الفرقان في بيان إعجاز القرآن

عبد الكريم الحميد

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد ... فإن إعجاز القرآن مُسَلَّم في اعتقاد المسلمين لا يتطرّق إليه الشك. وقد ظهر هذا الإعجاز وقت نزوله بأخباره الغيبية الماضية والحاضرة والمستقبلة، وبالتحدّي بالإتيان ولوْ بسورة واحدة من مثله إلى غير ذلك من إعجازه الباهر، القاهر لكل مبطل خاسر. وليس موضوعنا التفصيل في ذلك فقد كُفيناه حيث كَتَبَ السلف في هذا ما بعضه يكفي. وإنما المراد هنا الكلام فيما جَدّ وحَدَث في زماننا من الكلام في إعجاز القرآن الذي معناه متابعة ومجاراة الكفار الملاحدة فيما يزعمون أنهم اكتشفوه وعرفوه. فالمقصود النظر في هذا الإعجاز المزعوم وَوَزنه بميزان الشرع لِتَسْتبين سبيل الحق من الباطل ولأنه صار فتنة عظيمة تهوّك بها من تهوّك على غير هدى بل بضلال مبين لا يرتقي ولا إلى درجة الظن والتخمين.

بل حصل بسببه من جحود الخالق وإنكار وجوده ما لا يُحاط به، يعلم الكثير من ذلك من اسْتقرأ الأمر من بدايته وأصله وتابع تفرّعاته ونتائجه، ولم يغرّه نفخ في صُوَرٍ مَيّتة ممن يُرَوِّجون فاسد البضاعة وكاسدها، بل والله مسمومها، وأعني الذين تَوَلَّوْا ترجمة هذه العلوم. كذلك الذين وجدوها مترجمة ففُتِنوا فيها فضلوا بها وأضلوا من تبعهم بما يكتبون ويؤلفونه تقليداً وتبعية. وكل هؤلاء أقحموا آيات القرآن قسْراً وقهراً رغم عدم طَوَاعِيّتها والبَوْن البعيد الفارق بينها وبين هذه العلوم الدخيلة، أقحموها بها لِتَساير الركب الضال وهذا يستحيل تحقيقاً وإنْ وُجِدَ تَلْفيقاً. وإن ترويج هذه العلوم المضلّة بمزجها بعلم الهدى لَنَذير شر وموجب رَدَى. إن الحق والباطل لا يتفقان على الملائمة ولا يجتمعان إلى على مضادة ومُنافرة وإنما اللبس إذا وقع أظلمت الطريق، فقد الْتبس الحق بالباطل بهذه الأسباب فحصل الضلال. والمراد من هذا الكتاب النظر في هذا الطوفان الغامر المسمى: (إعجاز القرآن العلمي) بِزَعْم تصديق كلام الله وتصحيحه وتأييده هذه النظريات التي يُطلق عليها اسم العلم التي وَفَدَتْ من ملاحدة أصّلوا علومهم ونظرياتهم على جحود الخالق سبحانه وبحمده، فهل القرآن

حقيقة يُوَافق ذلك أم يخالفه فلننظر (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ). أما من أقرّ بالخالق منهم فقد أقَرَّ به على مقتضى هذا النظر المحدَث للكون، وهو ضلال من أوله إلى آخره، فكثير منهم غايتهم الربوبية، والإقرار بالخالق لوْ كان على مقتضى الفطرة والنظر الصحيح لما دخل صاحبه في الإسلام فكيف بنظرِ مَنْ سار على نهج هذا العلم الحديث وكشوفاته؟ إنها تبدأ بالضلال وتنتهي إليه، أما من يُرَوِّج هذه البضائع فإما جاهل أو ماكر، وأهل الإسلام في غنى ونعمة من الله حَسَدهم عليها أعداؤهم فأرادوا أن يزاحموها بضلالهم ويفسدوها لتحصل المشاركة، (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ). وقدس الله روح ابن القيم فهو يقول: فلا تُتعب ذهنك بهذيانات الملحدين فإنها عند من عرفها من هَوَس الشياطين وخيالات المبطلين. وإذا طلع فجر الهدى وأشرقت النبوّة فعساكر تلك الخيالات والوساوس في أول المنهزمين، (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) انتهى (¬1). ¬

(¬1) من مفتاح دار السعادة 1/ 215

اعلم أن الشأن كل الشأن في طلوع هذا الفجر وإشراق هذا النور حتى يكون الأمر في زماننا كما وصف قدس الله روحه. كتبها عبد الكريم بن صالح الحميد

نيوتن والجاذبية وقانونها

نيوتن والجاذبية وقانونها إسحاق نيوتن هذا كافر إنجليزي غلا فيه الملاحدة ومن قلّدهم وأخذوا كلامه في الجاذبية من غير معرفة ولا دراية وكأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه مع أن كلامه في ذلك ينقسم إلى قسمين: قسم غايته فيه أنه عَرَفَه بالبديهية وهذا يشاركه فيها كل أحد وهو انحطاط الأثقال من أعلى إلى أسفل الذي سَمّوْه الجاذبية وأي ميزة تَمَيّز بها هذا الضال؟. الثاني: الضلال المبين الذي فتح بابه لأمثاله مما تصوّره في خياله مع أنه لا حقيقة له في الواقع وذلك زعمه أن حجم الجسم كلما ازْداد ازْدادت قوّته في جذب الأجسام الأخرى إليه. ومن هنا تَبَنَتْ النظريات الخيالة الباطلة من الكلام بما سَمّوْه المجموعة الشمسية وانفصال الكواكب بزعمهم من الشمس ودورانها حولها، وتجاذبها، ولقد قَبِل العالَم كلامه بلا برهان فمن أين له أن حجم الجسم كلما ازداد زادت قوّته في جذب الأجسام الأخرى إليه؟.

إن خاصية انحطاط الأثقال إلى أسفل أو الجاذبية خاصِّيّة أوْدعها الله الأرض التي هي المهاد والفراش الموضوع في أسفل العالم للأنام لأجل استقرارهم. أما أن يُجعل ذلك قاعدة مُطّرِدة تنطبق على كل جسم كبير فهذا من أبطل الباطل وهو خيال مجرّد عن الحقيقة ولا يقدر أحد أن يُبرهن عليه بل الأدلّة الشرعية على خلافه حيث أنه تكرر في كلام الله عن الأرض أنها لِعَيش الخلائق واستقرارهم على ظهرها ولأجل ذلك خلقها الله على هذه الكيفية مستقرة ثابتة تنجذب الأثقال إلى مركزها السفلي وهو نهاية السُّفِل. ومما يبين بطلان نظريته أن السماء المبنية المحيطة بالأرض إحاطة الكرة بما في وسطها لا تجذب الأرض مع أنها أكبر منها بشيء عظيم كما هو مُشاهد، لكن هم لا يعرفون هذه السماء الدنيا المبنية ولا يُقِرّون بوجودها لذلك ليس لها ذكر في علومهم ولا يعرفون ما فوقها ولا يُقرّون به، وأي ضلال أعظم من هذا؟. إذاً خاصيّة انحطاط الأثقال إلى أسفل صادرة عن خالق حكيم قال تعالى: (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ) فهي في سُفِل العالم ومركزه وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً) وهي إنما صارت قراراً بهذه الخاصية وهي انحطاط الأثقال إلى مركزها الأسفل وهناك الأرض

السابعة السفلى التي يتّجه انحطاط الأثقال إليها ويقف عندها من كل جانب، إذْ أن انحدار الأثقال ليس إلى ما لا نهاية، بل له نهاية معلومة وهي نهاية سفل العالم كله الأرض السابعة السفلى، ولأجل ذلك صارت الأرض قراراً. والمراد أن هذه المجموعة الشمسية خيال لا حقيقية له ولم يرد لها ذكر في كلام الله وكلام رسوله، وقد قال صاحب كتاب (الإعجاز الإلهي في خلق الإنسان) ص 82 قال: لقد طلب العالم الشهير نيوتن من ميكانيكي ماهر أن يصنع له مُجَسَّماً معدنياً جميلاً للمجموعة الشمسية، فَتَمَّ لنيوتن ما أراد، لقد أظهر المجسَّم الشمس والكواكب السيارة على شكل كرات تحرّكها يّدٌ معدنية ويُسّيِّرها نظام معقّد يعتمد على العديد من المسنّنات والاسطوانات والأربطة. انتهى. فالمسألة لا تعدو النظريات الخيالية وأبعد ما تصل إليه الرسم على الورق والمجسَّمات ونحوها، والويل لمن خُدِع. ومن جنس هذه المجسّمات الكرة التي يوضع أمامها ضوء فيُديّرُون الكرة تجاه الضوء ويزعمون أن اختلاف الليل والنهار يحصل بهذه الكيفية، مع أن اختلاف الليل والنهار يحصل بعكس ما زعموا وذلك بدوران الضوء نفسه الذي هو بمنزلة الشمس حول الكرة، وبذلك يتعاقب الليل والنهار، وقد بينت ذلك ولله الحمد في (هداية الحيران).

والمراد أن نيوتن هذا بنى نظرية الجذب التي هي بزعمه تُنَظم سير الكواكب على خيال مظلم حيث لا يستطيع أن يبرهن على ذلك، بل البرهان بخلافه فالسماء أكبر من الأرض ولا تجذبها، فإذا كان يقول: إن الجاذبية بين الأجسام المختلفة تبعاً لكثافتها وطول المسافة الفاصلة بين كل جسم وآخر فيقال: هذا مجرد خيال، وإنما ألْجأه إليه اعتقاد السديم وكواكبه التي انفصلت منه ودورانها ومن ضمنها الأرض فهو يُعَلّل تنظيم دوران هذه الكواكب ولزومها مواضعها في خطوط دورانها يُعلله بالجاذبية، وإذا كان الأصل فاسداً فالفروع أيضاً تكون فاسدة، وسوف يتبين إن شاء الله فساد هذه النظريات من الأصل. وكيف يُسَلَّم له هذا الخرص؟ ثم إن جاذبية الأرض مُتجهة إلى مركزها الأسفل، ولو كان الأمر كما يزعم نيوتن لصار الجذب بعكس ذلك تماماً حيث يكون تَوَجّه الجذب إلى الجاذب وهو الشمس بزعمهم، كذلك فإنهم يزعمون أن جاذبية الأرض تنقطع حين يرتفع الإنسان بعيداً عنها، وهذا يُبين الحكمة الربانية من إيداع مركز الأرض الأسفل هذه الخاصِّية وأن ذلك لاستقرار ما على الأرض فيها، فلولا أن الله خلق هذه القوة الجاذبة في الأرض لما استقر عليها شيء بل يبقى سطحها وحَيّز الهواء، سواء بحيث يقف الإنسان في الهواء ويخطو في الهواء ولا يُشعر بما يجذبه أسفل منه ولا فوقه ولا من جميع جهاته.

ولذلك فالأرض موضوعه هكذا في الفضاء مثل الإنسان الذي تقدم وصْفه في حال عدم ما يجذبه، وإنما يمسكها بقدرته الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا. وإذا كانت الجاذبيّة تنقطع بعد ارتفاع معيّن من الأرض مع أنها جاذبية إلى أسفل لا إلى أعلى فما الذي ربط الأرض بالشمس وأي جذب بينهما؟ إن كلام هؤلاء يؤخذ بلا نظر ولا تمحيص لموقع الانبهار في القلوب، ولأن فتنتهم عمياء أراد الله أن يضل بها من يشاء لحِكم باهرة هو المحيط بها علماً. ثم يقال: من قال لكم أن في جرم الشمس قوة جاذبية وكذلك بقية الكواكب؟ إنه الهذيان وإفراز خيالات أهل الضلال والطغيان، فليس في الشمس ولا القمر ولا سائر الكواكب قوة جذب، والسبب أن هذه المخلوقات خُلِقَتْ لحكمة غير الحكمة التي خلقت لها الأرض فإن الرب سَخّرها لأهل الأرض من الإنسان والحيوان والنبات، وقد قال تعالى: (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) وقال تعالى: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) وقال تعالى: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ) وقال تعالى: (وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) ولذلك قال قتادة: خلق الله هذه

النجوم لثلاث: جعلها زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يُهتدى بها، فمن تأوْل فيها غير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به (¬1) انتهى. أما الأرض فقد قال تعالى في الحكمة من خَلْقها: (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ) وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً). فقد ظهر أن خاصية الجذب إنما أوْدعها الرب سبحانه الأرض لتستقر عليها المخلوقات، أما الشمس والقمر والكواكب فخالية من ذلك، لأنها لم تُخلق ليستقر عليها أحد، فالحكمة من خلقها تنافي ذلك كما أن الحكمة من خلق الأرض تنافي عدم وجود الخاصيّة المُودعة فيها. ¬

(¬1) أخرجه البخاري معلقاً وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير.

المجموعة الشمسية

المجموعة الشمسية هذا الاسم لا يوجد في كلام الله ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم ولا كلام السلف، ولا حقيقة لمعناه أيضاً، وإنما هو خيال منحوت في أذهان أرباب الهذيان أحْدثوه في هذا الزمان. لقد ربطوا هذه المجموعة المزعومة بعضها ببعض على مقتضى خيال إسحاق نيوتن في الجاذبية، وقد تقدم بيان بطلانه، والعجب دَعْواهم أن علومهم هذه تقوم على التجارب والحِسّيات أما الغيبيات فلا تدخل في علومهم وهي عندهم موضع سخرية ومع هذا أكثر نظرياتهم التي ملئوا الدنيا منها أصلها وفرعها وبدايتها ونهايتها الخيال. والمراد أن المجموعة الشمسية المزعومة خيال متفرّع من خيال نيوتن حيث بَنَوْا هذه النظرية على ذلك. فكواكب هذه النظرية منفصلة من الشمس وتدور حول نفسها وحوْل الشمس بفعل الجاذبية بسرعة عظيمة، فالشمس كبيرة وتجذب هذه الكواكب إليها كما تقدم بيانه من نظرية نيوتن. يقال: أين البرهان على هذا، أوْ يكفينا من البرهان أنه قاله إنجليزي أو أمريكي وهؤلاء لا يُعترض عليهم؟.

الجاذبية تخصّ الأرض، وأما الأجرام العلوية من الشمس والقمر والكواكب فتختلف عن الأرض من كل وجه بخلاف نظرياتهم التي يزعمون فيها أن التركيب واحد لأجل أنها كلها منفصلة من جرم واحد سواء قيل هو الشمس أو السديم. إن العالم العلوي لطيف خفيف مُسْتنير ليس كالعالم السفلي المظلم الكثيف فكيف يُجعل كالعالم السفلي؟ فالفرق ظاهر. والأرض خلقها الله وحدها، وخلق السماء والشمس والقمر والنجوم بعد ذلك، وقد خلقها الله لحكمة وأوْدعها خصائص لا تشاركها فيها مخلوقات العالم العلوي. كما أن السماء خُلقت لحكمة وأودعها فاطرها خصائص لا تُشارك فيها، وكذلك الشمس والقمر والنجوم، وانظر اسم الحيوان والطير والنبات في الأرض، ماذا يشمل مع الفروق الكبيرة بين كل مخلوق وآخر فكذلك العالَم العلوي يجتمع مع العالَم السفلي بأنه مخلوق لله وأنه كَوْن مع وجود الفروق العظيمة بينهما، وإنما جاء الخلْط مِن قِبَل أرباب هذه العلوم التجريبية لانتحالهم في علومهم طريق المحسوس مع عدم الإيمان بالغيب مع تناقضهم وذلك باعتمادهم على نظريات خيالية ليس لها وجود في عالَم الواقع ولذلك جعلوا مادة الكون كله واحدة متشابهة في التركيب.

العلوم التجريبية والاعتماد على المحسوس

العلوم التجريبية والاعتماد على المحسوس يأبى الله عز وجل إلا أن يُظهر كذب الكاذبين المكذبين فلمّا لم يؤمنوا بكتب الله ورسله واعتمدوا على نفوسهم المظلمة تناقضوا في أصل علومهم تناقضاً بيّناً وذلك أن كل ما يتكلمون به ويزعمون أنهم اكتشفوه من العالَم العلوي كله باطل وضلال إلا نزر يسير مسْبوقين إليه، وهم إنما اعتمدوا فيه على غير المحسوس بل على الخيال المحض والكذب الصِّرْف، فأين عدم إيمانهم بغير محسوس؟ وكذلك كلامهم في العالَم السفلي أكبره وأعظمه القول بدوران الأرض وأنها كوكب، وهو من أبطل الباطل وقد بيّنت ذلك ولله الحمد في (هداية الحيران في مسألة الدوران) والمقصود أنهم في ذلك ما اعتمدوا على المحسوس بل على خيالات نظرياتهم الضالّة المضلة. كما أن كلامهم في الذرة أيضاً ليس اعتماداً على المحسوس ولذلك يصرّحون بأنها لا تُرى ولا بأكبر المجاهر، فأين المحسوس؟ إنه الآثار فقط، ولسنا ننكر الآثار وإنما الشأن هل هي آثار ناتجة عن الذرة المزعومة أم عن غيرها مما لا يعلمون؟ ويأتي الكلام على الذرة إن شاء الله.

وليُعلم أن سلف هؤلاء المعطلة في عدم الإيمان بغير المحسوس هم السّمنية الذين ناظروا الجهم بن صفوان فأضلّوه. قال شيخ الإسلام في نقض التأسيس 2/ 55 فهؤلاء (السمنية) يكون قولهم أن ما لا يُدْرك بالحواس لا يكون له حقيقة. انتهى. وقد أنكر هؤلاء أرواحهم والجن والملائكة بعد إنكارهم خالقهم فأي علم يُطلب من هؤلاء.

هل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم متوقفا على هذيان أرباب العلوم التجريبية؟

هل صِدْق الرسول صلى الله عليه وسلم متوقفاً على هذيان أرباب العلوم التجريبية؟ اطلعت على بعض ما كتبه رُوّاد ما سَمّوْه (الإعجاز العلمي للقرآن) مثل عبد المجيد الزنداني صاحب كتاب توحيد الخالق وغيره كثير، وهو في الحقيقة خطأ في فهم القرآن حيث سلكوا مسالك مُحْدَثة مُبْتدَعة تخالف طريقة السلف ونهجهم في الكلام في القرآن وبيان معانيه. ولقد حذّر السلف غاية التحذير من المتكلمين لإحداثهم طريقاً يزعمون أنهم بها يُثْبتون وجود الخالق والعلم بالنبوات لأن هذه الطريق لم يسلكها السلف من الصحابة ومن بعدهم ممن اقتفى آثارهم، ولقد كانت نهايات المتكلمين الحيرة والضلال كما قال الرازي: نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلالُ وأرواحنا في وحْشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذىً ووبال ولم نسْتفد من بحثنا طول عمرنا ... سِوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وكذلك الشهرستاني أخبر أنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم وكان يُنشد:

لعمري لقد طُفت المعاهد كلها ... وسيّرت طرفي بين تلك المعالِمِ فلم أَرَ إلا واضعاً كفّ حائرٍ ... على ذقنٍ أو قارعاً سِنَّ نادمِ أما ابن الفارض فلما حضرته الوفاة أنشد: إن كان منزلتي في الحب عندكم ... ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي أُمنية ظَفِرتْ نفسي بها زمناً ... واليوم أحسبها أضغاث أحلامِ ومن خالف طريق الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة لا يفلح. كذلك فقد حَذّروا من علم المنطق وبينوا ضلاله، وهم بهذا عاملون بوصايا نبيهم صلى الله عليه وسلم حيث أمر أُمته باتباعه واتباع خلفائه الراشدين ونهى أمته عن الإحداث بعده، وهذا سواء في العلم والعمل، وفي كل شيء بل إن أهم ذلك في العلم إذ هو أصل العمل، والعلم عند أهل الإسلام ليس عند الكفرة الملاحدة المعطلة. قال ابن القيم رحمه الله تعالى فيا الصواعق المرسلة عن الجهمية والمعطلة: (ولهذا كان أكمل الأمم علماً أتْباع الرسول وإن كان غيرهم أحذق منهم في علم النجوم والهندسة وعلم الكم المتصل والمنفصل وعلم النبض والقارورة والأبوال ومعرفة قَوَامها، ونحوها من العلوم التي لما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم بها وآثروها على علوم

الرسل، وهي كما قال الواقف على نهاياتها ظنون كاذبة وإن بعض الظن إثم، وهي علوم غير نافعة فنعوذ بالله من علم لا ينفع. انتهى. وقال رحمه الله: (فليس العلم في الحقيقة إلا ما أخبرت به الرسل عن الله عز وجل طَلَباً وخبراً فهو العلم المزكي للنفوس، المكمِّل للفِطر، المصحح للعقول، الذي خصّه الله باسم العلم، وسَمَّى ما عارَضه ظناً لا يغني من الحق شيئاً وخرْصاً وكذباً فقال تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) وشهد لأهله أنهم أولوا العلم فقال سبحانه وتعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ) وقال تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). والمراد بهم أولوا العلم بما أنزله على رسله ليس المراد بهم أولي العلم بالمنطق والفلسفة وفروعهما. انتهى، تأمل هذا الضابط للعلم والعلماء بخلاف تخليط أهل الوقت. ثم قال رحمه الله: (وقال تعالى: (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) فالعلم الذي أمره باسْتزادته هو علم الوحي لا علم الكلام والفلسفة). إذا كان العلم الذي أمر الله رسوله بالاسْتزادة منه هو علم الوحي وقد فارق الدنيا صلى الله عليه وسلم وما تعلم غير هذا ولا عَلّم أصحابه غيره وقد أمرنا باتباعه واتباع أصحابه ونهانا عن

الإحداث، فبهذا الميزان يعرف الموفق انحرافات الأمة بالعلم الذي هو الأصل لا سيما في العلم الشرعي وكيف سُمِّي باسمه ما يضادّه. ثم قال: (وقال تعالى: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أي أنزله وفيه علمه الذي لا يعلمه البشر فالباء للمصاحبة مثل قوله: (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللهِ) أي أُنزل وفيه علم الله وذلك من أعظم البراهين على صدق نبوّة من جاء به). ثم رَدّ رحمه الله قول من قال: إن المعنى أنزله وهو يعلمه، وبيّن أن هذا ليس هو المراد وإن كان يعلم سبحانه ما أنزله وإنما المعنى: أنزله متضمناً لعلمه الذي لا يعلمه غيره إلا من أطلعه الله وأعلمه به، فإن هذا من أعظم أعلام النبوّة والرسالة. انتهى. وانظر قوله رحمه الله: (إلا من أطلعه الله وأعْلمه به) وإذا كان الرب سبحانه ذكر علم المخلوقات في كتابه العزيز فهل يُغلق باب العلم بذلك عن الصحابة والسلف من علماء المسلمين وأئمتهم ويفتح هذا الباب بعد القرون الطوال وفي نهاية الأمة وختام الدنيا على أعدائه الذين لا يُقرون بوجوده؟ (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى). إن العلم بالله عز وجل الذي هو أشرف العلوم عند أهل الإسلام ليس عند الكفرة، كذلك العلم بمخلوقاته عندهم لأنهم يأخذون علمها من خالقها وَوَصْفها من فاطرها، بخلاف أهل الظن والخرص والدّجل.

وفي هذا الكتاب سوف أذكر بعض ما كتبه أرباب الإعجاز المزعوم وأبيّن إن شاء الله بطلان ما ذهبوا إليه وأبيّن أنهم خاضوا بحاراً لُجيّة وأساؤا غاية الإساءة بكلامهم هذا إلى القرآن والسنة وأنهم لا للإسلام نصروا ولا للأعداء كسروا بل فتحوا أبواب ضلالة لمن اقتدى بهم، وأن فعلهم هذا تَشْويه للإسلام حيث ألْبَسوه غير لباسه وسَيّروه قَسْراً في غير طريقه، فكيف يُتلاعب هكذا بكلام الله الذي هو صفة من صفاته؟.

أمثلة من الخوض بالجهالة والضلالة

أمثلة من الخوض بالجهالة والضلالة خلق آدم وذريته بين يديّ كتاب اسمه (رسالة الرضوان)، وقد تكلم فيه كاتبه عن خلق الإنسان وأنه مخلوق من تراب فذكر كل الآيات التي فيها ذكر خلق الإنسان من تراب ومن طين فجعل المراد بذلك سائر الناس وأنهم خُلقوا من تراب ومن طين، قال: (ولأول مرة يتبادر إلى الذهن عدم معقوليّة خلْقنا من تراب لكننا بعد تأمل وتدبّر نجد أن خَلْقنا من تراب حقيقة ساطعة كالشمس). يريد أن سائر الناس خلقوا من تراب مع أن كل ما ذكر الله سبحانه في القرآن من خلق الإنسان من التراب ومن الطين المراد به آدم عليه السلام ليس المراد الذريّة فالذرية يذكر الله أنه خلقهم من الماء المهين وهو النطفة لكن مراده تفسير آيات القرآن على مقتضى علوم الملاحدة، ولذلك ذكر تركيب الإنسان من العناصر الأرضية وأنها تُرابيّة. ولقد تكلّف وقال بالقرآن برأيه ووقع في خطأ فاحش، وقد سَرَد الآيات التي فيها ذكر التراب والطين زاعماً أن المراد سائر الناس وذلك لأجل حَشْر القرآن في رَكْب علوم الملاحدة المضلة، وقد

ذكر قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ) وقوله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ) وقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ) وقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ) وقوله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ) وقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) وقوله تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) وقوله تعالى: (وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ) وقوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ). وهذه الآيات التي ذكر كلها في شأن آدم عليه السلام كما سيظهر إن شاء الله. قال ابن كثير في آية سورة الروم: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ) قال: (وَمِنْ آيَاتِهِ) الدالة على عظمته وكمال قدرته أنه خلق أباكم آدم من تراب، (ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) قال: فأصلكم من تراب ثم من ماء مهين، ثم تَصَوّر فكان علقه .. إلى آخر كلامه. هذا هو المراد بقوله تعالى: (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ) أنه أصلكم وهو آدم عليه السلام، فالخطاب وإن كان للذرية فالمراد أصلهم. أما الذرية فخلقهم الله من النُّطَف التي هي الماء المهين، وكم ذكر الله هذا في القرآن.

وفي مسند الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيب والسهل والحزَن وبين ذلك) (¬1). أما آية سورة الحج (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ) قال ابن كثير: أي أصل برئه لكم من تراب وهو الذي خُلق منه آدم عليه السلام (ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ) أي ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، وأما آية السجدة (وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ) قال ابن كثير: يعني خلق أبا البشر آدم من طين. ولن اطيل هنا فانقل ما ذكره اهل التفسير من السلف غير ابن كثير في جميع الآيات التي يذكر الله فيها التراب والطين لأنه إجماع من السلف أن المراد آدم، فيلزم صاحب الكتاب أن السلف قد أجمعوا على ضلالة في تفسير هذه الآيات، وأنهم يقرؤن هذه الآيات ولا يعرفون المراد منها وإنما عرف المراد مقلدة الملاحدة في هذيانهم. ولا ننكر تكوين جسم الإنسان من النبات والحيوان إنما المنكر الباطل أن هذه الآيات معناها ما ذهب إليه صاحب ذلك الكتاب، إن الفرق بيّن بين خلق جنس الإنسان وخلق الأب -آدم عليه السلام-. ¬

(¬1) رواه الإمام احمد في سنده (4/ 400) وأبو داود (4690).

قال ابن تيمية رحمه الله في قوله تعالى: (خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ) قال: (الإنسان) هو اسم جنس يتناول جميع الناس ولم يدخل فيه آدم الذي خُلق من طين. انتهى. (¬1) والطين هو التراب إذا أُضيف إليه الماء. والمراد هنا ذكر نماذج من ضلالات أرباب الإعجاز المزعوم وأنهم مخالفون للسلف، وأن إطلاق اسم العلم على علوم الكفار ضلال، فلا بد من تقييد اسم العلم بما يميزه عن العلم الديني الحق الممدوح أهله، ولذلك يقول ذلك الكاتب: وأما الدليل العلمي: فاتضح للدارسين المختصين في علوم الحياة والكيمياء إذ أنهم وجدوا أن حقيقة خلقنا من التراب التي أخبر عنها القرآن الكريم منطبقة تمام الانطباق على طبيعة تكوين أجسامنا ذات الطبيعة المادية الترابية الأصل إذ تبيّن لهم بعد الدراسة والتحليل الكيميائي لِبنية الإنسان أنها بنية مكوّنة من عناصر ترابية محضة. إلى آخره. (¬2) فيقال له: أهذا إعجاز القرآن أم الإضلال عن القرآن؟ وكذلك صاحب كتاب (الإعجاز الإلهي في خلق الإنسان) ذكر في (ص41) خلق الإنسان من تراب بتطابق تركيب تراب الأرض مع تراب ¬

(¬1) مجموعة الفتاوى 16/ 260. (¬2) رسالة الرضوان، ص52.

ورميهم الإنسان بعد فناء جسده، ثم قال: لقد جاء المثل الإلهي مُذهلاً يأخذ بالألباب في الآية الخامسة من سورة الحج حيث قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ) الآية. قال: فبعد أن خلق الله الإنسان من تراب قَدّر فيه أجهزته المختلفة، انتهى. وقد تبين هذا الخطأ والاستدلال عليه وأن المراد بالمخلوق من التراب والطين هو آدم عليه السلام. فالحذر من هذه التفاسير للآيات والمعاني للأحاديث التي أحدثها من يزعمون إعجاز القرآن فإنهم يحيلون معاني القرآن والحديث المعجزة حقاً إلى معاني بين باطل محض والحق لا يجتمع مع الباطل بل هو ضده، وبين معانٍ تافهة هزيلة وكأن كلام الله يشبه كلام البشر، ومن هنا تسقط حرمة القرآن ويستعمل في غير ما أنزل له.

إعجاز صاحب كتاب توحيد الخالق

إعجاز صاحب كتاب توحيد الخالق وبما أن عبد المجيد الزنداني قدْ خاض في هذه اللجج وله مؤلفات مبثوثة أقبل عليها كثير من الشباب من غير بصيرة ولا معرفة يميزون بها الحق من الباطل، مع أنه في مؤلفاته أراد التوفيق بين كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وبين نظريات الملاحدة وما أحدثوه من علوم هي على الحقيقة من أعظم ما فُتِنَ به أهل الوقت، وغيره سلكوا هذا المسلك الخطير لكن هو اشتهر بذلك أكثر من غيره وله تَحَمّس ظاهر في هذا. ومن نظر في مؤلفاته رآه قَلّ أن يُعَوِّل على كلام السلف في التفسير لا سيما تفسير آيات الكوْن وإنما يزكم الأنوف بـ (قال الباحثون) و (كَشَفَ العلم الحديث) و (قال العلماء) وهكذا مما يَحُمّ الأرواح، وكأن نبينا صلى الله عليه وسلم تركنا عالة في معرفة مخلوقات ربنا على أعدائه وأعدائنا، وإن العلم كله في ميراث محمد صلى الله عليه وسلم ولكن يُحْرَمه من عَظّم أعداء الله واغْترّ بهم وسَلَكَ مسالكهم. وليعلم هؤلاء المقلّدة أن مسلكهم هذا فيه من تنقّص علم الأمة وعلمائها وإظهار حاجتها إلى الكفار للعلم بكتاب ربها مالا يحيط به إلا

الله مما يكون من آثاره الذل النفسي وتجهيل السلف واحتقارهم، وغير ذلك من آثار السوء، ولقد عظمت هذه الفتنة حتى صارت عند كثير من النّشء من المسَلّمات. قال عبد المجيد الزنداني: تحت عنوان: السَّبق العِلميُ للقرآن: معجزة جديدة: إن معجزات وبينات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كثيرة، ومتنوعة، ودائمة لأنه خاتم الرسل والأنبياء، ومن بينات رسالة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ما ظهر من إعجاز جديد للكتاب الذي جاء به صلى الله عليه وسلم من عند الله، وذلك الإعجاز هو السبق العلمي للقرآن الكريم الذي ذكر حقائق في الكون لم تكن البشرية تعلم عنها شيئاً، وبعد مرور عدد من القرون، وبعد تقدم أجهزة الكشف العلمي وقف العلماء على طرف من هذه الحقائق التي كان القرآن الكريم قد ذكرها قبل قرون وقرون، فكان ذلك شاهداً بأن هذا القرآن قد أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض، كما يشهد بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله الذي أحاط علماً بكل شيء (¬1). الجواب على هذا أن يقال: من الخطأ الفاحش أن يطلق اسم العلماء بدون تقييد على الكفار، كذلك أن يطلق اسم العلم على علومهم، لأن ¬

(¬1) مجموعة الفتاوى 16/ 260

هذا الإطلاق هو لعلماء الدين وعلم الدين، فقوله: وقف العلماء على طرف من هذه الحقائق التي كان القرآن الكريم قد ذكرها قبل قرون وقرون غرور وتغرير، وتحسين قبيح، وتزكية فاسد، حيث أن هذا العلم الحديث وعلماؤه تكلموا في ضلال وتضليل هو ثمار كفرهم وضلالهم. وقد قَلّدهم في ذلك كثيرون تصدروا للأمة في زمن غربة للدين لم يسبق لها مثيل. ومن العجيب أن يسمى هذيان المعطلة وضلالهم: إعجاز علمي للقرآن، وسيتبين إن شاء الله عظم ضرر هذه الجناية على الدين وعلى هذا الجيل الذي رأى سراباً ظنه ماءاً. إن الذي تكلم به هؤلاء من حقائق الكوْن قِسْم منه قد بيّنه علماء المسلمين قبل وجود هؤلاء، ولا أقصد بعلماء المسلمين ما يزعمه أهل الوقت في قولهم علماؤنا المسلمين مثل ابن سينا ومحمد بن زكريا الرازي ونحوهم فهؤلاء كفار بشهادة علماء المسلمين الحقيقيين مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيرهم، وإنما أقصد بعلماء المسلمين الأئمة الذين لهم لسان صدق في الأمة.

نهار الكواكب وليلها

نهار الكواكب وليلها وقال الزنداني في كتابه (توحيد الخالق) ص 55: مع العلم أن بعض الكواكب نهارها أطول من نهارنا عشرات المرات، وبعضها قد أصبح جزء منها نهاراً دائماً والجزء الآخر ليلاً دائماً، ثم ذكر قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) الآيتين. الجواب: كلام صاحب كتاب توحيد الخالق هذا لا شك أنه داخل في القول على الله بغير علم الذي عليه الوعيد، بل لا شك أنه باطل محض لأنه مُتَفرِّغ من أصول علوم الملاحدة عن الكوْن التي فيها من الدّجَل مالا يحيط به إلا الله، وسوف يتبيّن ذلك فيما بعد إن شاء الله. وكلامه هذا مبني على أصل فاسد وهو أن الكون كله عبارة عن كواكب سابحة في فضاء لا حَدَّ لَه، وهذا فيه من الضلال ما يعلمه الله وأنها تدور حول الشمس، وإنما يختلف طول نهارها بحسب البعد عن الشمس وهو مبني على نظرية (المجموعة الشمسية) التي لا وجود لها في العيان وإنما في الخيال والأذهان. والنجوم في السماء المبنية السميكة الشفافة وهذه النجوم مع الشمس والقمر تدور في السماء من المشرق إلى المغرب، وهذا جاء في النقل مثل

قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). والفَلَك هو المستدير، وذلك لأن السماء الدنيا محيطة بالأرض من كل جانب وهي على شكل الكرة. فالكلام في نهار الكواكب وليلها هَذَيان، وإنما الليل والنهار يتعاقبان على الأرض وتختصّ بهما. وسببهما دوران الشمس في الفلك المستدير الذي هو السماء حيث تشرق الشمس من المشرق وما تزال تدور على الأرض فما قابلته بضيائها اسْتنار وهو النهار ويُقابله من الوجه الآخر للأرض الليل الذي هو ظل الأرض، وقد بَيّنت ذلك، ولله الحمد في (هداية الحيران في مسألة الدوران)، أما الآيات فجاءت لذكر الآلاء والامتنان على العباد بما سخر لهم سبحانه من عظيم آلائه. قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى ممتناً على عباده بما سخر لهم من الليل والنهار اللذين لا قَوَام لهم بدونهما وبيّن أنه لو جعل الليل دائماً عليهم سرمداً إلى يوم القيامة لأَضَرَّ ذلك بهم ولَسَئِمَتْه النفوس وانحصرت منه، ولهذا قال تعالى: (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ) أي تبصرون به وتسْتأنسون بسببه (أَفَلا تَسْمَعُونَ)، ثم أخبر تعالى أنه لو جعل النهار سرمداً أي دائماً مستمراً إلى يوم القيامة لأَضَرَّ ذلك بهم ولَتَعِبَتْ الأبدان

وكلَّتْ من كثرة الحركات والأشغال، ولهذا قال تعالى: (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) أي تستريحون من حركاتكم وأشغالكم (أَفَلا تُبْصِرُونَ). (ومن رحمته) أي بكم جعل لكم الليل والنهار أي خلق هذا وهذا (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي في الليل: (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي في النهار بالأسفار والتّرحال والحركات والأشغال. انتهى. تأمل هذه المعاني وما يتحصّل للعبد منها من الفهم لكلام الله ومعرفة نعمه على عباده وفضله ومنته ولطفه بهم مما يوجب زيادة الإيمان ويستدعي الشكر للرؤوف الرحيم، وقارن بينها وبين ما ذهب إليه صاحب كتاب توحيد الخالق يتبين لك الفرق. وهنا أُنَبِّه أن لا داعي لأن أنقل من التفاسير الأخرى للسلف لأن المطلوب والمراد من كتابي هذا حاصل بالاكتفاء بأي تفسير من تفاسيرهم المعتمدة مثل تفسير ابن جرير الطبري، وكثيراً ما ينقل منه ابن كثير، والسبب في الاقتصار واضح وهو أنهم كلهم ضِدّ هذه التفاسير الحادثة، كذلك فليس بينهم في تفسير آيات الخلق اختلاف تضاد، وهذا بالجملة، والذي لا ريب فيه أن كلهم ينكر ما أحدثه صاحب كتاب توحيد الخالق وأمثاله في الكلام بالقرآن.

(إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء) الآية

(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ) الآية وذكر الزنداني قوله تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). ص113 توحيد الخالق. جعل صاحب كتاب توحيد الخالق هذا التّزَيُّن للدنيا قبل يوم القيامة وجعل معنى (أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً) قيام الساعة، وليس معنى الآية كما قال بل هي مثل عِدّة آيات ذكرها الله في كتابه أمثالاً لزينة الدنيا فَيُشبِّهها بنبات الأرض وسرعة تغّيره وتحوّله عن حاله النّضِرة مثل قوله تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً). ومثل قوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ

وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) والمراد التزهيد بالدنيا الفانية والترغيب في الدار الآخرة التي نعيمها لا يزول. أما صاحب كتاب توحيد الخالق فقرأ آية سورة يونس باحثاً عن شيء يوافق ما سماه علماً فضَلّ في فهمه وأضل غيره حيث رأى قوله تعالى: (أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً) فظن أنه وجد ضالته حيث قال: والأمر قدْ وَضَح بعد تقديم العلم وكشف (¬1) عن السِّر الخفي في هذا التعبير القرآني، فلو قال القرآن: أتاها ليلاً يَصَحّ لأي إنسان أن يقول: إن هذا القرآن من عند محمد صلى الله عليه وسلم. وبالمثل لو قال أتاها أمرنا نهاراً، ذلك لأن الساعة التي ستقع كلمح البصر ستقع على الأرض بأكملها، وقد عرفنا أن الليل والنهار على الأرض دائماً، ففي الوقت الذي يكون عندنا ليل يكون عند غيرنا نهار، وهكذا يأتي أمر الله ليلاً أو نهاراً، ليلاً على الذين عندهم ليل ونهاراً على الذين عندهم النهار، وصدق الله العظيم القائل: (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). أقول: ختم الله الآية بقوله: (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) التفكر السليم المستقيم كما كان الصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالح، أما التفكر على مقتضى علوم الكفار فضلالة اللهم إلا في أشياء نادرة قد سُبقوا إليها بطرق للتفكر سهلة مُيَسّرة بخلاف طرقهم ¬

(¬1) العبارة هكذا في كتابه (توحيد الخالق)، الطبعة الثالثة والظاهر أنها: بعد تقدم العلم وكشفه عن السر الخفي.

الشّكسة المضلّة. والمراد أن صاحب كتاب توحيد الخالق قرأ الآية يبحث عن شيء يَدّعي أنه يوافق علوم الكفار وقد أبعد النجعة، وارجع إن شئت إلى كلام المفسرين العلماء الأمناء من السلف تجد كلامهم في هذه الآية وأمثالها كما ذكرت وليس المراد بقوله تعالى: (أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً) ما زعم صاحب كتاب توحيد الخالق وإن كان الليل والنهار على الأرض دائماً. وارجع الآن إلى ما أعقب الله به من بهجة الحياة الدنيا ونضْرتها وأنها تؤول في الآية الأولى إلى: (فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ) وفي الثانية: (فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ) وفي الثالثة: (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً) تجد اتّساق المعنى وأن المراد بهذه الأمثال وصْف الدنيا ولا تدل على الساعة وقيامها. وإنما تدل على زينة الدنيا الخادعة من الأموال والضياع والجاه والرئاسة والملك وأن الإنسان ينخدع ويغتر بها مع أنها كما يرى دائماً من نبات الأرض الذي لا يدوم فإما الموت أو الآفات وتنغيص الحياة، ولذلك قال تعالى بعد آية سورة يونس التي ذكر صاحب كتاب توحيد الخالق: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ) الآية فالجنة دار السلام سبحانه وفيها السلامة من جميع عيوب الدنيا وآفاتها.

فالآية لا تدل على الساعة وقيامها، وهذا والله التكلف والقول في القرآن بالرأي وبلا علم. قال الصديق رضي الله عنه: (أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي أو بما لا أعلم). إن إقدام المتأخرين على تفسير القرآن ليس نتيجة علم وخشية بل إنه جرأة مصدرها الجهالة والضلالة. كذلك فلو كان المراد ما ذهب إليه صاحب كتاب توحيد الخالق لقال عز وجل: (أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً) حيث أن الليل والنهار دائمان على الأرض والساعة عامة فتأتي أهل الليل في ليلهم وأهل النهار في نهارهم.

(وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) الآية

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ) الآية قال الزنداني في كتابه (توحيد الخالق) ص 117 قال في قوله تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ) لقد كشف العلم الحديث أن الليل يحيط بالأرض من كل مكان، وأن الجزء الذي تتكون فيه حالة النهار هو الهواء الذي يحيط بالأرض ويمثل قشرة رقيقة تشبه الجلد وإذا دارت الأرض سلخت حالة النهار الرقيقة التي كانت متكونة بسبب انعكاسات الأشعة القادمة من الشمس على الجزئيات الموجودة في الهواء مما يسبب النهار، فيحدث بهذا الدوران سلخ النهار من الليل. الجواب: الذي لا شك فيه أن الله سبحانه لم يُرد بكلامه هذا الذي زعمه صاحب كتاب توحيد الخالق وأن كلامه في الآية باطل كله، ويقال له: وما للمسلمين وما كشفه علمك الحديث؟ أهم في جهل بكلام ربهم فيُعلمهم العلم الحديث أم في ضلالة فيهديهم؟ وهل كان السلف لا يدركون معاني القرآن لأنه لم تفتح عليهم كنوز العلم الحديث المزعومة؟ (قد هزلت وقل مخّها وسامها كل مفلس)، وسوف أذكر إن شاء الله كون معاني القرآن منتهى منها كحروفه.

الحقيقة أن هذه الطرق المحدَثة في هذا العلم تضل المخلوق عن خالقه وتُفْسد عليه عقله، وإن من أهْوَن ما أوْرثته هذه العلوم ازْدراء السلف وتجهيلهم وعبارات المتأخرين في هذا ظاهرة، ونعوذ بالله من هذه الخصلة الذميمة كما نعوذ بالله من علم لا ينفع بل من علم مضل. فقول صاحب كتاب توحيد الخالق عن علمه الحديث أنه كشف أن الليل يحيط بالأرض من كل مكان كذِب تردّه نصوص الكتاب والسنة فالليل ليل كله والنهار نهار كله ليس في هذا من هذا شيء ولا في هذا من هذا شيء فنصف كرة الأرض المقابل للشمس هو النهار الذي يسير ضوؤه بسَيْر الشمس وجريانها في الفَلك المستدير ويُقابله في النصف الثاني الليل الذي هو ظل الأرض وما عدا هذا فهذيان يقال فيه: (لا عقل ولا قرآن) كما قيل لمن قرأ: فَخَرَّ عليهم السقف من تحتهم. وقد أثنى الله على عباده الصالحين الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار وتسخيره الشمس والقمر والنجوم لكن هذا التفكر السليم والصراط المستقيم هو كَتَفكّر الأنبياء عليهم السلام وسادات الأولياء من أصحابهم ومن تبعهم بإحسان، وهؤلاء هم الذين فهموا عن الله مراده وأدركوا بحواسهم التي وهبهم إلآههم بالطرق السهلة الميسّرة لكل المسلمين مالا يدركه من سار على غير نهجهم مُقَلِّداً لأرباب العقول المظلمة والفهوم الفاسدة من الكفرة وأشباههم.

إن الذي ذهب إليه صاحب كتاب توحيد الخالق لم يُردْه الله بكلامه ولم يفهم الصحابة ومن بعدهم من علماء المسلمين هذا الفهم الساقط الفاسد الباطل فالليل ينجلي بكليته عن الأرض بإقبال النهار وكذلك النهار بإقبال الليل كانسلاخ الحيّة من قِشْرتها وكسلخ جلد الذبيحة وذلك للملابسة فالليل يلابس ما غشاه وكذلك النهار. والرب سبحانه يخاطب العرب بما يفهمونه، وهذا ظاهر لكل أحد، وما لنا ولتخريف الملاحدة. أما إحالة أهل الإعجاز على مثل هذه الأمور الدقيقة التي هي أشبه بالألغاز والأحاجي فضلال، والله سبحانه يقول: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) ففرّق سبحانه بين الليل والنهار وأنهما يتطالبان أبداً ولا يتداخلان، ومثله قوله تعالى: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) والمراد بالتكوير الإدارة لأن السماء التي تدور فيها الشمس على الأرض على شكل الكرة بإجماع المسلمين كذلك الأرض على شكل الكرة وهذا إجماع أيضاً قبل أن يخلق هؤلاء، ومثله قوله تعالى: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) يذهب هذا فيأتي هذا. ومما يبين بطلان ما ذهب إليه أهل الإعجاز المزعوم أن ما ذكر صاحب كتاب توحيد الخالق مبني على اعتقاد دوران الأرض الذي هو من أبطل الباطل حيث يقول: وإذا دارت الأرض سلخت حالة النهار.

وقد بيّنت ولله الحمد بطلان القول بدوران الأرض في كتابي (هداية الحيران في مسألة الدوران) ومن شاء فلْيباهلني على أن الأرض ثابتة لا تدور، وأن الله بإحسانه ولطفه بعباده خلقها قارّة ثابتة في موضعها أسفل العالم وليست تتحرك إلا بالزلازل ونحوها في مواضع منها وليست تدور لا دورة يومية ولا سنوية كما يزعمون، وأن الكلام في دورانها مبني على ضلال الكفرة في سديمهم الدائر الذي انفصلت عنه الأرض، ويأتي بيان ذلك إن شاء الله في موْضعه.

(فخلقنا المضغة عظاما) الآية

(فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً) الآية وقال صاحب كتاب (توحيد الخالق) ص 117 في قوله تعالى: (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً) قال: بعد أن تقدم علم الأجنة عرف الأطباء أن الأصول الأولى للعظام تسبق في تكوينها الأصول الأولى للعضلات (اللحم) وذلك قد أشار إليه القرآن الكريم في قوله وذكر الآية. وهذا من صاحب كتاب توحيد الخالق تخرّص وقول بلا علم بل خوْض في كلام الله بالباطل، والآية واضحة الدلالة والمعنى فالمضغة هي قطعة لحم بَقَدر ما يمضغ الإنسان في فمه من اللحم وهي تأتي في الدرجة الثالثة في التخليق فالنطفة يُحيلها الله بقدرته إلى علقة والعلقة إلى المضغة وهي لحم صِرْف ليس فيه عظاماً وإنما يحيلها الرب سبحانه إلى عظام وهي التخليق الرابع، وهذا ظاهر من الآية فهو سبحانه يقول: (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً) يعني خَلَق العظام منها كما خلقها من العلقة وكما خلق العلقة من النطفة فكيف يقال: الأصول الأولى للعظام تسبق في تكوينها الأصول الأولى للعضلات؟ أوْ لأن السادة قالوا ذلك؟ نعم في هذا

الزمان القول ما قالت حذامي ولو قالت: مالا يُعقل فالمكذب لها هو الذي لا يَعقل عند من لا يعقل. قال صاحب كتاب (توحيد الخالق) ص 118 قال: القرآن معجزة متجددة وكذلك الحديث فيه بينات شاهدة بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله فقد تكلم القرآن بحقائق لم يعرفها البشر إلا بعد تقدم العلوم وأجهزة الكشف العلمي. يقال لصاحب كتاب توحيد الخالق ومن شابهه: هذا كلام خطير يلزم منه تجهيل السلف في معاني القرآن والحديث وأنه فُتِحَ على المتأخرين ما كان مغلقاً عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم وأنهم كانوا يقرأون بعض آيات القرآن وبعض الأحاديث ولا يعلمون المراد من ذلك وهذه دعوى كاذبة باطلة ومن الذي يلحق غبارهم ومن الذي يُدرِك من كلام الله وكلام رسوله ما أدركوا؟ لقد ذهبوا بالعلم والخير وحماهم الله مما تَهَوّك به المتهوّكون وتكلّفه المتكلفون وتخرّصَه المبطلون وشُغِل به البطالون. إن أرباب هذا الإعجاز المحدث يُهَوّنون شأن القرآن في النفوس ويُسْقطون حرمته وتعظيمه في القلوب حيث قسروه قسراً لمجاراة ما يهذي به الكفرة أعداء الله وأعداء دينه ورسوله وأرادوا أن يُوَفقوا بين الحق والباطل وهذا مستحيل.

مشابهة المتكلمين

مشابهة المتكلمين قال صاحب كتاب (توحيد الخالق) ص 122، 123: قال تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ). ولكن بشرط: إننا نقبل على رسل الله بكل حواسنا، لنتعلم منهم، ونعرف من أمورنا الهامة ما غاب عنا، ولكنا لا نأخذ منهم هكذا، ولا نقبل منهم رأساً، إننا نستوثق أولاً بأنهم حقاً رسل من عند الله، ونستعرض بينات رسالتهم، ونتفحَّص معجزاتهم، ثم نشهد لهم بعد ذلك بالرسالة، ونستوثق ثانياً بأن الذي نقرؤه ونتعلمه عنهم حقاً قد قالوه. وبهذه الصفة الحميدة يتفتَّح المؤمن على آفاق العلوم الدينية والدنيوية، وينتفع بعلوم غيره من المتخصصين في شتى العلوم والفنون، ومن الذين اختصهم الله بالهداية والنور، ولكن ذلك كله بعد الثقة من صدق المصدر. وبهذا ينتفع المؤمن بأذنه التي جعلها الله للإنسان نافذة إلى علم الغيب، كما ينتفع باللغة التي جعلها الله رموزاً ليعرف بها ما غاب عن حواسه.

الجواب: الذي ينبغي أن يُعلم أن أهل الإعجاز المزعوم فيهم شبه كبير من المتكلمين الذين انتحلوا طريقة لإثبات الخالق وإثبات النبوّة أحدثوها لم يكن عليها السلف وذلك بالنظر في المخلوقات والمعجزات على مقتضى قواعد وأصول محدثة فضلوا بذلك وأضلوا. وذمّ السلف لهم مشهور وكثير مُدّوَّن في دواوين أهل السنة. أنظر الآن ما يقوله الزنداني يقول: (ونسْتعرض بينات رسالتهم ونتفحّص معجزاتهم ثم نشهد لهم بعد ذلك بالرسالة ونسْتوثق ثانياً بأن الذي نقرؤه ونتعلمه عنهم حقاً قد قالوه) وانظر إشارته إلى المتخصصين في شتى العلوم والفنون بعد الكلام السابق. المؤمن ليس بحاجة إلى ما يدعو إليه هؤلاء ولا يتوقف الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته على سلوك هذه الطرق المحدثة ولا العلم بها، وقد آمن الصحابة رضي الله عنهم وأجيال الأمة بعدهم على الطريق التي دَلّهم عليها نبيهم صلى الله عليه وسلم وكان إيمانهم في الذّروة. فإثبات وجود الخالق سبحانه وطلبه وإرادته بالعبادة فطري ولذلك تقول الرسل لأممهم: (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) أما النظر في الكوْنيات من خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، وما دعا الله عباده للنظر فيه من ملكوت السموات والأرض فهذا يزيد الإيمان لكنه ليس بمسالك المتكلمين ولا من شابههم من المتأخرين إذْ هذه

الطرق من أعظم ما نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن سلوكها فإنه بعد ما أمرنا بسلوك سبيله وسبيل أصحابه نهانا عن محدثات الأمور وحذّرنا من ذلك، وهذا في العلم والعمل. ويقال لأهل الإعجاز: خبنا وخسرنا إن كنا بحاجة إلى أن نسْتعرض بينات رسالة الرسل ونتفحص معجزاتهم لنشهد لهم بعد ذلك بالرسالة كما تقدم من كلام صاحب كتاب توحيد الخالق بواسطة ما أحدثه المتأخرون، إن أسْلم هؤلاء طريقة وآمنهم من الأخطار التي لا يسلم منها سالك هذه الطرق أبداً بعد الجهد الجهيد يأتي بنتيجة (السيف أمضى من العصا) وأنّى له السلامة. كيف كان إيمان الصحابة رضي الله عنهم والتابعين إلى بداية هذا العصر العجيب الغريب الذي اسْتحكمت فيه الغربة والكربة وتنكر أهله لسلفهم الصالح بسلوك طرق أحدثوها هي والله مُضلّة والدعاة إلى سلوكها كمن يُطِبُّ زكاماً فيُورث جُذاماً. ولتعلم قرب شبه هؤلاء من المتكلمين أنظر ما قال صاحب كتاب توحيد الخالق بعد الكلام السابق ص 124 قال: (ورسل الله قد أطلعهم الله على غيوب كثيرة جهلناها وعرفوها فنحن نتعلم منهم ولكن بعد أن نتأكد من صدق رسالتهم ونشهد لهم بأنهم حقاً رسل الله). أنظر قوله: (ولكن بعد أن نتأكد من صدق رسالتهم) اعلم أن أدنى

نظر بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أتى به من كلام ربه يورث من الإيمان واليقين مالا يعرفه ولا يدركه من قد يُفنى عمره ويكدّ فكْره وذهنه لكنه يسير على طريق ناكبة عن الصراط الذي أُمر بالسيْر عليه ولزومه وحُذِّر من سلوك غيره. أما النظر في آيات الكون فمأمور به لكن بالطرق التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وأئمة الإسلام من علماء السلف وهو النظر المجرد ففي ذلك من زيادة الإيمان مالا يُقَدَّر. وهنا ما نلفت له نظر من ظنوا أن العلم فَتَحَ لهم أبوابه وتهيأت لهم أسبابه بما جلبته لهم من علوم الغرب فإن الله تعالى يقول: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) فهي مُدْرَكَة بالنظر المجرد ولله الحمد، وهي ذات اللون الأزرق، وقال تعالى: (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) فالنظر إلى المخلوقات العلوية والسفلية مأمور به مندوب إليه، وهو مدرك على أكمل الوجوه بالكيفية التي كان عليها النبي والصحابة.

غلو صاحب كتاب توحيد الخالق بعلمه الحديث

غلو صاحب كتاب توحيد الخالق بعلمه الحديث قال صاحب كتاب توحيد الخالق تحت عنوان: (الأدوار التي مَرَّ بها علم التوحيد): أولاً: منذ قامت دولة التوحيد على يد خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم بقيت عقدية التوحيد، تستمد قدسيتها من وحي الله وتعاليم السماء، وتعتمد أول ما تعتمد على كتاب الله العزيز، وكان منهج القرآن في غرس هذه العقيدة في القلوب، هو أن يعرضها على الناس عرضاً كله السهولة والبساطة، والمنطق السليم، فيلفت أنظارهم إلى ملكوت السموات والأرض، ويوقظ عقولهم إلى التفكير في آيات الله، وينبه فطرهم إلى ما غرس فيها من شعور بالتدين، وإحساس بعالم وراء هذا العالم المادي، وعلى هذه السنن مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرس عقيدة التوحيد في نفوس أمته، لافتاً للأنظار، موجهاً للأفكار وموقظاً للعقول، ومنبهاً للفطر، ومتعهداً هذا الغراس بالتربية والتنمية، حتى بلغ الغاية من النجاح، واستطاع أن ينقل الأمة من الوثنية، والشرك، إلى عقيدة التوحيد، ويملأ قلوبها بالإيمان واليقين كما استطاع أن يجعل من أصحابه قادة للإصلاح، وأئمة للهدى والخير، وأن ينشئ جيلاً يعتز بالإيمان، ويعتصم بالحق، فكان

هذا الجيل كالشمس للدنيا، والعافية للناس حتى وصفهم الله بقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (¬1). يقال لصاحب كتاب توحيد الخالق: إن الطريق الذي وصلت به الأمة إلى هذا الذي ذكرت وأعظم منه هو طريق رسول الله صلى الله عليه فلماذا آخر الأمة لا تنهجه وتكتفي به أم أنهم يريدون أن يكونوا أهدى منهم؟. ومن العجائب أن يقول صاحب كتاب توحيد الخالق في كلامه هذا: (وكان منهج القرآن في غرس هذه العقيدة في القلوب هو أن يعرضها على الناس عرضاً كله السهولة والبساطة والمنطق السليم فيلفت أنظارهم إلى ملكوت السموات والأرض ... إلى آخر كلامه المتقدم). فيقال له: الأمر كما قال الإمام مالك رحمه الله: (إنه لن يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها). ومالك قال هذا الكلام لفقهه رحمه الله بوصايا نبيه صلى الله عليه وسلم، ولكن من العجائب أن يتكلم صاحب كتاب توحيد الخالق بهذا الكلام عن منهج القرآن في غرس العقيدة في القلوب وذلك بعرضها عرضاً كله السهولة والبساطة ومع هذا يُفْتَن بهذه العلوم المحدثة العَسِرَة المنال التي هي نتاج زبالات أفكار الملاحدة الكفرة ووسائلها وغاياتها ضالة مضلّة. ¬

(¬1) توحيد الخالق، ص150.

ليعلم صاحب كتاب توحيد الخالق وغيره ممن فُتِن بهذه المسْتجدات والمحدثات الدخيلة على المسلمين في هذا العصر الذي تتهيّؤ فيه الدنيا للدجال وتتهيؤ فيه لختم أجلها الذي دنى وأوشك أن يَفْجَأ، ليعلم أن كل هذه الفتن خارجة عن السهولة والبساطة المتناسبة مع الفطرة الشِّرعية وأن الأمة اليوم لبست غير لباسها وسارت في غير طريقها إذْ أنها تشبهت بمن نُهِيَتْ عن التشبه بهم فسلكت مسالكهم فضلّت بضلالهم ووقعت في شدائدهم. نعم تركت الأمة السهولة والبساطة المتناسبة مع الشرعة والفطرة فهي اليوم تجني ثمار المخالفة. ثم ذكر صاحب كتاب توحيد الخالق ما أصاب الأمة نتيجة الخلافات السياسية والاتصال بالمذاهب الفكرية الأخرى وإقحام العقل فيما ليس له فيه مجالاً وأن ذلك كان سبباً للعدول عن منهج القرآن الحكيم كما كان سبباً في تحول الإيمان من بساطته وإيجابيته وسموّه إلى قضايا فلسفية وأقيسة منطقية ومناقشات كلامية تافهة ولم يعد الإيمان هو الإيمان الذي تزكو به النفس أو يصلح به العمل أو ينهض به الفرد أو تحيا به الأمة. هذا الكلام والذي قبله صحيح فيقال لصاحب كتاب توحيد الخالق وأمثاله ممن سلكوا هذه المسالك المُحدَثَة: ما أشبه الليلة بالبارحة، إن

إعجازكم هذا وما أُحدث لكم من هذه العلوم الدخيلة هو السبب في تحول الإيمان من بساطته وسمّوه إلى هذا التعقيد والتشديد الذي أنتجته هذه الطرق المعوجّة المظلمة، وهو عُدول عن منهج القرآن فما بالكم تعيبون من على مثل طرقكم هذه من المتقدمين وتمدحون طريقكم وتدعون إليها؟ هذا تناقض بيّن. أين (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين)؟ (¬1) وأين (وإياكم ومحدثات الأمور)؟ (1) وأين (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)؟ (¬2). ثم قال صاحب كتاب توحيد الخالق بعد الكلام السابق: (وكان من أثر العدول عن نهج الفطرة والتأثر بالمذاهب الفكرية الطارئة وإقحام العقل في مجال الوحي أن انقسمت الأمة إلى مذاهب مختلفة مزّقتها شِيَعاً وأحزاباً). يقال لصاحب كتاب توحيد الخالق: وكذلك الذي تسمونه الإعجاز هو عدول عن نهج الفطرة وهو التأثر بالمذاهب الفكرية الطارئة ونتيجته كنتيجة ما ذكرت وأشد لكن لا يُشعر تائه بمصابه، فهذه العلوم الدخيلة الطارئة أثرها على الدين أعظم من تلك المذاهب التي لم تعمّ الأمة ولم يحصل بسببها اللبس الذي حصل من هذه. ثم إن صاحب كتاب توحيد الخالق ذكر بعد ذلك أن الأمة بعد تلك الحالة تحوّلت إلى الجمود والتقليد، ثم قال: (ثم شاء الله أن تعود هذه ¬

(¬1) هذا جزء من حديث العرباض بن سارية الذي أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه. وقال الترمذي (حسن صحيح). وهو كما قال. (¬2) أخرجه البخاري ومسلم وفي رواية لمسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

الأمة إلى المنهج القويم في أخذ عقيدة التوحيد من الكتاب المجيد فنهض منها أفراد من العلماء الأعلام يدعون إلى العمل بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام كما كان عليه السلف الصالح، ويبينون للناس أن الخير كله في الإتباع والشر كله في الجمود والابتداع، وبذلك تنبهت العقول من غفلتها، واستيقظت من سباتها فوجدت القرآن يدعوها إلى النظر في هذه الكائنات، والتفكر في عجائب هذه المخلوقات، فنظر أولو العقول، وفكروا، فإذا بالعلوم الحديثة تكشف حقائق كانت من قبل مجهولة غير معلومة، بيد أن القرآن قد نبه عليها، وأشار إليها إشارات صريحة، من قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، فكان ذلك تفسيراً عملياً لقوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (¬1). وقوله تعالى: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا) (¬2). كما وجد أصحاب العقول، أن العلوم الحديثة، في مختلف اتجاهاتها، تكشف عن آيات الله التي بثها في مخلوقاته، فإذا كان الأولون يرون أن في خلقهم حكمة تشهد بأن خالقها هو الحكيم، فإن هذه العلوم الحديثة قد جاءت لتكشف عن دقائق الحكمة الباهرة، وتقف بالإنسان أمام ¬

(¬1) فصلت، آية: 53. (¬2) النمل، آية 93.

أسرار عظيمة من الحكمة، والإتقان، وإذا كان الأولون يرون في السماء ونجومها قوة وإبداعاً، فلقد جاءت العلوم الحديثة لتعمق إيماننا بالقوي المبدع بما تظهر من ضخامة النجوم، وسعة السماء، وقوة النظام، وبديع الإحكام والإتقان، وهكذا يقول الله: (إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ) (¬1). بعد أن ذكر صاحب كتاب توحيد الخالق تحولات الأمة إلى خلافات سياسية ومذاهب فكرية وجمود وتقليد بعد الذي كانت عليه قبل، وذلك في أولها قبل التغيير والتبديل وقد وصف الرعيل الأول بوصف حسن ثم دخل على عصره هذا بالكلام المتقدم وهو أن أفراداً من العلماء الأعلام كما وصف فكروا فإذا العلوم الحديثة تكشف حقائق كانت من قبل مجهولة غير معلومة، إلى آخر كلامه. والجواب على هذا أن يُقال: لقد وصفتَ حال الأمة لما كانت على البساطة والسهولة زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بوصف حسن وعِبْتَ الأزمنة التي جاءت بعدهم بالتغيير فما الذي يُخرج منهجكم في التعليم المحدَث ¬

(¬1) الجاثية، آية 3 - 6.

والكلام في القرآن والحديث وخوضكم في علوم الكفار كما تقدم من انحراف الأمة؟ هذا أشدّ لأنه الْتبس فيه الحق بالباطل وأجملت عليه الأمة إلا ما ندر، إنكم بإعجازكم هذا تغضبون علم الشريعة ليجاري الضلال وأهله. وقول صاحب كتاب توحيد الخالق عن علومه الحديثة أنها تكشف حقائق كانت من قبل مجهولة غير معلومة كلام خطير وهو طعن على السلف الذين حازوا قصب السبق في علم القرآن والحديث، وحَسْب من جاء بعدهم من الفضل أن يسير على نهْجهم ويستضيء بنور علمهم، أما من سار في طريق ما أحْدث في هذا الزمان فالبعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير، ولا والله ما خفي أمرهم والْتبس إلا على أمثالهم ممن سلكوا مناهجهم وقلّدوهم، وجعلوهم حجاباً كثيفاً بينهم وبين نبيهم. وأيّ حقائق كشفتها هذه العلوم الحديثة كانت من قبل مجهولة للسلف؟ دوران الأرض والمجرات أم وصول القمر أم نظرية داروين وما شابه ذلك من الباطل؟ لقد حماهم الله من هذا الزيغ والضلال. وأي حقائق كشفتها هذه العلوم الحديثة؟ يقول صاحب كتاب توحيد الخالق في كلامه السابق: (وإذا كان الأولون يرون في السماء ونجومها قوة وإبداعاً فلقد جاءت العلوم الحديثة لتعمق إيماننا بالقوي

المبدع بما تُظهر من ضخامة النجوم وسعة السماء وقوة النظام وبديع الإحكام والإتقان). أقول: هنا تُسكب العبرات، أما الأولون فكانوا يرون السماء ونجومها وشمسها وقمرها وعجائب صُنْعها كما قال الله في كتابه: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) ونحو ذلك من الآيات ينظرون بعيونهم بلا واسطة ولا دلالة كفار فيزدادون بذلك إيماناً ويقيناً، وما دعا الله عباده للنظر إلى السماء كيف خلقت إلا أن ذلك مُدْرك بحاسة البصر وقال عز وجل: (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) إلا وأن ذلك مُدْرك بسهولة بحيث لو كان في السماء فطوراً التي هي الشقوق لأدركها البصر ولكن لا فطور فيها التي هي الفروج، ثم إنه سبحانه أثنى على عباده الصالحين الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض، ومعلوم أن الذين في الذروة من هذا الثناء هم الصحابة ومعلومة كيفية نظرهم وتفكّرهم، كذلك من جاء بعدهم سائراً على نهجهم علموا أن الله يخاطبهم بما يعرفونه ويقدرون عليه، وهو الطريقة السهلة البسيطة كما وصفها بذلك صاحب كتاب توحيد الخالق، ولذلك كتبوا نتائج نظرهم وعلمهم ودَوّنوها فجاءت مطابقة للمعلوم بخلاف من ضلّوا في متاهات بعيدة.

أنظر إن أردت ما كتبه ابن القيم عن السماء وعجائبها في كتابه النفيس (مفتاح دار السعادة) فقد جاء بعلم يعجز عن أقل القليل منه أرباب هذه العلوم والكشوف حتى ذكر أن كون لون السماء بهذه الصِّفة لئلا تنكأ الأبصار حيث التطلع إليها دائماً وأخبر أن الأطباء ينصحون من في بصره ضعف أن يديم النظر إلى الخضرة وما يقاربها ليتقوى نظره وأن هذا اللون اختاره الله بحكمته لطفاً بعباده لئلا تتضرر أبصارهم. وما الذي دَلّ عليه العلم الحديث في شأن السماء وما فيها؟ لقد دَلّ وهدى إلى ضلال لا نظير له وذلك لفساد أصوله فقد اعتمد القوم على ما يُحسّونه ويشاهدونه وما عدا ذلك فلا يدخل حسابهم، مع أن صاحب كتاب توحيد الخالق أنكر طريقتهم هذه لا سيما في إنكار وجود الإله سبحانه وجاء بكلام جيّد لكنه مُعَظّم لهم في كلامهم بالكونيات من الجماد والحيوان في العالَم العلوي والسفلي، ولقد بَهَرَتْه وبهرت كثيرين مثله علومهم المادِّية الزائفة. والمراد هنا الكلام على ما كشفه العلم الحديث من السماء ونجومها وسعتها وقوّة نظامها كما أعجب ذلك صاحب كتاب توحيد الخالق، ولكن قبل ذلك لا بد من الكلام على الخطوة الأولى في مسير النظر

والتفكر بالفارق الكبير بين السلف ومن تبعهم على نهجهم وبين المتبعين لأرباب العلم الحديث. معلوم أن الرب سبحانه خاطب الأمة لينظروا في هذا الملكوت العظيم ليزدادوا إيماناً ويقيناً لكن لم يأمرهم بذلك ويثني عليهم ليكْتشفوا ويسْتظهروا خفايا مَخْبوئة وغيبيات لا تتجلى إلا بكشفهم وتحكيم عقولهم وبذلهم جهدهم بل ندَبهم لينظروا في ملكوت هو سبحانه وَصَفَهُ لهم بصفاته الحقيقية من سعة السماء وارتفاعها وبنائها وشمسها وقمرها واختلاف ليلها ونهارها لينظروا بضابط علم خالق هذا المُلْك العظيم الذي يقول: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) فقد بين الله صفات السماء بناءها وأبوابها وارتفاعها واتساعها وما فيها من آيات فهم ينظرون بإيمان مُسَبّق وعلم مُسَبّق بخلاف أرباب العلوم الحديثة والكشوف فإنهم أصَّلوا نظريات للكون وما فيه كقواعد يسيرون عليها أمْلَتْها عليهم عقولهم الكافرة الضالّة حيث نظروا إلى الكون على أنه لا خالق له وإنما نشأ وتحرك مُتَحَرِّكه وسكن ساكنه من ذاته ونفسه، فلا خالق ولا مُصَرّف مُدَبِّر، هذا أصل علومهم التجريبية. ولا عجب منهم ولا أسى عليهم إن استمرءوا الضلال واستطابوه وأُعجبوا به ودعوا إليه وأفْنوا أعمارهم في سبيله إنما العجب من المقَلِّدة الذين يزعمون أنهم ينصرون الدين ويبيّنون إعجاز القرآن بسيرهم خلف

هؤلاء وتقليدهم لهم وكأنّ الشر يأتي بالخير، وكأنّ الأعمى بصير، وكأنّ العنب يُجنى من الشوك، والمراد هنا ظهور الفرق بجلاء في أمر الأصول والقواعد التي سار عليها الأولون في النظر والتفكر وأنها حسب وصف وعلم وتدبر خالق هذا الكون العليم به سبحانه والعليم بما ينفع عباده ويضرهم، أما مُقلّدة أرباب العلوم الحديثة والكشوفات فإنهم من أول خطوة يسيرون على نهج مُخَطّط مرسوم من قِبَل الملاحدة الضُّلال، فالنظريات الضالة التي هي قواعد وأصول مرسومة ومنتهى منها قبل الكشف والنظر، وما عليك إلا أن تكون تابعاً للقوم تُثْبت ما يثبتون وتنكر ما ينكرون في شأن المخلوقات وكأنّ خالقنا ونبينا تركنا عالة على هؤلاء في معرفة ملكوت ربنا، والذي أقوله في وصْف المقلِّدة ظاهر بيّن لمن نظر فيما يتكلمون به ويكتبونه في مؤلفاتهم. وانظر متابعة صاحب كتاب توحيد الخالق لضلال الملاحدة الذي لا يتفق معه وجود سموات مبنية وخالق فوق سمواته فوق عرشه.

فلا أقسم بمواقع النجوم

فلا أقسم بمواقع النجوم قال الزنداني في ذكر قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) فقال مفسِّراً هذه الآية. إن التقدم العلمي جاء ليبيّن الأبعاد لمواقع النجوم، وذلك ما جهله الإنسان طويلاً، فالشمس تبعد عنا مسافة 93 مليون ميل تقريباً، ويقطع الضوء هذه المسافة في ثمان دقائق لأن سرعة الضوء (300) ألف كيلو متر في الثانية، والضوء يقطع المسافة بيننا وبين أقرب نجم إلينا في مدة أربع سنوات وربع، ومنها ما يبعد عنا مسافة يقطعها الضوء في مائة سنة، ومنها ما يسافر منها الضوء إلينا في ألف سنة، ومنها ما يبقى الضوء مسافراً منها إلينا في مدة مليون سنة، ومنها ما يبقى الضوء مسافراً منها إلينا في (340) مليون سنة، ومنها ما يبقى الضوء مسافراً منها إلينا في مدة ملايين السنين، أليس هذا كشف لِما تضمنته الآية الكريمة من حقيقة بقيت مجهولة مدة طويلة قال تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ). فمن أعلم محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه الحقيقة التي تعلن الآية جهل الناس بها

وقت نزولها من العليم الخبير ومن الأبعاد كما قرّرها العلم الجديد (¬1). إن تفسير هذه الآية الكريمة بهذا الباطل والضلال العظيم لمن أخطر الأمور، وإذا كانت هذه المسافات المتجاوزة لحدود الخيال في فضاء الملاحدة فكيف للمسلم بإثبات السموات السبع المبنيّة ومعرفة ربه وعلوّه فوق سمواته فوق عرشه، إن المراد بكلام الملاحدة هذا هو الضلال لأنهم من أول خطوة لا يقرّون بخالق للكون، وستأتي إن شاء الله تفاصيل برهانية تكشف الغامض من هذه الدواهي. ويأتي أن بعضهم ضال مضل بجعله السموات السبع هي الكواكب، وهذا مصادمة للقرآن العظيم والسنة الصحيحة الصريحة، وهو مذهب المعطلة الكفرة. وقد ضلوا ضلالاً بعيداً في النجوم حيث تأوّلوا بها ما يُضيّع الخلق عن خالقهم وعلوّه واستوائه على عرشه فوق سمواته، قال البخاري رحمه الله في كتاب (بدء الخلق): وقال قتادة: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) خلق الله هذه النجوم لثلاث: جعلها زينةً للسماء ورجوماً للشياطين وعلامات يُهتدى بها، فمن تأوّل فيها غير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف مالا علم له به. انتهى. (¬2) ¬

(¬1) توحيد الخالق، ص350. (¬2) رواه البخاري معلقاً وأخرجه عبد الرزاق وعبد ابن حميد وابن جرير.

الإعجاز المزعوم يضل عن السموات وما فوقها

الإعجاز المزعوم يُضل عن السموات وما فوقها ولذلك فإنك لا تجد من أهل الإعجاز المزعوم من يدلّك على السموات السبع المبنية فضلاً عن المعطلة. يقول صاحب كتاب: (من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم) ص 58: فالسماء بالنسبة للإنسان الذي يعيش على سطح الأرض هي كل هذا الوجود والتي تقع فوق الأرض. انتهى. إنهم لو أثبتوا سماء مبنية قريبة جداً بالنسبة لِهَوَس المعطلة لتساقطت نظريات التعطيل والإلحاد واحدة بعد واحدة. وبما أن السماء كرة مبنية محيطة بالأرض وهي التي تُرى بالعين وهي قريبة فإن أرباب الإعجاز المزعوم يتهرّبون من إثباتها كما خلقها الله وأخبر عنها رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول صاحب كتاب (من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم) (ص61): الكرة السماوية هي كرة وهمية تقع الأرض في مركزها بالنسبة لكل الأجرام والنجوم والكواكب الأخرى في الفضاء، وتبدو وكأنها تدور حول الأرض دورة واحدة كاملة يومياً ولكن هذا يرجع في الحقيقة إلى الحركة المحورية اليومية للأرض نفسها. انتهى.

أنظر كيف جعل السماء المبنية ذات السمْك والأبواب: كرة وهمية لتعارض الحقيقة مع ضلال المعطلة وعلومهم. وكيف يُثبت سماء مبنية وهو يقول: إن النجم يَبْعد بمسافة عن الأرض يبلغ طولها (58870) بليون ميل؟ والمعافى يحمد الله. وقد ذكرت في (هداية الحيران) أن أحسن أحوال من وقع في شباك هؤلاء المعطلة إذا أراد إثبات وجود الرب سبحانه أن يقع في وِحْدة الوجود، وبلا شك أن خلائق وصلوا إلى هذا الإلحاد والتعطيل لما اعتقدوا ضلالات الدهرية في الكون. وهنا صنف آخر لما تابعوا هذه العلوم قالوا: الله في كل مكان، منهم صاحب كتاب (من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم). قال في ص63: والمولى عز وجل بمشيئته وربوبيته الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم موجود بعزته وقدرته في كل مكان في السماء والأرض وما بينهما في كل وقت وفي كل زمان. وقال عن السماء: والمفهوم العلمي لمصطلح (سماء) هو الحيّز أو الفضاء اللانهائي الذي يحيط بكوكب الأرض من جميع الجهات وتَسْبح جميع المجرات والسُّدُم والكوكبات والنجوم والكواكب والأقمار في هذا الفضاء اللانهائي. انتهى ص63.

أنظر قوله: الفضاء اللانهائي فهذا ضلال عن السموات السبع وعن الله وعرشه، وفسّر معنى قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً) بالغلاف الجوي الذي زعم أنه يحفظها من أضرار تساقط بقايا الشهب والنيازك، جعل هذا السقف والبناء غازاً في الفضاء. وهكذا فالسموات السبع إمّا أن يُؤوِّل معناها لمن قلّد الملاحدة أو يُنكرها لأنها في علومهم مَنْفيّة لا وجود لها. وإن هذا لمن أخطر ما أتَتْ به هذه العلوم حيث من أراد أن يثبت وجود الله تَحَيَّر وضَلّ عن خالقه ومعبوده. ولما جاء هذا الكاتب على قوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء) وقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ) قال: ويبلغ سمك طبقات الغلاف الغازي نحو 300 كيلو متر وما يقع فيما وراء هذا الغلاف هو بناء محكم من فضاء لا نهائي أو محيط لا حَدّ لاتساعه يتألف من الأتربة الكونية الدقيقة الحجم وتسبح فيه أعداد لا حصر لها من المجرات والنجوم والكواكب في مداره الذي اقتضاه المولى عز وجل له. انتهى ص64. يقول: بناء محكم من فضاء لا نهائي، وهذا تناقض بيّن لأن البناء شيء والفضاء شيء فهو جمع بين النقيضين، فالبناء ليس فضاء والفضاء ليس بناء.

