان الكتاب من النسخة الحائلية (ح)
الورقة الأولى من النسخة الحائلية (ح)
الورقة (70) من النسخة الحائلية (ح)
الورقة الأخيرة من النسخة الحائلية (ح)
مقدمة المؤلف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الشيخُ الفقيهُ العالمُ الحافظُ شمسُ الدين، أبو عبد الله بن (¬1) أبي بكر بن أيُّوب الزُّرعي (¬2)، الشَّهير بابن قيِّم الجَوْزِيَّة رضي الله عنه، وغفر له، وأعلا في الجنة درجته، آمين. الحمدُ لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليُظْهِرَه على جميع الأديان، وأيَّده بالآيات الظَّاهرة والمعجزات (¬3) الباهرة ومن أعظمِها القرآن، وأمدَّه بملائكةِ السَّماءِ تُقاتِل بين يديه مقاتَلَةَ الفُرْسَان، ونصرَهُ بريحِ الصَّبَا تُحارِب عنه أهل الزَّيغْ والعُدْوان، كما نصره بالرُّعب، وقذفه في قلوبِ أعدائه وبَيْنَه وبَيْنَهُم مسِيْرةُ شهرٍ من الزَّمان، وأقامَ له جنودًا من المهاجرين والأنصار تُقَاتلُ معه بالسَّيف والسَّهم ¬
والسِّنان، وتصاول بين يديه (¬1) في ميادين السباق تصاول (¬2) الأقران، وتبذل (¬3) في نصرته من نفوسها وأموالها نفائِسَ الأثمان، تسليمًا للمَبِيع الذي جرى عقده على يدي الصادق المصدوق، والتزم للبائع الضمان: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة: 111]، وتبارك الذي أرسل رسله بالبيِّنات وأنزلَ معهم الكتاب والميزان، وأنزلَ الحديدَ فيه بأسٌ شديدٌ ومنافعُ للناس بها تتمُّ (¬4) مصالح الإنسان، وعلَّم الفروسيَّةَ وجعل الشجاعةَ خُلُقًا فاضلًا يختصُّ به من يشاء، وكمَّلَهُ لحزبه وأنصاره (¬5) [ظ 2] أهل الإيمان، فأوجب محبته للجواد الشجاع، ومقته للبخيل الجبان (¬6). وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له رب الأولين والآخرين، وإله العالمين (¬7)، وقيُّوم السماوات والأرضين، الذي أفاض على خلقه النِّعمة، وكتب على نَفْسهِ الرحمة، وضَمَّنَ الكتاب الذي كتبه: أنَّ ¬
رحمته تغْلب [ح 2] غضبه، تعرَّف إلى عباده بأوصافه وأفعاله وأسمائه، وتحبَّب إليهم بِنِعَمِهِ (¬1) وآلائه، وابتدأهم بإحسانه وعطائه، فهو المحسنُ إليهم والمجازي على إحسانه بالإِحسان، فله النعمةُ والفضلُ والثناءُ الحسنُ الجميلُ والامتنان، {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17]. وأشهد أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، وأمينُهُ على وحْيِهِ، وخيرتُهُ من خلقِه، وسفيْرُهُ بينه وبين عباده، وحجَّتُهُ على جميع الإنس والجانِّ، أرسلَه على حينِ فترةٍ من الرسل، فهدى به إلى أقوم الطُّرق وأبْيَن السُّبل، وافترض على العباد طاعتَه ومحبَّته وتعظيمه والقيامَ بحقوقه، وسدَّ إلى الجنة جميع الطرق؛ فلم يفتح لأحدٍ إلا من طريقه، فشرح الله له صدرَه، ورفعَ له ذِكرَه، ووضعَ عنه وِزْرَه، وبعثه بالكتاب الهادي والسّيف الناصر بين يدي الساعة حتى يُعْبَد سبحانه وحده لا شريك له، وجعل رزقه تحت ظلِّ سيفه ورمحه، وجعل الذِّلَّة والصغار على مَن قابل أمره بالمخالفة والعصيان، وأنزل عليه من الكتب أجلَّها، ومن الشرائع أكملها، ومن الأمم أفضلَها، وهم يوفّون سبعين أمَّة هم خيرها وأكرمها على الرحمن، وخصَّه من الأخلاق بأزكاها، ومن مراتب الكمالِ بأعلاها، وجمع له من المحاسن ما فرَّقه في نوع الإنسان، فهو أكمل الناس خَلْقًا، وأحسنهم خُلُقًا، وأشجعهم قلبًا، وأجودهم كفًّا، وألينهم عريكةً، وأوسعهم صدرًا، وألطفهم عِشْرةً، وأفصحهم لسانًا، وأثبتهم جنانًا، وأشرفهم بيتًا ونسبًا. ¬
فهو مُحَمَّدُ بن عبد الله بن عبد المطَّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصَيّ بن كلاب بن مُرَّة بن كَعْب بن لُؤيّ بن غالب بن فِهْر بن مالِك بن النَّضْر بن كِنانة بن خُزَيْمة بن مُدْرِكة بن إلياس بن مُضَر بن نِزار بن مَعَد بن عدنان. فصلى الله تعالى وملائكتُه وأنبياؤه ورسلُه والصالحون من خلقه عليه، كما عرَّفنا بالله تعالى وأسمائه وصفاته، ووحَّده ودعا إليه، وآتاه الوسيلة والفضيلة، وبعثه المقام المحمود [ح 3] الذي وعده به في الفرقان (¬1)، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإن الله تعالى أقام دين الإسلام بالحجَّة والبرهان، والسَّيف والسِّنان، فكلاهما في نصره أخوان شقيقان، وكلاهما شجيع (¬2) لا يتمُّ إلا بشجاعة القلب وثبات الجَنان، وهذه المنزلةُ الشَّريفةُ والمرتبةُ المنيفةُ محرَّمة على كل مهين جبان، كما حُرِّمَت عليه المسرَّة والأفراح، وأُحْضِر قلبُهُ الهمومَ والغمومَ والمخاوفَ والأحزان، فهو يحسب أنّ كل صيحة عليه، وكلَّ مصيبة قاصدة إليه، فقلبُه بالهمِّ مغموم (¬3) بهذا الظن والحُسْبان. ¬
- ذكر المسابقة والمناضلة وغيره على وجه الإجمال
وقد عُلِمَ أنَّ الفروسيَّة والشجاعة نوعان: فأكملها لأهل الدِّين والإيمان، والنوع الثاني: مورد (¬1) مشتركٌ بين الشُّجعان. وهذا مختصرٌ في الفروسيَّة الشرعيَّة النبويَّة التي هي من أشرف عبادات القلوب والأبدان، الحاملة لأهلها على نصرة (¬2) الرَّحمن، السائقة لهم إلى أعلى غُرفات الجنان، علَّقته على بُعدٍ من الأوطان واغترابٍ عن الأصحاب والإخوانَ، وقلَّة بضاعة في هذا الشَّان، فما كان فيه من صواب؛ فمن الله وتفضله (¬3) وتوفيقه، وما كان فيه من خطأ؛ فمنِّي (¬4) ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان. فأقول - وبالله تعالى المستعان، وعليه التُّكلان -: ثبتَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سابَقَ بالأقدام، وثَبتَ عنه أنه سابَقَ بين الإبل، وثَبتَ عنه أنه سابَقَ بين الخيل، وثَبتَ عنه أنه حضر نضال السهام، وصار مع إحدى الطائفتين، فأمسكت الأخرى، وصار مع الطَّائفتين (¬5) كلتيهما، وثَبتَ عنه أنه رمى بالقوس، وثَبتَ عن الصِّدِّيق أنَّه راهن كفار مكَّة على غلبة الرُّوم للفرس (¬6)، وراهنوه على أنّ ذلك لا ¬
1 - مسابقته - صلى الله عليه وسلم - على الأقدام
يكون (¬1)، ووضعوا الخَطَرَ من الجانبين، وكان ذلك بعلم من (¬2) النبيِّ - صلي الله عليه وسلم - وإذنه، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه طعن بالرُّمح، وركب الخيل مُعرَّاة ومسرجه (¬3)، وتقلَّد السيف. فأما مسابقتُه بالأقدام: ففي "مسند الإمام أحمد"، و"سنن أبي داود" من حديث عائشة؛ قالت: "سابقني النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -[ح 4] فسبقتُه، فلَبِثْنا حتى إذا أرهَقَني اللحمُ؛ سابقني فسبَقَني، فقالَ: "هذه بتلك" (¬4). ¬
2 - تسابق الصحابة على الأقدام بين يديه - صلى الله عليه وسلم -
وفي رواية أخرى (¬1): أنهم كانوا في سفر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "تقدَّموا"، فتقدَّموا، ثم قال لعائشة: "سابِقيْني"، فسابَقَها فسبقتْهُ، ثم سافرتْ معهُ مرَّة أُخرى، فقال لأصحابِه: "تقدَّموا"، ثم قال: [ظ 3] "سابقِيْني"، فسبقها (¬2) فقال: "هذه بتلك". وتسابق الصحابة على الأقدام بين يديه - صلى الله عليه وسلم - بغير رهانٍ: ففي "صحيح مسلم" (¬3) عن سلمة بن الأكوع قال: "بينما نحنُ نسير، وكان رجلٌ من الأنصار لا يُسْبَقُ شَدًّا (¬4)، فجعلَ يقول: ألا مسابقٌ إلى المدينة؟ هل مِن مسابقٍ (¬5)؟ فقلتُ: أما تكْرِم كريمًا وتهابُ شريفًا؟ قال: لا، إلا أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: قلتُ: يا رسول الله! بأبي أنت وأُمِّي، ذَرْني فلأسابق (¬6) الرجل، فقالَ: "إن شئتَ"، فسبقتُه إلى المدينة". ¬
3 - مصارعته - صلى الله عليه وسلم -
فصل وأما مصارعتُه - صلى الله عليه وسلم -: ففي "سنن أبي داود" (¬1) عن محمد بن علي بن ركانة: "أن ركانةَ صارع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصرعهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -". وهذا الحديث فيه قصة نذكرها: أخبرنا شيخُنا أبو الحجاج الحافظ في كتاب "تهذيب الكمال" (¬2) قال: "ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المُطَّلب بن عبد مناف بن قُصَيّ بن كِلَاب بن مرَّة بن كعب بن لُؤيّ بن غالب القُرَشي المُطَّلبي، كان من مُسْلِمة الفتح، وهو الذي صارَعَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصَرَعَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين أو ثلاثًا، وذلك قبل إسلامه. وقيل: ¬
4 - مسابقته بين الخيل
إنّ (¬1) ذلك كان سبب إسلامه، وهو أمثل ما رُوِي في مصارعة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما ما ذُكِرَ من مصارعة النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا جهل فليس لذلك أصل". انتهى كلام شيخنا. وقال الزُّبير بن بكَّار في كتاب "النَّسب" (¬2): "ورُكانة بن عبد يزيد الذي صارع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكَّة قبل الإسلام، وكان [ح 5] أشدَّ الناس، فقال: يا محمَّد! إن صَرَعْتَني آمنتُ بك، فصرعَهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أشهد إنَّك ساحرٌ، ثم أسْلَمَ بَعْدُ". فصل وأما (¬3) مسابقتُه - صلى الله عليه وسلم - بين الخيل: ففي "الصحيحين" (¬4) من حديث ابن عُمر قال: "سابَقَ رسول الله ¬
- الأحاديث الواردة فيه، وتحقيق الكلام على زياد (وأعطى السابق) وزيادة (وراهن)، وبيان عدم ثبوتها
- صلى الله عليه وسلم - بين الخيل، فأُرسلتِ التي ضُمِّرت منها، وأمَدُها الحَفْياء إلى ثَنِيَّة الوداع، والتي لم تُضَمَّر أمَدُها ثنيَّة الوداع إلى مسجد بني زُرَيق". وفي "الصحيحين" (¬1) عن موسى بن عُقبة: "أنَّ بين الحَفْياء إلى ثنيَّةِ الوداع ستَّة أميال أو سبعة". وقال البخاري (¬2): "قال سفيانُ: بين الحَفْياء إلى ثنيَّة الوداع خمسة أميال أو ستَّة، ومن ثنيَّة الوداع إلى مسجد بني زُرَيْق ميل". وفي "مسند الإمام أحمد" (¬3) من حديث عبد الله بن عمر أيضًا: "أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سبَّق بين الخيل وراهنَ". ¬
وفي لفظ له: "سبَّق (¬1) بين الخيل، وأعطى السابق" (¬2). وفي "المسند" (¬3) أيضًا من حديث أنس أنه قيل له: أكنْتُم تراهِنون ¬
على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يراهن -؟ قال: "نعم والله، لقد راهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فرس له يُقال له سَبْحَة، فسبق الناس، فانبهش (¬1) لذلك وأعجبهُ". وفي "سنن أبي داود" (¬2) عن ابن عمر: "أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سَبَّق بين ¬
5 - مسابقته - صلى الله عليه وسلم - بين الإبل
الخيل، وفَضَّلَ القُرَّحَ (¬1) في الغاية". فصل وأما (¬2) مسابقته بين الإبل: ففي "صحيح البخاري" تعليقًا (¬3)، عن أنس بن مالك قال: "كانت العَضْباء لا تُسْبَق، فجاء أعرابيٌّ على قَعودٍ له فسابَقها فسَبَقها الأعرابيُّ، وكأنَّ ذلك شقَّ على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "حق على اللهِ أن لا يرفع شيئًا (¬4) إلا وضَعَه". وفي "صحيحه" (¬5) أيضًا عن حُميدٍ عن أنس بهذه القصة، وقال: ¬
6 - تناضل أصحابه بالرمي بحضرته
"وإنَّ حقًّا على اللهِ عزَّ وجلَّ أن لا يرفعَ شيئًا من الدُّنيا إلا وضَعَهُ". قلتُ: تأمَّل قوله في اللفظ الأول: "أن لا يرفع شيئًا"، وفي اللفظ الثاني: "أن لا يرفع شيئًا [ح 6] من الدُّنيا إلا وضَعَهُ"، فجعل الوضع لما رفع وارتفع (¬1)، لا لما رَفَعَه سبحانه؛ فإنه سبحانه إذا رفع عبدَه بطاعتِه، وأعزَّه بها، لا يَضعُه أبدًا (¬2). فصلٌ وأما (¬3) تناضل أصحابه بالرمي بحضرته: ففي "صحيح البخاري" (¬4) عن سلمة بن الأكوع قال: مرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نفرٍ من أصحابه (¬5) ينتضلونَ بالسُّوقِ، فقال: "ارموا يا بني إسماعيلَ فإنَّ أباكُم كان راميًا، ارموا وأنا مع بني فُلانٍ". قال: فأمسك أحدُ الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما لكُم لا تَرمونَ؟ "، فقالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال: "ارموا، وأنا معكم كلكم". ¬
فصل
فصلٌ وأما مراهنة الصِّدِّيق للمشركين بإذنه وعلمه (¬1): فروى الترمذيُّ في "جامعه" (¬2) من حديث سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جُبَيْر عن ابن عباس في قول الله تعالى عز وجل: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)} [الروم: 1 - 3] قال: "كان المشركون يحبُّون أن يظهر أهل فارس على الروم؛ لأنهم وإياهم أهل أوثان (¬3)، وكان المسلمون يحبُّون أن يظهر الرومُ على فارس؛ لأنهم أهل كتاب، فذكروه لأبي [ظ 4] بكر رضي الله عنه، فذكره أبو بكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما إنَّهم سيُغْلَبونَ"، فذكره أبو بكر لهم (¬4)، فقالوا: اجعل ¬
بيننا وبينك أجلًا، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتُم كان لكم كذا وكذا، فجَعل أجلًا خمس سنين، فلم يظهروا، فذكروا ذلك للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ألا جعلت إلى دون - أُراه - العشر" - قال سعيدٌ: والبضْعُ ما دون العشر - قال: ثم ظهرتِ الروم بعدُ. قال فذلك قولُه: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)} [الروم: 1 - 5] ". قال سفيان: "سمعتُ أنَّهم ظهروا عليهم يوم بدر (¬1) ". قال الترمذي: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيح". وفي "جامعه" (¬2) أيضًا: عن [ح 7] نِيَار بن مُكْرَم الأسْلَمي قال: ¬
"لمَّا نزلت: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ}، إلى قوله: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1 - 4]، وكانت فارس يوم نَزَلَت هذه الآية قاهرين للرُّوم (¬1)، وكان المسلمون يحبُّون ظهور الروم عليهم؛ لأنهم وإيِّاهم أهلُ كتاب، وفي ذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)} [الروم: 4 - 5]، وكانت قريشٌ تحبُّ ظهور فارس؛ لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتابٍ ولا إيمانٍ ببَعْثٍ، فلما أنزل اللهُ هذه الآية، خرج أبو بكرٍ الصِّدِّيق يصيحُ في نواحي مكَّة: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ}، فقال ناسٌ من قريش لأبي بكر (¬2): فذلك بيننا وبينكم زعم (¬3) صاحبكَ أنَّ الروم سَتَغْلِبُ فارس في بضعِ سنين، أفلا نُراهِنُكَ على ذلك؟ قال: بلى - قال: وذلك قبلَ تحريم الرِّهان -. فارْتَهَنَ أبو بكر والمشركونَ، وتواضَعُوا الرِّهان، وقالوا لأبي بكرٍ: كمْ نَجْعَلُ البضع - وهو من ثلاث سنينَ إلى تسع (¬4)؟ فسمِّ بيننا وبينك وسَطًا تنتهي إليه، قال: فَسَمَّوا بينَهُم ستَّ سنين. قالَ: فمضت السَّتُّ سنين (¬5) قبل أنْ يظهروا، فأخذ المشركون رهْنَ أبي بكرٍ، فلما دخلتِ السَّنَةُ السابعة ظهَرَتِ الرومُ على ¬
فارسَ، فعابَ المسلمونَ على أبي بكر تسميَتَهُ ستَّ سنين؛ لأنَّ الله تعالى قال: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 4]. قال: وأسلم عند ذلك ناسٌ كثير". قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وفي "الجامع" (¬1) أيضًا من حديث ابن عباس أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكرٍ في مُناحَبَتِهِ (¬2): "ألا أخفَضْتَ (¬3) - وفي لفظٍ: ألا احْتَطتَ -؛ فإن البضع ما بين الثلاث إلى التسع". رواه من حديث الزُّهري عن عُبيد الله بن عبد الله (¬4) عن ابن عباس. ¬
- اختلاف أهل العلم في إحكام هذا الحديث ونسخه
وقوله في الحديث: "مناحبته"، فالمُناحبة: المخاطرة، وهي المراهنة، من (¬1) النحب وهو: النذر، وكلاهما [ح 8] إلزام (¬2)، هذا بالعقد وهذا بالنذر. وقوله: "ألا أخفضت"، يجوز أن يكون من الخفض الذي هو الدَّعة،، المعنى: هلَّا نفَّست المُدة فكنت في خفضٍ من أمرك ودَعَة. ويجوز أن يكون من الخفض الذي هو من (¬3) الانخفاض، أي: هلَّا استنزلتهم إلى أكثر مما اتَّفقتُم عليه. وقوله في اللفظ الآخر (¬4): "هلا احتَطْتَ" هو من الاحتياط، أي: هلَّا أخذت بالأحوط، وجعلتَ الأجل أقصى ما ينتهي إليه البضع؛ فإنَّ النَّصَّ لا يتعدَّاه. وقوله: "وذلك قبل تحريم الرِّهان" من كلام بعض الرواة (¬5)، ليس كلام أبي بكر، ولا من كلام (¬6) النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد اختلف أهل العلم في إحكام هذا الحديث ونسخه على قولين: ¬
- القول الأول: أنه منسوخ، وهو قول الجمهور
* فادَّعت طائفة نسخه بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر والقمار (¬1). قالوا: ففي الحديث دلالة على ذلك، وهو قوله: "وذلك قبل تحريم الرهان" (¬2). قالوا: ويدلُّ على نسخه ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا سَبَقَ؛ إلا في خُفٍّ، أو حافرٍ، أو نَصْلٍ" (¬3). ¬
- القول الثاني: أنه محكم غير منسوخ
والسَّبَق بفتح السين والباء، وهو الخطر (¬1) الذي وقع عليه الرهان. وإلى هذا القول ذهب أصحابُ مالك، والشافعيِّ، وأحمدَ (¬2). * وادَّعت طائفة أنه محكَمٌ غير منسوخ، وأنه ليس مع مُدَّعي نسخه حُجَّة يتعيَّن المصير إليها. قالوا: والرِّهان لم يُحَرَّم جملة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - راهن في تسبيق الخيل كما تقدَّم، وإنما الرِّهان المحرَّم: الرِّهان على الباطل الذي لا منفعة فيه في الدين، وأما الرهان على ما فيه ظهورُ أعلام الإسلام وأدلَّتُه وبراهينه - كما قد راهنَ عليهِ الصَّديق - فهو من أحقَّ الحق، وهو أَولى بالجواز من الرِّهان على النِّضال وسباق الخيل والإبل، إذ تأثير (¬3) هذا في الدِّين أقوى؛ لأنَّ الدين قام بالحجَّة والبرهان، وبالسيف والسِّنان (¬4)، والمقصد الأوَّل إقامته بالحجَّة، والسيف مِنْ بَعْدُ (¬5). قالوا: وإذا كان الشَّارعُ قد أباحَ الرِّهان في الرَّمْي، والمسابقة بالخيل والإبل، لما في ذلك من التحريض على تعلُّم الفُروسية وإعداد القوَّة للجهاد؛ فجواز ذلك في المسابقة والمُبادرة إلى العلم والحجَّة ¬
فصل فأما المسابقة بالأقدام
التي بها (¬1) تُفْتَح القلوب [ح 9] ويعزُّ الإسلام وتظهر أعلامه = أولى وأحرى. وإلى هذا ذهب أصحاب أبي حنيفة (¬2)، وشيخ الإسلام أبو العباس ابن عبد الحليم (¬3). قال أرباب هذا القول: والقمارُ المحرَّم هو أكل المال بالباطل، فكيف يُلْحَق به أكله بالحق؟! قالوا: والصِّديِّق لم يُقامِرْ قطُّ في جاهلية ولا إسلام، ولا أقرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على قمارٍ فضلًا عن أن يأذن فيه. وهذا تقريرٌ لقول الفريقين. [ظ 5]. فصل فأما المسابقة بالأقدام: فاتَّفق العلماء على جوازها بلا عِوَض. ¬
- الاختلاف في جوازها بعوض - على قولين
واختلفوا هل تجوز بعوَض (¬1)؟ على قولين: أحدهما: لا تجوز، وهو مذهب أحمد ومالك، ونصَّ عليه الشافعي (¬2). والثاني: تجوز، وهو مذهب أبي حنيفة (¬3). وللشافعيَّةِ وجهان (¬4). فحُجّة مَنْ مَنَعه حديثُ أبي هريرة: "لا سَبَقَ إلا في خُفٍّ، أو حافرٍ، أو نَصْلٍ". وهذا يتعيَّن حمله على أحد معنيَيْن: - إما أن يُريدَ به نفي الجُعل، أي: لا يجوز الجُعْلُ إلا في هذه ¬
- أدلة من جوزه: من خمسة أوجه
الثلاثة، فيكون نفيًا في معنى النَّهي عن الجُعْل في غيرها لا عن نفس السِّباق. - وإما أن يُريدَ به أنه لا يجوز المسابقة على غيرها بعِوَض، فيكون نهيًا عن المسابقة بالعِوَض في غير الثلاثة. فعلى التقدير الأوّل يكون المنع من الجعل على غير الثلاثة (¬1) وعلى الثاني يكون المنعُ من العقد المشتَرَط فيه الجُعل على (¬2) غيرها. وعلى التقديرين، فهو مقتضٍ للمنع من الجعل (¬3) في غيرها. قالوا: ولأن غير هذه الثلاثة لا يُحتاجُ إليها في الجهاد، كالحاجة إلى الثلاثة، ولا يقومُ مقامها، ولا ينفعُ فيه نفعُها، فكانت كأنواعِ اللَّعب الذي لا يجوز المراهنة عليه. وحجَّة من جوَّز الجُعل في ذلك قياس القَدَم على الحافر والخُف؛ فإن كلًّا منهما مسابقة، فهذا بنفسه، وهذا بمركوبه. قالوا: وكما أنَّ في مسابقة الإبل والخيل تمرينًا على الفُروسيَّة والشجاعة، فكذلك المسابقة على الأقدام؛ فإن فيها من (¬4) تمرين البدن على الحركة والخفَّة والإسراع والنَّشاط، ما (¬5) هو مطلوبٌ في الجهاد. ¬
قالوا: والحديث يُحْتَمَل أن يُرادَ به أن أحقَّ ما بُذِلَ فيه السبق [ح 10] هذه الثلاثة، لكمال نفعها وعموم مصلحتها، فيكون كقوله (¬1): "لا ربا إلا في النَّسيئة" (¬2)، أي: إنَّ الرِّبا الكامل في النسيئة. قالوا: وأيضًا، فهذا مثل قوله: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" (¬3)، و"لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه ¬
- ما رد به المانعون على أدلة الجواز
الأخْبَثان" (¬1)، و"لا وضوء لمَن لم يذكرِ اسمَ الله عليه" (¬2)، ونحو ذلك مما ينفي الكمال لا الصحة. قالوا: ولأن ذلك جعَالة على عمل مباح، فكان جائزًا كالثلاثة المذكورة في النص (¬3). قال المانِعون: هذا جمعٌ بين ما فرَّق الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بينهما حُكمًا وحقيقة؛ فإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أثبت السَّبق في الثلاثة، ونفاهُ عمَّا عداها، ¬
وهذا يقتضي عدم مساواة ما أثبتَه لما نفاه في الحكم والحقيقة، فلا يجوز التَّسوية بينهما. وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُجْلَدُ فوق عشرةِ أسواط إلا في حدٍّ من حُدودِ الله" (¬1)، ففرَّق بين الحدِّ وغيره في تجاوز العشرة، فلا يجوز قياس أحدهما على الآخر، ولا الجمع بينهما في الحكم. وكذلك منعُه من بيع الرُّطَب بالتمر، وتجويزه في العرايا (¬2)، فلا يجوز الجمع بينهما في التحريم ولا في المنع. وكذلك تحريمه ربا الفضل مع اتِّحاد الجنس في الأعيان التي نصَّ عليها، وتجويزه التفاضل مع اختلاف الجنس (¬3). وكذلك سائر ما فَرَّق بينهما في الحكم. فلا يُفَرَّق بين ما جَمع بينه، ولا يُجْمَع بين ما فَرَّق بينه، فلا بدَّ من إلغاء أحد الأمرين: إما إلغاء ما اعتبرتموه من الجمع بين ما فَرَّق الشارع بينه، أو إلغاء ما اعتبره من الفَرْق، ولا سبيل إلى الثاني، فتعيَّن الأوَّل. ¬
ثمَّ تبيَّن أنَّ ما ذكرتُموه من الجمع ليس بصحيح، فأيُّ فروسيَّة وأيُّ مصلحةٍ للإسلام وأهله وللمجاهدين (¬1) في مسابقة السُّعاة على أقدامهم؟! ومتى انكسر بأحدِهم عدوٌّ، وانتصر به حقٌّ، أو تقوَّتْ به فئة؟! ومتى بُعث بريدٌ على قدميه؟! (¬2). فأحسن أحوال [ح 11] هذا العمل أن يكونَ مباحًا، فأما التَّراهن عليه فلا. وأما ما نظَّرْتُم به هذا (¬3) الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ربا إلا في النَّسيئة"، و"لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" (¬4) ونظائرهما؛ فلو نظّرتُموه بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة لمنْ لا وضوء له" (¬5)، و"لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" (¬6)، و"لا صيام لمن لم ¬
يُبيِّت الصيام من الليل" (¬1)، و"لا عمل لمن لا نيَّة له، ولا أجر لمن لا حسبة له" (¬2) ونظائره = لكان أولى، إذ حقيقة ذلك نفي مسمَّى هذه الأشياء شرعًا واعتبارًا، وما خرج عن هذا؛ فلمعارضٍ أوجبَ خروجَه. قالوا: وأما قولكم: إن هذا جعَالة على عمل مباح، فكان جائزًا كسائر الجعالات. فجوابه من وجهين: أحدهما: أنَّ هذا ينتقض عليكم بسائر ما منعتُم فيه الرهان من ¬
فصل وأما الصراع
العمل المباح: كالسباحة، والمبادَرة إلى جواب مسائل العلم، والمسابقة إلى الحفظ، والتسابق في الصناعات المباحة كلها؛ فإنكم لا تجوِّزون الرِّهان في شيء من ذلك. الثاني: أنَّ (¬1) الجعَالة المعهودة عرفًا وشرعًا أنْ ينتَفعَ الجاعلُ بالعملِ، والعاملُ بالجعلِ، وأما ها هنا؛ فإنَّ العاملَ لا يجعلُ مالًا لمَن يغلبه، إذ لا منفعَةَ له في ذلك، وإنما يبذلُ المال في مقابلةِ النفْع الذي يحصل له (¬2). فصل [ظ 6] وأما الصِّراع: فيجوز بلا رهنٍ (¬3). ولا يجوز بالرَّهن عند الجمهور (¬4)، كمالك ¬
- حكم السباحة بالرهن
والشافعي وأحمد، وجوَّز بعض أصحاب الشافعي (¬1) فعله بالرِّهان، وهو قول أصحاب أبي حنيفة (¬2). وأما السباحة: فلا يجوز بالرَّهن عند الجمهور (¬3)، وفي جوازها وجهٌ لأصحاب الشافعي (¬4). ولهم في المشابكةِ بالأيدي وجهان (¬5). والحجَّة على الجواز والمنع كما تقدَّم في مسابقة الأقدام سواء، ويلزم مَنْ جَوّزه (¬6) أن يُجوِّز الرهان على العلاج، إذ لا فرق بينهما؛ فإن العلاج عملٌ مباح، كالصراع ومسابقة الأقدام، وله أصل في السنة، وهو: "أنَّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بقوم يربعونَ (¬7) حجرًا ليعرِفوا الأشدَّ منهم، فلم ¬
- ما يلزم من جوز ما تقدم
يُنْكِر عليهم" (¬1). ويربَعون، بالباء (¬2) المفتوحة، أي: يرفعونه. ولكن يلزم من جَوَّز (¬3) الصراع [ح 12] بالرهن أحد أمرين: - إما أن لا يُجوِّز (¬4) إخراج السَّبق منهما معًا، بل يتعيّن جعْله من أحدهما أو من غيرهما (¬5). ¬
فصل وأما المسابقة بين الخيل
- وإما أن يَتْرُك قولَه (¬1) في المحلِّل إذا كان السَّبق منهما، لاسْتِحَالة دخول المحلِّل مع المتصارعين. ويلزم مَنْ جَعَلَ عقد المسابقات (¬2) من باب الجعَالات، وجَوَّز إخراج السَّبَق في المصارعة والعَدْو أن يُجَوِّزه (¬3) في الصناعات المباحة كلِّها. وهذا لا يُعْلم به قائل. فإن قال: أنا أُجوِّزه فيما يكون فيه معونة على الحرب وقوَّة (¬4). قيل: فجوِّزْهُ في صناعات آلات الحرب كلِّها، وإلّا فاذْكُر فرقًا مطَّردًا منعكسًا بين ما يَجُوْز من ذلك وما لا يَجُوْز، ويكون ذلك الفرق مما قد (¬5) اعتبره الشارع. فصلٌ وأما المسابقة بين الخيل: وهي (¬6) الحافر المذكور في حديث أبي هريرة، فقصَرَها أصحابُ ¬
- ويتفرع عليها المسابقة على الفيل والحمام والسفن
مالك وأحمد على الخيل (¬1)، وجوَّزها أصحاب أبي حنيفة (¬2) في البغال والحمير والبقر، وللشافعي في البغال والحمير قولان (¬3). ثم اختلف أصحابه في مسائل فرَّعوها على هذين القولين (¬4)، وهي: المسابقة على الفيل، والحمام، والسفن. ولهم في جواز السِّباق عليها بالرَّهن وجهان: قال مَن جوَّزها (¬5) على البغال والحمير: اسم الحافر يتناولهما (¬6) كتناوله للفرس. وقال الآخرون: لم يُرِدِ الشارع بلفظ الحافر: حافر الحمار والبغل، وإنما أراد حافر ما سابق (¬7) عليه، وجعل السباق عليه من ¬
إعداد القوَّة لجهاد أعداء الله، فما لحافر البغال والحمير والبقر دخولٌ في ذلك البتَّة، ولم يسابق أحدٌ من السلف قطُّ بحمار ولا بغل. قالوا: والحافر وقع في سياق الإثبات، فلا عموم له. قالوا: ولا يصحُّ قياس الحمار والبغل على الخيل؛ لما بينهما من الفروق شرعًا وحسًّا ومنفعةً، وما سوَّى الله بين الخيل والحمير قطُّ، لا في سهم الغنيمة، ولا في الغزو، ولا جَعَلَ الخير معقودًا إلا في نواصيها بالأجر والغنيمة، فما أفسدَ قياسَهما على الخيل التي ظهورُها عزٌّ وبطونها كنز، وهي (¬1) معاقل وحصون، [ح 13] والخير معقود في نواصيها (¬2)، والغنائم ثلثاها لها (¬3)، وأرواثها وأبوالها في ميزان صاحبها؛ إذا ارتبطها في سبيل الله تعالى (¬4). ¬
فصل وأما المسابقة بين الإبل
فصلٌ وأما المسابقة بين الإبل: فهي الخف المذكور في حديث أبي هريرة. والجمهور على اختصاصها بالبعير (¬1). وجوَّز بعض الشافعيَّة (¬2) المسابقة على الفيل بالجُعل. قالوا: لأنه ذو خُفٍّ، فيدخل في الحديث. وقول الجمهور أصح؛ لما تقدَّم، ولذلك لا يُسْهَم للفيل عند الأئمة الأربعة (¬3)، وشذَّ القاضي أبو يعلى من أصحاب أحمد، فقال: "يُسْهَم للفيل سهم الهَجِيْن" (¬4) فيكون على الروايتين فيه: هل له سهم أو سهمان؟ (¬5) ¬
فصل وأما النضال
فصلٌ وأما النِّضال: فحضره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأذِنَ فيه، وهو أجلُّ هذه الأنواع (¬1) على الإطلاق وأفضلها، وكان الصَّحابة رضي الله عنهم يفعلونه كثيرًا، وكان عقبة بن عامر يختلف بين الغرضين وهو شيخ كبير، فقيل له: تفعل ذلك وأنت شيخ كبير يشقُّ عليك؟ فقال: لولا كلامٌ سمعتُه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم أُعانِهِ، سمعتُه يقول: "مَن تعلَّمَ الرَّمي ثم تركه فليس مِنَّا". وفي لفظ: "فقد عصى". رواه أهل "السنن" (¬2). وفي "السنن" عن عقبة بن عامر أيضًا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله لَيُدْخِل بالسهم الواحدة ثلاثةَ نفر الجنة: صانعَه المحتَسِب في عمله الخير، والرامي به، والمُمِدَّ به - وفي رواية: ومُنْبِلَه -، فارموا، واركبوا، وأن ترموا أحبُّ إليَّ من أن [ظ 7] تركبوا، كلُّ لهوٍ باطلٌ، ليس ¬
من اللهو محمودٌ إلا ثلاثة: تأديب الرجل فرسَه، وملاعبتُه أهلَه، ورميه بقوسه ونبله؛ فإنَّهُنَّ من الحق، ومَن ترك الرمي بعدما عُلِّمَهُ رغبةً؛ فإنها نعمة تركها - أو قال: كفَرَها (¬1) -" (¬2). ¬
وفي "صحيح مسلم" (¬1) عن عقبة أيضًا، قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ألا إن القوة الرمي, ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي (¬2) ". وفي: "صحيح البخاري" (¬3) عن سلمة بن الأكوع؛ قال: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قوم ينتضلون، [ح 14] فقال: "ارمُوا بني (¬4) إسماعيل؛ فإن أباكم كان راميًا، ارموا وأنا مع بني فلان"، فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال: "ما لكم لا ترمونَ؟ "،، فقالوا: كيف نرمي وأنتَ معهم؟ فقال: ارموا وأنا معكم كلُّكم". ¬
وقال مصعب بن سعد: "كان سعدٌ يقول: أي بَنِيَّ! تعلموا الرماية، فإنها خير لعبكم". ذكره الطبراني في كتاب "فضل الرمي" (¬1). وذكر فيه أيضًا (¬2) عن أبي أُمامة بن (¬3) سهل بن حنيف قال: "كتب ¬
- كتاب عمر بن الخطاب إلى عتبة بن فرقد في تعلم الفروسية وشرحه
عمر بن الخطاب إلى أبي عُبيدة بن الجراح: أنْ علِّموا غِلمانَكم العَوْم، ومقاتِلَتَكُم الرمي. فكانوا يختلفون في الأغراض، فجاء سهمٌ غربٌ، فقتل غلامًا وهو في حِجر خالٍ له (¬1)، لا يُعْلَم له أصلٌ، فكتبَ أبو عُبيدة إلى عمر: إلى مَن أدفَعُ عَقْلَه؟ فكتب إليه عمر: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: الله ورسوله مولى من لا مولى (¬2) له، والخال وارثُ من لا وارث له". وقال علي بن الجعد (¬3): ثنا شعبة قال: أخبرني قتادة قال: سمعتُ أبا عثمان النهدي، يقول: "أتانا كتاب عمر بن الخطاب ونحن بأذربيجان (¬4). أما بعد: "فاتَّزروا، وارْتَدُوا، وانْتَعِلُوا، وألْقُوا الخِفَاف، وألقوا السَّراويلات، وعليكم بثياب أبيكم إسماعيل، وإيَّاكم والتَّنعم وزيَّ العجم، وعليكم بالشمس؛ فإنها حمَّام العرب، وتمعْدَدوا، واخشَوْشنوا، واخلَوْلقوا (¬5)، واقطعوا الرُّكُب، وانزوا على ¬
الخيل نَزوًا، وارتموا (¬1) الأغراض". قلتُ: هذا تعليم منه للفروسية، وتمرينُ البدن على التبذُّل وعدم الرَّفاهية والتنعُّم، ولزوم زِيِّ وَلَد إسماعيل بن إبراهيم، فأمرهم بالأتزار، والارتداء، والانتعال، وإلقاء الخفاف؛ لتعتاد الأرجل الحرَّ والبَرْد، فتتصلَّب وتقوى على دفع أذاهما. وقوله: "وألقوا السَّراويلات": استغناء عنها بالأُزُر، وهو زِيُّ العرب. وبين منفعتي الإزار والسَّراويلات تفاوت من وجه: فهذا أنفع من وجه، وهذا أنفع من وجه، فالإزار أنفع في الحرِّ (¬2)، والسَّروايل أنفع في البرد، والسَّراويل أنفع للرَّاكب، والإزار أنفع للماشي. وقوله: "وعليكم بثياب أبيكم إسماعيل": هذا يدلُّ [ح 15] على أن لباسَه كان الأزر (¬3) والأردية. وقوله: "وإيَّاكم والتنعُّم وزيِّ العجم": فإن التنعُّم يُخَنِّث النفس، ويكسبها الأنوثة والكسل، ويَخُوْن صاحبه أحوج ما يكون إلى نفسه، وما آثَرَه مَن أفلحَ. وأما "زي العجم"؛ فلأنَّ (¬4) المشابهة في الزِّيِّ الظاهر تدعو إلى ¬
الموافقة في الهَدْي الباطن، كما دلَّ عليه الشرع والعقل والحس (¬1)، ولهذا جاءت الشريعة بالمنع من التشبُّه بالكفار والحيوانات والشياطين والنساء والأعراب وكل ناقصٍ. حتى نهى في الصلاة (¬2) عن التشبُّه بستة (¬3) أنواع من الحيوان يفعلها - أو كثيرًا منها - الجُهَّال، نهى عن: نقر كنقر الديك والغراب (¬4)، - وهي الصلاة التُرْكيَّة -، والتفاتٍ كالتفاتِ الثعلب، وإقعاءٍ كإقعاءِ الكلب، وافتراشٍ كافتراشِ السَّبع، وبروك كبروك الجمل، ورفع الأيدي يمينًا وشمالًا عند السلام كأذنابِ الخيل. ونهى عن التشبُّه بالشياطين في الأكل والشرب بالشمال، وفي سائر خصال الشيطان. ونهى عن التشبه بالكفار في زِيِّهم (¬5)، وفي كلامهم وهديهم، حتى نَهَى عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح؛ فإن الكفار يسجدون للشمس في هذين الوقتين. ونهى عن التشبُّه بالأعراب، وهم أهل الجفاء والبدو، فقال: "لا تغلِبَنَّكُمُ الأعرابُ على اسم صلاتِكم العتمة، وإنها العشاء في كتاب الله ¬
تعالى" (¬1). ولعن المتشبِّهين من الرجال بالنساء. وقوله: "عليكم بالشمس؛ فإنها حمَّام العرب": فإن العرب لم تكن تعرف الحمَّام، ولا كان بأرضهم، وكانوا يتعوَّضون عنه بالشمس؛ فإنها تسخَّن وتحلِّل كما يفعل الحمَّام. وقوله: "وتمعْدَدوا" أي: الزموا المَعَدِّيَّة، وهي عادةُ مَعَدِّ بن عدنان في أخلاقه وزِيِّه وفروسيته وأفعاله (¬2). وقوله: "واخشوشنوا" أي: تعاطَوْا ما يوجِب الخشونة، ويصلِّب الجسم، ويصبِّره (¬3) على الحرِّ والبرد والتعب والمشاق؛ فإن الرجل قد يحتاج إلى نفسه، فيجد عنده خشونة وقوَّة وصبرًا مالا يجدها صاحب التنعُّم والترفُّه، بل [ظ 8] يكون العطب إليه أسرع. وقوله: "واخلولِقوا": هو من قوله: اخلَوْلَق السَّحاب [ح 16] بعد تفرُّقه: أي: اجتمع وتهيَّأ للمطر، وصار خليقًا له، فمعنى اخلولِقوا: تهيَّئوا استعدادًا (¬4) لما يُراد منكم، وكونوا خُلقاء به، جديرين بفعله، لا ¬
فصل
كمن ضيَّع أركان وأسباب فروسيَّته وقوَّته؛ فلم يجدها (¬1) عند الحاجة. وقوله: "واقطعوا الركب" إنما أمرهم بذلك لئلَّا يعتادوا الرُّكوب دائمًا بالرِّكاب، فأحبَّ أن يعوِّدهم الركوب بلا رُكُبٍ، وأن يَنْزُوا على الخيل نَزْوًا. وقوله: "ارتموا الأغراض": أمَرَهم بأن يكون قصدهم في الرمي الإصابة، لا البُعْد، وهذا هو المقصود من الرمي، ولهذا إنما تكون المناضلة على الإصابة لا على البُعْد، كما سنذكره إن شاء الله تعالى (¬2) *. فصلٌ فلو لم يكن في النِّضال إلا أنه يُزِيل الهمّ ويدفع الغمّ (¬3) عن القلب؛ لكان ذلك كافيًا في فضله، وقد جَرَّبَ ذلك أهلُه. وقد روى الطبراني (¬4) من حديث هشام بن عُرْوة عن أبيه عن عائشة ¬
قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما على أحدكم إذا لجّ به همّه، أن يتقلّد قوسه، فينفي به هَمه". وهذا نظير قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "عليكُم بالجهاد، فإنه بابٌ من أبواب الله تعالى يدافعُ الله تعالى به عن النُّفوس الهمَّ والغمَّ" (¬1). ¬
فصل في أن أيمان الرماة لغو لا كفارة ولا حنث
وهو من قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 14 - 15] فصلٌ وقد روي في حديثٍ أن أيمان الرُّماة لغوٌ لا كفَّارة فيها ولا حِنْثَ، وترجمَ عليه أبو القاسم الطبراني (¬1)، فقال: "باب: سقوط الكفارة في ¬
أيمان الرُّماة: حدثنا يوسف بن يعقوب بن عبد العزيز الثقفي البصري بمصر قال: حدثني أبي حدثنا سفيان بن عُيينة عن بَهز بن حكيم عن أبيه عن جده؛ قال: [ظ 9] مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر برماةٍ يرمون، فقال الرامي: أصبتُ واللهِ، فأخطأ، فقال أبو بكر: حَنِث يا رسول الله! فقال: "لا؛ أيمانُ الرماة لغوٌ، لا حْنث ولا كفارة (¬1) ". حدَّثنا زكريا بن يحيى السَّاجي: حدثنا أحمد بن عثمان بن حَكِيم الأوْدِي ثنا بكر بن (¬2) يونس بن بُكَيْر ثنا الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر؛ قال: مرَّ [ح 17] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قوم ينتضلون ويتحالفون: أصبتُ واللهِ، فقال: "ارموا، ولا إثم عليكم" (¬3). قلتُ: يُنْظر في حال يعقوب بن عبد العزيز في السند الأول، وبكر بن يونس (¬4) في الثاني، وإذا صحَّ الحديثان، لم (¬5) يخالِفا قاعدة ¬
فصل في فضل المشي بين الغرضين
الأيمان؛ فإن الحلف في ذلك من باب لغو اليمين، وهو قول الرجل: لا والله، وبلى والله. وليس من الأيمان المُعَقَّدة المُوجِبة للكفَّارة (¬1). فصلٌ وقد روى الطبراني (¬2) من حديث سعيد بن المسيب عن أبي ذرٍّ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن مشى بين الغرضين؛ كان له بكل خطوة حسنة". وقال إبراهيم التَّيمي عن أبيه: "رأيتُ حُذيفة يعْدُو بين الهدفين بالمدائن في قميص" (¬3). وقال الأوزاعي عن بلال بن سعد: "أدركتُ قومًا يشتدُّون بين الأغراض، يضحك بعضهم إلى بعض، فإذا كان الليل؛ كانوا ¬
فصل في المفاضلة بين كوب الخيل ورمي النشاب
رُهْبَانًا" (¬1). وقال مجاهد: "رأيتُ ابن عمر يشتدُّ بين الهدفين، ويقول: أنا بها" (¬2). وتقدَّم أن عقبة بن عامر كان يشتدُّ بين الغرضين وهو شيخٌ كبيرٌ (¬3). فصلٌ فإن قيل: فأيُّها أفضل: ركوب الخيل أو رمي السِّهام في الغرض أو مطلقًا؟ وأيُّ السَّبَقين أفضل؟ (¬4). قيل: قد اختُلِف في ذلك: * فرجَّحت طائفة ركوب الخيل. قال مالك: "سبق الخيل أحبُّ إليَّ من سبق الرَّمي"، ذكره أبو عمر ¬
- خمسة عشر وجها في ذلك، مع الكلام على الأحاديث الواردة فيها
في "التمهيد" (¬1) عنه. واحتجَّ أصحاب هذا القول بوجوه: أحدها: أنه أصل الفروسية وقاعدتها. الثاني: أنّه يُعلِّم الكرَّ والفرَّ والظَّفَر بالخصم. الثالث: أنَّ الحاجة إلى الرمي في ساعة ما (¬2)، وأما الرُّكوب، فالحاجة إليه من أول ما يخرج إلى القتال إلى أن يرجع. الرابع: أن الركوب يعلَّم الفارس والفرس معًا، فهو يؤثر القوة في المركوب وراكبه. الخامس: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - راهنَ على فرس يقالُ له: سَبْحَة، فسبَقَ الناس. ذكره الإمام أحمد (¬3)، ولم يُحْفَظ عنه أنه راهن في النضال. السادس: أن ركوبه - صلى الله عليه وسلم - كان أضعاف أضعاف (¬4) رميه بما لا يُحصى. السابع: أنه سبحانه وتعالى عقد الخير بنواصي الخيل إلى يوم القيامة. [ح 18] الثامن: أنها تصلُح للطلب والهرب، فهي حصون ومعاقل لأهلها. ¬
التاسع: أن أهلها أعزُّ من الرماة، وأرفع شأنًا، وأعلا مكانًا، وأهلها حكَّامٌ به (¬1) على الرُّماة، والرُّماة رعيَّةٌ لهم. العاشر: أنها كانت أحبَّ الأشياء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد النساء، فروى النسائي في "سننه" (¬2) عن أنس قال: "لم يكن شيءٌ أحبَّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد النِّساء من الخيل". الحادي عشر: ما روى مالك في "موطئه" (¬3) عن يحيى بن سعيد ¬
قال: "رُئي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح وجه فرسه بردائه، فقيل له في ذلك؟ فقال: إنِّي عُوتِبْتُ في الخيلِ". وهذا (¬1) لكرامتها عليه وعلى مَن عاتبه فيها. الثاني عشر: ما رواه النسائي (¬2) عن أبي ذرٍّ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من فرسٍ عربيًّ إلا يُؤْذَن له عند السَّحَر بكلمات يدعو بهنَّ: ¬
اللهُمَّ خوَّلتني مَن خوَّلتني من بني آدم وجعلْتَني له، فاجْعَلْني من أحبِّ أهله وماله إليه". الثالث عشر: أن الله سبحانه وتعالى أقْسَم بالخيل في كتابه، وذلك يدلُّ على شرفها وفضلها عنده، قال الله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)} [العاديات: 1 - 3]. أقسم سبحانه بالخيل تعْدُو في سبيله. والضَّبْح: صوتٌ في أجوافها عند جريها (¬1). {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)} توري النار بحوافرها عندما تصكُّ الحجارة. {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)} (¬2) النَّقْعُ: الغبار تثيره الخيل عند عَدْوِها. والضمير في {بِهِ} قيل: يعود على القَدْح، وهو ضعيف؛ فإن الغبار لا يُثار بالقدح. وقيل: عائد على المُغار المدلول عليه بقوله: {فَالْمُغِيرَاتِ} أي: أثرنَ بالمُغار غُبارًا؛ لكثرة جولانها فيه. ويجوز أن يعود على المُغار الذي هو مصدرٌ، أي: أثرن (¬3) الغبار بسبب الإغارة. ويجوز أن يعود على العَدْوِ المفهوم من لفظ ¬
{وَالْعَادِيَاتِ}. والضمير في قوله: {بِهِ} الثانية مثل الأولى. وقيل: عائدٌ على النَّقع، أي: وسطنَ جَمْعًا ملتبسات بالنقع، وعلى هذا، فـ "جَمْعٌ" هنا: مَجْمع العدو. وهذا قول ابن مسعود (¬1). وقال علي (¬2): المراد بها إبل الحاج. أقسم [ظ 10] الله تعالى بها لعَدْوِهَا في الحج الذي هو من (¬3) سبيله، و"جَمْعٌ" (¬4) الذي وَسَطْن به: هو مزدلفة أغرن (¬5) به [ح 19] وقت الصبح. والقول الأول أرجح لوجوه: أحدها: أن المستعمل في الضَّبْح إنما هو للخيل (¬6)، ولهذا قال أهل اللغة: "الضَّبح: صوت أنفاس الخيل إذا عدَت، قال الله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)}، ويقال أيضًا: ضبح الثعلب". ¬
الثاني: أنه (¬1) وصفها بأنها توري النار من الحجارة عند عدوها، وهذا مشهود في الخيل؛ لقرع سنابكها من الحديد للصفا، فيتولَّد قدح النار من بينهما كما يتولَّد من الحديد والصَّوان عند القدح. الثالث: أنه وصفها بالإغارة، وهي وإن استعملت للإبل، كما كانت قريش تقول: "أشْرِقْ ثبير كيما نُغِيْر" (¬2)؛ لكنَّ استعمالها في إغارة الغزو أكثر. الرابع: أنه سبحانه وتعالى وقَّت الإغارة بالصبح، والحُجَّاج (¬3) عند الصبح لا يُغيرون، وإنما يكونون بموقف مزدلفة، وقريش إذ ذاك لم تكن تغير حتى تطلع الشمس، فلم تكن تُغيِر بالصبح قريش ولا غيرها من العرب. وفي "الصحيح" (¬4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه كان في الغزو لا يُغير حتى يُصْبِحَ، فإذا أصبح؛ فإن سمع أذانًا أمسك، وإلا أغار". الخامس: أنه تعالى عطَفَ توسُّط الجمع بالفاء التي هي للتَّرتيب بعد الإغارة، وهذا يقتضي أنها أغارت وقت الصبح، فتوسَّط الجمع ¬
بعد الإغارة، ومن المعلوم أن إبل الحاج لها إغارتان: إغارة في أول الليل إلى جَمْع، وإغارة قبل (¬1) طلوع الشمس منها إلى مِنى، والإغارة الأولى قبل الصبح، فلا يمكن الجمع بينهما وبين وقت الصبح وبين توسُّط جمع، وهذا ظاهر. السادس: أن النَّقع هو الغبار، وجَمْع مزدلفة وما حوله كله صفا، وهو وادٍ بين جبلين لا غبار به تثيره الإبل، والله أعلم بمراده من كلامه. الرابع عشر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن: "من ارتبط فرسًا في سبيل الله؛ فإن شبعه وريَّه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة" (¬2). الخامس عشر: أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بارتباطها ومسح نواصيها وأكفالها، ففي "سنن أبي داود"، "والنسائي" (¬3) من حديث أبي وهب الجُشّمي ¬
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارتبطوا الخيل، وامسحوا بنواصيها [ح 20] وأكفالها، وقلِّدوها، ولا تقلِّدوها الأوتار". وفي هذا قولان: أحدهما: أنه لا يركب عليها، ويقلِّدها في الأخذ بأوتار الجاهلية، وهي الذُّحول (¬1) والعداوات التي بين القبائل (¬2). الثاني: - وهو الصحيح -: أن لا يقلِّدها وترًا من أجل العين، كما كان أهل الجاهلية تفعله، وكذلك لا يعلِّق عليها خرزة، ولا عظمًا، ولا تميمة؛ فإن ذلك كله من عمل الجاهلية (¬3). ¬
وفي "سنن أبي داود" وغيره مرفوعًا: "من تقلَّد وترًا؛ فإنَّ محمدًا منه بريء" (¬1). ¬
- أوجه تفضيل الرمي بالنشاب على ركوب الخيل من عشرين وجها مع الكلام على الأحاديث الواردة فيها
فصلٌ * وذهبت طائفة ثانية إلى أن الرمي أفضل من الركوب، وتعلُّمه أفضل من تعلُّمه، والسباق به أفضل. واحتجَّت هذه الفرقة بوجوه منها: أحدها: أنَّ الله تعالى قدَّم الرمي في الذِّكْر على الرُّكوب (¬1)، فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60]. وثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه فسَّر القوَّة: بالرمي (¬2)، والعرب إنَّما تبدأ في كلامها بالأهمِّ والأولى. قال سيبويه (¬3): "فإنهم (¬4) يقدِّمون الذي بيانه أهم لهم، وهم ببيانِه أَعْنَى، وإنْ كانا جميعًا يهمانهم ويعنيانهم". هذا لفظه. الثاني: أنه سمَّى الرمي قوَّة، وعدل عن لفظه، وسمَّى رباط الخيل بلفظه، ولم يعدل عنه (¬5) إلى غيره؛ إشارةً إلى ما في الرمي من ¬
النِّكاية والمنفعة. الثالث: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنَّ الرَّمي أحبُّ إليه من الرُّكوب، فدلَّ على أنه أفضل منه. ففي "سنن أبي داود" و"النسائي" و"الترمذي" (¬1) من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لَيُدخِلُ بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه المحتسب في عمله الخير، والرامي به، والمُمِدَّ به، فارموا واركبوا، وأن ترموا أحبُّ إليَّ من أن تركبوا". الرابع: أن الرَّمي ميراث من إسماعيل الذبيح - صلى الله عليه وسلم -، كما في "صحيح البخاري" (¬2) أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بقومٍ ينتضلون، فقال: "ارموا بني إسماعيل؛ فإن أباكم كان راميًا". الخامس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مع الفريقين معًا في النِّضَال، ولم [ح 21] يدخل مع الفريقين في سباق الخيل، فدلَّ على فضل الرُّمَاة والرِّماية (¬3)، فأراد أن يحوز فضل الفريقين، وأن لا يفوتَه منه [ظ 11] شيءٌ. السادس: أنه صحَّ عنه من (¬4) الوعيد في نسيان الرمي ما لم يجئ مثله في ترك الرُّكوب. ¬
ففي "صحيح مسلم" (¬1) من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول لله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن تعلَّم الرمي ثم تركه؛ فليس منا - أو: قد عصى -". وعند الطبراني من حديث سُهَيْل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من تعلَّم الرمي ثم نسيه؛ فهي نعمةٌ سُلِبَها" (¬2). وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: أخبرني أبو سَلَّام قال: حدثني خالد بن زيد عن عُقْبة بن عامر قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ومن ترك الرمي بعدما عُلِّمَه؛ فإنه نعمةٌ كفرها - أو تركها -" (¬3). ¬
السابع: أنَّ رمي السَّهم يعدِل عتق رقبة، كما في "سنن أبي داود" و"النسائي" و"الترمذي" (¬1) عن عمرو بن عَبَسَة قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن رمى بسهمٍ في سبيل الله؛ فهو عدلٌ محرَّر". قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وفي لفظ النسائي (¬2): ¬
"مَن رمى بسهمٍ في سبيل الله، بَلَغَ العدوَّ أو لم يبلغ؛ كان له كعتق رقبة". وقال عبد الله بن صالح: حدثني معاوية بن صالح عن أَسَد بن وَداعة عن عمرو بن عَبَسَة قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن أعتق رقبة مؤمنة، أعتق الله بكلِّ عضوٍ منه عضوًا منه من النار، ومن رمى بسهمٍ في سبيل الله فبَلَغَ العدوَّ فأصاب أو أخطأ كان له عتقُ رقبة" (¬1). الثامن: أنه بدرجة في الجنة. كما رواه الطبراني (¬2) من حديث أبي عَوانة عن الأعمش عن ¬
عمرو بن مُرَّة عن أبي عُبَيْدة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الطائف: "قاتِلوا؛ فمَن بلغ بسهم فإنها درجة، أمَا إنها ليست [ح 22] بدرجة أبي أحدكم ولا أُمِّه؛ ولكنها درجة في الجنة". وذكر من حديث سعيد بن بَشِيْر عن قتادة عن سالم بن أبي الجَعْد عن مَعْدان بن أبي طلحة عن عمرو بن عبسة أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال - وهو محاصِرٌ الطائف -: "من رمى بسهمٍ؛ فهو عدلُ رقبة" (¬1). وذكر أبو يعقوب القرَّاب من حديث الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من بلغ بسهمٍ؛ فله درجة في الجنة". قالوا: يا رسول الله! وما الدرجة؟ قال: ¬
"ما بين الدرجتين خمسمائة عام" (¬1). التَّاسع: أنه نورٌ يوم القيامة. كما رواه الحافظ أبو يعقوب القرَّاب في كتاب "فضل الرمي" (¬2) من حديث محمد بن الحنفية قال: رأيت أبا عَمْرَة الأنصاري - وكان بدريًّا أُحُدِيًّا - وهو يتلوَّى من العطش، ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من رمى بسهمٍ في سبيل الله، فبلغ أو قَصَّر؛ كان ذلك السهم نورًا يوم القيامة". قال أبو يعقوب (¬3): ورُوِّينا بروايات مختلفة أكثر من عشرة - يطول بذكر أسانيدهم الكتاب - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من رمي بسهمٍ في سبيل ¬
الله، كان له نورًا تامًّا". العاشر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) دعا للرماة، فقال لسعد بن أبي وقَّاص: "اللهُمَّ سدِّد رميته، وأجب دعوته" (¬2). فكان لا يخطئ له سهم، وكان مجاب الدعوة. الحادي عشر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فدى الرماة بأبيه وأمه. ففي "الصحيحين" (¬3) من حديث سعيد بن المسيب قال: قال ¬
سعد بن مالك: "نثَل لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنانته يوم أحد، فقال: ارْمِ، فداكَ أبي وأمي". وفي لفظ لهما: "جمع لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبويه يوم أحد" (¬1). وفي "صحيح مسلم" (¬2) عن عامر بن سعد عن أبيه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع له أبويه يوم أحد؛ قال: كان رجل من المشركين أحرق المسلمين، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ارم، فداك أبي وأُمِّي" قال: فنزعتُ له [ح 23] بسهمٍ ليس فيه نصلٌ، فأصبت جَنْبَهُ، فسقط، وانكشفَتْ عورتُه، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نظرتُ إلى نواجذه". الثاني عشر: أنّ للماشي (¬3) بين الغرضين بكل خطوة حسنة. كما روى الطبراني في كتاب "فضل الرمي" (¬4) من حديث علي بن زيد عن سعيد بن المسيِّب عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من مشى بين الغرضين؛ كان له بكل خطوة حسنة". الثالث عشر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان من [ظ 12] حرصه على الرمي يناول الرامي السهم ماله نصل يرمي به، وكان الرماة وقايةً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ كما ذكر ابن إسحاق في "المغازي" (¬5) من حديث سعد: أنه رمى يوم ¬
أحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال سعد: "ولقد رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يناولني السهم، ويقول: ارمِ، فداك أبي وأمي"، حتى إنه ليناولني السهم ما له نصل، فأرمي به". الرابع عشر: أَنَّ من فضائل القوس (¬1)، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب وهو متوكِّئ عليها (¬2). ويُذكر عن أنس قال: "ما ذُكِرَت القوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا قال: ما سبقها سلاح إلى خيرٍ قط" (¬3). ويُذكر أن جبريل جاء يوم بَدْرٍ وهو متقلِّد قوسًا عربيَّة (¬4). ¬
الخامس عشر: أنّ في القوس خاصية (¬1)، وهي أنها تَنْفي الفقر عن صاحبها، وقد ورد بذلك أثرٌ في إسناده نظر ذكره (¬2) أبو القاسم الطبراني في كتاب "فضل الرمي" (¬3) من حديث الرَّبِيعْ بن صَبِيْح عن الحَسَن عن أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن اتَّخذ قوسًا عربيَّة، نفى الله عنه الفقر". السادس عشر: أن بالقُسِيِّ مكَّن الله الصحابة في البلاد، ونصرهم على عدوهم. كما رواه الطبراني من حديث عبد الرحمن بن عُوَيْم بن ساعدة عن أبيه عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى القوس العربية، وقال: "بهذه وبرماح القنا يمكِّن الله لكم في البلاد وينصركم على عدوِّكم" (¬4). ¬
وروى ابن ماجه نحوه عن علي بن أبي طالب مرفوعًا (¬1). السابع عشر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[ح 24] حرَّضهم عند فتح البلاد عليهم على اللهو بالسهام؛ كما رواه الطبراني من حديث صالح بن كَيْسان عن عقبة بن عامر قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ستُفْتحُ لكم الأرض، وتَكْفون المؤنة، فلا يعْجِزْ أحدُكم أنْ يلهو بأسْهُمِهِ" (¬2). الثامن عشر: أن منفعة الرمي ونكايته في العدو فوق منفعة سائر آلات الحرب، فكم من سهمٍ واحدٍ هزم جيشًا، وإن الرامي الواحد ليتحاماه الفرسان، وترعد منه أبطال الرجال. هذا، وإن السهم تريد ترسله إلى عدوك (¬3)، فيكفيك مؤنته على ¬
البُعْد، وقد عُلِم بالتجرِبة أن الرامي الواحد إذا كان جيِّد الرمي؛ فإنَّه يأخذ الفئة من الناس الذين لا رامي معهم، ويطردهم جميعًا، ولهذا عند أرباب الحروب (¬1) إن كل سهم مقام رجل، فإذا كان مع الرجل الرامي (¬2) مئة سهمٍ، عُدَّ بمئة رجل، والخصم يخاف من النشاب أضعاف خوفه من السيف والرمح، وإذا كان راجل واحد رام؛ أمكنه أن يأخذ مئة فارس لا رامي فيهم ويغلبهم، ومئة فارس لا يغلبون راميًا واحدًا، ولهذا ألقى الله تعالى من الرعب لصاحب الرمي عند خشخشة النشاب والجعبة ما لم يلقه لصاحب السيف والرمح، وهذا معلومٌ بالمشاهدة، حتى إن الألف ليفزعون من رامٍ واحد، ولا يكادون يفزعون من ضارب سيفٍ واحد، فصوت الرامي المجيد (¬3) في الجيش خير من فئة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة" (¬4). ¬
وكان أبو طلحة من أحسن الصحابة رميًا، وأشدِّهم نزعًا، وفي "الصحيح" (¬1) أنه: "لما كان يوم أُحُد، انهزم أُناسٌ من (¬2) الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو طلحة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُجوِّب عليه بحَجَفة (¬3) معه، وكان أبو طلحة رجلًا راميًا شديد النَّزع، وكَسَرَ يومئذٍ قوسين أو ثلاثًا، وكان الرجل يَمُرُّ بالجَعْبَة فيها النَّبْل (¬4)، فيقول: ¬
"انثُرْها لأبي [ح 25] طلحة"، ويُشْرِفُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينظر إلى القوم، فيقول له أبو طلحة: لا تُشْرِف، يُصيبك (¬1) سهمٌ من سهام القوم، نحري دونَ نحرك". وفي لفظ آخر: "لا تشرف يا رسول الله! نفسي لنفسك الفداء، ووجهي لوجهك الوقاء" (¬2). وقال أنس: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو طلحة يتَّرَّسان بترس واحد، وكان أبو طلحة إذا رمى يشرف له رسول الله ينظر إلى مواقع سهمه" (¬3). التاسع عشر: أن الرمي يعمل في الجهات كلها، فيعمل في وجه (¬4) العُلُو، والسُّفْل، واليمين، والشمال، وخَلْف، وأمام على البُعْد، وغيره لا يبلغ عمَلَه ذلك ولا بعضه، ولا يؤثِّر إلا مع القرب. * [ظ 13]. العشرون: أن الرمي يَصْلُح للكسب والحرب، فيصاد به الطير ¬
- فصل النزاع بين الطائفتين