ويقول: ومن ثم فهناك سماء عليا لا يدركها الإنسان في الوقت الحاضر. انتهى ص66. ألأِن المعطلة لم يذكروا السماء يضل عنها هؤلاء؟ أما قال تعالى: (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ) وغير ذلك من آيات تبين هذه السماء المرئية. قال شيخ الإسلام: والسماء والأرض أعظم من الشمس والقمر (¬1). أما عن لون السماء فقال هذا الكاتب: ويعزى اللون الأزرق للسماء واللون الأحمر للشفق وغروب الشمس إلى أثر اختلاط الأتربة مع بعض الغازات وقدرتها على انتشار الأشعة الشمسية الزرقاء والأشعة البنفسجية، ومعنى ذلك أنه لولا انتشار الأتربة الدقيقة الحجم وبخار الماء المصاحب لها في الغلاف الجوي لظهرت السماء على شكل فضاء لا نهائي أسود وداكن اللون، يلمع فيه قرص الشمس تماماً كما يرى المشاهد النجوم المضيئة في السماء أثناء الليالي القاتمة اللون. انتهى. ص 67. أما لون السماء فقد تكلم به علماء الأمة ككلامهم في غيره مما يزيد الإيمان ويقويه ويفتح أبواب معرفة حكمة الإله العظيم ورحمته ولطفه بعباده ليس تخريف المعطلة المنكرون لأرواحهم ولربهم، وتأمل الآن الفرق ¬

(¬1) الفتاوى 16/ 230.

بين كلام هذا الكاتب وكلام ابن القيم. قال ابن القيم رحمه الله في كتابه (مفتاح دار السعادة) 1/ 207 قال عن لون السماء: ثم تأمل ما وُضعت عليه من هذا اللون الذي هو أحسن الألوان وأشدها موافقة للبصر وتَقْوِيَة له حتى أن من أصابه شيء أضَرَّ ببصره يؤمر بإدمان النظر إلى الخضرة، وما قَرُبَ منها إلى السواد، وقال الأطباء: إن من كَلَّ بصره فإنه من دوائه أن يُديم الاطلاع إلى إجّانة خضراء مملوءة ماء، فتأمل كيف جعل أديم السماء بهذا اللون ليُمسك الأبصار المتقلّبة فيه ولا يَنْكأ فيها بطول مباشرتها له، هذا بعض فوائد هذا اللون، والحكمة فيه أضعاف ذلك. انتهى. ومن الضلال أيضاً عن السماء يقول صاحب كتاب (قصة السموات والأرض) ص17. السموات السبع هذا تحديد للنوع مما خلق الله سبحانه فوقنا من هواء وشهب ونيازك وأقمار ومذنبات وكواكب وشموس يعلو بعضها بعضاً ويتألف منها عوالم الكون أو طباق السموات. انتهى. إن هذا الضلال عن السموات السبع الطباق الشداد المبنية الكروية المحيطة بالأرض إحاطة الكرة بما في وسطها ذوات السمك والأبواب والتي نرى أدناها وأقربها إلينا سماء الدنيا وسقف الأرض ذات اللون الأزرق المزينة بالكواكب، فالضلال عنها سببه علوم المعطلة فالحيرة ملازمة

للمقلِّدة. ولذلك يقول صاحب كتاب (من الإعجاز العلمي) 1/ 72. لما كان لفظ (السماء) يدل على كل ما يقع فوق الأرض من جميع الجهات أي أن السماء تتضمن نطاق الغلاف الغازي للأرض، فيمكن القول بأن الغلاف الغازي (وهو المهم في نشوء الحياة على سطح الأرض) يتألف من خمس طبقات غازية متتابعة رأسيّاً من أسفل إلى أعلى هي: طبقة النزوبوسفير، وطبقة النزوبوبوز، وطبقة الميزوسفير وطبقة الأيونوسفير وطبقة الأستراتوسفير ثم يعلو هذه الطبقات الغازية الخمس السماء الدنيا التي تسبح فيها المجرات ومنها مجرة درب التبانة التي تعد شمسنا وكواكبها جزءاً منها، ويعلو هذه السماء الدنيا، سماء سابعة هائلة الامتداد فيها السدم وما وراءها والله أعلم. ولما ضل هذا عن السماء ضل أيضاً عن العرش فهو يقول في قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع النقلة وحلول الحوادث ويبقى استواء القدرة والسلطان. انتهى 1/ 73. ولا عجب فالذي يعتقد أن الله في كل مكان ولا يعرف السموات السبع كيف يعرف العرش واستواء الرب عز وجل عليه، والذي يقول: وتتباعد مجموعات المجرات بعضها عن البعض الآخر في الفضاء السماوي اللامُتناهي بمسافات تقاس بآلاف وملايين السنين الضوئية. 1/ 76، الذي يقول هذا كيف يعرف العرش واستواء الرب عز وجل عليه.

المجرات الخيالية وأصل علوم المعطلة

المجرات الخيالية وأصل علوم المعطلة يقول صاحب كتاب (من الإعجاز العلمي) 1/ 124: وفي السماء مجرات بعيدة جداً عن الأرض بصورة تفوق الخيال البشري، وينبعث من هذه المجرات أشعة ضوئية خافتة، ذلك لأنها تبعد عن الأرض بنحو ألف مليون بارسك. (19.200.000.000.000.000.000.000 ميل)، ومن بينها مجرة السحابة المجلانية Magellanic Cloud ومجرة قنو العذراء Vergo Cluster وهي من أقوم الحشود المجرية القريبة إلينا وتشتمل على نحو 2500 مجرة داخلية فيها. 1 - المجرات اللولبية أو الحلزونية الشكل: Spiral Galaxies: ويتراوح قطر المجرة الواحدة منها من 150.000 إلى 15.000 سنة ضوئية، وتزداد اتساعاً في القسم الأوسط منها بينما يقل اتساعها عند أطرافها، وتتوالد الكثير من النجوم الجديدة في المجرات، ومن بينها النجوم الجديدة القصيرة العمر، الشديدة اللمعان، والتي تسهل عملية رصدها باستخدام المراقب الفلكية المطورة نظراً لوقوعها عند أطراف المجرة، ويحيط بالنواة الوسطى. انتهى.

إن مثل هذه الهذيانات والخيالات يكفي النظر فيها عن الكلام في تفنيدها، وكل ما يكون الواحد من هؤلاء المعطلة الذين ينقل عنهم المقلِّدة كل ما يكون أكبر كذباً وأبعد خيالاً وأعظم جنوناً فهو أعمق علماً وأوسع فكراً، ولولا ذلك لما سُوِّدت الأوراق بهذا التخريف، إن الملاحدة تتكلم عن فضاء لا ينتهي وهذا كفر في عقيدة الإسلام لأنه إنكار لما ثبت بالنصوص من وجود السموات السبع وبنائها وسكانها من الملائكة والجنة التي هي فوق السماء السابعة وكرسي الرحمن وعرشه الذي هو مستو عليه، وإنكار للخالق سبحانه، وجحود له، فهذا من ثمار هذا العلم الحديث. فَمُقَلِّدة أرباب العلوم الحديثة غايتهم أن ينقلوا ما يَهْذُون به، قال صاحب كتاب (الإعجاز الإلهي) ص112. من المعجزات الإلهية الكثيرة الموجودة في أجواء الفضاء ما اكتشفه العلماء في الآونة الأخيرة، لقد اكتشفوا بوسائلهم العملاقة المتطورة مجرتين هائلتين متقاربتين من بعضهما بعضاً، كلٌ منهما صنو للآخر أو نسخة طبق الأصل عنه ولا يختلفان عن بعضهما في شيء، علماً أن في كل منهما مليارات المجموعات الشمسية التي تعدّ مجموعتنا بالمقارنة بها كذرة غبار متناهية في الصغر في كون فسيح مترامي الأطراف. انتهى.

إن من قَلَّد أرباب هذه العلوم قد وَطَّن نفسه لقبول الخيالات، حتى لو زعم المعطلة أنهم اكتشفوا مجرات بحيث تكون هذه المجرات التي ذَكَر بالنسبة إليها كذرّة غبار متناهية الصغر، هذا ظاهر في مؤلفات من كتبوا عن هذا الإعجاز المزعوم. بعد هذه الإشارة لهذا الأصل المهم الذي يُمَيّز بين السلف والخلوف في هذا الأمر أقول لصاحب كتاب توحيد الخالق ولمن اغتروا بالملاحدة وانخدعوا بخدعهم وضلالاتهم أقول: الرجوع إلى الحق أحق من التمادي في الباطل، والعَوْدُ لكم أحمد، ويا ليتكم تكونون كمن رضي من الغنيمة بالإياب فالأمر والله غاية الخطورة، وبما أن القوم لجّجوا في بحار عميقة مظلمة فلا بد بمعونة الله من كشف ما يحتمله هذا المؤلِّف الذي يطول جداً لو ذكرت فيه كل نظريات الكفرة وما فيها من الضلاّل وإنما الإشارة تكفي مَنِ الحكمة ضالّته، وليكن الكلام الآن على السماء التي أعجب صاحب كتاب توحيد الخالق ما توصّل إليه من العلم الحديث وكشوفاته من شأنها، ولنبدأ من الأصل الذي يُصَرّحون به وعليه بَنَوْا علومهم وهو أن الكون لا خالق له. وهذا تفرّع عنه أن ما فوق الأرض من كل جهة فضاء لا ينتهي، ومعلوم أن هذا الاعتقاد هو ثمرة من ثمار جحودهم لخالق الكون فينظرون إلى ما فوق رؤوسهم إلى عالم مجهول اتفقوا على أنه فضاء لا حَدَّ له. ليسوا

كأهل الإسلام الذين ينظرون إلى ما عندهم العلم بوصفه قبل نظرهم وهو معلوم لخالقه ومُوجده قبل خَلْقهم ووجودهم فكلامه فيه حق، وتصديقه فيه هدى. والمراد أنهم بقولهم: الفضاء لا حَدَّ له أرادوا هدم بنيان الدين بقلع أصوله فمن لم يُصَدِّقهم ويتبعهم على إنكار الخالق أوْجدوا له طريقاً أخرى كفيلة بإضلاله عنه سبحانه وهو كلامهم في فضائهم الخيالي اللانهائي. إنها كلمة قالوها وهي أن الفضاء لا ينتهي لا دليل عندهم على صحتها ولا برهان ولا حجة إلا عدم العلم بغير ذلك، وعدم العلم ليس بعلم، هذا أحسن ما يُظن بهم وكفى بذلك ضلالة أن بُني على جهالة، والإناء بما فيه ينضح فهذه ثمار الكفار، والذي ينبغي أن نهتم بشأنه ونحذره أنهم أرادوا بذلك إضلال المسلمين عن ربهم وهذا لأنهم منقادون بالطاعة لإبليس فهو جعلهم واسطة الإضْلال بهذا الضّلال. إن العجوز الجاهلة من عجائز المسلمين والمجنون الذي يُمَزِّق ثيابه ويرمي طعامه ويشتم أباه وأمه أعْلم من أرباب العلوم الحديثة بالسماء وبما فوق السماء وإنما الفتنة بهؤلاء التي أعمت وأصَمّت سببها وجود من رَوَّج هذه البضائع الزائفة وأنها تدلّ على الله وأن القرآن شاهد بصحتها.

والمراد أن المسلمين جهالهم ومجانينهم وعجائزهم فضلاً عن علمائهم يعتقدون أن الذي يَرَوْنه فوقهم بلَوْنه الأزرق هو السماء التي بناها خالقهم بقدرته الذي يقول للشيء كن فيكون وأن في سمواته ملائكته وجنته وفوق ذلك عرشه، هذا معتقد عامة المسلمين وجهالهم، انظر الآن ما يقابله من معتقد أرباب العلوم الحديثة وقارن بين الهدى والضلال. إنهم يعتقدون كما ذكرت أن الفضاء لا حَدَّ له وحَشْوُهُ كواكب تدور حول نفسها وحول توابعها، وقد تقدم الكلام على نظرية نيُوتِن وأنهم بَنَوْا عليها نظرية تجاذب الأجرام الكبيرة إذْ أنها عندهم في الأصل تدور بتأثير انفصالها من الشمس التي هي الأخرى تدور عندهم، وتقدم ذِكر ما يسمونه المجموعة الشمسية التي هي خيال لا حقيقة له، فالكون عندهم مليء من هذه المجموعات الشمسية الخيالية التي بِدَوْرها تُكَوِّن ما سَمّوْه بالمجرات، والمجرات ملايين وبلايين لا تحصر وكل ذلك سابح في فضاء لا ينتهي وضمن ذلك الأرض التي جعلوا نسبتها من الصِّغر للكون الذي لا ينتهي وأجرامه كنسبة حَبّة رمل إلى جميع رمال الأرض، ولقد عظّم الخالق الأرض، وكم ذكرها مع سمواته العظيمة يبين عظمها. إن من يعتقد أن الفضاء لا حَدَّ له مُعَطّل حيث لا وجود للخالق سبحانه عنده ولا سمواته السبع ولا عرشه العظيم، وهذا ظاهر لا جدال فيه عند الملاحدة أرباب هذه النظريات، فهم ينفون وجود الخالق من أول

خطوة في علومهم التجريبية التي يزعمون أنها مبنية على عدم الإيمان بغير المحسوس. والكلام الآن مع من قلّدهم في كلامهم في المجرات وهو يُقرّ بوجود الخالق سبحانه وعرشه وسمواته فيقال لهم: إنكم تريدون أن تجمعوا بين الحق والباطل وهما لا يجتمعان إنكم لو سُئلتم عن السماء المبنية التي ورد ذكرها في القرآن وقدْ وصفها الله في آيات عديدة أنها بناء وأنها فوق الأرض وأن لها أبواب وأنه ما لها من فروج وليس فيها فطور لتحيّرتم، ومن أقرّ منكم بسبع سموات فلا يُقِرُّ بها على ما وصفها خالقها ورسوله. كذلك ما ورد في السنة الصحيحة من معراج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن جبريل عليه السلام يستفتح أبواب السموات سماء سماء فقد روى البخاري حديث الإسراء أنقل منه هنا ما يبين أن السماء بناء ولها أبواب كما ورد في القرآن، ففي حديث أنس رضي الله عنه: (ثم عُرج به إلى السماء الدنيا فضرب باباً من أبوابها فناداه أهل السماء: من هذا؟ فقال جبريل وقالوا: ومن معك؟ قال: معي محمد) الحديث، وفيه: (ثم عرج به إلى السماء الثانية فقالت الملائكة مثل ما قالت له الملائكة الأولى: من هذا؟) وفيه (ثم عرج به إلى الثالثة فقيل

له مثل ما قيل في الأولى والثانية وهكذا حتى عدَّ سبع سموات) (¬1). إنكم لو سُئلتم عنها لاضْطربتم ولَمَا أجبتم بالصواب، وقد رأيت من التهافت والتناقض والضلال في كلام المقلِّدة للملاحدة في وصفهم السموات ما يدعو للعجب، فبعضهم يقول: هي الكواكب السبعة، وبعضهم يقول: إنها طبقات غازية سبع، وبعضهم يقول: لا أدري ما السموات، وبعضهم يقول: هي فوق المجرات وهو يعلم أن ما فوق المجرات لا يمكن أن يكون سموات مبنية لأن المجرات بزعمهم تتوالد والكون يتسع مع أن المجرات عندهم لا حصر لها، وقد تقدم كلامهم فيها ويأتي غيره. ولهم أقوال أخرى عن السموات غير ما تقدم وكل ذلك ضلال مبين، فهم تائهون ضالون حائرون. كالْعِيسِ في البيداء يقتلها الظما ... والماء فوق ظهورها محمولُ إننا إذا ضللنا في معرفة السموات ضللنا عن معرفة ربنا سبحانه وفوقيته وعلوه على مخلوقاته، كذلك الملائكة والعرش والكرسي والجنة لأن ذلك كله فوق السماء المبنية، والعرش فوق السموات كلها وهو سقف العالم كله كما أن السماء الدنيا سقف الأرض، والعرش أكبر المخلوقات على الإطلاق. ¬

(¬1) رواه البخاري (6/ 2730) ومسلم (1/ 145).

والآن نطرح كل الأقوال المتقدمة في وصف السماء لأنها لا تستحق المناقشة وننظر في قول واحد اقْتنع واغْتر به الجهال وهو أن السماء فوق المجرات المزعومة وأنه لا تعارض بين ذلك وبين الحق المعلوم في الكوْن الذي هو الصفة للسموات المطابقة لخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. يزعم أهل العلم الحديث أن ما فوق الأرض فضاء لا حَدَّ له ولا نهاية كما تقدم ذِكر ذلك وأن هذا الفضاء كواكب سابحة فيه تدور حول توابعها، فكواكب التي سموها المجموعة الشمسية تدور حولها ويزعمون أن من ضمنها الأرض فهي عندهم تدور حول نفسها وحول الشمس، وليس الكلام في هذا هنا وقد بينت بطلانه والحمد لله في (هداية الحيران) إنما المراد هنا المجرّات المتَخَيَّلة، فيزعمون أن في فضائهم اللانهائي ملايين وإن شئت قل بلايين من المجموعات الشمسية التي تتكوّن منها ملايين المجرات وإن شئت قل بلايين البلايين من المجرات، فخيالاتهم وخيالات مُقَلِّديهم ليس لها حَدّ كفضائهم الذي لا يُحَدّ، فمن هنا أُطْلِقَتْ لك المشيئة بإضافة ما شئت من الأصفار بجانب أصفار الملايين والبلايين. إنك لا تعْدو أن تكون صِفْر اليدين سواء زِدْت على ما زعموا من عدد المجرات أو نقصت اللهم إلا أن ترمي هذه الملايين والبلايين من المجرات في المزبلة والمشابهة لنتائج أفكار الكفار وزبالات أذهانهم وتُبْقي

واحدة فقط من الملايين والبلايين وترفع رأسك في ليلة مظلمة بعيداً عن الأضواء التي حَرَمَتْنا منظر السماء فتنظر كما نظر نبيك وصحابته الكرام وسلف هذه الأمة من الأئمة الأعلام، مصابيح الدجى وهداة الأنام.

المجرة باب السماء المبنية

المجرة باب السماء المبنية إنك سترى بعينك بناء السماء فهو الذي ينتهي إليه بصرك وهو سقف الأرض كلها، وهو الذي لا يُنْفَذُ منه إلى أعلى إلا عن طريق الباب أو الأبواب كما تقدم ذكر ذلك في حديث الإسراء، وليس المراد هنا هذا كله، إنما المراد المجرة الواحدة التي بقيت معك بعد طرح الملايين والبلايين في مزابل الملحدين. إنك سترى ما يشبه الغيْم الأبيض الرقيق ملاصقاً للبناء وليس في موضع السحاب القريب من الأرض فهذا في الفضاء الذي بين السماء المبنية ذات الجرم والسمك والأبواب وبين الأرض أما المشابه للغيم وهو في السماء فهو المجرة، وهي عبارة عن نجوم صغيرة متقاربة تشبه مجرى النهر لامتدادها في السماء، فإن كنت دخلت في علوم القوم ونالك من رشاش زقومها فقد تقول حينئذ: رضيت من الغنيمة بالإيابِ، وتكون إن شاء الله ممن الحكمة ضالّته، إذ الحكمة هي العلم بالحق والعمل به، والحق هو ما أتى به رسول خالق السموات والأرض.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: المجرة باب السماء الذي تنشق منه (يعني يوم القيامة. قال تعالى: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً) وقال تعالى: (إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ)). قال ابن كثير على أثر ابن عباس: إسناده صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنه (¬1). ¬

(¬1) البداية والنهاية 1/ 38 وانظر كتاب (العظمة) للأصبهاني (4/ 1301).

ترويج البضائع الفاسدة

ترويج البضائع الفاسدة ثم ذكر الزنداني بعد ذلك (إن معطيات العلوم الحديثة ليست إلا تدعيماً للتوحيد وكشفاً لنوع جديد من الإعجاز القرآني) (¬1). ومعلوم أن هذه دعوى زائفة ليست طريق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا من تبعهم بإحسان وإنما هي تطبيق عملي لحذو القذة بالقذة وشبراً بشبر وذراعاً بذراع، والويل لمن خُدِع. وإنما حصلت الفتنة واستحكمت من جَعْلِ ما فُتِحَ على أعداء الله في هذا الزمان من الضلال علماً وأنه مرغوب فيه ومطلوب بل وينبغي المنافسة عليه، وعلى هذا المقتضى أُصِّلَتْ أصول وتفرّع لها فروع يطول الكلام في بيان ضلالها وإفسادها للملّة، فمن ذلك اللبس العظيم والضلال المبين الذي حصل للمسلمين من ثُنائيَّة أحدثها من لا يعرف الدين وهي: (الدين والعلم) ثم صار يُفضِّل في ذلك ويتكلم من لا يعرف الدين ولا العلم، لأن هؤلاء لو عرفوا العلم الحقيقي لميّزوه عن غيره وعظّموه أن يُرفع إلى غيره إلى مستواه كيف بما يضاده ولَوَ قّروه أن يُدَنّس بما يفسده من ¬

(¬1) توحيد الخالق، ص153.

علوم الضلال. كذلك لو علموا أنه هو العلم والعمل، ولا دين إلا بالعلم لكنه علم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاءه من ربه عز وجل. وتأمل الآن ما سَمّوْه (العلاقة بين العلم والدين) وقد صَنّف بعضهم ذلك إلى ثلاث اتجاهات: * الاتجاه الأول: ويرى أصحابه من المفكرين ضرورة "الفصل" بين الدين والعلم فصلاً تامًّا، بحيث يكون لكل منهما مجاله الخاص، وهذه الوضعية مرفوضة إسلاميًّا؛ لأن الإسلام هو الدين الشامل الذي يحتوي على الشخصية الإنسانية من جميع نواحيها. * الاتجاه الثاني: ويرى أصحابه من الكتاب ضرورة "التوفيق" بين الدين والنتائج العلمية، وأن يكون المرجع في عملية التوفيق هذه إلى العِلم لا إلى الدين، وهو الاتجاه الذي تمارسه المسيحية جزئياً عندما يمن عليها الحظ بإمكانية هذا التوفيق. * الاتجاه الثالث: ويرى مؤيّدوه ضرورة المواجهة بين الدين والفلسفة العلمية المتخفية وراء العلم - ليكون لأحدهما الكلمة العليا، والمسلمون يجعلون الكلمة العليا للدين، والتيار الإلحادي يجعل الكلمة العليا للعِلم. انتهى. من كتاب (الفكر الإسلامي في مواجهة التيارات الفكرية المعاصرة).

هذا الخلط والخبط جاء بسبب ما سُمِّيَ بعلم وليس بعلم. قال ابن تيمية رحمه الله: العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يستحق أن يسمى علماً، وما سواه إما أن يكون علماً فلا يكون نافعاً، وإما ألا يكون علماً وإن سُمِّي به، ولئن كان علماً نافعاً فلا بد أن يكون في ميراث محمد صلى الله عليه وسلم ما يُغني عنه مما هو مثله وخير منه. انتهى (¬1). وانظر كيف جعل التوفيق بين الدين وما سمّاها: النتائج العلمية بأن يكون المرجع إلى العلم لا إلى الدين، وهذا إضلال مبين فقد أُمرنا برد ما تنازعنا فيه إلى الله والرسول ولأن كتاب الله وسنة نبيه هي العلم وفيهما العلم، ثم جعل فوز المسيحية الإذعان لما سمّاه العلم، وقد بينت في هذا الكتاب ما مع أرباب الكنائس من الحق وجَوْر من جعل كل ما عندهم باطلاً، ثم إن قياس المسلمين بالغربيين وكنائسهم ضلال. أما قوله: عندما يمنّ عليها الحظ، فالحظ لا يمن وإنما يمن المنان سبحانه وبحمده. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في ردّه على أهل المنطق: فنحن قد بينا أن شريعة الإسلام ومعرفتها ليست موقوفة على شيء يُتعلَّم من غير المسلمين أصلاً وإن كان طريقاً صحيحاً. انتهى (¬2). ¬

(¬1) الفتاوى 10/ 664. (¬2) الفتاوى 9/ 215.

تأمل قوله: وأن كان طريقاً صحيحاً فكيف إذا بطرق هؤلاء الضالة المضلة؟ فالحمد لله الذي بعث فينا رسولاً من أنفسنا يعلمنا الكتاب والحكمة ويزكينا. قال صاحب كتاب توحيد الخالق: إن قوة التصور هي مصدر الخيال الواسع في حياة الإنسان، ولا يمكن تصديق ما تأتي به قوة التصور إلا بعد فحصه جيداً أمام العقل، ومعظم الأوهام الباطلة التي تتحكم في حياة الناس تنبع من تصورات خاطئة، أما مجال عمل قوة التصور فهو مجال واسع جداً، يشمل جميع مجالات الحواس الخمس. مَنِ القاضي الذي يفصل؟. إذا فكرت في الوسائل السابقة، وجدت أن جميعها عرضة للوقوع في الخطأ، فكيف تميز الحق من الباطل؟ لقد جعل الله لنا عقلاً يميز الحق من الباطل، فهو إذن القاضي الذي تعرض عليه كل المعلومات القادمة من الحواس الخمس ومن قوة التصور، فيفصل في أمرها، وقد يقع العقل في خطأ لا من ذاته ولكن بسبب تغرير به أثناء عرض المعلومات، كأن تقدم له معلومات ناقصة أو مشوهة، فتأتي أحكامه ناقصة مغلوطة، مشوهة، ولكن ذلك لا يرجع إليه وإنما يرجع إلى مؤثرات خارجية، ولكن العقل

مع ذلك هو الأساس الذي يقوم عليه العلم الحق (¬1). يقال لصاحب كتاب توحيد الخالق: بما أنك تقول: (ولا يمكن تصديق ما تأتي به قوة التصوّر إلا بعد فحصه جيداً أمام العقل) فمع أن كلامك هذا فيه نقص إلا أنك لو استعملته فيما أفرزَتْه أذهان الكفرة المظلمة لما تمادَيْت فيما تماديتَ فيه من الإنهماك بعلومهم واستحسانها وتحسينها. إنك لو استعملت ميزانك هذا رغم نقصه وعجزه عن أداء النتائج المطلوبة لرَبَأت بنفسك عن مجارات أعداء الله فيما أضلهم به الشيطان الذي هو مُسْتَوْلٍ عليهم. قال تعالى: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ) الآية. يعني: استولى، فأيّ خير يُرجى منهم؟. وأنا ذكرت نقص كلام الكتاب السابق لأنه أشاد بالعقل ورفع من شأنه ولم يذكر الرجوع للكتاب والسنة، لكن أتى بكلام مجمل وهو قوله: (لقد جعل الله لنا عقلاً يميز الحق من الباطل) وهذا لا يكفي. كيف وقد قال بعد ذلك رافعاً شأن العقل: (فهو إذن القاضي الذي تُعْرض عليه كل المعلومات القادمة من الحواس الخمس) قال: (ولكن العقل مع ذلك هو الأساس الذي يقوم عليه العلم بالحق). ¬

(¬1) توحيد الخالق، (ص159، 160).

الحقيقة أن هذه إشادة بالعقل تُعَدِّيه طوْره وتتجاوز به حَدَّه، إذْ كماله الحقيقي أن يكون تابعاً لما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم محكّماً له في كل شيء وإلا حصل الضلال ولا بد. ومما قال صاحب كتاب توحيد الخالق عن العقل في (ص161، 162) من كتابه: (قال: كما يعجز عن إدراك بداية الزمان أو يحيط بنهايته، وكذلك يكِلّ ويعجز عن إدراك نهاية المكان) انتهى كلامه. هذا نصفه صحيح ونصفه غلط، فالعقل يعجز عن إدراك بداية الزمان ويعجز أيضاً عن الإحاطة بنهايته. أما العجز عن إدراك نهاية المكان فليس هذا على إطلاقه، فأرباب العلم الحديث ومن قلدهم يقولون هذا الكلام باعتبار ما في خيالاتهم من سعة الكون التي لا نهاية لها وأنه مُرَكّب من كواكب وشموس وأقمار في فضاء لا ينتهي، فعلى مقتضى هذا المعتقد الضّال يعجز العقل عن إدراك نهاية المكان، وهذه عَدْوى أصابتْ المقلِّدة وسيأتي إن شاء الله الكلام على زعمهم أن الكوْن يتسع ويستدلون بقوله تعالى: (وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) وهو باطل وضلال، وقد فسر الآية المتأخرون على مقتضى نظريات الغرب الضالة والمضلة. والمراد أن إدراك نهاية المكان ممكنة للعقل كما أن ذلك ورد في الشرع.

فنهاية الفضاء جرم السماء الدنيا المشاهدة ذات اللون الأزرق التي نشاهد فيها الشمس والقمر والنجوم وهذا الفضاء هو الذي ذكره الله في كتابه الكريم بقوله تعالى: (وَمَا بَيْنَهُمَا) حين يذكر السماء والأرض في مواضع، وليس ما تتخيّله أذهان الملاحدة المظلمة من أنه لا نهاية له، والأرض محدودة معروف شكلها وجوانبها من البراري والبحار والجبال. وقد بيّنت ولله الحمد في (هداية الحيران) المسافة بين السماء والأرض على حسب اصطلاح أهل الوقت في تقدير المسافات، كما بينت المسافة بين الأرض وسطح السماء السابعة. كذلك بينت ما فوق السماء السابعة وهي الجنة وأن فيها مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، كما ورد في الحديث الصحيح وأن فوق الجنة العرش، وهو سقف المخلوقات كلها وفوقه الرب عز وجل. ثم إن صاحب كتاب توحيد الخالق في عامة كتابه هذا الذي سمّاه يتكلم عن العلوم الحديثة بطرقها الطويلة الدقيقة المخالفة للطريقة الفطرية السهلة الميَسّرة ويُقْحم آيات القرآن بين كلامه عن علومه الحديثة إقحاماً يستشهد بها بزعمه ويستدل على إعجاز القرآن.

وعلى كل حال فليست هذه مسالك المسلمين في معرفة كلام الله وبيانه، والذي يُوصَل إليه بسلوك طرقهم من صواب ينغمر ويتلاشى ويضمحل بجانب ما يستلزمه السالك من الضلال والانحراف. وفي طريقة القرآن في النّدب للنظر بالآيات المشهودة تمام المعرفة وكمالها، ولولا حصول ذلك لما اختاره الله لنبيه وصفوة خلقه. وصاحب كتاب توحيد الخالق بعلومه الحديثة يدعو إلى الله بزعمه ومعرفته ولقد تكلم عن العلم بالله (ص167) فذكر العقل وزعم أن علمنا بالله قائم على استنتاج الإيمان من مشاهدة المخلوقات، ويقول: فنحن قد علمنا بربنا بإدراك آثاره في مخلوقاته، ويذكر كلاماً طويلاً يحشر أثناءه الآيات حشراً متنافراً مع ما يذهب إليه. ويقول: وإيمان المسلم بربه حقيقة تُعرف من استنتاج العقل وفهمه لآثار قدرة ربه في مخلوقاته، وكلامه ليس بالمسدَّد ولا الجيّد بل فيه تضليل فهو يميل إلى جانب النظر في معرفة الله على مقتضى العلوم الحديثة وطرقها، فهذا شَبَه من المتكلمين، وقد غلط هنا غلطاً فاحشاً حيث غَلَّبَ النظر وأهمل جانب الفطرة التي بها حاصلة معرفة الله. أما النظر في المخلوقات بالتفكر والاعتبار على طريقة السلف فهو يزيد المعرفة والإيمان لأنه أصل، وقد وقفتُ على كلام كثير من سالكي

طرق العلوم الحديثة فرأيتهم يدعون إلى النظر كبداية لمعرفة الله والإيمان به بسلوك طرق العلوم الغربية، وعلمهم عن الفطرة لا يكاد يُذكر. فمعرفة الله بل ومحبته فطرية والشريعة تكملها وتُفصّل وتبيّن ما لا تستقل الفطرة بتفصيله وبيانه. ولقد جار أهل النظر في هذا الزمان على الفطرة وكادوا يهملون شأنها وذلك لغلبة جانب النظر على غير الطريقة السلفية فحصل بذلك ضلال عظيم. لأنه نظرٌ على مقتضى علوم الملاحدة وكشوفهم الضالة والمضلة. وقد أمرنا صلى الله عليه وسلم بإتباعه ونهانا عن الإحداث، وقد قال مُرْسِلُه سبحانه: (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا).

الذرة

الذرة قال الزنداني تحت عنوان (أصل واحد) في كتابه توحيد الخالق (ص176): (وإذا سألت عن أصل المادة أجابك المختصون: بأن أصغر شيء في المادة هو الذرة، وأنها أصل كل مادة شًوهدت في الأرض أو السماء، إنها لبنة البناء في مادة الكوْن المشاهد). ثم تكلم صاحب كتاب توحيد الخالق عن مكونات الذرة كما قال مَنْ سماهُم (الباحثون) وأنهم اكتشفوا أن بعض جسيمات الذرة لا يُعمِّر في الذرّة أكثر من عشرة أجزاء من مليون جزء في الثانية. انتهى. على القارئ أن يُبعد عقله الآن ويعيد قراءة ما تحته خط بلا عقل ليُجاري العلوم الحديثة بدون تفكّر ولا تعقّل. تأمل هذا وتأمل ما يذكرونه عن فضائهم الخيالي الذي يحوي ملايين من المجرات المسافات بينها تُقَدّر بالسنين الضوئية ونحو ذلك من اللامعقول والذي يعارضه ويكذِّبه المنقول تعلم أن الكل خرج من مشكاة واحدة وهي مشكاة الضلال والتضليل. إن عشرة أجزاء من مليون جزء من الثانية في الخيالات الدقيقة مثل بلايين المجرات في الخيالات الكبيرة، والكل من مشكاة اللامعقول وليُعلم دجل أرباب هذه العلوم الحديثة وخرصهم وظنهم وأنهم يتكلمون عن

مجرد نظريات هي في خيالاتهم المظلمة ويثبتونها رسْماً ورقماً على الورق، فلذلك يتكلمون حتى عن تركيب السماء وأنه مركب من الذرات كما ينقل صاحب كتاب توحيد الخالق عنهم في قوله السابق عن الذرة: وأنها أصل كل مادة شوهدت في الأرض أو السماء. ومعلوم أن السماء عندهم هي الكواكب السابحة في الفضاء الذي لا نهاية له، وإنما قالوا ذلك باعتبار أن الكل منفصل من أصل واحد وهو السديم فتركيب جميع الكون مثل تركيب هذا السديم وهو الذرات، وهم والله لا رَأوْا سديماً ولا عندهم أثارة من علم تدلّهم عليه، وَوَحْي الأنبياء لا يرجعون إليه، وليس في وحي الأنبياء ذكر سديم ولا ذرات حسب ما يتخيلون ويتخرصون، وإنما في القرآن الخبر اليقين عن بداية الخلق ونهايته وكل ما يحتاجه أهل الإسلام في دينهم ودنياهم. والذرة هي الجوهر الفرد الذي ضل به متكلمة الجهمية وقد أنكره علماء المسلمين وضلّلوهم به. فضلالهم في العالَم العلوي كضلالهم في العالَم السفلي وأعظم حيث أن مادة العالَم العلوي خفيفة وشفافة مستنيرة. أما الأرض وما فيها فكثيفة مظلمة معتمة تختلف كُلِّياً عن تلك. صاحب كتاب توحيد الخالق ينقل في كلامه عن الذرة وغيرها عمن هو مشغوف بعلومهم، ففي كتابه (العلم طريق الإيمان) (ص88) ذكر

تحت عنوان: (هذا ليس من كلام البشر) قال: أما البروفيسور الفريد كرومر من ألمانيا وهو من كبار علماء الجيولوجيا أيضاً فقد ذَهل عندما سمع قول الله: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا). (¬1) قال يستحيل أن يكون هذا من معلومات البشر، لأن البشر كانوا يعتقدون في زمن محمد وما بعده بقرون أن أصل المواد أربعة: ماء، ونار، وهواء، وتراب. ثم بعد التقدم العلمي الحديث اكتشفنا أمن أصل الموجودات ترجع إلى الذرات، والذرات ترجع إلى إلكترونات وبرتونات وأن الماء والهواء والنار والتراب كلها تتكون من ذرات إلا أنها تختلف في العدد الذري. قال: يستحيل أن يتصور إنسان في زمن محمد أو ما بعده بقرون لا يعرف الطبيعة الذرية في تركيب المواد أن ماء الأرض كان متحداً مع نار الشمس، غير ممكن!! نعم لا يمكن .. وكيف يمكن أن يتخيل إنسان هذا إلاَّ إذا علم أن الماء أصلاً والنار كلها جميعاً ترجع إلى مادة واحدة، ويمكن أن تكون شيئاً واحداً متصلاً، ولذلك لا يمكن أن يكون هذا الكلام منسوباً إلى محمد صلى الله عليه وسلم إلاَّ بوحي من أعلى. ¬

(¬1) الأنبياء، آية:30.

الجواب: يقال: أرباب هذه العلوم الحديثة أحالوا في شأن ما سَمّوْه (الذرة) إلى مالا يُحَس ولا يشعر به بل ولا يعقل، وهذا مخالف للأصل الذي أصّلوه من عدم إيمانهم بغير المحسوس، أما القول بأن أصل المواد أربعة: الماء، والنار، والهواء، والتراب، فهذا هو المحسوس المشاهد في الكون. فكون هذه المواد الأربع تتكون من الذرات، يقال: ما علمكم بذلك؟ إنهم لم يُحسّوا ذلك ولم يلمسوه ولم يشاهدوه بل يقولون: إن الذرة لا تُرى ولا بأكبر المجاهر، وأنا يعتمدون على آثار يزعمون أنها تحصل بسبب الذرة. وكلامهم له أصل في الضلالة عريق، فالمتكلمون قبلهم الذين ذمّهم علماء الإسلام غاية الذم وبينوا ضلالهم ذكروا ما سَمّوْه الجوهر الفَرْد، وهو أصغر شيء في المادة ولا يُرى فالمشكاة واحدة وهي مشكاة الضلالة. فالجهمية المتكلمة ذكر عنهم شيخ الإسلام من جنس ما يعتقده هؤلاء في الذرة قال رحمه الله في كتاب (النبوات) (ص107). فحقيقة أصل أهل الكلام المتبعين للجهمية أنه لا يُحْدُث شيئاً ولا يُفني شيئاً بل يَحدث كل شيء بنفسه ويفنى بنفسه.

ثم قال: وهذه الأصول هي أصول دينهم العقلية التي بها يعارضون الكتاب والسنة والمعقولات الصريحة، وهي في الحقيقة لا عقل ولا سمع كما حكى الله عن من قالوا: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ). ثم قال قدس الله روحه في الرد عليهم وهو رَدّ على أهل الذرة في هذا الزمان، قال: والخلق يشهدون إحداث الله لِما يُحدثه وإفناءه لِما يُفنيه، كالمني الذي استحال وفني وتلاشى وأحدث منه هذا الإنسان، وكالحبة التي فنيت واستحالت وأحدث منها الزرع، وكالهواء الذي استحال وفني وحدث منه النار أو الماء، وكالنار التي استحالت وحدث منها الدخان، فهو سبحانه دائماً يُحدث ما يُحدثه ويكوّنه ويُفني ما يُفنيه ويُعدمه. والإنسان إذا مات وصار تراباً فني وعدم، وكذلك سائر ما على الأرض كما قال: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) ثم يعيده من التراب كما خلقه ابتداء من التراب، ويخلقه خلقاً جديداً. ثم ذكر أن من ظن أن جَوَاهره (ذراته) لم يخلقها إذْ خَلَقَه بل جَوَاهر المني وجَوَاهر ما يأكله ويشربه باقية بعينها فيه لم يخلقها أو أن مادته التي تقوم بها صورته لم يخلقها إذْ خَلَقَه بل هي باقية أزلية أبدية لم يكن قد عرف أنه مخلوق محدث. (هذا بعينه هو مذهب أهل الذرة).

ثم قال: والعلماء ينكرون على من يقول: إن روح الإنسان قديمة أزلية من المنتسبين إلى الإسلام، وهؤلاء الذين يقولون: إن مادة جسمة باقية بعينها وهي أزلية أبدية أبعد عن العقل والنقل منهم. هذا هو مذهب أهل الذرة مع الفارق أن من يتكلم عنهم شيخ الإسلام ينسبون للإسلام ويُقرون بالخالق، وأهل الذرة معطلة دهرية ومقلِّدتهم من المنتسبين للإسلام يرومون الجمع بين الحق والباطل. وتأمل وصف شيخ الإسلام لمتكلمة الجهمية المطابق لأهل الذرة مع الفارق الذي تقدم ذكره، قال رحمه الله: ثم يَدّعون أن الجواهر جميعها أُبْدعت ابتداء لا من شيء، وهم لم يعرفوا قط جَوْهراً أُحدث لا من شيء كما لم يعرفوا عرضاً أُحدث لا في محل، وحقيقة قولهم أن الله لا يُحدث شيئاً من شيء لا جوهراً ولا عرضاً، فإن الجواهر كلها أُحدثت لا من شيء، والأعراض كذلك. والمشهود المعلوم للناس إنما هو إحداثه لما يُحدثه من غيره لا إحداثاً من غير مادة، ولهذا قال تعالى: (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) ولم يقل خلقتك لا من شيء، وقال تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء) ولم يقل خلق كل دابة لا من شيء. وهذا هو القدرة التي تبهر العقول وهو أن يقلب حقائق الموجودات فيُحيل الأول ويُفنيه ويُلاشيه ويُحدث شيئاً آخراً كما قال تعالى: (فَالِقُ الْحَبِّ

وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ). انتهى (¬1). وذكر رحمه الله عنهم أنهم ينكرون أن الله يقلب جنساً إلى جنس آخر، ويقولون: الجواهر كلها جنس واحد فإذا خلق النطفة إنساناً لم يقلب عندهم جنساً إلى جنس، بل نفس الجواهر هي باقية كما كانت. انتهى (¬2). وهذا بعينه هو مذهب أهل الذرة. ثم قال مما يبين ضلال هؤلاء وأولئك: وخاصيّة الخلق إنما هي بقلب جنس إلى جنس وهذا لا يقدر عليه إلا الله كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) الآية. انتهى. وبما أن خاصيّة الخلق هي بقلب جنس إلى جنس فالذي يقوله أهل الذرة وأسلافهم أن التغيّر في الحدوث والحادثات هو بالاقتران والافتراق وما يسمونه: التركيب الذري، ولأنهم لا يعرفون سوى المادة معرفة تليق بكفرهم حيث أحالوا لها الإحداث بنفسها. أما الذين يقولون إن أصل المواد أربعة وهي الماء، والنار، والهواء، والتراب، فقد أحالوا إلى محسوس كذلك أثبتوا قدرة خالق تبهر العقول حيث أنه ¬

(¬1) النبوات، (ص109). (¬2) النبوات، (ص110).

سبحانه يُصَرّف هذه المواد بقلب حقائقها وإحالتها وإفنائها وإحداث شيء آخرٍ ومُغايرٍ للأول كما ذكر الشيخ. وأي علم عند هؤلاء وأي خير عندهم؟ إنهم ضالون مُصلون، والعلم أتى به نبينا من ربنا، وقد أدرك منه السلف الحظ الوافر فعلموا وعملوا وحماهم الله من هذيان المعطلة الدهرية. وسوف أنقل كلاماً لشيخ الإسلام أيضاً يوضح ما عليه أرباب هذه العلوم من الضلال، قال رحمه الله: فأهل الكلام أصل كلامهم في الجواهر والأعراض مبني على مخالفة الحسّ والعقل، فإنهم يقولون: إنا لا نشهد بل ولا نعلم في زماننا حدوث شيء من الأعيان القائمة بنفسها. بل كل ما نشهد حدوثه، بل كل ما حَدَث من قبل أن يخلق آدم إنما تحدث أعراض في الجواهر التي هي باقية لا تستحيل قط، بل تجتمع وتتفرق (هذا الذي يُقرّره أرباب العلوم الحديثة تماماً إذْ أن التغير عندهم في المواد جواهرها وأعراضها إنما هو نتيجة الاجتماع للذرات والافتراق وأن الذرات باقية لا تستحيل كجواهر أولئك المزعومة غير أن الفرق بينهم اعترافهم بالخالق وبآدم وبأنهم ينتسبون للإسلام بخلاف هؤلاء الدهرية).

ثم قال شيخ الإسلام: والخلق عندهم الموجود في زماننا وقبل زماننا إنما هو جمع وتفريق لا ابتداع عيْن وجوهر قائم بنفسه، ولا خلْق لشيء قائم بنفسه لا إنسان ولا غيره، وإنما يخلق أعراضاً. ويقولون: إن كل ما نشاهده من الأعيان فإنها مركبة من جواهر كل جوهر منها لا يتميز يمينه عن شماله، وهذا مخالفة للحس والعقل. انتهى (¬1). فأولئك يقولون عن الجوهر الفرد: لا يتميز يمينه عن شماله وهؤلاء يقولون: الذرة لا تُرى ولا بأكبر المجاهر، فالمشكاة واحدة. وأهل الذرة يرون أنها لا تفنى ولا تعدم وانظر كلام شيخ الإسلام عن أمثالهم من الجهمية وأنها (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ). فقد ذكر عنهم أنهم يقولون: إنه لا يفنى ويعدم في زماننا شيء من الأعيان بل كما لا يحدث شيء من الأعيان لا يفنى شيء من الأعيان، فهذا أصل علمهم ودينهم ومعقولهم الذي بنوا عليه حدوث العالم وإثبات الصانع وهو مخالف للحسّ والعقل. انتهى (¬2). ومما يبيّن أيضاً مجاراة صاحب كتاب توحيد الخالق لنظريات المعطلة الضالة المضلّة وأنها بزعمه صحيحة وصالحة إذا قارنها الإقرار بأن الله خالقها يقول في (ص326) (توحيد الخالق). ¬

(¬1) النبوات، ص449. (¬2) النبوات، ص449.

(الذرة التي يتكون منها السديم مُركبة من جسيمات مختلفة واجتماع المكونات المختلفة في الذرة يدل على لحظة التقت فيها تلك المكونات، وإذَنْ فللذّرة بداية، وإذا كانت جسيمات الذرة قد خُلقتْ لتكوين الذرة وللذرة بداية فلا شك إذن أن لهذه المكونات بداية بِعكْس ما يظن الماديون). انتهى. يُقال: لقد تُكُلِّم قبل هؤلاء بما يُشبه الذرة وهو (الجوهر الفرد) وهو أصغر ما في المادة بزعمهم لكنه لا يُرى ولقد أنكر العلماء على المتكلمين ما انتحلوه مما سَمّوْه الجوهر الفرد واعتبروا طرقهم طرق ضلالة، ولقد صارت نهايتهم إلى سوء. كما تقدم من كلامهم عن أنفسهم. قال ابن تيمية في إبطال (الجوهر الفرد) الذي يُشبه (ذرة) هؤلاء. قال: وإذا كان الحيّز الواحد الذي أردته لا يتميّز ولا يُعلم به كان العلم بحلول الشيء فيه أو عدم حلوله باطلاً (كذلك يقال لهؤلاء: بما أن الذرة نفسها غير معلومة ولا تُرى فكيف ادّعيْتم أنها مكوّنة من جسيمات مختلفة تسمونها: البروتون والنترون والإلكترون؟).

ثم قال شيخ الإسلام: لأن العلم بحلول الشيء في محله فرع تصوّر المحل، فإذا كان المحل لا يُعلم تَوَحّده ولا يتميّز كان الحكم بثبوت الحلول فيه أو عدمه حكماً باطلاً فيكون الدليل باطلاً. انتهى (¬1). كذلك الذرة المزعومة كيف يُجعل لها تركيب وهي لا تُعلم ولا تتميّز؟ وإنما يتكلمون عن الآثار فقط. وقال أيضاً شيخ الإسلام في ردّة ما يسمى (الجوهر الفرد) وإبطاله. وأما العقل فهذا الواحد الذي وصفوه يقول لهم فيه أكثر العقلاء وأهل الفطر السليمة: إنه أمر لا يُعقل ولا له وجود في الخارج، وإنما هو أمر مقدّر في الذهن، ليس في الخارج شيء موجود لا يكون له صفات ولا قَدّر ولا يتميّز منه شيء عن شيء بحيث يمكن أن لا يُرى ولا يُدْرَك ولا يُحاط به وإن سماه المسمي جسماً. انتهى (¬2). تأمله فإنه منطبق على ذرة هؤلاء الخيالية، ولسنا نُنكر الآثار الحاصلة لكنها ليست منها لأنه لا وجود لها إلا في الذهن. ولذلك فإن الزنداني لما رام إثبات الخالق سبحانه مع الإقرار بالذرة المزعومة التي هي في الأذهان لا في الأعيان لم يأت ببرهان وإنما غايته أن ذكر أن اجتماع المكوِّنات المختلفة في الذرة يدل على وقت التقت فيه ¬

(¬1) نقض التأسيس 2/ 308. (¬2) نقض التأسيس 1/ 483.

تلك المكوِّنات فهذا دليل البداية والخلق عنده، وليس كذلك، بل كلامه هذا أغرى الكفرة بكفرهم وأضل المسلمين عن ربهم. فيقال له: هم لا يُسَلّمون بالالتقاء ولا ببدايته وإنما هذه الذرة المزعومة بمركباتها أزليّة عندهم ولو أقروا بأن لتركيبها وقت بدأ فيه فلا يقرّون أن هذه المركبات مخلوقة أصلاً وأن لها بداية أصلاً. يعني أنهم لا يقرون بخالق للإلكترون المزعوم والبروتون والنيترون، فهذه الأجزاء الثلاث عندهم أزليّة فكيف يُحْتج عليهم بنفس التركيب؟ بل هذه طريقة المتكلمين (كل مُحْدَث لا بد له من محدِث). وإنما الحجة والبرهان أن هذه الذرة لا وجود لها إلا في أذهانهم، وقد تقدم الكلام في الجوهر الفرد وهو أصغر شيء بزعمهم في المادة وأنه لا يتميز يمينه عن شماله ولا يُرى، قال تعالى: (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ). وقد نهى العلماء أن يُحْتَجَّ على أهل الباطل بحجج ضعيفة حيث أن ذلك يُغْريهم بباطلهم، كيف بمن يحتج عليهم بإقراره بباطلهم وبُفْهمهم ويُفهم المسلمين أن الخالق خلق المخلوقات على الصورة التي يذكرون وهي: السديم وأنه متكون من ذرات وأنه يدور وانفصلت منه الأرض والكواكب، وهكذا تجده مسايراً لهم خطوة خطوة وغايته إثبات خالق، إن الجمع بين الحق والباطل لا يكون.

ولقد ضل خلائق في شأن الذرة وما زعموا أنها تتركب منه من مكونات تدور حول نواتها حيث سايروا علوم الملاحدة فنتج لديهم أن حركة الكون آلية ميكانيكية وأنها عبارة عن اجتماع وافتراق وحركة وسكون لا تحتاج إلى خالق. وإنما الأصل فاسد ولذلك قام عليه بناء منهار، فالذرة بإقرارهم لا تُرى ولا بأكبر المجاهر، والمادة أصلاً ليست تتكون من الذرة. وقد ذكر شيخ الإسلام أن القول بالجوهر الفرد وهو ذرة هؤلاء باطل لم يقل به أحد من سلف الأمة ولا جمهور الأمة. قال قدس الله روحه: فالقائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر التي لا تقبل التجزي كما يقوله كثير من أهل الكلام وإما من جواهر لا نهاية لها كما يُحكى عن النظام فالقائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر يقولون: إن الله لا يُحدث شيئاً قائماً بنفسه وإنما يُحدث الأعراض التي هي الاجتماع والافتراق والحركة والسكون وغير ذلك من الأعراض، ثم من قال منهم بأن الجواهر مُحدَثة قال: إن الله أحدثها ابتداء ثم جميع ما يحدثه إنما هو إحداث أعراض فيها لا يُحدث الله بعد ذلك جواهر، وهذا قول أكثر المعتزلة والجهمية والأشعرية ونحوهم. ومن أكابر هؤلاء من يظن أن هذا مذهب المسلمين ويذكر إجماع المسلمين عليه وهو قول لم يقل به أحد من سلف الأمة ولا جمهور الأمة

بل جمهور الأمة حتى من طوائف أهل الكلام ينكرون الجوهر الفرد وترَكُّب الأجسام من الجواهر. انتهى (¬1). لاحظ أن الذين يتكلم عنهم شيخ الإسلام يُقرون بالخالق ولكنهم على هذا الضلال الذي هو مثل ما يعتقده أهل الذرة. ولزيادة بيان أن الذرة هي الجوهر الفرد الذي أنكره السلف قال شيخ الإسلام: وهؤلاء القائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة المشهور عنهم بأن الجواهر متماثلة بل ويقولون أو أكثرهم: إن الأجسام متماثلة لأنها مركبة من الجواهر المتماثلة وإنما اختلفت باختلاف الأعراض وتلك صفات عارضة لها ليست لازمة. انتهى. كذلك أهل الذرة اختلاف المواد عندهم باختلاف التركيب الذري كما يزعمون وهو اختلاف الأعراض الذي ذكره الشيخ عن أولئك. يعني رحمه الله أن جواهر المادة باقية وإنما تغيرت صفاتها بالاجتماع والافتراق والحركة والسكون، وهذا بعينه هو كلام هؤلاء وهو باطل مبني على خيال لا وجود له في الخارج. وفصل الخطاب في هذه المسألة العظيمة التي ملأت في زماننا الكون لكنه الكون الخيالي فصل الخطاب فيها ومذهب السلف هو ما قاله شيخ ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 17/ 244.

الإسلام في رده على أمثال هؤلاء قال: إن القول الذي عليه السلف وجمهور العقلاء من أن الأجسام تنقلب من حال إلى حال هو قول الفلاسفة والأطباء. ثم ذكر الحق في هذه المسألة فقال: وهذا القول وهو القول في خلق الله للأجسام التي يُشاهد حُدوثها أن يقلبها ويُحيلها من جسم إلى جسم هو الذي عليه السلف والفقهاء قاطبة والجمهور. أنظر الفرق الذي ذكر الشيخ وهو أن مذهب السلف أنه سبحانه وبحمده يحيل المواد من جسم إلى جسم وليس بالتحول في التركيب الذري وسوف أنقل ما يوضح هذا من كلامه. قال: ولهذا يقول الفقهاء في النجاسة، هل تطهر بالاستحالة أم لا؟ كما تستحيل العذرة رماداً والخنزير وغيره ملحاً ونحو ذلك. يريد الشيخ بكلامه هذا أنه مُتَقرّر عند فقهاء أهل الإسلام أن هذه المواد تستحيل إلى مواد أخرى وإنما نقاشهم في شأن طهارتها ونجاستها، وهذا هو قلب المادة إلى مادة أخرى. يوضحه قوله: والمني الذي في الرِّحم يقلبه الله علقة ثم مضغة، وكذلك الثمر يُخلق بقلب المادة التي يُخرجها من الشجرة من الرطوبة مع الهواء والماء الذي نزل عليها وغير ذلك من المواد التي يقلبها ثمرة بمشيئته وقدرته.

وكذلك الحبة يفلقها وتنقلب المواد التي يخلقها منها سنبلة وشجرة وغير ذلك، وهذا خَلْقه لِما يخلقه سبحانه وتعالى كما خلق آدم من الطين فقلب حقيقة الطين فجعلها عظماً ولحماً وغير ذلك من أجزاء البدن، وكذلك المضغة يقلبها عظاماً وغير عظام قال الله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) (¬1). فقد ظهر أن الله سبحانه يخلق المواد بقلب بعضها إلى بعض ليس باختلاف تركيب الذرات الخيالية. قال ابن القيم رحمه الله: فعناصر العالم ومواده مُنْقادة لربها وفاطرها وخالقها يُصرّفها كيف يشاء ولا يسْتعصي عليه منها شيء أراده، بل هي طوْع مشيئته مُذَلَّلَة مُنقادة لقدرته، ومن أنكر هذا فقد جحد رب العالمين وكفر به وأنكر ربوبيته. وذكر ابن تيمية معنى الجوهر الفرد وهو أن الأجسام تتناهى في تجزئها وانقسامها حتى تصير أفراداً وهذا هو زعم أهل الذرة. ¬

(¬1) مجموعة الفتاوى 17/ 244.

ثم قال رحمه الله: ومعلوم أن هذا القول لم يقله أحد من أئمة المسلمين لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ولا أحد من أئمة العلم المشهورين بين المسلمين، وأول من قال ذلك طائفة من الجهمية والمعتزلة. انتهى (¬1). وقال رحمه الله عن الجوهر الفرد: وهذا بَنَوْه على أن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل القسمة، وقالوا: إن الأجسام لا يستحيل بعضها إلى بعض. وجمهور العقلاء من السلف وأنواع العلماء وأكثر النّظار يخالفون هؤلاء فيما يثبتون من الجوهر الفرد، ويثبتون استحالة الأجسام بعضها إلى بعض، ويقولون: بأن الرب لا يزال يُحدث الأعيان كما دَلّ على ذلك القرآن. ولهذا كانت هذه الطرق باطلة عقلاً وشرعاً وهي مكابرة للعقل. انتهى (¬2). ¬

(¬1) مجموعة الفتاوى 17/ 316. (¬2) مجموعة الفتاوى 16/ 270.

الجناية على القرآن

الجناية على القرآن ثم إن صاحب كتاب توحيد الخالق يتلقّن من أرباب العلم الحديث كتبهم وأبحاثهم وكشوفاتهم بإحدى يديه وبيده الأخرى المصحف فينظر ما قال الكفرة ثم ينظر في أي صفحة مفتوحة من المصحف لعل بصره لا بصيرته يقع على شيء يؤيد بزعمه هذه الكشوفات ولو بالقهر والغصب، فالمهم إعجاز القرآن. الذي فتحت أبوابه علوم الكفرة في هذا الزمان بزعمه. لقد تكلم عن أعضاء الإنسان كلها وتكلم عن النبات وعن الجمادات، وكل مسألة لا بد من آية من القرآن تؤيدها فيذكرها صاحب كتاب توحيد الخالق بعد إتيانه بما لم تستطعه الأوائل، لا بُد على منهج صاحب كتاب توحيد الخالق من معامل ومختبرات ومناظير وكيماويات وفيزيائيات وأهم من ذلك أن نسير على مخططات وترتيبات الملاحدة خطوة خطوة ليحصل لنا إيماناً بالقرآن لم يحصل لمن قبلنا. ليعلم صاحب كتاب توحيد الخالق وأمثاله أن إيمان المؤمنين بربهم وبنبيهم ودينهم لم يتوقف فيما مضى على هذه الطرق المحدثة التي تحتاج معرفتها إلى مقدمات تُفسد الإيمان وهي في نفسها ضلال.

فالسالك لهذه الطرق يُفني عمره ويُخاطر بدينه ولا سلامة له من غوائلها وفي الآخرة تحصل له نتائج هزيلة ركيكة من جنس ما يقال: السيف أمضى من العصا، مع أنه لا تمكن السلامة من باطل هذه العلوم. وقد نظرت في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي يرد به على أهل المنطق فرأيته مرتين وهو يصف اعوجاج طرقهم وبُعدها وسوء نتائجها يذكر الذي يُسأل أين أذنه؟ فيلْوي يده من خلف رأسه ليشير إلى أذنه، يعني أن الأمر أيسر وأسهل وأقرب من فعل هذا الأحمق، كذلك فإن هذه الطرق المحدَثة لفهم القرآن المزعوم وإعجازه الموهوم ليست عِلّتها فقط طول مُقَدِّماتها وتعسّر فهمها والانحطاط إلى مستويات مُتَدّنّية للمؤمن بمجارات الكفار وتعظيمهم وظن أن الذي فُتِحَ عليهم خير يستحق الالتفات إليه، وإنما البلاء أعظم فإن كشوفاتهم كفيلة ضامنة لفساد العقيدة السليمة. إن حاجة المسلمين اليوم الكبرى أن يردوا الكفار إلى أماكنهم لا أقول: الطبيعية وإنما أقول: أماكنهم الدينية، إنهم في كلام ربنا أضل من الأنعام فما بالنا جعلناهم سادة الأنام، وعلومهم مناراً هادياً لمن يروم فهم القرآن والإسلام؟. الحقيقة أن هذا لا يُستغرب لأنه من ثمار غربة الدين.

ضلال في نشأة الكون

ضلال في نشأة الكون وفي صفحة 183 تكلم صاحب كتاب توحيد الخالق في كتابه تحت عنوان: (قدَّر فهدى) تكلم عن انفصال الأرض عما في السماء فقال: (فهدى الأرض عند انفصالها عما في السماء من أجسام أن تنفصل بالقدْر المناسب). وقال أيضاً في نفس الصفحة: (إن انفصال الأرض عما في السماء كان وِفْق تقدير محكم) وقال في صفحة 342 في كتابه هذا تحت عنوان: (آيات صريحة تسبق العلوم في تقرير حقائق ثابتة) قال: انفصال الأرض: لقد ثبت لدى العلماء بصفة فعلية أن الأرض انفصلت عما في السماء). يقال لصاحب كتاب توحيد الخالق: هؤلاء الذين تسميهم علماء لو أنزلتهم منزلتهم في القرآن (إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ)، لما أطلقت عليهم هذا الاسم بل تُقَيِّده بما يبينه فتقول: علماء الكفار الضلاّل، أو علماء الملاحدة ونحو ذلك، لأن هذا الإطلاق لا ينصرف إلا لعلماء الشريعة، ثم إن تعظيمكم لهم وإنزالكم إياهم في غير منازلهم أوْرَث ذلاً نفسياً ظهوره بَيِّن في نفوس أهل الوقت.

حيث صورتموهم لهم بصورة من يستحق المدح ويسْتوجب التعظيم إذ أن الله فتح عليهم العلم، بمخلوقاته بما لم يفتحه للمسلمين وهم أضل من الحمير، وكفى بهذا شراً. والمراد كلامه عن الأرض وانفصالها عما في السماء كما زعم، وقد ذكر ذلك أيضاً في كتابه الذي سماه (العلم طريق الإيمان)، وهو إنما ينقل من الملاحدة وكأن كلامهم قرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فهو يعتقد ويُقرّر نظريات انفصال الأرض عما في السماء مما يسميه الملاحدة (السديم)، وذكر أن انفصال الأرض والكواكب من غازات وأتربة كانت تدور في الكون وذلك في كتابه الذي سماه: (العلم طريق الإيمان) ص42. لقد خاض صاحب كتاب توحيد الخالق فيما خاض به الملاحدة في شأن المخلوقات وبدايتها ونهايتها ولكن خوض ثماره الضلال والإضلال وعاقبته لا شك خسران وَوَبال، لأنه سَيْر في ظلمات لا يهتدي السالك فيها ولا ينجو من آفاتها، وإن كثيرين سلكوا تلك الطرق المظلمة فأظلمت قلوبهم وضلّت عن معرفة خالقهم فأنكروه وجحدوه. وكثيرون من أهل هذه الطريق صار أحسن أحوالهم الشك، وحسْبك به مصيبة، ويأتي إن شاء الله الدليل على بداية المخلوقات وأنها ضد

كلامهم في قوله تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) الآيات. إن ما خاضوا به من بداية الكون من أول خطوة باطل وكذب وضلال مبين، ويكفي قول صاحب كتاب توحيد الخالق: (إن نشأة الأرض والكواكب كانت منذ 4.5 بليون سنة تقريباً) (¬1). نحن ولله الحمد لا نقبل مثل هذه الإحالات الكاذبة من أعداء الله ورسوله ولسنا بحاجة إلى أن يخبرونا عن بداية الكون ولا نهايته لأن الكفار وكفرهم شر والشر لا يأتي بالخير، ولقد أضلّهم إبليس بمكره وكيْده حتى عن إثبات وجود الخالق سبحانه بسبب هذه العلوم، وهم لو أثبتوا وجوده ما خرجوا عن دين أبي جهل. نحن عندنا كلام ربنا خالق الكون ومُبْدعه وقد أخبرنا عن بداية الكون ونهايته بما يكفينا ويغنينا عن دَجَل الدجاجلة وخوض الخائضين مما يزيدنا إيماناً بربنا وعلماً بكمال قدرته وحكمته وجميع أسمائه الحسنى من لطفه بعباده بما خلق لهم وسَخّر. لم يُحْوِجْنا الله ولا نبينا صلى الله عليه وسلم للكفار، فالعلم الذي يستحق أن يسمى علماً عندنا وهو وحي ربنا خالق الكون العليم به سبحانه، والحقيقة أن ما تهوّك به المتهوكون من هذا العلم الحديث وكشوفاته ما هو إلا فتنة. ¬

(¬1) العلم طريق الإيمان، (ص42).

لقد ذكر الله في كتابه بداية المخلوقات وأنها مادة وهي (الدخان) وقد ذكرت في (هداية الحيران) كلام شيخ الإسلام في بداية المخلوقات أنقله هنا: قال رحمه الله: وأهل الملل متفقون على أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام وخلق ذلك من مادة كانت موجودة قبل هذه السموات والأرض وهو (الدخان) الذي هو البخار كما قال تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) وهذا الدخان هو بخار الماء الذي كان حينئذ موجود كما جاءت بذلك الآثار عن الصحابة والتابعين وكما عليه أهل الكتاب (¬1). فليحذر المسلم من ملايين وبلايين الدهرية المعطلة هي والله متاهة وضلالة وخيالات مضلمة، وإنك لا تجد في كلام السلف هذه الخيالات التي هي إحالات أعداء الله، فهم يقصدون بذلك تعظيم نفوسهم وعلومهم وليَسْتَوْطِن اليأس قلب الناظر في علومهم وكشوفاتهم من أول نظرة فيها وأول خطوة يخطوها في طريقهم أن الأمر كله مُسَلَّم لهم بلا منازعة ولا نظر ولا فكر، ولذلك لجأوا إلى هذه الإحالات الشيطانية. ¬

(¬1) مجموعة الفتاوى 5/ 564.

وليحذر العاقل من هؤلاء النقلة المقلِّدة إذْ أن غايتهم أن ينقلوا كلام الملاحدة لا أقول: على عِلاّته لأنه كله عِلّة لا دواء لها إلا الرجوع إلى الوحي المطهر بتفسير السلف الصالح، وأعجب الآن مما يقول هذا: أما أقرب نجم إلينا فيبعد عنا أربع سنوات ضوئية، وأما أبعد شبه نجم (الكازار) فتفصله عنا مسافة تزيد عن عشرة مليارات سنة ضوئية، فالإنسان حتى الآن لم يكتشف من الفضاء إلا مقدار نقطة ماء من محيط، ولقد أنبأ المولى في تنزيله بأن الإنسان سينفذ من أقطار السموات والأرض بواسطة سلطان العلم، كما أنبأ أيضاً بأن النفاذ من أقطار السموات يبقى محفوفاً بالمخاطر، ومنها تعرُّض المركبات ومن فيها لشواظٍ من النار والنحاس: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ) (¬1). فالإنس والجن لن يستطيعا استكشاف جميع أقطار السموات والأرض أو العيش طويلاً خارج أقطار الأرض، وتاريخ اكتشاف الفضاء لم يخلُ يوماً من المآسي، ومنها انفجار المكوك الفضائي الأميركي (تشالنجر) وبالرغم من أن علماء الفلك يخططون اليوم للنفاذ إلى الأجرام البعيدة بواسطة محطات فضائية، إلا أن قدرتهم على سبر آفاق الكون تبقى محدودة جداً بالنسبة للمقاييس الكونية الهائلة، ولو سلّمنا جدلاً، ¬

(¬1) الرحمن، آية: 35.

كما يقول أحد علماء الفلك، أن باستطاعة العلم بناء مركبة فضائية تصل سرعتها إلى سرعة الضوء، أي 300 ألف كلم في الثانية (وهذا في حدود الاستحالة، فأسرع المركبات اليوم لا تتجاوز سرعتها 30 كلم في الثانية)، فسيبقى الإنسان مدة أربع سنوات على ظهر مركبة تسير بسرعة الضوء حتى يصل إلى أقرب نجم إلينا وثلاثين ألف سنة حتى يصل إلى مركز مجرّتنا اللبنية، و200 ألف سنة حتى يدور حولها، وعشرة مليارات سنة ونيّفاً ليصل إلى أبعد نجم استطاع أن يرصده، و40 مليار سنة ليدور حول هذا الكون، هذا إن بقي الكون بدون توسُّع منذ انطلاقه!!! انتهى (¬1). واعلم أن علوم هؤلاء الضلال وكشوفاتهم المحصورة بخيالاتهم المظلمة تُغَيِّر الفطرة، وقد ذكر شيخ الإسلام أن عوام النصارى تنكر فطرهم ما يقوله علماؤهم عن الله ولكنهم يتبعونهم فتتغير فطرهم. قال رحمه الله في نقض التأسيس 2/ 534. مع أن هذا حين تقوله علماؤهم لعامتهم تنكره فطرهم وتدفعه عقولهم لِما يجدون في أنفسهم من العلم الضروري بنفي ذلك (المراد هنا أن الفِطَر تُنكر دوران الأرض وتنكر اتساع الكون ببلايين المجرات لأنه مخالف للفطرة من طلب الرب في العلو دائماً وصغر الكون بالنسبة ¬

(¬1) علم الفلك القرآني، (ص125).

لخيالات وهذيانات الملاحدة) ثم قال شيخ الإسلام: فإنهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) فالنصارى مولودون على الفطرة التي تُنكر ذلك، ولكن الدين الذي وجدوا عليه آباءهم هو الذي أوْجب تغيير فطرتهم. انتهى. والمراد منه بيان تغيير الفطرة من طلب الرب في العلو دائماً حيث أن علوم المعطلة مُغَيّرة للفطرة، مُفسدة للدين ولما تكلم شيخ الإسلام عن أمثال هؤلاء المعطلة قال: فإذا دُفع صِِيَالهم وبُيِّن ضلالهم كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله (¬1). وانظر الإحالات الضالة المضلة في العالَم العلوي والسفلي: فالأرض والكواكب في علومهم نشأت منذ 4.5 بليون سنة والمجرات بلايين وبينها مسافات تُقَدّر بالسنين الضوئية وسرعة الضوء، بزعمهم ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية الواحدة. وبعض جسيمات الذرّة لا يُعَمّر في الذرة أكثر من عشرة أجزاء من مليون جزء من الثانية، وقد تقدم ذكر هذا الهذيان وأنه لا يُحيل مثل هذه الإحالات إلا من لا يدري ما يخرج من رأسه. ومن الإحالات العجيبة الاستدلال البعيد ما ذكره صاحب كتاب توحيد الخالق عند قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) قال: ¬

(¬1) نقض التأسيس 2/ 592.

ولقد ثبت لدى الباحثين أن بعض البكتيريا تستطيع الحياة بدون هواء غير أنه لا يمكن مطلقاً أن توجد حياة بدون ماء كما تشير الآية إلى ذلك من قبل أن يعرف البشر شيئاً من ذلك (¬1). صاحب كتاب توحيد الخالق يريد أن يغصب آيات القرآن لمجاراة علوم الكفار فيقول بالقرآن برأيه، والآية على تقدير أن ما قاله في شأن ما لا يُرى بالعين صحيح فلا تدل عليه بوجه من الوجوه وإنما هو تأويل كلام الله على غير مراده سبحانه بل على هزليات لا يخاطب الله عباده بمثلها، فإن المراد بالآية أن أصل الأحياء كلها الماء، والسنة تُفسر القرآن وتوضحه فقد ذكر ابن كثير في تفسيره لهذه الآية بعد أن ذكر أن معناها أن أصل الأحياء هو الماء ذكر حديث أبي هريرة قال: قلت يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرّت عيني فأنبئني عن كل شيء؟ قال: (كل شيء خُلق من ماء) (¬2). قال ابن كثير بعد أن أوْرده: إسناده على شرط الصحيحين فالذي جاء في الحديث وهو مبين للقرآن أن أصل الأحياء هو الماء وانظر إلى أين ذهب صاحب كتاب توحيد الخالق. وسوف يأتي من إحالات صاحب كتاب توحيد الخالق معاني الآيات ما يبيّن كيف يكون الضلال والإضلال. ¬

(¬1) توحيد الخالق، (ص343). (¬2) رواه الإمام أحمد في مسنده (2/ 295، 493) والحاكم في مستدركه (4/ 176). الحديث.

لقد تكلم سلف هذه الأمة في معاني القرآن والحديث وبعضهم تَوَسّع في ذلك لكنهم مع ذلك لم تتزيف عقولهم إلى مستوى أن يتلقّنوا من الكفرة تخريفهم وهذيانهم مثل هذا الزمان. تكلموا في عمر الدنيا وما تجاوزوا سبعة آلاف سنة. وتكلموا في الفضاء وما تجاوزوا مسيرة خمسمائة عام وذلك يقارب 9 ملايين كيلو متر حسب اصطلاح أهل الوقت، وتكلموا في الأرض ونشأتها والسموات ولا يوجد في كلامهم ما نراه في كلام هؤلاء الدجاجلة الذين فرحوا بما عندهم من العلم واحْتالوا بهذه الإحالات ليُسَلَّم لهم الأمر. ونبينا صلى الله عليه وسلم لم يتركنا عيالاً على المعطلة في معرفة مخلوقات ربنا. وتكلم العلماء في الأيام المذكورة في القرآن وما تجيء المسافات والأزمنة التي يذكرونها قِطْرة في بحور هؤلاء الكفرة. أتكون خزائن العلم مغلقة عن خير القرون ومن بعدهم الذين هم خير أمة أخرجت للناس وأُعطي مفاتيحها الملاحدة المعطلة ويكون السلف في جهالة في معرفة مخلوقات ربهم من الصحابة فمن بعدهم؟ يقرءون آياتاً لا يعرفون معناها، ويتفكرون في خلق السموات والأرض على عماية (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى) ومن يلحق غبارهم في العلم بالمخلوقات وخالقها؟.

ومن الأمثلة أيضاً ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية عن استواء الله على العرش بعد خلقه السموات والأرض في ستة أيام فذكر ألوف السنين، قال رحمه الله: وقد أخبر أنه استوى عليه (يعني العرش) لما خلق السموات والأرض في ستة أيام وأخبر بذلك عند إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بألوف السنين، (ولم يذكر الملايين والبلايين). انتهى (¬1). وتتميماً للفائدة وإن كان الذي سوف أذكره من كلام شيخ الإسلام ليس هو موضوع البحث لكن قد يتساءل الناظر في الآيات الواردة في ذكر استواء الرب سبحانه على عرشه بعد خلق السموات والأرض فيقول في نفسه: أين كان سبحانه قبل ذلك؟ أو يتخيل أن يكون الله داخلاً في المخلوقات أثناء خلقها أو بعد خلقها فهذا كله باطل، فقد ذكر شيخ الإسلام في موضع آخر من فتاويه أن الرب سبحانه كان عالٍ على العرش قبل خلق السموات والأرض وإنما حصل الاستواء عليه بعد خلق السموات والأرض. والمراد هنا ذكر الأزمنة والمسافات وأن السلف لم يتلاعب بهم الشيطان كما تلاعب بعقول هؤلاء. ¬

(¬1) الفتاوى 5/ 579.

ولما كان الكلام على دَعْوى انفصال الأرض عما في السماء وتقرير صاحب كتاب توحيد الخالق وغيره ما يقوله الملاحدة في ذلك وتلمّسهم ما يدل على ذلك من القرآن بزعمهم مثل قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا) وقوله تعالى: (أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا). يبحث صاحب كتاب توحيد الخالق عن آيات يغصبها لتجاري علوم الملاحدة ويزعم أن ذلك من إعجاز القرآن وأنه يُوجب الإيمان. ولقد تكلم هو وكثيرون غيره في بَدْء الخلق وفي وصف الأرض وما فوقها بكلام هو من أخطر الكلام وأضره على عقيدة المسلم. والآيات المذكورة لا تدل على ما ذهبوا إليه فإن كلام السلف فيها مخالف من كل وجه لكلام هؤلاء فآية سورة الأنبياء كلام السلف فيها ابن عباس وعطية العوفي وأبو صالح ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ويحيى وابن كثير كلامهم في الآية أن السموات والأرض متصل بعضها ببعض ففتق هذه من هذه فجعل السموات سبعاً والأرض سبعاً وفصل بين السماء الدنيا والأرض بالهواء، ومعنى (رتقاً) أن السماء لا تمطر والأرض لا تُنبت ففتق هذه بالمطر وفتق هذه بالنبات، وأن السماء

واحدة ففتق منها سبع سموات وكانت الأرض واحدة ففتق منها سبع أرضين، وأنه فصل بين الأرض والسماء بالهواء. هذا خلاصة كلام المفسرين في الآية وقد ذكر ابن كثير رحمه الله وهو مخالف لتخرصات ودجل الملاحدة فالسلف تكلموا عن بداية الخلق على نور من خالقه، ففسروا آيات القرآن التي ذكر الله فيها بداية تكوينه هذا الكون وهم مُقرون بالخالق وقدرته الباهرة على الخلق والتكوين وتكلموا بذلك على ما يقتضيه كلام الخالق نفسه سبحانه لا آرائهم وكشوفاتهم فجاء كلامهم كلام أهل علم وتقوى وَوَرَع وبصائر فذة فأصابوا الحق في العلم بالمخلوقات كما كانوا على الإصابة والسداد في العلم بخالقها إذْ أنهم لم يتَعَدَّوا طورهم ولا حَكّموا آرائهم ولا ركنوا في معرفة مخلوقات الخالق إلى الجاحدين له المنكرين لوجوده، حتى أرواحهم ينكرونها، وأي خير يُرجى من المعطلة؟ إن الشر لا يأتي بالخير. هذه طريقة السلف في الكلام في الكون، أما المعطلة فمن أول خطوة ينظرون إلى الكون على أنه لا خالق له فتخرصوا في كلامهم في بداية الكون وأصله كلاماً يليق بهم وهم نَضْحُ آنيتهم وهو نتيجة ظلمة أفكارهم فزاد ضلالهم وأضلوا من قلَّدهم.