والوحش، فهو يصلح لتحصيل المنافع ولدفع المضار، وهو أعظم الآلات تحصيلًا لهَذين الأمرين، وإن كان غير الرامي قد يحصل به ذلك إلا أنَّ (¬1) الحاصل منه بالرمي أكمل وأتمّ. فهذا بعض ما احتجَّ به الفريقان. قال شيخ الإسلام: وقد رُوِيَ أن قومًا كانوا يتناضلون، فقيل: يا رسول الله! قد حضرتِ الصلاة، فقال: "هُم في صلاة" (¬2). فشبَّه رمي النشاب بالصلاة، وكفى بذلك فضلًا" *. وفصل النزاع بين الطائفتين: أن كل واحد منهما يحتاج في كماله إلى الآخر، فلا يتمُّ مقصود أحدهما إلا بالآخر، والرمي أنفع في البُعْد، فإذا اختلط الفريقان، بطل الرمي حينئذ، وقامت سيوف الفروسية من الضرب والطعن والكرِّ والفرِّ، وأما إذا تواجَهَ الخصمان من البعد، فالرمي أنفع وأنجع، ولا تتمُّ الفروسية إلا بمجموع الأمرين، والأفضل منهما ما كان أنكى في العدو (¬3)، وأنفع للجيش، وهذا يختلف باختلاف الشخص، ومقتضى الحال، والله أعلم *. ¬
فصل وأما رميه بيده الكريمة - صلى الله عليه وسلم -
فصل وأما رميه بيده الكريمة - صلى الله عليه وسلم -: فقال ابن إسحاق في "المغازي" (¬1): "حدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمى عن قوسه يوم أحد حتى اندقَّت سِيَتَها (¬2)، فأخذها قتادة بن النعمان، فكانت عنده، وأُصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان، حتى وقعت على وجنته، [ح 26] فحدَّثني عاصم بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ردَّها بيده، فكانت أحسن عينيه وأحدَّهُما". فصلٌ وأما طعنه بالحربة - وهي رمحٌ قصير -: ففي "مغازي موسى بن عقبة"، و"ابن إسحاق" (¬3)، و"الأموي" ¬
وغيرها: "أنه لما كان يوم أُحد، وأسند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الجبل، أدركه أُبيّ بن خَلَف وهو يقول: أين محمد؟ لا نَجَوْتُ إنْ نَجا". قال ابن إسحاق (¬1): "وكان أُبيُّ بن خلفَ - كما حدَّثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف - يلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فيقول: يا محمد! إن عندي العود - فرسًا له - أعلفه كل يومٍ فرقًا من ذُرة، أقتلك عليه، فيقول: بل أنا أقتلك إن شاء الله تعالى". قال موسى بن عقبة (¬2): "قال سعيد بن المسيب: فلما أدرك أُبيٌّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ اعترض له رجال من المؤمنين، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخلُّوا طريقه، واستقبله مصعب بن عُمير أخو بني عبد الدار يقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه، فقُتِل مصعب بن عمير، وأبصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تَرْقُوة أُبيِّ بن خلف من فرجة في سابغة الدرع والبيضة، فطعنه بحربته، فوقع أُبيٌّ عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم، فكسر ضلعًا من أضلاعه، فلما رجع إلى قريش وقد خَدَشَه في عنقه خدشًا غير كبير، فاحتقن الدم، قال: قتلني والله محمد، قالوا له: ذهب والله فؤادك، إنه ما كان ¬
فصل ما ورد في فضل الرماح
بك من بأس (¬1)، قال: إنه قد قال لي بمكة: "أنا أقتلك"، فوالله لو بَصَقَ عليَّ لقتلني، فمات عدو الله بِسَرِف وهم قافلون إلى مكة". قال ابن عقبة في هذا الحديث: "قال: والذي نفسي بيده، لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون". فصلٌ وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الرماح في كتابه، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: 94]. وفي "مسند الإمام أحمد" (¬2) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله ¬
عنهما [ح 27] قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بُعِثْتُ بالسيف بين يدي الساعة حتى يُعْبَد الله وحده لا شريك له، وجُعِلَ رزقي تحتَ ظلِّ رمحي، وجُعِل الذِّلَّة والصَّغار على من خالف أمري، ومَن تشبَّه بقومٍ فهو منهم". وفي "سنن ابن ماجه" (¬1) عن علي بن أبي طالب قال: "كانت بيد ¬
- تظهر الفروسية في ثلاثة أشياء
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوسٌ عربيَّة، فرأى رجلًا بيده قوس فارسيَّة، فقال: ما هذه؟ ألقِها وعليك بهذه وأشباهها ورماح القَنا؛ فإنهما يزيد الله بهما في الدين، ويمكِّن لكم في البلاد". والرماح للمقاتلة بمنزلة الصياصي للوحوش (¬1) تدفع بها من يقصدها، وتحارب [ظ 14] بها، وقد نصَّ الإمام أحمد على أن العمل بالرمح أفضل من الصلاة النافلة في الأمكنة التي يحتاج فيها إلى الجهاد (¬2). والفروسية تظهر في ثلاثة أشياء: - ركوب الخيل، والمسابقة عليها. - ورمي النشاب. - واللعب بالرمح، وهو بنود كثيرة، ومبناه على: الطعن والتبطيل والنقل والتسريح والنثل (¬3)، والدخول، والخروج. ومداره على أصلين (¬4): الطعن والتبطيل. ¬
أوجه المشابهة بين الجلاد بالسيف والسنان، والجدال بالحجة والبرهان
فالشجاع الخبير: الذي لا يطعن في موضع (¬1) التبطيل، ولا يبطل في موضع الطعن، بل يعطي كل حالٍ ما يليق به، ويعرف حكم ملازقة القِرْن ومفارقته، ومخارجته (¬2) ومضايقته، وهزله وجدّه، وأخذه ورده، وطلوعه ونزوله، وكرّه وفرّه، ويعطي كل حال من هذه الأحوال كُفْأها وما يليق بها، ويكون عارفًا بالدخول، ومواضع الطعن والضرب، والإقدام والإحجام، واستعمال الطعن الكاذب في موضعه والصادق في موضعه، والاستدارة عند المجاولة يمينًا وشمالًا، وإعمال الفكر (¬3) حال دخول القِرْن على قِرْنه: في الخروج منه والدخول عليه، فلا يشغله أحدهما عن الآخر. ولما كان الجِلاد بالسيف والسنان (¬4) والجدال بالحجة والبرهان كالأخوين الشقيقين والقرينين المتصاحبين [ح 28] = كانت أحكام كل واحد (¬5) منهما شبيهة بأحكام الآخر، ومستفادة منه. فالإصابة في الرَّمي والنِّضَال، كالإصابة في الحُجَّة والمَقَال، والطعن والتبطيل نظير إقامة الحجة وإبطال حجة الخصم، والدخول والخروج نظير الإيراد والاحتراز منه، وجواب الخصم والقِرْن (¬6) عند ¬
- الفروسية فروسيتان
دخوله عليك، كجواب الخصم عمَّا يُوْرده عليك. فالفروسية فروسيَّتان: فروسية العلم والبيان، وفروسية الرمي والطِّعان (¬1). ولمَّا كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل الخلق في الفروسيَّتين، فتحوا القلوب بالحجَّة والبُرْهان، والبلاد بالسيف والسِّنان (¬2). وما الناس إلا هؤلاء الفريقان، ومن عداهما؛ فإن لم يكن رِدءًا وعونًا لهما، فهو كَلٌّ على نوع الإنسان. وقد أمر الله سبحانه وتعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بجدال الكفار والمنافقين، وجِلاد أعدائه المشاقِّين والمحاربين، فعُلِم أن الجِلَاد والجِدَال من أهم العَلوم وأنفعها (¬3) للعباد، في المعاش والمعاد، ولا يَعْدِلُ مِداد العلماء إلا دمُ الشهداء، والرفعة وعلو المرتبة (¬4) في الدَّارين إنما هي لهاتين الطائفتين، وسائر الناس رعيةٌ لهما، منقادون لرؤسائهما *. فصلٌ فإن قيل: فإذا كان شأن الرمح ما (¬5) ذكرتم؛ فهلَّا جوَّزتم الرهان على الغلبة به كما جوّزتموها في النِّضال وسباق الخيل؟ ¬
- ركوبه الفرس عريانا، وتقلده بالسيف
قيل: اختلف الفقهاء في ذلك، فمنعه أصحاب أحمد، ومالك (¬1)، وللشافعية في المزاريق وجهان (¬2). * قال من جوَّز الرهان عليها: هي داخلةٌ في اسم النَّصل (¬3). * وقال المانِعون: المُراد بالنَّصْل ما يتبادر إليه الأفهام، وما قد جرت عادة الناس بالتَّراهن عليه من عهد الصحابة وإلى الآن، [ح 29] وهو السهام خاصة (¬4). ولا ريب أن من جَوَّز الرهان على العَدْوِ بالأقدام والصراع؛ فتجويزه له في المغالبة بالرماح أولى وأحرى. فصلٌ وأما ركوبه الفرس عُريانًا، وتقلده بالسيف: ففي "الصحيحين" (¬5) من حديث ثابت عن أنس قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فَزِع أهل ¬
المدينة ليلة، فركب فرسًا لأبي طلحة عُرْي (¬1)، فخرج الناس، فإذا هم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد سبقهم إلى الصوت، قد استبرأ الخبر، وهو يقول: لَنْ تُراعُوا، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وَجَدْناه بحرًا". قال ثابت: "فما سُبِق ذلك الفرس بعد ذلك (¬2)، قال: وكان فرسًا يبطأ" (¬3). وفي لفظ: "فاستقبل الناس على فرَسٍ عُرْي لأبي طلحة، والسيف في عُنُقه" (¬4). وفي صفته - صلى الله عليه وسلم - في الكتب الأولى: "عزُّه على عاتقه" (¬5). إشارة إلى تقلُّده السيف. وفيها أيضًا صفته وصفة أمته: تتقلَّد السيوف، كما في "الزبور" (¬6) في بعض المزامير: "من أجل هذا بارك الله عليك إلى الأبد، فتقلَّد أيها ¬
الخيار السيف؛ لأنه البهاء لوجهك، والحمد الغالب عليك، لتركب كلمة الحق، وسَمْتَ التألُّه، فإن ناموسك وشرائعك مقرونةٌ بهيبة (¬1) يمينك، وسهامك مسنونة، والأمم يجرون تحتك". وليس من الأنبياء مَن تقلَّد السيف بعد داود [ظ 15]، وخرت الأمم تحته، وقُرِنت شرائعه بالهيبة؛ سوى نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -؛ كما قال: "نُصِرْتُ بالرُّعب مسيرة شهر" (¬2). وفي صفة أمته في "الزبور": "وليفرح مَن اصطفى الله أمَّته، وأعطاه النصر، وسدَّد الصالحين منهم بالكرامة، يسبِّحونه على مضاجعهم، ويكبِّرون الله تعالى بأصوات مرتفعة، بأيديهم سيوف ذات شفرتين، لينتقم بهم من الأمم الذين لا يعبدونه". وهذه الصفات منطبقة على محمد - صلى الله عليه وسلم - وأُمَّته (¬3). ¬
فصل في أحكام الرهان في المسابقة وصوره
فصلٌ في أحكام الرهان في المسابقة وصوره (¬1) المتَّفق عليها والمختَلَف فيها اتفق العلماء (¬2) على جواز [ح 30] الرهان في المسابقة على الخيل والإبل (¬3) والسهام في الجملة، واختلفوا في فصلين: أحدهما: في الباذل للرهن مَن هو؟ الثاني: في حكم عود الرهن إلى مَنْ يعود؟ * فذهب الشافعي وأحمد وأبو حنيفة (¬4) إلى أن الباذل للرهن يجوز أن يكون أحد المتعاقدين، ويجوز أن يكون كلاهما، وأن يكون أجنبيًّا ثالثًا: إما الإمام، وإما غيره؛ ولكن إن كان الرهن منهما لم يحلَّ إلا بمحلِّل، وهو ثالث يُدْخلانه بينهما، ولا يُخْرِج شيئًا، فإن سبَقَهُمَا، ¬
- الاختلاف في المحلل، هل يجوز أكثر من واحد؟
أخذ سَبَقَهما، وإن سبقاه معًا أحرزا سَبَقَهما، ولم يغرَمِ المحلِّلُ (¬1) شيئًا، وإن سبق المحلِّلُ مع أحدهما، اشترك هو (¬2) والسابق في سَبَقِه. ثم اختلفوا في أمر آخر في المحلِّل، وهو أنه: هل يجوز أن يكون المحلِّل أكثر من واحد أو لا يجوز أن يكون (¬3) إلا واحدًا؟ فظاهر كلامهم أن المحلِّل يكون كأحد الحزبين: إما واحدًا، وإما عددًا (¬4). وقال أبو الحسن الآمدي من أصحاب أحمد: "لا يجوز أكثر من واحد، ولو كانوا مئة؛ لأن الحاجة تندفع به" (¬5). قالوا: والعقد بدون المحلِّل إذا أخرجا معًا قمارٌ. * ومذهب مالك (¬6): أنه إنما يجوز أن يُخْرِج السَّبقَ ثالثٌ ليس من المتسابقين (¬7): إما الإمام، أو غيره، ولا يجري معهم، فمن سبق منهما أخذ ذلك السبق. فإن جرى معهما الذي أخرج السبق، فلا يخلو: إما أن تكون خيل السباق فرسين أو أكثر. ¬
- لا يحفظ عن أحد من الصحابة اشتراط المحلل، بل المحفوظ عنهم خلافه
فإن كانتا فرسين، فسبق مُخْرِج السبق، فالسبق طُعْمٌ لمن حضر، ولا يأخذه السابق. وإن كانت خيلًا كثيرةً، وقد سبق مُخْرِج السبق، أعطى سبقه للذي يليه - وهو المصلِّي - ولم يأخذه. وفقه ذلك أنَّ سَبَقَه لا يعود إليه بحال، سواء سَبَق أو سُبِق. ولا يجوز عنده أن يخرجا معًا، لا بمحلِّل، ولا بغير محلِّل، ولا أن يُخْرِج أحد المتسابِقين. وقد رُوي عن مالك رواية ثانية: جواز إخراج السبق منهما بمحلِّل كقول الثلاثة، [ح 31]. قال ابن عبد البر: "وهذا أجود قوليه، وهو اختيار ابن المواز" (¬1). قلت: ولكن أصحابه على خلافه، والمشهور عندهم ما حكيناه عنه أولًا. والقول بالمحلِّل مذهبٌ تلقَّاه الناس عن سعيد بن المسيب، وأما الصحابة، فلا يحفَظُ عن أحد منهم قطُّ أنه اشترط المحلِّل، ولا راهن به، مع كثرة تناضلهم ورهانهم (¬2)، بل المحفوظ عنهم خلافه، كما ذُكِرَ عن أبي عُبيدة بن الجَرَّاح. وقال الجُوْزَجَاني الإِمام في كتابه "المترجم" (¬3): "حدثنا ¬
أبو صالح - هو محبوب بن موسى الفرَّاء -: حدثنا أبو إسحاق - هو الفَزَارِي - عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال: قال رجل عند جابر بن زيد: إن أصحاب محمد كانوا لا يرون بالدَّخيل بأسًا، فقال: هم كانوا أعفَّ من ذلك" (¬1). والدَّخيل عندهم: هو المحلِّل، فنهاية (¬2) ما نُقِل عنهم لم يكونوا يرون به بأسًا. وفرقٌ بين أن لا يرون به بأسًا وبين أن يكون شرطًا في صِحَّة العقد وحِلِّه، فهذا لا يُعْرَف عن أحدٍ منهم ألبتة. وقوله: "كانوا أعفَّ من ذلك" أي: كانوا أعفَّ من أن يُدْخِلُوا بينهم في الرهان دخيلًا كالمستعار، ولهذا قال جابر بن زيد راوي هذه القصة: "إنه لا يحتاج المتراهنان إلى المحلِّل". حكاه الجُوْزجاني وغيره عنه (¬3). ¬
* الخلاف في اشتراط المحلل في السباق والنضال
فصلٌ إذا عرفتَ مذاهب الناس في هذه المسألة فلْنذكر (¬1) حجج الفريقين، ومأخذ المسألة من الجانبين، وإلى المنْصِف التحاكم، وغيره لا يعبأ الله به ولا رسوله ولا أولو العلم شيئًا. قال المجوِّزون للتراهن من غير محلِّل: * قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. وهذا يقتضي الأمر بالوفاء بكل عقد؛ إلا عقدًا حرَّمه الله تعالى ورسوله، أو أجمعت (¬2) الأمة على تحريمه، وعقد الرهان من الجانبين ليس فيه شيءٌ من ذلك، فالمتعاقدان [ظ 16] مأموران بالوفاء به. * وقال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34]. * وقال تعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177]. * وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمون عند شروطهم إلا شرطًا أحلَّ حرامًا، [ح 32] أو حرَّم حلالًا" (¬3). حديث صحيح. ¬
وقال عليه الصلاة والسلام: "إن من أعظم المسلمين - في المسلمين - جُرمًا مَن سأل عن شيء لم يحرَّم، فحُرِّم على الناس من أجل مسألته" (¬1). وهذا يدلُّ على أن العقود والمعاملات على الحلّ، حتى يقوم الدليل من كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تحريمها، فكما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله تعالى ورسوله؛ فلا حرام إلا ما حرَّمه الله ¬
تعالى ورسوله. * قالوا: وقد أطلق النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جواز أخذ السَّبَقِ في الخُفِّ والحافر والنَّصْل إطلاقَ مشرِّع لإباحته، ولم يقيِّده بمحلِّل، فقال: "لا سَبَقَ إلا في خُفٍّ، أو حافرٍ، أَو نَصْلٍ" (¬1). فلو كان المحلِّل شرطًا؛ لكان ذكره أهمَّ من ذكر مَحالِّ السباق - إن (¬2) كان السباق بدونه حرامًا، وهو قمار عند المشترطين -، فكيف يطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جواز أخذ السَّبَق في هذه الأمور، ويكون أغلب صوره مشروطًا بالمحلِّل، وأكل المال بدونه حرامٌ، ولا يُبَيِّنه (¬3) بنصٍّ ولا بإيماء ولا تنبيه ولا ينقل عنه ولا عن أصحابه مدَّة رهانهم في المحلل قضية واحدة؟! * قالوا: وفي "مسند الإمام أحمد" (¬4) عن أبي لَبِيد لِمَازَة بن زَبَّار، قال: قلنا لأنس: أكنتم تراهنون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ قال: "نعم، لقد راهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5) على فرس يقال له: سَبْحَة، فسبق الناس، فهشَّ لذلك وأعجبه". وهو حديث جيِّد الإسناد. ومن الكفاية في الاحتجاج به رواية هذا الإمام له، وعلى المانع ¬
3 - من الآثار
إبداء ما يوجب عدم الاحتجاج (¬1). * قالوا: المراهنة: مفاعَلَةٌ، وهي لا تكون إلا من الطرفين. هذا أصلها والغالب عليها. * قالوا: وروى أحمد أيضًا، حدثنا غُنْدر عن شُعْبة عن سِمَاك قال: سمعتُ عِيَاضًا الأشعريَّ قال: "قال أبو عُبيدة: مَن يُراهِنُنِي؟ فقال شابٌّ: أنا إن لم تغضب، قال: فسبقه، قال: فرأيتُ عقيصتي أبي عُبيدة تنقزان، وهو على فرس خلفه عُرْي" (¬2). ولم يذكر محلِّلًا في هذا ولا في غيره. * قالوا: ومثل هذا لا بدَّ أن يشتهر، ولم يُنْقَل عن صحابي خلافه. قال شيخِ الإسلام: "وما علمتُ بين الصحابة خلافًا في عدم اشتراط المحلِّل" (¬3). * قالوا: وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: [ح 33] "لا جَلَبَ ولا جَنَبَ في ¬
- تحقيق الكلام على زيادة لفظة (في الرهان)
الرِّهان" (¬1). ¬
5 - من القياس
والرِّهان على وزن فِعال، وهو يقتضي أن يكون من الجانبين، فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - في عقد الرهان الجَلَبَ والجَنَب، ولم يبطل اشتراكهما (¬1) في بَذْل السْبَق، مع أن بيان (¬2) حكمه أهمُّ من بيان الجلب والجنب بكثير. * قالوا: ولو كان إخراج العِوَض من المتراهنين حرامًا، وهو قمار؛ لما حلَّ بالمحلِّل؛ فإن هذا المحلِّل لا يُحِلُّ السَّبَق الذي حرَّمه الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا تزول المفسدة التي في إخراجها بدخوله، بل تزيد كما سنبيّنه، فإنْ كان العقد بدونه قمارًا فهو بدخوله (¬3) أيضًا قمار، إذ المعنى الذي جعلتموه لأجله (¬4) قمارًا إذا اشتركا في الإخراج، هو بعينه قائم مع دخول المحلِّل، فكيف يكون العقد قمارًا في إحدى الصورتين، وحلالًا في الأخرى، مع قيام المعنى بعينه؟! ولا تذكرون فرقًا؛ إلا كان (¬5) الفرقُ مقتضيًا لأن يكون العقد بدونه أقلَّ خطرًا، وأقرب إلى الصحة، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. * قالوا: ودخول المحلِّل في هذا العقد كدخول المحلِّل في النكاح للمطلِّق ثلاثًا، وكدخول المحلِّل في عقد العِيْنَة ونحوها من ¬
6 - من النظر
العقود المشتملة على الحِيَل الرِّبوية؛ فإنَّ كل واحد منهم مستعارٌ غير مقصود في العقد، والمقصود غيره، وهو حرفٌ جاء لمعنى في غيره، وقد ثبت في محلِّل النكاح والعيْنة ما ثبت فيه من النهي عنه، والإخبار عن محلِّل النِّكاح (¬1) أنه تيسٌ مستعارٌ؛ فإنه (¬2) لم يُقْصد بالعقد، وإنما استُعير دخيلًا، لِيُحِلَّ ما حرَّم الله تعالى. * قالوا: فإن كان إخراج السَّبَق من المتراهنين حرامًا، فدخول المحلِّل ليُحِلَّه، كدخول محلِّل النكاح سواء بسواء (¬3)، وإن كان بذل السَّبَق منهما جائزًا معه، فبدونه أولى بالجواز. * قالوا: وأيضًا، فالمحلِّل إما أن يكون دخولُه لِيُحِلَّ العمل، أو لِيُحِلَّ البذل، أو لِيُحِلَّ أكل (¬4) السبق، والأقسام الثلاثة باطلة: - أما بطلان إحلاله العمل فظاهر، فإن [ظ 17] العمل حلالٌ بالاتّفاق (¬5). - وأما بطلان إحلاله البذل، فكذلك أيضًا، لأن البذل جعَالة (¬6) عند المشترطين للمحلِّل (¬7) في هذا العقد، وبذل الجُعْل في الجعَالة لا ¬
يتوقَّف على محلِّل، سواء كان من أحد الجانبين، أو من كليهما، إذ غايتها أن تكون جِعَالة [ح 34] من الطرفين، وحِلُّها لا يتوقَّف على محلِّل، كما لو أَبَق لكلِّ واحدٍ (¬1) منهما عبدٌ، فقال كل منهما للآخر: إن رددتَ عبدي فلك عشرة. وبذل السبق عندهم هو مثل (¬2) هذا؛ فإنهم يُدْخِلونه في قسم الجِعَالات. - وأما بطلان إحلاله لأجل السبق، فكذلك أيضًا (¬3)؛ لأن أكل هذا السبق إن كان حرامًا بدون المحلِّل؛ فهو حرامٌ بدخوله، فإنه لا تأثير له في حِلِّ ما كان حرامًا عليهما، وإن لم يكن حرامًا بدخول (¬4) المحلِّل؛ لم يكن حرامًا بدونه؛ فإنه لا تأثير له في عملهما، ولا في دفع المخاطرة في عقدهم، بل دخوله إن لم يضرَّهما لم ينفعهما. * قالوا: وأيضًا، فالله سبحانه وتعالى حرَّم الميسر في كتابه كما حرَّم الخمر، والميسر: هو القمار، وتحريمه إما أن يكون لنفس العمل، أو لِما فيه من أكل المال (¬5) الباطل، أو لمجموع الأمرين، وليس هنا قسم رابعٌ. وأيًّا ما كان، فليس في هذا العقد المتنازعَ فيه واحد من الأمور الثلاثة، بل هو خال عنها؛ فإن المغالبات في الشرع تنقسم ثلاثة أقسام: ¬
- المغالبات في الشرع تنقسم إلى ثلاثة أقسام
أحدها: ما فيه مفسدة راجحة على منفعته، كالنَّرْد والشطرنج (¬1)، فهذا يحرِّمه الشارع ولا يُبيحه، إذ مفسدته راجحة على مصلحته، وهي من جِنْس مفسدة السُّكْر، ولهذا قرَن الله سبحانه وتعالى بين الخمر والقمار في الحُكْم، وجعلهما قَريْنَي الأنصاب والأزلام، وأخبر أنها كلها رِجْس، وأنها من عمل الشيطان، وأمرَ باجتنابها، وعلَّق الفلاح باجتنابها وأخبر أنها تصدُّ عن ذكره وعن الصلاة، وتهدَّدَ من لم ينته عنها. ومعلومٌ أن شارب الخمر إذا سَكِر، كان ذلك مما يصدُّه عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة، ويوقع العداوة والبغضاء بسببه. وكذلك المغالبات التي تُلْهي بلا منفعة، كالنرد والشطرنج وأمثالهما، مما (¬2) يصدُّ عن ذكر الله تعالى، وعن الصلاة، لِشدَّة الْتهاء النفس بها، واشتغال القلب فيها أبدًا (¬3) بالفكر. ومن هذه الجهة (¬4)، فالشَّطْرنج أشدُّ شُغْلًا للقلب، وصدًّا عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة، ولهذا جعله بعض العلماء أشدَّ تحريمًا من النَّرد، وجعلَ النَّصَّ على (¬5) أن اللاعب بالنَّرْد عاص لله تعالى ¬
2 - ما ليس فيه مضرة راجحة، ولا متضمن لمصلحة راجحة - مثاله - وحكمه
ولرسوله (¬1)، تنبيهًا [ح 35] بطريق الأولى على أن اللاعب بالشِّطْرَنج أشدُّ معصية، إذ لا يحرِّم الله ورسوله فعلًا مشتملًا على مفسدة ثم يُبيح فعلًا مشتملًا على مفسدةٍ أكبر من تلك، والحس والوجود شاهدٌ بأن مفسدةَ الشِّطْرنج وشَغْلَها للقلب وصدَّها عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة = أعظمُ من مفسدة النَّرْد، وهي توقع العداوة (¬2) والبغضاء، لِمَا فيها من قَصْد كلٍّ من المتلاعبين قَهْر الآخر، وأكْل ماله، وهذا من أعظم ما يوقع العداوة والبغضاء، فحرَّم الله سبحانه هذا النوع، لاشتماله على ما يبغضه، ومنعه مما يحبه. فصلٌ: المصلحة الراجحة المتضمِّنة لما يحبُّهُ الله ورسوله تقتضي عدم إدخال المحلِّل بين المتسابقَيْن وأوجه ذلك (¬3) القسم الثاني: عكس هذا، وهو ما فيه مصلحة راجحة، وهو متضمِّن لما يحبُّه الله ورسوله، مُعِيْنٌ عليه، ومُفْضٍ إليه (¬4)، فهذا شرعه (¬5) الله تعالى لعباده، وشرَعَ لهم الأسباب التي تُعِيْنُ عليه، وتُرشِدُ إليه، وهو كالمسابقة على الخيل والإبل والنّضال، التي تتضمن ¬
الاشتغال بأسباب الجهاد، وتعلّم الفروسية، والاستعداد للقاء أعدائه، وإعلاء كلمته، ونصر دينه وكتابه ورسوله، فهذه المغالبة تطلب من (¬1) من جهة العمل، ومن جهة أكل المال بهذا العمل الذي يحبه الله تعالى ورسوله، ومن الجهتين معًا. وهذا القسم جوّزه الشارع بالرهان تحريضًا للنفوس عليه، فإن النفس ينقاد (¬2) لها داعيان: داعي الغلبة، وداعي الكسب، فتقوى رغبتها في العمل المحبوب لله تعالى ورسوله، فعُلِم أن أكل المال بهذا النوع أكلٌ له بحق لا بباطل. ومعلوم أن دخول المحلِّل يُضْعِفُ هذا الغَرَض، ويُفَتِّر عزم الأقران، فهو يعود على مطلوب الشارع بالإبطال، فإن المتسابقين متى رأَيَا بينهما دخيلًا مستعارًا، يأكِل مالهما إنْ غَلَبَ، ولا يأخذان منه شيئًا إنْ غَلَبَاهُ، فتَرَتْ عزيمتهما، وضَعُفَ حِرْصهما. ومعلوم أن هذا لا إعانة فيه على هذا العمل، ولا تقوية فيه للرعية، ولا هو أدى إلى تحصيل المال الباعث على العمل فالعقد بدونه أقرب إلى حصول [ظ 18] ما يحبه الله تعالى ورسوله. قالوا: والوجود شاهد بذلك. ¬
3 - ما ليس فيه مضرة راجحة، ولا متضمن لمصلحة راجحه - مثاله - وحكمه
فصلٌ وأما القسم الثالث: وهو ما ليس فيه مضرة راجحة، ولا هو أيضًا متضمن لمصلحة راجحة يأمر الله تعالى بها ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا (¬1) لا يحرُمُ ولا يُومَرُ به، كالصراع، والعَدْو، والسباحة، وشيل الأثقال، ونحوها. فهذا القسم رخَّص فيه الشارع بلا عِوَض، إذ ليس فيه مفسدة (¬2) راجحة، وللنفوس به (¬3) استراحةٌ وإجمامٌ، وقد يكون مع القَصْد الحَسَن (¬4) عملًا صالحًا، كسائر المباحات التي تصير بالنية طاعات، فاقتضت حكمة الشرع الترخيص فيه، لِمَا يحصل فيه من إجمام النفس وراحتها، واقتضت تحريم العِوَض فيه، إذ لو أباحته بِعوَض؛ لاتَّخذته النفوس (¬5) صناعةً ومكسبًا، فَالْتَهَتْ به عن كثيرٍ من مصالح دينها ودُنياها. فأما إذا كان لعبًا محضًا ولا مكسب فيه؛ فإن النفس (¬6) لا تؤثره على مصالح دينها ودنياها، ولا تؤثره عليها إلا النفوس (¬7) التي خُلِقت ¬
للبطالة. * قالوا: وبهذا التقسيم، تتبيّن (¬1) حكمة الشرع في إدخاله السَّبَقَ في الخُفِّ والحافر والنصل، ومنعه فيما عداها، وتبيّن (¬2) به أن الدخيل لا مصلحة فيه للمتسابقين ألبتة. * قالوا: وأيضًا، فالشرع مبناه على العدل؛ فإن الله تعالى أرسل رسله، وأنزل كتبه؛ ليقوم الناس بالقسط، وقد حرَّم الله سبحانه الظلم على نفسه، وجعله محرَّمًا بين عباده، والعقود كلُّها مبناها على [ح 36] العدل بين المتعاقدين: عقود المعاوضات والمشاركات، جائزها ولازمها، وإذا كان مبنى العقود (¬3) على العدل من الجانبين، فكيف يوجب في عقد من العقود أن يبذل أحد (¬4) المتعاقدين وحده دون الآخر، وكلاهما في العمل والرغبة سواء، وكل واحد (¬5) منهما راغب في السبق والكسب، فما الذي جوَّز البذل لأحدهما دون الآخر؟! * قالوا: وأيضًا، فالمحلِّل كأحدهم في العمل والرغبة، فما الذي أوجب عليهما بذل ماليهما إن سبقهما، وحرَّم عليه وعليهما أن يبذل (¬6) ماله لهما إن سبقاه، مع تساويهم في العمل من كل وجه، فأي قياسٍ، ¬
أو أي نظرٍ، وأيّةُ حكمةٍ، وأية (¬1) مصلحةٍ توجب ذلك؟! * قالوا: بل دخول المحلِّل بينهما يضرُّهما ولا ينفعهما، فهو لم يزدهما إلا ضررًا؛ فإنه إن سبقهما أكل مالهما، وإن سبقاه لم يأكلا منه شيئًا، وأما إذا لم يُدْخِلاه، فأيهما (¬2) سبق صاحبه أخذ ماله، وإن لم يسبق أحدهما الآخر أحرزَ كلُّ واحد منهما مال نفسه، وهذا أعدل؛ لأن الغالب يأخذ بعمله، والمغلوب يغرم؛ لأنه بذل المال لمن يغلبه، وأما المحلِّل، فإنه إن كان غالِبًا غَنِم، وإن كان مغلوبًا سَلِم، وصاحب المال إن كان مغلوبًا غَرِم. * قالوا: فمقتضى القياس فساد العقد بالمحلِّل. * قالوا: وأيضًا، فالمحلِّل عندكم على خلاف القياس، وإنما احتملتموه للضَّرورة، حتى قال أبو الحسن الآمدي (¬3): "لا يجوز أكثر من محلِّل واحد، ولو كانوا مئة". * قالوا: لأن الحاجة اندفعت به، ولو كان هذا المحلِّل مقصودًا، وللعقد به مصلحة، لم يكن على خلاف القياس، وكان كأحد الحزبين. * قالوا: ومن المعلوم أن المحلِّل غير مقصود بالعقد، وإنما المقصود صاحباه، فأنتم جعلتُم المحلِّل الذي لم يُقْصَد بهذا (¬4) العقد ¬
أحسن حالًا من صاحبيه المقصودَيْن بالعقد، وهل هذا (¬1) الأمر إلا بالعكس أولى، فإن رعاية جانب الباذِلَيْن المقصودَيْن بالعقد أحقُّ من رعاية جانب هذا المحلِّل الذي هو غير مقصود ولا باذل، فالمحلِّل له منفعة على تقديرين، وسلامة على تقدير، وأما [ح 37] الآخران، فلكلٍّ منهما منفعة على تقدير، ومضرَّة على تقدير، فهو أحسن حالًا منهما، فيلحق بهما من (¬2) المضرة وقلة الانتفاع ودخول ثالث يأكل (¬3) مالهما؛ ما لم يحصل للمحلِّل الذي هو دخيل غير مقصود، فخصَّصتُم بالمضرة المقصود الذي حضَّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على الركوب والرمي، وخصصتُم بزوالها وزيادة النفع هذا العارية الذي هو غير مقصود. قالوا: وهذا يتضمن أمرين: أحدهما: خروج هذا العقد عن الإنصاف الذي هو مدار العقود، فكيف يَشْرَع الشارع الحكيم في العقود ما يكون منافيًا للعدل، ويحرِّم ما يكون موجبَ العدل ومقتضاه؟! الثاني: أن يجعل الراغب في العمل المحبوب لله ولرسوله، المريد للرمي والركوب، ليستعين به على الجهاد = أسوأ (¬4) حالًا من هذا الدَّخيل الذي لم يبذل شيئًا، إنما دخل عاريَّةً، فجعلتموه مراعىً ¬
جانبه، منظورًا في مصلحته [ظ 19]، معرَّضًا للكسب، مصانَ الجانب من الخسران، وليس صاحباه بهذه المنزلة (¬1). * قالوا: ومن تأمل مقاصد الشرع، وما اشتمل عليه من الحكم والمصالح، عَلِمَ أنَّ الأمر بالعكس أولى. * قالوا: وأيضًا، فالعاقل لا يبذل الجُعل إلا لعمل هو (¬2) مقصودٌ له، لا يبذله فيما هو مكروهٌ إليه، فيبذله لنفعٍ هو يعود عليه، كخياطة ثوبه، وبناء داره، وردِّ عبده. أو نفع غيره، كفداء أسير، أو عتق عبد، أو خلع امرأة، فهذان غرضان مطلوبان، فإذا بذل أجنبيٌّ السَّبَق لمن سبق؛ كان قد بذل ماله لغرض مقصود له، وهو (¬3) الإعانة على القوة في سبيل الله، فإذا بذله أحد المتسابقين، جاز لهذا المقصود، فكيف يُقال: يجوز أن يبذل الجُعل بشرط أن يكون مسبوقًا مغلوبًا، وأنه إن كان سابقًا لا يحصل له شيء، ولا يجوز أن يبذله إذا كان مسبوقًا، وإن كان سابقًا حصل له شيء؟! بيان ذلك أنه إذا كان المُخْرِجُ أحدهما، [ح 38] , كان مقتضى العدل (¬4) من الباذل أنه لا يجوز له بذله إلا بشرطين: أحدهما: خروج السَّبَق عنه إن كان مغلوبًا. ¬
الثاني: أنه لا يأخذ شيئًا إذا كان غالبًا. وإذا أخرجا معًا كان مقتضى العقل (¬1) أنه يبذله إذا كان مغلوبًا، ويأخذ إذا كان غالبًا، فقد جوَّزتم بذل الجُعل في الحال الذي لا ينتفع بها الباذِل، ومنعتم بذله في الحال التي يرجو (¬2) فيها انتفاعه، فجوَّزتم بذله في عقد لا ينتفع به، ومنعتم بذله في عقد هو بصدد الانتفاع به، ومن المعلوم أن ما منعتموه أولى بالجواز مما جوَّزتموه، وأن ما شرطتموه للحل هو أولى أن يكون مانعًا من الحل أقرب (¬3). * قالوا: وأيضًا، فإن كان أحدهما يأكل مال الآخر بالباطل إذا أخرجا معًا بدون المحلِّل؛ فأكل المحلِّل مالهما بالباطل أولى وأحرى. بيانه: أن أحدهما إنما يأكل مال الآخر إذا كان غالبًا له، فيأكله بالجهة التي يأكل بها الآخر ماله بعينها، مع تساويهما في البذل، والغُنْم، والغُرْم، والعمل. وأما المحلل، فإنه يأكل مالهما إن سبقهما، ولا يأكلان له شيئًا إنْ سبقاه، فلا يأكل واحد منهما ماله (¬4) إذا كان مغلوبًا، ويأكل مالهما إذا كان غالبًا، فإن لم يكن هذا أكلًا للمال بالباطل، فالصورة التي منعتموها أولى أن لا تكون أكلًا بالباطل، وإن كانت تلك متضمنة للأكل بالباطل، فهذا أولى. ¬
وهذا مما لا جواب عنه. * قالوا: وأيضًا، فإذا أخرجا معًا، كان كل منهما له مثل ما للآخر، وعليه مثل ما عليه، ورجاؤه وخوفه كرجاء الآخر وخوفه، وهذا هو العدل المحض، فهما كشريكي العِنَان (¬1) والشريكين في المساقاة (¬2) والمزارعة (¬3) والمضاربة (¬4) ولهذا حرَّم الشارع أن يختصَّ أحدهما عن الآخر بزرعِ (¬5) بقعةٍ بِعَيْنِهَا، أو ثمرة شجرة بعينها، والمضارب لا يجوز أن يختصَّ بربح سلعة بعينها، بل يكونان سواء في المغنم والمغرم. وإنما جُوِّز أن يكون البذل من أحدهما؛ لأنه يلتحق بالجِعَالة عندكم. وهذه الجِعَالة العمل فيها مقصود [ح 39] وحينئذ فيقال: إذا أخرجا ¬
معًا، كان غايته أنه جِعَالة من الطرفين، فلا يمتنع (¬1) جوازه. وإذا علم هذا، فإذا أخرجا (¬2) معًا كان أقرب إلى عقود المعاوضات والمشاركات مما إذا أخرج أحدهما؛ لأنهما قد اشتركا في العمل، والاشتراك في العمل يقتضي الاشتراك في بذل الجِعَالة، بخلاف ما إذا أخرج أحدهما و (¬3) انفرد الباذل بالمال والعامل بالعمل؛ فإنهما (¬4) هناك لم يشتركا في العمل، فهو نظير ما إذا بذل السَّبَق أجنبيٌّ لم يدخل معهما. * قالوا: وأيضًا؛ فلو (¬5) كان تحريم هذا العقد الذي أخرج فيه المتعاقدان كلاهما من غير محلِّل لما فيه من المخاطرة بين المغنم والمغرم = للزم طَرْدُ ذلك، فيحرم كل عقد تضمَّن مخاطرة بين الغُنْم والغُرْم (¬6)، وكان يلزم تحريم الشركة؛ فإن كل واحد من الشريكين إما أن يغرم وإما أن يغنم. فإن قلتم: بل (¬7) ها هنا قسم ثالث، وهو أن يسلم فلا يغنم ولا يغرم؛ كان جوابكم من وجهين: ¬
أحدهما: أن السابق كذلك (¬1)، قد يسلم أيضًا، فلا يَسبِق ولا يُسْبَق. الثاني: أن احتمال هذا القسم لا يزيل المخاطرة، بل كانت مخاطرة بين أمرين، فصارت بين ثلاثة. * قالوا: وأيضًا، فإذا أخرج أحدهما دون الآخر، كان آكل المال في هذا العقد آكلًا بوجه يحبُّه الله ورسوله، وهو تَعَلُّم ما يحبُّه من الرمي والإصابة والفروسية، فإذا اشتركا في الإخراج، فكلُّ منهما إما مُعينٌ أو مُعانٌ على تحصيل هذا المحبوب المرضِيِّ لله، فكل واحد (¬2) منهما يأكل بالجهة التي يأكل بها صاحبه، فجهة أكل المال جهة واحدة، فإن حرم أكله في صورة اشتراكهما في الإخراج، حَرُم في صورة الانفراد، وإن أُبيح في صورة الانفراد، لزم إباحته في صورة الاشتراك، إذ لا فرق بينهما يقتضي [ظ 20] جعل إحدى الصورتين من المباح، بل من المستحب الذي يحبُّه الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، والثاني (¬3) من القمار [ح 40] والميسر الذي يبغضه الله تعالى ورسوله!! فيالله العجبُ، أي معنى وأي حكمة فرَّقت بينهما هذا الفُرْقان، مع أنهما أخوان شقيقان؟! * قالوا: ويوضحه أن الغالب إنما يأكل المال بغَلَبِه، وهذه العلَّة ¬
بعينها موجودة فيما إذا أخرجا معًا، فيجب طرد الحكم لاطِّراد عِلَّته. قالوا: ويوضِّحه أن المانع من طَرْد الحكم منتفٍ، لِمَا تقدَّم، والمقتضي موجود، فيجب القول بالمقتضي السالم عن المعارض المقاوم. * قالوا: وأيضًا (¬1)، فإذا كانت علة التحريم لاشتراكهما في الإخراج هي المخاطرة، لزم فساد العلة لتخلف الحكم عنها في صورة المحلل، وحينئذ فيقال: ليس الحكم لفساد التخلف المذكور مع المحلل أولى من اعتبارها للأقتران مع عدمه. * قالوا: وأيضًا فتأثير المحلل إما أن يكون في رفع السبب المقتضي للتحريم، أو في رفع الحكم وهو التحريم مع قيام سببه، كالرخصة في أكل الميتة والدم ولحم الخنزير للمضطر، وكلاهما باطل. أما الأول: فإن السبب المحرِّم عندكم هو المخاطرة، وهي لم تَزُل بالمحلل. وأما الثاني: فكذلك أيضًا، إذ هو مستلزم تخلُّف الحكم عن علته مع قيام الوصف الذي جعلها مؤثرة. فإن قلتم: العقد بالمحلل يصير من باب المعاوضات ومخرج من شبه القمار، فجوابكم من وجهين: ¬
أحدهما: أن هذا الفرق بعينه حجة عليكم، فإنه إذا صار العقد به من عقود المعاوضات، بل إذا تعاقد الجاعلان وبذل كل منهما جُعْلًا لمن يعمل مثل عمله، جاز بلا محلل اتفاقًا. الثاني: أنه يلزمكم إخراج السبق منهما بمحلل في سائر الأعمال المباحة: كالمسابقة على الأقدام والسباحة والكتابة والخياطة والنجارة وسائر الصناعات المباحة، فإن المحلل إذا جعل العقد من باب الجِعَالات الجائزة هناك، فلِمَ لا يجعله من الجِعَالات الجائزة هنا؟ وما الفرق؟ وهذا في غاية الظهور. * قالوا: وأيضًا، فدخول المحلل إما أن يكون ليحل السبَق لنفسه أو لغيره وكلاهما باطل: أما الأول: فظاهر البطلان، فإنه لم يدخل إلا لأجلهما لئلّا يكون عقدهما قمارًا عندكم، وقد صرَّح جمهور المشترطين بأنه لم يدخل ليحل السبق لنفسه، ووهَّنوا زَعْم مَنْ زَعَم ذلك، وأبطلوه. وهو كما قالوا، لأنه إما أن يكون إحلالُه السبق لنفسه لأجل مجيئه سابقًا، أو لعدم إخراجه، فإن كان إحلاله لسَبَقه، فالسَّبَق حينئذ هو المقتضي للحل، فمن أسعده (¬1) الله تعالى بسبقه (¬2)، فمن تمام السعادة (¬3) تخصيصه برزقه، فلا أثر للمحلِّل ألبتة. ¬
وإن كان إنما يحلُّه لنفسه لعدم إخراجه، فيقال: إذا حَلَّ (¬1) له السَّبَق مع عدم بذله؛ فلأن يَحِلُّ للباذل أولى وأحرى؛ لأن بذل الباذل زيادةُ إحسانٍ وخير، فلا يكون سببًا لحرمانه، ويكون ترك بذل هذا سببًا لأخذه وفوزه، فكيف (¬2) يَحْرُم على الباذل المحسن، ويَحِلُّ للمستعار الذي لم يبذل. وهل يدلُّ الشرع والعقل - نعم (¬3) - والاعتبار، إلا على عكس ذلك؟! * قالوا: وأيضًا، فبدخول (¬4) المحلِّل، إما أن يُقال: زالت (¬5) المخاطرة المقتضية للتحريم، أو بقيت على حالها، أو ازدادت. والأول: محالٌ؛ لأنها كانت بين أمرين، فصارت بين ثلاثة كما تقدم. والثاني: يقتضي عدم اشتراط المحلِّل. والثالث: يقتضي بطلانه. وهذا واضح، لا يحتاج إلى تأمل. قالوا: وأيضًا، فكل منهما بدون المحلِّل كان يتوقع غرامة ماله ¬
لواحدٍ فقط، وهو خصمه، فإذا دخل المحلل (¬1) صار متوقّعًا لغرامته للآخر، أو للمحلِّل أو لهما، فكيف يقال: يجوز العقد الذي يتوقع فيه غرامة ماله لهذا وحده، ولهذا وحده، ولهما معًا، ويحرم العقد الذي إنما يتوقَّع فيه غرامته لواحد فقط؟!. ومن المعلوم أنَّ وقوع قسم من ثلاثة أقرب من وقوع واحد بعينه، فتكون جهات غرامة كل منهما مع المحلِّل ضعفي جهة غرامته بدونه. فكيف يُباح هذا ويحرم ذاك؟! وهل كان ينبغي إلا العكس؟! * قالوا: وأيضًا، فإذا كان لا يجوز لأحدهما أن يأخذ مال الآخر إذا اشتركا في الإخراج، [ح 41] ويكون أكل المال منه (¬2) أكلًا بالباطل، فكيف يجوز لكلٍّ منهما أكل مال الآخر إذا دخل هذا الدَّخيل المستعار، ويكون الأكل به أكلًا بحقٍّ، مع أنهما لم [ظ 21] يستفيدا به إلا أكلَهُ مالَهما وحصولَهُما على الحرمان، وإن غلباه لم يفرحا بغلبه، فإذا دخل بينهما من يأكل مالهما ولا يعطيهما شيئًا تجوِّزون العقد به؟! وإذا خلوا منه، وتناصفا في الإخراج، وتساويا في العمل، وانتظر كل منهما ما يخرج له به القدر = (¬3)؛ حرَّمْتُموه؟! * قالوا: وأيضًا، فإذا أخرجا معًا، كان كل منهما معطيًا آخذًا، فإذا دخل بينهما هذا الثالث، دخل من يكون آخذًا لا معطيًا، فإن كان ¬
أكله السبق على هذا الوجه أكلًا بحق؛ فأكلُ من يكون معطيًا آخذًا أحلُّ منه، فكيف يقال: إن من يأخذ ولا يعطي يستحق، ومن يأخذ ويعطي لا يستحق، مع استوائهما في العمل؟! * قالوا: وأيضًا، فإذا أخرجا معًا، فأكل المال في هذه الصورة: إما أن يكون بحقٍّ أو بباطل. فإن كان بحقٍّ، فلا حاجة في جوازه إلى المحلِّل. وإن كان أكلًا بباطل، فدخول المحلِّل لا يجعله أكلًا بحق؛ فإن المحلِّل لم يُزِلِ السبب الذي كان أكل المال به (¬1) بدونه باطلًا، كما تقدَّم. * قالوا: وأيضًا، فإذا سبق المحلِّل مع أحدهما، فإما أن يقولوا: يختصُّ المحلل بسبق الآخر، أو يشترك هو والسابق. والأول: ممتنع؛ لأنهما قد اشتركا في السبق، واستويا في العمل، فتخصيص المحلِّل بالسبق مع تساويهما في سببه ظلم. وإن قلتم: يشتركان فيه، لزمكم المحذور التي فررتُم منه؛ لأن كل ما ذكرتُم فيما إذا لم يكن بينهما محلِّل؛ فهو ها هنا بعينه؛ لأن (¬2) الاثنين لما سبقا الثالث صارا بمنزلة الواحد الذي سبق الآخر، ولهذا اشتركا في سبقه، فإن لم يكن في هذا محذور؛ لم يكن في الصورة التي منعتموها محذورٌ، وإن كان في صورة المنع محذورٌ؛ فها هنا مثله ولا فرق. فإن كان [ح 42] عندكم فرق فأبدوه لنا، فإنا من وراء القبول له إن ¬
كان فرقًا مؤثِّرًا، ومن وراء الرد إن كان غير مؤثِّر. * قالوا: وأيضًا، فكلما زادت المخاطرة بدخول المحلِّل في أقسام الغُنْم والغُرْم؛ زادت أيضًا بالنسبة إلى المتسابقَيْن؛ فإنهما إذا كانا اثنين فقط، فمخاطرة كل واحد منهما مع اثنين: مع قِرْنِهِ، ومع المستعار الدخيل، وقد كان قبل المحلِّل كل منهما بصدد الغُنْم إذا غلب واحدًا فقط، وبدخول المحلِّل لا يغنم حتى يغلب اثنين، ولا ريب أن المخاطرة كلما كانت أقل، كانت أولى بالجواز. وكيف يكون العقد الذي زادت مخاطرته هو الحلال الجائز، والذي هو أقل مخاطرة منه وأقرب إلى تحصيل مقصود الشارع والمتراهِنَيْن = هو الحرام الممتنع؟! هذا مما لا تأتي به الشريعة الكاملة. * قالوا: وأيضًا، فحِلُّ المال يستدعي طيب نفس باذله به (¬1)؛ فإنه: "لا يحلُّ مال امرئ مسلم؛ إلا عن طيب نفس منه" (¬2)، ¬
والمتراهنان إذا دخل بينهما محلِّل يأخذ ولا يعطي، لم تطب أنفسهما ولا تسمح له ببذل المال، لأنه كاسب غير غارم، وهو عارِيَّة بينهما دخيلٌ لم ينتفعا به، بل تضرُّرهما به هو (¬1) الواقع، وهذا موجود في نفوس المسابقين، لا يحتملان المستعار؛ إلا على كره ونفرة، ويريان دخوله غير مستحسن. * قالوا: وأيضًا فنفرة الطباع منه وعدم استحسان العقلاء لدخوله يدلُّ على أنه غير حسن عند الله؛ فإنَّ كلَّ ما هو حَسَنٌ عند الله ورسوله فالعقلاء تستحسنه (¬2) طباعهم، وتشهد بحسنه وملاءمته لقضيَّات (¬3) العقول، ولا سيما إذا ظهرت لها مصلحة. * قالوا: وما يبيِّن أن العقد بدون المحلِّل أحلُّ منه بالمحلِّل وأولى بالجواز: أن المسابقة والمناضلة هي (¬4) من باب الاستعداد للجهاد، ¬
- أن المسابقة والمناضلة من باب الاستعداد للجهاد
فإذا تعلَّم الناس أسبابه وتدرَّبوا فيها وتمرَّنوا عليها قبل لقاء العدو = ألفاهم ذلك عند اللقاء [ح 43] قادرين على عدوهم، مستعدِّين للقائه، وكل من المتسابقين والمتناضلين يريد أن يغلب صاحبه كما يريد المقاتل أن يغلب خصمه، فهو يتعلَّم غَلَبة صاحبه، ليتوصل (¬1) إلى غلبة عدوه. وهذا كجدل (¬2) المتناظرين في العلم؛ فإن أحدهما يورِد على صاحبه من الممانعات (¬3)، والمعارضات، وأنواع الأسئلة ما يرد على الآخر جوابه، ليعرف الحق في المسألة، فإذا جادله مبطلٌ، كان مستعدًّا لمجادلته بما تقدَّم له من المناظرة مع صاحبه (¬4). فالمناظرة في العلم نوعان: أحدهما: للتمرين (¬5) والتدرُّب على إقامة الحجج ودفع الشبهات. والثاني: لنصر الحق، وكسر (¬6) الباطل. والأول: يشبه السباق والنضال، والثاني: يشبه الجهاد وقتال ¬
الكفار. قال الله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام: 83]. قال مالك: "قال زيد بن أسلم: بالعلم" (¬1). فعِلْمُ الحجة يرفع درجة صاحبه؛ فإن العلم بالحجج، والقوة على الجهاد، مما رفع الله تعالى به درجات الأنبياء وأتباعهم؛ كما قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وقال الله تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)} [ص: 45]. فالأيدي: القُوَى التي يقدِرون بها على إظهار الحق، و (¬2) أمر الله، وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه. والأبصار: البصائر في دينه، ولهذا يسمِّي الله سبحانه الحُجَّة سلطانًا. قال ابن عباس: "كل سلطان في القرآن فهو الحجة" (¬3)، كما قال ¬
- أن المسابقة شرعت لتعلم المؤمن القتال، ويتعوده، ويتمرن عليه
الله تعالى: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)} [الصافات: 156 - 157]، وقال الله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23]، وقال تعالى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)} [الروم: 35]، وهذا لأن الحجة تسلِّط صاحبَها على خصمه، فصاحب الحُجَّة له سلطان وقدرة على خصمه (¬1)، وإن كان عاجزًا عنه بيده. وهذا هو أحد أقسام النُّصرة التي ينصر (¬2) الله تعالى بها رسله والمؤمنين في الدنيا؛ كما قال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51]. فإذا كانت المسابقة شُرِعت ليتعلم المؤمن القتال، ويتعوَّده، ويتمرَّن عليه، فمن المعلوم أن المجاهد قد يقصد دفع العدو إذا كان المجاهد مطلوبًا والعدو طالبًا، وقد يقصد الظَّفَر بالعدو ابتداءً إذا كان طالبًا والعدو مطلوبًا، وقد يقصد كلا الأمرين، فالأقسام ثلاثة يؤمر المؤمن فيها بالجهاد. وجهاد الدَّفع أصعب من جهاد الطلب، فإن جهاد الدفع يشبه باب دفع الصائل، ولهذا أُبيح للمظلوم أن يدفع عن نفسه. ¬
أدلة دفع الصائل من الكتاب والسنة
كما قال الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتِل دون دمه فهو شهيد" (¬1). لأنّ دفع الصائل عن (¬2) الدين جِهَاد وقُرْبة، ودفع الصائل عن المال والنفس مباحٌ ورخصة، فإن قُتِل فيه، فهو شهيد (¬3). ¬
- تعين جهاد الدفع على كل أحد
فقتال الدفع أوسع من قتال الطلب وأعمُّ وجوبًا، ولهذا يتعيَّن على كلِّ أحدٍ (¬1) يجاهد فيه: العبد بإذن سيده وبدون إذنه، والولد بدون إذن أبويه، والغريم بغير (¬2) إذن غريمه، وهذا كجهاد المسلمين يوم أحد والخندق. ولا يشترط في هذا النوع من الجهاد أن يكون العدو ضِعْفَي المسلمين فما دون؛ فإنهم كانوا يوم أحد والخندق أضعاف المسلمين، فكان الجهاد واجبًا عليهم؛ لأنه حينئذ (¬3) جهاد ضرورة ودفع، لا جهاد اختيار، ولهذا تُباح فيه (¬4) صلاة الخوف بحسب الحال في هذا النوع (¬5)، وهل تُباح في جهاد الطلب إذا خاف فوت العدو ولم يخف كرَّته؟ فيه قولان للعلماء هما روايتان عن الإمام أحمد (¬6). ومعلوم أن الجهاد الذي يكون فيه الإنسان طالبًا مطلوبًا، أوجبُ من هذا (¬7) الجهاد الذي هو فيه طالب لا مطلوب، والنفوس فيه أرغب (¬8) من الوجهين. ¬
- جهاد الطلب الخالص لا يرغب فيه إلا أحد رجلين
وأما جهاد الطلب الخالص، فلا يرغب فيه إلا أحد رَجُلين: إما عظيم الإيمان يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كلُّه لله، وإما راغبٌ في المغنم والسَّبي. فجهاد الدفع يقصده كل أحد، ولا يرغب [ح 45] عنه (¬1) إلا الجَبَان المذموم شرعًا وعقلًا، وجهاد الطَّلَب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين، وأما الجهاد الذي يكون فيه طالبًا مطلوبًا، فهذا يقصده خيار الناس؛ لإعلاء كلمة الله تعالى ودينه، ويقصده أوساطهم للدفع ولمحبة الظَّفر (¬2). فصل (¬3) فإذا تبيَّن هذا في الغايات، وهي الجهاد، فمثله في الوسائل، وهي المسابقة والمناضلة؛ فإنَّه من المعلوم أنَّه (¬4) إذا كان الرهن من أحد الجانبين، كان غاية مقصود باذله أن يَسْلَم، فيكون حرصه من باب حرص الدافع لا الطالب؛ فإنه لا يحصُل له من (¬5) الآخر شيءٌ، ومقصود الآخر من جنس مقصود الطالب، فجهاد الأول (¬6) جهاد دفع، وجهاد هذا جهاد طلب. ¬
- الاختلاف في معنى "الجلب"
وإذا كان الرهن من كل واحد منهما؛ صار سباق كل واحد سباق طالب مطلوب، وهو نظير جهاد الطالب للمطلوب، فتكون الرغبة والحرص على السبق أقوى؛ لاجتماع السببين (¬1)، بخلاف سباق المطلوب فقط، أو الطالب فقط (¬2). فكيف يحرم هذا الذي هو من أعظم الأسباب المقتضية لمصلحة المسابقة، ويُباح ما هو دونه في تحصيل هذه المصلحة؟! فليتدبَّر المنصفُ [ظ 23] هذا، ثم إلى إنصافه التحاكم، وإلى عدله التخاصم، وبالله تعالى التوفيق. * قالوا: وأيضًا، فمبنى هذا العقد على استواء الحزبين، فلا يجوز أن يُقوَّى أحدهما على الآخر؛ لما فيه من مزيد إعانة له على الحزب الآخر، ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجَلَب والجَنَب في السِّباق (¬3). فالجَلَب: أن يَصِيْح بفرسه في وقت السباق هو أو غيره، ويزجره زجرًا يزيد معه في شأْوه (¬4). وإنما العدل أن يركضا بتحريك اللجام، والاستحثاث بالسوط والمهماز وما في معناهما، من غير إجلابٍ بالصوت. هذا تفسير الأكثرين. ¬
- الاختلاف في معنى "الجنب"
وقيل: هو أن يجتمع قومٌ، فيصطفُّوا وقوفًا (¬1) من الجانبين، ويزجروا الخيل، ويصيحوا بها، فنُهوا [ح 46] عن ذلك. والحديث يعمُّ القسمين. وأما الجَنَب؛ ففيه تفسيران: أحدهما: - وهو تفسير أكثر الفقهاء (¬2) - أن يجنب المسابق مع فرسه فرسًا يحرِّضه على الجري، قال أحمد بن أبي طاهر (¬3): وإذا تكاثَر في الكَتِيْبَةِ أَهْلُهَا ... كُنْتَ الَّذي يَنْشَقُّ عَنهُ المَوْكِبُ وأتيْتُ تَقْدمُ مَنْ تقدَّم مِنْهُمُ ... وورَا ورائِكَ قَدْ أَتَى مَنْ يَجْنُبُ (¬4) والتفسير الثاني: أنهم كانوا يجنبون الفرس حتى إذا قاربوا الأمد، تحوَّلوا عن المركوب الذي قد (¬5) كدَّه الركوب إلى الفرس المجنوب، ¬
فأبطل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذاك. ذكره الخطابي وغيره (¬1). وفي "موطأ القعنبي" (¬2): سُئِلَ مالك عن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا جلب ولا جنب": ما تفسير ذلك؟ فقال: "بلغني ذلك، وتفسيره: أن يجلب وراء الفرس حتى يدنو من الأمد، ويحرِّك وراءه الشيء، يستحثُّ به ليسبق، فذلك الجلب. والجَنَب: أن يجنب مع الفرس الذي يسابق به فرسًا آخر، حتى إذا دنا، تحوَّل راكبه على الفرس المجنوب". والمقصود أنه نهى عن تقوية أحد الحزبين بما يكون فيه (¬3) مزيد إعانة له على الآخر؛ لما فيه من الظلم. فإذا كان الإخراج من أحدهما، كان فيه تقوية للمبذول له دون الباذل، وهذا مأخذُ من لم يجوِّز البذل إلا من أجنبي، فأما إذا كان الإخراج منهما، لم يكن في ذلك تقوية لأحدهما على الآخر، فهو أولى بالجواز. ¬
* قالوا: وأيضًا، فالأجنبيُّ إذا بذل الجُعل لأحدهما إن غَلَب، ولم يبذله للآخر إن غَلَب، لم يجز ذلك؛ لما فيه من الظلم، فإن الآخر يقول: إن سبقتُ لم آخذ شيئًا، وخصمي إن سبق أخذ. وهذا بعينه موجود فيما إذا كان البذل من أحدهما، فإن الباذل يقول: إن سبقتُ لم آخذ، وقريني (¬1) إن سبق أخذ. وذلك يُضْعِف هِمَّته. وهذا مأخذ من منع من فقهاء أهل المدينة هذه الصورة. وأما إذا بذله الأجنبيُّ لمن سبق منهما [ح 47]، تساويا في العمل والاستحقاق، ولهذا اتَّفق الناس على جواز هذه الصورة. وإذا عُرِف هذا، فهو نظير إخراجهما معًا، فكيف يكون إخراج السبق من أحدهما أولى من إخراجه منهما؟! بل إذا امتنع إخراج السبق من أحدهما؛ كان أولى (¬2) بالعدل من منع إخراج السبق منهما، فإذا جوَّزتم إخراج السبق من أحدهما؛ فإخراجه منهما أولى بالجواز. وَنُكْتَةُ المسألة: أن الإخراج منهما أقرب إلى العدل، ومقصود العقد، وطيب نفس كل واحد منهما، وحرصه على الغلب، ممَّا (¬3) إذا كان الإخراج من أحدهما، والواقع شاهد بذلك. ¬
* قالوا: وأيضًا، فالسباق إنما يُقْصَد منه (¬1) التعليم والتدريب والتمرين (¬2) على الفروسية والرمي، وليس المقصود منه أكل المال؛ كما يقصد في البيع والإجارة والجِعَالة؛ فإنه هناك لا قَصْد لأحدهما إلا المال، وهنا مقصود الشارع بِشَرْع هذا العقد العملُ لا المال، وإنما شُرِع فيه المال؛ لأنه أبلغُ في ترغيب (¬3) النفوس فيه؛ لأنه متى كان الباعث على السِّبَاق الظَّفَر بالمال والغلبة، قويت فيه الرغبة، والمال لا يؤكل في هذا العقد إلا على وَجْه المُخَاطَرة، ومعلومٌ أن حصول هذا المقصود بدون المحلِّل أعظمُ منه إذا كان بينهما، وأن المخاطرة مع المحلِّل كالمخاطرة بدونه سواء أو أزيد، وهذا ضروريُّ التَّصوُّر، وهو مما لا يُستَراب فيه (¬4)، فالمحلل دائر بين أمرين: إما أنه لا فائدة منه (¬5)، وإما أن مصلحة السباق بدونه أتمّ، وأيهما كان؛ فهو مستلزمٌ لبطلان اشتراطه. * قالوا: وأيضًا، إذا كان الجُعل من أحد المتسابقين، فمقصوده منع الآخر [24] من أخذ الجُعل، ودفعُه عنه، كأنه يقول: أنت لا تقدر على (¬6) أن تغلبَني، وأنا أُبَيِّن عجزك بأن أبذل لك جُعلًا؛ لأقوِّي رهبتك ¬
ورغبتك في أن تغلبني، وأنت مع ذلك عاجزٌ (¬1). وذلك أن الإنسان يترك الشيء: إما لعجزه عنه، وإما لعدم إرادته له، فمتى كان مريدًا له إرادة تامَّة، وقادرًا عليه قدرة تامَّة؛ لزم وجودُه قطعًا، فالقادر على أن [ح 48] يغلب غيره قد يريد ذلك لمجرَّد محبَّة النفس لإظهار القدرة والغلبة، وقد يريد ذلك لأخذ المال، فإذا اجتمع الأمران، كانت إرادته أبلغ، كما تقدَّم بيانه. فالجاعل يقول: أنا أُبيِّنُ أنك عاجز؛ لأني أبذل المال الذي أُحَرِّكُ به رغبتَك في القلب، مع ما في النفس من محبَّة ذلك، فأنت مع كمال رعْبتك عاجزٌ عنِّي، وعن مغالبتي، فأنا أقْدَرُ منك على هذا العمل. هذا مقصوده قطعًا، ليس مقصوده أن يبذل الجُعْل لمن يغلبه ويأخذ ماله؛ فإن عاقلًا لا يقصد هذا، بل (¬2) يقصد منع الآخر ودفعه وتعجيزه. فلهذا البذل من أحدهما جائز لهذا المعنى؛ فَلأَنْ يجوز منهما بطريق الأولى والأحرى؛ لأن حصول هذا المعنى (¬3) مع اشتراكهما في البذل أقوى منه عند انفراد أحدهما به. * قالوا: وأيضًا، فإن كان أكل المال إذا أخرجا معًا قمارًا حرامًا، ¬
- الشريعة لا تفرق بين متماثلين، ولا تجمع بين متضادين
فالمحلل أكَّد أمْرَ (¬1) هذا القمار وقوَّاه وثبَّته، فلم يَخْرُجْ به هذا (¬2) العقد عن القمار، لا صورة ولا معنى، ولا يظهر للناظر (¬3) - بعد طول تأمُّله ونظره - لأيِّ معنى خَرَج به العقد عن كونه أكل مال بالباطل، وانقلب به العقدُ عن كونه عقد قمار وميسرٍ إلى كونه عقدَ جِعَالة أو إجارةٍ، فاستحالت به خَمْرة هذا العقد خَلًّا، وصار به حَرَامُه حِلًّا؟! وهل فرَّقت الشريعة العادلة بين متماثلين من غير معنى مفرِّق (¬4) بينهما، أو جمعت بين متضادَّيْن؟! وهل حرَّمت عملًا لمعنى، ثم تبيحه مع قيام ذلك المعنى بعينه أو زيادته من غير أن تعارضه مصلحة راجحة؟! وهل زاد المستعار الدخيل هذا العقد إلا شرًّا؛ فإنه زاده مخاطرة، واقتضى نفرة طباع المتسابقين عنه، وأكله مالهما، وعدم إطعامهما شيئًا، وهو المراعى جانبُه، المنظور في مصلحته، وهو إما سالم وإما غانم؛ يُغْلَب فيسلم، ويَغْلِب فيغنم، والذي قد أخرج ماله، لَصِيق (¬5) كبده، وشقيق روحه، يُغْلَب فيَغرم، ويَغْلِب صاحبَه فلا (¬6) يدعه المحلِّل يفرح بغلَبِه، بل يشاطره المال؛ إن ساواه في سبق الآخر، ¬
ويحرمه [ح 49] إياه بالكلية (¬1) إن سَبَقه فسَبَقَ خصمه، وغَرِمَ ماله، فلم يستفد بسَبْقِ قِرْنه إلا خسارة ماله، وكان هذا من بركة المحلِّل، فلولاه؛ لقرَّت عينُه بِسَبْقه، وفرحت به نفسه (¬2)، وقويتْ رغبتُه في هذه المسابقة التي يحبُّها الله ورسوله. هكذا حال قِرْنه أيضًا معه، فالباذلان المتسابقان لهما غُرْم هذا العقد، وللمستعار غُنْمه، وهو بارد القلب منهما، وهما يعضَّان عليه الأنامل من الغيظ، وهو في هذا العقد: إما منتفع، وإما سالم من الضَّرر، مع كونه لم يخرج شيئًا، وكلُّ منهما: إما منتفع (¬3) وإما متضرِّر، وإن انتفع، فهو بصدد أن ينغِّص عليه المحلِّل منفعته، هذا مع بذلهما!! فألحقتم بالباذلين من الشَّر والضرر والغَبْن ما نجَّيتم منه (¬4) المستعار الذي هو دخيلٌ عليهما (¬5) في المسابقة، وليس مقصودًا، مع أنه لم يبذل شيئًا. قالوا: وهل تأتي شريعةٌ بمثل هذا؟! وهل في الشريعة التي بهَرَت حكمتُها العقول مثل هذا؟! ¬
وهل فيها رعايةُ جانب التَّابع المستعار الذي هو حرفٌ جاء لمعنى في غيره، وهو فَضْلةٌ في الإسناد، وإلغاءُ جانب المقصود الذي هو ركنٌ في (¬1) الإسناد، وهو الذي حضَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - على الركوب (¬2) والرمي؟!. * قالوا: وفي هذا نوعان من الفساد: أحدهما: الخروج عن موجب الإنصاف الذي هو لازمٌ للشريعة (¬3) الكاملة، دائرٌ معها؛ فإن مدارها على العدل بكل ممكن، قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]. وقال الله تعالى لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15]. الثاني: أن يُجْعَلَ المطيعُ لله ورسوله، الراغبُ فيما رَغَّب فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، الذي يريد الرمي والركوب للاستعانة على الجهاد في سبيل الله، ويبذل الجُعل ليكون ذلك أعظم للرغبة وأشدَّ تحريضًا للنفوس على ما يحبُّه الله ورسوله = أسوأ حالًا من [ظ 25] هذا المستعار الذي هو دخيل. بل هذا الدَّخيل مراعىً جانبه، منظورٌ في مصلحته، موفَّرٌ نصيبه من الأمن، [ح 50] محصَّنٌ في برج السلامة، مسلوكٌ به طريق الأمن، ¬