ولذلك تكلموا في أزمان سحيقة لا حقيقة لها وإنما هي خيالات في أذهانهم الخاوية، كما تكلموا في أبعاد خيالية مُتناسبة مع تلك الأزمان وكل ذلك صور مرسومة في أذهانهم لا وجود لها في الخارج. والصور الذهنية الخيالية لا حَدَّ لها وهي تذهب في الماضي الخيالي السحيق، والمستقبل الخيالي البعيد، بل والحاضر المباشر العتيد، كل ذلك في مجال التصوّر والخيال لا حدّ له ولا ضابط. والمراد أنهم حاولوا في الماضي على أبعاد خيالية سحيقة وقد مَرَّ كلام صاحب كتاب توحيد الخالق أن الأرض والكواكب نشأت منذ 4.5 بليون سنة. أصل الكون عندهم هو السديم أو الضباب الكوني أو الغبار أو الدخان، وهذه كلها مواد متشابهة، ويزعمون أن هذه المادة الغازية كانت تدور بسرعة فانفصلت منها الكواكب ومن ضمنها الأرض. وصارت هذه المنفصِلات تدور بنفس الطريقة والوجهة التي عليها المادة الأولى التي انفصلت عنها حسب نظرية نيوتن، وبعد الملايين والبلايين من السنين بردت الأرض وتصلّبت وصارت صالحة للحياة، ومن هنا يُكمل الداروينيون المنظومة فيبدأ طور الأميبا إلى آخر الدّجَل. وإياك أن تسأل عن السديم من أين جاء أو من أوْجده؟ أو من الذي جعله يدور فكل هذا لا يهم سالك طريق القوم إنما المهم أن نتابع ونسكت لنحظى بالشرف الرفيع والعزّ المنيع.

هذا الطريق سار عليه أكثر أهل هذا العصر غايتهم أن ينظروا ما يصل إليهم من نظريات هذا العلم الحديث مُسَلِّمين لأهله أزمّتهم مُعَظمين لهم ومُبَجلين، ويَرون أن الاعتراض على نظرياتهم وكشوفاتهم لا يُفكر فيه إلا مُحَنَّط حسب تعبيرهم، كيف يُعْترض على من غزوا الفضاء ووصلوا إلى القمر وغاصوا في البحار وكشفوا المجهول، وأذهلوا بحضارتهم العقول، إن الاعتراض على هؤلاء السادة مرفوض غير مقبول. هذا الصنف من المقلِّدَة الأتباع وَطَّنوا نفوسهم على ألا يرفعوا رأساً أمام السادة ولا يلتفتوا إلى مُعترض عليهم إذْ أحسن أحواله عندهم أنه جاهل، فهؤلاء رضوا بذل نفسي لا يفارق قلوبهم. وكثيرون منهم فارقوا دينهم حيث ولجوا بحاراً لُجّيَّة، إذْ أن هذه العلوم تبدأ بالتعطيل وتنتهي إليه، إنه لا ذكر لله ولا مجرد الاسم في نظرياتهم وكشوفاتهم وعلومهم، لأنهم من أول خطوة لا يعترفون ولا يقرّون بخالق لمعارضة ذلك لأصولهم التي أهمّها عدم الإيمان والإقرار بغير المحسوس، لكن ما يوجد في علومهم من ذكر الله من آيات القرآن أو الأحاديث فهذا من تصرف المترجمين لتروج البضاعة بهذا الخداع والتغرير، ويا ويلهم من هذا اللبس. أما الصنف الآخر فهم الذين خلطوا هذه العلوم الحديثة والكشوفات بعلم الدين وهم الذين أقحموا آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم إقحاماً

وغصبوها غصباً لتجاري هذه العلوم وتُماشيها، وخطر هؤلاء عظيم إذْ أنهم يرومون الجمع بين الحق والباطل، والنور والظلمة، مع أن الأضداد ما تزال ولن تزال متضادّة مُتنافرة لا سيما وأن الذي بين الحق والباطل زيادة على المضادة والمنافرة المباغضة لكن رام الجمع من لم يُحَكِّم براهين السمع. لقد تقدم ذكر بعض آيات خُلِطَتْ مع بضائع مُزْجاة فاسدة لِتُرَوِّجها ويأتي غيرها: والناس أكثرهم فأهل ظَوَاهرٍ ... تبدو لهم ليسوا بأهل معاني فهُمُ القشور وبالقشور قَوَامهم ... واللّب حَظُّ خلاصة الإنسان ونرجع الآن إلى الانفصال المزعوم، بما أن السديم يدور فكل ما انفصل عنه يدور والأرض كذلك، وهنا أعيد قولي المتقدم وهو: وإياك أن تسأل لعلمي أن هذا الكلام مرفوض عند الصنف الثاني الذين تقدم ذكرهم إذْ أنهم يقولون: بل اسأل يا أخي عن هذه العلوم والكشوفات تأتيك الإجابات آيات من القرآن وأحاديث عن الرسول، محفوفة قبلها أو بعدها بعبارة: (من علّم النبي الأمي منذ 1400 سنة بأن كذا وكذا). تقدم أن السلف من المفسرين وغيرهم تكلموا في الكون على مقتضى كلام مُكَوِّنِه وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، أما هؤلاء فلا يؤمنون بالأنبياء ولا

يلتفتون إلى أخبارهم، ولذلك هاموا بأودية ضلالة لا تُحَدُّ بحدود، ضلوا وإن كانوا من قبل في ضلال وأضلوا كثيراً. فيقال: خُرافة السديم باطلة من أولها إلى آخرها وأدَلّ دليل على بطلانها بلايين السنين الخيالية المزعومة وقد تقدم كلام السلف في الأزمنة وحاشاهم من هذا الهذيان فلا بد أن يكون هؤلاء أهدى من سلف الأمة سبيلاً، وأدَلّ دليل أيضاً على بطلان هذه النظرية من أولها إلى آخرها أن الأرض ثابتة ساكنة قارة لا تدور لا دورة يومية حول نفسها كما زعموا ولا دورة سنوية حول الشمس فكل هذا باطل وقد بيّنت بطلانه في كتاب: (هداية الحيران في مسألة الدوران). فالذي يعتقده أهل الإسلام في الكون أنه مخلوق من مادة وهي (الدخان) واستدلوا بقوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) وهو دخان لا يدور، وتقدم كلام شيخ الإسلام. فموافقة الملاحدة على وجود هذه المادة قبل المخلوقات لسنا ولله الحمد بحاجة إليها ولا يتوقف تصديقنا ربنا ونبينا على ما يُقره الكفار أو يُنكرونه.

والآن جاء مفترق الطرق فدخان الملاحدة أو سديمهم أو غبارهم (جاء لا يعلم من أين ولكن جاء) (¬1)، إنه جاء من نفسه وصار يدور من نفسه وانفصلت عنه الكواكب الأسطورية من نفسها ودارت حوله بنفسها وكان الممسك لها الأجرام العظيمة الدائرة بالفضاء حول توابعها: (إسحاق نيوتن) بنظرية الجاذبية، وقد تقدم ذكر ذلك. والآن جاء دَور صاحب الإعجاز حيث يقول: نعم هؤلاء كفار ملاحدة معطلة لكن هذا علم ونحن نأخذ منهم العلم، فنأخذ نظرية السديم أو الدخان ونتابع معهم نشأة الكون وفَرْقٌ بيننا وبينهم، فهم لا يُقِرِّون بالخالق ونحن نُقِرُّ به، نقول: الذي أوجد هذه المادة الأولى هو الله، والذي جهل هذه الكواكب ومن ضمنها الأرض تدور هو الله، والممسك لها هو الله. تأمل معي أيها القارئ في هذا المفترق ما انجرّ على عقيدة أهل الإسلام من البلاء العظيم، هذه النظرية مبنيّة على التعطيل وتنتهي إليه ومع هذا يُقال: إن هذا فعل الله وخلق الله وتكوين الله وتُلتمس آيات من القرآن تُقْسَرُ قسْراً لتجاري العلوم والكشوف. ¬

(¬1) مأخوذ من قول بعض شعراء الضلال والحيرة: جئتُ لا أعلمُ من أين ولكني أتيْتُ ... ولقد أبصرتُ قُدّامي طريقاً فمشيْتُ كيف جئت كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري.

أما كلام السلف فنظروا للكون بنور كلام خالقه وتكلموا على هذا المقتضى، فهم يصفون المخلوقات كما وصفها خالقها. هذا النموذج من الطريقة المسلوكة في هذا العصر لإثبات الإعجاز المزعوم، ولذلك لما قُوبَلَتْ نظريات الملاحدة مثل هذه النظرية بنصوص القرآن التي تبين بطلانها لم يلتفت إليها المقلِّدة. فالقول بدوران الأرض منفي بنصوص تهدم البناء من أصله، حيث أنه بلا شك أن الأرض ثابتة وقد وضّحتُ ذلك في (هداية الحيران) فبطلتْ أسْطورة السديم وما انفصل عنه بطريقة الدوران الميكانيكية وبقي ما ذكره الله في القرآن وتكلم به السلف وهو (الدخان) وقد تقدم كلام السلف في ذلك مما يدل أن الله سبحانه خلق الأرض والسموات من مادة، أما أن هذه المادة تدور وانفصل منها كواكب تدور فهذا هذيان. ولتعلم مراد إبليس من تأسيس نظرية الدوران في السديم المزعوم فانظر فروع هذا الأساس وتابعها يظهر لك بجلاء أن الأمر مُبْرم بليل من قِبَلِ من قال لربك: (وَلأُضِلَّنَّهُمْ) فقد حصل له فوق مراده بهذه النظرية إذْ أنها تقود حَتْماً إلى الضلال عن الخالق المعبود سبحانه. فالسديم عندهم في فضاء لا حَدَّ له ولا يوجد في أذهانهم وتصوّراتهم غيره وقد انفصلت عنه بسبب دورانه الشموس ويسمونها النجوم، والشموس بفعل الدوران انفصلت عن كل شمس مجموعتها، فهذه

التي يسمونها (المجموعة الشمسية) من مواليد السديم ولم ينته الأمر على هذا فأمثال هذه المجموعة الشمسية ملايين سابحة في الفضاء الذي لا حدّ له وإن شِئْت قل: بلايين، فقلب الميم باءً لا يؤثّر في هذه الخيالات، والأتباع قدْ وطّنوا نفوسهم على قبول المحالات وتَرَوَّضوا على التصديق بفاسد الخيالات. ثم إن هذه المجموعة الشمسية تُكَوِّن بدورها مجرات وهي تدور حولها، والمجرات بلايين، ولم ننْتَه بعد فالتوالد مُستمر من السديم، وكل شيء يدور في فضاءٍ خلاءٍ بالمجرات معمور. والسؤال الوارد الآن ولا بد أن يُورده المسلم، وهو: أين خالق الكون؟ أما أرباب هذه العلوم الحديثة فلا يخطر ببالهم هذا، لأنهم قد تخلّصوا من اعتقاد خالق من أول خطوة في علومهم هذه، فالكون واحد لا إثْنَيْنِيَّة فيه عندهم. وإنما الشأن بالمسلم، إنه إذا سرح بخياله مع القوم وتخيّل فضاءً لا حَدّ له وبلايين مجرات تدور ويُدار حولها كيف يعرف خالقه ومعبوده وكيف يُثبت وجوده؟ إن خياله على مقتضى هذه النظريات لا يحتمل الزيادة فقد امْتَدّ إلى غير مدى كيف والكون يتّسع والمجرات تتوالد؟. اعلم أن نتائج وعواقب هذا الاعتقاد الضلال المضمون، وسالك هذا الطريق تائه عن ربه لا يدري أين هو وتجارته تجارة خاسر مغبون.

السموات السبع

السموات السبع ومما يوضح ما أقول هنا أن أرباب الإعجاز المزعوم لا تجد للسموات المبنية في علومهم ذكراً، لأن البناء من الأصل مبني على فضاء لا ينتهي وأجرام كواكب تدور فيه بسرعة هائلة، ولا يوجد في علوم أرباب هذه النظريات غير ذلك إطلاقاً. إن أمثل أهل الإعجاز طريقة من لَوْ ذكر السموات السبع قال: فوق ذلك، يعني السموات فوق هذا الفضاء اللانهائي وفوق المجرات، ومعلوم أن هذا من أعظم التناقض والتعارض والمكابرة حيث أن فضاء هذه الخيالات لا ينتهي بحَدّ كيف وهم يذكرون أبعاداً لا يستوعبها الخيال بين بلايين المجرات يزعمون تقديرها بالسنين الضوئية، وكل هذا منحوت في أذهان مظلمة، والحقيقة شيء آخر. أما سائر الأتباع مُقَلِّدة الملاحدة فبعضهم يقول: لا أدري ما السموات السبع، وبعضهم يقول: هي كواكب، وبعضهم يقول: طبقات غازية في الفضاء، وهكذا تراهم بين إنكار واضطراب وشك. وبمعرفة كيفية السموات كما خلقها الله تنهدم نظريات الكفر من أصلها ولا سيما السماء الدنيا، فخذ التعريف بها من وصف خالقها

سبحانه ومن كلام العلماء حقيقة الذين هم علماء الدين لا علماء الملاحدة الذين أُطْلق عليهم اسم العلماء وهم أضل من الأنعام. السماء الدنيا بناء ولها أبواب، لها جُرمٌ وسمك، قريبة جداً إذا قارَنْتَ مسافتها بما يتخيّله الملاحدة، ما لها شقوق ولا فروق ولا فطور وهذه الثلاث بمعنى واحد، ولولا أنها بناء لما نفى الله عنها الفروج والفطور، ولما وصفها بأنها شداداً وطباقاً. فكونها بناء قال تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء)، وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ) وغير ذلك من الآيات. وأما الأبواب فقال تعالى: (وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَاباً) أنظر هنا (وفتحت) وفي حديث الإسراء المتقدم أن جبريل كلما جاء سماء يستفتح بابها فيفتح له. أما الجرم فمعلوم أن البناء له جرم وله سمك، ولا يكون بناء يوصف بأنه له أبواب وما له فطور ولا فروج إلاّ ما يُحسّ ويلمس، والجن أخبر الله عنهم أنهم يقولون: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً). أما القرب فالسماء الدنيا قريبة جداً وذلك بالنسبة للمسافات الخيالية التي يهذي بها الملاحدة فهي مسيرة خمسمائة عام بتقدير سَيْر الإبل.

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (ما بين كل سماء إلى الأخرى مسيرة خمسمائة عام وما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام) الحديث رواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد بإسناد صحيح على شرط مسلم. وله حكم المرفوع فمثله لا يقال من قِبَل الرأي. وفي حديث أبي هريرة الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وابن أبي حاتم والبزار، عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (وهل تدرون ما فوقكم؟) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (فإنها الرقيع سقف محفوظ وموج مكفوف، ثم قال: هل تدرون كم بينكم وبينها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (بينكم وبينها خمسمائة سنة) الحديث قال الترمذي: هذا حديث غريب. وفي حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (هل تدرون كم بين السماء والأرض؟) قال: قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: (بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة) (¬1). وأحاديث أخرى تدل على نفس المسافة بين السماء والأرض وأنها خمسمائة عام تركتها اكتفاء بما ذكرت. سبق وقلت أنه بمعرفة كيفية السموات كما خلقها الله تنهدم نظريات الكفر من أصلها ولا سيما السماء الدنيا. ¬

(¬1) رواه الإمام أحمد (1/ 206) وأبو يعلى في مسنده (12/ 75).

وهذا لزيادة التعريف بالسماء وزيادة انهيار نظريات الكفار أذكر شكلها وَوَضْعها بالنسبة للأرض، إنها محيطة بالأرض من كل جانب إحاطة الكرة بما في وسطها حيث أن شكلها كروي. سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجلين تنازعا في (كيفية السماء والأرض) هل هما (جسمان كُرِّيّان) فقال أحدهما: كُرِّيّان، وأنكر الآخر هذه المقالة: وقال: ليس لها أصل ورَدَّها فما الصواب؟. فأجاب رحمه الله: السموات مستديرة عند علماء المسلمين، وقد حكى إجماع المسلمين على ذلك غير واحد من العلماء أئمة الإسلام: مثل أبي الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي أحد الأعيان الكبار من الطبقة الثانية من أصحاب الإمام أحمد وله نحو أربعمائة مصنف. وحكى الإجماع على ذلك الإمام محمد بن حزم وأبو الفرج بن الجوزي، وروى العلماء ذلك بالأسانيد المعروفة عن الصحابة والتابعين، وذكروا ذلك من كتاب الله وسنة رسوله، وبسطوا القول في ذلك بالدلائل السمعية، وإن كان قد أُقيم على ذلك أيضاً دلائل حسابية، ولا أعلم في علماء المسلمين المعروفين من أنكر ذلك إلا فرقة يسيرة من أهل الجدل لما ناظروا المنجّمين، وذكر كلاماً ثم قال: وما علمت من قال أنها غير مستديرة وجزم بذلك إلا مَنْ لا يُؤبَهُ له من الجهال.

ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). وقال تعالى: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ). وقال: وأما من ادّعى ما يخالف الكتاب والسنة فهو مبطل في ذلك. انتهى باختصار (¬1). وقال: وإذا كانت سماء الدنيا فوق الأرض محيطة بها فالثانية كُرِّيَّة وكذا الباقي، والكرسي فوق الأفلاك كلها. (يعني السموات) والعرش فوق الكرسي. انتهى (¬2). وقال ابن تيمية: المنكِر لكروية السماء مخالف لجميع الأدلة. انتهى (¬3). قال ابن كثير في البداية والنهاية 1/ 31: وقد حكى ابن حزم وابن المنير وأبو الفرج ابن الجوزي وغير واحد من العلماء الإجماع على أن السموات كرة مستديرة. انتهى. إن من عرف وصف السماء وشكلها كما تقدم يظهر له بجلاء أن ما يتخيّله أرباب العلم الحديث من الفضاء اللانهائي والمجرات التي لا تحصى ¬

(¬1) مجموعة الفتاوى 6/ 586. (¬2) مجموعة الفتاوى 5/ 150. (¬3) الفتاوى 25/ 189.

ضلال عن الخالق وتعطيل له وأن هذه تبدأ بعقيدة الدهرية وتنتهي إليها وأي شيء أعظم من هذا؟. قد تبينت المسافة بين السماء المبنية المشاهدة ذات اللون الأزرق في الأرض وأنها مسافة صغيرة جداً وأن ذلك هو الفضاء كله وأنه ما يقارب تسعة ملايين كيلو متر حسب اصطلاح أهل العصر، وأنه هو الذي يقول عنه الرب عز وجل: (وَمَا بَيْنَهُمَا) عندما يذكر السماء والأرض، هذا هو الفضاء كله. أما فضاء خيال الملاحدة ومُقلِّديهم فهذا قطرة من بحره إذْ فضاؤهم لا يُحَدْ، فقارن الآن بين الحق والباطل، بين الهدى والضلال بين ما يُصَدِّقه العقل السليم ويؤيده ويشهد بصحته وبين ما يستنكره ويُنكره، وذلك بوصف ما تخيّل الملاحدة وأتباعهم في العالم العلوي، وحيث قلتُ هنا: (العالَم العلوي) فمرادي من لم تفسد فطرته بعلوم الملاحدة فهو يثبت العلو والسفول للكون، والذي هو لازم ثباته في الوجود وفي عقيدة المسلم لمعرفة علوّ ربه وقصده له. قال شيخ الإسلام في مسألة الجهة: وإنما الجهة اللازمة الثابتة الحقيقية هي جهتا العلو والسفل فقط، فالعلو ما فوق العالَم، والسفل (سجين) وأسفل السافلين وهو أسفل العالَم وقعْره وجوفه. انتهى (¬1). ¬

(¬1) نقض التأسيس 2/ 121.

أما الملاحدة ومن قلدهم فليس للكون عندهم علو ثابت ولا سفول ثابت لأنهم يعتقدون فضاء لا ينتهي وكواكب تدور فيه فما كان في ساعة أعلى صار في الساعة التي بعدها أسفل وهكذا فلا ثبات للكون عندهم، فلا علو ولا سفول ثابت ومن عرف هذا عَلِمَ المراد بهذه النظريات وأنه الإضلال عن المعبود الحق سبحانه ليتوه القلب عن معبوده. والمراد أن الضّدُّ يُظهر حسنه الضّدّ فبإشارة إلى خيال الملاحدة في الكون مع المقارنة بما تقدم من الوصف الصحيح له يتميز الحق من الباطل والحالي من العاطل. وسوف أنقل هنا ما ذكرته في (هداية الحيران) من وصف سيد قطب للكون بعد أن ذكر قوله تعالى: (لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) قال: وهذه الشمس واحدة من نحو مائة مليون من الشموس في المجرة القريبة منا، والتي نحن منها، وقد كشف البشر حتى اليوم نحو مائة مليون من هذه المجرات مُتناثرة في الفضاء الهائل من حوْلها تكاد تكون تائهة فيه. انتهى. تأمل اللاّمعقول المُكَذَّب بصحيح المنقول، فهذه الشمس واحدة من نحو مائة مليون شمس، ونحن لا نجد في كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم إلا شمساً واحدة، كذلك الأمة بعد نبيها من جيل الصحابة رضي الله عنهم إلى وقتنا هذا لم يذكروا شمساً ثانية مع هذه الشمس فضلاً عن مائة

شمس أو ألف شمس أو مليون شمس، كيف بمائة مليون شمس؟ كذلك الأمم قبلنا. ومع هذا الخيال يقول سيد قطب بعد الكلام السابق: (والذي كشَفَه البشر جانب ضئيل صغير لا يكاد يُذكر من بناء الكون، وهو على ضآلته هائل شاسع يُدير الرؤوس مُجرّد تَصَوّره). انتهى. تأمل الجانب الضئيل الذي لا يكاد يُذكر من بناء الكون تعرف معنى (الفضاء لا حَدَّ له) في كلامهم في علومهم الحديثة، كيف إذا عرفت أن مائة المليون الشمس كل شمس منها لها توابع كتوابع شمسنا هذه التي سَمّوها: (المجموعة الشمسية) وكل مجموعة شمسية المسافة بينها وبين توابعها 3675 مليون ميلاً. ثم قال قطب: فالمسافة بيننا وبين الشمس نحو ثلاثة وتسعين مليوناً من الأميال ذلك رأس أسرة كوكبنا الأرضي بل هي على الأرجح أم هذه الأرض الصغيرة. انتهى. هذه المسافة التي ذكر قطب هي المسافة بين الأرض والشمس عندهم، وهو هنا جاوز السماء الدنيا المحيطة بالأرض إحاطة الكرة بما فيها المبنية ذات الأبواب بأربعة وثمانين مليوناً من الأميال، حيث بيّنت قبل أن المسافة بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام كما في الأحاديث وأنها تقارب تسعة ملايين كيلو متر مع اعتبار الفرق بين الميل والكيلو متر،

وهذا لا يؤثر بما نحن فيه إذ الأمر أعظم من أن يوصف. ثم ملايين قطب تلك ليست كل مسافة التي يسمونها المجموعة الشمسية وإنما هذا الذي بين الأرض والشمس فقط، وقد تقدم ذكر مسافة المجموعة الشمسية عندهم، فالمريخ أبعد من الأرض والمشتري وزحل وأورانوس ونبتون وبلوتو كما زعموا. ثم قال قطب: (أما المجرة التي تتبعها الشمس فقطرها نحو من مائة ألف سنة ضوئية، والسنة الضوئية تعني مسافة ستمائة مليون ميل). انتهى. يقول عن قطر المجرة أنه (نحو مائة ألف مليون سنة ضوئية) هذه المائة ألف مليون كل واحدة منها تعني مسافة ستمائة مليون ميل. كل هذه الخيالات تبين معنى قولهم: الفضاء لا ينتهي. ثم قال قطب: (وأقرب المجرات الأخرى إلى مجرتنا تبعد عنا بنحو خمسين وسبعمائة ألف سنة ضوئية). وقد وجدتُ مثل هذا الكلام عن المجرات والسنين الضوئية المزعومة في الكتاب المسمى: (الله يتجلى في عصر العلم) فقد ذكر صاحب الكتاب قول الله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) ثم قال: ويحدثنا علماء الفلك بأن المسافات بين النجوم تبلغ حَدَّ الخيال، وهي جديرة بأن يُقسم بها الخالق لعظمها، فإن مجموعات النجوم التي تُكَوِّن أقرب مجرات السماء منا تبعد عنا بنحو

700 ألف سنة ضوئية، والسنة الضوئية تعادل عشرة ملايين الملايين من الكيلو مترات. انتهى ص164. لاحظ 700 ألف سنة ضوئية والسنة الواحدة تعادل عشرة ملايين الملايين من الكيلو مترات، ولاحظ أن هذه المجرة أقرب مجرات السماء منا، فكل هذا يبين معنى الفضاء اللانهائي فإذا جاء السؤال: أين السموات السبع أين الله؟ جاء الجواب بالإنكار أو أحسن الأحوال الريب والشك وحسبك به بلاءاً عظيماً وكفراً. ومع هذا يقول قطب بعد الكلام السابق: ونذكر مرة أخرى أن هذه المسافات وهذه الأبعاد وهذه الأحجام هي التي استطاع علم البشر الضئيل أن يكشف عنها، وعلم البشر هذا يعترف أن ما كشفه قطاع صغير في هذا الكون العريض. انتهى. ولذلك لما قلّدهم قطب في هذه العلوم الفاسدة لم يستطع إثبات السموات المبنية المحيطة لأن أرباب هذه العلوم ينكرون وجود السموات وما فوقها، وراجع إن شئت كلام قطب عن السموات فقد ذكرت ذلك في (هداية الحيران) ص43 الطبعة الأولى 1412 هجرية وص30 الطبعة الثانية. وقد رسم صاحب كتاب التوحيد المجرة المزعومة في كتابه وأنها تدور وتدور معها الشمس ص379 ولا شك أن القوم أصحاب خيال

ضال وأن من قلّدهم في هذيانهم ضل، انظر ما ينقل عنهم صاحب كتاب (من الإعجاز العلمي) 1/ 97 يقول: واقترح العلماء أن المجموعة الشمسية تستغرق 200 مليون سنة لكي تُتِم دورة واحدة كاملة حول مركز درب التبانة وأن المجموعة الشمسية قد دارت في مدارها منذ نشأتها حتى اليوم نحو 20 دورة فما بالنا بمقدار دورة الكون كله حول مركزه. انتهى. ويقول في إعجازه 1/ 147: وأن شمسنا يمكن لها أن تحتفظ بصورتها الحالية دون تغيير ملحوظ في حجمها العام لمدة طويلة من الزمن تصل إلى نحو 30 بليون سنة. انتهى. ليعلم الناظر في هذا أن هذه الخيالات من الملايين والبلايين في تقدير الزمان والمسافات أنها وحي شيطاني ليذهل المخلوق عن الموت وأمر الآخرة زيادة على ما حصل له من إضلاله عن خالقه وذهوله عما خُلق له، وكل يعمل على شاكلته. وانظر الآن صاحب كتاب (من علم الفلك القرآني) ص61 لتعلم ضلال القوم عن السماء التي وصف الله ورسوله، قال: السماء بمعنى الكون: وإذا عنينا بالسماء الكون وما فيه من نجوم ومجرات وما بينها من غيوم فكل شيء في الكون يرجع إلى ما كان عليه، فمن المتفق عليه اليوم بين أكثر علماء الفلك أن الكون ليس أزلياً، بل بدأ

منذ خمسة عشر مليار سنة تقريباً بكتلة بدائية هائلة انفجرت وتَشَتَّتَتْ في أرجاء الكون ومنها تكونت لاحقاً النجوم والكواكب والمجرات والسُّدُم، فالنجوم تنشأ من غيمة كونية خلال ملايين بل مليارات السنين بفعل تكثّف المواد التي تؤلف الغيمة وتحوّل جزءاً منها إلى نجم يضيء خلال ملايين أو مليارات السنين ثم ينفذ وقوده فيتحول إلى نجم هائل متفجر ما يلبث أن ينفجر، ثم يموت ليرجع كما بدأ غيمة كونية، ثم تعاد الكرة التي تتطلب ملايين السنين مصداقاً لقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (¬1). ولقد رأى العلماء في القرن العشرين كيف يبدأ الله الخلق ثم يعيده، ليس فقط في النجوم بل في كل المخلوقات، أما في زمن التنزيل فلم يكن باستطاعة العلم أن يرى شيئاً عن عملية بدء الخلق وإعادته، فسبحان الذي صدقنا وعده، كيف لا، وهو القائل: (لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (¬2). وقد وعدنا بأننا سنرى كيف يبدأ الخلق ثم يعيده، واستقر خبر ما أنبأنا به بعد خمسة عشر قرناً من التنزيل من خلال الكشف العلمي لدورة الحياة في المخلوقات الحية وغير الحية. انتهى. ¬

(¬1) العنكبوت، آية: 19. (¬2) الأنعام، آية: 67.

هكذا يتكلمون عن السماء تقليداً للمعطلة الضّلاّل، وأعجب من قول هذا: أما في زمن التنزيل فلم يكن باستطاعة العلم أن يرى شيئاً من عملية بدء الخلق وإعادته، فهذا تجهيل للسلف. والمطلوب بعد هذا المقارنة بين ما جاء في الكتاب والسنة من وصف الكون وما جاء به العلم الحديث المحدث المضل. وصاحب كتاب توحيد الخالق تكلم عن توحيد الصفات وعن الشرك بكلام مُقارب لكنه يذكر أنواع العبادة ولا يذكر المحبة التي هي أصل العبادة، كما أنه حين ذكر اسم (الإله) قال: (هو المالك الذي يملك جميع الصلاحيات والسلطات في السموات والأرض، فالحق مختص به والنعمة كلها بيده، والأمر له وحده، والقوة والحول في قبضته، وكل ما في السموات والأرض قانت له مطيع لأمره طوعاً وكرهاً، ولا سلطة لأحد سواه، ولا ينفذ في الكون حكم لغيره إلا برضاه). انتهى ص218. هذا الكلام الذي ذكره صاحب الكتاب في معنى (الإله) غير صحيح وإنما هو في معنى (الرب). أما معنى (الإله) فهو المألوه بالعبادة، والتألّه عمل القلب وهو يختص بعمل العبد لما يتصف به الإله الحق سبحانه من صفات الجلال والجمال والكمال الموجبة لتألّهه فطرة وشرعة، فهذا الذي يُسمى (توحيد الألوهية) و (توحيد العبادة)، وهذا التوحيد لا يتحقق للعبد إلا بإفراد

الإله الحق بالتألّه ونفيه عما سواه، وأصله المحبة، وصاحب كتاب توحيد الخالق أهملها، ولذلك قال: وتشتمل العبادة على الشكر والإنابة والسجود والتسبيح والخضوع والاستسلام والدعاء والتوكل، ولا يستحق أحد العبادة سوى الله. انتهى. وهذا صحيح ولكنه ناقص حيث لم يذكر إفراد الله بالمحبة إذ هي أصل العبودية. وعبارات السلف وافية بالمقصود بخلاف المتأخرين، وانظر ما نقله مؤلف كتاب (فتح المجيد في شرح كتاب التوحيد) من كلام السلف في معنى "الإله" وتوحيد الإلهية) في أوله. قال ابن القيم: (الإله) هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وإنابة وإكراماً وتعظيماً وذلاً وخضوعاً وخوفاً ورجاءً وتوكلاً. إن مثل هذه التعريف يعطي العبد فرقاناً بين توحيد أفعال الرب سبحانه وتوحيد أفعال العبد فيفرّق بين ما يفعله هو وهو مطلوب منه وبين ما يُقرُّ به لربه، فالأول في اعتقاد فعل الرب والثاني في عمل العبد. قال صاحب كتاب توحيد الخالق تحت عنوان: (الروح الإلهية): إن أي كلام من كلام البشر، إنما يكون انعكاساً لشخصية قائلة، وعلمه ومزاجه ونفسيته، وكل كلام يحمل روح قائله لأنه أثر من آثاره، وقارئ القرآن المتدبر لا بد أن يقع في نفسه شعور بأن هذا القرآن كلام

الله وأنه مطبوع بروح الخالق سبحانه القائل: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ) (¬1). كلام صاحب كتاب توحيد الخالق هذا خطأ فاحش ولا يقال: القرآن مطبوع بروح الخالق فلا يوصف الرب سبحانه إلا بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. أما كلامه سبحانه فوصفه بأنه روح لأن به تحيا الأرواح، فهذا معنى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا). ¬

(¬1) الشورى، آية: 52. توحيد الخالق ص229.

هل الشريعة مرنة

هل الشريعة مَرِنَة وقال صاحب كتاب توحيد الخالق عن الشريعة أنها (أوْجدت الحلول لكل مشكلة في مختلف البلدان والأزمان). وقال عن الشريعة أيضاً: إنها (مَرِنَة تستجيب لكل ألوان الحياة المتجدِّدة) ص239. هذه العبارات ونحوها لم ينفرد بالقول فيها وحده بل يقولها ويَسْتَعْذِبها ويسْتحْليها كثيرون من أهل هذا العصر المتحوِّل المنقلب وذلك لا يُجْدي عليهم شيئاً لأن الشريعة جاءت بلزوم الهَدْي الأول مع التحذير من الإحداث والتغيير، وأما إيجادها الحلول للمشاكل ومُرونتها فليس معناه أن يَصُبَّ أهل الوقت نصوصها في قوالب أهوائهم ثم يُعَلِّلون ذلك بمرونة الشريعة، فإن أمامهم يوم القيامة: (ماذا عبدتم. ماذا أجبتم المرسلين) وسيعلم من عبد غير الله أو استجاب لغير المرسلين أيّ بضاعة معه. إن تحوّلاً وانقلاباً عجيباً غريباً طرق العالَم بأسْرِه غَيّر معالم الشريعة ودَمّرَ بيئة الفطرة سُمِّيَ: (حضارة) و (مدنية) و (نهضة) ونحو ذلك من أسماء هي من باب (زخرف القول غروراً) الذي بتفسير السلف هو:

تزيين الباطل بالألسنة، وقد راجت السلعة رَوَجَاناً منقطع النظير في زمن يسير، وهذه السلعة بدون هذه الزخارف هي التشبه باليهود والنصارى وهي تحقيق (ودنيا مؤثرة) و (شبراً بشبر وذراعاً بذراع وحذو القذة بالقذة). والمراد هنا أن الفِطَر شَعُرَتْ بالمنافرة وعدم الملائمة لكن النفوس تَوَطّنَتْ لكثرة المباشرة والمِساس، فتبلّد الحِسّ أولاً، ثم أخيراً عُدِم الإحساس. ولقد كانت مخالفة هذا الوارد للشريعة في البداية ظاهرة لكن لما طَمَّ الوادي غرقتْ حدوده، حتى أصبح من يشير إلى حدوده الغريقة من أجهل الخلق وأقلّهم عقلاً بل يصبح أعجوبة وطرفة للتّنَدْر. وهذا الموضوع الكلام فيه يطول جداً وإنما ذكرت هذه الإشارة البسيطة بعد كلامه عن مرونة الشريعة وكونها تحل المشاكل، وأهل الوقت يميزهم عن السلف ميزات أكثر من أن تحصر لكن مرادي هنا رُخْص الكلام على المتأخرين، وقلّة العناية بوزنه بميزان الدين. والمراد أنه طَمّ الوادي وقُلِعَتْ التخوم، وعَفَتْ الرسوم ظهرت هذه الأوصاف العجيبة للشريعة، فهي مَرِنَة وتحل المشاكل في كل زمان ومكان وصالحة لكل زمان ومكان، ومثل ما يقول الشعراوي محمد وأمثاله: إن

للقرآن عطاءً متجدداً في كل زمان، وقد سلك هذا المسلك وكثيرون مثله. فيقال لهؤلاء: ليست مُرونة الشريعة أن تلاحق الناس وتتبعهم أينما توجّهوا ولو شردوا عنها شرود البعير عن أهله، فَتُجعل بمرونتها المدَّعاة تابعاً لا متبوعاً، هذه أماني المبطلين، وإنما المطلوب من العباد التمسك بأوامر الشريعة والتأدب بآدابها في كل زمان ومكان، وأن يكونوا هم خاضعين لها لا أن يُخَضِّعوها ويُذَلِّلوها لتجاري أهوائهم وأغراضهم، إنها عزيزة منيعة لا تخضع لأحد ولا تذل. فالشريعة سمحة مُيَسّرة ولله الحمد، ولكن في داخل حظيرتها، أما من تعدى طَوْره فليست مَرِنة له ولا سمحة ولا ميسّرة إلا أن يعود لمقامه مستشعراً أنه عبد مُدَبّر مُصرّف من قِبَل مالكه، فهنا يقال: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) و (بعثت بحنيفية سمحة). ولقد تمادى صاحب كتاب توحيد الخالق في دَعْواه المرونة للشريعة وللقرآن والإنصباب بالقوالب الزمانية فقال في (ص242) عن القرآن: فكلما مَرّ الزمن كلما كشف عن وجه جديد من إعجازه فما أن دخل الناس في عصر العلوم الكونية حتى وجدوا في كتاب الله نبأ بأن الله سيريهم آياته في الآفاق. انتهى.

أقول: الحذر مما يطلقه المتأخرون على زمانهم وعلومهم فالجاهل يغتر بهذه الإطلاقات والمدائح، فقول صاحب كتاب توحيد الخالق: (عصر العلوم الكونية) يُشْعر هذا التعبير بأن علوم الكون ما كانت تُعرف في الماضي وأن الصحابة ومن بعدهم من علماء المسلمين كالدراويش يقرأون القرآن ولا يعلمون ما فيه من العلوم الكونية، فكم ذكر الله السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والحيوان والنبات والرياح والسحاب، وغير ذلك والسلف لم يكتشفوا ما في الكون حتى جاء العلم الحديث، وصاحب كتاب توحيد الخالق له كلام صريح في ذلك لكن يقال هنا: خبنا إذاً وخسرنا إن كنا بحاجة إلى الملاحدة ومُقلِّديهم ليعلموننا العلوم الكونية، وقد تقدم بيان ضلالهم العظيم في (السديم) والمجرات.

تجهيل السلف

تجهيل السلف ومن تجهيل صاحب كتاب توحيد الخالق للسلف ما قاله عنهم بعدما ذكر الأبعاد الخيالية لفضاء الملاحدة في تفسيره لقوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) ويأتي في موضعه إن شاء الله، فقد قال: إن حقيقة الآية بقيت مجهولة مدة طويلة وقال عن الآية أنها تعلن جهل الناس بها وقت نزولها من العليم الخبير. انتهى. وفيه من تجهيل السلف ما شارك به صاحب كتاب توحيد الخالق المتكلمين وأمثالهم من الذين فرحوا بما عندهم من العلم. وقال في ص340 من كتابه (توحيد الخالق) جميع ما جاء في القرآن حق لا شك فيه وإن لم يكن مدْركاً ذلك وقت نزوله إلا على طريق الإجمال والتأويل لضعف العلوم الإنسانية آن ذاك. انتهى. الحقيقة التي لا شك فيها أن الله حمى أصحاب نبيه ومن تبعهم بإحسان من هذا الهذيان، المضلّ عن الديّان، وأعطاهم من العلم النافع ما خَصّهم به وكل يعمل على شاكلته. وقال في (ص118): فقد تكلم القرآن بحقائق لم يعرفها البشر إلا بعد تقدم العلوم وأجهزة الكشف العلمي.

وذكر صاحب كتاب توحيد الخالق في (ص341) أن آيات من القرآن كانت في الماضي تُؤَوَّل أو تفسّر بغير معناها يقول: لعدم معرفة السابقين بحقائق خلْق الله ودقائق ما أشارت إليه الآية، ويقول: من إعجاز القرآن حقائق تظهر في عصر العلم الكوني جهلها البشر جميعاً طوال قرون متعددة، وأثبتها القرآن في آياته قبل أربعة عشر قرناً. وسوف يظهر في هذا الكتاب غير ما تقدم إن شاء الله ما يبين إحالاته الدقيقة التي لو كانت صحيحة فإن الله لم يُرِدْها بكلامه كيف والبناء كله مبني على الخرص والخيال والضلال. وكيف يُجَهِّل صاحب كتاب توحيد الخالق السلف لَمّا فُتِنَ بهذيان الملاحدة؟ ولقد تبين ويأتي أيضاً ما يعكس كلامه تماماً وأنه هو الذي أوّل آيات القرآن وفسّرها بغير معناها بل بضلال مبين. ويقول: وهناك آيات وألفاظ قرآنية لم تكن لِتُفهم حقيقتها حتى جاء التقدم العلمي يكشف على دقّة تلك المعاني والألفاظ القرآنية مما يوحي إلى كل عاقل بأن كلام الكتاب الكريم كلام الله المحيط علماً بكل شيء وإن كان قد حدث جهل بفهم بعض ألفاظه ومعانيه فإن زيادة علوم الإنسان قد جاءت لِتُعرِّف الإنسان بما جهل من كلام ربه، انتهى (¬1). ¬

(¬1) توحيد الخالق، (ص352).

لقد أكثر صاحب كتاب توحيد الخالق من تجهيل الأمة لأجل المعطلة وعلومهم المضلة التي ليس المسلمون بحاجتها كما سيتبين إن شاء الله فيما بعد. وكذلك صاحب كتاب (الإعجاز الإلهي في خلق الإنسان) قال عن النطفة: وهذا يعني أن الصحابة الكرام والسلف الصالح لم يعرفوا شيئاً عنها لذا كان أمر النطفة غيباً في الماضي السحيق فأضحت مرئية في القرن العشرين. انتهى (ص41). يريد بذلك ما يقوله أرباب العلوم الحديثة أن النطفة هي الحيوان المنوي المذكر الموجود في النطاف وهو دقيق جداً، وقد فرح المتأخرون بالإحالات الدقيقة وظنوا أنهم استأثروا بعلم خفي على السلف، وقال عن العَلَقة: لم تكن معروفة قبل القرن العشرين. انتهى. وهؤلاء لم يعرفوا قدر السلف وعلمهم ومن الجانب الآخر انبهروا بما فُتِح على أعداء الله من الضلالة. وليعلم الناظر في هذا أن بعض من فُتِن بعلوم الغرب يُجَهِّل حتى الرسول صلى الله عليه وسلم وقد ذكر ابن تيمية عن المتكلمة والمتفلسفة أن منهم من يقول عن الرسل بل لم يكونوا يعرفون هذا، وإنما كان كمالهم في القوة العملية. انتهى (¬1). ¬

(¬1) الفتاوى 9/ 132.

ويقول عن هذه العلوم والكشوف المحدَثة: فإذا بالعلوم الحديثة تكشف حقائق كانت من قبل مجهولة غير معلومة بَيْد أن القرآن قد نَبّه عليها وأشار إليها إشارات صريحة من قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، فكان ذلك تفسيراً عملياً لقوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، وقوله تعالى: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا) انتهى. إنه على مقتضى ما ذهب إليه صاحب كتاب توحيد الخالق وأمثاله من مقلِّدة أرباب العلوم الحديثة أن بيان تفسير آيات كثيرة في القرآن إنما ظهرت على يد هؤلاء المعطلة، وقد أكثر صاحب كتاب توحيد الخالق من تجهيل السلف. وهذه الآية: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ) الآية يكثر من ذكرها المتأخرون يستشهدون بها على ضلال المعطلة، ويأتي إن شاء الله بيان معناها في موضعه. ويقول عن هذه العلوم الحديثة: إنها تكشف حقائق كانت من قبل مجهولة غير معلومة. ويقول في قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) إن التقدم العلمي جاء ليبين الأبعاد لمواقع النجوم، وذلك ما جهله الإنسان طويلاً.

انتهى، وقد تقدم كلامه على هذه الآية وعظم الضلال فيه وقال بعد ذكر ملايين الملاحدة الخيالية: أليس هذا كشف لما تضمنته الآية الكريمة من حقيقة بقيت مجهولة مدة طويلة. انتهى (¬1). كيف يقول صاحب كتاب توحيد الخالق هذا والنبي صلى الله عليه وسلم بَيَّن ألفاظ القرآن ومعانيه للصحابة رضي الله عنهم، قال شيخ الإسلام رحمه الله: فإن الرسول لما خاطبهم بالكتاب والسنة عَرَّفهم ما أراد بتلك الألفاظ، وكانت معرفة الصحابة لمعاني القرآن أكمل من حفظهم لحروفه، وقد بلّغوا تلك المعاني إلى التابعين أعظم مما بلّغوا حروفه. انتهى (¬2). ومن تجهيل السلف قول محمد متولي الشعراوي في كتابه الذي سماه (فيض الرحمن) قال في فَيْضه (ص32): نأتي بعد ذلك إلى الأشياء المتصلة بقوانين الكون والخلق، تلك الأشياء التي لم يكن للعقل البشري الاستعداد العلمي وقت نزولها ليفهمها تماماً. انتهى. وهذا تنقص ظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وسوف يأتي إن شاء الله تقريره أن الله في كل مكان مما يبين أنه هو ومن على شاكلته الضلاّل الجهال. ¬

(¬1) توحيد الخالق، ص350. (¬2) مجموعة الفتاوى 17/ 353.

وقال في فيضه: أي أن هناك آيات من القرآن تعطينا الآن عمقاً جديداً لم يوصل إليه أول وقت نزول القرآن. انتهى. وكم وكم من الطوام عند هذه الأشكال الذين ارْتووا من ماء آجن.

(الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها) الآية

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) الآية ومن ضلال هذه العلوم الكونية ما زعم صاحب كتاب توحيد الخالق أنها من الآيات التي يريها الله العباد في الآفاق وفي أنفسهم يقول: (وإذا بالوعد متحقق فهناك آيات كثيرة ظهرت لعلماء الكون في الآفاق وكان الله قد أخبر بها رسوله أو بنى عليها حكماً أو أشار إليها) ص243. وذكر من الآيات أعمدة الجذب التي لا تُرى، قال: (وكشف التقدم العلمي أن لكل كوكب ولكل نجم في السماء مركز ثقل في داخله غالباً ما يكون قريباً من وسط جوفه، وبالرغم من أن هذه الكواكب والنجوم في حركة مستمرة إلا أن المسافة بين مراكز الثقل بين هذه الكواكب والنجوم ثابتة لا تزيد ولا تنقص، مما يشير إلى أن هناك عموداً للجذب لا يُرى يحفظ مراكز الثقل في أجرام السماء على مسافات ثابتة من بعضها، بالرغم من الحركة التي تشمل كل هذه الأجرام، ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الأعمدة التي لا تُرَى في قوله تعالى: (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ

لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (¬1). الجواب: أنظر غير ما تقدم من كشف التقدم العلمي أعمدة لا ترى وهي تجعل الأجرام على مسافات ثابتة من بعضها بالرغم من الحركة التي تشمل كل هذه الأجرام يعني الدوران ثم يستدل بهذه الآية ويقول: ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الأعمدة التي لا تُرى. وخوض صاحب كتاب التوحيد بالقرآن خطير ولَوْ أنه لما شُغف بعلوم الملاحدة وكشوفاتهم لم يذكر القرآن ولم يحشر آياته غصْباً وكذباً وباطلاً لتروج البضاعة الفاسدة الكاسدة ويحصل اللبْس. فكلامه هذا مبني على الأصل المنهار الذي تقدم ذكره وهو المادة الأولية للكون (السديم) وأنه يدور فانفصلت عنه الكواكب ومن ضمنها الأرض، والكل ينفصل وهو يدور حول نفسه وحول تابعه، والضابط لهذا الدوران والحركة المنظِّم لها هو نظرية الجذب التي اكتشفها بزعمهم (نيوتن) وقد تقدم ذكرها في أول الكتاب. فليعجب الناظر من هذه الخيالات السخيفة الباردة وكيف تُحال إلى كلام الرب سبحانه وأن هذا المراد بقوله تعالى: (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) وكلامه يبين بوضوح ضلالة عن ¬

(¬1) الرعد، آية 2.

السموات المبنيّة حيث جعل المراد من ذكر السموات هنا أجرام الكواكب الدائرة في فضاء الملاحدة الخيالي، إنه يغصب آيات القرآن لتجاري الضلال وهذا مُحال لكن يَغْتّر به الجهال، والجهال ليسوا من لا يعرفون الكتابة والقراءة كما هو اصطلاح أهل الوقت، إنما الجهال الضّلال الذين لم يعرفوا رأساً بما أتى به نبيهم صلى الله عليه وسلم والذي هو العلم المستحق أن يسمى علماً. فانظر كيف يصرفه معاني القرآن لهذيان الملاحدة. قال ابن كثير رحمه الله في الآية المتقدمة بعد أن ذكر كمال قدرته سبحانه وعظيم سلطانه: قال: فالسماء الدنيا محيطة بجميع الأرض وما حولها من الماء والهواء من جميع نواحيها وجهاتها وأرجائها مرتفعة عليها من كل جانب على السواء وبُعد ما بينها وبين الأرض من كل ناحية مسيرة خمسمائة عام وسمكها في نفسها مسيرة خمسمائة عام، ثم السماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا وما حَوَتْ وبينهما من بُعْد المسير خمسمائة عام وسمكها خمسمائة عام، وهكذا الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة كما قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) الآية. ثم ذكر ابن كثير رحمه الله ما رُويَ عن السلف في قوله تعالى: (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) وأن بعضهم قال: لها عمد ولكن لا تُرى وبعضهم

قال: يعني بلا عمد، ورجّح ابن كثير أنها بلا عمد قال: وهذا هو اللائق بالسياق والظاهر من قوله تعالى: (وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ) فعلى هذا يكون قوله (تَرَوْنَهَا) تأكيداً لنفي ذلك أي هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها، وهذا هو الأكمل في القدرة. انتهى. أنظر الفرق بين كلام السلف في القرآن والخلوف وقد تقدم بيان شكل السموات والإجماع على كرويتها وأن الله سبحانه ذكر أنها بناء ولها أبواب وليس لها فطوراً ولا فروجاً، كذلك السنّة مثل حديث الإسراء وغيره مما فيه تعيْين جلي واضح للسموات السبع التي لا يعرفها الملاحدة ولا من قَلّدهم وهذا عين الضلال عن الإله المعبود سبحانه الذي تحبه القلوب وتطلبه وتريده وتَتَوَجّه إليه الذي هو سبحانه بذاته على عرشه الذي فوق سمواته وهو سقف العالَم كله كما أن السماء الدنيا سقف الأرض قال تعالى: (وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً). فانظر الفرق بين ما ينقل هؤلاء عن أرباب العلم الحديث وأنه الضلال عن الإله المعبود سبحانه وأن مبلغ علمهم فضاء لا يُحد وأجرامُ كواكب تدور فيه، نعوذ بالله من الضلال. ثم كيف يجعله العمد مركز ثقل في جوف الكوكب وأن هناك عموداً للجذب لا يُرى لحفظ أجرام الكواكب مع أن الآية فيها بيان

عظمة قدرة العظيم سبحانه أن رفع هذه السموات المبنيّة بغير عمد، كيف صرف صاحب كتاب توحيد الخالق هذا المعنى العظيم للآية الكريمة من السموات المبنية إلى كواكب دائرة في فضائه الخيالي وفضاء الملاحدة؟. والسماء الدنيا هي التي نرى بأبصارنا ذات اللون الأزرق قال شيخ الإسلام: ولأن الله أخبرنا أنا نرى السموات بقوله: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئَاً وَهُوَ حَسِيرٌ) وقال: (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ)، وأمثال ذلك من النصوص الدالة على أن السماء مشاهدة والمُشاهَد هو الفلك فدل على أن أحدهما هو الآخر (¬1). ¬

(¬1) الفتاوى 6/ 593.

النار السوداء

النار السوداء قال صاحب كتاب توحيد الخالق: النار السوداء: قبل ثلاث سنوات أي في عام 1973م، اكتشف الباحثون أن في السماء نجوماً سوداء وأنها أشد حرارة من النجوم المشتعلة بلون أبيض، وأن النجوم البيضاء أشد حرارة من النجوم الحمراء التي تشتعل بلون أحمر. وهكذا عرف الباحثون أن النار السوداء هي أشد أنواع الحرارة التي عُرِفَت حتى اليوم، ولقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بحديث يحمل هذه الحقيقة في وقت ما كان يتصور فيه أحد من البشر أن هناك ناراً سوداء على الإطلاق، قال عليه الصلاة والسلام: "أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أُوقِدَ عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة" (¬1). وصدق الله القائل عن رسوله صلى الله عليه وسلم: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) (¬2). انتهى (¬3). ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، عن أبي هريرة مرفوعاً (4/ 710) ورواه البيهقي في شعب الإيمان عن أنس مرفوعاً (1/ 489). (¬2) النجم، آية: 3، 4. (¬3) توحيد الخالق، (ص244).

الجواب: هذا الكذب والدجل يليق بهؤلاء الباحثين الضالين المضلين، ولذلك قالوا عن النجوم هذا الدجل، وليس في النجوم ناراً كما زعم صاحب كتاب توحيد الخالق وباحثوه ولا في السماء نار، وإنما النار في الأرض السابعة السفلى وهي سجين وأسفل السافلين، ويأتي بيان ذلك إن شاء الله. فليست النار في السماء ولا النجم الذي ذكر صاحب كتاب توحيد الخالق ونعوذ بالله من التكلف والقول على الله وعلى رسوله بغير علم. أما حديث: "أوقد على النار" ففيه كلام. ولو قُدِّر أنه صحيح فليست هذه الكواكب هي نار جهنم وكذب من زعم ذلك، كما أنه من الكذب أن النجوم نفسها نار، وإنما هذا من هذيان المعطلة وتلفيق المقلدة.

(مرج البحرين يلتقيان)

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ) ثم قال تحت عنوان: (الحاجز بين البحرين) ص159. وقد اكتشف الباحثون أن مياه البحار والأنهار لا تمتزج مع بعضها البعض، بل لقد وجدوا أن مياه البحر الأبيض المتوسط لا تمتزج بمياه المحيط الأطلنطي عند جبل طارق فتغطس مياه البحر الأبيض تحت مياه المحيط لأن البحر الأبيض أكثر ملوحة من المحيط، ولم يعرف محمد صلى الله عليه وسلم البحر ولم يشاهد ملتقى البحار والأنهار وما كان يملك من أدوات البحث والتحليل ما يفهم به ما تقرره هذه الآية: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ) (¬1). فهناك التقاء ولكن هناك حاجز وسبحان القائل: (أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (¬2). الجواب: أن هذا من جملة ما يُفترى على كلام الله من شؤم هذه العلوم الحديثة، ولم يُرد سبحانه بكلامه ما ذهب إليه هؤلاء، وكون مياه ¬

(¬1) الرحمن، آية: 19، 20. (¬2) النمل، آية: 61.

البحار والأنهار لا يمتزج بعضها ببعض فهو والله الكذب البارد السامج، وإن غاية عذوبة ماء النهر أن تُدْرَك عند مصبّه في البحر أما إذا التقى بماء البحر فقطعاً يمتزج أحدهما بالآخر فتتلاشى عذوبة ماء النهر بقدر بُعْده عن مصبّه من البحر وبقدر ملاقاته لماء البحر فيصيران ماءً واحداً مالحاً لكثرة ماء البحر وملوحته، والبحار مثل ذلك إذا الْتقت مياه بعضها ببعض امتزجت في الحال، أما المكابرات والسخافات فلها عقول تقبلها. أما البرزخ المذكور في آية سورة الرحمن فهو الحاجز من الأرض لئلا يبغى هذا على هذا وهذا على هذا فيزيل أحدهما صفة الآخر ليس هو حاجز من الماء. وكذلك هو البرزخ المذكور في سورة الفرقان قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً) والمراد بالبحرين الأنهار العذبة والبحار المالحة، والبرزخ والحِجر هو الحاجز كما في آية سورة الرحمن وآية سورة النمل، والمراد بذلك اليابس من الأرض المانع من طغيان بعضها على بعض فتذهب الحكمة من وجود الأنهار وعذوبتها والحكمة من وجود البحار وملوحتها. ومن شاء فليأخذ بإناء صغير أو كبير ماءاً من النهر ثم يصب عليه ماءاً من البحر فيشرب إنه يجد الماءان صار ماءاً واحداً بالامتزاج.

وكم وكم يُحيل أرباب هذه العلوم على دقائق خيالية إذا سُلِّط عليها نور الوحي بانت ظلمتها وظهرت زيوفها فالحاجز يمنعها من الاختلاط وهو حاجز الأرض، أما إذا تداخلا واختلطا فيمتزجان ضرورة. ثم ذكر صاحب كتاب توحيد الخالق في (ص263) أن الباحثين اكتشفوا حقائق في الكون قد أخبر عنها القرآن وإنما لم تكن البشرية تعرف عن هذه الحقائق شيئاً. انتهى. وقد ظهر للقارئ المنصف بعض هذه الكشوفات وضلالها وأن القرآن لا يأتي بمثل هذا الضلال، وسوف أذكر غير ما تقدم مما يُدَّعى أنه إعجاز للقرآن وهو ضلال. والحقيقة أن السلف لم يكونوا يعرفوا هذا الضلال فقد حماهم الله منه ولم يكن الشيطان يطمع بهم إلى هذا الحدّ فيتلاعب بهم في شأن السموات والأرض والمخلوقات، وكان لهم تمام المعرفة وكمالها. وهم أول من مُدح بهذه الآية وأولى بها قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ).

(يومئذ تحدث أخبارها)

(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) الاحتفاظ بالأعمال للنظر فيها: لقد ثبت أخيراً ثبوتاً قاطعاً أنه ما من صوت من الأصوات، ولا عمل من الأعمال، ولا حركة من الحركات، إلا وهي مسجلة في سجل الكون، ومدونة في كتاب الوجود، فليس شيء منها ضائعاً ولا يمكن لشيء منها أن يزول، ولقد صُنِعَت آلة تصوير حديثة تمكن بها الباحثون أن يصوروا أحداثاً بعد ساعة من وقوعها ولقد جاء في تفسير قوله تعالى: (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (¬1). عن أبي هريرة رضي الله عنه: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) فقال: "أتدرون ما أخبارها؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها ¬

(¬1) سورة الزلزلة.

أن تقول: عمل كذا وكذا قال: فهذه أخبارها") (¬1). وإذا كان الباحثون في هذا الزمان قد اكتشفوا أن كل عمل محفوظ مسجل على صفحة الوجود، فلماذا سُجِّلَت الأعمال إذن؟ ألا تجد العقول جواباً إلا أن تقول سُجِّلَت الأعمال لإعادة عرضها ولكنا لا نرى الإعادة في الدنيا! إذاً لا بد أن العرض سيكون بعد هذه الحياة كما نطق الكتاب وقال المرسلون. انتهى289. هذا الذي يذكره صاحب كتاب توحيد الخالق بلا شك ولا رَيْب أنه من دجل أعداء الله وخوارقهم الشيطانية فتصوير الأحداث الماضية مَخْرقة، والشيطان يقدر على ذلك ويفعله لأوليائه، وذلك بأن يُظهر لهم صورة بعض ما حدث كسائر ما أقدر الله عليه الشياطين حيث أن الشياطين تُمثِّل الإنس تماماً بالصور والصوت فلا يعجزهم مثل ذلك وأعظم منه. والذي يُسمونه (تحضير الأرواح) في مصر وغيرها من هذا الجنس حيث يزعمون أن روح الميت حضرت فيسمعون صوت هذه الروح، وهو شيطان تمثّل بصورة روح الميت ويتكلم بمثل كلامه ويخبرهم عن أمور كانت جارية وقت حياة الميت وبعدها ولوْ قد مات منذ مائة سنة أو أكثر ¬

(¬1) رواه الترمذي (5/ 446) والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 520) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

فالشياطين تمثله، ويظنون أن روحه هي التي حضرت وإنما هو شيطان يُمثله. والشياطين تقدر على أعظم من هذا إذا تقرّب إليها العبد بما يُسخط ربه، إما الكفر أو الفواحش وغيره، وقد ذكر ابن تيمية ما هو أعجب مما اغترّ به صاحب كتاب توحيد الخالق في كتاب (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) وفي مواضع من الفتاوى ذكرتُ طرفاً من ذلك وغيره في كتاب (الحق المستبين) وغيره. أما أن يُقال: ما من صوت من الأصوات ولا عمل من الأعمال ولا حركة من الحركات إلا وهي مسجلة في سجل الكون ومدوّنة في كتاب الوجود وأن الملاحدة صنعوا آلات تصوير تُصَوِّر الأحداث الماضية فهذا أكذب الكذب وأبطل الباطل، ومما يُروِّج لأعداء الله من الأباطيل ليأخذوا من قلوب المسلمين عبوديتهم لربهم من الخوف والرجاء، وينقمع المسلم في ذُلٍّ نفسيٍّ لا يفارق قلبه أمام هؤلاء الملاحدة، وهو من جنس دعوى وصول القمر مع أن هذا لم يكن ولن يكون، وأنا أباهل من يدّعي هذه الدعوى الزائفة. وإن جرأة صاحب كتاب توحيد الخالق على كلام الله وكلام رسوله جرأة عجيبة حيث أتى بسورة (الزلزلة) بعد الخارقة مُسْتدلاً

بتسجيل الأعمال التي تعاد يوم القيامة، وإن صاحب كتاب توحيد الخالق ليؤدي خدمات جليلة لأعداء الله مع خطورة كلامه في الدين. فقوله: فلماذا سجّلت الأعمال إذن؟ بعد قوله: كل عمل محفوظ مسجل على صفحة الوجود ثم قوله: سُجِّلَتْ الأعمال لإعادة عرضها ولكن لا نرى الإعادة في الدنيا إذاً لا بد أن العرض سيكون بعد هذه الحياة. هذا الكلام خلاف ما جاء عن الله وعن رسوله فقد أخبر سبحانه في كتابه العزيز عن الملائكة الحفظة كما قال تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ)، وقال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، وغير ذلك مما يبين أن تسجيل الأعمال والأقوال وظيفة الملائكة ليس سجل الكون وكتاب الوجود وصفحة الوجود كما يزعم صاحب كتاب توحيد الخالق. ليعلم صاحب كتاب توحيد الخالق وأمثاله من المبهورين بما فُتح على أعداء الله من هذه الفتن والخوارق أن هذا ابتلاء من الله عز وجل، ونحن ولله الحمد على يقين أن هؤلاء الكفرة لن يعدو قدْرهم. وأما عن الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبر كذلك بالحفظة وأنهم يتعاقبون علينا في صلاة الفجر وصلاة العصر (¬1). ¬

(¬1) رواه البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً (3/ 1178).

أما أن تُحدث الأرض بما عُمل على ظهرها فشيء آخر غير تخريف الملاحدة حيث ينطقها الله الذي انطق كل شيء إذا شاء وذلك يوم القيامة، وهذا أمر زائد على ما يكتبه الحفظة فحديث الأرض بما عُمل عليها لا يكون إلا يوم القيامة. أما ما زعمه صاحب كتاب توحيد الخالق فخوارق أعداء الله بلا شك ولا ريب والشياطين تعمل لأوليائها مثل هذا ولكن بشكل محدود وإنما يُسلطون على أمثالهم. أما في سائر الناس وسائر الأحوال فلا يقدرون على شيء من ذلك. والمثال المقرِّب للمسألة أن الشياطين حاضرة الناس يرونهم ويسمعونهم ويرون أفعالهم فمن تقرب إليها بما يحبونه خدموه بمثل هذه الخدمات وأحب ما يُحبون الكفر بالله والفواحش، وهذا أسهل على الشياطين لأنهم يقدرون على التشبه بالناس والحيوان بحيث لا يُفرق بين هذا وهذا، والصور لا تكلفهم شيئاً، فإن الله سبحانه أقدرهم على التصور بغيرهم بسهوله وسرعة ومطابقة. وقد ضل في مثل هذا الخوارق خلائق لا سيما عباد القبور وغيرها من الأصنام فإن الشيطان يتمثل بصورة المقبور فيُرى خارجاً من القبر، وقد يقضي حاجة وليَّه من الإنس.

السديم

السديم والآن نعود إلى (السديم) المزعوم حيث ذكره صاحب كتاب توحيد الخالق في صفحة 321 ولأنه أصل الكون عندهم -أي عند الملاحدة-. ذكر صاحب كتاب توحيد الخالق قول الملاحدة أن السديم المادِّي أول بلا بداية وأنه لا خالق له. وقد تقدم الكلام عن السديم وأنه بزعمهم منه انفصلت الكواكب بواسطة الدوران في فضاء لا حَدَّ له فانظر تصريحهم بأنه لا خالق له، فهذه بداية هذه العلوم الحديثة وهذا أصلها وتنتهي للتعطيل، ولذلك لا تجد في كلام المقلِّدة ما يدلك على السموات التي فوقها ربك كما تجد ذلك ظاهراً جلياً بيّناً قريباً في كلام السلف الذين يتكلمون في معاني كلام خالق هذا الكون ورسوله، وقد تقدم ما يبين ما أقول، ويأتي ما يزيده وضوحاً إن شاء الله. والعجيب من صاحب كتاب توحيد الخالق وأمثاله من المفتونين بهذه العلوم الحديثة وكشوفاتها أنهم يذكرونها على أنها فعل الله يعني أنه خالق الكون والكائنات هكذا على ما يزعمه الملاحدة بخيالاتهم فيرومون

الجمع بين الحق والباطل رغم التعارض والتناقض والتنافر، وهذا لبس عظيم حصل بسببه ما لا يحيط بعلمه إلا الله عز وجل. وبما أن هذه البداية للكون عند الملاحدة وأن السديم هو الأول بلا بداية فتَبَعاً لهذا الضلال البعيد تخيّلوا أنه يتكوّن من ذرات مادية مركبة من عِدَّة جُسَيْمات (الكترونات وبروتونات ونيترونات) نقل هذا عنهم صاحب كتاب توحيد الخالق في ص322 كما يذكر ذلك غيره من إتباعهم، فالكون عندهم كله يتكون من الذرة. والمراد هنا أن هذه الذرّات المزعومة كالسديم المزعوم كل ذلك مبني على خيال غارق في ظلمات التعطيل يُصَرّفه الشيطان على مراده. وأعجب من زعمهم عدم الإيمان بغير المحسوس، ومع هذا أثبتوا هذا السديم الذي لا بداية له ولا خالق فهو خالق لنفسه، وأثبتوا أنه يتكون من ذرات والذرات تتكون من الكترونات وبروتونات ونيترونات تدور في داخل الذرة كما تدور كواكب المجموعة الشمسية حول الشمس. وإذا كانت الذرة كما يصرّحون هم أنها لا تُرى ولا بأكبر المجاهر فكيف بمكوِّناتها الدائرة حولها؟، وكيف آمنوا بها؟ وهم لا يؤمنون إلا بالمحسوس. وربهم السديم الأول بلا بداية كيف آمنوا به أيضاً وهم لم يُحِسِّوه ولم يَجسّوه وكيف عرفوا أنه يتكون من ذرات؟.

إنهم نظروا إلى الكون من أول نظرة وأول خطوة في علومهم التجريبية الحديثة على أنه لا خالق له فجاءت عجائب ظلمات الخيالات ودواهي الضلال والكفريات. وكلامهم في المادة التي أصلها الذرَة وكلامهم في الذي يسمونه السديم وكوْن ذلك بلا بداية وحركة الدوران هو الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية عن أسلافهم الدهرية. قال رحمه الله: القول بأن جَوَاهر العالَم أزليّة وهو القول بِقِدَم المادة وكانت متحركة على غير انتظام فاتفق اجتماعها وانتظامها فحَدَثَ هذا العالَم قولٌ في غاية الفساد. انتهى. تأمله فإنه هو قول هؤلاء، وهنا لا بد من الإشارة إلى بداية هذه العلوم.

الكنيسة

الكنيسة بدأت هذه العلوم التجريبية الحديثة في بلاد الغرب على أصول تقدم ذكرها مثل عدم الإيمان بغير المحسوس الذي المراد الأعظم منه جحد مكوِّن لهذه المكوِّنات ومُوجدٍ لهذه الموجودات فأول خطوة خَطَوْها وأكبر أصل أصَّلوْ أن لا خالق للكون، فنظروا في الكون على هذا المقتضى، ولا تسأل عن ضلال مَنْ دين أبي جهل أحسن منه لأن أبا جهل داخل في قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ). أبو جهل يقر بوجود الرب عز وجل وأنه خالقه ورازقه بل ويعبده لكنها عبادة شركية لا تنفعه. أما هؤلاء فكما رأيت أصولهم، فهم معطلة دهرية، والمراد هنا أن أرباب الكنائس النصرانية علموا أن أرباب العلوم التجريبية معطلة جاحدون للخالق وعملوا أيضاً أنهم يقولون: الأرض على شكل الكرة وأنها تدور، فقامت قائمة الكنائس عليهم لأنهم أقرب منهم إلى الحق وإن كانوا كفاراً فما زالوا على إقرار بالربوبية والنبوات وبقية كتب أنبيائهم عندهم، ورغم تحريفها ففيها ما لم يحرف من معرفة الخالق والنبوة ونحو ذلك، فالمشرك خير من المعطّل الملحد الدهري.

والمراد أن أرباب الكنائس أنكروا على المعطلة ما افْتَروْه وحصل بين الطائفتين شرٌّ عظيم. وكان مما أغرى المعطلة بما عندهم إنكار الكنيسة لِكروية الأرض واستدلالهم على هذا الإنكار بما ليس بدليل، والمعطلة لا يشكّون في ذلك فقد ظهر لهم بجلاء فرَأوا أن الكنيسة تكابرهم مكابرة فرفضوا كل ما يأتي به أربابها. كذلك زعم المعطلة أن الأرض ليست هي مركز الكون وليست ثابتة بل تدور حول نفسها وحول الشمس مما زاد غيظ أرباب الكنائس عليهم لأنهم يجدون في كتبهم أن الأرض مركز الكون وأنها ثابتة وعرفوا أن هؤلاء المعطلة لا يقرون بالخالق. والكنيسة أخطأتْ في أمور أغرت المعطلة وزادت في تباعدهم عن تعاليمها والمعطلة فرحوا بما عندهم من معرفة أن الأرض على شكل الكرة وأغراهم الشيطان أن طريقهم في العلم والمعرفة هو الصواب الذي لا ينبغي الالتفات إلى غيره، فأحسنوا الظن بنفوسهم وعلومهم لبعض حق أصابوه في المخلوقات وأساءوا الظن بأرباب الكنائس لمكابرتهم إياهم على ما لا تصلح المكابرة فيه، واستمر كل على ما هو عليه، طرفان متباعدان لا يلتقيان.

أخطأت الكنيسة بإنكار كروية الأرض، وسبب الخطأ فُهُومُهُمْ الفاسدة، أما ما بقي في كتبهم من حق مَوْروث عن أنبيائهم فقطعاً ليس فيه ما يعتمدون عليه لِبَرْهَنَة هذا الإنكار. وقد وقع في هذا الخطأ من فَهِمَ بعض آيات القرآن على غير ما أراد الرب سبحانه حيث ظنوا أن قوله تعالى: (وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) أن هذا يُنافي كونها على شكل الكرة، وهذا معلوم أنه غلط إذْ لا منافاة ولله الحمد ولا تعارض، والذي يُدْرَك على حقيقته بالعقل الصريح محال أن يُعارضه النقل الصحيح، وإنما يأتي الخلل إما من المنقول بأن يكون غير صحيح أو صحيح ولكن الفهم لمعناه والمراد منه فاسد. أو يكون ما يُدّعى أنه عقلي صريح ليس كذلك بل خطأ وغلط، ومن هنا تأتي المصائب، ومن هنا يكون النزاع بين الطوائف المختلفة مع أسباب أخرى أيضاً. نحن نبصر الأرض بأبصارنا المحدودة على هيئة السطح المستوي، والسِّرّ في ذلك عظم جرمها، ولو كانت أبصارنا أقوى مما هي عليه لبان لنا خطأ ما تَوَهّمناه من التعارض. والجسم الكروي كلما كبرُ كلما ضعف تمييز انحناءاته بالبصر، والذي يرتفع فوق مكان عال من الأرض كالجبال الرفيعة يرى ما لا يراه من على وجه الأرض.

وليس المراد هنا بيان شكل الأرض فقد أصبح معلوماً يقيناً، وطرق معرفته مُتَعدّدة معروفة. إنما المراد أن أرباب الكنائس كابروا أولئك مما زادهم إغراءً بما عندهم وتمادياً في تعطيلهم. ولقد أصاب أهل الكنائس في إنكارهم على المعطلة جحد الخالق وكون الأرض تدور لأنها منفصلة من مادة أزلية لا بداية لها وعلموا أن ذلك معارض للحق الذي بقي في كتبهم على حاله، وأن معنى كلام المعطلة أن الأرض ليست مركز للكون وأسفله، فمكابرة المعطلة في جحد الخالق وزعمهم دوران الأرض لأجل انفصالها عن مادة أزلية أعظم بما لا نسبة له من غلط أرباب الكنائس، والكفر بعضه أشد من بعض. قال تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ) وأهون أهل النار عذاباً أبو طالب (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) والنار دركات بعضها أشدّ من بعض. هذه إشارة يُسْتخلص منها ويتبيّن أن شراسة وغيْظ المشغوفين بهذه العلوم الحديثة على أرباب الكنائس إنما باعثها الهوى الذي يُعْمي صاحبه عن العدل الذي قامت به السموات والأرض، إن الذي ينظر في كتب كثير من المقلِّدة الأتباع لأرباب العلوم الحديثة يرى الدفاع المستميت عن المعطلة والسبب كلال عين الرضا عن رؤية العيب.

ولو أرشدوا لَنَقِمُوا على الطرفين وكانت نقمتهم أعظم على المعطلة الدهرية أرباب العلوم الحديثة من جهة تعطيلهم، وينقمون على أرباب الكنائس كفرهم وشركهم، لكن تكون النقمة على المعطلة أعظم من النقمة على المثلثة، كيف وكثير ممن كتبوا عن هذه العلوم لم ينقموا على أهل الكنائس شركهم إنما نقموا عليهم أشد النقمة لمعارضتهم مَنْ سَمّوْهم: (علماء). صبوا عليهم جام غضبهم لأجل ذلك لا لأجل الكفر، والرب سبحانه من أسمائه (العدل) وحكمه كله عدل لا ظلم فيه ولا مثقال ذرة، وقد أنزل على نبيه فيما يخص أهل الكتاب وهو لنا أيضاً: (وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)، وقال تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ) وغير ذلك من الآيات البيّنة في الأمر بالعدل في كل شيء ومع كل أحد. وليعلم الناظر في هذا أننا ولله الحمد نُنكر على من ينفي ما لا يعلمه إذ حجّته عدم علمه، لأن عدم العلم بالشيء ليس بعلم فلا يوجب النفي ولا الإثبات وإنما التوقف وقول (الله أعلم) فهذه آداب شرعنا وقد قال تعالى في ذَمّ من يُنكر الشيء لعدم علمه به (بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ) فهذا كَذَّبَ بما لم يعلم وجوده أو بما لم يعلم حقيقته لا بما يعلم أنه كذِب، وفرْقٌ بين هذا وهذا. فإذا قيل: أنتَ أنكرتَ الذرة التي اكتشفها الباحثون والعلماء والجُدد وأمرها ظاهر بَيّن في العلم كله اليوم فهذه مكابرة، قيل: أما الذرة نفسها

التي يصفون فإن القوم يقرون أنها لا تُرى ولا بأكبر المجاهر فكيف بما يدور حولها من الكترونات وبروتونات ونيترونات؟ فهم إنما يظهر لهم آثار يُحيلونها إليها مع عدم وجودها على وَصْفِهم، كما يُحيلون دوران الأرض والكواكب إلى سديم معدوم لا وجود له، وإلى التجاذب الذي قررّه نيوتن فغايتهم نظريات مرسومة على الأوراق يَعْضدونها بأفلام مُمَثَّلةً على مقتضى عقائدهم في الكون وذراته، والمفتون المغرور من خُدِع بنظريات مرسومة مُلَوّنة وأفلام سينمائية وتلفزيونية أبرزها وأظهرها الخيال الضال، وقد راج المُحال في عصرنا لما كُثر التفلّت من تعاليم الدين الحق وكُثر التنكر لها وانطلق العقل من عِقال الشرع الذي مجاله الآمن وحي خالقه وخالق الكون سبحانه. إن خروج العقل عما حَدّ له الشرع ولا شك يورده متاهات الحيرة والضلال، لأن الآمر بذلك والداعي إلى صراطه المُوغِل في الظلمات هو القائل لربنا عز وجل: (وَلأُضِلَّنَّهُمْ) وقد جعل الرب سبحانه له نصيباً مفروضاً يُحقِّق عليهم وبهم هذا الضلال والإضلال، قَدَرٌ نافذ وحكمة بالغة، (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) ولكن حكمته وأقداره السابقة وجود خليقته أن (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) ومن أراد إحراز دينه وتثبيت يقينه في مزَلّة، هي وعِزَّةِ ربي مَضَلّة فلينظر في كتاب (شفاء العليل في الحكمة والقضاء والقدر والتعليل) لابن القيم رحمه الله ففيه

الجواب عما يحوك في الصدر من أسباب سَبْق كتابة وإرادة شقاء الأشقياء وهي مسألة كبيرة جليلة، من أجل الخوض فيها بلا علم حار من احتار في خَلْق الكفار ومن يخلقه الرب وهو يعلم أنه يصير إلى النار. وما الحكمة في خلق الشرور المحضة مثل إبليس والشياطين والنار وحدود الشريعة المطهرة ما حكمتها وحكمة وجود ما ينافي الطباع ويُنغّص العيش ويُكَدّر الحياة، كل هذا وغيره مما لا يجد له المتأخرون أجوبة شافية كافية، تجدها في كتاب شفاء العليل وغيره من كتب هذا العالِم الجليل وشيخه -رحمهم الله تعالى-. والمراد أن الذرة هي عند القوم أصل الكون حيث أن السديم المزعوم يتكون منها ولذلك يقول صاحب كتاب توحيد الخالق: (الذرة لبنة البناء في الكون) ويزعم أن سبب اختلاف العناصر المادية يرجع إلى اختلاف عدد الجسيمات في الذرة وترتيبها، وهذا هو كلام أرباب العلوم الحديثة (¬1). وأنا ذكرت ما ذكرت لعلمي أن ضحايا كثيرة لهذا العلم الحديث هلكتْ باختيارها الضلال على الهدى والغيّ على الرشاد. لقد ضَلّت الخوارج بعقولها وكذلك القدرية والجهمية والمتكلمة والرافضة وغيرهم من طوائف الضلال، وهذا ليس موضوعنا وإنما نأخذ منه القَدْر المشترك بين هذه الطوائف وبين المتأخرين الذي لجّجوا في بحور ¬

(¬1) توحيد الخالق ص181.

الظلمات إنه طلب العلم والهدى من غير مضانَّة لا مما ضُمِنَ إضلاله فليس بعد الحق إلا الضلال، كذلك احتقار السلف الصالح ولاسيما الصحابة رضوان الله عليهم، وأي شيء أهل الوقت بجانب الصحابة رضوان الله عليهم، لقد فتح الله عليهم من العلم بالله وبمخلوقاته مالا يشاركهم فيه مشارك وحسب من جاء بعدهم اقتفاء آثارهم، وإن من يستقرء تاريخ الأمة بعدهم يرى أن كل من كان إلى منهجهم أقرب ولِهَدْيهم ألزم كان إلى الفلاح أقرب. وبعكس ذلك تماماً من غيّر وبدّل، وعن طريقهم وسَمْتهم تحوّل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

أمثلة من الضحايا

أمثلة من الضحايا من أمثلة ضحايا علوم الملاحدة الشاعر العراقي (معروف الرصافي) قلّد الملاحدة في فضائهم الخيالي فأنكر السماء المبنية لأنه لا وجود لها ولا ذِكر في علومهم، يقول في شعره: ولستُ من الأُلى وهِمُوا وقالوا ... بأن الروح تعرجُ للسماءِ لأن الأرض تسج في فضاءٍ ... وما تلك السماء سوى الفضاءِ إن هذا لا بُدّ منه لمن اغترّ بعلوم المعطلة فهذا اعتقد دوران الأرض الذي هو فرع من دوران السديم الذي انفصلت منه، واعتقد الفضاء الذي لا حدَّ له فقال: (وما تلك السماء سوى الفضاء). إن إنكار السموات المبنية لم يُعهد بهذه الصورة قبل بداية هذه العلوم التجريبية، وكذلك لما قلّدهم في الذرة المزعومة أنكر فناء الأشياء وزعم أنها فقط تتحوّل من حال إلى حال وهذا هو اعتقاد المعطلة في الذرة وقد قال تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ).

يقول في عدم فناء الأشياء: ولا من يرى الأشياء تفنى ... بحيث تكون من عدمٍ هواءِ ولكن هُنّ في جمع وفَرْقٍ ... تبدّلُ منهما صُوَر البقاءِ (¬1) يعني أن الأشياء لا تفنى وإنما تتبدل صورها بالجمع والفرْق يعني حسب التركيب الذري، ولذلك قال: (في جمع وفرق). وهذا الزنديق يُنكر الوحي على الأنبياء ويرى الشرائع مختلفة من قوم دهاة أذكياء خدعوا الناس بأنهم أنبياء يوحى إليهم، يقول عن نفسه: ولستُ من الذين يروْن خيراً ... بإبقاء الحقيقة في الخفاءِ ولا ممن يرى الأديان قامت ... بوحي مُنْزَلٍ للأنبياءِ ولكن هُنَّ وضْعٌ وابْتداعٌ ... من العقلاءِ أربابُ الدّهاءِ وقد أنكر البعث والجزاء عدو الله وتبرأ ممن يُصلي ويصوم يقول عن نفسه: ولا من معْشر صَلّوْا وصاموا ... لِما وُعِدوه من حُسْن الجزاءِ ولا ممن يرْون الله يجزي ... على الصلوات بالحور الوُضاءِ فهذا ممن صَرّحوا وغيره كثير يكتمون مثل زندقته، وكثيرون وقعوا في حيرة وشك. المثال الثاني: جميل الزهاوي العراقي، وهذا ممن تزنْدق بعلوم الغرب المعطلة، وله شعر كفريّ نجس يقول فيه: ¬

(¬1) ديوان الرصافي 1/ 112.

تَوَقّفتُ لا ادري تجاه الحقائقِ ... أأنِّي خلقت الله أم هُوَ خالقي أنظر هذا الكفر الغليظ والجرأة على الله سبحانه، والمراد انه لتأثره بعلوم الغرب قال ما قال، وكذلك أنكر البعث لأنه غير محسوس له كما يُنكر أسيادُه غير المحسوس. يقول: وسائلةٌ هل بعد أن يعبثُ البِلى ... بأجسادنا نحيا طويلاً ونُرْزَقُ فقلتُ مجيباً إنني لستُ واثقاً ... بغير الذي حِسِّي له يتحقق وهيهات أن تُرجى حياة لميِّتٍ ... إليه البِلى في قبره يتطرّق تقولين يفنى الجسم والروح خالدٌ ... فهل بخلود الروح عندكِ منطق؟ أنظر قول هذا الزنديق: (إنني لست واثقاً بغير الذي حِسِّي له يتحقق) فهو مذهب أرباب العلوم الحديثة حيث لا يؤمنون بغير المحسوس مع تناقضهم البيّن من إيمانهم بمجرات من نسج الخيال وذرات لا تُدرك لأنها في عالَم المُحال. وهو مُنكِر لوجود الخالق يقول: لما جهلتَ من الطبيعة أمرها ... وأقمتَ نفسكَ في مقام مُعَلِّلِ أثبتَّ ربّاً تبتغي حَلاًّ بِهِ ... للمشكلات فكان أكبر مُشكلِ ويزعم الخبيث أن الله هو الأثير وان الله في الطبيعة والطبيعة في الله وهذا هو مسلك أرباب العلوم الحديثة وهو وحده الوجود التي يؤمن بها الزهاوي.

والمراد هنا ما دَخَله وأمثاله من إلحاد الملاحدة المعطلة أهل العلوم الحديثة، فهو يؤمن بمذهب (دارون) في النشوء والارتقاء وقد صَرّح بذلك فهو يقول: (والمذهب القويُّ في رأيي هو مذهب دارون في النشوء والارتقاء وقد تبعته ولم يتبعه في العراق أحد قبلي، وقد شاع فيه [يعني في العراق] بسببي) وله قصيدة عنوانها: (سليل القرود) قال فيها: وُلِدَ القرد قبل مليون عامٍ ... بَشَراً فارتقى قليلاً قليلا أيُّ شيء أَلَمَّ بالقرد حتى ... هَجَرَ الغاب نَجْلُه والقبيلا وعلى رجليه مشى بعد أن ... سارَ على أربعٍ زماناً طويلا يا لَهُ من تطوّرٍ حَوّل القرد ... لإنسان يُحسن التخييلا فليتأمل العاقل ما يفعل الشيطان بمن أعطاه قيادة وهو الذي يفتخر بأنه من نسل القرود فيقول: إنْ نحن إلا أقْرُدٌ ... مِن نسْل قردٍ هالِكِ فَخْرٌ لنا ارْتقاؤنا ... في سُلّم المداركِ إن الشقاء ليس له نهاية وقد قيل: (واخو الجهالة في الشقاوة يَنْعمُ). فانظر تأثّره بِدَارون لأن العلوم الحديثة تُوصل مُتّبعها إلى ذلك، فبعد أن يعتقد السديم والمجرات السابحة في فضاء لا ينتهي إن طلب قلبه ربه لم يجده وأحسن أحواله أن يقع وحده في الوجود، وهو البحر الذي غرق فيه من غرِق من مُقَلّدة الملاحدة.

فإذا نظر في العالَم السفلي ونشأة الحياة في الأرض ما استطاع التخلّص من نظرية دارون اللهم إلا أن يَفِرّ إلى مثلها يعني كائنات حَيّة نشأت مقطوعة عن منشئ فهذا مذهب الطبائعيين وهم أرباب العلوم الحديثة. وإنه لمن الضلال المبين أن تُتَخذ كفريات الكفرة ونظرياتهم الإلحادية طريق هُدى وذلك بدعوى إثبات الخالق، وقد تبين من بطلان نظرياتهم ما فيه كفاية، وسوف يأتي زيادة على ذلك إن شاء الله. وحيث أن الأمر كما قلت أن المعتقد لِما يعتقده هؤلاء المعطلة في السديم ليس له تخلّص من نظرية دارون في نشوء الكائنات إلا أن يلْجأ إلى مثلها. يقول الزهاوي الملحد: كل ظني أن الحياة على الأرض ... بَدَتْ من تفاعل الكيمياءِ وقال: ثم إن الحيوان بعد دُهُورٍ ... صار إنساناً ماشياً باسْتواءِ وقضتْ سُنَّة الوِراثةُ فيهِ ... أن تكون الأبناءُ كالآباءِ أما صاحب كتاب توحيد الخالق وأمثاله فيريدون أن يفرضوا هذا السديم المزعوم على الدين فرضاً بإثبات الخالق فَيَنْجرّ من يُحَسِّن الظن بهم ويُصدقهم في عدم التعارض مع الشريعة إلى الوقوع في الضلال وقد

لا يشعر. ولذلك يقول صاحب كتاب توحيد الخالق عن السديم وذراته المزعومة المتخيَّلة: إذا شاهدنا تركيب السديم وجدناه يتكون من ذرات مادية، وقد عرف العلماء أن هذه الذرات مركبة من عدة جسيمات (إلكترونات، بروتونات، نيترونات ... إلخ). ومن هذا التركيب تستنتج العقول أن هناك بداية لتكوين الذرة في الكون وأن تكوين الذرة ليس أزلياً ليس قبله شيء، إنما الذرة مخلوق حادث وعرفنا ذلك من اجتماع أشياء مختلفة متغايرة: (إلكترونات ذات شحنة كهربائية سالبة بروتونات ذات شحنة كهربائية موجبة، نيوترونات ميزونات ... إلخ)، وذلك كما تعرف أن القلم الذي بيدك حادث ليس أزلياً من ملاحظة تركيبه من سن معدنية، وجسم عاجي، فتجزم بأن هناك لحظة جمع فيها المعدن مع العاج. وكذلك تدلنا العقول أيضاً على أن هناك لحظة جمعت فيها الإلكترونات مع البروتونات مع غيرها لتكوين الذرة تلك اللحظة هي لحظة تكوين الذرة المادية في هذا الكون الذي يتكون منها السديم. وإذن ليس هذا السديم أزلياً قديماً كما يزعم الكافرون اليوم، ولا تظن أن قبل التقاء الإلكترونات مع البروتونات مع غيرهما من مكونات

الذرة كانت الإلكترونات، والبروتونات سابحة في الكون، هي وباقي مكونات الذرة، ثم اتحدت لتكوين السدم، لا تظن ذلك لأن الإلكترونات قد خُلقت لتتحد بالبروتونات وبسائر المكونات الأخرى لتكوين الذرة، ولمعادلة شحنة البروتونات الموجبة، وقد خلقت سائر مكونات الذرة لتكوين الذرة وفق خطة محكمة وتنظيم دقيق وتقدير محدد موزون، فإذا كانت الحكمة المشاهدة من خلق (البروتونات، الإلكترونات ... إلخ) هو: تكوين الذرة. وإذا كانت الذرة المادية حادثة غير أزلية. فلا شك إذن أن وجود هذه المكونات (إلكترونات، وبروتونات ... إلخ) حادث ليس بأزلي الذي لا أول له كما يزعم الكافرون (¬1). أنظر قوله عن الذرة: (إنما الذرة مخلوق حادث). وقوله: (وإذن ليس السديم أزَليّاً قديماً كما يزعم الكافرون). يقال لصاحب كتاب توحيد الخالق وأمثاله من الذين سلكوا هذا المسلك: أنتم لا للأعداء كسرتم ولا الإسلام نصرتم، وإنما صِفتكم كمن يُطِبُّ زكاماً فَيُورثُ جُذَاماً. وإنه من الكذب على الله أن يُوصف بأنه خالق لِما لم يخلقه بل لِما لا وجود له إلا في الخيال بل لِما أُريد به كَيْد دينه وإضلال عباده. ¬

(¬1) توحيد الخالق ص322.

تزعمون أن هذا يدلّ على الله ويَهْدي إليه، والشر لا يأتي بالخير، كيف تُرْجى هداية عن طريق ضلالة، إنه يُجنى من الشوك العنب. أما من نُفِخَ بِصورهم وأنهم أسلموا وأنهم عرفوا الخالق وأنهم يعني عن طريق هذه العلوم والكشوف فهؤلاء بين أمور هي: الأول: ذكر أهل العلم من السلف أن المتكلمين بما معهم من الحق رغم ضلالهم ينتفع بهم البعيد عن الإسلام حيث يقرّبونه إليه لكن من أراد سلوك الصراط المستقيم عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم فإنهم يقطعونه، فتأمل هذا فقد ضلّ بسبب عدم معرفته أو عدم المبالاة بما يؤول إليه خلائق. الثاني: أن غاية كثير منهم الإقرار بالخالق وأن للكون مدبّر وهذا الإقرار لا يُدخل في الإسلام فإن المشركين يقرّون بهذا. الثالث: اغترار هؤلاء بأن طُرق قومهم ضلال لعدم إثبات الخالق فقط فتبقى هذه النظريات الضالّة المضلّة عندهم صحيحة وعلم يدل على الله ويهدي إليه وأن ضلال من ضَلّ من قومهم فقط لعدم إثباتهم الخالق، فتكون هذه النظريات وسائل للدلالة على الله وهي من أعظم ما يُبعد عنه كما أنهم هم يضلون بمتابعتها. الرابع: إضلال المسلمين وغِشّهم بتحسين هذه الطرق ومدحها فيحصل الضلال.

ولقد ضل عن مكان الله من تابع هذه العلوم حيث لا يعرف سموات ولا علو ثابت ولا سفول ثابت للكون، ولا يعرف العرش. وقد ذكر المكان ابن تيمية نقلاً عن السلف (¬1). إن الضلال عن مكان الله تضمنه هذه العلوم الملحدة لمن تابعها وسار في ركبها حيث يتخيل الكون كله فضاء لا حَدّ له محشو بمجرات لا يحصرها العدد ولا تزال تتوالد، فمن جرته هذه العلوم والكشوف ضل ضلالاً بعيداً ولا يدري أين ربه، وقد يقع في وحدة الوجود. ولا محذور في ذكر المكان لله عز وجل إذا أثبتنا استوائه على العرش وأن العرش فوق السموات السبع وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما عُرج به كلما ارتفع كلما قرب من ربه، وأنه قرب من ربه لما عُرج به قرباً تأخر عنه جبريل عليه السلام. وقد ورد ذكر المكان حيث أقسم الله به كما جاء في الحديث أن الشيطان قال مخاطباً الله تعالى: وعزتك لأغوينّ بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسامهم. فقال الله تعالى: (وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لأغفرن لهم ما استغفروني) رواه الترمذي. ¬

(¬1) الفتاوى 5/ 376.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولفظ المكان ورد عن السلف، قال حماد بن زيد: هو في مكانه يقرب من خلقه كيف شاء. انتهى (¬1). وقال شيخ الإسلام أيضاً: قد وَردت الآثار الثابتة بلفظ المكان فلا يصح نفيه مطلقاً. انتهى (¬2). ¬

(¬1) مجموعة الفتاوى 5/ 376. (¬2) الاستقامة 1/ 127.

الدعوة إلى الله

الدعوة إلى الله ليعلم الخائضون في مسألة الدعوة في وقتنا أنهم بدعوتهم الكفار عن طريق التسليم لهم بضلالاتهم لا يُقيمون الحق وإنما يُضلون الخلق. قال شيخ الإسلام رحمه الله: فمما يرفع الله به الدرجات كما رفع درجات إبراهيم ويوسف عليهم السلام أن يُحْتج عليهم بالحجج الدافعة لهم، وأن يُكادوا كيْداً حسناً لدفع كيْدهم وعدوانهم على الإيمان وأهله، فلا يُمَكّنون من القدح في الإيمان بما يُسَلِّمه لهم المؤمنون. انتهى (¬1). كذلك هؤلاء من أراد أن يدعوهم فبالحق لا بالضلال لأن دعوتهم بضلالهم تمكين لهم بأن يقدحوا في الإيمان، إن إقرارهم على كون يتسع ومجرات لا تنتهي وخيالات لا تقف عند حد يُغْريهم بباطلهم، ويزهْدهم بما عند المسلمين من الحق. وإنما الصراط المستقيم أن يُدْعون إلى الله بالطرق الشرعية ويُجابهون مجابهة بأن نظرياتهم خيالية باطلة وأنها في أذهانهم فقط ليس لها حقيقة في الخارج ويبين لهم الحق في ذلك، ومن سلك غير هذه الطريق فهو كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: من عبد الله بجهل كان ما يُفسد ¬

(¬1) نقض التأسيس 2/ 294.

أكثر مما يُصلح. نسمع عن طوائف في زماننا تَبَنّوْا الدعوة بطريق محدَثة فرأوا مصالح تلك الدعوة فعَظّموها وكبّروها وما نظروا المفاسد الحاصلة، مع أن دَرْءّ المفاسد مقدّم على جلب المصالح، وكذلك فالعمل لا بد أن يكون على دليل لا أن الإنسان يعمل العمل ثم يلتمس من مجملات الشريعة وعموماتها دليلاً يحتج به. إذا تبيّن هذا فإن فلاسفة وغيرهم انتفعوا بأن اقتربوا من الإسلام بسبب ضُلاّل ممن ينتسبون للدين، ولم يجعل العلماء هذه النتائج رافعة للملام بل عابوا الوسائل وما اغْتّروا بالغايات. وقد نقلت جواباً لابن تيمية رحمه الله لما سُئل عن شيخ يتوِّب قطاع طريق لا يصلون ويفعلون المحرمات لكنه دعاهم، بغير الطرق الشرعية سُئل رحمه الله عن جماعة يجتمعون على قصد الكبائر من القتل وقطع الطريق والسرقة وشرب الخمر وغير ذلك، ثم إن شيخاً من المشائخ المعروفين بالخير واتباع السنة قصد منع المذكورين من ذلك فلم يمكنه إلا أن يقيم له سماعاً يجتمعون فيه بهذه النية وهو بدُفّ بلا صلاصل وغناء المغني بشعر مباح بغير شبّابة، فلما فعل هذا تاب منهم جماعة، وأصيح من لا يصلي ويسرق ولا يزكي يتورع عن الشبهات ويؤدي المفروضات

ويتجنب المحرمات فهل يباح فعل هذا السماع لهذا الشيخ على هذا الوجه لما يترتب عليه من المصالح مع أنه لا يمكنه دعوتهم إلا بهذا؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين: أصل جواب هذه المسألة وما أشبهها أن يعلم أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً وأنه أكمل له ولأمته الدين كما قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) وأنه بشر بالسعادة لمن أطاعه والشقاوة لمن عصاه فقال تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) وقال تعالى: (وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً). ثم ذكر رحمه الله آيات وأحاديث بهذا المعنى الذي هو لزوم الكتاب والسنة في جميع الأحوال والرد إليهما، ثم قال: إذا عُرف هذا فمعلوم إن ما يهدي الله به الضالين ويرشد به الغاوين ويتوب به على العاصين لابد أن يكون فيما بعث الله به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة، وإلا فإنه لو كان ما بعث الله به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفي في ذلك لكان دين الرسول ناقصاً محتاجاً تتمة، وينبغي أن يعلم أن الأعمال الصالحة أمر الله بها أمر إيجاب أو استحباب، والأعمال الفاسدة نهى الله عنها.

والعمل إذا اشتمل على مصلحة ومفسدة فإن الشارع حكيم فإن غلبت مصلحته على مفسدته شرعه، وإن غلبت مفسدته على مصلحته لم يشرعه بل نهى عنه كما قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) وقال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) ولهذا حرمهما الله تعالى بعد ذلك. وهكذا ما يره الناس من الأعمال مقرباً إلى الله ولم يشرعه الله ورسوله فإنه لا بد أن يكون ضرره أعظم من نفعه وإلا فلو كان نفعه أعظم غالباً على ضرره ولم يهمله الشارع فإنه صلى الله عليه وسلم حكيم لا يهمل مصالح الدين ولا يفوت المؤمنين ما يقربهم إلى رب العالمين. إذا تبين هذا فنقول للسائل: إن الشيخ المذكور قصد أن يتوب المجتمعين على الكبائر فلم يمكنه ذلك إلا بما ذكره من الطريق البدعي يدل على أن الشيخ جاهل بالطرق الشرعية التي تتوب العصاة أو عاجز عنها فإن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين كانوا يدعون من هو شر من هؤلاء من أهل الكفر والفسوق والعصيان بالطرق الشرعية التي بعث الله بها نبيه ما يتوب به العصاة فإنه قد علم بالاضطرار والنقل المتواتر أنه قد تاب من الكفر والفسوق والعصيان من لا يحصيه إلا الله تعالى من الأمم

بالطرق الشرعية التي ليس فيها ما ذكر من الاجتماع البدعي، بل السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وهم خير أولياء الله المتقين من هذه الأمة تابوا إلى الله تعالى بالطرق الشرعية لا بهذه الطرق البدعية وأمصار المسلمين وقراهم قديماً وحديثاً مملوءة ممن تاب إلى الله واتقاه وفعل ما يحبه الله ويرضاه بالطرق الشرعية لا بهذه الطرق البدعية ... إلى آخره. في هذا الجواب رد على جميع من أحدثوا في الدعوة ما أحدثوا مما يخالف ما كان عليه السلف. وتأمل قوله رحمه الله: وهكذا ما يراه الناس من الأعمال مقرباً إلى الله ولم يشرعه الله ورسوله فإنه لا بد أن يكون ضرره أعظم من نفعه، وإلا فلو كان نفعه أعظم غالباً على ضرره لم يهمله الشارع فإنه صلى الله عليه وسلم حكيم لا يهمل مصالح الدين ولا يفوِّت المؤمنين ما يقربهم إلى رب العالمين، فهذا يبين الأضرار الحاصلة من تحذلق المتحذلقين وتكلف المتكلفين الذين اتبعوا أهواءهم وفتحوا للأمة أبواب الضلالات والفتن وذلك بمخالفتهم لما كان عليه السلف من صدق الإخلاص وحسن الاتباع. وشيخ الإسلام نفسه هو الذي ذكر عن المتكلمين أنه ينتفع بهم البعيد عن الإسلام فيُقربون جنس الفلاسفة بعض التقريب للإسلام ولكن

من أراد سلوك الصراط المستقيم عن طريق الرسول قطعوه وهذا كتاب عنوانه: (الله يتجلى في عصر العلم) تأليف مجموعة من أهل هذه العلوم الحديثة. ومعلوم أن تسمية الكتاب بهذا الاسم خطأ فهذا العصر عصر الجهل ليس عصر العلم إنما عصر العلم عصر الصحابة رضي الله عنهم. وهم يريدون بالعلم علومهم الفاتنة، يتكلم هؤلاء عن إثبات الخالق ويستدلون بعلومهم الضالة عن الكون لكن لا يصلون إلى نتائج يقينية فضلاً عن الحقائق الإيمانية. والسبب أن الطريق الذي سلكوه متاهة ومضّلة، والإقرار بوجود الخالق فطري وإنما هم تفسد فطرهم بعلومهم عن الكون حيث أن مبناها على التعطيل فلا توصل إلى الإقرار بالخالق إلا من بعيد مع ملازمة الشك والتعارض والقلق. وليس العجب منهم فهذا الطريق ظنوه موصلاً لهم إلى معرفة الخالق والإقرار بوجوده إنما العجب ممن يدّعي أنه مسلم ومن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ثم هو يسلك مسالكهم ويُحسّن طرقهم فيكون بذلك معيناً لهم على ضلالهم مع إضلاله لغيرهم.

وتسمية ضلالات هؤلاء علماً لها آثار سوء عليهم وعلى المسلمين، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فليس لأحد أن يبتدع اسماً مجملاً يحتمل معاني مختلفة لم ينطق به الشرع ويُعلّق به دين المسلمين. انتهى (¬1). والأمة مأمورة باتباع نبيها في كل شيء في الدعوة وغيرها، ولقد حُذّرنا من الإحداث، وهذا في الدعوة إلى الله وغيرها. والتفكر والنظر إنما يكون نافعاً يزداد به الإيمان إذا كان على النهج المحمدي أما طرق المغضوب عليهم والضالين في علومهم وتفكرهم ونظرهم فضلاله. والإقرار بالخالق فطري، وما كانت دعوة الرسل إلا إلى إفراد الإله الحق بالعبادة لكن الجاحد الملحد يدعى أولاً إلى الإقرار بوجود الخالق وإنما لا يُدعى بطرق تبعده وتزيده ضلالاً، فطريقة هؤلاء في علومهم إنما نشأت كثمرة من ثمار تعطيلهم فلا يُدْعَون بها، لأنها لا تهديهم بل تزيدهم ضلالاً وحيْرة، وإنما يُدْعَوْن بالطرق الشرعية، وقد أُمرنا أن نتبع ولا نبتدع، فلينظر إلى السماء بعينه ويُذكر له بناءها وقربها وأن فوقها الخالق العظيم، والأرض التي تحت أقدامه يذكر له ثباتها وأن الرب خلقها لتكون فراشاً ومهاداً للخلائق، وهكذا تكون الدعوة بالسماحة والسهولة التي جاءت بها الحنيفية، كذلك يذكر له بدء خلقه من النطفة وما في ذلك ¬

(¬1) مجموعة الفتاوى 17/ 318.

من عجائب تنقله بالأطوار في الرحم، وهكذا. إن هذه المجموعة السابقة الذكر يتكلمون عن الخالق من بعد بعيد فإثباتهم لوجوده محاط بالريب محفوف بالمعارضة مكتنف بالقلق، ولذلك فإن إيمان من آمن منهم بوجود الخالق في الغاية من الضعف مع أن الإقرار بالخالق لا يدخل في الإسلام. وإذا قارنا بين هذه القلّة والندرة من كفار هذا العصر الذي يقرون بالخالق وهم مدعوون بعلومهم الضالة وبين من دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والسلف الصالح تبين لنا الفرق العظيم الكبير بل وكأن هؤلاء الذين أُشيع عنهم وأذيع أنهم أسلموا وأقيمت الدنيا وأقعدت بتحسين هذه العلوم والكشوف من أجلهم، كأنهم لا شيء بالنسبة لمن اهتدى بالطرق الشرعية السهلة الميسّرة لكل أحد، ومن عاب هذه الطريقة فقد عاب النبي والصحابة والسلف وابتدع وأحدث في الدعوة.

دوران الأرض

دوران الأرض ولما أن صاحب كتاب توحيد الخالق وأمثاله رضوا أصول القوم من السديم وذراته وانفصال ما انفصل عنه من الكواكب التي بينها الأرض صار لزاماً لهم المتابعة في المسير وإلا انخرق النظام، ولذلك قال صاحب كتاب توحيد الخالق ما قال عن دوران الأرض تبعاً لأصول المقلِّدين في السديم. أما من يقول بثبات الأرض فلا يُقِر بهذا السديم أصلاً فضلاً عن دورانه وذرّاته، وإنما يقف حيث أوقفه الله ورسوله بأن الكون خلقه الله من مادة وهي (الدخان) المذكور في القرآن، وأن الأرض هي أسفل العالَم ومركزه وأنها كما قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء) وقوله تعالى: (أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً) الآية. وقد وضّحتُ ذلك ولله الحمد في (هداية الحيران في مسألة الدوران). والمراد هنا أن يقول في كتابه (توحيد الخالق) ص33: وإذا تأملت إلى هذه الأرض التي تسكن فيها وجدتها تسير مع المجموعة الشمسية كأنها على عِلم بِدَوْرها وعلاقاتها مع غيرها فكان ذلك الإتزان في السير، ونحن نعلم أن الأرض صماء عمياء جامدة لا عقل لها ولا تدبير ولا علم،

كل ذلك شاهد قائم يصيح في أهل العقول قائلاً: إن ربكم قد أحاط بكل شيء علماً. انتهى. هكذا صاحب كتاب توحيد الخالق يُقرّر نظريات الملاحدة الباطلة ويُثبت الخالق وأنه خلق الأرض على مقتضى نظريات الكفرة، وهذا ضلال مبين ويحسب هو وأمثاله أنهم بذلك يُحسنون صُنْعاً. إن الذي يعتقد دوران الأرض يستلزم اعتقاده نشأة الكون على مقتضى زعم الملاحدة في السديم، وهذا يجرّه حتماً إلى اعتقاد المجرات المزعومة في الفضاء الذي لا ينتهي، وقد تقدم بيان المجرات من كلام صاحب كتاب توحيد الخالق في قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) وكلامه الخيالي فيها كما يزعم الملاحدة، وإنما يُفارقهم بإثبات الخالق. فيقال له أنت اثبتَّ وجود الخالق على مقتضى فضاء لا ينتهي فأين مكان هذا الخالق وأين هو وأين سمواته المبنية ذات الأبواب والتي ليس لها فطور والتي تنشق يوم القيامة لنزول الملائكة كما قال تعالى: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً). ونحن نقرأ في سبعة مواضع من القرآن (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) فأين هذا العرش؟ إن اعتقاد فضاء لا ينتهي لا يتفق معه اعتقاد وجود ما تقدم ذكره.

فإذا قالوا: السموات والعرش والرب فوق هذا كله، قيل لهم: هل تقولون إن السموات السبع والعرش العظيم شيء ثابت مستقر وأن السماء بناء حقيقة كما في آيات عديدة من القرآن أم أنها دائرة سابحة مع المجرات. إن قلتم أن هذه المخلوقات العظيمة من السموات السبع والعرش العظيم ثابتة انتقض غَزْلكم وبطلت نظرياتكم من سديمها إلى مجراتها، لأن السموات بناء كروي محيط بالأرض من كل جانب، وبعضها في جوف بعض كما أن الأرض في جوف السماء الدنيا المباشرة لنا القريبة منا، وقد تقدم ذكر الإجماع على كرويّة السماء. وإن قلتم: إنها تدور مع المجرات جئتم ببهتان عظيم حيث جعلتم عرش الرحمن يدور به ولم تميزوه عن سائر الكواكب مع أنه عظيم مجيد كريم والرب سبحانه فوقه فهل يدور الرب وعرشه مع مجراته أم ماذا؟ تعالى الله علواً كبيراً عن هذا الضلال المبين. كذلك تورد عليكم ظاهرة العلو والسفول، فمن المعلوم ولله الحمد في عقيدة أهل الإسلام أن الرب سبحانه هو العلي الأعلى وأنه فوق مخلوقاته عالٍ عليها بذاته مستوٍ على عرشه، فإن كان يدور مع مجراته المزعومة فلا يكون هو الأعلى بل يكون مرة أعلى ومرّات أسفل تعالى الله وذلك بحكم الدوران والتقلّب المزعوم، وإن كانت السموات ثابتة

والعرش ثابت والرب مستو على عرش ثابت تحمله الملائكة وهو سقف العالَم كله والجنة تحته بطلت خيالاتكم. وإن قلتم: نقول: السموات والعرش والجنة والرب فوق ولا نفصل قيل لكم: هذا مُفصّل بالكتاب والسنة ومبيّن ومُوَضح وكأن المؤمن يراه بعينه بل درجة الإحسان (أن تعبد الله كأنك تراه) كما في الحديث الصحيح (¬1)، فهل نَدَعُ ما جاء به نبينا لِما جاءت به المعطلة؟. ليعلم من ضلّ عن ربه أن القلب له وِجّهة يتوجه إليها وقبلة يستقبلها هو مفطور على ذلك، والشريعة تفصل ذلك، فوِجْهة القلب وقبلته جهة العلو إلى ربه معبوده كما أن قبلة بدنه في الصلاة بيته سبحانه، ولذلك فالعلو والسفول ثابت في الكون بخلاف نظريات الملاحدة المضلّة فلا ثبات فيها للعلو ولا للسفول وإنما حركات الدوران مستمرة وبسرعة هائلة ومن هنا يأتي الضلال عن ذي الجلال. وما أسرع ما يقع من صَدّق هذه النظريات في مذهب وحدة الوجود بحيث يكون الرب عنده هو المخلوقات نفسها، فهذا الحلول العام أو يقع في الحلول الخاص بأن يحلّ الرب في بعض الأعيان. لأن القلب مفطور على محبة خالقه وطلبه وإرادته فإذا جال في الفضاء الذي لا حَدّ له لم يَرَ إلا ملايين من المجرات متناثرة في فضاء لا ينتهي وكواكب دائرة بسرعة هائلة فأين الله؟ كيف والكون لا يزال ¬

(¬1) رواه البخاري (1/ 27) ومسلم (1/ 37) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث جبريل المشهور.

يتسع بزعمهم. إن الملاحدة ومن يُقَلّدهم إن أثبتوا سموات سبع شداد طباق مالها من فطور ولها أبواب والكرسي والجنة والملائكة والعرش وربه فوقه، إن أثبتوا ذلك كما ورد في الكتاب والسنة والإجماع، وقد تقدم بيان ذلك كله، إن أثبتوه صار للفضاء حداً ينتهي إليه والذي لا نسبة بينه وبين فضائهم لصغره وضيقه وهو الفراغ الذي بين جرم السماء وجرم الأرض. وأنا أقول: صغره وضيقه بالنسبة لفضائهم المتخيَّل والذي لا وجود له خارج أذهانهم. وإذا صار للفضاء حداً ينتهي إليه فإما أن تصطدم مجراتهم ببناء السماء وبالكرسي والعرش وبالجنة أو أنه لا مجرات إلا في خيالات مظلمات، والمجرة واحدة وهي نجوم صغيرة بالنسبة لغيرها من النجوم والتي نراها بعيوننا وكأنها سحاب رقيق تَشقه فجوة مستطيلة كمجرى النهر. وقد بيّنت في (هداية الحيران) أن السفر إلى هذه المجرات خطْفة شيطانية وسفر خيالي. والعجب من صاحب كتاب توحيد الخالق فقد تكلم في مقام الإحسان فقال: (المقام الأول وهو أعلاهما: أن تعبد الله كأنك تراه، وهذا مقام المشاهدة وهو أن يتنوّر القلب بالإيمان وتنفذ البصيرة بالعرفان

حتى يصير الغيب كالعيان، فمن عبدَ الله عز وجل على استحضار قربه منه وإقباله عليه وأنه بين يديه كأنه يراه أوجب له ذلك الخشية والخوف والهيبة والتعظيم). انتهى ص337. يقال له: أين هذا الرب الذي كأن العبد يراه؟. إن كلامك في مجرات الملاحدة وفضائهم الذي زعمت أن الله خالقه يُضلّنا ضلالاً بعيداً عن وجود الله فضلاً عن أن نعبده سبحانه وكأننا نراه. وكأن صاحب كتاب توحيد الخالق تَوَلّج في هذه الظلمات وما عرف تعارضها وتناقضها مع ما جاء في الكتاب والسنة، فلَوْ راجع الأمر قبل الفوات لكان خيراً له لأن كتبه مبثوثة في كل مكان والشباب خاصة قد علمتُ أنهم يقتنون كتبه ويقرءون له كثيراً لأنه يتكلم في علومهم. والمقصود أن دوران الأرض ظلمة بين ظلمتين الظلمة الأولى السديم الذي تفرّع منه الزعم بأن الأرض تدور، والثاني المجرات التي تفرّعت من هذا الدوران. ومن العجائب أن أصبح هذا الدوران عند كثير من أهل الوقت من المسلّمات التي لا يُنازع فيها إلا جاهل، والسّر في كون إبليس أعطاها كل هذه العناية والرعاية هو أن نفي دورانها يهدم نظريات الملاحدة

ويجتثها من أصولها حيث تبطل نظرية السديم ونظرية المجرات وما يتبع ذلك من الضلال الذي يصعب حصره. وأنا تحدّيت كل أحد بالمباهلة في عِدّة مواضع على أن الأرض ثابتة. قال محمد متولي الشعراوي في (الأدلة المادية على وجود الله): ولكن الحق سبحانه وتعالى قال: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً) وما دام الله هو الذي جعل فلا بد أن يكون ذلك قد حدث ساعة الخلق، فأوجد الليل والنهار خلفة على الأرض ولكننا كما أوضحنا، فهذه هي البدايات، ولكن الله يقول لنا: إن في ساعة البداية كان الليل والنهار خلفة، إذن فلا بد أن يكون الليل والنهار قد وجدا معاً ساعة الخلق في الأرض، بحيث أصبح كل منهما خلفة للآخر، فلم يأتي النهار أولاً ثم خلفه الليل، لأنه في هذه الحالة لا يكون النهار خلفة بل يكون بداية، ولم يأت الليل أولاً ثم يخلفه النهار لأنه في هذه الحالة لن يكون الليل خلفة بل يكون بداية ولا يمكن أن يكون الليل والنهار كل منهما خلفة للآخر إلا إذا وجدا معاً ونحن نعلم أن الليل والنهار يتعاقبان علينا في أي بقعة من بقاع الأرض، فلا توجد بقعة هي نهار دائم بلا ليل، ولا توجد بقعة هي ليل دائم بلا نهار، بل كل بقاع الأرض فيها ليل وفيها نهار. ( ولو أن الأرض ثابتة لا تدور حول نفسها، ووجد الليل والنهار معاً ساعة الخلق فلن يكون خلفة ولن يخلف أحدهما الآخر، بل يظل الوضع

ثابتاً كما حدث ساعة الخلق، وبذلك لا يكون النهار خلفة الليل ولا الليل خلفة النهار، ولكن لكي يأتي الليل والنهار يخلف كل منهما الآخر، فلابد أن يكون هناك دوران للأرض لتحدث حركة تعاقب الليل والنهار، فثبوت الأرض منذ بداية الخلق لا يجعل الليل والنهار يتعاقبان، ولكن حركة دوران الأرض حول نفسها هي التي ينتج عنها هذا التعاقب أو هذه الخلفة التي أخبرنا الله سبحانه وتعالى بها إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً) يحمل معنيين المعنى الأول: أنهما خلقا معاً، فلم يسبق أحدهما الآخر، وهذا إخبار لنا من الله سبحانه وتعالى بأن الأرض كروية، والمعنى الثاني: أن الأرض تدور حول نفسها، وبذلك يتعاقب الليل والنهار). أنظر كيف تُغضب معاني كلام الله لِمُجاراة هذه العلوم الضالّة المضلّة يقول: (إذن فلا بد أن يكون الليل والنهار قد وُجِدا معاً ساعة الخلق في الأرض بحيث أصبح كل منهما خلفة للآخر، ثم يقول مجاراة لعلوم القوم: ولو أن الأرض ثابتة لا تدور حول نفسها وَوُجد الليل والنهار معاً ساعة الخلق فلن يكونا خلفة ولن يخلف أحدهما الآخر بل يظل الوضع ثابتاً كما حدث ساعة الخلق).

يقال له: الليل والنهار قد وُجدا معاً ساعة الخلق وصار كل واحد منهما خلفة للآخر في نفس الوقت وحصل هذا والأرض ثابتة فما لنا ولهذيان المعطلة؟. فالرب سبحانه خلق الأرض أولاً قبل السماء وما فيها من الشمس والقمر والنجوم قال تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ). قال ابن كثير رحمه الله: فذكر أنه خلق الأرض أولاً لأنها كالأساس والأصل أن يُبدأ بالأساس ثم بعده السقف كما قال عز وجل: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ). انتهى. إن علوم الملاحدة ومن قلّدهم ليس فيها للكون أساس ولا سقف فما كان اليوم أسفل يكون غداً أعلى وهكذا. والمراد هنا أن الرب عز وجل لما خلق الأرض خلق السموات بما فيهن من الشمس والقمر والنجوم، والشمس خلقها من البداية في

السماء جارية دائرة على كرة الأرض، كذلك القمر والنجوم، فهي سراج أهل الأرض يدور عليهم لتعاقب دَوْلتي الليل والنهار فمِن حين خلق الله الشمس وصل نورها إلى الأرض فهذا النهار. ومعلوم أنها ليست تغمر الأرض كلها بالضياء وإنما نصفها فما غمرته بضيائها صار مقابِلُهُ ظل كرة الأرض وهو الليل، وحيث أن الشمس من البدء خلقها الله جارية في كرة السماء فبذلك جعل الله الليل والنهار خِلْفة، يأتي هذا فيذهب هذا، وما عدا ذلك فهذيان الملاحدة ومُقَلِّديهم.

(سنريهم آياتنا) الآية

(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا) الآية قال صاحب كتاب توحيد الخالق: القرآن يعد يكشف الآيات لتدعيم الإيمان: لكن الذي خلق الإنسان وعلمه، وأنزل القرآن وبيّنه اخبر في كتابه ووعده بأن سيكشف للناس وللعلماء خاصة حقيقة ما في هذا القرآن من آيات بينة لتكون دليلاً لهم على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (¬1). قال تعالى: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (¬2). وقال تعالى: (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (¬3). الوعد يتحقق: وقد تحقق وعد الله، وكان مما تحقق في عصرنا هذا عصر العلوم الكونية أنه كلما تقدمت الكشوف العلمية في ميدان من الميادين كشفت للناس عن آيات الخلق الباهرة التي تزيد الناس إيماناً ¬

(¬1) فصلت، آية: 53. (¬2) سبأ، آية: 6. (¬3) الأعراف، آية: 32.

بربهم وخالقهم وكشفت أيضاً عن معنى من المعاني، فإن القرآن قد تحدث بصراحة أو أشار إليه؛ وبقيت تلك الآية تؤول أو تفسر على غير معناها لعدم معرفة السابقين بحقائق خلق الله، ودقائق ما أشارت إليه الآية، فكان هذا نوعاً من إعجاز القرآن يظهر في عصر العلم الكوني يشهد بأن القرآن: كلام الله بما حوى من حقائق جهلها البشر جميعاً طوال قرون متعددة وأثبتها القرآن في آياته قبل أربعة عشر قرناً من الزمان فكان ذلك شاهداً بأن هذا القرآن ليس من عند رجل أمي أو من عند جيل من الأجيال البشرية لا يزال يعيش في جهل كبير إنما هو من عند الذي خلق الكون وأحاط بكل شيء علماً، وصدق الله القائل لنبيه: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (¬1). إن ما يقوله صاحب كتاب توحيد الخالق وأمثاله ممن فُتِنوا بهذه العلوم من كون آيات الخلق ومعانيها تؤول وتفسّر على غير معناها عل عهد الصحابة فمن بعدهم من السلف الصالح، إنه قول عظيم خطير لأنه تجهيلٌ للسلف بعدم معرفة معاني هذه الآيات وتضليلٌ لهم باتّهامهم بتأويلها على غير معانيها والعكس هو الصحيح، وفيما ذكرته وأذكره إن شاء الله كشف لحقيقة الأمر. أما هنا فذكر قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ) الآية وكثيراً ¬

(¬1) توحيد الخالق، ص341.

ما يستدل بها المفتونون بعلوم وكشوفات الغرب فيتأوّلونها على غير تأويلها، ويأتي إن شاء الله تفسيرها. وأما قوله تعالى: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) الآية فليس معناها كما أراد، قال ابن جرير رحمه الله: وعنى بالذين أوتوا العلم مُسْلِمَة أهل الكتاب كعبد الله بن سلام ونظرائه الذين قد قرءوا كتب الله التي أُنزلت قبل الفرقان فقال تعالى: وليرى الذين أوتوا العلم بكتاب الله الذي هو التوراة، الكتاب الذي أُنزل إليك يا محمد من ربك هو الحق، وقيل: عَنَى بالذين أوتوا العلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى. فهل أراد الله بالذين أوتوا العلم أهل هذه العلوم ومن قَلّدهم؟ وأيّ علم عند هؤلاء؟ وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال في الحديث الصحيح: (إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم ويُثْبت الجهل) (¬1) وهذا هو الحاصل في عصرنا، وقد استعاذ صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع كيف بالعلم الضار؟ ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1/ 43) ومسلم (4/ 2056) عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً.

(كأنما يصعد في السماء)

(كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء) وقال صاحب كتاب توحيد الخالق في كتابه ص343 على قوله تعالى: (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء): بعد أن تمكن الإنسان من الطيران، والصعود إلى السماء، والارتفاع إلى طبقات الجو العليا، عرف أنه كلما ارتفع إلى أعلى قلَّ الأكسجين والضغط الجوي، مما يسبب ضيقاً شديداً في الصدور، وعملية التنفس، وذلك عين ما تنطق به الآية الكريمة قبل طيران الإنسان بثلاثة عشر قرناً من الزمان. قال تعالى: (مَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء) (¬1). والحرج: شدة الضيق، والآية تمثل من عمل ما يستحق به أن يعاقبه الله بإضلاله، فمثل حاله عند سماعه الموعظة، وما يتصل بالإسلام، وما يصيبه من ضيق شديد كحال ذلك الذي يتصعد في السماء، وما أدرى الرجل الأمي بتلك الحقيقة التي لا تُعرف إلا من الله لمن تَصَعَّدَ في السماء فهل كانت له طائرة طار بها؟ انتهى. ¬

(¬1) الأنعام، آية: 125.

الجواب: لقد هان الكلام في القرآن على صاحب كتاب توحيد الخالق والخطر والله عظيم والأمر جسيم وإنما تُشْكى الأمور إلى الله وهو حسبنا ونعم الوكيل، إن هذا التلاعب بكلام الله وإجباره على مجاراة هذه العلوم والكشوف وتصديقها لمن علامات إثبات الجهل ورفع العلم النافع، ومن علامات رفع القرآن، ولا والله ما تجرأ على كلام الله أحد إلا لعظم جهله وضلاله، وقد تقدم كلام الصِّديق رضي الله عنه في القول بالقرآن فما بال هؤلاء كأنما أُعطوا الأمان بأن يقولوا في القرآن بآرائهم وأهوائهم. ولقد أصبح الكلام في القرآن بالرأي فضيلة ومجال منافسة في عصرنا، فقد رأيت من ذلك عجائباً. فالذي يقوله صاحب كتاب توحيد الخالق حاشا وكلا أن يكون هذا مراد الله بكلامه، وكيف يخاطب الله خير القرون بما لا يعرفون ولا يفهمون؟ كيف يصف لهم الضلال بما لا يعقلونه وإنما يسْتأثر بفهمه ومعرفته المتأخرون، هذا تنقّص للسلف حيث يُظن أنهم يقرءون كلام الله ولا يعرفون معناه، وقد صَرَّح صاحب كتاب توحيد الخالق بذلك في مواضع من كتابه (توحيد الخالق) وتقدم بيان ذلك.

إن صرف معاني كلام الله إلى هذه المعاني السخيفة الهزيلة التي على تقدير صحتها لا تُعلم إلا لأفراد قد لا يخطر ببالهم مثل ما صال به وجال صاحب كتاب توحيد الخالق. أما ما يخاطب به الله عباده فهو الذي يعرفونه ليتحقق الانتفاع بالقرآن للمؤمن وقيام الحجة على الكافر. قال ابن عباس في الآية: يقول: فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه حتى يُدخله الله في قلبه. وقال ابن جرير: وهذا مثل ضربه الله لقلب هذا الكافر في شدّة ضيقه عن وصول الإيمان إليه يقول: فمثله في امتناعه عن قبول الإيمان وضِيقه عن وصوله إليه مثل امتناعه عن الصعود إلى السماء وعجزه عنه لأنه ليس في وِسْعِهِ وطاقته. انتهى. أنظر كيف حصل معنى الآية للسلف بأهون سبب، فكل يعرف هذا، فإن من يروم صعود السماء يجد من الشدّة والضيق والحرج ما يُشعره بامتناع حصول مرامه، فكذلك من يُرِد الله إرادة كوْنيّة إضلاله نَقْل الصخر أيْسَر وأهْوَن عليه من سماع الموعظة والدعوة إلى الله والدار الآخرة.

(أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج) الآية

(أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ) الآية وقال صاحب كتاب توحيد الخالق في قوله تعالى: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ). قال: كما كشف العلم الحديث أن هناك موجاً داخلياً يغشى البحر وهو أطول وأعرض من الموج السطحي، وقد تمكَّن الباحثون من تصوير هذا الموج بالأقمار الصناعية أيضاً، والقرآن يذكر هذه الحقيقة قبل قرون (¬1). وقال قبل ذلك: الظلمات التي في البحار العميقة والأمواج التي تغشاها. كشف العلم الحديث أن في قاع البحار العميقة -كثيرة الماء- (البحر اللجي) ظلمات شديدة، حتى أن المخلوقات الحية تعيش في هذه الظلمات بدون آلات بصرية وإنما تعيش بواسطة السمع، ولا توجد هذه الظلمات الحالكة في ماء البحر الذي يحيط بالجزيرة العربية. انتهى. ¬

(¬1) توحيد الخالق، (ص344).

وهذا أيضاً من عجائب الإحالات ولا شك أنه تأويل لكلام الله باطل فالله سبحانه لا يخاطب عباده بمثل هذا. ولقد كاد إبليس هؤلاء بما خاضوا به من هذيان الكفار لِصرف معاني كلام الله عن حقيقتها وصرف التفكر فيها والانتفاع إلى الالتفات إلى الكفار والتعظيم لهم ولعلومهم وازدراء السلف وتنقّصهم. فهذه الآيات العظيمة ضرب الله فيها مثلاً لأعمال الكفار فوصَفَها بالسراب الذي يظنه رائيه ماءً فإذا وصل إليه لم يجد شيئاً لأن أعمال الكافر حابطة بالكفر. فهذا مثل والمثل الثاني لأعمال الكفار الظلمات في البحر العميق عظيم الموج فتتّفق ظلمة الليل وظلمة الموج وظلمة السحاب، فهي ظلمات بعضها فوق بعض، وقد خاطب الرب سبحانه عباده بما يعرفونه ويدركونه لا سيما الأمثال فإن المراد من ضَرْبها التفكر والاعتبار والعبور من صورة المثل إلى حقيقة المعنى المراد. فالذي ذهب إليه صاحب كتاب توحيد الخالق في تفسير القرآن بما يشبه الأحاجي بل بما يُنزّه كلام الله عنه خطره عظيم، وهو لا يُقرّب فهم القرآن بل يصُدّ عن فهمه بتغيير الفطرة التي فطر الله عليها عباده، فهو سبحانه يخاطبهم بما يدركونه بحواسهم ويعرفونه بل ويشتركون في معرفته، وهو يُنزل الله على نبيه قرآناً يُتلى أربعة عشر قرناً معاني آيات

الخلق فيه كالطلاسم والألغاز لا تُعرف حتى جاء هذا العصر فظهرت معانيه على أيدي المعطلة ومقلّديهم؟ هذا منكر من القول وفيه من اسْتهجان السلف وتعظيم الكفار ما هو ضلال مبين. والذي يُقارن بين ما أذكره من تفسير السلف لكلام الله وما أنقله من تفسير المتأخرين يظهر له الفرق بين الهدى والضلال إلا من فسدت فطرته. قال قتادة: (لُّجِّيٍّ) هو العميق. (لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) أي لم يقارب رؤيتها من شدة الظلام، فهذا مثل الكافر الجاهل البسيط المقلّد الذي لا يعرف حال من يقوده ولا يدري أين ذهب بل كما يقال في المثل للجاهل: أين تذهب؟ قال: معهم، قيل: فإلى أين يذهبون؟ قال: لا أدري. وقال أبي بن كعب في قوله تعالى: (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) فهو يتقلب في خمسة من الظُّلَم: فكلامه ظلمه، وعمله ظلمه، ومدخله ظلمه، ومخرجه ظلمة، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات إلى النار. انتهى. هل يحيل الله عباده إلى هذه الأشياء الدقيقة في فهم كتابه بحيث لا يُفهم القرآن إلا بصواريخ تجوب الفضاء وغوّاصات تذهب في أعماق البحار ومناظير تُقرّب البعيد وتُكَبِّر الصغير ثم يجعل مفاتيح ذلك مع أعدائه يكتشفونه في آخر الأمة؟.

هذا والله من عجائب وقتنا بل ومن ثمار ظلماته موْج في قعر المحيطات العميقة تكتنفه ظلمات، اكتشفه الباحثون ولم يعرفه الأولون، هذا معنى (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) أما ما يُرى ويعرف لكل احد وهو أن أعمال الكافر كظلمة ليل بحر مائج يُغطيه السحاب فهذا كأنه لا يبيّن المعنى ولا يفي بالمقصود. كذلك قوله: (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء) يوجد فوق الغلاف الجوي فضاء خال من الهواء فالإنسان إذا وصل إليه يجد صعوبة وضيق، فيقال في معنى الآية ببساطة: صفة الكافر في حال سماعه للحق أو انتفاعه به كمن يحاول الصعود إلى السماء فهو ما لا يقدر عليه فهو في ضيق وشدّة وهو على الأرض. كذلك قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) أحياء لا تُرى بالعين لا تعيش بدون الماء. يقال: معنى الآية أن أصل الأحياء من الماء، كذلك قوله: (وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ) والحاجز بين البحرين والمجرات وأبعادها خيالية والذرات التي لا تُرى. وغير ذلك إذا تتبّعتَه وجدتَ إحالات على تقدير صحتها فهي كالطلاسم وهذا لا يليق بكلام الله وفهم معانيه فقد جعله سبحانه هدى وشفاء لا أحاجي وطلاسم مفاتيحها بأيدي معطلة دهرية يخرجون في

آخر الأمة. إن المقلِّدة يَدَعون الواضح الجلي الهيِّن السهل الصحيح الذي يدركه كل أحد. إلى شيء على تقدير وجوده خفي صعب باطل لم يرده الله بكلامه لا يُدْرَك إلا بالخيال. وصاحب كتاب توحيد الخالق يُبالغ بتعظيم هذه العلوم والكشوفات مما جعله ينسب إلى الله وإلى نبيه الباطل فإنه يقول في موج وظلمة بحره المزعوم. * موج من فوقه موج: وإلى قبل عام 1900م كان الناس جميعاً لا يعرفون إلا موجاً واحداً في البحار، هو ذلك الموج المشاهد على سطح الأرض فجاء البحارة الإسكندنافيون ليكشفوا للعالم حقيقة كانت مخبوءة في أعماق البحار، تلك الحقيقة هي أنه يوجد في أعماق البحار نوع آخر من الموج، وأنه يقذف بالغائصين فيه كما يقذف الذي فوق بالسابحين عليه، غير أن الله قد أجرى هذه الحقيقة على لسان النبي الأمي صلى الله عليه وسلم الذي لم يعرف بحراً طوال حياته قبل نيف وأربعة عشر قرناً من الزمان.

قال تعالى: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) (¬1). فتأمل كيف تنص هذه الآية على هذه الحقيقة؟! وكيف تؤكد أنها طبقات بعضها فوق بعض؟ فمن أين لمحمد صلى الله عليه وسلم علم بعلم البحار الذي جهله البشر أجمعون في عهده إلى قبل 76 عاماً؟! ص346. انتهى. أنظر كيف أن صاحب كتاب توحيد الخالق يقرر أن موجه وظلماته التي في أعماق البحار هي المراد بالآية فهو يقول: (غير أن الله أجرى هذه الحقيقة على لسان النبي الأمي الذي لم يعرف بحراً طوال حياته قبل نيف وأربعة عشر قرناً من الزمان). وانظر قوله: (فمن أين لمحمد صلى الله عليه وسلم علم بعلم البحار الذي جهله البشر أجمعون من عهده إلى قبل 76 عاماً) فنسب موج وظلمة خيال المعطلة إلى أنه معنى الآية وأن الله أجرى هذه الحقيقة على لسان نبيه، وهذا كذب على الله وعلى رسوله، وقد تقدم أن المراد الموج المشاهد وظلمة الليل وظلمة السحاب بلا تكلف. ¬

(¬1) النور، آية: 40.

(والجبال أوتادا)

(وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً) ثم تكلم صاحب كتاب توحيد الخالق في جملة خوضه وخرصه على الجبال فقال: في قوله تعالى: (وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً). الوتد يُغرس في الرمل لتثبيت الخيمة، وهكذا الجبال قد اخترقت بامتدادها الطبقة اللزجة التي تقع أسفل الطبقة الصخرية التي تُكَوِّن القارات. فأصبحت بالنسبة للقارات كالوتد بالنسبة للخيمة فالوتد يثبت الخيمة بالجزء الذي يُغْرَس في الصحراء وكذلك الجبال تثبت القارات بالجزء المغروس منها في الطبقة اللزجة التي تقع تحت الطبقة الصخرية التي تتكون منها القارات. ولقد تأكد الباحثون من هذا في عام 1965م، وعلموا أنه لولا أن الله قد خلق الجبال بشكل أوتاد لطافت القارات، ومالت الأرض واضطربت من تحت أقدامنا، والله يذكر لنا هذه الحقيقة في القرآن، قال تعالى: (وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً) وقال سبحانه: (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ) (¬1). ¬

(¬1) توحيد الخالق، ص345.

صاحب كتاب توحيد الخالق يفسر القرآن كما تبين على مقتضى نظريات المعطلة، وقد بيّنت ولله الحمد انهيارها من أصلها في الكلام على السديم المزعوم، وحيث أنه متابع للقوم فقد خاض في شأن الجبال على مقتضى النظريات الزائفة كما خاض في دوران الأرض على طريقتهم. وهنا زعم أن الجبال تُثبِّت القارات بالجزء المغروس منها في الطبقة التي زعم أنها لَزِجَه وأنها تحت الطبقة الصخرية التي تتكون منها القارات. وهكذا تستمر إحالات صاحب كتاب توحيد الخالق إلى ظلمات خيالات المعطلة، وكلامه هذا وغيره مبني على مقتضى نظرياتهم وهو يغصب آيات القرآن غصباً ويقسرها قسْراً لتجاري هذيان الملاحدة. فالطبقة التي يزعمون أن أصول الجبال مغروسة فيها طبقة مُتَخيَّلة على مقتضى أن الأرض منفصلة من السديم الغازي الدائر وكانت حين انفصالها غازاً دائراً حتى تكثفت وبردت وصارت صالحة للحياة مع استمرار دورانها، فعندهم أنه أثناء دورانها برزت من باطنها الجبال لِتثبِّتها ليس التثبيت الذي أراد الله عز وجل بكلامه وإنما تثبتها عن الاضطراب والميدان حال الدوران. وحيث أن السديم باطل والدوران باطل فكذلك هذا الكلام عن الجبال باطل لأنه مبني على باطل فالجبال مُلْقاة من أعلى إلى أسفل كما

تواتر ذكر إلقائها إلقاءاً في القرآن بخلاف دعوى الملاحدة أنها برزت من باطن الأرض أثناء الدوران. كذلك فتثبيتها للأرض ليس كما زعموا أنه لمنعها من الميدان أثناء الدوران وإنما كما قال السلف قال ابن كثير رحمه الله: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً) أي ممهدة للخلائق ذلولاً قارة ساكنة ثابتة. (وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً) أي جعلها لها أوتاداً أرساها بها وثبتها وقرّرها حتى سكنت ولم تضطرب بمن عليها، انتهى من تفسيره. فإن سألت عن سكونها عن الاضطراب الذي ذكر ابن كثير فلا تظن أنه يوافق هذيان الملاحدة الذين يزعمون أن الجبال تُسَكّن اضطراب الأرض حال الدوران، هذا ظن باطل لأنه كما تبين مبني على أصل باطل. قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة بعد أن ذكر أن الأرض خلقها الله واقفة ساكنة ذكر الجبال وقال: ومن منافعها ما ذكره الله تعالى في كتابه أن جعلها للأرض أوتاداً تثبتها ورواسي بمنزلة مراسي السفن وأعْظِمْ بها من منفعة وحكمة (¬1). وقال شيخه ابن تيمية: والأرض يحيط الماء بأكثرها، والهواء يحيط بالماء والأرض، والله تعالى بسط الأرض للأنام وأرساها بالجبال لئلا تميد ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة 1/ 219.

كما تُرْسي السفينة بالأجسام الثقيلة إذا كثرت أمواج البحر وإلا مادت (¬1). وفي جامع الترمذي وغيره من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال عليها فاستقرت) (¬2) فهذا الميدان والاستقرار لأن الأرض والمقصود اليابس منها خلق على الماء فهو يضطرب اضطراب السفينة الواقفة على ساحل البحر، ولذلك توضع عليها الأثقال لِتَسْكن. والمتأخرون يزعمون أن وظيفة الجبال تثبيت الأرض عن الميدان أثناء الدوران وهذا باطل مبني على السديم الباطل. ورحم الله ابن القيم حيث يقول: فلا تُتْعب ذهنك بهذيانات الملحدين فإنها عند مَن عرفها مِن هَوَس الشياطين وخيالات المبطلين، وإذا طلع فجر الهدى وأشرقت النبوة فعساكر تلك الخيالات والوساوس في أول المنهزمين، (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) انتهى. وأين ابن القيم يرى آيات كلام الله رب العالمين تُحْشَر حَشْراً وتُقْسَر قسْراً لمصاحبة هوس الشياطين وخيالات المبطلين؟. ويقول صاحب كتاب (من الإعجاز العلمي) ص2/ 57: إن دوران الأرض حول محورها يُشكّل تضاريس سطح الأرض، ثم ذكر بعض ¬

(¬1) الفتاوى 6/ 596. (¬2) رواه الترمذي (6/ 154) وأحمد (3/ 124).

الجبال وأنها تجمّعت لفترات طويلة من الزمن تصل إلى مئات الملايين من السنين، وبفعل النشاط النووي في باطن الأرض تعرضت هذه الرواسب لحركات رفع تكتونية أدّتْ إلى ظهورها على سطح الأرض على شكل طبقات رسوبية مُلْتوية متخذة شكل السلاسل الجبلية والهضاب العالية. انتهى. إن دعوى بروز الجبال من باطن الأرض مبني على اعتقاد دورانها واعتقاد دورانها مبني على اعتقاد السديم واعتقاد السديم مبني على اعتقاد تكوينه الذرّي وكل هذا باطل سوف يظهر بطلانه بهذا الكتاب إن شاء الله غير ما تقدم. والرب سبحانه خلق الجبال في الهواء وألقاها على الأرض لئلا تميد وتضطرب.

(قل سيروا في الأرض)

(قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ) السير في الأرض لمعرفة كيفية بدء الخلق: قال صاحب كتاب توحيد الخالق: (إن تحديد المنهج العلمي للبحث أمر في غاية الأهمية، وهذه الآية القرآنية: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ... ) تحدد لنا منهجاً علمياً لمعرفة كيفية بدء الخلق وتبين أنه لا بد لنا من أن نسير في الأرض باحثين ومنقبين، وأن معرفة تلك الكيفية التي بدأ بها الخلق تتوقف على سيرنا على الأرض، وهذا ما وجده الباحثون في هذا الزمان من أنه لا بد من دراسة عينات الصخور والمقارنة بين تركيبات الأرض المختلفة إذا أردنا أن نعرف بدء الخلق على الأرض فمن أخبر محمداً النبي الأمي صلى الله عليه وسلم بكل هذا؟. الجواب: ليس مراد الله بكلامه هذا الهذيان الذي ذكر صاحب كتاب توحيد الخالق وإنما ذكر هذا لِينزل بمعاني القرآن إلى هذه المستويات الدنيئة الهزيلة السخيفة بل والباطلة، فما للمسلمين ودراسة عينات الصخور والمقارنة بين تركيبات التربة المختلفة؟. لقد أراحنا الله من هذا العناء والضلال الذي ظهرت نتائجه عند أعداء الله فتكلموا بأصل الكون السديمي وأصل الإنسان القردي،

واتساع الفضاء الذي لا ينتهي. قد علمنا من كلام ربنا وكلام نبينا ما يغنينا عن سلوك مسالك أهل الضلال سواء في بداية الخلق ونهايته وكل ما نحتاج إليه مما يُصلحنا من أمور ديننا ودنيانا، والشر لا يأتي بالخير والهدى لا يجيء من الضلال. وانظر الآن كلام علماء السلف في هذه الآية وأمثالها يتبين لك الفرقان بين سبيل الرحمن وسُبل الشيطان. قال ابن القيم رحمه الله: كل موضع أمر الله سبحانه فيه بالسير في الأرض، سواء كان السير الحسِّي على الأقدام والدواب أو السير المعنوي بالتفكّر والاعتبار، أو كان اللفظ يعمّهما وهو الصواب فإنه يدل على الاعتبار والحذر أن يحلّ بالمخاطبين ما حَلّ بأولئك. ولهذا أمر الله أولي الأبصار بالاعتبار بما حلّ بالمكذبين (¬1). انتهى. وأخبر أن حُكم الشيء حكم مثله وذلك مما يوجب الحذر أن يحل بالمخاطبين ما حَلّ بمن قبلهم، فأين هذا مما ذهب إليه صاحب كتاب توحيد الخالق أم أنه التلاعب بكلام الله وتصريفه تبعاً للهوى والضلال، وذكر رحمه الله قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا). ¬

(¬1) أعلام الموقعين 1/ 132.

(سبحان الذي خلق الأزواج كلها) الآية

(سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا) الآية قال صاحب كتاب توحيد الخالق تحت عنوان: * مما تُنبِتُ الأرض: كان المعلوم لدى الناس جميعاً، أن الذكورة والأنوثة لا توجد إلا في الإنسان والحيوان فقط، أما في النبات فهو كسائر الجمادات لا يتصف بذكورة أو أنوثة، وبالرغم من أن زراع -مثلاً- يعلمون أن النخل لا يُثمر إلا إذا أُبِّر (لُقِّحَ) بضرب أجزاء الطلع بطلع نخلة أخرى، فإن ذلكم لم يكن يعني لديهم أي شيء غير أنها عادة، أثبتت التجارب نفعها، ولذلك نجد في الحديث الشريف قصة من هذا النوع، فعندما مر الرسول صلى الله عليه وسلم بقوم يؤبرون النخل نهاهم عن ذلك فانتهوا، ولم يحتجوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم: إن النبات مذكر ومؤنث ولا يتم الثمر إلا بالتلقيح (التأبير) بين المذكر والمؤنث، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم علمه البشري، يقصر عن إدراك الزوجية الموجودة في النخل لأن الأجزاء المذكرة والمؤنثة غاية في الصغر لذلك وجدناه ينهاهم، فلما جاء وقت الثمر لم تثمر النخل، فذهبوا يشكون أمرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: (أنتم أعلم بشؤون دنياكم) (¬1) أي: إني لا أعلم بهذه الفنون الزراعية، وأنتم أعلم مني وليس ما ¬

(¬1) رواه مسلم (4/ 1836).

قلت وحياً من الله إنما هو رأيي البشري، وإذا كنا نرى نقصاً في علم الرسول صلى الله عليه وسلم البشري في إدراك الزوجية في النبات فإن ذلك كان مجهولاً عند البشرية جميعاً حتى تقدمت أجهزة التكبير، وتقدم علم تشريح النبات وذلك نص ما جاء في الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) (¬1). صاحب كتاب توحيد الخالق يغلو غلواً مُفرطاً بعلوم المعطلة وكشوفاتهم وهذا الخلط والتخبيط له أثر سيء على الشريعة الطاهرة النّقيّة بل هو تحول خطير عن طريق السلف الصالح التي هي إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى طُرق مُحْدَثة تقوده إلى الضلال. ومن فتنة صاحب كتاب توحيد الخالق وغلوّه بهذه العلوم وأربابها أن جَهّل سلف الأمة بأمور كثيرة وفي مواضع عديدة من كتاباته، والعكس صحيح فقد اسْتأثروا بالعلم النافع وحاز من قَلَّدَ الكفار الجهالة والضلالة. أنظره هنا جعل الأمة جاهلة بذكورة النبات وأنوثته، وحتى تلقيح النخل وصفهم بأنهم يفعلونه عادة مع أنهم قبل أن يُخْلق صاحب كتاب توحيد الخالق وأرباب علومه يسمون ذكر النخل (الفحل) يعني الذكر. ¬

(¬1) توحيد الخالق، (ص347).

والعملية التي يعلمونها بأخذ طَلْع الفحل ويُؤبِّرون به النخلة المؤنثة التي تحمل الثمر يسمونها عملية التلقيح يعني تلقيح الذكر للأنثى. ثم يقال لصاحب كتاب توحيد الخالق: لم تتعطل معايش الأمة قبل وجود هؤلاء المعطلة الذين إن أصابوا في شيء فهم كما وصف الله عز وجل (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) كيف وخطؤهم فادح وضررهم في الدين والدنيا بيِّن واضح. ووالله إن مجانيننا وعجائزنا لا يُقارَنون بمن يُسميهم المقلِّدة (علماء) إذ أنهم دهرية معطلة، والذين عرفوها من الصواب في هذه المخلوقات غايتهم فيه أن اكتشفوا بعض مخلوقات الله عز وجل، ولا نسبة لصوابهم مع ما ضلوا به وأضلوا. إنهم لو عرفوا كل دقائق الكون المخلوق وعظائمه وعَدّوها وأحْصوها ووزنوها وعرفوا طولها وعرضها فإن غايتهم في ذلك معرفة السلفيات التي لم تأت بدقائقها الرسل عليهم السلام لئلا يشغلوا العباد عما خُلقوا له من عبادة ربهم وتعلّق قلوبهم وأرواحهم بالملأ الأعلى لا الجولان مع الديدان والذباب والكلاب والخنازير. لقد ذَكَرَتْ الرسل لأممهم ما ينتفعون به في أمور معاشهم الذي هو وسيلة لمعادهم وما ألْهَوْهم وشغلوهم بدقائق تُفنى من أجل معرفتها

الأعمار وتكلّ الأفهام لأنها علوم غير نافعة وقد استعاذ صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع، كيف وعلوم هؤلاء ضامنة للضلال. إن عجائزنا ومجانيننا يعرفون ربهم ويدعونه ويعرفون من مجملات الشريعة ما لا يعادل أحدهم بملء الأرض من هؤلاء المعطلة الملاحدة أعداء الله ورسوله، ولقد أنزلهم خالقهم الخبير بهم منزلتهم اللائقة التي مهما رُفِعوا إلى غيرها لم يرتفعوا إلا عند من اتصف بقوله تعالى: (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) والمنزلة التي أنزلهم الله بها هي: (إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) وفي دعاء القنوت: (ولا يعز من عاديت) (¬1) إن النفخ بصور هؤلاء وعلومهم غِش للأمة ظاهر، ومن تَبَنَّاه وقام به فصفقته صفقة مغبون خاسر. والمراد هنا أن الأمة كلها لو لم تعلم أن النبات مذكر ومؤنث فمعايشهم منتظمة، وقد وضعوا الدنيا موضعها التي وضعها الله ورسوله قال تعالى: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) الآية. وقال صلى الله عليه وسلم: (ما لي وللدنيا) (¬2) وأخبرنا أنها لا تساوي عند خالقها جناح بعوضة، وأنها جنة الكافر، وهذا يطول جداً وإنما المقصود أن تعظيم الكفار وعلومهم من المقلّدة أوْرث ذلاً نفسياً امتلأت منه القلوب وزَهّدَ الجهال بالعلم الذي هو العلم وهو الممدوح وهو غذاء القلوب ونعيم الأرواح وهو معرفة الإله ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 200) وأبو داود برقم (1425) والترمذي (464) والنسائي (3/ 248) وابن ماجه برقم (1178) وابن خزيمة (1095) وابن حبان (945) والحاكم (3/ 172) عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه دعاء القنوت وفيه: (ولا يعز من عاديت .. ). (¬2) رواه الإمام أحمد (1/ 301) عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حصير وقد أثر في جنبه فقال: يا نبي الله لو اتخذت فراشاً أوثر من هذا فقال: (مالي وللدنيا ... ) الحديث ..

وعبادته والإقبال على طاعته باتباع نبيه الذي به تنشرح الصدور وتسْتنير القلوب، ولهذا خُلق الإنسان ونهايته إلى نتائج هذا العلم في الآخرة. إن من يأكل رغيفاً أو تمرات أو شربة لبن ويحمد الله الذي رزقه وهو مسلم خير من مِلءْ الأرض من أعداء الله ورسوله من الكفار ولا يضرّ هذا المسلم أنه لا يعرف كيف يُخْبَز الرغيف ولا كيف ينمو الثمر ولا سبب تغير طعم اللبن ولا يعرف الميكروب ولا البكتيريا، ولا هذه الدقائق التي شُغِلَ بها من شُغِل لتحقيق قوله تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ). إن المؤمن له مطلب سامٍ رفيع وله هِمّة عليّة وله بصيرة يتطلّع بها من خلال حجب الغيوب إلى ما أعَدّه الله لأوليائه من النعيم المقيم وما أعدّه لأعدائه من العذاب الأليم يرجو رحمة ربه ويخاف عقابه إنه عن الهذيانات في شغل شاغل وهمٍّ واغِل. والمؤمن متأدب بتأديب ربه عز وجل: (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) ويعرف معنى قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) وأن هذا التكريم يَرْبو به عن السفاسف. قد هيؤك لأمر لو فطنتَ له ... فارْبأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ

والمراد هنا التأبير، ليعلم صاحب كتاب توحيد الخالق أنه لم يتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فهم الأمر على حقيقته فقوله: (وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم علمه البشري يَقْصر على إدراك الزّوْجية الموجودة في النخل لأن الأجزاء المذكرة والمؤنثة غاية في الصغر لذلك وجدناه ينهاهم) فكونه لم يتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وصف علمه البشري كما قال بالقصور. وكونه لم يفهم الأمر على حقيقته وذلك زعمه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن عملية التلقيح مع أنه لم ينههم كما يأتي إن شاء الله بيانه. وصاحب كتاب توحيد الخالق يريد أن يُرَوِّج بضائع الكفرة البائرة الخاسرة بأنهم استأثروا بعلوم وكشوف تميّزوا بها عن سائر قرون الأمة حتى القرون المفضلة كما هو ظاهر من كلامه. وقال صاحب كتاب توحيد الخالق أيضاً من جملة قِلَّة أدبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فذهبوا يشكون أمرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: (أنتم أعلم بشؤون دنياكم) ثم فَسَّر كلام النبي صلى الله عليه وسلم هذا فقال: أي إني لا أعلم بهذه الفنون الزراعية وأنتم أعلم مني، وليس ما قلت وحْياً من الله إنما هو رأيي البشري ثم قال: وإذا كنا نرى نقصاً في علم الرسول صلى الله عليه وسلم البشري في إدراك الزوجية في النبات فإن ذلك كان مجهولاً عند البشرية جميعاً حتى تقدمت أجهزة التكبير وتقدم علم تشريح النبات.

صاحب كتاب توحيد الخالق أراد بهذه المسألة ترويج بضائعه بالتكبير والتشريح وتحسين مسالك المعطلة المضلّة ويزعم أن البشرية جميعاً تجهل الزوجية في النبات حتى ظهرت هذه العلوم الحديثة. وهذا الكلام من جنس قول سيد قطب: إن كروية الأرض لم تكتشف إلا حديثاً مع أن علماء السلف ذكروها قبل أن يوجد أهل العلم الحديث وذكروا الإجماع على أن الأرض على شكل الكرة، وليس لهذا كبير اهتمام فهو علم بوصف مخلوق. والمراد هنا نفي صاحب كتاب توحيد الخالق عن البشرية جميعاً العلم بزوجية النبات وهذا نفْخٌ منه بصورة علومه الحديثة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والنبات جميعه إنما يتولّد من أصلين (¬1). انتهى. وهذه هي الزوجية. قال ابن القيم رحمه الله: فصل: ثم تأمل هذه النخلة التي هي إحدى آيات الله تجد فيها من الآيات والعجائب ما يبْهرك فإنه لمّا قَدّر أن يكون فيه إناث تحتاج إلى اللقاح جُعلت فيها ذكور تلقحها بمنزلة الحيوان وإناثه ... انتهى (¬2). ¬

(¬1) الفتاوى 17/ 262. (¬2) مفتاح دار السعادة 1/ 230.

فهل كانت تجهل البشرية جميعاً هذا الأمر حتى كشفه المعطلة أم أنه التخرّص والافتتان بالغرب الكافر؟ ولا حاجة أن نكثر النقل والكلام في هذا فهو معروف. والآن نعود إلى بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينْههم عن التلقيح. قال ابن تيمية: وهو لم ينههم عن التلقيح لكن هم غلطوا في ظنّهم أنه نهاهم كما غلط من غلط في ظنه أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هو الحبل الأبيض والأسود. (¬1) انتهى. وقوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور ديناكم) لا يعني هذا حرية التصرف في الأمور الدنيوية بلا ضابط ديني، وهو صلى الله عليه وسلم لم يترك للأمة ذلك بل أحكم لها أمور الدنيا والآخرة ورَبَط هذه بهذه وتولى أمر هذه وهذه، يعرف ذلك من نظر أدنى نظر في أمره ونهيه وهَدْيه وهَدْي أصحابه الذين هم أعلم الناس به وأحرص الناس على متابعته. ثم إن صاحب كتاب توحيد الخالق يُجَهِّل الأمة بفهم معاني القرآن ذكر ذلك في مواضع عديدة ويرفع قدْر علوم المعطلة بغلو عظيم وهوىً جارف فبعد أن قال في ص352 توحيد الخالق: (وهناك آيات وألفاظ قرآنية لم تكن لتفهم حقيقتها حتى جاء التقدم العلمي) وقال عن القرآن ¬

(¬1) الفتاوى 18/ 12.

(ثم استوى إلى السماء وهي دخان)

أيضاً: (وإن كان قد حدث جهل بفهم بعض ألفاظه ومعانيه) ثم ذكر من الأمثلة ما يأتي: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ). قال: ومن أمثلة ذلك: 1 - قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ). فقوله تعالى: (وَهِيَ دُخَانٌ) أي أن السماء كانت دخاناً، وأن البحث العلمي الآن ليقول: إن أصل الأرض ونجوم السماء هي السُّدُم، والسدُم: عبارة عن غازات تعلق فيها بعض المواد الصلبة المظلمة، فليست كالنجوم مشِعّة مضيئة أليس أدَق وصف لذلك هو وصف (دخان) (¬1). الجواب: تقدم ما يبين أن السُّدُم عند هؤلاء المعطلة هي أصل الوجود وأنها بلا بداية وأنها لا تفنى وأنها تدور وأن انفصال ما ينفصل منها بسبب الدوران وأنها مكوَّنة من الذّرات. وهذا كله مخالف للآية لأن الدخان المذكور فيها حادث بعد أن لم يكن وهو بخار ماء كما تقدم كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وليس (سُدُماً) وليس يدور، ولم ينفصل منه شيء على مقتضى عقيدة الدهرية، وإنما خلق الله الأرض ثم استوى إلى السماء وهي دخان فخلق السموات المبنية من هذا الدخان، وهذا أيضاً يفنى بخلاف مذهب الدهرية، وليس مكوّن من ¬

(¬1) توحيد الخالق، (ص353).

الذرات المزعومة، بل هذه الذرات شابه بها المعطلة أهل الكلام من الجهمية ونحوهم الذين يقولون بالجوهر الفَرْد، وتقدم بيانه، وتأمل قول صاحب كتاب توحيد الخالق: وأن البحث العلمي الآن ليقول: إن أصل الأرض ونجوم السماء هي السُّدُم تعلم أنه ضال عن السماء المبنيّة حيث لا ذكر لها في علوم القوم بل هي عندهم لا وجود لها.

(والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون) الآية

(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) الآية ثم قال صاحب كتاب توحيد الخالق: 2 - قوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) قرّر علم الفلك الحديث بأن السماء لا زالت في اتّساع دائم سواء في تكوين مُدُن نجومية جديدة باستمرار أو في تباعد هذه المدن النجومية باستمرار. الجواب: انظر ضلال صاحب كتاب توحيد الخالق كغيره من المقلِّدة عن السموات المبنية المحيطة بالأرض فالسماء لا زالت في اتساع يعني السُّدم فهي السماء عنده وعندهم، ولذلك وصفها بالاتساع الدائم وهو تكوين المدن النجومية بزعمه لأن السُّدُم هي التي تكوِّن عندهم النجوم بدورانها المستمر السريع الذي يسبّب انفصال النجوم وتباعُدِها. ليُعلم أن هذه نهاية علوم أرباب العلم الحديث وأنها كما بدأت بالتعطيل انتهت إليه، ولذلك فإن صاحب كتاب توحيد الخالق لما فُتِن بعلومهم قاد من قلّده إلى هذه النهاية فالسماء فضاء واتساعها تكوين مدن نجومية وتباعدها باستمرار. وهنا سؤال وارد ولا بد فيقال: أين السموات السبع المبنية؟ أين الكرسي؟ أين الجنة؟ أين العرش؟ أين الله؟.

ومن يكن الغراب له دليلاً ... يَمُرّ به على جِيَف الكلاب قال ابن كثير في تفسير آية الذاريات: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا) أي جعلناها سقفاً محفوظاً رفيعاً. (بأيد) أي بقوة: قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والثوري وغير واحد. (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) أي قد وسّعنا أرجاءها فرفعناها بغير عمد حتى استقلت كما هي. انتهى. انظر قوله رحمه الله: أي قد وسّعْنا أرجاءها يعني السماء المبنية وأن هذا في الماضي لا المستقبل فقد وسّعها الرب سبحانه حين خلقها ولم تتغير لا باتساع زائد ولا ضيق، فالسماء الدنيا كرة محيطة بها، وهكذا كل واحدة محيطة بالتي أسفل منها؛ فالسموات والأرضين كرة واحدة سطحها سطح السماء السابعة ومركزها الأرض السابعة السفلى. وهذه السموات في الغاية من حسن المنظر وبهائه وفي تفسير ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى في سورة الذاريات: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: ذات الجمال والبهاء والحُسُن والاستواء، وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو مالك وأبو صالح والسدي وقتادة وعطية العوفي والربيع بن أنس وغيرهم.

وقال ابن كثير في وصف السماء المبنية: فإنها من حسنها مرتفعة شفافة صفيقة شديدة البناء متسعة الأرجاء أنيقة البهاء، مكلّلة بالنجوم الثوابت والسيارات، مُوَشّحة بالشمس والقمر والكواكب والزهرات. فقد تبين أن تخبيط المتأخرين في هذه الآية كغيرها من آيات القرآن المغصوبة لمجارات علوم المعطلة وكشوفهم، فالسماء قدْ فَرَغَ الرب سبحانه من خلقها وقد وسّعها حين خلقها فهي باقية على خِلقتها الأولى. أما الملاحدة ومن قلّدهم فلا يرشدونك إلى سموات مبنية وعالَم علويّ عجيب تسكنه ملائكة الرحمن وفوقه كرسي الرب وجنته وعرشه، ولا ذكر لهذا في علومهم وحسبك بهذا كفراً عظيماً وخَطْباً جسيماً. فصاحب كتاب توحيد الخالق مُحَرِّف للكلم عن مواضعه حيث جعل توسعة السماء الكائنة في الماضي حين بناها الرب عز وجل جعلها للمستقبل كذلك جعل السماء هي السّدم وتكوينها المدن النجومية وتباعدها المسْتمر فيا له من ضلال مبين.

(والسماء رفعها ووضع الميزان) الآية

(وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) الآية ثم قال صاحب كتاب توحيد الخالق: 3 - قوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) اكتشف (نيوتن) أن السماء قانوناً محكماً دقيقاً يُحكم أجرام السماء هو قانون الجذب وأن محصّلة هذا الجذب بين الكواكب هو الاتزان بينها (الميزان) ويعتبر اكتشاف الكوكبين (نبتون وبلوتو) نصراً للقانون الذي اكتشفه نيوتن، فباستخدام ميزان الجذب حدد الفلكيون مواقع لكوكب (أورانس) ولكن بواسطة الرصد وجدوا مواقعه مختلفة فافترض الفلكيون وجود كواكب أخرى تؤثر بجذبها لأورانس، وقد أمكن حساب مواقع الكوكب السيار نبتون في السماء من مقدار تأثيره على أورانس، وحدد الاتجاه الذي شوهد فيه بعد تقدم وسائل الرصد، تطبيقاً لقانون الجذب، وبالمثل في هذا الميزان أمكن اكتشاف السيار الآخر (بلوتو) فهل فُهِم الآن معنى قوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ)؟! (¬1). ما زال صاحب كتاب توحيد الخالق في قَسْر آيات القرآن وغصْبها لتجاري علوم المعطلة وكشوفهم فرَفْع السماء ووضع الميزان قانون الجذب ¬

(¬1) توحيد الخالق، (ص354).

بين الكواكب واتزانها، فهل فُهِمَ الآن معنى قوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ)؟ يا لها من جرأة على كلام الله، فهذا أيضاً مما يبيّن السماء عند هؤلاء أنها الفضاء والكواكب كما تبين مراراً، قال ابن تيمية: وجمهور المفسرين على أن المراد بالميزان العدل (¬1). قال ابن كثير: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) يعني العدل كما قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) وهكذا قال ههنا: (أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ) أي خلق السموات والأرض بالحق والعدل لتكون الأشياء كلها بالحق والعدل ولهذا قال تعالى: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) أي لا تبخسوا الوزن بل زِنوا بالحق والقسط كما قال تعالى: (وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ) انتهى. قارن بين ميزان (نيوتن) الذي ورثه صاحب كتاب توحيد الخالق وبين ما جاء عن السلف في معنى الميزان وتأمل التلاعب بالآيات. أما تخبيطه فيما سمّاه كوكب (أورانس) و (نبتون) و (بلوتو) فهذا تابع لهذيان الملاحدة فيما يُسمونه: (المجموعة الشمسية) وتقدم الكلام عليها وعلى هذيان (نيوتن) في نظريته الخيالية التي جُعلت قاعدة لتكوين ما سموه (المجموعة الشمسية) وتجاذب الكواكب كلها والمجرات بزعمهم. ¬

(¬1) الفتاوى 12/ 249.

وليُعلم أن هذه النظريات لا تخرج من خيالاتهم المظلمة إلا إلى الأوراق والتمثيل في الأفلام المضلّة، أما الحقيقة التي عليها هذه المخلوقات فشيء آخر علمه ولله الحمد عند أهل الإسلام، ولقد تقاسم أرباب هذه العلوم الملحدة وأهل الكنيسة الخيالات المظلمة الإبليسية، فهؤلاء هذه خيالاتهم وأرباب الكنائس خيالاتهم في التثليث والصلبان، لعنة الله على الجميع.

(أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها) الآية

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا) الآية ثم قال صاحب كتاب توحيد الخالق في كتابه ص354: 4 - قوله تعالى: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا) (¬1). في هذه الآيات ألفاظ قرآنية كشف التقدم العلمي عن مقدار دقّتها: أ- السماء بناها: أثبت التقدم العلمي أن أجرام السماء كأحجار في بناء واحد يشد بعضه بعضاً، ويقوم كل على الآخر فإذا اختل النظام في جرم أو أجرام اختل البناء كله. ب- رفع سمكها: فلم يعرف الإنسان مقدار ارتفاع السماء إلا بعد كشف العلم عن مواقع بعض النجوم فعرفنا أن السماء مرتفعة وليست قريبة كما يظن النظر المجرد. ¬

(¬1) النازعات، الآيات 27 - 32.

أنظر كلام صاحب كتاب توحيد الخالق عن السماء وبنائها وكيف ضل عنها كأرباب العلوم الحديثة، فالسماء عندهم هي أجرام الكواكب يشد بعضها بعضاً بميزان الجذب كما تقدم. أما رفع سمكها فمواقع النجوم يعني في الفضاء اللانهائي، وقد تقدم كلامه على قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) فجعل السماء كثرة المجرات والكواكب التي تكوّنها. مع أن السمك هو غِلْظ البناء وكثافة جُرْمه، انظر فالله يقول: (أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا) وصاحب كتاب توحيد الخالق يفسرها بأجرام السماء يعني كواكب العلو يشد بعضها بعضاً يعني بالجذب، والله يقول: (رَفَعَ سَمْكَهَا) وصاحب كتاب توحيد الخالق جعل سمك السماء المبنية هو ارتفاع النجوم، يا لَه من ضلال. وقد قال من يسمى بأسماء أهل الوقت (الأستاذ الدكتور منصور محمد حسب النبي رئيس قسم الفيزياء في جامعة عين شمس) قال: إن العلم لا يعرف إلى الآن ما هي السموات والأرضون. انتهى. تأمل شارات هذا وعلمه. وقد قال الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي في كتابه (المسائل الكافيّة في بيان وجوب صدق خبر رب البريّة) قال:

المسألة الخامسة عشر: السماء عقيدة المسلمين فيها أنها بناء عظيم وسقف لِما تحتها بلا عمد تُرى، ووصفها الله تعالى في كتابه العزيز بما ينطق بأنها بناء بالغ في الإتقان مثل قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ * وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ). فمن قال واعتقد أنها جو وفضاء لا بناء واستمر مصممّاً على ذلك يكفر لتكذيبه الله تعالى في خبره (والسَّمَاءَ بِنَاءَ) وفي خبره (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) وفي خبره (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا) وفي قوله: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا) وغير ذلك من الآيات الدّالة على أنها بناء محكم. انتهى (¬1). أما سمك السماء فهو كثفها كما ورد في حديث العباس بن عبد المطلب وفيه: (وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة) (¬2) وقد تقدم كلام ابن كثير على السموات وسمكها في تفسير آية سورة الرعد. وقال ابن كثير في تفسير سورة النازعات: ¬

(¬1) الصواعق الشديدة على أهل الهيئة الجديدة، الشيخ/ حمود بن عبد الله التويجري. (¬2) أخرجه الحاكم (2/ 316، 410، 447) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

(رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا) أي جعلها عالية البناء بعيدة الفناء مستوية الأرجاء مُكلّلة بالكواكب في الليلة الظلماء. انتهى؛ فسمك السماء هو غلظ بنائها وصاحب كتاب توحيد الخالق ليس عنده إلا كواكب سابحة في فضاء فإن قال: السموات السبع فوق، قيل له: إن أثبتّ السموات السبع كما وصف الله ورسوله علمتَ يقيناً أن علوم المعطلة وكشوفهم ضلال لا يجتمع مع الهدى وباطل لا يتفق مع الحق. ثم قال صاحب كتاب توحيد الخالق: ج- (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا): إن الأرض والشمس والنجوم كانت جميعاً شيئاً واحداً لا يتميز عليه ليل أو نهار، فلما حدث الانفصال وأخذت بعض الكواكب تبرد وتدور حول نفسها فببرودتها أصبحت معتمة وبدورانها أما الشمس والنجوم المضيئة تميز عليها النهار، كما تميز الليل، وهكذا تبين لنا دقة هذا التعبير. انتهى (¬1). كلام صاحب كتاب توحيد الخالق هذا منكوس مبني على الانفصال الباطل، ولذلك جعل الأرض والكواكب تدور حول الشمس لانفصالها منها والرب سبحانه خلق الأرض أولاً ثم استوى إلى السماء فخلقها بشمسها وقمرها ونجومها، فالشمس تابعة للسماء خُلِقتْ معها. ¬

(¬1) توحيد الخالق، (ص355).

أما إغطاش الليل وإخراج الضحى فهو حاصل بدوران الشمس على الأرض في السماء الكروية، وقد بينت ذلك في هداية الحيران والحمد لله وهو الحق الذي لا مِرْية فيه وهو معنى قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) فقد ذكر سبحانه الليل والنهار والشمس والقمر وأنها تسبح في الفلك وهو السماء المحيطة بالأرض وسَبْحها دَوَرانها، ولم يذكر الأرض لدوران هذه الأربع عليها لا دورانها هي كذلك هو معنى قوله تعالى: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) وهذا ناتج عن جريان الشمس في الفلك المستدير، فيتكوّر الليل والنهار على الأرض بالتعاقب. أما قوله عن الكواكب أنها أخذت تبرد وتدور فهذا تابع لهذيان المعطلة وسديمهم المتخيَّل، وقد تبين فساد هذا الأصل المتخرَّص المظنون المتخيَّل الباطل.

(والأرض بعد ذلك دحاها) الآية

(وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) الآية ثم قال صاحب كتاب توحيد الخالق: (¬1) د- والأرض بعد ذلك دحاها: دحاها: أي بسطها لتكون صالحة للإنبات ونفع الإنسان، ومن معاني الأدحية: البيض، ومن معاني دحا: دحرج، ويظهر أن الأرض عند انفصالها أخذت تدور وتتدحرج في مسارها ولا تزال تتدحرج وتتقلب وهي تجري في فلكها ومساره، فهل تلقى هذه الحقيقة العلمية أوضح معنى من قوله تعالى: (وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا)؟!. الجواب: أدلة الكتاب والسنة والإجماع على أن الأرض ثابتة وقد بيّنت ذلك في (هداية الحيران) أما تدحرجها في مسارها وأنها لا تزال تتدحرج وتتقلّب وتجري في فلكها فمن أبطل الباطل، وأين الأرض والجريان في الفلَك؟ إنها في سفل العالَم قال تعالى: (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ) فالسماء مرفوعة والأرض موضوعة، وإنما تجري الشمس في فلكها، وذلك بدورانها في كرة السماء المستديرة على الأرض. فكلام المعطلة ومن قلّدهم في دوران الأرض معكوس مقلوب. ¬

(¬1) توحيد الخالق، (ص355).

أما مصدر الضوء الذي يُسَلّط على كرة متحركة بالدوران فهو تمثيل باطل يظهر بطلانه وينهدم بنيانه بإدارة مصدر الضوء نفسه على الكرة فيتعاقب الليل والنهار على أرض ثابتة ساكنة، كذلك فإن الفصول الأربعة تتغير بتغيّر مطالع الشمس ومغاربها فإن لها كل يوم مطلع ومغرب، وبذلك تختلف الفصول الأربعة، وفي (هداية الحيران) بيان ذلك والحمد لله.

(وجعل القمر فيهن نورا) الآية

(وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) الآية ثم قال صاحب كتاب توحيد الخالق في قوله تعالى: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً) قال: لقد أثبت التقدم العلمي أن ضوء الشمس من ذاتها فهي سراج، وأما القمر فليس ضوءه من ذاته إنما هو قد أُنير بضوء الشمس. يقال لصاحب كتاب توحيد الخالق: إن تسمية فِتَن المعطلة تقدم علمي وإطلاق اسم العلم عليها بدون تقييد، كذلك إطلاق اسم العلماء على أربابها باطل وضلال، إنهم أضل من الأنعام. أما تجهيل الأمة في مخلوقات الإله عز وجل فهذا له نتائج وخيمة وعواقب أثيمة، والذي ذكره صاحب كتاب توحيد الخالق هنا معروف عند الأمة قبل وجود الذي سماه (التقدم العلمي) وقبل وجود الذين يسميهم (علماء). ثم الذي ينبغي أن يعلمه من فُتِن بهؤلاء أن علم أهل الإسلام ليس الانشغال وتضييع الأعمار ومَلءْ الدنيا بالعلوم الكوْنية والدقائق السفلية إنهم أعلى وأرفع وأجل وأكرم من ذلك لأن علمهم هو الوحي الذي أنزله خالقهم فما كان له صلة بهذا الوحي مثل النظر المجرّد بالمخلوقات

لزيادة الإيمان فهو مُيَسَّر لهم ولله الحمد، وقد حَصّلوا منه ما لا يحلم به أهل هذه العلوم ولا من قَلّدهم، وحتى في زماننا هذا جهله المسلمين وعوامّهم وعجائزهم وشيوخهم الذين بلغوا أرذل العمر عندهم من العلم بالمخلوقات ما ضَلّ عنه الملاحدة وأتباعهم وأضلوا عنه، فهذه السماء التي فوقنا يعرف مجانيننا أنها بناء وأن فوقها خالقنا، يكفي هذا أن تضمحل وتتلاشى علوم المعطلة وتذهب جُفاء بجانبه، حيث لا يعرفون سموات ولا خالق لعنة الله عليهم والملائكة والناس أجمعين حيث أنهم والله شغلوا العالَم بالضلال. وعندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم الجارية أين الله: قالت في السماء قال من أنا قالت رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم أعتقها فإنها مؤمنة (¬1). وقد رُوِّجت بضائعهم الخاسرة ونُفِخ في صُوَرِهِمْ وعلومهم وكشوفهم وهم عند المؤمنين لا يَعْدون قَدْرهم وموضعهم الذي وضعهم فيه رب العزة سبحانه: (إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) نعم أضل من الأنعام لكن في هذا العصر صاروا بزعم من أضلّوه هُداة لأهل الإسلام. والمراد أن أهل الإسلام ليسوا عالة على الكفار في معرفة الكونيات بل هم أعلم بها وأهدى سبيلاً، وأنا لن أُكلِّف نفسي في البحث عما ذكره السلف في شأن الشمس والقمر فأكتفي من طول البحث وإطالة الكلام بنماذج تكفي لبيان زيف الغلو بأهل هذه العلوم وتسمية علومهم المضلّة: (التقدم العلمي) فقد ذكر ابن القيم وهو في القرن السابع والثامن ¬

(¬1) رواه مسلم (1/ 381) عن معاوية بن الحكم السلمي ..

كذلك شيخه قبل أن يُخلق هؤلاء بقرون أن القمر يستفيد ضوءه من الشمس فهذا ابن القيم لما شرح آية الكسوف في كتابه النفيس (مفتاح دار السعادة) قال: وأما سبب خسوف القمر فهو توسّط الأرض بينه وبين الشمس حتى يصير القمر ممنوعاً من اكتساب النور من الشمس، ويبقى ظلام ظل الأرض في ممرِّه لأن القمر لا ضوء له أبداً وأنه يكتسب الضوء من الشمس. انتهى (¬1). وقد أخبر شيخه أن القمر لا يخسف إلا وقت الإبدار (¬2) لِعِلْمه رحمه الله أن جرم الأرض يحول بينه وبين الاستفادة من ضوء الشمس، وذلك لا يكون إلا ليالي الإبدار لتوسط جرم الأرض بين الشمس والقمر، ولا يحتاج أن أبحث عن كلام العلماء في ذلك وغيره الذين هم قبل شيخ الإسلام وتلميذه فيكفي في إبطال مزاعم صاحب كتاب توحيد الخالق ما نقلت عنهما، والعلم النافع في الدين والدنيا عند المسلمين. وصاحب كتاب توحيد الخالق ما زال في تجهيل للماضين وغلوٍ بأعداء الله الملاحدة فقد قال في قوله تعالى: (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا). قال: فمن الأرض يخرج ماء المطر، ولا يزال بعض الناس يظنون أن ماء المطر يسكب من خزانات في السماء. ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة 1/ 207. (¬2) الفتاوى 24/ 255.

الجواب: أهل الإسلام يعرفون هذا وهو مدوّن في كتبهم قبل أن تُخلق ويُخلق علماؤك. قال ابن القيم رحمه الله: فيُنشئ سبحانه السحاب وهي روايا الأرض ثم يرسل الرياح فتحمل الماء من البحر وتلقحها به كما يلقح الفحل الأنثى. وقال: فالله سبحانه ينشئ الماء في السحاب إنشاء وتارة يقلب الهواء ماء وتارة يحمله الهواء من البحر فيلقح به السحاب ثم ينزل منه على الأرض. انتهى المقصود (¬1). كتاب ابن القيم (مفتاح دار السعادة) كتاب نفيس تكلم فيه عن المخلوقات على مقتضى الكتاب والسنة وما يوافقها من الأمور العقلية بكلام يفتح للعبد أبواب التفكر السليم الذي يزيده هداية إلى الصراط المستقيم بخلاف هذيان الملاحدة ومن قلّدهم. ويقول صاحب كتاب توحيد الخالق: وماء البحار الأول كان جزءاً من الأرض نتج عن التفاعلات الكيماوية أثناء تَصَلّب القشرة الأرضية (¬2). الحذر من نظريات هؤلاء الملاحدة الضُّلال فإن صاحب كتاب توحيد الخالق مفتون بخيالاتهم، فكلامه مُتَفرِّع من نظرياتهم الخيالية ¬

(¬1) توحيد الخالق، (ص355). (¬2) توحيد الخالق، ص355.

فقوله: أثناء تصلّب القشرة الأرضية هو على مقتضى زعمهم انفصال الأرض ودورانها وأنها كانت غازية فبردت وتكثفت، وكل هذا هَوَس بل الله سبحانه خلق الأرض بقوله (كن) فكانت كما هي، ولا مَرّت عليها ملايين سنين خيالات المعطلة وإنما هم يتكلمون عن كَوْن مُوجِدٍ لنفسه. ولذلك اقترحوا وتخرصوا له نظريات خيالية كاذبة باطلة، وقد ضحك عليك وأضحك عليك العقلاء من أحالك إلى ملايين وبلايين السنين، وملايين وبلايين المجرات والسنين الضوئية، ولا والله ما تقول الحمير هذا لو نطقت. وإذا كان هؤلاء لا يؤمنون إلا بالمحسوس فهل كان السديم لهم محسوساً وانفصال الأرض وغيرها منه وهل رأوا هذه التفاعلات الكيماوية التي نتج عنها ماء البحر أم أنه الهذيان؟.

(والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) الآية

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) الآية وقال صاحب كتاب توحيد الخالق في كتابه ص356: وقوله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (¬1). (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) (¬2). فالآية الأولى تذكر أن هناك شيئاً آخر سيركبه الإنسان ويتزين به، سوف يخلق والناس لا يعلمون به، وأنه من جنس ما يركبه الإنسان ويتزين من خيل وبغال وحمير، وجاءت الآية الثانية تقول بأن الله قد أعد للإنسان مركوباً كذلك الفلك المشحون، هو (من مثله) وإذا تأمل الإنسان في وسائل النقل الأولى لا يجد شيئاً قد ركبه الإنسان يشبه الفلك المشحون فما هو إذن؟. ولقد جاء التقدم العلمي بالجواب وعرفنا من وسائل المواصلات والزينة غير الخيل والبغال والحمير وعرفنا ما يشبه ذلك الفلك المشحون: ¬

(¬1) النحل، آية: (8). (¬2) يس، آية: (41، 42).

من قطارات وحافلات (باصات) وطيارات وبواخر، فعرفنا جزءاً من المقصود بقوله تعالى: (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ). وقوله سبحانه: (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ). ورأينا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: (لتتركن القلاص فلا يسعى عليها) (¬1) وها قد حلت وسائل النقل الحديثة مكانها. انتهى. صاحب كتاب توحيد الخالق يُؤوِّل القرآن ليصرف معانيه لمجارات هذه العلوم ورفع شأنها وتعظيم أمرها، والذي يضعه الله لا يرتفع والكفار ليس في أعمالهم مصلحة خالصة ولا راجحة. هنا ذكر آية سورة النحل وأن التقدم العلمي جاء بالجواب عنها وتأويلها، وليس معناها كما تخرص هو وأمثاله. قال ابن جرير رحمه الله: يقول تعالى ذِكره: ويخلق ربكم مع خلقه هذه الأشياء التي ذكرها لكم ما لا تعلمون مما أعدّ في الجنة لأهلها وفي النار لأهلها ما لم تَرَهُ عين ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر، كذلك فسّرها القرطبي والبغوي. والحاصل أن هذه الآية كغيرها لا تطاوع الضلالات والأهواء وتُجاريها. أما قوله تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) فلابد أن تغصب هذه الآيات لتنقاد ولو أبت كغيرها. ¬

(¬1) رواه مسلم (1/ 136) عن أبي هريرة مرفوعاً).

فقول صاحب كتاب توحيد الخالق: وجاءت الآية الثانية تقول بأن الله قد أعَدّ للإنسان مركوباً كذلك الفلْك المشحون ثم ذكر وسائل المواصلات الحاصلة وأن هذا معنى قوله تعالى: (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ). وقد قال ابن كثير: قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما يعني بذلك الإبل فإنها سفن البر يحملون عليها ويركبونها، وكذا قال عكرمة ومجاهد والحسن وقتادة في رواية وعبد الله بن شداد وغيرهم، وقال السدي: في رواية: هي الأنعام، وقال ابن جرير: حدثنا الفضل بن الصباح حدثنا محمد بن فضيل عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتدرون ما قوله تعالى: (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ)؟ قلنا: لا. قال: هي السفن جُعلتْ من بعد سفينة نوح عليه الصلاة والسلام على مثلها، وكذا قال أبو مالك والضحاك وقتادة وأبو صالح والسدي أيضاً المراد بقوله: (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) أي السفن. ويُقوِّي هذا المذهب في المعنى قوله جل وعلا: (إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) انتهى ما أورده ابن كثير.

وكم وكم مما التمس له من نصوص الكتاب والسنة ما يؤيّده ويُحسنّه مما دخل على الأمة من أمور التشبه وغيرها، فالله هو المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به، وبحث موضوع التشبه له غير هذا الموضع لأن موضع هذا الكتاب كله في ما يسمى بإعجاز القرآن. أما الحديث الذي ذكره صاحب كتاب توحيد الخالق: (لتتركَنَّ القلاص فلا يُسعى عليها) وقوله: (وها قد حلَّت وسائل النقل الحديثة مكانها) فإنه من جنس تخرصه وقوله على الله وعلى رسوله بغير علم فالذي فِهمَهُ هو من الحديث أنه تعطيل ركوب النوق لأجل هذه المراكب الحادثة وهذا فهم خاطئ، فإن المراد بالحديث ليس تعطيل السعي عليها بتعطيل ركوبها والحمل عليها وإنما هو السعي عليها لجباية الزكاة (السعاية). والحديث رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في نزول عيسى: (وتُتْرك القِلاص فلا يُسعى عليها). قال ابن الأثير: (يعني ترك الزكاة فلا يُسعى عليها بصدقة) فمعناه: لا يخرج ساعٍ إلى زكاة لقلّة حاجة الناس إلى المال واستغنائهم عنه وذلك زمن المهدي. وأحاديث المهدي ظاهر فيها أنه لا وجود لهذه المراكب الحادثة حيث أنهم يستعملون الخيول.

والحديث نفسه يدل على ذلك، فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في أوّله نزول عيسى عليه السلام ثم أخبر بما يكون في ذلك الزمان من كونه يحكم بالعدل ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ثم قال: (ولتُتْركن القلاص فلا يسعى عليها) يعني ذلك الوقت لأن الناس قد أغناهم الله وكثرت الأموال لديهم لوجود المهدي الذي يحثوا المال حَثْواً فلا يُسْعى على القلاص وهي الإبل الفتيّة يعني لا يخرج ذلك الوقت السعاة لجباية الزكاة. وأعجب ما وقفت عليه في شأن هذه المراكب المستحدثة ما نُقل في الخبر أنه قال: تهيج المركبات في الأزقّة، تتراكض في الساحات، منظرها كمصابيح، تجري كالبرق، انتهى. قال بعض المتأخرين في تعليقه على هذا الأثر: وهذا إليه المنتهى في وصف هذه السيارات انتهى. وليُعلم أن أشياء كثيرة ذُكر أنها تحدث عند اقتراب الساعة، وقد ذُكرت على سبيل الذم. وهذا من أتباع سنن أهل الكتاب حذو القذة بالقذة وشبراً بشبر وذراعاً بذراع التي وردت أخباراً مذمومة، مع أنها ستقع.

الوعيد على تفسير القرآن بالرأي

الوعيد على تفسير القرآن بالرأي قال ابن كثير في مقدمة تفسيره: فأما تفسيره القرآن بمجرد الرأي فحرام، ثم ذكر حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فلْيتبوأ مقعده من النار) (¬1). وذكر قول أبي بكر رضي الله عنه: (أيّ أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم). وعن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر (وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر. وسأل رجل ابن عباس عن يوم كان مقداره ألف سنة، فقال له ابن عباس: فما (يوم كان مقداره ألف سنة) فقال له الرجل: إنما سألتك لتحدثني، فقال ابن عباس: هما يومان ذكرهما الله في كتابه الله أعلم بهما، فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم. قال عبيد الله بن عمر: لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون القول في التفسير منهم سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وسعيد بن ¬

(¬1) رواه أبو داود (5543) والنسائي (109) والترمذي (2950) وقال: هذا حديث حسن.

المسيب ونافع، وروى الشعبي عن مسروق قال: اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله عز وجل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد تبيّن بذلك أن من فسّر القرآن أو الحديث وتأوّله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مُفْتَرٍ على الله، ملحد في آيات الله محرّف للكلم عن مواضعه. وهذا فَتْحٌ لباب الزندقة والإلحاد، وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام. انتهى (¬1). وقد فَسَّر صاحب كتاب توحيد الخالق وغيره هذه الآية وغيرها من آيات القرآن على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين. ونقل ابن القيم في (أعلام الموقعين) 1/ 58 أن ابن عباس قال: من أحدث رأياً ليس في كتاب الله ولم تمض به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَدْرِ ما هو منه إذا لَقي الله عز وجل. ونقل أيضاً قول معاذ رضي الله عنه: (تكون فتن فيكثر فيها المال ويُفتح القرآن حتى يقرأه الرجل والمرأة والصغير والكبير والمنافق والمؤمن، فيقرأه الرجل فلا يتبع. فيقول: والله لأقرأنّه علانية. فيقرأه علانية فلا يتبع. فيتخذ مسجداً ويبتدع كلاماً ليس من كتاب الله ولا من سنة ¬

(¬1) الفتاوى 13/ 243.

رسول الله صلى الله عليه وسلم فإياكم وإياه فإنه بدعة وضلالة). قاله معاذ ثلاث مرات. انتهى. كذلك فقد بيّن شيخ الإسلام أن من فسّر القرآن والحديث بغير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فإنه يُجَوِّز أن تكون الأمة مجتمعة على ضلالة في تفسير القرآن والحديث، وهذا عظيم، وأن يكون الله أنزل الآية وأراد بها معنىً لم يفهمه الصحابة والتابعون. انتهى (¬1). تأمل هذا الكلام والذي قبله وانظر ما خاض به المتأخرون من تفسير القرآن والحديث بما هو غير معروف عن الصحابة والتابعين وأن من نتائج ذلك تجْويز أن تكون الأمة مجتمعة على ضلالة في تفسير القرآن والحديث وأن يكون الله أراد بالآية معنىً لم يفهمه الصحابة والتابعون، ثم انظر ما تقدم وما يأتي من تفسير صاحب كتاب توحيد الخالق وغيره آيات القرآن والأحاديث على معاني محدَثة ليست على نهج الصحابة والتابعين بل ضلالة مُحقّقة وخيالات مُزَوَّقة، ففي ذلك تغيير معاني القرآن وما أُريد به وإضلال الأمة عنه. وتأمل هذا الكلام لشيخ الإسلام في شأن تفسير القرآن تعلم ما وقع فيه هؤلاء وذلك أن من قال: إن الأمة إذا اختلفت في تأويل الآية على قولين جاز لمن بعدهم إحداث قول ثالث. ¬

(¬1) الفتاوى 13/ 59.

يقول شيخ الإسلام في هؤلاء: إنهم جَوَّزوا أن تكون الأمة مجتمعة على الضلال في تفسير القرآن والحديث، وأن يكون الله أنزل الآية وأراد بها معنى لم يفهمه الصحابة والتابعون ولكن قالوا: إن الله أراد معنىً آخر. انتهى. تأمله فقد وقع فيه ما لا يحصى من الخلق، ويوضح ذلك ويُعظم خطره قوله رحمه الله: ولم يستشعروا أن المتأوّل هو مبيّن لمراد الآية مخبر عن الله تعالى أنه أراد هذا المعنى إذا حملها على معنى. انتهى (¬1). وحيث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا باتباعه واتباع خلفائه الراشدين ونهانا عن الإحداث والتغيير والتبديل، وقد قال تعالى: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) وقال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية. وغير ذلك من نصوص الكتاب والسنة فما ظن من زعم إعجاز القرآن بعدد حروف الآيات المتناظرة ونحو ذلك مما لم يذكره النبي ولا الصحابة مثل كتاب (المعجزة) الذي تكلف فيه صاحبه بما أحدثه مما لا يعهد للأمة به، فهل في بيان النبي والصحابة نقص حتى يكمله المتأخرون أم أنها الجرأة على كلام الله وانصراف القلوب عن تدبر معانيه إلى حساب حروفه؟. ¬

(¬1) الفتاوى 13/ 59.

وحيث قد تبين خطر القول على الله بغير علم في تفسير كلامه وتبين أن أمر هؤلاء الخائضين أخطر لأنهم مفسرون كلام الله بضلال أعدائه وخيالاتهم فمع هذا يغرهم الشيطان ويعدُهم ويمنيهم ولذلك يقول زغلول النجار: لأن التفسير يبقى محاولة بشرية لحسن فهم دلالة الآيات القرآنية، وإن أصاب الإنسان فيها فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد. ويقول: وزماننا هو زمان العلم، ولذلك فكل الذين اجتهدوا في الماضي بذلوا أقصى ما يستطيعون وفتحوا الباب لمحاولة تفسير هذه الآيات الكونية بمعطيات العلوم لأن الاقتصار على البُعد اللغوي فقط لهذه الآيات الكونية لا يمكن أن يوصل لإبراز الجانب الإعجازي فيها بطريقة مقنعة ولا يمكن أن يوصل لفهمها فهماً صحيحاً ومن ثم فلا بد من توظيف العلوم. يقال لهذا وأمثاله: أما الأجر والأجران فأماني مفلس، ونحن نعلم يقيناً ولله الحمد أنكم بحاجة إلى من يدعوكم لا أن تتصدروا للخلق وما تَعَرَّضتم لتفسير كلام الله وتجرأتم على ذلك من صلاح وخير فيكم بل يعلم الموفق أن فعلكم هذا هو من العقوبات التي تعاقبون بها حيث أن فعل الذنب يكون عقوبة على ذنوب قبله، إن كلام الله أعظم من أن يُتلاعب به هكذا ويستهان به. ولقد كان السلف يتهيّبون أن يتكلموا في تفسير القرآن مخافة الزلل

وهم أهل العلم والتقى والصلاح ولا نقارنهم بكم فَنَقَع في أن (السيف أمضى من العصا). أما تسمية هذا الزمان زمان العلم فإعلان عن الجهل بالعلم، أما ما ذكر هذا من الاقتصار على البُعد اللغوي في الآيات الكونية وأنه لا يوصل للإعجاز ولا لفهمها فهماً صحيحاً فمعنى هذا أن السلف قصّروا في فهم القرآن وبيان إعجازه حيث لم يسلكوا هذه الطرق المظلمة وحاشا وكلا، ومن الذي قال: إن الأمة لا تعرف إعجاز القرآن سواء آيات الكون أو غيرها إلا الجانب اللغوي؟. إن آيات الكون هي الآيات المشهودة ولقد نظروا فيها بالنظر المجرد على مقتضى خبر الله وخبر رسوله ففُتح لهم من العلوم ومن زيادة الإيمان ما لا يُشاركون فيه، وتكلموا في التفكر وعظم فائدة ومنفعته لكن هذا بشرط أن يكون مُتَعلق التفكر والنظر حقائق ثابتة صحيحة يطابق الذهن فيها ما في الخارج، أما خيال الملاحدة فثمرة كفرهم وضلالهم والتفكر فيه يقود إلى الضلالة. وكيف يقول هذا: ولا يمكن أن يوصل إلى فهمها فهماً صحيحاً يعني إلا بهذه الطرق المحدَثة؟ فهل يقول: إن الصحابة ما فهموا آيات الكون وكذلك من تبعهم من أهل العلم والإيمان؟. وليعلم المتأخرون أن معاني القرآن لم تُتْرك لهم حتى يخوضوا هذا

الخوض والأمر والله عظيم. قال شيخ الإسلام رحمه الله: يجب أن يُعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن لأصحابه معاني القرآن كما بيّن لهم ألفاظه (يُقال هنا: هل بيّن صلى الله عليه وسلم معانيه كما يزعم هؤلاء بحيث يجاري علوم الفلاسفة والملاحدة؟ فإن قيل: هذه الأمور جاءت بعد النبي والصحابة، قيل: المراد أن معاني القرآن قد انتُهْي منها فبيانها بذلك ضلال مبين وتلاعب بكلام رب العالمين). ثم قال قدّس الله روحه: فقوله تعالى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) يتناوله هذا وهذا. (يعني يتناول اللفظ والمعنى). انتهى (¬1). وقال رحمه الله: ونحن نعلم أن القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم وأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم فمن خالف قولهم وفسرّ القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعاً. انتهى (¬2). اعلم أنه بعد هذه التفاصيل لا يلتفت إلى شبه هؤلاء في تأويلهم كلام الله عز وجل إلا مفتون حيث أن لهم شُبَه ولكنها داحضة، ولذلك قال شيخ الإسلام بعد الكلام السابق: ومعلوم أن كل من خالف قولهم (يعني السلف في التفسير) له شبهة يذكرها إما عقلية وإما سمعية. (يعني فلا يُلتفت إلى شبهته). ¬

(¬1) الفتاوى 13/ 331. (¬2) الفتاوى 13/ 632.

هل معاني آيات القرآن غير معروفة حتى يبينها المتأخرون؟

هل معاني آيات القرآن غير معروفة حتى يُبينها المتأخرون؟ هذا السؤال وارد ولا بد ليكون الجواب عليه دافع بإذن الله للطوفان الغامر الذي ابْتُلْيَتْ به الأمة في نهاية عمرها. ليُعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات إلا بعد أن بيّن للأمة ما أُنزل إليها من ربها. قال ابن القيم رحمه الله في كتابه (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة) 1/ 117 قال في ردّه على الجهمية: الوجه السادس والأربعون: أنه سبحانه بيّن بأنه يُبين لهم غاية البيان وأمر رسوله بالبيان، وأخبر أنه أنزل عليه كتابه ليبيّن للناس. ولهذا قال الزهري: (من الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم) فهذا البيان الذي تكفّل به سبحانه وأمر به رسوله إما أن يكون المراد به بيان اللفظ وحده أو المعنى وحده أو اللفظ والمعنى جميعاً. ولا يجوز أن يكون المراد بيان اللفظ دون المعنى، فإن هذا لا فائدة فيه ولا يحصل به مقصود الرسالة. وبيان المعنى وحده بدون دليله هو اللفظ الدّال عليه ممتّنع، فَعُلِم

قطعاً أن المراد بيان اللفظ والمعنى فكما نقطع ونعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بَيَّن اللفظ، فكذلك نتيقّن أنه بيّن المعنى، بل كانت عنايته ببيان المعنى أشد من عنايته ببيان اللفظ، وهذا هو الذي ينبغي فإن المعنى هو المقصود، وأما اللفظ فوسيلة إليه، فكيف تكون عنايته بالوسيلة أهم من عنايته بالمقصود، وكيف يُتَيَقّن بيانه للوسيلة ولا يُتَيقن بيانه للمقصود، وهل هذا إلا من أبيْن المحال؟. فإن جاز عليه ألاّ يبين المراد من ألفاظ القرآن جاز عليه إلا يبين بعض ألفاظه. انتهى. تأمله فإنه قاطع لحجة هؤلاء الذي فسروا القرآن وزعموا بيان معانيه على مقتضى علوم المعطلة، إنه كلام مُبَرْهَن لا يُجادل فيه إلا مكابر معاند، كلام حجته فيه وهو شرعي عقلي ومع إيجازه فقد أكمل معناه، قدس الله روحه ورضي الله عنه. ووالله إن الأمر لفي غاية الخطورة أنْ حَسَّن الشيطان لأهل الوقت وسَهّل الكلام في معاني كلام الملك العلاّم، الذي لا يشبه كلامه كلام، كيف يُجعل مُصَدّقاً ومُؤيِّداً لخيالات مظلمة هي نَضْح أوَان قَذِرة من البرابرة الطغاة. قال ابن جرير الطبري رحمه الله في (جامع البيان) 1/ 78 - 79 قال: فالقائل في تأويل كتاب الله الذي لا يدرك علمه إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم

الذي جعل الله إليه بيانه قائل بما لا يعلم وإن وافق قِيلُه ذلك في تأويله ما أراد الله به من معناه، لأن القائل فيه بغير علم قائل على الله ما لا علم له به. انتهى. إذا كان هذا فيمن وافق قوله كتاب الله الصواب فكيف بمن يقول فيه بالضلال والإضلال؟. ولا شك أن الذين تجرأوا على كلام الله وصرفوا معانيه مجاراة لعلوم الملاحدة حُرموا العلم به ووقعوا في أمر عظيم، وكم ممن يغتر بكلام الشعراوي وأمثاله عن القرآن. قال محمد متولي الشعراوي في (معجزة القرآن): وعطاء القرآن عطاء متجدد، وهذا العطاء هو استمرار لمعنى إعجاز القرآن، ولو أفرغ القرآن عطاءه كله في عدد من السنوات، أو في قرن من الزمان، لاستقبلته القرون الأخرى دون إعجاز أو عطاء، وبذلك يكون قد جمد، والقرآن لا يجمد أبداً، وإنما يعطي كل جيل بقدر طاقته، ولكل فرد بقدر همته، والقرآن فيه تفصيل كل شيء، فكلماته مفصلة تفصيلاً دقيقاً. انتهى. ويقال: ما هو العطاء المتجدد أهو كما زعمت في كتابك الذي سميته (فيض الرحمن في معجزة القرآن) أن الله في كل مكان ص294، 299، وهذا مذهب الجهمية، قال شيخ الإسلام: ومن ها هنا جعله كثير من

الجهمية حالاً في كل مكان، وربما جعلوه نفس الوجود القائم بالذوات أو جعلوه الوجود المطلق أو نفس الموجودات، فهذا كله من أبطل الباطل، وهو تعطيل للصانع ففيه من إثبات فقره وحاجته إلى العالم ما يجب تنزيه الله عنه. انتهى. يقول الشعراوي في ص294 من فيْضه: والله موجود في كلا المكانين (يعني السماء والأرض) وفي كل مكان وزمان. وقال: وهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى موجود في كل مكان. وقال: في ص299 من فيْضه: أن الله سبحانه وتعالى موجود في كل مكان يكلم نبياً وهو على الأرض ويكلم نبيه وهو عند سدرة المنتهى، ولوْ كان الله سبحانه وتعالى موجوداً في السموات وحدها ما كلّم نبياً على الأرض، ولو كان موجوداً في الأرض وحدها ما كلّم نبياً عند سدرة المنتهى. انتهى. وقد كتبت رداً عليه اسمه: (إقامة الحجة والبرهان على من زعم أن الله في كل مكان وفسرّ برأيه القرآن). فيقال له: أهذا إعجاز القرآن؟ وأنا أعلم أن من دخل في ضلالات الملاحدة في كلامه عن نشأة الكون وصفته أنه يضل عن ربه حيث لا يقدر على إثبات السموات السبع والعرش.

إعجاز القرآن

وليعلم هؤلاء أن عطاء القرآن المتجدد المستمر إنما هو لمن تأدب معه ووقف حيث أوْقفه، فكم في القرآن من الندب إلى النظر في ملكوت السموات والأرض، فهذا يزيد الإيمان بشرط أن تنظر بعلم مُسبّق وهو أن الله وصف السموات والأرض والكون كله كما خلقه فأنت تقرأ الآيات المتلوّة وتنظر الآيات المشهودة فترى ما يَبْهرك من عجيب صُنع الإله العظيم، وبهذا يكون النظر والتفكر بدليل مطابق للواقع في نفس الأمر بخلاف خيالات الملاحدة فأول نقد في ذلك لمتابعهم الضلال عن ربه ومكانه وسمواته وأرضه لأنه يبحثون عن مجهول لا يُعرف إلا بتعريف خالقه. إذن المؤمن ينظر ويتفكر بدليل ذهني وعقلي داخلي مطابق لوجود خارجي حِسِّي واقعي، فأي الفريقين أهْدى؟ ثم إن دليل المؤمن الذهني إنما هو سمعي فقد استفاده من وصف خالق الكون لمخلوقاته. وأما إعجاز القرآن فذكر القرطبي وابن جرير منها: (إعجاز القرآن): 1 - نظمه البديع. 2 - أسلوبه. 3 - الجزالة التي لا تصح من مخلوق بحال. 4 - التصرف في لسان العرب.

5 - الأخبار الغيبية في المستقبل. 6 - الوفاء بالوعد. 7 - الأخبار في أحوال الأمم الماضية. 8 - علومه. 9 - الحِكَم البالغة. 10 - التناسب في جميع ما تضمنه ظاهراً وباطناً من غير اختلاف. 11 - التحدي بالإتيان بمثله أو عشر سور أو سورة مثله. وذكر العلماء غير ما تقدم من إعجاز القرآن لكن ليس في كلامهم ما يدل على هذا الضلال المبين. راجع ما شئت من تفسير صاحب كتاب توحيد الخالق للآيات التي تقدمت وما يأتي ترى كيف يترك الواضح البيّن في كلام السلف والذي هو الحق ويذهب إلى ما يشيه الأحاجي من أمور دقيقة بعيدة. فكلامه في قوله تعالى: (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) مثل كلامه على غيرها مما خاض فيه بجهالة وضلالة.

الظلمات الثلاث

الظلمات الثلاث وقال صاحب كتاب توحيد الخالق في كتابه ص357: وقوله تعالى: (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (¬1). ما هي الظلمات الثلاث التي ينطوي داخلها الإنسان في بطن أمه من طور إلى طور؟. سؤال عرفت إجابته بدقة بعد أن تقدم علم التشريح وكشف أن الغشاء الذي يحيط بالجنين في بطن أمه ليس غشاء واحداً كما يُرى بالعين المجردة، وإنما هو أغشية ثلاثة هو الغشاء المنباري، والحزبون، والغشاء اللفائفي، وكل من هذه الأغشية لا يسمح بنفاذ الضوء أو الماء والحرارة، أفلا يكون بتلك الخصائص ظلمة وتكون جميعها ظلمات ثلاثً؟. انتهى. زعم صاحب كتاب توحيد الخالق أن علم التشريح تقدم وكشف معنى الآية وأن الظلمات الثلاث هي التي ذكر عن المتبوعين والقول ما قالت حذامي، ومعلوم أن هذا باطل وقد تقدم، الكلام على تفسير القرآن ¬

(¬1) الزمر، آية: 6.

بالرأي وخطر مخالفة السلف، وقد نقل ابن كثير في تفسيره أن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبو مالك والضحاك وقتادة والسدي وابن زيد أنهم يقولون في قوله تعالى: (فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ) أنها ظلمة الرِّحم وظلمة المشيمة التي هي كالغشاوة والوقاية على الولد وظلمة البطن. انتهى. إن ما يفعله صاحب كتاب توحيد الخالق وأمثاله في هذا الزمان جناية على كلام الله عظيمة وذلك بتغيير معانيه على مقتضى ضلالات وخيالات الملاحدة. وهذه الجناية أوْرثت ذلاً نفسياً للأتباع على غير بصيرة وأوْرثت تعظيماً لأعداء الله الكفرة حيث إنما تبيّنت وظهرت معاني القرآن على أيديهم بسبب علومهم وكشوفهم، ومن هذا عَزَف الكثير ممن فُتِنوا بهم عن المناهج السلفية، ومن هنا انفتح باب التنقص للصحابة والسلف بعدهم ولو لم يكن من بعض الناس بالمقال كان بالحال. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية قدّس الله روحه طوائف من الضُّلال والمنحرفين ثم قال: (ثم إن هؤلاء مع هذا لم يجدوا الصحابة والتابعين تكلموا بمثل كلامهم بل ولا نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم صار منهم من يقول: كانوا مشغولين بالجهاد عن هذا الباب وأنهم هم حقّقوا ما لم يحققه الصحابة).

ويقولون أيضاً: إن الرسول لم يعلمهم هذا لئلا يشتغلوا به عن الجهاد فإنه كان محتاجاً إليهم في الجهاد. وذكر كلاماً ثم قال: فهؤلاء جمعوا بين أمرين: بين أن ابتدعوا أقوالاً باطلة ظنوا أنها هي أصول الدين لا يكون عالماً بالدين إلا من وافقهم عليها، وأنهم علموا وبينوا من الحق ما لم يبينه الرسول والصحابة. وإذا تدبّر الخبير حقيقة ما هم عليه تبين له أنه ليس عند القوم فيما ابتدعوه لا علم ولا دين ولا شرع ولا عقل. انتهى. تأمله وطبّقه على ما حصل يظهر لك فضل علم السلف على الخلوف، وأن كلام الملاحدة في المخلوقات لا علم ولا دين ولا شرع ولا عقل. ثم قال شيخ الإسلام: وآخرون لما رأوا ابتداع هؤلاء وأن الصحابة والتابعين لم يكونوا يقولون مثل قولهم ظنوا أنهم كالعامة (يعني الصحابة والتابعين) الذي لا يعرفون الأدلة والحجج وأنهم كانوا لا يفهمون ما في القرآن مما تشابه على من تشابه عليه، وتوهّموا أنه إذا كان الوقف على قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ) كان المراد أنه لا يفهم معناه إلا الله لا الرسول ولا الصحابة فصاروا ينسبون الصحابة بل والرسول إلى عدم العلم بالسمع والعقل وجعلوهم مثل أنفسهم لا يسمعون ولا يعقلون، وظنوا أن هذه طريقة السلف وهي الجهل البسيط التي لا يعقل

صاحبها ولا يسمع، وهذا وصْف أهل النار لا وصْف أفضل الخلق بعد الأنبياء (¬1). انتهى. لقد تشابهت القلوب فكثير من أهل وقتنا ينتقصون السلف وهم الناقصون المنقوصون والسبب في هذا التنقص أنهم لم يتعلموا مثل علومهم، كذلك يحتقرون ويزدرون من لم يحمل مثل شاراتهم المحدثة ويعتبرونه جاهلاً ولو كان على الاستقامة في دينه، ومعلوم أن هذا العيْب والثلب يتناول الصحابة والسلف. ¬

(¬1) النبوات، (ص247).

شوائب الداروينية

شوائب الداروينية أما إذا انضاف إلى هذا ما دخل على كثير منهم من شوائب نظرية النشوء والارتقاء الداروينيّة فلا شك أن الأمر يكون أبلغ في التنقص للسلف الذي يقابله على هذا المقتضى ادّعاء الكمال للمتأخر حسب النظرية نفسها. وسوف أذكر نماذج لهذه الشوائب الداروينية: يقول صاحب كتاب (من أسرار عظمة القرآن الكريم) (وقد كان العقل البشري في أطوار نموِّه الأولى لا يرى شيئاً ببهره أقوى من المعجزات الكوْنية الحسّية، حيث لم يصل إلى النمو في المعرفة والتفكير. انتهى. (ص8). أنظر قوله: (في أطوار نموه الأولى) هذا على مقتضى نظريات الغرب الكفرية من الداروينية ونحوها حيث يعتقدون تطوّر الكائنات وهو من أبطل الباطل. وما جواب هؤلاء إذ أُورِدَ عليهم شأن الرسول الكريم آدم أول البشر الذي سجدت له الملائكة وعلمه الله الأسماء كلها وأدخله الجنة هل كان عقله في أطوار نموه الأولى؟ كذلك نوح وإبراهيم وباقي الأنبياء

عليهم السلام ومن آمن بهم، هل كانت عقولهم في أطوارها الأولى؟ بُعْداً وسُحقاً. هذه عَدْوى علوم الملاحدة الكفرة، ومعلوم أن سَبّ الأنبياء كفر ووصْفهم بأن عقولهم بدائية كفر، كيف بمن ينسبهم إلى القرود كيف قاتل الله الملاحدة أعداء الله وأعداء رسله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد كلام له: ومما يُشْبه هذا ظَنُّ طائفة كابن هود وابن سبعين والنفري والتلمساني: أن الشيء المتأخر ينبغي أن يكون أفضل من المتقدم لاعتقادهم أن العالَم مُتنقّل من الابتداء إلى الانتهاء كالصبي الذي يكبر بعد صِغَره والنبات الذي ينمو بعد ضعفه (¬1). هذا بعينه مذهب الداروينية فالعالَم عندهم مُتنقّل من الابتداء إلى الانتهاء، ولذلك سموا مذهبهم هذا: (التطور) (والنشوء والارتقاء) وانظر أسلاف الداروينية وأرباب هذه العلوم الحديثة إنهم أهل وحْدة الوجود، ولي كتاب بهذا الموضوع هو (وحدة الوجود العصرية) قال تعال: (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) فأهل هذه العلوم هم ورَثة ابن سبعين والتلمساني وأضرابهم. ¬

(¬1) الفتاوى 11/ 368.

قيل لبعضهم: القرآن يخلف كلامكم. قال: القرآن كله شرك، يقصد أن القرآن فيه إثبات خالق ومخلوق وفرق وهم ليس عندهم إلا شيئاً واحداً هو هذه الموجودات. وقيل له: ما الفرق بين البنت والأجنبية؟. قال: لا فرق لكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم. والمراد أن هؤلاء المعطلة الملاحدة مثل أولئك، ولذلك قال عنهم ابن تيمية كلاماً ينطبق على هؤلاء الملاحدة تمام الانطباق في كلامهم في السديم والذرات والمجرات ونحو ذلك من الخيال. قال عن أهل وحدة الوجود ابن عربي والتلمساني وأمثالهم قال: ولا ريب أنهم أصحاب خيال وأوْهام، يتخيلون في نفوسهم أموراً يتخيلونها ويتوهّمونها، فيظنونها ثابتة في الخارج وذكر شيخ الإسلام رحمه الله بعد الكلام السابق، أن كون من تأخر زمانه يكون أفضل ممن تقدم ليس عليه دليل وقال: بل إبراهيم الخليل قد ثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم (أنه خير البريّة) (¬1) أي بعد النبي. وقال رحمه الله: وأصل الغلط في هذا الباب أن تفضيل الأنبياء أو الأولياء أو العلماء أو الأمراء بالتقدم في الزمان أو التأخر أصل باطل، وإنما هي من خيالاتهم، والخيال الباطل يتصوّر فيه ما لا حقيقة له. انتهى (¬2). ¬

(¬1) رواه مسلم (4/ 1839). (¬2) الفتاوى 2/ 312.

قال تعالى: (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ). قال صاحب كتاب (من أسرار عظمة القرآن): (فلما أوشك عهد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم دخل العقل الإنساني مرحلة اكتماله وأخذت الأمم تسير قُدُماً في النضج الفكري) ص8 انتهى. هذا الكلام مثل الذي قبله، ويلزم منه أن أهل العصور المتأخرة أفضل ممن قبلهم لأجل سنة التطور الباطلة وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) (¬1) وبلا شك ولا ريب أن هذه الخيريّة في كل شيء من أمور الدنيا والآخرة. فهذا ضد كلامهم، وقال الصغيّر: (واللغة تتطور كما تتطور المجتمعات) ص12 اللغة ليست تتطور ولا المجتمعات وإنما هذا خيال الملاحدة، وبعض أهل الوقت قد يتكلمون في مثل هذا الكلام تقليداً لغيرهم ولا يشعرون بما فيه من الدواهي. ¬

(¬1) رواه البخاري (2/ 938) ومسلم (4/ 1963) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

خوض بجهل

خوض بجهل ثم قال صاحب كتاب توحيد الخالق تحت عنوان: شُبهات وردُود: * كثرة الفاسدين: يقول بعض الجهلة: لماذا يرضى الله بوجود الأغلبية الكافرة من الناس؟ وإذا كان الإسلام هو الحق فلماذا لا يدين به أغلبية الناس؟ وقد يحاول بعض المضلين عناداً وحمقاً بقوله: إذا كانت الأغلبية ستدخل النار فأنا أحب أن أكون مع الأغلبية. ثم قال صاحب كتاب توحيد الخالق: والجواب: ابتداءً: من الخطأ اعتقاد أن الأرض مركز الكون، أو أنها شيء هام في هذا الملكوت، مع إجماع علماء الفلك على أن الأرض بين النجوم لا تساوي نقطة ماء في المحيط، وإذن فما قيمة كل من يعيش عليها في هذا الملكوت العظيم، وقد جاء في الحديث: (أنه لو كان الإنس والجن أولهم وآخرهم على أفْجَر قلب رجل منهم ما نقص من ملك الله شيء، ولو كانوا على أتقى قلب رجل منهم ما زاد في ملك الله شيء) (¬1) لأن الدنيا لا تساوي بأكملها عند الله جناح بعوضة. ولقد جاء في الحديث: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح ¬

(¬1) رواه مسلم برقم (2577).

بعوضة ما سُقِي الكافر فيها شربة ماء) (¬1) وإذن ماذا ينقص في ملك الله لو كان في الأرض أغلبية كافرة؟. ولنتأمل في الأجيال السابقة: لقد فُنِيت من الدنيا فهل أنقص فناؤهم هذا من ملك الله شيئاً؟ وسيفنى بعدهم الآخرون (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) انتهى (¬2). الجواب: اعتقاد أن الأرض مركز الكوْن وأنها أسفل العالَم هو الحق وأنا ولله الحمد بينت هذا في (هداية الحيران) وهذا اتفاق عند أهل الإسلام وإجماع منهم بلا منازع. وأما زعم صاحب كتاب توحيد الخالق إجماع أهل الفَلك على أن الأرض بين النجوم لا تساوي نقطة ماء في المحيط فهذا هذيان مبني على خيالاتهم حيث يعتقدون الأرض كوكباً كسائر الكواكب وأنها تدور لانفصالها عن السديم المزعوم. وتصغير الأرض وأنها لا تساوي نقطة ماء في المحيط مبني على خيالات الملاحدة في المجرات الملايين والبلايين، وهذا هَوَس وقد تقدم بيان ذلك كله. قال تعالى: (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ) وهي المخلوقات، وكم يذكر الله الأرض في كتابه العزيز مُمتناً على عباده بجعله إياها ذلولاً لهم ¬

(¬1) رواه الترمذي (4/ 560) وابن ماجه (2/ 1376) عن سهل بن سعد مرفوعاً. (¬2) توحيد الخالق، (ص364).

ومهاداً وفراشاً وقراراً. وقد قال تعالى مبيّناً عظمته: (وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فلولا عظمها لما مَثَّلَ بها لِما يأخذ بيده سبحانه، وقد أسقط صاحب كتاب توحيد الخالق أهمية الأرض وصَغّر شأنها حيث قال: (أو أنها شيء هام في هذا الملكوت؟) لأنه تائه في خيال بلايين المجرات. قال ابن القيم رحمه الله في (مفتاح السعادة) فصل: وإذا نظرت إلى الأرض وكيف خُلقت رأيتها من أعظم آيات فاطرها وبديعها، خلقها سبحانه فراشاً ومهاداً وذلّلها لعبادة، وجعل فيها أرزاقهم وأقواتهم ومعايشهم، وجعل فيها السُّبُل لينتقلوا فيها في حوائجهم وتصرفاتهم، وأرساها بالجبال فجعلها أوتاداً تحفظها لئلا تميد بهم، وَوَسَّع أكنافها، ودحاها فمدّها وبسطها، إلى آخر كلامه رحمه الله (¬1). أما قوله: (وإذن فما قيمة كل من يعيش عليها في هذا الملكوت العظيم) فهذا يبين أن صاحب كتاب توحيد الخالق يخوض بكل واد وأن الكلام رخيص عليه وأنه يقحم نفسه في المضائق، وما عهدنا علماء السلف يتكلمون بالدين هكذا بالمجازفات والمغامرات والتخرصات، وكانوا يعظمون القول على الله بغير علم حيث عظمه الله قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة 1/ 199.

الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) قال ابن القيم رحمه الله في (أعلام الموقعين) 1/ 38: فَرَتّب المحرمات أربع مراتب. وبدأ بأسْهلها وهو الفواحش ثم ثنَّى بما هو أشدّ تحريماً منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلَّث بما هو أعظم تحريماً منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم رَبَّع بما هو أشد تحريماً من ذلك، وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعمّ القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه. انتهى. فجواب صاحب كتاب توحيد الخالق بهذا الكلام لِكْون الرب سبحانه يرضى بوجود الأغلبية الكافرة. خطأ فاحش ونسبة الرب سبحانه إلى ما ينزه عنه، والمعنى أنه يُعَذب أغلبية الناس لا لحكمة وإنما لأن ليس لهم قيمة عنده، وهذا قول على الله بلا علم وهو باطل أيضاً فالرب سبحانه حكيم وهو محسن في الأزل قبل أن يخلق الخلق فخلقهم لِيُفيض إحسانه عليهم وما خلق العباد للتعذيب بالقصد الأول، وإنما اقْتضت حكمته وجود من يعصيه ويخالف أمره لحكم تبهر العقول. وهذه مسألة كبيرة عظيمة وهي خلق الأشقياء وتعذيبهم، وقد تكلم السلف فيها بكلام رفيع من نظر فيه عرف الفرق بين علم السلف والخلوف. وقد تكلم ابن القيم رحمه الله في مسائل كبيرة مثل الحكمة في خلق

إبليس والنار والكفر وغير ذلك من المسائل الجليلة التي لا تدرك إلا بعلم الكتاب والسنة دون خلط له بعلوم الفلاسفة ونحوهم مما خاض به المتأخرون ففي كتابه رحمه الله النفيس (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل) الجواب الشافي لمثل هذا السؤال. وقد ذكر في الباب الثاني والعشرين طرق إثبات حكمة الرب تعالى في خلقه وأمره وإثبات الغايات المطلوبة والعواقب الحميدة التي فَعَلَ وأمرَ لأجلها، وقال: إنه أجلّ أبواب الكتاب. كذلك يقال لِصاحب كتاب توحيد الخالق: السؤال نفسه غلط فالرب سبحانه لا يرضى بوجود الأغلبية الكافرة من الناس فإنه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر، وإنما أراد ذلك إرادة كونية قدريّة لِحِكم باهرة، ولي كتاب فيه بعض البيان المقتبس من كلام هذا الإمام وشيخه وفيه كلام لهما عظيم بهذا الموضوع واسم الكتاب (الإنكار على من لم يعتقد خلود وتأبيد الكفار في النار) فيه أن تعذيب الكفار في النار اقتضته حكمة الحكيم سبحانه لا عبث عابث ولا تشفي مُتَشفي تعالى الله علواً كبيراً، وأن الكفر طارئ ليس بأصلي. وقد بينت في الكتاب المذكور حكمة تعذيب الكفار في النار وأنهم يخلدون فيها ويؤبّدون ويلبثون الأحقاب الطويلة لكن النار نفسها لا تدوم بدوام الله عز وجل فهي ليست كالجنة لأن الجنة فضل والنار عدل ولا

يستوي فضل الرب وعدله. أما الخلود والتأبيد في لغة القرآن فلا يقتضي ذلك عدم النهاية بل المراد به لأهل النار المكث الطويل. وحيث أن الكفر طارئ دخيل ليس أصلي في المخلوق بل الأصلي التوحيد وهو الفطرة فمن هنا يُعلم أن الشر ليس إلا الله عز وجل. وكلام صاحب كتاب توحيد الخالق هذا يُنَفِّر عن أرحم الراحمين الذي تغلب رحمته غضبه، والذي لا يتشفّى بالعذاب كالمخلوق، وإنما تعذيبه طُهْرَة للمُعَذَّب كالحدود في الدنيا والمصائب، ورب الدارين واحد، فالحدود كفارات والمصائب أيضاً وعذاب الآخرة من هذا الجنس فسنة الله وهي عادته لا تتغير لا في الدنيا ولا في الآخرة. وكلام صاحب كتاب توحيد الخالق هذا يدعو أيضاً إلى اليأس والقنوط وليس فيه تعليل أفعال الحكيم التي من عرفها أحَبّ ربه وأقبل على طاعته، وسوف أُرْفق هنا منظومة عنوانها (تعليل أفعال الجليل) فيها إشارة إلى هذا الموضوع وأن التعذيب في النار لم يصدر من الرب عز وجل لمشيئة مجّردة كما يشير إلى ذلك صاحب كتاب توحيد الخالق، وهذا مذهب باطل، ولا لعدم مبالاةٍ بالخلق كما يُفهم من كلامه: (وإذن فما قيمة كل من يعيش عليها) بل الرب سبحانه حكيم رحيم فعله لا يخرج عن الحكمة والرحمة.

وقد خاض من خاض في هذه المسألة قديماً مثل الجهم بن صفوان فإنه لما اعتقد دوام النار مع الإله عز وجل أنكر الحكمة والرحمة وصار هذا مذهباً يُتبع وهو أن الله يفعل بمشيئة مجرّدة وليس لأفعاله تعليل بالحكمة والرحمة لا سيما العذاب، وقد رَدّ أهل السنة هذا الاعتقاد الفاسد، وهذا الموضع لا يحتمل الإطالة.

(بلى قادرين على أن نسوي بنانه) الآية

(بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) الآية وقال صاحب كتاب توحيد الخالق في قوله تعالى: (أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) (¬1). البنان: هي أطراف الأصابع وتسويتها هنا معناها: إعادتها إلى هيئتها الأولى، فأيهما أصعب: إعادة البنان أم إعادة العظام؟ قد يتساوى الأمر عند النظرة الأولى، ولكن إذا عرفنا أن لكل إنسان رسماً خاصاً لبنانه لا يشابه رسم لبَنان أي إنسان آخر، وقد استخدمت بصمات البنان في التعرف على الشخصية. انتهى. قول صاحب كتاب توحيد الخالق عن تسويتها أن معناها إعادتها إلى هيئتها الأولى غلط فليس هذا المراد بالتسوية هنا إنما هو كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطية العوفي ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك وابن جرير: وأنه لو شاء تعالى لجعله خُفًّا أو حافراً، ذكره ابن كثير في تفسيره. ¬

(¬1) القيامة، آية 3، 4.

قال ابن القيم: لو شاء لَسَوّاها وجعلها طبقاً واحداً كالصفيحة انتهى (¬1). والرب سبحانه هنا جمع بين كمال قدرته على جمع عظام الإنسان ونعمته عليه بأنه جعل بنانه بهذه الصفة التي يتمكن بها من أغراضه ما لا يحصل بدونها مع تجميله بها. أما البصمات وإرادة التعرّف على الشخصية كما ذكر فليس هو المراد قطعاً وليست البصمات أبلغ في اختلاف الناس في خطوطها من صفاتهم الأخرى التي هي أظهر وأبين لكل أحد لا سيما في وقت نزول القرآن الذي ألْقى النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته معانيه كما ألقى لهم ألفاظه، وكان اهتمامهم بالمعاني أعظم من اهتمامهم باللفظ. إن اختلاف الخلق في صُوَر وجوههم وأصواتهم وجميع صفاتهم ظاهر بيّن وقد جعل سبحانه ذلك من آياته الدّالة على قدرته فقال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) الآية. فاختلاف اللغات والحلى التي هي الألوان ظاهر بل واختلاف نبرات الأصوات من شخص إلى آخر، وغير ذلك من عجائب قدرة الله. فلو كان الأمر كما زعم صاحب كتاب توحيد الخالق أن التسوية المراد بها الإعادة إلى الهيئة الأولى لكان ذكر إعادة صور الوجود على ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة 1/ 192.

هيئتها الأولى كذلك الأصوات أبلغ وأظهر لكل أحد، وخطوط أطراف الأصابع أمر خفي. وقطعاً فليس هو المراد، أما القدرة فصالحة لكل شيء فليس النزاع فيها ولا في اختلاف الخطوط في البنان من شخص لآخر، إنما المراد معنى الآية وكوْن القرآن يُطَوَّع على مقتضى أحوال الناس والزمان فيجاري أهوائهم ويُساير أغراضهم. وفي صفحة 366 (توحيد الخالق) ذكر صاحب كتاب توحيد الخالق قول من يقول: (إن الإسلام رجعية) ثم تكلم عن الإسلام والرجعية بكلام حق وباطل وتمام عن معنى التقدم. وعلى كل حال فلصاحب كتاب توحيد الخالق أمثال كثيرون يقيسون الأمور بآرائهم بكلامهم في الدين حيث يسْتحسنون ما فُتِنَتْ به الأمة في هذا الزمان ويعظمون شأنه مما فُتح على أعداء الله استدراجاً وإضلالاً. والتقدم والتأخر حقيقتة ما قال سبحانه في كتابه العزيز: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) أي يتقدم بطاعة الله ورسوله أو يتأخر بمعصية الله ورسوله. وما أكثر الخوض في عصرنا في معاني أسماء مُحْدَثة وأمور مُحْدَثة بهوى جارف وعقل تالف.

ولقد بَهَرَتْ معجزات نبينا في هذا الزمان بوقوعها كما أخبر صلى الله عليه وسلم مثل قبض العلم بموت العلماء فتظهر الرؤوس الجهال (¬1) وقد امتلأت اليوم منهم الأرض وهم الذين يقيسون الأمور بآرائهم فيستحسنون ما وافق أهوائهم وإن خالف الحق. وظهرت معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم في وقتنا جليّة ناطقة فقد أخبر إخبارات خرجت مخرج الذّم والتحذير لأمته فوقع تصديق ما أخبر به واتباعه كما أخبر بالوصف الدقيق (شبراً بشبر) و (ذراعاً بذراع) (¬2) ونحو ذلك مما يبين شدة العناية بتحقيق اتباع سنن أهل الكتاب وغيرهم من الأمم. والمراد أن الكلام في الدين لم يكن هكذا كما حصل في وقتنا كُلٌّ يخوض بما شاء، فترى الشخص شُهد له أنه قد ارتفع مقامه وعَلَتْ مكانته فتراه فوق وهو لا يُحسن تثبيت قدمه على الدرجة الأولى. ¬

(¬1) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (1/ 50) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً. (¬2) رواه البخاري (3/ 1274) ومسلم (4/ 2054) عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً.

كلام في القدر

كلام في القدر ثم قال صاحب كتاب توحيد الخالق تحت عنوان: (التعذيب والكتابة في اللوح): ويقول بعض المرتابين: إذا كان الله قد كتب علينا في اللوح أننا سنعمل الشر فلماذا يعاقبنا على ما قد كتب علينا؟. ثم قال صاحب كتاب توحيد الخالق: والجواب واضح وهو أن علم الله السابق الذي كتب في اللوح لم ينزل إلى الأرض لإرغامنا على فعل الشر والخير حتى نحتج بهذا السؤال، فليس لعلم الله السابق وما كُتِب في للوح قوة تسوقنا مُكرَهين إلى فعل الأشياء، بل علم الله السابق صفة انكشاف لما سنعمل بحريتنا لا صفة تغير لأفعالنا، وكل إنسان منا يشعر تمام الشعور أنه يمارس عمله بحرية تامة؛ ويشهد بذلك ما في جسم الإنسان من عضلات إرادية تعمل تحت إرادة الإنسان، وعضلات لا إرادية هي تلك التي لا دخل للإنسان في توجيهها، كعضلة القلب، وعضلات المعدة، ولذلك لا ينبني على أعمال هذه العضلات اللاإرادية أي ثواب أو عقاب. فإذا علمت أن شخصاً قد مشى إلى عمل من خير أو شر فهل علمك يؤثر فيما عمله الشخص المذكور؟ كذلك فإذا فعلت خيراً مثلاً،

وكتب شخص ما فعلت من خير، فهل يقول أي عاقل: إن تلك الكتابة هي التي أرغمتك على فعل الخير؟ كلا، إن كتابة الشخص ليست إلا تسجيلاً لما فعلت، والكتابة في اللوح ليست إلا تسجيلاً لما ستفعل باختيارك، وليس من فرق بين التسجيل لفعلك قبل حدوثه، والتسجيل بعد حدوثه إلا لذلك الفرق بين علم الله الواسع الشامل السابق، وعلم الإنسان المحدود اللاحق. انتهى (¬1). كلام صاحب كتاب توحيد الخالق في القدر هنا خوض بلا علم بل بجهل وضلال، والخوض بشأن القدر حاصل في هذه الأمة والأمم قبلها، ومعلوم أن الإيمان بالقدر هو الركن السادس من أركان الإيمان والكلام فيه مزلّة ومضلّة إلا من وُفّق للعلم به على مقتضى مذهب أهل السنة والجماعة. فقول صاحب كتاب توحيد الخالق: (عِلم الله السابق الذي كتب في اللوح لم ينزل إلى الأرض لإرغامنا على فعل الشر والخير حتى نحتج بهذا السؤال فليس لِعلم الله السابق وما كُتب في اللوح قوة تسوقنا مكرهين إلى فعل الأشياء) كلام ركيك، حيث لم يجعل لعلم الله تأثيراً إلا أنه كاشف فقط حيث قال بعد ذلك: (بل علم الله السابق صفة انكشاف لما سنعمل بحريتنا لا صفة تغيير لأفعالنا) هذا كلام جاهل بالقدر، ¬

(¬1) توحيد الخالق، (ص368).

فالعلم السابق ليس كاشفاً لما سيعمل العباد فهذا يُشعر بمذهب القدرية الذين يزعمون أن العبد يخلق فعله اسْتقلالاً بل علم الله الذي كتبه في اللوح مُقارن لإرادته سبحانه أن يقع هذا المعلوم كما أراد، فقط أن علمه وإرادته سبحانه متقدمة وقوع الفعل من العباد كما تقدم ذلك وجودهم، فإذا وُجدوا أظهر معلومة فيهم كما كتبه علماً في اللوح فعملوا على مقتضى ما عَلِم وأراد وكَتب، فهذه ثلاث مراتب: (العلم) و (الإرادة وهي المشيئة) و (الكتابة) بقيت مرتبة رابعة إذا علمها العبد واعتقادها يحل الإشكال ويتبيّن الحق من الضلال، وهي مرتبة (خلق الأفعال) وهذه مراتب القدر الأربع من لم يُحْكمها اضطرب في شأن القدر، فنفي أن يكون لعلم الله السابق قوة تسوقنا إلى فعل الأشياء، هذا من جنس مذهب القدرية. أما قوله: (مكرهين) فنفيه الإكراه هنا يزيد الأمر وضوحاً وكأنّ العبد يفعل بإرادة وقدرة مستقلة وهذا باطل وهو مذهب القدرية. وأهل السنة يثبتون خلق الله سبحانه لأفعال العباد وينفون أن يكون ذلك إكراهاً أو إرغاماً أو جبراً إذ العبد يفعل بقدرة واختيار وإرادة، فهذا يُخرجه من أن يوصف بأنه مكره ومجبر، والله سبحانه هو الخالق لفعله بأن جعله قادراً مختاراً مريداً، وهذا يخرجه من أن يوصف بأنه خالق لفعله.

فقوله: (لما سنعمل بحريّتنا، وقوله: وكل إنسان منا يُشعر تمام الشعور أنه يُمارس عمله بحريّة تامة) يُشعر أن العبد يخلق فعله وهذا إثبات خالق مع الله، وخلق الله لأفعالنا لا ينفي أننا نعمل بحريتنا واختيارنا إنما ينفي أن تكون هذه الحرية والاختيار اسْتقلالاً منا إذْ أن حرّيتنا واختيارنا مخلوق ذلك كله لله فيجعلنا نختار ما يُريد بحريتنا. أما تشبيه صاحب كتاب توحيد الخالق إيقاع العبد عمله بالعضلات الإرادية وغير الإرادية ثم تمثيله بأن عِلْم شخص بعمل شخص ليس له تأثير بذلك العمل، هذا تشبيه علم الرب عز وجل بعلم عباده وهو باطل والفرق أن الرب سبحانه يعلم ما سيفعله العبد لأنه قد أراده وعلمه وكتبه ويخلقه على مقتضى علمه وإرادته وكتابته ... أما علم الشخص بعمل شخص آخر فغير مؤثر بخلاف علم الرب سبحانه بعمل العبد فإنه سابق في التقدير مؤثر في الإيجاد. فإذا قيل: هذا هو الجبر والإكراه والإرغام بعينه، قيل: ليس كذلك، فالمجبور مسلوب الإرادة والاختيار كالأشجار المحرَّكة بالرياح والمرتعش، أما العبد فيعمل بإرادة واختيار تخرجه عن مقام الجبر وإن كان الرب سبحانه هو خالق إرادته واختياره. والمراد أن صاحب كتاب توحيد الخالق تكلم في علم الله السابق وكتابته وأهمل الإرادة وخلق الأفعال، وهذا تخبيط.

ثم قال صاحب كتاب توحيد الخالق: وقد يسأل مرتاب قائلاً: إذا كان الله قد علم أني سأفعل شراً لماذا لم يمنعني عنه؟. ثم قال: والجواب: لو عرف هذا المغرور حقيقة طلبه لكف عن الطلب، ولعَلِم بسخف اعتراضه على خالقه الحكيم. إن السائل لهذا السؤال يريد من الله أن يجبره على فعل الخير، وترك الشر، ومعنى ذلك: أن يسلب الله الإنسان أهم الخصائص الإنسانية، وهي خاصة الإرادة التي تفعل بها ما تشاء لأن الله إذا أرغم الإنسان على فعل الخيرات، وترك الشرور، فذلك معناه: سلب الإرادة والاختيار وتحويل الإنسان إلى آلة كالجماد الذي يتحرك دون إرادة منه أو تدبير، ولقد كرَّم الله بني آدم بمنحهم الإرادة وحرية الاختيار، وإن كان سبحانه يعلم ما سيفعل الخلق إلا أنه لم يشأ أن يعذبنا على ما يعلم منا، بل شاءت إرادته أن يكون الجزاء بعد فترة يظهر فيها العمل، وتشهد به الأرض والملائكة والجوارح والثقلان بما لا يبقى معه أي سبيل للإنسان إلى تكذيبه أو إنكاره، وهل يستطيع كافر اليوم أن ينكر أنه يمارس أعماله بغير إرادة منه؟! وهل يستطيع كافر أن ينكر علم الخالق بما خلق؟ (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (¬1). ¬

(¬1) الملك، آية: 14.

(يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (¬1). (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) (¬2). وما علينا إذا لم يقتنع المعاندون بعد ظهور الحق الأبلج، فقد قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: (إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ) (¬3). (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (¬4). فيفترون بقولهم: إذا كان الله يهدي من يشاء فلماذا يعذبنا وقد أضلّنا؟ ولوْ تدبّر هؤلاء الزائغون آيات القرآن لوجدوا الجواب واضحاً جلياً، ولعلموا أنه لا سلطان لأحد على ربه، وأن معنى ذلك: هو أن الله يفعل ما يشاء لا ما يشاء غيره، فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء لكن ربنا هو العدل الحكيم سبحانه فلا يهدي إلا من عمل ما يستحق به الهداية، قال تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً) وقال سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) كما أن مشيئة الله العامة لا تُضل إلا من يستحق الضلال، قال تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ). انتهى (¬5). صاحب كتاب توحيد الخالق في جوابه هذا الطويل مثل كلامه المتقدم اقتصر على الكلام في المشيئة والعلم وليس يذكر خلق الأفعال وهو ¬

(¬1) غافر، آية: 19. (¬2) طه، آية: 7. (¬3) الشورى، آية 48. (¬4) القصص، آية: 56. (¬5) توحيد الخالق، (ص369).