مكمَّلٌ فرحَه بالسلامة أو الظَّفَر، والباذلان المقصودان بمعزل عن ذلك. * قالوا: وأيضًا، فبدخول المحلِّل لم يخرج العقد عن كون الجُعل فيه من اثنين، بل الجُعل منهما بحاله، وإنما استفدنا جهةً أخرى (¬1) لمصرفه، فكان الخَطَر أن يصرفان إلى هذا وحده على تقدير، وإلى هذا وحده على تقدير (¬2)، وإلى كل منهما جُعْله على تقدير، فاستفدنا بدخوله ثلاثَ تقديرات أُخَر: صَرْف الرَّهْنَيْن إليه وَحْده، وإليه (¬3) وإلى هذا وحده، وإليه وإلى الآخر وحده. فلم نستفد بدخوله إلَّا تعدُّد الجهات التي يُصرَف فيها الجُعل ليس إلا، فلم يخرج به العقد من كونه عقدًا أخرج فيه - كما ترى (¬4) - المتراهنان كلاهما. * قالوا: وأيضًا، فمشترطوا المحلِّل مختلفون: هل دخل ليحلَّ فيه لنفسه فقط، أو له وللباذلين؟ على قولين: * فذهب جمهور من اشترطه إلى أنه دخل لِيُحِلَّه لنفسه ولهما. * وقال أبو علي بن خيران من الشافعية (¬5): "وإنما يحلُّه لنفسه فقط" (¬6). ¬
وحكاه أبو المعالي الجُوَيْني قولًا للشافعي، واختاره أبو محمد المنذري في كتابه على "سنن أبي داود" (¬1)، وقال: "عليه يدل الحديث". ثم قالوا: فعلى هذا، لو سبق المحلِّل وأحدُهما بحيث جاءا معًا: فإن قلنا: يحلُّه لنفسه فقط؛ استبدَّ (¬2) المحلِّل بالسَّبَق جميعِه دون الآخر، مع تساويهما في السبق. وإن قلنا: يحله لنفسه ولهما؛ فإنهما يكونان في السَّبَق سواء (¬3)، ولو سبق أحد الباذلين الآخر. والمحلِّل على قول الجمهور يستحقُّ السَّبَق جميعه، وعلى قول ابن خيران يشترك هو والمحلِّل في سبق (¬4) الثالث. هكذا قال بعض الشافعية (¬5)، والذي في "النهاية": إنه (¬6) إن سبق ¬
أحد الباذلين، ثم تبعه المحلِّل، وتأخر الآخر، أحرز السابق مال نفسه. وفي سَبَقِ الثالث أربعة أوجه (¬1): أحدها: أنه يحرزه صاحبه مع كونه مغلوبًا مسبوقًا من كل وجه، وهذا بركة المحلِّل عليه. والثاني: أنه يختص به السابق؛ لسبقه له [ح 51] وغلبه إياه. والثالث: أنه يكون بينه وبين المحلِّل، لاشتراكهما في سبقه. والرابع: أنه يختصُّ به المحلِّل؛ لأنه دخل ليحل السبق لنفسه لا لهما". فإن سبق المحلِّل وحده، وتبعه الآخر، وتأخر الثالث، ففيها ثلاثة أوجه (¬2): أحدها: أن السَّبَقين للمحلِّل. والثاني: سبق الثالث بين المحلِّل والثاني نصفين. والثالث: أن سبق الثالث للثاني وحده. وإن سبق أحدهما وتبعه الآخر وجاء المحلِّل ثالثًا، أحرز السابق سبق نفسه، وهل يستحق سبق (¬3) الثاني؟ على وجهين مَبْنِيَّين على ذلك ¬
الأصل الذي تبيَّن فساده. وإن سبق أحدها وساوى (¬1) الآخر المحلِّل، خاب المحلِّل، وفاز السابق بسبقه، وفي استحقاقه سبق صاحبه القولان". فليتدبَّر اللبيب ما في هذه الفروع (¬2) من الفساد والتَّناقض الدَّال على فساد الأصل، فإنها إنما نشأت عن اشتراط المحلِّل، وهي من لوازم القول به، وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم. ولما تفطَّن بعض المشترطين لفساد هذه الفروع، قال: إنْ سَبَق المحلِّل لم يأخذْ شيئًا، وإن سُبِق غرم. ذكره بعض الحنفيَّة، حكاه ابن الساعاتي في "شرح مجمع البحرين"، وابن بلدجي في "شرح المختار" (¬3). فتأمل هذا التفاوت الشديد، والاختلاف المتباين في أمر هذا الدخيل المستعار؛ فإنَّ ما كان من عند الله لا يَعْرِض له هذا التناقض الشديد والاختلاف الكثير: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82]، وَزِنْ هذه الفروع المتباينة، والأقوال المتضادة فيه، بكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقواعد شريعته وأصولها وحِكَمها ومصالحها، واعْرِضْها على الدَّليل، ولا تجعلها عرضة للأدلَّة؛ بحيث تعرض الأدلَّة عليها فلا تجدها توافقها، فَتُرَدّ الأدلَّة لأجلها، كما هو اعتماد كثير ممَّن غُبِن حظّه من العلم ¬
- اختلاف مشترطوا المحلل: هل دخل ليحل فيه لنفسه فقط، أو له وللباذلين؟ على قولين
والإنصاف، والله ولي [ح 52] التوفيق. * قالوا: وأيضًا، فإن (¬1) النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صارع وراهن على الصراع، وكان ذلك من الجانبين، ولم يكن بينهما محلِّل، بل يستحيل دخول المحلِّل بين المتصارعين. ونحن نذكر قصة مصارعته - صلى الله عليه وسلم -: قال أبو الشَّيخ الأصبهاني [ظ 26]: حدثنا عبد الله بن محمد (¬2) بن زكريا ثنا سلَمة بن شَبِيْب ثنا عبد الرزاق أخبرنا مَعْمر عن يزيد بن أبي زياد - أحسبه - عن عَبد الله بن الحارث؛ قال: "صارع النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا رُكانة في الجاهلية، وكان شديدًا، فقال: شاة بشاة. فصرعه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبا رُكانة: عاوِدْني في أخرى، فصرعه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: عاوِدْني في أخرى، فعاوده، فصرعه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو رُكانة: ما أقول لأهلي؟ شاة أكلها الذئب، وشاة نَشَزَت، فما أقول للثالثة؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كُنَّا لنجمع عليك أن نصرعك ونُغْرِمك، خُذْ غنمك" (¬3). وقال أبو داود في كتاب "المراسيل" (¬4): حدثنا موسى بن ¬
إسماعيل عن حماد بن سلمة عن عمرو بن دِيْنَار عن سعيد بن جُبَيْر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بالبطحاء، فأتى عليه يزيد بن رُكانة - أو ركانة (¬1) ابن يزيد - ومعه أعنز له، فقال: يا محمد! هل لك أن تصارعني؟ فقال: ما تُسْبِقُني؟ فقال: شاة من غنمي، فصارعه فصرعه، فأخذ شاة، قال ¬
ركانة: فهل لك في العودة؟ فقال: ما تُسْبقُني؟ قال أخرى، ذكر ذلك مرارًا. فقال: يا محمد! والله ما وضع أحد جنبي إلى الأرض، وما أنت بالذي تصرعني. فأَسْلَم، وَرَدَّ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنمه". قال البيهقي (¬1): "هذا مرسل جيِّد، وقد رُوِي بإسناد آخر موصولًا". وقال أبو الشيخ أيضًا في كتاب "السبق" له: ثنا إبراهيم بن علي ثنا ابن المقرئ حدثنا أبي عن (¬2) حماد عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جُبير: فذكره (¬3). وهذا إسناد جيد متَّصل. وقال أيضًا: ثنا أبو بكر الجارودي ثنا إسماعيل بن عبد الله ثنا محمد بن كَثير ثنا حمَّاد بن سلمة ثنا عمرو بن [ح 53] دينار عن سعيد بن جُبير عن يزيد بن رُكانة؛ قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبطحاء، فمرَّ به ركانة". قال شيخنا (¬4): "هو رُكانة بن عبد يزيد". وسعيد بن جُبير لم ¬
يُدْرِك ركانة، فإن رُكَانة توفي في أوَّل خلافة معاوية سنة اثنتين وأربعين، وهو من مُسْلِمَة الفتح، وقصة مصارعته للنبي - صلى الله عليه وسلم - معروفة عند العلماء، وإنما يُنْكِرون مصارعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي جهل"، كما تقدَّم التنبيه عليه" (¬1). وقال أبو داود في "سننه" (¬2) عن محمد بن علي بن رُكَانة: "إن رُكَانة صارع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصرعه النبي - صلى الله عليه وسلم -". وهذا ليس فيه ذكر السَّبَق، ولكن ذكره في حديث سعيد بن جُبير عن ابن عباس، وفي حديث عبد الله بن الحارث. وهذه الروايات لا تناقض فيها؛ فإن من روى قصة المصارعة: منهم من ذكر الرهن من الجانبين، ومن لم يذكر الرهن لم ينفه، بل سكت عنه، واقتصر على بعض القصة، ومن ذكر قصة تسبيق ركانة بالشاة، لم ينف إخراج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضًا، بل سكت عنه، فذكره عبد الله بن الحارث. ولو نفى بعض الرواة إخراج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للرَّهن صريحًا، وأثبته البقيَّة؛ لقُدِّم المثبت على النافي؛ كما في نظائره. وإذا ثبت هذا، فهو دليلٌ على المراهنة من الجانبين بلا محلِّل وهو نظير مراهنة الصِّدَّيق فإن كل واحدةٍ منهما مراهنة على ما فيه ظهور الدين؛ فإنَّ رُكانة هذا كان من أشد الناس، ولم يُعْلَم أنَّ أحدًا صرعه، ¬
فلمَّا صرعه النبي - صلى الله عليه وسلم -، عَلِمَ أنه مؤيَّد بقوة أخرى من عند الله تعالى، ولهذا قال: "واللهِ ما رمى أحدٌ جنبي إلى الأرض"، فكان لا يُغْلَب، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بمصارعته إظهار آيات نبوَّته، وما أيَّده الله تعالى به من القوة والقدرة (¬1)، وكانت المشارطة على ذلك كالمشارطة في قصة الصديق، لكن قصة الصدِّيق في الظُّهور بالعلم، [ح 54] وهذه في الظُّهور بالقوة والقدرة، والدين إنما يقوم بهذين الأمرين: العلم والقدرة، فكانت المراهنة عليهما نظير المراهنة على الرمي والركوب، لِمَا فيهما (¬2) من العَوْن على إظهار الدِّين وتأييده، فهي مراهنةٌ على حقّ، وأكل المال بها أكلّ له بالحق (¬3)، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا كان غرضه إعلاء الحق وإظهاره؛ ردَّ عليه المال، ولم يأخذ منه شيئًا، فأسْلَم الرجل. وهذه المراهنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدِّيقِه هي من الجهاد الذي يُظْهِر الله تعالى به دينه، ويُعِزُّه به، فهي من معنى الثلاثة المستثناه في حديث أبي هريرة، ولكن تلك الثلاثة (¬4) جنْسُها يُعَدُّ للجهاد، بخلاف جنس الصراع؛ فإنه لم يُعَدَّ للجهاد، وإنمَا يصير مشابهًا للجهاد إذا تضمَّن نصرة الحق وإعلائه؛ كصراع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركانة. وهذا كما أن الثلاثة المستثناة إذا أُريد بها الفخر، والعلو [ظ 27] في الأرض، وظلم الناس = كانت مذمومة، فالصِّراع والسِّباق بالأقدام ¬
ونحوهما إذا قُصِد به نصر الإسلام، كان طاعة، وكان أخذ السَّبَق به حينئذ أخذًا بالحق لا بالباطل. والأصل في المال أن لا يُؤكل إلا بالحق، لا يُؤكل بباطل (¬1)، وهو ما لا منفعة فيه. فحديث رُكَانة هذا أحد طرقه صريحة في الرِّهان من الجانبين من غير (¬2) محلِّل، والطريق (¬3) الأخرى لم تنفِ ذلك، بل لم تكن عادة العرب وغيرهم - وإلى الآن - أن يَبْذُلَ السَّبَق أحدُ المتغالبين وحده (¬4)، وإنما المعروف من عادات الناس التَّراهن من الجانبين، وقد جُعِل في طِبَاعِهم وفِطَرِهم أن الرهن من أحد الجانبين قِمَار وحرام، والنفوس تحتقرُ الذي لم يَبْذُل وتَزْدَرِيْه، وتعدُّه بخيلًا شحيحًا مهينًا. وممَّا يوضح أن التَّراهن كان من الجانبين في هذه القصة: أن ركانة لما غلبه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخذ منه شاة، طلب رُكانةُ العَوْدَ، وإنما ذلك لِيسترجع الشاة، ولم يكن له غرضٌ [ح 55] في أن يغرمَ شاة أخرى وثالثة، ولو كان البذل من ركانة وحده، لم يكن له سبيلٌ لاسترجاع (¬5) الشاة التي خرجت منه، بل إذا غُلِبَ غرم شاة أخرى، وإن غلبَ لم يفرح بأخذ شيء، فلم يكن ليطلبَ العَوْد إلى صراع هو فيه غارم ولا بد، ¬
ولا سبيل له إلى استنقاذ ما غرمه ألبتة. وهذا بخلاف ما إذا كان التراهن من الجانبين - كما هو الواقع - كان المغلوب على طمعٍ من استرجاع ما غرمه، فيحرِص على العَوْد. والمقصود أن الرهن لو كان من جانب واحد - وهو جانب رُكانة -، لم يكن له في العودة بعد الغُرْم فائدة أصلًا، بل إما أن يغرم شاة ثانية وثالثة مع الأولى، وإما أن تستقرَّ الأولى للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا مما يُعْلَم أن رُكانة لم يقصده، بل ولا غيره من المتغالبين، وإنما يَقْصِدُ المَغْلُوبُ بالعَوْد استرجاع ما خرج منه وغيره معه. فهذا الأثر يدلُّ على جواز المراهنة من الجانبين بدون محلِّل في عمل يتضمَّن نصرة الحق، وإظهار أعلامه، وتصديق الرسول صلاة الله وسلامه عليه. وهذا بخلاف العمل الذي وجوده مكروهٌ بغيضٌ إلى الله ورسوله، متضمِّن للصَّدِّ عن ذكره؛ فإن هذا لا يجوز فيه مع (¬1) إخراج العِوَض. وهذا على أحد الوجهين في مذهب الشافعي وأحمد ظاهر جدًّا (¬2)؛ فإنهم يجوِّزون المسابقة بالعوض على الطيور المعدَّة للأخبار التي يَنْتَفِع بها المسلمون. حكاه أبو الحسن الآمدي، وصاحب "المستوعب" عن بعض ¬
- حكم المسابقة بعوض على الطيور المعدة للأخبار
أصحاب أحمد (¬1). فإذا كان أكْلُ (¬2) المال بهذه المسابقة أكْلًا بحق؛ فأكْلُه بما يتضمَّن نصرة الدين وظهور أعلامه وآياته، أولى وأحرى. وعلى هذا، فكل مغالبة يُستعانُ بها على الجهاد تجوز بالعوض، بخلاف المغالبات التي لا يُنْصر الدين بها؛ كنقار الديوك، ونطاح الكباش، والسباحة (¬3)، والصناعات المباحة. * قالوا: ونظير قصة مصارعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لِرُكانة، قصة مراهنة الصّدِّيق لكفار قريش على تصديق [ح 56] النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به من غلبة الروم لفارس، وكان الرهان من الجانبين؛ كما تقدم في أول الكتاب سياق الحديث (¬4)، وإسناده على شرط الصحيح، وقد صحَّحه الترمذي وغيره. قالوا: ولا يصحُّ أن يقال: إنَّ (¬5) قصَّة الصدِّيق منسوخةٌ بتحريم القمار؛ فإن القمار (¬6) حُرِّم مع تحريم الخمر في آية واحدة؛ والخمر ¬
- عدم صحة القول بانها منسوخة بحديث أبي هريرة "لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل"
حُرِّمَتْ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -، محاصِرٌ (¬1) بني النَّضِير، وكان ذلك بعد (¬2) أُحُدٍ بأشهر، وأحُدٌ كانت في شوَّال سنة ثلاثٍ بغير خلاف. والصِّديق لمَّا كان المشركون قد أخذوا رهنه، عاد وراهنهم على مدة أخرى كما تقدَّم، فَغَلَبَت الروم فارس قبل المُدَّة المضروبة بينهم، فأخذ أبو بكر رهنهم. هكذا جاء مصرَّحًا به في بعض طرق الحديث (¬3). وهذه الغلبة من الروم لفارس كانت عام الحُديبية بلا شك، ومن قال: كانت عام وقعة بدر (¬4) فقد وهم؛ لما ثبت في "صحيح البخاري" (¬5) عن ابن عباس عن أبي سفيان: "أنَّ هرقل لمَّا أظهره الله على فارس؛ مشى من حمص إلى إيلياء شكرًا لله، فوافاه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بإيلياء، فطلب من هناك من العرب، فجيء بأبي سفيان صخر بن حرب، فقال له: إني سائلك عن هذا الرجل .. " فذكر الحديث، وفيه: "فقال: هل يغدر؟ فقال أبو سفيان: لا، ونحن الآن في أمان منه في مُدَّة ما ندري (¬6) ما هو صانع فيها". ¬
يريد أبو سفيان بالمدة: صلح الحديبية، وكان في ذي القعدة سنة سِتٍّ بلا شك، فعُلِم أنَّ تحريم القِمَار سابقٌ على أخذ الصديق الرهان، الذي راهن عليه أهل مكة، ولو [ظ 28] كان رهان الصديق منسوخًا، لكان أبعد الناس منه، فقد روى البخاري في "صحيحه" (¬1): "أنه كان له غلام يأخذ من الخَراج، فجاء يومًا بشيء، فأكلَ منه، ثم ضحك غلامه فقال مالك؟ فقال (¬2): أتدري من أين هذا؟ قال: لا، قال: إني كنتُ تكهَّنتُ لإنسان في الجاهلية، فلما كان اليوم، جاءني بما جَعَل لي، [ح 57] فوضع أبو بكر يده في فيه، وأستقاء ما كان أكلَ". فكيف يأخذ القمار الحرام (¬3) بعد علمه بتحريمه ونسخه؟! هذا من المحال البيِّن. وقد رُوِيَ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر أن يتصدق بما أخذ من المشركين من الرهان (¬4). ¬
وهذا إن صح لا يضرُّ؛ فإنه الأولى والأكمل والأليق بِمَنْصِبِ الصِّدِّيقيَّة. فلما رأت هذه الطائفة أنه لا يصح أن تكون قصة الصديق منسوخة بتحريم القمار؛ قالت: هي منسوخة بحديث أبي هريرة: "لا سبق إلا في خُفٍّ أو حافر أو نَصْل" (¬1). قالوا: وأبو هريرة أسلم عام خيبر سنة سبع، وهذا بعد تحريم القمار والخمر بلا شك، فيكون حديثه ناسخًا لمراهنة الصديق. قال الآخرون: أبو هريرة لم يقل: سمعتُه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجائز أن يكون أرسله عن بعض الصحابة، كما في عامة حديثه؛ فإنه كان يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فإذا وُقِفَ يقول: حدثني فلان، ويذكر من حدَّثه مِنَ الصحابة. وعلى تقدير أن يكون سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فغايته أنه لفظ عامٌّ، ومراهنة الصديق واقعة خاصَّة، والخاصُّ مقدَّم على العام - تقدَّم أو تأخَّر - عند الجمهور. ¬
- إجماع الصحابة على تقديم الخاص على العام - تقدم أو تأخر
وقيل: إنه إجماع الصحابة (¬1)؛ كما ثبت في "الصحيحين" (¬2) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أقرَّ أهل خيبر على أن يعملوها والثمرة بينهم وبينه، ثم أوصى عند وفاته (¬3): "أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب" (¬4). ولا خلاف أنَّ خيبر من جزيرة العرب (¬5)، فعمل الخليفتان الراشدان بالخاص المتقدم، وقدَّماه على العام المتأخِّر، وأُقِرَّ أهل خيبر فيها (¬6) إلى أن أحْدثُوا في زمن عمر رضي الله عنه ما أحْدثُوا وعلم، فأجْلاهم إلى الشام (¬7). ¬
قالوا: وهذا للحنفية ألزم؛ فإنهم يرون المراهنة على مثل ما راهن عليه الصديق من الغلَبَة في مسائل العلم، وعندهم أن العامَّ المتأخِّر ينسخ الخاصَّ المتقدِّم [ح 58]، ولم ينسخوا قصة الصدِّيق المتقدِّمة الخاصَّة بحديث أبي هريرة العام المتأخر، وهو قوله: "لا سبق إلا في خف، أو حافر، أو نصل" (¬1). وعلى هذا، فقد يقال: قصة مراهنة الصديق لم تدخل في حديث أبي هريرة بالكُلِّيَّة، ولا أُرِيدَ بها بِنَفْيٍ ولا إثباتٍ. وعلى هذا، فكل واحد من الحديثين يبقى معمولًا به لأنه (¬2) على بابه، ولا تعارض بينهما، وهو تقرير حسن. قالوا: فهذه نبذة من أدلَّتنا على عدم اشتراط المحلَّل في السباق؛ فإن كان عندكم ما يعارضها فَحَيَّهَلًا به، فنحن من وراء القبول له إن قاومها، ومن وراء الردِّ والجواب إن لم يقاومها، ومحالٌ أن تقوم هذه الأدلَّة وأكثر منها على أمرٍ باطلٍ في الشرع، يتضمَّن تحليل ما حرَّمه الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وإلحاق القمار بالحلال، ولا يكون عنها أجوبة صحيحة صريحة، ولها معارض مقاوم، فمن ادَّعى بطلانها، فَلْيُجِبْ عنها أجوبة مفصَّلة، وإلَّا، فليعرف قَدْره، ولا يتعدَّى طَوْره، ولا ¬
2 - أدلة القائلين باشتراط المحلل
يقتحم حلبة هذا السباق إلا إذا وثق من نفسه بمقاومة الرفاق. فصلٌ قال أصحاب التحليل: لقد أجلبْتُم علينا بخيل الأدلَّة ورَجلِها، وجَنَبْتُم معها شكْلها وغير شَكْلِها (¬1)، وجيوش أدلَّتنا وراءكَم في الطلب، وسائقها يقول: أُدْرِكْتم وسُبِقْتُم فلا حاجة بكم إلى الجَلَب والجَنَب، فاستعدُّوا الآن للقاء جيوش من الأدلَّة، إنْ طُلِبت أعْجَزَتْ مَن طلبها، وإن طَلَبت أدْرَكت (¬2) من استنصر بها؛ فهو منصور، ومن عانَدَها فهو مقهور، وسلطان هذه العساكر المنصورة كتاب الله تعالى، ثم سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأمراؤها أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، وهذه طليعة الجيش قد أقبلت، وسلطانه قد برز: قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. وقال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. وقال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. ¬
2 - من السنة
وقال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} [النساء: 59]. وقد تنازعنا نحن وأنتم في هذه المسألة، فلأيِّ القولين شهد القرآن والسنة، أخذنا به، ولم نترك موجبه لقول أحد، وعند هذا فنقول: الدَّليل على اشتراط المحلِّل من السُّنّة (¬1) وجوه: الأول: ما رواه حافظ الأمة محمد بن شِهَاب الزُّهري عن أعْلَمِ التابعين سعيد بن المسيّب عن حافظ [ظ 29] الإلمملام أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أدخلَ فرسًا بين فرسين وهو لا يأمَن أن يُسْبَقَ، فلا بأس، ومن أدخلَ فرسًا بين فرسين وهو آمِنٌ أن يُسْبَقَ، فهو قمارٌ" (¬2). رواه إمام أهل السنة أحمد بن حنبل في "مسنده" عن يزيد بن هارون ثنا سفيان بن حسين عن الزهري، وَبَنَى عليه مذهبه، وعَمِلَ به. ¬
ورواه أبو داود وابن ماجه (¬1) في "سننهما"، ورواه أبو بكر بن أبي شيبة، وقال أبو عبد الله الحاكم (¬2): "هو صحيح الإسناد". وقال أبو محمد بن حزم (¬3): "هو صحيح، وليس في رجال هذا الإسناد من ينبغي النظر فيه؛ إلَّا سفيان بن حسين هذا، فإنهم أئمة الإسلام، وهداة الأنام" (¬4). فنقول وبالله تعالى التوفيق: سفيان هذا (¬5)، قد وثَّقه أحمد بن عبد الله العجلي، ويحيى بن معين في رواية محمد بن سعد، وقال: "كان يخطئ"، ووثَّقه عثمان بن أبي شيبة. وقال عباسٌ الدُّوري: "سألتُ يحيى عنه؟ فقال: ليس به بأس، وليس من أكابر أصحاب الزهري". وقال يحيى في رواية ابن أبي خيثمة: "هو صالح، وحديثه عن الزهري ليس بذاك، إنما سمع منه بالمَوْسِم". ¬
وقال أبو الفرج ابن الجوزي (¬1) ومحمد بن عبد الواحد المقدسي: "خَرَّجَ مسلمٌ حديثه في "صحيحه" (¬2)، واستشهد به البخاري في "صحيحه". وقد صحَّح له الترمذي عن (¬3) غير الزهري، فقال: حدثنا زياد بن أيوب، حدثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن يونس بن عبيد، عن عطاء عن جابر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المُحاقَلَة، والمزابَنَة، والمُخابرةَ، والثُّنْيا إلا أن تعلم" (¬4). ثم قال: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه من حديث يونس بن عبيد عن عطاء عن جابر". ويكفي سكوت الإمام أحمد عنه بعد إخراجه له، وبناؤه مذهبه عليه، وهذا يدل على صحته عنده. وقد قال الحافظ أبو موسى المديني (¬5): إن ما خرَّجه الإمام أحمد في "المسند" فهو صحيح عنده. ¬
قالوا: وقد قال أبو الحسن الدارقطني في "علله" (¬1): إن الحديث محفوظ عن الزهري. وقد شهد أبو أحمد بن عدي (¬2) أن للحديث أصْلًا، وصوَّب رواية سعيد له عن أبي هريرة، وناهِيْكَ بهؤلاء الأعلام. وقد سأل الترمذي (¬3) البخاري عن حديث سفيان بن حسين في الصدقات فقال: "أرجو أن يكون محفوظًا، وسفيان بن حسين صدوق". فهذا إمام هذا الشأن قد شهد لحديثه عن الزهري بأنه محفوظ، ولسفيان بن حسين بالصدق، ومثل هذا يكفي في الاحتجاج بالحديث. قالوا: وقد تابعه على روايته له عن الزهري: سعيد بن بشير، قاله أبو داود وابن عدي (¬4). ولا ريب أن هذا يقوِّي أمر الحديث ويزيل عنه تفرُّد سفيان بن حسين به. وقد أثنى الأئمة على سعيد بن بشير هذا (¬5): ¬
فقال شعبة: "كان حافظًا صدوق اللسان". وقال أبو زرعة الدمشقي: "رأيته عند أبي مسهر موضعًا للحديث. قال: وقلت لدُحيم: ما تقول في محمد بن راشد؟ فقال: ثقة وكان يميل إلى هوى، قلت: فأين هو من سعيد بن بشير؟ فقدَّم سعيدًا عليه. وفي لفظ: سألت دُحَيْمًا عن قول من أدْرَكَ في سعيد، فقال "يوثقونه". وقال البخاري: "يتكلمون في حفظه وهو يحتمل". وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: "سألت أبي وأبا زرعة عن سعيد بن بشير؟ فقالا: محلُّه الصِّدق عندنا. قلت: يُحْتجُّ بحديثه؟ قالا: يحتجّ بحديث ابن أبي عَرُوْبة والدَّسْتَوائي، هذا شيخ يُكْتَبُ حديثه. قال: وسمعت أبي يُنْكِرُ على مَنْ أدْخَلَه في كتاب الضُّعَفَاء، وقال يُحوَّل" (¬1). وقال عثمان بن سعيد الدَّارمي: "كان مشايخنا يقولون: هو ثقة". قالوا: وإنما تَكَلَّم في سعيد بن بشير هذا من تكلَّم: في حديثه عن قتادة لِنُكْرة وقعت فيه، حتى قال ابن عدي والدارقطني: إنه: "أخطأ في هذا الحديث في روايته عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وروايته إيَّاه عن الزُّهري (¬2) عن سعيد سالمة من هذا القَدْح، ووافقه ¬
عليها سفيان بن حسين". قالوا: فالحديث إذن صحيح الإسناد، لثقة رجاله، وتَرْكُ إخراج أصحاب الصحيح له لا يدلُّ على ضعفه، كغيره من الأحاديث الصحيحة التي تَرَكا إخراجها. قالوا: وقُصَارى ما يعلَّل به الوقف على سعيد بن المسيب، وهذا ليس بعلَّة، فقد يكون الحديث عند (¬1) الراوي مرفوعًا، ثم يفتي به من قوله، فَيُنْقَل عنه موقوفًا، فلا تناقض بين الروايتين. فصلٌ قالوا: فهذا تقرير الحديث من جهة السند. وأما تقرير الدلالة منه: فهو أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنَّ المتسابقَيْن متى أدخلا بينهما ثالثًا (¬2)، قد أمن أن يُسْبَق فهو قمار، ومعلوم أنَّ دخوله [ظ 30] لم يجعل العقد قمارًا، بل إخراجهما هو الذي جعل العقد قمارًا، ودخوله على غير الوجه الذي دخلا عليه من الرجاء والخوف لا عبرة به، فكأنه لم يدخل، فكان العقد قمارًا، إذ لا تأثير له (¬3) لدخوله فيه مع الأمن، فإذا دخل على الوجه الذي دخلا عليه من الخوف والرجاء، لم يكن قمارًا، ¬
وذلك لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما قَبْلَ المحلل دائرٌ بين (¬1) أن يأخذ من الآخر أو يعطيه؛ فهو دائرٌ بين أن يَغْنم أو يَغْرم، والمُخْرِج لم يقصد أن يجعل للسابق جُعلًا على سَبْقه حتى يكون من جنس الجعائل، فإذا دخل بينهما ثالث، كان لهما حال ثانية (¬2)، وهو أن يعطِيا جميعًا الثالث، فيكون الثالث له جُعْل على سبقه لهما، فيكون من جنس الجعائل. قالوا: وإنما شَرَطَ [ح 61] النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يأمن أن يُسبْق؛ لأنه لم يَكْتفِ بصورة الدَّخِيْل حتى يكون دخوله حِيْلَة مجرَّدة، بل لا بدَّ أن يكون فرسه يحصل معه مقصود (¬3) انتفاء القمار بمكافأته لفرسيهما. قالوا: ولهذا يَشْتَرِط هذه (¬4) المكافأة من يجوِّز الحيلَ، فلا يجوز دخولُ هذا الثَّالث حيلةً، بل لا بد أن يخاف منه، ما يخاف (¬5) من كل واحد من المُخْرِجين، ويرجو ما (¬6) يرجو له، ولا يكفي صورته ليتحقق الخروج بدخوله عن شبه القمار. هذا غاية ما يقرر به هذا الحديث سندًا ودلالة. ¬
2 - حديث ابن عمر "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سابق بين الخيل وجعل بينهما سبقا، وجعل بينهما محللا" تخريجه، والكلام عليه
فصلٌ قالوا: والدليل الثاني على اشتراط المحلِّل: ما رواه أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" (¬1)، فقال: ثنا الحسن بن سفيان ثنا إبراهيم بن المنذر ثنا عبد الله بن نافع عن عاصم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سابَقَ بين الخيل، وجعل بينهما سَبَقًا، وجعل بينهما محلِّلا، وقال: لا سبق إلا في حافر، أو خفٍّ، أو نصْل". قالوا: فهذا إسناد كلهم ثقات، وتصحيح أبي حاتم لحديث عاصم هذا - وهو عاصم بن عمر بن حفص - يدل على كونه ثقة عنده، ووجه الاستدلال منه ظاهر. فصلٌ الدليل الثالث: ما رواه الحافظ أبو إسحاق يعقوب بن إبراهيم السَّعدي في كتابه "المترجم"، فقال: حدثني عبد الله بن يوسف حدثنا ¬
4 - أثر عمر بن الخطاب في رجلين تقامرا في ظبي وهما محرمان - وقول عمر: "هذا قمار لا نجيزه" تخريجه، والكلام عليه
يحيى بن حمزة قال: حدثني رجل من بني مخزوم من ولد الحارث بن هشام قال: حدثني أبو الزِّنَاد عن الأعْرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا جَلَب، ولا جَنَب، وإذا لم يُدْخل المتراهنان فرسًا يستبقان على السبق فيه؛ فهو حرام" (¬1). قالوا: فهذا إسناد لا يُسْأَل عن رجاله، وهذا الرجل المجهول غايته أنه لم يُسَمَّ، فالحديث (¬2) به يكون مُرْسَلًا، فإذا انضمَّ إلى ذَيْنك الحديثين؛ قَوِيَ أمرُه، وصلح للاستشهادُ به، لا للأعتماد (¬3) عليه. فصلٌ الدليل الرابع: ما رواه السعدي [ح 62] أيضًا عن عمرو بن عاصم: حدثنا حمَّاد عن عليّ بن زيد عن سعيد بن المسيب: أنَّ رجلين تقامرا في ظَبْيٍ، وهما محرمان، أيهما يسبق إليه، فسبق أحدُهما صاحبه، فقال عمر: "هذا قمارٌ ولا نُجِيْزه" (¬4). ¬
5 - حديث سلمة بن الأكوع في انتضال الصحابة وقوله لهم "ارموا وأنا معكم كلكم " ووجه الدلالة منه
فجعله قمارًا لمَّا أخْرَجا معًا، ولو أخرج أحدُهما؛ لم يقل: تقامرا، فإنَّ التقامر إنما يكون من اثنين. فصلٌ الدليل الخامس: ما رواه البخاري في "صحيحه" (¬1) عن سَلَمَة بن الأكْوع قال: "مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفرٍ من أسْلم ينتضلون بالسُّوق، فقال: "ارموا بني (¬2) إسماعيل؛ فإن أباكم كان راميًا، ارموا وأنا مع بني فلان"، فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما لكم لا ترمونَ؟ "، فقالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال: ارموا وأنا معكم كلُّكم". قالوا: ولا يكون مع الطائفتين إلا وهو محلِّل، وإلَّا كان مع أحدهما. فصلٌ الدليل السادس: أنهما إذا أخرجا معًا ولم يكن هناك محلِّل، كان قمارًا، وهو حرامٌ؛ لأنه يبقى (¬3) كل منهما دائرًا بين أن يغنم وبين أن ¬
يغرم (¬1)، وهذا هو القمار، فإذا أدخلا بينهما ثالثًا؛ حصل قسم ثالث، وهو أن يسبقهما، فيأخذ جُعليهما معًا، ولا يغرم شيئًا (¬2)، فيصير العقد به في حكم عقود الجعَالات، فكأنهما جَعَلا لهذا المحلِّل جُعْلًا (¬3) إن سبقهما، فما (¬4) لم يسبِقْهما؛ لم يَسْتَحِقَّ الجُعْلَ. قالوا: ولو لم يكن في هذا إلا قول أعلم التابعين، ولا سيما بقضايا عمر، وهو سعيد بن المسيب، وكان عبد الله بن عمر يبعث يسأله عن قضايا أبيه (¬5)؛ فإنه أفتى بذلك، وتبعه عليه فقهاء الحديث، كالإمام أحمد والشافعي وفقهاء الرأي، كأبي حنيفة وأصحابه (¬6)، ومَن الناس غيرُ هؤلاء؟! فيكفينا أن ثلاثة أركان الأمة مِن جَانِبِنَا، والرُّكْن الآخر وهو مالك عنه روايتان: إحداهما موافقة سعيد بن المسيب في القول [ظ 31] بالمحلِّل. ¬
- ردود مشترطي المحلل في السباق على مخالفيهم
قال أبو عمر بن عبد البر: "وهو الأجود من قوليه، وقول [ح 63] سعيد بن المسيب وجمهور أهل العلم، واختاره ابن المَوَّاز" (¬1). قالوا: ومذهب أبي حنيفة أن التابعي إذا عاصر الصَّحابة وزاحمهم في الفتوى وأقرُّوه على ذلك، كان قولُه حجة (¬2). قالوا: وهذا مذهب إمام أهل الشام الأوزاعي، وإمام أهل خراسان إسحاق بن راهويه، وهو مذهب الزهري. فقد تواطأ على هذا المذهب فقهاء الأمصار، وفقهاء الآثار، وفقهاء الرأي والقياس، وقد سمعتُم أدلته. قالوا: وأما أدلَّتُكم؛ فهي نوعان: أثرية ومعنوية: فأما الأثرية: فالصَّحيح منها: - إما عامٌّ، وأدلتنا خاصة، فتُقَدَّم عليه. - أو مُجْمَل، وأدلَّتُنا مفصَّلة. - وإما متقدِّم منسوخٌ بما ذكرنا من الأدلَّة؛ كقصَّة مصارعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومراهنة الصدِّيق؛ فإنهما كانا في أول الإِسلام. ¬
قالوا: وقد حكى أبو محمد بن حزم (¬1) الإجماع على نسخ قصة الصدِّيق ومراهنته فإنه قال: "أجمعت الأمَّةُ (¬2) التي لا يجوز عليها الخطأ فيما نقلته مُجْمِعَة عليه: أن المَيْسِرَ الذي حرَّمه الله تعالى هو القمار، وذلك ملاعبة الرجل صاحبه على أنَّ من غَلَب منهما، أخذ من المغلوب قَمْرَتَه التي جعلاها بينهما؛ كالمتصارعين يتصارعان، والراكبين يتراكبان، على أنَّ مَن غَلَبَ منهما، فللغالب على المغلوب كذا وكذا خطارًا وقمارًا؛ فإن ذلك هو الميسر الذي حرمه الله تعالى، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قال لصاحبه تعالَ أُقامِرْكَ، فليَتَصَدَّقْ" (¬3). قالوا: ولا يُعْلَم في هذه المسألة إلا مذهبان: * مذهب مَن يمنعِ إخراج الرهن من الحزبين (¬4) معًا، سواء كان بمحلِّل أو لم يكن بمحلَّل، وهذا هو المعروف من مذهب مالك. قال أبو عمر بن عبد البر (¬5): "قال مالك لا نأخذ بقول سعيد بن المسيب في المحلِّل، ولا يجب المحلِّل في الخيل". ¬
- وأما الأدلة المعنوية
قال صاحب "الجواهر" (¬1): "وهذا المشهور عنه". * والقول الثاني: قولُ مَن يجوِّزه بشرط المحلل، وهو قول مَن حكينا قوله [ح 64] آنِفًا. وأما الجواز من الحزبين من غير محلِّل؛ فلا نعلم به قائلًا من الأئمة المتبوعين. قالوا: وأما ما استدللتُم به من قوله: "راهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، وأن المُرَاهنة مُفَاعَلَة، وحَقِيْقَتُها من اثنين؛ فذلك غير لازم فيها؛ فإنه يقال: سافر فلان، وعاقب اللص، وطارق النعل، ويكفي عافاك الله. وأما المعنوية (¬2): فسائر ما ذكرتُم من المعاني والإلزامات، فنردُّها كلها بأمرٍ واحدٍ، وهو فساد اعتبارها، لتضمُّنِها مخالفة ما ذكرنا من النصوص الدالة على (¬3) اعتبار المحلِّل، فلا حاجة إلى إفراد كل واحد منها بجواب. فهذا غاية ما تمسَّكت به هذه الفرقة، وانتهى إليه نظرهم واستدلالهم. قالوا (¬4): فقد تبيَّن أنّا أولى بالأدلة الشرعية: آثارها ومعانيها ¬
منكم؛ كما نحن أولى بالأئمة منكم في هذه المسألة، فإن كاثَرْتُمُوْنَا بالأدلَّة؛ كاثرناكم بالأئمة، فكيف ودليلٌ واحد من الأدلَّة التي ذكرناها يكفينا في النَّصرة عليكم. قالوا: وهؤلاء جمهور الأمة قد رأو هذا القول حَسَنًا، وفي الحديث: "ما رآه المسلمون حسنًا؛ فهو عند الله تعالى حسن" (¬1). وما عداه فقول شاذٌّ، ومن شذَّ، شذَّ الله به، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد" (¬2) [ظ 32] *. ¬
- ردود منكري المحلل في السباق على القائلين بالاشتراط
فصلٌ قال المنكرون للمحلِّل: لسْنا ممَّن يُقَعْقَع له (¬1) بالشنان، ولا ممَّن يَفِرُّ إذا أُشْرع إليه طرف السِّنان، وإنا بحمد الله تعالى للحقِّ ناصرون، وبه منتصرون، وفيه متبصرون (¬2)، وبه مخاصِمون، وإليه محاكمون، وهو أخْبِيَتُنَا التي نفْزع (¬3) إليها، وقاعدتنا التي نعتمد عليها، ونحن نبرأ إلى الله مما سواه، ونعوذ بالله أن نَنْصُر إلا إيَّاه، ولسْنَا ممَّن يعرف الحق بالرِّجال، وإنما ممَّن يعرف الرجال بالحق، ولسنا ممَّن يعرض الحق ¬
على آراء الخلق (¬1)، فما وافقه منها قبله، وما خالفه ردَّه، وإنما نحن ممَّن يعرض آراء الرجال وأقوالها على الدليل، فما وافقه منها اعتدَّ به وقبله، وما خالفه [ح 65] خالفه. قالوا: ونحن نبيِّنُ أنَّ جيوش أدلتكم التي عوَّلتم عليها واستندتم في النصرة إليها ليست لها في مقاومة جيوشنا يَدَان، ولا تجري مع فرسانها في ميدان، وأَنها أحاديث باطلة معلولة، وصحيحها ليس معكم منه شيء، وأَن قياسكم بيِّنُ البطلان من أكثر من أربعين وجهًا (¬2)، فنقول وبالله تعالى التوفيق: أما ما قدَّمتم من ذكر قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] إلى آخر المقدمة؛ فنعم والله؛ سمعًا وطاعة لداعي الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتركًا لكل قول يخالفه (¬3). ونحن ننشدكم الله إذا دعوناكم إلى النصوص التي تخالف مَن قلَّدتموه، هل تقدمونها على قوله وتقولون بموجبها؟ أم تجعلون قول من قلَّدتموه (¬4) نصًّا حاكمًا عليها (¬5)، والنصوص ظواهر متشابهة إن أمكن ردَّها بأنواع التأويلات، وإلا قيل: صاحب المذهب أعلم؟ ¬
أ - الجواب عن الحديث الأول من جهة السند: - بيان ضعفه وعدم ثبوته
وعند هذا فنقول: أما الحديث الأول: وهو حديث سعيد بن المسيب؛ فالكلام معكم فيه في مقامين: أحدهما: صحته مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: بيان دلالته على محل النزاع. فأما المقام الأول: فنقول: هذا حديث لا يصحُّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألبتة، ونحن نذكر كلام مَن تكلَّم في الحديث من الأئمة، وفي سفيان بن حسين: فقال عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب "العلل" (¬1) له: "سألتُ أبي عن حديث رواه يزيد بن هارون وغيره عن سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعًا: "أيما رجل أدْخَلَ فرسًا بين فرسين وهو يأمن أن يُسْبَقَ فهو قمارٌ"؟. قال أبي: هذا خطأ، لم يَعْمَلْ سفيان بن حسين شيئًا، لا يُشْبه أن يكون عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحْسَنُ أحواله أن يكون عن سعيد بن المسيِّب من قوله، وقد رواه يحيى بن سعيد عن سعيد [ح 66] من قوله". وقال ابن أبي خَيْثَمَة في "تاريخه" (¬2): "سألت يحيى بن معين عن ¬
حديث سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أدخل فرسًا بين فرسين .. " الحديث؟ فقال: باطلٌ وخطأ على أبي هريرة". وقال أبو داد في "سننه" (¬1) بعد أن أخرجه: "رواه معمرٌ وشعيب وعقيلٌ عن الزهري عن رجال من أهل العلم قالوا: "من أدخل فرسًا"، وهذا أصح عندنا". هذا لفظ أبي داود، فلا ينبغي أن يقتصر المخرِّج له من "السنن" على قوله: رواه أبو داود. ويسكت عن تعليله له (¬2)! وقد رواه مالك في "الموطأ" (¬3): "عن ابن شهاب (¬4) عن سعيد بن ¬
المسيب أنه قال: من أدخل فرسًا ... ". فجعله من كلام سعيد نفسه. وكذلك رواه الأساطين الأثبات من أصحاب الزهري: مَعْمَر بن راشد وعُقَيْل بن خالد وشُعَيْب بن أبي حمزة والليث بن سعد ويُوْنُس ابن يزيد الأيْلي، وهؤلاء أعيان أصحاب الزهري كلهم رووه عن سعيد بن المسيب من قوله. وممَّن أعلَّه: أبو عُبيد القاسم بن سَلَّام (¬1)، وأعلَّه أبو عمر بن عبد البر في "التمهيد" (¬2)، وقال: "هذا حديث انفرد به سفيان بن حسين من بين أصحاب ابن شهاب، ثم أعلَّه بكلام أبي داود". وقال بعض الحفاظ: "يبعُد (¬3) جدًّا أن يكون الحديث عند (¬4) الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعًا، ثم لا يرويه واحد (¬5) من أصحابه الملازمين له، المختصين به، الذين يحفظون حديثه حفظًا، وهم أعلم الناس بحديث، وعليهم مداره، وكلهم يروونه [ظ 33] عنه دائمًا (¬6) من قول سعيد نفسه، وتتوفر هِمَمُهم ¬
- بيان خطأ سفيان بن حسين في رفعه هذا الحديث
ودواعيهم على ترك رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم الطبقة العليا من أصحابه، المقدَّمون على كل من عداهم ممَّن روى عن الزهري = ثم ينفرد برفعه من لا يدانيهم ولا يقاربهم لا في الاختصاص به، ولا في الملازمة له، ولا في الحفظ، ولا في (¬1) الإتقان [ح 67]، وهو معدود عندهم في الطبقة السادسة من أصحاب الزهري - على ما قال أبو عبد الرحمن النسائي (¬2) -، وهو سفيان بن حسين، فمن له ذَوْق في علم الحديث؛ لا يَشُكُّ ولا يتوقف أنه من كلام سعيد بن المسيِّب، لا من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يتأتَّى له الحكم برفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل (¬3) إما أن يرويه ويسكت عنه، أو يُبيِّن علَّته (¬4) ". وسمعتُ شيخ الإسلام أبا العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني رضي الله عنه يقول: "رفع هذا الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خطأ، وإنما هو من كلام سعيد بن المسيب، - قال: - وهذا مما يَعْلَم أهل العلم بالحديث أنه ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو من كلام سعيد بن المسيب نفسه، وهكذا رواه الثقات الأثبات من أصحاب الزهري عنه عن سعيد بن المسيب، مثل: الليث بن سعد وعُقَيْل ويونس ومالك بن أنس، وذكره في "الموطأ" عن سعيد بن المسيب نفسه، ورفعه ¬
- نظائر مما أخطأ فيه سفيان بن حسين
سفيان بن حسين الواسطي، وهو ضعيف لا يحتج بمجرَّد روايته عن الزهري؛ لغلطه في ذلك" (¬1). قلتُ: فقد غلَّط الإمامُ الشافعيُّ سفيان بن حسين في تفرده (¬2) عن الزهري بحديث: "الرِّجْل جُبَار"، فقال: "روى سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعًا: "الرجل جبار" ثم قال: "وهذا غلطٌ والله أعلم؛ لأنَّ الحفاظ لم يحفظوا ذلك" (¬3). وهذا إسناد حديث المحلِّل بعينه وعيانه، والعلَّة واحدة بعينها؛ فإن الحفاظ لم يحفظوا (¬4) رفعه كما تقدَّم. وقال ابن عديّ والدَّارقطني والبيهقي (¬5): تفرَّد بهذا الحديث عن الزهري سفيانُ بن حسين؛ قال الدارقطني: "وهو وهم؛ لأن الثقات خالفوه، ولم يذكروا ذلك". قال البيهقي: "وقد رواه مالك والليث وابن جُرَيج ومَعْمَر وعُقَيْل وسفيان بن عُيَيْنة وغيرهم عن الزهري، ولم يذكر أحدٌ منهم فيه: ¬
"الرِّجل". وهذا نظير تَعْلِيْل حديثه في المحلِّل سواء بسواء. ونظير هذا: حديثه [ح 68] عن الزُّهري عن سالم عن أبيه في الصَّدَقات (¬1). قال يحيى بن معين: "لم يتابعْ سفيان بن حسين عليه أحدٌ، ليس يصح" (¬2). هذا، مع أن له شاهدًا في "صحيح البخاري" (¬3)، وقد وافقه عليه سُلَيمان بن كثير أخو محمد بن كثير، فلم يصحِّحه؛ لتفرُّد سفيان هذا به، ومخالفة غيره من أصحاب الزهري له في وقْفِهِ. ونظير هذا، بل أبلغ منه: أن سفيان بن حسين روى عن الزُّهري عن عروة عن عائشة؛ قالت: "كنتُ أنا وحفصة صائمتين، فعرض لنا طعام، فاشتهيناه فأكلناه فدخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبدرتني حفصة - وكانت ابنة أبيها -، فقصَّت عليه القصة، فقال: اقْضِيَا يومًا مكانه" (¬4). ¬
وتابعه جعفر بن بُرْقَان، وصالح بن أبي الأخْضَر، ثم قال جماعة منهم البيهقي (¬1): "وقد وهموا فيه على الزهري، فقد رواه الحفاظ من أصحاب الزهري عنه قال: "بلغني أن عائشة وحفصة أصبحتا صائمتين". هكذا رواه مالك ويونس ومَعْمَر وابن جُرَيْج ويحيى بن سعيد وعُبَيْد الله بن عمر وسفيان بن عُيَيْنَة ومحمد بن الوليد الزُّبَيْدِي وبكر بن وائل وغيرهم. وقد شهد ابن جريج وسفيان بن عيينة على لفظ الزهري أنه لم يسمع هذا الحديث من عروة. قال ابن جريج عنه: ولكن حدثني ناسٌ في خلافة سليمان بن عبد الملك عن بعض من كان يدخل على عائشة. وقال الحُمَيْدِي: أخبرني غير (¬2) واحد عن معمر أنه قال في هذا الحديث: لو كان عن عروة ما نسبته. وقال البخاري ومحمد بن يحيى الذُّهْلِي: لا يصحُّ هذا الحديث عن الزهري عن عروة عن عائشة". ¬
فهذا وأمثاله مما يبيَّن ضَعْف رواية سفيان بن حسين عن الزهري، ولو تابعه غيره عند أئمة هذا الشأن وفرسان هذا الميدان، فكيف بما تفرَّد به عن الثقات، وخالف فيه الأئمة الأثبات؟! [ح 69]. ومعرفة هذا الشأن وعلله، ذوقٌ ونورٌ يقذفه الله تعالى في القلب، يقطع به (¬1) من ذاقه، ولا يشكُّ فيه، ومن ليس له هذا الذوق؛ لا شعور له به، وهذا كنقد الدَّراهم لأربابه، فيه ذوق ومعرفة ليستا لكبار العلماء *. قال محمد بن عبد الله بن نُمَيْر: قال عبد الرحمن بن مَهْدِي (¬2): "إن معرفة الحديث إلهام". قال ابن نُمَيْر: "صَدَقَ، لو قلت له: من أين قلت (¬3)؟ لم يكن له جواب". وقال أبو حاتم الرازي (¬4): "قال عبد الرحمن بن مَهْدِي: إنكارنا للحديث عند الجُهَّال كَهَانة" * [ظ 34]. ¬
- أقوال الأئمة في سفيان بن حسين
فصلٌ فهذا كلام هؤلاء الأئمة في هذا الحديث. وأما كلامهم في سفيان بن حسين (¬1) الذي تفرَّد به عن الناس؛ فقال الإمام أحمد في رواية المَرُّوذي عنه: "ليس بذاك في حديثه عن الزهري". وقال يحيى بن معين في رواية عبَّاس الدُّوْرِي عنه: "ليس به بأس، وليس من كبار أصحاب الزهري، وفي حديثه ضعف عن الزهري". ولا تنافي بين قوليْه: "ليس به بأس"، وقوله: "في حديثه ضعف عن الزهري"؛ لما سيأتي إن شاء الله من بيان سبب ضعف حديثه عن الزهري. وقال يحيى في رواية ابن أبي خَيْثَمَة عنه: "ثقة في غير الزهري لا يُدْفَع، وحديثه عن الزهري ليس بذاك، إنما سمع منه بالمَوْسِم" (¬2). وقال في رواية يعقوب بن شَيْبَة (¬3): "كان سفيان بن حسين مؤدِّبا، ولم يكن بالقوي". وقال في رواية أبي داود: "وليس بالحافظ، وليس بالقوي في الزُّهري". ¬
وقال عثمان بن أبي شَيْبَة: "كان ثقة، ولكنه كان مُضْطَرِبًا في الحديث قليلًا". وقال ابن سَعد: "ثقة، يُخْطِئ في حديثه كثيرًا". وقال يعقوب بن شيبة (¬1): "ثقة صدوق، وفي حديثه ضَعْف، وقد (¬2) حمل الناس عنه". وقال أبو حاتم الرَّازِي: "صالح الحديث، يُكتب حديثه ولا يُحْتجُّ به؛ نحو محمد بن إسحاق *، وهو أحب إليَّ من سليمان بن كثير" (¬3). وقال النسائي: "ليس به بأس؛ إلا في الزُّهري". وقال أبو حاتم [ح 70] البُسْتِي في كتاب "الضعفاء" (¬4) - وقد أدخله فيه -: "يروي عن الزهري المقلوبات، فإذا روى عن غيره؛ أشبه حديثه حديث الأثبات، وذلك أن صَحِيْفة الزهري اخْتَلَطَتْ عليه، وكان يأتي بها على التَّوهم، فالإنصاف في أمره، يُكْتَب مما روى عن الزهري، والاحتجاج بما روى عن غيره". ¬
وقال أبو أحمد بن عدي: "هو في غير الزهري صالح، وفي الزهري يروي أشياء، خالف فيها (¬1) الناس". قالوا: ولا تنافي بين قول من ضعَّفهُ وقول من وثَّقه؛ لأن من وثَّقه جمع بين توثيقه في غير الزهري وتضعيفه فيه، وهذه مسألة غير مسألة تعارُض الجرح والتعديل، بل يظنُّ قاصرُ العلم أنها هي! فيعارض قول مَنْ جَرَّحه بقول مَن عدَّله، وإنما هذه مسألة أخرى غيرها، وهي (¬2) الاحتجاج بالرجل فيما رواه عن بعض الشيوخ، وترك الاحتجاج به بعينه فيما رواه عن آخر. وهذا كإسْمَاعِيل بن عَيَّاش؛ فإنه عند أئمة هذا الشأن حُجَّة في الشَّاميين أهلِ بلده، وغير حُجَّة فيما رواه عن الحِجَازيين والعِرَاقيين وغير أهلِ بلده (¬3). ومثل هذا، تضعيف مَنْ ضعَّف (¬4) قَبيْصَة في سُفْيان الثَّوْرِي (¬5)، واحْتَجَّ به في غيره، كما فعل أبو عبد الرحمن النسائي. وهذا طريقة الحُذَّاق من أصحاب الحديث أطباء علله، يحتجُّون بحديث الشخص عمَّن هو معروف بالرواية عنه، وبحفظ حديثه ¬
- قواعد وفوائد في الجرح والتعديل وعلوم الحديث
وإتقانه، وملازمته له، واعتنائه بحديثه، ومتابعة غيره له، ويتركون (¬1) حديثه نفسه عمَّن ليس هو معه بهذا المنزلة. وهذه حال سفيان بن حسين عند جماعتهم: ثقة، صدوق، وهو في الزهري ضعيف لا يُحتجُّ به؛ لأنه إنما لقيهُ مرَّة بالمَوْسِم، ولم يكن له من الاعتناءِ بحديث الزهري وصُحْبته وملازمته له ما لأصحاب الزهري الكبار، كمالك واللَّيث ومعمر وعُقَيْل ويونس وشُعَيْب؛ فإذا تفرَّد (¬2) مثل هذا [ح 71] بحديث عن هؤلاء، مع ملازمتهم الزهري (¬3)، وحفظهم حديثه، وضبطهم له، وهو (¬4) ليس مثلهم في الحفظ والإتقان؛ لم يكن حجة عندهم. هذا إذا لم يخالفوه، فكيف إذا خالفوه، فَرَفَع ما قد (¬5) وقَفُوه، ووَصل ما قطعوه، وأسْنَد ما أرسلوه؟! هذا مما لا يرتاب أئمة هذا الشأن في أن (¬6) إلْحَاقَ الغَلَطِ به أولى. وربما يظن الغالط الذي ليس له ذَوْق القوم ونقدهم = أنَّ هذا تناقض منهم؛ فإنهم يحتجُّون بالرجل ويوثِّقونه في موضع، ثم يضعِّفونه بعينه ولا يحتجون به في موضع آخر، ويقولون: إن كان ثقة، ¬
وجب قبول روايته جملة، وإن لم يكن ثقة، وجب (¬1) ترك الاحتجاج به جملة. وهذه طريقة قاصري العلم، وهي طريقة (¬2) فاسدة، مجمعٌ بين أهل الحديث على فسادها؛ فإنهم يحتجُّون من حديث (¬3) الرجل بما تابعه غيره عليه، وقامت شهوده من طرق ومتون أخرى، ويتركون حديثه بعينه إذا روى ما يخالف الناس، أو انفرد (¬4) عنهم بما لا يتابعونه عليه، إذِ الْغَلَطُ في موضع لا يُوْجِبُ الغلط في كل موضع، والإصابة في بعض الحديث أو في (¬5) غالبه لا توجب العِصْمَة من الخطأ في بعضه، ولا سيما إذا عُلِم من مثل هذا أغلاط عديدة، ثم روى ما يخالف الناس ولا يتابعونه [ظ 35] على الظن، أو يُجْزَم بِغَلَطِهِ. فصل وهنا (¬6) يَعْرِض لمن قَصُر نقدُه وذوقُه (¬7) عن نقد الأئمة وذوقهم في هذا الشأن نوعان من الغلط، نُنَبِّه عليهما لعظيم فائدة الاحتراز منهما. ¬
- الاحتجاج بالرجل في بعض الشيوخ، وتضعيفه في شيوخ آخرين
أحدهما: أن يرى مثل هذا الرجل قد وُثِّق، وشُهِد له بالصِّدْق والعدالة، أو خُرِّج حديثُه في الصحيح، فيجعل كلَّ ما رواه على شَرْطِ الصحيح (¬1). وهذا غلطٌ ظاهرٌ؛ فإنه إنما يكون على شرط الصحيح، إذا انتفت عنه العلل والشذوذ (¬2) والنكارة وتوبع عليه، فأما مع وجود ذلك أو بعضه؛ فإنه لا يكون صحيحًا، ولا على شرط الصحيح. ومن تأمَّل كَلَامَ البخاري [ح 72] ونظرائه في تَعْلِيْلِهِ أحاديث جماعة أخْرج حديثهم في "صحيحه" = عَلِمَ إمَامَتَهُ ومَوْقِعَهُ مِن هذا الشأن، وتبيَّن له حقيقة ما ذَكَرْنَاه (¬3). فصل النوع الثاني (¬4) من الغلط: أن يرى الرجل قد تُكُلِّم في بَعْضِ حديثِهِ، وضُعِّف في شيخ أو في حديث، فيجعل ذلك سبَبًا لتعليل (¬5) حديثه وتضعيفه أين وُجِد (¬6)، كما يفْعَلُه بعض المتأخرين مِن أهلِ الظَّاهر وغيرهم. ¬
- غلط قبول جميع أحاديث الثقات جملة
وهذا أيضًا غلطٌ؛ فإن تضعيفه في رجلٍ أو في حديث (¬1) ظهَرَ فيه غلطٌ لا يوجب تضعيف (¬2) حديثه مطلقًا، وأئمة الحديث على التَّفْصِيْل والنَّقْد، واعْتِبَار حديث الرجل بغيره، والفَرْق بين ما انْفَرَد به أو وافقه فيه الثقات. وهذه كلمات نافعة في هذا الموضع، تُبَيِّن كيف يكون نَقْدُ الحديث، ومعرفة صحيحه من سقيمه، ومعلوله من سليمه، ومن لم يجعل الله له (¬3) نورًا، فما له من نور. قالوا: فهذا شأن هذا الحديث وشأن راويه. وأما قولكم: إنَّ مسلمًا روى لسفيان بن حسين في "صحيحه"، فليس كما ذكرتُم، وإنما روى له في مقدمة كتابه، ومسلمٌ لم يشترط فيها ما شرَطَهُ في الكتاب من الصَّحَّة، فلها شَأْن، ولسَائِرِ كتابه شَأْن آخر، ولا يشك أهل الحديث في ذلك. قالوا: وأما استشهاد البخاري به (¬4) في "الصحيح"؛ فلا يدلُّ على (¬5) أنه حُجَّة عنده؛ لأن الشَّواهد والمُتَابعات يُحْتَمل فيها ما لا يُحْتَمل في الأصول، وقد استشهد البخاري في "صحيحه" بأحاديث ¬
- منزلة تصحيح الترمذي
جماعة، وتَرَكَ الاحْتِجَاجَ بهم. وأما تَصْحِيْحُ الترمذي لسفيان بن حسين؛ فإنما صحَّح له حديثًا غير هذا الحديث كما تقدَّم، ولم يصحِّح هذا الحديث الذي صحَّحه إلا (¬1) من روايته عن غير الزهري، وأما حديثه عن الزهري، فكالمُجْمَع على ضَعْفِهِ، كما حكينا (¬2) أقوال أئمة هذا الشأن آنفًا. هذا مع أن الترمذي [ح 73] يصحِّح أحاديث لم يتابعه غيرُه على تصحيحها، بل يصحَّح ما يُضعِّفه غيره أو يُنكِره: فإنه صحَّح حديث كَثِيْر بن عبد الله بن عَمْرو بن عَوْف (¬3)، وأحمد يُضَعِّفُ حديثه جدًّا، وقال لابنه عبد الله: "لا تحدِّث عنه". وقال: "منكر الحديث، ليس بشيء". وقال يحيى: "حديثه ليس بشيء، ولا يكتب". وقال النسائي والدَّارقطني: "متروك الحديث". وقال الشافعي: "هو رُكنٌ من أركان (¬4) الكذب". وقال ابن حبان: "روى عن أبيه عن جده: نسخة موضوعة، لا ¬
- منزلة تصحيح الحاكم
يَحِلُّ ذِكْرها في الكتب ولا الرواية عنه إلا على التَّعَجُّب". ويصحِّح أيضًا حديث محمد بن إسحاق (¬1)، وهو أعذر مِنْ تصحيحه حديث كَثِيْر هذا (¬2). ويصحِّح أيضًا للحجَّاج بن أرْطَاة مع اشتهار ضَعْفِه (¬3). ويصحِّح حديث عَمْرو بن شُعَيْب (¬4)، وأحْسَنَ كلَّ الإحسان في ذلك. والمقصود أنه يصحِّح ما لا يصحِّحه غيره، وما يُخَالَف في تصحيحه. قالوا: وأما تصحيح الحاكم: فكما قال القائل (¬5): فأصْبَحْتُ مِنْ لَيْلَى الغَداةَ كَقابِضٍ ... على الماءِ خَانَتْهُ فُروجُ الأصَابِعِ ولا يعبأ الحُفَّاظُ أطباءُ علل (¬6) الحديث بتصحيح الحاكم شيئًا، ¬
- منزلة تصحيح ابن حزم
ولا يرفعون به رأسًا ألْبَتَّة، بل لا يدل تصحيحه (¬1) على حسن الحديث، بل يُصَحِّحُ أشياء مَوْضُوْعَة بلا شك عند أهل العلم بالحديث، وإن كان من لا عِلْم له بالحديث لا يعْرِفُ ذلك؛ فليس بمعيار على سُنَّةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يعبأ أهل الحديث به شيئًا. والحاكم نفسه يصحِّح أحاديث (¬2) جماعة، وقد أخبر في كتاب "المَدْخَل" له أنَّه لا يُحْتجُّ بهم، وأطلق الكذب على بعضهم، هذا مع أن مُسْتَنَدَ تصحيحه ظَاهِرُ سنده، وأن رواته ثقات، ولهذا قال: "صحيح الإسناد". وقد عُلِم أنَّ صِحَّة الإسناد شرطٌ من شروط صحة الحديث، وليست موجبة لصحته (¬3)؛ فإن الحديث إنما يصحُّ بمجموع [ظ 36] أمور؛ منها: صِحَّة سنده، وانتفاءُ عِلَّته، وعدمُ شُذِوذِه ونَكَارَتِهِ، وأن لا يكون [ح 74] راويه قد خَالَفَ الثقات أو شَذَّ عنهم. وهذا الحديث قد تَبَيَّنتْ عِلَّتُهُ ونَكَارتُهُ. قالو: وأما تصحيح أبي محمد بن حَزْم له: فما أجْدره بظاهريته (¬4)، وعدم التفاته إلى العلل والقرائن (¬5) التي تمنع ثبوت ¬
- إبطال مقولة إن كل ما سكت عنه أحمد في "المسند" فهو صحيح عنده
الحديث بتصحيح مثل (¬1) هذا الحديث وما هو دونه في (¬2) الشذوذ والنكارة، فتصحيحه للأحاديث المعلولة وإنكاره لتعليلها نظير إنكاره للمعاني والمناسبات والأقيسة التي يستوي فيها الأصل والفرع من كل وجه، والرجل يصحِّح ما أجمع أهل الحديث على ضعفه، وهذا بيِّنٌ في كُتُبِه لِمَن تأمَّله. وأَما قولُكم: "إن الإمام أحمد رواه، وبنى مذهبه عليه، وسكت عن تضعيفه، وما سكت عنه في "المسند"؛ فهو صحيح عنده". فهذه أرْبَعُ مقدِّمات، لو سُلِّمَتْ لكم، لكان غاية ما يُستنتَج منها تصحيح أحمد له. وأحمد قد خالفه من ذكرنا أقوالهم في تضعيفه، والشهادة له بالنكارة، وأنه ليس من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإذا اختلف أحمد وغيره من أئمة الحديث في حديث؛ فالدليل يحكم بينهم، وليس قوله حُجَّة عليهم، كما إذا خالفه غيره في مسألة من الفقه، لم يكن قوله حُجَّة على مَن خالفه، بل الحُجَّة الفاصِلة هي الدَّليل. ولو أنا احْتَجَجْنَا عليكم بمثل هذا، لَقُلْتُم - ولَسُمِع قولكم -: تصحيحُ أحمد معارِضٌ لتضعيف هؤلاء الأئمة، فلا يكون حُجَّة. ¬
- ذكر أحاديث أخرجها في مسنده، وضعفها بعينها
كيف والشَّأْن في المُقَدِّمة الرابعة، وهي: أنَّ كل ما سكت عنه أحمد في "المسند" فهو صحيح عنده؛ فإن هذه المقدمة لا مُسْتَنَد لها ألْبتَّة، بل أهل الحديث كلهم على خِلافِها، والإمام أحمد لم يشترط في "مسنده" الصحيح، ولا التزمه، وفي "مسنده" عِدَّة أحاديث سُئِلَ هو عنها؟ فضعَّفها بعينها، وأنكرها: - كما روى حديث العَلَاء بن عبد الرحمن عن أبيه [ح 75] عن أبي هريرة يرفعه: "إذا كان النِّصْف من شعبان، فأمْسِكُوا عن الصيام حتى يكون رمضان" (¬1). وقال حرب: "سمعتُ أحمد يقول: هذا حديث منكر، ولم يحدِّث العلاء بحديثٍ أنْكَرَ من هذا، وكان عبد الرحمن بن مَهْدِي لا يحدِّث به ألْبَتَّة" (¬2). ¬
2 - حديث "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" تخريجه والكلام عليه، وبيان وقفه
- وروى حديث: "لا صيام لمن لم يبيِّت الصيام من الليل" (¬1). وسأله المَيْمُوني عنه؟ فقال: "أُخْبِرُك؛ ما له عندي ذلك الإسناد، إلا أنه عن عائشة وحفصة إسنادان جيِّدان" يريد أنه موقوف (¬2). - وروى حديث أبي المُطَوَّس عن أبيه عن أبي هريرة يرفعه: "من أفطر يومًا من رمضان، لم يقضه عنه صيام الدهر" (¬3). ¬
4 - حديث: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" تخريجه، والكلام عليه
وقال - في رواية مُهَنَّا وقد سأله عنه - "لا أعرف أبا المُطَوَّس، ولا ابن المُطَوَّس" (¬1). - وروى: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" (¬2). وقال المَرُّوْذِي: "لم يصحِّحه أبو عبد الله، وقال: ليس فيه شيء يَثْبُت" (¬3). - وروى حديث عائشة: "مُرْنَ أزواجَكُنَّ أن يغسلوا عنهم أثر الغائطِ والبولِ؛ فإني أستَحْييهِم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعَلُه" (¬4). ¬
6 - حديث "حولو مقعدتي نحو القبلة" تخريجه، وبيان ضعفه
وقال في رواية حَرْبٍ (¬1): "لم يَصِحَّ فيِ الاستنجاء بالماء حديث (¬2). قيل له: فحديث عائشة؟ قال: لا يصح؛ لأنّ غَيْرَ قتادة لا يرفعه". - وروى حديث عِراك عن عائشة: "حَوِّلوا مقعدتي نحو القِبْلَة" (¬3). وأعلَّه بالإرسال، وأنكر أن يكون عِراك سمع من عائشة. وروى (¬4) لجعفر بن الزبير، وقال - في رواية المَرُّوْذِي -: "ليس ¬
7 - حديث: "الوضوء مرة مرة" - تخريجه، وبيان ثبوته
بشيء". - وروى حديث وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّة مَرَّة (¬1). وقال - في رواية مُهَنَّا -: "الأحاديث فيه ضعيفة" (¬2) - وروى حديث طلحة بن مَصَرِّف عن أبيه عن جده: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح رأسه حتى بلغ القَذَال" (¬3). وأنكره - في رواية أبي داود (¬4) - قال: "ما أَدْرِي ما هذا، وابنُ عُيَيْنَة ¬
9 - حديث: "أيما رجل مس ذكره فليتوضأ" - تخريجه، والكلام عليه
كان يُنْكِرَهُ". - وروى حديث عمرو بن شُعَيْب عن أبيه عن جده يرفعه: "أيّما رجل مسَّ ذكره فليتوضأ" (¬1). وقال - في رواية أحمد بن هاشم الأْنطَاكي -: "ليس بذلك، وكأنه [ح 76] ضعَّفه" (¬2). - وروى حديث زيد بن خالد الجُهَني يرفعه: "من مسَّ فرجه فليتوضأ" (¬3). ¬
11 - حديث عائشة في مس الذكر - تخريجه، والكلام عليه
وقال مُهَنَّا: سألت أحمد عنه؟ فقال: "ليس بصحيح، الحديث حديث نِسْوَة"، فقلت: من قِبل مَن جاء خطؤه؟ فقال: "من قِبَل ابن إسحاق، أخطأ فيه". ومن طريقه رواه في "مسنده". - وروى حديث عائشة مرفوعًا في مَسَّ الذَّكَرِ (¬1) وقال - في رواية مُهَنَّا -: "ليس بصحيح". ¬
13 - حديث: "من استقاء فليقض، ومن ذرعه القيء فليس عليه قضاء" - تخريجه، والكلام عليه
- وروى عن عائشة (¬1): "مدت امرأة من وراء السِتْر بيدها كتابًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقبض النبي - صلى الله عليه وسلم - يده، وقال: "ما أدري [ظ 37] أَيَدُ رجلٍ أو يَدُ امرأة؟ "، قالت: بل امرأة (¬2)، قال: "لو كنتِ امرأة غيَّرْتِ أظفارَك بالحنَّاء". "وفي رواية جسدك" (¬3). وقال في رواية حَنْبَل: "هذا حديث منكر". - وروى حديث أبي هريرة يرفعه: "من استقاء فليقض، ومن ذرعه القيء فليس عليه قضاء" (¬4). ¬
14 - حديث: "احتجامه - صلى الله عليه وسلم - وهو صائم" - تخريجه، والكلام عليه
وعلَّله في رواية مُهَنَّا وأبي داود (¬1)، قال أبو داود: سألتُ أحمد عن هذا؟ فقال: "ليس في هذا شيء، إنما هو حديث: "من أكل ناسيًا وهو صائم، فإنما أطعمه الله تعالى وسقاه" (¬2). - وروى حديث ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم" (¬3). وقال في رواية مُهَنا وقد سأله عن هذا الحديث؟ فقال: "ليس بصحيح". ¬
15 - حديث: "من اشترى ثوبا بعشرة دراهم وفيه درهم حرام، لم تقبل له صلاة" تخريجه، والكلام عليه
- وروى حديث ابن عمر يرفعه: "من اشترى ثوبًا بعشرة دراهم وفيه درهم حرام، لم تُقْبَل له صلاة ما دام عليه" (¬1). وسأله أبو طَالِب عن هذا الحديث؟ فقال: "ليس له إسناد" (¬2). وقال - في رواية مُهَنا -: "لا أعرف يزيد بن عبد الله (¬3)، ولا هاشم الأوْقَص". ومن طريقهما رواه. - وروى عن القَوارِيْري عن مُعَاذ بن مُعَاذ عن أشْعث الحُمْرَاني عن ابن سِيْرين عن عبد الله بن شَقِيْق عن عائشة: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يصلِّي في شُعُرِنا ولا لُحُفِنا" (¬4). ¬
17 - حديث: العباس أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له" - تخريجه، والكلام عليه
وقال - في رواية ابنه عبد الله -: "ما سمعتُ عن أشْعَث أنكرَ من هذا، وأنكره إنكارًا شديدًا" (¬1). - وروى حديث علي: "أنَّ العبَّاس سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل صدقته قبل أن تَحِلَّ، فرخَّص [ح 77] له في ذلك (¬2) " (¬3). ¬
18 - حديث: أمره أم سلمة أن توافيه يوم النحر بمكة" - تخريجه، والكلام عليه
وقال الأثْرم: سمعتُ أبا عبد الله ذُكِرَ له هذا الحديث، فَضَعَّفه، وقال: "ليس ذلك بشيء". هذا معَ أنّ مَذْهبَهُ جوازُ تَعْجيل الزكاة (¬1). - وروى حديث أمِّ سَلَمَة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمَرَهَا تُوافِيَهُ يوم النَّحر بمكة" (¬2). وقال - في رواية الأثرم -: "هو خطأ"، قال: "وقال: "وكيع عن ¬
19 - حديث: "من وجد سعة فلم يضح، فلا يقربن مصلانا" - تخريجه، والكلام عليه
هشام عن أبيه مرسل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن توافيه صلاة الصبح يوم النحر بمكة، أو نحو هذا. قال أبو عبد الله: وهذا أيضًا عَجَب! النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر ما يصنع بمكة؟. ينكر ذلك (¬1). - وروى حديث أبي هريرة يرفعه: "من وجَد سعةً، فلم يُضَحِّ، فلا يقرَبَنَّ مُصلَّانا" (¬2). وقال في رواية حَنْبَل: "هذا حديث منكر". - ونظير ما نحن فيه سواء بسواء ما رواه عن عثمان بن عمر: حدثنا يونس عن الزهري عن أبي سَلَمة عن عائشة: أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا نَذْرَ في معصية، وكفَّارته كفارة اليمين" (¬3). ¬
فهذا حديث رواه، وبني عليه مذهبه، واحتجَّ به، ثم قال - في رواية حَنْبَل -: "هذا حديث منكر". وهذا بابٌ واسعٌ جدًّا (¬1)، لو تتَبَّعْناهُ؛ لجاء كتابًا كبيرًا. والمقصود أنه ليس كل ما رواه وسكت عنه يكون صحيحًا عنده، وحتى لو كان صحيحًا عنده، وخالفه غيره في تصحيحه، لم يكن قوله حُجَّة على نظيره. وبهذا يُعْرَفُ وَهْم الحافظ أبي موسى المَدِيْني في قوله: "إنَّ ما خرَّجه الإمام أحمد في "مسنده" فهو صحيح عنده" (¬2). فإنَّ أحمد لم يقل ذلك قط، ولا قال ما يدلُّ عليه، بل قال ما يدلُّ على خلاف ذلك، كما قال أبو العز بن كادش (¬3): "إن عبد الله بن أحمد قال لأبيه: ما تقول في حديث رِبْعِي عن حُذَيفة؟ قال: الذي يرويه عبد العزيز بن أبي رَوَّاد؟ قلت: يَصِحُّ؟ قال: لا، الأحاديث بخلافه، ¬
- كلام نفيس في أصول مذهب الإمام أحمد
وقد رواه الحفاظ عن رِبْعي عن رجل لم يُسَمِّه. قال: فقلتُ له: لقد ذكرتَه في "المسند" (¬1)؟ فقال: قصدتُ (¬2) في "المسند" الحديث المشهور، وتركتُ الناس تحت سِتْر الله، ولو أردتُ أقصد (¬3) ما صحَّ عندي، لم أرْوِ من هذا "المسند" إلا الشيء بعد الشيء، [ح 78] ولكنَّك يا بُنَي تعرف طريقتي في "المسند"، لسْتُ أخالف ما فيه ضعف؛ إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه". فهذا تصريح منه رحمه الله تعالى بأنه أخرج فيه الصحيح وغيره. وقد اسْتَشْكَلَ أبو موسى المَدِيني هذه الحِكَاية، وظَنَّهَا كلامًا متناقضًا، فقال: "ما أظنُّ هذا يصح؛ لأنه كلام متناقض؛ لأنه يقول: لستُ أخالفُ ما فيه ضعف؛ إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، وهو يقول في هذا الحديث: الأحاديث بخلافه"، قال: "وإن صحَّ؛ فلعله كان أوَّلًا، ثم أخرج منه ما ضَعُف؛ لأني طلبتُه في المسند، فلم أجِدْه" (¬4). قلت: ليس في هذا تناقضٌ من أحمد رحمه الله، بل هذا هو أصله الذي بنى عليه مذهبه، وهو لا يقدم على الحديث الصحيح شيئًا ألبتة (¬5)، لا عَمَلًا، ولا قياسًا، ولا قول صاحبٍ، وإذا لم يكن في المسألة حديثٌ صحيحٌ، وكان فيها حديثٌ ضعيفٌ، وليس في الباب ¬
- الرد على أبي موسى المديني في قوله: إن ما أودعه المسند قد احتاط فيه سندا ومتنا
شيء يردُّه = عَمِلَ به، فإن عارضه ما هو أقوى منه، تركه للمعارض القويِّ، وإذا كان في المسألة حديث ضعيف وقياس، قدَّم الحديث الضعيف على القياس. وليس الضعيف في اصطلاحه هو الضعيف في اصطلاح المتأخرين، بل هو والمتقدمون يُقسِّمون الحديث إلى صحيح وضعيف، والحسن عندهم داخل في الضعيف بحسب مراتبه. وأوَّل من عُرِف عنه أنه قسمه إلى ثلاثة أقسام أبو عيسى الترمذي، ثم الناس تبعٌ له بعد (¬1). فأحمد يقدِّم الضعيف - الذي [ظ 38] هو حسنٌ عنده - على القياس، ولا يلتفت إلى الضعيف الواهي الذي لا يقوم به حجَّة، بل يُنْكر على مَن احتجَّ به وذهب إليه، فإن لم يكن عنده في المسألة حديث، أخذ فيها بأقوال الصحابة ولم يخالفهم، وإن اختلفوا، رجَّح من أقوالهم، ولم يخرج منها، وإذا اختلفت الصحابة في مسألة، ففي الغالب يختلف جوابه فيها، ويَخْرجُ عنه فيها روايتان أو أكثر، فَقَلَّ مسألةٌ عن الصحابة فيها [ح 79] روايتان؛ إلا وعنه فيها روايتان أو أكثر، فهو أتبع خلق الله تعالى للسنن مَرْفوعِهَا ومَوْقوفِهَا. وقد صَنَّف الحافظ أبو موسى المديني كتابًا ذكر فيه فضائل المسند وخصائصه (¬2) قال فيه: "ومن الدليل على أنَّ ما أودعه الإمام أحمد قد ¬
احْتَاط فيه سندًا ومتنًا، ولم يروِ فيه إلا ما صحَّ عنده: ما أنبأنا به أبو علي - ثم ساق بسنده إلى الإِمام أحمد من "المسند - قال: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي التَّيَّاح قال: سمعتُ أبا زُرْعَة يحدِّث عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "يُهْلِكُ أُمَّتي هذا الحيُّ من قريش"، قالوا: فما تأمرنا به يا رسول الله؟ قال: لو أنَّ الناس اعتزلوهم" (¬1). قال عبد الله (¬2): قال لي أبي في مرضه الذي ماتَ فيه: اضْرِب على هذا الحديث؛ فإنه خِلاف الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. يعني: قوله: "اسْمَعُوا وأطِيْعُوا". قال أبو موسى: "وهذا - مع ثقة رجال إسناده - حين شذَّ لفظُه عن الأحاديث المشاهير، أمر بالضَّرب عليه، فدلَّ ذلك (¬3) على ما قلناه، وفيه نظائر له". قلت: هذا لا يدلُّ على أنَّ كلَّ حديثٍ في "المسند" يكون صحيحًا عنده، وضَرْبُه على هذا الحديث - مع أنه صحيح أخرجه أصحاب الصحيح - لكونه عنده خلاف الأحاديث، والثابت المعلوم من سُنَّتِه - صلى الله عليه وسلم - في الأمر بالسَّمْع والطَّاعة، ولزوم الجماعة، وتَرْك الشُّذُوذ ¬
والانفراد؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اسمعوا وأطيعوا، وإن استُعْمِلَ عليكُم عبدٌ حبشيٌّ" (¬1)، وقوله: "مَن فارق الجماعة فمات؛ فَمِيْتَتْه جاهلية" (¬2). وقوله: "الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد" (¬3). وقوله: "مَن فارق الجماعة، فقد خَلَع رِبْقَة الإسلام مِن عُنُقِهِ" (¬4). وقوله: "ثلاث لا يَغِلُّ عليهنَّ قلبُ رجلٍ مسلمٍ: إخلاصُ العملِ لله، ¬
ومناصحةُ ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتَهم تحيطُ من ورائهم" (¬1). وقوله: "عليك بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصِيَة" (¬2). ¬
إلى غير ذلك من الأحاديث المستفيضة المصرِّحة بلزوم الجماعة، فلما رأى أحمد هذا الحديث الواحد [ح 80] يخالف هذه الأحاديث وأمثالها؛ أمَرَ عبد الله بِضَرْبِه عليه. وأما مَنْ جَزَم بصحَّتِهِ: فقال: هذا في أوقات الفتن، والقتال على الملك، ولزوم الجماعة في وقتِ الاتِّفاق والْتِئام الكلمة، وبهذا تجتمع أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - التي رَغَّبَ فيها في العُزْلة والقعود عن القتال، ومَدَحَ فيها من لم يكن مع أحد (¬1) الطائفتين، وأحاديثه التي رغَّب فيها في الجماعة والدُّخول مع الناس؛ فإن هذا حال اجتماع الكلمة، وذاك حال (¬2) الفتنة والقتال، والله أعلم. والمقصود أنَّ ضَرْبَ الإمام أحمد على هذا الحديث لا يدلُّ على صِحَّة كل ما رواه في "مسنده" عنده (¬3). ¬
قال أبو موسى (¬1): "وقال ابن السَّمَّاك: حدثنا حنبل بن إسحاق قال جَمَعَنَا أحمد بن حنبل أنا وصالح وعبد الله، وقرأ علينا "المسند"، وما سمعه منه غيرنا، وقال لنا: هذا كتاب جمعته من سبع مئة ألفٍ وخمسين ألفِ حديث، فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فارجعوا إليه، فإن وجدتموه فيه، وإلَّا فليس بحُجَّة". قلت: هذه الحكاية قد ذكرها حَنْبَل في "تاريخه"، وهي صحيحة بلا شك، لكن لا تدلُّ على أن كل ما رواه في "المسند" فهو صحيح عنده، فالفرق بَيْن أن يكون كل حديث لا يوجد له أصل في "المسند"، فليس بِحُجَّة، وبَيْن أن يقول: كل حديثٍ فيه فهو حجة، وكلامه يدلُّ على الأول لا على الثاني. وقد استشكل بعض الحفاظ هذا من أحمد، وقال: "في "الصحيحين" أحاديث ليست في "المسند"". وأُجيب عن هذا بأن تلك الألفاظ بعينها، وإن خلا المسند عنها، فلها فيه أصول ونظائر وشواهد، وأما أن يكون متن صحيح لا مطعن فيه ليس له في "المسند" أصل ولا نظير، فلا يكاد يوجد ألْبَتَّة *. ¬
فصلٌ والمقصود أن إخراج أحمد لحديث سُفْيان بن حُسَين عن الزُّهْري في الدِّخيل في سباق الخيل،، أي: في (¬1) عقد السباق لا يدل على صحَّته عنده، بل ولا على حُسْنه. وأما كون مذهبه على مقتضاه؛ فهذا (¬2) يحتمل أمرين: أحدهما - وهو أظهر (¬3) -: أن يكون بناه على أصله في أن الحديث الضعيف إذا لم يكن عنده في الباب شيء يدفعه؛ أخذ به. ويحتمل أن يكون قلَّد سعيد بن المسيب في ذلك، حيث لم يتبيَّن له ضعف قوله، وكان أحمد معظِّمًا لسعيد جدًّا، حتى قال: "هو أعلم التَّابعين". وقد قال [ح 81]- في رواية أبي طالب -: "الرمي أقول فيه (¬4) أيضًا يكون فيه محلِّل، مثل الفرسين، هو قياس واحد، والإبل مثله، قياس واحد، وسبق (¬5) واحد". وظاهر هذا أنه ذهب إليه لمجرَّد الأثر، ولم يَخْفَ على أحْمَد ¬
فصل - في الرد على قولهم: إن الدارقطني قال: "هو محفوظ عن الزهري"
عِلَّته، وأنه من كلام [ظ 39] سعيد، لكن لم يجد في الباب غير هذا، وهَابَ سعيد بن المُسَيِّب أن يخالفه بغير نصٍّ صريح. وأما أبو حنيفة فمذهبه الذي حكاه عنه (¬1) أصحابه: أنَّ التابعيَّ إذا أفتى في عصر الصحابة (¬2) وزاحمهم في الفتوى كان قوله حجة *. فصلٌ وأما قولكم: إن الدارقطني قال: "هو محفوظ عن الزُّهري". فلو حَكَيْتُم كلامه على وجهه؛ لتبيَّن لكم (¬3) وجه الصواب، ونحن نسوقه بلفظه: ففي كتاب "العلل" (¬4) له سُئل عن حديث ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أدخل فرسًا بين فرسين" الحديث. فقال: "يرويه سعيد بن بَشِيْر عن قَتَادة عن سَعِيْد بن المسيب عن أبي هريرة، ووهم في قوله: "قتادة"، وغيره يرويه عن هِشَام بن عَمَّار عن الوليد عن سعيد بن بَشِيْر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. وكذلك رواه محمد بن خالد وغيره عن الوليد، وكذلك رواه سفيان بن حسين عن الزهري، وهو المحفوظ". قال البَرْقَاني: "قيل له: فإن الحُسَيْن بن السَّمَيْدَع الأنْطَاكِي رواه عن موسى بن أيوب عن الوليد بن مُسْلِم عن سعيد بن عبد العزيز عن ¬
- فصل في الرد عليهم في قولهم: "إن ابن عدي شهد بأن له أصلا"
الزهري بذلك. من هو سعيد بن عبد العزيز؟ (¬1) فقال: التَّنوخِي". ثم قال: "هذا غلط، إنما هو سعيد بن بَشِيْر". هذا نصُّ كلامه. وهو - كما ترى - لا يدلُّ على أن الحديث صحيحٌ عنده، ولا محفوظٌ عنده، فإن قوله: "رواه سفيان بن حسين عن الزهري، وهو المحفوظ"، يريد: أنَّ ذِكْرَ قتادة بَدَلَ الزُّهريَّ غلطٌ ممَّن سمَّاه، وأن الصواب فيه: الزهري عن سعيد، لا قتادة عن سعيد؛ فإن قتادة لا مَدْخَلَ له في هذا الحديث، فالذي حفِظَهُ الناس فيه: الزهري عن سعيد. هذا معنى كلامه، فأين معنى الشهادة منه بصحة الحديث وثُبُوته؟! فصلٌ قالوا: وأما قولكم: "إنَّ أبا أحمد بن عدي [ح 82] شَهِد بأنَّ له أصلًا، وصوَّب رواية سعيد له عن أبي هريرة". فقد أصابكم في ذلك ما أصابكم في كلام الدارقطني، ولو حكيتم كلام ابن عدي لتبيَّن لكم (¬2) أنَّه لا يدل على صحة الحديث عنده ولا حُسْنه؛ فإنه ذكره في كتاب "الكامل" له، وهو إنما يذكر فيه غالبًا الأحاديث التي أُنْكِرَت على مَن يَذْكُرُ ترجمته، ونحن نُوْرِدُ كلامَهُ ¬
بلفظه. قال في كتابه (¬1): "سعيد بن بشير: له عند أهل دمشق تصانيف؛ لأنه سَكَنها، وهو بصْرِي، ورأيت له تفسيرًا مُصَنَّفًا من رواية الوليد عنه، ولا أرى فيما رُوي عن سعيد بن بشير بأسًا، ولعله يَهِمُ في الشَّيء بَعْدَ الشيءِ، وَيَغْلَط، والغالبُ على حديثه الاستِقَامة، والغالب عليه الصِّدْق". ثم قال: "حدثنا القاسم بن الليث الرَّسْعَنِي وعُمَر بن سِنَان وابن دُحَيْم؛ قالوا: حدثنا هشام بن عمَّار حدثنا الوليد حدثنا سعيد بن بَشِيْر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أدخل فرسًا بين فرسين فذكر الحديث. حدثناه عَبْدَان حدثنا هشام حدثنا الوليد حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -". قال ابن عدي: "وذَكَر لنا عَبْدَان في هذا الحديث قِصَّة، وقال: لُقِّنَ هشام بن عَمَّار هذا الحديث عن سعيد بن بشير عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، والحديث عن قتادة عن سعيد بن المسيب". قال ابن عدي: "وهذا الذي قاله عَبْدَان غلطٌ وخطأ، والحديث عن سعيد بن بشير عن الزهري أصوب من سعيد بن بشير عن قتادة؛ لأنَ ¬
هذا الحديث من حديث قتادة ليس له أصل، ومن حديث الزُّهري له أصل، وقد رواه عن الزهري سفيان بن حُسين أيضًا". فهذا كلام ابن عدي - كما ترى - لا يدلُّ على أن الحديث صحيح ثابت عنده (¬1)، بل كلامه فيه مثل كلام الدارقطني؛ فإنه أنكر أن يكون من حديث قتادة، [ح 83] وإنما هو من حديث الزهري، ولا ريب أن الزُّهري حدث به، وله أصل من حديثه، وقد حمله الناس عنه، لكن الأئمة الأثبات من أصحابه، كمالك واللَّيْث وعُقَيْل ويونس وشُعَيْب بن أبي حمزة؛ وقفوه عنه على سعيد بن المسيب، وَرَفَعَهُ من لا يُجَاري هؤلاء في مِضْمَارهم، ولا يُعدُّ في طبقتهم في حفظٍ ولا إتقان، وهما: سفيان بن حسين، وسعيد بن بشير. فابن عديٍّ والدارقطني أنكرا روايته عن قتادة عن سعيد بن المسيب، وصوَّبا رواية من رواه عن الزُّهري عن سعيد، فأين الحُكْمُ له بالصِّحَّة والثُّبوت من هذا؟! ثم لو كان ذلك تصحيحًا صريحًا منهما: لَمَا قُدِّم على تعليل مَن حكينا تعليلَه من الأئمة، كأبي داود وأبي حاتم ويحيى بن معين وغيرهم، وغاية ذلك أن تكون مسألة نزاع بين أئمة الحديث، والدليل يفصل بينهم، فكيف ولم يصحِّحه إلا مَن تصحيحه كالقبض على الماء، وقد عُهِدَ منه تصحيح الموضوعات، وهو أبو عبد الله الحاكم، وله في "مستدركه" مما شاء الله من الأحاديث الموضوعة قد ¬
- فصل في الرد عليهم في قولهم في حديث الصدقات إن البخاري قال فيه: أرجو أن يكون محفوظا
صححها؟!. وقد ذكر الحافظ [ظ 40] عبد القادر الرُّهَاوي في كتاب "المادح والممدوح" له أن أبا الحسن الدارقطني لما وقف عليه أنكره، وقال: "يَسْتَدْرِكُ عليهما حديث الطَّيْر؟!. فبلغ ذلك الحاكم، فضرب عليه من كتابه" (¬1). وذكر عن بعض الأئمة الحفَّاظ (¬2) أنه لما وقف عليه قال: "ليس فيه حديث واحدٌ يُسْتَدْرَك عليهما!! وبالجملة، فتصحيح الحاكم لا يُستفاد منه حُسْنُ الحديث ألْبَتَّة، فَضْلًا عن صِحَّته. فصلٌ قالوا: وأما سؤال أبي عيسى الترمذي للبخاري (¬3) عن حديث سفيان بن حسين في الصدقات؟ وقوله: "أرجو أن يكون محفوظًا، وهو صدوق". فلا يدلُّ على صحة حديث الدَّخيل - الذي نحن فيه - عنده؛ فإن حديثه في الصدقات محفوظ من حديث الزهري عن سالم عن أبيه، وهو كتابٌ كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعمل به الخلفاء، وأَمَرَ عمر [ح 84] بن ¬
عبد العزيز بانتساخه، وبعثه إلى بلاد الإسلام يعملون به، وهو كتابٌ مشهورٌ متوارَثٌ عند (¬1) آل عمر؛ ككتاب عَمْرو بن حَزْم، وكتاب عليّ، وكتاب أنس الذي كتبه له أبو بكر الصديق، وهذه الكتب تُصَدِّقه وتشهد بصحّته، وإن كان فيه خلاف يسير لبعضها (¬2)، وإنما أُنكر على سفيان بن حسين رفعه، وإلَّا، فالحديث قد رواه غير واحد عن الزهري عن سالم مُرْسَلًا، ولكن قد تابع سفيان بن حسين على وَصْلِهِ سليمانُ بن كَثيْر، وهو ممَّن اتَّفق الشيخان على الاحتجاج بحديثه، فأين هذا من حديثه في المحلِّل الذي لا شاهد له ولا نظير، وقد خالفه الناس في رفعه؟! وقول البخاري فيه: إنه صدوق؛ إنما يدلُّ على أنه صدوق (¬3) ثقة لا يتعمَّد الكذب، وهذا لا يكفي في صِحَّة الحديث كما تقدَّم. وأيضًا، فالبخاري يوثِّق جماعة، ويعلِّل هو بعينه بعضَ حديثهم ويضعِّفه، وكذلك غيره من الأئمة، ولا تنافي عندهم بين الأمرين، بل هذا عندهم من علم الحديث، وفِقْه عِلَله، الذي تميّز به نُقَّاده وأطبَّاؤه من (¬4) حملته الذين همَّتهم مجرَّد روايته لا درايته. ¬
فصلٌ فالحفاظ من أئمة أهل الحديث، أعلُّوا ما يتفرَّد به سفيان بن حسين، وأعلُّوا ما تابعه عليه غيره أيضًا: أما الأول: فقد قال ابن عدي في "الكامل" (¬1): "سمعتُ أبا يَعْلَى يقول: قيل ليحيى بن معين: فحديث سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم عن أبيه في الصدقات؟ فقال: هذا لم يتابع سفيانَ عليه أحدٌ، ليس بصحيح". قال ابن عدي: "وقد وافق سفيان بن حسين على هذه الرواية عن سالم عن أبيه = سليمانُ بن كَثِيْر أخو محمَّد بن كَثِيْر، وقد رواه عن الزهري عن سالم عن أبيه جماعة فَوَقَفُوْه، وسفيان بن حسين وسليمان (¬2) بن كثير رفعاه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال البيهقي في "السنن" (¬3): "وأما الحديث الذي أنبأنا به أبو القاسم عبد الخالق المؤذِّن أنبأنا محمد بن المؤمَّل [ح 85] حدثنا الفَضْل بن محمد ثنا (¬4) النُّفَيْلِي ثنا عبَّاد بن العوَّام عن سفيان بن حسين عن الزُّهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه ¬
قال: "الرِّجْلُ جُبَار"؛ فقد (¬1) قال الشافعي: هو غلط؛ لأن الحفاظ لم يحفظوا هكذا". قال البيهقي: "هذه الزيادة ينفرد بها سفيان بن حسين عن الزهري، وقد رواه: مالك واللَّيث وابن جُرَيْج ومَعْمَر وعُقَيْل وسفيان ابن عُيَيْنَة وغيرهم عن الزُّهري؛ لم يذكر أحدٌ منهم فيه (¬2) الرِّجْل". وقال الدارقطني: "لم يتابع سفيانَ بن حسين على قوله: "الرِّجْلُ جُبَار" أحدٌ، وهو وَهْمٌ منه؛ لأن الثقات (¬3) خالفوه، ولم يذكروا ذلك". وقد غلَّط الحفاظُ أيضًا سفيان بن حسين في رفعه حديث الزُّهري عن عروة عن عائشة: "كنت أنا وحفصة صائمتين الحديث". قالوا - واللفظ للبيهقي (¬4) -: "رواه ثقات الحفاظ من أصحاب الزهري عنه منقطعًا: مالك ويونس ومَعْمَر وابن جُرَيْج ويحيى بن سعيد وعُبَيْد الله بن عمر وسفيان بن عيينة وبكر بن وائل (¬5) وغيرهم - يعني: ¬
- فصل من شروط الحديث الحديث الصحيح
أن الزهري قال فيه: بلغني أن عائشة وحفصة -، ووهَّموا سفيان في (¬1) وصْلِه، وقد تابعه صالح بن أبي الأخْضَر وجعفر بن بُرْقان، ولم يشتدَّ للحديث ساعدٌ بمتابعتهما. وقال الترمذي: سألتُ محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث؟ فقال: لا يصح". وكذلك قال محمد بن يحيى الذُّهْلي. فصلٌ وأما قولكم: "إن الحديث صحيح لثقة رجاله" إلى آخره. فجوابُهُ من وجهين: أحدهما: ما تقدَّم مرارًا أن ثقة الراوي شرطٌ من شروط الصحة، وجزءٌ من المقتضى لها، فلا يلزم من مجرَّد توثيقه الحكم بصحة [ظ 41] الحديث. يُوضِّحُهُ: أنَّ ثقة الراوي هي كونه صادقًا لا يتعمَّد الكذب، ولا يستحلُّ تدليس ما يعلم أنه كذب باطل، وهذا أحد الأوصاف المعتبرة في قَبول قول الراوي، لكن بقي وَصْفُ الضَّبْطِ والتَّحفُّظ؛ بحيث لا يُعْرَف بالتَّغْفِيْل وكَثْرةِ الغَلَط، [ح 86]. ووصف آخر - ثانيهما (¬2) -: وهو أن لا يشذّ عن الناس، فيروي ما يخالفه فيه مَن هو أوثق منه وأكبر، أو يروي ما لا يُتابَع عليه، وليس ¬
- فصل في الرد على ماذهبوا إليه في أن الحديث إذا ورد مرفوعا تارة وموقوفا تارة أنه لا يمنع صحته
ممَّن يحتمل ذلك منه، كالزُّهري وعمرو بن دينار وسعيد بن المسيب ومالك وحمَّاد بن زيد وسفيان بن عيينة ونحوهم؛ فإن الناس إنما احْتَمَلُوا تفرُّد أمثال هؤلاء الأئمة بما لا يُتابعون عليه؛ للمَحَلِّ الذي أحَلَّهم الله تعالى به، من الإمَامَةِ والإتقانِ والضَّبْط. فأما مثل: سفيان بن حسين وسعيد بن بَشِيْر وجعفر بن بُرْقَان وصالح بن أبي الأخضر ونحوهم؛ فإذا انفرد أحدهم بما لا يُتابع عليه؛ فإن أئمة الحديث لا يرفعون به رأسًا. وأما إذا روى أحدهم بما (¬1) يخالف الثقات فيه؛ فإنه يزداد وهنًا على وهنٍ. فكيف تُقَدَّم رواية أمثال هؤلاء على رواية مثل: مالك واللَّيْث ويونس وعُقَيل وشُعَيب ومَعْمَر والأوزاعي وسفيان ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وأضرابهم؟! هذا مما لا يستريب فيه (¬2) مَن له معرفة بالحديث وعلله في بطلانه، وبالله تعالى التوفيق. فصلٌ قالوا: وأما قولكم: "إن غاية ما يعلَّل به الحديث الوقف على سعيد بن المسيب، وهذا لا يمنع صحته، فقد يكون الحديث عند ¬
الراوي مرفوعًا، ثم يُفْتِي به من قَوْلِه، فيُنْقَل عنه موقوفًا، فلا تناقض بين الروايتين، فقد أمكن تصديقهما". فجوابه: إن هذه طريقة لا تُقْبَل مطلقًا، ولا تُردُّ مطلقًا؛ يجب قبولها في موضع (¬1)، ويجب ردُّها في موضع، ويتوقف فيها في موضع: - فإذا كان الأئمة الثقات الأثبات قد رفعوا الحديث أو أسندوه، وخالفهم من ليس مثلهم، أو شذَّ عنهم واحد فوقفه أو أرسله؛ فهذا ليس بعلَّة في الحديث، ولا يقدح فيه، والحكم لمن رفعه وأسنده. - وإذا كان الأمر بالعكس، كحال حديث سفيان بن حسين هذا وأمثاله؛ لم يُلْتَفت إليه، ولا (¬2) إلى من خالفهم في وقْفِه وإرْسَاله، ولم يُعْبَأ به شيءٌ، ولا يصير الحديث به [ح 87] مرفوعًا ولا مسندًا ألبتَّة، وأئمة أهل الحديث كُلُّهم على هذا. فإنه إذا كان الثقات الأثبات الأئمة من أصحاب الزهري دائمًا يروونه عنه موقوفًا على سعيد، ولم يرفعه أحدٌ منهم مرة واحدة؛ مع حِفْظِهِم حديث الزهري، وضبطهم له، وشِدَّة اعتنائهم به (¬3)، وتمييزهم بين مرفوعه وموقوفه ومرسله ومسنده، ثم يجيء من لم يَجْرِ معهم في ميدانهم، ولا يدانيهم في حفظه ولا إتقانه وصحبته للزهري، ¬
- طبقات أصحاب الإمام مالك
واعتنائه بحديثه، وحفظه له، وسؤاله عنه، وعرضه عليه، فيخالف هؤلاء، ويزيد فيه وصلًا أو رفعًا (¬1) أو زيادة= فإنه لا يَرْتَاب نُقَّاد الآثار وأطباء علل الأخبار في غلطه وسهوه، ولا سبيل إلى الحُكْمِ له بالصِّحَّة والحالة هذه. هذا أمرٌ ذوقيٌّ لهم وِجْدَانيٌّ، لا يتركونه لِجَدَلِ مُجَادل (¬2) ومِرية ممارٍ، فكيف (¬3) وهذه حال المقلدين من أتباع الأئمة، وشأن أهل المذاهب مع أئمتهم، فترى كل طائفة منهم تقبل ما نُقِلَ إليهم عن إمامهم من رواية من كان أخصَّ به، وأكثر ملازمة له، وأعلم بقوله وفتواه من غيره، وإن كان لا يُدْفَع الآخر (¬4) عن علمه وثقته وصدقه. * فأصحاب مالك إذا روى لهم الأوزاعي (¬5) أو الوليد بن مُسْلم أو عبد الرحمن بن مهدي أو عبد الرزاق أو عبد المجيد بن عبد العزيز أو عبد الله بن المُبَارك أو عبد الله بن عثمان المُلَقَّب بعَبْدَان أو أبو يوسف القاضي أو محمد بن الحسن أو الضحَّاك بن مَخْلَدَ أو هشام بن عَمَّار أو يحيى بن سعيد أو يونس بن يزيد، ومن هو مثل (¬6) هؤلاء أو دونهم؛ خلاف ما رواه ابن القاسم وابن وَهْب وعبد الله بن نافع ويحيى بن يحيى ¬
- طبقات أصحاب الإمام أبي حنيفة
وابن بُكَير (¬1) وعبد الله بن مَسْلَمَة وعبد الله بن نافع (¬2) وأبو مُصْعَب وابن عبد الحكم = لم يلتفتوا إلى روايتهم، وعَدّوْها شَاذة، وقالوا: هؤلاء أعلم بمالك، وألزم له، وأخبر بمذهبه من غيرهم. حتى إنهم لا يَعُدُّون رواية (¬3) الواحد من أولئك خلافًا، ولا يحكونها إلا على وجه التَّعْرِيف أو نَقْل الأقوال الغَرِيْبة، فلا يقبلون عن مالكٍ كل من روى عنه، وإن كان إمامًا ثقةً، نظيرَ ابن القاسم [ح 88] أو أجَلَّ منه، بل إذا روى ابن القاسم وروى غيره عن مالك شيئًا، قدَّموا رواية ابن القاسم ورجَّحُوْها، وعَمِلُوا بها، وألْغَوْا ما سِواها. * وهكذا أصحاب أبي حنيفة، إذا روى لهم أبو يوسف القاضي ومحمد وأصحاب الإِمْلاء شيئًا، ثم روى عنه مثل (¬4) القاسم بن مَعْن وبِشْر بن زياد وفِطْر بن حماد بن أبي سليمان وعافِيَة بن يزيد ونُوْح الجامع وعبد الله بن زياد، ومن هو فوق هؤلاء ممَّن له رواية عن أبي حنيفة كالحسن بن زياد اللؤلؤي وداود بن نصير وأبي خالد الأحمر وغيرهم لم يلتفتوا إلى روايتهم، وقالوا: هذه رواية شاذَّة، مخالفة لرواية أصحابه، الذين هم أخْبر بمذهبه عنه ولا يجعلون رواية الحسن بن زياد كرواية أبي يوسف ألْبتَّة. * وكذلك أصحاب الشَّافعي، إنما يقبلون عنه ما كان من رواية ¬
- طبقات أصحاب الإمام أحمد
الرَّبِيْع والمُزَنِي والبُوَيْطِي وحَرْمَلة وأمثالهم، فإذا روى عنه غيرهم ممَّن هو مثل هؤلاء وأجل منهم (¬1) ما يخالف رواية أولئك؛ لم يلتفتوا إليها، مثل: أبي ثَوْر وابن عبد الحكم والزَّعْفَرَانِي، وقالوا: أولئك أعلم بمذهبِهِ، ومذهبُه (¬2) ما حَكَوْهُ عنه دون هؤلاء. بل ما نقله الترمذي عنه في كتابه بأصح إسناد، وابن عبد البر وغيرهما ممن يحكي مقالات العلماء: لم يجعلوه في رُتْبَة ما حَكَاهُ أولئك عنه، ولا يعدُّونه في الغالب خِلافًا. * وكذلك أصحاب أحمد، إذا انفردَ راوٍ عنه برواية، تكلموا فيها، وقالوا: تفرَّد بها (¬3) فلانٌ، ولا يكادون يجعلونها روايةً؛ إلَّا على إغْمَاض، ولا يجعلونها معارِضة لرواية الأكثرين عنه، وهذا موجودٌ في كتبهم؛ يقولون: انفرد بهذه الرواية أبو طالب، أو فلان لم يرْوِها غيره. فإذا جاءت الرواية عنه عن غير عبد الله وصالح وحَنْبل وأبي طالب والميموني والكوسج وابن هانئ والمرُّوْذِي والأثرم وابن القاسم ومحمد بن مُشَيْش ومُثنَّى بن جامِع وأحمد بن أصْرَم وبِشْر بن موسى، وأمثالهم من أعيان أصحابه؛ [ح 89] استغربوها جِدًّا، ولو كان الناقل لها إمَامًا ثَبْتًا. ولكنهم (¬4) أعلى تَوَقِّيًا في نقل مذهبه، وقبول رواية مَنْ روى عنه ¬
من الحُفَّاظ الثقات، ولا يتقيَّدون في ضَبْطِ مذهبه بناقلٍ معيَّن (¬1)، كما يفعل غيرهم من الطوائف، بل إذا صحَّت لهم عنه رواية حَكَوْها عنه، وإن عدُّوها شاذَّة؛ إذا خالفت ما رواه أصحابه. فإذا كان هذا في نقل مذاهب العلماء، مع أنه يجوز - بل يقع - منهم الفتوى بالقول، ثم يفتون بغيره؛ لتغيُّر اجتهادهم، وليس في رواية من انفرد عنهم بما رواه ما يُوْجِب غَلَطه، إذْ قد (¬2) يوجد عنهم اختلاف الجواب في كثير من المسائل = فكيف بأئمة الحديث مع (¬3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتناقض ولا يختلف كلامه؟! أليسوا أعذر منكم في ردَّ الحديث - أو الزيادة - التي خالف راويها (¬4) أو انفرد بها أو شذَّ بها عن الناس؟! كيف والدَّواعِي والهِمَمُ متوافرة على ضَبطِ حديثه - صلى الله عليه وسلم -، ونَقْدِ رواته أعظم من توفُّرها على ضبط مذاهب الأئمة وتمييز الرواة عنهم؟! وإذا روى غير أهل المَذْهَب من أهل الضَّبْطِ والإتقان والحِفْظِ عن الإمام خلاف ما رواه أهل مذهبه، قلتُم: أصحاب المذهب أعلم بمذهبه، وأضبط له، فهلَّا قُلْتم في حديث الشيخ إذا روى عنه أصحابه ¬
ب - الجواب عنه من جهة الدلالة
العارفون بحديثه شيئًا، وانفرد عنهم وخالفهم من هم أخصُّ بالشيخ منه، وأعرف بحديثه: إنَّ هؤلاء أعرفُ بحديثه من هذا المُنْفَرِد الشَّاذ؟! * فصلٌ قالوا: فهذا الجواب عن الحديث من جهة السند. وأما الجواب عنه من جهة الدلالة: فنحن نتنزَّل معكم (¬1) ونسلِّم صحة الحديث، ونبيِّن أنه لا حُجَّة لكم فيه على اشتراط المحلِّل على الوجه الذي ذكرتموه ألْبَتَّة، وأن لفظه لا يدل على اشتراطه - بل ولا على جوازه -؛ فإن ها هنا أربع مقالات يصير بها محلِّلًا: أحدهما: أن يُخرجا معًا. الثاني: أن لا يُخْرِج هو شيئًا. والثالث: أن يكونوا ثلاثة فصاعدًا. الرابع: أن يَغْنَم إن سَبَق، ولا يغرم [ح 90] إن سُبِق (¬2). فيالله العجب!! من أين تُستفاد هذه الأمور [ظ 43] من الحديث؟! ¬
وبأي دلالة من الدلالات الثلاث التي (¬1) يُستَدلُّ بها عليه؟! فإن الذي يدلُّ عليه لفظه: أنه إذا استبق (¬2) اثنان، وجاء ثالث دخل معهما، فإن كان يتحقَّق من نفسه سبقهما، كان قمارًا؛ لأنه دخل على بصيرة أنه يأكل مالهما، وإن دخل معهما وهو لا يتحقَّق أن يكون سابقًا، بل يرجو ما يرجوانه، ويخاف ما يخافانه؛ كان (¬3) كأحدهما، ولم يكن أكله إن (¬4) سبقهما قمارًا؛ فإن العقود مبناها على العدل، فإذا استووا في الرجاء والخوف، والمَغْنَم والمَغْرَم؛ كان هذا هو العدل الذي يطمئن إليه القلب، وإذا تميَّز بعضهم عن بعض بغُنْم أو غُرْم، أو تيقَّن سَبْقَهُ لصاحبيه؛ لقوته وضعفهما؛ لم يكن هذا عدلًا، ولم تَطِب النفوسُ بهذا السِّبَاق. وأما اشتراط الدخيل المستعار الذي هو شريك في الربح، بريء من الخُسْران؛ فأجَبْنَا عن الحديث أنه (¬5) لا يقتضيه بوجهٍ ما، وغايته: إنْ دَلَّ على المُحَلَّل؛ فإنما يدلُّ على أن المحلِّل إذا دَخَل ولا بُدَّ؛ فإنه يُشتَرط أن يكون بهذه الصِّفَة، ولا يدلُّ على أنه يُشتَرط دخوله، وأن يكون على هذه الصفة (¬6). ¬
- فصل: في الرد على الدليل الثاني
فمن أين هذا في الحديث؟! وبأي وجه يُستفاد؟! وهذا ظاهر لا خفاء به، والله أعلم. فإن قلتُم: إنَّما دَخَلَ المحلِّل في هذا العقد؛ ليخرجه عن شَبَهِ القمار، فيكون دخولَه شَرْطًا (¬1). قلنا: قد تقدَّم من الوجوه الكثيرة ما فيه كفاية، أنَّ العقد ليس بدونه قمارًا، فإن كان بدون دخوله قمارًا؛ لم يخرُج به (¬2) عن شَبَهِ القمار، بل ذلك الشَّبَهُ باقٍ بعَيْنِهِ أو زائد، ولا جواب لكم عن تلك الوجوه ألْبَتَّة (¬3) وبالله تعالى التوفيق. فصلٌ قالوا (¬4): وأما دليلكم الثاني: وهو حديث ابن عمر: "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سابق بين الخيل، وجعل بينهما محلِّلًا". فهذا (¬5) الحديث لا يصحُّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألْبَتَّة، وَهِمَ فيه أبو حاتم؛ فإنَّ مداره على عاصم بن عمر أخي عُبيد الله وعبد الله وأبي بكر العُمَرِيِّين، فهم أربعةُ أخْوة (¬6): ¬
أوثقهم عبيد الله، متَّفق على الاحْتِجَاج بحديثه، وأما عبد الله وعاصم فضعيفان، أما عبد الله فكلامهم فيه مشهور. وأما أخوهُ عاصم صاحب هذا الحديث (¬1): فقال البخاري: "هو منكر الحديث". وقال ابن عدي: "ضعَّفوه". وقال الإِمام أحمد في رواية ابنه صالح: "ضعيف"، وفي رواية أخرى: "ليس بشيء (¬2) ". وضعفه أبو حاتم. وقال هارون بن موسى الفَرْوِي: "ليس بقوي". وقال الجُوْزَجَاني: "يُضَعَّف في حديثه". وقال النسائي: "ليس بثقة". وقال الترمذي: "ليس عندي بالحافظ". وقال النسائي مرة: "متروك". وقال ابن عدي (¬3): "ضعَّفوه"، ثم سَرَدَ له أحاديث جمَّة، مِن جُمْلَتِهَا هذا الحديث المذكور. وأما ابن حبان: فتناقض فيه؛ فإنه أخرج حديثه في "صحيحه"، وقال في كتاب "الضعفاء" (¬4): "منكر الحديث جدًّا، يروي عن الثقات ما لا يُشْبِه حديث الأثبات، لا يجوز الاحتجاج به إلا فيما وافق الثقات". ومن كانت هذه حالته عند أهل الحديث، لا يُحْتجُّ بِخَبَرِه. وقال الحافظ أبو عبد الله المقدسي: "عاصم بن عمر هذا تكلَّم ¬
فيه: أحمد ويحيى والبخاري وابن حبان، وقد روى عنه أحاديث، فلا أدري هل رجع عن قوله فيه، أو غَفَلَ عن ذلك". وقال شيخنا أبو الحَجَّاج الحافظ: "يُحْتَملُ أنَّ أبا حاتم لم يَعرِفْ أنه عاصم العُمَرِي؛ فإنه وقع في روايته غير مَنْسُوب". والذي يدل على بطلان هذا الحديث أنه لو كان عند عمرو بن دينار عن ابن عمر؛ لكان معروفًا عند أصحاب عمرو (¬1)، مثل: قتادة وأيوب وشُعْبَة والسُّفْيَانَيْن والحمَّادَيْن ومالك بن أنس وجعفر بن محمد، وقيس بن سعد وهُشَيْم ووَرْقَاء وداود بن عبد الرحمن العطَّار وغيرهم من أصحابه، فكيف لا يعرف هؤلاء - وهم أجِلَّة أصحابه - هذا الحديث من حديثه، ويكون عند عاصم بن عمر مع ضَعْفه؟! وأيضًا، فعمرو بن دينار حديثه محفوظ مضبوط يُجْمَع، وكان الأئمة يسارِعون إلى سماعه منه وحفظه وجمعه؛ قال علي بن المديني: "عنده نحو أربع مئة حديث" (¬2). وأيضًا، فلو كان هذا من حديث ابن عمر [ح 92] لكان مشهورًا؛ فإنه لم يَزَلِ السِّباق بين الخيل موجودًا بالمدينة، وأهل المدينة يحتاجون فيه إلى فتوى سعيد بن المسيب، حتى أفتاهم في الدَّخيل بما أفتاهم، فلو كان هذا الحديث صحيحًا من حديث ابن عمر؛ لكانت سُنَّةً مشهورةً متوارثةً عنهم (¬3)، ولم يحتاجوا إلى فتوى سعيد، ولم يقل ¬
مالك: "لا نأخذ بقول سعيد (¬1) بن المسيب في المحلِّل (¬2)، ولا يجب المحلِّل"، مع أنَّ مالكًا مِن أعلمِ الناس بحديث ابن عمر، ولم يذكر عنه في المحلِّل حرفًا واحدًا. فكيف يكون هذا الحديث [ظ 44] عند عمرو بن دينار عن ابن عمر، ثم لا يرويه أحدٌ منهم، وينفرد به من لا يُحْتجُّ بحديثه؟! وأيضًا، فلا يُعرف أنَّ أحدًا من الأئمة احتجَّ بهذا الحديث في المحلِّل، لا الشافعي ولا أحمد ولا أبو حنيفة ولا غيرهم ممَّن شرط المحلِّل. وأيضًا، فإن أحدًا من الأئمة الستة لم يخرّجه في كتابه، ولا أحدًا من الأئمّة الأربعة، ولا صنَّف الحاكم نفسه - مع فرط تساهله - فيما استدركه (¬3) عليهما = هذا، ودلالته على اشتراط المحلِّل أبين من دلالة (¬4) حديث سفيان بن حسين!! فكيف غَفَلَ عنه هؤلاء الأئمة كلهم أو أغفلوه؟! هذا من الممتنع عادة على الجميع، مع علمهم إلى ما يدل على ما دل عليه (¬5) وبالله تعالى التوفيق. ¬
- فصل: في الرد على الدليل الثالث
فصلٌ قالوا (¬1): وأما دليلكم الثالث: وهو حديث أبي هريرة: "لا جَلَب ولا جَنَب، وإذا لم يُدْخِل المتراهنان فرسًا يستبقان على السبق فيه فهو حرام". فحديث لا تقوم به حُجَّة، ولا يَثْبت بمثله حُكْم؛ فإن راويه مجهول العَيْنِ والحال، لا يُعْرَف اسْمُه، ولا نَسَبُه، ولا حَاله؛ إلا أنه رجلٌ من بني مخزوم، ومثل هذا لا يُحتجُّ بحديثه باتِّفاق أهل الحديث. وأيضًا، فإن هذا الحديث منكر؛ فإن هذا المجهول تفرَّد به من بين أصحاب أبي الزِّنَاد كلِّهم، مع اعتنائهم بحديثه، وحفظهم له، فكيف يفوتُهم ويظفر به مجهول العين والحال؟! والذي يظهر منه (¬2) أن هذه الزيادة من كلام أبي الزناد، أُدْرِجت في الحديث، والحديث المحفوظ عن [ح 93] عن أبي هريرة ما رواه الناس عنه: "لا جَلَب ولا جَنَب" فقط؛ فحدَّث به أبو الزِّناد، ثم أتبعه من عنده: "وإذا لم يُدْخِل المتراهنان فرسًا" إلى آخره، فحمله هذا الراوي المجهول عنه، وحدَّث به من غير تَمْييز. وبالجملة فالكلام في هذا الحديث كالكلام في الذي قبله، بل بطلانه أظهر، والله أعلم. ¬
- فصل: في الرد على الدليل الرابع
فصلٌ قالوا: وأما دليلكم الرابع: في قِصَّة المُتقامِرَين في الظَّبي، أيهما يسبق إليه، وأن عمر بن الخطاب؛ قال "هذا قمار". فتعلُّق ببَيْتِ العنكبوت؛ لأن عمر لم يجعله قمارًا لعدم المحلِّل، وإنما كان قَمارًا لأنه أكلُ مالٍ بالباطل؛ فإنهما استبقا إلى فعلٍ لا يجوز بذل السَّبَق فيه بالاتفاق، وهو أخذ الصَّيد في حال الإحرام، فهذا قمارٌ، وإنْ دَخَلَ فيه المحلِّل. وحتى لو كان استبقا إلى فعل جائز على الأقْدَام؛ فأكل المال به قمارٌ عند الجمهور؛ لأنه ليس من الخُفِّ والحافر والنصْل. هذا مع أنّ الحديث من رواية المتَّفق على ضعفه: علي بن زيد بن جُدْعان (¬1). وبالله تعالى التوفيق. فصلٌ قالوا: وأما دليلكم الخامس: وهو حديث البخاري: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بقومٍ مِن أسلم (¬2) ينتضلون .... الحديث، وفيه: "ارموا، وأنا معكم كلكم". فسبحان الله! ماذا يوجِبُ نصرة المذاهب والتقليد لأربابه من ¬
ارتكاب أنواع من الخطإِ والاستدلال بما ليس بدليل، ومخالفة صريح الدليل؟! فيا للهِ العَجَب! أين دِلالة هذا الحديث على المحلِّل بوجْهٍ مِن الوجوه؟! وهل مثل (¬1) هذا إلا حُجَّة عليكم؟! فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أوَّلًا (¬2): "ارموا وأنا مع بني فلان"، فلم يسأل: هل أخْرَجَ الحزبان معًا؟ أو أحدهما؟ أو لم يخرج أحدٌ شيئًا؟ فدلَّ على أن لا فَرْق في جَوَاز العَقْد. ثم إن المحلِّل لا يكون مع أحد الحزبين، ولا يجوز له أن يقول: أنا مع فلان، أو مع هذا الحزب (¬3) دون هذا، فليس هذا من (¬4) شأن المحلِّل، ولا يتمُّ لكم حينئذٍ (¬5) الاستدلال بالحديث إلا بعد أمور: أحدها: أن الحزبين أخرجا معًا، وأن النبي [ح 94]- صلى الله عليه وسلم - علم بذلك، ودخل معهم ولم يُخْرِج، وكان محلِّلًا. وهذا، إن لم يُقْطَع ببطلانه؛ فدعواه دعوى مجرَّدة عن برهان من الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فلا تكون مسموعةً ولا مقبولةً. ¬
ثم نقول: ثانيها (¬1): إن كان الإخراج قد وقع من كِلَا الفريقين، فالحديث حُجَّة عليكم (¬2)، فإن قال: "ارموا وأنا مع بني فلان"، والمحلِّل لا يكون مع أحدهما. وثالثها (¬3): إنْ كان المخرِجُ أحد الفريقين، أو لم يكن إخراجٌ بالكلِّيَّة، بطل استدلالكم بالحديث، فهو إما أن يكون حُجَّةٌ عليكم، أو ليس لكم فيه حُجَّة أصْلًا. فإن قيل: فما فائدة دخوله - صلى الله عليه وسلم - مع كلا الفريقين إذا لم يكن محلِّلًا؟ فالجواب: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا صارَ مع أحد الحزبين، أمسك الحزب الآخر، وعلموا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان في حزبٍ؛ كان هو الغالب المنصور، فلم يختاروا (¬4) أن يكونوا في الحزب الذي ليس فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا عَلِمَ ذلك منهم، طَيَّبَ قُلُوبَهم، وقال: "أنا معكم كلكم". هذا مقتضى الحديث الذي يدلُّ عليه، وهو بَرِئٌ من التحليل. وبالله تعالى التوفيق [ظ 45]. ¬
- فصل: في الرد على الدليل السادس
فصلٌ قالوا: وأما دليلكم السادس: "وهو (¬1) أنه إذا لم يكن معهما محلِّل وأخرجا معًا؛ فقد دار كلُّ واحدٍ منهما بين المَغْنَم والمَغْرَم، وهذا حقيقة القمار". فقد تقدَّم من الوجوه الكثيرة، التي لا جواب لكم عنها ما يبطله، ويبيِّن أنه إن كان هذا العقد بدون المحلِّل قمارًا؛ فهو بالمحلِّل أولى أنْ يكون قمارًا، وإن لم يكن قمارًا (¬2) بالمحلِّل؛ فهو بدونه أولى أن لا يكون قمارًا؛ ولا يُتَصَوَّرُ أن يكون قمارًا (¬3) في إحدى الصورتين دون الأخرى، ولا يذكرون فرْقًا ولا معنى إلا كان اقتضاؤُه بعدم اشتراط المحلِّل أَظْهَرَ مِن اقتضائه لاشتراطه. وقد تقدَّم مِنَّا بيان ذلك، فإن كان لكم عنه جوابٌ، فبيِّنُوه، ولا سبيل إليه. فصلٌ وأما قولكم: "لو لم يكن في هذا إلا أنه (¬4) قول أعلم التابعين سعيد بن المسيب؛ فإن مذهب أبي حنيفة أن التابعي إذا عاصر الصحابة ¬
- الرد على قولهم: إن هذا قول الجمهور
وزاحمهم في الفتوى [ح 95] كان قوله حُجَّة". فيقال: من العجب أن يكون قول سعيد بن المسيب حُجَّة، وفعل (¬1) أبي عُبيدة بن الجرَّاح غير حُجَّة! وأيضًا، فأنتم في أحد القولين عندكم لا تجعلون قول الصَّحابي حُجَّة؛ فكيف يكون قول التَّابعي حُجَّة؟! وأيضًا، فأنتم لا تُوْجِبون اتَّباع سعيد بن المسيب في جميع ما يذهب إليه؛ فكيف توجِبون اتِّباعه في هذه المسألة؟! وأيضًا، فلو كان قول سعيد بن المسيب في هذه المسألة حُجَّة، أو كانت الحُجَّةُ موافقة أهلِ عصره له، كما يتوهَّمه المتوهِّم؛ لَمَا ساغ لمالك أن يقول (¬2): "ولا نأخذ بقول سعيد بن المسيب في المحلِّل، ولا يجب المحلِّل". والظاهر أن هذا إشارة من مالِكٍ إلى نفسه وإلى علماء المدينة معه، وأنهم - أو جمهورهم - لم يأخذوا بقوله في المحلل. وقولهم: "يكفينا أن ثلاثة أركان الأمة عليه". يريدون: الشافعي وأبا حنيفة وأحمد - فَطَرْدُ هذا يُوجِبُ عليكم أنَّ كلَّ مسألة اتَّفق عليها ثلاثة من الأئمة وخالفهم الرابع أن تأخذوا فيها بقوله الثلاثة؛ لأنهم ثلاثة أركان الأمة، وهذا يَلْزمُ أهل كل مذهب. ¬
وكل هذه التَّلْفِيْقَات بمعزلٍ عن البرهان الذي يطالَب به كل من قال قولًا في الدين. وقد قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]، فأين أَمَرَ بالرد إلى ما ذكرتم، ومن ذكرتم؟! وقال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]، فوقف الإيمان على تحكيمه وحده، ولم يوقف الإِيمان على تحكيم غيره ألْبَتَّة. وقولكم: "إن هذا قول الجمهور". فإنْ كان قولُ الجمهور في كل مسألة تنازع فيها العلماء هو الصواب؛ وجب بطلان كل قول انفرد به أحد الأئمة عن الجمهور، ويُذْكَر لكلِّ طائفة من الطوائف ما انفرد به مَن قلَّدوه عن الجمهور، ولا يمكنهم إنكار ذلك، ولا الإقرار ببطلان قوله، ولا ملجأ لهم إلا التناقض. وبالله تعالى التوفيق. [ح 96]. وهم إذا كان قول الجمهور معهم نادَوْا فيهم على رؤوس الأشهاد، وأجْلَبُوا بِهِمْ على مَن خالفهم، وإذا كان قولُهم خلاف قول الجمهور؛ قالوا: قول الجمهور ليس بحجة، والحجة في الكتاب والسنة والإِجماع!! ثم نقول: أين المكاثَرة بالرجال إلى المكاثرة بالأدلة؟! وقد ذكرنا من الأدلَّة ما لا جواب لكم (¬1) عنه، والواجب اتِّباع ¬
- الرد على قولهم: إن جمهور المسلمين رأوا هذا النقل حسنا
الدَّليل أين كان، ومع مَنْ كان، وهو الذي أوجب الله تعالى اتِّباعه، وحرَّم مخالفته، وجعله الميزان الراجح بين العلماء، فمن كان من جانبه، كان أسعد بالصواب، قَلَّ موافقوه أو كثروا. وأما قولكم: "إن جمهور المسلمين رأوا هذا النقل (¬1) حسنًا، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسنٌ". فجوابه من وجوه: أحدها: أن هذا يلزمكم في كل مسألةٍ انفرد بها مَن قلَّدتموه عن جمهور الأمة، فما كان جوابُكم لِمَنْ خالفكم، فهو جوابُنا لكم بِعَيْنه. الثاني: أن هذا ليس من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يضيفه إلى كلامه مَن لا علم له بالحديث، وإنما هو ثابتُ عن ابن مسعود من قوله، ذكره الإمام أحمد وغيره موقوفًا عليه، ولفظه: "إن الله تعالى نظر في قلوب العباد، فوجد قَلْبَ محمدٍ خير قلوب العباد، فاختاره لرسالته، ثم نظر في قلوب العباد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فاختارهم لصُحْبته، فما رآه المسلمون حسنًا؛ فهو عند الله حسنٌ". الثالث: أنه لو (¬2) صحَّ مرفوعًا، فهو دليلٌ على أن ما أجمع عليه المسلمون ورأوه حسنًا، فهو عند الله حسنٌ، لا ما رآه بعضهم. فهو حجة عليكم. ¬
- الرد على قولهم: إن القول بعدم المحلل قول شاذ
الرابع: أن المسلمين كلَّهم لا يرون المحلِّل في عَقْد [ظ 46] السِّباق حَسَنًا، بل كثيرٌ منهم تُنْكِرُه فِطرُهم وقلوبهم، ويرونه غير حسنٍ، ولو كان حسنًا عند الله، وهو من تمام العدل الذي فطر الله تعالى القلوب على استحسانه = لرأوه كلهم حسنًا، وشهدت به فِطَرُهم، وشهدت [ح 97] بقبح العقد إذا خلا عنه؛ كما شهدت بقبح الظلم والقمار، وحُسن العدل، وأكْل المال بالحق. قالوا: ونحن نحاكمكم في ذلك إلى الفِطَرِ التي لم تندفع بالتعصُّب، ونصرة آراء الرجال والتقليد. وأما قولكم: "إن القول بعدم المحلِّل قول شاذٌّ، وإنَّ من شذَّ شذَّ الله به". فجوابه من وجوه: أحدها: أن القول الشاذَّ هو الذي ليس مع قائله دليل (¬1) من كتاب الله ولا من (¬2) سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهْذا هو القول الشاذُّ، ولو كان عليه جمهور أهل الأرض، وأما قول ما دلَّ عليه كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فليس بشاذًّ، ولو ذهب إليه الواحد من الأمة؛ فإنَّ كثرة القائلين وقلَّتهم ليس بمعيارٍ وميزانٍ للحق يُعَيَّر (¬3) به ويوزَن به. ¬
وهذه غير طريقة الرَّاسخين في العلم، وإنما هي طريقة عامَّيَّة، تَلِيْقُ بمَن بِضَاعَتهم من كتاب الله والسنة مُزْجَاة. وأما أهل العلم الذين هم أهله؛ فالشذوذ عندهم والمخالفة القبيحة هي الشذوذ عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة ومخالفتها، ولا اعتبار عندهم بغير ذلك، ما لم يُجْمِع المسلمون على قولٍ واحدٍ (¬1)، ويُعْلَم إجماعُهم يَقِيْنًا، فهذا الذي لا تَحِلُّ مخالفته. ونحن نقول لمنازعينا في هذه المسألة: إذا كان القول ببطلان المحلِّل باطلًا مخالفًا للكتاب والسنة والإجماع، فلا بدَّ أن تكون أدلَّة بطلانه ظاهرة لا تخفى، وقويَّة لا تضعف، ولا يمكن أن تكون أدلَّة القول الباطل المخالف للإِجماع قويَّةً كثيرةً، ولا يمكنكم إبطالها ولا معارضتها، فإن بيَّنْتُم بطلان هذه الأدلَّة بأقوى منها وأظهر؛ فالرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل (¬2)، وإن لم يكن بأيديكم إلا بعض ما قد (¬3) حكينا عنكم؛ فإنا ذكرنا لكم من الأدلَّة ما لم يوجد عندكم ألْبَتَّة، ولا ذَكَرَهُ أحدٌ ممَّن انتصر لقولكم، ثم ذكرنا من الكلام عليها دليلًا دليلًا (¬4) ما إن كان باطلًا؛ فردُّه مقدور ومأمورٌ به (¬5)، [ح 98] وإن كان حقًّا؛ فمتَّبعُه محسنٌ، وما على المحسنين من سبيل. ¬
فصل في تحرير مذاهب أهل العلم فيما يجوز بذل السبق فيه من المغالبات وفيما لا يجوز، وعلى أي وجه يجوز بذل السبق؟
ثم نقول: لو ذكرنا لكم نظير كلامكم هذا في كل مسألة انفردتُم بها عن الأئمة (¬1)، لم تلتفتوا إليه، ولم تقبلوه منا؛ فكيف تحتجُّون علينا بما لا تقبلونه منا إذا احْتَجَجْنَا به عليكم؟! فإن قلتم: وأين هذا الشذوذ؟. فلتنظر كل طائفة إلى ما انفرد به متبوعها ومقلِّدوها عن سائر الأمة. ولا حاجة بنا إلى الإطالة بذكر ذلك، وبالله تعالى المستعان والتوفيق. فصلٌ في تحرير مذاهب أهل العلم فيما يجوز بذل السبق فيه من المغالبات (¬2) وما لا يجوز، وعلى أيِّ وجهٍ يجوز بذل السَّبَق؟ قد تقدَّم أن المغالبات ثلاثة أقسام (¬3): * قسم (¬4) محبوبٌ مرضيٌّ لله تعالى ورسوله، معينٌ على تحصيل محابِّه، كالسباق بالخيل والإبل والرمي بالنُّشَّاب (¬5). * وقسمٌ مبغوضٌ مسخوطٌ لله ورسوله، موصلٌ إلى ما يكرهه الله تعالى ورسوله، كسائر المغالبات التي توقع العداوة والبغضاء، وتصدُّ ¬
1 - النوع الأول
عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة، كالنَّرْد والشِّطْرنج وما أشبههما. * وقسمٌ ليس بمحبوب لله ولا مسخوطٍ له، بل هو مباحٌ؛ لعدم المضرَّة الراجحة، كالسِّبَاق على الأقدام، والسِّبَاحة، وشَيْلِ الأحْجَار، والصِّرَاع، ونحوِ ذلك. فالنَّوع الأول: يُشرع مفردًا عن الرهن (¬1)، ويشرع فيه كل ما كان أدعى إلى تحصيله، فيُشْرَعُ فيه بذل الرهن: من هذا وحده، ومن الآخر وحده (¬2)، ومنهما معًا، ومن الأجنبيِّ. وأكل المال به أكلٌ بحقٍّ، ليس أكلًا بباطل، وليس من القمار والميسر في شيء. والنَّوع الثاني: محرَّم وحده، ومع الرهن (¬3)، وأكل المال به ميسرٌ وقمارٌ كيف كان، سواء كان من أحدهما، أو من (¬4) كليهما، أو من ثالث، وهذا باتِّفاق المسلمين (¬5). فأما إنْ خلا عن الرهن (¬6)، فهو أيضًا حرامٌ عند الجمهور؛ نَرْدًا (¬7) كان أو شطرنجًا. ¬
هذا قول مالِكٍ وأصحابه، وأبي حنيفة، وأحمدَ وأصحابهِ (¬1) وقول جمهور التابعين، ولا يُحْفَظ عن صحابيٍّ حِلُّه. وقد نصَّ الشافعيُّ (¬2) على تحريم النَّرْد [ح 99]، وتوقَّف في تحريم الشطرَنج، فلم يجزم بتحريمه، وذكر أنه لم يتبيَّن له تحريمه، ولهذا اختلف أصحابه في الشطرنج (¬3)، فمنهم من حرَّمه، ومنهم من كرهه ولم يحرِّمه، وممَّن حرَّمه وبالغ في تقرير تحريمه أبو عبد الله الحَلِيْمِي (¬4). والشافعيُّ نصَّ على تحريم النَّرْدِ الخالي عن العوض، وتوقَّف في الشطرنج الخالي عن العِوَض: * فمن أصحابه مَن طرد توقُّفه في النَّرد أيضًا، وقال: إذا خَلَا عن العِوَض؛ لم يحرم، كالشطرنج [ظ 47]. وهذا محض القياس؛ لأنَّ مفسدة الشطرنج أعظم من مفسدة النَّرْدِ ¬
بكثير، فإذا لم تنهض مفسدة الشطرنج للتحريم؛ فالنَّرْدُ أولى. * ومنهم من طرد نَصَّه في تحريم النَّرْدِ، وعدَّاه إلى الشطرنج. وهذا أصحُّ تَخْريجًا، وأوضح (¬1) دليلًا؛ فإن مفسدة الشطرنج أعظمُ من مفسدة النَّرد، وكل ما يدلُّ على تحريم النَّرْدِ بغير عِوَض؛ فدِلالته على تحريم الشطرنج بطريقٍ أولى. وقد ثبت في "صحيح مسلم" (¬2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَن لَعِبَ بالنَّرْدَشِيْر فكأنَّما صَبَغ يده في لحم خنزير ودمه". وفي "الموطأ" و"السنن" من حديث أبي موسى الأشْعَرِي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَن لعبَ بالنَّرْد؛ فقد عصى الله ورسوله" (¬3). ¬
وسرُّ (¬1) المسألة وفقهها: أن الله سبحانه لمَّا (¬2) حرَّم الميسر؛ هل هو لأجل ما فيه من المخاطرة المتضمِّنة لأكل المال بالباطل؟ فعلى هذا، إذا خلا عن العِوَض لم يكن حرامًا. فلهذا طَرد مَنْ طَرد ذلك هذا (¬3) الأصل، وقال: إذا خَلا النَّرْد والشطرنج عن العِوَض، لم يكونا (¬4) حرامًا. ولكن هذا القول خلاف النصِّ والقياسِ كما سنذكره. أو حرَّمه لما يشتمل عليه في نفسه من المفسدة، وإنْ خلا عن العِوَض، فتحريمه من جنس تحريم الخمر؛ فإنه يوقع العداوة والبغضاء، ويصدُّ عن ذكر الله، وعن الصلاة، وأكل المال فيه عونٌ وذريعةٌ إلى الإقبال عليه، واشتغال النفوس به؟ فإنَّ الداعي حينئذٍ يَقْوَى من وجهين: من جهة المغالبة، ومن جهة [ح 100] أكل المال، فيكون حرامًا من الوجهين. ¬
وهذا المأخذُ أصحُّ نصًّا وقياسًا (¬1) وأصول الشريعة وتصرُّفاتها تَشْهَدُ له بالاعْتِبَار؛ فإن الله سبحانه قال في كتابه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 90 - 92]. فَقَرَنَ المَيْسِرَ بالأنصابِ والأزلامِ والخمر، وأخْبرَ أن الأربعةَ رجسٌ، وأنها من عمل الشيطان، ثم أمر باجتنابها، وعلَّق الفلاحَ باجتنابها، ثمَّ نبَّه على وجوهِ المفسدةِ المقتضيةِ للتَّحريم فيها، وهي ما يُوْقِعُهُ الشيطان بين أهلِها من العداوةِ والبغضاءِ ومن الصَّدِّ عن ذكر الله، وعن الصلاة. وكل أَحَدٍ يعلم أن هذه المفاسدَ ناشئةٌ من نفسِ العمل، لا من مجرَّد أكل المال به. فتعليل التحريم بأنه متضمِّن لأكل المال بالباطل؛ تعليلٌ بغير الوصف المذكور في النَّصِّ، وإلغاءُ للوصف الذي نبَّه النصُّ (¬2) عليه، وأرشد إليه. وهذا فاسدٌ من الوجهين. يوضِّحه: أن السلف الذين نزل القرآن بلغتهم سَمَّوْا نفس ¬
3 - النوع الثالث: المباح
الفعل (¬1) مَيْسِرًا لا أكل المال به، فقال غير واحد من السلف (¬2): "الشطرنج ميسر العَجَم". وصنَّف أبو محمد بن قُتَيْبَة كتابًا في المَيْسِر (¬3)، وذكر فيه أنواعه وأصنافه، وعدَّها. ومعلومٌ أنَّ أكل المال بالميسر قد زاد على كونه ميسرًا، ولهذا كان أكل المال (¬4) به أكلًا له بالباطل؛ لأنه أكلٌ بعمل محرَّم في نفسه، فالمال حرامٌ، والعمل حرامٌ؛ بخلاف أكله بالنوع الأول؛ فإنه أكلٌ بحق، فهو حلالٌ، والعمل طاعةٌ. وأما النوع الثالث: وهو المباح؛ فإنه وإن حَرُمَ أكْلُ المال به؛ فليس لأن في (¬5) العمل مفسدة في نفسه، وهو حرامٌ، بل لأن تجويزَ أكْلِ المال به [ح 101] ذريعةٌ إلى اشتغال النفوس به، واتِّخاذه مكسبًا، لا سيما وهو من اللهو واللعب الخفيف على النفوس، فتشتدُّ رغبتها فيه من الوجهين، فأُبيح في نفسه؛ لأنه إعانة وإجمامٍ للنفس وراحة لها، وحرم أكل المال به (¬6)؛ لئلَّا يُتَّخذ عادةً وصناعةً ومَتْجَرًا، فهذا من ¬