مذهب أهل السنة في القدر، وللبخاري رحمه الله صاحب الصحيح كتاب في خلق الأفعال، ولا يمكن أن تحصل معرفة القدر إلا بمعرفة مراتبه الأربع، وقد تقدم ذكرها، وكل مرتبة منها عليها أدلّة الكتاب والسنة كالشمس. فقول السائل: إذا كان الله قد علم أني سأفعل شراً لماذا لم يمنعني منه؟ هذا من جنس ما ذكر الشهرستاني في كتابه (الملل والنِّحل) قال: إعلم أن أول شبهة وقعت في الخلق شبهة إبليس، ومصدرها استبداده بالرأي في مقابلة النص، واختياره الهوى في معارضة الرأي، واستكباره بالمادة التي خُلق منها، وهي النار على مادة آدم، وهي الطين. وتشعّبت عن هذه الشبهة سبع شبهات: صارت هي مذاهب بدعة وضلالة، وتلك الشبهات مسطورة في شرح الأناجيل الأربعة، ومذكورة في التوراة متفرقة على شكل مناظرة بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود والامتناع عنه. ثم قال في الشبهة الأولى: قد عَلِم قبل خلقي أي شيء يصدر عني ويحصل، فلِمَ خلقني أولاً؟ وما الحكمة في خلقه إياي، ثم ذكر الشهرستاني باقي الشبه.

وقد أوردها ابن القيم في كتابه (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة) (¬1). قال ابن القيم: فهذه القصة في المناظرة هي نقل أهل الكتاب، ونحن لا نصدقها ولا نكذبها، وكأنها والله أعلم مناظرة وضعت على لسان إبليس، وعلى كل حال فلا بد من الجواب عنها سواء صدرت عنه أو قيلت على لسانه فلا ريب أنها من كيده، وقد أخبر تعالى: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) فهذه الأسئلة والشبهات من أضعف الأسئلة عند أهل العلم والإيمان وإن صعب مَوْقعها عند من أصّل أصولاً فاسدة كانت سَدّاً بينه وبين ودّها، وقد اختلفت طرق الناس في الأجوبة عنها. فقال المنجمون وزنادقة الطبائعيين والفلاسفة: لا حقيقة لآدم ولا لإبليس ولا لشيء من ذلك، بل لم يزل الوجود هكذا (إعلم أن أرباب العلوم الحديثة هم ورثة هؤلاء). ولما ذكر قول هؤلاء ذكر قول الجبرية والقدرية ثم قال: وقالت الفرقة الناجية حزب الله ورسوله، ثم أتى رحمه الله بعلم قد لا يُوَفق له كل أحد فمن أراده فليراجعه في موضعه. والقصد هما أن الشبهة التي أورد صاحب كتاب توحيد الخالق هي ميراث إبليسي، فالرب سبحانه خلق الخلق وقَدّر سعادتهم وشقاوتهم قبل ¬

(¬1) مختصر الموصلي 1/ 292.

خلقهم وهو أعلم بمن يصلح للهدى ممن لا يصلح وهو حكيم في كل ما يفعل. والإحتجاج بالقدر مردود وهو ميزان إبليسي فقد قال إبليس: (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي) أما آدم عليه السلام فقال: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) فمن احتج بالقدر على معصيته إلتحق بإبليس، ومن أقرّ بظلمه لنفسه إلتحق بأبيه آدم عليه السلام، لأن القدر يؤمَن به ولا يُحْتج به فقوله: لماذا لم يمنعني؟. يُقال: الرب سبحانه لم يُجْبرك حتى تقول: لماذا لم يمنعني؟ بل أعطاك إرادة واختياراً ففعلت ما فعلت بإرادتك واختيارك، صحيح أن إرادتك واختيارك كل ذلك مخلوق، ولكنه يُخرجك من أن تكون مُجْبراً على فعلك، والقدر سِرّ الله في خلقه، وقد اسْتأثر منه بعلمٍ ما اطّلع عليه ملَك مقرّب ولا نبي مُرْسَل. ولو كنتَ صادقاً في عبوديتك لإلهك الحق لعلمتَ أنه لا يَتَوَجّه إليه الاعتراض، فهو سبحانه أحكم الحاكمين. وهو سبحانه أراد إرادة كونية قدرية أن تفعل الشر لعلمه فيك السابق وحكمته التي يضع فيها الشيء مَوْضعه.

وأراد إرادة دينية أن تفعل الخير لكنك غير قابل لذلك، وبما أنه خلق نفسك ونفوس البشر كلهم متحركة بالإرادة، فالتي لا تتحرك بإرادة الخير لا بد أن تتحرك بإرادة الشر. والكلام بالقدر ليس هو موضوعنا هنا لكني رأيت صاحب كتاب توحيد الخالق لم يُحسن جواب تلك الشّبه فأشرت إلى ذلك إشارة، ومن أراد الشفاء في شأن القدر فعليه بشفاء العليل.

الجنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟

الجنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ قال صاحب كتاب توحيد الخالق في كتابه ص370: قال: وهذه شبهة أخرى تقول: إذا كان الله قد وصف الجنة بأن عرضها السموات والأرض، فأين النار؟. ثم قال: والجواب: في مكان آخر يعلمه الله، ألا ترى أنه إذا جاء النهار ذهب الليل الذي كان يملأ الآفاق إلى جهة أخرى. انتهى. الجواب: صاحب كتاب توحيد الخالق لا يعرف موضع الجنة وموضع النار لأنه مفتون بعلوم الغرب التي مُسَلَّماتها عنده وعند أمثاله أن الأرض تدور لأنها منفصلة بِفِعل دوران السديم المزعوم. ودوران الأرض لا يتّفق معه إثبات علو وسفول للكون لأن الذي يكون في وقت عالٍ يكون في وقت آخر سافل، وهكذا باستمرار. فكيف يتفق لمن هذا اعتقاده معرفة الجنة والنار على الحقيقة بل والسموات وهو لا يثبت عنده علو ولا سفول للكون ثابتاً. أما من يعتقد ثبات الأرض وسكونها فعلو الكون وسفوله ثابت عنده لا سيما وهذا من مهمات اعتقاده حيث معرفته بربه سبحانه وعلوّه وفوقيته فطرة وشرعة يتعبد بذلك إلهه ويتطلبه قلبه، فهو يطلبه فوقه دائماً

كما أخبر سبحانه عن نفسه وأخبر بذلك عنه رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. وعلوم الغرب مبنية على الضلالة، فمن أول خطوة إلى آخرها لا وجود للرب ولا ذِكر له ولا بإسمه (¬1) فضلاً عن العلم بعلوه ومكانه سبحانه ومكان الجنة ومكان النار، إن فاقد الشيء لا يعطيه، والهدى لا يدرك بمسالك الضلالة، والشر لا يأتي بالخير. والمراد أنه إذا كان عرض الجنة السموات والأرض فليس معناه أنه تشغل حيِّز السموات والأرض وتملأ فراغ السموات والأرض وإنما المقصود أن مسافة عرضها كمسافة عرض السموات والأرض فهذا مُراد منه تقدير السِّعة لا شغل الحيِّز. وبما أن الجنة فوق السماء السابعة وسقفها عرش الرحمن، وبما أن السموات كروية فسماؤنا الدنيا هذه الأرض في وسطها كالنقطة في الدائرة لكن بما أن هذه الأجسام كروية فيقال في وسطها وجوفها أوضح من أن يقال: كالنقطة في الدائرة، ثم السماء الدنيا في جوف الثانية وهكذا. فإذا علمت أن المسافات بين كل سماء وسماء كما بيننا وبين السماء الدنيا تبين لك سعة العالَم العلوي لا سيما ما فوق السماء السابعة وهناك ¬

(¬1) ولا ينبغي أن يغتر من وجد لله ذكراً بين علومهم من آيات القرآن أو غيرها، فهذا من تصرّف المترجمين لتروج البضاعة بحصول هذا اللبس.

الجنة والجنة درجات فيها مائة درجة ما بين كل درجة والأخرى كما بين السماء والأرض. والجنة وإن كانت درجات آخذة في العلو فهي كما وصف ابن القيم رحمه الله فدرجاتها كما يكون الجبل العظيم المنبسط فالجنان المرتفعة يوصل إليها كالصعود على الجبل الذي على أكنافه البساتين، كذلك النزول من الدرجات العلى إلى ما هي أسفل كالنزول من الجبل الذي تقدم ذكره هذا تقريب لبيان أن ليس درجاتها كالدار التي غرفها فوق بعض بالتساوي. وبما أن الجنة فوق السماء السابعة فلا تسأل عن سعتها، فإذا كانت الأرض في جوف كرة السماء الدنيا فهي صغيرة بالنسبة إليها إذ السماء الدنيا محيطة بها من كل الجهات فكيف بسعة السماء الثانية، وهكذا. فسعة العالَم العلوي عظيمة، لكنها شيء وهذيان الملاحدة شيء آخر حيث أن السّعة عندهم إلى ما لا نهاية. وعرض الجنة ذكره الرب سبحانه في سورة (آل عمران) قال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) وفي سورة (الحديد) قال تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) الآية. والقرآن يفسر بعضه بعض فقوله تعالى: (عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ

وَالأَرْضُ) يفسّره قوله تعالى: (كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ). فهذا قياس ظاهر بهذا التحديد (كعرض). أما النار فهي أسفل سافلين وهو سجين وهو الأرض السابعة السفلى. أما إن صَحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فأين الليل إذا جاء النهار) (¬1) فهو جواب فَهِمَ السائل منه المراد. وليس هناك تعارض بين وجود النار وكون الجنة عرضها السموات والأرض، والنار ليست في السماء. قال ابن كثير: والصحيح أن سِجِّيناً مأخوذ من السجن وهو الضيق، فإن المخلوقات كل ما تسافل منها ضاق وكل ما تعالى منها اتّسع، فإن الأفلاك السبعة (هي السموات) كل واحد منها أوسع وأعلى من الذي دونه، وكذلك الأرضون كل واحدة أوسع من التي دونها حتى ينتهي السفول المطلق والمحل الأضيق إلى المركز في وسط الأرض السابعة. ولما كان مصير الفجار إلى جهنم وهي أسفل السافلين كما قال تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وقال ها هنا: (كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ) وهو يجمع بين الضيق والسفول، إلى آخره، من تفسير ابن كثير. ¬

(¬1) رواه الإمام أحمد (3/ 441).

(لا تنفذون إلا بسلطان)

(لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ) ثم تكلم صاحب كتاب توحيد الخالق عما سماه: (الإسلام وغزو الفضاء) قال: يرى بعض الجهلة أن محاولات الإنسان لغزو الفضاء فيه زعزعة للدين، وتمرد على الخالق الذي أوجد الإنسان، كما يرون أن هذه المحاولة لم تكن في حساب الدين ولم يشر إليها مطلقاً، الأمر الذي يوجد الحيرة في نفوس المتدينين القاصري الفهم؛؛ فلا يدرون كيف يحددون موقفهم أمام هذه المحاولة!! والواقع أن تطلع الإنسان إلى استكشاف هذا الكون ليس فيه ما يزعزع العقيدة الصحيحة في نفس الإنسان، وليس تمرداً على دين الإسلام بل إن فيها -في الحقيقة- معجزة لنبيه عليه الصلاة والسلام وتصديقاً لما جاء في كتابه العزيز عن إحاطة علم الله سبحانه بكل ما كان وسيكون من أمر الإنسان قال تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ) (¬1) وقال تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ) (¬2). ¬

(¬1) الرحمن: آية 33. (¬2) المُلك: آية 5.

فإذا عرفنا أن النجوم لا تزال في مجال السماء الدنيا أي السماء القريبة من الأرض، وإذا عرفنا أيضاً أن علم الإنسان لا يزال محصوراً في نطاق النجوم التي هي زينة السماء الدنيا، وأن المحاولات مستمرة في اكتشاف نجوم جديدة مهما كبَّر الإنسان أجهزة الرصد لديه -مع العلم أن بيننا وبين بعض هذه النجوم مسافة لا يقطعها الضوء إلا في ستة بلايين سنة ضوئية، والضوء يقطع في الثانية الواحدة ثلثمائة ألف كيلو متر- فإذا عرفنا هذا وتأملنا القرآن الكريم وجدناه يخبر -قبل أربعة عشر قرناً- بأن الإنسان سيحاول النفوذ والخروج من أقطار السموات والأرض، كما حاول الجن من قبلهم ولم يستطيعوا تجاوز المنطقة الحرام التي يسترقون فيها السمع من الملأ الأعلى، وأشار القرآن إلى أن المحاولة لن تكون إلا عندما يكون لدى الإنسان سبب يمكنه من النفاذ ووسيلة بها يصعد في السماء وليس ذلك السبب أو الوسيلة إلا نعمة من نعم الله. قال تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ) انتهى (¬1). ثم ذكر صاحب توحيد الخالق كلاماً بعد أن ذكر قوله تعالى: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ذكر فيه أن القرآن أخبر أن المحاولة ستكون فِعْلاً، يعني محاولة ما سماه (غزو الفضاء) وذكر أن القرآن أول من ¬

(¬1) توحيد الخالق، ص374.

أخبر عن احتمال أو إمكان غزو الإنسان للفضاء في وقت كان فيه الغزو أمراً مستحيلاً، مما يشهد شهادة قاطعة بأن هذا القرآن وحي الله الذي يعلم السّرّ في السموات والأرض. فقوله: يرى بعض الجهلة أن محاولات الإنسان لغزو الفضاء فيه زعزعة للدين وتمرّد على الخالق. يقال له: كلمة غزو الفضاء كلمة خبيثة فالذي فوق الأرض هو المسافة بين السماء المبنية وجرم الأرض وفوق ذلك السموات التي فيها ملائكة الرحمن وفوق السماء السابعة الجنة والعرش وفوق العرش الرب سبحانه وبحمده. وكلمة (غزو) تستعمل لمحاربة الأعداء فإذا رام الإنسان الصعود إلى فوق وسمّى ذلك غزواً فتلك شيطنة إنسيّة، أما الفضاء فهو في كلام هؤلاء كما تبين هو ما فوق إلى ما لا نهاية. أما زعم صاحب كتاب توحيد الخالق أن بعض الجهلة يروْن في غزو الفضاء زعزعة للدين، فكوْنهم جَهَلَة بميزانك لأنهم ينكرون هذا الغزو المنكَر فالأمر ولله الحمد فيه اتّساع إذْ لسْتَ أنت أهلاً لِتَقْيِيم الناس وإنزالهم منازلهم، ويكفي ما في هذا الكتاب من بيان تلاعبك بالقرآن وقَسْر آياته ولَيِّ أعناقها لتجاري علوم المعطلة الكفرة مما يبين من هم الجهلة بل والضُّلاّل بميزان محمد صلى الله عليه وسلم؟.

وحسْبك أن تفتضح بما عِبْتَ به غيرك أن تستدل على غزو فضائك المزعوم بآية سورة الرحمن التي استدلالك بها يبيّن إفلاسك من أن تجد في كلام الله عز وجل ما يؤيّد هذه الشيطنة والفَرْعنة. والآية ليس تأويلها يعني وقوعها في الدنيا وإنما في الآخرة فسياق الآيات قبلها وبعدها دالّ على ذلك، فقد قال تعالى: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ) قال ابن عباس: وعيد من الله تعالى للعباد وليس بالله شغل وهو فارغ. وكذا قال الضحاك: هذا وعيد، وقال قتادة: قد دَنا من الله فراغ لخلقه، وقال ابن جريج: أي سنقضي لكم، وقال البخاري: سنحاسبكم لا يشغله شيء عن شيء، وهو معروف في كلام العرب يُقال: لأَتفرغنّ لك وما به شغل، يقول: لآخذنّك على غِرَّتِك. ذكر ما تقدم ابن كثير في تفسيره، وقال في قوله تعالى: (لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ) أي لا تستطيعون هرباً من أمر الله وقدره بل هو محيط بكم لا تقدرون على التخلص من حكمه ولا النفوذ عن حكمه فيكم أينما ذهبتم أُحيط بكم، وهذا في مقام الحشر، الملائكة محدقة بالخلائق سبع صفوف من كل جانب فلا يقْدر أحد على الذهاب. (إِلا بِسُلْطَانٍ) أي إلا بأمر الله (يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلاَّ لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ).

فَزَعْم صاحب كتاب توحيد الخالق وغيره أن هذه الآية تعني أو تشير ولو أدنى إشارة إلى ما حصل من هذه المحاولات الجنونية هو من أبطل الباطل ولقد أُسقْطت حرمة القرآن بهذا التلاعب. ولقد كتب في هذه المسألة سابقاً كتاباً اسمه (دعوى وصول القمر) أو (القمر ووصوله) نقلت فيه كلام بعض الغربيين وهو (بلكسنج) الذي أنكر الوصول إلى القمر وبيّن أن المسألة لا تعدو التمثيل. كذلك سمبسون وهو غربي أيضاً فَضَحَ قومه في دعواهم وصول القمر وعشرون مليون أمريكي يُنكرون الوصول إليه وأن المسألة خدعة. والمراد هنا أن الاستدلال بآية سورة الرحمن على ذلك من أبيْن الكذب وأبطل الباطل، والقمر في السماء المبنية الشفافة، قال تعالى: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) والسماء مليئة بالحرس. ونقل صاحب كتاب (من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم) هذيان المقلِّدين عن نشأة القمر بزعمهم وأنه انفصل من الأرض أثناء دورانها وأنه موضع انفصاله هو الحيّز الذي يشغله المحيط الهادي، وانظر تفصيل صاحب النظرية القرْدية (داروين). ومن ثم اقترح بعض العلماء أن القمر انفتق وانسلخ عن كوكب الأرض من الحيز الذي يشغله المحيط الهادي اليوم، وذلك خلال الزمن الجيولوجي الأول Palaeozoic Era الذي تميز بنشاطه التكتوني العنيف،

وحدوث الحركات التكتونية الكبرى المعروفة باسم الحركات الكاليدونية Caledonian Orogenesis ( في العصر السليوري Silourian منذ نحو 500 مليون سنة) والحركات الهرسينية Hercyian ( في العصر الكربوني Carboniferous منذ نحو 400 مليون سنة). وقد كانت قشرة الأرض في هذه الفترة الجيولوجية القديمة لدنة ولزجة بفعل التيارات الحرارية الصاعدة من باطن الأرض الملتهب، ومع دوران الأرض حول نفسها انتفخت المناطق الاستوائية من سطحها، وانبعجت ثم تفتقت وتمخض عنها ميلاد كويكب صغير تابع للأرض وهو القمر، وتبلورت هذه الأفكار في نظرية تعرف باسم نظرية انسلاخ القمر عن الأرض. نظرية انسلاخ القمر وانفصاله عن وجه الأرض: أول من رجح هذه النظرية هو العالم تشارلس داروين عام 1878م، واعتقد أن القمر وهو النجم التابع للأرض انفصل عنها تبعاً لتفاعل كل من قوة جذب الشمس للأرض من ناحية وقوة الطرد المركزية الناشئة عن دوران الأرض. اعلم أن ضلالات القوم مبنية على نظريات مجالها أذهان خاوية مظلمة والطريقة التي سلكوها هي أن أحدهم يتخرص في شيء من الأشياء فيتلقّفه آخر فيزيده من هذيانه ويُقرّره ويُعظمه كشيء مُسَلَّم لا

يقبل إعادة النظر، ثم ينظر فيه آخر ويزيده من ذهنه بما شاء، وفي الآخر تتكوّن سلسلة هذيانات وتخريفات تصير علماً لمن لاحظ لهم من العلم فإذا جاء هؤلاء أتباع الرسول بالعلم سخروا بهم وفرحوا بما عندهم من العلم. لقد انتشر في العالَم واشتهر تكذيب بالكسنج لقومه في دعواهم وصول القمر وما استطاعوا الردّ عليه لأنه فضحهم بما يعلمون أن كلامه كلام خبير بهذا المجال وخافوا أن يزيد في فضيحتهم وكشف كذبهم فآثروا السكوت عنه. ولقد بيّن غاية البيان أن المسألة لا تعدوا فلماً مصوراً في مواضع مُهيّأة على الأرض وقال: وتم تصوير وتسجيل هذه المشاهد وكل الأحداث شبه الخيالية من تجول ركاب السفينة على سطح القمر وما إلى ذلك قبل عدّة شهور من المهمة في منطقة تبعد 32 ميلاً شرقي صحراء (نيفادا) وكان الاسم السري الذي أُطلق على هذه العملية: (مشروع أبوللو المثير). وقال قبل هذا الكلام في كتابه (لم نهبط على القمر) قال: إن المشاهد المتعلقة بهذه المرحلة إنما هي مثل إعداد تصوير الأفلام السينمائية في (هوليود) تماماً، ولقد أنفقت الولايات المتحدة مبلغ ثلاثين بليون دولار لإعداد العَربات والبيئة القمرية ومشاهد الأرض الفوتوغرافية مما مَكّنها من

إقناع العالَم بأنها حقيقة لا خيال، ولقد أدهشت العالَم وحيَّرته. انتهى باختصار. ونحن ولله الحمد لم ننظر في إنكار وصول القمر أو حتى القرب منه كلام هذا فإن الذين يقرأون القرآن ويعقلون قد أنكروا ذلك من البداية وعلموا أنه دجل لكني ذكرته هنا ليتبيّن أن هذا الدجَل قد أنكره عليهم من هو مشارك لهم في شيْطنتهم حيث أن بلكسنج هذا متخصص في علومهم الفضائية. ولا نستبعد أن يُُقيَّض منهم من ينكر ملايينهم وبلايينهم الزمانية والمكانية ولسنا ولله الحمد بحاجة إلى إقرارهم أو إنكارهم وإنما كثيرون من قومنا لكلام الكفار عندهم وزن راجح على كلام خالق الكون ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى كلام أهل مِلّتهم (أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ). وحتى دوران الأرض أصدر بعض الفرنسيين واسمه (رايوفيتش) كتاباً اسمه (الأرض لا تدور) ذكر فيه براهيناً عديدة وقال في آخره: ويُبرهن ذلك على أن الشمس تدور حول الأرض، وكذا القمر يدور حولها مما يدل على عدم حركتها. وقال فرنسي آخر بعد أن رد القول بدوران الأرض بكلام طويل قال: ومن هنا ترى تأكيد أن الأرض تدور لا معنى له لأنه لا يوجد ما يثبته بالتجربة.

كروية الأرض وثباتها

كروية الأرض وثباتها ثم قال صاحب كتاب توحيد الخالق في كتابه، ص376: كروية الأرض ودورانها: هناك من يقول: إن القرآن قد وصف الأرض بأنها مسطحة، بينما أثبت العلم أنها كروية، فقد جاء في القرآن قوله تعالى: (وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) كما أن القرآن لم يخبر بدوران الأرض، ومثل هذا القول لا يدل على عمق في تدبر آيات لقرآن الكريم، ولهذا فلا بد من نظرة تأمل عميقة لقول الله عز وجل: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) انتهى. قوله: أثبت العلم أنها كروية، يقال له: أنت تنفخ في صورة هذا العلم المرْديَ المهلك، وتَتَهالك في تزكيته وتحْسينه وليس لك في ذلك حجة ولا برهان بل فعلك هذا من علامات تَشَرّب قلبك بفتنة علوم المعطلة الدهرية، حتى أن المتابع لكتاباتك يظن أن السلف كانوا في عِماية وجهل وأن من لم ينْهل من هذه العلوم والكشوف ويسير معها حيث سارت، ويطير معها حيث طارت، ويغوص معها حيث غاصت، يظن أنه

من عداد الدراويش. ولقد صارت من نتائج هذا التّبنّي مْنك ومن أمثالك لعلوم الغرب الترويج لهذه البضائع الكاسدة الفاسدة حيث لما فُتنتم بها مزجتموها مزجاً مع كلام الملك العظيم سبحانه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي هو صفة من صفاته، وفضله على سائر الكلام كفضل من تكلم به سبحانه على خلقه. فكون الأرض على شكل الكرة تكلم بذلك أهل العلم من السلف قبل وجود علمك هذا وقبل وجود أهله ونقلوا الإجماع على ذلك. فكلام شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك مشهور وقد نقل الإجماع الذي ذكره ابن المنادي على ذلك، كذلك تكلم في ذلك ابن القيم في مفتاح دار السعادة وغيره. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعرفون ذلك من قوله تعالى: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) والتكوير إنما يكون على الجسم المستدير. كذلك فإن هذه الآية تدل على تكوير السماء، وقد تقدم ذلك. والمراد هنا أن الأمة في غُنْية عن هؤلاء وعلومهم، وإن غايتهم إذا اكتشفوا من هذه المخلوقات شيئاً على هيئته بعد فناء الأعمار وإفساد العقول والأفكار فغايتهم أن يعرفوا هذا المخلوق على ما هو عليه، وليس

في هذا طائل فتفسير الماء بعد الجهد بالماء تكلف من فارغ، كيف وقد ضلوا بالمخلوقات عن خالقها، والذي ينبغي التنبّه له بما أن الفتنة حاصلة بشكل لم يسبق له مثيل أن التدقيق في علم الكونيات على تقدير الإصابة في ذلك ليس مما جاءت به الرسل عليهم السلام، لأن أهْوَن أضراره أنه شاغل عن المطلوب، ولذلك لا نجد من أئمة الإسلام من كان همّه وشغله وعلمه بالسفليات كحال علوم الكفَرة الذين يُفنون أعمارهم في ذلك، وفي الآخر يأتون بالضلالات وأحسن أحوالهم تفسير الماء بعد الجهد بالماء، ثم لا يسلم المتابع لعلوم هؤلاء وكشوفهم من الزيغ والضلال لأنهم من أول خطوة ينكرون الخالق سبحانه، وأيّ خير يرجى من هؤلاء. والمراد النظر بما تقدم من كلام صاحب كتاب توحيد الخالق على علوم الملاحدة وكشوفهم واستشهاده بالقرآن وبيان الضلال في ذلك، وهنا لما تمخّض الجمل فَوَلَدَ فأراً، يعني لما كشف هؤلاء شكل الأرض حيث خلقها الله كذلك جاء صاحب كتاب توحيد الخالق يقول: أثبت العلم أنها كروية، وقبله قطب صاحب الضلال زعم أن الكروية اكتشفت حديثاً، وقد تقدم أن ذلك معروف عن السلف. ثم إن هنا شيء لا بد من فهمه وهو أن إثبات الملاحدة لكروية الأرض إنما هو بناء على أصولهم الفاسدة التي تبدأ من السديم، ولذلك فَكَرَوِيّتها عندهم إنما حصلت نتيجة الدوران ملايين السنين وقد كانت

غازاً ثم تكثفت وتصَلّبت وصلحت للحياة، هنا تبدأ نظرية المتأقْرِدْ (داروين) وغيرها من نظريات الزيْف لبدء الحياة على الأرض. إنها والله ضلالات يقود بعضها إلى بعض، ولقد كنا بعافية قبل هذا الانفتاح الضلالي. أما المسلم الموفق فيعتقد ولله الحمد أن الله عز وجل خلق الأرض بقدرته على هذه الصورة من أول ما خلقها، وجعلها برحمته ولطفه صالحة للحياة من حين خلقها. وقد استغل صاحب كتاب توحيد الخالق الفرصة هنا بأنْ قَرَنَ دَوران الأرض مع كرويتها، وقد جَرَفَتْه علوم الملاحدة جرفاً وإلا فأين هذا من هذا؟. إن دوران الأرض المزعوم المتَخَيَّل الموهوم لا يعدو مساحة أخيْلة مظلمة، ليس له في الواقع شاهد ولا دليل بل الواقع المحسوس الملموس يُكذِّبه، كذلك النقل والإجماع أيضاً وقد بيّنت ذلك ولله الحمد بكتاب (هداية الحيران) وكتاب (الأرض ودورانها) وقد وضّحْت بالأدلة والرسوم ما يبين أن الأرض ثابتة قارّة ساكنة والحمد لله. وقد ذكر صاحب كتاب توحيد الخالق في صفحة 377 أن قوله تعالى: (وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) يُوَضّح دوران الأرض حيث زعم أن الدحو في اللغة هو الدّحْرجة والدحْرجة تعني الدوران، وعقل صاحب

كتاب توحيد الخالق مُتكيّف لقبول مثل هذه المحالات، كما أنه مستعد للتحيّل لجرِّ الآيات إلى عالمَ الضلالات. فكلامه أن معنى الدّحو الدوران من أبطل الباطل، ونعوذ بالله من التكلف والقول على الله بغير علم. وقد بيّن ابن كثير معنى الآية، فقد نقل قول ابن عباس رضي الله عنهما: ودحْيها أن أخرج منها الماء والمرعى وشقق فيها الأنهار وجعل فيها الجبال والرمال والسُّبل والآكام فذلك قوله تعالى: (وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا). وذكر ابن كثير أن معنى: (وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) هو (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا) وفي تفسير سورة السجدة ذكر ابن كثير ما يوضح ذلك أيضاً. وما الذي أعمى صاحب كتاب توحيد الخالق عن أكثر من آية يذكر الله سبحانه فيها أنه جعل الأرض قراراً، والقرار بلغة القرآن الثبات والسكون وآيات أخرى يذكر سبحانه فيها إلقاءه الجبال عليها لتستقر وتثبت لأنها على الماء؟ لكن جاء التحيّل فيقولون: لا ننكر القرار وإنما هو حاصل مع الدوران كذلك إرساء الجبال لحفظ توازن الأرض أثناء الدوران، فإن الكلام في قرارها وحفظ توازنها جاء من نظريات الملاحدة الذي يزعمون أن الجبال برزت من باطنها لحفظ توازنها، وقرارها أثناء

الدوران، وهذا هَوَس يليق بأفكارهم وإلا فالجبال ملقاة إلقاء من فوق الأرض، خُلِقَتْ فألقيت لم تبرز من الأرض، ولما كانت هذه النظريات لا تقوم على أركان وثيقة بل هي من أول خطوة ظلمات بعضها فوق بعض، فلا تروج إلا بالتحيّل.

جريان الشمس بالفلك غير الجريان حول المجرة

جريان الشمس بالفلَك غير الجريان حول المجرة ولذلك لما عَلم القوم أن القول بثبات الشمس ودوران الأرض مخالف لجريان الشمس الوارد في القرآن ظنوا أنهم يتخلصون من هذه المشكلة بإثبات جريانها حول مركز المجرة كما زعموا، وهذا من جنس التلاعب بتأويل كلام الله وعَسْفه على مقتضى الهوى، ظن علماء القرن الثامن عشر والتاسع عشر أن الشمس ثابتة لا تتحرك، وتبعهم بعض المرتابين في دينهم وتشككوا في قوله تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) حتى جاء التقدم العلمي فكشف خطأ ما ذهب إليه علماء القرنين الماضيين وأثبت أن الشمس تجري حول مركز المجرة التي تعتبر أرضنا جزءاً منها والتي تدور كما يدور الرحى، فعرفنا بذلك شيئاً من معنى قوله تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) كما ثبت أخيراً أن للشمس حركة حول نفسها فهي تجري ولكن حول نفسها، وقد يكون للآية معانٍ كثيرة غير ما اتضح حتى الآن. انتهى (¬1). ¬

(¬1) توحيد الخالق، (ص 378).

الجواب على هذا أن يقال: إنه لا يستقيم الظل والعود أعوج، ويقال أيضاً: كيف يهتدي السالك والدليل حائر. فالذي ذكره عن جريان الشمس حول مركز المجرة باطل من أصله ببطلان الزعم أن هناك ملايين المجرات بفضاء لا يُحَدّ، وقد تقدم بطلان ذلك بتحديد الفضاء بانتهائه بجرم السماء المبنية وأنه ليس هناك غير مجرّة واحدة هي في السماء المبنية كسائر النجوم هي شيء ومجراتهم الخيالية شيء آخر، فهذا أولاً. الثاني: أن جريان الشمس المذكور في القرآن هو دورانها في كرة السماء حول كرة الأرض، وبذلك يتعاقب الليل والنهار، أما الفصول الأربعة فتتعاقب باختلاف مطالع الشمس ومغاربها كل يوم إذ لها كل يوم مطلع ومغرب، فهذا الجريان للشمس حول الأرض الثابتة الساكنة لا حول المجرة المتخيّلة التي لم تولد بعد من خيالات المعطلة المظلمة. الثالث: أن جريان الشمس المذكور في القرآن هو جريانها في الفلك وهو كرة السماء والفلك هو المستدير، أما جريان شمس الملاحدة فهو حركتها هي وكواكبها المزعومة المتخيَّلة التي تسمى (المجموعة الشمسية) في فضاء لا حَدّ له ليس في سماء مبنية وحول المجرة المزعومة ليس حول الأرض الثابتة.

الأرض مركز الكون

الأرض مركز الكون الرابع: الأرض هي مركز الكون وحولها تدور الشمس والقمر والنجوم، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) فهم يدورون في السماء المستديرة، ومن التلاعب بالقرآن أن يُسْتدل على دوران الأرض بهذه الآية وهي ضَدّ ذلك فهي دليل على ثبات الأرض وسكونها لا على دورانها، فالرب سبحانه وبحمده ذكر في الآية الليل والنهار والشمس والقمر ولم يذكر الأرض لأن هذه الأربع تدور حولها وهي ثابتة، فقد تبين أن الدليل الحق لا يدل على الباطل بل يكشفه ويبين بطلانه لأن الدليل الحق لا يدل إلا على الحق، فلما كانت هذه الآية حقاً أبَتْ أن تنقاد للباطل، إنما المسألة كما قال ابن القيم رحمه الله في (الكافية الشافية): والناس أكثرهم فأهْل ظَوَاهِرٍ ... تبدو لهم ليْسوا بأهل معاني فهم القشورُ وبالقشور قَوَامُهم ... واللّبُّ حظُّ خلاصة الإنسانِ فعلى الموفق أن ينظر ببصيرة نافذة إلى بَوَاطن الأمور ولبابها ولا يكتفي بالظواهر، ومن كان مخطئاً مغتراً بمن تَصَدَّوْا لهذه النظريات ثم تنبّه وعرف الأمر على وجهه فهنيئاً له فالرجوع إلى الحق فضيلة.

إن من عرف السماء الدنيا التي هي سقف الأرض كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) وعرف أن هذا السقف بناء، كما قال تعالى: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) ولولا أنها بناء لما قال سبحانه وتعالى: (وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) يعني شقوق، ولَما قال تعالى: (هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) وهي الشقوق أيضاً إن الفضاء لا يقال فيه هذا، فكلام الله ينزه عن هذا الهزل. وعرف أيضاً أن هذا السقف للأرض كلها وأنه على شكل الكرة وقد تقدم بيان ذلك، وعرف صُغر مسافة الفضاء بالنسبة لفضائهم الذي لا ينتهي، وكم يذكر الله السموات والأرض ويذكر هذا الفضاء المحدود بقوله تعالى: (وَمَا بَيْنَهُمَا) فهو الفضاء كله وقد قدّرت مسافته في (هداية الحيران) بـ 9 ملايين كيلو متر تقريباً حسب اصطلاح أهل الوقت في قياس المسافات، ومن شاء فلْيُحَوّل مسافة الخمسمائة عام لسير الإبل إلى الكيلو متر فيظهر له أن خيالات الملاحدة منطلقة منفرطة ضالة تائهة، ولا والله لا تعدو نظرياتهم عن الفضاء والمجرات وملايين الشموس والدوران خيالاتهم والأوراق التي يُسَوِّدونها بهذا الهذيان. والمراد أن من عرف ذلك كما ينبغي على ضوء الكتاب والسنة تساقطت من خياله نظرياتهم وعرف معنى: ومن يكن الغراب له دليلاً ... يمرّ به على جِيَف الكلاب

فأي خير يُرجى من الكفرة أعداء الله ورسوله وأعداء دينه؟. وعرف أيضاً أن هذا الغلو بهم وبعلومهم هو معنى: ولوْ لَبِسَ الحمار ثياب خَرٍّ ... لقال الناسُ: يا لَكَ من حمارِ والكلب كلب ولو طُوِّق بالذهب، وعرف أيضاً أنهم فتنة زماننا العظمى، وحيث قلت: تساقطت من خياله نظرياتهم فأنا أقصد أن هذا هو مجالها، أما في الخارج فليس لها وجود، لأن الوجود الذهني الخيالي شيء والوجود الحقيقي شيء آخر. وهنا سؤال وارد لا محالة وهو: بما أن القوم طاروا بأقمارهم وصواريخهم ودمروا مسافات خيالية وزعموا وصول القمر فلماذا لم يذكروا السماء المبنية ولا مرة واحدة مع أن قرب مسافتها بالنسبة لمسافاتهم كقطرة ماء بالنسبة للبحر؟. فنحن بين خيارين لا ثالث لهما: إما أن نصدقهم مكذبين للحق الذي بين أيدينا وقد أتانا من خالقنا وخالق الكون سبحانه، أو نكذبهم مصدقين بالحق، وكل يعمل على شاكلته، فهذا برهان يبين دجلهم إذْ أنهم لو اقتربوا من السماء لرأوها كما رَأتْها الجن حيث قالوا: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) فالجن أعقل وأعلم منهم.

إنها قريبة جداً بالنسبة لمسافاتهم الخيالية الدجّلية، ولا ريب أنهم لو اقتربوا منها ما عادوا إلى الأرض. ومن الضلال تسمية الأرض كوكباً لأن الكواكب هي النجوم التي في السماء، أما الأرض فسماها الله ورسوله الأرض، وهم يسمون الشمس نجم، وفي رد شيخ الإسلام على أهل المنطق قال: وكذلك تكلفاتهم في حدودهم مثل حدّهم للإنسان وللشمس بأنها كوكب يطلع نهاراً وهل من يحدّ الشمس مثل هذا الحد ونحوه إلا من أجهل الناس. انتهى (¬1). كذلك هؤلاء في تسميتهم للشمس بالنجم ويزعمون أن في الكون ملايين الشموس وكذبوا لا يوجد سوى شمس واحدة لكنهم كالأنعام بل أضل. ¬

(¬1) الفتاوى 9/ 158.

(وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) الآية

(وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) الآية ومن نمط التحيّل على النصوص أيضاً ما ذكره صاحب كتاب توحيد الخالق في (ص377) قال: وقد رأى بعض المفسرين أن قوله تعالى: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) إشارة صريحة إلى أنه دوران الأرض، وأنكروا أن يكون ذلك يوم القيامة، لأنه لا يبعث الإنسان إلا بعد أن تكون الأرض قاعاً صفصفاً فلا يتمكن من الرؤية فيها، قال تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً) (¬1). الجواب: صاحب كتاب توحيد الخالق يتشبّث بأي شيء يظن أنه يُرَوِّج بضاعة القوم ويأبى الله أن تنطمس المعالِم بشبهات زائفة وتأويلات زائغة وهو لم يذكر هؤلاء السادة الذين أتوا بما لم تستطعه الأوائل بمخالفتهم السلف في تفسير القرآن، وسياق الآيات يبين أن ذلك يوم القيامة فالتأويل الباطل هنا لدوران الأرض كالتأويل الباطل للسلطان في سورة الرحمن. ¬

(¬1) طه، آية: 105 - 107.

أما من أنكر أن يكون ذلك يوم القيامة لأن الإنسان لا يبعث إلا والأرض قاعاً صفصفاً فلظنه أن الرؤية هنا للبصر وليس كذلك، بل الرؤية في آية سورة النمل للبصيرة كقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) مع أن هذه الواقعة وقعت عام مولده صلى الله عليه وسلم وإن كانت رؤية بالبصر فهي في القيامة. أما في آية سورة طه فالمقصود رؤية البصر (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ). ثم يقال: كلام الله ينزه عن هذه المعاني الركيكة فإنه على تقدير أن الأرض تدور وأن معنى (تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) يعني الجبال فإن لَفْت النظر بهذا الاعتبار إلى الأرض كلها هو المناسب لبلاغة كلام الله، ولماذا تُخَصّ الجبال وهي أجزاء صغيرة بالنسبة لما انْبَسط من الأرض من الصحاري والسهول بل والبحار، أليس يقول الله عز وجل: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ). إن هذا أبلغ في القدرة وأبلغ في البلاغة، لو كانت الأرض تدور وإن هذا والله التكلف، وكم ذكر الله الأرض في كتابه العزيز وليس في ذلك ولا آية واحدة تشير ولو من بعيد إلى الدوران كيف والآيات جاءت ببيان القرار والسكون، ولا يسلم من هذا الوباء والبلاء إلا من حل عقدة

(حذامي) بُعداً وسحقاً لأعداء الله كيف بلغت بنا الفتنة بهم إلى أن يهون علينا كلام ربنا كل هذا الهون حتى نجرّ آياته بعمايتنا إلى عماية من ضلوا وأضلوا كثيراً، ووالله ما أمَّلوا أن يحصل لهم كل هذا ولا يُقاربه، ولكنها الفتن وظلمات الذنوب ومن هنا يتحير السالك، ومن هنا وقعنا في المهالِك.

(وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه) الآية

(وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) الآية وذكر صاحب كتاب توحيد الخالق قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ). نعم: والبشر يعجزون عن استرداد أي شيء يأخذه الذباب، لأنه بمجرد أخذه يصب عليه من لعابه، فيحوله من فوره شيئاً آخر لا يمكن استعادته (¬1). الجواب: إن هذا الكلام السخيف وهذه الإحالات التافهة العسرة على تقدير صحتها كل هذا لا يشبه فصاحة كلام الله وبلاغته وإنما يناسب عقول أهل الزمان المفتونين بالغرب الكافر، وكون هذا المثل العظيم الذي ذكره الله سبحانه يبين في بطلان الشرك به وقبحه وسخف عقول الكفار الذين يعبدون آلهة يبلغ بها العجز أن تخلق أحقر مخلوق وأصغره وهو الذباب بل لو سلبها الذباب شيئاً ما استطاعت استرداده لعجزها وحقارتها، وقد كانوا يصبون اللبن والعسل ونحوه على الأصنام ¬

(¬1) الإيمان، (ص34).

فيقع عليها الذباب، فيخبر المعبود الحق أن هذه المعبودات الباطلة لا تملك نفعاً ولا دفعاً. قال ابن كثير في قوله تعالى: (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) أي هم عاجزون عن خلق ذباب واحد بل أبلغ من ذلك عاجزون على مقاومته والانتصار منه لو سلبها شيئاً من الذي عليها من الطيب ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك، هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها، ولهذا قال: (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) قال ابن عباس: الطالب الصنم والمطلوب الذباب. انتهى (¬1). أنظر الفرق بين السلف والخلوف وكيف يصرف صاحب كتاب توحيد الخالق معاني كلام الله على هذه المهازل التي لا تدرك، هذا على تقدير صحتها، ويدع المعنى العظيم الجليل الذي أراده الله سبحانه بكلامه إنها تأويلات سوء. والإنسان يعجب كيف عاد هذا المعنى العظيم الكبير لهذا المثل الذي ضربه الخالق لحسن توحيده وقبح الشرك به وتفاهة المشرك ومعبوده، كيف عاد هذا إلى أن الذباب بمجرد أخذه الشيء يصب عليه من لُعَابه فيحوّله من فوره شيئاً آخر لا يمكن استعادته. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير.

إنه كلام لا شك صارف عن تدّبر القرآن والانتفاع به من حُسن الإيمان وقبح الشك والطغيان حيث تعود هذه المعاني الجليلة العظيمة إلى هزليات وسخافات. لقد أنزل الله القرآن هدى وشفاء لم ينزله أحاجي وأغاليط وطلاسم وأسرار، وأي نفع وفائدة نكسبها إذا علمنا أن الذباب يفعل ما زعم أرباب هذه العلوم الملاحدة؟ على تقدير صحته؟ إن هذا مراد إبليس وهو إحالة معاني كلام الله العظيمة إلى سخف وتفاهة، وقد ذكر صاحب كتاب توحيد الخالق في كتابه (الإيمان) تحت عنوان: الإعجاز العلمي الحديث للقرآن (ص83) قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) الآية وكثيراً ما يُردد مُروِّجوا هذه البضائع المزيّفة هذه الآية يستدلون بها على ما فُتح على الملاحدة من الضلالة، وقد تقدم بيان معناها. فيا من يريد علم القرآن خذه من السلف الكرام، الذين يُجلُّون كلام الرحمن عن اللغو والهذيان. قال ابن القيم -رحمه الله- في معنى آية سورة (الحج): فتأمل هذا المثل الذي أمر الناس كلهم باستماعه فلم يسمعه فقد عصى أمره، كيف تضمن إبطال الشرك وأسبابه بأوضح برهان بأوجز عبارة وأحسنها وأحلاها وسَجّل على جميع آلهة المشركين أنهم لو اجتمعوا كلهم في

صعيد واحد وعاوَن بعضهم بعضاً بأبلغ المعاونة لعجزوا عن خلق ذباب واحد. ثم بيَّن عجزهم وضعفهم عن استنقاذ ما يسلبهم الذباب إياه حين يسقط عليهم، فأي شيء أضعف من هذا الإله المطلوب ومن عابده الطالب نفعه وحده؟. فهل قَدَرَ القوي العزيز حق قدره من أشرك معه آلهة هذا شأنها، فأقام سبحانه حجة التوحيد وبيّن ذلك بأعذب ألفاظ وأحسنها، ولم يستكرهها غموض، ولم يشِنْها تطويل، ولم يعبها تقصير، ولم يُزر بها زيادة ولا نقص، بل بلغت في الحسن والفصاحة والبيان والإيجاز ما لا يتوهمه متوهّم، ولا يظن ظان أن يكون أبلغ من معناها منها. وتحتها من المعنى الجليل القدر العظيم الشأن، البليغ في النفع ما هو أجلّ من الألفاظ. انتهى. وقد قال رحمه الله في كتاب الأعلام: حقيقي على كل مسلم أن يُسْمع قلبه لهذا المثل ويتدبره حق تدبره فإنه يقطع مواد الشرك من قلبه. انتهى. تأمل الفرق بين هذا المعنى العظيم المراد بهذا وبين ما يُهَوِّن شأن كلام رب العالمين وينقص قدره ويُسقط حرمته مما خاض به الخائضون وتهوك به المتهوكون يظهر لك الفرقان بين طرق الضلال وطريق الإيمان.

(ثم استوى إلى السماء وهي دخان) الآية

(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) الآية ثم قال صاحب كتاب توحيد الخالق بعد الكلام السابق في كتاب (الإيمان) ص84: لقد تحقق الوعد من ربنا في هذا الزمان، فرأى الكافرون الذين لم يتبيَّنوا الحق آيات الله في آفاق المخلوقات، وما رأوا تلك الآيات والأسرار إلا بأدق الأجهزة والوسائل، كالطائرات والغواصات، والتي لم يملكها الإنسان إلا في هذا الزمان، فكان لهم في ذلك بينةٌ بأن الله هو الذي أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم عن هذه الأسرار في الخلق، يوم لا أجهزة بحث علمي، ولا طائرات، ولا غواصات، فكان هذا لوناً جديداً من إعجاز القرآن، يبين للكافر اليوم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق هذا الدين، ومن أمثلة ذلك: ما كان أحدٌ يظن أن أصل السماء ونجومها، وكواكبها هو الدخان، حتى تقدمت أجهزة البحث العلمي، وشاهد الباحثون بقايا الدخان، لا تزال تتكون منه النجوم إلى يومنا هذا، والله يقول: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) انتهى.

أنظر قوله: ما كان أحد يظن أن أصل السماء ونجومها وكواكبها هو الدخان حتى تقدمت أجهزة البحث العلمي، وقد تقدم كلام علماء الإسلام في بدء الخلق وكلامهم في (الدخان) فهل كان أهل الإسلام يجهلون كلام ربهم وما ذكره عن مخلوقاته حتى وُجِدَ الملاحدة فأنقذوهم من جهلهم ودَلّوهم على من هم له جاحدون منكرون؟. لقد قال علماء الأمة الذين يستحقون أن يُسَمّوْا علماء: لو أقام العلماء كتاب الله وسنة رسوله ما احتاجوا إلى الكفار لا في دينهم ولا دنياهم، وهذا وعزة ربي هو الحق. وقد ذكرت في كتابي (الأرض ودورانها) أن مجانيننا وعجائزنا خير من ملء الأرض من هؤلاء الذين فُتن بهم وبعلومهم من فُتِن. هذا وقد علم القارئ مما تقدم كيف ضلَّ الكفرة بالدخان الذي هو عندهم (السديم) وكيف يجعل صاحب كتاب توحيد الخالق هذا هو هذا وأن هذا يبين صدق الرسول والدين وهو الضلال المبين؟. وانظر قوله: وشاهد الباحثون بقايا الدخان لا تزال تتكون منه النجوم إلى يومنا هذا. كل هذا مجاراة للضُلاَّل، وإنه لمن الكذب البيّن قولهم: لا تزال تتكوّن من الدخان النجوم إلى يومنا هذا، وهو مبني على مقتضى أصولهم

الفاسدة بأن الفضاء لا حَدَّ له والنجوم تتكون باستمرار تلقائياً نتيجة الدوران للسُّدُم المزعومة المتخيَّلة، وقد تبين بطلان هذا الهذيان. والله سبحانه وبحمده خلق السموات والشمس والقمر والنجوم والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) فقد انتهى خلق النجوم مع السماء ومن هنا حُرِّف معنى قوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) ويأتي بعد هذا إن شاء الله. وقد قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ). قال ابن كثير يبين معنى قوله تعالى: (وإذ قال) بصيغة الماضي قال: لأن كثيراً من أمور يوم القيامة ذُكر بلفظ الماضي ليدل على الوقوع والثبوت (¬1). فيلزم من زعم أن معنى (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) أنها ما تزال تَتّسع يلزمه أن الله قال لعيسى عليه السلام ما قال في الماضي مع أنه سيكون يوم القيامة، وحيث أنه لا يلزم فقوله تعالى: (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) أي قد حصل هذا في الماضي وفُرِغ منه بمعنى: فقد وسْعناها. وإليك الكلام في الآية. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 2/ 120.

(والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون).

ثم قال صاحب كتاب توحيد الخالق في كتابه (الإيمان) ص85: وكشف الباحثون الآن: أن نجوم السماء لا تزال تُخلق، وأن مدن النجوم يتباعد بعضها عن بعض وبهذا عُرف أن السماء لا تزال تتسع، قال تعالى: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ). الجواب: لو قال الله عز وجل أو رسوله: وإذا قال الباحثون فاستمعوا لهم وأنصتوا لعلكم ترحمون لما زاد كثير من أهل الوقت الذين تشرّبت قلوبهم فِتَن الملاحدة شيئاً من الإصغاء والاهتمام. ولقد شربت الأمة الذل النفسي مع الماء واسْتنشقته مع الهواء لما وُجِد من ينفخ بصور الكفرة أعداء الله ورسوله حتى زال الفرقان ورحل من قلوب من يَدّعون الإسلام العدوان لأعداء الرحمن، وحَلّ لهم في محله التعظيم والتفخيم والتكريم، وهكذا تكون الفتن، وما كانت الأمة هكذا حتى بُلِيتْ بهؤلاء ومُقلِّديهم لأن الأمة كانت في الماضي بعافية من هذه الفتن ولهم عقول يعلمون بها أن الكلب كلب ولو طُوِّق بالذهب كيف إذا طُوِّق بالأقذار، فكانت الأمة قبل أن يكون القرآن حِرْفة وقبل أن يخلط المسك بالعذرة تعرف معنى قوله تعالى: (إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) وتعمل على مقتضاه، فكانت العزة لها. فَزَعْم صاحب كتاب توحيد الخالق أن باحثوه كتشفوا أن نجوم السماء لا تزال تُخلق، وأن مدن النجوم يتباعد بعضها عن بعض وأنه بهذا

عُرف أن السماء تَتسّع كَذِبٌ محض وباطل صِرْف لو قاله عالم من علماء المسلمين لَعَلِمَ العامة أنه زَلّ وأخطأ، كيف والقائلون بهذا لا يعرفون كيف يضعون أقدامهم على الأرض فما لهم وللسماء؟ وأي علم عندهم عن السماء؟ هم أجهل الخلق بها بل إنهم لها جاحدون ولمن خلقها منكرون، فما بالنا صِرَّنَا نتلقى علمها منهم؟ أنقص فيما عندنا يكمله هؤلاء أم عيب يصلحونه؟. أما وصَفَها ربنا في كتابنا وأعاد وكرّر، فذكر اللمس والنظر، وإرجاع البصر، وذكر البناء والأبواب، وأخبر بعجز من يروم الرقيّ إليها بالأسباب، أما ذكر الانشقاق والفطور، وما في خلق السماء من عجائب الأمور؟. أما ذكر نبينا الكريم انفتاح أبوابها لروح المؤمن وغلقها عن روح الكفور، أما صعد إليها، وسما فوقها وعلى عليها، واستقبلته ملائكتها بالفرح والسرور؟. أأصبحنا عالَة على هؤلاء الأنجاس؟ ونحن نحن الناس، العلم عندنا والعز لنا، والمجد مجدنا، لولا أننا تركنا دربنا، ألسنا خير أمة أخرجت للناس، أخَيْرِِيّتنا بمشابهة الأرجاس، والنزول من العلو إلى السفول والرضا لشمسنا بالكسوف ولقمرنا بالأفول .. ؟

لا وعزّة العزيز ما عِزنا بمشابهة الكفار، لا بالعلم ولا بالعمل ولا بالغرور وطول الأمل، هذا طريق الذل والهوان الموصِل إلى البوار والخسران. ليعلم هؤلاء الخائضون أن الرب سبحانه وبحمده يقول للشيء (كن فيكون) وقد قال للسماء والأرض: (ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) قال هذا بعد فراغ وانتهاء. فالسماء والأرض خلقهما الرحمن قبل استوائه على عرشه وكان قبل ذلك عالٍ عليه وعلى مخلوقاته وإنما حصل الاستواء بعد خلق السموات والأرض في ستة أيام. ومعنى قوله تعالى: (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) ليس هذيان أعداء الرحمن، قال ابن كثير: أي قد وسعنا أرجاءها فرفعناها بغير عمد حتى استقلت كما هي. انتهى. فكلام ابن كثير يبيّن أن هذا حصل في الماضي حين خلقها سبحانه وهو الصواب، أما الملاحدة فليس عندهم سماء مبنية وإنما فضاء فيه ملايين وبلايين المجرات فالإتساع عندهم هو ما ذكره صاحب كتاب توحيد الخالق عنهم وهو تباعد المجرات لأن النجوم لا تزال تُخلق، فهذا على مقتضى أصولهم من دوران السُّدُم التي تتولّد منها بزعمهم الكواكب، وقد تبين مراراً أن هذا هذيان.

ولذلك قال في كتابه (العلاج هو الإسلام) (ص72). قال عن أرباب هذه العلوم: فدرسوا الكون ووجدوا أنه ما زال يتسع ويتباعد وذلك مصداق قوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) أي لا زلنا نوسِّع في بناء هذا الكون. انتهى. أقول: هذا كذب وباطل وإنما المراد منه الضلال عن خالق الكون سبحانه المعبود الحق، وقد تقدم بيان هذا. ولقد أضل الكفرة المعطلة صاحب كتاب توحيد الخالق وأمثاله عن السماء المبنية، وقد تقدم تخبيطه في ذلك مراراً. وقال في كتابه (العلاج هو الإسلام) ص97: فالله يخبرنا أن السماء كانت دخاناً ما كانت نجوماً (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) فالطور الأول للسماء أنها كانت دخاناً ثم أصبحت في طور آخر وكانت نجوماً ثم جاءت بعد ذلك الأرض. انتهى. وهذا والله الضلال عن الله، وفوقيته وعرشه حيث جعل صاحب كتاب توحيد الخالق السماء المبنية نجوماً تقليداً للمعطلة. وذكر صاحب كتاب توحيد الخالق أن القمر كان مشتعلاً ثم انطفأ ومُحيَ ضوءُه، واستدل بقوله تعالى: (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ) وهذا أيضاً

مبني على أصول المعطلة المنهارة حيث يزعمون أنه منفصل من الأرض أثناء دورانها وأنه تكثف وبرد فيما بعد. واستدل صاحب كتاب توحيد الخالق بقول ابن عباس: كان القمر يضيء كما تضيء الشمس والقمر آية الليل والشمس آية النهار فمحونا آية الليل السواد الذي في القمر. صاحب كتاب توحيد الخالق يتوهم أن قول ابن عباس هذا يؤيد كشوفات الباحثين لأنهم يزعمون أن الشمس نار عظيمة ويأتي إن شاء الله ذكر ذلك في موضعه، وبما أن الأرض بزعمهم منفصلة عن الشمس، والقمر منفصل عن الأرض فكونه يضيء كالشمس تصديق لخيالاتهم، وابن عباس رضي الله عنهما حين فسر الآية بذلك ليس مراده أن القمر نار كالشمس على ما يزعم الملاحدة بل مراده فقط أنه يضيء كالشمس يعني ينبعث منه الضوء ليس يسْتفيده من الشمس كحاله الآن وأن المحو هو جعله لا يُضيء من ذاته وإنما يستفيد ضوءه من مقابلته للشمس. وقد فسّر علي رضي الله عنه المحو باللطخة التي في القمر. وذكر شاحب كتاب توحيد الخالق في كتابه (الإيمان) ص86 الصعود إلى السماء وضيق التنفس مستدلاً بقوله تعالى: (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) وقد تقدم بيان ذلك.

وقال: واكتشف الباحثون أن في النباتات جميعاً زوجية (ذكراً وأنثى) وما كان أحد يعلم ذلك من قبل وذكر قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) وقد تقدم بيان العلم بهذا قبل أن يخلق الكفرة. كذلك ذكر في كتابه (الإيمان) الموج الذي زعم أنه في أعماق البحار، وسبق الرد على هذا. وذكر أشياء من هذا القبيل الذي بانَتْ لمن يبصر نماذجه وعيّناته ثم قال: فمن كشف لمحمد صلى الله عليه وسلم هذه الأسرار قبل ألف وأربعمائة عام يوم لا طائرات ولا غوّاصات ولا مخترعات علمية؟ إلى آخر كلامه. الجواب: أيظن صاحب كتاب توحيد الخالق أن في هذه الهذيانات مدح للرسول والكتاب الذي جاء به من ربه؟ حاشا وكلاّ، فالمدح بالباطل كالذمّ بالباطل. إن وصْف مخلوقات الإله العظيم على غير ما هي عليه بل على ما يفتح أبواب الضلال، والاستدلال على ذلك بكلامه سبحانه جناية عظمى ومصيبة كبرى وكذب عليه وتأويل لكلامه بالباطل. أيظن هؤلاء أنهم يعظمون الله ويعظمون كلامه بمتابعتهم خرافات المعطلة؟ ليس هذا إلا إسقاط حرمة القرآن من القلوب وفَتْح باب احتقار السلف الصالح، وفتح باب تعظيم الكفار، وفتح باب الوقوع في

أشراكهم وحبائلهم المنصوبة في ظلمات ضلالاتهم، وكم وقع فيها من وقع، ودعوتهم إنما تكون بالطرق الشرعية فهذا هو الصراط المستقيم. ثم ذكر صاحب كتاب توحيد الخالق صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان في كتابه (الإيمان) ص130، وهذا الكلام يذكره المتأخرون كثيراً لكن قَلّ من يعرف حقيقة قوله فضلاً عن أن يُحَقّقها، فإن هذا الكلام حق لكن بشرطه وهو: إذا كان المراد بالشريعة الشريعة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أصلها وأساسها الكفر بالطاغوت والإيمان بالله فمن قال: إنها في بعض الأزمنة أو بعض الأمكنة لا تصلح فهو كافر بلا ريب، ولا يُقال: صالحة لكل زمان ومكان، وإنما واجبة وفرض عين في كل زمان ومكان، وهذه يخضع ويذل لها العباد لا تخضع وتذل هي لأهوائهم. وفرضيّة الشريعة في كل زمان ومكان بمقارنة الذل والخضوع لمن شرعها والانقياد له ليس تخضيعها وتذليلها للأهواء والضلالات. ثم ختم كتاب الإيمان بما يرى هو وأمثاله لتقدم المسلمين مما لا بد فيه من التخليط الذي استحسنوه وليس هو على منهج السلف.

خوض في مسمى العلم

خوض في مسمى العلم واسْتفتح صاحب كتاب توحيد الخالق كتابه الذي سمّاه (العلم طريق الإيمان) بكلامه عن العلم، وللمتأخرين خوض في اسم العلم حصل بسببه لبس عظيم فيطلقون هذا الاسم على ما ليس بعلم وعلى ما يضاد العلم وعلى ما هو علم لكنه غير نافع، وهذا خلط حصل بسببه اللبس، وقد كتبت في كتاب (العلم الذي يستحق أن يسمى علماً) وأنه الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الممدوح بالكتاب والسنة. وأن الإطلاق في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لاسم العلم هو هذا، وعلى هذا كان السلف، أما ما عداه فيقيّد ليتبين الفرق بين ما هو من عند الله وهو المطابق للمعلوم في الخارج وبين غيره. ولما كان هذا الخلط حاصلاً تقرأ ما شئتَ من عبارات المتأخرين فيما يكتبونه: (العلم والدين) (العلم لا ينافي الدين) ونحو ذلك من العبارات التي يقصدون بها الجمع بين علوم المعطلة والدين، وكأن الدين ليس بعلم. أشار صاحب كتاب توحيد الخالق في بداية كتابه هذا إلى ما جرى بين أهل الكنائس في الغرب وبين أرباب العلم الحديث، وقد تقدم الكلام في هذا وبينت أنه لا يهمنا ما جرى بين ضُلاّل وهم أهل الكنائس وبين

من هم أضل منهم وأكفر المعطلة فميزاننا بين أيدينا وعلمنا الحاكم بين الناس فيما يختلفون فيه هو كلام ربنا ونبينا ولسنا عالة في ديننا لا على المغضوب عليهم ولا على الضالين ولا على المعطلة الملحدين، والحمد لله الذي بعث فينا رسولاً من أنفسنا يعلمنا الكتاب والحكمة ويجعلنا شهداء على الناس وإلى يوم القيامة ففي القرآن ما يكشف ويبين كل بدعة وضلالة لكن عَلِمَ ذلك من علمه وجهله من جهله. ذكر صاحب كتاب توحيد الخالق في كتابه هذا ما تقدم تفنيده من زعمه أن الذي يصعد إلى الجو يجد ضيق في النَفَس ويستدل بقوله تعالى: (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) فقد كَرَّرَ هذه في ثلاثة كتب مما يبين حرصه على ترويج البضائع التالفة. وذكر أن قوله تعالى: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) أن هذا أول إعلان عن إمكانية وجود إنسان في السماء، وهذا من جنس الزيوف. التي عَوَّدَنا عليها، والمراد هنا أهل سمواته مع أهل أرضه قال ابن كثير: أي لا يعجزه أحد من أهل سمواته وأرضه بل هو القاهر فوق عباده فكل شيء خائف منه فقير إليه وهو الغني عما سواه. انتهى. ولا تدل الآية على ما ذهب إليه صاحب كتاب توحيد الخالق.

(لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون) الآية

(لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) الآية وذكر صاحب كتاب توحيد الخالق أن زغلول النجار أخبره أنه اطلّع على كلام لبعض من يسمون رواد الفضاء وأنه يذكر أنه عندما يخرج من الغلاف الهوائي للأرض ويدخل خارج الغلاف الهوائي أن هناك ظلام دامس وأن الشمس تبدو في تلك المنطقة باهتة جداً والنجوم ضعيفة جداً والسواد هو الغالب عليه وأن هذا الرائد يقول أثناء صعوده: الآن يقلّ الضوء، الآن سُدَّتْ أبصارنا وأغلقت، لا نرى شيئاً، قد أصبحنا عمياً، لأنه ليس هناك من انعكاسات لأشعة تأتي إلينا، ثم قال زغلول النجار المصري: لما سمعت هذا الكلام تذكرت قول الله سبحانه وتعالى: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) انتهى (¬1). الجواب: أن هذا الزغلول المصري الجيولوجي شابه صاحب كتاب توحيد الخالق في الكلام بالقرآن بهذه الضلالات وغصب آياته لتجاري هذه الفتن، وليس المعنى كما ذهبوا إليه بل هو فاضح لتخريفهم فإن الخطاب مع الكفار المعاندين وأنهم كما قال ابن كثير: يخبر تعالى عن ¬

(¬1) العلم طريق الإيمان، (ص11).

قوة كفرهم وعنادهم ومكابرتهم للحق أنه لو فتح لهم باباً من السماء فجعلوا يصعدون لما صَدّقوا بذلك بل قالوا: (إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) قال مجاهد وابن كثير والضحاك: سُدَّت أبصارنا، وقال قتادة: عن ابن عباس: أُخِذَتْ أبصارنا، وقال العوفي عن ابن عباس: شُبِّهَ علينا وإنما سُحِرْنا، وقال الكلبي: عميت أبصارنا، وقال ابن زيد: (سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) السكران الذي لا يعقل. انتهى من تفسير ابن كثير. فالذي يُخبر به الذين يسمون: روّاد الفضاء أنهم إذا ارتفعوا وجدوا ظلمة وأنهم يقولون: سُدَّتْ أبصارنا وأغلقت لا نرى شيئاً، فهم يخبرون عن ظلمة يدخلون فيها إذا ارتفعوا في الفضاء. أما الذي تخبر عنه الآيتان فإنما هو تقدير معناه أن الله لو فتح لهم باباً من السماء المبنية ذات الأبواب ثم أقدرهم سبحانه على الصعود حتى وصلوا إلى السماء ودخلوا بابها واستمروا في الصعود لقالوا الذي ذكر الله عنهم. يعني أنه من شِدّة مكابرتهم وعنادهم ينكرون هذه الحقائق العظيمة لو حصلت لهم كما ذكر سبحانه، فأين هذا من هذا؟. فالرب سبحانه يخبر في الآيتين عن الكفار أنهم لو صعدوا ورأوْا بأعينهم صدق خبر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بأن يُفتح لهم باب السماء فيعرجون

فيه ويرون آيات السماء (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) يقولون ذلك جحوداً ومكابرة وعناداً. فالقصة كلها ليس فيها ذكر ظلمات أثناء الصعود بل بالعكس فيها إبصار حقيقي ونظر تام على تقدير حصولها فإنهم رغم ما يبصرونه ويشاهدونه بأعينهم عن قرب من آيات ربهم الذي أرسل إليهم هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يلجّون في عتوّهم وعنادهم ويقولون ما ذكر الله عنهم. وقد ذكر الله من تعنّتهم ما يشبه هذا في سورة الإسراء وغيرها من سور القرآن، قال تعالى عنهم: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَراً رَسُولاً). ويزيد ما تقدم وضوحاً ما رواه ابن جرير من حديث ابن عباس عن اجتماع كبراء قريش وسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأشياء التي ذكر الله عنهم في سورة الإسراء والحديث طويل وفي آخره أنه لما قام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قام معه عبد الله بن أبي أمية وهو ابن عمته عاتكة ابنة عبد المطلب،

فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك، ثم سألوك أن تعجل لهم ما تخوّفهم به من العذاب، فو الله لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلماً ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بصحيفة منشورة ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيْم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك، ثم انصرف وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزيناً أسفاً لِما فاته مما كان يطمع فيه من قومه حين دعوْه. انتهى. وقد ذكر ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس في تفسير الآيات المتقدمة. والشاهد في قول عبد الله بن أبي أمية: (وأيم الله لو فعلتَ ذلك لظننت أني لا أصدقك) والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فأين هذا مما ذهب إليه زغلول النجار وأيده عليه صاحب كتاب توحيد الخالق؟ كيف تصرف معاني القرآن إلى هَوَس الملاحدة؟ هذا والله عظيم. وإنه لظاهر بيِّن أن هؤلاء لا يُعَوِّلون على تفاسير السلف إلا ما نَدَر، كذلك فإنه ظاهر بيِّن أنهم بأدنى ما يظنونه مناسبة بين الآية وبين كشوف الكفار ولو كان من باب: سارت مشرقة وسرت مغرباً ... شتّان بين مشرق ومغربِ

إنهم يظنون أنهم وجدوا ضالّتهم لترويج البضاعة المزجاة، وبذلك أتوْا بما لم تستطعه الأوائل. فليعلم هؤلاء أن فعلهم هذا يستلزم أن السلف قد أجمعوا في تفسير القرآن الذي خالفوهم به على ضلالة وحسْبهم بهذا ضلالة.

تصديق صاحب كتاب توحيد الخالق بالوصول إلى الكواكب

تصديق صاحب كتاب توحيد الخالق بالوصول إلى الكواكب ويقول صاحب كتاب توحيد الخالق في كتابه (العلم طريق الإيمان) ص15: تقدم البحث الآن .. فماذا وجدوا؟ فبعد أن نزلوا في محطات في الكواكب في المجموعة الشمسية - ماذا وجدوا؟. وجدوا أن المقر في حالة تمثل حالة الأرض قبل ثلاثة بلايين عام، وأن الكواكب كلها تعتبر في حالة بدائية جداً بالنسبة للأرض فإذا رجعنا بعجلة الزمن إلى الخلف، نرجع ثلاثة بلايين حتى تكون الأرض كالقمر، فكيف كان القمر وكيف كانت الأرض؟ كانت في حالة سديمية دخانية هذا ما ذكره لي مدير مرصد طوكيو (بروفسيور/ يوشدو كوازي). صاحب كتاب توحيد الخالق يُصَدِق هذه المزاعم الباطلة وأنهم نزلوا في محطات في الكواكب في المجموعة الشمسية، وتأمل بلايين صاحب كتاب توحيد الخالق ومُقَلَِّديه وأن لهم خيالات وخيالات خيالية. وكل ما يذكرونه من ملايين السنين في عمر الكون ومسافات المجرات وأعدادها خيالات، أما الخيالات الخيالية فمجالها بلايين السنين

بالباء والحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيراً ممن خلق وفضلنا عليهم تفضيلاً. ويقال: إذا حَدّث العاقل بما لا يليق فالمصدِّقُ لا عقل لَهْ، هذا إذا كان المُحدِّث عاقلاً. إنهم بهذا الهذيان يريدون أن يصدقهم الناس بوصول القمر وهم لم يقتربوا منه ولن يصلوا، ومادة العالم العلوي لا يعرفونها.

أرض العرب والمروج والأنهار

أرض العرب والمروج والأنهار وذكر صاحب كتاب توحيد الخالق في كتابه (العلم طريق الإيمان) ص25 تحت عنوان: (جزيرة العرب في ماضيها ومستقبلها) أن غربياً ذكر أنهم درسوا تاريخ الأرض في الماضي فوجدوا أنها تمرّ بأحقاب متعددة من ضمن هذه الأحقاب المتعددة حقبة تسمى العصور الجليدية، وهو أن كمية من ماء البحر تتحول إلى ثلج وتتجمع في القطب المتجمد الشمالي ثم تزحف نحو الجنوب وعندما تزحف نحو الجنوب تُغطي ما تحتها وتُغيّر الطقس في الأرض، ومن ضمن تغيير الطقس تغيير يحدث في بلاد العرب فيكون الطقس بارداً وتكون بلاد العرب من أكثر بلاد العالَم أمطاراً وأنهاراً. ثم قال صاحب كتاب توحيد الخالق للغربي: قلت له: إسمع من أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم بذلك هذا كله مذكور في حديث رواه مسلم يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً) ثم أخبر صاحب كتاب توحيد الخالق أن هذا الغربي قال: وهذا يدل على أن النبي محمد لم يصل إلى هذا العلم إلا بوحي علوي.

الجواب: نحن ولله الحمد بغنية عن أن تُفَسَّر لنا الآيات والأحاديث على مقتضى علوم الملاحدة، وخبر النبي صلى الله عليه وسلم هذا نؤمن به ونصدّق ولا نتكلّف تكلفاً يلقينا في بحار الخيالات بل والضلالات، وقد قال تعالى عن نبيه: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)، وما قامت علوم مقلِّدة الدهرية إلا على ساق التكلف فإن هذا ظاهر لا يخفى. وقد تكلم على هذا الحديث كثيرون في وقتنا ومَرْجعهم كلهم في شرحه وبيانه إلى علوم المعطلة وكأنها قرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. إن من يتابع كلامهم في شأن عودة أرض العرب مروجاً وأنهاراً يرى أنه محال جملة وتفصيلاً على هذيان الغرب الكافرة من نشأة الأرض وكوْنها غازاً فتكثفت وكوْنها تدور، ولذلك شرحوا الحديث على اعتبار العصور الخيالية التي مَرَّت عليها الأرض فذكروا ما سمّوه العصر البليستوسين، والعصر الأوردفيشي، والعصر الكربوني، والعصر البرمي، وهذا العصر الذي سمّوه البرمي يقولون أنه متأخر عن العصور التي قبله، ويحددون عمر هذا العصر البرمي المتأخر بـ (250 إلى 270) مليون سنة تقريباً. كذلك شرحوا هذا الحديث على مقتضى أن الجزيرة العربية وأفريقيا كانت كتلة واحدة متصلة منذ 40 مليون سنة.

وهذه العصور والملايين كلها من زبالة خيالات الملاحدة. والذي قاله نبينا صلى الله عليه وسلم حق وصدق سواء أحاطت به عقولنا أو لم تحط به ولا يتم الإسلام إلا على ظهر التسليم. وهنا ينبغي الحذر الشديد من الوقوع في متاهات الكفرة وضلالاتهم أو شيء منها فإن بعضها يجرّ إلى بعض، إن نظرياتهم متعانقة متماسكة مشكاتها واحدة وهي مشكاة التعطيل تبدأ منه وتنتهي إليه. وليُعلم أن الخلاف بينهم في هذه النظريات يعود إلى وِفاق في الأصول الابتدائية والفروع النهائية وذلك أن الوجود واحد، وإن أحسن أحوال من سلك طريقهم في أصل الكون وتابع نظرياتهم في علم الأرض وغيره إن أحسن أحواله الشك وحسبك به داء، وإلاّ فكم وكم من ضحايا لهم في هذا الزمان صار سبيلهم سبيل من هلك. إن من يدّعي أن هذا الطريق يُعرِّف بالله أو يُقرب إلى الله أو يكمل علم الدين فإنه لا يرى الكفاية بما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان من أئمة المسلمين وعلمائهم حتى عصرنا. فإن قال: هذا شيء لم يحدث في الماضي ولو حدث لجعلوه طريقاً للدعوة وللهدى والإيمان، فيقال: لو كان خيراً لفُتِحَ عليهم، وإنه إنما جاء ليزيد الدين غربة، وهذا حاصل فقد مُلئِت الدنيا من هذه العلوم وشُغِل الخلق فيما لم يؤمروا به بل بما نهوا عنه من الخوض والتخرص والظنون

والضلالات والخيالات وماذا كانت النتيجة؟ لقد كانت والله إلحاد كثيرين ساروا مع هذه النظريات حيث سارت واسْتقرؤا بداياتها ونهاياتها فوصلوا إلى ما وصل إليه أربابها من التعطيل. وكأننا في جهل بمخلوقات ربنا حتى يعلمنا هؤلاء أو في نقص حتى يكملوا أحوالنا، أو أن الدعوة لا تحصل إلا بذلك. لقد أنزل الله آياتاً من كتابه العزيز فيها الثناء على المؤمنين الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض وأنهم هم أولوا الألباب، ولقد كان في ذروة هذا وسنامه الرعيل الأول، ولقد كان نظرهم وتفكرهم كنظر نبيهم وتفكره، ومن يؤمن إيمانهم؟ ومن يهتدي هُداهم؟. لقد حُشيَتْ قلوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم ذُلاًّ بجانب أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء دينه، وما ظُلمنا (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) فقد ذكر أهل العلم أن كل شر في العالَم إنما يحصل بسبب الذنوب، وأن سلوك طرق الكفار والتشبه بهم في علومهم وأعمالهم لمن أضر الأضرار في هذا الزمان على الأمة وإنما (لا يشعر تائه لمصابه) وقد وَرَدَ أن الله إذا أراد إنفاذ أمر سَلَبَ أهل العقول عقولهم حتى ينفذه فإذا رَدّ عليهم عقولهم وقعت الندامة. ومما يبين فساد ما فُسِّرَ به الحديث ذكر العصور التي مددها بزعمهم ملايين السنين مع أن قبلها أزمان للمادة عندهم لا تُحَدّ فالمادة عندهم

أزلية وهو قول الفلاسفة وهو كفر حتى مع إثبات وجود الخالق كيف بهؤلاء الذين لا يعترفون بوجوده؟. والمراد أن سلوك سلبهم ضلالة من البداية إلى النهاية، أما إصابتهم فيما يصيبون فيه من العلم بالمخلوقات فغايتهم ظَواهِر من الحياة الدنيا عندنا ولله الحمد من العلم بها ما يكفي مع الأمان من سلوك طرقهم المفضية إلى الضلالة ولا بد. ألا يكفينا ما كفى الصحابة والسلف الذين ذهبوا بالإيمان واليقين والعلم الراسخ المتين؟ أيظن مقلِّدة الغرب أن يكونوا أهدى منهم؟ ولقد حُذِّرنا غاية التحذير من اتباع سنن الأمم قبلنا مع أننا أُخبرنا أن هذا الإتباع سيقع بشكل يكاد ألا يُصَدَّق به لولا أنه خبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فإنه لم يحدث في قرون الأمة مثل هذا الإتباع ولا ما يقارب عشر معشاره ولقد كانت النتيجة استحكام الغربة واشتداد الكربة. فالحديث ورد فيه ذكر المروج والأنهار، فالمروج في زماننا تَعَدَّتْ الوصْف والذي يعرف أرض الجزيرة قبل 70 سنة تقريباً يعلم أن الذي حصل في أرضها انقلاب هائل ما كان أهلها يظنون أن يُقارب ولا بعض ما حصل. فقد عُمِرَت الأراضي بالزراعة سواء منها القابل المخصب، أو البور المجدب، وسواءاً القريب من المدن أو البعيد عنها كما هو ظاهر لكل أحد

فقد صارت مروجاً لأن المرْج هو الأرض الواسعة يكون فيها النبات الكثير، فهذا قريب. أما الأنهار فالإشكال فيها، فإن كان المراد هذه المياه الجارية المتدفقة على غير المعتاد فقد انحل الإشكال، وإن كان غير ذلك فالله أعلم ولا نتكلف. وعلى كل الأحوال سواء كانت هذه المزارع الكثيرة التي غَطَّت مساحات شاسعة من أراضي الجزيرة هي المراد بالمروج وهذه المياه المتدفقة هي المراد بالأنهار أو أن المراد غير ذلك مما يعلمه الله، لكن المجزوم به أن ما تُوبع به المعطلة في بيان معنى الحديث باطل. أما كونها تعود كما ورد في الحديث فإذا كان المعنى أنها كانت في الماضي مروجاً وأنهاراً فما المانع من ذلك؟ لكن الباطل كل الباطل هذيان المعطلة لأن مَبْناه على كلامهم الباطل في الكون. والعجب من صاحب كتاب توحيد الخالق وأمثاله ممن ينبهرون انبهاراً ظاهراً وينفعلون انفعالاً لا يستطيعون إخفائه إذا سمعوا من بعض الملاحدة كلمة فيها إما إقرار بالجملة بوجود خالق للكون من غير التزام بعبوديته أو نحو ذلك، إنهم يُقيمون الدنيا ويقعدونها، وقد كان يحصل أعظم من ذلك من اليهود والنصارى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده ولا تُقام

الدنيا ولا تُقعد، فإنه يوجد في كل زمان من يعترف بالخالق من الدهرية ومن يعترف بالرسول من أهل الكتاب من غير دخول في الإسلام. كذلك فإن دعوة الكفار بما يؤيّد باطل قومهم باطلة حيث إنها تؤول إلى الضلال، ولقد اهتدت الخلق من العرب والعجم على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعهم بالطرق الشرعية قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي) فهل نسْتدرك ونكمل بهذه الطرق المحدَثة الدعوة أم أنه فَتْح أبواب ضلالة؟ ثم لوْ قُدِّر مصلحة بذلك فمفاسدها لا تُحد، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والداعي إذا دعى إلى الله متبعاً بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم فلا يُسْأَل عن نتائج دعوته، فبعض الأنبياء يأتي يوم القيامة ومعه الرجل وبعضهم معه الرجلان وبعضهم يأتي وليس معه أحد ونشهد أنهم بَلّغوا البلاغ المبين، وليس عليهم ملام. وإنما يسْأل الداعي عن انحرافه في الدعوة عن طريق نبيه صلى الله عليه وسلم وهو قد أُمر بإتباعه دون تكلّف. وقد تقدم جواب شيخ الإسلام فيمن يدعو بالغناء بالشعر المباح بمصاحبة الدّف فاهتدى على يديه قطّاع الطريق الذين يقتلون ويشربون الخمر ويسرقون، فقال عن طريق دعوته إنها بدعية.