- تابع الكلام على النرد والشطرنج
حكمة الشريعة، ونظرها في المصالح والمفاسد ومقاديرها. يوضِّح هذا أن الله سبحانه حرَّم الخمر، قليلها وكثيرها، ما أسكر منها وما لم يسكر، لأن قليلها يدعو إلى كثيرها الذي يغيِّر العقل (¬1)، ويوقع في المفاسد التي يريد الشيطان أن يوقع العباد فيها، ويمنع عن الإصلاح (¬2) الذي يحبُّه الله تعالى ورسوله، فتحريم كثيرها من باب تحريم الأسباب المُوْقِعَةِ في الفساد، وتحريم قليلها من باب سَدِّ الذرائع. وإذا تأملت أحوال (¬3) هذه المغالبات؛ رأيتها في ذلك كالخمر، قليلها يدعو إلى كثيرها، وكثيرها (¬4) يصدُّ عن ما يحبه الله تعالى ورسوله، ويوقع فيما يبغضه الله تعالى ورسوله، فلو لم يكن في تحريمها نصٌّ؛ لكانت أصولُ الشريعة وقواعدها وما قد (¬5) اشتملت عليه من الحِكَم والمصالح وعدم الفرق بين المتماثلين = تُوجِبُ تحريم ذلك والنهي عنه، فكيف (¬6) والنصوص قد دلَّت على تحريمه؟! فقد اتَّفق على تحريم ذلك النَّصُّ والقِيَاس. [ظ 48]. وقد سَمَّى عليُّ بن أبي طالب - أمير المؤمنين رضي الله تعالى ¬
عنه (¬1) - الشطرنج تَمَاثِيْل، فمرَّ بقومٍ يلعبون بها، فقال: "ما هذه التَّماثيل التي أنتُمْ لها عاكِفون؟! "، وقَلب الرُّقْعَةَ عليهم (¬2). ولا يُعْلَم أحدٌ من الصَّحابة أحلَّها، ولا لعب بها، وقد أعاذهم الله تعالى من ذلك، وكل ما نُسِبَ إلى أحدٍ منهم من أنه لَعِبَ بها - كأبي هريرة - فافتراءٌ وَبُهْتٌ على الصحابة، ينكره كل عالمٍ بأحوال الصحابة، وكلُّ عارفٍ بالآثار. وكيف يُبِيْحُ (¬3) خير القرون وخير الخلق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللعب (¬4) بشيءٍ صدُّه عن ذكر الله تعالى، وعن الصلاة أعظم مِن صَدِّ الخمر إذا استغرق فيه لاعِبُهُ؟! والواقع [ح 102] شاهدٌ بذلك. وكيف يُحَرِّمُ الشارع النَّرْد، ويُبِيح الشطرنج، وهو يزيد عليه مفسدة بأضعافٍ مُضاعفة؟! وكيف يُظنُّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إباحة ميسر العجم وهو أبغض إلى الله تعالى وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - من ميسر العرب، بل الشطرنج سلطان ¬
أنواع الميسر؟! وإذا كان اللاعب بالنَّرْد كغامس يده في لحم الخنزير (¬1) ودمه؛ فكيف بحال اللاعب بالشطرنج؟! وهل (¬2) هذا إلا من باب التَّنْبِيه بالأدنى على الأعْلى؟! وإذا كان مَن لَعِبَ بالنَّرْد عاصيًا لله ورسوله مع خِفَّة مفسدة النَّرْد، فكيف يُسْلَب اسم (¬3) المعصية لله تعالى ولرسوله عن صاحب الشِّطرنج مع عِظَمِ مفسدتها، وصدِّها عن ما يحب الله تعالى ورسوله، وأخْذِها بفِكْر لاْعِبِهَا، واشتغال قلبه وجوارحه، وضياع عمره، ودعاء قليلها إلى كثيرها، مثل دعاء قليل الخمر إلى كثيرها، ورغبة النفوس بالعِوَض فوق رغبتها فيها بلا عِوَض؟! فلو لم يكن في اللعب فيها مفسدة أصلًا غير (¬4) أنها ذريعة قريبة الإيصالِ إلى أكْل المالِ الحرامِ بالقمار؛ لكان تحريمها مُتَعيِّنًا في الشريعة، كيف وفي المفاسد الناشئة من مجرَّد اللعب بها ما يقتضي تحريمها؟! وكيف يُظَنُّ بالشريعة أنها تُبيح ما يُلْهِي القلب، ويُشْغِلُه أعظم شُغْل ¬
عن مصالح دينه ودنياه (¬1)، ويورث العداوة والبغضاء بين أربابها، وقليلها يدعو إلى كثيرها، ويفعل بالعقْل والفِكْر، كما يفعل المسكر وأعظم، ولهذا يَصِيْر صَاحِبُها عاكِفًا عليها كعكوف شارب الخمر على خمره، أو أشدَّ؛ فإنه لا يستحيي ولا يخاف (¬2) كما يستحيي شارب الخمر، وكلاهما مُشَبَّهٌ بالعاكف على الأصنام؟! أما صاحب الشطرنج: فقد صحَّ (¬3) عن علي أمير المؤمنين رضي الله عنه أنه شبَّهه بالعاكف على التَّماثيل. وأما صاحبُ الخمر: ففي "مسند الإمام أحمد" (¬4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "شارب الخَمْر كعابِدِ وَثَن". ¬
وقد صحَّ النهي عنها عن عبد الله بن عباس (¬1)، وعن عبد الله بن عمر (¬2)، ولا يُعْلَم لهما في الصحابة مخالفٌ في ذلك ألْبتَّة. وقد (¬3) اتَّفق على تحريمها [ح 103] الأئمة الثلاثة وأتباعهم، والشافعيُّ لم يجزم بإباحتها، فلا يجوز أن يقال: مذهب الشافعي إباحتها؛ فإن هذا كذبٌ عليه، بل قال: "وأما الشَّطرنجُ؛ فلم يتبيَّن لي تحريمُها" (¬4). فتوقَّف رضي الله عنه في التحريم، ولم (¬5) يفتِ بالإباحة. ثم اختلف المحرِّمون لها: هل هي أشدُّ تحريمًا من النَّرْدِ أو النَّرْدُ أشَدُّ تحريمًا منها؟! فصحَّ عن ابن عمر أنه قال: "الشِّطْرَنْجُ شرٌّ من النَّرْد" (¬6). ¬
ونص مالكٌ على ذلك (¬1). وقال الإمام أحمد وأبو حنيفة: "النَّرْدُ أشَدُّ تحريمًا منها". قال شيخ الإسلام أبو العباس بن عبد الحليم بن عبد السلام الحَرَّاني رضي الله عنه: "وكلا القولين صحيح باعتبار؛ فإنَّ الغالب على النَّرد اشتمالها على عِوَضٍ؛ بخلاف الشطرَنْج، فالنَّرْد بعوضٍ شرٌّ من الشطرنج الخالي من العِوَض، وأما إذا اشتملا جميعًا على العوض، أو خَلَوا عنه، فالشطرنج شرُّ من النَّرد؛ فإنها تحتاج إلى فِكْرٍ يُلْهِي صاحبها أكثر مما يحتاجُ إليهِ النَّرْد، ولهذا يقال: إنها مبنيَّة على مذهب القَدَر، والنَّرد مَبْنيَّة على مذهب الجَبْر (¬2)، فمضرَّتها بالعَقل والدين أعظمُ من مضرَّة النرد، ولكن إذا خلوا عن العوض، كان تحريمهما من جهة العمل، وإذا اشتملا على العوض، صار تحريمهما من وجهين: من جهة العمل، ومن جهه أكل المال بالباطل، فتصير بمنزلة لحم الخنزير الميِّت. قال أحمد: "هو حرام من وجهين، فإن غَصَبَه أو سَرَقَه من نصراني، صار حرامًا من ثلاثة أوجه". فالتحريم يَقْوَى ويَضْعف بحسب قُوَّة المفاسد وضعفها، وبحسب ¬
فصل في الاتفاق على جواز أكل المال بسباق الخيل والإبل والنضال من حيث الجملة
تعدُّد أسبابه" (¬1). فصلٌ إذا عُرِف هذا؛ فاتَّفق الناس على تحريم أكل العِوض في هذا النوع، وعلى تحريم المُغَالبة فيه بالرهان. واتَّفقوا على جواز أكل المال بسباق الخيل والإِبل والنضال [ظ 49] من حيث الجملة، وإن اختلفوا في كَيْفِيَّة الجواز وتفصيله على ما سنذكره. واختلفوا في مسائل هل هي ملحقة بهذا أو هذا، ونحن نذكرها: المسألة الأولى: اختلفوا في جواز المسابقة على البِغَال والحَمِير بِعِوَض: فقال الإمام أحمد ومالك (¬2) والشافعي [ح 104]- في أحد قوليه - والزهري: لا يجوز ذلك (¬3). وقال أبو حنيفة والشافعي - في القول الآخر -: يجوز (¬4). المسألة الثانية: اختلفوا في المسابقة على الحَمَام، والفِيْل، ¬
- المسألة الثالثة: الاختلاف في المسابقة على الأقدام بعوض
والبَقَر (¬1) بِعِوَض. فمنعه: أحمد ومالك وأكثر الشافعية. وأجازه: أصحاب أبي حنيفة وبعض الشافعية وبعض أصحاب أحمد في الحَمَام النَّاقلة للأخبار. المسألة الثالثة: هل يجوز العِوَض في المسابقة على الأقدام؟ فمنعه: مالك وأحمد والشافعي - في المنصوص عنه صريحًا -. وأجازه: الحنفية وبعض الشافعية - وهو مخالفٌ لنصِّ الإمام -. المسألة الرابعة: هل يجوز العِوَض في المسابقة بالسِّباحة؟ منعه الأكثرون وجوَّزه بعض الشافعيَّة والحنفيَّة. المسألة الخامسة: الصِّرَاع. منع أحمد ومالك وبعض أصحاب الشافعي العوضَ فيه، وهو مقتضى نصِّ الشافعي في منعه العوض في المسابقة بالأقدام؛ وجوَّزه بعض أصحابه وأصحاب أبي حنيفة. المسألة السادسة: المشابكة بالأيدي. لا تجوز بعِوَض عند الجمهور، وفيها وجهُ للشافعيَّة بالجواز، ومقتضى مذهب أصحاب أبي حنيفة جوازه؛ فإنهم يجوّزوه (¬2) في ¬
- المسألة السابعة: الاختلاف في المسابقة بالسيف والرمح والعمود بعوض
الصراع، والمسابقة بالأقدام، والمغالبة في مسائل العلم. المسألة السابعة: المسابقة بالسيف والرمح والعمود. مَنَعَها بعِوَضٍ: مالك وأحمد. وجوَّزها أصحاب أبي حنيفة. وللشافعية فيَها وجهان (¬1). المسألة الثامنة: المسابقة بالمَقَاليع (¬2) على العِوَض. منعها الجمهور، وللشافعية فيها وجه. ومقتضى مذهب أصحاب أبي حنيفة الجواز. المسألة التاسعة: المغالبة بشَيْل الأثقال، كالحِجارة، والعِلاج. فالجمهور لا يجوِّزون العوض فيها، ومَن جوَّزه على المشابكة والسباحة والصراع والأقدام؛ فمقتضى قوله الجواز هنا، إذْ لا فَرْق. المسألة العاشرة: المُثاقَفة (¬3). لا تجوز بعوض عند الجمهور. وأباحها بعض الشافعية، وهو مقتضى مذهب أصحاب (¬4) [ح 105] أبي حنيفة. ¬
- المسألة الحادية عشرة: الاختلاف في المسابقة على حفظ القرآن أو الحديث أو الفقه وغيره من العلوم النافعة، والإصابة في المسائل بعوض
المسألة الحادية عشرة: المُسَّابقة على حِفْظِ القرآن والحديث والفقه وغيره من العلوم النافعة، والإِصابة في المسائل، هل تجوز بعوضٍ؟ منعه: أصحاب مالك وأحمد والشافعي (¬1). وجوَّزَه: أصحاب أبي حنيفة (¬2) وشيخنا (¬3)، وحكاه ابن عبد البر عن الشافعي. وهو أولى من الشِّبَاك والصِّرَاع والسِّبَاحة، فمن جوَّز المسابقة عليها بِعِوضٍ، فالمسابقة على العِلْم أولى بالجواز، وهي صورة مراهنة الصديق لكفّار قريش على صحة ما أخبرهم به وثبوته، وقد تقدَّم (¬4) أنه لم يقم دليلٌ شرعيٌّ على نَسْخِهِ، وأنَّ الصدِّيق أخذ رهنهم بعد تحريم القِمَار، وأن الدِّين قيامُه بالحجَّة والجهاد، فإذا جازت المراهنة على آلاتِ الجِهاد؛ فهي في العلم أولى بالجواز. وهذا القول هو الرَّاجح. المسألة الثانية عشرة: المسابقة بالسِّهام على بُعْدِ الرَّمي لا على ¬
فصل: في مأخذ هذه الأقوال
الإصابة، فأيهما كان أبعد مدًى، كان هو الغالب. منعها بالعوض: أصحاب أحمد والشَّافعي (¬1). ويلزم من جوَّزها في المسابقة بالأقدام والسباحة والمصارعة جوازها ههنا، بل (¬2) هي أولى بالجواز، فإن المقصود بالرمي أمران: الإصابة والبُعْد (¬3)، فالبُعْدُ أَحَدُ مَقْصودَيْه، والسَّبْق به من جنس السَّبق بالخيل والإبل. وبكل حال، هو أولى من سائر الصُّوَر التي قاسوها على مَوْرِدِ النَّصِّ بالجواز، وظاهر الحديث يقتضيه؛ فإنه أثبت السبق في النصْل كما أثْبته في الخُفِّ والحافِر، هذا يقتضي أن يكون السبق به كالسبق بهما، فأما أن يقال: يقتضي الإصابة دون السبق في الغاية فكلَّا، وهو في اقتضائهما معًا أظهر من الاقتصار على الإصابة فقط. والله أعلم. فصلٌ في (¬4) مأخذ هذه الأقوال وهي نوعان: لفظيٌّ ومعنويٌّ. فاللفظيُّ: الاقْتِصَارُ على ما أثبته النصُّ بعد النفي العامِّ، وهي ¬
الثلاثة المذكورة في الحديث فقط، فلا يجوز في غيرها [ح 106]، وهؤلاء جعلوا أكل المال بهذه الثلاث مستثنى من جميع أنواع المغالَبات. وقالوا (¬1): ليس غيرها في معناها حتى يُلْحَق بها؛ فإن سائر هذه الأنواع المذكورة لا يتضمَّن ما تتضمَّنه هذه الثلاثة من الفروسيَّة، وتعلُّم أسباب الجهاد، واعتيادها، وتمرين البدن (¬2) عليها، فأين هذه من السباحة، والمشابكة، والسعي، والصراع، والعلاج، واللعب بالحَمَام؟ فلا نصَّ ولا قياسَ. قالوا: ويوضِّح هذا أن الخيل والإبل هي التي [ظ 50] عُهِدَت المسابقة عليها بين الصحابة في عهد رسول لله - صلى الله عليه وسلم -، وهي التي سابق عليها رسول لله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) ولم يسابِق على بَغْلٍ ولا حمارٍ قط، لا هو ولا أحَدٌ من أصحابه، مع وجود الحمير والبغال عندهم. والخيل هي التي تصلح لِلكرِّ، والفرِّ، ولقاء العدو، وفتح البلاد. وأما أصحاب الحمير: فأهل الذَّلَّة والقِلَّة، ولا منفعة بهم في الجهاد (¬4) ألبتَّة. فقياسها على الخيل من أفسد القياس، وفَهْمُ (¬5) حوافرها من حوافر الخيل مِنْ أبْعَدِ الفَهْم. ¬
- فصل: في الرمي بالنشاب
والخيل هي التي يُسْهَم لها في الجهاد دون البغال والحمير، وهي التي أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الخير معقود بنواصيها إلى يوم القيامة (¬1)، وهي التي ورد الحثُّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على اقتنائها والقيام عليها، وأخبر بأن أبوالها وأرواثها في ميزان صاحبها، وهي التي جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تأديبها وتعليمها وتمرينها على الكرِّ والفرِّ من الحق؛ بخلاف غيرها من الحيوانات، وهي التي أمر الله سبحانه المؤمنين برباطها إعدادًا لعدوه، فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60]، وهي التي ضَمِن العِزَّ لأربابها، والقهر لمن عاداهم، فظهورها عزٌّ لهم (¬2)، وحصون ومعاقل، وهي التي كانت أحب الدوابِّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي أكرم الدواب، وأشرفها نفوسًا، وأشبهها طبيعة بالنوع الإنساني. فصلٌ [ح 107] وأما الرمي بالنُّشَّاب: فقد تقدَّم (¬3) ذكر منفعته، وتأثيره، ونكايته في العدو وخوف الجيش (¬4) الذي لا رامي فيهم من رامٍ واحد؛ فقياس المقاليع والثقاف والرمي بالمسالي (¬5) ونحو ذلك = عليه من أبطل القياس؛ صورةً ومعنى، والرمي بالمزاريق والحِراب، وإن كان فيه ¬
- تفصيل المغالبات التي تستعمل في الفروسية في المذهب الشافعي والحنفي، وأقسامها
نكاية في العدو فليس مثل نكاية الرمي بالنشاب، ولا قريبًا منه. وبالجملة، فغير هذه الثلاثة المشهورة (¬1) المذكورة في الحديث لا تشبهها، لا (¬2) صورةً ولا معنىً، ولا يحصل (¬3) مقصودها، فيمتنع إلحاقها بها. هذا تقرير مذهب المقتصرين على الثلاثة، كمالك وأحمد وكثير من السلف والخلف. قالت الشافعية: المغالبات التي تستعمل في الفروسية والشجاعة ثلاثة أقسام: أحدها: ما يوجد فيه لفظ الحديث ومعناه، فيجوز أخذ السَّبق عليه، كالخيل والإبل والفيل - على الأصح - والبغل والحمار - في أحد الوجهين -. الثاني: ما يوجد فيه المعنى دون اللفظ، كالرمي بالمقاليع والحجارة والسَّفَن (¬4) والعَدْو على الأقدام؛ ففيه وجهان، والمنع أظهر، لخروجه عن اللفظ. الثالث: ما لا يوجد فيه المعنى ولا اللفظ، كالحمام والصراع ¬
- هل السبق المشروع من جنس الجعالة؟ والاختلاف في ذلك
والشباك؛ فهو أولى بالمنع. قالت الحنفية: النص على هذه الثلاثة لا ينفي الجواز فيما عداها، وقوله: "لا سبق إلا في خُفٍّ، أو حافرٍ، أو نصْلٍ"؛ يريد به: لا سبق كاملًا ونافعًا ونحوه، وبذل السَّبق هو من باب الجِعَالات، فيجوز في كل عملٍ مباحٍ يجوزُ بذْلُ الجُعل فيه، فالعَقْد من باب الجِعَالات، فهي لا تختصُّ بالثلاثة. وقد ذكر الجُوْزَجَاني في كتابه "المترجم" حدثنا النُّفَيْلِي ثنا (¬1) يحيى بن يَمَان عن ابن جُرَيْج قال: قال عَطَاء: "السَّبَقُ في كلِّ شيء". ذكر هذا في بابٍ تَرْجَمَهُ ما تجوز فيه المسابقة. فمذهب أبي حنيفة في هذا الباب أوسع المذاهب، ويليه مذهب الشافعي، ومذهب مالك فيه أضيق المذاهب (¬2)، ويليه مذهب أحمد. ومذهب [ح 108] أبي حنيفة هو القياس لو كان السَّبَق المشروع من جنس الجعَالة، ومنازعوه أكثرهم يُسَلِّم له أنه من باب الجعَالات (¬3)، فألزمهم الحنفية القول بجواز السَّبَق في الصور التي منعوها، فلم يفرِّقوا بِفَرْقٍ طائل، وألزموا الحنفية أنها لو كانت من باب الجِعَالات؛ لما اشتُرِط فيها محلِّل؛ إذا كان الجُعل من المتسابقين، كما لا يُشترط في ¬
سائر الجِعَالات؛ إذا جعل كلٌّ منهما جُعلًا لمن يعمل له نظير ما يعمله هو للآخر. وهذا مُشْتَرك الإلزام بين الطائفتين؛ فإنهم سلَّموا له أنها من باب الجعَالات، ثم اقتصروا بها على بعض الأعمال المباحة، واشترطوا فيهَا المحلِّل إذا كان الجُعل منهما، وهذا مخالفٌ لقاعدة باب الجِعَالة. وقالت طائفة ثالثة: ليس هذا من الجِعَالة في شيء؛ فإنه من المعلوم أن المتسابِقَيْن إذا أخرج أحدهما سَبَقًا للآخر إذا غلبه ليس مقصوده أن يغلبه الآخر، ويأخذ ماله؛ فإنَّ هذا لا يقصده عاقلٌ، فكيف يقصد العاقل أن يكون مغلوبًا خاسرًا؟! بل (¬1) مقصوده: أن يكون غالِبًا كاسِبًا؛ كما يقصد المجاهد. والجعالة: قصدُ الباذل فيها حصول العمل من الآخر، ومعاوضتُه عليه بمَاله. وهذا عكس باب المسابقة؛ فإن المسابقة هي على صورة الجهاد، وشُرِعت تمرينًا وتدريبًا وتوطينًا للنفس عليه، والمجاهد [ظ 51] لا يقصِدُ أن يَغْلِب ويَسْلُب - وإن كان قد يقع ذلك من آحاد المجاهدين - إذا قَصَدَ الانغماس في العدو، وأن يستشهد في سبيل الله تعالى، وهذا يُحْمَد إذا تضمَّن مصلحةً للجيش والإسلام، كحال الغلام الذي أمر الملك بقتله؛ ليتوصل بذلك إلى إسلام الناس (¬2). ¬
وقد يتفق (¬1) في المتسابقين ذلك، إذا كان قصد الباذل تمرين من يسابقه، وإعانته على الفروسية، وتفريح نفسه بالغَلَب والكَسْب، لا سيما إذا كان [ح 109] ذلك (¬2) مع من يحبُّ تعليمه، كولده وخادمه ونحوهما، وهذا الباذل قد يقصد في سبقه وعلمه؛ ليظهر الآخر عليه، ويفرح نفسه بذلك، ويكون قصده أن يغلبه ويعطي ما بذل له. وهذا قد يقع، ولكنه ليس بالغالب، بل الغالب خلافه، وهو مسابقة النُّظَراء بعضُهم لبعض، والأول مسابقة المُعَلِّم للمُتَعلِّم. والمقصود أن هذا ليس (¬3) هو الجِعَالة المعروفة، مع أن الناس متنازعون في الجِعَالة؛ فإنه أبطلها (¬4) طائفة من أهل العلم، وأدخلوها في قِسْمِ الغَررِ والقمار. وقالوا: العمل فيها غير معلوم؛ فإنه إذا (¬5) قال: مَن ردَّ عبدي، فله كذا، ومَن شفى مريضي، فله كذا؛ لم يُعْرَف مقدار العمل ولا زمنه. وهذا قول بعض الظاهريَّة (¬6). ولكنَّ الأكثرون على خلاف قولهم، وهو الصواب قطعًا. ¬
فصل في تحرير المذاهب في كيفية بذل السبق، وما يحل منه وما يحرم
ولكن هي عقد جائز، إذ العمل فيها غير معلومٍ، بخلاف الإِجارة اللازمة، ولهذا يجوز أن يُجْعَل للطَّبيب جُعْلًا على الشفاء؛ كما جعل أهل (¬1) الحي لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - جُعْلًا على الشِّفاء بالرُّقْية لِسَيِّدِ الحيّ الذين استضافوهم فأبَوا (¬2)، ولا يجوز أن يُسْتَأجَرَ الطبيب على الشفاء؛ لأنه غير مقدور له، والعمل غير مضبوط له (¬3). فصلٌ في تحرير المذاهب في كيفية بذل السبق وما يحلُّ منه وما يحرم وللمسألة ثلاث صور: أحدها: أن يكون الباذل غيرهما: إما الإِمام، أو أحد الرَّعِيَّة. الثانية: أن يكون الباذل أحدهما وحده. الثالثة: أن يكون البذل منهما معًا. * فمنعت طائفة بذل السبق من المتسابقين أو من أحدهما، وقالت: لا يكون إلا من الإِمام أو رجل غيره. وهذا قول القاسم بن محمد (¬4). ¬
وحُجة هذا القول: أنه متى كان الباذل أحدهما؛ فإنه لا تطيب نفسه بأن [ح 110] يُغْلَب ويؤخذ ماله، فإذا غُلِب أكل السابق ماله بغير طيب نفسه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحلُّ مال امرئٍ مسلمٍ؛ إلا عن طيبِ نفسٍ منه" (¬1). وهذا بخلاف ما إذا كان الباذل الإِمام أو أجنبيًّا عنهما؛ فإنه تطيب نفسه ببذل المال لمن يسبق، فلا يكون مالُه مأكولًا بغير طيب نفس. ولا يلزم من هذا القول المنع إذا كان البذل من كل واحد منهما، وأنه يكون أولى بالمنع؛ فإنه لم يختصَّ أحدهما ببذل ماله لمن يغلبه، بل كلٌّ منهما باذلٌ مبذولٌ له، فهما سواء في البَذْلِ والعَمَل، ويُسْعِد الله بسَبَقه من شاء من خَلْقِه، وكلٌّ منهما خاصٌّ لنفسه، راجٍ لإحراز ماله والفوز بمال صاحبه، فلم يتميَّز أحدهما عن (¬2) الآخر. وأما إذا كان الباذل أحدهما؛ فإن سَبَق رجع إليه ماله، ولم يأخذ من الآخر شيئًا، وإن كان مسبوقًا غَرِم ماله، والآخر إن سَبَق غَنِم، وإن سُبِق لم يَغْرَم، والعقود مبناها على العدل من الجانبين، وبهذا يتبيَّن أن العَقد المشتمل على الإِخراج منهما معًا أحلُّ من العقد الذي انفرد أحدهما فيه بالإِخراج. وأُجيب صاحب هذا القول؛ بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق جواز السبق في هذه الأشياء الثلاثة، ولم يخصَّه بباذلٍ خارجٍ عنهما، فهو يتناول حِلَّ ¬
2 - القول الثاني: ومن ذهب إليه، وحجته
السَّبَق من كلِّ باذل. قالوا: وأما قولكم: "إنه لا تطيب نفسه بأكل ماله"؛ فإنه لمّا التزم بذله عن كونه مغلوبًا؛ حلَّ للغالب أكله بحكم التزامه الاختياريِّ الذي لم يجبره أحدٌ عليه، فهو كما لو نَذَرَ إنْ سَلَّم الله تعالى غائبه أن يتصدَّق على فلان بكذا وكذا، فَوُجِدَ الشّرطُ؛ فإنه يلزمه إخراجُ ما الْتَزَمَه، ويَحِلُّ للآخر أكله، وإن كان عن غير طيب نفسه. قالوا: والذي حرَّمه الشارع من أكل مال المسلم بغير طيب نفس (¬1) منه، هو أن يكون مُكْرَهًا (¬2) على إخراج [ح 111] ماله، فأما إذا كان بذله والتزامه باختياره؛ لم يدخل في الحديث. [ظ 52]. فصلٌ * وقالت طائفة أخرى: يجوز أن يَبْذُل السَّبَق أحدُهما، فيقول: إن سبقتني فلك كذا. ويكره أن يقول: إن سبقتك فعليك كذا. فيجوز أن يكون باذلًا، ويُكرَه أن يكون طالبًا متقاضيًا. وهذا مذهب: إبراهيم النخعي، وعكرمة مولى ابن عباس، وجماعة من أصحاب عبد الله بن مسعود. قال إبراهيم بن يعقوب السَّعْدِي في كتابه "المترجم": حدثنا أبو صالح: أخبرنا أبو إسحاق عن الأعمش عن إبراهيم؛ قال: "كان عَلْقَمةُ له بِرْذَوْنٌ يراهِنُ عليه"، فقلتُ لإبراهيم: كيف كانوا يصنعون؟ ¬
3 - القول الثالث: ومن ذهب إليه، وحجته، والإشارة إلى الرد عليها
قال: "كان الرجل يقول: لو سبقتني فلك كذا وكذا، ولا يقول: إنْ سَبَقْتُكَ فلي كذا وكذا، وإنْ سبقْتَني فلك كذا وكذا" (¬1). وقال ابن أبي الدنيا في كتاب "السَّبَق" له: أخبرنا حمزة بن عَبَّاس، أخبرنا علي بن سفيان، أنا عبد الله بن المبارك ثنا سفيان (¬2) عن الأعمش عن إبراهيم قال: "لم يكونوا يرون بأسًا أن يقول: إن سبقتني فلك كذا وكذا، ويكرهون أن يقول: إن سبقتك فعليك كذا وكذا" (¬3). فصلٌ * وقالت طائفة أخرى: بَذْل السَّبق من مكارم الأخلاق، فلا يقضي عليه به القاضي إذا غلب، ولا يجبره عليه؛ كما يقضي عليه بما يلزمه من الحقوق والأموال، وإنما هو بمنزلة العِدَة: إن شاء (¬4) وفَّى بها، وإلَّا لم يُجْبَر على الوفاء. ¬
قال سفيان الثوري: "إذا قال: إن سبقتك فلي كذا وكذا، فإن القاضي لا يجبره على أن يعطيه". وقال عبد الله بن المبارك: أخبرنا يونس عن الزهري عن سباق الرمي ما يحل منه؟ قال: "ما كان عن طيب نفس لا يتقاضاه صاحبه". وهذا المذهب فيه أمران: أحدهما: أن أربابه كرهوا أن يكون الرجل باذلًا متقاضيًا، كأصحاب المذهب الذي قبله. والثاني: أنهم جعلوا الجُعْل فيه من باب مكارم الأخلاق، لا من باب الحقوق التي يجب (¬1) إيفاؤها، كالوعد عند من لم يوجب الوفاء به. وأصحاب المذهب الذي قبله كرهوا أن يكون [ح 112] الرجل باذلًا متقاضيًا؛ لأنه إذا كان باذلًا، كان كمن بذل ماله لما فيه منفعة للمسلمين، وهو ملحق بالجِعَالة التي يعمُّ نفعها، وإذا كان متقاضيًا طالبًا، كرهوه؛ لأنه طلب أكل مال غيره على وجه يعود نفعه إلى باذل المال. وهذا - بخلاف الآخر - إذا بذل له المخْرِج من غير طلب منه (¬2)، جاز له أخذه، إذ لا يلزم من كراهة أكله (¬3) على وجه الطَّلَبِ ما يلزم ¬
من (¬1) كراهة بذله، ولا كراهة أكله إذا جاء من غير طلب. ومن أرباب هذا المذهب مَن صرَّح بأنه إنما يجوز أكل السَّبق إذا لم يُؤخذ به رهنٌ، ولا يُلْزَم به باذله، وإنما يكون تبرُّعًا محضًا. قال ابن وهب: أخبرني يحيى بن أيُّوب عن يحيى بن سعيد: أنه قال: "إذا سبق الرجل في الرمي فلا بأس، ما لم يكن جزاء واحدة بواحدة، أو يؤخذ به رهن، أو يُلزم به صاحبه". قال ابن أبي الدُّنيا في كتابه (¬2): حدثني يعقوب بن عُبَيْد ثنا محمد بن سَلَمة أبنا ابن وهب فذكره. فهذا القول يقتضي أنه لم يُجْعَل العوضُ فيه لازمًا قطُّ، وقد اشتُرِط فيه أن لا يكون جزاء واحدة بواحدة، هذا يشبه أن يكون المراد به التَّسبيق من الجانبين، وهذا من أضيق المذاهب. وهو مذهب أبي جعفر محمد بن جَرِيْر؛ فإنه قال في كتابه "تهذيب الآثار" (¬3): "وإذا امتنع المسبوق من أداء السَّبَق إلى السابق أو الفاضل؛ فإنه لا يُجْبر على أداء ذلك إليه؛ لأنه لم يستحقُّه عِوَضًا على معتاضٍ عنه، ولا ألزمه الله به، وإنما هو عِدَة فحسب، ومن جميل الأخلاق الوفاء به؛ فإن شحَّ بالوفاء به، لم يُقْضَ عليه؛ لأنه (¬4) لا خلاف بين ¬
الجميع أن رجلًا لو وعد رجلًا هبةَ شيء من ماله معلوم، ثم لم يفِ له بشيء أنه لا يُقْضى (¬1) عليه به". ثم أورد على نفسه سؤالًا، فقال: "فإن قيل: كيف خَصَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بإجازة السَّبَق فيما أجاز ذلك فيه إن كان ما يخرُج منه على غير وجوب وحقٍّ يلزم في مال المخرِج، والهباتُ جائزةٌ على السبق وغيره؟! ". وأجاب [ح 113] عنه بأن قال: "خُصوص جواز السبق فيما خصَّ ذلك منه لم يكن لإلزامه للسَّبق، وإنما ذلك لكونه على وجه اللهو دون سائر الملاهي غيره (¬2)، لا على أن ما وعد به المُسَبِّق الوفاء به فمأخوذ به على كل حال". وحجَّة هذا القول أن بذل المال في المسابقة تبرُّع، كالوعد، ولا يلزم الوفاء به، بل يستحبُّ؛ فإن الباذل لم يبذل معاوضة؛ فإنه لم يرجِعْ إليه عِوَضُ ما بذله له من المال، وإنما هو عَطِيَّةٌ وتبرُّع لمن يسبق، فهو كما لو وَعَدَ من يسبق إلى حفظ سورة أو باب من الفقه بشيء من المال. قالوا: والتبرُّعات يُندَب إلى الوفاء بها، ولا يُقضى عليه به. وإذا أُورِدَ على هؤلاء تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم -[ق 53] الثلاثة المذكورة ¬
4 - القول الرابع: ومن قال به، وحجته، والإشارة إلى الرد عليها
بالسَّبق دون غيرها، كان جوابهم أن التخصيص بالثلاثة المذكورة لكونها من الحق، فالسَّبق فيها إعانة على الحق، كإعانة الحاج والصائم والغازي على حجِّه وصومه وغزوه، فبذل المال فيها بذلٌ على حقٌّ وطاعةٌ، بخلاف غيرها. وعلى قول هؤلاء، فلا حاجة إلى محلِّل أصلًا؛ لأن باذل المال يبذله لمن كان أقوى على طاعة الله تعالى، فأيهما غلب أخذه، كما يُذْكرُ عن الشافعي أنه كان يسأل بعض أهله عن المسألة (¬1)؟ ويقول: من أجاب فيها؛ أعطيته درهمًا. وهذا كقول الإمام: من قتل قتيلًا، فله سَلَبُه، ومن جاء برأسٍ من رؤوس المشركين؛ فله كذا وكذا مما يُجعَل فيه الجُعل؛ كمن فَضَل غيره في عمل برٍّ؛ ليكون ذلك مرغِّبًا للنفوس فيما يُستعان به على طاعة الله تعالى ومرضاته، ولهذا استثناه النبي - صلى الله عليه وسلم - من اللهو الباطل. فهذا تحرير هذا المذهب وتقريره (¬2). فصلٌ * وقالت طائفة أخرى: يجوز بذل الجُعل من الإِمام أو أجنبي، وأما إن كان الباذل أحدهما، جاز بشرط أن لا يعود السَّبق إلى المُخْرِج، بل إن كان معهما غيرهما، كان لمن يليه، وإن كانا اثنين فقط، كان لمن حضر [ح 114]. ¬
وسرُّ هذا القول أن مُخْرِج السَّبق لا يعود إليه سَبَقُه بحال. وهذا إحدى الروايتين عن مالك (¬1)، قال أبو بكر الطُّرْطُوشِي: "وهو قوله المشهور". وقال أبو عمر بن عبد البر (¬2): "اتفق ربيعة ومالك والأوزاعي على أن الأشياء المُستَبَقَ بها لا ترجع إلى المُسَبِّق بها على كل (¬3) حال". يريد أن السَّبَق لا يرجع عند هؤلاء إلى مُخْرِجِه بحال. قال: "وخالفهم الشافعي وأبو حنيفة والثوري وغيرهم". وعلى هذا القول؛ فإذا سبق المخرج؛ كان سبقه طُعْمَة لمن حضر؛ سواء شرط ذلك أم لا. وعن مالك رواية ثانية رواها ابن وهب عنه: أنه إذا اشترط (¬4) السَبَق لمن سبق جاز؛ سواء كان مخرِجًا أو لم يكن. وعلى هذه الرواية لا يكون طُعْمَة لمن حضر، وإنما يكون للسابق. فإن شرط على (¬5) هذه الرواية أن يكون السبق طعمة للحاضرين؛ ¬
فقال الطُّرْطُوْشِي: "لم يجز في قول معظم العلماء". قال: "وهكذا يجيء على قول مالِكٍ، فإن أخرجا معًا ولم يكن معهما غيرهما؛ لم يجز قولًا واحدًا في مذهبه. وإن كان معهما محلِّل؛ فعنه في ذلك روايتان: إحداهما: المنع؛ كما لو لم يكن محلِّل، وهي المشهورة عنه. قال ابن عبد البر: قال مالك: "لا نأخذ بقول سعيد بن المسيب في المحلِّل، ولا يجب المحلل في الخيل". قال ابن شَاس (¬1): "وهذه المشهورة عنه". والرواية الثانية: أنه يجوز بالمحلل؛ كقول سعيد بن المسيب. قال أبو عمر: "وهو الأجود من قوليه، وقول ابن المسيب، وجمهور أهل العلم، واختاره ابن الموَّاز وغيره" (¬2). فصلٌ وحجة هذا القول: أنه لا يعود إلى المخرِج سَبَقُه بحال، [و] أنه متى عاد إليه إذا كان غالبًا، لم يكن جِعَالة؛ لأن الإنسان لا يبذل الجعل من ماله لنفسه على (¬3) عمل يعمله، فإذا كان سابقًا فلو أحرز سبق نفسه؛ لكان قد بذل من مال نفسه جُعلًا على عملٍ يَعْمَلُه هو، وهذا غير ¬
جائزٍ، فإنه لا يحصل له بذلك [ح 115] فائدة. قالوا: وأيضًا، ففيه شَبَهُ القمار؛ لأنه إما أن يَغْرَم، وإما أن يَسْلَم، وهذا شأن القمار، بخلاف الجاعِل إذا كان أجنبيًّا؛ فإنه غارِمٌ لا محالة. قالوا: فالجاعل هنا يلزمه بذل المال الذي جعله للسابق؛ لأنه بذله (¬1) على عملٍ، وقد وُجِد، كما يلزم ذلك في نظائره. قالوا: وهذا على أصول أهل المدينة ألزم، فإنه يلزمه الوفاء بالوعد إذا تضمَّن تقريرًا، كمن قال لغيره: تزوَّج وأنا أنقد عنك المهر، واسْتَدِنْ وكُلْ وأنا أوفي عنك ونحو هذا، وهو بلا خلاف عندهم، وبخلاف (¬2) عندنا. وأما إذا لم يتضمَّن تقريرًا، ففيه خلاف بين الأصحاب، وأصحاب هذا القول يقولون: متى كان الجاعل يَغْرَمُ مطلقًا فهو جاعلٌ، ومتى كان دائرًا بين أمرين، كان مقامرًا، سواء دار بين أن يَغْنَم ويَغْرَم، أو بين أن يَغْرَم ويَسْلَم، أو بين أن يَغْنَم ويَسْلَم؛ لأن المقامرة هي المخاطرة عندهم. وقد تقدَّم ما (¬3) في هذه الحجة عند ذكر الوجوه الدالَّة على إبطال المحلِّل (¬4). ¬
5 - القول الخامس: ومن قال به، والإشارة إلى تقدم حجته، والرد عليها
فصلٌ وقالت طائفة أخرى: يجوز أن يكون السَّبَق من أحدهما، ومن كليهما، ومن ثالث، ويُقضى به إذا امتنع المسبوق من بذله، لكن إن كان منهما، لم يجز إلا بمحلِّل لا يُخْرِج شيئًا. وهذا مذهب أحمد وأبي حنيفة والشافعي وإسحاق والأوزاعي وسعيد بن المسيب والزهري [ظ 54] وابن الموَّاز من المالكية (¬1). ودخوله ليحلِّل السبق لهما. وعلى هذا، إذا اشترك هو وأحدهما في سبق الآخر كان بينهما، وإن انفرد بسبقهما أحرز السبقين، وإن سبقاه، لم يأخذا منه شيئًا، وإن جاءُوا معًا، أحرز كل واحد سبقه، ولا شيء للمحلِّل. وقد تقدمت حجة هؤلاء والكلام عليها (¬2). فصلٌ وقالت طائفة أخرى مثل هذا، إلا أنهم قالوا: إنما دخل المحلِّل ليحلَّ السَّبق لنفسه لا لَهُمَا. وهذا قول مالِكٍ - على قوله بالمحلِّل - في إحدى الروايتين، ¬
واختيار أبي علي بن خَيْرَان من الشافعية، وحكاه أبو المَعَالي الجُوَيْنِي قولًا للشافعي. وعلى قول هؤلاء [ح 116] إذا سبق أحدهما ثم جاء الآخر بعده ثم المحلل أحرز السابق سبق (¬1) نفسه خاصة دون سبق الآخر؛ فإنه لا يحرزه؛ فإن (¬2) المحلِّل لم يدخل لأجله هو، وإنما دخل ليحلَّ السبق لنفسه، ولا يحرزه المحلِّل (¬3) أيضًا؛ لأنه لم يسبق، فيبقى على ملك صاحبه. وهذا فاسد، فإن (¬4) صاحبه مَسْبُوق، فكيف يَسْلَم وهو مسبوق؟! وأي فائدة حصلت للسابق؟! وكيف يُؤخذ ماله إن غُلِب، ولا يأخُذُ مالَ صاحبه إن غَلَبَه؟! فإن سبق المحلَّل وأحد المخرِجين للثالث، أحرز السابق سَبَق نفسه، وكان سَبَق الآخر للمحلِّل وحده عند هؤلاء؛ لأنه إنما دخل ليحلَّ السبق لنفسه إذا جاء سابقًا، وقد سبق الثالث. وهذا فاسد أيضًا، فإن الأول قد سبق هذا الآخر أيضًا، واشترك هو والمحلِّل في سبقه، فكيف ينفردُ المحلِّل بسبقه مع اشتراكه هو والأول في سبقه؟! ومعلومٌ أن هذا ليس من (¬5) موجب العقد والشرط، ولا ¬
7 - القول السابع: ومن ذهب إليه، والرد عليه
موجب الشرع، ومقتضيات العقود تتلقى تارة من الشارع، وتارة من المتعاقدين، وهذا لم يُتلقَّ، لا من الشارع، ولا من العاقد. وإن سبق المحلِّل، ثم جاء أحد المخرِجين بعده، ثم الثالث بعدهما؛ أحرز المحلِّل السَّبَقين على القولين، وهذا هو الصحيح. * وقالت طائفة أخرى (¬1) من الشافعية: سَبَقُ الثالث بين المحلِّل والثاني نصفين، وسبق الثاني يختصُّ به المحلِّل الثاني (¬2)؛ لأن المحلل والثاني قد اشتركا في سبْق الثالث، فيشتركان في سَبَقه، وقد انفرد المحلَّل بسبق الثاني، فيختصُّ بسبقه (¬3). وهذا وهمٌ أيضًا (¬4)؛ لأن المحلل قد سبقهما، والثاني مسبوق، فكيف يشارك (¬5) السابق؟! وقولهم: "قد اشتركا هو والمحلِّل في سبْق الثالث". غَيْرُ مُسَلَّم؛ فإن السَّبْق الذي حصل للأوَّل لم يشركه فيه غيره، بل انفرد به، وسَبْق الثاني مُلْغَى بسَبْق الأول، فسَبْق الثاني مقيَّد، وسَبْق الأول مطلقٌ، فهو السابق حَقِيْقَة. ¬
8 - القول الثامن: ومن ذهب إليه، والرد عليه
* وقالت طائفة منهم: بل يكون سَبَق الثالث للثاني (¬1) وحده. وهذا أفسد من الأول، وكأن قائل هذا القول رأى أن الثاني لما كان سابقًا؛ اعتَبر [ح 117] الوصفين في حقه، فأخرج منه السَّبَق إلى الأول؛ لكونه مسبوقًا، وأعطاه سَبَق الثالث لكونه سابقًا. لكن هذا غلط، فإن الأول قد سبقهما سَبْقًا مطلقًا، وهو لو سبق (¬2) الثالث فقط لا يستحقُّ سَبَقَه، فكيف إذا سبق سابقٌ الثالث مع سَبْقه لهم؟! وقولهم: "إنه سابق مسبوق، فيراعى في حَقِّه الوصْفان". جوابه أن يقال: بل هو مسبوق؛ وكونه سابقًا ملغى بسَبْق الأول؛ لأنه إنما ينفعه كونه سابقًا إذا لم يسبقه غيره. فصلٌ وإن سبق أحدهما، وجاء المحلَّل والآخر معًا، لم يكن للمحلِّل شيء، ويحرزُ السابق سَبْقَ نفسه وسَبْق الآخر على قول الطائفة الأولى. وعلى قول هؤلاء يكون سبق الآخر له (¬3) لا يأخذه المحلِّل؛ لأنه لم يسبقه، ولا الأول؛ لأن دخول المحلِّل إنما كان لِيُحَلَّ السبق لنفسه (¬4). ¬
فصل: إذا أخرجا معالم يجز إلا بمحلل
وعلى هذا، فإذا سبق أحدهما، وجاء المحلِّل بعده، وتأخر الثالث، فعلى قول الأولين يُحرز الأوَّل السَّبَقين لسَبْقه، وعلى قول هؤلاء يكون سبَق الثالث للمحلِّل؛ لأنه دخل لِيُحِلَّ السَّبَق لنفسه، وقد سبق الثالث. فصلٌ * وقالت طائفة أخرى: إذا أخرَجا معًا؛ لم يجز إلا بمحلِّل؛ إلا أن المحلِّل إن سبقهما، لم يأخذ منهما، وإن سبقاه، أعطاهما. وهذا قولٌ في مذهب أبي حنيفة، حكاه ابن بلدجي في "شرح مختار الفتوى"، فقال في مسألة المحلِّل (¬1): "وقيل في المحلِّل: إن سبقاه أعطاهما، وإن سبقهما لم يأخذ منهما". قال: "وهو جائز أيضًا". هذا لفظ الشارح، وذكره ابن الساعاتي في شرح "مجمع البحرين" له (¬2). وهذه الطريقة بعيدة جدًّا، ومخالفة للأصول من وجوه [ظ 55]: أحدها: أنه يَغْرَم إن كان مسبوقًا، ولا يَغْنَم إن كان سابقًا. الثاني: أنه يغرم، ما لم تلزم غرامته، ولو أخرج، لم يكن محلِّلًا واحتاج العقد إلى محلِّل آخر. ¬
الثالث: أن مبنى هذا العقد إذا أخرجا معًا على العدل، والعدل: أَنَّ كل (¬1) واحد من المتسابقين لا يتميز عن الآخر، بل إن سَبَق أخذ، وإن سُبِق غَرِم، فإذا كان المحلِّل لا يغنم إن سبق، ويغرم إن سُبِق؛ [ح 118] لم يكن هذا عدلًا. وكأن قائل هذا القول (¬2) يلحظ أن المقصود دخول محلِّل يُحِلُّ السبق لغيره لا لنفسه، كما قال الجمهور، ولا يأخذ شيئًا منهما؛ لأنه لو أخذ إن سَبَق، لم يكن محلِّلًا، بل يكون كأحدهما، فكما يجوز أن يأخذ إذا سَبَق، يجوز أن يغرم إذا سُبِق، وحينئذ فيقال: فيجوز أن يُخرِج معهما، ويَخْرُج عن كونه محلِّلًا، وإلا فكيف يَغْرَم إن سُبِق، ولا يَغْنَم إن سَبَق؟! ولقائله أن يقول: كما أنكم قلتم: إن سَبَق أخذ، سُبِقَ لم يغرم، ولم يكن هذا ظُلمًا، وجعلتم هذا خاصة للمحلِّل؛ ليتميَّز عن المخرِجين، فهو إما أن يغنم، وإما أن يسلم مع كونه مغلوبًا، وهو بخلاف أحد المخرِجين، فإنه وإن كان مغلوبًا غَرِم، فبم تنكرون على من يقول به (¬3)؟! بل خاصيته أن يغرم إن جاء مسبوقًا، ولا يغنم إن جاء سابقًا؛ لأنه لو غنم، لخرج عن أن يكون محَلِّلًا، فإذا كانت خاصية المحلِّل أن لا يكون دائرًا بين الغُنْم والغُرْم أصلًا، فأيُّ فَرْقٍ بين أن ¬
- إشارة المنكرون للمحلل إلى التأمل في هذا الاختلاف، ومناقضته ومصادمته بعضها البعض الذي يدل على فساد الأصل (المحلل)
يكون دائرًا بين أن يغنم ويسْلَم، أو يغرم ويسْلَم؟! فكما صنتموه عن الغرامة إذا كان مسبوقًا، ليتميَّز عنهما؛ منعناه نحن من المغنم إذا كان سابقًا، لهذا المعنى بعينه. فهذا القول عكس قولكم في المعنى، ومثله في المأخذ، وكل ما تلزمونا به إذا كان سابقًا ولم يغنم، نلزمكم به إذا كان مسبوقًا ولم يغرم. قالوا: والحديث ليس فيه ما يقتضي هذا القول، ولا قولكم، ولا ما (¬1) يبطِلُ واحدًا من القولين، فلا يمكن أن تبطلوا قولنا به، ولكن يبقى (¬2) الترجيح في أي القولين أقرب إلى خروج العقد به من القمار - إن كان بالمحلِّل يخرج عن القمار -؟ وأما حكم المحلِّل، فلا تعلُّق له بالحديث، غير أنه يكون مكافئًا لهما (¬3) في الرمي والركوب، ولا يأمن إن سَبَقَاه فَحَسْب. فصلٌ قال المنكرون للمحلِّل الدخيل: تأمَّل هذه الأقوال، والطرق، واختلافها في المحلِّل، ومصادمة بعضها لبعض، ومناقضة [ح 119] بعضها لبعض، وفساد الفروع واللوازم يدلُّ على فساد الأصل والملزوم، وكل ما كان من عند غير الله فلا بد أن يقع فيه اختلاف كثير، ¬
- افتراق منكرو التحلل إلى فرقتين
وليس واحد من هذه الأقوال بأولى بالصحة من الآخر، ولا دلَّ الحديث على تقدير ثبوته على شيء منها (¬1)، وإنما هي آراء يصادم بعضها بعضًا، وينقض بعضها بعضًا، فكلٌّ بكلٍّ مُعَارض، وكلٌّ بكلٍّ مُنَاقض. قالوا: وقد قال عمرو بن دينار: "قال رجل عند جابر بن زيد: إن أصحاب محمد كانوا لا يرون بالدَّخيل بأسًا، فقال: إنهم كانوا أعفَّ من ذلك" (¬2). فانظر (¬3) إلى فقه الصحابة وجلالتهم، وقول جابر: "إنهم كانوا أعفَّ من أن يحتاجوا إلى دخيل". قال السَّعْدِي في كتاب "المترجم": حدثنا أبو صالح: أخبرنا أبو إسحاق عن ابن عيينة عن عمرو: فذكره. ونحن نقول كما قال جابر بن زيد: وإنهم كانوا أفقه من ذلك. فصلٌ (¬4) ثم افترق منكرو التحليل فرقتين: * إحداهما: مَنَعَتِ الإخراج من الاثنين مطلقًا (¬5)، وهو مشهور ¬
- إشارة المؤلف إلى الذي أنكر عليه: هذا القول، والإفتاء به
مذهب مالك ومن قال بقوله. * وفرقةٌ جوَّزته بغير محلِّل. قال شيخ الإسلام: "وهو مقتضى المنقول عن أبي عُبَيْدة بن الجَرَّاح - قال -: وما علمتُ في (¬1) الصحابة من اشترط المحلِّل، وإنما هو معروفٌ عن سعيد بن المسيب، وعنه تلقَّاه الناس، ولهذا قال مالك: "لا نأخذ بقول سعيد بن المسيب في المحلل، ولا يجب المحلِّل". والذي مَشَّى هذا القول هيبةُ قائِلِه، وهيبةُ إباحة القمار، وظنُّوا أن هذا مُخْرِجٌ للعقد عن كونه قمارًا، فاجتمع عَظَمَة سعيد عند الأمة، وعظمة القمار وقبحه، ولم يكن بدٌّ من إباحة السَّبَق كما أباحه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يمنع نصٌ من الإِخراج منهما، وقد قال عالم الإسلام في وقته: "إن العقد بدونه قمار". فهذا الذي مشَّى هذا القول. والله أعلم. فصلٌ فتأمل أيها المنصف هذه المذاهب، وهذه المآخذ؛ لتعلم ضعف بضاعة من قمَّش شيئًا من العلم من (¬2) غير طائل، وارْتَوى [ح 120] من غير مَوْرِد، وأنكر غير القول الذي قلَّده بلا علم، وأنكر على مَن ذهب (¬3) إليه، وأفْتى [ظ 56] به، وانتصر له، فكأنَّ مذهبه وقول من قلَّده ¬
عيارًا على الأمة، بل عيارًا على الكتاب والسنة، فهو المُحْكَم (¬1) ونصوصهما متشابهة، فما وافق قول من قلده منهما احتجَّ به، وقرَّره، وصال به، وما خالفه، تأوَّله أو فوَّضه، فالميزان الراجح هو قوله ومذهبُه، قد أهْدَرَ مذاهب العلماء من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، فلا ينظر فيها إلا نظر من ردَّها راغبًا عنها، غير متبع لها، حتى كأنها شريعة أخرى!! ونحن نبرأ إلى الله من هذا الخُلُق الذّميم، والمرتع الذي هو على أصحابه وخيم، ونوالي (¬2) علماء المسلمين، ونتخيَّر من أقوالهم ما وافق الكتاب والسنة ونزِنُها بهما، لا نزِنُهما بقول أحدٍ، كائنًا من كان، ولا نتَّخذ من دون الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا يصيب ويخطئ، فنتبعه (¬3) في كل ما قال، ونمنع - بل نحرِّم - متابعة غيره في كلِّ ما خالفه فيه. وبهذا أوصانا أئمة الإسلام، فهذا عهدُهم إلينا، فنحن في ذلك على منهاجهم وطريقهم وهديهم؛ دونَ من خالفنا، وبالله تعالى التوفيق. فصلٌ فإن قيل: هل العقد هو (¬4) من باب الإجارات، أو من باب ¬
فصل: في بيان أن عقد السباق هذا عقد مستقل بنفسه
الجعالات، أو من باب المشاركات، أو من باب النُّذور والالتزامات، أو من باب العِدَات والتبرُّعات، أو عَقْد مستقلٌّ بنفسه، قائم برأسه، خارج عن هذه العقود؟ فالجواب: إنه عقدٌ مستقلٌّ بنفسه، قائم برأسه (¬1)، غَيْرُ داخلٍ في شيءٍ من هذه العقود، لانتفاء أحكامها عنه. فأما بطلان كونه من عقود الإجارات، فمن وجوه: أحدها: أنه عقدٌ جائزٌ، لكل منهما فَسْخُه قبل الشروع في العمل؛ بخلاف الإجارة. الثاني: أن العمل في الإِجارة لا بد وأن يكون معلومًا مقدورًا للأجير، والسَّبْق ها هنا غير معلوم له (¬2)، ولا مقدور، ولا يدري أيَسْبِق أم يُسْبَق؟! وهذا في الإجارة [ح 121] غَرَرٌ مَحْضٌ. الثالث: أن العمل في الإِجارة يرجع إلى المستأجر، والمال يعود إلى الأجير، فهذا بذل ماله، وهذا بذل نفعَه في مقابلته، فانتفع كلٌّ منهما بما عند الآخر، بخلاف المسابقة، فإن العمل يرجع إلى السَّابق. الرابع: أن الأجير إذا لم يوفِّ العمل، لم يلزمه غرمٌ، والمراهن إذا لم يجئ سابقًا، غَرِم ماله إذا كان مخرِجًا. الخامس: أن عقد الإِجارة لا يفتقر إلى محلِّل، وهذا عندكم يفتقر ¬
إليه في بعض صُوَرِه. السادس: أن الأجير إما مختصٌّ وإما مشترك، وهذا ليس واحدًا منهما، فإنه ليس في ذمته عملٌ يلزمه الوفاء به، ولا يلزمه تسليم نفسه إلى العاقد معه. السابع: أن الأُجْرة تجب بنفس العقد، وتستحقُّ بالتسليم، والعِوَض هنا لا يجب بالعقد، ولا يستحق بالتَّسْليم. الثامن: أن الأجير له أن يستنيب في العمل من يقوم مقامه، ويستحق الأُجْرة، وليس ذلك للمُسَابِق. التاسع: أنه لو أجَّرَ نفسه على عمل بشرط أن يؤجره الآخر نفسه على نظيره؛ فَسَدَتِ الإِجارة، وعقد السباق لا يصحُّ إلا بذلك، فإن خلا عن هذا لم يكن عقد سباق، كما أنه (¬1) إذا قال: إن أصبت من العشرة تسعة، فلك كذا وكذا، فهذا ليس بعقد رهان، وإنما هو تبرُّع له على عملٍ ينتفع هو به، أو هو وغيره، أو جِعَالة في هذا (¬2) الحال يقضي عليه بما التزمه. العاشر: أن الأجير يحرِص على أن يوفِّي المستأجر غرضه، والمراهن أحرص شيء على ضدِّ غرض مراهنه، وهو أن يغلبه ويأكل ماله. ¬
- إبطال كونه من باب الجعالات: من أربعة أوجه
وبينهما فروقٌ كثيرة يطول استقصاؤها، فتأملها. فصلٌ والذي يدلُّ على بطلان كونه من باب الجِعَالات وجوهٌ: أحدها: أن العامل فيه (¬1) لا يجعل جُعلًا لمن يغلبه ويقهره، وإنما يبذُل ماله (¬2) فيما يعود نفعه إليه، ولو كان (¬3) بذلُه فيما لا ينتفع به؛ لم يصح العقد، وكان سَفَهًا. الثاني: أن الجِعَالة يجوز أن يكون العمل فيها مجهولًا، كقوله: من ردَّ عبدي الآبق فله كذا وكذا؛ بخلاف عقد السباق، فإن العمل فيه لا يكون [ح 122] إلا معلومًا. الثالث: أنه يجوز أن يكون العِوض في الجعَالة مجهولًا، كقول الإمام: من دلَّني على حصن أو قلعة؛ فله ثلث ما يغنم منه أو ربعه، بخلاف عقد السباق. الرابع: أن المراهن قصدُه تعجيز خصمه، وأن لا يوفي عمله، بخلاف الجاعل، فإن قصده حصول العمل المجعول له، وتوفيته إياه. وأكثر الوجوه المتقدِّمة في الفرق بينهما وبين الإجارة تجيء ها هنا. ¬
- إبطال كونه من باب عقود المشاركات
وأما بطلان كونها من عقود المشاركات فظاهر جدًّا، فإنها ليست نوعًا من أنواع الشركة، وسائر أحكامها منتفية عنها. [ظ 57] فصلٌ والذي يُبْطِل كونه من باب النُّذُور وجوه: أحدها: أن الناذرَ قد التزم إخراج ما عيَّنه إن حصل له مقصوده، والمسابِق إنما يلزمه إخراج ماله إذا حصل ضِدّ مقصوده. الثاني: أن الناذر ملتزمٌ إخراج ما نذره إلى غير الغالب، والمسابق إنما التزم إخراجه لمن غلبه. الثالث: أن الناذر لا يلزم أن يكون معه مثله يشاركه في نذره، والمراهن بخلافه. الرابع: أن النذر متى تعذّر الوفاء به انتقل إلى بَدَلِه إن كان له بدلٌ شَرْعي؛ وإلا فكفارة يمين، بخلاف المراهن. الخامس: أن النذْر يصح مطلقًا ومعلَّقًا، كقوله: لله عليَّ صوم يوم، وإن شفى الله مريضي فعليَّ صوم يوم، بخلاف المسابقة. السادس: أن المسابقة لا تصحُّ على الصوم والحج والاعتكاف والصلاة والقُرَب البدنيَّة، ولا تكون إلا على مال، بخلاف النذر. السابع: أن النذر منهيٌّ عنه، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن النذْر لا يأتي
- إبطال كونه من باب نذر اللجاج والغضب
بخير" (¬1) بخلاف المسابقة، فإنه مأمور بها مرغَّب فيها. الثامن: أن النذر عقدٌ لازم، لا بدَّ من الوفاء به، والمسابقة عقدٌ جائز. التاسع: أن النذر حقُّ لله تعالى بما (¬2) التزمه به، لا يسقط بإسقاط العبد، وما التزمه بالمسابقة؛ حقٌّ للعبد يَسْقُط بإسقاطه. العاشر: أن النذر لا يلزم أن يكون جزاءً على عمل، ويجوز أن يكون على ما لا صُنْعَ [ح 123] للعبد فيه ألبتة، كمجيء المطر، وحصول الولد، ونمو الزرع، بخلاف عقد المسابقة. فإن قيل: فهَبْ أنه ليس من باب نذر التَّبرُّر، فما الذي يُبْطِل كونه من باب نذر اللجاج والغضب وشَبَهَهُ به ظاهر؛ فإن المراهن يقول لخصمه: إن غلبتني فلك من مالي كذا وكذا، وغرضُه أن يحضَّ نفسه على أن يكون هو الغالب، ولا يخسر ماله، فهو كما لو قال: إن كلمتك فلله عليّ كذا وكذا، فهو يحضُّ نفسه على ترك كلامه؛ لئلا يخسر ماله بكلامه، فإن الغرض منع نفسه من الفعل الذي التزم لأجله إخراج ما يكره إخراجه؟! ¬
- إبطال كونه من باب العدات والتبرعات
قيل: هذا حَسَن لا بأس به، لكن الفرق بينهما أن الناذر ملتزمٌ إخراج ماله عند فعله ما يكون مخالفًا لعقد نذره، والمغالب ملتزم لذلك عند سبق غيره له، وعَجْزه هو عن مغالبته. لكن، قد يُلْزَم الناذرُ إخراجَ شيء من ماله عند غلبة غيره له، كقوله: إن غلبتني فمالي صدقة. وعلى هذا، فيكون الفرق بينهما أن في المسابقة يكون (¬1) حِرْصُهُ على المَغْنَم تارة، وعلى دفع الغُرم أخرى - فيما إذا كان الباذل غيرهما أو كلاهما -، والناذر نذرَ اللجاج حِرْصُهُ على دفع الغُرْمِ فقط، فبينهما جامِعٌ وفارِق. فصلٌ والذي يُبْطِلُ كونه من باب العِدَات والتَّبرعات: القَصْد، والحقيقة، والاسم، والحُكْم. أما القصد: فإن المراهن ليس غرضه التبرُّع وأن يكون مغلوبًا، بل غرضه الكَسْب وأن يكون غالبًا، فهو ضِدُّ المتبرِّع. وأما الحقيقة: فإن التبرع والهبة لا تكون على عَمَلٍ، ومتى كان على عملٍ، خرج عن أن يكون هِبَة، وكان مِن نوع المعاوضات. وأما الاسم: فإن اسم الرهان والسَّبَق والخطر والجُعل غير اسم الهبة والصَّدقة والتَّبَرُّع. ¬
فصل: في الاختلاف في عقد السباق أو النضال: عقد لازم أم جائز؟
وأما الحكم: فأحكام الهِبَة مخالفة لأحكام الرهان من كل وجه، وإن جمعهما مجرَّد إخراج المال إلى الغير على وجهٍ لا يَعْتاض باذلُه عنه. فهذا هو القدر المشترك [ح 124] بينه وبين الهِبَة والتبرُّع، ولا تخفى الفروق التي بين هذا العقد وبين عقد الهبة. فإذا عُرف هذا، فالصواب أن هذا العقد عقدٌ مستقلٌّ بنفسه، له أحكامٌ يتميَّز بها عن سائر هذه العقود، فلا تؤخذ أحكامه منها، وبالله تعالى التوفيق. فصلٌ واختلف الفقهاء في هذا العقد، هل هو عقد لازم أو جائز على قولين: أحدهما: أنه من العقود الجائزة، وهذا المشهور عند أصحاب أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي (¬1). والثاني: أنه عقد لازم (¬2)، وهو القول الآخر للشافعي، ووجهٌ في مذهب أحمد. ¬
- وجة نظر كلا القولين
ولأصحاب الشافعي في محلِّ القولين طريقتان (¬1): إحداهما: أن القولين جاريان في مُطْلَق صورة العقد، سواء كان الجُعل منهما، أو من أحدهما، أو من ثالث. والثانية: [ظ 58] أن محل القولين: في حق من أخرج السَّبَق، وأما المحلِّل ومن لم يخرِج فالعقد جائزٌ في حقِّه قولًا واحدًا. وأصحاب هذه الطريقة رأوا أن لزوم العقد في حق من لم يخرج لا فائدة فيه، إذ لا يلزمه شيء؛ فإنه إما أن يَكْسَبَ مالًا (¬2)، أو لا يُعْطِي شيئًا، فلا فائدة لإلزامه بعقدٍ لا يكون معطيًا فيه، بل آخذًا. وأصحاب الطريقة الأولى يقولون: إن المخرج قد يستفيد التعلُّم ممَّن لم يخرج، فيكون كالمعاوِض بماله على التعلُّم، فيلزم الآخر تتميم العقد. قالوا: ولأنه من شرطه أن يكون العِوَض والمُعَوَّض معلومين، فكان لازمًا، كالإِجارة. ومن قال بالجواز دون اللزوم؛ قال: المسابقة عقدٌ على ما لا تَتَحقَّق القدرة على تسليمه، فكان جائزًا، كردِّ الآبق، وذلك لأنه عقدٌ على الإصابة، ولا يدخل تحت قدرته، وبهذا فارق الإِجارة. ¬
فصل: في التفريع على هذا الخلاف
فصلٌ في التفريع على هذا الخلاف قالت: الشافعية: فرعٌ إن قلنا باللزوم، فلا بدَّ من القبول، وإن قلنا بالجواز، فهل يُشْتَرَط القبول؟ [ح 125] فيه وجهان، المذهب: أنه لا يشترط. فرعٌ: هل يصحُّ ضمان السَّبَق؟ فيه طريقان: أحدهما: أنَّا إنْ قلنا باللزوم، صحَّ، وإن قلنا بالجواز، فهل يصحُّ الضمان؟ على قولين. والطريقة الثانية: أنا إن قلنا باللزوم، ففي الضمان قولان، وهما القولان في ضمان ما لم يجب، وجرى بسبب وجوبه، فإن السَّبَق لا يُسْتَحقُّ قبل الفوز اتِّفاقًا، سواء إن (¬1) قلنا: بالجواز أو اللُّزوم. ¬
- فرع: هل يصح أخذ هذا الرهن بالجعل؟
فرعٌ: هل يصحُّ أخذ هذا (¬1) الرهن بالجُعْل؟ قالوا: إن قلنا: لا يصحُّ أخذ الضَّمِين به؛ لم يصحَّ أخذ الرهن، وإن أجزنا أخذ الضَّمين به، ففي جواز أخذ الرهن وجهان. والفرق أن باب الضَّمَان أوسع، فإنه يجوز ضمان العُهْدَة، ولا يجوز أخذ الرهن بها (¬2)، ويجوز ضمان ما لم يجب، ولا يجوز أخذ الرهن به، ويجوز ضمان مال الكتابة في إحدى الروايتين، ولا يصحُّ أخذ الرهن به. والفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن أخذ الرهن بضمان العهدة وبمال الكتابة وبما لم يجب = يمنع الارتفاق بالرهن، فإنه يمنعه من بيعه، والارتفاق به في كتابته وأداء ما عليه من الحق، وليس كذلك الضمان؛ لأنه لا يعطِّل على البائع شيئًا، ولا يمنعه الارتفاق بسلعته، ولا يعطِّل على المكاتب ولا على المقترض (¬3) شيئًا. الثاني: أن ضرب (¬4) الرهن يطول؛ لأنه يدوم بقاؤه عند المرتهن، وصاحبه ممنوعٌ من التصرُّف فيه؛ بخلاف الضَّمين؛ لأن كون الدَّين في ¬
- فرع: هل يملك فسخها قبل الشروع؟
ذمته لا يمنع مالِك السلعة من (¬1) التصرُّف فيها، فالمكاتَب يستضرُّ بالرهن، ولا يستضرُّ بالضمين، ويستضرُّ المقترض بالرهن قبل القرض، ولا يستضرُّ بالضمين. وقال أَبو المَعَالي الجُوَيْني: "لا يبعد أن يوقَف السبق، فإن قاربه أحدهما، تبيَّن استحقاقه بالعقد، فيكون كضمان العهدة؛ [ح 126] إلا أن هذه عهدة تقبل الرهن؛ لقرب أمدها، بخلاف عهدة البائع، إذْ لا أمَدَ لها". فرعٌ إذا قلنا: هي عقد جائز، فلكل واحد منهما فسخها قبل الشروع اتِّفاقًا، وإن أراد أحدهما الزيادة فيها أو النقصان، لم يلزم الآخر إجابته، وإن اتفقا على ذلك، جاز. وإن قلنا باللزوم، لم يملك أحدهما فسخها، وإن اتَّفقا على الفسخ، جاز، وإن اتَّفقا على الزيادة والنقصان فيه، جاز؛ سواء أبقيا العَقْد أو فَسَخَاه. فرعٌ فإن شَرَعا فيها: فإن لم يظهر لأحدهما فضلٌ على الآخر، جاز لكل واحد منهما الفسخ، وإن ظهر لأحدهما على الآخر (¬2)، مثل أن ¬
- فرع: في موت أحد المتعاقدين
يسبقه بفرسه في بعض المسافة، أو يصيب بسهامه أكثر منه، فللفاضل الفسخ دون المفضول؛ لأنا لو جوَّزنا للمفضول الفسخ، لَفَاتَ غرض المسابقة، فلا يحصل المقصود، وكان كلُّ من رأى نفسه مغلوبًا، فسخ العقد (¬1). وقالت الشافعية: إذا قلنا بجواز العقد دون لزومه، ففي جواز الفسخ من المَفْضُول وجْهَان. فرعٌ فإن مات أحد المتعاقدين: فإن قلنا: هي عقد (¬2) جائز، انفسخت بموته، قياسًا على سائر العقود الجائزة، من الوكالة والشركة والمضاربة ونحوها. وإن قلنا: هي عقدٌ لازمٌ، لم تنفسخ بموت الراكبين، ولا تلف أحد القوسين، وانفسخت بموت أحد المركوبين والراميين. والفرق بينهما أن العقد تعلَّق بعين المركوب والرامي، فانفسخ بتلفه، كما لو تلف المعقود عليه في الإِجازة، بخلاف موت الراكب، وتلف القوس، فإنه غير المعقود عليه (¬3)، فلم ينفسخ العقد بتلفه، كموت أحد المتبايعين، ولهذا يجوز إبدال القوس والراكب، ولا يجوز إبدال الفرس والرامي. ¬
- فرع: في تأخير أحدهما السباق أو النضال من الوقت الذي عين فيه
فعلى هذا [ظ 59] يقوم وارث الميت مقامه؛ كما لو استأجر شيئًا ثم مات، فإن لم يكن له وارث، أقام الحاكم مقامه مِن تَرِكَتِهِ، كما لو أجَّر نفسه لعملٍ معلوم، ثم مات. فرعٌ فإن أخَّرَ أحدهما السباق والنضال من الوقت الذي [ح 127] عُيِّن فيه، فإن كان لعذرٍ، جاز، وإن كان لغير عذرٍ، وقلنا بلزوم العقد، لم يجز، وإن قلنا بجوازه، فللآخر الفسخ، وله الصبر. وهكذا إن أخَّرَ إتمام الرمي بعد الشروع فيه. فصلٌ في إلحاق الزيادة والنقصان في الجُعل، وعدد الرَّشْق، ومقدار المسافة في عقد السباق والنضال وهي سِتُّ صور: - إلحاق زيادة بالمسافة أو نقصان منها. - وإلحاق زيادة بالجُعل أو نقصان منه. - وإلحاق زيادة بعدد الرمي والرماة أو نقصان منه. فإنْ قلنا بجواز العقد، جاز ذلك كله باتفاق الحزبين. وإنْ قلنا بلزومه، فقال أصحاب الشافعي: لا يُلحق، كما لا تلحق الزيادة في الثمن بعد لزوم البيع، ولا الزيادة في الأجرة بعد لزوم
الإِجارة. وأما من ألحق الزيادة في الثمن والنقصان منه بعد العقد، كأصحاب أبي حنيفة - وهو القول الراجح في الدليل - فعلى أصولهم يجوز إلحاق الزيادة والنقصان في هذا العقد - وهذا هو الصواب - إذا اتَّفقا عليه. وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصدِّيق أن يزيد في الأجَل والرَّهن، لمَّا راهن المشركين (¬1) على غَلَبةِ الروم والفرس، ولا محذور في إلحاق (¬2) هذه الزيادة أصلًا، بل النصُّ والقياس يقتضيان (¬3) جوازها، وقد قال أصحابنا: تجوز الزيادة في الصَّداق بعد لزومه، مع أن عقد النكاح عقد لازم، وتكون الزيادة كالأصل فيما يقرِّره وينفعه (¬4). واتَّفقوا على جواز الزيادة في الرهن، واختلفوا في جواز الزيادة في دَيْنه. فمنعها أبو حنيفة وأحمد، وأجازها مالك والشافعي في قوله القديم، ومنعها في الجديد، ولم أجد عن أحمد نصًّا بالمنع، وإنما أخذه أصحابه من نصِّه في الزيادة في الثمن. وقول مالك في هذه المسألة أرجح (¬5)، إذ لا محذور في ذلك، ¬
وهي زيادة تتعلَّق بالرَّهن، فجازت كزيادة التعلُّق (¬1) بذمَّة الضامن، ولا أثر [ح 128] للفرق بينهما بسِعَة هذا وضيق الرهن؛ لأن لهما أن يوسِّعاه أضعاف ما هو متعلق به، بأن يغير الرهن، ولولا سَعَته، لما أمكن ذلك. وقد قال أصحابنا: لو جَنَى العبد المرهون، ففداه المرتهن، ليكون رهْنًا بالفداء وبالحق الأول جاز، وهذا زيادةٌ في دَيْن الرهن. ولكن فرَّقوا بين هذه الزيادة، وبين غيرها، بأن الجناية تملك المجنيُّ عليه المطالبة ببيعه (¬2) في الجناية، وإبطال الوثيقة من الرهن، فصار بمنزلة الرهن الجائز قبل قبضه، فإنه يكون (¬3) غير لازم، والرهن قبل لزومه تجوز الزيادة في دينه، فكذلك بعد الجناية؛ لأنه قد تعرَّض لزوال لزومه. قالوا: وليس كذلك إذا لم يجز الرهن؛ لأنه لازم لا سبيل إلى إبطال حق المرتهن عنه، فلم يصحَّ أن يرهنه بحق آخر، كما لو رهنه عند إنسان آخر. قالوا: ولأنه قد تعلَّق بجملته كلُّ جزءٍ من أجزاء الحق، فلم يبق فيه موضعٌ لتعلُّق حقًّ آخر به (¬4) بخلاف الضمان، فإن محلَّه ذمة الضامن، وهي متسعةٌ لكلِّ دَيْنٍ يرد عليها. ¬
ولِمَن رجَّح قول مالك أن يقول: لمَّا مَلَكَا تغيير العقد ورفعه، ثم جعل الرهن وثيقة بالدينين = مَلَكَا أن يجعلاه وثيقة بهما مع بقاء (¬1) العقد، وأيُّ فائدة أو مصلحة حصلت لهما بتغيير العقد وفسخه وتعريض الحق للضياع بإبطال الرهن؟! ومعلوم أن الشارع لا يشرع ما هو عَبَث (¬2) لا مصلحة فيه، فيقول: إذا أردتما الزيادة في الدَّيْن، فافسخا عقد الرهن وأبطلاه، ثم زيدا فيه، فتغيير صفته أسهل عليهما، وأقل كُلْفَة، وأبْيَن مَصْلَحة. وقولكم: "إنه قد تعلَّق بجملة الرهن كل جزءٍ من أجزاء الدين" (¬3). فهذا ليس مُتَّفقًا عليه بين الفقهاء، فإن أبا حنيفة قال في إحدى الروايتين: "إذا رهن شيئين بحق، فتلف أحدهما، كان الباقي رهنًا بما يقابله من الحق لا بجميعه". ولو سُلِّم أنه رهن على كل جزء من أجزاء الحق، لم يمنع أن يصير رهنًا على حق آخر باتفاقهما، كما لو غيّر (¬4) العقد [ح 129] , وكما لو كان جائزًا لم يلزم بعد، أو طرأ عليه ما يعرِّضه لزوال لزومه. وقياسكم (¬5) الزيادة في الدَّين على رهنه عند رجل آخر لا يصح؛ ¬
فصل في أنواع المناضلة
لتعدُّد المطالب المستحق، وحصول التنازع والتشاحّ في التقديم، بخلاف ما إذا كان المستحقُّ واحدًا. والمقصود أن الزيادة في عقد السباق تصحُّ وتلزمُ إذا اتفقا عليها؛ كما زاد الصدَّيق في المدَّة والخَطَر بأمر رسول الله [ظ 60]- صلى الله عليه وسلم -. فصلٌ المناضلة على ضربين: مناضلة على الإصابة، ومناضلة على بُعد المسافة: - فالأولى جائزة اتِّفاقًا. - وأما المناضلة على بُعد المسافة، فللشافعي فيها قولان (¬1)، ولأصحابنا فيها طريقان (¬2)، فأكثرهم منعوها، وقال صاحب "الرعاية" فيها: "قلت: فإن تسابقا بالخيل على أن السبق لأطولهما مدى، لم يصح، وإن تناضلا على أن السبق لأبعدهما رميًا، احتمل وجهين". وقد تقدَّم (¬3) أن هذه أولى بالصحَّة من المصارعة، والسباحة، والمسابقة على الأقدام، فمن جوَّزها في هذه الصورة، فتجويزها (¬4) على بعد المسافة أولى وأحرى. ¬
- شروط العقد على الإصابة
وهذا أرجح الأقوال (¬1). وقد شَرَط بعض من جوَّزها على البُعد استواء القوسين في الشِّدَّة والضعف، لتنافس الرماة في ذلك، حتى إنهم ربما رَمَوا بقوسٍ واحدة وسهم واحدة، وإذا كان العقد على الإصابة، لم يُشْتَرَط تعيين القوسين ولا استواؤهما اتفاقًا. والنوع الثاني: العقد على الإصابة (¬2)، وله شروط: أحدها: تعيين الرماة، لأن المقصود عين الرامي، ومعرفة حذقه وإصابته، لا معرفة حذق (¬3) رامٍ ما، فلو تعاقد متراميان على أن مع كل واحد منهما ثلاثة أو اثنين، أو واحدًا يرمي معه غير معيَّن؛ لم يجز ذلك. ولا يشترط تعيين القوسين، ولا تعيين السهام، ولو عَينها لم تتعيَّن، وجاز إبدالها؛ لأن القصد معرفة الحِذْق، لا معرفة القوس ومنفعته. وأما في (¬4) الخيل: فيشترط معرفة المركوبَيْن بالتعيين دون الراكبين؛ لأن المقصود [ح 130] معرفة عَدْو الفرس لا سَوْقَ راكبها. فعلى هذا، إن شرطا (¬5) أن لا يرمي بغيرها، أعني (¬6): بغير هذه ¬
2 - أن يكون القوسان من نوع واحد
القوس، أو بغير هذا السهم، أو لا يركب غير هذا الرجل = لم يصح الشرط (¬1)، ولم يتعيَّن ذلك عليه. الثاني: أن يكون القوسان من نوع واحد، وجنس واحد (¬2)، فلا يصح عقد السباق (¬3) بين قوس يد وقوس رجل، ولا بين قوسين (¬4) عربية وقوس فارسية في أحد الوجهين، وفي الآخر: يجوز بين النوعين دون الجنسين، والوجهان لأصحاب الشافعي وأحمد (¬5). ونظير هذا الاختلاف في المسابقة بين العربي والهَجِيْن، وبين البُخْتِي والعربي من الإبل؛ فإن فيه وجهين لأصحاب أحمد، والجواز اختيار القاضي، وهو مذهب الشافعي (¬6). الثالث: تحديد المسافة والغاية بما جرت به العادة في النضال والسباق؛ لأن الغرض معرفة أسبقهما، ولا يُعْلَم ذلك إلا بتساويهما في الغاية (¬7)؛ لأن أحدهما قد يكون مقصِّرًا في أوَّلِ عَدْوِه، سريعًا في انتهائه، وبالعكس، فيحتاج إلى غاية تجمع حالتيه. ومن الخيل ما هو ¬
أصبر، والقارح أصبر من غيره، ولهذا فضَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - القُرَّح في الغاية (¬1). فإن استبقا بغير غاية لينظر أيهما يقف أولًا، لم يجز؛ لأنه يؤدِّي إلى أنه لا يقف أحدهما حتى ينقطع فرسه، فيتعذر الحُكْم للآخر بالسبق، كما لو مات فرس الآخر أو انكسر. وكذلك أيضًا (¬2) يشترط معرفة مدى الرمي: إما بالمشاهدة والرؤية، وإما بالذرعان؛ لأن الإصابة تختلف بالقُرْب والبُعْد. ويجوز أن يجعلا غايةً مّا يتفقان عليها، إلا أن يجعلا مسافة بعيدة تتعذر الإصابة في مثلها غالبًا - وهو ما زاد على ثلاث مئة ذراع - فلا يصح لأنّ (¬3) الغرض يفوت بذلك، وقد قيل: إنه ما رمى في أربع مئة ذراع إلا عُقْبَة بن عامر الجُهَنِي رضي الله عنه. هذا كلام أصحاب أحمد (¬4) [ح 131]. وقال العراقيون من أصحاب الشافعي (¬5): إذا كانت المسافة مئتين وخمسين ذراعًا؛ جاز، وإن زادت على ثلاث مئة وخمسين؛ لم يجز، وفيما (¬6) بينهما وجهان. ¬
4 - أن يكون العوض معلوما
وهذا التقدير ليس معهم به نصٌّ من الإمام، ولا دليل من جهة (¬1) الشريعة. وقال الخراسانيون منهم: إن كانت المسافة تقرُب الإِصابة فيها؛ صح تعيينها، وإن تعذّرت الإصابة فيها لم يصح، وإنْ كانت بحيث يقطعها السهم وتندُر الإصابة (¬2) فوجهان. قلت: وهذا أقرب إلى الصواب، فإنهم إذا جَوَّزوا تقديرها بثلاث مئة وخمسين ذراعًا، أو بثلاث مئة، ولم يجوِّزوا الرمي على البُعْد، بل على الإصابة = لم تحصل الإصابة في هذه المسافة إلا اتفاقًا، وكلما بعدت المسافة عَزَّت الإصابة، ولهذا رمْيُ الغرض لا يكون إلا مع مسافة يمكن فيها الإصابة غالبًا، وهذه ثلاثة: قصيرة، وطويلة، ومتوسطة، ولهذا يبتدئ المتعلم بالقريب، ثم بالمتوسط، ثم بالبعيد، فالذي يصيب ما جرت به العادة في الثلاثة (¬3) هو الرامي حقيقة. الرابع: أن يكون العِوَض معلومًا، ويجوز أن يكون [ظ 61] معينًا وموصوفًا، وأن يكون حالًّا ومؤجلًا، وأن يكون من جنس ومن أجناس، وأن يكون بعضه حالًّا وبعضه مؤجلًا. الخامس: أن يكون مقدورًا على تسليمه، فلو جعله عبدًا آبقًا، أو فرسًا شاردًا، أو جوهرة في البَحْر، أو طيرًا في الهواء يحصله له = لم ¬
- فصل: في الاختلاف في التناضل بسهام متعددة
يجز؛ لأن ذلك كلُّه غَرَرٌ، ولا يجوز أن يكون موردًا لشيء من عقود المعاوضات. فصلٌ ويجوز أن يتناضلا بسهامٍ متعددة لهما، أو لكل واحد منهما، وبسهم واحد يرمي أحدهما جملة رَشْقِه، ثم يرمي به الآخر، أو يرمي به هذا مرة وهذا مرة، لحصول الغرض بذلك. ومنع بعض أصحاب الشافعي (¬1) المناضلة على سهم واحد بشرط أن يرمي كل منهما به مرة. ولا يظهر [ح 132] لهذا المنع وجه، فإنهما لو تناضلا بِعِدَّةِ أسهم (¬2) على أن يرمي هذا فردة وهذا فردة؛ جاز، كما يجوز أن يستوفي (¬3) كلٌّ منهما رميه عن ولاء (¬4)، ثم يأخذ الآخر في الرمي، ويجوز أن يتساويا سهمين سهمين وثلاثة ثلاثة (¬5)، إذ المقصود استواؤهما والتعديل بينهما. ¬
فصل: في تحزب الرماة
فصلٌ في تحزُّبِ الرُّمَاة وهو نوعان: أحدهما: أن يكونا اثنين فقط. والثاني: أن يكونوا جماعتين. فإن كانا اثنين فقط (¬1)، وعلم أحدهما أن الآخر غالب له ولا بُدَّ، أو مغلوب معه ولا بد: فإن أخرج من تحقَّق أنه غالبُ جاز، إذ لا يأخذ من الآخر شيئًا، وغايته أن يحرزَ مالَه ويغلِبَ صاحبَه. وإن أخرج مَن تحقَّق أنه مغلوب، وكان له في ذلك غرضٌ (¬2) صحيحٌ، مثل أن يريد أن ينفع ولده أو صاحبه أو فقيرًا فيوصل إليه المال على هذا الوجه، ويقوي نفسه ويفرِّحها (¬3) = جاز ذلك، وهو محسنٌ. وإن لم يكن له غرض صحيح، ففي صحة ذلك نظر، لِتضمُّن (¬4) بذل ماله فيما لا منفعة له فيه لا دُنْيا ولا أُخْرى، ومثل ذلك يمنع منه الشرع والعقل. وقال أبو المعالي الجُويني في "النهاية": "إذا أخرج أحدهما، وقد علم أن المشروط له لا يفوز، كانت مناضلة بغير مال، وإن علم فوزه، صحَّت على الأصح". ¬
- فرع: التفصيل في النوع الثاني
فرعٌ وإذا كانوا جماعتين، فهل يُشْتَرط تساوي عددهما، أو يجوز أن يكونوا اثنين وثلاثة؟ فيه احتمالان لأصحابنا (¬1). ومأخذ الاشتراط تحقُّق العدل بالتساوي. ومأخذ عدمه أنَّه (¬2) قد يكون في أحد الحزبين واحد يقوم مقام جماعة، فتكون القسمة به قسمة تعديل. ويشترط تكافؤهما في الرمي والسهام، فلا يكون رمي أحدهما صلبًا والآخر ليِّنًا، أو سهم أحدهما قصبًا والآخر خَلَنْجًا (¬3)، وكذلك في (¬4) القوس؛ فلا يكون قوس أحدهما عربيًّا والآخر فارسيًّا. وفيه وجه بجوازه (¬5) بين [ح 133] النوعين من القِسيّ. فرعٌ ويشترط كون الرَّشق مما يمكن قسمته بينهم بغير كسر (¬6)، ويتساوون فيه: ¬
- فرع: في الاختلاف في عقد النضال بين جماعة ثم ينقسموا حزبين بعد العقد
- فإن كانوا ثلاثة، وجب أن يكون له ثلث. - وإن كانوا أربعة، فأن يكون له ربع، وكذلك ما زاد، لأنه (¬1) إذا لم يكن كذلك، بأن (¬2) بقي سهم أو أكثر بينهم لا يمكن الجماعة الاشتراك فيه. فرعٌ فإن عَقَدَ النضال جماعة بينهم لينقسموا حزبين بعد العقد، ففيه وجهان: أحدهما: أنه يصح. اختاره القاضي، وهو مذهب الشافعي؛ لأن التعيين الطارئ كالمقارن. والوجه (¬3) الثاني: لا يصح؛ لأن التعيين شرط، ولم يوجد حال العقد، وقبل القسمة لم يتعيَّن مَن في (¬4) كل واحد من الحزبين؟. فعلى هذا الوجه؛ إذا تقاسموا، كان تقاسمهم ابتداء للعقد، ويحتمل أن يعتبر تجديد العقد بعد التقاسم، وهو الذي ذكره في "المغني" (¬5). ¬
- فرع؟ في تفريع مسائل مبنية على الخلاف السابق
وعلى قول القاضي قد صحَّ العقد قبل التقاسم، فالتقاسم (¬1) هو موجب العقد. فرعٌ فإن قلنا بقول القاضي، لم يجز أن يتقاسموا بالقرعة؛ لأنها قد تقع على الحذَّاق في أحد (¬2) الحزبين، وعلى الكَوَادِن (¬3) في الحزب الآخر، فيخرج العقد عن العدل الذي هو مقصود النضال. وإن قلنا بالوجه الآخر، جاز أن يتقاسموا بالقرعة، فإن العقد لم يصحَّ قبل القسمة، فإذا أخرجت القرعة أحد الحزبين، وميَّزته من الآخر، فإن تراضوا بذلك، وإلا فلا عقد بينهم. وطريق القسمة بالعدل: أن يَخْرُجَ من كل حزب زعيمٌ، فيختار أحدهما واحدًا، ثم يختار الزعيم الآخر واحدًا إلى أن تتم القسمة على العدل. ولا يجوز أن يُجْعَل الخيارُ إلى أحد الزعيمين في الجميع، ولا أن يختار أحدُهما جميعَ حزبه أولًا، ثم يعود الآخر فيختار بعده؛ لخروجهما عن العدل [ظ 63] فإن الأول لا يُؤمَن أن يختار الحذَّاق في حزبه. ¬
ولا يجوز أن يجعل رئيس الحزبين [ح 134] واحدًا منهما؛ فإنه يميل إلى حزبه، فتلحقه التُّهمة. ولا يجوز أن يختار كل واحد من الرئيسين أكثر من واحد؛ لأنه أقرب إلى التساوي والعدل، فإذا اختاروا واحدًا، اختار الرئيس الآخر ثانيًا. ونظير هذا: أنه لا يقدَّم السابق بأكثر من حكومة واحدة، فلو قال: احكم لي حكومتين، ثم احكم لمن جاء بعدي حكومتين، لم يكن له ذلك. ونظيره أيضًا: أنَّ من خرجت لها (¬1) القُرْعَة من نسائه في البداءة بها، لم تقدَّم بليلتين. ونظيره: الطالب للعلم (¬2) إذا سبق غيره إلى الشيخ ليقرأ عليه، لم يقدَّم بدرسين؛ إلا أن يكون كل منهم يقرأ درسين درسين (¬3). وإن اختلفا في المبتدئ بالخيار، أُقرِع بينهما. ولو قال أحدهما: أنا أختار أولًا وأُخرج السبَق، أو يخرجه أصحابي لم يجز (¬4)؛ لأن السَّبَق إنما يُسْتَحَقُّ بالسَّبْقِ لا بغيره *. ¬
- فصل: فيما إذا أخرج أحد الزعيمين السبق من عنده
فصلٌ وإذا أخرج أحد (¬1) الزعيمين السَّبَق من عنده، فسُبِق حزبه، لم يكن على حزبه شيء؛ لأنه جعله على نفسه دونهم، وإن شرطه عليهم، فهو عليهم بالسوية. وأما الحزب الآخر، ففي كيفية اقتسامهم له وجهان: أحدهما: يقتسمونه بالسويَّة؛ مَن أصاب منهم ومَن أخطأ، كما أنه على الحزب المغلوب بالسوية، فيكون للغالب بالسوية (¬2). وهذا قول أصحاب الشافعي (¬3). والثاني: يُقْسَم بينهم (¬4) على قدر الإصابة، ومَن لم يُصِبْ منهم، فلا شيء له؛ لأن استحقاقه بالإِصابة، فكان على قدرها، واخْتُصَّ بمن وُجِدت فيه، بخلاف المسبوقين، فإنه وجب عليهم لِلْتزامهم له، وقد استووا في الالتزام، وهؤلاء استحقُّوه بالإصابة، وقد تفاوتوا فيها. وهذا الوجه أظهر، والله تعالى أعلم. ¬
- فصل: فيما إذا اشرطوا كون فلان مقدما في هذا الحزب هل يصح الشرط
فصلٌ فإن شرطوا أن يكون فلانٌ مقدَّمًا في هذا (¬1) الحزب، وفلانٌ مقدَّمًا في الحزب الآخر، ثم فلانٌ تاليًا في هذا (¬2) الحزب، وفلانٌ تاليًا في الحزب الآخر؛ فقال أصحابنا: يكون شرطًا فاسدًا. قالوا: لأن تقديم من في كلٍّ من الحزبين إلى رأي زعيمه خاصة، وليس للآخر مشاركته في ذلك، فإذا شرطوه (¬3) كان فاسدًا. قلت: ويَحْتَمِل الصحة، كما أن تعيين الزعيمين كان باتفاقهما على اشتراطه، فكذلك تعيين البادئين (¬4) [ح 135] منهما يجوز أن يتبع اشتراط الحزبين، وليس في ذلك جَوْرٌ ولا مفسدة، وقد يكون لهم فيه غرض صحيح، فلا يُفَوَّت عليهم بغير سبب. وقولهم: "إنه ليس للآخر مشاركة الزعيم فيمن يقدِّمه". جوابه: إن استحقاق تقديمه كان باشتراط الفريقين ورضاهم به، والأصل في الشروط الصحة؛ إلا ما خالف حكم الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. ¬
- فصل: في القرعة
فصلٌ فإن قالوا: نقترع، فمن خرجت قرعته، فالسَّبَق عليه، أو نقترع، فمن خرجت قرعته حُكِم له بالسَّبَق = كان فاسدًا، لأن العِوَض لا يُسْتَحَقُّ بالقرعة، وإنما يُسْتَحَقُّ بالبذل والإصابة. فصلٌ فإن تناضل اثنان، وقالا: نرمي [ظ 64] كذا وكذا، فأيُّنَا أصاب فالسبق على الآخر؛ صحَّ، أو كانا حزبين فقالا: نرمي فأيُّ الحزبين أصاب فالسبق على الآخر؛ صحَّ (¬1) ذلك، وكان إخراجًا من أحدهما خاصة، كأنه قال: إن سبقتني فلك عشرة، وإن سبقتك فعليك عشرة، فرضي الآخر. وقال الشيخ أَبو محمد رضي الله عنه في "المغني" (¬2): "لا يجوز؛ لأنه لا يُسْتَحَقُّ بالإصابة". يريد أن مجرَّد الإصابة لا يوجب استحقاق السَّبَق، وهذا صحيح، ولكن إنما استحق (¬3) بالإِصابة وبقوله: "أينا أصاب، فالسبق على الآخر"، فإن هذا شرط، فاستُحِقَّ السبق (¬4) به وبالإِصابة. والله أعلم. ¬
- فصل في التناضل بين اثنين على سبق أحدهما، ودخول أجنبي شريكا لهما في المغنم والمغرم
فصلٌ إذا تناضل اثنان، وأخرج أحدهما السبق، فقال أجنبيٌّ: أنا شريكك في الغُنْم والغُرم، إن نضلك فنِصْفُ السَّبَق عليَّ، وإنْ نضلْتَهُ فنصفُه لي = لم يجز ذلك. وكذلك لو كان ثلاثةٌ بمحلِّل عند من يقول به، فقال رابع للمستبقين: أنا شريككما في الغنم والغُرم = كان باطلًا؛ لأن الغُرم والغُنم إنما يكون من المناضل، فأما مَن لا يرمي، فلا غُنم له ولا (¬1) غُرْم عليه. فصل وإذا نضل أحد الراميين، فقال المنضول: اطرح نَضْلك وأعْطِكَ دينارًا، لأستوي أنا وأنت؛ لم يجز؛ لأن المقصود معرفة [ح 136] الحذق، وذلك يمنع منه. فإن اختارا ذلك، فلهما فسخ العقد، ثم يعقدان عقدًا آخر. فإن لم يفسخاه، ولكنْ رميا تمام الرّشق، فتمَّت الإِصابة للناضل بما أسقطه؛ استحق السَّبَق، ورَدَّ الدينار إن كان أخذه (¬2). ¬
فصل: إذا كان باذل السبق غير المتسابقين والتفصيل فيه
فصلٌ إذا كان باذل السَّبَق غير المتسابقين، وكانا اثنين أو جماعة فقالا: أيكما أو أيكم سَبَقَ فله عشرة؛ جاز وصح، وأيهم سبق؛ استَحَقَّ العشرة، وإن جاؤوا جميعًا؛ فلا شيء لواحد منهم؛ لأنه لا سابق فيهم. وإن قال لاثنين: أيُّكما سبق فله عشرة، وأيكما صلَّى - أي جاء (¬1) ثانيًا للسابق - فله عشرة = لم يصح؛ لأنه لا فائدة في طلب السَّبْق؛ لأنه يستحق العشرة سابقًا ومسبوقًا فلا يحرص (¬2) على السَّبْق. فإن قال: ومَن صَلَّى فله خمسة؛ صحَّ؛ لأنَّ كلًّا منهما يطلب السَّبْق لفائدته المختصَّة به. وإن كانوا أكثر من اثنين، فقال: من سبق فله عشرة، ومن صلَّى فله ذلك = صحَّ؛ لأن كلًّا منهما يطلب أن يكون سابقًا أو مُصَلِّيًا. والمُصَلِّي هو الثاني؛ لأن رأسه عند صَلى (¬3) الآخر، والصَّلَوان العظمان الناتئان من جانبي الذنب (¬4). ¬
- أسماء مراتب السباق العشرة
وقال علي بن أبي طالب: "سَبَق أبو بكر، وصلَّى عمر، وخبطتنا فتنة" (¬1). وقال الشاعر (¬2) في السابق والمصلِّي: إنْ تُبْتَدَرْ غَايَةٌ يَوْمًا لِمَكْرُمَةٍ ... تَلْقَ السَّوابِقَ فينا والمُصَلِّينا فإن قال الباذل: للمُجلِّي (¬3) - وهو الأوَّل - مئة، وللمُصلِّي - وهو الثاني - تسعون، وللتَّالي - وهو الثالث - ثمانون، وللبارع - وهو الرابع - سبعون، وللمُرْتاح - هو الخامس - ستون، وللحَظِيِّ - وهو السادس - خمسون، وللعاطِف - وهو السابع - أربعون، وللمُؤَمَّل - وهو الثامن - ثلاثون، وللَّطيم - وهو التاسع - عشرون، وللسُّكَيْت - وهو العاشر - عشرة، وللفِسْكِل - وهو الأخير (¬4) - خمسة = صحَّ؛ لأن ¬
كل واحد يطلب السَّبْق، فإذا فاته طلب ما يلي السابق. وهذه العشرة الأسماء (¬1): أسماءُ مراتب السباق، والفِسْكِل: هو الأخير الذي لا يجيء بعده أحد. ثم استُعْمل هذا في غير المسابقة بالخيل تجوُّزًا، كما رُوي أن أسماء بنت عُمَيْس كانت تزوَّجت جعفر بن أبي طالب، فولدت [ح 140] له عبد الله ومحمدًا وعَوْنًا، ثم تزوجها أبو بكر الصدِّيق، فولدت له محمد بن أبي بكر، ثم تزوجها علي بن أبي طالب، فقالت: إن ثلاثة أنت آخرهم لأخيار. فقال لأولادها: "لقد فَسْكَلَتْني أمُّكم" (¬2). وإن جعل للمُصلِّي أكثر من السابق، أو جعل للتَّالي أكثر من المصلي، أو لم يجعل للمصلِّي شيئًا = لم يجز؛ لأن ذلك يُفضي إلى أن لا يَقْصِد السَّبْق، بل يَقْصِدُ التأخُّرَ؛ فيفوت المقصود. ¬
- فصل
فصلٌ إذا تناضل حزبان، فما زاد على أن يكون رشق أحد الحزبين مساويًا لرشق الآخر، والحزبان متفاوتان في العدد = جاز. فإذا ناضل خمسةٌ عشرةً، وعلى كل حزب مئةُ رَشْقةٍ؛ جاز. فإن ناضل الرجل جمعًا، فإن شُرِط ما يطيقه؛ جاز، وإن شُرِط (¬1) ما لا يطيقه عادة، لم يصحَّ، وكانت مناضلة بغير [ظ 65] مال. فصلٌ ولا يشترط في صحة النضال معرفة (¬2) كل منهما بحال الآخر وحِذقه، فلو تناضل رجلان يجهل كلُّ واحد منهما قدر معرفة الآخر؛ صحَّ. فصلٌ إذا قال كلٌّ منهما أو أحدهما: عندي رجل رامٍ صفته كذا وكذا أناضلك عليه: فقال أصحاب الشافعي: لا يصحُّ، فإن الرماة لا يَثْبُتون في الذِّمة، فلا بُدَّ من حضورهم (¬3). ¬
- فصل
والصحيح جوازه؛ لأن الصفة تقوم مقام الرؤية والمشاهدة، وليس هذا بثبوت للرامي في الذمة، وإنما هو عقدٌ على رامٍ موصوفٍ، فهو كإجارة عين موصوف، وتزويج امرأة موصوفة، وبيع عين موصوفة غائبة، بل هذا أولى بالجواز؛ لتمحُّض المعاوضة في هذه الصورة بخلاف النضال. فصلٌ إذا قال أحد الحزبين لحاذق منهم: ارمِ أنت، فإن غلبناهم، فالسَّبق لنا ولك، وإن غلبونا فالسَّبق علينا دونك = صحَّ؛ لأن حكمهم حكم الرجل الواحد، ولا يشترط في حقَّ الحزبين أن يشتركوا كلُّهم في الرمي، بل إذا رمى بعضهم وغلب أو غُلِبَ؛ تَعَدَّى حكمه إلى الحزب كله، وغاية هذا أنه محلِّل. وللشافعية وجهان (¬1): هذا أحدهما، والثاني: لا يصح. فإن قيل: المحلِّل لا يفوز وحده (¬2) [ح 138] بجميع الأسباق إذا سبق ولا يشارَك، وهذا يشاركه غيره في السبق. فالجواب: أنهم صاروا به (¬3) بمنزلة رام واحد (¬4). ولو قال كلٌّ من الحزبين لواحد منهم: ففيه الوجهان. ¬
- فصل فيما إذا قال الباذل لعشرة: من سبق منكم، فله عشرة والتفصيل في ذلك
فصلٌ إذا قال الباذل لعشرة: من سبق منكم، فله عشرةٌ؛ صحَّ. فإن جاؤوا سواء (¬1) فلا شيء لهم؛ لأنه لم يوجد الشرط الذي يُستَحَقُّ به الجُعل في واحد منهم. وإن سبقهم واحد، فله العشرة؛ لوجود الشرط فيه. وإن سبق اثنان، فلهما العشرة. وإن سبق تسعة وتأخر واحد، فالعشرة للتسعة؛ لأن الشرط وُجِد فيهم فكان الجعل بينهم، كما لو قال: مَن ردَّ عبدي الآبق فله كذا، فردَّه تسعةٌ. وفيه وجه آخر: أنه لكل واحد من السَّابقين عشرة؛ لأن كل واحد منهم سابق، فيستحق الجُعْل بكماله، كما لو قال: من ردَّ (¬2) عبدًا لي فله عشرةٌ، فردَّ كلُّ واحدٍ عبدًا، بخلاف ما لو قال: من ردَّ عبدي فله عشرة، فردَّه تسعةٌ؛ لأن كل واحد منهم لم يردَّه، وإنما حصل ردُّه بالتسعة. ونظير هذا: لو قال: من قَتَل قتيلًا فله سلبه، فإن قتل كل واحد واحدًا؛ فله سلبُ قتيله كاملًا، وإن قتل الجماعة واحدًا، فلجميعهم سلب واحد. ¬
- فصل في الشرط في إطعام السبق أصحابه أو غيرهم
وها هنا كل واحد له سَبْقٌ مفردٌ، فكان له الجُعل كاملًا. فعلى هذا لو قال: مَن سبق فله عشرة، ومن صلَّى فله خمسة، فسبق خمسة، وصلى خمسة، فعلى الوجه الأول: للسابقين عشرة، لكل واحد منهم درهمان، وللمصلين خمسة لكل واحد منهم درهم. وعلى الوجه الثاني: لكل واحد من السابقين عشرة، فيكون لهم خمسون، ولكل واحد من المصلِّين خمسة، فيكون لهم خمسة وعشرون. ومن قال بالوجه الأول، فقال صاحب "المغني" (¬1): "يُحتمل (¬2) على قوله أن لا يصحَّ العقد على هذا الوجه؛ لأنه يُحتمل إن سَبَق تِسْعَة؛ فيكون لهم عشرةُ، لكل واحد منهم درهم وتسعٌ، ويصلي واحد فيكون له عشرةُ، لكل واحد منهم درهم وتسعٌ، ويصلي واحد فيكون له خمسة، فيصير للمصلي من الجُعل أكثر ما للسابق (¬3) فيفوت المقصود". فصلٌ (¬4) فإن شرطا أن السابق يطعم السَّبَق أصحابه [ح 139] أو غيرهم؛ لم يصحَّ الشرط ولا العقد عند الشافعي، ويفسد الشرط وحده عند أبي ¬
حنيفة. ومذهب أحمد (¬1): فساد الشرط قولًا واحدًا، ولهم في فساد العقد وجهان. ووجه بطلان الشرط: أنه عِوَضٌ على عمل، فإذا شرط أن يستحقَّه غير العامل بطل. ومَنْ أفسد العقد قال: لم يرض به المتعاقدان إلا على هذا الشرط، وعليه عَقَدا، فإذا فسد الشرط، لم يكن العقد بدونه معقودًا عليه، فلا يُلزمان به، وهذا قياس الشروط الفاسدة في عقود المعاوضات. ومن صحَّحه قال: لما لم يتوقَّف صحة هذا العقد على تسميةِ جُعْل، بل يجوز عقده بغير جُعل = لم يفسد بفساد الشرط؛ كالنكاح. والصحيح أنا نثبت لهما الخيار بفوات هذا الشرط الفاسد، فإن [ظ 66] أحبَّا أمضياه، وإن أحبَّا فسخاه، كما نقول في الشروط الفاسدة في البيع. وهذا أعدل الأقوال؛ فإن في إلزامهما بما لم يلتزماه ولا ألزمهما به الشارع مخالفةُ أُصول الشرع، وفي إبطاله عليهما ضررٌ، إذ قد يكون لهما غرض (¬2) في تتميمه وهو جائز الإتمام، فلا يُمنعان من ذلك. ¬
فصل في الشروط الفاسدة في هذا العقد
فصلٌ في الشروط الفاسدة في هذا العقد قال القاضي: "الشروط الفاسدة في المسابقة تنقسم قسمين: أحدهما: ما يُخِلُّ بشروط صحة العقد، نحو: أن يعود بجهالة الغرض أو المسافة (¬1) ونحوهما، فيفسد العقد؛ لأنه لا يصح مع فوات شرطه. والثاني: ما لا يخلُّ بشروط صحَّته، نحو: أن يشترط أن يطعم السَّبَق أصحابه أو غيرهم، أو يشترط أنه إذا نَضَل لا يرمي أبدًا، أو لا يرمي شهرًا، أو يشترطا أن لكل واحد منهما أو لأحدهما فسخ العقد متى شاء بعد الشروع في العمل، وأشباه هذا. فهذه شروط باطلة في نفسها، وفي العقد المقترن بها وجهان: أحدهما: صحَّته؛ لأن العقد تمَّ بأركانه وشروطه، فإذا انحذف (¬2) الزائد الفاسد، بقي العقد صحيحًا. والثاني: يبطل؛ لأنه بذل العِوَض لهذا الغرض، فإذا لم يحصل غرضه، لم يلزمه عوضه، وكل موضع فسدت فيه (¬3) المسابقة [ح 140] , فإن كان السابق هو المخرِج؛ أمسك سَبَقَه، وإن كان الآخر هو ¬
السابق (¬1) فله أجر عمله؛ لأنه عَمِل بعِوَضٍ لم يُسَلَّم له؛ فاستحق أُجرة المثل؛ كالإجارة الفاسدة" (¬2). قلت: وفي هذا نظرٌ لا يخفى؛ فإن السَّابق لم يعمل للباذل شيئًا، ونفعُ عمله إنما يعود إليه نفسه لا إلى الباذل، فالباذل لم يستوف (¬3) منافعه، فلا يلزمه عِوَض عمله. وقد تقدَّم (¬4) أن هذا العقد ليس من باب الإجارات ولا الجِعَالات، وذكرنا الفروق الكثيرة بينه وبينها، ولا يصحُّ إلحاقه بهما. ولا يقال: هذا كمن جعل لغيره جُعْلًا على أن يعمل عملًا لغير الجاعل؛ كخياطة ثوب زيد، وبناء داره؛ فإن العمل أيضًا عاد إلى غير العامل. فإن قيل: كل عقد يلزمه المُسَمى في صحيحه يلزمه عِوَض المثل في فاسده (¬5)؛ كالبيع، والإجارات، والنكاح. قيل: هذا عقد (¬6) صحيح في عقود المعاوضات والمشاركات، وليس هذا العقد واحدًا منهما، بل هو عقدٌ مستقلٌّ برأسه، كما تقدم ¬
فصل في أقسام المناضلة
تقريره (¬1). فإذا لم يحصل للباذل غرضُه الذي بذل المال لأجله، فبأي طريق يلزمُه العِوَض، وهو لم يلزم بذْلَه إلا على وجْهٍ مخصوص، وليس هناك عوضٌ استوفاه، فنغرِّمه بدله؟! والله أعلم. فصلٌ في أقسام (¬2) المناضلة المناضلة: اسم للمسابقة بالرمي بالنشَّاب، وهي مصدرُ ناضَلْتُه نِضَالًا ومُنَاضَلة. وسُمِّي الرمي مُنَاضَلة ونِضَالًا؛ لأنَّ السَّهم التَّامَّ بريشه وقدحه ونصله يسمى: نَضْلًا بالضاد المعجمة، وعوده: قدحًا، وحديدته: نصْلًا بالصاد المهملة. وهي قسمان: مناضلة على الإصابة، ومناضلة على البعد. وقد تقدَّم الخلاف في مناضلة البعد (¬3). ومناضلة الإِصابة ثلاث أقسام: ¬
- أقسام مناضلة الإصابة
أحدها: تسمى المبادرة: وهي أن يقولا: من سبق إلى خمس إصابات من عشرين رمية، فهو السابق، فأيهما سبق إليها مع تساويهما في الرمي، فقد سبق. فإذا رميا عشرة، وأصاب أحدهما خمسًا، والآخر دونها؛ [ح 141] فالمصيب خمسًا هو السابق؛ لأنه قد سبق إلى خمس، وسواء أصاب الآخر أربعًا أو دونها أو لم يصب شيئًا، ولا حاجة إلى إتمام الرمي؛ لأن السبق قد حصل بسَبْقه إلى ما شرطا السبق إليه. فإن أصاب كلٌّ منهما من العشر (¬1) خمسًا فلا سابق فيهما، ولا يكملان عدد (¬2) الرمي؛ لأن جميع الإصابة المشروطة قد حصلت، واستويا فيها. فإن رمى أحدهما عشرًا فأصاب خمسًا، ورمى الآخر تسعًا فأصاب أربعًا، لم يحكم بالسبق ولا بعدمه حتى يرمي العاشر، فإن أصاب به، فلا سابق فيها (¬3) وإن أخطأ به، فقد سبق الأول. فإن لم يكن أصاب من التسعة إلا ثلاثًا فقد سبق الأول (¬4)، ولا يحتاج إلى رمي العاشر؛ لأن أكثر ما يحتمله أن يصيب به، وذلك لا يخرجه عن أن يكون مسبوقًا. ¬
هذا مذهب أحمد والشافعي في أحد الوجهين لأصحابه (¬1). ولهم وجه ثان: أنه يلزمه إتمام الرمي؛ وإن تحقَّق أنه مسبوق، وعلَّلوه بأنه قد يكون للآخر فيه غرضٌ صحيحٌ، وهو أن يتعلَّم من (¬2) رميه. قالوا: فإن أوجبنا [ظ 67] إتمامه لم يقف استحقاق السَّبَق عليه؛ لأنه قد استحق بإصابة ما جُعِلَت إصابته موجبة للاستحقاق (¬3). فلو أصاب أحدهما عشرة من خمسين، وأصاب الآخر تسعة من تسعة وأربعين، والرَّشْق خمسون خمسون (¬4) كَمَّلَ عدد الخمسين، وإن ندرت إصابته، فلعلَّهُ أن يصيب. وعقد الباب: أن كل موضع تَيَقَّن فيه أنه لا يصيب العدد، لم يلزمه (¬5) فيه إتمام الرمي، ولم يقف استحقاق المصيب على إتمامه. وكل موضع يرجو فيه تكميل الإصابة، كَمَّل فيه الرمي، وأوقف استحقاق المصيب على كماله. ¬
2 - المفاضلة - معناها، والتفصيل فيها
فصلٌ النوع الثاني: المفاضلة (¬1) وهي أن يقولا: أيُّنا فَضَل صاحبَه بإصابة أو إصابتين أو ثلاثة من عشرين رمية، فقد سبق. فإذا قالا: أيُّنا فَضَل صاحبَه بثلاث من عشرين، فهو سابق، فرميا اثني عشر سهمًا، فأصابها أحدهما كلها، وأخطأها الآخر كلها، لم يلزم إتمام الرمي، وكان الغَلَبُ للمُصِيب؛ لأن أكثر (¬2) ما يمكن الآخر أن يُصِيْب الثمانية [ح 141] الباقية، فالأَوَّل قد فَضَله على كل حال. وإن كان الأول أصاب من الاثني عَشَرَ عشرةً، لزمهما رمي الثالث عشر، فإن أصابا به معًا أو أخطآ معًا أو أصابه الأول وحده؛ فقد سبق، ولا يحتاج إلى تمام الرمي؛ لأن غاية ما يصيب الثاني السبعة الباقية، ولا يصير بذلك سابقًا. وإن أصابه الآخر وحْدَه، فعليهما أن يرميا الرابع عشر، والحكم فيه وفيما بعده كالحكم في الثالث عشر سواء في أنه متى أصابا فيه أو أخطآه، أو أصابه الأول وحده فقد سبق، ولا يحتاج إلى تمام الرمي؛ لأن غاية ما يصيب الثاني السبعة الباقية، ولا يصير بذلك سابقًا. وإن أصابه الآخر وحده فعليهما أن يرميا الرابع عشر، والحكم فيه ¬
وفيما بعده كالحكم في الثالث عشر سواء في أنه متى أصابا فيه أو أخطآ (¬1) أو أصابها الأول فقط؛ فقد سبق الأول (¬2)، ولا يتمَّان الرمي، وإن أصابها الآخر وحده، رميا ما (¬3) بعدها. وعقد الباب ما تقدَّم: أن كل موضع قد يكون بإتمام الرمي فيه فائدة لأحدهما، يلزمه إتمامه، وإن يئس من الفائدة لم يلزم إتمامه (¬4)، فإذا بقي من العدد (¬5) ما يمكن أن يَسْبِق به أحدهما صاحبه أو يسقط به سبقه (¬6)، لزم الإتمام، وإلَّا؛ فلا. فإذا كان السَّبَق قد جُعِلَ بثلاث إصابات من عشرين، فرميا ثماني عشرة فأخطأاها أو أصاباها (¬7) أو تساويا في الإصابة فيها، لم يلزم الإتمام؛ لأن أكثر ما يحتمل أن يصيب أحدهما هاتين الرميتين ويخطئها الآخر، وذلك لا يُحَصِّلُ له السَّبق. وكذلك إذا فَضَلَ أحدهما الآخر بخمس إصابات فما زاد، لم يلزم الإِتمام؛ لأن إصابة الآخر السهمين الباقيين لا يُخرِج الآخر عن كونه فاضلًا له بثلاث إصابات. ¬
3 - المحاطة - معناها، والتفصيل فيها
وإن كان إنما فضله بأربع: رميا السهم الآخر، فإن أصابه المفضول وحده فعليهما رمي الآخر، فإن أصابه المفضول (¬1) أيضًا سقط سَبْق الأول، وإن أخطأ في أحد السهمين أو أصاب الأول أحدهما؛ فهو سابق (¬2). فصلٌ النوع الثالث: المُحاطَّة وهي أن يشترط إسقاط ما تساويا فيه من الإصابة، إلى أن يَفْضُل لأحدهما سهم يصيبه (¬3)، وهو السابق. وهذه وإن كانت في معنى المفاضلة، إلا أن الفرق بينهما: أن يُشترط في المفاضلة ذكر عدد ما يقع به التفاضل، وفي المحاطَّة لا يُشترط ذلك، بل إذا قالا (¬4): يُلغى ما تساوينا فيه من الإِصابة، فمن زادت إصابته على إصابة صاحبه، [ح 143] فهو الغالب، فلا يُشْتَرط تعيين الزيادة. ولو قالا: أينا أصاب خمسًا من عشرين، فهو سابق، فمتى أصاب ¬
فصل
أحدهما خمسًا من العشرين ولم يصب الآخر فالأول سابق، وإن أصاب كل واحد منهما خمسًا أو لم يصب واحدٌ منهما خمسًا؛ فلا سابق فيهما. وهذه في معنى المحاطَّة. وحكم هذا النوع حكم ما قبله، في أنه يلزم إتمام الرمي، ما كان فيه فائدة، ولا يلزم إذا خلا عنها. ومتى أصاب كل واحد منهما خمسًا؛ لم يلزمه إتمامه، ولم يكن فيهما سابق. وإن رميا ست عشرة رمية، فلم يُصِبْ واحد منهما شيئًا؛ لم يلزم إتمامه، ولا سابق منهما (¬1)؛ لأن أكثر ما يحتمل أن يصيبها أحدهما، ولا يحصل السبق بذلك. فصلٌ فإن شرطا أن يخلص لأحدهما عشر إصابات من مئة [ظ 68] رمية مفاضلة، فحصلت له من خمسين، لم يستحق السبق حتى تتمَّ المئة. وهذا أحد الوجهين للشافعية (¬2). ولهم وجه ثان: أنه يستحقُّ السبق قبل إكماله المئة. ووجه الأول: أن الآخر قد يصيب فيما بقي له من الخمسين الثانية ما يحطُّ هذا عن العشرة، وهو إنما جُعِل له السبق إذا فضله بعشرة من ¬
فصل في حصر عدد الرمي بعدد معلوم - والتفصيل في ذلك
مئة، ولم يتحقَّق هذا بعد. فإن كان ذلك في رمي المبادرة، وشرطا أن مَن بدر إلى عشرة من مئة؛ استحقَّ، فبدر إليها من خمسين؛ استحقَّ، ولم يلزمه إكمال الرمي؛ لأنه قد سبق صاحبه حقيقة. فصلٌ ولا بدَّ في ذلك من حصر عدد الرمي، وهو الرَّشْق بعددٍ معلوم لينقطع به التنازع، ويُتَيَقَّن به السبق، وإلا؛ فالمغلوب يقول: أنا أرمي حتى أغلب. ولأصحاب الشافعي في المسألة ثلاثة أوجه (¬1)، هذا أحدها. والثاني: لا يُشْتَرط تعيين العَدَد (¬2). والثالث: يشترط في رمي المحاطَّة والمفاضلة، دون المبادرة. وهذا الوجه قويٌّ، إذ لا فائدة في اشتراطه في رمي المبادرة؛ لأنه إذا قال: أيُّنا بدر إلى خمس إصابات، فهو السابق، فمتى بدر إليها أحدهما، تعيَّن سَبْقه، سواء كان عدد الرمي معلومًا أو لم يكن. وأما في المفاضلة والمحاطَّة، فإن لم يكن عدد الرمي معلومًا (¬3)، لم يحصل مقصود العقد، ولم ينقطع التنازع، فإن أحدهما إذا أصاب ¬
فصل فيما يتعلق بإصابة الهدف
عشرة من [ح 144] عشرين - مثلًا - قال الآخر: أنا أصيبها من ثلاثين، وليس عدد الرمي مشروطًا بيننا = لم يكن له ذلك، وأدَّى إلى عدم معرفة السابق، ويقول الآخر: أنا أرمي إلى أن أفضلك. فإن قيل: هذا يزول باستوائهما في الرمي. قيل (¬1): النزاع لا ينقطع بذلك فإنه يقول له (¬2): ارم حتى تساويني. وأيضًا: فإنهما إذا لم يشترطا عددًا؛ فإنه قد يستمرُّ رميهما لا إلى غاية، ولا يصيب أحدهما، فلا يمكِّن أحدهما (¬3) الآخر من إحراز سبقه، ويقول: لم نزل نرمي حتى يغلب أحدنا. وهذا فاسدٌ جدًّا، وهو بعيدٌ من قواعد الشريعة، ولا سيما عند مَن ألحق هذا العقد بالجِعَالات والإِجارات. وبالله التوفيق. فقد تبيَّن من هذا أن النِّضَال على أربعة أقسام: مفاضلة، ومحاطَّة، ومبادرة، ومباعدة، وأنها كلَّها جائزة، إلا المباعدة؛ فإنَّ فيها خلافًا، وليس على منعها دليل. فصلٌ فإن شرطًا إصابة موضع من الهدف على أن الأقربَ منه يُسْقِط ¬
فصل فيما إذا أطلقت المناضلة، هل العادة معتبرة - والتفصيل في ذلك
الأبعد، ففضل أحدهما صاحبه بما شرطاه، كان سابقًا. ذكره القاضي أبو يَعْلَى، وهو مذهب الشافعي (¬1)؛ لأنه نوع من المحاطَّة. فإذا أصاب أحدهما موضعًا بينه وبين الغرض شبر، وأصاب الآخر موضعًا بينه وبينه أقلُّ من شبر، أسقط الأول. فإن أصاب الأول الغرض؛ أسقط الثاني، وإن أصاب الثاني الدائرة التي في الغرض، لم يسقط الأول؛ لأن الغرض كله موضع الإِصابة، فلا يَفْضُل أحدهما صاحبه إذا أصاباه، إلا أن يشترطا ذلك. وإن اشترطا أن يحسب أحدهما خاسقه (¬2) بإصابتين؛ لم يجز؛ لأنه ظلم وعدوان. وإن شرطا أن يحسب كل منهما خاسقه بإصابتين؛ جاز؛ لأن أحدهما لم يَفْضُل صاحبه بشيء، فهما سواء في ذلك. فصلٌ إذا أُطلقت المناضلة، فإن كان للرماة عادة مطَّردة؛ تُرِك العقد عليها وإن لم يصرِّحوا باشتراطها. ¬
وقد وافق على ذلك أصحاب الشافعي، ونقضوا هذا الأصل في مواضع، وطردوه في مواضع. وقد اتَّفق الناس على طَرْدِهِ في نقد البلد في المعاوضات، وإن لم يُشترط؛ تنزيلًا للعرف منزلة الشرط، وعلى التسليم المتعارَف مثله [ح 145] عادة (¬1) وإن لم يُشْتَرَط؛ كما لو باعه أو اشترى منه دارًا له فيها متاعٌ كثيرٌ، لا يمكن نقله في يوم ولا يومين. وعلى إعماله في قبول الهدية مع الصغار والاكتفاء بقولهم. وعلى دخول دار الرجل اعتمادًا على خبرهم عن إذنه. ونظائر ذلك كثيرة. ونقَضَه من قال: لا تجب الأجرة للحمَّامي ولا الخبَّاز ولا الطَّبَّاخ ولا الغسَّال ولا المُكَاري حتى يَعْقِد معهم عقد إجارة. وقد ثبت بالكتاب والسنة والإِجماع: جواز عقد النكاح من غير تسمية مهر، ووجوب مهر المثل، فإذا كان هذا في النكاح الذي يُحتاط له (¬2) ما لا يُحتاط لغيره، وأحقُّ الشروط أن يوفى به ما شُرِط [ظ 69] فيه = فغيره من العقود بطريق الأولى. والمقصود أنهم إذا كان لهم عادة في مقدار المسافة بين الموقف والغرض، أو عادة في مقدار الغرض، وارتفاع الهدف وانخفاضه = نُزِّل (¬3) العَقْد على العَادَة، ولا يُحتاج إلى ذكر ذلك. ¬
وللشافعي قولان (¬1) هذا أحدهما. والثاني: لا بدَّ من بيان ذلك في العقد. وإن كان لهم عادة في المبتدئ بالرمي أيضًا؛ حُمِل العقد عليها، إلا أن يشترطوا خلافها. فإن شرطوا تعيين من يبتدئ في كل رشقٍ؛ تعيَّن، وإن أطلقوا تعيينه ولم يقولوا في كل رشق، احتمل أن يتعيَّن في الجميع؛ لأنهم لمَّا عيَّنوه ولم يعيِّنوا غيره، عُلم أنهم أرادوا أنه يبتدئ في جميع النوبات، ويُحتمل أنه يتعيَّن في الرشق الأول، ثم يُقرَع بينهم قُرعة أخرى لجميع الأرشاق؛ لأن تعيينه مطلقٌ وليس بعامٍّ، وقد عُيِّن مرة، والمُطلق يُكتفى فيه بمرَّة. والوجهان لأصحاب الشافعي. ولهم وجهٌ ثالثٌ في غاية البُعْد: أنهم يحتاجون في كلِّ رشْقٍ إلى قُرْعةٍ، وفي هذا من التطويل والمشقَّة وَبْرد أيدي الرماة ما يوجب ردَّه وبطلانه. فإن لم يتعرَّضوا لذكر البادئ بالرمي، لم يَبْطُل العقد، إذ لا وجه لبطلانه. وهذا قول الجمهور. وللشافعي قولٌ حكاه الخراسانيُّون: أنه يبطل العقد، وإذا لم يحكم ببطلانه فيما إذا لم (¬2) يتعيَّن، يُنْظَر: فإن كان السبق منهما أو من ¬
فصل فيما إذا تعارض العادة والقياس - وتفصيل الكلام فيه، والراجح فيه
أحدهما، عُيِّنَ بالقُرْعَة [ح 146] وإن كان من الإِمام أو أجنبي، فكذلك. وللشافعيِّ قولٌ آخر: أن مُخْرِج السبق يُعَيِّنه. وعلى هذا القول، فإن عيَّنه لجميع الأرشاق تعيَّن، وإن عيَّنه مطلقًا، فهل يتعيَّن للرشق الأول أو لجميع الأرشاق؟ على الوجهين (¬1). فصلٌ نقل أصحاب الشافعي عنه أنه تردَّد في أن المتَّبع في هذا العقد القياس أو عادة الرماة. واستشكله أبو المعالي الجُوَيْني وغيره، وقالوا: كيف تجوز مخالفة حُجَّة شرعية بعادة غير شرعية؟! ثم اختلفوا في جواب هذا الإِشكال. فقال الصَّيْدلاني (¬2): "تردُّده محمول على عادة الرماة المجتهدين من العلماء". وقال أبو محمد الجُوَيني: "المراد بالعادة ما يتفاهمونه من الألفاظ". ورَدَّ قولَ الصيدلاني بأن عادتهم إذا وافقت القياس، فالحجة في ¬
القياس، وإن خالفت القياس (¬1)، فلا عبرة بها. ورُدَّ قول أبي محمد: بأنه يجب حمل العقود على العادة المطَّردة في الألفاظ. وقال أبو المعالي الجويني: "المراد بالعادة في (¬2) كلام الشافعي العادة في البادئ بالرمي، وعليه يُنَزَّل كلامه، فإن عادة الرماة البداءة بمخرِج السَّبَق"، ثم قال: "إذا عظم وقع القياس، وبعُدت عادتهم عنه، وجب القطع باتِّباع القياس". قلتُ: كلام الشافعي رحمه الله ظاهرُ التردُّد بين دليلين شرعيَّين، فإنَّ العقود تُحمل على العُرْف والمعتاد (¬3) عند الإطلاق، فيُنَزَّل المعتاد منزلة المشروط باللفظ، وهذا دليل شرعيٌّ قائم بنفسه، ما لم يكن المعتاد مخالفًا لكتاب الله، والقياس دليل شرعيٌّ، فإذا خالف العادة، فتردد: هل يقدِّمه على العادة المنزَّلة منزلة الشرط، أو تُقدَّم العادة المشروطة عُرفًا عليه، وكلاهما دليلٌ شرعيٌّ؟ والراجح تقديم العادة؛ فإنها مُنزَّلة مَنْزِلة الشرط، ولا ريب أن القياس يُترك للشرط، فإن القياس: الحلول، ونقد البلد، وجواز التصرُّف عقيب العقد، ويُترَك ذلك كله بالشرط. ¬
فصل في الموقف واختلافه
ولا يخفى ضعف مسلك إمام الحرمين الذي حمل عليه كلام الشافعي؛ فإنه ليس في البادئ بالرمي قياسٌ يخالف العادة الجارية بينهم، ولهذا لو شرطوا أن يبدأ واحدٌ منهم، لم يكن [ح 147] ذلك مخالفًا للقياس، فإذا كان لهم عادة ببداءة واحد منهم لم يكن ذلك (¬1) مخالفًا للقياس، والله أعلم. فصلٌ في الموقف واختلافه إذا اصطفَّت (¬2) الرماة في مقابلة الغرض للرمي فرمى (¬3) كل واحد من موضعه؛ صحَّ باتفاق الفقهاء والرماة، ولا يشترط أن يتناوبوا على الوقوف في موازاة الغرض، فإن رضوا بذلك؛ جاز، وإن تنافسوا في ذلك وكلٌّ منهم آثر الوقوف بإزاء الغرض، كتنافسهم في البادئ بالرمي = ففيه وجهان (¬4): أحدهما: يقدَّم بالقرعة. والثاني: يقدَّم من يختاره مخرِج السبق أو مَن له مزيَّة بإخراجه، كما تقدم. ¬
وإن كان الموضع الذي عيَّنه بعضهم خيرًا من غيره، مثل أن يكون أحد الموْقِفين مستقبلًا للشمس، أو للريح (¬1) ونحو ذلك، والموقف الآخر مستدبرهما قُدِّم قول من عيَّن (¬2) هذا الموقف؛ لأنه أقرب إلى تحصيل مقصود الرمي، وهو الموضع الذي [ظ 70] ينصرف إليه العقد عند الإِطلاق. فإن كان شرطهما خلافه؛ فالشرط عند أصحابنا أولى، قالوا: كما لو اتَّفقا على الرمي ليلًا. ويُحتمل أن يكون الموقف الموافق أولى، ويُجاب من طلبه؛ لأنه أقرب إلى مصلحتهما ومصلحة العقد. فإن استوى الموقفان، وقف الأول حيث شاء منه، وتبعه الثاني. فإذا كان في الوجه الثاني؛ وقف الثاني حيث شاء وتبعه الأول، وليس لأحدهم أن يتقدَّم عن صاحبه إلى جهة الغرض، بل يقفوا صفًّا. فإن رضوا بتقديم أحدهم: فإن كان يسيرًا، جاز، وإن أفرط، لم يجز، لِمَا فيه من مزيَّة التخصيص المنافي للعدل، فصار كما لو شرط لأحدهم السَّبَق بتسع إصابات وللآخر بعشر؛ فإنه لا يجوز اتفاقًا. فلو اتَّفقوا كلهم على أن يتقدموا أو يتأخروا عن موقفهم، جاز. وقال أصحاب الشافعي: يكون الخلاف في إلحاق الزيادة والنقصان. ¬
فرع فيمن تأخر عن موقفه
فرعٌ فإن تأخَّر أحدهم عن موقفه، فهل له ذلك؟ (¬1). يحتمل الجواز؛ لأنه مُؤْثر به (¬2) لأصحابه لا مستأثر عليهم. ويحتمل المنع، لفوات العدل المطلوب من العقد. وللشافعية وجهان. [ح 148]. وكذلك لو كانا اثنين، فتقدَّم أحدهما عن الآخر، لم يجز، وإن تأخر عنه (¬3) فعلى الاحتمالين والوجهين. والله أعلم. فصلٌ وإذا بدأ أحدهما في وَجْهٍ، بدأ الآخر في الوجه الثاني، تعديلًا بينهما. فإن شُرِطت (¬4) البداءة لأحدهما في كل الوجوه، فقال أصحابنا: لم يصح؛ لأن موضوع (¬5) المناضلة على المساواة، وهذا يمنعها. ويحتمل أن يجوز ذلك؛ لأنهما لو اتَّفقا على ذلك برضاهما من غير شرط، جاز؛ لأن البداءة لا أثر لها في الإصابة، ولا في جودة الرمي، ¬
- الحكم المستنبطة في تأخير موسى عليه الصلاة والسلام إلقاء العصا مع السحرة
فإذا شرطا ذلك فقد شرطا ما يجوز فعله، فيصح. وإن شرطا أن يبدأ كل واحد منهما من الوجهين (¬1) متواليين، جاز؛ لتساويهما. وفي المسألة وجه آخر: أنَّ اشتراط البداءة لغوٌ لا تأثير له، ووجوده كعدمه، إذ لا تأثير للبداءة في الإصابة، ولا في جودة الرمي، وكثير من الرماة (¬2) يختار التأخر عن (¬3) البداءة، وهم الحذَّاق، ومنهم من يختار البداءة، ومنهم من يستوي عنده الأمران. والتأخُّر أحسن موقعًا وأعظم قدرًا، ولهذا قال موسى للسَّحرة وقد خيَّروه بين أن يبتدئ هو أو أن يبتدئوا قبله، فاختار بداءتهم أولًا، ثم ألقى هو بعدهم (¬4)، وفي ذلك وجوه كثيرة من الحكمة: - منها: أن المبطِل يستفرغ وُسْعه، ويستنفذ حِيَله، ولا يبقى له شيء يقال: إنه (¬5) لو أتى به لغلب. - ومنها: أن يكون هو الباغي، فيكون أدعى إلى نصرة (¬6) المحقِّ عليه. ¬
- ومنها: أن نفوس الناس دائمًا تستشرف إلى المجيب أكثر من السائل، وإلى المتأخِّر في المغالبات والمقارعات أكثر من استشرافها إلى الأول، فيكون ظَفَره وغلبه أعظم موقعًا. - ومنها: أن هِمَّة المُحِقِّ تقوى وتتضاعف إذا شاهد خصمه وقد وضع له أسباب الغلبة واستنفد سهامه، فتصير همَّته على مقدار ما شاهد من كيد خصمه. - ومنها: أن اللغط يصفو، وينقطع هيج البداوات وهرجها (¬1). - ومنها: أن يجمع همَّه وعزمه ويستعدَّ للمقابلة. - ومنها: أنه يأمن رجوع خصمه واستقالته؛ فإنَّ خصمه قد يرجع عن مقارعته إذا رأى قوته واستظهاره، فلا تظهر غلبته، فإذا بدأ خصمه، أمِنَ من رجوعه [ح 149] واستقالته. ولفوائد أخرى (¬2) غير هذه. وهما مخيَّران بين ثلاثة أمور: أحدها: أن يرميا سهمًا وسهمًا. الثاني: أن يرميا سهمين وسهمين، أو ثلاثة وثلاثة. الثالث: أن يستنفدَ أحدُهما رميه (¬3) ثم يتبعُه الآخر. ¬
- فصل في تعدد الغرض وأنه من السنة
فصلٌ (¬1) والسُّنَّة أن يكون لهما غرضان، فيرميان كلاهما إلى أحدهما، ثم يذهبان (¬2) كلاهما إلى الآخر، فيأخذان السهام، ويرميان الأول، وهكذا كانت عادة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي أثر مرفوع: "كل شيء ليس من ذكر الله عز وجل فهو لغوٌ أو سهوٌ، إلا أربع خصال: مشي الرجل بين الغرضين، وتأديب فرسه، وملاعبته أهله، وتعلُّم السباحة" (¬3). ¬
وقال أبو القاسم الطبراني في كتاب "فَضل الرَّمي": "باب (¬1): فضل المشي بين الغَرَضَيْن". ثم ذكر بإسناده عن أبي ذر يرفعه: "من مشى بين الغرضين؛ كان له بكل خطوة حسنة". وقال إبراهيم التيمي عن أبيه: "رأيت حذيفة بن اليمان يعدو بين الهدفين بالمدائن في قميص". وقال بلال بن سعد: [ظ 71] "أدركتُ قومًا يشتدُّون بين الأغراض، يضحك بعضهم إلى بعض، فإذا كان الليل؛ كانوا رهبانًا". وكان عقبةُ بن عامر يشتدُّ بين الغرضين وهو شيخ كبير. وفي أثر مرفوع: "ما بين الغرضين روضة من رياض الجنة" (¬2). وإن جعلوا غرضًا واحدًا، جاز؛ لحصول المقصود به. ¬
فصل في صفات الإصابة وأنواعها
فصلٌ في صفات الإصابة وأنواعها الإِصابة نوعان: مطلقة ومقيَّدة. فالمطلقة: إصابة الغرض على أيِّ صفةٍ كانت: إما في وسَطِه، أو جانبه الأيمن، أو الأيسر، وكذلك يتناول ما وقع (¬1) في الغرض ولم يخْرِقْه، أو خرقه ولم ينفذْ منه، أو خرقه ونفذ منه، أو غير ذلك. فإن أطلقا الإصابة ولم يقيِّداها بقيد، ففيه وجهان: أحدهما: أن العقد يصحُّ ويتناولها على أي صفة كانت من هذه الصفات. والثاني - وهو الذي ذكره في "المغني" (¬2) -: أن ذكر صفة الإصابة شرطٌ في صحة (¬3) المناضلة، [ح 150] فإن قالا: رَمينا خواصل، كان تأكيدًا لمطلق الإصابة؛ لأنه اسمٌ لها كيفما كانت، وتسمَّى (¬4) القَرْع والقَرْطَسَة، يقال: خَصَل، وقَرَعَ، وقَرْطَس، بمعنى واحد: إذا أصاب. فصلٌ فإن قالا: خَواسِق: وهو ما خَرَق الغرض وثبت فيه. أو خَوازِق: وهو ما خرقه ووء بين يديه. ¬
أو موارِق: وهو ما نَفَذ الغرض، ووقع من ورائِه. أو خَوارِم: وهو ما خَرَم جانب الغَرض. أو حَوابي: وهو ما وقع بين يدي الغَرض ثم وَثَب إليه، ومنه يقال: حَبَا الصبي. أو خواصِر: وهو ما كان في إحدى جانبي الغرض، ومنه قيل: الخاصرة؛ لأنها في (¬1) جانب الإنسان = تقيَّدت المناضلة بذلك؛ لأن المرجع (¬2) في المسابقة إلى شرطهما، فتتقيَّد بما شرطاه. وإن شرطا الخواسق والحوابي معًا، صَحَّ. هكذا ذكره أصحابنا. ويُحتمل أن لا يصحَّ شرط الإِصابة النادرة، كالحوابي؛ فإن هذا إنما يقع اتِّفاقًا نادرًا، فاشتراط الاحتساب به دون ما عداه يَنْدُر جدًّا، وذلك يفوِّت مقصود الرمي. وكذلك كل شرط تندر معه الإِصابة لا ينبغي صِحَّة اشتراطه، وهذا بخلاف ما إذا شرطا إصابة موضع من الغرض، كدائرته ونحوها، فإنه يصح؛ لأنه لا يندر الإصابة فيه، وهو من حذْق الرامي، ومما يُنال بالتعليم، بخلاف (¬3) اشتراط وقوع السهم دون الغرض، ثم يحبو بنفسه، حتى يقع في الغرض؛ فإن هذا لا يُنال بالتعلُّم، ولا هو مما يكثر وقوعه، ولا يتنافس فيه الرُّمَاة. وقد نصَّ الشافعي في أحد قوليه: أنه إذا شرط الخَسْق، فخرق ¬
فرع
الغَرَض، ونفَذَ منه لقوته؛ أنه يُحتسب له به. قال أبو المعالي وغيره من أصحابه: "وهو الأصح؛ لموافقته اللفظ والمعنى" (¬1). قلت: وهذا هو المختار. والقول الثاني: لا يحتسب له به، وإليه ميل الرماة. فرعٌ (¬2) فإن شرطا خوارق، فخَسَقَ وثَبَتَ في الغرض، وإذا وراءه خشبة أو شيء يمنعه من الخرق بحيث لولاه لنفذ= احتمل أن يُحْتَسَب له به، نَظَرًا إلى المقصود، وأنه لولا المانع، لحصل المشروط، وهو كما لو أطارت الريح الغرض، فوقع السهم مكانه. واحتمل أن لا يُحْتَسب له به، للشك في حصول الخَرْق لو كان المانع زائلًا، إذ من المحتمل أن يثبت مع عدم المانع. فصلٌ في القُرْب والأقرب [ح 151] النضال على نوعين: ¬
أحدهما: على الإصابة. والثاني: على القرب من الغرض، فأي السهام كان أقرب، احتُسِب به، وأُلْغِيَ ما دونه. فإن كان لقَدْر القرب عادة بينهم؛ حُمِل إطلاق العقد عليها، وصارت كالمشروطة، وإن لم يكن له عرف ولا عادة، فلا بُدَّ من بيان قدر القُرْبِ المُحْتَسب به: هل هو ذِرَاع أو شِبْر أو نحوه؟ فإن أطلقوا العقد ولم يبيِّنوا قدر القُرب، بل قالوا: أينا كان أقرب سهمًا إلى الغرض؛ احتُسِب به، لم يصحَّ؛ لأنه ما من قرب إلا وغيره أقرب منه، فلا يُعْرَف قدر ما يحتسب به (¬1). وفيه وجهان آخران للشافعيَّة (¬2): أحدهما: يصح، ويقدَّر القرب بسهم. وهذا تَحَكُّم لا دليل له. الثاني: أن يُحْتَسَب بالأقرب فالأقرب، ويسقط كل سهم بما هو أقرب منه. وقال أبو المعالي الجُوَيني: إذا وقعت سهامهما في حَدِّ القُرْب، وكان في سهام أحدهما قريب وأقرب، وأبعدهما أقرب من أقرب الآخر، فهل يُحتسب جميع سهامه أو يُسْقط أبعدها بأقربها؟ [ظ 72]. ¬
- فرع
فيه وجهان: أحدهما: يحتسب بجميعها؛ لأنها كُلَّها أقرب من سهام الآخر، وهذا أظهر. الثاني: أنه يسقط أبعدها بأقربها، ويجعل الأبْعَد لغوًا، ويكون الحُكْم للأقرب. ووجه هذا: أنَ قائله لمَّا احتسب بالأقرب فالأقرب (¬1) جعل الأبْعد مُلْغَى، واحتسب بما هو أقرب منه، كما لو كان الأبعد من سهام صاحبه، والأقرب من سهامه هو، فيعمل في سهامه وحده ما يعمل في سهامهما. هذا كله تفريعٌ على الوجه الأول (¬2)، وأما على اشتراط مسافة القرب، فلا يجيء ذلك. ومهما وقع في جوانب الهدف في حَدِّ القُرْب المشترط؛ حُسِبَ، ولأصحاب الشافعي وجهٌ ضعيفٌ جدًّا: أنه لا يُحتسب ما وقع في أعلى الهدف. ولا وجه له، بل أعلاه وأسفله وجوانبه سواء. فرعٌ إذا قَدَّرا قَدْر الأقرب بذراع (¬3) مثلًا، وشَرَطَا أن يُسْقِط قريبُ كلِّ رامٍ ما هو أبعد منه من رمي الآخر، ولو كان في حدِّ القُرْب؛ وجب ¬
فصل فيما يطرأ من النكبات
اتِّباعه. فلو لم يشرطاه وشرطا (¬1) أنَّ من كان أقرب بذراع، فهو الناضل، وكان أحدهما أقرب بدون الذراع = احتمل أن يُحْتَسَبَ بالأقرب فالأقرب بدون الذراع (¬2)، واحْتُمل أن يحتسب بكل ما يقع (¬3) في حدِّ القرب، ما لم يقصر عنه، وقريبه وأقربُه سواء، والوجهان لأصحاب الشافعي. هذا إذا لم يكن للرماة عادة، فإن كان لهم عادة في الاحتساب [ح 152] أو عدمه؛ نُزِّلَ العقد عليها إجراء لها مَجْرَى الشَّرْط (¬4)، والله أعلم. فصلٌ فيما يَطْرَأُ مِن النَّكَبات إذا عَرَض عارضٌ (¬5) من كسر قوس، أو قطع وَتَر، أو ريح شديدة، لم يحتسب عليه بالسهم إذا أخطأ لعارض من هذه العوارض أو غيرها، كحيوان اعترض بين يديه؛ لأن هذا الخطأ لعارض، لا لسوء رَمْيِه. قال القاضي (¬6): "ولو أصاب، لم يُحتسب له به؛ لأنه لم يُحتسب ¬
- فرع حكم الإصابة بطارئ كالريح
عليه فلم يُحتسب له؛ لأن الريح الشديدة كما يجوز أن تصرف الرمي السَّديد (¬1) فيخطئ = يجوز أن تصرف السهم المخطئ عن خطئه فيقع مصيبًا، وتكون إصابته بِالريح لا بحذق الرامي، فإن وقع السهم في حائل بينه وبين الغرض فمَزَّقه وأصاب الغرض، حُسِبَ له؛ لأن إصابته لِسَدَاد رميه، ومروقه لقوته، فهو (¬2) أولى من غيره، وإن كانت الريح لَيِّنة لا تردُّ السَّهم عادة، لم يمنع الاحتساب عليه بالسهم وله؛ لأن الجو لا يخلو من ريح، ولأن الريح الرُّخاء لا تؤثر إلا في الرمي الرخو الذي لا يُنْتَفَعُ به. فرعٌ وإذا أطارت الريح (¬3) الغَرَض، فوقع السَّهم موضعه؛ فإن كان شرطهما خواصِل (¬4)، احْتُسِبَ له به؛ لِعِلْمِنَا أنه لو كان الغرض في موضعه أصابه، وإنْ كان شرطهما خَواسِق، لم يُحْتسب له به، ولا عليه. هذا قول أبي الخَطَّاب؛ لأنه لا يدري: هل يثبت في الغرض إذا كان موجودًا أولًا؟ ¬
- فرع فيما إذا ألقت الريح الغرض
وقال القاضي: "ينظر، فإن كانت صلابة الهدف كصلابة الغرض، فثبت في الهدف؛ احتسب له به؛ لأنه لو بقي مكانه لثبت فيه كثبوته في الهدف، وإن لم يثبت فيه مع التساوي، لم يحتسب، وإن كان الهدف أصْلب فلم يثبت فيه، أو إن كان رِخْوًا لم يُحْتَسَب السهم له ولا عليه؛ لأنَّا لا نَعْلَم: هل كان يثبت في الغرض لو بقي مكانه أم لا؟ وهذا كله مذهب الشافعي" (¬1). فرعٌ فإن أطارت الريح الغرض، فوقع السهم فيه، لا (¬2) في المكان الذي طار منه؛ فقال أصحابنا (¬3): يحتسب عليه السهم لا له؛ إلا أن يكونا اتَّفقا على رميه في الموضع [ح 153] الذي طار إليه (¬4). وعندي: أنه إذا أطارته بعد خروج السهم من كَبدِ القَوْس حُسِبَت عليه؛ لأنا نتيقَّن أنه لو كان مكانه، لأخطأه. وإن أطارته قبل الرمي، حُسِبَ له، لأنَّ الغَرَض هو المقصود وقد أصابه (¬5). وإن أطارته قبل الرمي، فوقع سهم أحدهما في موضعه الأصلي، ¬
- فصل فيما إذا فسدت الرمية
ووقع سهم الآخر فيه نفسه، فالمصيب من وقع سهمه فيه؛ لأنه هو المقصود، فمن أصابه؛ أصاب. وعلى قول الأصحاب: المصيب هو الذي وقع سهمه في موضعه. وإن كانت إطارته بعد رميهما، فالمصيب من وقع سهمه في مكانه (¬1) الأصلي؛ لأنه هو كان المقصود في الرمي (¬2)، والغرض علامة عليه، وقد أصابَ المقصود، بخلاف ما إذا أطارته قبل الرمي؛ فإنه هو المقصود بالرمي، فمصيبه مصيبٌ للمقصود، وهذا واضحٌ بحمد الله تعالى. فرعٌ وإذا ألقتِ (¬3) الريح الغرض على وجهه، فحُكْمه حكم ما أطارته يمينًا وشمالًا وخلفًا وأمامًا. فصلٌ وكل رمية فسدت لفساد القبض، أو النظر (¬4)، أو العقد، أو الجَذْب، أو الإِطلاق = حُسِبت عليه من رَشْقِه. وإن فسدت لعارض لا يُنْسَب إلى تقصيره، نحو كسر القوس، ¬
- فرع فيما إذا انكسر السهم
وانقطاع الوَتَر، وهبوب [ظ 74] الريح (¬1) عاصفة، وعروض ظُلْمة شديدة، ونحو ذلك، حُسِبَ له إن أصاب. وإن أخطأ، لم يحسب عليه. وأبْعَدَ مَن قال مِن الأصحاب: إنه يُحْتَسَب عليه. وهو غَلَط، وأبعد منه (¬2) من قال من أصحاب الشافعي: لا يَحْتَسَب له مع الإصابة. إذ معلومٌ. أن الإِصابة مع التَّنكيد مِنْ جَوْدَة الرَّمي وفَضْل الحِذْق. وقال أبو المعالي الجُوَيني: "إن عَرَض كسر القوس وانقطاع الوتر قبل نفوذ السهم، لم يحتسب عليه، وإن عرض بعد النفوذ، حُسِبَ عليه". فرع وإن انكسر السهم؛ فإن كان لضعف قدحه، لم يُحسب عليه. وإن كان انكساره لسوء الرمي بأن أخلى الفُوْق في النزع عن الوتر، أو أغرق في النزع، فعلق رأس النصل في كبد القوس، فانكسر، حُسِب عليه؛ لأنه من سُوء رميه. وإن أصاب الغرض بعد انكساره فلا يخلو: إما أن يصيبه طولًا أو عرضًا، فإن أصابه عرضًا [ح 154]، لم يحسب له ولا عليه، وإن أصابه طولًا: فإن كانت الإصابة بالنصل، حُسِبَ له، وإن أصاب بغير النصل، ¬
- فرع فيما إذا أغرق الرامي في النزع