وارجع إلى قول شيخ الإسلام رحمه الله في الجواب وهو أن العمل إذا اشتمل على مصلحة ومفسدة فإن الشارع حكيم فإن غلبت مصلحته على مفسدته شَرَعَه. وإن غلبت مفسدته على مصلحته لم يشرعه بل نهى عنه. انتهى. فيقال هنا: إنه على تقدير وجود مصلحة فما قيمتها وما قدْرها بجانب مفسدة التعطيل الذي تُفتح أبوابه، وبجانب تحريف معاني كلام الرب سبحانه وتغيير المراد منه؟ مع أن أمر هؤلاء الخائضين مبني على الظن والتخرص وانظر ما قاله صاحب كتاب (من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم) 1/ 99 ومع كلامه هذا يُقرر نظرياتهم الزائفة يقول: ومع كل هذا الاجتهاد العلمي في تفسير الآيات القرآنية الكونية، فإن ما قدمه المفسرون في شأن عبارة عن تفسيرات ظنية، ولا يمكن الجزم فيها بأمور يقينية، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً، ومهما تقدم العلم وتطورت أساليبه سيظل الإنسان عاجزاً عن معرفة كيفية تكوين الكون بما فيه من عناصر وظواهر، ولن يستطيع الإنسان بما أوتي من علم محدود معرفة أصل مادة الكون وممن خلق؟ وسبحان الله العلي القدير بديع السموات والأرض، إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون.

الدعوة إلى الله بالطرق الشرعية

الدعوة إلى الله بالطرق الشرعية وحتى يتبين أن صاحب كتاب توحيد الخالق سلك في الدعوة مسلكاً محدثاً خالف فيه السلف الذين اتبعوا نبيهم صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في الدعوة امتثالاً لقوله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي) فسوف أذكر هنا كلامه من كتابه (العلاج هو الإسلام) من ص16 - 22 قال صاحب كتاب توحيد الخالق: * سؤال له أهميته: لكني سألت نفسي وقلت: لو حضر الآن عندنا جمع من أساتذة الجامعات، ومن رؤساء الشركات، والقادة السياسيين، ومن محرري الصحف والكتاب فيهم مجموعة من الطبقة المثقفة في أنحاء العالَم من الشرق والغرب، وجلسوا وقالوا: حسناً أسمعونا ما عندكم .. سألت نفسي: كيف سنقيم لهم الحجة بان محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! كيف سنقنعهم بذلك؟!. * الإجابة الربانية: ووجدت الجواب، -والجواب ليس من عندي- الجواب من عند الله الذي يعلم أن هذا ما سيكون، وأن هؤلاء البشر سيوجدون وغيرهم

فجعل الله لهم الجواب. سألت نفسي وقلت: إن الذين عاشوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يشاهدون بينات قوية وحججاً واضحة، فكيف لا يؤمنون وهم يشاهدون انشقاق القمر نصفين؟!. وهم يشاهدون الرياح تقاتل مع الرسول صلى الله عليه وسلم. وهم يشاهدون الملائكة تنزل. وهم يشاهدون الماء ينبع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم. وهم يشاهدون الدعوة تستجاب يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم لشخص فقئت عينه فلا يرفع يده إلا بعين أخرى هي أحسن من العين التي لم تصب. يخبرهم بأخبار الغيب صلى الله عليه وسلم. * سؤال يخطر بالبال: فسألت: هل جيلنا هذا قد حرم من البيّنة الواضحة التي تسكن اليقين في قلبي؟!. هل هذه الأمم والشعوب التي لا تعرف البلاغة ولا تدرك الفصاحة في لغة القرآن والإعجاز البلاغي .. هل عليها أن تتعلم اللغة العربية، وأن تتفوق في فنون فصاحتها لتدرك الإعجاز البلاغي في هذا الكتاب الكريم؟!.

* الإجابة في هذا الكتاب الكريم عن كل هذه التساؤلات: فوجدت أن الأجوبة موجودة في غاية الوضوح والقوة في هذا الكتاب الكريم. أولاً: أن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم باقية لا تنتهي بانتهاء زمنه عليه الصلاة والسلام. أين عصا موسى عليه السلام؟! أيها اليهود قدموا لنا عصى موسى، أرونا هذه العصا وهي تفرق البحر نصفين، وهي تتحول إلى ثعبان، هل يمكنكم أن تقدموا لنا هذه المعجزة؟. إن هذا ليس لكم وليس في استطاعتكم إلا خبر التاريخ، أيها النصارى أين بينة عيسى عليه الصلاة والسلام، وهل تستطيعون أن تقدموا للناس عيسى اليوم وهو بُبريء الأكمه، والأبرص، ويُحيي الموتى بإذن الله. يقولون: ليس عندنا بينة حاضرة الآن، بينات الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم انقطع وجودها بحياة الرسل على الأرض، وإن كان سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام سيعود مرة ثانية وما بقى لأتباعها إلا الخبر والرواية وهذا الخبر وتلك الرواية من أراد أن يشكك في تلك الأخبار والروايات في هذا الزمان فعنده إمكانية أن يشكك ولولا أن القرآن سجلها، وشهد بها وأثبتها لما تمكن النصارى من أن يقيموا سنداً مضبوطاً صحيحاً يقنع العقل

المحايد الذي يبحث عن الحقيقة في هذا الموضوع، لكن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم باقية إلى الآن: القرآن والسنة والوَحْي. قال صلى الله عليه وسلم: (ما من الأنبياء نبي إلا وقد أُعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تبعاً يوم القيامة) (¬1). * حجة محمد صلى الله عليه وسلم: فحجة محمد صلى الله عليه وسلم هي بيّنته التي عليها يؤمن الناس، وهي الوحي، والوحي ذاته بين أيدينا في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن ما طبيعة هذا الإعجاز؟ طبيعته التجدد، أنظروا إلى الطبيعة العجيبة في هذا الوحي: كتاب وسنة ولكنها تتجدد مع مر الزمن، وتتجلى مع كل عصر بجديد تقنعهم، وتبين لهم أن هذا الوحي من عند الله -جلّ وعلا- وأن الرسول صادق ما كذبهم صلى الله عليه وسلم. كيف تتجدد هذه المعجزة المتمثلة في كتاب الوحي؟ إن طبيعة الإعجاز في هذا الكتاب طبيعة علمية؛ فهذا الكتاب نزل بعلم الله، وانتشر علمه ليزداد منه جيل بعد جيل، فكلما تقدم البشر في ¬

(¬1) رواه البخاري (4/ 1905) ومسلم (1/ 134) عن أبي هريرة مرفوعاً.

علومهم وارتقوا إلى مستوى فهم العلم الإلهي الذي يشتمل عليه الوحي علم ذلك الجيل بذلك النوع من العلم أن هذا الوحي من عند الله -جلّ وعلا- فالرسالة المعجزة واحدة، الرسالة وبيّنتُها اجتمعتا في شيء واحد وهو الوحي. إن البشر يتقدمون في كل مجال من المجالات، وفي أي ميدان من الميادين تجد الوحي يغطي تلك المجالات، ويتحدث عنها، ويتجدد علمه لأهل كل عصر، فإذا بالوحي والعلم الذي بالوحي يتجلى عصراً بعد عصر، وزمناً بعد زمن ليتبين للناس أن هذا الوحي من عند الله. قال تعالى: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (¬1). أي: شهادة الله بأن هذا القرآن من عند الله والعلم الذي في هذا القرآن، وأن هذا العلم يتجلى جيلاً بعد جيل وزمناً بعد زمن، كما قال تعالى في كتابه الكريم: (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (¬2) أي هو يتجلى حيناً بعد حين، وزمناً بعد زمن، حتى إذا دخل أهل الجنة شهدوا إعجازاً علمياً أيضاً في الجنة، وإذا دخل أهل النار شاهدوا إعجازاً علمياً؛ فقال أهل الجنة: (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ) (¬3). (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ ¬

(¬1) النساء، آية: 166. (¬2) ص، آية: 88. (¬3) الأحزاب، آية: 22.

حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (¬1). فبيّنة هذا القرآن، وحجة هذا القرآن متجددة مع الزمان ذلك لأن طبيعة المعجزة في هذا الوحي هي (طبيعة علمية)، العلم يتجدد زمناً بعد زمن ويتقدم في مجال إثر مجال، وحيثما توجه علم الإنسان وجد جديداً في هذا الوحي يبين له أن هذا الوحي من عند الله. * تطاول ممقوت على علوم الأولين: وأهل عصرنا الذين تفوّقوا في مجال الكشوف الكونية يلذّ لهم أن يتطاولوا على الدين؛ لقد وقف احدهم يتطاول لا أقول: وقف أحدهم قاصداً واحداً بعينه فـ (الواحد) هنا عبارة عن الجميع، كلهم يتطاولون!! كلهم إذا نظروا إلى الأجيال من قبلهم قالوا: في نصف القرن الأخير في الخمسين سنة الأخيرة فقط 70% من العلم البشري في التاريخ كله هو حصيلة خمسين سنة لتقدم العلم السريع، فماذا عند الأولين من علوم؟! وماذا عسى أن يكون عند السابقين من العلوم والمعارف؟! إن لدينا الأجهزة، وعندنا الأدوات والإمكانيات، عرفنا أسرار السماء، عرفنا أسرار البحار، عرفنا باطن الأرض، عرفنا أسرار تركيب الإنسان، عرفنا، عرفنا ... إلخ. ¬

(¬1) الأعراف، آية: 44.

* هذا من فضل ربي! ولكن من فضل الله -سبحانه- أن يجدوا وأن يجد الباحثون أن كثيراً مما شاهدوه في آفاق الكون قد ذكر في كتاب الله الكريم وفي سنة نبيه الأمين صلى الله عليه وسلم. فجاء الجواب إذن الجواب القريب السريع واللغة العالمية المشتركة بين اليابانيّ والأمريكيّ والروسيّ والهنديّ واليهوديّ والنصراني والأوربي، اللغة المشتركة اليوم بين علماء العصر هي (الكشوف العلمية) في آفاق الكون، أليست هذه هي: (مناهج الدراسة في جميع هذه البلدان) إنها لغة واحدة تتخاطب بها البشرية، الكشوف الكونية وهم أعرف الناس بها والعلماء أعرف الناس بما يجب أن يبذل في هذا المجال لتحقيق كشف علمي، وهم أعرف من غيرهم كيف جاءت هذه الكشوف الكونية، وكم من الوقت بذل؟ وكم من الجهد والطرق والوسائل حتى وصلوا إلى تحقيق أمر من الأمور، فإذا قلنا لهم: هذا الذي علمتموه بعد طول بحث وأجهزة دقيقة وإمكانيات هائلة ووقت طويل هذا الذي اكتشفتموه قد أجراه الله على لسان نبي أميّ قبل ألف وأربع مائة عام في زمن كان العقل تغلب عليه الخرافة وأصدق دليل على هذا تلك البيئة التي بُعث فيها محمد صلى الله عليه وسلم وكيف كانت تفكر، هذا نموذج من التفكير: يأخذ أحدهم قطعة من الحلوى، ويشكلها على شكل صنم، ثم يعبدها .. لماذا؟ قال:

لتحفظني من شرور الطريق!! قطعة صنعها هل ستحفظه؟ وهي التي إذا جاع أكلها، فكيف تحفظه؟ ثم كيف لم تدفع عن نفسها غائلته لا منطق إنه تخريف في تخريف، حجر لا يضر ولا ينفع أما وسيلة العلم المتبعة؛ فهي الكتابة على الأحجار والجلود فتصوروا يا طلاب العلم لو طلبنا منكم يا طلاب الجامعة أن تعودوا للكتابة على الأحجار أي تقدم ستحرزونه في هذا؟ تلك وسيلة العلم وذلك مستوى التفكير، تنجيم، تخريف، شياطين، هذا هو المستوى في ذلك العصر، في عصر سادته الخرافة ومع هذا المستوى تأتي الأوصاف الدقيقة لظواهر كونية بأسلوب يعجز عنه جميع علماء اليوم وفي عصرنا هذا. ثم ذكر صاحب كتاب توحيد الخالق من جنس ما في جميع كتبه من الخوض الذي يجمع فيه بين آيات القرآن غصْباً وعلوم الملاحدة فذكر تحت عنوان: (أمثلة للسّبق القرآني): السحب الركامية وأسرار البحار وأن مياهها لا تمتزج وقد تقدم بيان ذلك وذكر النبات من جنس ما يُردِّد في كتبه، وذكر الجبال. بعد ذلك قال في ص50: هذا أيها الأخوة جواب عن السؤال الذي تطرقت إليه في بداية المحاضرة (يريد السؤال الذي تقدم في ص293. وهو قوله سؤال له أهميته). ثم قال: وهو هل يمكننا أن نتكلم مع مجموعة من أقطاب العالَم اليوم كلاماً يفهمونه ويؤثر فيهم ويعرفون أنه الحق؟. يقال للزنداني: النبي صلى الله عليه وسلم دعا أمم الكفر على اختلاف نِحَلِهِم بالطرق الشرعية وأمرنا باتباعه وأخبر الله سبحانه أن أتباعه على الحقيقة هم الذين يدعون على بصيرة وذلك بالطرق الشرعية. أما ما أُحْدث من مجاراة المعطلة وتنزيل معاني آيات القرآن قسْراً على مقتضى ضلالهم فهذا يزيدهم إغراءً بضلالهم ويُضل المسلمين عن معاني كلام ربهم، وقد أمرنا الله باتباع نبينا صلى الله عليه وسلم في الدعوة وغيرها، أما تحكيم الرأي فضلالة. ومما يبين إعجابه بالدعوة بهذه الطرق الضالة المضلّة وحَثّه على سلوكها قال في كتابه: (العلاج هو الإسلام). قال: هل يمكننا أن نتكلم عن مجموعة من أقطاب العالَم

اليوم كلاماً يفهمونه ويؤثر فيهم ويعرفون أنه الحق؟. الجواب: صاحب كتاب توحيد الخالق يسدّ طرق الدعوة الرحيبة المستنيرة ويفتح هذا الطريق المظلم. الدعوة كغيرها من أمور الدين التي أُمرنا أن نتبع فيها ولا نبتدع، ولينظر من ترك طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالدعوة بأي شيء وقع؟. لقد حُرِّفت معاني القرآن والحديث، واحْتُقِر السلف، وعُظِّم الكفار، وعُظِّم وصُوِّب ضلالهم، وضل من ضل من المسلمين بسلوك طرق ظنوها

طرق هدى وهي طرق ضلالة، وغير ذلك من الأضرار التي سببها الأكبر انتحال طريق مُحْدَث لمعرفة الحق والدعوة إليه. لقد اتسعت الفتوحات في خلافة عمر رضي الله عنه وما دعا الصحابة دول الكفر بغير الطريق التي دعا بها نبيهم لم يغيروا ولم يبدلوا لا في الدعوة ولا غيرها، وقد كان واقع الحال من اتساع الفتوحات والإنفتاح على عالَم مختلف عن عالَم الصحابة رضي الله عنهم داع للتغيير والاستحسان، ولكن الشيطان لم يقدر عليهم، وحتى لغات القوم لم يتعلموها، وقد كانت الحاجة إليها ماسّة بل نقل شيخ الإسلام في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم) الكتاب العظيم الذي لم يُكتب في موضوعه مثله، ولو رجعت الأمة اليوم إلى ما فيه لوجدت عزها المفقود، ونصرها الموعود. والمراد أن الشيخ ذكر في (ص128) نهي عمر عن تعلم رطانة الأعاجم وذكر أن هذا مما يبين ثبوت قوة شكيمته في النهي عن مشابهة الكفار والأعاجم. ونقل الشيخ عن مالك (¬1) أنه قال: ونهى عمر رضي الله عنه عن رطانة الأعاجم وقال: إنها خِبٌّ (¬2) (ص135). وذكر الشيخ في نفس الكتاب تحريق عمر الكتب الأعجمية وغيرها. ¬

(¬1) والأثر أخرجه البيهقي في سننه الكبرى (9/ 234) عن عطاء بن دينار عن عمر بن الخطاب به، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 299) عن عطاء به، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (1/ 411) عن عطاء بن دينار عن عمر بن الخطاب به. (¬2) الخِب -بكسر الخاء- الإنطواء على اللؤم والفساد، والخَب بفتح الخاء: الرجل المفسد.

وذكر شيخ الإسلام أيضاً أن عمر انتفع بما أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى بيده شيئاً من التوراة (¬1)، قال الشيخ: ولهذا كان الصحابة ينهون عن اتباع كتب غير القرآن، وعمر انتفع بهذا حتى أنه لما فتحت الإسكندرية وُجِدَ فيها كتب كثيرة من كتب الروم فكتبوا فيها إلى عمر فأمر بها أن تحرق وقال: حسْبنا كتاب الله (¬2). أما قول صاحب كتاب توحيد الخالق المتقدم: (فكلما تقدم البشر في علومهم وارْتقوا إلى مستوى فهم العلم الإلهي الذي يشتمل عليه الوحي، إلى آخره، فيقال له: أي تقدم هذا الذي يرقى بالبشر إلى فهم العلم الإلهي؟ إن كانت علوم المعطلة فقد تبين ضلالها، وإن كان العلم النافع فهو في نقص من وقت الصحابة إلى يومنا هذا الذي قَلّ فيه العلم النافع الذي يصل نوره إلى القلوب فيوجب التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود ويوجب الخشية التي هي من أبرز علاماته، فأين العلم اليوم، وأين أثره في الوجود؟. أما ما فُتح من العلم في وقتنا فهو مصروف عن طريقه مُبْعَدٌ عن تأثيره مُزاحَمٌ بما يضعفه مشوب بما يفسده. وكتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر رضي الله عنهما أنه وجد مكتبة في بلاد فارس فيها كتبهم فأمر عمر أن تحرَّق. ¬

(¬1) وقد خرج هذا الأثر الإمام أحمد في مسنده (3/ 365). (¬2) الفتاوى 17/ 41.

وفيما تقدم حجة على أهل الوقت. والمقصود أن الدعوة كغيرها إنما تكون بالاقتداء والاستنان برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم حيث وفّقهم الله للكمال في ذلك، فمن خالفهم في منهج الدعوة بَان خَلَلُه بقدر مخالفته حَتْماً. أما طرق الدعوة المستحدثة فَعَواقبها لا تؤول إلى خير لا على المدعو ولا على الداعي نفسه، ولذلك يقول صاحب كتاب (من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم) ص51. ودراسة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم تهدف إلى إقناع غير العرب والإنسانية كلها بالقرآن الكريم، وأنه من عند الله عز وجل، وتعزيز إيمان المسلمين بالقرآن وحمايتهم من أخطار الغزوات الفكرية وبريق النتائج المعاصرة، ومن ثم فإن الأبواب مفتوحة لكل العلماء لدراسة آيات الله الكونية والطبيعية كل في تخصصه على مر الزمان وجيلاً بعد جيل للوقوف على ما تم للعلم الوصول إليه من بعض الحقائق التي أشار إليها القرآن الكريم. يقال: إقناع غير العرب بالقرآن الكريم إنما يكون بالطرق الشرعية للدعوة، ولقد اهتدت العرب وغير العرب بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوة أصحابه وأنزل الله على نبيه: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي).

فالرسول صلى الله عليه وسلم ومن دعا بدعوته على نهجه هم أهل البصائر وهم أهل الإتباع وهم الفرقة الناجية حيث حققوا معنى (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) (¬1)، ومعنى (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) (¬2) ومعنى (وإياكم ومحدثات الأمور) ونحو ذلك من النصوص الآمرة بالإتباع الناهية عن الإحداث، وذلك في الدعوة وغيرها. وقد بينت في هذا الكتاب خطر هذه الطرق المحدَثة وأن أخطر شيء في ذلك تحريف وصرف معاني القرآن وهذا منهج سوء، وأن هذه الطرق ضلالة في الوسيلة والغاية. نعود الآن إلى خبر النبي صلى الله عليه وسلم بعودة أرض العرب مروجاً وأنهاراً فمما ينبغي التنبّه له أنه ليس كل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم أنه سيقع يكون مرضياً لله، فقد رأينا في زماننا من يحتج بمجرد وُرُود الخبر بأن هذا الشيء سيقع بأنه صالح ونافع، وليس الأمر كذلك، بل أكثر ما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيكون في آخر الزمان في أمته أكثره منهي عنه مثل إخباره بأن أمته تتبع سنن اليهود والنصارى، فإنه خبر جاء على وجه التحذير والذم لسننهم، والقليل جاء على وجه المدح مثل وصف الغرباء والإخبار بالمهدي وعيسى. ¬

(¬1) أخرجه الحاكم في مستدركه (1/ 128) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً والطبراني في المعجم الأوسط (8/ 22) عن أنس بن مالك مرفوعاً. (¬2) رواه مسلم (3/ 1343) عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً.

ثم إن صاحب كتاب توحيد الخالق يُعظم من شأن العلم ويقول: العلم هو الطريق إلى الإيمان، ويقول: العلاقة بين العلم والإسلام، ويقول: لماذا نشبت المعارك بين العلم والدين ويقول: من جهة أخرى كان العلم في بلاد المسلمين وديار المسلمين يقوم على البحث الذي يقوم على التحقيق، كان يجد بيئة خصبة لنموّه، وكان يجد إقبالاً عليه، وكان يجد حثاً عليه من علماء المسلمين. يقال للزنداني: ما هو العلم الذي تغلو به كل هذا الغلو؟ أهو علم الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة فهذا علم الأمة المتبعة لنبيها وصحبه الكرام، أما غيره فسوف ترى كيف قوبل من علماء المسلمين، فإنه لما أدخل المأمون علوم اليونان وترجمها دخل على الإسلام والمسلمين من ذلك بلاء عظيم. وقد كان مشغوفاً بتلك العلوم، فانظر ما قاله العلماء في ذلك.

علم الأمة ميراث الرسول

علم الأمة ميراث الرسول ذكر السفاريني في كتابه: (لوامع الأنهار البهية) عن الصلاح الصفدي أنه قال: حدثني من أثق به أن شيخ الإسلام ابن تيمية قدّس الله روحه كان يقول: ما أظن أن الله يغفل عن المأمون ولا بد أن يقابله على ما اعتمده مع هذه الأمة من إدخال العلوم الفلسفية بين أهلها. انتهى. وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي في (تذكرة الحفاظ) في ترجمة شجاع ابن الوليد بن قيس: لما قتل الأمين واستخلف المأمون على رأس المائتين نَجم التشيّع وأبدى صفحته وبزغ فجر الكلام وعُرّبت كتب الأوائل ومنطق اليونان، وعمل رصد الكواكب، ونشأ للناس علم جديد مُرْدٍ مهلك لا يلائم علم النبوة ولا يوافق توحيد المؤمنين قد كانت الأمة منه في عافية ... إلى أن قال: إن من البلاء أن تعرف ما كانت تنكر وتنكر ما كنت تعرف وتُقدّم عقول الفلاسفة ويُعزل منقول أتباع الرسل ويُمارى في القرآن ويُتبرم بالسنن والآثار وتقع الحيرة، فالفرار قبل حلول الدمار، وإياك ومضلات الأهواء ومحارات العقول ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم. انتهى.

وقال المقريزي في كتاب (الخطط): وقد كان المأمون لما شُغف بالعلوم القديمة بعث إلى بلاد الروم من عَرّب له كتب الفلاسفة وأتاه بها في أعوام بضع عشرة ومائتين من الهجرة فانتشرت مذاهب الفلاسفة في الناس واشتهرت كتبهم بعامة الأمصار وأقبلت المعتزلة والقرامطة والجهمية وغيرهم عليها وأكثروا من النظر فيها والتصفح لها فانجرّ على الإسلام وأهله من علوم الفلاسفة ما لا يوصف من البلاء والمحنة في الدين وعَظُم بالفلسفة ضلال أهل البدع وزادتهم كفراً إلى كفرهم. انتهى (¬1). وقد تقدم أمر عمر رضي الله عنه بتحريق مكتبة الإسكندرية ومكتبة فارس حماية وصيانة لعلم الوحي أن يُشاب بما يُفضي إلى الخسران والتباب. ويقال للزنداني: قلت بعد الكلام السابق: لكن بعد أن ضعف المسلمون واستلمت قيادة العالَم القوّة الكافرة يوم ذاك القوة الصليبية ونهض العلم في ديارها سَرَعان ما اصطدم العلم بالدين المبدّل المحرّف. انتهى. (ص34، 37). فهذا الكلام يتبين منه مرادك بالعلم وأنه علوم الغرب الكافر، أما العلم الذي زعمت أنه في بلاد المسلمين يقوم على البحث فهو علم ابن سينا ومحمد بن زكريا الرازي وابن الهيثم، وهؤلاء كفار بشهادة علماء ¬

(¬1) ذيل الصواعق، ص13، 14.

المسلمين الحقيقيين مثل ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم. أما علم الرسول فإنه لا يقوم على التجارب، هؤلاء هم الذين يصول بينهم ويجول صاحب كتاب توحيد الخالق وأمثاله، أما قول صاحب كتاب توحيد الخالق: سرعان ما اصطدم العلم بالدين المبدّل المحرّف، فيقال له: علمك هذا اصطدم بالدين المحفوظ، وقد تقدم بيان ذلك ويأتي غيره، ونحن لا نَزِنُ شرعنا بما يحصل بين الكفار فليس بيننا وبينهم التقاء في شيء. وعلم المسلمين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ليس هو الذي يقوم على البحث والتحقيق على مسالك المعطلة، فهو ولله الحمد نور وهدى وهو فطرة وشرعة، قد هيأ الله أسباب علمه بفطر سليمة، ونظر مجرد لا شدة ولا تعسير ولا إفناء الأعمار على ما يوجب الضلال والخسار، بل هو (نور على نور). إن بليّة صاحب كتاب توحيد الخالق التي أحدثت اللبس العظيم مع أنه فيها مقلِّد لمن سبقه من مصريين وغيرهم هي: أولاً: تسمية ضلال أعداء الله علماً. ثانياً: أنه يؤيد ويصدق الدين.

ثالثاً: ذكرهم ما جرى بين الملاحدة الكفرة أرباب العلوم التجريبية والضُّلال الكفرة أرباب الكنائس وثلْبهم أرباب الكنائس لأجل المعطلة. رابعاً: زعمهم أن كل ما ردّه أرباب الكنائس على الملاحدة باطل لأنه ممن الدين المحرّف، فتفرّع من ذلك. خامساً: قبول هذه العلوم وتزكيتها بالدين غير المحرّف، وهو دين الإسلام فتفرّع من ذلك. سادساً: أن من عارض هذه العلوم والكشوفات فهو من جنس أرباب الكنائس، ولو كانت الحجة معه من الكتاب والسنة. وإليك بيان ما تقدم: فالأول: التسمية بإطلاق اسم العلم خطأ فاحش حصل به لبس عظيم، وتقدم بيان ذلك. الثاني: أن هذا العلم يؤيّد الدين وأنه طريق للإيمان، وتقدم بيان أنه ضلال مضاد للدين إلا ما ندر لكن طرقه فاسدة، والمسلمون في غنى عنه. الثالث: ذكر ما جرى بين الكفرة لأجل هذه العلوم والقياس عليه فاسد من أصله فإن أحوال المسلمين لا تقاس بأحوال الكفار. الرابع: ليس كل ما أنكره أرباب الكنائس باطل وليس كل ما في كتبهم محرّف، فقد أنكروا على أرباب العلوم التجريبية الحديثة.

كونهم بنوا علمهم على عدم الإيمان بغير المحسوس الذي بدأ بجحود أن للكون خالقاً، وجحود جميع المغيبات من الملائكة والجن، والبعث والجنة والنار والنبوات. فأرباب الكنائس من هذا الوجه خير بكثير منهم حتى لَوْ أصاب أهل هذه العلوم في علومهم الكونية، فأولئك خير منهم لإقرارهم بالخالق والملائكة والجن والبعث والنبوات، كيف وكلامهم في الكونيات تابع لضلالهم عن المكوِّن لها إذْ أنهم لا يعتمدون على كلامه ولا كلام رسله، وإنما هوى النفوس غالب، كذلك أنكروا عليهم القول بدوران الأرض لأنه ترجمة لمعتقدهم الخبيث في الكوْن على انه لا خالق له وأصله السديم. وتقدم هذا والله سبحانه أمر نبيه أن يعدل بين أهل الكتاب قال تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم: (وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) وغير ذلك. الخامس: كون هذه العلوم والكشوف قُبِلَتْ وزُكّيَتْ بالدين وكلام رب العالمين وكلام رسوله الكريم، هذا لم يصدر إلا في أوان رفع العلم النافع، وتقدم ذلك. السادس: الطعن فيمن عارض هذه العلوم مبني على الطعن الجائز على أرباب الكنائس، وقد تبين أنهم أقرب للحق وإن كان الكل كفاراً فالمعطل شَرّ بكثير من المشرك.

وتسمية ضلالات الملاحدة علماً هو كما قال شيخ الإسلام لبن تيمية لما ذكر أن الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم على نفي شيء من الصفات يسمون ذلك توحيداً ويسمون علمهم علم التوحيد وأن المعتزلة ومن وافقهم على نفي القدر يسمون أنفسهم العدْلية. ثم قال رحمه الله: ومثل هذه البدع كثير جداً يُعَبَّر بألفاظ الكتاب والسنة عن معان مخالفة لما أراده الله ورسوله بتلك الألفاظ (مثل إطلاق هؤلاء اسم العلم على علوم الملاحدة) ولا يكون أصحاب تلك الأقوال تلقوها ابتداء عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم بل عن شبه حصلت لهم وأئمة لهم (كذلك هؤلاء لم يتلقوا أقوالهم هذه عن الله ورسوله بل أحدثوها) وجعلوا التعبير عنها بألفاظ الكتاب والسنة حجة لهم وعمدة لهم ليظهر بذلك أنهم متابعون للرسول صلى الله عليه وسلم لا مخالفون له (كذلك هؤلاء سموا هذه العلوم الخبيثة باسم العلم حجة لهم وعمدة). ثم قال رحمه الله: وكثير منهم لا يعرفون أن ما ذكروه مخالف للرسول صلى الله عليه وسلم بل يظن أن هذا المعنى الذي أراده هو المعنى الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. انتهى (¬1). ¬

(¬1) الفتاوى 17/ 352، 353.

(وألقت ما فيها وتخلت)

(وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ) ثم إن صاحب كتاب توحيد الخالق ذكر في كتابه (العلم طريق الإيمان) ص68 أن الجبال تكوّنتْ عن طريق خروجها من باطن الأرض في صورة براكين، وكما قلت سابقاً فإن نظرياتهم ترتبط بعضها ببعض فهم إنما قالوا ذلك لأجل دورانها السريع وبرزت الجبال من باطنها أثناء الدوران لحفظ توازنها. وهذا قلب للحقيقة فإن الإلقاء يكون من أعلى إلى أسفل وقد ذكر الله ذلك في آيات عديدة من كتابه وصاحب كتاب توحيد الخالق شعر بالتعارض لكنه دَرَجَ على تذليل الصعوبات والحزونات ليزكوا هذا العلم ويصلح وهيهات، وهنا احتال فقال: فالجبال ألْقي بها من باطن الأرض ثم ذكر قوله تعالى: (وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ) فتأمل الحيلة فإنه عَلِمَ أن آيات إلقاء الجبال معارضة فلذلك بحث عن آية أخرى لا تمت للموضوع بصلة حيث المراد منها البعث من القبور، ولما قرّب المسألة وهَوّن أمر التعارض بين نظرية بروز الجبال من باطن الأرض بهذه الآية أتى بقوله تعالى: (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ) على مراد المعطلة، ورسم صورة يزعم أنها تبين خروج الجبال من باطن الأرض.

وانظر معنى الآية المُحتال عليها: (وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ) أي ألْقت ما في باطنها من الأموات وتخلّت منهم، قاله مجاهد وسعي وقتادة. انتهى (¬1). فلا مانع أن يُقلب معنى الآيات قلباً لتجاري علوم المعطلة. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير.

بداية الكون

بداية الكون وقال صاحب كتاب توحيد الخالق في كتابه (العلم طريق الإيمان) ص85: تحت عنوان: (القصة من البداية) قال: وهَيّا لنبدأ الآن القصة منذ البداية: ما هو أصل هذا الكون؟ سؤال أجابت عليه البشرية عبر ثلاثة قرون وهي تلهث كان الناس يعتقدون أن الكون خلق هكذا كما هو: فالجبال هي الجبال منذ أن خلقها الله، والبحيرة هي البحيرة، ومنذ أن خلق الله السموات والأرض والهند هي الهند، والإنسان هو الإنسان، والنباتات هي النباتات كل شيء كما هو منذ أن خلقه الله -سبحانه وتعالى- ولكن في القرن الثامن عشر قرر علماء الجيولوجيا أن هذه تصورات ساذجة ليس الأمر هكذا لقد مر الخلق في أطوار فالسماء لم تكن هكذا، والأرض لم تكن هكذا، والإنسان لم يكن هكذا، والنباتات لم تكن هكذا، ثم أخذ الباحثون يطوّرون أجهزتهم. الجواب: الذين اعتقدوا أن الكون خُلق هكذا كما هو هم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل الخلق بعد الأنبياء أصحابه رضي الله عنهم وأتباعهم

بإحسان من علماء الأمة وأئمتها وعامّتها، وقد أخذوا هذا العلم وفهموه من كلام خالق الكون وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وهو الحق الذي لا مرية فيه ونباهل المعاند عليه كذلك الأنبياء جميعهم. أما أن يُقرِّر علماء الملاحدة أن هذه تصوّرات ساذجة فهذا إنماء يُفْزِع من يُقيم له وزناً، أما أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فما شعروا إن كان يوجد على الأرض شيء اسمه علماء جيولوجيا فضلاً عن أن يُبالوا بهم عارضوا أوْ وافقوا وليسوا يَعْرضون ما جاء به نبيهم على الكفرة ليأخذوا رأيهم فهم أحقر عندهم وأجهل وأذل وأصغر من أن يَزِنُوا شيئاً من دينهم بموازينهم ويقيسوه بمقاييسهم. قال تعالى: (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) ويكفي صاحب كتاب توحيد الخالق أنه جَهّل الأمة وعظّم علوم الكفار وجعل الأمة في هذا الزمان عالَة عليهم، وقد تبين ولله الحمد ما في علومهم من الضلال. أما ما أتى به الرسول وعَلِمَتْه الأمة فلَوْ أفنى هؤلاء أعمارهم ما بلغوا شيئاً منه بل لازْدادوا ضلالاً إلا إذا سلكوا مسلك أهل الإسلام، إن غاية علمهم في مجال المخلوقات وقد ضلوا بها ضلالاً بعيداً وأضلوا، أما أهل الإسلام فعلمهم أشرف العلوم وأعلاها على الإطلاق وهو العلم بربهم وبدينه، وأي قيمة للإنسان لو أتقن علوم المخلوقات كلها؟ إنه لا يزكو بهذا ولا يفلح كيف إذا خَبَّطَ فيها؟.

أما العلم الإلهي فهو أصل العلوم والعمل به منتهى السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، وهذا حَظّ أهل الإسلام، قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) أي العلماء به. وقال تعالى: (أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ) يعني القرآن أنزله وفيه علمه، وقال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) هم علماء الدين. ورحم الله ابن القيم حيث قال: فتدبر القرآن إن رُمْتَ الهدى ... فالعلم تحت تدبّر القرآن نعم علمنا كله في القرآن وكلام نبينا صلى الله عليه وسلم ولم يُحْوِجنا الله للضُّلاّل. الذين ما عرفوا الحكمة من إيجادهم التي هي عبادة خالقهم بل ولا عرفوه ولا أقرّوا به. فإذا كان هذا ضلالهم في أعظم أمورهم وهو وُجودهم بهذا الوجود فكيف ظنونهم وتخرصهم في الكائنات؟. لقد قارن غلو صاحب كتاب توحيد الخالق وفتنته بعلوم الغرب تجهيل أهل الإسلام، وقد تقدم في مواضع ذِكر زَعْمِه عن مخلوقات الله أنها لم تكن تُعرف في الماضي حتى ظهر العلم الحديث وفي كتابه (العلم طريق الإيمان) يُصَوّر العرب بصورة الجهل حين تكلم عن الهواء الذي يدور في الأرض ويرتفع قال: العرب إذا شاهدوا الرمال وهي تطلع فيها

الغبار فوق يقولون: إن الجن يتباروْن، بينهم خَصام، هذه معلومات العرب في القرن العشرين. انتهى (ص103). الجواب: إن العربي المنتسب للإسلام ولو من بعيد خير من مِلءْ الأرض من هؤلاء الكفرة المعطلة الدهرية الذين فُتِنَ فيهم من فُتِن، وعلى تقدير أن المسلم غلط في هذا الذي ذكرت فغلطه أفضل من صواب من قَلَّدتهم على غير هدى. فهو يُقر بالجن وأولئك الذين ينكرونهم لأنهم عندهم غير محسوسين، ويقر بخالقه وخالق الجن وجميع المخلوقات وأولئك لكل هذا جاحدون. كما أنه يعبد ربه وأولئك كافرون فأي الفريقين أفضل؟ وكون غلطه بمثل هذا أفضل من صواب المعطلة فالسبب أن الأمور التي أصابوا فيها صارت فتنة بهم وبعلومهم مع أنهم مسبوقين على ذلك مثل كلامهم في كروية الأرض الذي أدْهش المقلِّدة ظناً منهم أن ذلك لم يكن يُعرف قبل هؤلاء المعطلة وقد بينت ذلك.

(وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله) الآية

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ) الآية وليحذر من سلك هذه المسالك المظلمة أن يكون له ميراث ممن قال تعالى عنهم: (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً). قال صاحب كتاب (هداية القرآن في الآفاق والأنفس) (ص51): ويحث المنهج القرآني على اتباع العقل وعدم اللجوء إلى التقليد الأعمى أو اتباع ما كان يفعله الآباء والأجداد وهو ما استرشد به العلم وسار عليه في تحليل الأمور، يقول تبارك وتعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ) انتهى. القرآن يحث على اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وحسْب العقل من الكمال أن يدل صاحبه على ذلك، ولذلك فأهل الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله هم أعقل الناس. أما الإشادة بالعقل ورفعه فوق منزلته وأن يُتَعَدّى به طَوْره فيستقل بما لا يُحْسِن الاستقلال به فطريقة هلكة، وكم ممن ضَلّ مغتراً بعقله.

وإنما يُمدح العقل إذا دَلّ على الرسول صلى الله عليه وسلم أما التقليد واتباع الآباء على غير هدى وقوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ) الآية فليس المراد منها ما فَهِمَ هذا وأمثاله أنه مدح من يسْترشد بالكفرة على علوم الكْون حتى لو أصابوا فليس هذا مراد الله عز وجل بكلامه فكيف وقد ضلوا بالمخلوقات وضلّوا وأضلوا عن الخالق، وإنما المراد بذم التقليد واتباع الآباء في الكفر بالله العظيم وعدم الإنقياد لنبيه صلى الله عليه وسلم، وإنما جرأة جريئة عاقبتها إلى أسوء السوء أن يُتلاعب بكلام الله هكذا. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلاماً يشبه ما نحن فيه من تصريف كلام الله وغصبه لمجاراة هذه الضلالات، قال رحمه الله: وكذلك تأويل القرآن على قول من قلّد دينه أو مذهبه فهو يتعسف بكل طريق حتى يجعل القرآن تبعاً لمذهبه وتَقْوِيَة لقول إمامه، وكل محجوبون بما لديهم عن فهم مراد الله من كلامه في كثير من ذلك أو أكثره. انتهى (¬1). ¬

(¬1) مجموعة الفتاوى 16/ 51.

(وفي السماء رزقكم وما توعدون)

(وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) ثم إن صاحب كتاب توحيد الخالق فسرّ قوله تعالى: (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) فسّرها بالمادة الخضراء في النبات بأنها تأخذ الماء والهواء والضوء من السماء وجَهّل السلف قال: كان المفسرون السابقون يفسرون قول الله تعالى: (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) يقولون: لعل المقصود بذلك ما أعَدّ الله في الجنة، وبعضهم يقول: (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ) أي الماء الذي ينزل سبباً لإنبات النبات. انتهى (¬1). الجواب: الذي قاله صاحب كتاب توحيد الخالق في الآية باطل وهو يُفَسّر كلام الله برأيه، ولقد جَرّأته علوم المعطلة على القرآن فأقدم على أمور عظيمة. والذي قاله المفسرون السابقون هو الصحيح قال ابن عباس: (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ) يعني المطر (وَمَا تُوعَدُونَ) يعني الجنة، وقاله مجاهد وغير واحد، ذكر ذلك ابن كثير في التفسير. ¬

(¬1) العلم طريق الإيمان، (ص116).

فالمطر في العلو وهو المراد بالسماء وفيه حياة الناس ورزقهم، والجنة فوق السماء السابعة، وهذا هو اللائق بكلام الله لا ما قاله صاحب كتاب توحيد الخالق مجاراة لأرباب العلوم الخبيثة.

انشقاق القمر

انشقاق القمر ثم قال صاحب كتاب توحيد الخالق تحت عنوان: * انشقاق القمر الذي جعل رائد الفضاء يعلن إسلامه!!. كان محمد صلى الله عليه وسلم يطلب منه قومه آية فيشق الله له القمر نصفين، ويرى الناس ذاك القمر وقد انشق في السماء إلى نصفين يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اشهدوا أي: إذا طلبتم آية فاشهدوا هذه الآية) (¬1) ماذا قال الكافرون؟ أنكروا ما أنكروا ولكنهم اعترفوا فكيف كان اعترافهم؟ فسروها تفسيراً آخر غير الذي فَسّر به القرآن تلك الحقيقة، فقد بين القرآن أنها آية من آيات الله وبينت السنة أنها من معجزات محمد صلى الله عليه وسلم، وبين القرآن أن هذه الآية هي علامات الساعة؛ لأن القمر إذا انشق معناه أن البناء بدأ يتهدد، وأن بناء هذا الكون في طريقه إلى التحطيم، وعلماء الفلك اليوم يرون أن القمر قد تصدع ويُجمِعون على هذه الحقيقة، وواحد من رجال الفضاء الأمريكيين كان يطوف حول القمر في جانبه المظلم، أخبرني رئيس شركة بريطانية قال: رأى هذا الرائد الوجه المظلم للقمر فرأى فيه شقاً؛ فقال وهو يرى ويدور حول القمر، ما هذا الشق الذي بالقمر؟ فسمعه عالم باكستاني بمحطة الأرصاد التي بالأرض تشرف على رحلات هؤلاء ¬

(¬1) رواه البخاري (3/ 1330) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

الروّاد، رد عليه قائلاً: أما علمت أنه انشق لمحمد صلى الله عليه وسلم، فنزل هذا الرائد يبحث عن الحقيقة ثم دخل في الإسلام وأعلن إسلامه، لكن الكافرين قالوا: سحر مستمر. انتهى (¬1). الجواب: يقال للزنداني: هذا دجل على دجل، ومن الذي وصل إلى القمر؟ إنهم لم يصلوا ولن يصلوا. وإن أدلة عدم وصولهم في الكتاب والسنة لكن العجب أن الغربيين أنفسهم من أنكر ذلك على قومه وبعض قومنا يجادلون من يُنكره، فهذا بلكسنج غربي منهم أنكر وصول القمر وأبطله ببيانات أسْكتت القوم فما قدروا أن يردّوا عليه لأنه كشفهم وفضحهم، وهو متابع للقضية حيث أخبر أنها مجرد خدعة خدعوا بها العالَم بصور أفلام أظهروها ما عَدَتْ التمثيل والتزوير، وإنكار بلكسنج اشتهر وانتشر منذ حوالي عشر سنوات. كذلك غربي آخر اسمه سيمبسون اشتهر إنكاره لوصول القمر، وأُعلن منذ سبع سنوات أن عشرين مليون أمريكي يُنكرون على قومهم ذلك. وتأمل مسارعة صاحب كتاب توحيد الخالق لخطْف أي شيء يقوله القوم فَيُلَفِّقَه ويُزوِّقه ثم يسْتشهد بآية أو حديث لتروج البضاعة: (ورائد ¬

(¬1) العلم طريق الإيمان، (ص128).

أسلم وجيولوجي تشهد)، وهكذا. حكايات باردة وخيالات كاذبة، والقمر انشق والتأم في وقته، وكون علماء الفلك اليوم يرون أن القمر قد تَصدّع ويُجمعون على هذه الحقيقة، فنحن ولله الحمد نكذّبهم وعلى يقين أن القمر على حاله لم يتغير فيه شيء وإنما يأتيه الموعود يوم القيامة قال تعالى: (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) يعني ذهب ضوءه (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) قال مجاهد: كُوِّرا، وذلك يوم القيامة. فالقمر ليس ينشق في القيامة إنما يُجمع هو والشمس ويذهب ضوءه، ويُكوَّر هو والشمس. ومن شاء فليباهلني على عدم وصول بشر إلى القمر، وما خلق الله القمر لذلك بل هذا منافٍ لحكمة الحكيم، فالأرض هي موضع الخلق منها خُلقوا وفيها يحيْون وفيها يموتون ومنها يبعثون وفيها يحشرون، ومن ادّعى غير ذلك فهو مبطل ومخالف لما جاء عن الله ورسوله. والقمر لما انشق آية لرسول الله صلى الله عليه وسلم التأم في وقته، ولو كان الشق باقياً لبقي القمر يُرى فلقتين والأمر واضح ولله الحمد. والعجب أن يظن صاحب كتاب توحيد الخالق وهذا الباكستاني أن تكلّفهم هذا وقولهم على الله ما لا يعلمون من نصرة الدين والدعوة إلى الله.

أما علموا أن هؤلاء يمكرون بهم وأنهم يدرسون الإسلام ليكيدوا لأهله وأنهم يبذلون الأموال العظيمة والجهد الكبير لأجل ذلك. أما علموا أن موافقتهم إياهم في دجلهم يزيدهم طغياناً وشراً ويزيد المسلمين ذلاً وهَوَناً. أما علموا أن الله عز وجل لا يُمكّنهم من ذلك وأنهم لا يَعْدون قَدْرهم وأنهم فتنة عصرنا وسبب ذهاب ديننا. والذي لا شك فيه أننا لو نزلنا منازلنا لأنْزلناهم منازلهم (إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) لكننا حققنا ما كُتب علينا قدراً (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (ودنيا مؤثرة) (¬1) مع أن هذا ما رضيه الله لنا شرعاً ولا يقبله منا حجة وعذراً. ¬

(¬1) هذا جزء من حديث أخرجه الترمذي (5/ 257) وأبو داود (4/ 123) وابن ماجه (2/ 1330) عن أبي ثعلبة الخشني مرفوعاً.

حيل لترويج بضائع فاسدة كاسدة

حيل لترويج بضائع فاسدة كاسدة ثم إن صاحب كتاب توحيد الخالق ذكر أن الفكر الشيوعي في القرن التاسع عشر والثامن عشر على أن الكون لا بداية له ثم قال: هذه جهالة القرن التاسع عشر والثامن عشر، وأما الآن ونحن في القرن العشرين فإن العلم والأكاديميات العلمية في موسكو وفي واشنطن، وفي كل البلاد المتقدمة قد أعلنت للدنيا بأجمعها أن الذين قالوا: إن الكون أزلي قديم كانوا مخرفين وما قالوا إلاَّ هراء. لقد قامت الأدلة على أن لهذا الكون بداية، وحسبوا البداية وقاسوا ووجدوا ساعات كونية في هذا الكون تدلهم على بداية خلق الأرض فقرروا عمر الأرض بأربعة ملايين ونصف من الأعوام، وقرروا عمر الشمس بكذا، وقرروا عمر النجوم بكذا، وعندهم أدلة الآن في أشعة عند درجة الصفر المطلق هذه تبين بداية الكون، وأن هذا الكون بدأ بانفجار هائل، وهذا الانفجار الذي جعل هذه الأجزاء لا تزال تتباعد في الكون، وفي الوجود إلى يومنا هذا، ولا تزال السماء تتسع. انتهى (¬1). ¬

(¬1) العلاج هو الإسلام، (ص17).

الجواب: هذا الرجوع على أن للكون بداية مثل الرجوع عن كوْن الشمس ثابتة وقد بينت أن الذي أثبتوه من حركتها غير الذي ذكر الله في كتابه العزيز وهو قوله تعالى: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي يدورون كما فسّرها ابن عباس وغيره أي أن الشمس تدور على الأرض في الفلك وهو السماء المبنية ليس الدوران على المجرة المزعومة المتخيَّلة. وهنا رجوعهم إلى أنّ للكون بداية ثم يذكر أن البداية بانفجار هائل وأن هذا الانفجار جعل الأجزاء تتباعد، فكذلك هذه البداية فإنها على مقتضى نظرياتهم الخيالية الضالة، وقد تقدم ما يبين بداية الكون وأنه الدخان وليس انفجاراً ولا دوراناً ولا تباعداً، ولا يُسْتبعد أنهم يمكرون بالمسلمين لينهمكوا في ضلال نظرياتهم الضالّة عن الكون لظنهم أنها لا تخالف القرآن. ولقد فرح المقلِّدة برجوع القوم عن اعتقاد ثبات الشمس وظنوا أن حركتها وجريْها الذي أثبته المعطلة أنه مطابق للقرآن وموافق حيث وَرَد فيه ذكر جريانها وليس كذلك وقدْ بينت قبل أن جرْيها دورانها على الأرض وهي في الفلك الكروي المستدير. ولذلك قال صاحب كتاب (الإسلام وارتياد القمر) تحت عنوان: (ص25، 26).

الشمس تجري: والشمس تجري بمجموعتها الشمسية كلها بسرعة اثنى عشر ميلاً في الثانية أي بما معدله (2592000) مليونان وخمسمائة واثنان وتسعون ألف ميل في الساعة الواحدة والله خالقها هو الخبير بها وبحكمة جريانها وبمصيرها، تسير هذه الكتلة الهائلة وبهذه السرعة الهائلة أيضاً نحو برج الجبار وفي هذا الفضاء الواسع الرهيب ولا يختل سير نجم واحد بمقدار (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). ولقد سلخ علماء الفلك في القديم آماداً وهم يقولون ويقولون أن الشمس ثابتة وأن الأرض هي التي تدور حولها ولكن المرصد والتلسكوبات أثبتت خلاف ما كان يقوله من قبلهم والحمد لله الذي ظهر سداد كتابه الذي أنزل على رسوله الذي أرسل ... انتهى. الذي لا شك فيه أن هذا الخيال الزائف غير ما ذكر الله من جريان الشمس في الفلَك، ولقد أوْرد هؤلاء الإبل كما أوْردها سعدٌ المشتمل، وليت المصيبة كانت فَقْد الإبل ولكنها فقد الهدى بضلال العقل. وارجع الآن إلى أربعة الملايين والنصف التي زعموا أنها عمر الأرض واسأل ربك العافية.

(والأرض ذات الصدع) الآية

(وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) الآية ومن كتاب (سنريهم آياتنا) للسبيعي أنقل بعض ما ذكره من آيات يفسّرها على مقتضى علوم المعطلة وكشوفهم الضالة قال في قوله تعالى: (وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ): (ص41) يقول المختصون في علم الأرض ثم ذكر زعمهم وخرصهم أن الأرض في الأزمنة القديمة كانت قطعة واحدة ومع مرور ملايين السنين تصدّعت. انتهى. قد تبين أن الله سبحانه خلق الأرض من حين خلقها كما هي لعلمه السابق وحكمته فيما خلقها له، والإحالات إلى ملايين السنين تُسَهّل على القوم الدجل. قال ابن عباس: (وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) هو انصداعها عن النبات، وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة وأبو مالك والضحاك والحسن وقتادة والسدي وغير واحد. انتهى (¬1). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير.

(فإذا هي تمور) الآية

(فَإِذَا هِيَ تَمُورُ) الآية وذكر السبيعي قوله تعالى: (أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ) وقال: إن العلم الحديث يقول: إن طبقات الأرض تسير وتجري وتدور تحت قشرتها الخارجية، وقد أشار القرآن إلى هذا منذ 1500 عام بينهما لم يَدْرِ به العلماء إلا في العصر الحديث (ص43) انتهى. إن هذا يذكرنا بموْج صاحب كتاب توحيد الخالق الذي في قعر المحيطات وكأن هؤلاء مولَعون بالطلاسم والأحاجي والإحالات الزمانية والمكانية الخيالية العجيبة. قال ابن كثير في تفسيره: وهذا أيضاً من لطفه ورحمته بخلقه أنه قادر على تعذيبهم بسبب كفر بعضهم به وعبادتهم معه غيره وهو مع هذا يحلم ويصفح ويؤجل ولا يعجل كما قال تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً) وقال ههنا: (أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ) أي تذهب وتجيء وتضطرب. انتهى.

إن السلف يدلّون العباد على معاني كلام ربهم التي تزيدهم إيماناً ورغبة ورهبة فيعرفون مراد الله من كلامه فيعملون بطاعته ويجتنبون معصيته وهذا هو المراد بتفسير القرآن، أما التلاعب به هكذا بمعاني باطلة زائفة مضلّة فهو صرف لمعانيه عما أريد منها وعاقبته سوء والعياذ بالله لان الكلام بالقرآن بالرأي عليه الوعيد. وكيف يقول هذا: إن طبقات الأرض تسير وتجري وتدور تحت قشرتها الخارجية؟ وكأن كلام الملاحدة قرآن. ثم إن المراد بمَوَران الأرض هنا ظاهرها المشاهد المحسوس، وهو الذي يُهلك الله به من يشاء أن يهلكه. وأما على تقدير أن الموَران تحت القشرة فهذا لا يؤثر، وإنما قالوه تَبَعاً لأصولهم الفاسدة حيث أنهم يجعلون الأرض ثلاث طبقات: القشرة، واللب، ولنواة، والأرض سبع طبقات، قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) الآية. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من ظلم شبراً من الأرض طوقه الله سبع أرضين يوم القيامة) (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخاري (2/ 866) ومسلم (3/ 1231) عن سعيد بن زيد مرفوعاً.

كلام باطل عن الشمس

كلام باطل عن الشمس وقال السبيعي في كتابه الذي سماه: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا) (ص47). * الشمس (¬1) مُفاعل نوويٌ هائلٌ: (وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً): الشمس كرة هائلة ضخمة من الغازات الساخنة تزيد في حجمها بملايين المرات على كرتنا الأرضية، إن هذا القرص اللامع الذي يملأ الدنيا بالضياء ما هو إلا نجم عادي ضمن ملايين النجوم الأخرى التي يشاهدها المختصون الفلكيون ضمن مجرة درب التبانة فيكون في ذلك الحزام اللامع الذي يُرى من الأرض ويمتد خلال سماء الليل، ولكن جميع النجوم الأخرى بعيدة جداً عنا لدرجة أننا نراها كنقاط ضعيفة الإضاءة حتى بأكبر المناظير. ويحتاج ضوء تلك النجوم إلى سنوات عديدة حتى يصل إلى الأرض أما ضوء الشمس فيصل إلينا بعد أن يغادر سطحها بثماني دقائق وعشرين ثانية فقط، وهكذا فإن الشمس أقرب إلينا بعدة ملايين المرات ¬

(¬1) قبسنا هذا البحث عن دراسة أثبتها الدكتور يوسف كيزك الخبير في مرصد آندريوف في تشيكوسلوفاكيا، راجع الدراسة الوثائقية الواردة في العدد 289 من مجلة العربي لعام 1982م.

من النجوم الأخرى، ومن هنا أيضاً يأتي إحساسنا بإشعاع الشمس فتظهر كقرص كبير في السماء، وتفوق الشمس في أهميتها بالنسبة إلى الحياة على الأرض ما يزيد على (150) بليون نجم آخر في مجرة طريق التبانة وحدها، والمجرات الأخرى بعيدة جداً بحيث يقل تأثيرها عن نجوم مجرتنا. 2 كيلو وات للفرد: وشمسنا -شأنها في ذلك شأن النجوم الأخرى- عبارة عن مفاعل نووي كبير، ففي أجزاء الشمس المركزية وعلى عمق (650) ألف كيلو متر من السطح يتحول في كل ثانية حوالي (500) مليون طن من نوى الهيدروجين إلى نوى الهليوم، ولا مجال هنا (حيث تقدر درجة الحرارة بالملايين) للحديث عن الذرات وإنما عن خليط من النوى والإلكترونات، وخلال تلك العملية من الاندماج النووي تتحرر كل الطاقة الشمسية أي كل ثانية (380) تيراتيراوات (¬1)، ويطلق على هذه الكمية لمعان الشمس، ومن مركز الشمس تنتقل الطاقة المتحررة على شكل إشعاع كهرومغناطيسي في اتجاه لسطح الذي يطلق عليه اسم الفوتوسفير أو الكرة المضيئة. ومن هذه الكرة المضيئة (الفوتوسفير) يتم إشعاع طاقة الشمس في الفضاء المحيط وقليل جداً فقط من إشعاع الشمس هو الذي يصلنا إلى ¬

(¬1) تيرا = مليون بليون.

الأرض، فلا يزيد هذا النَّزْر اليسير على جزء أو اثنين من بليون جزء من إشعاع الشمس كله أي (180) ألف تيراوات، وعلى رغم صغر هذا الجزء فإنه يمثل فيضاً هائلاً إذا نحن قارناه باستغلال البشرية من الطاقة، ذلك أن كمية الطاقة التي يستعملها الإنسان تبلغ (8) بلايين كيلو جول أو (8) بلايين كيلو وات لكل ثانية، أي (8) تيراوات لكل ثانية، فإذا قسمنا هذه الكمية على (4) بلايين آدمي يعيشون فوق هذا الكوكب لتَّضح أن نصيب الفرد في المتوسط هو (2) كيلو وات، بينما يقل في الدول الفقيرة ليصل إلى (0.1) كيلو وات، وإذا كانت الأرض تتلقى كما ذكرنا (180.000) تيراوات، بينما تستهلك البشرية (8) تيراوات فقط فإنه يبدو جلياً أن الشمس تعطينا طاقة تبلغ (22) ألف مرة زيادة عما نحتاجه نحن البشر. ولهذا فإن الطاقة الشمسية تُعد أكثر من كافية لتغطية حاجات الإنسان على الأرض، وأكثر من هذا فإن الإشعاع الشمسي يُعَدُّ مصدراً لا ينضب للطاقة وقد قدّر الفلكيون أن الشمس فيها من الهيدروجين في جزئها المركزي ما يكفي لإطلاق كمية من الطاقة على المستوى الحالي لأكثر من خمسة بلايين عام أُخر إلى آخره من جنس هذا الكلام الذي يحسن عند قراءته أن يقول الموفق: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيراً ممن خلق.

والذي ذكره الله سبحانه عن الشمس أنها سراجاً وضياءً وسمّاها الشمس، كذلك سماها رسوله صلى الله عليه وسلم. أما تسميتها بالنجم فهذا اقتداء بالمعطلة الضُّلاّل بأن هناك ملايين مثلها يسمونها نجوماً فكذب وباطل، وما ذكر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلا شمساً واحدة لكن هذا على مقتضى نظريات المعطلة الخيالية الباطلة، وتقدم ولله الحمد هدْم هذا البناء من أصله. والشمس والقمر في السماء المبنية الشفافة، وهم يصفونها بما يناسب أصولهم الفاسدة. وقد ذكر شيخ الإسلام قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً). ثم قال: قالوا: فاخبر الله أن القمر في السموات. وقال: والشمس والقمر في الفَلك كما أخبر الله تعالى، وذكر رحمه الله أن الفَلَك هو السماء قال بعد أن ذكر قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). وقوله تعالى: (لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).

وقال: وأمثال هذه النصوص الدالة على أن السماء مشاهَدة، والمشاهَد هو الفلَك فدلّ على أن أحدهما هو الآخر. انتهى (¬1). والمراد أن الشمس واحدة وأنها في السماء وهم يصفون الكون على مقتضى نظريات ليست خارج أدْمغتهم الخاوية المظلمة. ¬

(¬1) الفتاوى 6/ 593، 595.

(ظهر الفساد في البر والبحر) الآية

(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) الآية وقال السبيعي تحت عنوان: * تلوث البيئة: * تلوث البيئة وتآكلها: قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (¬1). تحدثنا عن الشمس وتبينّا عظمة الخالق إذ جعلها طاقة نظيفة صالحة للحياة وها نحن نتحدث الآن عن وجوه التصرف التي يتصرف بها الإنسان بالطاقة النظيفة فيفسدها ويهيئها للدمار برعونته فنقول: تتعرض البيئة التي تحيط بالكرة الأرضية إلى تغيرات فتاكة وجذرية رهيبة تهدد الحياة بالتراجع، وتفسد البيئة فتقضي على كثير من مظاهر الحياة النباتية والحيوانية والإنسانية وذلك منذ أن بدأ الإنسان حضارته الصناعية. هناك أنهار تجف، ومحيطات يمكن أن تفيض، وجليديات (ظلت جامدة ألوفاً بل مئات الألوف من السنين) تتعرَّض لاحتمالات الذوبان، ¬

(¬1) سورة الروم.

وإذا بدأ ذوبانها فسيرتفع منسوب المياه في كثير من المحيطات والبحار، فيختفي كثير من المدن الساحلية تطغى عليها مياه البحار. إلى آخره (¬1). هكذا يكون التلاعب بكلام الجليل وصرف معانيه إلى هذا التخريف حيث جعل الفساد فساد البيئة ولم يذكر المعاصي. قال ابن كثير: أي بأن النقص في الزروع والثمار بسبب المعاصي. وقال أبو العالية: من عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة. انتهى. وقد قال تعالى: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا) وإصلاح الأرض بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث أصلحها بشرع ربه والإفساد فيها التغيير والإحداث والمعاصي. أما أن تصرف معاني كلام الرب سبحانه إلى ما ذكر هذا ونحوه فهذه والله من المصائب العظيمة. ¬

(¬1) كتاب (سنريهم آياتنا)، ص57.

رد الباطل بالباطل يغري أهل الباطل

رد الباطل بالباطل يُغري أهل الباطل ومما يلفت النظر وهو ظاهر بيّن أن الذين يكتبون عن هذا العلم الحديث وكشوفاته ينقلون ما يقوله الكفرة وكأنه قرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ويعلم الناظر في عملهم هذا أنهم قد وطَّنوا نفوسهم لقبول هذه المحالات والهذيانات. وحتى أنه لو تطاول أحد من هؤلاء ليردّ بزعمه على أرباب هذه العلوم فإنه لا يستطيع الرد عليهم إلا بالإقرار بباطلهم ومشاركتهم فيه فيكون كمن يُطِبّ زكاماً فيورث جذاماً، وخذ مثالاً على ذلك صاحب كتاب (الإسلام وارْتياد القمر) أراد بزعمه أن يُهَوّن شان وصول القمر والمريخ بأن الكوْن واسع فدخل في ضلالهم من سعة الفضاء وما تخيّلوه فيه وأتى بالطامات فهو يرد باطلاً بباطل بل وما ردّ الباطل بل أقرّه فتأمل. * قال تحت عنوان: القمر والمريخ هل هما أقطار السموات والأرض؟ هل القمر والمريخ هما أقطار السموات والأرض؟ ولو سلمنا جدلاً أن المراد من الآية هو النفوذ من أقطار السموات والأرض في الدنيا فهل القمر والمريخ والزهرة بل والمجموعة الشمسية كلها

هي أقطار السموات والأرض وأن هذا الكون الواسع محصور بها، ونحن نرى الشمس والقمر في أُفقنا المحيط بنا فقط، دع جميع الآفاق التي لا تعد في الدنيا فإنا نراهما بحجم الرغيفين وإن أُفقنا وحده وهو الفضاء الذي يبلغه نظرنا وهو أكبر منهما بملايين الملايين من المرات فكيف ببقية الآفاق. وقد ثبت حتى الآن ضخامة المجهود والطاقات المطلوبة للنفاذ من جاذبية الأرض للوصول إلى القمر وهو أقرب الكواكب في المجموعة الشمسية إلى الأرض كما ثبت أنه أصغر من الأرض خمسين مرة، فلقد بذل الكثير من المجهودات العلمية الضخمة في شتى الميادين الهندسية والرياضية والفنية والجيولوجية فضلاً عن التكاليف الخيالية المادية التي أُنفقت في ذلك وما زالت تنفق ويدل على ذلك دلالة واضحة قاطعة على أن النفاذ المطلق من أقطار السموات والأرض التي تبلغ ملايين الملايين من السنين الضوئية (¬1) لإنس أو جن مستحيل. وإليك البيان والدليل معتمداً فيما أقول على أدق المباحث وأحدثها والتي تذيعها أوربة وأمريكة. ¬

(¬1) والسير الضوئي ويسمى النوري أيضاً يفهم بان نقربه وذلك أن الشمس تبعد عن الأرض بمقدار 92 مليون ونصف المليون من الأميال ويقطع نورها هذه المسافة بثمانية دقائق وتسع عشرة ثانية، وقرر الدكتور بادن مدير مرصد بالومار بكاليفورنيا أن سرعة الضوء هي 186 ألف ميل في الثانية.

جاء في مجلة (هنا لندن) وهي مجلة البرامج العربية الأعداد 196، 216، 217 قالت: الأرض كوكب سيار يدور حول الشمس والشمس واحدة من شموس عديدة متباينة الأوصاف والأقدار والطبائع تؤلف بمجموعها نظاماً ضخماً أطلق عليه اسم المجرة وهو يفوق في ضخامته وفحواه حدود التصور وقد شبه بعجله أو بحبة عدس يبلغ قطرها مئة ألف سنة ضوئية، والمجرة تدور على مركز فيها فتتم الدورة في مئتين وعشرين مليون سنة، وتنشئ في دورانها أذرعاً منحنية على جسمها الرئيسي فتصير فيها كأنها حلزون، وفي إحدى هذه الأذرع يقع نظامنا الشمسي على بعد خمسة وعشرين ألف سنة ضوئية من المركز وقالت مجلة (هنا لندن) وهذه المجرة مجرتنا تحتوي على مئة ألف مليون شمس، والمسافات بينها شاسعة جداً حتى ليمكن أن يقال أن معظم الحيز الذي تشغله المجرة هو فراغ أو قريب من الفراغ لأن ما يبدو خاوياً وفراغاً يحوي سحباً لطيفة من مادة غازية كونية أو غباراً أو من ذرات سائبة وبخاصة ذرات الأيدروجين. وما أن أخذت هذه الصورة للمجرة في الاتضاح حتى وقف العالم يسأل أهذا هو الكون كله؟ وذلك في أوائل هذا القرن، ولكن بتقدم العلم فيما بعد ذلك اتضح أن هذه السدُم عوالم نجمية ضخمة واقفة خارج مجرتنا وأن كلا منا مجرة قائمة بذاتها وتضم أُلوف الملايين من

النجوم فأطلقوا عليها أوصافاً مختلفة كقولهم السدم الواقفة خارج مجرتنا أو العوالم الجزرية على اعتبارها جزراً كبيرة في خضم الكون وهي تبدو للعين المجردة غبشة الضياء لبعدها فتعجز العين عن تبين النجوم التي تتألف منها، ولكن وسائل الرصد الحديثة بينت عدداً كبيراً من نجومها بالنظر المرقبي أو على لوحات التصوير المباشر أو على لوحات التصوير الضوئي. وقد قدر ما يمكن تصويره منها بمرقب (بالومار) بكاليفورنيا بمائة ألف مليون شمس ولو كان بالوسع صنع مرقب قطر مرآته ضعف مرقب (بالومار) لزاد عدد ما يصور منها أضعافاً، ومنذ أن استطاع العقل البشري العلمي أن يستعين بالعدسات والآلات ورأى هذه المجرات وحركاتها ظهر له مل يحير العقول ويذهل اللب فاعترف هؤلاء العلماء الباحثون بخالق هذا الكون ومكونه والكواكب ومكوكبها واستدلوا بها على واسع علمه وعظيم حكمته إذ ظهر لهم أن الأبعاد بين هذه المجرات لا تقاس إلا بالملايين من سني الضوء إذ أن اقرب مجرة إلى مجرتنا التي تبدو في صورة المرآة (المسلسلة) وهذه تبعد عنا ألفي مليون سنة ضوئية (¬1) وأما المجرة التي فيها الدب الأكبر فتبعد عنا ثمانية ملايين سنة ضوئية، وأما هذه التي في عنقود (السنبلة) أو العذراء فإنها تبعد اثنين وثلاثين مليون سنة ¬

(¬1) فسبحان العالم بكل شيء ذي الملكوت العظيم الذي أنزل على رسوله في كتابه (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون).

ضوئية، وأن من هذه المجرات ما يبلغ بعده عنا أُلوف الملايين من السنين الضوئية، وأين سير الصوت أو الصاروخ من سرعة الضوء وكم ألف مليون سنة يعيش هذا البشر حتى يخترق هذا الكون وليس معنى من حمل شعيرة أنه قادر على حمل طود شامخ راسخ وليس معنى أن من قدر على رشف كوب ماء من النهر أنه قادر على جرع المحيطات، فهذا مثل الوصول إلى القمر وسبر أغوار هذه العوالم. وقد ذهل الفلكيون عندما وجدوا أن المجرات وشمسنا معها تجري مبتعدة عنا بسرعة ألوف الكيلو مترات في الثانية الواحدة، وكلما أمعنوا في رصد مجرات بعيدة ازدادت هذه السرعة بهذا القياس فإذا سرعتها على ما عرف حتى الآن مئة ألف كيلو متر في الثانية أي ثلث سرعة الضوء تقريباً وقد أعادوا النظر مراراً للتأكد فما ازدادت السرعة إلا ثبوتاً. فسبحان الذي يُظهر آياته في هذا الكون للباحثين ليشهدوا حكمته وعلمه وإبداعه، ويروا كل شيء دالاً عليه ومشيراً إليه قال سبحانه: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). وأعجبني ما قالته مجلة (هنا لندن) بعد الكلام على عظمة الكون وعلى المجرات وسير الضوء وسعة الفضاء الذي ما استطاع أحد أن يعرف مداه ولا مبتداه ولا منتهاه.

قالت: وحيال هذه الأرقام التي تفوق التصوّر يحسن بالناس عندما يتحدثون عن غزو الفضاء بمركبات فيها أحياء من الأرض أن يقللوا من غلوائهم ويعرفوا قدر أنفسهم. أقول: وذلك لو أنهم ركبوا الضوء لا المركبات ملايين السنين لما فعلوا شيئاً ولما نفذوا من هذا الكون لسعته وسعة الفضاء فتعالى الله القائل: (وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ). * حكمة رائعة في مراكز النجوم: الشمس والقمر لكل منهما خط لا يتعداه ومركز لا يتجاوزه والشمس بالنسبة لنا هي أهم الكواكب لأننا نحن سكان هذه الأرض التي نعيش على سطحها ونعيش على ضوئها وحرارتها وجاذبيتها نحن وزروعنا وضروعنا بل وجميع حيواناتنا. هذه الشمس ليست هي أكبر ما في السماء من الأجرام بل هناك ملايين الملايين من النجوم وفيها ما هو أكبر من الشمس وأشد حرارة وضوءاً فالشعرى اليمانية أثقل من الشمس عشرين مرة ونورها يعدل خمسين ضعفاً من نور الشمس. والسماك الرامح حجمه يعدل حجم الشمس ثمانين مرّة، ونوره يعدل ثمانية آلاف ضعف من نور الشمس وحرارتها، وأما سهيل فهو أقوى من الشمس بألفين وخمسمائة مرّة.

ثم إن حجم الشمس وبعدها وسيرها وكذلك حجم القمر وبعده ودورته كلها بحساب لا يتصور في العقل ولا في الوهم أدق منه وذلك حسب مصلحتنا واحتياجنا، قال الدكتور: عبد الرزاق نوفل: فالشمس تبعد عن الأرض اثنين وتسعين مليون ونصف المليون من الأميال ولو كانت أقرب إلينا من هذا لاحترقت الأرض أو انصهرت أو استحالت بخاراً يتصاعد في الفضاء، ولو كانت ابعد عنا من هذا القدر لأصاب التجمد والموت كل ما على الأرض من نبات وحيوان، وقال الدكتور: نوفل أيضاً في كتابه (الله والعلم الحديث) والذي يصل إلينا من حرارة الشمس لا يتجاوز جزءا من مليوني جزء من حرارتها، وهذا القدر الضئيل هو الذي يلائم حياتنا فهو نظام دقيق وأمر مقصود ولا بد للنظام من منظم كما انه لا بد للقصد من قاصد، وهو يدل على التوحيد دلالة الكلام على وجود المتكلم وحياته، وذلك أن وحدة النظام تدل على وحدة المنظم. انتهى (¬1). إنه لا أحد يستطيع رَدّ باطلهم إلا بمقابلته بالحق، وليس الشأن أن ¬

(¬1) الإسلام وارتياد القمر، ص19.

يُقرّوا به أو لا يُقِرّوا، وأيّ وزْنٍ لهم؟ إنما الشأن أن رَدّ الباطل لا يستقيم إلا بأدلة الحق، ورد الباطل بالباطل إغراء للمبطل. ومن العجب أن الذين ينتسبون للإسلام ويَدّعون إعجاز القرآن يظنون أنهم بالإقرار بهذا الكون المتخيَّل وذِكْرِه يعظمون الخالق ويدعون إليه وقد لا يشعرون بما وقعوا فيه من الضلال. ومثال صنيعهم هذا مثال إنسان قال لملك من الملوك وهو بزعمه يمدحه ويثني عليه: أنت تملك جميع البراري والبحار وجميع القرى والأمصار، مُلككَ لا يُحد, ورعاياكَ لا تُحصى ولا تُعد. فهل يكون هذا الكلام مقبولاً لدى الملك؟ أم أنه يرى أن هذا الإنسان قد أعلن عن جهله وغباوته؟ وقد يرى أنه يسخر به. وهل يليق أن يُثنى على ملك الملوك سبحانه بأن يقال: أنت الخالق للإنسان وبقدرتك جعلته أكبر من الجبل وخلقت له خمسين عيناً وستين أذناً وسبعين رجلاً وثمانين يداً؟. معلوم أن هذا لا يقوله من يعقل. وتأمل الآن الجاهلي واعلم أنه لا يَسْتحسنه إلا من استبدل الواقع بالخيال والحقيقة بالمحال، إنه يقول: ملأنا البَّر حتى ضاق عنا ... وماء البحر نملؤه سفينا إذا بلغ الرضيع لنا فطاماً ... تخرّ له الجبابر ساجدينا

وارجع الآن إلى وصف الكون المتقدم وانظر هل يليق أن يُمدح الله بهذا؟ أو أنه كذب وضلال؟ وليس الكلام على القدرة فالرب سبحانه قادر أن يخلق من العوَالِم ما لا يحصى ولا يُعَدّ، فالقدرة صالحة إنما الشأن بالواقع الذي يُصَدّقه كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، أما هذيان المعطلة فيليق بهم وخيالهم ثمرة من ثمار كفرهم وتعطيلهم، ولا بد من التفريق بين الصور الذهنية والخارجية الحقيقية، فالأولى لا حَدَّ لها إذا لم تطابق الحقيقة الخارجية لكنها لا تخرج عن محيطها الذهني وهي تصوّر باطل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولهذا يمكن تقدير أشكال بعضها أكبر من بعض بلا نهاية لها، ولا يلزم من إمكان تقدير ما لا نهاية له إمكان ذلك في الخارج. انتهى (¬1). تأمل قوله: وتقدير أشكال بعضها أكبر من بعض بلا نهاية فهذا خيالهم في السديم والمجرات، وقوله: وأبعاد لا نهاية لها، مثل خيالهم في سعة الكون وسنينهم الضوئية التي لا نهاية لأبعادها، وبلايينهم في نشأة الكون ونهايته وغير ذلك. من الأحقاب والعصور الداروينية كما فيما يسمى (السجل الجيولوجي). ويقول ابن القيم رحمه الله مما ينطبق على هؤلاء أيضاً: وكثيراً ما يترائى ¬

(¬1) بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول 2/ 233.

في النفس صور ليس لها وجود حقيقي فيظنها الذي قد أثبتها في نفسه علماً وإنما هي مقدرة لا حقيقة لها، وأكثر علوم الناس من هذا الباب. انتهى. العجيب أنه رحمه الله يقول: وأكثر علوم الناس من هذا الباب، وتأمل انطباق هذا على أرباب هذه العلوم والكشوف وأن ذلك صُوَر تترائى لهم في نفوسهم المظلمة وليس لها وجود حقيقي، وانظر الآن ما قال صاحب كتاب (الإسلام وارتياد القمر) ص27 قال: وقال الدكتور نوفل: والمشكلة التي حيّرت العلماء هي أن الشمس كما يؤخذ من علم طبقات الأرض لم تزل تشع بنفس المقدار من الحرارة الذي كانت تشعه منذ ملايين السنين، فإن كانت الحرارة الصادرة عنها نتيجة احتراقها فكيف لم تفن مادتها على توالي العصور، فلا ريب أن طريقة الاحتراق الجارية فيها غير ما نعهد ونألف وإلا لكفاها ستة آلاف سنة لتحترق وتنفد حرارتها لأنها تفقد أربعة ملايين طن من وزنها في الثانية بسبب إحتراقها ولكنها لم تزل تجدد وزنها وحجمها فسبحان الذي أحسن كل شيء خلقه ثم هدى. قال مدير مرصد هافارد الدكتور دونالد متزل: إن الشمس تبعث إلينا طاقة تعادل خمسة آلاف بليون قنبلة هيدروجينية في كل ثانية وأنها

آية من آيات الخالق جل وعلا مع أنه لا يصل إلينا إلا جزء من مليوني جزء من حرارتها. وما الشمس إلا كوكب من مئات ألوف المليارات من النجوم التي تدور في خضم الفضاء الواسع، وقد اكتشفوا كوكباً هو أكبر من المجموعة الشمسية كلها بثمانية وأربعين مليون مرة. وما الأرض بين الكائنات التي ترى ... بعينيك إلا ذرة صغرت حجما وأنت على الأرض الصغير ذرّة ... تحاول جهلاً أن تحيط بها علما ولقد سلخ البشر عشرات القرون وهم يعتقدون أن من النجوم متحركاً وأن منها ثوابتاً لا يروم مكانه، ولكن العلم اليوم أثبت أن الكواكب كلها متحركة وجارية وإن لم تدرك العين المجرّدة حركتها وهذا آخر ما توصل إليه العلماء بَيْدَ أن القرآن العظيم أثبت هذا منذ أربعة عشر قرناً فقال لا في مكان واحد بل في أكثر، ففي سورة يس: (وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) وقال في سورة الأنبياء: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).

وسيَّر هذه الكواكب بحساب عظيم الدقة والأحكام كما أسلفنا ولولاه لما عرف الفلكيون الخسوف ولا الكسوف ولا عينوا وقتيهما بالضبط، فبدقة السير لم يقع اصطدام وبدقته كانت الفصول الأربع وحساب الأشهر والأهلة والمواقيت وبه عرف مقدار الليل والنهار في كل فصل وعرف الشروق والغروب في كل يوم وصدق الله تعالى القائل: (والشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) وكل حسبان في القرآن فالمراد به الحساب والعدد إلا حسباناً من السماء فتصبح صعيداً زلقاً، وإن وقوف البشر على ما أودع الله في السماء والأرض مما يدعو إلى الإيمان واليقين لا إلى الجحود وقلة الدين وإلا لما قال تعالى: (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ).

آثار نشأة الكون على نظرية داروين

آثار نشأة الكون على نظرية داروين كثيرون من المعاصرين ردوا نظرية داروين وأما أصل أصول المعطلة الذي أوْجب لداروين أن يقول ما قال فلم يتعرضوا له ولم يعترضوا عليه بل قلّدوهم فيه بعماية ما مثلها عِماية. وإليك مثالاً لذلك ما ذكره صاحب كتاب (الإعجاز الإلهي) في ردّه نظرية داروين مع إقراره بما أصلّوه من بداية الكون فهو يحتج على داروين وأضرابه بقوله: وهل شاهد أحد من الفلاسفة الكائنات الدنيا وهي تشكل تِلقائياً من الجماد؟ وهل شاهد أحدهم تطوّر الكائنات الدنيا حتى أضحت أكثر تعقيداً وكمالاً؟. وكما أسلفنا يدَّعي الماديون أن الكون تشكَّل قبل 15000 مليون سنة عندما حدث الانفجار الكبير، ثم ظهرت الحياة على سطح الأرض بشكل تلقائي قبل ملياري سنة، وكانت تقتصر على كائنات دقيقة بدائية تمخَّضت لاحقاً عن كافة المخلوقات التي تدب على سطح الأرض. لقد زعم الماديون أن العقل الحصيف لا يؤمن إلاَّ بما يراه ويلمسه ويتعامل معه, ولذلك فهم لا يؤمنون بالله العلي القدير، فإذا اعتبرنا ترّهاتهم صحيحة، فإننا نسألهم: كيف آمنتم بالانفجار الكبير الذي

حدث قبل 15 مليار سنة من دون أن تروه؟!! وهل عاصرتم الكون وهو يتشكل من ذرات الهيدروجين المبعثرة في الفضاء الفسيح؟ وهل شاهد أحد الفلاسفة الكائنات الدنيا وهي تتشكل تلقائياً من الجماد؟ وهل شهد أحدهم تطور الكائنات الدنيا حتى أضحت أكثر تعقيداً وكمالاً؟. لقد جحدوا وجود الله لأنه لم يتراءَ لهم، ولأنهم عجزوا عن مشاهدته لضعفٍ في بنيانهم وقدراتهم، ولم يجحدوا نظرياتهم ولا النشوء الذاتي ولا التطور على الرغم أنهم لم يعاصروها ولم يلمسوا شيئاً منها ولم يتمكنوا من متابعتها في المستحدثات!!. لقد شيّدوا صرحاً من الزيف والتزوير والافتراء والتدليس والأوهام والتشكيك ثم كسوه بفلسفاتهم المادية الملحدة، فجاء كبنيان حقير واهن من الثلج أبدعته أيدي أطفال عابثين، فلما أشرقت شمس الحقيقة خرَّ وذاب وصار أثراً بعد عين. إن جحودهم هذا لوجود الله كجحود الأعمى لأشعة الشمس، إنه جحود واهن مضحك لا يؤخذ به، لأنه لن يغيِّر من الحقيقة ومن وجود الشمس أبداً. انتهى. فيقال: كذلك السديم المزعوم لم يُعاصروه ولم يلمسوا شيئاً منه ولم يتمكنوا من متابعته وهو يدور فَتَتَولّد منه المجموعات الشمسية التي تُكَوِّن المجرات الملايين والبلايين.

إن الذي ألْجأ داروين إلى اعتقاد نظريته القرديّة هو اعتقاد إخوانه من القرود الذين تخيَّلوا الكون على ما يليق بضلالهم وكفرهم، وقد استحكمت الفتنة فصارت مشتركة إذْ قلّدهم في ذلك العرب وكثيرون ممن ينتسبون للإسلام. وإن الاعتراضات الواردة على نظرية داروين واردة وأعظم منها وأكثر على نظرية السديم المزعوم في بداية الكون والمجرات الخيالية. قد يقولون: إن نظرية داروين نفي للخالق، فيقال لهم: ونظرية السديم أيضاً ليس للخالق فيها ذكر ولا هي فعله، فإذا قالوا: نحن جارَيْناهم في نظرية السديم وخالفناهم في الإلحاد حيث نثبت أن الله هو خالق السديم وذرّاته وهو الذي جعله يدور، وجعل الأرض تدور أيضاً بسبب انفصالها من دورانه، كذلك هو المكوِّن لبلايين المجرات، وهو الذي يجعل الكون يتسع. فيقال لهم: قد وُجد منكم من يُقرّ نظرية داروين وأحسن أحواله أنه يشك فيها ومع هذا يثبت الخالق وأنه خلق المخلوقات على الكيفية التي ذكر داروين، وأنتم ترفضون أن تكون بداية المخلوقات هكذا وبداية الإنسان هكذا حيث اسقط الداروينيون كرامته وتميّزه عن أي حيوان آخر، فلماذا قبلتم نظرية السديم والدوران والمجرات الخيالية مع إثبات الخالق ورفضتم نظرية داروين لما تبنّاها من يُثبت الخالق؟.

إنه تناقض بَيّن، وإن من حكمة الإله الحق سبحانه أنه لا يُساوي بين مختلفَيْن ولا يُفرق بين متماثِلَيْن، ومن اعتقد خلاف هذا الأصل ظهر تناقضه ولا بُد. والعجب أن نظرية داروين مرْفوضة بإقرار أهلها فقد قال: (آرثر كيت) وهو دارويني متعصّب قال مُعْترفاً: إن هذه النظرية لا تزال حتى الآن بدون براهين وستظل كذلك، والسبب الوحيد في أننا نؤمن بها هو أن البديل الوحيد الممكن لها هو الإيمان بالخلق المباشر، وهذا غير وارد على الإطلاق. انتهى. أنظر إقرارهم وعنادهم وأنهم يهربون إليها كي لا يتعرفون بالخالق. وإذا كانت نظرية داروين مبنية على ظنون وحلقات منفصلة كما يزعمون فما الذي جعل نظرية السديم ودورانه يقيناً حتى أصبح في عصرنا من المسلّمات عند كثير من المقلِّدة أن الأرض تدور والذي هو فرع من دوران السديم، وأن الأرض تنتمي إلى المجموعة الشمسية والكل يدور. إن الذي يَرِدُ على هذه النظريات بالإبطال والنقص أعظم مما يَرِدُ على نظرية دارون أو مثله. وقد تقدم تفنيد نظريات نشأة الكون والانفصال والدوران، وهنا أنقل بعض ما ذكره صاحب كتاب (من الإعجاز العلمي في القرآن

الكريم) عن تعدد هذه النظريات واضطرابها، فذكر: أولاً: نظرية كوبرنيكوس الذي أكّد أن الشمس هي النجم العظيم الحجم وأن جميع أفراد المجموعة الشمسية تدور حول الأم الشمس. ثانياً: نظرية نيوتن في الجاذبية، وقد تقدم الكلام على هذا. ثالثاً: نظرية إيمانويل كانت. رابعاً: نظرية لا بلاس. خامساً: نظرية توماس. سادساً: نظرية الشمس التوْأمية. سابعاً: نظرية السحب السديمية. ثامناً: نظرية ميلاد النجود الجديدة. تاسعاً: نظرية الإنفجارات النووية. هذه النظريات وغيرها تتابعت مضطربة مختلفة من أراد النظر في اختلافها وتخرص أهلها وظنونهم فليراجعها في مضانّها، لأن المراد هنا أن نظرية المجموعة الشمسية ودوران الأرض معها أصبحت مُسَلّمة وهي هذيان. ولما أورد صاحب كتاب (من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم) هذه النظريات قال: ص250.

* العلم الحديث ونشأة الكون: عجز الإنسان إذن، عن الوصول إلى معرفة نشأة الكون وعناصره، وفي ظل التقدم السريع لكافة أفرع العلوم المختلفة خلال هذا العصر، بقي الفكر البشري عاجزاً عن معرفة نشأة أي من الشمس أو القمر أو غيرهما من عناصر الكون، وسيبقى كل ما في الكون حتى قيام الساعة علامان ودلائل لقدرة الله عز وجل في الخلق. وقال أيضاً: وعلى الرغم من تعدد الآراء والنظريات التي قدمت منذ بداية هذا القرن لتفسير نشأة المجموعة الشمسية، إلا أنه كما يذكر الأستاذ سمارت W.M Smart أننا ربما لن نعلم الطريقة الحقيقة التي تكونت بها كواكب هذه المجموعة وكيف جاءت إلى الوجود. انتهى. ومع أن هذا الكاتب يقول هذا الكلام عن هذه النظريات إلا أنه غارق فيها وسوف أنقل من كلامه ما يبين ذلك، والمراد أن الاضطراب والنقد والتعارض حاصل بينهم في نشأة الكون. وقد نقل هذا الكاتب نفسه في كتابه (من الإعجاز العلمي) كلام من سماه العالِم هارولد أوري أنه قال: عندما يعرض باحث لمشكلة نشأة الأرض وتفسير ميلادها يجد نفسه في حاجة ماسَّة إلى معجزات إلهية تُساهم في هذا التفسير مهما كانت دِقّة المناهج العلمية التي يستعين بها. ص247.

عجائزنا ومجانيننا خير من علماء المعطلة

عجائزنا ومجانيننا خير من علماء المعطلة وقال صاحب كتاب (من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم) ص31 وكلما تقدمت البشرية وارتقت في الحكمة والمعرفة وقفتْ على أنواع جديدة من وجود الإعجاز العلمي في القرآن واستبصرت لمعارف جديدة لم يكن يدركها العلم الوضعي من قبل. انتهى. لما فُتِنَ هؤلاء بهذه العلوم ولم يجدوا أن السلف تكلموا فيها ظنوا أنهم اسْتأثروا بعلم وفهم، وأن هذا معنى من معاني الرُّقِيّ المزعوم والتقدّم الموْهوم وقد فرحوا بهذا العلم وظنوا أن الحكمة والمعرفة قد أيْنَعت في هذا الزمان وحانَ قطافها، ورحم الله امرءاً عرف قدْر نفسه, إني أهيب بهم أن يَحّطوا من غلْوائهم وأن ينظروا موَاضع أقدامهم، وليعلموا انه ينطبق عليهم بالمقارنة للسلف الصالح والفرق بين الفريقين هذا البيت: لا تَقْرِنَنْ ذكرنا لذكرهِمُ ... ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد فكيف يقول هذا: وكلما تقدمت البشرية وارتقت في الحكمة والمعرفة؟ أما عَلِمَ هؤلاء الخلوف أنهم بذلك يطعنون بخير القرون ويتنقصونهم، وكذلك سلف الأمة الذين ساروا على نهجهم؟ إنه الغُرور.

وقد ذكرت فيما تقدم أن عجائز أهل الإسلام ومجانينهم خير من علماء المعطلة، وقد وجدت كلاماً لشيخ الإسلام ابن تيمية في ردّه على أهل المنطق من المتفلسفة وأهل الكلام ونحوهم يشبه هذا وقال: وأقَلّ أتباع الرسل إذا تصوّر حقيقة ما عندهم وجده مما لا يرضى به أقلّ أتباع الرسل. انتهى (¬1). وذكر أيضاً أن من هو أضعف عقلاً وعلماً، من آحاد علماء الأمة لا يرضى لنفسه أن يسلك طريقة هؤلاء المنطقيين بل يعدّونهم من الجهال. انتهى. إن أشرف العلوم وأرفعها على الإطلاق عند أهل الإسلام وفي الذروة منه والقمّة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم وهو العلم بالله وبدينه الموجب للعمل بمقتضى ذلك، ومن سلك لهذا العلم والعمل غير طريق الرسول صلى الله عليه وسلم فهو ضال والطريق عليه مسدود. أما أعداء الله فيُفنون أعمارهم في علم السفليات ويأتون بعد الجهد الجهيد بالأباطيل والسخافات وإنما شرف العلم بشرف معلومة فتأمل مُتَعلّق علوم المسلمين ومتعلَّق علوم الكفرة يتبين لك الفرق بين الثرى والثريا. ¬

(¬1) الفتاوى 9/ 133.

(أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) الآية

(أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) الآية وذكر صاحب كتاب (من الإعجاز العلمي) 2/ 21. (أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (¬1). وقد اختلف المفسرون في تفسير (أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ... ) فقال بعضهم إن ذلك يدل على خراب أرض المشركين وقبض أهلها، وقال بعضهم الآخر إن ذلك معناه هلاك العلماء في الأرض وموتهم. وقال الإمام الفخر الرازي: (أولم يروا أن كل ما يحدث في الدنيا من الاختلاف خراب بعد عمارة، وموت بعد حياة، وذل بعد عزة، ونقص بعد كمال). وأطراف الشيء هي أبعد أجزائه عن وسطه أو مركزه، وبالنسبة لكوكب الأرض، فإن أطرافه تتمثل في ناحيتين هما: أ- القمم والهامات العليا للجبال، وهي التي تمثل الأطراف الرأسية لقشرة الأرض، وهذه الأطراف العليا تناقص في الارتفاع تبعاً لتآكلها ¬

(¬1) الرعد، آية: 41.

ونحتها المستمرين بفعل عوامل التجوية والتعرية. ب- أطراف الكرة الأرضية عند القطبين، وتبعاً لتفلطح منطقتي القطبين أدى ذلك إلى تناقص طول القطر القطبي عن طول القطر الاستوائي، وهذا الأمر له أثره في اختلاف زاوية سقوط الأشعة الشمسية على سطح الكرة الأرضية واختلاف الليل والنهار طولا وحرارة على أجزاء سطح الأرض وتوضح الآيات القرآنية أن هذا التناقص مستمر إلى يوم الساعة، ومن ثم جاء الفعل بصيغة المضارع (ننقصها)، يقول المولى عز وجل: (بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ) (¬1). انتهى. هكذا تصرف معاني القرآن تبعاً لهذه العلوم الضالّة، ومعلوم أن الله سبحانه لم يُرد بكلامه ما يقول هذا فإن تناقص الأطراف العليا في الارتفاع نتيجة التآكل المزعوم لا يُرى ولا يُحسّ به، هذا على تقدير حصوله، فإن هذا يحصل على مقتضى علومهم بعد السنين الطويلة بشكل يسير قد لا يُشعر به. والرب سبحانه لا يخاطِب عبادة بهذا، ولا يُحيل معاني كلام الله إلى مثل هذه الإحالات إلا من يسْتهين بالقرآن. ¬

(¬1) الأنبياء، آية: 44.

وقد قال ابن عباس في معنى هذه الآية: أولم يروْا أنا نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم الأرض بعد الأرض. ويقال: وما هو المعنى المتحصل من ذكر ما سماه هذا التعْرِيَة والتجْوِيَة وأن يُلْفَت نظر العباد وتفكّرهم إلى أشياء دقيقة لا يُحِس بها أكثر الخلق وتقوم على الخرص والظن، فكلام الله يُصان عن هذا التلاعب، وإنما هي المجاراة. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. تأليف عبد الكريم بن صالح الحميد 1422هـ

الملحقات

الملحقات تعليل أقدار الجليل كان الإلهُ وليس شيئاً غيرهُ ... وهو الجليلُ وعَزَّ ذُو السلطانِ كَمُلَتْ له أوْصافهُ وتَقَدَّستْ ... عَمّا يُشَابِهُ مِنْ مثيلٍ ثاني فاعرفْ إلهكَ قبل مخلوقاتهِ ... إذْ لا وُجُودَ لِهذه الأكوان هو محسنٌ هو راحمٌ هو واهبٌ ... ليس العذابُ مُرَادَ ذي الإحسان واعرفْهُ قبل وجود مخلوقاتهِ ... ملكٌ حليمٌ ليس بالغضبان (¬1) والشرُّ ليس إليه جَلَّ جلالهُ ... فاعرف إلهك أحسنَ العرفان وَلِحِكْمَةٍ خَلَقَ الشرورَ بِمُلكهِ ... وهو المقدِّرُ كُفْرَ ذي الكفران إبليسُ خالِقُهُ وخالقُ كفرهِ ... وكذلك الأتباعُ بالطغيان أقدارهُ سبقتْ وليس بُمجْبَرٍ ... بل باختيارٍ منه ذَا العصيان هو قد أراد إرادةً كَونيةً ... أنّ الفسوقَ يكونُ في الإنسان هي حكمةٌ قد شاءَها لِمصالحٍ ... ومقاصِدٍ عُلِمَتْ لِذِي الإيمان منها ظهور صفاتِهِ وجلالها ... مثل الغفور يجود بالغفران وكذلك التوابُ جلَّ جلالهُ ... ولِذاكَ يَخْلُقُ طاعة الشيطان لِيكون إغْوَاءً ودَعْوةَ باطلٍ ... وهو ابتلاءُ العبد بالفرقان ¬

(¬1) يعني أن له سبحانه صفة الغضب، لكنه ذلك الوقت ليس بالغضبان فإنه لم يُوجد باختياره ما يغضبه لما له في ذلك من الحِكَم في خلق من يغضبه، وانظرها مفصلة في شفاء العليل وحادي الأرواح.

ليعود منكسراً ذليلاً عبدُهُ ... يرجوه مغفرةً لما هو جاني حِكَمٌ تجلُّ وَعَدُّها مُتعذِّرٌ ... هذي الإشارةُ حَسب ذي العرفان أما الذي ما تاب من كفرانه ... فله الوعيد بدائِم النيران وله الخلود مُؤبّدٌ تعذيبهُ ... جِلْدٌ سَيَنْضُجُ مُعْقَباً بالثاني ليس الخروج بحاصِلٍ أبداً لهُ ... هذا جزاءٌ جاء بالقرآن واتى بسُنّةِ من عليه صلاتنا ... وسلامنا في دائم الأزمان لكن هذا دائمٌ بدوامها ... والنار ليس تدومُ بالبرهان اعرف إلهك ليس في أوصافهِ ... شرٌّ وليس مرادُهُ العدوان إن العذابَ دواءُ من هو فاسدٌ ... كالحَدِّ في الدنيا لذي العصيان من قال إن عذابه بدوامهِ ... فهو الجهولُ بربه الرحمن إذ انهُ عَرَفَ الإله بفهمِهِ ... لا فَهم صَحْبِ نبينا العدناني ويريد تعظيم الإله بزعمِهِ ... فجنى مَسَبَّةَ ربنا المنان إن الخوارج عَظَّموا معبودهم ... فيما يُخالف ظاهر القرآن تبًّا لمذهبهم وسالِك دَربِهِ ... تعظيم ربي ليس بالبهتان اعرف إلهكَ قبل مخلوقاته ... ليس العذاب مراد ذي الإحسان الرب يغضب في القيامة إنما ... غضبُ الرحيم يزول في الأزمان مثل الذي قد كان قبل خلائِقٍ ... تعصيهِ كان وليس بالغضبان في حينِ تأخُذُ نارُهُ أعدائَهُ ... بعذابها في ذلِّةٍ وهَوَان لن يُخْرجوا إذ ما لهم من شافِعٍ ... ويلٌ لِمُسْخِطِ ربه الديان لا الموت يحصل للكفور وكيف ذا ... والموتُ مَذبُحٌ كذبح الضان هو مِنْيَةٌ لو كان يحصل إنما ... حَكَمَ الإله بأنه هو فاني

إن النزاعَ على الجحيم بذاتها ... فهي التي تفنى بلا نكران فنقول في تخليهم أبداً بها ... ما دام فيها حامي النيران ما في الكتاب ولا بسنةِ أحمدٍ ... أن الجحيم تدوم كالرحمن بل فيهما تخليدهم أبداً بها ... لكن دوام النار شيء ثاني ليست تدوم ومن أدام عذابها ... فهو الذي قد جاء بالبطلان يَطفا اللهيب وينتهي غضبُ الذي ... ما كان قبل الخلق بالغضبان غَضَبُ الإلهِ هو الذي من أجلِهِ ... نارُ الجحيم تَسَعّرَتْ بهَوَان أما الخلود ففي كلام إلهنا ... ونبينا حينٌ من الأحيان مهما يطول فإنه لِنهايةٍ ... حتمِيَّةٍ محدودةٍ بأوان وكذلك الأحقابُ فهي لمدة ... معلومة بحقائق القرآن إذ لا يصحُّ بان نقول إلهنا ... سيدوم أحقاباً من الأزمان لُغَةُ النبي وليس ذاك تخرصاً ... ليس الظلام كصُبحنا النوراني إن الذي زعم العذاب لِمُدَّةٍ ... لا تنقضي قد جاء بالنكران وَصَفَ الإلهَ بحكمةٍ وبرحمةٍ ... من غير معنىً قامَ بالرحمن ولذلك الجهم الخبيث لأنه ... ظن الدوام لساكني النيران قد أنكر الوصفينِ طُرّاً إنه ... لهُوَ الظهيرُ لِدَعوة الشيطان من قال إن النار دائمةُ فما ... قَدَرَ الإله بِظَنِّهِ العدوان جعل الإله يُريد شراً مالَهُ ... من منتهىً في دائم الأزمان والشر ليس إليه جل جلالهُ ... لكنَّهُ قد قام بالإنسان أسبابه مَنعٌ لفضل إلهنا ... وهو العليم بموضِعِ الشكران والظلم والجهل الذي هو طبعنا ... هو موجِبٌ للذنب والعصيان

قل لِلَذي زَعَمَ الدّوام سؤالنا ... ما حِكْمة الرحمن في الشيطان هو خالق الشيطان مَعْ أفعالِهِ ... وهو المُقدِّر مِلَّةَ الكفران قل للذي زَعَم الدوام سُؤالنا ... ما حكمة الرحمن في النيران ما حكمة التعذيب دُون نهايةٍ ... يبقى مُديماً مَعْ بَقَى الرحمن لا يستطيع إجابةً لكنّهُ ... يأتي بِقولٍ لا يُفيد معاني إن الذي زَعَمَ البقاء مُحَيِّرٌ ... مَنْ جاءَ يطلب حِكمةَ الديان بلْ إِنهُ لمُنَفّرٌ وَمُصَوِّرٌ ... قَدَرَ الحكيم بصورة العُدْوان أما الذي قال الفناء فإنه ... يُنْبيكَ عن حِكَمٍ مَعَ البرهان قبل الخلائق كان رباً كاملاً ... بصِفات مَدْحٍ ما بها نقصان أسماؤه الحسنى أرادَ ظهورها ... مثل الرحيمِ وَوَاسِعِ الغفران وكذلك التوابُ قابلُ توبةٍ ... من عَبْدِه إنْ تاب من عصيان وكذلك المنانُ مَنَّ بفضله ... تَوْفيقنا لُطْفٌ من المنّان لا بُدَّ من تقدير ما هُوَ مُغْضِبٌ ... لِلرب يَفْعَلُهُ بنو الإنسان لا بُدَّ من داعٍ لِكل ضلالةٍ ... إِبليسُ مخلوقٌ لهذا الشان لَوْ شاء ربي ما عُصي أبداً وما ... أجرى مَقادِرَهُ على الكفران قدَرٌ به الإيمان فَرْضٌ واجبٌ ... والإحتجاج به مِن البطلان ولذَاكَ أوْجَدَ ربنا تَعْذِيبَهُ ... بالنار تخليصاً من الطغيان إذْ كل عبدٍ من عبيد إِلهنا ... قَدْ جَاءَ مفطوراً على الإيمان فالشِركُ يَطْرَؤُ ليس أصْلياً بنا ... وكذلك العصيانُ لِلدّيان كَسِبَ العباد ذنوبهم مِنْ كُفْرِهِمْ ... ومن الفُسوقِ تَدَنَّسوا بالرَّان فالنارُ مثل الكِيرِ تُذْهِبُ عنهمو ... ران الذنوب ولَوْ من الكفران

إقرأ كلامَ الله تَعْلَمُ أنهمْ ... كُسِروا وَذُّلوا في المعاد الثاني وبَدَى اعترافٌ منْهموا بَتَذَلُّلٍ ... وتضرّعٍ في داخل النيران فالله يفعلُ بعد ذلك ما يشا ... هذا أتى في محكم القرآن إِبليسُ مَعْ جُنْدٍ لَهُ تُعْدِمْهُمو ... نار الإِلهِ كمثل سيء فاني أوْ يُنْشِئُ الله المعَذَّبَ نَشْأةً ... يَرْحَمْهُ فيها ربنا الرحمن بعد الخلود مؤبَّدٌ مَعْ شِدَّةٍ ... فوق التصوُّر في الجحيم الآني هذا هو المأثور عن أسْلافنا ... وهُم الهداةُ مَعَالم الإيمان والنارُ يَطْفَؤُ حرّها ولَهيبها ... قوْل الصحابة ليس بالبهتان قالوه والكفار تعلم قولهم ... من غير إِسْرارٍ ولا كتمان عرفوا الإله بأنه مُتَفَضِّلٌ ... والفضلُ لا كالعدْل في الميزان بَلْ نَزَّهوا الرحمن جلّ جلاله ... عما يشوُب كمالَه الرّباني عرفوا عذاب النار صار لحِكْمةٍ ... لِيزُول طاري الشرك والكفران عرفوا مقادير الإِله لحِكْمةٍ ... مِنْ خَلْقِهِ لِلْكُفْرِ والعصيان تعليل أفعال الإِله بِشَرْعِنا ... علْمٌ شريفٌ شامخ البنيان يا مَنْ وصَفْتَ الله وصْفاً مُوحِشاً ... أنَّ الرحيمَ كمثل ذي العدوان أنَّ الرحيمَ مراده من خَلْقِهِ ... إِنفاذُ سُخْطٍ دائم الأزمان والنار تبقى مَعْ بقاء إِلهنا ... لا تستطيع الحكم بالفرقان لم تَقْدِرِ الله الجليلِ بِقَدْرهِ ... كلاّ ولا وُفّقْتَ لِلعرْفان إِثباتُ حكمة ربنا مُتَعَذّرٌ ... يا مَنْ زعمتَ إِدامة النيران إِثباتُ رحمة ربنا مُتَعَذَّرٌ ... لا تستطيع الحكمَ بالبرهان ما صَحَّ عن صَحْبِ النبيِّ مُقَابَلٌ ... في قَوْلِ (قُلْتُ) ولي مقالٌ ثاني

ما هكذا السلف التُقاةُ فِعالُهُم ... حَذِرُوا الخلافَ مخافة الخذلان بالإتباع يكون حَمدُ عواقِبٍ ... إن المخالِفَ جاء بالخسران عجباً لقومٍ يَدّعون ضلالنا ... من أجل حَقٍّ جاء بالقرآن وهو اعتقاد صحابةٍ في علمهمْ ... كل الهدى والفضلُ للرحمن لا ينظرون كلامنا ويرونَنَا ** جئنا بأمرٍ ظاهر البهتان ولأنهم لا يعرفون لربهم ... حِكَمٌ بخلق النار والشيطان فَتَهَوَّكوا في وصفِ من أفعالهُ ... حِكَمٌ تُفيد حقائق العرفان والموعد الديان جلّ جلالهُ ... بالحق يحكمُ ليس بالبطلان والحمد لله الذي يهدي إلى ... سُبُل الهدى ويجود بالإحسان قل للذي زعم الوعيد تَشَدُّداً ... وإخافةً من غير ما برهان إن الخوارجَ هكذا تَشديدهم ... ضاقت صُدُورُهُمُ بذي العصيان الله حَذَّر بالمعاصي نارهُ ... لكن وعيدٌ جاء مع فرقان قطعوا بتخليدِ العصاة جهالةً ... وضلالةً فأتوا بذا الطغيان إن الوعيدَ لهُ ضوابِطُ فَهْمُهَا ... يُنجيكَ من زُورٍ ومن بهتان وكذا الذي وصف الرحيم بأنه ... خلق العبادَ لِدائِم النيران أضعافُ أضعافِ الذي قد عُمِّروا ... في هذه الدنيا من الأزمان بل كل ثانيةٍ مَضَتْ من عُمْرِهمْ ... فجزاؤهم عنها بلا حُسبان آلافُ آلافِ السنين وكلما ... تمضي أُلُوفٌ جاء ألفٌ ثاني لو أنَّ طَيراً ينقل الرمل الذي ... في أرضنا في دائم الأحيان في كل ألفٍ من سنين زماننا ... ضُرِبَتْ بألفٍ كامل الإتقان يأتي فيأخذُ حَبَّةً من رَمْلها ... فَنِيَتْ رِمال السهل والقيعان

والنار باقيةٌ يُعذَّبُ أهلها ... بِئسَ اعتقادً جاء بالبهتان لا عِلَّةٌ في ذاكَ غير مَشيئةٍ ... نفذت وليس لذاك من برهان هذا هو المعنى المرادُ بقولهم ... الزاعمونَ إدَامَة النيران وكذلك الأتباع دون بصيرةٍ ... قالوا بجهلٍ دونما إمعان هذا اعتقاد الزاعمين بقاءَها ... فتَرى نقيض العقل والقرآن كيف استوى عدل الإله وفضلهُ ... لا والرحيمِ فما هُما سِيّان يا بئسَ وصفٌ للرحيم أتوا بهِ ... يا بئسَ تنفيرٌ من الرحمن ما رحمةٌ هي تستوي مع سُخطِهِ ... سبحان ربي مُنزل الفرقان يا رحمةً غَلَبَت مساخط ربنا ... مكتوبة هي عند ذي الإحسان القائلون دَوام نار إلهنا ... هُم قد أساءُوا فهمهما بمعاني وبغيرها ساءَت فهوم مُنازِعٍ ... ظنّ الصحابة ناقصي العرفان وأَئمةٌ من بعدهم قد حققوا ... أقوالهم في غاية الإتقان هذا الذي قد قُلتهُ هو مُودَعٌ ... في كُتبِ (قَيِّمنا) مع (الحَرّاني) أخذوه من كَلِمِ الإله وخاتَمٍ ... للرُّسلِ جاء به من الديان شرحوه شرحاً وافياً ومُبَيَّناً ... في غاية الإتقان والتبيان فجزى الإله هُداتنا خير الجزا ... زُلفى لَدَيهِ ومَبلَغ الرضوان فبِحادي الأرواح انظر قولهم ... وصَوَاعِقٍ فيها الهدى الرباني وشِفا العليل به الشفاءُ لحائرٍ ... يحتارُ في أقدار ذي الإحسان يحتارُ في التعليلِ والحِكم التي ... من أجلها التعذيب بالنيران ويحارُ أيضاً في وجود عدوّنا ... إبليس داعي الكفر والطغيان والشيخُ قد ظهرتْ له مخطوطةٌ ... قد أزهَقَتْ ما كان من بطلان

ذكَرَ الفناءَ وأنه بأدلةٍ ... لا بالتخرصِ دونما عرفان وكتابنا (الإنكارُ) جاء مُفَصِّلٌ ... ومَبَيِّنٌ في غاية التِّبيان قُل للذين رأوا كلام خصومنا ... جعلوه مثل صحائف القرآن لا باطِلٌ يأتيه عند شمالِهِ ... كلا ولا يأتيهِ من أيمان وكلامنا حكموا عليه مُغَيَّباً ... وكأنَّهُ ضَربٌ من الهَذيان أنصفتُمو لا والجليلِ وعِزِّهِ ... بل جَورُكُم هوَ ظاهرٌ بعَيَان لا بدَّ من نَظرٍ لقولِ مُنازعٍ ... ومُنازعوهُ لِطالب البرهان إن جاءَ خَصمٌ عينهُ مفقُوءةٌ ... قُلتُم ظُلِمتَ وحُكمنا رَباني إذ قد حَكَمنا أن خَصمَكَ مُعتَدٍ ... مُتَلَبِّسٌ بالإثم والعُدوان بالجهلِ قلتم لا بعدل إلهنا ... فلعلَّ ذاكَ هو الظلوم الجاني هذي الجهالة حظكم ونصيبكم ... والعدلُ مُقترِنٌ مع الإيمان فالله جل جلاله هو حاكمٌ ... بين العباد وجلَّ عن نِسيان قل للذي ركِبَ الذنوب بجُرأة ... قَرِّب لِجسمِكَ موقد النيران أنظر أَتَصبِرُ طَرفَةً أو لحظةً ... لا تستطيع وليس في الإمكان سبعون ضِعفاً حرُّ نار إلهنا ... عن هذه والصَّليُ في اللُّحْمان الشمسُ تُؤلِمُ في حرارة صيفنا ... كيف الجحيم نعوذ بالرحمن كيف الخلود بها زماناً غَيبُهُ ... عند الإلهِ نعوذ بالمنان لو قيل إنك بعد عُمرٍ طائلٍ ... تسعون عاماً دُونما نقصان تُلقى بنارٍ ساعةً من نارنا ... أَيَكونُ عَيشكَ قبل ذلك هاني اعمل إذاً ما شِئتَ دون تَخَوُّفٍ ... إن كنتَ تَصبِرُ في الجحيم الآني عِش آمناً إن كان عندك مَوثِقاً ... ممن عَصَيتَ مُؤيداً بأمان

خاف الملائكةُ الكرامُ وما عَصَوا ... كيف المفرِّط من بني الإنسان صلى الإله على النبي محمدٍ ... فهو المعلِّم حكمة الديان (¬1) ¬

(¬1) للمؤلف كتاب مطبوع في هذا الموضوع فيه بيان كل شبهة في المسألة واسم الكتاب: (الإنكار على من لم يعتقد خلود وتأبيد الكفار في النار).

شكل رقم (1)

شكل رقم (2)

شكل رقم (3)

زيادة بيان وإيضاح برهان

زيادة بيان وإيضاح برهان لقد تحوّلت أحوال الأمة بتأثير الدخيل الداخل عليها فلبست غير ثيابها وتحلّت بغير حلاها، سنناً لا بد من ركوبها بالرغم من مجافاتها للصراط المستقيم ونكوبها، حيث بهذا سبقت مقادير القدير وأحاط بها علم العليم الخبير. إنطمست المعالم والآثار غير أن بقية من الأسماء باقية على حالها لكنها قلقة لأن مسميّاتها متغيرة مع ما تغيّر. والمراد هنا كلام الله العظيم والذكر الحكيم الذي تطاوَلتْ الأيدي إلى مقامه الرفيع بتفسيره على غير ما أراد المتكلم به سبحانه وإنما بما يُجاري الأهواء الضالة المضلة. وقد سبق أهل وقتنا من مَهَدَ لهم الطريق، فالخوارج أول من تجرأ على القرآن بفهمهم له فهماً سقيماً يؤيد بزعمهم ما انتحلوه. ثم جاءت القدرية والجبرية والجهمية وغيرهم من طوائف الضلال، وكل هؤلاء يسْتدلون على صحة مذاهبهم بالقرآن. وهم من تناقضهم فيما بينهم وبين بعضهم وفيما بينهم وبين أهل السنة والجماعة إلا أن يجمعهم جامع وهو الاستقلال بعقول ناقصة وفهوم

سقيمة وكان من ثمار ذلك ونتائجه أن حَرّفوا كلام الله على ما يريدون لا على ما يريد الله من كلامه، ومن هنا جاء الاختلاف الكثير وتشعّبت فرق الأمة. ثم جاء زماننا وسلك كثير من أهله هذه الطريق، مع دعوى المعرفة والتحقيق، ففهموا من كلام الجليل سبحانه فهماً يتناسب مع عقولهم وزمانهم، وهذا هو موضوع هذا الكتاب. وقد تقدم ذكر الأمثلة من القرآن والكلام عليها والأمثلة أيضاً من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم التي صُرفت معانيها التي أراد الله ورسوله لِتُجاري الأهواء والضلالات الحادثة وهنا أذكر بعض الضوابط للكلام في معاني القرآن والحديث وهل ذلك مطلق لمختلف الفهوم أم أنه مقيّد بفهم الصحابة رضي الله عنهم؟ حيث أنهم تلقّوْا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، إن هذا هو مفترق الطرق وأول من ضل فيه الخوارج حيث احتقروا الصحابة استقلالاً بعقولهم واسْتعلاءاً بفهومهم وقدْ جَنوْا ثمار ذلك ولِوَرثتهم نصيب بقدر ما ورثوا منهم وليس بورثتهم من يرى رأيهم فقط فهذا معلوم ومُنتهى منه وإنما المراد وَرَثتهم بالفهم الفاسد للقرآن كأهل الإعجاز المزعوم. إن أعظم الضوابط لتفسير كلام الله معرفة أن النبي صلى الله عليه وسلم بَيّن معاني القرآن كما بَيّن ألفاظه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فصل: يجب أن يُعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بَيّن لأصحابه معاني القرآن كما بيّن لهم ألفاظه، فقوله تعالى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) يتناول هذا وهذا. وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين يُقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل. قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً. ثم قال ابن تيمية بعد ذلك: ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة، وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جَلّ في أعيننا، وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عِدّة سنين، قيل: ثمان سنين، ذكره مالك (¬1). إذا عُلم ما تقدم تبيّن منه أن تفسير القرآن لم يترك للآراء واختلافها والأهواء وضلالها وأنه مُنتهىً منه كما انه مُنتهىً من بيان ألفاظه. إن كثيراً من المتأخرين تفلّتوا من القيود في هذا الأمر الخطير يقول بعضهم عن القرآن: أنه متجدّد بمعانيه وروحه في كل عصر، وحتى أنه ¬

(¬1) مجموعة الفتاوى 13/ 331.

تهجّم تهجماً عنيفاً على من لا يقبل من تفسير القرآن إلا ما مضى عليه السلف. وليس مع هذا الكتاب الجاهل المتمعلم حجة يدلي بها اللهم إلا السّب والشتم وتجهيل من يخالف فتنته التي فتن بها هو وأمثاله، وقد تعجبت من جرأته على كلام الله ولا دليل إلا رأيه الساقط وجزْمه الفارط، لكن ليُعلم أن من الجزم جزم علم وجزم هوى، وبلا شك أن جزمه جزم هوى وجهل وضلال. فتأمل الآن ما يقول تحت عنوان: (الغزو الفكري من المخاطر غزونا لأنفسنا). قال: قد يستغرب القارئ بعض ما أورده تباعاً والحقيقة أن هناك بعض الفئات التي يفوق ضررها على الأمة ضرر الأعداء من حيث لا يقصدون بل من دوافع الدونية والأنا والجهل والجاهلية يتصرفون. هل تتوقع عزيزي القارئ بأن هناك من يعارض أي جديد لأجل خدمة الإسلام والدفاع عنه؟!. وهل تعلم عزيزي القارئ أن هناك من لا يقبل أي تفسير للقرآن الكريم لا لأنه يرى أن ما لدى غيره أقل مما لديه أو أنه لا يتناسب مع مكانة القرآن وقدسيته لا بل لأن المفسرين الأوائل لم يقولوه سابقاً ولأنه لا يستطيع أن يأتي بجديد ولا بقديم وموقف مثل تلك الفئة المتعالمة يفيد

بأن حركة الإسلام وتحركه نحو البناء تتوقف حالما انتهت فترة أولئك الأجلاء العظماء من الصحابة والتابعين وأشباههم من اللاحقين الذين يتوجب عليهم أي اللاحقين أن يتمموا المسيرة الجليلة العظيمة التي بدأها السابقون ويكللوها بكل جديد مفيد لا أن نتوقف توقف العاجزين ونتكسب تكسب المتواكلين أو نتنطع تنطع الجاهلين الفارغين أمثال تلك الفئات من الأمة. إن محاولات تفسير القرآن الكريم بما يتناسب مع قدسيته وعظمته إن هو إلا عمل جليل لأن فيه زيادة بيان لعظمة القرآن وزيادة إيضاح لأحكامه وأسراره وإلا لما فسر المفسرون واكتفوا بما قاله الأولون بل إن المواكبة الفكرية العصرية لبيان إعجاز القرآن وكماله إن هو إلا عمل جديد ومطلب أكيد. وللأسف فإن تفسير من هذا القبيل يعده البعض خروجاً عن جادة الإسلام ويحسبه بمثابة عدم احترام لآراء المفسرين السابقين الكرام وتجاوز للحدود المسموح بها لنا نحن اللاحقين الأقزام لأن المفسرين الأوائل لم يفسروا القرآن كما نفسره نحن الآن فأين نحن من مقامهم واعتبارهم حتى نتجرأ على تفسير القرآن. ولعلم هذه الطبقة المتعالمة ظاهراً الجاهلة باطناً الكسولة الواهنة المكتسبة المتواكلة إن من أسرار وإعجاز القرآن أنه متجدد بمعانيه وروحه

في كل عصر وآن للقارئ الواحد كلما أعاد قراءته وتدبره فما بالك بأجيال أمة تليها أجيال وأجيال تقرأ القرآن لتنهل من معينه المتجدد. إن من إعجاز القرآن أنه متجدد بروحه ومعانيه تجدد الزمان وأهله مع بقائه محافظاً على معانيه السابقة التي تجلّت للأجيال السابقة بلا تعارض مع معانيه التي تتجلى للأجيال اللاحقة بل إنها تدعم بعضها بعضاً وتنسجم انسجام ألفاظه مع حروفه وترابط آياته مع نصوصه. إن أولئك وأمثالهم يريدون من الآخرين أن يتوقفوا عن إكمال مسيرة الأوائل العظماء من المسلمين لأن أفراد هذه الفئة فارغون لا يملكون ما يقدمونه للأمة إلا هذا الموقف السلبي المخزي الذي كله كسل وتوكل على الأمة وهم وأمثالهم معذورون لأن فاقد الشيء لا يعطيه إلا أنهم ملامون محتقرون عندما يعارضون أو يعترضون عطاء الآخرين لمجرد كونهم على العطاء غير قادرين. إن أحداً لا يستطيع تصور قول البعض إزاء تفسير جديد لآية من آيات القرآن الكريم لم يسبق إليه مفسر آخر من المفسرين السابقين إن قول البعض وللأسف لا يستند إلى دليل أو برهان من نفي أو إثبات بل إنه حجة الجاهلين المتواكلين فقولهم ينحصر بأن المفسر الفلاني لم يورد هذا التفسير الجديد في تفسيره العتيد، ثم ذكر كلاماً يتناسب مع جهله وضلاله ثم قال: ولا أظن أن تفسير القرآن الكريم تفسيراً صحيحاً سليماً

متفقاً مع أوامر الله عز وجل ونواهيه فيما يتعلق بتعاملنا مع القرآن الكريم يعد أمراً يتكلم برده أو رفضه أحداً من الخلق إلا من كان به عَتَه في مداركه وعقله لأن رده ورفضه لهذا التفسير أو ذاك لمجرد أنه لم يرد في تفاسير السابقين رغم خدمته الجليلة العظيمة للقرآن وأهله ودفاعه عنه ضد من يطعنون به ويتعرضون له بالأذى، ثم ذكر كلاماً يتناسب مع هذيانه ثم قال: إن تفسير القرآن تفسيراً ينسجم مع عظمته وقدسيته وحقيقته لا أظنه إلا عملاً جليلاً من أعمال أكابر العلماء وأجلهم طالما أنه تفسير لا يسيء إلى القرآن ولا يتعارض معه بل يساهم في بيان حكمته وعظمته وكماله وإعجازه وأنه كلام الله عز وجل العالم العليم الخالق العظيم رب السموات والأرضين سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى والصفات العليا. إن عملاً من هذا القبيل وأمثاله من أعمال الرجال العظام ندبت إليه الأمة كل الأمة من خلال قول الخالق الجامع: (وقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (¬1). ولم يقل جل وعلا: تواكلوا وعلى أكتاف الآخرين اتكئوا. بل أمرنا بالعمل كل العمل الذي فيه الخير والمنفعة والعلم والمصلحة والدعوة إلى دين الله عز وجل ونشره في الآفاق، وما أظن أن عملاً ¬

(¬1) التوبة، آية: 105.

أفضل من العمل الذي يخدم القرآن ويسهل فهمه وييسر تعليمه وبالتالي تعميمه ونشره على الخلق كلهم. ولا ريب أن من يقف مواقف سلبية حيال جهود من يقومون بتفسير القرآن العظيم وفقاً لأسس صحيحة سليمة إن هو إلا من أعداء الأمة الإسلامية من حيث لا يقصد ولا يتعمد وإن هو إلا عنصر سلبي يغزو الأمة غزواً داخلياً فيتسبب في إعاقة مسيرتها نحو الأمام ويجمد جهود المخلصين من أبنائها والعاملين على خدمة الإسلام ونشره والدعوة إليه من خلال جهودهم المباركة في تفسير القرآن العظيم تفسيراً صحيحاً يتفق مع مقاصده ومعانيه قلباً وقالباً وكما أراد الخالق جل وعلا منه وابتغى. انتهى. يقال لهذا وأمثاله: إن تفسير القرآن على غير تفسير النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والسلف الذين ساروا على مناهجهم في ذلك تغيير لمعانيه التي أرادها من تكلم به سبحانه، فهل يجوز هذا وهل يكون دين الأمة محفوظاً ومستقيماً بهذه الصورة، وبماذا نحتج على الخوارج بتفسيرهم للقرآن وكذلك الرافضة والقدرية والجبرية وغيرهم من الفرق التي لا يوجد منها فرقة إلا وتحتج بالقرآن.

وأقلّ القليل من الفِرق والطوائف الضالّة من تحتج بألفاظ وحروف محرّفة من القرآن وإنما يحتجون بما فهموه من معانٍ لم يُردْها من تكلم به سبحانه وما فسّره بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا من سار على نهجهم. إن أيّ شخص لوْ تكلم بكلام ثم فُهِمَ من كلامه غير مراده لصار هذا بمثابة تغيير كلامه، وهل المراد من الألفاظ إلا المعاني؟. كيف بكلام الجليل سبحانه؟ أيجوز أن يأتي كل جيل فيفسرونه على مقتضى أحوالهم وأمورهم وما أحدثوه؟. إن هذا تبديل وتغيير خطير، فلا بد إذاً من ضابط لتفسير كلام الله وقد تقدم ويأتي إن شاء الله زيادة بيان. قال شيخ الإسلام بعد الكلام المتقدم الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن للصحابة تفسير القرآن قال: وذلك أن الله تعالى قال: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) وقال: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) وقال: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ). وتدبّر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن، وكذلك قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وعقل الكلام متضمن لفهمه، ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرّد ألفاظه، فالقرآن أوْلى بذلك.

وقال رحمه الله: ولهذا كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلاً جداً، وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة فهو قليل بالنسبة إلى من بعدهم. وكلما كان العصر أشرف كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر. ومن التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابة كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس أوقفه عن كل آية منه وأسأله عنها، ولهذا قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسْبك به. ولهذا يعتمد على تفسير الشافعي والبخاري وغيرهما من أهل العلم، وكذلك الإمام أحمد وغيره ممن صَنّف في التفسير يكرر الطرق عن مجاهد أكثر من غيره. والمقصود أن التابعين تلقوا التفسير عن الصحابة كما تلقوا عنهم علم السنة، وإنْ كانوا قدْ يتكلمون في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال. انتهى (¬1). وقد تبين أن النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليل جداً وأنه قليل في التابعين بالنسبة لمن بعدهم ونحن أُمِرْنا بإتباع نبينا والصحابة ونُهينا عن ¬

(¬1) مجموعة الفتاوى 13/ 332.

الإحداث وأعظمه الإحداث في كلام الله وكلام رسوله بمعانٍ لم يفهمها ولم يتكلم بها النبي ولا الصحابة ولا التابعون. أما بعض الاستنباط والاستدلال الذي لا يُغير معاني القرآن وقد استنبطه واسْتدل به التابعون الذين تلقوا التفسير عن الصحابة فشيء آخر غير ما سلكه المتأخرون. فمنهج التابعين في ذلك أن المعنى الذي تلقوه عن الصحابة لا يتغير بخلاف أهل الوقت الذين قَلّ أن يعتمدوا في تفسير الآيات من القرآن على الصحابة أو التابعين بل يذكر احدهم الآية وليس يتحرّى المعنى الذي أراده الله منها بالنظر فيما تكلم به الصحابة والتابعون بل يجري مع فكره وفهمه وهواه وكأن المعنى عنده متقدم على اللفظ فمراده تقرير المعنى الذي يريد هو فيلتمس له الآية أو الحديث وهذا ضلال وقد رأيت من ذلك عجائباً. وانظر كلام الشيخ عن الشافعي والبخاري وأحمد وغيرهم من العلماء كيف يعتمدون تفسير مجاهد للوصول إلى تفسير الصحابة وللوصول إلى تفسير النبي صلى الله عليه وسلم أو الاعتماد على فهم الصحابة، فالحذر من هذه التفاسير الحادثة للآيات المخالفة للسلف، وكذلك شروح الأحاديث المخالفة فإن هذا ضلال مبين.

إن هؤلاء الأئمة الكبار إمامهم الصديق رضي الله عنه الذي يقول: أيّ أرض تقلني وأيّ سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم. والفاروق رضي الله عنه قال عنه أنس: كنا عند عمر بن الخطاب وفي ظهر قميصه أربع رقاع فقرأ: (وفاكهة وأباً) فقال: ما الأب؟ ثم قال: إن هذا لهو التكلف فما عليك أن لا تدريه. فلينظر من تجرأ على كلام الله بتأويله على غير مراد مَنْ تكلم به من هو إمامه؟. لقد كان السلف يعظمون القول بالقرآن بغير علم، قال ابن جرير: حدثني أحمد بن عبدة الضبي، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا عبيد الله بن عمر قال: لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليُعظمون القول في التفسير، منهم سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وسعيد بن المسيب ونافع. وقال أيوب وابن عون وهشام الدستوائي عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة السلماني عن آية من القرآن فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيما أنزل من القرآن فاتق وعليك بالسداد. وقال أبو عبيد حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم قال: كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه. وقال شعبة عن عبد الله بن أبي السفر قال: قال الشعبي: والله ما من آية إلا وقد سألت عنها ولكنها الرواية عن الله.

وقال أبو عبيد حدثنا هشيم أنبأنا عمر بن أبي زائدة عن الشعبي عن مسروق قال: اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله. تأمل قولهم: (الرواية عن الله) وأن المفسر يقول: يُريد الله بكلامه كذا وكذا، فما حجته إذا كذب على الله وأضل عباده عن مراده؟ نعم الفارق بيننا وبين السلف ترحّل الخوف من القلوب، ولذلك حصلت الجرأة عن كلام علاّم الغيوب. إن الوعيد على من قال بالقرآن برأيه شديد وهو معلوم، فقد أخرج الترمذي من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار). قال بعض المتأخرين تحت عنوان: (معجزة القرآن وكيف تختلف) قال: ولكن الذي يجب أن نعرف أن للقرآن عطاء لكل جيل يختلف عن عطائه للجيل السابق (¬1). إن هذا كلام خطير جداً ولذلك صار كل جاهل متعالم يفسر القرآن على مقتضى أنه يعطى لكل جيل عطاء يختلف عن عطائه للجيل السابق، إنه التلاعب بكتاب الله وعدم هيْبته وترحّل الخوف من القلوب. ¬

(¬1) كتاب محمد متولي الشعراوي الذي سماه: (من فيض الرحمن في معجزة القرآن) ص31.

وقد انفتح باب الدعوى الطويلة العريضة التي يوضح معناها هذا البيت: وإني وإن كنتُ الأخير زمانه ... لآتٍ بما لم تسْتطعه الأوائلُ كل هذا ناشئ عن الاستقلال بعقول قاصرة وفهوم ناقصة وناشئ أيضا ًعن احتقار للسلف وإعجاب بالنفس حجابه كثيف. إن من ينظر في تفاسير السلف للقرآن مثل ابن جرير والبغوي والقرطبي وابن كثير رحمهم الله وغيرهم من عامة من فسّر القرآن من السلف وهو من الأئمة يرى تفاسير الصحابة والتابعين منقولة لبيان معاني القرآن، فلماذا لم يقولوا: إن القرآن متجدّد بمعانيه وروحه في كل عصر وأن له عطاء لكل جيل يختلف عن عطائه للجيل السابق، أهؤلاء أهدى من السلف؟ أم أنهم يفتحون باب ضلالة؟. ويقول أيضاً صاحب الكتاب السابق: إن هناك آيات من القرآن تعطينا الآن عمقاً جديداً في معناها: ذلك العمق لم يكن أحد يصل إليه بالفهم الدقيق في أول وقت نزول القرآن. هذا الكلام فيه تفضيل لعقول المتأخرين وفهومهم العميقة الدقيقة على من نزل القرآن في وقتهم، ومعلوم أنهم النبي والصحابة فانظر ما يقع به هؤلاء الجهلة المتعالمون.

بُعداً وسحقاً لمن ظن أنه فهم من القرآن ما لم يكن أحد يصل إليه من القرون المفضلة أو يظن أنه يُساويهم في فهم القرآن وهل يعتقد مسلم أن الله يخاطب جيلاً بما يختلف عن خطابه للجيل السابق وأنه يأمرهم وينهاهم ويقصّ عليهم ما يختلف عن غيرهم كل حسب جيله وزمانه؟ أيّ فهم هذا؟ هذا تغيير للقرآن مع بقاء حروفه. قال ابن تيمية رحمه الله: لكن المقصود أن يُعرف أن الصحابة خير القرون وأفضل الخلق بعد الأنبياء، فما ظهر فيمن بعدهم مما يُظنُّ أنه فضيلة للمتأخرين ولم تكن فيهم فإنها من الشيطان وهي نقيصة لا فضيلة سواء كانت من جنس العلوم أوْ من جنس العبادات أو من جنس الخوارق والآيات أو من جنس السياسة والملك، بل خير الناس بعدهم أتْبَعهم لهم (¬1). مَنْ شك في كلام الشيخ هذا فليراجع تعلم دينه، وإن هذا والله في كل شيء من أمور الدنيا والآخرة ولكن المغرور مغرور لا حيلة فيه، إن خير القرون لا يختار الله لهم إلا خير الأمور في كل شيء. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني) الحديث، وقال: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه). ¬

(¬1) مجموعة الفتاوى 27/ 390.

وقال ابن تيمية: ونحن نعلم أن القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم وأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن خالف قولهم وفسّر القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعاً، ومعلوم أن كل من خالف قولهم له شبهة يذكرها إما عقلية وإما سمعية (¬1). انتهى. وقد تقدم نماذج من التفسير الذي كثر في وقتنا وهو بخلاف تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم، والتفاسير الحادثة المخالفة لها أسباب وهو ما أحْدثه الناس بعد القرون المفضلة في العلم والعمل وغيره. قال ابن تيمية: والمقصود هنا التنبيه على مثار الاختلاف في التفسير وأن من أعظم أسبابه البدع الباطلة التي دَعَتْ أهلها إلى أن حَرّفوا الكلم عن مواضعه، وفسّروا كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بغير ما أُريد به وتأولوه على غير تأويله، فمن أصول العلم بذلك أن يعلم الإنسان القول الذي خالفوه وأنه الحق وأن يعرف أن تفسير السلف يخالف تفسيرهم، وأن يعرف أن تفسيرهم محدث مبتدع ثم أن يعرف بالطرق المفصلة فساد تفسيرهم بما نصبه الله من الأدلة على بيان الحق. ¬

(¬1) مجموعة الفتاوى 13/ 362.

وكذلك وقع من الذين صنفوا في شرح الحديث وتفسيره من المتأخرين من جنس ما وقع فيما صنفوه من شرح القرآن وتفسيره (¬1). وعلى مقتضى هذه القاعدة سوف يكون الكلام على بعض النصوص المفسرة في وقتنا بغير معناها مثل قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً). (الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ) ونحو هذه الآيات يجعلون المراد بذلك إحسان الأعمال الدنيوية وصلاحها بتأديتها بجد واجتهاد مهما كانت هذه الأعمال، وقد انتشر هذا في كتب أهل الأمصار ومناهج الدراسات وغيرها وهو تفسير بمعنى فاسد، إذ المراد بالأعمال الأعمال الدينية يوضح ذلك قول الفضيل رحمه الله لما سئل عن قوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) قال: أخلصه وأصْوبه، والخالص ما كان لله والصواب ما كان على السنة. انتهى. وقد بيّنت ولله الحمد في هذا الكتاب ما يكفي مريد الحق غير أن هذا والذي بعده زيادة بيان. ¬

(¬1) مجموعة الفتاوى 13/ 362.

العلم التجريبي

العلم التجريبي ذكرت سابقاً في نسخة (الكون وآياته والمسخ ومقدماته) كلاماً عن ما يسمى العلوم التجريبية وأن نسبتها إلى المسلمين كشيء يعتزون به ويفتخرون أو أنها مما يدعو إليه دينهم هو باطل أصله ونحو هذا الكلام فوجه إليّ البعض هذا السؤال الذي سأذكره وأجبته بهذا الجواب التالي مع بعض التصرف. السؤال: ذكرت أنه من الخطأ أن تنسب العلوم التجريبية إلى المسلمين فما هي مصادر هذا النفي؟ ثم أليس من العز والافتخار أن يبدأ بها المسلمون قبل عدوهم. الجواب: الحمد لله رب العالمين ... هذه مسالة كبيرة ومهمة للغاية لأنه بسببها حصل لبس واشتباه بين الحق والباطل أثمر نتائج سيئة عواقبها وخيمة، فالمتأخرين عندما ينسبون العلوم التجريبية إلى علماء المسلمين يرون أنهم بذلك يميطون عن الإسلام ما يشينه ويحلّونه بما يزينه وهم لا للإسلام نصروا ولا للأعداء كسروا بل فتحوا بهذه الشبهة باباً من ولجه عزّت سلامته وعظمت حسرته وندامته.

وكنت أتوقع رد فعل قد يكون عنيفاً من كثيرين لأجل ما ذكرته كالإشارة إلى هذه المسألة التي تحتاج إلى بسط أكثر وعناية أكبر لتواطء الجميع على قبولها واستحسانها حتى كأن من يذكرها في تأليفه أو يشير إليها في تصانيفه قد جاء بالدرة المفقودة والضالة المنشودة، والصحيح أنه جاء بشبهة بطلانها ظاهر يعرف ذلك أهل البصائر. وإنما صار لها القبول في القلوب لأن الرغبات تستر العيوب، والشيطان قلّما يكيد الإنسان بشبهة إلا ويستر عيبها بشهوة فتكون الشهوة كالرشوة يعمي بها البصير عن النظر في عواقب الأمور. والمعنى أنه قد افتضح الجميع بمحبة الدنيا وإيثارها فأظلمت القلوب مع كثرة الذنوب فقبلت شبهات الباطل وصارت يُجادل عنها ويُناضل، وصار من يبين بطلان هذه الأمور عند هذا الصنف من الناس عريّا من العلم والتحقيق قاصداً للشدة والتضييق ولولا محبة الدنيا وإيثارها لانجلت عن القلوب ظلمتها ورأت الأشياء على جليتها. فنسبة هذه العلوم التجريبية إلى علماء المسلمين مسبة لهم وحطاً من أقدارهم بل وقلباً للحقائق لأنها ليست من علومهم، وحاشا أن تكون كهذا نتائج أفكارهم وفهومهم، وهم أجل وأرفع قدراً مما وصفهم بل وصمهم به المتأخرون، فالقوم في واد وهؤلاء وعلومهم التجريبية في واد، فهم كانوا عن مثل هذا في شغل شاغل وليسوا كأهل هذا الزمان يحسبون

كل بيضاء شحمة وكل سوداء تمرة، وهو أقل وأحقر أن يلتفتوا إليه، ولو دعاهم إليه داعٍ لم يعوّلوا عليه، لأنهم عرفوا ما من أجله خُلِقوا، وهو ما دعاهم إليه نبيهم الناصح الشفيق الذي أراد لهم السعادة العاجلة والآجلة، فلو عُرض عليهم هذا الذي يُمدحون به ويُنسب إليهم لأنكروه، ولَذموا قائل ذلك ولم يشكروه، وإن سِيَرهم لتهتك أستار هذه الشبهة الضالة الملصقة بهم بأدنى نظر، لكن المنقاد لِغَيّه وهواه ليس عنده مما نقول خبر، فلقد عميت البصائر وحارت الفكر. لقد كانت والله هِممهم عليّة، ونفوسهم طيبة زكية، عرفوا الدنيا وقدرها بتعريف ربهم ونبيهم فتجافوا عنها وعبروها ولم يعمروها، رأوا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم فالتَمسوا نعيماً لا موت فيه وقد ربحت تجارتهم. هم الرجال وغبن أن يقال لِمَنْ ... لم يتّصف بمعالي وصْفهم رجلُ رُفع لهم علم الجنة فشمروا إليه وكثير من المتأخرين وضع لهم علم الشهادة بِنَيْل الدنيا والرئاسة فيمموا إليه. ولو تبصّر أحدهم ورأى الأخطار في طريقه لبادر إليه الشيطان من الإنس والجان يقول له: أنت تنفع غيرك وتنصح وتفيد وإذا تخليت أنت وأمثالك من ينصح الأمة ويكشف الغمة، وهذا فَخّ كم لإبليس فيه من

صريع وقتيل والصادق ليس يلابس أهل الباطل ويسير معهم أين ما ساروا بحجة أنه ينصح وينفع، ألا نصح ونفع نفسه أولا والحق فيما قيل: مواعظ الواعظ لن تقبلا ... حتى يعيها قلبُه أولا وكما يقال أيضاً: يا أيها الرجل المعلم غيره، وهذه أبيات معروفة مشهورة فالمقصود أن الداعية إلى الحق ليس يخالط المبطلين ويشرك معهم في باطلهم ثم يعتذر بهذه الحجة الداحضة بل هو يكون في هذا الفعل قدوة سيئة يغتر به الناس، ومن أراد الدعوة والنصح تمكن من ذلك، وعلى هذا كان الأنبياء وورثتهم على الحقيقية لا التسمي، والدين ليس بالرأي وأتباع الهوى والمقصود أن العلم في عرف أهل هذا الزمان يشبه طريقة الفلاسفة حيث يجعلون كمال النفس في مجرد العلم، ومجرد العلم ليس بكمال للنفس ما لم تكن مريدة محبة لمن لا سعادة لها إلا بإرادته ومحبته وهو إلهها الحق. قال ابن القيم رحمه الله في وصف طريق أهل العلم والإيمان: أهل العلم والإيمان الذين عقلوا عن الله أمره ودينه وعرفوا مراده بما أمرهم ونهاهم عنه وهو أن نفس معرفة الله ومحبته وطاعته والتقرب إليه وابتغاء الوسيلة إليه أمر مقصود لذاته وأن الله سبحانه وتعالى يستحقه لذاته وهو سبحانه المحبوب لذاته الذي لا تصلح العبادة والمحبة والذل والخضوع والتألّه إلا له فهو يستحق ذلك لأنه أهل أن يُعبد ولو لم يخلق جنة ولا ناراً

ولو لم يضع ثواباً ولا عقاباً كما جاء في بعض الآثار (لو لم أخلق جنة ولا ناراً أما كنت أهلاً أن أعبد) فهو سبحانه يستحق غاية الحب والطاعة والثناء والمجد والتعظيم لِذاته ولما له من أوصاف الكمال ونعوت الجلال، وحبه والرضى به وعنه والذل له والخضوع والتعبد هو غاية سعادة النفس وكمالها، والنفس إذا فقدت ذلك كانت بمنزلة الجسد الذي فقد روحه وحياته، والعين التي فقدت ضوءها ونورها بل أسوأ حالاً من ذلك من وجهين: أحدهما أن غاية الجسد إذا فقد روحه أن يصير معطلاً ميتاً وكذلك العين تصير معطلة، وأما النفس إذا فقدت كمالها المذكور فإنها تبقى مُعَذّبة متألمة وكلما اشتد حجابها اشتد عذابها وألمها. انتهى. وكلام ابن القيم هذا كلام رفيع من تدبره وتأمله وهو صادق في سلوكه انفتح له من أبواب المعارف والعلوم الشريفة شيء عظيم وبالله التوفيق. فمصادر نفي العلوم التجريبية لعلماء المسلمين هي أحوالهم وما كانوا عليه من التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله وفي سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم وأحواله ووصاياه مما هو معروف الكفاية للجواب عن ذلك كذلك الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين وعلماء المسلمين وأئمتهم.

وإن مما يلفت النظر وفيه عبرة لمن اعتبر أن بعض أذكياء الغربيين يصف الحال التي أوصلتهم إليها علومهم التجريبية بوصف يزيد المؤمن إيماناً ومعرفة بقدر العلم الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم حيث يقول: إن الوسط الذي أنشأته العلوم الطبيعية وعلم الصناعات للإنسان لا يناسب الإنسان لأنه مُرتجَل لم يقم على تصميم وتفكير سابق ولم يراعي فيه الإنسجام مع شخصية الإنسان. إن هذا الوسط الذي هو وليد ذكائنا واختراعاتنا لا يُطابق قاماتنا ولا أشكالنا نحن غير مسرورين نحن في انحطاط في الأخلاق وفي العقول، إن الأمم التي ازدهرت فيها الحضارة الصناعية وبلغت أوجْها أضعف مما كانت وهي تسير سيراً حثيثاً إلى الهمجية ولكنها لا تدرك ذلك. انتهى. وغير هذا الكلام كثير يقوله أذكياؤهم وعقلاؤهم لكن وُجد في صفوف المسلمين من يعزو هذه النتائج السيئة التي أثمرتها للغربيين علومهم ومخترعاتهم إلى ضعف الدين عندهم بمعنى أنها تناسب المسلمين إذْ لا يزال دينهم ظاهراً فيستعينون بها لتقويته، ومن هنا جاء البلاء لأننا في زمان يتكلم فيه بالدين من لا يعرفه، وهم الذين ورد ذكرهم في الحديث بأنهم يقيسون الأمور بآرائهم وأي شيء يَبْهر المسلم من هؤلاء الذين هم أضل من الأنعام، ومثالاً واحد نسوقه للعلم الذي ترك لنا نبينا صلى الله عليه وسلم وهو الإشارة إلى معراجه صلى الله عليه وسلم وكيف فُتحت له أبواب السموات السبع التي لا يعرفها

ولا يعترف بها لا غربيون ولا من حذا حذوهم في العلوم الكونية كما هو ظاهر من ضلالهم في نظرية دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس وما يلتزمه من الباطل والكفر العظيم وهو إنكار الخالق سبحانه وتعالى وعرشه وسمواته وملائكته كما تقدم بيان ذلك فعلى صلى الله عليه وسلم فوقها ورأى من آيات ربه الكبرى ما رأى في ليلة واحدة وما في ذلك من الحقائق العلمية العظيمة عن السموات والملائكة وعن الجنة والنار وعن الرب سبحانه وبحمده وعلوه وعظمته وغير ذلك من العلوم الشريفة التي هي غذاء قلوب أهل الإيمان ما لو أفنى الغربيون أعمارهم ما أتوا بشيء من هذا صحيح على وجهه لأنهم لا يستمدون علومهم من مشكاة نبوة وإنما هو الخرص والظن ووحي شياطينهم وهاهم بعد السنين الطويلة والأعمال الشاقة المتعبة يفسدون عقائد المسلمين ويضلونهم عن معرفة ربهم بعلومهم الزائفة، ولو صدق الإنسان وصحت نيته ولم يطلب بعلمه عرض الدنيا لرأى العجائب وعلم يقيناً أن علم الغربيين ومخترعاتهم سبب للإسلام أعظم المصائب، لأن من طلب عرض الدنيا بالعلم النافع دخل في الوعيد فهو لا يجد رائحة الجنة (¬1) ومع أول من تسعر بهم النار (¬2) فكيف إذاً بمن خاض في الضلالات وصدّق بالباطل والمحالات ولا عذر له إلا إيثار الدنيا والرئاسات. ¬

(¬1) كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود (3/ 323) وابن ماجه (1/ 92) عن أبي هريرة مرفوعاً .. (¬2) كما في الحديث الذي أخرجه مسلم (3/ 1513) عن أبي هريرة مرفوعاً.

أما أن يقال: أليس من العز والافتخار أن يبدأ بها المسلمون قبل عدوهم فمما تقدم يُفهم أنه لا عز فيها ولا افتخار بل فيها الذلة والصغار وإنما العز كله باتباع نبينا صلى الله عليه وسلم وفيه السعادة والحياة الطيبة وقد نهانا عنهم وعن علومهم ومخترعاتهم، وهو يقول: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل (¬1)، ويقول: ما لي وللدنيا ويمثل نفسه صلى الله عليه وسلم في الدنيا براكب قال في ظله دوحة ثم راح وتركها، وهذا وكثير طيب غيره من أوامره ووصاياه نحن المرادون به وهو لا يتناسب مع مفهوم الحياة اليوم عند كثير من الناس لأن مفهومها عندهم غربي ليس بعربي فضلاً عن أن يكون إسلامياً مع أن المطلوب لا يتغير، بقي أن يعلم من يطلع على هذا الجواب من هم الذين يقال: علماؤنا المسلمين وتنسب إليهم بدايات هذه العلوم ويُفتخر بهم ويُعتز بسبقهم: ابن سينا ومحمد بن زكريا الرازي، وجابر بن حيان وابن الهيثم وأمثالهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ابن سينا، ومحمد بن زكريا الرازي ونحوهم من الزنادقة الأطباء (¬2). وقال ابن القيم رحمه الله: ابن سيناء إمام الملحدين، وذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كلام الشيخ الخضيري إمام الحنفية في زمانه أنه قال كان فقهاء بخارى يقولون في ابن سينا كان كافراً ذكياً، ¬

(¬1) أخرجه البخاري (5/ 2358) عن عبد الله بن عمر مرفوعاً. (¬2) مجموعة الفتاوى ج4 ص114.

ذكر الشيخ محمد هذا في كتابه مفيد المستفيد ص42 وقد نقله عن شيخ الإسلام، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية قدّس الله روحه المتفلسفة الذين يُعلم خروجهم من دين الإسلام منهم ابن الهيثم (¬1). وإذا كان الحال هكذا فكيف يشوّه دين الإسلام ويلبس غير لباسه؟ وابن حيان لا ذكر له بين أهل العلم والدين. وهنا مسألة يحتج بها كثيرون يقولون: المسلمون يحتاجون إلى القوة والسلاح والله يقول: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) الآية .. وهذه ليست حجة لمن يتلقى علوم الأعداء المضلة ونظرياتهم الباطلة ويفني عمره في ذلك ليصل بعد الجهد الجهيد إلى معرفة شيء من مخترعاتهم التي هي خوارق وقوة المسلمين ليست بالسلاح ولكنها بطاعة من تكفّل لهم بالنصر ما استقاموا على طاعته قال تعالى: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ) وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) وقال تعالى: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) وغير ذلك كثير طيب من كلام ربنا ووصايا نبينا يتضح منها أن المطلوب منا الإيمان الصادق أولاً، وأدنى شيء من السلاح يكفي ولا يعتمد عليه. قال تعالى: (إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ) وهذا دائماً لكن الرب سبحانه إنما ينصر الحق، فمن قام بالحق ولو كان أضعف الناس فإنه ¬

(¬1) مجموعة الفتاوى ص374 ج 35.

لا يغلبه أحد ولا تروعه ولا تخيفه خوارق أعداء الله بل هم في اعتقاده أحقر من الذباب، لأن الرب سبحانه هو الذي يدبر أمر الخلائق وإنما يسلطهم على من شاء بسبب الذنوب لا بسبب قلة السلاح وهذا معنى قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن خوفي من ذنوب الجيش أعظم من خوفي من عدوهم، كلاماً نحو هذا وكما ورد (إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني) فتأمل كلمة سلّطت فالأمر بيده سبحانه هم لا يطْرفون طرفة ولا يتحركون حركة إلا بتحريكه لهم وتدبيره ومحال أن يسلطهم على أتباع نبيه على الحقيقة ولَوْ وُجِدُوا، وحسب المسلم في هذا وأمثاله سيرة نبيه وصحابته وأحوالهم لأن الطرق كلها مسدودة إلا طريقة صلى الله عليه وسلم. والمسألة ركبت على أساس قياس فاسد له ثلاث شعب، الأولى: أن ما توصل إليه الغربيون يسمى علم وحضارة ونهضة ورقي وما أشبه هذه الأسماء التي هي من زخرف القول ويُمدحون من أجله مثل ما يقال: (وما كان للغرب أن ينهض من كبْوته ويستيقظ من غفلته لولا احتكاكه بالحضارة الإسلامية عن طريق القسطنطينية وصقلية والحروب الصليبية شرقاً وعن طريق بلاد الأندلس غرباً) ونحو هذا الكلام الزائف الذي يُفهم منه أن الغرب ناهض من كبوته مستيقظ من رقدته بهذه العلوم المُرْدية والخوارق المفسدة للدين والدنيا.

والصحيح أن الغرب صريع كبوته أسير غفلته ولم تزدهم هذه العلوم والخوارق إلا ضلالاً وبوراً وقد ذكرنا طرفاً من كلام بعض عقلائهم فيما مضى وفي غير هذه النبذة مما يصفون به حالهم وعلومهم ومخترعاتهم مما فيه كفاية لمن يتطلب الحق. الثانية: نسبة أصول علومهم للمسلمين مثل ما ورد في هذا الكلام الذي نقلناه أنه لولا احتكاكهم بالحضارة الإسلامية إلى آخره فيجعل ذلك من مفاخر الإسلام وحضارة أهله وازدهارهم وهو باطل كما بيّناه لأنه من نكسات من يُنسبون إلى الإسلام، ليسوا ممن يمثله حقيقة مثل الصحابة والأئمة والعلماء بعدهم الذين لم ينحرفوا عن علم نبيهم صلى الله عليه وسلم. الثالثة: وهي كالنتيجة للشبهتين السابقتين وهي التي اغتر بها من اغتر وخدع بها من خدع كما يقال: (تمخض الجمل فولد فأراً) وهي أن الإسلام متخلف وأهله في انحطاط وقد فاتهم ركب الحضارة والتقدم والرقي وأن الغربيين سبقوا ونهضوا وتطوروا ومن هنا تسرّب الذل النفسي إلى النفوس المخدوعة بهذه الشبهات الباطلة فأنتج هذا كله وأثمر أن يُوَجّه أبناء المسلمين هذا التوجيه ويُصاح بهم هذا الصياح الذي يدعوا إلى غير الفلاح سابقوا ونافسوا إلى الحضارة والمدينة والتطور والرقي. قال ابن القيم رحمه الله: ولما توفي موسى رفع التعطيل رأسه بينهم (يعني بني إسرائيل) فأقبلوا على علوم المعطلة وقَدّموها على نصوص

التوراة فسلط الله عليهم من أزال مُلْكهم وشردهم من أوطانهم وسبى ذراريهم كما هي عادته سبحانه وسنته في عباده إذا أعرضوا عن الوحي وتعّوضوا عنه بكلام الملاحدة والمعطلة من الفلاسفة وغيرهم كما سَلّط النصارى على بلاد المغرب لما ظهر فيها الفلسفة والمنطق واشتغلوا بها فاستولت النصارى على أكثر بلادهم وأصاروهم رعية لهم. وكذلك لما ظهر ذلك ببلاد المشرق سلط الله عليهم عساكر التتار فأبادوا أكثر البلاد الشرقية واستولوا عليها، وكذلك في أواخر المائة الثالثة وأول الرابعة لما اشتغل أهل العراق بالفلسفة وعلوم أهل الإلحاد سلط الله عليهم القرامطة الباطنية فكسروا عسكر الخليفة عدة مرات واستولوا على الحاج واستعرضوهم قتلاً وأسراً واشتدت شوكتهم. ثم قال رحمه الله: والمقصود أن هذا الداء لما دخل في بني إسرائيل كان سبب دمارهم وزوال ملكهم. انتهى. هذا الداء الذي سبب دمار بني إسرائيل وزوال مملكتهم أهل زماننا يُسمونه علم وتطور ورقي وحضارة، فتأمل اليوم كيف أقبلت الأمة على علوم المعطلة وفيه مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) (¬1) الحديث .. ¬

(¬1) رواه البخاري (6/ 2669) عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً.

وتأمل قول ابن القيم: كما هي عادة الله سبحانه وسنته في عباده إذا أعرضوا عن الوحي وتعوّضوا عنه بكلام الملاحدة، واليوم يُفسر القرآن على مقتضى علوم الملاحدة فإنّا لله وإنّا إليه راجعون والله الموفق عبد الكريم بن صالح الحميد القصيم - بريدة 20/ 8/1422هـ

§1/1