لم يُحْسَب له (¬1)، قاله أصحابنا. وفيه نظرٌ ظاهرٌ، إذ الإصابة برأس القطعة التي فيها الفُوْق، كالإِصابة بالنصل سواء، ولا فَرْقَ بينهما. بل قد قال بعض أصحاب الشافعي (¬2): إنه إن أصابه بقطعة النصل، لم يُحسب، وإن أصابه بقطعة الفُوق، حُسِب في أحد الوجهين. والقولان ضعيفان في النظر والقياس. والصواب أنه يُحْسب له بهما، إذْ لا عِبْرة بالنصل، وإنما العبرة بالإصابة، ولو كان النصل ضعيفًا، فسقط دون الغرض، ووقع السهم بلا نصل في الغرض، حُسِب له قطعًا، وهذا مثله (¬3). فرعٌ فإذا أغرق الرامي في النزع، فخرج السهم من الجانب الآخر؛ حُسِبَ له وعليه، فإن اعترضه حيوان في طريقه، فأصابه، ونفذ منه إلى الغرض فأصاب، حُسِب له. وأبْعَدَ من قال من أصحاب الشافعي (¬4): إنه لا يحسب له. ولا ¬
وجه لقوله. وإن كان الخطأ لفسادٍ عَرَض له في بَدَنِه كالْتواء يده، أو عارض عرض له في بصره، أو داء عرض له أفسد رميه؛ لم يحتسب عليه به (¬1)؛ إلا أن يُنسب العارض إلى تقصيره في الرمي؛ كأن تلتوي يده (¬2) لعدم حذقه في القبض؛ فإنه يُحسب عليه. فصلٌ وكذلك كل إصابة تُضاف إلى غير الرمي، لم يُحْتَسَب له بها، فإذا أصاب السهم شجرة مائلة عن سَمْتِ الغرض، أو شجرة أو جدارًا كذلك فارتدَّ بصدمته، فأصاب الغرض؛ فإن هذه الإصابة لا تضاف إلى رميه. ويُحتمل أن يُحْتَسَب له بها؛ لأنها متولِّدة عن رميه. وللشافعية وجهان في ذلك. فإن كانت الشجرة أو الجدار مُسامِتين (¬3) للغرض، حُسِب له قطعًا، إذ الإصابة من حُسْن الرمي، فإن مرَّ السهم على السداد فصدم الأرض، ثم قفز (¬4) فأصاب الغرض؛ فهل يُحتسب له به؟ ¬
ينظر: فإن كان لهم شرط [ح 155] اتُّبع، وإن لم يكن لهم شرط اتُّبعت عادتهم، إذ هي منزَّلة مَنْزِلة الشرط. وإن لم يكن لهم عادة ولا شرط، احتمل وجهين. ولأصحاب الشافعي في ذلك (¬1) ثلاثة أوجه: أحدها: يحتسب به. والثاني: لا يحتسب. والثالث: إن اتبعت العادة لم يحتسب به، وإلا احْتُسِب به. قالوا: لأن عادة الرماة عدم الاحْتِسَاب. والصواب الاحتساب به (¬2)، لأنا نوجب (¬3) القصاص بمثل هذه الإصابة إذا تعمد (¬4) قَتْل من يكافئه، وينزِّلُها منزلة السهم الذي مرَّ كما هو حتى أصاب المقتول، بل الاحتساب به في النضال أولى، إذ لو كان ذلك شبهة يمنع الاحتساب به في (¬5) الإصابة؛ لكانت أولى بالمنع في القصاص، وهذا ظاهر، ولله الحمد. ¬
- فصل في عقد السباق هل هو عقد لازم أو جائز؟
فصلٌ وقد تقدَّم الخلاف (¬1) في المسابقة: هل هي عقدٌ لازم أو جائز، وأن المشهور من المذهب أنها عقدٌ جائز، فلكل واحد منهما فسخه قبل الشروع فيه، ولهما الزيادة والنقصان، وأنه إن ظهر فضل أحدهما، فله وحده الفسخ، وتنفسخ بموت أحدهما، ولا يُؤخذ بها رهنٌ، ولا ضَمِيْنٌ، ولا يَثْبُتُ فيها خيارُ مجلس. والوجه الثاني: أنها عقدٌ لازم، كالإجارة، فتنعكس هذه الأحكام. فإن أراد أحدهما تأخير الرمي؛ فإن كان لعارضٍ يعمُّهما أو يختصُّ بأحدهما؛ كَوَجع، أو الْتِواء عِرْق، ونحو ذلك، أو ريح، أو ظُلْمَة، أو سيلٍ؛ جاز تأخير الرمي، ولا ينفسخ العقد بذلك، ولصاحب العذر الفسخ به. وإن أراد أحدهما تأخيره بلا عذر، فإن قيل: إن العقد جائز فله ذلك، وإن قيل: بلزومه فلا. ولو تشاغل عن الرمي في الغاية (¬2) وطوَّل بما لا حاجة إليه من مسح القوس والوتر ونحو ذلك؛ ليُبَرِّد هِمَّةَ صاحبه، أو يُنْسيه الوجه ¬
فصل في الجلب والجنب
الذي أصاب به، ويَشْغَله عنه = مُنِع من ذلك، وطولِب بتعجيل الرمي، ولا يُدْهَش بالاستعجال بحيث يمتنع من تحرِّي الإصابة، ويمتنع كلُّ واحد من المناضلين من الكلام الذي يغيظ به صاحبه؛ مثل أن يفتخر ويتبجَّح بالإصابة، ويعنِّف صاحبه [ح 156] على الخطإ, أو يُظْهِر له أنه يعلّمه (¬1)، ويَمْنَعُ [ظ 75] من ذلك مَنْ حضرهم من الأمين والشهود والنظَّارة. فصلٌ في الجَلَب والجَنَب روى أبو داود في "سننه" من حديث عِمْران بن حُصَيْن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا جَلَبَ ولا جَنَبَ يوم الرهان" (¬2). وفي "المسند" (¬3) من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ¬
"لا جَلَبَ ولا جَنَب (¬1) ولا شِغَارَ في الإسلام". وفي "سنن الدارقطني" (¬2) عن علي بن أبي طالب: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يا علي! قد جعلت إليك هذه السَّبْقة بين الناس"، فخرج عليٌّ، فدعا سُرَاقة بن مالك، فقال: يا سُرَاقة! إني قد جعلتُ إليك (¬3) ما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في عنقي من هذه السبقة في عنقك، فإذا أتيت الميطان - قال أبو عبد الرحمن: والميطان مرسلها من الغاية - فصُفَّ الخيل، ثم نادِ: هل من مُصْلحٍ للجام، أو حامل لغلام، أو طارحٍ لجُلٍّ، فإذا لم يجبك أحدٌ؛ فكبِّر ثلاثًا، ثم خلِّها عند الثالثة، يسعد الله تعالى بسبقه من شاء من خلقه"، فكان عليٌّ رضي الله عنه يقعد عند منتهى الغاية، ويخطُّ خطًّا (¬4)، ويُقيم رجلين متقابلين عند طرفي (¬5) الخط، طرفه بين إبهامي أرجلهما، وتمرُّ الخيل بين الرجلين، ويقول: "إذا خرج أحد الفرسين على صاحبه بطرف أذنيه، أو أذن، أو عذار، فاجعلوا السبقة له (¬6)، فإن شككتُما، ¬
كلام الفقهاء في الجلب والجنب
فاجعلا سبقهما نصفين، فإن قرنتُم ثنتين، فاجعلوا الغاية من غاية أصغر الثنتين، ولا جَلَب (¬1) ولا جَنَب ولا شِغار في الإسلام"، وقد تقدَّم الكلام (¬2) في معنى الجلب والجَنَب، واختلاف شرَّاح الحديث فيه، ونحن نذكر كلام الفقهاء فيه: فقال الخرقي في "مختصره" (¬3): "ولا يجوز إذا أرسل الفرسان أن يجنب أحدهما إلى فرسِهِ فَرَسًا يحرِّضه على العدو ولا يصيح به (¬4) في وقت سباقه وذكر الحديث". وأكثر الفقهاء على هذا الذي قاله. وقال القاضي: "معناه: أن يجنب فرسًا يتحوَّل عليه عند الغاية عليه (¬5)؛ لكونه أقل كلالًا وإعياء. قال ابن المنذر: كذا قيل". قال الشيخ (¬6): "ولا أحسِب هذا يصح؛ لأن الفرس التي يسابق عليها لا بدَّ من تعيينها (¬7)، فإن [ح 157] كانت التي يتحوَّل عنها؛ فما حصل السبق بها، وإن كانت التي يتحوَّل إليها؛ فما حصلت المسابقة ¬
بها في جميع الحلبة، ومن شَرْط السباق ذلك، ولأن هذا متى احتاج إلى التحوُّل والاشتغال به؛ فربما سُبِقَ باشتغاله لا بسرعة غيره، ولأن المقصود معرفة عَدْو الفرس في الحلبة كلها، فمتى كان إنما تركه (¬1) في آخر الحلبة؛ فما حصل المقصود. وأما الجَلَب: فهو أن يُتْبع الرجل فرسه من (¬2) يركض خلفه، ويجلب عليه، ويصيح وراءه؛ يستحثُّه بذلك على العَدْو، وهكذا فسَّره مالك". وهذا هو الصواب. وفسَّره بعض الفقهاء بأنه: هو أن يصيح بفرسه وقت السباق، ويجلب عليه (¬3). وفيه نظر؛ لأنه لا يُمْنَع من ضربه ولا (¬4) نخسه بالمِهْمَاز (¬5) وغيره مما يحرِّضه على العَدْو، وهكذا لا يُمْنع من صِيَاحه عليه، وليس هذا ظلمًا؛ لأن الآخر يفعل بفرسه هكذا. والله أعلم بمراد (¬6) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحديث، وهو محتمل ¬
الأمرين. وعن أبي عُبيد في تفسير الحديث روايتان (¬1): أحدهما: كقول مالك. والثانية: أن معنى الجَلَب: أن يحشر السَّاعي - أي: أهل الماشية ليصدقهم - قال: "فلا يفعل، بل يأتيهم على مياههم فيصدقهم". والتفسير الأول تفسير الأكثرين، ويدلُّ عليه: - قوله: "في الرهان"، وهذا يُبْطِل تفسيره بالجلب في الصدقة. - وأيضًا فالجَنَب لا يُعْقَل في الصدقة (¬2). - وأيضًا ففي حديث علي المتقدم في السياق: "لا جَلَب ولا جَنَب". - وأيضًا فحديث ابن عباس يرفعه: "من أجلب على الخيل يوم الرهان؛ فليس منَّا" (¬3). ¬
فصل صور بذل العوض في المسابقات
ذكره صاحب "المغني"، ولا أعرف من خرَّجه (¬1). فصلٌ إذا قال رجل لآخر (¬2): ارم هذا السهم، فإن أصبته، فلك درهم. أو أجب في هذه المسألة، فإن أصبت فلك كذا. أو احفظ هذا الكتاب ولك كذا وكذا؛ صحَّ، وكان جِعَالة مَحْضَة، ليس من عقد السباق في شيء، وقد بذلا مالًا في فعل له فيه (¬3) غرض صحيح؛ لأن السباق إنما يكون بين اثنين فصاعدًا (¬4)، ويكون الجُعل للسابق ¬
لصاحبه (¬1). فإن قال: إن أصبتَ، فلك درهم، وإن أخطأت [ح 158] فعليك درهم؛ لم يصح؛ لأنه قمار. وكذا إن قال: إن حفظته، فلك مئة، وإن عجزتَ عنه، فعليك مئة؛ لم يصحَّ. فإن قال: ارم عشرة أسهم، أو أجب في هذه المسائل العشر، فإن كان صوابك أكثر من خطئك؛ فلك درهم، صحَّ؛ لأنه بذل الجُعل في مقابلة الإصابة المعلومة، وهي أكثر العشر، وليس ذلك بمجهول. وكذا لو قال: إن كان صوابك أكثر، فلك بكل إصابة درهم؛ صحَّ ذلك. ولو قال [ظ 76]: لك بكل إصابة درهم، صح، ولم يُشْتَرط أن تكون إصاباته (¬2) أكثر ولا مساوية. ولو قال: إن أصبتها كلها (¬3) فلك بكل إصابة درهم، صحَّ، فلو أصاب تسعة منها، لم يستحق شيئًا. ¬
الحنث في نذر اللجاج وأحكامه عند الأئمة
ولو قال الرامي لأجنبيٍّ: إن أخطأتُ أنا (¬1) في هذا السهم، فلك درهم، أو إن أخطأتُ في الجواب عن هذه المسألة، فلك درهم، لم يصح؛ لأن الجُعل يكون في مقابلة عَمَل، ولم يوجد من الأجنبيِّ عمل. فلو قال: إن أخطأتُ فعليَّ نذر درهم، أو: فما في يدي صدقة، أو: فعليَّ صوم شهر، أو: عتق رقبة؛ فهو نذر يمين، ويسمى نذر اللَّجاج والغضب (¬2) إذا كان قصده أن لا يكون الشرط ولا الجزاء. وقد اخْتُلِف في موجبه عند الحنث على ثلاثة أقوال، وهي للشافعي (¬3): أحدها: لزوم الوفاء بما التزمه كائنًا ما كان. وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة في أشهر الروايتين عنه (¬4). الثاني: تعتبر (¬5) كفارة اليمين، لا يجزيه غيرها. ¬
فصل في القسي في النضال
وهو رواية في مذهب أحمد (¬1). الثالث: يخيَّر بين التزام ما التزمه، وبين كفَّارة اليمين. وهو المشهور في مذهب أحمد والشافعي (¬2). فإن أوجبنا الكفارة فوفَّى بنذره؛ فهل نسقط الكفارة؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي، وغلَّط أبو المعالي وغيرُه من قال بسقوطها، وليس بغلط، بل هو الصواب قطعًا؛ فإن الكفارة إنما تجب بالحِنْث، فإن وَفَّى بنذره لم يحنث، فلا يبقى لوجوب الكفارة وجه. فإن قيل: موجب هذا العقد الكفارة. قلنا: نعم؛ غايته أنه يمين، وموجبها الكفارة عند الحنث، ولا يحنث (¬3) مع البر، يوضِّحه: أنه لو حلف [ح 159] على ذلك بالله سبحانه وتعالى وبرَّ لم تلزمه الكفارة، فلو قال: والله إن فعلتُ كذا وكذا تصدَّقتُ، ثم فعله وتصدَّق لم تلزمه الكفارة. فصلٌ إذا عيَّنا نوعًا من القسيِّ تعيَّن، ولا يجوز العدول عنه إلى غيره؛ إلا باتفاقهما. ¬
وإن عيَّنا قوسًا بعينها، لم تتعيَّن، ويجوز إبدالها بغيرها من نوعها. والفرق بينهما: - أن أحدهما قد يكون أحذق بالرمي بأحد النوعين دون الآخر، فلا يقوم النوع الآخر مقام النوع المعيَّن؛ بخلاف تعيين القوس من النوع الآخر (¬1) الواحد. - وأيضًا؛ فإن القوس المعيَّنة قد تنكسر، أو يحتاج (¬2) إلى إبدالها. - وأيضًا فالحِذْق لا يختلف (¬3) باختلاف عَيْنِ القوس؛ بخلاف النوع. فصلٌ فإن تناضلا على أن يرمي أحدهما بالقوس العربية والآخر بالفارسية، أو أحدهما بقوس الزيتون والآخر بقوس الجَرْخ، وكلاهما قوسُ رِجْلٍ؛ صحَّ عند القاضي والشافعي؛ كما تقدَّم (¬4). وإن كان أحدهما قوس يد والآخر قوس رجل؛ لم يصحَّ. والفرق بينهما: أن في الصورة الأولى هما نوعان من (¬5) جنس ¬
فصل إطلاق العقد
واحد فصحَّت المسابقة مع اختلافها كاختلاف أنواع الخيل والإِبل. وفي الثانية هما جنسان مختلفان، فلا يصحُّ النضال بينهما؛ كما لا تصحُّ المسابقة بين فرس وجمل. فصلٌ وإذا أُطلق عقد النضال، ولهم عادة بنوع من القسي؛ صحَّ، وانصرف العقد بإطلاقه إليه (¬1)، وإن اختلفت عادتهم: فإنْ كان فيها غالبٌ، حمل العقد عل النوع الغالب، وإن استوت، فلا بدَّ من تعيين النوع؛ ليرتفع (¬2) النزاع بينهم. فإن قالا: على أن نرمي بالنُّشَّاب؛ انصرف ذلك إلى القوس الفارسية، وهي قسيّ العسكر اليوم؛ لأن النشاب (¬3) اسم لسهامها الخاصة. وإنَّ قالا: نرمي بالنَّبْل؛ انصرف إلى القوس العربية؛ لأنَّ سهامها هي المسماة بالنَّبل. هذا إذا لم يكن شرطٌ ولا عادةٌ مطَّردةٌ أو غالبةٌ. فصلٌ وقد نصَّ الإمام أحمد (¬4) على جواز المسابقة بالقسيّ الفارسي، ¬
والاختلاف في كراهتها، وبيان الصواب فيها
وأباح الرمي بها. وقال أبو بكر من أصحابنا: يكره الرمي بها (¬1)، واحتجَّ [ح 160] بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى مع رجلٍ قوسًا فارسيّة، فقال: "ألقها فإنها ملعونة، ولكن عليكم بالقسي العربية، وبرماح القنا، فبها (¬2) يؤيِّد الله الدين، ويمكِّن الله لكم في الأرض". والصواب المقطوع به أنه لا يُكْرَه الرمي بها، ولا النضال عليها، وقد انعقد إجماع الأمة على إباحة الرمي بها وحملها، وهي التي يقع بها الجهاد في هذه الأعصار، وبها يُكْسَر العدو، وبها يُعَزُّ الإسلام، ويُرْعب المشركون. والمقصود: نصرة الدين، وكسر أعدائه، لا عين القوس وجنسها، وقد قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، والرمي بهذه القسي من القوَّة المعدَّة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ارموا، واركبوا، وأن ترموا أحبُّ إليَّ من أن تركبوا" (¬3). ولم يخصَّ نوعًا من نوع، وليس هذا الخطاب مختصًّا بالصَّحابة، بل هو لهم وللأمة إلى يوم القيامة، فهو أمر لكل طائفة بما اعتادوه من الرمي والقسي. والأحاديث التي تقدَّمت في فضل الرمي وتبليغ العدو بالسهام (¬4) ¬
عامَّة في كل نوع، فلا يُدَّعى فيها التخصيص بغير موجب. وأما النهي عنها: فإن صحَّ نقله (¬1)؛ فذاك في وقت مخصوص، وهو حين كانت العرب هم عسكر الإِسلام، وقسيهم العربية، وكلامهم بالعربية، وأدواتهم عربية (¬2)، وفروسيتهم عربية، وكان الرمي بغير قسِّيهم والكلام بغير لسانهم حينئذ تشبُّهًا بالكفار من العَجَم وغيرهم. فأما في هذه الأزمان؛ فقسي عساكر (¬3) الإسلام الفارسية أو التركية، وكلامهم وأدواتهم وفروسيتهم بغير (¬4) العربية، فلو كُرِه لهم ذلك (¬5) ومُنِعوا منه؛ فسدت الدنيا والدين، وتعطَّل سوق الجهاد، واستولى الكفار على المسلمين، وهذا من أبطل الباطل. فإن صحَّ الخبر (¬6)، فالنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعنها وأمر بإلقائها حين لم يكن العَجَم والتُّرْك قد أسلموا، فهي كانت شعارًا للكفار والمشركين، أو منع الرجل من حملها لعدم معرفته بها، وتكلفه الرمي بها، والخروج عن عادته وعادة (¬7) أهل الإسلام حينئذ، ولهذا [ح 161] قال: "وعليكُم ¬
برماح القنا"، فلو قاتلنا أمة لا تنفع معهم الرماح، بل السهام والسيوف (¬1) لم تستعمل الرماح حينئذ، واستعمل معهم ما يخافون شوكته من السلاح. ومن هذا لو حاصرنا حصنًا، فقوس الجرخ فيه أنفع من قوس اليد؛ لكان الرمي بقوس الجرخ أولى من الرمي بقوس اليد، بل (¬2) كان يتعيَّن، فإن كان الرمي بالمنجنيق أدعى إلى فتحه؛ كان أولى من النشاب وحده. والكافر عدوٌّ، والمقصود قتله كيفما أمكن، كقتل الحية والكلب العقور. فكل طائفة من المسلمين الأفضل في حقِّها أن تقاتل بما اعتادته من القسي والآلات وأنواع الحرب والقتال. ولو كانت عساكر الإسلام (¬3) اليوم تقاتل بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه القسي الفارسية، ويُنْصَر الله ورسوله بها (¬4)؛ لمدحها وأثنى عليها، ولم ينههم عنها. وبالله التوفيق. ¬
فصل فيما يعرف به السبق في الخيل والإبل
فصلٌ فيما يُعْرَف به (¬1) السَّبق في الخيل والإِبل الاعتبار في ابتداء الميدان بالأقدام، لا برأس ولا كتف، فيتعيَّن تساوي أقدام المركوبين. وأما في انتهائه؛ فاختلف الفقهاء في ذلك. وللشافعي ثلاثة أقوال (¬2): أحدها: أنه بالأعناق. والثاني: أنه بالأقدام. والثالث: أنه بالأعناق في الخيل، وبالأخفاف في الإِبل. هذه طريقة الخراسانيين من أصحابه. وقال العراقيون: "إن تفاوتت الأعناق؛ فلا عبرة بها، وإن تساوت فهي محلُّ الأقوال الثلاثة". وقال أبو المعالي: "إن تفاوتت الخيل في مَدِّ أعناقها حال الجري؛ وجب النظر إلى الطول والقصر (¬3)، وإن كان أحد الفرسين ¬
يمدُّ عنقه والآخر يرفعه؛ ففيه الأقوال الثلاثة، وإن استويا في مدِّ العُنُق؛ فإن اعتبرنا القدم لم ينظر إلى الأعناق، وإن اعتبرنا العنق (¬1) اتَّجه اشتراط (¬2) تساوي الأعناق". ولا يخفى ما في هذه الطريقة من الضعف وعدم شهادة نصوص الشافعي لها بالاعتبار. وأما أصحاب أحمد؛ فلهم ثلاثة طرق (¬3): أحدها: أن السبق فيها بالكَتِف. وهذه طريقة أبي البركات ابن تيمية وغيره. والثانية: أن السبق في الإِبل بالكَتِف، وأما الخيل؛ فإن تساوت أعناقها فبالرأس، وإن تفاوتت فبالكتف. وهذه طريقة الشيخ أبي محمد وغيره. والثالثة: أن السبق في الجميع بالأقدام. وهذه اختيار [ح 162] شيخنا أبي العباس ابن تيمية، وهي التي اختارها أبو عبد الله بن حمدان في "رعايته"، وهي الصحيحة المقطوع بها؛ اعتبارًا بأول الميدان، واعتبارًا بمسابقة بني آدم على الأقدام، ولأن أحد الفرسين قد يكون أمدَّ جسمًا من الأخرى فما للسبق والكتف ¬
والرأس، وإنما جريها وعملها على أقدامها (¬1)؟! فكيف يُحكم لمن سبقت يداها وتقدمت بالتأخُّر إذا تقدمت عليها كتف الأخرى أو رأسها؟ وهل هذا إلا جعل المسبوق سابقًا والسابق مسبوقًا؟! ومن المعلوم أن أحَدَ الفرسين أو البعيرين إذا تقدَّم قدَمُه على الآخر؛ كان سابقًا له بنفس آلة السباق، فلا مدخل في ذلك لرأس ولا كَتِف. ولعلَّ قول [ظ 78] الثوري: "إنَّ السبق في ذلك كله بالأذن" أمثل من اعتبار الرأس والكَتِف، وهو الذي جاء مصرَّحًا به في حديث عليًّ بن أبي طالب رضي الله عنه وقد تقدَّم (¬2)، بخلاف الرأس والكتف؛ فإنه لم يُحفظ فيه أثرٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أصحابه، والظاهر أن عادتهم كانت اعتبار السبق بالأقدام؛ كمسابقة بني آدم، ولا يُعْقل اسم السَّبْق إلا بذلك، فلا يحتاج فيه إلى نقل صريح؛ لعدم التباسه واطَّراد العادة به، والله تعالى أعلم. ¬
فصل ذكر أنواع السلاح ومنافعه والقفضيل بين أنواعه
فصلٌ في (¬1) ذكر أنواع السلاح ومنافعه والتفضيل بين أنواعه فصلٌ: في أنواع القسيّ وهي في الأصل نوعان: قوس يد، وقوس رِجْل. وقوس اليد ثلاثة أصناف: عربية، وفارسية، وتركية. والعربية نوعان: - فمنها الحجازية يصنعونها من عود (¬2) النبع، أو الشَّوْحَط (¬3)، وهي قضيب أو قضيبان، ويسمونها شريحية، والتي من عود (¬4) واحد عندهم أجود، قال شاعر القوم في ذلك (¬5): ارْمِ عَلَيْها وهِي فَرعٌ أَجْمَعُ ... وهِيَ ثلاثُ أَذْرُعٍ وإصْبَعُ وهذه قسي أهل البدو منهم. وأما أهل الحضر: فيعقبون ظهورها، ويكسون بطونها قرون ¬
فصل في القوس الفارسية
المَعْز، ولا تكاد هذه القسيٌّ تُرى إلا بأرض الحجاز، ولا يُنْتَفع بها في غيرها من الأماكن، وليست لها سِيات [ح 163] ولا مقابض. - والنوع الثاني منها: الواسطية، وهي مصنوعة من أربعة أشياء: الخشب والعقب والقرن والغراء، ولها سِيَتَان ومقبض، وسميت واسطية لتوسُّطها بين (¬1) القسي الحجازية والفارسية، وليست نسبة إلى واسط؛ فإنها كانت موجودة قبل بناء واسط، وتسميها العرب المنفصلة (¬2)؛ لانفصال أجزائها قبل التركيب، وهي أحد القسي عندهم. وتحت هذين النوعين أصناف كثيرة تجاوز العشرة. فصلٌ وأما القوس الفارسية: فهي قسيّ العساكر الإسلامية في هذا الزمان في الشام ومصر، وما يضاف إليهما. وأما القسي التركية: فهي مثل قسي الفرس؛ غير أنها أغلظ منها، وكثير منها - بل أكثرها - لها قفل ومفتاح، وتسمى الأنثى والذكر، ويجعلون لها ركابًا في طرف مجراها، فإذا أراد أحدهم أن يوترها، أدخل رجله في ركابها، فأوترها. ¬
المفاضلة بين قوس اليد وقوس الرجل
فصلٌ وأما القوس المنعوتة بقوس الرجل (¬1)؛ فنوعان: أحدهما: هذه التركية. والثاني: قوس الجرخ، وهي قوسٌ لها جوزةٌ ومفتاحٌ، وأهل المغرب يعتنون بها كثيرًا، ويفضِّلونها. وأصحاب قوس اليد يذمونها، فيقولون: لا ينبغي لعاقل أن يرمي بها، ولا أن (¬2) يعتمد عليها، ويذكرون ما فيها من الغرر والعيوب والتكلُّف والإبطال وشدَّة المؤنة بالحمل (¬3)، وأنها تخون وقت الكفاح، ولا يتمكَّن المحارب بها من أكثر من سهم واحد، ثم يخالطه عدوُّه. قالوا: فصاحبها ضعيف النكاية، لا يملك إلا سهمًا واحدًا، ثم هو أسير مملوك، وصاحبها لا يمكنه حمل الترس مع القوس، ولا الدرقة، وإنما يرمي من خلف جدار السور، وخلف حجر يكون مستورًا به، فإنْ رمى في براح من الأرض؛ فلا بُدَّ له من رجُلَيْن مُتَرَّسين يمسكان عليه حتى يرمي، وأين مَن يرمي مِن شقٍّ في جدار السور إلى من يبرز في البراح والفضاء يرمي نظره، وذلك [ح 164] لا يرمي إلا قطعة يسيرة أمامه؟! ¬
فصل النزاع بين الطائفتين
وأربابها يفضلونها ويذكرون فوائدها، ونكايتها في الحصون والمعاقل، وتأثيرها؛ ما لا يؤثره قوس اليد. وفصل النزاع بين الطائفتين: أن قوس اليد أنفع في وقت مصافَّة الجيوش، وملاقاة العدو في الصحراء، وأما قوس الرجل، فأنفع وقت حصار القلاع والحصون، وأنكى من قوس اليد، وقد يكون الرمي بها من داخل الحصون أيضًا إلى العدو الخارج أنفع، وأنكى فيهم (¬1)، فلهذه موضع ولهذه موضع. وقوس اليد أعمُّ نفعًا، وعلى الرمي بها أكثر الأمم، وأهلها هم الرماة على الحقيقة. فصلٌ في أنفع (¬2) القِسِيّ وأولاها بالاستعمال أولاها وأنفعها ما كثرت (¬3) نكايته، وقلَّت آفته، وخفَّ حمله (¬4)، وقَوِيَ فعله، فتلك القوس المحمودة لصاحبها، الدافعة الأذى عن حاملها. وهذا عامٌّ [ظ 79] في جميع السلاح، فأنفعه وأفضله (¬5) ما خفَّ ¬
- فصل أنفع قسي اليد
حمله على الأعضاء، ودفع عنها الأذى. وسأل عمر بن الخطاب عمرو بن مَعْدِ يكرِب يومًا عن السلاح؟ فقال: يسأل أمير المؤمنين عمَّا بدا له. قال: ما تقول في الرمح؟ فقال: أخوك، وربما خانك فانكسر أو (¬1) انقصف، قال: فما تقول في التُّرْس؟ فقال: هو المحزُّ، وعليه تدور الدوائر، قال: فالنَّبْل؟ فقال: منايا تخطئ وتصيب، قال: فالدرع؟ قال: متعبة للراجل مشغلة للراكب وإنها لحصن حصين، قال: فالسيف؟ قال: هناك ثكلتك أمك، فضربه عمر رضي الله عنه (¬2) بالدِّرَّة؛ قال: بل أُمك لا أُمّ لك (¬3). فصلٌ وخير قسي اليد وأنفعها ما تركبت من الخشب والعقب والقرن والغراء، وفي ذلك حكمة بليغة، وصنعة شريفة رفيعة؛ وذلك (¬4) أنها منشأة على نشأة الإنسان؛ فإن قوامه وبناءه على أربع: على العظم واللحم والعروق والدم، فكذا أنشئت القوس على هذه الأربع: [ح 165]. - فالخشب لها بمنزلة العظم من الإنسان. - والقَرْن بمنزلة اللحم المسبَّك على جميع أعضائها. ¬
- والعَقِب بمنزلة العروق المشتبكة على جميع أعضاء الحيوان. - والغراء فيها بمنزلة الدم الذي به يلتئم جميعها. ولمَّا كان للإِنسان ظَهْر وبطن؛ جعلوا لها ظهرًا وبطنًا (¬1)، وكذلك تراها (¬2) تنطوي من نحو بطنها كما ينطوي الإنسان، وإن كسر ظهرها انكسرت من ساعتها، وكذلك الإنسان. وقد ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في "تاريخه" (¬3) أن جبريل نزل بالقوس على آدم، فهو أول من رمى بها. وثبت في "الصحيح" (¬4) أن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن كان راميًا. ورمى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحدٍ حتى اندقَّت سِية قوسه (¬5). وقد ذُكر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كانت عنده ثلاث قسي (¬6): قوس معقبة تُدْعَى ¬
فصل في المفاخرة بين قوس اليد وقوس الرجل
الروحاء، وقوس شَوْحط تدعى البيضاء، وقوس نَبْع تدعى الصفراء. ولا ريب أن القسيّ العربية أنفع للعرب، والفارسية أنفع (¬1) للعسكر اليوم، وكلاهما يَفْضُل القسي التركية؛ لما فيها من القوة والشدة والسرعة والرطوبة وخفَّة الحمل (¬2) وقوة الفعل، ولم تكن الترك تعتاد هذه القسي الفارسية، ولكن لما خالطت الفرس وعاشرتهم، تعلموا منهم كثيرًا من زِيِّهِم ولِبَاسِهم وحَرْبِهم ولِسَانِهم وآلاتهم. فصلٌ في المفاخرة بين قوس الْيَد وقوس الرِّجِل قال قوس الرِّجْل لقوس اليد: أنا أشدَّ منك بأسًا، وأعظم أركانًا، وأقوى وَتَرًا، وأغلظ سهمًا ونَصْلًا (¬3)، وأبْعَدُ مرمى، وأشدُّ نفوذًا، أنا (¬4) أنفذُ في الصَّخر الأصمّ، وأخرِقُ ما ينكسر فيه لك من نصل وسهم، تفرُّ الجيوش من وقع سهمٍ واحدٍ من سهامي، وأهزِمُها يمينًا وشمالًا، وأنا محجوبٌ وراء الرامي، زمجرتي كزمجرة الرُّعُود، ومنظري الكريه (¬5) كمنْظَر الأُسُوْد، لا يُخاف على ظهري الانكسار، ¬
ولا على وَتَرِي الانقطاعِ، ولا تَرُدُّ سهامي عواصف الرياح، ولا يحجبها درعٌ ولا مِغْفَر ولا سَابِغة، ولا يقوم لها شيءٌ من السِّلاح، فسَلْ عني الحُصُون [ح 166] والقِلاع: هل يقوم غيري مقامي في المكافحة عنها والدِّفاع؟ ثم سَلْ جيوشها عن مقدمي تلك الصفوف، وعمَّن يشيرون إليه في تلك الرُّجُوف؟ فهل لراميك قوَّة تَحَمُّلي (¬1)؟ أم لك قدرة على دفع سهمي ونصلي؟ من الذي خالطه (¬2) سهمي فلم يغادره صريعًا؟ أم من الذي حلَّ بساحته فما سَلَبَه ثوب الحياة سَلْبًا سريعًا؟ (¬3) فمن الذي يقوم مقامي لبأسي الشديد؟ أم أيُّ قوسٍ سِوَايَ ترمي بسهام الحَدِيد؟ هذا؛ وإن السَّهم من سِهامي ليوزن بالقوس من سِواي، وإذا أحاط العدو بالحصون خانهم (¬4) جميع أنواع السلاح إلا إياي، فأنا والمنجنيق رَضِيْعَا لبان، وإن التقيت بالواحد من الناس وهو يحتاج إلى كثرة الأعوان، ومن حاربني فما له بحربي يَدَان، ومن نازع قوتي، فقد جاهر بمخالفة العيان. فصلٌ قال قوس اليد (¬5): ¬
عجبًا لك أيها البغيض (¬1) الثقيل ومزاحمة اللِّطاف الرِّشاق والجري معها، ولست هناك في ميدان السباق، وقل لي: متى استصحبك في الحروب العساكرُ؟ متى استصحبك في الصيد صائدٌ، أو في طريق سفره المسافر؟ أما تستحي من ثقل حَمْلِك على الأعضاء؟ ومن تخلُّفك عن جيوش الإسلام يوم اللقاء؟ فإذا وقعت العَيْنُ في العَيْنِ، كُنْتَ عن اللقاء بمَعْزَل، وإذا نَزَلت أمراء جيوش السلاح منازلها، فمنزلتك (¬2) منها أبْعَد منزل، لا تقاتل إلا من وراء جِدَارٍ أو سُوْر، ومتى برزت إلى العدو في براح من الأرض، فأنت [ظ 80] لا شك مغلوب ومأسور، هذا وإن قدَّر الله تعالى وأعان وبرَزْت إلى العدو مع الأعوان، فلك سهمٌ واحد تبطر (¬3) به وقد لا تصيب، وأنا أرمي عليك عدَّة من السهام، وإن كان منها المخطئ والمصيب، أنا أعين صاحبي على رميه قائمًا وقاعدًا ولابِثًا وسائرًا، وراكبًا ونازلًا، ولو أراد صاحبك منك ذلك، لكنت بينه وبين قصده حائلًا، ويكفيك قُبْحًا أن شكلك كالصَّليب، ولهذا حمل من حمل من العلماء لعن النبي - صلى الله عليه وسلم -[ح 167] لك على ذلك، كطائفة منهم: عبد الملك (¬4) بن حبيب. ويكفيك ذمًّا أن المستخرج لك عدو إبراهيم الخليل، بل عدو الرحمن، وهو نُمْرُوْد بن كَنْعَان؛ كما ذكر ذلك مؤرخ الإِسلام ¬
محمد بن جرير (¬1) الطبري في "تاريخه الكبير" عن ابن عباس: "أنَّ أول من رمى بقوس الرجل: النُّمرودُ بن كنعان، استخرجها حين رَجَم بها السماء؛ لأنه لما صحَّ عنده أنَّ الله في السماء صنع تابوتًا، وربَّى نَسْرَين عظيمين في الخلقة، وجعل التابوت على ظهرهما، وكان التابوت له (¬2) ثلاث طبقات، فلما غابت الدنيا عن بصره؛ أمر بالقوس، وكانت قوسًا عظيمًا، يجذبها بحركة (¬3) كاللولب لقوتها، فجعل السهم فيها، ورمى بها نحو السماء، فغاب السهم عن بصره ساعة، ثم رجع إليه مدمَّى؛ لِما أراد الله من خذلانه وتماديه على الكفر وعذابه بما سبق في علمه، فقال: قد قتلتُ إله السماء. فحوَّل النسرين، وجعل التابوت نحو الأرض، حتى هبط إلى الأرض، فازداد استكبارًا وعلوًّا في الأرض حتى أهلكه الله عز وجل بأضعف خلقه، وهي البعوضة". فلو لم يكن لك مثلبة غيرها، لكفى بها، وكم بين قوسٍ رَمَتْ بها الأنبياء، وقوسٍ رُمِيَتْ بها السَّماء (¬4)؟!. وأنت لا يتمكَّن صاحبك من حملك مع ترس ولا دَرَقَة ولا تَرْكَاش ولا شيء من أنواع السلاح، ولا يمكن الجمع بينك وبين سُمْر العوالي وبيض الصِّفَاح، هذا؛ وقوَّة الدفع فيك بحركة وصناعة، وقوَّة الدَّفع (¬5) مني بما أعين به صاحبي من ¬
القوة والشجاعة، فصاحبك ضعيف النكاية (¬1)، قليل الحماية، تابع لغيره، مأمورٌ، محكوم عليه، وصاحبي عظيم الهيبة، كثير المنفعة، متبوعٌ أميرٌ (¬2)، يُتحاكمُ إليه، غايتك أن تكون من بعض خَدَمه، ومنخرطًا في سلك أتباعه وحشمه، وبي فتحت البلاد، ودانت بالطَّاعة لربِّ العباد، وأصحابي هم الملوك والأمراء والأجناد، وأصحابك حراس القلاع، وأصحابي أرباب [ح 168] الأخبار العظيمة والأقطاع. فيا عجبًا لك (¬3) كيف يستوي راكب أتان وراكب حِصَان؟! وكيف يستوي القوس الشريفة المؤيَّدة المنصورة التي شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجنسها بالنصر والتأييد، والقوس التي نهاية أمرها أن تكون في (¬4) مثل الخدم والعبيد؟! سهامي تخرج متتابعات متواصلات متماطرات؛ سهم في إثْرِ سهم، وإصابة في إثر إصابة، فتَرى سهامي كوابِلٍ انْهَلَّ من صوب الغَمَام، وهي تَرِدُ متتابعةً، يتلو بعضُها بعضًا، تسوق النفوس إلى الحِمَام. فصاحبي مثل الأسَد في بَسَالته، مهيب حيثما (¬5) توجَّهت ركائبُهُ، مخوف معظَّم حيثما استقبلت مضاربه؛ لأنَّ قُوَّتي معه، وشِدَّتي في ¬
يده (¬1)، فحيث أراد كيد عدوِّه، تمكَّن منه، ولا يتَّقيه بشيء من السلاح، لقوته وشدَّته وسرعته؛ لأنه لا يعرف من أين يتَّقيه، ولا من أين يأتيه. وأيّ فضيلة أشرف، وأيّ مكانة (¬2) أعلى، وأيّ حرمة أشد من رجل من المسلمين قد أحكم صناعة الرمي بي، فركب جواده، وسدَّد سهامه، وقام إلى الصُّفوف عيانًا، فأثخنهم بالجراح والحتوف، من قابله (¬3) قتله، ومَنْ اتَّبعه صرعه، لا ينجي الفارَّ منه فِرارُه، ولا ينفع الشجاعَ البطل منه (¬4) إقبالُه وإدبارُه. وإنما مالَ من مالَ عنِّي من أرباب قوس الرِّجلِ لأنهم وجدوها أقرب تناولًا إليهم، وأسهل مؤنةً وأخفّ عليهم، فعدلوا لذلك إليها، وعوَّلوا بعجزِهم عني عليها، وسهَّل ذلك عليهم أنهم لم يكن لهم دُربة على الخيل، فتدعوهم إلى قسيّ اليد داعية الاضطرار، وإنما كانت حروبهم في (¬5) قرى محصَّنة، أو من وراء جِدَار. فاسمع الآن جملةً من عيوبك المتكاثرة، ثم اقصد إلى المساجلة والمفاخرة: - فمنها: أنَّ شكلك كواحد الصُّلبان، وثقلك كنصف حجر ¬
الطحَّان، وبين السهمين من سهامك برهةٌ من الزمان، لا [ح 169] تبرز لعدوَّك في الفضاء، ولا تلقاه بالعراء. - ومنها: أنَّ الماءَ إذا أصابك بمطرٍ أو غيره، وابتلَّ به وَتَرُك؛ لم يُمَكَّن صاحبُك من الرَّمي بك ألْبتَّة، بل تصير كالقطعة من الخشبة اليابسة. - وأيضًا، فقوس الرِّجْل قوَّته في أوَّل أمره، ثم يضعف عن الأوَّل الثاني، والثالثُ عن الثاني، والرابعُ عن الثالث، وهلمَّ جَرًّا، حتى تَفْنَى (¬1) قوَّتُه وصلابتُه، ويتحلل ثبوته إلى أن (¬2) يصير الوتر عمالًا على المَجْرَى، فإن رُمي به، لم يوصل إلى شيء، وربما قتل الرامي به، وإنْ حلّه وفتل الوتر كما يفعل بعضهم؛ اعتراه في الثاني ما اعتراه في [ظ 81] الأوَّل، فلا تزال القوس في ضعف وخَوَر، فإن فتل الوتر ثانية، ضَعَفت (¬3) جدًّا، وربما بطلت قوتها، وربما انكسرت، فتدعوه الضَّرورة إلى قوس غيرها، أو يجلس خاسرًا، فكم بين من يرمي نهاره كلَّه بقوس اليد لا يتغيَّر لها سهم، ولا تَنْحلُّ لها قوَّة، ويكون آخر سهم كأوَّل سهم، وبين مَنْ يرمي بقوسٍ إنما سلطانها في أوّل سهم، ثم هي أمير في الثاني، ثم تَفْتَتُّ (¬4) في الثالث، ثم تتردَّى في الرابع، ثم هي في الخامس بمنزلة الرجل الضعيف؟! ¬
- ويكفي من عيوبك أن الوتر منك ربما كان على وجه المجرى، فرجع السهم إلى وجه الرامي، فيقتله، وربما كان فُوقُ (¬1) السهم فيه ضيِّق عن الوتر، فينبذ به القوس إلى ناحية أخرى غير المرمى، فيقتل مَن كان قريبًا منه، وربما كانت الجَوْزَة عالية جدًّا، فينبذ الوترُ السهم إلى ناحية أخرى، أو إلى وجه الرامي فيقتله، ولقد شوهد بعض رماة هذا القوس وقد مال قوسُه، وألقى فيها سهمه، وهو يريد أن يضرب سَبُعًا ضَارِيًا كان يؤذي الناس، فلما فوَّق نحو السبع رجع السهم إلى وجهه، فضربه ضربة في عينه، فاحتبس فيها، وكان إخراجه من عينه بعد الجهد الشديد (¬2)، والمشقة العظيمة، وقد سالت على وجنته، فآلى الرجل على نفسه أن لا يرمي بهذه القوس أبَدًا. وأما ما يسمع لك من القَعْقَعَة والجَعْجَعَة، فهي التي غرَّت جهَّال الناس بمنافع قوس الرِّجل ومصالحها؛ فإنهم إذا سمعوا صوتَ تلك القعاقع، وشاهدوا هول [ح 170] تلك الجعاجع؛ ظنَّوها لقوَّتك وشدة بأسك، أو لقوَّة الرامي بك، ولسان الحال يقول: أسْمَعُ جَعْجَعَةً ولا أرى طِحنًا، وأشاهد قَعْقَعْةً ولا أرى فِعْلًا (¬3). هذا وجميع قوَّتك وشدَّتها إنما تذهب في المجرى بمحل (¬4) الوتر له إذ الوتر ليس مواريًا لموضع القضيب، إنما الوتر على وجه المَجْرَى ¬
والقضيب في نصفها، فزالت قوة القوس من السهم، وحصلت جميع القوة في المجرى، وقد حدَّدَ حذَّاق هذا الرمي ما يصل من القوَّة إلى السهم، فوجدوا ربع القوَّة، فما ظنُّك بربع القوة مع الخَطَر والغَرَر؟! ويكفي في (¬1) التفضيل أن أول من رمى بك نُمْرُوْد بن كَنْعَان؛ كما تقدَّم، وأوَّل من رمى بي آدم أبو البشر؛ كما حكاه محمد بن جرير الطَّبري في "تاريخه" (¬2): إنَّ الله سبحانه لما أمر آدم بالزراعة حين أُهبط إلى الأرض (¬3) من الجنة فزرع؛ أرسل الله تعالى إليه طائرين يأكلان ما زرع، ويخرجان ما بذر، فشكا ذلك إلى الله تعالى، فأهبط (¬4) عليه جبريل وبيده قوس ووتر وسهمان، فقال: يا جبريل! ما هذا - وأعطاه القوس -؟ قال: هذه قوة من (¬5) الله تعالى. وأعطاه الوتر، وقال: هذه شدَّة من (¬6) الله، ثم أعطاه السَّهْمَيْن، فقال: يا جبريل: ما هذه؟ فقال: هذه نكاية الله تعالى، وعلَّمه الرمي بها، فرمى بهما الطائرين، فقتلهما وسُرَّ بذلك. ثم صار عِلْم الرمي إلى إبراهيم الخليل، ثم إلى ولده إسماعيل، وقد ثبت في "الصحيح" (¬7) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لنفر من أَسْلَم: "ارموا ¬
فصل في أنواع الفروسية الأربع
بني إسماعيل؛ فإنَّ أباكم كان راميًا"، وقد تقدَّم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى يوم أحد عن قوسه حتَّى اندقَّت سيتها (¬1)، ورمى بي خيارُ الخلْق بعد الرُّسل، وهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأنت قد عرفت أصْلَك وفَصْلَك ومن رَمَى بك، وعُدَّة أيّ قومٍ أنت؛ فإن مُعَوَّلَ طائفة الإفرنج (¬2) عليك، وهم قومٌ لا قَدَم لهم في الفروسية، وإنما غالب حربهم بالصِّناعات والآلات؛ كما أنَّ غالبَ حرب كثير من التوك بالكيد والخديعة والمكر (¬3)، وبذلك استولوا على كثير من البلاد، ودوَّخوا به العباد [ظ 82] *. فصلٌ [ح 171] والفروسية أربعة أنواع: أحدها: ركوب الخيل، والكرّ والفرّ بها. الثاني: الرمي بالقوس. الثالث: المطاعَنة بالرِّماح. الرابع: المُدَاوَرَة بالسيف. فمن استكملها؛ استكمل الفروسية. ولم تجتمع هذه الأربعة على الكمال إلا لغُزَاة (¬4) الإسلام، وفوارس ¬
فصل في عدد أصول الرمي وفروعه وما يحتاج إلى تعليمه
الدِّين، وهم الصحابة رضي الله عنهم، وانضاف إلى فروسيَّتهم الخيليَّة فروسيَّة الإيمان واليقين، والتنافس في الشَّهادة، وبَذْل نفوسهم في محبَّة الله تعالى ومرضاته، فلم يَقُمْ لهم أُمَّة من الأمم أَلبتَّة، ولا حاربوا أُمَّة قط (¬1)؛ إلا وقهروها، وأذلُّوها، وأخذوا بنواصيها (¬2)، فلمَّا ضعفت هذه الأسباب فيمن بَعْدَهم، لتفرُّقها فيهم، وعدم اجتماعها؛ دخل عليهم من الوهن والضَّعف بحسب ما عَدِمُوه من هذه الأسباب، والله المستعان. فصلٌ في عدد أصول الرمي، وفروعه، وما يُحتاج إلى تعلُّمه (¬3) فالذي اجتمعت عليه الرماة من الأمم أن أصول الرمي خمسة؛ جمعها بعضهم في قوله: الرَّمْيُ أَفْضَلُ ما أوْصَى الرَّسُولُ بِهِ ... وأشْجَعُ النَّاسِ مَنْ بِالرَّمْيِ يفْتخِرُ أرْكَانُهُ خمْسَةٌ القَبْضُ أَوَّلُها ... والعَقْدُ والمَدُّ والإطْلاقُ والنَّظَرُ وجعلها بعضهم في أربعة، وجمعها في قوله: ¬
يا سائِلِي عَنْ أُصولِ الرَّمْيِ أَرْبَعَةٌ ... العَقْدُ والقَبْضُ والإِطْلاقُ والنَّظَرُ ولم يعدَّ منها المدَّ، فاستُدْرِك عليه المدُّ (¬1)؛ فإنه من الأركان. وقال آخرون: أصولُه (¬2) أرْبعة، وفروعه تسعة، وكماله خصلتان، فالمجموع خمسة عشر خصلة، من استكمل عِلْمَها وعَمَلَها (¬3) استكمل عِلْم الرمي. ونحن نبيِّنُها. فالأصل الأول: القبض على القوس (¬4). والثاني: العقد. والثالث: النظر. والرابع: الإطلاق. وأما الفروع: الأول (¬5): المدُّ على استواءٍ وتَرَفُّقٍ. ¬
والثاني: معرفة مقدار قوسه ليكون على بصيرة من الرمي به (¬1). والثالث: معرفة مقدار الوتر (¬2) فيه. والرابع: معرفة مقدار فُوْقَ السهم، وهو: الغرض الذي يجعل فيه الوَتَر. والخامس: [ظ 83] معرفة مقدار السهم. والسادس: معرفة قدر قوته هو (¬3) في نفسه. والسابع: هَيْئَات الجلوس والوقوف. والثامن: قَصْد الإصابة [ح 172] لا البُعْد. والتاسع: النِّكَاية. أما الخصلتان اللتان بهما تمامه، وهما ملاك أمره: فالصَّبر، والتُّقَى. وهذا كلام حسن جدًّا. وقالت طائفة: أركان الرمي أربعة: السرعة، وشدة الرمي، والإصابة، والاحتراز، فالرامي على الحقيقة: مَن كَمُلت فيه هذه الأربعة، وكل واحدة منها محتاجة إلى أخواتها، كما يحتاج الرمي إلى أربعة: القوس، والوتر، والسَّهم، والرامي. فلو كان سهم الرجل مصيبًا ولم يكن مُنْكِيًا؛ لم يؤثر. ¬
- فصل ما يحتاج إليه المتعلم
ولو كان سهمه منكيًا، ولم يكن مصيبًا؛ لم ينفع. ولو كان مصيبًا منكيًا، ولم يحسن التحرُّز من عدوه؛ فإنه يوشك أن يقتُلَه عدوه قبل رميه إيَّاه؛ لعدم معرفته بالتحرُّز منه. ولو اجتمعت فيه الثلاثة: الإصابة، والنكاية (¬1)، والتَّحرُّز، ولم يكن سريع الرمي؛ نقص ذلك من بسالته وشجاعته، وقلَّ انتفاعُه برميه، ورُبَّمَا فاته مطلَبُه، وهرب خصمه منه؛ لبطء رمْيِه له. فمن لم يستكمل هذه الخصال، فليس برام عندهم. فصلٌ (¬2) والذي يحتاج المتعلِّم إليه اثنا عشر شيئًا: ثلاثة شِدَاد، وثلاثة ليِّنة، وثلاثة ساكنة، وثلاثة مستوية. فأما الثلاثة الشداد: فالقبض بالشمال، والعَقْد باليمين، والمدُّ بالذِّراع والسَّاعد. وأما الثلاثة الليِّنة: فالسبَّابة من اليد اليمنى، والسبابة من اليد اليسرى، ولين السهم في حال الجذب (¬3) الجَيِّد. وأما الثلاثة الساكنة: فالرأس، والعنق، والقلب. وأما الثلاثة المستوية: فالمرفق، والنضْل، والفُوْق. ¬
فصل في آداب الرمي وما ينبغي للرامي أن يعتمده
ومِلاك ذلك كله بأمرين: معرفة مقدار القوس من القوة، ومعرفة مقدار السهم من (¬1) الخفة والثقل، وينبغي أن لا يأخذ قوسًا فوق مقداره؛ فإنه يظهر عيبه وعجزه، ويؤذي نفسه، ويفسِد رميه، ويُطْمِع فيه عَدُوه، فيجلب إلى نفسه من الأذى ما لا يناله منه عدوه (¬2). فصلٌ في آداب (¬3) الرمي وما ينبغي للرامي أن يعتمده قد تقدَّم أن الملائكة لا تحضُر من اللهو شيئًا؛ إلا الرمي، فينبغي للرُّماة أن يعلموا [ح 173] مقدار مَن بحضرتهم - وهم الملائكة -، فينزلونهم منزلة الأضياف، والكريم يكرِم ضيفه، واللئيم يقابله بخلاف ما يليق به (¬4) من الإكرام، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" (¬5). فينبغي للعاقل (¬6) بأن يَعُدَّ رُواحه إلى المَرْمَى، كرواحِهِ إلى المسجد، واجتماعه بمن هناك، كاجتماعه برؤساء الناس وأكابرهم، ومن ينبغي احترامه منهم، ولا يَعُدُّ رواحَه لَهْوًا باطلًا ولَعِبًا ضائعًا، بل هو ¬
كالرّواح إلى تعلُّم العِلْم، فيذهب على وضوء، ذاكرًا الله عز وجل، عامدًا إلى روضة من رياض الجنة، وعليه السكينة والوقار، فإذا وصل إلى الموضع؛ دخل بأدبٍ، وسلَّم، ووضع سلاحَه، وحَسُنَ أن يصلي ركعتين، وليست (¬1) بتحيَّة البقعة، ولكنها مفتاح للنجاح والإصابة، فالأمور إذا افتتحت بالصلاة، كانت جديرة بالنُّجْح، ثم يدعو ويسأل الله التوفيق والسَّداد، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يا علي! سَلِ الله الهُدَى والسَّداد، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، وبالسَّداد سداد السهم" (¬2). ثم يُخْرِج قوسَه ويتفقَّده، ثم يتفقَّد سهامه، فيُمِرُّها على إبهامه، وينظر ما ينبغي الرَّمي به، فإذا وقع اختيارُه على رشق منه - وهو النَّدب - مسحه، وتركه، ثم يُوتِر قوسه، ويتفقد وَتَرَه، وينظر في سِيَة (¬3) القوس ومَغَامِزها، فإن كانت على الاستواء، رَمَى عليها، وإن كانت على (¬4) اختلاف، تجنَّبها. فإذا رمى رسيله، لم يبكِّته على خطإ، ولم يضحك عليه منه؛ فإنَّ هذا من (¬5) فِعْل السُّفَّل، وقلَّ أن أفلح مَنِ اتَّصف به، ومن بَكَّتَ بُكِّتَ به، ومن ضَحِك من الناس، ضُحِك منه (¬6)، ومن عيَّر أخاه بعمل، ابتُلِي به ولا بُدَّ، ولا يَحْسِدُه على إصابته، ولا يصغِّرها في قلبه، ¬
ويقول: رَمْية من غير رام ونحو هذا من (¬1) الكلام، ولا يَحْسُن أن يُحِدَّ النظر إلى رسيله حال رميه؛ فإن ذلك يشغله، ويشوِّش عليه قلبه، وجمعيَّته، وينبغي للرُّماة أن يخرجوا هذا من بينهم [ح 174] فإنَّ ضرره يعود عليهم. فإذا وصلت النوبة إليه قام، فشمَّر كُمَّهُ وذَيْلَه، وسمَّى الله، وأخذ سهامه بيمينه، وقوسه بيساره، ووقف على موقفه بأدبٍ وسكينةٍ [ظ 84] ووقارٍ وإطراقٍ ولَبَاقةٍ وخفَّةٍ واستمدادٍ ممَّن الحولُ والقوَّة بيده أن يُمِدَّه بالقوة (¬2) والإصابة، ويجعل سهامَه بين رجليه، وسِيَةَ قوسِه السُّفْلَى على الأرض، والعليا عند صدره، ثم يأخذ السهم (¬3)، فيديره على إبهامه، ويمسك القوس بلباقة، ويُفَوِّق عليه السهم كما ينبغي، ويعتمد على وسطها، ويمدُّ، فإذا بلغ نهايته، سَكَن قليلًا، ثم أطْلَق. فإذا خرج السَّهمُ، تأمَّل موضع وقوعِه، فإنْ مرَّ سادًّا حفظ ذلك الوضع والهيئة، ورعاهما كلما رمى، وإن خرج إلى يمين الغرض أو يساره أو أعلاه أو أسفله، نظر في علَّة ذلك، ومن أي شيء حدث، هل هو من قِبَل القوس، أو الوتر، أو السهم، أو الريح، أو من قبل الرامي نفسه، إما مِنْ قبضه، أو عقده، أو إطلاقه، أو نظره؟ فإذا وقع على علَّة الخطإ تجنَّبها، وسمَّى الله تعالى عند كلِّ رمية، فإن أصاب، حَمِدَ الله تعالى، وأثنى عليه، وقال: هذا من فضْلِ ربي، وإن ¬
أخطأ، فلا يتضجَّر، ولا يتبرَّم، ولا يَيْأس من روح الله تعالى، فخطأُ هذا الباب أحبُّ إلى الله من الإصابة في أنواع اللعب سواه. ولا يشتم قوسه، ولا سهمه، ولا نفسه (¬1)، ولا أستاذه؛ فإن هذا كله من الظُّلْم والعُدْوان، ولْيصابر الرمي وإن كثر خطؤه، فيوشك أن ينقلب الخطأ صوابًا، وليعلم أن الخطأ مقدمة الصواب، والإساءة مقدِّمة الإحسان. ولقد حُكِيَ عن بعض أكابر العلماء أنه تكلَّم يومًا في مسألة، فأصاب، فاستحسنه الحاضرون، وقالوا: أحسنت والله، فقال: واللهِ ما قيل لي أحسنت حتى احمرَّ وجهي من خطئي فيها كذا وكذا مرة، أو كما قال. ولا يفتُّ في عضده ما يرى من إصابة غيره، وحذقه، وعدم وصوله هو إلى تلك المرتبة؛ فإن هذا ليس بنقص [ح 175]، بل النَّقص كل النقص أن تتقاصر همَّته عن البلوغ إلى درجة ذلك، ولا يحدِّث نفسه بأن يصل إلى ما وصل إليه، فهذا هو الذي لا يفلح؛ فإنَّ المُعَوَّل على الهِمَم، وقد قيل: إذا أَعْجَبَتْكَ خِصالُ امْرِئٍ ... فَكُنْهُ يَكُنْ مِنْكَ مَا يُعْجِبُكْ فلَيْسَ عَلى الجُودِ والمَكْرُمَاتِ ... إذا جِئْتَهَا حَاجِبٌ يَحْجُبُكْ (¬2) ¬
فصل في الخصال التي بها كمال الرمي
وقال آخر (¬1): لا يُؤيِسَنَّك مِنْ مَجْدٍ تُباعِدُهُ ... فإنَّ للمَجْدِ تدْرِيجًا وتَرْتِيبا إنَّ القَنَاة الَّتي شَاهَدْتَ رِفْعَتَها ... تَنْمُو وتَصْعَدُ أُنْبُوبًا فأُنْبُوبًا فصلٌ في الخصال التي بها كمال الرمي رأيت للأستاذ أبي محمد عبد الرحمن بن أحمد الطَّبَرِي (¬2) في ذلك كلامًا حَسَنًا أمليه (¬3) بلفظه قال: "ينبغي أن يَجْعَل الرامي عينَه اليمنى من خارج القوس مع النصل على الغرض ويكون نظرُه بعينه اليمنى من فَوْق عقد السبابة اليسرى من قبضته، ويفْتُلُ خِنْصَرَهُ على جانبه الأيمن قليلًا قليلًا (¬4) فَتْلًا خفيفًا فيه يصحُّ الاعتماد وتمام النظر من العين اليمنى من خارج القوس، وينبغي أن يُسْبِل كتفه اليسرى؛ ليطول شماله، ¬
ويَقْصُر سهمُه، ويَحْسُنَ جَرُّه، ويستوي بطنُه عند آخر وفائه، وتكون العقدة الأخيرة من أصل إبهامه اليسرى موازية لرأس مَنْكِبه الأيسر، ويمدَّ وهو كذلك؛ لا (¬1) يخفض شماله ولا يُصْعِدها، وتكون المداراة لزيادة السَّهم ونقصانه بالزَّنْدِ. وأما مقدار السَّهم: فقد اختلفت أقوال الرُّمَاة فيه، والصوابُ أن مقداره ما يحسن بالرامي استيفاؤه حتى يبلغ نصلُه إلى العُقْدَة الأولى من الإِبهام، ويكون مرفقه الأيمن موازيًا لمَنْكِبه وقبضتُه في خطِّ الاستواء، ومتى طوَّل مقداره عن ذلك أو قصَّره؛ اضطرب له اعتماده. ومن سبيل الرمي أن يَغْمِز على المِقْبض بأليةِ كفه اليسرى والضرة بين العقدتين من الإبهامين غمزًا واحدًا إلى أن يستوفي [ح 176] سهمه، وبهذا تتمُّ صحة القبضة والسرعة. فإذا أراد أن يُفْلِت السَّهم، زاد في غمزه بالضرب من حيث لا تُنقص قوة (¬2) أليةُ الكفّ على ما كان في يده، وبهذا تتمُّ صحة القبضة، والسرعة، والنِّكاية. وسبيل الفَتْلة: أن تُعقدَ على ثلاثة وستين، وأن تَعْتَمِد على [ظ 85] إبهامك أكثر من سبابتك، ولا ترفع طرف إبهامك عن العقدة حتى تواري عقدة الوسطى من سبابتك اليمنى، ويكون موقعُ الوتر النصف من سبابتك اليمنى. فإذا أردت الإطلاق؛ فسبيله أن تُطْلِق بعد الوفاء واستقرار النصل ¬
فصل في النكاية
بين عقدتي الإبهام مع القبضة بمقدار يعدو النصل (¬1)، وتفرك السهم عن الوتر بالإبهام من أسفل الفُوق، وبالسبابة من فوقه، بحيث لا يصيب شيءٌ من إبهامه وسبابته للفوق، ويزن السهم، ويفتح وسطه مع سبابته وإبهامه في وقتٍ واحدٍ عن الإطلاق؛ فإن ذلك أُسّ الإِطلاق، وأسْلَس للسهم، أو أسرع (¬2)، وأنْكَى مِن فتح سبابته وإبهامه فقط، ومِن فَتْح أصابعه الخَمْس في وقت الإفلات". فصلٌ في النَّكَاية قال الطَّبَرِيُّ (¬3): "قال لي عبد الرحمن الفَزَارِي: أصلُ الرمي إنما وُضِعَ للنِّكاية، فمَن لا نكايةَ له؛ لا رمي له عند علماء هذه الصِّناعة وحذَّاقها من المتقدِّمين. وكان الذي يقع به الفضل بعد بلوغهم نهاية الرمي والحذق شيئان: أحدهما: طنين الوتر، وصفاء صوته بعد إفلاته. والثاني: شِدَّة نِكَايته. فمَن صحَّ صوت وتره منهم وأنكى كان له فضلٌ عندهم. فإن تكافؤوا في طَنيْن الوَتَر، وصَفَاءِ صوته، والنِّكاية، والسُّرعة، والإِصابة؛ لم يبق لأحدهم فضل على أصحابه (¬4) إلا شيء واحد، وهو ¬
صحة الكُشْتِبَان (¬1)، وعدم تأثير الوَتَر فيه؛ فمن كان عقده صحيحًا. وسَلِم كشتبانه من حزِّ وتَرِه (¬2)؛ كان أحذقَ الرماة وأفضلهم. قال: وكان طاهرٌ (¬3) البلخي وأبو هاشم وإسحاق وغيرُهم من الأكابر يخفون كشاتبينهم، ولا يظهرونها لأحد (¬4)؛ خوفًا أن يوجد غير سالم من جهة الوتر (¬5)، فيسقط [ح 176] من حَدِّ الأستاذيَّة عند نظرائه (¬6). وقال: بذلتُ جَهْدي في طَلَبِ رامٍ ليس في وجه كشتبانه أثر ولا عيب، فلم أجد". قال الطبري: "فسألتُ أُستاذي (¬7) أن يريني كُشْتِبَانَه، فامتنع، فلم أزل ألحَّ عليه حتى أجابني، ثم أخذه وأنا أرى، فرمى عليه، ثم دفعه إليّ لمعرفته (¬8) فوجدتُه مستوي الجرَّ، لا انحراف فيه ولا مَيْل، سَلِيْم الوَجْه من شَعْثِ الوَتَر، وكان طَاقًا واحدًا أديمًا (¬9) صَلْبًا لا حَشْو فيه، متوسط الغِلظ ¬
وقال العبَّاس القرشي - وهو من أكابر (¬1) تلامذة طاهر -: إنه اجتهد أن يرى عقد طاهر، فلم يَقْدر، إلى أن دخل معه الحَمَّام، فاستخرج كُشْتِبَانه من ثيابه، فنظر فيه، فإذا هو لا أَثَرَ فيه، فعلم أنَّ مداراة (¬2) الرمي وصِحَّتَه في الكُشْتِبَان". قال الطبري: "وقال لي (¬3) عبد الرحمن: النكاية عشرة أشياء: تسعة منها في الوفاء التام الصَّحيح، وواحد في الرامي. والوفاء وفاءان: أحدهما (¬4) أن يبلغ نصلُ السهم إلى العُقْدة الأولى من الإبهام، فمَن قال بهذا الوفاء، أنكر على من يَجُوزُ بالنصلِ هذه العقدة الأولى من الإبهام، واحتجَّ هؤلاء بأن قالوا: النَّصل عدوٌّ، وليس للإنسان أن يدخل العدو على نفسه. والوفاء الثاني: بلوغ النَّصل ما بين العقدتين من الإبهام. وقال عبد الرحمن: سمعنا من شيوخنا أن مدَّ وفضل النصل في السهم أنفذ شِبْرًا في الدَّرقة، وأنهم شبهوا الوفاء الأول بالدُّخان الذي يلحق العدو من النَّار الموقدة التي يرمون بها، والوفاء الثاني بإصابة النار نفسها لهم. قال: وقد قال قومٌ: إنَّ الوفاء إلى طرف (¬5) الظفر، وضعَّف غيرهم ¬
هذا الرأي". قال الطبري: "وفي الرمي ثلاث خصال: واحدة في الإنسان، وأخرى في القوس، والثالثة في السهم. فأما التي في الإنسان، فخمسة عشر شيئًا: أربعة في القفلة، وثلاثة في القبضة، وخمسة فى الإطلاق، وواحدة في الفم وقت الإطلاق، واثنتان في الصدر. فأما الأربعة التي [ح 177] في القفلة: فهي شِدَّتها (¬1) في نفسها وَقْت الجَرِّ أشد ما يكون بالأصابع كُلِّها غير السبابة؛ فإنها تكون دونهن، والثلاثة الأُخر في صحة القفلة، وصحَّتها أن يعقد ثلاثًا وستين، ويكتم ما استطاع (¬2) الأظافر من الأصابع الثلاث: الخِنْصَر، والبِنْصَر، والوسْطى، حتى لا يرى منها شيء، وأن يجعل الوتر من إبهامه دون الجرّ مما يلي أصلها (¬3) مستويًا لا انحراف فيه ولا تعويج، ويجعل طرف الإبهام فوق عقدته الوسطى من أصبعه الوسطى (¬4)، لا تتحرك عنها إلى وقت الإفلات، ويجعل سَبَّابته على لحم إبهامه بعد أن يرمي باطن لحم سبابته إلى ظهر إبهامه [ظ 86] على الجزء الأوَّل من السبابة على جَنْبِ إبهامه مما يلي الوَتَر، ¬
ويعطف طرف سبابته، ويجعل الجزء الثاني من سبابته على جَنْب ظاهر إبهامه مما يلي الفُوْق، ويجعل جانبي الفُوْق بين الإبهام والسبابة، محاذيًا لما بين العقْدة الأخيرة من أصل سبابته وبين الجزء الثاني، ويحمل السبابة عن (¬1) بدن السهم قليلًا من أول جرِّه إلى مخرج السَّهم عن يده. وليحذر الرامي كلّ الحذر (¬2)، أن يغمز سبابته على شيء من فوق سهمه في مدِّه (¬3) وإفلاته، فيتعوَّج سهمُه، وتكثُر آفاتُه بعد الإطلاق. وأما الثَّلاثة الأُخَر التي في القبضة: فواحد منها: شدّتها في نفسها وقت الجَرِّ أبلغ ما يكون بجميع الأصابع. واثنان منها: في صحتها، وهي أن تجعل متن (¬4) مقبض القوس ما بين جَرِّ أصول (¬5) أصابعك الأربعة ورأسه الأعلى ما بين عُقدتي إبهامك والأسفل على مقدار عرض أصبع واحدة مما يلي الكف. وأما الخمسة التي في الإطلاق: فثلاثة منها في الإبهام والسَّبابة والوسطى، وقد تقدَّمت. ¬
واثنان في صحة الإطلاق: بأن يَغْمِزَ على الوَتَر بإبهامه من أسفله، وبالسَّبَّابة على الوتر من فوق القوس، بحيث لا يصيب الإبهام ولا السبابة بشيء من فُوْق السهم ولا بدنه وقت الإفْلات. وليحذر الرامي أن يفتح وقت إفلاته خِنْصَره وبنصره؛ فإنَّ شدَّة الكفِّ بهما، ولْيَفْتح الوسطى مع السبابة والإبهام؛ فإن في فتحها [ح 178] منافع كثيرةٌ: منها: سلاسة الإطلاق. ومنها: سلامة (¬1) وجه الكُشْتِبَان. ومنها: أنه يأمن بفتح الوسطى من مسِّ الوَتَر لِطَرفِ سبابته وإبهامه بَعْد الإطلاق. وأما الذي في الفَم: فهو أن يستنشق الهواء من أول مَدِّهِ إلى وقت وفائه قليلًا قليلًا، فإذا أطلق، تنفَّس مع إفلاته تَنَفُّسًا خفيًّا من حيث لا يشعر به مَنْ هو إلى جانبه. وأما الشِّيئان اللذان في الصدر: فأحدهما: أن يجمع صدره من (¬2) وقت مدِّه إلى آخر استيفائه، حتى يكون صدرُه في آخر الوفاء أضيق ما يكون. والثاني: أن يفتح صدْرَه في نفس إطلاقه؛ ليحصل لكل كَتِف ¬
فصل في جمل من أسرار الرمي ذكرها الطبري في كتابه
وطرفٍ من يديه جزءٌ من القوَّة، فكأنه يعين كتفيه ويديه (¬1) بصدْرِه". قال الطبري: "فإذا أحكم الرامي جميع هذا، ولم يُنْقِص منه شيئًا؛ كان راميًا كاملًا، ولم يرمِ جَوْشَنا (¬2) ولا خُوْذَة ولا باب حَدِيد إلا أنفذه. فصلٌ في جُمَل من أسرار الرمي ذكرها الطبري في كتابه وهي عشرون سرًّا: فمنها: ثلاثة مستوية، وثلاثة معوجَّة، وثلاثة ليِّنة، وثلاثة شديدة، وثمانية تُفرَّق (¬3) في سائر البدن. فأما الثلاثة المستوية: فرأسُ القوس، والزجُّ - وهو النصل -، والمِرْفَق. وأما الثلاثة المعوجَّة: فرِجْل الدشتان عند الإيْتَار، ومُقَدَّم الرِّجْلَين عند القيام (¬4) للرَّمي. وأما الثلاثة اللَّيِّنة: فعقد ثلاث وستين، ومقْبض اليسار، ومِرْفَق اليسار. ¬
وأما الثمانية المفرّقة (¬1): فأوَّلها: أن لا يشد على القبضة في أوَّل المدّ، ويشدّها في آخره. والثاني: أن (¬2) لا يرخي عقد الستين على الثلاثة، ولا يتَّكئ عليها، بل يجعل بينها فرجة في المدِّ عند الإطلاق، فهو أصلح له. والثالث: أن يجعل بُعد الوَتَر عن وجهِهِ قدر ثلاث أصابع، وأقله أصبع واحدة، وعند الإطلاق يُخرِج سِيَة (¬3) قوسه قليلًا. الرابع: أن يكون أول المَدِّ برفقٍ إلى وقت الإطلاق. والخامس: شدّ الشِّمال على المقبوض جدًّا كلما أمكن. قالوا: حتى يكاد الدم يخرج من الظفر، [ح 179] وعليه إجماع الرُّماة؛ لأن في استرخائها عند الإطلاق آفاتٌ كثيرةٌ. والسادس: إذا رمى إلى بُعْدٍ اتَّكأ على رجله اليمنى، وإذا رمى إلى (¬4) قربٍ اتَّكأ على رجله اليسرى. السابع: أن يكون بين أصابع زِنْدِه اليسرى وبين المقبض فُرْجَة؛ حتى لا يلحق الكُرْسُوع، فهو أشدُّ لها. والثامن: أن يترك الحرص على طلب الصَّائب، ويجعل حرصه ¬
فصل في القيام والجلوس
على صحة العمل وتوفيته حقَّه. فإذا فعل ذلك جمع الحذق والإصابة. فصلٌ في القيام والجلوس القيام على ثلاثة أوجه: - أما مذهب الأستاذ طاهر (¬1): فإنه كان يقوم بحِذَاء الرُّقْعة متوجِّهًا، مستوي الرجلين بينهما قَدْرُ عظم الذِّراع، ويعلِّم ذلك تلامذته. - وأما الأستاذ أبو هاشم: فإنه كان يقوم مُنْحَرِفًا يسيرًا بين المتوجِّه والمنحرِف، وزعم أنَّ هذا أعدل القيام للرمي، وعليه أكثر من يرمي في الإشارات. - وأما مذهب الفُرس والرُّوم: فيقولون بالانحِراف جدًّا، ويجعلون المَنْكِب الأيسر حِذَاء الرُّقْعة، ويلصق الرامي أحد رِجْليه بالأخرى (¬2). فصلٌ وأما الجلوس؛ فعشرة أوجه (¬3): - فأما مذهب أبي هاشم: فإنه كان يقعد على رجله اليمنى، ويقيم ¬
اليسرى، ويشدّ يده إليها. - وكان البلخي إذا أراد الرمي في القرب، قعد على يمينه، ويقيم ركبته اليسرى، ويشدُّها إلى يساره. وإذا أراد البعد، قعد على يساره، وأقام ركبته اليمنى، وشدَّ يده إليها. وزعموا أنه كان يرمي بهذا المذهب خمس مئة ذراع. - وأما عبد الله بن زيد: فإنه كان يقعد على قدميه، ويقيم رأس ركبتيه، ويضع [ظ 87] أَلْيَتَهُ على الأرض إذا استوى. وهو صَعْب. - وطائفة أخرى تقعد على الرجل اليمنى وتقيم اليُسرى، وهذا يصلح للرمي مع السلاح. - قال الطبري: "ورأيت منهم من يبرك (¬1) على الركبتين جميعًا ويرمي، وكان بعض الأستاذين يقعد على الركبة اليسرى، واليمنى بائنة عنها، ويرمي من وراء رُكبتيه (¬2)، وهذا مذهب ينسب إلى (¬3) الكاغَدِي". - وأما الأستاذ أبو موسى [ح 180]: فإنه كان يقوم قائمًا بحذاء الرقعة، ورجلاه مستويتان ملتصقتان، ثم يجرُّ الرجل اليسرى إلى خلف، ويقعد على عقبه، ويكون مشط الرجل اليمنى ملتصقًا بالركبة الشمال، وعلى ركبته اليمنى إلى خلف. ¬
فصل مشتمل على فصول من طب الرمي وعلاج علله وآفاته
وفي شدِّ الركبة على الأرض معنى لطيف. - وأما مذهب الزرَّاد: فإنه كان يجعل قدمه اليسرى خلف ألْيَتِهِ، ويجعل رأس الركبة اليسرى بحذاء المنكب، والقدم (¬1) اليمنى بائنًا عن الركبة اليسرى، ويرمي. - وأما مذهب طاهر: فإنه كان يجلس متربّعًا متصدِّرًا، ويأمر تلامذته بالجلوس على الرجل اليسرى، والاتِّكاء على اليسار. - ومن الرُّماة من كان يقعد على رجله اليسرى، ويجعل ركبته اليمنى على ركبته اليسرى مبسوطة إذا أراد أن يرمي في القرب، فإذا أراد البُعْد، جلس على رجله اليمنى، وبسط اليسرى عليها، كما فعل في الابتداء ويرمي. ولكلِّ مذهبٍ من هذه المذاهب وجهٌ حسنٌ، وخاصيَّة. فصل: مشتمل على: فصول من طِبِّ الرمي، وعلاج علله، وآفاته فصلٌ منها (¬2) فمن العلل: أن يمس الوَتَر بذراع الرامي، وذلك يكون من أسباب ¬
عديدة: أحدها: دِقَّة (¬1) المقْبَض. الثاني: سِعَة الكف. الثالث: دخول زِنْدِه في القوس. الرابع: اسْتِرْخَاء قبضة يده اليسرى. الخامس: طول الوَتَر. السادس: قيام أسفل القوس. السابع: من جهة كُمِّه إذا لم يشمِّرْه. الثامن: من شِدِّه الجَبْذ. التاسع: صَلابة القوس. العاشر: سِعَة حلقتي الوَتَر. الحادي عشر: كَثرْة لَحْم الرَّاحة. الثاني عشر: استرخاء مفاصله. الثالث عشر: لين الوتر على القوس الصّلبة. الرابع عشر: عِوَج القبضة أو السِّيَة (¬2). ¬
ويمس الوتر ذراع الرامي في أربعة مواضع: أحدها: في الساعد. الثاني: في الكُرْسُوع، وهو طرف الكفّ. والثالث: بقرب الكُرْسُوع. والرابع: من القبضة. فأما مسّ الساعد؛ فمن ثلاثة أشياء: أحدها: صلابة القوس، وضعف الرامي عليه. والثاني: من سوء الجبذ مع طول [ح 181] ذراعه. والثالث: من طول الكُمِّ. وأما مسّ الكُرْسُوع؛ فمن ثلاثة أسباب أيضًا: أحدها: إدخال زِنده في القوس. الثاني: طول الوتر. الثالث: قيام أسفل القوس إذا لم يرفعه بزنده الأسفل. وأما مسه لما تجاوز الكرسوع؛ فمن سبعة أسباب (¬1): أحدها: سعة حلقتي الوتر. الثاني: كثرة لحم الرَّاحة. ¬
- ذكر ما يصلح به هذه الآفات
الثالث: استرخاء المفاصل. الرابع: دِقَّة المِقْبَض. الخامس: سِعَة الكف. السادس: استرخاء القبضة في (¬1) القوس. السابع: عوج القبضة والسِّيَتَيْن (¬2). وأما ما يمسه في القبضة: فمن طول الوتر ولينه، ولا سيما إن كانت القوس معجرة صلبة. ذكر ما يصلح به هذه الآفات: أما ما كان منها من جهة الكفِّ: فإن سبيل القبضة أن تَقْبِض عليها بجميع الكف، فإن بقي بين الأصابع والكف مقدار عرض نصف أصبع فحسن، وإن زاد أو نقص، فلا خير فيه. فما كان من هذه الآفات من سِعة (¬3) الكفِّ ودقَّة المقبض، فعلاجه: بأن يلفّ على المقبض شركة (¬4) طويلة من أدمٍ مبلولة رقيقة بقدر الحلقة (¬5)، فإن أعوزه؛ فحاشية ثوبٍ رقيقٍ صفيقٍ، ويشدُّه شدًّا ¬
فصل في استرخاه قبضة الشمال وما يزيله
قويًّا؛ لئلا يفلت (¬1) من المقبض. وما كان منها من الوتر: فتَلَهُ (¬2) أو عَقَدَه. وما كان من القوس: أصْلَحه بتفقُّده وإزالة عيبه، أو الاستبدال به، فإن ألحَّ عليه من الوتر، ولم يقدر على إزالته؛ فليدفع بمقدار عرض أصبع ونصف أصبع من الوتر الأعلى ونصف أصبع (¬3) من الأسفل، فلا يعتريه المسّ بعدها أبدًا (¬4). فصلٌ في استرخاء قبضة الشمال وما يزيله واسترخاؤها يكون من ثلاثة أوجه: أحدها: اجتماع لحم أصول (¬5) الأصابع، فيغطي بعضُها بعضًا، فتسترخي لذلك. والثاني: من دقَّة المقبض وسِعَة الكف، فلم يمكنه شدها. والثالث (¬6): أنْ يشدَّ أصابعه الثلاثة: الإبهام، والسبابة، ¬
فصل في آفة عقر السبابة من اليد اليمنى وعلاجه
والوسطى، فيسترخي من أجلها الأصْبَعان (¬1) الخِنْصر والبِنْصر. وما كان من جهة اجتماع لحم أصول الأصابع؛ فعلاجه: بإنزالها إلى بطن راحته، وتحريفها (¬2). [ح 182]. وما كان من جهة (¬3) سعة الكف ودقة المقبض؛ فعلاجه: بما تقدَّم. وما كان من جهة شد (¬4) أصابعه الثلاث؛ فعلاجه: بإرخائها قليلًا [ظ 88]. فصلٌ في آفة عَقْر السبابة من اليد اليمنى وعلاجه تتعَقَّرُ السَّبَّابة (¬5) وقت الإيتار من وجهين: أحدهما: أن يعتمد وقت تكبيد (¬6) القوس على أصابعه، ولا يعتمد على كفِّه، فيأكل طرف السِّيَة أعلى سبابته. الثاني: أن يكون من شدَّة القوس عليه، وإخراجها إلى الاستعانة (¬7) ¬
فصل في آفة مس الوتر لإذن الرامي ولحيته وعلاجه
بجميع (¬1) كفِّه، فتقع سبابته على قائم السِّيَة، فيعقرها، فإن كان من أصابعه أوتر القوس بجميع كفه، فيلف عليها خِرْقَة ويعتمد عليها بكفه. فصلٌ في آفة مس الوتر لأُذُنِ الرامي ولِحْيته وعلاجه أما هذه الآفة؛ فلها أسباب: أحدها: لين الإطلاق. الثاني: مَيَلَان سِية القوس على (¬2) جِهَة السَّهم. الثالث: خروج أسفل القوس فوق المقدار. الرابع: عبثه برأسه إذا صارت يده عند (¬3) منكبه. فإذا تجنَّب هذا؛ لم يمسه الوتر، فإنْ ألحَّ عليه الوتر أخرج وجهه قليلًا عن الوتر. وعِلَّة مس الوتر لحيته (¬4): إما من خفض رأسه؛ فعلاجه: برفعه، وإما من ميلان سِيَة القوس، وعلاجه: بتعديلها. ¬
فصل في آفة كسر ظفر الإبهام في العقد وعلاجه
فصلٌ في آفة كَسْر ظُفْر الإبهام في العقد وعلاجه هذه الآفة لها أسباب: أحدها: أخذه على اللحم دون المفصل، لا سيما إن كان إبهامه قصيرًا. الثاني: من تطريفه السبابة على الإبهام. الثالث: من كزازة الإرسال: بأن يفتح إبهامه قبل سبابته، فيضغطها الوتر، فتسودَّ وتندمل. وعلاجه: فتح السبابة قبل الإبهام أو معها. الرابع: من (¬1) حزِّ الكُشْتِبَان في الوتر. الخامس: من طول مِلْفَاف الكُشْتِبَان (¬2). وعلاج ما كان من التطريف: بأن يجعل ثلثي السبابة على اللحم، وثلثها على الظفر. وعلاج طول الكُشْتِبَان: بتقصيره. فصلٌ في آفة لحوق السبَّابة عند الإطلاق وعلاجه (¬3) هذه الآفة في ثلاثة أشياء: ¬
فصل في آفة رد السهم وقت الإطلاق
أحدها: شِدَّة التمطِّي. والثاني: شِدَّة القوس وضعف الرامي، فيكون [ح 183] إطلاقه غير ممكن. الثالث: من عقد ثلاث وعشرين فتطول السباب على الوتر، فيلحقه. وعلاجه: بتجنُّب ذلك، والتحرّز منه (¬1). فصلٌ في آفة ردِّ السهم وقت الإطلاق وعلاج (¬2) هذه الآفة: تكون من ذراعه إذا لم يفلته وقت الجبذ، فإذا جبذ، دخلته رخاوة، فإن أصابه ذلك؛ فليبسط شماله، ويفتح ذراعه، ويضغط (¬3) يمينه عند الإرسال، فتزول العلّة. فصلٌ في آفة الكزازة وما يزيلها الكزازة تكون (¬4) في اليد اليمنى وفي اليد اليسرى من شيئين: ¬
فصل في آفة ضرب سية القوس الأرض عند الإطلاق
أحدهما: سفل (¬1) يده اليسرى في القبضة، فإذا سفلها، عَلَت اليدُ اليمنى عليها، فوجد السهمُ فراغًا في القبضة، فطاش السهم. الثاني: أن يرفع يدهُ اليمنى نحو أذنه، ويسفل الشمال، فيقع سهمُه في الأرض قريبًا منه. وعلاجُ هذه العلة: إن كان من يده اليسرى، فليرفع يده في المقبض قليلًا حتى يترك من القبضة مقدار عرض أصبع. وإنْ كان من يده اليمنى، فعلاجها: أنْ يقوم على أربعين ذراعًا أو أكثر واقفًا، ويجعل العلاقة في الأرض، ويرميها (¬2)، ويرمي عليها، حتى تزول. فصل في آفة ضرب سِيَة القوس الأرض عند الإطلاق هذه العلَّة تعتري الجالس للرمي من أربعة أسباب: أحدها: خروجه عن قوسه، واتِّكاؤه بأكثر جسمه. الثاني: من سوء جِلْسته؛ بأن يعتمد على رجله اليسرى، ويترك الاعتماد على اليمين. الثالث: من قوَّة قوسه عليه، فيستعين بجسمه على جبذها، فيسوقه أكثر ما (¬3) يسوقها. ¬
فصل في علة كسر فوق السهم وعلاجه
الرابع: أن تغلب يده اليسرى ليده اليمنى وقت الجبذ. فإن كان من اتِّكائه بجسمه عليها فعلاجه: أن (¬1) يأخذ قوسه، ويقف واقفًا، ويرمي على غرضٍ مرتفعٍ عالٍ (¬2). وإنْ كان من سوء جلوسه، فلْيصلِحْهُ، وليَعْتَمِد في جلسته على رجله اليمنى، ويطوي ساقه اليمنى، ويوقف الشمال. وإن كان من قوّة قوسه، أبدلها بغيرها. وإن كان من غلب يده اليسرى؛ فلينازع في القبضة إلى أن تعتَدِل [ح 184]. فصلٌ في عِلَّة كَسْر فُوْق السهم وعلاجه كسره [ظ 89] يكون في موضعين: أحدهما: أن ينكسر فينشق الفُوق بنصفين. الثاني: أن ينكسر أحد (¬3) جانبي الفوق. فأما شقُّه بنصفين، فيكون من علَّتين: إحداهما: خشونة الوتر، وضيق شقّ الفوق. الثانية: أن يدخل الفوق في الوتر، فلا يصل الوتر إلى آخر الشق، ويبقى بينهما فرجة، فإذا أفلت السهمُ؛ ضرب الوتر إلى أصل الفوق فشقه. ¬
فصل في علة حركة القوس بالسهم عند خروجه من كبد القوس وعلاج ذلك
وأما كسر أحد جانبيه؛ فمن غمز الرامي على الفوق بالسبابة، فينكسر جانبُه، وهو عيبٌ فاحشّ، وأكثر ما يعتري المبتدئ لصناعة الرمي. وعلاجه: باجتناب (¬1) الغمز على الفوق بالسبابة، وترك السبابة على السهم لينة. فصلٌ في عِلَّة حركة القوس بالسهم عند خروجه من كبد القوس، وعلاج ذلك (¬2) حركته تكون من خمسة عشر سببًا (¬3): أربعة منها في الوتر، وستة في السهم، وواحدة في القوس، وأربعة في الرامي. فالأربعة التي في الوتر: طولُه، وغلظُه، ورقَّتُه، وأن تكون إحدى عُرْوتَيه واسعة والأخرى ضيِّقة. والتي في القوس: أن تكون السِّيَتَان من جنسين مختلفين، تكون إحداهما: خشبًا ليّنًا، والثانية: من خشب صلب. والستّة التي في السهم: أن يكون ريشه مخالفة، فتكون ريشة خفيفة، واثنتان ثقيلتين، أو بالعكس، أو ريشة نائمة، واثنتان قائمتين، أو بالعكس، أو ريشة عريضة واثنتان دقيقتين، أو بالعكس، أو يكون ¬
- فصل أنواع تحرك السهم
النصل خفيفًا والسهم ثقيلًا، أو بالعكس. وعلاجه: بإصلاح ذلك كله. والأربعة التي في الرامي: أن يغمز بالسبابة على السهم، أو تكون قبضته رخوة، أو تكون القوس لا توافقه، أو السَّهم لا يوافقه (¬1). فصلٌ وتحريك السهم على ثلاثة أنواع: أحدها: أن يتحرَّك من أول خروجه إلى حين وقوعه. والثاني: أن يتحرَّك من أوَّل خروجه، فإذا توسَّط المدى؛ استدَّ. الثالث: أن لا يتحرك [ح 185] في أوَّل خروجه، فإذا توسط المدى؛ تحرَّك حتى يقع. فصلٌ فأما الذي يتحرَّك من أول خروجه إلى حين وقوعه؛ فيكون من ستة أسباب (¬2): أحدها: من عِوَجٍ في السهم. الثاني: أن يكون رِيْشُه غير معتدل. والثالث: أن يكون النَّصل خفيفًا، والريش كثيرًا. ¬
- فصل أسباب تحرك السهم عند توسط المدى
والرابع: أن يكون النصل ثقيلًا والريش قليلًا (¬1). والخامس: أن تكون إحدى الريشات (¬2) قائمة والأخرى راقدة. والسادس: أن يكون الفُوْق ضيِّقًا، والوتر خشنًا، فيخرج مضغوطًا. فصلٌ وأما الذي يَخْرُج من أوَّل وهْلة مستقيمًا ثم يتحرَّك إذا توسَّط المدى؛ فمن ثمانية أسباب: أحدها: خفَّة السهم وقوة القوس. الثاني: سعة الفوق، ودقَّة (¬3) الوتر. الثالث: من نقب (¬4) يكون في السهم، أو شقٍّ يكون فيه، فإذا دخله الهواء؛ تحرَّك، وكان المانع له من حركته في أوَّل وَهْلة قوَّة السهم وغلبة الريح، وكلما أبعد وَهَتْ (¬5) قوَّته؛ وإلا كان يمر إلى غير غاية فصادفت الريح قوته قد نقصت (¬6)؛ فحرَّكته. الرابع: استرخاء الكف في القبضة عند الإفلات. ¬
- فصل أسباب تحرك السهم آخرا إن لم يتحرك أولا
الخامس: عوَج السهم بقرب النَّصل أو الفُوْق. السادس: سِعة عُرْوة الوتر. السابع: أن تكون القبضة في القوس معوجَّة، أو أحد بَيْتَيها معوجٌ. الثامن: دخول بيت الإِسقاط على بيت الرمي. فصلٌ وأما الذي يتحرَّك آخرًا ولم يتحرَّك أولًا؛ فسببه أن العِلَّة لم تَعْمَل فيه إلا عند فتوره؛ فإنه كان عند خروجه في غاية القوَّة والشدِّة (¬1)، وكانت قوَّته تغلب عليه، فلما وهنتْ قوَّته، ظهرتْ علَّتُهُ، فإنَّ قوَّة السهم (¬2) كقوَّة البدن، فإذا غلبت على العلَّة، لم يظهر أثرُها، فإذا وهنت القوى (¬3) وضعفت عند آخر العمر؛ ظهرت العلل، وكان الحكمُ لسلطانها. فصلٌ وأما الذي يخرج متحرِّكًا، فإذا توسَّط استدَّ (¬4)؛ فيكون ذلك من ثلاثة أشياء: أحدها: رقَّة السِّيَتَيْن واعوجاجهما. [ح 186] ¬
فصل في عقر الإبهام بالسهم وقت الجر وعلاجه
الثاني: غمز السبابة على السهم مع الوتر غمزًا قويًّا. الثالث: قوَّة القوس وضعف الرامي. وإنما تحرَّك أولًا من جهة أن السِّيَتَيْن باعوجاجهما دفعتا دفعتين مختلفتين، فيعوجُّ السهم من أجلهما، فإذا توسَّط مداه؛ خفَّت تلك العلة، فاستدَّ (¬1). وكذلك إذا غمز بالسبابة على السهم غمزًا فاحشًا؛ يعوج السهم وهو في القوس، لا سيما إن كان [ظ 90] شِقُّ الفُوق واسعًا، فإذا خرج السهمُ من القوس؛ رجع مستويًا في سيره، فخفَّت العلَّة، فاستدَّ السهم. وكذلك من ضعف الرامي وشدَّة القوس، تَعْتريه عيوبٌ كثيرةٌ، فليَحْذَرِ الرامي كل الحذر: أن يرمي بقوسٍ فوق مقداره؛ فإنه تكثر عيوبه، وتقلُّ نكايته، وتعتريه في نفسه عيوبٌ كثيرةٌ، ومن كمال حذق الرامي عند أهل الصناعة أن يأخذ قوسًا دون مقداره. فصلٌ في عَقْر الإبهام بالسهم وقت الجرِّ وعلاجه عقرها يكون في ثلاثة مواضع: أحدها: في عقدة (¬2) الإبهام. الثاني: في العقدة التي في أصل الإبهام. ¬
الثالث: في اللحم الناتئ بين الأصبعين (¬1): السبابة والإبهام، في أصل القبضة. فأما عقرُها في عقدة الإِبهام فيكون من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يشد أصبعه على القبضة بالإِبهام (¬2) والسبابة. الثاني: من (¬3) رَفْع عقدة إبهامه وقت الجَرِّ. الثالث: أن يجعل إبهامه على سبَّابته في الجرّ، فإن تمكَّن من شد أصبعيه؛ لينهما، وإنْ تمكَّن من تصعيد إبهامه على سبَّابته، جعلها متوسطة؛ كأنه عاقِد على ثلاثين. وأما عقرها في العقدة الثانية التي في أصل الإبهام؛ فإنه يكون من ثلاثة أسباب: أحدها: دقَّة المقبض وسِعَة الكف. الثاني: سوء القبض. الثالث: قيام بيت الإِسقاط في قوسه وعلوه على بيت الرمي. فإن كان من دقَّة المقبض: أصلحه بما تقدَّم، وإن كان من بيت القوس: أدناه على نار لينة، وإن كان من سوء القوس: أدناه على نار لينة، وإن كان من سوء المقبض فعلاجه: بإصلاح ذلك. ¬
فصل في ذكر أركان الرمي الخمسة وصفة كل واحد منها والاختلاف
وأما عقرها عند أصل الإبهام بينه وبين السَّبابة؛ فمن وجهين: أحدهما: فساد قبضته وإشباعها (¬1). الثاني: [ح 187] من تسفل فوق السهم جدًّا. فإن كان من إشباع يده في مقبضه: أصلحه بما تقدَّم، وإن كان من السَّهم: جعله في كبد القوس في نصف الوتر، وعلَّمَ في (¬2) موضعٍ علامة لا يخطئها كل رمية. فصل في (¬3) ذكر أركان الرمي الخمسة وصفة كل واحد منها والاختلاف فيها (¬4) قد تقدَّم، أنَّ أركانه: القبض، والعقد؛ والمدّ، والإطلاق، والنَّظر، ونحن نذكرها مفصَّلة مبيَّنة: * فأما القبض؛ فاختلف الرماة فيه: - فمنهم من يقبض على مقبض القوس بجميع كفه، ويدفع بزنده جميعًا، وهذا مذهب طاهر. - ومنهم من يُحَرِّف المقبض في كفِّه تحريفًا شديدًا، ويشدُّ ¬
أصبعه، ويدفع بزنده الأسفل، ويترك بين زنده الأسفل والقبضة (¬1) في الكفّ مقدار عرض أصبعين. وعلى هذا جماعة الفرس، كسابور ذي الأكتاف وبهرام جور وغيرهما، وهو مذهب أبي هاشم. - ومنهم من يتوسط بينهما، وهو مذهب إسحاق الرَّفَّاء، ويجعل بين القبضة وزنده الأسفل عرض أصبع. وهو أجود المذاهب وأحسنها عند حذَّاق الرماة. وقد ذُكِر عن طاهر: أنه يجعل مقبض القوس على أصول أصابعه (¬2)، والقبضة مستوية. وقد (¬3) ذكر عنه: أنه كان يجعل القوس على أصول أصابعه وهي محرَّفة، وزنده مستوٍ. وهذا أحسن المذاهب عندهم (¬4)، وعليه العمدة. قال بعض الحذَّاق: من قال باستواء القبضة؛ شدّ جميع أصابعه شدًّا واحدًا، ودفع بزنديه جميعًا. وهذا الرمي حسن للأغراض القريبة، ورمي الشيء الدقيق من قرب؛ غير أن صاحبه لا يسلم من مس الوتر ذراعه، وهو ضعيف الرمي. ¬
ومن قال بالتحريف: كان أنكى له، وأطرد للسهم، وأحسن للرمي، وأقوى له، وهو جيِّد للفارس والراجل، ولرمي الحصون والأسوار، والرمي العالي كله، وهو أقل إصابة. ومن قال بالتوسط بينهما؛ لم يشبع كفَّه في المقبض، ولا يحرف كفَّه أيضًا تحريفًا شديدًا. قال: والأحسن في هذا كله أن تأخذ القوس بكفِّك (¬1)، فتضع مقبضها [ح 188] عند أصول أصابعك، وتدخل لحم راحتك كلَّه في المقبض، وتشد الخنصر والبنصر والوسطى شدًّا عنيفًا على ترتيبها، الخِنْصر أشدّ ثم البِنْصر ثم الوسطى، وتترك أصبعيك الإبهام والسبابة ليِّنتيْن، فتكون كأنَّكَ عاقد مئتين بهما؛ وتُدْخِل زندك الأعلى، وتسوي الأسفل، وتترك بين زندك الأسفل وبين القبضة عرض أصبع، فتزول عنك جميع العلل بذلك. وبالجملة؛ فالاستواء للعرب، والتحريف للعجم. وأجمعَ أربابُ المذاهب: أنه لا ينبغي [ظ 91] للقبضة أن يكون منها موضع خالٍ. وأجمعوا على أن شدَّة سير السهم من شدة القبضة؛ إلا شرذمة جهلت، فقالت: إن استرخاء القبضة أحدُّ للسَّهم. وقال الأستاذ محمد (¬2) بن يوسف: والأجود أن لا يشدَّ القبضة ¬
أولًا، ويشدها آخرًا. وهؤلاء الذين اختلفوا في ذلك، هل اختلفوا في جنس واحد من القسي أم في أجناس، وفي كفٍّ واحدة، أم في أكُفٍّ شتى؟! ولا ريب أنك تجد قوسًا قبضتها مربعة، وتجد قوسًا قبضتها مدوَّرة، وقوسًا بين المدورة والمربَّعَة. وأما القبضة المربَّعة: فهي قبضات العجم، والتَّحريف لهم جيِّد، والاستواء يبطل الرمي بها. وأما القبضة المدوَّرة: فهي قبضات (¬1) العرب، والتحريف يبطل الرمي بها. وأما المتوسطة: فيتوسط لها. ولكل قوس قبضةٌ، ولكل كفٍّ قبضةٌ، فمَن كانت كفُّه كبيرة؛ فالأصلح له من القبضات الدقيقة، والمتوسطة للكفّ المتوسط، واختيار المقبض في الكف أن يقبض بجميع (¬2) كفِّه، ويدخل لحم راحته في كفِّه، فإنْ لحقت أطرافُ أصابعه لكفِّه فالمقبض صغير على الكف، فلا يصلح له به رمي، ويَدْخُلُه العيب إن رمى به، وكذلك إن كانت القوسُ غليظةَ المقبضِ على الكفِّ. وحكم القبضة: أن تقبض عليها بجميع كفِّك، فإنْ بقي بين ¬
ذكر العقد ووجوهه
أصابعك مقدار عرض نصف أصبع (¬1)، فهو حسن، فإن زاد أو نقص فلا خير فيه. ذكر العقد ووجوهه أقوال (¬2) الناس في العقد على الوتر على تسعة أقسام: أحدها: وهو الصَّحيح الجيِّد [ح 189] القوي: أن يعقد ثلاثًا وستين. الثاني: تسعة وستين. وعلى هذين العقدين جميع الأساورة والأكاسرة، والأوَّل عندهم أصحُّ وأثبت. الثالث: أن يعقد (¬3) ثلاثة وسبعين. الرابع: أن يعقد ثلاثةً وثمانين. الخامس: أن يعقد أربعة وعشرين. السادس: أن يعقد إحدى وعشرين. وعلى هذا أكثر الترك والروم؛ لأنهم يرمون بقوسٍ ليِّنة وبغير أصل، فيعقدون كيفما تيسَّر عليهم. والسابع: عقد يسمى الرَّديف، وهو: أن يعقد اثنين وستين ممكنة، ويلقي الوسطى مع السبابة على الإِبهام. وهذا العقد جيِّد لِجبْذ القوس الصلبة، لكنَّها بطيئة الإِطلاق. ¬
الثامن: أن يجعل أصابعه الثلاثة: الخِنْصر، والبِنْصر، والوسطى في الوتر، ويجعل السبابة ممدودة مع طول السهم، ولا حظَّ للإبهام هنا. وهذا عقد جميع (¬1) الصقالبة وإليهم يُنسب، ويصنعون للأصابع الثلاث كشتبانات الذَّهب والفضة والنحاس والحديد، والقوس على هذه الصفة واقفة لا راقدة. التاسع: أن يجْبِذ بالأربعة أصابع (¬2): بالسبابة والوسطى والخنصر والبنصر. وهو مذهب العرب القدماء في الجاهلية. ومنهم من كان (¬3) يجبذ بهذه الأصابع والقوس راقدة، ويجعل السهم بين الوسطى والبنصر، ويجبذون إلى صدورهم، وعليها أكثر باديتهم. وقال بعضُ الأئمة: وهذه العقد كلها خطأ؛ إلا عقدة ثلاث وستين، وربما دعت الحاجة والضَّرورة إلى استعمال بعضها؛ لحادثٍ يحدث في الإبهام وغيرها، فينبغي تعلُّمها أو بعضها، ومَن أراد القوَّة والشدَّة والسرعة؛ فعليه بعقد ثلاث وستين. ثم من الرماة من قال: أكتم أظفاري كتمانًا بالغًا، وأجعل الوتر من الإبهام في مفصلها مستويًا غير محرَّف. ¬
فصل منشأ السرعة والبعد عند الرماح
ومنهم من قال: أكتم أظفاري كتمانًا (¬1) شديدًا، وأجعل الوتر في مفصل الإبهام، وأحرفه قليلًا. وكلاهما جيِّد حسنٌ، فالاستواء أقوى للمدِّ، والتَّحريف أسرع لخروج [ح 190] السهم. ومنهم من يجعل الوتر قدَّام الجرِّ في مفصل الإبهام قليلًا. وهو أحسن المذاهب، وأسرع إفلاتًا من الأول والثاني، وأطْرَدُ للسَّهم. فصلٌ وعند الرماة أنّ القوة (¬2) والسرعة والبُعد إنما هو في الإبهام من العقد باليمين، وفي القبض بالشمال، فعليهما مدار الشدَّة، ولكل أصبعٍ عقدٌ؛ كما أن لكل كفٍّ قبضة (¬3)، فإذا كان المتعلِّم للرَّمي طويل الأصابع أو قصيرها؛ فاختر له من هذه المذاهب أوْلاها بأصابعه، وأوفقها لرميه، وأبعدها آفة عن جسمه. فصلٌ تركيب السبابة على الإبهام ثلاثة أنواع: ¬
فصل أنواع تركيب السبابة على الإبهام
أحدها: أن تركب السَّبَّابة (¬1) فيصير طرفُها على الوتر. الثاني: أن تركبها فتصير خارج الوَتَر. الثالث: أن تركبها فتكون داخل الوَتَر. فمذهب سابور [ظ 92] وبهرام جور وغيرهما: أن تكون السبَّابة خارج الوتر، واختاره أبو هاشم، وهو الرَّمي القديم، وهو جيِّد للأقواس الصلبة. ومذهب طاهر وحذَّاق أهل هذه الصناعة: أن تكون على الوتر، وهذا أحدُّ للسَّهم، وأسرع للإفلات. ومذهب إسحاق: أن تكون السبَّابة داخل الوتر. وقال بعض الرماة: من قال بتحريف العقد؛ طالَتْ سبَّابتُه، وقصرت إبهامُه، فصارتِ السبَّابةُ من (¬2) داخل الوتر. ومن قال باستواء العقد؛ قصُرت سبابتُه، وطالت إبهامُه، فصارت (¬3) السبابةُ خارج الوتر. ومن توسَّط بين المذهبين؛ صارت السبابةُ على الوتر. وحكم السبابة أن تجعل على ثلثي اللحم، والثلث على الظفر، ويكون نصفُها على الوتر، والنصف الثاني خارج عنه، ويكون فوق السهم مما يلي السَّبابة، ولا يُطوِّلُها تطويلًا، ولا يقصرها (¬4) كثيرًا؛ لأن السبابة إنْ كانتْ من داخل الوتر طويلةً؛ ضربت الوتر في عرض أصبعه ¬
فصل لا ينبغي للرامي أن يقلم زظافر يده اليمنى
وقت الإطلاق، وإن كانت مستويةً طويلةً على الوتر [ح 191]؛ ضربت (¬1) الوتر وقت الإطلاق أيضًا فعقرتْهُ، وإن كانت مطرفةٌ جدًّا، ضَعُفَ مدُّه، وافْلت السهمُ عن أصبعه (¬2) قبل الوفاء. وكذلك لا يجعل السبَّابة على ظِفْر الإبهام؛ فإن الظفر يَسْوَدُّ، ومن كشف ظفره كله كان أقوى على القوس الصلبة، ولكنه أبطأ إطلاقًا. فصلٌ ولا ينبغي للرامي أن يقلِّم أظافر يده اليمنى، بل يتركها موفَّرة؛ لأنه إذا استأصل قَطْعها ضَغَطَها الوتر وقت الجبذ، فخرج الدَّم بين الظفر واللحم. والتحقيق: أن لكل يد عقدٌ، ولكل وجهٍ عملٌ، ولكل حالٍ عتادٌ، ولكل مقامٍ مقالٌ، وكلٌّ ميسَّر لما هُيِّئ له، وأُعين عليه. فصلٌ في القفلة بالأصابع الثلاث من اليد اليمنى من الرماة من يستر أظفاره (¬3) الثلاثة حتى لا تُرى ويجعل داخلها مجوَّفًا، ومنهم من يجعلها غير مجوَّفة. وأحْمَدُ المذهبين مذهب (¬4) من يكتمها، حتى تكاد أصابعه تقطر دمًا من شدَّتها وتجوُّفها. ¬
وقد كانت حذَّاق الرُّماة تأمر تلاميذها أن يجعلوا في أكفِّهم صنجةً (¬1) صغيرةً ويقفلوا عليها، فإن سقطتْ من كفَّ أحدهم أدَّبه عليها، وكانوا يفتخرون بذلك، وكانوا يأمرونهم أن لا يُخِلُّوا القفلة (¬2) بالأصابع الثلاث من اليد اليمنى، ولا القبضة من اليد اليسرى، حتى يكمل رميُهم، فإذا كمل حطُّوا القوس، وفتحوا أكفَّهم (¬3)، وكذلك لا ينبغي أن يغير جلوسه إلا عند عيبٍ يظهر له. وشدُّهُ أصابع الكف اليمنى في القفلة (¬4)، واليسرى في القبضة = أسرعُ للسَّهم، وأنكى للرَّمي، وأقوى، وأنفذ. وأكثر عيوب الرَّامي من اليد اليمني وسداد الرَّمي في اليسرى، وملاحته في اليمنى، وحسن الرمي في القعود والوقوف، والإصابة في النظر، وملاك ذلك كله المداومة والإدمان؛ فإن التَّرك خوَّان. ¬
ذكر المد
ذكْرُ المدِّ اختلفوا [ح 192] في مدِّ النشابة (¬1): فمنهم من يمدها إلى مشاش منكبه. ومنهم من يمدُّ إلى حاجبه الأيمن، ومنهم من يمدُّ إلى شحمة أذنه. ومنهم من يمدُّ إلى آخر عظام (¬2) لحييه، فيجري السهم بين شفتيه. ومنهم من يمدّ إلى ذقنه، ومنهم من يمدُّ إلى نهده اليمنى. هذا مجموع اختلافهم. فأما من يمدُّ إلى مشاش منكبه: فهو المذهب القديم، وذلك أنَّهم يجلسون منحرفين، فيطول نشابُهم على هذا الجبذ، ومن هنا قالوا: إنَّ طول النشابة اثنتا عشرة قبضة، وهو كثير النكاية، وقلَّ من يرمي به أو يحسنه، وهو يُحدِث للرامي عيوبًا كثيرة. فصلٌ وأمَّا المدُّ إلى الحاجب الأيمن: فهو مذهب إدريس، وهو جيِّد، وبه (¬3) يطول النشابة، وفيه قوَّة كثيرةٌ للمدِّ؛ إلا أنَّ نشابته تمرُّ محطوطة أبدًا، وهو جيِّدٌ لمن يرمي الحصون والأسوار والمواضع المرتفعة، وليس بجيد للقرطاس، وهو من الرمي القديم أيضًا. ¬
- فصل في المد إلى شحمة الأذن
فصلٌ وأمَّا المدُّ إلى شحمة الأذن: فهو مذهب بسطام، وهو جيّد جدًّا، وليس في المذاهب القديمة أحْمَدُ منه، ولا أحسن عاقبة؛ إلا أنَّ نشابته أقصُر من أن يمد إلى مشاش الكتف و (¬1) المنكب والحاجب، وغير أنه أكثر إصابة من الأوَّلين. وأما من يمدُّ إلى آخر عظام لِحْيَيه [ظ 93]، ويُجْري السهم على شفتيه: فهو مذهب أهل الاستواء، وعليه جماعةٌ من رماة خراسان، وهو أيضًا (¬2) مذهب إسحاق وطاهر وغيرهما من حذَّاق الصناعة. ومعنى الاستواء: أن يكون أصلُ السهم مع مفرقه في حال استواء، لا (¬3) ينحطُّ منهما واحدٌ، ولا يرتفع. وليس في جميع المذاهب أحسن منه، وهو رمي قليل الآفات، كثير الإصابة، وعليه حُذَّاق (¬4) الرُّماة بالغرب وغيره. وأما المدُّ إلى الذِّقن أو الصَّدر: فخطأ فاحشٌ، لا خير فيه، وبه تقلُّ الإصابة، وتكثرُ العيوبُ. ¬
ذكر النظر وأحكامه
ذكر النَّظر وأحكامه (¬1) اختلف حذَّاق الرمي فى النظر إلى المرمى اختلافًا كثيرًا؛ لعلوِّه وشرفه، [ح 193] وعليه عمدةُ الرَّمي، وهم عليه على ثلاثة أقسام، ثم تتفرَّع إلى ستة: الأول من الثلاثة: النَّظر من خارج القوس. والثاني: من داخل القوس. والثالث: من داخلها وخارجها. واختلفوا في النظر: هل الأولى أن يكون بالعينين جميعًا، أو بأحدهما؟ * فجمهور الرماة رجَّحوا النَّظر بالعينين؛ لأنه أتمُّ وأكمل وأقوى. * ومنهم من رجَّح النظر بعين واحدةٍ. واحتجَّ هؤلاء بأنه إذا كان بعين واحدةٍ؛ كان أجمع للنُّور الباصر، وأقوى له، وإذا كان بالعينين جميعًا تفرَّق في وصوله إلى الغرض فضعف. قالوا: فإنَّ الناظر إذا نظر بعينٍ واحدة، اجتمع فيها نورُ العينين معًا؛ فإنَّ النور الباصر ينزِلُ من الدِّماغ على تقاطع صَلِيْبِي في الجبهة، فيفترق هناك في منفذين إلى كل عين منفدٍ (¬2)، فإذا أغمض الناظرُ أحد عينيه، رجع ¬
- النظر من الداخل
قسطها من ذلك النور الباصر إلى العين الأخرى، فيقوى نظرُه بها (¬1) ضرورةُ. ولهذا تجد الأعور قويَّ النَّظر حديدَه، وأرباب الصناعات إذا أراد أحدُهم امتحان أمْرٍ بالنظر؛ أغمض إحدى عينيه، وصوَّب الأخرى إلى المنظور إليه. ولهذا كانت عينُ الأعور في الشرع قائمةً مقام عينين في الدَّية: فإذا فُقِئت عيْنُ الأعور؛ فعلى الجاني الدِّية كاملةً، نصَّ عليه الإمام أحمد. فإن قلع مَنْ له عينان عَيْن الأعور عمدًا؛ فله أن يقلع من عينيه نظيرة عينه، ويأخذ منه نصف الدِّية، نصَّ عليه أيضًا. وإن قلع الأعور عين الصحيح المماثلة لعينه الصحيحة عمدًا فلا قَوَد عليه؛ لأن القَوَد يُعْمِيه، وعليه الدية كاملة. وقيل: يقلع عينه، ويعطيه نصف الدية. وإن قلع الأعور عيني صحيح؛ خيَّرنا بين قلع عينه وبين أخذ دية عينه (¬2). فصلٌ والنظر من (¬3) الداخل: يقولون: إنه نظر بهرام جور، وإن صورته الممثَّلة على الجدار تعطي كأنه ينظر من داخل القوس بالعينين جميعًا، ¬
- فصل في أوجه النظر من الخارج
وعينه في مجيء السهم مع العلامة، [ح 194] لا يفارق نظره ذلك، فإذا رأى النصل على أصبعه أطلق سهمه (¬1). وهو رميٌ حسن عندهم؛ إلا أنه صعبٌ، قليلُ النكاية، ولا يمكن صاحبُه أن يرمي الرمي القوي، ولا يمكن راميه أن يجلس مُنْحَرفًا، بل متربَّعًا، فتكون نشابتُه قصيرةً، ورميُه غير منكي، وهو جيَّد لرمي الأغراض القريبة والدَّقيقة. فصلٌ وأما النظر من خارج؛ فعلى ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن يجعل السَّهم من خارج القوس، وينظر بالعينين جميعًا في العلامة، ويعتمد بالعين اليسرى، ثم يختلس (¬2) السَّهم بسرعةٍ في القوس. الوجه الثاني: أن يجعل النَّصل من خارج القوس في العلامة، وينظر بعينه اليسرى، ويعتمد عليها، ويجعل عينه اليمنى في دستان (¬3) القوس، ولا ينظر بها شيئًا من العلامة، مع تصحيحه بالعين اليسرى، وعقده أصابع يده اليسرى في وسط العلامة. الوجه الثالث: أن يقلب (¬4) نور عينيه جميعًا إلى عين واحدة، ¬
فتكون حَدَقَةُ عينه اليسرى في مؤخر عينه اليسرى، وحدقةُ عينه اليمنى (¬1) في مقدمة عينه اليمنى، فيصيرُ نور حدقة عينه اليمنى إلى حدقة عينه اليمنى إلى حدقة عينه اليسرى. وهذا النظر يسمى الأحول، فتصير العينان كأنَّهما عين (¬2) واحدة، وهو محمودٌ جدًّا في هذا المذهب، وهذا النَّظر كلُّه جيد للفارس ولمن يرمي بالسلاح، وهو شديد النكاية؛ لأن صاحبه يجلس للعلامة منحرفًا، وبه يطول سهمُه، وتكثرُ نكايتُه، ولا يصحُّ له أن يجلس متربِّعًا، وهو النظر القديم، وعليه الأكاسرة [ظ 94] والأساورة. وأما النَّظر إلى العلامة بقسمة (¬3) النظرين جميعًا: بأن يجعل النَّصل في العلامة بالعين اليسرى من خارج القوس، ويصحِّح نظره بالعين اليمنى إلى العلامة من داخل القوس، بحيث لا يفارق النصل باليمنى، وباليسرى إلى العلامة حيث يفلت. والوجه الثاني: أن يجعل النَّصل في العلامة من خارج القوس بالعينين (¬4)، فإذا بقي له من [ح 195] المدِّ قدر ثلث السهم، وغاب عن بصره النصل؛ ترك عينه اليسرى في موضعها من العلامة، وينظر بعينه اليمنى مجيء النَّصل على يده من داخل القوس، فإذا رأى النصل على ¬
- فصل في ميزان النظر
أصبعه؛ أطلق، وهذا (¬1) حسنٌ جدًّا، وهو أكثر إصابةً وأقلُّ آفةً، وصاحبه يجلس بين التحريف والتّربيع، فتذهب بذلك عنه عيوب أهل التَّربيع وأهل التحريف، مع ما فيه من الإصابة ودقَّة النظر. فصلٌ في ميزان النظر قال بعضُ أئمَّة الرماة: من أراد أن يتعلَّم حقيقة الوزن، فليأخُذْ سراجًا يجعله على بُعد، كما يجعل العلامة، ويأخذ قوسًا ليِّنة جدًّا - فهي أمكن له -، ويجلس بين التَّحْريف والتَّربيع، كما يجلس للعلامة، ويجعل النَّصل في السراج، ولا يزال ينزع في القوس، ويفتح عينًا، ويطبق أخرى، ويفتحهما جميعًا، ويمدُّ إلى آخر السهم، وينظر للسَّراج أبدًا، حتى يصحَّ له، فإن صحَّ؛ علم أنَّه قد حصل على فائدةٍ جليلةٍ، وذخيرةٍ عظيمةٍ في هذه الصَّناعة. فصلٌ واعلم أن خارج القوس مما يلي اليسار إذا رميت بها، والداخل مما يلي اليمين، فأهل التَّربيع يبطلون عمل أهل التَّحريف، ويقولون: إنه يفسد النَّظَّر، وإن جميع السِّلاح إذا دخله التحريف أبطله. وأهل التَّحريف يبطلون عمل أهل التَّربيع، ويقولون: إن التَّحريف ¬
- فصل في ميزان آخر
أكثر نكايةً، وإنه يبطل النُّشَّاب، فمنهم من حرف القوس إحدى عشرة قبضة، واثنتي عشرة قبضة وأكثر. فصلٌ في ميزانٍ آخر واعلم أنَّ الوزن على نوعين فمنهم (¬1) من يزن أوَّلًا ويستمر على وزنه إلى حين (¬2) إطلاقه، ومنهم من يزن آخرًا. فأما من يزن أوَّلًا، فعلى وجهين أيضًا: أحدهما: أن يجعل النَّصل في العلامة، ويحقِّقه، ويجبذ عليه من نظره إلى ذراعه الشمال ومرفقه اليُمْنَى في اعتدالهما واستوائهما. وهذا مذهب طاهر. والوجه الثاني: أن ينظر أوَّلًا إلى العلامة، فإذا جبذ من السَّهم نصفه [ح 196] أو أقلَّ حقَّقه وأطلق (¬3). وهذا أحمدُ النَّوعين، وأعظمُهما سدادًا. وأما الذي يزن آخرًا فعلى نوعين أيضًا: أحدهما: أن لا يخلَّ (¬4) بتحقيق الوزن أوَّلًا، فإذا بقي له (¬5) من ¬
فصل في ذكر الإطلاق ووجوهه
السَّهم قبضةً، سكن تسكينةً لطيفةً جدًّا، واختلس السَّهم بسرعةٍ، وأطلق. وهذا النوع حسنٌ للحرب جدًّا. الثاني: أن يحقق وزنه أولًا (¬1)، فإذا بقي لهم من السهم مقدار قبضة أو أكثر قليلًا؛ حقَّقه أيضًا ثانيةً، واختلس سهمه، وأطلقه بسرعة. وهذا النوع جيِّدٌ للأغراض وغيرها. فصلٌ في (¬2) ذكر الإطلاق ووجوهه الإطلاق على ثلاثة أنواع: المختلس، والمفروك، والمتمطِّي. فالمُخْتَلَس: أن يجبذ السهم، ثم يسكن، ثم يختلِسُه اختلاسًا شديدًا، ويُفْلِت أصابعه، فيفتح الاثنين السبابة مع الإبهام. وهذا المذهب فيه سُرْعة، وليس سكونه عند الإفلات، وإنما يسكن إذا بقيت له قبضة، ويفتح ذراعيه جميعًا، ويميل وتر القوس إلى الأرض. وأما المفروك: أن يمدَّ السهم، فإذا صار النَّصل على أصبعه، سكن قليلًا بمقدار عدَّتين، ثم فرك يده (¬3) اليمنى فركةً من حرف الوتر، فيحول يده قليلًا، فيجعل الشقَّ الذي من بين (¬4) إبهامه والسبابة مع خدِّه حاكًّا له. ¬
فصل في مر السهم على اليد
وأما المتمطِّي: فهو أن يمدَّ السهم، فإذا عَلَّم بالسَّهم على أصبعه سكن بمقدار عدَّتين، وأطلق بنفْضةٍ من الوتر، ويكون جبذه أوَّلًا وآخرًا سواء. وهذا المذهب لمن ينظر من داخل القوس = جيَّد، والفركة من فوق الوتر لمن ينظر بالنَّظرين، والاختلاس لمن ينظر من خارج الوتر. ولا خلاف (¬1) بين الرُّماة أن القبضة للوتر تكون بشدَّةٍ وسرعةٍ دون تأنًّ ولا لبثٍ؛ لأن فيها القوَّة والشدَّة والنفوذ. فصلٌ في مرِّ السهم على اليدِ وهو على أربعة أنواع: - منهم من يجريه على عقدة إبهامه. - ومنهم من يجريه [ظ 95] على سبابته، ويميل إبهامه عن (¬2) السَّهم. - ومنهم من يرفع إبهامه [ح 197] ويجعل سبابته تحتها، فيصير كأنه عاقدٌ ثلاثة عشر، فيجري السهم على ظفر إبهامه. - ومنهم من يُجريها على طرفي أصبعيه السبابة والإبهام (¬3)، فيكون كأنه عاقدٌ ثلاثين. ¬
ذكر سبب ارتفاع السهم في الجو ونزوله وسداده
فمن أجراها (¬1) على عقدة إبهامه؛ فهو عيبٌ عند الحذَّاق؛ لأنه لا يخلو أن يضربه فيه الريش فيجرحه، وربما ضربه السهم (¬2) فعقر أصبعه. وأما من يجريها على سبَّابته، وهو أحسن قليلًا من الأول، وكلاهما مذهب أهل الاستواء في قبضته، وليسا بجيِّدين. وأما من يجريها على أصل ظفري أصبعيه: الإبهام والسبابة كعاقد ثلاثين؛ فهو مذهب التوسُّط، وهو أحْمَدُ المذاهب. وأما من يوقف (¬3) إبهامه، فيجريها على طرف ظفره، كعاقد ثلاث عشرة؛ فهو مذهب أهل التَّحريف، وهو رديء جدًّا؛ لأن صاحبه يحرف قبضته تحريفًا شديدًا، ويوقف إبهامه، فإنْ هو أمال قوسه قليلًا سقط السهم من على ظفره، وهو رديءٌ في الحرب، لا يكاد يستقيم له رميٌ؛ لسرعة سقوط سهمه. ذكر سبب (¬4) ارتفاع السهم في الجوِّ ونزوله وسداده اختلف أهل العلم من الرُّماة في ذلك اختلافًا متباينًا، ونحن نذكر أقوالهم وما فيها، ونبيِّن الصحيح منها. * فقالت طائفة: سبيل السَّهم إذا خرج من كَبد القوس أن يقطع ما بينَه وبين الغرضِ في خطِّ الاستواء بغير صُعُود وَلا هبوط، بل محاذِيًا ¬
للموضع الذي خرج منه، فلمَّا رأيناه على خلاف ذلك في ارتفاعه ونزوله، طلبنا عِلَّة ذلك، فرأيناهُ من واحدٍ من ثلاث: إما من القوس وآفته فيه، وإما من السهم، وإما من الرامي، فلا بدَّ من آفةٍ خفِيَّة في واحدٍ من هذه الثلاث. وردَّت طائفة أخرى هذا القول، وقالت: ما رأينا راميًا قطُّ، ولا نُقِلَ إلينا أبدًا أنه رَمَى بسهمٍ، فقطع المدى في خط الاستواء، محاذيًا لموضع مخرجه، لا صاعدًا، ولا نازلًا، ولم تخلُ الأرضُ من رامٍ لا آفة في رميه ولا قوسه، ولا سهمه، بحيث تجمع الرُّماة على اعتدال الثَّلاثة المذكورة وسلامتها من كلِّ عيب. * وقال آخرون: العلَّة في الارتفاع [ح 198] والانخفاض من جهة اختلاف بناء (¬1) القوس؛ فإنَّها إذا غلبت بيتها الأعلى ارتفع السهمُ في أوَّل مداه، وإذا غلب الأسفل (¬2) ارتفع في آخر مداه. وردَّ عليهم آخرون منهم، وقالوا: هذا لا يصحُّ؛ لأنا نجدُ القوسَ المعتدلةَ البيتين، الصحيحة التَّركيب، بيد الرَّجل الحاذق في الرمي، يرتفعُ عنها السهمُ جدًّا، وربما ارتفع أكثر من ارتفاع من هو دونه. * وقالت طائفةٌ أخرى: ليس ارتفاعُ السهم من قِبَلِ القوس ولا الرامي، ولا من قِبَلِ السهم في نفسه، بل من أمر خارجٍ، وهو الهواء الحامل له، وذلك أن السهم (¬3) إذا كان شديدًا ثقيلًا، والقوس صلبة، ¬
قطع الهواء (¬1) ومرَّ سادًّا، وإن كان خفيفًا حمله الهواء فارتفع. قال: والحجَّة على (¬2) ذلك أنَّ المركب إذا كان ثقيلًا، غاص في الماء، وإنْ كان خفيفًا، ارتفع، والهواء للسهم مثل الماء للمركب. وردَّ آخرون هذا القول، وقالوا: نجد السَّهم السادَّ (¬3) عن القوس الصلبة في اليوم الساكن الهواء لا بدَّ له من ارتفاع عن محاذاة مخرجهِ، والدَّليل على ذلك أن يَنْصِبَ حبلًا معترضًا في نصف من (¬4) الأرض مساويًا لمخرج السَّهم ثم يرمي بسهم سادٍّ عن قوس صلبة، فلا بُدَّ من أن يرتفع السهم (¬5) عنه. وقال آخرون منهم: الَّذي صحَّ عندنا وكشفناهُ من علَّة ارتفاع السهم ونزوله: أنَّ سير السهم لا يتمُّ إلا بثلاثة أشياء: أحدها: بدنُ الرَّامي وقوَّتُه. والثاني: قوسُه. والثالث: سهمُه. وكلُّ واحدٍ ثلُث العلة، والدليل على هذا: أنَّك تأخذ قوسًا صلبة موترة، لا يمكنك الرَّمي عنها، فتُفَوِّق عليها سهمًا، ثمَّ تمدُّها، فتحني (¬6) الوتر معك يسيرًا من غير أن تنحني القوس، ثم تطلق، فيمرّ السهم (¬7) أذرعًا كثيرةً، وقد علمت أنَّ القوس لم يعمل في السهم شيئًا؛ ¬
لأنها لم تطاوِعْكَ، وإنما خرج السهمُ من الوتر بنفضةِ الرامي وقوَّته لا بالقوس. وأما الثُّلث الذي من قِبَل القوس، فالدليل على اعتباره أنك تجد السهم في آخر الثلث (¬1) الأول في ارتفاع إلى أول الثلث الثالث (¬2)، فيأخذ في الهبوط، وذلك من قِبَل السَّهم نفسه؛ لأنَّ طبعه - كما علمت (¬3) - الهبوط، وكان ارتفاعه أوَّلًا بالقوَّة التي أفاده إياها الرامي، واعْتبِرْ هذا بالحجر: ترمي به (¬4) إلى فوق [ح 199] فلا يزال صاعدًا ما دامت قوة الرامي تُمِدُّهُ، فإذا انتهت (¬5) القوة التي أمدَّته في الصعود؛ صارت حركتهُ حينئذ النزول، وهي الحركة الطبيعية له (¬6). وقالت طائفة أخرى: بل العلَّة الصَّحيحة في ذلك: أنَّ الرامي إذا فوَّقَ السهم في قسمةٍ مستويةٍ لا مرتفعةٍ ولا منخفضةٍ؛ كان العقد [ظ 96] تحت الفُوق أسفل من ذيل (¬7) القوس، فإذا مدَّ واسْتَوْفَى؛ وقعت شدَّة الغمز في الإطلاق تحت الفوق، فلا بدَّ لصدر السهم من أن يرتفعَ يسيرًا بالضَّرورة، فارتفاع صدره يسيرًا (¬8) هو الذي أكسبه ذلك الارتفاع الكثير ¬
فصل في مدح القوة والشجاعة، ذم الجبن والعجز
في طريق سيره، وهذا واضح، والله أعلم. فصلٌ في مدح القوَّة والشجاعة وذمِّ العجز والجبن قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60]. وقال تعالى في حقِّ المؤمنين: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. وقال فيهم: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]. وقال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} [النساء: 104]؛ أي: لا تضعفوا. وقال: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)} [آل عمران: 139]. وفي "الصَّحيحين" (¬1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "المؤمن القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضَّعيف، وفي كُلًّ خيرٌ، احرِصْ على ما ينفَعَكَ، واستعِنْ باللهِ ولا تَعْجَز". ¬
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعوَّذُ بالله (¬1) من الجُبن (¬2): والجُبْن خُلُقٌ مذمومٌ عند جميع الخَلْق، وأهل الجُبْن هم أهل سوء الظن بالله، وأهل الشجاعة والجُودِ هم أهل حُسْن الظن بالله؛ كما قال بعض الحكماء في وصيَّته (¬3): "عليكُم بأهل السَّخاء والشجاعة؛ فإنهم أهل حسن الظنِّ بالله، والشجاعة جُنَّة (¬4) للرجل من المكاره، والجبن إعانة منه لعدوِّه على نفسه، فهو جندٌ وسلاحٌ يُعطيه عدوَّه ليحاربه به (¬5) ". وقد (¬6) قالتِ العرب: الشجاعة وقايةٌ، والجُبنُ مقْتَلَةٌ، وقد أكذب الله سبحانه أطماع الجُبناء في ظنِّهم أنَّ جُبْنَهُم يُنجيهم من القتل والموت [ح 200]، فقال الله تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} [الأحزاب: 16]. ولقد أحسن القائل (¬7): ¬
أَقُولُ لَهَا وقَدْ طَارَتْ شَعَاعًا ... مِنَ الأبْطَالِ وَيْحَكِ لَنْ تُراعِي فإنَّكِ لَوْ سألْتِ بقاء يومٍ ... على الأجلِ الَّذي لكِ لَنْ تُطَاعِي فَصَبْرًا في مجالِ الموْتِ صبْرًا ... فما نيْلُ الخُلُودِ بِمُسْتطاعِ (¬1) وما ثَوْبُ الحَيَاةِ بِثَوْبِ عِزًّ ... فيُطْوَى عنْ أخِي الخَنَع اليَراع سَبِيلُ المَوْتِ غَايَةُ كُلِّ حَيًّ ... وداعِيه لأهْلِ الأرْضِ دَاعِي ومَنْ لمْ يُعْتَبَطْ يَسْأمْ ويَهْرمْ ... وتُسْلِمْهُ المنون إلى انقِطاعِ وما لِلْمَرْءِ خيْرٌ في حياةٍ ... إذا ما عُدَّ مِنْ سَقَطِ المتاعِ واعتبرْ ذلك في معارك الحروب (¬2) بأن من يُقتل مُدْبرًا أكثر ممَّن ¬
يُقتل مقبلًا. وفي وصيَّة أبي بكر الصدِّيق لخالد بن الوليد: "احرِصْ على الموتِ؛ توهَبُ لك الحياة" (¬1). وقال خالد بن الوليد: "حضرتُ كذا وكذا زحفًا في الجاهلية والإسلام وما في جسدي موضعٌ إلّا وفيه طعنةٌ برمحٍ أو ضربةٌ بسيفٍ، وها أنا ذا أموتُ على فراشي، فلا نامت أعيُنُ الجُبناء" (¬2). ولا ريب عند كل عاقل أن استقبال الموت إذا جاءك خيرٌ من استدباره، والله أعلم، وقد بيَّن هذا حسان بن ثابت قائلًا (¬3): وَلَسْنَا علَى الأعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا ... ولكِنْ على أقْدَامِنَا تَقْطُرُ الدَّمَا (¬4) ¬
وقال آخر محققًا هذا المعنى (¬1): مُحَرَّمَةٌ أَكْفالُ خَيْلِي على القنا ... ودامِيَةٌ لَبَّاتُها ونُحُورُها حَرامٌ على أرْمَاحِنا طَعْنُ مُدْبِرٍ ... وتَنْدَقُّ مِنْها في الصُّدورِ صُدُورُها وكانوا يفتخرون بالموت على غير الفراش، ولما بلغ عبد الله بن الزبير قتلُ أخيه مُصْعَب؛ قال: "إنْ يُقْتَلْ؛ فقد قُتِلَ أخوه وأبوه وعمُّه، إنا والله لا نموت حتف أنفنا، ولكن حَتْفُنا بالرِّماح وتحت ظلال السيوف" (¬2). ثم تمثَّل بقول القائل (¬3): وإنَّا لتَسْتَحْلي المَنايا نُفُوسُنا ... وتُتْركُ أُخْرَى مُرَّةً ما تذوقُها وفي مثل هذا يقول السَّمَوْأل بن عادياء وهو في "الحماسة" (¬4): ¬
ومَا مَاتَ منَّا سيِّدٌ في فِراشِه (¬1) ... ولَا طُلَّ مِنَّا حَيْثُ كانَ قَتِيْلُ تسِيْلُ على حدِّ الظُّبَاتِ نُفوسُنا ... ولَيْسَتْ على غَيْرِ الظُّبَاتِ تسيْلُ [ظ 97] وإنَّا لقومٌ لا نَرَى القَتْلَ سُبَّةً ... إذا ما رَأتْهُ عامِرٌ وسَلُولُ إذا قَصُرَتْ أسْيَافُنا كان وصْلُها ... خُطانَا إلى أعدائنا فَتَطولُ وقال محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين الخزاعي (¬2): لسْتُ لِرَيْحانٍ ولا راحِ [ح 201] ... ولا على الجَارِ بِتيَّاحِ (¬3) فإنْ أَردْتِ الآنَ لي موقعًا (¬4) ... فبَيْنَ أسيافٍ وأرْمَاح ¬
تَرَي فتىً تحت ظِلال القنا ... يَقْبضُ أرْواحًا بأرْواحِ ولو لم يكن في الشَّجَاعة إلا أنَّ الشجاع يردُّ صِيْتهُ واسمه عنه أذى (¬1) الخلق، ويمنعهم من (¬2) الإقدام عليه؛ لكفى بها شرفًا وفضلًا؛ كما قال عمرو بن بَرَّاقة وكان فاتكًا مشهورًا بالإقدام والثبات (¬3): كذَبْتُمْ وبَيْتِ اللهِ لا تَأْخُذونها ... مُراغَمَةً ما دام للسَّيْفِ قائِمُ متَى تَجْمَعِ القَلْب الذَّكِيَّ وصارِمًا ... وأنفًا حمِيًّا تَجْتَنِبْكَ المظالِمُ (¬4) وقال تأبَّط شرًّا الفاتك العدّاء، واسمه ثابت (¬5): قليلُ التَّشكَّي للمُهِمِّ يُصيبهُ ... كَثِيرُ الهَوَى شتى النَّوَى (¬6) والمَسالِكِ ¬
يَبِيتُ بِمَوْمَاةٍ ويُضْحِي بمثْلها ... جَحِيشًا ويَعْرَوْرِي ظُهُور المَهَالِكِ ويَسْبقُ وفْد الريحِ مِنْ حَيْثُ تنْتَحِي ... بِمُنْخَرَقٍ مِنْ شَدَّهِ المُتَداركِ (¬1) إذا حاصَ عيْنَيْهِ كَرَى النَّوْم لم يَزَلْ ... لَهُ كالِئٌ مِنْ قَلْبِ شَيْحانَ فَاتِكِ إذا هَزَّهُ في عَظْمِ قَرْنِ تَهَلَّلَتْ ... نَوَاجِذُ أَفْوَاهِ المَنايا الضَّواحِكِ (¬2) وقال أبو سعيد المخزومي وكان شُجاعًا موصوفًا بذلك (¬3): ومَا يُريد بَنُو الأغْيارِ مِن رَجُلٍ ... بالجَمْرِ مُكْتَحِلٍ بالليلِ مُشْتَمِلِ لا يَشْرَبُ المَاءَ إلَّا (¬4) مِنْ قَلِيْب دَمٍ ... ولا يَبِيْتُ لَهُ جَارٌ على وَجَلِ (¬5) ¬
فصل في الفزعات
فصلٌ قال عمرو بن معد يكرب: "الفزعات ثلاثة: فمن كانت فزعته في رجليه فذاك الذي لا تُقِلُّهُ رجلاه، ومن كانت فزعته في رأسه فذاك الذي يفرُّ عن أبويه، ومن كانت فزعته في قلبه فذاك الذي لا يقاتل" (¬1). والجبن والشجاعة غرائز وأخلاق، فالجبان يفرُّ عن عُرسه، والشجاع يقاتل عن (¬2) من لا يعرفه؛ كما قال الشاعر (¬3): يَفِرُّ جَبانُ القَوْمِ مِنْ أُمِّ نَفْسِهِ ... ويَحْمِي شُجاعُ القَوْمِ مَنْ لا يُناسِبُه والشُّجاع ضدُّ البخيل، لأن البخيل يضنُّ بماله، والشجاع يجودُ بنفسه؛ كما قال القائل: كم بينَ قومٍ إنَّما (¬4) نفقاتُهُم ... مَالٌ وقَوْمٍ يُنْفِقُونَ نُفُوسا ¬
طبقات ابن آدم في الشجاعة وغيرها أربعة
وقال الآخر: [ح 202] تَجُودُ بالنَّفْسِ إنْ ضَنَّ البخيل بها ... والجُودُ بالنَّفْسِ أقصى غَايَةِ الجُودِ (¬1) وهذا غير مطَّردٍ في بني آدم؛ فإنهم على أربع طبقات: - فمنهم: الجواد الشجاع، يجود بماله ونفسه. - ومنهم: البخيل الجبان. - ومنهم: الجواد الجبان، يجود بماله، ويضنُّ بنفسه. - ومنهم: الشجاع البخيل؛ فإنه مُنح خُلُقَ الشجاعة، وحُرِم خلق الجود؛ فإن الأخلاق مواهبُ يهبُ الله منها ما يشاء لمن يشاء، ويجبل خلقه على ما يريد منها، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأشجّ عبد القيس: "إنَّ فيك خُلُقَينِ يحبُّهما الله: الحِلْمُ، والأناةُ". قال: خُلُقين تخلَّقتُ بهما أم جُبلْتُ عليهما؟ قال: "بل جُبِلْتَ عليهما". فقال: الحمد لله الذي جَبلني على ما يُحِبّ (¬2). ومن هنا يظهر أنه لا تلازُم بين الشجاعة والجود، كما ظنَّه بعض الناس، وإن كانت الأخلاق الفاضلة تتلازم وتتصاحب غالبًا، وكذلك الأخلاق الدَّنيئة. ¬
فصل في الفرق بين الشجاعة والقوة
فصلٌ وكثيرٌ من الناس تشتبه عليه الشجاعة بالقُوَّة، وهما متغايران، فإن الشجاعة هي (¬1): ثباتُ القلب عند النوازل [ظ 98]؛ وإن كان ضعيف البطش (¬2). وكان الصِّدِّيق - رضي الله عنه - أشجع الأُمَّة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان عُمَرُ وغَيْرُهُ أقوى منه، ولكن برز على الصحابة كلهم بثباتِ قلبه في كل موطن من المواطن التي تزلزل الجبال، وهو في ذلك ثابت القلب، ربيط الجأش، يلوذ به شجعان الصحابة وأبطالهم، فيثبَّتُهم ويشجِّعُهم. ولو لم يكن له (¬3) إلا ثبات قَلْبه يوم الغَار وليلته. وثبات قَلْبهِ يوم بَدْرٍ، وهو يقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا رسول الله! كفاك بعض (¬4) مناشدتك ربَّك؛ فإنه منجز لك ما وعدك" (¬5). وثبات قلبه يوم أحد، وقد صَرَخ الشيطان في الناس بأن مُحَمَّدًا قد قُتِل، ولم يبق أحدٌ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا دون عشرين في (¬6) أُحدٍ، وهو مع (¬7) ذلك ثابت القلْب، سَاكن الجَأْش. ¬
وثبات قلبه يوم الخندق، وقد زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر. وثبات قلبه (¬1) يوم الحديبية، وقد قلق فارس الإسلام عمر بن الخطاب، حتى إن [ح 203] الصدَّيق ليثبَّتُه ويُسكِّنُه ويُطَمْئنُه. وثبات قلبه يوم حُنينٍ، حيث (¬2) فرَّ الناس، وهو لم يفرّ. وثبات قلبه حين النازلة التي اهتزَّت لها الدنيا أجمع، وكادت تزول (¬3) لها الجبال، وعُقِرَت لها أقدام الأبطال، وماجتْ لها قلوبُ أهل الإسلام، كموج البحر عند هُبُوْب قواصف (¬4) الرياح، وصاح لها (¬5) الشيطان في أقطار الأرض أبلغ الصِّيَاح، وخرج الناس بها من دين الله أفواجًا، وأثار عدو الله تعالى بها أقطار الأرض عجَاجًا، وانقطع لها الوحي من السماء، وكاد لولا دفاع الله تعالى لطمس نجوم الاهتداء، وأنكرت الصحابة بها قلوبهم، كيف لا وقد فقدوا رسولهم من بين أظهُرِهِم وحبيبهم، وطاشت الأحْلام، وغشي الآفاق ما غشيها من الظلام، واشرأبَّ النفاق، ومدَّ أهله الأعناق، ورفع الباطل رأسًا كان تحت قدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - موضوعًا، وسَمِع المسلمون من أعداء الله تعالى ما لم يكن في حياته بينهم مَسْمُوعًا، وطمع عدوُّ الله أن يُعيد ¬
الناس إلى عبادة الأصنام، وأن يصرف وجوههم عن البيت الحرام، وأن يصدَّ قلوبهم عن الإيمان والقرآن، ويدعوهم إلى ما كانوا عليه من التهوُّد والتمجُّس والشرك وعبادة الصُّلبان، فشمَّر الصدِّيق رضي الله عنه من جِدِّه عن ساقٍ غير خوَّار، وانْتَضَى سيف عزمه الذي هو ثاني ذي الفقار، وامتطى من ظُهور عزائمه (¬1) جوادًا لم يكن يَكْبُو السَّبَاق، وتقدَّم جنود الإسلام فكان أفرسهم إنما همُّه اللَّحَاق، وقال: "والله لأجاهدنَّ أعداء الإسلام جَهْدِي، ولأَصدُقَنَّهُمُ الحرب حتى تنفرد سالفتي أو أفرد وحدي، ولأدْخِلَنَّهُم في الباب الذي خرجوا منه، ولأرُدَّنَّهُم إلى الحق الذي رغبوا عنه (¬2) " (¬3) فثبَّت الله تعالى بذلك القلب - الذي لو وُزِن بقلوب الأمة لرجَحَها - جيوش الإسلام، وأذلَّ بها المنافقين والمرتدين وأهل الكتاب وعبدة الأصنام، حتى استقامت قناة الدين من (¬4) بعد اعوجاجها، وجرت الملَّة [ح 204] الحنيفية على سننها ومنهاجها، وتولّى حزبُ الشيطان وهم الخاسرون، وأذَّن مؤذَّن الإيمان على رؤوس الخلائق: ألا إنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغالِبون (¬5). هذا؛ وما ضعفت جيوش عزماته، ولا استكانت ولا وهنت، بل لم تزل الجيوش بها مؤيَّدة ومنصورة، وما فرحت عزائم أعدائه بالظفر ¬
فصل في مراتب الشجاعة والشجعان
في موطن من المواطن، بل لم تزل مذلولة (¬1) مكسورة. تلك لعَمْر الله تعالى الشجاعة التي تضاءلت لها فُرْسَان الأمم، والهِمَّة التي تصاغرت عِنْدها عَلِيَّات الهِمَم، ويحقُّ لصدِّيق الأُمَّة أن يضْرِب من هذا المَغْنم بأوفر نصيب، وكيف لا وقد فاز من ميراث النبوَّة بكمال التَّعْصِيْب. وقد كان الموروث صلوات الله تعالى وسلامه عليه أشجع الناس، فكذلك وارثه وخليفته من بعده أشجع الأمَّة بالقياس، ويكفي أنَّ عمر بن الخطاب سهمٌ من كِنَانَتِه، وخالد بن الوليد سلاحٌ من أسْلِحته، والمهاجرون والأنصار أهل بيعته وشوكته، وما منهم إلا من اعترف أنه يستمدُّ من ثباته وشجاعته. فصلٌ في مراتب الشَّجَاعة والشُّجْعان أول مراتبهم: الهُمام: وسُمَّيَ بذلك لِهِمَّته وعَزْمِه، وجاء على بناء فُعَال؛ كشُجَاع. الثاني: المِقْدام: وسُمِّي بذلك من الإقدام، وهو ضدُّ الإحجام، وجاء على أوزان المبالغة؛ كمِعْطاء، ومِنْحَار؛ لكثير العطاء والنَّحْر، وهذا البنَاء يستوي فيه المذكَّر والمؤنَّث؛ كامرأةٍ مِعْطار: كثيرة التَّعَطُّر (¬2)، ومِذْكَار: تَلِدُ الذكور. ¬
3 - الباسل
الثالث: الباسِل: وهو اسم فاعل من بَسُل يبْسُل؛ كشرُف يشْرُف والبَسَالة: الشجاعة والشدَّة. وضِدُّها: فشُل يفْشل فَشَالة وهي [ظ 99] على وزنها فِعْلا ومصدرًا، وهي الرَّذالة. الرابع: البَطَل: وجَمْعُه: أبْطَال، وفي تسميته قولان: - أحدهما: لأنه (¬1) يُبْطِلُ فِعْل الأقران، فتَبْطُل عنده شجاعة الشُّجعان، فيكون: بطلٌ بمعنى مفعولٍ في المعنى؛ لأن هذا الفعل غيرُ متعدٍّ. - والثاني: أنه بمعنى فاعل لفظًا ومعنى؛ لأنه الذي يُبْطِل شجاعة غيره، فيجعلها بمنزلة [ح 205] العدم، فهو بطلٌ بمعنى: مُبْطِل (¬2). ويجوز أن يكون بطلٌ بمعنى مُبْطَل؛ بوزن (¬3) مُكْرَم، وهو الذي قد بَطَلَهُ غيرُه، فلِشَجاعته تحاماه الناس، فبَطَلوا فعله باستسلامهم له، وترك محاربتهم إياه. الخامس: الصَّنْدِيْد: بكسْر الصَّاد، والعامَّة تلحن فيه (¬4) فيقولون: صَنديد، بفتحها، وليس في كلامهم فَعليل بفتح الفاء، وإنما هو بالكسر في الأسماء: كقِنْدِيل وحِلْتِيت، وفي الصَّفات: كشِمْلِيل، والصَّنديد: الذي لا يقوم له شيءٌ. ¬
الناس ثلاثة
فصلٌ ولما كانت الشجاعة خُلُقًا كريمًا من أخلاق النفس؛ ترتَّب عليها أربعة أمورٌ، وهي مظهرها وثمرتها: الإقدام في موضع الإقدام. والإحجام في موضع الإحجام. والثبات في موضع الثبات. والزوال في موضع الزوال. وضدُّ ذلك مُخِلٌّ بالشجاعة، وهو إما جُبْنٌ، وإما تَهَوُّرٌ، وإما خِفَّة وَطيْشٌ. وإذا اجتمع في الرجل الرأي والشجاعة (¬1)؛ فهو الذي يصلح لتدبير الجيوش، وسياسة أمْرِ الحرب. والناس ثلاثة: رجلٌ، ونصف رجل، ولا شيء: - فالرجل: من اجتمع له إصابة (¬2) الرأي والشَّجاعة، فهذا الرجل الكامل؛ كما قال أحمد بن الحسين المتنبي (¬3): ¬
2 - نصف رجل
الرّأْيُ قَبْلَ شَجَاعَةِ الشُّجْعَانِ ... هُوَ أوَّلٌ وهِي المَحَلُّ الثَّانِي فإذا هُما اجْتَمَعا لِنَفْسٍ مرَّةٍ ... بَلَغَتْ مِن العَلْياءِ كُلَّ مَكان - ونصف الرجل: وهو (¬1) من انفرد بأحد الوصفين دون الآخر. - والذي هو لا شيء: مَن عَرِيَ من الوصفين (¬2) جميعًا. ونختم هذا (¬3) الكتاب بآيةٍ من كتاب الله تعالى، جمع فيها تدبير الحروب بأحسن تدبير، وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [الأنفال: 45 - 46]. فأمر المجاهدين فيها بخمسة أشياء، ما اجتمعت في فئةٍ قطُّ (¬4) إلَّا نُصِرَت، وإن قلَّت وكثُرَ عدوُّها. أحدها: الثبات. ¬
- اجتماع تلك الأمور الخمسة في الصحابة
الثاني: كثرة ذِكْره سبحانه وتعالى. الثالث: طاعته وطاعة رسوله. الرابع: اتِّفاق الكلمة، وعدم التنازع الذي يوجِب [ح 206] الفَشَل والوَهَن، وهو جُندٌ (¬1) يقوَّي به المتنازعون عدوَّهُم عليهم؛ فإنهم في اجتماعهم كالحِزْمَة من السِّهام، لا يستطيع أحدٌ كسرها، فإذا فرَّقها وصار كلٌّ منهم وحده؛ كسرها كلها. الخامس: مِلاك ذلك كله وقوامه وأساسه، وهو الصبر. فهذه خمسة أشياء تُبْتَنى (¬2) عليها قُبَّة النَّصْر، ومتى زالت أو بعضها؛ زال من النصر بحسب ما نقص منها، وإذا اجتمعت، قوَّى بعضُها بعضًا، وصار لها أثرٌ عظيمٌ في النصر، ولما اجتمعت في الصحابة لم تقمْ لهم أمَّةٌ من الأمم، وفتحوا الدُّنيا، ودانت لهم العباد و (¬3) البلاد، ولما تفرَّقت فيمن بعدهم وضَعُفت؛ آل الأمرُ إلى ما آل. ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم، والله المستعان، وعليه التُّكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل (¬4). (*) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